مختصر الامثل فی تفسیر کتاب الله المنزل المجلد 1

اشارة

عنوان و نام پديدآور : مختصر الامثل فی تفسیر کتاب الله المنزل/ناصر مکارم شیرازی

مشخصات نشر : قم: مدرسه الامام علی بن ابی طالب علیه السلام، 1428

مشخصات ظاهری : ج

وضعیت فهرست نویسی : در انتظار فهرستنویسی

شماره کتابشناسی ملی : 1148393

المقدمه

مقدمّة:

إنّ القرآن الكريم يمثّل أعظم رأسمال في حياتنا نحن المسلمين ففي هذا الكتاب السماوي كل شي ء يتصل بحياة الإنسان الدنيوية والأخروية من معارف، وأحكام، ومنهج حياة، وسياسة إسلامية، وطريقة معنوية في حركة الفرد نحو مقام القرب الإلهي وغير ذلك.

على هذا الأساس فإنّ وظيفة كل مسلم تكمن في التعرف أكثر فأكثر على مضامين هذا الكتاب الإلهي، هذا من جهة ...

ومن جهة أخرى فإنّ صوت الإسلام- بعد الصحوة الإسلامية التي يشهدها المسلمون وخاصة بعد الثورة الإسلامية في ايران- قد ملأ آفاق العالم، وأثار فضول غير المسلمين ورغبتهم في الإطلاع أكثر على أسرار ومعارف هذا السفر السماوي. ولهذا السبب ترتفع من كل مكان أصوات تطالب بترجمة وتفسير القرآن الكريم بمختلف اللغات الحيّة في العالم، وبالرغم من قصور حركة الاستجابة لهذه المطالبات على مستوى الواقع، إلّاأننا يجب علينا السعي بجدّية لنكون على مستوى الأمل والطموح في عملية الاستجابة وتحقيق هذه المطالبات.

ولحسن الحظ فإنّ حضور القرآن الكريم في حركة حياة المسلمين الفردية والاجتماعية في العالم، وخاصة في أجواء بلدنا ايران، يزداد ويشتد يوماً بعد آخر، وعدد القرّاء الكبار والحافظين الأجلاء والمفسّرين العارفين في مجتمعنا والحمد اللَّه، ليس بالقليل، وقد صار فرع التفسير في الحوزة العلمية في قم أحد الفروع التخصصية المهمّة في الدراسات العلمية في الحوزة التي تحظى باستقبال واسع من قبل الطلّاب وصار درس التفسير من الدروس الرسمية في الحوزة وأحد موارد الامتحان فيها، ومن هنا جاء «التفسير الأمثل» لعبّر

عن استجابة طبيعية لهذه المرحلة، وهي تفسير يتميّز بالوضوح والمرونة والسهولة وفي ذات الوقت عميق المضامين دقيق المحتويات وناظر في معارفه لما يعيشه المسلمون من مسائل وتحديات يفرضها الواقع الاجتماعي والحضاري في حركة الحياة. ولعل من عوامل استقبال الناس الواسع لهذا التفسير هو ما تقدم من توجّه الناس في العصر الحاضر للقرآن الكريم.

وبالرغم من أنّ جهوداً كبيرة بذلت ولمدّة خمسة عشر سنة، لإخراج هذا التفسير إلى حيز الوجود وبمشاركة مجموعة من الفضلاء الأعزاء في الحوزة العلمية في قم وهم حجج الإسلام السادة: محمد رضا الآشتياني، محمد جعفر الإمامي، داود الالهامي، أسد اللَّه الإيماني، عبدالرسول الحسني، السيد حسن الشجاعي، السيد نور اللَّه الطباطبائي، محمود عبداللهي، محسن قراءتي،

مختصر الامثل، ج 1، ص: 6

محمد محمدي الاشتهاردي، ومساهمة الاخوة الأفاضل الاستاذ محمد علي آذرشب، الشيخ محمد رضا آل صادق، الاستاذ خالد توفيق عيسى السيد محمّد الهاشمي، الاستاد قصي هاشم فاخر، الاستاذ أسد مولوي، الشيخ مهدي الأنصاري، والسيد أحمد القبانچي، والشيخ هاشم الصالحي في تنقيح هذا السفر الجليل.

ولكن الاستقبال الواسع، الذي حظى به هذا التفسير من قبل مختلف شرائح المجتمع الإسلامي بما فيهم خواننا أهل السنّة، قد أزال جميع الاتعاب المذكورة وغرس في قلوب الأعزاء الأمل بأن يقع هذا العمل مورد قبول ورضا اللَّه تبارك وتعالى.

*** وبعد طبع ونشر «التفسير الأمثل» طلب الكثير من الناس العمل على نشر خلاصة لهذا التفسير القيّم، ولرغبتهم في التعرف على مضمون إجمالي للآيات الكريمة وبنفقات أقل وفي ذات الوقت يستفاد من هذه الخلاصة بعنوان متن دراسي في عملية التفسير.

هذا الطلب المتكرر دعانا للتفكير في القيام بتخليص جميع هذه الدورة التفسيرية المكوّنة من 15 جزءاً في خمسة أجزاء، ولكن هذا العمل لم يكن باليسير وقد استغرق التحضير

ودراسة جميع تفاصيله مدّة من الزمان حتى أخذ حجّة الإسلام الشيخ الفاضل أحمد علي بابائي- دامت تأييداته- على عهدته إنجاز هذا المشروع المهم.

وبدوري فقد كنت أقوم بعملية الاشراف ومطالعة ما كتب فضيلته باستمرار وأبدي ملاحظاتي بالمقدار اللازم في الموارد التي تحتاج إلى إلفات نظر وتذكير، وبالجملة فأنا اعتقد أنّ هذا العمل- وبحمد اللَّه- هو عمل قيّم ومثمر ويتضمّن شرحاً وافياً للآيات الشريفة من جهة، وتفسيراً مختصراً لمن يروم قراءة تفسيرية سريعة للقرآن الكريم، وقد سمّي «مختصر الأمثل».

وإذا أتقدم بالشكر والتقدير للجهود التي بذلها فضيلة الشيخ في هذ السبيل، فكلّي أمل في أن يقع هذه الخلاصة، التي تتضمّن مقتطفات مهمّة وحسّاسة من التفسير الكبير، مورد قبول أصحاب الخبرة وعامّة الناس من أهل القرآن ويكون هذا الجهد ذخيرتنا جميعاً يوم القيامة.

ونسأل اللَّه سبحانه أنّ يوفّق كل العاملين على إعلاء راية القرآن في العالم ويسدّد خطاهم وينصرهم على أعدائهم.

ونسأله جلّ وعلا أن يوفّق العلماء والمفكّرين الواعين الملتزمين إلى قيادة هذا التحرك الإسلامي المتصاعد في كل أرجاء العالم الإسلامي، قيادة أصلية قائمة على هدى القرآن الكريم والسنّة الشريفة، إنّه تعالى سميع مجيب.

قم- الحوزة العلمية

ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 7

1. سورة الفاتحة

خصائص السورة: لهذه السورة مكانة متميزة بين سائر سور القرآن الكريم، وتتميز بالخصائص التالية:

1- سياق السورة: تختلف سورة الحمد عن سائر سور القرآن في لحنها وسياقها، شاء اللَّه في هذه السورة أن يعلّم عباده طريقة خطابهم له ومناجاتهم إيّاه.

تبدأ هذه السورة بحمد اللَّه والثناء عليه، وتستمر في إقرار الإيمان بالمبدأ والمعاد «باللَّه ويوم القيامة»، وتنتهي بالتّضرع والطلب.

2- سورة الحمد أساس القرآن: في تفسير العياشي أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال لجابر بن عبد اللَّه الأنصاري: «يا

جابر! ألا اعلّمك أفضل سورة أنزلها اللَّه في كتابه»؟ فقال له جابر: بلى بأبي أنت وامّي يا رسول اللَّه، علّمنيها. فعلّمه الحمد ام الكتاب. ثم قال: «يا جابر ألا اخبرك عنها»؟ قال:

بلى بأبي أنت وامي، فأخبرني فقال: «هى شفاء من كل داء، إلّاالسّام، والسّام الموت».

وفي تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «والذي نفسي بيده ما أنزل اللَّه في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، هى ام الكتاب وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بين اللَّه وبين عبده ولعبده ما سأل».

«الام»: يعني هنا الأساس والجذر، ولعل ابن عباس ينطلق من هذا الفهم إذ يقول:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 8

«إنّ لكل شي ء أساساً ... وأساس القرآن الفاتحة» «1».

وفي تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أيّما مسلم قرأ فاتحة الكتاب اعطي من الأجر كأنّما قرأ ثلثي القرآن واعطي من الأجر كأنّما تصدّق على كل مؤمن ومؤمنة».

3- سورة الحمد شرف النبي صلى الله عليه و آله: يتحدّث القرآن الكريم عن سورة الحمد باعتبارها هبة إلهية لرسوله الكريم، ويقرنها بكل القرآن إذ يقول: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ» «2».

4- التأكيد على تلاوة هذه السورة: تلاوة هذه السورة تبعث الروح والإيمان والصفاء في النفوس، وتقرّب العبد من اللَّه، وتبعده عن ارتكاب الذنوب والانحرافات، ولذلك كانت ام الكتاب صاعقة على رأس (إبليس) كما ورد في تفسير نور الثقلين عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: «رنّ إبليس أربع رنّات، أوّلهن يوم لعن، وحين اهبط إلى الأرض، وحين بعث محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله- على حين فترة من الرسل، وحين انزلت ام الكتاب».

محتوى السورة: يمكن

تقسيم هذه السورة، من جهة أخرى إلى قسمين: قسم يختص بحمد اللَّه والثناء عليه، وقسم يتضمن حاجات العبد. وإلى هذا التقسيم يشير الحديث الشريف في عيون الأخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

«قال اللَّه عزّ وجلّ: قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل.

إذا قال العبد: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ». قال اللَّه جلّ جلاله: بَدأ عبدي باسمي وحق عليّ أن اتمّم له اموره وابارك له في أحواله.

فإذا قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العَالَمِينَ». قال اللَّه جلّ جلاله: حمدني عبدي وعلم أنّ النعم التي له من عندي، وأنّ البلايا التي دفعت عنه فبتطوّلي، اشهدكم أنّي اضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا.

وإذا قال: «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ». قال اللَّه جلّ جلاله: شهد لي عبدي أنّي الرّحمن الرّحيم، اشهدكم لِاوفّرنّ من رحمتي حظّه ولُاجزلنّ من عطائي نصيبه.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، بداية سورة الحمد.

(2) سيأتي تفسير «سبعاً من المثاني» في ذيل الآية (87) من سورة الحجر.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 9

فإذا قال: «مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ». قال اللَّه تعالى: اشهدكم كما اعترف بأنّي أنا مالك يوم الدّين لُاسهّلنّ يوم الحساب حسابه، ولأتقبّلنّ حسناته، ولأتجاوزنّ عن سيّئاته.

فإذا قال العبد: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ». قال اللَّه عزّ وجلّ: صدق عبدي، إيّاي يعبد اشهدكم لُاثيبنّه على عبادته ثواباً يغبطه كل من خالفه في عبادته لي.

فإذا قال: «وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ». قال اللّه تعالى: بي استعان عبدي، وإليّ إلتجأ، اشهدكم لُاعيننّه على أمره، ولُاغيثنّه في شدائده ولآخذنّ بيده يوم نوائبه.

فإذا قال: «اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ». إلى آخر السورة، قال اللَّه عزّ وجلّ: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وقد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمّل وآمنته ممّا

منه وجل».

لماذا سمّيت فاتحة الكتاب؟ «فاتحة الكتاب» اسم اتّخذته هذه السورة في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كما يبدو من الأخبار والأحاديث المنقولة عن النبي الأعظم صلى الله عليه و آله.

وهذه المسألة تفتح نافذة على مسألة مهمة من المسائل الإسلامية، وتلقي الضوء على قضية جمع القرآن، وتوضّح أنّ القرآن جُمع بالشكل الذي عليه الآن في زمن الرسول صلى الله عليه و آله، خلافاً لما قيل بشأن جمع القرآن في عصر الخلفاء، فسورة الحمد ليست أوّل سورة في ترتيب النّزول حتى تسمى بهذا الإسم، ولا يوجد دليل آخر لذلك، وتسميتها بفاتحة الكتاب يرشدنا إلى أنّ القرآن قد جمع في زمن الرسول صلى الله عليه و آله بهذا الترتيب الذي هو عليه الآن.

وثمّة أدلة اخرى تؤيّد حقيقة جمع القرآن بالترتيب الذي بأيدينا اليوم في عصر الرسول صلى الله عليه و آله وبأمره.

روى علي بن إبراهيم القمي في تفسيره عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لعليّ: يا علي! القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس، فخذوه واجمعوه ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة فانطلق عليّ فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه في بيته وقال: لا أرتدي حتى أجمعه».

وهنا يثار سؤال حول المشهور بين بعض العلماء بشأن جمع القرآن بعد عصر النبي صلى الله عليه و آله، وفي الجواب نقول: إنّ ما روي بشأن جمع القرآن على يد الإمام علي عليه السلام بعد عصر الرسول، لم يكن جمعاً للقرآن وحده، بل هو مجموعة تتضمن القرآن وتفسيره وأسباب نزول الآيات وما شابه ذلك ممّا يحتاجه الفرد لفهم كلام اللَّه العزيز.

كما يؤكد (حديث الثقلين) المروي في المصادر الشيعية

والسنية، حيث أوصى رسول

مختصر الامثل، ج 1، ص: 10

اللَّه صلى الله عليه و آله بوديعته: كتاب اللَّه وعترته، أنّ القرآن كان قد جمع في مجموعة واحدة في عصر الرسول الأعظم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ (7) دأبت الأمم والشعوب على أن تبدأ كل عمل مهم ذي قيمة بإسم كبير من رجالها أي أنّ أصحاب المؤسسة يبدأون العمل باسم تلك الشخصية، ولكن أليس من الأفضل أن يبدأ العمل في اطروحة اريد لها البقاء والخلود باسم وجود خالد قائم لا يعتريه الفناء؟

فصفة الخلود والأبدية يختص بها اللَّه تعالى من بين سائر الوجودات، ومن هنا ينبغي أن يبدأ كل شي ء باسمه وتحت ظله وبالإستمداد منه ولذلك كانت البسملة أوّل آية في القرآن الكريم.

والبسملة لا ينبغى أن تنحصر في اللفظ والصورة، بل لابدّ أن تتعدّى ذلك إلى الإرتباط الواقعى بمعناها، وهذا الإرتباط يخلق الإتجاه الصحيح ويصون من الإنحراف، ويؤدي حتماً إلى نتيجة مطلوبة مباركة، لذلك جاء في الحديث النبوي الشريف: «كل أمر ذي بال لم يذكر فيه اسم اللَّه فهو أبتر» «1».

وفي تفسير الميزان عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام قال: «... وينبغي الإتيان به عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك به».

وبعبارة موجزة: فإنّ بقاء العمل وخلوده يتوقف على إرتباطه باللَّه.

من هنا كانت الآية الاولى التي أنزلها اللَّه على نبيّه الكريم تحمل أمراً لصاحب الرسالة أن يبدأ مهمّته الكبرى باسم اللَّه: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ» «2».

ولذلك أيضاً فإنّ نوحاً عليه السلام حينما أراد أن يركب

السفينة في ذلك الطوفان العجيب، ويمخر عباب الأمواج الهادرة، ويواجه ألوان الأخطار على طريق تحقيق هدفه يطلب من أتباعه

______________________________

(1) بحار الأنوار 73/ 305.

(2) سورة العلق/ 1.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 11

أن يردّدوا البسملة في حركات السفينة وسكناتها: «وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَيهَا وَمُرْسَيهَا» «1».

وسليمان عليه السلام يبدأ رسالته إلى ملكة سبأ بالبسملة: «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمنَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «2».

وانطلاقاً من هذا المبدأ تبدأ كل سور القرآن بالبسملة، كي يتحقق هدفها، وهوالأصل المتمثل بهداية البشرية نحو السعادة، ويحالفها التوفيق من البداية إلى ختام المسيرة. وتنفرد سورة التوبة بعدم بدئها بالبسملة، لأنّها تبدأ بإعلان الحرب على مشركي مكة وناكثي الإيمان، وإعلان الحرب لا ينسجم مع وصف اللَّه بالرّحمن الرّحيم.

وطبيعي أنّ البدء باسم اللَّه الذي تفوق قدرته كل قدرة، يبعث فينا القوة، والعزم، والثقة، والإندفاع، والصمود والأمل أمام الصعاب والمشاكل، والإخلاص والنزاهة في الحركة.

والإمام الصّادق عليه السلام قال: «ولربّما ترك في افتتاح أمر بعض شيعتنا بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم فيمتحنه اللَّه بمكروه وينبّهه على شكر اللَّه تعالى والثناء عليه ويمحو فيه عنه وصمة تقصيره عند تركه قول بسم اللَّه» «3».

بحوث

1- هل البسملة جزء من السورة؟ أجمع علماء الشيعة على أنّ البسملة جزء من سورة الحمد وكل سور القرآن، وكتابتها في مطالع السور أفضل شاهد على ذلك، لأنّنا نعلم أن النصّ القرآني مصون عن أية إضافة، وذكر البسملة معمول به منذ زمن النبي صلى الله عليه و آله.

أضف إلى ذلك، أنّ سيرة المسلمين جرت دوماً على قراءة البسملة في مطالع السور لدى تلاوة القرآن، وثبت بالتواتر قراءة النبي لها، وكيف يمكن أن تكون أجنبية عن القرآن والنبي والمسلمون يواظبون على قراءتها لدى تلاوتهم القرآن.

والمسألة واضحة

إلى درجة كبيرة حتى روى صاحب السنن الكبرى: صلّى معاوية بالمدينة صلاة فلم يقرأ البسملة، فلما سلم ناداه من شهد ذلك من المهاجرين من كل مكان، يا معاوية! أسرقتَ أم نَسيتَ؟

2- لفظ الجلالة جامع لصفاته تعالى: إنّ كلمة «اسم» هي أوّل ما تطالعنا في البسملة من

______________________________

(1) سورة هود/ 41.

(2) سورة النمل/ 30.

(3) بحار الأنوار 73/ 305.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 12

كلمات، وهو في رأي علماء اللغة من «السموّ» على وزن «العُلوّ»، ومعناه الإرتفاع.

وبعد كلمة الإسم نلتقي بكلمة «اللَّه» وهي أشمل أسماء ربّ العالمين، فكل إسم ورد للَّه في القرآن الكريم وسائر المصادر الإسلامية يشير إلى جانب معين من صفات اللَّه، والإسم الوحيد الجامع لكل الصفات والكمالات الإلهيّة أو الجامع لكل صفات الجلال والجمال هو «اللَّه».

ولذلك اعتبرت بقية الإسماء صفات لكلمة «اللَّه» مثل: «الغفور» و «الرّحيم» و «السميع» و «العليم» و «البصير» و «الرزّاق» و «ذوالقوّة» و «المتين» و «الخالق» و «الباري» و «المصوّر».

فكلمة «اللَّه» هي وحدها الجامعة، ومن هنا اتخذت هذه الكلمة صفات عديدة في آية كريمة واحدة، حيث يقول تعالى: «هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبّرُ» «1».

وأحد شواهد جامعية هذا الاسم أنّ الإيمان والتوحيد لا يمكن إعلانه إلّابعبارة «لا إله إلّا اللَّه»، وعبارة (لا إله إلّاالقادر ... أو إلّاالخالق ... أو إلّاالرزّاق) لا تفي بالغرض.

3- الرحمة الإلهية الخاصة والعامة: المشهور بين جماعة من المفسرين أنّ صفة «الرّحمن» تشير إلى الرحمة الإلهيّة العامة، وهي تشمل الأولياء والأعداء، والمؤمنين والكافرين، والمحسنين والمسيئين، فرحمته تعمّ المخلوقات، وخوان فضله ممدود أمام جميع الموجودات.

وصفة «الرّحيم» إشارة إلى رحمته الخاصة بعباده الصالحين المطيعين، قد استحقوها بإيمانهم وعملهم الصالح، وحُرم منها المنحرفون والمجرمون.

لذلك فإنّ

صفة «الرّحمن» ذكرت بصورة مطلقة في القرآن الكريم ممّا يدل على عموميتها، لكن صفة «الرّحيم» ذكرت أحياناً مقيدة، لدلالتها الخاصّة، كقوله تعالى: «وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَّحِيمًا» «2». وأحياناً اخرى مطلقة كما في هذه السورة.

وفي الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال: «واللَّه إله كل شي ء الرّحمن بجميع خلقه، والرّحيم بالمؤمنين خاصة». لِم لَم تَرد بقية صفات اللَّه في البسملة؟ في البسملة ذكرت صفتان للَّه فقط هما:

الرحمانية والرحيمية، فما هو السبب؟

______________________________

(1) سورة الحشر/ 23.

(2) سورة الأحزاب/ 43.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 13

الجواب يتضح لو عرفنا أنّ كل عمل ينبغي أن يبدأ بالإستمداد من صفة تعم آثارها جميع الكون وتشمل كل الموجودات، وتنقذ المستغيثين في اللحظات الحساسة.

هذه حقيقة يوضحها القرآن في الآية (156) من سورة الأعراف إذ يقول: «وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْ ءٍ».

ومن جانب آخر نرى الأنبياء وأتباعهم يتوسلون برحمة اللَّه في المواقف الشديدة الحاسمة. فقوم موسى تضرعوا إلى اللَّه أن ينقذهم من تجبّر فرعون وظلمه، وتوسلوا إليه برحمته فقالوا: «وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ» «1».

وبشأن هود وقومه، يقول القرآن: «فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحمَةٍ مِنَّا» «2».

فإنّ أفعال اللَّه تقوم أساساً على الرحمة، والعقاب له طابع استثنائي لا ينزل إلّافي ظروف خاصة، كما نقرأ في دعاء الجوشن الكبير المروية عن آل بيت رسول اللَّه: «يا من سبقت رحمتُه غضبَه».

فالمجموعة البشرية السائرة على طريق اللَّه ينبغي أن تقيم نظام حياتها على هذا الأساس أيضاً، وأن تقرن مواقفها بالرحمة والمحبة، وأن تترك العنف إلى المواضع الضرورية.

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) العالم مغمور في رحمته تعالى: بعد البسملة، يأتي أول واجبات العباد وهو أن يستحضر دوماً مبدأ عالم الوجود، ونعمه اللامتناهية، هذه النعم التي تحيطنا وتغمر وجودنا، وتهدينا إلى معرفة اللَّه من جهة، وتدفعنا على

طريق العبودية من جهة اخرى.

وعندما نقول أنّ النعم تشكّل دافعاً ومحرّكاً على طريق العبودية، لأنّ الإنسان مفطور على البحث عن صاحب النعمة حينما تصله النعمة، ومفطور على أن يشكر المنعم على إنعامه.

من هنا فإنّ علماء الكلام (علماء العقائد) يتطرقون في بحوثهم الأولية لهذا العلم إلى «وجوب شكر المنعم» باعتباره أمراً فطرياً وعقلياً دافعاً إلى معرفة اللَّه سبحانه.

وإنّما قلنا إنّ النعم تهدينا إلى معرفة اللَّه، لأنّ أفضل طريق وأشمل سبيل لمعرفته سبحانه، دراسة أسرار الخليقة، وخاصة ما يرتبط بوجود النعم في حياة الإنسان.

______________________________

(1) سورة يونس/ 86.

(2) سورة الأعراف/ 72.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 14

وممّا تقدم نفهم لماذا ابتدأت سورة الحمد بعبارة: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

«الحمد» في اللغة: الثناء على عمل أو صفة طيبة مكتسبة عن اختيار، أي حينما يؤدّي شخص عملًا طيّباً عن وعي، أو يكتسب عن اختيار صفة تؤهله لأعمال الخير فإنّنا نحمده ونثني عليه. ولو علمنا أنّ الألف واللام في (الحمد) هي لاستغراق الجنس، لعلمنا أنّ كل حمد وثناء يختص باللَّه سبحانه دون سواه.

فثناؤنا على الآخرين ينطلق من ثنائنا عليه تعالى، لأنّ مواهب الواهبين كالأنبياء في هدايتهم للبشر، والمعلمين في تعليمهم، والكرماء في بذلهم وعطائهم، والأطباء في علاجهم للمرضى وتطبيبهم للمصابين، إنّما هي في الأصل من ذاته المقدسة.

وهكذا الشمس حين تغدق علينا بأشعتها، والسحب بأمطارها، والأرض ببركاتها، كل ذلك منه سبحانه، ولذلك فكل الحمد له.

جدير بالذكر أنّ الحمد ليس بداية كل عمل فحسب، بل هو نهاية كل عمل أيضاً كما يعلمنا القرآن. يقول سبحانه في الآية (10) من سورة يونس عن أهل الجنة: «دَعْوَيهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَيهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

أمّا كلمة «ربّ»: فهي في الأصل بمعنى مالك وصاحب

الشي ء الذي يهتم بتربيته واصلاحه. وكلمة «عالمين»: جمع «عالم» والعالم: مجموعة من الموجودات المختلفة وحين تجمع بصيغة «عالمين» فيقصد منها كل مجموعات هذا العالم.

وفي تفسير نور الثقلين عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في تفسير «ربّ العالمين» قال:

«ربّ العالمين وهم الجماعات من كل مخلوق من الجمادات والحيوانات».

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) إنّ صفتي «الرّحمن» و «الرّحيم» تتكرران في البسملة والحمد، «والملتزمون» بذكر البسملة في السورة يكررون هاتين الصفتين في صلواتهم اليومية الواجبة ثلاثين مرّة، وكذلك في الحمد وبذلك يصفون اللَّه برحمته ستين مرّة يومياً. وهذا في الواقع درس لكل جماعة بشرية سائرة على طريق اللَّه، وتواقة للتخلق بأخلاق اللَّه، أنّه درس يبعد البشرية عن تلك الحالات التي شهدها تاريخ الرق في ظل القياصرة والأكاسرة والفراعنة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 15

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) الإيمان بيوم القيامة: في هذه السورة تلفت الأنظار إلى أصل مهم آخر من اصول الإسلام، هو يوم القيامة: «مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ» وبذلك يكتمل محور المبدأ والمعاد، الذي يعتبر أساس كل إصلاح أخلاقي واجتماعي في وجود الإنسان.

إنّ تعبير «مالك» يوحي بسيطرة اللَّه التامة وهيمنته المستحكمة على كل شي ء وعلى كل فرد في ذلك اليوم، حيث تحضر البشرية في تلك المحكمة الكبرى للحساب، وتقف أمام مالكها الحقيقي للحساب، وترى كل ما فعلته وقالته، بل وحتى ما فكرت به، حاضراً، فلا يضيع أي شي ء- مهما صغر- ولا ينسى، والإنسان- وحده- يحمل أعباء نتائج أعماله، بل نتائج كل سنّة استنّها في الأرض أو مشروع أقامه.

ومالكية اللَّه في ذلك اليوم دون شك ليست ملكية اعتبارية، نظير ملكيتنا للأشياء في هذا العالم، فملكيتنا هذه عقد يبرم بموجب تعامل ووثائق، وينفسخ بموجب تعامل آخر ووثائق اخرى، لكن ملكية اللَّه لعالم

الكون ملكية حقيقية. وبعبارة اخرى: مالكية اللَّه نتيجة خالقيته وربوبيته، فالذي خلق الموجودات ورعاها وربّاها، وأفاض عليها الوجود لحظة بلحظة، هو المالك الحقيقي للموجودات.

وقد يسأل سائل فيقول: لماذا وصفنا اللَّه بأنّه «مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ» بينما هو مالك الكون كله؟ والجواب هو أنّ اللَّه مالك لعالم الدنيا والآخرة، لكن مالكيته ليوم القيامة أبرز وأظهر، لأنّ الإرتباطات المادية والملكيات الاعتبارية تتلاشى كلها في ذلك اليوم، وحتى الشفاعة لا تتم يومئذ إلّابأمر اللَّه: «يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» «1».

إنّ الإيمان بيوم القيامة، وبتلك المحكمة الإلهيّة الكبرى التي يخضع فيها كل شي ء للإحصاء الدقيق، له الأثر الكبير في ضبط الإنسان أمام الزلّات، ووقايته من السقوط في المنحدرات، وأحد أسباب قدرة الصلاة على النهي عن الفحشاء والمنكر هو أنّها تذكّر الإنسان بالمبدأ المطلع على حركاته وسكناته وتذكره أيضاً بمحكمة العدل الإلهي الكبرى.

وفي تفسير نور الثقلين عن علىّ بن إبراهيم: كان عليّ بن الحسين عليه السلام: «إذا قرأ «مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ» يكرّرها حتى يكاد أن يموت».

______________________________

(1) سورة الانفطار/ 19.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 16

أمّا تعبير «يَوْمِ الدّينِ» فحيثما ورد في القرآن فهو يعني يوم القيامة، وتكرر ذلك في أكثر من عشرة مواضع من كتاب اللَّه العزيز، وفي الآيات (17 إلى 19) من سورة الإنفطار ورد هذا المعنى بصراحة.

وأمّا سبب تسمية هذا اليوم بيوم الدين، فلأنّ يوم القيامة يوم الجزاء، و «الدين» في اللغة: «الجزاء»، والجزاء أبرز مظاهر القيامة، ففي ذلك اليوم تُكشف السرائر ويُحاسب الناس عمّا فعلوه بدقة، ويرى كل فرد جزاء ما عمله صالحاً أم طالحاً.

وفي تفسير مجمع البيان عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: «ملك يوم الدّين يعني يوم الحساب». و «الدين» استناداً إلى

هذه الرواية يعني (الحساب).

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) الإنسان بين يدي اللَّه: في هذه الآية يستشعر الإنسان- بعد رسوخ أساس العقيدة ومعرفة اللَّه في نفسه- حضوره بين يدي اللَّه ... يخاطبه ويناجيه، يتحدث إليه أوّلًا عن تعبده، ثم يستمد العون منه وحده دون سواه: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».

فالآيات السابقة تحدثت عن توحيد الذات والصفات، وهذه الآية تتحدّث عن توحيد العبادة وتوحيد الأفعال.

فتوحيد العبادة: يعني الإعتراف بأنّ اللَّه سبحانه هو وحده اللائق بالعبادة والطاعة والخضوع، وبالتشريع دون سواه، كما يعني تجنب أيّ نوع من العبودية والتسليم لغير ذاته المقدسة.

وتوحيد الأفعال: هو الإيمان بأنّ اللَّه هو المؤثّر الحقيقي في العالم (لا مؤثّر في الوجود إلّا اللَّه). وهذا لا يعني إنكار عالم الأسباب، وتجاهل المسببات، بل يعني الإيمان بأنّ تأثير الأسباب، إنّما كان بأمر اللَّه.

وثمرة هذا الاعتقاد أنّ الإنسان يصبح معتمداً على «اللَّه» دون سواه، ويرى أنّ اللَّه هو القادر العظيم فقط، ويرى ما سواه شبحاً لا حول له ولا قوّة، وهو وحده سبحانه اللائق بالإتكال والاعتماد عليه في كل الامور. وهذا التفكير يحرر الإنسان من الإنشداد إلى أيّ موجود من الموجودات، ويربطه باللَّه وحده. إنّ كلمة «نعبد» و «نستعين» بصيغة الجمع تشير إلى أنّ العبادة- خاصة الصّلاة- تقوم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 17

على أساس الجمع والجماعة، وعلى العبد أن يستشعر وجوده ضمن الجمع والجماعة، حتّى حين يقف متضرّعاً بين يدي اللَّه، فما بالك في المجالات الاخرى.

وهذا الاتجاه في العبادة يعني رفض الإسلام لكل ألوان الفردية والإنعزال.

الاستعانة به تعالى في كل الامور: يواجه الإنسان في مسيرته التكاملية قوى مضادة داخلية (في نفسه)، وخارجية (في مجتمعه)، ويحتاج في مقاومة هذه القوى المضادة إلى العون والمساعدة، ومن هنا يلزم

على الإنسان عندما ينهض صباحاً أن يكرر عبارة «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» ليعترف بعبوديته للَّه سبحانه، وليستمد العون منه في مسيرته الطويلة الشاقة، وعندما يجنّ عليه الليل لا يستسلم للرقاد إلّابعد تكرار هذه العبارة أيضاً، والإنسان المستعين حقّاً، هو الذي تتضاءل أمام عينيه كل القوى المتجبّرة المتغطرسة، وكل الجواذب المادية الخادعة، وذلك ما لا يكون إلّاحينما يرتفع الإنسان إلى مستوى القول:

«إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ» «1».

السير على الصراط المستقيم: بعد أن يقّر الإنسان بالتسليم لربّ العالمين، ويرتفع إلى مستوى العبودية للَّه والإستعانة به تعالى، يتقدم هذا العبد بأوّل طلب من بارئه، وهو الهداية إلى الطريق المستقيم، طريق الطّهر والخير، طريق العدل والإحسان، طريق الإيمان والعمل الصالح، ليهبه اللَّه نعمة الهداية كما وهبه جميع النعم الاخرى.

فالإنسان في هذه المرحلة مؤمن طبعاً وعارف بربّه، لكنه معرّض دوماً بسبب العوامل المضادة إلى سلب هذه النعمة والانحراف عن الصراط المستقيم.

ثمّة سؤال يتبادر إلى الإذهان عن سبب طلبنا من اللَّه الهداية إلى الصراط المستقيم، تُرى هل نحن ضالون كي نحتاج إلى هذه الهداية؟ وكيف يصدر مثل هذا الأمر عن المعصومين وهم نموذج الإنسان الكامل؟

وفي الجواب نقول: أوّلًا: إنّ الإنسان معرض في كل لحظة إلى خطر التعثر والانحراف عن مسير الهداية ولهذا كان على الإنسان تفويض أمره إلى اللَّه، والإستمداد منه في تثبيت قدمه

______________________________

(1) سورة الأنعام/ 162.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 18

على الصراط المستقيم. ثانياً: إنّ الهداية هي السير على طريق التكامل، حيث يقطع فيه الإنسان تدريجياً مراحل النقصان ليصل إلى المراحل العليا.

وممّا تقدم نفهم سبب تضرع حتى الأنبياء والأئمة عليهم السلام للَّه تعالى ليهديهم «الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ» فالكمال المطلق للَّه تعالى، وجميع ما سواه يسيرون على طريق التكامل، فما الغرابة في أن

يطلب المعصومون من ربّهم درجات عليا.

ولمزيد من التوضيح نذكر الحديث التالى:

في معاني الأخبار عن الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام قال في تفسير «إِهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»: «يعني أرشدنا للزوم الطّريق المؤدّي إلى محبّتك، والمبلّغ إلى جنّتك، والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك».

ما هو الصراط المستقيم؟ هذا الصراط كما يبدو من تفحص آيات الذكر الحكيم هو دين التوحيد والالتزام بأوامر اللَّه، ولكنه ورد في القرآن بتعابير مختلفة.

فهو الدين القيّم ونهج إبراهيم عليه السلام ونفي كل أشكال الشرك كما جاء في الآية (161) من سورة الأنعام: «قُلْ إِنَّنِى هَدَينِى رَبّى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ». فهذه الآية الشريفة عرّفت الصراط المستقيم من ناحية ايديولوجية.

إنّ «الراغب» يقول في مفرداته في معنى الصراط: إنّه الطريق المستقيم، فكلمة الصراط تتضمن معنى الاستقامة ووصفه بالمستقيم كذلك تأكيد على هذه الصفة.

خطّان منحرفان: إنّ هذه الآية تفسير واضح للصراط المستقيم المذكور في الآية السابقة، إنّه صراط المشمولين بأنواع النعم (مثل نعمة الهداية، ونعمة التوفيق، ونعمة القيادة الصالحة، ونعمة العلم والعمل والجهاد والشهادة) لا المشمولين بالغضب الإلهي بسبب سوء فعالهم وزيغ قلوبهم، ولا الضائعين التائهين عن جادة الحق والهدى.

بحثان

1- من هم «الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»؟ الذين أنعم اللَّه عليهم، تبيّنهم الآية (69) من سورة النساء إذ يقول: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقًا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 19

نحن- إذن- في سورة الحمد نطلب من اللَّه- صباحاً ومساءاً- أن يجعلنا في خط هذه المجاميع الأربعة: خط الأنبياء، وخط الصديقين، وخط الشهداء، وخط الصالحين، ومن الواضح أنّ علينا أن ننهض في كل

مرحلة زمنيّة بمسؤوليتنا ونؤدّي رسالتنا.

2- من هم «الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ»، ومن هم «الضَّالّينَ»؟ يستفاد من استعمال التعبيرين في القرآن أنّ «المغضوب عليهم» أسوأ وأحطّ من «الضالين» أي إنّ الضالين هم التائهون عن الجادة، والمغضوب عليهم هم المنحرفون المعاندون، أو المنافقون، ولذلك استحقوا لعن اللَّه وغضبه.

في الآية (6) من سورة الفتح يقول تعالى: «وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ».

«الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ». إذن يسلكون- إضافة إلى كفرهم- طريق اللجاج والعناد ومعاداة الحق، ولا يألون جهداً في توجيه ألوان التنكيل والتعذيب لقادة الدعوة الإلهيّة.

«نهاية تفسير سورة الحمد»

مختصر الامثل، ج 1، ص: 21

2. سورة البقرة

محتوى السورة: هذه السورة تتميز بشمولها لمبادى ء العقيدة ولكثير من الأحكام العملية (العبادية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية). ففي هذه السورة:

1- موضوعات حول التوحيد ومعرفة الخالق، عن طريق استنطاق أسرار الكون.

2- جولات في عالم المعاد والبعث والنشور مقرونة بأمثلة حسيّة، مثل قصّة إبراهيم عليه السلام وإحياء الطير، وقصّة عُزير عليه السلام.

3- آيات ترتبط بإعجاز القرآن وأهمية كتاب اللَّه العزيز.

4- سرد مطوّل حول وضع اليهود والمنافقين ومواقفهم المعادية للقرآن والإسلام وشدّة ضررهم في هذا المجال.

5- استعراض لتاريخ الأنبياء وخاصة إبراهيم وموسى عليهما السلام.

6- بيان لأحكام إسلامية مختلفة مثل: الصلاة، والصوم، والجهاد، والحج، والقبلة، والزواج والطلاق، والتجارة والدّين، والربا، والإنفاق، والقصاص، وتحريم بعض الأطعمة والأشربة، والقمار، وذكر نبذة من أحكام الوصية وأمثالها.

وأمّا تسميتها بالبقرة، فمأخوذة من قصّة بقرة بني إسرائيل، التي سيأتي شرحها في الآيات (73- 67) إن شاء اللَّه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 22

فضيلة السورة: في تفسير مجمع البيان: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيّ سور القرآن أفضل؟ قال:

«البقرة». قيل: أيّ آية البقرة أفضل؟ قال: «آية الكرسي».

من

اللازم هنا أن نعيد التأكيد على هذه الحقيقة، وهي أنّ ما ذكر من ثواب وفضيلة وجزاء لتلاوة بعض السور والآيات الخاصة، لا يعني- إطلاقاً- قراءتها بشكل أوراد، ولا الإكتفاء بترديد ألفاظها، بل التلاوة للفهم، والفهم من أجل التفكير، والتفكير لغرض العمل.

صحيح أنّ قراءة القرآن عمل مثاب عليه في أي حال من الأحوال، لكن الثواب الأساس يترتب على التلاوة المقرونة بالتفكير والعمل.

الم (1) ذلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) تحقيق في الحروف المقطعة في القرآن: تسع وعشرون سورة من سور القرآن تبدأ بحروف مقطعة، وهذه الحروف من أسرار القرآن، وذكر المفسرون لها تفاسير عديدة.

جدير بالذكر أنّ التاريخ لم يحدثنا أنّ عرب الجاهلية والمشركين عابوا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجود هذه الحروف المقطعة في القرآن، ولم يتخذوا منها وسيلة للطعن والإستهزاء، وهذا يشير إلى أنّهم لم يكونوا جاهلين تماماً بأسرار وجود الحروف المقطعة.

اخترنا عدداً من التفاسير باعتبار مسنديتها وانسجامها مع آخر الدراسات في هذا المجال، وسنذكر هذه التفاسير بالتدريج في بداية هذه السّورة، وسورة آل عمران، وسورة الأعراف، إن شاء اللَّه. ونبدأ الآن بأهمّها:

هذه الحروف إشارة إلى أنّ هذا الكتاب السماوي، بعظمته وأهميته التي حيّرت فصحاء العرب وغير العرب، وتحدّت الجن والإنس في عصر الرسالة وكل العصور، يتكون من نفس الحروف المتيسرة في متناول الجميع.

ومع أنّ القرآن يتكون من هذه الحروف الهجائية والكلمات المتداولة، فإنّ ما فيه من جمال العبارة وعمق المعنى يجعله ينفذ إلى القلب والروح، ويملأ النفس بالرضا والإعجاب، ويفرض احترامه على الأفكار والعقول.

وكما أنّ اللَّه تعالى خلق من التراب موجودات، كالإنسان بما فيه من أجهزة معقّدة محيّرة، وكأنواع الطيور الجميلة الرائقة، والأحياء المتنوعة، والنباتات والزهور المختلفة، وكما أنّنا

مختصر

الامثل، ج 1، ص: 23

ننتج من هذا التراب نفسه ألوان المصنوعات، كذلك اللَّه سبحانه خلق من هذه الحروف الهجائية المتداولة، موضوعات ومعان سامية، في قوالب لفظية جميلة، وعبارات موزونة، وأسلوب خاص، وهذه الحروف الهجائية موجودة تحت تصرف الإنسان، لكنه عاجز عن صنع جمل وعبارات شبيهة بالقرآن.

الأدب في العصر الجاهلي: من المهم أن نذكر هنا أنّ العصر الجاهلي كان عصراً ذهبياً للأدب العربي. فالوثائق المتوفرة بأيدينا تشير إلى أنّ العرب الحفاة الجفاة الجاهليين، كانوا يتمتعون بذوق أدبي رفيع. وكان للأدب سوق رائجة تدلّ على اهتمام العرب بلغتهم وآدابهم، و (سوق عكاظ) وأمثالها من الأسواق الأدبية تعكس هذا الإهتمام بوضوح.

والسوق المذكور كان يشهد- إضافة إلى المعاملات الاقتصادية والقضايا الاجتماعية- حركة أدبية تعرض خلالها أفضل مقطوعات الشعر والنثر، ويتم فيها انتخاب أفضل ما قيل من النظم خلال العام، وكانت القصيدة الفائزة تعدّ فخراً كبيراً للشاعر ولقبيلته.

في مثل هذا العصر من الإنتعاش الأدبي، يتحدى القرآن الناس أن يأتوا بمثله، ولكنهم عجزوا.

الشاهد الناطق على هذا المنحى من تفسير الحروف المقطعة، حديث في تفسير البرهان عن الإمام علىّ بن الحسين عليه السلام حيث يقول: «كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا هذا سحر مبين، تقوّله، فقال اللَّه: «الم* ذلِكَ الْكِتَابُ» أي يا محمّد، هذا الكتاب الّذي أنزلته عليك هو الحروف المقطّعة التي منها الف ولام وميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم».

بعد البسملة وذكر الآية الاولى من سورة البقرة يقول تعالى: «ذلِكَ الْكِتَابُ لَارَيْبَ فِيهِ».

وقوله: «لَارَيْبَ فِيهِ» ليس إدعاء، بل تقرير لحقيقة قرآنية مشهودة، وهي أنّ القرآن يشهد بذاته على حقانيته.

ومن المشهود أنّ مرّ العصور وكرّ الدهور لم يقلل من طراوة القرآن، بل إنّ حقائق القرآن،

ازدادت وضوحاً بتطور العلوم وبانكشاف أسرار الكائنات، وكلما إزداد العلم تكاملًا إزدادت آيات القرآن جلاء وسطوعاً.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 24

بحثان

1- ما هي الهداية؟ كلمة «الهداية» لها عدّة معاني في القرآن الكريم، وكلها تعود أساساً إلى معنيين:

أ) الهداية التكوينية: وهي قيادة ربّ العالمين لموجودات الكون، وتتجلى هذه الهداية في نظام الخليقة والقوانين الطبيعية المتحكمة في الوجود.

ب) الهداية التشريعية: وهي التي تتم عن طريق الأنبياء والكتب السماوية، وعن طريقها يرتفع الإنسان في مدارج الكمال.

2- لماذا اختصت هداية القرآن بالمتقين؟ واضح أنّ القرآن هداية للبشرية جمعاء، فلماذا خصّت الآية الكريمة المتقين بهذه الهداية؟

السبب هو أنّ الإنسان لا يتقبل هداية الكتب السماوية ودعوة الأنبياء، ما لم يصل إلى مرحلة معينة من التقوى (مرحلة التسليم أمام الحق وقبول ما ينطبق مع العقل والفطرة).

الأرض السبخة لا تثمر وإن هطل عليها المطر آلاف المرات، وساحة الوجود الإنساني لا تتقبل بذر الهداية ما لم يتم تطهيرها من اللجاج والتعصب والعناد، ولذلك قال سبحانه في كتابه العزيز أنّه: «هُدًى لِلْمُتَّقِينَ».

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) آثار التقوى في روح الإنسان وبدنه: في بداية هذه السورة قسم القرآن الناس حسب إرتباطهم بخط الإسلام على ثلاثة أقسام:

1- المتقون: وهم الذين تقبلوا الإسلام في جميع أبعاده.

2- الكافرون: ويقعون في النقطة المقابلة للمتقين، ويعترفون بكفرهم، ولا يأبون أن يظهروا عداءهم للإسلام في القول والعمل.

3- المنافقون: ولهم وجهان، فهم مسلمون ظاهراً أمام المسلمين، وكفار أمام أعداء الدين، وشخصيتهم الأصلية هي الكفر طبعاً وإن تظاهروا بالإسلام.

مختصر الامثل، ج 1،

ص: 25

المجموعة الثالثة تضر بالإسلام- دون شك- أكثر من المجموعة الثانية، ولذلك فإنّ القرآن يقابلهم بشدة أكثر كما سنرى.

الآيات المذكورة تدور حول المجموعة الاولى، وتطرح خصائصهم في خمسة عناوين هي:

1- الإيمان بالغيب: «الغيب والشهود» نقطتان متقابلتان، عالم الشهود هو عالم المحسوسات، وعالم الغيب هو ما وراء الحس. لأنّ «الغيب» في الأصل يعني ما بطن وخفي، وقيل عن عالم ماوراء المحسوسات «غيب» لخفائه عن حواسنا.

الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الاولى بين المؤمنين بالأديان السماوية، وبين منكري الخالق والوحي والقيامة، ومن هنا كان الإيمان بالغيب أوّل سمة ذكرت للمتقين.

«المؤمنين بالغيب» يعتقدون أنّ خالق عالم الوجود غير متناه في العلم والقدرة والإدراك، وأنّه أزلي وأبدي.

وأنّ الموت ليس بمعنى العدم والفناء، بل هو نافذة تطل على عالم أوسع وأكبر.

بينما الإنسان المادي يعتقد أنّ عالم الوجود محدود بما نلمسه ونراه، وأنّ العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور، والإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته.

ما أكبر الهوّة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون والحياة.

الرؤية الاولى تربّي صاحبها على أن ينشد الحق والعدل والخير ومساعدة الآخرين، والثانية، لا تقدم لصاحبها أي مبرر على ممارسة الامور.

من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين التفاهم والإخاء والطهر والتعاون، بينما تهيمن على حياة الماديين روح الاستعمار والاستغلال وسفك الدماء والنهب والسلب، وهذه الرؤية المادية تقمصت في عصرنا الصفات العلمية والتقدمية والتطورية. ولهذا السبب نرى القرآن يتخذ من «الإيمان بالغيب» نقطة البداية في التقوى.

2- الإرتباط باللَّه: الصفة الاخرى للمتقين هي أنّهم: «يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ».

«الصّلاة» باعتبارها رمز الإرتباط باللَّه، تجعل المؤمنين المنفتحين على عالم ماوراء الطبيعة على إرتباط دائم بالخالق العظيم، فهم لا يحنون رؤوسهم إلّاأمام اللَّه، ولا

يستسلمون إلّالربّ السماوات والأرض.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 26

مثل هذا الإنسان يشعر أنّه أسمى من جميع المخلوقات الاخرى، إذ أنّه منح لياقة الحديث مع ربّ العالمين، وهذا الإحساس الوجداني أكبر عامل في تربية الموجود البشري.

3- الإرتباط بالناس: المتقون- إضافة إلى إرتباطهم الدائم بالخالق- لهم إرتباط وثيق ومستمر بالمخلوقين، ومن هنا كانت الصفة الثالثة التي يبيّنها لهم القرآن أنّهم «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ».

يلاحظ أنّ القرآن لا يقول: ومن أموالهم ينفقون، بل يقول: «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ» وبذلك وسّع نطاق الإنفاق ليشمل المواهب المادية والمعنوية.

فالمتقون لا ينفقون أموالهم فحسب، بل ينفقون من علمهم ومواهبهم العقلية وطاقاتهم الجسميّة ومكانتهم الاجتماعية، وبعبارة اخرى ينفقون من جميع إمكاناتهم لمن له حاجة إلى ذلك دون توقع الجزاء منه.

4- الإيمان بالأنبياء عليهم السلام: الخاصة الرابعة للمتقين الإيمان بجميع الأنبياء وبرسالاتهم الإلهيّة، «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ». وفي هذا التعبير القرآني إشارة إلى أنّ المتقين يؤمنون بأنّ الأديان الإلهيّة ليست وسيلة للتفرقة والنفاق، بل على العكس وسيلة للإرتباط وعامل للشدّ بين أبناء البشر.

5- الإيمان بيوم القيامة: آخر صفة في هذه السلسلة من الصفات التي قررها القرآن للمتقين: «وَبِالْأَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ».

إنّهم يوقنون بأنّ الإنسان لم يخلق هملًا وعبثاً. فالخليقة عيّنت للكائن البشري مسيرة تكاملية لا تنتهي إطلاقاً بموته.

المتقون يقرّون بأنّ عدالة اللَّه المطلقة تنتظر الجميع، ولا شي ء من أعمال البشر في هذه الدنيا يبقى بدون جزاء.

الإيمان بيوم القيامة له أثر عميق في تربية الإنسان، يهبه الشجاعة والشهامة، لأنّ أسمى وسام يتقلده الإنسان في هذا العالم هو وسام «الشهادة» على طريق هدف مقدس إلهي، والشهادة أحبّ شي ء للإنسان المؤمن، وبداية لسعادته الأبدية.

الإيمان بيوم القيامة يصون الإنسان من ارتكاب الذنوب. فكلما قوي الإيمان قلت الذنوب.

آخر

آية في هذا البحث تشير إلى النتيجة التي يتلقاها المؤمنون المتصفون بالصفات

مختصر الامثل، ج 1، ص: 27

الخمس المذكورة. تقول: «أُوْلئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

وقد ضمن ربّ العالمين لهؤلاء هدايتهم وفلاحهم.

واستعمال حرف (على) في عبارة «عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ» يوحي بأنّ الهداية الإلهيّة مثل سفينة يركبها هؤلاء المتّقون لتوصلهم إلى السعادة والفلاح.

واستعمال كلمة «هدًى» في حالة نكرة يشير إلى عظمة الهداية التي شملهم اللَّه بها.

وجملة «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» يفيد الإنحصار كما يذكر علماء البلاغة، أي إنّ الطريق الوحيد للفلاح هو طريق هؤلاء المفلحين.

