مختصر الامثل فی تفسیر کتاب الله المنزل المجلد 3

اشارة

عنوان و نام پديدآور : مختصر الامثل فی تفسیر کتاب الله المنزل/ناصر مکارم شیرازی

مشخصات نشر : قم: مدرسه الامام علی بن ابی طالب علیه السلام، 1428

مشخصات ظاهری : ج

وضعیت فهرست نویسی : در انتظار فهرستنویسی

شماره کتابشناسی ملی : 1148393

16 سورة النحل

محتوى السورة: من خلال ملاحظة السورة يبدو لنا أنّ بحوثها تتناول ما تتناوله الآيات المكية تارة مثل: التوحيد، المعاد، محاربة الشرك وعبادة الأصنام، وتارة اخرى ما تتناوله الآيات المدنية مثل: الأحكام الاجتماعية ومسائل الجهاد والهجرة.

ويمكننا إجمال محتويات السورة المسبوكة بعناية وإحكام بما يلي:

1- ذكر النعم الإلهية، وتفصيلها بما يثير دافع الشكر عند كل ذي حس حي، ليقترب الإنسان من خالق هذه النعم وواهبها.

ومن النعم المذكورة في السورة: نعمة المطر، نور الشمس، أنواع النباتات والثمار، المواد الغذائية الاخرى، الحيوانات الداجنة بما تقدمه من خدمات ومنافع للإنسان، مستلزمات وسائل الحياة وحتى نعمة الولد والزوجة، وبعبارة شاملة (أنواع الطيبات).

ولهذا أطلق البعض عليها (سورة النعم).

وعرفت بسورة النحل لورود تلك الإشارة القصيرة ذات المعاني الجليلة والعجيبة للنحل، ضمن ما ذكر من النعم الإلهية الواسعة، وبخصوص اعتبار النحل مصدراً لغذاء مهم من أغذية الإنسان، وباعتبار حياة هذه الحشرة تعبير ناطق لتوحيد اللَّه.

2- الحديث عن أدلة التوحيد، عظمة ما خلق الخالق، المعاد، إنذار المشركين والمجرمين.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 7

3- تناول الأحكام الإسلامية المختلفة.

4- الحديث عن بدع المشركين مع ذكر أمثلة جميلة حيّة.

5- وأخيراً تحذير الإنسانية من وساوس الشيطان.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من قرأها لم يحاسبه اللَّه تعالى بالنعم التي أنعمها عليه من دار الدنيا».

فقراءة الآيات بتدبّر وتفكّر مع وجود العزم على العمل والسير وفق الشكر للمنعم، تكون سبيلًا لأن يستعمل الإنسان

كل نعمة بما ينبغي عليه أن يستعمل، فلا يحبس ولا يهمل، ويكون من الشاكرين.

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)

أتى أمر اللَّه: ذكرنا سابقاً أنّ قسماً مهمّاً من الآيات التي جاءت في أوّل السورة هي آيات مكية نزلت حينما كان النبي صلى الله عليه و آله يخوض صراعاً مشتدّاً مع المشركين وعبدة الأصنام، وما يمرّ يوم حتى يطلع أعداء الرسالة بمواجهة جديدة ضد الدعوة الإسلامية المباركة، لأنّها تريد بناء صرح الحرية، بل كل الحياة من جديد.

ومن جملة مواجهاتهم اليائسة قولهم للنبي صلى الله عليه و آله حينما يهددهم وينذرهم بعذاب اللَّه: إن كان ذلك حقاً فلِم لا يحلّ العذاب والعقاب بنا إذن؟!

ولعلهم يضيفون: وحتى لو نزل العذاب فسنلتجي ء إلى الأصنام لتشفع لنا عند اللَّه في رفع العذاب ... ولِم لا يكون ذلك، أوَ لسن شفيعات؟!

وأوّل آية من السورة تُبطل أوهام اولئك بقوله تعالى: «أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ».

وإن اعتقدتم أنّ الأصنام شافعة لكم عند اللَّه فقد أخطأتم الظن «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ».

وبما أنّ مستلزمات العدل الإلهي اقتضت عدم العقاب إلّابعد البيان الكافي والحجة التامة، فقد أضاف سبحانه: «يُنَزّلُ الْمَلِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا أَنَا». بناء على هذا الإنذار والتذكير «فَاتَّقُونِ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 8

أمّا المقصود من «الروح» في الآية هو: الوحي والقرآن والنبوة، والتي هي مصدر الحياة المعنوية للبشرية.

إنّ كلمة «الروح» في هذا الموضوع ذات جانب معنوي وإشارة إلى كل ما هو سبب لإحياء القلوب وتهذيب النفوس وهداية العقول.

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ

تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَ الْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْ ءٌ وَ مَنَافِعُ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَ لَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَ تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغَالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن نفي الشرك، جاءت هذه الآيات لتقلع جذوره بالكامل، وتوجّه الإنسان نحو خالقه بطريقين:

الأوّل: عن طريق الأدلة العقلية من خلال فهم ومحاولة استيعاب ما في الخلائق من نظام عجيب.

الثاني: عن طريق العاطفة ببيان نعم اللَّه الواسعة على الإنسان، عسى أن يتحرك فيه حس الشكر على النعم فيتقرب من خلاله إلى المنعم سبحانه.

فيقول: «خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ». وتتّضح حقانية السماوات والأرض من نظامها المحكم وخلقها المنظم وكذلك من هدف خلقها وما فيها من منافع.

ثم يضيف: «تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ». فهل تستطيع الأصنام إيجاد ما أوجده اللَّه؟!

بل هل تستطيع أن تخلق بعوضة صغيرة أو ذرة تراب؟!

فكيف إذن جعلوها شريكة اللَّه سبحانه!

وبعد الإشارة إلى خلق السماوات والأرض وما فيها من أسرار لا متناهية يعرّج القرآن الكريم إلى بعض تفاصيل خلق الإنسان من الناحية التكوينية فيقول: «خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 9

«النطفة»: في الأصل بمعنى الماء القليل، أو الماء الصافي، ثم أطلقت على قطرات الماء التي تكون سبباً لوجود الإنسان بعد تلقيحها. وحقيقة التعبير يراد به تبيان عظمة وقدرة اللَّه عزّ وجل، حيث يخلق هذا المخلوق العجيب من قطرة ماء حقيرة مع ما له من قيمة وتكريم وشرف بين باقي المخلوقات وعند اللَّه أيضاً.

ثم

يشير القرآن الكريم إلى نعمة خلق الحيوانات وما تدر من فوائد كثيرة للإنسان فيقول: «وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْ ءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ». فخلق الأنعام الدال على علم وقدرة الباري سبحانه، فيها من الفوائد الكثيرة للإنسان.

ولم يكتف بذكر منافعها المادية، بل أشار إلى المنافع النفسية والمعنوية كذلك حين قال:

«وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ».

«تريحون»: (من مادة الإراحة) بمعنى إرجاع الحيوانات عند الغروب إلى محل إستراحتها، ولهذا يطلق على ذلك المحل اسم (المراح).

و «تسرحون»: (من مادة السروح) بمعنى خروج الحيوانات صباحاً إلى مراعيها.

عبّر القرآن بكلمة «جمال» عن تلك الحركة الجماعية للأنعام حين تسرح إلى مراعيها وتعود إلى مراحها.

ف «الجمال» جمال استغناء واكتفاء ذاتي، وجمال إنتاج وتأمين متطلبات امّة كاملة، وبعبارة أوضح: جمال الإستقلال الاقتصادي وقطع كل تبعيّة للغير.

ثم يشير تعالى في الآية التي تليها إلى إحدى المنافع المهمة الاخرى فيقول: «وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقّ الْأَنفُسِ». وهذا مظهر من مظاهر رحمة اللَّه عزّ وجلّ ورأفته حيث سخّر لنا هذه الحيوانات مع ما تملك من قدرة وقوّة «إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ».

فالأنعام إذن: تعطي للإنسان ما يلبسه ويدفع عنه الحر والبرد. وكذلك تعطيه الألبان واللحوم ليتقوّت بها. وتترك في نفس الإنسان آثاراً نفسية طيبة. وأخيراً تحمل أثقاله.

ثم يعرج على نوع آخر من الحيوانات، يستفيد الإنسان منها في تنقلاته، فيقول:

«وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً».

وتأتي الإشارة في ذيل الآية إلى ما سيصل إليه مآل الإنسان في الحصول على الوسائط

مختصر الامثل، ج 3، ص: 10

النقلية المدنية من غير الحيوانات، فيقول: «وَيَخْلُقُ مَا لَاتَعْلَمُونَ» من المراكب ووسائل النقل.

وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْهَا جَائِرٌ وَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ

شَرَابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنَابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَ مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)

بعد ذكر مختلف النعم في الآيات السابقة، تشير هذه الآيات إلى نعم اخرى ... فتشير أوّلًا إلى نعمة معنوية عالية في مرماها: «وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ». أي: عليه سبحانه سلامة الصراط المستقيم وهو الحافظ له من كل انحراف، وقد وضعه في متناول الإنسان.

ولكن أيّ النحوين من الصراط المستقيم هو المراد، التكويني أم التشريعي؟

اختلف المفسرون في ذلك، إلّا أنّه لا مانع من قصد الجانبين معاً.

فقد هدى اللَّه الإنسان بالعقل والقدرة وبقية القوى التكوينية التي تعينه للسير على الصراط المستقيم.

كما أرسل له الأنبياء والوحي السماوي وأعطاه التعليمات الكافية والقوانين اللازمة للمضي بهدى التشريع الرباني في تكملة مشوار المسيرة، وترك باقي السبل المنحرفة.

ثم يحذّر الباري جلّ شأنه الإنسان من وجود سبل منحرفة كثيرة: «وَمِنْهَا جَائِرٌ».

وبما أنّ نعمة الإرادة وحرية الاختيار في الإنسان من أهم عوامل التكامل فيه، فقد أشارت إليها الآية بجملة قصيرة: «وَلَوْ شَاءَ لَهَدَيكُمْ أَجْمَعِينَ» ولا تستطيعون عندها غير ما يريد اللَّه.

إلّا أنّه سبحانه لم يفعل ذلك، لأنّ الهداية الجبرية لا تسمو بالإنسان إلى درجات التكامل والفخر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 11

وفي الآية التالية يعود إلى الجانب المادي بما يثير حس الشكر للمنعم عند الناس، ويوقد نار عشق اللَّه في قلوبهم بدعوتهم للتقرّب أكثر وأكثر لمعرفة المنعم الحق، فيقول: «هُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ

مَاءً». ماء فيه سبب الحياة، وزلالًا شفافاً خال من أيّ تلوّث «لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ». وتخرج به النباتات والأشجار فترعى أنعامكم «وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ».

«تسيمون»: من مادة «الإسامة» بمعنى رعي الحيوانات.

ومما لا شك فيه أيضاً أنّ ماء المطر لا تقتصر فائدته لشرب الإنسان وإرواء النباتات، بل ومن فوائده أيضاً: تطهير الأرض، تصفية الهواء، إيجاد الرطوبة اللازمة لطراوة جلد الإنسان وتنفّسه براحة، وما شابه ذلك .. فالمذكور من فوائده في هذه الآية ليس حصراً وإنّما من باب الأهم.

ويكمّل الموضوع بقوله: «يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلّ الثَّمَرَاتِ».

ولا شك أنّ خلق هذه الثمار المتنوعة وكل ما هو موجود من المحاصيل الزراعية لآية للمتفكرين «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

ثم يشير إلى نعمة تسخير الموجودات المختلفة في العالم للإنسان بقوله: «وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». على عظمة وقدرة اللَّه وعظمة ما خلق.

وإضافة لكل ما تقدم: «وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الْأَرْضِ» من مخلوقات سخرّها لكم و «مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ» من الأغطية والملابس والأغذية والزوجات العفيفات ووسائل الترفيه، حتى أنواع المعادن وكنوز الأرض وسائر النعم الاخرى «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ».

وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَ تَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَ أَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهَاراً وَ سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَ عَلَامَاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَ فَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 12

نعمة الجبال والبحار والنجوم:

تبيّن هذه الآيات قسماً آخر من النعم الإلهية غير المحدودة التي تفضّل بها اللَّه عزّ وجل على الإنسان، فيبدأ القرآن الكريم بذكر البحار، المنبع الحيوي للحياة، فيقول: «وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ».

وكما هو معلوم أنّ البحار تشكّل القسم الأكبر من سطح الكرة الأرضية، وأنّ الماء أساس الحياة، ولا زالت البحار تعتبر المنبع المهم في إدامة الحياة البشرية وحياة جميع الكائنات الحية على سطح الكرة الأرضية.

فما أكبرها من نعمة حين جعلت البحار في خدمة الإنسان ....

ثم يشير الباري سبحانه إلى ثلاثة أنواع من منافع البحار: «لِتَأْكُلُوامِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا». فقد جعل اللَّه في البحار لحماً ليتناوله الإنسان من غير أن يبذل أدنى جهد في تربيته، بل أوجدته ونمّته يد القدرة الإلهية.

ومن فوائد البحار أيضاً تلك المواد التجميلية المستخرجة من قاعه: «وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا».

الحس الجمالي من الامور الفطرية التي فطر الإنسان عليها وهو الباعث على إثارة الشعر والفن الأصيل وما شاكلها عنده.

وينبغي العمل على إشباعه بشكل صحيح وسالم بعيداً عن أيّ نوع من الإفراط والتفريط.

ولهذا أوصى الإسلام كثيراً بالتزيّن المعقول الخالي من أي إسراف مثل: لبس اللباس الجيّد، التطيّب بالعطور، استعمال الأحجار الكريمة ... الخ.

ثم يتطرق القرآن إلى الفائدة الثالثه في البحار: حركة السفن على سطح مياهها، كوسيلة مهمة لتنقل الإنسان ونقل ما يحتاجه، فيقول: «وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ».

وأعطاكم اللَّه هذه النعمة لتستفيدوا منها في التجارة أيضاً «وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ».

وبعد ذكر هذه النعم التي تستلزم من الإنسان العاقل أن يشكر واهبها، يأتي في ذيل الآية: «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

ثم يأتي الحديث عن الجبال بعد عرض فوائد البحار: «وَأَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 13

ثم يتطرق القرآن الكريم مباشرة إلى نعمة الأنهار، لما بين الجبال والأنهار من

علاقة وثيقة حيث تعتبر الجبال المخازن الأصلية للمياه، فيقول: «وَأَنْهَارًا».

ثم يقطع القرآن الكريم الوهم الحاصل عند البعض من أنّ الجبال حاجز بين إرتباط الأراضي فيما بينها بالإضافة لكونها مانعاً رهيباً أمام حركة النقل، فيقول: «وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ».

ثم يضيف قائلًا: «وَعَلمتٍ». لأنّ الطرق لوحدها لا يمكنها أن توصل الإنسان لمقصده دون وجود علامات فارقة ومميزات شاخصة يستهدي بها الإنسان لسلك ما يوصله لمأربه، ولذا ذكر هذه النعمة.

ومن تلك العلامات: شكل الجبال، الأودية، الممرات، الإرتفاع والإنخفاض، لون الأرض والجبال وحتى طبيعة حركة الهواء.

وأمّا في حال عدم تشخيص هذه العلامات بسبب ظلمة الليل في أيّ من سفر البر أو البحر، فقد جعل اللَّه تعالى علامات في السماء تعوّض عن علامات الأرض.

وقد فسّرت «النجم» برسول اللَّه صلى الله عليه و آله و «العلامات» بالأئمة عليهم السلام في روايات كثيرة وردت عن أهل البيت عليهم السلام وفي بعضها فسّر «النجم» و «العلامات» كلاهما بالأئمة عليهم السلام وكل ذلك يشير إلى التفسير المعنوي لهذه الآيات.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «النجم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، والعلامات الأئمة عليهم السلام».

وبعد أن بيّن القرآن كل هذه النعم الجليلة والألطاف الإلهية الخفية، راح يدعو الوجدان الإنساني للحكم في ذلك «أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّايَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ».

وكما اعتدنا عليه من القرآن في اسلوبه التربوي الهادف المؤثر، فقد طرح مسألة المحاججة بصيغة سؤال يترك الجواب عنه في عهدة الوجدان الحي للإنسان.

وفي نهاية المطاف، يفنّد الباري سبحانه مسألة حصر النعم الإلهية بما ذكر، بقوله: «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَاتُحْصُوهَا».

ونواجه في هذا المقام سؤالًا وإستفساراً: كيف إذن نؤدّي حق الشكر للَّه؟ و .. ألسنا مع ما نحن فيه، في زمرة الجاحدين؟

مختصر الامثل، ج 3،

ص: 14

وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ» خير جواب لذلك السؤال.

نعم، فهو سبحانه أرحم وأرأف من أن يؤاخذنا على عدم الاستطاعة في أداء أتمّ الشكر على نعمه.

ويكفينا من لطفه تعالى بأن يحسبنا من الشاكرين في حال اعتذرنا له واعترافنا بالعجز عن أداء حق الشكر الكامل.

ولكن هذا لا يمنع من أن نتتبع ونحصي النعم الربانية بقدر المستطاع، لأنّ ذلك يزيدنا معرفة للَّه، وعلماً بعالم الخليقة، وآفاق التوحيد الرحبة، كما يزيد من حرارة عشقه سبحانه في أعماق قلوبنا، وكذا يحرّك فينا الشعور المتحسس بضرورة ووجوب شكر المنعم جلّ وعلا.

ولهذا نجد أنّ الأئمة عليهم السلام يتطرقون في أقوالهم وأدعيتم ومناجاتهم إلى النعم الإلهية ويعدّون جوانب منها، عبادة للَّه وتذكيراً ودرساً للآخرين.

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ (19) وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)

آلهة لا تشعر: تناولت الآيات السابقة ذكر صفتين ربانيتين لا تنطبق أيّة منها على الأصنام، أمّا الآية الاولى أعلاه فتشير إلى الصفة الثالثه للمعبود الحقيقي (وهي العلم) فتقول: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ». فلماذا تسجدون للأصنام التي لم تكن هي الخالقة لكم، ولم تمنّ عليكم بأيّة نعمة، ولا تعرف عن علانيتكم شيئاً فضلًا عن سرّكم؟!

ثم يعود القرآن إلى مسألة الخالقية بافق أوسع من الآية السابقة: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَايَخْلُقُونَ شَيًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ».

وقد بحث لحدّ الآن في عدم صلاحية الأصنام لتكون معبودة لأنّها ليست خالقة، ومع

مختصر الامثل، ج 3،

ص: 15

ذلك كله، فإنّها «أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ». ثم يضيف قائلًا عنها: «وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ».

فإذا كان الثواب والعقاب بيد الأصنام، فلا أقل من معرفتها بوقت بعث عبادهنّ، ومع جهلها بيوم البعث والحساب كيف تكون لائقة للعبادة؟!

وهذه هي الصفة الخامسة التي يجب توفرها في المعبود الحقيقي وتفتقدها الأصنام.

إنّ مفهوم الصنم وعبادة الأصنام في المنطق القرآني أوسع من أنّ يحدد بالآلهة المصنوعة، فكل موجود نجعله ملجأ لنا مقابل اللَّه عزّ وجل، ونسلّم له أمر مصائرنا، فهو صنم وإن كان بشراً.

ولهذا فكل ما جاء في الآيات أعلاه يشمل الذين يعبدون اللَّه بألسنتهم، ولكن في واقع حياتهم مستسلمون لمعبود ضعيف، وقد تبعوه لكونه المخلص لهم من دون اللَّه، بعد أن فقد زمام استقلال المؤمن الحق.

وبعد هذه الإستدلالات الحيّة والواضحة على عدم صلاحية الأصنام يخلص القرآن إلى النتيجة المنطقية لما ذكر: «إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ».

وبما أنّ العلاقة بين المبدأ والمعاد مترابطة ربطاً لا انفصام فيه، يضيف القرآن الكريم من غير فاصلة: «فَالَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ». فأدلة التوحيد والمعاد قائمة لمن أراد الحق وطلب الحقيقة، إلّاأنّ سبب عدم قبول الحق وإنكاره يرجع إلى حالة الإستكبار وعدم التسليم له، ويصبح ملكة في وجود المنكرين.

ثم تتطرق الآية الأخيرة إلى علم اللَّه في الغيب والشهادة: «لَاجَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ».

والآية في واقعها تهديد للكفار وأعداء الحق، بأنّ اللَّه عزّ وجل ليس بغافل عنهم.

فهم مستكبرون و «إِنَّهُ لَايُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ». والإستكبار على الحق من علامات الجهل باللَّه عزّ وجل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 16

وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ مِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: يروى أنّها نزلت في المقتسمين وهم ستة عشر رجلًا خرجوا إلى عقاب مكة أيام الحج على طريق الناس على كل عقبة أربعة منهم ليصدّوا الناس عن النبي صلى الله عليه و آله وإذا سألهم الناس عمّا أنزل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قالوا: أحاديث الأوّلين وأباطيلهم.

التّفسير

حمل أوزار الآخرين: دار الحديث في الآيات السابقة حول عناد المستكبرين واستكبارهم أمام الحق، وسعيهم الحثيث في التنصّل عن المسؤولية وعدم التسليم للحق. أمّا في هذه الآيات فيدور الحديث حول منطق المستكبرين الدائم، فيقول القرآن: «وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ». فليس هو وحي إلهي، بل أكاذيب القدماء.

«الأساطير»: جمع أسطورة، وتطلق على الحكايات والقصص الخرافية والكاذبة، وقد وردت هذه الكلمة تسع مرّات في القرآن الكريم نقلًا عن لسان الكفار ضدّ الأنبياء تبريراً لمخالفتهم الدعوة إلى اللَّه عزّ وجل.

وفي جميع المواطن ذكروا معها كلمة «الأوّلين» ليؤكدوا أنّها ليست بجديدة وأنّ الأيام ستتجاوزها حتى وصل بهم الحال ليغالوا فيما يقولون، كما جاء عن لسانهم في الآية (31) من

مختصر الامثل، ج 3، ص: 17

سورة الأنفال: «قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذَا».

والملاحظ على مستكبري يومنا توسلهم

بنفس تلك التهم الباطلة هروباً من الحق وإضلالًا للآخرين، ووصلت بهم الحماقة لأن يعتبروا منشأ الدين من الجهل البشري، وما الآراء الدينية إلّاأساطير وخرافات، حتى أنّهم اثبتوا ذلك في كتب (علم الاجتماع ودوّنوه بصياغة (علمية) كما يدّعون). أمّا لو نفذنا في أعماق تفكيرهم لوجدنا صورة اخرى: فهم لم يحاربوا الأديان والمذاهب الخرافية المجعولة أبداً، فهم مؤسسوها والداعون لنشرها، إنّما محاربتهم للأصالة والدين الحق الذي يوقظ الفكر الإنساني ويحطّم الأغلال الاستعمارية ويقطع دابر المنحرفين عن جادة الصواب.

توضّح الآية الاخرى أعمالهم بالقول: «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيمَةِ وَمِن أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ».

ثم تتحرك الآية الاخرى لتقرر أنّ تهمة وصف الوحي الإلهي بأساطير الأوّلين ليست بالأمر المستجد: «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْينَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتهُمُ الْعَذَابُ مِن حَيْثُ لَايَشْعُرُونَ».

ومن لطيف دقّة العبارة القرآنية، أنّ الآية أشارت إلى أنّ اللَّه عزّ وجل لا يدمرّ البناء العلوي للمستكبرين فحسب، بل سيدمّره من القواعد لينهار بكله عليهم.

وقد يكون تخريب القواعد وإسقاط السقف إشارة إلى أبنيتهم الظاهرية، من خلال الزلازل والصواعق لتنهار على رؤوسهم، وقد يكون إشارة إلى قلع جذور تجمعاتهم وأحزابهم بأمر اللَّه عزّ وجل، بل لا مانع من شمول الأمرين معاً.

وعذابهم في الحياة الدنيا لا يعني تمام الجزاء، بل تكملته ستكون يوم الجزاء الأكبر «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيمَةِ يُخْزِيهِمْ».

فيسألهم اللَّه تعالى: «وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ». أي تجادلون وتعادون فيهم، فلا يتمكنون من الإجابة، ولكن: «قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ».

وهو نوع من العذاب الروحي، ويصف ذيل الآية السابقة حال الكافرين بالقول:

«الَّذِينَ تَتَوَفهُمُ الْمَلِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 18

لأنّ ممارسة الظلم

في حقيقتها ظلم للنفس قبل الآخرين، لأنّ الظالم يتلف ملكاته الوجدانية، ويهتك حرمة الصفات الفطرية الكامنة فيه.

أمّا حين تحين ساعة الموت ويزول حجاب الغفلة عن العيون «فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ».

لماذا ينكرون عملهم القبيح؟ فهل إنّهم يكذبون وقد أصبح الكذب صفة ذاتية لهم من كثرة تكراره، أم يريدون القول: إنّنا نعلم سوء أعمالنا، ولكننا اخطأنا ولم تكن لدينا نوايا سيئة فيه.

يمكن القول بإرادة كلا الأمرين.

ولكن الجواب يأتيهم فوراً: إنّكم تكذبون فقد ارتكبم ذنوباً كثيرة: «بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» حتى بنيّاتكم.

وليس المقام محلًّا للإنكار أو التبرير ... «فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ».

وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ لَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)

عاقبة المتقين والمحسنين: قرأنا في الآيات السابقة أقوال المشركين حول القرآن وعاقبة ذلك، والآن ندخل مع المؤمنين في اعتقادهم وعاقبته .. فيقول القرآن: «وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا».

ما أجمل هذا التعبير وأكمله «خيراً» خير مطلق يشمل كل: صلاح، سعادة، رفاه، تقدم مادي ومعنوي، خير للدنيا والآخرة، خير للإنسان الفرد والمجتمع.

وتبيّن الآية مورد البحث نتيجة وعاقبة ما أظهره المؤمنون من اعتقاد، كما عرضت

مختصر الامثل، ج 3، ص: 19

الآيات السابقة عاقبة ما قاله المشركين من عقاب دنيوي وأخروي، ومادي ومعنوي مضاعف: «لّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ».

وقد أطلق الجزاء بال «حسنة» كما أطلقوا القول «خيراً»، ليشمل كل أنواع الحسنات والنعم في الحياة الدنيا،

بالإضافة إلى: «وَلَدَارُ الْأَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ». ثم تصف الآية التالية- بشكل عام- محل المتقين في الآخرة بالقول: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ».

وقلنا أنّ الآيات مورد البحث توضّح كيفية حياة وموت المتقين مقارنة مع ما ورد في الآيات السابقة حول المشركين والمستكبرين، وقد مرّ علينا هناك أنّ الملائكة عندما تقبض أرواحهم يكون موتهم بداية لمرحلة جديدة من العذاب والمشقة، ثم يقال لهم: «ادخلوا أبواب جهنم ...».

وأمّا عن المتقين: «الَّذِينَ تَتَوَفهُمُ الْمَلِكَةُ طَيّبِينَ» طاهرين من كل تلوّثات الشرك والظلم والإستكبار، ومخلصين من كل ذنب: «يَقُولُونَ سَلمٌ عَلَيْكُمُ». السلام الذي هو رمز الأمن والنجاة.

ثم يقال لهم: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

والتعبير عن موتهم ب «تَتَوَفهُم» يحمل بين طيّاته اللطف، ويشير إلى أنّ الموت لا يعني الفناء والعدم أو نهاية كل شي ء، بل هو مرحلة انتقالية إلى عالم آخر.

وفي تفسير الميزان: أنّ في هذه الآية ثلاثة مسائل:

1- طهارة المؤمنين من خبث الظلم.

2- يقولون لهم: «سَلمٌ عَلَيْكُمُ» وهو تأمين قولي لهم.

3- «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» وهو هداية لهم إليها.

وهذه المواهب الثلاث هي التي ذكرت في الآية (82) من سورة الأنعام: «الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 20

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (34) وَ قَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لَا آبَاؤُنَا وَ لَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ

عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)

يعود القرآن الكريم مرّة اخرى ليعرض لنا واقع وأفكار المشركين والمستكبرين ويقول بلهجة وعيد وتهديد: ماذا ينتظرون؟ «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلِكَةُ». أي:

ملائكة الموت فتغلق أبواب التوبة أمامهم حيث لا سبيل للرجوع بعد إغلاق صحائف الأعمال.

أو هل ينتظرون أن يأتي أمر اللَّه بعذابهم: «أَو يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ» حيث تغلق أبواب التوبة أيضاً ولا سبيل عندها للإصلاح.

ثم يضيف: إنّ هؤلاء ليس أوّل مَن كانوا على هذه الحال والصفة وإنّما «كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

وسوف يلاقون نتيجة ما كسبت أيديهم من أعمال.

ثم يذكر عاقبة أمرهم بقوله: «فَأَصَابَهُمْ سَيَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

فتعبير الآية ب «فَأَصَابَهُمْ سَيَاتُ مَا عَمِلُوا» يؤكّد مرّة اخرى على عودة الأعمال على فاعلها سواء في الدنيا أو في الآخرة، وتتجسم له بصور شتى، وتعذّبه وتؤلمه ولا شي ء غر هذه الأعمال في عذابه.

وتشير الآية التالية إلى أحد أقوال المشركين الخاوية، فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 21

شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْ ءٍ نَّحْنُ وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْ ءٍ».

إنّ قولهم «وَلَا حَرَّمْنَا» إشارة إلى بعض أنواع الحيوانات التي حرّم لحومها المشركون في عصر الجاهلية، والتي أنكرها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بشدة. وكأنّهم يقولون: إن كانت أعمالنا لا ترضي اللَّه تعالى فلماذا

لم يرسل إلينا الأنبياء لينهونا عما نقوم به، فسكوته وعدم منعه ما كنا نعمل دليل على رضاه.

ولهذا يقول تعالى مباشرة: «كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلغُ الْمُبِينُ».

وهذا هو خط جميع دعاة الحق (من الأنبياء وغيرهم) .. فهم: لا يداهنون في دعوتهم أبداً ولا يجاملون الباطل وأهله، متحملين كل عواقب هذه الصراحة والقاطعية.

وبعد ذكر وظيفة الأنبياء (البلاغ المبين)، تشير الآية التالية باختصار جامع إلى دعوة الأنبياء السابقين، بقولها: «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولًا».

«الامّة»: من «الأم» بمعنى الوالدة، أو بمعنى كل ما يتضمن شيئاً آخر في داخله؛ ومن هنا يطلق على جماعة تربطها وحدة معينة من حيث الزمان أو المكان أو الفكر أو الهدف «امّة».

ويبيّن القرآن محتوى دعوة الأنبياء عليهم السلام بالقول: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ».

لأنّ اسس التوحيد إذا لم تحكم ولم يطرد الطواغيت من بين المجتمعات البشرية فلا يمكن إجراء أي برنامج إصلاحي.

«الطاغوت»: صيغة مبالغة للطغيان .. أي التجاوز والتعدي وعبور الحد، فتطلق على كل ما يكون سبباً لتجاوز الحد المعقول، ولهذا يطلق اسم الطاغوت على الشيطان، الصنم، الحاكم المستبد، المستكبر وعلى كل مسير يؤدّي إلى غير طريق الحق.

ونعود لنرى ما وصلت إليه دعوة الأنبياء عليهم السلام إلى التوحيد من نتائج، فالقرآن الكريم يقول: «فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّللَةُ».

والآية (79) من سورة النساء تشير إلى المعنى المذكور بقولها: «مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ».

وفي نهاية الآية يصدر الأمر العام لأجل إيقاظ الضالين وتقوية روحية المهتدين، بالقول: «فَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُواكَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ».

فالآية دليل ناطق على حرية إرادة الإنسان، فإنْ كانت الهداية والضلال أمرين

مختصر الامثل، ج 3، ص: 22

إجباريين، لم

يكن هناك معنىً للسير في الأرض والنظر إلى عاقبة المكذبين.

الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث تؤكّد التسلية لقلب النبي صلى الله عليه و آله بتبيان ما وصلت إليه حال الضالين: «إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَيهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ».

«تحرص»: من مادة (حرص)، وهو طلب الشي ء بجديّة وسعي شديد.

بديهي، أنّ الآية لا تشمل كل المنحرفين، لأنّ الشمول يتعارض مع وظيفة النبي (هداية وتبليغ).

فعليه ... تكون الجملة المتقدمة خاصة بمجموعة معينة من الضالين الذين وصل بهم العناد واللجاجة في الباطل لأقصى درجات الضلال، وأصبحوا غرقى في بحر الإستكبار والغرور والغفلة والمعصية فاغلقت أمامهم أبواب الهداية.

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْ ءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قالوا: كان لرجل من المسلمين على مشرك دين، فتقاضاه فوقع في كلامه والذي أرجوه بعد الموت أنّه لكذا. فقال المشرك: وإنّك لتزعم أنّك تبعث بعد الموت وأقسم باللَّه لا يبعث اللَّه من يموت. فأنزل اللَّه الآية.

التّفسير

المعاد ونهاية الإختلافات: تعرض الآيات أعلاه جانباً من موضوع «المعاد» تكميلًا لما بحث في الآيات السابقة ضمن موضوع التوحيد ورسالة الأنبياء. فتقول الآية الاولى:

«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَايَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ».

وهذا الإنكار الخالي من الدليل والذي ابتدؤوه بالقسم المؤكّد، ليؤكّد بكل وضوح على جهلهم ولهذا يجيبهم القرآن بقوله: «بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ».

ثم يتطرق القرآن الكريم إلى ذكر أحد أهداف المعاد وقدرة اللَّه عزّ وجل على ذلك، ليردّ الإشتباه القائل بعدم

إعادة الحياة بعد الموت، أو بعبثية المعاد ... فيقول: «لِيُبَيّنَ لَهُمُ الَّذِى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 23

يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ» في إنكارهم للمعاد وبأنّ اللَّه لا يبعث من يموت. فالرجوع إلى الوحدة وانتهاء الخلافات العقائدية من أهداف المعاد وقد أشارت إليه الآية مورد البحث.

ثم يشير القرآن إلى الفقرة الثانية من بيان حقيقة المعاد، للرد على من يرى عدم إمكان إعادة الإنسان من جديد إلى الحياة من بعد موته: «إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْ ءٍ إِذَا أَرَدْنهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ».

إنّ «كن» إنّما ذكرت لضرورة اللفظ، وإلّا لا حاجة في أمر اللَّه ل «كن» أيضاً، فإرادته سبحانه وتعالى كافية في تحقيق ما يريد.

فإرادته إحداثه لا غير ذلك، لأنّه لا يُروّي ولا يهم ولا يتفكر، وهذه الصفات منفية عنه وهي من صفات الخلق، فإرادة اللَّه تعالى هي الفعل لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف كذلك كما أنّه بلا كيف.

وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: الآية الاولى نزلت في المعذبين بمكة مثل صهيب، وعمار، وبلال، وخباب، وغيرهم مكّنهم اللَّه بالمدينة، وذكر أنّ صهيباً قال لأهل مكة: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم ينفعكم وإن كنت عليكم لم يضرّكم فخذوا مالي ودعوني. فأعطاهم ماله وهاجر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال له أبوبكر: ربح البيع يا صهيب.

التّفسير

ثواب المهاجرين: نرى في الآيات السابقة الحديث عن المشركين ومنكري يوم القيامة، وينتقل الحديث في الآيات مورد البحث

إلى المهاجرين المخلصين، ليقارن بين المجموعتين ويبيّن طبيعتهما فيقول أوّلًا: «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً». أمّا في الآخرة: «وَلَأَجْرُ الْأَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

ثم يصف في الآية التالية المهاجرين المؤمنين الصالحين بصفتين، فيقول: «الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 24

إنّ للمسلمين هجرتين؛ الاولى: كانت محدودة نسبياً (هجرة جمع من المسلمين على رأسهم جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة)، والثانية: الهجرة العامة للنبي صلى الله عليه و آله والمسلمين من مكة إلى المدينة. وظاهر الآية يشير إلى الهجرة الثانية، كما يؤيّد ذلك شأن النزول.

وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَ الزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)

اسألوا إن كنتم لا تعلمون: هذه الآية يعود إلى بيان المسائل السابقة فيما يتعلق باصول الدين من خلال إجابته لأحد الإشكالات المعروفة؛ حين يتقوّل المشركون: لماذا لم ينزل اللَّه ملائكة لإبلاغ رسالته؟ أو يقولون: لِم لم يجهّز النبي صلى الله عليه و آله بقدرة خارقة ليجبرنا على ترك أعمالنا؟ فيجيبهم اللَّه عزّ وجل بقوله: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِمْ».

نعم. فإنّ أنبياء اللَّه جميعهم من البشر، وبكل ما يحمل البشر من غرائز وعواطف إنسانية، حتى يحس بالألم ويدرك الحاجة كما يحس ويدرك الآخرون. في حين أنّ الملائكة لا تتمكن من إدراك هذه الامور جيّداً.

ثم يضيف القول (تأكيداً لهذه الحقيقة): «فَسَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ».

«الذكر»: بمعنى العلم والإطلاع؛ و «أهل الذكر»: له من شمولية المفهوم بحيث يستوعب جميع العالمين والعارفين في كافة المجالات.

فالآية مبيّنة لأصل إسلامي يتعيّن الأخذ به في

كل مجالات الحياة المادية والمعنوية، وتؤكّد على المسلمين ضرورة السؤال فيما لا يعلمونه ممن يعلمه، وأن لا يورطوا أنفسهم فيما لا يعلمون.

وعلى هذا فإنّ «مسألة التخصص» لم يقررها القرآن الكريم ويحصرها في المسائل الدينية بل هي شاملة لكل المواضيع والعلوم المختلفة، ويجب أن يكون من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم.

ثم تقول الآية التالية: «بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ».

«البيّنات»: جمع بيّنة، بمعنى الدلائل الواضحة، ويمكن أن تكون هنا إشارة إلى معاجز وأدلة إثبات صدق الأنبياء في دعوتهم؛ و «الزبر»: جمع زبور، بمعنى الكتاب.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 25

فالبيّنات تتحدث عن دلائل إثبات النبوة، والزّبر إشارة إلى الكتب التي جمعت فيها تعليمات الأنبياء. ومن ثم يتوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»، ليبيّن للناس مسؤوليتهم تجاه آيات ربّهم الحق.

فدعوتك ورسالتك ليست بجديدة من الناحية الأساسية، وكما أنزلنا على الذين من قبلك من الرسل كتباً ليعلّموا الناس تكاليفهم الشرعية، فقد أنزلنا عليك القرآن لتبيّن تعاليمه ومفاهيمه، وتوقظ به الفكر الإنساني ليسيروا في طريق الحق.

أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)

لكل ذنب عقابه: ثمّة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الاستدلالية والمسائل الوجدانية بشكل مؤثّر في نفوس السامعين، والآيات أعلاه نموذج لهذا الاسلوب. فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النبوة والمعاد، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين. فتبتدأ القول: «أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيَاتِ» من الذين حاكوا الدسائس المتعددة لإطفاء نور الحق

والإيمان «أَن يَخْسِفَ بِهِمُ الْأَرْضَ».

فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أن تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون، كما حصل مراراً لأقوام سابقة؟!

«مكروا السيئات»: بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولًا لأهدافهم المشؤمة السيئة، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النبي صلى الله عليه و آله.

«يخسف»: من مادة «خسف» بمعنى الإختفاء، ولهذا يطلق على اختفاء نور القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف).

ثم يضيف: «أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَايَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ». أي:

عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات. «فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ».

إنّ «معجزين» من الإعجاز بمعنى إزالة قدرة الطرف الآخر، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 26

أو أنّ العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي ومقروناً بالإنذار المتكرر: «أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ».

فاليوم مثلًا، يصاب جارهم ببلاء، وغداً يصاب أحد أقربائهم، وفي يوم آخر تتلف بعض أموالهم ... والخلاصة، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو الاخرى، فإن استيقظوا فما أحسن ذلك، وإلّا فسيصيبهم العقاب الإلهي ويهلكهم.

إنّ العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه المجموعة، واللَّه عزّ وجل لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين: «فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ».

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ دَاخِرُونَ (48) وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَ الْمَلَائِكَةُ وَ هُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)

سجود الكائنات للَّه عزّ وجل: تعود هذه الآيات مرّة اخرى إلى التوحيد بادئةً ب «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِللُهُ عَنِ الْيَمِينِ

وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ» «1».

أي: ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات اللَّه يميناً وشمالًا لتعبّر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟

وهنا ... يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يميناً وشمالًا بعنوانها مظهراً لعظمته جلّ وعلا واصفاً حركتها بالسجود والخضوع.

وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع، أمّا في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجاً عامّاً شاملًا لكل الموجودات المادية وغير المادية، وفي أيّ مكان، فتقول: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ»، مسلمين للَّه ولأوامره تسليماً كاملًا.

وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة، وما نؤدّيه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إلّامصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.

وبما أنّ جميع مخلوقات اللَّه في عالم التكوين والخلق مسلّمة للقوانين العامة لعالم الوجود،

______________________________

(1) «داخر»: في الأصل من مادة (دخور) أي: التواضع.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 27

التي أفاضتها الإرادة الإلهية فإنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباري عزّ وجل، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله ... والخلاصة: كلها دليل على ذاته المقدسة. «الدابة»: بمعنى الموجودات الحيّة، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحيّة في السماوات والأرض على وجود كائنات حيّة في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.

أمّا جملة «وَهُمْ لَايَسْتَكْبِرُونَ» فإشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيّ استكبار عند سجودها وخضوعها للَّه عزّ وجل.

ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرةً وتأكيداً لنفي حالة الإستكبار عنهم:

«يَخَافُونَ رَبَّهُم مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ».

ويستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ علامة نفي الإستكبار شيئان:

أ) الشعور بالمسؤولية وإطاعة الأوامر الإلهية من دون

أي اعتراض.

ب) ممارسة الأوامر الإلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدّة لذلك.

وَ قَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

دين حق ومعبود واحد: تتناول هذه الآيات موضوع نفي الشرك تعقيباً لبحث التوحيد ومعرفة اللَّه عن طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة، لتتّضح الحقيقة من خلال المقارنة بين الموضوع، ويبتدأ ب «وَقَالَ اللَّهُ لَاتَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإِيىَ فَارْهَبُونِ».

ثم يوضّح القرآن أدلة توحيد العبادة بأربعة بيانات ضمن ثلاث آيات ... فيقول أوّلًا «وَلَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ» فهل ينبغي السجود للأصنام التي لا تملك شيئاً، أم لمن له ما في السماوات والأرض؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 28

ثم يضيف: «وَلَهُ الدّينُ وَاصِبًا».

ثم يقول في نهاية الآية: «أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ».

فهل يمكن للأصنام أن تصدّ عنكم المكروه أو أن تفيض عليكم نعمة حتى تتقوها وتواظبوا على عبادتها؟!

هذا ... «وَمَا بِكُم مّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ».

فهذه الآية تحمل البيان الثالث بخصوص لزوم عبادة اللَّه الواحد جلّ وعلا، وأنّ عبادة الأصنام إن كانت شكراً على نعمة فهي ليست بمنعمة.

وعلاوة على ذلك ... «ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجَرُونَ».

فإن كانت عبادتكم للأصنام دفعاً للضر وحلًّا للمعضلات، فهذا من اللَّه.

وهذا البيان الرابع حول مسألة التوحيد بالعبادة.

«تجئرون»: من مادة (الجؤار) على وزن (غبار)، بمعنى صوت الحيوانات والوحوش الحاصل بلا اختيار عند الألم، ثم استعملت كناية في كل الآهات

غير الاختيارية الناتجة عن ضيق أو ألم.

نعم. فاللَّه سبحانه يسمع نداءكم في كل الحالات ويغيثكم ويرفع عنكم البلاء «ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ» بالعود إلى الأصنام.

فالقرآن في الآية يشير إلى فطرة التوحيد في جميع الناس، إلّاأنّ حجب الغفلة والغرور والجهل والتعصب والخرافات تغطّيها في الأحوال الاعتيادية.

وفي آخر آية (من الآيات مورد البحث) يأتي التهديد بعد إيضاح الحقيقة بالأدلة المنطقية: «لِيَكْفُرُوا بِمَا ءَاتَيْنهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ».

وَ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَ هُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 29

بعد أن عرضت الآيات السابقة بحوثاً استدلالية في نفي الشرك وعبادة الأصنام، تأتي هذه الآيات لتتناول قسماً من بدع المشركين وصوراً من عاداتهم القبيحة، لتضيف دليلًا آخراً على بطلان الشرك وعبادة الأصنام، فتشير الآيات إلى ثلاثة أنواع من بدع وعادات المشركين: وتقول أوّلًا: «وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَايَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ».

وكان النصيب عبارة عن قسم من الإبل بقية من المواشي بالإضافة إلى قسم من المحاصيل الزراعية، وهو ما تشير إليه الآية (136) من سورة الأنعام. ثم يضيف القرآن الكريم قائلًا: «تَاللَّهِ لَتُسَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ».

وعليه فما تقومون به له ضرر مادي من خلال ما تعملونه بلا فائدة، وله عقاب أخروي لأنّكم أسأتم الظن باللَّه واتجهتم إلى غيره.

أمّا البدعة الثانية فكانت: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ

سُبْحَانَهُ» من التجسّم ومن هذه النسبة. «وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ». أي: إنّهم لم يكونوا ليقبلوا لأنفسهم ما نسبوه إلى اللَّه، ويعتبرون البنات عاراً وسبباً للشقاء.

وإكمالًا للموضوع تشير الآية التالية إلى العادة القبيحة الثالثه: «وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ».

ولا ينتهي الأمر إلى هذا الحد بل «يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشّرَ بِهِ».

ولم ينته المطاف بعد، ويغوص في فكر عميق: «أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ».

وفي ذيل الآية، يستنكر الباري حكمهم الظالم الشقي بقوله: «أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ».

وأخيراً يشير تعالى إلى السبب الحقيقي وراء تلك التلوّثات، ألا هو عدم الإيمان بالآخرة: «لِلَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

فالسبب الرئيسي لكل انحراف وقبح وخرافة هو الغفلة عن ذكر اللَّه وعن محكمته العادلة في الآخرة.

دور الإسلام في إعادة اعتبار المرأة: لم يكن احتقار المرأة مختصاً بعرب الجاهلية، فلم تلق المرأة أدنى درجات الإحترام والتقدير حتى في أكثر الامم تمدّناً في ذلك الزمان، وكانت المرأة غالباً ما يتعامل معها باعتبارها بضاعة وليست إنساناً محترماً، ولكن عرب الجاهلية جسّدوا تحقير المرأة بأشكال أكثر قباحة ووحشية من غيرهم.

وعندما ظهر الإسلام حارب بشدة هذه المهانة من كافة أبعادها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 30

وأولى النبي صلى الله عليه و آله ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام من الإحترام ما جعل الناس في عجب من أمره، حيث كان صلى الله عليه و آله مع ما يحظى به من شرف ومقام، كان يقبّل يد الزهراء عليها السلام وعندما يعود من السفر يذهب إليها قبل أيّ أحد.

فالإحترام الذي أولاه الإسلام للمرأة قد أعاد لها شخصيتها الضائعة بين حوالك الجاهلية، وحررها من العادات البالية، وأنهى عصر تحقيرها.

وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ

بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدًى وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)

بعد أن تحدّثت الآيات السابقة عن جرائم المشركين البشعة في وأدهم للبنات، يطرق بعض الأذهان السؤال التالي: لماذا لم يعذّب اللَّه المذنبين بسرعة نتيجة لما قاموا به من فعل قبيح وظلم فجيع؟ والآية الاولى (61) تجيب بالقول: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ». أي: إنّ اللَّه لو يؤاخذ الناس على ما إرتكبوه من ظلم لما بقي إنسان على سطح البسيطة.

فعندما يذهب الإنسان فسينتفي سبب وجود الكائنات الاخرى وينقطع نسلها.

ويضيف القرآن الكريم قائلًا: «وَلكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ». بل يدركهم الموت في نفس اللحظة المقررة.

ويعود القرآن الكريم ليستنكر بدع المشركين وخرافاتهم في الجاهلية (حول كراهية المولود الأنثى والإعتقاد بأنّ الملائكة إناثاً) فيقول: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ».

فهذا تناقض عجيب، فإن كانت الملائكة بنات اللَّه سبحانه وتعالى فينبغي أن تكون البنت أمراً حسناً فلماذا تكرهون ولادتها؟ وإن كانت شيئاً سيّئاً فلماذا تنسبونها إلى اللَّه؟

ومع كل ذلك ... «وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى .

فبأي عمل تنتظرون حسنى الثواب؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 31

ولهذا يقول القرآن: «لَاجَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ». أي: أنّهم ليسوا فاقدين لحسن العاقبة فقط، بل و

«لهم النار» «وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ» أي: من المتقدمين في دخول النار.

والمفرط: من فرط، على وزن (فقط) بمعنى التقدم.

وربّما يراود البعض منّا الإستغراب عند سماعه لقصة عرب الجاهلية في وأدهم للبنات، ويسأل: كيف يصدّق أن نسمع عن إنسان ما يدفن فلذة كبده بيده وهي على قيد الحياة؟!

وكأنّ الآية التالية تجيب على ذلك: «تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطنُ أَعْمَالَهُمْ».

ثم يضيف القرآن: إنّ مشركي اليوم على سنّة من سبقهم من الماضين من الذين زيّنوا أعمالهم بزخرف ما أوحى لهم الشيطان «فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ»، يستفيدون مما يعطيهم إيّاه.

ولهذا ... «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

وتبيّن آخر آية من الآيات مورد البحث هدف بعث الأنبياء، ولتؤكّد حقيقة أنّ الأقوام والامم لو اتبعت الأنبياء وتخلّت عن أهوائها ورغباتها الشخصية لما بقي أثر لأي خرافة وانحراف، ولزالت تناقضات الأعمال، فتقول: «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)

المياه، الثمار، الأنعام: مرّة اخرى، يستعرض القرآن الكريم النعم والعطايا الإلهية الكثيرة، تأكيداً لمسألة التوحيد ومعرفة اللَّه، وإشارة إلى مسألة المعاد، وتحريكاً لحس الشكر لدى العباد ليتقربوا إليه سبحانه أكثر، ومن خلال هذا التوجيه الرباني تتّضح علاقة الربط بين هذه الآيات وما سبقها من آيات. فيقول: «وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ».

وهذا المظهر

من مظاهر قدرة وعظمة الخالق عزّ وجل يدلل بما لا يقبل الشك على إمكان المعاد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 32

وإنّ نعمة الأمطار دليل آخر على قدرة وعظمة الخالق سبحانه.

وبعد ذكر نعمة الماء (الذي يعتبر الخطوة الاولى على طريق الحياة) يشير القرآن الكريم إلى نعمة وجود الأنعام، وبخصوص ما يؤخذ منها من اللبن كمادة غذائية كثيرة الفائدة، فيقول: «وَإِنَّ لَكُمْ فِى الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً».

وأيّة عبرة أكثر من أن: «نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لّلشَّارِبِينَ».

«الفرث»: لغة بمعنى الأغذية المهضومة في المعدة والتي بمجرد وصولها إلى الامعاء تزوّد البدن بمادتها الحياتية، بينما يدفع الزائد منها إلى الخارج .. فما يهضم من غذاء داخل المعدة يسمّى «فرثاً» وما يدفع إلى الخارج يسمّى (روثاً).

ونعلم بأنّ جدار المعدة لا يمتص إلّامقداراً قليلًا من الغذاء (كبعض المواد السكّرية) والقسم الأكبر منه ينتقل إلى الأمعاء كي يمتص الدم ما يحتاجه منه.

وكما نعلم أيضاً بأنّ اللبن يترشح من غدد خاصه داخل ثدي الإناث، ومادته الأصلية تؤخذ من الدم والغدد الدهنية.

فهذه المادة الناصعة البياض ذات القوة الغذائية العالية تنتج من الأغذية المهضومة المخلوطة بالفضلات، ومن الدم.

والعجب يكمن في استخلاص هذا النتاج الخالص الرائع من عين ملوّثة.

وبعد حديثه عن الأنعام وألبانها يتناول القرآن ذكر النعم النباتية، فيقول: «وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». وَ أَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ»: انتقل الأسلوب القرآني بهاتين

الآيتين من عرض النعم الإلهية المختلفة وبيان أسرار الخليقة إلى الحديث عن «النحل» وما يدّره من منتوج (العسل) ورمز إلى ذلك الالهام الخفي بالوحي الإلهي إلى النحل: «أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 33

إنّ الوحي في هذا المورد يعني الأمر الغريزي والباعث الباطني الذي أودعه اللَّه في الكائنات الحية.

وأوّل مهمة أمر بها النحل في هذه الآية هي: بناء البيت، ولعل ذلك إشارة إلى أنّ اتخاذ المسكن المناسب بمثابة الشرط الأوّل للحياة، ومن ثم القيام ببقية الفعاليات.

ويذكر القرآن الكريم في الآية التالية المهمة الثانية للنحل: «ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلًا».

وأخيراً يعرض القرآن المهمة الأخيرة للنحل (كنتيجة لما قامت به من مهام سابقة):

«يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لّلنَّاسِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

في طبيعة حياتها وما تعطيه من غذاء للإنسان (فيه شفاء)، وهو دليل على عظمة وقدرة الباري عزّ وجل.

كما نعلم بأنّ للنباتات والأوراد استعمالات علاجية فعّالة لكثير من الأمراض، والشي ء المهم في موضوعنا ما توصّل إليه العلماء من خلال تجاربهم التي أكّدت على أنّ للنحل من المهارة بحيث إنّه في علمية صنعه للعسل لم يبذّر فيما تحويه النباتات والأوراد من خواص علاجية، فالنحل ينقل تلك الخواص بالكامل ويجعلها في العسل.

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً

وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَ فَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)

سبب اختلاف الأرزاق: بيّنت الآيات السابقة قسماً من النعم الإلهية المجعولة في عالمي النبات والحيوان، لتكون دليلًا حسيّاً لمعرفته جلّ شأنه، وتواصل هذه الآيات مسألة إثبات الخالق جلّ وعلا بأسلوب آخر، وذلك بأنّ تغيير النعم خارج عن اختيار الإنسان، وذلك كاشف بقليل من الدقّة والتأمل على وجود المقدّر لذلك. فيبتدأ القول ب «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفكُمْ». فمنه الممات كما كانت الحياة منه، ولتعلموا بأنّكم لستم خالقين لأيّ من الطرفين (الحياة والموت).

مختصر الامثل، ج 3، ص: 34

ومقدار عمركم ليس باختياركم أيضاً، فمنكم مَن يموت في شبابه أو في كهولته «وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» «1».

ونتيجة هذا العمر الموغل في سني الحياة «لِكَىْ لَايَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيًا».

فيكون كما كان في مرحلة الطفولة من الغفلة والنسيان وعدم الفهم ... نعم ف «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ». فكل القدرات بيده جلّ وعلا، وعطاؤه بما يوافق الحكمة والمصلحة، وكذا أخذه لا يكون إلّاعندما يلزم ذلك.

ويواصل القرآن الكريم استدلاله في الآية التالية من خلال بيان أنّ مسألة الرزق ليست بيد الإنسان وإنّما ... «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الرّزْقِ». فاصحاب الثروة والطول غير مستعدين لإعطاء عبيدهم منها ومشاركتهم فيها خوفاً أن يكونوا معهم على قدم المساواة: «فَمَا الَّذِينَ فُضّلُوا بِرَادّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ».

والذي نستفيده من الآية المبحوثة أنّ الإسلام يوصي بمراعاة المساواة كبرنامج أخلاقي بين أفراد العائلة الواحدة ومن يكون تحت التكفّل قدر الإمكان، وأن لا يجعلوا لأنفسهم فضلًا عليهم.

فالتفاوت بين دخل الأفراد ينبع من التفاوت بالإستعدادات، وهو من المواهب والنعم الإلهية أيضاً، وإن أمكن أن يكون بعض ذلك اكتسابياً، فالبعض الآخر غير اكتسابي قطعاً.

فإذن

وجود التفاوت في الأرزاق أمر غير قابل للإنكار من الناحية الاقتصادية، ويتمّ ذلك حتى داخل المجتمعات السليمة، إلّاأنّ أساس النجاح يكمن في السعي والمثابرة والجد، وينبغي أن لا يكون وجود التفاوت والاختلاف في الإستعدادات وفي الدخل اليومي للأفراد دافعاً لسوء الاستفادة وذلك بتشكيل مجتمع طبقي.

ولهذا يقول القرآن الكريم في ذيل الآية مورد البحث: «أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ».

وذلك إشارة إلى أنّ هذه الاختلافات في حالتها الطبيعية (وليست الظالمة المصطنعة) إنّما هي من النعم الإلهية التي أوجدها لحفظ النظام الاجتماعي البشري.

وتبدأ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث بلفظ الجلالة «اللَّه» كما كان في الآيتين السابقتين، ولتتحدث عن النعم الإلهية في إيجاد القوى البشرية، ولتتحدث عن الأرزاق الطيبة أيضاً تكميلًا للحلقات الثلاثة من النعم المذكورة في آخر ثلاث آيات، حيث استهلّت

______________________________

(1) «أرذل»: من «رذل» بمعنى الحقارة وعدم المرغوبية؛ والمقصود من «أرذل العمر»: السنين المتقدمة جدّاً من عمر الإنسان حيث الضعف والنسيان، ولا يستطيع تأمين احتياجاته الأولية، ولهذا سماها القرآن بأرذل العمر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 35

البحث بنظام الحياة والموت، ثم التفاوت في الأرزاق والإستعدادات الكاشف لنظام (تنوع الحياة) لتنتهي بالآية مورد البحث، حيث النظر إلى نظام تكثير النسل البشري و ...

الأرزاق الطيبة. وتقول الآية: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا» لتكون سكناً لأرواحكم وأجسادكم وسبباً لبقاء النسل البشري.

ولهذا تقول وبلافاصلة: «وَجَعَلَ لَكُم مّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً».

«الحفدة»: بمعنى (حافد) وهي في الأصل بمعنى الإنسان الذي يعمل بسرعة ونشاط دون انتظار أجر وجزاء، أمّا في هذه الآية فالمقصود منها أولاد الأولاد.

ثم يقول القرآن الكريم: «وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ».

وبعد كل العرض القرآني لآثار وعظمة قدرة اللَّه، ومع كل ما أفاض على البشرية من نعم، نرى المشركين بالرغم من مشاهدتهم لكل ما أعطاهم مولاهم

الحق، يذهبون إلى الأصنام ويتركون السبيل التي توصلهم إلى جادة الحق «أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ».

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً وَ لَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)

تواصل هاتان الآيتان بحوث التوحيد السابقة، وتشير إلى موضوع الشرك، وتقول بلهجة شديدة ملؤها اللوم والتوبيخ: «وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَايَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ شَيًا».

وليس لا يملك شيئاً فقط، بل «وَلَا يَسْتَطِيعُونَ» أن يخلقوا شيئاً.

وهذه إشارة إلى المشركين بأن لا أمل لكم في عبادتكم للأصنام.

ثمّ تقول الآية التالية كنتيجة لما قبلها: «فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ». وذلك «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ».

إنّ عبارة «فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ» تشير إلى منطق المشركين في عصر الجاهلية (ولا يخلو عصرنا الحاضر من أشباه اولئك المشركين) حيث كانوا يقولون: إنّما نعبد الأصنام لأنّنا لا نمتلك الأهلية لعبادة اللَّه، فنعبدها لتقرّبنا إلى اللَّه! وإنّ اللَّه مثل ملك عظيم لا يصل إليه إلّا الوزراء والخواص، وما على عوام الناس إلّاأن تتقرب للحاشية والخواص لتصل إلى خدمة اللَّه!

مختصر الامثل، ج 3، ص: 36

ولذا يجيبهم القرآن الكريم قائلًا: «فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ» التي هي من صنع أفكاركم المحدودة ومن صنع موجودات (ممكنة الوجود) ومليئة بالنواقص.

فاللَّه الذي دعاكم لأن تدعوه وتناجوه، وفتح لكم أبواب دعائه ليل نهار، لاينبغي أن تشبّهوه بجبار مستكبر لا يتمكن أي أحد من الوصول إليه ودخول قصره إلّابعض الخواص «فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ».

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَ

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْ ءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (77)

مثلان للمؤمن والكافر: ضمن التعقيب على الآيات السابقة التي تحدثت عن: الإيمان، الكفر، المؤمنين، الكافرين والمشركين، تشخّص الآيات مورد البحث حال المجموعتين (المؤمنين والكافرين) بضرب مثلين حيّين وواضحين.

يشبّه المثال الأوّل المشركين بعبد مملوك لا يستطيع القيام بأيّة خدمة لمولاه، ويشبّه المؤمنين بإنسان غني، يستفيد الجميع من إمكانياته ... «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّايَقْدِرُ عَلَى شَىْ ءٍ».

أمّا ما يقابل ذلك فالإنسان المؤمن الذي يتمتع بأنواع المواهب والرزق الحسن: «وَمَن رَّزَقْنهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا» والإنسان الحر مع ما له من إمكانيات واسعة «وَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا». فاحكموا: «هَلْ يَسْتَوُونَ».

قطعاً، لا ... فإذن: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» الذي يكون عبده حرّ وقادر ومنفق، وليس الأصنام التي يكون عبّادها أسرى وعديمو القدرة ومحددون «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

ثم يضرب مثلًا آخر لعبدة الأصنام والمؤمنين والصادقين، فيشبّه الأوّل بالعبد الأبكم الذي لا يقدر على شي ء، ويشبّه الآخر بإنسان حر يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 37

«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَايَقْدِرُ عَلَى شَىْ ءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلهُ». ولهذا ..

«أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لَايَأْتِ بِخَيْرٍ». وعلى هذا فيكون له أربع صفات سلبية:

- أبكم (لا ينطق ولا يسمع ولا يبصر منذ الولادة).

- وعاجز لا يقدر على شي ء.

- وكَلٌّ على مولاه.

- وأينما يوجّهه لا يأت بخير.

كما رأينا من ربط القرآن في بحوثه المتعلقة بالتوحيد ومحاربة الشرك مع بحث المعاد

ومحكمة القيامة الكبرى، نراه هنا يتناول الإجابة على إشكالات المشركين فيما يخص المعاد، فيقول لهم: «لِلَّهِ غَيْبُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

ثم يضيف قائلًا: «وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ».

فالعبارتان إشارة حيّة لقدرة اللَّه عزّ وجل المطلقة، وبخصوص مسألتي المعاد والقيامة، ولهذا يقول الباري في ذيل الآية: «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوَافِهَا وَ أَوْبَارِهَا وَ أَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَ مَتَاعاً إِلَى حِينٍ (80) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَ أَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 38

أنواع النعم المادية والمعنوية: يعود القرآن الكريم مرّة اخرى بعرض جملة اخرى من النعم الإلهية كدرس في التوحيد ومعرفة اللَّه، وأوّل ما يشير في هذه الآيات المباركات إلى نعمة العلم والمعرفة ووسائل تحصيله ... ويقول: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيًا». فمن الطبيعي أنّكم في ذلك المحيط المحدود المظلم تجهلون كل شي ء، ولكن عندما تنتقلون إلى هذا العالم فليس من الحكمة أن تستمروا على حالة الجهل، ولهذا فقد زوّدكم الباري سبحانه بوسائل إدراك الحقائق ومعرفة الموجودات «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ

وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفِدَةَ». لكي يتحرك حس الشكر للمنعم في أعماقكم من خلال إدراككم لهذه النعم الربانية الجليلة «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

وتستمر الآية التالية في بيان أسرار عظمة اللَّه عزّ وجل في علم الوجود، وتقول: «أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوّ السَّمَاءِ».

وبما أنّ الأجسام تنجذب إلى الأرض طبيعياً فقد وصف القرآن الكريم حركة الطيور في الهواء بالتسخير.

ويضيف قائلًا: «مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ».

صحيح أنّ ثمّة امور مجتمعة تعطي للطيور إمكانية التحليق والطيران، مثل: الخاصية الطبيعية للأجنحة، قدرة عضلات الطيور، هيكل الطير بالإضافة إلى خواص الهواء الملائمة ... ولكن، من الذي خلق هذه الهيئة وتلك الخواص؟

وفي نهاية الآية، يأتي قوله عزّ من قائل: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ». أي: إنّهم ينظرون إلى هذه الامور بعين باصرة وأذن سميعة ويتفكرون فيما يرون ويسمعون، وبذلك يقوى إيمانهم ويرسخ أكثر فأكثر.

وتستمر الآيات في الإشارة إلى النعم الإلهية حتى نصل إلى الآية الثالثه (مورد البحث) لتقول: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا».

وحقّاً إنّ هذه النعمة المباركة من أهم النعم، فلولاها لم يمكن التمتع بغيرها.

«البيوت»: جمع بيت، مأخوذ من «البيتوتة» وهي في الأصل بمعنى التوقف ليلًا، واطلقت كلمة «بيت» على الحجرة أو الدار لحصول الاستفادة منهما للسكن ليلًا.

وبعد أن تطرّق القرآن الكريم إلى ذكر البيوت الثابتة عرّج على ذكر البيوت المتنقلة فقال:

«وَجَعَلَ لَكُم مّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 39

وهي من الخفّة بحيث «تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ أي: رحيلكم- وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ».

بل وجعل لكم: «وَمِن أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ».

فاستعمال المصطلحين «أَثَاثًا وَمَتَاعًا» على التوالي يمكن أن يشير إلى هذا المعنى: إنّكم تستطيعون أن تهيئوا من أصوافها وأوبارها وأشعارها وسائل بيتية كثيرة تتمتعون بها.

الظلال، المساكن، الأغطية: ويشير القرآن الكريم إلى نعمة اخرى بقوله:

«وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِللًا وَجَعَلَ لَكُم مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا».

«الأكنان»: جمع (كن) بمعنى وسائل التغطية والحفظ، ولهذا فقد اطلقت على المغارات وأماكن الإختفاء وفي الجبال.

وكأنّ ذكر نعمة «الظلال» و «أكنان الجبال» بعد ذكر نعمة «المسكن» و «الخيام» في الآية السابقة، للإشارة إلى أنّ طوائف الناس لا تخرج عن إحدى ثلاثة ... واحدة تعيش في المدن والقرى وتستفيد من بناء البيوت لسكناها، واخرى تعيش الترحال والتنقل فتحمل معها الخيام، وثالثة اولئك الذين يسافرون وليس معهم مستلزمات المأوى ... ولم يترك الباري جلّ شأنه المجموعة الثالثه تعيش حالة الحيرة من أمرها، بل في طريقهم الظلال والمغارات لتقيهم. وبعد ذكر القرآن الكريم لنعمة الظلال الطبيعية والصناعية، ينتقل لذكر ملابس الإنسان فيقول: «وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ»، وثمّة ألبسة اخرى تستعمل لحفظ أبدانكم في الحروب «وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ».

«السرابيل»: جمع «سربال» بمعنى الثوب من أيّ جنس كان.

فإنّ فائدة الألبسة لا تنحصر في حفظ الإنسان من الحر والبرد، بل تُلبس الإنسان ثوب الكرامة وتقي بدنه من الأخطار الموجّهة إليه.

وفي ذيل الآية يقول القرآن مذكّراً: «كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ». أي:

تطيعون أمره.

وطبيعي جدّاً أن يفكر الإنسان بخالق النعم، خصوصاً عند تنبّهه للنعم المختلفة التي تحيط بوجوده.

وبعد ذكر هذه النعم الجليلة، يقول عزّ وجلّ أنّهم لو اعرضوا ولم يسلموا للحق فلا تحزن ولا تقلق، لأنّ وظيفتك ابلاغهم: «فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلغُ الْمُبِينُ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 40

والمراد من هذا المقطع القرآني هو مواساة النبي صلى الله عليه و آله وتسليته.

وتكميلًا للحديث ... يضيف القرآن الكريم القول: «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا».

فعلّة كفرهم ليست في عدم معرفتهم بالنعم الإلهية وإنّما بحملهم تلك الصفات القبيحة التي تمنعهم من الإيمان كالتعصب الأعمى والعناد في

معاداة الحق.

ولعل ما جاء في آخر الآية «وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ» إشارة لهذه الأسباب المذكورة.

إنّ أكثرية الكفار هم من أهل التعصب والعناد، والذين كفروا نتيجة جهلهم أو غفلتهم، فهم القلّة قياساً إلى اولئك.

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَ إِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَ إِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَ أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هؤُلَاءِ وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدًى وَ رَحْمَةً وَ بُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

عندما تغلق الأبواب أمام المجرمين: بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة جحود منكري الحق وعدم اعترافهم بالنعم الإلهية، يتطرق في هذه الآيات إلى جانب من العقاب الإلهي الشديد الذي ينتظر اولئك في عالم الآخرة، لينبّه الغافل من سباته، فعسى أن يعيد النظر في مواقفه المنحرفة قبل فوات الأوان، فيقول أوّلًا: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا».

وبخصوص تلك المحكمة، تأتي الآية لتقول: «ثُمَّ لَايُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا».

وهل من الممكن أن لا يأذن اللَّه للمجرمين في الدفاع عن أنفسهم؟

نعم، وذلك لعدم الحاجة للسان في ذلك اليوم العظيم، لأنّ الجوارح من رجل وأذن وعين

مختصر الامثل، ج 3، ص: 41

وكذلك الجلد، بل وحتى الأرض التي أطاع الإنسان عليها أو عصى، كلها ستشهد عليه، بل ويزاد على عدم السماح

لهم بالكلام ب «وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ». لأنّ هناك محل مواجهة نتائج الأعمال وليس يوم العمل والإصلاح.

وتشرح الآية التالية حال الظالمين بعد انتهاء مرحلة حسابهم ودخولهم في العذاب، وكيف أنّهم يطلبون تخفيف شدة العذاب تارةً، ويطلبون إمهالهم مدّة تارةً اخرى، فتقول:

«وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ».

وفي الآية التالية يستمر الحديث عن عاقبة المشركين، وكيف أنّهم سيحشرون في جهنم مع ما أشركوا من معبوداتهم الحجرية والبشرية، فتقول الآية المباركة واصفة حالهم: «وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِن دُونِكَ»، فهذه المعبودات هي التي وسوست لنا للوقوع في درَك العمل القبيح، وهي شريكتنا في الجرم أيضاً، فارفع عنّا بعض العذاب واجعله لها.

وعندها ... تبدأ تلك الأصنام بالتكلم (بإذن اللَّه): «فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ»، فلم نكن شركاء للَّه، ومهما وسوسنا لكم فلا نستحق حمل بعض أوزاركم.

وتأتي الآية التالية لتبين أنّ الجميع بعد أن يقولوا كل ما عندهم، ويسمعوا جواب قولهم، سيتوجهون إلى حالة اخرى ... «وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ» مسلمين للَّه، مذعنين لعظمته جلّ وعلا، لأنّ غرور وتعصب الجاهلين قد ازيل برؤية الحق الذي لا مفرّ من تصديقه والإذعان إليه.

وفي هذه الأثناء، وحيث كل شي ء جليّ كوضوح الشمس .. «وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ». فتبطل كذبتهم بوجود شريك للَّه، وكذلك يبطل ادعاؤهم بشفاعة الأصنام لهم عند اللَّه، عندما يلمسون عدم قدرة الأصنام للقيام بأيّ عمل، بل ويرونها محشورة معهم في نار جهنم.

وبهذا المقدار من الآيات كان الحديث منصبّاً حول انحراف المشركين الضالين وغرقهم في درك الشرك، دون أن يدعوا الآخرين إلى ما هم فيه .. وبعد ذلك ينتقل القرآن الكريم إلى الكافرين من الذين لم يكتفوا

بأن يكونوا كافرين، وإنّما كانوا يبذلون أقصى جهودهم لإضلال الآخرين! فيقول: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 42

لأنّهم كانوا عاملًا مؤثّراً للفساد على الأرض وإضلال خلق اللَّه بالصدّ عن سبيله.

والحديث المشهور يبيّن لنا هذا المعنى بوضوح: «من استن بسنّة عدل فاتبع كان له أجر من عمل بها من غير أن ينتقص من أجورهم شي ء ومن استن سنّة جور فاتبع كان عليه مثل وزر من عمل بها من غير أن ينتقص من أوزارهم شي ء».

وتتناول الآية أيضاً مسألة وجود الشهيد في كل امّة (والذي ذكر قبل آيات معدودة)، ولمزيد من التوضيح يقول القرآن الكريم: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مّنْ أَنفُسِهِمْ».

ومع أنّ عموم الحكم في هذه الآية يشمل المجتمع الإسلامي والنبي صلى الله عليه و آله إلّاأنّ القرآن الكريم في مقام التأكيد قال: «وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هؤُلَاءِ».

وبما أنّ جعل الشاهد فرع لوجود برنامج كامل وجامع للناس بما تتم فيه الحجة عليهم، ويصح فيه مفهوم النظارة والمراقبة، لذا يقول القرآن بعد ذلك مباشرة: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْ ءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ».

إنّ الآية أعلاه ذكرت أربعة تعابير متلازمة حسب تسلسلها لتوضيح الهدف من نزول القرآن: 1- تبياناً لكل شي ء. 2- هدى. 3- رحمة. 4- بشرى للمسلمين.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسَانِ وَ إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَ يَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

أكمل برنامج إجتماعي: بعد أن ذكرت الآيات السابقة أنّ القرآن فيه تبيان لكل شي ء، جاءت هذه الآية لتقدّم نموذجاً من التعليمات الإسلامية في شأن المسائل الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية، فتقول في البدء: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاىِ ذِى

الْقُرْبَى .

فالعدل هو القانون الذي تدور حول محوره جميع أنظمة الوجود.

والمعنى الواقعي للعدل يتجسد في جعل كل شي ء في مكانه المناسب، فالانحراف والإفراط والتفريط وتجاوز الحد والتعدّي على حقوق الآخرين، ما هي إلّاصور لخلاف أصل العدل.

ومع ما للعدالة من قدرة وجلال وتأثير عميق في كل الأوقات- الطبيعية والاستثنائية-

مختصر الامثل، ج 3، ص: 43

في عملية بناء المجتمع السليم، إلّاأنّها ليست العامل الوحيد الذي يقوم بهذه المهمّة، ولذلك جاء الأمر ب «الإحسان» بعد «العدل» مباشرة ومن غير فاصلة. في نهج البلاغة عن علي عليه السلام أنّه قال: «العدل: الإنصاف، والإحسان: التفضل».

وبعد ذكر القرآن الكريم للُاصول الإيجابية الثلاثة يتطرق للُاصول المقابلة لها (السلبية) فيقول: «وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ».

إنّ «الفحشاء»: إشارة إلى الذنوب الخفيّة؛ و «المنكر»: إشارة إلى الذنوب العلنية؛ و «البغي»: إشارة إلى كل تجاوز عن حق الإنسان، وظلم الآخرين والإستعلاء عليهم.

وفي آخر الآية المباركة يأتي التأكيد مجدداً على أهمية هذه الأصول الستة: «يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

فإحياء الأصول الثلاثة «العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى» ومكافحة الانحرافات الثلاث «الفحشاء والمنكر، والبغي» على صعيد العالم كفيل بأن يجعل الدنيا عامرة بالخير، وهادئة من كل اضطراب، وخالية من أيّ سوء وفساد، وإذا روي عن ابن مسعود (الصحابي المعروف) قوله: (هذه الآية أجمع آية في كتاب اللَّه للخير والشر) فهو للسبب الذي ذكرناه.

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَ لَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَ لَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَ لَوْ

شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَ لَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: الآية الاولى نزلت في الذين بايعوا النبي صلى الله عليه و آله على الإسلام فقال

مختصر الامثل، ج 3، ص: 44

سبحانه للمسلمين الذين بايعوه: لا يحملنّكم قلة المسلمين وكثرة المشركين على نقض البيعة فإنّ اللَّه حافظكم. أي: اثبتوا على ما عاهدتم عليه الرسول وأكدتموه بالأيمان.

التّفسير

الوفاء بالعهد دليل الإيمان: في هذه الآيات قسماً آخر من تعاليم الإسلام المهمة (الوفاء بالعهد والأيمان). يقول أوّلًا: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ». ثم يضيف: «وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ».

إنّ معنى «عهد اللَّه» هو: العهود التي يبرمها الناس مع اللَّه تعالى (وبديهي أنّ العهد مع النبي عهد مع اللَّه أيضاً)، وعليه فهو يشمل كل عهد إلهي وبيعة في طريق الإيمان والجهاد وغير ذلك.

أمّا مسألة «الأيمان» (جمع يمين، أي: القسم) التي وردت في الآية- والتي عرض فيها المفسرون آراء كثيرة- فلها معنى واسع، ويتّضح ذلك عند ملاحظة مفهوم الجملة حيث إنّه يشمل العهود التي يعقدها الإنسان مع اللَّه عزّ وجل، بالإضافة إلى ما يستعمله من أيمان في تعامله مع خلق اللَّه.

وحيث إنّ الوفاء بالعهد أهم الاسس في ثبات أيّ مجتمع كان، تواصل الآية التالية ذكره باسلوب يتّسم بنوع من اللوم والتوبيخ، فتقول: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا» «1».

والآية تشير إلى (رايطة) تلك المرأة التي عاشت في قريش زمن الجاهلية، وكانت هي

وعاملاتها يعملن من الصباح حتى منتصف النهار في غزل ما عندهن من الصوف والشعر، وبعد أن ينتهين من عملهن تأمرهن بنقض ما غزلن، ولهذا عرفت بين قومها ب (الحمقاء).

ثم يضيف القرآن الكريم قائلًا: «تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ» «2». أي: لا تنقضوا عهودكم مع اللَّه بسبب أنّ تلك المجموعة أكبر من هذه فتقعوا في الخيانة والفساد.

واعلموا: «إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ».

______________________________

(1) «أنكاث»: جمع (نكث) على وزن (قسط) بمعنى حلّ خيوط الصوف والشعر بعد برمها، وتطلق أيضاً على اللباس الذي يصنع من الصوف والشعر.

(2) «الدّخل»: (على وزن الدغل)، بمعنى الفساد والتقلب ومنها اخذ معنى (الداخل).

مختصر الامثل، ج 3، ص: 45

وستتّضح النتيجة في الآخرة ليلاقي كل فرد جزاءه العادل: «وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» من هذا الأمر وغيره. و الآية التالية تجيب على توهّم، غالباً ما يطرق الأذهان عند الحديث عن الامتحان الإلهي والتأكيد على الإلتزام بالعهود والوظائف، وخلاصته: هل أنّ اللَّه لا يقدر على إجبار الناس جميعاً على قبول الحق؟ فتقول: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً».

«امّة واحدة» من حيث الإيمان والعمل على الحق بشكل إجباري، ولكن ذلك سوف لا يكون خطوة نحو التكامل والتسامي ولا فيه أفضلية للإنسان في قبوله الحق، وعليه فقد جرت سُنّة اللَّه بترك الناس أحراراً ليسيروا على طريق الحق مختارين.

ولا تعني هذه الحرية بأنّ اللَّه سيترك عباده ولا يعينهم في سيرهم، وإنّما بقدر ما يقدمون على السير والمجاهدة سيحصلون على التوفيق والهداية والسداد منه جلّ شأنه، حتى يصلوا لهدفهم، بينما يحرم السائرون على طريق الباطل من هذه النعمة الربانية، فتراهم كلّما طال المقام بهم ازدادوا ضلالًا.

ولهذا يواصل القرآن الكريم القول ب: «وَلكِن يُضِلُّ مَن

يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ».

ولكن الهداية الإلهية أو الإضلال لا تسلب المسؤولية عنكم، حيث إنّ الخطوات الاولى على عواتقكم، ولهذا يأتي النداء الرباني: «وَلَتُسَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

وتشير هذه العبارة إلى نسبة أعمال البشر إلى أنفسهم، وتؤكّد على تحميلهم مسؤولية تلك الأعمال، وتعتبر من القرائن الواضحة في تفسير مفهوم الهداية والإضلال الإلهيين وأنّ أيّاً منهما لا يستبطن صفة الإجبار أبداً.

وقد بحثنا هذا الموضوع سابقاً (راجع تفسير الآية 26 من سورة البقرة).

وتأكيداً على مسألة الوفاء بالعهد والثبات في الإيمان (باعتبار ذلك من العوامل المهمة في ثبات المجتمع) يقول القرآن: «وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ». أي: وسيلة للخداع والنفاق، لأنّ في ذلك خطرين كبيرين:

الأوّل: «فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا».

الثاني: «وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ» في هذه الدنيا «وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» في الآخرة.

من الآثار السلبية لنقض العهود والأيمان شياع سوء ظن الناس وتنفّرهم من الدين

مختصر الامثل، ج 3، ص: 46

الحق، وتشتت الصفوف وفقدان الثقة حتى لا يرغب الناس في الإسلام، وإن عقدوا معكم عهداً فسوف لا يجدون أنفسهم ملزمين بالوفاء به، وهذا ما يؤدّي لمساوي ومفاسد كثيرة، وبروز حالة التخلف في الحياة الدنيا.

وأمّا على صعيد الحياة الاخرى فإنّه سيكون سبباً للعقاب والعذاب الإلهي.

وَ لَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: إنّ رجلًا من حضر موت يقال له عبدان الأشرع قال: يا رسول اللَّه،

إنّ امرأ القيس الكندي جاورني في أرضي فاقتطع من أرضي فذهب بها منّي. فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله امرأ القيس عنه، فقال: لا أدري ما يقول. فأمره أن يحلف، فقال عبدان: إنّه فاجر لا يبالى أن يحلف، فقال: إن لم يكن لك شهود فخذ بيمينه. فلمّا قام ليحلف أنظره فانصرفا فنزل قوله: «وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ» الآيتان. فلمّا قرأهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال امرؤ القيس: أمّا ما عندي فينفد، وهو صادق فيما يقول. لقد اقتطعت أرضه ولم أدر كم هي، فليأخذ من أرضي ما شاء، ومثلها معها، بما أكلت من ثمرها. فنزل فيه «مَنْ عَمِلَ صلِحًا» الآية.

التّفسير

جاءت الآية الاولى من هذه الآيات لتؤكّد على قبح نقض العهد مرّة اخرى ولتبيّن عذراً آخراً من أعذار نقض العهد الواهية، فحيث تطرقت الآيات السابقة إلى عذر الخوف من كثرة الأعداء تأتي هذه الآية لتطرح ما للمصلحة الشخصية (المادية) من أثر سلبي على حياة الإنسان. ولهذا تقول: «وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا».

أي: إنّ قيمة الوفاء بعهد اللَّه لا تدانيها قيمة، ولو استلمتم زمام ملك الدنيا بأسرها فإنّه

مختصر الامثل، ج 3، ص: 47

لا يساوي قيمة لحظة واحدة من الوفاء بعهد اللَّه. وتضيف الآية المباركة للدلالة على هذا الأمر: «إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

ويبيّن القرآن في الآية التالية سبب الأفضلية بقوله: «مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ».

ثم يضيف قائلًا: «وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم»- وعلى الأخص في الثبات على العهد والأيمان- «بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

إنّ التعبير ب «أحسن» دليل على أنّ أعمالهم الحسنة ليست بدرجة واحدة، فبعضها حسن والبعض الآخر أحسن، ولكن اللَّه تعالى يجزي الجميع بأحسن ما كانوا

يعملون، وهو ذروة اللطف والرحمة الربانية.

ثم يبيّن القرآن الكريم بعد ذلك- على صورة قانون عام- نتائج الأعمال الصالحة المرافقة للإيمان في هذه الدنيا وفي الآخرة، فيقول: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

وعليه، فالمقياس هو الأعمال الصالحة الناتجة عن الإيمان بلا قيد أو شرط، من حيث السن أو الجنس أو المكانة الإجتماعية أو ما شابه ذلك.

الحياة الطيبة، تعنى الحياة الطيبة بجميع جهاتها، وخالية من التلوّثات والظلم والخيانة والعداوة والذل وكل ألوان الآلام والهموم، وفيها ما يجعل حياة الإنسان صافية كماء زلال.

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

تبيّن الآيات مورد البحث طريقة الاستفادة من القرآن وتتطرق إلى كيفية تلاوته، فكثافة المحتوى القرآني لا تكفي وحدها لتوجيهنا، ولابد من رفع الحجب المخيّمة على وجودنا وإزالتها عن محيط فكرنا وروحنا، كي نتمكن من تحصيل هذا المحتوى الثّر الغني.

ولهذا يقول القرآن: «فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطنِ الرَّجِيمِ».

ولا يقصد من الإستعاذة الاكتفاء بالذكر، بل ينبغي لها أن تكون مقدمة لتحقيق وإيجاد الحالة الروحية المطلوبة. حالة: التوجه إلى اللَّه عزّ وجل، الإنفصال عن هوى النفس والعناد

مختصر الامثل، ج 3، ص: 48

المانع للفهم والدرك الصحيح للإنسان، وعندما نقرأ آية، نستعيذ باللَّه من أن تستحوذ وساوس الشيطان علينا، وتحول بيننا وبين كلام اللَّه جلّ وعلا.

وإن لم تتحقق للإنسان هذه الحالة فسيتعذر عليه إدراك الحقائق القرآنية.

وتأتي الآية التالية لتكون دليلًا على ما جاء في الآية التي قلبها: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطنٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».

«إِنَّمَا سُلْطنُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ»، لأنّهم يعتبرون أمر الشيطان واجب الطاعة دون أمر اللَّه.

فالآية تؤكّد حقيقة أنّ سلطة الشيطان ليست إجبارية على الإنسان، ولا يتمكن من التأثير على الإنسان من دون أن يمهّد الإنسان السبيل لدخول الشيطان في نفسه، ويعطيه إجازة المرور من بوّابة قلبه.

وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدًى وَ بُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: كانوا يقولون: يسخر محمّد بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر وغداً يأمرهم بأمر، وإنّه لكاذب، يأتيهم بما يقول من عند نفسه.

التّفسير

تحدثت الآيات السابقة عن اسلوب الاستفادة من القرآن الكريم، وتتناول الآيات

مختصر الامثل، ج 3، ص: 49

مورد البحث جوانب اخرى من المسائل المرتبطة بالقرآن، وتبتدى ء ببعض الشبهات التي كانت عالقة في أذهان المشركين حول الآيات القرآنية المباركة، فتقول: «وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ». فهذا التغيير والتبديل يخضع لحكمة اللَّه، فهو أعلم بما ينزل، وكيف ينزل، ولكن المشركين لجهلهم «قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

إنّ المشركين لم يدخل في تصوراتهم وأذهانهم أنّ القرآن في صدد بناء مجتمع إنساني جديد يسوده التطوّر والتقدم والحريّة والمعنوية العالية.

فبديهي والحال هذه أن يطرأ على التغيير والتبديل تدرّجاً مع ما يعيشونه،

فغفلة المشركين عن هذه الحقائق وابتعادهم عن ظروف نزول القرآن، دفعهم للإعتقاد بأنّ أقوال النبي صلى الله عليه و آله تحمل بين ثناياها التناقض أو الإفتراء على اللَّه عزّ وجل وإلّا لعلموا أنّ النسخ في الأحكام جزء من أوامر وآيات القرآن المنظّمة على شكل برنامج تربوي دقيق لا يمكن الوصول للهدف النهائي لنيل التكامل إلّابه.

وتستمر الآية التالية بنفس الموضوع، وللتأكيد عليه تأمر النبي صلى الله عليه و آله أن: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبّكَ بِالْحَقّ».

«روح القدس» أو (الروح المقدسة) هو أمين الوحي الإلهي «جبرائيل الأمين» وبواسطته كانت الآيات القرآنية تتنزّل بأمر اللَّه تعالى على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله سواء الناسخ منها أو المنسوخ.

فكل الآيات حق، وهدفها واحد يتركّز في توجيه الإنسان ضمن التربية الربانية له، وظروف وتركيبة الإنسان استلزمت وجود الأحكام الناسخة والمنسوخة في العملية التربوية.

ولهذا، جاء في تكملة الآية المباركة: «لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ».

يقول صاحب تفسير الميزان: إنّ تعريف الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين إنّما هو لما بين الإيمان والإسلام من الفرق، فالإيمان للقلب، ونصيبه التثبيت في العلم والإذعان، والإسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الإهتداء إلى واجب العمل والبشرى بأنّ الغاية هي الجنة والسعادة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 50

مختصر الامثل ج 3 99

وعلى أيّة حال، فلأجل تقوية الروح الإيمانية والسير في طريق الهدى والبشرى لابدّ من برامج قصيرة الأمد ومؤقتة، وبالتدريج يحلّ البرنامج النهائي الثابت محلها، وهو سبب وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات الإلهية.

وبعد أن فنّد القرآن شبهات المشركين يتطرق لذكر شبهة اخرى، أو على الأصح لذكر إفتراء آخر لمخالفي نبي الرحمة صلى الله عليه و آله فيقول: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ

بَشَرٌ».

فالقرآن أجابهم بقوة وأبطل كل ما كانوا يفترونه، بقوله: «لّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ» «1».

فالآية المباركة دليل الإعجاز القرآني من حيث اللفظ والمضمون، فحلاوة القرآن وبلاغته وجاذبيته والتناسق الخاص في ألفاظه وعباراته ما يفوق قدرة أيّ إنسان.

وبلهجة المهدّد المتوعّد يبيّن القرآن الكريم أنّ حقيقة هذه الإتهامات والانحرافات ناشئة من عدم انطباع الإيمان في نفوس هؤلاء، فيقول: «إِنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بَايَاتِ اللَّهِ لَايَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». لأنّهم غير لائقين للهداية ولا يناسبهم إلّاالعذاب الإلهي، لما باتوا عليه من التعصب والعناد والعداء للحق.

وفي آخر آية يقول: إنّ الأشخاص الذين يتّهمون أولياء اللَّه هم الكفار: «إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بَايَاتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ». فأيّة أكاذيب أكبر من تلك التي تطلق على رجال الحق لتحول بينهم وبين المتعطشين للحقائق.

قبح الكذب في المنظور الإسلامي: الآية الأخيرة بحثت مسألة قبح الكذب بشكل عنيف، وقد جعلت الكاذبين بدرجة الكافرين والمنكرين للآيات الإلهية.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أعطت التعاليم الإسلامية إفاضات خاصه لمسألة الصدق والنهي عن الكذب.

وقد اعتبرت الأحاديث الشريفة الكذب مفتاح الذنوب.

فعن علي عليه السلام أنّه قال: «الصدق يهدي إلى البرّ والبرّ يدعو إلى الجنة» «2».

______________________________

(1) «يلحدون»: من الإلحاد بمعنى الانحراف عن الحق إلى الباطل، وقد يطلق على أيّ انحراف، والمراد هنا: إنّ الكاذبين يريدون نسبة القرآن إلى إنسان ويدعون بأنّه معلم النبي صلى الله عليه و آله.

«الإعجام» و «العجمة» لغةً: بمعنى الإبهام، ويطلق الأعجمي على الذي في بيانه لحن (نقص) سواء كان من العرب أو من غيرهم، وباعتبار أنّ العرب ما كانوا يفهمون لغة غيرهم فقد استعملوا اسم (العجم) على غير العرب.

(2) مشكاة الأنوار للطبرسي/ 300.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 51

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ

إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصَارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: الآية الاولى نزلت في جماعة اكرهوا وهم: عمار، وياسر أبوه وامّه سمية، وصهيب، وبلال، وخباب، عُذّبوا وقُتل أبو عمار وأمّه، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه. ثم أخبر سبحانه بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال قوم: كفر عمار. فقال صلى الله عليه و آله: «كلّا، إنّ عماراً ملي ء إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه». وجاء عمار إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يبكي، فقال صلى الله عليه و آله: «ما وراءك»؟ فقال: شرّ يا رسول اللَّه، ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت». فنزلت الآية.

التّفسير

المرتدون عن الإسلام: تكمل هذه الآيات ما شرعت به الآيات السابقة من الحديث عن المشركين والكفار وما كانوا يقومون به، فتتناول الآيات فئة اخرى من الكفرة وهم المرتدون. حيث تقول الآية الاولى: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ

أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

تشير الآية إلى نوعين من الذين كفروا بعد إيمانهم:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 52

النوع الأوّل: هم الذين يقعون في قبضة العدو الغاشم ويتحملون أذاه وتعذيبه، ولكنّهم لا يصبرون تحت ضغط ما يلاقوه من أعداء الإسلام، فيعلنون براءتهم من الإسلام وولاءهم للكفر، على أنّ ما يعلنوه لا يتعدى حركة اللسان، وأمّا قلوبهم فتبقى ممتلئة بالإيمان.

فهذا النوع يكون مشمولًا بالعفو الإلهي بلا ريب، بل لم يصدر منهم ذنب، لأنّهم قد مارسوا التقية التي أحلّها الإسلام لحفظ النفس وحفظ الطاقات للاستفادة منها في طريق خدمة دين اللَّه عزّ وجل.

النوع الثاني: هم الذين يفتحون للكفر أبواب قلوبهم حقيقةً، ويغيّرون مسيرتهم ويتخلّون عن إيمانهم، فهؤلاء يشملهم غضب اللَّه عزّ وجل وعذابه العظيم.

وتتطرق الآية التالية إلى أسباب ارتداد هؤلاء، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَوةَ الدُّنْيَا عَلَى الْأَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» الذين يصرّون على كفرهم وعنادهم.

وخلاصة المقال: حين أسلم هؤلاء تضررت مصالحهم المادية وتعرضت للخطر المؤقت، فندموا على إسلامهم لشدة حبّهم لدنياهم، وعادوا خاسئين إلى كفرهم.

وبديهي أنّ من لا يرغب في الإيمان ولا يسمح له بالدخول إلى أعماق نفسه، لا تشمله الهداية الإلهية.

وتأتي الآية الاخرى لتبيّن سبب عدم هدايتهم، فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ» بحيث إنّهم حُرموا من نعمة الرؤية والسمع وإدراك الحقائق:

«وَأُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ».

إنّ ارتكاب الذنوب وفعل القبائح يترك أثره السلبي على إدراك الإنسان للحقائق، وتغلق أبواب روحه من تقبّل أيّة حقيقة.

ثم تعرض الآية التالية عاقبة أمرهم، فتقول: «لَاجَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الْأَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

وهل هناك من هو أتعس حالًا من هذا الإنسان الذي خسر جميع طاقاته وإمكاناته لنيل السعادة الدائمة بإتباعه

هوى النفس.

وبعد ذكر الفئتين السابقتين، أي الذين يتلفظون بكلمات الكفر وقلوبهم ملأى بالإيمان، والذين ينقلبون إلى الكفر مرّة اخرى بكامل اختيارهم ورغبتهم، فبعد ذلك تتطرق الآية التالية إلى فئة ثالثة وهم البسطاء المخدوعون في دينهم، فتقول: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ».

فالآية دليل واضح على قبول توبة المرتد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 53

وتأتي الآية الأخيرة لتقدّم تذكيراً عاماً بقولها: «يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا» لتنقذها من العقاب والعذاب. ولكن ... لا فائدة من كل ذلك ... «وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ».

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَ هُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)

الذين كفروا فأصابهم العذاب: قلنا مراراً: إنّ هذه السورة هي سورة النِعم، النعم المادية والمعنوية وعلى كافة الأصعدة، وقد مرّ ذكر ذلك في آيات متعددة من هذه السورة المباركة، وتصوّر لنا الآيات أعلاه عاقبة الكفر بالنعم الإلهية على شكل مثل واقعي.

ويبتدأ التصوير القرآني بضرب مثل لمن لم يشكر نعمة اللَّه عليه: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً» لا تضطر إلى هجرة إجبارية، بل تعيش في أمن وأمان (مطمئنة) ومضافاً إلى ذلك «يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ».

ولكن حالها قد تبدّل في النهاية «فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ».

وإضافة لاستكمال نعم اللَّه المادية عليهم، فقد أضاف لهم من النعم المعنوية ما يستقر به

حالهم في الدنيا، ويدام لهم ذلك في الآخرة، فبعث بين ظهرانيهم رسل وأنبياء وأرسلت إليهم التعاليم السماوية «وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ».

فكانت النتيجة أن: «فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ».

وإنّكم حين تطّلعون على هذه النماذج الواقعية من الامم السابقة، فاعتبروا بها ولا تنهجوا طريق اولئك الغافلين الظالمين من الكافرين بأنعم اللَّه «فَكُلُوا مِمَّا رَزقَكُمُ اللَّهُ حَللًا طَيّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ».

يحتمل حدثت هذه القصّة لجمع من بني إسرائيل في منطقة ما، وأنّهم ابتلوا بالقحط والخوف على أثر كفرانهم بنعم اللَّه.

ومما يؤيد ذلك ما روي- في العياشي- عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ قوماً كان في بني

مختصر الامثل، ج 3، ص: 54

إسرائيل يؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها فلم يزل اللَّه بهم حتى اضطرّوا إلى التماثيل يبيعونها ويأكلون منها وهو قول اللَّه: ضرب اللَّه مثلًا».

وثمّة احتمال آخر وهو أنّ الآية تشير إلى قوم «سبأ» الذين عاشوا في اليمن، وقد ذكر القرآن الكريم قصّتهم في الآيات (15- 19) من سورة سبأ، وكيف أنّهم كانوا يعيشون على أرض ملؤها الثمار والخيرات في أمن وسلام، حتى أصابهم الغرور والطغيان والإستكبار وكفران النعم الإلهية، فأهلكهم اللَّه وشتّت جمعهم وجعلهم عبرة للآخرين.

فالتعبير إشارة إلى أنّ القحط والخوف كانا من الشدة وكأنّهما لباس قد أحاط بأبدانهم من كل الجهات، وأبدانهم في تماس معه.

وعرض الحادثة ما هو إلّاتنبيه للناس ولكل الأمم الغارقة بالنعم الإلهية، على أنّ الإسراف والتبذير وتضييع النعم لا ينجو من عقوبة وغرامة ثقيلة الوقع.

وهو تنبيه أيضاً للذين يرمون نصف غذائهم (الزائد عن الحاجة) في أكياس الأوساخ دائماً.

وهو تنبيه للذين يجمعون المواد الغذائية في بيوتهم لاستعمالهم الخاص، ويملؤون مخازنهم إنتظاراً لارتفاع

سعرها في الأسواق حتى يفسد ويذهب هباءً من غير أن يستفيدوا من بيعها بسعر مناسب قبل فسادها.

نعم، فلا يخلو أي عمل مما ذكر من عقوبة إلهية، وأقل ما يعاقبون به هو سلب تلك النعم عنهم.

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَ لَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذَا حَلَالٌ وَ هذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَ عَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَ لكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 55

لا يفلح الكاذبون: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن النعم الإلهية ومسألة شكر النعمة، تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن آخر حلقات الموضوع وتطرح مسألة المحرمات الواقعية وغير الواقعية لتفصل بين الدين الحق وبين البدع التي احدثت في دين اللَّه، وتشرع بالقول: «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» «1».

إنّ تلوّث هذه المواد الثلاث بات اليوم ليس خافياً على أحد، فالميتة مصدر لأنواع الجراثيم، والدم من أكثر مكوّنات البدن تقبّلًا للتلوّث بالجراثيم، وأمّا لحم الخنزير فيعتبر سبباً للإصابة بالكثير من الأمراض الخطرة.

أمّا فلسفة تحريم ما يذبح لغير اللَّه فليست صحية، بل هي أخلاقية ومعنوية.

فمن جهة يكون التحريم حرباً على الشرك وعبادة الأصنام، ومن جهة اخرى يكون دعوة إلى خالق هذه النعم.

ويستفاد من المحتوى العام للآية

والآيات التالية أنّ الإسلام يوصي بالإعتدال في تناول اللحوم، فلا يكون المسلم كالذين حرّموا على أنفسهم تناول اللحم واكتفوا بالأغذية النباتية، ولا كالذين أحلّوا لأنفسهم أكل اللحوم أيّاً كانت كأهل الجاهلية والبعض ممن يدّعي التمدّن في عصرنا الحاضر، ممن يجيزون أكل كل لحم (كالسحالي والسرطان وأنواع الديدان).

وفي نهاية الآية سياقاً مع الأسلوب القرآني، ذُكرت الحالات والموارد الاستثنائية، يقول: «فَمَنِ اضْطُرَّ». كأن يكون في صحراء ولا يملك غذاء؛ «غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

«باغ» أو الباغي: (من البغي) بمعنى «الطلب» ويأتي هنا بمعنى طلب اللذة أو تحليل ما حرّم اللَّه. و «عاد» أو العادي: (من العدو) أي «التجاوز» ويأتي هنا بمعنى أكل المضطر لأكثر من حد الضرورة.

وتأتي الآية التالية لتطرح موضوع تحريم المشركين لبعض اللحوم بلا سبب أو دليل، والذي تطرّق القرآن إليه سابقاً بشكل غير مباشر، فتأتي الآية لتطرحه صراحة حيث

______________________________

(1) «اهِلّ»: من الإهلال، مأخوذُ من الهلال، بمعنى إعلاء الصوت عند رؤية الهلال، وباعتبار أنّ المشركين كانوا إذا ذبحوا حيواناتهم للأصنام صرخوا عالياً بأسماء أصنامهم، فقد عبّر عنه ب «اهِلَّ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 56

تقول: «وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذَا حَللٌ وَهذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ». أي: إنّ ما جئتم به ليس إلّاكذبة صريحة أطلقتها ألسنتكم في تحليلكم أشياء بحسب ما تهوى أنفسكم، وتحريمكم لأخرى! (إشارة إلى الأنعام التي حرّمها البعض على نفسه، والبعض الآخر حللها لنفسه بعد أن جعل قسماً منها لأصنامه).

فهل أعطاكم اللَّه حقّ سنّ القوانين؟ أم أنّ أفكاركم المنحرفة وتقاليدكم العمياء هي التي دفعتكم لإحداث هذه البدع؟ ... أوَ ليس هذا كذباً وافتراءاً على اللَّه؟

ويحذّر القرآن في آخر الآية بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَايُفْلِحُونَ».

لأنّ

من مسببات الشقاء الأساسية الكذب والإفتراء على أي إنسان، فكيف به إذا كان على اللَّه عزّ وجل؟ فلا أقل والحال هذه من مضاعفة آثاره السيئة.

وتوضّح الآية التالية ذلك الخسران، فتقول: «مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

ويمكن أن تكون «مَتَاعٌ قَلِيلٌ» إشارة إلى أجنّة الحيوانات الميتة التي كانوا يحللونها لأنفسهم ويأكلون لحومها.

ويطرح السؤال التالي: لماذا حرّمت على اليهود محرّمات إضافية؟

الآية التالية كأنّها جواب على السؤال المطروح، حيث تقول: «وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ».

وهو إشارة إلى ما ذكر في الآية (146) من سورة الأنعام: «وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ».

وحقيقة هذه المحرمات الإضافية العقاب والجزاء لليهود جرّاء ظلمهم، ولذلك يقول القرآن الكريم في آخر الآيات مورد البحث: «وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

وفي آخر آية من الآيات مورد البحث، وتمشّياً مع الاسلوب القرآني، يبدأ القرآن بفتح أبواب التوبة أمام المخدوعين من الناس والنادمين من ضلالهم، فيقول: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وفي هذه الآية ملاحظتان:

أوّلًا: اعتبرت علة ارتكاب الذنب «الجهالة» والجاهل المذنب يعود إلى طريق الحق بعد ارتفاع حالة الجهل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 57

ثانياً: إنّ الآية لا تحدّد الموضوع بالتوبة القلبية والندم، بل تؤكّد على أثر التوبة من الناحية العملية وتعتبر الإصلاح مكمّلًا للتوبة، لتبطل الزعم القائل بإمكان مسح آلاف الذنوب بتلفظ «أستغفر اللَّه».

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَ هَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَ آتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا

حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

كان إبراهيم لوحده امّة: كما قلنا مراراً بأنّ هذه السورة هي سورة النعم، وهدفها تحريك حس الشكر لدى الإنسان بشكل يدفعه لمعرفة خالق وواهب هذه النعم، والآيات تتحدث عن مصداق كامل للعبد الشكور للَّه، ألا وهو «إبراهيم» بطل التوحيد، وأوّل قدوة للمسلمين عامة وللعرب خاصة، والآيات تشير إلى خمس من الصفات الحميدة التي كان يتحلّى بها إبراهيم عليه السلام.

1- «إِنَّ إِبْرهِيمَ كَانَ أُمَّةً». إنّ «امّة» اسم مفعول يطلق على الذي تقتدي به الناس وتنصاع له. كان إبراهيم عليه السلام منبعاً لوجود امّة ولهذا أطلق القرآن عليه كلمة «امّة».

نعم فقد كان إبراهيم أمّة وكان إماماً عظيماً، وكان رجلًا صانع امّة، وكان منادياً بالتوحيد وسط بيئة اجتماعية خالية من أيّ موحّد.

2- صفته الثانية في هذه الآيات: أنّه كان «قَانِتًا لِلَّهِ».

3- وكان دائماً على الصراط المستقيم سائراً على طريق اللَّه، طريق الحق «حَنِيفًا».

4- «وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» بل كان نور اللَّه يملأ كل حياته وفكره، ويشغل كل زوايا قلبه.

5- وبعد كل هذه الصفات، فقد كان «شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ».

وبعد عرض الصفات الخمسة يبيّن القرآن الكريم النتائج المهمة لها، فيقول:

1- «اجْتَبهُ» للنبوة وإبلاغ دعوته.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 58

2- «وَهَدَيهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»، وحفظه من كل انحراف، لأنّ الهداية لا تأتي لأحد عبثاً، بل لابدّ من توفّر الإستعداد والأهلية لذلك.

3- «وَءَاتَيْنهُ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً». «الحسنة»: في معناها العام كل خير وإحسان، فتشمل منح مقام النبوة، مروراً بالنعم المادية حتى نعمة الأولاد وما

شابهها.

4- «وَأَنَّهُ فِى الْأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ». ومع أنّ إبراهيم كان على رأس الصالحين في الدنيا، فإنّه سيكون منهم في الآخرة كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم، وهذه دلالة على عظمة مقام الصالحين بأن يحسب إبراهيم عليه السلام على ما له من مقام سام كأحدهم في دار الآخرة، ولِم لا يكون ذلك وقد طلب إبراهيم عليه السلام ذلك من ربّه حين قال: «رَبّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ».

5- وختمت عطايا اللَّه عزّ وجل لإبراهيم عليه السلام لما ظهر منه من صفات متكاملة، بأن جعل دينه عامّاً وشاملًا لما ما سيأتي بعده من أزمان- وخصوصاً للمسلمين- ولم يجعل دينه مختصاً بعصر أهل زمانه، فقال اللَّه عزّ وجل: «ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا» «1».

ويأتي التأكيد مرّة اخرى: «وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

وبملاحظة الآيات السابقة يبدو لنا هذا السؤال: إن كان دين الإسلام هو نفس دين إبراهيم وأنّ المسلمين يتّبعون سنن إبراهيم عليه السلام في كثير من المسائل ومنها إحترام يوم الجمعة، فلماذا اتّخذ اليهود يوم السبت عيداً لهم بدلًا من الجمعة ويعطلون فيه أعمالهم؟

إنّ آخر آية من الآيات مورد البحث تجيب على السؤال المذكور حين تقول: «إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ». أي: إنّ السبت وما حرّم في السبت كان عقوبة لليهود، وقد اختلفوا فيه أيضاً، فمنهم مَن قبله ومنهم مَن أهمله.

وتقول بعض الروايات: أنّ موسى عليه السلام دعا قومه- بني اسرائيل- لاحترام يوم الجمعة وتعطيل أعمالهم فيه، وهو دين إبراهيم عليه السلام إلّاإنّهم تعللوا، واختاروا يوم السبت، فجعله اللَّه عطلة لهم ولكن بضيق وشدّة، ولهذا لا ينبغي الإعتماد على تعطيل يوم السبت، لأنّه إنّما كان استثنائياً وذا طابع جزائي، وأفضل دليل على هذا الأمر أنّ

اليهود أنفسهم اختلفوا في يومهم

______________________________

(1) «الحنيف»: بمعنى الذي يترك الإنحراف ويتّجه إلى الإستقامة والصلاح. وبعبارة اخرى: يغضّ نظره عن الأديان والأوضاع المنحرفة ويتوجّه نحو صراط اللَّه المستقيم، الدين الموافق للفطرة، ولهذا يسمى الصراط المستقيم، فالتعبير بالحنيف يحمل بين طيّاته إشارة خفيّة إلى أنّ التوحيد هو دين الفطرة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 59

المنتخب هذا، فبعض إحترمه وبعض آخر خالف ذلك وأدام العمل والكسب فيه حتى أصابهم عذاب اللَّه. ويقول القرآن الكريم في آخر الآية: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَ اصْبِرْ وَ مَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

عشرة قواعد أخلاقية ... سلاح داعية الحق: حملت آيات السورة بين طيّاتها أحاديث كثيرة ومتنوعة، فقد تناولت المشركين واليهود وأصناف المخالفين بشكل عام، تارة بلهجة ليّنة واخرى باسلوب تقريع وشدّة، وخصوصاً الآيات السابقة لما لها من عمق وشدّة أكثر مما سبقها من الآيات المباركات. أمّا الآيات أعلاه والتي تمثّل خاتمة بحوث وأحاديث سورة النحل، فتبيّن أهم الأوامر الأخلاقية الأساسية التي ينبغي التحصّن بها عند مواجهة المخالفين على أساس منطقي، كما وتبيّن كيفية العقاب والعفو واسلوب الصمود أمام مؤامراتهم وما شابه ذلك.

ويمكن تسمية ذلك بالأصول التكتيكية ومنهج المواجهة في الإسلام ضد المخالفين، كما وينبغي العمل به كقانون كلّي شامل لكل زمان ومكان.

ويتلخص هذا البرنامج الرباني

بعشرة اصول، تمّ ترتيبها وفقاً لتسلسل الآيات مورد البحث:

1- «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ»: فأوّل خطوة على طريق الدعوة إلى الحق هي التمكّن من الاستدلال وفق المنطق السليم، أو النفوذ إلى داخل فكر الناس ومحاولة تحريك وإيقاظ عقولهم، كخطوة اولى في هذا الطريق.

2- «وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»: وهى الخطوة الثانية في طريق الدعوة إلى اللَّه، بالاستفادة من

مختصر الامثل، ج 3، ص: 60

عملية تحريك الوجدان الإنساني، وذلك لما للموعظة الحسنة من أثر دقيق وفاعل على عاطفة الإنسان وأحاسيسه، وتوجيه مختلف طبقات الناس نحو الحق.

3- «وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ»: الخطوة الثالثه تختص بتخلية أذهان الطرف المخالف من الشبهات العالقة فيه والأفكار المغلوطة ليكون مستعداً لتلقي الحق عند المناظرة.

وفي ذيل الآية الاولى، يقول القرآن: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ».

فالآية تشير إلى أنّ وظيفتكم هي الدعوة إلى طريق الحق بالطرق الثلاثة المتقدمة، أمّا مسألة من الذي سيهتدي ومن سيبقى على ضلاله، فعلم ذلك عند اللَّه وحده سبحانه.

4- إنصبّ الحديث في الأصول الثلاثة حول البحث المنطقي والاسلوب العاطفي والمناقشة المعقولة مع المخالفين، وإذا حصلت المواجهة معهم ولم يتقبّلوا الحق وراحوا يعتدون، فهنا يأتي الأصل الرابع: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ».

5- «وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرِينَ». في تفسير العياشي: إنّ الآية نزلت يوم احد لمّا رأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما صنع بحمزة بن عبد المطلب (فشقوا بطنه وأخذت هند بنت عتبة كبده فجعلت تلوكه وجدعوا أنفه وأذنه) قال: «اللّهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان على ما أرى». ثم قال: «لئن ظفرت لأمثلن ولأمثلن».- وعن ابن عباس قال قال رسول اللَّه:

«لأمثلن بسبعين رجلًا منهم».- فأنزل اللَّه: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا

عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرِينَ». قال فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أصبر أصبر».

ربّما كانت تلك اللحظة من أشد لحظات حياة النبي صلى الله عليه و آله ولكنّه تمالك زمام امور نفسه واختار الطريق الثاني، طريق العفو والصبر.

6- «وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ»: والصبر إنّما يكون مؤثّراً وفاعلًا إذا قصد به رضوانه تعالى ولا يلحظ فيه أيّ شي ء دون ذلك.

7- وإذا لم ينفع الصبر في التبليغ والدعوة إلى اللَّه، ولا العفو والتسامح، فلا ينبغي أن يحلّ اليأس في قلب المؤمن أو يجزع، بل عليه الاستمرار في التبليغ بسعة صدر وهدوء أعصاب أكثر، ولهذا يقول القرآن الكريم في الأصل السابع: «وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ».

8- «وَلَا تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ»: فمهما كانت دسائس العدو العنيد واسعة ودقيقة وخطرة فلا ينبغي لك ترك الميدان، لظنّك أن قد وقعت في زواية ضيّقة وحصار محكم، بل

مختصر الامثل، ج 3، ص: 61

لابد من التوكل على اللَّه، وسوف تفشل كل الدسائس وتبطل مفعولها بقوة الإيمان والثبات والمثابرة والعقل والحكمة.

و آخر آية من سورة النحل تعرض الأمرين التاسع والعاشر حيث تقول: 9- «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا»: التقوى في جميع أبعادها وبمفهومها الواسع، ومنها: التقوى في مواجهة المخالفين بمراعاة اصول الأخلاق الإسلامية عند المواجهة، فمع الأسير لابد من مراعاة أصول المعاملة الإسلامية، ومع المنحرف ينبغي مراعاة الإنصاف والأدب والتورّع عن الكذب والإتهام، وفي ميدان القتال لابد من التعامل على ضوء التعليمات العسكرية وفق الموازين والضوابط الإسلامية، فمثلًا: ينبغي عدم الهجوم على العزّل من الأعداء، وعدم التعرض للأطفال والنساء والعجزة، ولا التعرض للمواشي والمزارع لأجل إتلافها، ولا يقطع الماء على العدو ... وخلاصة القول: تجب مراعاة اصول العدل مع العدو

والصديق (وطبيعي أن تخرج بعض الموارد عن هذا الحكم إستثناءاً وليس قاعدة).

10- «وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ». وإذا عمل بالإحسان في محله المناسب، فإنّه أفضل اسلوب للمواجهة، والتاريخ الإسلامي يرفدنا بعيّنات رائعة في هذا المجال ... منها: موقف معاملة النبي صلى الله عليه و آله مع مشركي مكة بعد الفتح.

وبنظرة تأملية ممعنة إلى الأصول العشرة المذكورة، تتبيّن لنا جميع الخطوط الأصلية والفرعية لُاسلوب مواجهة المخالفين، وأنّ هذه الاصول إنّما احتوت كل الاسس المنطقية والعاطفية والنفسية والتكتيكية، وكل ما يؤدّي للنفوذ إلى أعماق نفوس المخالفين للتأثير الايجابي فيها.

ولو عمل المسلمون وفق هذا البرنامج الشامل لساد الإسلام كل أرض المعمورة أو معظمها على أقل التقادير.

«نهاية تفسير سورة النحل»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 62

17 سورة الإسراء

مختصر الامثل، ج 3، ص: 63

أسماء السورة: بالرغم من أنّ الإسم المشهور لهذه السورة هو «بني إسرائيل» إلّا أنّ لها أسماء اخرى مثل «الإسراء» و «سبحان».

ومن الواضح أنّ ثمة علاقة بين أي اسم من أسماء السورة وبين محتواها ومضمونها، فهي «بني إسرائيل» لأنّ هناك قسماً مهماً في بداية السورة ونهايتها يرتبط بالحديث عن بني إسرائيل.

وإذا قلنا أنّها سورة «الإسراء» فإنّ ذلك يعود إلى الآية الاولى فيها التي تتحدث عن إسراء (ومعراج) النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

وأمّا تسميتها ب «سبحان» فإنّ ذلك يعود إلى الكلمة الاولى في السورة المباركة.

محتوى السورة: هذه السورة مكية وفق القول المشهور بين المفسرين، لذا فإنّ محتوى السورة يوافق خصوصيات السور المكية.

وبالامكان فرز المحاور المهمة الآتية التي يدور حولها مضمون السورة:

1- الإشارة إلى أدلة النبوة الخاتمة وبراهينها، وفي مقدمتها معجزة القرآن وقضية المعراج.

2- ثمة بحوث في السورة ترتبط بقضية المعاد.

3- تتحدّث السورة في بدايتها ونهايتها عن قسم من تاريخ بني إسرائيل الملي ء بالأحداث.

مختصر

الامثل، ج 3، ص: 64

4- تتعرض السورة إلى حرية الاختيار لدى الإنسان وأنّ الإنسان غير مجبر في أعماله، وبالتالي فإنّ على الإنسان أن يتحمّل مسؤولية تلك الحريّة من خلال تحمّله لمسؤولية أعماله سواء كانت حسنة أو سيئة.

5- تبحث السورة قضية الحساب والكتاب في هذه الدنيا، لكي يعي الإنسان قضية الحساب والكتاب على أعماله وأقواله في اليوم الآخر.

6- تشير إلى الحقوق في المستويات المختلفة، خصوصاً فيما يتعلق بحقوق الأقرباء، وبالأخص منهم الأم والأب.

7- تتعرض السورة إلى حرمة «الإسراف»، و «التبذير»، و «البخل»، و «قتل الأبناء»، و «الزنا»، و «أكل مال اليتيم»، و «البخس في المكيال»، و «التكبر»، و «إراقة الدماء».

8- في السورة بحوث حول التوحيد ومعرفة اللَّه تعالى

9- تواجه السورة مواقف العناد والمكابرة إزاء الحق، وأنّ الذنوب تتحوّل إلى حجب تمنع الإنسان من رؤية الحق.

10- تركّز السورة على أفضلية الإنسان على سائر الموجودات.

11- تؤكّد السورة على تأثير القرآن الكريم في معالجة الأشكال المختلفة من الأمراض الأخلاقية والاجتماعية.

12- تبحث السورة في المعجزة القرآنية وعدم تمكن الخصوم وعجزهم عن مواجهة هذه المعجزة.

13- تحذّر السورة المؤمنين من وساوس الشيطان وإغواءاته، وتنبههم إلى المسالك التي ينفذ من خلالها إلى شخصية المؤمن.

14- تتعرض السورة إلى مجموعة مختلفة من القضايا والمفاهيم والتعاليم الأخلاقية.

15- أخيراً تتعرض السورة إلى مقاطع من قصص الأنبياء عليهم السلام ليتسنى للإنسان استكناه الدروس والعبر من هذه القصص.

في كل الأحوال تعكس سورة الإسراء في مضمونها ومحتواها العقائدي والأخلاقى والإجتماعي لوحة متكاملة ومتناسقة لسمو وتكامل البشر في المجالات المختلفة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «من قرأ سورة بني إسرائيل في كل ليلة جمعة لم يمت حتى يدرك القائم ويكون من أصحابه».

مختصر الامثل، ج 3،

ص: 65

وينبغي أن يلاحظ أنّ التلاوة ينبغي أن تقترن بالتفكر في معانيها والتأمل في مفاهيمها، وأن يعقب ذلك جميعاً العمل بها، وتحويلها إلى قواعد يسترشدها الإنسان المسلم في سلوكه.

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

معراج النبي صلى الله عليه و آله: الآية الاولى في سورة الإسراء تتحدّث عن إسراء النبي صلى الله عليه و آله أي سفره ليلًا من المسجد الحرام في مكّة المكرمة إلى المسجد الأقصى (في القدس الشريف). وقد كان هذا السفر «الإسراء» مقدمة لمعراجه صلى الله عليه و آله إلى السماء. وقد لوحظ في هذا السفر أنّه تمّ في زمن قياسي حيث إنّه لم يستغرق سوى ليلة واحدة بالنسبة إلى وسائل نقل ذلك الزمن ولهذا كان أمراً اعجازياً وخارقاً للعادة.

السورة المباركة تبدأ بالقول: «سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ».

وقد كان القصد من هذا السفر الليلي الإعجازي هو «لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا».

وبالرغم من أنّ الرسول صلى الله عليه و آله كان عارفاً بعظمة اللَّه سبحانه، وكان عارفاً أيضاً بعظمة خلقه، لقد كان الهدف من هذا السفر الإعجازي أن تمتلى ء روح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أكثر بدلائل العظمة الربانية، وآيات اللَّه في السماوات، ولتجد روحه السامية في هذه الآيات زخماً إضافياً يوظّفه صلى الله عليه و آله في هداية الناس إلى ربّ السماوات والأرض.

ثم خُتمت الآية بالقول: «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ». وهذه إشارة إلى أنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يختر رسوله ولم يصطفه لشرف الإسراء والمعراج، إلّابعد أن اختبر استعداده لهذا الشرف ولياقته لهذا المقام، فاللَّه تبارك وتعالى سمع

قول رسوله ورأى عمله وسلوكه فاصطفاه للمقام السامي الذي اختاره له في الإسراء والمعراج «1».

______________________________

(1) من المشهور بين علماء الإسلام أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عندما كان في مكة أسرى به اللَّه تبارك وتعالى بقدرته من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومن هناك صعد به إلى السماء «المعراج» ليرى آثار العظمة الربانية وآيات اللَّه الكبرى في فضاء السماوات، ثم عاد صلى الله عليه و آله في نفس الليلة إلى مكة المكرمة.

والمعروف أيضاً أنّ سفر الرسول صلى الله عليه و آله في الإسراء والمعراج قد تمّ بجسم رسول اللَّه وروحه معاً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 66

إنّ تعبير «أسرى» في الآية يشير إلى وقوع السفر ليلًا. وبالرغم من أنّ كلمة «ليلًا» جاءت في الآية تأكيداً لكلمة «أسرى» إلّاأنّها تريد أن تبيّن أنّ سفر الرسول صلى الله عليه و آله قد تمّ في ليلة واحدة فقط على الرغم من أنّ المسافة بين المسجد الحرام وبيت المقدس تقدّر بأكثر من مائة فرسخ، هذا السفر يقع في ليلة واحدة فقط.

وَ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَ جَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَ قَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَ كَانَ وَعْداً مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا

تَتْبِيراً (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَ جَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً (8)

بعد أن أشارت الآية الاولى في السورة إلى معجزة إسراء النبي صلى الله عليه و آله كشفت آيات السورة الاخرى عن موقف المشركين والمعارضين لمثل هذه الأحداث، وأبانت استنكارهم لها، وعنادهم إزاء الحق، في هذا الإتجاه انعطفت الآية الاولى- من الآيات مورد البحث- على قوم موسى، لتقول لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّ تأريخ النبوّات واحد، وإنّ موقف المعاندين واحد أيضاً، وأنّه ليس من الجديد أن يقف الشرك القرشي موقفه هذا منك، وبين يديك الآن تأريخ بني إسرائيل في موقفهم من موسى عليه السلام. تقول الآية أوّلًا: «وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ».

وصفة هذا الكتاب أنّه: «وَجَعَلْنهُ هُدًى لّبَنِى إِسْرَاءِيلَ». والكتاب الذي تعنيه الآية هنا هو «التوراة» الذي نزل على موسى عليه السلام هدى لبني إسرائيل.

ثم تشير الآية إلى الهدف من بعثة الأنبياء بما فيهم موسى عليه السلام فتقول: «أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِى وَكِيلًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 67

إنّ التوحيد في العمل هو واحدٌ من معالم أصل التوحيد، وهو علامة على التوحيد العقائدي. الآية تقول: لا تتكى ء على أحد سوى اللَّه.

ومن أجل أن تحرّك الآية التالية عواطف بني إسرائيل وتحفّزهم لشكر النعم الإلهية عليهم، خصوصاً نعمة نزول الكتاب السماوي، فإنّها تضع لهم نموذجاً للعبد الشكور فتقول:

«ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ». ولا تنسوا: «إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا».

والآية تخاطب بني إسرائيل بأنّهم أولاد من كان مع نوح، وعليهم أن يقتدوا ببرنامج أسلافهم وآبائهم في الشكر لأنعم اللَّه.

بعد هذه الإشارة تدخل الآيات إلى تاريخ بني إسرائيل الملي ء بالأحداث، فتقول:

«وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْرَإِيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا».

والمقصود من «الأرض» في الآية-

بقرينة الآيات الاخرى- هي أرض فلسطين المقدسة التي يقع المسجد الأقصى المبارك في ربوعها.

الآية التي تليها تفصّل ما أجملته من إشارة إلى الإفسادين الكبيرين لبني إسرائيل والحوادث التي تلي ذلك على أنّها عقوبة إلهية فتقول: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولهُمَا» وإرتكبتم ألوان الفساد والظلم والعدوان «بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ».

وهؤلاء القوم المحاربون الشجعان يدخلون دياركم للبحث عنكم: «فَجَاسُوا خِللَ الدّيَارِ». وهذا الأمر لا مناص منه: «وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا».

ثم تشير بعد ذلك إلى أنّ الألطاف الإلهية ستعود لتشملكم، وسوف تعينكم في النصر على أعدائكم، فتقول: «ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا».

وهذه المنّة واللطف الإلهي بكم على أمل أن تعودوا إلى أنفسكم وتصلحوا أعمالكم وتتركوا القبائح والذنوب لأنّه: «إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا».

إنّ الآية تعبّر عن سنّة ثابتة، إذ إنّ محصلة ما يعمله الإنسان من سوء أو خير تعود لنفسه.

تقول الآية في وصف المشهد الثاني أنّه حين يحين الوعد الإلهي سوف تغطّيكم جحافل من المحاربين ويحيق بكم البلاء إلى درجة أنّ آثار الحزن والغم تظهر على وجوهكم: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْأَخِرَةِ لِيَسُوا وُجُوهَكُمْ». بل ويأخذون منكم حتى بيت المقدس: «وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 68

وسوف لا يكتفون بذلك بل سيحتلّون جميع بلادكم ويدمّرونها عن آخرها:

«وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا». وفي هذه الحالة فإنّ أبواب التوبة الإلهية مفتوحة: «عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ». «وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا». أي: إن عدتم لنا بالتوبة فسوف نعود عليكم بالرحمة، وإن عدتم للإفساد عدنا عليكم بالعقوبة. وإذا كان هذا جزاؤكم في الدنيا ففي الآخرة مصيركم جهنم:

«وجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا» «1». الإفسادان التأريخيان لبني إسرائيل: تحدثت الآيات أعلاه عن فسادين اجتماعيين كبيرين لبني إسرائيل،

يقود كل منهما إلى الطغيان والعلو، وقد لاحظنا أنّ اللَّه سلّط على بني إسرائيل عقب كل فساد، رجالًا أشدّاءً شُجعاناً يذيقونهم جزاء فسادهم وعلوّهم وطغيانهم، هذا مع استثناء الجزاء الأخروي الذي أعدّه اللَّه لهم.

يستفاد من تاريخ بني إسرائيل بأنّ أوّل من هجم على بيت المقدس وخرّبه هو ملك بابل «نبوخذ نصر» حيث بقي الخراب ضارباً فيه لسبعين عاماً، إلى أنّ نهض اليهود بعد ذلك لإعماره وبنائه، أمّا الهجوم الثاني الذي تعرّض له، فقد كان من قبل قيصر الروم «أسييانوس» الذي أمر وزيره «طرطوز» بتخريب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل. وقد تمّ ذلك في حدود مائة سنة قبل الميلاد.

وبذلك يحتمل أن تكون الحادثتان اللتان أشارت إليهما الآيات أعلاه هما نفس حادثتي «نبوخذ نصر» و «أسييانوس».

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَ أَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) وَ يَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسَابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)

______________________________

(1) «حصير»: مشتقة من «حصر» بمعنى الحبس، وكل شي ء ليس له منفذ للخروج يطلق عليه اسم «حصير» ويقال للحصير العادية حصيراً لأنّ خيوطها وموادها نسجت إلى بعضها البعض.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 69

أقصر الطرق للهداية والسعادة: الآيات السابقة تحدّثت عن بني إسرائيل وكتابهم السماوي «التوراة» وكيف تخلّفوا عن برنامج الهداية الإلهية ليلقوا بعض جزائهم في هذه الحياة الدنيا، والباقي مدّخر ليوم القيامة. وفي هذا المقطع من الآيات، إنتقل الحديث إلى القرآن الكريم، الكتاب السماوي

للمسلمين، وآخر حلقة في الكتب السماوية، فقال تعالى أوّلًا: «إِنَّ هذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ».

إنّ معنى الآية أعلاه، هو أنّ القرآن الكريم يمثّل أقصر وأفضل طرق الإستقامة والثبات والهداية.

وبهذا فإنّ الطريق القويم من وجهة نظر العقائد والأفكار.

العقيدة الأقوم من هذه الزاوية، هي التي توافق بين الإعتقاد والعمل، والظاهر والباطن، الفكر والمنهج، وتدفع الإنسان والجميع نحو اللَّه.

أمّا الأقوم من وجهة نظر القوانين الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية، التي تسود المجتمع.

وأخيراً فإنّ المنهج الأقوم بالنسبة للنظم والسلطات الحاكمة، هو كل ما يدفعها إلى إقامة العدل، والدعوة إلى إشاعة الإنصاف، ومواجهة الظلم والظالمين.

بعد ذلك تشير الآيات إلى موقف الناس في مقابل الكتاب الأقوم، هذا الموقف الذي ينقسم فيه الناس إلى فئتين، فالاولى يكون حالها كما يقول تعالى: «وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا».

أمّا الفئة الثانية فيكون مصيرها تبعاً لموقفها كما يقول تعالى: «وَأَنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

وإذا كان استخدام «بشارة» واضح هنا بالنسبة للمؤمنين، فهو بالنسبة لغيرهم من غير المؤمنين يقع على معنى السخرية والإستهزاء.

الآية التي بعدها تنساق في نفس اتجاه البحث وتشير إلى احدى العلل المهمة لعدم الإيمان وتقول بأنّ عجلة الإنسان وتسرّعه وعدم اطلاعه على الامور وإحاطته بها تسوقه إلى أن يساوي في جهده بين دعائه بالخير وطلبه، وبين دعائه بالشر وطلبه له.

تقول الآية: «وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ». لماذا؟: «وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا».

إنّ استعجال الإنسان واندفاعه في سبيل تحصيل المنافع لنفسه، تقوده إلى النظرة السطحية للُامور بحيث إنّه لا يحيط الأشياء بالدراسة الشاملة مما يفوّت عليه تشخيص

مختصر الامثل، ج 3، ص: 70

منفعته الواقعية، وهكذا بنتيجة تعجّله واندفاعه المضطرب يَضيع عليه وجه الحقيقة، ويتغير مضمونها بنظره، فيقود نفسه باتجاه الشر والأعمال

السيئة الضارّة. وهكذا ينتهي الإنسان- نتيجة سوء تشخيصه واضطراب مقياسه في رؤية الخير والحقيقة- إلى أن يطلب من اللَّه الشر، تماماً كما يطلب منه الخير، وأن يسعى وراء الأعمال السيئة، كسعيه وراء الأعمال الحسنة، وهذا الإضطراب وفقدان الموازين هو أسوأ بلاء يصاب به الإنسان ويحول بينه وبين السعادة الحقيقية.

في محاسن البرقي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إنّما أهلك الناس العجلة، ولو أنّ الناس تثبّتوا لم يهلك أحد».

طبعاً هناك باب في الروايات الإسلامية بعنوان «تعجيل فعل الخير» ففي الكافي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّ اللَّه يحبّ من الخير ما يعجّل».

إنّ العجلة المذمومة هي التي تكون أثناء البحث والدراسة لمعرفة جوانب العمل المختلفة، أمّا السرعة والعجلة الممدوحتان فهما اللتان يكونان بعد اتخاذ قرار الشروع بالعمل، والتصميم على التنفيذ، لذلك نقرأ في الروايات: «سارعوا في عمل الخير». أي: بعد أن يثبت أنّ هذا العمل خير فلا مجال للتأخير والتسويف.

الآية التي بعدها تتحدث عن تعاقب الليل والنهار ومنافع هذا التعاقب، لتجعل من هذا الشاهد مثالًا على معرفة اللَّه والتمعّن بآياته، والمثال أيضاً يفيد معنى التأمل والهدوء ويدعو إلى محاذرة التعجّل والتسرّع. الآية تقول أوّلًا: «وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ». ثم: «فَمَحَوْنَا ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً». ولنا في ذلك هدفان: الأوّل: «لّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبّكُمْ» حيث تنطلقون نهاراً في الكسب والعمل والمعاش مستثمرين العطايا الإلهية، وتنعمون ليلًا بالراحة والهدوء والإستقرار. والهدف الثاني فهو: «وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ» لكي لا تبقى شبهة لأحد «وَكُلَّ شَىْ ءٍ فَصَّلْنهُ تَفْصِيلًا».

وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ

الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 71

لقد تحدّثت الآيات القرآنية السابقة عن القضايا التي تتصل بالمعاد والحساب، لذلك فإنّ الآيات التي نبحثها الآن تتحدّث عن قضية «حساب الأعمال» التي يتعرض لها البشر، وكيفية ومراحل إنجاز ذلك في يوم المعاد والقيامة حيث يقول تعالى: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنهُ طِرَهُ فِى عُنُقِهِ». «الطائر»: يعني الطير، ولكن الكلمة هنا تشير إلى معنى آخر كان سائداً ومعروفاً بين العرب؛ إذ كانوا يتفألون بواسطة الطير؛ وكانوا يعتمدون في ذلك على طبيعة الحركة التي يقوم بها الطير. فمثلًا إذا تحرّك الطير من الجهة اليمنى، فهم يعتبرون ذلك فألًا حسناً وجميلًا، أمّا إذا تحرّك الطير من اليُسرى فإنّ ذلك في عُرفهم وعاداتهم علامة الفأل السيّ ء، أو ما يعرف بلغتهم بالتطيّر.

إنّ القرآن يبيّن أنّ التفؤل الحسن والسيّ ء أو الحظ النحس والجميل، إنّما هي أعمالكم لا غير، والتي ترجع عهدتها إليكم وتتحملون على عاتقكم مسؤولياتها، وهذه الأعمال لا تنفصل عنكم في الدنيا ولا في الآخرة.

يقول القرآن بعد ذلك: «وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ كِتَابًا يَلْقهُ مَنشُورًا».

والمقصود من «الكتاب» في الآية الكريمة هي صحيفة الأعمال لا غير، وهي نفس الصحيفة الموجودة في هذه الدنيا والتي تثبّت فيها الأعمال، ولكنها هنا (في الدنيا) مخفية عنّا ومكتومة، بينما في الآخرة مكشوفة ومعروفة.

في هذه اللحظة يقال للإنسان: «اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا».

يعني أنّ المسألة- مسألة المصير- بدرجة من الوضوح والعلنية والإنكشاف، بحيث لا مجال لانكارها.

وفي تفسير العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله «اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ» قال: «يذكر العبد

جميع ما عمل، وما كتب عليه، حتى كأنّه فعله تلك الساعة، فلذلك قالوا يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّاأحصاها».

الآية التي بعدها توضّح أربعة أحكام أساسية فيما يخص مسألة الحساب والجزاء على الأعمال، وهذه الأحكام هي:

1- أوّلًا تُقرر أنّ «مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ» حيث تعود النتيجة عليه.

2- ثم تُقرر أيضاً أنّ «وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا».

وقرأنا نظير هذين الحكمين في الآية السابعة من هذه السورة في قوله تعالى: «إِنْ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 72

أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا». 3- ثم تنتقل الآية لتقول: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . «الوزر»: بمعنى الحمل الثقيل؛ وأيضاً تأتي بمعنى المسؤولية، لأنّ المسؤولية- أيضاً- حمل معنوي ثقيل على عاتق الإنسان.

طبعاً هذا القانون الكلي الذي تُقرره آية «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى لا يتنافى مع ما جاء في الآية (25) من سورة النحل التي تقول: «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ» لأنّ هؤلاء بسبب تضليلهم للآخرين يكونون فاعلين للذنب أيضاً، أو يُعتبرون بحكم الفاعلين له، ولذلك فهم في واقع الأمر يتحملون أوزارهم وذنوبهم.

4- الحكم الرابع يتمثل في قوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» يقوم ببيان التكليف وإلقاء الحجة.

وَ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)

مراحل العقاب الإلهي: إنّ موضوع البحث في هذه الآيات يُكمّل ما كنّا بصدد بحثه في نهاية الآيات السابقة، ولكن بصورة اخرى، إذ تقول الآية الكريمة: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ

عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنهَا تَدْمِيرًا» «1».

إنّ الآيات التي كُنّا قبل قليل بصدد بحثها، كانت تتحدّث عن أنّ العقاب الإلهي لا يمكن أن ينزل بساحة شخص أو مجموعة أو امّة، من دون أن تكون هناك حجة وبيان للتكليف من قبل الرسل والأنبياء عليهم السلام والآية التي نحن بصددها الآن، تتحدث عن نفس هذا الأصل ولكن بطريقة اخرى.

إنّ اللَّه لا يُعاقب أو يؤاخذ أحداً بالعذاب، قبل أن يتمّ الحجة عليه، وقبل أن يتّضح ويستبين تكليفه، ففي البداية يضع اللَّه تعليماته وأوامره أمام الناس، فإذا التزموا بها وأطاعوا فستنالهم سعادة الدنيا والآخرة. أمّا إذا عصوا وخالفوا ولم يلتزموا الأوامر والنواهي الربانية، فسيحيق بهم العذاب، ويؤدّي إلى هلاكهم.

______________________________

(1) بالرغم من أنّ كلمة «قول» لها معنى واسع ولكنّها هنا تعني إعطاء الأمر بالعذاب.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 73

إضافة إلى ذلك، فإنّ التعبير في الآية الكريمة ينطوي على إشارة مهمة، هي أنّ أغلب المفاسد الاجتماعية تنبع من المترفين، أصحاب الأموال، البعيدين عن اللَّه تعالى، والذين يعيشون حياةً مترفة بعيدة عن الشرع مملوءة بالأهواء والمفاسد.

الآية التي بعدها تشير إلى نماذج بهذا الخصوص، على أنّها أصل عام، وقاعدة سارية، إذ تقول: «وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ» وفقاً لهذه القاعدة والسنّة، ثم تضيف بعد ذلك: «وَكَفَى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا». أي: إنّ ظلم وذنوب فرد أو مجموعة لا يمكنها أن تكون خافية على العين البصيرة التي لا تنام لرب العالمين.

أمّا لماذا أكّدت الآية على القرون من بعد نوح عليه السلام؟ فقد يكون ذلك بسبب أنّ الحياة قبل نوح عليه السلام كانت حياة بسيطة، والاختلافات التي تقسّم المجتمعات إلى مُترف ومستضعف، كانت بسيطة وضئيلة، لذلك فالعذاب الإلهي لم يشملهم بكثرة.

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا

لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَ سَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلًّا نُمِدُّ هؤُلَاءِ وَ هَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)

طلّاب الدنيا والآخرة: لقد تحدّثت الآيات السابقة عن الذين عصوا أوامر اللَّه تعالى، وكيفية هلاكهم، لذا فإنّ هذه الآيات- التي نحن بصددها الآن- تشير إلى سبب التمرّد على شريعة اللَّه، والعصيان لأوامره، وهذا السبب هو حبّ الدنيا، إذ يقول تعالى: «مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا».

«العاجلة»: تعني النعم الزائلة، أو الحياة الزائلة.

والظريف في الآية، أنّها لا تقول: إنّ من يسعى وراء الدنيا، ويجعلها كل همّه، يحصل على كل ما يريد، بل قيّدت ذلك بشرطين هما:

أوّلًا: سيحصل على جزء مما يريده؛ وأنّ هذا الجزء هو المقدار الذي نريده نحن، أي «مَا نَشَاءُ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 74

ثانيا: إنّ جميع الأشخاص- رغم سعيهم الدنيوي- لا يحصلون على هذا المقدار، وإنّما قسم منهم سيحصل على جزء من متاع الدنيا. وهذا معنى قوله: «لِمَن نُّرِيدُ».

وبناءاً على ذلك، فلا كل طلّاب الدنيا يحصلون عليها، ولا اولئك الذين يحصلون على شي ء منها، يحصلون على ما يريدون. ومسار الحياة اليومية يوضّح لنا هذين الشرطين، إذ ما أكثر الذين يكدّون ليلًا ونهاراً ولكنهم لا يحصلون على شي ء.

وما أكثر الذين لهم امنيات كبيرة وطموحات متعددة ومشاريع بعيدة، ولكن لا يحصلون إلّاعلى القليل منها.

والجدير بالإنتباه هنا، أنّ عاقبة هذه المجموعة من الناس، والتي هي نار جهنّم،

قد تمّ تأكيدها في الآية، بكلمتي «مَذْمُومًا» و «مَّدْحُورًا» إذ التعبير الأوّل يأتي بمعنى اللوم، بينما الثاني يعني الإبتعاد عن رحمة الخالق، وإنّ نار جهنّم تمثّل العقاب الجسدي لهم، أما «مذموم» و «مدحور» فهما عقاب الروح، لأنّ المعاد هو للروح وللجسد، والجزاء والعقاب يكون للإثنين معاً.

بعد ذلك تنتقل الآيات إلى توضيح وضع المجموعة الثانية ومصيرها، وبقرينة المقابلة- وهي أسلوب قرآني مميّز- يتوضّح الموضوع أكثر إذ يقول تعالى: «وَمَنْ أَرَادَ الْأَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُورًا».

بناءاً على ذلك هناك ثلاثة شروط أساسية للوصول إلى السعادة الأبدية، هي:

أوّلًا: إرادة الإنسان: وهي الإرادة التي ترتبط بالحياة الأبدية، ولا تكون مرتبطة باللذّات الزائلة والنعم غير الثابتة، والأهداف المادية.

ثانياً: هذه الإرادة يجب أن لا تكون ضعيفة وقاصرة في المجال الفكري والروحي للإنسان، بل إنّها يجب أن تشمل جميع ذرات الوجود الإنساني، وتدفعه للحركة، وببذل كل ما يستطيع من السعي في هذا المجال.

ثالثاً: إنّ كل ما سبق من حديث عن الإرادة في النقطتين السابقتين، ينبغي أن يقترن بالإيمان؛ الإيمان الثابت القوي. لأنّ أيّ تصميم وجهد، إذا أريد له أن يُثمر يجب أن تكون أهدافه صحيحة، ومصدر هذه الأهداف هو الإيمان باللَّه لا غير.

وقد يتوهم البعض ويلتبس عليه الأمر، ظانّاً أنّ نعم الدنيا هي من نصيب عبيدها وطلّابها فقط، وأنّ طلّاب الآخرة وأهلها محرومون منها، لذلك فإنّ الآية التي بعدها تقف

مختصر الامثل، ج 3، ص: 75

أمام هذا اللبس، وتمنع هذا الظن، عندما تقول: «كَلَّا نُّمِدُّ هؤُلَاءِ وَهؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبّكَ» لتضيف بعدها بقليل: «وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبّكَ مَحْظُورًا».

هذه النعم هي تعبير عن مقام الرحمانية الإلهية التي تشمل فيوضاتها جميع الناس، المؤمن والكافر ولكن هناك نعم لا تحصى وراء

ذلك تختص بالمؤمنين والمحسنين دون غيرهم.

الآية التي بعدها تشير إلى أصل مهم في هذا الخصوص وتقول: كما أنّ السعي في هذه الدنيا متفاوت، وتتفاوت معه الأجور، فكذلك الأمر في الآخرة، ولكن التفاوت الدنيوي محدود، لأنّ الدنيا هي نفسها محدودة، وأمّا الآخرة- ولكونها غير محدودة- فإنّ تفاوتها غير محدود، إذ يقول تعالى: «انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْأَخِرَةِ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا».

هل الدنيا والآخرة تقعان على طرفي نقيض؟ إنّنا نرى في كثير من الآيات القرآنية مدحاً وتمجيداً للدنيا وبإمكاناتها المادية، ولكن، وبرغم الأهمية الكبرى التي تختص بها النعم المادية، فإنّ القرآن الكريم استخدم تعابير اخرى تحقّرها وتحطّ منها بقوة.

هذه المعاني المزدوجة إزاء النعم والمواهب المادية، يمكن ملاحظتها أيضاً في الأحاديث والروايات الإسلامية.

إنّه إذا تمّت الاستفادة من مواهب الدنيا وعطاياها التي تُعتبر من النعم الإلهية؛ ويعتبر وجودها ضرورياً في نظام الخلق والوجود، وتمّت الاستفادة في سعادة الإنسان الأخروية وتكامله المعنوي، فإنّ ذلك يعتبر أمراً جيّداً، وتمتدح معه الدنيا، أمّا إذا اعتبرناها هدفاً لا وسيلة، وأبعدناها عن القيم المعنوية والإنسانية، عندها سيُصاب الإنسان بالغرور والغفلة والطغيان والبغي والظلم.

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا (22) وَ قَضَى رَبُّكَ أَنْ تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَ لَا تَنْهَرْهُمَا وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيماً (23) وَ اخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 76

أحكام إسلامية مهمة: الآيات التي نحن بصدد بحثها هي بداية لسلسلة من الأحكام الإسلامية الأساسية، والتي تبدأ بالدعوة إلى

التوحيد والإيمان؛ التوحيد الذي يعتبر الأساس والأصل لكل النشاطات الإيمانية، والأعمال الحسنة والبنّاءة. في البداية تبدأ هذه الآيات بالتوحيد وتقول: «لَّاتَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ».

إنّها لم تقل: لا تعبد مع اللَّه إلهاً آخر، بل تقول: «لَّاتَجْعَلْ» هذا اللفظ أشمل وأوسع، إذ هو يعني: لا تجعل معبوداً آخر مع اللَّه لا في العقيدة، ولا في العمل، ولا في الدعاء، ولا في العبودية. بعد ذلك توضّح الآية النتيجة القاتلة للشرك: «فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا».

إنّ استعمال كلمة «القعود» تدل على الضعف والعجز. ومن هذا التعبير يمكن أن نستفيد أنّ للشرك ثلاثة آثار سيئة جدّاً في وجود الإنسان، هي:

1- الشرك يؤدّي إلى الضعف والعجز والذلة.

2- الشرك موجب للذم واللوم، لأنّه خط انحرافي واضح في قبال منطق العقل، ويعتبر كفراً واضحاً بالنعم الإلهية.

3- الشرك يكون سبباً في أن يترك اللَّه سبحانه وتعالى الإنسان إلى الأشياء التي يعبدها، فإنّهم يصبحون «مخذولين» أي بدون ناصر ومعين.

بعد تبيان هذا الأصل التوحيدي، تشير الآيات إلى واحدة من أهم توجيهات الأنبياء عليهم السلام للإنسان، فالآية- بعد أن تؤكّد مرّة اخرى على التوحيد- تقول: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا».

كلمة «قضاء» لها مفهوم توكيدي أكثر من كلمة «أمر» وهي تعني القرار والأمر المحكم الذي لا نقاش فيه، وهذا أوّل تأكيد في هذه القضية. أمّا التأكيد الثاني الذي يدل على أهمية هذا القانون الإسلامي، فهو ربط التوحيد الذي يعتبر أهم أصل إسلامي، مع الإحسان إلى الوالدين.

أمّا التأكيدان الثالث والرابع فهما يتمثلان في معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة «إحسان» والتي تشمل كل أنواع الإحسان. وكذلك معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة «والدين» إذ هي تشمل الأم والأب، سواء كانا مسلمين أم كافرين.

أمّا التأكيد الخامس فهو يتمثل بمجي ء كلمة

«إحساناً» نكرة، لتأكيد أهميتها وعظمتها.

ثم تنتقل إلى أحد مصاديق هذه العبادة متمثلًا بالإحسان إلى الوالدين فتقول: «إِمَّا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 77

يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا» بحيث يحتاجان إلى الرعاية والإهتمام الدائم، فلا تبخل عليهما بأي شكل من إشكال المحبة واللطف ولا تؤذيهما أو تجرح عواطفهما بأقل إهانة حتى بكلمة «اف»: «فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍ «1» وَلَا تَنْهَرْهُمَا». بل: «وَقُلْ لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا». وكن أمامهما في غاية التواضع «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا».

إضافة إلى ما ذكرناه، فثمّة ملاحظة لطيفة اخرى يطويها التعبير القرآني، هذه الملاحظة خطاب للإنسان يقول: إذ أصبح والداك مسنيّن وضعيفين وكهلين لا يستطيعان الحركة أو رفع الخبائث عنهما، فلا تنس أنّك عندما كُنت صغيراً كُنت على هذه الشاكلة أيضاً، ولكن والديك لم يقصّرا في مداراتك والعناية بك، لذا فلا تقصّر أنت في مداراتهم ومحبتهم.

وقد تحدث من قبل بعض الأبناء انحرافات فيما يتعلق بحقوق الوالدين واحترامهم والتواضع لهم، وقد يصدر هذا العقوق عن جهل في بعض الأحيان، وعن قصد وعلم في أحيان اخرى، لذا فإنّ الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى هذا المعنى بالقول: «رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ». وهذه إشارة إلى أنّ علم اللَّه ثابت وأزلي وأبدي وبعيد عن الإشتباهات، بينما علمكم أيّها الناس لا يحمل هذه الصفات! لذلك فإذا طغى الإنسان وعصى أوامر خالقه في مجال احترام الوالدين والإحسان إليهم، ولكن بدون قصد وعن جهل، ثم تاب بعد ذلك وأناب، وندم على ما فعل وأصلح، فإنّه سيكون مشمولًا لعفو اللَّه تعالى: «إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا».

إحترام الوالدين في المنطق الإسلامي: إنّ الإسلام يُعطي التعليمات اللازمة إزاء قضية احترام الوالدين ورعاية حقوقهما،

إلّافي قضايا نادرة اخرى.

وعلى سبيل المثال يمكن أن تشير الفقرات الآتية إلى هذا المعنى:

أ) في أربع سور قرآنية ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد التوحيد مباشرة، وهذا الإقتران يدل على مدى الأهمية التي يوليها الإسلام للوالدين.

ب) إنّ مسألة إحترام الوالدين ورعاية حقهما من المنزلة بمكان، حتى أنّ القرآن

______________________________

(1) إنّ هذه الكلمة مأخوذ من «الصوت» الذي يخرج من الفم عندما ينفخ الإنسان لتنظيف بدنه أو ملابسه من الغبار الموجود عليها. إنّ الآية تريد أن تقول لا يجوز تجاوز الحدود أمامهما أو إيذاؤهما حتى بمستوى ما تحمله كلمة «أف» من معنى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 78

والأحاديث والروايات الإسلامية، تؤكّدان معاً على الإحسان للوالدين حتى ولو كانا مشركين. ج) رفع القرآن الكريم منزلة شكر الوالدين إلى منزلة شكر اللَّه تعالى.

د) القرآن الكريم لا يسمح بأدنى إهانة للوالدين، ولا يجيز ذلك.

ه) بالرغم من أنّ الجهاد يعتبر من أهم التعاليم الإسلامية، إلّاأنّ رعاية الوالدين تعتبر أهم منه، بل لا يجوز إذا أدّى الأمر إلى أذية الوالدين.

و) في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إيّاكم وعقوق الوالدين فإنّ ريح الجنة توجد من ميسرة ألف عام ولا يجدها عاقّ».

وفي الكافي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام قال: «سأل رجل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما حق الوالد على ولده؟ قال: لا يسمّيه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله، ولا يستسبّ له». (أي:

لا يفعل شيئاً يؤدّي إلى أن يسبّ الناس والديه).

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَ آتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا

إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَ كَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً (28) وَ لَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَ لَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)

رعاية الإعتدال في الإنفاق والهبات: مع هذه الآيات يبدأ الحديث عن فصل آخر من سلسلة الأحكام الإسلامية الأساسية، التي لها علاقة بحقوق القربى والفقراء والمساكين، والإنفاق بشكل عام ينبغي أن يكون بعيداً عن كل نوع من أنواع الإسراف والتبذير، حيث تقول الآية: «وَءَاتِ ذَاالْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذّرْ تَبْذِيرًا».

إنّ كلمة «ذِى الْقُرْبَى لها مفهوم عام وتشمل كل الأرحام والمقربين، الّا أنّ أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله هم من أوضح مصاديق القربى له والرسول في طليعة المخاطبين بالآية الكريمة.

إنّ «التبذير» هو هدر المال في غير موقعه ولو كان قليلًا، بينما إذا صُرف في محلّه فلا يعتبر تبذيراً ولو كان كثيراً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 79

الآية التي بعدها هي لتأكيد النهي عن التبذير: «إِنَّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيطِينِ وَكَانَ الشَّيْطنُ لِرَبّهِ كَفُورًا».

لأنّ اللَّه أعطاه قدرةً وقوّةً وإستعداداً وذكاءاً خارقاً للعادة، ولكن الشيطان استفاد من هذه الامور في غير محلّها، أي في طريق إغواء الناس وإبعادهم عن الصراط المستقيم.

ثم إنّ استخدام «إخوان» تعني أنّ أعمالهم متطابقة ومتناسقة مع أعمال الشيطان، كالأخوين اللذين تكون أعمالهما متشابهة، أو أنّهم قرناء وجلساء للشيطان في الجحيم.

ثم أنّ الإنسان قد لا يملك ما يعطيه للمسكين أحياناً، وفي هذه الحالة ترسم الآية الكريمة طريقة التصرف بالنحو الآتي: «وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا».

«ميسور»:

مشتقة من «يسر» وهي بمعنى الراحة والسهولة، أمّا هنا فلها مفهوم واسع، يشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالإحترام والمحبة.

الإعتدال هو شرط في كل الامور بما فيها الإنفاق ومساعدة الآخرين، لذلك تنتقل الآية للقول: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ». وهذا تعبير جميل يفيد أنّ الإنسان ينبغي أن يكون ذا يد مفتوحة، لا أن يكون مثل البخلاء وكأنّ أيديهم مغلولة إلى أعناقهم بُخلًا وخشية من الإنفاق، ولكن في نفس الوقت تقرّر الآية أنّ بسط اليد لا ينبغي أن يتجاوز الحد المقرر والمعقول في الصرف والبذل والعطاء، حتى لا ينتهي المصير إلى الملامة والإبتعاد عن الناس: «وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا».

سؤال: لماذا يجب أن يكون هناك مساكين وفقراء ومحرومون حتى ننفق عليهم؟ أليس من الافضل أن يعطيهم اللَّه ما يريدون حتى لا يحتاجون إلى إنفاقنا؟

الجواب: تعتبر الآية الأخيرة بمثابة جواب على هذا السؤال: «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا». إنّه اختبار لنا، فاللَّه قادر على كل شي ء، ولكنه يريد بهذا الطريق تربيتنا على روح السخاء والتضحية والعطاء، إضافة إلى ذلك، إذا أصبح أكثر الناس في حالة الكفاية وعدم الحاجة فإنّ ذلك يقود إلى الطغيان والتمرّد «إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَءَاهُ اسْتَغْنَى ؛ لذلك من المفيد أن يبقوا في حد معين من الحاجة. هذا الحد لا يسبب الفقر ولا الطغيان، من ناحية اخرى يرتبط التقدير والبسط في رزق الإنسان بمقدار السعي وبذل الجهد (باستثناء بعض الموارد من قبيل العجزة والمعلولين)، وهكذا تقتضي

مختصر الامثل، ج 3، ص: 80

المشيئة الإلهية ببسط الرزق وتقديره لمن يشاء، وهذا دليل الحكمة، إذ تقضي الحكمة بزيادة رزق من يسعى ويبذل الجهد، بينما تقضي بتضييقه لمن

هو أقل جهداً وسعياً.

وَ لَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَ لَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلًا (32) وَ لَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (33) وَ لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)

ستة أحكام مهمة: في متابعة للأحكام الإسلامية التي أثارتها الآيات السابقة، تتحدث هذه الآيات عن ستة أحكام إسلامية اخرى وردت في ست آيات.

أوّلًا: تشير الآية إلى عمل قبيح وجاهلي هو من أعظم الذنوب، فتنهى عنه: «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلقٍ». فرزق هؤلاء ليس عليكم «نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ». أمّا علّة الحكم فهي: «إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطًا كَبِيرًا».

هذه الآية تفيد أنّ الوضع الاقتصادي للعرب في الجاهلية كان صعباً وسيّئاً. بحيث إنّهم كانوا يقتلون أبناءهم في بعض الأحيان خوف العيلة والفقر، وهناك كلام بين المفسرين فيما إذا كان العرب في الجاهلية يدفنون البنات أحياء وحسب، أو أنّهم كانوا يقتلون الأبناء أيضاً خوفاً من الفقر.

وفي الوقت الذي نستغرب فيه ارتكاب الجاهليين لهذه الجرائم بحق النوع البشري، فإنّ عصرنا الحاضر- وفي أكثر مجتمعاته رُقيّاً وتقدّماً- يعيد تكرار هذه الجريمة ولكن بأسلوب آخر، إذ أنّ العمليات الواسعة في إسقاط الجنين وقتله خوفاً من الضائقة المالية وازدياد عدد السكان، هي نموذج آخر للقتل.

ثانياً: الآية التي بعدها تشير إلى ذنب عظيم آخر هو الزنا: «وَلَا تَقْرَبُوا الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا».

مختصر الامثل، ج 3،

ص: 81

لم تقل الآية: لا تزنوا، بل قالت: لا تقربوا هذا العمل الشائن، وهذا الاسلوب في النهي فضلًا عمّا يحمله من تأكيد، فإنّه يوضّح أنّ هناك مقدمات تجر إلى الزنا ينبغي تجنّبها وعدم مقاربتها، فخيانة العين تعتبر واحدة من المقدمات، والسفور والتعرّي مقدمة اخرى، الكتب السيئة والأفلام الملوّثة والمجلات الفاسدة ومراكز الفساد كل واحدة مِنها تعتبر مقدمة لهذا العمل.

كذلك فإنّ الخلوة بالأجنبية (يعني خلوة المرأة والرجل الأجنبي في مكان واحد ولوحدهما) يعتبر عاملًا في إثارة الشهوة.

وأخيراً فإنّ امتناع الشباب عن الزواج خاصة مع ملاحظة الصعوبات الموضوعة أمام الطرفين، هي من العوامل التي قد تؤدّي إلى الزنا. والآية نهت عن كل ذلك بشكل بليغ مختصر، ولكنّا نرى في الأحاديث والروايات نهياً مفصّلًا عن كل واحدة من هذه المقدمات.