ما هي حقيقة التقوى؟ التقوى من الوقاية، أي الحفظ والصيانة، وهي بعبارة اخرى جهاز الكبح الداخلي الذي يصون الإنسان أمام طغيان الشهوات.

إنّ حالة التقوى والضبط المعنوي من أوضح آثار الإيمان باللَّه واليوم الآخر، ومعيار فضيلة الإنسان وافتخاره، ومقياس شخصيته في الإسلام، حتى أضحت الآية الكريمة: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَيكُمْ» «1» شعاراً إسلامياً خالداً.

جدير بالذكر أنّ التقوى ذات شعب وفروع، منها التقوى المالية والاقتصادية، والتقوى الاجتماعية والسياسية والتقوى الجنسية ....

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَ عَلَى سَمْعِهِمْ وَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) المجموعة الثانية: الكفار المعاندون: هذه المجموعة تقف في النقطة المقابلة تماماً للمتقين، والآيتان المذكورتان بيّنتا باختصار صفات هؤلاء. الآية الاولى تقول: إنّ الإنذار لا يجدي نفعاً مع هؤلاء، فهم متعنّتون في كفرهم «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ». بعكس الطائفة الاولى المستعدّة لقبول الحق لدى أوّل ومضة.

هذه المجموعة غارقة في ضلالها وترفض الإنصياع للحق حتى لو اتضح لديها، لأنّهم يفتقدون الأرضية اللازمة لقبول الحق والاستسلام له.

الآية الثانية تشير إلى

سبب هذا اللجاج والتعصب وتقول: «خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى

______________________________

(1) سورة الحجرات/ 13.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 28

سَمْعِهِمْ وَعَلَى أبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ» ولذلك استحقوا أن يكون «وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

الإنسان قابل للهداية طبعاً- إن لم يصل إلى هذه المرحلة- مهما بلغ به الضلال، أمّا حينما يبلغ في درجة يفقد معها حسّ التشخيص «فلات حين نجاة» لأنّه افتقد أدوات الوعي والفهم، ومن الطبيعي أن يكون في إنتظاره عذاب عظيم.

بحوث

1- سلب قدرة التشخيص ومسألة الجبر: أوّل سؤال يطرح في هذا المجال يدور حول مسألة الجبر، التي قد تتبادر إلى الأذهان من قوله تعالى: «خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ». فهذا الختم يفيد بقاء هؤلاء في الكفر إجباراً، دون أن يكون لهم اختيار في الخروج من حالتهم هذه، أليس هذا بجبر؟

القرآن الكريم يجيب على هذه التساؤل ويقول: إنّ هذا الختم وهذا الحجاب هما نتيجة إصرار هؤلاء ولجاجهم وتعنّتهم أمام الحق، واستمرارهم في الظلم والطغيان والكفر، يقول تعالى: «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ» «1».

هذه الحالة التي تصيب الإنسان، هي ردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه.

من المظاهر الطبيعية في الموجود البشري، أنّ الإنسان لو تعوّد على انحراف واستأنس به، يتخذ في المرحلة الاولى ماهية ال «حالة» ثم يتحول إلى «عادة» وبعدها يصبح «ملكة» وجزء من تكوين الإنسان حتى يبلغ أحياناً درجة لا يستطيع الإنسان أن يتخلّى عنها أبداً.

لكن الإنسان إختار طريق الانحراف هذا عن علم ووعي، ومن هنا كان هو المسؤول عن عواقب أعماله، دون أن يكون في المسألة جبر، تماماً مثل شخص فقأ عينيه وسدّ أذنيه عمداً، كى لا يسمع ولا يرى.

ولو رأينا أنّ الآيات تنسب الختم وإسدال الغشاوة إلى اللَّه، فذلك لأنّ اللَّه هو الذي منح الانحراف

مثل هذه الخاصية. (تأمّل بدقّة).

2- الختم على القلوب: في الآيات المذكورة وآيات اخرى عبّر القرآن عن عملية سلب حسّ التشخيص والإدراك الواقعي للأفراد بالفعل «ختم» وأحياناً بالفعل «طبع» و «ران».

في اللغة «خَتَمَ» الإناء بمعنى سدّه بالطين أو غيره، وأصلها من وضع الختم على الكتب

______________________________

(1) سورة النّساء/ 155.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 29

والأبواب كي لا تُفتح، والختم اليوم مستعمل في الإستيثاق من الشّي ء والمنع منه كختم سندات الأملاك والرسائل السرّية الهامة. و «طبع» بمعنى ختم أيضاً.

أمّا «ران» فمن «الرين» وهو صدأ يعلو الشي ء الجليّ، واستعمل القرآن هذه الكلمة في حديثه عن قلوب الغارقين في أوحال الفساد والرّذيلة: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» «1».

المهم أنّ الإنسان ينبغي أن يكون حذراً لدى صدور الذنب منه، فيسارع إلى غسله بماء التوبة والعمل الصالح، كي لا يتحول إلى صفة ثابتة مختوم عليها في القلب.

3- المقصود من «القلب» في القرآن: لماذا نسب إدراك الحقائق في القرآن إلى القلب، بينما القلب ليس بمركز للإدراك بل مضخة لدفع الدم إلى البدن؟

أنّ القلب في القرآن له معان متعددة منها:

1- بمعنى العقل والإدراك كقوله تعالى: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ» «2».

2- بمعنى الروح والنفس كقوله سبحانه: «وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ» «3».

3- بمعنى مركز العواطف كقوله: «سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» «4».

لمزيد من التوضيح نقول: في وجود الإنسان مركزان قويان هما:

أ) مركز الإدراك، ويتكون من الدماغ وجهاز الأعصاب.

ب) مركز العواطف، وهو عبارة عن هذا القلب الصنوبري الواقع في الجانب الأيسر من الصدر، والمسائل العاطفية تؤثر أوّل ما تؤثر على هذا المركز.

حينما نواجه مصيبة فإنّنا نحسّ بثقلها على هذا القلب الصنوبري، وحينما يغمرنا الفرح فإنّنا نحسّ بالسرور والإنشراح

في هذا المركز (لاحظ بدقّة).

صحيح أنّ المركز الأصلى للإدراك والعواطف هو الروح والنفس الإنسانية، لكن المظاهر

______________________________

(1) سورة المطفّفين/ 14.

(2) سورة ق/ 37.

(3) سورة الأحزاب/ 10.

(4) سورة الأنفال/ 12.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 30

وردود الفعل الجسمية لها مختلفة. ردود فعل الفهم و الإدراك تظهر أوّلًا في جهاز الدماغ، بينما ردود فعل القضايا العاطفية كالحب والبغض والخوف والسكينة والفرح والهمّ تظهر في القلب بشكل واضح، ويحسّها الإنسان في هذا الموضوع من الجسم.

ممّا تقدم نفهم سبب إرتباط المسائل العاطفية في القرآن بالقلب (العضو الصنوبري المخصوص)، وإرتباط المسائل العقلية بالقلب (أي: العقل أو الدماغ).

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ مَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَ نُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَ لكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَ إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) المجموعة الثالثة: المنافقون: الإسلام واجه في عصر انبثاق الرسالة مجموعة لم تكن تملك الإخلاص اللازم للإيمان، ولا القدرة اللازمة للمعارضة. هذه المجموعة المذبذبة المصابة بازدواج الشخصية كان تشخيصهم صعباً لأنّهم متظاهرون بالإسلام، غير أنّ القرآن بيّن بدقّة مواصفاتهم

وأعطى للمسلمين في كل القرون والأعصار معايير حيّة لمعرفتهم. الآيات المذكورة قبلها بينت في مطلعها الخط العام للنفاق والمنافقين «1»: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ».

______________________________

(1) «المنافق»: مشتقة من «النفق» و هو الطريق النافذ فى الأرض المحفور فيها للإستتار أو الفرار.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 31

هؤلاء يعتبرون عملهم المذبذب هذا نوعاً من الشطارة والدهاء «يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا». بينما لا يشعر هؤلاء أنّهم يسيئون بعملهم هذا إلى أنفسهم، ويبدّدون بانحرافهم هذا طاقاتهم، ولا يجنون من ذلك إلّاالخسران والعذاب الإلهي. «وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّاأَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ».

في الآية التالية يبيّن القرآن أنّ النفاق في حقيقته نوع من المرض، فإنّ الإنسان السالم له وجه واحد فقط، وفي ذاته انسجام تام بين الروح والجسد، لأنّ الظاهر والباطن، والروح والجسم، يكمل أحدهما الآخر. إذا كان الفرد مؤمناً فالإيمان يتجلّى في كل وجوده، وإذا كان منحرفاً فظاهره وباطنه يدلان على انحرافه.

وازدواجية الجسم والروح مرض آخر وعلّة إضافية. إنّه نوع من التضاد والانفصال في الشخصية الإنسانية: «فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ».

وبما أنّ سنّة اللَّه في الكون اقتضت أن يتيسّر الطريق لكل سالك، وأن تتوفر سبل التقدم لكل من يجهد في وضع قدمه على الطريق. فقد أضاف القرآن قوله: «فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا».

وبما أنّ الكذب رأس مال المنافقين، يبررون به ما في حياتهم من متناقضات، ولهذا أشار القرآن في ختام الآية إلى هذه الحقيقة: «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ».

ثم تستعرض الآيات خصائص المنافقين، وتذكر أوّلًا أنّهم يتشدّقون بالإصلاح، بينما هم يتحركون على خط التخريب والفساد: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَاتُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِن لَّايَشْعُرُونَ».

ذكرنا سابقاً أنّ الإنسان، لو تمادى في الغيّ والضلال، يفقد قدرة التشخيص،

بل تنقلب لديه الموازين، ويصبح الذنب والإثم جزءً من طبيعته. والمنافقون أيضاً بإصرارهم على انحرافهم يتطبّعون بخط النفاق، وتتراءى لهم أعمالهم بالتدريج وكأنّهم أعمال إصلاحية، وتغدو بصورة طبيعة ثانية لهم.

علامتهم الاخرى: إعتدادهم بأنفسهم واعتقادهم أنّهم ذووا عقل وتدبير، وأنّ المؤمنين سفهاء وبسطاء: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا كَمَا ءَامَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا ءَامَنَ السُّفَهَاءُ».

وهكذا تنقلب المعايير لدى هؤلاء المنحرفين، فيرون الإنصياع للحق وإتّباع الدعوة الإلهيّة سفاهة، بينما يرون شيطنتهم وتذبذبهم تعقلًا ودراية! غير أنّ الحقيقة عكس ما يرون: «أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلكِن لَّايَعْلَمُونَ». أليس من السفاهة أن يضيّع الإنسان

مختصر الامثل، ج 1، ص: 32

وحدة شخصيته، ويتّجه نحو إزدواجية الشخصية وتعدد الشخصيات في ذاته، ويهدر بذلك طاقاته على طريق التذبذب والتآمر والتخريب، وهو مع ذلك يعتقد برجاحة عقله؟! العلامة الثالثة لهؤلاء، هي تلونهم بألوان معينة تبعاً لما تفرضه عليهم مصالحهم، فهم انتهازيون يظهرون الولاء للمؤمنين ولأعدائهم من الشياطين: «وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهزِءُونَ».

وبلهجة قوية حاسمة يرد القرآن الكريم على هؤلاء ويقول: «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ» «1».

الآية الأخيرة توضّح المصير الأسود المظلم لهؤلاء المنافقين، وخسارتهم في سيرتهم الحياتية الضّالة: «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّللَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ».

إنّ إزدواجية الشخصية، والتضاد بين المحتوى الداخلي والسلوك الخارجي في وجود المنافقين، يفرز ظواهر عديدة بارزة مشهودة في أعمالهم وأقوالهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي.

سعة معنى النفاق: النفاق في مفهومه الخاص صفة اولئك الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، لكن النفاق له معنىً عام واسع يشمل كل ازدواجية بين الظاهر والباطن، وكل افتراق بين القول والعمل، من هنا قد يوجد في قلب المؤمن بعض ما نسميه

«خيوط النفاق».

ففي الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ثلاث من كنّ فيه كان منافقاً وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم: من إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف» «2».

الحديث لا يدور هنا طبعاً عن المنافق بالمعنى الخاص، بل عن الذي في قلبه خيوط من النفاق، تظهر على سلوكه بأشكال مختلفة، وخاصة بشكل رياء، كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: «الرّياء شجرة لا تُثمر إلّاالشّرك الخفيّ وأصلها النّفاق» «3».

______________________________

(1) «يعمهون»: من «العَمَه» أي التردّد في الأمر، وأيضاً بمعنى عمى القلب والبصيرة بسبب التحيّر.

(2) بحار الأنوار 69/ 108/ 8.

(3) بحار الأنوار 69/ 300/ 37.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 33

خداع الضمير: الآية المذكورة تشير بوضوح إلى حقيقة خداع الضمير والوجدان، وأنّ الإنسان المنحرف الملوّث كثيراً ما يعمد إلى خداع نفسه ووجدانه للتخلص من تأنيب الضمير، ويصبح بالتدريج مقتنعاً بأنّ قبائحه ليست عملًا انحرافياً، بل هي أعمال إصلاحية «إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ». وبذلك يخدعون أنفسهم ويستمرون في غيّهم.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20) مثالان رائعان لوصف حالة المنافقين: بعد أن بيّن القرآن صفات المنافقين وخصائصهم، يقدّم مثالين متحركين لتجسيم وضعهم:

1- «مَثَلُهُمْ» المنافقين «كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا» في ليلة مظلمة، كي يهتدي

بها في الطريق ويبلغ مقصده، «فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ».

لقد ظن هؤلاء أنّهم قادرون على أن يحققوا أهدافهم بما لديهم من إمكانات إنارة محدودة، ولكن نارهم سرعان ما انطفأت بسبب عوامل جوّية، أو بسبب نفاد الوقود، وظلوا حائرين لا يهتدون سبيلًا.

ثم تضيف الآية الكريمة أنّ هؤلاء فقدوا كل وسيلة لدرك الحقائق: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ».

هذا النور الضعيف المؤقّت، إمّا أن يكون إشارة إلى الضمير والفطرة التوحيدية، أو إشارة إلى الإيمان الأوّلي لهؤلاء المنافقين حيث اسدلت عليه ستائر مظلمة على أثر التقليد الأعمى والتعصب المقيت واللجاج والعداء، فتحولت ساحة حياتهم لا إلى ظلمة، بل إلى

مختصر الامثل، ج 1، ص: 34

«ظلمات» في التعبير القرآني.

هذا التشبيه يوضّح واحدة من حقائق النفاق، وهي أنّ عمر النفاق والتذبذب لا يدوم طويلًا، قد يستطيع المنافقون لمدّة قصيرة أن يتمتعوا بمصونية الإسلام والإيمان، وبصداقة الكفار سرّاً، لكن هذه الحالة مثل شعلة ضعيفة معرضة لألوان العواصف، سرعان ما تنطفى، ويظهر الوجه الحقيقي للمنافقين. 2- في المثال الثاني صوّر القرآن حياة المنافقين بشكل ليلة ظلماء مخوفة خطرة، يهطل فيها مطر غزير، وينطلق من كل ناحية منها نور يكاد يخطف الأبصار، ويملأ الجوّ صوت مهيب مرعب يكاد يمزّق الآذان، وفي هذا المناخ القلق ضلّ مسافرٌ طريقه، وبقي في بلقع فسيح لا ملجأ فيه ولا ملاذ، لا يستطيع أن يحتمي من المطر الغزير، ولا من الرعد والبرق، ولا يهتدي إلى طريق لشدّة الظلام. هذه الصورة يرسمها القرآن على النحو التالي: «أوْ كَصَيّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ* يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أضَاءَ لَهُم مَّشَوْا

فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا».

هؤلاء يحسّون كل لحظة بخطر، لأنّهم يطؤون صحراء لا جبال فيها ولا أشجار تحميهم من خطر الرعد والبرق والصواعق.

نعم، هؤلاء حيارى مضطربون، لا يجدون طريقاً يسلكونه، ولا دليلًا يهتدون به، خطر صوت الرعد يهدّد أسماعهم، ونور البرق يكاد يذهب بأبصارهم «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

هذه الآيات- وإن كانت تتحدث عن المنافقين في عصر نزول الوحي- تمتد لتشمل كل المنافقين في التاريخ، لأنّ خطّ النفاق يقف دوماً بوجه الخط الثوري الصادق الصحيح، ونحن نرى بأعيننا اليوم مدى انطباق ما يقوله القرآن على منافقي عصرنا بدقّة. نرى حيرتهم وخوفهم واضطرابهم، ونرى تعاستهم وبؤسهم وانفضاحهم تماماً مثل تلك المجموعة المسافرة الهائمة في صحراء مقفرة وفي ليلة ظلماء موحشة.

أمّا بشأن الفرق بين المثالين: إنّ قوله تعالى: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى ...» يصور حالة المنافقين الذين انخرطوا في صفوف المؤمنين عن اعتقاد حقيقي، ثم تزعزعوا واتّجهوا نحو النفاق. أمّا قوله: «كَصَيّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ...» فيمثل حالة المنافقين الذين كانوا منذ البداية في صف النفاق، ولم يؤمنوا باللَّه قط.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 35

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَ السَّمَاءَ بِنَاءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) فيما سبق من آيات كتاب اللَّه سبحانه تبيّن ثلاث مجموعات هي: مجموعة المتّقين، ومجموعة الكافرين، ومجموعة المنافقين. أمّا الآيات المذكورة فدعت الناس إلى انتخاب طريق المجموعة الاولى وإلى عبادة اللَّه الواحد الأحد. يقول اللَّه تعالى: «يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

1- قوله

تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» تكرر في القرآن عشرين مرّة تقريباً، وهو نداء عام شامل يشير إلى أنّ القرآن لا يختص بعنصر أو قبيلة أو طائفة أو فئة خاصة، بل يوجّه دعوته إلى البشرية عامة لعبادة اللَّه، وللثورة على كل ألوان الشرك والانحراف عن طريق التوحيد.

2- يركّز القرآن، في دعوته إلى عبادة اللَّه وإلى شكر اللَّه، على نعمة خلق البشر، وهى نعمة تتجلى فيها قدرة اللَّه كما يتجلى فيها علم اللَّه و حكمته.

3- نتيجة هذه العبادة هي التقوى: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» فعباداتنا لا تزيد اللَّه عظمة وجلالًا، كما أنّ إعراضنا عن العبادة لا ينقص من عظمة اللَّه شيئاً، هذه العبادات مدرسة لتعليم التقوى.

4- عبارة «الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ» لعلّها ردّ على استدلال المشركين الذين برروا عبادتهم للأصنام بتمسكهم بسنة آبائهم والآية الكريمة تشير بهذه العبارة إلى أنّ اللَّه الواحد الأحد، خالق البشر وخالق آبائهم، وكل شرك يعتري المسيرة البشرية في حاضرها وسالفها هو انحراف عن الخط الصحيح.

نِعَم الأرض والسماء: الآية التالية استعرضت قسماً آخر من النعم الإلهيّة التي تستحق الشكر، ذكرت أوّلًا خلق الأرض: «الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا».

إنّ تعبير «فراش» يصوّر بشكل رائع مفهوم الاستقرار والاستراحة.

في تفسير نور الثقلين هذه الحقيقة يعبّر عنها الإمام علىّ بن الحسين عليه السلام مفسراً هذه

مختصر الامثل، ج 1، ص: 36

الآية إذ يقول: «جعلها ملائمةً بطبائعكم، موافقةً لِأجسادكم ولم يجعلها شديدة الحماء والحرارة فتحرقكم ولا شديدة البرودة فتجمدكم ولا شديد طيب الريح فتصدع هاماتكم ولا شديد النّتن فتعطبكم ولا شديدة اللّين كالماء فتغرقكم ولا شديدة الصّلّابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم ... فلذلك جعل الأرض فراشاً لكم». ثم تتعرض الآية إلى نعمة السماء فتقول: «وَالسَّمَاءَ بِنَاءً».

كلمة «سماء» وردت في القرآن

بمعان مختلفة، وكلها تشير إلى العلو، وأحد معاني السماء «جوّ الأرض» وهو المقصود في الآية الكريمة، وجوّ الأرض هو الطبقة الهوائية الكثيفة المحيطة بالكرة الأرضية، ويبلغ سمكها عدّة مئات من الكيلومترات.

هذه الطبقة الهوائية مثل سقف شفاف يحيط بكرتنا الأرضية من كل جانب، ولو لم يكن هذا السقف لتعرضت الأرض دوماً إلى رشق الشهب والنيازك السماوية المتناثرة، ولما كان للبشر أمان ولا استقرار على ظهر هذا الكوكب.

بعد ذلك تطرقت الآية إلى نعمة المطر: «وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً». ماءً يحي الأرض ويخرج منها الثمرات.

ثم تشير الآية إلى نعمة الثمرات التي تخرج من بركة الأمطار لتكون رزقاً لبني البشر «فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ».

وإخراج الثمرات مدعاة للشكر على رحمة ربّ العالمين لعباده، ومدعاة للإذعان بقدرة ربّ العالمين في إخراج ثمر مختلف ألوانه، من ماء عديم اللون، ليكون قوتاً للإنسان والحيوان، لذلك عطف عليها قوله تعالى: «فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ».

«الأنداد»: جمع «نِد» على وزن ضدّ، وهو الشبيه والشريك. وبعبارة أدق: ندّ الشي ء ونديده مشاركة في جوهره، وذلك ضرب من المماثلة، أي المماثلة في جوهر الذات.

الشّرك في أشكال مختلفة: إنّ الشّرك باللَّه لا ينحصر باتّخاذ الأوثان الحجرية والخشبية آلهة من دون اللَّه كما يفعل الوثنيون، بل إنّ للشرك معنى أوسع، وبشكل عام كل اعتقاد بوجود أشياء لها نفس تأثير اللَّه في الحياة هو نوع من الشرك. وهذا ما يعبّر عنه ابن عبّاس إذ يقول: «الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: واللَّه وحياتك يا فلان وحياتي. ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 37

البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء اللَّه

وشئت! وقول الرجل: لولا اللَّه وفلان ... هذا كله به شرك» «1».

مثل هذه التعابير التي يشمّ منها رائحة الشرك رائجة- مع الأسف- بين سواد المسلمين وغير لائقة بالشخص الموحّد، كقولهم: اعتمادي على اللَّه وعليك!

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) القرآن معجزة خالدة: ظاهرة الكفر والنفاق، تنشأ أحياناً عن عدم فهم محتوى النبوّة ومعجزة الرسول صلى الله عليه و آله، والآيات التي نحن بصددها تعالج هذه المسألة، وتركز على المعجزة القرآنية الخالدة كي تزيل كل شك وترديد في رسالة نبيّ الخاتم صلى الله عليه و آله. تقول الآية: «وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ».

وبهذا الشكل تحدى القرآن كل المنكرين أن يأتوا بسورة من مثله، كي يكون عجزهم دليلًا واضحاً على أصالة هذا الوحي السماوي وعلى الجانب الإلهي للرسالة والدعوة.

ولأجل أن يؤكد هذا التحدي دعاهم أن لا يقوموا بهذا العمل منفردين، بل «وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

كلمة «شهداء» تشير إلى الفئة التي كانت تساعدهم في رفض رسالة النبي صلى الله عليه و آله وعبارة «مِّن دُونِ اللَّهِ» إشارة إلى عجز جميع البشر عن الإتيان بسورة قرآنية ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وإلى قدرة اللَّه وحده على ذلك.

وعبارة «إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» تستهدف حثّهم على قبول هذا التحدي، ومفهومها: لو عجزتم عن هذا العمل فذلك دليل كذبكم، فانهضوا إذن لإثبات ادعائكم.

من هنا فسياق الآيات التالية، يركز على عنصر الإثارة ويقول: «فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ

الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ». وهذه النار ليست حديث مستقبل، بل هي واقع قائم: «أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ».

______________________________

(1) تفسير في ظلال القرآن 1/ 53.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 38

جمع من المفسرين قالوا: إنّ المقصود بالحجارة: الأصنام الحجرية، واستشهدوا لذلك بالآية (98) من سورة الأنبياء: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ».

ويبدو من ظاهر الآيات المذكورة، أنّ نار جهنم تستعر من داخل الناس والحجارة، ولا يصعب فهم هذه المسألة لو علمنا أنّ العلم الحديث أثبت أنّ كل أجسام العالم تنطوي في أعماقها على نار عظيمة.

وفي الآيتي (6 و 7) من سورة الهمزة يقول تعالى: «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفِدَةِ». خلافاً لنيران هذا العالم التي تنفذ من الخارج إلى الداخل.

بحثان

1- لماذا يحتاج الأنبياء إلى المعجزة؟ «المعجزة»- كما هو واضح من لفظها- عمل خارق يأتي به النبي ويعجز عن الإتيان به الآخرون.

على النبي صاحب المعجزة أن يتحدى الناس بمعجزته، وأن يعلن لهم أنّ معجزته دليل على صدق دعواه.

2- القرآن معجزة نبيّ الأكرم الخالدة: القرآن كتاب يسمو على أفكار البشر، هذا الكتاب الكريم يعتبر- بين معاجز النبي صلى الله عليه و آله- أقوى سند حي على نبوّة الرسول الخاتم، لأنّه معجزة «ناطقة» و «خالدة» و «عالمية» و «معنوية».

أما أنّه معجزة «ناطقة» فإنّ معاجز الأنبياء السابقين لم تكن كذلك، أي أنّها كانت بحاجة إلى وجود النبي لكي يتحدث للناس عن معجزته ويتحداهم بها، ومعاجز النبي الخاتم- عدا القرآن- هي من هذا اللون، أمّا القرآن فمعجزة ناطقة، لا يحتاج إلى تعريف، يدعو لنفسه بنفسه، يتحدى بنفسه المعارضين ويدينهم ويخرج منتصراً من ساحة التحدي، وهو يتحدى اليوم جميع البشر كما كان يتحداهم في عصر الرسالة، أنّه دين ومعجزة، أنّه قانون، ووثيقة تثبت

إلهيّة القانون.

أمّا الخلود والعالمية: فإنّ القرآن حطّم سدود «الزمان والمكان» فهو يطلع علينا اليوم كما طلع على عرب الجاهلية قبل قرون، وما لا يرتبط بزمان أو مكان فإنّه يحوي عناصر الدوام والخلود وسعة دائرته العالمية، وبديهي أنّ الدين العالمي الخالد بحاجة إلى مثل هذه الوثيقة العالمية الخالدة.

أمّا الصّفة «المعنوية» للقرآن فنفهمها حين ننظر إلى معاجز الأنبياء السابقين، ونرى أنّها

مختصر الامثل، ج 1، ص: 39

كانت غالباً «جسمية» مثل: شفاء الأمراض الجسمية المستعصية، وتحدث الطفل في المهد ...

وكانت تتجه نحو تسخير الأعضاء البدنية. أمّا القرآن، فيسخر القلوب والنفوس، ويبعث فيها الإعجاب والإكبار، إنّه يتعامل مع الأرواح والأفكار والعقول البشرية، وواضح امتياز مثل هذه المعجزة على المعاجز الجسمية.

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَ لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) خصائص نِعَم الجنة: آخر آية في بحثنا السابق تحدثت عن مصير الكافرين، وهذه الآية تتحدث عن مصير المؤمنين، كي تتضح الحقيقة أكثر بالمقارنة بين الصورتين، على الطريقة القرآنية في التوضيح. في المقطع الأوّل تقول الآية: «وَبَشّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ».

نعلم أنّ البساتين التي تفتقد الماء الدائم، وتسقى بين حين وحين ليس لها حظ كبير من النظارة، فالنظارة تطفح على البساتين التي تمتلك ماء سقي دائم مستمر لا ينقطع أبداً، ومثل هذه البساتين لا يعتريها جفاف ولا تهددها شحة ماء. وهذه هي بساتين الجنة.

وبعد الإشارة إلى ثمار الجنة المتنوعة تقول الآية: «كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ».

ثم تقول الآية: «وَأُتُوا

بِهِ مُتَشَابِهًا». أي متشابهاً في الجودة والجمال، فهذه الثمار بأجمعها فاخرة بحيث لا يمكن ترجيح إحداها على الاخرى.

وآخر نعمة تذكرها الآية هي: «أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ» من كل أدران الروح والقلب والجسد.

أحد منغّصات نعم الدنيا زوالها، ومن هنا فلا تكون هذه النعم عادة باعثة على السعادة والإطمئنان، أمّا نِعم الجنة ففيها السعادة والطمأنينة لأنّها خالدة لا يعتريها الزوال والفناء، وإلى هذه الحقيقة تشير الآية في خاتمتها وتقول: «وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

بحثان

1- الأزواج المطهرة: مما يلفت النظر في هذه الآية أنّ الوصف الوحيد الذي استعمله

مختصر الامثل، ج 1، ص: 40

القرآن لمدح الأزواج في جنات النعيم هو أنّها «مطهرة»، وهي إشارة إلى أول شرط في الزوجة هو «الطهر»، وكل ما سواه من الشروط والأوصاف ثانوي. في حديث عن الإمام الصادق عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «قال للناس: إياكم وخضراء الدّمن.

قيل: يا رسول اللَّه! وما خضراء الدّمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء» «1».

2- النعم المادية والمعنوية في الجنة: ذكر القرآن الكريم أنواع النعم المادية في الجنة، ولكنه ذكر إلى جانب هذه النعم المادية نعماً أهم منها هي النعم المعنوية كقوله تعالى في الآية (72) من سورة التوبة: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ العَظِيمُ».

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَا ذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)

سبب النّزول

ذكر الطبرسي في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّ اللَّه

لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين، يعني قوله «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا» وقوله «أَوْ كَصَيّبٍ مِنَ السَّمَاءِ» قال المنافقون: اللَّه أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

قال آخرون: عند نزول الآيات التي تضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت، بدأ المشركون ينتقدون ويسخرون، فقال اللَّه تعالى: يا محمّد إنّ اللَّه لا يستحى أن يضرب مثلًا.

التّفسير

هل اللَّه يضرب المثل؟ الفقرة الاولى من الآية تقول: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا».

المثال وسيلة لتجسيد الحقيقة حين يقصد المتحدث بيان ضعف المدعي وتحقيره فإنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 14/ 19.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 41

بلاغة الحديث تستوجب انتخاب موجود ضعيف للتمثيل به، كيما يتضح ضعف اولئك. في الآية (73) من سورة الحج، مثلًا يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَايَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ».

وما المقصود من «فَمَا فَوْقَهَا»؟ للمفسرين في هذه رأيان:

الأوّل: «فوقها» في الصغر، لأنّ المقام مقام بيان صغر المثال، وهذا مستعمل في الحوار اليومي، نسمع مثلًا رجل يقول لآخر: ألا تستحي أن تبذل كل هذا الجهد من أجل دينار واحد؟ فيجيب الآخر: لا، بل أكثر من ذلك أنا مستعد لأبذل هذا الجهد من أجل نصف دينار! فالزيادة هنا في الصغر.

الثّاني: «فوقها» في الكبر. أي: إنّ اللَّه يضرب الأمثال بالصغير وبالكبير، حسب مقتضى الحال.

لكن الرأي الأوّل يبدو أنسب.

ثم تقول الآية: «فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ». فهؤلاء، بإيمانهم وتقواهم، بعيدون عن اللجاجة والعناد والحقد للحقيقة.

«وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِ كَثِيرًا».

فيجيبهم اللَّه بعبارة قصيرة تحسم الموقف وتقول: «وَمَا يُضِلُّ

بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ».

هداية اللَّه وإضلاله: الهداية والضلالة- في المفهوم القرآني- لا يعنيان الإجبار على انتخاب الطريق الصحيح أو الخاطى ء، بل إنّ الهداية- المفهومة من الآيات المتعدّدة- تعني توفّر سبل السعادة، والإضلال: يعني زوال الأرضيّة المساعدة للهداية، دون أن يكون هناك إجبار في المسألة.

توفّر السبل (الذي نسميه التوفيق)، وزوال هذه السبل (الذي نسميه سلب التوفيق)، هما نتيجة أعمال الإنسان نفسه. فلو منح اللَّه فرداً توفيق الهداية، أو سلب من أحد هذا التوفيق، فإنّما ذلك نتيجة الأعمال المباشرة لهذا الفرد أو ذاك.

الفاسقون: هم المنحرفون عن طريق العبودية، لأنّ الفسق في اللغة إخراج النوى من التمر، ثم انتقل إلى الخروج عن طريق اللَّه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 42

الخاسرون الحقيقيون: هذه الآية الكريمة توضح مواصفات الفاسقين بعد أن تحدثت الآية السابقة عن ضلال هذه الفئة، وتذكر لهم ثلاث صفات:

1- إنّهم «يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ».

هؤلاء لهم مع اللَّه عهود ومواثيق، مثل عهد التوحيد، وعهد الرّبوبية، وعهد عدم اتّباع الشيطان وهوى النفس. لكنهم نقضوا كل هذه العهود، وتمرّدوا على أوامر اللَّه، واتّبعوا أهواءهم وما أراده الشيطان لهم.

طبيعة هذا العهد: كل موهبة يمنحها اللَّه للإنسان يصحبها عهد طبيعي بين اللَّه والإنسان، موهبة العين يصحبها عهد يفرض على الإنسان أى يرى الحقائق، وموهبة الاذن تنطوي على عهد مدوّن في ذات الخلقة يفرض الاستماع إلى نداء الحق ... وبهذا يكون الإنسان قد نقض العهد متى ما غفل عن استثمار القوى الفطرية المودعة في نفسه، أو استخدم الطاقات الموهوبة له في مسير منحرف.

الفاسقون: ينقضون بعض هذه العهود الفطرية الإلهيّة، أو جميعها.

2- الصفة الاخرى لهؤلاء الفاسقين هي أنّهم: «يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ».

الآية تتحدث عن قطع الفاسقين لِكلّ إرتباط أمر اللَّه به أن

يوصل، بما في ذلك رابطة الرحم، رابطة الصداقة، والروابط الاجتماعية، والرابطة بهداة البشرية إلى اللَّه، والإرتباط باللَّه.

3- علامة الفاسقين الثالثة هي الفساد: «وَيُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ».

وتؤكد الآية في الخاتمة أنّ «أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

وأيّ خسران أكبر من تبديد كل القوى المادية والمعنوية المودعة في الإنسان الرّاميّة لإسعاده، وإهدارها على طريق الشقاوة والتعاسة والانحراف؟

أهمية صلة الرحم في الإسلام: الآية المذكورة أعلاه، وإن تحدثت عن كل إرتباط أمر اللَّه به أن يوصل، إلّاأنّ الإرتباط الرحمي دون شك أحد مصاديقها البارزة.

لقد أعار الإسلام اهتماماً بالغاً بصلة الرحم وبالتودد إلى الأهل والأقارب، ونهى بشدة عن قطع الإرتباط بالرحم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 43

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصور أهمية صلة الرحم بقوله: «صلة الرحم تعمر الديار وتزيد في الأعمار وإن كان أهلها غير أخيار» «1».

الإسلام مارس هذه العملية على النحو الأكمل في بناء المجتمع الإسلامي القوي الشامخ، وأمر بإصلاح الوحدات الاجتماعية، والكائن الإنساني لا يأبى عادة أن ينصاع إلى مثل هذه الأوامر اللازمة لتقوية إرتباط أفراد الاسرة، لاشتراك هؤلاء الأفراد في الرحم والدم.

وواضح أنّ المجتمع يزداد قوّة وعظمة كلما ازداد التماسك والتعاون والتعاضد في الوحدات الاجتماعية الصغيرة المتمثلة بالاسرة، وإلى هذه الحقيقة قد يشير الحديث الشريف: «صلة الرحم تعمر الديار».

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29) نعمة الحياة: القرآن في الآيتين يكمل الأدلة التي أوردها في الآيتين (21 و 22) من هذه السورة حول معرفة اللَّه. القرآن يبدأ في أدلته من نقطة لا تقبل الإنكار، ويركز على مسألة (الحياة) بكل ما

فيها من تعقيد وغموض، ويقول: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ».

وفي هذه العبارة تذكير للإنسان بما كان عليه قبل الحياة ... لقد كان ميتاً تماماً مثل الأحجار والأخشاب ولم يكن فيه أي أثر للحياة، لكنه الآن يتمتع بنعمة الحياة، وبنعمة الشعور والإدراك.

إنّ لغز الحياة لم ينحل حتى اليوم على الرغم من كل ما حققه البشر من تقدم هائل في حقل العلم والمعرفة. لكن السؤال يبقى قائماً بحاله: كيف يكفر الإنسان باللَّه وينسب هذه الحياة بتعقيداتها وغموضها وأسرارها إلى صنع الطبيعة العمياء الصّماء الفاقدة لكل شعور وإدراك؟

من هنا نقول إنّ ظاهرة الحياة في عالم الطبيعة أعظم سند لإثبات وجود اللَّه تعالى،

______________________________

(1) بحار الأنوار 71/ 94.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 44

والقرآن يركّز في الآية المذكورة على هذه المسألة بالذات. بعد التذكير بهذه النعمة، تؤكد الآية على دليل واضح آخر وهو «الموت» «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ».

نعم ... إنّ خالق الحياة هو خالق الموت أيضاً، وإلى ذلك تشير الآية (2) من سورة الملك:

«الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا».

بعد أن ذكرت الآية هذين الدليلين الواضحين على وجود اللَّه، تناولت المعاد والحياة بعد الموت: «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ».

وفي نهاية الآية يقول تعالى: «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرجَعُونَ». والمقصود بالرجوع هو الرجوع إلى نعم اللَّه تعالى يوم القيامة.

بعد ذكر نعمة الحياة والإشارة إلى مسألة المبدأ والمعاد، تشير الآية إلى واحدة اخرى من النعمّ الإلهيّة السابقة وتقول: «هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا».

وبهذا تعين الآية قيمة الإنسان في هذه الأرض، وسيادته على ما فيها من موجودات.

وفي القرآن آيات اخرى تؤكد على مكانة الإنسان السامية، وتوضح أنّ هذا الكائن هو الهدف النهائي من خلق كل موجودات الكون.

وتعود الآية إلى ذكر أدلة التوحيد وتقول: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ

فَسَوَّيهُنَّ سَبْعَ سَموَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

الفعل «استوى»: من «الإستواء» وهو التسلط والإحاطة الكاملة والقدرة على الخلق والتدبير.

السماوات السبع: الأصح في رأينا أنّ المقصود بالسماوات السبع، هو وجود سبع سماوات بهذا العدد. ويستفاد من آيات اخرى أنّ كل الكرات والسيارات المشهودة هي جزء من السماء الاولى، وثمة ستة عوالم اخرى خارجة عن نطاق رؤيتنا ووسائلنا العلمية اليوم، وهذه العوالم السبعة هي التي عبّر عنها القرآن بالسماوات السبع.

في الآية (12) من سورة فصّلت، يقول تعالى: «وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ».

وفي الآية (6) من سورة الصّافات، يقول أيضاً: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ».

ويتضح من هاتين الآيتين أنّ ما نراه وما يتكون منه عالم الأفلاك هو جزء من السماء الاولى، وما وراء هذه السماء ست سماوات اخرى ليس لدينا اليوم معلومات عن تفاصيلها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 45

وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) الإنسان خليفة اللَّه في الأرض: الآيات السابقة ذكرت أنّ اللَّه سبحانه خلق ما في الأرض جميعاً للإنسان، وفي الآيات (30- 39) تركيز على ثلاث مسائل أساسية هي:

1- إخبار اللَّه ملائكته بشأن خلافة الإنسان في الأرض.

2- أمر اللَّه تعالى ملائكته بإكرام

وتعظيم الإنسان الأول.

3- شرح وضع آدم وحياته في الجنة، والحوادث التي أدّت إلى خروجه من الفردوس، ثم توبة آدم، وحياته هو وذريته في الأرض.

الآيات المذكورة تتحدث عن المرحلة الاولى، حين شاء اللَّه أن يخلق على ظهر الأرض موجوداً، يكون فيها خليفته، ويحمل أشعة من صفاته، وتسمو مكانته على مكانة الملائكة.

وبهذه المناسبة تقول الآية الاولى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلِكَةِ إِنّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً».

والخليفة: هو النائب عن الغير، أمّا هذا الغير الذي ينوب الإنسان عنه هو خليفة اللَّه ونائبه على ظهر الأرض، كما ذهب إلى ذلك كثير من المحققين. لأنّ سؤال الملائكة بشأن هذا الموجود الذي قد يفسد في الأرض ويسفك الدماء يتناسب مع هذا المعنى، لأنّ نيابة اللَّه في الأرض لا تتناسب مع الفساد وسفك الدماء.

ثم تذكر الآية سؤال الملائكة الذي وجّهوه لرب العالمين مستفسرين لا معترضين:

«قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ».

اللَّه سبحانه أجاب الملائكة جواباً مغلقاً اتضح في المراحل التالية: «قَالَ إِنّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 46

الملائكة يعلمون أنّ الهدف من الخلقة هو العبودية والطاعة، وكانوا يرون في أنفسهم مصداقاً كاملًا لذلك، فهم في العبادة غارقون. ولذلك فهم- أكثر من غيرهم- للخلافة لائقون، غير عالمين أنّ بين عبادة الإنسان الملي ء بألوان الشهوات، والمحاط بأشكال الوساوس الشيطانية، والمغريات الدنيوية وبين عبادتهم- وهم خالون من كل هذه المؤثرات- بون شاسع. فأين عبادة هذا الموجود الغارق وسط الأمواج العاتية، من عبادة تلك الموجودات التي تعيش على ساحل آمن؟!

ماذا تعرف الملائكة من ابناء آدم أمثال محمّد صلى الله عليه و آله وابراهيم ونوح وموسى وعيسى والأئمة من أهل البيت عليهم السلام وعباد اللَّه الصالحين والشهداء والمضحون من الرجال

والنساء الذين قدموا وجودهم على مذبح العشق الإلهي، والذين تساوي ساعة من تفكرهم سنوات متمادية من عبادة الملائكة؟

الملائكة في بودقة الإختبار: كان آدم يملك- بفضل اللَّه- قابلية خارقة لفهم الحقائق.

وشاء اللَّه أن ينقل هذه القابلية من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل، وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله: «وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا».

هذا العلم بالكون وبأسرار الموجودات وخواصها، كان مفخرة كبيرة لآدم طبعاً.

في تفسير العياشي عن أبي العباس عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن قول اللَّه «وعلّم آدم الأسماء كلّها» ماذا علّمه؟ قال: «الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط ممّا علّمه».

كما منح اللَّه آدم قابلية التسمية، ليستطيع أن يضع للأشياء أسماء، وبذلك يتحدث عن هذه الأشياء بذكر اسمها لا بإحضار عينها، وهذه نعمة كبرى.

«ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلِكَةِ فَقَالَ أَنْبُونِى بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ». وأمام هذا الاختبار تراجع الملائكة لأنّهم لم يملكوا هذه القدرة العلمية التي منحها اللَّه لآدم، «قَالُوا سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ».

وحان الدور لآدم كي يشرح أسماء الموجودات وأسرارها أمام الملائكة: «قَالَ يَا ءَادَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ».

وهنا اتضح للملائكة أنّ هذا الموجود هو وحده اللائق لاستخلاف الأرض.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 47

جواب على سؤالين: ويبقى سؤالان في هذا المجال، الأوّل يدور حول تعليم اللَّه لآدم، كيف تم ذلك؟ ولو قُدر أن يكون هذا التعليم من نصيب الملائكة لنالوا نفس فضيلة آدم، فهل هناك مفخرة يمتلكها آدم ولا تمتلكها الملائكة؟

أمّا بشأن كيفية التعليم فالجواب هو أنّ هذا التعليم تكويني، أي إنّ اللَّه أودع هذا العلم

في وجود آدم بالقوة، ودفعه خلال مدة قصيرة إلى المرحلة الفعلية.

إطلاق كلمة «تعليم» في القرآن على «التعليم التكويني» ورد في موضع آخر من القرآن، كقوله تعالى: «عَلَّمَهُ الْبَيَانَ» «1». وواضح أنّ اللَّه سبحانه علّم الإنسان البيان في مدرسة الخلقة، أي منحه الكفاءة والخصائص الفطرية اللازمة للبيان والكلام.

أما الشطر الآخر من هذا السؤال فيتبين جوابه لو علمنا أنّ الملائكة كانت لهم خلقة خاصة، ما كانت تؤهلهم لتلقي كل هذه العلوم. إنّهم مخلوقون لهدف آخر، لا لهذا الهدف، وهذه الحقيقة فهمها الملائكة وتقبلوها بعد أن مروا بتلك التجربة المذكورة في الآية. ولعلهم اعتقدوا في البداية أنّهم يحملون الكفاءة اللازمة لهذا الهدف، لكن اللَّه بيّن لهم الفرق بين كفاءتهم وكفاءة آدم بتجربة تعليم الأسماء.

وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَ قُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَ لَا تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) آدم عليه السلام في الجنة: ينتقل القرآن إلى فصل آخر من موضوع عظمة الإنسان ويقول:

«وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ».

لو أمعنّا النظر في آيات القرآن الكريم لألفينا أنّ موضوع السجود لآدم جاء بعد اكتمال خلقة الإنسان مباشرة، وقبل امتحان الملائكة.

إنّ الآية المذكورة تقرير قرآني واضح صريح لشرف الإنسان وعظمة مكانته، فكل الملائكة يؤمرون بالسجود له بعد اكتمال خلقته.

______________________________

(1) سورة الرّحمن/ 4.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 48

حقاً، إنّ هذا الموجود، اللائق لخلافة اللَّه على الأرض، والمؤهل

لهذا الشوط الكبير من التكامل وتربية أبناء عظام كالأنبياء وخاصة النبي الخاتم صلى الله عليه و آله يستحق كل احترام.

نحن نشعر بالتعظيم والتكريم لمن حوى بعض العلوم وعلم شيئاً من القوانين والمعادلات العلمية، فكيف حال الانسان الأوّل مع كل تلك العلوم والمعارف الزاخرة عن عالم الوجود؟

بحثان

1- لماذا أبى إبليس؟ «الشيطان» اسم جنس شامل للشيطان الأوّل ولجميع الشياطين. أما «إبليس» فاسم علم للشيطان الذي وسوس لآدم. وإبليس- كما صرح القرآن- ما كان من جنس الملائكة وإن كان في صفوفهم، بل كان من طائفة الجن، وهي مخلوقات مادية.

باعثه على الإمتناع عن السجود كبر وغرور وتعصب خاص استولى عليه حيث اعتقد أنّه أفضل من آدم، ولا ينبغي أن يصدر له أمر بالسجود لآدم.

كفر إبليس كان يعود إلى نفس السبب أيضاً، فقد اعتقد بعدم صواب الأمر الإلهي، وبذلك لم يعص فحسب، بل انحرف عقائدياً. وهكذا ذهبت أدراج الرياح كل عباداته وطاعاته نتيجة كبره وغروره. وهكذا تكون دوماً نتيجة الكبر والغرور.

وعبارة «كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» تشير إلى أنّ إبليس كان قبل صدور الأمر الإلهى إليه بالسجود، قد انفصل عن مسير الملائكة وطاعة اللَّه، وأسرّ في نفسه الإستكبار والجحود.

2- هل كان السّجود للَّه أم لآدم؟ لا شك أنّ السجود يعني «العبادة» للَّه، إذ لا معبود غير اللَّه، وتوحيد العبادة يعني أن لا نعبد إلّااللَّه. من هنا فإنّ الملائكة لم يؤدوا لآدم يعني «سجدة عبادة» قطعاً، بل كان السجود للَّه من أجل خلق هذا الموجود العجيب. أو كان سجود الملائكة لآدم سجود «خضوع» لا عبادة.

جاء في عيون الأخبار عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه السلام حديث طويل وفيه: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً

وكان سجودهم للَّه تعالى عبودية، ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه».

بعد هذا المشهد ومشهد اختبار الملائكة، امر آدم وزوجه أن يسكنا الجنة، كما جاء في قوله تعالى: «وَقُلْنَا يَا ءَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 49

هذِهِ الشَّجَرَةَ» «1».

يستفاد من آيات القرآن أنّ آدم خُلق للعيش على هذه الأرض، لكن اللَّه شاء أن يسكنه قبل ذلك الجنة، وهي روضة خضراء موفورة النعمة في هذا العالم.

لعل مرحلة مكوث آدم في الجنة كانت مرحلة تحضيرية لعدم ممارسة آدم للحياة على الأرض وصعوبة تحمل المشاكل الدنيوية بدون مقدمة، ومن أجل تأهيل آدم لتحمل مسؤوليات المستقبل، ولتفهيمه أهمية حمل هذه المسؤوليات والتكاليف الإلهيّة في تحقيق سعادته، ولإعطائه صورة عن الشقاء الذي يستتبع اهمال هذه التكاليف، ولتنبيهه بالمحظورات التي سيواجهها على ظهر الأرض.

ينبغي أن ينضج آدم عليه السلام في هذا الجو إلى حد معين، وأن يعرف أصدقاءه وأعداءه، ويتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض، نعم، كانت هذه مجموعة من التعاليم الضرورية التي تؤهله للحياة على ظهر الأرض.

وهنا رأى «آدم» نفسه أمام أمر إلهي يقضي بعدم الاقتراب من الشجرة، لكن الشيطان أبى إلّاأن ينفذ بقسمه في إغواء آدم وذريته. تقول الآية بعد ذلك: «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ».

نعم. اخرجا من الجنة حيث الراحة والهدوء وعدم الألم والتعب والعناء، على أثر وسوسة الشيطان.

وصدر لهما الأمر الإلهي بالهبوط: «وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوُّ وَلَكُمْ فِى الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ».

وهنا، فهم آدم أنّه ظلم نفسه، وأخرج من الجوّ الهادي الملي بنعم الجنة بسبب استسلامه لوسوسة الشيطان، وهبط في جوّ مفعم بالتعب والمشقة والعناء، مع أنّ آدم كان نبياً ومعصوماً، فإنّ اللَّه يؤاخذ الأنبياء بترك

الأولى- كما سنرى- كما يؤاخذ باقي الأفراد على ذنوبهم، وهو عقاب شديد تلقاه آدم جرّاء عصيانه.

بحوث

1- ما هي جنة آدم؟ يبدو أنّ الجنة التي مكث فيها آدم قبل هبوطه إلى الأرض، لم تكن

______________________________

(1) «الرغد»: على وزن الصمد يعني الكثير والواسع والهني ء؛ وعبارة «حيث شئتما» تعني: من أي مكان شئتما في الجنة، أو من أي نوع شئتم من فاكهة الجنة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 50

مختصر الامثل ج 1 99

الجنة التي وعد بها المتقون، بل كانت من جنان الدنيا، وصقعاً منعّماً خلّاباً من أصقاع الأرض. ودليلنا على ذلك: أوّلًا: الجنة الموعودة في القيامة نعمة خالدة، والقرآن ذكر مراراً خلودها، فلا يمكن إذن الخروج منها.

ثانياً: إبليس الملعون ليس له طريق للجنة، وليس لوسوسته مكان هناك.

ثالثاً: وردت عن أهل البيت عليهم السلام روايات تصرح بذلك.

في الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّه سئل عن جنة آدم، فقال: «جنة من جنات الدنيا، يطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً».

من هذا يتضح أنّ هبوط آدم ونزوله إلى الأرض لم يكن مكانياً بل مقامياً، أي أنّه هبط من مكانته السامية ومن تلك الجنة المزدانة.

2- المقصود من الشيطان في القرآن: كلمة الشيطان من مادة «شطن» و «الشاطن» هو الخبيث والوضيع، والشيطان تطلق على الموجود المتمرد العاصي، إنساناً كان أو غير إنسان، وتعني أيضاً الروح الشريرة البعيدة عن الحق. وبين كل هذه المعاني قدر مشترك.

والشيطان اسم جنس عام، وإبليس اسم علم خاص، وبعبارة اخرى، الشيطان كل موجود مؤذٍ مغوٍ طاغ متمرد، إنساناً كان أم غير إنسان، وإبليس اسم الشيطان الذي أغوى آدم ويتربّص هو وجنده الدوائر بأبناء آدم دوماً.

من مواضع استعمال هذه الكلمة

في القرآن يفهم أنّ كلمة الشيطان تطلق على الموجود المؤذي المضر المنحرف الذي يسعى إلى بثّ الفرقة والفساد والاختلاف، مثل قوله تعالى:

«إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ» «1».

والاستعمال القرآني لكلمة شيطان يشمل حتى أفراد البشر المفسدين المعادين للدعوة الإلهيّة، كقوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنّ» «2».

كلمة الشيطان اطلقت على إبليس أيضاً بسبب فساده وإنحرافه.

3- لماذا خُلق الشيطان؟ يثار أحياناً سؤال عن سبب خلق هذا الموجود المضل المغوي، وفي الجواب نقول:

______________________________

(1) سورة المائدة/ 91.

(2) سورة الأنعام/ 112.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 51

أوّلًا: لم يخلق اللَّه الشيطان، شيطاناً، والدليل على ذلك وجوده بين ملائكة اللَّه وعلى الفطرة الطاهرة، لكنه بعد تحرره أساء التصرف، وعزم على الطغيان والتمرد، إنّه إذن خلق طاهراً، وسلك طريق الانحراف مختاراً.

ثانياً: وجود الشيطان لا يسبب ضرراً للأفراد المؤمنين، ولطلاب طريق الحق، في منظار نظام الخليقة، بل إنّه وسيلة لتقدمهم وتكاملهم، إذ إنّ التطور والتقدم يتم من خلال صراع الأضداد.

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) عودة آدم عليه السلام إلى اللَّه: بعد حادثة وسوسة إبليس، وصدور الأمر الإلهي لآدم بالخروج من الجنة، فهم آدم أنّه ظلم نفسه، وهنا أخذ آدم يفكر في تلافي خطئه، فاتجه بكل وجوده إلى بارئه وهو نادم أشد الندم، وأدركته رحمة اللَّه في هذه اللحظات كما تقول الآية:

«فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

«التوبة» في اللغة بمعنى «العودة» وهي في التعبير القرآني، بمعنى

العودة عن الذنب، إن نُسبت إلى المذنب، وإن نسبت كلمة التوبة إلى اللَّه فتعني عودته سبحانه إلى الرحمة التي كانت مسلوبة عن العبد المذنب. ولذلك فهو تعالى «توّاب» في التعبير القرآني.

على أي حال، لقد حدث ما لا ينبغي أن يحدث- أو ما ينبغي أن يحدث- وقُبلت توبة آدم. لكن الأثر الوضعي للهبوط في الأرض لم يتغير، كما يذكر القرآن: «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

الكلمات التي تلقاها آدم: تعددت الآراء في تفسير «الكلمات» التي تلقاها آدم عليه السلام من ربّه. المعروف أنّها الكلمات المذكورة في الآية (23) من سورة الأعراف: «قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّم تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ».

وقال آخرون أنّ المقصود من الكلمات هذا الدعاء:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 52

«اللّهمّ لا إله إلّاأنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فاغفر لي إنّك خير الغافرين».

«اللّهمّ لا إله إلّاأنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فارحمني إنّك خير الراحمين».

«اللّهمّ لا إله إلّاأنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فَتُب عليّ إنّك أنت التّوّاب الرّحيم».

وفي روايات وردت عن طرق أهل البيت عليهم السلام أنّ المقصود من «الكلمات» أسماء أفضل مخلوقات اللَّه وهم: محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين- عليهم أفضل الصلاة والسّلام- وآدم توسّل بهذه الكلمات ليطلب العفو من ربّ العالمين فعفا عنه.

هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) ذكر النِعم الإلهيّة: لما كانت قصّة بني إسرائيل ابتداء من تحررهم من السيطرة الفرعونية واستخلافهم في الأرض، ومروراً بنسيان العهد

الإلهي، وانتهاء بسقوطهم في حضيض الانحراف والعذاب والمشقة، تشبه إلى حدّ كبير قصّة آدم. يوجه القرآن خطابه إلى بني إسرائيل ويقول: «يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيىَ فَارْهَبُونِ».

الأوامر الثلاثة التي تذكرها الآية الكريمة وهي: تذكّر النعم الإلهية، والوفاء بالعهد، والخوف من اللَّه، تشكل المنهج الإلهى الكامل للبشرية.

ميثاق بني إسرائيل: ميثاق بني إسرائيل الإلهي يتكون من اثني عشر بنداً، عشر منها ذكرت في آيتى (83 و 84) من هذه السورة، وبندان ذكرا في الآية الكريمة: «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَى عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوةَ وَءَامَنْتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ» «1».

وهما: الإيمان بالأنبياء ومؤازرتهم.

______________________________

(1) سورة المائدة/ 12.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 53

جملة «إِيىَ فَارْهَبُونِ» تأكيد على كسر كل حواجز الخوف القائمة في طريق الوفاء بالعهد الإلهى، وعلى الخوف من اللَّه وحده دون سواه، وهذا الحصر يتضح من تقديم ضمير النصب المنفصل «إيّاى» على جملة «فارهبون».

وَ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَ لَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَ لَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَ لَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام أنّه قال: «كان حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وآخرون من اليهود، لهم مأكلة على اليهود في كل سنة، فكرهوا بطلانها بأمر النّبي صلى الله عليه و آله فحرّفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره فذلك الثّمن الّذي اريد في الآية».

التّفسير

جشع اليهود: الآيات المذكورة أعلاه تتطرق إلى تسعة

من بنود العهد الذي أخذه اللَّه على بني إسرائيل. يقول تعالى: «وَءَامِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لِمَا مَعَكُم». فالقرآن مصدق لما مع اليهود من كتاب، أي أنّ البشائر التي زفّتها التوراة والكتب السماوية الاخرى بشأن النبي الخاتم، والأوصاف التي ذكرتها لهذا النبي والكتاب السماوي تنطبق على محمّد صلى الله عليه و آله وعلى القرآن المنزل عليه. فلماذا لا تؤمنون به؟!

ثم يقول سبحانه: «وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ». أي:- لا عجب أن يكون المشركون والوثنيون في مكّة- كفّاراً بالرسالة، بل العجب في كفركم، لأنّكم أهل الكتاب، وكتابكم يحمل بشائر ظهور هذا النبي، وكنتم لذلك تترقبون ظهوره.

المقطع الثالث من الآية يقول: «وَلَا تَشْتَرُوا بَايَاتِى ثَمَنًا قَلِيلًا».

في المقطع الرابع تقول الآية: «وَإِيىَ فَاتَّقُونِ». والخطاب موجّه إلى زعماء اليهود الّذين يخشون أن ينقطع رزقهم، وأن يثور المتعصبون اليهود ضدّهم، وتطلب منهم أن يخشوا اللَّه وحده، أي أن يخشوا عصيان أوامره سبحانه.

في البند الخامس من هذه الأوامر ينهى اللَّه سبحانه عن خلط الحق بالباطل: «وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 54

وفي البند السادس ينهى عن كتمان الحق: «وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ».

البند السابع والثامن والتاسع من هذه الأوامر يبيّنه قوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ».

إنّ الآية لم تقل «أدّوا الصلاة» بل قالت: «أَقِيمُوا الصَّلَوةَ». وهذا الحث يحمّل الفرد مسؤولية خلق المجتمع المصلي ومسؤولية جذب الآخرين نحو الصلاة.

إنّ تعبير «أقيموا» إشارة إلى إقامة الصلاة كاملة، وعدم الاكتفاء بالأذكار والأوراد، وأهم أركان كمال الصلاة حضور القلب والفكر لدى اللَّه سبحانه، وتأثير الصلاة على المحتوى الداخلى للإنسان.

هذه الأوامر الأخيرة تتضمن: أوّلًا بيان إرتباط الفرد بخالقه (الصلاة)، ثم إرتباطه بالمخلوق (الزكاة)، وبعد ذلك إرتباط المجموعة البشرية مع بعضها على طريق اللَّه.

أَ تَأْمُرُونَ

النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلَاةِ وَ إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) الآية الاولى من الآيات التي يدور حولها بحثنا خطاب لعلماء اليهود، وبّخهم اللَّه تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان بمحمّد صلى الله عليه و آله وترك أنفسهم في ذلك. لذلك كانت الآية تحمل توبيخاً لهذا العمل: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

منهج الدعاة إلى اللَّه يقوم على أساس العمل أوّلًا ثم القول، فالداعية إلى اللَّه يبلّغ بعمله قبل قوله، كما جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: «كونوا دعاة الناس بأعمالكم ولا تكونوا دعاةً بألسنتكم» «1».

علماء اليهود كانوا يخشون من انهيار مراكز قدرتهم وتفرق عامة الناس عنهم، إن اعترفوا برسالة خاتم الأنبياء ولذلك حرفوا ما ورد بشأن صفات نبي الخاتم في التوراة.

والقرآن يحث على الاستعانة بالصبر والصلاة للتغلب على الأهواء الشخصية والميول

______________________________

(1) بحار الأنوار 5/ 198.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 55

النفسية، فيقول في الآية التالية: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ». ثم يؤكد أنّ هذه الاستعانة ثقيلة لا ينهض بعبئها إلّاالخاشعون: «وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ».

وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة وصف للخاشعين: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلقُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ».

«يظنّون»: من مادة «ظنّ» وقد تأتى بمعنى اليقين. وفي هذا الموضع تعني الإيمان واليقين القطعي. لأنّ الإيمان بلقاء اللَّه والرجوع إليه، يحيى في قلب الإنسان حالة الخشوع والخشية والإحساس بالمسؤولية، وهذا أحد آثار تربية الإنسان على الإيمان بالمعاد، حيث تجعل هذه التربية الفرد ماثلًا دوماً أمام مشهد المحكمة الكبرى، وتدفعه إلى النهوض بالمسؤولية وإلى

الحق والعدل.

بحثان

1- ما هو لقاء اللَّه؟ عبارة «لقاء اللَّه» وردت مراراً في القرآن الكريم، وتعني بأجمعها الحضور على مسرح القيامة، من البديهي أنّ المقصود بلقاء اللَّه ليس هو اللقاء الحسي، كلقاء أفراد البشر مع بعضهم، لأنّ اللَّه ليس بجسم، ولا يحده مكان، ولا يُرى بالعين، بل المقصود مشاهدة آثار قدرة اللَّه وجزائه وعقابه ونعمه وعذابه على ساحة القيامة.

أو إنّ المقصود الشهود الباطني والقلبي، لأنّ الإنسان يصل درجة كأنّه يرى اللَّه ببصيرته أمامه، بحيث لا يبقى في نفسه أي شك وترديد.

هذه الحالة قد تحصل للأفراد نتيجة الطّهر والتقوى والعبادة وتهذيب النفس في هذه الدنيا.

هذا الشهود الباطني ينجلي للجميع يوم القيامة، ولا يبقى أحد إلّاوقد آمن إيماناً قاطعاً، لوضوح آثار عظمة اللَّه وقدرته في ذلك اليوم.

2- سبيل التغلب على الصعاب: ثمة منطلقان أساسيان للتغلب على الصعاب والمشاكل، أحدهما داخلي، والآخر خارجي.

أشارت الآية إلى هذين المنطلقين بعبارة «الصبر» و «الصلاة». فالصبر هو حالة الصمود والاستقامة والثبات في مواجهة المشاكل، والصلاة هي وسيلة الإرتباط باللَّه حيث السند القوي المكين.

روى الطبرسي في تفسير مجمع البيان في تفسير هذه الآية: وكان النبي صلى الله عليه و آله إذا حزنه أمر استعان بالصلاة والصوم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 56

وروى أيضاً عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّه قال: «ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل المسجد فيركع ركعتين يدعو اللَّه فيها، أما سمعت اللَّه تعالى يقول: واستعينوا بالصّبر والصّلوة».

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَ اتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَ لَا

هُمْ يُنْصَرُونَ (48) أوهام اليهود: في هذه الآيات خطاب آخر إلى بني إسرائيل فيه تذكير بنعم اللَّه: «يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ». هذه النعم سابغة واسعة النطاق، ابتداءً من الهداية والإيمان، وانتهاءً بالنجاة من فرعون ونيل العظمة والاستقلال.

ثم تشير الآية من بين كل هذه النعم إلى نعمة التفضيل على بقية البشر، وهي نعمة مركبة من نعم مختلفة، وتقول: «وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ».

الآية التالية ترفض أوهام اليهود، التي كانوا يتصورون بموجبها أنّ الأنبياء من أسلافها سوف يشفعون لهم، أو أنّهم قادرون على دفع فدية وبدل عن ذنوبهم، كدفعهم الرشوة في هذه الحياة الدنيا. القرآن يخاطبهم ويقول: «وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّاتَجْزِى نَّفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».

الحاكم أو القاضي في تلك المحكمة الإلهيّة، لا يقبل سوى العمل الصالح، كما في الآيتي (88 و 89) من سورة الشعراء يقول تعالى: «يَوْمَ لَايَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

إنّ الآية المذكورة من سورة البقرة، تشير في الواقع إلى ما يجري من محاولات في هذه الحياة الدنيا لإنقاذ المذنب من العقاب.

ففي الحياة الدنيا قد يتقدم إنسان لدفع غرامة عن إنسان مذنب لانقاذه من العقاب، أمّا في الآخرة فإنّه: «لَّاتَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَّفْسٍ».

وربّما يلجأ المذنب في هذه الحياة إلى الشفعاء لينقذوه ممّا ينتظره من الجزاء ويوم القيامة «... لَايُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 57

وإذا لم توجد الشفاعة، يتقدم الإنسان في الحياة الدنيا بدفع (العدل) وهوبدل الشي ء من جنسه، أما في الآخرة ف «لَايُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ».

وإذا لم تنفع الوسائل المذكورة كلها، يستصرخ أصحابه لينصروه ويخلصوه من الجزاء، وفي الآخرة لا يقوم بإنقاذهم أحد «وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».

القرآن الكريم

يؤكد أنّ الاصول الحاكمة على قوانين الجزاء يوم القيامة تختلف كلياً عما هو السائد في هذه الحياة، فالسبيل الوحيد للنجاة يوم القيامة، هو الإيمان والتقوى والاستعانة بلطف الباري تعالى.

تاريخ الشرك وتاريخ المنحرفين من أهل الكتاب، ملي ء بأفكار خرافية تدور حول محور التوسل بمثل الأمور التي ذكرتها الآية الكريمة للفرار من العقاب الاخروي.

ذكر صاحب تفسير المنار بعض العادات المصرية التي لا تزال يعمل بها باسم الدين وهي من إرث قدماء الوثنيين، كاعطائهم لغاسل الميت شيئاً من النقد يسمونه «اجرة المعدية» أي اجرة نقله إلى الجنة.

ثم ذكر المكفرات التي يعتقدها اليهود كقربان الإثم وقربان الخطيئة وقربان السلامة والمحرقة والإكتفاء ممن لم يجد القربان بحمامتين يكفر بهما عن ذنبه.

القرآن ومسألة الشفاعة: «1» العقاب الإلهي في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا ينزل بساحة الإنسان دون شك من أجل الانتقام، بل إنّ العقوبات الإلهيّة تشكل عنصر الضمان في تنفيذ القوانين، وتؤدي في النتيجة إلى تقدم الإنسان وتكامله، من هنا يجب الإحتراز عن أي شي ء يضعف من قوة عنصر الضمان هذا، كي لاتنتشر بين الناس الجرأة على ارتكاب المعاصي والذنوب.

من جهة اخرى، لا يجوز غلق باب العودة والإصلاح بشكل كامل في وجه المذنبين، بل يجب فسح المجال لإصلاح أنفسهم وللعودة إلى اللَّه وإلى الطهر والتقوى.

«الشفاعة» بمعناها الصحيح تستهدف حفظ هذا التعادل. إنّها وسيلة لعودة المذنبين والملوثين بالخطايا، وبمعناها الخاطئ تشجع على ارتكاب الذنوب.

اولئك الذين لم يفرقوا بين المعنى الصحيح والخاطي ء لمسألة الشفاعة، أنكروا هذه

______________________________

(1) «الشفاعة»: من «الشفع» بمعنى «الزوج» و «ضم الشي ء إلى مثله» يقابلها «الوتر» بمعنى «الفرد» ثم اطلقت على انضمام الفرد الأقوى والأشرف إلى الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 58

المسألة بشكل كامل، واعتبروها شبيهة بالوساطات

التي تقدم إلى السلاطين والحكام الظالمين. وثمة مجموعة كالوهابيين استندوا إلى الآية الكريمة: «لَايُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ». فأنكروا الشفاعة تماماً، دون الإلتفات إلى سائر الآيات في هذا المجال.

الشّروط المختلفة للشفاعة: آيات الشفاعة تصرح أنّ مسألة الشفاعة في مفهوم الإسلام مقيدة بشروط، هذه الشروط تحدد تارة الخطيئة التي يستشفع المذنب لها، وتحدّد تارة اخرى الشخص المشفوع له، كما تقيد من جهة اخرى الشفيع، وهذه الشروط بمجموعها تكشف عن المفهوم الحقيقي للشفاعة وعن فلسفتها.

ثمّة ذنوب كالظلم مثلًا خارجة عن دائرة الشفاعة حيث يقول القرآن: «مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ» «1».

كما أنّ الشفاعة- وطبقاً للآية (28) من سورة الأنبياء- لا تشمل إلّاأولئك المرتقين إلى درجة «الإرتضاء» وإلى درجة الالتزام بالعهد الإلهي حيث يقول القرآن: «لَايَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْدًا» «2».

الإرتضاء، واتخاذ العهد، يعنيان على المستوى اللغوي (وكذلك ما ورد من الروايات في تفسير هذه الآيات): الإيمان باللَّه والحساب والميزان والثواب والعقاب، والإعتراف بالحسنات والسيئات، وبما أنزل اللَّه، إيماناً عميقاً في الفكر، ظاهراً في العمل ... إيماناً يبعد صاحبه عن صفات الظالمين الذين لا يؤمنون بأية قيمة إنسانية، ويدفعه إلى إعادة النظر في منهج حياته.

وبشأن الشفعاء ذكر القرآن لهم شرطاً في قوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقّ» «3». من هنا فالمشفوع له أيضاً ينبغي أن يسلك طريق الحق في القول والعمل، كي يكون له إرتباط بالشفيع، وهذا الإرتباط الضروري بين الشفيع والمشفوع له يعتبر بدوره عاملًا بنّاءاً في تعبئة الطاقات على طريق الحق.

______________________________

(1) سورة غافر/ 18.

(2) سورة مريم/ 87.

(3) سورة الزخرف/ 86.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 59

وَ إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ

عَظِيمٌ (49) نعمة الحرية: في هذه الآية إشارة إلى نعمة كبيرة اخرى، منّ بها اللَّه سبحانه على بني إسرائيل، وهي نعمة تحريرهم من براثن الظالمين: «وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِى ذلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ».

القرآن عبّر بكلمة «البلاء» عمّا كان ينزل ببني إسرائيل من عذاب يتمثل في قتل الذكور واستخدام الإناث لخدمة آل فرعون.

و «البلاء»: يعني الإمتحان، فالحوادث والمصائب التي نزلت ببني إسرائيل كانت بمثابة الامتحان لهم، كما قد يأتي البلاء بمعنى العقاب، لأنّ بني إسرائيل سبق لهم أن كفروا بنعمة ربّهم، فكان ما أصابهم من آل فرعون عقاباً على كفرانهم.

من الملفت للنظر أنّ القرآن يسمي ذبح الأبناء واستحياء النساء عذاباً، ولو عرفنا أنّ استحياء النساء يعني استبقائهن، وتركهن أحياء، لاتضح لنا أنّ القرآن يشير إلى أنّ مثل هذا الاستبقاء المذل هو عذاب أيضاً مثل عذاب القتل، وهذا المعنى يشير إليه الإمام أميرالمؤمنين علي عليه السلام إذ يقول: «فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين» «1».

عملية الإماتة كانت شاملة للذكور والإناث مع اختلاف في ممارسة هذه العملية، وفي عالمنا المعاصر يمارس طواغيت الأرض عملية الإماتة أيضاً بأساليب اخرى، وذلك عن طريق قتل روح الرجولة في الذكور، ودفع الإناث إلى مستنقع إشباع الشهوات. وَ إِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَ أَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

النجاة من آل فرعون: الآية السابقة أشارت إلى نجاة بني إسرائيل من براثن الفرعونيين، وهذه الآية توضح طريقة النجاة: «وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ».

قضية غرق آل فرعون في البحر ونجاة بني إسرائيل وردت في سور عديدة مثل سورة الأعراف الآية (126)، وسورة الأنفال الآية (54)، وسورة

الإسراء الآية (103)، وسورة

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 51.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 60

الشعراء الآية (63 و 66)، وسورة الزخرف الآية (55)، والدخان الآية (17) وما بعدها.

في هذه السور ذكرت كل تفاصيل الحادث، أمّا هذه الآية فاكتفت بالإشارة إلى هذه النعمة الإلهية في معرض دعوة بني إسرائيل إلى قبول الرسالة الخاتمة.

الهدف من تذكير بني إسرائيل بهذا الحدث الذي بدأ بخوف شديد وانتهى بانتصار ساحق، هو دفعهم للشكر وللسير على طريق الرسالة الإلهيّة المتمثلة في دين النبي الخاتم.

كما أنّه تذكير للبشرية بالامداد الإلهي الّذي يشمل كل امّة سائرة بجدٍ وإخلاص على طريق اللَّه.

وَ إِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَ إِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَ الْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) أكبر إنحرافات بني إسرائيل: في هذه الآيات الأربع، تأكيد على مقطع آخر من تاريخ بني إسرائيل، وعلى أكبر انحراف اصيبوا به في تاريخهم الطويل، وهو الانحراف عن مبدأ التوحيد، والإتجاه إلى عبادة العجل، وهذا التأكيد تذكير لهم بما لحقهم من زيغ نتيجة إغواء الغاوين، وتحذير لهم من تكرر هذه التجربة في مواجهة الدين الخاتم: «وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» وهي ليالي افتراق موسى عن قومه، «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ».

شرح هذا المقطع من تاريخ بني إسرائيل سيأتي في سورة الأعراف الآية (142) وما بعدها، وفي سورة طه الآية (36) وما بعدها.

في الآية التالية يقول سبحانه: «ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذلِكَ

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

وبعد إشارة إلى ما جاء بني إسرائيل من هداية تشريعية: «وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ».

ثم يشير القرآن إلى طريقة التوبة المطروحة على بني إسرائيل: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 61

قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

«البارئ»: هو الخالق، وفي الكلمة إشارة إلى أنّ هذا الأمر الإلهي بالتوبة الشديدة صادر عمّن خلقكم، وعمّن هو أعرف بما يضرّكم وينفعكم.

ذنب عظيم وتوبة فريدة: لا شك أنّ عبادة عجل السامري لم تكن مسألة هينة، لأنّ بني إسرائيل شاهدوا ما شاهدوا من آيات اللَّه ومعجزات نبيهم موسى عليه السلام ثم نسوا ذلك دفعة، وخلال فترة قصيرة من غياب النبي إنحرفوا تماماً عن مبدأ التوحيد وعن الدين الإلهي. ومن هنا كانت الأوامر الإلهية بالتوبة شديدة وتقضي هذه الأوامر أن تقترن التوبة بإعدام جماعي لعدد كبير من المذنبين، على أيديهم أنفسهم.

طريقة تنفيذ هذا الإعدام لا تقل شدة عن الإعدام نفسه، فقد صدرت الأوامر الإلهية أن يقتل المذنبون بعضهم بعضاً، وفي ذلك عذابان للمذنب: عذاب قتل الأصدقاء والمعارف على يديه، وما ينزل به- هو نفسه- من عذاب القتل.

وجاء في الأخبار أنّ موسى أمر في ليلة ظلماء كل الجانحين إلى عبادة العجل، أن يغتسلوا ويرتدوا الأكفان ويعملوا السيف بعضهم في البعض الآخر.

ولعلك تسأل عن السبب في قساوة هذه التوبة ولماذا لم يقبل اللَّه تعالى منهم التوبة دون إراقة للدماء؟

الجواب: إنّ السبب في شدّة هذا الحكم يعود إلى عظمة الذنب الذي إرتكبوه بعد كل ما شاهدوه من آيات ومعاجز، وإلى أنّ هذا الذنب يهدّد وجود الدعوة ومستقبلها لأنّ اصول ومبادئ جميع الأديان السماوية يمكن

اختزالها في التوحيد، فلو تزلزل هذا الأصل فإنّ ذلك يعني انهيار جميع اللبنات الفوقية والمباني الحضارية للدين، فلو تساهل موسى عليه السلام مع ظاهرة عبادة العجل، لأمكن أن تبقى سُنّة في الأجيال القادمة، خاصة وأنّ بني إسرائيل كانوا على مرّ التاريخ قوماً متعنتين لجوجين. ولابدّ إذن من عقاب صارم يبقى رادعاً للأجيال التالية عن السقوط في هاوية الشرك.

وَ إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 62

طلب عجيب: هاتان الآيتان تذكّران بني إسرائيل بنعمة إلهيّة اخرى، كما توضحان في الوقت نفسه روح اللجاج والعناد في هؤلاء القوم، وتبيان ما نزل بهم من عقاب إلهي، وما شملهم اللَّه به من رحمة بعد ذلك العقاب. تقول الآية الاولى «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً».

هذا الطلب قد ينم عن جهل بني إسرائيل، لأنّ إدراك الإنسان الجاهل لا يتعدّى حواسه، ولذلك يرمي إلى أن يرى اللَّه بعينه.

أو قد يحكي هذا الطلب عن ظاهرة لجاج القوم وعنادهم التي يتميزون بها دوماً.

عندئذٍ شاء اللَّه سبحانه أن يرى هؤلاء ظاهرة من خلقه لا يطيقون رؤيتها، ليفهموا أنّ عينهم الظاهرة هذه لا تطيق رؤية كثير من مخلوقات اللَّه، فما بالك برؤية اللَّه سبحانة نزلت الصاعقة على الجبل وصحبها برق شديد ورعد مهيب وزلزال مروع، فتركهم، على الأرض صرعى من شدّة الخوف: «فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ».

اغتم موسى لما حدث بشدة، لأنّ هلاك سبعين نفراً من كبار بني إسرائيل، قد يوفّر الفرصة للمغامرين من أبناء القوم أن يثيروا ضجّة بوجه نبيهم، لذلك تضرع موسى إلى اللَّه أن يعيدهم إلى الحياة،

فقبل طلبه وعادوا إلى الحياة: «ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

هذه الآية تشير ضمناً إلى إمكان «الرجعة»، أي الرجوع إلى هذه الحياة الدنيا بعد الموت، لأنّ وقوعها في مورد يدل على إمكان الوقوع في موارد اخرى.

وَ ظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ مَا ظَلَمُونَا وَ لكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) النعم المتنوعة: بعد أن نجا بنو إسرائيل من الفرعونيين، تذكر الآيات (23- 29) من سورة المائدة، أنّ بني إسرائيل امروا لأن يتجهوا إلى أرض فلسطين المقدسة، لكن هؤلاء عصوا هذا الأمر، وأصروا على عدم الذهاب مادام فيها قوم جبارون (العمالقة)، وأكثر من ذلك تركوا أمر مواجهة هؤلاء الظالمين لموسى وحده قائلين له: «فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا ههُنَا قَاعِدُونَ» «1».

______________________________

(1) سورة المائده/ 24.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 63

تألّم موسى لهذا الموقف ودعا ربّه: «قَالَ رَبّ إِنّى لَاأَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ» «1». فكتب عليهم التيه أربعين عاماً في صحراء سيناء.

مجموعة من التائهين ندمت على ما فعلته أشد الندم، وتضرعت إلى اللَّه، فشمل اللَّه سبحانه بني إسرائيل ثانية برحمته، وأنزل عليهم نعمه التي تشير الآية إلى بعضها: «وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ».

والظّل له أهمّيّة كبرى لمن يطوي الصحراء طيلة النهار وتحت حرارة الشمس اللّافحة، خاصة أنّ مثل هذا الظّل لا يضيّق الفضاء على الإنسان ولا يمنع عنه هبوب النسيم.

وإضافة إلى الظّل فإنّ اللَّه سبحانه وفّر لبني إسرائيل بعد تيههم الطعام الذي كانوا في أمسّ الحاجة إليه خلال أربعين عاماً خلت من ضياعهم: «وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ».

لكن هؤلاء عادوا إلى الكفران: «وَمَا ظَلَمُونَا وَلكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

بحوث

1- المن والسلوى: «المنّ»

شي ء كالطلّ فيه حلاوة يسقط من الشجر و «السلوى» يعني التسلّي، وقال بعض اللغويين وجمع من المفسرين إنّه «طائر».

احتمل بعض المفسرين أن يكون «المنّ» نوعاً من العسل الطبيعي حصل عليه بنو إسرائيل في الجبال والمرتفعات المحيطة بصحراء التيه. وهذا التفسير يؤيد ما ورد من شروح على العهدين (التوراة والإنجيل) حيث جاء: «الأراضي المقدسة معروفة بكثرة أنواع الأوراد والأزهار، ومن هنا فإنّ مجاميع النحل تبني خلاياها في أخاديد الصخور وعلى أغصان الأشجار وثنايا بيوت الناس، بحيث يستطيع أفقر الناس أن يتناول العسل» «2».

بشأن «السلوى» قال بعض المفسرين إنّه العسل، وأجمع الباقون على أنّه نوع من الطير، كان يأتي على شكل أسراب كبيرة إلى تلك الأرض، وكان بنو إسرائيل يتغذون من لحومها.

في النصوص المسيحية تأييد لهذا الرأي حيث ورد في تفسير على العهدين ما يلي: «إعلم أنّ السلوى تتحرك بمجموعات كبيرة من أفريقيا، فتتجه إلى الشمال، وفي جزيرة كابري

______________________________

(1) سورة المائدة/ 25.

(2) قاموس الكتاب المقدس/ 612.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 64

وحدها يصطاد من هذا الطائر 16 ألفاً في الفصل الواحد ... هذا الطائر يجتاز طريق بحر القلزم، وخليج العقبة والسويس، ويدخل شبه جزيرة سيناء. وبعد دخوله لا يستطيع أن يطير في إرتفاعات شاهقة لشدة ما لاقاه من تعب وعناء في الطريق، فيطير على إرتفاع منخفض ولذلك يمكن اصطياده بسهولة» «1». يستفاد من هذا النص أنّ المقصود بالسلوى طير خاص سمين يشبه الحمام معروف في تلك الأرض.

2- لماذا قالت الآية «أنزلنا»؟ عبرت الآية الكريمة عن نعمة تقديم المن والسلوى بالإنزال، وليس الإنزال دائماً إرسال الشي ء من مكان عال، كقوله تعالى: «وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ» «2».

واضح أنّ الأنعام لم تهبط من السماء، من هنا فالإنزال في مثل

هذه المواضع:

إمّا أن يكون «نزولًا مقامياً»، أي نزولًا من مقام أسمى إلى مقام أدنى.

أو أن يكون من «الإنزال» بمعنى الضيافة، يقال أنزلت فلاناً: أي أضفته، والنزل (على وزن رُسُل) ما يعدّ للنازل من الزاد، ومنه قوله تعالى: «فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ» «3». وقوله سبحانه:

«خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِن عِندِ اللَّهِ» «4».

وتعبير «الإنزال» للمن والسلوى، قد يشير إلى أنّ بني إسرائيل كانوا ضيوف اللَّه في الأرض، فاستضافهم بالمن والسلوى.

3- ما هو الغمام؟ قيل: الغمام والسحاب بمعنى واحد، وقيل الغمام هو السحاب الأبيض، وذكروا في وصفه أنّه أبرد من السحاب وأرق، والغمام في الأصل من الغم وهو تغطية الشي ء، وسمي الغمام بهذا الاسم لأنّه يغطي صفحة السماء، وسمي الهمّ غماً بهذا الاسم لأنّه يحجب القلب «5».

______________________________

(1) قاموس الكتاب المقدس/ 483.

(2) سورة الزمر/ 6.

(3) سورة الواقعة/ 93.

(4) سورة آل عمران/ 198.

(5) تفسير روح المعاني 1/ 263؛ والمفردات للراغب، مادة «غمّ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 65

وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) عناد بني إسرائيل: وهنا نصل إلى مقطع جديد من حياة بني إسرائيل، يرتبط بورودهم الأرض المقدسة. تقول الآية الاولى: «وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ».

«القرية»: كل مكان يعيش فيه جمع من الناس، ويشمل ذلك المدن الكبيرة والصغيرة، خلافاً لمعناها الرائج المعاصر. والمقصود بالقرية هنا بيت المقدس.

ثم تقول الآية: «فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ». أي:

حطّ عنّا خطايانا، «نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ».

«حطّة»: في اللغة، تأتي بمعنى التناثر والمراد منها في

هذه الآية الشريفة، إلهنا نطلب منك أن تحطّ ذنوبنا وأوزارنا.

والآية تنتهي بعبارة: «وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ». أي: إنّ المحسنين سينالون المزيد من الأجر إضافة إلى غفران الخطايا.

والقرآن يحدثنا عن عناد مجموعة من بني إسرائيل حتى في ترتيل عبارة الاستغفار، فهؤلاء لم يرددوا العبارة بل بدلوها بعبارة اخرى فيها معنى السخرية والاستهزاء، والقرآن يقول عن هؤلاء المعاندين: «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ». وكانت نتيجة هذا العناد ما يحدثنا عنه كتاب اللَّه حيث يقول: «فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ».

«الرجز»: أصله الاضطراب ومنه قيل رجز البعير إذا اضطرب مشيه لضعفه.

وفي مجمع البيان: إنّ الرجز يعني العذاب عند أهل الحجاز ويروي عن الرّسول صلى الله عليه و آله قوله بشأن مرض الطاعون: «إنّه رجز عذّب به بعض الامم قبلكم».

ومن هنا يتضح سبب تفسير «الرجز» في بعض الروايات أنّه نوع من الطاعون فشا بسرعة بين بني إسرائيل وأهلك جمعاً منهم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 66

يلفت النظر أنّ من عوارض الطاعون اضطراباً في المشي والكلام، وهذا يتناسب مع أصل معنى «الرجز» تماماً. ومن الملفت للنظر أيضاً أنّ القرآن يؤكد أنّ هذا العذاب نزل «عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» فقط، ولم يشمل جميع بني إسرائيل.

والآية الكريمة بعد ذلك تبين بشكل غير مباشر سنة من سنن اللَّه تعالى، هي أنّ الذنب حينما يتعمق في المجتمع ويصبح عادة اجتماعية، عند ذاك يقترب احتمال نزول العذاب الإلهى.

وَ إِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) انفجار العيون في الصحراء: تذكير آخر بنعمة اخرى من نعم اللَّه على بني إسرائيل:

وهذا التذكير تشير إليه كلمة «إذ» المقصود منها (واذكروا إذ)، وهذه النعمة أغدقها اللَّه عليهم، حين كان بنو إسرائيل في أمسّ الحاجة إلى الماء وهم في وسط صحراء قاحلة، فطلب موسى عليه السلام من اللَّه عزّ وجلّ الماء: «وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ» فتقبل اللَّه طلبه، وأمر نبيّه أن يضرب الحجر بعصاه: «فَقُلْنَا اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا» بعدد قبائل بني إسرائيل.

وكل عين جرت نحو قبيلة بحيث أنّ كل قبيلة كانت تعرف العين التي تخصّها «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ».

كثرت الأقوال في طبيعة الحجر الذي انفجرت منه العيون.

قال بعض المفسرين: إنّ هذا الحجر كان في ثنايا الجبال المطلة على الصحراء وتدل جملة «انبجست» الواردة في الآية (160) من سورة الأعراف على أنّ المياه جرت قليلة أوّلًا، ثم كثرت حتى ارتوى منها كل قبائل بني إسرائيل مع مواشيهم ودوابهم.

ظاهرة انفجار المياه من الصخور طبيعية لكن الحادثة هنا مقرونة بالإعجاز.

لقد منّ اللَّه على بني إسرائيل بإنزال المن والسلوى، وفي هذه المرة يمنّ عليهم بالماء الذي يعز في تلك الصحراء القاحلة، ثم يقول سبحانه لهم: «كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 67

وفي هذه العبارة حثّ لهم على ترك العناد وإيذاء الأنبياء، وأن يكون هذا أقل شكرهم للَّه على هذه النعم.

الفرق بين العثو والإفساد: نهى اللَّه سبحانه بني إسرائيل عن الفساد بفعل «لَاتَعْثَوْا» من العثي وهو شدة الفساد. وبهذا يكون معنى «لا تعثوا» هو معنى «المفسدين» ولكنه مع تأكيد أشد.

وقد تشير عبارة النهي بأجمعها إلى حقيقة بدء الفساد من نقطة صغيرة، واتساعها واشتدادها بعد ذلك. أي تبدأ بالفساد وتنتهي بالعثي في الأرض وهو شدة الفساد واتساعه.

وَ إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى

لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَ قِثَّائِهَا وَ فُومِهَا وَ عَدَسِهَا وَ بَصَلِهَا قَالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ بَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ (61) المطالبة بالأطعمة المتنوعة: بعد أن شرحت الآيات السابقة نعم اللَّه على بني إسرائيل، ذكرت هذه الآية صورة من عنادهم وكفرانهم بهذه النعم الكبرى. تتحدث الآية أوّلًا عن مطالبة بني إسرائيل نبيّهم بأطمعة متنوعة بدل الطعام الواحد (المن والسلوى): «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا».

فخاطبهم موسى «قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ».

ويضيف القرآن: «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بَايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ».

إنّ المقصود من كلمة «مصر» في الآية الكريمة هو المفهوم العام للمدينة، وقوله سبحانه:

«اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ». أي: إنّكم الآن تعيشون في هذه الصحراء ضمن إطار

مختصر الامثل، ج 1، ص: 68

منهج للاختبار وبناء الذات، وليس هذا مكان الأطعمة المتنوعة، إذهبوا إلى المدن حيث التنوع في المأكولات، ولكن لا يوجد فيها المنهج المذكور. التنوع وطبيعة الإنسان: التنوع هو- دون شك- من متطلبات البشر، فلم إذن توجه اللوم والتقريع إلى بني إسرائيل حين طلبوا الخضروات والخيار والفوم والعدس والبصل ليتخلصوا من الطعام الواحد؟!

الجواب يتضح لو علمنا أنّ الحياة الإنسانية تقوم

على أساس حقائق هامة لا يمكن التخلّي عنها، هي الإيمان والطهر والتقوى والتحرّر، وقد تمر الجماعة البشرية بمرحلة يتعارض فيها هذا الأساس الهام مع متطلبات الإنسان من الطعام والشراب واللذائذ الاخرى، وهنا تصبح الجماعة أمام خيارين، إمّا أن تنغمس في اللذات وتترك قيمها وشرفها، أو تضحي بلذاتها من أجل إنسانيتها وكرامتها.

بنو إسرائيل كانوا يعيشون أمام هذين الخيارين.

ولابد من الإشارة إلى أنّ حقيقة حب التنويع استغلها الطامعون والمستعمرون دوماً، ليدفعوا الشعوب إلى هاوية حياة استهلاكية شهوانية هابطة، يعيش الأفراد فيها بين المعلف والمضجع، ناسين شخصيتهم الإنسانية، وغافلين عن النير الذي يطوق أعناقهم.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هَادُوا وَ النَّصَارَى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) القانون العام للنجاة: بعد عرض لمقاطع من تاريخ بني إسرائيل، تطرح هذه الآية الكريمة مبدأ عاماً في التقييم وفق المعايير الإلهية، وهذا المبدأ ينص على أنّ الإيمان والعمل الصالح هما أساس تقييم الأفراد، وليس للتظاهر والتصنّع قيمة في ميزان اللَّه: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» «1».

______________________________

(1) «الصابئين»: كانوا في الأصل أتباع أحد الأنبياء وإن اختلف المحققون في تعيين نبيّهم، وعدد هؤلاء قليل وهم في حالة إنقراض.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 69

تساؤل هام: بعض المضللين اتخذوا من الآية الكريمة التي نحن بصددها وسيلة لبثّ شبهة مفادها أنّ العمل بأي دين من الأديان الإلهيّة له أجر عنداللَّه، وليس من اللازم أن يعتنق اليهودي أو النصراني الإسلام، بل يكفي أن يؤمن باللَّه واليوم الآخر ويعمل صالحاً.

الجواب: نعلم أنّ

القرآن يفسر بعضه بعضاً، والكتاب العزيز يقول: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» «1».

كما أنّ القرآن ملي ء بالآيات التي تدعو أهل الكتاب إلى اعتناق الدين الجديد، وتلك الشبهة تتعارض مع هذه الآيات. من هنا يلزمنا أن نفهم المعنى الحقيقي للآية الكريمة. ونذكر تفسيرين لها من أوضح وأنسب ما ذكره المفسرون:

1- لو عمل اليهود والنصارى وغيرهم من أتباع الأديان السماوية بما جاء في كتبهم، لآمنوا حتماً بالنبي صلى الله عليه و آله لأنّ بشارات الظهور وعلائم النبي وصفاته مذكورة في هذه الكتب السماوية.

2- هذه الآية تجيب على سؤال عرض لكثير من المسلمين في بداية ظهور الإسلام، يدور حول مصير آبائهم وأجدادهم الذين لم يدركوا عصر الإسلام، تُرى، هل سيؤاخذون على عدم إسلامهم وإيمانهم؟

الآية المذكورة نزلت لتقول إنّ كل امة عملت في عصرها بما جاء به نبيّها من تعاليم السماء وعملت صالحاً؛ فإنّها ناجية، ولا خوف على أفراد تلك الامة ولا هم يحزنون.

فاليهود المؤمنون العاملون ناجون قبل ظهور المسيح، والمسيحيون المؤمنون العاملون ناجون قبل ظهور نبي الإسلام.

وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) الإلتزام بالميثاق: هاتان الآيتان تطرحان مسألة أخذ ميثاق بني إسرائيل بشأن العمل بالتوراة، ثم نقضهم للميثاق: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ». والطور جبل

______________________________

(1) سورة آل عمران/ 85.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 70

وسيأتي ذكره. وقلنا لكم: «خُذُوا مَا ءَاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ». واجعلوا التوراة دوماً نصب أعينكم:

«وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». لكنكم نقضتم الميثاق وجعلتموه وراء ظهوركم: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ

وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ».

هذا الميثاق عبارة عن: توحيد اللَّه، والإحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين، والقول الصالح، وإقامة الصلاة، وأداء الزكاة، واجتناب سفك الدماء، هذه المواد وردت في التوراة كذلك. من الآية (12) لسورة المائدة يتضح أيضاً أنّ اللَّه أخذ ميثاق بني إسرائيل أن يؤمنوا بجميع الأنبياء ويساندوهم، وأن ينفقوا في سبيل اللَّه. وفي هذه الآية ضمان للقوم بدخول الجنة إن عملوا بهذا الميثاق.

بحوث

1- رفع جبل الطور: أمّا بشأن كيفية رفع جبل الطور في قوله تعالى: «وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ». يقول الطبرسي عن أبي زيد: حدث هذا حين رجع موسى من الطور، فأتى بالألواح، فقال لقومه: جئتكم بالألواح وفيها التوراة والحلال والحرام فاعملوا بها. قالوا:

ومن يقبل قولك؟! فأرسل اللَّه عزّ وجلّ الملائكة حتى نتقوا (رفعوا) الجبل فوق رؤوسهم، فقال موسى عليه السلام: إن قبلتم ما آتيتكم به وإلّا أرسلوا الجبل عليكم، فأخذوا التوراة وسجدوا للَّه تعالى ملاحظين الجبل (أي وهم ينظرون إلى الجبل من طرف خفي)، فمن ثم يسجد اليهود على أحد شِقّي وجوههم.

الطبرسي- كما ذكرنا- وجمع من المفسرين، يذهبون إلى أنّ جبل الطور رفع فوق رؤوس بني إسرائيل بأمر اللَّه لايجاد الظل عليهم.

ويحتمل أيضاً أن تكون قد انفصلت من الجبل صخرة عظيمة بأمر اللَّه على أثر زلزال شديد أو صاعقة، ومرّت فوق رؤوسهم في لحظات، فرأوها وتصوروا أنها ستسقط عليهم.

2- الإلتزام والإرهاب: مسألة رفع الجبل فوق بني إسرائيل لتهديدهم عند أخذ الميثاق تثير سؤالًا بشأن إمكان تحقيق الالتزام عن طريق التخويف والإرهاب.

هناك من قال: إنّ رفع الجبل فوقهم لا ينطوي على إرهاب وتخويف أو إكراه، لأن أخذ الميثاق بالإكراه لا قيمة له.

الأصح أن نقول: لا مانع من إرغام الأفراد المعاندين المتمردين على الرضوخ للحق

مختصر الامثل، ج 1، ص: 71

بالقوّة. وهذا الإرغام مؤقت هدفه كسر أنفتهم وعنادهم وغرورهم، ومن ثم دفعهم للفكر الصحيح، كي يؤدّوا واجباتهم بعد ذلك عن إرادة واختيار.

على أي حال، هذا الميثاق يرتبط بالمسائل العملية، لا بالجانب الاعتقادي، فالمعتقدات لا يمكن تغييرها بالإكراه.

3- خذوا تعاليم السماء بقوة: خاطب اللَّه سبحانه بني إسرائيل فقال: «خُذُوا مَا ءَاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ». وعن هذه الآية سئل الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام عن المقصود من القوة في هذه الآية: أبقوة بالأبدان أم بقوة في القلوب؟ قال: «بهما جميعاً».

وهذا الأمر الإلهي يتجه إلى كل أتباع الأديان الإلهية في كل زمان ومكان، ويطلب منهم أن يتجهزوا بالقوى المادية والقوى المعنوية معاً، لصيانة خط التوحيد وإقامة حاكمية اللَّه في الأرض.

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَ مَا خَلْفَهَا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) عصاة يوم السبت: هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان- كالآيات السابقة- عن روح العصيان والتمرد المتغلغلة في اليهود، والتصاقهم الشديد بالمسائل المادية: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِينَ» «1».

«فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا». أي: جعلناها عبرة لتلك الامة ولأمم تليها «وَمَوعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ».

ملخص الحادثة التي تشير إليها الآية: «أنّ اللَّه سبحانه أمر اليهود أن يسبتوا- أي أن يقطعوا أعمالهم- يوم السبت، وهذا الأمر شمل طبعاً أولئك القاطنين قرب البحر الذين يعيشون على صيد الأسماك، وشاء اللَّه أن يختبر هؤلاء، فكثرت الأسماك يوم السبت قرب الساحل بينما ندرت في بقية الأيّام. طفق هؤلاء يتحايلون لصيد الأسماك يوم السبت.

فعاقبهم اللَّه على عصيانهم ومسخهم على هيئة حيوان» «2».

______________________________

(1) «خسأ»: طرد وزجر، ويستعمل لطرد الكلب، وللطرد المقرون بالإستهانة

يقال: إخْسأه.

(2) راجع التفاصيل لدى توضيح الآيات (163- 166) من سورة الأعراف.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 72

وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَ تَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَ لَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَ إِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَ مَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) قصة بقرة بني إسرائيل: هذه الآيات تتحدث بالتفصيل عن حادثة اخرى من حوادث تاريخ بني إسرائيل، هذا التفصيل لم نألفه في الآيات السابقة.

الحادثة (كما يبيّنها القرآن وكتب التّفسير) على النحو التالي: قتل شخص من بني إسرائيل بشكل غامض، ولم يعرف القاتل. حدث بين قبائل بني إسرائيل نزاع بشأن هذه الحادثة، كل قبيلة تتهم الاخرى بالقتل، توجّهوا إلى موسى ليقضي

بينهم، فما كانت الأساليب الاعتيادية ممكنة في هذا القضاء، وما كان بالإمكان إهمال هذه المسألة لما سيترتب عليها من فتنة بين بني إسرائيل. لجأ موسى- بإذن اللَّه- إلى طريقة إعجازية لحلّ هذه المسألة كما ستوضحها الآيات الكريمة. يقول سبحانه في هذه الآيات: «وَإِذْ قَالَ مُوسى

مختصر الامثل، ج 1، ص: 73

لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا».

«قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ». أي: إنّ الإستهزاء من عمل الجاهلين، وأنبياء اللَّه مبرّؤون من ذلك.

بعد أن أيقنوا جديّة المسألة، «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا هِىَ». وعبارة «ربّك» تتكرر في خطاب بني إسرائيل لموسى، وتنطوي على نوع من إساءة الأدب والسخرية، وكأنّ ربّ موسى غير ربّهم!

موسى عليه السلام أجابهم: «قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَافَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ». أي: إنّها لا كبيرة هرمة ولا صغيرة، بل متوسطة بين الحالتين: «فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ».

لكن بني إسرائيل لم يكفوا عن لجاجتهم: «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا».

أجابهم موسى: «قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ». أي: إنّها حسنة الصفرة لا يشوبها لون آخر.

ولم يكتف بنو إسرائيل بهذا، بل أصروا على لجاجهم، وضيقوا دائرة انتخاب البقرة على أنفسهم. عادوا و «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنْ لَّنَا مَا هِىَ». طالبين بذلك مزيداً من التوضيح، متذرعين بالقول: «إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ».

أجابهم موسى: «قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَاذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِى الْحَرْثَ». أي:

ليست من النوع المذلل لحرث الأرض وسقيها.

«مُسَلَّمَةٌ» من العيوب كلها.

«لَّا شِيَةَ فِيهَا». أي: لا لون فيها من غيرها.

حينئذ: «قَالُوا النَ جِئْتَ بِالْحَقِّ». «فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ». أي: أنّهم بعد أن وجدوا بقرة بهذه السمات

ذبحوها بالرغم من عدم رغبتهم بذلك.

بعد أن ذكر القرآن تفاصيل القصّة، عاد فلخص الحادث بآيتين: «وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَءْتُمْ فِيهَا». أي: فاختلفتم في القتل وتدافعتم فيه. «وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ».

«فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا». أي: اضربوا المقتول ببعض أجزاء البقرة، كي يحيى ويخبركم بقاتله. «كَذلِكَ يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

وبعد هذه الآيات البينات، لم تلن قلوب بني إسرائيل، بل بقيت على قسوتها وغلظتها وجفافها. «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً».

إنّها أشد قسوة من الحجارة، لأنّ بعض الحجارة تتفجر منها الأنهار، أو تنبع منها المياه أو

مختصر الامثل، ج 1، ص: 74

تسقط من خوف اللَّه: «وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ». لكن قلوب بني إسرائيل أشد قسوة من الحجارة، فلا تنفجر منها عاطفة ولا علم، ولا تنبع منها قطرة حب، ولا تخفف من خوف اللَّه.

واللَّه عالم بما تنطوي عليه القلوب وما تفعله الأيدي: «وَمَا اللَّهُ بَغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

العِبر في هذه القصة: هذه القصة لها دلالات على قدرة اللَّه اللامتناهية، وكذلك على مسألة المعاد.

إضافة إلى ما سبق، هذه القصة تعلمنا أنّنا ينبغي أن لا نتزمت ولا نتشدد في الامور كي لا يتشدد اللَّه معنا.