فلسفة تحريم الزنا: يمكن الإشارة إلى ثلاثة عوامل في فلسفة تحريم الزنا، هي:

1- شياع حالة الفوضى في النظام العائلي، وانقطاع العلاقة بين الأبناء والآباء، هذه الرابطة التي تختص بكونها سبباً للتعارف الاجتماعي، بل إنّها تكون سبباً لصيانة الأبناء.

إنّ العلاقات الاجتماعية القائمة على أساس العلاقات العائلية ستتعرض للانهيار والتصدّع إذا شاع وجود الابناء غير الشرعيين «أبناء الزنا».

وعلاوة على ذلك، فإنّهم سيحرمون من الحبّ الاسري الذي يعتبر عاملًا في الحدّ من الجريمة في المجتمع الإسلامي، وحينئذ يتحوّل المجمتع الإنساني بالزنا إلى مجتمع حيواني تغزوه الجريمة والقساوة من كل جانب.

2- لقد أثبت العلم ودلّت التجارب على أنّ إشاعة الزنا سبب لكثير من الأمراض والمآسي الصحية وكل المعطيات تشير إلى فشل مكافحة هذه الأمراض من دون مكافحة الزنا. (يمكن أن تلاحظ موجات مرض الإيدز في المجتمعات المعاصرة، ونتائجها الصحية والنفسية المدمّرة).

3- يجب أن لا ننسى أنّ هدف الزواج ليس إشباع الغريزة الجنسية وحسب،

بل المشاركة في تأسيس الحياة على أساس تحقيق الإستقرار الفكري والأنس الروحي للزوجين. وأمّا تربية الأبناء والتعامل مع قضايا الحياة، فهي آثار طبيعية للزواج، وكل هذه الامور لا يمكن لها أن تثمر من دون أن تختص المرأة بالرجل، وقطع دابر الزنا وأشكال المشاعيّة الجنسية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 82

ثالثاً: الحكم الآخر الذي تشير إليه الآية التي بعدها، هو احترام دماء البشر، وتحريم قتل النفس حيث تقول: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ».

إنّ الإسلام يحاسب على أقل أذى ممكن أن يلحقه الإنسان بالآخرين، فكيف بقضية القتل وإراقة الدماء؟! وهنا نستطيع أن نقول- باطمئنان-: إنّنا لا نرى أيّ شريعة غير الإسلام أعطت هذه الحرمة الاستثنائية لدم الإنسان، بالطبع هناك حالات ينتفي معها إحترام دم الإنسان، كما لو قام بالقتل أو ما يوجب إنزال العقوبة به، لذلك فإنّ الآية بعد أن تُثبت حرمة الدم كأصل، تشير للإستثناء بالقول: «إِلَّا بِالْحَقّ».

إنّ حرمة دم الإنسان في الإسلام لا تختص بالمسلمين وحسب، بل تشمل غير المسلمين أيضاً من غير المحاربين، والذين يعيشون مع المسلمين عيشة مُسالمة، فإنّ دماءهم- أيضاً- وأعراضهم وأرواحهم مصونة ويحرم التجاوز عليها.

تشير الآية بعد ذلك إلى إثبات حق القصاص بالمثل لولي القتيل فتقول: «وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَانًا». ولكن في نفس الوقت ينبغي لولي المقتول أن يلتزم حدّ الإعتدال ولا يسرف «فَلَا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا». إذ ما دام ولي الدم يتحرّك في الحدود الشرعية فإنّه سيكون مورداً لنصرة اللَّه تعالى.

والنهي عن الإسراف تشير إلى واقع كان سائداً في الجاهلية، واليوم أيضاً يمكن مشاهدة نماذج لها، فحين يُقتل فرد من قبيلة معينة، فإنّها تقوم بهدر الكثير من الدماء البريئة من قبيلة القاتل.

أو أن

يقوم أولياء الدم بقتل أناس أبرياء أو الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.

رابعًا: الآية التي بعدها تشير إلى حفظ مال اليتيم، والملاحظ أنّ الآية استخدمت نفس اسلوب الآية التي سبقتها، فلم تقل: لا تأكلوا مال اليتيم وحسب، وإنّما قالت: «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ».

وفي هذا التعبير تأكيد على حرمة مال اليتيم. ولكن قد تكون هذه الآية حجة لبعض الجهلاء الذين سيتركون مال اليتامى يُهدر ويكون عرضة للحوادث بدون أن يكون عليه قيّم، لذلك استثنت بقوله: «إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ». وبناء على هذا الاستثناء يمكن التصرف بأموال اليتامى بشرط حفظ هذه الأموال، وتنميتها وتكثيرها. وهذا الوضع يستمر إلى أن يبلغ اليتيم سن الرشد ويستطيع فكرياً واقتصادياً أن يكون قيّماً على نفسه وأمواله «حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 83

خامساً: تشير الآية بعد ذلك إلى الوفاء بالعهد فتقول: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسُولًا». إنّ الكثير من العلاقات الاجتماعية وخطوط النظام الاقتصادي والمسائل السياسية قائمة على محور العهود، بحيث إذا ضعف هذا المحور وانهارت الثقة بين الناس، فسينهار النظام الاجتماعي وستحل الفوضى

سادساً: آخر حكم من الأحكام الستة، يتصل بالعدل في الوزن والكيل ورعاية حقوق الناس في ذلك ومحاربة التطفيف في الميزان حيث تقول الآية الكريمة: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا».

وعادة، فإنّ الحق والعدل والنظام والحساب، كل هذه الامور تعتبر أصولًا أساسية للحياة، بل وتدخل في نظام الوجود والخلق، لذلك فابتعاد الناس عن هذا الأصل- خصوصاً بالنسبة لبخس الكيل والتطفيف في الميزان- يؤدّي إلى إنزال ضربة شديدة بالثقة التي تعتبر جوهر استقرار التعامل الإقتصادي بين الناس.

«قسطاس»: بكسر القاف أو ضمّها على وزن «مقياس» وأحياناً تقاس على وزن «قرآن» بمعنى «الميزان» والبعض يعتبرها

كلمة رومية، بينما البعض يرى بأنّها كلمة عربية.

وهناك من يقول بأنّها مركبة من كلمتين هما «قسط» بمعنى العدل و «طاس» بمعنى كفّة الميزان.

وَ لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَ لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَ فَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً (40)

الإنقياد للعلم: في الآيات السابقة وقفنا على مجموعة من الاصول والأحكام الإسلامية وفي الآيات التي نبحثها الآن نلتقي مع آخر مجموعة من سلسلة هذه الأحكام حيث تشير الآيات أعلاه إلى عدّة أحكام مهمة:

أوّلًا: في البداية ينبغي للإنسان المسلم أن يلتزم الدقة في كل الامور ويجعل العلم رائده

مختصر الامثل، ج 3، ص: 84

«وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ». وفي النهاية تعلّل الآية عدم اتباع ما دون العمل، فتقول: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسُولًا».

والسؤال الذي تواجه به الأعضاء المذكورة يعود إلى مسؤولياتها عن الأعمال، إذ السمع مسؤول عن الكلام المشكوك غير الموثق، والبصر عن موارد ادعاء الإنسان للمشاهدة والرؤية مع أنّه لم يشاهد أو يرى، والفؤاد يُسأل عن الأفكار الخاطئة التي تدخل في الأحكام الخاطئة.

ثانياً: الكبر والغرور: الآية التي بعدها تدعو إلى محاربة الكبر والغرور، وتنهي المؤمنين عن هاتين الصفتين حيث تخاطب النبي صلى الله عليه و آله بالقول: «وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا» «1». وهذه إشارة إلى سلوك المتكبرين والمغرورين الذي يضربون

الأرض بعنف أثناء مشيهم لكي يلتفت الناس إليهم، ويرفعون رؤوسهم في السماء علامة على أفضليتهم المزعومة بين الناس، لهؤلاء تقول الآية: «إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا». إذ مثل هؤلاء كالنملة التي تمشي على صخرة كبيرة وتضرب برجلها عليها، إلّا أن الصخرة تسخر من حماقتها.

ويمكن أن نفهم من خلال هذه الآية، وما ذكر في القرآن الكريم أنّ التكبر والغرور مرفوضان بشكل عام. لماذا؟ لأنّ الغرور هو مصدر الغربة عن اللَّه وعن النفس السليمة، وهو سبب الخطأ في الحكم والقضاء، وسبيل ضياع الحق والإِرتباط بخط الشيطان والتلوث بأنواع الذنوب.

البرنامج الحياتي العملي لقادة الإسلام يعتبر درساً مفيداً لكل مسلم حقيقي في هذا المجال.

ففي سيرة الرسول صلى الله عليه و آله نرى أنّه لم يكن يسمح لأحد أن يمشي بين يديه وهو راكب.

ونقرأ- أيضاً- أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يجلس على التراب تواضعاً، ويأكل الطعام كما يأكله العبيد، وكان يحلب الماعز بنفسه، ويركب الدابة دون غطاء. وقد كان الرسول صلى الله عليه و آله يلتزم هذا السلوك في كل مواقفه حتى عند فتح مكة.

وفي سيرة الإمام علي عليه السلام نقرأ أنّه كان يجلب الماء إلى البيت، وفي بعض الأحيان كان ينظّف البيت.

أمّا في سيرة الإمام الحسن عليه السلام فنقرأ أنّه عليه السلام حج إلى بيت اللَّه عشرين مرّة مشياً على

______________________________

(1) «مَرَح»: على وزن فَرَح، وهي تعني الفرح الشديد قبال موضوع باطل لا أساس له.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 85

الأقدام، والنجائب (المحامل والدواب) تقاد بين يديه، وكان عليه السلام يبيّن أنّ هذا العمل تواضع للَّه تعالى.

أمّا الآية التي بعدها فهي تؤكّد على ما تمّ تحريمه في الآيات السابقة كالشرك وقتل النفس والزنا وقتل

الأولاد والتصرف في مال اليتيم وإيذاء الوالدين وما شابه ذلك، حيث تقول الآية: «كُلُّ ذلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِندَ رَبّكَ مَكْرُوهًا».

ومن هذا التعبير يتّضح أنّ اللَّه سبحانه وتعالى ليس فقط لايجبر الإنسان على الذنب، وإنّما لا يريد له (بمعنى لا يرغب ولا يَود) أن يرتكب الذنب أيضاً، وإلّا لو كان الأمر كما يقول أصحاب مذهب الجبر، لما أكد اللَّه سبحانه وتعالى على كراهيه هذه الذنوب.

ثالثاً: لا تكن مشركاً: من أجل التأكيد أكثر على أنّ كل هذه التعليمات إنّما تصدر من الوحي وتتسم بالحكمة، تقول الآية: «ذلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ».

إنّ هذه التعاليم ثابتة عن طريق العقل كما هي ثابتة عن طريق الوحي الإلهي. وعادة ما تكون جميع الأحكام الإلهية على هذه الشاكلة، بالرغم من أنّ الإنسان لا يستطيع في كثير من الأحيان أن يشخص انسجام جزئيات الأحكام الإلهية مع العقل بحكم عدم كماله، ويبقى بعد ذلك الوحي هو المجال الوحيد لمصداقية دركها والإيمان بها.

بعد ذلك ينتهي الحديث عن مجموع هذه الأحكام بنفس البداية التي انطلق منها، حيث يقول تعالى: «وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ». لماذا؟ لأنّ المصير سيكون «فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا». إنّ الشرك هو أساس جميع الإنحرافات والجرائم والذنوب، لذلك فإنّ هذه المجموعة من الأحكام بدأت بالشرك وانتهت به.

آخر آية- من الآيات التي نبحثها- تشير إلى واحدة من الأفكار الخرافية للمشركين، إذ الكثير منهم كان يعتقد بأنّ الملائكة هم بنات اللَّه، في حين أنّهم كانوا يعتبرون البنت عاراً وشناراً، وولادتها في بيت يؤدّي إلى سوء الحظ. القرآن يُساير هذا المنطق فيقول لهم:

«أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلِكَةِ إِنثًا».

إنّ البنات- بدون شك- كالبنين، هم عطايا الإله ومواهبه، ولا يوجد أي تفاوت بينهم

في القيمة الإنسانية. هدف القرآن هو مقابلنهم بمنطقهم فيقول لهم: كيف تنسبون لربّكم ما تحسبوه عاراً لكم؟

بعد ذلك يقول القرآن بأسلوب قاطع: «إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا». إذ هذا الكلام لا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 86

يتلاءم مع أي منطق ويعتبر ضعيفاً من عدّة جهات، هي: 1- إنّ الإعتقاد بوجود ابن للَّه يعتبر إهانة عظيمة لمحضره المقدّس، لأنّه سبحانه وتعالى ليس بجسم، وليست فيه الصفات الجسمانية، ولا يحتاج في بقائه إلى النسل. لذا فالإعتقاد بهذا الأمر يدل على عدم المعرفة بالصفات الإلهية.

2- كيف تعتقدون بأنّ أولاد اللَّه كلّهم بنات، في حين أنّكم ترون البنات أدنى مكانة واحتراماً من الأولاد؟ هذا الإعتقاد السفية يعتبر إهانة اخرى إلى مقام اللَّه تبارك وتعالى.

3- هذا الإعتقاد يعتبر إهانة لمقام ملائكة اللَّه الذين يعتبرون من المقربين للعرش، فأنتم تصابون بالرعب بمجرد سماع كلمة «بنت»، في حين تعتبرون هؤلاء المقربين من العرش إناثاً؟

وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)

كيف يفرّون من الحق؟ كان الحديث في الآيات السابقة يتعلق بقضيتي التوحيد والشرك، لذا فإنّ هذه الآيات تتابع هذا الموضوع بوضوح وقاطعية أكبر، ففي البداية تتحدث عن لجاجة بعض المشركين وعنادهم في قبال أدلة التوحيد فتقول: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا».

«صرّف»: مشتقّة من «تصريف» وتعني التغيير والتحويل، وكونها على وزن «تفعيل» يؤكّد معنى الكثرة، وبما أنّ القرآن يستخدم

تعابير متنوعة وفنوناً كلامية مختلفة من أجل تنبيه المشركين، إذ يستخدم الاستدلال العقلي المنطقي والفطري أو التهديد والترغيب، لذا فإنّ كلمة «صرّفنا» تناسب هذا التنوع في هذا المقام.

وهنا قد يطرح هذا السؤال: إذاً ما الفائدة من ذكر كل ذلك، إذا كانت النتائج معكوسة؟

إنّ جواب هذا السؤال واضح، إذ أنّ القرآن لم ينزل لفرد أو لمجموعة خاصه، ولكنه للمجتمع كافة، وطبيعي أنّ جميع الناس ليسوا على منوال المعاندين، إذ هناك الكثير ممن يتّبع

مختصر الامثل، ج 3، ص: 87

طريق الحق إذا استبانت له أدلته كما في هذا النوع من الأدلة القرآنية، بالرغم من أنّها تؤدّي بمجموعة اخرى من فاقدي بصيرة القلب إلى المزيد من العناد.

الآية التي بعدها تشير إلى واحد من أدلة التوحيد والذي يعرف بين العلماء والفلاسفة بعنوان «دليل التمانع» إذ الآية تقول للنبي صلى الله عليه و آله: قل لهم: «قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلًا».

وبما أنّ كل صاحب قدرة يسعى لمدّ قدرته وتكميلها، لذا فإنّ وجود عدّة آلهة يؤدّي إلى التنازع والتمانع فيما بينهم حول الحكم والسلطة في عالم الوجود.

وبما أنّ كلام المشركين وعباراتهم توحي بأنّهم نزلوا في إدراكهم للَّه عزّ وجلّ إلى مستوى أن يكون طرفاً للنزاع، لذا فإنّ الآية تقول بعد ذلك مباشرة: «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا».

ثم لأجل إثبات عظمة الخالق وأنّه منزّه عن خيالات واعتقادات وأوهام المشركين، تتحدث الآية التالية عن تسبيح كائنات الوجود لذاته المقدّسة إذ تقول: «تُسَبّحُ لَهُ السَّموَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ». ثم تتطرق الآية إلى أنّ التسبيح لا يقتصر على ما هو موجود في السماوات والأرض، وإنّما ليس هناك موجود إلّاويسبّح ويحمد اللَّه، ولكن لا تدركون تسبيحهم: «وَإِن مِّن

شَىْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِن لَّاتَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ». ومع ذلك:

«إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا». أي: لا يؤاخذكم ولا يعاقبكم بسبب كفركم وشرككم مباشرة، ولكن يمهلكم بالقدر الكافي، ويفتح لكم أبواب التوبة ويتركها مفتوحة لإتمام الحجة.

وَ إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً (45) وَ جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَ إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزل قوله «وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ» الآية في قوم كانوا يؤذون

مختصر الامثل، ج 3، ص: 88

النبي صلى الله عليه و آله بالليل إذا تلا القرآن وصلّى عند الكعبة، وكانوا يرمونه بالحجارة ويمنعونه عن دعاء الناس إلى الدين، فحال اللَّه سبحانه بينه وبينهم حتى لا يؤذوه. وروي- في تفسير الكبير- عن ابن عباس، أنّ أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلى الله عليه و آله ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر يوماً: ما أدري ما يقول محمّد غير أنّي أرى شفتيه تتحركان بشي ء. وقال أبو سفيان: إنّي لأرى بعض ما يقوله حقّاً. وقال أبو جهل: هو مجنون. وقال أبو لهب: هو كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى: هو شاعر. فنزلت هذه الآية: «وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ ...».

التّفسير

المغرورون وموانع المعرفة: بعد الآيات السابقة قد يطرح الكثيرون هذا السؤال: رغم وضوح قضية التوحيد بحيث إنّ جميع مخلوقات العالم تشهد بذلك؛ فلماذا- إذن- لا يقبل المشركون

هذه الحقيقة ولا ينصاعون للآيات القرآنية بالرغم من سماعهم لها؟

الآيات التي نبحثها يمكن أن تكون جواباً على هذا السؤال، إذ تقول الآية الاولى: «وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا». وهذا الحجاب والساتر هو نفسه التعصب واللجاجة والغرور والجهل، حيث تقوم هذه الصفات بصدّ حقائق القرآن عن أفكارهم وعقولهم ولا تسمح لهم بدرك الحقائق الواضحة مثل التوحيد والمعاد وصدق الرسول في دعوته وغير ذلك.

أمّا الآية التي بعدها فتقول: «وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا». أي:

إنّنا غطّينا قلوبهم بأستار لكي لا يفهموا معناه، وجعلنا في آذانهم ثقلًا. لذلك فإنّهم: «وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا».

ثم يضيف اللَّه تبارك وتعالى مرّة اخرى: «نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ». أي: إنّ اللَّه تعالى يعلم الغرض من استماعهم لكلامك وحضورهم في مجلسك و «إِذْ هُمْ نَجْوَى يتشاورون ويتناجون «إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا». إذ إنّهم لايأتون إليك من أجل سماع كلامك بقلوبهم وأرواحهم، بل هدفهم هو التخريب، وتصيّد الأخطاء.

الآية الأخيرة خطاب للنبي صلى الله عليه و آله وبالرغم من أنّ عبارة الآية قصيرة، إلّاأنّها كانت قاضية بالنسبة لهذه المجموعة حيث قالت: «انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْامْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا». والآية لا تعني أنّ الطريق غير واضح والحق خاف، بل على أبصارهم غشاوة، وقلوبهم مغلقة دون الإستجابة للحق، وعقولهم معطلة عن الهدى بسبب الجهل والحقد والتعصب والعناد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 89

وَ قَالُوا أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً وَ رُفَاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ

مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)

حتمية البعث ويوم الحساب: الآيات السابقة تحدّثت عن التوحيد وحاربت الشرك، أمّا الآيات التي نبحثها الآن فتتحدّث عن المعاد والذي يعتبر مكمّلًا للتوحيد.

الآيات التي نحن بصددها أجابت على ثلاثة أسئلة- أو شكوك- يثيرها منكرو المعاد، ففي البداية تحكي الآيات على لسان المنكرين استفهامهم: «وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا» «1».

إنّ التعبير القرآني في هذه الآية الكريمة يدلل على أنّ الرسول صلى الله عليه و آله كان يبيّن في دعوته «المعاد الجسماني» بعد موت الإنسان، إذ لو كان الكلام عن معاد الروح فقط، لم يكن ثمّة سبب لإيراد مثل هذه الإشكالات من قبل المعارضين والمنكرين.

القرآن في إجابته على هؤلاء يبيّن أنّ قضية بعث عظام الإنسان سهلة وممكنة، بل وأكثر من ذلك، فحتى لو كنتم حجارة أو حديداً: «قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا». وحتى لو كنتم أشدّ من الحجر والحديد وأبعد منهما من الحياة: «أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ». فإنّ البعث سيكون مصيركم.

السؤال التشكيكي الآخر الذي يثيره منكرو المعاد هو: إذا سلّمنا بأنّ هذه العظام المندثرة المتلاشية يمكن أن تعود إلى الحياة، فمن يستطيع أن يقوم بهذا الأمر، ومن الذي له قدرة القيام بهذه العملية المعقّدة للغاية؟

هذا السؤال تصوغه الآية بالقول على لسان المنكرين: «فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا».

القرآن يجيب على هذا السؤال حيث يقول: «قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ».

بعد الانتهاء من الشك الأوّل والثاني الذي يطلقه المنكرون للمعاد، تنتقل الآيات إلى الشك الثالث الذي تصوغه على لسانهم بهذا السؤال: «فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ». «سينغضون»: مشتقة من مادة «إنغاض»

بمعنى مدّ الرأس نحو الطرف المقابل بسبب التعجب.

______________________________

(1) «رُفات»: على وزن «كُرات» وهو معنى يطلق على كل شي ء قديم ومتلاش.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 90

ما يقصده هؤلاء من سؤالهم هو قولهم: لو اعترفنا بقدرة الخالق على إعادة بعث الإنسان من التراب من جديد، فإنّ هذا يبقى مجرّد وعد لا ندري متى يتحقق، إذا كان سيحصل هذا في آلاف أو ملايين السنين القادمة فما تأثيره في يومنا هذا ... إنّ المهم أن نتحدّث عن الحاضر لا عن المستقبل!

ويجيب القرآن بقوله: «قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا». إنّ يوم المعاد- طبعاً- قريب، لأنّ عمر العالم والحياة على الأرض، مهما طالت، فإنّها في قبال الحياة الأبدية تعتبر لا شي ء، إذ هي مجرّد لحظات سريعة وعابرة وسرعان ما تنتهي.

إضافة إلى ذلك، فإنّ القيامة إذا كانت في تصوراتنا المحدودة بعيدة فإنّ مقدمة القيامة والتي هي الموت، تعتبر قريبة منا جميعاً، لأنّ الموت هو القيامة الصغرى (إذا مات الإنسان قامت قيامته)، صحيح أنّ الموت لا يمثل القيامة الكبرى، ولكنه علامة عليها ومذكّر بها.

في الآية التي بعدها إشارة إلى بعض خصوصيات القيامة في قوله تعالى: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ». أي: إنّ بعثكم يكون يوم يدعوكم من القبور فتمتثلون لأمره طوعاً أو كرهاً، والآية- بالطبع- تتحدث عن خصوصية يوم القيامة لا عن موعد القيامة.

في ذلك اليوم ستظنون أنّكم لبثتم قليلًا في عالم ما بعد الموت (البرزخ) وهو قوله تعالى:

«وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا». إنّ هذا الإحساس سيطغى على الإنسان في يوم القيامة، وهو يظن أنّه لم يلبث في عالم البرزخ إلّاقليلًا، بالرغم من طول الفترة التي قضاها هناك، وهذه إشارة إلى أنّ حياة البرزخ لا تعتبر في مدتها شيئاً في قبال عالم الخلود الاخروي.

وَ قُلْ

لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لَا تَحْوِيلًا (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 91

التعامل المنطقي مع المعارضين: الآيات السابقة تعرّضت لقضية المبدأ والمعاد، أمّا الآيات التي نحن بصددها فهي توضّح أسلوب المحادثة والاستدلال مع المعارضين وخصوصاً المشركين، لأنّه مهما كان المذهب عالي المستوى، والمنطق قويّاً، فإنّ ذلك لا تأثير له ما دام لا يتزامن مع اسلوب صحيح للبحث والمجادلة مرفقاً بالمحبة بدلًا من الخشونة، لذا فإنّ أوّل آية من هذه المجموعة تقول: «وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُوا الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ».

الأحسن من حيث المحتوى والبيان، والأحسن من حيث التلازم بين الدليل ومكارم الأخلاق والأساليب الإنسانية، ولكن لماذا يستعمل هذا الاسلوب مع المعارضين؟

الجواب: إذا ترك الناس القول الأحسن واتبعوا الخشونة في الكلام والمجادلة ف «إِنَّ الشَّيْطنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ» ويثير بينهم الفتنة والفساد، فلا تنسوا: «إِنَّ الشَّيْطنَ كَانَ لِلْإِنْسنِ عَدُوًّا مُّبِينًا».

وكلمة «عبادي» خطاب للمؤمنين، حيث تعلّمهم الآية اسلوب النقاش مع الأعداء، فقد يحدث في بعض الأحيان أن يتعامل المؤمنون الجدد بخشونة مع معارضي عقيدتهم ويقولون لهم بأنّهم من أهل النار والعذاب، وأنّهم ضالون، قد يكون هذا الموقف سبباً في أن يقف المعارضون موقفاً سلبياً إزاء دعوة الرسول صلى الله عليه و آله.

اضافة

لذلك، فإنّ الإتهامات التي يطلقها المشركون ضد شخص رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويتهمونه فيها بالسحر والجنون والكهانة والشعر، قد تكون سبباً في أن يفقد المؤمنون السيطرة على أنفسهم ويبدأوا بالتشاجر مع المشركين ويستخدموا الألفاظ الخشنة ضدّهم ... القرآن يمنع المؤمنين من هذا العمل ويدعوهم إلى التزام اللين والتلطّف بالكلام واختيار أفضل الكلمات في اسلوب التخاطب، حتى يأمنوا من إفساد الشيطان.

الآية التي بعدها تضيف: «رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ».

وفي آخر الآية مواساة للرسول صلى الله عليه و آله الذي كان يتأذى ويتألم من عدم إيمان المشركين، إذ يقول تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا».

إنّ مسؤوليتك- يا رسول اللَّه- هي الإبلاغ الواضح، والدعوة الحثيثة نحو الحق، فإذا آمنوا فهو الأفضل، وإن لم يؤمنوا فسوف لن يصيبك ضرر.

الآية التالية ذهبت أكثر من الآية السابقة في التعبير عن إحاطة اللَّه تبارك وتعالى وعلمه بأعمال ونيات عباده، فقالت: «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». ثم أضافت:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 92

«وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّينَ عَلَى بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا».

هذا التعبير القرآني جواب على أحد أسئلة المشركين وشكوكهم، حيث كانوا يقولون- باسلوب استهزائي- لماذا انتخب اللَّه للنبوة محمّد اليتيم، ثم ما الذي حصل حتى أصبح هذا اليتيم ليس نبياً وحسب، وإنّما خاتم الأنبياء. القرآن يقول لهؤلاء: لا تعجبوا من ذلك، لأنّ اللَّه عليم بقيمة كل إنسان، وهو سبحانه وتعالى ينتخب أنبياءه من بين عامّة الناس، ويفضّل بعضهم على بعض، إذ جعل أحدهم (خليل اللَّه) والآخر (كليم اللَّه) والثالث (روح اللَّه)، أمّا نبينا فقد أنتخبه بعنوان (حبيب اللَّه).

وباختصار: لقد فضّل اللَّه بعض النبيين على بعض لموازين يعلمها هو وتختص بها حكمته جلّ وعلا.

بالرغم من أنّ داود

عليه السلام كان له حكم عظيم ودولة كبيرة وملك واسع، إلّاأنّ اللَّه سبحانه لم يجعل هذه الامور سبباً لإفتخاره، بل اعتبر كتاب الزبور فخره، حتى يدرك المشركون أنّ عظمة الإنسان، ليس لها علاقة بالمال والثروة ووجود الحكومة والسلطة، كما أنّ اليتم والفقر ليس مدعاةً للذل أو دليلًا على الحقارة.

الآية التي تليها تستمر في اتجاه الآيات السابقة، إذ تقول للرسول صلى الله عليه و آله أن يخاطب المشركين بقوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا».

إنّ هذه الآية- كما في آيات اخرى كثيرة- تبطل منطق المشركين وتضرب صميم عقيدتهم من هذا الطريق، وهو أنّ عبادة الآلهة من دون اللَّه، إمّا بسبب جلب المنفعة أو دفع الضرر، في حين أنّ الآلهة التي يعبدونها ليس لها القدرة على حل مشكلة معينة أو حتى تحريكها؛ أي نقل المشكلة من مستوى معين إلى مستوى أقل.

إنّ استخدام تعبير «الذين» في هذه الآية لا يشمل جميع المعبودات التي يشركها الإنسان مع اللَّه (كالأصنام وغيرها) بل يشمل الملائكة والمسيح وأمثالهم.

بعد ذلك تؤكّد الآية التالية على ما ذكرناه في الآية السابقة، فتقول: هل تعلمون لماذا لا يستطيع الذين تدعونهم من دون اللَّه أن يحلّوا مشاكلكم، أو أن يجيبوا لكم طلباتكم بدون إذن اللَّه سبحانه وتعالى؟ الآية تجيب على ذلك بأنّ هؤلاء أنفسهم يذهبون إلى بيت اللَّه، ويلجأون للتقرب من الذات الإلهية المقدسة لقضاء حوائجهم وحلّ مشاكلهم وتحقيق ما

مختصر الامثل، ج 3، ص: 93

يريدونه: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا».

إنّ كلمة «الوسيلة» يشمل كل عمل جميل ولائق، وتدخل في مفهومها كل صفة بارزة اخرى، لأنّ كل هذه

الامور تكون سبباً في التقرب من اللَّه.

وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (58) وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَ مَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفاً (59) وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَ مَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً (60)

بعد أن تحدثت الآيات السابقة مع المشركين في قضايا التوحيد والمعاد، تبدأ أوّل آية من هذه الآيات بكلام على شكل نصيحة لتوعيتهم، حيث تجسم هذه الآية النهاية الفانية لهذه الدنيا أمام عقولهم حتى يعرفوا أنّ هذه الدنيا دار زوال وأنّ البقاء الأبدي في مكان آخر، لذلك ما عليهم إلّاتهيئة أنفسهم لمواجهة نتائج أعمالهم، حيث تقول الآية: «وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيمَةِ أَوْ مُعَذّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا». فالطغاة والظالمون نبيدهم بواسطة العذاب، أمّا الآخرون فيهلكون بالموت أو الحوادث الطبيعية.

وأخيراً، فإنّ هذه الدنيا زائلة والكل يسلك طريق الفناء: «كَانَ ذلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا». و «الكتاب» هنا هو نفس اللوح المحفوظ وهو العلم اللامتناهي للخالق جلّ وعلا، ومجموعة القوانين الإلهية التي لا يمكن التخلف عنها في عالم الوجود هذا.

وهنا قد يقول المشركون: نحن لا مانع لدينا من الإيمان ولكن بشرط أن يقوم الرسول صلى الله عليه و آله بجميع المعجزات التي نقترحها عليه، أي أن يستسلم لحججنا، القرآن يجيب أمثال هؤلاء بقوله تعالى: «وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْأَيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ».

الآية تشير إلى أنّ اللَّه تبارك وتعالى أرسل معجزات كثيرة وكافية للدلالة على

صدق الرسول صلى الله عليه و آله، أمّا ما تقترحونه من معجزات فهي غير مقبولة، لأنّكم بعد وقوعها ومشاهدتها سوف لا تؤمنون، بدليل أنّ الأمم السابقة والتي كانت أوضاعها وحالاتها

مختصر الامثل، ج 3، ص: 94

مماثلة لأوضاعكم وحالاتكم، اقترحت نفس الإقتراحات ثم لم تؤمن بعد ذلك.

تشير الآية بعد ذلك إلى نموذج واضح لهذه الحالة فتقول: «وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً».

لقد طلب قوم صالح الناقة فاخرجها اللَّه لهم من الجبل، وأجيبت بذلك المعجزة التي طلبوها، وقد كانت معجزة واضحة وموضّحة! ولكن بالرغم من كل ذلك «فَظَلَمُوا بِهَا».

وعادة فإنّه ليس من مقتضيات البرنامج الإلهي أن يستجيب لأيّ معجزة يقترحها إنسان، أو ينصاع إلى تنفيذها الرسول، ولكن الهدف هو: «وَمَا نُرْسِلُ بِالْأَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا».

ثم يواسي اللَّه تبارك وتعالى نبيّه صلى الله عليه و آله في مقابل عناد المشركين وإلحاحهم بالباطل، إذ يبيّن له أن ليس هذا بالشي ء الجديد: «وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ». ففي قبال دعوة الأنبياء عليهم السلام هناك دائماً مجموعة مؤمنة نظيفة القلب نقيّة السريرة، صافية الفطرة، في مقابل مجموعة اخرى معاندة مكابرة لجوجة تتحجج وتجد لنفسها المعاذير في معاداة الدعوات وإيذاء الأنبياء، وهكذا يتشابه الحال بين الأمس واليوم.

ثم يضيف تعالى: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنكَ إِلَّا فِتْنَةً لّلنَّاسِ». وامتحاناً لهم، وكذلك الشجرة الملعونة هي أيضاً امتحان وفتنة للناس: «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرْءَانِ».

وفي الختام يأتي قوله تعالى: «وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا». لماذا؟ لأنّه ما دام قلب الإنسان غير مستعد لقبول الحق والتسليم له، فإنّ الكلام ليس لا يؤثّر فيه وحسب، بل إنّ له آثاراً معكوسة، حيث يزيد في ضلال هؤلاء وعنادهم بسبب تعصبهم ومقاومتهم السلبية وانغلاق نفوسهم عن الحق. (تأمّل ذلك).

رؤيا النبي صلى الله عليه و

آله والشجرة الملعونة: مجموعة من المفسرين الشيعة والسنّة، نقلوا أنّ هذه الرؤيا إشارة للحادثة المعروفة والتي رأى فيها النبي صلى الله عليه و آله في المنام أنّ عدداً من القرود تصعد منبره وتنزل منه (تنزو على منبره صلى الله عليه و آله)، وقد حزن صلى الله عليه و آله كثيراً لهذا الأمر بحيث لم ير ضاحكاً من بعدها إلّاقليلًا (وقد تمّ تفسير هذه القرود التي تنزو على منبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ببني أمية الذين جلسوا مكان النبي صلى الله عليه و آله الواحد تلو الآخر، يقلّد بعضهم بعضاً، وكانوا ممسوخي الشخصية، وقد جلبوا الفساد للحكومة الإسلامية، وخلافة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله).

ومن الممكن أن تكون (الشجرة الملعونة) في القرآن إشارة إلى أي مجموعة منافقة وخبيثة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 95

ومطرودة من رحمة اللَّه تعالى ومقام الربوبية، خصوصاً تلك المجاميع مثل بني أمية واليهود قساة القلب، والمعاندين وكل الذين يسيرون على خطاهم. وشجرة الزقوم في القيامة تمثّل الأشجار الخبيثة في العالم الآخر، وكل هذه الأشجار الخبيثة (المجاميع المعنيّة) هي لاختبار وتمحيص المؤمنين الصادقين في الحياة الدنيا.

وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قَالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً (63) وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ وَ عِدْهُمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَ كَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)

هذه الآيات تشير إلى قضية

امتناع إبليس عن إطاعة أمر اللَّه في السجود لآدم عليه السلام، والعاقبة السيئة التي انتهى إليها.

إنّ طرح هذه القضية بعد ما ذكر عن المشركين المعاندين هو إشارة إلى أنّ الشيطان يعتبر نموذجاً كاملًا للإستكبار والكفر والعصيان. ثمّ انظروا إلى أين وصلت عاقبته، لذا فإنّ من يتبعه سيصير إلى نفس العاقبة. الآية تقول: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ».

إنّ هذه السجدة التي أمر اللَّه تعالى بها هي نوع من الخضوع والتواضع بسبب عظمة خلق آدم عليه السلام وتميّزه عن سائر الموجودات، أو هي سجود للخالق جلّ وعلا في قبال خلقه لهذا المخلوق المتميز.

فقد سيطر الكبر والغرور على إبليس وتحكّمت الأنانية في عقله، ظنّاً منه بأنّ التراب والطين اللذان يعتبران مصدراً لكل الخيرات ومنبعاً للحياة أقل شأناً وأهمية من النار، لذا اعترض على الخالق جلّ وعلا وقال: «قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 96

ولكنه عندما طرد- إلى الأبد- من حضرة الساحة الإلهية بسبب استكباره وطغيانه في مقابل أمر اللَّه له، قال: «قَالَ أَرَءَيْتَكَ هذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا». «أحتنكن»: مشتقة من «احتناك» وهي تعني قطع جذور شي ء ما. لذا فإنّ هذا القول يشير إلى أنّ إبليس سيحرف كل بني آدم عن طريق اللَّه وطاعته، إلّاالقليل منهم.

ويحتمل أن تكون كلمة «أحتنكن» مشتقة من «حنك» وهي المنطقة التي تحت البلعوم؛ وفي الواقع، فإنّ الشيطان يريد أن يقول بأنّه سيضع حبل الوسوسة في أعناق الناس ويجرهم إلى طريق الغواية والضلال.

وهكذا كان، فقد أعطي الشيطان إمكانية البقاء والفعالية حتى يتحقق الاختبار للجميع، ويكون وجوده سبباً لتمحيص واختبار المؤمنين الحقيقيين لأنّ الإنسان يشتدّ عزمه عندما تهاجمه الحوادث ويقوى عوده في

مواجهة الأعداء، لذلك قالت الآية: «قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءًا مَّوْفُورًا». وبهذه الوسيلة للاختبار ينكشف الفاشل من الناجح في الامتحان الإلهي الكبير.

ثم ذكرت الآيات بعد ذلك- باسلوب جميل- الطرق التي ينفذ منها الشيطان والأساليب التي يستخدمها في الوسوسة والإغواء فقالت:

«وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ ...».

«وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ...».

«وَشَارِكْهُمْ فِى الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلدِ ...».

«وَعِدْهُمْ ...».

ثم يجي ء التحذير الإلهي: «وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطنُ إِلَّا غُرُورًا ...».

ثم اعلم أيّها الشيطان: «إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطنٌ ...». «وَكَفَى بِرَبّكَ وَكِيلًا».

«إستفزز»: مشتقة من «استفزاز» وهي تعني الإثارة؛ الإثارة السريعة والعادية، ولكن الكلمة في الأصل تعني قطع شي ءٍ ما. واستعمال هذه الكلمة هنا للدلالة على تحريك الشخص وإثارته لينقطع عن الحق ويتوجه نحو الباطل.

«اجلب»: مأخوذ من «إجلاب» وفي الأصل من «جلبة» وهي تعني الصرخة الشديدة، والإجلاب تعني الطرد مع الأصوات والصرخات. وأمّا النهي عن «الجلب» الوارد في

مختصر الامثل، ج 3، ص: 97

الروايات فهو إمّا أن يعني أنّ الذي يذهب إلى المزارع لجمع الزكاة يجب عليه أن لا يصيح ويصرخ بحيث يخيف الأحياء، أو أنّه يعني أنّ على المتسابقين عند سباق الخيل أن لا يصرخوا في وجوه الخيل الاخرى لتكون لهم الأسبقية.

«خيل»: لها معنيان، فهي تعني «الخيول» وأيضاً تعني (الخيالة)، أمّا في هذه الآية فقد وردت للتدليل على المعنى الثاني.

أمّا «رَجِل»: فهي تعني معكوس (الخيالة) أي (جيش الرجّالة والمشاة) وبهذا يتكوّن جيش الشيطان من (الخيالة والرجّالة) من جنسه أو من غير جنسه، وهذا يعني أنّ البعض يتأثر بسرعة بغواية الشيطان ويصبح من أعوانه ومساعديه فهؤلاء كالخيّالة، أمّا البعض الآخر فيتأثر ببطء وعلى مهل كالمشاة والرجّالة.

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً

(66) وَ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69)

لماذا الكفران مع كل هذه النعم؟ هذه الآيات تابعت البحوث السابقة في مجال التوحيد ومحاربة الشرك، ودخلت في البحث من خلال طريقين مختلفين، هما: طريق الاستدلال والبرهان، وطريق الوجدان ومخاطبة الإنسان من الداخل. ففي البداية تشير الآية إلى التوحيد الاستدلالي فتقول: «رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ».

طبعاً هناك أنظمة لأجل حركة الفلك في البحار.

تعلمون- طبعاً- بأنّ السفن تعتبر أضخم وسيلة لحمل الإنسان، واليوم فإنّ هناك من السفن العملاقة ما يكون بعضها بمساحة مدينة صغيرة.

ثم يضيف تعالى: «لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ». حتى تساعدكم في أسفاركم ونقل أموالكم

مختصر الامثل، ج 3، ص: 98

وتجارتكم وتعينكم في كل ما يخصّ امور دنياكم ودينكم. أمّا لماذا؟ فلأنّ اللَّه تبارك وتعالى «إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا».

من هذا التوحيد الاستدلالي والذي يعكس جانباً صغيراً من نظام الخلق، وعلم وقدرة وحكمة الخالق جلّ وعلا، تنتقل الآية إلى اسلوب الاستدلال الفطري فتقول: لا تنسوا «وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ». حيث يضل أي شي ء من دون اللَّه، لأنّ ضرر البحر إذا وقع، كالطوفان وغيره يذهب بكل الحواجز وأستار التقليد والتعصب اللاصقة على صفاء الفطرة الإنسانية، لينكشف نور الفطرة الذي هو نور التوحيد والإيمان والعبودية للَّه دون غيره.

إنّ الآية تعبّر عن قانون عام، عرفه كل من جرّب ذلك، حيث تؤدّي المشاكل والصعوبات

الحادّة التي يمرّ بها الإنسان- ويصل السكين العظم- إلى الغاء كل الأسباب الظاهرية التي كان يتعلق بها الإنسان، وتنعدم فاعلية العلل المادية التي كان يتشبث بها، وتنقطع كل الأسباب، إلّاالسبب الذي يصل الإنسان بمصدر العلم والقدرة المطلقتين، والذي هو- لوحده سبحانه وتعالى- قادر على حلّ أعقد المشكلات.

ثم تضيف الآية: «فَلَمَّا نَجكُمْ إِلَى الْبَرّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا».

مرّة اخرى تغطّي حجب الغرور والغفلة والتعصّب هذا النور الإلهي، ويغطّي غبار العصيان والذنوب وملاهي الحياة المادية فطرة الإنسان ووجدانه.

ولكن هل تظنون أنّ اللَّه لا يستطيع أن ينزل بكم عقابه الشديد وأنتم على اليابسة وفي قلب الصحاري والبراري؟

لذلك تقول الآية: «أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ». ثم أضافت: «أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَاتَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا».

بعد ذلك تضيف الآية مذكّرة أمثال هؤلاء بأنّكم هل تظنون أنّ هذه هي المرّة الأخيرة التي تحتاجون فيها إلى السفر في البحر: «أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَاتَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا» «1». أي: لا أحد حينئذٍ

______________________________

(1) «حاصب»: تعني الهواء الذي يحرّك معه الأحجار الصغيرة.

«قاصف»: بمعنى المحطّم، وهي هنا تشير إلى العاصفة الشديدة التي تقلع كل شي ء من مكانه.

«تبيع»: بمعنى تابع، وهي تشير هنا إلى الشخص الذي ينهض للمطالبة بالدم، وثمن الدم والثأر ويستمر في ذلك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 99

يطالب بدمكم ويثأر لكم منّا.

وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَ لَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَ مَنْ كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى

وَ أَضَلُّ سَبِيلًا (72)

الإنسان سيد الموجودات: إنّ واحدة من أبرز طرق الهداية والتربية، هي التنويه بشخصية الإنسان ومكانته ومواهبه، لذا فإنّ القرآن الكريم وبعد بحوثه عن المشركين والمنحرفين في الآيات السابقة، يقوم هنا بتبيان الشخصية الممتازة للإنسان والمواهب التي منحها إيّاها رب العالمين، لكي لا يلوّث الإنسان جوهره الثمين، ولا يبيع نفسه بثمن بخس، حيث يقول تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ».

ثم تشير الآيات القرآنية إلى ثلاثة أقسام من المواهب الإلهية التي حباها اللَّه لبني البشر، هذه المواهب هي أوّلًا: «وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ».

ثم قوله تعالى: «وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيّبَاتِ» ومع الالتفات إلى سعة مفهوم (الطيب) الذي يشمل كل موجود طيّب وطاهر تتّضح عظمة وشمولية هذه النعمة الإلهية الكبيرة.

أمّا القسم الثالث من المواهب فينص عليه قوله تعالى: «وَفَضَّلْنهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا».

لماذا كان الإنسان أفضل المخلوقات؟ إنّا نعلم أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتكوّن من قوى مختلفة، مادية ومعنوية؛ جسمية وروحية، وينمو وسط المتضادات، وله استعدادات غير محدودة للتكامل والتقدم.

في كتاب علل الشرايع عن الإمام علي عليه السلام قال: «إنّ اللَّه عزّ وجل ركّب في الملائكة عقلًا بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم».

الآية التي بعدها تشير إلى موهبة اخرى من المواهب الإلهية التي حباها اللَّه للإنسان، ورتّبت عليه المسؤوليات الثقيلة بسبب هذه المواهب. ففي البداية تشير الآية إلى قضية

مختصر الامثل، ج 3، ص: 100

مختصر الامثل ج 3 149

القيادة ودورها في مستقبل البشر فتقول: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ». يعني أنّ الذين اعتقدوا بقيادة الأنبياء وأوصيائهم ومن ينوب عنهم في كل زمان وعصر،

سوف يكونون مع قادتهم ويحشرون معهم، أمّا الذين انتخبوا الشيطان وأئمة الضلال والظالمين والمستكبرين قادة لهم، فإنّهم سيكونون معهم ويحشرون معهم. هذا التعبير والإشارة إلى دور الإمامة وكونها من أسباب تكامل الإنسان، يعتبر في نفس الوقت تحذيراً لكل البشرية كي تدقق في انتخاب القيادة، ولا تعطي أزمّة وجودها الفكري والحياتي بيد أيّ شخص كان.

ثم تقسّم الآية الناس يوم القيامة إلى قسمين: «فَمَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» «1». أمّا القسم الآخر فهو: من كان في الدنيا أعمى القلب: «وَمَن كَانَ فِى هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الْأَخِرَةِ أَعْمَى . وطبيعي أن يكون هؤلاء العميان القلوب أضلّ من جميع المخلوقات «وَأَضَلُّ سَبِيلًا».

وفي كتاب التوحيد للصدوق عن الإمام الباقر عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجلّ «وَمَن كَانَ فِى هذِهِ أَعْمَى قال: «من لم يدله خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ودوران الفلك والشمس والقمر والآيات العجيبات، على أنّ وراء ذلك أمر أعظم منه، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلًا».

لذلك نقرأ في الآيات (124- 126) من سورة طه، قوله تعالى: «وَمَن أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَعْمَى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا* قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى .

دور القيادة في الإسلام: في الكافي عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام ينقل أنّه عندما كان يتحدّث عن الأركان الأساسية في الإسلام ذكر (الولاية) كخامس وأهم ركن، في حين أنّ الصلاة التي توضّح العلاقه بين الخالق والخلق، والصيام الذي هو رمز محاربة الشهوات، والزكاة التي تحدّد العلاقة بين الخلق والخالق، والحج الذي يكشف الجانب الاجتماعي في

______________________________

(1) «فتيل»: تعني الخيط الرقيق الموجود في شق

نوى التمر، وفي المقابل فإنّ «نقير» تعني مؤخرة نوى التمر، بينما تعني «قطمير» الطبقة الرقيقة التي تغطّي نوى التمر. وكل هذه التعابير كناية عن الشي ء الصغير جدّاً والحقير.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 101

الإسلام، اعتبرت الأركان الأربعة الأساسية الاخرى. ثم يضيف الإمام الباقر عليه السلام: «ولم يناد بشى ء كما نودي بالولاية» لماذا؟ لأنّ تنفيذ الأركان الاخرى لن يتحقق إلّافي ظل هذا الأصل، أي في ظل الولاية «1».

وفي تفسير العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «لا تترك الأرض بغير إمام يحلّ حلال اللَّه ويحرّم حرامه وهو قول اللَّه: (يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم).» ثم قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: من مات بغير إمام مات ميتة جاهليّة».

التاريخ يشهد أنّ بعض الامم تكون في الصف الأوّل بين دول العالم واممه بسبب قيادتها العظيمة والكفوءة، ولكن نفس الامّة تنهار وتسقط في الهاوية، برغم امتلاكها لنفس القوى البشرية والمصادر الاخرى، إذا كانت قيادتها ضعيفة وغير كفوءة.

وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَ إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَ لَوْ لَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَ ضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75)

بما أنّ الآيات السابقة كانت تبحث حول الشرك والمشركين، لذا فإنّ الآيات التي نبحثها تحذّر الرسول صلى الله عليه و آله من وساوس وإغواءات هذه المجموعة، حيث لا يجوز أن يبدي أدنى ضعف في محاربة الشرك وعبادة الأصنام، بل يجب الاستمرار بصلابة أكبر. في البداية تقول الآية أنّ وساوس المشركين كادت أن تؤثّر فيك: «وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا».

ثم بعد ذلك تضيف أنّه

لولا نور العصمة وأنّ اللَّه تعالى ثبّتك على الحق: «وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيًا قَلِيلًا».

وأخيراً لو أنّك ركنت اليهم فسوف يكون جزاءك ضعف عذاب المشركين في الحياة الدنيا، وضعف عذابهم في الآخرة: «إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَوةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَاتَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا».

______________________________

(1) في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «بني الإسلام على خمس، على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية، ولم يُناد بشي ء كما نودي بالولاية».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 102

إن كلّما زاد مقام الإنسان من حيث العلم والوعي والمعرفة والإيمان، ازدادت قيمة وعمق الأعمال الخيّرة التي يقوم بها، وبالتالي سيكون ثوابها أكثر، أمّا الثواب والعقاب فسوف يزداد تبعاً لهذه النسبة. إلهي لا تكلني إلى نفسي: في تفسير مجمع البيان قال ابن عباس إنّه لما نزلت هذه الآية، قال النبي صلى الله عليه و آله: «اللّهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً».

وهذا الدعاء المهم لرسول الهدى صلى الله عليه و آله يعطينا درساً مهمّاً، وهو أنّه يجب أن نذكر اللَّه دائماً ونلتجي ء إليه، ونعتمد على لطفه، حيث إنّ الأنبياء المعصومين لم يسلموا من المزالق بدون نصرة اللَّه وتثبيته لهم، إذن فكيف بنا نحن مع كل ما يحيطنا من أشكال الوسوسة والإغواء الشيطاني.

وَ إِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَ إِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَ لَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)

سبب النّزول

نزلت في أهل مكة لمّا همّوا بإخراج النبي صلى الله عليه و آله من مكة.

التّفسير

مؤامرة خبيثة اخرى: في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ المشركين أرادوا من خلال مكائدهم المختلفة أن يحرفوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن الطريق

المستقيم، لكن اللَّه أنجاه بلطفه له ورعايته إيّاه، وبذلك فشلت خطط المشركين.

بعد تلك الأحداث، وطبقاً للآيات التي بين أيدينا، وضع المشركون خطّة اخرى للقضاء على دعوة الرسول صلى الله عليه و آله، وهذه الخطّة تقضي بإبعاد الرسول صلى الله عليه و آله عن مسقط رأسه (مكة) إلى مكان آخر قد يكون مجهولًا وبعيداً عن الأنظار، إلّاأنّ هذه الخطّة فشلت أيضاً بلطف اللَّه أيضاً.

الآية الاولى تقول: «وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا». بخطة دقيقة.

ثم يحذّرهم القرآن بعد ذلك بقوله: «وَإِذًا لَايَلْبَثُونَ خِلفَكَ إِلَّا قَلِيلًا». فهؤلاء سيبادون بسرعة بسبب ذنبهم العظيم في إخراج القائد الكفوء- الذي تذهب نفسه حسرات على

مختصر الامثل، ج 3، ص: 103

العباد- من البلد، إذ يعتبر ذلك أوضح مداليل كفران النعمة، ومثل هؤلاء القوم لا يستحقون الحياة ويستحقون العذاب الإلهي.

إنّ هذا الأمر لا يخص مشركي العرب وحسب، بل هو «سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا». وهذه السنة تنبع من منطق واضح، حيث إنّ هؤلاء القوم لا يشكرون النعم، ويحطّمون مصباح هدايتهم ومنبع النور إليهم بأيديهم، إنّ مثل هؤلاء الأقوام لا يستحقون رحمة الخالق، وإنّ العقاب سيشملهم، ونعلم هنا أنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يفرّق بين عباده، وبذلك فإنّ الأعمال المتشابهة في الظروف المتشابهة لها عقاب متشابه، وهذا هو معنى عدم اختلاف سنن الخالق جلّ وعلا.

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً (79) وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً (80) وَ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ

الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)

بعد سلسلة الآيات التي تحدثت عن التوحيد والشرك وعن مكائد المشركين ومؤامراتهم، تبحث هذه الآيات عن الصلاة والدعاء والإرتباط باللَّه والتي تعتبر عوامل مؤثّرة في مجاهدة الشرك، ووسيلة لطرد إغواءات الشيطان من قلب وروح الإنسان، إذ تقول الآيات في البداية: «أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا».

في الروايات التي وصلتنا عن أهل البيت عليهم السلام توضّح لنا أنّ معنى «دلوك» هو زوال الشمس؛ وأمّا «غسق الليل» فإنّها تعني منتصف الليل، حيث إنّ «غسق» تعني الظلمة الشديدة، وأكثر ما يكون الليل ظلمةً في منتصفه.

أمّا «قرآن» فهي تعني كلاماً يقرأ، و «قرآن الفجر» هنا تعني صلاة الفجر.

وبهذا الدليل تعتبر هذه الآية من الآيات التي تشير بشكل إجمالي إلى أوقات الصلوات الخمس، ومع أخذ الآيات القرآنية الاخرى بنظر الاعتبار في مجال وقت الصلوات والروايات الكثيرة الواردة في هذا الشأن، يمكن تحديد أوقات الصلوات الخمس بشكل دقيق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 104

الآية بعد ذلك تقول: «إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا». والرّوايات الواردة في تفسير هذه الآية تقول إنّ ملائكة الليل والنهار هي التي تشاهد، لأنّه في بداية الصباح تأتي ملائكة النهار لتحل محل ملائكة الليل التي كانت تراقب العباد، وحيث إنّ صلاة الصبح هي في أوّل وقت الطلوع، لذلك فإنّ المجموعتين من الملائكة تشاهدها وتشهد عليها.

وبعد أن تذكر الآية أوقات الصلوات الخمس تنتقل الآية التي بعدها إلى قوله تعالى:

«وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ». المفسرون الإسلاميون المعروفون يعتبرون هذا التعبير إشارة إلى نافلة الليل التي وردت روايات عديدة في فضيلتها.

ثم تقول الآية: «نَافِلَةً لَّكَ». أي: برنامج إضافي علاوة على الفرائض اليومية.

وهذا التعبير اعتبره الكثير بأنّه دليل على وجوب صلاة الليل

على الرسول صلى الله عليه و آله، حيث إنّ هذه (النافلة) والتي هي بمعنى (زيادة في الفريضة) تخصّك أنت دون غيرك يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

في ختام الآية تتوضّح نتيجة هذا البرنامج الإلهي الروحاني الرفيع حيث تقول: «عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا».

ولا ريب فإنّ المقام المحمود هو مقام مرتفع جدّاً يستثير الحمد، وبما أنّ هذه الكلمة وردت بشكل مطلق، لذا فقد تكون إشارة إلى أنّ حمد الأوّلين والآخرين يشملك.

الروايات الإسلامية تشير إلى أنّ المقام المحمود هو مقام الشفاعة الكبرى. فالنبي صلى الله عليه و آله هو أكبر الشفعاء في ذلك العالم، وشفاعته تشمل الذين يستحقونها.

أمّا الآية التي بعدها فإنّها تشير إلى أحد التعاليم الإسلامية الأساسية والذي ينبع من روح التوحيد والإيمان: «وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ» «1». فأيّ عمل فردي أو اجتماعي لا أبدؤه إلّابالصدق ولا انهيه إلّابالصدق، فالصدق والإخلاص والأمانة هي الخط الأساس لبداية ونهاية مسيرتي.

وفي الحقيقة فإنّ سرّ الانتصار يكمن هنا، وهذا هو طريق الأنبياء والأولياء الربانيين حيث كانوا يتجنّبون كل غش وخداع وحيلة في أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم وكل ما يتعارض مع الصدق.

وعادة فإنّ المصائب التي نشاهدها اليوم والتي تصيب الأفراد والمجتمعات والأقوام

______________________________

(1) «مدخل» و «مخرج»: هي تعني الإدخال والإخراج، تؤدّي هنا المعنى المصدري.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 105

والشعوب، إنّما هي بسبب الانحرافات عن هذا الأساس، ففي بعض الأحيان يكون أساس عملهم قائماً على الكذب والغش والحيلة، وفي بعض الأحيان يدخلون إلى عمل معين بصدق ولكنهم لا يستمرون على صدقهم حتى النهاية. وهذا هو سبب الفشل والهزيمة.

أمّا الأصل الثاني الذي يعتبر من ناحية ثمرة لشجرة التوحيد، ومن ناحية اخرى نتيجة للدخول والخروج الصادق في الأعمال، فهو

ما ذكرته الآية في نهايتها: «وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا».

وبعد أن ذكرت الآيات (الصدق) و (التوكل) جاء بعدها الأمل بالنصر النهائي، والذي يعتبر بحد ذاته عاملًا للتوفيق في الأعمال، إذ خاطبت الآية الرسول صلى الله عليه و آله بوعد اللَّه تعالى:

«وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ» «1»، لأنّ طبيعة الباطل الفناء والدمار: «إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا». فللباطل جولة، إلّاأنّه لا يدوم والعاقبة تكون لانتصار الحق وأصاحبه وأنصاره.

وفي الآيات أعلاه تمّت الإشارة إلى ثلاثة عوامل للانتصار، العوامل التي ابتعد عنها مسلمو اليوم، ولهذا السبب نرى هزائمهم المتكررة في مقابل الأعداء والمستكبرين.

والعوامل الثلاثة هي: الدخول الصادق والخالص في الأعمال، والاستمرار على هذه الحالة الصادقة حتى النهاية «رَبّ أدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ». ثمّ الإعتماد على قدرة الخالق جلّ وعلا، والإعتماد على النفس، وترك أيّ إعتماد أو تبعية للأجانب «وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا».

وفي بعض الروايات تمّ تفسير قوله «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ» بقيام دولة المهدي عليه السلام فالإمام الباقر عليه السلام يبيّن أنّ مفهوم الكلام الإلهي هو: «إذا قام القائم عليه السلام ذهبت دولة الباطل».

وفي تفسير نور الثقلين عن الخرايج والجرايح عن حكيمة خبر طويل وفيه لمّا ولد القائم عليه السلام كان نظيفاً مفروغاً منه وعلى ذراعه الأيمن مكتوب: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا».

إنّ مفهوم هذه الأحاديث لا يحصر المعنى الواسع للآية بهذا المصداق، بل إنّ ثورة المهدي عليه السلام ونهضته هي من أوضح المصاديق حيث تكون نتيجتها الإنتصار النهائي للحق على الباطل في كل العالم.

______________________________

(1) «زهق»: من مادة «زهوق» بمعنى الإضمحلال والهلاك والإبادة، و «زهوق»: على وزن «قبول» صيغة مبالغةوهي تعني الشي ء الذي تمّت إبادته بالكامل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 106

وخلاصة القول:

إنّ حقيقة إنتصار الحق وانهزام الباطل هي تعبير عن قانون عام يجري في مختلف العصور، وإنتصار الرسول صلى الله عليه و آله على الشرك والأصنام، ونهضة المهدي عليه السلام الموعودة وانتصاره على الظالمين في العالم، هما من أوضح المصاديق لهذا القانون العام.

وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً (82)

القرآن وصفة للشفاء: الآية التي نبحثها الآن تشير إلى التأثير الكبير للقرآن الكريم ودوره البنّاء في هذا المجال حيث تقول: «وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ».

إنّ «الشفاء» هو في مقابل الأمراض والعيوب والنواقص، لذا فإنّ أوّل عمل يقوم به القرآن في وجود الإنسان هو تطهيره من أنواع الأمراض الفكرية والأخلاقية الفردية منها والاجتماعية.

ثم تأتي بعدها مرحلة «الرحمة» وهي مرحلة التخلّق بأخلاق اللَّه، وتفتّح براعم الفضائل الإنسانية في أعماق الأفراد الذين يخضعون للتربية القرآنية.

أمّا الظالمون فإنّهم بدلًا من أن يستفيدوا من هذا الكتاب العظيم، فإنّهم يتمسكون بما لا ينتج لهم سوى الذل والهوان «وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا».

لا ريب أنّ القرآن قادر على هداية الضالين، ولكن بشرط أن يبحث هؤلاء عن الحق، أمّا واقع المعاندين وأعداء الحق فإنّه يكشف عن تعامل هؤلاء سلبياً مع القرآن، ولذلك لا يستفيدون من القرآن، بل يزداد عنادهم وكفرهم، لأنّ تكرار الذنب يكرّس في روح الإنسان حالة الكفر والعناد.

وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأَى بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)

بعد أن تحدثت الآية السابقة عن شفاء القرآن، تشير الآية التي بين أيدينا إلى أحد أكثر الأمراض تجذّراً فتقول: «وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَا بِجَانِبِهِ». ولكن

عندما نسلب منه النعمة ويتضرر من ذلك ولو قليلًا: «وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يُوسًا».

«أعرض»: مشتقة من «إعراض» وهي تعني عدم الإلتفات، والمقصود منها هنا هو عدم الإلتفات للخالق عزّ وجل، وإعراض الوجه عنه وعن الحق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 107

«نأى»: مشتقة من «نأي» وهي على وزن «رأي» وهي بمعنى الإبتعاد، وعند إضافة كلمة «بجانبه» إليها يكون المعنى التكبر والغرور والتزام المواقف المعادية. ويمكن الاستفادة من مجموع هذه الجملة أنّ الأشخاص الدنيويين يصابون بالغرور عند مجي ء النعم، بحيث إنّهم ينسون واهب ومعطي هذه النعم، ولا يقتصر الأمر على النسيان وحسب، بل ينتقل إلى الإعتراض والتكبّر وعدم الإلتفات للخالق.

جملة «مَسَّهُ الشَّرُّ» تشير إلى أدنى سوء يصيب الإنسان. والمعنى أنّ هؤلاء من الضعف وعدم التحمل بحيث إنّهم ينسون أنفسهم ويغرقون في دوّامة اليأس بمجرد أن تصيبهم أبسط مشكلة.

الآية الثانية تخاطب الرسول صلى الله عليه و آله فتقول: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ». فالمؤمنون يطلبون الرحمة والشفاء من آيات القرآن الكريم، والظالمون لا يستفيدون من القرآن سوى مزيد من الخسران، أمّا الأفراد الضعفاء فيصابون بالغرور في حال النعمة، ويصابون باليأس في حال ظهور المشاكل ... هؤلاء جميعاً يتصرفون وفق أمزجتهم، هذه الأمزجة التي تتغير وفق التربية والتعليم والأعمال المتكررة للإنسان نفسه.

وفي هذه الأحوال جميعاً فإنّ هناك علم اللَّه الشاهد والمحيط بالجميع وخاصه بالأشخاص المهتدين: «فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا».

«شاكلة»: في الأصل مشتقة من «شكل» وهي تعني وضع الزمام والرباط للحيوان.

و (شكال) تقال لنفس الزمام؛ وبما أنّ طبائع وعادات كل إنسان تقيّده بصفات معيّنة لذا يقال لذلك «شاكلة».

إنّ الشاكلة تطلق على كل عادة وطريقة ومذهب وأسلوب يعطي للإنسان اتجاهاً معيناً.

لذا فإنّ العادات والصفات التي يكتسبها الإنسان بتكرار الأعمال اختيارياً وإرادياً،

وكذلك الإعتقادات التي يقتنع بها ويعتمدها بسبب الاستدلال أو التعصب لرأي معين يطلق عليها كلها كلمة «شاكلة».

وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)

ما هي الروح؟ تبدأ هذه الآية في الإجابة على بعض الأسئلة المهمة للمشركين ولأهل الكتاب، إذ تقول: «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 108

يمكن أن نستفيد من مجموع القرائن الموجودة في الآية أنّ المستفسرين سألوا عن حقيقة الروح الإنسانية، هذه الروح العظيمة التي تميّز الإنسان عن الحيوان، وقد شرّفتنا بأفضل الشرف، حيث تنبع كل نشاطاتنا وفعالياتنا منها، وبمساعدتها نكتشف أسرار العلوم. ولأنّ الروح لها بناء يختلف عن بناء المادة، ولها اصول تحكمها تختلف عن الاصول التي تحكم المادة في خواصها الفيزيائية والكيميائية، لذا فقد صدر الأمر إلى الرسول صلى الله عليه و آله أن يقول لهؤلاء في جملة قصيرة قاطعة: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى». ولكي لا يتعجب هؤلاء أو يندهشوا من هذا الجواب فقد أضافت الآية: «وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا». حيث لا مجال للعجب بسبب عدم معرفتكم بأسرار الروح بالرغم من أنّها أقرب شي ء إليكم.

وفي تفسير العياشي عن زرارة عن الإمام الباقر والصادق عليهما السلام عن قوله تعالى «يَسَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» قالا: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى أحد صمد، والصمد الشي ء الذي ليس له جوف، فإنّما الروح خلق من خلقه، له بصر وقوّة وتأييد يجعله في قلوب الرسل والمؤمنين».

إنّ الروح الإنسانية لها مراتب ودرجات، فتلك المرتبة من الروح الموجودة عند الأنبياء والأئمة عليهم السلام، هي في مرتبة ودرجة عالية جدّاً، ومن آثارها العصمة من الخطأ والذنب وكذلك يترتب عليها العلم

الخارق. وبالطبع فإنّ روحاً مثل هذه هي أفضل من الملائكة بما في ذلك جبرئيل وميكائيل. (فتدبر)

وَ لَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)

ما عندك هو من رحمته وبركته: تحدثت الآيات السابقة عن القرآن، أمّا الآيتان اللتان نبحثهما الآن فهما أيضاً ينصبّان في نفس الإتجاه. ففي البداية تقول الآية: «وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ». وبعد ذلك: «ثُمَّ لَاتَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا». إنّنا نحن الذين أعطيناك هذه العلوم حتى تكون قائداً وهادياً للناس، ونحن الذين إذا شئنا استرجعناها منك، وليس لأحد أن يعترض على ذلك.

الآية التي بعدها جاءت لتستثني، فهي تبيّن أنّنا إذا لم نأخذ ما أعطيناك، فليس ذلك سوى رحمة من عندنا، حيث يقول تعالى: «إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبّكَ». وهذه الرحمة لأجل هدايتك وإنقاذك، وكذلك لهداية وإنقاذ العالم البشري، وهذه الرحمة مكمّلة لرحمة الخلق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 109

وفي نهاية الآية ولأجل تأكيد المعنى السابق جاء قوله تعالى: «إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا».

إنّ وجود القابلية لهذا الفضل في قلبك الكبير بجهادك وعبادتك من جهة، وحاجة العباد إلى مثل قيادتك من جهة اخرى، جعلا فضل اللَّه عليك كبيراً للغاية فقد فتح اللَّه أمامك أبواب العلم، وأنبأك بأسرار هداية الإنسان، وعصمك من الخطأ، حتى تكون أسوة وقدوة لجميع الناس إلى نهاية هذا العالم.

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (89)

معجزة القرآن: الآيات التي بين أيدينا تتحدّث عن إعجاز القرآن، ولأنّ

الآيات اللاحقة تتحدّث عن حجج المشركين في مجال المعجزات، فإنّ الآية التي بين أيدينا مقدمة للبحث القادم حول المعجزات. إنّ اللَّه يخاطب رسوله صلى الله عليه و آله ويقول له: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْءَانِ لَايَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا».

إنّ هذه الآية دعت- بصراحة- العالمين جميعهم، صغاراً وكباراً، عرباً وغير عرب، الإنسان أو أيّ كائن عاقل آخر، العلماء والفلاسفة والأدباء والمؤرخين والنوابغ وغيرهم لقد دعتهم جميعاً لمواجهة القرآن، وتحدّيه الكبير لهم، وقالت لهم: إذا كنتم تظنون أنّ هذا الكلام ليس من الخالق وأنّه من صنع الإنسان، فأنتم أيضاً بشر، فأتوا إذاً بمثله، وإذا لم تستطيعوا ذلك بأجمعكم، فهذا العجز أفضل دليل على إعجاز القرآن.

إنّ هذه الدعوة للمقابلة والتي يصطلح عليها علماء العقائد ب «التحدّي» هي أحد أركان المعجزة، وعندما يرد هذا التعبير في أيّ مكان، نفهم بوضوح أنّ هذا الموضوع هو من المعجزات.

و تتحرك الآية التي بعدها لتوضيح جانب من جوانب الإعجاز القرآني، متمثلًا في شموليته وإحاطته بكل شي ء، إذ يقول تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هذَا الْقُرءَانِ مِن كُلّ مَثَلٍ». ولكن بالرغم من ذلك: «فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كَفُورًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 110

حقّاً إنّ التنوع الذي يتضمّنه القرآن الكريم تنوع عجيب، خاصه وأنّه صدر من شخص لا يعرف القراءة والكتابة، ففي هذا الكتاب وردت الأدلة العقلية بجزئياتها الخاصة حول قضايا العقائد، وذكرت- أيضاً- الأحكام المتعلقة بحاجات البشر في المجالات كافة.

وتعرّض القرآن- أيضاً- إلى قضايا وأحداث تأريخية تعتبر فريدة في نوعها ومثيرة في بابها، وخالية من الخرافات.

وتعرّض إلى البحوث الأخلاقية التي تؤثّر في القلوب المستعدة كتأثير المطر في الأرض الميتة. القضايا العلمية ورد ذكرها في القرآن الكريم،

إذ ذكرت بعض الحقائق التي لم تكن تعرف في ذلك الزمان من قبل أيّ عالم.

والخلاصة: إنّ القرآن سلك كل وادٍ وتناول في آياته أفضل النماذج.

ولهذا السبب إذا اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله فلا يستطيعون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: إنّ جماعة من قريش- وفيهم الوليد بن المغيرة وأبو سفيان وأبوجهل- اجتمعوا عند الكعبة، وقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمّد فكلّموه وخاصموه، فبعثوا إليه إنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك، فبادر صلى الله عليه و آله إليهم ظنّاً منه أنّهم بدا لهم في أمره، وكان حريصاً على رشدهم، فجلس إليهم، فقالوا: يا محمّد إنّا دعوناك لنعذر إليك، فلا نعلم أحداً أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، شتمت الآلهة، وعبت الدين وسفّهت الأحكام، وفرّقت الجماعة، فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالًا أعطيناك، وإن كنت

مختصر الامثل، ج 3، ص: 111

تطلب الشرف سوّدناك علينا، وإن كانت علّة غلبت عليك طلبنا لك الأطباء.

فقال صلى الله عليه و آله: «ليس شي ء من ذلك، بل بعثني اللَّه إليكم رسولًا، وأنزل كتاباً، فإن قبلتم ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه أصبر حتى يحكم اللَّه بيننا».

قالوا: فإذن ليس أحد أضيق بلداً منّا فاسأل

ربّك أن يسيّر هذه الجبال، ويجري لنا أنهاراً كأنهار الشام والعراق ....

فقال صلى الله عليه و آله: «ما بهذا بعثت» ....

قالوا: فأسقط علينا السماء كما زعمت إنّ ربّك إن شاء فعل ذلك.

قال صلى الله عليه و آله: «ذاك إلى اللَّه إن شاء فعل».

وقال قائل منهم: لا نؤمن حتى تأتي باللَّه والملائكة قبيلًا. فقام النبي صلى الله عليه و آله وقام معه عبد اللَّه بن أبي أمية المخزومي ابن عمّته عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا محمّد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ... فواللَّه لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ سُلّماً إلى السماء ثم ترقى فيه وأنا أنظر، ويأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك، وكتاب يشهد لك ....

فانصرف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حزيناً لما رأى من قومه، فأنزل اللَّه سبحانه الآيات.

التّفسير

بعد الآيات السابقة التي تحدثت عن عظمة وإعجاز القرآن، جاءت هذه الآيات تشير إلى ذرائع المشركين، هذه الطلبات وردت على ستة أقسام هي:

1- في البداية يقولون: «وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا».

2- قولهم كما في الآية: «أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الْأَنْهَارَ خِللَهَا تَفْجِيرًا».

3- «أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا».

4- «أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلِكَةِ قَبِيلًا».

5- «أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ».

6- «أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ».

ثم يصدر الأمر من الخالق جلّ وعلا لرسوله صلى الله عليه و آله أن يقول لهؤلاء في مقابل اقتراحاتهم هذه: «قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 112

وَ مَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) قُلْ

لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولًا (95)

ذريعة عامة: الآيات السابقة تحدّثت عن تذرّع المشركين- أو قسم منهم- في قضية التوحيد، أمّا الآيات التي نبحثها فإنّها تشير إلى ذريعة عامة في مقابل دعوة الأنبياء، حيث تقول: «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا».

هل يمكن التصديق بأنّ هذه المهمة والمنزلة الرفيعة تقع على عاتق الإنسان، ثم- والكلام للمشركين- ألم يكن الأولى والأجدر أن تقع هذه المهمة وهذه المسؤولية على عاتق مخلوق أفضل كالملائكة- مثلًا- كي يستطيعوا أداء هذه المهمة بجدارة ... إذ أين الإنسان الترابي والرسالة الإلهية؟!

إنّ هذا المنطق الواهي الذي تحكيه الآية على لسان المشركين لا يخصّ مجموعة أو مجموعتين من الناس، بل إنّ أكثر الناس وفي امتداد تأريخ النّبوات قد تذرّعوا به في مقابل الأنبياء والر سل.

القرآن الكريم أجاب هؤلاء جميعاً في جملةٍ قصيرة واحدة مليئة بالمعاني والدلالات، قال تعالى: «قُل لَّوْ كَانَ فِى الْأَرْضِ مَلِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا». يعني أنّ القائد يجب أن يكون من سنخ من بعث إليه، ومن جنس أتباعه، فالإنسان لجماعة البشر، والملك لجماعة الملائكة.

ودليل هذا التجانس والتطابق بين القائد وأتباعه واضح؛ فمن جانب يعتبر التبليغ العملي أهم وظيفة في عمل القائد من خلال كونه قدوة واسوة، وهذا لا يتمّ إلّاأن يكون القائد من جنسهم، يمتلك نفس الغرائز والأحاسيس، ونفس مكوّنات البناء الجسمي والروحي الذي يملكه كل فرد من أفراد جماعته.

من جانب آخر ينبغي للقائد أن يدرك جميع احتياجات ومشاكل أتباعه كي يكون قادراً على علاجهم، والإجابة على أسئلتهم، لهذا السبب نرى أنّ الأنبياء برزوا من بين عامة الناس.

مختصر الامثل، ج 3،

ص: 113

قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً (97)

بعد أن قطعت الآيات السابقة أشواطاً في مجال التوحيد والنبوة وعرض حديث المعارضين والمشركين، فإنّ هذه الآيات عبارة عن خاتمة المطاف في هذا الحديث، إذ تضع النتيجة الأخيرة لكل ذلك. ففي البداية تقول الآية إذا لم يقبل اولئك أدلتك الواضحة حول التوحيد والنبوة والمعاد فقل لهم: «قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا».

إنّ هذه الآية تستهدف أمرين فهي أوّلًا: تهدّد المعارضين المتعصبين والمعاندين، بأنّ اللَّه خبير وبصير ويشهد أعمالنا وأعمالكم، فلا تظنّوا بأنّكم خارجون عن محيط قدرته أو أنّ شيئاً من أعمالكم خاف عنه.

الأمر الثاني هو أنّ الرسول صلى الله عليه و آله أظهر إيمانه القاطع بما قال، حيث إنّ ايمان المتحدّث القوي بما يقول، له أثر نفسي عميق في المستمع، وعسى أن يكون هذا التعبير القاطع والحاسم المقرون بنوع من التهديد مؤثّراً فيهم، ويهزّ وجودهم، ويوقظ فكرهم ووجدانهم ويهديهم إلى الطريق الصحيح.

الآية التالية تؤكّد على أنّ الشخص المهتدي هو الذي قذف اللَّه تعالى نور الإيمان في قلبه:

«وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ». أمّا من أضلّه اللَّه بسوء أعماله: «وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ». فالطريق الوحيد هو أن يرجعوا إليه ويطلبوا نور الهداية منه.

هاتان الجملتان تثبتان أنّ الدليل القوي والقاطع لا يكفي للإيمان، فما لم يكن هناك توفيق إلهي لا يستقر الإيمان أبداً.

أمّا عن سبب مجي ء «أولياء» بصيغة الجمع، فقد يعود ذلك للإشارة

إلى تعدد الآلهة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 114

الوهمية أو تنوع الوسائل التي يلجأون إليها، فيكون المقصود أنّ جميع هذه الوسائل وجميع البشر وغير البشر، وكل ما تؤلّهون من آلهة من دون اللَّه، لا يستطيع أن ينقذكم من الضلالة وسوء العاقبة. ثم تذكر الآيات- بصيغة التهديد القاطع- جانباً من مصيرهم بسبب أعمالهم في يوم القيامة فتقول: «وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ». فبدلًا من الدخول بشكل عادي وبقامة منتصبة، فإنّ الملائكة الموكلين بهم يسحبونهم إلى جهنم على وجوههم تعذيباً لهم.

أو يزحفون كالزواحف على وجوههم وصدورهم بشكل ذليل ومؤلم.

ثم هم يحشرون: «عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا».

إنّ مراحل ومواقف يوم القيامة متعددة، ففي بعض المراحل والمواقف يكون هؤلاء صماً وبكماً وعمياً، وهذا نوع من العقاب لهم، إلّاأنّ عيونهم في مراحل لاحقة تبدأ بالنظر، وآذانهم بالسماع، وألسنتهم بالنطق حتى يروا منظر العذاب ويسمعون كلام الشامتين، ويبدأون بالتأوّه والصراخ وإظهار ضعفهم، حيث إنّ كل هذه الامور هي نوع آخر من العقاب لهم.

إنّ المجرمين وأهل النار محرومون من رؤية ما هو سارّ ومن سماع امور تبعث على الفرح، ومن قول وكلام يستوجب نجاتهم، بل على العكس من ذلك، فهم لا ينظرون ولا يسمعون ولا يقولون إلّاما يؤذي ويؤلم.

في الختام تقول الآية: «مَّأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ». لكن لا تظنّوا أنّ نارها كنار الدنيا تنطفي في النهاية، بل هي: «كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا».

ذلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَ قَالُوا أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً وَ رُفَاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ

الْإِنْفَاقِ وَ كَانَ الْإِنْسَانُ قَتُوراً (100)

كيف يكون المعاد ممكناً؟ في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ يوماً سيّئاً ينتظر المجرمين في العالم الآخر، هذه العاقبة التي تجعل أيّ عاقل يفكّر في هذا المصير، لذلك فإنّ الآيات التي بين

مختصر الامثل، ج 3، ص: 115

أيدينا تقف على هذا الموضوع بشكل آخر. في البداية تقول: «ذلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بَايَاتِنَا وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا».

وبعد تعجّبهم من المعاد الجسماني واعتبارهم ذلك أمراً غير ممكن، يقول القرآن باسلوب واضح ومباشر وبلا فصل: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ». وعلى هؤلاء أن لا يعجّلوا فإنّ القيامة وإن تأخّرت، إلّاأنّها سوف تتحقق بلا ريب: «وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَّارَيْبَ فِيهِ».

ولكن هؤلاء الظالمين والمعادين مستمرون على ما هم فيه رغم سماعهم هذه الآيات:

«فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كَفُورًا».

وحيث إنّهم كانوا يصرخون ويصرّون على أن لا يكون النبي من البشر حسداً من عند أنفسهم وجهلًا وضلالًا، وقد منعهم هذا الحسد والجهل من التصديق بإمكانية أن يعطي اللَّه كل هذه المواهب لإنسان، لذا فإنّ الخالق جلّ وعلا يخاطبهم بقوله: «قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ». ثم يقول: «وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا».

«قتور»: من «قَتَرَ» على وزن «قتل» وهي تعني الإمساك في الصرف، وبما أنّ (قتور) صيغة مبالغة فإنّها تعني شدّة الإمساك وضيق النظر.

المعاد الجسماني: الآيات أعلاه من أوضح الآيات المرتبطة بإثبات المعاد الجسماني، فالمشركين كانوا يعجبون من إمكانية عودة الحياة إلى العظام النخرة، والقرآن يجيبهم بأنّ القادر على خلق السماوات والأرض، لديه القدرة على جمع الأجزاء المتناثرة للإنسان وأن يهبها الحياة مرّة اخرى.

كما إنّ الإستدلال بالقدرة الكلية للخالق عزّ وجل في إثبات المعاد، هو واحد

من الأدلة التي يذكرها القرآن مراراً ويعتمد عليها كثيراً.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ بَصَائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَ قُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً (104)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 116

لم يؤمنوا رغم الآيات: قبل بضعة آيات عرفنا كيف أنّ المشركين طلبوا اموراً عجيبة غريبة من الرسول صلى الله عليه و آله، وهذه الآيات- التي نبحثها- تقف على نماذج للُامم السابقة ممن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية، إلّاأنّهم استمروا في الإنكار وعدم الإيمان.

في البدء يقول تعالى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ».

والآيات التسع هي: العصا، اليد البيضاء، الطوفان، الجراد، القمل، الضفادع، الدم، الجفاف، ونقص الثمرات. ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل- والخطاب موجّه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- بني إسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين: «فَسَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ».

إلّا أنّ الطاغية الجبار فرعون- برغم الآيات- لم يستسلم للحق، بل أكثر من ذلك إتّهم موسى «فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنّى لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا».

إنّ التعبير القرآني يكشف عن الاسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمه المستكبرون ويتّهمون فيه الرجال الإلهيين بسبب حركتهم الإصلاحية الربانية ضد الفساد والظلم، إذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يؤثّروا من هذا الطريق في قلوب الناس ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسى عليه السلام لم يسكت أمام اتّهام فرعون له، بل أجابه بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق، إذ قال له:

«قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ».

لذا فإنّك- يا فرعون- تعلم بوضوح أنّك تتنكّر للحقائق، برغم علمك بأنّها من اللَّه! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق، وعندها سيسلكون طريق السعادة، وبما أنّك- يا فرعون- تعرف الحق وتنكره، لذا: «وَإِنّى لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا». «مثبور»: من «ثبور» وتعني الهلاك.

ولأنّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية، فإنّه سلك طريقاً يسلكه جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافّة الأعصار، وذاك قوله تعالى:

«فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا».

«يستفز»: من «استفزاز» وتعني الإخراج بقوة وعنف.

ومن بعد هذا النصر العظيم: «وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَاءِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 117

الْأَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا». فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف»: من مادة «لفّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقّدة بحيث لا يعرف الأشخاص، ولا من أيّ قبيلة هم.

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (105) وَ قُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَ نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَ يَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)

مرّة اخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويجيب على بعض ذرائع المعارضين. في البداية تقول الآيات: «وَبِالْحَقّ أَنزَلْنهُ». ثم تضيف: «وَبِالْحَقّ نَزَلَ». ثم تقول: «وَمَا أَرْسَلْنكَ إِلَّا مُبَشّرًا وَنَذِيرًا». إذ ليس لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

والفرق بين الجملة الاولى: «وَبِالْحَقّ أَنزَلْنهُ» والجملة الثانية: «وَبِالْحَقّ نَزَلَ» هو أنّ الإنسان قد

يبدأ في بعض الأحيان بعمل ما، ولكنه لا يستطيع اتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب من ضعفه، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شي ء ويقدر على كل شي ء، فإنّه يبدأ بداية صحيحة، وينهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك: الشخص الذي يخرج ماءً صافياً من أحد العيون، ولكن خلال مسير هذا الماء لا يستطيع ذلك الشخص أن يحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته ويمنعه من التلوّث، فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو ملوّث، إلّاأنّ الشخص القادر والمحيط بالامور، يحافظ على بقاء الماء صافياً وبعيداً عن عوامل التلوّث حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزل بالحق من قبل الخالق، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين، أو المرحلة التي كان الرسول فيها هو المتلقي، وبمرور الزمن لاتستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إليه بمقتضى قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» فاللَّه هو الذي يتكفّل حمايته وحراسته.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 118

لذا فإنّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل منذ عصر الرسول صلى الله عليه و آله وحتى نهاية العالم. الآية التي تليها تردّ على واحدة من ذرائع المعارضين وحججهم، إذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرسول صلى الله عليه و آله، ولماذا كان نزوله تدريجياً؟ كما تشير إلى ذلك الآية (32) من سورة الفرقان التي تقول: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنهُ تَرْتِيلًا». فيقول اللَّه في جواب هؤلاء: «وَقُرْءَانًا فَرَّقْنهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ». حتى يدخل القلوب والأفكار ويترجم عملياً بشكل كامل.

ومن أجل التأكيد أكثر تبيّن

الآية- بشكل قاطع- أنّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحن:

«وَنَزَّلنهُ تَنزِيلًا».

إنّ القرآن له إرتباط دقيق بعصره، أي ء ارتباط ب (23) سنة، هي عصر نبوة نبي الخاتم بكل ما كانت تتمخض به من حوادث وقضايا.

هل يمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد، حتى ينزل القرآن في يوم واحد؟

النزول التدريجي يعني الإرتباط الدائمي للرسول صلى الله عليه و آله مع مصدر الوحي، إلّاأنّ النزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنّى للرسول صلى الله عليه و آله الإرتباط بمصدر الوحي لأكثر من مرّة واحدة.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول: «قُلْ ءَامِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا».

إنّ المقصود من «الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ» هم مجموعة من علماء اليهود والنصارى من الذين آمنوا بعد أن سمعوا آيات القرآن، وشاهدوا العلائم التي قرأوها في التوراة والإنجيل، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين، وأصبحوا من علماء الإسلام.

«يخرّون»: بمعنى يسقطون على الأرض بدون إرادتهم، واستخدام هذه الكلمة بدلًا من السجود ينطوي على إشارة لطيفة، هي أنّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عندما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالق عزّ وجل ينجذبون إليه ويولهون به إلى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشية بدون وعي واختيار «1».

______________________________

(1) يقول الراغب في (المفردات): «يخرون» من مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا يسقط من علو. وقوله تعالى: «خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا» تنبيه على اجتماع أمرين: السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح، والتنبيه أنّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد اللَّه لا بشي ء آخر، ودليله قوله تعالى فيما بعد: «وَسَبّحُوا بِحَمْدِ رَبّهِمْ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 119

«أذقان»: جمع «ذقن» ومن المعلوم أنّ ذقن الإنسان عند السجود

لا يلمس الأرض، إلّا أنّ تعبير الآية إشارة إلى أنّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنّ ذقنهم قد يلمس الأرض عند السجود.

الآية التي بعدها توضّح قولهم عندما يسجدون: «وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولًا». هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إيمانهم واعتقادهم باللَّه وبصفاته وبوعده.

والكلام على هذا الأساس يجمع اصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد- أكثر- على تأثّر هؤلاء بآيات ربّهم، وعلى سجدة الحب التي يسجدونها تقول الآية التي بعدها: «وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا». «الخشوع»: هو حالة من التواضع والأدب الجسدي والروحي للإنسان في مقابل شخصية معينة أو حقيقة معينة.

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَ لَا تُخَافِتْ بِهَا وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (110) وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: إنّ النبي صلى الله عليه و آله كان ساجداً ذات ليلة بمكة يدعو: يا رحمن يا رحيم، فقال المشركون: هذا يزعم أنّ له إلهاً واحداً، وهو يدعو مثنى مثنى.

التّفسير

آخر الذرائع والأعذار: بعد سلسلة من الذرائع التي تشبّث بها المشركون امام دعوة الرسول صلى الله عليه و آله، نصل مع الآيات التي بين أيدينا إلى آخر ذريعة لهم، وهي قولهم: لماذا يذكر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الخالق بأسماء متعددة بالرغم من أنّه يدّعي التوحيد. القرآن ردّ على هؤلاء بقوله: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّامَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى .

إنّ هؤلاء عميان البصيرة والقلب، غافلون عن أحداث

ووقائع حياتهم اليومية حيث كانوا يذكرون أسماء مختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد، وكل اسم من هذه الأسماء كان

مختصر الامثل، ج 3، ص: 120

يعرّف بشطر أو بصفة من صفات ذلك الشخص أو المكان. بعد ذلك، هل من العجيب أن تكون للخالق أسماء متعددة تتناسب مع افعاله وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته والمنبع لكل صفات الكمال وجميع النعم، وهو وحده عزّ وجلّ الذي يدير دفة هذا العالم والوجود؟

ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدّثون عن صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويقولون:

إنّه يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته، فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله عبر قوله تعالى: «وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا».

إنّ الآية أعلاه تقول: لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ، ولا أقل من الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.

هذا الحكم الإسلامي في الدعوة إلى الإعتدال بين الجهر والإخفات يعطينا فهماً وإدراكاً من جهتين:

الاولى: لا تؤدّوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء، فيقومون بالاستهزاء والتحجج ضدكم، إذ الأفضل أن تكون مقرونه بالوقار والهدوء والأدب.

الثانية: يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتكون جميع هذه الامور بعيدة عن الإفراط والتفريط، إذ الأساس هو: «وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا».

أخيراً نصل إلى الآية الأخيرة من سورة الإسراء، هذه الآية تنهي السورة المباركة بحمد اللَّه، كما افتتحت بتسبيحه وتنزيه ذاته عزّ وجل. إنّ هذه الآية هي خلاصة أخيرة لكل البحوث التوحيدية التي وردت في السورة، وهي ثمرة لمفاهيمها جميعاً، إذ هي تخاطب الرسول صلى الله عليه و آله بالقول: «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ

الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِىٌّ مِّنَ الذُّلّ».

ومثل هذا الرب في مثل هذه الصفات، هو أفضل من كل ما تفكّر به: «وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا».

روى العلّامة الطبرسي رحمه الله في تفسير مجمع البيان: إنّ في هذه الآية ردّاً على اليهود والنصارى، حين قالوا اتّخذ اللَّه الولد، وعلى مشركي العرب حيث قالوا: لبيك لا شريك لك، إلّا شريكاً هو لك. وعلى الصابئين والمجوس حين قالوا: لولا أولياء اللَّه لذل اللَّه.

«نهاية تفسير سورة الإسراء»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 121

18 سورة الكهف

محتوى السورة: تبدأ السورة بحمد الخالق جلّ وعلا، وتنتهي بالتوحيد والإيمان والعمل الصالح.

يشير محتوى السورة- كما في أغلب السور المكية- إلى قضية المبدأ والمعاد والترغيب والإنذار. وتشير أيضاً إلى قضية مهمة كان المسلمون يحتاجونها في تلك الأيام بشدة، وهي عدم استسلام الأقلية- مهما كانت صغيرة- إلى الأكثرية مهما كانت قوية في المقاييس الظاهرية، بل عليهم أن يفعلوا كما فعلت المجموعة الصغيرة القليلة من أصحاب الكهف، أن يبتعدوا عن المحيط الفاسد ويتحركوا ضدّه.

فإذا كانت لديهم القدرة على المواجهة، فعليهم خوض الجهاد والصراع، وإن عجزوا عن المواجهة فعليهم بالهجرة.

إنّ السورة تشير إلى ثلاث قصص (قصة أصحاب الكهف، قصة موسى والخضر، وقصة ذي القرنين) حيث إنّ هذه القصص بخلاف أغلب القصص القرآنية لم تتكرّر في مكان آخر من القرآن (أشارت الآية 96 من سورة الأنبياء إلى يأجوج ومأجوج دون ذكر ذي القرنين). وهذه الإشارة تعتبر واحدة من خصائص هذه السورة المباركة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ألا أدلّكم على سورة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 122

شيّعها سبعون ألف ملك، حين نزلت ملأت عظمتها ما بين السماء والأرض»؟ قالوا: بلى.

قال:

«سورة أصحاب الكهف، من قرأها يوم الجمعة غفر اللَّه له إلى الجمعة الاخرى، وزيادة ثلاثة أيام، واعطي نوراً يبلغ السماء، ووُقِي فتنة الدجّال».

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الكهف في كل ليلة جمعة لم يمت إلّاشهيداً، وبعثه اللَّه مع الشهداء، ووقف يوم القيامة مع الشهداء».

إنّ عظمة السور القرآنية وتأثيرها المعنوي، وبركاتها الأخلاقية، إنّما يكون بسبب الإيمان بها والعمل وفقاً لمضامينها.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (5)

البداية باسم اللَّه، والقرآن: تبدأ سورة الكهف- كما في بعض السور الاخرى- بحمد اللَّه، وبما أنّ الحمد يكون لأجل عمل أو صفة معينة مهمة ومطلوبة، لذا فإنّ الحمد هنا لأجل نزول القرآن الخالي من كل اعوجاج، فتقول الآية: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتبَ وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجًا».

هذا الكتاب هو كتاب ثابت ومحكم ومعتدل ومستقيم، وهو يحفظ المجتمع الإنساني ويحمي سائر الكتب السماوية.

«قَيّمًا». وينذر الظالمين من عذاب شديد: «لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ». وفي نفس الوقت فهو: «وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا». وهؤلاء في نعيمهم «مكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا».

ثم تشير الآيات إلى واحدة من انحرافات المعارضين، سواء كانوا نصارى أو يهود أو مشركين، حيث تنذرهم هذا الأمر فتقول: «وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا». فهي تحذّر النصارى بسبب اعتقادهم بأنّ المسيح ابن اللَّه، وتحذّر اليهود لأنّهم اعتقدوا بأنّ عزير ابن

اللَّه، وتحذّر المشركين لظنّهم بأنّ الملائكة بنات اللَّه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 123

ثم تشير الآيات إلى أصل أساسي في إبطال هذه الإدعاءات الفارغة فتقول: إنّ هؤلاء لا علم لهم ولا يقين بهذا الكلام، وإنّما هم مقلدون فيه للآباء، وإنّ آباءهم على شاكلتهم في الجهل وعدم العلم: «مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِأَبَائِهِمْ». ومع ذلك فإنّهم يتفوّهون بكلام رهيب «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ». فهل يعقل أن يكون اللَّه جسماً أو يكون له ولد، أو أن يحتاج إلى الصفات المادية وأن يكون محدوداً ... إنّه كلام رهيب، ومثل هؤلاء الذين يتفوّهون به لا ينطقون إلّاكذباً: «إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا».

«قيّم»: على وزن كلمة «سيّد» مشتقة من مصدر الكلمة «قيام» وهنا تأتي بمعنى (الثبات والصمود) إضافة إلى أنّها هي وصف للقرآن في عدم وجود أي اعوجاج في آياته، بل إنّ في مضمونها تأكيد على استقامة واعتدال القرآن، وخلوّه من أيّ شكل من أشكال التناقض، وإشارة إلى أبدية وخلود هذا الكتاب السماوي العظيم، وكونه أسوة لحفظ الأصالة، وإصلاح الخلل، وحفظ الأحكام الإلهية والعدل والفضائل البشرية.

صفة «القيّم»: مشتقة من «قيمومة» الباري عزّ وجل التي تعني اهتمام الباري عزّ وجل وحفظه جميع الكائنات، والقرآن الذي هو كلام اللَّه له نفس الصفة أيضاً.

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَ إِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً (8)

العالم ساحة اختبار: الآيات السابقة كانت تتحدّث عن الرسالة وقيادة النبي صلى الله عليه و آله، لذا فإنّ أوّل آية نبحثها الآن، تشير إلى أحد أهم شروط القيادة، ألا وهي الإشفاق على الامّة فتقول: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ

إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا».

وهنا يجب الإنتباه إلى بعض الملاحظات:

«باخع»: من «بخع» على وزن «نخل» وهي بمعنى إهلاك النفس من شدّة الحزن والغم.

استخدام كلمة «حديث» للتعبير عن القرآن، هو إشارة إلى ما ورد من معارف جديدة في هذا الكتاب السماوي الكبير.

الآية التي بعدها تجسّد وضع هذا العالم وتكشف عن أنّه ساحة للاختبار والتمحيص

مختصر الامثل، ج 3، ص: 124

والبلاء، وتوضّح الخط الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان: «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا». لقد ملأنا العالم بأنواع الزينة، بحيث إنّ كل جانب فيه يذهب بالقلب، ويحيّر الأبصار، ويثير الدوافع الداخلية في الإنسان، كيما يتسنى امتحانه في ظلّ هذه الإحساسات والمشاعر ووسط أنواع الزينة وأشكالها، لتظهر قدرته الإيمانية، ومؤهّلاته المعنوية.

لذلك تضيف الآية مباشرة قوله تعالى: «لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا».

إنّ هنا إنذار لكل الناس، لكل المسلمين كي لا ينخدعوا في ساحة الاختبار بزينة الحياة الدنيا، وبدلًا من ذلك عليهم أن يفكّروا بتحسين أعمالهم.

ثم يبيّن تعالى أنّ أشياء الحياة الدنيا ليست ثابتة ولا دائمة، بل مصيرها إلى المحو والزوال:

«وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا».

«صعيد»: مشتقة من «صعود» وهي هنا تعني وجه الأرض، الوجه الذي يتّضح فيه التراب؛ و «جرز»: تطلق على الأرض الموات بسبب الجفاف وقلّة المطر.

إنّ المنظر الذي نشاهده في الربيع في الصحاري والجبال لا تبقى إذ لابدّ أن يأتي الخريف، وتسكت فيها نغمة الحياة.

حياة الإنسان المادية تشبه هذا التحوّل، فلا بدّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يضع نهاية للقصور التي تناطح السماء، وللملابس الباذخة والنعم الكثيرة التي يرفل بها الإنسان، كذلك تنتهي المناصب والمواقع والإعتبارات، وسوف لن يبقى شي ء من المجتمعات البشرية سوى القبور الساكنة اليابسة، وهذا درس عظيم.

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كَانُوا

مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً (12)

أسباب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّ النضر بن الحرث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط

مختصر الامثل، ج 3، ص: 125

أنفذهما قريش إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهما: سلاهم عن محمّد وصِفا لهم صفته، وخبّراهم بقوله فإنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا. فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن النبي صلى الله عليه و آله وقالا لهم ما قالت قريش. فقال لهما أحبار اليهود: إسألوه عن ثلاث فإن أخبركم بهنّ فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فرأوا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان من أمرهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو؟

وفي رواية اخرى قالوا: فإن أخبركم عن اثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبي.

فانصرفا إلى مكة فقالا: يا معشر قريش! قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمّد وقصّا عليهم القصّة. فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه و آله فسألوه، فقال صلى الله عليه و آله: «اخبركم بما سألتم عنه غداً» ولم يستثن فانصرفوا عنه، فمكث صلى الله عليه و آله خمس عشرة ليلة لا يحدث اللَّه إليه في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل حتى أرجف أهل مكة وتكلّموا في ذلك. فشقّ على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما يتكلم به أهل مكة

عليه، ثم جاءه جبرائيل عليه السلام عن اللَّه سبحانه بسورة الكهف، وفيها ما سألوه عنه عن أمر الفتية والرجل الطوّاف، وأنزل عليه: «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» الآية.

التّفسير

بداية قصة أصحاب الكهف: في الآيات السابقة كانت هناك صورة للحياة الدنيا، وكيفية اختبار الناس فيها، ومسير حياتهم عليها، ولأنّ القرآن غالباً ما يقوم بضرب الأمثلة للقضايا الحساسة، أو أنّه يذكر نماذج من التاريخ لتجسيد الوعي بالقضية، لذا قام في هذه السورة بتوضيح قصة أصحاب الكهف، وعبّرت عنهم الآيات بأنّهم (أنموذج) أو (أسوة).

إنّهم مجموعة من الفتية الأذكياء المؤمنين، الذين كانوا يعيشون في ظل حياة مترفة بالزينة وأنواع النعم، إلّاأنّهم انسلخوا من كل ذلك لأجل حفظ عقيدتهم وللصراع ضدّ الطاغوت- طاغوت زمانهم- وذهبوا إلى غار خال من جميع أشكال الزينة والنعم، وقد أثبتوا بهذا المسلك أمر استقامتهم في سبيل الإيمان والثبات عليه.

في البداية يقول تعالى: «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحبَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِن ءَايَاتِنَا عَجَبًا».

إنّ لنا آيات أكثر عجباً في السماوات والأرض، وإنّ كل واحد منها نموذج لعظمة الخالق جلّ وعلا، وفي حياتكم- أيضاً- أسرار عجبية تعتبر كل واحدة منها علامة على صدق دعوتك، وفي كتابك السماوي الكبير آيات عجيبة كثيرة، وبالطبع فإنّ قصة أصحاب الكهف ليست بأعجب منها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 126

«الرقيم»: في الأصل مأخوذة من «رقم» وتعني الكتابة، وهو اسم ثان لأصحاب الكهف، لأنّه في النهاية تمّت كتابة أسمائهم على لوحة وضعت على باب الغار.

البعض يرى أنّ «الرقيم» اسم الجبل الذي كان فيه الغار.

ثم تقول الآيات بعد ذلك: «إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ» وعندما انقطعوا عن كل أمل توجّهوا نحو خالقهم: «فَقَالُوا رَبَّنَا ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً». ثم: «وَهَيّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا».

أي: أرشدنا إلى طريق ينقذنا من هذا

الضيق ويقرّبنا من مرضاتك وسعادتك، الطريق الذي فيه الخير والسعادة وإطاعة أوامر اللَّه تعالى. وقد إستجيبت دعوتهم: «فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا». «ثُمَّ بَعَثْنهُمْ لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا».

بحوث

1- جملة «أَوَى الْفِتْيَةُ» من مادة (مأوى) وتعني المكان الآمن، وهو إشارة إلى أنّ هؤلاء الفتية الهاربين من بيئتهم الفاسدة المنحرفة قد أحسّوا بالأمن عندما وصلوا إلى الغار.

2- «فتية»: جمع «فتى» وهو الشاب الحدث، ولكنها تطلق أحياناً على الأشخاص الكبار والمسنّين الذين يملكون روحية شابّة، وقد ذكرت هذه الكلمة مع نوع من الإشادة والمدح لأصحاب الكهف بسبب صفات الفتوة والشهامة والتسليم في مقابل الحق.

3- جملة «ضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ» كناية لطيفة عن (التنويم)، كأنّما يوضع ستار على أذن الشخص بحيث لا يسمع أيّ شي ء، وهو ستار النوم.

4- جملة «لِنَعْلَمَ ...» لا تعني أنّ اللَّه يريد أن يعلم شيئاً جديداً، ويكثر استخدام هذا التعبير في القرآن، والغرض منه هو تحقق العلم الإلهي، بمعنى نحن أيقظناهم من المنام حتى يتحقق هذا المعنى، أى حتى يسأل كل واحد الآخر عن مقدار نومهم.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَ رَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (16)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 127

القصة المفصلة لأصحاب الكهف: بعد أن ذكرت الآيات بشكل مختصر قصة أصحاب الكهف، بدأت

الآن مرحلة الشرح المفصل لها ضمن (14) آية وكان المنطلق في ذلك قوله تعالى: «نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقّ». كلام خال من أيّ شكل من أشكال الخرافة والتزوير. «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبّهِمْ وَزِدْنهُمْ هُدًى».

وتشير الآيات القرآنية- وما هو ثابت في التاريخ- إلى أنّ أصحاب الكهف كانوا يعيشون في بيئة فاسدة وزمان شاعت فيه عبادة الأصنام والكفر، وكانت هناك حكومة ظالمة تحمي مظاهر الشرك والكفر والإنحراف.

مجموعة أهل الكهف أحسّوا بالفساد وقرروا القيام ضدّ هذا المجتمع، وفي حال عدم تمكنهم من المواجهة والتغيير فإنّهم سيهجرون هذا المجتمع والمحيط الفاسد.

لذا يقول القرآن بعد البحث السابق: «وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلهًا».

فإذا عبدنا غيره: «لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا».

«شطط»: على وزن (وسط) تعني الخروج عن الحد والإفراط في الإبتعاد لذا فإنّ (شطط) تقال للكلام البعيد عن الحق، ويقال لحواشي وضفاف الأنهار الكبيرة (شط) لكونها بعيدة عن الماء، وكونها ذات جدران مرتفعة.

إنّ هؤلاء الفتية المؤمنين ذكروا دليلًا واضحاً لإثبات التوحيد ونفي الآلهة، وهو قولهم:

إنّنا نرى وبوضوح أنّ لهذه السماوات والأرض خالقاً واحداً، وأنّ نظام الخلق دليل على وجوده، وما نحن إلّاجزء من هذا الوجود، لذا فإنّ ربّنا هو نفسه ربّ السماوات والأرض.

ثم ذكروا دليلًا آخر وهو: «هؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً».

فهل يمكن الإعتقاد بشي ء بدون دليل وبرهان؟: «لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطنٍ بَيّنٍ».

وهل يمكن أن يكون الظن أو التقليد الأعمى دليلًا على مثل هذا الإعتقاد؟ ما هذا الظلم الفاحش والإنحراف الكبير: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا».

وهذا الإفتراء هو ظلم للنفس، لأنّ الإنسان يستسلم حينئذ لأسباب السقوط والشقاء، وهو أيضاً ظلم بحق المجتمع الذي تسري فيه هذه الانحرافات، وأخيراً هو ظلم

للَّه وتعرّض لمقامه العظيم سبحانه وتعالى.

هؤلاء الفتية الموحدون قاموا بما يستطيعون لإزالة صدأ الشرك عن قلوب الناس،

مختصر الامثل، ج 3، ص: 128

وزرع غرسة التوحيد في مكانها، إلّاأنّ ضجة عبادة الأصنام في ذلك المحيط الفاسد، وظلم الحاكم الجبار كانتا من الشدّة بحيث حبستا أنفاس عبادة اللَّه في صدورهم وانكمشت همهمات التوحيد في حناجرهم. وهكذا اضطروا للهجرة لانقاذ أنفسهم والحصول على محيط أكثر استعداداً وقد تشاوروا فيما بينهم عن المكان الذي سيذهبون إليه ثم كان قرارهم: «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ». حتى: «يَنشُرَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِرْفَقاً».

«يهيّى ء»: مشتقة من «تهيئة» بمعنى الإعداد.

«مرفق»: تعني الوسيلة التي تكون سبباً للطف والرفق والراحة.

وليس من المستبعد أن يكون (نشر الرحمة) الوارد في الجملة الاولى إشارة إلى الألطاف المعنوية للَّه تبارك وتعالى، في حين أنّ الجملة الثانية تشير إلى الجوانب المادية التي تؤدّي إلى خلاصهم ونجاتهم.

وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَ إِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً (17) وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَ ذَاتَ الشِّمَالِ وَ كَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)

مكان أصحاب الكهف: يشير القرآن في الآيتين أعلاه إلى التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالحياة العجيبة لأصحاب الكهف في الغار، وكأنّها تحكى على لسان شخص جالس في مقابل الغار ينظر إليهم. في هاتين الآيتين إشارة إلى ستّ خصوصيات هي:

أوّلًا: فتحة الغار كانت باتجاه الشمال، ولكونه في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية، فإنّ ضوء الشمس كان لا

يدخل الغار بشكلٍ مباشر، فالقرآن يقول إنّك إذا رأيت الشمس حين طلوعها لرأيت أنّها تطلع من جهة يمين الغار، وتغرب من جهة الشمال: «وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 129

طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ».

وعلى هذا الأساس لم يكن ضوء الشمس يصل إلى أجسادهم بشكل مباشر، وهو أمر لو حصل فقد يؤدّي إلى تلف أجسادهم، ولكن الأشعة غير المباشرة كانت تدخل الغار بمقدار كاف.

إنّ عبارة (تزاور) التي تعني (التمايل) تؤكّد على هذا المعنى، وكأنّ الشمس كانت مأمورة بأن تمرّ من اليمين (يمين الغار). وكلمة «تقرض»: التي تعني (القطع) تؤكّد نفس مفهوم السابق.

ثانياً: «وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ».

لقد كان اولئك في مكان واسع من الغار، وهذا يدل على أنّهم لم يأخذوا مستقرّهم في فتحة الغار التي تتسم بالضيق عادة، بل إنّهم انتخبوا وسط الغار مستقراً لهم كي يكونوا بعيدين عن الأنظار، وبعيدين أيضاً عن الأشعة المباشرة لضوء الشمس.

وهنا يقطع القرآن تسلسل الكلام ويستنتج نتيجة معنوية، حيث يبيّن أنّ الهدف من ذكر هذه القصة هو لتحقيق هذا الغرض: «ذلِكَ مِنْ ءَايتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا».

نعم، إنّ الذين يضعون أقدامهم في طريق اللَّه، ويجاهدون لأجله فإنّ اللَّه سيشملهم بلطفه في كل خطوة وليس في بداية العمل فقط. إنّ اللَّه يرعى هؤلاء حتى في أدق التفاصيل.

ثالثاً: إنّ نوم أصحاب الكهف لم يكن نوماً عادياً: «وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ».

هذه الحالة الاستثنائية لكي لا تقترب منهم الحيوانات المؤذية التي تخاف الإنسان اليقظ، أو لكي يكون شكلهم مرعباً كي لا يتجرأ إنسان على الإقتراب منهم، وهذا بنفسه اسلوب للحفاظ عليهم.

رابعاً: وحتى لا تتهرأ أجسامهم بسبب السنين الطويلة التي مكثوا

فيها نياماً في الكهف، فإنّ اللَّه تبارك وتعالى يقول: «وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ».

حتى لا يتركز الدم في مكان معين، ولا تكون هناك آثار سيئة على العضلات الملاصقة للأرض بسبب الضغط عليها لمدة طويلة.

خامساً: في وصفٍ جديد يقول تعالى: «وَكَلْبُهُم بسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 130

«وصيد»: كما يقول الراغب في المفردات، تعني في الأصل الغرفة أو المخزن الذي يتمّ إيجاده في الجبال لأجل خزن الأموال، إلّاأنّ المقصود به هنا هو فتحة الغار.

سادساً: قوله تعالى: «لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا».

وَ كَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)

اليقظة بعد نوم طويل: سوف نقرأ في الآيات القادمة أنّ نوم أصحاب الكهف كان طويلًا للغاية بحيث استمر (309) سنة، وعلى هذا الأساس كان نومهم أشبه بالموت، ويقظتهم أشبه بالبعث، لذا فإنّ القرآن يقول في الآيات التي نبحثها: «وَكَذلِكَ بَعَثْنهُمْ».

يعني مثلما كنّا قادرين على إنامتهم نوماً طويلًا فإنّنا أيضاً قادرون على إيقاظهم. لقد أيقظناهم من النوم، «لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ». «قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ».

وأخيراً، بسبب عدم معرفتهم لمقدار نومهم، «قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ».

ولكنّهم كانوا يحسّون بالجوع وبالحاجة الشديدة إلى الطعام، لأنّ المخزون الحيوي في جسمهم انتهى أو كاد، لذا فأوّل اقتراح لهم هو إرسال واحد منهم مع نقود ومسكوكات فضّية لشراء الغذاء: «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا

أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مّنْهُ». ثم أردفوا: «وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا». لماذا هذا التلطّف:

«إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ». ثم: «وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا».

وتوصيتهم هي توصية لكافة أنصار الحق، في أن لا يفكروا بطهارة غذائهم المعنوي وحسب، بل عليهم أيضاً الإهتمام بطهارة طعام الأجسام كي يكون زكيّاً نقيّاً من جميع الأرجاس والشبهات.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 131

وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَ لَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَ لَا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذَا رَشَداً (24)

نهاية قصة أصحاب الكهف: لقد وصلت بسرعة أصداء هجرة هذه المجموعة من الرجال المتشخّصين إلى كل مكان وأغاظت بشدّة الملك الظالم. لقد أصدر الحاكم تعليماته إلى جهاز شرطته للبحث عن أصحاب الكهف في كل مكان، وعليهم أن يتّبعوا آثارهم حتى إلقاء القبض عليهم ومعاقبتهم.

وقد يكون هذا الأمر- وهو قيام مجموعة من ذوي المناصب في الدولة بترك مواقعهم العالية في الدولة وتعريض أنفسهم للخطر- هو بحدّ ذاته سبباً ليقظة الناس ومصدراً لوعيهم، أو لوعي قسم منهم على الأقل.

إنّ قصة هؤلاء النفر قد استقرّت في صفحات التاريخ وأخذت الأجيال والأقوام تتناقلها عبر مئات السنين.

والآن لنعد إلى الشخص

المكلّف بشراء الطعام ولننظر ماذا جرى له.

لقد دخل المدينة ولكنه فغر فاه من شدّة التعجب، فالشكل العام للبناء قد تغيّر، هندام الجميع ولباسهم غريب عليه، الملابس من طراز جديد، خرائب الأمس تحوّلت إلى قصور، وقصور الأمس تحوّلت إلى خرائب.

إنّه لا يزال يعتقد بأنّ نومهم في الغار كان ليوم أو بعض يوم.

لقد انتهى عجبه عندما مدّ يده إلى جيبه ليسدّد مبلغ الطعام الذي اشتراه، فالبائع وقع

مختصر الامثل، ج 3، ص: 132

نظره على قطعة نقود ترجع في قدمها إلى (300) سنة، وقد يكون اسم (دقيانوس) الملك الجبار مكتوباً عليها، وعندما طلب منه توضيحاً قال له بأنّه حصل عليها حديثاً.

وهنا أحسّ الشخص بأنّه وأصحابه كانوا في نوم عميق وطويل.

هذه القضية كان لها صدى كالقنبلة في المدينة، وقد انتقلت عبر الألسن إلى جميع الأماكن. فقسم منهم لم يكن قادراً على التصديق بأنّ الإنسان يمكن أن يعود للحياة بعد الموت، إلّاأنّ قصة أصحاب الكهف أصبحت دليلًا قاطعاً لُاولئك الذين يعتقدون بالمعاد الجسماني. ولذا فإنّ القرآن يبيّن أنّنا كما قمنا بإنامتهم نقوم الآن بإيقاظهم حتى ينتبه الناس:

«وَكَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ». ثم أضاف تعالى: «وَإِنَّ السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيهَا».

إنّ هذه الإنامة والإيقاظ هي أكثر إثارة للعجب من الموت والحياة في بعض جوانبهما، فمن جهة قد مرّت عليهم مئات السنين وهم نيام وأجسامهم لم تفن أو تتأثّر، وقد بقوا طوال هذه المدّة بدون طعام أو شراب، إذن كيف بقوا أحياءً طيلة هذه المدّة؟

أليس هذا دليلًا قاطعاً على قدرة اللَّه على كل شي ء؟ فالحياة بعد الموت، بعد مشاهدة هذه القضية ممكنة حتماً.

بعض المؤرخين كتب يقول: إنّ الشخص الذي أرسل لتهيئة الطعام وشرائه، عاد بسرعة إلى الكهف وأخبر رفقاءه بما جرى، وقد

تعجّب كل منهم، فطلبوا من الخالق جلّ وعلا أن يميتهم، وينتقلون بذلك إلى جوار رحمته، وهذا ما حدث.

لقد ماتوا ومضوا إلى رحمة ربّهم، وبقيت أجسادهم في الكهف عندما وصله الناس.

وهنا حدث النزاع بين أنصار المعاد الجسماني وبين من لم يعتقد به، فالمعارضون للمعاد كانوا يريدون أن تنسى قضية نوم ويقظة أصحاب الكهف بسرعة، كي يسلبوا أنصار المعاد الجسماني هذا الدليل القاطع، لذا فقد اقترح هؤلاء أن تغلق فتحة الغار، حتى يكون الكهف خافياً إلى الأبد عن أنظار الناس. قال تعالى: «إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا».

ولأجل إسكات الناس عن قصّتهم كانوا يقولون: لا تتحدثوا عنهم كثيراً، إنّ قضيتهم معقّدة ومصيرهم محاط بالألغاز. لذلك فإنّ: «رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ». أي: اتركوهم وشأنهم واتركوا الحديث عن قصّتهم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 133

أمّا المؤمنون الحقيقيون الذين عرفوا حقيقة الأمر واعتبروه دليلًا حيّاً لإثبات المعاد بعد الموت، فقد جهدوا على أن لا تنسى القصة أبداً لذلك اقترحوا أن يتّخذوا قرب مكانهم مسجداً، وبقرينة وجود المسجد فإنّ الناس سوف لن ينسوهم أبداً، بالإضافة إلى ما يتبرّك به الناس من آثارهم: «قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا».

الآية التي بعدها تشير إلى بعض الإختلافات الموجودة بين الناس حول أصحاب الكهف، فمثلًا تتحدّث الآية عن اختلافهم في عددهم فتقول: «سَيَقُولُونَ ثَلثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ». وبعضهم «وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ». وذلك منهم «رَجْمًا بِالْغَيْبِ».

وبعضهم «وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ». أمّا الحقيقة فهي: «قُلْ رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم».

ولذلك «مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ».

إنّ عدد أصحاب الكهف الحقيقي هو سبعة، حيث إنّ القرآن بعد ذكر الأقوال الباطلة، أبان في الأخير العدد الحقيقي لهم.

إنّ الآية تنتهي بنصيحة تحثّ على عدم الجدال حولهم إلّاالجدل القائم على أساس المنطق والدليل: «فَلَا

تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظهِرًا». بمعنى قل لهم قولًا منطقيّاً بحيث تتوضّح رجحان منطقك.

إنّ مفهوم الكلام هو: عليك أن تتحدث معهم بالإعتماد على الوحي الإلهي، لأنّ أقوى الأدلة هو ما يصدر عن الوحي دون غيره: «وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا».

الآية التي بعدها تعطي توجيهاً عاماً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاىْ ءٍ إِنّى فَاعِلٌ ذلِكَ غَدًا». «إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ». يعني يجب أن تقول (إن شاء اللَّه) لكل ما يخصّ أخبار المستقبل وأحداثه ولكل تصميم تتخذه، لأنّك أوّلًا غير مستقل في اتّخاذ القرارات، وإذا لم يشأ اللَّه فإنّ كائناً من كان لا يستطيع القيام بأيّ عمل.

ثانياً: لا يصح للإنسان- من الوجهة المنطقية- أن يقطع في أخباره المستقبلية ومواقفه وتصميماته، لأنّ قدرته محدودة مع احتمال ظهور الموانع المختلفة، لذلك الأفضل له ذكر جملة (إن شاء اللَّه) مع كل تصميم لفعل شي ء.

وبعد ذلك يقول القرآن: «وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ». وهذه إشارة إلى أنّ الإنسان إذا نسي قول (إن شاء اللَّه) وهو يتحدث عن أمر مستقبلي، فعليه أن يقولها فور تذكّره، حيث يعوّض بذلك عما مضى منه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 134

وبعد ذلك جاء قوله تعالى: «وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبّى لِأَقْرَبَ مِنْ هذَا رَشَدًا».

وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)

نوم أصحاب الكهف: من القرائن الموجودة في الآيات السابقة نفهم إجمالًا أنّ نوم أصحاب الكهف كان طويلًا

جدّاً. هذا الموضوع يثير غريزة الاستطلاع عند كل مستمع، إذ يريد أن يعرف كم سنة بالضبط استمرّ نومهم؟

في المقطع الأخير من مجموعة الآيات التي تتحدث عن أصحاب الكهف، تبعد الآيات الشك عن المستمع وتقول له: «وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ ثَلثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا».

ووفقاً للآية فإنّ مجموع نومهم وبقائهم في الكهف هو (309) سنة.

ومن أجل وضع حدّ لأقاويل الناس حول مكثهم في الكهف تؤكّد الآية: «قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا». لماذا؟ لأنّ: «لَهُ غَيْبُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

والذي يعرف خفايا وظواهر عالم الوجود ويحيط بها جميعاً، كيف لا يعرف مدّة بقاء أصحاب الكهف: «أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ» «1». ولهذا السبب فإنّ سكّان السماوات والأرض: «مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىّ».

وفي نهاية الآية يأتي قوله تعالى: «وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا». هذا الكلام هو تأكيد على الولاية المطلقة للخالق جلّ وعلا.

وفي آخر آية يتوجّه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه و آله ويقول اللَّه له: «وَاتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ». أي: لا تعر أيّة أهمية إلى أقوال الآخرين المخلوطة بالكذب والخرافة والوضع، يجب أن يكون اعتمادك في هذه الامور على الوحي الإلهي فقط، لأنّه لا يوجد شي ء يستطيع أن يغيّر كلامه تعالى: «لَامُبَدّلَ لِكَلِمتِهِ». فكلام اللَّه تعالى وعلمه ليس من سنخ علم

______________________________

(1) جملة «أبْصِرْ بِهِ وَأسْمِعْ» هي صيغة تعجب، تبيّن لنا عظمة علم الخالق جلّ وعلا، والمعنى أنّه بصير سميع بحيث إنّ الإنسان يعجب من ذلك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 135

الإنسان الذي يخضع يوميّاً للتغيّر والتبديل بسبب الإكتشافات الجديدة والمعرفة الحديثة، لذلك لا يمكن الإعتماد عليه والركون إليه مائة في المائة، ولهذه الأسباب: «وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا». «ملتحد»: مشتقة من «لحد» على وزن «مهد» وهي الحفرة التي يميل

وسطها إلى أحد الأطراف (كاللّحد الذي يحفر لقبر الإنسان).

الجوانب التربوية لقصّة أهل الكهف: هذه القصّة التأريخية العجيبة التي يذكرها القرآن خالية من أيّ خرافة أو وضع، وفيها العديد من الدروس التربوية البنّاءة، تماماً كما في قصص القرآن الاخرى.

أ) إنّ أوّل دروس هذه القصة هو تحطيم حاجز التقليد، والإبتعاد عن التلوّن بلون المجتمع الفاسد.

ب) الهجرة من الأوساط المنحرفة درس آخر في هذه القصة ذات العبر.

ج) التقية بمعناها البنّاء درس آخر نستفيده من هذه القصة.

ونحن نعرف أنّ التقية ليست سوى أن يتكتّم الإنسان على حقيقة أمره في الأماكن والمواقف التي لا يرتجي منها فائدة في ذكر الحقيقة، بل تكون سبباً للضرر، والتقية وقاية للنفس واحتفاظ بقوة الإنسان لوقت جهاد العدو حيث لا تقية.

د) عدم وجود تفاوت بين الناس وهم في طريق اللَّه، فالوزير كان إلى جانب الراعي، بل كان الاثنان إلى جانب الكلب الذي كان يقوم بالحراسة، وهذا درس آخر يتّضح من خلاله أنّ إمتيازات الدنيا المادية، والمناصب المختلفة ليس لها أدنى نصيب أو تأثير على تصنيف الناس من أهل الحق وسالكيه، إذ الكل فيه سواء ... إنّ طريق الحق هو طريق التوحيد، وطريق التوحيد هو طرق وحدة جميع الناس.

ه) الإمدادات الإلهية العجيبة عند ظهور المشاكل، هي نتيجة اخرى يجب الاعتبار بها.

و) لقد تعلّمنا من أصحاب الكهف قيمة (طهارة الطعام) حتى في أصعب الظروف وأدقّها، لأنّ طعام الإنسان له آثار عميقة في روحه وفكره وقلبه، وعندما يختلط الطعام بالحرام والنجاسة، يبتعد الإنسان عن طريق اللَّه؛ طريق التقوى.

ز) ضرورة الاعتماد على مشيئة اللَّه وطلب العون من لطفه تعالى: وقول (إن شاء اللَّه) في كل ما يتعلق بامور المستقبل ... درس آخر نتعلّمه من قصة أصحاب الكهف.

ح) ضرورة النقاش

المنطقي مع المعارضين درسٌ آخر نستفيده من قصة أصحاب الكهف.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 136

ط) وأخيراً، فإنّ إمكانية المعاد الجسماني وعودة الناس إلى الحياة مرّة اخرى عند البعث، يعتبر عاشر وآخر درس نستفيده من هذه القصّة.

إنّ هدف القرآن ليس قصّ القصص لغرض التسلية، بل بناء الناس المقاومين المؤمنين الشجعان الواعين، وأحد الطرق لذلك هو ذكر نماذج أصيلة مما حدث طوال التاريخ البشري الملي ء بالحوادث والمواقف.

وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ لَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَ كَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَ سَاءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ يَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت الآية الاولى في سلمان، وأبي ذر، وصهيب، وعمار، وخباب، وغيرهم من فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه و آله وذلك أنّ مؤلفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: يا رسول اللَّه! إن جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء روائح صنانهم وكانت عليهم جبات الصوف، جلسنا نحن إليك، وأخذنا عنك، فلا يمنعنا من الدخول عليك إلّا هؤلاء.

فلمّا نزلت الآية قام النبي صلى الله عليه و

آله يلتمسهم فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون اللَّه عزّ وجل، فقال: «الحمد للَّه الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 137

التّفسير

الحفاة الأطهار: من الدروس التي نستفيدها من قصة أصحاب الكهف أنّ مقياس قيمة البشر ليست بالمنصب الظاهري أو بالثروة، بل عندما يكون المسير في سبيل اللَّه يتساوى الوزير والراعي، والآيات التي نبحثها تؤكّد هذه الحقيقة المهمة وتعطي للرسول صلى الله عليه و آله هذا الأمر: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ».

ثم تستمر الآيات مؤكّدة خطابها للرسول صلى الله عليه و آله: «وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا» فلا تنظر إلى هؤلاء المستكبرين بدل المستضعفين من أجل بهارج الدنيا وزخارفها.

ثم من أجل التأكيد مجدداً، يقول تعالى: «وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا». «وَاتَّبَعَ هَوَيهُ» والمطيع لأهوائه النفسية، والمفرط في أفعاله دائماً «وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا» «1».

إنّ الموضوع أعلاه من الأهمية بمكان، بحيث إنّ القرآن يقول للرسول صلى الله عليه و آله- بصراحة- في الآية التي بعدها: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ».

ولكن اعلموا أنّ هؤلاء عباد الدنيا الذين يسخرون من الألبسة الخشنة التي يرتديها أمثال سلمان وأبي ذر خاصة، والذين يعيشون حياة مرفّهة باذخة ومليئة بالزينة، ستنتهي عاقبتهم إلى سوء وظلام وعذاب: «إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا».

نعم، إنّهم كانوا إذا عطشوا في هذه الدنيا كان الخدم يجلبون لهم أنواع المشروبات، ولكنّهم عندما يطلبون الماء في جهنم يؤتى إليهم بماء كالمهل: «وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ» «2». «بِئْسَ الشَّرَابُ». ثم «وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا» «3».

وفي هذه الدنيا تتوفر لديهم أنواع المشروبات التي تحضر بين

أيديهم بمجرد مناداة الساقي، وفي جهنم يوجد أيضاً ساقٍ وأشربة، أمّا ما هو نوع الشراب؟ إنّه ماء كالمعدن المذاب! حرارته كحرارة دموع اليتامى وآهات المستضعفين والفقراء الذين ظلمهم هؤلاء الأغنياء. نعم، إنّ كل ما هو موجود هناك (في الآخرة) هو تجسيد لما هو موجود هنا (في الدنيا).

وبما أنّ اسلوب القرآن اسلوب تربوي وتطبيقي، فإنّه بعدما بيّن أوصاف وجزاء عبيد

______________________________

(1) «فرط»: تعني التجاوز عن الحد، وكل شي ء يخرج عن حدّه ويتحول إلى إسراف يقال له (فُرط).

(2) «مُهل»: على وزن «قفل» وهي تعني أي معدن مُذاب.

(3) «مُرتفق»: من كلمة «رَفق ورفيق» بمعنى محل اجتماع الأصدقاء.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 138

الدنيا، ذكر حال المؤمنين الحقيقيين وجوائزهم الثمينة الغالية التي تنتظرهم جزاء ما فعلوا.

لقد أجملت الآية كل ذلك بشكلٍ مختصر، ثم بشكلٍ تفصيلي نوعاً مّا. ففي البدء قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَانُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا». أي: إنّنا لا نضيع أعمال العاملين قليلة كانت أو كثيرة، كلية أو جزئية، ومن أي شخص وفي أي عمرٍ كان:

«أُولئِكَ لَهُمْ جَنتُ عَدْنٍ». (الجنات الخالدة).

«تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهرُ». (من تحت الأشجار والقصور).

«يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ» «1».

«وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ». (من حرير ناعم وسميك).

«مُّتَّكِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ» «2».

«نِعْمَ الثَّوَابُ». «وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا». (وحسنت مجمعاً للأحبّة).

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَ حَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً (33) وَ كَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَ هُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً (34) وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَ

مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً (36)

تجسيد لموقف المستكبرين من المستضعفين: في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ عبيد الدنيا كانوا يحاولون الإبتعاد في كل شي ء عن رجال الحق وأهله المستضعفين، ثم عرّفتنا الآيات جزاءهم في الحياة الاخرى. الآيات التي نبحثها تشير إلى حادثة اثنين من الأصدقاء أو الإخوة الذين يعتبر كل واحدٍ منهم نموذجاً لإحدى المجموعتين، ويوضّحان طريقة تفكير وقول وعمل هاتين المجموعتين. في البداية تخاطب الآيات الرسول صلى الله عليه و آله

______________________________

(1) «أساور»: جمع «أسورة» على وزن «مشورة» وهي بدورها جمع (سوار) على وزن (غبار) و (كتاب) وهي في الأصل مأخوذة من كلمة فارسية عُرّبت واشتقت منها الأفعال العربية.

(2) «أرائك»: جمع «أريكة» وتطلق على السرير الذي تكون جوانبه جميعاً مغطاة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 139

فتقول: «وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنبٍ وَحَفَفْنهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا».

البستان والمزرعة كان فيهما كل شي ء: العنب والتمر والحنطة وباقي الحبوب، لقد كانت مزرعة كاملة ومكفية من كل شي ء: «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مّنْهُ شَيًا».

والأهم من ذلك هو توفّر الماء الذي يعتبر سرّ الحياة، وأمراً مهماً لا غنى للبستان والمزرعة عنه، وقد كان الماء بقدر كاف: «وَفَجَّرْنَا خِللَهُمَا نَهَرًا».

على هذا الأساس كانت لصاحب البستان كل أنواع الثمار: «وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ».

ولأنّ الدنيا قد استهوته فقد أصيب بالغرور لضعف شخصيته وشعر بالأفضلية والتعالي على الآخرين، حيث إلتفت وهو بهذه الحالة إلى صاحبه: «فَقَالَ لِصحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا».

لقد تضخّم هذا الإحساس ونما تدريجياً- كما هو حاله- ووصل صاحب البستان إلى حالة بدأ يظن معها أنّ هذه الثروة والمال والجاه والنفوذ إنّما هي امور أبدية، فدخل

بغرور إلى بستانه (في حين أنّه لا يعلم بأنّه يظلم نفسه) ونظر إلى أشجاره الخضراء التي كادت أغصانها أن تنحني من شدّة ثقل الثمر، وسمع صوت الماء الذي يجري في النهر القريب من البستان والذي كان يسقي أشجاره، وبغفلة قال: لا أظن أن يفنى هذا البستان، وبلسان الآية وتصوير القرآن الكريم: «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا».

بل عمد إلى ما هو أكثر من هذا، إذ بما أنّ الخلود في هذا العالم بتعارض مع البعث والمعاد، لذا فقد فكّر في إنكار القيامة وقال: «وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً». وهذا كلام يعكس وهم قائله وتمنّياته.

ثم أضاف: حتى لو فرضنا وجود القيامة فإنّي بموقعي ووجاهتي سأحصل عند ربي- إذا ذهبت إليه- على مقام وموقع أفضل، لقد كان غارقاً في أوهامه: «وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا».

لقد أخذ صاحب البستان ضمن الحالة النفسية التي يعيشها والتي صوّرها القرآن الكريم، يضيف إلى نفسه في كل فترة وهماً بعد آخر من أمثال ما حكت عنه الآيات آنفاً، وعند هذا الحد انبرى له صديقه المؤمن وأجابه بكلمات يشرحهما لنا القرآن الكريم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 140

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَ هُوَ يُحَاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَ لَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَ لَوْ لَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَ وَلَداً (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ يُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)

جواب المؤمن: هذه الآيات

هي ردّ على ما نسجه من أوهام ذلك الغني المغرور العديم الإيمان، نسمعها تجري على لسان صاحبه المؤمن. لقد بدأ الكلام بعد أن ظلّ صامتاً يستمع إلى كلام ذلك الرجل ذي الأفق الضيّق والفكر المحدود، حتى ينتهي من كلامه، ثم قال له:

«قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّيكَ رَجُلًا».

ثم عمد الرجل الموحد المؤمن إلى تحطيم كفر وغرور ذلك الرجل (صاحب البستان) فقال: «لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبّى».

إنّك تتباهى بدنياك وأنا أفتخر بعقيدتي وإيماني وتوحيدي: «وَلَا أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا».

وبعد أن أشار إلى قضية التوحيد والشرك اللذّين يعتبران من أهم المسائل المصيرية، جدّد لومه لصاحبه قائلًا: «وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ».

وقد وضع سبحانه وتعالى الوسائل والإمكانات تحت تصرفك، حيث إنّك لا تملك شيئاً من عندك، وبدونه تكون لا شي ء.

ثم يقول له: ليس من المهم أن أكون أقل منك مالًا وولداً: «إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا». «فَعَسَى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ». وليس فقط أن يعطيني أفضل مما عندك، بل ويرسل صاعقة من السماء على بستانك، فتصبح الأرض الخضراء أرض محروقة جرداء:

«وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا».

أو أنّه سبحانه وتعالى يعطي أوامره إلى الأرض كي تمنعك الماء: «أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا».

«حُسبان»: على وزن «لقمان» وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «حساب»، ثم وردت

مختصر الامثل، ج 3، ص: 141

بعد ذلك بمعنى السهام التي تحسب عند رميها، وتأتي أيضاً بمعنى الجزاء المرتبط بحساب الأشخاص، وهذا هو ما تشير إليه الآية أعلاه.

«صعيد»: تعني القشرة التي فوق الأرض، وهي في الأصل مأخوذة من كلمة صعود.

«زلق»: بمعنى الأرض الملساء بدون أي نباتات بحيث إنّ

قدم الإنسان تنزلق عليها.

في الواقع، إنّ الرجل المؤمن والموحد حذّر صديقه المغرور أن لا يطمأن لهذه النعم، لأنّها جميعاً في طريقها إلى الزوال وهي غير قابلة للإعتماد.

وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَ هِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَا كَانَ مُنْتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَ خَيْرٌ عُقْباً (44)

العاقبة السوداء: أخيراً انتهى الحوار بين الرجلين دون أن يؤثّر الشخص الموحد المؤمن في أعماق الغني المغرور، الذي رجع إلى بيته وهو يعيش نفس الحالة الروحية والفكرية، وغافل أنّ الأوامر الإلهية قد صدرت بإبادة بساتينه ومزروعاته الخضراء، وأنّه وجب أن ينال جزاء غروره وشركه في هذه الدنيا، لتكون عاقبته عبرة للآخرين.

ويحتمل أنّ العذاب الإلهي قد نزل في تلك اللحظة من الليل عندما خيّم الظلام، على شكل صاعقة مميتة أو عاصفة هوجاء مخيفة، أو على شكل زلزال مخرّب ومدمّر. وأيّاً كان فقد دمّرت هذه البساتين الجميلة والأشجار العالية والزرع المثمر، حيث أحاط العذاب الإلهي بتلك المحصولات من كل جانب: «وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ».

«أحيط»: مشتقة من «إحاطة» وهي في هذه الموارد تأتي بمعنى (العذاب الشامل) الذي تكون نتيجته الإبادة الكاملة.

وعند الصباح جاء صاحب البستان وتدور في رأسه الأحلام العديدة ليتفقد ويستفيد من محصولات البستان، ولكنّه قبل أن يقترب منه واجهه منظر مدهش وموحش، يبس الماء في فمه، وتحطّم الكبرياء والغرور اللذان كانا يثقلان نفسه وعقله. كأنّه صحا من نوم عميق: «فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا».

وفي هذه اللحظة ندم على أقواله وأفكاره الباطلة: «وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا».

مختصر

الامثل، ج 3، ص: 142

والأكثر حزناً وأسفاً بالنسبة له هو ما أصبح عليه من الوحدة في مقابل كل هذه المصائب والإبتلاءات: «وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ».

ولأنّه فقد ما كان يملكه من رأس المال ولم يبق لديه شي ء آخر، فإنّ مصيره: «وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا».

وهكذا انتهي كل شي ء ولا ينفع الندم، لأنّ مثل هذه اليقظة الإجبارية التي تحدث عند نزول الإبتلاءات العظيمة يمكن ملاحظتها حتى عند أمثال فرعون ونمرود، وهي بلا قيمة، لهذا فإنّها لا تؤثّر على حال من ينتبه.

«هُنَالِكَ الْوَليَةُ لِلَّهِ الْحَقّ». نعم، لقد إتضح أنّ جميع النعم منه تعالى، وأنّ كل ما يريده تعالى يكون طوع إرادته، وأنّه بدون الاعتماد على لطفه لا يمكن إنجاز عمل: «هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا».

إذن، لو أراد الإنسان أن يحبّ أحداً ويعتمد على شي ء ما، أو يأمل بهديّة من شخص ما، فمن الأفضل أن يكون اللَّه سبحانه محطّ أنظاره، وموقع آماله، ومن الأفضل أن يتعلق بلطفه تعالى وإحسانه.

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمَالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَ خَيْرٌ أَمَلًا (46)

بداية ونهاية الحياة في لوحة حيّة: الآيات السابقة تحدثت عن عدم دوام نعم الدنيا، ولأنّ إدراك هذه الحقيقة في عمر (60- 80) سنة يعتبر أمراً صعباً بالنسبة للأفراد العاديين، لذا فإنّ القرآن قد جسّد هذه الحقيقة من خلال مثال حي ومعبّر كي يستيقظ الغافلون المغرورون من غفلتهم ونومهم عندما يشاهدون تكرار هذا الأمر عدة مرّات خلال عمرهم. يقول تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنهُ مِنَ السَّمَاءِ».

هذه القطرات الواهبة للحياة تسقط على الجبال والصحراء، وتعيد الحياة للبذور المستعدة الكامنة في الأرض المستعدة بدورها، لتبدأ حركتها التكاملية.

إنّ الطبقة الخارجية السميكة للبذور تلين قبال المطر، وتسمح للبراعم في الخروج منها، وأخيراً تشقّ هذه البراعم التراب وتخترقه، الشمس تشع، النسيم يهب، المواد الغذائية في الأرض تقدّم ما تستطيع، تتقوى البراعم بسبب عوامل الحياة هذه ثم تواصل نموّها، بحيث

مختصر الامثل، ج 3، ص: 143

- بعد فترة- نرى أنّ نباتات الأرض تتشابك فيما بينها: «فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ».

الجبل والصحراء يتحوّلان إلى قوّة حياتية دافعة، أمّا البراعم والفواكه والأوراد فإنّها تزيّن الأغصان، وكأنّ الجميع يضحك، يصرخون صراخ الفرح؛ يرقصون فرحاً.

لكن هذا الواقع الجذّاب لا يدوم طويلًا، حيث تهب رياح الخريف وتلقي بغبار الموت على النباتات، يبرد الهواء، وتشح المياه، ولا تمضي مدّة حتى يمسى ذلك الزرع الجميل الأخضر ذو الأغصان المورقة، ميتاً ويابساً: «فَأَصْبَحَ هَشِيمًا» «1».

تلك الأوراق التي لم تتمكن العواصف الهوجاء من فصلها عن الأغصان في فصل الربيع، قد أصبحت ضعيفة بدون روح بحيث إنّ أي نسيم يهب عليها يستطيع فصلها عن الأغصان ويرسلها إلى أيّ مكان شاء: «تَذْرُوهُ الرّيحُ» «2».

نعم: «وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ مُّقْتَدِرًا».

الآية التي بعدها تذكر وضع المال والثروة والقوة الإنسانية اللذين يعتبران ركنين أساسيين في الحياة الدنيا، حيث تقول: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا».

إنّ هذه الآية تشير إلى أهم قسمين في رأسمال الحياة حيث ترتبط الأشياء الاخرى بهما، إنّها تشير إلى (القوة الاقتصادية) و (القوة الإنسانية).

ثم يضيف القرآن: «وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا».

إنّ مفهوم (الباقيات الصالحات) يشمل كل فكره وقول وعمل صالح تدوم وتبقى آثاره وبركاته بين الأفراد والمجتمعات.

وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَ حَشَرْنَاهُمْ

فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَ عُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَ وُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَ لَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَ وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَ لَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)

______________________________

(1) «هشيم»: من «هشم» بمعنى محطّم، وهي هنا تطلق على النباتات المتيبسة والمتحطّمة.

(2) «تذروه»: من «ذرو» وتعني التشتيت.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 144

يا ويلتاه من هذا الكتاب: تعقيباً لما كانت تتحدّث به الآيات السابقة عن غرور الإنسان وإعجابه بنفسه، وما تؤدّي إليه هذه الصفات من إنكار للبعث والمعاد، ينصب المقطع الراهن من الآيات التي بين أيدينا على تبيان المراحل الممهدة للقيامة وفق الترتيب الآتي:

1- مرحلة ما قبل بعث الإنسان.

2- مرحلة البعث.

3- قسم من مرحلة ما بعد البعث.

الآية الاولى تذكّر الإنسان بمقدمات البعث والقيامة فتقول: إنّ إنهيار معالم الشكل الراهن للعالم هي أوّل مقدمات البعث، وسيتمّ هذا التغيير لشكل العالم من خلال مجموعة مظاهر، في الطليعة منها تسيير الجبال الرواسي وكل ما يمسك الأرض ويبرز عليها، حتى تبدو الأرض خالية من أيّ من المظاهر السابقة: «وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً».

هذه الآية تشير إلى حوادث قبيل البعث، وهي حوادث كثيرة جدّاً. والملاحظ أنّ السور القصار تتحدث عنها بشكل بارز في إطار حديثها عما بات يعرف اصطلاحاً ب «أشراط الساعة».

إنّ المستفاد من مجموعة تلك السور أنّ وجه العالم الراهن يتغيّر بشكل كلي حيث تتلاشى الجبال، وعلى حطام كل ذلك تظهر إلى الوجود سماء جديدة، وأرض جديدة، ليبدأ الإنسان حينئذ حياته الاخرى في مرحلة البعث والحساب.

بعد ذلك تضيف الآية قوله تعالى: «وَحَشَرْنهُمْ فَلَمْ

نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا».

«نغادر»: من «غدر» بمعنى الترك. ولذلك يقال للذي يخلف الوعد والميثاق ويتركه بأنّه «غدر» ويقال لمياه الامطار المتجمعة في مكان واحد ب «الغدير» لأنّها قد تركت هناك.

تؤكّد الآية الآنفة الذكر على أنّ المعاد هو حالة عامة لا يستثنى منها أحد.

الآية التي بعدها تتحدث عن كيفية بعث الناس فتقول: «وَعُرِضُوا عَلَى رَبّكَ صَفًّا». إنّ استخدام هذا التعبير قد يكون إشارة إلى حشر كل مجموعة من الناس تتشابه في أعمالها في صفٍ واحد؛ أو أنّ الجميع سيكونون في صف واحد دون أيّة إمتيازات أو تفاوت، وسوف يقال لهم: «لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ».

فليس ثمة كلام عن الأموال والثروات، ولا الذهب والزينة، ولا الإمتيازات والمناصب

مختصر الامثل، ج 3، ص: 145

المادية، ولا الملابس المختلفة، وليس هناك ناصر أو معين، ستعودون كمثل الحالة التي خلقناكم فيها أوّل مرّة، بالرغم من أنّكم كنتم تتوهمون عدم امكان ذلك: «بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا».

وذلك في وقت سيطرت فيه حالة الغرور عليكم بما أوتيتم من إمكانات مادية غفلتم معها عن الآخرة، وأصبحتم تفكّرون في حياتكم الدنيا وخلودها، وغفلتم عن نداء الفطرة فيكم.

ثم تشير الآيات إلى مراحل اخرى من يوم البعث والمعاد فتقول: «وَوُضِعَ الْكِتبُ».

هذا الكتاب الذي يحتوي على أحوال الناس بكل تفصيلاتها: «فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ». وذلك عندما يطّلعون على محتواه فتتجلى آثار الخوف والوحشة على وجوههم.

في هذه الأثناء يصرخون: «وَيَقُولُونَ يوَيْلَتَنَا مَالِ هذَا الْكِتبِ لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصهَا».

بالإضافة إلى الكتاب المكتوب ثمة دليل آخر: «وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا». وجدوا الحسنات والسيئات، الظلم والعدل، السلبيات والخيانات، كل هذه وغيرها وجدوها متجسّدة أمامهم.

في الواقع إنّهم يلاقون مصير أعمالهم: «وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا». الذي سيشملهم هناك هو- لا محالة-

ما قاموا به في هذه الحياة الدنيا، لذلك فلا يلومون أحداً سوى أنفسهم.

ترى ما مقدار ما يعكسه الإيمان بهذا اليوم- بهذه المحكمة بكلّ ما تتخلله من مشاهد ومواقف- على قضية تربية الإنسان ودفعه ليتحرك في خط الرسالة والاستقامة والابتعاد عن الشهوات. فهل يمكن أن يجمع الإنسان بين الذنب، وبين إيمانه ويقينه بهذا اليوم؟!

وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ مَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَ يَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً (53)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 146

لا تتخذوا الشياطين أولياء: لقد تحدّثت الآيات مرّات عدّة عن خلق آدم وسجود الملائكة له، وعدم انصياع إبليس. وقد قلنا: إنّ هذا التكرار يتضمن دروساً متعددة، وفي كل مقطع مكرّر هناك دروس وعبر جديدة.

ولأنّ الآيات السابقة ذكرت مثالًا واقعياً عن كيفية وقوف الأثرياء المستكبرين والمغرورين في مقابل الفقراء المستضعفين وتجسّد عاقبة عملهم، ولأنّ الغرور كان هو السبب الأصلي لإنحراف هؤلاء وانجرارهم إلى الكفر والطغيان، لذا فإنّ الآيات تعطف الكلام على قصة إبليس وكيف أبى السجود لآدم غروراً منه وعلوّاً، وكيف قاده هذا الغرور والعلو إلى الكفر والطغيان.

إضافة إلى ذلك، فإنّ هذه القصة توضّح أنّ الانحرافات تنبع من وساوس الشيطان.

في البداية تقول الآيات: تذكّروا ذلك اليوم الذي فيه: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ».

هذا الاستثناء يمكن أن يوهمنا بأنّ إبليس كان من

جنس الملائكة، في حين أنّ الملائكة معصومون، فكيف سلك إبليس- إذاً- طريق الطغيان والكفر إذا كان من جملتهم؟! لذلك فإنّ الآيات- منعاً لهذا الوهم- تقول مباشرة إنّه: «كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ».

إنّه إذاً لم يكن من الملائكة، لكنه- بسبب عبوديته وطاعته للخالق جلّ وعلا- قرّب وكان في صف الملائكة، إلّاأنّه- بسبب لحظة من الغرور والكبر- سقط وأصبح أكثر الموجودات نفرة وابتعاداً عن اللَّه تبارك وتعالى.

ثم تقول الآية: «أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِى».

والعجب أنّهم: «وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ». وهذا العدو، هو عدوّ صعب مصمّم على ضلالكم وأن يوردكم سوء العاقبة، وقد أظهر عدوانه منذ اليوم الأوّل لأبيكم آدم عليه السلام.

فاتّخاذ الشيطان وأولاده بدلًا من الخالق المتعال أمر قبيح: «بِئْسَ لِلظلِمِينَ بَدَلًا».

الآية التي بعدها هي دليل آخر على إبطال هذا التصور الخاطي ء، إذ تقول: عن إبليس وابنائه أنّهم لم يكن لهم وجود حين خلق السماوات والأرض، بل لم يشهدوا حتى خلق أنفسهم: «مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ». حتى نطلب العون منهم في خلق العالم، أو نطلعهم على أسرار الخلق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 147

لذا فإنّ الشخص الذي ليس له أيّ دور في خلق العالم، وحتى في خلق من يقع على شاكلته ومن هو من نوعه، ولا يعرف شيئاً من أسرار الخلق، كيف يكون مستحقاً للولاية، أو العبادة، وأيّ قدرة أو دور يملك؟

ثم تقول: «وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُدًا».

يعني أنّ الخلق قائم على أساس الصدق والصحة والهداية، أمّا الكائن الذي يقوم منهج حياته على الإضلال والإفساد، فليس له مكان في إدارة هذا النظام.

آخر آية من الآيات التي نبحثها، تحذّر مرّة اخرى، وتقول: تذكّروا يوماً يأتي فيه النداء الإلهي: «وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَاءِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ».

لقد كنتم

تنادونهم عمراً كاملًا، وكنتم تسجدون لهم، واليوم وبعد أن أحاطت بكم أمواج العذاب في ساحة الجزاء، نادوهم ليأتوا لمساعدتكم ولو لساعة واحدة فقط.

هناك ينادي الأشخاص الذين لا تزال ترسّبات أفكار الدنيا في عقولهم: «فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ». فلم يجيبوا على ندائهم، فكيف بمساعدتهم وانقاذهم!

«وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوبِقًا» «1».

ثم تقول الآية التي بعدها موضّحة عاقبة الذين اتبعوا الشيطان والمشركين: «وَرَءَا الْمُجْرِمُونَ النَّارَ».

لقد انكشفت لهم النّار التي لم يكونوا يصدّقون بها أبداً، وظهرت أمام أعينهم، وحينئذ يشعرون بأخطائهم، ويتيقّنون بأنّهم سيدخلون النار: «فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا».

ثم يتيقّنون أيضاً أن لا منقذ لهم منها: «وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا».

فلا تنقذهم اليوم منها لا معبوداتهم ولا شفاعة الشفعاء، ولا الكذب أو التوسل بالذهب والقوة، إنّها النار التي يزداد سعيرها بسبب أعمالهم.

«مواقعوها»: مشتقة من «مواقعة» بمعنى الوقوع على الآخرين، وهي إشارة إلى أنّهم يقعون على النّار، وأنّ النّار تقع عليهم، فالنّار تنفذ فيهم وهم ينفذون في النار؛ وقد قرأنا في الآية (24) من سورة البقرة قوله تعالى: «فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ».

______________________________

(1) «موبق»: من «وبوق» على وزن «نبوغ» وهي تعني الهلاك، و «موبق» تقال للمهلكة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 148

وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا (54) وَ مَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَ مَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ يُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَ اتَّخَذُوا آيَاتِي وَ مَا أُنْذِرُوا هُزُواً (56)

في انتظار العقاب: تنطوي هذه الآيات على تلخيص واستنتاج لما ورد في الآيات السابقة، وهي تشير- أيضاً- إلى بحوث قادمة. الآية الاولى

تقول: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ».

لقد ذكرنا نماذج من تأريخ الماضين الملي ء بالإثارة، وقد أوضحنا للناس الحوادث المرّة للحياة واللحظات الحلوة في التاريخ، وقد فصّلنا بيان هذه الامور بحيث تتقبلها القلوب المستعدّة للحق، وتكون الحجة على الآخرين تامّة، ولا يبقى ثمّة مجال للشك.

ولكن بالرغم من هذا فإنّ مجموعة عصاة لم يؤمنوا أبداً: «وَكَانَ الْإِنسنُ أَكْثَرَ شَىْ ءٍ جَدَلًا».

الآية التي بعدها تقول: إنّه بالرغم من كل هذه الأمثلة المختلفة والتوضيحات المثيرة والأساليب المختلفة التي ينبغي أن تنفذ إلى داخل الإنسان المستعد لقبول الحق، فإنّ هناك مجموعة كبيرة من الناس لم تؤمن: «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ». أي مصير الامم السالفة: «أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا» «1».

فيرونه بأمّ أعينهم.

إنّ هذه الآية إشارة إلى أنّ هذه المجموعة المعاندة والمغرورة لا تؤمن بإرادتها وبشكل طبيعي أبداً، بل هم يؤمنون في حالتين فقط:

أوّلًا: عندما يصيبهم العذاب الأليم الذي نزل مثله في الأقوام والامم السابقة.

ثانياً: عندما يشاهدون العذاب الإلهي بأعينهم، وقد أشرنا مراراً إلى أنّ مثل هذا الإيمان هو إيمان عديم الفائدة.

______________________________

(1) «قبل»: تعني التقابل، بمعنى مشاهدة العذاب الإلهي بالعين.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 149

ومن أجل طمأنة الرسول صلى الله عليه و آله في مقابل صلافة وعناد أمثال هؤلاء، تقول الآية:

«وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ».

ثم تقول الآية: إنّ هذه القضية ليست جديدة، بل إنّ من واقع هؤلاء الأشخاص المعارضة والاستهزاء بآيات اللَّه: «وَيُجدِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا ءَايتِى وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا» «1».

وهذه الآية تشبه الآيات (42- 45) من سورة الحج التي تقول: «وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ» الآيات.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ

بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَ نَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَ تِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)

لا استعجال في العقاب الإلهي: الآيات السابقة كانت تتحدث عن مجموعة من الكافرين المتعصبين والمظلمة قلوبهم؛ والآيات التي بين أيدينا تستمر في نفس البحث. ففي البداية قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بَايتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ».

إنّ استخدام تعبير (ذكّر) يوحي إلى أنّ تعليمات الأنبياء عليهم السلام هي بمثابة التذكير بالحقائق الموجودة بشكل فطري في أعماق الإنسان، وإنّ مهمة الأنبياء هي رفع الحجب عن نقاء وشفافية هذه الفطرة.

الطريف في الأمر أنّ الآية الكريمة رسمت ثلاثة مسالك ليقظة هؤلاء وإعادتهم إلى نور الهداية، هي:

______________________________

(1) «يدحضوا»: مشتقة من «إدحاض» بمعنى الإبطال والإزالة، وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «دحض» بمعنى الإنزلاق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 150

مختصر الامثل ج 3 199

أوّلًا: إنّ هذه الحقائق تلائم بشكل كامل ما هو مكنون في فطرتكم ووجدانكم وأرواحكم. ثانياً: إنّها جاءت من قبل خالقكم.

ثالثاً: عليكم أن لا تنسوا أنّكم اقترفتم الذنوب، وأنّ منهاج عمل الأنبياء هو فتح باب التوبة من الذنوب والهداية للصواب.

لكن هذه الفئة من الناس لم تؤمن برغم كل ذلك: «إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا». وبذلك لا تنفع معهم دعوتك: «وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا».

إنّ البرنامج التربوي للخالق جلّ وعلا هو أن يعطي لعباده الفرصة بعد الاخرى، وهو

جلّ وعلا لا يعاقب بشكل فوري مثل الجبّارين والظالمين، بل إنّ رحمته الواسعة تقتضي دوماً إعطاء أوسع الفرص للمذنبين، لذا فإنّ الآية التي بعدها تقول: «وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ». «لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ». فاذا كانت الإرادة الإلهية تقتضي انزال العذاب بسبب إرتكابهم للذنوب لتحقّق ذلك فوراً.

«بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا» «1».

فغفرانه تعالى يقضي أن يرحم التوابين، ورحمته تقضي أن لا يعجّل عذاب غيرهم، إذ من المحتمل أن يلتحق بعضهم بصفوف التوابين، إلّاأنّ عدالته تعالى تقتضي مجازاة المذنبين العاصين الظالمين عندما يصل طغيانهم وتمرّدهم إلى أقصى درجاته.

وأخيراً تنتهي هذه المجموعة من الآيات إلى توجيه التحذير الأخير من خلال التذكير بالعاقبة المؤلمة المرّة لمن ظلم من السابقين ليكون مصيرهم عبرة لمن يسمع، فتقول: إنّ هذه المدن والقرى أمامكم، ولكم أن تشاهدوا خرائبها والدمار الذي حلّ فيها، وقد أهلكنا أهلها بما إرتكبوا من ظلم، في نفس الوقت الذي لم نعجّل فيه لهم العذاب، بل جعلنا موعداً لمهلكهم: «وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا».

______________________________

(1) «موئل»: من كلمة «وئل» وتعني الملجأ ووسيلة النجاة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 151

وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هذَا نَصَباً (62) قَالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَ مَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64)

لقاء موسى والخضر عليهما السلام: ذكر علي بن إبراهيم في تفسيره: لمّا أخبر

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قريشاً بخبر أصحاب الكهف، قالوا: أخبرنا عن العالم الذي أمر اللَّه موسى عليه السلام أن يتبعه، من هو؟ كيف تبعه؟ وما قصّته؟ فأنزل اللَّه تعالى.

لقد ذكرت في سورة الكهف ثلاث قصص متناسقة وهذه القصص هي: قصة أصحاب الكهف التي إنتهينا منها؛ وقصة موسى والخضر عليهما السلام؛ وقصة ذي القرنين التي سنقف على ذكرها فيما بعد.

هذه القصص الثلاث تخرجنا من الأفق المحدود في حياتنا وما تعوّدنا عليه وألفناه، وتبيّن لنا أنّ حدود العالم لا تنحصر في نطاق ما نرى وما نشاهد، وأنّ الشكل العام للحوادث والأحداث ليس هو ما نفهمه من خلال النظرة الاولى.