ولعل انتخاب البقرة للذبح يستهدف غسل أدمغة هؤلاء القوم من فكرة عبادة العجل. أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَ إِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَ

وَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ (77)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان روي عن الإمام أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السلام أنّه قال: «كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتوطئين، إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمّد، فنهاهم كبراؤهم عن ذلك، وقالوا: لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمّد فيحاجّوكم به عند ربّكم فنزلت هذه الآية».

التّفسير

لا أمل في هؤلاء: كان سياق الآيات السابقة يتجه نحو سرد تاريخ بني إسرائيل، وفي هاتين الآيتين يتجه الخطاب نحو المسلمين ويقول لهم: لا تعقدوا الآمال على هداية هؤلاء اليهود، فهم مصّرون على تحريف الحقائق ونكران ما عقلوه «أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 75

كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحْرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

وهذه عظة للمسلمين، ودفع لما قد يعتريهم من يأس نتيجة عدم استطاعتهم إقناع اليهود وجذبهم إلى الدين الجديد.

الآية التالية تلقي الضوء على حقيقة مرّة اخرى بشأن هذه الزمرة المنافقة وتقول: «وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

ويتضح من الآية أنّ إيمان هذه الفئة المنافقة من اليهود، كان ضعيفاً إلى درجة أنّهم تصوروا اللَّه مثل إنسان عادي، وظنوا أنهم إذا أخفوا شيئاً عن المسلمين فسيخفى عن اللَّه أيضاً. لذلك تقول الآية التالية بصراحة: «أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ».

وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ

أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: عمد جمع من علماء اليهود إلى تغيير صفات نبيّ الخاتم في التوراة من أجل صيانة مصالحهم، واستمرار الأموال التي كانت تتدفق عليهم سنوياً من جَهَلَة اليهود. فعند ظهور النبي صلى الله عليه و آله غيّروا ما ذكر من صفاته في التوراة وأبدلوها بصفات اخرى على العكس منها، كي يموّهوا الأمر على الاميين الّذين كانوا قد سمعوا من قبل بصفات النبي في التوراة، فمتى ما سألوا علماءهم عن هذا النبي الجديد قرؤوا لهم الآيات المحرفة من التوراة لإقناعهم بهذه الطريقة.

التّفسير

خطّة اليهود في استغلال الجهلة: بعد الحديث عن إنحرافات اليهود في الآيات السابقة قسّمت هاتان الآيتان اليهود إلى مجموعتين: اميين وعلماء ماكرين. عن المجموعة الاولى يقول تعالى: «وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لَايَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 76

«الاميّون»: جمع امّيّ، والامّيّ غير الدارس، وسمّوا بذلك لأنّهم في معلوماتهم كما ولدتهم امهاتهم، أو لشدّة تعلق امّهاتهم بهم، صعب عليهنّ فراقهم جهلًا، ومنعنهم من الذهاب إلى المدرسة. والأماني جمع امنية، ولعل الآية تشير هنا إلى الإمتيازات الموهومة التي كان ينسبها اليهود لأنفسهم، كقولهم: «نَحْنُ أَبْنؤُا اللَّهِ وَأَحِبؤُهُ» «1».

ومن المحتمل أيضاً أن يكون المقصود من الأماني، الآيات المحرفة التي كان علماء اليهود يشيعونها بين الاميين من الناس.

ثمة مجموعة اخرى من العلماء كانت تحرف الحقائق لتحقيق مصالحها، وإلى هؤلاء يشير القرآن: «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا».

«فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ».

«وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ».

وقد أورد بعض المفسرين حديثاً عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية وفيه ملاحظات هامة:

قال رجل للصادق عليه السلام: إذا كان هؤلاء

العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلّابما يسمعونه من علمائهم، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلّا كعوامنا، يقلّدون علماءهم- إلى أن قال- فقال عليه السلام: «بين عوامنا وعوام اليهود فرق من جهة، وتسوية من جهة، أمّا من حيث الاستواء فإنّ اللَّه ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم، كما ذمّ عوامهم، وأمّا من حيث افترقوا فإنّ عوام اليهود كانوا قدعرفوا علماءهم بالكذب الصّراح، وأكل الحرام، والرشاء وتغيير الأحكام، واضطرّوا بقلوبهم إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق، لايجوز أن يصدّق على اللَّه، ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللَّه، فلذلك ذمّهم، وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر، والعصبيّة الشديدة، والتكالب على الدنيا وحرامها، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمّهم اللَّه بالتقليد لفسقة علمائهم، فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلّابعض فقهاء الشيعة لا كلّهم، فإنّ من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامّة، فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً، ولا كرامة، وإنمّا كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك، لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا

______________________________

(1) سورة المائدة/ 18.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 77

فيحرّفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم وآخرون يتعمّدون الكذب علينا» «1».

وَ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) غرور وادعاء فارغ: يشير القرآن الكريم هنا إلى واحدة من إدعاءات اليهود الدالة على غرورهم، هذا الغرور الذي يشكل الأساس لكثير من

انحرافات هؤلاء القوم: «وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً». ثم تجيبهم الآية بأسلوب مُفحِم: «قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ».

اعتقاد اليهود بأنّهم شعب اللَّه المختار، وأنّ عنصرهم متفوق على سائر الأجناس البشرية، وأنّ مذنبيهم لن يدخلوا جهنم سوى أيّام قليلة.

إدّعاء اليهود المذكور في الآية الكريمة لا ينسجم مع أي منطق.

الآية الكريمة تدحض مزاعمهم بدليل منطقي، وتفهمهم أنّ مزاعمهم هذه إمّا أن تكون قائمة على أساس عهد لهم اتخذوه عند اللَّه، ولا يوجد مثل هذا العهد، أو أن تكون من افترائهم الكذب على اللَّه.

ثم تبيّن الآية التالية قانوناً عاماً يقوم على أساس المنطق وتقول: «بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

وهذا القانون عام يشمل المذنبين من كل فئة وقوم.

وبشأن المؤمنين الأتقياء، فهناك قانون عام شامل تبيّنه الآية التالية: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

بحوث

1- كسب السيّئة: الكسب والإكتساب: الحصول على الشي ء عن إرادة واختيار، من هنا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 18/ 94 (كتاب القضاء، باب عدم جواز تقليد غير المعصوم).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 78

عبارة «بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيَةً» إشارة إلى اولئك الذين يرتكبون الذنوب عن علم وانتخاب، وتعبير الآية بكلمة «كَسَبَ» قد يكون إشارة إلى المحاسبة الخاطئة العاجلة التي يرتكب المذنب على أساسها ذنبه ظاناً أنّه يكسب بارتكاب الذنب نفعاً، ويتحمل بتركه خسارة. 2- إحاطة الخطيئة: الخطيئة تستعمل غالباً في الذنوب التي لا يرتكبها صاحبها عن عمد، لكنها وردت في هذه الآية بمعنى الذنوب الكبيرة أو بمعنى آثار الذنب في قلب الإنسان وروحه.

مفهوم إحاطة الخطيئة يعني إنغماس الفرد في الذنب إلى درجة يصبح ذلك الفرد سجين ذنبه.

3-

عنصرية اليهود: نفهم من الآيات الكريمة أنّ روح التمييز العنصري لدى اليهود، التي هي مبعث كثير من مشاكل الساحة العالمية اليوم، كانت راسخة لدى اليهود منذ تلك الأيام، وكانوا يعتقدون بوجود تفوق وامتياز لعنصر بني إسرائيل على سائر الأجناس البشرية الاخرى، ولا زالت هذه الذهنية سائدة لدى هؤلاء القوم بعد مرور آلاف السنين على أسلافهم الذين يتحدث عنهم القرآن الكريم، وهذا التعصب العنصري هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة الصهيونية الغاصبة اليوم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 79

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ ذِي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ لَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَ لَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) الناكثون: تقدم ذكر ميثاق بني إسرائيل، والقرآن يندد في هذه الآيات بشدة باليهود لنقضهم هذه العهود، ويتوعدهم نتيجة لهذا النقض بالخزي في الحياة الدنيا والعذاب في الآخرة. بنود هذا العهد الذي أقرّ به بنو إسرائيل:

1- التوحيد

وإخلاص العبودية للَّه «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ لَاتَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ».

2- الإحسان إلى الوالدين: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا».

3- الإحسان إلى الأقارب واليتامى والفقراء: «وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ».

4- التعامل الصحيح مع الآخرين: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا».

5- إقامة الصلاة: «وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ».

6- إيتاء الزكاة: «وَءَاتُوا الزَّكَوةَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 80

ثم تذكر الآية الكريمة نقض القوم للميثاق وعدم وفائهم بالعهد: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُمْ مُّعْرِضُونَ».

7- عدم سفك الدماء: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَاتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ».

8- عدم إخراج بني جلدتكم من ديارهم: «وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ».

9- إفداء الأسرى، أي بذل المال لتحريرهم من الأسر (وهذا البند نفهمه من عبارة «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» وسيأتي ذكرها).

ثم تذكر الآية إقرار القوم بالميثاق: «ثُمَّ أقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ».

ثم يتعرض القرآن إلى نقض بني إسرائيل للميثاق، بقتل بعضهم وتشريد بعضهم الآخر:

«ثُمَّ أَنتُمْ هؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ». ويشير القرآن إلى تعاون بعضهم ضد البعض الآخر: «تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ».

ثم يشير إلى تناقض هؤلاء في مواقفهم، إذ يحاربون بني جلدتهم ويخرجونهم من ديارهم، ثم يفدونهم إن وقعوا في الأسر: «وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ».

فهم يفادونهم استناداً إلى أوامر التوراة، بينما يشردونهم ويقتلونهم خلافاً لما أخذ اللَّه عليهم من ميثاق: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ».

ومن الطبيعي أن يكون هذا الانحراف سبباً لانحطاط الإنسان في الدنيا والآخرة: «فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْىٌ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيمَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الْعَذَابِ».

وإنحرافات أية امة من الامم لابد أن تعود عليها بالنتائج الوخيمة، ذلك لأنّ اللَّه سبحانه وتعالى أحصاها عليهم بدقة: «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

الآية الأخيرة تشير إلى تخبط بني إسرائيل وتناقضهم في مواقفهم، والمصير الطبيعي الذي ينتظرهم نتيجة لذلك: «أُولئِكَ

الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالْأَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».

بحثان

1- إشارة تاريخية: في الآيات إشارة لتناقض بني إسرائيل في مواقف بعضهم من البعض الآخر. قيل في ذلك: «كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوماً أخرجوهم من ديارهم، وقد اخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، واخذ عليهم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 81

الميثاق إن أسر بعضهم بعضاً أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم ثم فادوهم، فآمنوا بالفداء ففدوا وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوهم».

وفي تفسير مجمع البيان روي في المعنيّ بهذه الآية عن ابن عباس: «أنّ قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج وكانت قريظة مع الأوس، فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها، فإذا وضعت الحرب أوزارها فدوا اسراها تصديقاً لما في التوراة، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا ناراً ولا قيامة ولا كتاباً، فأنبأ اللَّه تعالى اليهود بما فعلوه».

وهكذا سقط اليهود وغيرهم من أهل العناد في مثل هذه التناقضات في حياتهم لانحرافهم عن خط العبودية التامة للَّه تعالى.

2- منهج البقاء وعوامل السقوط: الآيات الكريمة في معرض حديثها عن بني إسرائيل تطرح سنناً كونية في بقاء الشعوب وانحطاطها.

أهم عامل لبقاء الامّة ورفعتها وعزتها في المنظار القرآني، اعتماد الامة على قوة اللَّه وقدرته الأبدية وخضوعها له وحده دون سواه وخشيته وحده دون غيره: «لَاتَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ».

ومن عوامل البقاء أيضاً التلاحم الاجتماعي بين أفراد الامة، وهذا ما يعبر عنه القرآن بالإحسان إلى الوالدين باعتبارهما أقرب أفراد المجتمع إلى الإنسان، ثم الإحسان إلى ذي القربى، ثم بعد ذلك إلى عامّة أفراد المجتمع من الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس.

إزالة التمييز الطبقي ورفع الهوّة السحيقة الفاصلة بين الأغنياء

والفقراء في المجتمع، عن طريق إيتاء الزكاة، ومن عوامل بقاء المجتمع أيضاً ورفعته.

أمّا عوامل السقوط فهي عبارة عن تفكك البنية الاجتماعية، ونشوب النزاعات والحروب الداخلية بين أفراد المجتمع، واستضعاف بعضهم بعضاً. «لَاتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ...».

ثم الإزدواجية في الالتزام بأحكام اللَّه تعالى عامل هام من عوامل السقوط، يدفع بالأفراد لأن يتحركوا حول محور مصالحهم الآنيّة الذاتية الضيقة، فيلتزموا بالقوانين التي تحفظ لهم منافعهم الشخصية، ويتركوا القوانين النافعة للمجتمع «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 82

هذه هي الأسباب والعلل في تكامل وانحطاط الامم والحضارات في منظور القرآن.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَ قَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَ قَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) القلوب المغلفة: الحديث في هاتين الآيتين عن بني إسرائيل، وإن كانت المفاهيم والمعايير التي تطرحها الآيتان عامة وشاملة. تقول الآية الاولى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ». ثم تذكر بعثة الأنبياء بعد موسى مثل داود وسليمان ويوشع وزكريا ويحيى ...

«وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ». وتشير إلى بعثة عيسى: «وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيَّدْنهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ». لكن تعامل بني إسرائيل كان مع كل هؤلاء الأنبياء قائماً على أساس نزعات هوى النفس: «أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَاتَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ».

وكان موقفهم إمّا اغتيال شخصية النبي أو شخص النبي: «فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ». لو كان اغتيال الشخصية كافياً لتحقيق أهدافهم الدنيئة اكتفوا بذلك، وإن لم يكن كافياً سفكوا دمه!

الآية التالية تذكر ما كانوا يقولونه باستهزاء مقابل دعوة الأنبياء لهم أو دعوة النبي الخاتم صلى

الله عليه و آله: «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ». و «الغلف»: جمع «أغلف» أي مغلّف.

نعم، إنّها كذلك مغلفة وبعيدة عن نفوذ النور الإلهي إليها، لأنّ أصحابها لعنوا بعد التمادي في الكفر: «بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ».

الآية تبين حقيقة هامة هي: إنّ الإنغماس في الأهواء يبعد الفرد عن اللَّه، ويسدل الحجب على قلبه، فلا تكاد الحقيقة تجد لها طريقاً إلى نفسه.

بحثان

1- ما هو روح القدس؟ للمفسرين آراء مختلفة في معنى روح القدس:

أ) قالوا إنّه جبرائيل، فيكون معنى الآية على هذا إنّ اللَّه أيد عيسى بجبرائيل.

ووجه تسمية جبرائيل بروح القدس، هو أنّ جبرائيل ملك، والجانب الروحي في

مختصر الامثل، ج 1، ص: 83

الملائكة أمر واضح، وإطلاق كلمة «الروح» عليهم متناسب مع طبيعتهم، وإضافة الروح إلى «القدس» إشارة إلى طهر هذا الملك وقداسته الفائقة.

ب) وقيل: إنّ «روح القدس» هو القوة الغيبية التي أيدت عيسى عليه السلام وبهذه القوة الخفية الإلهيّة كان عيسى يحيي الموتى.

هذه القوة الغيبية موجودة طبعاً بشكل أضعف في جميع المؤمنين على اختلاف درجة إيمانهم، وهذا الإمداد الإلهي هو الذي يعين الإنسان في أداء الطاعات وتحمل الصعاب، ويقيه من السقوط في الذنوب والزلات.

2- قلوب غافلة محجوبة: كان اليهود في المدينة يقفون بوجه الدعوة، ويمتنعون عن قبولها، ويتذرعون لذلك بمختلف الحجج، والآية التي نحن بصددها تشير إلى واحدة من ذرائعهم.

«وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلفٌ» ولا ينفذ إليها قول!

كانوا يقولون ذلك عن استهزاء، غير أنّ القرآن أيد مقالتهم، فبكفرهم ونفاقهم اسدل على قلوبهم حجب من الظلمات والذنوب، وابتعدوا عن رحمة اللَّه، «فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ».

وهذه مسألة تطرحها في الآية (155) من سورة النساء حيث يقول تعالى: «وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا».

وَ لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ

مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)

سبب النّزول

روي العياشي في تفسيره عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «كانت اليهود تجد في كتبها أنّ مهاجر (مكان هجرة) محمّد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما بين (جبلي) عَيْر واحد، فخرجوا يطلبون الموضع، فمرّوا بجبل يقال له حداد، فقالوا: حداد واحد سواء، فتفرّقوا عنده. فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 84

بفدك وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمرّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه (أي استأجروا إبله) وقال لهم: أمرّ بكم ما بين عَير واحد، (فعلموا أنّهم أصابوا ضالّتهم) فقالوا له: إذا مررت بهما فآذنّا (أخبرنا) بهما، فلمّا توسط بهم أرض المدينة، قال: ذلك عَير، وهذا احد، فنزلوا عن ظهر إبله، وقالوا له: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك، فاذهب حيث شئت. وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر: إنّا قد أصبنا الموضع فهلمّوا إلينا. فكتبوا إليهم إنّا قد استقرت بنا الدار واتّخذنا بها الأموال، وما أقربنا منكم، فإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم، واتخذوا بأرض المدينة أموالًا. فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تُبّعاً فغزاهم، فتحصنوا منه، فحاصرهم ثم أمنهم، فنزلوا عليه. فقال لهم: إنّي قد استطبت بلادكم، ولا أراني إلّامقيماً فيكم.

فقالوا له: ليس ذلك لك، إنّها مهاجر نبي، وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك. فقال لهم: فإنّي مخلف فيكم من اسرتي

من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حين تراهم الأوس والخزرج. فلمّا كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم: أما لو بعث محمّد لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا. فلما بعث اللَّه محمّداً صلى الله عليه و آله آمنت الأنصار وكفرت به اليهود، وهو قوله تعالى: «وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» إلى آخر الآية».

التّفسير

كفروا بما دعوا الناس اليه: هذه الآيات تتحدث أيضاً عن اليهود ومواقفهم، هؤلاء هاجروا ليتخذوا من يثرب سكناً بعد أن وجدوا فيها ما يشير إلى أنّها أرض الرّسول المرتقب، وبقوا فيها ينتظرون بفارغ الصبر النبي الذي بشّرت به التوراة، كما كانوا ينتظرون الفتح والنصر على الذين كفروا تحت لواء هذا النبي، لكنهم مع كل ذلك أعرضوا عن الرسول وعن الرسالة: «وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ».

وهكذا تستطيع الأهواء والمصالح الشخصية أن تقف بوجه طالب الحقيقة، مهما كان الفرد عاشقاً لهذه الحقيقة وتوّاقاً للوصول إليها فيتركها ويعرض عنها، بل تستطيع الأهواء أيضاً أن تحول هذا الفرد إلى عدو لدود لهذه الحقيقة.

ما أشد خسارة هؤلاء اليهود، تركوا أوطانهم وهاموا في الأرض بحثاً عن علامات أرض الرسالة، ثم ها هم خسروا كل شي ء، وباعوا أنفسهم بأسوأ ثمن: «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أنفُسَهُمْ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 85

لقد ضيعوا كل شي ء وكأنّهم أرادوا أن يكون النبي الموعود من بني إسرائيل، ولهذا تألموا من نزول القرآن على غيرهم، بل ممن شاءه اللَّه: «أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ».

ولذلك شملهم غضب اللَّه المتوالي: «فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ

وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ».

«باءو»: بمعنى رجعوا- وأقاموا في المكان- وهنا تعني استحقاقهم لعذاب اللَّه، فكأنّهم عادوا وهم محملون بهذا الغضب الإلهى، أو كأنّهم اتخذوا موقفاً يغضب اللَّه.

هؤلاء القوم كانوا يعيشون على أمل ظهور النبي المنقذ، قبل دعوة موسى وقبل دعوة النبي الخاتم صلى الله عليه و آله وكان موقفهم من الرسولين الكريمين واحداً، هو النكول والإعراض، واستحقوا غضب اللَّه وسخطه مرة بعد اخرى.

وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَ يَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَ لَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَ عَصَيْنَا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) العصبية القومية لدى اليهود: يشير القرآن مرة اخرى إلى عصبية اليهود القومية ويقول: «وَإذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ».

فهم لم يؤمنوا بالإنجيل ولا بالقرآن، بل إنّهم يدورون حول محور العنصرية والمصلحية، فيجرأون على رفض الدعوة التي جاءت تصديقاً لما معهم في التوراة: «وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدّقًا لِّمَا مَعَهُمْ». ويكشف القرآن زيف ادّعائهم مرة اخرى حين يقول لهم: «قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ». هؤلاء يدّعون أنّهم يؤمنون بما أنزل عليهم، فهل التوراة تبيح لهم قتل الأنبياء؟

مختصر الامثل، ج 1، ص: 86

ويعرض القرآن وثيقة اخرى لإدانة اليهود ولكشف زيف إدعائهم فيقول: «وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُّوسَى بِالبَيّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ».

ما هذا

الانحراف نحو عبادة العجل بعد أن جاءتكم البينات إن كنتم في إيمانكم صادقين!

في الآية الثالثة يطرح القرآن وثيقة إدانة اخرى، فيشير إلى مسألة ميثاق جبل الطور ويقول: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا ءَاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا».

وما كان عصيانهم إلّاعن انغماس في حب الدنيا الذي تمثل في حب عجل السامري الذهبي: «وَأُشْرِبُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهمْ» ولذا نسوا اللَّه عزّ وجلّ؟ كيف يجتمع الإيمان باللَّه مع قتل انبيائه وعبادة العجل ونقض العهود والمواثيق الإلهيّة المؤكدة؟ أجل «قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ مَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) فئة مغرورة: يبدو من تاريخ اليهود- مضافاً لما أخبر القرآن عنه- أنّ هؤلاء القوم كانوا يعتبرون أنفسهم فئة متميزة في العنصر، ومتفوقة على سائر الأجناس البشرية، وكانوا يعتقدون أنّ الجنة خلقت لهم لا لسواهم، وأنّ نار جهنم لن تمسّهم، وأنّهم أبناء اللَّه وخاصته، وأنّهم يحملون جميع الفضائل والمحاسن.

والقرآن الكريم يجيب هؤلاء القوم جواباً دامغاً إذ يقول: «قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْأَخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُم صَادِقِينَ».

لقد كان اليهود يهدفون من كلامهم هذا وأنّ الجنة خالصة لنا دون سائر الناس: أو أنّ النار لا تمسّنا إلّاأيّاماً معدودات- إلى توهين إيمان المسلمين وتخدير عقائدهم.

في الآية التالية تأكيد على ما سبق بشأن ابتعاد القوم

عن الموت: «وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 87

قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيْمٌ بِالظَّالِمِينَ».

هؤلاء يعلمون ما في ملفّ أعمالهم من وثاق سوداء ومن صحائف إدانة، واللَّه عليم بكل ذلك، ولذلك فهم لا يتمنون الموت، لأنّه بداية حياة يحاسبون فيها على كل أعمالهم.

الآية الأخيرة تذكر انشداد هؤلاء بالأرض وحرصهم الشديد على المال والمتاع:

«وَلَتَجِدَنَّهُمْ أحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ». وتذكر الآية أنّ حرصهم هذا يفوق حرص الذين أشركوا: «وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا».

المشركون ينبغي أن يكونوا أحرص من غيرهم على جمع المال والمتاع، لكن هؤلاء من أصحاب الإدعاءات الفارغة، بلغوا من الحرص ما لم يبلغه المشركون.

وبلغ شغفهم بالدنيا أنّه «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» لجمع مزيد من متاع الدنيا، أو خوفاً من عقاب الآخرة! لكن هذا العمر الذي يتمناه كل واحد منهم لا يبعده عن العذاب، ولا يغير من مصيره شيئاً «وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ». إذ كل شي ء محصى لدى اللَّه، ولا يعزب عن عمله شي ء «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ».

بحوث

1- ما هو المراد من الأعوام الألف: المقصود من الأعوام الألف في قوله تعالى: «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ ألْفَ سَنَةٍ». ليس هذا العدد المعروف، والعرب لم تكن تعرف أنذاك عدداً أكبر من الألف، ولم يكن لما يزيد على الألف اسم عندالعرب، ولذلك كان أبلغ تعبير عن الكثرة.

2- علة ورود كلمة «الحياة» نكرة في الآية: تنكير الحياة في تعبير الآية «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ» تفيد الإستهانة والتحقير. أي إنّ هؤلاء حريصون حتّى على أتفه حياة وأرخصها وأشقاها، ويفضلونها على الآخرة.

3- إفرازات العنصرية: كان التعصب العنصري وراء كثير من الحروب والمآسي التي حدثت على الساحة البشرية خلال جميع عصور التاريخ، واليهود يحتلون دون شك مكان الصدارة بين العنصريين

المتعصبين على مر التاريخ.

لقد دفعتهم عنصريتهم لأن يحتكروا حتى تعاليم موسى، ويزيلوا عنصر الدعوة من دينهم، كي لا يعتنق تعاليمهم أحد غيرهم.

التعصب العنصري شعبة من الشرك، ولذلك حاربه الإسلام بشدة، مؤكداً أنّ كل أبناء البشر من أب واحد وام واحدة، ولا تمايز إلّابالتقوى والعمل الصالح.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 88

4- عوامل الخوف من الموت: أكثر الناس يخافون من الموت، وخوفهم هذا يعود إلى عاملين:

أ) الخوف من الفناء والعدم، فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرون بعد هذه الحياة استمرارًا لحياتهم، ومن الطبيعي أن يخاف الإنسان من الفناء، وهذا الخوف يلاحق هؤلاء حتى في أسعد لحظات حياتهم فيحوّلها إلى علقم في أفواههم.

ب) الخوف من العقاب، ومثل هذا الخوف يلاحق المذنبين المؤمنين بالآخرة، فيخافون أن يحين حينهم وهم مثقلون بالآثام والأوزار، فينالوا جزاءهم، ولذلك يودّون أن تتأخر ساعة انتقالهم إلى العالم الآخر.

الأنبياء العظام أحيوا في القلوب الإيمان باليوم الآخر، وبذلك أبعدوا شبح الفناء والإنعدام من الأذهان، وبيّنوا أنّ الموت انتقال إلى حياة أبدية خالدة منعّمة.

من جهة اخرى دعا الأنبياء إلى العمل الصالح، كي يبتعد الإنسان عن الخوف من العقاب، ولكي يزول عن القلوب والأذهان كل خوف من الموت.

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدًى وَ بُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَ مَلَائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: كان سبب نزول هذه الآية ما روي أنّ ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك، لمّا قدم النبي صلى الله عليه و آله المدينة، سألوه فقالوا: يا محمّد! كيف نومك فقد اخبرنا عن نوم النبي

الذي يأتي في آخر الزمان؟ فقال: «تنام عيناي وقلبي يقظان». قالوا: صدقت يا محمّد ... قالوا: فأخبرنا عن ربّك ما هو؟ فأنزل اللَّه سبحانه «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» إلى آخر السورة. فقال له ابن صوريا: خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتبعتك: أيّ ملك يأتيك بما يُنزل اللَّه عليك؟ قال: «جبريل». قال ابن صوريا: ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنّا بك.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 89

التّفسير

قوم جدلون: سبب نزول الآية الكريمة يبين طبيعة العناد واللجاج والجدل في اليهود، إبتداء من زمان موسى عليه السلام ومروراً بعصر خاتم الأنبياء وحتى يومنا هذا. حجتهم في هذا الموضع المذكور في الآية ثقل التكاليف التي يأتي بها جبرائيل، والقرآن الكريم يصرح- في الآية (6) من سورة التحريم- بأنّ الملائكة ينفّذون أوامر اللَّه ولا ينحرفون عن طاعته: «لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ».

القرآن يجيب عن ذريعة هؤلاء: «قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ». وما جاء به جبرائيل يصدّق ما نزل في الكتب السماوية السابقة: «مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ». وهو إضافة إلى كل هذا: «وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ».

الآية التالية تؤكد نفس هذا الموضوع تأكيداً مقروناً بالتهديد وتقول: «مَن كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكلَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ».

مشيرة بذلك إلى أنّ موقف الإنسان من اللَّه وملائكته ورسله ومن جبرائيل وميكائيل، لا يقبل التفكيك، وأنّ الموقف المعادي من أحدهم هو معاداة للآخرين.

جبريل وميكال: ورد اسم جبريل ثلاث مرات، واسم ميكال مرة واحدة في القرآن الكريم «1» ويستفاد من الآيات أنّهما ملكان مقربان من ملائكة اللَّه تعالى.

وهناك أحاديث تدور حول ظهور جبرائيل بصور متعددة لدى نزوله على النبي، وكان

في المدينة ينزل على صورة (دحية الكلبي) وهو رجل جميل الطلعة.

يستفاد من سورة النجم أنّ النبي صلى الله عليه و آله شاهد جبرائيل مرتين على هيئته الأصلية «2».

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَ مَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَ وَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَ لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

______________________________

(1). اسم «جبريل» ورد مرتين فى هذه آلايات و مرة فى سورة التحريم الآية (4) و اسم «ميكال» لم يرد إلا فى هذا الموضع من القرآن.

(2). أعلام القرآن/ 277.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 90

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: إنّ ابن صوريا قال لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا محمّد! ما جئتنا بشي ء نعرفه، وما أنزل اللَّه عليك من آية بيّنة فنتبعك لها. فأنزل اللَّه هذه الآية.

التّفسير

الناكثون من اليهود: الآية الاولى تشير إلى الآيات والعلامات والدلائل الكافية الواضحة التي توفرت لدى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتؤكد أنّ المعرضين عن هذه الآيات البينات أدركوا في الواقع حقانية الدعوة، لكنهم هبّوا للمعارضة مدفوعين بأغراضهم الشخصية:

«وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ».

ثم يتطرق القرآن إلى صفة مجموعة من اليهود، وهي صفة النكول ونقض العهود والمواثيق، وكأنّها صفة تاريخية تلازمهم على مر العصور: «أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايُؤْمِنُونَ».

لقد أخذ اللَّه ميثاقهم في جانب الطور أن يعملوا بالتوراة لكنهم نقضوا الميثاق، وأخذ منهم الميثاق أن يؤمنوا بالنّبي الخاتم المذكور عندهم في التوراة فلم يؤمنوا به.

الآية الأخيرة تؤكد بصراحة أكثر

على هذا الموضوع: «وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

كان أحبار اليهود يبشرون الناس قبل البعثة النبوية بالرسول الموعود ويذكرون لهم علاماته وصفاته، فلما بعث نبي الإسلام، أعرضوا عما جاء في كتابهم، وكأنّهم لم يروا ولم يقرأوا ما ذكرته التوراة في هذا المجال.

بحثان

1- واضح أنّ تعبير «النزول» أو «الإنزال» بشأن القرآن الكريم لا يعني الإنتقال المكاني من الأعلى إلى الاسفل وأنّ اللَّه مثلًا في السماء وأنزل القرآن إلى الأرض، بل التعبير يشير إلى علو مكانة رب العالمين.

2- القرآن في حديثه عن اليهود لا يوبّخ الجميع بسبب ذنوب الأكثرية، بل يستعمل كلمات مثل «فريق» «أكثر» ليصون حق الأقلية المؤمنة المتقية، وطريقة القرآن هذه في حديثه عن الامم درس لنا كي لا نحيد في أحاديثنا ومواقفنا عن الحق والحقيقة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 91

وَ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَ مَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَ لكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَ مَارُوتَ وَ مَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَ لَا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَ لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) سليمان وسحرة بابل: يفهم من الأحاديث أنّ مجموعة من الناس مارست السحر في عصر النبي سليمان عليه السلام

فأمر سليمان بجمع كل أوراقهم وكتاباتهم، واحتفظ بها في مكان خاص. بعد وفاة سليمان عمدت جماعة إلى إخراج هذه الكتابات، وبدأوا بنشر السحر وتعليمه، واستغلت فئة هذه الفرصة فأشاعت أنّ سليمان لم يكن نبياً أصلًا.

مجموعة من بني إسرائيل سارت مع هذه الموجة ولجأت إلى السحر، وتركت التوراة.

عندما ظهر النبي الخاتم صلى الله عليه و آله وجاءت آيات القرآن مؤيدة لنبوة سليمان، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمّد يقول: سليمان نبي وهو ساحر!

وجاءت الآية ترد على مزاعم هؤلاء وتنفي هذه التهمة الكبرى عن سليمان عليه السلام «1».

الآية الاولى إذن تكشف فضيحة اخرى من فضائح اليهود وهي إتهامهم لنبي اللَّه بالسحر والشعوذة، تقول الآية عن هؤلاء القوم: «وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمنَ».

المقصود بكلمة «الشياطين» قد يكون الطغاة من البشر أو من الجن أو من كليهما.

ثم تؤكد الآية على نفي الكفر عن سليمان: «وَمَا كَفَرَ سُلَيْمنُ».

______________________________

(1) سيرة ابن هشام 2/ 192؛ وتفسير مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 92

فسليمان عليه السلام لم يلجأ إلى السحر، ولم يحقق أهدافه عن طريق الشعوذة: «وَلكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ» «1». هؤلاء اليهود لم يستغلّوا ما تعلموه من سحر الشياطين فحسب، بل أساؤوا الاستفادة أيضاً من تعليمات هاروت وماروت: «وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هرُوتَ وَمرُوتَ».

هاروت وماروت ملكان إلهيّان جاءا إلى الناس في وقت راج السحر بينهم وابتلوا بالسحرة والمشعوذين، وكان هدفهما تعليم الناس سبل إبطال السحر، وكما أنّ إحباط مفعول القنبلة يحتاج إلى فهم لطريقة فعل القنبلة، كذلك كانت عملية إحباط السحر تتطلب تعليم الناس اصول السحر، ولكنهما كانا يقرنان هذا التعليم بالتحذير من السقوط في الفتنة بعد تعلم السحر: «وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ

أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ».

وسقط اولئك اليهود في الفتنة، وتوغلوا في انحرافهم، فزعموا أنّ قدرة سليمان لم تكن من النبوّة، بل من السحر والسحرة، وهذا هو دأب المنحرفين دائماً، يحاولون تبرير انحرافاتهم بإتهام العظماء بالانحراف.

هؤلاء القوم لم ينجحوا في هذا الاختبار الإلهي، فأخذوا العلم من الملكين واستغلّوه على طريق الإفساد لا الإصلاح، لكن قدرة اللَّه فوق قدرتهم وفوق قدرة ما تعلموه: «فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ».

لقد تهافتوا على إقتناء هذا المتاع الدنيوي وهم عالمون بأنّه يصادر آخرتهم «وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَيهُ مَا لَهُ فِى الْأَخِرَةِ مِنْ خَلقٍ» «2». لقد باعوا شخصيتهم الإنسانية بهذا المتاع الرخيص «وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

لقد أضاعوا سعادتهم وسعادة مجتمعهم عن علم ووعي، وغرقوا في مستنقع الكفر والإنحراف «وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

بحثان

1

- قصّة هاروت وماروت: شاع السحر في أرض بابل وأدّى إلى إحراج الناس

______________________________

(1) «السحر»: نوع من الأعمال الخارقة للعادة، تؤثر في وجود الإنسان، و هو أحياناً نوع من المهارة والخفة في الحركة وإيهام للأنظار كما إنّه أحيانا ذو طابع نفسي خيالي.

(2) «الخلاق»: يعني الخُلُق، وقد يعني الحظّ والنصيب وهذا هو معنى الكلمة في الآية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 93

وازعاجهم، فبعث اللَّه ملكين بصورة البشر، وأمرهما أن يعلما الناس طريقة إحباط مفعول السحر، ليتخلصوا من شر السحرة. كان الملكان مضطرين لتعليم الناس اصول السحر، باعتبارها مقدمة لتعليم طريقة إحباط السحر، واستغلت مجموعة هذه الاصول، فانخرطت في زمرة الساحرين، وأصبحت مصدر أذى للناس. الملكان حذرا الناس- حين التعليم- من الوقوع

في الفتنة، ومن السقوط في حضيض الكفر بعد التعلم، لكن هذا التحذير لم يؤثر في مجموعة منهم «1».

2- لا قدرة لأحد على عمل دون إذن اللَّه: نفهم من قول اللَّه في هذه الآيات أنّ السحرة ما كانوا قادرين على إنزال الضّر بأحد دون إذن اللَّه سبحانه، وليس في الأمر «جبر» ولا إرغام، بل إنّ هذا المعنى يشير إلى مبدأ أساس في التوحيد، وهو أنّ كل القوى في هذا الكون تنطلق من قدرة اللَّه تعالى، النار إذ تحرق إنّما تحرق بإذن اللَّه، والسكين إذ تقطع إنما تقطع بأمر اللَّه، لا يمكن للساحر أن يتدخل في عالم الخليقة خلافاً لإرادة اللَّه.

كل ما نراه من آثار وخواص إنّما هي آثار وخواص جعلها اللَّه سبحانه للموجودات المخلتفة، ومن هذه الموجودات من يحسن الاستفادة من هذه الهبة الإلهيّة ومنهم من يسي ء الاستفادة منها. و «الاختيار» الذي منحه اللَّه للإنسان إنّما هو وسيلة لإختباره وتكامله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَ قُولُوا انْظُرْنَا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: لمّا قدّم سبحانه نهي اليهود عن السحر، عقبه بالنهي عن إطلاق هذه اللفظة فقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَقُولُوا رَاعِنَا» كان المسلمون يقولون: يا رسول اللَّه! راعنا. أي استمع منّا. فحرّفت اليهود هذه اللفظة، فقالوا: يا محمّد! راعنا. وهم يلحدون إلى الرعونة يريدون به النقيصة والوقيعة فلما عوتبوا قالوا: نقول كما يقول

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث؛ وسائل الشيعة 12/ 106.

مختصر الامثل،

ج 1، ص: 94

المسلمون، فنهى اللَّه عن ذلك «لَاتَقُولُوا رَاعِنَا» «وَقُولُوا انْظُرْنَا».

التّفسير

لا توفّروا للأعداء فرصة الطعن: الآية الكريمة تخاطب المسلمين قائلة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

ممّا سبق من سبب نزول هذه الآية الكريمة نستنتج أنّ على المسلمين أن لا يوفروا للأعداء فرصة الطعن بهم، وأن لا يتيحوا لهم بفعل أو قول ذريعة يسيئون بها إلى الجماعة المسلمة.

حين يشدد الإسلام إلى هذا الحد في هذه المسألة البسيطة، فإنّ تكليف المسلمين في المسائل الكبرى واضح، عليهم في مواقفهم من المسائل العالمية أن يسدوا الطريق أمام طعن الأعداء، وأن لا يفتحوا ثغرة ينفذ منها المفسدون من الداخل والخارج للإساءة إلى سمعة الإسلام والمسلمين.

الآية التالية تكشف عن حقيقة ما يكنّه مجموعة من أهل الكتاب والمشركين من حقد وعداء للجماعة المؤمنة: «مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِنْ رَّبّكُمْ»، وسواء ودّ هؤلاء أم لم يودّوا فرحمة اللَّه لها سنّة إلهيّة ولا تخضع للميول والأهواء: «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».

الحاقدون لم يطيقوا أن يروا ما شمل اللَّه المسلمين من فضل ونعمة، وما منّ عليهم من رسالة عظيمة، ولكن فضل اللَّه عظيم.

مغزى قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا»: أكثر من ثمانين موضعاً خاطب اللَّه المسلمين في كتابه الكريم بهذه العبارة، وكل هذه المواضع من القرآن الكريم نزلت في المدينة، ولا وجود لهذه العبارة في الآيات المكية، ولعلّ ذلك يعود إلى تشكل الجماعة المسلمة في المدينة، وإلى ظهور المجتمع الإسلامي بعد الهجرة. ولذلك خاطب اللَّه الجماعة المؤمنة بعبارة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا»، وهذا الخطاب يتضمن إشارة إلى ميثاق التسليم الذي عقدته الجماعة المسلمة مع ربّهابعد

الإيمان به، وهذا الميثاق يفرض على الجماعة الطاعة والإنصياع لأوامر ربّ العالمين، والإستجابة لما يأتي بعد هذه العبارة من أحكام.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 95

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا نَصِيرٍ (107) الغرض من النسخ: الآية الاولى تشير أيضاً إلى بعد آخر من أبعاد حملة التشكيك اليهودية ضد المسلمين. كان هؤلاء القوم يخاطبون المسلمين أحياناً قائلين لهم إنّ الدين دين اليهود وأنّ القبلة قبلة اليهود، ولذلك فإنّ نبيّكم يصلي تجاه قبلتنا (بيت المقدس)، وحينما نزلت الآية (144) من هذه السورة وتغيرت بذلك جهة القبلة، من بيت المقدس إلى مكة، غيّر اليهود طريقة تشكيكهم، وقالوا: لو كانت القبلة الاولى هي الصحيحة، فلم هذا التغيير؟

وإذا كانت القبلة الثانية هي الصحيحة، فكل أعمالكم السابقة- إذن- باطلة.

القرآن الكريم في هذه الآية يرد على هذه المزاعم وينير قلوب المؤمنين، ويقول: «مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا» «1». وليس مثل هذا التغيير على اللَّه بعسير «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

الآية التالية تؤكد مفهوم قدرة اللَّه سبحانه وتعالى وحاكميته في السماوات والأرض وفي الأحكام، فهو البصير بمصالح عباده: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». وفي هذه العبارة من الآية أيضاً تثبيت لقلوب المؤمنين، كي لا تتزلزل أمام حملات التشكيك هذه، وتستمر الآية في تعميق هذا التثبيت، مؤكدة أنّ المجموعة المؤمنة ينبغي أن تعتمد على اللَّه وحده، وتستند إلى قوته وقدرته دون سواه، فليس في هذا الكون سند حقيقي

سوى اللَّه سبحانه: «وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ».

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)

سبب النّزول

روي عن ابن عباس أنّه قال: إنّ رافع بن حرملة، ووهب بن زيد قالا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

______________________________

(1) «النسخ»: في اللغة الإزالة، وفي الاصطلاح تغيير حكم شرعي واحلال حكم آخر محله.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 96

إئتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه وفجّر لنا أنهاراً نتبعك ونصدقك. فأنزل اللَّه هذه الآية.

التّفسير

حجج واهية: هذا الآية الكريمة، وإن كانت تخاطب مجموعة من المسلمين ضعاف الإيمان أو المشركين إلّاأنّها ترتبط أيضاً بمواقف اليهود.

لعل هذا السؤال وجه إلى الرسول بعد تغيير القبلة، وبعد حملات التشكيك التي شنها اليهود بين المسلمين وغير المسلمين، واللَّه سبحانه في هذه الآية الكريمة نهى عن توجيه مثل هذه الأسئلة السخيفة: «أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ».

مثل هذا العمل إعراض عن الإيمان واتجاه نحو الكفر، ولذلك قالت الآية: «وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ».

الإسلام طبعاً لا يمنع طرح الأسئلة العلمية والمنطقية، ولا يحول دون طلب المعجزة من أجل إثبات صحة الدعوة، لأنّ مثل هذه الأسئلة والطلبات هي طريق الإدراك والفهم والإيمان.

القرآن الكريم ينبه في هذه الآية بأنّ المجموعة البشرية التي لا تسلك طريق العقل والمنطق في اسئلتها ومطالبتها، سينزل بها ما نزل بقوم موسى.

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (109) وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ

مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) حسد وعناد: كثير من أهل الكتاب وخاصة اليهود لم يكتفوا بإعراضهم عن الدين المبين، بل كانوا يودّون أن يرتد المسلمون عن دينهم، ولم يكن ذلك إلّاعن حسد يستعر في أنفسهم، تقول الآية: «وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِمْ مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 97

وأمام هذه المواقف الدنيئة والنظرات الضيّقة والآمال التافهة والنوايا الخبيثة التي تحملها الفئة الكافرة، يحدد الإسلام موقف الجماعة المسلمة، على أساس من رحابة الصدر وسعة الافق وبعد النظرة «فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». إنّ «أمر اللَّه» في هذه الآية يعني «أمر الجهاد» ولعل الجماعة المسلمة لم تكن على استعداد شامل لخوض معركة دامية حين نزلت هذه الآية.

الآية التالية تأمر المسلمين بحكمين هامين: إقامة الصلاة باعتبارها رمز إرتباط الإنسان باللَّه، وإيتاء الزكاة وهي أيضاً رمز التكافل بين أبناء الامة المسلمة، وكلاهما ضروريان لتحقيق الانتصار على العدو: «وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ».

ثم تؤكد الآية على خلود العمل الصالح وبقائه: «وَمَا تُقَدّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ». واللَّه سبحانه عالم بالسرائر، ويعلم دوافع الأعمال، ولا يضيع عنده أجر العاملين «إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

بحثان

1- «اصفحوا»: من «صفح» وصفح الشي ء عرضه وجانبه كصفحة الوجه وصفحة السيف وصفحة الحجر، والأمر بالصفح هو الأمر بالإعراض، لكن عطفها على «فاعفوا» يفهم أنّه أمر بالإعراض لا عن جفاء بل عفو وسماح.

2- عبارة «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» قد تشير إلى أنّ اللَّه قادر أن ينصر المسلمين على أعدائهم بطرق غيبيه، ولكن طبيعة حياة البشر

والكون قائمة على أنّ الأعمال لا تتم إلّا بالتدريج وبعد توفّر المقدمات.

وَ قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) احتكار الجنة: القرآن في هاتين الآيتين يشير إلى ادعاء آخر من الادعاءات الفارغة لمجموعة من اليهود والنصارى: «وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى . ثم يجيبهم جواباً رادعاً قائلًا: «تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 98

ثم تخاطب الآية رسول اللَّه وتقول: «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

بعد التأكيد على أنّ إدعاء هؤلاء فارغ لا قيمة له، وأنّه مجرد امنية تخامر أذهانهم، يطرح القرآن المعيار الأساس لدخول الجنة على شكل قانون عام: «بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ». ومن هنا فالمشمولون بهذا القانون هم في ظلال رحمة اللَّه «وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».

ذكر عبارة «وَهُوَ مُحْسِنٌ» بعد طرح مسألة التسليم، إشارة إلى أنّ صفة الإحسان ليست طارئة في نفوس المؤمنين، بل هي خصلة نافذة في أعماق هؤلاء.

ونفي الخوف والحزن عن أتباع خط التوحيد سببه واضح، لأنّ هؤلاء يخافون اللَّه دون سواه، بينما المشركون يخشون من كل ما يهدد مصالحهم الدنيوية التافهة، بل يخشون أموراً خرافية موهومة تقلقهم وتقضّ مضاجعهم.

وَ قَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْ ءٍ وَ قَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عبّاس: إنّه لمّا قدم وفد

نجران من النصارى على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شي ء، وجحد نبوّة عيسى وكفر بالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران: ليست اليهود على شي ء، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل اللَّه هذه الآية.

التّفسير

تعصّب وتناقض: فيما مرّ بنا من آيات رأينا جانباً من الادّعاءات الفارغة التي أطلقها جمع من اليهود والنصارى، ورأينا أنّ هذه الادّعاءات الفارغة تستتبعها روح احتكارية ضيّقة، ثم وقوع في التناقضات. تقول الآية: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَىْ ءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْ ءٍ».

ثم تضيف الآية: «وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ». أي: إنّ هؤلاء لديهم الكتاب الذي يستطيع أن ينير لهم الطريق في هذه المسائل، ومع ذلك ينطلقون في أحكامهم من التعصب واللجاج والعناد.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 99

ثم تقول الآية: «كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ». ثم اختتمت الآية بالتأكيد على أنّ الحقائق إن خفيت في هذه الدنيا، فهي لا تخفى في الآخرة حيث تنكشف كل الأوراق:

«فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعَى فِي خَرَابِهَا أُولئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)

سبب النّزول

روي في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ الآية نزلت في قريش حين منعوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دخول مكة والمسجد الحرام.

التّفسير

أظلم الناس: سبب النّزول توضّح أنّ الآية تتحدث عن اليهود والنصارى والمشركين.

القرآن يقول لهؤلاء جميعاً ولكل من يسلك طريقاً مشابهاً لهؤلاء: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ

أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا». ثم تقول الآية: «أُولئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ». أي: إنّ المسلمين والموحدين ينبغي أن يكونوا على درجة من القوة والمقاومة بحيث لا يستطيع الظلمة أن يمدوا أيديهم إلى هذه الأماكن المقدسة.

والآية تبين بعد ذلك العقاب الذي ينتظر هؤلاء الظلمة ممن يريد أن يفصل بين اللَّه وعباده: «لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)

سبب النّزول

روي في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: إنّ اليهود أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس فنزلت الآية ردّاً عليهم.

التّفسير

الآية السابقة تحدثت عن الظالمين الذين يمنعون مساجد اللَّه أن يذكر فيها اسمه ويسعون في خرابها، وهذه الآية تواصل موضوع الآية السابقة، فتقول: «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 100

مختصر الامثل ج 1 149

فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ». تؤكد هذه الآية أنّ منع الناس عن إحياء المساجد لا يقطع الطريق أمام عبودية اللَّه، فشرق هذا العالم وغربه للَّه سبحانه، فاللَّه سبحانه وتعالى لا يحده مكان، ولذلك تقول الآية بعد ذلك: «إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

فلسفة القبلة: اللَّه موجود في كل جهة ومكان، فلماذا وجب الإتجاه نحو القبلة في الصلاة؟

واضح أنّ الإتجاه نحو القبلة لا يعني تحديد ذات الباري تعالى في مكان وفي جهة، بل إنّ الإنسان موجود مادي، ولابد أن يصلي باتجاه معين، ثم إنّ ضرورة الوحدة والتنسيق في صفوف المسلمين تفرض اتجاههم في الصلاة نحو قبلة واحدة، وإلّا ساد الهرج والفوضى، وتفرقت الصفوف وتشتتت.

أضف إلى ذلك أنّ الكعبة التي جعلت قبلة للمسلمين بقعة مقدسة ومن أقدم قواعد التوحيد، والإتجاه نحوها يوقظ في النفوس

ذكريات المسيرة التوحيدية.

وَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) خرافات اليهود والنصارى والمشركين: المسيحيون وجمع من اليهود والمشركون تبنّوا عقيدة تافهة بشأن اتخاذ اللَّه ابناً. الآية الكريمة التي نحن بصددها ذكرت هذا المعتقد المنحرف تقول: «وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا». ثم تجيب عليهم أوّلًا بتنزيه اللَّه عن هذه النسبة:

«سُبْحَانَهُ». فما حاجة اللَّه إلى الولد؟ هل هو محتاج إلى المساعدة أو إلى بقاء النسل؟ نعم، لا يمكن نسبة أي إحتياج إلى اللَّه «بَل لَّهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ»، وجميع الكون خاضع له «كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ».

وليس هو مالك جميع موجودات الكون فحسب، بل هو خالقها ... بل مبدعها أي موجدها دون إحتياج إلى مادة أولية في هذا الإيجاد: «بَدِيعُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

ما حاجة اللَّه إلى الولد وهو النافذ الإرادة في جميع الموجودات؟ «وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».

والمراد من عبارة «كُنْ فَيَكُونُ» هي الإرادة التكوينية للَّه تعالى وحاكميته في الخليقة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 101

دلائل نفي الولد: نسبة الولد إلى اللَّه سبحانه، هي دون شك وليدة سذاجة فكرية، قائمة على أساس مقارنة كل شي ء بالوجود البشري المحدود. الإنسان يحتاج إلى الولد لأسباب عديدة: فهو من جانب ذو عمر محدود يحتاج إلى توليد المثل لاستمرار نسله.

ومن جهة اخرى هو ذو قوة محدودة تضعف بالتدريج، ويحتاج لذلك- وخاصة في فترة الشيخوخة- إلى من يساعده في أعماله.

وهو أيضاً ينطوي على عواطف وحبّ للأنيس، وذلك يتطلب وجود فرد أنيس في حياة الإنسان، والولد يلبي هذه الحاجة.

واضح أنّ كل هذه الامور لا يمكن أن تجد لها مفهوماً بشأن اللَّه سبحانه،

وهو خالق عالم الوجود والقادر على كل شي ء، وهوالأزلي الأبدي.

أضف إلى ذلك، الولد يستلزم أن يكون الوالد جسماً واللَّه منزّه عن ذلك.

وَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْ لَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) حجج اخرى: بمناسبة ذكر حجج اليهود في الآيات السابقة، تتحدث الآية عن حجج مجموعة اخرى من المعاندين ويبدو أنّهم المشركون العرب فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا ءَايَةٌ».

والقرآن يجيب على هذه الطلبات التافهة قائلًا: «كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ».

لو أنّ هؤلاء يستهدفون حقاً إدراك الحقيقة، ففي هذه الآيات النازلة على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دلالة واضحة بينة على صدق أقواله، فما الداعي إلى نزول آية مستقلة على كل واحد من الأفراد؟! وما معنى الإصرار على أن يكلمهم اللَّه مباشرة؟!

الآية التالية تخاطب النبي صلى الله عليه و آله وتبين موقفه من الطلبات المذكورة وتقول: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا».

فمسؤولية الرّسول بيان الأحكام الإلهيّة، وتقديم المعاجز، وتوضيح الحقائق، وهذه الدعوة ينبغي أن تقترن بتبشير المهتدين وإنذار العاصين وهذه مسؤوليتك أيّها الرسول،

مختصر الامثل، ج 1، ص: 102

وأمّا الفئة التي لا تذعن للحق بعد كل هذه الآيات فانت غير مسؤول عنها: «وَلَا تُسَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ».

وَ لَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ

يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)

أسباب النّزول

في تفسير الدرّ المنثور عن ابن عباس أنّ يهود المدينة ونصارى نجران، كانوا يرجون أن يصلّى النبي صلى الله عليه و آله إلى قبلتهم، فلمّا صرف اللَّه القبلة إلى الكعبة شقّ ذلك عليهم وآيسو أن يوافقهم على دينهم فأنزل اللَّه «وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى الآية لتعلن للنبي أنّه لا يرضي كل فرقة منهم إلّاأن يتبع ملّتهم أي: قبلتهم.

وبشأن نزول الآية الثانية وردت روايات مختلفة، ففي تفسير مجمع البيان عن ابن عباس:

نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة وكانوا أربعين رجلًا، إثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام، منهم بحيرا. وقيل: هم من آمن من اليهود كعبد اللَّه بن سلام، وشعبة بن عمرو، وتمام بن يهودا، وأسد واسيد إبني كعب وابن يامين.

التّفسير

إرضاء هذه المجموعة محال: الآية السابقة رفعت المسؤولية عن النبي صلى الله عليه و آله إزاء الضالين المعاندين. والآية أعلاه تواصل الموضوع السابق وتخاطب الرسول بأن لا يحاول عبثاً في كسب رضا اليهود والنصارى لأنّه: «وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ».

واجبك أن تقول لهم: «إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى . هدى اللَّه هو الهدى البعيد عن الخرافات وعن الأفكار التافهة التي تفرزها عقول الجهّال.

ثم تقول الآية: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِى جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 103

وبعد أن ذمّ القرآن الفئة المذكورة من اليهود والنصارى، أشاد باولئك الذين آمنوا من أهل الكتاب وانضموا تحت راية الرسالة الخاتمة: «الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [أي: بالتفكر والتدبر ثم العمل به

أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ». أي: يؤمنون بالرسول الكريم صلى الله عليه و آله «وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

بحوث

1- سؤال عن عصمة الأنبياء: العبارة القرآنية: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أهوَاءَهُمْ» قد تثير سؤالًا بشأن عصمة الأنبياء، فهل يمكن للنبي صلى الله عليه و آله- وهو معصوم- أن يتبع أهواء المنحرفين من اليهود والنصارى؟

في الجواب نقول: مثل هذه التعبيرات تكررت في القرآن الكريم، ولا تتعارض مع مقام عصمة الأنبياء لأنّها- من جهة- جملة شرطية والجملة الشرطية لا تدل على تحقق الشرط.

ومن جهة اخرى، عصمة الأنبياء لا تجعل الذنب على الأنبياء محالًا، بل المعصوم له قدرة على إرتكاب الذنب، ولم يسلب منه الإختيار، ومع ذلك لم يتلوث بالذنوب.

من جهة ثالثة، هذا الخطاب وإن اتّجه إلى النبي صلى الله عليه و آله ولكن قد يكون موجهاً إلى الناس جميعاً.

2- للإسترضاء حدود: صحيح أنّ الإنسان الرّسالي يجب أن يسعى بأخلاقه إلى جذب الأعداء إلى صفوف الدعوة، لكن مثل هذا الموقف يجب أن يكون تجاه المخالفين الذين يتحركون في مخالفتهم من موقع الغفلة والمرونة، أمّا الموقف تجاه المعاندين المتصلبين فينبغي أن يكون غير ذلك، ولا يجوز إهدار الوقت مع هؤلاء، بل لابدّ من الإعراض عنهم وتركهم.

3- حق التلاوة: عبّر القرآن عن الفئة المهتدية من أهل الكتاب بأنّهم «يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ»، وهو تعبير عميق.

في تفسير الميزان عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية: «يرتّلون آياته، ويتفقّهون به، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون بنواهيه، ما هو واللَّه حفظ آياته ودرس حروفه، وتلاوة سوره ودرس أعشاره وأخماسه «1»، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنّما هو تدبّر آياته والعمل بأحكامه، قال اللَّه تعالى: «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ

مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ»

______________________________

(1) المقصود من الأعشار والأخماس تقسيمات القرآن.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 104

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَ اتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَ لَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَ لَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) مرّة اخرى يتّجه الخطاب الإلهي إلى بني إسرائيل ليذكرهم بالنعم التي احيطوا بها، فتقول الآية: «يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ». أي: على كل من كان يعيش في ذلك الزمان.

كل نعمة تقترن بمسؤولية، وتقترن بالتزام وتكليف إلهي جديد، ولذلك قال سبحانه في الآية التالية: «وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّاتَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَّفْسٍ شَيًا». «وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ». أي:

غرامة أو فدية، «وَلَا تَنْفَعُهَا شَفعَةٌ» إلّابإذن اللَّه، ولا يستطيع أحد غير اللَّه أن يساعد أحداً «وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».

وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) الإمامة قمة مفاخر إبراهيم عليه السلام: هذه الآية وما بعدها تتحدث عن بطل التوحيد نبيّ اللَّه الكبير إبراهيم عليه السلام وعن بناء الكعبة وأهمّية هذه القاعدة التوحيدية العبادية.

والهدف من هذه الآيات- وعددها ثماني عشرة آية- ثلاثة امور:

أوّلًا: أن تكون مقدمة لمسألة تغيير القبلة التي ستطرح بعد ذلك.

ثانياً: لفضح إدّعاءات اليهود والنصارى بشأن انتسابهم لإبراهيم.

ثالثاً: لتفهيم مشركي العرب أيضاً ببعدهم عن منهج النبي الكبير محطم الأصنام، والرّد على ما كانوا يتصوّرونه من إرتباط بينهم وبين إبراهيم.

الآية الكريمة تقول أوّلًا: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ». وبعد أن اجتاز هذه الاختبارات بنجاح استحق أن يمنحه اللَّه الوسام الكبير: «قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا».

وهنا تمنّى إبراهيم عليه السلام

أن يستمر خط الإمامة من بعده، وأن لا يبقى محصوراً بشخصه «قَالَ وَمِنْ ذُرّيَّتِى». لكنّ اللَّه أجابه: «قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 105

وقد استجيب طلب إبراهيم عليه السلام في استمرار خط الإمامة في ذريّته، لكن هذا المقام لا يناله إلّاالطاهرون المعصومون من ذرّيّته لا غيرهم.

بحوث

1- المقصود من «الكلمات»: من دراسة آيات القرآن الكريم بشأن إبراهيم عليه السلام نفهم أنّ المقصود من الكلمات هو مجموعة المسؤوليات والمهام الثقيلة الصعبة التي وضعها اللَّه على عاتق إبراهيم عليه السلام وهي عبارة عن:

أخذ ولده إلى المذبح والاستعداد التام لذبحه، إطاعة لأمر اللَّه سبحانه.

إسكان الزوج والولد في واد غير ذي زرع بمكة، حيث لم يسكن فيه إنسان.

النهوض بوجه عَبَدة الأصنام وتحطيم الأصنام، والوقوف ببطولة في تلك المحاكمة التاريخية، ثم إلقاؤه في وسط النيران، وثباته ورباطة جأشه في كل هذه المراحل.

الهجرة من أرض عبدة الأصنام والإبتعاد عن الوطن، والإتجاه نحو أصقاع نائية لأداء رسالته ... وأمثالها «1».

كان كل واحد من هذه الاختبارات ثقيلًا وصعباً حقّاً، لكنّه بقوّة إيمانه نجح فيها جميعاً، وأثبت لياقته لمقام «الإمامة».

2- من هو الإمام؟ يتبيّن من الآية الكريمة التي نحن بصددها، أنّ منزلة الإمامة الممنوحة لإبراهيم عليه السلام بعد كل هذه الاختبارات، تفوق منزلة النبوّة والرسالة.

روي في الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام يقول: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبيّاً، وإنّ اللَّه اتّخذه نبيّاً قبل أن يتخذه رسولًا، وإنّ اللَّه اتّخذه رسولًا قبل أن يتخذه خليلًا، وإنّ اللَّه اتّخذه خليلًا قبل أن يجعله إماماً، فلما جمع له الأشياء، قال: «إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» قال: فمن عظمها في عين إبراهيم قال: «وَمِنْ ذُرّيَّتِى قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ»

قال: لا يكون السفيه إمام التقي».

3- الفرق بين النبوة والإمامة والرسالة: يفهم من الآيات الكريمة والمأثور عن المعصومين، أنّ حملة المهمات من قبل اللَّه تعالى لهم منازل مختلفة:

______________________________

(1) روى عن ابن عباس أنه استخرج اختبارات إبراهيم من أربع سور قرآنية فكانت ثلاثين موضعاً (تفسير المنار، ذيل الآية مورد البحث)، وخلاصتها ما ذكرناه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 106

أ) منزلة النبوة: أي إستلام الوحي من اللَّه، فالنبي هو الذي ينزل عليه الوحي، ومايستلمه من الوحي يعطيه للناس إن طلبوا منه ذلك.

ب) منزلة الرسالة: وهي منزلة إبلاغ الوحي، ونشر أحكام اللَّه، وتربية الأفراد عن طريق التعليم والتوعية. فالرّسول إذن هو المكلف بالسعي في دائرة مهمته لدعوة الناس إلى اللَّه وتبليغ رسالته، وبذل الجهد لتغيير فكري عقائدي في مجتمعه.

ج) منزلة الإمامة: وهي منزلة قيادة البشرية، فالإمام يسعى إلى تطبيق أحكام اللَّه عملياً عن طريق إقامة حكومة إلهية وإستلام مقاليد الأمور اللازمة.

بعبارة اخرى، مهمة الإمام تنفيذ الأوامر الإلهية، بينما تقتصر مهمة الرسول على تبليغ هذه الأوامر.

4- مَن الظالم؟ المقصود من «الظلم» في التعبير القرآني: «لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ» لا يقتصر على ظلم الآخرين، بل الظلم (مقابل العدل)، وقد استعمل هنا بالمعنى الواسع للكلمة، ويقع في النقطة المقابلة للعدل: وهو وضع الشي ء في محله.

فالظلم إذن وضع الشخص أو العمل أو الشي ء في غير مكانه المناسب.

ولمّا كانت منزلة الإمامة والقيادة الظاهرية والباطنية للبشرية منزلة ذات مسؤوليات جسيمة هائلة عظيمة، فإنّ لحظة من الذنب والمعصية خلال العمر تسبب سلب لياقة هذه المنزلة عن الشخص. لذلك نرى أئمّة آل البيت عليهم السلام يثبتون بهذه الآية تعيّن الخلافة بعد النبي مباشرة لعلي عليه السلام وإنحصارها به، مشيرين إلى أنّ الآخرين عبدوا الأصنام في الجاهلية، وعلي عليه السلام

وحده لم يسجد لصنم. وأيّ ظلم أكبر من عبادة الأصنام؟ ألم يقل لقمان لابنه: «يَا بُنَىَّ لَاتُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» «1».

5- تعيين الإمام من قبل اللَّه: من الآية مورد البحث نفهم ضمنياً أنّ الإمام (القائد المعصوم لكل جوانب المجتمع) يجب أن يكون معيناً من قبل اللَّه سبحانه، لما يلي:

أوّلًا: الإمامة ميثاق إلهي، وطبيعي أن يكون التعيين من قبل اللَّه، لأنّه طرف هذا الميثاق.

ثانياً: الأفراد الذين تلبسوا بعنوان الظلم، ومارسوا في حياتهم لحظة ظلم بحق أنفسهم أو بحق الآخرين، كأن تكون لحظة شرك مثلًا، لا يليقون للإمامة، فالإمام يجب أن يكون طيلة عمره معصوماً.

______________________________

(1) سورة لقمان/ 13.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 107

وهل يعلم ذلك في نفوس الأفراد إلّااللَّه؟

ولو أردنا بهذا المعيار أن نعيّن خليفة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلا يمكن أن يكون غير علي عليه السلام.

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعَاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) عظمة بيت اللَّه: بعد الإشارة إلى مكانة إبراهيم عليه السلام في الآية السابقة، تناولت هذه الآية موضوع عظمة الكعبة التي وضع قواعدها إبراهيم عليه السلام فهي تبدأ بالتذكير بعبارة «وَإذ» أي:

اذكروا: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا».

«المثابة»: من الثوب، أي عودة الشي ء إلى حالته الاولى، ولما كانت الكعبة مركزاً يتجه إليه الموحدون كل عام، فهي محل لعودة جسمية وروحية إلى التوحيد والفطرة الاولى، ومن هنا كانت مثابة.

الكعبة- طبقاً للآية أعلاه- ملاذ وبيت آمن، والإسلام وضع الأحكام المشددة بشأن إبعاد هذه الأرض المقدسة عن كل نزاع واشتباك وحرب وإراقة دماء، وليس أفراد البشر آمنين هناك فحسب، بل الحيوانات

والطيور آمنة أيضاً في هذه البقعة، ولا يحق لأحد أن يمصها بسوء.

وهذه الصفة للبيت هي استجابة لأحد مطاليب إبراهيم عليه السلام من ربّه.

ثم تضيف الآية: «وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرهِيمَ مُصَلًّى».

ثم تشير الآية إلى المسؤولية المعهودة إلى إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام بشأن تطهير البيت للطائفين والمجاورين والمصلين: «وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ أَنْ طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ».

والتطهير: تعني تطهير هذا البيت ظاهرياً ومعنوياً من كل تلويث.

بيت اللَّه: وصفت الكعبة بأنّها بيت اللَّه، وعبّرت الآية عن الكعبة ب «بيتى»، وواضح أنّ اللَّه ليس بجسم، ولا يحده بيت، ولا يحتاج إلى ذلك، وهذه الإضافة هي «إضافة تشريفية» تبين قدسية الشي ء الذي ينسب إلى اللَّه، ولذلك كان شهر رمضان «شهر اللَّه» وكانت الكعبة «بيت اللَّه».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 108

وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذَا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (126) إبراهيم يدعو ربّه: في هذه الآية توجه إبراهيم إلى ربّه بطلبين هامين لسكنة هذه الأرض المقدسة، أشرنا إلى أحدهما في الآية السابقة. القرآن يذكّر بما قاله إبراهيم: «وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هذَا بَلَدًا ءَامِنًا».

والطلب الآخر هو: «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ».

وهكذا يطلب إبراهيم «الأمن» أوّلًا، ثم «المواهب الاقتصادية»، إشارة إلى أنّ الاقتصاد السالم لا يتحقق إلّابعد الأمن الكامل.

واللَّه سبحانه استجاب لإبراهيم طلبه الثاني أيضاً، ولكنّه «قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَليِلًا» في الدّنيا، «ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» في الحياة الآخرة.

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

(127) رَبَّنَا وَ اجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَ تُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) إبراهيم يبني الكعبة: نفهم بوضوح من خلال آيات الذكر الحكيم أنّ بيت الكعبة كان موجوداً قبل إبراهيم، وكان قائماً منذ زمن آدم. وهذه الآية تدلّ على أنّ بيت الكعبة كان له نوع من الوجود حين جاء إبراهيم مع زوجه وابنه الرضيع إلى مكّة. وتقول الآية 96 من سورة آل عمران: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا». ومن المؤكّد أنّ عبادة اللَّه وإقامة أماكن العبادة لم تبدأ في زمن إبراهيم، بل كانتا منذ أن خلق الإنسان على ظهر هذه الأرض.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 109

عبارة الآية الاولى من الآيات محل البحث تؤكد هذا المعنى، إذ تقول: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

فإبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة.

في الآيتين التاليتين يتضرع إبراهيم وإسماعيل إلى ربّ العالمين بخمسة طلبات هامة.

قالا أوّلًا: «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ».

ثم أضافا: «وَمِنْ ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ».

وطلبا تفهم طريق العبادة: «وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا»، ليعبدا اللَّه حق عبادته.

ثم طلبا التوبة: «وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

الآية الأخيرة تضمنت الطلب الخامس، وهو هداية الذريّة: «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

ولعل التفاوت بين «الكتاب» و «الحكمة» في أنّ الكتاب يعني الكتب السماوية، والحكمة تعني العلوم والأسرار والعلل والنتائج الموجودة في الأحكام، وهي التي يعلمها النبي أيضاً.

بحوث

1- هدف بعثة الأنبياء: في الآيات أعلاه،

بعد أن يطلب إبراهيم وإسماعيل من اللَّه ظهور نبي الإسلام، يذكران ثلاثة أهداف لبعثة:

الأوّل: تلاوة آيات اللَّه على الناس، أى إيقاظ الأفكار والأرواح في ظل الآيات الإلهية المبشرة والمنذرة.

«يتلو» من تلا، أي اتبع الشي ء بالشي ء، وسميت «التلاوة» كذلك لأنّها قراءة وفق تتبع ونظم. هي مقدمة لليقظة والإعداد والتعليم والتربية.

الثاني: «تعليم الكتاب والحكمة» ولا تتحقق التربية إلّابالتعليم.

ولعل التفاوت بين «الكتاب» و «الحكمة» في أنّ الكتاب يعني الكتب السماوية، والحكمة تعني العلوم والأسرار والعلل والنتائج الموجودة في الأحكام، وهي التي يعلمها النبي أيضاً.

الثالث: «التزكية» وهو الهدف الأخير.

«التزكية»: في اللغة هي الإنماء، وهي التطهير أيضاً.

وبذلك يتلخص الهدف النهائي من بعثة الأنبياء في دفع الإنسان على مسيرة التكامل «العلمي» و «العملي».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 110

2- هل «التعليم» مقدم أم «التربية»؟ في أربعة مواضع ذكر القرآن مسألة التربية والتعليم باعتبارهما هدف الأنبياء، وفي ثلاثة مواضع منها قُدمت «التربية» على «التعليم» (البقرة، 151- آل عمران، 164- الجمعة، 2). وفي موضع واحد تقدم التعليم على التربية (آية بحثنا). ونعلم أنّ التربية لا تتم إلّابالتعليم. لذلك حين يتقدم التعليم على التربية في الآية فإنّما ذلك بيان للتسلسل المنطقي الطبيعي لهما، وفي المواضع التي تقدمت فيها التربية، فقد يكون ذلك إشارة إلى أنّها الهدف، لأنّ الهدف الأصلي هو التربية، وما عداها مقدمة لها.

3- النبي من الناس: تعبير «منهم» في الآية «وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ» يشير إلى أنّ القادة البشرية ينبغي أن يكونوا بشراً بنفس صفات البشر الغريزية، كي يكونوا القدوة اللائقة في الجوانب العملية، ومن الطبيعي أنّهم- لو كانوا من غير البشر- ما استطاعوا إدراك حاجات الناس والمشكلات العويصة الكامنة لهم في حياتهم، ولا أمكنهم أن يكونوا قدوة واسوة لهم.

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ

إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَ وَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) إبراهيم الإنسان النموذج: الآيات السابقة ألقت الضوء على جوانب من شخصية إبراهيم عليه السلام فتحدثت عن بعض خدماته وطلباته الشاملة للجوانب المادية والمعنوية. من مجموع ما مر نفهم أنّ اللَّه سبحانه شاء أن يكون هذا النبي، شيخ الموحدين وقدوة الرساليين، على مر العصور. لذلك تقول الآية الاولى من آيات بحثنا هذا: «وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ». أليس من السفاهة أن يعرض الإنسان عن مدرسة الطهر والنقاء والفطرة والعقل وسعادة الدنيا والآخرة، ويتجه إلى طريق الشرك والكفر والفساد وضياع العقل والانحراف عن الفطرة وفقدان الدين والدنيا؟

ثم تضيف الآية: «وَلَقَدِ اصْطَفَيْنهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الْأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ».

الآية التالية تؤكد على صفة اخرى من صفات إبراهيم التي هي في الواقع أساس بقية

مختصر الامثل، ج 1، ص: 111

صفاته العظيمة وتقول: «إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ».

ووصية إبراهيم بنيه في أواخر أيام حياته تجسيد آخر لهذه الحياة الشامخة: «وَوَصَّى بِهَا إِبْرهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ». فكل من إبراهيم ويعقوب وصّيا أبناءهما بالقول: «يَا بَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ».

لعل القرآن الكريم، بنقله وصية إبراهيم، يريد أن يقول للإنسان إنّه مسؤول عن مستقبل أبنائه، عليه أن يهتم بمستقبلهم المعنوي قبل أن يهتم بمستقبلهم المادي.

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبَائِكَ

إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)

سبب النّزول

في تفسير الصافي: إنّ اليهود قالوا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ألست تعلم أنّ يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات؟ فنزلت.

التّفسير

كما رأينا في سبب النزول، وظاهر الآية يدل على ذلك أيضاً، كان جمع من منكري الإسلام ينسبون ما لا ينبغي نسبته إلى النبي يعقوب، والقرآن يردّ عليهم بالقول: «أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ». هذا الذي نسبوه إليه ليس بصحيح، بل الذي حدث آنذاك «إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى».

في الجواب: «قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ ءَابَائِكَ إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ إِلهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».

آخر آية في بحثنا، تجيب على توهّم آخر من توهمات اليهود، فكثير من هؤلاء كانوا يستندون إلى مفاخر الآباء والأجداد وقرب منزلة أسلافهم من اللَّه تعالى، فلا يرون بأساً في انحرافهم هم ظانين أنّهم ناجون بوسيلة اولئك الأسلاف. يقول القرآن: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 112

وبذلك أرادت الآية أن توجه أنظار هؤلاء إلى أعمالهم وسلوكهم وأفكارهم، وتصرفهم عن الإنغماس في الإفتخار بالماضين.

وَ قَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ مَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْبَاطِ وَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَ عِيسَى وَ مَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ

مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: إنّ عبد اللَّه بن صوريا وكعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وجماعة من اليهود ونصارى أهل نجران خاصموا أهل الإسلام. كل فرقة تزعم أحق بدين اللَّه من غيرها، فقالت اليهود: نبيّنا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب. وقالت النصارى: نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا أفضل الكتب، وكل فريق منهما قال للمؤمنين: كونوا على ديننا، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

نحن على حق لا غيرنا: التمحور والإنغماس في الذاتية يؤدي إلى أن يحتكر الإنسان الحق لنفسه، ويعتبر الآخرين على باطل، ويسعى إلى أن يجرهم إلى معتقداته. الآية الاولى تتحدث عن مجموعة من أهل الكتاب يحملون مثل هذه النظرة الضيقة، ونقلت عنهم القول:

«وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا». فيرد عليهم القرآن مؤكداً أنّ الأديان المحرفة لا تستطيع إطلاقاً أن تهدي الإنسان: «قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

الآية التالية تأمر المسلمين أن «قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لَا نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».

لا يجوز أن ننطلق من محور الذاتية في الحكم على هذا النبي أو ذاك، بل يجب أن ننظر إلى

مختصر الامثل، ج 1، ص: 113

الأنبياء بمنظار رسالي، ونعتبرهم جميعاً رسل ربّ العالمين ومعلمي البشرية، قد أدى كل منهم دوره في مرحلة تاريخية معينة، وكان هدفهم واحداً، وهو هداية الناس في ظل التوحيد الخالص والحق والعدالة.

ثم يضيف القرآن قائلًا: «فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَا ءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن

تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ».

ولو تخلى هؤلاء عن عنصرية وذاتياتهم، وآمنوا بجميع أنبياء اللَّه فقد اهتدوا أيضاً، وإلّا فقد ضلوا سواء السبيل.

ثم تثبت الآية على قلوب المؤمنين وتبعث فيهم الثقة والطمأنينة بالقول: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوالهم «الْعَلِيمُ» بمؤامراتهم.

صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَ تُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنَا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) التخلي عن غير صبغة اللَّه: بعد الدعوة التي وجهتها الآيات السابقة لإتباع الأديان بشأن إنتهاج طريق جميع الأنبياء، أول آية في بحثنا تأمرهم جميعاً بترك كل صبغة، أي دين، غير «صِبْغَةَ اللَّهِ». ثم تضيف الآية: «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً». أي: لا أحسن من اللَّه صبغة، «وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ» في إتباع ملة إبراهيم التي هي صبغة اللَّه.

ذكر المفسرون أنّ النصارى دأبوا على غسل أبنائهم بعد ولادتهم في ماء أصفر اللون، ويسمونه غسل التعميد، ويجعلون ذلك تطهيراً للمولود من الذنب الذاتي الموروث من آدم!

القرآن يرفض هذا المنطق الخاوي ويقول: من الأفضل أن تتركوا هذه الصبغات الظاهرية الخرافية المفرقة وتصطبغوا بصبغة اللَّه لتطهر روحكم.

كان اليهود وغيرهم يحاجّون المسلمين بصور شتى، كانوا يقولون: إنّ جميع الأنبياء

مختصر الامثل، ج 1، ص: 114

مبعوثون منا، وإنّ ديننا أقدم الأديان، وكتابنا أعرق الكتب السماوية. القرآن

يردّ على كل هذه الأقاويل ويقول: «قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ».

واعلموا أيضاً أن لا امتياز لأحد على غيره إلّابالأعمال، وكل شخص رهن أعماله «وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ».

مع فارق، هو إنّ كثيراً منكم يشركون في توحيدهم: «وَنَحْنُ لَهْ مُخْلِصُونَ».

الآية التالية تجيب على واحد آخر من هذه الإدعاءات الفارغة وتقول: «أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى .

ثم تجيب الآية عن هذا الإدعاء بشكل رائع فتقول: «قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ».

فاللَّه أعلم أنّهم ما كانوا يهوداً ولا نصارى.

وقد تعلمون أنتم وإن كنتم لا تعلمون فاطلاق مثل هذه الأقوال بدون علم وتثبيت تهمة وذنب، وكتمان للحقيقة «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ».

اعلموا أنّه «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْلَمُونَ».

في آخر آية من الآيات التي نحن بصددها يقول سبحانه لهؤلاء القوم العنودين الجدليين:

افترضوا أنّ إدعاءاتكم صحيحة، فهذا لا يعود عليكم بالنفع لأنّه «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

تغيير القبلة: هذه الآية وآيات تالية تتحدث عن حادث مهم من حوادث التاريخ الإسلامي، كان له آثاره الكبيرة في المجتمع آنذاك. رسول الإسلام صلى الله عليه و آله صلّى صوب (بيت المقدس) بأمر ربّه مدة ثلاثة عشر عاماً بعد البعثة في مكة، وبضعة أشهر في المدينة بعد الهجرة. ثم تغيّرت القبلة، وأمر اللَّه المسلمين أن يصلّوا تجاه (الكعبة).

لم يكفّ اليهود بعد هذا التغيير عن اعتراضاتهم، بل واصلوا حربهم الإعلامية بشكل آخر، بدأوا يلقون التشكيكات بشأن هذا التغيير، والقرآن الكريم يتحدث عن هذه الإعتراضات: «سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا» «1».

______________________________

(1) «السفهاء»: جمع «سفيه» أطلقت في الأصل على من خفّت حركة

جسمه، وقيل: زمام سفيه، أي كثير الإضطراب خفيف الوزن. ثم استعملت الكلمة في خفة النفس لنقصان العقل في الامور الدينية والدنيوية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 115

بدأوا يرددون: لو كانت القبلة الاولى هي الصحيحة فلِمَ هذا التغيير؟

اللَّه سبحانه يجيب على هذا الإعتراض، فأمر رسوله أن «قُلْ لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

فليس للمكان قداسة ذاتية، إنّما يكتسب قداسته بإذن اللَّه، وكل مكان ملك للَّه، والمهم هو الطاعة والإستسلام لربّ العالمين. تغيير القبلة في الواقع مرحلة من مراحل الاختبار الإلهي، وكل مرحلة خطوة على الصراط المستقيم نحو الهداية الإلهيّة.

وَ كَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ مَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) الامة الوسط: هذه الآية تشير إلى جانب من أسباب تغيير القبلة، تقول أوّلًا: «وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا». أي كما جعلنا القبلة وسطا، كذلك جعلناكم امة في حالة اعتدال.

أما سبب كون قبلة المسلمين قبلة وسطاً، فلأنّ النصارى- الذين يعيش معظمهم في غرب الكرة الأرضية- يولون وجوههم صوب الشرق تقريباً حين يتجهون إلى قبلتهم في بيت المقدس حيث مسقط رأس السيد المسيح، واليهود- الذين يتواجدون غالباً في الشامات وبابل- يتجهون نحو الغرب تقريباً حين يقفون تجاه بيت المقدس.

أمّا «الكعبة» فكانت بالنسبة للمسلمين في المدينة تجاه الجنوب، وبين المشرق والمغرب، وفي خط وسط.

والهدف من ذلك: «لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا».

و «شهادة» الامّة المسلمة على الناس، و «شهادة» النبي على المسلمين، قد تكون إشارة إلى الاسوة والقُدوَة،

لأنّ الشاهد ينتخب من بين أزكى الناس وأمثلهم.

فيكون معنى هذا التعبير القرآني أنّ الامة المسلمة نموذجية بما عندها من عقيدة ومنهج، كما أنّ النبي صلى الله عليه و آله فرد نموذجي بين أبناء الامّة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 116

ثم تشير الآية إلى سرّ آخر من أسرار تغيير القبلة فتقول: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ».

ثم تضيف الآية: «وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ».

لولا الهداية الإلهيّة، لما وجدت في نفس الإنسان روح التسليم المطلق أمام أوامر اللَّه.

وأمام وسوسة الأعداء المضللين والأصدقاء الجاهلين، الذين راحوا يشككون في صحة ما سبق من العبادات قبل تغيير القبلة، تقول الآية: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ».

أسرار تغيير القبلة: لما كانت الكعبة في بداية البعثة المباركة بيتاً لأصنام المشركين، فقد امر المسلمون مؤقتاً بالصلاة تجاه بيت المقدس، ليتحقق الإنفصال التام بين الجبهة الإسلامية وجبهة المشركين.

وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، حدث الإنفصال الكامل بين الجبهتين، ولم تعد هناك ضرورة لاستمرار وضع القبلة، حينئذ عاد المسلمون إلى الكعبة أقدم قاعدة توحيدية، وأعرق مركز للأنبياء.

ومن الطبيعي أن يستثقل الصلاة نحو بيت المقدس اولئك الذين كانوا يعتبرون الكعبة الرصيد المعنوي لقوميتهم، وأن يستثقلوا أيضاً العودة إلى الكعبة بعد أن اعتادوا على قبلتهم الاولى (بيت المقدس).

المسلمون بهذا التحول وُضعوا في بوتقة الاختبار، لتخليصهم مما علق في نفوسهم من آثار الشرك، ولتنقطع كل انشداداتهم بماضيهم المشرك، ولتنمو في وجودهم روح التسليم المطلق أمام أوامر اللَّه سبحانه.

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ

الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) كل الوجوه شطر الكعبة: هذه الآية تشير إلى الأمر الإلهي بتغيير القبلة وتقول: «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَيهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 117

ذكرت الرواية أنّ هذا الأمر الإلهي نزل في لحظة حساسة ملفتة للأنظار، حين كان الرسول والمسلمون يؤدون صلاة الظهر. فأخذ جبرائيل بذراع الرسول صلى الله عليه و آله وأدار وجهه نحو الكعبة. وتذكر الرواية أنّ صفوف المسلمين تغيرت على أثر ذلك، وترك النساء مكانهن للرجال وبالعكس.

إنّ تغيير القبلة من علامات نبيّ الخاتم المذكورة في الكتب السابقة، فقد كان أهل الكتاب على علم بأنّ النبي المبعوث «يصلّي إلى القبلتين». لذلك تضيف الآية: «وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ».

ثم تقول الآية: «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ». فهؤلاء الذين يكتمون ما جاء في كتبهم بشأن تغيير قبلة نبيّ الخاتم، ويستغلون هذه الحادثة لإثارة ضجة بوجه المسلمين، بدل أن يتخذوها دليلًا على صدق دعوى النبي، سيلاقون جزاء أعمالهم، واللَّه ليس بغافل عن أعمالهم ونياتهم.

إنّ ضرورة إتجاه المسلمين شطر المسجدالحرام كان باعثاً على تطور علم الهيئة وعلم الجغرافيا والفلك عند المسلمين بسرعة مدهشة خلال العصور الإسلامية الاولى، لأنّ معرفة جهة القبلة في مختلف بقاع الأرض ما كانت متيسرة من دون معرفة بهذه العلوم.

وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ مَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ مَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) لا يرضون بأي ثمن: مر بنا في تفسير الآية السابقة أنّ تغيير

القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لا يمكن أن يثير شبهة حول النبي، بل إنّه من دلائل صحة دعواه، فأهل الكتاب قد قرأوا عن صلاة النبي الموعود إلى قبلتين، لكن تعصبهم منعهم من قبول الحق. لذلك تقول الآية: «وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلّ ءَايَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ».

ثم تضيف الآية: «وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ». أي: إنّ هؤلاء لا يستطيعون مهما افتعلوا من ضجيج، أن يغيروا مرة اخرى قبلة المسلمين، فهذه هي القبلة الثابتة النهائية.

ثم تقول الآية: «وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ».

لا النصارى بتابعين قبلة اليهود، ولا اليهود بتابعين قبلة النصارى.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 118

ولمزيد من التأكيد والحسم ينذر القرآن النبي ويقول: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ».

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) يعرفون حق المعرفة ولكن ...: استمراراً لحديث القرآن عن تعصب مجموعة من أهل الكتاب ولجاجهم، تقول الآية: «الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ».

إنّهم يعرفون النبي صلى الله عليه و آله واسمه وعلاماته من خلال كتبهم الدينية، «وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

وهناك طبعاً فريق سارع لاعتناق الإسلام بعد أن رأى هذه الصفات والعلامات في نبيّ الأكرم، مثل عبداللَّه بن سلام وهو من علماء اليهود، ونقل عنه بعد إسلامه قوله «أنا أعلم به منّي بابني».

ثم تؤكد الآية ما سبق أن طرحته بشأن تغيير القبلة، أو بشأن أحكام الإسلام بشكل عام: «الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ». أي المترددين.

وبهذه العبارة تثبّت الآية فؤاد النبي، وتنهاه عن أي ترديد أمام افتراءات الأعداء بشأن تغيير القبلة وغيرها، وإن

جنّد هؤلاء الأعداء كل طاقاتهم للمحاربة.

المخاطب في الآية وإن كان شخص النبي صلى الله عليه و آله ولكن الهدف هو تربية البشرية كما ذكرنا من قبل، فمن المؤكد أنّ النبي المتصل بالوحي الإلهي لا يعتريه تردد، لأنّ الوحي بالنسبة له ذو جانب حسي وعين اليقين.

لكل امة قبلة: هذه الآية الكريمة تردّ على الضجة التي أثارها اليهود حول تغيير القبلة وتقول: «وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا».

كان للأنبياء على مرّ التاريخ وجهات عديدة يولّونها، وليست القبلة كاصول الدين لا تقبل التغيير، فلا تطيلوا الحديث في أمر القبلة، وبدل ذلك «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ» لأنّ معيار القيمة الوجودية للإنسان هي أعمال البرّ والخير.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 119

ثم تتغير لهجة الآية إلى نوع من التحذير والتهديد لُاولئك المفترين، والتشجيع للمحسنين فتقول: «أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا» في تلك المحكمة الكبرى حيث يتلقى كل جزاء عمله.

وقد يخال بعض أنّ جمع الناس لمثل هذا اليوم عجيب، فكيف تجتمع ذرات التراب المتناثرة لترتدي ثانية حلّة الحياة؟! لذلك تجيب الآية بالقول: «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) الخوف من اللَّه فقط: هذه الآيات تتابع الحديث عن مسألة تغيير القبلة ونتائجها. الآية الاولى تأمر النبي عليه السلام وتقول: «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ» من أية مدينة، وأية ديار «فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ».

ولمزيد من التأكيد تقول الآية: «وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَّبّكَ».

وتنتهي

الآية بتهديد المتآمرين: «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

الآية التالية كررت الحكم العام بشأن التوجه إلى المسجد الحرام في أي مكان: «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ».

صحيح أنّ هذه العبارة القرآنية تخاطب النبي صلى الله عليه و آله لكنّها تقصد دون شك مخاطبة عامة المسلمين، ولمزيد من التأكيد تخاطب الجملة التالية المسلمين وتقول: «وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ».

ثم تشير الآية إلى ثلاث مسائل هامة:

1- إلجام المعارضين- تقول الآية: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ».

قبل تغيير القبلة كانت ألسنة المعارضين من اليهود والمشركين تقذف المسلمين بالتهم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 120

والحجج، اليهود يعترضون قائلين: إنّ النبي الموعود يصلي إلى قبلتين، وهذه العلامة غير متوفرة في محمّد صلى الله عليه و آله والمشركون يعترضون على النبي قائلين: كيف ترك محمّد الكعبة وهو يدعي أنّه بعث لإحياء ملة إبراهيم. هذا التغيير أنهى كل هذه الإعتراضات. لكن هذا لا يمنع الأفراد اللجوجين المعاندين أن يصروا على مواقفهم، وأن يرفضوا كل منطق، لذلك تقول الآية: «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ».

2- عندما وصفت الآية هؤلاء المعاندين أنّهم ظالمون، فقد يثير هذا الوصف خوفاً في نفوس البعض لذلك قالت الآية: «فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى».

وهذه الفقرة من الآية تطرح أصلًا عاماً أساسياً من اصول التربية التوحيدية الإسلامية، هو عدم الخوف من أي شي ء سوى اللَّه.

3- وآخر هدف ذكر لتغيير القبلة هو إتمام النعمة: «وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ».

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لَا تَكْفُرُونِ (152) مهمة رسول اللَّه: ذكرت الفقرة الأخيرة من الآية السابقة أنّ أحد أسباب تغيير القبلة هو إتمام

النعمة على الناس وهدايتهم، والآية أعلاه ابتدأت بكلمة «كما» إشارة إلى أنّ تغيير القبلة ليس هو النعمة الوحيدة التي أنعمها اللَّه عليكم، بل منّ عليكم بنعم كثيرة «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ».

وكلمة «منكم» قد تعني أنّ الرسول بشر مثلكم، والإنسان وحده هو القادر على أن يكون مربي البشر وقدوتهم وأن يتحسس آمالهم وآلامهم، وتلك نعمة كبرى أن يكون الرسول بشراً «منكم».

بعد ذكر هذه النعمة يشير القرآن إلى أربع نِعَم عادت على المسلمين ببركة هذا النبي صلى الله عليه و آله:

1- «يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا». «يتلو»: من «التلاوة» أي من إتيان الشي ء متوالياً، والإتيان بالعبارات المتوالية (وبنظام صحيح) هي التلاوة. النبي صلى الله عليه و آله إذن يقرأ عليكم آيات

مختصر الامثل، ج 1، ص: 121

اللَّه متتالية، لتنفذ إلى قلوبكم، ولإعداد أنفسكم إلى التعليم والتربية.

2- «وَيُزَكّيكُمْ». «التزكية»: هو الزيادة والإنماء، أي إنّ النبي بفضل آيات اللَّه يزيدكم كمالًا مادياً ومعنوياً، ويزيل ألوان الرذائل التي كانت تغمر مجتمعكم في الجاهلية.

3- «وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ». التعليم طبعاً مقدم بشكل طبيعي على التربية، ولكنّ القرآن- كما ذكرنا- يقدم التربية في مواضع تأكيداً على أنّها هي الهدف النهائي.

انّ الكتاب إشارة إلى آيات القرآن والوحى الإلهى النازل على النبى بشكل إعجازي والحكمة لها معنى واسع يشمل الكتاب والسنة معاً، أمّا استعمالها القرآني مقابل «الكتاب» (كما في هذه الآية) فيشير إلى أنّها «السنّة» لا غير.

4- «وَيُعَلّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ». وهذا الموضوع طرحته الفقرات السابقة من الآية، حيث دار الحديث عن تعليم الكتاب والحكمة لكن القرآن عاد فأكد ذلك في فقرة مستقلة تنبيهاً على أنّ الأنبياء لم يكونوا قادة أخلاقيين واجتماعيين فحسب، بل كانوا هداة طريق العلم والمعرفة، وبدون هدايتهم لم يكتب النضج للعلوم الإنسانية.

بعد

استعراض جانب من النعم الإلهيّة في الآية، تذكر الآية التالية أنّ هذه النعم تستدعي الشكر، وبالاستفادة الصحيحة من هذه النعم يؤدي الإنسان حق شكر الباري تعالى:

«فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِى وَلَا تَكْفُرُونِ».

واضح أنّ عبارة «فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ» تشير إلى أصل تربوي وتكويني، أي اذكروني ...

اذكروا الذات المقدسة التي هي معدن الخيرات والحسنات والمبرات ولتطهر أرواحكم وأنفسكم.

كذلك المقصود من «الشكر وعدم الكفران» استثمار كل نعمة في محلها وعلى طريق نفس الهدف الذي خلقت له، كي يؤدّي ذلك إلى زيادة الرحمة الإلهيّة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَ لَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَ لكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)

سبب النّزول

روي في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس بشأن نزول الآية الثانية أنّها نزلت في قتلى

مختصر الامثل، ج 1، ص: 122

بدر، وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلًا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وكانوا يقولون: مات فلان. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

الشهداء أحياء: الآيات السابقة عرضت مفاهيم التعليم والتربية والذكر والشكر، وفي الآية الاولى من آيتي بحثنا دار الحديث حول الصبر الذي لا تتحقق المفاهيم السابقة بدونه.

تقول الآية أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ».

واجهوا المشاكل والصعاب بهاتين القوتين فالنصر حليفكم: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».

خلافاً لما يتصور بعض الناس «الصبر» لا يعني تحمل الشقاء وقبول الذلة والإستسلام للعوامل الخارجية، بل الصبر يعني المقاومة والثبات أمام جميع المشاكل والحوادث.

الموضوع الآخر الذي أكدت عليه الآية أعلاه باعتباره السند الهام إلى جانب الصبر هو «الصلاة». في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «كان عليّ عليه السلام إذا هاله شي ء فزع إلى الصّلاة ثم تلا هذه الآية «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ

وَالصَّلَوةِ»».

فالآية أعلاه تطرح مبدأين هامين: الأول الاعتماد على اللَّه، ومظهره الصلاة؛ والآخر الاعتماد على النفس، وهو الذي عبرت عنه الآية بالصبر.

وبعد ذكر الصبر والاستقامة تتحدث الآية التالية عن خلود الشهداء، الذين يجسدون أروع نماذج الصابرين على طريق اللَّه. تقول الآية: «وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ». ثم تؤكّد هذا المفهوم ثانية بالإستدراك. «بَلْ أَحْيَاءٌ وَلكِن لَّاتَشْعُرُونَ».

في كل حركة- أساساً- تنزوي مجموعة محبة للعافية، وتبتعد عن الامة الثائرة، ولا تكتفي هي بالتقاعس والتكاسل، بل تسعى إلى تثبيط عزائم الآخرين وبثّ الرخوة والتماهل في المجتمع.

القرآن الكريم يتحدث عن مثل هذه الفئة كراراً ويؤنبهم بشدة.

هذه الآية تثبت بوضوح بقاء الروح والحياة البرزخية للبشر (الحياة بعد الموت وقبل البعث). سنفصل الحديث في هذا الموضوع عند تناولنا الآية (169) من سورة آل عمران.

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَرَاتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 123

الدنيا دار اختبار إلهي: بعد ذكر مسألة الشهادة في سبيل اللَّه، والحياة الخالدة للشهداء، تعرضت هذه الآية للاختبار الإلهي العام، ولمظاهره المختلفة، باعتباره سنّة كونية لا تقبل التغيير «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْ ءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْضٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ».

ولما كان الإنتصار في هذه الاختبارات، لا يتحقق إلّافي ظل الثبات والمقاومة، قالت الآية بعد ذلك: «وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ». فالصابرون هم الذين يستطيعون أن يخرجوا منتصرين من هذه الامتحانات، لا غيرهم.

الآية التالية تعرّف الصابرين وتقول: «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ».

الإقرار التام بالعبودية المطلقة للَّه، يعلمنا أن لا نحزن على

ما فاتنا، لأنّه سبحانه مالكنا ومالك جميع ما لدينا من مواهب، إن شاء منحنا إيّاها، وإن استوجبت المصلحة أخذها منّا، وفي المنحة والمحنة مصلحة لنا.

والإلتفات المستمر إلى حقيقة عودتنا إلى اللَّه سبحانه، يشعرنا بزوال هذه الحياة، وبأنّ نقص المواهب المادية ووفورها عرض زائل، ووسيلة لإرتقاء الإنسان على سلم تكامله، فاستشعار العبودية والعودة في عبارة «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» له الأثر الكبير في تعميق روح المقاومة والاستقامة والصبر في النفس.

وآخر آية في بحثنا هذا، تتحدث عن الألطاف الإلهيّة الكبرى، التي تشمل الصابرين الصامدين المتخرجين بنجاح من هذه الامتحانات الإلهيّة: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ».

هذه الصلوات والرحمة تجعل هؤلاء على بصيرة من أمرهم، في مسيرتهم الحياتية المحفوفة بالمزالق والأخطار، لذلك تقول الآية: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».

بحوث

1- لماذا الإختبار الإلهي؟ أوّل ما يتبادر للذهن في هذا المجال هو سبب هذا الاختبار، فنحن نختبر الأفراد لنفهم ما نجهله عنهم. فهل أنّ اللَّه سبحانه وتعالى بحاجة إلى مثل هذا الاختبار لعباده، وهو العالم بكل الخفايا والأسرار؟ وهل هناك شي ء خفي عنه حتى يظهر له بهذا الإمتحان؟

والجواب أنّ مفهوم الاختبار الإلهي يختلف عن الاختبار البشري.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 124

اختباراتنا البشرية تستهدف رفع الإبهام والجهل، والاختبار الإلهي قصده «التربية». في أكثر من عشرين موضعاً تحدث القرآن عن الاختبار الإلهى، باعتباره سنّة كونية لا تنقص من أجل تفجير الطاقات الكامنة ونقلها من القوة إلى الفعل وبالتالي فالاختبار الإلهي من أجل تربية العباد. يقول سبحانه في الآية (154) من سورة آل عمران: «وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

ويقول أمير المؤمنين علي عليه السلام في بيان سبب الاختبارات الإلهيّة: «... وإن كان سبحانه أعلم بهم من

أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال الّتي بها يستحقّ الثواب والعقاب» «1».

أي: أنّ الصفات الكامنة لا يمكن أن تكون وحدها معياراً للثواب والعقاب، فلابد أن تظهر من خلال أعمال الإنسان، واللَّه يختبر عباده ليتجلى ما يضمرونه في أعمالهم، ولكي تنتقل قابلياتهم من القوة إلى الفعل، وبذلك يستحقون الثواب أو العقاب.

2- الإختبار الإلهي عام: نظام الحياة في الكون نظام تكامل وتربية، وكل الموجودات الحية تطوي مسيرة تكاملها، حتى الأشجار تعبر عن قابلياتها الكامنة بالأثمار، من هنا فإنّ كل البشر، حتى الأنبياء، مشمولون بقانون الاختبار الإلهي كي تنجلي قدراتهم.

الإمتحانات تشمل الجميع ولا يجرى عن طريق الحوادث الصعبة القاسية فحسب، بل قد يمتحن اللَّه عبده بالخير وبوفور النعمة.

3- عوامل النجاح في الإمتحان: هنا يتعرض الإنسان لاستفهام آخر، وهو أنّه إذا كان القرار أن يتعرض جميع أفراد البشر للامتحان الإلهي، فما هو السبيل لاحراز النجاح والتوفيق في هذا الامتحان؟ القرآن يعرض هذه السبل في القسم الأخير من آية بحثنا وفي آيات اخرى:

أ) أهمّ عامل للانتصار أشارت إليه الآية بعبارة: «وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ». فالآية تبشّر بالنجاح اولئك الصابرين المقاومين، ومؤكدة أنّ الصبر رمز الإنتصار.

ب) الإلتفات إلى أنّ نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية فهي مؤقّتة وعابرة وهذا الإدراك يجعل كل المشاكل والصعاب عرضاً عابراً وسحابة صيف، وهذا المعنى تضمنته عبارة: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ».

______________________________

(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 93.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 125

إِنَّ الصَّفَا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان أنّ المشركين كانوا يسعون بين الصفا والمروة، وقد وضعوا على الصفا صنماً يقال له «أساف»

وعلى المروة صنماً يقال له «نائلة» وكان المشركون إذا طافوا بهما مسحوهما فتحرّج المسلمون عن الطواف بهما لأجل الصنمين. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

أعمال الجهلة لا توجب تعطيل الشعائر: هذه الآية الكريمة تستهدف إزالة ما علق في ذهن المسلمين ونفوسهم من رواسب بشأن الصفا والمروة كما مرّ في سبب النزول، وتقول للمسلمين: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ».

ومن هذه المقدمة تخرج الآية بنتيجة هي: «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا». لا ينبغي أن تكون أعمال المشركين الجاهليين عاملًا على إيقاف العمل بهذه الشعيرة، وعلى تقليل شأن وقدسية هذين المكانين.

ثم تقول الآية أخيراً: «وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ».

فاللَّه يشكر عباده المتطوعين للخير بأن يجازيهم خيراً، وهو سبحانه عالم بسرائرهم، يعلم من تعلق قلبه بهذه الأصنام ومن تبرأ منها.

بحثان

1- الصفا والمروة: الصفا والمروة اسمان لجبلين صغيرين في مكة، يقعان اليوم بعد توسيع المسجد الحرام، في الضلع الشرقي للمسجد، في الجهة التي يقع فيها الحجر الأسود ومقام إبراهيم.

«الشعائر»: جمع شعيرة أي العلامة، وشعائر اللَّه أي العلامات التي تذكر الإنسان باللَّه، وتعيد إلى الأذهان ذكريات مقدسة.