فإنّ قصة موسى والخضر لها أبعاد عجيبة اخرى. ففي القصة يواجهنا مشهد عجيب نرى فيه نبيّاً من أولي العزم بكل وعيه ومكانته في زمانه يعيش محدودية في علمه ومعرفته من بعض النواحي، وهو لذلك يذهب إلى معلم (هو عالم زمانه) ليدرس ويتعلّم على يديه.

في أوّل آية نقرأ قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتهُ لَاأَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُبًا».

إنّ المعني بالآية هو بلا شك موسى بن عمران النبي المعروف من أولي العزم.

أمّا المعني من (فتاه) فهو يوشع بن نون، الرجل الشجاع الرشيد المؤمن من بني اسرائيل.

«مجمع البحرين»: بمعنى محل التقاء البحرين، والمقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال «خليج العقبة» مع «خليج السويس»، وهذان الخليجان يتصلان بالبحر الأحمر.

«حقب»: تعني المدة الطويلة والتي فسّرها البعض بثمانين عاماً، وغرض موسى عليه السلام من هذه الكلمة، هو أنّني سوف لا أترك الجهد والمحاولة للعثور على ما ضيّعته ولو أدّى ذلك أن أسير عدّة سنين.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 152

قوله تعالى «فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا» أي السمكة التي

كانت معهما، أمّا العجيب في الأمر فإنّ الحوت «فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَبًا».

هذه السمك الذي كان معدّاً للغذاء كانت سمكة طازجة حيث بعثت فيها الحياة بشكل اعجازي وقفزت إلى الماء وغاصت فيه، حيث يوجد بعض أنواع السمك يبقى على قيد الحياة فترة بعد إخراجه من الماء، ويعود إلى الحياة الكاملة إذا أعيد في هذه الفترة إلى الماء.

وفي تتمة القصة نقرأ أنّ موسى وصاحبه بعد أن جاوزا مجمع البحرين شعرا بالجوع، وفي هذه الأثناء تذكّر موسى عليه السلام أنّه قد جلب معه طعاماً، وعند ذلك قال لصاحبه: «فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتهُ ءَاتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذَا نَصَبًا».

إنّ هذه الجملة تظهر أنّ موسى ويوشع قد سلكا طريقاً يمكن أن نسمّيه بالسفر، إلّاأنّ نفس هذه التعابير تفيد أنّ هذا السفر لم يكن طويلًا.

وفي هذه الأثناء قال له صاحبه: «قَالَ أَرَءَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسنِيهُ إِلَّا الشَّيْطنُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا».

ولأنّ هذا الحادث والموضوع- بشكل عام- كان علامة لموسى عليه السلام، لكي يصل من خلاله إلى موقع (العالم) الذي خرج يبحث عنه، لذا فقد قال: «قَالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ».

وهنا رجعا في نفس الطريق: «فَارْتَدَّا عَلَى ءَاثَارِهِمَا قَصَصًا».

وهنا قد يطرح هذا السؤال: هل يمكن لنبي مثل موسى عليه السلام أن يصاب بالنسيان حيث يقول القرآن ف «نَسِيَا حُوتَهُمَا».

في الجواب نقول: إنّه لا يوجد ثمة مانع من الإصابة بالنسيان في المسائل والموارد التي لا ترتبط بالأحكام الإلهية والامور التبليغية، أي في مسائل الحياة العادية.

فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَ عَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ

إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَ لَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 153

رؤية المعلم الكبير: عندما رجع موسى عليه السلام وصاحبه إلى المكان الأوّل، أي قرب الصخرة وقرب (مجمع البحرين)، فجأة: «فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا ءَاتَيْنهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا».

إنّ استخدام كلمة «وجدا» تفيد أنّهم كانوا يبحثون عن نفس هذا الرجل العالم، وقد وجداه أخيراً.

أمّا استخدام عبارة «عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا» فهي تبيّن أنّ أفضل فخر للإنسان هو أن يكون عبداً حقيقياً للخالق جلّ وعلا، وإنّ مقام العبودية هذا يكون سبباً في شمول الإنسان بالرحمة الإلهية، وفتح أبواب المعرفة والعلم في قلبه.

كما أنّ استخدام عبارة «مِن لَّدُنَّا» تبيّن أنّ علم ذلك العالم لم يكن علماً عادياً، بل كان يعرف جزءاً من أسرار هذا العالم، وأسرار الحوادث التي لا يعلمها سوى اللَّه تعالى.

والمقصود من عبارة «رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا» هو الإستعداد الكبير والروح الواسعة، وسعة الصدر التي وهبها اللَّه تعالى لهذا الرجل كي يكون قادراً على استقبال العلم الإلهي.

في هذه الأثناء قال موسى للرجل العالم باستفهام وبأدب كبير: «قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْدًا».

في معرض الجواب نرى أنّ الرجل العالم يجيب موسى عليه السلام بكلام عجيب: «قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا».

ثم بيّن سبب ذلك مباشرة وقال: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا».

إنّ هذا الرجل العالم كان يحيط بأبواب من العلوم التي تخصّ أسرار وبواطن الأحداث، في حين أنّ موسى عليه السلام لم يكن مأموراً بمعرفة

البواطن، وبالتالي لم يكن يعرف عنها الكثير.

في مثل هذه الحالة يفقد الشخص الذي ينظر إلى الظاهر صبره وتماسكه فيقوم بالإعتراض وحتى بالتشاجر.

وقد يكون موسى عليه السلام اضطرب عندما سمع هذا الكلام وخشي أن يحرم من فيض هذا العالم الكبير، لذا فقد تعهّد بأن يصبر على جميع الحوادث و «قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا».

مرّة اخرى كشف موسى عليه السلام عن قمّة أدبه في هذه العبارة، فقد اعتمد على خالقه حيث لم يقل للرجل العالم: إنّي صابر، بل قال: إن شاء اللَّه ستجدني صابراً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 154

ولأنّ الصبر على حوادث غريبة وسيّئة في الظاهر والتي لا يعرف الإنسان أسرارها، ليس بالأمر الهيّن، لذا فقد طلب الرجل العالم من موسى عليه السلام أن يتعهد له مرّة اخرى، وحذّره: «قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلَا تَسَلْنِى عَن شَىْ ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا» «1». وقد أعطى موسى العهد مجدداً وانطلق مع العالم الأستاذ.

المعلم الإلهي والأفعال المنكرة: نعم، لقد ذهب موسى وصاحبه وركبا السفينة:

«فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا».

«خرق»: (كما يقول الراغب في المفردات) الخرق، قطع الشي ء على سبيل الإفساد بلا تدبّر ولا تفكّر حيث كان ظاهر عمل الرجل العالم على هذا المنوال.

وبحكم كوْن موسي عليه السلام نبيّاً إلهيّاً فقد كان من جانب يرى أنّ من واجبه الحفاظ على أرواح وأموال الناس، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومن جانب آخر كان وجدانه الإنساني يضغط عليه ولا يدعه يسكت أمام أعمال الرجل العالم التي يبدو ظاهرها سيّئاً قبيحاً، لذا فقد نسي العهد الذي قطعه للخضر (العالم) فاعترض و «قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا

______________________________

(1) إنّ عبارة «أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا» يكون مفهومها بعد الأخذ بنظر الإعتبار كلمة

«أحدث» هو: إنّي أنا الذي أبدأ بالكلام وأكشف للمرّة الاولى؛ أمّا أنت فلا تتكلم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 155

لَقَدْ جِئْتَ شَيًا إِمْرًا».

وفي هذه الأثناء نظر الرجل العالم إلى موسى عليه السلام نظرة خاصة وخاطبه: «قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا».

أمّا موسى الذي ندم على استعجاله، بسبب أهمية الحادثة، فقد تذكّر عهده الذي قطعه لهذا العالم الأستاذ، لذا فقد التفت إليه قائلًا: «قَالَ لَاتُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا». يعني لقد أخطأت ونسيت الوعد فلا تؤاخذني بهذا الإشتباه.

«ترهقني»: مشتقة من «إرهاق» وتعني تغطية شي ء ما بالقهر والغلبة، وتأتي في بعض الأحيان بمعنى التكليف، وفي الآية- أعلاه- يكون معناها: لا تصعّب الامور عليّ، ولا تقطع فيضك عنّي بسبب هذا العمل.

لقد انتهت سفرتهم البحرية وترجّلوا من السفينة: «فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلمًا فَقَتَلَهُ»، وقد تمّ ذلك بدون أي مقدمات.

وهنا ثار موسى عليه السلام مرّة اخرى حيث لم يستطع السكوت على قتل طفلٍ بري ء بدون أي سبب، وظهرت آثار الغضب على وجهه وملأ الحزن وعدم الرضا عينيه ونسي وعده مرّةً اخرى، فقام للإعتراض، وكان اعتراضه هذه المرّة أشد من اعتراضه في المرّة الاولى، لأنّ الحادثة هذه المرّة كانت موحشة أكثر من الاولى: «قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ». أي إنّك قتلت انساناً بريئاً من دون أن يرتكب جريمة قتل، «لَّقَدْ جِئْتَ شَيًا نُّكْرًا».

ومرّة اخرى كرّر العالم الكبير جملته السابقة التي إتّسمت ببرود خاص، حيث قال لموسى عليه السلام: «قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا».

تذكّر موسى تعهده فانتبه إلى ذلك وهو خجل، حيث أخلّ بالعهد مرتين- ولو بسبب النسيان- وبدأ تدريجياً يشعر بصدق عبارة الأستاذ في أنّ موسى لا يستطيع تحمل أعماله، لذا فلا يطيق

رفقته كما قال له عندما عرض عليه موسى الرفقة، لذا فقد بادر إلى الاعتذار وقال: إذا اعترضت عليك مرّة اخرى فلا تصاحبني وأنت في حلّ منّي: «قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْ ءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْرًا».

صيغة العذر هنا تدل على انصاف موسى عليه السلام ورؤيته البعيدة للُامور، وتبيّن أنّه عليه السلام كان

مختصر الامثل، ج 3، ص: 156

يستسلم للحقائق ولو كانت مرّة.

بعد هذا الكلام والعهد الجديد: «فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيّفُوهُمَا». والمقصود من كلمة قرية هو مدينة (الناصرة) أو ميناء (أيلة). المهم في الأمر، أنّنا نستنتج من خلال ما جرى لموسى عليه السلام وصاحبه من أهل هذه المدينة أنّهم كانوا لئاماً دنيئي الهمّة. في مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «كانوا أهل قرية لئام».

ثم يضيف القرآن: «فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ». وقد كان موسى عليه السلام شاهد كيف أنّ الخضر قام بترميم الجدار بالرغم من سلوك أهل القرية القبيح إزاءهما، وكأنّه بذلك أراد أن يجازي أهل القرية بفعالهم السيّئة؛ وكان موسى يعتقد بأنّ على صاحبه أن يطالب بالأجر على هذا العمل حتى يستطيعا أن يعدّا لأنفسهما طعاماً.

لذا فقد نسي موسى عليه السلام عهده مرّة اخرى وبدأ بالإعتراض، إلّاأنّ اعتراضه هذه المرّة بدا خفيفاً ف «قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا».

وفي الواقع فإنّ موسى يعتقد بأنّ قيام الإنسان بالتضحية في سبيل أناس سيئين عمل مجاف لروح العدالة.

وهنا قال الرجل العالم كلامه الأخير لموسى بأنّك ومن خلال حوادث مختلفة، لا تستطيع معي صبراً، لذلك قرّر العالم قراره الأخير: «قَالَ هذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا». «تأويل»: من «أول»

على وزن «قول» وتعني الإرجاع، لذا فإنّ أي عمل أو كلام يرجعنا إلى الهدف الأصلي يسمّى «تأويل» كما أنّ رفع الحجب عن أسرار شي ء هو نوع من التأويل.

إنّ مفارقة رجل بهذه الخصائص أمرٌ صعب للغاية، لكن على موسى عليه السلام أن ينصاع لهذه الحقيقة المرّة.

المفسر المعروف أبو الفتوح الرازي يقول: ورد في الخبر، أنّ موسى عليه السلام عندما سئل عن أصعب ما لاقى من مشكلات في طول حياته، أجاب قائلًا: لقد واجهت الكثير من المشاكل والصعوبات (إشارة إلى ما لاقاه عليه السلام من فرعون، وما عاناه من بني إسرائيل) ولكن لم يكن أيّاً منها أصعب وأكثر ألماً على قلبي من قرار الخضر في فراقي إيّاه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 157

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَ كَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَ أَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَ كُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً (81) وَ أَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَ كَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَ يَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ مَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)

الأسرار الداخلية لهذه الحوادث: بعد أن أصبح الفراق بين موسى والخضر عليهما السلام أمراً حتمياً، كان من اللازم أن يقوم الأستاذ الإلهي بتوضيح أسرار أعماله التي لم يستطع موسى أن يصبر عليها، وفي الواقع فإنّ استفادة موسى من صحبته تتمثل في معرفة أسرار هذه الحوادث الثلاثة العجيبة، والتي يمكن أن تكون مفتاحاً للعديد من المسائل، وجواباً لكثير من الأسئلة. ففي البداية ذكر قصة السفينة

وقال: «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا».

وبهذا الترتيب كان ثمّة هدف خيّر وراء ثقب السفينة الذي بدأ في حينه عملًا مشيناً سيّئاً، والهدف هو نجاتهم من قبضة ملك غاصب، وكان هذا الملك يترك السفينة المعيبة ويصرف النظر عنها، إذاً خلاصة المقصود في الحادثة الاولى هو حفظ مصالح مجموعة من المساكين.

كلمة «وراء» لا تعني هنا الجانب المكاني، وإنّما هي كناية عن الخطر المحيط بهم (خطر الملك) بدون أن يعلموا به، وبما أنّ الإنسان لا يحيط بالحوادث التي سوف تصيبه لاحقاً، لذا استخدمت الآية التعبير الآنف الذكر.

بعد ذلك ينتقل العالم إلى بيان سر الحادثة الثانية التي قتل فيها الفتى، فيقول: «وَأَمَّا الْغُلمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَينِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْينًا وَكُفْرًا».

إنّ تعبير (خشينا) جاء هنا بمعنى: لم نكن نرغب، وإلّا لا معنى للخوف في هذه الموارد بالنسبة لشخص بهذا المستوى من العلم والوعي والقدرة.

وبعبارة اخرى: فإنّ الهدف هو الإتّقاء من حادث سي ء نرغب أن نقي الأبوين منه على أساس المودة لهما.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 158

ثم تحكي الآيات على لسان العالم قوله: «فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مّنْهُ زَكَوةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا». «زكاة»: هنا بمعنى الطهارة والنظافة، ولها مفهوم واسع حيث تشمل الإيمان والعمل الصالح، وتتسع للامور الدينية والمادية، وقد يكون في هذا التعبير ما هو جواب على اعتراض موسى عليه السلام الذي قال: «أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ...» فقال له العالم في الجواب: إنّ هذه النفس ليست زكية، وأردنا أن يبدلهما ربّهما ابناً طاهراً بدلًا عن ذلك.

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «أبدلهما اللَّه به جارية ولدت سبعين نبيّاً».

في آخر آية من الآيات التي نبحثها، كشف الرجل

العالم عن السر الثالث الذي دعاه إلى بناء الجدار فقال: «وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صلِحًا». «فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا». «رَحْمَةً مِّن رَّبّكَ».

وأنا كنت مأموراً ببناء هذا الجدار بسبب جميل وإحسان أبوي هذين اليتيمين، كي لا يسقط وينكشف الكنز ويكون معرّضاً للخطر.

وفي خاتمة الحديث، ولأجل أن تنتفي أيّ شبهة محتملة، أو شك لدى موسى عليه السلام، ولكي يكون على يقين بأنّ هذه الأعمال كانت طبقاً لمخطط وتوجيه غيبي، قال العالم: «وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى» بل بأمر من اللَّه.

وذلك سرّ ما لم يستطع عليه موسى عليه السلام صبراً، إذ قال: «ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا».

دروس قصة خضر وموسى عليهما السلام: هناك جملة دروس يمكن أن نستفيدها من القصة، ويمكن لنا أن ندرجها كما يلي:

أ: أهمية العثور على قائد عالم والاستفادة من علمه، بحيث رأينا أنّ نبيّاً من اولي العزم مثل موسى عليه السلام يسلك هذا الطريق الطويل، وقد بذل ما بذل لتحقيقه، وهذا درس لجميع الناس مهما كان علمهم وفي أيّ عمر كانوا.

ب: جوهرة العلم الإلهي تنبع من العبودية للَّه تعالى.

ج: يجب تعلّم العلم للعمل، كما يقول موسى عليه السلام لصاحبه «مِمَّا عُلّمْتَ رُشْدًا». أي:

علمني عملًا يقرّبني من هدفي ومقصدي، فأنا لا أطلب العلم لنفسه، بل للوصول إلى الهدف.

د: يجب عدم الإستعجال في الأعمال، إذ العديد من الامور تحتاج إلى الفرص المناسبة.

ه: الظاهر والباطن من المسائل المهمّة الاخرى التي نتعلّمها من القصة، إذ يجب علينا أن

مختصر الامثل، ج 3، ص: 159

لا نصدر أحكاماً سريعة تجاه الحوادث التي تقع في مجرى حياتنا مما قد لا يعجبنا، إذ ما أكثر الحوادث التي نكرهها، ولكن يتّضح بعد

مدّة أنّ هذه الحوادث لم تكن سوى نوع من الألطاف الخفية الإلهية، والقرآن يصرّح بمضمون هذه الحقيقة في الآية (216) من سورة البقرة قوله تعالى: «عَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ».

و: من دروس القصة الإعتراف بالحقائق واتخاذ المواقف المطابقة لها، فعندما تخلّف موسى ثلاث مرّات عن الوفاء بالتزامه لصاحبه العالم، عرف أنّه لا يستطيع الاستمرار معه في الصحبة.

يجب على الإنسان أن لا يستمر إلى آخر عمره في اختبار نفسه، بحيث تتحوّل حياته إلى مختبر للأمور المستقبلية التي قد لا تحصل أبداً، اذ عليه عندما يختبر موضوعاً ما عدّة مرّات، أن يلتزم العمل بنتائج الإختبار وأن يقتنع به.

ز: تأثير إيمان الآباء على الأبناء؛ لقد تحمل الخضر مسؤولية حماية الأبناء بالمقدار الذي كان يستطيعه، وذلك بسبب الأب الصالح الملتزم، بمعنى أنّ الإبن يستطيع أن يسعد في ظل الإيمان وأمانة والتزام الأب، وإنّ نتيجة العمل الصالح الذي يلتزمه الأب تعود على الإبن أيضاً.

ح: قصر العمر بسبب إيذاء الوالدين عندما يطال الموت الإبن بسبب ما يلحقه من أذى بوالديه في مستقبل حياته، وبسبب ما يرهقهما به من أذىً وطغيان وكفر، قد يحرفهم عن الطريق الإلهي، كما رأينا ذلك في القصة التي بين أيدينا.

ط: الناس أعداء ما جهلوا؛ قد يحدث أن يقوم شخص بالإحسان إلينا، إلّاأنّنا نتصوره عدوّاً لنا، لأنّنا لا نعرف بواطن الامور، ونتسرّع ونفقد الصبر، خصوصاً إزاء الأحداث والامور التي نجهلها ولا نحيط بأسبابها علماً. من الطبيعي أن يفقد الإنسان صبره إزاء ما لا يحيط به علماً من الأحداث والقضايا، إلّاأنّ الدرس المستفاد من القصة هو أن لا نتسرّع في إصدار الأحكام على مثل هذه القضايا

حتى تكتمل لدينا الرؤية التي نحيط من خلالها بجوانب وزوايا الموضوع المختلفة.

ى: أدب التلميذ والأستاذ؛ ثمّة ملاحظات لطيفة حول أدب التلميذ والأستاذ ظهرت في مقاطع الحديث بين موسى عليه السلام والرجل الرباني العالم، فمن ذلك مثلًا:

1- اعتبار موسى عليه السلام نفسه تابعاً للخضر قوله: «أَتَّبِعُكَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 160

2- وللتواضع فقد اعتبر علم أستاذه كثيراً، وهو يطلب جانباً من هذا العلم، فقال:

«مِمَّا عُلّمْتَ».

وَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً (87) وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً (90) كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً (91)

قصة ذو القرنين العجيبة: قلنا في بداية حديثنا عن أصحاب الكهف: إنّ مجموعة من قريش قرّرت اختبار الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وقامت هذه المجموعة بالتنسيق مع اليهود واستشارتهم بطرح ثلاث قضايا ونحن الآن بصدد ذكر قصة «ذو القرنين»:

إنّ قصة ذو القرنين تدور حول شخصية أثارت اهتمامات الفلاسفة والباحثين منذ القدم.

وقد بذلت جهود ومساعي كثيرة للتعرّف على هذه الشخصية.

وسنقوم أوّلًا بتفسير الآيات الست عشرة الخاصّة بذي القرنين، ثم ننتقل إلى بحوث لمعرفة شخصية ذي القرنين نفسه.

بتعبير آخر: إنّ ما

يهمنا أوّلًا هو الحديث عن شخصية ذي القرنين، وهو ما فعله القرآن، حيث يقول تعالى: «وَيَسَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ».

فيكون الجواب على لسان الرسول المصطفى صلى الله عليه و آله: «قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا».

إنّ بداية الآية تبيّن لنا أنّ قصة ذو القرنين كانت متداولة ومعروفة بين الناس، ولكنّها كانت محاطة بالغموض والإبهام، لهذا السبب طالبوا الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله الإدلاء حولها بالتوضيحات اللازمة.

وفي إستئناف الحديث عن ذي القرنين يقول تعالى: «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الْأَرْضِ». أي:

منحناه سبل القوّة والقدرة والحكم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 161

«وَءَاتَيْنهُ مِن كُلّ شَىْ ءٍ سَبَبًا». إنّ اللَّه تبارك وتعالى منح «ذو القرنين» أسباب الوصول لكل الأشياء: العقل، العلم الكافي، الإدارة السليمة، القوّة والقدرة، الجيوش والقوى البشرية، بالإضافة إلى الإمكانات المادية، أي إنّه منح كل الأسباب والسبل المادية والمعنوية الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة.

ثم يشير القرآن بعد ذلك إلى استفادة ذي القرنين من هذه الأسباب والسبل فيقول:

«فَأَتْبَعَ سَبَبًا». ثم «حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ». فرأى أنّها تغرب في بحر غامق أو عين ذات ماء آسن: «وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ» «1».

«وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا». أي مجموعة من الناس فيهم الصالح والطالح، هؤلاء القوم هم الذين خاطب اللَّه ذا القرنين في شأنهم: «قُلْنَا يذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا».

بعد ذلك تحكي الآيات جواب «ذي القرنين» الذي قال: «قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا» «2». أي إنّ الظالمين سينالون العذاب الدنيوي والأخروي معاً.

«وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صلِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى . «وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا». أي:

أنّنا سنتعامل معه بالقول الحسن، فضلًا عن أنّنا سنخفف عنه ولا نجعله يواجه المشاكل والصعاب، بالإضافة إلى

أنّنا سوف لن نجبي منه ضرائب كثيرة.

وعندما إنتهى «ذو القرنين» من سفره إلى الغرب توجه إلى الشرق حيث يقول القرآن في ذلك: «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا». أي استخدم الوسائل والإمكانات التي كانت بحوزته.

«حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ». وهنا رأى أنّها: «وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا». وفي اللفظ كناية عن أنّ حياة هؤلاء الناس بدائية جدّاً، ولا يملكون سوى القليل من الملابس التي لا تكفي لتغطية أبدانهم من الشمس.

أمّا بعض المفسرين فلم يستبعدوا افتقار هؤلاء الناس إلى المساكن التي تحميهم من الشمس.

______________________________

(1) «حمئة»: تعني في الأصل الطين الأسود ذا الرائحة الكريهة، أو الماء الآسن الموجود في المستنقعات. وهذا الوصف يبيّن لنا بأنّ الأرض التي بلغها «ذو القرنين» كانت مليئة بالمستنقعات، بشكل كان ذو القرنين يشعر معه بأنّ الشمس كانت تغرب في هذه المستنقعات، تماماً.

(2) «نكر»: مشتقة من «منكر» بمعنى الشي ء المجهول؛ أي العذاب المجهول الذي لم يمكن تصوره.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 162

بالطبع ليس هناك تعارض بين التفاسير هذه، قوله تعالى: «كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا». هكذا كانت أعمال «ذو القرنين» ونحن نعلم جيّداً بإمكاناته.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُمْ سَدّاً (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قَالَ هذَا رَحْمَةٌ

مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98)

كيف تمّ بناء سدّ ذي القرنين: الآيات أعلاه تشير إلى سفرة اخرى من أسفار ذي القرنين حيث تقول: «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا». أي: بعد هذه الحادثة استفاد من الوسائل المهمة التي كانت تحت تصرفه ومضى في سفره حتى وصل إلى موضع بين جبلين: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا».

والآية تشير إلى أنّه وصل إلى منطقة جبلية، وهناك وجد اناساً كانوا على مستوى دانٍ من المدنية، لأنّ الكلام أحد أوضح علائم التمدن لدى البشر.

في هذه الأثناء اغتنم هؤلاء القوم مجي ء ذي القرنين، لأنّهم كانوا في عذاب شديد من قبل أعدائهم يأجوج ومأجوج، لذا فقد طلبوا العون منه قائلين: «قَالُوا يذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا».

قد يكون كلامهم هذا تمّ عن طريق تبادل العلامات والإشارات، لأنّهم لا يفهمون لغة ذي القرنين.

أمّا ذو القرنين فقد أجابهم: «قَالَ مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ»، وأنّي لا أحتاج إلى مساعدتكم المالية وإنّما: «فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا».

«ردم»: على وزن «طرد» في الأصل تعني مل ء الشق بالأحجار، إلّاأنّها فيما بعد أخذت معنىً واسعاً بحيث شمل كل سدّ، بل وشمل حتى ترقيع الملابس.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 163

يعتقد بعض المفسرين أنّ كلمة «ردم» تقال للسدّ القوي.

ثم أمر ذو القرنين فقال: «ءَاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ».

«زُبر»: جمع «زُبرة» على وزن (غرفة)، وتعني القطع الكبيرة والضخمة من الحديد.

وعندما تهيّأت قطع الحديد أعطى أمراً بوضع بعضها فوق البعض الآخر حتى غطّي بين الجبلين بشكل كامل: «حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ». «صدف»: تعني هنا حافة الجبل.

الأمر الثالث لذي القرنين

هو طلبه منهم أن يجلبوا الحطب وما شابهه، ووضعه على جانبي هذا السد، وأشعل النار فيه ثم أمرهم بالنفخ فيه حتى احمرّ الحديد من شدّة النار:

«قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا».

لقد كان يهدف ذو القرنين من ذلك ربط قطع الحديد بعضها ببعض ليصنع منها سدّاً من قطعة واحدة، وعن طريق ذلك، قام ذو القرنين بنفس عمل «اللحام» الذي يقام به اليوم في ربط أجزاء الحديد بعضها ببعض.

أخيراً أصدر لهم الأمر الأخير فقال: اجلبوا لي النحاس المذاب حتى أضعه فوق هذا السد: «قَالَ ءَاتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا».

وبهذا الشكل قام بتغطية هذا السدّ الحديدي بطبقة من النحاس حتى لا ينفذ فيه الهواء ويحفظ من التآكل.

وأخيراً، أصبح هذا السد بقدر من القوة والإحكام بحيث: «فَمَا اسْطعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطعُوا لَهُ نَقْبًا».

لقد كان عمل ذي القرنين عظيماً ومهماً، وكان له وفقاً لمنطق المستكبرين ونهجهم أن يتباهى به أو يمنّ به، إلّاأنّه قال بأدب كامل: «قَالَ هذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبّى»، لأنّ أخلاقه كانت أخلاقاً إلهية.

إنّه أراد أن يقول: إذا كنت أملك العلم والمعرفة وأستطيع بواسطتهما أن أخطو خطوات مهمّة، فإنّ كل ذلك إنّما كان من قبل الخالق جلّ وعلا.

ثم استطرد قائلًا: لا تظنوا أنّ هذا السد سيكون أبدياً وخالداً: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبّى جَعَلَهُ دَكَّاءَ». «وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقًّا».

لقد أشار ذو القرنين في كلامه هذا إلى قضية فناء الدنيا وتحطّم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 164

بحثان

أوّلًا- ملاحظات التربوية في هذه القصة التأريخية: هذه القصة تحوي على دروس تربوية كثيرة وفي الواقع أنّها هي الهدف القرآني من إيرادها.

1- إنّ أوّل درس تعلّمنا إيّاه أنّ العمل الدنيوي لا يتمّ دون توفير أسبابه، لذا فإنّ اللَّه تبارك

وتعالى وهب الوسائل والأسباب لتقدم وانتصار ذي القرنين في عمله.

2- لا تستطيع أي حكومة أن تنتصر بدون ترغيب الأنصار والأتباع، ومعاقبة المذنبين والمخطئين، وهذا هو نفس الأساس الذي اعتمد عليه ذو القرنين.

والإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام بلور هذا المعنى في رسالته إلى مالك الأشتر والتي هي برنامج كامل لإدارة البلاد، إذ يقول عليه السلام: «ولا يكونن المحسن والمسيى ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة» «1».

3- التكليف الشاق والتصعّب في الامور وتحميل الناس ما لا يطيقون، كل هذه الامور لا تناسب الحكومة الإلهية العادلة أبداً.

4- الحكومة الكبيرة ذات الإمكانات الواسعة لا تتغاضى عن التفاوت والإختلاف القائم في حياة الناس وتراعي شرائط حياتهم المختلفة.

5- إنّ «ذو القرنين» لم يستبعد حتى تلك المجموعة التي لم تكن تفهم الكلام، أو كما وصفهم القرآن: «لَّايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» بل إنّه استمع إلى مشاكلهم، ودأب على رفع احتياجاتهم بأيّ اسلوب كان.

6- الأمن هو أوّل وأهم شرط من شروط الحياة الإجتماعية السالمة، لهذا السبب تحمل «ذو القرنين» أصعب الأعمال وأشقّها لتأمين أمن القوم من أعدائهم.

7- الدرس الآخر الذي يمكن أن نتعلّمه من هذه القصّة، هو أنّ أصحاب المشكلة الأصليين معنيين بالدرجة الاولى في الإشتراك في الجهد المبذول لحل مشكلتهم.

وعادة فإنّ العمل الذي يتمّ بمساهمة وحضور الأطراف الأصليين في المشكلة يؤدّي إلى إظهار استعداداتهم ويعطي قيمة خاصة للنتائج الحاصلة منه، وللجهود المبذولة فيه، ومن ثم يحرص الجميع للحفاظ عليه وإدامته بحكم تحمّلهم لمجهودات إنشائه.

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 53.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 165

كما يتّضح من هذه النقطة أنّ، المجتمع المتخلف والمتأخر يستطيع أن ينجز أعمالًا مهمة وعظيمة إذا تمتّع ببرنامج صحيح وإدارة مخلصة.

8- الزعيم

الإلهي والقائد الرباني لا يلتفت إلى الجزاء المادي والنفع المالي وإنّما يقتنع بما حباه اللَّه.

وفي القرآن الكريم نقرأ مراراً في قصص الأنبياء أنّهم لم يكونوا يطلبون المال جزاءً لأعمالهم ودعواتهم.

9- إحكام الامور هو درس آخر نستفيده من هذه القصة.

10- مهما كان الإنسان قوياً ومتمكناً وصاحب قدرة واستطاعة في إنجاز الأعمال، فعليه أن لا يغتر بنفسه، وهذا هو درس آخر نتعلّمه من قصة «ذو القرنين».

11- كل شي إلى زوال مهما كان محكماً وصلداً. هذا هو الدرس الأخير في هذه القصة، وهو درس للذين يتمنّون أو يظنون خلود المال أو المنصب والجاه.

ثانياً- من هم يأجوج ومأجوج؟ ذكر القرآن الكريم يأجوج ومأجوج في سورتين، إذ وردت المرّة الاولى في الآيات التي نبحثها، والثانية في سورة الأنبياء، الآية (96).

الآيات القرآنية تؤيّد بوضوح أنّ هذين الاسمين هما لقبيلتين همجيتين كانتا تؤذيان سكّان المناطق المحيطة بهم. حيث طلب أهل القفقاز من «كورش» عند سفره إليهم أن ينقذهم من هجمات هذه القبائل، لذلك أقدم على تأسيس السد المعروف بسدّ ذي القرنين.

وَ تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً (99) وَ عَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)

عاقبة الكافرين: لقد تناولت الآية السابقة سد يأجوج ومأجوج وانهدامه عند البعث، وهذه الآيات تستمر في قضايا القيامة، فتقول أوّلًا: إنّنا سنترك في ذلك اليوم- الذي ينتهي فيه العالم- بعضهم يموج ببعض: «وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ».

إنّ استخدام كلمة «يموج» إمّا بسبب الكثرة الكاثرة للناس في تلك الواقعة، أو بسبب

مختصر الامثل،

ج 3، ص: 166

الإضطراب والخوف الذي يصيب الناس في ذلك اليوم، وكأنّما أجسادهم تهتز كأمواج الماء.

بعد ذلك تضيف الآيات: «وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنهُمْ جَمْعًا». وبلا شك فإنّ كافة الناس سيجمعون في تلك الساحة ولن يستثنى منهم أحد، وتعبير «فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا» إشارة إلى هذه الحقيقة.

من مجموع الآيات نستفيد أنّ ثمّة تحوّلان عظيمان سيحصلان عند نهاية هذا العالم وبداية العالم الجديد:

الأوّل: فناء الموجودات والناس بشكل آني.

والثاني: إحياء الموتى بشكل آني أيضاً.

ولا نعلم مقدار الفاصل بين الحدثين، ولكنّ القرآن يعبّر عن هذين التحوّلين بعنوان (نفخ الصور).

ثم تتناول الآيات تفصيل حال الكافرين، حيث توضّح عاقبة أعمالهم، والصفات التي تقود إلى هذه العاقبة، فتقول: «وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكفِرِينَ عَرْضًا».

إنّ جهنّم ستظهر لهم، وتتّضح لهم الأنواع المختلفة من عذابها، وهذا هو بحد ذاته عذاب أليم موجع، فكيف إذا ولجوها؟!

ولكن من هم الكافرون؟ ولماذا يصابون بمثل هذه العاقبة؟ الآية تعرّف هؤلاء بجملة قصيرة واحدة بقولها: «الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاءٍ عَن ذِكْرِى». وبالرغم من أنّهم يمتكون آذاناً، إلّاأنّهم يفقدون القدرة على السماع: «وَكَانُوا لَايَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا».

فهؤلاء أسقطوا في الواقع أهم وسيلة لمعرفة الحق وإداركه، وأهملوا الوسيلة الهامة في شقاء أو سعادة الإنسان. يعني أنّهم غطّوا أعينهم وأسماعهم بحجاب وستار بسبب أفكارهم الخاطئة وتعصبهم وحقدهم وصفاتهم القبيحة الاخرى.

الآية التي بعدها تشير إلى نقطة انحراف فكرية لدى هؤلاء هي أصل انحرافاتهم الاخرى، فتقول: «أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاءَ».

هل يملك هؤلاء المعبودون- كالمسيح والملائكة- شيئاً للدفاع عن الآخرين بالرغم من مكانتهم العالية، أو أنّ الأمر بالعكس إذ كل ما عند هؤلاء هو من اللَّه، وأنّهم أنفسهم يحتاجون إلى هدايته؟

إنّ هذه حقيقة واضحة، ولكن هؤلاء تناسوها وتورّطوا في شراك الشرك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 167

في

ختام الآية وللمزيد من التأكيد، تقول الآية: «إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكفِرِينَ نُزُلًا».

«نُزُل»: بمعنى الإقامة، وتعني أيضاً الشي ء الذي يهيّأ لتقديمه للضيوف.

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ لِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آيَاتِي وَ رُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)

أخسر الناس: هذه الآيات والآيات اللاحقة- إلى نهاية السورة المباركة- في الوقت الذي تتحدث فيه عن صفات غير المؤمنين، فإنّها تعتبر نوعاً من التلخيص لكافّة البحوث التي وردت في هذه السورة، خاصة البحوث المتعلقة بقصة أصحاب الكهف وموسى والخضر وذي القرنين، وما بذلوه من جهود إزاء معارضيهم.

فالآيات تكشف أوّلًا عن أخسر الناس، ولكنها- بهدف إثارة حب الإستطلاع لدى المستمع إزاء هذه القضية- تعمد إلى إثارتها على شكل سؤال موجّه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فتقول: «قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْملًا».

ثم يأتي الجواب بدون أي توقف حتى لا يبقى المستمع في حيرة، فتقول: «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا».

مفهوم الخسران لا ينطبق على خسران الأرباح وحسب، بل إنّ الخسران الواقعي هو خسران أصل رأس المال، وهل هناك رأس مال أربح وأفضل وأحسن من العقل والذكاء والطاقات الإلهية الموهوبة للإنسان من عمر وشباب وصحة؟

إنّ نتاج كل هذه المواهب هي أعمال الإنسان، وأعمال الإنسان هي في الواقع انعكاس وتجسيد لطاقاتنا وقدراتنا.

عندما تتحوّل هذه الطاقات إلى أعمال مخرّبة أو غير هادفة، فكأنّها قد فنيت أو ضاعت؛

إلّا أنّ الخسران الحقيقي والمضاعف هو أن يفقد الإنسان رأسماله المادي والمعنوي في مسالك خاطئة ومجالات منحرفة ويظن أنّه أحسن العمل، فهو في هذه الحالة لم يحصل على ثمرة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 168

لعمله، وفي نفس الوقت لم يلتفت إلى ما هو فيه، فيكرّر العمل. الآيات الاخرى تذكر صفات ومعتقدات هذه المجموعة من الخاسرين، حيث تبدأ بتلك الصفات التي تكون أساساً في مصائبهم فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِ رَبّهِمْ».

إنّهم كفروا بالآيات التي تفتح الأبصار والمسامع، الآيات التي ترفع حجب الغرور وتجسّد الحقائق أمام الإنسان، وأخيراً فإنّها آيات النور والضياء التي تخرج الإنسان من ظلمات الأوهام والتصورات الخاطئة وترشده إلى عالم الحقائق.

ثم إنّهم بعد ذلك نسوا اللَّه وكفروا بالمعاد وبلقاء اللَّه «وَلِقَائِهِ».

يعني أنّ الإنسان في يوم القيامة يشاهد آثار الخالق أكثر وأفضل من أي زمان، لذا فإنّه ينظر إليه بوضوح، بعين القلب الواعي البصير.

نعم، فما لم يكن الإيمان بالمعاد إلى جانب الإيمان بالمبدأ، وما لم يحس الإنسان بأنّ هناك قوة تراقب أعماله فإنّ الإنسان سوف لا يعير أهمّية إلى أعماله وسوف لا يصلح نفسه.

ثم تضيف الآية أنّهم بسبب من كفرهم بالمبدأ والمعاد فإنّ أعمالهم قد حبطت وضاعت:

«فَحَبِطَتْ أَعْملُهُمْ». وغدت تماماً كالرماد في مقابل العاصفة الهوجاء.

ولأنّهم لا يملكون عملًا قيّماً ثميناً لذا: «فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ وَزْنًا».

لأنّ الوزن يخصّ الامور الموجودة، أمّا هؤلاء فلا يملكون شيئاً من الأعمال، ولذلك ليس لهم وزن ولا قيمة. روي في تفسير مجمع البيان أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة».

لماذا؟ لأنّ أعمال مثل هؤلاء وأفكارهم وشخصيتهم كانت في الحياة الدنيا عديمة الأهمية والفائدة.

وفي إطار بيان جزاء هؤلاء، تكشف الآية

عن ثالث سبب في انحراف وخسران هؤلاء، وهو الاستهزاء بما أنزل اللَّه، فتقول: «ذلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا ءَايتِى وَرُسُلِى هُزُوًا».

وبذلك فإنّ هؤلاء انتهوا إلى إنكار الأصول الأساسية الثلاثة في الإعتقاد الديني (المبدأ، والمعاد، ورسالة الأنبياء) والأكثر من الإنكار أنّهم استهزؤوا بهذه الامور.

والآن بعد أن عرفنا علامات الكفار والأخسرين أعمالًا، وبعد أن انكشفت عاقبة أعمالهم، تتوجّه الآيات إلى المؤمنين فتبيّن عاقبتهم، وبمقايسة بين الاثنين نستطيع تشخيص

مختصر الامثل، ج 3، ص: 169

كل طرف بشكل كامل. تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا». «الفردوس»: البستان الذي يشتمل على كل النعم والمواهب اللازمة، وبذلك فالفردوس هو أفضل وأكمل البساتين في الجنة.

وبما أنّ كمال النعم بدوامها وأن لا تطالها يد الزوال، لذا فإنّ الآية تقول: «خلِدِينَ فِيهَا».

وبالرغم من أنّ طبع الإنسان قائم على التغيّر والتنوع، إلّاأنّ سكّان الجنة لا يطلبون تغيير مكانهم أو حالهم أبداً: «لَايَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا». ذلك لأنّهم يجدون كل ما يطلبون حتى التنوع والتكامل كما سيأتي شرح ذلك.

قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً وَ لَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: لمّا نزل قوله «وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» «1»، قالت اليهود: أوتينا علماً كثيراً، أوتينا التوراة، وفيها علم كثير، فأنزل اللَّه هذه الآية «قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمتِ رَبّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمتُ رَبّى».

التّفسير

الذين يأملون لقاء اللَّه: الآيات أعلاه في نفس الوقت الذي تبحث

بحثاً مستقلًا، إلّاأنّها متصلة مع بحوث هذه السورة، وكأنّما القرآن يريد أن يقول في هذه الآيات: إنّ الإطلاع على قصة أصحاب الكهف، وموسى والخضر، وذي القرنين، يعتبر لا شي ء إزاء علم اللَّه غير المحدود. القرآن الكريم يخاطب الرسول صلى الله عليه و آله- في أوّل آية نبحثها- بقوله: «قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمتِ رَبّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمتُ رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا».

«مداد»: تعني الحبر، أو أي مادة ملوّنة تساعد في الكتابة.

«كلمات»: جمع كلمة، وهي في الأصل تعني الألفاظ التي يتمّ التحدّث بها. أو بعبارة

______________________________

(1) سورة الإسراء/ 85.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 170

اخرى: «الكلمة» لفظ يدل على المعنى، وبما أنّ كل موجود من موجودات هذا العالم هو دليل على علم وقدرة الخالق، لذا فإنّه يطلق في بعض الأحيان على كل موجود اسم (كلمة اللَّه) ويختص هذا التعبير أكثر بالموجودات المهمة العظيمة.

وفي الآية التي نبحثها فإنّ (كلمة) قد استخدمت بهذا المعنى أي إشارة إلى موجودات عالم الوجود التي تدل كل واحدة فيه على الصفات المختلفة للَّه تبارك وتعالى.

إنّ القرآن يلفت أنظارنا في هذه الآية إلى هذه الحقيقة وهي: لا تظنّوا أنّ عالم الوجود محدود بما تشاهدونه أو تعلمونه أو تحسّونه، بل هو على قدر من السعة والعظمة بحيث لو أنّ البحار تتحوّل إلى حبر، وتكتب صفاته وخصائصه، فإنّها- أي البحار- ستجف قبل أن تحصي موجودات عالم الوجود.

وينبغي الإنتباه هنا إلى أنّ الآية أعلاه في الوقت الذي تجسّد فيه سعة عالم الوجود اللامتناهية في الماضي والحاضر والمستقبل، فإنّها توضّح- أيضاً- العلم المطلق وغير المحدود للخالق جلّ وعلا، لأنّنا نعلم أنّ اللَّه سبحانه وتعالى يحيط علمه بما كان موجوداً في عالم الوجود، وبما سيكون موجوداً، وفي الوقت

الذي يعتبر فيه علم اللَّه تعالى «علماً حضورياً» فإنّه لا يفترق عن وجود هذه الموجودات (فدقق في ذلك).

إذن نستطيع أن نقول: لو أنّ جميع المحيطات وبحار الأرض تحوّلت إلى حبر ومداد، ولو أنّ كافة الأشجار تحوّلت إلى أقلام، فإنّ ذلك كلّه لا يستطيع الإحاطة بما هو موجود في علم الخالق جلّ وعلا.

العدد الحي هو العدد الذي تنشغل أفكارنا به، ويجسّد الحقائق كما هي ويملك روحاً ولساناً وعظمة.

والقرآن الكريم بدلًا من أن يقول: إنّ مخلوقات عالم الوجود تتجاوز في كثرتها الرقم الذي تقع على يمينه مئات الكيلومترات من الأصفار، يقول: إذا تحوّلت جميع الأشجار إلى أقلام، وكل البحار إلى مواد وحبر، فإنّ الأقلام ستتكسر ومياه البحار ستنتهي، ولا تنتهي أسرار ورموز وحقائق عالم الوجود، هذه الأسرار التي يحيط بها جميعاً علم اللَّه تعالى.

الآية الثانية في البحث والتي هي آخر آية في سورة الكهف، عبارة عن مجموعة من

مختصر الامثل، ج 3، ص: 171

الأسس والأصول للإعتقادات الدينية، التي تتركّز في التوحيد والمعاد ورسالة الرّسول صلى الله عليه و آله.

ففي البداية تحدّثت السورة عن اللَّه والوحي والجزاء والقيامة، والآية الأخيرة هي خلاصة لمجموع ما ورد في السورة، التي اشتملت في قسم مهم منها على الأصول الثلاثة الآنفة باعتبارها محاور للسورة.

ولأنّ قضية النبوة قد اقترنت مع أشكال من الغلو والمبالغة على طول التاريخ، لذا فإنّ الآية تقول: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ».

وهذا التعبير القرآني نسف جميع الإمتيازات المقرونة بالشرك التي تخرج الأنبياء من صفة البشرية إلى صفة الألوهية.

ثم تشير الآية إلى قضية التوحيد من بين جميع القضايا الاخرى في الوحي الإلهي حيث تقول: «أَنَّمَا إِلهُكُم إِلهٌ وَاحِدٌ».

أمّا لماذا تمّت الإشارة إلى هذه القضية؟ فذلك لأنّ التوحيد هو خلاصة

جميع المعتقدات، وغاية كل البرامج الفردية والاجتماعية التي تجلب السعادة للإنسان.

وفي مكان آخر، أشرنا إلى أنّ التوحيد ليس أصلًا من أصول الدين وحسب، وإنّما هو خلاصة لجميع أصول وفروع الإسلام.

لهذا السبب نقرأ في حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «حدثني جبرائيل عليه السلام قال: سمعت ربّ العزّة سبحانه وتعالى يقول: كلمة لا إله إلّااللَّه حصني فمن قالها دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي» «1».

الجملة الثالثة في الآية الكريمة تشير إلى قضية البعث وتربطها بالتوحيد بواسطة (فاء التفريع)، حيث تقول: «فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا».

بالرغم من أنّ لقاء اللَّه بمعنى المشاهدة الباطنية ورؤية الذات المقدسة بعين البصيرة هو أمر ممكن في هذه الدنيا بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين، إلّاأنّ هذه القضية تكتسب جانباً عاماً يوم القيامة بسبب مشاهدة الآثار الكبيرة والواضحة والصريحة للخالق تبارك وتعالى. لذا فإنّ القرآن استخدم هذا التعبير في خصوص يوم القيامة.

______________________________

(1) بحار الأنوار 49/ 127.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 172

وفي آخر جملة ثمّة توضيح للعمل الصالح في جملة قصيرة، هي قوله تعالى: «وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدًا».

بعبارة اخرى: لا يكون العمل صالحاً ما لم تتجلى فيه حقيقة الإخلاص.

في الحقيقة إنّ العمل الصالح الذي ينبع من أهداف إلهيّة، ويمتزج بالإخلاص ويتفاعل معه، هو الذي يكون جوازاً للقاء اللَّه تبارك وتعالى.

فالعمل الخالص يعتبر مهماً في الإسلام إلى الحد الذي يقول فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من أخلص للَّه أربعين يوماً فجّر اللَّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» «1».

«نهاية تفسير سورة الكهف»

______________________________

(1) بحار الأنوار 67/ 249.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 173

19 سورة مريم

محتوى السورة: لهذه السورة من جهة المحتوى عدة أقسام مهمّة:

1- يشكّل القسم الذي يتحدث عن قصص زكريا

ومريم والمسيح عليهم السلام ويحيي وإبراهيم عليهما السلام بطل التوحيد، وولده إسماعيل، وإدريس وبعض آخر من كبار أنبياء اللَّه- الجزء الأهم في هذه السورة- ويحتوي على امور تربوية لها خصوصيات مهمّة.

2- ثم يتحدث عن المسائل المرتبطة بالقيامة، وكيفية البعث، ومصير المجرمين، وثواب المتقين، وأمثال ذلك.

3- القسم الثالث، وهو المواعظ والنصائح التي تكمّل الأقسام السابقة.

4- إنّ آخر قسم عبارة عن الإشارات المرتبطة بالقرآن، ونفي الولد عن اللَّه سبحانه، ومسألة الشفاعة، وتشكّل بمجموعها برنامجاً تربوياً مؤثّراً من أجل دفع النفوس الإنسانية إلى الإيمان والطهارة والتقوى.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت في الدنيا حتى يصيب منها ما يغنيه في نفسه وماله وولده وكان في الآخرة من أصحاب عيسى بن مريم عليه السلام واعطي من الأجر في الآخرة ملك سليمان بن داود في الدنيا».

إنّ هذا الغنى وعدم الإحتياج- حتماً- قبس من وجود محتوى السورة وسريانها في أعماق روح الإنسان، وانعاكسها من خلال أعماله وأقواله وسلوكه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 174

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4) وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَ كَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً (5) يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً (6)

دعاء زكريا المستجاب: مرّة اخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة، ولمّا كنّا قد بحثنا تفسير هذه الحروف المقطعة بصورة مفصّلة في بداية ثلاث سور مختلفة فيما سبق- سورة البقرة وآل عمران والأعراف- فلا نرى حاجة للتكرار هنا.

ولكن ما

ينبغي اضافته هنا هو وجود طائفتين من الروايات في المصادر الإسلامية تتعلق بالحروف المقطعة في هذه السورة «كهيعص».

الاولى: تقول بأنّ كل حرف من هذه الحروف يشير إلى اسم من أسماء اللَّه الحسنى، فالكاف يشير إلى الكافي، وهو من أسماء اللَّه الحسنى، والهاء تشير إلى الهادي، والياء إشارة إلى الولي، والعين إشارة إلى العالم، والصاد إشارة إلى صادق الوعد «1».

الثانية: تفسّر هذه الحروف المقطعة بحادثة ثورة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء: فالكاف اسم كربلاء، والهاء هلاك العترة، والياء يزيد لعنه اللَّه وهو ظالم الحسين، والعين عطشه، والصاد إشارة إلى صبره «2».

وكما قلنا مراراً، فإنّ لآيات القرآن أنوار ومعان مختلفة، ومع تنوعها واختلافها فإنّه لا يوجد تناقض بينها.

وبعد ذكر الحروف المقطعة، تشرع الكلمات الاولى باستعراض قصة زكريا عليه السلام فتقول:

«ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا». وفي ذلك الوقت الذي كان زكريا عليه السلام مغتماً ومتألماً فيه

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين 3/ 320.

(2) المصدر السابق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 175

من عدم إنجاب الولد، توجّه إلى رحمة ربّه: «إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا» بحيث لم يسمعه أحد. وذكر في دعائه وهن وضعف العظام باعتبارها عمود بدن الإنسان ودعامته وأقوى جزء من اجزائه: «قَالَ رَبّ إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا».

لقد شبّه زكريا نزول الكبر، وبياض كل شعر رأسه باشتعال النار، والرماد الأبيض الذي تتركه، وهذا التشبيه جميل وبليغ جدّاً.

ثم يضيف: «وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيًّا». فقد عوّدتني دائماً- فيما مضى- على استجابة أدعيتي، ولم تحرمني منها أبداً، والآن وقد أصبحت كبيراً وعاجزاً فأجدني أحوج من السابق إلى أن تستجيب دعائي ولا تخيّبني.

إنّ الشقاء هنا بمعنى التعب والأذى أي إنّي لم أتعب ولم أتأذّ في طلباتي منك، لأنّك كنت تقضيها

بسرعة.

ثم يبيّن حاجته: «وَإِنّى خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَاءِى». أي إنّي أخشى من أقربائي أن يسلكوا سبيل الانحراف والظلم، «وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيًّا». أي مرضياً عندك.

إنّ للإرث هنا مفهوماً ومعنى واسعاً يشمل إرث الأموال كما يشمل إرث المقامات المعنوية، لأنّ الأشخاص الفاسدين إذا تولّوا أمر هذه الأموال، فإنّهم سيكونون مصدر قلق حقاً، وإذا وقعت زمام الامور وقيادة الناس المعنوية بيد أناس منحرفين، فإنّ ذلك أيضاً يثير المخاوف، وعلى هذا فإنّ خوف زكريا يمكن توجيهه في كلا الصورتين.

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَ كَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً (8) قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَنْ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيّاً (11)

بلوغ زكريا أمله: تبيّن هذه الآيات استجابة دعاء زكريا عليه السلام من قبل اللَّه تعالى استجابة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 176

ممزوجة بلطفه الكريم وعنايته الخاصة، وتبدأ بهذه الجملة: «يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَّجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا». أمّا زكريا الذي كان يرى أنّ الأسباب الظاهرية لا تساعد على الوصول إلى مثل هذه الأمنية، فإنّه طلب توضيحاً لهذه الحالة من اللَّه سبحانه: «قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا».

«عاقر»: في الأصل من لفظة «عقر» بمعنى الجذر والنهاية، أو بمعنى الحبس، وإنّما يقال للمرأة، عاقر؛ لأنّ

قابليتها على الولادة قد انتهت، أو لأنّ إنجاب الأولاد محبوس عنها.

«العتيّ»: تعني الشخص الذي نحل جسمه وضعف هيكله، وهي الحالة التي تظهر على الإنسان عند شيخوخته.

إلّا أنّ زكريا سمع في جواب سؤاله قول اللَّه سبحانه: «قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ».

إنّ هذه ليست بالمسألة العجيبة، أن يولد مولود من رجل طاعن في السن مثلك، وامرأة عقيم ظاهراً «وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيًا»، فإنّ اللَّه قادر على أن يخلق كل شي ء من العدم، فلا عجب أن يتلطّف عليك بولد في هذا السن وفي هذه الظروف.

وقد سرّ زكريا وفرح كثيراً لدى سماعه هذه البشارة، وغمر نور الأمل نفسه، لكن لمّا كان هذا النداء بالنسبة إليه مصيرياً ومهماً جدّاً، فإنّه طلب من ربّه آية على هذا العمل:

«قَالَ رَبّ اجْعَل لِّى ءَايَةً».

لا شك أنّ زكريا كان مؤمناً بوعد اللَّه، وكان مطمئناً لذلك، إلّاأنّه لزيادة الإطمئنان- كما أنّ إبراهيم الذي كان مؤمناً بالمعاد طلب مشاهدة صورة وكيفية المعاد في هذه الحياة ليطمئن قلبه- طلب من ربّه مثل هذه العلامة والآية، فخاطبه اللَّه: «قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلثَ لَيَالٍ سَوِيًّا»، واشغل لسانك بذكر اللَّه ومناجاته.

وهذه واقعاً معجزة بيّنة حيث إنّ إنساناً يمتلك لساناً سليماً، وقدرة على كل نحو من المناجاة مع اللَّه، ومع ذلك لا تكون له القدرة على التحدّث أمام الناس.

بعد هذه البشارة والآية الواضحة، خرج زكريا من محراب عبادته إلى الناس، فكلّمهم بالإشارة: «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا»، لأنّ النعمة الكبيرة التي منّ اللَّه بها على زكريا قد أخذت بأطراف القوم، وكان لها تأثير على مصير ومستقبل كل هؤلاء.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 177

وإذا تجاوزنا ذلك، فإنّ بإمكان هذه الموهبة

التي تعتبر إعجازاً أن تحكّم أسس الإيمان في قلوب الناس، وكانت هذه أيضاً موهبة اخرى.

لقد ورد اسم «يحيى» في القرآن الكريم خمس مرات- في سور آل عمران، والأنعام، ومريم، والأنبياء- فهو واحد من أنبياء اللَّه الكبار، ومن جملة امتيازاته ومختصاته أنّه وصل إلى مقام النبوة في مرحلة الطفولة.

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً (12) وَ حَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكَاةً وَ كَانَ تَقِيّاً (13) وَ بَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً (14) وَ سَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً (15)

صفات يحيى عليه السلام البارزة: رأينا في الآيات السابقة كيف أنّ اللَّه سبحانه منّ على زكريا عند كبره بيحيى، وبعد ذلك فإنّ أوّل ما نلاحظه في هذه الآيات هو الأمر الإلهي المهم الذي يخاطب يحيى: «يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتبَ بِقُوَّةٍ».

إنّ المراد من الكتاب هنا هو التوراة، فإنّ المراد من أخذ الكتاب بقوة هو إجراء وتنفيذ ما جاء في كتاب التوراة السماوي وأن يعمل بكلّ ما فيه، وأن يستعين بكل القوى المادية والمعنوية في سبيل نشره وتعميمه.

ثم أشار القرآن الكريم إلى المواهب العشرة التي منحها اللَّه ليحيى والتي اكتسبها بتوفيق اللَّه:

1- «وَءَاتَيْنهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا». وهو أمر النبوة والعقل والذكاء والدراية.

2- «وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا». و «الحنان» في الأصل بمعنى الرحمة والشفقة والمحبة وإظهار العلاقة والمودة للآخرين.

3- «وَزَكَوةً». أي أعطيناه روحاً طاهرة وزكية.

4- «وَكَانَ تَقِيًّا». فكان يجتنب كل ما يخالف الأوامر الالهية.

5- «وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ».

6- «وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا» فلم يكن رجلًا ظالماً ومتكبّراً وانانيّاً.

7- ولم يكن «عَصِيًّا» ولم يقترف ذنباً ومعصية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 178

8، 9، 10- ولمّا كان جامعاً لكل هذه الصفات البارزة، والأوسمة الكبيرة، فإنّ اللَّه سبحانه قد سلّم

عليه في ثلاثة مواطن: «وَسَلمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا». إنّ جملة «سَلمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ ...» يبيّن أنّ في تاريخ حياة الإنسان وانتقاله من عالم إلى عالم آخر ثلاثة أيام صعبة: يوم يضع قدمه في هذه الدنيا: «يَوْمَ وُلِدَ» ويوم موته وانتقاله إلى عالم البرزخ «وَيَوْمَ يَمُوتُ» ويوم بعثه في العالم الآخر «وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا». ولمّا كان من الطبيعي أن تكون هذه الأيّام مرافقة للإضطرابات والقلق، فإنّ اللَّه سبحانه يكتنف خاصة عباده بلطفه وعافيته، ويجعل هؤلاء في ظلّ حمايته ومنعته في هذه المراحل العسيرة الثلاثة.

شهادة يحيى عليه السلام: لقد أصبح يحيى ضحيّة للعلاقات غير الشرعية لأحد طواغيت زمانه مع أحد محارمه، حيث تعلّق «هروديس» ملك فلسطين اللاهث وراء شهواته ببنت أخته «هروديا» ولذلك صمم على الزواج منها.

فبلغ هذا الخبر نبي اللَّه العظيم يحيى عليه السلام، فأعلن بصراحة أنّ هذا الزواج غير شرعي ومخالف لتعليمات التوراة، وسأقف أمام مثل هذا العمل.

لقد انتشر صخب وضوضاء هذه المسألة في كل أرجاء المدينة، وسمعت تلك الفتاة (هروديا) بذلك، فكانت ترى يحيى أكبر عائق في طريقها، ولذلك صممت على الإنتقام منه في فرصة مناسبة، فعمّقت علاقتها بخالها ووطّدتها، وجعلت من جمالها مصيدة له، فقالت هروديا: لا أريد منك إلّارأس يحيى.

فسلّم هيروديس لما أرادت من دون أن يفكّر ويتنبه إلى عاقبة هذا العمل، ولم يمض قليل من الزمن حتى احضر رأس يحيى عند تلك المرأة الفاجرة، إلّاأنّ عواقب هذا العمل الشنيع قد أحاطت به، وأخذت بأطرافه في النهاية.

في تفسير مجمع البيان عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: «خرجنا مع الحسين عليه السلام فما نزل منزلًا ولا ارتحل منه إلّاذكر يحيى بن زكريا وقتله، وقال يوماً: ومن هوان

الدنيا على اللَّه عزّ وجل أنّ رأس يحيى بن زكريا اهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل». أي إنّ ظروفي تشابه من هذه الناحية ظروف وأحوال يحيى، لأنّ أحد أهداف ثورتي محاربة الأعمال المخزية لطاغوت زماني يزيد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 179

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيّاً (20) قَالَ كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً (21)

ولادة عيسى عليه السلام: بعد ذكر قصة يحيى عليه السلام، حوّلت الآيات مجرى الحديث إلى قصة عيسى عليه السلام لوجود علاقة قوية وتقارب واضح جدّاً بين مجريات هاتين الحادثتين.

فإن كانت ولادة يحيى من أب كبير طاعن في السن وأم عقيم عجيبة، فإنّ ولادة عيسى من امّ دون أب أعجب.

وإن كان الوصول إلى مقام النبوة وبلوغ العقل الكامل- في مرحلة الطفولة- باعثاً على الحيرة ومعجزاً، فإنّ التحدّث في المهد عن الكتاب والنبوة أبعث على التعجب والحيرة، وأكثر إعجازاً.

وعلى كل حال، فإنّ كلا الأمرين آيتان على قدرة اللَّه الكبير المتعال، إحداهما أكبر من الاخرى، وقد صادف أن تكون كلتا الآيتين مرتبطتان بشخصين تربطهما أواصر نسب قوية، فكل منهما قريب للآخر من ناحية النسب، حيث إنّ امّ يحيى كانت أخت امّ مريم، وكانت كلتاهما عقيمتين وتعيشان أمل الولد الصالح.

تقول الآية الاولى: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا».

«انتبذت»: أخذت من

مادة «نبذ» وهي تعني إلقاء وإبعاد الأشياء التي لا تسترعي الإنتباه، وربّما كان هذا التعبير في الآية إشارة إلى أنّ مريم قد اعتزلت بصورة متواضعة ومجهولة وخالية من كل ما يجلب الإنتباه، واختارت ذلك المكان من بيت اللَّه للعبادة.

في هذه الأثناء ومن أجل أن تكمل مريم مكان خلوتها واعتكافها من كل جهة، فإنّها «فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا». «فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا». والروح هنا جبرئيل ملك اللَّه العظيم حيث تجسّد لمريم على شكل انسان جميل لا عيب فيه ولا نقص.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 180

إنّ الحالة التي اعترت مريم في تلك اللحظة واضحة جدّاً، كم داخلها من الرعب والإضطراب عند مشاهدة هذا المنظر، وهو دخول رجل أجنبي جميل في محل خلوتها، ولذلك فإنّها مباشرة: «قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا». وكانت هذه أوّل هزّة عمّت كل وجود مريم.

إنّ ذكر اسم الرحمان، ووصفه برحمته العامة من جهة، وترغيب الرجل في التقوى والإمتناع عن المعصية من جهة اخرى، كان من أجل أن يرتدع هذا الشخص المجهول إن كانت له نيّة سيّئة في إرتكاب المعصية.

لقد كانت مريم تنتظر ردّ فعل ذلك الشخص المجهول بعد أن تفوّهت بهذه الكلمات إنتظاراً مشوباً بالإضطراب والقلق الشديد، إلّاأنّ هذه الحالة لم تطل، فقد كلّمها ذلك الشخص، ووضّح مهمّته ورسالته العظيمة «قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبّكِ».

لقد كانت هذه الجملة كالماء الذي يلقى على النار، فقد طمأنت قلب مريم الطاهر، إلّاأنّ هذا الإطمئنان لم يدم طويلًا، لأنّه أضاف مباشرة: «لِأَهَبَ لَكِ غُلمًا زَكِيًّا».

لقد اهتز كيان ووجود مريم لدى سماع هذا الكلام، وغاصت مرّة اخرى في قلق شديد:

«قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا».

لقد كانت تفكّر في تلك

الحالة في الأسباب الطبيعية فقط. إلّاأنّ أمواج هذا القلق المتلاطمة هدأت بسرعة عند سماع كلام آخر من رسول اللَّه إليها، فقد خاطب مريم بصراحة: «قَالَ كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ». فأنت الواقفة على قدرتي والعالمة بها جيّداً ...

أنت التي رأيت ثمر الجنّة في فصل لا يوجد شبيه لتلك الفاكهة في الدنيا جنب محراب عبادتك، أنت التي سمعت نداء الملائكة حين شهدت بعفّتك وطهارتك ... أنت التي تعلمين أنّ جدّك آدم قد خلق من التراب، فلماذا هذا التعجب من سماعك هذا الخبر؟

ثم أضاف: «وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا». فنحن نريد أن نبعثه للناس رحمة من عندنا، ونجعله معجزة، وعلى كل حال، «وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا». فلا مجال بعد ذلك للمناقشة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 181

مريم في عاصفة: وأخيراً حملت مريم، واستقرّ ذلك الولد الموعود في رحمها:

«فَحَمَلَتْهُ».

إنّ هذا الأمر قد تسبب في أن تبتعد عن بيت المقدس «فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا».

لقد كانت تعيش في حالة بين الخوف والأمل، حالة من القلق والإضطراب المشوب بالسرور، فهي تفكّر أحياناً بأنّ هذا الحمل سيفتضح أمره في النهاية.

فمن الذي سيقتنع بأنّ إمرأة لا زوج لها تحمل دون أن تكون قد تلوّثت بالرذيلة؟ فماذا سأفعل تجاه هذا الإتهام؟

إلّا أنّها من جهة اخرى كانت تحسّ أنّ هذا المولود، نبي اللَّه الموعود، تحفة سماوية نفيسة، فإنّ اللَّه الذي بشّرني بمثل هذا الغلام، وخلقه بهذه الصورة الإعجازية كيف سيذرني وحيدة؟

ومهما كان فقد انتهت مدّة الحمل.

ومع أنّ النساء يلجأن عادة في مثل هذه الحالة إلى المعارف والأصدقاء ليساعدوهنّ على الولادة، إلّاأنّ وضع مريم لمّا كان استثنائياً، ولم تكن تريد أن يرى أحد وضع حملها مطلقاً، فإنّها اتّخذت طريق الصحراء بمجرّد أن بدأ ألم الولادة؛ ويقول القرآن في

ذلك:

«فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ».

إنّ التعبير بجذع النخلة، وبملاحظة أنّ الجذع يعني بدن الشجرة، يوحي بأنّه لم يبق من تلك الشجرة إلّاجذعها وبدنها، أي إنّ الشجرة كانت يابسة.

في هذا الحال غمر كل وجود مريم الطاهر سيل من الغم والحزن، لقد كان هذا الإضطراب والصراع صعباً جدّاً، وقد أثقل كاهلها إلى الحد الذي تكلّمت فيه بلا إرادة و «قَالَتْ يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا».

إنّ من البديهي أنّ الخوف من التهم في المستقبل لم يكن الشي ء الوحيد، وإن كان هذا الموضوع يشغل فكر مريم أكثر من أيّة مسألة اخرى، إلّاأنّ مشاكل ومصائب اخرى كوضع الحمل لوحدها بدون قابلة وصديق ومعين في الصحاري الخالية، وعدم وجود مكان للإستراحة، وعدم وجود الماء للشرب، والطعام للأكل، وعدم وجود وسيلة لحفظ المولود الجديد، وغير هذه الامور كانت تهزّها من الأعماق بشدة.

إلّا أنّ هذه الحالة لم تدم طويلًا، فقد سطعت ومضة الأمل التي كانت موجودة دائماً في

مختصر الامثل، ج 3، ص: 182

أعماق قلبها، وطرق سمعها صوت، «فَنَادَيهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا». وانظري إلى الأعلى كيف أنّ هذا الجذع اليابس قد تحوّل إلى نخلة مثمرة، «وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا* فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرّى عَيْنًا» بالمولود الجديد، «فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِى إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا». وهذا الصوم هو المعروف بصوم السكوت. وعلى هذا فليهدأ روعك من كل الجهات، ولا تدعي للهم طريقاً إلى نفسك.

ويظهر من تعبير الآية أنّ نذر صوم السكوت كان أمراً معروفاً في ذلك المجتمع، ولهذا لم يعترضوا على هذا العمل؛ غير أنّ هذا النوع من الصوم غير جائز في شريعتنا.

عن علي بن الحسين عليه

السلام (في حديث) قال: «وصوم الصمت حرام» «1».

استفاد المفسرون مما جاء صريحاً في هذه الآيات، أنّ اللَّه سبحانه قد جعل غذاء مريم حين ولادة مولودها الرطب.

في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليكن أوّل ما تأكل النفساء الرطب، فإنّ اللَّه عزّ وجل قال لمريم: «وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا»».

ويستفاد من الروايات أنّ أفضل غذاء ودواء للحامل هو الرطب.

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ مَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيّاً (30) وَ جَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنْتُ وَ أَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَ الزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31) وَ بَرّاً بِوَالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (32) وَ السَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً (33)

المسيح يتكلّم في المهد: وأخيراً رجعت مريم عليها السلام من الصحراء إلى المدينة وقد احتضنت طفلها «فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ». فلمّا رأوا طفلًا حديث الولادة بين يديها فغرّوا أفواههم تعجّباً، وتعجّل آخرون في القضاء والحكم، وقالوا: إنّ من المؤسف هذا الإنحدار مع ذلك الماضي المضي ء، ومع الأسف على تلوّث سمعة تلك الأسرة الطاهرة، «قَالُوا يَا مَرْيَمُ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 7/ 390.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 183

لَقَدْ جِئْتِ شَيًا فَرِيًّا».

والبعض الآخر واجهها، بالقول: «يَا أُختَ هرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امَرأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا».

أمّا قولهم لمريم: «يَا أُختَ هرُونَ» لأنّ هارون رجل طاهر صالح إلى الدرجة التي يضرب به المثل بين بني إسرائيل، فإذا أرادوا

أن يصفوا شخصاً بالطهارة والنزاهة، كانوا يقولون: إنّه أخو أو أخت هارون.

في هذه الساعة، سكتت مريم بأمر اللَّه، والعمل الوحيد الذي قامت به، هو أنّها أشارت إلى وليدها «فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ». إلّاأنّ هذا العمل جعل هؤلاء يتعجبون أكثر، ثم غضبوا فقالوا:

مع قيامك بهذا العمل تسخرين من قومك أيضاً؟ «قَالُوا كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيًّا».

إنّ الناس قلقوا واضطربوا من سماع كلام مريم هذا، بل وربما غضبوا وقالوا لبعضهم البعض- حسب بعض الروايات-: إنّ استهزاءها وسخريتها أشدّ علينا من انحرافها عن جادة العفة.

إلّا أنّ هذه الحالة لم تدم طويلًا، لأنّ ذلك الطفل الذي ولد حديثاً قد فتح فاه وتكلّم:

«قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتنِىَ الْكِتبَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا* وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ»، ومفيداً من كل الجهات للعباد «وَأَوْصنِى بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا».

وكذلك جعلني مطيعاً ووفيّاً لُامي «وَبَرًّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا».

وروى- في التفسير الكبير- أنّ عيسى عليه السلام قال: «قلبي لين وأنا صغير في نفسي». وهو إشارة إلى أنّ هذين الوصفين يقعان في مقابل الجبار والشقي.

وفي النهاية يقول هذا المولود- أي المسيح-: «وَالسَّلمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا».

هذه الآية في حق يحيى عليه السلام كما وردت في شأن المسيح عليه السلام، مع الاختلاف بأنّ اللَّه هو الذي قالها في المورد الأوّل، أمّا في المورد الثاني فإنّ المسيح قد طلب ذلك.

ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 184

أيمكن أن يكون للَّه ولد؟! بعد تجسيد القرآن الكريم في الآيات السابقة حادثة ولادة المسيح عليه السلام بصورة حيّة وواضحة جدّاً، انتقل إلى نفي

الخرافات وكلمات الشرك التي قالوها في شأن عيسى، فيقول: «ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ». خاصّة وأنّه يؤكّد على كونه «ابن مريم» ليكون ذلك مقدمة لنفي بنوّته للَّه سبحانه. ثم يضيف: «قَوْلَ الْحَقّ الَّذِى فِيهِ يَمْتَرُونَ».

وتقول الآية التالية بصراحة: «مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحنَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ». وهذا إشارة إلى أنّ اتخاذ الولد- كما يظن المسيحيون في شأن اللَّه- لا يناسب قداسة مقام الألوهية والربوبية، فهو يستلزم من جهة الجسمية، ومن جانب آخر المحدودية، ومن جهة ثالثة الإحتياج.

إنّ تعبير «كُن فَيَكُونُ» تجسيد حي جدّاً عن مدى سعة قدرة اللَّه، وتسلطه وحاكميته في أمر الخلقة.

وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْهَا وَ إِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)

إنّ آخر كلام لعيسى عليه السلام بعد تعريفه لنفسه بالصفات التي ذكرت، هو التأكيد على مسألة التوحيد، وخاصة في مجال العبادة، فيقول: «وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ».

وعلى هذا فإنّ عيسى عليه السلام بدأ بمحاربة كل أنواع الشرك وعبادة الآلهة المزدوجة والمتعددة منذ بداية حياته.

غير أنّه بالرغم من كل هذه التأكيدات التي أكّد عليها المسيح عليه السلام في مجال التوحيد وعبادة اللَّه، فقد اختلفت الفئات، وأظهروا اعتقادات مختلفة، وخاصة في شأن المسيح:

«فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

إنّ تاريخ المسيحية يشهد بوضوح على مدى الاختلاف الذي حصل بعد المسيح

عليه السلام في شأنه، وحول مسألة التوحيد.

فذهب البعض: إنّ المسيح هو اللَّه الذي نزل إلى الأرض! فأحيى جماعة، وأمات اخرى، ثم صعد إلى السماء!

مختصر الامثل، ج 3، ص: 185

وقال البعض الآخر: إنّه ابن اللَّه!

ورأى آخرون: إنّه أحد الأقانيم الثلاثة- الذوات الثلاثة المقدسة- الأب والإبن وروح القدس، اللَّه الأب، واللَّه الإبن وروح القدس.

وآخرون قالوا: إنّه ثالث ثلاثة: فاللَّه معبود، وهو معبود، وامّه معبودة!

وأخيراً قال البعض: إنّه عبد اللَّه ورسوله.

ولمّا كان الانحراف عن أصل التوحيد يعتبر أكبر انحراف للمسيحيين، فقد رأينا كيف أنّ اللَّه قد هدّد هؤلاء في ذيل الآية بأنّهم سيكون لهم مصير مؤلم مشؤوم في يوم القيامة، في ذلك المشهد العام، وأمام محكمة اللَّه العادلة.

ثم تبيّن الآية التالية وضع اولئك في عرصات القيامة، فتقول عندما يقدمون علينا يوم القيامة فسوف تكون لهم اسماع قويّة وابصار حادّه فيسمعون ويرون جميع الحقائق التي كانت خافية عليهم في هذه الدنيا، ولكن الظالمين اليوم، أي في هذه الدنيا غافلون عن هذه العاقبة: «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لكِنِ الظلِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

ومن الطبيعي أن تسلب المحكمة وآثار الأعمال نوم الغفلة من العين والأذن، وحتى عمي القلوب فإنّهم سيعون الأمر ويعلمون الحق، إلّاأنّ هذا الوعي والعلم لا ينفعهم شيئاً.

ثم تؤكّد الآية التالية مرّة اخرى على مصير المنحرفين والظالمين في ذلك اليوم، فتقول:

«وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ».

حيث يتحسّر المؤمنون المحسنون على قلّة عملهم، وياليتهم كانوا قد عملوا أكثر، وكذلك يتحسّر المسيئون، لأنّ الحجب تزول، وتتّضح حقائق الأعمال ونتائجها للجميع.

ثم تحذّر الآية الأخيرة- من آيات البحث- كل الظالمين والجائرين، وتذكّرهم بأنّ هذه الأموال التي تحت تصرفهم الآن ليست خالدة، كما أنّ حياتهم ليست خالدة، بل إنّ

الوارث الأخير لكل شي ء هو اللَّه سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ».

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَ لَا يُبْصِرُ وَ لَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيّاً (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً (45)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 186

إبراهيم ومنطقه المؤثر والقاطع: تزيح هذه الآيات الستار عن جانب من حياة بطل التوحيد إبراهيم الخليل عليه السلام، وتؤكّد على أنّ دعوة هذا النبي الكبير- كسائر المرشدين الإلهيين- تبدأ من نقطة التوحيد، فتقول أوّلًا: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ إِبْرهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَبِيًّا».

إنّ أبرز صفة يلزم وجودها في كل الانبياء وحملة الوحي الإلهي أن يوصلوا أوامر اللَّه إلى العباد دون زيادة أو نقصان.

ثم تتطرق الآية التي بعدها إلى شرح محاورته مع أبيه آزر- والأب هنا إشارة إلى العم، فإنّ كلمة الأب، كما قلنا سابقاً، ترد أحياناً في لغة العرب بمعنى الأب، وأحياناً بمعنى العم- فتقول: «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَايَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِى عَنكَ شَيًا».

إنّ هذا البيان القصير القاطع من أحسن أدلة نفي الشرك وعبادة الأوثان، لأنّ أحد بواعث الإنسان في معرفة الرب هو باعث الربح والخسارة، والضرر والنفع، والذي يعبّر عنه علماء العقائد بمسألة (دفع الضرر المحتمل). فهو يقول: لماذا تتّجه إلى معبود ليس عاجزاً عن حل مشكلة من مشاكلك وحسب، بل إنّه لا يملك أصلًا القدرة على السمع والبصر.

بعد ذلك دعاه- عن طريق المنطق

الواضح- إلى اتّباعه، فقال: «يَا أَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا». فإنّي قد وعيت اموراً كثيرة عن طريق الوحي، وأستطيع أن أقول باطمئنان: إنّي سوف لا أسلك طريق الضلال والخطأ، ولا أدعوك أبداً إلى هذا الطريق المعوج.

ثم يعطف نظره إلى الجانب السلبي من القضية بعد ما ذكر بعدها الايجابي ويشير إلى الآثار التي تترتب على مخالفة هذه الدعوة، فيقول: «يَا أَبَتِ لَاتَعْبُدِ الشَّيْطنَ إِنَّ الشَّيْطنَ كَانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا».

إنّ العبادة هنا بمعنى الطاعة واتباع الأوامر، وهذا بنفسه يعتبر نوعاً من العبادة.

ثم يذكّره وينبّهه مرّة اخرى بعواقب الشرك وعبادة الأصنام المشؤومة، ويقول: «يَا أَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطنِ وَلِيًّا».

إنّ تعبير إبراهيم هذا رائع جدّاً، فهو من جانب يخاطب عمّه دائماً ب «يَا أَبَتِ» وهذا يدل على الأدب واحترام المخاطب، ومن جانب آخر فإنّ قوله «أَن يَمَسَّكَ» توحي بأنّ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 187

إبراهيم كان قلقاً ومتأثّراً من وصول أدنى أذى إلى آزر.

قَالَ أَ رَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيّاً (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (47) وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ أَدْعُو رَبِّي عَسَى أَنْ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلًّا جَعَلْنَا نَبِيّاً (49) وَ وَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَ جَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً (50)

نتيجة البعد عن الشرك والمشركين: مرّت في الآيات السابقة كلمات إبراهيم عليه السلام التي كانت ممتزجة باللطف والمحبّة في طريق الهداية، والآن جاء دور ذكر أجوبة آزر، لكي تتّضح الحقيقة

والواقع من خلال مقارنة الكلامين مع بعضهما. يقول القرآن الكريم: إنّ حرص وتحرّق إبراهيم، وبيانه الغني العميق لم ينفذ إلى قلب آزر، بل إنّه غضب لدى سماعه هذا الكلام، و «قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِى يَا إِبْرهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا».

لكن، ورغم كل ذلك، فقد سيطر إبراهيم على أعصابه، كبقية الأنبياء والقادة الإلهيين، ومقابل هذه الغلظة والحدّة وقف بكل سمو وعظمة، و «قَالَ سَلمٌ عَلَيْكَ».

إنّ هذا السلام يمكن أن يكون سلام التوديع، وأنّ إبراهيم بقوله: «سَلمٌ عَلَيْكَ» وما يأتي بعده من كلام يقصد ترك آزر؛ ويمكن أن يكون سلاماً يقال لفض النزاع.

ثم أضاف: «سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّى إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيًّا». إنّ إبراهيم في الواقع قابل خشونة وتهديد آزر بالعكس، ووعده بالاستغفار وطلب مغفرة اللَّه له.

ثم يقول: «وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ». أي: الأصنام. «وَأَدْعوا رَبّى عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبّى شَقِيًّا».

تبيّن هذه الآية من جهة أدب إبراهيم في مقابل آزر، ومن جهة اخرى فإنّها تبيّن حزمه في عقيدته.

لقد وفى إبراهيم بقوله، وثبت على عقيدته بكلّ صلابة وصمود، وكان دائماً ينادي بالتوحيد، بالرغم من أنّ كل ذلك المجتمع الفاسد في ذلك اليوم قد وقف ضدّه وثار عليه، إلّا أنّه لم يبق وحده في النهاية، فقد وجد أتباعاً كثيرين على مرّ القرون والأعصار، بحيث إنّ كل

مختصر الامثل، ج 3، ص: 188

الموحدين وعباد اللَّه في العالم يفتخرون بوجوده. يقول القرآن الكريم: «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلَّا جَعَلْنَا نَبِيًّا».

إنّ هذه الموهبة العظيمة كانت نتيجة صبر إبراهيم عليه السلام واستقامته التي أظهرها في طريق محاربة الأصنام، واعتزال المنهج الباطل والإبتعاد عنه. وإضافة إلى ذلك: «وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَحْمَتِنَا». تلك الرحمة

الخاصة بالمخلصين، والرجال المجاهدين في سبيل اللَّه. وأخيراً: «وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا».

إنّ هذا في الحقيقة إجابة لطلب ودعاء إبراهيم الذي جاء في الآية (84) من سورة الشعراء: «وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الْأَخِرِينَ».

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولًا نَبِيّاً (51) وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً (52) وَ وَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً (53)

موسى النبي المخلص: في هذه الآيات الثلاث إشارة قصيرة إلى موسى عليه السلام- وهو من ذرّية إبراهيم عليه السلام وموهبة من مواهب ذلك الرجل العظيم- حيث سار على خطاه.

وتوجّه الآية الخطاب إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وتقول: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ مُوسَى .

ثم تذكر خمس مواهب وصفات من المواهب التي أعطيت لهذا النبي الكبير:

1- إنّه وصل في طاعته وعبوديته للَّه إلى حدّ «إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا». ولا ريب أنّ الذي يصل إلى هذه المرتبة سيكون مصوناً من خطر الانحراف والتلوّث، لأنّ الشيطان رغم كل إصراره على إضلال عباد اللَّه، يعترف هو نفسه بعدم قدرته على إضلال المخلصين: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» «1».

2- «وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا». فحقيقة الرسالة أن تلقى مهمّة على عاتق شخص، وهو مسؤول عن أدائها وإبلاغها، وهذا المقام كان لجميع الأنبياء المأمورين بالدعوة.

إنّ ذكر كونه «نبيّاً» هنا إشارة إلى علوّ مقام هذا النبي العظيم، لأنّ هذه اللفظة في الأصل مأخوذة من (النّبْوَة) وتعني رفعة المقام وعلوّه.

3- وأشارت الآية التالية إلى بداية رسالة موسى، فقالت: «وَندَيْنهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ

______________________________

(1) سورة ص/ 82 و 83.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 189

الْأَيْمَنِ». ففي تلك الليلة المظلمة الموحشة، حيث قطع موسى صحارى مدين متوجّهاً إلى مصر، أخذ زوجته الطلق وألم الولادة،

وكان البرد شديداً، فكان يبحث عن شعلة نار، وفجأة سطع نور من بعيد، وسمع نداء يبلغه رسالة اللَّه، وكان هذا أعظم وسام وألذّ لحظة في حياته.

4- إضافة إلى ذلك: «وَقَرَّبْنهُ نَجِيًّا» «1» فإنّ النداء كان موهبة، والتكلّم موهبة اخرى.

5- وأخيراً «وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هرُونَ نَبِيًّا» ليكون معينه ونصيره.

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَ كَانَ رَسُولًا نَبِيّاً (54) وَ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَ الزَّكَاةِ وَ كَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً (55)

إسماعيل نبي صادق الوعد: بعد ذكر إبراهيم عليه السلام وتضحيته، وبعد الإشارة القصيرة إلى حياة موسى عليه السلام المتسامية، يأتي الحديث عن إسماعيل، أكبر ولد إبراهيم، ويكمل ذكر إبراهيم بذكر ولده إسماعيل، وبرامجه ببرامج ولده، ويبيّن القرآن الكريم خمس صفات من صفاته البارزة التي يمكن أن تكون قدوة للجميع.

ويبدأ الكلام بخطاب الآية الشريفة للنبي صلى الله عليه و آله فتقول: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ إِسْمعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا* وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيًّا».

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً (56) وَ رَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْرَائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيّاً (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60)

هؤلاء أنبياء اللَّه، ولكن ...: في آخر قسم من تذكيرات هذه السورة، جاء الحديث عن

______________________________

(1) وهنا ينادي اللَّه موسى من بعيد،

ولمّا اقترب ناجاه. ومن المعلوم أنّ اللَّه سبحانه ليس له لسان ولا مكان، بل يوجد الأمواج الصوتية في الفضاء، ويتكلم مع عبد كموسى.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 190

«إدريس» النبي، فقالت الآية أوّلًا: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَّبِيًّا».

«الصديق»: هو الشخص الصادق جدّاً، والمصدق بآيات اللَّه سبحانه، والمذعن للحق والحقيقة. ثم تشير الآية إلى مقامه العالي وتقول: «وَرَفَعْنهُ مَكَانًا عَلِيًّا». والمراد هو عظمة المقامات المعنوية والدرجات الروحية لهذا النبي الكبير.

ثم تبيّن الآية التالية بصورة جماعية عن كل الإمتيازات والخصائص التي مرّت في الآيات السابقة حول الأنبياء العظام وصفاتهم وحالاتهم والمواهب التي أعطاهم اللَّه إياها، فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيّينَ مِن ذُرّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوْحٍ وَمِنْ ذُرّيَّةِ إِبْرهِيمَ وَإِسْرَاءِيلَ».

إنّ المراد من ذرّية آدم في هذه الآية هو إدريس، حيث كان- حسب المشهور- جدّ النبي نوح.

والمراد من الذرية، هم الذين ركبوا مع نوح في السفينة، لأنّ إبراهيم كان من أولاد سام بن نوح. والمراد من ذرّية إبراهيم: إسحاق وإسماعيل ويعقوب؛ والمراد من ذرّية إسرائيل:

موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى.

ثم تكمل الآية هذا البحث بذكر الأتباع الحقيقيين لهؤلاء الأنبياء، فتقول: «وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمُ ءَايتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا» «1».

ثم تتحدث الآيات عن جماعة انفصلوا عن دين الأنبياء المربي للإنسان، وكانوا خلفاً سيئاً لم ينفّذوا ما أريد منهم، وتعدد الآية قسماً من أعمالهم القبيحة، فتقول: «فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَوةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا».

«خَلْف» بمعنى الأولاد الطالحين؛ و «خَلَف» بمعنى الأولاد الصالحين.

وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى جماعة من بني إسرائيل ساروا في طريق الضلال، فنسوا اللَّه، ورجّحوا اتباع الشهوات على ذكر اللَّه.

إنّ المراد من (إضاعة الصلاة) هنا القيام بأعمال

تضيع الصلاة في المجتمع.

ولمّا كان منهج القرآن في كل موضع هو فتح ابواب الرجوع إلى الإيمان والحق دائماً، فإنّه

______________________________

(1) «سجد»: جمع ساجد؛ و «بكي»: جمع باك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 191

يقول هنا أيضاً بعد ذكر مصير الأجيال المنحرفة: «إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيًا»، وعلى هذا فلا يعني أنّ الإنسان إذا غاص يوماً في الشهوات فسيكتب على جبينه اليأس من رحمة اللَّه.

طبقاً لنقل كثير من المفسرين، فإنّ إدريس جدّ سيدنا نوح عليه السلام واسمه في التوراة «أخنوخ» وفي العربية (إدريس)، وذهب البعض أنّه من مادة (درس) لأنّه أوّل من كتب بالقلم، فقد كان إضافة إلى النبوّة عالماً بالنجوم والحساب والهيئة، وكان أوّل من علّم البشر خياطة الملابس.

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَ عَشِيّاً (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً (63)

بعض صفات الجنة: وصفت الجنّة ونعمها في هذه الآيات بأنّها «جَنتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا».

ثم تشير بعد ذلك إلى نعمة اخرى من أكبر نعم الجنة فتقول: «لَّايَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا» فلا كذب، ولا عداء، لا تهمة ولا جرح لسان، لا سخرية ولا حتى كلام لا فائدة فيه، بل الشي ء الوحيد الذي يسمعونه هو السلام «إِلَّا سَلمًا».

السلام الذي هو علامة على المحيط الآمن، المحيط الملي بالصفاء والعلاقة الحميمة والطهارة والتقوى والصلح والهدوء والإطمئنان.

وبعد هذه النعمة تشير الآية إلى نعمة اخرى فتقول: «وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا».

وبعد الوصف الإجمالي للجنة ونعمها المادية والمعنوية، تعرّف الآية أهل الجنة في جملة قصيرة، فتقول: «تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ

مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا». وعلى هذا فإنّ مفتاح باب الجنة مع كل تلك النعم التي مرّت ليس إلّا «التقوى».

وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذلِكَ وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً (65)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 192

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: احتبس الوحي أيّاماً، لمّا سئل النبي صلى الله عليه و آله عن قصة أصحاب الكهف، وذي القرنين، والروح، فشقّ ذلك عليه فلمّا أتاه جبرائيل استبطأه فنزلت «وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبّكَ» الآية.

التّفسير

الطاعة التامة: بالرغم من أنّ لهذه الآية سبب نزول ذكر أعلاه، إلّاأنّ هذا لا يكون مانعاً من أن يكون لها إرتباطاً منطقياً بالآيات السابقة، لأنّها تأكيد على أنّ كل ما أتى به جبرئيل من الآيات السابقة قد بلّغه عن اللَّه بدون زيادة أو نقصان، ولا شي ء من عنده، فتتحدث الآية الاولى على لسان رسول الوحي فتقول: «وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبّكَ»، فكل شي ء منه، ونحن عباد وضعنا أرواحنا وقلوبنا على الأكف، «لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلِكَ». والخلاصة: فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل، وهنا وهناك وكل مكان، والدنيا والآخرة والبرزخ، كل ذلك متعلق بذات اللَّه المقدسة.

ثم تضيف الآية: إنّ كل ذلك بأمر ربك «رَّبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا» فإذا كان الأمر كذلك، وكل الخطوط تنتهي إليه «فَاعْبُدْهُ» عبادة مقترنة بالتوحيد والإخلاص.

ولما كان هذا الطريق- طريق العبودية والطاعة وعبادة اللَّه الخالصة- ملي ء بالمشاكل والمصاعب، فقد أضافت: «وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ». وتقول في آخر جملة: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا».

وهذه الجملة في الواقع، دليل على ما جاء في الجملة

السابقة، يعني: هل لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمدّ يدك إليه وتعبده؟

وَ يَقُولُ الْإِنْسَانُ أَ إِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً (66) أَ وَ لَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيّاً (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً (70)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان أنّ الآيات الاولى نزلت في ابي بن خلف الجمحي، وذلك أنّه أخذ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 193

عظماً بالياً فجعل يَفُتّه بيده ويذريه في الريح ويقول: زعم محمّد أنّ اللَّه يبعثنا بعد أن نموت ونكون عظاماً مثل هذا، إنّ هذا شي ء لا يكون أبداً.

التّفسير

حال أهل النار: مرّت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنّة والجحيم، وتتحدّث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع، فتعيد الآية الاولى أقوال منكري المعاد، فتقول: «وَيَقُولُ الْإِنسنُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا». أي إنّ هذا الشي ء غير ممكن.

ثم يجيبهم مباشرة بنفس التعبير: «أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسنُ أَنَّا خَلَقْنهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيًا».

ثم تهدد الآية التالية منكري المعاد، والمجرمين الكافرين: «فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا».

إنّ هذه الآية توحي بأنّ محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من جهنم.

ولمّا كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة، فإنّ الآية التالية تقول: «ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» «1». ونبدأ بحسابهم أوّلًا، فإنّهم عتوا عتواً نسوا معه كل مواهب اللَّه الرحمان، وجنحوا إلى التمرد والعصيان وإظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم.

ثم تؤكّد على هذا المعنى مرّة اخرى فتقول: «ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا».

فسنختار هؤلاء بدقة،

وسوف لا يقع أيّ اشتباه في هذا الإختيار.

وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72)

الجميع يردون جهنم: تستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب، وأشارت في البداية إلى مسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس، فتقول: «وَإِن مّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا». فجميع الناس سيدخلون جهنّم بدون استثناء لأنّه أمر حتمي.

______________________________

(1) «الشيعة»: في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما، وانتخاب هذا التعبير في الآيةيمكن أن يكون إشارة إلى أنّ العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان، ونحن سنحاسب هؤلاء أوّلًا، لأنّهم أكثر تمرّداً وعصياناً من الجميع.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 194

«ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظلِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا». فنتركهم فيها جالسين على الركب من الضعف والذّل.

وهناك بحث مفصّل بين المفسرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من «الورود» في جملة «وَإِن مّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا»؛ فاختار أكثر المفسرين، أنّ الورود هنا بمعنى الدخول، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء- محسنهم ومسيؤهم- يدخلون جهنّم، إلّاأنّها ستكون برداً وسلاماً على المحسنين، كحال نار نمرود على إبراهيم «يَا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلمًا عَلَى إِبْرهِيمَ»، لأنّ النار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين، فقد تفرّ منهم وتبتعد عنهم، إلّاأنّها تناسب الجهنميين فهم بالنسبة للحجيم كالمادة القابلة للإشتعال، فما أن تمسّهم النار حتى يشتعلوا.

إنّ مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة، ستكون مقدمة لكي يلتذّ المؤمنون بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة.

إنّ أهل النار أيضاً سيلقون عذاباً أشد من رؤية هذا المشهد.

وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيّاً (73) وَ

كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَ رِئْياً (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَ إِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً (75) وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَ خَيْرٌ مَرَدّاً (76)

هذه الآيات تتابع ما مرّ في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين لا إيمان لهم، وتتعرّض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.

ومن المعلوم أنّ أوّل جماعة آمنت بالرسول الأعظم صلى الله عليه و آله كانوا من المستضعفين الطاهري القلوب، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها.

ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان- وكذا في كل مجتمع جاهلي آخر- هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية، فكان الأثرياء الظالمون، كالنضر بن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين الفقراء بذلك ويقولون: إنّ علامة شخصيتنا معنا، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم ومحروميتكم، وهذا بنفسه دليل على أحقيّتنا وباطلكم، كما يقول القرآن الكريم في أوّل آية من الآيات مورد البحث: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 195

الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا».

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماماً، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم، فيقول: كأنّ هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر، ولم ينظروا كم دمّرنا من الأقوام السابقين عند تمرّدهم وعصيانهم: «وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِءْيًا» «1». فهل استطاعت أموالهم وثروتهم، ومجالسهم الفاسقة، وملابسهم الفاخرة، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإلهي وتقف أمامه.

ثم تحذّرهم تحذيراً آخر، بأن لا تظنّوا أيّها الظالمون الكافرون أنّ مالكم وثروتكم هذه رحمة،

بل كثيراً ما تكون دليلًا على العذاب الإلهي: «قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّللَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ». أي: إمّا العذاب في هذه الدنيا، وإمّا عذاب الآخرة، «فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا».

وهذا هو ما ذكر في بعض آيات القرآن بعنوان عقاب «الإستدراج».

هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها، أمّا اولئك الذين آمنوا واهتدوا، فإنّ اللَّه يزيدهم هدىً وإيماناً «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى».

من البديهي أنّ للهداية درجات، فإذا طوى الإنسان درجاتها الاولى فإنّ اللَّه يأخذه بيده ويرفعه إلى درجات أعلى.

وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة الزوال، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين، فتقول: «وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا».

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَ قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَ وَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً (79) وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَ يَأْتِينَا فَرْداً (80) وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً (82)

تفكير خرافي ومنحرف: يعتقد بعض الناس أنّ الإيمان والطهارة والتقوى لا تناسبهم،

______________________________

(1) «الأثاث»: بمعنى المتاع وزينة الدنيا؛ و «رئي»: بمعنى الهيئة والمنظر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 196

وأنّها السبب في أن تدبر الدنيا عنهم، أمّا إذا خرجوا من دائرة الإيمان والتقوى فإنّ الدنيا ستقبل عليهم، وتزيد ثروتهم وأموالهم. فقد كان في عصر النبي- وكذلك في عصرنا- أفراد جاهلون يظنّون هذه الظنون والأوهام، أو كانوا يتظاهرون بها على الأقل، فيتحدّث القرآن- كمواصلة للبحث الذي بيّنه سابقاً حول مصير الكفار والظالمين- في الآيات مورد البحث عن طريقة التفكير

هذه وعاقبتها، فيقول في أوّل آية من هذه الآيات: «أَفَرَءَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بَايَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا».

ثم يجيبهم القرآن الكريم: «أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْدًا». فإنّ الذي يستطيع أن يتكهّن بمثل هذا التكهّن، ويقول بوجود علاقة بين الكفر والغنى وامتلاك الأموال والأولاد، مطّلع على الغيب، لأنّا لا نرى أيّ علاقة بين هاتين المسألتين، أو يكون قد أخذ عهداً من اللَّه سبحانه، وهذا الكلام أيضاً لا معنى له.

ثم يضيف بلهجة حادّة: إنّ الأمر ليس كذلك، ولا يمكن أن يكون الكفر أساساً لزيادة مال وولد أحد مطلقاً: «كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ».

أجل، فإنّ هذا الكلام الذي لا أساس له قد يكون سبباً في انحراف بعض البسطاء، وسيثبت كل ذلك في صحيفة أعمال هؤلاء، «وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا».

إنّ هذه الأموال والأولاد التي هي أساس الغرور والضلال هي بنفسها عذاب مستمر لهؤلاء. «وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ» من الأموال والأولاد، «وَيَأْتِينَا فَرْدًا».

نعم، إنّه سيترك في النهاية كل هذه الإمكانيات والأملاك المادية ويرحل، ويحضر في محكمة العدل الإلهية بأيد خالية، وفي الوقت الذي اسودّت فيه صحيفة أعماله من الذنوب والمعاصي، وخلت من الحسنات ... هناك، حيث يرى نتيجة أقواله الجوفاء في دار الدنيا.

وتشير الآية التالية إلى علّة اخرى في عبادة هؤلاء الأفراد للأصنام، فتقول: «وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا». وليشفعوا لهم عند اللَّه، ويعينوهم في حلّ مشاكلهم، لكن، أيّ ظن خاطى ء وخيال ساذج هذا؟!

ليس الأمر كما يظن هؤلاء أبداً، فليست الأصنام سوف لا تكون لهم عزّاً وحسب، بل ستكون منبعاً لذلّتهم وعذابهم، ولهذا فإنّهم سوف ينكرون عبادتهم لها في يوم القيامة: «كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِم وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 197

إنّ هذه الجملة إشارة إلى نفس ذلك

المطلب الذي نقرؤه في الآية (14) من سورة فاطر.

يستفاد هذا التفسير من حديث مروي عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال في تفسير هذه الآية: «يكون هؤلاء الذين اتّخذوهم آلهة من دون اللَّه ضداً يوم القيامة ويتبرؤون منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة».

أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)

بملاحظة البحث في الآيات السابقة الذي كان حول المشركين، فإنّ البحث في هذه الآيات، إشارة إلى بعض علل انحراف هؤلاء، ثم تبيّن الآيات في النهاية عاقبتهم المشؤومة، وتثبت هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الآلهة لم تكن سبب عزّتهم بل أصبحت سبب ذلّهم وشقائهم، فتقول أوّلًا: «أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيطِينَ عَلَى الْكفِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا».

«الأزّ»: في الأصل يعني غليان القدر، وتقلّب محتواه عند شدة غليانه؛ وهو هنا كناية عن مدى تسلّط الشياطين على هؤلاء، بحيث إنّهم يوجّهونهم بالصورة التي يريدونها، وفي المسير الذي يشاؤون، ويقلّبونهم كيف يشتهون.

ومن البديهي أنّ تسلط الشياطين على بني آدم ليس تسلطاً إجبارياً، بل إنّ الإنسان الذي يسمح للشياطين بالنفوذ إلى قلبه وروحه.

ثم يوجّه القرآن المجيد الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله فيقول: «فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا» وسنسجّل كل شي ء لذلك اليوم الذي تشكّل فيه محكمة العدل الإلهي.

وهناك احتمال آخر في تفسير الآية، وهو أنّ المراد من عدّ أيام عمر- بل أنفاس- هؤلاء، أنّ مدّة بقائهم قصيرة وداخلة تحت إمكان الحساب والعد.

ثم تبيّن المسير النهائي للمتقين والمجرمين في عبارات موجزة، فتقول: إنّ كل

هذه الأعمال جمعناها وإدّخرناها لهم: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْدًا».

في تفسير علي بن ابراهيم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «سأل علي عليه السلام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن تفسير قوله: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْدًا» قال: يا علي، الوفد لا يكون إلّاركباناً، اولئك رجال اتّقوا اللَّه فأحبّهم واختصهم ورضي أعمالهم فسمّاهم اللَّه المتقين. ثم قال: يا علي أما

مختصر الامثل، ج 3، ص: 198

والذي فلق الحبة وبرى ء النسمة إنّهم ليخرجون من قبورهم وبياض وجوههم كبياض الثلج، عليهم ثياب بياضها كبياض اللبن، عليهم نعال الذهب شراكها من لؤلؤ يتلألأ». ثم تقول في المقابل: «وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا». كما تساق الإبل العطشى إلى محل الماء، إلّاأنّه لا ماء هناك، بل نار جهنم.

وإذا كانوا يتصورون أنّهم يستطيعون الخلاص عن طريق الشفاعة، فإنّهم يجب أن يعلموا أنّ هؤلاء الذين يرجونهم «لَّايَمْلِكُونَ الشَّفعَةَ» فلا أحد يشفع لهؤلاء، فمن طريق أولى أن لا يقدروا على الشفاعة لأحد «إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْدًا» فهؤلاء هم الوحيدون الذين تنفعهم وتشملهم شفاعة الشافعين، أو أنّ مقامهم أعلى من هذه الرتبة أيضاً، ولهم القدرة والصلاحية لأن يشفعوا للعاصين الذين يستحقون الشفاعة.

والمراد من العهد في الآية الشريفة كل نوع من أنواع الإرتباط باللَّه ومعرفته وطاعته، وكذلك الإرتباط بمذهب أولياء الحق، وكل عمل صالح.

وَ قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَ مَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ فَرْداً (95)

لمّا كان الكلام في الآيات السابقة عن الشرك، وعاقبة عمل المشركين، فقد أشارت هذه الآيات في نهاية البحث إلى فرع من فروع الشرك، أي الاعتقاد بوجود ولد للَّه سبحانه، وتبيّن مرّة اخرى قبح هذا الكلام بأشدّ وأحدّ بيان، فتقول: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا».

فليس المسيحيون لوحدهم كانوا يعتقدون بأنّ «المسيح» هو الإبن الحقيقي للَّه سبحانه، بل إنّ اليهود كانوا يعتقدون أيضاً مثل هذا الاعتقاد في (عزير)، وكذلك عبدة الأصنام في (الملائكة) فكانوا يظنّون أنّها بنات اللَّه.

عند ذلك قالت الآية بلهجة شديدة: «لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيًا إِدًّا». «الإدّ»: معناه في الأصل الصوت القبيح المضطرب الذي يصل الأذن نتيجة الاضطراب الشديد للأمواج الصوتية في

مختصر الامثل، ج 3، ص: 199

حنجرة البعير، ثم أطلق على الأعمال القبيحة والموحشة جدّاً.

ولمّا كانت مثل هذه النسبة غير الصحيحة مخالفة لأصل التوحيد فكأنّ كل عالم الوجود، الذي بني على أساس التوحيد، قد اضطرب وتصدّع إثر هذه النسبة الكاذبة، ولذلك تضيف الآية التالية: «تَكَادُ السَّموَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا».

ومن أجل تأكيد وبيان أهمية الموضوع فإنّها تقول: إنّ كل ذلك من أجل «أَن دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَدًا».

إنّ هؤلاء لم يعرفوا اللَّه قط، لأنّه: «وَمَا يَنْبَغِى لِلرَّحْمنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا».

فإنّ الإنسان يطلب الولد لواحد من عدّة أشياء:

إمّا لأنّ عمره ينتهي فيحتاج لولد مثله يحمل صفاته ليبقى نسله وذكره.

أو لأنّه يطلب الصديق والرفيق لأنّ قوته محدودة.

لكن أيّاً من هذه المعاني لا ينطبق على اللَّه سبحانه، ولا يصح، فلا قدرته محدودة، ولا حياته تنتهي، ولا يعتريه الضعف والوهن، ولا يحس بالوحدة والحاجة، ولذلك قالت الآية الاخرى: «إِن كُلُّ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا ءَاتِى الرَّحْمنِ عَبْدًا».

فمع أنّ كل العباد مطيعون له، وقد وضعوا أرواحهم وقلوبهم على الأكف طاعة لأمره،

فهو غير محتاج لطاعتهم، بل هم المحتاجون.

ثم تقول الآية التالية: «لَّقَدْ أَحْصهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا». أي لا تتصور بأنّ محاسبة كل هؤلاء العباد غير ممكن، وعسير عليه سبحانه.

«وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيمَةِ فَرْدًا». وبناء على هذا فإنّ المسيح وعزير والملائكة وكل البشر يشملهم حكمه ولا يستثنى منه أحد، ومع هذه الحال فما أقبح أن نعتقد ونقول بوجود ولد له، وكم ننقص من قدر ذاته المقدسة وننزلها من أوج العظمة وقمّتها، وننكر صفاته الجلالية والجمالية حينما ندّعي أنّ له ولداً.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدّاً (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً (97) وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 200

مختصر الامثل ج 3 249

الإيمان والمحبوبية: هذه الآيات الثلاث نهاية سورة مريم، والكلام فيها أيضاً عن المؤمنين، والظالمين الكافرين، وعن القرآن وبشاراته وإنذاراته، وهي- في الحقيقة- عصارة البحوث السابقة بملاحظات ونكات جديدة. تقول أوّلًا: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا».

إنّ للإيمان والعمل الصالح نوراً وضياء بسعة عالم الوجود، ويعمّ نور المحبة الحاصل منهما كل أرجاء عالم الخلقة، وإنّ الذات الإلهية المقدسة تحب أمثال هذا الفرد، فهم محبوبون عند كل أهل السماء، وتقذف هذه المحبة في قلوب أهل الأرض.

ثم تشير الآية التالية إلى القرآن الذي هو منبع ومصدر تنمية الإيمان والعمل الصالح، فتقول: «فَإِنَّمَا يَسَّرْنهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا».

«اللُدّ»:- بضم اللام وتشديد الدال- جمع «ألدّ» بمعنى العدو الشديد العداوة، وتطلق على المتعصب العنود في عداوته، ولا منطق له.

وتقول الآية الأخيرة كتهدئة لخاطر النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين، وتسلية

لهم، خاصة مع ملاحظة أنّ هذه السورة نزلت في مكة، وكان المسلمون يومذاك تحت ضغط شديد جدّاً؛ وكذلك تقول بنبرة التهديد والتحذير لكل الأعداء اللجوجين العنودين: «وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا».

«الركز»: بمعنى الصوت الهادى ء، ويقال للأشياء التي يخفونهاتحت الأرض: «ركاز»، أي إنّ هؤلاء الأقوام الظالمين، وأعداء الحق والحقيقة المتعصبين، قد تمّ تدميرهم وسحقهم إلى حدّ لا يسمع صوت خفي منهم.

لقد صدرت روايات عديدة عن النبي صلى الله عليه و آله في سبب نزول قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا». في كثير من كتب الحديث وتفسير السنة والشيعة، وهي تبيّن أنّ هذه الآية نزلت لأوّل مرّة في حق علي عليه السلام.

«نهاية تفسير سورة مريم»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 201

20 سورة طه

محتوى السورة: إنّ أكثر ما يتحدث سورة (طه) عن المبدأ والمعاد كسائر السور المكية، ويذكر نتائج التوحيد وتعاسات الشرك.

1- تشير هذه السورة إلى عظمة القرآن، وبعض صفات اللَّه الجلالية والجمالية.

2- يتحدث أكثر من ثمانين آية عن قصة موسى عليه السلام من حين بعثته، إلى نهوضه لمقارعة فرعون الجبار وأعوانه.

3- جاءت بعض المسائل حول المعاد.

4- تناول جزء آخر من هذه السورة الحديث عن القرآن وعظمته.

5- واحتوى قسم آخر قصة آدم وحواء في الجنة، ثم حادثة وسوسة إبليس، وأخيراً هبوطهما إلى الأرض.

6- وفي القسم الأخير، تبيّن السورة المواعظ والنصائح، لكل المؤمنين، مع توجيه الخطاب في كثير من الآيات إلى نبي الخاتم صلى الله عليه و آله.

فضيلة تلاوة السورة: في كتاب ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «لا تدعوا قراءة سورة طه، فإنّ اللَّه يحبّها، ويحبّ من قرأها، ومن أدمن قراءتها أعطاه اللَّه يوم القيامة

كتابه بيمينه، ولم يحاسبه بما عمل في الإسلام، وأعطي في الآخرة من الأجر حتى يرضى».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 202

والمراد من التلاوة هي أن تكون التلاوة مقدمة للتفكر والتدبر، التفكر الذي تتجلّى آثاره في كل أعمال وأقوال الإنسان.

طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ مَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)

سبب النّزول

وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآيات الاولى من هذه السورة، يستفاد من مجموعها أنّ النبي صلى الله عليه و آله بعد نزول الوحي والقرآن كان يعبد اللَّه كثيراً، وخاصة أنّه كان يكثر القيام والوقوف في العبادة حتى تورّمت قدماه، وكان من شدّة التعب أحياناً يستند في وقوفه على إحدى قدميه، ثم يستند على الاخرى حيناً آخر، وحيناً على كعب قدمه، وآخر على أصابع رجله، فنزلت الآيات المذكورة وأمرت النبي صلى الله عليه و آله أن لا يحمّل نفسه كل هذا التعب والمشقة.

التّفسير

مرّة اخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة، والتي تثير حبّ الاستطاع لدى الإنسان: «طه».

في كتاب معاني الأخبار عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «... وأمّا طه فإسم من أسماء النبي صلى الله عليه و آله ومعناه: يا طالب الحق الهادي إليه». ويظهر من هذا الحديث أنّ طه مركّب من حرفين رمزيين، فالطاء إشارة إلى طالب الحق، والهاء إلى الهادي إليه، ونحن نعلم أنّ استعمال الحروف الرمزية وعلامات الإختصار فيما مضى وفي يومنا هذا

أمر طبيعي وكثير الاستعمال، خاصة في عصرنا الحاضر فإنّه كثير التداول والاستعمال جدّاً.

وآخر كلام في هذا الباب هو أنّ (طه) ك (يس) قد أصبحت تدريجياً وبمرور الزمان اسماً خاصاً للنبي صلى الله عليه و آله، حتى أنّهم يسمّون آل النبي صلى الله عليه و آله، (آل طه) أيضاً؛ وعبّر عن الإمام المهدي- عجّل اللَّه تعالى فرجه- في دعاء الندبة ب (يابن طه).

مختصر الامثل، ج 3، ص: 203

ثم تقول الآية: «مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى . «تشقى : مأخوذة من مادة الشقاء ضدّ السعادة، إلّاأنّ هذه المادة تأتي أحياناً بمعنى المشقّة والتعب، والمراد في الآية هذا المعنى.

ثم تبيّن الآية الاخرى الهدف من نزول القرآن فتقول: «إِلَّا تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَى .

إنّ التعبير ب «تذكرة» من جهة، وب «من يخشى» من جهة اخرى يشير إلى واقع لا يمكن إنكاره، وهو: إنّ التذكرة توحي بأنّ أسس ومقومات كل التعليمات الإلهية موجودة في أعماق روح الإنسان وطبيعته، وتعليمات الأنبياء تجعلها مثمرة، وتوصلها إلى حدّ النضج، كما نذكّر أحياناً بمطلب وأمر ما.

إنّ تعبير «من يخشى» يبيّن أنّ نوعاً من الإحساس بالمسؤولية، والذي سمّاه القرآن بالخشية، إذا لم يكن موجوداً في الإنسان، فسوف لا يقبل الحقائق.

ثم تتطرق الآيات إلى التعريف باللَّه تعالى المنزل للقرآن، لتّتضح عظمة القرآن من خلال معرفته، فتقول: «تَنزِيلًا مّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّموَاتِ الْعُلَى».

إنّ هذا التعبير إشارة إلى ابتداء وانتهاء نزول القرآن، انتهاؤه إلى الأرض وابتداؤه من السماوات.

ثم تستمر في تعريف اللَّه المنزل للقرآن فتقول: «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى .

إنّ هذا التعبير كناية عن تسلّط اللَّه، وإحاطته الكاملة بعالم الوجود، ونفوذ أمره وتدبيره في جميع أنحاء العالم.

ثم تتحدث عن مالكية اللَّه بعد حاكميته فتقول: «لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى

الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى . «الثرى»: في الأصل بمعنى التراب الرطب، ولمّا كانت قشرة الأرض- فقط- هي التي تجف نتيجة لأشعة الشمس وهبوب الرياح، وتبقى الطبقة السفلى- غالباً- رطبة، فإنّه يقال لهذه الطبقة: ثرى. وعلى هذا فإنّ «وَمَا تَحْتَ الثَّرَى تعني أعماق الأرض وجوفها، وكلها مملوكة لمالك الملك وخالق عالم الوجود.

وأشارت الآية التالية إلى الركن الرابع، أي «العالمية»، فقالت: «وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى».

وعرف منزل القرآن من مجموع الآيات أعلاه معرفة إجمالية في الأبعاد الأربعة: الخلقة، والحكومة، والمالكية، والعلم.

و الآية التالية ربّما تشير إلى ما ذكرنا: «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى .

مختصر الامثل، ج 3، ص: 204

إنّ التعبير بالأسماء الحسنى قد ورد مراراً وتكراراً في الآيات القرآنية، ومن البديهي أنّ كل أسماء اللَّه حسنة، ولكن لمّا كانت لبعض أسماء اللَّه وصفاته أهمية أكبر، فقد سمّيت بالأسماء الحسنى.

وَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)

نار في الجانب الآخر من الصحراء: من هنا تبدأ قصة نبي اللَّه الكبير موسى عليه السلام، وتفصيل الجوانب المهمة من هذه القصة المليئة بالأحداث سيأتي في أكثر من ثمانين آية، لتكون تهدئة ومواساة وتسلية لخاطر النبي صلى الله عليه و آله

والمؤمنين الذين كانوا يعانون خلال تلك الفترة في مكة ضغوطاً شديدةً من الأعداء.

ويمكن تقسيم مجموع الآيات في هذه السورة إلى أربعة أقسام:

القسم الأوّل: يتحدث عن بداية نبوة موسى وبعثته، وأوّل ومضات الوحي.

القسم الثاني: يتحدث عن دعوة موسى وأخيه هارون لفرعون وملئه إلى دين التوحيد، ثم اشتباكهما بالأعداء.

القسم الثالث: يبحث عن خروج موسى وبني إسرائيل من مصر، وكيفية نجاتهم من قبضة فرعون وأتباعه، وغرق هؤلاء وهلاكهم.

القسم الرابع: ويتحدث حول الإتجاهات الانحرافية الشديدة لبني إسرائيل عن دين التوحيد إلى الشرك، وقبول وساوس السامري، ومواجهة موسى الحازمة لهذا الإنحراف.

فهذه الآيات تقول بتعبير رقيق وجذاب: «وَهَلْ أَتكَ حَدِيثُ مُوسَى .

إنّ هذا الاستفهام ليس هدفه تحصيل الخبر، بل مقدمة لبيان خبر مهم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 205

ثم تقول: «إِذْ رَءَا نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنّى ءَانَسْتُ نَارًا لَّعَلّى ءَاتِيكُم مّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى». «فَلَمَّا أَتهَا نُودِىَ يَا مُوسَى إِنّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى».

ويستفاد من الآية (30) من سورة القصص، أنّ موسى قد سمع هذا النداء من جهة شجرة كانت هناك: «فَلَمَّا أَتهَا نُودِىَ مِنْ شطِىِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يمُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعلَمِينَ». إنّ موسى لمّا اقترب شاهد النار في داخل الشجرة، وهذه النار ليست ناراً عادية، بل إنّ هذا النور الإلهي الذي ليس لم يحرق الشجرة وحسب، بل إنّه منسجم معها، ألا وهو نور الحياة.

وقد هام موسى لدى سماعه هذا النداء المحيي للروح: «إِنّى أَنَا رَبُّكَ» وشعر بكل وجوده بلذّة لا يمكن وصفها.

لقد امر أن يخلع نعليه، لأنّه قد وضع قدمه في أرض مقدسة ... الأرض التي تجلّى فيها النور الإلهي، ويسمع فيها نداء اللَّه، ويتحمل مسؤولية

الرسالة، فيجب أن يخطو في الأرض بمنتهى الخضوع والتواضع، وهذا هو سبب خلعه النعل عن رجله.

ثم سمع هذا الكلام من نفس المتكلم: «وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى . ومن بعدها تلقّى موسى أوّل جملة من الوحي على شكل ثلاثة امور: «إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَوةَ لِذِكْرِى». شرعت هذه الآية في بيان أهم أصل لدعوة الأنبياء في هذه الآية، ألا وهو مسألة التوحيد، وبعدها ذكرت موضوع عبادة اللَّه الواحد كثمرة لشجرة الإيمان والتوحيد، ثم أصدرت له أمر الصلاة بعد ذلك، وهي تعني أكبر عبادة وأهم إرتباط بين الخلق والخالق، وأكثر الطرق تأثيراً في عدم الغفلة عن الذات المقدسة.

ولمّا كان المعاد هو الأصل والأساس الثاني، فبعد ذكر التوحيد وأغصانه وفروعه، أضافت الآية التالية: «إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَعْسَى .

إنّ علّة إخفاء تاريخ القيامة حسب الآية، هي: «لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَعْسَى . وبتعبير آخر: فإنّ كون الساعة مخفية سيوجد نوعاً من حرية العمل للجميع.

وأشارت الآية الأخيرة إلى أصل اساسي يضمن تنفيذ كل البرامج العقائدية والتربوية، فتقول: «فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّايُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَيهُ» والّا فسوف تهلك «فَتَرْدَى فاصمد في مقابل الكافرين ووساوسهم وعراقيلهم، ولا تدع للخوف من كثرتهم

مختصر الامثل، ج 3، ص: 206

ومؤامرتهم وخططهم الخبيثة إلى قلبك سبيلًا، ولا تشك مطلقاً في أحقية دعوتك وأصالة دينك نتيجة هذه الضوضاء. إنّ جملة «يؤمن» وردت هنا بصيغة المضارع، وجملة «واتبع هويه» بصيغة الماضي، وهي أشارت إلى هذه النكتة، وهي أنّ عدم إيمان منكري القيامة ينبع من أتباع هوى النفس، فهم يريدون أن يكونوا أحراراً ويفعلون ما تشتهي أنفسهم.

وَ مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا

وَ أَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَ لِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَ لَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)

عصا موسى واليد البيضاء: لا شك أنّ الأنبياء يحتاجون إلى المعجزة لإثبات إرتباطهم باللَّه، وإلّا فإنّ أيّ واحد يستطيع أن يدعي النبوة.

إنّ موسى عليه السلام بعد تلقّيه أمر النبوة، يجب أن يتلقّى دليلها وسندها أيضاً، وهكذا تلقّى موسى عليه السلام في تلك الليلة المليئة بالذكريات والحوادث معجزتين كبيرتين من اللَّه، ويبيّن القرآن الكريم هذه الحادثة فيقول: «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يمُوسَى .

فأجاب موسى: «قَالَ هِىَ عَصَاىَ». ولمّا كان راغباً في أن يستمر في حديثه مع محبوبه الذي فتح الباب بوجهه لأوّل مرّة، وربّما كان يظن أيضاً أنّ قوله: «هِىَ عَصَاىَ» غير كاف، فأراد أن يبيّن آثارها وفوائدها فأضاف: «أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى» «1». أي أضرب بها على اغصان الشجر فتتساقط اوراقها لتأكلها الأغنام «وَلِىَ فِيهَا مَارِبُ أُخْرَى «2».

إنّ موسى غطّ في تفكير عميق: أيّ سؤال هذا في هذا المجلس العظيم، وأيّ جواب أعطيه؟ وماذا كانت تلك الأوامر؟ ولماذا هذا السؤال؟

وفجأة: «قَالَ أَلْقِهَا يمُوسَى فَأَلْقهَا فَإِذَا حَيَّةٌ تَسْعَى . «تسعى»: من مادة السعي أي المشي السريع الذي لا يصل إلى الركض.

______________________________

(1) «أهش»: من مادة هشّ- بفتح الهاء- أي ضرب أوراق الشجر وتساقطها.

(2) «مارب»: جمع مأربة، أي الحاجة والقصد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 207

وهنا صدر الأمر لموسى: «قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى .

ثم أشارت الآية التالية إلى المعجزة المهمة الثانية لموسى، فأمرته: «وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ

بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ءَايَةً أُخْرَى .

إنّ موسى كان مأموراً أن يدخل يده في جيبه ويوصلها إلى تحت إبطه.

وجملة «مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» إشارة إلى أنّ بياض يدك ليس نتيجة مرض البرص وأمثاله، بدليل أنّ لها لمعاناً وبريقاً خاصاً يظهر في لحظة ويختفي في لحظة اخرى.

وتقول الآية الأخيرة، وكنتيجة لما مرّ بيانه في الآيات السابقة: «لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَاتِنَا الْكُبْرَى». والمراد من الآيات الكبرى هو تلكما المعجزتان المهمتان اللتان وردتا أعلاه.

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)

موسى وطلباته القيّمة: إلى هنا وصل موسى إلى مقام النبوة، وتلقّى معاجز مهمّة تسترعي الإنتباه، إلّاأنّه من الآن فصاعداً صدر له أمر الرسالة ... رسالة عظيمة وثقيلة جدّاً ... الرسالة التي تبدأ بإبلاغ أعتى وأخطر شخص في ذلك المحيط، فتقول الآية: «اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى .

أجل ... فمن أجل إصلاح بيئة فاسدة، وإيجاد ثورة شاملة يجب البدء برؤوس الفساد وأئمة الكفر ... اولئك الذين لهم تأثير في جميع أركان المجتمع.

ومضافاً إلى أنّ موسى عليه السلام لم يستوحش ولم يخف من هذه المهمّة الثقيلة الصعبة، ولم يطلب من اللَّه أيّ تخفيف في هذه المهمّة، فإنّه قد تقبّلها بصدر رحب، غاية ما في الأمر أنّه طلب من اللَّه أسباب النصر في هذه المهمّة. ولمّا كان أهم وأوّل أسباب النصر الروح الكبيرة، والفكر الوقّاد، والعقل

المقتدر، وبعبارة اخرى: رحابة الصدر، فقد «قَالَ رَبّ اشْرَحِ لِى صَدْرِى».

ولمّا كان هذا الطريق مليئاً بالمشاكل والمصاعب التي لا يمكن تجازوها إلّابلطف اللَّه، فقد

مختصر الامثل، ج 3، ص: 208

طلب موسى من اللَّه في المرحلة الثانية أن تيسر له اموره وأعماله، وأن تذلل هذه العقبات التي تعترضه، فقال: «وَيَسّرْ لِى أَمْرِى». ثم طلب موسى أن تكون له قدرة على البيان بأعلى المراتب فقال: «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى».

خاصة وأنّه بيّن علة هذا الطلب فقال: «يَفْقَهُوا قَوْلِى». فهذه الجملة تفسير للآية التي قبلها. أي: أريد أتكلم بدرجة من الفصاحة والبلاغة والتعبير بحيث يدرك أيّ سامع مرادي من الكلام جيّداً.

ولمّا كان إيصال هذا الحمل الثقيل- حمل رسالة اللَّه، وقيادة البشر وهدايتهم، ومحاربة الطواغيت والجبابرة- إلى المحل المقصود يحتاج إلى معين ومساعد، ولا يمكن أن يقوم به إنسان بمفرده، فقد كان الطلب الرابع لموسى من اللَّه هو: «وَاجْعَل لِّى وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِى».

ثم يشير إلى أخيه، فيقول: «هرُونَ أَخِى». وهارون كان الأخ الأكبر لموسى، وكان يكبره بثلاث سنين، وكان طويل القامة، جميلًا بليغاً، عالي الإدراك والفهم، وقد رحل عن الدنيا قبل وفاة موسى بثلاث سنين.

وقد كان نبيّاً مرسلًا كما كان نبيّاً وهبه اللَّه لموسى من رحمته.

ثم يبيّن موسى عليه السلام هدفه من تعيين هارون للوزارة والمعونة فيقول: «اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى».

ويطلب، من أجل تكميل هذا المقصد والمطلب: «وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى». فيكون شريكاً في مقام الرسالة، وفي إجراء وتنفيذ هذا البرنامج الكبير، إلّاأنّه يتبع موسى على كل حال، فموسى إمامه ومقتداه.

وفي النهاية يبيّن نتيجة هذه المطالب فيقول: «كَى نُسَبّحَكَ كَثِيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا* إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا».

ولمّا كان موسى لم يهدف من طلباته المخلصة هذه إلّاالخدمة الأكثر والأكمل، فإنّ اللَّه سبحانه قد لبّى طلباته في

نفس الوقت: «قَالَ قَد أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يمُوسَى .

إنّ موسى طلب كل ما كان يلزمه في هذه اللحظات الحساسة الحاسمة التي يجلس فيها لأوّل مرّة على مائدة الضيافة الإلهية ويطأ بساطها، واللَّه سبحانه كان يحبّ ضيفه أيضاً، حيث لبّى كل طلباته وأجابه فيها في جملة قصيرة تبعث الحياة، وبدون قيد وشرط.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 209

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لَا تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)

الربّ الرحيم: يشير اللَّه سبحانه في هذه الآيات إلى فصل آخر من فصول حياة موسى عليه السلام، والذي يرتبط بمرحلة الطفولة ونجاته من قبضة الفراعنة. وهذا الفصل وإن كان من ناحية التسلسل التاريخي قبل فصل الرسالة والنبوّة، إلّاأنّه ذكر كشاهد على شمول عناية اللَّه عزّ وجل لموسى عليه السلام من بداية عمره، وهي في الدرجة الثانية من الأهمية بالنسبة إلى الرسالة، فيقول أوّلًا: «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى «1».

وبعد ذكر هذا الإجمال تتطرق الآيات إلى الشرح والتفصيل، فتقول: «إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمّكَ مَا يُوحَى .

وهو إشارة إلى أنّنا قد علّمنا امّه كل الطرق التي تنتهي إلى نجاة موسى عليه السلام من قبضة الفراعنة، لأنّه يستفاد من سائر آيات القرآن أنّ فرعون شدّد ارهابه على بني إسرائيل للتصدّي لقوّتهم وعصيانهم المحتمل،

أو أنّه كان قد أمر بقتل أبنائهم وإبقاء البنات للخدمة، لكي يمنع ولادة ولد من بني إسرائيل كان قد أخبره المنجّمون أنّه يثور عليه ويزيل ملكه.

إنّ هذه الام أحسّت بأنّ حياة وليدها في خطر، وإخفاؤه مؤقتاً سوف لا يحلّ المشكلة ...

في هذه الأثناء ألهمها اللَّه- الذي رشّح هذا الطفل لثورة كبيرة؛ فألقى في قلب الامّ: «أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمّ». «اليم»: هنا يعني نهر النيل العظيم الذي يطلق عليه

______________________________

(1) «المنة»: في الأصل من المن، وهو يعني الأحجار الكبيرة التي كانوا يزنون بها، ولذلك فإنّ كل نعمة كبيرة ونفيسة يقال عنها: إنّها منّة. والمراد في الآية هو هذا المعنى، وهذا المعنى مفهوم جميل وايجابي للمنّة، إلّاأنّ الإنسان إذا عظّم عمله الصغير بكلامه، وذكّر الطرف الآخر به، فإنّه مصداق حي للمنّة السلبية المذمومة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 210

أحياناً اسم البحر لسعته وكثرة مياهه؛ و «التابوت»: تعني الصندوق الخشبي، ولا يعني دائماً الصندوق الذي يوضع فيه الأموات كما يظن البعض، بل إنّ له معنى واسعاً. ثم تضيف: «فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ».

إنّ كلمة «عدو» قد تكررت هنا، وهذا تأكيد على عداء فرعون للَّه، ولموسى وبني إسرائيل، وأشارت إلى أنّ الشخص الذي انغمس إلى هذا الحدّ في العداء هو الذي سيتولّى في النهاية تربية موسى.

ولما كان موسى عليه السلام يجب أن يحفظ في حصن أمين في هذا الطريق الملي ء بالمخاطر، فقد ألقى اللَّه قبساً من محبّته عليه، إلى الحدّ الذي لم ينظر إليه أحد إلّاويعشقه، فلا يكف عن قتله وحسب، بل لا يرضى أن تنقص شعرة من رأسه، كما يقول القرآن في بقية هذه الآيات:

«وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنّى».

يقولون: إنّ قابلة موسى كانت من الفراعنة، وكانت

مصمّمة على رفع خبر ولادته إلى فرعون، إلّاأنّه لمّا وقعت عينها على عين المولود الجديد، فكأنّ ومضة برقت من عينه وأضاءت أعماق قلبها، وطوّقت محبته رقبتها، وابتعدت عن رأسها كل الأفكار السيئة.

وتقول الآية في النهاية: «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى».

وكان قصر فرعون قد بني على جانب شط النيل، وبينما كان فرعون وزوجته على حافّة الماء ينظرون إلى الأمواج، وإذا بهذا الصندوق الغريب يلفت انتباههما، فأمر جنوده أن يخرجوا الصندوق من الماء، فلمّا فتحوا الصندوق شاهدوا بكامل العجب مولوداً جميلًا فيه، وهو شي ء لم يكن بالحسبان.

وهنا تنبّه فرعون إلى أنّ هذا الوليد ينبغي أن يكون من بني إسرائيل، وإنّما لاقى هذا المصير خوفاً من جلاوزته، فأمر بقتله، إلّاأنّ زوجته- التي كانت عقيماً- تعلّقت جدّاً بالطفل، فقد نفذ النور الذي كان ينبعث من عيني الطفل إلى زوايا قلبها، وجذبها إليه، فضربت على يد فرعون وطلبت منه أن يصرف النظر عن قتله، وعبّرت عن هذا الطفل بأنّه (قرّة عين)، بل وتمادت في طلبها، فطلبت منه أن يتخذاه ولداً ليكون مبعث أمل لهما، ويكبر في أحضانهما، وأصرّت على طلبها حتى أصابت سهامها، وحققت ما تصبو إليه.

غير أنّ الطفل جاع، وأراد لبناً، فاخذ يبكي ويذرف الدموع.

والآن نقرأ بقية القصة على ضوء الآيات الشريفة:

نعم يا موسى، فإنّا كنّا قدّرنا أن تتربى بأعيننا وعلمنا «إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ» بأمر امّك

مختصر الامثل، ج 3، ص: 211

لتراقب مصيرك، فرأت جنود فرعون: «فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ». وربّما أضافت بأنّ هذه المرأة لها لبن نظيف، وأنا مطمئنة بأنّ هذا الرضيع سيقبلها.

فاستبشر الجنود على أمل أن يجدوا ضالّتهم عن هذا الطريق، فذهبوا معها، فأطلعت اخت موسى- والتي كانت تظهر نفسها بمظهر الشخص الغريب والمجهول- امّها على الأمر، فجاءت

امّه إلى بلاط فرعون، من دون أن تفقد سيطرتها على أعصابها، بالرغم من أنّ أمواجاً من الحب والأمل كانت قد أحاطت بكل قلبها، واحتضنت الطفل، فلما شمّ الطفل رائحة امّه، وكانت رائحة مألوفة لديه، التقم ثديها كأنّه تضمّن لذة الروح وحلاوتها، واشتغل الطفل بشرب اللبن بلهفة وعشق شديدين، فانطلقت صرخات الفرح من الحاضرين، وبدت آثار الفرح والسرور على زوجة فرعون.

فقد أمرها فرعون بالإهتمام بالطفل، وأكّدت زوجته كثيراً على حفظه وحراسته، وأمرت أن يعرض عليها الطفل بين فترة واخرى.

هنا تحقق ما قاله القرآن: «فَرَجَعْنكَ إِلَى أُمّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ».

ومرّت السنون والاعوام، وتربّى موسى عليه السلام وسط هالة من لطف اللَّه ومحبته، وفي محيط آمن، وشيئاً فشيئاً أصبح شابّاً. وكان ذات يوم يمرّ من طريق فرأى رجلين يتشاجران، أحدهما من بني إسرائيل والآخر من الأقباط- وهم المصريون، قوم فرعون- ولمّا كان بنو إسرائيل يعيشون دائماً تحت ضغط الأقباط الظالمين وأذاهم، هبّ موسى لمعونة المظلوم الذي كان من بني إسرائيل، ومن أجل الدفاع عنه وجّه ضربة قاتلة إلى ذلك القبطي، فقضت عليه.

إنّ موسى، وحسب إشارة بعض أصدقائه عليه، خرج متخفّياً من مصر، وتوجّه إلى مدين، فوجد محيطاً وجوّاً آمناً في ظل النبي «شعيب»، والذي سيأتي شرح حاله في تفسير سورة القصص إن شاء اللَّه تعالى

هنا حيث يقول القرآن الكريم: «وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنكَ مِنَ الْغَمّ وَفَتَنكَ فُتُونًا». فبعد حادثة القتل اختبرناك كثيراً والقينا بك في اتون الحوادث والشدائد «فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ». وبعد اجتياز هذا الطريق الطويل، والإستعداد الروحي والجسمي، والخروج من دوامة الأحداث بشموخ وانتصار «ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يمُوسَى . أي لاستلام مهمة الرسالة في زمان مقدّر إلى هذا المكان.

مختصر الامثل، ج 3، ص:

212

ثم يضيف: «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى». فمن أجل مهمّة تلقّي الوحي الصعبة، ومن أجل قبول الرسالة، ومن أجل هداية العباد وإرشادهم ربّيتك واختبرتك في الحوادث الصعبة ومشاقّها، ومنحتك القوة والقدرة، والآن حيث ألقيت هذه المهمة الكبرى على عاتقك، فإنّك مؤهّل من جميع الجوانب. «اصطناع»: من مادة «صنع» بمعنى الإصرار والاقدام الأكيد على اصلاح شي ء. ويعني إنّني قد اصلحتك من كل الجهات.

اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتِي وَ لَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (48)

أوّل لقاء مع فرعون الجبار: الآن وقد أصبح كل شي ء مهيّأً، وكل الوسائل قد جعلت تحت تصرّف موسى، فقد خاطب اللَّه سبحانه موسى وهارون بقوله: «اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بَايتِى». الآيات التي تشمل المعجزتين الكبيرتين لموسى عليه السلام، كما تشمل كل آيات اللَّه وتعليماته التي هي بذاتها دليل على أحقّية دعوته.

ومن أجل رفع معنوياتهما، والتأكيد على بذل أقصى ما يمكن من المساعي والجهود، فقد أضاف سبحانه قائلًا: «وَلَا تَنِيَا فِى ذِكْرِى» وتنفيذ أوامري، لأنّ الضعف واللين وترك الحزم سيذهب بكل جهودكما أدراج الرياح، فأثبتا ولاتخافا من أيّ حادثة، ولا تضعفا أمام أيّ قدرة.

بعد ذلك، يبيّن الهدف الأساس لهذه الحركة، والنقطة التي يجب أن تكون هدفاً لتشخيص المسار، فيقول: «اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فإنّه سبب كل

الشقاء والتعاسة في هذه المنطقة الواسعة، وما لم يتمّ إصلاحه فسوف لا ينجح أيّ عمل، لأنّ عامل تقدّم الامّة أو تخلّفها، سعادتها أو شقائها وبؤسها هو قادتها وحكّامها.

ثم بيّنت الآية طريقة التعامل المؤثرة مع فرعون، فمن أجل أن تنفذا إليه وتؤثّرا فيه «فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى .

مختصر الامثل، ج 3، ص: 213

ومع هذه الحال، فقد كان موسى وهارون قلقين من أنّ هذا الرجل القوي المتغطرس المستكبر، الذي عمّ رعبه وخشونته كل مكان، قد يقدم على عمل قبل أن يبلّغان الدعوة، ويهلكهما، لذلك «قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى .

إلّا أنّ اللَّه سبحانه قد أجابهما بحزم: ف «قَالَ لَاتَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى وبناءً على هذا، فمع وجود اللَّه القادر معكما في كل مكان، اللَّه الذي يسمع كل شي ء، ويرى كل شي ء، وهو حاميكما وسندكما، فلا معنى للخوف والرعب.

ثم يبيّن لهما بدقّة كيفية إلقاء دعوتهما في محضر فرعون في خمس جمل قصار قاطعة غنيّة المحتوى، ترتبط أوّلها بأصل المهمة، والثانية ببيان محتوى المهمة، والثالثة بذكر الدليل والسند، والرّابعة بترغيب الذين يقبلونها، وأخيراً فإنّ الخامسة تكفّلت بتهديد المعارضين.

فتقول أوّلًا: «فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبّكَ».

ثم تقول: «فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلَا تُعَذّبْهُمْ».

ثم أشارت إلى دليلهما ووثيقتهما، فتقول: قولا له: «قَدْ جْنكَ بَايَةٍ مِّن رَّبّكَ». وبناءً على هذا، فإنّ العقل يحكم بأن تفكّر في كلامنا على الأقل، وأن تقبله إن كان صحيحاً ومنطقياً.

ثم تضيف الآية من باب ترغيب المؤمنين: «وَالسَّلمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى . وهذه الجملة يمكن أن تشير أيضاً إلى معنى آخر، وهو أنّ السلامة في هذه الدنيا، والعالم الآخر من الآلام والعذاب الإلهي الأليم، ومن مشاكل الحياة الفردية والاجتماعية،

من نصيب اولئك الذين يتّبعون الهدى الإلهي، وهذه في الحقيقة هي النتيجة النهائية لدعوة موسى.

وأخيراً، فإنّ اللَّه يأمرهما أن يُفهماه العاقبة المشؤومة للتمرد على هذه الدعوة وعصيانها، بقولهما له: «إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى .

إنّ هذه حقيقة يجب أن تقال لفرعون بدون لفّ ودوران، وبدون أي تغطية وتورية.

قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَ لَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَ فِيهَا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 214

لقد حذف القرآن المجيد هنا بعض المطالب التي يمكن فهمها بمعونة الأبحاث الآتية، وتوجّه مباشرةً إلى محاورة موسى وهارون مع فرعون، والمبحث في الواقع هكذا:

لمّا أصبح موسى أمام فرعون وجهاً لوجه، أعاد تلك الجمل الدقيقة المؤثرة التي علّمه اللَّه إيّاها أثناء الأمر بالرسالة. فلما سمع فرعون هذا الكلام، كان أوّل ردّ فعله أن «قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يمُوسَى . والعجيب أنّ فرعون المغرور والمعجب بنفسه لم يكن مستعدّاً حتى أن يقول: من ربّي الذي تدّعيانه؟ بل قال: من ربّكما؟

فأجابه موسى مباشرةً بجواب جامع جدّاً، وقصير في الوقت نفسه، عن اللَّه: «قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى . ففي هذه العبارة الموجزة إشارة إلى أصلين أساسيين من الخلقة والوجود، وكل واحد منهما دليل وبرهان مستقل يوصل إلى معرفة اللَّه:

الأوّل: إنّ

اللَّه سبحانه قد وهب لكل موجود ما يحتاجه.

والثاني: مسألة هداية وإرشاد الموجودات.

إنّ من الممكن أن يمتلك الإنسان أيّ شي ء من أسباب الحياة، إلّاأنّه يجهل كيفية الاستفادة منها، والمهم أن يعرف طريقة استعمالها، وهذا هو الشي ء الذي نراه في الموجودات المختلفة بوضوح، وكيف أنّ كلّاً منها يستغلّ طاقته بصورة دقيقة في إدامة حياته، كيف يبني بيتاً، وكيف يتكاثر، وكيف يربّي أولاده ويخفيهم ويبعدهم عن متناول الأعداء، أو يعلّمهم كيف يواجهون الأعداء.

والبشر- أيضاً- لديهم هذه الهداية التكوينية.

فإنّ الإنسان نتيجة لإمتلاكه العقل والإرادة، فإنّ له واجبات ومسؤوليات، وبعد ذلك مناهج تكاملية ليس للحيوانات مثلها، ولذلك فإنّه إضافة إلى الهداية التكوينية محتاج إلى الهداية التشريعية.

فلما سمع فرعون هذا الجواب الجامع الجميل، ألقى سؤالًا آخر «قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى .

أجابه موسى عليه السلام بقوله: «قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كِتبٍ لَّايَضِلُّ رَبّى وَلَا يَنسَى».

إنّ موسى قد نبّه بصورة ضمنيّة على إحاطة علم اللَّه بكل شي ء، لينتبه فرعون إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ أي شي ء من عمله لا يخفى على اللَّه وإن كان بمقدار رأس الإبرة، وسوف ينال عقابه أو ثوابه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 215

ولما كان جانب من حديث موسى عليه السلام حول مسألة التوحيد ومعرفة اللَّه، فإنّه يبيّن هنا فصلًا آخر في هذا المجال، فيقول: «الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى . وفي مجموع هذه الآية إشارة إلى أربعة أنواع من نعم اللَّه الكبرى.

إنّ هذه النعم الأربع الكبرى تشكّل حسب الترتيب الذي ورد في الآية أولويّات حياة الإنسان، فقبل كل شي ء يحتاج الإنسان إلى محلّ سكن وهدوء، وبعده إلى طرق المواصلات، ثم الماء، ثم المحاصيل الزراعية.

ثم

أشار إلى خامس النعم وآخرها من سلسلة النعم الإلهية هذه، فقال: «كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ».

وفي النهاية، وبعد أن أشار إلى كل هذه النعم، قال: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لِأُولِى النُّهَى .

«النهى»: جمع «نهية» وهي في الأصل مأخوذة من مادة «نهي» مقابل الأمر، وتعني العقل الذي ينهى الإنسان عن القبائح والسيئات، يعني إنّ العقل والفكر المسؤول هو الذي يستطيع أن يدرك ويطّلع على هذه الحقيقة.

وبما أنّ هذه الآيات دلّلت على التوحيد بخلق الأرض ونعمها، فقد بيّنت مسألة المعاد بالإشارة إلى الأرض في آخر آية من هذه الآيات أيضاً فقالت: «مِنْهَا خَلَقْنكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى .

وَ لَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَ أَبَى (56) قَالَ أَ جِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لَا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَ قَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَ يَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 216

فرعون يُهيّ ء نفسه للجولة الأخيرة: تعكس هذه الآيات مرحلة اخرى من المواجهة بين موسى وفرعون، ويبدأ القرآن الكريم هذا الفصل بهذه الجملة: «وَلَقَدْ أَرَيْنهُ ءَايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى . ومن المسلّم أنّ المراد من هذه الآيات هي المعجزات التي أراها فرعون في بداية دعوته، معجزة العصا، واليد البيضاء، ومحتوى دعوته السماوية الجامعة.

والآن، لنر

ماذا قال فرعون الطاغي المستكبر العنود في مقابل موسى ومعجزاته، وكيف اتّهمه كما هي عادة كل المتسلطين والحكّام المتعنّتين؟ «قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يمُوسَى . وهو إشارة إلى أنّنا نعلم أنّ مسألة النبوة والدعوة إلى التوحيد، وإظهار هذه المعجزات تشكّل بمجموعها خطّة منسّقة للإنتصار علينا، وبالتالي إخراجنا مع الأقباط من أرض آبائنا وأجدادنا.

إنّ هذه التهمة هي نفس الحربة التي يستخدمها الطواغيت والمستعمرون على إمتداد التاريخ، ويلوحون بها ويشهرونها كلّما رأوا أنفسهم في خطر، ومن أجل إثارة الناس لصالحهم يثيرون مسألة تعرّض مصالح البلد للخطر، فالبلد يعني حكومة هؤلاء العتاة، ووجوده يعني وجودهم!

ثم أضاف فرعون بأن لا تظن بأنّنا نعجز عن أن نأتي بمثل هذا السحر: «فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ». ولكي يظهر حزماً أكثر فإنّه قال: «فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّانُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى».

إلّا أنّ موسى لم يفقد هدوء أعصابه، ولم يدع للخوف من عنجهيّة فرعون إلى قلبه طريقاً، بل قال بحزم: «قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» «1».

إنّ التعبير ب «يَوْمُ الزّينَةِ» إشارة إلى يوم عيد إلّاأنّ المهم هو أنّ الناس كانوا يعطّلون أعمالهم فيه.

إنّ فرعون بعد مشاهدة معجزات موسى العجيبة، وتأثيرها النفسي في أنصاره، صمّم على مواجهة موسى عليه السلام بالإستعانة بالسّحرة، ولذلك وضع الإتفاق المذكور مع موسى «فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى .

وأخيراً حلّ اليوم الموعود، ووقف موسى أمام جميع الحاضرين، الذين كان بعضهم

______________________________

(1) «الضحى»: بمعنى زيادة أشعّة الشمس، أو إرتفاع الشمس.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 217

السحرة، وكان عددهم- على رأي بعض المفسرين- إثنين وسبعين ساحراً، وقال آخرون إنّهم بلغوا أربعمائة، وذكر البعض أعداداً أكبر أيضاً، وكان قسم من ذلك الجمع عبارة عن فرعون وأنصاره وحاشيته، وأخيراً

القسم الثالث الذي كان يشكّل الأكثرية، وهم الناس المتفرجون.

هنا توجّه موسى إلى السّحرة، أو إلى الفراعنة والسحرة، و «قَالَ لَهُم مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى .

وواضح أنّ مراد موسى من الإفتراء على اللَّه سبحانه هو أن يجعلوا شخصاً أو شيئاً شريكاً له، أو ينسبوا معجزات رسول اللَّه إلى السحر، ويظنّوا أنّ فرعون إلههم ومعبودهم.

إنّ كلام موسى المتين الذي لا يشبه كلام السّحرة بوجه، بل إنّ نبرته كانت نبرة دعوة كل الأنبياء الحقيقيين، ونابعة من صميم قلب موسى الطاهر، فأثّرت على بعض القلوب، وأوجدت إختلافاً بين ذلك الحشد من السّحرة، فبعض كان يناصر المواجهة والمبارزة، وبعض تردّد في الأمر، واحتمل أن يكون موسى عليه السلام نبيّاً إلهيّاً، وأثّرت فيهم تهديداته، خاصةً وأنّ لباس موسى وهارون البسيط كان لباس رعاة الأغنام، وعدم مشاهدة الضعف والتراجع على محيّاهما بالرغم من كونهما وحيدين، كان يعتبر دليلًا آخر على أصالة أقوالهما وصدق نواياهما، ولذلك فإنّ القرآن يقول: «فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى .

إلّا أنّ أنصار الاستمرار في المواجهة إنتصروا أخيراً وأخذوا زمام المبادرة بيدهم، وشرعوا في تحريك السحرة بطرق مختلفة، فأوّلًا «قَالُوا إِنْ هذَانِ لَسَاحِرَانِ». وبناءً على هذا فلا يجب أن تخافوا مواجهتهما، لأنّكم كبار وأساتذة السحر في هذه البلاد العريضة، ولأنّ قوّتكم وقدرتكم أكبر منهما.

ثم إنّهما «يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا». الوطن الذي هو أعزّ من أنفسكم. إضافة إلى أنّهما لا يقنعان بإخراجكم من أرضكم، بل إنّهما يريدان أيضاً أن يجعلا مقدساتكم اضحوكة ومحلّاً للسخرية «وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى «1».

والآن حيث أصبح الأمر كذلك، فلا تدعوا للتردّد إلى أنفسكم طريقاً مطلقاً، بل

______________________________

(1) «الطريقة»: تعني العادة والاسلوب المتبع، والمراد منها هنا

المذهب؛ و «مثلى»: من مادّة «مثل» وهي هنا تعني العالي والأفضل، أي الأشبه بالفضيلة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 218

«فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا» لأنّ الوحدة رمز إنتصاركم في هذه المعركة المصيرية الحاسمة «وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى .

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَ أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَ لَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)

موسى عليه السلام ينزل إلى الساحة: لقد اتّحد السّحرة ظاهراً، وعزموا على محاربة موسى عليه السلام ومواجهته، فلمّا نزلوا إلى الميدان «قَالُوا يمُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى .

غير أنّ موسى عليه السلام بدون أن يبدي عجلة، لإطمئنانه بأنّ النصر سوف يكون حليفه، بل وبغضّ النظر عن أنّ الذي يسبق إلى الحلبة في هذه المجابهات هو الذي يفوز «قَالَ بَلْ أَلْقُوا».

فقبل السحرة ذلك أيضاً، وألقوا كل ما جلبوه معهم من عصي وحبال للسحر في وسط الساحة دفعة واحدة، وإذا قبلنا الرواية التي تقول: إنّهم كانوا آلاف الأفراد، فإنّ معناها أنّ في لحظة واحدة القيت في وسط الميدان آلاف العصي والحبال التي ملئت أجوافها بمواد خاصة «فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى .

إنّ المشهد كان عجيباً جدّاً، فإنّ السحرة الذين كان عددهم كبيراً، وتمرّسهم وإطلاعهم في هذا الفن عميقاً، وكانوا يعرفون جيّداً طريقة الاستفادة من خواص هذه الأجسام الفيزيائية والكيميائية الخفية، استطاعوا أن ينفذوا إلى أفكار الحاضرين ليصدّقوا أنّ كل هذه الأشياء الميتة قد

ولجتها الروح، فعلت صرخات السرور من الفراعنة، بينما كان بعض الناس يصرخون من الخوف والرعب، ويتراجعون إلى الخلف.

في هذه الأثناء «فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى . «أوجس»: أخذت من مادة «إيجاس» وفي الأصل من (وجس) على وزن (حبس) بمعنى الصوت الخفي، وبناءً على هذا فإنّ الإيجاس يعني الإحساس الخفي والداخلي، وهذا يوحي بأنّ خوف موسى الداخلي كان سطحياً وخفيفاً. كما نقرأ في خطبة الإمام علي عليه السلام: «لم يوجس موسى عليه السلام خيفة على نفسه، بل

مختصر الامثل، ج 3، ص: 219

أشفق من غلبة الجهّال ودول الضلال» «1».

فقد نزل النصر والمدد الإلهي على موسى في تلك الحال، وبيّن له الوحي الإلهي أنّ النصر حليفه كما يقول القرآن: «قُلْنَا لَاتَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى .

فقد أرجعت لموسى إطمئنانه الذي تزلزل للحظات قصيرة.

وخاطبه اللَّه مرّة اخرى بقوله تعالى: «وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى .

وممّا يلفت النظر أنّه لم يقل (الق عصاك) بل يقول: «أَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ» وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى عدم الإهتمام بالعصا، وإشارة إلى أنّ العصا ليست مسألة مهمّة، بل المهم إرادة اللَّه وأمره، فإنّه إذا أراد اللَّه شيئاً، فليست العصا فقط، بل أقل وأصغر منها قادر على إظهار مثل هذه القدرة.

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَ مُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَ أَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَ الَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا

آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَ مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَ لَا يَحْيَى (74) وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ذلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

الإنتصار العظيم لموسى عليه السلام: إنتهينا في الآيات السابقة إلى أنّ موسى امر أن يلقي عصاه ليبطل سحر السّاحرين، وقد عُقّبت هذه المسألة في هذه الآية، غاية الأمر أنّ العبارات والجمل التي كانت واضحة قد حذفت، وهي (أنّ موسى قد ألقى عصاه، فتحوّلت إلى حيّة

______________________________

(1) لقد قال الإمام علي عليه السلام هذا الكلام في وقت كان قلقاً من انحراف الناس، ويشير إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ قلقي ليس نابعاً من شكّي في الحق. (نهج البلاغة الخطبة 4).

مختصر الامثل، ج 3، ص: 220

عظيمة لقفت كل آلات وأدوات سحر السّحرة، فعلت الصيحة والغوغاء من الحاضرين، فاستوحش فرعون وإرتبك، وفغر أتباعه أفواههم من العجب. فأيقن السحرة الذين لم يواجهوا مثل هذا المشهد من قبل، وكانوا يفرّقون جيّداً بين السحر وغيره، إنّ هذا الأمر ليس إلّامعجزة إلهية، وأنّ هذا الرجل الذي يدعوهم إلى ربّهم هو رسول اللَّه، فاضطربت قلوبهم، وتبيّن التحوّل العظيم في أرواحهم ووجودهم).

والآن نسمع بقيّة الحديث من لسان الآيات:

«فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبّ هرُونَ وَمُوسَى . إنّ التعبير ب (القي)- وهو فعل مبني للمجهول- ربّما كان إشارة إلى أنّهم قد صدّقوا موسى، وتأثّروا بمعجزته إلى الحد الذي سجدوا معه دون إرادة.

إنّ عمل السّحرة هذا قد وجّه صفعة قويّة إلى فرعون وحكومته الجبارة المستبدة الظالمة، ولذلك لم ير فرعون بدّاً إلّاأن

يجمع كيانه ويلملم ما تبقّى من هيبته وسلطانه عن طريق الصراخ والتهديد والوعيد الغليظ، فتوجّه نحو السحرة و «قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ».

إنّ هذا الجبار المستكبر لم يكن يدّعي الحكومة على أجسام وأرواح الناس وحسب، بل كان يريد أن يقول: إنّ قلوبكم تحت تصرفي أيضاً، ويجب على أحدكم إذا أراد أن يصمّم على أمر ما أن يستأذنني.

إنّ فرعون لم يكتف بذلك، بل إنّه ألصق بالساحرين التهمة وقال: «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْرَ».

لا شكّ أنّ فرعون كان على يقين ومعرفة تامّة بكذب كلامه وبطلانه، إلّاأنّا نعلم أنّ الطغاة لا يتورّعون عن إلصاق أي كذب وتهمة بخصومهم عندما يرون مركزهم الذي حصلوا عليه بغير حق يتعرّض للخطر.

ثم إنّه لم يكتف بهذا، بل إنّه هدّد السحرة أشدّ تهديد، التهديد بالموت، فقال: «فَلَأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلفٍ وَلَأُصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى .

لكن نرى ماذا كان ردّ فعل السحرة تجاه تهديدات فرعون الشديدة؟ إنّهم لم يخافوا ولم يهربوا من ساحة المواجهة، أثبتوا صمودهم في الميدان بصورة قاطعة، و «قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيّنتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ» لكن، ينبغي أن تعلم بأنّك تقدر على

مختصر الامثل، ج 3، ص: 221

القضاء في هذه الدنيا، أمّا في الآخرة فنحن المنتصرون، وستلاقي أنت أشدّ العقاب «إِنَّمَا تَقْضِى هذِهِ الْحَيَوةَ الدُّنيَا».

ثم أضافوا بأنّا قد إرتكبنا ذنوباً كثيرة نتيجة السحر، ف «إِنَّا ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطينَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى . وخلاصة القول: إنّ هدفنا هو الطهارة من الذنوب الماضية، ومن جملتها محاربة نبي اللَّه الحقيقي، فإذا كنت تهدّدنا بالموت في الدنيا، فإنّنا نتقبّل هذا الضرر القليل في مقابل

ذلك الخير العظيم.

ثم واصل السحرة قولهم بأنّنا إذا كنّا قد آمنا فإنّ سبب ذلك واضح ف «إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ» ومصيبته الكبرى في الجحيم هي أنّه «لَايَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى بل إنّه يتقلّب دائماً بين الموت والحياة، تلك الحياة التي هي أمرّ من الموت، وأكثر مشقّة منه.

«وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصلِحتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجتُ الْعُلَى جَنتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهرُ خلِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى .

عندما صمّموا على قبول الحقّ والثبات عليه بعشق، وعلى قول المفسر الكبير العلّامة الطبرسي رحمه الله: «كانوا أوّل النهار كفّاراً سحرة، وآخر النهار شهداء بررة».