«اعتمر»: أي أدى العمرة، والعمرة في الأصل الملحقات الإضافية في البناء، وفي الشريعة تطلق على الأعمال الخاصة، التي يؤديها المسلم إلى جانب أعمال الحج، أو يؤديها لوحدها في العمرة المفردة، وبينها وبين أعمال الحج أوجه اشتراك وافتراق.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 126

2- من أسرار السعي بين الصفا والمروة: إبراهيم عليه السلام بلغه الكبر ولم يُرزق ولداً، فدعى ربّه أن لا يتركه فرداً، فاستجاب له، ورزقه من جاريته هاجر ولداً سماه «إسماعيل».

لم تستطع «سارة» زوجته الاولى أن تطيق الحالة الجديدة، وقد رزق إبراهيم ولداً من غيرها، فأمر اللَّه

إبراهيم أن يهاجر بالطفل والأم إلى مكة حيث الأرض القاحلة المجدبة آنذاك، ويسكنهما هناك.

امتثل إبراهيم أمر ربّه، وذهب بهما إلى صحراء مكة وأسكنهما في تلك الأرض، وهمّ بالرجوع، فضجّت زوجته بالبكاء، إذ كيف تستطيع أن تعيش امرأة وحيدة مع طفل رضيع في مثل هذه الأرض؟

بكاء هاجر ومعه بكاء الطفل الرضيع هزّ إبراهيم من الأعماق، لكنه لم يزد على أن ناجى ربّه قائلًا: «رَّبَّنَا إِنّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَوةَ فَاجْعَلْ أَفِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «1». ثم ودّع زوجه وطفله بحزن وألم عميقين.

لم يمض وقت طويل حتى نفذ طعام الام وماؤها، وجفّ لبنها، بكاء الطفل أضرم في نفس الأم ناراً، ودفعها لأن تبحث بقلق واضطراب عن الماء، اتجهت أولًا إلى جبل «الصفا» فلم تجد للماء أثراً، لَفت نظرها بريق ماء عند جبل «المروة» فأسرعت إليه فوجدته سراباً، ثم رأت عند المروة بريقاً لدى الصفا أسرعت إليه فما وجدت شيئاً، وهكذا جالت سبع مرات بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء، وفي النهاية، وبعد أن أشرف الطفل على الموت، انفجرت عند رجله فجأة عين زمزم، فشرب الطفل وامه ونجيا من الموت المحقق.

في الصفا والمروة درس في التضحية بكل غال ونفيس، حتى بالطفل الرضيع، من أجل المبدأ والعقيدة.

السعي بينهما يعلمنا أن نعيش دائماً أمل النجاح والانتصار.

السعي بين الصفا والمروة يقول لنا: اعرفوا قدر نعمة هذا الدين وهذا المركز التوحيدي، فثمة أفراد حفظوا الشريعة وشعائرها لنا بدمائهم على مرّ التاريخ.

من أجل إحياء كل تلك الأحاسيس والمشاعر في النفوس، أمر اللَّه الحجيج أن يسعوا سبع مرات بين الصفا والمروة.

______________________________

(1) سورة إبراهيم/ 37.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 127

أضف إلى ما

تقدم أنّ السعي يقضي على كبر الإنسان وغروره، فلا أثر للتبختر والتصنع في السعي، بل لابد من قطع هذه المسافة ذهاباً ومجيئاً مع كافة الناس، وبنفس لباس الناس، وبهرولة أحياناً! ولذلك ورد في الروايات أنّ السعي إيقاظ للمتكبرين.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَ الْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

سبب النّزول

في الدر المنثور عن ابن عباس قال: سأل «معاذ بن جبل» و «سعد بن معاذ» و «خارجة بن زيد» نفراً من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة (قد ترتبط بظهور النبي الخاتم) فكتموهم إيّاه وأبوا أن يخبروهم فأنزل اللَّه فيهم «إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا» الآية.

التّفسير

حرمة كتمان الحق: الآية- وإن خاطبت كما في سبب النزول، علماء اليهود- غير محدودة بمخاطبيها، بل تبين حكماً عاماً بشأن كاتمي الحق. الآية الكريمة تتحدث عن هؤلاء بشدة وتقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللعِنُونَ».

كتمان الحقائق لا ينحصر دون شك في كتمان علامات النبوّة والبشائر بالنبي الخاتم صلى الله عليه و آله بل يشمل كتمان كل حقيقة تستطيع أن تدفع الناس إلى الفهم الصحيح بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.

ولما كان القرآن كتاب هداية، فإنّه لا يغلق منافذ الأمل والتوبة أمام الأفراد، ولا يقطع أملهم في العودة مهما ارتكسوا في الذنوب، لذلك تبين الآية التالية طريق النجاة من هذا الذنب الكبير وتقول: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

ومن الملفت للنظر، أنّ اللَّه لم يقل أنّه يقبل

التوبة ممن تاب، بل يقول: من تاب فأنا أيضاً أتوب عليه، وهذه دالة على كثرة محبة اللَّه وسبق عطفه على عباده التائبين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 128

كتمان الحق في الأحاديث: حملت الأحاديث بشدة أيضاً على كاتمي الحق، فروي في المجمع عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من سُئل عن علم يعلمه فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار».

ونعيد هنا القول أنّ ابتلاء الناس بمسألة والحاجة إلى بيانها يحل محل السؤال، وبيان الحقائق في هذه الحالة واجب.

وذكر الطبرسي في الاحتجاج: قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: من خير خلق اللَّه بعد ائمة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال: «العلماء إذا صلحوا». قيل: فمن شرّ خلق اللَّه بعد إبليس وفرعون و ...؟ قال: «العلماء إذا فسدوا، هم المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقائق، وفيهم قال اللَّه عزّ وجلّ: «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللعِنُونَ».

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَ لَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) الذين ماتوا وهم كفار: تحدثت الآيات السابقة عن نتيجة كتمان الحقائق، وهذه الآيات تكمل الموضوع السابق، وتتناول جزاء الذين يواصلون طريق الكفر والكتمان والعناد إلى آخر عمرهم. تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».

هؤلاء أيضاً مثل كاتمي الحق، مستحقون للعنة اللَّه والملائكة وجميع الناس، مع اختلاف هو أنّ هؤلاء المصرّين على الكفر حتى نهاية حياتهم لا رجعة لهم طبعاً ولا توبة.

ثم تقول الآية التالية إنّ هؤلاء الكفار المصرّين على كفرهم حتى اللحظات الأخيرة من حياتهم: «خَالِدِينَ فِيهَا لَايُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ

وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ».

ولما كان التوحيد ينهي كل هذه المصائب، فالآية الثالثة تطرح هذا الأصل وتقول:

«وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ».

ثم تؤكد هذا الأصل وتقول: «لَّاإِلهَ إِلَّا هُوَ».

بعد ذلك تصف الآية اللَّه بأنّه: «الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ». لتقول إنّ اللَّه الذي يسع كل الموجودات، برحمته العامة والمؤمنين برحمته الخاصة، هو اللائق بالعبودية لا الموجودات المحتاجة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 129

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَ السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) مظاهر عظمة اللَّه في الكون: آخر آية في المبحث الماضي دارت حول توحيد اللَّه، وهذه الآية تقدم الدليل على وجود اللَّه ووحدانيته.

قبل أن ندخل في تفسير الآية، لابد من مقدمة موجزة. حيثما كان «النظم والإنسجام» فهو دليل على وجود العلم والمعرفة، وأينما كان «التنسيق» فهو دليل على الوحدة، من هنا، حينما نشاهد مظاهر النظم والإنسجام في الكون من جهة، والتنسيق ووحدة العمل فيه من جهة اخرى، نفهم وجود مبدأ واحد للعلم والقدرة صدرت منه كل هذه المظاهر.

بعد هذه المقدمة نعود إلى تفسير الآية، هذه الآية الكريمة تشير إلى ستة أقسام من آثار النظم الموجود في عالم الكون، وكل واحد منها آية تدل على وحدانية المبدأ الأكبر.

1- «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

يقول العلم لنا اليوم: إنّ في السماء آلافاً مؤلفة من المجرات، ومنظومتنا الشمسية جزء من واحدة من المجرات، وفي مجرتنا وحدها مئات الملايين من الشموس والنجوم الساطعة، وحسب دراسات العلماء يوجد بين هذه الكواكب مليون كوكب مسكون بمليارات الموجودات الحية.

حقاً ما

أعظم هذا الكون! وما أعظم قدرة خالقه!

2- «وَاخْتِلفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ».

من الدلائل الاخرى على ذاته المقدسة وصفاته المباركة تعاقب الليل والنهار، والظلمة والنور بنظام خاص، فينقص أحدهما بالتدريج ليزيد في الآخر، وما يتبع ذلك من تعاقب الفصول الأربعة، وتكامل النباتات وسائر الأحياء في ظل هذا التكامل.

3- «وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ».

الإنسان يمخر عباب البحار والمحيطات بالسفن الكبيرة والصغيرة، مستخدماً هذه السفن للسفر ولنقل المتاع.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 130

4- «وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلّ دَابَّةٍ».

من مظاهر قدرة اللَّه وعظمته المطر الذي يحيي الأرض، فتهتز ببركته وتنمو فيها النباتات وتحيا الدواب بحياة هذه النباتات، وكل هذه الحياة تنتشر على ظهر الأرض من قطرات ماء لا حياة فيها.

5- «وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ» لا على سطح البحار والمحيطات لحركة السفن فحسب، بل على الجبال والهضاب والسهول أيضاً لتلقيح النباتات فتخرج لنا ثمارها اليانعة.

6- «وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والْأَرْضِ». والسحب المتراكمة في أعالي الجو، المحمّلة بمليارات الأطنان من المياه خلافاً لقانون الجاذبية، والمتحركة من نقطة إلى اخرى دون ايجاد خطر، من مظاهر عظمة اللَّه سبحانه.

وكل تلك العلامات والمظاهر «لَأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» لا للغافلين الصم البكم العمي.

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذَابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَ قَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ

مِنَ النَّارِ (167) أئمة الكفر يتبرأون من أتباعهم: تناولت الآيات السابقة دلائل وجود اللَّه سبحانه وإثبات وحدانيته، عن طريق عرض مظاهر لنظام الكون. وهذه الآيات تتحدث عن أولئك الذين أعرضوا عن كل تلك الدلائل الواضحة، وساروا على طريق الشرك والوثنية وتعدد الآلهة ... عن اولئك الذين يحنون رؤوسهم تعظيماً أمام الآلهة المزيفة، ويتعشقونها ويشغفون بها حباً لا يليق إلّاباللَّه سبحانه مصدر كل الكمالات وواهب جميع النعم. تقول الآية: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا» «1».

______________________________

(1) «الأنداد»: جمع «ند» وهو (المثل)، وقال جمع من علماء اللغة، هو المثل المشابه في الجوهر، أي إنّ المشركين كانوا يعتقدون بأنّ هذه الأنداد تحمل الصفات الإلهيّة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 131

ولم يتخذ المشركون هؤلاء الأنداد للعبادة فحسب، بل «يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ».

«وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ». لأنّهم أصحاب عقل وإدراك، فلا يستوي من يحب عن عقل وبصيرة، ومن يحب عن جهل وخرافة وتخيل.

حب المؤمنين ثابت عميق لا يتزلزل، وحب المشركين سطحي تافه لا بقاء له ولا استمرار. لذلك تقول الآية: «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ». لرأوا سوء فعلهم وسوء عاقبتهم.

في هذه اللحظات تزول حجب الجهل والغرور والغفلة من أمام أعينهم، وحين يرون أنفسهم دون ملجأ أو ملاذ، يتجهون إلى قادتهم ومعبوديهم، ولات حين ملاذ بغير اللَّه «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ».

واضح أنّ المعبودين هنا ليسوا الأصنام الحجرية أو الخشبية، بل الطغاة الجبابرة الذين استعبدوا الناس، فقدم لهم المشركون فروض الولاء والطاعة.

هؤلاء الغافلون المغفّلون حين يرون ما حلّ بهم يمنون أنفسهم: «وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا» لكنها

امنية لا تتحقق.

ثم تقول الآية: «كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ».

لكنها حسرة غير نافعة ... فاليوم يوم الجزاء وليس يوم تلافي الأخطاء.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّباً وَ لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشَاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج لما حرّموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة، فنهاهم اللَّه عن ذلك.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 132

التّفسير

خطوات الشيطان: ذمّت الآيات السابقة الشرك والمشركين، وأحد أنواع الشرك إيكال أمر التقنين والتشريع وتقرير الحلال والحرام إلى غير اللَّه. الآية أعلاه اعتبرت هذا العمل شيطانياً وقالت: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِى الْأَرْضِ حَللًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».

تكرر في القرآن طلب الإستفادة من الأطعمة، وورد الطلب عادة مقيداً بالحلال وبالطيب. و «الحلال»: ما أبيح تناوله والطيب ما طاب ووافق الطبع السليم، و يقابله «الخبيث» الذي يشمأز منه الإنسان.

و «الخطوات»: جمع «خطوة» وهي المرحلة التي يقطعها الشيطان للوصول إلى هدفه وللتعزير بالناس.

عبارة «لَاتَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ» تكررت خمس مرات في القرآن الكريم، وكانت في موضعين بشأن الإستفادة من الأطعمة والرزق الإلهي، وهي تحذير من استهلاك هذه النعم الإلهية في غير موضعها، وحثّ على الاستفادة منها على طريق العبودية والطاعة لا الفساد والطغيان في الأرض.

عبارة «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» تكررت في القرآن الكريم عشر مرات بعد الحديث عن الشيطان، كي تحفّز الإنسان، وتجعله متأهباً لمجابهة هذا العدو اللدود الظاهر.

الآية التالية تؤكد على عداء الشيطان، وعلى هدفه المتمثل

في شقاء الإنسان، وتقول:

«إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ».

منهج الشيطان يتلخص في ثلاثة أبعاد هي: السوء والفحشاء والتقول على اللَّه.

«الفحشاء»: من «الفحش» وهو كل عمل خارج عن حد الإعتدال ويشمل كل المنكرات والقبائح المبطنة والعلنية.

الإنحرافات التدريجية: عبارة «خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ» قد تشير إلى مسألة تربوية دقيقة، وهي أنّ الإنحرافات تدخل ساحة الإنسان بشكل تدريجي. وساوس الشيطان تدفع بالفرد على هذه الصورة التدريجية نحو هاوية السقوط، وليست هذه طريقة الشيطان الأصلي فحسب، بل كل الأجهزة الشيطانية تنفذ خططها المشؤومة على شكل «خطوات» لذلك يحذر القرآن كثيراً من اتخاذ الخطوة الاولى على طريق الإنزلاق.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 133

وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَ وَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لَا يَهْتَدُونَ (170) وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَ نِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) التقليد الأعمى: تشير الآية إلى منطق المشركين الواهي في تحريم ما أحل اللَّه، أو عبادة الأوثان وتقول: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا».

ويدين القرآن هذا المنطق الخرافي، القائم على أساس التقليد الأعمى لعادات الآباء والأجداد، فيقول: «أَوَ لَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَايَعْقِلُونَ شَيًا وَلَا يَهْتَدُونَ». أي: إنّ إتّباع الآباء صحيح لو أنّهم كانوا على طريق العقل والهداية.

أما أسلاف هؤلاء فلم يكونوا يعلمون، ولم يكونوا قد اهتدوا بمن يعلم وهذا اللون من التقليد الأعمى هو السبب في تخلف البشرية لأنّه تقليد الجاهل للجاهل.

الآية التالية تبين سبب تعصب هؤلاء وإعراضهم عن الإنصياع لقول الحق تقول:

«وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لَايَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً

وَنِدَاءً». تقول الآية: إنّ مثلك في دعوة هؤلاء المشركين إلى الإيمان ونبذ الخرافات والتقليد الأعمى كمن يصيح بقطيع الغنم (لإنقاذهم من الخطر) ولكن الأغنام لاتدرك منه سوى أصوات غير مفهومة.

ثم تضيف الآية لمزيد من التأكيد والتوضيح أنّ هؤلاء «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَايَعْقِلُونَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) الطيبات والخبائث: القرآن ينهج اسلوب التأكيد والتكرار بأشكال مختلفة في معالجته للإنحرافات المزمنة، وفي هذه الآيات عودة إلى مسألة تحريم المشركين في الجاهلية لبعض الأطعمة دونما دليل، مع فارق هو أنّ الخطاب يتجه في هذه الآيات إلى المؤمنين، بينما خاطبت الآيات السابقة جميع الناس. تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 134

رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ». هذه النعم الطيّبة المحلّلة المتناسبة مع الفطرة الإنسانية السليمة قد خلقت لكم، فلم لا تستفيدون منها؟ الآية التالية تبين بعض ألوان الأطعمة المحرمة، وتقول: «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ».

ولما كانت بعض الضرورات تدفع الإنسان إلى تناول الأطعمة المحرمة حفظاً لحياته، فقد استثنت الآية هذه الحالة وقالت: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ».

ومن أجل أن تقطع الآية الطريق أمام من يتذرع بالإضطرار، أكدت على كون المضطر «غير باغ» و «لا عاد». و «الباغي»: هو الطالب، والمراد هنا طالب اللذة و «العادي»: هو المتجاوز للحد، أي المتجاوز حد الضرورة، فالرخصة هنا إذن لمن لا

يريد اللذة في تناول هذه الأطعمة، ولا يتجاوز حد الضرورة اللازمة لنجاته من الموت.

وفي الختام تقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». فإنّ اللَّه الذي حرّم تلك الأطعمة أباح تناولها في موارد الضرورة برحمته الخاصة.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لَا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَ الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

سبب النّزول

المعنى في هذه الآية أهل الكتاب بإجماع المفسرين؛ إلّاأنّها متوجهة على قول كثير منهم إلى جماعة قليلة من اليهود وهم علماؤهم ككعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وكعب بن أسد. وكانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا ويرجون كون النبي منهم. فلما بعث من غيرهم خافوا زوال مأكلتهم فغيّروا صفته فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

إدانة كتمان الحق مرة اخرى: هذه الآيات تأكيد على ما مرّ في الآية (159) بشأن كتمان

مختصر الامثل، ج 1، ص: 135

الحق. الآية الاولى تقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ».

هذه الهدايا والعطايا التي ينالونها من هذا الطريق نيران محرقة تدخل بطونهم.

ثم تتعرض الآية إلى عقاب معنوي سينال هؤلاء أشد من العقاب المادي، وتقول: «وَلَا يُكَلّمُهُمُ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيمَةِ وَلَا يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

يستفاد من هذه الآية والآية التالية أنّ واحدة من أعظم المواهب الإلهيّة في الآخرة أن يكلّم اللَّه المؤمنين تلطفاً بهم. أي: إنّ المؤمنين سينالون في الآخرة نفس المنزلة التي نالها أنبياء

اللَّه في الدنيا وأية لذة أعظم من هذه اللذة!

بديهي أنّ تكليم اللَّه عباده بمعني إنّه بقدرته الواسعة يخلق في الفضاء أمواجاً صوتية خاصة قابلة للسمع والإدراك، (كما كلّم اللَّه موسى عند جبل الطور)، أو أنّه يتكلم مع خاصة عباده بلسان القلب عن طريق الإلهام.

وقد يسأل سائل عن تكليم اللَّه المجرمين يوم القيامة، استناداً إلى ما ورد في الآيات كقوله تعالى: «قَالَ اخْسُوا فِيهَا وَلَا تُكَلّمُونِ» «1».

والجواب: أنّ المقصود من التكليم في آيات بحثنا، هو تكليم عن لطف وحب واحترام، لا عن تحقير وطرد وعقوبة فذلك من أشد الجزاء.

الآية التالية تحدد وضع هذه المجموعة وتبين نتيجة صفقتها الخاسرة وتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّللَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ». فهؤلاء خاسرون من ناحيتين: من ناحية تركهم الهداية واختيار الضلالة، ومن ناحية حرمانهم من رحمة اللَّه واستحقاقهم بدل ذلك العقاب الإلهي، وهذه مبادلة لا يقدم عليها إنسان عاقل. لذلك تتحدث الآية عن هؤلاء بلغة التعجب وتقول: «فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ».

آخر آية في بحثنا تقول إنّ ذلك التهديد والوعيد بالعذاب لكاتمي الحق، يعود إلى أنّ اللَّه أنزل القرآن بالدلائل الواضحة، حتى لم تبق شبهة لأحد: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ».

مع ذلك فإنّ زمرة محرفة تعمد إلى كتمان الحقائق صيانة لمصالحها، وتثير الإختلاف في الكتاب السماوي لتتصيد في الماء العكر.

______________________________

(1) سورة المؤمنون/ 108.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 136

مثل هؤلاء الذين يثيرون الإختلاف في الكتاب السماوي بعيدون عن الحقيقة: «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتلَفُوا فِى الْكِتَابِ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ».

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلَائِكَةِ وَ الْكِتَابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينَ وَ ابْنَ

السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقَابِ وَ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَ آتَى الزَّكَاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: لما حولت القبلة وكثر الخوض في نسخها وصار كأنّه لا يراعى بطاعة اللَّه إلّاالتوجه للصلاة وأكثر اليهود والنصارى ذكرها، أنزل اللَّه سبحانه هذه الآية.

التّفسير

أساس البرّ: مرّ بنا الحديث عن الضجة التي أثيرت بين اعداء الإسلام والمسلمين الجدد بشأن تغيير القبلة. الآية أعلاه تخاطب هؤلاء وتقول: «لَّيْسَ الْبِرَّ أن تُوَلُّوا وَجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ».

ثم يبين القرآن أهم أصول البّر والإحسان وهي ستة، فيقول: «وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَالْمَلِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيّينَ».

ثم تذكر الآية الإنفاق بعد الإيمان وتقول: «وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِى الرّقَابِ».

إنفاق المال ليس بالعمل اليسير على الجميع، لأنّ حب المال موجود بدرجات متفاوتة في كل القلوب، وعبارة «عَلَى حُبّهِ» إشارة إلى هذه الحقيقة. هؤلاء يندفعون للإنفاق رغم هذا الحب للمال من أجل رضا اللَّه سبحانه.

والأصل الثالث من أصول البرّ إقامة الصلاة: «وَأَقَامَ الصَّلَوةَ». والصلاة إن أدّاها الفرد بشروطها وحدودها وباخلاص وخضوع تصده عن كل ذنب وتدفعه نحو كل سعادة وخير.

والأصل الرابع: أداء الزكاة والحقوق المالية الواجبة: «وَءَاتَى الزَّكَوةَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 137

فالآية سبق أن ذكرت الإنفاق المستحب، وهنا تذكر الإنفاق الواجب. بعض الناس يكثر من المستحبات في الإنفاق ويتساهل في الواجب، وبعضهم يلتزم بالواجب فقط ولا ينفق درهماً في إيثار. والمحسنون الحقيقيون هم الذين ينفقون في المجالين معاً.

الخامس من الاصول: الوفاء بالعهد: «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا»، فالثقة المتبادلة رأس مال الحياة الاجتماعية، وترك الوفاء بالعهد من

الذنوب التي تزلزل الثقة وتوهن عرى العلاقات الاجتماعية.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ثلاث لم يجعل اللَّه عزّ وجلّ لأحد فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر وبرّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين».

الأساس السادس والأخير من اسس البرّ في نظر الإسلام: الصبر «وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاءِ حال الفقر والمسكنة وَالضَّرَّاءِ حال المرض وَحِينَ الْبَأْسِ حال القتال مع الأعداء» «1».

ثم تؤكد الآية على أهمية الاسس الستة وعلى عظمة من يتحلّى بها، فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ».

صدقهم يتجلى في انطباق أعمالهم وسلوكهم مع إيمانهم ومعتقداتهم، وتتجلى تقواهم في إلتزامهم بواجبهم تجاه اللَّه وتجاه المحتاجين والمحرومين وكل المجتمع الإنساني.

والملفت للنظر أنّ الصفات الست المذكورة تشمل الاصول الإعتقادية والأخلاقية والمناهج العملية.

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت هذه الآية في حيّين من العرب لأحدهما طَوْل على الآخر وكانوا يتزوجون نساءهم بغير مهور وأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا

______________________________

(1) «البأساء»: من البؤس وهو الفقر؛ و «الضّرّاء»: تعني الألم والمرض؛ و «حين البأس»: أي حين الحرب.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 138

الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم وجعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك حتى جاء الإسلام، فأنزل اللَّه هذه الآية.

التّفسير

في القصاص حياة: الآيات السابقة طرحت المنهج الإسلامي في «البر»، وهنا يقدم القرآن الكريم- وهكذا في الآيات التالية- مجموعة من الأحكام الإسلامية، إكمالًا لبيان المنهج الإسلامي في الحياة. تبدأ هذه الأحكام من مسألة حفظ حرمة الدماء، وهي مسألة هامة في الحياة الاجتماعية، فتنفي العادات والتقاليد الجاهلية، وتقول للمؤمنين: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى .

«القصاص»: من «قصّ» يقال قصّ أثره: أي تلاه شيئاً بعد شي ء، ومنه القصاص لأنّه يتلو أصل الجناية

ويتبعه، وقيل هو أن يفعل بالثاني مثل ما فعله هو بالأول، مع مراعاة المماثلة، ومنه أخذ القصص كأنّه يتبع آثارهم شيئاً بعد شي ء.

الآية كما ذكرنا تستهدف بيان الموقف الصحيح من المجرم، ولفظ القصاص يدل على إنزال عقوبة بالمجرم مماثلة لما إرتكبه هو، لكن الآية لا تكتفي بذلك، بل بينت التفاصيل فقالت:

«الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى .

ثم تبين الآية أنّ القصاص، حق لأولياء المقتول، وليس حكماً إلزامياً، فإن شاؤوا أن يعفوا ويأخذوا الدية، وإن شاؤوا ترك الدية فلهم ذلك، وتقول: «فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْ ءٌ». فبعد تبدل حكم القصاص عند عفو أولياء المقتول إلى دية «فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ».

أي: فعل العافي إتّباع بالمعروف، وهو أن لا يُشدد في طلب الدية وينظر من عليه الدية «وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحسَانٍ». أي: على المعفو عنه أن يبادر إلى دفع الدية عند الإمكان وأن لا يماطل.

ثم تؤكد الآية على ضرورة الالتزام بحدود ما أقره اللَّه، وعدم تجاوز هذه الحدود: «ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

وهذا الأمر بالقصاص وبالعفو يشكل تركيباً انسانياً منطقياً، فهو من جهة يدين التقاليد السائدة في الجاهلية الاولى والجاهليات التالية إلى يومنا هذا القاضية بالإنتقام للمقتول الواحد بقتل الآلاف.

ومن جهة اخرى، يفتح باب العفو أمام المذنب، مع الحفاظ على احترام الدم وردع القاتلين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 139

ومن جهة ثالثة، لا يحق للطرفين بعد العفو وأخذ الدية التعدي، خلافاً للجاهليين الذين كانوا يقتلون القاتل أحياناً حتى بعد العفو وأخذ الدية.

الآية التالية قصيرة العبارة وافرة المعنى، تجيب على كثير من الأسئلة المطروحة في حقل القصاص، ويقول: «وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَوةٌ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

هذه الآية تبين أنّ القصاص ليس انتقاماً، بل السبيل إلى

ضمان حياة الناس.

هل انتقص قانون القصاص المرأة؟ قد يظن البعض أنّ قانون القصاص الإسلامي قد انتقص المرأة حين قرر أنّ «الرجل» لا يقتل «بالمرأة»، أي إنّ الرجل- قاتل المرأة- لا يقتص منه.

وليس الأمر كذلك، ومفهوم الآية لا يعني عدم جواز قتل الرجل بالمرأة، بل يجوز لأولياء المقتولة أن يطلبوا القصاص من الرجل القاتل، بشرط أن يدفعوا نصف ديته.

ولمزيد من التوضيح نقول: الرجال يتحملون غالباً مسؤوليات إعالة الاسرة، ويؤمنون نفقاتها الاقتصادية، ولا يخفى الفرق بين أثر غياب الرجل وغياب المرأة على العائلة اقتصادياً، ولو لم يراع هذا الفرق لُاصيبت عائلة المقتص منه بأضرار مالية، ولوقعت في حرج اقتصادي، ودفع نصف الدية يحول دون تزلزل تلك العائلة اقتصادياً.

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) الوصية بالمعروف: الآيات السابقة ذكرت تشريع القصاص، وهذه الآيات تذكر تشريع الوصية، باعتباره جزءاً من النظام المالي، وتذكر باسلوب الحكم الإلزامي فتقول:

«كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ».

ثم تضيف الآية أنّ هذه الوصية كتبت «حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ».

جاء في الآية الكريمة بشأن كتابة الوصية كونها «حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» من هنا قيل إنّها مستحبة استحباباً مؤكداً، ولو كانت واجبة لقالت الآية «حقّاً على المؤمنين».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 140

يلفت النظر أنّ الآية الكريمة عبرت عن المال بكلمة «خير» فقالت: «إِن تَرَكَ خَيْرًا».

وهذا يعني أنّ الإسلام يعتبر الثروة المستحصلة عن طريق مشروع، والمستخدمة على طريق تحقيق منافع المجتمع

ومصالحه خيراً وبركة.

هذا التعبير يشير ضمنياً إلى مشروعية الثروة، لأنّ الأموال غير المشروعة ليست خيراً بل شرّاً وبالًا.

تقييد الوصية «بِالْمَعْرُوفِ» إشارة إلى أنّ الوصية ينبغي أن تكون موافقة للعقل من كل جهة، لأنّ «المعروف» هو المعروف بالحُسْنِ لدى العقل. يجب أن تكون الوصية متعقلة في مقدارها وفي نسبة توزيعها، دون أن يكون فيها تمييز، ودون أن تؤدّي إلى نزاع وإنحراف عن اصول الحق والعدالة.

حين تكون الوصية جامعة للخصائص المذكورة فهي محترمة ومقدسة، وكل تبديل وتغيير فيها محظور وحرام. لذلك تقول الآية التالية: «فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ».

ولا يظنن المحرفون المتلاعبون أنّ اللَّه غافل عما يفعلون، كلّا «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

ولعل هذه الآية تشير إلى أن تلاعب «الوصي» (وهو المسؤول عن تنفيذ الوصية) لا يصادر أجر الموصي. فالموصي ينال أجره، والإثم على الوصي المحرّف في كمية الوصية أو كيفيتها أو في أصلها.

بيّن القرآن فيما سبق الأحكام العامة للوصية، وأكد على حرمة كل تبديل فيها، ولكن في كل قانون استثناء، و الآية الثالثة من آيات بحثنا هذا تبين هذا الاستثناء وتقول: «فَمَنْ خَافَ مِنْ مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

الإستثناء يرتبط بالوصية المدونة بشكل غير صحيح، وهنا يحق للوصي أن ينبه الموصي على خطئه إن كان حياً، وأن يعدّل الوصية إن كان ميتاً.

عبرت الآية «بالجنف» عن الانحرافات التي تصيب الموصي في وصيته عن سهو، و «بالإثم» عن الانحرفات العمدية.

عبارة «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» تشير إلى ما قد يقع فيه الوصي من خطأ غير عمدي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 141

عندما يعدّل الوصية المنحرفة وتقول: إنّ اللَّه يعفو عن مثل هذا الخطأ.

بحثان

1- فلسفة الوصية: الإرث يوزع

حسب القانون الإسلامي بنسب معينة على عدد محدود من الأقارب، وقد يكون بين الأقارب والأصدقاء والمعارف من له حاجة ماسة إلى المال، ولكن لا سهم له في قانون الإرث، وقد يكون بين الورثة من له حاجة أكبر إلى المال من بقية الورثة.

من هنا وضع الإسلام قانون الوصية إلى جانب قانون الإرث، وأجاز للمسلم أن يتصرف في ثلث أمواله (بعد الوفاة) بالشكل الذي يرشد لمل ء هذا الفراغ.

أضف إلى ما سبق، قد يرغب إنسان أن يعمل بعد مماته الخيرات التي ما اتيح له أن يعملها في حياته، ومنطق العقل يفرض أن لا يحرم هذا الشخص من مثل هذا العمل الخيري.

النصوص الإسلامية أكدت على ضرورة الوصية كثيراً، من ذلك ما روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ما ينبغي لِامرى مسلم أن يبيت ليلة إلّاووصيته تحت رأسه» «1».

والمقصود بوضع الوصية تحت الرأس إعدادها وتهيئتها طبعاً.

وفي رواية اخرى: «من مات بغير وصية مات ميتة جاهليّة» «2».

2- العدالة في الوصية: في الروايات الإسلامية تأكيد وافر على «عدم الجور» و «عدم الضرار» في الوصية، يستفاد منها جميعاً أنّ تعدي الحدود الشرعية المنطقية في الوصية عمل مذموم ومن كبائر الذنوب.

روي عن الإمام الباقر عليه السلام: «من عدل في وصيته كان كمن تصدق بها في حياته ومن جار في وصيته لقي اللَّه عزّ وجلّ يوم القيامة وهو عنه معرض» «3».

والجور في الوصية هو الوصية بأكثر من الثلث، وحرمان الورثة من حقهم المشروع، أو التمييز بين الورثة بسبب عواطف شخصية سطحية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 13/ 352.

(2) وسائل الشيعة 13/ 352.

(3) وسائل الشيعة 13/ 359.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 142

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَ الْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) الصوم مدرسة التقوى: في سياق طرح مجموعة من الأحكام الإسلامية، تناولت هذه الآيات أحكام واحدة من أهم العبادات، وهي عبادة الصوم، وبلهجة مفعمة بالتأكيد قالت الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ».

ثم تذكر الآية مباشرة فلسفة هذه العبادة التربوية، في عبارة قليلة الألفاظ، عميقة المحتوى، وتقول: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

الآية التالية تتجه أيضاً إلى التخفيف من تعب الصوم وتقول: «أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ» فالفريضة لا تحتل إلّامساحة صغيرة من أيّام السنة.

ثم تقول: «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ». فالمريض والمسافر معفوان من الصوم، وعليهما أن يقضيا صومهما في أيام اخرى.

ثم تصدر الآية عفواً عن الطاعنين في السنّ، وعن المرضى الذين لا يرجى شفاؤهم، وترفع عنهم فريضة الصوم ليدفعوا بدلها كفارة، فتقول: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» «1».

______________________________

(1) «يطيقونه»: من «الطوق» وهو الحلقة التي تلقى على العنق، أو توجد عليه بشكل طبيعي (كطوق الحمام) ثم أطلقت الكلمة على نهاية الجهد والطاقة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 143

ثم يقول الآية: «فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ». أي من تطوع للإطعام أكثر من ذلك

فهو خير له.

وأخيراً تبين الآية حقيقة هي: «وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

والآية يدل على تأكيد آخر على فلسفة الصوم، وعلى أنّ هذه العبادة- كسائر العبادات- لا تزيد اللَّه عظمة أو جلالًا، بل تعود كل فوائدها على الناس.

آخر آية في بحثنا تتحدث عن زمان الصوم وبعض أحكامه ومعطياته تقول: «شَهْرُ رَمَضَانَ» هو الشهر الذي فرض فيه الصيام.

وهو «الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ». أي: معيار معرفة الحق والباطل.

ثم تؤكد ثانية حكم المسافر والمريض وتقول: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ».

والقرآن بهذا التكرار يفهم المسلمين أنّ الصوم في حالة السلام والحضر حكم إلهي والإفطار في حال السفر والمرض حكم إلهي أيضاً لا تجوز مخالفته.

وفي آخر الآية إشارة اخرى إلى فلسفة تشريع الصوم، تقول: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ». فالصوم- وإن كان على الظاهر نوعاً من التضييق والتحديد- مؤدّاه راحة الإنسان ونفعه على الصعيدين المادي والمعنوى.

ثم تقول الآية: «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ». أي: يلزم على كل إنسان سليم أن يصوم شهراً، فذلك ضروري لتربية جسمه ونفسه، لذلك وجب على المريض والمسافر أن يقضي ما فاته من شهر رمضان ليكمل العدة، وحتى الحائض- التي اعفيت من قضاء الصلاة- غير معفوّة عن قضاء الصوم.

والعبارة الأخيرة من الآية تقول: «وَلِتُكَبّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَيكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

لتكبروه على ما وفّر لكم من سبل الهداية، ولتشكروه على ما أنعم عليكم.

بحوث

1- الآثار التربوية والإجتماعية والصحية للصوم: من فوائد الصوم الهامة «تلطيف» روح الإنسان و «تقوية» إرادته و «تعديل» غرائزه.

على الصائم أن يكف عن الطعام والشراب على الرغم من جوعه وعطشه وهكذا عليه أن يكف عن ممارسة العمل

الجنسي، ليثبت عملياً أنّه ليس بالحيوان الأسير بين المعلف

مختصر الامثل، ج 1، ص: 144

والمضجع، وأنّه يستطيع أن يسيطر على نفسه الجامحة وعلى أهوائه وشهواته. الأثر الروحي والمعنوي للصوم يشكّل أعظم جانب من فلسفة هذه العبادة.

والصوم يرفع الإنسان من عالم البهيمة إلى عالم الملائكة وعبارة «لَعَلَّكُم تَتَّقُون» تشير إلى هذه الحقايق.

وهكذا الحديث المعروف: «الصوم جنّة من النار» «1» يشير إلى هذه الحقايق.

وروي عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «إنّ للجنة باباً يدّعى الرّيّان لا يدخل فيها إلّاالصّائمون» «2».

الأثر الإجتماعى للصوم لا يخفى على أحد. فالصوم درس المساواة بين أفراد المجتمع.

سأل الإمام الصادق عليه السلام عن علة الصيام، فقال: «إنّما فرض اللَّه الصّيام ليستوي به الغنيّ والفقير؛ وذلك أنّ الغنيّ لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير لأنّ الغنيّ كلّما أراد شيئاً قدر عليه فأراد اللَّه تعالى أن يسوّى بين خلقه وأن يذيق الغنيّ مسّ الجوع والألم ليرقّ على الضّعيف ويرحم الجائع» «3».

الآثار الصحية للصوم: أهمية «الإمساك» في علاج الأمراض ثابتة في الطب القديم والحديث. لأنّ العامل في كثير من الأمراض الإسراف في تناول الأطعمة المختلفة. المواد الغذائيه الزائدة تتراكم في الجسم على شكل مواد دهنية وتدخل هي والمواد السكرية في الدم، وهذه المواد الزائدة وسط صالح لتكاثر أنواع الميكروبات والأمراض، وفي هذه الحالة يكون الإمساك أفضل طريق لمكافحة هذه الأمراض، وللقضاء على هذه المزابل المتراكمة في الجسم.

الصوم يحرق الفضلات والقمامات المتراكمة في الجسم، وهو في الواقع عملية تطهير شاملة للبدن، اضافة إلى أنّه استراحة مناسبة لجهاز الهضم وتنظيف له.

عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «صوموا تصحّوا» «4».

وعنه صلى الله عليه و آله أيضاً «المعدة بيت كل داء والحمية رأس كل دواء»

«5».

2- الصوم في الامم السابقة: يظهر من النصوص الموجودة في التوراة والإنجيل، أنّ

______________________________

(1) بحار الأنوار 93/ 256.

(2) بحار الأنوار 93/ 252.

(3) وسائل الشيعة 7/ 3 (أوّل كتاب الصوم).

(4) بحار الأنوار 93/ 255.

(5) بحار الأنوار 59/ 290.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 145

الصوم كان موجوداً بين اليهود والنصارى، وكانت الامم الاخرى تصوم في أحزانها ومآسيها.

ويظهر من التوراة أنّ موسى عليه السلام صام أربعين يوماً، و كان اليهود يصومون لدى التوبة والتضرع إلى اللَّه. السيد المسيح عليه السلام صام أيضاً أربعين يوماً كما يظهر من «الإنجيل».

بهذا نستطيع أن نجد في نصوص الكتب الدينية القديمة (حتى بعد تحريفها) شواهد على ما جاء في القرآن الكريم: «كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ».

3- امتياز شهر رمضان: هذا الشهر- إنّما اختير شهراً للصوم- لأنّه يمتاز عن بقية الشهور. والقرآن الكريم بيّن مزية هذا الشهر في الآية الكريمة بأنّه «الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ».

وفي الروايات الإسلامية أنّ كل الكتب السماوية: «التوراة» و «الإنجيل» و «الزبور» و «الصحف» و «القرآن» نزلت في هذا الشهر، فهو إذن شهر تربية وتعليم.

4- قاعدة «لا حرج»: آيات بحثنا فيها إشارة إلى أنّ اللَّه يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر، وهذه الإشارة تدور طبعاً هنا حول موضوع الصوم وفوائده وحكم المسافر والمريض، لكن اسلوبها العام يجعلها قاعدة تشمل كل الأحكام الإسلامية، ويصيّر منها سنداً لقاعدة «لا حرج» المعروفة.

هذه القاعدة تقول: لا تقوم قوانين الإسلام على المشقة، وإن أدّى حكم إسلامي إلى حرج ومشقة، فإنّه يرفع عنه مؤقتاً، ولذلك أجاز الفقهاء التيمم لمن يشق عليه الوضوء، والصلاة جلوساً لمن يشق عليه الوقوف.

وَ إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ

(186)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ سائلًا سأل النبي صلى الله عليه و آله أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت الآية.

التّفسير

سلاح اسمه الدعاء: بعد أن ذكرت الآيات السابقة مجموعة هامة من الأحكام الإسلامية،

مختصر الامثل، ج 1، ص: 146

تناولت هذه الآية موضوع الدعاء باعتباره أحد وسائل الإرتباط بين العباد والمعبود سبحانه. هذه الآية تخاطب النبي صلى الله عليه و آله وتقول: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنّى فَإِنّى قَرِيبٌ».

إنّه أقرب مما تتصورون، أقرب منكم إليكم، بل «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» «1».

ثم تقول الآية: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ». إذن «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ».

ويلفت النظر في الآية، أنّ اللَّه سبحانه أشار إلى ذاته المقدسة سبع مرات، وأشار إلى عباده سبعاً! مجسداً بذلك غاية لطفه وقربه وإرتباطه بعباده.

الدعاء نوع من العبادة والخضوع والطاعة، والإنسان- عن طريق الدعاء- يزداد إرتباطاً باللَّه تعالى، وكما أنّ كل العبادات ذات أثر تربوي كذلك الدعاء له مثل هذا الأثر.

والقائلون أنّ الدعاء تدخّل في أمر اللَّه وأنّ اللَّه يفعل ما يشاء، لا يفهمون أنّ المواهب الإلهية تغدق على الإنسان حسب استعداده وكفاءته ولياقته، وكلما ازداد استعداده ازداد ما يناله من مواهب.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ عند اللَّه عزّ وجلّ منزلة لا تنال إلّابمسألة».

ويقول أحد العلماء: «حينما ندعو فإنّنا نربط أنفسنا بقوّة لا متناهية تربط جميع الكائنات مع بعضها» «2».

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا

الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَ لَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

______________________________

(1) سورة ق/ 16.

(2) آئين زندگي (فارسي)/ 156.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 147

سبب النّزول

روي في تفسير مجمع البيان أنّ الأكل كان محرّماً في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراماً بالليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقال له مطعم بن جيبر ... شيخاً ضعيفاً، وكان صائماً، فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر، فلمّا انتبه قال لأهله: قد حُرّم عليّ الأكل في هذه الليلة. فلمّا أصبح حضر حفر الخندق فاغمي عليه، فرآه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فرقّ له.

وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّاً في شهر رمضان، فأنزل اللَّه هذه الآية فأحلّ النكاح بالليل في شهر رمضان، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر.

التّفسير

رخصة في أحكام الصوم: مر بنا في سبب نزول الآية أنّ النكاح كان محرماً في ليالي شهر رمضان إضافة إلى نهاره، وأنّ الأكل والشرب كانا محرمين في الليل أيضاً بعد النوم، ولعل ذلك كان اختباراً للجيل الإسلامي الأول وإعداداً له كي يتقبل أحكام الصوم الثابتة. الآية الكريمة تتضمن أربعة أحكام إسلامية في حقل الصوم والإعتكاف. تقول أوّلًا: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ» «1».

ثم تذكر الآية سبب الحكم فتقول: «هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ».

واللباس يحفظ الجسم من الحر والبرد وأنواع الأخطار من جهة، ويستر عيوب الجسم من جهة اخرى، أضف إلى أنّه زينة للإنسان، وتشبيه الزوج باللباس يشمل كل هذه الجوانب.

ثم يبين القرآن سبب تغيير هذا القانون الإلهي ويقول: «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ

تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ». فاللَّه سبحانه وسّع عليكم الأمر وخففه، وجعل فيه رخصة بلطفه ورحمته، كي لا تتلوثوا بالذنوب.

«فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ».

ثم تبين الآية الحكم الثاني وتقول: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ».

وتبين الآية الحكم الثالث: «ثُمَّ أَتِمُّوا الصّيَامَ إِلَى الَّيلِ».

______________________________

(1) «الرفث»: هو الحديث المكشوف عن المسائل الجنسية، واستعير لمعنى الجماع كما في الآية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 148

هذه الجملة تأكيد على حظر الأكل والشرب والنكاح في أيام شهر رمضان للصائمين، وتشير إلى أنّ الحظر يبدأ من طلوع الفجر وينتهي عند الليل.

تطرح الآية بعد ذلك الحكم الرابع وتقول: «وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ». هذا الحكم يرتبط بالاعتكاف، وهو شبيه بالاستثناء من الحكم السابق، ففي الاعتكاف الذي لا تقلّ مدته عن ثلاثة أيام، لا يحق للمعتكف الصائم أن يباشر زوجته لا في الليل ولا في النهار.

في ختام الآية عبارة تشير إلى كل ما ورد فيها من أحكام تقول: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا». لأنّ الإقتراب من الحدود يبعث على الوسوسة، وقد يدفع الإنسان إلى تجاوز الحدود والوقوع في الذنب.

نعم، «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ».

التقوى هي الأوّل والآخر: في أول آية ترتبط بأحكام الصوم ورد ذكر التقوى على أنّها الهدف النهائي للصوم، وفي آخر آية أيضاً وردت عبارة «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» وهذا يؤكد أنّ كل مناهج الإسلام وسيلة لتربية الروح والتقوى والفضيلة والإرادة والإحساس بالمسؤولية.

وَ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) المبادي ء الأوّلية للإقتصاد الإسلامي: هذه الآية الكريمة تشير إلى أحد الاصول المهمة والكلية للاقتصاد الإسلامي الحاكمة على مجمل المسائل الاقتصادية،

بل يمكن القول إنّ جميع أبواب الفقه الإسلامي في دائرة الاقتصاد تدخل تحت هذه القاعدة وهو قوله تعالى: مختصر الامثل ج 1 169

«وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ».

إنّ مفهوم الآية عام يستوعب كل تصرف في أموال الآخرين من غير الطريق المشروع مشمولًا لهذا النهي الإلهي، وكذلك فإنّ جميع المعاملات التي لا تتضمن هدفاً سليماً ولا ترتكز على أساس عقلائي فهي مشمولة لهذه الآية.

والملفت للنظر أنّ بعض المفسرين قالوا: إنّ جعل هذه الآية مورد البحث بعد آيات الصوم (آيات 182- 187) علامة على وجود نوع من الإرتباط بينهما، فهناك نهي عن الأكل والشرب من أجل أداء عبادة إلهيّة، وهنا نهي عن أكل أموال الناس بالباطل الذي يعتبر أيضاً نوع من الصوم ورياضة للنفوس، فهما في الواقع فرعان لأصل التقوى. تلك

مختصر الامثل، ج 1، ص: 149

التقوى التي وردت في الآية بعنوان الهدف النهائي للصوم «1».

إنّ التعبير ب (الأكل) يعطي معنىً واسعاً حيث يشمل كل أنواع التصرفات، أي أنّه تعبير كنائي عن أنواع التصرّفات، و (الأكل) هو أحد المصاديق البارزة له.

ثم يشير في ذيل الآية إلى نموذج بارز لأكل المال بالباطل والذي يتصور بعض الناس أنّه حق وصحيح لأنّهم أخذوه بحكم الحاكم فيقول: «وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ».

وباء الرشوة: من الأوبئة الاجتماعية التي ابتلي بها البشر منذ أقدم العصور وباء الإرتشاء، وكانت هذه الظاهرة المرضيّة دوماً من موانع إقامة العدالة الاجتماعية ومن عوامل جرّ القوانين لصالح الطبقات المقتدرة، بينما سُنت القوانين لصيانة مصالح الفئات الضعيفة من تطاول الفئات القوية عليهم.

ولهذا شدد الإسلام على مسألة الرشوة وأدانها وقبّحها واعتبرها من الكبائر.

جدير بالذكر أنّ قبح الرشوة قد يدفع بالراشين إلى أن يغطّوا رشوتهم بقناع

من الأسماء الاخرى كالهدية ونظائرها، ولكن هذه التغطية لا تغيّر من ماهية العمل شيئاً، والأموال المستحصلة عن هذا الطريق محرمة غير مشروعة.

وهذا «الأشعث بن قيس» يتوسل بهذه الطريقة، فيبعث حلوى لذيذة إلى بيت أمير المؤمنين علي عليه السلام أملًا في أن يستعطف الإمام تجاه قضيةٍ رفعها إليه، ويسمي ما قدّمه هدية، فيأتيه جواب الإمام صارماً قاطعاً، قال عليه السلام: «هبلتك الهبول، أعن دين اللَّه أتيتني لتخدعني؟ ... واللَّه لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللَّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعليّ ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى «2».

ذم الإسلام الرشوة حتى أنّ أحد الولاة تسلم بعنوان هدية فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «هلا جلست في دارك لتأتيك هدية»؟ «3»

أين المسلمين اليوم من هذه التعاليم الدقيقة الصارمة الهادفة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بشكل حقيقي عملي في الحياة؟!

______________________________

(1) تفسير في ظلال القرآن 1/ 252.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 224.

(3) الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية 1/ 184.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 150

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

سبب النّزول

روي في تفسير مجمع البيان أنّ معاذ بن جبل قال: يا رسول اللَّه! إنّ اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلّة. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية، لتقول إنّ للأهلّة فوائد مادية ومعنوية في نظام الحياة الإنسانية.

التّفسير

كما اتضح من سبب نزول هذه الآية الشريفة من أنّ جماعة سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن

الهلال وما يحصل عليه من تغييرات متدرجة وعن أسبابها ونتائجها، فيجيب القرآن الكريم على سؤالهم بقوله: «يَسَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ». «أهلّة»: جمع «هلال» ويعني القمر في الليلة الاولى والثانية من الشهر.

ثم تقول الآية: «قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجّ».

فما يحصل عليها من تغييرات منتظمة تدريجية، يجعل منها تقويماً طبيعياً يساعد الناس على تنظيم امورهم الحَيَويّة القائمة على التوقيت وتحديد الزمن، وكذلك على تنظيم امور عباداتهم المحددة بزمان معين كالحج والصوم، والهلال هو المرجع في تعيين هذا الزمان، وبالاستهلال ينظّم الناس امور عبادتهم وشؤون دنياهم.

من امتيازات قوانين الإسلام أنّ أحكامه قائمة عادةً على المقاييس الطبيعية لأنّ هذه المقاييس متوفرة لدى جميع الناس، ولا يؤثر عليها مرور الزمان شيئاً.