نجاة بني إسرائيل وغرق الفراعنة: بعد حادثة المجابهة بين موسى والسحرة، وإنتصاره الباهر عليهم، وإيمان جمع عظيم منهم، فقد غزا موسى عليه السلام ودينه أفكار الناس في مصر، بالرغم من أنّ أكثر الأقباط لم يؤمنوا به، إلّاأنّ هذا كان ديدنهم دائماً، وكان بنو إسرائيل تحت قيادة موسى مع قلّة من المصريين في حالة صراع دائم مع الفراعنة، ومرّت أعوام على هذا المنوال، وحدثت حوادث مرّة موحشة وحوادث جميلة مؤنسة، أورد بعضها القرآن الكريم في الآية (127) وما بعدها من سورة الأعراف.

وتشير الآيات التي نبحثها إلى آخر فصل من هذه القصة، أي خروج بني إسرائيل من مصر، فتقول: «وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى». فتهيّأ بنو إسرائيل للتوجه إلى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 222

الوطن الموعود (فلسطين)، إلّاأنّهم لمّا وصلوا إلى سواحل النيل علم الفراعنة بهم، فتعقّبهم فرعون في جيش عظيم، فرأى بنو إسرائيل أنفسهم محاصرين بين البحر والعدو، إلّا أنّ اللَّه أمر موسى أن امض بقومك «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا». طريقاً متى ما مضيت فيه ف «لَّاتَخفُ

دَرَكًا وَلَا تَخْشَى . وبذلك فإنّ موسى وبني إسرائيل قد ساروا في تلك الطرق التي فتحت في أعماق البحر بعد إنحسار المياه عنها، في هذه الأثناء وصل فرعون وجنوده إلى ساحل البحر فدُهشوا لهذا المشهد المذهل المثير غير المتوقّع، ولذلك أعطى فرعون أمراً لجنوده باتّباعهم، وسار هو أيضاً في نفس الطريق: «فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ».

إنّ فرعون الذي ركب الغرور والعصبية رأسه، وغرق في بحر العناد والحماقة، لم يهتمّ لهذه المعجزة الكبيرة، وأمر جيشه في المسير في هذه الطرق البحرية المريبة حتى دخل من هذه الجهة آخر جندي فرعوني، في وقت خرج من الجانب الآخر آخر فرد من بني إسرائيل.

في هذه الأثناء صدر الأمر لأمواج المياه أن ترجع إلى حالتها الاولى، فوقعت عليهم الأمواج كما تسقط البناية الشامخة إذا هدّمت قواعدها «فَغَشِيَهُم مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ». أجل، «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى .

صحيح أنّ جملة (أضلّ) وجملة (ما هدى) تعطي معنى واحداً تقريباً إلّاأنّ الظاهر أنّ هناك تفاوتاً فيما بينهما، وهو أنّ (أضلّ) إشارة إلى الإضلال، و (ما هدى) إشارة إلى عدم الهداية بعد وضوح الضلالة.

إنّ فرعون كان عنيداً إلى الحد الذي لم يبيّن لقومه الحقيقة حتى بعد وضوح الضلال ومشاهدته.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ وَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ لَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (82)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 223

طريق النجاة الوحيد: تعقيباً على البحث السابق في نجاة بني إسرائيل بصورة إعجازية من قبضة الفراعنة، خاطبت هذه الآيات الثلاث بني إسرائيل

بصورة عامة، وفي كل عصر وزمان، وذكرتهم بالنعم الكبيرة التي منحها اللَّه إيّاهم، وأوضحت طريق نجاتهم.

فقالت أوّلًا: «يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِن عَدُوّكُمْ».

ثم تشير إلى واحدة من النعم المعنوية المهمة، فتقول: «وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ». وهذه إشارة إلى حادثة ذهاب موسى عليه السلام مع جماعة من بني إسرائيل إلى مكان ميعادهم في الطور، ففي ذلك المكان أنزل اللَّه سبحانه ألواح التوراة على موسى وكلّمه، وشاهدوا جميعاً تجلّي اللَّه سبحانه.

وأخيراً أشارت إلى نعمة ماديّة مهمة من نعم اللَّه الخاصة ببني إسرائيل، فتقول: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى . ففي تلك الصحراء كنتم حيارى، ولم يكن عندكم شي ء من الطعام المناسب، فأدرككم لطف اللَّه، ورزقكم من الطعام الطيّب اللذيذ ما كنتم بأمسّ الحاجة إليه.

و «المنّ» نوعاً من العسل الطبيعي كان موجوداً في الجبال المجاورة لتلك الصحراء؛ و «السلوى» نوع من الطيور المحللة اللحم شبيهاً بالحمام.

ثم تخاطبهم الآية التالية بعد ذكر هذه النعم الثلاث العظيمة، فتقول: «كُلُوا مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ».

الطغيان في النعمة هو أن يتخذ الإنسان هذه النعم وسيلة للذنب والجحود والكفران والتمرد والعصيان، بدل أن يستغلّها في طاعة اللَّه وسعادته، تماماً كما فعل بنو إسرائيل، ولذلك حذّرتهم الآية بعد ذلك فقالت: «فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى .

«هوى»: في الأصل بمعنى السقوط من المكان المرتفع، والذي تكون نتيجته الهلاك عادةً، إضافة إلى أنّه هنا إشارة إلى السقوط الرتبي والبعد عن قرب اللَّه، والطرد من رحمته.

ولما كان من الضروري أن يقترن التحذير والتهديد بالترغيب والبشارة دائماً، لتتساوى كفّتا الخوف والرجاء، حيث تشكّلان العامل الأساسي في تكامل الإنسان، ولتفتح أبواب التوبة والرجوع بوجه التائبين، فقد قالت الآية التالية: «وَإِنّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ

وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى .

«غفّار»: صيغة مبالغة، وتوحي أنّ اللَّه سبحانه لا يقبل هؤلاء التائبين ويشملهم برحمته مرّة واحدة فقط، بل سيعمّهم عفوه ومغفرته مرّات ومرّات.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 224

وَ مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَ لكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هذَا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَ فَلَا يَرَوْنَ أَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَ لَا نَفْعاً (89) وَ لَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)

صخب السامري: ذكر في هذه الآيات فصل آخر من حياة موسى عليه السلام وبني إسرائيل، ويتعلق بذهاب موسى عليه السلام مع وكلاء وممثّلي بني إسرائيل إلى الطور حيث موعدهم هناك، ثم عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب هؤلاء.

كان من المقرر أن يذهب موسى عليه السلام إلى «الطور» لتلقّي أحكام التوراة، ويصطحب معه جماعة من بني إسرائيل، غير أنّ شوق موسى عليه السلام إلى المناجاة مع اللَّه وسماع ترتيل الوحي، وصل لوحده قبل الآخرين إلى ميقات اللَّه وميعاده. هنا نزل عليه الوحي: «وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يمُوسَى .

شوق المناجاة

وسماع كلامك قد سلب قراري، كنت مشتاقاً إلى أن آخذ منك أحكام التوراة بأسرع ما يمكن لُاؤدّيها إلى عبادك، ولأنال رضاك عنّي بذلك ...

وفي هذا اللقاء إمتدّت مدّة الإشراقات والتجليات المعنوية الإلهية من ثلاثين ليلة إلى أربعين، وأدّت الأجواء المهيّأة لانحراف بني إسرائيل دورها، فالسامري، ذلك الرجل الفطن والمنحرف صنع باستعماله الوسائل عجلًا، ودعا تلك الجماعة إلى عبادته، وأوقعهم فيها.

وأخيراً أخبر اللَّه موسى في الميعاد بما جرى لقومه والسامري إذ تحكي الآية التالية ذلك

مختصر الامثل، ج 3، ص: 225

فتقول: «قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ». «فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا».

وما أن وقعت عينه على ذلك المنظر القبيح، منظر عبادة العجل «قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا». وهذا الوعد الحسن إمّا أن يكون وعد بني إسرائيل بنزول التوراة وبيان الأحكام السماوية فيها، أو الوعد بالنجاة والإنتصار على الفراعنة ووراثة حكومة الأرض، أو الوعد بالمغفرة والعفو للذين يتوبون ويؤمنون ويعملون الصالحات، أو أنّه كل هذه الامور.

ثم أضاف: «أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ».

وحتى لو نأيت عنكم سنين طويلة فينبغي أن تلتزموا بالتعاليم الإلهية التي تعلّمتموها وتؤمنوا بالمعجزات التي رأيتموها: «أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِى». فقد عاهدتكم على أن تثبتوا على خطّ التوحيد وطريق طاعة اللَّه الخالصة، وأن لا تنحرفوا عنه قيد أنملة، إلّاأنّكم نسيتم كل كلامي في غيابي، وكذلك تمردّتم على طاعة أمر أخي هارون وعصيتموه.

فلمّا رأى بنو إسرائيل أنّ موسى عليه السلام قد عنّفهم بشدة ولامهم على فعلهم وتنبّهوا إلى قبح ما قاموا به من عمل، هبوا للإعتذار ف «قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا» فلم نكن في الواقع قد رغبنا وصمّمنا على عبادة العجل «وَلكِنَّا حُمّلْنَا أَوْزَارًا مِّن

زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِىُّ».

إنّ كبير القوم إذا لام مَن تحت إمرته على إرتكابهم ذنباً ما، فإنّهم يسعون إلى نفي ذلك الذنب عنهم، ويلقونه على عاتق غيرهم، وكذلك عبّاد العجل من بني إسرائيل، فإنّهم كانوا قد انحرفوا بإرادتهم ورغبتهم عن التوحيد إلى الشرك، إلّاأنّهم أرادوا أن يلقوا كل التبعة على السامري.

على كلّ، فإنّ السامري ألقى كل أدوات زينة الفراعنة وحليّهم التي كانوا قد حصلوا عليها عن طريق الظلم والمعصية- ولم يكن لها قيمة إلّاأن تصرف في مثل هذا العمل المحرّم- في النّار «فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ» «1» فلمّا رأى بنو إسرائيل هذا المشهد، نسوا فجأةً كل تعليمات موسى التوحيديّة «فَقَالُوا هذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسَى .

وبهذا فإنّ السامري قد نسي عهده وميثاقه مع موسى، وإله موسى: «فَنَسِىَ».

وهنا قال اللَّه سبحانه توبيخاً وملامة لعبدة الأوثان هؤلاء: «أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفَعًا». فإنّ المعبود الواقعي يستطيع على الأقل أن يُلبّي طلبات

______________________________

(1) «الخوار»: صوت البقرة والعجل، ويطلق أحياناً على صوت البعير.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 226

عباده ويجيب على أسئلتهم، فهل يمكن أن يكون سماع خوار العجل من هذا الجسد الذهبي لوحده، دليلًا على جواز عبادة العجل، وصحّة تلك العبادة؟ ولا شك أنّ هارون، خليفة موسى ونبي اللَّه الكبير، لم يرفع يده عن رسالته في هذا الصخب والغوغاء، وأدّى واجبه في محاربة الانحراف والفساد قدر ما يستطيع، كما يقول القرآن: «وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هرُونُ مِن قَبْلُ يقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ» ثم أضاف: «وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ».

لقد كنتم عبيداً فحرّركم، وكنتم أسرى فأطلقكم، وكنتم ضالين فهداكم، وكنتم متفرقين مبعثرين فجمعكم ووحّدكم تحت راية رجل رباني، وكنتم جاهلين فألقى عليكم نور العلم وهداكم

إلى صراط التوحيد المستقيم، فالآن «فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى».

أنسيتم أنّ أخي موسى قد نصّبني خليفة له وفرض عليكم طاعتي؟ فلماذا تنقضون الميثاق؟ ولماذا ترمون بأنفسكم في هاوية الفناء؟

إلّا أنّ بني إسرائيل تمسكّوا بهذا العجل عناداً، ولم يؤثّر فيهم المنطق السليم القوي لهذا الرجل، ولا أدلة هذا القائد الحريص، وأعلنوا مخالفتهم بصراحة: «قَالُوا لَنْ نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى .

وبهذا لم يذعن بنو إسرائيل لأمر العقل ولا لأمر خليفة قائدهم وزعيمهم أيضاً.

ولكن إفترق عنهم هارون مع القلة من المؤمنين الثابتين، والذين كان عددهم قرابة إثني عشر ألفاً، في حين أنّ الأغلبية الجاهلة كادوا أن يقتلوه.

قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَنْ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلَى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّمَا إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً (98)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 227

نهاية السامري المريرة: تعقيباً على البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول تقريع موسى وملامته لبني إسرائيل الشديدة على عبادتهم العجل، تعكس هذه الآيات التي نبحثها- في البداية- محاورة موسى عليه السلام مع أخيه هارون عليه السلام، ثم مع السامري. فخاطب أوّلًا أخاه هارون «قَالَ يَا هرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا

تَتَّبِعَنِ» أفلم أقل لك أن «اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» «1». فلماذا لم تهب لمحاربة عبادة العجل هذه؟

إنّ المراد من جملة «أَلَّا تَتَّبِعَنِ» هو: لماذا لم تتّبع طريقة عملي في شدّة مواجهة عبادة الأصنام؟

ثم أضاف: «أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى». لقد كان موسى عليه السلام يتحدث بهذا الكلام مع أخيه وهو في فورة وسَورةٍ من الغضب، وكان يصرخ في وجهه، وقد أخذ برأسه ولحيته يجرّه إليه، فلمّا رأى هارون غضب أخيه الشديد قال له- من أجل تهدئته وليقلّل من فورته، وكذلك ليبيّن عذره وحجّته في هذه الحادثة ضمناً ... «قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَاتَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلَا بِرَأْسِى إِنّى خَشِيْتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى».

إنّ هارون يريد أن يقول: إنّي إذا كنت قد أقدمت على الإشتباك معهم كان ذلك خلاف أمرك، وكان من حقّك أن تؤاخذني. وبهذا أثبت هارون براءته.

وبعد الانتهاء من محادثة أخيه هارون وتبرئة ساحته، بدأ بمحاكمة السامري: لماذا فعلت ما فعلت، وما هدفك من ذلك: «قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِىُّ». فأجابه و «قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى».

إنّ كلمة «الأثر» يعني بعض تعليمات موسى عليه السلام؛ و «نبذتها» بمعنى ترك تعليمات موسى عليه السلام. وأخيراً فإنّ «بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا» تشير إلى ما كان لديه من معلومات خاصّة عن دين موسى عليه السلام.

ومن الواضح أنّ جواب السامري عن سؤال موسى عليه السلام لم يكن مقبولًا بأيّ وجه، ولذلك فإنّ موسى عليه السلام أصدر قرار الحكم في هذه المحكمة، وحكم بثلاثة أحكام عليه وعلى عجله، فأوّلًا: «قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَوةِ أَن تَقُولَ لَامِسَاسَ». أي يجب عليك الإبتعاد عن الناس وعدم

الإتصال بهم إلى آخر العمر، فكلما أراد شخص الإقتراب منك، فعليك أن

______________________________

(1) سورة الأعراف/ 142.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 228

تقول له: لا تتصل بي ولا تقربني، وبهذا الحكم الحازم طرد السامري من المجتمع وجعله في عزلة تامة. منزوياً بعيداً عنهم. قال بعض المفسرين: إنّ جملة «لَامِسَاسَ» إشارة إلى أحد القوانين الجزائية في شريعة موسى عليه السلام التي كانت تصدر في حق من يرتكب جريمة كبيرة، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرّير نجس قذر، فلا يخالط أحداً أو يخالطه أحد «1».

والعقاب الثاني: إنّ موسى عليه السلام قد أسمعه وأعلمه بجزائه في القيامة فقال: «وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ».

والثالث: «وَانظُرْ إِلَى إِلهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى الْيَمّ نَسْفًا».

وشخّص موسى في آخر جملة، ومع التأكيد الشديد على مسألة التوحيد، وحاكمية نهج اللَّه، فقال: «إِنَّمَا إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْ ءٍ عِلْمًا». فليس هو كالأوثان المصنوعة التي لا تسمع كلاماً، ولا تجيب سائلًا، ولا تحلّ مشكلة، ولا تدفع ضرّاً.

كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَ سَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً (104)

مع أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث حول تاريخ موسى وبني إسرائيل والفراعنة والسامري الملي ء بالحوادث، وقد بيّنت في طيّاتها بحوثاً مختلفة، فإنّ القرآن الكريم بعد الانتهاء منها يستخلص نتيجة عامة فيقول: «كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِن أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ». ثم يضيف: «وَقَدْ

ءَاتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا» قرآناً مليئاً بالدروس والعبر، والأدلّة العقلية، وأخبار الماضين وما ينبّه المقبلين ويحذّرهم.

إنّ كلمة (ذكر) هنا، وفي آيات كثيرة اخرى من آيات القرآن الكريم تشير إلى القرآن نفسه، لأنّ آياته سبب لتذكّر وتذكير البشر، والوعي والحذر.

ولهذا السبب فإنّ الآية التالية تتحدث عن الذين ينسون حقائق القرآن ودروس التاريخ

______________________________

(1) تفسير في ظلال القرآن 5/ 494.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 229

وعبره، فتقول: «مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيمَةِ وِزْرًا».

نعم ... إنّ الإعراض عن القرآن يجرّ الإنسان إلى مثل هذه المتاهات التي تحمّله أعباءاً ثقيلة من أنواع الذنوب والانحرافات الفكرية والعقائدية.

ثم تضيف: «خلِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ حِمْلًا».

ثم تتطرق الآيات إلى وصف يوم القيامة وبدايته، فتقول: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا». «زُرق»: جمع «أزرق» تأتي عادةً بمعنى زرقة العين، إلّاأنّها تطلق أحياناً على القاتم جسده بسبب الشدة والألم، فإنّ البدن عند تحمّل الألم والتعب والعذاب يضعف، ويفقد طراوته، فيبدو قاتماً وكأنّه أزرق.

في هذه الحال يتحدث المجرمون فيما بينهم بإخفات حول مقدار مكوثهم وبقائهم في عالم البرزخ، فبعضهم يقول: لم تلبثوا إلّاعشر ليال، أو عشرة أيام بلياليها: «يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا».

وإنّ تخافتهم هذا بالكلام إمّا هو للرعب والخوف الشديد الذي ينتابهم عند مشاهدة أهوال القيامة، أو أنّه نتيجة شدة ضعفهم وعجزهم.

ثم يضيف: «نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ» سواء تكلّموا بهمس أم بصراخ، وبصوت خفي أم عال «إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا».

وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَ لَا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ

لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَ لَا هَضْماً (112)

مشهد القيامة المهول: تتابع هذه الآيات الكلام في الآيات السابقة عن الحوادث المرتبطة بانتهاء الدنيا وبداية القيامة. ويظهر من الآية الاولى أنّ الناس كانوا قد سألوا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 230

النبي صلى الله عليه و آله عن مصير الجبال عند انتهاء الدنيا. ولذلك يقول: «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ».

والجواب: «فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا» «1».

يستفاد من مجموع آيات القرآن حول مصير الجبال أنّها تمرّ عند حلول القيامة بمراحل مختلفة:

فهي ترجف وتهتزّ أوّلًا: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ» «2».

ثم تتحرّك: «وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا» «3».

وفي المرحلة الثالثة تتلاشى وتتحوّل إلى كثبان من الرمل: «وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا» «4».

وفي المرحلة الأخيرة سيزحزحها الهواء والطوفان من مكانها ويبعثرها في الهواء وتبدو كالصوف المنفوش: «وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» «5».

ثم تقول الآية: إنّ اللَّه سبحانه بعد تلاشي الجبال وتطاير ذرّاتها يأتي أمره إلى الأرض «فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا* لَّاتَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا» «6». وفي ذلك الحين يدعو الداعي الإلهي جميع البشر إلى الحياة والاجتماع في المحشر للحساب فيلبّي الجميع دعوته ويتّبعونه «يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ لَاعِوَجَ لَهُ». كما أنّ سطح الأرض يصبح صافياً ومستوياً بحيث لا يبقى فيه أيّ إعوجاج، فإنّ أمر اللَّه والداعي أيضاً كل منهما صافٍ ومستقيم جلي، واتّباعه واضح لا سبيل لأيّ إنحراف وإعوجاج إليه.

عند ذلك: «وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا». إنّ هدوء الأصوات أو خشوعها هذا إمّا هو لهيمنة العظمة

الإلهية على عرصة المحشر حيث يخضع لها الجميع، أو خوفاً من الحساب ونتيجة الأعمال، أو لكليهما.

______________________________

(1) «نسف»: تعني وضع الحبوب الغذائية في الغربال وغربلتها، أو ذرها في الهواء لينفصل الحبّ عن القشر، وهنا إشارة إلى تلاشي الجبال وتهشّمها، ثم تناثرها في الهواء.

(2) سورة المزمل/ 14.

(3) سورة الطور/ 10.

(4) سورة المزمل/ 14.

(5) سورة القارعة/ 5.

(6) يستفاد من مجموع هذين الوصفين (القاع وصفصفاً) أنّ كل الجبال والنباتات ستمحى من على وجه الأرض في ذلك اليوم وستبقى الأرض مستوية خالية.

«العوج»: بمعنى الإعوجاج؛ و «الأمت»: أي الأرض المرتفعة والربية، وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية هو أنّه لا يرى في ذلك اليوم أيّ إرتفاع وإنخفاض على وجه الأرض.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 231

وبما أنّ بعض الغارقين في الذنوب والمعاصي قد يحتمل أن تنالهم شفاعة الشافعين وتنجيهم، فإنّه يضيف مباشرة: «يَوْمَئِذٍ لَّاتَنفَعُ الشَّفعَةُ إِلَّا مَن أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلًا». وهذا إشارة إلى أنّ الشفاعة هناك ليست إعتباطية وعشوائية، بل إنّ هناك تخطيطاً دقيقاً لها، سواء ما يتعلق بالشافعين أو المشفوع لهم، وما دام الأفراد لا يملكون الأهلية والاستحقاق للشفاعة، فلا معنى حينئذ لها.

ولمّا كان حضور الناس في عرصات القيامة للحساب والجزاء لابدّ معه من علم اللَّه سبحانه بأعمالهم وسلوكهم ومعاملاتهم، فإنّ الآية التالية تضيف: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا». فهو يعلم ما قدّم المجرمون وما فعلوه في الدنيا، وهو مطّلع على كل أفعالهم وأقوالهم ونيّاتهم في الماضي وما سيلاقونه من الجزاء في المستقبل، إلّاأنّهم لا يحيطون بعلم اللَّه، وبهذا فإنّ إحاطة علم اللَّه سبحانه تشمل العلم بأعمال هؤلاء وبجزائهم، وهذان الركنان في الحقيقة هما دعامة القضاء التام العادل.

في ذلك اليوم: «وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىّ الْقَيُّومِ».

«العنت»: من

مادة العنوة، وقد وردت بمعنى الخضوع والذلة، ولذلك يقال للأسير:

«عاني»، لأنّه خاضع وذليل في يد الآسر، وإذا رأينا الخضوع قد نسب إلى الوجوه هنا، فلأنّ كل الإحساسات النفسية، ومن جملتها الخضوع، تظهر آثارها أوّلًا على وجه الإنسان.

إنّ إنتخاب صفتي «الحي والقيوم» هنا من بين صفات اللَّه سبحانه، لأنّهما يناسبان النشور أو الحياة وقيام الناس جميعاً من قبورهم «يوم القيامة».

وتختتم الآية بالقول: «وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا» فالظلم والجور كالحمل العظيم الذي يثقل كاهل الإنسان، ويمنعه من السير والرقي إلى نعم اللَّه الخالدة.

ولمّا كانت طريقة القرآن غالباً هي بيان تطبيقي للمسائل، فإنّه بعد أن بيّن مصير الظالمين في ذلك اليوم، تطرّق إلى بيان حال المؤمنين فقال: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا» «1».

التعبير ب «مِنَ الصَّالِحَاتِ» إشارة إلى أنّهم إن لم يستطيعوا أن يعملوا كل الصالحات فليقوموا ببعضها، لأنّ الإيمان بدون العمل الصالح كالشجرة بلا ثمرة، كما أنّ العمل الصالح

______________________________

(1) «الهضم»: بمعنى النقص، وإذا قيل لجذب الغذاء إلى البدن: هضم، فلأنّ الغذاء يقلّ ظاهراً وتبقى فضلاته.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 232

بدون إيمان كالشجرة من دون جذر، إذ قد تبقى عدة أيّام لكنها تجفّ آخر الأمر. مراحل القيامة: وردت الإشارة في الآيات- محل البحث- إلى سلسلة من الحوادث التي تقع عند حلول القيامة وبعدها:

1- رجوع الأموات إلى الحياة: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ».

2- جمع المجرمين وحشرهم: «نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ».

3- تلاشي جبال الأرض، ثم تبعثرها في كل مكان، وإستواء سطح الأرض تماماً:

«يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا».

4- إستماع الجميع لدعوة داعي اللَّه، وإنقطاع جميع الأصوات: «يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ ...».

5- عدم تأثير الشفاعة في ذلك اليوم بدون إذن اللَّه: «يَوْمَئِذٍ لَّاتَنفَعُ الشَّفعَةُ ...».

6- إعداد اللَّه تعالى جميع خلقه للحساب

بعلمه المطلق غير المتناهي «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا».

7- خضوع الجميع في مقابل حكمه: «وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىّ الْقَيُّومِ».

8- يأس الظالمين: «وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا».

9- رجاء المؤمنين لطف اللَّه ورحمته: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...».

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَ صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَ لَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)

الآيات محل البحث- في الواقع- إشارة إلى مجموع ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل التربوية المرتبطة بالقيامة والوعد والوعيد، فتقول: «وَكَذلِكَ أَنزَلْنهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا».

التعبير ب (كذلك) إشارة إلى المطالب التي بيّنت قبل هذه الآية.

كلمة «عربيًّا» وإن كانت بمعنى اللغة العربية، إلّاأنّها هنا إشارة إلى فصاحة القرآن وبلاغته وسرعة إيصاله للمفهوم والمراد من جهتين:

الاولى: إنّ اللغة العربية- بشهادة علماء اللغة في العالم- واحدة من أبلغ لغات العالم، وأدبها من أقوى الآداب.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 233

والثانية: إنّ جملة (صرّفنا) أحياناً تشير إلى التعبيرات القرآنية المختلفة حول حادثة واحدة، فمثلًا نراه يبيّن مسألة الوعيد وعقاب المجرمين من خلال ذكر قصص الامم السابقة وحوادثها تارة، وتارة اخرى على هيئة خطاب موجّه للحاضرين، وثالثة بتجسيد حالهم في مشهد القيامة، وهكذا.

أمّا الآية التالية فتضيف قائلة: «فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ».

وبما أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يعجّل في إبلاغ الوحي وما ينزل من القرآن لاهتمامه به وتعشّقه أن يحفظه المسلمون ويستظهروه، ولم يتمهّل أن يتمّ جبرئيل ما يلقيه عليه من الوحي فيبلغه عنه، فإنّ الآية محلّ البحث تذكّره بأن يتمهّل فتقول: «وَلَا

تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْمًا».

فإذا كان النبي صلى الله عليه و آله مأموراً أن يطلب زيادة العلم من ربّه إلى آخر عمره مع غزارة علمه، وروحه المليئة وعياً وعلماً، فإنّ واجب الآخرين واضح جدّاً، وفي الحقيقة، فإنّ العلم من وجهة نظر الإسلام لا يعرف حدّاً، وزيادة الطلب في كثير من الامور مذمومة إلّافي طلب العلم فانّها ممدوحة، والإفراط قبيح في كل شي ء إلّافي طلب العلم.

وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هذَا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَنْ تَجُوعَ فِيهَا وَ لَا تَعْرَى (118) وَ أَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَ لَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَ هَدَى (122)

آدم ومكر الشيطان: إنّ هذه الآيات وما بعدها تتحدث عن قصة آدم وحواء، وعداء ومحاربة إبليس لهما، وربما كانت إشارة إلى أنّ الصراع بين الحق والباطل لا ينحصر بالأمس واليوم، وموسى عليه السلام وفرعون، بل كان منذ بداية خلق آدم وسيستمر كذلك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 234

وبالرغم من أنّ قصة آدم وإبليس قد وردت مراراً في القرآن، إلّاأنّها تمتزج في كل مورد بملاحظات ومسائل جديدة، وهنا تتحدث أوّلًا عن عهد اللَّه إلى آدم فتقول: «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا». والمراد

من العهد المذكور، أمر اللَّه بعدم الإقتراب من الشجرة الممنوعة.

فلا شك أنّ آدم لم يرتكب معصية، بل بدر منه ترك الأولى. أو بتعبير آخر، فإنّ مرحلة وجود آدم في الجنّة لم تكن مرحلة تكليف، بل كانت مرحلة تجريبية للإستعداد للحياة في هذه الدنيا وتقبّل المسؤولية.

ثم أشارت إلى جانب آخر من هذه القصة، فقالت: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إبْلِيسَ أَبَى . ومن هنا يتّضح مقام آدم العظيم، آدم الذي سجدت له الملائكة، كما أنّ عداوة إبليس تجلّت له ضمناً من أوّل الأمر إذ لم يخضع لآدم ولم يعظّمه.

لا شك أنّ السجدة لا تعني السجدة الخاصة بعبادة اللَّه، ولا أحد أو موجود يستحق أن يكون معبوداً من دون اللَّه سبحانه، وبناءً على هذا فإنّ هذه السجدة كانت للَّه، غاية ما هناك أنّها كانت من أجل خلق هذا الموجود العظيم. فإنّ اللَّه سبحانه تعالى أنذر آدم بقوله: «فَقُلْنَا يَا ءَادَمُ إِنَّ هذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى .

من الواضح أنّ الجنة هنا لا يراد منها جنّة الخلود في العالم الآخر، والتي هي نقطة تكامل لا يمكن الخروج منها أو التراجع عن نعيمها، بل كانت بستاناً فيه كل شي ء مما في بساتين هذه الدنيا، ولم يكن فيها نصب ولا غصّة بلطف اللَّه.

ثم يبيّن اللَّه لآدم راحة الجنة وهدوءها، وألم ومشقة الخروج منها، فيقول: «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَاتَظْمَؤُا فِيهَا وَلَا تَضْحَى .

فقد اشير في هاتين الآيتين إلى أربع إحتياجات أصلية وابتدائية للإنسان، أي: الحاجة إلى الغذاء، والماء، واللباس- للحماية من حرارة الشمس- والمسكن، لكن ومع كل ذلك، فإنّ الشيطان قد ربط رباط العداوة حول آدم، ولهذا لم يهدأ له

بال: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطنُ قَالَ يَا ءَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّايَبْلَى .

«الوسوسة»: في الأصل تعني الصوت المنخفض جدّاً، ثم قيلت لخطور الأفكار السافلة والخواطر السيئة سواء كانت تنبع من داخل الإنسان، أو من خارجه.

إنّ الشيطان تتبّع رغبة آدم وأنّها في أيّ شي ء، فوجد أنّ رغبته في الحياة الخالدة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 235

والوصول إلى القدرة الأزلية، ولذلك جاء إليه عن هذين العاملين وإستغلّهما في سبيل جرّه إلى مخالفة أمر اللَّه.

وأخيراً وقع المحذور، وأكل آدم وحواء من الشجرة الممنوعة، فتساقط عنهما لباس الجنة، فبدت أعضاؤهما: «فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا» «1». فلما رأى آدم وحواء ذلك إستحييا «وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ» «2». نعم، لقد كانت العاقبة المؤسفة «وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى . «غوى»: اخذت من مادّة الغي، أي العمل الصبياني الناشى ء من إعتقاد خاطى ء، ولما كان آدم هنا قد أكل- جهلًا وإشتباهاً- من الشجرة المحرمة، نتيجة للظن الذي حصل له من قول الشيطان، فقد عُبّر عن عمله ب (غوى).

ولكن لما كان آدم نقيّاً ومؤمناً في ذاته، وكان يسير في طريق رضى اللَّه سبحانه، وكان لهذا الخطأ الذي أحاط به نتيجة وسوسة الشيطان صفة استثنائية، فإنّ اللَّه سبحانه لم يبعده عن رحمته إلى الأبد، بل «ثُمَّ اجْتَبهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى .

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَ لَا يَشْقَى (123) وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ

يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَ لَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقَى (127)

مع أنّ توبة آدم قد قبلت، إلّاأنّ عمله أدّى إلى عدم استطاعته الرجوع إلى الحالة الاولى، ولذا فإنّ اللَّه سبحانه أصدر أمره لآدم وحواء كليهما وكذلك الشيطان أن يهبطوا جميعاً من الجنة: «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ». إلّاأنّي اعلمكم بأنّ طريق النجاة والسعادة مفتوح أمامكم «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى .

______________________________

(1) «سوءات»: جمع سوءة، وهي في الأصل كل شي ء غير سار ويسي ء الإنسان، ولذلك تطلق أحياناً على جسد الميّت، وأحياناً على العورة، والمراد هنا هو المعنى الأخير.

(2) «يخصفان»: من مادّة خصف، وهي هنا تعني خياطة اللباس.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 236

ومن أجل أن يتّضح أيضاً مصير الذين ينسون أمر الحق، فقد أضاف تعالى «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَعْمَى «1».

هنا «قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا». فيسمع الجواب مباشرةً: «قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ ءَايتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى . وتعمى عينك عن رؤية نعم اللَّه ومقام قربه.

أمّا الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فهي بمثابة الاستنتاج والخلاصة إذ تقول:

«وَكَذلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بَايتِ رَبّهِ وَلَعَذَابِ الْأَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى .

أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَ لَوْ لَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِهَا وَ مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)

لما كانت عدّة بحوث في الآيات السابقة قد وردت عن المجرمين، فقد أشارت الآيات الاولى من الآيات

محلّ البحث إلى واحد من أفضل طرق التوعية وأكثرها تأثيراً، وهو مطالعة تأريخ الماضين، فتقول: «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كُمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مّنَ الْقُرُونِ». اولئك الذين عمّهم العذاب الإلهي الأليم «يَمْشُونَ فِى مَسكِنِهِمْ».

إنّ هؤلاء يمرّون في مسيرهم وذهابهم وإيّابهم على منازل قوم عاد- في أسفارهم إلى اليمن- وعلى مساكن ثمود المتهدمة الخربة- في سفرهم إلى الشام- وعلى منازل قوم لوط التي جُعل عاليها سافلها- في سفرهم إلى فلسطين- ويرون آثارهم، إلّاأنّهم لا يعتبرون.

نعم ... «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لِأُولِى النُّهَى «2».

إنّ موضوع أخذ العبرة من تأريخ الماضين من الامور التي يؤكّد عليها القرآن والأحاديث الإسلامية كثيراً.

في كتاب معاني الأخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «... وأغفل الناس من لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال». ولا يفكّر في تقلّب الليل والنهار وتعاقبهما.

الآية التالية جواب عن سؤال يثار هنا، وهو: لماذا لا يجري اللَّه سبحانه على هذا القسم

______________________________

(1) «الضنك»: المشقّة والضيق، وهذه الكلمة تأتي دائماً بصيغة المفرد، وليس لها تثنية ولا جمع ولا تأنيث.

(2) «النهى»: من مادّة نهي، وهي هنا بمعنى العقل، لأنّ العقل ينهي الإنسان عن القبائح والسيّئات.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 237

من المجرمين ما أجراه على المجرمين السابقين، فيقول القرآن: «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى».

إنّ هذه السنّة الإلهية التي ذكرت في مواضع عديدة من القرآن باسم (كلمة) إشارة إلى قانون الخلقة المبتني على حرية البشر، لأنّ كل مجرم إذا عوقب مباشرة وبدون أن يمهل، فإنّ الإيمان والعمل الصالح سيتّصف بالجبر تقريباً، وسيكون على الأغلب خوفاً من العقاب الآني، وبناءً على هذا فسوف لا يكون وسيلة للتكامل الذي هو الهدف الأصلي.

إضافةً إلى أنّه إذا تقرّر أن يعاقب

جميع المجرمين فوراً، فسوف لا يبقى أحد حيّاً على وجه الأرض: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ» «1». وبناءً على هذا فيجب أن تكون هناك مهلة وفترة تعطى لكل المرتبطين بطريق الحق حتى يرجع المجرمون إلى أنفسهم ويسلكوا سبيل الصلاح، ولتكون كذلك فرصة لتهذيب النفس.

إنّ التعبير ب (أجل مسمّى) بالشكل الذي يفهم من مجموع آيات القرآن، إشارة إلى الزمان الحتمي لنهاية حياة الإنسان.

ثم يوجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله، فيقول: «فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ». ومن أجل رفع معنويات النبي صلى الله عليه و آله وتقوية قلبه، وتسلية خاطره، فإنّه يُؤمر بمناجاة اللَّه والصلاة والتسبيح فيقول: «وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَاىِ الَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ولا يتأثّر قلبك جرّاء كلامهم المؤلم.

لا شك أنّ هذا الحمد والتسبيح محاربة للشرك وعبادة الأصنام، وفي الوقت نفسه صبر وتحمّل أمام أقوال المشركين السيئة، وكلامهم الخشن.

وَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقَى (131) وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَ قَالُوا لَوْ لَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْ لَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَ مَنِ اهْتَدَى (135)

______________________________

(1) سورة النحل/ 61.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 238

لقد أصدرت في هذه الآيات أوامر وتوجيهات للنبي صلى الله عليه و آله، والمراد

منها والمخاطب فيها عموم المسلمين، وهي تتمة للبحث الذي قرأناه آنفاً حول الصبر والتحمل. فتقول أوّلًا:

«وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ». فإنّ هذه النعم المتزلزلة الزائلة ما هي إلّا «زَهْرَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا».

في الوقت الذي أمددناهم بها «لِنَفْتِنَهُم فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى . فإنّ اللَّه سبحانه وهب لك مواهب ونعماً متنوّعة، فأعطاك الإيمان والإسلام، والقرآن والآيات الإلهية والرزق الحلال الطاهر، وأخيراً نعم الآخرة الخالدة، هذه الهبات والعطايا المستمرة الدائمة.

وتقول الآية التالية تلطيفاً لنفس النبي صلى الله عليه و آله وتقوية لروحه: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا» لأنّ هذه الصلاة بالنسبة لك ولأهلك أساس العفّة والطهارة وصفاء القلب وسموّ الروح ودوام ذكر اللَّه.

إنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكة، فإنّ مصداق الأهل في ذلك الزمان كان (خديجة وعلياً عليهما السلام) إلّاأنّ مصطلح أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله أصبح واسع الدلالة بمرور الزمن.

ثم تضيف بأنّه إذا كان قد صدر الأمر لك ولأهلك بالصلاة فإنّ نفعها وبركاتها إنّما يعود كل ذلك عليكم، فإنّا «لَانَسَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ» فإنّ هذه الصلاة لا تزيد شيئاً من عظمة اللَّه، بل هي رأس مال عظيم لتكامل البشر وإرتقائهم ودرس تعليمي وتربوي عال.

وتضيف الآية في النهاية: «وَالْعقِبَةُ لِلتَّقْوَى . فإنّ ما يبقى ويفيد في نهاية الأمر هو التقوى، والمتقون هم الفائزون في النهاية، أمّا الذين لا تقوى لهم فهم محكومون بالهزيمة والإنكسار.

ثم أشارت الآية التالية إلى واحدة من حجج الكفار الواهية فقالت: «وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بَايَةٍ مّن رَّبّهِ» واجابتهم مباشرة: «أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الْأُولَى . حيث كانوا يشكّكون ويطلبون الأعذار بصورة متلاحقة من أجل الإتيان بالمعجزات، وبعد رؤية ومشاهدة تلك المعاجز إستمرّوا

في كفرهم وإنكارهم، فحاق بهم العذاب الإلهي، أفلا يعلمون بأنّهم إذا ساروا في نفس الطريق فسينتظرهم المصير نفسه.

إنّ هؤلاء المتذّرعين ليسوا اناساً طلّاب حق، بل إنّهم دائماً في صدد إيجاد أعذار وتبريرات جديدة، فحتّى «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنهُم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى إلّاأنّهم الآن وقد جاءهم هذا النبي الكريم بهذا الكتاب العظيم، يقولون كل يوم كلاماً، ويختلقون الأعذار للفرار من الحق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 239

وقالت الآية التالية: أنذر هؤلاء و «قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ» فنحن بإنتظار الوعود الإلهية في حقّكم، وأنتم بإنتظار أن تحيط بنا المشاكل والمصائب «فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحبُ الصّرَاطِ السَّوِىّ وَمَنِ اهْتَدَى . وبهذه الجملة الحاسمة العميقة المعنى تنتهي المحاورة مع هؤلاء المنكرين العنودين المتذّرعين.

«نهاية تفسير سورة طه»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 241

21 سورة الأنبياء

محتوى السورة:

1- إنّ هذه السورة كما تدلّ عليها تسميتها هي سورة الأنبياء، لأنّ اسم ستّة عشر نبيّاً قد جاء في هذه السورة، بعضهم بذكر نماذج وصور من حالاتهم، والبعض كإشارة، وهم:

موسى- هارون- إبراهيم- لوط- إسحاق- يعقوب- نوح- داود- سليمان- أيّوب- إسماعيل- إدريس- ذو الكفل- ذو النون (يونس)- زكريا- يحيى عليهم السلام.

2- إضافة إلى ما مرّ، فإنّ خاصية السور المكية التي تتحدث عن العقائد الدينية، وبالأخصّ المبدأ والمعاد، منعكسة تماماً في هذه السورة.

3- وتحدّث جانب آخر من هذه السورة عن إنتصار الحق على الباطل، والتوحيد على الشرك، وجنود الحق على جنود إبليس.

والذي يلفت النظر هنا أنّ هذه السورة تبتدى ء بتهديد الناس الغافلين الجاهلين بالحساب الشديد، وتنتهي بتهديدات اخرى في هذا المجال أيضاً.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة الأنبياء حاسبه

اللَّه حساباً يسيراً، وصافحه وسلّم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن».

وقد قلنا مراراً: إنّ القرآن كتاب عقيدة وعمل، والقراءة مقدمة للتفكير والتدبر، وهو مقدمة للإيمان والعمل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 242

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)

تبدأ هذه السورة بتحذير قوي شديد موجّه لعموم الناس، تحذير يهزّ الوجدان ويوقظ الغافلين، فتقول: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ».

إنّ عمل هؤلاء يدلّ على أنّ هذه الغفلة عمّت كل وجودهم، وإلّا فكيف يمكن للإنسان أن يؤمن بإقتراب الحساب ... الحساب الدقيق المتناهي في الدقة، ومع كل ذلك لا يكترث بالامور ويرتكب أنواع الذنوب.

كلمة (إقترب) لها دلالة على التأكيد أكثر من (قرب) وهي إشارة إلى أنّ هذا الحساب قد أصبح قريباً جدّاً.

ثم إنّ الفرق بين «الغفلة» و «الإعراض» يمكن أن يكون من جهة أنّ هؤلاء غافلون عن إقتراب الحساب، وهذه الغفلة هي تسبّب الإعراض عن آيات اللَّه سبحانه.

إنّ المراد من إقتراب الحساب والقيامة هو أنّ ما بقي من الدنيا قليل في مقابل ما مضى منها، ولهذا فإنّ القيامة ستكون قريبة- قرباً نسبيّاً- خاصة وأنّه قد روي- في تفسير مجمع البيان- عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار إلى السبابة والوسطى اللتين تقع إحداهما إلى جنب الاخرى.

ثم تبيّن الآية التالية

علامة من علامات إعراض هؤلاء بهذه الصورة: «مَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ».

كلمة «ذكر» في الآية إشارة إلى كل كلام منبّه يوقظ الغافلين، والتعبير ب (محدث) إشارة إلى أنّ الكتب السماوية كانت تنزل الواحد تلو الآخر، وتحتوي كل سورة من سور القرآن، وكل آية من آياته محتوى جديداً ينفذ إلى قلوب الغافلين بطرق مختلفة، لكن أيّ فائدة مع مَن يتّخذ كل ذلك هزواً؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 243

ثم تقول من أجل زيادة التأكيد: «لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ» لأنّهم في الظاهر يتخذون كل المسائل الجدية لهواً ولعباً. ومن الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص سوف لا يجدون طريق السعادة، ولا يوفّقون إليه.

ثم تشير إلى جانب من الخطط الشيطانية فتقول: «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذَا إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُكُمْ». وإذا لم يكن سوى بشر إعتيادي، فلابد أن تكون أعماله الخارقة ونفوذ كلامه سحراً، ولا يمكن أن يكون شيئاً آخر: «أَفَتَأْتُونَ السّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ».

إنّ هؤلاء قد أكّدوا على مسألتين في أقوالهم: إحداهما: كون النبي صلى الله عليه و آله بشراً، والاخرى: تهمة السحر، وستأتي الإتهامات الاخرى في الآيات التالية أيضاً، ويتصدّى القرآن الكريم لجوابها.

إلّا أنّ القرآن يجيبهم بصورة عامة على لسان النبي صلى الله عليه و آله فيقول: «قَالَ رَبّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» فلا تتصوروا أنّ نجواكم ومؤامراتكم المخفية تخفى عليه «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» فهو يعلم كل شي ء، ومطلع على كل شي ء، فلا يسمع كلامكم وحسب، بل هو مطلع حتى على الأفكار التي تمرّ في أذهانكم، والقرارات التي في صدوركم.

بعد ذكر نوعين من تذرّعات المخالفين، يتطرق القرآن إلى ذكر أربعة أنواع اخرى منها، فيقول: «بَلْ قَالُوا أَضْغثُ أَحْلمٍ» «1» وهم يعتقدون أنّها حقيقة.

وقد يغيّرون كلامهم

هذا أحياناً فيقولون: «بَلِ افْتَرَيهُ» ونسبه إلى اللَّه.

ويقولون أحياناً: «بَلْ هُوَ شَاعِرٌ»، وهذه الآيات مجموعة من خيالاته الشعرية.

وفي المرحلة الرابعة يقولون: إنّا نتجاوز عن كل ذلك فإذا كان مرسلًا من اللَّه حقّاً «فَلْيَأْتِنَا بَايَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ».

إنّ التحقيق في هذه الإدّعاءات المتضادة المتناقضة في حق النبي صلى الله عليه و آله سيوضّح أنّها بنفسها دليل على أنّهم لم يكونوا طلّاب حق، بل كان هدفهم خلق الأعذار، وإخراج خصمهم من الحلبة بأيّة قيمة وثمن، وبأيّ صورة كانت.

______________________________

(1) «أضغاث»: جمع ضِغْث، وهو حزمة الحطب أو الأعشاب اليابسة وما شاكل ذلك؛ و «الأحلام»: جمع حُلم وهو المنام والرؤية، ولمّا كان جمع حزمة حطب يحتاج أن يجمعوا عدّة أشياء متفرّقة إلى بعضها، فإنّ هذا التعبير اطلق على المنامات المضطربة المتفرّقة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 244

مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَ مَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَ مَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَ مَنْ نَشَاءُ وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (10)

كل الأنبياء كانوا بشراً: قلنا: إنّ ستّة إشكالات وإيرادات قد اعيد ذكرها في الآيات السابقة، وهذه الآيات التي نبحثها تجيب عنها، تارةً بصورة عامّة جامعة، واخرى تجيب عن بعضها بالخصوص. أشارت الآية الاولى إلى المعجزات المقترحة لُاولئك، ونقصد منها:

المعجزات المقترحة حسب أهوائهم تذرّعاً، فتقول: إنّ جميع المدن والقرى التي أهلكناها سابقاً كانت قد طلبت مثل هذه المعاجز، ولكن لمّا استجيب طلبهم كذّبوا بها، فهل يؤمن هؤلاء؟: «مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ». وهي تنذرهم بصورة ضمنية

بأنّ الآيات لو تحقّقت على ما إقترحتم ثم لم تؤمنوا، فإنّ فناءكم حتمي!

ثم تطرّقت الآية التالية إلى جواب الإشكال الأوّل- خاصةً- حول كون النبي صلى الله عليه و آله بشراً، فتقول: إنّك لست الوحيد في كونك نبيّاً، وفي نفس الوقت أنت بشر «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِمْ» فإنّ هذه حقيقة تاريخية يعرفها الجميع «فَسَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ».

لا شكّ أنّ «أَهْلَ الذّكْرِ» تشمل من الناحية اللغوية كل العلماء والمطلعين، والآية أعلاه تبيّن قانوناً عقلائياً عاماً في مسألة (رجوع الجاهل إلى العالم) فإنّ مورد ومصداق الآية وإن كان علماء أهل الكتاب، إلّاأنّ هذا لا يمنع من عمومية القانون، ولهذه العلة إستدلّ علماء وفقهاء الإسلام بهذه الآية في مسألة «جواز تقليد المجتهدين المسلمين».

ثم تعطي الآية التالية توضيحاً أكثر حول كون الأنبياء بشراً، فتقول: «وَمَا جَعَلْنهُمْ جَسَدًا لَّايَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خلِدِينَ».

لا شك في أنّه يجب أن يكون قائد البشر ومرشدهم من جنسهم، بنفس تلك الغرائز والعواطف والأحاسيس والحاجات والعلاقات حتى يحسّ بآلامهم وعذابهم، ولينتخب

مختصر الامثل، ج 3، ص: 246

أفضل طرق العلاج باستلهامه من معلوماته ليكون قدوة واسوة لكل البشر، ويقيم الحجة على الجميع.

ثم تحذّر الآية وتهدّد المنكرين المتعصبين العنودين، فتقول: إنّا كنّا قد وعدنا رسلنا بأن ننقذهم من قبضة الأعداء، ونبطل كيد اولئك الأشرار «ثُمَّ صَدَقْنهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ».

أجل، فكما أنّ سنّتنا كانت إختيار قادة البشر من بين أفراد البشر، كذلك كانت سنّتنا أن نحميهم من مكائد المخالفين، وإذا لم تؤثّر المواعظ والنصائح المتلاحقة أثرها في المخالفين، فإنّنا سنطهّر الأرض من وجودهم القذر.

أمّا آخر آية من الآيات مورد البحث، فتجيب- مرّة اخرى- في جملة قصيرة عميقة المعنى عن أكثر إشكالات

المشركين، فتقول: «لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ». فإنّ كل من يتدبّر آيات هذا الكتاب الذي هو أساس التذكّر وحياة القلب، وحركة الفكر، وطهارة المجتمع، سيعلم جيداً أنّه معجزة واضحة وخالدة، ومع وجود هذه المعجزة البينة التي تظهر فيها آثار الإعجاز من جهات مختلفة ... من جهة الجاذبية الخارقة، ومن جهة المحتوى، الأحكام والقوانين، العقائد والمعارف، و ... فهل لا زلتم بإنتظار معجزة اخرى؟

إنّ كون القرآن موقظاً ومنبّهاً لا يعني إجباره الناس على هذا الوعي، بل إنّ الوعي مشروط بأن يريد الإنسان ويصمّم، وأن يفتح نوافذ قلبه أمام القرآن.

وَ كَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَ أَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ (15)

كيف وقع الظالمون في قبضة العذاب: تبيّن هذه الآيات مصير المشركين والكافرين مع مقارنته بمصير الأقوام الماضين، وذلك بعد البحث الذي مرّ حول هؤلاء. فتقول الآية الاولى:

«وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 247

«القصم»: يعني الكسر المقترن بالشدة، فإنّها توحي بأنّ اللَّه سبحانه قد أعدّ أشدّ العقاب والإنتقام للأقوام الظالمين الجائرين. عند ذلك توضّح الآية حال هؤلاء عندما تتّسع دائرة العذاب لتشمل ديارهم العامرة، وعجزهم أمام العقاب الإلهي، فتقول: «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ» «1».

إلّا أنّه يقال لهؤلاء من باب التوبيخ والتقريع: «لَاتَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسَلُونَ».

إنّ هذه العبارة قد تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء حينما كانوا غارقين في تلك النعمة الوفيرة، كان السائلون

وطالبو الحاجات يترددون دائماً إلى أبوابهم، يأتون والأمل يقدمهم، ويرجعون بالخيبة والحرمان، فالآية تقول لهم: إرجعوا وأعيدوا ذلك المشهد اللعين، وهذا في الحقيقة نوع من الاستهزاء والملامة.

إنّ هؤلاء يعون في هذا الوقت حقيقة الأمر، ويرون ما كانوا يسخرون منه من قبل قد تجلّى أمامهم بصورة جديّة تماماً، فتعلو صرختهم: «قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ».

إلّا أنّ هذا الوعي الاضطراري للإنسان عندما يواجه مشاهد العذاب لا قيمة له، ولا يؤثّر في تغيير مصير هؤلاء، ولذلك فإنّ القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث يضيف:

«فَمَا زَالَت تّلْكَ دَعْوَيهُمْ حَتَّى جَعَلْنهُمْ حَصِيدًا» فيلقونهم على الأرض كالزرع المحصود، وتبدّل مدينتهم التي غمرتها الحياة والحركة والعمران إلى قبور مهدّمة مظلمة، فيصبحوا «خمِدِينَ» «2».

وَ مَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)

خلق السماء والأرض ليس لهواً: لمّا كانت الآيات السابقة قد عكست هذه الحقيقة وهي: إنّ الظالمين الذين لا إيمان لهم لا يعتقدون بوجود هدف وغاية من خلقهم إلّاالأكل

______________________________

(1) «الركض»: يأتي بمعنى ركض الإنسان بنفسه، أو بمعنى إركاض المركب والدابة، ويأتي أحياناً بمعنى ضرب الرجل على الأرض؛ مثل «أُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ»- سورة ص/ 42.

(2) «خامد»: من مادّة الخمود، بمعنى إنطفاء النّار، ثُمّ اطلقت على كل شي ء يفقد حركته وفاعليّته ونشاطه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 248

والشرب والملذّات، ويظنّون أنّ العالم بلا هدف، القرآن الكريم يقول في الآيات التي نبحثها من أجل إبطال هذا النوع من التفكير، وإثبات وجود هدف عال وسام من وراء خلق كل العالم، وخاصة البشر: «وَمَا

خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لعِبِينَ».

إنّ هذه الأرض الواسعة، وهذه السماء المترامية الأطراف، وكل هذه الموجودات المتنوعة البديعة التي توجد في ساحتها تبيّن أنّ هدفاً مهماً في خلقها ... نعم، إنّ الهدف هو بيان قدرة الخالق الجليل، وإبراز جانب من عظمته من جهة، ومن جهة اخرى ليكون دليلًا على المعاد، وإلّا فإنّ كل هذه الضجّة والغوغاء إن كانت لبضعة أيّام فلا معنى لها.

ثم تقول الآية التالية: الآن وقد ثبت أنّ العالم له هدف فإنّه لا ريب في أنّ الهدف من هذا الخلق لم يكن أن يلهو اللَّه سبحانه وتعالى عن ذلك، فإنّ هذا اللهو غير معقول، ف «لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فعِلِينَ». «اللعب»: يعني العمل غير الهادف، و «اللهو»:

إشارة إلى الأهداف غير المعقولة والملاهي.

هذه الآية تبيّن حقيقتين:

الاولى: أنّه تشير إلى أنّ من المحال أن يكون هدف اللَّه هو اللهو.

والاخرى: إنّه على فرض أنّ الهدف هو اللهو، فيجب أن يكون لهواً مناسباً لذاته، كأن يكون من عالم المجردات وأمثال ذلك، لا من عالم المادة المحدود.

ثم تقول بلهجة قاطعة من أجل إبطال أوهام الجاهلين الذين يظنّون عدم هدفية الدنيا، بل هي للهو واللعب فقط: إنّ هذا العالم مجموعة من الحق والواقع، ولم يقم أساسه على الباطل «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ». وتقول في النهاية: «وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» وتتحدثون عن عدم هدفية الخلق.

أي إنّنا نجعل الأدلة العقلية والإستدلالات الواضحة والمعجزات البيّنة إلى جانب ظنون وأوهام اللاهدفيين، لتتبخّر وتتلاشى هذه الأوهام في نظر العلماء وأصحاب الفكر والرأي.

«نقذف»: من مادة «قذف» بمعنى الإلقاء، وخاصةً الإلقاء من طريق بعيد، ولما كان للقذف من بعيد سرعة وقوة أكثر، فإنّ هذا التعبير

يبيّن قدرة إنتصار الحق على الباطل.

«يدمغه»: (على قول الراغب) كسر «الجمجمة والدماغ»، وتعتبر أكثر نقطة في بدن الإنسان حساسية، وهو تعبير بليغ عن غلبة جند الحق غلبة واضحة قاطعة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 249

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ لَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)

كان الكلام في الآيات السابقة عن أنّ عالم الوجود ليس عبثياً لا هدف من ورائه، فلا مزاح ولا عبث، ولا لهو ولا لعب، بل له هدف تكاملي دقيق للبشر.

ولما كان من الممكن أن يوجد هذا التوهّم، وهو: ما حاجة اللَّه إلى إيماننا وعبادتنا؟ فإنّ الآيات التي نبحثها تجيب أوّلًا عن هذا التوهّم، وتقول: «وَلَهُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ (أي: الملائكة) لَايَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ» «1». ومع هذا الحال فأيّ حاجة لطاعتكم وعبادتكم؟ فإذا كنتم قد امرتم بالإيمان والعمل الصالح والعبودية فإنّ كل ذلك سيعود بالنفع عليكم.

وبعد أن نفت في الآيات السابقة عبثيّة ولا هدفية عالم الوجود، وأصبح من المسلم أنّ لهذا العالم هدفاً مقدّساً، فإنّ هذه الآيات تتطرق إلى بحث مسألة وحدة المعبود ومدبّر هذا العالم، فتقول: «أَمِ اتَّخَذُوا ءَالِهَةً

مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ» «2».

وهذه الجملة إشارة إلى أنّ المعبود يجب أن يكون خالقاً، وخاصّة خلق الحياة، لأنّها أوضح مظاهر الخلق ومصاديقه.

التعبير ب «ءَالِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ» إشارة إلى الأصنام والمعبودات التي كانوا يصنعونها من الحجارة والخشب، وكانوا يظنّونها حاكمة على السماوات.

______________________________

(1) «يستحسرون»: في الأصل من مادّة حسر، وفي الأصل تعني رفع النقاب والستار عن الشي ء المغطّى، ثم استعملت بمعنى التعب والضعف، فكأنّ كل قوى الإنسان تصرف في مثل هذه الحالة، ولا يبقى منها شي ء مخفي في بدنه.

(2) «ينشرون»: من مادّة «نشر»، أي فكّ الشي ء المعقّد الملفوف، وهو كناية عن الخلق وإنتشار المخلوقات في أرجاء الأرض والسماء.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 250

مختصر الامثل ج 3 299

وتبيّن الآية التالية أحد الأدلة الواضحة على نفي آلهة وأرباب المشركين، فتقول: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحنَ اللَّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ».

هذه الإدعاءات غير الصحيحة وهذه الأرباب المصنوعة والآلهة المظنونة ليست إلّا أوهاماً، وساحة كبرياء ذاته المقدسة لا تتلوّث بهذه النسب المغلوطة.

إنّ الدليل الوارد في الآية آنفة الذكر الذي يتحرك لإثبات التوحيد ونفي الآلهة، في الوقت الذي هو بسيط وواضح، فإنّه من البراهين الفلسفية الدقيقة في هذا الباب، ويذكره العلماء تحت عنوان (برهان التمانع). ويمكن إيضاح خلاصة هذا البرهان بما يلي:

إنّنا نرى نظاماً واحداً حاكماً في هذا العالم، إنّ إنسجام القوانين وأنظمة الخلقة هذه يحكي أنّها تنبع من عين واحدة، لأنّ البدايات إن كانت متعددة، والإرادات مختلفة، لم يكن يوجد هذا الإنسجام مطلقاً. لأنّ لكل واحدة قضاء، وكانت الاخرى تمحو أثر الاولى، وسيؤول العالم إلى الفساد عندئذ.

وبعد أن ثبت بالإستدلال الذي ورد في الآية توحيد مدبّر ومدير هذا العالم، فتقول الآية التالية: إنّه قد نظّم العالم بحكمة لا مجال

فيها للإشكال والإنتقاص ولا أحد يعترض عليه في خلقه: «لَايُسَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسَلُونَ».

إنّ لدينا نوعين من الأسئلة:

الأوّل: السؤال التوضيحي، وهو أن يكون الإنسان يريد أن يعلم النقطة الأصلية والهدف الحقيقي من المسائل، ومثل هذا السؤال جائز حتى حول أفعال اللَّه.

أمّا النوع الثاني: فهو السؤال الإعتراضي، والذي يعني أنّ العمل الذي تمّ كان خطأً. من المسلم أنّ هذا النوع من السؤال لا معنى له حول أفعال اللَّه الحكيم، إلّاأنّ مجال هذا السؤال حول أفعال الآخرين واسع.

وتشتمل الآية التالية على دليلين آخرين في مجال نفي الشرك، فمضافاً إلى الدليل السابق يصبح مجموعها ثلاثة أدلة.

تقول الآية أوّلًا: «أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهنَكُمْ». وهو إشارة إلى أنّكم إذا صرفتم النظر عن الدليل السابق القائم على أنّ نظام عالم الوجود دليل على التوحيد، فإنّه لا يوجد أيّ دليل- على الأقل- على إثبات الشرك والوهية هذه الآلهة، فكيف يتقبّل إنسان عاقل مطلباً لا دليل عليه؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 251

ثم تشير إلى الدليل الأخير فتقول: «هذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى» وهذا هو الدليل الذي ذكره علماء العقائد تحت عنوان: (إجماع وإتّفاق الأنبياء على التوحيد).

ولما كانت كثرة المشركين (وخاصةً في ظروف حياة المسلمين في مكة، والتي نزلت فيها هذه السورة) مانعاً أحياناً من قبول التوحيد من قبل بعض الأفراد، فهي تضيف: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ».

لقد كانت مخالفة الأكثرية الجاهلة في كثير من المجتمعات دليلًا وحجة لإعراض الغافلين الجاهلين دائماً، وقد إنتقد القرآن الإستناد إلى هذه الأكثرية بشدة في كثير من الآيات، سواء التي نزلت في مكة أو المدينة.

ولما كان من المحتمل أن يقول بعض الجهلة الغافلين أنّ لدينا أنبياء كعيسى مثلًا دعوا إلى آلهة متعددة،

فإنّ القرآن الكريم يقول في آخر آية من الآيات محل البحث بصراحة تامة:

«وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ». وبهذا يثبت أنّه لا عيسى ولا غيره قد دعا إلى الشرك، ومثل هذه النسبة إليه تهمة وإفتراء.

وَ قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)

لمّا كان الكلام في آخر آية عن الأنبياء، ونفي كل أنواع الشرك، ونفي كون المسيح عليه السلام ولداً، فإنّ كل الآيات محلّ البحث تتحدّث حول نفي كون الملائكة أولاداً.

وتوضيح ذلك أنّ كثيراً من مشركي العرب كانوا يعتقدون أنّ الملائكة بنات اللَّه سبحانه، ولهذا السبب كانوا يعبدونها أحياناً، والقرآن الكريم إنتقد هذه العقيدة الخرافية التي لا أساس لها، وبيّن بطلانها بالأدلّة المختلفة. يقول أوّلًا: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا». فإن كان مرادهم الولد الحقيقي، فإنّه يلزم من هذا الجسمية، وإن كان المراد التبنّي- والذي كان إعتيادياً ومتداولًا بين العرب- فإنّ ذلك أيضاً دليل على الضعف والإحتياج، إلّاأنّ الوجود الأزلي الأبدي وغير الجسماني، وغير المحتاج من جميع الجهات، لا معنى لوجود الولد له، ولذلك فإنّ القرآن يقول مباشرةً: «سُبْحنَهُ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 252

ثم تبيّن أوصاف الملائكة في ستّة أقسام تشكّل بمجموعها دليلًا واضحاً على نفي كونهم أولاداً:

1- «بَلْ عِبَادٌ».

2- «مُّكْرَمُونَ».

فليس هؤلاء عباداً هاربين خضعوا للخدمة تحت ضغط المولى، ولذلك فإنّ اللَّه سبحانه قد أحبّهم، وأفاض عليهم من مواهبه نتيجة لإخلاصهم في العبودية.

3- إنّ هؤلاء على

درجة من الأدب والخضوع والطاعة للَّه بحيث «لَايَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ».

4- وكذلك من ناحية العمل أيضاً فهم مطيعون «وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ».

فهل هذه صفات الأولاد، أم صفات العبيد؟

ثم أشارت إلى إحاطة علم اللَّه بهؤلاء فتقول: إنّ اللَّه تعالى يعلم أعمالهم الحاضرة والمستقبلية، وكذلك أعمالهم السالفة، وأيضاً يعلم ما في دنياهم وآخرتهم، وقبل وجودهم وبعده: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ» ومن المسلّم أنّ الملائكة مطلعون على هذا الموضوع، وهو أنّ للَّه إحاطة علمية بهم، وهذا العرفان هو السبب في أنّهم لا يسبقونه بالقول، ولا يعصون أمره، ولهذا فإنّ هذه الجملة يمكن أن تكون بمثابة تعليل للآية السابقة.

5- ولا شك أنّ هؤلاء الذين هم عباد اللَّه المكرمون المحترمون يشفعون للمحتاجين، لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ هؤلاء «وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى .

ثم إنّ هذه الجملة تجيب ضمناً اولئك الذين يقولون: إنّنا نعبد الملائكة لتشفع لنا عند اللَّه، فيقول القرآن لهم: إنّ هؤلاء لا يقدرون على فعل شي ء من تلقاء أنفسهم، وكل ما تريدونه يجب أن تطلبوه من اللَّه مباشرةً، وحتى إذن شفاعة الشافعين.

6- ونتيجة لهذه المعرفة والوعي «وَهُم مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ».

«الخشية»: تعني الخوف المقترن بالتعظيم والإحترام؛ و «مشفق»: من مادة الإشفاق، بمعنى التوجه الممتزج بالخوف، لأنّها في الأصل مأخوذة من الشفق، وهو الضياء الممتزج بالظلمة. فبناءً على هذا، فإنّ خوف الملائكة ليس كخوف الإنسان من حادثة مرعبة مخيفة، وكذلك إشفاقهم فإنّه لا يشبه خوف الإنسان من موجود خطر، بل إنّ خوفهم وإشفاقهم ممزوجان بالإحترام، والعناية والتوجه، والمعرفة والإحساس بالمسؤولية.

من الواضح أنّ الملائكة مع هذه الصفات البارزة والممتازة، ومقام العبودية الخالصة لا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 253

يدّعون الالوهية مطلقاً، أمّا إذا فرضنا ذلك «وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلهٌ مِّن دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ».

إنّ إدّعاء الالوهية في الحقيقة مصداق واضح على ظلم النفس والمجتمع، ويندرج في القانون العام «كَذلِكَ نَجْزِى الظلِمِينَ».

أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَ جَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَ جَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَ جَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)

علامات اخرى للَّه في عالم الوجود: تعقيباً على البحوث السابقة حول عقائد المشركين الخرافية، والأدلة التي ذكرت على التوحيد، فإنّ في هذه الآيات سلسلة من براهين اللَّه في عالم الوجود، وتدبيره المنظم، وتأكيداً على هذه البحوث تقول أوّلًا: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْ ءٍ حَىّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ».

إنّ المراد من رتق السماء هو أنّها لم تكن تمطر في البداية، والمراد من رتق الأرض أنّها لم تكن تنبت النبات في ذلك الزمان، إلّاأنّ اللَّه سبحانه فتق الإثنين، فأنزل من السماء المطر، وأخرج من الأرض أنواع النباتات.

وأمّا فيما يتعلق بإيجاد كل الكائنات الحية من الماء، فهناك تفسيران مشهوران:

أحدهما: إنّ حياة كل الكائنات الحية- سواء كانت النباتات أم الحيوانات- ترتبط بالماء، هذا الماء الذي كان مبدؤه المطر الذي نزل من السماء.

والآخر: إنّ الماء هنا إشارة إلى النطفة التي تتولّد منها الكائنات الحية عادةً.

وما يلفت النظر أنّ علماء عصرنا الحديث يعتقدون أنّ أوّل إنبثاقة للحياة وجدت في أعماق البحار، ولذلك يرون أنّ بداية الحياة من الماء، وإذا كان القرآن يعتبر خلق الإنسان من التراب، فيجب أن لا ننسى أنّ

المراد من التراب هو الطين المركّب من الماء والتراب.

وأشارت الآية التالية إلى جانب آخر من آيات التوحيد ونعم اللَّه الكبيرة، فقالت:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 254

«وَجَعَلْنَا فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ» «1».

إنّ الجبال كالدرع الذي يحمي الأرض، وهذا هو الذي يمنع- إلى حد كبير- من الزلازل الأرضية الشديدة التي تحدث نتيجة ضغط الغازات الداخلية، إضافةً إلى أنّ وضع الجبال هذا يقلّل من حركات القشرة الأرضيّة أمام ظاهرة المدّ والجزر الناشئة بواسطة القمر إلى الحدّ الأدنى.

ومن جهة اخرى فلولا الجبال، فإنّ سطح الأرض سيكون معرّضاً للرياح القوية دائماً، وسوف لا تستقرّ على حال أبداً، كما هي حال الصحاري المقفرة المحرقة.

ثم أشارت الآية إلى نعمة اخرى، وهي أيضاً من آيات عظمة اللَّه، فقالت: «وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ».

ولو لم تكن هذه الوديان والفجاج، فإنّ سلاسل الجبال العظيمة الموجودة في المناطق المختلفة من الأرض كانت ستنفصل بعضها عن بعض بحيث ينفصل إرتباطها تماماً، وهذا يدلّ انّ هذه الظواهر الكونية خلقت كلها وفق حساب دقيق.

ولما كان إستقرار الأرض لا يكفي لوحده لإستقرار حياة الإنسان، بل يجب أن يكون آمناً مما فوقه، فإنّ الآية التالية تضيف: «وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ ءَايَاتِهَا مُعْرِضُونَ».

المراد من السماء هنا هو الجو الذي يحيط بالأرض دائماً، وتبلغ ضخامته مئات الكيلومترات كما توصّل إليه العلماء.

وهذه الطبقة رقيقة ظاهراً، وتتكوّن من الهواء والغازات، وهي محكمة ومنيعة إلى الحد الذي لا ينفذ جسم من خارجها إلى الأرض إلّاويفنى ويتحطّم، فهي تحفظ الكرة الأرضية من سقوط الشهب والنيازك «ليل نهار» التي تعتبر أشد خطراً حتى من القذائف والصواريخ الحربية.

إضافةً إلى أنّ هذا الغلاف الجوي يقوم بتصفية أشعة الشمس التي تحتوي على أشعة قاتلة وتمنع من نفوذ

تلك الأشعة الكونية القاتلة.

وتطرقت الآية الأخيرة إلى خلق الليل والنهار والشمس والقمر، فقالت: «وَهُوَ الَّذِى

______________________________

(1) «رواسي»: جمع راسية، أي الجبال الثابتة، ولمّا كانت هذه الجبال تتّصل جذورها، فيمكن أن تكون إشارة إلى هذا الإرتباط؛ و «تميد»: من الميد، وهو الهزّة والحركة غير الموزونة للأشياء الكبيرة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 255

خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ».

إنّ المراد من حركة الشمس في الآية إمّا الدوران حول نفسها، أو حركتها ضمن المنظومة الشمسية.

وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)

الموت يتربّص بالجميع: قرأنا في الآيات السابقة أنّ المشركين قد تشبّثوا بمسألة كون النبي صلى الله عليه و آله بشراً من أجل التشكيك بنبوته. إنّ الآيات محل البحث أشارت إلى بعض إشكالات هؤلاء، فهم يشيعون تارةً أنّ إنتفاضة النبي (وفي نظرهم شاعر) لا دوام لها، وسينتهي بموته كل شي ء، كما جاء في الآية (30) من سورة الطور: «أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ».

وكانوا يظنّون تارةً اخرى أنّ هذا الرجل لمّا كان يعتقد أنّه خاتم النبيين، فيجب أن لا يموت أبداً ليحفظ دينه، وبناء على هذا فإنّ موته في المستقبل سيكون دليلًا على بطلان إدّعائه. فيجيبهم القرآن في أوّل آية فيقول: «وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدَ».

إنّ قانون الخلقة هذا لا يقبل التغيير، أي انّه لا يكتب لأحد الخلود، وإذا كان هؤلاء يفرحون بموتك: «أَفَإِين مّتَّ فَهُمُ الْخلِدُونَ».

إنّ بقاء الشريعة والدين لا يحتاج إلى بقاء الرسول، فمن الممكن أن يستمر خلفاؤه في إقامة دينه والسير على خطاه.

ثم يذكر قانون الموت العام الذي يصيب كل النفوس بدون استثناء

فيقول: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ».

إنّ لفظة (النفس) قد استعملت في القرآن بمعان مختلفة، فأوّل معنى للنفس هو الذات، وهذا المعنى واسع يطلق حتى على ذات اللَّه المقدسة، كما جاء في الآية (12) من سورة الأنعام: «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ».

ثم استعملت هذه الكلمة في الإنسان، أي مجموع جسمه وروحه، كما في الآية (32) من سورة المائدة: «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا».

واستعملت أحياناً في خصوص روح الإنسان كما في الآية (93) من سورة الأنعام:

«أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 256

والمراد من النفس في الآيات التي نبحثها هو المعنى الثاني.

وبعد ذكر قانون الموت الكلّي يطرح هذا السؤال، وهو: ما هو الهدف من هذه الحياة الزائلة؟ وأيّ فائدة منها؟

فيقول القرآن حول هذا الكلام: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ». أي: إنّ مكانكم الأصلي ليس هو هذه الدنيا، بل هو مكان آخر، وإنّما تأتون هنا لتؤدّوا الإختبار والامتحان، وبعد إكتسابكم التكامل اللازم سترجعون إلى مكانكم الأصلي وهو الدار الآخرة.

وَ إِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَ يَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَ لَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)

نواجه في هذه الآيات مرّة اخرى، بحوثاً اخرى حول موقف المشركين من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، حيث يتّضح نمط تفكيرهم المنحرف في المسائل الاصولية، فتقول أوّلًا: «وَإِذَا رَءَاكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا

هُزُوًا». فهؤلاء لا عمل لهم إلّاالسخرية والإستهزاء، ويشيرون إليك بعدم إكتراث ويقولون: «أَهذَا الَّذِى يَذْكُرُ ءَالِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كفِرُونَ».

ممّا يثير العجب هو إنّه لو إزدرى أحدٌ هذه الأصنام الخشبية والحجرية (وما هو بمزدرٍ لها، بل يُفصح عن حقيقتها) فيقول: إنّ هذه موجودات لا روح فيها ولا شعور ولا قيمة لها، لتعجّبوا منه، أمّا إذا جحد أحدهم ربّه الرحمن الرحيم الذي عمّت آثار رحمته وعظمته الأرض والسماء وما من شي ء إلّاوفيه دليل على عظمته ورحمته، لما أثار إعجابهم.

ثم تشير إلى أمر آخر من الامور القبيحة لدى هذا الإنسان المتحلّل، فتقول: «خُلِقَ الْإِنسنُ مِنْ عَجَلٍ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 257

إنّ المراد من الإنسان هنا نوع الإنسان؛ والمراد من «عجل» هي العجلة والتعجيل.

إنّ تعبير «خُلِقَ الْإِنسنُ مِنْ عَجَلٍ» نوع من التأكيد، أي إنّ الإنسان عجول إلى درجة كأنّه خلق من العجلة، وتشكّلت أنسجته ووجوده منها! وفي الواقع، فإنّ كثيراً من البشر العاديين هم على هذه الشاكلة، فهم عجولون في الخير وفي الشر.

وتضيف الآية في النهاية: «سَأُرِيكُمْ ءَايتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونَ».

التعبير ب (آياتي) هنا يمكن أن يكون إشارة إلى آيات العذاب وعلاماته والبلاء الذي كان يهدّد به النبي صلى الله عليه و آله مخالفيه، ولكن هؤلاء الحمقى كانوا يقولون مراراً: فأين تلك الإبتلاءات والمصائب التي تخوّفنا بها؟ فالقرآن الكريم يقول: لا تعجلوا فلا يمضي زمن طويل حتى تحيط بكم.

ثم يشير القرآن إلى إحدى مطالب اولئك المستعجلين فيقول: «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ». فهؤلاء غافلون عن أنّ قيام القيامة يعني تعاستهم وشقاءهم المرير.

وتجيبهم الآية التالية فتقول: «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَايَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ». أي إنّ هذه الأصنام التي يظنّون أنّها

ستكون شفيعة لهم وناصرة، لا تقدر على أيّ شي ء.

ممّا يلفت النظر أنّ العقوبة الإلهية لا يعيّن وقتها دائماً «بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا» وحتى إذا استمهلوا، وطلبوا التأخير على خلاف ما كانوا يستعجلون به إلى الآن، فلا يجابون «وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ».

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هؤُلَاءِ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَ فَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَ فَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 258

لاحظنا في الآيات السابقة أنّ المشركين والكفار كانوا يستهزئون برسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فتقول الآية الاولى تسلية للنبي: لست الوحيد الذي يستهزأ به «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ». ولكن في النهاية نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به «فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

وتقول الآية التالية: قل لهم إنّ أحداً لا يدافع عنكم أمام عذاب اللَّه في القيامة، بل وفي هذه الدنيا: «قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمنِ». أي من عذابه، فلو أنّ اللَّه سبحانه لم يجعل السماء- أي الجو المحيط بالأرض سقفاً محفوظاً كما مرّ في الآيات السابقة- لكان هذا وحده كافياً أن تتهاوى النيازك وتُمطركم الأجرام السماوية بأحجارها ليل نهار.

مما يستحق الإنتباه أنّ كلمة «الرحمن» قد استعملت مكان (اللَّه) في هذه الآية، أي انظروا إلى أنفسكم كم إقترفتم من الذنوب حتى

أغضبتم اللَّه الذي هو مصدر الرحمة العامة؟!

ثم تضيف: «بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِم مُّعْرِضُونَ» فلا هم يصغون إلى مواعظ الأنبياء ونصحهم، ولا تهزّ قلوبهم نعم اللَّه وذكره، ولا يستعملون عقولهم لحظة في هذا السبيل.

ثم يسأل القرآن الكريم: أيّ شي ء يعتمد عليه هؤلاء الكافرين الظالمين والمجرمين في مقابل العقوبات الإلهية؟ «أَمْ لَهُمْ ءَالِهَةٌ تَمْنَعُهُم مّن دُونِنَا لَايَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ» «1». فهذه الأصنام لا تستطيع أن تنقذ نفسها من العذاب، ولا تكون مصحوبة بتأييدنا ورحمتنا.

ثم أشارت الآية التالية إلى أحد علل تمرّد وعصيان الكافرين المهمة، فتقول: «بَلْ مَتَّعْنَا هؤُلَاءِ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ». إلّاأنّ هذا العمر الطويل والنعم الوفيرة بدل أن تحرّك فيهم حس الشكر والحمد، ويطأطئوا رؤوسهم لعبودية اللَّه، فإنّها أصبحت سبب غرورهم وطغيانهم.

ولكن ألا يرى هؤلاء أنّ هذا العالم ونعمه زائلة؟ «أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا». فإنّ الأقوام والقبائل تأتي الواحدة تلو الاخرى وتذهب، وحتى العلماء والعظماء

______________________________

(1) «يصحبون»: من باب الإفعال، وفي الأصل يعني أن يجعلوا شيئاً تحت تصرّفهم بعنوان المساعدة والحماية، وهو هنا يعني أنّ هذه الأصنام لا تملك الدفاع ذاتياً، ولا وضعت تحت تصرفها مثل هذه القوّة من قبل اللَّه تعالى، ونحن نعلم أنّ أيّة قوّة دفاعية في عالم الوجود إمّا أن تنبع من ذات الشي ء، أو تمنح له من قبل اللَّه تعالى. أي أنّها إمّا ذاتية أو عرضية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 259

الذين كان بهم قوام الأرض قد أغمضوا أعينهم وودّعوا الدنيا! ومع هذا الحال «أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ». إنّ الآية تريد أن تبيّن أنّ موت الكبار والعظماء والأقوام درس وعبرة للكافرين المغرورين الجاهلين ليعلموا أنّ محاربة اللَّه تعالى لا تنتج سوى الإندحار.

ثم تقرّر الآية حقيقة أنّ

وظيفة النبي صلى الله عليه و آله هي إنذار الناس عن طريق الوحي الإلهي، فتوجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله، فتقول: «قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْىِ» وإذا لم يؤثّر في قلوبكم القاسية، فلا عجب من ذلك، وليس ذلك دليلًا على نقص الوحي الإلهي، بل السبب هو «وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ».

إنّ الاذن السميعة يلزمها أن تسمع كلام اللَّه، أمّا الآذان التي أصمّتها حجب الذنوب والغفلة والغرور فلا تسمع الحقّ مطلقاً.

وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَ نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَ كَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)

بعد أن كانت الآيات السابقة تعكس حالة غرور وغفلة الأفراد الكافرين، تقول الآية الاولى أعلاه: إنّ هؤلاء المغرورين لم يذكروا اللَّه يوماً في الرخاء، ولكن: «وَلَئِنْ مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ».

«نفحة»: تعني الشي ء القليل، أو النسيم اللطيف، وبالرغم من أنّ هذه الكلمة تستعمل غالباً في نسمات الرحمة والنعمة غالباً، إلّاأنّها تستعمل في مورد العذاب أيضاً.

ولو انتبهوا حينئذ، فما الفائدة؟ فإنّ هذه اليقظة الاضطرارية لا تنفعهم.

أمّا الآية الأخيرة التي نبحثها فتشير إلى حساب القيامة الدقيق، وجزائها العادل، ليعلم الكافرون والظالمون أنّ العذاب على فرض أنّه لم يعمّهم في هذه الدنيا، فإنّ عذاب الآخرة حتمي، وسيحاسبون على جميع أعمالهم بدقة، فتقول: «وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيمَةِ».

ونقرأ في الروايات الإسلامية أنّ موازين الحساب في القيامة هم الأنبياء والأئمة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 260

والصالحون الذين لا توجد نقطة سوداء في صحيفة أعمالهم.

«القسط»: يعني أحياناً عدم التبعيض، وأحياناً يأتي بمعنى العدالة بصورة مطلقة، وما يناسب

المقام هو المعنى الثاني، ولهذا تضيف مباشرةً: «فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيًا» فلا ينقص من ثواب المحسنين شي ء، ولا يضاف إلى عقاب المسيئين شي ء.

إلّا أنّ نفي الظلم والجور هذا لا يعني عدم الدقة في الحساب، بل «وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حسِبِينَ».

«الخردل»: نبات له حبّة صغيرة جدّاً يضرب المثل بها في الصغر والحقارة.

لمحة من قصص الأنبياء: ذكرت هذه الآيات وما بعدها جوانب من حياة الأنبياء المشفوعة بامور تربوية بالغة الأثر، وتوضّح البحوث السابقة حول نبوة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ومواجهته المخالفين بصورة أجلى مع ملاحظة الاصول المشتركة الحاكمة عليها. تقول الآية الاولى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهرُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ».

«الفرقان»: يعني في الأصل الشي ء الذي يميّز الحق عن الباطل، وهو وسيلة لمعرفة الإثنين. إنّ من الممكن أن يكون الفرقان إشارة إلى التوراة، وإلى سائر معجزات ودلائل موسى عليه السلام.

ثم تعرّف الآية التالية المتّقين بأنّهم «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ».

ولكلمة «الغيب» هنا تفسيران: الأوّل: إنّه إشارة إلى ذات اللَّه المقدّسة، أي مع أنّ اللَّه سبحانه غائب عن الأنظار، فإنّ هؤلاء آمنوا به بدليل العقل.

والآخر: إنّ المتقين لا يخافون اللَّه في العلانية وبين المجتمع فقط، بل يعلمون أنّه حاضر وناظر إليهم حتى في خلواتهم.

فإنّ المتّقين يحبّون يوم القيامة، لأنّه مكان الثواب والرحمة، إلّاأنّهم في الوقت نفسه مشفقون من حساب اللَّه فيه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 261

وقارنت الآية الأخيرة بين القرآن وباقي الكتب السابقة: «وَهذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ». فهل ينكر مثل هذا الكتاب الذي يستبطن أدلّة أحقّيته فيه، وقد سطعت نورانيته، والذين يسيرون في طريقه سعداء منتصرون؟!

ولكي نعرف مدى أثر القرآن في التوعية وما له من

البركات، فيكفي أن نرى حال سكّان جزيرة العرب قبل نزول القرآن عليهم، إذ كانوا يعيشون في جاهلية جهلاء وفقر وتعاسة وتفرّق وتمزّق، ثم نرى حالهم بعد نزول القرآن حيث أصبحوا اسوة ومثلًا حسناً للآخرين، ونرى كذلك حال الأقوام الآخرين قبل وصول القرآن إليهم وبعده.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَ جِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلَى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)

قلنا: أنّ هذه السورة تحدثت عن جوانب عديدة من حالات الأنبياء، فقد اشير في الآيات السابقة إشارة قصيرة إلى رسالة موسى وهارون عليهما السلام، وعكست هذه الآيات وبعض الآيات الآتية جانباً مهماً من حياة إبراهيم عليه السلام ومواجهته لعبدة الأصنام، فتقول أوّلًا: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ علِمِينَ». «الرشد»: في الأصل بمعنى السير إلى المقصد والغاية، ومن الممكن أن يكون هنا إشارة إلى حقيقة التوحيد، وأنّ إبراهيم عرفها واطّلع عليها منذ سني الطفولة، وقد يكون إشارة إلى كل خير وصلاح بمعنى الكلمة الواسع.

والتعبير ب «مِن قَبْلُ» إشارة إلى ما قبل موسى وهارون عليهما السلام.

ثم أشارت إلى أحد أهمّ مناهج إبراهيم عليه السلام، فقالت: إنّ رشد إبراهيم قد بان عندما قال لأبيه وقومه- وهو إشارة إلى عمّه آزر، لأنّ العرب تسمّي العمّ أباً- ما هذه التماثيل التي

تعبدونها؟ «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عكِفُونَ».

وجملة «أَنتُمْ لَهَا عكِفُونَ» بملاحظة معنى «العكوف»: الذي يعني الملازمة المقترنة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 262

بالإحترام، توحي بأنّ اولئك كانوا يحبّون الأصنام، وكأنّهم كانوا ملازميها دائماً.

إنّ مقولة إبراهيم عليه السلام هذه إستدلال على بطلان عبادة الأصنام، لأنّ ما نراه من الأصنام هو المجسمة والتمثال، والباقي خيال وظن وأوهام.

إلّا أنّ عبدة الأصنام لم يكن عندهم- في الحقيقة- جواب أمام هذا المنطق السليم القاطع، سوى أن يبعدوا المسألة عن أنفسهم ويلقوها على عاتق آبائهم، ولهذا «قَالُوا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا لَهَا عبِدِينَ».

ولمّا كانت حجتهم بأنّ «هذه العبادة هي سنة الآباء» غير مجدية نفعاً ... ولا نمتلك دليلًا على أنّ السابقين من الآباء والأجداد أعقل وأكثر معرفة من الأجيال المقبلة، بل القضية على العكس غالباً، لأنّ العلم يتّسع بمرور الزمن، فأجابهم إبراهيم مباشرةً ف «قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

إنّ هذا التعبير المقترن بأنواع التأكيدات، والحاكي عن الحزم التام سبّب أن يرجع عبدة الأصنام إلى أنفسهم قليلًا، ويتوجّهوا إلى التحقق من قول إبراهيم، فأتوا إلى إبراهيم «قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللعِبِينَ» لأنّ اولئك الذين كانوا قد إعتادوا على عبادة الأصنام، وكانوا يظنّون أنّ ذلك حقيقة حتمية، ولم يكونوا يصدّقون أنّ أحداً يخالفها بصورة جدية، ولذلك سألوا إبراهيم هذا السؤال تعجّباً.

إلّا أنّ إبراهيم أجابهم بصراحة: «قَالَ بَلْ رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذلِكُم مّنَ الشهِدِينَ».

إنّ إبراهيم عليه السلام قد بيّن بهذه الكلمات القاطعة أنّ الذي يستحق العبادة هو خالقهم وخالق الأرض وكل الموجودات.

ومن أجل أن يثبت إبراهيم جديّة هذه المسألة، وأنّه ثابت على عقيدته إلى أبعد الحدود، وأنّه يتقبّل كل ما يترتّب على ذلك

بكل وجوده، أضاف: «وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنمَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ».

«أكيدنّ»: مأخوذة من الكيد، وهو التخطيط السري، والتفكير المخفي وكان مراده أن يفهمهم بصراحة بأنّني سأستغلّ في النهاية فرصة مناسبة واحطّم هذه الأصنام.

إنّ إبراهيم من دون أن يحذر من مغبّة هذا العمل، دخل الميدان برجولة وتوجّه إلى حرب هذه الآلهة الجوفاء بشجاعة خارقة وحطّمها بصورة يصفها القرآن فيقول: «فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 263

إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ» وكان هدفه من تركه «لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ».

صحيح أنّ أذهاننا تنصرف من لفظ عبادة الأصنام إلى الأصنام الحجرية والخشبية على الأكثر، إلّاأنّ الصنم والصنمية- من وجهة نظر- لها مفهوم واسع يشمل كل ما يُبعد الإنسان عن اللَّه، بأيّ شكل وصورة كان.

قَالُوا مَنْ فَعَلَ هذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (67)

وأخيراً عبدة الأصنام دخلوا المعبد وواجهوا منظراً أطار عقولهم من رؤوسهم، فقد وجدوا تلًّا من الأيادي والأرجل المكسّرة المتراكمة بعضها على البعض الآخر في ذلك المعبد المعمور، فصاحوا و «قَالُوا مَن فَعَلَ هذَا بَالِهَتِنَا». ولا ريب أنّ من فعل ذلك ف «إِنَّهُ لَمِنَ الظلِمِينَ» فقد ظلم آلهتنا ومجتمعنا ونفسه، لأنّه عرض نفسه للهلاك بهذا العمل.

إلّا أنّ جماعة منهم تذكّروا ما سمعوه من إبراهيم

عليه السلام وإزدرائه بالأصنام وتهديده لها وطريقة تعامله السلبي لهذه الآلهة المزعومة، «قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرهِيمُ».

إنّ إبراهيم كان شاباً، وربّما لم يكن سنّه يتجاوز (16) عاماً.

إنّ المألوف- عادةً- عندما تقع جريمة في مكان ما، فإنّه ومن أجل كشف الشخص الذي قام بهذا العمل، تبحث علاقات الخصومة والعداء، ومن البديهي أنّه لم يكن هناك شخص في تلك البيئة من يعادي الأصنام غير إبراهيم، ولذلك توجّهت إليه أفكار الجميع، و «قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ» عليه بالجريمة.

فنادى المنادون في نواحي المدينة: «ليحضر كل من يعلم بعداء إبراهيم وإهانته للأصنام».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 264

وأخيراً تشكّلت المحكمة، وكان زعماء القوم قد اجتمعوا هناك، ويقول بعض المفسرين: أنّ نمرود نفسه كان مشرفاً على هذه المحاكمة، وأوّل سؤال وجّهوه إلى إبراهيم عليه السلام هو أن: «قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هذَا بَالِهَتِنَا يَا إِبْرهِيمُ».

فأجابهم إبراهيم جواباً أفحمهم، وجعلهم في حيرة لم يجدوا منها مخرجاً «قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ».

إنّ من اسس علم معرفة الجرائم أن يكون المتّهم بادية عليه آثار الجريمة، والملاحظ هنا أنّ آثار الجريمة كانت باديةً على يد الصنم الكبير، [وفقاً للرواية المعروفة: إنّ إبراهيم جعل الفأس على رقبة الصنم الكبير].

لقد هزّت كلمات إبراهيم الوثنيين وأيقظت ضمائرهم النائمة الغافلة، وأنار فطرتهم التوحيدية من خلف حجب التعصب والجهل.

ورجعوا إلى فطرتهم ووجدانهم، كما يقول القرآن: «فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ». فقد ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم الذي تنتمون إليه، وكذلك ساحة اللَّه واهب النعم المقدسة.

ولكن للأسف، فإنّ صدأ الجهل والتعصب والتقليد الأعمى كان أكبر من أن يُصقل ويُمحى تماماً بنداء بطل التوحيد.

ولم تستمر هذه اليقظة الروحية المقدسة، ورجع كل شي ء إلى حالته الاولى،

وكم هو لطيف تعبير القرآن حيث يقول: «ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ». ومن أجل أن يأتوا بعذر نيابة عن الآلهة البُكْم قالوا: «لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلَاءِ يَنطِقُونَ». وأرادوا بهذا العذر الواهي أن يخفوا ضعف وذلة الأصنام.

وهنا فُتح أمام إبراهيم الميدان والمجال للاستدلال المنطقي ليوجّه لهم أشدّ هجماته: «قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَايَنفَعُكُمْ شَيًا وَلَا يَضُرُّكُمْ».

ووسّع معلّم التوحيد دائرة الكلام، وإنهال بسياط التقريع على روحهم التي فقدت الإحساس، فقال: «أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ». إلّاأنّه لم يلحّ في توبيخهم وتقريعهم لئلّا يلجّوا في عنادهم.

ويستفاد من التواريخ أنّ جماعة آمنوا به، وهم وإن قلّوا عدداً، إلّاأنّهم كانوا من الأهمية بمكان، إذ هيّأوا الاستعداد النسبي لفئة اخرى.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 265

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَ أَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)

عندما تصير النار جنة: مع أنّ عبدة الأوثان اسقط ما في أيديهم نتيجة إستدلالات إبراهيم العلمية والمنطقية، إلّاأنّ عنادهم وتعصبهم الشديد منعهم من قبول الحق، ولذلك فلا عجب من أن يتخذوا قراراً صارماً وخطيراً في شأن إبراهيم. يقول القرآن الكريم: «قَالُوا حَرّقُوهُ وَانصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فعِلِينَ».

فقد قالوا الكثير من أمثال هذه الخزعبلات وأثاروا الناس ضدّ إبراهيم بحيث إنّهم لم يكتفوا بعدّة حزم من الحطب تكفي لإحراق عدّة أشخاص، بل أتوا بآلاف الحزم وألقوها حتى صارت جبلًا من الحطب. فقد القي إبراهيم في النار وسط زغاريد الناس وسرورهم وصراخهم، وقد أطلقوا أصوات الفرح ظانّين أنّ محطّم الأصنام قد فني إلى الأبد وأصبح تراباً ورماداً.

لكن اللَّه الذي بيده كل شي ء حتى النار لا تحرق إلّابإذنه، شاء أن يبقى هذا

العبد المؤمن المخلص سالماً من لهب تلك النار الموقدة ليضيف وثيقة فخر جديدة إلى سجل إفتخاراته، وكما يقول القرآن الكريم: «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِى بَردًا وَسَلمًا عَلَى إِبْرهِيمَ».

لا شك أنّ أمر اللَّه هنا كان أمراً تكوينياً، كالأمر الذي يصدره في عالم الوجود إلى الشمس والقمر، والأرض والسماء، والماء والنار، والنباتات والطيور.

والمعروف أنّ النار قد بردت برداً شديداً إصطكّت أسنان إبراهيم منه، وحسب قول بعض المفسرين: إنّ اللَّه سبحانه لو لم يقل: سلاماً، لمات إبراهيم من شدة البرد.

ويقول اللَّه سبحانه في آخر آية من الآيات محل البحث على سبيل الاستنتاج بإقتضاب:

أنّهم تآمروا عليه ليقتلوه ولكن النتيجة لم تكن في صالحهم «وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ».

لا يخفى أنّ الوضع قد إختلف تماماً ببقاء إبراهيم سالماً، وخمدت أصوات الفرح. غير أنّ العناد ظلّ مانعاً من قبول الحق، وإن كان أصحاب القلوب الواعية قد استفادوا من هذه الواقعة، وزاد إيمانهم مع قلّتهم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 266

وَ نَجَّيْنَاهُ وَ لُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ الصَّلَاةِ وَ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)

هجرة إبراهيم من أرض الوثنيين: لقد هزّت قصة حريق إبراهيم عليه السلام ونجاته الإعجازية من هذه المرحلة الخطيرة أركان حكومة نمرود، وأنّه لو بقي في تلك المدينة والبلاد على هذا الحال، ومع ذلك اللسان المتكلم والمنطق القوي، والشهامة والشجاعة التي لا نظير لها، فمن المحتّم أنّه سيشكّل خطراً على تلك الحكومة الجبارة الغاشمة.

ومن جهة اخرى، فإنّ إبراهيم كان قد أدّى رسالته وبذر بذور الإيمان والوعي في تلك البلاد، فلابد من الهجرة

إلى موطن آخر لإيجاد أرضية لرسالته هناك، ولذلك صمّم على الهجرة إلى الشام بصحبة لوط- وكان ابن أخ إبراهيم- وزوجته سارة، وربّما كان معهم جمع قليل من المؤمنين، كما يقول القرآن الكريم: «وَنَجَّيْنهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِى برَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ».

وبالرغم من أنّ اسم هذه الأرض لم يرد صريحاً في القرآن، إلّاأنّه بملاحظة الآية الاولى من سورة الإسراء يتّضح أنّ هذه الأرض هي أرض الشام ذاتها، التي كانت من الناحية الظاهرية أرضاً غنيّة مباركة خضراء، ومن الجهة المعنوية كانت معهداً لرعاية الأنبياء.

وأشارت الآية التالية إلى أحد أهمّ مواهب اللَّه لإبراهيم، وهي هبته الولد الصالح، والنسل المفيد، فقالت: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ».

وتشير الآية الأخيرة إلى مقام إمامة وقيادة هذا النبي الكبير، وإلى جانب من صفات الأنبياء ومناهجهم المهمة القيّمة بصورة جماعية.

لقد عُدّت في هذه الآية ستّة أقسام من هذه الخصائص، وإذا اضيف إليها وصفهم بكونهم صالحين- والذي يستفاد من الآية السابقة- فستصبح سبعة.

يقول أوّلًا: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً». أي: إنّنا وهبناهم مقام الإمامة إضافةً إلى مقام النبوة والرسالة، والإمامة هي آخر مراحل سير الإنسان التكاملي، والتي تعني القيادة العامة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 267

ثم يذكر في المرحلة التالية ثمرة هذا المقام، فيقول: «يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» ولا يعني بالهداية الإرشاد وبيان الطريق الصحيح، والذي هو من شأن النبوّة والرسالة. أمّا الموهبة الثالثة والرابعة والخامسة فقد عبّر عنها القرآن بقوله: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَوةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ».

وفي آخر فصل أشار إلى مقام العبودية، فقال: «وَكَانوا لَنَا عبِدِينَ» «1». والتعبير ب «كانوا» الذي يدلّ على الماضي المستمر في هذا المنهج، ربّما كان إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا رجالًا صالحين موحدين مؤهّلين حتى قبل الوصول إلى مقام النبوة والإمامة، وفي

ظلّ ذلك المخطّط وهبهم اللَّه سبحانه مواهب جديدة.

وَ لُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَ أَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)

نجاة لوط من أرض الفجّار: لمّا كان لوط من أقرباء إبراهيم وذوي أرحامه، ومن أوائل من آمن به، فقد أشارت الآيتان بعد قصة إبراهيم عليه السلام إلى جانب من إجتهاده وسعيه في طريق إبلاغ الرسالة، والمواهب التي منحها اللَّه سبحانه له، فتقول: «وَلُوطًا ءَاتَيْنهُ حُكْمًا وَعِلْمًا».

لفظة «الحكم» جاءت في بعض الموارد بمعنى أمر النبوة والرسالة.

والمراد من العلم كل العلوم التي لها أثر في سعادة ومصير الإنسان.

لقد كان لوط من الأنبياء العظام وكان معاصراً لإبراهيم، وهاجر معه من أرض بابل إلى فلسطين، ثم فارق إبراهيم وجاء إلى مدينة (سدوم) لأنّ أهلها كانوا غارقين في الفساد والمعاصي، وخاصةً الانحرافات الجنسية، وقد سعى كثيراً من أجل هداية هؤلاء القوم، وتحمل المشاق في هذا الطريق، إلّاأنّه لم يؤثّر في اولئك العُمي القلوب.

وأخيراً، نعلم أنّ الغضب والعذاب الإلهي قد حلّ بهؤلاء، وقلب عالي مدينتهم سافلها، واهلكوا جميعاً، إلّاعائلة لوط باستثناء امرأته.

______________________________

(1) تقديم كلمة (لنا) على (عابدين) يدلّ على الحصر، وإشارة إلى مقام التوحيد الخالص، لهؤلاء المقدّمين الكبار، أي إنّ هؤلاء كانوا يعبدون اللَّه فقط.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 268

ولذلك أشارت الآية إلى هذه الموهبة التي وهبت للوط، وهي: «وَنَجَّيْنهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فسِقِينَ».

والتعبير ب «الخبائث» بصيغة الجمع، إشارة إلى أنّهم إضافة إلى فعل اللواط الشنيع، كانوا يعملون أعمالًا قبيحة وخبيثة اخرى.

والتعبير ب «الفاسقين» بعد «قوم سوء» ربّما يكون إشارة إلى أنّ اولئك كانوا فاسقين من وجهة نظر القوانين الإلهية، وحتى مع

قطع النظر عن الدين والإيمان، فإنّهم كانوا أفراداً حمقى ومنحرفين في نظر المعايير الإجتماعية بين الناس.

ثم أشارت الآية إلى آخر موهبة إلهية للنبي لوط، فقالت: «وَأَدْخَلْنهُ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ».

وَ نُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ نَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)

نجاة نوح من القوم الكافرين: بعد ذكر جانب من قصّة إبراهيم وقصة لوط عليهما السلام، تطرّقت السورة إلى ذكر جانب من قصة نبي آخر من الأنبياء الكبار- أي: نوح عليه السلام- فقالت:

«وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ». أي قبل إبراهيم ولوط.

إنّ هذا النداء- ظاهراً- إشارة إلى الدعاء واللعنة التي ذكرت في الآية (26 و 27) من سورة نوح أو إنّه إشارة إلى الجملة التي وردت في الآية (10) من سورة القمر.

ثم تضيف الآية: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ».

إنّ للأهل- هنا- معنى وسيعاً يشمل أهله المؤمنين وخواص أصحابه، وعلى هذا فإنّ الذين اعتنقوا دين نوح يعدّون في الواقع من عائلته وأهله.

«الكرب»: تعني الغمّ الشديد، وهي في الأصل مأخوذة من تقليب الأرض وحفرها، لأنّ الغمّ الشديد يقلب قلب الإنسان، ووصفه بالعظيم يكشف عن منتهى كربه وأساه.

وأيّ كرب أعظم من أن يدعو قومه إلى دين الحق (950) عاماً، كما صرّح القرآن بذلك، لكن لم يؤمن به خلال هذه المدة الطويلة إلّاثمانون شخصاً.

وتضيف الآية التالية: «وَنَصَرْنهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 269

فَأَغْرَقْنهُمْ أَجْمَعِينَ». إنّ هذه الجملة تؤكّد مرّة اخرى على حقيقة أنّ العقوبات الإلهية لا تتّصف بصفة الإنتقام مطلقاً، بل هي على أساس إنتخاب الأصلح، أي إنّ حق الحياة والتنعّم بمواهب الحياة لُاناس

يكونون في طريق التكامل والسير إلى اللَّه، أو انّهم إذا ساروا يوماً في طريق الانحراف إنتبهوا إلى أنفسهم ورجعوا إلى جادة الصواب.

وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَ كُلًّا آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَ عَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)

قضاء داود وسليمان عليهما السلام: بعد الحوادث والوقائع المتعلقة بموسى وهارون وإبراهيم ونوح ولوط عليهم السلام، تشير هذه الآيات إلى جانب من حياة داود وسليمان، وفي البداية أشارت إشارة خفية إلى حادث قضاء وحكم صدر من جانب داود وسليمان، فتقول: «وَدَاوُودَ وَسُلَيْمنَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شهِدِينَ» «1».

إنّ القصة كانت كما يلي: إنّ قطيع أغنام لبعض الرعاة دخلت ليلًا إلى بستان فأكلت أوراقه وعناقيد العنب منه فأتلفته، فرفع صاحب البستان شكواه إلى داود، فحكم داود بأن تعطى كل الأغنام لصاحب البستان تعويضاً لهذه الخسارة الفادحة، فقال سليمان- والذي كان طفلًا آنذاك- لأبيه: يا نبي اللَّه العظيم، غيّر هذا الحكم وعدّ له. فقال الأب: وكيف ذاك؟

قال: يجب أن تودع الأغنام عند صاحب البستان ليستفيد من منافعها ولبنها وصوفها، وتودع البستان في يد صاحب الأغنام ليسعى في إصلاحه، فإذا عاد البستان إلى حالته الاولى يُردّ إلى صاحبه، وتردّ الأغنام أيضاً إلى صاحبها؛ وأيّد اللَّه حكم سليمان في الآية التالية: «فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمنَ». ولكن هذا لا يعني أنّ حكم داود كان إشتباهاً وخطأً، لأنّها تضيف مباشرةً: «وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا».

ثم تشير إلى إحدى المواهب والفضائل التي كان اللَّه سبحانه قد وهبها لداود

عليه السلام، فتقول:

______________________________

(1) «نفشت»: من مادّة نَفْش على وزن (حرب)، أي التفرّق والتبعثر في الليل، ولمّا كان تفرّق الأغنام في الليل، وفي المزرعة سيقترن بالتهام نباتها حتماً، لذا قال البعض: إنّها الرعي في الليل؛ و «نَفَش» (على وزن علم) تعني الأغنام التي تتفرّق في الليل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 270

«وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ وَالطَّيْرَ». فإنّ ذلك ليس شيئاً مهمّاً أمام قدرتنا «وَكُنَّا فعِلِينَ».

وأشارت الآية الأخيرة إلى موهبة اخرى من المواهب التي وهبها اللَّه لهذا النبي الجليل، فقالت: «وَعَلَّمْنهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شكِرُونَ».

«اللبوس»: كل نوع من أنواع الأسلحة الدفاعية والهجومية، إلّافي هنا تعني الدرع التي لها صفة الحفظ في الحروب.

وَ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَالِمِينَ (81) وَ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)

الرياح تحت إمرة سليمان: تشير هاتان الآيتان إلى جانب من المواهب التي منحها اللَّه لنبي آخر من الأنبياء- أي: سليمان عليه السلام- فتقول الآية الاولى منهما: «وَلِسُلَيْمنَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا». وهذا الأمر ليس عجيباً، لأنّنا عارفون به «وَكُنَّا بِكُلّ شَىْ ءٍ علِمِينَ». فنحن مطّلعون على أسرار عالم الوجود، والقوانين والأنظمة الحاكمة عليه.

«العاصفة»: تعني الرياح القويّة أو الهائجة، وهنا يمكن أن تكون من باب بيان الفرد الأهمّ، أي ليست الرياح الهادئة لوحدها تحت إمرته، بل حتى العواصف الشديدة كانت رهن إشارته أيضاً، لأنّ الثانية أعجب، وكانت تتحرّك حيث أراد.

ثم تذكر الآية التالية أحد المواهب الخاصة بسليمان عليه السلام، فتقول: «وَمِنَ الشَّيطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ» لإستخراج الجواهر والأشياء الثمينة الاخرى «وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حفِظِينَ»

من التمرد والطغيان على أوامر سليمان عليه السلام.

إنّ هذه الجماعة كانوا أفراداً أذكياء نشطين فنّانين صنّاعاً ماهرين في مجالات مختلفة.

وَ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَ ذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 271

أيوب ونجاته من المصاعب: تتحدث الآيتان عن نبي آخر من أنبياء اللَّه العظماء وقصّته المُلهمة، وهو «أيّوب» وهو عاشر نبي اشير إلى جانب من حياته في سورة الأنبياء.

إنّ لأيّوب قصّة حزينة، وهي في نفس الوقت عظيمة سامية، فقد كان صبره وتحمله عجيبين، خاصةً أمام الحوادث المرّة، بحيث إنّ صبر أيوب أصبح مضرباً للمثل منذ القدم.

غير أنّ هاتين الآيتين تشيران- بصورة خاصة- إلى مرحلة نجاته وإنتصاره على المصاعب، وإستعادة ما فقده من المواهب، فتقول: «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ». «الضرّ»: تطلق على كل سوء وأذى يصيب روح الإنسان أو جسمه، وكذلك لنقص عضو، وذهاب مال، وموت الأعزّة وإنهيار الشخصية وأمثال ذلك، وكما سنقول فيما بعد، فإنّ أيوب قد إبتلي بكثير من هذه المصائب.

وتقول الآية التالية: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءَاتَيْنهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ» ليعلم المسلمون أنّ المشاكل كلما زادت، وكلما زادت الإبتلاءات، وكلما زاد الأعداء من ضغوطهم وضاعفوا قواهم، فإنّها جميعاً ترفع وتحلّ بنظرة ومنحة من لطف اللَّه، فلا تجبر الخسارة وحسب، بل إنّ اللَّه سبحانه يعطي الصابرين أكثر ممّا فقدوا جزاءً لصبرهم وثباتهم.

وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَ أَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)

إسماعيل وإدريس وذو الكفل عليه السلام: تعقيباً

على قصة أيوب عليه السلام التربوية، وصبره وثباته بوجه سيل الحوادث، تشير الآيتان- محلّ البحث- إلى صبر ثلاثة من أنبياء اللَّه الآخرين فتقول الاولى: «وَإِسْمعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَاالْكِفْلِ كُلٌّ مّنَ الصَّابِرِينَ».

ثم تبيّن الآية الاخرى موهبة إلهية لهؤلاء مقابل الصبر والثبات، فتقول: «وَأَدْخَلْنهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِنَ الصَّالِحِينَ».

وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 272

نجاة يونس من السجن المرعب: تبيّن هاتان الآيتان جانباً من قصة النبي الكبير يونس عليه السلام، حيث تقول الاولى واذكر يونس إذ ترك قومه المشركين غاضباً عليهم: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا». «النون»: تعني السمكة العظيمة. أو بتعبير آخر: تعني الحوت. وبناءً على هذا فإنّ «ذاالنون» معناه صاحب الحوت.

إنّه ذهب مغاضباً «فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ» «1». فقد كان يظنّ أنّه قد أدّى كل رسالته بين قومه العاصين، ولم يترك حتى «الأولى في هذا الشأن، مع أنّ الأولى هو بقاؤه بينهم والصبر والتحمّل والتجلّد، فلعلّهم ينتبهون من غفلتهم ويتّجهون إلى اللَّه سبحانه.

وأخيراً، ونتيجة تركه الأولى هذا، ضيّقنا عليه فابتلعه الحوت «فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ». فقد ظلمت نفسي، وظلمت قومي، فقد كان ينبغي أن أتقبّل وأتحمّل أكثر من هذه الشدائد والمصائب، واواجه جميع أنواع التعذيب والآلام منهم فلعلّهم يهتدون.

وتقول الآية التالية: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ».

جملة «كَذلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ» العميقة المعنى توحي بأنّ ما أصاب يونس من البلاء والنجاة لم يكن حكماً خاصّاً، بل حكم عام مع حفظ تسلسل الدرجات

والمراتب.

إنّ كثيراً من الحوادث المؤلمة والإبتلاءات الشديدة والمصائب نتيجة لذنوبنا ومعاصينا، فمتى ما تنبّه الإنسان إلى ثلاثة امور [التي إنتبه إليها يونس في مثل هذا الظرف فإنّه سينجو حتماً:

1- التوجّه إلى حقيقة التوحيد، وأنّه لا معبود ولا سند إلّااللَّه.

2- تنزيه اللَّه عن كل عيب ونقص وظلم وجور، وتجنّب كل سوء ظنّ بذاته المقدّسة.

3- الإعتراف بذنبه وتقصيره.

في تفسير الدرّ المنثور عن سعد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «اسم اللَّه الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متّى». قلت يا رسول اللَّه هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: «هي ليونس خاصة وللمؤمنين إذا دعوا بها، ألم تسمع قول اللَّه «وَكَذلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ»، فهو شرط من اللَّه لمن دعاه».

______________________________

(1) «نقدر»: من مادّة قدر بمعنى التعسير والتضييق، لأنّ الإنسان عند التضييق يأخذ من كل شي ء قدراًمحدوداً، لا على نطاق واسع وبدون حساب.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 273

وَ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ وَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَ أَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)

نجاة زكريا من الوحدة: تبيّن هاتان الآيتان جانباً من قصة شخصيتين اخريين من أنبياء اللَّه العظماء، وهما زكريا ويحيى عليهما السلام، فتقول الاولى: «وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبّ لَاتَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ».

لقد مرّت سنين من عمر زكريا، واشتعل رأسه شيباً، ولم يرزق الولد حتى ذلك الحين، ثم أنّ زوجته كانت عقيماً، وقد كان يأمل أن يُرزق ولداً يستطيع أن يُكمل مناهجه الإلهية وأعماله التبليغية.

وعندئذ توجّه إلى اللَّه بكلّ وجوده وسأله ولداً صالحاً.

فاستجاب اللَّه هذا الدعاء

الخالص الملي ء بعشق الحقيقة، وحقّق امنيته وما كان يصبوا إليه، كما تقول الآية: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى . ومن أجل الوصول إلى هذا المراد أصلحنا زوجته وجعلناها قادرة على الإنجاب «وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ».

ثم أشار اللَّه سبحانه إلى ثلاث صفات من الصفات البارزة لهذه الاسرة فقال: «إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خشِعِينَ».

«رغباً»: بمعنى الرغبة والميل والعلاقة؛ و «رهباً»: بمعنى الخوف والرعب؛ و «الخشوع»: هو الخضوع المقرون بالإحترام والأدب، وكذلك الخوف المشفوع بالإحساس بالمسؤولية.

إنّ ذكر هذه الصفات الثلاث ربّما تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء عندما يصلون إلى النعمة فلا يبتلون بالغفلة والغرور كما في الأشخاص الماديين من ضعفاء الإيمان.

وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَ جَعَلْنَاهَا وَ ابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)

مريم السيدة الطاهرة: اشير في هذه الآية إلى مقام مريم وعظمتها وعظمة إبنها المسيح عليهما السلام. إنّ ذكر مريم في ثنايا البحوث التي تتكلّم على الأنبياء الكرام؛ إمّا من أجل

مختصر الامثل، ج 3، ص: 274

ولدها عيسى عليه السلام، أو لأنّ ولادته كانت تشبه ولادة يحيى بن زكريا عليهما السلام من جهات متعددة، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في ذيل آيات سورة مريم، أو ليوضّح أنّ العظمة غير مختصة بالرجال، بل هناك نساء عظيمات يدلّ تاريخهن على عظمتهن، وكنّ قدوة ومثلًا أسمى لنساء العالم. تقول الآية: واذكر مريم، «وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لّلْعَالَمِينَ».

«الفرج»: معناه في اللغة الفاصلة والشقّ، واستعمل كناية عن العضو التناسلي.

إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)

امّة

واحدة: لمّا ورد في الآيات السابقة أسماء جمع من أنبياء اللَّه، وكذلك مريم، تلك المرأة التي كانت مثلًا أسمى وجانب من قصصهم، فإنّ هذه الآيات تستخلص نتيجة مما مرّ، فتقول: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً». فقد كان منهجهم واحداً، وهدفهم واحداً بالرغم من اختلافهم في الزمان والمحيط والخصائص والأساليب والطرائق.

إنّ توحيد ووحدة الخطط والأهداف هذه تعود إلى أنّها جميعاً تصدر عن مصدر واحد، عن إرادة اللَّه الواحد، ولهذا تقول الآية مباشرةً: «وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ».

إنّ توحيد الأنبياء الإعتقادي في الواقع يقوم على أساس وحدة منبع الوحي.

«الامّة»: تعني كل جماعة تربطهم جهة مشتركة، وهنا إشارة إلى الأنبياء الذين مرّ ذكرهم في الآيات السابقة.

وأشارت الآية التالية إلى انحراف جماعة عظيمة من الناس عن أصل التوحيد، فقالت:

«وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ». فقد وصل بهم الأمر إلى أن يقف بعضهم ضدّ بعض، ويلعن بعضهم بعضاً ويتبرّأ منه، ولم يكتفوا بذلك، بل شهروا السلاح فيما بينهم، وسفكوا الدماء الكثيرة، وكانت هذه الأحداث نتيجة الإنحراف عن أصل التوحيد ودين اللَّه الحق.

«تقطّعوا»: من مادّة قطع، بمعنى تفريق القطع المتصلة بموضوع واحد. إنّ اولئك قد إستسلموا أمام عوامل التفرقة والنفاق، ورضوا بأن يبتعد أحدهم عن الآخر، وأنهوا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 275

إتحادهم الفطري والتوحيدي، فمُنوا- نتيجة ذلك- بكل تلك الهزائم والشقاوة.

وتضيف في النهاية: «كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ». فإنّ هذا الإختلاف عرضي يمكن إقتلاعه، وسيسيرون في طريق الوحدة جميعاً في يوم القيامة. وتبيّن الآية الأخيرة نتيجة الإنسجام مع الامّة الواحدة في طريق عبادة اللَّه، أو الإنحراف عنها وإتخاذ طريق التفرقة، فتقول: «فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ». ومن أجل زيادة التأكيد قالت: «وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ».

إنّ هذه الآية ككثير من آيات القرآن الاخرى قد عدّت الإيمان شرطاً

لقبول الأعمال الصالحة.

وَ حَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)

الكافرون على أعتاب القيامة: كان الكلام في آخر الآيات السابقة عن المؤمنين العاملين للصالحات، وتشير الآية الاولى من هذه الآيات إلى الأفراد في الطرف المقابل لُاولئك، وهم الذين استمرّوا في الضلال والفساد إلى آخر نفس، فتقول: «وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ».

إنّ هؤلاء اناس ترفع الحجب عن أعينهم وأنظارهم بعد مشاهدة العذاب الإلهي، أو بعد فنائهم وإنتقالهم إلى عالم البرزخ، وعندها يأملون أن يرجعوا إلى الدنيا ليصلحوا أخطاءهم ويعملون الصالحات، إلّاأنّ القرآن يقول بصراحة: إنّ رجوع هؤلاء حرام تماماً، ولم يبق طريق لجبران ما صدر منهم.

إنّ هؤلاء المغفلين في غرور وغفلة على الدوام، وتستمرّ هذه التعاسة حتى نهاية العالم، كما يقول القرآن: «حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ».

فتقول مباشرةً: «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَاخِصَةٌ أَبْصرُ الَّذِينَ كَفَرُوا». لأنّ الرعب يسيطر على وجودهم إلى حدّ أنّ عيونهم تتوقف عن الحركة وتصبح جاحظة لدى نظرهم إلى تلك الحوادث.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 276

في هذه الأثناء ترفع عن أبصارهم حجب الغفلة والغرور، فيرتفع صوتهم: «يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذَا». ولما كانوا لا يقدرون على تغطية ذنبهم بهذا العذر ليبرّئوا أنفسهم، فإنّهم يقولون بصراحة: «بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ».

كيف يمكن عادةً مع وجود كل هؤلاء الأنبياء، والكتب السماوية، وكل هذه الحوادث المثيرة والعبر والدروس أن يكونوا في غفلة؟ إنّ ما صدر من هؤلاء تقصير وظلم لأنفسهم وللآخرين.

«حدب»: على

زنة «أدب» معناه ما إرتفع من الأرض بين منخفضاتها، وقد يطلق على ما إرتفع وبرز من ظهر الإنسان أيضاً.

«ينسلون»: من مادة «نسول» (على وزن فضول)، أي الخروج بسرعة.

«شاخصة»: من الشخوص، وهو في الأصل الخروج من المنزل، أو الخروج من مدينة إلى اخرى، ولما كانت العين عند التعجب والدهشة كأنّها تريد الخروج من الحدقة، فقد قيل لذلك «شخوص» إنّ هذه هي حالة المذنبين العاصين في القيامة يصبحون حائرين كأنّ أعينهم تريد أن تخرج من أحداقهم.

إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَ كُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)

حصب جهنم: متابعة للبحث السابق عن مصير المشركين الظالمين، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب إليهم، وجسّدت مستقبلهم ومستقبل آلهتهم بهذه الصورة: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ». «الحصب»: في الأصل يعني الرمي والإلقاء، وتقال بالذات لإلقاء قطع الحطب في التنور.

إنّكم وآلهتكم ستكوّنون حطب جهنم، وستُلقون الواحد تلو الآخر في نار جهنم كقطع

مختصر الامثل، ج 3، ص: 277

الحطب التي لا قيمة لها، ثم تضيف: «أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ». إنّهم يلقون آلهتكم في النار أوّلًا، ثم تردون عليها، فكأنّ آلهتكم تستقبلكم وتستضيفكم بالنار المنبعثة من وجودها.

ثم تقول كإستخلاص للنتيجة: «لَوْ كَانَ هؤُلَاءِ ءَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا». ولكن اعلموا أنّهم لا يدخلون جهنم وحسب، بل «وَكُلٌّ فِيهَا خلِدُونَ».

ولمزيد الإيضاح عن حال هؤلاء «العابدين الضالين» المؤلمة المخزية قبال «آلهتهم الحقيرة»،

تقول الآية محل البحث: «لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ».

«الزفير»: في الأصل يعني الصراخ المقترن بإخراج النفس. وهنا إشارة إلى الصراخ أو الضجيج المنبعث من الحزن وشدة الكرب.

إنّ هذا الزفير أو الأنين المؤلم لا يكون مقتصراً على العباد فحسب، بل إنّ معبوداتهم من الشياطين أيضاً يصطرخون معهم.

ثم تذكّر الجملة التالية أحد العقوبات الاخرى المؤلمة لهؤلاء، وهي «وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ». وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يسمعون الكلام الذي يسرّهم ويبهجهم، بل يسمعون أنين أهل جهنم المؤلم المنغّص وصراخ ملائكة العذاب فقط.

وقال بعضهم: إنّ المراد هو أنّ هؤلاء يوضعون في توابيت من نار بحيث لا يسمعون صوت أيّ أحد أبداً، فكأنّهم لوحدهم في العذاب، وهذا بنفسه يعتبر عقوبة أشد.

ثم تبيّن الآية التالية حالات المؤمنين الحقيقيين من الرجال والنساء ليتبيّن وضع الفريقين من خلال المقارنة بينهما، فتقول أوّلًا: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مّنَّا الْحُسْنَى أُولئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ». وهو إشارة إلى أنّنا سنفي بكل الوعود التي وعدنا بها المؤمنين في هذه الدنيا، وأحدها إبعادهم عن نار جهنم.

وتذكر الآيتان الأخيرتان أربع نعم إلهية كبرى تغمر هذه الطائفة السعيدة.

فالاولى: إنّهم «لَايَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا». و «الحسيس»: الصوت المحسوس، وجاءت أيضاً بمعنى الحركة، أو الصوت الناشى ء من الحركة، ونار الجحيم المشتعلة دائماً لها صوت خاص، وهذا الصوت مرعب من جهتين: من جهة أنّه صوت النار، ومن جهة أنّه صوت حركة النار والتهامها.

والثانية: إنّهم «وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خلِدُونَ». فليس حالهم كما في هذه الدنيا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 278

المحدودة، فإنّهم ينالون كل نعمة يريدونها، مادية كانت أو معنوية، وليس ذلك على مدى يوم أو يومين، بل على إمتداد الخلود.

والثالثة: إنّهم «لَايَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ». وقد اعتبر بعضهم أنّ هذا الفزع الأكبر إشارة إلى

أهوال يوم القيامة التي هي أكبر من كل هول وفزع.

والرابعة: من ألطاف اللَّه تعالى لهؤلاء هو ما ذكرته الآية محلّ البحث: «وَتَتَلَقهُمُ الْمَلِكَةُ هذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ».

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)

يوم تطوى السماء: قرأنا في آخر آية من الآيات السابقة أنّ المؤمنين آمنون من الفزع الأكبر وهمّه، وتجسّم هذه الآية رعب ذلك اليوم العظيم، وفي الحقيقة تبيّن وتجسّد علة عظمة وضخامة هذا الرعب، فتقول: «يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَىّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ» «1».

وفي هذه الآية تشبيه لطيف لطيّ سجل عالم الوجود عند إنتهاء الدنيا، ففي الوقت الحاضر فإنّ هذا السجل مفتوح، وتقرأ كل رسومه وخطوطه، وكل منها في مكان معين، أمّا إذا صدر الأمر الإلهي بقيام القيامة فإنّ هذا السجل العظيم سيطوى بكل رسومه وخطوطه.

ثم تضيف: «كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ».

وفي النهاية تقول الآية: «وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فعِلِينَ».

ويستفاد من بعض الروايات أنّ المراد من رجوع الناس إلى الحالة الاولى، هو أنّهم يرجعون حفاة عراة مرّة اخرى كما كانوا في بداية الخلق. وهذا أحد صور رجوع الخلق إلى الصورة الاولى.

سيحكم الصالحون الأرض: بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى جانب من ثواب المؤمنين الصالحين، فقد أشارت السورة في هاتين الآيتين إلى أحد أوضح المكافآت الدنيوية لهؤلاء،

______________________________

(1) «السَجْل»: الدلو العظيمة؛ و «السّجِلّ» حجر كان يكتب فيه، ثم سمّي كل ما يكتب فيه سجلًا.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 279

فتقول: «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ».

«الأرض»: تطلق على مجموع الكرة الأرضية. «الإرث»: يعني إنتقال الشي ء إلى شخص بدون معاملة وأخذ وعطاء.

إنّ المراد من الزبور كتاب داود، والذكر بمعنى التوراة.

إنّ كلمة الصالحون لها معنى

واسع، فستخطر على الذهن كل المؤهّلات، الأهلية من ناحية التقوى، والعلم والوعي، ومن جهة القدرة والقوة، ومن جانب التدبير والتنظيم والإدراك الاجتماعي.

إنّ الآية التالية تقول من باب التأكيد المشدد: «إِنَّ فِى هذَا لَبَلغًا لّقَوْمٍ عبِدِينَ».

لقد فسّرت هذه الآية في بعض الروايات بأصحاب المهدي عليه السلام، وهو بيان مصداق عال وواضح، ولا تحدّ من عمومية مفهوم الآية مطلقاً.

إنّ نظام الخلقة سيكون دليلًا واضحاً على قبول نظام اجتماعي صحيح في المستقبل، في عالم الإنسانية، وهذا هو الذي يستفاد من الآية مورد البحث، والأحاديث المرتبطة بقيام المصلح العالمي العظيم، المهدي الموعود.

وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)

النبي رحمة للعالمين: لمّا كانت الآيات السابقة قد بشّرت العباد الصالحين بوراثة الأرض وحكمها، ومثل هذه الحكومة أساس الرحمة لكل البشر، فإنّ الآية الاولى أشارت إلى رحمة وجود النبي صلى الله عليه و آله العامة، فقالت: «وَمَا أَرْسَلْنكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعلَمِينَ». فإنّ عامّة البشر في الدنيا، سواء الكافر منهم والمؤمن، مشمولون لرحمتك، لأنّك تكفّلت بنشر الدين الذي يُنقذ الجميع.

إنّ التعبير ب «العالمين» له إطار واسع يشمل كل البشر وعلى إمتداد الأعصار والقرون،

مختصر الامثل، ج 3، ص: 280

ولهذا يعتبرون هذه الآية إشارة إلى خاتمية نبي الإسلام، لأنّ وجوده رحمة وقدوة لكل الناس إلى نهاية الدنيا.

ولمّا كان أهمّ مظهر من مظاهر الرحمة، وأثبت دعامة

لذلك هي مسألة التوحيد وتجلياته، فإنّ الآية التالية تقول: «قُلْ إِنَّمَا يُوحِى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ».

وهذه الآية في الواقع تشير إلى ثلاث نقاط مهمة:

الاولى: إنّ التوحيد هو الدعامة الأساسية للرحمة، التوحيد في الإعتقاد، وفي العمل، والتوحيد في الكلمة، وتوحيد الصفوف، وفي القانون وفي كل شي ء.

الثانية: إنّ كل دعوات الأنبياء تتلخص في أصل التوحيد، والتوحيد كالروح السارية في البدن.

والنقطة الثالثة: إنّ المشكلة الأساسية في جميع المجتمعات هي التلوّث بالشرك بأشكال مختلفة، لأنّ جملة «فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ» توحي بأنّ المشكلة الأساسية هي الخروج من الشرك ومظاهره، ورفع اليد عن الأصنام وتحطيمها، ليس الأصنام الحجرية والخشبية فحسب، بل كل الأصنام، وفي أيّ شكل كانت، وخاصة طواغيت البشر.

ثم تقول الآية التالية: إنّهم إذا لم يذعنوا ويهتمّوا لدعواتنا ونداءاتنا هذه «فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ». «آذنت»: من مادة الإيذان، أي الإعلان المقترن بالتهديد، والظاهر أنّ النبي أراد بهذا الكلام أن يعلن تنفّره وإبتعاده عن اولئك، ويبيّن بأنّه قد يئس منهم تماماً.

ثم يبيّن هذا التهديد بصورة أوضح، فيقول بأنّي لا أعلم هل أنّ موعد عذابكم قريب أم بعيد: «وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ». فلا تظنّوا أنّ هذا الوعيد بعيد، فربّما كان قريباً وقريباً جدّاً.

قد يكون المراد من العذاب والعقوبة هنا عذاب القيامة، أو عذاب الدنيا، أو كليهما، ففي الصورة الاولى هو مختص بعلم اللَّه، ولا يعلم أيّ أحد تاريخ وقوع القيامة بدقة حتى أنبياء اللَّه، وفي الصورة الثانية والثالثة يمكن أن يكون إشارة إلى جزئياته وزمانه، وأنا لا أعلم بجزئياته.

ثم إنّكم لا ينبغي أن تتوهّموا أنّ عقوبتكم إذا تأخّرت فهذا يعني أنّ اللَّه غير مطّلع على أعمالكم وأقوالكم، فهو يعلم كل شي ء، ف «إِنَّهُ

يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ».

فإنّ الجهر والإخفاء له معنى بالنسبة لكم حيث إنّ علمكم محدود عادةً، أمّا بالنسبة لمن لا حدود لعلمه، فإنّ الغيب والشهادة، والسرّ والعلن سواء لديه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 281

وكذلك إذا رأيتم أنّ العقوبة الإلهية لا تحيط بكم فوراً، فلا تظنّوا أنّ اللَّه سبحانه غير عالم بعملكم، فلا أعلم لعلّه إمتحان لكم: «وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتعٌ إِلَى حِينٍ». ثم يأخذكم أشدّ مأخذ ويعاقبكم أشدّ عقاب.

لقد أوضحت الآية في الواقع حكمتين لتأخير العذاب الإلهي:

الاولى: مسألة الامتحان والاختبار، فإنّ اللَّه سبحانه لا يعجّل في العذاب أبداً حتى يمتحن الخلق بالقدر الكافي، ويُتمّ الحجة عليهم.

والثانية: إنّ هناك أفراداً قد تمّ اختبارهم وحقّت عليهم كلمة العذاب حتماً، إلّاأنّ اللَّه سبحانه يوسّع عليهم النعمة ليشدّد عليهم العذاب، فإذا ما غرقوا في النعمة تماماً، وغاصوا في اللذائذ، أهوى عليهم بسوط العذاب ليكون أشدّ وآلم، وليحسّوا جيّداً بألم وعذاب المحرومين والمضطهدين.

وتتحدث آخر آية هنا- وهي آخر آية من سورة الأنبياء- كالآية الاولى من هذه السورة عن غفلة الناس الجهّال، فتقول حكاية عن النبي صلى الله عليه و آله في عبارة تشبه اللعن، وتعكس معاناته صلى الله عليه و آله من كل هذا الغرور والغفلة، وتقول: إنّ النبي صلى الله عليه و آله بعد مشاهدة كل هذا الإعراض «قَالَ رَبّ احْكُم بِالْحَقّ» «1». وفي الجملة الثانية يوجّه الخطاب إلى المخالفين ويقول:

«وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ».

إنّه ينبّه هؤلاء بكلمة (ربّنا) إلى هذه الحقيقة، وهي أنّنا جميعاً مربوبون ومخلوقون، وهو ربّنا وخالقنا جميعاً.

والتعبير ب «الرّحمن»، والذي يشير إلى الرحمة العامة، يعيد إلى أسماع هؤلاء أنّ الرحمة الإلهية قد عمّت كل وجودنا، فلماذا لا تفكّروا لحظة في خالق

كل هذه النعمة والرحمة.

وجملة «الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ» يحذّر هؤلاء بأن لا تظنّوا أنّا وحيدون أمام جمعكم وكثرتكم، ولا تتصوروا أنّ كل إتهاماتكم وأكاذيبكم، سواء كانت على ذات اللَّه المقدسة، أو علينا، ستبقى بدون جواب وجزاء، كلّا مطلقاً، فإنّه تعالى سندنا ومعتمدنا جميعاً، وهو قادر على أن يدافع عن عباده المؤمنين أمام كل أشكال الكذب والإفتراء والإتهام.

«نهاية تفسير سورة الأنبياء»

______________________________

(1) لا شكّ أنّ حكم اللَّه سبحانه بالحقّ دائماً، وعلى هذا فإنّ ذكر كلمة (بالحقّ) هنا له صبغة التوضيح.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 283

22 سورة الحج

محتوي السورة: سمّيت هذه السورة ب «سورة الحج» لأنّ جزءاً من آياتها تحدّث عن الحج. ويمكن تقسيم مواضيعها إلى عدّة أقسام هي:

1- تضمّنت آيات منها موضوع «المعاد» وأدلته المنطقية، وإنذار الغافلين عن يوم القيامة ونظائر ذلك التي تبدأ هذه السورة بها لتضمّ جزءاً كبيراً منها.

2- يتضمّن جزء ملحوظ من هذه الآيات جهاد الشرك والمشركين.

3- دعا جزء آخر من هذه السورة الناس إلى الاعتبار بمصير الأقوام البائدة، وما لاقت من عذاب إلهي.

4- وتناول جزء آخر منها مسألة الحج وتاريخه منذ عهد إبراهيم عليه السلام.

5- وتضمّن الجزء الآخر مقاومة الظالمين والتصدّي لأعداء الإسلام المحاربين.

6- وإحتوى قسم آخر نصائح في مجالات الحياة المختلفة.

7- التشجيع على أعمال الصلاة والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتوكل والتوجه إلى اللَّه (سبحانه وتعالى).

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: قال النبي صلى الله عليه و آله: «من قرأ سورة الحج اعطي من الأجر كحجة حجّها، وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 284

وهذا الثواب والفضل العظيم ليس لمجرد التلاوة اللفظيّة فقط، وإنّما لتلاوة تنير الفكر، وتفكّر يتبعه عمل وتطبيق.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ

زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَ تَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَ مَا هُمْ بِسُكَارَى وَ لكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)

زلزلة البعث العظيمة: تبدأ هذه السورة بآيتين تشيران إلى يوم البعث ومقدماته، وهما آيتان تبعدان الإنسان- دون إرادته- عن هذه الحياة المادية العابرة، ليفكّر بالمستقبل المخيف الذي ينتظره، المستقبل الذي سيكون جميلًا وسعيداً إن فكّرت فيه اليوم، ولكنّه مخيف حقّاً إن لم تعدّ العدة له، والآية المباركة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْ ءٌ عَظِيمٌ». خطاب للناس جميعاً بلا استثناء، فقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» دليل واضح على عدم التفريق بينهم من ناحية العنصر، واللغة، والزمان، والأماكن الجغرافية، والطوائف، والقبائل، فهو موجّه للجميع: المؤمن والكافر، والكبير والصغير، والشيخ والشاب، والرجل والمرأة، على إمتداد العصور.

ثم بيّنت الآية التالية في عدّة جمل إنعكاس هذا الذعر الشديد، فقالت: «يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ» من شدة الوحشة والرعب.

«وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا».

وثالث إنعكاس لهذا الذعر الشديد: «وَتَرَى النَّاسَ سُكرَى وَمَا هُمْ بِسُكرَى . وعلة ذلك هو شدة العذاب في ذلك اليوم «وَلكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ». هذا العذاب الذي أرعب الناس وأفقدهم صوابهم.

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)

أتباع الشيطان: بعد أن أعطت الآيات السابقة صورة لرعب الناس حين وقوع زلزلة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 285

القيامة، أوضحت الآيات اللاحقة حالة اولئك الذين نسوا اللَّه، وكيف غفلوا عن مثل هذا الحدث العظيم، فقالت: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجدِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ».

نجد هؤلاء الناس يجادلون مرّة في

أساس التوحيد ووحدانية الحق تبارك وتعالى، ومرّة يجادلون في قدرة اللَّه على إحياء الموتى، وفي البعث والنشور، ولا دليل لهم على ما يقولون.

ثم تضيف هذه الآية: «وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطنٍ مَّرِيدٍ». فهؤلاء الأشخاص الذين لا يتّبعون منطقاً أو علماً، وإنّما يتّبعون كل شيطان عنيد ومتمرد، ولا يخضعون لشيطان واحد، بل لجميع الشياطين! شياطين الإنس والجن، الذين لكل منهم برنامجه وأحابيله وشراكه.

«مريد»: مشتقة من «مَرَدَ» وأصلها الأرض المرتفعة التي لا نبت فيها. وهنا يقصد ب «المريد» الشخص الذي خلا من أيّ خير وسعادة. وطبيعي أن يكون مثل هذا الشخص عنيداً وظالماً وعاصياً.

ومن هنا كانت الآية اللاحقة: «كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ» «1».

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6) وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)

دليل المعاد في عالم الأجنة والنبات: بما أنّ البحث في الآيات السابقة كان يدور حول

______________________________

(1) «السعير»: مشتقة من «سَعَرَ» بمعنى لهب النّار، وتعني هنا نار جهنّم الحارقة التي تمتاز بأنّها أكثر حرقاً من أيّ نار.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 286

تشكيك المخالفين للمبدأ

والمعاد، فالآيات محل البحث طرحت دليلين منطقيين قويين لإثبات المعاد الجسماني: أحدهما التغيّرات التي تحدث في مراحل تكوين الجنين، والآخر هو التغيّرات التي تحدث في الأرض عند خروج النبات. والخطاب القرآني يعمّ جميع الناس بنوره: «يَا أيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» «1». كل ذلك من أجل أن نوضّح لكم حقيقة قدرتنا على القيام بأيّ عمل «لِّنُبَيّنَ لَكُمْ». فتبقى الأجنّة في الأرحام إلى مدّة معلومة نحن نحدّدها لتمرّ بمراحل تكاملها، ونسقط ما نريد منها فنخرجها من الأرحام في وسط الطريق قبل أن تكمل «وَنُقِرُّ فِى الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى».

ثم تبدأ الأجنّة مرحلة تطور جديدة، لنخرجكم أطفالًا من أرحام امهاتكم، «ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» وبهذا تنتهي مرحلة حياتكم المحدّدة في بطون امهاتكم. فتضعون أقدامكم في محيط أوسع مملوء بالنور والصفاء، وإمكانات واسعة جدّاً، إلّاأنّ تكاملكم يستمر في قطع المسافات بسرعة لتبلغوا الهدف، ألا وهو الرشد والكمال الجسمي والعقلي، «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ». وهنا يتبدل الجهل إلى علم، والضعف إلى قوة، والتبعية إلى الاستقلال، لكن مسيرة حياتكم تطوى وتستمر فبعضكم يودّع الحياة بينما يستمر آخرون حتى المرحلة الأخيرة من الحياة، أي مرحلة الشيخوخة بعد تكاملهم: «وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ».

أجل، فالمرء يصل إلى مرحلة لا يتذكر فيها شيئاً، حيث يسيطر عليه النسيان، ويصبح في وضع وكأنّه طفل «لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيًا». وهذا الضعف والخمول دليل على بلوغ المرء مرحلة إنتقالية جديدة كما نجد ضعف التحام الثمرة بالشجرة حين تبلغ مرحلة النضج مما يدل على وصولها إلى مرحلة الإنفصال.

ثم تتناول الآية بيان الدليل الثاني

أي حياة النباتات، فتبيّن ما يلي: انظر إلى الأرض في فصل الشتاء فتجدها جافّة وميتة، فإذا سقط المطر وحلّ الربيع، دبّت الحياة والحركة فيها ونبتت أنواع النباتات فيها ونمت «وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» «2».

______________________________

(1) «المضغة»: مشتقة من «المضغ» وتعني مقداراً من اللحم يمكن للإنسان مضغه في لقمة واحدة، وهذا تشبيه رائع للجنين في المرحلة التي تعقب مرحلة العلقة.

(2) «الهامدة»: تعني في الأصل النّار التي أطفئت، ويطلق على الأرض التي جفّت نباتاتها وأصبحت دون حركة (مفردات الراغب الاصفهاني). والبعض الآخر قال: إنّ كلمة «هامدة» تطلق على الحد الفاصل بين الموت والحياة (تفسير في ظلال القرآن).

«إهتزّت»: مشتقة من «الهزّ» وتعني تحرّكت بشدة.

«ربت»: مشتقة من «الربو» وتعني الزيادة والنمو، كما أنّ كلمة «ربا» مشتقة أيضاً من «الربو».

«بهيج»: تعني الجميل الساحر السارّ.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 287

الآيتان اللاحقتان تشرحان ما توصّلنا إليه، وذلك بإستعراض خمس ملاحظات:

1- إنّ ما إستعرضته الآيات الخاصة بالمراحل التي تسبق مراحل الحياة للإنسان وعالم النبات، من أجل أن تعلموا أنّ اللَّه تعالى حقّ «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ». وبما أنّه هو الحق، فالنظام الذي خلقه حق أيضاً، لهذا لا يمكن أن يكون هذا الخلق دون هدف.

وبما أنّ هذه الحياة ليست عبثاً، وأنّ لها هدفاً، وأنّنا لا نصل إلى تحقيق ذلك الهدف في حياتنا، إذن نعلم من ذلك وجود المعاد والبعث حتماً.

2- إنّ هذا النظام الذي يسيطر على عالم الحياة يقول لنا «وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى . إنّ الذي يلبس الأرض لباس الحياة، ويغيّر النطفة التافهة إلى إنسان كامل، ويمنح الحياة للأرض الميتة، لقادر على أن يمنح الحياة للموتى.

3- الهدف الآخر هو أن نعلم «وَأَنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ»

ولا يستحيل على قدرته شي ء.

هل يمكن لأحد تحويل الأرض الميتة إلى نطفة، ويطوّر هذه النطفة التافهة في مراحل الحياة، أليس القادر على القيام بهذه الأعمال بقادر على أن يحيي الإنسان بعد موته؟!

4- إنّ كل هذا لتعلموا أنّ ساعة نهاية هذا العالم وبداية عالم آخر، ستحلّ بلا شك فيها «وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لَّارَيْبَ فِيهَا».

5- ثم إنّ كل هذا مقدمة لنتيجة أخيرة هي «وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ».

وعلي هذا الأساس أنّ البعث ليس ممكن فحسب، بل إنّه سيقع حتماً.

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لَا هُدًى وَ لَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)

الجدال بالباطل مرّة اخرى: تتحدث هذه الآيات أيضاً عمّن يجادلون في المبدأ والمعاد

مختصر الامثل، ج 3، ص: 288

جدالًا خاوياً لا أساس له، في البداية يقول القرآن المجيد: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجدِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتبٍ مُّنِيرٍ». وعبارة «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجدِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» هي ذاتها التي ذكرت في آية سابقة، والآية السابقة الذكر دالة على وضع الأتباع الضالين الغافلين، في وقت تكون فيه هذه الآية دالة على قادة هذه المجموعة الضالة.

إنّ «العلم» إشارة إلى الاستدلال العقلي؛ و «الهدى» إشارة إلى إرشاد القادة الربانيين؛ و «الكتاب المنير» إشارة إلى الكتب السماوية، أي أنّها تعني الأدلة الثلاثة المعروفة «الكتاب» و «السنّة» و «الدليل العقلي».

ثم يتطرّق القرآن المجيد في جملة قصيرة عميقة المعنى إلى أحد أسباب ضلال هؤلاء القادة، فيقول: «ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ». إنّهم يريدون أن يضلّوا الناس عن

سبيل اللَّه بغرورهم وعدم إهتمامهم بكلام اللَّه وبالأدلّة العقليّة الواضحة.

«ثاني»: مشتقة من «ثني» بمعنى التواء؛ و «عطف»: تعني «جانب» فالجملة تعني ثني الجانب، أي الإعراض عن الشي ء وعدم الإهتمام به.

ويعقّب القرآن ذلك ببيان عقابهم الشديد في الدنيا والآخرة بهذه الصورة: «لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ».

ونقول له: «ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلمٍ لّلْعَبِيدِ». لا يعاقب اللَّه أحداً بلا ذنب، ولا يضاعف عقاب أحد دون سبب، فهو العدل المطلق سبحانه «1».

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَ مَا لَا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)

______________________________

(1) «ظلّام»: صيغة مبالغة تعني كثير الظلم. وطبيعي أنّ اللَّه لا يظلم أبداً لا كثيراً ولا قليلًا، ويمكن أن يكون استخدام هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ العقاب دون مبرّر من قبل اللَّه تعالى- جلّ عن ذلك وعلا علوّاً كبيراً- مصداق ظلم كبير.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 289

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت هذه الآية «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ» في جماعة كانوا يقدمون على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المدينة. فكان أحدهم إذا صحّ جسمه ونتجت فرسه وولدت إمرأته غلاماً، وكثرت ماشيته، رضي به، واطمأن إليه، وإن أصابه وجع في المدينة، وولدت امرأته جارية، قال: ما أصبت في هذا

الدين إلّاشرّاً.

التّفسير

الواقف على حافّة وادي الكفر: تحدثت الآيات السابقة عن مجموعتين: الأتباع الضالين، والقادة المضلين، أمّا هذه الآيات، فتتحدث عن مجموعة ثالثة هم ضعاف الإيمان، قال القرآن المجيد عن هذه المجموعة: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ». أي إنّ بعض الناس يعبد اللَّه بلقلقة لسان، وإنّ إيمانه ضعيف جدّاً، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه.

ثم تناول القرآن الكريم عدم ثبات الإيمان لدى هؤلاء الأشخاص «فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ». إنّهم يطمئنون إذا ضحكت لهم الدنيا وغمرتهم بخيراتها، ويعتبرون ذلك دليلًا على أحقّية الإسلام، إلّاأنّهم يتغيّرون ويتّجهون إلى الكفر إن امتحنوا بالمشاكل والقلق والفقر، فالدين والإيمان لديهم وسيلة للحصول على ما يبتغون في هذه الدنيا، فإن تمّ ما يبغونه كان الدين حقّاً، وإلّا فلا.

ويضيف القرآن المجيد في الختام: «خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةَ» و «ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ». مؤكّداً أنّ أفدح الضرر وأفظع الخسران، هو أن يفقد الإنسان دينه ودنياه.

وتشير الآية التالية إلى إعتقاد هذه الفئة الخليط بالشرك، خاصة بعد الإنحراف عن صراط التوحيد والإيمان باللَّه، فتقول: «يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُ وَمَا لَايَنفَعُهُ». أي إذا كان هذا الإنسان يسعى إلى تحقيق مصالحه المادية والإبتعاد عن الخسائر ويرى صحّة الدين في إقبال الدنيا عليه، وبطلانه في إدبارها عنه، فلماذا يتوجّه إلى أصنام لا يؤمّل منها خير، ولا يخاف منها ضرر، فهي أشياء لا فائدة فيها، ولا أثر لها في مصير البشر. أجل، «ذلِكَ هُوَ الضَّللُ الْبَعِيدُ». إنّ هؤلاء ليبتعدون عن الصراط المستقيم بُعداً حتى لا ترجى عودتهم إلى الحقّ إلّارجاءً ضعيفاً جدّاً.

ويوسّع القرآن الكريم هذا المعنى فيقول: «يَدْعُوا لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ». لأنّ هذا المعبود المختلق ينزل بفكرهم إلى الحضيض

في هذه الدنيا، ويدفعهم نحو الخرافات والجهل، ويدعهم في الآخرة في نار جهنم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 290

وتضيف الآية في الختام: «لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ». فما أسوأه ناصراً ومعيناً، وما أسوأه مؤنساً ومعاشراً.

وفي ختام الآية المباركة نلحظ مقارنة بين الخير والشرّ كما هو دأب القرآن الكريم لتتّضح النتائج بشكل أكبر، فتقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهرُ». فعاقبتهم معلومة ومنهج تفكيرهم وسلوكهم واضح فمولاهم هو اللَّه تعالى، ورفاقهم وجلساؤهم في الآخرة هم الأنبياء والصالحون والملائكة، وأنّ اللَّه سبحانه يُثيب المؤمنين العاملين للصالحات، جنات تجري من تحتها الأنهار، لينعموا بالسعادة والسرور جزاء إستقامتهم على الحق وإستجابتهم له في الحياة الدنيا «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ». وثوابهم يسير عليه- جلّ وعلا- يُسْرَ عقاب الذين ظلموا أنفسهم بإيثار الباطل على الحق، وبعبادتهم الأصنام من دون اللَّه سبحانه.

مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هَادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصَارَى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (17)

البعث نهاية جميع الخلافات: بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن ضعفاء الإيمان، فإنّ الآيات مورد البحث ترسم لنا صورة اخرى عن هؤلاء فتقول: «مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ». هذه الآية تركّز على ملاحظة نفسيّة تخصّ الأشخاص الحادّي المزاج، والضعيفي الإيمان الذين يصابون بالهلع ويرتكبون أعمالًا

جنونية كلما بلغت امورهم طريقاً مسدوداً في الظاهر.

وأشارت الآية التالية إلى خلاصة الآيات السابقة، فقالت: «وَكَذلِكَ أَنزَلْنهُ ءَايتٍ بَيّنتٍ».

لقد أوضحت الآيات السابقة أدلّة المعاد والبعث، كالمراحل التي يمرّ بها الجنين الإنساني

مختصر الامثل، ج 3، ص: 291

ونموّ النباتات وإحياء الأرض بعد موتها، ولكن هذه الأدلّة الواضحة والبراهين الدامغة لا تكفي لتقبّل الحق، بل لابد من إستعداد ذاتي لذلك. ولهذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية:

«وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ».

وأشارت آخر الآية هنا إلى ستّ فئات، إحداها مسلمة مؤمنة، وخمس منها غير مسلمة:

«إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصبِئِينَ وَالنَّصرَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ».

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبَالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)

الوجود كلّه يسجد للَّه: بما أنّ الحديث في الآيات السابقة كان عن المبدأ والمعاد، فإنّ الآية- موضع البحث- بطرحها مسألة التوحيد، قد أكملت دائرة المبدأ والمعاد، وتخاطب النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّموَاتِ وَمَن فِى الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ». ولا يقتصر الحال على هذه المخلوقات، بل إنّ الكثير من الناس يشاركون عالم الموجود بالسجود للَّه تعالى سوى بعض الكفار الذين يتحركون من موقع العناد والجحود: «وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ». ثم تضيف: وهؤلاء ليست لهم قيمة عند اللَّه تعالى، ومن كان كذلك فهو مهان: «وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ». أي

إنّ من يهينه اللَّه لا يكرمه أحد، وليست له سعادة ولا أجر، حقّاً «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ». فهو يكرم المؤمنين به، ويذلّ المنكرين له.

إنّ للموجودات مع ملاحظة ما ورد في الآية- موضع البحث- شكلين من السجود:

«سجود تكويني» و «سجود تشريعي».

فالسجود التكويني هو الخضوع والتسليم لإرادة اللَّه ونواميس الخلق والنظام المسيطر على هذا العالم دون قيد أو شرط، وهو يشمل ذرّات المخلوقات كلها، حتى أنّه يشمل خلايا أدمغة الفراعنة والمنكرين العنودين وذرّات أجسامهم فالجميع يسجدون للَّه تعالى تكويناً.

وحسبما يقوله عدد من الباحثين، فإنّ ذرّات العالم كلها لها نوع من الإدراك والشعور، ولذا يسبّحون اللَّه ويحمدونه ويسجدون له ويصلّون له بلسانهم الخاص (شرحنا ذلك في

مختصر الامثل، ج 3، ص: 292

تفسير الآية 44 من سورة الإسراء) وإذا رفضنا هذا النوع من الإدراك والشعور، فلا مجال لإنكار تسليم الكائنات جميعاً للقوانين الحاكمة على نظام الوجود كله.

أمّا «السجود التشريعي» فهو غاية الخضوع من العقلاء المدركين العارفين للَّه سبحانه.

هذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ (20) وَ لَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت الآية «هذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبّهِمْ» في ستّة نفر من المؤمنين والكفار، تبارزوا يوم بدر وهم: حمزة بن عبد المطلب قتل عتبة بن

ربيعة وعلى بن أبي طالب عليه السلام قتل الوليد بن عقبة، وعبيدة بن الحرث بن عبد المطلب قتل شيبة بن ربيعة.

التّفسير

خصمان متقابلان: أشارت الآية السابقة إلى المؤمنين وطوائف مختلفة من الكفار، وحدّدتهم بستّ فئات. أمّا هنا فتقول: «هذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبّهِمْ».

ثم تبيّن الآية أربعة أنواع من عقاب الكافرين المنكرين للَّه تعالى بوعي منهم، والعقاب الأوّل حول لباسهم، فتقول الآية: «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارٍ».

ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى لباسهم الذي اعدّ لهم من قطع من نار، أو كناية عن إحاطة نار جهنم بهم من كل جانب.

ثم: «يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ». أي يصبّ على رؤوسهم سائل حارق هو حميم

مختصر الامثل، ج 3، ص: 293

النار، وهذا الماء الحارق الفوّار ينفذ إلى داخل أبدانهم ليذيب باطنها وظاهرها «يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ» «1».

وثالث نوع من العقاب هو: «وَلَهُم مَّقمِعُ مِن حَدِيدٍ» «2». أي اعدّت لهم أسواط من الحديد المحرق.

والرابع: «كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ». أي كلّما أرادوا الخروج من جهنم والخلاص من آلامها وهمومها اعيدوا إليها، وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق.

وأوضحت الآيات التالية وضع المؤمنين الصالحين، مستخدمة اسلوب المقارنة، لتكشف بها عن وضع هاتين المجموعتين، وهنا تستعرض هذه الآيات خمسة أنواع من المكافئات للمؤمنين: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهرُ».

فخلافاً للمجموعة الاولى الذين يتقلّبون في نار جهنم، نجد أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتّعون بنعيم رياض الجنة على ضفاف الأنهر وهذه هي المكافأة الاولى، وأمّا لباسهم وزينتهم فتقول الآية: و «يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبِ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ» «3».

وهاتان مكافأتان يمنّ اللَّه بهما كذلك على عباده العالمين

في الجنة، يهبهم أفخر الملابس التي حرموا منها في الدنيا، ويحلّيهم بزينة الأساور التي منعوا عنها في الحياة الاولى، لأنّها كانت تؤدّي إلى إصابتهم بالغرور والغفلة، وتكون سبباً لحرمان الآخرين وفقرهم، أمّا في الجنّة فينتهي هذا المنع ويباح للمؤمنين لباس الحرير والحلي وغيرها.

وأخيراً الهبة الرابعة والخامسة التي يهبها اللَّه للمؤمنين الصالحين ذات سمة روحانية «وَهُدُوا إِلَى الطَّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ» حديث ينمي الروح. وألفاظ تثير حيوية الإنسان، وكلمات ملؤها النقاء والصفاء التي تبلغ بالروح درجة الكمال وتملأ القلب بهجةً وسروراً، «وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ» «4». هكذا يهدون إلى طريق اللَّه الحميد، الجدير بالثناء، طريق معرفة اللَّه

______________________________

(1) «يصهر»: مشتقة من «صهر» على وزن «قهر» وتعني تذويب الشحم؛ أمّا «الصِهر» على وزن «فكر» فتعني النسيب.

(2) «المقامع»: جمع «مقمع» على وزن «منبر» وتعني السوط أو العمود الحديدي يضرب به المذنب عقاباً له.

(3) «أساور»: جمع «أسورة» على وزن «مشورة» وهي بدورها جمع لكلمة «سوار» على وزن «كتاب» وتعني المعضد.

(4) «الحميد»: تعني المحمود، وتطلق على من يستحقّ الثناء، وهنا يقصد بها اللَّه تعالى، وعلى هذا فإنّ «الصراطالحميد» يعني السبيل إلى مقام مقرّب من اللَّه تعالى.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 294

والتقرب المعنوي والروحي إليه، سبيل العشق والعرفان. حقّاً إنّ اللَّه يهدي المؤمنين إلى هذا الطريق الذي ينتهي إلى أعلى درجات اللذة الروحية.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَ الْبَادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)

الذين يصدّون عن بيت اللَّه الحرام: تحدثت الآيات السابقة عن عامة الكفار، وهذه الآية تشير إلى مجموعة خاصّة منهم باءت بمخالفات وذنوب عظيمة، ذات علاقة بالمسجد الحرام ومراسم الحج العظيم. تبدأ هذه

الآية ب «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ».

وكذلك يصدّون ويمنعون المؤمنين عن مركز التوحيد العظيم: «وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ». أي سواءً المقيمون فيه والذين يقصدونه من مكان بعيد. «وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادِ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ». أي كل من أراد الانحراف في هذه الأرض المقدسة عن الحق ومارس الظلم والجور أذقناه عذاباً أليماً.

وهذه الفئة من الكفار ترتكب ثلاث جرائم كبيرة، إضافةً إلى إنكارها الحق، وجرائمها هي:

1- صدّ الناس عن سبيل اللَّه والإيمان به والطاعة له.

2- صدّهم عن حج بيت اللَّه الحرام، وتوهّم أنّ لهم إمتيازاً عن الآخرين.

3- ممارستهم للظلم وإرتكابهم الإثم في هذه الأرض المقدسة، واللَّه يعاقب هؤلاء بعذاب أليم.

وَ إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقَائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَ عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 295

الدعوة العامة للحج: تناولت الآية السابقة قضيّة المسجد الحرام وحجّاج بيت اللَّه، أمّا هذه الآيات فتستعرض بناء الكعبة على يد إبراهيم الخليل عليه السلام، ووجوب الحج وفلسفته، وبعض أحكام هذه العبادة الجليلة. إذ بدأت بقصة تجديد بناء الكعبة: «وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ». أي تذكّر كيف أعددنا لإبراهيم مكان الكعبة ليقوم ببنائها.

«بوّأ»: مشتقة من بواء، أي الأرض المسطّحة، ثم أطلقت على إعداد المكان مطلقاً.

وتقصد هذه الآية أنّ اللَّه هدى إبراهيم عليه السلام إلى مكان الكعبة بعد أن هدّمت بطوفان نوح وخفيت معالمها، إذ حدثت عاصفة

فأزالت التراب وكشفت عن اسس البيت، أو بعث اللَّه سحابة ظلّلت مكان البيت، أو بأيّ اسلوب آخر كشف اللَّه لإبراهيم عليه السلام أسس الكعبة، فقام هو وإبنه إسماعيل عليهما السلام بتجديد بناء بيت اللَّه الحرام.

وتضيف الآية الكريمة أنّه عندما تمّ بناء البيت خوطب إبراهيم عليه السلام: «أَن لَّاتُشْرِكْ بِى شَيًا وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ».

فمهمّة إبراهيم عليه السلام كانت تطهير البيت وما حوله من أيّ نجس ظاهر أو باطن، ومن أيّ صنم أو مظهر للشرك، من أجل أن يوجّه عباد الرحمن قلوبهم وأبصارهم إليه تعالى وحده في هذا المكان الطاهر، وليقوموا بأهمّ العبادات في هذه البقعة المباركة، ألا وهو الطواف والصلاة في محيط إيمانيّ لا يخالطه شرك.

وبعد إعداد البيت للعبادة، أمر اللَّه تعالى إبراهيم عليه السلام: «وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَمِيقٍ».

«أذّن»: مشتقة من «الأذان» أي «الإعلان»؛ و «رجال»: جمع «راجل» أي «ماشي»؛ و «الضامر»: تعني الحيوان الضعيف؛ و «الفجّ»: في الأصل تعني المسافة بين جبلين، ثم أطلقت على الطرق الواسعة؛ و «العميق»: تعني هنا «البعيد».

في تفسير علي بن إبراهيم القمي: لمّا فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت أمره اللَّه أن يؤذن في الناس بالحج فقال: «يا ربّ وما يبلغ صوتي». فقال اللَّه: «أذن عليك الأذان وعلي البلاغ».

وارتفع على المقام وهو يومئذ ملصق بالبيت فارتفع المقام حتى كان أطول من الجبال فنادى وأدخل اصبعيه في اذنيه وأقبل بوجهه شرقاً وغرباً يقول: أيّها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربّكم، فأجابوه من تحت البحور السبعة ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أطراف الأرض كلها ومن أصلاب الرجال وأرحام النساء بالتلبية: لبيك

مختصر

الامثل، ج 3، ص: 296

اللهم لبيك أوَلا ترونهم يأتون يلبون فمن حج من يومئذ إلى يوم القيامة فهم ممن استجاب للَّه وذلك قوله «فِيهِ ءَايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرهِيمَ» يعني نداء إبراهيم على المقام بالحج. وتناولت الآية التالية فلسفة الحج فقالت: «لِّيَشْهَدُوا مَنفِعَ لَهُمْ». أي إنّ على الناس الحج إلى هذه الأرض المقدسة، ليروا منافع لهم بام أعينهم.

إنّ كلمة «المنافع» تشمل جميع المنافع والبركات المعنوية والمكاسب المادية، وكل عائد فردي واجتماعي، ومعطيات سياسية واقتصادية وأخلاقية، فما أحرى بالمسلمين أن يتوجّهوا من أنحاء العالم إلى مكة ليشهدوا هذه المنافع.

ثم تضيف الآية: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مّن بَهِيمَةِ الْأَنْعمِ». أي أنّه على المسلمين أن يحجّوا إلى البيت ويقدّموا القرابين من المواشي التي رزقهم اللَّه، وأن يذكروا اسم اللَّه عليها حين الذبح في أيّام معينة تبدأ من العاشر من ذي الحجة وتنتهي بالثالث عشر منه.

وهذا الذكر إشارة إلى توجّه الحاج إلى اللَّه كل التوجه عند تقديم الاضحية، وهمّه كسب رضى اللَّه وقبوله القربان، كما أنّ الاستفادة من لحم الاضحية تقع ضمن هذا التوجه.

ويعتبر تقديم الأضاحي رمزاً لإعلان الحاج إستعداده للتضحية بنفسه في سبيل اللَّه، على نحو ما ذكر من قصة إبراهيم عليه السلام ومحاولة التضحية بإبنه إسماعيل عليه السلام. إنّ الحجاج بعملهم هذا يعلنون إستعدادهم للإيثار والتضحية في سبيل اللَّه حتى بأنفسهم.

وعلى كل حال فإنّ القرآن بهذا الكلام ينفي اسلوب المشركين الذين كانوا يذكرون أسماء الأصنام التي يعبدونها على أضاحيهم، ليحيلوا هذه المراسم التوحيدية إلى شرك باللَّه، وجاء في ختام الآية: «فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ».

تتابع هذه الآيات البحث السابق عن مناسك الحج مشيرةً إلى جانب آخر من هذه المناسك، فتقول أوّلًا: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا

نُذُورَهُمْ». أي ليطهّروا أجسامهم من

مختصر الامثل، ج 3، ص: 297

الأوساخ والتلوّث، ثم ليوفوا ما عليهم من نذور. «وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ». أي يطوفوا بذلك البيت الذي صانه اللَّه عن المصائب والكوارث وحرّره.

«تفث»: تعني القذارة وما يلتصق بالجسم وزوائده كالأظافر والشعر. بتعبير آخر: تشير هذه العبارة إلى برنامج «التقصير» الذي يعدّ من مناسك الحج.

إنّما سمّيت الكعبة بالبيت العتيق، و «العتيق»: مشتقة من «العتق»، أي التحرّر من قيود العبودية، وربّما كان ذلك لأنّ الكعبة تحرّرت من قيود ملكية عباد اللَّه، ولم يكن لها مالك إلّا اللَّه، كما حرّرت من قيد سيطرة الجبابرة كأبرهة.

ومن معاني «العتيق» أيضاً الشي ء الكريم الثمين، وهذا المعنى يتجسّد في الكعبة بوضوح.

ومن المعاني الاخرى للعتيق «القديم»، فلا مانع من إطلاق العتيق على بيت اللَّه بعد ملاحظة ما تتضمّنه هذه الكلمة من معان.

والمراد من «الطواف» هنا طواف النساء، ففي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجل: «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» قال: «طواف النساء» «1».

وأشارت الآية الأخيرة إلى خلاصة ما بحثته الآيات السالفة الذكر، حيث تبدأ بكلمة «ذلِكَ» التي لها جملة محذوفة تقديرها «كذلك أمر الحج والمناسك». ثم تضيف تأكيداً لأهميّة الواجبات التي شرحت: «وَمَن يُعَظّمْ حُرُمتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ».

والمقصود هنا ب «الحرمات»- طبعاً- أعمال ومناسك الحجّ، ويمكن أن يضاف إليها إحترام الكعبة خاصة والحرم المكّي عامة.

ثم تشير هذه الآية وتناسباً مع أحكام الإحرام إلى حلّية المواشي، حيث تقول:

«وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعمُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ».

وفي ختام هذه الآية ورد أمران يخصّان مراسم الحج ومكافحة العادات الجاهلية:

الأوّل يقول: «فَاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الْأَوْثنِ». و «الأوثان»: جمع «وثن» على وزن «كفن» وتعني الأحجار التي كانت تُعبد زمن الجاهلية، وهنا جاءت كلمة الأوثان

إيضاحاً لكلمة «رجس» التي ذكرت في الآية، حيث تقول: «اجْتَنِبُوا الرّجْسَ». ثم تليها عبارة «مِنَ الْأَوْثنِ». أي الرجس هو ذاته الأوثان.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 9/ 390.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 298

والأمر الثاني هو: «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ». أي الكلام الباطل الذي لا أساس له من الصحّة.

إنّ هذه الآية إشارة إلى كيفيّة تلبية المشركين في مراسم الحج في زمن الجاهلية، لأنّهم يلبّون بشكل يتضمّن الشرك بعينه، ويبعدونه عن صورته التوحيدية.

ومع هذا فإنّ إهتمام الآية المذكورة بأعمال المشركين، لا يمنع من تعميمها على بطلان أيّة عبادة للأصنام بأيّة صورة كانت، وإجتناب أيّ قول باطل مهما كانت صورته.

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)

عقّبت الآيات هنا المسألة التي أكّدتها آخر الآيات السابقة، وهي مسألة التوحيد، وإجتناب أيّ صنم وعبادة الأوثان، حيث تقول: «حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ». أي أقيموا مراسم الحج والتلبية في حالة تخلصون فيها النية للَّه وحده لا يخالطها أيّ شرك أبداً.

«حنفاء»: جمع «حنيف» أي الذي إستقام وإبتعد عن الضلال والانحراف. أو بتعبير آخر:

هو الذي سار على الصراط المستقيم.

إنّ الآية السابقة اعتبرت الإخلاص وقصد القربة إلى اللَّه محرّكاً أساسياً في الحج والعبادات الاخرى، حيث ذكرت ذلك بشكل عام، فالإخلاص أصل العبادة، والمراد به الإخلاص الذي لا يخالطه أيّ نوع من الشرك وعبادة غير اللَّه.

ثم ترسم الآية- موضع البحث- صورة حيّة ناطقة عن حال المشركين وسقوطهم وسوء طالعهم، حيث تقول: «وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ

الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ» «1».

«السماء»: هنا كناية عن التوحيد؛ و «الشرك» هو السبب في السقوط من السماء هذه.

والذي يسقط من السماء يفقد كل قدرة على اتّخاذ قرار ما، ويبتلى بفقدانه هذا المكان

______________________________

(1) «تخطفه»: مشتقة من «الخطف» على وزن فعل، بمعنى الإمساك بالشي ء أثناء تحرّكه بسرعة؛ و «سحيق»: تعني «البعيد» وتطلق على النخلة العالية كلمة «سحوق».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 299

السامي بأهوائه النفسية المعاندة وتزداد سرعة سقوطه لحظة بعد اخرى نحو العدم، ويصبح نسياً منسياً.

وأوجزت الآية التالية مسائل الحج وتعظيم شعائر اللَّه ثانية فتقول «ذلِكَ» أي إنّ الموضوع كما قلناه، وتضيف: «وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ».

«الشعائر»: جمع «شعيرة» بمعنى العلامة والدليل، وعلى هذا فالشعائر تعني علامات اللَّه وأدلّته، وهي تضمّ عناوين لأحكامه وتعاليمه العامة، وأوّل ما يلفت النظر في هذه المراسم مناسك الحج التي تذكّرنا باللَّه سبحانه وتعالى.

ويمكن القول: إنّ شعائر اللَّه تشمل جميع الأعمال الدينية التي تذكّر الإنسان باللَّه سبحانه وتعالى وعظمته، وإنّ إقامة هذه الأعمال دليل على تقوى القلوب.

ويستدلّ من بعض الأحاديث أنّ مجموعة من المسلمين كانوا يعتقدون بعدم جواز الركوب على الاضحية (الناقة أو ما شابهها) حين جلبها من موطنهم إلى منى للذبح، كما يرون عدم جواز حلبها أو الإستفادة منها بأيّ شكل كان، ولكن القرآن نفى هذه العقيدة الخرافية حيث قال: «لَكُمْ فِيهَا مَنفِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى».

وتذكر الآية في ختامها نهاية مسار الاضحية: «ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ».

وعلى هذا يمكن الاستفادة من الانعام المخصّصة للُاضحية ما دامت في الطريق إلى موضع الذبح، وبعد الوصول يجرى ما يلزم.

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)

الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

بشّر المخبتين: يمكن أن يتساءل الناس عن الآيات السابقة. ومنها التعليمات الواردة بخصوص الاضحية، كيف شرّع الإسلام تقديم القرابين لكسب رضى اللَّه؟ وهل اللَّه سبحانه بحاجة إلى قربان؟ وهل كان ذلك متّبعاً في الأديان الاخرى، أو يخصّ المشركين وحدهم؟

تقول أوّل آية- من الآيات موضع البحث- لإيضاح هذا الموضوع أنّ هذا الأمر لا يختص بكم، بل إنّ كل امّة لها قرابين: «وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مّن بَهِيمَةِ الْأَنْعمِ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 300

مختصر الامثل ج 3 349

ذبح حيوان باسم اللَّه ولكسب رضاه يبيّن إستعداد الإنسان للتضحية بنفسه في سبيل اللَّه، والاستفادة من لحم الاضحية وتوزيعه على الفقراء أمر منطقي.

ولذا يذكر القرآن في نهاية هذه الآية: «فَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ». وبما أنّه إله واحد «فَلَهُ أَسْلِمُوا». وبشّر الذين يتواضعون لأحكامه الربانية و «بَشّرِ الْمُخْبِتِينَ» «1».

ثم يوضّح القرآن المجيد في الآية التالية صفات المخبتين (المتواضعين) وهي أربع: إثنتان منها ذات طابع معنوي، وإثنتان ذات طابع جسماني.

يقول في الأوّل: «الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ». لا يخافون في غضبه دون سبب ولا يشكّون في رحمته، بل إنّ خوفهم ناتج عن عظمة المسؤوليات التي بذمّتهم، واحتمال تقصيرهم في أدائها، وليقينهم بجلال اللَّه سبحانه يقفون بين يديه بكل خشوع.

والثاني: «وَالصبِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ». فهؤلاء يصبرون على ما يكابدونه في حياتهم من مصائب وآلام، ولا يكفرون بأنعم اللَّه أبداً، وبإيجاز نقول: يستقيمون وينتصرون.

والثالث والرابع: «وَالْمُقِيمِى الصَّلَوةِ وَمِمَّا رَزَقْنهُمْ يُنفِقُونَ». فمن جهة توطّدت علاقتهم ببارى ء الخلق وإزدادوا تقرّباً إليه، ومن جهة اخرى إشتدّ إرتباطهم بالخلق بالإنفاق.

وَ الْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ

شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَ لَا دِمَاؤُهَا وَ لكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)

لماذا الاضحية؟ عاد الحديث عن مراسم الحج وشعائره الإلهية والاضحية ثانية، ليقول أوّلًا: «وَالْبُدْنَ جَعَلْنهَا لَكُم مّن شَعَائِرِ اللَّهِ». إنّ «البُدن»: وهي الإبل البدينة تعلّقت بكم من جهة، ومن جهة اخرى هي من شعائر اللَّه وعلائمه في هذه العبادة العظيمة، فالاضحية في

______________________________

(1) «المخبتين»: مشتقة من «الإخبات» وأصلها «خبت» وهي الأرض المستوية الواسعة التي يمشي الإنسان فيها بكلّ سهولة، كما جاءت بمعنى الإطمئنان والخضوع، لأنّ السير في هذه الأرض يلازمه الإطمئنان، ولهذا تكون خاضعة مستسلمة للسائرين عليها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 301

الحج من المظاهر الجليّة لهذه العبادة التي أشرنا إلى فلسفتها من قبل.

ثم تضيف الآية: «لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ» فمن جهة تستفيدون من لحومها وتطعمون الآخرين، ومن جهة اخرى تستفيدون من آثارها المعنوية بإيثاركم وسماحكم وعبادتكم اللَّه، وبهذا تتقرّبون إليه سبحانه وتعالى.

ثم تبيّن الآية كيفية ذبح الحيوان: «فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ». أي: اذكروا اسم اللَّه حين ذبح الحيوان وفي حالة وقوفه مع نظائره في صفوف.

وليس لذكر اللَّه حين ذبح الحيوان أو نحر الناقة صيغة خاصة، بل يكفي ذكر اسم من أسماء اللَّه عليها، كما يبدو من ظاهر الآية.

«صوافّ»: جمع «صافّة» بمعنى الحيوان الواقف في صفّ، وكما ورد في الأحاديث فإنّ القصد من ذلك عقل رجلي الناقة الأماميّتين معاً حين وقوفها من أجل منعها

من الحركة الواسعة حين النحر، وطبيعي أنّ أرجل الناقة تضعف حين تنزف مقداراً من الدم، فتتمدّد على الأرض، ويقول القرآن المجيد هنا: «فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ». أي عندما تستقر ويهدأ جانبها (كناية عن لفظ الأنفاس الأخيرة) فكلوا منها وأطعموا الفقير القانع والسائل المعتر.

الفرق بين «القانع» و «المعتر» هو أنّ القانع يطلق على من يقنع بما يُعطى وتبدو عليه علائم الرضى والإرتياح ولا يعترض أو يغضب، أمّا المعترّ فهو الفقير السائل الذي يطالبك بالمعونة ولا يقنع بما تعطيه، بل يحتجّ أيضاً.

إنّ عبارة «كُلُوا مِنْهَا» توجب أن يأكل الحجّاج من أضاحيهم، ولعلّها ترمي إلى مراعاة المساواة بين الحجّاج والفقراء.

وتنتهي الآية بالقول: «كَذلِكَ سَخَّرْنهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». وإنّه لمن العجب أن يستسلم حيوان عظيم الجثّة هائل القوّة لطفل يعقل يديه معاً ثم ينحره.

تجيب الآية التالية عن هذه الأسئلة: «لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا». إنّ اللَّه ليس بحاجة إلى لحوم الأضاحي، فما هو بجسم، ولا هو بحاجة إلى شي ء، وإنّما هو موجد كل وجود وموجود. إنّ الغاية من الاضحية كما تقول الآية: «وَلكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ». فالهدف هو أن يجتاز المسلمون مراحل التقوى ليبلغوا الكمال ويتقربوا إلى اللَّه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 302

إنّ جميع العبادات دروس في التربية الإسلامية، فتقديم الاضحية- مثلًا- فيه درس الإيثار والتضحية والسماح والاستعداد للشهادة في سبيل اللَّه، وفيه درس مساعدة الفقراء والمحتاجين. وعبارة «لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا» مع أنّ دماءها غير قابلة للاستفادة، ربّما تشير إلى الأعمال القبيحة التي كان يمارسها أعراب الجاهلية، الذين كانوا يلطّخون أصنامهم وأحياناً الكعبة بدماء هذه القرابين.

وقد اتّبعهم في ممارسة هذا العمل الخرافي مسلمون جاهلون، حتى نهتهم هذه الآية المباركة.

ثم تشير الآية ثانيةً

إلى نعمة تسخير الحيوان قائلة: «كَذلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَيكُمْ».

إنّ الهدف الأخير هو التعرف على عظمة الخالق جلّ وعلا، لهذا تقول الآية في الختام:

«وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ». اولئك الذين استفادوا من هذه النعم الإلهية في طاعة اللَّه، وأنجزوا واجباتهم على خير وجه، ولم يقصّروا في الإنفاق في سبيل اللَّه أبداً.

وقد تؤدّي مقاومة خرافات المشركين التي أشارت إليها الآيات السابقة إلى إثارة غضب المتعصبين المعاندين، ووقوع إشتباكات محدودة أو واسعة، لهذا طمأن اللَّه سبحانه وتعالى المؤمنين بنصره: «إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا».

لتتّحد قبائل عرب الجاهلية مع اليهود والنصارى والمشركين في شبه الجزيرة العربية للضغط على المؤمنين كما يحلو لهم، فلن يتمكّنوا من بلوغ ما يطمحون إليه، لأنّ اللَّه وعد المؤمنين بالدفاع عنهم وعداً تجلّى صدقه في دوام الإسلام حتى يوم القيامة، ولا يختص الدفاع الإلهي عن المؤمنين في الصدر الأوّل للإسلام وحسب، بل هو ساري المفعول أبد الدهر، فإن كنّا على نهج الذين آمنوا. فالدفاع الإلهي عنّا أكيد. ومن ذا الذي لا يلتمس دفاع اللَّه سبحانه عن عباده الصالحين؟

وفي الختام توضّح هذه الآية موقف المشركين وأتباعهم بين يدي اللَّه بهذه العبارة الصريحة: «إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ». اولئك الذين أشركوا باللَّه حتى أنّهم ذكروا أسماء أوثانهم عند التلبية. فثبتت عليهم الخيانة والكفر لأنعم اللَّه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 303

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَ لَوْ لَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوَاتٌ وَ مَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ

مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ آتَوُا الزَّكَاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

أوّل حكم بالجهاد: في تفسير مجمع البيان (والتفسير الكبير أيضاً) كان المشركون يؤذون المسلمين ولا يزال يجي ء مشجوج ومضروب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويشكون ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيقول لهم صلوات اللَّه عليه وآله: «اصبروا فإنّي لم اؤمر بالقتال». حتى هاجر، فأنزل اللَّه عليه هذه الآية بالمدينة، وهي أوّل آية نزلت في القتال.

ولمّا وعد اللَّه المؤمنين بالدفاع عنهم في الآية السابقة يتّضح جيّداً الإرتباط بين هذه الآيات. تقول الآية: إنّ اللَّه تعالى أذن لمن يتعرّض لقتال الأعداء وعدوانهم بالجهاد، وذلك بسبب أنّهم ظلموا: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا». ثم أردفت بنصرة اللَّه القادر للمؤمنين «وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ».

عليكم بالجدّ والعمل بكل ما تستطيعون من قدرة، وعندما تستحقون النصر بإخلاصكم ينجدكم اللَّه وينصركم على أعدائه، وهذا ما حدث للرسول صلى الله عليه و آله في جميع حروبه التي كانت تُكلّل بالنصر.

ثم توضّح هذه الآيات للمظلومين- الذين أذن لهم بالدفاع عن أنفسهم- بواعث هذا الدفاع، ومنطق الإسلام في هذا القسم من الجهاد فتقول: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيرِهِم بِغَيْرِ حَقّ». وذنبهم الوحيد أنّهم موحّدون: «إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ».

ثم تستعرض الآية واحداً من جوانب فلسفة تشريع الجهاد فتقول: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا». أي إنّ اللَّه إن لم يدافع عن المؤمنين، ويدفع بعض الناس ببعضهم عن طريق الإذن بالجهاد،

مختصر الامثل، ج 3، ص: 304

لهدّمت أديرة وصوامع ومعابد اليهود والنصارى والمساجد التي يذكر فيها اسم اللَّه كثيراً.

وكل دعوة لعبادة اللَّه

وتوحيده مضادّة للجبابرة الذين يريدون أن يعبدهم الناس تشبّهاً منهم باللَّه تعالى، لهذا يهدّمون أماكن توحيد اللَّه وعبادته، وهذا من أهداف تشريع الجهاد والإذن بمقاتلة الأعداء. «الصوامع»: جمع «صومعة» وهي عادةً مكان خارج المدينة بعيد عن أعين الناس مخصّص لمن ترك الدنيا من الزهّاد والعبّاد. و «البِيَع»: جمع بيعة بمعنى معبد النصارى، ويطلق عليها كنيسة أيضاً. و «الصلوات»: جمع صلاة، بمعنى معبد اليهود، ويرى البعض أنّها معرّبة لكلمة «صلوتا» العبرية، التي تعني المكان المخصّص بالصلاة. وأمّا «المساجد»: فجمع مسجد، وهو موضع عبادة المسلمين. والصوامع والبيع، رغم أنّها تخصّ النصارى، إلّاأنّ إحداهما معبد عام والاخرى لمن ترك الدنيا.

وفي الختام أكّدت هذه الآية ثانية وعد اللَّه بالنصر: «وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ» ولا شكّ في إنجاز هذا الوعد، لأنّه من رب العزة القائل: «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ»، من أجل ألّا يتصوّر المدافعون عن خطّ التوحيد أنّهم وحيدون في ساحة قتال الحقّ للباطل، ومواجهة جموع كثيرة من الأعداء الأقوياء.

و آخر آية تفسّر المراد من أنصار اللَّه الذين وعدهم بنصره في الآية السابقة، وتقول:

«الَّذِينَ إِن مَّكَّنهُمْ فِى الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ».

إنّهم فئة لا تلهو ولا تلعب كالجبابرة بعد انتصارها، ولا يأخذها الكبر والغرور، إنّما ترى النصر سلّماً لإرتقاء الفرد والجماعة، إنّها لن تتحوّل إلى طاغوت جديد بعد وصولها إلى السلطة، لإرتباطها القوي باللَّه، والصلاة رمز هذا الإرتباط بالخالق، والزكاة رمز للإلتحام مع الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويّتان لبناء مجتمع سليم، وهذه الصفات الأربع تكفي لتعريف هؤلاء الأفراد، ففي ظلّها تتمّ ممارسة سائر العبادات والأعمال الصالحة، وترسم بذلك خصائص المجتمع المؤمن المتطوّر.

وتقول الآية في ختامها: «وَلِلَّهِ عقِبَةُ الْأُمُورِ». وتعني أنّ بداية أيّ

قدرة ونصر من اللَّه تعالى، وتعود كلّها في الأخير إليه ثانية.

وقد أشارت هذه الآيات إلى أمرين مهمّين في فلسفة الجهاد:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 305

أوّلهما: جهاد المظلوم للظالم، وهو من حقوقه المؤكدة والطبيعية، التي يؤكّدها عقل الإنسان وفطرته. وليس له أن يستسلم للظلم.

وثانيهما: جهاد الطواغيت الذين ينوون محو ذكر اللَّه من القلوب بتهديم المعابد التي هي مراكز لبثّ الوعي وإيقاظ الناس.

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عَادٌ وَ ثَمُودُ (42) وَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ (43) وَ أَصْحَابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَ هِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ (45)

لقد صدر أمر الجهاد للمسلمين بعد أن ذاقوا- كما ذكرت الآيات السابقة- وقد طمأنت الآيات- موضع البحث- الرسول صلى الله عليه و آله والمؤمنين وخفّفت عنهم من جهة، وبيّنت لهم أنّ العاقبة السيئة تنتظر الكفرة من جهة اخرى، فقالت: «وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ». أي إذا كذّبك هؤلاء القوم فلا تبتئس ولا تحزن، فالأقوام السابقة قد كذّبت رسلها أيضاً، وأضافت: «وَقَوْمُ إِبْرهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ».

وكذلك كذّب أهالي مدينة «مدين» نبيّهم «شعيب»، وكذّب فرعون وقومه نبيّهم «موسى» «وَأَصْحبُ مَدْيَنَ وَكُذّبَ مُوسَى .

وإنّ هذه المعارضة والتكذيب لن تؤثّر في روحك الطاهرة ونفسك المطمئنة، مثلما لم تؤثّر في أنبياء كبار قبلك ولم تعق مسيرتهم التوحيدية ودعوتهم إلى الحق والعدل قطّ.

إلّا أنّ هؤلاء الكفرة الأغبياء يتصورون إمكانية مواصلة هذه الأساليب المخزية.

«فَأَمْلَيْتُ لِلْكفِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ». أجل، أمهل اللَّه الكافرين ليؤدّوا إمتحانهم وليتمّ الحجة عليهم فأغرقهم بنِعَمه، ثم حاسبهم حساباً عسيراً. «فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ» «1» ورأيت كيف أنكرت

عليهم أعمالهم، وبيّنت لهم أعمالهم القبيحة، لقد سلبت منهم نعمتي وجعلتهم على أسوأ حال ... سلبت سعادتهم الدنيوية وعوّضتهم بالموت.

______________________________

(1) «النكير»: تعني الإنكار وهنا تعني فرض العقاب.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 306

آخر آية موضع البحث يبيّن اللَّه تعالى كيفية عقاب الكفار بجملة موجزة ذات دلالة واسعة: «فَكَأَيّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ». وأضافت الآية أنّ سقف بيوتها قد باتت أسفل البناء: «فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا». أي إنّ الواقعة كانت شديدة حتى أنّ السقوف إنهارت أوّلًا ثم الجدران على السقوف «وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ» فما أكثر الآبار المترعة بمياهها العذبة، ولكنّها غارت في الأرض بعد هلاك أصحابها فأصبحت معطّلة لا نفع فيها.

«وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ» «1». أجل ما أكثر القصور المشيدة التي إرتفعت شاهقة وزُيّنت، إلّاأنّها أضحت خرائب بعد أن هلك أصحابها، والنتيجة إنّهم تركوا مساكنهم وقصورهم المجللة، وأهملوا مياههم وعيونهم التي كانت مصدر حياتهم وعمران أراضيهم وذهبوا، وكذلك الآبار الغنيّة بالماء أصبحت معطّلة لا ماء فيها.

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَ هِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)

السير في الأرض والعبرة: تحدثت الآيات السابقة عن الأقوام الظالمة التي عاقبها اللَّه على ما إقترفت أيديهم فدمّر أحياءهم، وأكّدت الآية الاولى هذه القضيّة فقالت: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا».

أجل، تحدّثنا عن خرائب قصور الظلمة، ومنازل الجبابرة المهدّمة، وعبدة الدنيا.

إنّ هذه الخرائب كتب ناطقة تتحدّث عن ماضي هؤلاء الأقوام،

ونتائج أعمالهم وسلوكهم في الحياة، وعن أعمالهم المشؤومة، وأخيراً عن العقاب الذي صبّه اللَّه عليهم.

ولإيضاح حقيقة هذا الكلام بشكل أفضل قال القرآن المجيد: «فَإِنَّهَا لَاتَعْمَى الْأَبْصرُ

______________________________

(1) «المشيد»: مشتقة من «شيد» ذات معنيين: أوّلهما الإرتفاع، والثاني الجصّ، فتعني لفظة «قصر مشيد» القصرالمرتفع.

والمعنى الثاني القصر الذي بني على اسس ثابتة قويّة ليصان من حوادث الزمان، وبما أنّ معظم منازل ذلك العصر تبنى من الطين، فإنّ المنزل الذي يبنى بالجصّ يكون أقوى من هذه البيوت ويكون متميّزاً عنها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 307

وَلكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ».

إنّ الذين يفقدون بصرهم لا يفقدون بصيرتهم، بل تراهم أحياناً أكثر وعياً من الآخرين. أمّا العمي الحقيقيون فهم الذين تعمى قلوبهم، فلا يدركون الحقيقة أبداً. في تفسير القمي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «شرّ العمى، عمى القلب». وفي الكافي: «وأعمى العمى عمى القلب».

وترسم الآية الثانية- موضع البحث- صورة اخرى لجهل الأغبياء وعديمي الإيمان فتقول: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ» فردّ عليهم ألّا تعجلوا «وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ».

فلا فرق عنده بين الساعة واليوم والسنة: «وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ».

وفي آخر آية نجد تأكيداً على ما سبق أن ذكرته الآيات الآنفة الذكر من إنذار الكفار المعاندين بأنّه ما أكثر القرى والبلاد التي أمهلناها ولم ننزل العذاب عليها ليفيقوا من غفلتهم، ولمّا لم يفيقوا وينتبهوا أمهلناهم مرّة اخرى ليغرقوا في النعيم والرفاهية، وفجأةً نزل عليهم العذاب: «وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا».

إنّ اولئك الأقوام كانوا مثلكم يشكون من تأخّر العذاب عليهم، ويسخرون من وعيد الأنبياء، ولا يرونه إلّاباطلًا، إلّاأنّهم ابتلوا بالعذاب أخيراً ولم ينفعهم صراخهم أبداً «وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ». أجل كل الامور تعود إلى اللَّه، وتبقى جميع الثروات فيكون اللَّه

وارثها.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)

تحدثت الآيات السابقة عن تعجيل الكفر والعذاب الإلهي، وإنّ ذلك ليس من شأن النبي صلى الله عليه و آله وإنّما يرتبط بمشيئة اللَّه تعالى، فأوّل آية من الآيات أعلاه تقول: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

وترسم الآيتان التاليتان صورةً للبشرى واخرى للإنذار، لأنّ رحمة اللَّه واسعة، فتقدم على عقاب اللَّه. تتحدّث أوّلًا عن البشرى: «فَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ». يتطهّرون بماء المغفرة الإلهية أوّلًا، فتطمئن ضمائرهم، ثم تشملهم نعم اللَّه ورحمته.

عبارة «رزق كريم» ذات مفهوم واسع يضمّ جميع الأنعم المادية والمعنوية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 308

وأضافت الآية اللاحقة: «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِى ءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحبُ الْجَحِيمِ» «1». أي إنّ الذين حاولوا تخريب الآيات الإلهية ومحوها، وكانوا يعتقدون بأنّ لهم القدرة على مغالبة إرادة اللَّه المطلقة، فهم أصحاب الجحيم.

«جحيم»: من مادّة «جحم» بمعنى شدّة توقّد النار، وتقال كذلك لشدّة الغضب، فعلى هذا تطلق كلمة (الجحيم) على المكان المشتعل بالنيران، وهي هنا تشير إلى نار الآخرة.

وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)

وساوس الشياطين في مساعي

الأنبياء: تناولت الآيات السابقة محاولات المشركين والكفرة لمحو التعاليم الإلهية والإستهزاء بها، أمّا الآيات موضع البحث فقد تضمّنت تحذيراً مهمّاً حيث قالت: إنّ هذه المؤامرات ليست جديدة، فالشياطين دأبوا منذ البداية على إلقاء وساوسهم ضدّ الأنبياء. في البداية تقول الآية: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِىّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أمراً لصالح الدين والمجتمع وفكّر في خطّة لتطوير العمل «أَلْقَى الشَّيْطنُ فِى أُمْنِيَّتِهِ» إلّاأنّ اللَّه لم يترك نبيّه وحده إزاء إلقاءات الشياطين «فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطنُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايتِهِ». إنّ هذا العمل يسير على اللَّه تعالى، لأنّه عليم بجميع هذه المؤامرات الدنيئة، ويعرف كيف يحبطها «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

إلّا أنّ المؤامرات الشيطانية التي كان يحيكها المشركون والكفرة، كانت تشكّل ساحة لإمتحان المؤمنين والمتآمرين في آنٍ واحد، إذ تضيف الآية: «لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطنُ فِتْنَةً

______________________________

(1) «سعوا»: مشتقة من «السعي» وتعني في الأساس الهرولة، وهنا المحاولة في تخريب الآيات الإلهيةومحوها.

«المعاجزون»: مشتقة من «العجز» وتعني هنا الذي يحاول الغلبة على قدرة اللَّه غير المحدودة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 309

لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ». «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ» فهم بعيدون عن الحق لشدّة عداوتهم وعنادهم.

وكذلك الهدف من هذا البرنامج: «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ». وطبيعي أنّ اللَّه لا يترك المؤمنين الواعين المطالبين بحقوقهم والمدافعين عن الحق وحدهم في هذا الطريق الوعر «وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

إنّ كلمة الرسول تطلق على أنبياء لهم رسالات من اللَّه أمروا بنشرها بين الناس.

أمّا كلمة «النبي» وهو الذي ينبأ بالوحي الإلهي رغم أنّه لم يُكلّف بإبلاغه بشكل واسع.

وَ لَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ

يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)

تحدثت الآيات السابقة عن محاولات المخالفين في محو الآيات الإلهية، أمّا الآيات التي نقف في ضوئها، فأشارت إلى هذه المحاولات من قبل أشخاص متعصبين قساة. تقول الآية الاولى: «وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ». بديهي أنّ الآية هنا قصدت فئة من الكفار لا الكفار كلّهم، لأنّ الكثير منهم أسلموا والتحقوا بالنبي صلى الله عليه و آله وبصفوف المسلمين، قصدت الآية زعماء الكفار والمعاندين والمتعصبين بقوّة والحاقدين الذين لم يؤمنوا قطّ، واستمرّوا في عرقلة المسيرة الإسلامية.

وتعني كلمة «مرية» الشكّ والترديد، وتبيّن لنا الآية أنّ هؤلاء الكفرة لم يكونوا يوماً على يقين ببطلان الإسلام ودعوة النبي صلى الله عليه و آله بالرغم من إظهارهم لذلك في كلماتهم.

والمراد من «الساعة» ختام العالم وعشيّة يوم القيامة، والتي رافقت كلمة «بغتة».

ويقصد ب «عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ» عقاب يوم القيامة، وقد وصف يوم القيامة بالعقم لأنّه لا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 310

يوم يليه لينهض المرء للقيام بأعمال خيّرة تعوّض عمّا فاته وتؤثّر في مصيره. ثم أشارت الآية التالية إلى السيادة المطلقة لربّ العالمين يوم القيامة: «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ». وهذا أمر ملازم للَّه الحاكم الدائم والمالك المطلق، وليس ليوم القيامة فقط.

ولكن كل هذا يزول وتتّضح حقيقة وحدانية المالك والحاكم يومئذ.

وبما أنّ اللَّه هو المالك الحقيقي، فهو

إذن الحاكم الحقيقي، وتعمّ حكومته على المؤمنين والكافرين على السواء، ونتيجة ذلك كما يقول القرآن المجيد: «فَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِى جَنتِ النَّعِيمِ». الجنّات التي تتوفّر فيها جميع المواهب وكل الخيرات والبركات.

ويضيف القرآن الكريم: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ».

عذابٌ يذلّ الكفرة والذين كذّبوا بآيات اللَّه، اولئك الذين عاندوا اللَّه واستكبروا على خلقه يهينهم اللَّه.

وبما أنّ الآيات السابقة تناولت المهاجرين من الذين طردوا من ديارهم وسلبت أموالهم، لأنّهم قالوا: ربّنا اللَّه، ودافعوا عن شريعته، فقد اعتبرتهم الآية التالية مجموعة ممتازة جديرة بالرزق الحسن وقالت: «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

في تفسير القرطبي: سبب نزول هذه الآية أنّه لمّا مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبدالأسد، قال بعض الناس: من قتل في سبيل اللَّه أفضل ممّن مات حتف أنفه، فنزلت هذه الآية مسويّة بينهم، وأنّ اللَّه يرزق جميعهم رزقاً حسناً. وظاهر الشريعة يدلّ على أنّ المقتول أفضل.

وعرضت الآية الأخيرة صورة من هذا الرزق الحسن: «لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ». فإذا طردوا من منازلهم في هذه الدنيا ولاقوا الصعاب، فإنّ اللَّه يأويهم في منازل طيّبة في الآخرة ترضيهم من جميع الجهات.

وتنتهي هذه الآية بعبارة: «وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ». أجل، إنّ اللَّه عالم بما يقوم به عباده، وهو في نفس الوقت حليم لا يستعجل في عقابهم، من أجل تربية المؤمنين في ساحة الإمتحان هذه، وليخرجوا منها وقد صلب عودهم وإزدادوا تقرّباً إلى اللَّه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 311

ذلِكَ وَ مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَ يُولِجُ النَّهَارَ

فِي اللَّيْلِ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ الآية الاولى نزلت في قوم من مشركي مكة، لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، فقالوا:

إنّ أصحاب محمّد لا يقاتلون في هذا الشهر. فحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا، فأظفر اللَّه المسلمين بهم.

التّفسير

من هم المنتصرون؟ حدّثتنا الآيات السابقة عن المهاجرين في سبيل اللَّه، وما وعدهم اللَّه من رزق حسن يوم القيامة. ومن أجل ألّا يتصور المرء أنّ الوعد الإلهي يختص بالآخرة فحسب، تحدّثت الآية- موضع البحث- في مطلعها عن إنتصارهم في ظل الرحمة الإلهية في هذا العالم: «ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ». إشارة إلى أنّ الدفاع عن النفس ومجابهة الظلم حق طبيعي لكل إنسان.

وبما أنّ الوعد بالنصر الذي يقوي القلب لابدّ وأن يصدر من مقتدر على ذلك. لهذا تستعرض الآية قدرة اللَّه في عالم الوجود التي لا تنتهي، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ». فما أن يقل من أحدهما حتى يزداد في الآخر وفق نظام مدروس.

«يولج»: مشتقة من «الإيلاج» وهو في الأصل من الولوج أي الدخول، وهذه العبارة تشير إلى التغييرات التدريجية المنظّمة تنظيماً تامّاً، كمسألة الليل والنهار، فما يقلّ أحدهما إلّاليزداد الآخر على مدى فصول السنة.

وتنتهي الآية ب «وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ». أجل، إنّ اللَّه يلبّي حاجة المؤمنين، ويطّلع على حالهم وأعمالهم، ويعينهم برحمته عند اللزوم، مثلما يطّلع على أعمال ومقاصد أعداء الحق.

و آخر آية من الآيات السالفة الذكر في الواقع

دليل على ما مضى، حيث تقول: «ذلِكَ بِأَنَ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 312

اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ».

إن شاهدتم إنتصار الحق وهزيمة الباطل، فإنّ ذلك بلطف اللَّه الذي ينجد المؤمنين ويترك الكافرين لوحدهم. إنّ المؤمنين ينسجمون مع قوانين الوجود العامة، بعكس الكافرين الذين يكون مآلهم إلى الفناء والعدم بمخالفتهم تلك القوانين.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَ هُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)

دلائل اللَّه في ساحة الوجود: تحدّثت الآيات السابقة عن قدرة اللَّه غير المحدودة وأنّه الحق المطلق، وبيّنت هذه الآيات الأدلّة المختلفة على هذه القدرة الواسعة والحق المطلق وتقول أوّلًا: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً».

لقد اخضّرت الأرض المرتدية رداء الحزن- من أثر الجفاف- بعد ما نزل المطر عليها، فأصبحت تسرّ الناظرين. أجل «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ». «لطيف»: مشتقة من «اللطف» بمعنى العمل الجميل الذي يمتاز برقّته؛ وكلمة «الخبير»: تعني المطّلع على الامور الدقيقة.

يرسل اللَّه المطر بقدرة وبخبرة منه، فإن زاده صار سيلًا، وإن نقصه كثيراً ساد الجفاف في الأرض.

الآية التالية تعرض علامة اخرى على قدرة اللَّه غير المتناهية، وهو قوله سبحانه وتعالى: «لَّهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

فهو سبحانه خالق الجميع ومالكهم، وبهذا الدليل يكون قادراً

عليهم، لذا فهم يحتاجون إليه جميعاً، ولا يحتاج هو إلى شي ء أو إلى أحد.

ويزداد هذا المعنى إشراقاً في قوله سبحانه: «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ».

والتحام صفتي الغني والحميد جاء في غاية الإحكام، لأنّ عدداً كبيراً من الناس أغنياء،

مختصر الامثل، ج 3، ص: 313

إلّاأنّهم بخلاء يستغلّون الآخرين ويعملون لذاتهم فقط، أمّا غنى اللَّه سبحانه فهو مزيج من اللطف والسماح والجود والكرم، لذا استحقّ الحمد والثناء من عباده.

وتشير الآية التالية إلى نموذج آخر من تسخير اللَّه تعالى الوجود للإنسان «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الْأَرْضِ» وجعل تحت اختياركم جميع المواهب والإمكانات فيها لتستفيدوا منها بأيّ صورة تريدون، وكذلك جعل السفن والبواخر التي تتحرّك وتمخر عباب البحار بأمره نحو مقاصدها. «وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ». إضافةً إلى «وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ». وذلك من رحمة اللَّه لعباده ولطفه بهم، وهذا ما نلمسه في ختام الآية المباركة: «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ».

وتتناول الآية الأخيرة أهمّ قضية في الوجود، أي قضية الحياة والموت فتقول: «وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ». أي كنتم تراباً لا حياة فيه فألبسكم لباس الحياة «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» وبعد إنقضاء دورة حياتكم يميتكم «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ». أي يمنحكم حياة جديدة يوم البعث.

وتبيّن الآية ميل الإنسان إلى نكران نِعم اللَّه عليه قائلة: «إِنَّ الْإِنسنَ لَكَفُورٌ». فرغم كل ما أغدق اللَّه على الإنسان من أنعم في الأرض والسماء، في الجسم والروح، لا يحمده ولا يشكره عليها، بل يكفر بكلّ هذه النعم. ومع أنّه يرى كل الدلائل الواضحة والبراهين المؤكّدة لوجود اللَّه تبارك وتعالى، والشاهدة بفضله عليه وإحسانه إليه ينكر ذلك. فما أظلمه وأجهله.

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَ ادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى

هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَ إِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)

لكل امّة عبادة: تناولت البحوث السابقة المشركين خاصة، ومخالفي الإسلام عامة، ممّن جادلوا فيما أشرق به الإسلام من مبادى ء نسخت بعض تعاليم الأديان السابقة، وكانوا يرون من ذلك ضعفاً في الشريعة الإسلامية، وقوة في أديانهم، في حين أنّ ذلك لا يشكّل ضعفاً إطلاقاً، بل هو نقطة قوّة ومنهج لتكامل الأديان ولذا جاء الفصل الرباني جلّياً «لِّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ». «المناسك»: جمع «منسك» أي مطلق العبادات، ومن

مختصر الامثل، ج 3، ص: 314

الممكن أن تشمل جميع التعاليم الإلهية. لهذا فإنّ الآية تبيّن أنّ لكل امّة شرعة ومنهاجاً يفي بمتطلّباتها بحسب الأحوال التي تعيشها، لكن ارتقاءها يستوجب تعاليم جديدة تلبّي مطامحها المترقية، وهذا ما صدعت به الآية المباركة وأنارته قائلة: «فَلَا يُنزِعُنَّكَ فِى الْأَمْرِ». فبما تقدّم لا ينبغي لهم منازعتك في هذا الأمر. «وَادْعُ إِلَى رَبّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٌ». تخاطب الآية النبي صلى الله عليه و آله أن يا أيّها النبي لا يؤثّر هؤلاء في دعوتك الراشدة باعتراضاتهم الضالة، فالمهتدي إلى الصراط المستقيم أقوى من الضارب في التيه.

ثم أضافت الآية: «وَإِن جدَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ». فلو استمرّوا في جدالهم ومنازعتهم معك، ولم يؤثّر فيهم كلامك.

فقل لهم: إنّ اللَّه أعلم بأعمالكم، وستحشرون إليه في يوم يعود الناس فيه إلى التوحيد، وتحلّ جميع الإختلافات لظهور الحقائق لجميع الناس: «اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».

وبما أنّ القضاء بين العباد يوم القيامة

بحاجة إلى علم واسع بهم وإطّلاع دقيق بأعمالهم، ختمت الآيات هاهنا بقوله تعالى:

«أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ». و «إِنَّ ذلِكَ فِى كِتبٍ». أجل، إنّ جميع ذلك قد ثبت في كتاب علم اللَّه الذي لا حدود له، كتاب عالم الوجود وعالم العلة والمعلول، عالم لا يضيع فيه شي ء، فهو في تغيير دائم، وكل هذه الموجودات حاضرة بين يدي اللَّه سبحانه بجميع صفاتها وخصائصها، وهذا من معاني القدرة الإلهية التي نلمسها في قوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ».

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 315

معبودات أضعف من ذبابة: تابعت هذه الآيات الأبحاث السابقة عن التوحيد والشرك، فتحدثت ثانية عن المشركين وأفعالهم الخاطئة، فتقول الآية الاولى: «وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطنًا». وهذا يبيّن بطلان عقيدة الوثنيين الذين كانوا يرون أنّ اللَّه سمح لهم بعبادة الأوثان وأنّها تشفع لهم عند اللَّه. وتضيف الآية «وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ». أي: يعبدون عبادةً لا يملكون دليلًا على صحّتها لا من طريق الوحي الإلهي، ولا من طريق الاستدلال العقلي،

ومن لا يعمل بدليل يظلم نفسه وغيره، ولا أحد يدافع عنه يوم الحساب، لهذا تقول الآية في ختامها: «وَمَا لِلظلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ».

وتشير الآية الثانية- موضع البحث- إلى عناد الوثنيين وإستكبارهم عن الإستجابة لآيات اللَّه تعالى، في جملة وجيزة لكنها ذات دلالات كبيرة: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ».

وهنا يسفر التناقض بين المنطق القرآني القويم وتعصب الجاهلية الذي لا يرضخ للحق ولا يفتح قلبه لندائه الرحيم، فما تليت عليهم آيات ربّهم إلّاظهرت علائم الإستكبار عنها في وجوههم حتى إنّهم «يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا».

أي كأنّهم يريدون مهاجمة الذين يتلون عليهم آيات اللَّه عزّ وجل وضربهم بقبضات أيديهم، تنفيساً عن التكبّر البغيض في قرارة أنفسهم.

«يسطون»: مشتقة من «السطوة» أي رفع اليد ومهاجمة الطرف الآخر.

وقد أمر القرآن المجيد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أن يجيب هؤلاء المتغطرسين هاتفاً «قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلِكُمُ النَّارُ». أي: إن زعمتم أنّ هذه الآيات البينات شرّ، لأنّها لا تنسجم مع أفكاركم المنحرفة، فإنّني اخبركم بما هو شرّ منها، ألا وهو عقاب اللَّه الأليم، النار التي أعدّها اللَّه جزاءً: «وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

وترسم الآية الآتية صورة معبّرة لما كان عليه الوثنيون، وما يعبدونه من أشياء ضعيفة هزيلة تكشف عن بطلان آراء المشركين وعقيدتهم، مخاطبةً للناس جميعاً خطاباً هادياً أن «يَا أيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ» وتدبّروا فيه جيّداً «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ». أجل، لو إجتمعت الأوثان كلها، وحتى العلماء والمفكّرين والمخترعين جميعاً، لما استطاعوا خلق ذبابة. فكيف تجعلون أوثانكم شركاء لخالق السماوات والأرض وما فيهن من آلاف مؤلّفة من أنواع المخلوقات في البرّ والبحر،

في الصحاري والغابات، وفي أعماق الأرض؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 316

وتستكمل الآية البيان عن ضعف الأوثان وعجزها المطلق وأنّها ليست غير قادرة على خلق ذبابة فحسب، بل «وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيًا لَّايَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ».

ويعلو صدى الحق في تقرير ضعف الوثن وعبدته في قوله تعالى: «ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ».

وبعد أن عرض القرآن الكريم هذا المثال الواضح، قرّر حقيقة مهمة، وهي: «مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ».

فالمشركون لو كانوا على أدنى معرفة باللَّه تعالى لما أنزلوا قدره إلى مستوى هذه الآلهة الضعيفة العاجزة ولما جعلوا مصنوعاتهم شركاء له، تعالى عما يفعلون علواً كبيراً، ولو كان لديهم أدنى معرفة بقدرة اللَّه لضحكوا من أنفسهم وسخروا من أفكارهم، وتقول الآية في النهاية: «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ». أجل، إنّ اللَّه قادر على كل شي ء ولا مثيل لقدرته ولا حدّ، فهو ليس كآلهة المشركين التي لو إجتمعت لما تمكّنت من خلق ذبابة، بل ليس لها القدرة على إعادة ما سلبه الذباب منها.

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَ جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (78)

سبب النّزول

في التفسير الكبير: قال الوليد بن المغيرة: أأنزل عليه الذكر من بيننا؟ فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية «اللَّهُ يَصْطَفِى

مِنَ الْمَلِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 317

التّفسير

بما أنّ الآيات السابقة تناولت بحث التوحيد والشرك وآلهة المشركين الوهميّة، وبما أنّ بعض الناس قد اتّخذوا الملائكة أو بعض الأنبياء آلهة للعبادة، فإنّ أوّل الآيات موضع البحث تقول بأنّ جميع الرسل هم عباد اللَّه وتابعون لأمره: «اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ».

أجل، إختار اللَّه من الملائكة رسلًا كجبرئيل، ومن البشر رسلًا كأنبياء اللَّه الكبار.

وختام الآية: «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ». أي: إنّ اللَّه ليس كالبشر، لا يعلمون أخبار رسلهم في غيابهم، بل إنّه على علم بأخبار رسله لحظة بعد اخرى، يسمع كلامهم ويرى أعمالهم.

وتشير الآية الثانية إلى مسؤولية الأنبياء في إبلاغ رسالة اللَّه من جهة، ومراقبة اللَّه لأعمالهم من جهة اخرى، فتقول: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ». إنّه يعلم ماضيهم ومستقبلهم «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ». فالجميع مسؤولون في ساحة قدسه.

ليعلم الناس أنّ ملائكة اللَّه سبحانه وأنبياءه عليهم السلام عباد مطيعون له مسؤولون بين يديه، لا يملكون إلّاما وهبهم من لطفه، وقوله تعالى: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» إشارة إلى واجب ومسؤولية رسل اللَّه ومراقبته سبحانه لأعمالهم.

الآيتان التاليتان هما آخر آيات سورة الحج حيث تخاطبان المؤمنين وتبيّنان مجموعة من التعاليم الشاملة التي تحفظ دينهم ودنياهم وإنتصارهم في جميع الميادين، وبهذه الروعة والجمال تختتم سورة الحج. في البداية تشير الآية إلى أربعة تعليمات: «يَا أيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». وقد بيّنت الآية ركنين من أركان الصلاة، الركوع والسجود لأهميّتهما الاستثنائية في هذه العبادة العظيمة.

ثم يصدر اللَّه أمره الخاص بالجهاد بالمعنى الشامل للكلمة، فيقول عزّ من قائل: «وَجهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ».

والمراد بالجهاد هي كل نوع من الجهاد في سبيل اللَّه والإستجابة له

وممارسة أعمال البرّ والجهاد مع النفس (الجهاد الأكبر) وجهاد الأعداء والظلمة (الجهاد الأصغر).

ولا شكّ في أنّ حق الجهاد له معنىً واسع يشمل الكيف والنوع والمكان والزمان وسواها.

ولكن قد يثار سؤال هو: كيف يتحمل الجسم النحيف هذه الأعمال من المسؤوليات

مختصر الامثل، ج 3، ص: 318

والتعليمات الشاملة الواسعة؟ ولهذا تجيب بقية الآية الشريفة فتقول أوّلًا: «هُوَ اجْتَبكُمْ». أي: حمّلكم هذه المسؤوليات بإختياركم من بين خلقه.

والعبارة الاخرى قوله جلّ وعلا: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ». أي: إذا دقّقتم جيّداً لم تجدوا صعوبة في التكاليف الربّانية لإنسجامها مع فطرتكم التي فطركم اللَّه عليها، وهي الطريق إلى تكاملكم.

وثالث عبارة: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرهِيمَ».

إنّ إطلاق كلمة «الأب» على إبراهيم عليه السلام، إمّا بسبب كون العرب والمسلمين آنذاك من نسل إسماعيل عليه السلام غالباً، وإمّا لكون إبراهيم عليه السلام هو الأب الروحي للموحدين جميعاً.

ويليها تعبير: «هُوَ سَمكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هذَا». أي هو سمّاكم المسلمين في الكتب السماوية السابقة.

وخامس عبارة خصّ بها المسلمين وجعلهم قدوة للُامم الاخرى هي قوله المبارك: «لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ».

وكون الرسول صلى الله عليه و آله شاهداً على جميع المسلمين يعني إطلاعه على أعمال امّته. فجميع الامة شهداء، والأئمة الطاهرين شهود ممتازون على هذه الامة.

وأعادت الآية في ختامها بشكل مركّز الواجبات الخمسة في ثلاث جمل هي «فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ». فإنّ اللَّه هو قائدكم وناصركم ومعينكم: «هُوَ مَوْلكُمْ» و «فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ». أي: إنّ اللَّه أمركم بالإعتصام به لكونه خير الموالي وأجدر الأعوان.

«نهاية تفسير سورة الحج»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 319

23 سورة المؤمنون

محتوي السورة: يمكن تقسيم مواضيع هذه السورة إلى الأقسام التالية:

1- إنّ السورة يبدأ بالآية «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» وينتهي بعدد

من الآيات التي تذكر صفات هي مدعاة لفلاح المؤمنين.

2- وأشار هذه السورة إلى علائم اخرى للمؤمنين، التوحيد وآيات عظمة اللَّه وجلاله في عالم الوجود.

3- وشرح ما حدث لعدد من كبار الأنبياء.

4- ووجّه الخطاب سبحانه وتعالى إلى المستكبرين يحذّرهم ببراهين منطقيّة تارةً، واخرى بتعابير دافعة عنيفة، ليعيد القلوب إلى طريق الصواب بالعودة إليه عزّ وجلّ.

5- ثم بيّن في بحث مركّز المعاد.

6- وتناول قسم آخر سيادة اللَّه على عالم الوجود، وإطاعة العالم ولأوامره.

7- بحثت هذه السورة عن حساب يوم القيامة، وجزاء الخير للمحسنين، وعقاب المذنبين. وينتهي السورة ببيان الغاية من خلق الإنسان.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة المؤمنين ختم اللَّه له بالسعادة إذا كان يدمن قراءتها في كل جمعة، وكان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيين والمرسلين».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 320

ونؤكّد أنّ فضيلة السورة، إنّما يجب أن يرافق ذلك التمعّن في معانيها والعمل بما أوجبته، لأنّ هذا الكتاب يبني الذات الإنسانية ويربّيها.

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العَادُونَ (7) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)

صفات المؤمنين البارزة: اختيار اسم المؤمنين لهذه السورة لأنّه جاء في بدايتها آيات شرحت بعبارات وجيزة معبّرة صفات المؤمنين، ومما يلفت النظر أنّها أشارت إلى مستقبل المؤمنين السعيد قبل بيان صفاتهم، إستنارةً للشوق

في قلوب المسلمين للوصول إلى هذا الفخر العظيم بإكتساب صفة المؤمنين. تقول الآية: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ».

«أفلح»: مشتقة من الفلح والفلاح، وتعني في الأصل الحرث والشقّ، ثم اطلقت على أيّ نوع من النصر والوصول إلى الهدف والسعادة بشكل عام، ولكلمة الفلاح معنىً واسعاً يضمّ الفلاح المادي والمعنوي، ويكون الإثنان للمؤمنين.

ثم تشرح الآية هذه الصفات فتؤكّد قبل كل شي ء على الصلاة فتقول: «الَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خشِعُونَ». «خاشعون»:

مشتقة من خشوع، بمعنى التواضع وحالة التأدّب يتخذها الإنسان جسماً وروحاً بين يدي شخصية كبيرة، أو حقيقة مهمة تظهر في الإنسان وتبدو علاماتها على ظاهر جسمه.

والقرآن اعتبر الخشوع صفة المؤمنين، وليس إقامة الصلاة، إشارة منه إلى أنّ الصلاة ليست مجرد ألفاظ وحركات لا روح فيها ولا معنى، وإنّما تظهر في المؤمن حين إقامة الصلاة حالة توجّه إلى اللَّه تفصله عن الغير وتلحقه بالخالق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 321

وروي- في تفسير مجمع البيان- أنّ النبي صلى الله عليه و آله رأى رجلًا يعبث بلحيته في صلاته، فقال: «أما إنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه».

إشارة منه صلى الله عليه و آله إلى أنّ الخشوع الباطني يؤثّر في ظاهر الإنسان.

وثاني صفة للمؤمنين بعد الخشوع مما تذكره الآية: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ».

حقّاً نرى جميع حركات وسكنات المؤمنين تتجّه لهدف واحد مفيد وبنّاء.

وتشير الآية الرابعة إلى ثالث صفة من صفات المؤمنين الحقيقيين، وهي ذات جانب إجتماعي ومالي حيث تقول: «وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوةِ فعِلُونَ».

ورابع صفة من صفات المؤمنين هي الطهارة والعفة بشكل تام، وإجتناب أي معصية جنسية، حيث تقول الآية: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حفِظُونَ» «1». يحفظونها ممّا يخالف العفّة «إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ».

بما أنّ الغريزة الجنسية أقوى الغرائز عند الإنسان

تمرّداً، ولضبط النفس عنها يحتاج المرء إلى التقوى والإيمان القوي، لهذا أكدّت الآية التالية على هذه المسألة: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ».

إنّ عبارة المحافظة على «الفروج» قد تكون إشارة إلى أنّ فقدان المراقبة المستمرة في هذا المجال تؤدّي بالفرد إلى خطر التلوّث بالانحرافات الكثيرة.

وأشارت الآية الثامنة- موضع البحث- إلى الصفتين الخامسة والسادسة من صفات المؤمنين البارزة، حيث تقول: «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ».

إنّ المحافظة على «الأمانة» بالمعنى الواسع للكلمة، وكذلك الالتزام بالعهد والميثاق بين يدي الخالق والخلق من صفات المؤمنين البارزة، وتعني الأمانة بمفهومها الواسع أمانة اللَّه ورسوله إضافة إلى أمانات الناس، وكذلك ما أنعم اللَّه على خلقه. وتضمّ أيضاً أمانة اللَّه الدين الحق والكتب السماوية وتعاليم الأنبياء القدماء، وكذلك الأموال والأبناء والمناصب جميعها أمانات اللَّه سبحانه وتعالى بيد البشر.

وهكذا أنّ الحكومة وديعة إلهية مهمة جدّاً يجب إيداعها بيد من هو أهلها.

وبيّنت الآية التاسعة من الآيات موضع البحث آخر صفة من صفات المؤمنين حيث تقول: «وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوتِهِمْ يُحَافِظُونَ».

______________________________

(1) «الفروج»: جمع فرج، وهو كناية عن الجهاز التناسلي.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 322

وممّا يلفت النظر أنّ أوّل صفة للمؤمنين كانت الخشوع في الصلاة، وآخرها المحافظة عليها، لأنّ الصلاة أهمّ رابطة بين الخالق والمخلوق، وأغنى مدرسة للتربية الإنسانية.

وإنّ الصلاة إن اقيمت على وفق آدابها اللازمة، أصبحت أرضية أمينة لأعمال الخير جميعاً.

بعد بيان هذه الصفات الحميدة، بيّنت الآية التالية حصيلة هذه الصفات فقالت: «أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ».

اولئك الذين يرثون الفردوس ومنازل عالية وحياة خالدة: «الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خلِدُونَ». «الفردوس»: الجنة العالية، وأفضل البساتين.

إنّ هذه المنزلة العالية- حسب ظاهر الآيات المذكورة أعلاه- خاصة بالمؤمنين الذين لهم هذه الصفات، ونجد أهل الجنة الآخرين في منازل أقلّ أهمية

من هؤلاء المؤمنين.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)

مراحل تكامل الجنين في الرحم: تبيّن الآيات موضع البحث- وقسم من الآيات التالية لها- السبيل لكسب الإيمان والمعرفة، حيث يمسك القرآن بيد الإنسان ليأخذه إلى «عالم النفس» وليكشف له أسرار باطنه وهو «السير الأنفسي»، وتثير الآيات التالية لها إنتباه الإنسان إلى عالم الظاهر والمخلوقات المدهشة في عالم الوجود وسير عالم الآفاق، وهو «السير الآفاقي».

تقول الآيات أوّلًا: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسنَ مِن سُللَةٍ مّن طِينٍ» «1».

وتضيف الآية التالية: «ثُمَّ جَعَلْنهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ».

وفي الواقع فإنّ الآية الاولى تشير إلى بداية وجود جمع البشر من آدم وأبنائه وأنّهم خلقوا جميعاً من التراب، إلّاأنّ الآية التالية تشير إلى تداوم واستمرارية نسل الإنسان بواسطة تركيب نطفة الذكر ببويضة الانثى في الرحم.

______________________________

(1) «السلالة»: تعني الشي ء الذي يستخلص من شي ء آخر، وهي في الحقيقة خلاصة ونتيجة منه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 323

والتعبير عن الرحم ب «قرار مكين»، أي القرار الآمن، إشارة إلى أهمية الرحم في الجسم، حيث يقع في مكان أمين محفوظ من جميع الجهات، يحفظه العمود الفقري من جهة، وعظم الحوض القوي من جهة اخرى، وأغشية البطن العديدة من جهة ثالثة، ودفاع اليدين يشكّل حرزاً رابعاً له، وكل ذلك شواهد على موضع الرحم الآمن.

ثم تشير الآية الثالثة إلى المراحل المدهشة والمثيرة لتدرّج النطفة في مراحلها المختلفة، واتخاذها شكلًا معيّناً في كل منها في ذلك القرار المكين، حيث تقول: إنّنا جعلنا

من تلك النطفة على شكل قطعة دم متخثّر (علقة) ثم بدّلناها على شكل قطعة لحم ممضوغ (مضغة)، ثم جعلنا من هذه المضغة عظاماً، وأخيراً ألبسنا هذه العظام لحماً: «ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظمًا فَكَسَوْنَا الْعِظمَ لَحْمًا».

وفي الختام أشارت الآية إلى آخر مرحلة والتي تعتبر- في الحقيقة- أهمّ مرحلة في خلق البشر، بعبارة عميقة وذات معنى كبير: «ثُمَّ أَنشَأْنهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخلِقِينَ». مرحباً بهذه القدرة الفريدة، التي خلقت في ظلمات الرحم هذه الصورة البديعة، وصاغت من قطرة ماء كل هذه الامور المدهشة.

طوبى لهذا العلم والحكمة والتدبير، الذي خلق في هذا الموجود البسيط كل هذه القابليات والجدارة، تعالى اللَّه فقد تجلّت قدرته فيما خلق.

وتنتقل الآية التالية من تناول مسألة التوحيد ومعرفة المبدأ- بشكل دقيق وجميل- إلى مسألة المعاد حيث تقول: «ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذلِكَ لَمَيّتُونَ».

ومن أجل أن لا يعتقد المرء بأنّ الموت نهاية كل شي ء، تقول الآية: «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ تُبْعَثُونَ». أي إنّ خلقكم بهذه الصورة المدهشة لم يكن عبثاً أو لتعيشوا أيّاماً معدودات، فتضيف الآية أنّكم ستبعثون يوم القيامة في مستوى أعلى وفي عالم أوسع.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَ مَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَ أَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)

مختصر

الامثل، ج 3، ص: 324

مرّة اخرى مع علائم التوحيد: تحدثت الآيات السابقة عن آيات اللَّه العظيمة في وجودنا، وتناولت هذه الآيات بعدها عالم الظاهر وآفاق الكون وعظمة خلق الأرض والسماوات، حيث قالت الآية الاولى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ».

فإنّ الآية تعني طبقات السماء السبع.

وربّما يتوهّم أنّ العالم بهذه السعة والعظمة ألا يوجب أن يغفل اللَّه تعالى عن إدارته؟

فتجيب الآية مباشرةً: «وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غفِلِينَ».

وأشارت الآية التالية إلى أحد مظاهر القدرة الإلهية، الذي يعتبر من بركات السماوات والأرض، ألا وهو المطر، حيث تقول:

«وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ».

ثم أشارت الآية إلى قضيّة أكثر أهميّة، هي قضية إحتياطي المياه الجوفية فتقول: «فَأَسْكَنهُ فِى الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقدِرُونَ».

نحن نعلم أنّ القشرة السطحية من الأرض تتكوّن من طبقتين مختلفتين:

إنّ اللَّه الرحيم جعل القشرة الاولى من سطح الأرض نافذةً، وتليها قشرة غير نافذة تحافظ على المياه الجوفية، فتكون احتياطاً للبشر يستخرجها عند الحاجة عن طريق الآبار، أو تخرج بذاتها عن طريق العيون، دون أن تفسد أو توجّه للإنسان أقلّ أذى «1».

وتشير الآية التالية إلى الخير والبركة في نعمة المطر، أي المحاصيل الزراعية الناتجة عنه فتقول: «فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنتٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنبٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ». فمضافاً إلى التمر والعنب اللذين يعتبران أهمّ المحاصيل الزراعية فانّ فيها أنواع اخرى من الفواكه كثيرة.

وممّا يلفت النظر من الآيات أعلاه أنّ منشأ حياة الإنسان في ماء النطفة، ومنشأ حياة النبات من ماء المطر، وفي الحقيقة ينبع هذان النموذجان للحياة من الماء.

ثم تشير الآية التالية إلى شجرة مباركة اخرى نمت من ماء المطر، إضافةً إلى بساتين النخيل والكروم والأشجار والفاكهة الاخرى: «وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لّلْأَكِلِينَ» «2».

إنّ

جملة «طُورِ سَينَاءَ» إشارة إلى جبل الطور المعروف في صحراء سيناء أو ذات جانب

______________________________

(1) ويجب ملاحظة أنّ الماء الملوّث يصفى عند مروره من القشرة النافذة في معظم الأوقات.

(2) صبغ الآكلين: غذاء يؤكل مع الخبز.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 325

وصفي يعني الجبل ذي الخيرات، أو الجبل ذي الأشجار الكثيرة، أو الجبل الجميل (لأنّ «الطور» يعني الجبل، و «سيناء» تعني ذات البركة والجمال والشجر).

«صبغ»: تعني في الأصل اللون، وبما أنّ الإنسان يلوّن خبزه مع المرق، لهذا اطلق على جميع أنواع المرق اسم الصبغ.

بعد بيان جانب من أنعم اللَّه في عالم النبات التي تنمو على المطر، يلي ذلك بحث جانب مهم من أنعم اللَّه وهباته في عالم الحيوان:

«وَإِنَّ لَكُمْ فِى الْأَنْعمِ لَعِبَرةً».

ثم تشرح الآية «العبرة» فتقول: «نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهَا». أجل إنّ الحيوان يدرّ حليباً لذيذاً يعتبر غذاءً كاملًا، ويمنح الجسم حرارة كبيرة، ويخرج الحليب من بين الدم على شكل دفعات كما ينزف الدم، لتعلموا قدرة اللَّه حيث يتمكّن من خلق غذاء طاهر لذيذ من بين أشياء تبدو ملوّثة.

ثم تضيف الآية: «وَلَكُمْ فِيهَا مَنفِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ».

كما يستفاد من الحيوانات في الركوب في البرّ، والسفن في البحر «وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ».

كل هذه الخصائص والفوائد في الحيوان تعتبر- حقّاً- عبرة لنا، تعرّف الإنسان على ما خلق اللَّه من أنعم، كما تثير فيه الشعور بالشكر والثناء على اللَّه.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ

جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)

منطق الجبناء المغرورين: تحدثت الآيات السابقة عن التوحيد ومعرفة اللَّه وأسباب عظمته في عالم الخليقة، أمّا الآيات- موضع البحث والآيات المقبلة- فقد تناولت نفس الموضوع على لسان كبار الأنبياء ومن خلال تاريخ حياتهم، حيث بدأت بأوّل أنبياء اولي العزم والمنادي بالتوحيد نوح عليه السلام: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ». أي: مع هذا البيان الواضح كيف لا تجتنبون عبادة الأوثان؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 326

أمّا الأشراف الأثرياء والمغرورون والملأ من الناس، وهم اللذين يملأون العين في ظاهرهم، والفارغون في واقعهم من قوم نوح عليه السلام: «فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هذَا إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ». وبهذا اعتبروا أوّل عيب له كونه إنساناً فاتّهموه بالسلطوية، وحديثه عن اللَّه والتوحيد والدين والعقيدة مؤامرة لتحقيق أهدافه، ثم أضافوا: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلِكَةً». ولإتمام هذا الاستدلال الخاوي قالوا: «مَّا سَمِعْنَا بِهذَا فِى ءَابَائِنَا الْأَوَّلِينَ».

إلّا أنّ هذا الكلام الفارغ لم يؤثّر في معنويات هذا النبي الكبير، حيث واصل دعوته إلى اللَّه، ولم يكن في عمله دليل على رغبته في الحصول على إمتياز على الآخرين، أو أن يتسلط عليهم، لهذا لجأوا إلى توجيه تهمة اخرى إليه، هي الجنون الذي كان يتّهم به جميع أنبياء اللَّه عبر التاريخ، حيث قالوا: «إِن هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ».

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)

خاتمة حياة قوم معاندين: استعرضت الآيات السابقة التهم التي وجّهها أعداء نوح عليه السلام إليه، إلّاأنّه يستدلّ من آيات قرآنية اخرى- بشكل واضح- أن أذى القوم المعاندين لنوح عليه السلام لم يتحدّد بهذه الامور، بل شمل كل وسيلة يمكن بها إيذاؤه، في حين بذل جميع ما في وسعه في سبيل هدايتهم وإنقاذهم من براثن الشرك والكفر. وعندما يئس منهم حيث لم يؤمن بما جاء به إلّامجموعة صغيرة، دعا اللَّه ليعينه، حيث نقرأ في الآية الاولى: «قَالَ رَبّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ».

هنا نزل الوحي الإلهي، من أجل التمهيد لإنقاذ نوح عليه السلام وأصحابه القلّة وهلاك المشركين المعاندين «فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 327

إنّ عبارة «بأعيننا» إشارة إلى أنّ سعيك في هذا السبيل سيكون تحت حمايتنا.

وإستعمال عبارة «وحينا» يكشف لنا أنّ نوحاً عليه السلام تعلّم صنع السفينة بالوحي الإلهي.

ثم تواصل الآية بأنّه إذا جاء أمر اللَّه، وعلامة ذلك فوران الماء في التنور، فاعلم أنّه قد اقترب وقت الطوفان، فاختر من كل نوع من الحيوانات زوجاً (ذكر وانثى) واصعد به إلى السفينة: «فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ». إشارة إلى زوجة نوح عليه السلام وأحد أبنائه.

ثم أضافت الآية: «وَلَا تُخطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ».

وتقول الآية التالية: «فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى نَجنَا مِنَ الْقَوْمِ الظلِمِينَ».

وبعد الحمد والثناء عليه تعالى

على هذه النعمة العظيمة، نعمة النجاة من مخالب الظلمة، ادعوه هكذا: «وَقُلْ رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ».

وقد أشارت الآية الأخيرة- من الآيات موضع البحث- إلى مجمل هذه القصة فقالت: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ». ففي هذه الحوادث التي جرت على نوح عليه السلام وإنتصاره على أعدائه الظالمين، ونزول أشدّ أنواع العقاب عليهم، آيات ودلائل لأصحاب العقول السليمة.

«وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ». أي إنّنا نمتحن الجميع بشكل قاطع.

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلَا تَتَّقُونَ (32) وَ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ (34) أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُرَاباً وَ عِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَ نَحْيَا وَ مَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَ مَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 328

المصير المؤلم لقوم ثمود: تحدّثت هذه الآيات عن أقوام آخرين جاؤوا بعد قوم نوح عليه السلام. ومنطقهم يتناغم ومنطق الكفار السابقين، كما شرحت مصيرهم الأليم، فأكملت بذلك ما بحثته الآيات السابقة. فهي تقول أوّلًا: «ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ».

«القرن»: مشتقّ من الإقتران، بمعنى القرب، لهذا يطلق على الجماعة التي تعيش في عصر واحد، وقياس زمن القرن بثلاثين أو

مائة سنة يتّبع ما تعارفته الأقوام المختلفة.

وبما أنّ البشر لا يمكن أن يعيشوا دون قائد ربّاني، فقد بعث اللَّه أنبياءه يدعون إلى توحيده ويقيمون عدالته بين الناس، حيث تقول الآية التالية: «فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ».

وهذه هي الركيزة الأساسية لدعوة الأنبياء، إنّها نداء التوحيد، اسّ جميع الإصلاحات الفردية والاجتماعية، وبعدها أكّد رسول اللَّه لهم القول: إنّكم وبعد هذه الدعوة الصريحة ألا تتركون الشرك وعبادة الأوثان: «أَفَلَا تَتَّقُونَ».

إنّهم قوم ثمود الذين عاشوا شمال الحجاز، وبعث اللَّه النبي «صالح عليه السلام» لهدايتهم، إلّاأنّهم كفروا وطغوا فأهلكهم اللَّه بالصيحة السماوية (الصاعقة القاتلة).

ولننظر الآن ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم المعاندين إزاء التوحيد الذي أعلنه هذا النبي الكبير؟ يقول القرآن في الآية التالية:

«وقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْأَخِرَةِ وَأَتْرَفْنهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا مَا هذَا إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ».

أجل إنّ القوم بما كانوا يرون في دعوة نبي اللَّه خلافاً لأهوائهم ومنافسةً لمصالحهم العدوانية فجادلوا نبيّهم بنفس منطق المعاندين من قوم نوح.

ثم قال بعضهم للبعض الآخر: «وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخسِرُونَ».

ومن ثم أنكروا المعاد، الذي كان دوماً سدّاً منيعاً لاتّباع الشهوات وأرباب اللذات، وقالوا: «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظمًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ». لتعيشون حياة جديدة «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ». فقد تساءل الكفار: هل يمكن البعث والناس قد أصبحوا تراباً وتبعثرت ذرّاتهم هنا وهناك؟ إنّ ذلك مستحيل.

وبهذا الكلام ازدادوا إصراراً على إنكار المعاد قائلين: إنّنا نشاهد باستمرار موت مجموعة وولادة مجموعة اخرى لتحلّ محلّهم، ولا حياة بعد الموت: «إِنْ هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 329

نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ».

وأخيراً لخّصوا التّهم

التي وجّهوها إلى نبيّهم فقالوا: «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ».

وعندما طغى عناد الكفار، تجاسروا على اللَّه، وأنكروا رسالته إليهم، وأنكروا معاجز أنبيائه بكل صلافة، وقد أتمّ اللَّه حجّته عليهم، عندها توجّه هذا النبي الكبير إلى اللَّه سبحانه وتعالى و «قَالَ رَبّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ». ربّاه: انصرني فقد هتكوا الحرمات، واتّهموني بما شاؤوا وكذّبوا دعوتي.

فأجابه اللَّه عزّ وجل كما ذكرت الآية: «قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ ندِمِينَ». ألا إنّهم سيندمون يوم لا ينفع الندم.

وهكذا جرى «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقّ» حيث نزلت عليهم صاعقة الموت برعبها الهائل ودمارها الماحق، وقلبت مساكنهم ونثرتها حطاماً، وكانت سريعة خاطفة إلى درجة لم تسمح لهم بالفرار، فدفنوا في منازلهم كما بيّنت الآية الكريمة:

«فَجَعَلْنهُمْ غُثَاءً». أي: جعلناهم كهشيم النبات يحمله السيل «فَبُعْدًا لّلْقَوْمِ الظلِمِينَ».

والغثاء، يعني النباتات الجافّة المتراكمة والطافية على مياه السيول، كما يطلق الغثاء على الزبد المتراكم على ماء القدر حين الغليان، وتشبيه الأجسام الميتة بالغثاء دليل على منتهى ضعفها وإنكسارها وتفاهتها.

وهذا إستنتاج نهائي من كل هذه الآيات، فما قيل بصدد إنكار وتكذيب الآيات الإلهية والمعاد والعاقبة المؤلمة والنهاية السيئة لا تختص بجماعة معينة، بل تشمل جميع الظلمة عبر التاريخ.

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَ مَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)

هلاك الأقوام المعاندين الواحد بعد الآخر: بعد أن تحدّث القرآن عن قصة قوم نوح، أشار إلى أقوام اخرى جاءت بعدهم، وقبل النبي موسى عليه السلام حيث يقول: «ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا ءَاخَرِينَ». لأنّ هذا أمر اللَّه وسنّته في خلقه، فالفيض الإلهي

لا ينقطع عن

مختصر الامثل، ج 3، ص: 330

عباده فلو سعى جماعة للوقوف في وجه مسيرة التكامل الإنساني للبشرية لمحقهم ودفع هذه المسيرة إلى أمام. ولهذه الأقوام تأريخ معين وأجل محدود: «مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتْخِرُونَ». فلو صدر الأمر الحتمي بنهاية حياتهم فسيهلكوا فوراً، دون تأخير لحظة أو تقديم لحظة.

«الأجل»: بمعنى العمر ومدّة الشي ء، فالأجل المحتّم انتهاء عمر الإنسان أو عمر قوم ما، ولا تغيير فيه. إنّ الآية السابقة تشير إلى «الأجل المحتّم».

وتكشف الآية التالية حقيقة استمرار بعث الأنبياء عبر التاريخ بالدعوة إلى اللَّه حيث تقول: «ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا».

«تترا»: مشتقة من «الوتر» بمعنى التعاقب، و «تواتر الأخبار» تعني وصولها الواحد بعد الآخر، ومن مجموعها يتيقّن الإنسان بصدقها.

إنّ معلّمي السماء، كانوا يتعاقبون في إرشاد الناس، إلّاأنّ الأقوام المعاندة كانوا يواصلون الكفر والإنكار، فإنّه: «كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ».

وعندما تجاوز هذا الكفر والتكذيب حدّه وتمّت الحجة عليهم. «فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا». أي: أهلكنا الامم المعاندة الواحدة بعد الاخرى ومحوناهم من الوجود.

وقد تمّ محوهم بحيث لم يبق منهم سوى أخبارهم يتداولها الناس «وَجَعَلْنهُمْ أَحَادِيثَ». إشارة إلى أنّ كل امّة تتعرض للهلاك، ويبقى منهم بعض الأفراد والآثار هنا وهناك، وأحياناً لا يبقى منهم أيّ أثر. وهذه الامم المعاندة والطاغية كانت ضمن المجموعة الثانية.

وتقول الآية في الختام، كما ذكرت الآيات السابقة: «فَبُعْدًا لّقَوْمٍ لَّايُؤْمِنُونَ».

وهؤلاء لم يكونوا بعيدين عن رحمة اللَّه في هذه الدنيا فحسب، بل بعيدون عن هذه الرحمة في الآخرة أيضاً، لأنّ تعبير الآية جاء عامّاً يشمل الجميع.

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَ أَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَ مَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كَانُوا قَوْماً عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَ قَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)

فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)

قيام موسى وهلاك الفراعنة: كان الحديث حتى الآن عن أقوام بعث اللَّه لهم رسلًا قبل

مختصر الامثل، ج 3، ص: 331

موسى عليه السلام، وهلكوا. أمّا الآيات موضع البحث فقد تحدّثت باختصار جدّاً عن إنتفاضة موسى وهارون على الفراعنة ومصير هؤلاء القوم المستكبرين، فقالت:

«ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هرُونَ بَايتِنَا وَسُلْطنٍ مُّبِينٍ».

إنّ «الآيات» تعني المعجزات التي أعطاها اللَّه لموسى بن عمران (الآيات التسع). وتقصد عبارة «سلطان مبين» المنطق القوي والبرهان الدافع لموسى عليه السلام أمام الفراعنة.

أجل بعثنا موسى وأخاه هارون بهذه الآيات وسلطان مبين «إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ».

لعل ذلك إشارة إلى أنّ الفراعنة هم أساس الفساد، ولا يصلح أيّ بلد إلّابصلاح قادته، إلّاأنّهم «فَاسْتَكْبَرُوا» لأنّهم لم يرضخوا لآيات الحق والسلطان المبين.

والفراعنة كانوا مستكبرين طاغين، كما تقول الآية: «وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ».

ومن الدلائل الواضحة على إحساسهم بالإستعلاء، قولهم: «وَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عبِدُونَ» «1». فقد تصدّوا لموسى وأخيه هارون بهذه الأدلة الخاوية، مخالفة منهم للحق «فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ». وهكذا إنتهى أعداء بني إسرائيل الذين كانوا سدّاً مانعاً لدعوة موسى وهارون إلى اللَّه سبحانه.

وبدأت بعدها مرحلة تعليم وتربية بني إسرائيل، فأنزل اللَّه في هذه المرحلة «التوراة» على موسى، الذي دعا بني إسرائيل للإهتداء بهذا الكتاب وتطبيقه على ما ذكرته الآية الأخيرة هنا: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتبَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ».

وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَ مَعِينٍ (50)

آية اخرى من آيات اللَّه: أشارت الآية في آخر مرحلة من شرحها لحياة الأنبياء إلى السيد المسيح عليه السلام وامه مريم، فقالت:

«وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً».

وقد استعملت «الآية» عبارة «ابن مريم» بدلًا من ذكر اسم

عيسى، لجلب الإنتباه إلى حقيقة ولادته من ام دون أب بأمر من اللَّه، وهذه الولادة هي بذاتها من آيات اللَّه الكبيرة.

ثم أشارت الآية إلى الأنعم الكبيرة التي أسبغها اللَّه على هذه الامّ الزكية وإبنها فتقول: «وَءَاوَيْنهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ». «الربوة»: مشتقة من «الربا» بمعنى الزيادة والنمو،

______________________________

(1) يطلق على الإنسان «البشر»، لأنّ بشرته وجلده عارية، خلافاً لما عليه الحيوانات من لباس طبيعي خاص بكلّ نوع منهما.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 332

وتعني هنا المكان المرتفع؛ و «المعين»: مشتق من «المعن» بمعنى جريان الماء. إنّ هذا المكان الآمن هو مولد السيد المسيح عليه السلام في صحراء القدس، وقد جعله اللَّه أمناً لهذه الام والوليد، وفجّر لهما ماء معيناً ورزقهم من النخل الجاف رطباً جليّاً.

فقد كانت الآية دليلًا على حماية اللَّه تعالى الدائمة لرسله ولمن يدافع عنهم.

يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَ اعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)

جميع الامة يد واحدة: تحدثت الآيات السابقة عن ماضي الأنبياء واممهم، أمّا هذه الآيات فخاطبت الجميع فقالت: «يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيّبتِ وَاعْمَلُوا صلِحًا إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ».

بيّنت هذه الآية ثلاثة مؤثّرات في العمل الصالح:

الأوّل: طيب الغذاء الذي يورث صفاء القلب ونقاوته.

والثاني: شكر اللَّه تعالى على ما أنعم به من رحمته.

الثالث: الشعور اليقظ بمراقبة اللَّه سبحانه للأعمال كلها.

ثم دعت الآية جميع الأنبياء وأتباعهم إلى توحيد اللَّه والتزام تقواه: «وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً». فالإختلافات الموجودة بينكم، وكذلك بين أنبيائكم ليست دليلًا على التعدّدية إطلاقاً. «وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ». فنحن بين يدي دعوة

واعية إلى وحدة الجماعة والقضاء على ما يثير التفرقة، ليعيش الناس امّة واحدة، كما أنّ اللَّه ربّهم واحد أحد.

ولهذا يجب أن ينتهج الناس ما نهجه الأنبياء عليهم السلام إذ دعوا إلى اتّباع تعاليم موحدة، ذات أساس واحد في كل مكان.

وقد حذّرت الآية التالية البشر من الفُرقة والاختلاف، بعد أن تمّت في الآية السابقة دعوتهم إلى التمسك بالوحدة، فقالت:

«فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا». وممّا يثير الدهشة أنّ «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ».

«الزبر»: جمع «زبرة» تعني بعض شعر الحيوان خلف رأسه، يجمعه الراعي ليفصله عن

مختصر الامثل، ج 3، ص: 333

باقي الشعر، ثم أطلقت هذه الكلمة على كل شي ء ينفصل عن أصله، فتقول الآية: «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا». إشارة منها إلى تفرّق الامّة إلى مجموعات وفئات مختلفة.

تستعرض الآية حقيقة نفسية واجتماعية هي أنّ التعصب الجاهلي للأحزاب والفئات يمنع وصولها إلى الحقيقة، لأنّ كلًّا منها قد اتّخذ سبيلًا خاصّاً به.

وهذه الحالة نتجت عن حبّ الذات المفرط والعناد، وهما أكبر عدوّ للحقيقة، ولوحدة الامة.

ولهذا تقول الآية الأخيرة هنا: «فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ». أي: اتركهم على حالهم حتى يأتي أجلهم، أو يأتيهم اللَّه بعذاب منه، فليس لهم سوى هذا، لأنّهم أصرّوا على البقاء في جهلهم ومتاهتهم.

«حين»: قد تكون إشارة إلى وقت الموت، أو نزول العذاب، أو كليهما.

«الغمرة»: على وزن «ضربة» فهي بالأصل من «غمر» أي إتلاف كل شي ء، ثم أطلق غمر وغامر على الماء الكثير الذي يزيل كل شي ء يواجهه، ويواصل جريانه، ثم أطلق على الجهل والبلايا التي يغرق فيها الإنسان، كما استعملته الآية السابقة بمعنى الغفلة والضياع والجهل والضلال.

أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَ بَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ

خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَ الَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَ هُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)

تعرّض ما سبق من الآيات المباركة للأحزاب والمجموعات المعاندة التي غلب عليها التعصب وحبّ الذات، بينما أشارت الآيات موضع البحث إلى بعض تصوراتهم الأنانية: «أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ» «1». هو من أجل أنّنا: «نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ».

فهل يتصوّرون أنّ أموالهم الوافرة وكثرة أولادهم دليل على أنّهم على حق، ودليل على

______________________________

(1) وهذا هو ما أشارت إليه معظم آيات القرآن في قضيّة (الإستدراج في النعم).

«نمدّ»: مشتقة من «الإمداد» وهو إتمام النقص والحيلولة دون القطع، وإيصال الشي ء إلى نهايته.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 334

قرب منزلتهم من اللَّه؟ «بَلْ لَّا يَشْعُرُونَ» أنّ كثرة أموالهم وأولادهم نوع من العذاب، أو مقدمة للعذاب ولعقاب اللَّه، إنّهم لا يدركون أنّ ما أغدق عليهم ربّهم من نعم إنّما هو من أجل أن يتورّطوا في العقاب الإلهي، ويمسي عقابهم أشد ألماً. وبعد نفي تصورات هؤلاء الغافلين، تستعرض هذه الآيات وضع المؤمنين والمسارعين في الخيرات، وتبيّن صفاتهم الرئيسية، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ». و «الخشية»: تعني الخوف المقترن بالتعظيم والتقديس.

ثم تضيف الآية: «وَالَّذِينَ هُم بَايتِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ».

وتأتي بعد مرحلة الإيمان بآيات اللَّه، مرحلة تنزيهه عن كل شبهة وشريك، فتقول الآية: «وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَايُشْرِكُونَ».

بعد هذا تأتي مرحلة الإيمان بالمعاد والبعث، والإهتمام الخاص الذي يوليه المؤمنون الحقيقيون لهذه القضية، التي تساعدهم عملياً في السيطرة على أعمالهم وأقوالهم، فتقول الآية: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ».

وبعد شرح الآيات

السابقة لهذه الصفات الأربعة تقول الآية: «أُولئِكَ يُسرِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ».

وقد رسمت الآيات السابقة صورة واضحة لصفات هذه القدوة من المؤمنين، فبدأت أوّلًا بالخوف الممتزج بتعظيم اللَّه، وهو الدافع إلى الإيمان به ونفي الشرك عنه، وانتهت بالإيمان بالمعاد حيث محكمة العدل الإلهي، الذي يشكّل الشعور بالمسؤولية، ويدفع الإنسان إلى كل عمل طيّب، فهي تبيّن أربع خصال للمؤمنين ونتيجةً واحدةً. (فتأمّلوا جيداً).

وَ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَ لَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذَا وَ لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ (67)

بما أنّ خصال المؤمنين هي سبب القيام بالأعمال الخيّرة التي أشارت إليها الآيات السابقة، فهنا يثار هذا التساؤل بأنّ هذه الخصال والقيام بهذه الأعمال لا تتيسّر لكل أحد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 335

فتجيب أوّل آية- من الآيات موضع البحث- عن ذلك فتقول: «وَلَا نُكَلّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا». وكل إنسان يكلّف حسب عقله وطاقته.

وهذه إشارة إلى أنّ الواجبات الشرعية هي في حدود طاقة الإنسان، وأنّها تسقط عنه إذا تجاوزت هذه الحدود، وكما يقول علماء اصول الفقه: إنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع الواجبات الشرعية ومقدمة عليها.

وقد يُسأل: كيف يُحاسب كل البشر على أعمالهم كلّها صغيرها وكبيرها؟

فتجيب الآية: «وَلَدَيْنَا كِتبٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ». فهناك صحيفة أعمال الإنسان المحفوظة لدى اللَّه العلي القدير.

ولكون هذه الحقائق مؤثّرة في الواعين من الناس فحسب، أضافت الآية التالية بأنّ هؤلاء الكفار المعاندين غارقون في دوّامة الجهل والغفلة لدرجة أنّهم غافلون

عما ينتظرهم من الوعيد: «بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هذَا».

وتضيف هذه الآية: «وَلَهُمْ أَعْملٌ مِّن دُونِ ذلِكَ هُمْ لَهَا عمِلُونَ».

المهمّ هو الإنتباه إلى أنّ مصدر الأعمال الشريرة يكمن في إنغمار القلوب في الجهالة.

ولكن هؤلاء المترفين يبقون في هذه الغفلة ما داموا في نعيمهم، فإذا جاءهم العذاب فهم يصرخون كالوحوش من شدة العذاب الإلهي، كما تقول الآية: «حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجَرُونَ».

فيخاطبون: «لَاتَجَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَاتُنصَرُونَ».

وتكشف الآية التالية عن سبب هذا المصير المشؤوم: «قَدْ كَانَتْ ءَايتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقبِكُمْ تَنكِصُونَ». بدلًا من الاستفادة منها والإنتباه للواقع.

«تنكصون»: مشتقة من النكوص، بمعنى السير بشكل معاكس.

«أعقاب»: جمع «عقب» على وزن «فَعِل» وتعني عقب القدم.

وهذه الجملة كناية عن شخص يسمع كلاماً غير مرغوب فيه، فيرتعب لدرجة يسير فيها القهقرى على عقبي قدميه.

ثم إنّه لا يرجع إلى الوراء لمجرد سماعه آيات اللَّه، وإنّما يصبح ممن وصفتهم الآية: «مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ».

وإضافةً إلى ذلك: «سمِرًا تَهْجُرُونَ». أي يتسامرون في لياليهم ويتحدثون عن النبي والقرآن بالباطل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 336

«سامراً»: مشتقة من «سَمَرَ» على وزن «نصر» بمعنى التحدّث ليلًا.

«تهجرون»: مشتقة من «هَجْر» وتعني بالأصل الإبتعاد والانفصال، وقد وردت بمعنى الهذيان الصادر من المريض، لأنّ كلامه في تلك الحالة غير سليم، ويبعث على النفور كما أنّ الهُجر (على وزن كُفر) يعني السباب، وهو أيضاً يبعث على الإبتعاد والقطيعة.

وقد جاءت كلمة «تهجرون» في الآية بالمعنى الأخير، فتقول: إنّ المشركين من العرب كانوا يتسامرون حتى ساعات متأخّرة من الليل، وهم يهذون ويكيلون السباب والشتائم كالمرضى.

أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ

أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)

أعذار المنكرين المختلفة: تحدّثت الآيات السابقة عن إعراض الكفار وإستكبارهم إزاء الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله. وتناولت هذه الآيات أعذارهم في هذا المجال والردّ عليهم، وشرحت الدوافع الحقيقية لإعراض المشركين عن القرآن والرسول صلى الله عليه و آله، ويمكن تلخيصها في خمس مراحل:

الاولى: «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ». فأوّل سبب لتعاستهم هو تعطيل التفكّر في مضمون دعوة النبي صلى الله عليه و آله ولو تفكّروا مليّاً لما بقيت مشكلة لديهم.

وفي المرحلة الثانية تقول الآية: «أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ». سألت الآية مستنكرةً: أكانت الدعوة إلى التوحيد والمعاد، والهدى إلى الأعمال الصالحة مختصة بهم دون آبائهم الأوّلين، ليحتجّوا بأنّها بدعةً، ويقولوا: لماذا لم يبعثه اللَّه للأوّلين، وهو لطيف بعباده؟

ليس لهم ذلك، لأنّ الإسلام من حيث المبادى ء له مضمون سائر الرسالات التي حملها الأنبياء عليهم السلام فهذا التبرير غير منطقي ولا معنى له.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 337

وفي المرحلة الثالثة تقول الآية: «أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ». أي: إذا كانت هذه الدعوة صادرة من شخص مجهول ومشكوك، فيحتمل أن يقولوا بأنّ كلامه حق، إلّاأنّ هذا الرجل مشكوك وغير معروف لدينا، فيحتمل أن نُخدع بكلامه، ولكنّهم يعرفون ماضيك جيّداً، وكانوا يدعونك محمّداً الأمين، ويعترفون بعقلك وعلمك وأمانك، ويعرفون جيّداً والديك وقبيلتك، فلا حجة لهم.

وفي المرحلة الرابعة تقول الآية: «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ». أي إنّه

مجنون، فبعد إعترافهم بأنّك لست مجهولًا بالنسبة لهم، إلّاأنّهم يشكّكون في سلامة عقلك وينسبونك إلى الجنون، لأنّ ما تدعو إليه لا ينسجم مع عقائدهم، فلذلك اتّخذوا هذا دليلًا على جنونك.

يقول القرآن المجيد لنفي هذه الحجة: «بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقّ». وكلامه شاهد على هذه الحقيقة، ويضيف: «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كرِهُونَ».

أجل، إنّ كلمات الرسول راشدة حكيمة، إلّاأنّهم ينكرونها لعدم إنسجامها مع أهوائهم النفسية، فألصقوا به تهمة الجنون في الوقت الذي لا ضرورة في توافق الحق مع رغبات الناس: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّموَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ».

لأنّه لا يوجد مقياس يحدّد أهواء الناس، مضافاً إلى أنّها تميل إلى الشر والفساد غالباً.

وتأكيداً لذلك تقول الآية: «بَلْ أَتَيْنهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ». أي: منحناهم القرآن الذي هو أساس للذكر والتوجه إلى اللَّه، وسبب لرفعتهم وشرفهم، إلّاأنّهم أعرضوا عن هذا المنار الذي يُضي ء لهم درب السعادة والشرف.

وفي المرحلة الخامسة تقول الآية: هل أنّ عذرهم في فرارهم من الحق هو أنّك تريد منهم أجراً على دعوتك: «أَمْ تَسَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

والقرآن الكريم بإيضاحه هذه المراحل الخمس برهن على أنّ هؤلاء الحمقى (المشركين) لا يرضخون للحق، وأنّ أعذارهم في إنكار الحق أعذار واهية.

وجاءت الآية التالية باستنتاج عام لكل ما مضى: «وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

ورغم أنّ الروايات الإسلامية تفسّر الصراط المستقيم بولاية علي عليه السلام، إلّاأنّها تكشف عن المصداق الأكمل لذلك، ولا تتنافي مع المصاديق الاخرى كالقرآن والإيمان بالمبدأ والمعاد والتقوى والجهاد والعدل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 338

وتستعرض الآية التالية النتيجة الطبيعية لهذا الموضوع، فتقول: «وَإِنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ عَنِ الصّرَاطِ لَنكِبُونَ».

«ناكب»: مشتقة من «النكب» و «النكوب» أي الانحراف عن الطريق. «نكبت الدنيا» تقع في مقابل إقبال الدنيا، وتعني إدبار

الدنيا وإعراضها عن المرء.

والصراط يقصد به هنا ما في الآية السابقة.

أوضحت الآيات السابقة عدداً من صفات القادة إلى طريق الحقّ، فهم المعروفون بالصلاح والإستقامة.

ويواصلون عملهم بإصرار دائم لنشر العقيدة الحقّة رغم رفض عدد كبير من الناس لهم وحقدهم عليهم.

والصفة الاخرى للأنبياء أنّهم لم يطلبوا أجراً من الناس.

وَ لَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَ كَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَ لَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (80)

طرق التوعية الإلهية المختلفة: عرضت الآيات السابقة الحجج التي يتذرّع بها منكرو الحق في رفض الرسالات وإيذاء الأنبياء عليهم السلام، وتناولت هذه الآيات إتمام الحجة عليهم من قبل اللَّه تعالى وتوعيتهم. فتقول أوّلًا: إنّنا تارةً نشملهم برعايتنا ونرزقهم من وفير النعمة لينتبهوا، ولكن: «وَلَوْ رَحِمْنهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِى طُغْينِهِمْ يَعْمَهُونَ».

واللَّه تعالى يبتليهم لعلهم يعون حين لا تجدي بهم رحمته سبحانه، لكن طائفة غالبة منهم لم يستيقظوا حتى بالبلاء المذل:

«وَلَقَدْ أَخَذْنهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 339

فاللَّه تعالى يواصل هذه الرحمة والنعمة والعقوبات، والمشركون يواصلون طغيانهم وعنادهم: «حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» «1».

الواقع، أنّ نوعين من العقاب الإلهي: أوّلهما «عقاب الإبتلاء»، وثانيهما «عقاب الإستيصال» والإقتلاع من الجذور، والهدف من العقاب الأوّل وضع الناس في صعوبات وآلام ليدركوا مدى

ضعفهم وليتركوا مركب الغرور.

أمّا هدف العقاب الثاني الذي ينزل بالمعاندين المستكبرين فهو إزالتهم عن مجرى الحياة، وتطهيرها من عراقيلهم.

ثم تناول القرآن المجيد القضية من باب آخر، فعدّد النعم الإلهية لدفع الناس إلى الشكر: «وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصرَ وَالْأَفِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ».

والتأكيد على (الاذن والعين والعقل) لأنّها الأجهزة التي بها يتعرف الإنسان على المحسوسات والقضايا، فالأشياء الحسيّة يبلغها بالعين والاذن، والقضايا غير الحسية يدركها بالعقل.

وتناولت الآية اللاحقة خلق اللَّه سبحانه للإنسان من التراب، فتقول: «وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الْأَرْضِ» «2».

وبما أنّه- جلّ إسمه- خلقكم من الأرض، لذلك ستعودون إليها مرّة ثانية، ثم يبعثكم: «وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

ولو فكّرتم في خلقكم من تراب لا قيمة له، لدلّكم على خالق الوجود سبحانه، وعرّفكم على كريم لطفه بكم وإحسانه إليكم، وقادكم إلى الإيمان به وبالمعاد.

وبعد ذكر خلق الإنسان، تناولت الآية المذكورة آنفاً دلائل اخرى من بديع صنع اللَّه تعالى «وَهُوَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلفُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

وبهذا الترتيب بدأ البيان القرآني من الدافع لإستيقاظ القلب وإنبعاثه على معرفة ربّه سبحانه وإنتهى بذكر بعض أهمّ الآيات الأنفسية والآفاقية.

______________________________

(1) «المبلس»: كلمة مشتقة من «الإبلاس» بمعنى الألم الشديد الناتج عن شدّة أثر الحادثة، وتدفع بالإنسان إلى الصمت والحيرة واليأس.

(2) «ذرأ»: مشتقة من الذرء (على وزن زرع)، وهي في الأصل بمعنى الخلق والإيجاد والإظهار.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 340

بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَ آبَاؤُنَا هذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ

السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)

دعت الآيات السابقة منكري اللَّه والمعاد إلى التفكر في خلق عالم الوجود وآيات الآفاق والأنفس، وأضافت هذه الآيات أنّ هؤلاء تركوا عقولهم واتبعوا أسلافهم وقلّدوهم تقليداً أعمى: «بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ».

ثم إنّ هؤلاء ملكهم التعجب و: «قَالُوا أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظمًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ».

إنّ ذلك لا يُصدّق، «لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا هذَا مِن قَبْلُ». فكانت وعوداً كاذبة، و «إِنْ هذَا إِلَّا أَسطِيرُ الْأَوَّلِينَ».

ولكون الكفار والمشركين أشدّ خوفاً من اليوم الآخر وما فيه من هول الحساب وعدل الكتاب، وسدّدت الآيات موضع البحث إلى هذا المنطق الواهي من ثلاث طرق.

ومما يلفت النظر أنّ القرآن يأخذ من المشركين إعترافاً بكل مسألة، فيعيد كلامهم ليثبت إقرارهم. يقول أوّلًا: «قُلْ لّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

ثم تضيف الآية أنّهم يؤمنون باللَّه خالق الوجود وفق نداء الفطرة النابع من ذاتهم، وسيجيبونك و: «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ». فأجبهم:

«قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ». كيف تتصورون إستحالة إحياء الموتى بعد إعترافكم الصريح؟

ثم يأمر رسوله مرّة ثانية أن يسألهم: «قُلْ مَن رَّبُّ السَّموَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ».

فيأتي الجواب نابعاً من الفطرة التي فطر اللَّه الناس عليها، وهي الإعتراف بربوبيته تعالى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 341

«سَيَقُولُونَ لِلَّهِ». وبعد هذا الإعتراف الواضح فلماذا لا تخافون اللَّه، ولا تعترفون بالمعاد وبعث الإنسان مرّة ثانية: «قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ».

واسألهم مرّة اخرى عن سيادة اللَّه على السماوات والأرض: «قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْ ءٍ». ومن الذي يجير اللاجئين وجميع

المحرومين ولا يحتاج إلى اللجوء إلى أحد: «وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

فيعترفون بأنّ العالم ومالكيته وحكومته وإجارة الآخرين يعود للَّه فقط: «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ». «قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ». أي: كيف تقولون: إنّ الرسول صلى الله عليه و آله سحركم رغم كل هذا الإعتراف والإقرار منكم؟!

وأخيراً يقول القرآن في عبارة مختصرة ذات دلالة كبيرة بأنّه ليس سحراً ولا شعبذة ولا شي ء آخر: «بَلْ أَتَيْنهُم بِالْحَقّ وَإِنَّهُمْ لَكذِبُونَ».

«الأساطير»: جمع «اسطورة». قال بعض اللغويين: إنّها مشتقة من «السطر» بمعنى الصفّ، فيطلق على الكلمات التي إصطفّت في خطّ واحد لفظ السطر. فالاسطورة: الكتابة أو السطور التي تركها لنا الآخرون، ولأنّ كتابات القدماء تحتوي على أساطير خرافية، تطلق الأساطير على الحكايات والقصص الخرافية الكاذبة. وقد تكرّرت كلمة الأساطير في القرآن المجيد تسع مرّات، وجميعها جاء على لسان الكفار لتوجيه مخالفتهم لأنبياء اللَّه تعالى.

«الملكوت»: مشتقة من «المُلك» (على وزن كُفر)، بمعنى الحكومة والمالكية.

«العرش»: يعني السرير ذا القوائم العالية، ويطلق أحياناً على السقف وشبهه، وعندما تتعلق هذه الكلمة باللَّه سبحانه، فإنّها تعني عالم الوجود كلّه.

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَ لَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)

الشرك يجرّ العالم نحو الدمار: تناولت الآيات السابقة بحوثاً في المعاد والملك والحكم والربوبية، أمّا هذه الآيات فقد تناولت نفي الشرك، وإستعرضت جانباً من إنحرافات المشركين، وردّتها عليهم بالأدلة الساطعة، قائلة: «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 342

إنّ المسيحيين يرون النبي عيسى عليه السلام إبناً للَّه، والمشركون يرون الملائكة بنات للَّه، وهذا أوضح مظهر للشرك.

ثم بيّنت الآية

بطلان الشرك: أنّه لو كان هناك آلهة متعدّدة تحكم العالم، فسيكون لكل إله مخلوقاته الخاصة به يحكم عليها ويدبّر امورها.

وسيكون تبعاً لذلك أنظمة متعددة للعالم، لأنّ كل واحد من الآلهة يدير منطقته بنظام خاص: «إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ».

وهذا ينافي وحدة النظام الحاكم في هذا العالم.

«وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ». وهذه نتيجة محتومة لكل صراع، إذ يسعى كل طرف فيه لغلبة الآخرين والهيمنة عليهم، وهذا سيكون بذاته سبباً آخر لتفكّك النظام الموحد السائد في العالم.

وجاء في ختام الآية تقديس للَّه سبحانه «سُبْحنَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ». و الآية التالية تردّ على المشركين المغالطين فتقول: «علِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهدَةِ». أي: إنّ اللَّه يعلم ظاهر الأشياء وباطنها، فكيف تتصورون وجود إله آخر تعرفونه أنتم ولا يعرفه الربّ الذي خلقكم والذي يعلم الغيب والشهادة في هذا العالم؟

وبهذه العبارة يبطل تصوراتهم الخرافية: «فَتَعلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ».

وختام هذه الآية يشبه ختام الآية (18) من سورة يونس، كما أنّ هذه العبارة تهديد موجّه للمشركين بأنّ اللَّه الذي يعلم السرّ والعلن، يعلم ما تقولونه، وسيحاسبكم عليه يوم القيامة في محكمته العادلة.

قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَ إِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)

مع مخاطبة هذه الآيات للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، واصلت مقاصد الآيات السابقة في تهديد الكفار والمشركين المعاندين بأنواع العذاب الإلهي: «قُلْ رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ». «رَبّ فَلَا تَجْعَلْنِى فِى الْقَوْمِ الظلِمِينَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 343

والمراد بهذا العذاب أنّه العقاب الدنيوي الذي ابتلى اللَّه به

المشركين.

وتأكيداً لهذا الموضوع ولنفي كل شك لدى الأعداء، ولتسلية خاطر الرسول صلى الله عليه و آله والمؤمنين، أضافت الآية اللاحقة: «وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقدِرُونَ».

ولقد تجلّت قدرة اللَّه سبحانه في ساحات مختلفة بعد ذلك.

ثم يأمر اللَّه الرسول صلى الله عليه و آله باتباع سياسة اللين في الدعوة إلى الهدى ودين الحق: «ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ السَّيّئَةَ» «1». أي: ادفع عدوانهم وسيئاتهم بالعفو والصفح والإحسان، وكلامهم البذي بالكلام المنطقي الموزون: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ». واللَّه يعلم أنّ أعمالهم القبيحة وكلامهم البذي ء وأذاهم القاسي يؤلم الرسول صلى الله عليه و آله، إلّاأنّه عزّ وجل يدعو إلى عدم الردّ بالمثل، بل يوجب أن يكون الردّ بالتي هي أحسن. وهذا خير سبيل لإيقاظ الغافلين والمخدوعين.

ثم نقرأ أمراً ربّانياً بالإستعاذة باللَّه من مكائد الشيطان: «وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيطِينِ». إنّه دعاء بالإنقاذ من تربّص الشيطان ومكره الخفي، ولا يقف الدعاء عند همزات الشياطين بل يستمر في الإستعاذة من حضورهم عنده: «وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونَ». أي: حضور الشياطين في اجتماعات النبي صلى الله عليه و آله الذي يؤدّي إلى إغفال المجتمعين وإضلالهم، فعلى محبّي الحق والذابّين عنه وناشديه أن يفوّضوا أمرهم إلى اللَّه، ليحفظهم من وساوس الشياطين ومكائدهم.

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

طلب المستحيل: تابعت هاتان الآيتان ما تناولته الآيات السابقة من عناد المشركين والمذنبين وتمسكهم بالباطل، فتناولت حالهم الوخيم حين الموت. وأنّهم يستمرون في باطلهم: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ».

حينما يجبر المذنب والمشرك على ترك الدنيا لينتقل إلى عالم آخر، تزول عنه حجب الغفلة

والغرور، فيرى بام عينه مصيره المؤلم، فلا مال ولا جاه، فقد عاد كل ما يعنيه هباءً في

______________________________

(1) والجدير بالذكر أنّ هذا الأمر خاصّ بحالات لا يسي ء العدو الاستفادة من هذا المبدأ.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 344

هباءٍ، وهو يشاهد اليوم عاقبة أمره، وما إرتكبه من ذنوب ومعاص، فيرتفع صراخه وعويله: «قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ». ارجعني يا ربّ «لَعَلّى أَعْمَلُ صلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ». ولكن قانون الخلق العادل لا يسمح بمثل هذه العودة، لا يسمح بعودة الصالح ولا الطالح، فيأتيه النداء الدامغ «كَلَّا». «إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا». كلام لم يصدر من أعماقه، ومتى هدأت العاصفة بوجههم عادوا لسابق أعمالهم القبيحة.

وتشير الآية في نهايتها إلى عالم البرزخ الغامض بعبارة قصيرة ذات دلالة كبيرة «وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» «1».

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)

جانب من عقاب المسيئين: تحدّثت الآيات السابقة عن عالم البرزخ، وأعقبتها آيات تناولت القيامة بالبحث، وتناولت كذلك جانباً من وضع المذنبين في عالم الآخرة. فهي تقول أوّلًا: «فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ».

من المعلوم- بالإستناد إلى آيات القرآن الكريم- أنّ النفخ في الصور يجري مرتين: اوليهما في نهاية هذا العالم، حيث يموت مَن في الأرض والسماوات، وفي ثانيتهما يبدأ بعث من في القبور ليعودوا لحياة جديدة وليستعدّوا للحساب والجزاء.

إنّ الآية السابقة أشارت إلى ظاهرتين من ظواهر يوم القيامة:

اوليهما: إنتهاء مسألة النسب، لأنّ رابطة الاسرة والقبيلة التي تسود حياة الناس في هذا العالم تؤدّي في كثير من الحالات إلى نجاة

المذنبين من العقاب، إذ يستنجدون بأقربائهم في حلّ مشاكلهم، أمّا الوضع يوم القيامة فيختلف، حيث كل إنسان وعمله، فلا معين له، ولا

______________________________

(1) «البرزخ»: في الأصل الشي ء الذي يقع حائلًا بين شيئين، ثم استعملت لكل ما يقع بين أمرين، ولهذا أتت كلمة البرزخ للدلالة على عالم يقع بين عالم الدنيا والآخرة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 345

نفع في ولده، أو أخيه، أو والده.

وثانيتهما: سيطرة الخوف على الجميع، فلا يسأل أحد عن حال غيره بسبب الخوف الشديد من العقاب الإلهي، هو يوم كما اطّلعنا عليه في مطلع سورة الحج: «يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكرَى وَمَا هُم بِسُكرَى وَلكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ».

وبعد وقوع القيامة تبدأ مرحلة الحساب وقياس الأعمال بميزان خاص بيوم القيامة: «فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

«الموازين»: جمع «ميزان» وهو وسيلة للقياس، وكما ورد في الأحاديث المختلفة أنّه ميزان تقاس به الأعمال والناس، وهم قادة الإسلام الكبار، في الحديث: «إنّ أمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام هم الموازين» «1».

وعلى هذا فإنّ الرسل وأوصياءهم هم الذين يقاس الناس وأعمالهم بهم، ليتبيّن إلى أيّ درجة يشبهونهم.

«وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ». وهم الذين فقدوا الإيمان والعمل الصالح، فوزنهم خفيف يوم القيامة لأنّهم خسروا رأسمال وجودهم: «فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خلِدُونَ».

عبارة «خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ» تصريح بحقيقة خسران المذنبين لأكبر رأسمال لهم- أي وجودهم- في سوق تجارة الدنيا دون أن يحصلوا على مقابل.

وتشرح الآية التالية عذابهم الأليم: «تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ». ألسنة النار ولهيبها المحرق تضرب وجوههم كضرب السيف، «وَهُمْ فِيهَا كلِحُونَ» وهم من شدة الألم وعذاب النار، في عبوس واكفهرار.

«تلفح»: تعني في الأصل ضربة السيف، وقد وردت هنا كناية، لأنّ لهيب النار، أو

نور الشمس المحرقة، وريح السموم، تضرب وجه الإنسان كضرب السيف.

«كالح»: بمعنى التعبيس واكفهرار الوجه.

______________________________

(1) بحار الأنوار 7/ 252.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 346

أَ لَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَ كُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَ لَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَ ارْحَمْنَا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)

تحدثت الآيات السابقة عن العذاب الأليم لأهل النار، وتناولت الآيات- موضع البحث- إستعراض جانب من كلام اللَّه مع أهل النار، إذ خاطبهم سبحانه وتعالى بعتاب: «أَلَمْ تَكُنْ ءَايتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ».

وهم يعترفون في ردّهم: «قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالّينَ».

«الشقوة» و «الشقاوة»: نقيض السعادة، وتعني توفّر وسائل العقاب والبلاء. أو بتعبير آخر: هي الشر والبلاء الذي يصيب الإنسان.

ولعلّهم في إعترافهم هذا يودّون نيل رضى اللَّه ورحمته، لهذا يضيفون مباشرةً: «رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظلِمُونَ».

يقولون ذلك وكأنّهم لا يعلمون أنّ القيامة دار جزاء وليست دار عمل، وأنّ العودة إلى الدنيا أمر محال.

لهذا يردّهم اللَّه سبحانه وتعالى بقوة: «قَالَ اخْسُوا فِيهَا وَلَا تُكَلّمُونِ».

وعبارة «اخسؤا» التي هي فعل أمر، تستعمل لطرد الكلاب، فمتى ما استخدمت للإنسان فإنّها تعني تحقيره ومعاقبته.

ثم يبيّن اللَّه عزّ وجل دليل ذلك بقوله: هل نسيتم، «إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ». ولكنّكم كنتم تستهزئون بهم إلى درجة أنّ كثرة الإستهزاء والسخرية منهم أنساكم ذكري: «فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى

وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ» على أعمالهم وعقائدهم وأخلاقهم «إِنّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ».

وأمّا أنتم فقد إبتليتم بأسوأ حالة، وبأكثر العذاب ألماً، ولا ينجدكم أحد من مصيركم الذي تستحقونه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 347

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)

الدنيا وعمرها القصير: بما أنّ الآيات السابقة تناولت جانباً من عذاب أهل النار الأليم، عقّبت الآيات- موضع البحث- ذلك بذكر نوع آخر من العذاب، هو العذاب النفسي الموجه من قبل اللَّه تعالى لأهل النار للإستهانة بهم. تقول الآية الاولى: «قَالَ كَمْ لَّبِثْتُمْ فِى الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ». يخاطبهم سبحانه وتعالى يوم القيامة قائلًا: كم سنة عشتم فوق الأرض؟

إلّا أنّهم يرون في هذه المقارنة أنّ الدنيا قصيرة جدّاً: «قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ».

والحقيقة أنّ الأعمار الطويلة في الدنيا كسحابة صيف لو قارناها بحياة الآخرة، حيث النعم الخالدة والعقاب غير المحدود.

وللتأكيد أو للردّ بدقة قالوا: «فَسَلِ الْعَادّينَ». أي: ربّاه اسأل الذين يعرفون أن يعدّوا الأعداد ويحسبوها بدقة حين مقارنة بعضها مع بعض.

وهنا يؤنّبهم اللَّه ويستهزى ء بهم: «قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

وإستعملت الآية اسلوباً مؤثراً آخر لإيقاظ هذه الفئة وتعليمها: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَاتُرْجَعُونَ».

هذه العبارة الموجزة والعميقة تبيّن واحداً من أقوى الأدلّة على البعث وحساب الأعمال والجزاء، وتعني أنّ الحياة الدنيا تصبح عبثاً إن لم تكن القيامة والمعاد، فالدنيا بما فيها من مشاكل وما وضع فيها اللَّه من مناهج

ومسؤوليات وبرامج، تكون عبثاً وبلا معنى إن كانت لأيّام معدودات فقط، كما سنشرح ذلك في المسائل الآتية.

وبما أنّ عدم عبثيّة الخلق أمر مهم يحتاج إلى دليل رصين، أضافت الآية: «فَتَعلَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ».

وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 348

المفلحون والخائبون: بما أنّ الآيات السابقة تحدثت عن قضية المعاد، واستعرضت الصفات الإلهية، فإنّ الآية الأُولى أعلاه تناولت التوحيد نافيةً الشرك مؤكّدة للمبدأ والمعاد في قوله تعالى: «وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ لَابُرْهنَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ».

أجل، إنّ المشركين ينكرون المعاد على الرغم من وضوح أدلته وإشراق حقيقته، ويقبلون الشرك من غير دليل صحيح عليه.

وفي النهاية تقول الآية: «إِنَّهُ لَايُفْلِحُ الْكفِرُونَ».

ما أجمل بداية هذه السورة «قَدْ أَفلح المؤمنون» وما أجمل نهايتها المؤكّدة لبدايتها: «لَايُفْلِحُ الْكفِرُونَ» هذه هي صورة جامعة لحياة المؤمنين والكافرين من البداية إلى النهاية.

وختمت السورة بهذه الآية الشريفة كاستنتاج عام بأن وجّهت الكلام إلى الرسول صلى الله عليه و آله: «وَقُل رَّبّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ».

والآن وقد إختارت فئة الشرك سبيلًا، وجارت فئة اخرى وظلمت، فأنت أيّها الرسول ومن معك تدعون اللَّه ربّكم أن يغفر لكم ويرحمكم بلطفه الواسع الكريم.

«نهاية تفسير سورة المؤمنون»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 349

24 سورة النّور

محتوى السورة: يمكن اعتبار هذه السورة خاصة بالطهارة والعفة، وكفاح الإنحطاط الخلقي، والقرآن الكريم يحقق هذا الهدف عبر مراحل، هي:

1- بيان العقاب الشديد للمرأة الزانية والرجل الزاني، وهو ما ورد حاسماً في الآية الثانية من هذه السورة.

2- بيان حد الزنا

الذي لا تنبغي إقامته إلّابشروط مشدّدة للغاية.

ثم طرحت الآية بهذه المناسبة الحديث المعروف باسم الإفك، وما فيه من إتهام إحدى نساء النبي صلى الله عليه و آله.

3- وتناولت الآية أحد السبل المهمة لاجتناب التدهور الأخلاقي، من أجل ألا يتصور أنّ الإسلام يهتم فقط بمعاقبة المذنبين.

فطرحت الآية نظر الرجال إلى النساء بشهوة أو بالعكس، وحجاب المرأة المسلمة، لأنّ أحد أسباب الانحراف الجنسي المهمة ناجم عن هاتين المسألتين.

4- وكخطوة للنجاة من التلوث بما يخلّ بالشرف، دعا القرآن المجيد إلى الزواج اليسير التكاليف.

5- وبيّنت الآيات جانباً من آداب المعاملة، ومبادى ء تربية الأولاد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 350

مختصر الامثل ج 3 399

6- وجاء ذكر مسائل خاصة بالتوحيد والمبدأ والمعاد والإمتثال لتعاليم النبي صلى الله عليه و آله. كل ذلك خلال البحوث المطروحة.

وتطرقت بحوث هذه الآيات إلى حكومة المؤمنين الصالحين العالمية.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «حصّنوا أموالكم وفروجكم بتلاوة سورة النور وحصّنوا بها نساءكم، فإنّ من أدمن قراءتها في كل ليلة أو في كل يوم لم يزن أحد من أهل بيته أبداً حتى يموت. فإذا مات شيعه إلى قبره سبعون ألف ملك، يدعون ويستغفرون اللَّه له حتى يدخل إلى قبره».

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا وَ أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

حدّ الزاني والزانية: سمّيت هذه السورة بالنور لأنّ آية النور

فيها من أهم آياتها، واولى آيات هذه السورة المباركة بمثابة إشارة إلى مجمل بحوث السورة: «سُورَةٌ أنزَلْنهَا وَفَرَضْنهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءَايتٍ بَيّنتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

إنّ «سورة» بناء جميل مرتفع، وهذه الكلمة تطلق أيضاً على قسم من بناء كبير، وتطلق السورة على أقسام القرآن المختلفة المفصولة بعضها عن بعض.

إنّ هذه العبارة إشارة إلى كون أحكام ومواضيع هذه السورة- من اعتقادات وآداب وأوامر إلهية- ذات أهمية فائقة، لأنّها كلها من اللَّه.

وبعد هذا الإستعراض العام، تناولت السورة أوّل حكم حاسم للزاني والزانية: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ». ولتأكيد هذا الحكم قالت: «وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ».

وأشارت الآية في نهايتها إلى مسألة اخرى لإكمال الاستنتاج من العذاب الإلهي «وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ».

وتشتمل هذه الآية على ثلاثة تعاليم:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 351

1- الحكم بمعاقبة النساء والرجال الذين يمارسون الزنا.

2- إقامة هذا الحكم الإلهي بعيداً عن الرأفة بمن يقام عليه.

3- أوجب اللَّه حضور عدد من المؤمنين في ساحة معاقبة الزناة ليتعظ الناس بما يرون من إقامة حكم اللَّه العادل على المذنبين.

وبعد بيان حدّ الزنا، جاء بيان حكم الزواج من هؤلاء في الآية الثالثة كما يلي: «الزَّانِى لَايَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ».

إنّ الآية تبيّن واقعة ملموسة، فالمنحطون يختارون المنحطات، وكذلك يفعلن هنّ في اختيارهن، بينما يَسْمو المتطهّرون المؤمنون عن ذلك. كما تبيّن في هذه العبارة حكماً شرعياً وأمراً إلهياً يمنع المؤمنين من الزواج مع الزانيات، ويمنع المؤمنات من الزواج مع الزناة، لأنّ الانحرافات الأخلاقية كالأمراض الجسمية المعدية في الغالب.

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً

وَ لَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

عقوبة البهتان: قد يستغلّ المعترضون ما نصّت عليه الآيات السابقة من عقوبات شديدة للزاني والزانية فيسيئون للمتطهّرين، فبيّنت الآيات اللاحقة هنا عقوبات شديدة للذين يرمون المحصنات. تقول الآية: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ» «1». فالأشخاص الذين يتّهمون النساء العفيفات بعمل ينافي العفة (أي: الزنا)، ولم يأتوا بأربعة شهود عدول لإثبات إدعائهم. فحكمهم: «فَاجْلِدُوهُمْ ثَمنِينَ جَلْدَةً». وتضيف الآية حكمين أخرين: «وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهدَةً أبَدًا وَأُولئِكَ هُمُ الْفسِقُونَ».

«القذف»: إذا جرى بلفظ صريح، وبأيّ لغة وأيّة صورة فحدّه هو ثمانون جلدة، وإذا لم يكن صريحاً فيعزّر القاذف.

وهذا التشديد في الحكم المشرّع لحفظ الشرف والطهارة، ليس خاصاً بهذه المسألة، ففي كثير من التعاليم الإسلامية نراه ماثلًا أمامنا.

______________________________

(1) «الرّمي» في الأصل هو اطلاق السهم أو قذف الحجر وأمثالهما، وقد استخدمت الكلمة هنا كناية عن اتّهام الأشخاص وسبابهم ووصفهم بما لا يليق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 352

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إذا اتّهم المؤمن أخاه انماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء».

ولكن المولى العزيز الحكيم سبحانه وتعالى لا يسدّ باب رحمته في وجه التائبين، الذين تابوا من ذنوبهم وطهّروا أنفسهم، وندموا على ما فرّطوا، وسعوا في تعويض ما فاتهم من البرّ «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

فمعنى ذلك قبول شهادتهم بعد التوبة وإزالته الحكم بفسقهم.

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَ الْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)

وَ يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَ لَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس، قال سعد بن عبادة: لو أتيت لكاع وقد يفخّذها رجل، لم يكن لي أن اهيجه حتى آتي بأربعة شهداء، فواللَّه ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، وإن قلت ما رأيت فإنّ في ظهري لثمانين جلدة.

وبنزول الآيات السابقة علم المسلمون الحل السليم لهذه المشكلة.

التّفسير

عقاب توجيه التهمة إلى الزوجة: يستنتج من سبب النّزول أنّ هذه الآيات في حكم الإستثناء الوارد على حدّ القذف، فلا يُطبق حدّ القذف (ثمانين جلدة) على زوج يتّهم زوجته بممارسة الزنا مع رجل آخر، وتقبل شهادته لوحدها ويمكن في هذه الحالة أن يكون صادقاً كما يمكن أن يكون كاذباً في شهادته وهنا يقدم القرآن المجيد حلًا أمثل هو: على الزوج أن يشهد أربع مرات على صدق إدّعائه: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 353

شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهدَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْصدِقِينَ وَالْخمِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكذِبِينَ».

وبهذا على الرجل أن يعيد هذه العبارة: «أشهد باللَّه إنّي لمن الصادقين فيما رميتها من الزنا». أربع مرات لإثبات إدعائه من جهة، وليدفع عن نفسه حدّ القذف من جهة اخرى. ويقول في الخامسة: «لعنة اللَّه عليّ إن كنت من الكاذبين».

وهنا تقف المرأة على مفترق طريقين، فإمّا أن تقرّ بالتهمة التي وجهها إليها زوجها، أو تنكرها على وفق ما ذكرته الآيات التالية.

ففي الحالة الاولى تثبت التهمة؛ وفي الثانية:

«وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكذِبِينَ وَالْخمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصدِقِينَ».

وبهذا الترتيب تشهد المرأة خمس مرات مقابل شهادات الرجل الخمس- أيضاً- لتنفي التهمة عنها بأن تكرر أربع شهادات:

«أشهد باللَّه إنّه لمن الكاذبين فيما رماني من الزنا». وفي الخامسة تقول: «أنّ غضب اللَّه عليّ إن كان من الصادقين».

وهذه الشهادات منهما هي ما يسمّى ب «اللعان»، لاستخدام عبارة اللعن في الشهادة.

وليترتب على هذين الزوجين أربعة أحكام نهائية.

أوّلها: انفصالهما دون طلاق.

وثانيها: تحرم الزوج على الزوجة إلى الأبد، أي لا يمكنهما العودة إلى الحياة الزوجية معاً بعقد جديد.

وثالثها: سقوط حدّ القذف عن الرجل، وحد الزنا عن المرأة.

ورابعها: الطفل الذي يولد بعد هذه القضية لا ينسب إلى الرجل، وتحفظ نسبته للمرأة فقط.

ولم ترد تفاصيل الحكم السابق في الآيات المذكورة أعلاه، وإنّما جاء في آخر الآية موضع البحث: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَإِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ».

فهذه الآية إشارة إجمالية إلى تأكيد الأحكام السابقة، لأنّها تدل على أنّ اللعان فضل من اللَّه، إذ يحل المشكلة التي يواجهها الزوجان، بشكل صحيح.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 354

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْ لَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قَالُوا هذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْ لَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَ لَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا

لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَ لَوْ لَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذَا سُبْحَانَكَ هذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)

حديث الإفك المثير: يستفاد من مجموع الآيات هو أنّه قد اتهم شخص بري ء بعمل مخلّ بالعفة والشرف حين نزول هذه الآيات، وأنّ الشائعات كانت منتشرة في المدينة، وأنّ مجموعة من المنافقين المتظاهرين بالإسلام أرادوا الاخلال بالمجتمع الإسلامي إلى أخسّ السبل لتلويث سمعة النبي صلى الله عليه و آله والحط من شأنه المقدس لدى الناس، بترويجهم هذه الشائعة، فنزلت هذه الآيات، وتصدّت لهذه الحادثة بقوة، ودفعت المنحرفين والمنافقين الحاقدين إلى جحورهم. وهذه الأحكام نافذة في كل بيئة وزمان. تقول أوّل آية من الآيات موضع البحث، دون أن تطرح أصل الحادثة: «إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ».

«الإفك»: على وزن «فكر» يقصد بها كل مصروف عن وجهه، الذي يحق له أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب «مؤتفكة»، ثم اطلقت على كل كلام منحرف عن الحق ومجانب للصواب، ومن ذلك يطلق على الكذب «إفك».

و «العُصبة»: على وزن «فُعْلَة» مشتقة من العَصَبْ، وجمعها أعصاب، وهي التي تربط عضلات الجسم بعضها مع بعض، وعلى شكل شبكة منتشرة في الجسم، ثم أطلقت كلمة «عصبة» على مجموعة من الناس متحدة وذات عقيدة واحدة.

واستخدام هذه الكلمة يكشف عن الإرتباط الوثيق بين المتآمرين المشتركين في ترويج حديث الإفك، حيث كانوا يشكّلون شبكة قوية منسجمة ومستعدة لتنفيذ المؤامرات.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 355

إنّ القرآن طمأن وهدّأ روع المؤمنين الذين آلمهم توجيه هذه التهمة إلى شخصية متطهرة: «لَاتَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ»، لأنّه كشف عن حقيقة عدد من الأعداء المهزومين أو المنافقين الجبناء.

ولو لم

تكن هذه الحادثة، لما افتضح أمرهم بهذا الشكل، ولكانوا أكثر خطراً على المسلمين.

إنّ هذا الحادث علّم المسلمين أنّ اتّباع الذين يروّجون الشائعات يجرّهم إلى الشقاء، وأنّ عليهم أن يقفوا بقوّة أمام هذا العمل.

ثم تعقب هذه الآية بذكر مسألتين:

أوليهما: «لِكُلّ امْرِىٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ». إشارة إلى أنّ المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق كبار المذنبين لا تحول دون تحمل الآخرين لجزء من هذه المسؤولية، ولهذا يتحمل كل شخص مسؤوليته إزاء أية مؤامرة.

والمسألة الثانية: «وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

وقائد هذه المجموعة سيعاقب عقاباً عظيماً لكبر ذنبه.

ثم توجّهت الآية التالية إلى المؤمنين الذين انخدعوا بهذا الحديث فوقعوا تحت تأثير الشائعات، فلامتهم بشدّة: «لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا». أي: لماذا لم تقفوا في وجه المنافقين بقوة، بل استمعتم إلى أقوالهم التي مسّت مؤمنين آخرين كانوا بمنزلة أنفسكم منكم. ولماذا لم تدفعوا هذه التهمة وتقولوا بأنّ هذا الكلام كذب وافتراء: «وَقَالُوا هذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ».

أنّكم كنتم تعرفون جيداً الماضي القبيح لهذه المجموعة من المنافقين.

ثم تهتم الآيات بالجانب القضائي للمسألة فتقول: «لَّوْلَا جَاءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ». أي لماذا لم تطلبوا منهم الإتيان بأربعة شهود. «فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكذِبُونَ».

إنّ هذه الملامة تبيّن أنّ الحكم بأداء أربعة أشخاص لشهادتهم، وكذلك حدّ القذف في حالة عدمه قد نزل قبل الآيات التي تناولت حديث الإفك.

وأخيراً جمعت الآية التالية هذه الملامات، فقالت: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 356

ونظراً لأن «أفضتم» مشتقة من الإفاضة، بمعنى خروج الماء بكثرة، واستعملت في حالات اخرى للتوغل في الماء، نتج من هذه العبارة أنّ شائعة الإتهام توسعت

بشكل شملت المؤمنين مضافاً إلى مروجيها الأصليين (المنافقين).

وتبيّن الآية التالية البحث السابق وهو كيف ابتلي المؤمنون بهذا الذنب العظيم نتيجة تساهلهم، فتقول: «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ». أي تذكّروا كيف رحّبتم بهذه التهمة الباطلة فتناقلتموها: «وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ».

وتشير هذه الآية إلى ثلاثة أنواع من ذنوبهم العظيمة في هذا المجال:

الأوّل: تَقبُّل الشائعة: استقبالها وتناقلها.

الثاني: نشر الشائعة دون أي تحقيق أو علم بصدقها.

الثالث: استصغار الشائعة واعتبارها وسيلة للهو وقضاء الوقت. في نهج البلاغة عن الإمام علي عليه السلام قال: «أشدّ الذنوب ما استهان به صاحبه».

ونظراً لهول هذه الحادثة التي استصغرها بعض المسلمين، أكدتها الآية ثانية، فانّبتهم مرّة اخرى ولذعتهم بعباراتها إذ قالت:

«وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهذَا سُبْحنَكَ هذَا بُهْتنٌ عَظِيمٌ».

وسبق لهذه الآية أن وجهت اللوم لهم لسوء ظنهم بالذي وجه إليه الإتهام باطلًا، وهنا تقول الآية: إضافة إلى وجوب حسن الظن بالمتهم يجب ألا تسمحوا لأنفسكم بالتحدث عنه، ولا تتناولوا التهمة الموجهة إليه، فكيف بكم وقد كنتم سبباً لنشرها.

يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَ لَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)

حرمة إشاعة الفحشاء: تحدثت هذه الآيات أيضاً عن حديث الإفك، والنتائج المشؤومة والأليمة لاختلاق الشائعات ونشرها، فذكر أوّلًا: «يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ». أي أنّ من علامات الإيمان أن لا يتوجه الإنسان نحو الذنوب العظام، والجملة المذكورة تشكل أحد

مختصر

الامثل، ج 3، ص: 357

أركان التوبة، إذ أنّ الندم على الماضي لا يكفي، بل يجب التصميم على عدم تكرار ارتكاب الذنوب في المستقبل، لتكون توبة كاملة.

وللتأكيد أكثر على أنّ هذا الكلام ليس اعتيادياً، بل صادر عن اللَّه العليم الحكيم، ولبيان الحقائق ذات الأثر الفعال في مصير الإنسان، يقول سبحانه وتعالى: «وَيُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ». فهو يعلم حاجاتكم وما يضرّكم وما ينفعكم بمقتضى علمه الواسع، ويصدر أحكامه وأوامره المتناسبة لاحتياجاتكم بمقتضى حكمته.

ولتثبيت الأمر نقل الكلام من مورده الخاص إلى بيان عام لقانون شامل دائم، فقال: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ».

ولجملة (تشيع الفاحشة) مفهوم واسع يضم كل عمل يساعد في نشر الفحشاء والمنكر.

وتختم الآية بالقول: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ». إنّه يعلم الذين يبيتون في قلوبهم حب هذا الذنب، ويعلم الذين يمارسونه تحت واجهات خداعة، أمّا أنتم فلا تعلمون ذلك ولا تدركونه.

وكررت الآية الأخيرة- مما نحن بصدده من الآيات التي تناولت حديث الإفك ومكافحة إشاعة الفحشاء، وقذف المؤمنين المتطهرين- هذه الحقيقة لتؤكّد القول: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَ لَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَ الْمَسَاكِينَ وَ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا

فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَ الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 358

على الرغم من عدم متابعة هذه الآيات حديث الإفك بصراحة، إلّاأنّها تعتبر مكملة لمضمون ذلك البحث، وتحذّر المؤمنين جميعاً من تأثير الأفكار الشيطانية فعلى هذا حينما يشعر الفرد بأوّل وسوسة شيطانية بإشاعة الفحشاء أو إرتكاب أي ذنب آخر فيجب التصدي له بقوة حاسمة، حتى يمنع من انتشاره وتوسّعه.

وتخاطب الآية الاولى المؤمنين، فتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ».

وحيث لا يمكن جرّ أي إنسان مؤمن متطهر مرّة واحدة إلى الفساد، فإنّ ذلك يتمّ خطوة بعد اخرى في طريق الفساد.

وأخيراً الإبتلاء بالكبائر، وهذه معني جملة «خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ».

ثم تشير الآية إلى أهم النعم الكبيرة التي منّ اللَّه بها على الإنسان في هدايته فتقول: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكّى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

ولا شك في أنّ الفضل والرحمة الإلهية ينقذان الإنسان من الإنحطاط والانحراف من الذنوب جميعاً، فاللَّه منحه العقل، ولطف به فأرسل إليه الرسل، ويسّر له سبل الإرتقاء والإهتداء، وأعانه على استكمال الخير، وإضافة إلى هذه المواهب شمل اللَّه الذين تطهروا بتوفيقاته الخاصّة، وإمداداته التي يستحقونها، والتي تعتبر أهم عنصر في تطهير وتزكية النفس.

وذكر عدد من المفسرين- ومنهم الطبرسي في المجمع- سبباً لنزول الآية الثانية- من الآيات موضع البحث- يكشف عن

تلاحمها مع الآيات السابقة، قال: نزلت في جماعة من الصحابة أقسموا على أن لا يتصدقوا على رجل تكلّم بشي ء من الإفك ولا يواسوهم. فنزلت هذه الآية لتمنعهم من ردّ فعل قاس، وأمرتهم بالعفو والسماح.

نعود الآن إلى تفسير الآية بملاحظة سبب النزول هذا. يقول القرآن: «وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِى الْقُرْبَى وَالْمَسكِينَ وَالْمُهجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».

إنّ هذا التعبير يكشف أنّ عدداً ممن تورّط في قضية الإفك كانوا من المهاجرين في سبيل اللَّه إذ خدعهم المنافقون، ولم يجز اللَّه طردهم من المجتمع الإسلامي لماضيهم المجيد، كما لم يسمح بعقابهم أكثر مما يستحقونه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 359

«يأتل»: مشتقة من «أليّة» أي اليمين.

ثم تضيف الآية: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا». لتشجيع المسلمين وترغيبهم في العفو والصفح بقولها: «أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ». فإنّكم مثلما تأملون من اللَّه العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم، يجب عليكم العفو والصفح عن الآخرين: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وترسم هذه الآيات صورة للتعادل الإسلامي في جذبه ودفعه، وتشكل آيات الإفك والعقوبات الشديدة التي تفرض على الذين يتهمون الآخرين في شرفهم «قوة الدفع». وأمّا الآية موضع البحث التي تتحدث عن العفو والصفح وكون اللَّه غفوراً رحيماً.

فإنّها تكشف عن «قوة الجذب».

ثم تعود الآية إلى قضية القذف واتّهام النساء العفيفات المؤمنات في شرفهن، فتقول بشكل حازم: «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنتِ الْغفِلتِ الْمُؤْمِنتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

في تفسير الميزان: هذه الآية أخذ الصفات الثلاث الإحصان والغفلة والإيمان للدلالة على عظم المعصية فإنّ كلًا من الإحصان بمعنى العفة والغفلة والإيمان سبب تام في كون الرمي ظلماً والرامي ظالماً والمرمية مظلومة فإذا اجتمعت كان الظلم أعظم ثم أعظم، وجزاؤه اللعن في الدنيا والآخرة والعذاب العظيم «1».

والمراد من «الغافلات»

أنّهن لا يعلمن بما ينسب إليهنّ من بهتان في الخارج، ولهذا لسن في صدد الدفاع عن أنفسهن، وفي النتيجة فإنّ الآية تطرح موضوعاً جديداً للبحث، لأنّ الآيات السابقة تحدثت عن مثيري التهم الذين يمكن التعرف عليهم ومعاقبتهم. إلّاأنّ الحديث هنا يدور حول مثيري الشايعات الذين أخفوا أنفسهم عن العقاب والحد الشرعي، فتقول الآية: إنّ اللَّه تعالى سيبعدهم عن رحمته في هذه الدنيا، كما ينتظرهم العذاب العظيم في الآخرة.

وتحدد الآية التالية وضع الذين يتهمون الناس بالباطل في ساحة العدل الإلهي، قائلة: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

تدور ألسنتهم بما لا تشتهي أنفسهم لتستعرض الحقائق.

______________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 15/ 94.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 360

وتشهد أيديهم وأرجلهم، وكما ذكرت الآيات القرآنية: تنطق جلودهم، حقاً إنّه يوم البروز والإفتضاح، ويوم تنكشف فيه السرائر.

ثم تقول الآية: «يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقُّ». واستناداً إلى هذا الدليل أيضاً «وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا تَكْتُمُونَ (29)

لا تدخلوا بيوت الناس حتى يؤذن لكم: بيّنت هذه الآيات جانباً من أدب المعاشرة، والتعاليم الإسلامية الاجتماعية التي لها علاقة وثيقة بقضايا عامة حول حفظ العفة، حيث تقول أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا عَلَى أَهْلِهَا». وبهذا الترتيب عندما تعزمون على الدخول لابدّ من

إخبار أصحاب البيت بذلك ونيل موافقتهم.

يجب أن يكون محيط المنزل آمناً إلى حدّ كاف؛ حتى أنّ جميع قوانين العالم تمنع الدخول إلى منازل الآخرين دون استئذان وتعاقب عليه. ونصّت الأحكام الإسلامية على تعاليم وآداب خاصة في هذا المجال، لا يشاهد نظيرها إلّانادراً.

روى- في التفسير الكبير- أنّ أبا سعيد الخدري استأذن على الرسول صلى الله عليه و آله وهو مستقبل الباب فقال: «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب».

وفي الدرّ المنثور عن عبداللَّه بن بشر قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: «السلام عليكم السلام عليكم».

ومما يلفت النظر في هذا الحكم الذي يتصف بأبعاد إنسانية وعاطفية واضحة، مرافقة لجملتين، أولاها: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ» وثانيتهما: «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

وأردف القرآن هذا الحكم بجملة اخرى في الآية التالية: «فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 361

قد يكون المراد من هذه العبارة أنّه ربّما كان في المنزل أحد، ولكن من لديه حق إعطاء الإذن بالدخول غير موجود، ففي هذه الحالة لا يحق للمرء الدخول إلى المنزل.

ثم تضيف الآية: «وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ».

إشارة إلى أنّه لا لزوم لانزعاج المرء إن لم يؤذن له بالدخول، فلعل صاحب المنزل في وضع غير مريح، أو أنّ منزله لم يهيأ لاستقبال الضيوف.

وبما أنّ بعض الناس قد يدفعهم حبّ الإطلاع والفضول حين رفضهم استقباله على استراق السمع، أو التجسس من ثقب الباب لكشف خفايا أهل المنزل وليطلع على أسرارهم، لهذا قالت الآية: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ».

وبما أنّ لكل حكم استثناءً، لرفع المشكلات والضرورات بشكل معقول عن طريقه، تقول آخر آية

موضع البحث: «لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتعٌ لَّكُمْ».

وتضيف في الختام: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ». ولعل ذلك إشارة إلى استغلال البعض هذه الاستثناءات، فيتذرّع بأنّ المنزل غير مسكون فيدخله بهدف الكشف عن بعض الأسرار، أو الدخول إلى منازل مسكونة متذرعاً بعدم علمه بأنّها مسكونة، إلّاأنّ اللَّه يعلم بكل هذه الأعمال، ويعلم الذين يسيئون الاستفادة من هذا الاستثناء.

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَ لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَ لَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 362

سبب النّزول

في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهن، فنظر إليها وهي مقبلة، فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه، فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على صدره وثوبه، فقال: واللَّه لآتين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولأخبرنّه». قال: «فأتاه فلما رآه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال له: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل

عليه السلام بهذه الآية: «قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصرِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ»».

التّفسير

مكافحة السفور وخائنة الأعين: قلنا في البداية: إنّ هذه السورة اختصت بالعفة والطهارة وتطهير الناس من جميع الانحرافات الجنسية، ولا يخفى على أحد إرتباط هذا البحث بالبحوث الخاصة بالقذف. تقول الآية أوّلًا: «قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصرِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ». «يغضوا»: مشتقة من «غضّ» من باب «ردّ» وتعني في الأصل التنقيص، لهذا لم تأمر الآية أن يغمض المؤمنون عيونهم، بل أمرت أن يغضّوا من نظرهم.

إنّ الإسلام نهى عن هذا العمل المندفع مع الأهواء النفسية والشهوات، لأنّ «ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ». كما نصّت عليه الآية- موضع البحث- في ختامها.

ثم تحذر الآية اولئك الذين ينظرون بشهوة إلى غير محارمهم، ويبررون عملهم هذا بأنّه غير متعمّد، فتقول: «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ».

وتناولت الآية التالية شرح واجبات النساء في هذا المجال، فأشارت أوّلًا إلى الواجبات التي تشابه ما على الرجال، فتقول:

«وَقُلْ لِّلْمُؤْمِنتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ».

وبهذا حرم اللَّه النظر بريبة على النساء أيضاً مثلما حرّمه على الرجال، وفرض تغطية فروجهنّ عن أنظار الرجال والنساء مثلما جعل ذلك واجباً على الرجال.

ثم أشارت الآية إلى مسألة الحجاب في ثلاث جمل:

أ) «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا». فلا يحق للنساء الكشف عن زينتهنّ المخفية، وإن كانت لا تُظهر أجسامهنّ، أي لا يجوز لهنّ الكشف عن لباس يتزيّنّ به تحت اللباس

مختصر الامثل، ج 3، ص: 363

العادي أو العباءة، بنص القرآن الذي نهاهن عن ذلك.

ب) وثاني حكم ذكرته الآية هو: «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ». «خُمُر»: جمع «خِمار» في الأصل تعني «الغطاء»، إلّاأنّه يطلق بصورة اعتيادية على الشي ء الذي تستخدمه النسوة لتغطية رؤوسهنّ؛ و «الجيوب»: جمع «جيب»

على وزن «غيب» بمعنى ياقة القميص، وأحياناً يطلق على الجزء الذي يحيط بأعلى الصدر لمجاورته الياقة.

ويستنتج من هذه الآية أنّ النساء كنّ قبل نزولها، يرمين أطراف الخمار على أكتافهن أو خلف الرأس بشكل يكشفن فيه عن الرقبة وجانباً من الصدر، فأمرهن القرآن برمي أطراف الخمار حول أعناقهن؛ أي فوق ياقة القميص ليسترن بذلك الرقبة والجزء المكشوف من الصدر.

ج) وتشرح الآية في حكمها الثالث الحالات التي يجوز للنساء فيها الكشف عن حجابهن وإظهار زينتهن، فتقول: «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا». 1- «لِبُعُولَتِهِنَّ». 2- «أَوْ ءَابَائِهِنَّ». 3- «أَوْ ءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ». 4- «أَوْ أَبْنَائِهِنَّ». 5- «أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ». 6- «أَوْ إِخْوَانِهِنَّ». 7- «أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ». 8- «أَوْ بَنِى أَخَوَاتِهِنَّ». 9- «أَوْ نِسَائِهِنَّ».

10- «أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمنُهُنَّ».

11- «أَوِ التبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الْإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ». أي: الرجال الذين لا رغبة جنسية عندهم أصلًا بالعنن أو بمرض غيره.

12- «أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النّسَاءِ».

د) وتبيّن الآية رابع الأحكام فتقول: «وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ». أي: على النساء أن يتحفظن عفتهنّ.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 364

ويجب أن يراقبن تصرفهن بشدة بحيث لا يصل صوت خلخالهن إلى آذان غير المحارم. وانتهت الآية بدعوة جميع المؤمنين رجالًا ونساءً إلى التوبة والعودة إلى اللَّه ليفلحوا: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». وتوبوا أيّها الناس مما ارتكبتم من ذنوب في هذا المجال، بعدما اطلعتم على حقائق الأحكام الإسلامية، وعودوا إلى اللَّه لتفلحوا.

فلسفة الحجاب: مما لا شك فيه أنّ الحديث عن الحجاب للمتغربين في عصرنا الذي سمّوه بعصر التعري والحرية الجنسية، ليس حديثاً سارّاً حيث يتصورونه اسطورة يعود لعصور خلت. إلّاأنّ الفساد الذي لا حدّ له، والمشاكل المتزايدة والناتجة عن هذه الحريات

التي لا قيد لها ولا حدود، أدّى بالتدريج إلى إيجاد الاذن الصاغية لهذا الحديث.

والقضية المطروحة (نقولها مع الإعتذار): هل من الصحيح أن تُستغل النساء للتلذذ من جانب الرجال عن طريق السمع والنظر واللمس (باستثناء المجامعة) وأن يكن تحت تصرف جميع الرجال، أو أن تكون هذه الامور خاصة لأزواجهن؟

يقول الإسلام: إنّ الامور الجنسية سواءً كانت مجامعة أو استلذاذاً عن طريق السمع أو البصر أو اللمس خاص بالأزواج، ومحرّم على غيرهم، لأنّ ذلك يؤدّي إلى تلويث المجتمع وانحطاطه، وعبارة «ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ» التي جاءت في الآية السابقة تشير إلى هذه المسألة.

إنّ فلسفة الحجاب ليست خافية على أحد للأسباب التالية:

1- إنّ تعري النساء وما يرافقه من تجميل ودلال- وما شاكل ذلك- يحرك الرجال- خاصّة الشباب- ويحطّم أعصابهم، وتراهم قد غلب عليهم الهياج العصبي، وأحياناً يكون ذلك مصدراً للأمراض النفسية.

خاصة إذا لاحظنا أنّ الغريزة الجنسية، أقوى الغرائز في الإنسان وأكثرها عمقاً، وكانت عبر التاريخ السبب في أحداث دامية وإجرامية مرعبة، حتى قيل: إنّ وراء كل حادثة مهمة امرأة.

أليس إثارة الغرائز الجنسية لعباً بالنار؟ وهل هذا العمل عقلاني؟

2- تبيّن إحصاءات موثقة ارتفاع نسب الطلاق وتفكّك الاسرة في العالم، بسبب زيادة التعرّي، لأنّ في سوق التعري والحرية الجنسية، حيث المرأة سلعة تباع وتشترى أو في أقل تقدير موضع نظر وسمع الرجال، عندها يفقد عقد الزواج حرمته.

3- انتشار الفحشاء وازدياد الأبناء غير الشرعين يعتبران من أنكى نتائج إلغاء

مختصر الامثل، ج 3، ص: 365

الحجاب، فشواهدها ظاهرة في المجتمع الغربي، واضحة بدرجة لا تحتاج إلى بيان.

4- قضية «ابتذال المرأة» وسقوط شخصيتها في المجتمع الغربي ذات أهمية كبيرة فعندما يرغب المجتمع في تعري المرأة، فمن الطبيعي أن يتبعه طلبها لادوات التجميل والتظاهر الفاضح والإنحدار السلوكي، وتسقط

شخصية المرأة في مجتمع يركز على جاذبيتها الجنسية، ليجعلها وسيلةً إعلامية يُروّج بها لبيع سلعة أو لكسب سائح.

وهذا السقوط يفقدها كل قيمتها الإنسانية، إذ يصبح شبابها وجمالها وكأنّه المصدر الوحيد لفخرها وشرفها، حتى لا يبقى لها من إنسانيتها سوى أنّها أداةٌ لإشباع شهوات الآخرين، الوحوش الكاسرة في صور البشر.

كيف يمكن للمرأة في هذا المجتمع أن تبرز علمياً وتسمو أخلاقياً؟!

وَ أَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَ لَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

الترغيب في زواج يسير التكاليف: طرحت هذه الآية- منذ بدايتها حتى الآن- سبلًا أمينة متعددة للحيلولة دون الإنحطاط الخلقي والفساد إلى عالم أرحب من الطهر والاستقامة، ويحول دون تقهقرها أو انحدارها في مهاوي الرذيلة، وقد أشارت الآيات- موضع البحث- إلى أهم طرق مكافحة الفحشاء، ألا وهو الزواج اليسير الذي يتمّ بعيداً عن أجواء الرياء والبذخ، لأنّ إشباع الغرائز بشكل سليم وشرعي خير سبيل لاقتلاع جذور الذنوب. لهذا تقول بداية الآية موضع البحث: «وَأَنْكِحُوا الْأَيمَى مِنكُمْ وَالصلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ». «الأيامى»: جمع «أيّم» على وزن «قيّم» وتعني في الأصل المرأة التي لا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 366

زوج لها، وكذلك تطلق هذه الكلمة على الرجل الذي لا زوجة

له، فيدخل في هذا المفهوم كل من ليس له زوج، سواء كان بكراً أم ثيّباً. وعبارة «أنكحوا» أي «زوّجوا» فالمراد من هذا الأمر بالتزويج التمهيد للزواج عن طريق تقديم العون المالي عند الحاجة، أو العثور على زوجة مناسبة، أو التشجيع على الزواج، ولا اختلاف في أنّ أصل التعاون الإسلامي يوجب تقديم العون من قبل المسلمين بعضهم لبعض.

وجاء ذلك هنا بصراحة ليؤكّد أهمية الزواج الخاصة، وهي أهمية بالغة المدى.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتى يجمع اللَّه بينهما».

وبما أنّ بعض الأعذار كالفقر أو عدم وجود وتوفّر الإمكانات اللازمة قد تقف حائلًا دون الزواج، أو هو عذر للفرار من الزواج وتشكيل الاسرة. يقول القرآن بهذا الصدد: «إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

إنّ المتزوج يكتسب شخصية اجتماعية، حيث يجد نفسه مسؤولًا عن المحافظة على زوجته، وماء وجه اسرته، وتأمين حياةٍ سعيدة ومستقبل زاهر لها، ويستغلّ المتزوج جميع طاقاته للحصول على دخل معتبر، فتراه يقتصد في نفقاته ليتغلّب على الفقر بأسرع وقت ممكن، ولا جدال في أنّ الإمدادات الإلهية والقوى الروحية الخفية تساعد هذا الشخص الذي تزوج ليحفظ نفسه ويطهرها.

ولكن أحياناً بالرغم من بذل الجميع جهودهم لتهيئة مستلزمات زواج إنسان ما لا يفلحون في ذلك، مما يضطره إلى مضي فترة من الزمن محروماً من الزواج، ولكي لا يظن أنّ إقدامه على الفساد أمراً مباحاً تقتضيه الضرورة أسرعت الآية التالية لتأمره بالطهارة والعفّة فقالت: «وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَايَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ».

ويهتم الإسلام كعادته بالعبيد الضعفاء اجتماعياً من أجل تيسير حريتهم، فيتناول القرآن المجيد مسألة المكاتبة «1» فتقول الآية:

«وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ

الْكِتبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمنُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا».

ولأجل ألا يقع العبيد في مشاكل لا يتمكنون من حلّها ويعجزون عن تسديد ما

______________________________

(1) إنّ عقد المكاتبة نوع من الإتفاقات يتمّ بين المولى وعبده، يلتزم العبد فيه بإعداد مبلغ من المال من عمل حرّ، ليدفع أقساطاً لسيّده، فإذا دفع آخر قسطينال حريته.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 367

بذمتهم، يدعو القرآن الكريم إلى مساعدتهم فيقول: «وَءَاتُوهُم مّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِى ءَاتكُمْ».

والهدف الحقيقي هو أن يشمل المسلمون هذه الطبقة المستضعفة بمساعداتهم لتتحرر بأسرع وقت ممكن.

وعقّبت هذه الآية بإشارة إلى أحد الأعمال القبيحة التي كان يمارسها عبّاد الدنيا إزاء جواريهم: «وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا».

وهذه الآية تكشف عن مدى الرذيلة والإنحطاط الخلقي الذي كان سائداً في عهد الجاهليه، وقد واصل البعض أعماله القبيحة هذه حتى بعد ظهور الإسلام، حتى نزلت الآية السابقة، وأنهت هذه الأعمال.

ومع بالغ الأسف نجد عصرنا الذي سمي بجاهلية القرن العشرين، تمارس البشرية هذا العمل بقوة وعلى قدم وساق في بلدان تدّعي المدنية والحضارة والدفاع عن حقوق الإنسان.

وفي الختام- على حسب الاسلوب الذي يتبعه القرآن- يفتح طريق التوبة للمذنبين، ويشجعهم على إصلاح أنفسهم: «وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وعلى نهج القرآن، نجد آخر الآيات- موضع البحث- تستنتج وتلخّص الموضوع المطروح خلال إشارتها إلى البحوث السابقة: «وَلَقَدْ أنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءَايتٍ مُّبَيّنَاتٍ». وكذلك دروس وعبر من الأقوام الماضية تنفعكم في يومكم هذا: «وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ».

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَ لَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي ءُ وَ لَوْ

لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ الْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقَامِ الصَّلَاةِ وَ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 368

آية النور: تحدث الفلاسفة والمفسرون والعرفاء الإسلاميون كثيراً عن مقاصد الآيات أعلاه، وهي مرتبطة بما سبقها من الآيات الشريفة التي عرضت لقضية العفة ومكافحة الفحشاء بمختلف السبل.

وبما أنّ ضمانة تنفيذ الأحكام الإلهية، وخاصة السيطرة على الغرائز الثائرة، ولا سيما الغريزة الجنسية التي هي أقوى الغرائز، لا تتمّ دون الإستناد إلى الإيمان، ومن هنا إمتد البحث إلى الإيمان وأثره القوي، فقالت الآية أوّلًا: «اللَّهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

وإذا أردنا تشبيه الذات المقدسة لربّ العالمين (رغم منزلته العظيمة التي لا نظير لها ولا شبيه) فلا نجد خيراً من النور! اللَّه الذي خلق كل شي ء في عالم الوجود ونوّره، فأحيا المخلوقات الحية ببركته، ورزقها من فضل، ولو انقطعت رحمته عنها لحظة، لأصبح الجميع في ظلمات الفناء والعدم.

ومما يلفت النظر أنّ كل مخلوق يرتبط باللَّه بمقدار معين يكتسب من النور بنفس ذلك المقدار:

القرآن نور لأنّه كلام اللَّه.