ثم إنّ القرآن أشار في ذيل هذه الآية وبمناسبة الحديث عن الحج وتعيين موسمه بواسطة الهلال الذي ورد في أول الآية، إلى إحدى عادات الجاهليين الخرافية في مورد الحج ونهت الآية الناس عن ذلك، حيث تقول: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

وهذه الآية لها معنىً أوسع وأشمل، وذلك أنّ الإنسان عندما يقدم على أي عمل من

مختصر الامثل، ج 1، ص: 151

الأعمال سواء كان دينياً أو دنيوياً لابد له من أن يرده من طريق صحيح لا من الطرق المنحرفة، فالعبادة في الحج أيضاً لابد أن يبتدأ الإنسان بها في الوقت المقرر وتعيينه بواسطة الهلال.

جملة «وَلَيْسَ الْبِرُّ» يمكنها أن تكون إشارة إلى نكتة لطيفة اخرى أيضاً وهي أنّ سؤالكم عن الأهلّة بدل سؤالكم عن المعارف الدينية بمثابة مَن يترك الدخول إلى داره من الباب الأصلي ثم يرده من ظهر البيت فهو عمل مستقبح ومستهجن.

أسئلة مختلفة من رسول اللَّه صلى الله

عليه و آله: وردت في (15) مورد من الآيات القرآنية جملة «يسئلونك» وهذه علامة على أنّ الناس يسألون من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مسائل مختلفة كراراً ومراراً، والملفت للنظر أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مضافاً إلى أنّه لا ينزعج من هذه الأسئلة، فإنّه يستقبلهم بصدر رحب، ويجيب على أسئلتهم من خلال الآيات القرآنية.

إنّ السؤال هو أحد حقوق الناس في مقابل القادة، وهذا الحق مشروع حتى للأعداء أيضاً، فبإمكانهم طرح اسئلتهم بشكل معقول. فالسؤال مفتاح حل المشكلات. والسؤال بوّابة العلوم. والسؤال وسيلة انتقال المعارف المختلفة.

وأساساً فإنّ طرح الأسئلة المختلفة في كل مجتمع علامة على التحرك الفكري والحضاري والثقافي للناس، ووجود كل هذه الأسئلة في عصر النبي صلى الله عليه و آله هو علامة على تحرك أفكار الناس في ذلك المحيط ضمن تعليمات القرآن الكريم والدين الإسلامي.

وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَ لَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: هذه أوّل آية نزلت في القتال، فلمّا نزلت كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقاتل من قاتله ويكفّ عمّن كفّ عنه حتى نزلت «اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» الذي أجاز جهاد وقتال جميع المشركين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 152

التّفسير

القرآن أمر في هذه الآية الكريمة بمقاتلة الذين يشهرون السلاح بوجه

المسلمين. تقول الآية: «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم».

عبارة «فِى سَبِيلِ اللَّهِ» توضّح الهدف الأساسي من الحرب في المفهوم الإسلامي، فالحرب ليست للإنتقام ولا للعلو في الأرض والتزعم، ولا للاستيلاء على الأراضي، ولا للحصول على الغنائم، وهذا الهدف المقدس يضع بصماته على جميع أبعاد الحرب في الإسلام ويصبغ كيفيّة الحرب وكميّتها ونوع السلاح والتعامل مع الأسرى وأمثال ذلك بصبغة «في سبيل اللَّه».

ثم توصي الآية الشريفة بضرورة رعاية العدالة حتى في ميدان القتال وفي مقابل الأعداء وتقول: «وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ».

أجل، فالحرب في الإسلام للَّه وفي سبيل اللَّه، ولا يجوز أن يكون في سبيل اللَّه اعتداء ولا عدوان، لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الاصول الخلقية في الحرب، وهو ما تفتقر إليه حروب عصرنا أشد الإفتقار.

الإمام عليّ عليه السلام يقول لأفراد جيشه وذلك قبل شروع القتال في صفين: «لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم فإنّكم بحمد اللَّه على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة اخرى لكم عليهم. فإذا كانت الهزيمة بإذن اللَّه فلا تقتلوا مدبراً ولا تُصيبوا مُعوراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النّساء بأذًى وإن شتمن أعراضكم وسببن امراءكم» «1».

في الآية التالية التي تعتبر مكملة للأمر الصادر في الآية السابقة تتحدث هذه الآية بصراحة أكثر وتقول: إنّ هؤلاء المشركين هم الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وصبّوا عليهم ألوان الأذى والعذاب، فيجب على المسلمين أن يقتلوهم أينما وجدوهم، وأنّ هذا الحكم هو بمثابة دفاع عادل ومقابلة بالمثل، لأنّهم قاتلوكم وأخرجوكم من مكة «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ».

ثم يضيف اللَّه تعالى: «وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ».

«الفتنة»: من «فَتْن» تعني وضع الذهب في النار للكشف عن درجة جودته وإصالته،

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 14.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 153

فلهذا

استعملت في كل مورد يكون فيه نوع من الشدة، مثل الامتحان الذي يقترن عادةً بالشدة ويتزامن مع المشكلات، والعذاب أيضاً نوع آخر من الشدة، وكذلك المكر والخديعة التي تُتّخذ عادةً بسبب أنواع الضغوط والشدائد، وكذلك الشرك وإيجاد المانع في طريق إيمان الناس حيث يتضمن كل ذلك نوع من الشدة والضغط.

وأنّ عبادة الأوثان وما يتولد منها من أنواع الفساد الفردي والاجتماعي كانت سائدة في أرض مكة المكرمة حيث لوّثت بذلك الحرم الإلهي الآمن، فكان فسادها أشد من القتل فلذلك تقول هذه الآية مورد البحث مخاطبةً المسلمين: لا ينبغي لكم ترك قتال المشركين خوفاً من سفك الدماء فإنّ عبادة الأوثان أشد من القتل.

ثم تشير الآية إلى مسألة اخرى في هذا الصدد فتقول: إنّ على المسلمين أن يحترموا المسجد الحرام دائماً وأبداً، ولذلك لا ينبغي قتال الكفار عند المسجد الحرام، إلّاأن يبدؤكم بالقتال «وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ».

«فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ». لأنّهم عندما كسروا حرمة هذا الحرم الإلهي الآمن فلا معنى للسكوت حينئذ ويجب مقابلتهم بشدة لكي لا يسيئوا الاستفادة من قداسة الحرم وإحترامه.

ولكن بما أنّ الإسلام في منهجه التربوي للناس يقرن دائماً الإنذار بالبشارة معاً، والثواب والعقاب كذلك، لكي يؤثر في المسلمين تأثيراً سليماً، فلذلك فسح المجال في الآية التالية للعودة والتوبة فقال: «فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

الآية التالية تشير إلى هدف الجهاد في الإسلام وتقول: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَاتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ لِلَّهِ».

ثم تضيف: فإن ترك هؤلاء المشركون عقائدهم الباطلة وأعمالهم الفاسدة فلا تتعرضوا لهم «فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ».

وحسب الظاهر ذُكر في هذه الآية ثلاثة أهداف للجهاد وهي:

1- إزالة الفتنة.

2- محو الشرك وعبادة الأوثان.

3- التصدّي للظلم والعدوان.

مسألة الجهاد

في الإسلام: إنّ الحكّام الطواغيت والفراعنة وأمثالهم من النمروديين

مختصر الامثل، ج 1، ص: 154

والقارونيين الذين يعترضون دائماً على دعوة الأنبياء الإصلاحية ويقفون بوجهها ولا يرضون إلّابإزالة الدين الإلهي من الوجود يتضح أنّ على المؤمنين والمتدينين في الوقت الّذي يعتمدون على العقل والمنطق والأخلاق في تفاعلهم الإجتماعي مع الآخرين عليهم أن يتصدّوا لهؤلاء الظالمين والطّواغيت ويشقّوا طريقهم بالجهاد وتحطيم هذه الموانع والعوائق التي يقيمها حكّام الجور في طريقهم. وأساساً فإنّ الجهاد هو قانون عام في عالم الأحياء، فجميع الكائنات الحية تجاهد عوامل الفناء من أجل بقائها.

وإنّ من افتخاراتنا نحن المسلمين أنّ ديننا يقرن المسائل الدينية بالحكومة ويعتمد على الجهاد كأحد أركان المنظومة العقائدية لهذا الدين، غاية الأمر يجب ملاحظة أهداف هذا الجهاد الإسلامي، وهذا هو الذي يفصل بيننا وبين الآخرين.

وكما تقدم في الآيات أعلاه أنّ الجهاد في الإسلام يتعقب عدة أهداف مباحة:

1- الجهاد من أجل إطفاء الفتن: وبعبارة اخرى الجهاد الابتدائي من أجل التحرير، فنحن نعلم أنّ اللَّه عزّ وجلّ قد أنزل على البشرية شرائع وبرامج لسعادة البشر وتحريرهم وتكاملهم وإيصالهم إلى السعادة والرفاه، وأوجب على الأنبياء عليهم السلام أن يبلّغوا هذه الشرائع والإرشادات إلى الناس، فلو تصور أحد الأفراد أو طائفة من الناس أنّ إبلاغ هذه الشرائع للناس سوف يعيقه عن نيل منافعه الشخصية وسعى لإيجاد الموانع ووضع العصي في عجلات الدعوة الإلهية، فللأنبياء الحق في إزالة هذه الموانع بطريقة المسالمة أوّلًا وإلّا فعليهم استخدام القوة في إزالة هذه الموانع عن طريق الدعوة لنيل الحرية في التبليغ وليحرر الناس من قيود الأسر والعبودية الفكرية والاجتماعية.

2- الجهاد الدفاعي: إنّ جميع القوانين السماوية والبشرية تبيح للفرد أو الجماعة الدفاع عن النفس والاستفادة مما وسعهم من قوة في

هذا السبيل، ويسمى مثل هذا الجهاد ب (الجهاد الدفاعي) ومن ذلك غزوة الأحزاب واحد ومؤتة وتبوك وحنين ونظائرها من الحروب الإسلامية التي لها جنبة دفاعية.

3- الجهاد لحماية المظلومين: إنّ حماية المظلومين في مقابل عدوان الظالمين هو أصل في الإسلام يجب مراعاته، حتى لو أدّى الأمر إلى الجهاد واستخدام القوة، فالإسلام لا يرضى للمسلمين الوقوف متفرجين على ما يرد على المظلومين في العالم، وهذا الأمر من الأوامر المهمة في الشريعة الإسلامية المقدسة التي تحكي عن حقانية هذا الدين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 155

4- الجهاد من أجل دحر الشرك وعبادة الأوثان: الإسلام يدعوا البشرية إلى اعتناق الدين الخاتم الأكمل وهو يحترم مع ذلك حرية العقيدة، وبذلك يُعطي أهل الكتاب الفرصة الكافية للتفكير في أمر إعتناق الرسالة الخاتمة، فإن لم يقبلوا بذلك فإنّه يعاملهم معاملة الأقلية المعاهدة (أهل الذمة) ويتعايش معهم تعايشاً سلميّاً ضمن شروط خاصة بسيطة وميسورة، لكن الشرك والوثنية ليسا بدين ولا عقيدة ولا يستحقان الإحترام، بل هما نوع من الخرافة والحمق والانحراف ونوع من المرض الفكري والأخلاقي الذي ينبغي أن يستأصل مهما كلّف الثمن.

ومما تقدم من ذكر أهداف الجهاد يتضح أنّ الإسلام أقام الجهاد على اسس منطقية وعقلية، ولكننا نعلم أنّ أعداء الإسلام وخاصة القائمون على الكنيسة والمستشرقين المغرضين سعوا كثيراً لتحريف الحقائق ضد مسألة الجهاد الإسلامي، واتّهموا الإسلام باستعمال الشدة والقوة والسيف من أجل تحميل الإيمان به وتهجمّوا كثيراً على هذا القانون الإسلامي.

والظاهر أنّ خوفهم وهلعهم إنّما هو من تقدم الإسلام المضطرد في العالم بسبب معارفه السّامية وبرنامجه السليم، ولهذا سعوا لإعطاء الإسلام صبغة موحشة كيما يتمكنوا من الوقوف أمام انتشار الإسلام.

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَ الْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا

اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) احترام الأشهر الحُرم والمقابلة بالمثل: كان المشركون على علم بأنّ الإسلام يحضر الحرب في الأشهر الحرم (ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ورجب) لذلك أرادوا أن يشنّوا هجوماً مباغتاً على المسلمين في هذه الأشهر الحُرم متجاهلين حرمتها ظانين أنّ المسلمين ممنوعون من المواجهة. الآية الكريمة تكشف مؤامرة المشركين وتحمّل المسلمين مسؤولية مواجهة العدوان حتى في الأشهر الحُرم فتقول الآية: «الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ». أي:

أنّ الأعداء لو كسروا حرمة واحترام هذه الأشهر الحُرم وقاتلوكم فيها فلكم الحق أيضاً في المقابلة بالمثل، لأنّ «وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 156

«حُرُمات»: جمع «حُرمة» وتعني الشي ء الذي يجب حفظه واحترامه، وقيل للحرم: حرم لأنّه مكان محترم ولا يجوز هتكه، ويقال الأعمال الممنوعة والقبيحة حرام لهذا السبب، كي لا تخامر أذهان المشركين فكرة انتهاك حرمة هذه الشهور.

ثم تشرّع الآية حكماً عاماً يشمل ما نحن فيه وتقول: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ».

فالإسلام- وخلافاً للمسيحية الحالية التي تقول (إذا لطمك شخص على خدّك الأيمن فأدِر له الأيسر) «1»- لا يقول بمثل هذا الحكم المنحرف الذي يبعث على جرأة المعتدي وتطاول الظالم، وحتّى المسيحيين في هذا الزمان لا يلتزمون مطلقاً بهذا الحكم أيضاً، ويردون على كل عدوان مهما كان قليلًا بعدوان أشد، وهذا أيضاً مخالف لدستور الإسلام في الرّد، فالإسلام يقول: يجب التصدّي للظالم والمعتدي، ويُعطي الحق للمظلوم والمُعتدى عليه المقابلة بالمثل، فالاستسلام في منطق الإسلام يعني الموت، والمقاومة والتصدّي هي الحياة.

وقوله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» إشارة إلى أنّ اللَّه لا يهمل المتقي في خِضمّ المشكلات، بل يعينه ويرعاه.

وَ أَنْفِقُوا

فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) هذه الآية تكمّل ما مرّ من آيات الجهاد فكما أنّ الجهاد بحاجة إلى الرجال المخلصين والمجرّبين كذلك بحاجة إلى المال والثروة أي بحاجة إلى الاستعداد البدني والمعنوي والمعدّات الحربية، صحيح أنّ العامل الحاسم في تقرير مصير الحرب هو الرجال بالدرجة الاولى، ولكن الجندي بحاجة إلى أدوات الحرب (أعم من السلاح والأدوات ووسائل النقل والغذاء والوسائل الصحية) فإنّه بدونها لا يمكنه أن يفعل شيئاً. من هنا أوجب الإسلام تأمين وسائل الجهاد مع الأعداء، ومن ذلك ما ورد في الآية أعلاه حيث تأمر بصراحة: «وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ».

وهذا المعنى يتأكد خاصة في عصر نزول هذه الآيات حيث كان المسلمون في شوق شديد إلى الجهاد كما يحدّثنا القرآن عن اولئك الّذين أتوا النبي يطلبون منه السلاح ليشاركوا

______________________________

(1) انجيل متّى الباب 5، الرقم 39- 42.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 157

في ساحة الجهاد وإذ لم يجدوا ذلك عادوا مهمومين محزونين «تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ» «1».

فعبارة «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» بالرغم من أنّها واردة في ترك الإنفاق في الجهاد الإسلامي، ولكن مفهومها واسع يشمل موارد اخرى كثيرة، منها أنّ الإنسان ليس له الحق في اتخاذ الطرق الخطرة للسفر (سواء من الناحية الأمنية أو بسبب العوامل الجوية أو غير ذلك) دون أن يتخذ لنفسه الاحتياطات اللازمة لذلك، كما لا يجوز له تناول الغذاء الذي يحتمل قوياً أن يكون مسموماً وحتى أن يرد ميدان القتال والجهاد دون تخطيط مدروس، ففي جميع هذه الموارد الإنسان مسؤول عن نفسه فيما لو ألقى بها في الخطر بدون عذر مقبول.

وتصور

بعض الجهلاء من أنّ كل ألوان الجهاد الابتدائي هو إلقاء النفس في التهلكة وحتى أنّهم أحياناً يعتبرون قيام سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء مصداق لهذه الآية، وهذا ناشى ء من الجهل المطبق وعدم درك مفهوم الآية الشريفة، لأنّ إلقاء النفس بالتهلكة يتعلق بالموارد التي لا يكون فيها الهدف أثمن من النفس وإلّا فلابد من التضحية بالنفس حفاظاً على ذلك الهدف المقدس كما صنع الإمام الحسين عليه السلام وجميع الشهداء في سبيل اللَّه كذلك.

وفي آخر الآية أمر بالإحسان ويقول: «وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ».

أمّا ما هو المراد بالإحسان هنا؟ فهناك عدة احتمالات في كلمات المفسرين، منها: أنّ المراد هو حسن الظن باللَّه (فلا تظنّوا أنّ إنفاقكم هذا يؤدي إلى الاختلال في معاشكم)، والآخر هو الاقتصاد والاعتدال في مسألة الإنفاق، واحتمال ثالث هو دمج الإنفاق مع حسن الخلق للمحتاجين بحيث يتزامن مع البشاشة وإظهار المحبة وتجنّب أي لون من ألوان المنة والأذى للشخص المحتاج، ولا مانع من أن يكون المراد في مفهوم الآية جميع هذه المعاني الثلاث.

الإنفاق مانع عن انهيار المجتمع: إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها وردت في ذيل آيات الجهاد، ولكنها تبين حقيقة كلية واجتماعية، وهي أنّ الإنفاق بشكل عام سبب لنزاهة المجتمع من المفاسد المدمّرة، لأنّه حينما يترك أفراد المجتمع الإنفاق وتتراكم الثروة في أحد أقطاب

______________________________

(1) سورة التوبة/ 92.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 158

المجتمع تنشأ طبقة محرومة بائسة، ولا يلبث أن يحدث انفجار عظيم فيه يحرق الأثرياء وثروتهم ويتضح من ذلك إرتباط الإنفاق بابعاد التهلكة. ومن هنا فالإنفاق يعود بالخير على الأثرياء قبل أن يصيب خيره المحرومين، لأنّ تعديل الثروة يصون الثروة كما قال الإمام علي عليه السلام: «حصّنوا أموالكم بالزّكاة» «1».

وَ

أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) بعض أحكام الحج المهمة: في هذه الآية ذُكرت أحكام كثيرة:

1- في مطلع الآية تأكيداً على أنّ أعمال العمرة والحج ينبغي أن تكون للَّه وطلب مرضاته فقط «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ». من هنا لا ينبغي أن يشوب أعمال الحج نيّة اخرى غير الدافع الإلهي وكذلك الإتيان بالعمل العبادي هذا كاملًا وتاماً بمقتضى جملة «وَأَتِمُّوا».

2- ثم إنّ الآية تشير إلى الأشخاص الذين لا يحالفهم التوفيق لأداء مناسك الحج والعمرة بعد لبس ثياب الإحرام بسبب المرض الشديد أو خوف العدو وأمثال ذلك، فتقول:

«فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ». فمثل هذا الشخص عليه أن يذبح ما تيّسر له من الهدي ويخرج بذلك من إحرامه.

3- ثم إنّ الآية الشريفة تشير إلى أمر آخر من مناسك الحج فتقول: «وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُم حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ».

4- ثم تقول الآية: «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ».

«نُسُك»: في الأصل جمع «نسيكة» بمعنى حيوان مذبوح، وهذه المفردة جاءت بمعنى

______________________________

(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 146.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 159

العبادة أيضاً. هذا الاصطلاح يأتي في أعمال الحج و «نسيكة» بمعنى «ذبيحة».

إنّ مثل هذا الشخص مخيّراً بين ثلاث

امور (الصوم والصدقة أو ذبح شاة).

5- ثم تضيف الآية: «فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ».

وهذه إشارة إلى أنّه يجب الذبح في حج التمتع ولا فرق في هذا الهدي بين أن يكون من الإبل أو من البقر أو من الضّأن دون أن يخرج من الإحرام.

6- ثم إنّ الآية تبيّن حكم الأشخاص غير القادرين على ذبح الهدي في حج التمتع فتقول:

«فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ». فعلى هذا فلو لم يجد الإنسان أضحيةً أو أنّ وضعه المالي لا يطيق ذلك فيجب عليه جبران ذلك بصيام عشرة أيام.

إنّ التعبير بكلمة (كاملة) إشارة إلى أنّ صوم الأيام العشرة يحلّ محل الهدي بشكل كامل، ولهذا ينبغي للحجاج أن يطمأنّوا لذلك وأنّ جميع ما يترتب على الأضحية من ثواب وبركة سوف يكون من نصيبهم أيضاً.

7- ثم إنّ الآية الشريفة تتعرض إلى بيان حكم آخر وتقول: «ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ». فعلى هذا لا يكون لأهل مكة أو الساكنين في أطرافها حج التمتع، فوظيفته حج القِران أو الإفراد (وتفصيل هذا الموضوع مذكور في الكتب الفقهية).

وبعد بيان هذه الأحكام السبعة تأمر الآية في ختامها بالتقوى وتقول: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ». ولعل هذا التأكيد يعود إلى أنّ الحج عبادة إسلامية هامة ولا ينبغي للمسلمين التساهل في أداء مناسكه وأنّ ذلك سيؤدّي إلى اضرار كثيرة، وأحياناً يسبّب فساد الحج وزوال بركاته المهمة.

بحثان

1- أهمية الحج بين الواجبات الإسلامية: يُعتبر الحج من أهم العبادات التي شُرّعت في الإسلام ولها آثار وبركات كثيرة جدّاً، فهو مصدر عظمة الإسلام وقوّة الدين واتحاد المسلمين، والحج هو الشعيرة العبادية التي ترعب

الأعداء وتضخ في كل عام دماً جديداً في شرايين المسلمين.

والحج هو تلك العبادة التي أسماها أمير المؤمنين عليه السلام ب (علم الإسلام وشعاره) وقال عنها في وصيته في الساعات الأخيرة من حياته: «اللَّه اللَّه في بيت ربّكم لا تُخَلّوه ما بقيتم فإنّه إن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 160

تُرك لم تُناظَروا» «1». أي أنّ البلاء الإلهي سيشملكم دون إمهال. 2- أقسام الحج: لقد قسّم الفقهاء العظام وبإلهام من الآيات والأحاديث الشريفة عن النبي وآله: الحج إلى ثلاثة أقسام: حج التمتع، حج القِران، وحج الإفراد.

أمّا حج التمتع فيختص بمن كان على مسافة 48 ميلًا فصاعداً من مكة (16 فرسخ وما يعادل 96 كيلومتر تقريباً)، وأمّا حج القِران والإفراد فيتعلقان بمن كان أدنى من هذه الفاصلة. ففي حج التمتع يأتي الحاج بالعمرة أوّلًا، ثم يحلّ من إحرامه وبعد ذلك يأتي بمراسم الحج في أيامه المخصوصة، ولكن في حج القِران والإفراد يبدأ أوّلًا بأداء مراسم الحج، ثم بعد الانتهاء منها يشرع بمناسك العمرة مع تفاوت أنّ الحاج في حج القِران يأتي ومعه هديه، أمّا في حج الإفراد فلا هدي فيه.

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَ لَا فُسُوقَ وَ لَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَ اتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَ اذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) تواصل هذه الآيات الشريفة بيان أحكام الحج وزيارة بيت اللَّه الحرام

وتقرر طائفة من التشريعات الجديدة:

1- تقول الآية: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ».

والمراد بهذه الأشهر: هي شوال، ذي القعدة، ذي الحجة.

2- ثم تأمر الآية الكريمة فيمن أحرم إلى الحج وشرع بأداء مناسك الحج وتقول: «فَمَن فَرَضَ فِيْهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجّ».

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 47، (وصيّة الإمام لابنيه الحسن والحسين عليهما السلام).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 161

«رفث»: بالأصل بمعنى الكلام والحديث المتضمن ذكر بعض الامور القبيحة أعم من الامور الجنسية أو مقدماتها، ثم بات كناية عن الجماع.

«فسوق»: بمعنى الذنب والخروج من طاعة اللَّه.

و «جدال»: تأتي بمعنى المكالمة المقرونة بالنزاع، وهي في الأصل بمعنى شدّ الحبل ولفّه، ومن هنا استعملت في الجدال بين اثنين، لأنّ كلّاً منهما يشدّ الكلام ويحاول إثبات صحة رأيه ونظره.

وهكذا ينبغي أن تكون أجواء الحج طاهرة من التمتعات الجنسية وكذلك من الذنوب والجدال العقيم وأمثال ذلك، لأنّها أجواء عبادية تتطلّب الإخلاص وترك اللذائذ المادية وتقتبس روح الإنسان من ذلك المحيط الطاهر قوة جديدة تسوقها إلى عالم آخر بعيداً عن عالم المادة، وفي نفس الوقت تقوي الالفة والإتحاد والإتفاق والاخوة بين المسلمين باجتناب كل ما ينافي هذه الامور.

3- بعد ذلك تعقب الآية وتبين المسائل المعنوية للحج وما يتعلق بالإخلاص وتقول:

«وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ».

وهذا أوّل لطف إلهي يناله الصالحون، فالمرحلة الاولى من لذّة الإنسان المؤمن هي إحساسه بأنّ ما يعمله في سبيل اللَّه إنّما هو بعين اللَّه، ويا لها لذة.

وتضيف الآية: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى .

والعبارة تنطوي على توعية المسلمين بالنسبة لعطاء الحج المعنوي وتفتّح أبصارهم على ما في ساحة الحج من معان عميقة تشدّ الإنسان بتاريخ الرسل والأنبياء وبمشاهد تضحية إبراهيم بطل التوحيد، وبمظاهر عظمة اللَّه سبحانه ممّا لا

يوجد في مكان آخر، ولابد للحاج أن يستلهم من هذه الساحه زاداً يعينه على مواصلة مسيرته نحو اللَّه فيما بقي من عمره.

«وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ».

الآية التالية ترفع بعض الإشتباهات في مسألة الحج وتقول: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبّكُمْ».

لقد كان التعامل الاقتصادي بكافة ألوانه محضوراً في موسم الحج عند الجاهليين، وكانوا يعتقدون ببطلان الحج إذا اقترن بالنشاط الاقتصادي، فالآية مورد البحث تعلن بطلان هذا الحكم الجاهلي وتؤكد أنّه لا مانع من التعامل الاقتصادي والتجاري في موسم الحج،

مختصر الامثل، ج 1، ص: 162

وتسمح بابتغاء فضل اللَّه في هذا الموسم عن طريق العمل والكد. وهذا مضافاً إلى أنّ سفر المسلمين من كل فجّ عميق إلى بيت اللَّه الحرام لعقد مؤتمر الحج العظيم يستطيع أن يكون منطلقاً لتحرك اقتصادي عام في المجتمعات الإسلامية.

ثم تعطف الآية الشريفة على ما تقدم من مناسك الحج وتقول: «فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَيكُمْ وَإِن كُنتُم مِّنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالّينَ».

ثم تقول الآية في حديثها هذا: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ». فهذا المقطع يتضمّن أمراً بالإفاضة أي بالإندفاع والحركة من المشعر الحرام إلى أرض مِنى.

ففي نهاية الآية تُعطي أمراً بالاستغفار والتوبة وتقول: «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

ففي هذا المقطع من الآيات إشارة إلى ثلاث مواقف من مواقف الحج (عرفات) وهي صحراء وتقع على بعد 20 كيلومتراً تقريباً من مكّة، ثم الوقوف ب (المشعر الحرام أو المزدلفة) والثالث أرض (منى وهي محل ذبح الأضاحي ورمي الجمرات وحلّ الإحرام وأداء مناسك العيد.

بحثان

1- أوّل موقف للحجيج: تقدم أنّ حجاج بيت اللَّه الحرام يتجهون بعد أداء مناسك العمرة نحو أداء مناسك الحج، وأوّل موقف يقفون فيه هو في

«عرفات»، وفي سبب تسمية هذه الأرض بهذا الاسم هي أنّ هذه الأرض المشرفة التي تبدأ منها اولى مراحل الحج محيط مناسب جدّاً لمعرفة اللَّه تعالى. والحاج في هذا الموقف يشعر حقّاً بانشداد روحي ومعنوي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات.

الحجيج في هذه الأرض القاحلة متجمعون بشكل واحد وبزيّ واحد، قد هربوا من بريق الحياة وزخرفها وصخبها وضجيجها ولاذوا بهذه الأرض المشرفة المفعمة بذكريات الرسالات السماوية، حيث يحمل نسيمها نداء جبرائيل وصوت الخليل ودعوة النبي الخاتم صلى الله عليه و آله وصحبه المجاهدين، وتنطق أرضها بصور الجهاد والتضحية والإنقطاع إلى اللَّه على مرّ التاريخ، كأنّ هذه الأرض نافذة تشرف على عالم ما وراء الطبيعة، يرتوي فيها الإنسان من منهل العرفان، وينساق مع تسبيح الخليقة العام، بل يعود أيضاً إلى ذاته التي انفصل عنها زمناً طويلًا فيعرف نفسه، نعم إنّها «عرفات» وما أجمل هذا الاسم!

2- درس الوحدة والاتحاد: جاء في بعض الروايات الشريفة أنّ قبائل قريش كانت

مختصر الامثل، ج 1، ص: 163

ترى لنفسها مكانة دينية خاصة بين العرب، ومن هنا فإنّهم تركوا الوقوف في عرفات لأنّها خارج الحرم المكي.

الآية الكريمة تبطل كل هذه الأوهام وتأمر بوقوف الحجاج جميعاً في عرفات، ثم التحرك منها نحو المشعر الحرام.

والأمر بالاستغفار في ختام الآية حثّ على ترك تلك الأوهام والأفكار الجاهلية، والإتجاه نحو تعلّم دروس الحج في المساواة.

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان روى عن الإمام الباقر عليه السلام: إنّ الجاهليين كانوا إذا فرغوا من الحج، يجتمعون هناك، ويعدّون مفاخر آبائهم ومآثرهم ويذكرون أيّامهم القديمة وأياديهم الجسمية، فأمرهم سبحانه أن يذكروه مكان ذكرهم آباءهم في هذا الموضع.

التّفسير

هذه الآيات تواصل الأبحاث المتعلقة بالحج في الآيات السابقة. الآية الاولى من الآيات محل البحث تقول: «فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا».

وليس المراد من هذه العبارة أنّكم اذكروا أسلافكم وأذكروا اللَّه كذلك، بل هو إشارة إلى هذه الحقيقة بأنّكم تذكرون أسلافكم من أجل بعض الخصال والمواهب الحميدة، فلماذا لا تذكرون اللَّه تعالى ربّ السماوات والأرض والرازق والواهب لجميع هذه النعم في العالم وهو منبع ومصدر جميع الكمالات وصفات الجلال والجمال.

«ذكر اللَّه» في هذه الآية يشمل جميع الأذكار الإلهية بعد أداء مناسك الحج.

بعد ذلك يوضّح القرآن طبيعة مجموعتين من الناس وطريقة تفكيرهم ... مجموعة لا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 164

تفكر إلّابمصالحها المادية ولا تتجّه في الدعاء إلى اللَّه إلّامن هذه المنطلقات المادية فتقول:

«فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الْأَخِرَةِ مِنْ خَلقٍ». والمجموعة الثانية تتحدث عنهم الآية بقولها: «وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْأَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».

وهذه الفقرات من الآيات محل البحث تشير إلى هاتين الطائفتين وأنّ الناس في هذه العبادة العظيمة على نوعين.

أمّا ما المراد من «الحسنة»؟ فقد ورد في تفسير مجمع البيان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«من اوتي قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه واخراه فقد اوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووُقي عذاب النار».

وواضح أنّ الحسنة هذا له مفهوم واسع بحيث يشمل جميع المواهب

المادية والمعنوية، وما ورد في الرواية أعلاه فهو بيان لأبرز المصاديق لا حصر الحسنة بهذه المصاديق.

وفي آخر آية إشارة إلى الطائفة الثانية (الذين طلبوا من اللَّه الحسنة في الدنيا والآخرة) فتقول: «أُوَلئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ».

وفي الحقيقة هذه الآية تقع في النقطة المقابلة للجملة الأخيرة من الآية السابقة «وَمَا لَه فِى الْأخِرَةِ مِن خَلقٍ».

وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) هذه الآية آخر آية وردت في بيان مناسك الحج وإبطال السنن الجاهلية في المفاخرات الموهومة بالنسبة للأسلاف فتوصي المسلمين (بعد مراسم العيد) أن يذكروا اللَّه تعالى:

«وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ».

أمّا المراد من «أذكار» فقد ورد في الأحاديث الإسلامية أنّها تعني تلاوة التكبيرات التالية بعد خمسة عشرة صلاة في هذه الأيام (ابتداء من صلاة الظهر من يوم العيد حتى صلاة الصبح من اليوم الثالث العشر) وهي «اللَّه أكبر اللَّه أكبر لا إله إلّااللَّه واللَّه أكبر اللَّه أكبر وللَّه

مختصر الامثل، ج 1، ص: 165

الحمد، اللَّه أكبر على ما هدانا، اللَّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام».

ثم تشير الآية إلى هذا الحكم الشرعي: «فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى . وهذا التعبير إشارة إلى نوع من التخيير في أداء ذكر اللَّه بين يومين أو ثلاثة أيام.

وفي نهاية الآية نلاحظ أمراً كليّاً بالتقوى حيث تقول الآية: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

يمكن أن تكون هذه الجملة إشارة إلى أنّ المناسك الروحانية في الحج تطهّر الإنسان من الذنوب السابقة كيوم ولدته امّه، ولكن عليكم تقوى

اللَّه والحذر من الوقوع في الذنب مرة اخرى.

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَ إِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَ إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)

سبب النّزول

في تفسير روح المعاني: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي: أقبل إلى النبي صلى الله عليه و آله في المدينة فأظهر له الإسلام وأعجب النبي صلى الله عليه و آله ذلك منه وقال: إنّما جئت أريد الإسلام واللَّه تعالى يعلم إنّي لصادق. ثم خرج من عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فمر بزرع من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر (وبهذا أظهر ما في باطنه من النفاق).

التّفسير

الآية الاولى تشير إلى بعض المنافقين حيث تقول: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ».

«ألد»: تأتي بمعنى ذو العداوة الشديدة؛ و «خصام»: لها معنىً مصدري وهو الخصومة والعداوة.

ثم تضيف الآية التالية بعض العلامات الباطنية لعداوة مثل هذا الإنسان وهي: «وَإِذَا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 166

تَوَلَّى سَعَى فِى الْأَرْضِ لِيُفسِدَ فِيهَا وَيُهلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَايُحِبُّ الْفَسَادَ». أجل لأنّ هؤلاء لو كانوا صادقين في إيمانهم وإظهارهم المحبة لما أفسدوا في الأرض مطلقاً، فبالرغم من أنّ ظاهرهم المحبة الخالصة إلّاأنّهم في الباطن أشد الناس قساوة ووحشية.

«حرث»: بمعنى الزراعة؛ «نسل»: بمعنى الأولاد وتُطلق أيضاً على أولاد الإنسان وغير الإنسان.

إنّ التعبير «يُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ» كلام مختصر وجامع لكل المصاديق حيث يشمل الإفساد والتخريب بالنسبة للأموال والنفوس في المجتمع البشري.

والآية

الاخرى تضيف: «وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ» «1». فتشتعل في قلبه نيران التعصب واللجاج وتجرّه إلى المعصية والإثم.

فمثل هذا الشخص لا يستمع إلى نصيحة الناصحين ولا يهتم للإنذارات الإلهية، بل يستمر على عناده وإرتكابه للآثام والمنكرات مغروراً، فلا يكون جزاؤه إلّاالنار، ولذلك يقول في نهاية الآية: «فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ».

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

سبب النّزول

روى الثعلبيّ في تفسيره: لمّا أراد النّبي صلى الله عليه و آله الهجرة إلى الغار خلّف عليّاً عليه السلام لقضاء ديونه وردّ الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خروج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار وقال له: «يا عليّ! اتّشح ببردي الحضرمي ثم نم على فراشي فإنّه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء اللَّه تعالى». ففعل ما أمره، فأوحى عزّ وجلّ إلى جبرئيل وميكائيل: أنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كل منهما الحياة فأوحى اللَّه عزّ وجلّ إليهما: ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه. فنزلا فكان

______________________________

(1) «العزّة»: في مقابل الذلّة في الأصل، ولكن هنا ورد بمعنى الغرور والنخوة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 167

جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل يقول: بخّ بخّ مَن مثلك يا بن أبي طالب؟ يُباهي اللَّه تبارك وتعالى بك ملائكته. فأنزل اللَّه عزّ وجلّ على رسوله وهو متوجّه إلى المدينة في شأن علي بن أبي طالب عليه السلام: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ» الآية. (ولهذا سُمّيت هذه الليلة التاريخية بليلة المبيت).

ويقول (أبو جعفر الإسكافي) كما جاء

في شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المجلد 3 الصفحة 270: «إنّ حديث الفراش قد ثبت بالتواتر فلا يجحده إلّامجنون أو غير مخالط لأهل الملّة».

التّفسير

بالرغم من أنّ الآية محل البحث تتعلق كما ورد في سبب النزول بحادثة هجرة النبي صلى الله عليه و آله وتضحية الإمام علي عليه السلام ومبيته على فراش النّبي، ولكنّ مفهومها ومحتواها الكلي- كما في سائر الآيات القرآنية- عام وشامل، وأنّها تقع في النقطة المقابلة للآيات السابقة التي تتحدّث عن المنافقين. تقول الآية: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ».

إنّ جملة «وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ» قد تكون إشارة إلى أنّ اللَّه عزّ وجلّ في الوقت الذي هو رحيم ورؤوف بالعباد هو الّذي يشري الأنفس بأغلى الأثمان وهو رضوان اللَّه تعالى عن الإنسان.

ومما يستلفت النظر أنّ البائع هو الإنسان، والمشتري هو اللَّه تعالى، والبضاعة هي النفس، وثمنها هو رضوان اللَّه تعالى، في حين نرى في موارد اخرى أنّ ثمن مثل هذه المعاملات هو الجنة الخالدة والنجاة من النار.

فهذه الآية ومع الإلتفات إلى سبب النزول المذكور آنفاً تُعد أعظم الفضائل للإمام علي عليه السلام الواردة في اكثر المصادر الإسلامية.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) بعد الإشارة إلى الطائفتين (المؤمنين المخلصين والمنافقين المفسدين) في الآيات السابقة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 168

تدعو هذه الآيات الكريمة كل المؤمنين إلى السّلم والصلح وتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِى السّلْمِ كَافَّةً». يستفاد من مفهوم هذه الآية أنّ السلام لا يتحقق إلّافي ظل الإيمان.

واضح أنّ الاطر المادية الأرضية (من اللغة والعنصر و

...) هي عوامل تفرقة بين أفراد البشر وبحاجة إلى حلقة إتصال محكمة تربط بين قلوب الناس.

ويسلّموا لجميع ثم تضيف الآية: «وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».

«خطوات»: جمع «خطوة» وهنا تكررت هذه الحقيقة من أنّ الانحراف عن الصلح والعدالة، والتسليم لإرادة الأعداء ودوافع العداوة والحرب وسفك الدماء يبدأ من مراحل بسيطة وينتهي بمراتب حادة وخطرة.

وتتضمن جملة «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» برهاناً ودليلًا حيّاً حيث تقول أنّ عداء الشيطان للإنسان ليس بأمر خفي مستتر، فهو منذ بداية خلق آدم أقسم أن يبذل جهده لإغواء جميع البشر إلّاالمخلصين الّذين لا ينالهم مكر الشيطان، فمع هذا الحال كيف يمكن التغافل عن وسوسة الشيطان.

الآية التالية إنذار لجميع المؤمنين حيث تقول: «فَإن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». فلو انحرفتم وسرتم مع وساوس الشيطان على خلاف مسار الصلح والسلام فإنّكم لا تستطيعون بذلك الفرار من العدالة الإلهية.

المنهج بيّن والطريق بيّن والهدف بيّن، ومعلوم من هنا لا عذر لمن يزل عن الطريق، فلو انحرفتم فأنتم المقصرون، فاعلموا أنّ اللَّه قادر حكيم لا يستطيع أحد أن يفرّ من عدالته.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَ الْمَلَائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) قد يبدو للوهلة الاولى أنّ في هذه الآية الكريمة نوعاً من الإبهام والتعقيد، لكن ذلك يزول عند إمعان النظر بتعبيراتها. الآية تخاطب الرسول صلى الله عليه و آله وتقول: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 169

يَأتِيَهُمُ اللَّهُ فِى ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلِكَةُ وَقُضِىَ الْأَمْرُ» «1».

والمراد من جملة «قضي الأمر» الوارد في الآية هى نزول العذاب الإلهي على الكفار المعاندين لأنّ ظاهر الآية يتعلق بهذه الحياة

الدنيا.

وفي نهاية الآية تقول: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» الامور المتعلقة بإرسال الأنبياء ونزول الكتب السماوية وتبيين حقائق يوم القيامة والحساب والجزاء والثواب والعقاب وكلها تعود إليه.

استحالة رؤية اللَّه: لا شك أنّ الرؤية الحسية لا تكون إلّاللأجسام التي لها لون ومكان وتأخذ حيّز من الفراغ، فعلى هذا لا معنى لرؤية اللَّه تعالى الذي هو فوق الزمان والمكان.

إنّ الذات المقدسة يستحيل رؤيتها بهذه العين لا في الدنيا ولا في الآخرة، والأدلة العقلية على هذه المسألة واضحة إلى درجة أنّه لا حاجة لشرحها وبيانها.

وطبعاً لا شك في إمكانية رؤية اللَّه تعالى بعين القلب، سواء في هذه الدنيا أو في عالم آخر، ومن المسلم أنّ ذاته المقدسة في يوم القيامة لها ظهور أقوى وأشد من ظهورها في هذا العالم مما يستدعي أن تكون المشاهدة أقوى.

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) تشير هذه الآية إلى أحد مصاديق الآيات السابقة، لأنّ الحديث في الآيات السابقة كان يدور حول المؤمنين والكافرين والمنافقين، وأنّ الكافرين كانوا يتجاهلون آيات اللَّه وبراهينه الواضحة ويتذرعون بمختلف الحجج والمعاذير، وبني إسرائيل مصداق واضح لهذا المعنى، وتقول الآية: «سَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ كَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ مِّنْ ءَايَةٍ بَيّنَةٍ».

ولكنهم تجاهلوا وتغافلوا عن هذه الآيات والعلائم الواضحة وأنفقوا المواهب الإلهية والنعم الربانية في موارد مذمومة ومنحرفة، ثم تقول الآية: «وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا

______________________________

(1) «ظُلل»: جمع «ظلة» يقال لكل شي ء يصنع ظلًا، و «غمام»: بمعنى السحاب.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 170

مختصر الامثل ج 1 200

جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

والمراد من «تبديل النعمة» هو استخدام الإمكانات والطّاقات والمصادر المادية والمعنوية الموهوبة على طريق تخريبي انحرافي

وممارسة الظلم والطغيان.

ولا تنحصر مسألة تبديل النعمة والمصير المؤلم لها ببني إسرائيل.

فالعالم المتطور صناعيّاً يعاني اليوم من هذه المأساة الكبرى، فمع وفور النعم والطاقات لدى الإنسان المعاصر وفوراً لم يسبق له مثيل في التاريخ نجد صوراً شتّى من تبديل النعم وتسخيرها بشكل فضيع في طريق الإبادة والفناء بسبب ابتعادهم عن التعاليم الإلهية للأنبياء، حيث حوّروا هذه النعم إلى أسلحة مدمّرة من أجل بسط سيطرتهم الظالمة واستعمارهم للبلدان الاخرى، وبذلك جعلوا من الدنيا مكاناً غير آمن، وجعلوا الحياة الدنيا غير آمنة من كل ناحية.

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

سبب النّزول

روى في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: نزلت الآية في أبي جهل وغيره من رؤساء قريش، بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من قوم من المؤمنين، فقراء، مثل عبد اللَّه بن مسعود، وعمّار وبلال وخباب ويقولون: لو كان محمّد نبيّاً لاتبعه أشرافنا.

التّفسير

الكافرون عبيد الدنيا: نزول الآية طبقاً للرواية المذكورة بشأن رؤساء قريش لا يمنع أن تكون مكملة لموضوع الآية السابقة بشأن اليهود وأن نستنتج منها قاعدة كلية. تقول الآية:

«زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا». ولذلك أفقدهم الغرور والتكبر شعورهم.

«وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا» في حين أنّ المؤمنين والمتقين في أعلى علّيين في الجنة، وهؤلاء في دركات الجحيم «وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ».

لأنّ المقامات المعنوية تتّخذ صور عينية في ذلك العالم، ويكتسب المؤمنون درجات أسمى من هؤلاء، وكأنّ هؤلاء يسيرون في أعماق الأرض بينما يحلّق الصالحون في أعالي السماء، وليس ذلك بعجيب «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

وهذه بشارة للمؤمنين الفقراء وإنذار وتهديد للأغنياء والأثرياء المغرورين.

وكون ذلك الرزق الإلهي بدون

حساب للمؤمنين إشارة إلى أنّ الثواب والمواهب الإلهية

مختصر الامثل، ج 1، ص: 171

ليست بمقدار أعمالنا إطلاقاً، بل هي مطابقة لكرمه ولطفه، ونعلم أنّ كرمه ولطفه ليس لهما حدود ونهاية.

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) بعد بيان حال المؤمنين والمنافقين والكفار في الآيات السابقة شرع القرآن الكريم في هذه الآية في بحث اصولي جامع بالنسبة لظهور الدّين وأهدافه والمراحل المختلفة التي مر بها. في البداية تقول الآية: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً».

فتبدأ هذه الآية ببيان مراحل الحياة البشرية وكيفية ظهور الدين لإصلاح المجتمع بواسطة الأنبياء وذلك على مراحل:

المرحلة الاولى: مرحلة حياة الإنسان الابتدائية حيث لم يكن للإنسان قد ألف الحياة الاجتماعية، ولم تبرز في حياته التناقضات والاختلافات، وكان يعبد اللَّه تعالى استجابةً لنداء الفطرة ويؤدي له فرائظ البسيطة، وهذه المرحلة يحتمل أن تكون في الفترة الفاصلة بين آدم ونوح عليهما السلام.

المرحلة الثانية: وفيها اتخذت حياة الإنسان شكلًا اجتماعياً، ولابد أن يحدث ذلك لأنّه مفطور على التكامل، وهذا لا يتحقق إلّافي الحياة الاجتماعية.

المرحلة الثالثة: هي مرحلة التناقضات والاصطدامات الحتمية بين أفراد المجتمع البشري بعد استحكام وظهور الحياة الاجتماعية، وهذه الاختلافات سواء كانت من حيث الإيمان والعقيدة، أو من حيث العمل وتعيين حقوق الأفراد والجماعات تحتّم وجود قوانين لرعاية وحلّ هذه الاختلافات، ومن هنا نشأت الحاجة الماسّة إلى تعاليم الأنبياء وهدايتهم.

المرحلة الرابعة: وتتميز ببعث اللَّه تعالى الأنبياء لإنقاذ الناس، حيث تقول الآية:

«فَبَعَثَ

اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 172

فمع الإلتفات إلى تبشير الأنبياء وإنذارهم يتوجه الإنسان إلى المبدأ والمعاد ويشعر أنّ وراءه جزاءً على أعماله فيحسّ أنّ مصيره مرتبط مباشرةً بتعاليم الأنبياء وما ورد في الكتب السماوية من الأحكام والقوانين الإلهيّة لحلّ التناقضات والنّزاعات المختلفة بين أفراد البشر، لذلك تقول الآية: «وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ».

المرحلة الخامسة: هي التمسك بتعاليم الأنبياء وما ورد في كتبهم السماوية لإطفاء نار الخلافات والنزاعات المتنوعة (الاختلافات الفكرية والعقائدية والاجتماعية والأخلاقية).

المرحلة السادسة: واستمر الوضع على هذا الحال حتى نفذت فيهم الوساوس الشيطانية وتحرّكت في أنفسهم الأهواء النفسانية، وبهذا تقول الآية بعد ذلك: «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ».

المرحلة السابعة: الآية الكريمة بعد ذلك تُقسّم الناس إلى قسمين، القسم الأوّل المؤمنون الذين ينتهجون طريق الحق والهداية ويتغلبون على كل الاختلافات بالاستنارة بالكتب السماوية وتعليم الأنبياء، فتقول الآية: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ». في حين أنّ الفاسقين والمعاندين ماكثون في الضلالة والاختلاف.

وختام الآية تقول: «وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ». وهذه الفقرة إشارة إلى حقيقة إرتباط مشيئة اللَّه تعالى بأعمال الأفراد، فجميع الأفراد الراغبون في الوصول إلى الحقيقة يهديهم اللَّه تعالى إلى صراط مستقيم ويزيد في وعيهم وهدايتهم وتوفيقهم في الخلاص من الاختلافات والمشاجرات الدنيوية مع الكفار وأهل الدنيا ويرزقهم السكينة والاطمئنان، ويبين لهم طريق النجاة والاستقامة.

يستفاد من الآية أعلاه أنّ بداية انثباق الدين بمعناه الحقيقي كانت مقترنة مع ظهور المجتمع البشري بمعناه الحقيقي، من هنا نفهم سبب كون نوح أوّل انبياء اولوا العزم وأوّل أصحاب الشريعة والرسالة لا آدم.

يَسْأَلُونَكَ مَا ذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا

أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ الآية نزلت يوم الخندق لما اشتدت المخافة وحوصِر المسلمون

مختصر الامثل، ج 1، ص: 173

في المدينة فدعاهم اللَّه إلى الصبر ووعدهم بالنصر.

التّفسير

يبدو من الآية الكريمة أنّ جماعة من المسلمين كانت ترى أنّ إظهار الإيمان باللَّه وحده كاف لدخولهم الجنة، ولذلك لم يوطّنوا أنفسهم على تحمل الصعاب والمشاقّ ظانين أنّه سبحانه هو الكفيل بإصلاح امورهم ودفع شرّ الأعداء عنهم.

الآية تردّ على هذا الفهم الخاطى ء فتقول: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ».

وبما أنّهم كانوا في غاية الإستقامة والصبر مقابل تلك الحوادث والمصائب، وكانوا في غاية التوكل وتفويض الأمر إلى اللطف الإلهي، فلذلك تعقب الآية: «أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ».

إنّ الآية أعلاه تحكي إحدى السنن الالهية في الأقوام البشرية جميعاً، وتنذر المؤمنين في جميع الأزمنة والأعصار أنّهم ينبغي عليهم لنيل النصر والتوفيق والمواهب الاخروية أن يتقبّلوا الصعوبات والمشاكل ويبذلوا التضحيات في هذا السبيل، وإنّ هذه المشاكل والصعوبات ما هي إلّاامتحان وتربية للمؤمنين ولتمييز المؤمن الحقيقي عن المتظاهر بالإيمان.

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: أنّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير، فقال يا رسول اللَّه! بماذا أتصدق؟ وعلى مَن أتصدق؟ فأنزل اللَّه سبحانه هذه الآية.

التّفسير

يتعرّض القرآن الكريم في آيات عديدة

إلى الإنفاق والبذل في سبيل اللَّه، وحثّ المسلمين بطرق عديدة على الإنفاق والأخذ بيد الضعفاء، وهذه الآية تتناول مسألة الإنفاق من جانب آخر، فثمة سائل عن نوع المال الذي ينفقه، ولذلك جاء تعبير الآية بهذا الشكل: «يَسَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 174

وفي الجواب بيّنت الآية نوع الإنفاق، ثم تطرّقت أيضاً إلى الأشخاص المستحقين للنفقة.