والدين الإسلامي نور لأنّه دينه.

الأنبياء أنوار لأنّهم رسله.

والأئمة المعصومون عليهم السلام أنوار إلهية، لأنّهم حفظة دينه بعد النبي صلى الله عليه و آله.

والإيمان نور، لأنّه رمز الإلتحام به سبحانه وتعالى.

والعلم نور، لأنّه السبيل إلى معرفته- عزّ وجل-.

ولهذا: «اللَّه نور السماوات والأرض».

وإذا

استعملنا كلمة «النور» بمعناها الواسع، أي الظاهر في ذاته والمظهر لغيره في هذه الحالة يصبح استعمال كلمة النور الذات اللَّه المقدسة حقيقة ولا تشبيه فيها، لأنّه لا يوجد أظهر من اللَّه تعالى في العالم، وكل الأشياء تظهر من بركات وجوده.

وبهذا تأخذ أنوار الوجود نورها من نوره وتنتهي إلى نوره الطاهر.

وقد أوضح القرآن بعد بيانه الحقائق السالفة ذلك، إذْ ذكر مثالًا رائعاً دقيقاً لكيفية النور الإلهي: «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَوةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّاشَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِى ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 369

عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

«المشكاة»: في الأصل تعني الكُوّة التي تخصص في الجدار لوضع المصابيح الزيتية فيها لحفظها من الرياح.

«الزجاجة»: تطلق في الأساس على الأحجار الشفّافة، وهنا تعني الزجاجة التي توضع فوق المصباح لتحفظ شعلته، وتنظّم جريان الهواء، لتزيد من نور الشعلة.

«المصباح»: يتألف من وعاء للزيت وفتيل.

عبارة «زَيْتُونَةٍ لَّاشَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ» تشير إلى الطاقة التي تُجهّز هذا المصباح بوقود لا ينضب معينه، وزيت الزيتون من أجود الوقود المستعمل للمصابيح، ثم إنّ هذا الزيت يُحصل عليه من زيتون شجر يتعرض للشمس من جميع جوانبه بشكل متساو، لا أن تكون الشجره في الجانب الشرقي من البستان وبجانب حائط يمنع وصول أشعة الشمس إليها، كما لا تكون في جهة الغرب ليتعرض جانب واحد منها على أشعة الشمس.

وتوضيح هذا المثال: إنّ نور الإيمان الموجود في قلوب المؤمنين يحتوي على العناصر الأربعة المتوفرة في المصباح المضي ء، هي:

«المصباح» وهو شعلة الإيمان في قلب المؤمن يضي ء طريق الهداية.

و «الزجاجة» هي قلب المؤمن ينظم الإيمان في ذاته

ويحفظه من كل سوء.

و «المشكاة» صدر المؤمن. أو بعبارة اخرى: شخصيته بما فيها وعيه وعلمه وفكره الذي يصون إيمانه من الأعاصير والأخطار.

«شجرة مباركة زيتونة» هي الوحي الإلهي الذي يكون بمنتهى الصفاء والطهارة وتوقد شعلة إيمان المؤمنين- في الحقيقة- من نور اللَّه الذي ينير السماوات والأرض وقد أشرق من قلوب المؤمنين، فأضاء وجودهم ونور وجوههم.

فتراهم يمزجون الأدلة العقلائية بنور الوحي، فيكون مصداق «نور على نور».

ولهذا ترى القلوب المستعدة لاستقبال النور الإلهي تهتدي، وهي المقصودة بعبارة «يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ».

وتجب المحافظة على نور الوحي من التلوث والميول المادية والانحراف إلى الشرق أو الغرب الذي يؤدّي إلى التفسخ والإندثار.

ولتعبي ء قوى الإنسان بشكل سليم بعيداً عن كل فكر مستورد وانحراف، لتكون

مختصر الامثل، ج 3، ص: 370

مصداقاً ل «يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِى ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ». ويجب أن نعرف الآن أين موضع هذا المصباح، وشكل موضعه، ليتّضح لنا ما كان ضرورياً إيضاحه في هذا المجال، لهذا تقول الآية التالية: إنّ هذه المشكاة تقع «فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ» لكي تكون في مأمن من الشياطين والأعداء والانتهازيين، «وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» ويتلى فيها القرآن والحقائق الإلهية.

ثم تبيّن المقصود من هذه البيوت في آخر الآية حيث تقول: أنّه في هذه البيوت يسبّح أهلها صباحاً ومساءاً: «يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالْأَصَالِ». «رِجَالٌ لَّاتُلْهِيهِمْ تِجرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَوةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصرُ». إنّ هذه الخصائص تكشف عن أنّ هذه البيوت هي المراكز التي حُصّنت بأمر من اللَّه، وأنّها مركز لذكر اللَّه ولبيان حقيقة الإسلام وتعاليم اللَّه، ويضم هذا المعنى الواسع المساجد وبيوت الأنبياء والأولياء خاصة بيت النبي صلى الله عليه و آله وبيت علي عليه السلام.

وأشارت

آخر هذه الآيات إلى الجزاء الوافي لحراس نور الهداية وعشّاق الحق والحقيقة، فقالت: «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ». أي: أنّ اللَّه يكافي ء جميع أعمالهم بموجب أفضلها، ويشمل ذلك أبسط أعمالهم وأوسطها، حيث يجعلها اللَّه بمستوى أفضل الأعمال حين منحه المكافأة.

ولا عجب في ذلك، لأنّ الفضل الإلهي لمن كان جديراً به غير محدود: «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

أعمال سرابية: تحدثت الآيات السابقة عن نور اللَّه، نور الإيمان والهداية، ولإتمام هذا البحث ولتوضيح المقارنة بين الذين نوّر اللَّه قلوبهم وبين الآخرين تناولت هذه الآيات عالم الكفر والجهل والإلحاد المظلم. الكلام في الآية الاولى عن الذين يبحثون عن الماء في

مختصر الامثل، ج 3، ص: 371

صحراء جاقّة حارقة، ولا يجدون غير السراب فيموتون عطشاً، في الوقت الذي عثر فيه المؤمنون على نور الإيمان، ومنبع الهداية الرائعة، فاستراحوا بجنبها، فتقول أوّلًا: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمَانُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيًا». ولكن يجد اللَّه عند أعماله: «وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ».

ثم تناولت الآية الثانية مثالًا آخر لأعمال الكفار وقالت: «أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىّ يَغْشهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ». وبهذا المنوال تكون «ظُلُمتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَيهَا».

أجل، إنّ النور الحقيقي في

حياة البشر هو نور الإيمان فقط، ومن دونه تسود الحياة الظلمات، ونور الإيمان هذا إنّما هو لطف من عند اللَّه: «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ».

فقد شبّهت الآية أعمال غير المؤمنين بنور كاذب كسراب يراه ظمآن في صحراء جافة.

ثم ينتقل القرآن من الحديث عن هذا النور الكاذب، الذي هو عبارة عن أعمال المنافقين إلى باطن هذه الأعمال، الباطن المظلم والمخيف والموحش حيث تتعطل فيه حواس الإنسان، وتظلم عليه الدنيا حتى لا يرى نفسه.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)

الجميع يسبّح للَّه: تحدثت الآيات السابقة عن نور اللَّه، نور الهداية والإيمان، وعن الظلمات المضاعفة للكفر والضلال، أمّا الآيات موضع البحث، فإنّها تتحدث عن دلائل الأنوار الإلهية وأسباب الهداية، وتخاطب الآية النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». وكذلك الطير يسبّحن للَّه في حال أنّها باسطات اجنحتهنّ في السماء «وَالْطَّيْرُ صفتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ».

وبما أنّ هذا التسبيح العام دليل على خلقه تعالى لجميع المخلوقات، وخالقيته دليل على مالكيته للوجود كله، وكذلك دليل على أنّ كل ما في الوجود يرجع إليه سبحانه، فتضيف الآية: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 372

إنّ القصد من التسبيح والحمد هما ما نعبر عنه بعبارة «لسان حاله». أي نظام الوجود وأسراره المدهشة الكامنة في كل مخلوق تتحدث بصراحة عن عظمة الخالق وعلمه وحكمته التي لا حدود لها، إذ كل

مخلوق جميل، وكل أثر فني بديع يثير الدهشة والإعجاب، حتى أنّ لوحة فنية وقطعة شعرية جميلة، تحمد وتسبّح لمبدعها. فمن جهة تكشف عن صفاته (بحمدها له) ومن جهة اخرى تنفي عنه أي عيب أو نقص (فتسبحه)، فكيف وهذا الكون العظيم بما فيه من عجائب وغرائب لا تنتهي.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (45)

جانب آخر من الخلق العجيب: نواجه ثانية- في هذه الآيات- جانباً آخر من مسألة الخلق المدهشة، وما احتوته من آيات العلم والحكمه والعظمة، وكل ذلك من أدلة توحيد ذات اللَّه الطاهرة. يخاطب القرآن المجيد النبيّ صلى الله عليه و آله ثانية ويقول: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا». وبعد أن تتراكم السحب ترى قطرات المطر تخرج من بين السحاب وتهبط على الجبال والسهول والصحاري، «فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِللِهِ».

«يزجي»: مشتقة من «الإزجاء»، أي سوقه باسلوب لين لترتيب المخلوقات المتبعثرة هنا وهناك بقصد جمعها.

«ركام»: على وزن «غلام»، بمعنى الأشياء المتراكمة بعضها فوق بعض.

«الودق»: على وزن «شرق»، أنّها حبّات المطر.

فهو الذي يحيي الأرض بعد موتها ويبعث الحياة في الأشجار والنباتات، ويروي عطش البشر والحيوان.

وأشار القرآن إلى ظاهرة

اخرى من ظواهر السماء المدهشة، وهي السحاب، حيث قال:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 373

«وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ». أي من جبال السحب في السماء تنزل قطرات المطر على شكل ثلج وبرد، فتكون بلاء لمن يريد اللَّه عذابه فتصيب هذه الثلوج المزارع والثمار وتتلفها وقد تصيب الناس والحيوانات فتؤذيهم، «فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ». ومن لم يرد تعذيبه دفع عنه هذا البلاء، «وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ».

أجل، إنّه هو الذي ينزّل الغيث المخصب من سحابة تارة ... وهو الذي يصيّره برداً بأدنى تغيير بأمره فيصيب به (بالأذى) من يشاء، وربّما يكون مهلكاً أحياناً.

وهذا يدل على منتهى قدرته وعظمته إذ جعل نفع الإنسان وضرره وموته وحياته متقارنة، بل مزج بعضها ببعض.

وفي نهاية الآية يشير إلى ظاهرة أخرى من الظواهر السماوية التي هي من آيات التوحيد فيقول سبحانه: «يَكَادُ سَنَابَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصرِ». فالسحب المؤلفة من ذرات الماء تحمل في طيّاتها الشحنات «الكهربائية»، وتُومض إيماضاً يُذهل برقها (العيون) والأبصار ويصكّ رعدها السمع من صوته، وربّما اهتزت له جميع الاجواء.

إنّ هذه الطاقة الهائلة يبن هذا البخار اللطيف لمثيرةٌ للدهشة حقاً ...

وأشارت الآية التالية إلى إحدى معاجز الخلق ودلائل عظمة اللَّه، وهو خلق الليل والنهار بما فيهما من خصائص، حيث تقول: «يُقَلِّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِى الْأَبْصرِ».

إنّ لتعاقب الليل والنهار والتغييرات التدريجية الحاصلة منه أثر فعّال في استدامة الحياة وبقاء الإنسان، وفي ذلك عبرة لُاولي الأبصار.

وأشارت آخر الآيات موضع البحث- إلى أوضح دليل على التوحيد، وهي مسألة الحياة بصورها المختلفة، فقالت: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاءٍ». أي أنّ أصلها جميعاً من ماء، ومع هذا فلها صور مختلفة: «فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ» كالزواحف؛ «وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى

عَلَى رِجْلَيْنِ» كالإنسان والطيور؛ «وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ» كالدواب.

وليس الخلق محدداً بهذه المخلوقات، فالحياة لها صور اخرى متعددة بشكل كبير، سواء كانت أحياء بحرية أم حشرات بأنواعها المتعددة التي تبلغ آلاف الأنواع، لهذا قالت الآية في الختام: «يَخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 374

لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ مَا أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان قيل: نزلت الآيات في رجل من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود حكومة، فدعاه اليهودي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشراف.

التّفسير

الإيمان وقبول حكم اللَّه: تحدثت الآيات السابقة عن الإيمان باللَّه وعن دلائل توحيده وعلائمه في عالم التكوين، بينما تناولت الآيات- موضع البحث- أثر الإيمان وانعكاس التوحيد في حياة الإنسان، وإذعانه للحقّ والحقيقة. تقول أوّلًا: «لَقَدْ أَنزَلْنَا ءَايتٍ مُّبَيّنتٍ». آيات تنور القلوب بنور الإيمان والتوحيد، وتزيد في فكر الإنسان نوراً وبهجة، وتبدّل ظلمات حياته إلى نور على نور. وطبيعي أنّ هذه الآيات المبينات تُمهد للإيمان، إلّاأنّ الهداية الإلهية هي صاحبة الدور الأساسي: «وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

وكما نعلم فإنّ إرادة اللَّه ومشيئته ليست دون حساب، فهو سبحانه وتعالى يدخل نور الهداية إلى القلوب المستعدة

لتقبله.

ثم استنكرت الآية الثانية وذمّت مجموعة من المنافقين الذين يدّعون الإيمان في الوقت الذي خلت فيه قلوبهم من نور اللَّه، فتقول الآية عن هذه المجموعة: «وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مّنْهُم مّن بَعْدِ ذلِكَ وَمَا أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ».

ما هذا الإيمان الذي لا يتجاوز حدود ألسنتهم، ولا أثر له في أعمالهم.

ثم تذكر الآية التي بعدها دليلًا واضحاً على عدم إيمانهم: «وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُم مُّعْرِضُونَ».

ولتأكيد عبادة هذه المجموعة للدنيا وفضح شركهم، تضيف الآية: «وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ» وبكامل التسليم والخضوع.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 375

وبيّنت الآية الأخيرة في ثلاث جمل، الجذور الأساسية ودوافع عدم التسليم إزاء تحكيم الرسول صلى الله عليه و آله، فقالت أوّلًا: «أَفِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ».

هذه صفة من صفات المنافقين يتظاهرون بالإيمان، ولكنّهم لا يسلّمون بحكم اللَّه ورسوله، ولا يستجيبون له، إمّا بسبب انحرافهم قلبياً عن التوحيد أو الشك والتردد: «أَمِ ارْتَابُوا». وطبيعي أنّ الذي يتردد في عقيدته، لن يستسلم لها أبداً.

وثالثها فيما لو لم يلحدوا ولم يشكوا، أي كانوا من المؤمنين: «أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ».

في الوقت الذي يعتبر هذا تناقضاً صريحاً، إذ كيف للذي يؤمن برسالة محمّد صلى الله عليه و آله ويعتبر حكمه حكم اللَّه تعالى أن ينسب الظلم إلى الرسول صلى الله عليه و آله؟!

وهل يمكن أن يظلم اللَّه أحداً؟ أليس الظلم وليد الجهل أو الحاجة أو الكبر؟

إنّ اللَّه تعالى مقدس عن كل هذه الصفات؛ «بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظلِمُونَ». إنّهم لا يقتنعون بحقّهم، وهم يعلمون أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لا يجحف بحق أحد، ولهذا لا يستسلمون لحكمه.

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ

وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)

الإيمان والتسليم التام إزاء الحقّ: لاحظنا في الآيات السابقة ردّ فعل المنافقين لحكم اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله، أمّا الآيات- موضع البحث- فإنّها تشرح موقف المؤمنين إزاء حكم اللَّه ورسوله، فتقول: «إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا».

كيف يمكن أن يرجّح شخص حكم شخص آخر على حكم اللَّه، وهو يعتقد بأنّ اللَّه عالم بكلّ شي ء، ولا حاجة له بأحد، وهو الرّحمن الرّحيم؟ وكيف له أن يقوم بعمل إزاء حكم اللَّه إلّاالسمع والطاعة؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 376

لهذا تختتم الآية حديثها بالقول: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». ولا شك في أنّ الفلاح نصيب الذي يسلّم أمره إلى اللَّه، ويعتقد بعدله وحكمه في حياته المادية والمعنوية.

وتابعت الآية الثانية هذه الحقيقة بشكل أكثر عمومية، فتقول: «وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ».

لحن الآية التالية- وكذلك سبب نزولها الذي ذكرته بعض التفاسير- يعني أنّ بعض المنافقين تأثروا جداً على ما هم فيه، بعد نزول الآيات السابقة والتي وجّهت اللوم الشديد إليهم، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه و آله وأقسموا يميناً مغلظة أنّنا نسلّم أمرنا إليك، ولهذا أجابهم القرآن بشكل حاسم: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ

أيْمنِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ» إلى ميدان الجهاد، أو يخرجوا من أموالهم وبيوتهم فقل لهم: لا حاجة إلى القسم، وعليكم عملًا اطاعة اللَّه بصدق واخلاص: «قُل لَّاتُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».

إنّ كلمة «ليخرجنّ» في هذه الآية يقصد منها عدم التهالك على المال والحياة، وأتباع الرّسول صلى الله عليه و آله أينما رحل وحلّ وطاعته.

لهذا أكدت الآية التالية- التي هي آخر الآيات موضع البحث- هذا المعنى، وتقول للرسول صلى الله عليه و آله أن: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ».

ثم تضيف الآية أنّ هذا الأمر لا يخرج عن إحدى حالتين: «فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمّلْتُمْ». ففي صورة العصيان فقد ادّى وظيفته وهو مسؤول عنها كما أنّكم مسؤولون عن أعمالكم حين أنّ وظيفتكم الطاعة، ولكن «وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا» لأنّه قائد لا يدعو لغير سبيل اللَّه والحق والصواب.

في كل الأحوال: «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلغُ الْمُبِينُ». وإنّه صلى الله عليه و آله مكلّف بإبلاغ الجميع ما أمر اللَّه به، فإن أطاعوه استفادوا، وإن لم يطيعوه خسروا.

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 377

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: لما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلّامع السلاح ولا يصبحون إلّافيه. فقالوا: ترون أنّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلّااللَّه؟ فنزلت هذه الآية.

التّفسير

حكومة المستضعفين العالمية: تحدثت الآية السابقة عن

طاعة اللَّه ورسوله والتسليم له، وقد واصلت الآية- موضع البحث- هذا الموضوع، وبيّنت نتيجة هذه الطاعة ألا وهي الحكومة العالمية التي وعدها اللَّه المؤمنين به. فقالت الآية مؤكّدة: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ» ويجعله متجذراً وثابتاً وقوياً بين شعوب العالم.

«وَلَيُبَدّلَنَّهُم مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَايُشْرِكُونَ بِى شَيًا». وبعد سيادة حكم التوحيد في العالم وإجراء الأحكام الإلهية، واستقرار الأمن واقتلاع جذور الشرك، «وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفسِقُونَ».

وعلى كل حال يبدو من مجمل هذه الآية أنّ اللَّه يبشّر مجموعة من المسلمين الذين يتصفون بالإيمان والعمل الصالح بثلاث بشائر:

1- استخلافهم وحكومتهم في الأرض.

2- نشر تعاليم الحق بشكل جذري وفي كل مكان (كما يستفاد من كلمة «تمكين» ...).

3- انعدام جميع عوامل الخوف والإضطراب.

وينتج من كل هذا أن يُعبد اللَّه بكل حرية، وتُطبق تعاليمه ولا يشرك به، ويتمّ نشر عقيدة التوحيد في كل مكان.

الذين وعدهم اللَّه باستخلاف الأرض: لقد وعداللَّه المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة بالإستخلاف في الأرض وتمكينهم من نشر دينهم وتمتعهم بالأمن الكامل، فما هي خصائص هؤلاء الموعودين بالإستخلاف؟

إنّ هذه الآية تشمل المسلمين الأوائل، كما أنّ حكومة المهدي عليه السلام مصداق لها، إذ يتفق

مختصر الامثل، ج 3، ص: 378

المسلمون كافة من شيعة وسنة على أنّ المهدي عليه السلام يملأ الأرض عدلًا وقسطاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً. ومع كل هذا لا مانع من تعميمها، وينتج من ذلك تثبيت اسس الإيمان والعمل الصالح بين المسلمين في كل عصر وزمان، وأنّ لهم الغلبة والحكم ذا الأسس الثابتة.

إنّ جميع الجهود- من حرب وسلام وبرامج تثقيفية واقتصادية وعسكرية- تنصّب في ظلّ هذه الحكومة في

مسيرة العبودية للَّه الخالية من كل شائبة من شوائب الشرك.

وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

استحالة الفرار من حكومته تعالى: وعدت الآية السابقة المؤمنين الصالحين بالخلافة في الأرض، وتهيى ء هاتان الآيتان الناس للتمهيد لهذه الحكومة، فهي تقول أوّلًا: «وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ». وهي الوسيلة التي توثق الصلة بين الخالق والمخلوق، وتقرّب الناس إلى بارئهم، وتمنع عنهم الفحشاء والمنكر.

«وَءَاتُوا الزَّكَوةَ». وهي الوسيلة التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان، وتقلل الفواصل بينهما، وتقوي ارتباطهما العاطفي.

وبشكل عام يكون في كل شي ء تبعاً للرسول: «وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ». طاعة تكونون بسببها من المؤمنين الصالحين الجديرين بقيادة الحكم في الأرض، «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» وتكونون لائقين لحمل راية الحقّ والعدل.

وإذا احتملتم أنّ الأعداء الأقوياء المعاندين يمنعوكم من تحقق ما وعدكم اللَّه إيّاه، فذلك غير ممكن، لأنّه قادر على كل شي ء، ولا يحجب إرادته شي ء، ولهذا: «لَاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ». فهؤلاء الكفار لا يستطيعون الفرار من عقاب اللَّه وعذابه في الأرض، ولا يقتصر ذلك على الدنيا فقط، بل إنّهم في الآخرة، «وَمَأْوَيهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 379

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَ إِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَ

الْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

آداب الدخول إلى المكان الخاص بالوالدين: إنّ أهم مسألة تابعتها هذه السورة هي مسألة العفاف العام ومكافحة كل انحطاط خلقي، بأبعاده المختلفة. وقد تناولت الآيات- موضع البحث- إحدى المسائل التي ترتبط بهذه المسألة، وشرحت خصائصها. فتقول أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِيَسْتْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمنُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلثَ مَرَّاتٍ».

فيجب على عبيدكم وأطفالكم الإستئذان في ثلاث أوقات: «مّن قَبْلِ صَلَوةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَوةِ الْعِشَاءِ». «ثَلثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ». أي هذه ثلاث أوقات للخلوة خاصة بكم.

«العورة»: مشتقة من «العار»، أي: العيب، وأطلق العرب على العضو التناسلي العورة، لأنّ الكشف عنه عار.

إنّ إطلاق كلمة «العورة» على هذه الأوقات الثلاثة بسبب كون الناس في حالة خاصة خلال هذه الأوقات الثلاثة، حيث لا يرتدون الملابس التي يرتدونها في الأوقات الاخرى.

وطبيعي أنّ المخاطب هنا هم أولياء الأطفال ليعلموهم هذه الاصول، لأنّ الأطفال لم يبلغوا بعد سنّ التكليف لتشملهم الواجبات الشرعية.

كما أنّ عمومية الآية تعني شمولها الأطفال البنين والبنات.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 380

وتختتم الآية بالقول: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ». فلا حرج ولا إثم عليكم وعليهم إذا دخلوا بدون إستئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة، أجل: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

وبيّنت الآية التالية الحكم بالنسبة للبالغين، حيث تقول: «وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفلُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتْذِنُوا كَمَا اسْتْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ».

«الحلم»: على وزن «كتب»، بمعنى العقل والكناية عن البلوغ، الذي يعتبر توأماً لطفرة عقلية وفكرية، ومرحلة جديدة في حياة الإنسان.

ويستفاد من الآية

السابقة، أنّ الحكم بالنسبة للبالغين يختلف عنه بالنسبة للأطفال غير البالغين، لأنّ أولئك يجب عليهم إستئذان الوالدين في الأوقات الثلاثة فقط، لأنّ حياتهم قد امتزجت مع حياة والديهم بدرجة يستحيل بها الإستئذان كل مرة، وكما أنّهم لم يعرفوا المشاعر الجنسية بعد، أمّا الشباب البالغ، فهم مكلّفون في جميع الأوقات بالإستئذان حين الدخول على الوالدين.

ويخصّ هذا الحكم المكان المخصّص لاستراحه الوالدين.

وتقول الآية في الختام للتأكيد والإهتمام الفائق: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

وفي آخر الآيات موضع البحث- استثناء لحكم الحجاب، حيث استثنت النساء العجائز والمسنّات من هذا الحكم، فقال:

«وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ التِى لَايَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرّجتٍ بِزِينَةٍ».

ولهذا الإستثناء شرطان:

أوّلهما: وصول هذه العجائز إلى عمر لا يتوقع أن يتزوجن فيه. أو بعبارة اخرى: أن يفقدن كل جاذبية انثوية.

وثانيهما: ألا يتزيّن بزينة بعد رفع حجابهن.

كما أنّ- من الواضح- أنّه لا يقصد برفع العجائز للحجاب اباحة خلع الملابس كلّها والتعريّ، بل خلع اللباس الفوقاني فقط.

وكما عبّرت عنه بعض الأحاديث بالجلباب والخمار.

وتضيف الآية في ختامها: «وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 381

فالإسلام يرغب في أن تكون المرأة أكثر عفّة وأنقى وأطهر. ولتحذير النساء اللواتي يسئن من سوء الاستفادة من هذه الحرية، بأن يتحدثن أو يتصرفن باسلوب لا يليق بشرفهن، تقول الآية محذرة إيّاهن: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» كلما تقولونه يسمعه اللَّه، وما تكتمون في قلوبكم أو في أذهانكم يعلمه اللَّه أيضاً.

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَ لَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ

أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

البيوت التي يسمح بالأكل فيها: تحدثت الآيات السابقة عن الإستئذان في أوقات معينة، أو بشكل عام حين الدخول إلى المنزل الخاصّ بالأب والام، أمّا الآية موضع البحث فإنّها استثناء لهذا الحكم، حيث يجوز للبعض وبشروط معينة، الدخول إلى منازل الأقرباء وأمثالهم، وحتى أنّه يجوز لهم الأكل فيها دون إستئذان، حيث تقول هذه الآية أوّلًا: «لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ».

لأنّ أهل المدينة كانوا- كما ورد بصراحة في بعض الأحاديث- وقبل قبولهم الإسلام، يمنعون الأعمى والأعرج والمريض من المشاركة في مائدتهم، ويتنفّرون من هذا العمل.

وقد استفسر من الرسول صلى الله عليه و آله عن هذا الموضوع، فنزلت الآية السابقة التي نصّت على عدم وجود مانع من مشاركة الأعمى والأعرج والمريض للصحيح غذاءه على مائدة واحدة.

ثم يضيف القرآن المجيد: «وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ».

والمقصود بعبارة بيوتكم، الأبناء أو الزوجات.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 382

«أَوْ بُيُوتِ ءَابَائِكُمْ». «أَوْ بُيُوتِ أُمَّهتِكُمْ». «أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ». «أَوْ بُيُوتِ أخَوَاتِكُمْ». «أَوْ بُيُوتِ أَعْممِكُمْ». «أَوْ بُيُوتِ عَمتِكُمْ». «أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ». «أَوْ بُيُوتِ خلتِكُمْ». «أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ». «أَوْ صَدِيقِكُمْ». «الصداقة»: تعني هنا بالتأكيد الأصدقاء الخاصين الذين تربطهم علاقات وثيقة، وهذه العلاقة توجب التزاور فيما بينهم والأكل من طعام الآخر.

بالطبع فإنّ هذا الحكم له شروط وإيضاحات سيأتي ذكرها في آخر تفسير الآية.

ثم تضيف الآية: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا».

ولا يوجد خلاف بين الفقهاء حول عدم جواز الأكل

من غذاء الآخرين دون استئذان الذي نهت عنه الآية بصراحة مع العلم بهذا النهي.

ذكر الشيخ الطوسي رحمه الله في تفسير التبيان أنّ مجموعة من المسلمين كانوا إذا نزل بهم الضيف تحرجوا أن يأكلوا معه، فأباح اللَّه الأكل منفرداً ومجتمعاً.

ثم تشير الآية إلى أحد التعاليم الأخلاقية فتقول: «فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مّنْ عِندِ اللَّهِ مُبرَكَةً طَيّبَةً».

واختتمت بهذه العبارة: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

يجب السلام عند الدخول إلى أيّ منزل كان، ويجب أن يسلم المؤمنون بعضهم على بعض، ويسلّم أهل المنزل أحدهم على الآخر، وأمّا إذا لم يجد أحداً في المنزل فيحيي المرء نفسه «1»، حيث تعود هذه التحيات بالسلامة على الإنسان ذاته.

______________________________

(1) فيقول: «السّلام عليكم من قبل ربّنا». أو: «السّلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 383

سبب النّزول

في تفسير علي بن ابراهيم: نزلت الآية الاولى في قوم كانوا إذا جمعهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأمر من الأمور في بعث يبعثه أو حرب قد حضرت يتفرقون بغير إذنه فنهاهم اللَّه عزّ وجل عن ذلك وقوله «فَإِذَا اسْتْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ» قال نزلت في حنظلة بن أبي عياش وذلك أنّه تزوج في الليلة التي في صبيحتها حرب احد، فاستأذن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يقيم عند أهله فأنزل اللَّه هذه الآية «فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ» فأقام عند أهله ثم أصبح وهو جنب فحضر القتال واستشهد، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحايف فضة بين السماء والأرض». فكان يسمى غسيل الملائكة.

التّفسير

لا تتركوا النبي وحده: إنّ الآيات السابقة تحدثت عن ضرورة طاعة اللَّه ورسوله،

ومن علائم طاعته عدم تركه أو القيام بعمل ما دون إذن منه، لهذا تحدثت الآيات- موضع البحث- حول هذا الموضوع، فتقول أوّلًا: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتْذِنُوهُ».

والمراد من «أمر جامع» كل عمل يقتضي اجتماع الناس فيه ويتطلب تعاونهم، سواء كان عملًا استشارياً، أو مسألة حول الجهاد ومقاتلة العدو، أو صلاة جمعة في الظروف الإستثنائية وأمثالها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 384

وفي الحقيقة إنّ هذا من شروط النظم والتنظيم ولا يمكن لأية مجموعة منظمة منسجمة أن تهمله، فغياب شخص واحد قد تترتب عليه صعوبات ويلحق ضرراً بالهدف النهائي، فإذا وجد القائد أنّ غياب هذا الشخص يلحق ضرراً، فمن حقه أن لا يأذن له، وعليه أن يضحي بمصلحته من أجل هدف أسمى لهذا تضيف الآية: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتْذِنُونَكَ أُوْلئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ».

وتقول الآية في الختام: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

تبيّن هذه العبارة ضرورة عدم الإستئذان بالقدر الممكن، واتباع التضحية والإيثار حتى لا يتورطوا بارتكاب عمل تركه أولى كمغادرة الجماعة لعمل بسيط.

ومن الطبيعي أن لا تخصّ هذه التعاليم التنظيمية الرسول صلى الله عليه و آله وأصحابه فقط، وإنّما هي واجبة الإتباع إزاء كل قائد إلهي، سواء كان نبياً أم إماماً أم عالماً نائباً لهما، حيث يتوقف مصير المسلمين على هذه الطاعة، كما يحتمه- إضافة إلى القرآن- العقل والمنطق.

ثم بيّنت الآية التالية حكماً آخر له علاقة بتعاليم النبي صلى الله عليه و آله حيث تقول: «لَّاتَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا».

إن الرسول صلى الله عليه و آله عندما يدعوكم للاجتماع، فإنّه لابدّ من أن يكون لمسألة إلهية مهمة،

لهذا يجب عليكم الإهتمام بدعوته، والإلتزام بتعاليمه، وألّا تهملوها، فأمره من اللَّه ودعوته منه سبحانه وتعالى.

ثم تضيف الآية: «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

«يتسلّلون»: مشتقة من «تسلل»، وتعني سحب الشي ء من موضعه، كما يطلق على الذين يفرون سرّاً من مكان تجمع محدد لهم، كلمة «متسللون».

«لواذاً»: مشتقة من «ملاوذة» بمعنى الإختفاء، وتعني هنا اختفاء البعض وراء البعض أو خلف جدار. أو بتعبير آخر:

استغفال الآخرين ثم الفرار من مكان تجمعهم، وهذا ما كان يقوم به المنافقون حينما يوجه الرسول صلى الله عليه و آله الدعوة للجهاد أو لأمر مهم آخر.

و آخر آية من الآيات موضع البحث- والتي هي آخر سورة النور- إشارة بليغة إلى قضية المبدأ والمعاد حيث تقول: «أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

فإنّ اللَّه العالم بكل شي ء، «قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ». أي: يعلم اسلوبكم في التعامل

مختصر الامثل، ج 3، ص: 385

وأعمالكم واعتقادكم ومقاصدكم، فكلّها واضحة له سبحانه وتعالى، وثابتة في لوحة علمه «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوا». ويجازيهم بها «وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

ومما يلفت النظر تأكيد الآية ثلاث مرات على علم اللَّه بأعمال البشر، ليشعر الإنسان أنّه مراقب بشكل دائم، ولا يخفى على اللَّه شي ء من أعمال هذا الإنسان أبداً، ولهذا الإعتقاد أثره التربوي الكبير ويضمن سيطرة الإنسان على نفسه إزاء الانحرافات والذنوب.

«نهاية تفسير سورة النور»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 387

25 سورة الفرقان

محتوى السورة: تتألف هذه السورة في مجملها من ثلاثة أقسام:

1- الذي يشكل مطلع هذه السورة، يدحض منطق المشركين بشدّة، ويستعرض ذرائعهم، ويردّ عليها، ويخوفهم من عذاب اللَّه، وحساب يوم القيامة، وعقوبات جهنم الأليمة، ويذكّرهم بمقاطع من قصص الأقوام الماضية.

2-

ولأجل إكمال هذا البحث، تبحث الآيات بعض دلائل التوحيد ومظاهر عظمة اللَّه في الأكوان.

3- مختصر جذاب، وجامع لصفات المؤمنين الحقيقيين (عباد الرحمن) وعباد اللَّه المخلصين، في مقايسة مع الكفار المتعصبين الذين ذكروا في القسم الأوّل، فتتحدد منزلة كل من الفريقين تماماً، كما أنّنا سنرى أنّ هذه الصفات مجموعة من الاعتقاديات والأعمال الصالحة ومكافحة الشهوات، وامتلاك الوعي الكافي، والإحساس والإلتزام بالمسؤولية الإجتماعية.

واسم هذه السورة قد اخذ من آيتها الاولى، التي تعبر عن القرآن ب «الفرقان» (الفاصل بين الحق والباطل).

فضيلة تلاوة السورة: في في تفسير مجمع البيان قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قرأ سورة الفرقان

مختصر الامثل، ج 3، ص: 388

بعث يوم القيامة وهو يؤمن أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللَّه يبعث من في القبور».

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)

المقياس الأعلى للمعرفة: تبدأ هذه السورة بجملة «تبارك» من مادة «بركة»، ونعلم أنّ الشي ء ذو بركة، عبارة عن أنّه ذو دوام وخير ونفع كامل. يقول تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعلَمِينَ نَذِيرًا».

الملفت للإنتباه أنّ ثبوت البركة لذات الخالق عزّ وجل بواسطة نزول الفرقان، يعني أنّه أنزل قرآناً فاصلًا بين الحق والباطل، وهذا يدل على أنّ أعظم الخير والبركة هي أن يمتلك الإنسان بيده وسيلة المعرفة- معرفة الحق من الباطل.

فمقام العبودية والإنقياد التامين هو الذي يحقق اللياقة لنزول الفرقان، ولتلقي موازين الحق والباطل.

وعبارة «للعالمين» كاشفة عن أنّ شريعة الإسلام عالمية، بل إنّ بعضهم قد استدل منها على خاتمية النبي صلى الله عليه و

آله.

الآية الثانية تصف اللَّه الذي نزل الفرقان بأربع صفات، صفة منها هي الأساس، والبقية نتائج وفروع لها، فتقول أوّلًا: «الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

وبالإلتفات إلى تقدم «له» على «ملك السماوات» الذي هو دليل الحصر في اللغة العربية يستفاد أنّ الحكومة الواقعية والحاكمية المطلقة في السماوات والأرض منحصرة به تبارك وتعالى.

ثم يتناول تفنيد عقائد المشركين واحدة بعد الاخرى، فيقول تعالى: «وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا».

وبهذا الترتيب، يدحض اعتقاد النصارى بأنّ «المسيح» ابن اللَّه، أو ما يعتقده اليهود أنّ «العزير» ابن اللَّه، وكذلك يدحض اعتقاد مشركي العرب.

ثم يضيف جلّ ذكره: «وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ».

فإذا كان لمشركي العرب اعتقاد بوجود الشريك أو الشركاء، ويتوهمونهم شركاء للَّه في

مختصر الامثل، ج 3، ص: 389

العبادة، فإنّ القرآن يدين ويدحض كل هذه الأوهام.

ويقول تعالى في العبارة الأخيرة: «وَخَلَقَ كُلَّ شَىْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا».

ليس كمثل اعتقاد الثنويين الذين يعتقدون بأنّ قسماً من موجودات هذا العالم مخلوقات «اللَّه»، وأنّ قسماً منها مخلوقات «الشيطان». وبهذا الترتيب كانوا يقسمون الخلق والخلقة بين اللَّه والشيطان.

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَ لَا نَفْعاً وَ لَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لَا حَيَاةً وَ لَا نُشُوراً (3) وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَ أَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَ زُوراً (4) وَ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)

الإتهامات المتعددة الألوان: هذه الآيات تتمة للبحث الذي ورد في الآيات السابقة، في مسألة المواجهة مع الشرك وعبادة الأوثان. الآية الاولى تجر المشركين إلى المحاكمة، ولتحريك وجدانهم تقول بمنطق واضح

وبسيط، وفي نفس الوقت قاطع وداحض:

«وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لَّايَخْلُقُونَ شَيًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ».

وبعد، فماذا يمكن أن تكون دوافعهم لعبادة الأوثان التي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فما بالك بما تستطيعه للآخرين؛ «وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَوةً وَلَا نُشُورًا».

والاصول المهمة عند الإنسان هي هذه الامور الخمسة بالذات: النفع والضر، والموت، والحياة، والنشور.

فمن يكن بحق مالكاً أصيلًا لهذه الامور، يكن بالنسبة إلينا جديراً بالعبادة.

هذه الأوثان ليست عاجزة في الدنيا عن حل مشكلة ما لعبدتها فحسب، بل إنّها لا يؤمل منها شي ء في الآخرة أيضاً.

الآية التالية- تتناول تحليلات الكفار- أو حججهم على الأصح- في مقابل دعوة النبي صلى الله عليه و آله، فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَيهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 390

لكن القرآن يردّ عليهم في جملة واحدة فقط، تلك هي: «فَقَدْ جَاءُو ظُلْمًا وَزُورًا» «1».

«الظلم» هنا لأنّ رجلًا أميناً طاهراً وصادقاً مثل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله اتّهموه بالكذب والإفتراء على اللَّه، وبالإشتراك مع جماعة من أهل الكتاب، فظلموا أنفسهم والناس أيضاً. و «الزور» هنا أنّ قولهم لم يكن له أساس مطلقاً، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله دعاهم عدّة مرات إلى الإتيان بسورة وآيات مثل القرآن، فعجزوا وضعفوا أمام هذا التحدي.

كلمة «زور» في الأصل من «زَور» (على وزن غور) أخذت بمعنى: أعلى الصدر، ثم أطلقت على كل شي ء يتمايل عن حدّ الوسط، وبما أنّ «الكذب» انحرف عن الحق، ومال إلى الباطل، فقد سمّوه «زوراً».

تتناول الآية التالية لوناً آخر من التحليلات المنحرفة والحجج الواهية للمشركين فيما يتعلق بالقرآن، فتقول: «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا»

«2».

وهو يستلهمها من الآخرين طيلة اليوم من أجل الوصول إلى هذا الهدف: «فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا».

إنّه يتلقى المعونة لأجل هدفه في الأوقات التي يقلّ فيها تواجد الناس، أي بكرة وعشياً.

لذا فالآية الأخيرة تصرح بصيغة الرد على هذه الإتهامات الواهية، فتقول: «قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

إشارة إلى أنّ محتوى هذا الكتاب، والأسرار المتنوعة فيه من علوم ومعارف وتاريخ الأقوام الأوّلين، والقوانين والاحتياجات البشرية، وحتى أسرار عالم الطبيعة والأخبار المستقبلية، تدل على أن ليس من صنع ومتناول عقل البشر، ولم ينظّم بمساعدة هذا أو ذاك، بل بعلم الذي هو جدير بأسرار السماء والأرض، والمحيط بكل شي ء علماً.

لكن مع كل هذا، فإنّ القرآن يترك طريق التوبة مفتوحاً أمام هؤلاء المغرضين والمنحرفين، فيقول تبارك وتعالى في ختام الآية: «إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا».

فبمقتضى رحمته أرسل الأنبياء، وأنزل الكتب السماوية، وبمقتضى غفوريته سيعفو في ظل الإيمان والتوبة عن ذنوبكم التي لا تحصى.

______________________________

(1) «جاءو»: من مادة «مجي ء»، يراد بها عادة معنى «القدوم»، لكنّها وردت هنا بمعنى «الإتيان».

(2) ففي الواقع إنّ أولئك كانوا يريدون أن يتهموا النبي صلى الله عليه و آله من هذا الطريق، بأنّه يقرأ ويكتب، لكنّه كان يظهر نفسه أمياً عمداً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 391

وَ قَالُوا مَا لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْ لَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَ قَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)

سبب النّزول

في كتاب الاحتجاج

للطبرسي رحمه الله وعن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال: قلت لأبي على بن محمد عليهما السلام هل كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجهم؟ قال: مراراً كثيرة وذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان قاعداً ذات يوم بمكة بفناء الكعبة، إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش .. فابتدأ عبد اللَّه بن أبي أمية المخزومي فقال: يا محمّد زعمت أنّك رسول اللَّه ربّ العالمين، وما ينبغي لربّ العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشراً مثلنا، تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب، وتمشي في الأسواق كما نمشي .. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «اللهم أنت السامع لكل صوت، والعالم بكل شي ء، تعلم ما قاله عبادك». فأنزل اللَّه عليه: يا محمّد «وَقَالُوا مَالِ هذَا الرَّسُولِ ...» إلى قوله تعالى: «وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا».

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

التّفسير

لم لا يملك هذا الرسول كنوزاً وجنات؟ استعرض القرآن في الآيات السابقة قسماً من إشكالات الكفار فيما يخص نزول القرآن المجيد، وأجاب عليها، ويعرض في هذه الآيات قسماً آخر يتعلق بشخص الرسول ويجيب عنها، فيقول تعالى: «وَقَالُوا مَالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الْأَسْوَاقِ».

وفي الوقت الذي يريد هذا الرسول التبليغ بالدعوة الإلهية، ويريد أيضاً السلطنة على الجميع.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 392

لقد كان المشركون يرون أنّه لا يليق بذوي الشأن الذهاب إلى الأسواق لقضاء حوائجهم، بل ينبغي أن يرسلوا خدمهم ومأموريهم من أجل ذلك.

ثم أضافوا: «لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا». فلِمَ لم يرسل إليه- على الأقل- ملك من عند اللَّه، شاهد على صدق دعوته، وينذر معه الناس؟ حسن جداً، لنفرض أنّنا وافقنا على

أنّ رسول اللَّه يمكن أن يكون إنساناً، ولكن لماذا يكون فقيراً فاقداً للثروة والمال؟! «أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا».

ولم يكتفوا بهذا أيضاً، فقد اتهموه آخر الأمر بالجنون بما ابتنوه من استنتاج خاطى ء، كما نقرأ في ختام هذه الآية نفسها:

«وَقَالَ الظلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا». ذلك أنّهم كانوا يعتقدون أنّ السحرة يستطيعون أن يتدخلوا في فكر وعقول الأفراد فيسلبونهم قوام عقولهم.

الآية التالية تبيّن جواب جميع هذه الإشكالات في عبارة موجزة: «انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثلَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا».

إنّ (الأمثال) هنا، بمعنى الأقوال الفارغة الواهية.

هذه العبارة الموجزة أداء بليغ عن هذه الحقيقة، فهم من خلال مجموعة من الأقوال الواهية التي لا أساس لها وقفوا أمام دعوة الحق والقرآن- الذي محتواه شاهد ناطق على إرتباطه باللَّه- ليخفوا وجه الحقيقة.

الآية الأخيرة مورد البحث- كالآية التي قبلها- توجّه خطابها إلى النبي صلى الله عليه و آله على سبيل تحقير مقولات اولئك، وأنّها لا تستحق الإجابة عليها. يقول تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مّن ذلِكَ جَنتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهرُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا».

وإلّا، فهل أحد غير اللَّه أعطى الآخرين القصور والبساتين؟ من غير اللَّه خلق جميع هذه النعم والجمال في هذا العالم؟ تُرى أيستحيل على اللَّه القادر المنّان أن يجعل لك أفضل من هذه القصور والبساتين؟!

لكنّه لا يريد أبداً أن يعتقد الناس أنّ مكانتك مردّها المال والثروة والقصور، ويكونوا غافلين عن القيم الواقعية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 393

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً (12) وَ إِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ

ثُبُوراً وَاحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَ مَصِيراً (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْئُولًا (16)

في هذه الآيات- على أثر البحث في الآيات السابقة حول انحراف الكفار في مسألة التوحيد والنبوة- يتناول القرآن الكريم قسماً آخر من انحرافاتهم في مسألة المعاد، ويتّضح مع بيان هذا القسم أنّهم كانوا أسارى التزلزل والانحراف في تمام أصول الدين. يقول تعالى أوّلًا: «بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ».

ذلك أنّه إذا آمن الإنسان بهكذا محكمة عظمى وبالجزاء الإلهي، فلن يتلقى الحقائق بمثل هذا الإستهزاء واللامبالاة، ولن يتذرع بالحجج الواهية ضد دعوة النبي وبراهينه الظاهرة، لكن القرآن هنا لم يتقدم برد استدلالي، ذلك لأنّ هذه الفئة لم تكن من أهل الاستدلال والمنطق، بل واجههم بتهديد مخيف وجسد أمام أعينهم مستقبلهم المشؤوم والأليم، فهذا الاسلوب قد يكون أقوى تأثيراً لمثل هؤلاء الأفراد يقول أوّلًا: «وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا» «1».

ثم وصف هذه النار المحرقة وصفاً عجيباً، فيقول تعالى: «إِذَا رَأَتْهُم مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا».

في هذه الآية تعبيرات بليغة متعددة، تخبر عن شدّة هذا العذاب الإلهي ويدل على أنّ نار جهنم المحرقة تنتظر هذه الفئة من المجرمين كانتظار الحيوان المفترس الجائع لغذائه «نستجير باللَّه».

هذه حال جهنم حينما تراهم من بعيد، أمّا حالهم في نار جهنم فيصفها تعالى: «وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا».

لأنّ جهنم مكان واسع، لكن اولئك يُحصرون مكاناً ضيقاً في هذا المكان الواسع، فهم «يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط».

______________________________

(1) «سعير»: من «سَعْر» بمعنى التهاب النار، وعلى هذا يقال للسعير: النار المشتعلة والمحيطة والمحرقة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 394

«مقرنين»:

من «قرن» بمعنى قرب واجتماع شيئين أو أكثر مع بعضهما، ويقولون للحبل الذي يربطون به الأشياء «قرن»، ويقولون أيضاً لمن تقيد يده ورجله مع بعضهما بالغل والسلاسل «مقرّن».

«ثبور»: في الأصل بمعنى «الهلاك والفساد». فحينما يجد الإنسان نفسه أمام شي ء مخيف ومهلك، فإنّه يصرخ عالياً «واثبورا» التي مفهومها ليقع الموت علي.

لكنهم يجابون عاجلًا: «لَّاتَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا».

فلن تنفعكم استغاثتكم في شي ء، ولن يكون ثمّة موت أو هلاك، بل ينبغي أن تظلوا أحياء لتذوقوا العذاب الأليم.

ثم يوجّه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه و آله، ويأمره أن يدعو اولئك إلى المقايسة، فيقول تعالى: «قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا».

تلك الجنة التي «لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ».

تلك الجنة التي سيبقون فيها أبداً «خلِدِينَ».

أجل، إنّه وعد الله الذي أخذه على نفسه: «كَانَ عَلَى رَبّكَ وَعْدًا مَّسُولًا».

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كَانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لَا نَصْراً وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً (19)

المحاكمة بين المعبودين وعبدتهم الضالين: كان الكلام في الآيات السابقة حول مصير كل من المؤمنين والمشركين في القيامة وجزاء هذين الفريقين، وتواصل هذه الآيات نفس هذا الموضوع بشكل آخر، فتبيّن السؤال الذي يسأل اللَّه عنه معبودي المشركين في القيامة وجوابهم، على سبيل التحذير. فيقول تعالى: واذكر يوم يحشر اللَّه هؤلاء المشركين وما يعبدون من دون اللَّه:

«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ».

والمقصود بالمعبودين

إنساناً (مثل المسيح) أو شيطاناً (مثل الجن) أو (الملائكة)، حيث إنّ كل واحد منها كان قد اتخذه فريق من المشركين معبوداً لهم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 395

فيسأل المعبودين: «فَيَقُولُ ءَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ».

ففي الإجابة: «قَالُوا سُبْحنَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ».

فليس فقط أنّنا لم ندعهم إلى أنفسنا، بل إنّنا كنّا نعترف بولايتك وربوبيتك، ولم نقبل غيرك معبوداً لنا ولغيرنا.

وكان سبب انحراف أولئك هو: أنّ اللَّه تعالى رزقهم الكثير من مواهب الدنيا ونعيمها فتمتعوا هم وآباءهم وبدلًا من شكر اللَّه تعالى غرقوا في هذه الملذات ونسوا ذكر اللَّه: «وَلكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذّكْرَ». فالحياة المرفهة لجماعة ضيقة الأفق، ضعيفة الإيمان، تبعث على الغرور، ولهذا هلكوا واندثروا «وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا».

«بور»: من مادة «بوار» وهي في الأصل بمعنى شدّة كساد الشي ء، ولأنّ شدّة الكساد تبعث على الفساد، فهذه الكلمة بمعنى الفساد، ثم اطلقت بعد هذا على الهلاك.

وعلى هذا فإنّ قوله تعالى: «وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا» إشارة إلى أنّ هذا الفريق على أثر انغماسهم في الحياة المادية المرفهة، ونسيانهم اللَّه واليوم الآخر، صاروا إلى الفساد والهلكة.

هنا يوجّه اللَّه تبارك وتعالى الخطاب إلى المشركين فيقول: «فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ».

لأنّ الأمر هكذا، وكنتم أنتم قد أضللتم أنفسكم فليس لديكم القدرة على دفع العذاب عنكم: «فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا».

لا شك أنّ «الظلم» له مفهوم واسع، ومع أنّ موضوع البحث في الآية هو «الشرك» الذي هو أحد المصاديق الجلية للظلم، إلّا أنّه لا يقدح بعمومية المفهوم.

والملفت للنظر أنّ «من يظلم» جاءت بصيغة الفعل المضارع، وهذا يدل على أنّ القسم الأوّل من البحث وإن كان مرتبطاً بمناقشات البعث، لكن

الجملة الأخيرة خطاب لهم في الدنيا، لعل قلوب المشركين تصبح مستعدة لقبول الإيمان على أثر سماعها محاورات العبابدين والمعبودين في القيامة، فيحوّل الخطاب من القيامة إلى الدنيا فيقول لهم: «وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا».

وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَ جَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كَانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 396

سبب النّزول

في تفسير القرطبي: هذه الآية نزلت جواباً للمشركين حيث قالوا: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟

وقال ابن عباس: لما عير المشركون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالفاقة وقالوا: مال هذا الرسول يأكل الطعام الآية، حزن النبي صلى الله عليه و آله لذلك فنزلت تعزية له فقال جبرئيل عليه السلام: السلام عليك يا رسول اللَّه! اللَّه ربّك يقرئك السلام ويقول لك: «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الْأَسْوَاقِ». أي يبتغون المعايش في الدنيا.

التّفسير

في عدّة آيات سابقة وردت واحدة من ذرائع المشركين وأجيب عليها بجواب إجمالي أمّا الآية مورد البحث فتعود إلى نفس الموضوع لتعطي جواباً أكثر تفصيلًا. فيقول تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الْأَسْوَاقِ».

فقد كانوا من البشر ويعاشرون الناس، وفي ذات الوقت: «وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» وامتحاناً.

وهذا الإمتحان، قد يكون بسبب أنّ اختيار الأنبياء من جنس البشر ومن أوساط الجماهير المحرومة هو امتحان عظيم بذاته، لأنّ البعض يأبون أن ينقادوا لمن هو من جنسهم، خاصة إذا كان في مستوىً واطى ء من حيث الإمكانات المادية.

وعلى أثر هذا القول، جعل الجميع موضع الخطاب فقال تعالى: «أَتَصْبِرُونَ». ذلك لأنّ أهم ركن للنجاح في جميع هذه الامتحانات هو الصبر

والاستقامة والشجاعة ...

ويقول تعالى في ختام الآية بصيغة التحذير: «وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا». فينبغي ألا يتصور أحد أن شيئاً من تصرفاته حيال الاختبارات الإلهية يظل خافياً ومستوراً عن عين اللَّه وعلمه الذي لا يخفى عليه شي ء، إنّه يراها بدقة ويعلمها جميعاً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 397

الإدعاءات الكبيرة: الآيات الحالية، تطرح شكلين آخرين من ذرائع المشركين وتجيب عليها، فيقول تعالى أوّلًا: «وَقَالَ الَّذِين لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا». فعلى فرض أنّنا سنقبل أنّ النبي يستطيع أن يعيش الحياة العادية مثلنا، لكن أن يتنزل الوحي عليه وحده، ولا نراه نحن، فهذا ما لا يمكن القبول به.

وأفضل دليل على أنّهم لم يكونوا يقولون هذه الأقوال من أجل التحقيق حول نبوّة النبي، هو أنّهم طلبوا أن يشاهدوا الخالق، وأنزلوه إلى حدّ جسم يمكن رؤيته، ذلك الطلب نفسه الذي طلبه مجرمو بني إسرائيل أيضاً، فسمعوا الجواب القاطع على ذلك، حيث ورد شرحه في الآية (143) من سورة الأعراف. لذا يقول القرآن في الإجابة على هذه الطلبات في آخر الآية مورد البحث:

«لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا». «العتو»: على وزن «غلو»، بمعنى الإمتناع عن الطاعة، والتمرد على الأمر، مصحوباً بالعناد واللجاجة.

وتعبير «في أنفسهم» من الممكن أن يكون بمعنى: أنّ هؤلاء صاروا أسارى الغرور والتكبّر في أنفسهم. ومن الممكن أن يكون أيضاً بمعنى أنّهم أخفوا كبرهم وغرورهم في قلوبهم وأظهروا هذه المعاذير.

ثم يقول تعالى بصيغة التهديد: إنّ هؤلاء الذين يطلبون أن يروا الملائكة، سوف يرونهم آخر الأمر، لكن «يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلِكَةَ لَابُشْرَى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ».

بلى سوف لن يُسرّوا برؤية الملائكة في ذلك اليوم، لأنّهم سيرون علامات العذاب برؤيتهم الملائكة، وسوف يغمرهم الرعب إلى حد أنّهم سيطلقون صرخات الاستغاثة التي كانوا

يطلقونها في الدنيا حال الإحساس بالخطر أمام الآخرين، فيقولون:

الأمان .. الأمان، اعفوا عنّا: «وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا».

«حجر»: على وزن «قشر»، تقال في الأصل للمنطقة التي حجروها وجعلوها ممنوعة الورود، وعندما يقال «حجر إسماعيل» فلأنّ حائطاً انشي ء حوله فحجز داخله. يقولون للعقل أيضاً «حجراً» لأنّه يمنع الإنسان من الأعمال المخالفة. وأيضاً «اصحاب الحجر» الذين ورد اسمهم في القرآن (الآية 80 من سورة الحجر) وهم قوم صالح الذين كانوا ينحتون لأنفسهم بيوتاً حجرية محكمة في قلوب الجبال، فكانوا يعيشون في أمانها.

أمّا جملة «حجراً محجوراً» فقد كانت اصطلاحاً بين العرب، إذا التقوا بشخص يخافونه، فأنّهم يقولون هذه الجملة أمامه لأخذ الأمان.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 398

الآية التي بعدها تجسد مصير أعمال هؤلاء المجرمين في الآخرة، فتقول: «وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنهُ هَبَاءً مَّنثُورًا». يعني أنّ أعمال اولئك لا قيمة لها ولا اثر إلى حدّ كأنّهم لم يعملوا شيئاً، لأنّ الشي ء الذي يعطي عمل الإنسان الشكل والمحتوى، هو النية وغاية العمل النهائية، فأهل الإيمان يتوجهون لإنجاز أعمالهم بدافع إلهي وعلى أساس أهداف مقدسة طاهرة، في حين أنّ من لا إيمان لهم، فغالباً يقعون أسارى التظاهر والرياء والغرور والعجب، فيكون سبباً في انعدام أية قيمة لأعمالهم.

وبما أنّ القرآن- عادة- يضع الحسن والسي ء متقابلين حتى يتّضح وضع كل منهما بالمقايسة فإنّ الآية التي بعدها تتحدث عن أهل الجنة فتقول: «أَصْحبُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا». «مستقر»: بمعنى محل الإستقرار؛ و «مقيل»: بمعنى محل الإستراحة في منتصف النهار، من مادة «قيلولة»، وقد جاءت بمعنى النوم منتصف النهار.

وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَ نُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً (26)

تشقق السماء بالغمام: مرّة اخرى

يواصل القرآن في هذه الآيات البحث حول القيامة، ومصير المجرمين في ذلك اليوم، فيقول أوّلًا: إنّ يوم محنة وحزن المجرمين هو ذلك اليوم الذي تنشق فيه السماء بواسطة الغيوم: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَممِ وَنُزّلَ الْمَلِكَةُ تَنزِيلًا».

«الغمام»: من «الغم» بمعنى ستر الشي ء، لذلك فالغيم الذي يغطي الشمس يقال له «الغمام»، وكذلك الحزن الذي يغطي القلب يسمّونه «الغم».

هذه الآية ردّ على طلبات المشركين، وعلى إحدى ذرائعهم، لأنّهم كانوا يتوقعون أن يأتي اللَّه والملائكة طبقاً لأساطيرهم وخرافاتهم من خلال الغيم، فيدعونهم إلى الحق، وفي أساطير اليهود جاء- أيضاً- أنّ اللَّه أحياناً يظهر ما بين الغيوم.

والمقصود من تشقق السماء بالغمام، هو أن ترتفع حجب العالم المادي عن عين الإنسان من جهة، فيشاهد عالم ماوراء الطبيعة، ومن جهة اخرى ستتلاشى الأجرام السماوية، وتظهر الغيوم الانفجارية، فتبرز التشققات ما بينها في ذلك اليوم، يوم نهاية هذا العالم وبداية النشور، يوم أليم جدّاً للمجرمين الظالمين المعاندين الذين لا إيمان لهم.

بعد ذلك يتناول القرآن الكريم أوضح علائم ذلك اليوم فيقول: «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 399

حتى اولئك الذين كان لهم في هذا العالم نوع من الملك المجازي والمحدود والفاني والسريع الزوال، يخرجون أيضاً من دائرة الملك، فتكون الحاكمية من كل النواحي وجميع الجهات لذاته المقدسة خاصة، وبهذا: «وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكفِرِينَ عَسِيرًا».

في الوقت الذي يكون على المؤمنين سهلًا يسيراً وهيناً جدّاً.

وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَ كَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: نزل قوله تعالى «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ» في عقبة

بن أبي معيط، وابي بن خلف، وكانا متخالّين، وذلك أنّ عقبة كان لا يقدم من سفر إلّاصنع طعاماً فدعا إليه أشراف قومه، وكان يكثر مجالسة الرسول فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاماً ودعا الناس، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى طعامه، فلمّا قربوا الطعام قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلّااللَّه وأنّي رسول اللَّه». فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلّااللَّه وأشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه. وبلغ ذلك ابي بن خلف فقال: صبأت يا عقبة؟ قال: لا واللَّه ما صبأت، ولكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلّاأن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم. فقال ابي: ما كنت براض عنك أبداً حتى تأتيه فتبزق في وجهه! ففعل ذلك عقبة وارتدّ، وأخذ رحم دابّة فألقاها بين كتفيه. فقال النبي صلى الله عليه و آله: «لا ألقاك خارجاً من مكة إلّاعلوت رأسك بالسيف». فضرب عنقه يوم بدر صبراً.

وأمّا ابي بن خلف فقتله النبي صلى الله عليه و آله يوم احد بيده في المبارزة.

نزلت الآيات أعلاه لترسم صورة مصير الرجل الذي يُبتلى بخليل ضال، ويجره إلى الضلال.

التّفسير

يوم القيامة له مشاهد عجيبة، حيث ورد بعض منها في الآيات السابقة، وفي هذه الآيات اشارة إلى قسم آخر منها، وهي مسألة حسرة الظالمين البالغة على ماضيهم، يقول

مختصر الامثل، ج 3، ص: 400

مختصر الامثل ج 3 449

تعالى أوّلًا: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا».

«يعضّ»: من مادة «عضّ»، ويستخدم هذا التعبير عادة بالنسبة إلى الأشخاص المهووسين من شدّة الحسرة والأسف. وهذا العمل

يصدر من هؤلاء الأشخاص حينما يطلعون على ماضيهم، ويعتبرون أنفسهم مقصرين، فيصممون على الإنتقام من أنفسهم بهذا الشكل لتهدئة سورة الغضب في نفوسهم والشعور بالراحة.

ثم يضيف القرآن الكريم أنّ هذا الظالم المعتدي الغارق في عالم الأسف، يقول: «يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا» «1».

والمقصود ب «فلان» هو ذلك الذي أضله: الشيطان أو صديق السوء أو القريب الضال.

ثم يستمر ويقول: «لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِى».

«الذكر» في الجملة أعلاه، له معنىً واسع، ويشمل كل الآيات الإلهية التي نزلت في الكتب السماوية، بل يدخل في إطاره كل ما يوجب يقظة ووعي الإنسان.

وفي ختام الآية يقول تعالى: «وَكَانَ الشَّيْطنُ لِلْإِنسنِ خَذُولًا». ذلك لأنّه يجر الإنسان إلى مواقع الخطر والطرق المنحرفة، ثم يتركه حيران ويذهب لسبيله.

وحقيقة الخذلان هي أي يعتمد الشخص على صديقه تمام الاعتماد، ولكن هذا الصديق يرفع يده عن مساعدته وإعانته تماماً في اللحظات الحساسة.

نقرأ في حديث عن الإمام محمّد التقي الجواد عليه السلام قال: «ايّاك ومصاحبة الشرير، فإنّه كالسيف المسلول، يحسن منظره ويقبح أثره» «2».

وَ قَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَ كَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَ نَصِيراً (31) وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَ رَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَ لَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلًا (34)

______________________________

(1) «خليل»: تطلق بمعنى الصديق الخاص الحميم حيث يجعله الإنسان مشاوراً لنفسه.

(2) بحار الأنوار 71/ 198.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 401

إلهي، إنّ الناس قد هجروا القرآن: كما تناولت الآيات السابقة أنواعاً من

ذرائع المشركين والكافرين المعاندين، تتناول الآية الاولى في مورد البحث هنا حزن وشكاية الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله بين يدي اللَّه عزّ وجل من كيفية تعامل هذه الفئة مع القرآن، فتقول: «وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا».

قول الرسول صلى الله عليه و آله هذا، وشكواه هذه، مستمران إلى هذا اليوم من فئة عظيمة من المسلمين، يشكو بين يدي اللَّه أنّهم دفنوا القرآن بيد النسيان، القرآن الممتلى ء ببرامج الحياة، هجروا هذا القرآن فمدّوا يد الإستجداء إلى الآخرين، حتى في القوانين المدنية والجزائية.

إنّ القرآن بينهم كتاب للمراسم والتشريفات، يذيعون ألفاظه وحدها بأصوات عذبة عبر محطات البث، ويستخدمونه في زخرفة المساجد بعنوان الفن المعماري، ولافتتاح منزل جديد، أو لحفظ مسافر، وشفاء مريض، وعلى الأكثر للتلاوة من أجل الثواب.

تقول الآية التي بعدها في مواساة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، حيث كان يواجه هذا الموقف العدائي للخصوم: «وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ».

لست وحدك قدواجهت هذه العداوة الشديدة لهذه الفئة، فقد مرّ جميع الأنبياء بمثل هذه الظروف، حيث كان يتصدى لمخالفتهم فريق من (المجرمين) فكانوا يناصبونهم العداء.

ولكن إعلم أنّك لست وحيداً، وبلا معين، «وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا». فلا وساوسهم تستطيع أن تضلك، لأنّ اللَّه هاديك، ولا مؤامراتهم تستطيع أن تحطمك، لأنّ الخالق معينك، الخالق الذي علمه فوق كل العلوم، وقدرته أقوى من كل القدرات.

الآية التي بعدها تشير أيضاً إلى ذريعة اخرى من ذرائع هؤلاء المجرمين المتعللين بالمعاذير، فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً».

واساساً فقد كان الأفضل للنبي صلى الله عليه و آله أيضاً أن يكون ذا اطلاع على جميع هذا القرآن دفعة واحدة، كيما يجيب الناس فوراً

على كل ما يسألونه ويريدون منه.

ولكن القرآن في تتمة هذه الآية نفسها يجيبهم: «وَكَذلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنهُ تَرْتِيلًا».

إنّ القرآن مجموعة من أوامر ونواهي، أحكام وقوانين، تاريخ وموعظة، ومجموعة من الخطط ذات المدى الطويل أو القصير في مواجهة الأحداث التي كانت تبرز أمام مسير الامة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 402

الإسلامية، كتاب- كهذا- يبيّن وينفذ جميع مناهجه حتى قوانينه الكلية عن طريق الحضور في ميادين حياة الامة، لا يمكن أن ينظم ويُدوّن دفعة واحدة. وهذا من قبيل أن يقوم قائد عظيم بكتابه ونشر جميع بياناته وإعلاناته وأوامره ونواهيه- التي يصدرها في المناسبات المختلفة- دفعة واحدة من أجل تسيير الثورة، تُرى هل يعتبر هذا العمل عقلائياً؟!

ثم للتأكيد أكثر على هذا الجواب يقول تعالى: «وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا». أي أنّهم لا يأتون بمثل أو مقولة أو بحث لاضعاف دعوتك ومقابلتها.

وبما أنّ هؤلاء الأعداء الحاقدين استنتجوا- بعد مجموعة من إشكالاتهم- أنّ محمّداً وأصحابه مع صفاتهم هذه وكتابهم هذا وبرامجهم هذه شرّ خلق اللَّه- العياذ باللَّه- ولأنّ ذكر هذا القول لا يتناسب مع فصاحة وبلاغة القرآن، فإنّ اللَّه سبحانه يتناول الإجابة على هذا القول في الآية الأخيرة مورد البحث دون أن ينقل أصل قولهم، يقول: «الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا».

وهذا علامة على مهانتهم وذلتهم، لأنّهم كانوا في الدنيا في غاية الكبر والغرور والإستهانة بخلق اللَّه، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى تجسيد لضلالتهم في هذا العالم، ذلك أنّ من يسحبونه بهذه الصورة لا يرى ما أمامه بأي شكل، وغافل عما حوله.

فريق لهم قامات منتصبة كشجر السرو، ووجوه منيرة كالقمر، وخطوات واسعة، يتوجهون بسرعة إلى الجنة.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَ جَعَلْنَا مَعَهُ

أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً (36) وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَ جَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً (37) وَ عَاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحَابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَ كُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَ كُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيراً (39) وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 403

أشار القرآن المجيد في هذه الآيات إلى تاريخ الامم الماضية ومصيرهم المشؤوم مؤكّداً على ست أمم. يقول أوّلًا: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتبَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هرُونَ وَزِيرًا».

فقد القيت على عاتقيهما المسؤولية الثقيلة في جهاد الفراعنة، ويجب عليهما مواصلة هذا العمل الثوري بمساعدة أحدهما الآخر حتى يثمر: «فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا». فإنّهم قد كذبوا دلائل اللَّه وآياته التي في الآفاق وفي الأنفس وفي كل عالم الوجود، ومن جهة أخرى أعرضوا عن تعاليم الانبياء السابقين وكذبوهم.

ولكن بالرغم من جميع الجهود والمساعي التي بذلها موسى وهارون، بالرغم من رؤية كل تلك المعجزات العظيمة والبينات المتنوعة، أصروا أيضاً على طريق الكفر والإنكار، لذا «فَدَمَّرْنهُمْ تَدْمِيرًا». «تدمير»: من مادة «دمار» بمعنى الإهلاك باسلوب يثير العجب.

وكذلك: «وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنهُمْ وَجَعَلْنهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا».

وكذلك: «وَعَادًا وَثَمُودَا وَأَصْحبَ الرَّسّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذلِكَ كَثِيرًا».

«قوم عاد» هم قوم النبي «هود» العظيم، الذي بعث في منطقة (الأحقاف) أو (اليمن). و «قوم ثمود» قوم نبي اللَّه «صالح» الذي بعث في منطقة وادي القرى (بين المدينة والشام).

«رسّ»: في الأصل بمعنى الأثر القليل، و «أصحاب الرس» كانوا قوماً يعبدون شجرة صنوبر كان يافث بن

نوح غرسها وكان لهم إثنتا عشرة قرية معمورة على شاطى ء نهر يقال له «الرسّ»، ولمّا طال منهم الكفر باللَّه وعبادة الشجرة، بعث اللَّه إليهم رسولًا من بني إسرائيل من ولد يهودا، فدعاهم برهة إلى عبادة اللَّه وترك الشرك، فلم يؤمنوا، فدعا على الشجرة فيبست، فلمّا رأوا ذلك ساءهم، فاجتمعت آراؤهم على قتله فحفروا بئراً عميقاً وألقوه فيها، فأتبعهم اللَّه بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم.

«قرون»: جمع «قرن» وهي في الأصل بمعنى الجماعة الذين يعيشون معاً في زمان واحد، ثم أطلقت على الزمان الطويل (أربعين أو مائة سنة).

لكنّنا لم نجاز أولئك على غفلة أبداً، بل «وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثلَ».

أجبنا على إشكالاتهم، مثل الإجابة على الإشكالات التي يوردونها عليك، أخطرناهم، أنذرناهم، كررنا عليهم مصائر وقصص الماضين، لكن حين لم ينفع أيّ من ذلك أهلكناهم

مختصر الامثل، ج 3، ص: 404

ودمّرناهم تدميراً: «وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا» «1». وفي نهاية المطاف- في الآية الأخيرة مورد البحث- يشير القرآن المجيد إلى خرائب مدن قوم لوط التي تقع على بداية طريق الحجازيين إلى الشام، وإلى الأثر الحي الناطق عن المصير الأليم لُاولئك الملوثين والمشركين، فيقول تعالى: «وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا».

نعم، لقد كانوا يرون مشهد الخرائب هذه، لكنّهم لم يأخذوا منها العبرة، ذلك لأنّهم: «بَلْ كَانُوا لَايَرْجُونَ نُشُورًا».

وَ إِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْ لَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا

(44)

الآيات الحالية تتناول لوناً آخر من منطق المشركين وكيفية تعاملهم مع رسول الخاتم صلى الله عليه و آله ودعوته الحقة. يقول تعالى أوّلًا:

«وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا».

ثم يواصل القرآن ذكر مقولات المشركين فينقل عن لسانهم: «إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَن ءَالِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا».

لكن القرآن يجيبهم من عدّة طرق، ففي البداية من خلال جملة واحدة حاسمة يرد على مقولات هذه الفئة التي ما كانت أهلًا للمنطق: «وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا».

يمكن أن يكون هذا العذاب إشارة إلى عذاب القيامة، أو عذاب الدنيا مثل الهزيمة المنكرة يوم «بدر» وأمثالها.

______________________________

(1) «تتبير»: من مادة «تبر» (على وزن ضرر، وعلى وزن صبر) بمعنى الإهلاك التام.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 405

الجواب القرآني الثاني على مقولاتهم ورد في الآية التي بعدها، موجهاً الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله على سبيل المواساة وتسلية الخاطر، وأيضاً على سبيل بيان الدليل على أصل عدم قبول دعوة النبي من قبل اولئك، فيقول: «أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَيهُ».

فهل أنت قادر مع هذا الحال على هدايته والدفاع عنه، «أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا».

يعني إذا وقف اولئك أمام دعوتك بالإستهزاء والإنكار وأنواع المخالفات، فلم يكن ذلك لأنّ منطقك ضعيف ودلائلك غير مقنعة، وفي دينك شك أو ريبة، بل لأنّهم ليسوا أتباع العقل والمنطق، فمعبودهم أهواؤهم النفسية، واتباع الهوى مصدر الغفلة ومنبع الكفر وعدم الإيمان.

وأخيراً فإنّ الجواب القرآني الثالث لهذه الفئة الضالة، هو قوله: «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا».

يعني لا يؤذينك استهزاؤهم ومقولاتهم السيئة وغير المنطقية أبداً، لأنّ الإنسان إمّا أن يكون ذا عقل، ويستخدم عقله، فيكون مصداقاً ل «يعقلون».

أو أنّه فاقد للعلم ولكنه يسمع قول العلماء، فيكون مصداقاً ل «يسمعون»، لكن هذه الفئة لا من اولئك ولا من هؤلاء، وعلى هذا فلا فرق بينهم وبين الانعام، بل هم أتعس من الأنعام وأعجز، إذ أنّ الأنعام لا تعقل ولا فكر لها، وهؤلاء لهم عقل وفكر، وتسافلوا إلى حال كهذه.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَ النَّوْمَ سُبَاتاً وَ جَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً (47) وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَ أَنَاسِيَّ كَثِيراً (49) وَ لَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (50)

حركة الظلال: في هذه الآيات كلام في أقسام مهمّة من النعم الإلهية، وكلام في نعمة «الظلال» ثم في آثار وبركات «الليل» و «النوم والإستراحة» و «ضياء» النهار و «هبوب الرياح» و «نزول المطر» و «إحياء الأراضي الموات» و «سقاية» الأنعام والناس.

يقول تعالى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 406

أوّلًا: «أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا».

هذا الظل الممتد والمنتشر هو ذلك الظل المنتشر على الأرض بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، وأهنأ الظلال والساعات هي تلك؛ لأنّه تعالى يقول على أثر ذلك: «ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا». إشارة إلى أنّ مفهوم الظل لم يكن ليتّضح لو لم تكن الشمس.

بعد ذلك يبيّن تعالى: ثم إنّنا نجمعه جمعاً ويئداً، «ثُمَّ قَبَضْنهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا».

من المعلوم أنّ الشمس حينما تطلع فإنّ الظلال تزول تدريجياً، حتى يحين وقت الظهر

حيث ينعدم الظل تماماً في بعض المناطق، وفي مناطق اخرى يصل إلى أقل من طول الشاخص، ولهذا فالظل لا يظهر ولا يختفي دفعةً واحدةً، وهذا نفسه حكمة الخالق، ذلك لأنّ الإنتقال من النور إلى الظلمة بشكل فجائي يكون ضاراً بجميع المخلوقات.

بعد ذكر نعمة الظلال، تناول القرآن الكريم بالشرح نعمتين اخريين متناسبتين معها تناسباً تاماً، فيكشف جانباً آخر من أسرار نظام الوجود الدالة على وجود اللَّه، يقول تعالى: «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيلَ لِبَاسًا».

هذا الحجاب الظلامي الذي لا يستر الناس فقط، بل كل الموجودات على الأرض ويحفظها كاللباس، ويلتحفه الإنسان كالغطاء الذي يستفيد منه أثناء النوم، أو لإيجاد الظلام.

ثم يشير تعالى إلى نعمة النوم: «وَالنَّوْمَ سُبَاتًا».

«السبات»: في اللغة من «سبت» بمعنى القطع، ثم جاء بمعنى تعطيل العمل للإستراحة.

هذا التعبير إشارة إلى تعطيل جميع الفعاليات الجسمانية أثناء النوم.

النوم في وقته وبحسب الحاجة إليه، مجدد لجميع طاقات البدن، وباعث للنشاط والقوة، وأفضل وسيلة لهدوء الأعصاب.

وفي ختام الآية أشار تعالى إلى نعمة «النهار» فقال تعالى: «وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا».

«النشور»: في الأصل من النشر بمعنى البسط، في مقابل الطي وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى انتشار الروح في أنحاء البدن، حين اليقظة التي تشبه الحياة بعد الموت، أو إشارة إلى انتشار الناس في ساحة المجتمع، والحركة للمعاش على وجه الأرض.

فضياء النهار من حيث روح وجسم الإنسان باعث على الحركة حقّاً، كما أنّ الظلام باعث على النوم والهدوء.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 407

بعد بيان هذه المواهب العظيمة- التي هي أهم ركائز الحياة الإنسانية- يتناول القرآن الكريم موهبة اخرى مهمة جدّاً فيقول: «وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا».

لا يخفى أنّ دور الرياح هو أنّها الطلائع المتقدمة لنزول

الرحمة الإلهية، لأنّ إذا لم تحمل الرياح هذه الغيوم المثقلة من أعالي المحيطات باتجاه الأراضي اليابسة، فستتحول هذه الغيوم إلى مطر وستهطل على نفس ذلك البحر.

إنّ قسماً من هذه الرياح المتقدمة لقطعات الغيوم في حركتها وامتزاجها برطوبة ملائمة، تبعث النسيم المنعش الذي تشم منه رائحة المطر، هذه الرياح مثل البشير الذي يُنبى ء عن قدوم مسافر عزيز.

التعبير ب «الرياح» بصيغة الجمع لعله إشارة إلى أنواع مختلفة منها، فبعض شمالي، وبعض جنوبي، وبعض يهب من الشرق إلى الغرب، ومنها ما يهب من الغرب إلى الشرق، فتكون سبباً في انتشار الغيوم في كل الآفاق.

المهم هنا هو أنّ «الماء» قد وصف ب «الطهور» التي هي صيغة مبالغة من الطهارة والنقاء ولهذا فمفهوم الطهارة والتطهير يعني أنّ الماء طاهر بذاته ويطهر الأشياء الملوثة.

فمضافاً إلى خاصية الإحياء، فإنّ للماء خاصية كبيرة الأهمية هي التطهير، فلولا الماء فإنّ أجسامنا ونفوسنا وحياتنا تتسخ وتتلوث في ظرف يوم واحد.

مضافاً إلى أنّ تنقية الروح من التلوث بواسطة الغسل والوضوء تكون بالماء، إذن فالماء مطهر للروح والجسم معاً.

لكن خاصية التطهير هذه مع ما لها من الأهمية، اعتبرت في الدرجة الثانية، لذا يضيف القرآن الكريم في الآية التي بعدها بأنّ الهدف من نزول المطر هو الإحياء: «لّنُحِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا». وأيضاً: «وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعمًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا».

في الآية الأخيرة- مورد البحث- يشير تعالى إلى القرآن فيقول: جعلنا هذه الآيات بينهم بصور مختلفة ومؤثرة ليتذكروا وليتعرفوا من خلاله على قدرة الخالق، لكن كثيراً من الناس لم يتخذوا موقفاً إزاء ذلك إلّاالإنكار والكفران: «وَلَقَدْ صَرَّفْنهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 408

وَ لَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَ جَاهِدْهُمْ

بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (52) وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَ هذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً (53) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كَانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَ لَا يَضُرُّهُمْ وَ كَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)

الآية الاولى- مورد البحث- أشارت إلى عظمة مقام النبي صلى الله عليه و آله، يقول تعالى: لو أردنا لبعثنا نبيّاً في كل مدينة وبلد، لكنّنا لم نفعل هذا وألقينا مسؤولية هداية العالمين على عاتقك، «وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا». لأنّ تمركز النبوة في وجود فرد واحد يكون باعثاً على وحدة وانسجام الناس، ومانعاً من كل فرقة وتشتت.

إنّ هذه الآية دليل على عظمة مقام النبي صلى الله عليه و آله، فهي دليل كذلك على وجوب وحدة القائد، وعلى ثقل عب ء مسؤوليته.

وبنفس هذا الدليل، يبيّن اللَّه تبارك وتعالى في الآية التالية أمرين إلهيين مهمين يشكلان منهجين أساسيين للانبياء، فيوجه الخطاب أوّلًا إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله ويقول: «فَلَا تُطِعِ الْكفِرِينَ». لا تخطُ أيّة خطوة على طريق التوافق مع انحرافاتهم، فإنّ التوافق مع المنحرفين آفة الدعوة إلى اللَّه.

أمّا القانون الثاني فهو: جاهد اولئك بالقرآن: «وَجهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا».

جهاداً كبيراً بعظمة رسالتك، وبعظمة جهاد كل الأنبياء الماضين، الجهاد الذي يشمل جميع الأبعاد الروحية والفكرية للناس، ويشمل كل الأصعدة المادية والمعنوية.

هذا التعبير يجسد أيضاً عظمة مقام القرآن، ذلك لأنّه وسيلة هذا الجهاد الكبير وسلاحه القاطع، فإنّ قدرته البيانية واستدلاله وتأثيره العميق وجاذبيته فوق تصور وقدرة البشر.

ثم يتناول القرآن الكريم مجدداً الاستدلال على عظمة الخالق عن طريق بيان نعمه

في النظام الكوني، فيشير بعد ذكر المطر في الآيات السابقة إلى عدم الإختلاط بين المياه العذبة والمالحة: «وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 409

«مرج»: من مادة «المرج» (على وزن فلج) بمعنى الخلط أو الإرسال، وهنا بمعنى المجاورة بين الماء العذب والمالح.

«عذب»: بمعنى سائغ وطيب وبارد، و «فرات» بمعنى لذيذ وهني ء.

«ملح»: بمعنى مالح، و «أجاج» بمعنى مُرّ وحار.

«برزخ»: بمعنى حجاب وحائل بين شيئين.

فهذه الآية تصور واحداً من المظاهر المدهشة لقدرة الخالق في عالم مخلوقاته، وكيف يستقر حجاب غير مرئي، وحائل خفي بين البحر المالح والبحر العذب، فلا يسمح لهما بالاختلاط.

وقد اتّضح اليوم أنّ هذا الحجاب اللامرئي، هو ذلك «التفاوت بين كثافة المالح والعذب» وفي الإصطلاح «تفاوت الوزن النوعي» لهما، حيث يكون سبباً في عدم امتزاجهما إلى مدة طويلة.

إنّ جعل هذه الآية وسط آيات تتعلق ب «الكفر» و «الإيمان» ربّما تكون أيضاً إشارة وتمثيلًا لهذا الأمر، ففي المجتمع الواحد أحياناً، وفي المدينة الواحدة، بل حتى في البيت الواحد أحياناً، يتواجد أفراد مؤمنون كالماء العذب والفرات، مع أفراد بلا إيمان كالماء المالح الأجاج ... مع طرازين من الفكر، ونوعين من العقيدة، ونمطين من العمل، طاهر وغير طاهر، دون أن يمتزجا.

في الآية التالية- بمناسبة البحث في نزول المطر، وفي البحرين العذب والأجاج المتجاورين- يتحدث القرآن الكريم عن خلق الإنسان من الماء، فيقول تعالى: «وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا». أي إنّ الإنسان الأوّل خلق من ماء، وأن تكوّن جميع أفراد البشر من ماء النطفة أيضاً، وأنّ الماء يشكل أهم مادة في بناء جسم الإنسان أيضاً ... الماء الذي يعتبر من أبسط موجودات هذا العالم، كيف صار مبدأ

إيجاد مثل هذا الخلق الجميل؟! وهذا دليل بيّن على قدرته تبارك وتعالى.

بعد ذكر خلق الإنسان، يورد جلّ ذكره الكلام عن انتشار الأنسان، فيقول: «فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا».

المقصود من «النسب» هو القرابة التي تكون بين الناس عن طريق الذرية والولد، مثل إرتباط الأب والابن، أو الإخوة بعضهم مع بعض، أمّا المقصود من «صهر» التي هي في

مختصر الامثل، ج 3، ص: 410

الأصل بمعنى «الختن» هو الإرتباط الذي يقام بين طائفتين عن هذا الطريق، مثل إرتباط الإنسان بأقرباء زوجته. في ختام الآية يقول تبارك وتعالى بصيغة التأكيد على المسائل الماضية: «وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا».

ويبيّن القرآن الكريم في نهاية المطاف في الآية الأخيرة- مورد البحث- انحراف المشركين عن أصل التوحيد، من خلال المقايسة بين قدرة الأصنام وقدرة الخالق، حيث مرّت نماذج منها في الآيات السابقة، يقول: «وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَايَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ».

من المسلّم أنّ وجود المنفعة والضرر لا يكون وحده معيار العبادة، لكن القرآن يبيّن من خلال هذا التعبير هذه النكتة، وهي أنّهم يفتقدون أية حجة في هذه العبادة، لأنّ الأصنام موجودات عديمة الخاصية تماماً، وفاقدة لأية قيمة، ولأي تأثير سلبي أو إيجابي.

ويضيف القرآن الكريم في ختام الآية: أنّ الكفرة يعين بعضهم بعضاً في مواجهة خالقهم «في طريق الكفر» «وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيرًا». ويعبئون القوى ويقيمون العراقيل ضد دين اللَّه ونبيّه والمؤمنين الحقيقيين.

وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ

فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً (59)

أجري هو هدايتكم: كان الكلام في الآيات السابقة حول إصرار الوثنيين على عبادتهم الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع، وفي الآية الحالية الاولى يشير القرآن إلى مهمة النبي صلى الله عليه و آله قبالة هؤلاء المتعصبين المعاندين، فيقول تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنكَ إِلَّا مُبَشّرًا وَنَذِيرًا».

إذا لم يتقبل هؤلاء دعوتك، فلا جناح عليك، فقد أديت مهمتك في البشارة والإنذار.

هذا الخطاب، كما يشخص مهمّة النبي صلى الله عليه و آله، كذلك يسلّيه، وفيه نوع من التهديد لهذه الفئة الضالة، وعدم المبالاة بهم.

ثم يأمر النبي صلى الله عليه و آله أن يقول لهم أنني لا اريد منكم في مقابل هذا القرآن وابلاغكم رسالة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 411

السماء أي أجر وعوض: «قُلْ مَا أَسَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ». ثم يضيف: إنّ الأجر الوحيد الذي أطلبه أن يهتدي الناس إلى طريق اللَّه «إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلًا».

يعني أجري وجزائي هو هدايتكم فقط، وبكامل الإرادة والاختيار أيضاً، فلا إكراه ولا إجبار فيه، وكم هو جميل هذا التعبير الكاشف عن غاية لطف ومحبة النبي صلى الله عليه و آله لأتباعه، ذلك لأنّه عدّ أجره وجزاءه سعادتهم.

وتبيّن الآية التي بعدها المعتمد الأساس للنبي صلى الله عليه و آله: «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىّ الَّذِى لَايَمُوتُ».

فمع هذا المعتمد والملجأ فلا حاجة لك بأجر وجزاء هؤلاء، ولا خوف عليك من ضررهم ومؤامراتهم.

والآن حيث الأمر على هذه الصورة فسبح اللَّه تنزيهاً له من كل نقص، وأحمده إزاء كل هذه الكمالات: «وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ».

ثم يضيف القرآن الكريم: لا تقلق من بهتان ومؤامرات الأعداء، لأنّ اللَّه مطلع على ذنوب عباده وسيحاسبهم: «وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا».

الآية التالية بيان لقدرة الخالق في ساحة عالم الوجود، ووصف آخر لهذا

الملاذ الأمين. يقول تعالى: «الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ». «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ» فأخذ بتدبير العالم.

إنّ من له هذه القدرة الواسعة يستطيع أن يحفظ المتوكلين عليه من كل خطر وحادثة.

وفي ختام الآية يضيف تعالى: «الرَّحْمنُ»: من شملت رحمته العامة جميع الموجودات، فالمطيع والعاصي والمؤمن والكافر يغترفون من خوان نعمته التي لا انقطاع فيها.

والآن، حيث ربّك الرحمن القادر المقتدر، فإذا أردت شيئاً فاطلب منه فإنّه المطلع على احتياجات جميع عباده: «فَسَلْ بِهِ خَبِيرًا».

وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً (59)

البروج السماوية: كان الكلام في الآيات الماضية عن عظمة وقدرة اللَّه، وعن رحمته

مختصر الامثل، ج 3، ص: 412

أيضاً، ويضيف اللَّه تعالى في الآية الاولى هنا: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمنُ». نحن لا نعرف «الرحمن» أصلًا، وهذه الكلمة ليس لها مفهوم واضح عندنا، «أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا». نحن لا نخضع لأيّ أحد، وسوف لن نكون أتباع أمر هذا أو ذاك، «وَزَادَهُمْ نُفُورًا». أي أنّهم يتكلمون بهذا الكلام ويزدادون ابتعاداً ونفوراً عن الحق.

لا شكّ أنّ أنسب اسم من أسماء اللَّه للدعوة إلى الخضوع والسجود بين يديه، هو ذلك الاسم الممتلى ء جاذبية «الرحمن» مع مفهوم رحمته العامّة الواسعة، لكن أولئك بسبب عمى قلوبهم ولجاجتهم، لم يظهروا تأثراً حيال هذه الدعوة، بل تلقوها بالسخرية والاستهزاء، وقالوا على سبيل التحقير: «وَمَا الرَّحْمنُ».

الآية التالية إجابة

على سؤالهم حيث كانوا يقولون: «وما الرحمن؟» وإن كانوا يقولون هذا على سبيل السخرية، لكن القرآن يجيبهم إجابة جادة، يقول تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا». «البروج»: جمع «برج» في الأصل بمعنى «الظهور» ولذا يسمون ذلك القسم الأعلى والأظهر من جدار أطراف المدينة أو محل تجمع الفرقة العسكرية «برج». فالبروج السماوية إشارة إلى الصور الفلكية الخاصة حيث تستقر الشمس والقمر في كل فصل وكل موضع من السنة إزاء واحد منها، يقولون مثلًا: استقرت الشمس في برج «الحمل» يعني أنّها تكون بمحاذاة «الصورة الفلكية»، «الحمل»، أو القمر في «العقرب» يعني وقفت كرة القمر أمام الصورة الفلكية «العقرب».

بهذا الترتيب، أشارت الآية إلى منازل الشمس والقمر السماوية، وتضيف على أثر ذلك: «وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا».

مع هذه الدلائل الواضحة، ومع هذه المنازل البديعة والدقيقة للشمس والقمر، فهل مازلتم تجهلونه وتقولون: «وما الرحمن؟!»

في الآية الأخيرة يواصل القرآن الكريم التعريف بالخالق سبحانه، ويتحدث مرّة اخرى في قسم آخر من نظام الوجود، فيقول تعالى: «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا».

هذا النظام البديع الحاكم على الليل والنهار، لولاه لانعدمت حياة الإنسان نتيجةً لشدة النور والحرارة أو الظلمة والعتمة، وهذا دليل رائع للذين يريدون أن يعرفوا اللَّه عزّ وجل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 413

وَ عِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63) وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِيَاماً (64) وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَ مُقَاماً (66) وَ الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً (67)

الصفات الخاصة لعباد الرحمن: هذه الآيات- فما

بعد- تستعرض بحثاً جامعاً فذاً حول الصفات الخاصة لعباد الرحمن، وتبيّن اثنتي عشر صفة من صفاتهم الخاصّة، إكمالًا للآيات الماضية حيث كان المشركون المعاندون حينما يذكر اسم اللَّه «الرحمن» يقولون ومل ء رؤوسهم استهزاء وغرور «وما الرحمن؟» ورأينا أنّ القرآن يعرّف لهم «الرحمن» ضمن آيتين، وجاء الدور الآن ليعرّف «عباد الرحمن».

إنّ أوّل صفة ل «عباد الرحمن» هو نفي الكبر والغرور والتعالي، الذي يبدو في جميع أعمال الإنسان حتى في طريقة المشي، لأنّ الملكات الأخلاقية تظهر نفسها في حنايا أعمال وأقوال وحركات الإنسان بحيث إنّ من الممكن تشخيص قسم مهم من أخلاقه- بدقة- من أسلوب مشيته. يقول تعالى: «وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِين يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا» «1».

نعم، إنّهم متواضعون، والتواضع مفتاح الإيمان، في حين يعتبر الغرور والكبر مفتاح الكفر.

الصفة الثانية ل «عباد الرّحمن» الحلم والصبر، كما يقول القرآن في مواصلته هذه الآية: «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجهِلُونَ قَالُوا سَلمًا». السلام الذي هو علامة اللامبالاة المقترنة بالعظمة، وليس الناشي ء عن الضعف؛ وليس سلام التحية الذي هو علامة المحبة ورابطة الصداقة، بل السلام الذي هو علامة الحلم والصبر والعظمة.

وتتناول الآية الثانية، خاصيتهم الثالثة التي هي العبادة الخالصة للَّه، فيقول تعالى:

______________________________

(1) «هون»: مصدر، وهو بمعنى الناعم والهادي المتواضع، واستعمال المصدر في معنى اسم الفاعل هنا للتوكيد؛ يعني أنّهم في ما هم عليه كأنّهم عين الهدوء والتواضع.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 414

«وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وَقِيمًا».

في عتمة الليل حيث أعين الغافلين نائمة، وحيث لا مجال للتظاهر والرياء، حرّموا على أنفسهم لذة النوم، ونهضوا إلى ما هو ألذّ من ذلك، حيث ذكر اللَّه والقيام والسجود بين يدي عظمته عزّ وجلّ. الصفة الرابعة لهم هي الخوف من العذاب الإلهي: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ

عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا». أي شديداً ومستديماً. «إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا».

ومع أنّهم مشتغلون بذكر اللَّه وعبادته في الليالي، ويقضون النهار في إنجاز تكاليفهم، فإنّ قلوبهم أيضاً مملوءة بالخوف من المسؤوليات.

«غرام»: في الأصل بمعنى المصيبة والألم الشديد الذي لا يفارق الانسان. وتطلق هذه الكلمة على «جهنم» لأنّ عذابها شديد ودائم لا يزول.

في الآية الأخيرة يشير جل ذكره إلى الصفة الممتازة الخامسة ل «عباد الرحمن» التي هي الإعتدال والإبتعاد عن أي نوع من الإفراط والتفريط في الأفعال، خصوصاً في مسألة الإنفاق، فيقول تعالى: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَامًا».

الملفت للإنتباه أنّه يورد الكلام في كيفية إنفاقهم فيقول: إنّ إنفاقهم إنفاق عادل (معتدل) بعيد عن أي إسراف وبخل، فلا يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولادهم جياعاً، ولا يقترون بحيث لا يستفيد الآخرون من مواهبهم وعطاياهم.

إنّ «الإسراف» هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد، وفي غير حق، وبلا داع، و «الإقتار» هو أن ينفق أقل من الواجب.

«قوام»: لغة بمعنى العدل والإستقامة والحد والوسط بين شيئين.

وَ الَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لَا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحاً فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَ مَنْ تَابَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71)

ميزة «عباد الرحمن» السادسة التي وردت في هذه الآيات هي التوحيد الخالص الذي

مختصر الامثل، ج 3، ص: 415

يبعدهم عن كل أنواع الشرك والثنوية والتعددية في العبادة، فيقول تعالى: «وَالَّذِينَ لَايَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ».

الصفة

السابعة: طهارتهم من التلوث بدم الأبرياء: «وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ».

ويستفاد جيداً من الآية أعلاه أنّ جميع الأنفس الإنسانية محترمة في الأصل، ومحرم إراقة دمائها إلّاإذا تحققت أسباب ترفع هذا الإحترام الذاتي فتبيح إراقة الدم.

صفتهم الثامنة: هي أنّ عفافهم لا يتلوث أبداً: «وَلَا يَزْنُونَ».

إنّهم على مفترق طريقين: الكفر والإيمان، فينتخبون الإيمان، وعلى مفترق طريقين: الأمان واللاأمان في الأرواح، فهم يتخيرون الأمان، وعلى مفترق طريقين: الطهر والتلوث، فهم يتخيرون النقاء والطهر. إنّهم يهيئون المحيط الخالي من كل أنواع الشرك والتعدي والفساد والتلوث، بجدهم واجتهادهم.

وفي ختام هذه الآية يضيف تعالى من أجل التأكيد أكثر: «وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَامًا».

«الإثم» و «آثام»: في الأصل بمعنى الأعمال التي تمنع من وصول الإنسان إلى المثوبة، ثم أطلقت على كل ذنب، لكنها هنا بمعنى جزاء الذنب.

تتكي ء الآية التالية أيضاً على ما سبق، من أنّ لهذه الذنوب الثلاثة أهمية قصوى فيقول تعالى: «يُضعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا».

والمقصود من مضاعفة العذاب أنّ كل ذنب من هذه الذنوب الثلاثة المذكورة في هذه الآية سيكون له عقاب منفصل، فتكون العقوبات بمجموعها عذاباً مضاعفاً.

فضلًا عن أنّ ذنباً ما يكون أحياناً مصدر الذنوب الاخرى، مثل الكفر الذي يسبب ترك الواجبات وارتكاب المحرمات، وهذا نفسه موجب لمضاعفة العذاب الإلهي.

لكن القرآن المجيد كما مرّ سابقاً، لم يغلق طريق العودة أمام المجرمين في أي وقت من الأوقات، بل يدعو المذنبين إلى التوبة ويرغبهم فيها، ففي الآية التالية يقول تعالى هكذا: «إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

تبديل السيئات حسنات: هنا عدّة تفاسير، يمكن القبول بها جميعاً:

1- حينما يتوب الإنسان ويؤمن باللَّه، تتبدل سيئات أعماله في

المستقبل حسنات، فإذا كان قاتلًا للنفس المحترمة في الماضى، فإنّه يتبنى مكانها في المستقبل الدفاع عن المظلومين

مختصر الامثل، ج 3، ص: 416

ومواجهة الظالمين. وهذا التوفيق الإلهي يناله العبد في ظل الإيمان والتوبة.

2- إنّ اللَّه تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وفضله وإنعامه يمحو سيئات أعمال العبد بعد التوبة، ويضع مكانها حسنات. 3- والمقصود من السيئات آثارها السيئة التي تنطبع بها روح ونفس الإنسان، فحينما يتوب ويؤمن تجتث تلك الآثار السيئة من روحه ونفسه.

الآية التالية تشرح كيفية التوبة الصحيحة، فيقول تعالى: «وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا» «1». يعني أنّ التوبة وترك الذنب ينبغي ألّا تكون بسبب قبح الذنب، بل ينبغي- إضافة إلى ذلك- أن يكون الدافع إليها خلوص النية، والعودة إلى اللَّه تبارك وتعالى.

الصفة التاسعة ل «عباد الرحمن»، هي احترام وحفظ حقوق الآخرين: إنّ هؤلاء لا يشهدون بالباطل مطلقاً: «وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ». والمقصود من «الشهود» هو «الحضور» يعني أنّ عباد الرّحمن لا يتواجدون في مجالس الباطل. فعباد الرّحمن لا يؤدون الشهادة الكاذبة، ولا يشهدون مجالس اللهو والباطل والخطيئة، ذلك لأنّ الحضور في هذه المجالس- فضلًا عن ارتكاب الذنب- فإنّه مقدمة لتلوث القلب والروح.

ثم يشير تعالى في آخر الآية إلى صفتهم الرفيعة العاشرة، وهي امتلاك الهدف الإيجابي في الحياة، فيقول: «وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا».

إنّهم لا يحضرون مجالس الباطل، ولا يتلوثون باللغو والبطلان.

وَ الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) وَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَ عُمْيَاناً (73) وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَ ذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُولئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَ

سَلَاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَ مُقَاماً (76)

الصفة الحادية عشر لهذه النخبة امتلاك العين الباصرة والاذن السامعة حين مواجهتهم

______________________________

(1) «متاب»: مصدر ميمي بمعنى التوبة، ولأنّه مفعول مطلق هنا، فهو للتوكيد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 417

لآيات الخالق، فيقول تعالى:

«وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُوا بَايَاتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا».

من المسلّم أنّ المقصود ليس الإشارة إلى عمل الكفار، ذلك لأنّهم لا اعتناء لهم بآيات اللَّه أصلًا، بل إنّ المقصود: فئة المنافقين أو مسلمو الظاهر، الذين يقعون على آيات اللَّه بأعين وآذان موصدة، دون أن يتدبّروا حقائقها، ويستهدوه في أعمالهم.

التلقي الواعي عن الدين هو المعين الأساس للمقاومة والثبات والصمود، لأنّ من اليسير خداع من يقتصر على ظواهر الدين، وبتحريفه يتم الإنحراف عن الخط الأصيل، فيهوي بهم ذلك إلى وادي الكفر والضلالة وعدم الإيمان.

الصفة الثانية عشر الخاصّة لهؤلاء المؤمنين الحقيقيين، هي التوجه الخاص إلى تربية أبنائهم وعوائلهم، وإيمانهم بمسؤوليتهم العظيمة إزاء هؤلاء: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِن أَزْوَاجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ».

بديهي أنّ معنى هذا ليس أن يقبعوا في زاوية ويتضرعوا بالدعاء، بل إنّ الدعاء دليل شوقهم وعشقهم الداخلي لهذا الأمر، ورمز جدهم واجتهادهم.

والصفة الثالثة عشر ل «عباد الرحمن»، التي هي أهم هذه الصفات من وجهة نظر معينة: هي أنّهم لا يقنعون أبداً أنّهم على طريق الحق، بل إنّ همتهم عالية بحيث يريدون أن يكونوا أئمة وقدوات للمؤمنين، ليدعوا الناس إلى هذا الطريق أيضاً. إنّهم ليسوا كالزهاد المنزوين في الزوايا، وليس همّهم انقاذ أنفسهم من الغرق، بل إنّ سعيهم هو أن ينقذوا الغرقى. لذا يقول في آخر الآية، إنّهم الذين يقولون: «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا».

نعم، إنّهم عباد الرحمن، وكما أنّ رحمة اللَّه العامة تشمل الجميع فإنّ رحمة اللَّه بهؤلاء العباد

عامة أيضاً من أكثر من جهة، فعلمهم وفكرهم وبيانهم وقلمهم ومالهم وقدرتهم تخدم بلا انقطاع في طريق هداية خلق اللَّه.

اولئك نماذج الإنسان الكامل والاسوة في المجتمع الإنساني.

اولئك قدوات المتقين.

بعد إكمال هذه الصفات الثلاثة عشرة، يشير تعالى إلى عباد الرحمن هؤلاء مع جميع هذه الخصائص، وفي صورة الكوكبة الصغيرة، فيبيّن جزاءهم الإلهي: «أُولئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا». «غرفة»: من مادة «غرف» (على وزن حرف) بمعنى رفع الشي ء وتناوله، ويقال لما يغترف ويتناول «غرفة»، ثم اطلقت على الأقسام العليا من البناء، ومنازل

مختصر الامثل، ج 3، ص: 418

الطبقات العليا، وهي هنا كناية عن أعلى منازل الجنة.

المهم أنّ الصبر ليس وصفاً جديداً لهم، بل هو ضمانة تطبيق جميع الصفات السابقة، وعلى هذا فللصبر هنا مفهوم واسع، فالتحمل والصمود أمام مشكلات طريق الحق، والجهاد والمواجهة ضد العصاة، والوقوف أمام دواعي الذنوب، تجتمع كلها في ذلك المفهوم.

ثم يضيف تعالى: «وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلمًا».

أهل الجنّة يحيي بعضهم بعضاً، وتسلم الملائكة عليهم، وأعلى من كل ذلك أنّ اللَّه يحييهم ويُسلم عليهم.

ثم يقول تبارك وتعالى للتأكيد أكثر: «خلِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا».

لولا دعاؤكم، لما كانت لكم قيمة: هذه الآية التي هي الآية الأخيرة في سورة الفرقان، جاءت في الحقيقة نتيجة لكل السورة، وللأبحاث التي بصدد صفات «عباد الرحمن» في الآيات السابقة، فيقول تبارك وتعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه و آله: «قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ». وبناء على هذا، إنّ ما يعطيكم الوزن والقيمة والقدر عند اللَّه هو الإيمان باللَّه والتوجه إليه، والعبودية له.

ثم يضيف تعالى: «فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا».

يعني: أنّكم قد كذبتم فيما مضى بآيات اللَّه وبأنبيائه، فإذا لم تتوجهوا إلى اللَّه، ولم تسلكوا طريق الإيمان به والعبودية له، فلن

تكون لكم أية قيمة أو مقام عنده، وستحيط بكم عقوبات تكذيبكم.

«نهاية تفسير سورة الفرقان»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 419

26 سورة الشّعراء

محتوى السورة: إنّنا نعلم أنّ السور المكية التي أنزلت في بداية دعوة الإسلام، تستند على بيان الاصول الاعتقادية:

التوحيد والمعاد، ودعوة أنبياء اللَّه، وأهمية القرآن.

وتدور جميع موضوعات سورة الشعراء حول هذه المسائل تقريباً.

ويمكن تلخيص محتوى هذه السورة في عدة أقسام:

1- مطلع هذه السورة الذي يتكون من الحروف المقطعة، ثم يتحدث في عظمة القرآن، وتسلية النبي صلى الله عليه و آله في مواجهة إصرار وحماقة المشركين، والإشارة إلى بعض دلائل التوحيد، وصفات اللَّه تبارك وتعالى.

2- يحكي جوانب من قصص سبعة أنبياء عظام ومواجهاتهم مع أقوامهم، والذي يشبه كثيراً منطق مشركي عصر النبي صلى الله عليه و آله، فكان هذا سبباً في تسلية النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين الأوائل.

وفيه بشكل خاص أيضاً، تركيز على العذاب العظيم والإبتلاءات المروعة التي حلّت بهذه الأمم، والذي هو بذاته تهديد مؤثر لأعداء النبي في تلك الشرائط.

3- وتغلب عليه جنبه الإستنتاج من القسمين الأوليين، يتناول الحديث حول النبي صلى الله عليه و آله، وعظمة القرآن، وتكذيب المشركين، والأوامر الصادرة إلى النبي صلى الله عليه و آله فيما يتعلق بطريقة الدعوة، وكيفية التعامل مع المؤمنين، ويختم السورة بالبشرى للمؤمنين الصالحين، وبالتهديد الشديد للظالمين.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 420

وبالمناسبة، فإنّ اسم هذه السورة أخذ من مجموعة الآيات الأخيرة التي تتحدث حول الشعراء غير المؤمنين.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح عليه السلام وكذّب به، وهود وشعيب وصالح وابراهيم عليهم السلام وبعدد من كذّب بعيسى

عليه السلام وصدّق بمحمّد صلى الله عليه و آله».

والمراد من التلاوة هي ما كانت مقدمة للتفكر، ثم العزم والعمل.

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (6)

مرّةً اخرى نواجه في بداية هذه السورة مثلًا آخر من الحروف المقطعة وهو: «طسم».

ورد في روايات متعددة عن النبي صلى الله عليه و آله أو بعض أصحابه في تفسير «طسم» أنّ هذه الحروف علامات «مختصرة» عن أسماء اللَّه تعالى، أو أسماء القرآن، أو الأمكنة المقدسة، أو بعض أشجار الجنة.

وهذه الرّوايات تؤيد التّفسير الذي نقلناه في مستهلّ سورة الأعراف في هذا الصدد، كما أنّها في الوقت ذاته لا تنافي ما قلناه في مستهل سورة البقرة من أنّ المراد من هذه الحروف بيان إعجاز القرآن وعظمته، حيث إنّ هذا الكلام العظيم مؤلف من حروف بسيطة وصغيرة.

و الآية التالية تبيّن عظمة القرآن بهذا النحو: «تِلْكَ ءَايتُ الْكِتبِ الْمُبِينِ».

ووصف القرآن ب «المبين» المشتق من «البيان»، هو إشارة إلى كونه جليّاً بيّناً عظيماً معجزاً- فكلّما أمعن الإنسان النظر في محتواه تعرّف على إعجازه أكثر فأكثر ... ثم بعد هذا فإنّ القرآن يبيّن الحق ويميزه عن الباطل، ويوضّح سبيل السعادة والنصر والنجاة من الضلال.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 421

وتتحرك الآية التالية لتُسرّي عن قلب النبي صلى الله عليه و آله وتثبته فتقول: «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ». «باخع»:

مشتقة من «البَخْع»، ومعناه إهلاك النفس من شدة الغمّ.

أجل، كان جميع الأنبياء على هذه الشاكلة من الإشفاق على اممهم

ولا سيما الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله الذي ورد في شأنه هذا التعبير القرآني أكثر من مرّة ...

قال بعض المفسرين: إنّ سبب نزول الآية الآنفة الذكر هو أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يدعو أهل مكة إلى توحيد اللَّه باستمرار، إلّاأنّهم لم يؤمنوا، فأسف النبي وتأثر تأثراً بالغاً حتى بدت أماراته في وجهه، فنزلت الآية آنفة الذكر لتسرّي عن قلب النبي صلى الله عليه و آله «1».

ولبيان أنّ اللَّه على كل شي ء قدير حتى أنّه يستطيع أن يسوقهم إلى الإيمان به سوقاً ويضطرّهم إلى ذلك، فإنّ الآية التالية تقول: «إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاءِ ءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ».

وهي إشارة إلى أنّ اللَّه قادر على إنزال معجزة مذهلة- من السماء- أو أن يرسل عليهم عذاباً شديداً فيذعنوا له، ويطأطئوا برؤوسهم خضوعاً له، ويستسلموا لأمره وحكمه، إلّاأنّ الإيمان بإكراه لا قيمة له. فالمهم أن يخضعوا للحق عن إرادة ووعي وإدراك وتفكر.

ثم يتحدث القرآن عن مواقف المشركين والكفار من آيات القرآن فيقول: «وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ».

والتعبير ب «الرّحمن» إشارة إلى أنّ نزول هذه الآيات من قبل اللَّه إنّما هو من رحمته العامة، إذ تدعو جميع الناس دون استثناء إلى السعادة والكمال.

والتعبير ب «محدث»- أي جديد- إشارة إلى أنّ آيات القرآن تنزل واحدةً تلو الاخرى، وكل منها ذو محتوى جديد.

ثم يضيف القرآن: أنّ هؤلاء لا يقفون عند حدود الإعراض، بل يتجاوزون إلى مرحلة التكذيب، بل إلى أشدّ منه ليصلوا إلى الإستهزاء به، فيقول: «فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ». «الأنباء»: جمع «انبأ»، أي الخبر المهم، والمراد من هذه الكلمة ما سيصيبهم من العقاب الشديد

الدنيوي والأخروي.

والتحقيق في هذه الآية والآية السابقة يكشف أنّ الإنسان حين ينحرف عن الجادة المستقيمة فإنّه يفصل نفسه عن الحق- بشكل مستمر.

______________________________

(1) تفسير روح الجنان 8/ 324.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 422

ففي المرحلة الاولى يعرض عن الحق ويصرف بوجهه عنه ... ثم بالتدريج يبلغ مرحلة الإنكار والتكذيب .. ثم يتجاوز هذه المرحلة إلى السخرية والإستهزاء ... ونتيجةً لذلك ينال عقاب اللَّه وجزاءه (وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيتين 4 و 5 من سورة الأنعام).

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

الزوجية في النباتات: كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إعراض الكفار عن الآيات التشريعية (أي القرآن المجيد)، أمّا في الآيات محل البحث فالكلام عن الآيات التكوينية ودلائل اللَّه في خلقِه وما أوجده سبحانه؛ فتقول الآية الاولى من هذه الآيات:

«أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ». «كريم»: في الأصل تعني كل شي ء قيّم وثمين.

والمراد من «كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» هو النباتات المهمّة ذوات الفائدة.

وتأتي الآية التالية لتقول مؤكّدة بصراحة: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً». إلّاأنّ اولئك الذين طُبع على قلوبهم في غفلة وجهل إلى درجة يرون معها آيات اللَّه بأعينهم، ومع ذلك يجحدونها ويكفرون بها، ويترسخ في قلوبهم العناد والجدل. لذلك فإنّ الآية هذه تعقّب قائلة: «وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ». أي إنّ عدم الإيمان لدى اولئك أمسى كالصفة الراسخة فيهم، فلا عجب أن لا ينتفعوا من هذه الآيات.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يرد الخطاب في تعبير يدل على التهديد والترهيب والتشويق والترغيب، فيقول سبحانه: «وَإِنَّ

رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

«العزيز»: معناه المقتدر الذي لا يغلب ولا يُقهر، فهو قادر على إظهار الآيات العظمى، كما أنّه قادر على إهلاك المكذبين وتدميرهم .. إلّاأنّه مع كل ذلك رحيم، ورحمته وسعت كل شي ء، ويكفي الرجوع بإخلاص إليه في لحظة قصيرة، لتشمل رحمته من أناب إليه وتاب، فيعفو عنه بلطفه ورحمته.

وَ إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 423

بداية رسالة موسى: قلنا إنّ في هذه السورة بياناً لقصص سبعة من الأنبياء الكرام العظام، ليكون درس اعتبار لعامّة المسلمين، ولا سيما المسلمين الأوائل في عصر النبي صلى الله عليه و آله ... فأوّل قصّة تتناولها هذه السورة هي قصة موسى عليه السلام، وتشرح جوانب مختلفة من حياته ومواجهته لفرعون وأتباعه حتى هلاكهم بالغرق في النيل.

وممّا يلفت النظر تكرار عبارة: «وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ»، بعد تمام الحديث عن كل نبي ...

وهو التعبير ذاته الوارد في بداية هذه السورة في شأن النبي محمّد صلى الله عليه و آله .. وهذا الإتساق في التعبير شاهد حيّ على أنّ ذكر هذه الجوانب من قصص الأنبياء إنّما هو للظروف المتشابهة التي أكتنفت المسلمين من حيث الحالة النفسية والإجتماعية كما كان عليها الأنبياء السابقون ...

فتقول الآيتان الاوليان من الآيات محل البحث: «وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ».

ويتركون ظلمهم وفسادهم وعنادهم للحق.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ الصفة الوحيدة

المذكورة عن قوم فرعون هنا هي الظلم، ومن الواضح أنّ الظلم له معنى جامع واسع ومن مصاديقه الشرك كما تقول الآية (13) من سورة لقمان: «إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».

كما أنّ استعباد بني إسرائيل واستثمارهم وما قارنهما من زجر وتعذيب من المصاديق الاخرى أيضاً، ثم بعد هذا كلّه فإنّ قوم فرعون ظلموا أنفسهم بأعمالهم المخالفة، وهكذا يمكن تلخيص أهداف دعوة الأنبياء جميعهم بمبارزة الظلم بجميع أبعاده ...

ويحكي القرآن مقالة موسى الكليم لربّ العزة وما طلبه منه من مزيد القوة والعون لحمل الرسالة العظمى، فيقول في الآية التالية: «قَالَ رَبّ إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ». وأخشى أن اطرد قبل أن أكمل أداء رسالتي بما الاقيه من صخب وتكذيب فلا يتحقق الهدف المنشود ...

وكان لموسى الحق في كلامه هذا تماماً، لأنّ فرعون وأتباعه وحاشيته كانوا مهيمنين على مصر، بحيث لم يكن لأحد أن يخالفهم ولو برأيه، وإذا أحسّوا بأدنى نغمة مخالفة لأي شخص بادروا إلى الإجهاز عليه فوراً ..

وإضافة إلى ذلك فإنّ صدري لا يتّسع لاستيعاب هذه الرسالة الإلهية: «وَيَضِيقُ صَدْرِى».

ثم بعد هذا كلّه فلساني قد يعجز عن بيانها: «وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِى» ...

مختصر الامثل، ج 3، ص: 424

فلذلك فإنّي أطلب أن تشدّ أزري بأخي: «فَأَرْسِلْ إِلَى هرُونَ». لنؤدّي رسالتك الكبرى بأكمل وجه بتعاضدنا في مواجهة الظالمين والمستكبرين.

وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ قوم فرعون يطاردونني «وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ» كما يعتقدون لأنّي قتلت واحداً منهم- حين كان يتنازع مع إسرائيلي مظلوم- بضربة حاسمة، وأنا قلق من ذلك: «فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ».

إنّ موسى لم يكن خائفاً على نفسه، بل كان خوفه أن لا يصل إلى الهدف والمقصد للأسباب آنفة الذكر، لذلك فقد كان يطلب من اللَّه سبحانه مزيد القوة لهذه المواجهة ...

فاستجاب اللَّه طلب

موسى ودعوة الصادقة و «قَالَ كَلَّا». فلن يستطيعوا قتلك، أو كلّا لن يضيق صدرك وينعقد لسانك، وقد أجبنا دعوتك أيضاً في شأن أخيك، فهو مأمور معك في هذه المهمة: «فَاذْهَبَا بَايَاتِنَا» لتدعوا فرعون وقومه إلى توحيد اللَّه.

ولا تظنّا بأنّ اللَّه بعيد عنكم أو لا يسمع ما تقولان: «إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ» ...

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

مواجهة فرعون مواجهةً منطقية وقاطعة: انتهت في الآيات المتقدمة المرحلة الاولى لمأمورية موسى عليه السلام وهي موضوع الوحي والرسالة وطلبه أسباب الوصول إلى هذا الهدف الكبير ... وتعقيباً على المرحلة الآنفة تأتي الآيات- محل البحث- لتمثل المرحلة الثانية، أي مواجهة موسى وهارون لفرعون، والكلام المصيري الذي جرى بينهم. تقول الآية الاولى من هذه الآيات مقدمة لهذه المرحلة: «فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ».

وضمن دعوتكما لفرعون بأنّكما رسولا ربّ العالمين اطلبا منه أن يُرسل بني إسرائيل ويرفع يده عنهم: «أَن أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ».

وبديهي أنّ المراد من الآية أن يرفع فرعون عن بني إسرائيل نير العبودية والقهر

مختصر الامثل، ج 3، ص: 425

والإستعباد، ليتحرروا ويأتوا مع موسى وهارون، وليس المراد هو إرسال بني إسرائيل معهما فحسب.

وهنا يلتفت فرعون فيتكلم بكلمات مدروسة وممزوجة بالخبث والشيطنة لينفي الرسالة ويقول لموسى «أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيدًا ...». إذْ التقطناك من أمواج النيل الهادرة فانقذناك

من الهلاك، وهيّأنا لك مرضعة، وعفونا عن الحكم الصادر في قتل أبناء بني إسرائيل الذي كنت مشمولًا به، فتربّيت في محيط هادى ء آمن منعّماً ... وبعد أن تربيت في بيتنا عشت زماناً «وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ».

ثم توجه إلى موسى وذكره بموضوع قتل القبطي فقال: «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ».

ثم بعد هذا كلّه: «وَأَنتَ مِنَ الْكفِرِينَ».

وعندما سمع موسى كلمات فرعون الممزوجة بالخبث والشيطنة أجاب على إشكالات فرعون الثلاثة، إلّاأنّه قدّم الإجابة على الإشكال الثاني نظراً لأهميته. (أو أنّه أساساً لم يجد الإشكال الأوّل يستحق الإجابة، لأنّ تربية الشخص لا تكون دليلًا على عدم جواز هداية مربّيه إن كان المربي ضالًا، ليسلك سبيل الرشاد) وأجابه موسى عليه السلام: «قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالّينَ».

إنّ موسى عليه السلام استخدم التورية في تعبيره جواباً على كلام فرعون، فقال كلاماً ظاهره أنّه لم يعرف طريق الحق في ذلك الزمان ... لكن اللَّه عرّفه إيّاه بعدئذ، ووهب له حكماً- فجعله من المرسلين، إلّاأنّه كان يقصد في الباطن أنّه لم يدر أن عمله حينئذ سيؤدّي إلى هذه النتيجة من الجهد والعناء واضطراب البال- مع أنّ أصل عمله كان حقاً ومطابقاً لقانون العدالة.

ثم يضيف موسى قائلًا: «فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْمًا وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ».

ثم يردّ موسى عليه السلام على كلام فرعون الذي يمنّ به عليه في أنّه ربّاه وتعهده منذ طفولته وصباه، معترضاً عليه بلحن قاطع فيقول: «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْرَاءِيلَ».

حتى أمرت أن يُقتل الأطفال الذكور وتستحيا النساء للخدمة.

فهذا الظالم المفرط من قبلك، كان سبباً لأن تضعني امي في الصندوق حفاظاً علي، وتلقيني في أمواج النيل، وكانت مشيئة اللَّه أن تسوق الأمواج «زورقي» الصغير حتى توصله

إلى قصرك ... أجل إنّ ظلمك الفاحش هو الذي جعلني رهين منّتك وحرمني من بيت أبي الكريم، وصيرني في قصرك الملوّث ...

مختصر الامثل، ج 3، ص: 426

قَالَ فِرْعَوْنُ وَ مَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)

حين واجه موسى عليه السلام فرعون بلهجة شديدة وأجابه بضرس قاطع، وأفحم فرعون في ردّه، غيّر فرعون مجرى كلامه، وسأل موسى عن معنى كلامه أنّه رسول رب العالمين، و «قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ». وفرعون قد سأل موسى عليه السلام هذا السؤال متجاهلًا ومستهزئاً.

إلّا أنّ موسى لم يجد بُداً أن يجيب على فرعون بجدّ ... وحيث إنّ ذات اللَّه سبحانه بعيدة عن متناول أفكار الناس، فإنّه أخذ يحدثه عن آيات اللَّه في الآفاق وآثاره الحية إذ: «قَالَ رَبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ».

وينبغي الإلتفات إلى أن عبدة الأوثان كانوا يعتقدون أنّ لكل موجود في هذا العالم ربّاً، وكانوا يعدّون العالم تركيباً من نُظُمٍ متفرقة، إلّاأنّ كلام موسى عليه السلام يشير إلى أنّ هذا النظام الواحد المتحكم على هذه المجموعة في عالم الوجود دليل على أنّ له ربّاً واحداً ...

وجملة «إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ» لعلها إشارةً إلى أنّ موسى عليه السلام يريد أن يفهم فرعون ومن حوله- ولو تلويحاً- أنّه يعرف أنّ الهدف من هذا السؤال ليس إدراك الحقيقة ... لأنّه لو أراد إدراك الحقيقة والبحث عنها لكان استدلاله

كافياً .. لتصححوا نظرتكم نحو الكون.

إلّا أنّ فرعون عاد لمواصلة الاستهزاء والسخرية، واتبع طريقة المستكبرين القديمة بغرور، و «قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ».

ومعلوم من هم الذين حول فرعون، فهم أشخاص من نسيجه وجماعة من أصحاب القوة والظلم والقهر والمال.

وكان الهدف من كلام فرعون أن لا يترك كلام موسى المنطقي يؤثر في القلوب المظلمة لُاولئك الرهط ... فعدّه كلاماً بلا محتوى وغير مفهوم.

إلّا أنّ موسى عليه السلام عاد مرّةً اخرى إلى كلامه المنطقي دون أي خوف ولا وهن ولا إيهام، فواصل كلامه و «قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 427

إنّ موسى عليه السلام بدأ في المرحلة الاولى ب «الآيات الآفاقية»، وفي المرحلة الثانية أشار إلى «الآيات الأنفسية»، إلّاأنّ فرعون تمادى في حماقته، وتجاوز مرحلة الاستهزاء إلى اتهام موسى بالجنون، ف «قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ».

وذلك ما اعتاده الجبابرة والمستكبرون على مدى التاريخ من نسبة الجنون إلى المصلحين الرّبانيين، إلّاأنّ هذه التهمة لم تؤثر في روح موسى عليه السلام ومعنوياته العالية، وواصل بيان آثار اللَّه في عالم الإيجاد في الآفاق والأنفس، مبيناً خط التوحيد الأصيل ف «قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ».

فإذا كنت- يا فرعون- تحكم حكما ظاهريّاً في أرض محدودة تدعى مصر، فإنّ حكومة ربّي الواقعية تسع المشرق والمغرب وما بينهما جميعاً، وآثاره تشرق في وجوه الموجودات.

غير أنّ هذا المنطق المتين الذي لا يتزعزع غاظ فرعون بشدة، فالتجأ إلى استعمال «حربة» يفزع إليها المستكبرون عند الإندحار، فجابه موسى و «قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهًا غَيْرِى لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ».

إنّ فرعون يريد أن يسكت موسى بهذا المنطق الإرهابي، لأنّ مواصلة موسى عليه السلام بمثل هذه الكلمات ستكون سبباً في إيقاظ الناس.

قَالَ أَ

وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)

رأينا في الآيات المتقدمة أنّ فرعون يلجأ إلى التهديد بالسجن والإعدام، وهنا يقلب موسى عليه السلام صفحة جديدة، فعليه أن يسلك طريقةً اخرى يخذل فيها فرعون ويعجزه. عليه أن يلجأ إلى القوة أيضاً، القوة الإلهية التي تنبع من الإعجاز، فالتفت إلى فرعون متحدّياً و «قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىْ ءٍ مُّبِينٍ».

وهنا وجد فرعون نفسه في طريق مغلق مسدود، لأنّ موسى عليه السلام أشار إلى خطّة جديدة ولفت انظار الحاضرين نحوه، إذ لو أراد فرعون أن لا يعتدّ بكلامه، لإعترض عليه الجميع.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 428

فاضطر فرعون إلى الإستجابة لاقتراح موسى عليه السلام و «قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصدِقِينَ». «فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ» «بأمر اللَّه».

ثم أظهر إعجازاً آخر حيث أدخل يده في جيبه (أعلى الثوب) وأخرجها فإذا هي بيضاء منيرة: «وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ».

إنّ هاتين المعجزتين الكبيرتين، إحداهما كانت مظهر الخوف، والاخرى مظهر الأمل، فالاولى تناسب مقام الإنذار، والثانية للبشارة.

غير أنّ فرعون اضطرب لهذا المشهد المهول وغرق في وحشة عميقة ولكي يحافظ على قدرته الشيطانية التي أحدق بها الخطر بظهور موسى عليه السلام، وكذلك من أجل أن يرفع من معنويات أصحابه والملأ من حوله في توجيه معاجز موسى ولفت نظرهم عنها، فقد «قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ».

ذلك الإنسان الذي

كان يدعوه مجنوناً إلى لحظات آنفة، وإذا هو الآن يعبر عنه بالعليم.

ومن أجل أن يعبّى ء الملأ ويُثير حفيظتهم ضد موسى عليه السلام، قال لهم: «يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ».

والغريب في الأمر أنّ فرعون الذي قال هذا الكلام هو الذي كان يقول من قبل: «أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ». والآن حيث يرى عرشه متزعزعاً ينسى مالكيته المطلقة لهذه الأرض، ويعدّها ملك الناس، فيقول لهم: أرضكم في خطر.

يقول لمن حوله: «ماذا تأمرون؟!» إنّها استشارة عاجزة ومن موقف الضعف فحسب.

وبعد المشاورة فيما بينهم التفت الملأ من قوم فرعون إليه و «قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ» «1». أي: أمهلهما وابعث رسلك إلى جميع المناطق والأمصار، «يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ».

وقالوا: لحسن الحظّ إنّ في بلادنا العريضة سحرةً كثيرين، فلابدّ من جمع السحرة لإحباط سحر موسى عليه السلام.

______________________________

(1) «أرجه»: مشتقة من «الإرجاء» ومعناها التأخير وعدم الإستعجال في القضاء.

«حاشرين»: مأخوذة من مادة «الحشر» ومعناه التعبئة والسوق لميدان الحرب وأمثال ذلك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 429

فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَ قِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)

اجتماع السحرة من كل مكان: في هذه الآيات يُعرض مشهداً آخر من هذه القصة المثيرة، إذ تحرك المأمورون بحسب اقتراح أصحاب فرعون إلى مدن مصر لجمع السحرة والبحث عنهم، وكان الوعد المحدد: «فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ».

وبتعبير آخر: إنّهم هيأوهم من قبل لمثل هذا اليوم.

وطُلب من الناس الحضور في هذا المشهد: «وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ».

وقيل للناس: إنّ الهدف من هذا الحضور والاجتماع

هو أنّ السحرة إذا انتصروا فمعنى ذلك انتصار الآلهة وينبغي علينا اتباعهم: «لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ». فلابدّ من تهييج الساحة للمساعدة في هزيمة عدو الآلهة إلى الأبد.

كل هذا من جهة، ومن جهة اخرى كان السحرة يحلمون بالجائزة من قبل فرعون: «فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ».

وكان فرعون قلقاً مضطرب البال، لأنّه في طريق مسدود، وكان مستعدّاً لأن يمنح السحرة أقصى الإمتيازات، لذلك فقد أجابهم بالرضا و «قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ».

قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَ هَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)

حين اتفق السحرة مع فرعون ووعدهم بالأجر والقرب منه، وشدّ من عزمهم، فإنّهم

مختصر الامثل، ج 3، ص: 430

بدأوا بتهيئة المقدمات ووفروا خلال ماسنحت لهم الفرصة عصيّهم وحبالهم، ويظهر أنّهم صيّروها جوفاء وطلوها بمادة كيميائية كالزئبق- مثلًا- بحيث تتحرك وتلمع عند شروق الشمس عليها. وأخيراً كان اليوم الموعود والميقات المعلوم، وانثال الناس إلى ساحة العرض ليشهدوا المبارزة التاريخية: «قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ».

وأمّا السحرة الغارقون بغرورهم، والذين بذلوا أقصى جهودهم لانتصارهم في هذا «الميدان»، فقد كانوا مستعدين ومؤمّلين لأن يغلبوا موسى عليه السلام: «فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ

فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغلِبُونَ» «1».

وهنا- كما يبيّن القرآن في الآية (66) من سورة طه- تحركت العصيّ كأنّها الأفاعي والثعابين و «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى .

فتهللت أسارير وجوه الناس ووجه فرعون فرحاً، وأشرق الأمل في عيني فرعون وأتباعه، إلّاأنّ موسى عليه السلام لم يمهل الحاضرين ليستمر هذا المشهد ويدوم هذا الفصل المثير، فتقدم: «فَأُلْقِىَ مُوسَى عَصَاهُ» فتحولت إلى ثعبان عظيم وبدأت بالتهام وسائل وأدوات السحرة بسرعة بالغة: «فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ» «2».

وهنا فر جماعة من مكانهم وبقي آخرون يترقبون نهاية المشهد، وأفواه السحرة فاغرة من الدهشة ...

وتبدّل كل شي ء، وثاب السحرة إلى رشدهم بعد أن كانوا- إلى تلك اللحظة- مع فرعون غارقين في الشيطنة، ولأنّهم كانوا عارفين بقضايا السحر ودقائقه، فإنّهم تيقنوا أنّ عصا موسى لم تكن سحراً، بل هي معجزة إلهية كبرى: «فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سجِدِينَ».

واقترن هذا العمل العبادي- وهو السجود- بالقول بلسانهم ف «قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ». ولئلّا يبقى مجال للإبهام والغموض والتردد، ولئلّا يفسر فرعون ذلك تفسيراً آخر فإنّهم قالوا: «رَبّ مُوسَى وَهرُونَ».

______________________________

(1) «الحبال»: جمع «حبل» على وزن (طبل) ومعناها واضح؛ و «العصي»: جمع العصا.

(2) «تلقف»: مشتق من «اللقف» على زنه (السقف) ومعناه إمساك الشي ء بسرعة، سواء كان ذلك باليد أم الفم، ومعلوم أنّ المراد هنا الإمساك بالفم والإبتلاع.

«يأفكون» مشتق من «الإفك» ومعناه الكذب، وهي إشارة إلى وسائلهم الباطلة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 431

أمّا فرعون، فحيث وجد نفسه مهزوماً معنوياً ويرى من جانب آخر أنّ وجوده وسلطانه في خطر، وخاصة أنّه كان يعرف أيّ تأثير عميق لإيمان السحرة في قلوب سائر الناس، ومن الممكن أن يسجد جماعة آخرون كما سجد السحرة، فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر، فالتفت إلى السحرة و «قَالَ

ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ».

لقد تربع على عرش الإستبداد سنين طوالًا، كان ترقّبه أن تكون قلوب الناس وأفكارهم مرهونةً به وبأمره، إلّاأنّ فرعون لم يقنع بهذا المقدار، بل أضاف جملتين اخريين ليُثبت موقعه كما يتصوّر أوّلًا، وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلةً نياماً.

فاتّهم السحرة أوّلًا بأنّهم تآمروا مع موسى عليه السلام على أهل مصر جميعاً، فقال: «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْرَ».

إلّا أنّني لا أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة، وسأخنق المؤامرة في مهدها «فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مّنْ خِلفٍ وَلَأُصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ».

إلّا أنّ فرعون لم يحقق هدفه هنا، لأنّ السحرة قبل لحظة- والمؤمنين في هذه اللحظة- قد غمر قلوبهم الإيمان، بحيث لم يهزّهم تهديد فرعون، فأجابوه بضرس قاطع واحبطوا خطته و «قَالُوا لَاضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ».

ثم أضافوا بأنّهم واجهوا النبي موسى عليه السلام من قبل بالتكذيب وأذنبوا كثيراً، ولكن مع ذلك ف «إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ».

إنّنا لا نستوحش اليوم من أي شي ء، لا من تهديداتك، ولا من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ولا من الصلب على جذوع النخل.

وَ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَ إِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (57) وَ كُنُوزٍ وَ مَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)

في الآيات المتقدمة رأينا كيف أنّ موسى خرج منتصراً من تلك المواجهة وهذه الامور هيأت أرضية ملائمة لأن ينشر موسى عليه السلام دعوته بين الناس، ويتمّ الحجة عليهم.

ومرّت سنون طوال على هذا المنوال، وموسى عليه السلام يظهر المعاجز تلو المعاجز، ولمّا

أتمّ موسى على أهل مصر الحجة البالغة، وامتازت صفوف المؤمنين من صفوف المنكرين، نزل الوحي على موسى أن يخرج بقومه من مصر، والآيات التالية تجسد هذا المشهد فتقول أوّلًا:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 432

«وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ». وفعلًا امتثل موسى عليه السلام هذا الأمر، وعبأ بني إسرائيل بعيداً عن أعين أعدائهم، وأمرهم بالتحرك، إلّاأنّ من البديهي أنّ حركة جماعة بهذا الشكل ليس هيناً يسيراً يمكن إخفاؤه لزمان طويل، فما كان أسرع أن رفع جواسيس فرعون هذا الخبر إليه، وكما يحدثنا القرآن عن ذلك أنّ فرعون أرسل رسله وأعوانه إلى المدن لجمع القوات: «فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَائِنِ حشِرِينَ».

ولتعبئة الناس- ضمناً- وتهيئة الأرضية لإثارتهم ضد موسى وقومه، أمر فرعون أن يُعلَن «إِنَّ هؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ».

فبناء على ذلك فنحن منتصرون عند مواجهتنا لهذه الفئة القليلة حتماً.

«الشرذمة»: في الأصل تعني القلة من الجماعة، كما تعني ما تبقى من الشي ء، ويطلق على اللبوس الممزق الخلق «شراذم»، فبناء على هذا يكون المعنى أنّ هؤلاء «أي موسى وقومه» بالإضافة إلى أنّهم قليلون فهم متفرقون، فكأنّ فرعون، بهذا التعبير أراد أن يجسد عدم انسجام بني إسرائيل من حيث إعداد الجيش فيهم ...

ثم تضيف الآية الاخرى حاكية عن لسان فرعون: «وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ». فمن يسقي مزارعنا غداً، ومن يخدم في البيوت والقصور غيرهم؟!

ثم إنّا من مؤامرتهم يجب أن نكون على حذر سواء أقاموا أم رحلوا: «وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حذِرُونَ» ومستعدون جميعاً لمواجهتهم.

ثم يذكر القرآن النتيجة الإجمالية لعاقبة فرعون وقومه وزوال حكومته، وقيام حكومة بني إسرائيل، فيقول: «فَأَخْرَجْنهُم مّن جَنتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ».

أجل، «كَذلِكَ وَأَوْرَثْنهَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ».

فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ

رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَ أَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَ أَنْجَيْنَا مُوسَى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 433

عاقبة فرعون وأتباعه الوخيمة: في هذه الآيات يبرز المشهد الأخير من قصة موسى وفرعون، وهو كيفية هلاك فرعون وقومه، ونجاة بني إسرائيل وانتصارهم، وكما قرأنا في الآيات المتقدمة فإنّ فرعون أرسل المدائن حاشرين، وهيأ مقداراً كافياً من «القوّة» والجيش.

تحركوا في جوف الليل ليدركوهم بسرعة، فبلغوهم صباحاً كما تقول الآية الاولى من الآيات محل البحث: «فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحبُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ». فأمامنا بحر خضم متلاطم بالأمواج، ومن ورائنا بحر من الجيوش المتعطشة للدماء بتجهيزاتها الكاملة ... هؤلاء الغاضبون علينا.

وهنا مرّت لحظات عسيرة على بني إسرائيل ... لحظات مُرّة لا يمكن وصف مرارتها ... ولعل جماعة منهم تزلزل إيمانهم وفقدوا معنوياتهم وروحياتهم، إلّاأنّ موسى عليه السلام كان مطمئناً هادى ء البال، وكان يعرف أنّ وعد اللَّه في هلاك فرعون وقومه ونجاة بني إسرائيل لا يتخلف أبداً ولن يخلف اللَّه وعده رسله ...

لذلك التفت إلى بني إسرائيل الفزعين بكمال الإطمئنان والثقة و «قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ».

وفي هذه الحال التي قد يكون البعض سمعوا كلامه دون أن يصدقوه، وكانوا ينتظرون آخر لحظات حياتهم، صدر أمر اللَّه كما يقول القرآن: «فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ...». فامتثل موسى عليه السلام أمر ربّه فضرب البحر، فإذا أمامه مشهد رائع عجيب، تهللت له أسارير وجوه بني إسرائيل، إذا انشقّ البحر «فَانفَلَقَ

فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ».

«انفلق»: مأخوذ من «الفَلَق» ومعناه الإنشقاق؛ و «فَرَقَ» من مادة «فرْق» على زنة «حلق» ومعناه الإنفصال.

وبتعبير آخر، كما يقول الراغب في مفرداته: إنّ الفرق بين (فلق) و (فرق) هو أنّ الأوّل يشير إلى الإنشقاق (أو الإنشطار) والثاني يشير إلى الإنفصال.

«الطّود»: معناه الجبل العظيم، ووصف الطود بالعظمة في الآية تأكيد آخر على معناه.

إلّا أنّ فرعون وأتباعه بالرغم من مشاهدتهم هذه المعجزة الكبرى الواضحة لم يذعنوا للحق، ولم ينزلوا عن مركب غرورهم، فاتبعوا موسى ورهطه ليبلغوا مصيرهم المحتوم، كما يقول القرآن في هذا الشأن: «وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْأَخَرِينَ».

وهكذا ورد فرعون وقومه البحر أيضاً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 434

وتقول الآية التالية: «وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ».

وحين خرج آخر من كان من بني إسرائيل من البحر، ودخل آخر من كان من أتباع فرعون البحر، صدر أمر اللَّه فعادت الأمواج إلى حالتها الاولى.

ويبيّن القرآن هذه الحالة بعبارة موجزة متينة فيقول: «ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْأَخَرِينَ».

وهكذا إنتهى كل شي ء في لحظة واحدة ... فالأرقاء أصبحوا أحراراً، وهلك الجبابرة، وانتهت تلك الحضارة المشيدة على دماء المستضعفين، وورث الحكومة والملك المستضعفون بعدهم.

أجل، «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ». فكأنّ في أعينهم عمىً، وفي آذانهم وقراً، وعلى قلوب أقفالًا.

فحيث لا يؤمن فرعون وقومه مع ما رأوا من المشاهد العجيبة، فلا تعجب إذاً ألّا يؤمن بك المشركون- يا محمّد- ولا تحزن عليهم لعدم إيمانهم.

والتعبير ب «أكثرهم» إشارة إلى أنّ جماعة من قوم فرعون آمنوا بموسى والتحقوا بأصحابه.

أمّا آخر آية من هذه الآيات فتشير إلى قدرة اللَّه ورحمته المطلقة واللامتناهية، فتقول: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

فمن عزّته أنّه متى شاء أن يهلك الأمم المسرفة الباغية أصدر أمره فأهلكها، فيكفي أن يهلكها بما هو سبب

حياتها، كما أهلك فرعون وقومه بالنيل الذي كان أساس حياتهم وثروتهم وقدرتهم، فإذا هو يقبرهم فيه.

ومن رحمته أنّه لا يعجل في الأمر أبداً، بل يمهل سنين طوالًا، ويرسل معاجزه إتماماً للحجة، ومن رحمته أن يخلص هؤلاء المستعبدين من قبضة الجبابرة الظالمين.

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَ فَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ (79) وَ إِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 435

تعقّب هذه الآيات على قصة موسى وفرعون المليئة بالدروس لتبيّن قصة إبراهيم ومواجهاته المشركين، وتبدأ هذه الآيات بمحاورة إبراهيم لعمه آزر فتقول: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرهِيمَ».

ومن بين جميع الأخبار المتعلقة بهذا النبيّ العظيم يركّز القرآن الكريم على هذا القسم: «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ».

فأجابوه مباشرةً: «قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عكِفِينَ». وهذا التعبير يدلّ على أنّهم يحسّوا بالخجل من عملهم هذا، بل يفتخرون به، إذا كان كافياً أن يجيبوه: نعبد أصناماً، إلّاأنّهم أضافوا هذه العبارة: «فَنَظَلُّ لَهَا عكِفِينَ».

إنّ إبراهيم لما سمع كلامهم رشقهم بنبال الإشكال والإعتراض بشدّة، وقمعهم بجملتين حاسمتين جعلهم في طريق مغلق، ف «قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ».

إنّ أقلّ ما ينبغي توفره في المعبود هو أن يسمع نداء عابده، وأن ينصره في البلاء،

أو يضره عند مخالفة أمره ... إلّاأنّ هذه الأصنام ليس فيها ما يدل على أنّ لها أقل إحساس أو شعور أو أدنى تأثير في عواقب الناس.

إلّا أنّ عبدة الأصنام الجهلة المتعصبين واجهوا سؤال إبراهيم بجوابهم القديم الذي يكررونه دائماً، ف «قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ».

وهذا الجواب الذي يكشف عن تقليدهم الأعمى لأسلافهم الجهلة هو الجواب الوحيد الذي استطاعوا أن يردّوا به على إبراهيم عليه السلام، وهو جواب دليل بطلانه كامن فيه.

فالتفت إبراهيم مُوبّخاً لهم ومبيناً موقفة منهم و «قَالَ أَفَرَءَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لّى إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ».

أجل ... إنّهم جميعاً أعدائي وأنا معاديهم، ولا أسالمهم أبداً ...

ثم يصف إبراهيم الخليل ربّ العالمين ويذكر نعمه المعنوية والمادية، ويقايسها بالأصنام التي لا تسمع الدعاء ولا تنفع ولا تضرّ، ليتّضح الأمر جليّاً ...

فيبدأ بذكر نعمة الخلق والهداية فيقول: «الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 436

وبعد بيان أولى مراحل الربوبية، وهي الهداية بعد الخلق، يذكر إبراهيم الخليل عليه السلام النعم المادية فيقول: «وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ».

ولست مشمولًا بنعمة في حال الصحة فقط، بل في كل حال، «وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ». ومع أنّ المرض أيضاً قد يكون من اللَّه، إلّاأنّ إبراهيم نسبه إلى نفسه رعاية للأدب في الكلام ...

ثم يتجاوز مرحلة الحياة الدنيا إلى مرحلة أوسع منها ... إلى الحياة الدائمة في الدار الآخرة، فيقول: «وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ».

وحين أرِدُ عرصات يوم القيامة اعلقّ حبل رجائي على كرمه: «وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيَتِى يَوْمَ الدّينِ».

وممّا لا شك فيه أنّ الأنبياء معصومون من الذنب، وليس عليهم وزر كي يغفر لهم ... إلّاأنّه- كما قلنا سابقاً- قد تعدّ حسنات الأبرار سيئات المقربين أحياناً، وقد

يستغفرون أحياناً من عمل صالح لأنّهم تركوا خيراً منه ... فيقال عندئذ في حق أحدهم: ترك الأولى.

فإبراهيم عليه السلام لا يعوّل على أعماله الصالحة، فهي لا شي ء بإزاء كرم اللَّه، ولا تقاس بنعم اللَّه المتواترة، بل يعوّل على لطف اللَّه فحسب، وهذه هي آخر مرحلة من مراحل الإنقطاع إلى اللَّه ...

رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَ اجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)

دعاء إبراهيم عليه السلام: من هنا تبدأ أدعية إبراهيم الخليل وسؤالاته من اللَّه، فكأنّه بعد أن دعا قومه الضالين نحو اللَّه، يتجه بوجهه نحو اللَّه ويعرض عنهم، فأوّل ما يطلبه إبراهيم من ساحته المقدسة هو «رَبّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ».

إنّ إبراهيم عليه السلام يطلب من اللَّه قبل كل شي ء المعرفة العميقة الصحيحة المقرونة بالحاكمية، لأنّ أي منهج لا يتحقق دون هذا الأساس.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 437

وبعد هذا الطلب يسأل من اللَّه إلحاقه بالصالحين، وهو إشارة إلى الجوانب العملية، أو كما يصطلح عليها ب «الحكمة العملية» في مقابل الطلب السابق وهو «الحكمة النظرية» ...

وبما أنّه ليس للحكمة حد معين، ولا لصلاح الإنسان حدّ، فهو يطلب ذلك ليبلغ المراتب العليا من العلم والعمل يوماً بعد يوم، حتى وهو في موقع النبوة، وأنّه من أولي العزم .. لا يكتفي بهذه العناوين.

وبعد هذين الطلبين يطلب موضوعاً مهماً آخر بهذه العبارة: «وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الْأَخِرِينَ». أي: اجعلني بحال تذكرني الأجيال الآتية بخير.

فاستجاب اللَّه دعاء إبراهيم كما يقول سبحانه في الآية (50) من سورة مريم: «وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا».

ثم ينظر إبراهيم

إلى أفق أبعد من أفق الدنيا، ويتوجه إلى الدار الآخرة، فيدعو بدعاء رابع فيقول: «وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ».

«جنة النعيم» التي تتماوج فيها النعم المعنوية والمادية، النعم التي لا زوال لها ولا اضمحلال ... النعم التي لا يمكن أن نتصورها.

إنّ التعبير بالإرث في شأن الجنة إمّا لأنّ معنى الإرث الحصول على الشي ء دون مشقة وعناء، أو أنّ ذلك- طبقاً لما ورد في بعض الروايات- لأنّ كل إنسان له بيت في الجنة وآخر في النار، فإذا دخل النار ورث الآخرون بيته في الجنة.

وفي خامس أدعيته يتوجه نظره إلى عمّه الضالّ، وكما وعده أنّه سيستغفر له، فإنّه يقول في هذا الدعاء: «وَاغْفِرْ لِأَبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ».

وأخيراً فإنّ دعاءه السادس من ربّه في شأن يوم التغابن، يوم القيامة، بهذه الصورة: «وَلَا تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ». «تخزني»:

مأخوذ من مادة «خزي» على زنة (حزب)، وكما يقول الراغب في مفرداته، معناه الذل والإنكسار الروحي الذي يظهر على وجه الإنسان من الحياء المفرط، أو من جهة الآخرين حين يحرجونه ويخجلونه.

وهذا التعبير من إبراهيم، بالإضافة إلى أنّه درس للآخرين، هو دليل على منتهى الإحساس بالمسؤولية والإعتماد على لطف اللَّه العظيم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 438

يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَ لَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَ الْغَاوُونَ (94) وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَ هُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَ مَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ

(100) وَ لَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

اشير في آخر آية من البحث السابق إلى يوم القيامة ومسألة المعاد، أمّا في هذه الآيات فنلحظ تصوير يوم القيامة ببيان جامع، كما نلاحظ فيها أهم المتاع «في تلك السوق»، وعاقبة المؤمنين وعاقبة الكافرين والضالين وجنود إبليس، فأوّل ما تبدأ به هذه الآيات هو: «يَوْمَ لَايَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ».

إنّ هاتين الدعامتين المهمتين في الحياة الدنيا «المال والبنون» ليس فيهما أدنى نفع لصاحبهما يوم القيامة.

وبديهي أنّ المراد من المال والبنين هنا ليس هو ما يكون- من المال والبنين- في مرضاة اللَّه، بل المراد منه الإستناد إلى الامور الماديّة، فالمراد إذاً هو أنّ هذه الدعامات المادية لا تحلّ معضلًا في ذلك اليوم.

ثم يضيف القرآن في ختام الآية، على سبيل الإستثناء: «إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

وياله من تعبير رائع جامع، تعبير يتجسد فيه الإيمان والنية الخالصة، كما يحتوي على كل ما يكون من عمل صالح، ولم لا يكون لمثل هذا القلب من ثمر سوى العمل الصالح.

ثم يبيّن القرآن الجنة والنار بالنحو التالي فيقول: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ». أي الضالين.

وهذا الأمر قبل ورود كل من أهل الجنة والنار إليهما، فكل طائفة ترى مكانها من قريب .. فيفرح المؤمنون ويستولي الرعب على الغاوين، وهذا أوّل جزائهما هناك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 439

ثم يتحدث القرآن عن ملامة هؤلاء الضالين، وما يقال لهم من كلمات التوبيخ أو العتاب، فيقول: «وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ». فهل يستطيعون معونتكم في هذه الشدة التي أنتم فيها، أو أن يطلبوا

منكم أو من غيركم النصر والمعونة، «هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ» «1».

إلّا أنّهم لا يملكون جواباً لهذا السؤال، كما لا يتوقع أحد منهم ذلك ... «فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالغَاوُونَ».

كما يقول بعض المفسرين: إنّ كلًا منهم سيُلقى على الآخر يوم القيامة: «وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ».

وفي الحقيقة أنّ هذه الفرق الثلاث، الأصنام والعابدين لها وجنود إبليس الدالين على هذا الإنحراف، يساقون جميعاً إلى النار ... ولكن بهذه الكيفية ... وهي أن تلقي الفرق فرقةً بعد أخري في النار.

إلّا أنّ الكلام لا يقف عند هذا الحدّ، بل يقع النزاع والجدال بين هذه الفرق أو الطوائف الثلاث، فيجسم القرآن مخاصمتهم هنا، فيقول: «قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ».

أجل ... إنّ العبدة الضالين الغاوين يقسمون باللَّه فيقولون: «تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَللٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُم بِرَبّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ».

المجرمون الذين كانوا سادة مجتمعاتنا ورؤساءنا وكبراءنا، فأضلونا حفظاً لمنافعهم، وجرّونا إلى طريق الشقوة والغواية.

«فَمَا لَنَا مِن شفِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ». والخلاصة أنّ الأصنام لا تشفع لنا كما كنّا نتصور ذلك في الدنيا، ولا يتأتى لأي صديق أن يعيننا هنالك.

إلّا أنّهم ما أسرع أن يلتفتوا إلى واقعهم المرّ، إذ لا جدوى هناك للحسرة ولا مجال للعمل في تلك الدار لجبران ما فات في دنياهم، فيتمنون العودة إلى دار الدنيا ... ويقولون: «فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

وأخيراً بعد الإنتهاء من هذا القسم من قصّة إبراهيم، يكرر اللَّه آيتين مثيرتين بمثابة النتيجة لعباده جميعاً، وهاتان الآيتان وردتا في ختام قصة موسى وفرعون، كما وردتا في

______________________________

(1) قد يكون المراد من «ينتصرون» هو أن يطلبوا العون والنصر لأنفسهم أو لغيرهم ... أو مجموعهما، لأنّنا سنلاحظ في الآيات المقبلة أنّ العَبدَةَ ومعبوديهم يساقون إلى النار.

مختصر الامثل،

ج 3، ص: 440

قصص الأنبياء الآخرين من السورة ذاتها فيقول: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ». وتكرار هاتين الآيتين، هو للتسرية عن قلب النبي صلى الله عليه و آله وتسليته ومن معه من الصحابة القلة وكذلك المؤمنين في كل عصر ومصر لئلا يستوحشوا في الطريق من قلة أهله وكثرة الأعداء ... وليطمئنوا إلى رحمة اللَّه وعزته، كما أنّ هذا التكرار بنفسه تهديد للغاوين الضالين، وإشارة إلى أنّه لو وجدوا الفرصة في حياتهم وأمهلهم اللَّه إمهالًا فليس ذلك عن ضعف منه سبحانه، بل هو من رحمته وكرمه.

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (108) وَ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَ مَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَ مَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)

يتحدث القرآن الكريم بعد الإنتهاء ممّا جرى لإبراهيم وقومه الضالين عن قوم نوح عليه السلام حديثاً للعبرة والإتعاظ ... فيذكر عنادهم وشدّتهم في موقفهم من نوح عليه السلام وعدم حيائهم وعاقبتهم الأليمة ضمن عدّة آيات ... فيقول أوّلًا: «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ».

وواضح أنّ قوم نوح إنّما كذبوا نوحاً فحسب ... ولكن لما كانت دعوة المرسلين واحدة من حيث الأصول، فقد عدّ تكذيب نوح تكذيباً للمرسلين جميعاً.

ثم يشير القرآن الكريم إلى هذا الجانب من حياة نوح عليه السلام، الذي سبق أن أشار إليه في كلامه حول إبراهيم وموسى

عليهما السلام، فيقول: «إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ».

والتعبير بكلمة «أخ» تعبير يبيّن منتهى المحبة والعلاقة الحميمة على أساس المساواة، وهو يلهم جميع القادة والأدلاء على طريق الحق أن يراعوا في دعواتهم منتهى المحبة المقرونة بالاجتناب عن طلب التفوق لجذب النفوس نحو مذهب الحق، ولا يستثقله الناس.

وبعد دعوة نوح قومه إلى التقوى التي هي أساس كل أنواع الهداية والنجاة، يضيف

مختصر الامثل، ج 3، ص: 441

القرآن فيقول على لسان نوح وهو يخاطب قومه: «إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» فإنّ إطاعتي من إطاعة اللَّه سبحانه.

ومرّة اخرى يتمسك نوح عليه السلام بحقانية دعوته، ويأتي بدليل آخر يقطع به لسان المتذرعين بالحجج الواهية، فيقول: «وَمَا أَسَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ».

ثم يذكر القرآن ذلك التعبير نفسه الذي جاء على لسان نوح، بعد التأكيد على رسالته وأمانته، إذ يقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ».

إلّا أنّ المشركين الحمقى، حين رأوا سبل ما تذرّعوا به من الحجج الواهية موصدة، تمسكوا بهذه المسألة، ف «قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ».

وصحيح أنّهم كانوا صادقين ومصيبين في أنّ الزعيم يعرف عن طريق أتباعه، إلّاأنّ خطأهم الكبير هو عدم معرفتهم مفهوم الشخصية ومعيارها ... إذ كانوا يرون معيار القيم في المال والثروة والألبسة والبيوت والمراكب الغالية والجميلة، وكانوا غافلين عن النقاء والصفاء والتقوى والطهارة وطلب الحق، والصفات العليا للإنسانية الموجودة في الطبقات الفقيرة والقلّة من الأشراف.

إلّا أنّ نوحاً عليه السلام جابههم وردّهم بتعبير متين، وجرّدهم من سلاحهم و «قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

فما مضى منهم مضى، والمهم هو أنّهم اليوم استجابوا لدعوة النبي، وقالوا له: لبيك، وتوجهوا لبناء شخصياتهم، ومكنوا الحق من أن ينفذ إلى قلوبهم.

وإذا كانوا في ما مضى من

الزمن قد عملوا صالحاً أو طالحاً، فلست محاسباً ولا مسؤولًا عنهم آنئذ: «إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبّى لَوْ تَشْعُرُونَ».

وإنّما عليّ أن أبسط جناحي لجميع طلّاب الحق: «وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ».

وهذه العبارة جواب ضمني لطلب هؤلاء المثرين الأغنياء المغرورين، الذين كانوا يطلبون من نوح أن يطرد طائفة الفقراء من حوله.

ولكن المسؤولية الملقاة على عاتقي هي أن أنذر الناس فحسب «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

فمن سمع إنذاري وعاد إلى الصراط المستقيم بعد ضلاله، فهو من أتباعي كائناً من كان، وفي أي مستوى طبقي ومقام اجتماعي أو مادي.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 442

قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)

نجاة نوح وغرق المشركين: كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالين في مواجهة نبيّهم نوح عليه السلام، هو منهج المستكبرين على امتداد التاريخ وهو الإعتماد على القوّة والتهديد بالموت والفناء: «قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ ينُوحُ لِتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ».

«الرجم»: مأخوذ من «رجام» على وزن (كتاب) وهو جمع «رجمة» على وزن (لقمة) ومعناها القطعة من الحجر التي توضع على القبر، أو ما يطوف حوله عبدة الأوثان، كما يعني الرجم القذف بالحجارة حتى القتل، كما يأتي أحياناً بمعنى القتل بأيّ شكل كان، لأنّ القتل كان بالحجر سابقاً.

والتعبير ب «من المرجومين» يدلّ على أنّ الرجم بالحجارة بينهم كان جارياً في شأن المخالفين.

ونوح شكا إلى ربّه أخيراً، وضمن بيان حاله، سأل ربّه أن ينجيّه من

قبضة الظالمين، وأن يُبعده عنهم ... إذ: «قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ».

ثم يلتفت إلى ربّه فيقول: والآن حيث لم يبق طريق لهداية هؤلاء القوم فاقض بيننا وأفصل بيني وبينهم: «فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا».

«الفتح»: معناه واضح، وهو ما يقابل الغلق ويضاده، وله استعمالان: فتارة يستعمل في القضايا المادية كفتح الباب مثلًا، وتارة يستعمل في القضايا المعنوية كفتح الهمّ ورفع الغم.

ثم يضيف فيقول: «وَنَجّنِى وَمَن مَّعِىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

وهنا يعبر القرآن عن إدراك رحمة اللَّه نوحاً، وإهلاك المكذبين بعاقبة وخيمة مفجعة، إذ يقول: «فَأَنجَيْنهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ». أي الملي ء بالناس وانواع الحيوانات: «ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ». «المشحون»: مأخوذ من مادة «شحن» على وزن «صحن» ومعناه المل ء، وقد يستعمل بمعنى التجهيز؛ و «الشحناء» تطلق على العداوة التي تستوعب جميع

مختصر الامثل، ج 3، ص: 443

جوانب الإنسان، والمراد من «المشحون» هنا هو أنّ ذلك الفلك [/ أي السفينة] كان مملوءاً من البشر وجميع الوسائل ... ولم يكن فيه أي نقص ... أي إنّ اللَّه بعد ما جهز السفينة وأعدّها للحركة، أرسل الطوفان لئلا يبتلى نوح وجميع من في الفلك بأيّ نوع من أنواع الأذى ... وهذا بنفسه إحدى نعم اللَّه عليهم.

وفي ختام هذه القصة القصيرة، يقول القرآن ما قاله في ختام قصة موسى وإبراهيم عليهما السلام، فيكرر قوله: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً». أي في ما جرى لنوح عليه السلام ودعوته المستمرة وصبره ونجاته وغرق مخالفيه: «وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ».

ولهذا فلا تحزن يا رسول اللَّه من إعراض المشركين وعنادهم، واستقم كما امرت ... فإنّ عاقبتك وعاقبة أصحابك عاقبة نوح وأصحابه، وعاقبة الضالين من قومك كعاقبة الضالين من قوم نوح.

«وَ» اعلم «إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

فرحمته تقتضي أن يمهلهم ويتمّ عليهم

الحجة بإعطاء الفرصة الكافية، وعزته تستلزم أن ينصرك عليهم، وتكون عاقبة أمرهم خسراً.

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (126) وَ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَ تَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَ إِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (131) وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَ بَنِينَ (133) وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)

جنايات عاد وأعمالهم العدوانية: والآن يأتي الكلام عن «عاد» قوم «هود» إذ يعرض القرآن جانباً من حياتهم وعاقبتهم، وما فيها من دروس العبر، ضمن ثماني عشرة آية من آياته. فيقول القرآن: «كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ».

بالرغم من أنّهم كذبوا هوداً فحسب، إلّاأنّه لمّا كانت دعوة هود هي دعوة الأنبياء جميعاً، فكأنّهم كذبوا الأنبياء جميعاً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 444

وبعد ذكر هذا الإجمال يقع التفصيل، فيتحدث القرآن عنهم فيقول: «إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ».

لقد دعاهم إلى التوحيد والتقوى في منتهى الشفقة والعطف والحرص عليهم، لذلك عبّر عنه القرآن بكلمة «أخوهم».

ثم أضاف قائلًا: «إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ». وما سبق من حياتي بين ظهرانيكم يدل على هذه الحقيقة، فإنّي لم أخنكم أبداً ولم تجدوا منّي غير الصدق والحق.

ثم يضيف مؤكّداً: لما كنتم تعرفونني جيداً «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ». لأنّ إطاعتكم إيّاي إطاعة للَّه سبحانه ... ولا تتصوروا بأنّي أدعوكم لأنتفع من وراء دعوتي إيّاكم في حياتي الدنيا وأنال المال والجاه، فلست كذلك، «وَمَا أَسَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ». فجميع النعم والبركات

من عنده سبحانه، وإذا أردت شيئاً طلبته منه، فهو ربّ العالمين جميعاً.

والقرآن الكريم يستند في هذا القسم من سيرة «هود» في قومه إلى أربعة امور على الترتيب:

فالأمر الأوّل: هو محتوى دعوة «هود» الذي يدور حول توحيد اللَّه وتقواه، وقرأنا ذلك بجلاء في ما مضى من الآي.

أمّا الامور الثلاثة الأخر فيذكرها القرآن حاكياً عن لسان هود في ثوب الإستفهام الإنكاري، فيقول: «أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ».

«الريع»: في الأصل يطلق على المكان المرتفع؛ و «تعبثون»: مأخوذ من «العبث» ومعناه العمل بلا هدف صحيح، ومع ملاحظة كلمة «آية» التي تدل على العلامة، يتّضح معنى العبارة بجلاء، وهو أنّ هؤلاء القوم المثرين، كانوا يبنون على قمم الجبال والمرتفعات الاخر مباني عالية للظهور والتفاخر على الآخرين، وهذه المباني (كالأبراج وما شاكلها) لم يكن من ورائها أي هدف سوى لفت أنظار الآخرين.

وأمّا الأمر الثالث الذي ذكره القرآن حاكياً على لسان هود منتقداً به قومه، فهو قوله: «وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ».

«المصانع»: جمع «مصنع» ومعناه المكان أو البناء المجلل المحكم، والنبي هود لا يعترض عليهم لأنّ لديهم هذه البنايات المريحة الملائمة، بل يريد أن يقول لهم: إنّكم غارقون في أمواج

مختصر الامثل، ج 3، ص: 445

الدنيا، ومنهمكون بعبادة الزينة والجمال والعمل في القصور حتى نسيتم الدار الآخرة.

في تفسير مجمع البيان روى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّ لكل بناء يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة، إلّاما لابدّ منه».

ثم ينتقد النبي (هود) قومه على قسوتهم وبطشهم عند النزاع والجدال فيقول: «وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ».

يدل هذه الآيات الثلاث أعلاه على أنّ عشق الدنيا كان قد هيمن عليهم، وأغفلهم عن ذكر اللَّه حتى ادعوا الألوهية.

والقسم الثالث من حديث هود مما بيّنه لقومه، هو

ذكر نعم اللَّه على عباده ليحرك فيهم- عن هذا الطريق- الإحساس بالشكر لعلهم يرجعون نحو اللَّه.

وفي هذا الصدد يتبع النبي هود أسلوبي الإجمال والتفصيل، وهما مؤثران في كثير من الأبحاث، فيلتفت نحوهم أوّلًا فيقول:

«وَاتَّقُوا الَّذِى أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ» «1».

وبعد هذا التعبير المجمل يذكر تفصيل نعم اللَّه عليهم، فيقول: «أَمَدَّكُم بِأَنْعمٍ وَبَنِينَ».

ثم يضيف بعد ذلك: «وَجَنتٍ وَعُيُونٍ».

وهكذا فقد وفر اللَّه لكم سبل الحياة جميعاً، من حيث الأبناء أو القوّة الإنسانية، والزراعة والتدجين ووسائل الحمل والنقل.

وأخيراً، فإنّ هوداً في آخر مقطع من حديثه مع قومه ينذرهم ويهددهم بسوء الحساب وعقاب اللَّه لهم، فيقول: «إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

وعادة- يستعمل لفظ (اليوم العظيم) في القرآن، ويراد منه يوم القيامة العظيم من كل وجه، إلّاأنّه قد يستعمل في القرآن في اليوم الصعب الموحش المؤلم على الامم. فبناء على هذا قد يكون التعبير ب «يوم عظيم» في الآية محل البحث، إشارة إلى اليوم الذي ابتلي به المعاندون من قوم هود (عاد) بالعذاب الأليم.

كما يمكن أن يكون إشارة إلى يوم القيامة وعذابه، أو إلى العذابين معاً، فيوم الاعصار يوم عظيم، ويوم القيامة يوم عظيم أيضاً.

______________________________

(1) «أمدّ»: مأخوذ من «الإمداد»، ويطلق في الأصل على أمور توضع بعضها بعد بعض بشكل منظم، وحيث إنّ اللَّه يرسل نعمه بشكل منظم إلى عباده استعملت هذه الكلمة هنا أيضاً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 446

لا تتعب نفسك في نصحنا: رأينا في الآيات المتقدمة أحاديث النبي هود المحترق القلب شفقةً على قومه المعاندين «عاد» وما حملته هذه الأحاديث من معان غزيرة سامية، والآن ينبغي أن نعرف جواب قومه الجارح وغير المنطقي ولا المعقول، يقول القرآن في هذا الصدد: «قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مّنَ الْوَاعِظِينَ». فلن

يؤثر ذلك فينا، فلا تتعب نفسك.

أمّا اعتراضك علينا بهذه الامور فلا محل له من الاعراب: «إِنْ هذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ».

وليس الأمر كما تقول، فإنّه لا شي ء بعد الموت، «وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ»، لا في هذا العالم، ولا في العالم الآخر.

«الخُلُق»:- بضم الخاء واللام- معناه العادة والسلوك والأخلاق لأنّ هذه الكلمة جاءت بصيغة الإفراد بمعنى الطبع والسجيّة والعادة الأخلاقية، وهي هنا إشارة إلى الأعمال التي كانت تصدر منهم كعبادة الأصنام، وبناء القصور العالية الجميلة، وحب الذات، والتفاخر عن طريق تشييد الأبراج على النقاط المرتفعة، وكذلك البطش عند الإنتقام أو الجزاء، أي إنّ ما نقوم به من أعمال هو ما كان يقوم به السلف فلا مجال للاعتراض والانتقاد.

ويبيّن القرآن عاقبة قوم هود الوبيلة فيقول: «فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنهُمْ».

وفي ختام هذه الأحداث يذكر القرآن تلكما الجملتين المعبّرتين، اللتين تكررتا في نهاية قصص نوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام، فيقول: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً» على قدرة اللَّه، واستقامة الأنبياء وعاقبة المستكبرين السيئة، ولكن مع ذلك «وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

فيمهل إمهالًا كافياً، ويمنح الفرصة، ويبيّن الدلائل الواضحة للمضلين ليهتدوا، إلّاأنّه عند المجازاة والعقاب، وبعد إتمام الحجة يأخذ أخذاً عسيراً لا مفرّ لأحد منه أبداً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 447

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَ لَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (144) وَ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَ تُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (147) وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (150) وَ لَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ

(151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لَا يُصْلِحُونَ (152)

القسم الخامس من قصص الأنبياء في هذه السورة، هو قصة «ثمود» الموجزة القصيرة، ونبيّهم «صالح» الذين كانوا يقطنون في «وادي القرى» بين المدينة والشام، وكانت حياتهم مترفة مرفهة.

وبداية القصة هذه مشابهة لبداية قصة عاد (قوم هود) وبداية قصة نوح وقومه، وهي تكشف كيف يتكرر التاريخ، فتقول:

«كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ».

وبعد ذكر هذا الإجمال يفصّل القرآن ما كان بين صلاح وقومه، فيقول: «إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صلِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ».

ثم يقول لهم معرفاً نفسه: «إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» وسوابقي معكم شاهد مبين على هذا الأمر «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ». إذ لا أريد إلّارضا اللَّه والخير والسعادة لكم.

ولذلك فأنا لا أطلب عوضاً منكم في تبليغي إيّاكم، «وَمَا أَسَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ»، فأنا أدعوكم له، وأرجو الثواب منه سبحانه.

ثم يضع «صالح» اصبعه على نقاط حساسة من حياتهم، فيتناولها بالنقد ويحاكمهم محاكمة وجدانية، فيقول: «أَتُتْرَكُونَ فِى مَا ههُنَا ءَامِنِينَ».

وتتصورون أنّ هذه الحياة المادية التي تستغفل الإنسان دائمة له.

وبالأسلوب المتين، اسلوب الإجمال والتفصيل، يشرح النبي صالح لقومه تلك الجملة المغلقة والمجملة بقوله: وتحسبون أنّكم مخلّدون «فِى جَنتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ» «1».

______________________________

(1) «الطلع»: مأخوذ من مادة «الطلوع» ويستعمل في ما يكون منه الرطب بعدئذ، وقد يستعمل الطلع في الثمرة الاولى للنخل؛ و «الهضيم»: من مادة «هضم»، وله معان مختلفة، فتارة يراد منه الثمرة الناضجة، وتارة يطلق على الثمر اللين القابل للهضم، وتارة يطلق على المهضوم، وقد يستعمل بمعنى المنظوم المنضد، فإذا كان الطلع في الآية محل البحث بمعنى العذق أوّل طلوعه، فالهضيم معناه المنضود، وإذا كان الطلع أوّل الثمر فالهضيم معناه الناضج اللين اللطيف.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 448

ثم ينتقدهم

على بيوتهم المرفهة المحكمة فيقول: «وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فرِهِينَ». «الفاره»: مشتق من «فره» ومعناه في الأصل السرور المقرون باللامبالاة وعبادة الهوى.

وبعد ذكر هذه الإنتقادات يتحدث النبي صالح عليه السلام في القسم الثالث من كلامه مع قومه، فيقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ». «الإسراف»: هو التجاوز عن حدّ قانون التكوين وقانون التشريع ... وأيّ تجاوز عن الحد موجب للفساد والاختلال. بتعبير آخر: إنّ مصدر الفساد هو الإسراف، ونتيجة الإسراف هي الفساد أيضاً.

قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَ لَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

عناد قوم صالح ولجاجتهم: لقد استمعتم إلى منطق صالح عليه السلام المتين والمحب للخير، مع قومه المضلين- في الآيات المتقدمة- والآن لنستمع إلى جواب قومه في هذه الآيات.

إنّهم واجهوه بكلام خشن و «قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ». فلذلك فقدت عقلك وتتكلم بكلمات غير موزونة ولا معقولة.

ثم بعد هذا كلّه «مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُنَا». وكل عاقل لا يبيح لنفسه أن يطيع إنساناً مثله «فَأْتِ بَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصدِقِينَ» لكي نؤمن بك ونتبعك.

«المسحّر»: مشتقة من «السحر» ومعناها المسحور، أي المصاب بالسحر، إذ كانوا يعتقدون أنّ السحرة كانوا عن طريق السحر يعطلون عمل العقل. أجل، إنّهم كانوا يرون بمعيار العقل أن يكون الإنسان متوافقاً مع البيئة والمحيط، ويطبّق نفسه على جميع المفاسد ...

مختصر الامثل، ج 3، ص: 449

فلو

أنّ رجلًا مصلحاً إلهياً دعا الناس للقيام والنهوض بوجه العقائد الفاسدة وإصلاحها، عدّوه- بحسب منطقهم- مجنوناً «مسحّراً».

إنّ هؤلاء المعاندين من قوم صالح، طلبوا منه معجزة لا من أجل معرفة الحق، بل تذرعاً بالحجة الواهية، وعلى نبيّهم أن يُتم الحجة عليهم، فاستجاب لهم- وبأمر اللَّه-: «قَالَ هذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ».

هذه الناقة لم تكن ناقة كسائر النياق الطبيعية، كانت هذه الناقة بحالة من الإعجاز بحيث خرجت من قلب الجبل، ومن خصائصها أنّها كانت تشرب ماء الحيّ في يوم، واليوم الآخر لأهل الحي «أو القرية».

وكان على صالح عليه السلام أن يعلمهم أنّ هذه الناقة ناقة عجيبة وخارقة للعادة، وهي آية من آيات عظمة اللَّه المطلقة فعليهم أن يَدَعوها على حالها، وقال: «وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

وبديهي أنّ المترفين قوم صالح المعاندين كانوا يعلمون أن يقظة الناس ستؤدّي إلى الإضرار بمنافعهم الشخصية فتآمروا على نحر الناقة: «فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا ندِمِينَ» «1». لأنّهم رأوا أنفسهم قاب قوسين من العذاب الإلهي.

ولما تجاوز طغيانهم الحدّ، وأثبتوا بأعمالهم أنّهم غير مستعدين لقبول الحق، اقتضت إرادة اللَّه ومشيئته أنّ يطهر الأرض من وجودهم الملوّث «فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ».

ويقول القرآن في ختام هذه الحادثة ما قاله في ختام حوادث قوم هود وقوم صالح وقوم نوح وقوم إبراهيم، فيعبّر تعبيراً بليغاً موجزاً يحمل بين ثناياه عاقبة أولئك الظالمين: إنّ في قصة قوم صالح، وفي صبره وتحمله واستقامته ومنطقه القويم من جهة، وعناد قومه وغرورهم وانكارهم للمعجزة البيّنة، والمصير الأسود الذي آلو إليه دروس وعبر: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ».

أجل، ليس لأحد أن يغلب ربّه؛ فما فوق قوّته من قوة، وهذه القوة وهذه القدرة العظيمة لا تمنع أن يرحم أولياءه، بل

أعداءه أيضاً: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

______________________________

(1) «عقروها»: مأخوذة من مادة «عُقر» ومعناها في الأصل أساس الشي ء وجذره، وقد تأتي بمعنى حز الرأس، وتأتي بمعنى قطع الأرجل من الحيوان، وما إلى ذلك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 450

مختصر الامثل ج 3 499

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (163) وَ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَ تَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَ تَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)

السفلة المعتدون: سادس نبيّ- ورد جانب من حياته وحياة قومه المنحرفين في هذه السورة- هو لوط عليه السلام. يقول القرآن أوّلًا في هذا الصدد: «كَذَّبْت قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ».

ثم يشير القرآن الكريم إلى دعوة لوط التي تنسجم مع دعوة الأنبياء الآخرين الماضين، فيقول: «إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ».

ولحن كلماته وقلبه المتحرق لهم، العميق في تودّه إليهم، يدل على أنّه بمثابة «الأخ» لهم.

ثم أضاف لوط قائلًا: «إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ». فلم تعرفوا عنّي خيانة حتى الآن ... وسأرعى الأمانة في إيصال رسالة اللَّه إليكم أبداً ... «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ». فأنا زعيمكم إلى السعادة والنجاة.

ولا تتصوروا أنّ هذه الدعوة وسيلة اتخذها للحياة والعيش، وأنّ وراءها هدفاً مادياً، كلّا: «وَمَا أَسَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ».

ثم يتناول بالنقد أعمالهم القبيحة، وقسماً من انحرافاتهم الأخلاقية ... وحيث إنّ أهم نقطة في انحرافاتهم ... هي مسألة الانحراف الجنسي، لذلك فإنّه ركّز عليها وقال: «أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ». فتختارون الذكور من بين الناس لاشباع شهواتكم.

أي، إنّكم على الرغم مما خلق اللَّه

لكم من الجنس المخالف «النساء» حيث تستطيعون أن تعيشوا معهن بالزواج المشروع عيشاً طاهراً هادئاً، إلّاأنّكم تركتم نعمة اللَّه هذه وراءكم، ولوّثتم أنفسكم بمثل هذا العمل القبيح المخزي ...

ثم أضاف قائلًا: «وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مّن أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ».

فالحاجة والغريزة الطبيعية، سواءً كانت روحية أم جسمية لم تجرّكم إلى هذا العمل الانحرافي الشنيع أبداً، وإنّما جرّكم الطغيان والتجاوز، فتلوثتم وخزيتم به ...

مختصر الامثل، ج 3، ص: 451

قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)

عاقبة قوم لوط: إنّ قوم لوط الغارقين بالغرور والمتمادية بهم رياح الشهوة، بدلًا من أن يذعنوا لنصائح هذا القائد الإلهي، فتدخل مواعظه في قلوبهم ويخلصوا من تلك الأمواج الرهيبة، فإنّهم نهضوا لمواجهته و «قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ».

إنّ فعل هؤلاء الضالين- بلغ بهم أن يعدوا التقوى والتطهر بينهم أكبر عيب، وأن يفخروا بالرجس وعدم الطهارة.

ويستفاد من عبارة «لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ» أنّ هذه الجماعة الفاسدة كانوا قد أخرجوا اناساً طاهرين من حيّهم.

إلّا أنّ لوطاً لم يكترث بتهديدهم، وواصل نصحه لهم و «قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُم مّنَ الْقَالِينَ».

إنّه يريد أن يقول: سأواصل انتقادي إيّاكم ... فافعلوا ما شئتم ... فأنا لا أترك مواجهة هذه الأعمال القبيحة بالإعتراض والنقد ...

والتعبير ب «من القالين» يدلّ أيضاً على أنّ جماعة كانوا مثل النبي لوط يرفضون هذه الأعمال ويعترضون

عليها.

«القالين»: جمع «قال» من مادة «قَلَى أو «قَلِيَ» (على وزني حَلَقَ وشَرِكَ) ومعناها العداوة الشديدة التي تترك أثرها في قلب الإنسان، وهذا التعبير يكشف عن شدّة تنفّر لوط من أعمالهم.

وأخيراً بدّل الفساد مجتمعهم كله إلى مستنقع عفن ... وتمّت الحجة عليهم بمقدار كاف، وبلغت رسالة لوط مرحلتها النهائية.

فسأل لوط ربّه أن يخلّصه من قومه، فقال: «رَبّ نَجّنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ».

فاستجاب اللَّه دعاؤه كما تقول الآية التالية: «فَنَجَّيْنهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِى الْغَابِرِينَ» «1». وهذه العجوز لم تكن سوى زوج النبي لوط التي لم تؤمن به أبداً.

______________________________

(1) «الغابر»: من مادة (الغبور) ومعناه الباقي، ومتى ما تحركت جماعة وبقي شخص في المكان فإنّه يدعى (غابراً)، ولهذا السبب سمي التراب الباقي غباراً ... والغبرة: الباقي من اللبن في ثدي الحيوان.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 452

أجل، لقد نجّى اللَّه لوطاً والمؤمنين القلّة معه، فأمر أن يخرج بهم ليلًا من تلك المدينة- أو القرية- فترك قومه الغارقين بالفسق والفجور على حالهم، فنزل عذاب اللَّه في الغداة، فتزلزلت بهم الأرض وانهارت عليهم الأبنية والقصور الجميلة حتى أصبح عاليها سافلها وهلكوا جميعاً في ديارهم، وقد عبّر القرآن عن كان ذلك بعبارة موجزة بليغة، فقال: «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْأَخَرِينَ»، ولم يكف ذلك بل «وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا». وأيّ مطر، إنّه وابل من احجار نزل على تلك الخرائب ليمحو أثرها من الانظار، «فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ».

والأمطار عادة تمنح الحياة، إلّاأنّ هذا المطر كان موحشاً مهلكاً مخرّباً ...

ويستفاد من الآية (82) من سورة هود أنّ قرى قوم لوط ومدنهم قُلب عاليها سافلها أوّلًا، ثم أمطرت بالحجر النضيد المتراكم.

ومرّة اخرى نواجه في نهاية هذه القصة الجملتين اللتين تكررتا في القصص المشابهة لها في هذه السورة، في شأن خمسة أنبياء

كرام آخرين، إذ يقول القرآن: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ». «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ». وأيّة رحمة أعظم من أنّه لا يعاقب أقواماً فاسقين كقوم لوط فوراً، بل يمهلهم إمهالًا كافياً لعلّهم يهتدون، ويجددوا نظرهم في أعمالهم.

وأيّة رحمة أعظم من أن لا يخلط عقابه «الأخضر باليابس» بل لو كان في ألف ألف اسرة غير صالحة أسرة واحدة صالحة، فإنّه ينجيها منها وينزل العذاب على اولئك.

وأيّة عزّة أعظم من أن ترى بطرفة عين واحدة ديار الفاسقين قد دُمرت تدميراً ولم يبق منها أي أثر.

كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (179) وَ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَ لَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَ لَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)

شعيب وأصحاب الأيكة: هذه هى القصة السابعة، والحلقة الأخيرة من قصص الأنبياء

مختصر الامثل، ج 3، ص: 453

الواردة في هذه السورة، وهي قصة شعيب عليه السلام وقومه المعاندين.

كان هذا النبي يقطن في «مدين»، وهي مدينة تقع جنوب الشامات.

تقول الآية الاولى من الآيات محل البحث: «كَذَّبَ أَصْحبُ لَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ».

«أيكة»: على وزن (ليلة)، قرية أو أرض معمورة على مقربة من مدين.

ثم يتحدث القرآن إجمالًا عن شعيب عليه السلام وعنهم فيقول: «إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ».

إنّ دعوة شعيب عليه السلام انطلقت من النقطة التي ابتدأها سائر الأنبياء، وهي التقوى ومخافة اللَّه التي تعدّ أساس المناهج الإصلاحية والتغييرات الأخلاقية والاجتماعية جمعاء.

ثم أضاف شعيب قائلًا: «إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ

أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ». فطاعتكم لي طاعة للَّه.

واعلموا أنّي أبتغي ثوابه ووجهه، «وَمَا أَسَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ».

و «شعيب» كسائر الأنبياء الذين ورد جانب من تأريخ حياتهم في هذه السورة، فهو يدعو قومه بعد الدعوة العامّة للتقوى وطاعة اللَّه، إلى إصلاح انحرافاتهم الأخلاقية والاجتماعية وينتقدهم على هذه الإنحرافات، وحيث إنّ أهم انحراف عند قومه كان الاضطراب الاقتصادي، والاستثمار والظلم الفاحش في الأثمان والسلع، والتطفيف في الكيل، لذلك فقد اهتم بهذه المسائل أكثر من غيرها، وقال لهم: «أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ».

«تبخسوا»: مأخوذة من «البخس» وهو في الأصل النقص ظلماً من حقوق الناس ... وقد يأتي أحياناً بمعنى الغش أو التلاعب المنتهي إلى تضييع حقوق الآخرين ... فبناء على ما تقدم، فإنّ الجملة الآنفة «وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ» لها معنى واسع يشمل جميع أنواع الغش والتزوير والتضليل، والتلاعب في المعاملات، وغمط حقوق الآخرين.

وأمّا جملة «وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ» فمعناه واسع أيضاً، إذ يشمل بالإضافة إلى البخس والتطفيف كل ما من شأنه أن يكون سبباً للخسارة وإيذاء الطرف الآخر في المعاملة.

ثم إنّ «شعيباً» في آخر تعليماته- في هذا القسم- يدعوهم مرد اخرى إلى تقوى اللَّه فيقول: «وَاتَّقُوا الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 454

«الجبلة»: مأخوذة من «الجبل» وهو معروف «ما ارتفع من الأرض كثيراً» ويسمى الطود أحياناً، فالجبلة تطلق على الجماعة الكثيرة التي هي كالجبل في العظمة.

قال بعضهم: الجبلة مقدار عددها عشرة آلاف. كما تطلق الجبلة على الطبيعة والفطرة الإنسانية، لأنّها لا تتغير، كما أنّ الجبل لا يتغير عادةً.

والتعبير المتقدم لعله إشارة إلى أنّ شعيباً يقول: إنّما أدعوكم

إلى ترك الظلم والفساد، وأداء حقوق الناس ورعاية العدل، لأنّ ذلك موجود في داخل الفطرة الإنسانية منذ الخلق الأوّل، وأنا جئتكم لإحياء هذه الفطرة.

قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)

عاقبة الحمقى: لما رأى قوم شعيب الظالمون- أنّهم لا يملكون دليلًا ليواجهوا به منطقه المتين، ومن أجل أن يسيروا على نهجهم ويواصلوا طريقهم، رشقوه بسيل من التُهم والأكاذيب. فالتهمة الاولى هي ما يلصقها الجبابرة دائماً والمجرمون بالأنبياء، وهي السحر فاتّهموه بها و «قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» «1».

ثم ما الفارق بينك وبيننا لنتّبعك؟! ولا مزيّة لك علينا، «وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكذِبِينَ».

وبعد إلقاء هذا الكلام المتناقض، إذ تارةً يدعونه (من الكاذبين) ورجلًا انتهازياً، وتارةً يدعونه مجنوناً أو من المسحّرين، وكان كلامهم الأخير هو: إن كنت نبيّاً «فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصدِقِينَ». حيث كنت تهددنا دائماً بهذا اللون من العذاب.

«كِسَف»: جمع «كِسْفَة» على وزن (قطعة)، ومعناها قطعة أيضاً، والمراد من هذه «القطع من السماء» هي قطع الأحجار التي تهوي من السماء.

______________________________

(1) «المسحّر»: هو المسحور ... أو الذي يقع عليه السحر من قبل السَحَرة لينفذوا في عقله ويبطلوا عمله.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 455

إلّاأنّ شعيباً عليه السلام، وهو يواجه هذه التعبيرات غير الموزونة والكلمات القبيحة وطلبهم عذاب اللَّه، كان جوابه الوحيد لهم أن «قَالَ رَبّى أَعْلَمُ

بِمَا تَعْمَلُونَ».

فإذا لم تنفع المواعظ وتمّت الحجة اللازمة، فإنّ عذابه لا مرد له.

إنّ عذاب اللَّه أزف موعده- وكما يعبر القرآن عنه في الآية التالية قائلًا: «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

«الظلة»: في الأصل معناها القطعة من السحاب المظلّل: أي ذي الظل.

إنّ حرّاً شديداً محرقاً حلّ في أرضهم سبعة أيام، ولم يهب نسيم بارد مطلقاً، فإذا قطعة من السحاب تظهر في السماء- بعد السبعة أيام- وتحرك نسيم عليل فخرجوا من بيوتهم، واستظلّوا تحت السحاب من شدّة الحرّ.

وفجأة سطعت من بين السحابة صاعقة مميتة بصوتها المذهل، واحرقتهم بنارها وزلزلت الأرض وهلكوا جميعاً.

وتُختتم القصة هذه بما خُتمت القصص الست السابقة عن أنبياء اللَّه الكرام، إذ يقول القرآن: إنّ في حكاية أصحاب الايكة ودعوة نبيّهم شعيب وعنادهم وتكذيبهم، وبالتالي نزول العذاب على هؤلاء المتكبرين درس وعبرة لمن اعتبر «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ».

ومع ذلك كلّه فإنّ اللَّه رحيم ودود يمهلهم لعلّهم يرجعون ويصلحون أنفسهم، فإذا تمادوا في الغي واستوجبوا عذاب اللَّه، أخذهم أخذ عزيز مقتدر.

أجل، «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

في ختام قصص هؤلاء الأنبياء السبعة ينبغي أن نلتفت إلى هذه «اللطيفة» وهي أنّ قصص هؤلاء الأنبياء جميعاً جاءت في سور اخر من القرآن أيضاً، إلّاأنّها لم تعرض بهذا العرض بحيث نجد أنّ بداية دعوتهم منسجمة، كما أنّ نهاياتها منسجمة أيضاً.

وهذا الإنسجام- قبل كل شي ء- يدل على تجلي مفهوم وحدة دعوات الأنبياء، بحيث كانوا ذوي منهج واحد وبداية واحدة ونهاية واحدة.

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً

أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 456

عظمة القرآن في كتب السابقين: بعد بيان سبع قصص عن الأنبياء السابقين، والعبر الكامنة في تأريخ حياتهم، يعود القرآن مرّة اخرى إلى البحث الذي شرعت به السورة، بحث عظمة القرآن وحقانية هذا الكلام الإلهي المبين، إذ يقول: «وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ».

لذلك تضيف الآية التالية قائلة: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ».

ولو كان القرآن لم يُنزله ملك الوحي «الروح الأمين من قِبَل اللَّه» لم يكن بهذا الإشراق والصفاء والخلو من الخرافات والأساطير والأباطيل.

فالروح هي أساس الحياة، والأمانة، هي شرط أصيل في الهداية والقيادة.

أجل، إنّ هذا الروح الأمين نزل بالقرآن «عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ».

إنّ الهدف من بيان تأريخ السالفين لم يكن مجرّد شرفاً فكرياً ولمل ء الفراغ، بل إيجاد الإحساس بالمسؤولية واليقظة، والهدف هو التربية وبناء شخصية الإنسان.

ولئلا تبقى حجة لأحد ولا عذر، فإنّ القرآن انزل «بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ».

والجدير بالذكر أنّ أحد معاني «عربي» هو ذو الفصاحة والبلاغة؛ وفي هذه الصورة فإنّه ليس المعوّل على لسان العرب، بل الأساس صراحة القرآن ووضوح مفاهيمه.

و الآية التالية تشير إلى دليل آخر من دلائل حقانية القرآن فتقول: «وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الْأَوَّلِينَ».

وخاصة أنّ أوصاف هذا النبي العظيم وأوصاف هذا الكتاب السماوي الخالد، جاءت في توراة موسى عليه السلام بحيث أنّ علماء بني إسرائيل كانوا يعرفون كل ذلك. لذا فإنّ القرآن يضيف هنا قائلًا: «أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أن يَعْلَمَهُ عُلَمؤُا بَنِى إِسْرَاءِيلَ».

وواضح أنّه مع وجود اولئك العلماء من بني إسرائيل في ذلك المحيط الملي ء بالمشركين، لم يكن من الممكن أن يتحدث القرآن عن نفسه «جزافاً» واعتباطاً؛ لأنّه كان سيردّ عليه من كل حدب وصوب بالإنكار، وهذا بنفسه دليل على أنّ هذا الموضوع كان جليّاً

في ذلك المحيط، بحيث لم يبق مجال للإنكار حين نزول الآيات- محل البحث.

وَ لَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 457

لو نُزل القرآن على الأعاجم: في هذه الآيات يتكلم القرآن على واحدة من الذرائع الإحتمالية من قبل الكفار وموقفه منها، ويستكمل البحث السابق في نزول القرآن بلسان عربي مبين، فيقول: «وَلَوْ نَزَّلْنهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ».

بعض العرب ممن يتمسك بالعرقية ويعبد القومية كانوا متعصبين إلى درجة بحيث لو نزل القرآن على غير العرب لما آمن به ورغم أنّ القرآن نزل على عربي شريف من أسرة كريمة، في بيان رائع رائق بليغ وقد بشرت به الكتب السماوية السابقة، وشهد بذلك علماء بني إسرائيل، ومع ذلك كلّه لم يؤمن به الكثير من العرب، فكيف إذا كان نبيّهم ليس فيه أية صفة من الصفات المذكورة.

ثم تضيف الآية لمزيد التأكيد: «كَذلِكَ سَلَكْنهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ».

في بيان بليغ وبلسان رجل من بينهم، وهم يعرفونه ويعرفون سيرته وأخلاقة، وبمحتوى بشرت به الكتب السماوية السابقة.

والخلاصة إنّنا نسلكه بجميع هذه الأوصاف في قلوب المجرمين ليكون مقبولًا سهلًا مطبوعاً إلّاأن هذه القلوب المرضى تمتنع عن قبوله، فمثله كمثل الطعام الطيب النافع الذي تلفظه المعدة السقيمة.

ولذلك تقول الآية: «لَايُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ». أي: إنّ هؤلاء المجرمين المعاندين، يظلون على حالهم حتى نزول العذاب.

أجل، إنّهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب «فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

لا شك أنّ المراد من هذا العذاب، هو عذاب الدنيا والبلاء

المهلك وعقاب الإستئصال.

لذا فإنّ القرآن يحكي عن حالهم فيقول: إنّهم في هذه الحال يرجعون إلى أنفسهم، ويندمون على أفعالهم، ويتملكهم الخوف من المصير المرعب، ويودون بأن يعطوا فرصة لجبران ما فات والإيمان بالرسالة الإلهية: «فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ».

أَ فَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَ مَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَ مَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَ مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَ مَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 458

تهمة اخرى للقرآن: حيث إنّ الآيات المتقدمة ختمت بجملة «هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ» التي يقولها المجرمون عندما يأتيهم العذاب بغتة وهم على أبواب الهلاك، طالبين الإمهال والرجوع للتعويض عما فاتهم من الأعمال، فالآيات محل البحث تردّ عليهم عن طريقين:

الأوّل قوله تعالى: «أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ».

والآخر أنّه: «أَفَرَءَيتَ إِن مَّتَّعْنهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ». فعلى فرض أنّهم امهلوا ثانية (ولن يُمهلوا بعد إتمام الحجة عليهم) الا يكون عملهم التمتع والتلذذ بالمواهب الماديّة فحسب. وهل يعوّضون عمّا فاتهم؟! كلّا أبداً.

وهنا يثار سؤال وهو أنّه مع الإلتفات إلى أنّ اللَّه عالم بمستقبل كل قوم وجماعة، فما الحاجة إلى الإمهال؟

ثم أنّ الامم السالفة كذبت أنبياءها واحداً بعد الآخر، فعلام يأتي الأنبياء منذرين ومبشرين؟!

فالقرآن يجيب على هذا السؤال بأنّ ذلك سنة اللَّه: «وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ». فنرسل الأنبياء لهم لإتمام الحجة وتقديم النصح والموعظة ليتذكروا ويستيقظوا من غفلتهم «ذِكْرَى .

ولو كنّا نأخذهم بدون إتمام الحجة، وذلك بإرسال المنذرين والمبشرين- من قِبَل اللَّه- لكان ظلماً منّا

«وَمَا كُنَّا ظلِمِينَ».

فمن الظلم أن نُهلك غير الظالمين، أو نهلك الظالمين دون إتمام الحجة عليهم.

ثم يردّ القرآن على إحدى الذرائع أو التُهم الباطلة من قِبَل اعداء القرآن وهي أنّ النبي مرتبط ببعض الجن، وهو يعلمه هذه الآيات، والحال أنّ القرآن يؤكّد أنّ هذه الآيات هي من «تنزيل ربّ العالمين».

فيضيف هنا قائلًا: «وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيطِينُ».

ثم يبيّن جواب هذه التهمة الواهية التي اختلقها الأعداء، فيقول: «وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ». أي: أنّ محتوى هذا الكتاب العظيم الذي يدعو إلى الحق والطهارة والعدل والتقوى، ونفي كل أنواع الشرك، يدلّ دلالة واضحة على أنّه لا شباهة له بأفكار الشياطين وما يلقونه.

ثم إنّ الشياطين ليست لهم القدرة على ذلك «وَمَا يَسْتَطِيعُونَ».

فإذا كانت لهم القدرة فينبغي على سائر من كان في محيط نزول القرآن كالكهنة المرتبطين

مختصر الامثل، ج 3، ص: 459

بالشياطين أن يأتوا بمثل هذا القرآن، مع أنّهم عجزوا عن الإتيان بمثله. «إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ».

ويستفاد من سائر آيات القرآن أنّ الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع من الملائكة، فينقلون ما يدور بين الملائكة من مطالب إلى أوليائهم، إلّاأنّه بظهور نبي الخاتم صلى الله عليه و آله وولادته انقطع استراق السمع تماماً، وزال الإرتباط الخبري بين الشياطين وأوليائهم.

فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَ اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)

وأنذر عشيرتك الأقربين: تعقيباً على الأبحاث الواردة في الآيات السابقة في شأن مواقف المشركين من الإسلام والقرآن، فإنّ اللَّه سبحانه يبيّن لنبيّه- في

الآيات محل البحث- منهجه وخطّته في خمسة أوامر، في مواجهة المشركين.

وقبل كل شي ء فإنّ اللَّه يدعو النبي صلى الله عليه و آله إلى الإعتقاد التام بالتوحيد؛ التوحيد الذي هو أساس دعوات الأنبياء جميعاً. يقول سبحانه: «فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ».

ثم يأمره اللَّه في مرحلة اخرى أن ينطلق إلى مدى أرحب في دعوته قائلًا: «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» «1».

ولا شك أنّه للوصول إلى منهج تغييري ثوري واسع، لابدّ من الابتداء من الحلقات الأدنى والأصغر.

أمّا المرحلة الثالثة، فإنّ اللَّه يوصي النبي في دائرة أوسع فيقول: عليك أن تعامل أتباعك

______________________________

(1) «العشيرة»: مشتقة من «العشرة» العدد المعروف [10] وحيث إنّ العشرة تعتبر في نفسها عدداً كاملًا، فقد سمي أقرباء الرجل الذين يكمل بهم عشيرة، ولعلّ المعاشرة مأخوذة من هذا المعنى، لأنّها تجعل الناس بصورة مجموعة كاملة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 460

باللطف والمحبة: «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». وهذا التعبير الجميل الرائع كناية عن التواضع المشفوع بالمحبة واللطف، كما أنّ الطيور تخفض أجنحتها لأفراخها محبة منها لها، وتجعلها تحت أجنحتها لتكون مصانةً من الحوادث المحتملة، ولتحفظها من التشتت والتفرّق، فكذلك الأمر بالنسبة للنبي إذ امر أن يخفض جناحه للمؤمنين الصادقين.

ثم تأتي المرحلة الرابعة وهي أنّ الأعداء لم يقبلوا دعوتك وعصوا أوامرك. فلا تبتئس ولا تحزن: «فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِى ءٌ مّمَّا تَعْمَلُونَ». أي إذا لم يذعنوا بعد دعوتك إياهم للحق، وواصلوا شركهم وعنادهم، فعليك أن تبيّن موقفك منهم.

وأخيراً فالأمر الالهي الخامس للنبي صلى الله عليه و آله لإكمال مناهجه السابقة، هو: «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ».

ذلك اللَّه «الَّذِى يَرَيكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السجِدِينَ».

أجل، «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

وهكذا تذكر الآيات ثلاث صفات للَّه بعد وصفه بالعزيز الرحيم وكل

منها يمنح الأمل ويشدّ من عزم النبي على مواصلة طريقة، إذ أنّ اللَّه يرى جهوده وأتعابه وحركاته وسكناته، وقيامه وسجوده وركعاته.

ذلك اللَّه الذي يسمع صوته.

اللَّه الذي يعلم حاجاته وطلباته حاجته.

«التقلب»: معناه الحركة والإنتقال من حال إلى حال، وهذا التعبير لعله إشارة إلى سجود النبي صلى الله عليه و آله بين الساجدين في أثناء الصلاة، أو إلى حركة النبي صلى الله عليه و آله وتنقله بين أصحابه وهم مشغولون بالعبادة، وكان يتابع أحوالهم ويسأل عنهم.

وفي المجموع فإنّ هذا التعبير إشارة إلى أنّ اللَّه سبحانه لا يخفى عليه شي ء من حالاتك وسعيك، سواءً كانت شخصية فردية، أم كانت مع المؤمنين في صورة جماعية، لتدبير امور العباد ولنشر مبدأ الحق.

إنذار الأقربين (حديث يوم الدار): وفقاً لما ورد في التواريخ الإسلامية، امر النبي في السنة الثالثة بدعوته الأقربين من عشيرته، فدعا النبي صلى الله عليه و آله «عشيرته» إلى بيت عمّه أبي طالب، وكانوا في ذلك اليوم حوالي أربعين رجلًا.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 461

وبعد أن تناولوا الطعام، قال صلى الله عليه و آله: «يا بني عبد المطّلب، إنّي واللَّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم بخير الدنيا والآخرة ... وقد أمرني اللَّه أن أدعوكم إليه فأيّكم يؤازرني على أمري هذا، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟» فأحجم القوم عنها غير علي، وكان أصغرهم (سناً)، فقال: «يا نبيّ اللَّه، أنا أكون وزيرك عليه»، فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله برقبته، وقال: «إنّ هذا وصييّ وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا».

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَ الشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَ

لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

هذه الآيات- محل البحث- هي آخر الآيات من سورة الشعراء، تعود ثانية لتردّ على الإتهام السابق- من قبل الأعداء- بأنّ القرآن من إلقاء الشياطين، تردهم ببيان أخاذ بليغ مفحم، فتقول: «هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ». أي الكاذب المذنب، حيث يلقون إليهم ما يسمعونه مع اضافة أكاذيب كثيرة عليه «يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كذِبُونَ» «1».

وملخص الكلام أنّ ما تلقيه الشياطين له علائم واضحة، ويمكن معرفته بعلائمه أيضاً. فالشيطان موجود مؤذٍ ومخرب، وما يلقيه يجري في مسير الفساد والتخريب، وأتباعه هم الكذابون المجرمون، وليس شي ء من هذه الامور ينطبق على القرآن، ولا على مبلّغه، وليس فيها أي شبهٍ بهما.

وفي الآية الرابعة- من الآيات محل البحث- يردّ القرآن على إتهام آخر كان الكفار يرمون به النبي فيدعونه شاعراً، كما في الآية (5) من سورة الأنبياء: «بَلْ هُوَ شَاعِرٌ». وربّما

______________________________

(1) «أفّاك»: من «الإفك» والإفك هو الكذب الكبير، فمعنى الأفلاك من يكذب كثيراً أكاذيب كبيرة ... و «أثيم»: من مادة «إثم» على وزن (إسم) ومعناه في الأصل: العمل الذي يؤخر صاحبه عن الثواب، ويطلق عادة على الذنب، فالأثيم هو المذنب.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 462

دعوه بالشاعر المجنون، كما جاء في الآية (36) من سورة الصافات:

«وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ».

فالقرآن يردهم هنا ببيان بليغ منطقي، بأنّ منهج النبي يختلف عن منهج الشعراء؛ فالشعراء يتحركون في عالم من الخيال، وهو يتحرك على أرض الواقع والواقعيات، لتنظيم العالم الإنساني.

والشعراء يبحثون

عن العيش واللذة والغزل (كما هي الحال بالنسبة لشعراء ذلك العصر في الحجاز خاصة حيث يظهر ذلك من أشعارهم بوضوح).

ولذا فإنّ أتباعهم هم الضالون: «وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ».

ثم يضيف القرآن على الجملة آنفة الذكر معقّباً: «أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ».

فهم غارقون في أخيلتهم وتشبيهاتهم الشعرية، حتى أنّ القوافي تجرهم إلى هذا الإتجاه أو ذاك، ويهيمون معها في كل واد.

ومتى سخطوا على أحد هجوه هجواً مراً وأنزلوه في شعرهم إلى أسفل السافلين، وإن كان موجوداً سماوياً.

ثم إنّ الشعراء عادةً هم رجال خطابة وجماهير لا أبطال قتال، وكذلك أصحاب أقوال لا أعمال، لذلك فإنّ الآية التالية تضيف فتقول عنهم: «وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَايَفْعَلُونَ».

غير أنّ النبي الكريم صلى الله عليه و آله رجل عمل من قرنه إلى قدمه، وقد اعترف بعزمه الراسخ واستقامته العجيبة حتى أعداؤه، فأين الشاعر من النبي صلى الله عليه و آله.

ولما كان بين الشعراء اناس مخلصون هادفون وأهل أعمال لا أقوال، ودعاة نحو الحق والصدق «وإن كان مثل هؤلاء الشعراء قليلًا يومئذ». فالقرآن من أجل أن لا يضيع حق هؤلاء الشعراء المؤمنين المخلصين الصادقين، استثناهم عن بقية الشعراء، فقال عنهم: «إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ».

هؤلاء المستثنون من الشعراء لم يكن هدفهم الشعر فحسب، بل يهدفون في شعرهم أهدافاً الهية وإنسانية، ولا يغرقون في الأشعار فيغفلون عن ذكر اللَّه، بل كما يقول القرآن: «وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا».

وأشعارهم تذكر الناس باللَّه أيضاً ... وإذا ما ظُلموا كان شعرهم انتصاراً للحق «وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 463

وهكذا فقد بيّن القرآن أربع صفات للشعراء الهادفين، وهي الإيمان، والعمل الصالح، وذكر اللَّه كثيراً، والانتصار للحق من بعدما ظلموا، مستعينين بشعرهم في الذب عنه.

وحيث إنّ معظم آيات

هذه السورة هو للتسلية عن قلب النبي، والتسرية عنه، وعن المؤمنين القلة في ذلك اليوم في قبال كثرة الأعداء، وحيث إنّ كثيراً من آيات هذه السورة في مقام الدفاع عن النبي صلى الله عليه و آله ضد التهم الموجهة إليه من قبل أعدائه، وغير اللائقة به، فإنّ السورة تختتم بجملة ذات معنى غزير، وفيها تهديد لأولئك الأعداء الألدّاء، إذ تقول: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ».

«نهاية تفسير سورة الشعراء»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 465

27 سورة النّمل

محتوى السورة: محتوى هذه السورة- بصورة عامة- كمحتوى سائر السور المكية، فأكثر إهتمامها- من الوجهة الاعتقادية- ينصبّ على المبدأ والمعاد.

وأمّا من ناحية المسائل العملية والأخلاقية، فالقسم الكبير منها يتحدث عن قصص خمسة أنبياء كرام ومواجهاتهم لُاممهم المنحرفة، لتكون هذه السورة تسلية للمؤمنين القلة بمكة في ذلك اليوم، وفي الوقت ذاته تكون إنذاراً للمشركين المعاندين الظالمين ليروا عواقب أمرهم في صفحات تاريخ الظلمة الماضين، فلعلهم يحذرون ويرجعون إلى الرشد.

وأحد خصائص هذه السورة هي بيان قسم مهم من قصة النبي سليمان عليه السلام وملكة سبأ، وكيفية إيمانها بالتوحيد، وكلام الطير- كالهدهد، والحشرات كالنمل- مع سليمان عليه السلام.

وهذه السورة سمّيت سورة «النمل» لورود ذكر النمل فيها، والعجيب أنّها سمّيت بسورة «سليمان» كما في بعض الروايات.

وتتحدث هذه السورة ضمناً عن علم اللَّه غير المحدود، وهيمنته وسلطانه على كل شي ء في عالم الوجود، وحاكميته على عباده ... والإلتفات إلى ذلك له أثره الكبير في المسائل التربوية للإنسان.

وتبدأ هذه السورة بالبشرى وتنتهي بالتهديد، فالبشرى للمؤمنين، والتهديد للناس بأنّ اللَّه غير غافل عن أعمالكم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 466

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ومن قرأ طس سليمان كان له من

الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بسليمان وكذّب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلّااللَّه».

طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَ كِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَ بُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)

القرآن مُنزَل من لدن حكيم عليم: نواجه مرّة اخرى- في بداية هذه السورة- الحروف المقطعة من القرآن «طس» وبملاحظة أنّ ما بعدها مباشرة هو الكلام عن عظمة القرآن، فيبدو أنّ واحداً من أسرار هذه الحروف هو أنّ هذا الكتاب العظيم والآيات البينات منه، كل ذلك يتألف من حروف بسيطة ... وإنّ الجدير بالثناء هو الخالق العظيم الموجد لهذا الأثر البديع من حروف بسيطة كهذه الحروف.

ثم يضيف القرآن قائلًا: «تِلْكَ ءَايتُ الْقُرْءَانِ وَكِتبٍ مُّبِينٍ».

والإشارة للبعيد بلفظ (تلك) لبيان عظمة هذه الآيات السماوية، والتعبير ب (المبين) تأكيد على أنّ القرآن واضح بنفسه وموضح للحقائق أيضاً.

وفي الآية التالية وصفان آخران للقرآن إذ تقول: «هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ». لأنّه إذا لم يكن في قلب الإنسان أدنى مرحلة من التقوى والتسليم والإيمان بالواقع، فإنّه لا يتجه نحو الحق، ولا يبحث عنه، ولا يفيد من نور هذا الكتاب المبين. «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُم بِالْأَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ».

وهكذا فإنّ اعتقاد المؤمنين راسخ في شأن المبدأ والمعاد، وإرتباط متين باللَّه وخلقه أيضاً ... فالأوصاف المتقدمة تشير إلى اعتقادهم الكامل ومنهجهم العملي الجامع.

وتتحدث الآية التالية عن الأشخاص في المقابلة للمؤمنين، وتصف واحدة من أخطر حالاتهم فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ

لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ». أي: حيارى في حياتهم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 467

فهم يرون الملوّث نقيّاً، والقبيح حسناً، والعيب فخراً، والشقاء سعادةً وانتصاراً.

وهذا التغير في القِيم، أو اضطراب المعايير في نظر الإنسان، يؤدّي إلى الحيرة في متاهات الحياة ... وهو من أسوأ الحالات التي تصيب الإنسان.

ثم تبيّن الآية التالية نتيجة «تزيين الأعمال» وعاقبة اولئك الذين شغفوا بها فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ». فهم في الدنيا سيمسون حيارى آيسين نادمين، وسينالون العقاب الصارم في الآخرة «وَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ».

وأمّا الآية الأخيرة- من الآيات محل البحث- فهي بمثابة إكمال البيانات السابقة في صدد عظمة محتوى القرآن، ومقدمة لقصص الأنبياء التي تبدأ بعدها مباشرة فتقول: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ».

وبالرغم من أنّ الحكيم والعليم كلاهما إشارة إلى علم اللَّه سبحانه، إلّاأنّ الحكمة تبيّن الجوانب العملية، والعلم يبيّن الجوانب النظرية ... وبتعبير آخر: إنّ العليم يخبر عن علم اللَّه الواسع، والحكيم يدل على الهدف من إيجاد هذا العالم وإنزال القرآن على قلب النبي (محمّد صلى الله عليه و آله).

إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَهَا وَ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ

كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

موسى يقتبس النور: يجري الكلام في هذه السورة- كما أشرنا من قبل- بعد بيان أهمية القرآن، عن قصص خمسة أنبياء عظام، وذكر اممهم، والوعد بانتصار المؤمنين وعقاب

مختصر الامثل، ج 3، ص: 468

الكافرين. فأوّل نبيّ تتحدث عنه هذه السورة، هو موسى عليه السلام أحد الأنبياء «أولي العزم» وتبدأ مباشرة بأهم نقطة من حياته وأكثرها «حسّاسية» وهي لحظة نزول الوحي على قلبه وإشراقه فيه، وتكليم اللَّه إيّاه، إذ تقول الآية: «إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنّى ءَانَسْتُ نَارًا» «1». أي رأيت ناراً من بعيد، فامكثوا هنيئة «سَاتِيكُم مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ ءَاتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» «2».

في تلك الليلة الظلماء، كان موسى عليه السلام يسير بزوجته بنت النبي شعيب عليه السلام في طريق مصر- وفي الصحراء- فهبت ريح باردة، وكانت زوجته (أهله) مقرّباً، فأحسّت بوجع الطلق، فوجد موسى عليه السلام نفسه بمسيس الحاجة إلى النار لتصطلي المرأة بها، لكن لم يكن في الصحراء أيّ شي ء، فلمّا لاحت له النّار من بعيد سُرّ كثيراً، وعلم أنّها دليل على وجود إنسان أو أناس، فقال: سأمضي وآتيكم منها بخبر أو شعلة للتدفئة.

وهكذا فقد ترك موسى أهله في ذلك المكان واتّجه نحو «النار» التي آنسها «فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحنَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

إنّ المراد من «مَن فِى النَّارِ» هو موسى نفسه، حيث كان قريباً منها ومن الشجرة الخضراء التي عندها، فكأنّ موسى كان في النار نفسها؛ وأنّ المراد من «مَنْ حَوْلَهَا» هم الملائكة المقربون من ساحة القدس، الذين كانوا يحيطون

بتلك الأرض المقدسة في ذلك الوقت. أو أنّ المراد- على عكس ما ذكرنا آنفاً- فمن في النار: هم الملائكة المقربون، ومن حولها هو موسى عليه السلام.

ومرّة اخرى نودي موسى بالقول: «يمُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

وذلك يزول عن موسى عليه السلام كل شك وتردد، وليعلم أنّ الذي يكلمه هو رب العالمين، لا شعلة النار ولا الشجرة، الربّ القوي العزيز الذي لا يغلب ولا يُقهر، والحكيم ذو التدبير في جميع الامور.

وحيث إنّ الصدع بالرسالة والبلاغ (وأية رسالة وبلاغ ... رسالة إلى جبار مستكبر ظالم

______________________________

(1) «آنستُ»: فعل ماض مأخوذ من «الإيناس»، وهو الرؤية المقرونة بالراحة النفسية والسكينة وإنّما يطلق على الإنسان فهو لهذا المعنى.

(2) «الشهاب»: هو النور الذي ينبثق من النّار كالعمود، وكل نور له عمود يدعى شهاباً؛ و «القبس»: شعلة من النّار تنفصل عنها؛ و «تصطلون»: من الاصطلاء وهو الدف ء (بالنّار).

مختصر الامثل، ج 3، ص: 469

كفرعون)، لابدّ له من قوة ظاهرية وباطنية وسند على حقانيّته ... فلذا أمر موسى بأن يلقي عصاه: «وَأَلْقِ عَصَاكَ».

فألقى موسى عصاه، فتبدلت ثعباناً عظيماً، فلمّا رآه موسى يتحرك بسرعة كما تتحرك الحيّات الصغار خاف وولّى هارباً ولم يلتفت إلى الوراء: «فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقّبْ».

وهنا خوطب موسى مرّة اخرى أن «يمُوسَى لَاتَخَفْ إِنّى لَايَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ».

ومعنى الآية: أن يا موسى إنّك بين يدي خالق الوجود العظيم، والحضور عنده ملازم للأمن المطلق.

إلّا أنّ في الآية التالية استثناءاً للجملة السابقة، حيث ذكره القرآن فقال: «إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

أمّا المعجزة الثانية التي أمر موسى أن يظهرها، فهي اليد البيضاء، إذ تقول الآية: «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ».

والقيد «مِنْ غَيْرِ

سُوءٍ» إشارة إلى أنّ بياض اليد ليس من برص ونحوه، بل هو بياض نوراني يلفت النظر، وهو بنفسه كاشف عن إعجاز وأمر خارق للعادة.

ومن أجل أن يظهر اللَّه تعالى عنايته ولطفه لموسى أكثر، وكذلك منح الفرصة للمنحرفين للهداية أكثر، قال لموسى بأنّ معاجزه ليست منحصرة بالمعجزتين الآنفتين، بل «فِى تِسْعِ ءَايتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فسِقِينَ».

ويستفاد من ظاهر الآية أنّ هاتين المعجزتين من مجموع تسع معاجز «آيات» موسى المعروفة.

وأخيراً تعبّأ موسى بأقوى سلاح- من المعاجز- فجاء إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الحق، كما يصرح القرآن بذلك في آية التالية: «فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ ءَايَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ».

و معلوم أنّ هذا الإتهام «بالسحر» لم يكن خاصاً بموسى عليه السلام، بل اتخذه المعاندون ذريعة بوجه الأنبياء، ليجعلوه سدّاً في طريق الآخرين، والإتهام بنفسه دليل واضح على عظمة ما يصدر من الأنبياء خارقاً للعادة، بحيث اتّهموه بالسحر.

ومما يلفت النظر أنّ القرآن يضيف في آخر الآية- محل البحث- قائلًا: إنّ هذا الإتهام لم

مختصر الامثل، ج 3، ص: 470

يكن لأنّهم كانوا في شك من أمرهم ومترددين فعلًا، بل كذبوا معاجز أنبيائهم مع علمهم بحقانيتها، «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا». ويستفاد من هذا التعبير أنّ الإيمان له حقيقة وواقعية غير العلم واليقين، ويمكن أن يقع الكفر جحوداً وإنكاراً بالرغم من العلم بالشي ء.

إنّ القرآن يذكر عاقبة فرعون وقومه على أنّه درس من دروس العبرة، في جملة موجزة ذات معنى كبير، مشيراً إلى هلاكهم وغرقهم فيقول: «فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ».

وَ لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ عِلْماً وَ قَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَ وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ

الطَّيْرِ وَ أُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)

حكومة داود وسليمان عليهما السلام: بعد الكلام عن جانب من قصة موسى عليه السلام في هذه السورة، يتحدث القرآن الكريم عن نبيّين آخرين من الأنبياء العظام، وهما «داود» و «سليمان» ... لأنّهما كانا من أنبياء بني إسرائيل أيضاً، وما نجده من اختلاف بين تاريخهما وتاريخ الأنبياء الآخرين، هو أنّهما- ونتيجة للإستعداد الفكري وملائمة المحيط الاجتماعي في عهدهما- قد وفّقا إلى تأسيس حكومة عظيمة، وأن ينشرا بالإستعانة والإفادة من حكومتهما دين اللَّه، لذلك لا نجد هنا أثراً أو خبراً عمّا عهدناه من أسلوب في تلك الآيات التي كانت تتكلم عن الأنبياء الآخرين، وهم يواجهون قومهم المعاندين، وربّما نالوا منهم الأذى والطرد والاخراج من مدنهم وقراهم .. فالتعابير هنا تختلف عن تلكم التعابير تماماً.

والطريف، أنّ القرآن يبدأ من مسألة «موهبة العلم» التي هي أساس الحكومة الصالحة القوية، فيقول: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمنَ عِلْمًا».

إنّ من الواضح أنّ العلم هنا له مفهوم واسع، بحيث يحمل في نفسه علم التوحيد والإعتقادات المذهبية والقوانين الدينية، وكذلك علم القضاء، وجميع العلوم التي ينبغي توفرها لمثل هذه الحكومة الواسعة القوية.

وبعد هذه الجملة ينقل القرآن ما قاله داود وسليمان من ثناء للَّه: «وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 471

والذي يجلب النظر هو أنّه بعد بيان هذه الموهبة الكبيرة «العلم» يجري الكلام عن «الشكر» مباشرة ... ليكون واضحاً أنّ كل نعمة لابدّ لها من شكر، وحقيقة الشكر هو أن يستفاد من النعمة في طريقها الذي خلقت من أجله.

و الآية التالية تتكلم على إرث سليمان أباه داود أوّلًا، فتقول: «وَوَرِثَ سُلَيْمنُ دَاوُودَ».

ثم تضيف الآية حاكية عن لسان سليمان:

«وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْ ءٍ إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ».

وجملة «أُوتِينَا مِن كُلّ شَىْ ءٍ» فهي تشمل جميع الأسباب اللازمة لإقامة حكومة اللَّه في ذلك الحين.

وَ حُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلَى وَالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

سليمان في وادي النمل: يستفاد من آيات هذه السورة، وآيات سورة سبأ أنّ «حكومة سليمان» لم تكن حكومة مألوفة، بل حكومة مقرونة بما يخرق العادات والمعاجز المختلفة. وفي الحقيقة فإنّ اللَّه أظهر قدرته في هذه الحكومة وما سخّر لها من قوى.

وأوّل ما تبدأ هذه الآيات بقوله تعالى: «وَحُشِرَ لِسُلَيْمنَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ».

وكانت جنوده من الكثرة بحيث كانوا عند التحرك والمسير، ومن أجل المحافظة على النظم، يؤمرون بتوقف مقدمة الجيش لتلحق بها مؤخرتها «فَهُمْ يُوزَعُونَ». «يوزعون»: من مادة «وزع» على وزن (جمَعَ) ومعناه الحبس والإيقاف، وهذا التعبير متى اطلق على الجند أو الجيش فيعني إيقاف أوّل الجيش ليلحق به آخره، لكي يحفظ من التشتت والتفرق.

ويستفاد من هذا التعبير أنّ جنود سليمان كانوا كثيرين، كما كانوا يخضعون للنظم والانضباط.

«حشر»: فعل ماض من «الحشر» على وزن (نشر) ومعناه إخراج الجمع من المقرّ، والتحرك نحو الميدان للقتال، وما أشبه ذلك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 472

إنّ سليمان عليه السلام تحرك بهذا الجيش العظيم «حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ». فخاطبت نملة من النمل أصحابها محذرة،

كما تقول الآية: «قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسكِنَكُمْ لَايَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

ويستفاد ضمناً من جملة «لَايَشْعُرُونَ» أنّ عدل سليمان كان ظاهراً وواضحاً حتى عند النمل، لأنّ مفهوم الجملة أنّ سليمان وجنوده لو شعروا والتفتوا إلى النملة الضعيفة لما وطأوها بالأقدام، وإذا وطأوها فإنّما ذلك لعدم توجههم والتفاتهم: «فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا».

إنّ سليمان توجه نحو اللَّه .. داعياً وشاكراً مستزيداً فضله: «وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ» «1». أي، لتكون لي القدرة أن استعمل هذه النعم جميعها في ما أمرتني به وما يرضيك، ولا أنحرف عن طريق الحق «وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضهُ». وهو يشير إلى أنّ بقاء هذا الجيش وحكومته وتشكيلاتها الواسعة غير مهم بالنسبة إليه، بل المهم أن يؤدّي عملًا صالحاً يرضي به ربّه.

والطلب الثالث الذي طلبه سليمان من ربّه، كما حكته الآية، هو أن يجعله في زمرة الصالحين، إذ قال: «وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ».

وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَ قَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

قصة الهدهد وملكة سبأ: يشير القرآن في هذا القسم من الآيات إلى

جانب آخر من

______________________________

(1) «أوزعني»: من مادة «إيزاع» ومعناه «الإلهام»، أو المنع عن الانحراف، أو إيجاد العشق والتعلق، إلّاأنّ أغلب المفسرين إختاروا المعنى الأوّل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 473

حياة سليمان عليه السلام المدهشة، وما جرى له مع الهدهد وملكة سبأ. فيقول أوّلًا: «وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ».

وهذا التعبير يكشف هذه الحقيقة، وهي أنّه كان يراقب وضع البلاد بدقّة، وكان يتحرى أوضاع حكومته لئلا يخفى عليه غياب شي ء، حتى لو كان طائراً واحداً.

وما لا شك فيه أنّ المراد من الطير هنا هو الهدهد، لأنّ القرآن يضيف استمراراً للكلام: «فَقَالَ مَا لِىَ لَاأَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ».

ومن أجل أن لا يكون حكم سليمان غيابياً، وأن لا يؤثر غياب الهدهد على بقية الطيور، فضلًا عن الأشخاص الذين يحملون بعض المسؤوليات، أضاف «سليمان» قائلًا: «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَاذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطنٍ مُّبِينٍ».

إنّ سليمان قبل أن يقضي غيابياً ذكر تهديده اللازم في صورة ثبوت التخلف.

وقد برهن «سليمان» ضمناً أنّه- حتى بالنسبة للطائر الضعيف- يستند في حكمه إلى المنطق والدليل، ولا يعوّل على القوة والقدرة أبداً.

ولكن غيبة الهدهد لم تطل «فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ» عاد الهدهد وتوجه نحو سليمان: «فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ».

إنّ الهدهد أخذ يفصّل لسليمان ما حدث فقال: «إِنّى وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْ ءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ».

لقد بيّن الهدهد لسليمان بهذه الجمل الثلاث جميع مواصفات هذا البلد تقريباً، وأسلوب حكومته.

ولما سمع سليمان عليه السلام كلام الهدهد غرق في تفكيره، إلّاأنّ الهدهد لم يمهله طويلًا فأخبره بخبر جديد ... خبر عجيب، مزعج مريب، إذ قال: «وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطنُ أَعْملَهُمْ». فكانوا يفخرون بعبادتهم للشمس وبذلك صدّهم الشيطان عن

طريق الحق «فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ». وقد غرقوا في عبادة الأصنام حتى أنّي لا أتصور أنّهم يثوبون إلى رشدهم «فَهُمْ لَايَهْتَدُونَ».

ثم أضاف الهدهد قائلًا: «أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ».

«خب ء»: على وزن (صبر) معناها كل شي ء خفي مستور، وهي هنا إشارة إلى إحاطة علم اللَّه بغيب السماوات والأرض، أي:

لِمَ لا يسجدون للَّه الذي يعلم غيب السماوات

مختصر الامثل، ج 3، ص: 474

والأرض وما فيهما من أسرار؟! وأخيراً يختتم الهدهد كلامه هكذا: «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ».

وهكذا يختتم الهدهد كلامه مستنداً إلى «توحيد العبادة» و «توحيد الربوبية» للَّه تعالى، مؤكداً نفي كل أنواع الشرك عنه سبحانه.

قَالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَا ذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَنْ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَا ذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

الملوك مفسدون مخرّبون: لقد أصغى سليمان عليه السلام إلى كلام الهدهد بكل اهتمام .. وفكّر مليّاً، فينبغي أن لا يكتفي بمخبر واحد، بل ينبغي التحقيق أكثر في هذا المجال: «قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكذِبِينَ».

سليمان عليه السلام لم يتّهم الهدهد فيحكم عليه بالكذب .. ولم يصدّق كلامه دون أي دليل

... بل جعله أساساً للتحقيق.

وعلى كل حال، فقد كتب كتاباً وجيزاً ذا مغزى عميق، وسلّمه إلى الهدهد وقال له: «اذْهَب بّكِتبِى هذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ».

يستفاد من التعبير «أَلْقِهْ إِلَيْهِمْ» أن يلقي الكتاب عندما تكون ملكة سبأ حاضرة بين قومها، لئلا تعبث به يد النسيان أو الكتمان.

ففتحت ملكة سبأ كتاب سليمان، واطّلعت على مضمونه، وحيث إنّها كانت من قبل قد سمعت بأخبار سليمان واسمه، ومحتوى الكتاب يدل على إقدامه وعزمه الشديد في شأن بلدة «سبأ»، لذلك فكّرت مليّاً، ولما كانت في مثل هذه المسائل المهمة تستشير من حولها، لذلك

مختصر الامثل، ج 3، ص: 475

فقد دعتهم وتوجهت إليهم و «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتبٌ كَرِيمٌ».

وقول الملكة: «إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتبٌ كَرِيمٌ» «أي قيم» لعلّه لمحتواه العميق، أو لأنّه بُدى ء باسم اللَّه أو لأنّه ختم بإمضاء صحيح.

ثم إنّ «ملكة سبأ» تحدثت عن مضمون الكتاب فقالت: «إِنَّهُ مِن سُلَيْمنَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَىَّ وَأْتُونِى مُّسْلِمِينَ».

وبعد أن ذكرت ملكة سبأ محتوى كتاب سليمان لقومها ... التفتت إليهم و «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ». «أفتوني»: مشتقة من «الفتوى»، معناها في الأصل الحكم الدقيق والصحيح في المسائل الغامضة والصعبة.

«تشهدون»: مأخوذ من مادة «الشهود»، ومعناه الحضور ... الحضور المقرون بالتعاون والمشورة.

فالتفت إليها أشراف قومها وأجابوها على استشارتها ف «قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ».

وهكذا فقد أظهروا لها تسليمهم وإذعانهم لأوامرها ... كما أبدوا رغبتهم في الإعتماد على القوة والحضور في ميدان الحرب.

ولما رأت الملكة رغبتهم في الحرب خلافاً لميلها الباطني، ومن أجل إطفاء هذا الظمأ وأن تكون

هذه القضية مدروسة، لذلك:

«قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً».

ولمزيد التأكيد أردفت قائلةً: «وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ».

إنّ ملكة سبأ التي كانت بنفسها ملكةً، كانت تعرف نفسية الملوك بصورة جيدة، وأنّ سيرتهم تتلخص في شيئين:

1- الإفساد والتخريب.

2- وإذلال الأعزة ...

لأنّهم يفكرون في مصالحهم الشخصية، ولا يكترثون بمصالح الامة وعزتها ... وهما على طرفي نقيض دائماً.

ثم أضافت الملكة قائلةً: علينا أن نختبر سليمان وأصحابه، لنعرف من هم وما يريدون؟ وهل سليمان نبيّ حقاً أو ملك؟ وهل هو مصلح أو مفسد؟ وهل يذلّ الناس أم يحترمهم ويعزّهم؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 476

فينبغي أن نرسل شيئاً إليه «وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ».

فالملوك لهم علاقة شديدة بالهدايا، ونقطة الضعف كامنة في هذا الأمر، فيمكن أن يذعنوا للهدايا الغالية ... فإذا أذعن سليمان بهذه الهدية فهو ملك، وينبغي أن نواجهه بالقوة فنحن أقوياء ... وإذا ألح على كلامه ولم يكترث بنا فهو نبي، وفي هذه الصورة ينبغي التعامل معه بالحكمة والتعقل.

فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَ هُمْ صَاغِرُونَ (37)

لا تخدعوني بالمال: خرج رسل ملكة سبأ بقافلة الهدايا وتركوا اليمن وراءهم قاصدين مقر سليمان «في الشام» ظنّاً منهم أنّ سليمان سيكون مسروراً بمشاهدته هذه الهدايا ويرحب بهم، لكن ما إن حضروا عند سليمان حتى رأوا ما يدهش الإنسان ... فإنّ سليمان عليه السلام مضافاً إلى عدم استقباله واكتراثه بتلك الهدايا، «قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءَاتنِىَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا ءَاتكُمْ».

فما قيمة المال، ازاء مقام النبوة والعلم والهداية والتقوى، «بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ».

وهكذا فقد حقّر

سليمان عليه السلام معيار القيم عندهم، وأوضح لهم أنّ هناك معياراً آخر للقيمة تضمحلّ عنده معايير عبدة الدنيا ولا تساوي شيئاً.

ومن أجل أن يريهم سليمان موقفه الحاسم من الحق والباطل، قال لرسول ملكة سبأ الخاص: «ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صغِرُونَ».

لأنّهم لم يذعنوا- ويُسلموا- للحق ... وإنّما قصدوا الخداع والمكر.

قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 477

حضور العرش في طرفة عين: وأخيراً عاد رسل ملكة سبأ بعد أن جمعوا هداياهم وأمتعتهم إلى بلدهم، وأخبروا ملكة سبأ بما شاهدوه من عظمة مُلك سليمان عليه السلام المعجز وجهازه الحكومي، وكل واحد من هذه الامور دليل على أنّه لم يكن كسائر الأفراد ولا ملكاً كسائر الملوك، بل هو مُرسل من قبل اللَّه حقّاً، وحكومته حكومة إلهية. لذلك قررت الملكة أن تأتي بنفسها مع أشراف قومها إلى سليمان، ويتفحصوا عن هذه المسألة ليتعرفوا على دين سليمان؟

فوصل هذا الخبر- عن أيّ طريق كان- إلى سمع سليمان عليه السلام، فعزم على إظهار قدرته العجيبة- والملكة وأصحابها في الطريق إليه- ليعرفهم قبل كل شي ء على إعجازه، ليذعنوا له ويسلّموا لدعوته ... لذلك التفت إلى من حوله و «قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى

مُسْلِمِينَ».

وهنا أظهر شخصان استعدادهما لإمتثال طلب سليمان عليه السلام، وكان أمر أحدهما عجيباً والآخر أعجب، إذ «قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنّ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ». فهذا الأمر عليّ يسير، ولا أجد فيه مشقّة، كما أنّي لا أخونك أبداً، لأنّي قادر على ذلك «وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ». «العفريت»: معناه المارد الخبيث.

وجملة «وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ» المشفوعة بالتأكيدات من عدّة جهات تشر إلى احتمال خيانة هذا العفريت ... لذلك فقد أظهر الدفاع عن نفسه بأنّه أمين وفيّ.

أمّا الشخص الآخر فقد كان رجلًا صالحاً له علم ببعض ما في الكتاب، ويتحدث عنه القرآن فيقول: «قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتبِ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ».

فلما وافق سليمان عليه السلام على هذا الأمر، أحضر عرش بلقيس بطرفة عين بالإستعانة بقوته المعنوية: «فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ».

ثم أضاف قائلًا: «وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ».

الفرق بين «علم من الكتاب» و «علم الكتاب»: في كتاب ينابيع المودة للقندوزي عن أبي سعيد الخدري قال: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن هذه الآية «قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ» قال: «ذاك وزير أخي سليمان بن داود عليه السلام». وسألته عن قول اللَّه عزّ وجلّ «قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَن عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» قال: «ذاك أخي عليّ بن أبي طالب».

والإلتفات إلى الفرق بين «علم من الكتاب» الذي يعني (العلم الجزئي) و «علم الكتاب»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 478

الذي يعني (العلم الكلي)، يكشف البون الشاسع بين آصف وعلي عليه السلام.

نور الإيمان في قلب الملكة: نواجه في هذه الآيات مشهداً آخر، مما جرى

بين سليمان عليه السلام وملكة سبأ فسليمان من أجل أن يختبر عقل ملكة سبأ ودرايتها، ويهي ء الجوّ لإيمانها باللَّه، أمر أن يغيروا عرشها وينكّروه ف «قَالَ نَكّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَايَهْتَدُونَ». والمراد من جملة «أَتَهْتَدِى» هي معرفة عرشها.

«فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهكَذَا عَرْشُكِ» إنّ ملكة سبأ أجابت جواباً دقيقاً و «قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ».

ومع كل ذلك فإنّ ملكة سبأ استطاعت أن تعرف عرشها رغم كل ما حصل له من تغييرات ... فقالت مباشرة: «وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ». أي: إذا كان مراد سليمان عليه السلام من هذه المقدمات هو اطلاعنا على معجزته لكي نؤمن به، فإنّنا كنّا نعرف حقانيته بعلائم أخر ... كنّا مؤمنين به حتى قبل رؤية هذا الأمر الخارق للعادة فلم تكن حاجة إلى هذا الأمر.

وهكذا فإنّ سليمان عليه السلام منعها «وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ» بالرغم من «إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كفِرِينَ».

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يجري الكلام عن مشهد آخر من هذه القصّة، وهو دخول ملكة سبأ قصر سليمان الخاص.

وكان سليمان عليه السلام قد أمر أن تصنع إحدى ساحات قصوره من قوارير، وأن يجري الماء

مختصر الامثل، ج 3، ص: 479

من تحتها، فلما وصلت ملكة سبأ إلى ذلك المكان «قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ» «1». فلما رأته ظنته نهراً جارياً فرفعت ثوبها لتمر وسط الماء وهي متعجبة عن سبب وجود هذا الماء الجاري، وكما يقول القرآن: «فَلَّمَا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا» «2».

إلّا أنّ سليمان عليه السلام التفت إليها و «قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ» «3». فلا حاجة إلى الكشف عن ساقيك فلا يمس الماء قدميك.

وهنا ينقدح سؤال هام، وهو أنّ سليمان نبي كبير،

فلم كان لديه هذا البناء الفائق والتزيّن الرائق ... والصرح الممرّد والبساط الممهّد .. وصحيح أنّه كان حاكماً مبسوط اليد، إلّاأنّ الأنسب أن يكون له بساط مألوف كسائر الأنبياء.

إلّا أنّه، ما يمنع أن يُري سليمان ملكة سبأ التي كانت ترى قدرتها وعظمتها بالعرش والتاج والقصر العظيم والزينة .. يريها هذا المشهد لتذعن لأمره، ولتحتقر ما عندها؟! وهذه نقطة انعطاف في حياتها لتعيد النظر في ميزان القيم ومعيار الشخصية.

وبتعبير آخر: إنّ هذه النفقات المالية إزاء أمن منطقة واسعة، وقبول دين الحق، والوقاية عن الإنفاق المفرط للحرب- لم تكن أمراً مسرفاً. ولذلك حين رأت ملكة سبأ هذا المشهد الرائع: «قَالَتْ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمنَ لِلَّهِ رَبّ الْعلَمِينَ».

لقد كنت في ما مضى أسجد للشمس وأعبد الأصنام، وكنت غارقة في الزينة والتجميل، وكنت أتصور أنّي أعلى الناس في الدنيا. أمّا الآن فإنّني أفهم أنّني ضعيفة جدّاً.

ربّاه ... أتيت إليك مسلمة مع سليمان نادمة عن سالف عمري، خاضعة عنقي إليك.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)

______________________________

(1) «صرح»: معناه الفضاء الواسع، وقد يأتي بمعنى البناء العالي والقصر وفي الآية المشار إليها آنفاً معناه ساحة القصر أي فضاءه الواسع ظاهراً.

(2) «اللّجة»: في الأصل مأخوذة من اللجاج، ومعناه الشدة، ثم أطلق على ذهاب الصوت وإيابه في الحنجرة تعبير «لجة»، أمّا الأمواج المتلاطمة في البحر فتسمى «لُجة» وهي هنا في الآية بهذا المعنى الأخير.

(3) «الممرّد»: معناه الصافي؛ و «القوارير»: جمع قارورة وهي الزجاجة.

مختصر

الامثل، ج 3، ص: 480

صالح في ثمود: بعد ذكر جانب من قصص موسى وداود وسليمان عليهم السلام فإنّ هذه الآيات تتحدث عن قصة رابع نبي- وتبيّن جانباً من حياته مع قومه- في هذه السورة، وهي ما جاء عن صالح عليه السلام وقومه «ثمود»، إذ يقول القرآن: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صلِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ». وكما قيل من قبل: إنّ التعبير ب «أخاهم» الوارد في قصص كثير من الأنبياء، هو إشارة إلى منتهى المحبة والإشفاق من قبل الأنبياء لُاممهم، كما أنّ في بعض المواطن إشارة إلى علاقة القربى «الروابط العائلية للأنبياء بأقوامهم».

إنّ جميع دعوة هذا النبي العظيم تلخصت في جملة «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ». أجل، إنّ عبادة اللَّه هي عصارة كل تعليمات رسل اللَّه تعالى.

ثم يضيف قائلًا: «فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ».

فأخذ صالح عليه السلام ينذرهم ويحذرهم من عذاب اللَّه الأليم ... إلّاأنّ اولئك لم يستجيبوا له وتمسكوا بعنادهم وطلبوا منه باصرار أن إذا كنت نبيّاً فليحل بنا عذاب اللَّه «وقد صرحت الآية (77) من سورة الأعراف بأنّهم سألوا نبيّهم نزول العذاب»: «وَقَالُوا يَا صلِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ».

إلّا أنّ صالحاً أجابهم محذراً و «قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ».

إنّ عذاب اللَّه إذا حلّ بساحتكم ختم حياتكم ولا يبقى مجال للإيمان.

تعالوا واختبروا صدق دعوتي في البعد الإيجابي والأمل في رحمة اللَّه في ظل الإيمان به «لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

وهذا أمر عجيب حقّاً أن يريد الإنسان اختبار صدق دعوة نبيّه عن طريق العقاب المهلك، لا عن طريق طلب الرحمة.

إنّ هؤلاء القوم المعاندين بدلًا من أن يصغوا لنصيحة نبيّهم ويستجيبوا له، واجهوه باستنتاجات واهية وكلمات باطلة ... منها أنّهم «قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ».

ولعل تلك السنة كانت سنة قحط وجدب، فقالوا: إنّ هذا البلاء والمشاكل والعقبات كلها بسبب قدوم هذا النبي وأصحابه.

لكنه ردّ عليهم و «قَالَ طئِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ» فهو الذي يبتليكم بسبب أعمالكم بهذه المصائب التي أدّت إلى هذه العقوبات.

في الحقيقة إنّ ذلك اختبار وامتحان إلهي كبير لكم، أجل: «بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 481

هذه امتحانات وفتن إلهية ... هذه إنذارات وتنبيهات لينتبه- من فيهم اللياقة من غفلتهم، ويصلحوا انحرافهم ويتجهوا نحو اللَّه.

وَ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنَا مَكْراً وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ (53)

تآمر تسعة رهط في وادي القرى: نقرأ هنا قسماً آخر من قصة صالح وقومه، حيث يكمل القسم السابق ويأتي على نهايته، وهو ما يتعلق بالتآمر على قتل صالح من قِبل تسعة «رهط» من المنافقين والكفار، وفشل هذا التآمر في وادي القرى منطقة النبي صالح وقومه. يقول القرآن في هذا الشأن: «وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ». «الرهط»: يعني في اللغة الجماعة التي تقلّ عن العشرة أو تقلّ عن الأربعين، فإنّه يتّضح أنّ كلّا من المجموعات الصغيرة التسع كان لها منهج خاص، وقد اجتمعوا على أمر واحد، وهو الإفساد في الأرض والاخلال بالمجتمع (ونظامه الاجتماعي) ومبادى ء العقيدة والأخلاق فيه.

ولا ريب أنّ ظهور «صالح» بمبادئه السامية قد ضيّق الخناق عليهم،

ولذلك تقول الآية التالية في حقّهم: «قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصدِقُونَ».

الطريف أنّ اولئك كانوا يقسمون باللَّه، ويعني هذا أنّهم كانوا يعتقدون باللَّه، مع أنّهم يعبدون الأصنام، وكانوا يبدأون باسمه في المسائل المهمة.

جاء في التواريخ أنّ المؤامرة كانت بهذه الصورة، وهي أنّ جبلًا كان في طرف المدينة وكان فيه غار يتعبّد فيه صالح، وكان يأتيه ليلًا بعض الأحيان يعبد اللَّه فيه ويتضرع إليه،

مختصر الامثل، ج 3، ص: 482

فصمّموا على أن يكمنوا له هناك ليقتلوه عند مجيئه في الليل، ويحملوا على بيته بعد استشهاده ثم يعودوا إلى بيوتهم، وإذا سئلوا أظهروا جهلهم وعدم معرفتهم بالحادث.

فلما كمنوا في زاوية واختبأوا في ناحية من الجبل انثالت صخور من الجبل تهوي إلى الأرض، فهوت عليهم صخرة عظيمة فأهلكتهم في الحال. لذلك يقول القرآن في الآية التالية: «وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

ثم يضيف قائلًا: «فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ».

وكلمة «مكر» تستعملها العرب في كل حيلة وتفكير للتخلص أو الإهتداء إلى أمر ما .. ولا تختص بالامور التي تجلب الضرر، بل تستعمل بما يضر وما ينفع .. فإذا نسبت هذه الكلمة إلى اللَّه فإنّها تعني إحباط المؤامرات الضارة من قبل الآخرين.

ثم يعبّر القرآن عن كيفية هلاكهم وعاقبة أمرهم فيقول: «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا». أجل، لقد أذهبهم ريح عتوّهم وظلمهم، واحترقوا بنار ذنوبهم فهلكوا جميعاً «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».

إلّا أنّ الأخضر لم يحترق باليابس، والأبرياء لم يؤخدوا بجرم الأشقياء ... بل سلم المتقون «وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ».

وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)

انحراف قوم لوط: إنّ النبي الخامس الذي وردت الإشارة إليه في هذه السورة: نبي اللَّه العظيم «لوط». يقول القرآن في الآيتين محل البحث أوّلًا: «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ». «الفاحشة»: تعني الأعمال السيئة القبيحة، والمراد منها الإنحراف الجنسي وعمل اللواط المخزي.

ثم يضيف القرآن قائلًا: «أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النّسَاءِ».

ولكي يتّضح بأنّ الدافع على هذا العمل هو الجهل، فالقرآن يضيف قائلًا: «بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 483

تجهلون باللَّه، وتجهلون هدف الخلق ونواميسه، وتجهلون آثار هذا الذنب وعواقبه الوخيمة.

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ يُشْرِكُونَ (59)

عندما تعدّ الطهارة عيباً كبيراً: والآن، لنستمع إلى جواب هؤلاء المنحرفين بماذا أجابوا منطق «لوط». يقول القرآن: «فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ». فجوابهم كاشف عن انحطاطهم الفكري والسقوط الأخلاقي البعيد.

جاء في الروايات أنّ لوطاً كان يبلغ قومه حوالي ثلاثين عاماً وينصحهم، إلّاأنّه لم يؤمن به إلّاأسرته وأهله باستثناء زوجته فإنّها كانت من المشركين وعلى عقيدتهم.

بديهي أنّ مثل هؤلاء القوم لا أمل في إصلاحهم في عالم الدنيا، فينبغي أن يطوى «طومار» حياتهم، لذلك تقول الآية التالية في هذا الشأن: «فَأَنجَيْنهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنهَا مِنَ الْغبِرِينَ» «1».

وبعد أن خرج آل لوط في الموعد المعين «سحر ليلة كانت المدينة غارقة فيها بالفساد» فلما أصبح الصباح نزلت عليهم الحجارة من السماء، وتزلزت الأرض بهم، فدفنوا

جميعاً تحت الحجارة والأنقاض، وإلى هذا تشير الآية التالية: «وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ».

وفي آخر آية من الآيات محل البحث، وبعد بيان ما جرى على لوط وقومه المنحرفين، يتوجه الخطاب إلى النبي الكريم «محمّد صلى الله عليه و آله» ليستنتج ممّا سبق، فيقول له: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ».

الحمد والثناء الخاص للَّه، لأنّه أهلك امماً مفسدين كقوم لوط، لئلا تتلوث الأرض من وجودهم.

ثم يضيف قائلًا: «وَسَلمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى .

سلام على موسى وصالح ولوط وسليمان وداود، وسلام على جميع الأنبياء والمرسلين

______________________________

(1) «الغابرين»: جمع الغابر ومعناه هنا الباقي من الذاهبين من المكان.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 484

وعباد اللَّه الصالحين، ومن والاهم بإحسان.

ثم يقول: «ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ».

أَمْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَ جَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَ جَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)

أمع كل هذه الأدلة ما تزالون مشركين: في آخر آية من آيات البحث السابق، القي هذا السؤال الوجيز المتين: «ءَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ». أمّا في الآيات محل

البحث فتفصّل السؤال .. وتوجه للمشركين خمس آيات تبدأ بخمسة أسئلة، لتناقش المشركين وتحاكمهم، وتكشف دلائل التوحيد في الآيات الخمس في اثني عشر مثلًا.

فالآية الاولى من هذه الآيات تتحدث عن خلق السماوات والأرض، ونزول الماء من السماء والبركات الناشئة عنه، فتقول:

هل أنّ معبوداتكم أفضل «أَمَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ».

«الحدائق»: جمع «الحديقة»، وهي البستان الذي يحيطه الجدار أو الحائط، وله ماء كاف؛ و «البهجة»: معناها الجمال وحسن الظاهر الذي يسر الناظرين.

ويتوجه الخطاب نحو العباد في ختام الآية فيقول: «مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا».

فأنتم تستطيعون أن تنثروا البذور وتسقوا الأرض، لكن الذي جعل الحياة في قلب البذرة، وأمر الشمس أن تشرق على الأرض، والماء ينزل من السماء حتى تنبت البذرة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 485

فتكون شجراً، هو اللَّه فحسب.

وبتعبير آخر: فإنّ التوحيد في الخلق يؤدّي إلى «توحيد الخالق»، والتوحيد في الربوبية «توحيد مدبّر هذا العالم» باعث على «توحيد العبادة».

ولذلك فالقرآن يقول في نهاية الآية: «أَءِلهٌ مَّعَ اللَّهِ» ولكن هؤلاء جهلة عدلوا عن اللَّه وعبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم «بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» «1».

والسؤال الثاني بحث عن موهبة استقرار الأرض وثباتها، وأنّها مقر الإنسان في هذا العالم، فيقول: هل أنّ أصنامكم أفضل، «أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِللَهَا أَنْهرًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ» «2». كما تحافظ على القشرة الأرضية من الزلازل، كما «وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا» ومانعاً من اختلاط البحر المالح بالبحر العذب.

وهكذا فقد ورد في هذه الآية ذكر أربع نعم عظيمة، ثلاث منها تتحدث عن استقرار الأرض.

ترى هل يمكن أن يكون هذا النظام قد وُلد عن طريق الصدفة العمياء الصمّاء، والمبدأ الفاقد للعقل والحكمة؟! وهل للأصنام تأثير في

هذا النظام البديع المثير للدهشة؟!

حتى عبدة الأصنام لا يدعون مثل هذا الإدعاء! لذلك يكرر القرآن في ختام الآية هذا السؤال: «أَءِلهٌ مَّعَ اللَّهِ». حاش للَّه «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

السؤال الثالث من هذه الأسئلة الخمسة التي تحكي عن محاورة ومحاكمة المعنوية يتحدث عن حلّ المشكلات، وفتح الطرق الموصدة، وإجابة الدعاء، إذ تقول الآية التالية: «أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ».

أجل، عندما تُغلق جميع أبواب عالم الأسباب بوجه الإنسان، ويغدو مضطراً حيراناً لا حيلة له، فإنّ الذي يحلّ المعضلة، ويفتح أبواب الرحمة بوجه الناس المتحيرين، هو اللَّه لا غير.

وحيث إنّ الناس يدركون هذه الحقيقة بالفطرة في أعماق نفوسهم جميعاً، فإنّ المشركين

______________________________

(1) قد يكون «يعدلون» من مادة «العدول» أي الإنحراف والرجوع من الحق إلى الباطل، أو أنّه مادة «عِدْل» على وزن (قِشر) ومعناه المعادل والنظير .. ففي الصورة الاولى مفهوم الآية أنّهم ينحرفون عن اللَّه الواحد إلى غيره، وفي الصورة الثانية مفهومها أنّهم يجعلون له عديلًا.

(2) «الخلال»: في الأصل معناه الشق بين الشيئين؛ و «الرواسي»: جمع «راسية» وهي الثابتة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 486

حين يقعون بين أمواج البحر المتلاطمة ينسون جميع معبوديهم ويتوجهون نحو لطف اللَّه، كما نقرأ في الآية (65) من سورة العنكبوت: «فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ». لذلك تضيف الآية قائلة: إنّه لا ينقذكم من هذه المآزق والشدائد فحسب، بل: «وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَءِلهٌ مَّعَ اللَّهِ» ولكنّكم لا تتعضون بهذه الدلائل .. «قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ».

ويثير القرآن في السؤال الرابع مسألة الهداية فيقول: هل أنّ الأصنام أفضل، «أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ» بواسطة النجوم «وَمَن يُرْسِلُ الرّيحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ».

فالرياح التي تدل على نزول الغيث، وكأنّها رسل البشرى تتحرك قبل نزول الغيث.

ويخاطب

القرآن في ختام الآية المشركين مرّة اخرى فيقول: «أَءِلهٌ مَّعَ اللَّهِ».

ثم يضيف دون أن ينتظر الجواب قائلًا: «تَعلَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ».

أمّا في آخر آية من الآيات محل البحث، فيثير القرآن السؤال الخامس في شأن المبدأ والمعاد بهذه الصورة، فيقول: هل أنّ أصنامكم أفضل، «أَمَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَءِلهٌ مَّعَ اللَّهِ» .. فهل بعد ذلك تعتقدون بوجود معبود غير اللَّه «قُلْ هَاتُوا بُرْهنَكُمْ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ».

والمراد من (الرزق السماوي) هو الغيث ونور الشمس وأمثال ذلك، أمّا (الرزق الأرضي) فالنباتات والمواد الغذائية المختلفة التي تنمو على الأرض مباشرة، أو عن طريق غير مباشر كالأنعام والمعادن والمواد المختلفة التي يتمتع بها الإنسان في حياته.

قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً وَ آبَاؤُنَا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هذَا نَحْنُ وَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)

لما كان البحث في آخر الآيات السابقة عن القيامة والبعث، فإنّ الآيات- محل البحث-

مختصر الامثل، ج 3، ص: 487

تعالج هذه المسألة من جوانب شتى، فتجيب أوّلًا على السؤال الذي يثيره المشركون دائماً، وهو قولهم: متى تقوم القيامة؟ ومتى هذا الوعد؟ فتقول: «قُلْ لَّايَعْلَمُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ».

لا شك أنّ علم الغيب- ومنه تاريخ وقوع القيامة- خاص باللَّه، إلّاأنّه لا منافاة في أن يجعل اللَّه بعض ذلك العلم عند من يشاء من عباده، كما نقرأ في الآيتين (26 و 27) من سورة الجن: «علِمُ الْغَيْبِ

فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ».

ثم يتكلم القرآن عن عدم علم المشركين بيوم القيامة وشكهم وجهلهم، فيقول: «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الْأَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ».

«ادّارك»: في الأصل «تدارك» ومعناه التتابع أو لحوق الآخر بالأوّل، فمفهوم جملة «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الْأَخِرَةِ»: أنّهم لم يصلوا إلى شي ء بالرغم مما بذلوه من تفكير، وجمعوا المعلومات في هذا الشأن، لذلك فإنّ القرآن يضيف مباشرة بعد هذه الجملة:

«بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ». لأنّ دلائل الآخرة ظاهرة في هذه الدنيا، فعودة الأرض الميتة إلى الحياة في فصل الربيع، وإزهار الأشجار وإثمارها مع أنّها كانت في فصل الشتاء جرداء ... ومشاهدة عظمة قدرة الخالق في مجموعة الخلق والوجود، كلها دلائل على إمكان الحياة بعد الموت، إلّاأنّهم كالعُمي الذين لا يبصرون كل شي ء.

و الآية التالية توجز منطق منكري القيامة والبعث في جملة واحدة، فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا وَءَابَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ».

مع أنّهم كانوا أوّل الأمر تراباً وخلقوا من التراب، فما يمنع أن يعودوا إلى التراب، ثم يرجعون أحياءً بعد أن كانوا تراباً.

ثم يحكي القرآن عمّا يضيفه المشركون من قول: «لَقَدْ وُعِدْنَا هذَا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ»، ولكن لم نجد أثراً لهذا الوعد ولن يوجد، «إِنْ هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ»، فما هي سوى خرافات وخزعبلات القدماء.

فبناءً على هذا فإنّهم يبدأون من الاستبعاد ثم يجعلونه أساساً للإنكار المطلق.

ويستفاد- ضمناً من هذا التعبير- أنّهم أرادوا أن يسخروا من كلام النبي في شأن يوم القيامة، ويطعنوا عليه، فيقولوا: إنّ هذه الوعود الباطلة سبقت لأسلافنا، فلا جديد فيها يستحق بذل التفكير والمراجعة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 488

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ

كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَ لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَ يَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ مَا يُعْلِنُونَ (74) وَ مَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)

لا يضيق صدرك بمؤامراتهم: كان الكلام في الآيات السابقة عن إنكار المعاندين الكفار للمعاد، واستهزائهم وتكذيبهم باليوم الآخر. ولما كان البحث المنطقي غير مُجد لهؤلاء القوم المعاندين والأعداء الألدّاء، بالإضافة إلى ما أقامته الآيات الأخر من الدلائل الوافرة على المعاد مما يُرى كل يوم في عالم النباتات وفي عالم الأجنة، وما إلى ذلك، فإنّ الآيات محل البحث بدلًا من أن تأتيهم بدليل، هددتهم بعذاب اللَّه الذي شمل من سبقهم من الكفار، وأنذرتهم بعقابه المخزي ... فوجهت الخطاب للنبي صلى الله عليه و آله قائلةً:

«قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ».

فأنتم تعترفون أنّ هذه الوعود تلقّاها أسلافكم، فلم يكترثوا بها، ولم يروا ضرراً.

وحيث إنّ الرسول صلى الله عليه و آله كان يشفق عليهم لإنكارهم، ويحزن لعنادهم، ويحترق قلبه من أجلهم، إذ كان حريصاً على هدايتهم، وكان يواجه مؤامراتهم أيضاً .. فإنّ الآية التالية تسري عن قلب النبي فتقول له: «وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» ولا تقلق من مؤآمراتهم «وَلَا تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ».

إلّا أنّ هؤلاء المنكرين المعاندين، بدلًا من أن يأخذوا إنذار النبي المشفق عليهم مأخذ الجد فيتعظوا بوعظه ويسترشدوا بنصحه، أخذوا يسخرون منه «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ».

وهنا يردّ القرآن على

استهزائهم وسخريتهم بلهجة موضوعية، فيقول مخاطباً نبيّه: «قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ».

والمراد من العذاب الذي كانوا يستعجلون به، فقيل: هو ما أصابهم يوم بدر من هزيمة كبرى.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 489

كما ويحتمل أنّ المراد منه العقاب العام الذي دفع أخيراً، ببركة وجود النبي إذ كان رحمة للعالمين، والآية (33) من سورة الأنفال شاهدة عليه: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ».

ثم يتحدث القرآن في الآية التالية عن هذه الحقيقة وهي أنّ اللَّه إذا لم يعجل في عقابكم، فذلك بفضله وبرحمته، حيث يمهل عباده الإمهال الكافي لإصلاح أنفسهم، فيقول: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَشْكُرُونَ».

وإذا كانوا يتصورون أنّ تأخير العقاب لعدم علم اللَّه سبحانه لما يدور في خلدهم من نيات سيئة وأفكار ضالة، فهم في غاية الخطأ: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ» «1». فهو يعلم خفاياهم بمقدار ما يعلم من ظاهرهم وما يعلنون، والغيب والشهادة عنده سيّان.

ثم يضيف القرآن قائلًا: إنّه ليس علم اللَّه منحصراً بما تكنّ القلوب وما تعلن، بل علمه واسع مطلق. «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِى كِتبٍ مُّبِينٍ».

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَ إِنَّهُ لَهُدًى وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَ لَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَ مَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

كان الكلام في الآيات السابقة عن المبدأ والمعاد، أمّا في الآيات- محل البحث- فيقع الكلام على مسألة النبوة،

وحقانية القرآن، ليكتمل بهما هذا البحث.

أضف إلى ذلك أنّ الخطاب كان فيما سبق من الآيات موجهاً للمشركين، وهنا يوجه الخطاب نحو الكفار الآخرين كاليهود واختلافاتهم. فتقول الآيات أوّلًا: «إِنَّ هذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

______________________________

(1) «تكنّ»: مأخوذ من كَنّ (على وزن جَنّ)، وهذا الفعل يطلق على ما تستر فيه الأشياء وتحفظ، وهنا كناية عن ما يخطر في قلوب الكفار من خواطر وأفكارعدوانية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 490

لقد اختلف بنو إسرائيل فيما بينهم في مسائل كثيرة، فقد اختلفوا في شأن مريم وعيسى عليهما السلام. وفي شأن النبي الذي بشّرت به «التوراة» من هو؟ كما أنّهم اختلفوا في ما بينهم في كثير من المسائل الدينية والأحكام الشرعية ... فجاء القرآن موضحاً هذه الامور بجلاء.

ولما كانت مواجهة الاختلافات والوقوف بوجهها مدعاة للهدى والرحمة، فإنّ الآية التالية تشير إلى هذا «الأصل الكلي» وتقول: «وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ».

إنّه هدى ورحمة من حيث حسم الخلافات ومبارزة الخرافات.

وحيث إنّ جماعة من بني إسرائيل وقفت بوجه القرآن والحقائق الواردة فيه، لأوامر اللَّه، فإنّ الآية التالية تقول في شأنهم:

«إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ». وهذا الكلام إضافة إلى أنّه يبيّن عظمة القرآن، وهو تهديد لبني إسرائيل، فهو في الوقت ذاته تسلية عن قلب النبي وتسرية عنه، لذا فالآية التالية تقول: «فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ».

توكّل على اللَّه العزيز الذي لا يغلب، والعليم بكل شي ء .. فتوكّل عليه ولا تقلق من المشركين والمعاندين، لأنّه يرعاك و «إِنَّكَ عَلَى الْحَقّ الْمُبِينِ».

وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: إذا كان القرآن حقاً مبيناً فلماذا خالفوه؟ فالآيات التالية تجيب على هذا السؤال، فتقول: إذا كان اولئك لا يذعنون للحق المبين، ولا يؤثر في قلوبهم هذا الكلام

المتين، فلا مجال للعجب .. ل «إِنَّكَ لَاتُسْمِعُ الْمَوْتَى .

بل تسمع الأحياء الذين يبحثون عن الحق وأرواحهم توّاقة إليه، أمّا إحياء الموتى- أو موتى الأحياء- لتعصبهم وعنادهم واستمرارهم على الذنب، فلاترهق فكرك ونفسك من أجلهم وحتى لو كانوا احياء فإنّهم صمّ لا يسمعون فلايمكنهم أن يسمعوا صوتك، وخاصة إذا أداروا إليك ظهورهم وابتعدوا عنك، «وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ».

كما أنّهم لو كانوا مع هذه الحال يبصرون بأعينهم لاهتدوا إلى الصراط المستقيم، ولو ببعض العلامات، إلّاأنّهم عمي «وَمَا أَنتَ بِهدِى الْعُمْىِ عَن ضَللَتِهِمْ».

وهكذا فقد أوصدت جميع طرق إدراك الحقيقة بوجوههم، فقلوبهم ميتة، وآذانهم صمّ موقرة، وأعينهم عمي.

فأنت يا رسول اللَّه: «إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بَايَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ» ويشعرون في أنفسهم بالاذعان للحق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 491

وَ إِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمْ ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)

لما كانت الآية السابقة تتحدث عن استعجال الكفار بالعذاب ونزوله، فإنّ الآيات- محل البحث- تشير إلى بعض الحوادث التي تقع بين يدي القيامة، وتجسد عاقبة المنكرين الوخيمة، فتقول: «وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بَايَاتِنَا لَايُوقِنُونَ». «الدّابة»: معناها ما يدب ويتحرك. وقد طبق هذا المفهوم في روايات كثيرة على أمير المؤمنين عليه السلام، والروايات الكثيرة في تفسير الآية، تدل على أنّ المراد من «دابّة الأرض» هنا إنسان نشط فعال بما ذكرنا له من خصائص

آنفاً، فهو يميز الحق من الباطل والمؤمن من المنافق والكافر.

إنسان يخرج في آخر الزمان قبيل يوم القيامة، وهو بنفسه آية من آيات عظمة الخالق.

ثم تشير الآيات إلى علامة اخرى من علامات القيامة، فتقول: «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجًا مّمَّن يُكَذّبُ بَايَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ». «الحشر»: معناه إخراج جماعة ما من مقرّها والسير بها نحو ميدان الحرب أو غيره؛ «الفوج»: الجماعة التي تتحرك بسرعة؛ و «يوزعون»: معناه حبس الجماعة وإيقافها حتى يلحق الآخر منها بالأوّل.

فبناء على هذا يستفاد من مجموع الآية أنّ يوماً سوف سيأتي يحشر اللَّه فيه من كل امة جماعة، ويهيؤهم للحساب والجزاء على أعمالهم.

والكثير من الأعاظم يعتقدون بأنّ هذه الآية تشير إلى مسألة الرجعة وعودة جماعة من الصالحين وجماعة من الطالحين إلى هذه الدنيا قبيل يوم القيامة.

«حَتَّى إِذَا جَاءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بَايَاتِى وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

وقائل هذا الكلام هو اللَّه سبحانه. والمراد من «الآيات» هي المعاجز التي يأتي بها الأنبياء، أو أوامر اللَّه، أو الجميع.

وبديهي أنّ هؤلاء المجرمين لا يستطيعون الإجابة على أيّ من هذين السؤالين، لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تضيف قائلة: «وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَايَنطِقُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 492

وهذا القول أو العذاب دنيوي، إذا فسّرنا الآية بالرجعة، أو هو عذاب الآخرة إذا فسّرنا الآية بيوم القيامة «1».

أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَ تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ

إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)

حركة الأرض إحدى معاجز القرآن العلمية: مرّة اخرى تتحدث هذه الآيات عن مسألة المبدأ والمعاد، وآثار عظمة اللَّه، ودلائل قدرته في عالم الوجود، وحوادث القيامة، فتقول: «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا». وفي ذلك علائم ودلائل واضحة على قدرة اللَّه وحكمته لمن كان مستعداً للإيمان «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ». و الآية التالية تتحدث عن مشاهد القيامة ومقدماتها، فتقول: «وَ» اذكر «يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّموَاتِ وَمَن فِى الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ». أي خاضعين.

ويستفاد من مجموع آيات القرآن أنّ النفخ في الصور يقع مرّتين أو ثلاث مرات:

فالمرّة الاولى يقع النفخ في الصور عند نهاية الدنيا وبين يدي القيامة، وبها يفزع من في السماوات والأرض إلّامن شاء اللَّه.

والثانية «عند النفخ» يموت الجميع من سماع الصيحة، ولعلّ هاتين النفختين واحدة.

والمرّة الثالثة ينفخ في الصور عند البعث وقيام القيامة .. إذ يحيا الموتى جميعاً بهذه إلّاأنّ الظاهر من الآية يدل على أنّ النفخة هنا إشارة إلى النفخة الاولى التي تقع في نهاية الدنيا.

و الآية التالية تشير إلى إحدى آيات عظمة اللَّه في هذا العالم الواسع، فتقول: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْ ءٍ».

فمن يكون قادراً على كل هذا النظم والإبداع في الخلق، لا ريب في علمه و «إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ».

______________________________

(1) و «الرجعة» من عقائد الشيعة المعروفة، وتفسيرها في عبارة موجزة بهذا النحو: بعد ظهور المهدي عليه السلام وبين يدي القيامة، يعود طائفة من المؤمنين الخلّص، وطائفة من الكفار الأشرار، إلى هذه الدنيا .. فالطائفة الاولى تصعد في مدارج الكمال ... والطائفة الثانية تنال عقابها الشديد.

مختصر الامثل،

ج 3، ص: 493

إنّ الآية آنفة الذكر من قبيل آيات التوحيد ودلائل عظمة اللَّه في هذه الدنيا، وتشير إلى حركة الأرض التي لا نحس بها، فالآية آنفة الذكر تعدّ من معاجز القرآن العلمية.

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَ أَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

كان الكلام في الآيات السابقة عن أعمال العباد وعلم اللَّه بها، أمّا الآيات محل البحث فيقع الكلام في مستهلّها عن جزائهم وثواب أعمالهم وأمنهم من فزع يوم القيامة، إذ يقول سبحانه: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ».

إنّ معنى الآية واسع كما أنّ الحسنة هنا معناها واسع أيضاً، فهي تشمل الصالحات والأعمال الخالصة، ومن ضمنها الإيمان باللَّه وبرسوله وولاية الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، التي تعدّ في طليعة الأعمال الحسنة، ولا يمنع أن تكون هناك أعمال صالحة اخرى تشملها الآية.

ثم يتحدث القرآن عن الطائفة الاخرى التي تقابل أصحاب الحسنات فتقول: «وَمَن جَاءَ بِالسَّيّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمُ فِى النَّارِ».

وليس لهذه الطائفة أيّ توقع غيرها «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

«كُبّت»: مأخوذ من «كبّ» على وزن «جدّ» ومعناه في الأصل إلقاء الشي ء على وجهه على الأرض، فبناء على هذا فإنّ ذكر «وجوههم» في الآية هو من باب التوكيد.

إنّ اولئك حين كانوا يواجهون الحقّ

يُلوون وجوههم ورؤوسهم، وكانوا يواجهون الذنوب بتلك الوجوه فرحين ... فالآن لابدّ أن يبتلوا بمثل هذا العذاب.

ثم يوجه الخطاب للنبي صلى الله عليه و آله في الآيات الثلاث من آخر هذه السورة، ويؤكّد له هذه الحقيقة وهي أن يخبر اولئك المشركين بأنّ عليه أن يؤدّي رسالته ووظيفته، سواءً آمنتم أم لم تؤمنوا؟! فتقول الآية الاولى من هذه الآيات: «إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ».

هذه البلدة المقدسة التي يتلخّص كل وجودكم وشرفكم بها.

أجل، أعبد ربّ هذه البلدة المقدسة «الَّذِى حَرَّمَهَا» وجعل لها خصائص وأحكاماً

مختصر الامثل، ج 3، ص: 494

وحرمة، وأموراً اخر لا تتمتع بها أية بلدة اخرى في الأرض.

لكن لاتتصوروا أنّ هذه البلدة وحدها للَّه، بل له كل شي في عالم الوجود «وَلَهُ كُلُ شَىْ ءٍ».

والأمر الثاني الذي أمرت به، هو أن أسلم وجهي له «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

وهكذا فإنّ الآية بيّنت وظيفتين أساسيتين على النبي وهما (عبادة الواحد الأحد، والتسليم المطلق لأمره).

و الآية التالية تبيّن أسباب الوصول إلى هذين الهدفين فتقول: «وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْءَانَ».

أتلوه فأستضي ء بنوره، وأنتهل من عذب معينه الذي يهب الحياة، وأن أعول في جميع مناهجي على هديه. أجل، فالقرآن وسيلتي للوصول إلى هذين الهدفين المقدسين، والمواجهة لكل أنواع الشرك والإنحراف والضلال ومكافحتها.

ثم تعقب الآية لتحكي عن لسان الرسول وهو يخاطب قومه: لا تتصوروا أنّكم إذا آمنتم انتفعت من وراء ذلك لنفسي، كما أنّ اللَّه غني عنكم، بل: «فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ».

وكل ما يترتب على الهداية من منافع دنيوية، كانت أم اخروية فهي عائدة للمهتدي نفسه والعكس صحيح «وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ».

والأمر الأخير- في آخر آية من هذه السورة- موجه للنبي أن يحمد اللَّه على هذه النعم الكبرى، ولا سيما نعمة الهداية فيقول:

«وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ».

هذا الحمد أو الثناء يعود

لنعمة القرآن، كما يعود للهداية أيضاً، ويمكن أن يكون مقدمة للجملة التالية: «سَيُرِيكُمْ ءَايتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا».

وهذا التعبير إشارة إلى أنّه مع مرور الزمان وتقدم العلم والمعرفة، سينكشف كل يوم بعض أسرار عالم الوجود، ويرفع ستار جديد عنها .. وستعرفون نعم اللَّه وعظمة قدرته وعمق حكمته يوماً بعد يوم .. وإراءة الآيات هذه مستمرة دائماً ولا تنقطع مدى عمر البشر.

إلّا أنّكم إذا واصلتم طريق الخلاف والانحراف، فلن يترككم اللَّه سدى «وَمَا رَبُّكَ بِغفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

ولا تتصوروا بأنّ اللَّه إذا أخر عقابكم بلطفه، فهو غير مطلع على أعمالكم، وأنّها لا تسجل في اللوح المحفوظ.

وجملة «وَمَا رَبُّكَ بِغفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» الواردة بنفسها أو مع شي ء من التفاوت اليسير في تسع آيات من القرآن جملة موجزة، وهي تهديد ذو معنى عميق، وإنذار لجميع الناس.

«نهاية تفسير سورة النمل»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 495

28 سورة القصص

محتوى السورة: هذه السورة نزلت في مكة، وفي ظروف كان المؤمنون في قبضة الأعداء الأقوياء وبين مخالبهم، الأعداء الذين كانوا أكثر عدداً وأشدّ قدرةً وقوةً ونفيراً.

وبما أنّ هذه الحالة كانت كثيرة الشبه بالحالة التي كان عليها بنو إسرائيل وهم بين مخالب الفراعنة، فإنّ قسماً من محتوى هذه السورة يتحدث عن قصة بني إسرائيل وموسى عليه السلام والفراعنة.

في بداية السورة يبشر المستضعفين بحكومة الحق والعدل لهم وكسر شوكة الظالمين، بشرى تمنحهم الإطمئنان والقدرة.

و «القسم الآخر» من هذه السورة يتحدّث عن «قارون»، ذلك الرجل المستكبر الثري الذي كان يعتمد على علمه وثروته، حتى لقي أثر غروره ما لقيه فرعون من مصير أسود.

احدهما غريق في الماء والآخر دفين في الأرض.

وبين هذين القسمين دروس حيّة وقيّمة من التوحيد والمعاد وأهمية القرآن، وبيان حال المشركين في يوم القيامة، ومسألة الهداية والضلالة، والإجابة على حجج

الأفراد الضعاف، وهي «نتيجة» الأوّل و «مقدمة» للقسم الثاني.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ طسم القصص

مختصر الامثل، ج 3، ص: 496

اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذّب به، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلّاشهد له يوم القيامة أنّه كان صادقاً».

وبديهي أنّ كل هذا الأجر والثواب هو لُاولئك الذين يقرأون ويتفكرون، وعلى ضوء هذه السورة يخططون لحياتهم وعملهم.

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)

هذه هي المرّة الرابعة عشرة التي نواجه بها بدايات السورة بالحروف المقطعة في القرآن، وقد تكررت فيها «طسم» ثلاث مرات، وهي هنا- أي «طسم»- ثالث المرات وآخرها.

إنّه يظهر من كثير من الروايات في شأن «طسم» أنّ هذه الحروف إشارات موجزة عن صفات اللَّه سبحانه وتعالى، أو أنّها أماكن مقدسّة، ولكنها في الوقت ذاته لا تمنع من ذلك التّفسير المعروف الذي أكّدنا عليه مراراً، وهو أنّ اللَّه تعالى يريد أن يوضح هذه الحقيقة للجميع، وهي أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس التغيير الكبير في تأريخ البشرية وحامل المنهج المتكامل للحياة الكريمة للإنسانية يتشكّل من امور بسيطة كهذه الحروف «ألف باء ...» التي يستطيع أن يتلفظ بها كل صبّي.

ومن هنا تتجلى عظمة

القرآن وأهميته القصوى، إذ يتألف من هذه الحروف البسيطة التي هي في اختيار الجميع.

ولعل هذا السبب كان داعياً لأن يكون الحديث بعد الحروف المقطعة مباشرةً عن عظمة القرآن، إذ يقول: «تِلْكَ ءَايتُ الْكِتبِ الْمُبِينِ».

والقرآن بعد ذكر هذه المقدمة يحكى قصة «فرعون» و «موسى» فيقول: «نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن

مختصر الامثل، ج 3، ص: 497

نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

والتعبير «بالحق» إشارة إلى أنّ ما ورد هنا خال من كل خرافة واسطورة، وبعيد عن الأباطيل والأكاذيب، فهي إذن تلاوة مقترنة بالحق والواقعية.

والتعبير ب «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» هو تأكيد على هذه الحقيقة، وهي أنّ مؤمني ذلك العصر الذين كانوا يرزخون تحت ضغوط المشركين والأعداء، عليهم أن يدركوا هذه الحقيقة، وهي أنّ الأعداء مهما تعاظمت قواهم وتزايدوا عَدداً وعُدداً، وأنّ المؤمنين مهما قلّوا وكانوا تحت ضغط أعدائهم وكانوا ضعافاً بحسب الظاهر، فلا ينبغي أن يهنوا وينكصوا عن طريق الحق، فكل شي ء عند اللَّه سهل يسير ..

ثم يفصّل القرآن ما أجمله بقوله: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى الْأَرْضِ».

فقد كان عبداً ضعيفاً، وعلى أثر جهله وعدم معرفته أضاع شخصيته ووصل إلى مرحلة من الطغيان حتى أنّه ادّعى الربوبية.

والتعبير ب «الأرض» إشارة إلى أرض مصر وما حولها.

إنّ فرعون- من أجل تقوية قواعده الإستكبارية- قد أقدم على عدّة جرائم كبرى، فالجريمة الأولى، أنّه فرّق بين أهل مصر «وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا».

فلا يمكن أن تحكم الأقلية- التي لا تُعدّ شيئاً- على الأكثرية إلّابالخطة المعروفة «فرّق تَسُدْ» فهم مستوحشون من «كلمة التوحيد» و «توحيد الكلمة» ويخافون منهما أبداً، ويخافون من التفاف الناس بعضهم حول بعض.

إنّ فرعون قسّم أهل مصر إلى طائفتي «الأقباط» و «الأسباط».

فالأقباط هم أهل مصر «الأصليون» الذين كانوا يتمتعون بجميع وسائل الرفاه والراحة، وكانت في أيديهم القصور

ودوائر الدولة والحكومة.

و «الأسباط» هم المهاجرون إلى مصر من بني إسرائيل الذين كانوا على هيئة العبيد والخدم «في قبضة الأقباط» وكانوا محاطين بالفقر والحرمان.

والجريمة الثانية هي استضعافه لجماعة من أهل مصر بشكل دموي سافر كما يعبر عن ذلك القرآن بقوله: «يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءَهُمْ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 498

ولكون ورود جملة «يُذَبّحُ أَبْنَاءَهُمْ» بعد جملة «يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ» فإنّ مسألة اخرى تتجلى أمامنا، وهي أنّ الفراعنة اتخذوا خطة لاستضعاف بني إسرائيل بذبح الأبناء، لئلا يستطيع بنو إسرائيل أن يواجهوا الفراعنة ويحاربوهم، وكانوا يتركون النساء اللاتي لا طاقة لهن على القتال والحرب، ليكبرن ثم يخدمن في بيوتهم. وفي آخر جملة تأتي الآية بتعبير جامع، وفيه بيان العلة أيضاً فتقول: «إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ».

والتعبير ب «يذبّح» المشتق من مادة «المذبح» تدل على معاملة الفراعنة لبني إسرائيل كمعاملة القصابين للأغنام والأنعام الاخرى، إذ كانوا يذبحون هؤلاء الناس الأبرياء ويحتزون رؤوسهم.

ثم تأتي الآية الاخرى لتقول: إنّ إرادتنا ومشيئتنا إقتضت احتواء المستضعفين بلطفنا وكرمنا؛ «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْأَرْضِ» وأن تشملهم رعايتنا ومواهبنا تكون بيد الحكومة ومقاليد الأمور: «وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ».

ويكونون اولي قوة وقدرة في الأرض «وَنُمَكّنْ لَهُمْ فِى الْأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهمنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ».

فهي بشارة في صدد إنتصار الحق على الباطل والإيمان على الكفر.

وهي بشارة لجميع الأحرار الذين يريدون العدالة وحكومة العدل وانطواء بساط الظلم والجور.

وحكومة بني إسرائيل وزوال حكومة الفراعنة ما هي إلّانموذج لتحقق هذه المشيئة الإلهية والمثل الأكمل هو حكومة نبي الأعظم صلى الله عليه و آله وأصحابه بعد ظهور الإسلام.

والمثل الأكبر والأوسع هو ظهور حكومة الحق والعدالة على جميع وجه البسيطة- والكرة الأرضية- على يد «المهدي» أرواحنا

له الفداء.

ومن الطبيعي أنّ حكومة المهدي عليه السلام العالمية في آخر الأمر لا تمنع من وجود حكومات إسلامية في معايير محدودة قبلها من قبل المستضعفين ضد المستكبرين، ومتى ما تمّت الظروف والشروط لمثل هذه المحكومات الإسلامية فإنّ وعد اللَّه المحتوم والمشيئة الإلهية سيتحققان في شأنها، ولابدّ أن يكون النصر حليفها بإذن اللَّه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 499

وَ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لَا تَخَافِي وَ لَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَ قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)

في قصر فرعون: من أجل رسم مثل حي لانتصار المستضعفين على المستكبرين، يدخل القرآن المجيد في سرد قصة موسى وفرعون. يقول القرآن: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ».

وهذه الآية على إيجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين، وهي خلاصة قصة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة:

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطاً واسعاً لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أنّ القوابل [من آل فرعون كنّ يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل ، ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسى عليه السلام «وكان الحمل خفيّاً لم يظهر أثره على امّ موسى» وحين أحسّت امّ موسى بأنّها مقرب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع، وأنّها تحمل جنيناً في بطنها وتوشك أن تضعه،

فهي بحاجة- هذا اليوم- إليها.

وحين ولد موسى عليه السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطُبع حُبّه في قلبها، وأنار جميع زوايا قلبها، فالتفتت القابلة إلى امّ موسى وقالت لها: كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي، فاهتمي بالمحافظة عليه، وأظنّ أنّ عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيراً.

ثم خرجت القابلة من بيت ام موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى امّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر، وفي هذه الحالة من الإرتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار، فلم يجدوا شيئاً إلّا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 500

مختصر الامثل ج 3 550

التنور المشتعل ناراً. وقد جعل اللَّه النار عليه برداً وسلاماً «اللَّه الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالماً من التنور.

لكن الام لم تهدأ إذ أنّ الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت.

وفي هذه الحال اهتدت ام موسى بإلهام جديد، فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضاً» فطلبت منه أن يصنع صندوقاً صغيراً.

والوقت كان فجراً والناس- بعد- نيام، وفي هذه الحال خرجت ام موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى، ثم ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج.

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له: نتكهن ونتوقع أنّ إنساناً يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها، وكان

فرعون وزوجه «آسية» في إنتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيام .. فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثّل الصندوق «المجهول» الخفي أمام فرعون، فلما وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها، ودخل حبّه في قلوب الجميع، وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر.

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصة من لسانه. يقول القرآن في هذا الصدد: «فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا».

«التقط»: مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشي ء دون جهد وسعي، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضاً ..

ثم تختتم الآية بالقول: «إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهمنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خطِينَ». وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحق، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسى عليه السلام، ولكن اللَّه سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم: خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم.

ويستفاد من الآية التالية أنّ شجاراً حدث ما بين فرعون وامرأته، ويحتمل أنّ بعض

مختصر الامثل، ج 3، ص: 501

أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد: «وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لَاتَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا».

إنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الاخرى أنّ هذا الطفل من بني إسرائيل، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه. ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولداً ذكراً، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى- على ما قدمناه- فسيكون دليلًا آخر يوضح كيفية انتصار

آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن- بجملة مقتضية وذات مغزى كبير- ختم الآية قائلًا: «وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

أجل، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر اللَّه النافذ ومشيئته التي لا تقهر، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطراً ... ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة، ولا يمكن مخالفتها أبداً ..

وَ أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَ قَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَ حَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لَا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

عودة موسى إلى حضن امّه: في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة .. فام موسى التي قلنا عنها: إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل، بحسب ما فصّلنا آنفاً .. اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها، فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها، لكن لطف اللَّه تداركها، وكما يعبّر القرآن الكريم: «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». «الفارغ»: معناه الخالي، والمقصود به هنا أنّ قلب امّ موسى أصبح خالياً من كل شي ء إلّامن ذكر موسى؛ «ربطنا»: من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظاً في مكانه.

والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته .. أي تثبيت قلب ام موسى، لتؤمن بوعد اللَّه

مختصر الامثل، ج 3، ص: 502

وتتحمل هذا الحادث الكبير. وعلى أثر لطف اللَّه أحست امّ موسى

بالاطمئنان، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره: «وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصّيهِ».

«قصّيه»: مأخوذة من مادة «قصّ» ومعناها البحث عن آثار الشي ء، وإنّما سميّت القصة قصةً لأنّها تحمل في طياتها أخباراً مختلفة يتبع بعضها بعضاً.

فاستجابت «اخت موسى» لأمر امّها، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة، حتى بصرت به من مكان بعيد، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه آل فرعون .. ويقول القرآن في هذا الصدد: «فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ».

ولكن اولئك لم يلتفتوا إلى أنّ أخته تتعقبه: «وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

وعلى كل حال، فقد اقتضت مشيئة اللَّه أن يعود هذا الطفل إلى امّه عاجلًا ليطمئن قلبها، لذلك يقول القرآن الكريم:

«وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ» «1».

وطبيعي أنّ الطفل الرضيع حين تمر عليه عدة ساعات فإنّه يجوع ويبكي.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثاً عن مرضع له، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

وهذا هو التحريم التكويني من قبل اللَّه تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعاً.

والطفل يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثاً عن مرضع حتى صادفوا بنتاً أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل: «فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهَلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نصِحُونَ».

فسرّ بها هؤلاء وجاءوا بام موسى إلى قصر فرعون، فلمّا شمّ الطفل رائحة امه التقم ثديها بشغف كبير.

في التفسير الكبير: لما قبل ثديها قال هامان إنّك لُامّه. قالت: لا. قال: فما بالك قبل ثديك من بين النسوة؟ قالت: أيّها الملك إنّي إمرأة طيّبة الريح حلوة اللبن ماشم ريحي صبي إلّاأقبل على ثديي. قالوا: صدقت. فلم يبق أحد من آل فرعون إلّاأهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر.

أجل، إنّ اللَّه أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن امّه ليستطيع أن

ينهض بوجه

______________________________

(1) «المراضع»: جمع «مُرضِع» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 503

الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتمّ كل شي ء بأمر اللَّه: «فَرَدَدْنهُ إِلَى أُمّهِ كَى تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)

موسى عليه السلام وحماية المظلومين: في هذه الآيات نواجه المرحلة الثالثة من قصة موسى عليه السلام وما جرى له مع فرعون، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثم سبب هجرته إلى مدين. تقول الآيات في البداية: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءَاتَيْنهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».

«أشدّ»: مشتقة من مادة «الشدّة» وهي القوة.

«استوى»: مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

والمراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوة والوحي، بل المقصود من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة على القضاء الصحيح وما شابه ذلك، وقد منح اللَّه هذه الامور لموسى عليه السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة.

وعلى كل حال فإنّ موسى «دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا».

يحتمل أنّ هذه المدينة هي عاصمة مصر.

والمقصود من جملة «عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا» هو أوّل الليل، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم

ابتغاء الراحة والنوم، وجماعة يذهبون للتنزه، وآخرون لأماكن اخرى .. هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الروايات الإسلامية. في معاني الأخبار قال النبي صلى الله عليه و آله: «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين فإنّهما تورثان دار الكرامة».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 504

قيل: يا رسول اللَّه ومتى ساعة الغفلة؟ قال: «ما بين المغرب والعشاء». والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيراً ما تحدث الجنايات والفساد والإنحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل .. فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل، ولا هم نائمون، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادةً في هذه الساعة.

وموسى دخل المدينة، وهنالك واجه مشادّة ونزاعاً، فاقترب من منطقة النزاع «فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هذَا مِن شِيعَتِهِ وَهذَا مِنْ عَدُوّهِ».

والتعبير ب «شيعته» يدلّ على أنّ موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل.

فلما بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه، «فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوّهِ».

فجاءه موسى عليه السلام لإستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم .. الذي يقال عنه أنّه كان طباخاً في قصر فرعون، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره، فهوى إلى الأرض ميتاً في الحال. تقول الآية: «فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ» «1».

ومما لا شك فيه، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني، لذلك فإنّ موسى عليه السلام أسف على هذا الأمر: «قَالَ هذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطنِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ».

فإنّ موسى عليه السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك، لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل.

ثم يتحدث القرآن

عن موسى عليه السلام فيقول: «قَالَ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».

ومن المسلم به أنّ موسى عليه السلام لم يصدر منه ذنب هنا، بل ترك الأولى، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون.

لذلك فإنّ موسى عليه السلام حين نجا بلطف اللَّه من هذا المأزق: «قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ» من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن «فَلَنْ

______________________________

(1) «وكز»: مأخوذ من «الوكز» ومعناه الضرب بقبضة اليد، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 505

أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ»، ومعيناً للظالمين.

ويريد موسى عليه السلام أن يقول: «إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبداً .. بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين ..».

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَ مَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)

موسى يتوجّه إلى مدين خُفية: نواجه في هذه الآيات المقطع الرابع من هذه القصة ذات المحتوى الكبير، حيث إنّ مقتل الفرعوني في مصر انتشر بسرعة، ولعل اسم موسى عليه السلام كان مذكوراً من

بين بني إسرائيل المشتبه فيهم. لذلك يقول القرآن في بداية هذا المقطع: «فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ» «1». وهو على حال من الترقب والحذر، فوجي ء في اليوم التالي بالرجل الإسرائيلي الذي آزره موسى بالأمس يتنازع مع قبطي آخر وطلب من موسى أن ينصره: «فَإِذَا الَّذِى اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ» «2».

ولكن موسى تعجب منه واستنكر فعله و «قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ». إذ تحدث كل يوم نزاعاً ومشادة مع الآخرين.

ولكنّه كان مظلوماً في قبضة الظالمين (وسواء كان مقصراً في المقدمات أم لا) فعلى موسى عليه السلام أن يعينه وينصره. «فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أن يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا» صاح ذلك القبطي: «قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ». ويبدو من عملك هذا أنّك لست إنساناً منصفاً، «إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِى الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ

______________________________

(1) «يترقب»: مأخوذ من «الترقب»، ومعناه الإنتظار، وموسى هنا في انتظار نتائج هذه الحادثة.

(2) «يستصرخ»: مشتقة من مادة «الإستصراخ»، ومعناها الإستغاثة، ولكنّها في الأصل تعني الصياح أو طلب الصياح من الآخر، وهذا عادة ملازم للإعانة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 506

الْمُصْلِحِينَ». وهذه العبارة تدلّ بوضوح على أنّ موسى عليه السلام كان في نيّته الإصلاح من قبل، سواءً في قصر فرعون أو خارجه.

ومن جهة اخرى فإنّ الأخبار وصلت إلى قصر فرعون فأحسّ فرعون ومن معه في القصر أنّ تكرار مثل هذه الحوادث ينذره بالخطر، فعقد جلسة شورى مع وزرائه وانتهى «مؤتمرهم» إلى أن يقتلوا موسى، وكان في القصر رجل له علاقة بموسى فمضى إليه وأخبره بالمؤامرة .. وكما يقول القرآن الكريم: «وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّى

لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ».

وهذا الرجل هو «مؤمن آل فرعون» الذي كان يكتم إيمانه ويدعى «حزقيل» وكان من أسرة فرعون.

أمّا موسى عليه السلام فقد تلقى الخبر من هذا الرجل بجدّية وقبل نصحه ووصيته في مغادرة المدينة، «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ».

وتضرع إلى اللَّه بإخلاص وصفاء قلب ليدفع عنه شرّ القوم و «قَالَ رَبّ نَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».

ثم قرر موسى عليه السلام أن يتوجه إلى مدينة «مدين» التي كانت تقع جنوب الشام وشمال الحجاز، وكانت بعيدة عن سيطرة مصر والفراعنة؛ إلّاأنّه كان لديه في هذا الطريق وعواطفه رأس مال كبير وكثير لا ينفد أبداً، وهو الإيمان باللَّه والتوكل عليه، لذا لم يكترث بأي شي ء وواصل السير .. «وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاءَ السَّبِيلِ» «1».

وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَ أَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)

______________________________

(1) «تلقاء»: مصدر أو اسم مكان، ومعناه هنا: الجهة والصوب الذي قصده.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 507

عمل صالح يفتح لموسى أبواب الخير: نواجه هنا المقطع الخامس من هذه القصة، وهي قضية ورود موسى عليه السلام إلى مدينة مدين.

قيل: إنّ هذا الشاب الطاهر قطع الطريق في ثمانية أيام، حتى لقي ما لقي من النصب والتعب، وورمت قدماه من كثرة المشي.

وكان يقتات من نبات الأرض وأوراق الشجر دفعاً لجوعه.

وبدأت معالم

«مدين» تلوح له من بعيد شيئاً فشيئاً، وأخذ قلبه يهدأ ويأنس لإقترابه من المدينة. يقول القرآن في هذا الصدد: «وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ» «1».

فحركه هذا المشهد ... حفنة من الشبان الغلاظ يملأون الماء ويسقون الأغنام، ولا يفسحون المجال لأحد حتى يفرغوا من أمرهم .. بينما هناك امرأتان تجلسان في زاوية بعيدة عنهم، وعليهم آثار العفة والشرف، جاء إليهما موسى عليه السلام ليسألهما عن سبب جلوسهما هناك و «قَالَ مَا خَطْبُكُمَا» «2».

لم يرق لموسى عليه السلام أن يرى هذا الظلم، فلم يتحمل ذلك كلّه، فهو المدافع عن المحرومين ومن أجلهم خرج من وطنه.

فقالت البنتان: إنّهما تنتظران تفرق الناس وأن يسقي هؤلاء الرعاة أغنامهم: «قَالَتَا لَانَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرّعَاءُ» «3».

ومن أجل أن لا يسأل موسى: أليس لكما أب؟ ولماذا رضي بإرسال بناته للسقي مكانه، أضافتا مكملتين كلامهما: «وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ».

فتأثر موسى عليه السلام من سماعه حديثهما بشدّة، فتقدم وأخذ الدلو وألقاها في البئر .. يقال: إنّ هذه الدلو كان يجتمع عليها عدّة نفر ليخرجوها بعد امتلائها من الماء، إلّاأنّ موسى عليه السلام استخرجها بقوته وشكيمته وهمّته بنفسه دون أن يعينه أحد: «فَسَقَى لَهُمَا» أغنامهما.

ولكن موسى عليه السلام بالرغم من تعب السير في الطريق والجوع ملأ الدلو وسحبها بنفسه وسقى أغنام المرأتان جميعها .. «ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ».

______________________________

(1) «تذودان»: مشتقة من «ذود» ومعناها المنع، فهما إذاً كانتا تذودان أغنامهما لئلا تختلط بالأغنام الاخرى.

(2) ما خطبكما: أي ما شأنكما وما شغلكما هنا؟!

(3) «يصدر»: مأخوذ من مادة «صدر» ومعناه الخروج من الماء؛ و «الرعاء»: جمع راعٍ، وهو سائس الغنم.

مختصر الامثل،

ج 3، ص: 508

أجل .. إنّه متعب وجائع، ولا أحد يعرفه في هذه المدينة. لكن هلمّ إلى العمل الصالح، فكم له من أثر محمود، خطوة نحو اللَّه، فتح لموسى فصلًا جديداً، وهيأ له من عالم عجيب من البركات المادية والمعنوية .. ووجد ضالته التي ينبغي أن يبحث عنها سنين طوالًا. وبداية هذا الفصل عندما جاءته احدى البنتين تخطو بخطوات ملؤها الحياء والعفة ويظهر منها أنّها تستحي من الكلام مع شاب غريب: رجوعهما إليه بهذه السرعة على غير ما اعتادتا عليه، فقصتا عليه الخبر، فأرسل خلفه «فَجَاءَتْهُ إِحْدَيهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاءٍ» فلم تزد على أن «قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا».

فلمع في قلبه إشراقٌ من الأمل، وكأنّه أحس بأن سيواجه رجلًا كبيراً .. رجلًا عارفاً بالحق وغير مستعد أن يترك أي عمل حتى لو كان مل ء الدلو أن يجزيه عليه.

أجل، لم يكن ذلك الشخص الكبير سوى «شعيب».

تحرك موسى عليه السلام ووصل منزل شعيب، وطبقاً لبعض الروايات، فإنّ البنت كانت تسير أمام موسى لتدله على الطريق، إلّاأنّ الهواء كان يحرّك ثيابها وربّما انكشف ثوبها عنها، ولكن موسى لما عنده من عفّة وحياء طلب منها أن تمشي خلفه وأن يسير أمامها، فإذا ما وصلا إلى مفترق طرق تدله وتخبره من أي طريق يمضي إلى دار أبيها شعيب.

دخل موسى عليه السلام منزل شعيب عليه السلام، يقول القرآن في هذا الصدد: «فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَاتَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ». فالتفت موسى إلى أنّه وجد استاذاً عظيماً .. كما أحسّ شعيب أنّه عثر على تلميذ جدير ولائق.

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ

عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

موسى في دار شعيب: هذا هو المقطع السادس من قصّة حياة موسى عليه السلام المثيرة، جاء موسى إلى منزل شعيب، وبعد أن قصّ عليه قصّته، بادرت إحدى بنتي شعيب بالقول: إنّني أقترح أن تستأجره لحفظ الأغنام ورعايتها: و «قَالَتْ إِحْدَيهُمَا يَا أَبَتِ اسْتْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 509

اسْتْجَرْتَ الْقَوِىُّ الْأَمِينُ».

فرضي شعيب عليه السلام باقتراح إبنته، وتوجه إلى موسى و «قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمنِىَ حِجَجٍ». ثم أضاف قائلًا: «فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ».

فلا أريد إيذاءك «وَمَا أَرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ».

واستجابة لهذا القرار والعقد الذي أنشأه شعيب مع موسى .. وافق موسى و «قَالَ ذلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ». ثم أردف مضيفاً بالقول:

«أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَىَّ». أي سواءً قضيت عشر سنين أو ثماني سنين «حجج» فلا عدوان عليّ.

ومن أجل استحكام العقد بينهما جعل موسى عليه السلام اللَّه كفيلًا وقال: «وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ».

وبهذه البساطة أصبح موسى صهراً لشعيب على إبنته.

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى

مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَ لَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَ مَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 510

الشرارة الاولى للوحي: نصل الآن- إلى المقطع السابع- من هذه القصة ..

لا يعلم أحد- بدّقة- ما جرى على موسى في سنواته العشر مع شعيب، ولا شك أنّ هذه السنوات العشر كانت من أفضل سنوات العمر لموسى عليه السلام. ومن البديهي أنّ موسى عليه السلام لا يقنع في قضاء جميع عمره برعي الغنم، وإن كان وجود «شعيب» إلى جانبه يعدّ غنيمة كبرى، فعليه أن ينهض إلى نصرة قومه، وأن يخلصهم من قيود الأسر، وينقذهم من حالة الجهل وعدم المعرفة.

إنّ القرآن يقول في أوّل من آية هذا المقطع: «فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا». ثم التفت إلى أهله و «قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنّى ءَانَسْتُ نَارًا لَّعَلّى ءَاتِيكُم مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ». أي (تتدفؤون).

«آنست»: مشتقة من مادة «إيناس»، ومعناها المشاهدة والرؤية المقترنة بالهدوء والراحة. «جذوة»: هي القطعة من النار.

ويستفاد من قوله «لَّعَلّى ءَاتِيكُم مّنْهَا بِخَبَرٍ» أنّه كان أضاع الطريق، كما يستفاد من جملة «لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» أنّ الوقت كان ليلًا بارداً.

«فَلَمَّا أَتهَا». أي أتى النار التي آنسها ورآها، فتعجب موسى من

ذلك: «نُوِدىَ مِن شطِىِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».

«الشاطى ء»: معناه الساحل؛ و «الوادي»: معناه الطريق بين الجبلين، أو ممر السيول؛ و «الأيمن»: مشتق من «اليمين» خلاف اليسار، وهو صفة للوادي؛ و «البقعة»: القطعة من الأرض المعروفة الأطراف.

ولا شك أنّ اللَّه سبحانه قادر على أن يجعل الأمواج الصوتية في كل شى ء، فأوجد في الوادي شجرة ليكلّم موسى.

ومع الإلتفات إلى أنّ موسى عليه السلام سيتحمل مسؤولية عظيمة وثقيلة .. فينبغي أن تكون عنده معاجز عظيمة من قبل اللَّه تعالى مناسبة لمقامه النبوي، وقد أشارت الآيات إلى قسمين مهمين من هذه المعاجز:

الاولى قوله تعالى: «وَأَن أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقّبْ».

في هذه الحال سمع موسى عليه السلام مرّة اخرى النداء من الشجرة: «يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْأَمِنِينَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 511

«الجانّ»: في الأصل معناه الموجود غير المرئي، كما يطلق على الحيات الصغار اسم (جان) أيضاً؛ لأنّها تعبر بين الأعشاب والأحجار بصورة غير مرئية.

كانت المعجزة الاولى آية «من الرعب»، ثم أمر أن يظهر المعجزة الثانية وهي آية اخرى «من ا لنور والأمل» ومجموعهما سيكون تركيباً من «الإنذار» و «البشارة» إذ جاءه الأمر: «اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ». فالبياض الذي يكون على يده للناس لم يكن ناشئاً عن مرض- كالبرص ونحوه- بل كان نوراً إلهياً جديداً.

لقد هزّت موسى عليه السلام مشاهدته لهذه الامور الخارقة للعادات في الليل المظلم وفي الصحراء الخالية .. ومن أجل أن يهدأ روع موسى من الرهب، فقد أمر أن يضع يده على صدره: «وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ».

وجاء موسى النداء معقّباً: «فَذنِكَ بُرْهَانَانِ مِن

رَبّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فسِقِينَ».

هنا تذكر موسى عليه السلام حادثة مهمّة وقعت له في حياته بمصر، وهي قتل القبطي، وتعبئه القوى الفرعونية لإلقاء القبض عليه وقتله. لذلك فإنّ موسى: «قَالَ رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ».

وبعد هذا كلّه فإنّي وحيد ولساني غير فصيح، «وَأَخِى هرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءًا يُصَدّقُنِى إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ». «أفصح»: مشتقة من «الفصيح» وهو في الأصل كون الشي ء خالصاً، كما تطلق على الكلام الخالص من كل حشو وزيادة كلمة «الفصيح» أيضاً. و «الردء»: معناه المعين والمساعد.

فأجاب اللَّه دعوته، وطمأنه بإجابة ما طلبه منه و «قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا» فالسلطة والغلبة لكما في جميع المراحل.

وبشرهما بالنصر والفوز، وأنّه لن يصل إليهما سوء من أولئك؛ إذ قال سبحانه: «فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بَايَاتِنَا». فبهذه الآيات والمعاجز لن يستطيعوا قتلكما أو الاضرار بكما «أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ».

فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَ مَا سَمِعْنَا بِهذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَ قَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 512

موسى في مواجهة فرعون: نواجه المقطع الثامن من هذه القصة العظيمة .. لقد تلقى موسى عليه السلام من ربّه الأمر بأن يصدع بالنبوّة والرسالة في تلك الليلة المظلمة والأرض المقدّسة، فوصل إلى مصر، وأخبر أخاه هارون بما حُمّل .. فذهبا معاً إلى فرعون ليبلغاه رسالة اللَّه. يقول القرآن في أوّل آية من هذا المقطع: «فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَى بَايَاتِنَا بَيّنَاتٍ قَالُوا مَا هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى».

وأنكروا أن يكونوا سمعوا مثل ذلك، «وَمَا سَمِعْنَا بِهذَا فِى

ءَابَائِنَا الْأَوَّلِينَ».

فواجهوا موسى متوسلين بحربة توسل بها جميع الجبابرة والضالون على طول التاريخ، حين رأوا المعاجز من أنبيائهم .. وهي حربة «السحر».

لكن موسى عليه السلام أجابهم بلهجة التهديد والوعيد، حيث يكشف لنا القرآن هذا الحوار «وَقَالَ مُوسَى رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عقِبَةُ الدَّارِ».

إشارة إلى أنّ اللَّه يعلم حالي، وهو مطلع علي بالرغم من اتهامكم إيّاي بالكذب ..

ثم بعد هذا، لو كان كلامي كذباً فأنا ظالم و «إِنَّهُ لَايُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».

وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلهِ مُوسَى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَ أَتْبَعْنَاهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

كيف كان عاقبة الظالمين: نواجه هنا المقطع التاسع من هذا التاريخ الملي ء بالأحداث والعبر.

فقد شاع خبر إنتصار موسى عليه السلام على السحرة في مصر، وموقع الحكومة الفرعونية أصبح في خطر جدي شديد. فيجب صرف أفكار الناس، واشغالهم بسلسلة من المشاغل الذهنية، لإغفال الناس وتحميقهم. وفي هذا الصدد يتحدث القرآن الكريم عن جلوس

مختصر الامثل، ج 3، ص: 513

فرعون للتشاور في معالجة الموقف، إذ نقرأ في أوّل آية من هذا المقطع: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلهٍ غَيْرِى».

فأنا إلهكم في الأرض .. أمّا إله السماء فلا دليل على وجوده، ولكنّني سأتحقق في الأمر ولا أترك

الإحتياط، فالتفت إلى وزيره هامان وقال: «فَأَوْقِدْ لِى يَا همنُ عَلَى الطّينِ». ثم أصدر الأوامر ببناء برج أو قصر مرتفع جدّاً لأصعد عليه واستخبر عن إله موسى. «فَاجْعَلْ لِّى صَرْحًا لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلهِ مُوسَى وَإِنّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكذِبِينَ».

ولمّا بلغ البناء تمامه .. جاء فرعون بنفسه يوماً وصعده بتشريفات خاصة.

المعروف أنّه رمى سهماً إلى السماء، فرجع السهم مخضباً بالدم على أثر إصابته لأحد الطيور أو أنّها كانت خديعة من قبل فرعون من قبل .. فنزل فرعون من أعلى القصر وقال للناس: اذهبوا واطمأنوا فقد قتلت إله موسى.

ومن المسلم به أنّ جماعة من البسطاء الذين يتبعون الحكومة اتباعاً أعمى وأصم، صدّقوا ما قاله فرعون ونشروه في كل مكان، وشغلوا الناس بهذا الخبر لإغفالهم عن الحقائق.

بعد هذا كلّه يتحدث القرآن عن استكبار فرعون ومن معه، وعدم إذعانهم لمسألتي «المبدأ والمعاد» بحيث كان فرعون يرتكب ما يشاء من إجرام وجنايات بسبب إنكار هذين الأصلين فيقول: «وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَايُرْجَعُونَ».

لكن لننظر إلى أين وصل هذا الغرور بفرعون وجنوده؟ يقول القرآن الكريم: «فَأَخَذْنهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنهُمْ فِى الْيَمّ». أجل، لقد جعلنا سبب موتهم في مصدر معيشتهم، وجعلنا النيل الذي هو رمز عظمتهم وقوّتهم مقبرةً لهم.

إنّ تعبير «نبذناهم» من مادة «نبذ»، ومعناه رمي الأشياء التي لا قيمة لها وطرحها بعيداً.

ثم، يختتم الآية بالتوجه إلى النبي صلى الله عليه و آله قائلًا: «فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عقِبَةُ الظَّالِمِينَ».

ثم يضيف القرآن قائلًا في شأنهم: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيمَةِ لَايُنصَرُونَ». فكما أنّهم كانوا في هذه الدنيا أئمّة الضلال، فهم في الآخرة- أيضاً- أئمة النار، لأنّ ذلك العالم تجسم كبير لهذا العالم.

ولمزيد التأكيد يصور القرآن صورتهم وماهيتهم

في الدنيا والآخرة: «وَاتَّبَعْنَاهُمْ فِى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 514

هذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيمَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ».

لعنة اللَّه معناها طردهم من رحمته، ولعنة الملائكة والمؤمنين هي الدعاء عليهم صباحاً ومساءً.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَ هُدًى وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَ مَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَ لكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَ مَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)

نصل في هذا القسم من الآيات إلى «المقطع العاشر» وهو القسم الأخير من الآيات التي تتعلق بقصة موسى وما تحمله من معان كبيرة، وهي تتحدث عن نزول الأحكام، والتوراة، أي إنّها تتحدث عن انتهاء الدور السلبي «الطاغوت» وبداية «الدور الإيجابي» والبناء. يبدأ هذا المقطع بالآية التالية: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتبَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ».

وفي أنّ المقصود من «القرون الاولى» من هم؟ قال بعض المفسرين: هو إشارة إلى الكفار من قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم، لأنّه بتقادم الزمان ومضيّه تمحي آثار السابقين.

وقال بعض المفسرين: هو إشارة إلى هلاك قوم فرعون الذين كانوا بقايا الأقوام السابقين، لأنّ اللَّه سبحانه آتى موسى كتاب «التوراة» بعد هلاكهم.

ولكنّه لا مانع من أن يكون المقصود بالقرون الاولى في الآية شاملًا لجميع الأقوام.

«البصائر»: جمع «بصيرة» ومعناها الرؤية، والمقصود بها هنا الآيات والدلائل التي تستوجب إنارة قلوب المؤمنين ..

و «الهدى» و «الرحمة» أيضاً من لوازم البصيرة

.. وعلى أثرها تتيقظ القلوب.

ثم يبيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة، وهي أنّ ما ذكرناه لك يا رسول اللَّه، في شأن موسى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 515

وفرعون وما جرى بينهما بدقائقه، هو في نفسه دليل على حقانيّة القرآن، لأنّك لم تكن «حاضراً» في هذه «الميادين» التي كان يواجه موسى فيها فرعون وقومه، ولم تشهدها بعينيك .. بل هو من الطاف اللَّه عليك، إذ أنزل عليك هذه الآيات لهداية الناس .. يقول القرآن: «وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ». أي الأمر بالنبوّة؛ «وَمَا كُنتَ مِنَ الشهِدِينَ».

ثم يضيف القرآن: «وَلكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ». وتقادم الزمان حتى اندرست آثار الأنبياء وهدايتهم في قلوب الناس، لذلك أنزلنا عليك القرآن وبيّنا فيه قصص الماضين ليكون نوراً وهدى للناس.

ثم يضيف القرآن الكريم: «وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ [/ أي: على أهل مكة] ءَايَاتِنَا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «1».

وأوحينا إليك هذه ا لأخبار الدقيقة التي تتحدث عن آلاف السنين الماضية .. لتكون عبرة للناس وموعظة للمتقين «2».

وتأكيداً على ما سبق بيانه يضيف القرآن الكريم قائلًا: «وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا». أي: نادينا موسى بأمر النبوة، ولكنّنا أنزلنا إليك بهذه الأخبار رحمة من اللَّه عليك «وَلكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ».

وَ لَوْ لَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْ لَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْ لَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَ قَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ

عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)

______________________________

(1) «ثاوي»: مشتق من (ثوى) ومعناه الإقامة المقرونة بالإستقرار، ولذا سمّي المستقر والمكان الدائم بالمثوى

(2) كان بين ظهور موسى عليه السلام وظهور النبي (محمّد صلى الله عليه و آله) حدود ألفي عام.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 516

ذريعة للفرار من الحق: حيث إنّ الآيات- آنفة الذكر- كانت تتحدث عن إرسال النبي صلى الله عليه و آله لينذر قومه، ففي هذه الآيات يبيّن القرآن ما ترتب من لطف اللَّه على وجود النبي في قومه فيقول: إنّنا وقبل أن نرسل إليهم رسولًا ا ذا أردنا إنزال العذاب عليهم بسبب ظلمهم وسيئاتهم قالوا: لماذا لم ترسل لنا رسول يبيّن لنا أحكامك لنؤمن به: «وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». هذه الآية تشير إلى موضوع دقيق، وهو أنّ طريق الحق واضح وبيّن ... وكل «عقل» حاكم ببطلان الشرك وعبادة الأصنام ..

وقبح كثير من الأعمال التي تقع نتيجة الشرك وعبادة الأصنام- كالمظالم وما شاكلها- هي من مستقلات حكم العقل.

ثم تتحدث الآيات عن معاذير أولئك، وتشير إلى أنّهم- بعد إرسال الرسل- لم يكفّوا عن الحيل والذرائع الواهية، واستمروا على طريق الانحراف، فتقول الآية: «فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِىَ مِثْلَ مَا أُوتِىَ مُوسَى .

فلم لم تكن عصا موسى في يده؟ ولم لا تكون يده بيضاء «كيد موسى»؟ ولم لا ينشقّ البحر له كما انشقّ لموسى؟ ولِمَ لَم ... الخ.

فيجيب القرآن على مثل هذه الحجج،

ويقول: «أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِىَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا». أي: موسى وهارون، تعاونا فيما بينهما ليضلونا عن الطريق «وَقَالُوا إِنَّا بِكُلّ كفِرُونَ».

إنّ مشركي مكة المعاندين كانوا يصرّون على أنّه لِم لَم يأت النبي صلى الله عليه و آله بمعاجز كمعاجز موسى، ومن جهة اخرى لم يكونوا يعترفون بما يجدونه في «التوراة» من علائمه وأوصافه ولا يؤمنون بالقرآن المجيد وآياته العظيمة. لذا يخاطب القرآن النبي محمّداً صلى الله عليه و آله ليتحدّاهم بأن يأتوا بكتاب أسمى من القرآن: «قُلْ فَأْتُوا بِكِتبٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ».

ثم يضيف القرآن: «فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ». ولكن من أضيع منهم، «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَيهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظلِمِينَ».

ومن الطريف هنا أنّ روايات عديدة تفسّر الآية بأنّ المراد منها من ترك إمامه وقائده

مختصر الامثل، ج 3، ص: 517

الإلهي واتبع هواه.

وهذه الرّوايات هي من قبيل المصداق البارز. وبتعبير آخر: إنّ الإنسان محتاج لهداية اللَّه ... هذه الهداية تارة تنعكس في كتاب اللَّه، واخرى في وجود النبي وسنته، واخرى في أوصيائه المعصومين، واخرى في منطق العقل.

المهم أن يكون الإنسان في خطّ الهداية الإلهية غير متبع لهواه، ليستطيع أن يستضي ء بهذه الأنوار.

وَ لَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَ يَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَ إِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي

الْجَاهِلِينَ (55)

سبب النّزول

نقل المفسرون ورواة الأخبار روايات كثيرة ومختلفة في شأن نزول الآيات المتقدمة، والجامع المشترك فيها واحد، وهو إيمان طائفة من علماء اليهود والنصارى والأفراد الذين يتمتعون بقلوب طاهرة- بالقرآن ونبي الخاتم صلى الله عليه و آله.

قال سعيد بن جبير نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي فلما قدموا على النبي صلى الله عليه و آله قرأ عليهم «يس والقرآن الحكيم» حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا.

التّفسير

طلاب الحق من أهل الكتاب آمنوا بالقرآن: حيث إنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن حجج المشركين الواهية أمام الحقائق التي يقدّمها القرآن الكريم، فإنّ هذه الآيات محل البحث تتحدث عن القلوب المهيّأة لقبول قول الحق. يقول القرآن في هذا الصدد: لقد أنزلنا لهم آيات القرآن تباعاً، «وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ».

إلّا أنّ (اليهود والنصارى) «الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ». لأنّهم

مختصر الامثل، ج 3، ص: 518

يرونه منسجماً مع ما ورد في كتبهم السماوية من علامات ودلائل.

ثم يضيف القرآن في وصفهم قائلًا: «وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَا».

ثم يضيف القرآن متحدثاً عنهم: إنّنا مسلمون لا في هذا اليوم فحسب، بل «إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ». ثم يتحدث القرآن الكريم عن هذه الجماعة التي آمنت بالنبي من غير تقليد أعمى، وإنّما طلباً للحق، فيقول: «أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا».

فمرّة لإيمانهم بكتابهم السماوي الذي كانوا صادقين أوفياء لعهدهم معه ... ومرّة اخرى لإيمانهم بنبيّ الإسلام العظيم صلى الله عليه و آله النبي الموعود المذكور عندهم في كتبهم السماوية.

ثم يشير القرآن الكريم إلى بعض أعمالهم الصالحة من قبيل «دفع السيئة بالحسنة» و «الإنفاق مما رزقهم اللَّه» و «المرور الكريم باللغو والجاهلين» وكذلك الصبر والإستقامة،

وهي خصال أربع ممتازة. حيث يقول في شأنهم القرآن الكريم: «وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ».

والخصلة الاخرى في هؤلاء الممدوحين بالقرآن أنّهم: «وَمِمَّا رَزَقْنهُمْ يُنفِقُونَ».

وليس الإنفاق من الأموال فحسب، بل من كل ما رزقهم اللَّه من العلم والقوى الفكرية والجسميّة والوجاهة الإجتماعية، وجميع هذه الامور من مواهب اللَّه ورزقه- فهم ينفقون منها في سبيل اللَّه.

وآخر صفة ممتازة بيّنها القرآن في شأنهم قوله: «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ».

ولم يردّوا الجهل بالجهل واللغو باللغو، بل «وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ».

ثم يضيف القرآن في شأنهم حين يواجهون الجاهلين يقولون: «سَلمٌ عَلَيْكُمْ لَانَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ». أجل، هؤلاء العظام هم الذين يستطيعون أن يستوعبوا رسالة الإيمان في نفوسهم، والذين بذلوا جهداً وقاوموا أنواع الصعاب ليصلوا إلى معنى «الإيمان».

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَ قَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)

الهداية بيد اللَّه وحده: إنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن طائفتين: طائفة من

مختصر الامثل، ج 3، ص: 519

مشركي أهل مكة المعاندين، كان رسول صلى الله عليه و آله شديد الإصرار على هدايتهم؛ وطائفة من أهل الكتاب والأفراد البعيدين عن مكة، تلقوا هداية اللَّه برحابة صدر، ولم يستوحشوا من الضغوط والعزلة وما إلى ذلك.

فمع الإلتفات إلى كل هذه الامور، نلاحظ أنّ الآية الاولى من هاتين الآيتين تكشف الستار عن هذه الحقيقة فتقول: «إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ».

والمقصود من الهداية ليس «إراءة الطريق»، لأنّ إراءة الطريق هي من وظيفة النبي صلى الله عليه و آله، وتشمل

جميع الناس دون استثناء، بل المقصود من الهداية هنا هو «الإيصال للمطلوب والهدف»، والإيصال إلى المطلوب وإلى الهدف هو بيد اللَّه وحده.

إنّ هذه الآية بمثابة التسلية والتثبيت لقلب النبي ليطمئن إلى هذه الحقيقة، وهي إنّه لا إصرار المشركين وعنادهم وإن كانوا من أهل مكة، ولا إيمان أهل الحبشة ونجران وغيرهما أمثال سلمان الفارسي وبحيرا الراهب من دون دليل وسبب.

فعليه أن لا يكترث لعدم إيمان الطائفة الأولى.

وفي الآية الثانية- من الآيتين محل البحث- يتحدث القرآن الكريم عن طائفة اعترفوا بالإسلام في واقعهم وأيقنت به قلوبهم، إلّا أنّهم لم يظهروا إيمانهم بسبب منافع شخصية وملاحظات ذاتية، حيث يقول: «وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا».

هذا الكلام لا يقوله إلّامن يستضعف قدرة اللَّه ولا يعرف كيف ينصر اللَّه أولياءه ويخذل أعداءه. لذلك يقول القرآن ردّاً على مثل هذه المزاعم: «أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءَامِنَّا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَىْ ءٍ رّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ» «1».

اللَّه سبحانه الذي جعل هذه الأرض المالحة والمليئة بالصخور والخالية من الأشجار والأنهار، جعلها حرماً تهفوا إليه القلوب، ويؤتى إليه بالثمرات من مختلف نقاط العالم، كل ذلك بيد قدرته القاهرة.

كيف لا يكون قادراً على أن يحفظكم من هجوم حفنة من الجاهليين عبّاد الأوثان؟

______________________________

(1) «نمكّن»: في الآية بمعنى نجعل؛ و «يجبى»: مشتق من مادة «جباية»، والجبابة معناها الجمع، لذلك يطلق على الحوض الذي يجمع فيه الماء جابية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 520

فكيف يمكن أن يحرمكم اللَّه منهما بعد الإسلام؟

لتكن قلوبكم قوية وآمنوا بما انزل اليكم فإنّ ربّ الكعبة وربّ مكة معكم.

وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَ كُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَ مَا كَانَ رَبُّكَ

مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَ مَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَ أَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ زِينَتُهَا وَ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقَى أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (60)

لا تخدعنكم علائق الدنيا: كان الحديث في الآيات المتقدمة يدور حول ما يدعيه أهل مكة، وقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا بهجوم العرب علينا، وتتكدر حياتنا ويختل وضعنا المعاشي والاقتصادي، وفي هذه الآيات مورد البحث ردّان آخران على كلامهم:

الأوّل: يقول .. على فرض أنّكم لم تؤمنوا، وحييتم في ظل الشرك مرفهين ماديّاً، ولكن لا تنسوا أن تعتبروا بحياة من قبلكم، «وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا» «1».

أجل، إنّ الغرور دعاهم إلى أن يبطروا من النعم، والبطر أساس الظلم، والظلم يجرّ حياتهم إلى النار ... «فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُم لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا».

بلى ... بقيت بيوتهم خالية خربة متهدمة مظلمة لم يزرها ولم يسكنها أحد إلّالفترة قليلة «وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ».

جملة «كُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ» إشارة إلى أنّ مالكها الحقيقي هو اللَّه سبحانه المالك لكل شي ء، وإذا ما أعطى ملكاً «اعتبارياً» لأحد، فإنّه لا يدوم له طويلًا حتى يرثه اللَّه أيضاً.

و الآية الثانية جواب عن سؤال مقدر، وهو: إذا كان الأمر كذلك، بأن يهلك اللَّه الطغاة، فلم لم يهلك المشركين من أهل مكة والحجاز، الذين بلغوا حدّاً عظيماً من الطغيان، ولم يكن إثم ولا جهل إلّاوارتكبوه، ولم لم يعذبهم اللَّه بعذابه الأليم؟

______________________________

(1) «بطرت»: مشتقة من «بطر»، ومعناه الطغيان والغرور على أثر وفرة النعم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 521

يقول القرآن في هذا الصدد: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا».

أجل ... لا

يعذب اللَّه قوماً حتى بعد إتمام الحجّة، فما لم يصدر ظلم يستوجب العذاب فإنّ اللَّه لا يعذبهم، وهو يراقب أعمالهم، «وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ».

والتعبير ب «مَا كُنَّا» أو «وَمَا كَانَ رَبُّكَ» دليل على أنّ سنة اللَّه الدائمة والأبدية التي كانت ولا زالت، هي أن لا يعذب أحداً إلّا بعد إتمام الحجة الكافية.

و آخر آية من هذا المقطع محل البحث تحمل الردّ الثاني على أصحاب الحجج الواهية، الذين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه و آله: «إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا» ويبعدنا العرب من ديارنا، وهو قوله تعالى: «وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَىْ ءٍ فَمَتعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى ممّا عندكم من النعيم الفاني .. إذ إنّ نعم الدنيا تشوبها الأكدار والمشاكل المختلفة، وليس من نعمة مادية خالية من الضرر والخطر أبداً.

إضافة إلى ذلك فإنّ النعم التي عند اللَّه «الباقية» لا تقاس مع النعم الدنيوية الزائلة، فنعم اللَّه- إذن- خير وأبقى.

فبموازنة بسيطة يعرف كل إنسان عاقل أنّه لا ينبغي أن يضحي بنعم الآخرة من أجل نعم الدنيا، ولذلك تختتم الآية بالقول:

«أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

أَ فَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)

كان الحديث في الآيات المتقدمة عن الذين فضّلوا الكفر على الإيمان بسبب منافعهم الشخصية، ورجّحوا الشرك على التوحيد، وفي الآيات التي بين أيدينا يبيّن القرآن

حال هذه الجماعة يوم القيامة قبال المؤمنين الصادقين. ففي بداية هذه الآيات يلقي القرآن سؤالًا يقارن فيه بين المؤمنين والكافرين، ويثير الوجدان ويجعله حكماً فيقول: «أَفَمَن وَعَدْنهُ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 522

وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنهُ مَتعَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيمَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ».

جملة «هُوَ يَوْمَ الْقِيمَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ» إشارة إلى الإحضار في محضر اللَّه يوم القيامة للحساب. وجملة «الْحَيَوةِ الدُّنْيَا» التي تكررت في سور مختلفة من القرآن الكريم، إشارة إلى حقارة هذه الحياة بالنسبة للحياة الاخرى، لأنّ كلمة «دنيا» في الأصل مأخوذة من «دنو» ومعناها القرب في المكان أو الزمان أو المنزلة والمقام، ثم توسّع هذا المفهوم ليطلق بلفظ «دنيا» أو «أدنى على الموجودات الصغيرة التي تحت اليد في مقابل الموجودات الكبيرة، وقد يطلق هذا اللفظ على الموضوعات التي لا قيمة لها في مقابل الأشياء ذات القيمة العالية، وربّما استعمل في القرب في مقابل البعد، وحيث إنّ هذه «الحياة» في مقابل العالم الآخر صغيرة ولا قيمة لها وقريبة أيضاً، فإنّ تسميتها بالحياة الدنيا تسمية مناسبة جدّاً.

ثم يأتي الكلام عن عرصات يوم القيامة ومشاهدها ليجسّده أمام الكفار، مشاهد يقشعر منها البدن حين يتصورها الإنسان، فيقول القرآن: «وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ».

فهذا السؤال في الحقيقة فيه نوع من الإهانة والتوبيخ والعقوبة.

ولكنّهم بدلًا من أن يجيبوا بأنفسهم، فإنّ معبوديهم هم الذين يردّون الجواب، ويتبرؤون منهم، ويتنفرون من عبادة المشركين إيّاهم.

ونعرف أنّ معبودات المشركين وآلهتهم على ثلاثة أنواع: فإمّا أن يكونوا أصناماً «وأحجاراً وخشباً» أو من المقدسين كالملائكة والمسيح، وإمّا أن يكونوا من الشياطين والجنّ. فالذين يردّون على السؤال ويجيبون هم النوع الثالث، كما حكى عنهم القرآن: «قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هؤُلَاءِ الَّذِينَ

أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ».

وتعقيباً على السؤال عن آلهتهم وعجز المشركين عن الجواب، يطلب أن يدعوهم لنصرتهم «وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ» «1».

وحيث يعلم المشركون أنّ دعاءهم غير نافع، وأنّ المعبودين «الشركاء» لا يمكن أن يفعلوا شيئاً من شدّة الهلع والوحشة، أو استجابة لأمر اللَّه، يتوجهون إلى الشركاء ويدعونهم كما يقول القرآن الكريم: «فَدَعَوْهُمْ».

______________________________

(1) التعبير ب «شركاءكم» مع أنّ هؤلاء الشركاء كانوا قد جعلوا شركاء اللَّه سبحانه، هو إشارة إلى أنّ هؤلاء الشركاء من صنعكم وهم متعلقون بكم لا باللَّه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 523

ومن الواضح أنّه لا أثر لهذا النداء والطلب، ولا يقال لهم «لبيك» .. «فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ». فحينئذٍ لا ينفعهم شي ء «وَرَأَوُا الْعَذَابَ». ويتمنون «لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ».

وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَا ذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ مَا يُعْلِنُونَ (69) وَ هُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

تعقب الآيات محل البحث، على ما كان في الآيات السابقة في شأن المشركين وما يسألون يوم القيامة. فبعد أن يُسألوا عن شركائهم ومعبوديهم، يسألون عن مواقفهم وما أبدوه من عمل إزاء أنبيائهم: «وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ».

ومن المسلم به أنّ هؤلاء «المشركين» لا يملكون جواباً لهذا السؤال. فكل ما يقولون كاشف عن فضيحتهم وشقائهم، حتى أنّ الأنبياء والمرسلين في ذلك اليوم يجيبون ربّهم حين

يسألون: «مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَاعِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلمُ الْغُيُوبِ» «1».

ما الذي يقوله في ذلك اليوم وفي ذلك المكان عمي القلوب من المشركين؟ لذلك يكشف القرآن عن حالهم هناك فيقول:

«فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَايَتَسَاءَلُونَ». أي يسأل بعضهم بعضاً ولا يعرفون جواباً.

وحيث إنّ اسلوب القرآن هو ترك الأبواب مفتوحة بوجه الكافرين والآثمين دائماً، لعلّهم يتوبون ويرجعون إلى الحق في أي مرحلة كانوا من الإثم، فإنّه يضيف في الآية التي بعدها: «فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ».

فسبيل النجاة- حسب ما يوضحه القرآن- يتلخّص في ثلاث جمل هي العودة والتوبة إلى اللَّه، والإيمان، والعمل الصالح، وعاقبتهما النجاة والفلاح حتماً.

و الآية التي بعدها دليل على نفي الشرك وبطلان عقيدة المشركين، إذ تقول: «وَرَبُّكَ

______________________________

(1) سورة المائدة/ 109.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 524

يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ». فالخلق بيده، والتدبير والإختيار بيده أيضاً، وهو ذو الإرادة.

فمع هذه الحال، كيف يسلك هؤلاء طريق الشرك ويتجهون نحو غير اللَّه؟ لذلك فإنّ الآية تنزه اللَّه عن الشرك وتقول:

«سُبْحنَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ».

أمّا الآية التي بعدها فتتحدث عن علم اللَّه الواسع، وهي تأكيد أو دليل على الإختيار الواسع في الآية السابقة، إذ تقول هذه الآية: «وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ».

فإحاطته بكل شي ء دليل على اختياره لكل شي ء، كما هي- ضمناً- تهديد للمشركين، لئلا يظنوا أنّ اللَّه غير مطلع على سرائرهم ونيّاتهم و «مؤامراتهم».

و الآية الأخيرة من هذا المقطع، هي نتيجة الحكم، وتوضيح للآيات السابقة في مجال نفي الشرك، وهي ذات أربعة أوصاف من أوصاف اللَّه، وجميعها فرع على خالقيته واختياره.

فالأوّل: أنّه «وَهُوَ اللَّهُ لَاإِلهُ إِلَّا هُوَ».

فمن يتوسل بالأصنام لتشفع له عند اللَّه فهو من

المضلين الخاطئين.

والثاني: أنّ جميع النعم دنيويةً كانت أم اخروية هي منه، وهي من لوازم خالقيته المطلقة، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد:

«لَهُ الْحَمْدُ فِى الْأُولَى وَالْأَخِرَةِ».

الثالث: أنّه «وَلَهُ الْحُكْمُ». فهو الحاكم في هذا العالم، وفي العالم الآخر.

والرابع: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» للحساب والثواب والعقاب.

فاللَّه الخالق، وهو المطّلع، وهو الحاكم يوم الجزاء، وبيده الحساب والثواب والعقاب.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَ فَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَ نَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 525

نعمتا الليل والنهار العظيمتان: هذه الآيات- محل البحث- تتحدث عن قسم كبير من مواهب اللَّه سبحانه، التي تدل على التوحيد ونفي الشرك من جهة، كما أنّها تكمّل البحث السابق .. وتذكر مثلًا للنعم التي تستوجب الحمد والثناء. ففي الآية الاولى من هذه الآيات إشارة إلى نعمة النهار والنور الذي هو أساس لأيّة حركة، فتقول الآية: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ».

كما تتحدث الآية الاخرى عن نعمة الظلمة فتقول: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيمَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ».

أمّا الآية الثالثة فتحكي عن نتيجة

النعمة المشار إليها في الآيتين السابقتين فيقول: «وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

إنّ سعة رحمة اللَّه تستوجب أن تضمن جميع عوامل حياتكم.

ومرّة اخرى- بعد ذكر جانب من دلائل التوحيد ونفي الشرك- يعود القرآن الكريم على السؤال الأوّل الذي أثير في الآيات السابقة ليقول: «وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ».

وهذه الآية مكررة في السورة نفسها، إذ وردت بنصّها في الآية (62)، ولعلّ هذا التكرار ناشى ء عن السؤال مرتين في يوم القيامة، مرّة بصورة انفرادية ليعودوا إلى وجدانهم فيخجلوا من أنفسهم، ومرّة بصورة عامّة في محضر الشهود، وهو ما أشير إليه في الآية التي بعدها .. ليخجلوا أيضاً من حضورهم. لذلك تأتي الآية التي بعدها فتقول: «وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ» «1». أيّها المشركون الضالون.

وحين تنكشف المسائل وتتجلى الامور لا تبقى خافية، «فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ».

هؤلاء الشهود هم الأنبياء بقرينة الآيات الاخرى في القرآن، إذ أنّ كل نبي شاهد على امته، ونبي الخاتم صلى الله عليه و آله الذي هو خاتم الأنبياء هو شهيد على جميع الأنبياء والامم.

______________________________

(1) التعبير ب «نزعنا» التي تعني جذب الشي ء من مقرّه، هي إشارة إلى إحضار الشهود من بين كل جماعة وامّة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 526

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَ ابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَ لَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَ أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ

الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

الثّري الإسرائيلي البخيل: جاء تفصيل قصة موسى عليه السلام العجيبة ومواجهاته ومواقفه مع فرعون في قسم كبير من الآيات السابقة في هذه السورة .. وفي القسم الآخر من آيات هذه السورة، وقع الكلام على مواجهة بني إسرائيل مع رجل ثري منهم يدعى «قارون».

المعروف أنّ «قارون» كان من أرحام موسى وأقاربه (ابن عمه أو ابن خالته) وكان عارفاً بالتوراة، وكان في بداية أمره مع المؤمنين، إلّاأنّ غرور الثروة جرّه إلى الكفر ودعاه إلى أن يقف بوجه موسى عليه السلام وأماته ميتة ذات عبرة للجميع، حيث نقرأ شرح ذلك في الآيات التالية. يقول القرآن في شأنه أوّلًا: «إِنَّ قرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ». وسبب بغيه وظلمه إنّه كان ذا ثروة عظيمة، ولأنّه لم يكن يتمتع بإيمان قوي وشخصية متينة فقد غرّته هذه الثروة الكبيرة وجرّته إلى الانحراف والاستكبار.

يصف القرآن ما عنده من ثروة فيقول: «وَءَاتَيْنهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِى الْقُوَّةِ». «المفاتح»: جمع «مفتح» معناه المكان الذي يدخّر فيه الشي ء، كالصندوق الذي يحفظ فيه المال، وهو ما يسميه بعض التجار ب «القاصة». فيكون المعنى: إنّ قارون كان ذا مال كثير ووفير من الذهب والفضة، بحيث كان يصعب حمل صناديقها على الرجال الأشداء «أُولِى الْقُوَّةِ». «تنوأُ»:

مشتقة من «النوء» ومعناه القيام بمشقّة وثقل، وتستعمل في حمل الأثقال التي لها ثقل ووزن كبير، بحيث لو حملها الإنسان لمال إلى أحد جانبيه.

والآن لنرى ما قال بنو إسرائيل لقارون، يقول القرآن في هذا

الصدد: «إِذ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَاتَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْفَرِحِينَ» «1».

______________________________

(1) «الفرحين»: جمع الفرح، وتعني من يكون مغروراً على أثر تملكه الشي ء ومتكبراً بطراً منتشياً من ريح النّصر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 527

ثم يقدمون له أربع نصائح قيّمة اخرى ذات تأثير مهم على مصير الإنسان، بحيث تتكامل لديه حلقة خماسية من النصائح مع ما تقدم من قولهم له: «لَاتَفْرَحْ».

فالنصيحة الاولى قولهم له: «وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَيكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأَخِرَةَ». وهذا إشارة إلى أنّ المال والثروة ليس أمراً سيئاً كما يتصوره بعض المتوهمين، المهم أن تعرف فيم يستعمل المال، وفي أي طريق ينفق.

وكان قارون رجلًا ذا قدرة على الأعمال الاجتماعية الكبيرة بسبب أمواله الطائلة، ولكن ما الفائدة منها وقد أعماه غروره عن النظر إلى الحقائق.

والنصيحة الثانية قولهم له: «وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا». والآية تشير إلى مسألة واقعية، وهي أنّ لكل فرد منّا نصيباً من الدنيا، فالأموال التي يصرفها على بدنه وثيابه ليظهر بمظهر لائق هي أموال محدودة، وما زاد عليها لا تزيد مظهره شيئاً، وعلى الإنسان أن لا ينسى هذه الحقيقة ... فالإنسان ... كم يستطيع أن يأكل من الطعام؟ وكم يستطيع أن يلبس من الثياب؟ وكم يمكن أن يحوز من المساكن والمراكب؟ وإذا مات وكم يستطيع أن يأخذ معه من الأكفان؟ فالباقي- إذن- رضي أم أبى هو من نصيب الآخرين.

وما أجمل قول الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة حيث يقول: «يابن آدم ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك».

والنصيحة الثالثة هي: «وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ».

وبتعبير آخر: كما أنّ اللَّه تفضل عليك وأحسن، فأحسن أنت إلى الناس.

والنصيحة الرابعة والأخيرة أن لا تغرنّك هذه الأموال والإمكانات المادية فتجرّك إلى الفساد: «وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ

إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».

وهذا أيضاً حقيقة واقعية اخرى، إنّ كثيراً من الأثرياء وعلى أثر جنون زيادة المال- أحياناً- أو طلباً للاستعلاء، يفسدون في المجتمع، فيجرّون إلى الفقر والحرمان، ويحتكرون جميع الأشياء في أيديهم.

والآن لنلاحظ ما كان جواب هذا الإنسان الباغي والظالم الإسرائيلي لجماعته الواعظين له.

فأجابهم قارون بتلك الحالة من الغرور والتكبر الناشئة من ثروته الكبيرة، و «قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى».

هذا لا يتعلق بكم، وليس لكم حق أن ترشدوني إلى كيفية التصرف بمالي.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 528

وهنا يجيب القرآن على قول قارون وأمثاله من المتكبرين الضالين، فيقول: «أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهَ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا».

أتقول: «إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى» ونسيت من كان أكثر منك علماً وأشدّ قوّة وأثرى مالًا، فهل استطاعوا أن يفروا من قبضة العذاب الإلهي؟!

وفي ختام الآية إنذار ذو معنى كبير آخر لقارون، جاء في غاية الإيجاز: «وَلَا يُسَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ».

بعبارة اخرى: أنّ العلماء من بني إسرائيل نصحوا قارون هذا اليوم وكان لديه مجال والجواب، لكن بعد إتمام الحجة ونزول العذاب الإلهي، عندئذ لا مجال للتفكير والجواب، فإذا حلّ العذاب الإلهي بساحته فهو الهلاك الحتمي.

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً وَ لَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ

وَ يَقْدِرُ لَوْ لَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)

جنون الثروة: المعروف أنّ أصحاب الثروة يبتلون بأنواع الجنون ... وواحد منها «جنون عرض الثروة وإظهارها» فهؤلاء يشعرون باللذة عندما يعرضون ثروتهم على الآخرين، فإنّ قارون لم يكن مستثنى من هذا القانون، بل كان يعدّ مثلًا بارزاً له، والقرآن يتحدث عنه في جملة موجزة في بعض آياته فيقول: «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ». امام قومه من بني اسرائيل.

وجملة «في زينته» ناطق عن هذه الحقيقة، وهي أنّه أظهر جميع قدرته وقوّته ليبدي ما لديه من زينة وثروة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 529

هنا أصبح الناس طائفتين- بحسب العادة فطائفة وهم الأكثرية- من عبدة الدنيا- أثارهم هذا المشهد، فاهتزت قلوبهم ... «قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قرُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ».

وأمام هذه الطائفة التي ذكرناها آنفاً طائفة اخرى من العلماء والمتقين الورعين، فهؤلاء كانوا هناك، وكان لهم موقف آخر من قارون، وكما يعبر عنهم القرآن «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا». ثم أردفوا مؤكّدين: «وَلَا يُلَقهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ».

في الدر المنثور عن ابن عباس أنّ قارون كان من قوم موسى، قال: كان ابن عمه وكان يبتغي العلم حتى جمع علماً فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده.

فقال له موسى عليه السلام: إنّ اللَّه أمرني أن آخذ الزكاة فأبى. فقال: إنّ موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن ارسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنّه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها:

نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنّه فجر بك. قالت:

نعم.

فجاء قارون إلى موسى عليه السلام قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربّك قال: نعم. فجمعهم فقالوا له: بم أمرك ربّك؟ قال:

أمرني أن تعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئاً وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم. قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا: فإنّك قد زنيت، قال: أنا؟

فأرسلوا إلى المرأة فجاءت، فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى عليه السلام أنشدتك باللَّه إلّاما صدقت. قالت: أمّا إذا نشدتني فإنّهم دعوني وجعلوا لي جعلًا على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنّك بري ء وأنّك رسول اللَّه.

فخرّ موسى عليه السلام ساجداً يبكي فأوحى اللَّه إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى. فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيّبتهم فأوحى اللَّه: «يا موسى سألك عبادي وتضرّعوا إليك فلم تجبهم فو عزّتي لو أنّهم دعوني لأجبتهم» «1».

______________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 16/ 83.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 530

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: «فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ».

يا للعجب ... ففرعون يهوي في ماء النيل ... وقارون في أعماق الأرض.

الماء الذي هو سرّ الحياة وأساسها يكون مأموراً بهلاك فرعون، والأرض التي هي مهاد الاطمئنان والدعة تنقلب قبراً لقارون واتباعه. ومن البديهي أنّ قارون لم يكن لوحده في ذلك البيت فقد كان معه أعوانه وندماءه ومن أعانه على ظلمه وطغيانه، وهكذا توغلوا في أعماق الأرض جميعاً. «فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ».

أمّا آخر آية-

محل البحث- فتحكى عن التبدل العجيب لأولئك الذين كانوا يتفرجون على استعراض قارون بالأمس ويقولون: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، وما شابه ذلك. وإذا هم اليوم يقولون: واهاً له، فإنّ الرزق بيد اللَّه؛ «وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ».

لذلك شكروا اللَّه على هذه النعمة وقالوا: «لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَايُفْلِحُ الْكفِرُونَ». فالآن نرى الحقيقة بأعيننا، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة.

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَ لَا فَسَاداً وَ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)

نتيجة حبّ التسلط والفساد في الأرض: بعد البيان المثير لما حدث لثري مستكبر ومتسلط، وهو قارون، تبدأ الآية الاولى من هذا المقطع ببيان استنتاج كلي لهذا الواقع وهذا الحدث، إذ تقول الآية: «تِلْكَ الدَّارُ الْأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَايُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا».

إنّ ما يكون سبباً لحرمان الإنسان من مواهب الدار الآخرة، هو هذان الأمران: «الرغبة في العلو» أي الاستكبار؛ و «الفساد في الأرض» وهما الذنوب.

ويقول القرآن في نهاية الآية: «وَالْعقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ». و «العاقبة» بمفهومها الواسع هي النتيجة الصالحة، وهي الإنتصار في هذه الدنيا، والجنّة ونعيمها في الدار الاخرى ...

مختصر الامثل، ج 3، ص: 531

وبعد ذكر هذه الواقعية، وهي أنّ الدار الآخرة ليست لمن يحب السلطة والمستكبرين، بل هي للمتقين المتواضعين وطلبة الحق، تأتي الآية الثانية لتبيّن قانوناً كلّياً وهو مزيج بين العدالة والتفضل، ولتذكر ثواب الإحسان. فتقول: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا».

وهذه هي مرحلة التفضل، أي أنّ اللَّه سبحانه لا يحاسب الناس كما

يحاسب الإنسان نظيره بعين ضيّقة، فإذا أراد الإنسان أن يعطي أجر صاحبه فإنّه يسعى أن يعطيه بمقدار عمله، إلّاأنّ اللَّه قد يضاعف الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعفها بمئات الأمثال وربّما بالآلاف، إلّاأنّ أقلّ ما يتفضل اللَّه به على العبد أن يجازيه عشرة أضعاف حسناته، حيث يقول القرآن في الآية (160) من سورة الأنعام: «مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا».

ثم يعقّب القرآن ليذكر جزاء المسيئين فيقول: «وَمَن جَاءَ بِالسَّيّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

وهذه هي مرحلة العدل الإلهي، لأنّ المسي ء لا يجازى إلّابقدر إساءته، ولا تضاف على إساءته أيّة عقوبة.

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَ مَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ (86) وَ لَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ ادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَ لَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَ لَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: لما نزل النبي صلى الله عليه و آله بالجحفة في مسيره إلى المدينة، لما هاجر إليها، اشتاق إلى مكة فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال: أتشتاق إلى بلدك وهو مولدك؟! فقال: نعم. قال جبرائيل: فإنّ اللَّه يقول: «إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ» «1». يعني مكة ... ونعلم إنّ هذا الوعد العظيم تحقق أخيراً.

______________________________

(1) راجع تفسير الميزان، تفسير القرطبي، ومجمع البيان، «التّفسير الكبير» للفخر الرازي، وتفاسير غيرها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 532

فعلى هذا تعدّ الآية

آنفة الذكر من الإخبار الإعجازي السابق لوقوعه، إذ أخبر القرآن عن رجوع النبي صلى الله عليه و آله إلى مكة بصورة قطعية ودون أيّ قيد وشرط، ولم تطل المدّة حتى تحقق هذا الوعد الإلهي الكبير.

التّفسير

الوعد بعودة النبي إلى حرم اللَّه الآمن: قلنا: إنّ الآية الاولى من هذه الآيات طبقاً لما هو مشهور بين المفسرين نزلت في «الجحفة» في مسير النبي صلى الله عليه و آله، إلى المدينة إذ كان متوجهاً إلى يثرب لتتحول بوجوده إلى «مدينة الرسول» ... لكن هذا الحنين والشوق والتعلق بمكة يؤلمه كثيراً، وليس من اليسير عليه الإبتعاد عن حرم اللَّه الآمن.

وهنا يشرق في قلبه الطاهر نور الوحي، ويبشّره بالعودة إلى وطنه الذي ألفه فيقول: «إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ». فلا تكترث ولا تُذهب نفسك حسرات، فاللَّه الذي أعاد موسى إلى امّه هو الذي أرجعه أيضاً إلى وطنه بعد غياب عشر سنوات في مدين.

هو اللَّه سبحانه الذي يردك إلى مكة بكل قوة وقدرة، ويجعل مصباح التوحيد على يدك مشرقاً في هذه الأرض المباركة.

ثم يضيف القرآن في خطابه للنبي صلى الله عليه و آله، أن يجيب على المخالفين الضالين بما علّمه اللَّه: «قُلْ رَّبّى أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

إنّ طريق الهداية واضح، وضلالهم بيّن، وهم يتعبون أنفسهم عبثاً، فاللَّه يعرف ذلك جيداً، والقلوب التي تعشق الحق تعرف هذه الحقيقة أيضاً.

أمّا الآية التالية فتتحدث عن نعمة اخرى من نعم اللَّه العظيمة على النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتبُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبّكَ».

ثم يضيف القرآن في خطابه للنبي صلى الله عليه و آله أن طالما كنت في هذه النعمة: «فَلَا

تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لّلْكفِرِينَ».

ومن المسلّم به أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يكن ظهيراً للكافرين أبداً، إلّاأنّ الآية جاءت في مقام التأكيد على النبي صلى الله عليه و آله وبيان المسؤولية للآخرين.

وفي هاتين الآيتين أربعة أوامر من اللَّه لنبيّه صلى الله عليه و آله، وأربعة صفات للَّه تعالى، وبها يكتمل ما ورد في هذه السورة من أبحاث.

يقول أوّلًا: «وَلَا يَصُدَّنَّكَ عَن ءَايتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 533

إِلَيْكَ». وبالرغم من أنّ النهي موجه إلى الكفار، إلّاأنّ مفهوم الآية عدم تسليم النبي صلى الله عليه و آله أمام صدّ الكافرين، وإحباطهم ومؤامراتهم.

وبهذا الأسلوب يأمر اللَّه النبي صلى الله عليه و آله أن يقف راسخ القدم عند نزول الآيات ولا يتردد في الأمر، وأن يزيل الموانع من قارعة الطريق مهما بلغت، ولْيَسر نحو هدفه مطمئناً، فإنّ اللَّه حاميه ومعه أبداً.

وبعد هذا الخطاب الذي فيه جنبة نهي، يأتي الخطاب الثاني وفيه سمة إثبات فيقول: «وَادْعُ إِلَى رَبّكَ» .. فاللَّه الذي خلقك وهو الذي ربّاك ورعاك ...

والأمر الثالث، بعد الأمر بتوحيد اللَّه، هو نفي جميع أنواع الشرك وعبادة الأصنام «وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

والأمر الرابع تأكيد آخر على نفي جميع أنواع الشرك، إذ يقول تعالى: «وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ».

وهذه الأوامر المتتابعة كل واحد منها يؤكّد الآخر، يوضح أهمية التوحيد في المنهج الإسلامي، إذ بدونه يكون كل عمل زيفاً ووهماً.

وبعد هذه الأوامر الأربعة تأتي أوصاف أربعة للَّه سبحانه، وهي جميعاً تأكيد على التوحيد أيضاً:

فالأوّل قوله: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ».

والثاني قوله: «كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ».

والوصف الثالث: «لَهُ الْحُكْمُ» والحاكمية في عالمي التشريع والتكوين.

والرابع: أنّ معادنا إليه «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

والأوصاف الثلاثة الأخيرة يمكن أن تكون دليلًا على إثبات التوحيد وترك جميع

أنواع عبادة الأصنام، الذي أشير إليه في الوصف الأوّل.

«نهاية تفسير سورة القصص»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 535

29 سورة العنكبوت

محتوى السورة: إنّ أبحاث هذه السورة تتلخص في أربعة أقسام:

1- في البداية يتحدث عن مسألة «الامتحان»، وموضوع «المنافقين»، وهذان الأمران متلازمان لا يقبلان الإنفكاك.

2- وقسم آخر من هذه السورة هو لتسلية قلب النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين القلّة الأوائل، عن طريق بيان جوانب من حياة الأنبياء العظام السابقين، أمثال نوح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام وعواقبهم؛ إذ واجهوا أعداءً ألدّاء أمثال نمرود وطواغيت المال البخلاء.

3- ثم يتحدث عن التوحيد ودلائل اللَّه في عالم خلقه، والمواجهة مع المشركين، ويدعوا الفطرة والوجدان إلى الإحتكام والقضاء الحق.

4- وفي قسم آخر من هذه السورة، ففيه مباحث متنوعة عن عجز الأصنام المصنوعة التي تعبد من دون اللَّه، وعبادها الذين مثلهم كمثل العنكبوت، وبيان عظمة القرآن، ودلائل حقانية نبي الخاتم، ولجاجة المخالفين، كما تتعرض لسلسلة من المسائل التربوية أمثال: الصلاة، والعمل الصالح، والإحسان إلى الوالدين، وأسلوب مناقشة المخالفين، وما إلى ذلك.

وتسمية السورة هذه ب «العنكبوت» مأخوذة من الآية (41) من هذه السورة، التي تشبّه عبدة الأوثان من دون اللَّه بالعنكبوت، التي تبني بيتها من نسيجها، وهو أوهن البيوت.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 536

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين».

وفي ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو واللَّه من أهل الجنة، لا أستثني فيه أبداً، ولا أخاف أن يكتب اللَّه عليّ في يميني إثماً، وإنّ لهاتين السورتين من اللَّه مكاناً».

ولا

شك أنّ محتوى هاتين السورتين الغزير، والدروس العملية المهمة منها في التوحيد، وما إلى ذلك، كلّه كاف لأن يسوق أيّ إنسان ذي لب وفكر وعمل إلى الجنة والخلود فيها.

الم (1) أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)

نواجه في بداية هذه السورة الحروف المقطعة «الم» أيضاً .. وقد بيّنا تفسيرها عدة مرات من وجوه مختلفة «1».

وبعد هذه الحروف المقطعة يشير القرآن إلى واحدة من أهم مسائل الحياة البشرية، وهي مسألة الشدائد والضغوط والامتحان الإلهي فيقول أوّلًا: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَايُفْتَنُونَ» «2».

ثم يذكر القرآن هذه الحقيقة- بعد الآية المتقدمة مباشرة- وهي أنّ الامتحان سنة إلهية دائمية جارية في جميع الأمم المتقدمة، إذ يقول: «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ».

ووقعوا أيضاً- تحت تأثير ضغوط الأعداء القساة والجهلة المعاندين ..

وينبغي أن يكون الأمر كذلك، لأنّه في مقام الإدعاء يمكن لكل أحد أن يذكر عن نفسه أنّه أشرف مجاهد وأفضل مؤمن وأكثر الناس تضحيةً .. فلابدّ من معرفة قيمة هذه الإدعاءات بالامتحان، وينبغي أن تعرف النيات والسرائر إلى أي مدى تنسجم مع هذه الادعاءات.

______________________________

(1) يراجع بداية تفسير سورة البقرة وبداية سورة آل عمران وبداية تفسير سورة الأعراف.

(2) «يفتنون»: مشتق من «الفتنة» وهي في الأصل وضع الذهب في النّار لمعرفة مقدار خلوصه، ثم أطلق هذا التعبير على كل امتحان ظاهري ومعنوي.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 537

أجل: «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكذِبِينَ».

من البديهي أنّ اللَّه يعرف جميع هذه الامور جيداً- قبل أن يخلق الإنسان- إلّاأنّ المراد من العلم هنا هو ظهور الآثار والشواهد العملية ... ومعناه أنّه ينبغي

أن يرى علم اللَّه في هذه المجموعة عملياً في الخارج، وأن يكون لها تحقق عيني.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)

لا مهرب من سلطان اللَّه: كان الكلام في الآيات السابقة عن امتحان المؤمنين الشامل، والآية الاولى من الآيات أعلاه تهديد شديد للكفّار والمذنبين، لئلا يتصوروا أنّهم حين يضيّقون على المؤمنين ويضغطون عليهم دون أن يعاقبهم اللَّه فوراً، فإنّ اللَّه غافل عنهم أو عاجز عن عذابهم، تقول الآية هذه: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ». فلا ينبغي أن يغرّهم إمهال اللَّه إيّاهم فهو امتحان لهم، كما أنّه فرصة للتوبة والعودة إلى ساحة اللَّه تعالى.

ثم يتحدث القرآن مرّة اخرى عن سير المؤمنين ومناهجهم، ويقدم النصح لهم، فيقول: «مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ». فعليه أن يعمل ما في وسعه على امتثال الأوامر الإلهية والأحكام الشرعية، لأنّ الوقت المعين سيأتي حتماً «فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَأَتٍ».

ثم إنّ اللَّه سبحانه يسمع أحاديثكم، وهو مطلع على أعمالكم ونيّاتكم ... لأنّه «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

إنّ «لقاء اللَّه» في يوم القيامة ليس لقاءاً حسيّاً بل نوعاً من الشهود الباطني.

وكما يقول العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان: إنّ المقصود من لقاء اللَّه، هو أنّ العباد يكونون في موقف لا يكون بينهم وبين اللَّه حجاب، لأنّ طبيعة يوم القيامة هي ظهور الحقائق كما يقول القرآن: «وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ». سورة النور الآية (25).

أمّا الآية التي تليها

فهي تعليل لما سبق بيانه في الآية الآنفة، إذ تقول: إنّ على المؤمنين

مختصر الامثل، ج 3، ص: 538

الذين يرغبون في لقاء اللَّه السعي بما اوتوا من قدرة وقابلية من أجل ذلك فإنّ نتيجة كل ذلك السعي والجهاد وتحمل الشدائد ترجع ثمارها للعامل نفسه: «وَمَن جهَدَ فَإِنَّمَا يُجهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ». إنّ خطة الامتحان الإلهي هي الجهاد، جهاد النفس وهواها، وجهاد الأعداء الألداء، لحفظ الإيمان والتقوى والطهارة، ونفع ذلك يعود للإنسان ...

و آخر آية- محل البحث- توضيح لما تقدم ذكره في الآية السابقة بشكل مبهم تحت عنوان الجهاد، فهنا يكشف القرآن حقيقة الجهاد فيقول: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيَاتِهِمْ».

إذن أوّل فائدة كبيرة لهذا الجهاد الكبير (وهو الإيمان والعمل الصالح) هي تكفير الذنوب وسترها على الإنسان، كما أنّ الثواب سيكون من نصيبهم، كما يقول القرآن في نهاية هذه الآية أيضاً: «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ».

«نكفّر»: مشتقة من مادة «تكفير» ومعناها في الأصل التغطية والستر، والمقصود بتغطية الذنوب هنا عفو اللَّه وصفحه.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)

سبب النّزول

وردت روايات مختلفة في شأن نزول الآية الآنفة الذكر، ومضمون الجميع واحد وهي أنّ

بعض الرجال الذين كانوا في مكة وأسلموا «1»، حين سمعت امهاتهم بذلك صممن على أن لا يتناولن طعاماً ولا يشربن ماءً حتى يرجع أبناؤهن عن الإسلام، وبالرغم من أنّ أية واحدة من هؤلاء الامهات لم تف بقولها، ورجعت عن إضرابها عن الطعام، إلّاأنّ الآية المتقدمة نزلت لتوضح للجميع اسلوب المعاملة بين الأبناء والآباء والامهات، في مجال الكفر والإيمان.

______________________________

(1) ورد في بعض الروايات اسم (سعد بن أبي وقاص) وفي بعضها اسم (عياش بن أبي ربيعة المخزومي).

مختصر الامثل، ج 3، ص: 539

التّفسير

أفضل الوصايا بالنسبة للوالدين: إنّ واحداً من أهم الامتحانات الإلهية، هي مسألة «التضاد» بين خط الإيمان والتقوى وبين علاقة العاطفية والقرابة .. والقرآن في هذا المجال يوضح وظيفة المسلمين بجلاء. في البداية يتحدث عن قانون كلي يستمد من جذور العواطف الإنسانية وردّ الجميل فيقول: «وَوَصَّيْنَا الْإِنسنَ بِوَالِدَيْهِ».

إنّ التعبير ب «الإنسان» هنا يلفت النظر .. فهذا القانون لا يختص بالمؤمنين، بل كل من كان جديراً بأن يحمل اسم الإنسان ينبغي أن يكون عارفاً بحق الأبوين ... وأن لا ينسى تكريمهما واحترامهما والإحسان إليهما طيلة عمره .. وإن كان كل ذلك لا يفي بحقوقهما.

بعد ذلك، ومن أجل أن لا يتبادر إلى الذهن أنّ العلاقة العاطفية بالوالدين يمكن أن تكون حاكمةً على العلاقة بين الإنسان وربّه وإيمانه، يأتي استثناء صريح ليوضّح هذا الموضوع في الآية، فيقول تعالى: «وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا».

جملة «مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» إشارة إلى عدم منطقية الشرك، لأنّ الشرك لو كان صحيحاً واقعاً لكان عليه دليل بيّن.

وبتعبير آخر: متى ما لم يعلم الإنسان بشي ء فلا ينبغي أن يتبعه فكيف إذا كان يعلم ببطلانه؟ فهذا الاتباع هو اتّباع للجهل، فلو

أنّ الوالدين أمراك باتباع الجهل فلا تطعهما.

ثم يضيف تعالى في نهاية الآية: «إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

وهذه الجملة تهديد لُاولئك الذين يسيرون في طريق الشرك، والذين يدعون الآخرين إلى هذا الطريق ..

و الآية التي بعدها تؤكّد الحقيقة في اولئك المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وتكرر هذا المضمون أيضاً: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ».

وأساساً فإنّ عمل الإنسان يترك في الإنسان أثره .. فالعمل الصالح يصبغ الإنسان بلونه ويدخله في زمرة «الصالحين».

كما أنّ العمل السي ء يدخله في زمرة «الخاطئين والمسيئين».

إنّ الكلام في الآيات المتقدمة كان عن غفران الذنوب وتكفير السيئات وما يستحقه المؤمنون من الجزاء، إلّاأنّه هنا إشارة عن مقامهم الرفيع الذي هو في نفسه ثواب آخر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 540

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَ مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَ لَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)

شركاء في الإنتصار أمّا في الشدة فلا: حيث إنّ الآيات المتقدمة تحدثت عن المؤمنين الصالحين والمشركين بشكل صريح، ففي الآيات الاولى من هذا المقطع يقع الكلام على الفريق الثالث- أي المنافقين- فيقول القرآن فيهم: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِىَ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ». فلا يصبرون على الأذى والشدائد، ويحسبون تعذيب المشركين لهم وأذى الناس أنّه عذاب من اللَّه

«وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ». فنحن معكم في هذا الافتخار والفتح.

ترى هل يظنون أنّ اللَّه خفيّ عليه ما في أعماق قلوبهم فلا يعرف نيّاتهم «أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ».

ولعل التعبير ب «آمنّا» بصيغة الجمع، مع أنّ الجملة التي تليه جاءت بصيغة المفرد، هو من جهة أنّ هؤلاء المنافقين يريدون أن يقحموا أنفسهم في صف المؤمنين، فلذلك يقولون «آمنّا» أي آمنّا كسائر الناس الذين آمنوا.

وجملة «أُوذِىَ فِى اللَّهِ» معناه أوذي في سبيل اللَّه، أي إنّهم قد يتعرض لهم العدوّ- أحياناً- وهم في سبيل اللَّه والإيمان فيؤذيهم.

وفي الآية التالية- لمزيد التأكيد- يضيف القرآن قائلًا: «وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ». فلو تصوروا أنّهم إذا أخفوا الحقائق فإنّهم سيكونون في منأى عن علم اللَّه فهم في خطأ كبير جدّاً.

إنّ التعبير بالمنافقين لها معنى واسع، ويشمل حتى الأفراد ضعاف الإيمان الذين يبدّلون عقيدتهم لأدنى مكروه يصيبهم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 541

و الآية الاخرى بعدها تشير إلى منطق المشركين الخاوي والملتوي، الذي لا يزال موجوداً في طبقات المجتمع الواسعة فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلَنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ».

واليوم نرى كثيراً من الخبثاء يقولون للآخرين عند دعوتهم إلى أمر: إن كان فيه ذنب فعلى رقابنا في حين أنّنا نعلم أنّه لا يمكن لأحد أن يتحمل وزر أحد، فاللَّه عادل سبحانه ولا يؤاخذ أحداً بجرم الآخر.

لذلك فإنّ القرآن يقول بصراحة في الجملة التالية: «وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَىْ ءٍ إِنَّهُمْ لَكذِبُونَ».

وبعد ذلك، ومن أجل أن لا يتصور أنّ هؤلاء الدعاة للكفر والشرك وعبادة الأصنام والظلم، لا شي ء عليهم من العقاب لهذا العمل، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلًا: «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ أَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ».

وثقل الذنب

هذا ... هو ثقل ذنب الإغراء والإغواء وحث الآخرين على الذنب، وهو ثقل السنّة التي عبّر عنها النبي صلى الله عليه و آله فقال: «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شي ء» «1».

وتختتم الآية بالقول: «وَلَيُسَلُنَّ يَوْمَ الْقِيمَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ».

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَ هُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَ جَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)

______________________________

(1) التفسير الكبير 25/ 40.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 542

إشارة لقصّتي نوح وإبراهيم: لما كان الكلام في البحوث السابقة عن الإمتحانات العامة في الناس، فإنّ الكلام هنا- وفي ما بعد- يقع على الإمتحانات الشديدة للأنبياء.

تبدأ الآيات أوّلًا بالكلام على أوّل نبي من أولي العزم وهو نوح عليه السلام وتتحدث عنه بعبارات موجزة، لتُجمل قسماً من حياته التي تناسب- كثيراً- الواقع الراهن للمسلمين- آنئذ- فتقول: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا».

كان نوح مشغولًا ليل نهار بالتبليغ ودعوة قومه إلى توحيد اللَّه- فرادى ومجتمعين، مستفيداً من جميع الفرص في هذه المدة الطويلة (أي تسعمائة وخمسين عاماً) يدعوهم إلى

اللَّه ... ولم يشعر بالتعب والنصب من هذا السعي المتتابع ولم يظهر عليه الضعف والفتور.

ومع كل هذا الجهد الجهيد لم يؤمن به إلّاجماعة قليلة في حدود الثمانين شخصاً كما تنقل التواريخ (أي: بمعدّل نفر واحد لكل اثنتي عشرة سنة).

فعلى هذا لا تظهروا الضعف والتعب في سبيل الدعوة إلى الحق ومواجهة الانحرافات، لأنّ منهجكم أمام منهج «نوح» سهل للغاية.

لكن لاحظوا كيف كانت عاقبة قوم نوح الظالمين الألدّاء: «فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ».

ويضيف القرآن الكريم في الآية الاخرى: «فَأَنجَيْنهُ وَأَصْحبَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا ءَايَةً لّلْعَالَمِينَ».

ثم يعقّب على قصة نوح وقومه التي وردت بشكل مضغوط، ويأتي بقصة إبراهيم عليه السلام، ثاني الأنبياء الكبار من أولي العزم فيقول: «وَإِبْرهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ». إذ ينجيكم من دنياكم الملوّثة بالذنوب والشقاء، وتكون آخرتكم هي السعادة الأبدية.

ثم يذكر إبراهيم عليه السلام أدلة بطلان عبادة الأصنام والأوثان، ويبيّن في تعابير مختلفة يتضمن كل منها دليلًا على فساد مذهبهم وبطلانه فيقول أوّلًا: «إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا».

الأصنام التي ليس لها إرادة، ولا عقل، وهي فاقدة لكل شي ء، بحيث إنّ شكلها بنفسه هو دليل على بطلان عقيدة «عبادة الأوثان».

ثم يتوسع في حديثه ويمضي إلى مدى أبعد فيقول: ليست هذه الأوثان بهيئتها تدل على أنّها لا تستحق العبادة فحسب، بل أنتم تعلمون بأنّكم تكذبون وتضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان: «وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 543

ثم يبيّن الدليل الثالث وهو أنّ عبادتكم لهذه الأوثان إمّا لأجل المنافع المادية، أو لعاقبتكم في «الاخرى» وكلا الهدفين باطل ... وذلك: «إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَايَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا».

وأنتم تعتقدون بأنّ هذه الأصنام لم تكن خلقتكم، بل الخالق هو اللَّه، فالذي

يتكفل بالرزق هو اللَّه، «فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ».

ولأنّه هو الذي يرزقكم فتوجهوا إليه «وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ».

وإذ كنتم تبتغون الدار الاخرى فإنّه «إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

فالأصنام لا تصنع شيئاً هنا ولا هناك.

وبهذا الأدلة الموجزة والواضحة ألجم منطقهم الواهي وأفحمهم.

ثم يلتفت إبراهيم عليه السلام مهدّداً لهم ومبدياً عدم اكتراثه بهم قائلًا: «وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ» كذبوا أنبياءهم فنالوا الخزي بتكذيبهم والعاقبة الوخيمة «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلغُ الْمُبِينُ» سواءً استجاب له قومه، أم لم يستجيبوا له دعوته وبلاغه.

والمقصود بالامم قبل امة إبراهيم عليه السلام، امة نوح عليه السلام وما بعده من الامم.

والقرآن يترك قصة إبراهيم هنا مؤقتاً، ويكمل البحث الذي كان لدى إبراهيم في صدد التوحيد وبيان رسالته بدليل المعاد، فيقول: «أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ». أي كيف لا يعرف هؤلاء خلق اللَّه؟ فالذي له القدرة على الإيجاد أوّلًا قادر على إعادته أيضاً.

ويضيف في آخر الآية على سبيل التأكيد: «إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ». لأنّ تجديد الحياة قبال الإيجاد الأوّل يُعدّ أمراً بسيطاً.

وطبيعي أنّ هذا التعبير يناسب منطق الناس وفهمهم، وإلّا فإنّ اليسير والعسير لا مفهوم لهما عند من قدرته غير محدودة والمطلقة.

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لَا فِي السَّمَاءِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا نَصِيرٍ (22) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَ لِقَائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 544

الآيسون من رحمة اللَّه: هذه الآيات تواصل البحث

في المعاد أيضاً، فإنّ القرآن يدعو في الآية الاولى من هذا المقطع الناس إلى «السير في الآفاق» في مسألة المعاد ... في حين أنّ الآية السابقة كانت السمة فيها «السير في الأنفس» أكثر. يقول القرآن:

«قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ». انظروا إلى أنواع الموجودات الحية، والاقوام والامم المتنوعة والمختلفة، وكيف أنّ اللَّه تعالى خلقها أولًا، ثم إنّ اللَّه نفسه الذي أوجدها في البداية من العدم قادر أيضاً على ايجادها في الآخرة: «ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْأَخِرَةَ» ولأنّه أثبت قدرته على كل شي ء حين خلق الخلق أوّلًا، إذن ف «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

فهذه الآية والآية التي قبلها- أيضاً- أثبتتا بواسطة قدرته الواسعة إمكان المعاد ..

«النشأة»: في الأصل، تعني إيجاد الشي ء وتربيته، وقد يعبر أحياناً عن الدنيا بالنشأة الاولى، كما يعبر عن الاخرى بالنشأة الآخرة.

ثم يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد، وهي مسألة الرحمة والعذاب، فيقول: «يُعَذّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ».

ومع أنّ رحمة اللَّه مقدمة على غضبه، إلّاأنّ الآية هنا تبدأ أوّلًا بذكر العذاب ثم الرحمة، لأنّها في مقام التهديد، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الاسلوب.

وإكمالًا لهذا البحث الذي يبيّن أنّ الرحمة والعذاب هما بيد اللَّه والمعاد إليه، يضيف القرآن: إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان اللَّه وحكومته ولا يمسّكم عذابه، فأنتم في خطأ كبير ... فليس الأمر كذلك؛ «وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ» «1».

وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك، فهذا خطأ محضٌ أيضاً: «وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ».

وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين .. لذلك يقول في الآية التي

بعدها بشكل قاطع: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَايتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولئِكَ يِسُوا مِنْ رَّحْمَتِى». ثم يضيف مؤكداً: «وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

هذا «العذاب الأليم» هو لزم اليأس من رحمة اللَّه.

______________________________

(1) «معجزين»: مشتقة من مادة «عجز»، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشي ء، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث على التخلف والتأخر؛ «المعجزة»: معناه الذي يجعل الآخر عاجزاً، وحيث إنّ الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته، يعجزونه عن ملاحقتهم، لذلك استعملت كلمة «معجز» في هذا الصدد أيضاً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 545

والمراد ب «آيات اللَّه» هي جميع الآيات في عالم الوجود والتشريع.

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَ قَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْوَاكُمُ النَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتَابَ وَ آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)

اسلوب المستكبرين في جوابهم لإبراهيم: والآن علينا أن نعرف ماذا قال هؤلاء القوم الضالون لإبراهيم عليه السلام ردّاً على أدلته الثّلاثة في مجال التوحيد والنبوة والمعاد؟!

إنّهم- قطعاً- لم يكن لديهم جواب منطقي وكجميع الأقوياء المستكبرين فقد توسلوا بقدراتهم الشيطانية وأصدروا أمراً بقتله، حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم فيقول: «فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ».

وأخيراً رُجح الرأى الأوّل، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أشدّ حالات الإعدام هو الإحراق بالنار.

وفي هذه الآية الكريمة لم يرد

كلام عن كيفية إحراق إبراهيم عليه السلام بالنار سوى هذا المقدار الذي استكملت به الآية الكريمة، وهو «فَأَنجهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ».

غير أنّ تفصيل ما جرى عليه من الإحراق ورد في سورة الأنبياء الآيات (68- 70) وقد بيّنا ذلك هناك، فلا بأس بمراجعته.

ويضيف القرآن في الختام: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

إنّ ابراهيم عليه السلام نجّي من النار بصورة خارقة للعادة وبلطف اللَّه سبحانه، غير أنّه لم يترك أهدافه .. بل نهض بالأمر وازداد همّة وأعطى لأهدافه حرارة أكثر.

ثم توجه إبراهيم إلى المشركين، «وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 546

الْحَيَوةِ الدُّنْيَا». ولكن هذه المودة والمحبة تتلاشى في الآخرة، «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَيكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نصِرِينَ».

إنّ عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزاً للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة، كما تربط بينهم وبين اسلافهم. ثم بعد هذا كلّه فإنّ سراة الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان، وكان هذا الأمر بمثابة «حلقة الاتصال» بين السراة والأتباع.

ولكن هذه العلائق والوشائج والإرتباطات الخاوية تتقطع جميعها يوم القيامة.

وفي الآية التي بعد تلك الآية إشارة إلى إيمان لوط وهجرة إبراهيم، إذ تقول: «فَامَنَ لَهُ لُوطٌ».

«لوط» نفسه من الأنبياء العظام، وكانت له مع إبراهيم علاقة قربى «يقال إنّه كان ابن أخت ابراهيم عليه السلام» وحيث إنّ اتّباع شخص عظيم- لإبراهيم- بمنزلة أفراد امة كاملة فقد تحدث سبحانه- خاصةً- عن إيمان «لوط» وشخصيته الكبرى المعاصرة لإبراهيم عليه السلام، ليتّضح أنّه إذ لم يؤمن الآخرون، فإنّ ذلك ليس مهماً.

ثم تضيف الآية عن هجرة إبراهيم عليه السلام، فتقول: «وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

فلذلك تحرك ابراهيم عليه السلام

وزوجه سارة- بمعيّة لوط- من بابل إلى أرض الشام مهد الأنبياء والتوحيد، ليستطيع أن يكتسب جماعة هناك ويوسع دعوة التوحيد.

وفي آخر آية من هذا المقطع يقع الكلام على المواهب الأربع التي منحها اللَّه لإبراهيم عليه السلام بعد الهجرة العظيمة:

الموهبة الاولى: الأبناء الصالحون، من أمثال إسحاق ويعقوب، ليسرجوا مصباح الإيمان والنبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليه، إذ يقول القرآن: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحقَ وَيَعْقُوبَ». وهما نبيّان كبيران واصل كل منهما السير على منهاج إبراهيم محطم الأصنام.

الموهبة الثانية: «وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتبَ».

الموهبة الثالثة: «وَءَاتَيْنهُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا». فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعلّه إشارة إلى امور مختلفة مثل الاسم الحسن، ولسان الصدق والثناء بين جميع الامم، لأنّ الامم كلها تحترم إبراهيم عليه السلام على أنّه نبي عظيم الشأن، ويفتخرون بوجوده ويسمونه «شيخ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 547

الأنبياء».

الموهبة الرابعة، هي: «وَإِنَّهُ فِى الْأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ». وهكذا تشكّل هذه المواهب مجموعة كاملة من المفاخر.

وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

المنحرفون جنسياً: بعد بيان جانب مما جرى لإبراهيم عليه السلام يتحدث القرآن عن قسم من قصة حياة النبي المعاصر لإبراهيم «لوط عليه السلام» فيقول: «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ». «الفاحشة»: مشتقة من مادة «فَحَشَ» وهي في الأصل تعني كل فعل أو كلام سي ء للغاية، والمراد بها هنا الانحراف الجنسي. (اللواط).

لوط عليه السلام هذا النبي العظيم،

كشف أخيراً ما في نفسه وقال لقومه: «أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ». أفتريدون أن تقطعوا النسل «وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ».

ولا ترعوون عن الأعمال المخزية في مجالسكم العامة «وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ».

«النادي»: مشتق من «النداء» وهو يعني المجلس العام، كما يأتي أحياناً بمعنى مكان التنزّه، لأنّ الأفراد هناك ينادي بعضهم بعضاً وترتفع أصواتهم.

ورد في التواريخ: إنّهم كانوا يتسابون بكلمات الفحش والإبتذال، أو يضرب أحدهم الأخر على ظهره، أو يلعبون القمار، ويستعملون أنواع الآلات الموسيقية، ويكشفون عوراتهم في مجتمعهم ويغدون عراة ... الخ «1».

والآن فلنلاحظ ماذا كان جواب هؤلاء القوم الضالين المنحرفين، على كلمات النبي لوط عليه السلام المنطقية. يقول القرآن: «فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصدِقِينَ».

وهنا لم يكن للوط عليه السلام بدّ إلّاأن يلتفت إلى اللَّه بقلب حزين مهموم ... و «قَالَ رَبّ انصُرْنِى

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 548

عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ». القوم المنحرفين، المتمادين في الأرض فساداً، والذين تركوا تقواهم وأخلاقهم الإنسانية وألقوا العفة والطهارة خلف ظهورهم، ومزجوا عبادة الأوثان بفسد الأخلاق والظلم، وهددوا نسل الإنسان بالفناء والزوال.

وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَ لَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قَالُوا لَا تَخَفْ وَ لَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَ لَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

وهذه هي عاقبة

المنحرفين: لقد استجيب دعاء لوط أخيراً، وصدر الأمر من اللَّه تعالى بالعقاب الصارم والشديد لهؤلاء القوم المنحرفين والمفسدين، فمرّ الملائكة المأمورون بعذاب قوم لوط بالأرض التي فيها إبراهيم عليه السلام لأداء رسالة اخرى قبل أن ينزلوا العقاب بقوم لوط، وهذه الرسالة التي سبقت العذاب، هي بشارتهم لإبراهيم عليه السلام بالولد: «بشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب».

والآيات المتقدمة تذكر أوّلًا قصة مرورهم بإبراهيم عليه السلام فتقول: «وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ».

والتعبيرب «هذه القرية» يدل على أنّ مُدن قوم لوط كانت قريبة من أرض إبراهيم عليه السلام.

والتعبير ب «الظالمين» هو لأجل كونهم يظلمون أنفسهم باتخاذهم سبيل الشرك والفساد الأخلاقي وعدم العفة، وظلمهم الآخرين حتى شمل العابرين والقوافل التي كانت تمرّ على طريقهم.

فلمّا سمع «إبراهيم» هذا النبأ حزن على لوط النبي العظيم و «قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 549

فما عسى أن تكون عاقبته؟

إلّا أنّهم أجابوه على الفور: «قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا» فلا تحزن عليه، لأنّنا لا نحرق «الأحضر واليابس» معاً، وخطتنا دقيقة ومحسوبة تماماً ... ثم أضافوا: «لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ».

إنتهى كلام الملائكة مع إبراهيم هنا، وتوجهوا إلى ديار لوط عليه السلام وقومه، يقول القرآن في هذا الشأن: «وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا».

فقد جاؤوا إليه بهيئة فتيان ذي وجوه مليحة، ومجي ء أمثال هؤلاء الضيوف في مثل هذا المحيط الملوّث، ربّما كان يجرّ على لوط الوبال.

«سي ء»: مشتقة من «ساء» ومعناه سوء الحال؛ و «الذرع»: معناه «القلب» «الخلق»، فعلى هذا يكون معنى «ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا» أي ضاق قلبه وانزعج.

إلّا أنّ الضيوف حين أدركوا عدم إرتياحه كشفوا عن «هويّتهم» وعرفوا

أنفسهم ورفعوا عنه الحزن: «وَقَالُوا لَاتَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ».

وبعد هذا، ولكي تتضح خطة عملهم في شأن عاقبة هؤلاء القوم المنحرفين أكثر، أضافوا: «إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ».

والمراد ب «القرية» هي «سدوم» من قرى قوم لوط عليه السلام.

والمراد من «الرجز» هنا هو العذاب.

وهنا لم يذكر القرآن كيفية العذاب الأليم، سوى أنّه قال: «وَلَقَدْ تَّرَكْنَا مِنْهَا ءَايَةً بَيّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».

إلّا أنّ في سورة هود الآية (82) منها وكذلك سورة الأعراف الآية (84) منها، تفصيلًا في بيان العذاب، وهو أنّه أصابت قراهم في البداية زلزلة شديدة فجعلت عاليها سافلها، ثم أمطرت عليها حجارة من السماء.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 550

وَ إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ لَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَ عَاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ كَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَ قَارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَ مَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

تنوع العذاب للظالمين: بعد بيان قصّة لوط وقومه يقع الكلام عن أقوام آخرين أمثال قوم شعيب وعاد وثمود، وقارون وفرعون، وقد أشير في هذه الآيات- محل البحث- إلى كل منهم إشارة موجزة «مكثفة» للإستنتاج والعبرة. في البداية تقول الآية:

«وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا».

والتعبير بكلمة

«أخاهم»، هو إشارة إلى منتهى محبّة هؤلاء الأنبياء إلى اممهم، وإلى عدم طلبهم السلطة، وبالطبع فإنّ هؤلاء الأنبياء كانت لهم علاقة قرابة بقومهم أيضاً.

و «مدين» مدينة واقعة جنوب غربي الأردن، وتدعى اليوم ب «معان» وهي في شرق خليج العقبة، وكان شعيب عليه السلام وقومه يقطنون فيها.

وشعيب كسائر أنبياء اللَّه العظام، بدأ بالدعوة إلى الاعتقاد بالمبدأ والمعاد، وهما أساس كل دين وطريقة: «فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْأَخِرَ».

فالإيمان بالمبدأ يكون سبباً لإحساس الإنسان بأنّ اللَّه يراقبه مراقبةً دقيقةً بشكل دائم ويسجّل أعماله؛ والإيمان بالمعاد يذكّر الإنسان بمحكمة عظيمة يحاسب فيها عن كل شي ء وكل عمل مهما كان تافهاً ...

مختصر الامثل، ج 3، ص: 551

مختصر الامثل ج 3 593

والمبدأ الثالث هو بمثابة خطّة عمل جامعة، تحمل بين طياتها جميع الخطط الإجتماعية، إذ قال: «وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ».

وللفساد مفهوم واسع يشمل كل نقص انحراف، وتدمير، وظلم .. الخ .. ويقابله الصلاح والإصلاح، ومفهومهما يشمل جميع الخطط البنّاءة.

«تعثوا»: من مادة «عثى» ومعناه إحداث الفساد أو الإفساد، غاية ما في الأمر أنّ هذا التعبير كثيراً ما يستعمل في الموارد التي تكون فيها «مفاسد أخلاقية»، فعلى هذا يكون ذكر كلمة «مفسدين» بعدها تأكيداً على هذا المفهوم.

إلّا أنّ تلك الجماعة بدلًا من أن تصغي لمواعظه ونصائحه بآذان القلوب، خالفته ولم تصغ إليه «فكذبوه».

وكان هذا التكذيب سبباً في أن تصيبهم زلزلة شديدة «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جثِمِينَ». أي مكبوبين على وجوههم ميتين.

«الجاثم»: مشتق من «جثم» ومعناه الجلوس على الركبة والتوقف في مكان ما ... ولا يبعد أن يكونوا نائمين عند وقوع هذه الزلزلة الشديدة .. فهذا التعبير إشارة إلى أنّهم عند وقوع هذه الحادثة نهضوا وجثوا على الركب، إلّاأنّ الحادثة

لم تمهلهم حيث انهارت الجدران عليهم ونزلت عليهم الصاعقة التي تزامنت معها فماتوا.

أمّا الآية التي بعده فتتحدث عن «عاد» و «ثمود» قومي (هود وصالح)، دون أن تذكر ما قاله نبيّاهما لهما، وما ردّ عليهما قومهما المعاندون، لأنّهما مذكوران في آيات عديدة من القرآن، وهما أي قوم هود وقوم صالح معروفان، فلذلك، تقول الآية: «وَعَادًا وَثَمُودَا».

ثم تضيف الآية: «وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ» المتهدمة والتي هي على طريقكم في منطقة الحجر واليمن.

ثم تشير الآية إلى السبب الأصلي لشقائهم وسوء حظّهم، إذ تقول: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطنُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ».

وكانت فطرتهم على فطرة اللَّه وتقواه، ولم يأل الأنبياء جهداً في هدايتهم، وبذلوا قدراً كافياً من النصح والإرشاد لهم، لكنّهم حادوا «وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ». و الآية الاخرى تذكر أسماء ثلاثة من الجبابرة الذين كان كل واحد منهم بارزاً للقدرة الشيطانية، فتقول: «وَقرُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهمنَ».

فقارون كان مظهر الثروة المقرونة بالغرور وعبادة «الذات» والأنانية والغفلة.

وفرعون كان مظهر القدرة الإستكبارية المقرونة بالشيطنة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 552

وأمّا هامان، فهو مثل لمن يعين الظالمين المستكبرين.

ثم يضيف القرآن: «وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَى بِالْبَيّنَاتِ» والدلائل «فَاسْتَكْبَرُوا فِى الْأَرْضِ». فاعتمد قارون على ثروته وخزائنه وعلمه، واعتمد فرعون وهامان على جيشهما وعلى القدرةالعسكرية، وعلى قوّة إعلامهم وتضليلهم لطبقات الناس المغفّلين الجهلة. لكن .. برغم كل ذلك لم يفلحوا «وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ».

كلمة «سابقين» تعني من يتقدم ويكون أمام الآخرين، فمفهوم قوله تعالى: «وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ». أي إنّهم لم يستطيعوا أن يهربوا من سلطان اللَّه برغم ما كان عندهم من إمكانات، بل أهلكهم اللَّه في اللحظة التي أراد، وأرسلهم إلى ديار الفناء والذلة والخزي.

كما يذكر في الآية التي بعدها: «فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ».

فإنّه يذكر في هذه الآية بحسب الترتيب أنواع عذابهم فيقول:

«فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا». «الحاصب»: معناه الاعصار الذي يحمل حصى كثيرة معه.

والمقصود ب «منهم» هنا هم «عاد» قوم هود.

«وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ» وهذا هو العذاب الذي عذب اللَّه به ثمود «قوم هود» كما عذب آخرين ...

«وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ». وهذا هو عقاب قارون الثري المغرور المستكبر من بني إسرائيل.

«وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا». وهذا الكلام إشارة إلى عقاب فرعون وهامان وجنودهما.

ويبيّن في ختام الآية التأكيد على هذه الحقيقة، وهي أنّ ما أصابهم هو بسبب أعمالهم، «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

أجل، إنّ عقاب هذه الدنيا والآخرة هو تجسيد أعمالهم، حيث يغلقون جميع طرق الإصلاح في وجوههم، فاللَّه أكثر عدلًا وأسمى من أن يظلم الإنسان أدنى ظلم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 553

دعامة واهية كبيت العنكبوت: بيّنت الآيات السابقة ما آل إليه المشركون والمفسدون الظلمة والأنانيون من مصير وخيم وعاقبة سوداء وعذاب أليم ... وبهذه المناسبة، ففي الآيات التي بين أيدينا، يبيّن القرآن الكريم مثالًا بليغاً ومؤثراً يعبدون غير اللَّه ويتخذون من دونه أولياء، وكلّما أمعنا النظر في هذا المثال وفكرنا فيه مليّاً انقدحت في أذهاننا منه لطائف دقيقة، يقول تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

والجدير بالذكر، أنّ بيت العنكبوت ونسيج خيوطه المضروب به المثل، هو نفسه من عجائب الخلق، والتدقيق فيه يعرف الإنسان على عظمة الخالق أكثر.

فلو دققنا النظر في بيوت العنكبوت لرأينا منظراً طريفاً مثل الشمس وأشعتها مستقرةً على قواعد هذا «البناء النسيجي»، وبالطبع فإنّ هذا البيت مناسب للعنكبوت وكاف، ولكنه في المجموع لا يمكن تصور بيت أوهن منه، وهكذا بالنسبة إلى آلهة الضالين ومعبوديهم، إذ تركوا عبادة اللَّه والتجأوا

إلى الأصنام والأحجار والأوثان.

أمّا الآية التالية ففيها تهديد لهؤلاء المشركين الغفلة الجهلة .. إذ تقول: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْ ءٍ» ولا يخفى على اللَّه شركهم الظاهر ولا شركهم الخفي «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» على الإطلاق.

وإذا أمهلهم، فليس بسبب العجز والضعف، أو عدم العلم، أو أنّ قدرته محدودة، بل كل ذلك من حكمته التي توجب أن يمنحوا الفرصة الكافية لتتم الحجة البالغة للَّه عليهم، فيهتدي من هو جدير بالهدى.

و الآية الثالثة- من الآيات محل البحث- لعلها تشير إلى ما استشكله أعداء الإسلام على النبي صلى الله عليه و آله في هذه الأمثلة التي ضربها اللَّه، وكانوا يقولون: اللَّه الذي خلق السماوات والأرض كيف يضرب الأمثال بالعنكبوت والذباب والحشرات وما شاكلها؟

فيردّ القرآن بقوله: «وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ».

وفي آخر آية- من الآيات محل البحث- يضيف القرآن الكريم: «خَلَقَ اللَّهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ». ليس في عمل اللَّه باطل أو عبث ... فإذا التشبيه بالعنكبوت وبيته الخاوي هو أمر محسوب بدقّة، وإذا ما إختار موجوداً صغيراً للتمثيل به فهو لبيان الحق، وإلّا فهو خالق أعظم المجرّات والمنظومات الشمسية وغيرها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 554

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَ أَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)

إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: بعد الفراغ من بيان أقسام مختلفة من قصص الامم السابقة وأنبيائهم العظام، يتوجه الخطاب- على سبيل تسلية الخاطر، وإراءة الخط الكلي أو الخطوط العامة- للنبي صلى الله عليه و آله ويأمره بما ينبغي عليه أن يفعل. فيبدأ أوّلًا بقوله: «اتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتبِ» ...

أي إقرأ هذه الآيات فسوف تجد فيها ما تبتغيه وتطلبه من العلم والحكمة والنصح، ومعيار معرفة الحق من الباطل.

وبعد بيان هذا الأمر الذي يحمل طابعاً تعليمياً، يأتي الأمر الثاني الذي هو محور أصيل للتربية فيقول تعالى: «وَأَقِمِ الصَّلَوةَ».

ثم يبيّن فلسفة الصلاة الكبرى فيقول: «إِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ» «1».

طبيعة الصلاة- حيث إنّها تذكر بأقوى رادع للنفس، وهو الإعتقاد بالمبدأ والمعاد- فإنّها تردع عن الفحشاء والمنكر.

إنّ النهي عن الفحشاء والمنكر له سلسلة درجات ومراتب كثيرة، وكل صلاة مع رعاية الشروط لها نسبة من هذه الدرجات.

في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل، فلينظر هل منعت صلاته عن الفحشاء والمنكر، فبقدر ما منعته قبلت منه».

ويقول القرآن تعقيباً على ما ذكره ومن شأن الصلاة: «وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ».

وظاهر الجملة هو بيان غاية وحكمة اخرى في الصلاة، أي أنّ أثراً آخر من آثار الصلاة وبركاتها أهم من كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر هو تذكير الإنسان بربّه، هذا الذكر هو أساس السعادة والخير، بل العامل الأصلي للنهي عن الفحشاء والمنكر أيضاً هو ذكر اللَّه، وكونه أكبر لأنّه العلة والأساس للصلاة.

وحيث إنّ نيّات الناس، وميزان حضور القلب منهم في الصلاة وسائر العبادات، كل ذلك متفاوت جدّاً، فإنّ الآية تختتم بالقول: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ». أي يعلم ما تصنعون

______________________________

(1) إنّ الفحشاء هي إشارة للذنوب الكبيرة الخفية، وأمّا المنكر فهو الذنوب الكبيرة الظاهرة، أو أنّ الفحشاء هي الذنوب التي تنتج بغلبة القوى الشهوانية، والمنكر من أثر القوى الغضبية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 555

من أعمال في الخفاء أو العلن، والنيّات التي في قلوبكم أو الكلمات التي تجري على ألسنتكم.

وَ لَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنَا وَ إِلهُكُمْ وَاحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَ مَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَ لَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)

اتّبعوا أحسن الأساليب في البحث والجدال: كان أكثر الكلام في الآيات المتقدمة في كيفية التعامل مع المشركين المعاندين وكان مقتضى الحال أن يكون الكلام شديد اللهجة حادّاً، أمّا في هذه الآيات- محل البحث- فيقع الكلام في شأن مجادلة أهل الكتاب الذين ينبغي أن يكون الكلام معهم لطيفاً، فيقول القرآن في هذا الصدد: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتبِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ».

«تجادلوا»: مشتق من «جدال» ومعناه في الأصل فتل الحبل وإحكامه، كما تستعمل هذه المفردة في البناء المحكم وما أشبهه، وحين يتناقش اثنان في بحث معين فكل واحد منهما يريد أن يلوي صاحبه عن عقيدته وفكرته .. لذا فقد سمّي هذا النقاش جدالًا.

والمراد من قوله «وَلَا تُجَادِلُوا»، المناقشات المنطقية.

والتعبير ب «الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ» تعبير جامع يشمل الأساليب والطرق الصحيحة والمناسبة للتباحث أجمع.

فعلى هذا إنّ ألفاظكم ينبغي أن تكون بطريقة مؤدّبة، والكلام ذا مودّة، والمحتوى مستدلًا، وصوتكم هادئاً غير خشن.

وبالطبع فإنّ هذا الأصل الكلي في البحث والمجادلة الإسلامية، فقد يُعدّ في بعض الموارد ضعفاً، أو يكون الطرف الآخر مغروراً إلى درجة أنّ هذا التعامل الإنساني يزيده جرأة وعدواناً وتكبراً، لذلك فإنّ القرآن يضيف مستثنياً: «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ».

وهم

الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الآخرين، وكتموا كثيراً من الآيات، لئلا يطلع الناس

مختصر الامثل، ج 3، ص: 556

على أوصاف النبي محمّد صلى الله عليه و آله. ويختتم الآية بمصداق بارز من «المجادلة بالتي هي أحسن» ويمكنه أن يكون قدوة لأي بحث، فيقول القرآن الكريم: «وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنَا وَإِلهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».

وهذا مثل واحد من المجادلة بالتي هي أحسن التي ينجذب إليها كل من يسمعها، ويدلّ على أنّ الإنسان يجب أن يكون بعيداً عن التحزب أو طلب التفرقة.

و الآية الاخرى تؤكّد على الاصول الأربعة التي سبق ذكرها في الآية المتقدمة، فتقول: «وَكَذلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتبَ». أي القرآن.

أجل ... نزل هذا القرآن على أساس توحيد المعبود، وتوحيد دعوة جميع الأنبياء إلى الحق، والتسليم دون قيد أو شرط لأمر اللَّه؛ والمجادلة بالتي هي أحسن.

ثم يضيف القرآن الكريم: «فَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتبَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» ويعتقدون بصدقه إذ أنّهم وجدوا علائمه في كتبهم، كما أنّ محتواه من حيث الاصول العامة والكلية منسجم مع كتبهم.

ويضيف القرآن بعدئذ: «وَمِنْ هؤُلَاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ». أي أهل مكة والمشركون العرب.

ثم يقول القرآن في كفر الطائفتين من اليهود والنصارى: «وَمَا يَجْحَدُ بَايَاتِنَا إِلَّا الْكفِرُونَ».

ومع الإلتفات إلى أنّ مفهوم الجحود، هو أن يعتقد الإنسان بشي ء بقلبه وينكره بلسانه، فإنّ مفهوم الجملة المتقدمة أنّ الكفار يعترفون في قلوبهم بعظمة هذه الآيات، ويرون علامات الصدق عليها، إلّاأنّهم ينكرون ذلك عناداً وتعصباً، وتقليداً أعمى لأسلافهم ولآبائهم، ولحفظ منافعهم الشخصية.

ثم يضيف القرآن مشيراً إلى علامة اخرى من علائم حقانية دعوة النبي صلى الله عليه و آله الجلية والواضحة، وهي تأكيد على محتوى الآية السابقة، فيقول: «وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتبٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ

الْمُبْطِلُونَ». وقالوا إنّ ما جاءنا به هذا النبي هو حصيلة مطالعاته لكتب الماضين.

وفي الآية التالية علامة اخرى أيضاً على حقانية القرآن، إذ تقول: «بَلْ هُوَ ءَايتٌ بَيّنَاتٌ فِى صُدُور الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ».

والتعبير ب «الآيات البيّنات» كاشف عن هذه الحقيقة وهي أنّ دلائل حقانية القرآن

مختصر الامثل، ج 3، ص: 557

تتجلى بنفسها عياناً، وتشرق في أرجائه، فدليلها معها.

ثم بعد هذا كلّه، فإنّ أتباع هذه الآيات وطلابها المشدودة قلوبهم إليها هم أولوا العلم والإطلاع، بالرغم من أن أيديهم خالية وأرجلهم حافية.

وتُختتم الآية بقوله تعالى: «وَمَا يَجْحَدُ بَايَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ» ... لأنّ دليلها واضح، وقد وردت علائمها في الكتب المتقدمة.

وَ قَالُوا لَوْ لَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ لَوْ لَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

أليس القرآن كافياً في إعجازه: الأشخاص الذين لم يذعنوا ويسلّموا للبيان الاستدلالي والمنطقي الذي جاء به القرآن بسبب عنادهم وإصرارهم على الباطل، ولم يقبلوا بكتاب كالقرآن ... تذرّعوا بحجّة اخرى على سبيل الاستهزاء والسخرية، وهي أنّه لم لا تأت- يا محمّد- بمعجزة من المعاجز التي جاء بها موسى وعيسى: «وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايتٌ مِّن رَّبّهِ».

ومن

دون شك فإنّ النبي صلى الله عليه و آله كانت لديه معاجز غير القرآن الكريم، إلّاأنّ اولئك لم يكن قصدهم من وراء كلامهم الحصول على معجزة.

إنّ القرآن، للردّ على ذرائع هؤلاء المحتالين ذوي الحجج الواهية، يدخل من طريقين:

فيقول أوّلًا في خطابه لنبيّه: «قُلْ إِنَّمَا الْأَيتُ عِندَ اللَّهِ». أي قل لُاولئك المعاندين أنّ اللَّه يدري أية معجزة تناسب أي زمان وأي قوم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 558

ثم يضيف القرآن معقباً أن قل: «وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

والجواب الآخر هو قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتبَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ».

فهم يطلبون معاجز مادية «جسمانية»، والقرآن بحدّ ذاته أعظم معجزة معنوية ...

معجزة خالدة تتلى آياته ليل نهار عليهم وعلى الأجيال من بعدهم.

وفي نهاية الآية يضيف القرآن للتأكيد والتوضيح بصورة أجلى، فيقول: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ». «ذلك» هنا إشارة إلى الكتاب المنزل من السماء، وهو القرآن.

أجل، إنّ القرآن رحمة «وسيلة» للذكرى والتذكر أيضاً، فهو للمؤمنين الذين فتحوا قلوبهم بوجه الحقيقة.

ولعل الفرق بين «الرحمة» و «الذكرى» أنّ القرآن ليس معجزة وذكرى فحسب، بل هو إضافة إلى كل ذلك يحتوي على القوانين التي تمنح الرحمة والمناهج التربوية والإنسانية.

فمثلًا كانت عصى موسى معجزة فحسب، إلّاأنّها لم يكن لها أثر في حياة الناس اليومية، غير أنّ القرآن معجزة، هو في الوقت ذاته منهج كامل الحياة ورحمة أيضاً.

ولما كان كل مدعٍ بحاجة إلى الشاهد، فالقرآن يبيّن في الآية الاخرى أنّ خير شاهد هو اللَّه: «قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا».

وبديهي أنّه كلّما كان إطلاع الشاهد وشهادته أكثر، فإنّ قيمة الشهادة تكون أهم، لذلك يضيف القرآن بعدئذ قائلًا: «يَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

يحتمل أن تكون هذه الشهادة شهادة عملية، لأنّه حين يؤتي اللَّه نبيّه معجزة

كبرى كالقرآن، فقدوقع على سند حقانيته وأمضاه.

وإضافةً للشهادة العملية المتقدمة، نقرأ في آيات كثيرة من القرآن شهادة قولية في نبوة النبي صلى الله عليه و آله.

ويمكن أنّ المراد من شهادة اللَّه في الآية هي ما سبق من الوعد والذكر في كتب اللَّه السابقة «كالتوراة والإنجيل» ويعلم بذلك علماء أهل الكتاب بصورة جيدة.

وتختتم الآية بنحو من الوعيد والتهديد لُاولئك الكفار باللَّه، فيقول: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْبطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخسِرُونَ». وأي خسران أعظم من أن يعطوا جميع قواهم الجسمانية والإمكانات الاجتماعية والفردية في سبيل الإعلام والتبليغ لمذهبهم الوثني وأهملوا ذكر اللَّه، فلم يُعد عليهم هذا إلّابالضرر والخسران.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 559

أمّا في الآية التالية فإشارة إلى الذريعة الثالثة إذ تقول: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ». إذ يقولون: لو كان عذاب اللَّه حقّاً على الكافرين فلم لا يأتينا؟!

فيجيب القرآن على هذه الذريعة بثلاثة أجوبة.

الأوّل: «وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ».

وهذا الزمان المعين (الأجل) إنّما هو لهدف أصلي، للإرعواء عن باطلهم وتيقظهم، أو إتمام الحجة عليهم.

والثاني: إنّ اولئك الذين يتذرّعون بهذا القول ما يدريهم لعلّ العذاب يأخذهم على حين غرةٍ من أنفسهم «وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ» «1».

وبالرغم من أنّ موعد العذاب معين ومقرّر إلّاأنّ المصلحة تقتضي ألّا يطّلعوا عليه، وأن يأتيهم دون مقدمات، لأنّه لو عرف وقته لكان باعثاً على تجرؤ الكفار والمذنبين وجسارتهم .. وحين يأزف الوعد بالعذاب فإنّهم سيتجهون بالتوبة إلى اللَّه وينيبون إليه.

والحكمة التربوية لمثل هذا العقاب تقتضي أن يكتم موعده، لتكون كل لحظة ذات أثر بنفسها، ويكون الخوف والإستيحاش منها عاملًا على الردع.

وأخيراً فإنّ الجواب القرآني الثالث يتبيّن في الآية إذ يقول: «يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكفِرِينَ».

فإذا تأخر عنهم عذاب الدنيا، فإنّ عذاب الآخرة واقع لا محالة،

ومحيط بهم تماماً وسيصيبهم حتماً بحيث إنّ القرآن يذكره بصورة أمر فعليّ (وكأنّ جهنم الآن محيطة بهم).

ويوجد تفسير آخر أكثر دقّةً لهذه الآية، وهو أنّ جهنم محيطة، الآن فعلًا بالكافرين، من جهتين- بالمعنى الواقعي للكلمة.

الجهة الاولى: إنّها جهنم الدنيا، إذ هم على أثر شركهم وتلوثهم بالذنب يحترقون بجهنم التي أعدّوها لأنفسهم.

و الجهة الثانية: طبقاً لظاهر الآيات في القرآن فإنّ جهنم موجودة فعلًا، فإنّ جهنم موجودة في باطن الدنيا، وبهذا فهي محيطة بهم على نحو الحقيقة.

ثم يضيف القرآن: «يَوْمَ يَغْشهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا

______________________________

(1) «البغتة»: مشتقة من «البغت» ومعناه التحقق المفاجى ء وغير المنتظر لأمر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 560

كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

يمكن أن تكون هذه الآية توضيحاً لإحاطة عذاب جهنم في يوم القيامة بالكفار، ويمكن أن تكون بياناً مستقلًا لذلك العذاب الأليم لهم الذي يحيط بهم اليوم على أثر أعمالهم، وفي غدٍ يتجلى هذا العذاب بوضوح ويكون محسوساً ظاهراً. أمّا جملة «ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» التي يظهر أنّ قائلها هو اللَّه تعالى، فهي بالإضافة إلى أنّها نوع من العقوبة النفسية لمثل هؤلاء الأشخاص، فهي كاشفة عن هذه الحقيقة، وهي أنّ عذاب اللَّه ليس إلّاانعكاساً للأعمال التي يقوم بها الإنسان نفسه في النشأة الآخرة.

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت الآية الاولى في المستضعفين

من المؤمنين بمكة امروا بالهجرة عنها.

ونزل قوله «وَكَأَيّن مِّن دَابَّةٍ لَاتَحْمِلُ رِزْقَهَا» في جماعة كانوا بمكة يؤذيهم المشركون فأمروا بالهجرة إلى المدينة فقالوا: كيف نخرج إليها وليس لنا بها دار، ولا غفار ومن يطعمنا ومن يسقينا؟

التّفسير

لابدّ من الهجرة: حيث إنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن مواقف المشركين المختلفة من الإسلام والمسلمين، ففي الآيات محل البحث يقع الكلام عن حال المسلمين ومسؤولياتهم قبال المشاكل المختلفة، أي مشاكل أذى الكفار وضغوطهم وقلّة عدد المسلمين وما إلى ذلك، فتقول الآية الاولى: «يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيىَ فَاعْبُدُونِ».

لأنّ الهدف من خلق الإنسان أن يكون عبداً للَّه، فمتى ما أصبح هذا الهدف الأساسي

مختصر الامثل، ج 3، ص: 561

والنهائي مستحيلًا، فلا سبيل عندئذ إلّا الهجرة.

وحيث إنّ البعض بقوا في ديار الشرك، ولم يرغبوا بالهجرة بذريعة أنّهم يخشون الخروج من ديارهم ويخافون أن يحدق بهم الموت بسبب الأعداء أو الجوع أو العوامل الاخرى التي تهددهم ... إضافة إلى فراق الأحبّة والمتعلقين والأبناء والأصدقاء، فإنّ القرآن يردّهم بجواب جامع قائلًا: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ».

لا تظنوا أنّ الموت نهاية كل شي ء، لأنّكم جميعاً «إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ» ... إلى اللَّه العظيم، وإلى نعمه التي لا حدّ لها ولا انتهاء لأمدها.

و الآية التالية تبيّن جانباً من هذه النعم فتقول: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنهرُ» «1».

والامتياز الآخر لغرف الجنة أنّها دائمة «خلِدِينَ فِيهَا».

ويضيف القرآن معقباً في ختام الآية: «نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ».

والمراد بالعاملين هنا مع قرائن الجمل السابقة، هم الذين يعملون الصالحات المقرونة بإيمانهم، وإن كانت كلمة العاملين مطلقة.

و الآية التالية تصف أهمّ ما يتحلّى به المؤمنون العاملون فتقول: «الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».

إذ يبتعدون عن

الزوجة والأولاد والأهل والبيت والأحباب والأصدقاء وكل شي ء عزيز عليهم، لكنّهم يصبرون برغم الفراق يذوقون مرارة الغربة والتهجير عن أوطانهم ويصبرون.

وإذ أمعنا النظر وفكّرنا جيداً رأينا أنّ الصبر والتوكل هما أساس جميع الفضائل الإنسانية، فالصبر هو عامل الاستقامة أمام العوائق والمشاكل، والتوكل هو الهدف والباعث على الحركة في هذا الطريق المديد الملتوي.

وفي آخر آية- من الآيات محل البحث- جواب لُاولئك الذين كان لسان حالهم أو لسان مقالهم يقول إذا خرجنا عن ديارنا وأهلينا، فمن سيطعمنا ويرزقنا؟ يخاطبهم القرآن أن لا تحزنوا على الرزق ولا تحملوا ثقل الذلة والأسر، فالرازق هو اللَّه، لا لكم فحسب بل: «وَكَأَيّن مِّن دَابَّةٍ لَاتَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ».

______________________________

(1) «لنبوئنّهم»: من مادة «تبوئة»، معناها إعطاء السكنى للإقامة والبقاء الدائم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 562

فالقرآن يؤكّد في نهاية الآية قائلًا: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

يسمع كلامكم كلّه، ويعرف لسان حالكم، ولسان حال جميع الدواب، وهو خبير بحاجات الجميع، ولا يخفى على علمه الذي لا حدّ له شي ء أبداً.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (62) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَ مَا هذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

الإقرار بالتوحيد في الباطن والشرك في الظاهر:

كان الحديث في الآيات السابقة موجّهاً إلى المشركين الذين أدركوا حقانيّة الإسلام، إلّاأنّهم لم يكونوا مستعدين للإيمان والهجرة، خوفاً من انقطاع الرزق عليهم، أمّا في هذه الآيات، فالحديث موجه للنّبي صلى الله عليه و آله، وفي الواقع لجميع المؤمنين، وهو يبيّن دلائل التوحيد عن طرق «الخلقة»، و «الربوبيّة»، و «الفطرة»، أي عن ثلاث طرائق متفاوتة، ويريهم أنّ مصيرهم وعاقبة أمرهم بيد اللَّه الذي يجدون آثاره في الآفاق وفي أنفسهم، لا بأيدي الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.

فتبدأ الآية الاولى من هذه الآيات محل البحث، مشيرةً إلى خلق السماوات والأرض وتستعين باعتقاداتهم الباطنية ...

فتقول: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».

لأنّ من المسلم به أنّه لا عبدة الأصنام ولا غيرهم ولا أي أحد آخر يقول: إنّ خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر حفنة من الأحجار والخشب المصنوعة بيد الإنسان.

وبتعبير آخر: لايشك في «توحيد الخالق» حتى عبدة الأصنام حيث كانوا مشركين في عبادة الخالق، وكانوا يقولون: إنّما نعبد أوثاناً ليقربونا إلى اللَّه زلفى، فهم الوسطاء بيننا وبين اللَّه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 563

وهم غافلون عن أنّه لا تفصل بين الخالق والمخلوق أيّة فاصلة.

إنّ الآية بعد ذكر هذا الدليل الواضح تتساءل: «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ». أي مع هذا المال كيف يعرضون عن عبادة خالقهم ويستبدلونها بعبادة مجموعة من الأحجار والأخشاب؟!

«يؤفكون»: مشتقة من «إفك» ومعناها إعادة الشي ء من صورته الواقعية والحقيقية.

والتعبير ب «يؤفكون» بصيغة المجهول إشارة إلى أنّهم لا قدرة لهم على التصميم، فكأنّهم منجذبون إلى عبادة الأوثان دون إرادة.

والمراد من تسخير الشمس والقمر النظم التي أقرها اللَّه تعالى، وجعل الشمس والقمر في دائرة هذه النظم في خدمة الإنسان، ومنافعه.

ثم يضيف القرآن تأكيداً لهذا المعنى، وهو أنّ

اللَّه خالق الخلق ورازقهم، فيقول: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ». فمفتاح الرزق بيده لا بيد الناس ولا بيد الأصنام.

وإذا كانوا يتصورون أنّ اللَّه قادر، إلّاأنّه غير مطّلع على حالهم، فهذا خطأ كبير ل «إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

وفي المرحلة الثانية يقع الكلام عن «التوحيد الربوبي» ونزول مصدر الأرزاق من قبله عليهم، فيقول: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ». فهذا هو ما يعتقده عبدة الأصنام في الباطن، ولا يتأبون من الاعتراف على ألسنتهم، فهم يعرفون أنّ الخالق هو اللَّه، وأنّه ربّ العالم ومدبره.

ثم يضيف القرآن مخاطباً نبيّه: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ». فالحمد والثناء لمن أنعم جميع النعم.

وحيث إنّ أقوال المشركين من جهة، وأعمالهم وأفعالهم وكلماتهم من جهة اخرى، يناقض بعضها بعضاً، فإنّ الآية تختتم بإضافة الجملة التالية: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ».

وإلّا فكيف يمكن للإنسان العاقل أن يتناقض في كلماته، فتارةً يرى أنّ الخالق والرازق والمدبر للعالم هو اللَّه، وتارة يسجد للأوثان التي لا تأثير لها بالنسبة لعواقب الناس.

ومن أجل أن يحوّل القرآن أفكارهم من أفق هذه الحياة المحدودة إلى عالم أوسع من خلال منظار العقل، فإنّه يبيّن في الآية التالية كيفية الحياة الدنيا قياساً إلى الحياة الاخرى الخالدة، في عبارة موجزة ومليئة بالمعاني، فيقول: «وَمَا هذِهِ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْأَخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ». «اللهو»: معناه الإنشغال، أو كل عمل يصرف الإنسان إليه ويشغله عن مسائل الحياة الأساسية. أمّا «اللعب»: فيطلق على الأعمال التي

مختصر الامثل، ج 3، ص: 564

فيها نوع من النظم الخيالي، والهدف الخيالي أيضاً. فالقرآن في هذا الصدد يشرح حال الدنيا وحال الآخرة، مبيّناً أنّ الحياة الدنيا هي نوع

من الإنشغال واللعب، ثم يطوى كل شي ء ويغدو في سلة النسيان.

أمّا الحياة الحقيقية التي الافناء بعدها، فهي الحياة الآخرة فحسب.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ المراد من «الحيوان» هو الحياة، فهذه الكلمة تحمل معنى مصدرياً. وهذا التعبير: «وَإِنَّ الدَّارَ الْأَخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ» إشارة إلى أنّ الحياة الحقيقية هي في الاخرى، لا في هذه الدار الدنيا- فكأنّ الحياة في الاخرى تفور من جميع أبعادها، ولا شي ء هناك إلّاالحياة.

وبديهي أنّ القرآن لا يريد أن ينسى وينفي مواهب اللَّه في هذه الدار الدنيا، بل يريد أن يجسد قيمة هذه الدنيا بالقياس إلى الاخرى قياساً صريحاً وواضحاً ... وإضافةً إلى كل ذلك فإنّه ينذر الإنسان لئلا يكون أسيراً لهذه المواهب، بل ينبغي أن يكون أميراً عليها، ولا يؤثرها على القيم الأصيلة أبداً.

وفي المرحلة الثالثة ... يتجه القرآن نحو الفطرة والجبلّة الإنسانية، ونحو تجلّي نور التوحيد في أشدّ الأزمات في أعماق روح الإنسان، وضمن مثالٍ بديع جدّاً وبليغ فيقول: «فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ».

أجل، إنّ الشدائد والأزمات هي التي تهي ء الأرضية لتفتح الاجتماعية «الفطرة» الإنسانية، لأنّ نور التوحيد مخفي في أرواح الناس جميعاً.

إلّا أنّ التعليمات الخاطئة والغفلة والغرور- وخاصة عند السلامة ووفور النعمة- تلقي عليها أستاراً، غير أنّ طوفان الحوادث يزيل هذه الأستار، وتتجلى نقطة النور آنذاك.

وفي آخر آية- من الآيات محل البحث- وبعد ذكر جميع هذه الدلائل على التوحيد وعبادة اللَّه، يواجه القرآن المشركين والكفار بتهديد شديد فيقول: إنّ هؤلاء أنكروا آياتنا وكفروا بما رزقناهم من النعم فليتمتعوا بها أيّاماً قلائل: «لِيَكْفُرُوا بِمَا ءَاتَيْنهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» عاقبة كفرهم وشركهم.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ

مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 565

سبب النّزول

في الدرّ المنثور عن ابن عباس أنّ جماعة من المشركين قالوا: يا محمّد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلّامخافة أن يتخطفنا الناس لقلّتنا والعرب أكثر منّا فمتى بلغهم أنّا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنّا أكلة رأس، فأنزل اللَّه: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا» الآية.

التّفسير

أشارت الآيات- التي سبق ذكرها- إلى بعض الحجج الواهية للمشركين، وهي أنّنا نخاف على حياتنا إذا أظهرنا الإيمان ثم هاجرنا معك يا رسول اللَّه، وقد ردّ عليها القرآن بطرق مختلفة، وفي الآيات- محل البحث- يردّ القرآن عليهم بطريق آخر فيقول:

«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا». أي أرض مكة المكرمة.

في حين أنّ العرب كانوا يعيشون في حالة غير آمنة خارج مكة، وكانت قبائلهم مشغولة بالنهب والسلب والغارات، إلّاأنّ هذه الأرض باقية على أمنها «وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ».

فاللَّه المقتدر على أن يجعل في هذا البحر المتلاطم والطوفان المحدق بأرض الحجاز «من الفتن» حرم مكة كالجزيرة الهادئة الآمنة وسط البحر، كيف لا يمكنه أن يحفظهم من أعدائهم؟! وكيف يخافون الناس الضعاف قبال قدرة اللَّه العظيمة جلّ وعلا؟

«أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ».

وبعد ذكر هذا الدليل الواضح ينتهي القرآن إلى هذه النتيجة في الآية التالية: «وَمَن أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءَهُ». لقد قدمنا دلائل واضحة لكم على أنّه لا شي ء أحق بالعبادة وأحرى بها من اللَّه، لكنّكم كذبتم على اللَّه، وصنعتم

له شركاء بأيديكم.

إنّ الشرك مصدر جميع المفاسد الإجتماعية، وفي الواقع إنّ المظالم الاخرى تسترفد منه، عبادة الهوى، عبادة المقام، عبادة الدنيا، كل منها نوع من الشرك.

ولكن اعلموا أنّ عاقبة الشؤم والخزي للمشركين «أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكفِرِينَ». و آخر آية- من الآيات محل البحث- وهي في الوقت ذاته آخر آية سورة العنكبوت، تبيّن واقعاً مهماً، وهي عصارة جميع هذه السورة، وتنسجم مع بدايتها. تقول الآية ... بالرغم من أنّ المشاكل المتعددة تحيط بطريق المسير إلى اللَّه، من قبيل مشكلة معرفة الحق، ومشكلة وساوس الشياطين من الإنس والجن، ومشكلة عناد الأعداء الألداء الظالمين الذين لا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 566

يرحمون، ومشكلة الانحرافات الاحتمالية، لكن هنا حقيقة ثابتة، وهي أنّ اللَّه يمنحكم القوة والاطمئنان قبال المشاكل ويدافع عنكم، تقول الآية: «وَالَّذِينَ جهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ».

إنّ التعبير بالجهاد له معنى واسع مطلق، ومثله التعبير بكلمة «فينا» فالتعبير يشمل كل سعي وجهاد في سبيل اللَّه ومن أجله، وللوصول إلى الأهداف الإلهية، كل ذلك يصدق عليه «جهَدُوا فِينَا» سواءٌ كان في سبيل كسب المعرفة، أو جهاد النفس، أو مواجهة الأعداء، أو الصبر على الطاعة، أو الصبر على المعصية، أو في إعانة الضعفاء، أو في الإقدام على أي عمل حسن وصالح.

وعلى هذا أنّنا إذا أصبنا بأي نوع من الهزيمة عدم الموفقية، فسبب ذلك وعلته أحد أمرين: إمّا أنا قصّرنا في جهادنا، أو لم يكن لدينا إخلاص في العمل.

«نهاية تفسير سورة العنكبوت»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 567

30 سورة الرّوم

محتوى السورة: يمكن تلخيص مضامين هذه السورة في سبعة أقسام:

1- التنبؤ بانتصار الروم على الفُرس في معركة تحدث في المستقبل.

2- جانب من طريقة التفكير عند غير المؤمنين وكيفية أحوالهم.

3- قسم مهم من آيات «عظمة

اللَّه» في الأرض والسماء، وفي وجود الإنسان.

4- الكلام عن التوحيد «الفطري» بعد بيان دلائله في الآفاق وفي الأنفس لمعرفة اللَّه سبحانه.

5- العودة إلى شرح أحوال غير المؤمنين والمذنبين وتفصيل حالاتهم، وظهور الفساد في الأرض نتيجة لآثامهم وذنوبهم.

6- إشارة إلى مسألة التملك، وحق ذوي القربى، وذم الربا.

7- العودة- مرّة اخرى- إلى دلائل التوحيد، وآيات اللَّه وآثاره، والمسائل المتعلقة بالمعاد.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأها كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك سبّح للَّه ما بين السماء والأرض، وأدرك ما ضيع في يومه وليلته».

ومن البديهي أنّ من جعل محتوى هذه السورة في روحه وقلبه، وراقب اللَّه في كل لحظة،

مختصر الامثل، ج 3، ص: 568

فإنّ تقوى اللَّه تملأ قلبه حتى يكون حقيقاً بهذا الأجر والثواب.

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال المفسرون: غلبت فارس الروم وظهروا عليهم على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفرح بذلك كفار قريش من حيث إنّ أهل فارس لم يكونوا أهل كتاب وساء ذلك المسلمين. وكان بيت المقدس لأهل الروم، كالكعبة للمسلمين. فدفعتهم فارس عنه. فنزلت الآيات الآنفة وقالت: لئن غلب الفرس الروم ليأتينّ النصر والغلبة للروم خلال فترة قصيرة، وقد حدّدت الفترة لانتصار الروم

على الفرس «فِى بِضْعِ سِنِينَ».

وهذا الكلام السابق لأوانه، هو من جهة دليل على إعجاز القرآن، هذا الكتاب السماوي الذي يستند علمه إلى الخالق غير المحدود، ومن جهة اخرى كان فألًا حسناً للمسلمين في مقابل فأل المشركين، حتى أنّ أبابكر ناحب بعض المشركين قبل أن يحرم القمار على شي ء، إن لم تغلب فارس في سبع سنين. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لم فعلت فكل ما دون العشرة بضع». فكان ظهور فارس على الروم في تسع سنين ثم أظهر اللَّه الروم على فارس زمن الحديبية ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب.

التّفسير

تنبؤ عجيب: هذه السورة ضمن مجموع تسع وعشرين سورة تبدأ بالحروف المقطعة «الم». وقد بحثنا مراراً في تفسير هذه الحروف المقطعة وخاصة في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف. والفارق الوحيد الذي نلاحظه هنا عن بقية السور، ويلفت النظر، هو أنّه خلافاً لكثير من السور التي تبدأ بالحروف المقطعة، التي يأتي الحديث بعدها على عظمة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 569

القرآن الكريم، بل بحثاً عن اندحار الروم وانتصارهم في المستقبل، ولكن مع التدقيق يتّضح أنّ هذا البحث يتحدث عن عظمة القرآن الكريم أيضاً ... لأنّ هذا الخبر الغيبي المرتبط بالمستقبل هو من دلائل إعجاز القرآن، وعظمة هذا الكتاب السماوي.

يقول القرآن بعد الحروف المقطعة: «غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الْأَرْضِ».

والمراد ب «أدنى الأرض» المكان القريب من بلاد فارس، أي إنّ المعركة وقعت في أقرب نقطة بين الفرس والروم.

ثم يضيف القرآن: «وَهُمْ مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ». وهم أي الروم.

ثم يبيّن الفترة القصيرة من هذه السنين بهذا التعبير: «فِى بِضْعِ سِنِينَ». والمعلوم أنّ «بضع» ما يكون أقله الثلاث وأكثره التسع.

وإذا أخبر اللَّه عن المستقبل، فلأنّه «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ».

إنّ

هذه العبارة تريد أن توضح هذه اللطيفة، وهي أنّ القادر بالذات والمالك على الإطلاق هو اللَّه، وكل من لديه شي ء فهو منه.

ثم يضيف القرآن: أنّه إذا فرح المشركون اليوم بانتصار الفرس على الروم فإنّه ستغلب الروم «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ».

أجل، يفرحون «بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

إنّ المسلمين «المؤمنين» فرحوا في ذلك اليوم لجهات متعددة:

1- من إنتصار أهل الكتاب على المجوس، لأنّه ساحة لإنتصار الموحدين على المشركين.

2- من الإنتصار المعنوي لظهور إعجاز القرآن.

3- ومن الإنتصار المقارن لذلك الإنتصار، ويحتمل أن يكون صلح الحديبية، أو بعض فتوحات المسلمين الاخر.

ولزيادة التأكيد يضيف أيضاً: «وَعَدَ اللَّهِ لَايُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ». والسبب في عدم علم الناس، هو عدم معرفتهم باللَّه وقدرته، فهم لم يعرفوا اللَّه حق معرفته، فهم لا يعلمون هذه الحقيقة، وهي أنّ اللَّه محال عليه أن يتخلف عن وعده، لأنّ التخلف عن الوعد إمّا للجهل، أو للضعف وعدم القدرة، لكن اللَّه لا يتخلف عن الوعد، لأنّه يعرف عواقب الامور، وقدرته فوق كل شي ء.

ثم يضيف القرآن معقباً: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأَخِرَةِ هُمْ غفِلُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 570

ولو كانوا يعلمون باطن الحياة وواقعها في هذه الدنيا، لكان ذلك كافياً لمعرفة الآخرة، لأنّ التدقيق في هذه الحياة العابرة، يكشف أنّها حلقة من سلسلة طويلة ومرحلة من مسير مديد كبير، كما أنّ التدقيق في مرحلة تكوين الجنين يكشف عن أنّ الهدف النهائي ليس هو هذه المرحلة من حياة الجنين فحسب، بل هي مقدمة لحياة أوسع. إعجاز القرآن من جهة علم الغيب: إنّ واحداً من طرق إثبات إعجاز القرآن، هو الإخبار بالمغيبات، ومثله الواضح في هذه الآيات- محل البحث- ففي عدّة آيات يخبر بأنواع

التأكيدات عن إنتصار كبير لجيش منهزم بعد بضع سنين .. ويعدّ ذلك وعداً إلهياً غير مكذوب ولا يتخلف أبداً.

ويحدثنا التاريخ أنّه لم تمض تسع سنوات حتى تحققت هاتان الحادثتان ... فقد انتصر الروم في حربهم الجديدة على الفرس، واقترن زمان هذا الإنتصار ب «صلح الحديبية» وطبقاً لرواية اخرى أنّه كان مقارناً لمعركة بدر، إذ حقق المسلمون إنتصاراً ملحوظاً على الكفار.

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثَارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ (10)

كان الكلام في آخر آية من البحث السابق عن السطحيين وأصحاب الظاهر، حيث كان أفق فكرهم لا يتجاوز حدود الدنيا والعالم المادي .. وكانوا جاهلين بماوراء الطبيعة ويوم القيامة، أمّا في هذه الآيات- محل البحث- والآيات المقبلة، فيقع الكلام على مطالب متنوعة حول المبدأ والمعاد، فتبدأ هذه الآيات أوّلًا على صورة استفهام فتقول: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 571

أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى». أي: لو أنّهم فكروا جيداً ورجعواإلى عقلهم في الحكم و وجدانهم، لكانوا يطلعون جيداً على هذين الأمرين:

أوّلًا: إنّ العالم خلق على أساس الحق، وتحكمه أنظمة هي دليل على أنّ الخالق لهذا العالم ذو علم مطلق وقدرة كاملة.

وثانياً: هذا العالم يمضي إلى الزوال،

وحيث إنّ الخالق الحكيم لا يمكن أن يخلقه عبثاً، فيدل ذلك على وجود عالم آخر هو الدار الباقية بعد هذه الدنيا.

لذلك يضيف القرآن في نهاية الآية قائلًا: «وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاىِ رَبّهِمْ لَكفِرُونَ» فينكرون لقاء اللَّه؛ أو إنّهم ينكرون المعاد أصلًا؛ أو إنّهم لا ينكرون بلسانهم، لكن أعمالهم «ملوثة» ومخزية تدل على أنّهم غير معتقدين بالمعاد، إذ لو كانوا يعتقدون بالمعاد لم يكونوا فاسدين أو مفسدين.

وحيث إنّ التعبير ب «أَجَلٍ مُّسَمًّى» كاشف عن أنّ هذه الحياة على كل حال لا تدوم، وهذا إنذار لجميع عبدة الدنيا، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلًا: «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ». أي بالدلائل الواضحات ... إلّاأنّهم أهملوا ذلك، ولووا رؤوسهم، ولم يستسلموا للحق، فابتلوا بعقاب اللَّه الأليم، «فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

أمّا آخر آية- من الآيات محل البحث- فتبيّن آخر مرحلة من كفرهم فتقول: «ثُمَّ كَانَ عقِبَةَ الَّذِينَ أَسؤُا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بَايتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ».

أجل، إنّ الذنب أو الإثم يقع على روح الإنسان كالمرض الخبيث، فيأكل إيمانه ويعدمه، ويبلغ الأمر حدّاً يكذب الإنسان فيه آيات اللَّه، وأبعد من ذلك أيضاً إذ يحمل الذنب صاحبه على الإستهزاء بالأنبياء، والسخرية بآيات اللَّه، ويبلغ مرحلة لا ينفع معها وعظ ونصيحة أبداً، ولا تؤثر فيه أيّة حكمة وأيّة آية، ولا يبقى طريق سوى أسواط عذاب اللَّه المؤلمة له.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 572

اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَ كَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ

كَافِرِينَ (13) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ لِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)

مصير المجرمين ومآلهم يوم القيامة: كان الكلام في الآيات المتقدمة عن الذين يكذّبون ويستهزؤون بآيات اللَّه، وفي الآيات- محل البحث- تستكمل البحوث السابقة عن المعاد، مع بيان جوانب منه، ومآل المجرمين في القيامة. فتبدأ الآيات بالقول: «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». ويبيّن في هذه الآية استدلال قصير موجز، وذو معنى كبير، على مسألة المعاد، وقد ورد هذا المعنى بعبارة اخرى في بعض آيات القرآن الاخرى ومنها: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مّنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلقُ الْعَلِيمُ» «1». و الآية الاخرى تجسد حالة المجرمين يوم القيامة: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ».

«يبلس»: مأخوذ من مادة «إبلاس» وتعني في الأصل الغم والحزن المترتبان على أثر شدة اليأس والقنوط.

فيحق للمجرمين أى ييأسوا ويبلسوا في ذلك اليوم، إذ ليس لديهم إيمان وعمل صالح فيشفع لهم في عرصات المحشر، ولا صديق حميم، ولا مجال للرجوع إلى الدنيا وتدارك ما مضى. لذلك يضيف القرآن في الآية التالية قائلًا: «وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعؤُا». فلذلك يكفرون بهذا المعبودات من دون اللَّه ويبرأون منها «وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كفِرِينَ».

ثم يشير القرآن إلى الجماعات المختلفة من الناس في يوم القيامة، فيقول: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ».

______________________________

(1) سورة يس/ 79- 81.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 573

«يحبرون»: مأخوذة

من مادة «حبر» على زنة «قشر» ومعناها الأثر الرائق الرائع، كما يطلق هذا التعبير على حالة السرور والفرح التي يظهر أثرها على الوجه أيضاً.

و «الروضة»: معناها المكان الذي تكثر فيه الأشجار والماء، ولذلك تطلق هذه الكلمة على البساتين النضرة بأشجارها واخضرارها.

«وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِنَا وَلِقَاىِ الْأَخِرَةِ فَأُولئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ».

فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيّاً وَ حِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

التسبيح والحمد في جميع الأحوال للَّه: بعد الأبحاث الكثيرة التي وردت في الآيات السابقة في شأن المبدأ والمعاد، وقسم من ثواب المؤمنين، وجزاء المشركين وعقابهم، ففي الآيات محل البحث يذكر التسبيح والحمد والتقديس والتنزيه للَّه من جميع أنواع الشرك والنقص والعيب، إذ تقول الآية: «فَسُبْحنَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ».

وعلى هذا فقد ورد في هاتين الآيتين ذكر لأربع أوقات لتسبيح اللَّه:

1- بداية الليل «حِينَ تُمْسُونَ».

2- وطلوع الفجر «حِينَ تُصْبِحُونَ».

3- وعصراً «عَشِيًّا».

4- وعند الزوال- في الظهر- «حِينَ تُظْهِرُونَ».

وفي الآية التالية عودة إلى المعاد، ويرد القرآن المنكرين له عن طريق آخر، فيقول: «يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَىّ وَيُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ». أي: إنّ ميدان «المعاد» وميدان «نهاية الدنيا» المتمثّل أحدهما بخروج «الحي من الميت» والآخر «خروج الميت من الحي» يتكرران أمام أعينكم، فلا مجال للتعجب من أن تحيا الكائنات جميعاً، ويعودالناس في يوم القيامة إلى الحياة مرّة اخرى.

أمّا التعبير ب «يخرج الحي من الميت» المستعمل للأراضي الموات، واضح أنّ الأرض تبدوا ميتة في فصل الشتاء، ولكن في فصل الربيع

مع سقوط الغيث واعتدال الهواء، تدبّ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 574

الحركة في الأرض، وهذا ميدان المعاد الذي نراه في هذه الدنيا. وأمّا مسألة «إخراج الميت من الحي» فهي ليست شيئاً خافياً ولا مستتراً.

وأمّا ما يتعلق ب «إخراج الحي من الميت» فبالرغم من أنّه من المسلّم به- في العصر الحاضر على الأقل- أنّه لم يُر في المختبرات والمشاهدات اليومية أنّ موجوداً حيّاً يتولد من موجود ميّت، غير أنّ الثابت علمياً والمسلّم به أنّه كانت الأرض في البداية قطعة ملتهبة من النّار، ولم يوجد عليها أي موجود حي، ثم وفقاً لظروف خاصة لم يكتشفها العلم- حتى الآن- بصورة دقيقة، تولدت الموجودات الحيّة من مواد لا روح فيها بقفزة كبيرة.

لكن الذي نلمسه وندركه، هو أنّ الموجودات الميتة دائماً تكون جزءاً من الموجودات الحيّة وتكسى ثوب الحياة، فالماء والطعام اللذان نتناولهما ليسا من الموجودات الحية، لكنّهما حين يكونان في البدن ويصيران جزءاً منه يتحولان إلى موجود حي وتضاف كريات جديدة وخلايا جديدة إلى كريات البدن وخلاياه.

فعلى هذا يمكن القول بأنّ في نظام الطبيعة دائماً يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وبهذا الدليل فإنّ اللَّه الذي خلق الطبيعة قادر على إحياء الموتى في العالم الآخر.

وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)

آيات اللَّه في الآفاق وفي الأنفس: تحدثت هذه الآيات- وبعض الآيات الأخر التي تليها- عن طرائف ولطائف من دلائل التوحيد،

وآيات اللَّه وآثاره في نظام عالم الوجود، وهي تكمل البحوث السابقة.

ويتحدث القرآن هنا أوّلًا عن خلقة الإنسان التي تعد أوّل موهبة إلهيّة له، وأهمهما أيضاً، فيقول: «وَمِن ءَايتِهِ أَن خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ».

في هذه الآية إشارة دليلين من أدلة عظمة اللَّه.

الأوّل: خلق الإنسان من التراب، وربّما كان إشارة إلى الخلق الأوّل للإنسان، أي آدم عليه السلام، أو خلق جميع الناس من التراب، لأنّ المواد الغذائية التي تشكل وجود الإنسان، جميعها من التراب بشكل مباشرة أو غير مباشر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 575

الثاني: كثرة النسل «الآدمي» وانتشار أبناء «آدم» على سطح المعمورة.

و الآية الثانية من الآيات محل البحث تتحدث أيضاً عن قسم آخر من الآيات في الأنفس، التي تمثل مرحلة ما بعد خلق الإنسان، فتقول: «وَمِن ءَايتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا». أي من جنسكم والغاية هي السكينة الروحية والهدوء النفسي.

وحيث إنّ استمرار العلاقة بين الزوجين خاصة، وبين جميع الناس عامة، يحتاج إلى جذب قلبي وروحاني، فإنّ الآية تعقب على ذلك مضيفة: «وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً».

ولمزيد التأكيد تختتم الآية بالقول: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

ومن هنا يمكن الإستنتاج بأنّ الذين يهملون هذه السنّة الإلهية وجودهم ناقص، لأنّ مرحلة تكاملية منهم متوقفة، (إلّا أن توجب الظروف الخاصة والضرورة في بقائهم عزّاباً).

أمّا آخر آية- من الآيات محل البحث- فهي مزيج من آيات الآفاق وآيات الأنفس، فتبدأ بالإشارة إلى خلق السماء والأرض، فتقول: «وَمِن ءَايتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

السماوات بجميع ما فيها من كرات، وبجميع ما فيها من منظومات ومجرّات، السماوات التي مهما حلّق فيها الفكر عجز عن إدراك عظمتها ومطالعتها ... وكلّما تقدم علم الإنسان تتجلى له نقاط جديدة من عظمتها.

ثم ينتقل

القرآن إلى آية من آيات الأنفس الكبيرة فيقول: «وَاخْتِلفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ». لذلك خلق اللَّه الأصوات والألوان واختلاف الألسنة لتنظيم المجتمع البشري.

ويقول القرآن في نهاية الآية الآنفة الذكر: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّلْعَالِمِينَ».

فالعلماء يعرفون هذه الأسرار قبل كل أحد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 576

آيات عظمته- مرّةً اخرى: تعقيباً على الأبحاث السابقة حول آيات اللَّه في الآفاق وفي الأنفس، تتحدث هذه الآيات- محل البحث- حول قسم آخر من هذه الآيات العظيمة. فتتحدث في البداية عن ظاهرة «النوم» على أنّها ظاهرة مهمة من ظواهر الخلق ومثل بارز من نظام الحكيم الخالق، فتقول: «وَمِن ءَايتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ».

وتختتم الآية بإثارة العبرة بالقول: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ».

هذه الموهبة العظيمة تؤدّي إلى أن يحصل جسم الإنسان وروحه على الراحة اللازمة، فيرتفع التعب بطرو النوم الذي بمثابة وقفة لعمل البدن، ونوع من التعطيل له.

ومن المسلّم به أنّه لولا النوم لتصدّعت روح الإنسان وذبل جسمه وانهار بسرعة، ولعجل عليه العجز والشيخوخة.

و الآية التي تلتها، والتي تبيّن خامس آية من آيات عظمة اللَّه، تتجه أيضاً إلى «الآيات في الآفاق» وتتحدث عن البرق والرعد والغيث وحياة الأرض بعد موتها، فتقول: «وَمِن ءَايتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا».

«الخوف»: مما يخطر على البال من احتمال نزول الصاعقة مع البرق؛ و «الطمع»: من جهة نزول الغيث الذي ينزل بعد البرق والرعد على هيئة قطر أو مزنة.

وعلى هذا فإنّ البرق السماوي مقدمة لنزول الغيث.

ثم يضيف القرآن معقباً: «وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْىِ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا».

ويؤكّد القرآن في نهاية هذه الآية مضيفاً: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ويفهمون أنّ وراء هذه الخطة المدروسة يداً قادرة تقودها وتهديها، ولا يمكن أن تكون المسألة وليدة الصدفة والضرورة

العمياء الصّماء أبداً.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث، يقع الكلام عن آية اخرى من الآيات الآفاقية، وذلك عن تدبير نظام السماء والأرض وبقائهما ودوامهما، إذ تقول: «وَمِن ءَايتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ». أي إنّ خلق السماوات- المشار إليه في الآيات السابقة- ليس آية وحدة فحسب، بل بقاؤها ودوام نظامها أيضاً آية اخرى، فهذه الأجرام العظيمة في دورانها المنظّم حول نفسها تحتاج إلى امور كثيرة، وأهمّها المحاسبة المعقدة للقوة الجاذبة والدافعة.

وفي نهاية الآية وبالاستفادة من عامل التوحيد لإثبات المعاد، ينقل القرآن البحث إلى هذه المسألة فيقول: «ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 577

والتعبير ب «دعاكم» إشارة إلى أنّه كما أنّ أمراً واحداً منه كاف للتدبير ولنظم العالم، فإنّ دعوة واحدة منه كافية لأن تبعثكم من رقدتكم وتنشركم من قبوركم ليوم القيامة.

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)

المالكية للَّه وحده: كانت الآيات المتقدمة تتحدث حول توحيد الخالق، وتوحيد الرّب، أمّا الآية الاولى من هذه الآيات محل البحث فتتحدث عن فرع آخر من فروع التوحيد، وهو توحيد الملك فتقول: «وَلَهُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

ولأنّهم ملك يده ف «كُلٌّ لَهُ قنِتُونَ» وخاضعون.

أي إنّ زمام أمر الجميع من جهة

القوانين التكوينية كله في يده، وهم مستسلمون لقانون عالم التكوين وفق مشيئة اللَّه، شاؤوا أم أبوا.

والدليل على هذه «المالكية» هو الخالقية والربوبية، فإنّ من خلق الموجودات في البداية وتكفلها بالتدبير، فمن المسلم أنّه هو المالك الأصلي لها لا سواه.

وحيث إنّ المسائل المرتبطة بالمبدأ والمعاد هي كالنسيج الواحد في انسجامها في سلسلة الآيات الآنفة، والتي ستأتي في ما بعد، ففي الآية التالية يعود القرآن إلى موضوع المعاد، فيقول: «وَهُوَ الَّذِى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ».

إنّ القرآن يثبت في هذه الآية- بأوجز الإستدلال- مسألة إمكان المعاد، إذ يقول لهم: إنّكم تعتقدون أنّ بداية الخلق من قبل اللَّه، فعودة الخلق مرّة اخرى أيسر وأهون من بداية الخلق.

ولكن من الضروري أن نلتفت إلى هذه «اللطيفة»، وهي أنّ التعبير بالهيّن والصعب، هو

مختصر الامثل، ج 3، ص: 578

من خلال نافذتنا الفكرية، وأمّا بالنسبة للقادر المطلق فلا فرق عنده بين «الصعب والسهل». وربّما كان لهذا السبب أن عقّب القرآن في ذيل الآية مباشرة بالقول: «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

لأنّنا لو تصورنا أي وصف كمالي لأي موجود في السماء والأرض، من علمٍ وقدرة وملك وعظمة وجود وكرم، فمصداقه الأتم والأكمل هو عند اللَّه، لأنّ الجميع لديهم المحدود من الصفات، إلّاهو وحده فإنّ لديه الأوصاف غير المحدودة، والجميع لديهم أوصاف عارضة، أمّا أوصاف اللَّه فذاتية، وهو مصدر الكمالات وأساسها.

وتنتهي الآية بما هو ضرب من التأكيد أو الدليل، إذ يقول سبحانه: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». هو عزيز لا يقهر، إلّاأنّه وفي منتهى قدرته غير المحدودة لا يصدر منه فعل غير دقيق، فكلّ أفعاله وفق حكمته.

وبعد بيان قسم آخر من دلائل التوحيد والمعاد في الآيات المتقدمة، يتناول القرآن موضوع «نفي الشرك» في مثال بيّن فيقول:

«ضَرَبَ لَكُم

مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ».

هذا المثال هو لو كان لديكم- أيّها المشركون- عبيد ومماليك ف «هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمنُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِى مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ». أي إنّ عبيدكم هؤلاء يشاركونكم في أموالكم وفي ما رزقناكم، بحيث تكونون أنتم وعبيدكم سواء في مالكية هذه الأموال والنعم وتخافون أن يتصرفوا في هذه الأموال بشكل مستقل كما هو الحالة في تصرف شركاءكم الأحرار فيها أو في الميراث مثلًا ... فأنتم غير مستعدين لأن يتصرفوا في أموالكم.

فلو كان لكم عبيد وملك يمين «وهو ملك مجازي» لما رضيتم بمثل هذا الفعل منهم، فكيف تتصورون المخلوقات التي هي ملك حقيقي للَّه شركاءه، أو تزعمون أنّ بعض الأنبياء كالمسيح أو ملائكة اللَّه أو بعض المخلوقات الاخرى كالجن أو الأصنام الحجرية والخشبية شركاءه، ألا ساء ما تحكمون.

والتعبير ب «مَا رَزَقْنَاكُمْ» يشير إلى هذه اللطيفة، وهي أنّكم لستم المالكين الحقيقيين لهؤلاء العبيد والمماليك، ولا المالكين الواقعيين للمال، لأنّ كل ذلك للَّه وحده.

ويعقب القرآن في ختام الآية للتأكيد والدقة على مضمون السؤال، فيقول: «كَذلِكَ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 579

نُفَصّلُ الْأَيتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». أجل، نذكر لكم الحقائق من الأمثلة الواضحة في حياتكم لتفكروا فيها، ولكيلا تنسبوا للَّه- على الأقل- ما لا ترضون أن تنسبوه لأنفسكم.

غير أنّ هذه الآيات البينات وهذه الأمثلة الواضحة هي لأولي الألباب، لا للظالمين عبدة الهوى الجهلة الذين قلوبهم أسدال الجهل، واستوعبت آفاقهم الخرافات والعصبيات، لذلك يضيف القرآن في الآية التالية قائلًا: «بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ». ولذلك فإنّ اللَّه خلّى بينهم وبين أنفسهم بسبب أعمالهم السيئة، فتاهوا في وادي الضلالة «فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ».

ولا شك أنّ من يتركهم اللَّه ويخلّي بينهم وبين أنفسهم «وَمَا لَهُم مِّن

نصِرِينَ»

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

كان لدينا حتى الآن أبحاث كثيرة حول التوحيد ومعرفة اللَّه، عن طريق مشاهدة نظام الخلق، وتعقيباً على الآيات الآنفة الذكر، فإنّ الآية الاولى- من هذه الآيات محل البحث- تتحدث عن التوحيد الفطري، أي الإستدلال على التوحيد عن طريق المشاهدة الباطنية والدرك الضروري والوجداني، إذ يقول القرآن في هذا الصدد: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا»، لأنّها «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ». «الوجه»: معناه معروف، وهو مقدم الرأس. والمراد به هنا الوجه الباطني، ووجه القلب والروح؛ وكلمة «أقم»: مشتقة من الإقامة، ومعناه الاستقامة والوقوف بثبات (على قدم راسخة) ... وكلمة «حنيف»: مشتقة من «حَنَف»، ومعناها الميل من الباطل نحو الحق، ومن الاعوجاج نحو الاستواء والاستقامة. فمعنى الدين الحنيف هو الدين المائل نحو العدل والاستواء عن كل انحراف وباطل وخرافة وضلال.

إنّ جملة «لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» وبعدها جملة «ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ» تأكيدان آخران على مسألة كون الدين فطرياً، وعدم إمكان تغيير هذه الفطرة ...

مختصر الامثل، ج 3، ص: 580

ويضيف القرآن في الآية التالية: ينبغي أن يكون التفاتكم للدين الحنيف والفطري حالة كونكم «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» فأصلكم وأساسكم على التوحيد، وينبغي أن تعودوا إليه أيضاً.

«منيبين»: من مادة «إنابة» وهي في الأصل تعني الرجوع المكرر، وتعني هنا الرجوع نحو اللَّه والعودة نحو الفطرة (التوحيدية).

ويعقب على الأمر بالإنابة والعودة إليه، بالأمر بالتقوى، وهي كلمة تجمع

معاني أوامر اللَّه ونواهيه، إذ يقول: «وَاتَّقُوهُ» أي اتقوا مخالفة أوامره.

ثم يؤكّد القرآن على موضوع الصلاة من بين جميع الأوامر فيقول: «وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ». لأنّ الصلاة في جميع أبعادها، هي أهم منهج لمواجهة الشرك، وأشدّ الوسائل تأثيراً في تقوية أسس التوحيد والإيمان باللَّه سبحانه.

كما أنّه يؤكّد في نهيه عن «الشرك» من بين جميع النواهي فيقول: «وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ». لأنّ الشرك أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، فإنّ اللَّه لا يغفره.

وفي آخر آية- من الآيات محل البحث- يبيّن القرآن واحداً من آثار الشرك وعلائمه في عبارة موجزة ذات معنى كبير، فيقول:

لا تكونوا من المشركين الذين انقسموا في دينهم على فرق واحزاب كثيرة: «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا».

والعجيب في الأمر أنّهم على تضادّهم واختلافهم فإنّ «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ».

أجل، إنّ واحدة من علائم الشرك هي التفرقة، لأنّ المعبودات المختلفة هي منشأ الأساليب المتفاوتة وهي أساس الانفصال والتفرق.

بحث

التوحيد باعث داخلي قوي: كما أنّ الدلائل العقلية والمنطقية توجّه الإنسان، فإنّ في داخله دوافع وموانع أيضاً .. بحيث تعين له الجهة «أحياناً» من حيث يدري أو لا يدري.

وفلسفة وجودها في داخل الإنسان، هي أنّ الإنسان لا يستطيع- دائماً- أن ينتظر إيعاز العقل والمنطق، لأنّ هذا العمل قد يعطل الأهداف «الحياتية» بعض الأحيان.

فمثلًا لو أراد الإنسان أن يستلهم من منطق «لزوم بدل ما يتحلل» ضرورة تناول الطعام .. أو «لزوم استمرار النسل عن طريق التوالد والتناسل» ضرورة الممارسة الجنسية، وأن يعمل ويتحرك وفق المنطق في كل ذلك، لكان ينبغي أن ينقرض الإنسان- قبل هذا الزمان بكثير- إلّاأنّ الغريزة الجنسية من جهة وجاذبيتها، والإشتهاء للطعام من جهة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 581

اخرى، يجرانه نحو هذا الهدف شاء أم أبى. وكلّما كانت الأهداف

حياتيةً أكثر وعمومية، كانت هذه «الدوافع» أشدّ وأقوى أيضاً.

لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ هذه الدوافع على نحوين:

فبعضها باطنية (غير واعية) لا تحتاج إلى وساطة العقل والشعور، كما ينجذب الحيوان نحو الطعام والجنس دون الحاجة إلى التفكير.

وقد يكون تأثير الدوافع عن طريق الوعي، أي إنّ هذه الدوافع الداخلية تترك أثرها في العقل والتفكير وتدفعه إلى انتخاب الطريق.

وعادة يطلق على النوع الأوّل من هذه الدوافع «الغريزة» وعلى النوع الثاني «الفطرة» (فلاحظوا بدقّة).

عبادة اللَّه والإتجاه نحوه لهما مكانه في نفوس جميع الناس، وهو ما يصطلح عليه ب «الفطرة».

إنّ لدينا دلائل وشواهد مختلفة توضح بجلاء كون «الميل إلى اللَّه» فطرياً، بل تؤكّد هذا الميل في جميع اصول الدين وأبعاده:

1- إنّ دوام الإعتقاد الديني والإيمان باللَّه على إمتداد التاريخ البشري بنفسه دليل على الفطرة، لأنّه إذا كان ذلك على سبيل العادة، لما كانت له جنبة عمومية ولا جنبة دائمية، فهذا العموم وهذا الدوام دليل على فطرية الحالة.

2- إنّ المشاهدات عياناً في العالم المعاصر تكشف أنّه مع جميع ما بذل الطغاة والمستبدون- وأنظمتهم الجائرة من جهود وسعي لمحو الدين وآثاره وعن طرق مختلفة- لم يستطيعوا أن يستأصلوا الدين وجذوره من أعماق هذه المجتمعات.

3- الكشوفات الأخيرة من قبل النفسانيين وعلماء النفس في مجال أبعاد الروح الإنسانية، شاهد آخر على هذا المدعى، إذ أنّهم يقولون: «إنّ التحقيقات في المجالات النفسية تشير إلى بعد أصيل هو «البعد الديني». أو بتعبير آخر: «بعد قدسي» أو «رباني» وربّما عدّوا هذا البعد أساساً للأبعاد الثلاثة الاخرى وهي «البعد العلمي» و «البعد الجمالي» و «البعد الخيّر».

إذ يدّعون بأنّ البواعث الأساسية للروح البشرية هي هذه:

أ) دافع البحث عن الحقيقة (الشعور العلمي) وهو مصدر أنواع العلوم، والأهداف التحقيقية المستمرة، والمتابعات

في معرفة عالم الوجود.

ب) حس «الإحسان والعمل الصالح» الذي يجذب الإنسان نحو المفاهيم الأخلاقية

مختصر الامثل، ج 3، ص: 582

كالتضحية والإيثار والعدل والشهامة وأمثالها. ج) الحس «الجمالي»: وهو يجذب الإنسان نحو الفن الأصيل والأدب والمسائل الذوقية، وربّما أصبح مصدر التحول في حياة الفرد أو المجتمع أحياناً.

د) الحس «الديني»، أي الإيمان بمبدأ عال وعبادته واتّباعه.

4- إنّ التجاء الإنسان في الشدائد والمحن إلى قوة خفية وراء الطبيعة، وطلب حل المشاكل والازمات من قبل هذه القوة، لهو أيضاً شاهد آخر على أصالة هذا الدافع الباطني والإلهام الفطري، ويمكن- بضمها إلى مجموع الشواهد التي ذكرناها آنفاً- أنّ توقفنا على مثل هذا الدافع الباطني في داخلنا نحو اللَّه سبحانه.

وَ إِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَ إِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)

إنّ الآية الاولى من المقطع الذي بين أيدينا، هي في الحقيقة استدلال وتأكيد على البحث السابق في مجال كون التوحيد فطرياً، وتفتح هذا النور الإلهي عند الشدائد والصعاب، إذ تقول الآية: «وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ».

إلّا أنّهم إلى درجة من السطحية والغباء التعصب والتقليد الأعمى لأسلافهم المشركين، بحيث أنّه بمجرد انتهاء المشكلة وهبوب نسيم الرحمة الإلهية ... «ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ».

جملة «مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ» إشارة لطيفة للمعنى التالي، وهو أنّ الأساس في الفطرة هو توحيد اللَّه وعبادته، والشرك أمر عارض، حيث متى ما يئسوا منه فهم يعودون نحو الإيمان والتوحيد، شاؤوا

أم أبوا.

والطريف هنا أنّ «الرحمة» في الآية مسندة إلى «اللَّه»، فهو سبحانه مصدر الرحمة للعباد، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر إلّا أنّ الضرّ لم يسند إليه سبحانه، لأنّ كثيراً من الإبتلاءات والمشاكل التي تحوطنا هي من نتائج أعمالنا وذنوبنا.

و كلمة «ربّهم» التي تكررت في الآية تكررت في الآية مرّتين، تؤكّد على أنّ الإنسان

مختصر الامثل، ج 3، ص: 583

يحسّ بالتدبير الإلهي وربوبية اللَّه على وجوده ما لم تؤثر عليه التعليمات الخاطئة فتسوقه نحو الشرك والضلال.

أمّا الآية الاخرى فجاءت بعنوان التهديد لُاولئك المشركين، الذين ينسون ربّهم عند نيل النعم، إذ تقول: اتركهم «لِيَكْفُرُوا بِمَا ءَاتَيْنهُمْ» وليفعلوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ثم يخاطب المشركين بأن يتمتعوا بهذه النعم والمواهب الدنيوية الفانية. وسوف يرون العاقبة السيئة لذلك: «فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ».

والقرآن في الآية الاخرى يصوغ الكلام في صيغة الاستفهام المقرون بالتوبيخ فيقول: «أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ». «السلطان»: معناه ما يدل على السلطة وينتهي إلى الإنتصار عادةً، ومعناه هنا هو الدليل المحكم المقنع.

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث، فهي ترسم طريقة تفكير وروحية هؤلاء الجهلة الاغبياء الذين يقنطون ويحزنون لأقل مصيبة، فتقول: «وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ».

في حين أنّ المؤمنين الصادقين هم الذين لا يغفلون عن ذكر اللَّه عند النعم، ولا يقنطون عند الشدائد والمصيبة، إذ هم يشكرون اللَّه على نعمه، ويرون المصيبة امتحاناً واختباراً، أو يعدونها نتيجة أعمالهم، فيصبرون ويتّجهون إلى اللَّه تعالى.

ويستفاد ضمناً من هذه الآية بصورة جيدة أنّ قسماً من المصائب والإبتلاءات التي تحل بالإنسان هي- على الأقل- نتيجة أعماله وذنوبه.

إنّ جملة «فَرِحُوا بِهَا» ليس المراد منها هنا السرور

بالنعمة فحسب، بل السرور المقرون بالغرور ونوع من السكر والنشوة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 584

الآية الاولى من الآيات محل البحث تتحدث عن التوحيد والربوبية أيضاً، وانسجاماً مع سياق الآيات السابقة التي كانت تتحدث عن غرور بعض الناس الماديين عند إقبال النعمة عليهم، ويأسهم وقنوطهم عند مواجهتهم الشدائد والبلاء، فإنّها تقول: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ».

إنّ العالم هو عالم الأسباب، لكن هذه القاعدة في الوقت ذاته ليست دائمية ولا كلية، إذ يتفق أن نرى أناساً جديرين وجادّين يركضون من هنا وهناك، إلّاأنّهم لا يصلون إلى نتيجة يبلغون هدفهم، وعلى العكس منهم قد نشاهد أناساً لا يسعون ولا يجدّون وتتفتح عليهم أبواب الرزق من كل حدب وصوب.

وهذه الاستثناءات كأنّها لبيان أنّ اللَّه بالرغم من جميع ما جعل للأسباب من تأثير، لا ينبغي أن يُنسى في عالم الأسباب، ولا ينبغي للإنسان أن يغفل أنّ وراء هذا العالم يداً قوية اخرى تديره كيف شاءت.

لذلك يقول القرآن في نهاية الآية: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

وحيث إنّ كل نعمة وموهبة ينالها الإنسان تحمّله وظائف ومسؤوليّات وعليه أداؤها، فإنّ القرآن يوجه الخطاب للنّبي صلى الله عليه و آله في الآية التالية قائلًا: «فَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ».

والتعبير ب «حقّه» كاشف عن أنّهم شركاء في أموال الإنسان، وإذا دفع المرء شيئاً من ماله إليهم فإنّما يؤدّي حقّهم، وليس له منّ عليهم.

إنّ القرآن يبيّن في نهاية الآية ترغيباً للمحسنين، وشرط القبول ضمناً، فيقول: «ذلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

ومع الإلتفات إلى أنّ المراد من «وَجْهَ اللَّهِ» ذاته المقدّسة، فإنّ هذه الآية تشير إلى أنّ الإنفاق وإيتاء حقّ الأقارب وأصحاب الحق الآخرين ليس كافياً، بل المهم

هو الإخلاص والنية الطاهرة والخالية من أي أنواع الرياء والمنة والتحقير وانتظار الأجر والثواب.

وتشير الآية التالية- بمناسبة البحث المتقدم عن الإنفاق الخالص- إلى نوعين من الإنفاق: أحدهما للَّه، والآخر يراد منه الوصول إلى مال الدنيا، فتقول: «وَمَا ءَاتَيْتُم مِّن رّبًا لّيَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِندَ اللَّهِ وَمَا ءَاتَيْتُم مّن زَكَوةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ».

«الربا»: معناه في الأصل «الزيادة»، وهنا أنّ المراد من الربا هو الهدايا التي يقدمها بعض

مختصر الامثل، ج 3، ص: 585

الأفراد للآخرين، ولا سيما إلى أصحاب الثروة والمال، كي ينالوا منهم أجراً أحسن وأكثر.

وبديهي أنّه في مثل هذه الهدايا لا يؤخذ بنظر الإعتبار استحقاق الطرف الآخر ولا الجدارة والأولوية، بل كل ما يهدف إليه أن تصل الهدية إلى مكان، تعود على مُهديها بمبلغ أوفر ومن الطبيعي أنّ مثل هذه الهدايا ليس فيها «جنبة» إخلاص، فلا قيمة لها من الجهة الأخلاقية والمعنوية.

فعلى هذا يكون معنى «الربا» في هذه الآية هو «الهدية والعطية»، والمراد من جملة «لّيَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ» هو أخذ الأجر الوافر من الناس. ولا شك أنّ أخذ مثل هذه الأجرة ليس حراماً، إذ ليس فيه شرط أو قرار، إلّاأنّه فاقد للقيمة الأخلاقية والمعنوية ...

وفي الآية الأخيرة- من الآيات محل البحث- عودة اخرى إلى مسألة المبدأ والمعاد، وهي الموضوع الأساس الذي ورد في كثير من آيات هذه السورة ... وتصف الآية «اللَّه» بأربعة أوصاف لتكون إشارة للتوحيد ومواجهة الشرك، ودليلًا على المعاد أيضاً فتقول: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذلِكُم مِّن شَىْ ءٍ سُبْحنَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ».

و من المسلّم به أنّ المشركين لم يكن أيّ منهم يعتقد بأنّ الخلق كان

من قِبل الأوثان، أو أنّ أرزاقهم بيد الأوثان والأصنام، أو أنّ نهاية حياتهم بأيدي هذه الأوثان كذلك، فعلى هذا يكون الجواب على هذه الأسئلة هو النفي، والاستفهام هنا استفهام إنكاري.

إنّ القرآن يقول: عندما يكون الخلق والرزق والموت والحياة بيد اللَّه، فالعبادة ينبغي أن تكون له فقط، ويكشف هذه الحقيقة بقوله: «سُبْحنَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» وهي أنّ المشركين أهانوا كثيراً مقام رب العزة إذ أشركوه في العبادة مع أوثانهم.

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 586

أساس الفساد ومصدره أعمال الناس أنفسهم: كان الكلام في الآيات االسابقة عن الشرك، ونعلم أنّ أساس جميع المفاسد هو الغفلة عن أصل التوحيد والتوجه نحو الشرك، لذلك فإنّ القرآن- في هذه الآيات محل البحث- يتحدث عن ظهور الفساد في الأرض بسبب أعمال الناس أنفسهم، فيقول: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ». واللَّه يريد أن يريهم ما قدموه و «لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».

والآية الآنفة الذكر تبيّن المعنى الواسع حول إرتباط الفساد بالذنب، الذي لا يختص بأرض «مكة» والحجاز، ولا بعصر النبي صلى الله عليه و آله.

وفي الآية التالية يأمر اللَّه الناس بالسير في الأرض ليروا شواهد كثيرة «حيّة» من مسألة ظهور الفساد في الأرض بسبب المعاصي والذنوب من

قبل الناس. ويوصي نبيّه صلى الله عليه و آله أن يأمرهم بذلك، فيقول: «قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ».

أجل «كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ». والشرك أساس الفساد والانحراف والضلال.

وحيث إنّ التصور والوعي والإنتباه، ثم العودة والإنابة إلى اللَّه، كل ذلك لا يكون- دائماً- مفيداً ومؤثراً، ففي الآية التالية يوجه القرآن الخطاب للنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله قائلًا: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ الْقَيّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّامَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ».

أي يتفرقون «فريق في الجنّة وفريق في السعير».

ووصف الدين بأنّه «قيّم» مع ملاحظة أنّ «القيّم»: معناه الثابت والقائم، هو إشارة إلى أنّ هذا التوجه المستمر «أو الإقامة» هي للدين .. أي لأنّ الإسلام دين ثابت ومستقيم وذو نظام قائم في الحياة المادية والمعنوية للناس، فلا تمل عنه أبداً، بل أقم وجهك للدين القيم.

وإنّما وجه الخطاب للنبيّ صلى الله عليه و آله ليعرف الآخرون واجبهم ووظيفتهم أيضاً.

والتعبير ب «يصّدّعون» من مادة «صدع» معناه في الأصل: كسر الإناء، ثم انتقل بالتدريج إلى أي نوع من أنواع التفرق والتشتت، وهنا إشارة إلى انفصال صفوف أهل الجنان عن صفوف أهل النيران.

و الآية التالية بيان لهذا الإنفصال في يوم القيامة، إذ تقول: «مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ».

«يمهدون»: مشتقة من «المهد» وكما يقول الراغب في مفرداته فإنّ معناه السرير المعدّ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 587

للطفل، ثم توسعوا في المعنى فصار المهد والمهاد لكل مكان مهيأ ومعد «وفيه منتهى الدعة والراحة» وقد انتخب هذا التعبير لأهل الجنّة والمؤمنين الصالحين، من هذه الجهة.

ومن الطريف أنّ القرآن اكتفى في شأن الكفار بالتعبير ب «مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» ولكن بالنسبة للمؤمنين تضيف الآية التالية: أنّ المؤمنين

لا يرون أعمالهم فحسب، بل يوليهم اللَّه من مواهبه وفضله فيقول: «لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ».

وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (50)

ومن المسلّم به أنّ هذا الفضل لا يشمل الكفار إذ: «إِنَّهُ لَايُحِبُّ الْكفِرِينَ».

قلنا: إنّ في هذه السورة قسماً مهمّاً «يستلفت النظر» من دلائل التوحيد وآيات اللَّه، مبيناً في سبع آيات تبدأ كل منها بقوله:

«وَمِن ءَايَاتِهِ» قرأنا ستّ آيات منها بصورة متتابعة، والآية الاولى من الآيات أعلاه هي سابع الآيات التي مرّت، وآخرها.

وحيث كان الكلام في الآيات السابقة عن الإيمان والعمل الصالح، فبيان دلائل التوحيد- أيضاً- تأكيداً على ذلك. تقول هذه الآية: «وَمِنْ ءَايتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَاتٍ». فهي تمضي سابقةً للغيث في حركتها، فتجمع القطع المتفرقة من الغيوم وتربط بينها وتؤلفها وتحملها إلى الأرض اليابسة العطشى، وتغطي صفحة السماء، ومع تغير درجة حرارة الجو تهي ء المطر للنزول من هذه الغيوم.

ولذلك فنحن نقرأ في تعقيب الآية قوله تعالى: «وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 588

أجل،

إنّ الرياح هي وسيلة لتكاثر النعم العديدة في مجال الزراعة والتدجين، وهي وسيلة للحمل والنقل أيضاً، وأخيراً فهي سبب للإزدهار التجاري. وفي الآية التالية يقع الكلام عن إرسال الأنبياء إلى قومهم، في حين أنّ الآية التي بعدها تتحدث عن هبوب الرياح مرّة اخرى، ولعل وجود هذه الآية بين آيتين تتحدثان عن نعمة هبوب الرياح له جانب اعتراضي.

ولعل ذكر النبوة إلى جانب هذه المسائل، إنّما هو لإكمال البحث المتعلق بالمبدأ والمعاد.

إنّ الآية تقول: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيّنَاتِ». أي المعجزات والدلائل الواضحة والبراهين العقلية، فاستجاب جماعة منهم لهذه الدلائل، ولم يستجب آخرون لها برغم النصائح «فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» ونصرنا المؤمنين «وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ».

وبالمجموع تعطي الآية هذا المعنى: «إنّ نصر المؤمنين من المسلّم به هو في عهدتنا وهذا الوعد سنجعله عملياً دون الحاجة إلى نصر من الآخرين».

أمّا الآية الاخرى فتعود ثانية لذكر نعمة هبوب الرياح فتقول: «اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا» «1». أي القطع الصغيره المتراكمة ثم تخرج قطرات المطر منها على شكل حبات صغيرة: «فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِللِهِ» «2».

ويضيف القرآن في نهاية الآية قائلًا: «فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ».

ثم تأتي الآية الاخرى بعدها فتقول: «وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ» «3».

وإنّما يدرك هذا اليأس أو تلك البشارة أمثال العرب الذين يعيشون في رحلاتهم وتنقّلهم في الصحراء، ولحياتهم علاقة وصلة قريبة مع هذه القطرات.

______________________________

(1) «الكِسَف»: جمع «كسفَة» ومعناها القطعة، وهي هنا- كما يبدو- إشارة إلى القطعات (من الغيوم) المتراكمة بعضها فوق بعض فتجعلها غليظة وشديدة، وذلك حين تكون الغيوم مهيأة لنزول المطر.

(2)

«الودق»: على وزن (الحلق)، وتطلق على ذرات الماء الصغيرة كمثل الغبار أحياناً، إذ تتناثر عند نزول الغيث في السماء، كما تطلق على قطرات «المطر» المتفرقة أحياناً.

(3) «مبلس»: مأخوذة من مادة الإبلاس، ومعناها اليأس وعدم الرجاء.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 589

وفي آخر آية- من الآيات محل البحث- يتوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله قائلًا: «فَانظُرْ إِلَى ءَاثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا».

والتعبير ب «رَحْمَتِ اللَّهِ» في شأن المطر هو إشارة الآثار المباركة فيه من جهات مختلفة.

ومع الإلتفات إلى العلاقة بين المبدأ والمعاد في المسائل المختلفة، فإنّ «القرآن» يضيف قائلًا في نهاية الآية: «إِنَّ ذلِكَ لَمُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

وَ لَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَ لَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَ مَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)

حيث إنّ الكلام كان- في الآيات السابقة- عن الرياح المباركة التي كانت مبشرات بالغيث والرحمة، ففي أوّل آية من الآيات أعلاه إشارة إلى الرياح المدمرّة والتي تجلب الضرر، إذ يقول القرآن في هذا الصدد: «وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ».

اولئك هم الضعفاء الحمقى فهم قبل نزول الغيث مبلسون آيسون، وبعد نزوله مستبشرون، وإذا هبت ريح صفراء في بعض الأيام وابتلوا مؤقتاً تراهم يتصارخون وبالكفر يجأرون ويتجرأون.

على العكس من المؤمنين الصادقين الذين هم بنعمة اللَّه مستبشرون وعليها يشكرون، وعند نزول المصائب والمشاكل تراهم صابرون.

«مصفراً»:

مشتقة من «الصُفرة» وهي لون معروف؛ ويعتقد أكثر المفسرين أنّ الضمير في «رأوه» يعود على الشجر والنباتات التي تصفر وذبل على أثر هبوب الرياح المخربة.

وفي الآيتين التاليتين بمناسبة البحث الوارد في الآية السابقة- فإنّ الناس يقسمون إلى أربعة طوائف:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 590

1- طائفة «الموتى» الذين لا يدركون أيّة حقيقة، وإن كانوا أحياء في الظاهر.

2- وطائفة «الصُم» الذين هم غير مستعدين للاستماع إلى الكلام الحق.

3- وطائفة «العمي» الذي حُرموا من رؤية وجه الحق.

4- وأخيراً طائفةالمؤمنين الصادقين الذين لهم قلوب يفقهون بها، ولهم أعين يبصرون بها، ولهم آذان يسمعون بها.

فتقول الآية الاولى: «فَإِنَّكَ لَاتُسْمِعُ الْمَوْتَى ، ولذلك لا تؤثر مواعظك في أصحاب القلوب الميتة. وكذلك «وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ».

وتأتي الآية الثانية لبيان بقية الطوائف فتقول: «وَمَا أَنتَ بِهدِ الْعُمْىِ عَن ضَللَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بَايَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ».

إنّ القرآن لديه ما هو أفضل من «الحياة والموت الماديين والجسمانيين» وأفضل من السمع والبصر الظاهريين فلديه نوع اسمى من هذه الحياة والموت والسمع والبصر، وتكمن فيها سعادة الإنسان أو شقاؤه.

وفي آخر آية- من الآيات محل البحث- يشير القرآن إلى دليل آخر من أدلة التوحيد، وهو دليل الفقر والغنى، ويكمل البحوث التي تدور حول التوحيد في هذه السورة، فيقول: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً».

كنتم في البداية ضعافاً إلى درجة أنّكم لم تكن لكم القدرة على طرد الذباب عنكم، أو أن تحافظوا على لعاب أفواهكم أن يسيل، هذا من الناحية الجسمية، أمّا من الناحية الفكرية فمصداقة قوله تعالى: «لَاتَعْلَمُونَ شَيًا» بحيث لم تعرفوا حتى أبويكم المشفقين عليكم. لكن- قليلًا قليلًا- صرتم ذوي رشد

وقوة، وصار لكم جسم قوي، وفكر جيد، وعقل مقتدر إدراك واسع. ومع هذه الحال لم تستطيعوا أن تحافظوا على هذه القوة، فمثلكم كمن يصعد من طرف الجبل إلى قمته، ثم يبدأ بالإنحدار من القمة إلى قعر الوادي، الذي يمثل «مرحلة ضعف الجسم والروح».

هذا التغير والصعود والنزول خير دليل لهذه الحقيقة، وهي أنّه لم تكن القوة من عندكم ولا الضعف، فكل منهما كان من جهة اخرى.

أمّا آخر جملة في الآية فهي إشارة إلى علم اللَّه الواسع وقدرته المطلقة: «يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ». وهي بشارة وإنذار في الوقت ذاته، أي إنّ اللَّه مطلع على جميع نيّاتكم، وهو قدير على مجازاتكم وثوابكم.

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَ لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 591

في هذه الآيات- محل البحث- يعقب القرآن على البحوث التي كانت حول المبدأ والمعاد أيضاً، فيعود إلى بيان مشهد من مشاهد يوم القيامة الأليمة، وذلك بتجسيمه حالة المجرمين في ذلك اليوم، إذ يقول: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ» في عالم البرزخ. أجل، «كَذلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ» فإنّهم فيما سبق كانوا محرومين من إدراك الحقائق ومصروفين عنها.

والتعبير ب

«الساعة» عن يوم القيامة هو إمّا لأنّ يوم القيامة يقع في لحظة مفاجئة، أو لأنّه من جهة أنّ أعمال العباد تحاسب بسرعة هناك، لأنّ اللَّه سريع الحساب.

أمّا الآية التالية فتتحدث عن جواب المؤمنين المطلعين على كلام المجرمين الغافلين عن حالة البرزخ والقيامة فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتبِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ».

وتقديم العلم على الإيمان هو لأنّ العلم أساس الإيمان.

وجملة «فِى كِتَابِ اللَّهِ» لعلّه إشارة إلى الكتاب التكويني، أو إلى الكتاب السماوي، أو إشارة إليهما معاً، أي كان- بأمر اللَّه التكويني والتشريعي- مقدّراً أن تلبثوا مثل هذه المدّة في البرزخ، ثم تحشرون في يوم القيامة.

فحين يواجه المجرمون واقعهم المرير المؤلم يظهرون ندمهم ويتوبون ويعتذرون ممّا صنعوا، لكن القرآن يقول في هذا الصدد:

«فَيَوْمَئِذٍ لَّايَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 592

وواحد من أعذارهم أنّهم يلقون تبعات ذنوبهم على أشياخهم في الكفر والنفاق.

وأحياناً يلقون اللوم على الشيطان في تضليلهم وانحرافهم وأنّه وسوس لهم.

وفي الآية التالية إشارة لجميع المواضيع الوارد بيانها في هذه السورة ... إذ تقول: «وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلّ مَثَلٍ». لقد ذكرنا فيه الوعد والوعيد، الأمر والنهي، البشارة والإنذار، الآيات الآفاقية والأنفسية، دلائل المبدأ والمعاد والأخبار الغيبية والخلاصة ذكرنا فيه كل شى ء يمكن أن يؤثر في نفوس الناس.

وفي الحقيقة، إنّ في القرآن- بشكل عام- وسورة الروم- بشكل خاص- حيث نحن الآن في مراحلها النهائية، مجموعة من المسائل والدروس الموقظة لكل فئة، ولكل طبقة، ولكل جماعة، ولكل فكر وأسلوب.

ومع هذه الحال، فهناك طائفة لا يؤثر في قلوبهم المظلمة السوداء أي من هذه الامور، لذلك يقول القرآن في شأنهم: «وَلَئِن جِئْتَهُم

بَايَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ».

والتعبير ب «مبطلون» تعبير جامع يحمل كل معاني الدجل والإفتراء والنسب الكاذبة والفاسدة من قبل المشركين.

والآية التي بعدها تبيّن السبب في مخالفة هذه الطائفة، فتقول: إنّ لجاجة هؤلاء التي لا حدّ لها وعداءهم للحق، إنّما هو لفقدانهم الإحساس والإدراك بسبب كثرة ذنوبهم، ولأنّهم لا يعلمون شيئاً ... إذ تقول: «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ».

«يطبع»: مأخوذة من الطبع، ومعناها ختم الشي ء، وهي إشارة إلى ما كان يجري في السابق، وهو جار أيضاً اليوم إذ يختم على الشي ء كيلا يتصرف به ويُغلق بإحكام، وقد يضعون عليه القفل ويضربون عليه مادة لزجة مختومة بإشارة معينة كما بيّنا بحيث لا يمكن فتح ذلك الشي ء إلّابكسره، فيفتضح أمره بسرعة.

وكان القرآن استعمل هذا التعبير كناية عن القلوب التي لا ينفذ إليها النصح، والذين فقدوا الوجدان والعقل والعلم، ولا أمل في هدايتهم.

ومما يسترعي الإنتباه أنّ في الآيات السابقة ذكر العلم أساساً للإيمان، وفي هذه الآية ذُكر الجهل أساساً للكفر وعدم التسليم للحق.

أمّا آخر آية من السورة الروم، فهي تأمر النبي صلى الله عليه و آله أمرين مهمين، وتبشره بشارة كبرى، لتحثه على مواصلة الوقوف والتصدي للمشركين والجاهلين والسفهاء بالاستقامة والصبر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 593

تقول أوّلًا: إذا كان الأمر كذلك، فعليك بالصبر والاستقامة أمام الحوادث المختلفة، وفي مقابل أنواع الأذى والبهتان والمصاعب «فَاصْبِرْ».

لأنّ الصبر والإستقامة هما مفتاح النصر الأصيل.

وليكون النبي صلى الله عليه و آله أكثر اطمئناناً، فإنّ الآية تضيف: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ». فقد وعدك والمؤمنين بالنصر، والاستخلاف في الأرض، وغلبة الإسلام على الكفر، والنور على الظلمة، والعلم على الجهل، وسوف يُلبس هذا الوعد ثوب العمل.

وتأمر ثانياً بضبط الأعصاب والهدوء وعدم الانحراف في

المواجهة الشديدة والمتتابعة، حيث تقول الآية: «وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَايُوقِنُونَ».

«يستخفّنّك»: مشتقة من «الخفة» وهي خلاف الثقل. أي: كن رزيناً قائماً على قدميك لئلا يهزك مثل هؤلاء الأفراد ويحركوك من مكانك، وكن ثابتاً ومواصلًا للمسيرة باطمئنان، إذ أنّهم فاقدوا اليقين، وأنت مركز اليقين والإيمان.

هذه السورة بدأت بوعد إنتصار المؤمنين على الأعداء، وانتهت أيضاً بهذا الوعد، إلّاأنّ شرطها الأساس هو الصبر والاستقامة.

«نهاية تفسير سورة الروم»

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.