بشأن المسألة الاولى: ذكرت الآية كلمة «خير» لتبين بشكل جامع شامل ما ينبغي أن ينفقه الإنسان، وهو كل عمل ورأسمال وموضوع يشتمل على الخير والفائدة للناس، وبذلك يشمل كل رأسمال مادي ومعنوي مفيد. وبالنسبة للمسألة الثانية:- أي موارد الإنفاق- فتذكر الآية أوّلًا الأقربين وتخصّ الوالدين بالذكر، ثم اليتامى ثم المساكين، ثم أبناء السبيل، ومن الواضح أنّ الإنفاق للأقربين- إضافة إلى ما يتركه من آثار تترتب على كل إنفاق- يوطّد عرى القرابة بين الأفراد.

«وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ». لعل في هذه العبارة من الآية إشارة إلى أنّه يحسن بالمنفقين أن لا يصرّوا على اطلاع الناس على أعمالهم، ومن الأفضل أن يسرّوا انفاقهم تأكيداً لإخلاصهم في العمل، لأنّ الذي يجازي على الاحسان عليم بكل شي ء، ولا يضيع عنده سبحانه عمل عامل من البشر.

الآية السابقة تناولت مسألة الإنفاق بالأموال، وهذه الآية تدور حول التضحية بالدم والنفس في سبيل اللَّه، فالآيتان يقترن موضوعهما في ميدان التضحية والفداء، فتقول الآية:

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ».

التعبير بكلمة «كُتِب» إشارة إلى حتمية هذا الأمر الإلهي ومقطوعيته.

«كُره» وإن كان مصدراً إلّاأنّه استعمل هنا باسم المفعول يعني مكروه، فالمراد من هذه الجملة أنّ الحرب مع الأعداء في سبيل اللَّه أمر مكروه وشديد على الناس العاديين، لأنّ الحرب تقترن بتلف الأموال والنفوس وأنواع المشقات والمصائب، وأما بالنسبة لعشاق

الشهادة في سبيل الحق ومن له قدم راسخ في المعركة فالحرب مع أعداء الحق بمثابة الشراب العذب للعطشان، ولا شك في أنّ حساب هؤلاء يختلف عن سائر الناس وخاصة في بداية الإسلام.

ثم تشير هذه الآية الكريمة إلى مبدأ أساس حاكم في القوانين التكوينية والتشريعية الإلهية وتقول: «وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 175

وعلى العكس من تجنّب الحرب وطلب العافية وهو الأمر المحبوب لكم ظاهراً، إلّاأنّه «وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ».

ثم تضيف الآية وفي الختام: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ». فهنا يؤكد الخالق جلّ وعلا بشكل حاسم أنّه لا ينبغي لأفراد البشر أن يحكموا أذواقهم ومعارفهم في الامور المتعلقة بمصيرهم، لأنّ علمهم محدود من كل جانب ومعلوماتهم بالنسبة إلى مجهولاتهم كقطرة في مقابل البحر.

فهؤلاء الناس لا يحق لهم مع الإلتفات إلى علمهم المحدود أن يتعرضوا على علم اللَّه اللّامحدود ويعترضوا على أحكامه الإلهيّة، بل يجب أن يعلموا يقيناً أنّ اللَّه الرّحمن الرّحيم حينما يُشرّع لهم الجهاد والزكاة والصوم والحج فكل ذلك لما فيه خيرهم وصلاحهم.

ثم إنّ هذه الحقيقة تعمّق في الإنسان روح الانضباط والتسليم أمام القوانين الإلهية وتؤدي إلى توسعة آفاق إدراكه إلى أبعد من دائرة محيطه المحدود وتربطه بالعالم اللّامحدود يعني علم اللَّه تعالى.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ إِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَ لَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كَافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

(217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال المفسرون: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سريّة من المسلمين وأمّر عليهم عبداللَّه بن جحش الأسدي- وهو ابن عمّة النّبي- وذلك قبل بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه المدينة، فانطلقوا حتى هبطوا نخلة- وهي أرض بين مكة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 176

والطائف- فوجدوا بها عمرو بن الحضرمي في عير تجارة لقريش في آخر يوم من جمادي الآخرة، وكانوا يرون أنّه من جمادي، وهو رجب- من الأشهر الحرم- فاختصم المسلمون فقال قائل منهم: هذه غرة من عدو وغُنْم رزقتموه ولا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم أم لا. وقال قائل منهم: لا نعلم هذا اليوم إلا من الشهر الحرام ولا نرى أن تستحلوه لطمع أشفيتم عليه. فغلب على الأمر الذي يريدون عرض الحياة الدنيا، فشدوا على ابن الحضرمي فقتلوه وغنموا عيره فبلغ ذلك كفار قريش. وكان ابن الحضرمي أوّل قتيل قتل بين المشركين والمسلمين وذلك أوّل في ء أصابه المسلمون فركب وفد كفار قريش حتى قدموا على النبي صلى الله عليه و آله فقالوا: أيحلّ القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل اللَّه سبحانه هذه الآية.

نزلت الآية الثانية في قصّة عبداللَّه بن جحش وأصحابه لما قاتلوا في رجب، وقتل واقد السهمي ابن الحضرمي فظنّ قوم أنّهم إن أسلموا من الإثم فليس لهم أجر، فأنزل اللَّه سبحانه الآية فيهم بالوعد.

التّفسير

الآية الاولى تتصدّى للجواب عن الأسئلة المرتبطة بالجهاد والاستثناءات في هذا الحكم الإلهي فتقول الآية: «يَسَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ». ثم تُعلن الآية حرمة القتال وأنّه من الكبائر «قُلْ

قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ». أي إثم كبير.

وبهذا يُمضي القرآن الكريم بجديّة السنّة الحسنة التي كانت موجودة منذ قديم الأزمان بين العرب الجاهليّين بالنسبة إلى تحريم القتال في الأشهر الحرم (رجب، ذي القعدة، ذي الحجة، محرم).

ثم تضيف الآية أنّ هذا القانون لا يخلو من الاستثناءات، فلا ينبغي السّماح لبعض المجموعات الفاسدة لاستغلال هذا القانون في إشاعة الظلم والفساد، فعلى الرغم من أنّ الجهاد حرام في هذه الأشهر الحرم، ولكن الصد عن سبيل اللَّه والكفر به وهتك المسجد الحرام وإخراج الساكنين فيه وأمثال ذلك أعظم إثماً وجرماً عنداللَّه «وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ».

ثم تضيف الآية بأنّ إيجاد الفتنة والسعي في إضلال الناس وحرفهم عن سبيل اللَّه ودينه أعظم من القتل «وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» لأنّ القتل ما هو إلّاجناية على جسم الإنسان،

مختصر الامثل، ج 1، ص: 177

والفتنة جناية على روح الإنسان وإيمانه «1».

ثم إنّ الآية تحذر المسلمين أن لا يقعوا تحت تأثير الإعلان الجاهلي للمشركين، لأنّهم لا يقنعون منكم إلّابترككم لدينكم إن استطاعوا «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا». فينبغي على هذا الأساس أن تقفوا أمامهم بحزم وقوة ولا تعتنوا بوسوساتهم وأراجيفهم حول الأشهر الحرم.

ثم تنذر الآية المسلمين وتحذرهم من الإرتداد عن دين اللَّه: «وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

فما أشد عقاب المرتد عن الإسلام، لأنّ ذلك يُبطل كلما قدّمه الفرد من عمل صالح ويستحق بذلك العذاب الإلهي الأبدي.

الآية التالية تشير إلى النقطة المقابلة لهذه الطائفة، وهم المؤمنون المجاهدون وتقول: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ

رَّحِيمٌ».

أجل، فهذه الطائفة التي يتحلّى أفرادها بهذه الصفات الثلاث المهمة (الإيمان والهجرة والجهاد) قد يرتكبون خطأً بسبب جهلهم وعدم اطلاعهم (كما صدر ذلك من عبداللَّه بن جحش الوارد في سبب النزول) إلّاأنّ اللَّه تعالى يغفر لهم زلّتهم بلطفه ورحمته.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَ يَسْأَلُونَكَ مَا ذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

سبب النّزول

نزلت في جماعة من الصحابة أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنّها

______________________________

(1) قدمنا بحثاً مفصلًا عن معنى «الفتنة» في ذيل الآية (191) من هذه السورة المبحوثة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 178

مذهبة للعقل مسلبة للمال. وعن سبب نزول الآية الثانية فقد ورد في تفسير القمي عن الإمام الصادق عليه السلام وفي تفسير مجمع البيان قال ابن عباس: لمّا أنزل اللَّه «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ» «1». و «إِنَّ الَّذِين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلُونَ سَعِيرًا» «2». إنطلق كل من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه واشتدّ ذلك عليهم فسألوا عنه، فنزلت هذه الآية.

التّفسير

الآية الاولى تُجيب عن سؤالين حول الخمر والقمار «يَسَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ».

«الخمر»: بمعنى كل مايع مسكر، سواء اخذ من العنب أو الزبيب أو التمر أو شي ء آخر، بالرغم من أنّ الوارد في اللغة أسماء مختلفة لكل واحد من أنواع المشروبات الكحولية.

«الميسر»: من مادة

(اليُسر) وإنّما سمي بذلك لأنّ المُقامر يستهدف الحصول على ثروة بيسر ودون عناء.

ثم تقول الآية في الجواب: «قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا».

وبناء على ذلك، فكل إنسان عاقل لا يقدم على الإضرار بنفسه كثيراً من أجل نفع ضئيل.

السؤال الثالث المذكور في الآية محل البحث هو السؤال عن الإنفاق فتقول الآية:

«وَيَسَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ».

«العفو» يُطلق على مصاديق مختلفة منها: المغفرة والصفح وإزالة الأثر، الحد الوسط بين شيئين، المقدار الإضافي لشي ء، وأفضل جزء من الثروة.

ويمكن أن يكون العفو في الآية هو المعنى الأوّل، أي الصفح عن أخطاء الآخرين، وبذلك يكون معنى الآية الكريمة: أنفقوا الصفح والمغفرة فهو أفضل الإنفاق.

ولا يبعد هذا الاحتمال لو أخذنا بنظر الاعتبار أوضاع شبه الجزيرة العربية عامة وخاصة مكة والمدينة محل نزول القرآن من حيث هيمنة روح التنافر والعداء والحقد بين الناس، والجواب بهذا المعنى لا يتنافي مع سؤالهم بشأن الإنفاق المالي، لأنّهم قد يسألون عن

______________________________

(1) سورة الإسراء/ 34.

(2) سورة النّساء/ 10.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 179

موضوع كان ينبغي أن يسألوا عن أهم منه، والقرآن يستثمر فرصة سؤالهم المعبر عن استعدادهم للسّماع والقبول ليجيبهم بما هو أهم وألزم، وهذا من شؤون الفصاحة والبلاغة حيث يترك سؤالهم ليتناول موضوعاً أهم.

وأخيراً يقول تعالى في ختام الآية: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ».

ويذكر بدون فصل في الآية التالية المحور الأصلي للتفكر ويقول: «فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ».

إنّ الإنسان إضافة إلى وجوب التسليم أمام أوامر اللَّه يجب أن يُطيع هذه الأوامر عن تفكر وتعقل لا عن اتّباع أعمى، وبعبارة اخرى أنّ الإنسان يجب عليه بموازاة الطاعة العملية أن يسعى إلى فهم أسرار وروح الأحكام الإلهية.

ثم تذكر الآية السؤال الرابع وجوابه وتقول: «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى

قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ». وعلى هذا الأساس فالقرآن يوصي المسلمين بعدم إهمال اليتامى، فإنّ الإعراض عن تحمل مسؤوليتهم وتركهم وشأنهم أمر مذموم.

ثم تضيف الآية: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ». أجل، إنّ اللَّه مطلّع على نياتكم ويعلم من يقصد السوء بالاستفادة من أموال اليتامى ليحيف عليهم ومن هو مخلص لهم.

والفقرة الأخيرة من الآية تؤكد بأنّ اللَّه تعالى قادر على أن يُضيّق ويشدّد عليكم برعاية اليتامى مع فصل أموالهم عن أموالكم، لكن اللَّه لا يفعل ذلك أبداً، لأنّه عزيز وحكيم، ولا داعي لأن يُضيّق على عباده «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

وَ لَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ اللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي: نزلت هذه الآية في أبي مِرثَد الغَنَويّ، بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مكة سرّاً ليُخرج رجلًا من أصحابه؛ وكانت له بمكة امرأةٌ يحبّها في الجاهلية يقال لها (عَناق) فجاءته؛ فقال لها: إنّ الإسلام حرّم ما كان في الجاهلية؛ قالت: فتزوّجني؛ قال: حتى أستأذن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأتى النبي صلى الله عليه و آله فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها؛ لأنّه كان مسلماً وهي مشركة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 180

التّفسير

هذه الآية وطبقاً لسبب النزول المذكور أعلاه بمثابة جواب عن سؤال آخر حول الزواج مع المشركين فتقول: «وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ». ثم تضيف مقايسة وجدانيّة فتقول: «وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ».

لأنّ الهدف

من الزواج ليس هو اللّذة الجنسية فقط، فالمرأة شريكة عمر الإنسان ومربية لأطفاله وتشكّل قسماً مهماً من شخصيته، فعلى هذا الأساس كيف يصحّ استقبال الشرك وعواقبه المشؤومة لاقترانه بجمال ظاهري ومقدار من الأموال والثروة.

ثم إنّ الآية الشريفة تقرّر حكماً آخر وتقول: «وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ».

وبهذا الترتيب منع الإسلام من زواج المرأة المؤمنة مع الرجل المشرك كما منع نكاح الرجل المؤمن من المرأة المشركة حتى أنّ الآية رجّحت العبد المؤمن أيضاً على الرجال المشركين من أصحاب النفوذ والثروة والجمال الظاهري، لأنّ هذا المورد أهم بكثير من المورد الأوّل وأكثر خطورة، فتأثير الزوج على الزوجة أكثر عادةً من تأثير الزوجة على زوجها.

وفي ختام الآية تذكر دليل هذا الحكم الإلهي لزيادة التفكر والتدبر في الأحكام وتقول:

«أُوَلئِكَ [أي المشركين يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ».

ثم تضيف الآية: «وَيُبَيّنُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ».

أشار في «تفسير في ظلال القرآن» إلى نكتة ظريفة، وهي أنّ هذه الآية و (21) آية اخرى تأتي بعدها تُبيّن الأحكام المتعلقة بتشكيل الاسرة في أبعادها المختلفة، وفي هذه الآيات بيّن القرآن الكريم اثني عشر حكماً شرعياً:

1- يتضمن النهي عن زواج المسلم بمشركة، 2- يتعلق بالنهي عن مباشرة النساء في المحيض، 3- حكم الأيمان بصفة عامة- تمهيداً للحديث عن الإيلاء والطلاق- ويربط حكم الأيمان باللَّه وتقواه، 4- حكم الإيلاء ويتبعه حكم الطلاق، 5- حكم عدّة المطلّقة، 6- حكم عدد الطلقات، 7- حكم الإمساك بمعروف أو تسريح باحسان بعد الطلاق، 8- حكم الرضاعة والاسترضاع والأجر، 9- الحكم بعدّة المتوفى عنها زوجها، 10- حكم التعريض بخطبة النساء في أثناء العدّة، 11- حكم المطلّقة قبل الدخول في حالة ما إذا

فرض لها مهر وفي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 181

حالة ما إذا لم يفرض، 12- حكم المتعة للمتوفى عنها زوجها وللمطلّقة.

وهذه الأحكام مع مجمل الإرشادات الأخلاقية في هذه الآيات تبين أنّ مسأله تشكيل الاسرة هو نوع من العبادة للَّه تعالى ويجب أن يكون مقروناً بالتفكر والتدبر.

وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

سبب النّزول

ذكر في تفسير ابن كثير ذيل الآية مورد البحث: إنّ اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه و آله فأنزل اللَّه عزّ وجل «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ...».

وذكر قطب الدين الراوندي في فقه القرآن: قيل: كانوا في الجاهلية يجتنبون مؤاكلة الحائض ومشاربتها حتى كانوا لا يجالسونها في بيت واحد فسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن ذلك واستعلموا ذلك أواجب هو أم لا؟ فنزلت الآية.

التّفسير

أحكام النساء في العادة الشهرية: في الآية الاولى نلاحظ سؤال آخر عن العادة الشهرية للنساء، فتقول الآية: «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى». وتضيف بلافاصلة:

«فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِى الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ».

لأنّ الجماع في أيام الحيض، فهو إضافة إلى ما فيه من اشمئزاز، ينطوي على أذى وضرر ثبت لدى الطب الحديث، ومن ذلك احتمال تسبيب عقم الرجل والمرأة، وإيجاد محيط مناسب لتكاثر جراثيم الأمراض الجنسية مثل السفلس والتهابات الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة، ودخول مواد الحيض المليئة بمكروبات الجسم في عضو الرجل، وغير ذلك

من الأضرار المذكورة في كتب الطب، لذلك ينصح الأطباء باجتناب الجماع في هذه الحالة.

جملة «يَطْهُرْنَ» بمعنى طهارة النساء من دم الحيض وأمّا جملة «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» تعني

مختصر الامثل، ج 1، ص: 182

الغُسل من الحيض. فعلى هذا الأساس وطبقاً للجملة الاولى تكون المقاربة الجنسية بعد انتهاء دم الحيض جائزة حتى لو لم تغتسل وأمّا الجملة الثانية فتعني أنّها ما لم تغتسل فلا يجوز مقاربتها. وعلى هذا فالآية لا تخلو من إبهام ولكن مع الإلتفات إلى أنّ الجملة الثانية تفسير للجملة الاولى ونتيجة لها (ولهذا اعطفت بفاء التفريع) فالظاهر أنّ (تَطَهَّرْنَ) أيضاً بمعنى الطهارة من دم الحيض وبذلك تجوز المقاربة الجنسية بمجرد الطهارة من العادة الشهرية وهذا هو ما ذهب إليه الفقهاء العظام في الفقه وأفتوا بحلية المقاربة الجنسية بعد الطهارة من الحيض حتى قبل الغسل ولكن لا شك في أنّ الأفضل أن تكون بعد الغسل.

الفقرة الثانية من الآية تقول: «فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ». أي: أن يكون الجماع من حيث أمر اللَّه وقد تكون هذه الفقرة تأكيداً لما قبلها، أي آتوا نساءكم في حالة النقاء والطّهر فقط لا في غير هذه الحالة.

الآية الثانية إشارة لطيفة إلى الغاية النهائية من العملية الجنسية فتقول: «نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ».

في هذه الآية الكريمة شبّهت النساء بالمزرعة وقد يثقل هذا التشبيه على بعض، ويتساءل لماذا شبّه اللَّه نصف النوع البشري بهذا الشكل؟

ولو أمعنا النظر في قوله سبحانه لوجدنا فيه إشارة رائعة لبيان ضرورة وجود المرأة في المجتمع الإنساني، فالمرأة بموجب هذا التعبير ليست وسيلة لإطفاء الشهوة، بل وسيلة لحفظ حياة النوع البشري.

«وَقَدّمُوا لِأَنفُسِكُمْ». هذا الأمر القرآني يشير إلى أنّ الهدف النهائي من الجماع ليس هو الاستمتاع باللذة الجنسية، فالمؤمنون

يجب أن يستثمروه على طريق تربية أبناء صالحين، وأن يقدّموا هذه الخدمة التربوية المقدسة ذخيرة لُاخراهم، وبذلك يؤكد القرآن على رعاية الدقة في انتخاب الزوجة كي تكون ثمرة الزواج إنجاب أبناء صالحين وتقديم هذه الذخيرة الاجتماعية الإنسانية الكبرى.

وفي ختام هذه الآية تأمر بالتقوى وتقول: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلقُوهُ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 183

وَ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في عبد اللَّه بن رواحة حين حلف أن يدخل على ختنه ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين امرأته فكان يقول إنّي حلفت بهذا فلا يحل لي أن أفعله، فنزلت الآية.

التّفسير

لا ينبغي القسم قدر المستطاع: كما قرأنا في سبب النزول أنّ الآيتين أعلاه ناظرتان إلى سوء الاستفادة من القسم، فكانت هذه مقدمة إلى الأبحاث التالية في الآيات الكريمة عن الإيلاء والقسم وترك المقاربة الجنسية. في الآية الاولى يقول تعالى: «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لّاَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

وفي الآية التالية نلاحظ تكملة لهذا الموضوع وأنّ القسم لا ينبغي أن يكون مانعاً من أعمال الخير فتقول: «لَّايُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ». أي عن إرادة وإختيار.

في هذه الآية يشير اللَّه تعالى إلى نوعين من القسم:

الأوّل: القسم اللغو الذي لا أثر له، ولا يُعبأ به، هذا النوع من القسم يتردد على ألسن بعض الناس دون التفات، ويكررونه في كلامهم عن عادة لهم، فإنّ العمل بهذا القسم غير واجب ولا كفارة عليه، لأنّه لم

يكن عن عزم وإرادة.

النوع الثاني: القَسم الصادر عن إرادة وعزم، أو بالتعبير القرآني هو القَسم الداخل في إطار كسب القلب، ومثل هذا القَسم معتبر ويجب الالتزام به ومخالفته ذنب موجب للكفارة.

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 184

القَسَم على ترك وطء الزوجة أو الإيلاء «1» تقليد جاهلي كان شائعاً بين العرب، واستمرّ معمولًا به عند المسلمين الجدد قبل نزول حكم الطلاق.

كان الرجل في الجاهلية- حين يغضب على زوجته- يقسِم على عدم وطئها، فيشدّد عليها بهذه الطريقة الفضّة، لا هو يطلق سراحها بالطلاق لتتزوج من رجل آخر، ولا يعود إليها بعد هذا القَسم ليصالحها ويعايشها وطبعاً لا يواجه الرجل غالباً صعوبة في ذلك لأنّه يتمتع بعدة زوجات.

الآية الكريمة وضعت لهذه القضية حدّاً، فذكرت أنّ الرجل يستطيع خلال مدة أقصاها أربعة أشهر أن يتخذ قراراً بشأن زوجته: إمّا أن يعود عن قَسمه ويعيش معها، أو يطلّقها ويخلّي سبيلها. «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ».

والغاية من الامهال أربعة أشهر هو إعطاء الفرصة للزوج ليفكر في أمره مع زوجته وينقذها من هذا الحال. ثم تضيف: «فَإِن فَاءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». أي إن عادوا وجدوا اللَّه غفوراً رحيماً، والعبارة تدل أيضاً أنّ العودة عن هذا القَسم ليس ذنباً، بالرغم من ترتب الكفارة عليه.

«وَإِن عَزَمُوا الطَّلقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». أي فلا مانع من ذلك مع توفّر الشروط اللازمة.

وفيما لو أهمل الزوج كلا الطريقين ولم يختر أحدهما، فلم يرجع إلى الحياة الزوجية السليمة، ولم يطلّق، ففي هذه الصورة يتدخّل حاكم الشرع ويأمر بالقاء الزوج في السجن، ويشدد عليه حتى يختار

أحدهما، وينقذ الزوجة من حالتها المعلّقة.

وَ الْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَ لَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) كان الكلام في الآية السابقة عن الطلاق، وهنا تذكر الآية بعض أحكام الطلاق وما يتعلق به حيث ذكرت خمسة أحكام له في هذه الآية. في البداية ذكرت الآية عدّة الطلاق:

______________________________

(1) «ايلاء»: من مادة «الو» بمعنى القدرة والعزم، وبما أنّ القسم نموذج من هذا المعنى ولذا اطلق على الطلاق.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 185

«وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلثَةَ قُرُوءٍ».

وبما أنّ الطلاق يشترط فيه أن تكون المرأة في حالة الطهر الذي لم يجامعها زوجها فيه فيُحسب ذلك الطّهر مرة واحدة، وبعد أن ترى المرأة دم الحيض مرة وتطهر منه حينئذ تتم عدّتها بمجرد أن ينتهي الطّهر الثالث وتشرع ولو للحظة في العادة، فيجوز لها حينئذ الزواج.

الحكم الثاني المستفاد من هذه الآية هو قوله تعالى: «وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ».

الإسلام قرّر أن تكون المرأة بنفسها هي المرجع في معرفة بداية العدّة ونهايتها حيث إنّ المرأة نفسها أعلم بذلك من الآخرين.

الحكم الثالث المستفاد من الآية هو أنّ للزوج حق الرجوع إلى زوجته في عدّة الطلاق الرجعي، فتقول الآية: «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِى ذلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلحًا». وبهذا يستطيع الزوج استئناف علاقته الزوجية بدون تشريفات خاصة إذا كانت المرأة في عدّة الطلاق الرجعي، فإذا قصد الرجوع يتحصل بمجرد كلمة أو عمل يصدر منه بهذا القصد.

ثم تبين الآية حكماً

رابعاً وتقول: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ». وعلى هذا كما أنّ للرجال حقوقاً على النساء، فكذلك للنساء حقوق على الرجال أيضاً، فيجب عليهم مراعاتها، لأنّ الإسلام اهتمّ بالحقوق بصورة متعادلة ومتقابلة.

وكلمة «بالمعروف» التي تأتي بمعنى الأعمال الحسنة المعقولة والمنطقية تكررت في هذه السلسلة من الآيات اثنا عشر مرّة (من الآية مورد البحث إلى الآية 241) كيما تحذّر النساء والرجال من عاقبة سوء الاستفادة من حقوق الطّرف المقابل وعليهم إحترام هذه الحقوق والاستفادة منها في تحكيم العلاقة الزوجية وتحصيل رضا اللَّه تعالى.

يوجد الاختلافات الكبيرة بين الجنسين على صعيد القوى الجسمية والروحية، ولهذا السبب كانت إدارة الاسرة بعهدة الرجل ومقام المعاونة بعهدة المرأة، وعلى أي حال فلا يكون هذا التفاوت مانعاً من تفوّق بعض النساء من الجهات المعنوية والعلمية والتقوائية على كثير من الرجال.

وأخيراً تقول الآية: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» وهذا إشارة إلى أنّ الحكمة الإلهية والتدبير الرباني يستوجبان أن يكون لكل شخص في المجتمع وظائف وحقوق معينة من قبل قانون الخلقة ويتناسب مع قدراته وقابلياته الجسمية والروحية، وبذلك فإنّ الحكمة الإلهية

مختصر الامثل، ج 1، ص: 186

تستوجب أن تكون للمرأة في مقابل الوظائف والمسؤوليّات الملقاة على عاتقها حقوقاً مسلّمة كيما يكون هناك تعادل بين الوظيفة والحق.

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

سبب النّزول

في تفسير المجمع البيان: جاءت إمرأة إلى إحدى زوجات النبي فشكت أنّ زوجها يطلّقها ويسترجعها، يضارّها بذلك. وكان الرجل في الجهالية

إذا طلّق امرأته، ثم راجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان له ذلك، وإن طلّقها ألف مرة؛ لم يكن للطلاق عندهم حدّ، فذكرت ذلك لرسول اللَّه، فنزلت الطلاق مرتان.

التّفسير

ذكرنا في تفسير الآية السابقة إنّ الإسلام قرّر قانون (العدّة) و (الرجوع) لإصلاح وضع الاسرة ومنع تشتتها وتمزّقها، لكن بعض المسلمين الجدد استغلّوا هذا القانون كما كانوا عليه في الجاهلية، وعمدوا إلى التضييق على الزوجة بتطليقها المرة بعد الاخرى والرجوع إليها قبل انتهاء العدة، وبهذه الوسيلة ضيّقوا الخناق على النساء.

هذه الآية تحول بين هذا السلوك المنحط وتقرّر أنّ الطلاق والرجوع مشروعان لمرتين، أمّا إذا تكرر الطلاق للمرة الثالثة فلا رجوع، والطلاق الأخير هو الثالث، والمراد من عبارة «الطَّلقُ مَرَّتَانِ» هو أنّ الطلاق الذي يمكن معه الرجوع مرتان والطلاق الثالث لا رجوع بعده. وتضيف الآية: «فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ».

فعلى هذا يكون الطلاق الثالث هو الأخير لا رجعة فيه. وبعبارة اخرى: أنّ المحبة والحنان المتقابل بين الزوجين يمكن إعادتهما في المرتين السابقتين وتعود المياه إلى مجاريها، وفي غير هذه الصورة إذا تكرر منه الطلاق في المرة الثالثة فلا يحق له الرجوع إلّابشرائط معينة تأتي في الآية التالية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 187

إنّ المراد من التسريح بإحسان أن يؤدّي للمرأة حقوقها بعد الانفصال النهائي، ولا يسعى الإضرار بها عملًا وقولًا بأن يعيبها في غيابها أو يتّهمها بكلمات رخيصة ويُسقط شخصيتها وسمعتها أمام الناس، وبذلك يحرمها من إمكانية الزواج المجدد، فكما أنّ الصلح والرجوع إلى الزوجة يجب أن يكون بالمعروف والإحسان والمودّة، فكذلك الانفصال النهائي يجب أن يكون مشفوعاً بالإحسان أيضاً، ولهذا تضيف الآية الشريفة: «وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيًا».

فعلى هذا الأساس لا يستطيع الزوج عند الانفصال النهائي أن

يأخذ ما أعطاها من مهرها شيئاً، وهذا المعنى أحد مصاديق التسريح بإحسان.

وتستطرق الآية إلى ذكر مسألة «طلاق الخلع» وتقرّر أنّه في حالة واحدة تجوز استعادة المهر وذلك عند رغبة المرأة نفسها بالطلاق حيث تقول الآية: «إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ». ثم تضيف: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ». أي الفدية أو التعويض الذي تدفعه المرأة للتّخلص من الرابطة الزوجية، هذه الحالة تختلف عن الاولى في أنّ الطالب للفرقة هي المرأة نفسها ويجب عليها دفع الغرامة والتعويض للرجل الذي يريد ويطلب بقاء العُلقة الزوجية، وبذلك يتمكن الزوج بهذه الغرامة والفدية أن يتزوج مرة اخرى ويختار له زوجة ثانية.

وفي ختام الآية تشير إلى مُجمل الأحكام الواردة فيها وتقول: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان، وتفسير روح المعاني أيضاً: جاءت امرأة رفاعة بن وهب القُرظيّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت: إنّي كنت عند رفاعة فطلّقني فبتّ طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه الأمثل هُدبة الثوب (وإنّه طلّقني قبل أن يمسّني) فتبسم النبي صلى الله عليه و آله فقال:

«أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عُسَيلَتَك، وتذوقي عُسَيلَتَه».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 188

التّفسير

جاء في الآية السابقة إجمالًا أنّ للمرأة وللرجل بعد الطلاق الثاني أحد أمرين: إمّا أن يتصالحا ويرجعا إلى الحياة الزوجية، وإمّا أن ينفصلا إنفصالًا نهائياً. هذه الآية حكمها حكم الفقرة التابعة

لمادة قانونية. فهذه الآية تقول إنّ حكم الإنفصال حكم دائمي، إلّاإذا اتخذت المرأة زوجاً آخر، وطلّقها بعد الدخول بها، فعندئذ لها أن ترجع إلى زوجها الأوّل إذا رأيا أنّهما قادران على أن يعيشا معاً ضمن حدود اللَّه.

ويستفاد من الرّوايات عن أئمة الدين أنّ لهذا الزواج الثاني شرطين، أوّلًا: أن يكون هذا الزواج دائمياً، والثاني: أن يتبع عقد الزواج الإتصال الجنسي.

وَ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ مَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (231) تستمر هذه الآية في تبيان الأحكام التي أقرّها الإسلام للطلاق، لكي لا تهمل حقوق المرأة وحرمتها. تقول الآية: ما دامت العدّة لم تنته وحتى في آخر يوم من أيامها، فإنّ للرجل أن يصالح زوجته ويعيدها إليه في حياة زوجية حميمة: «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ».

وإذا لم تتحسّن الظروف بينهما فيطلق سراحها «أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ».

ولكن كل رجوع أو تسريح يجب أن يكون في جوّ من الإحسان والمعروف وأن لا يخالطه شي ء من روح الإنتقام.

ثم تشير الآية إلى المفهوم المقابل لذلك وتقول: «وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ».

هذه الجملة تفسير لكلمة «معروف» أي أنّ الرجوع يجب أن يكون على أساس من الصفاء والوئام، وذلك لأنّ الجاهليين كانوا يتخذون من الطلاق والرجوع وسيلة للإنتقام، ولهذا يقول القرآن بلهجة قاطعة: إنّ استرجاع الزوجة يجب أن لا يكون رغبة في الإيذاء والإعتداء، إذ أنّ ذلك- فضلًا عن كونه ظلماً للزوجة- ظلم للزوج أيضاً.

مختصر الامثل، ج 1،

ص: 189

ثم يحذّر القرآن الجميع: «وَلَا تَتَّخِذُوا ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا».

هذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى حال الأشخاص الذين يستغلّون الأحكام الشرعية لتبرير مخالفاتهم ويتمسكون بالظواهر من أجل بعض الحيل الشرعية، فالقرآن يعتبر هذا العمل نوع من الاستهزاء بآيات اللَّه، ومن ذلك نفس مسألة الزواج والطلاق والرجوع في زمان العدّة بنيّة الإنتقام وإلحاق الضرر بالمرأة والتظاهر بأنّه يستفيد من حقه القانوني.

فعلى هذا لا ينبغي الإغماض عن روح الأحكام الإلهية والتمسك فقط بالظواهر الجامدة لها، فلا ينبغي إتخاذ آيات اللَّه ملعبة بيد هؤلاء، فإنّه يُعتبر ذنب عظيم ويترتب عليه عقوبة أليمة.

ثم تضيف الآية: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

هذه تحذيرات من أجل أن تعلموا: أوّلًا: أنّ اللَّه تعالى عدّ تلك التصرفات من خرافات وتقاليد الجاهلية الشنيعة بالنسبة إلى الزواج والطلاق وغير ذلك، فأنقذكم منها وأرشدكم إلى أحكام الإسلام الحياتية، فينبغي أن تعرفوا قدر هذه النعمة العظيمة وتؤدّوا حقها، و ثانياً: بالنسبة إلى حقوق المرأة ينبغي أن لا تسيئوا إليها بالاستفاده من موقعيتكم، ويجب أن تعلموا أنّ اللَّه تعالى مطلع حتى على نياتكم.

وَ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في معقل بن يسار عضل اخته جملاء أن ترجع إلى الزواج الأوّل وهو عاصم بن عدي فإنّه كان طلّقها وخرجت من العدّة ثم أراد أن يجتمعا بعقد آخر، فمنعها من ذلك، فنزلت الآية.

مختصر الامثل، ج 1، ص:

190

التّفسير

فصم قيد آخر من قيود أسر النساء: ذكرنا في البحوث السابقة كيف كانت النسوة يعشن في أسر العادات الجاهلية، وكيف كنّ تحت سيطرة الرجال دون أن يعنى أحد برغبتهن ورأيهن. واختيار الزوج كان واحداً من قيود ذلك الأسر، إذ أنّ رغبة المرأة وإرادتها لم يكن لها أي تأثير في الأمر، فحتّى من كانت تتزوج زواجاً رسمياً ثم تطلّق لم يكن لها حق الرجوع ثانية بمحض إرادتها، بل كان ذلك منوطاً برغبة وليّها أو أوليائها، وكانت ثمة حالات يرغب فيها الزوجان بالعودة إلى الحياة الزوجية بينهما، ولكن أولياء المرأة كانوا يحولون دون ذلك تبعاً لمصالحهم أو لتخيلاتهم وأوهامهم.

إلّا أنّ القرآن أدان هذه العادة، ورفض أن يكون للأولياء مثل هذا الحق، إذ إنّ الزوجين- وهما ركنا الزواج الأصليان، إذا توصّلا إلى إتفاق بالعودة بعد الانفصال- يستطيعان ذلك دون أن يكون لأحد حق الإعتراض عليهما. تقول الآية: «وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ».

ويتبين من هذه الآية أنّ الثيّبات- أي اللّواتي سبق لهنّ الزواج ثم طلّقن أو مات أزواجهن- إذا شئن الزواج ثانية فلا يلزمهن موافقة أوليائهن أبداً.

ثم تضيف الآية وتحذّر ثانية وتقول: «ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ». ثم من أجل التأكيد أكثر تقول: «ذلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ».

يشير هذا المقطع من الآية إلى أنّ هذه الأحكام قد شُرّعت لمصلحتكم غاية الأمر أنّ الأشخاص الذين ينتفعون بها هم الذين لهم أساس عقائدي من الإيمان باللَّه والمعاد ولا يتبعون أهواءهم.

وَ الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا

لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَ لَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَ تَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 191

أحكام الرضاع السبعة: هذه الآية في الواقع استمرار للأبحاث المتعلقة بمسائل الزواج والحياة الزوجية، وتبحث مسألة مهمة هي مسألة (الرضاع)، وتذكر بعبارات مقتضبة، وفي نفس الوقت ذات معنىً عميق، الجزئيات المتعلقة بالرضاع المختلفة، فهناك على العموم سبعة أحكام في هذا الباب:

1- تقول الآية في أوّلها: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ».

«والدات»: جمع (والدة) وهي في اللغة بمعنى الام، ولكن كلمة الام لها معنىً أوسع وهي قد تُطلق على الوالدة وعلى الجدة أي والدة الوالدة، وقد تعني أصل الشي ء وأساسه.

وفي هذا المقطع من الآية نلاحظ أنّ حق الإرضاع خلال سنتي الرضاعة يعود للُام، فهي التي لها أن ترضع مولودها خلال هذه المدة وأن تعتني به، وعلى الرغم من أنّ (الولاية) على الأطفال الصغار قد اعطيت للأب، فإنّ تخصيصها بحق الحضانة والرعاية والرضاعة يعتبر حقاً ذا جانبين، فهو يرعى حال الطفل كما يرعى حال الام.

2- ليس من الضروري أن تكون مدة رضاعة الطفل سنتين حتماً، إنّما السنتان لمن يريد أن يقضي دورة رضاعة كاملة «لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ». ولكن للُام أن تقلل من هذه الفترة حسب مقتضيات صحة الطفل وسلامته.

3- نفقة الام في الطعام واللباس، حتى عند الطلاق أثناء فترة الرضاعة تكون على والد الطفل، لكي تتمكن الام من الإنصراف إلى العناية بطفلها وإرضاعه مرتاحة البال وبدون قلق. «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ».

هنا

تعبير «المولود له» بدلًا من «الأب» يستلفت الإنتباه، ولعله جاء لاستثارة عواطف الابوة فيه في سبيل حثّه على أداء واجبه. أي أنّه إذا كان قد وضع على عاتقه الإنفاق على الوليد وامّه خلال هذه الفترة فذلك لأنّ الطفل ابنه وثمرة فؤاده وليس غريباً عنه.

إنّ الإتيان بقيد «المعروف» يشير إلى أنّ طعام الام ولباسها ينبغي أن يكونا من اللائق بها والمتعارف عليه، فلا يجوز التقتير ولا الإسراف.

ولرفع كل غموض محتمل تشير الآية إلى أنّ على كل أب أن يؤدّي واجبه على قدر طاقته «لَاتُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا».

4- لا يحق لأيّ من الوالدين أن يجعلا من مستقبل وليدهما ومصيره أمراً مرتبطاً بما قد يكون بينهما من اختلافات، حيث لا يؤمن معه أن تتعرض روحية الوليد بضربة لا يمكن تفادي آثارها. «لَاتُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ». على الأب أن يحذر انتزاع الوليد

مختصر الامثل، ج 1، ص: 192

من أحضان امه خلال فترة الرضاعة فيعتدي بذلك على حق الام في حضانة وليدها، كما أنّ على الام التي اعطيت هذا الحق أن لا تستغله وأن لا تتذرّع بمختلف الأعذار الموهومة للتنصّل من إرضاع وليدها، أو أن تحرم الأب من رؤية طفله. 5- ثم تبين الآية حكماً آخر يتعلق بما بعد وفاة الأب فتقول: «وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ».

يعني أنّ الورثة يجب عليهم تأمين احتياجات الام في مرحلة الرضاعة للطفل.

6- وتتحدث الآية أيضاً عن مسألة فطام الطفل عن الرضاعة وتجعله بعهدة كل من الأبوين على الرغم مما جاء في الآيات السابقة من تحديد فترة الرضاعة، إلّاأنّ للأبوين أن يفطما الطّفل وقت ما يشاءان حسب ما تقتضيه صحة الطفل وسلامته الجسمية، وتقول الآية: «فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا».

7- أحياناً

تمتنع الام من حضانة الطفل وممارسة حقها في إرضاعه ورعايته أو أنّه يوجد هناك مانع حقيقي لذلك، ففي هذه الصورة يجب التفكير في حلّ هذه المسألة ولهذا تقول الآية: «وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلدَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا ءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ».

وعلى هذا الأساس لا مانع من اختيار مرضعة بدل الام بعد توافق الطرفين بشرط أنّ هذا الأمر لا يسبّب إهدار حقوق الام بالنسبة إلى المدة الفائتة من الرضاعة.

وفي الختام تحذّر الآية الجميع وتقول: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

فلا ينبغي للاختلافات التي تحصل بين الزوجين أن تؤدي إلى إيقاد روح الإنتقام فيهما حيث يعرّض مستقبلهما ومستقبل الطفل إلى الخطر، فلابد أن يعلم الجميع بأنّ اللَّه تعالى يراقب أعمالهم بدقة.

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَ لَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 193

خرافات تبعث على تعاسة المرأة: إنّ واحدة من المشاكل الرئيسية في حياة المرأة هي الزواج بعد موت زوجها. إنّ احترام الحياة الزوجية بعد موت أحد الزوجين أمر فطري، بحيث نجد في مختلف القبائل تقاليداً وطقوساً خاصة بهذا الموضوع على الرغم من أنّ بعض هذه العادات كانت تبلغ حدّ الإفراط الذي يقيّد المرأة بقيود ثقيلة تبلغ حدّ القضاء على

حياتها احتراماً لذكرى زوجها الراحل، كقيام بعض القبائل بحرق المرأة بعد موت زوجها، أو بدفنها حيّة معه في قبره، وبعض آخر كانوا يحرمون المرأة من الزواج بعد زوجها مدى الحياة، وفي بعض القبائل كان على المرأة أن تقضي بعض الوقت بجانب قبر زوجها تحت خيمه سوداء قذرة وفي ملابس رثّة بعيدة عن كل نظافة أو زينة أو اغتسال. إلّاأنّ الآية المذكورة تلغي كل هذه الخرافات، ولكنّها تحافظ على احترام الحياة الزوجية بإقرار العدة.

«وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ».

وبما أنّ أولياء وأقرباء المرأة يتدخّلون أحياناً في أمرها أو يأخذون بمصالحهم بنظر الاعتبار في زواجها المجدد تقول الآية في ختامها: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ». وسيجازي كل شخص بما عمله من أعمال سيئة أو حسنة.

وحسب ما وصلنا من أئمة المسلمين فإنّ على الأرامل في هذه الفترة أن يحافظن على مظاهر الحزن، أي ليس لهنّ أن يتزينّ مطلقاً، بل ينبغي التجرد من كل زينة، ولا شك أنّ فلسفة المحافظة على هذه العدة توجب ذلك أيضاً.

وإنّه مما يلفت النظر أنّ الأحكام الإسلامية بشأن العدة تأمر المرأة بالتزام العدة حتى وإن لم يكن هناك أي احتمال بأن تكون حاملًا.

الآية الثانية تشير إلى أحد الأحكام المهمة للنساء في العدة (بمناسبة البحث عن عدة الوفاة في الآيات السابقة) فتقول: «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِن لَّاتُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا».

فهذه الآية تبيح للرجال أن يخطبوا النساء اللواتي في عدة الوفاة بالكناية أو الإضمار في النفس «أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ» وهذا الحكم في الواقع من

أجل الحفاظ على حريم الزواج السابق من جهة، وكذلك لا يحرم الأرملة من حقها في تعيين مصيرها من جهة اخرى.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 194

ومن الطبيعي أن تفكر المرأة في مصيرها بعد وفاة زوجها، وكذلك يفكّر بعض الرجال بالزواج بهنّ للشروط اليسيرة السهلة في الزواج بالأرامل.

ثم تضيف الآية: «وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ». فمن المسلّم أنّ الشخص إذا عقد على المرأة في عدتها يقع العقد باطلًا، بل إنّه إذا أقدم على هذا العمل عالماً بالحرمة فإنّ هذه المرأة ستحرم عليها أبداً.

وبعد ذلك تعقّب الآية: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ».

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَ لَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) في هاتين الآيتين نلاحظ أحكاماً اخرى للطلاق استمراراً للأبحاث السابقة. تقول الآية في البداية: «لَّاجُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً» «1». وهذا يعني جواز طلاق النساء قبل المقاربة الجنسية وقبل تعيين المهر، وهذا في صورة ما إذا علم الرجل أو كلا الزوجين بعد العقد وقبل المواقعة أنّهما لا يستطيعان استمرار الحياة الزوجية هذه، فمن الأفضل أن يتفارقا في هذا الوقت بالذات، لأنّ الطلاق في المراحل اللّاحقة سيكون أصعب.

ثم تبين الآية حكماً آخراً في هذا المجال وتقول: «وَمَتّعُوهُنَّ». أي: يجب أن تمنح المرأة هديّة

تناسب شؤونها فيما لو جرى الطلاق قبل المضاجعة وقبل تعيين المهر، ولكن يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار قدرة الزوج المالية في هذه الهديّة، ولذلك تعقّب الآية الشريفة بالقول:

«عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ». أي: أنّ الهديّة

______________________________

(1) «مس»: بمعنى الملامسة وهنا كناية عن الجماع؛ و «فريضة»: بمعنى الواجب وهنا جاءت بمعنى المهر.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 195

لابد أن تكون بشكل لائق وبعيدة عن الإسراف والبخل، ومناسبة لحال المُهدي والمُهدى إليه.

ولما كان لهذه الهديّة أثر كبير للقضاء على روح الإنتقام وفي الحيلولة دون إصابة المرأة بعُقد نفسية بسبب فسخ عقد الزواج، فإنّ الآية تعتبر هذا العمل من باب الإحسان «حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ». أي أن يكون ممزوجاً بروح الإحسان واللطف.

الملاحظة الاخرى في هذه الآية هي أنّ القرآن يعبّر عن الهدية التي يجب أن يعطيها الرجل للمرأة باسم (متاع) فالمتاع في اللغة هو كل ما يستمتع به المرء وينتفع به، ويطلق غالباً على غير النقود، لأنّ الأموال لا يمكن التمتع بها مباشرةً، بل لابد أوّلًا من تبديلها إلى متاع، ولهذا كان تعبير القرآن عن الهديّة بالمتاع.

ولهذا العمل أثر نفسي خاص، فكثيراً ما يحدث أن تكون الهدية من المأكل أو الملبس ونظائرهما مهما كانت زهيدة الثمن أثر بالغ في نفوس المُهدى إليهم لا يبلغه أبداً أثر الهديّة النقدية، لذلك نجد أنّ الروايات الواصلة إلينا عن أئمة الأطهار: تذكر هذه الهدايا بصورة مأكل أو ملبس أو أرض زراعية.

وتتحدث الآية التالية عن حالة الطلاق الذي لم يسبقه المضاجعة ولكن بعد تعيين المهر فتُبين أنّ الحكم في هذا اللون من الطلاق الذي يكون قبل المضاجعة وبعد تعيين المهر يوجب على الزوج دفع نصف المهر المعين «وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ

أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ».

وهذا هو الحكم القانوني لهذه المسألة، فيجب دفع نصف المهر إلى المرأة بدون أيّة نقيصة ولكن الآية تتناول الجوانب الأخلاقية والعاطفية وتقول: «إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ».

أجل، فإنّ الآية في الجملة التالية تقول: «وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

جملة «وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى تبين جانباً آخر من واجبات الزوج الإنسانية وهو أن يظهر الزوج التنازل والكرم فلا يسترجع شيئاً من المهر إن كان قد دفعه وإن لم يكن دفعه بعد فمن الأفضل دفعه كاملًا متنازلًا عن النصف الذي هو من حقه، وذلك لأنّ المرأة التي تنفصل عن زوجها بعد العقد تواجه صدمة نفسية شديدة ولا شك أنّ تنازل الرجل عن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 196

حقّه من المهر لها يكون بمثابة البلسم لجرحها.

ونلاحظ تأكيداً في سياق الآية الشريفة على أصل (المعروف) و (الإحسان) فحتى بالنسبة إلى الطلاق والانفصال لا ينبغي أن يكون مقترناً بروح الإنتقام والعداوة، بل ينبغي أن يتم على أساس السماحة والإحسان بين الرجل والمرأة.

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَ قُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان (وفي الدر المنثور أيضاً) عن زيد بن ثابت: إنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يصلّي بالهاجرة «1» وكانت أثقل الصلوات على أصحابه، فلا يكون وراءه إلّاالصف أو الصفان، فقال: «لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم». فنزلت هذه الآية.

التّفسير

أهمية الصلاة وخاصة الوسطى: بما أنّ الصلاة أفضل وسيلة مؤثرة تربط بين الإنسان وخالقه، لذلك ورد

التأكيد في آيات القرآن الكريم عليها، ومن ذلك ما ورد في الآية محل البحث حيث تقول: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَوةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ».

المراد من «الصَّلَوةِ الْوُسْطَى هي صلاة الظهر والتأكيد على هذه الصلاة كان بسبب حرارة الجو في الصيف، أو بسبب انشغال الناس في امور الدنيا والكسب فلذلك كانوا لا يعيرون لها أهمية.

وفي الآية الثانية تؤكد على أنّ المسلم لا ينبغي له ترك الصلاة حتى في أصعب الظروف والشرائط كما في ميدان القتال، غاية الأمر أنّ الكثير من شرائط الصلاة في هذا الحال تكون غير لازمة كالإتجاه نحو القبلة وأداء الركوع والسجود بالشكل الطبيعي، ولذا تقول الآية:

«فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا».

سواءً كان الخوف في حال الحرب أو من خطر آخر، فإنّ الصلاة يجب أداءها بالإيماء والإشارة للركوع والسجود، سواءً كنتم مشاة أو راكبين.

______________________________

(1) الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحرّ.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 197

«فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ». ففي هذه الصورة، أي في حالة الأمان يجب عليكم أداء الصلاة بالصورة الطبيعية مع جميع آدابها وشرائطها.

ومن الواضح أنّ أداء الشكر لهذا التعليم الإلهي للصلاة في حالة الأمن والخوف هو العمل على وفق هذه التعليمات.

فالآية توضّح أنّ إقامة الصلاة والإرتباط بين العبد وخالقه يجب أن يتحقق في جميع الظروف والحالات، وبهذا تتحصل نقطة ارتكاز للإنسان واعتماده على اللَّه.

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَ لِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) تعود هذه الآيات لتذكر بعض مسائل الزواج والطلاق

والامور المتعلقة بها وفي البداية تتحدّث عن الأزواج الذين يتوسّدون فراش الاحتضار ولهم زوجات فتقول: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ». أي أنّ الأشخاص من المسلمين إذا حانت ساعة وفاتهم وبقيت زوجاتهم على قيد الحياة فينبغي أن يوصوا بأزواجهم في النفقة والسكن في ذلك البيت لمدّة سنة كاملة، وهذا طبعاً في صورة ما إذا بقيت الزوجة في بيت زوجها ولم تخرج خارج البيت، ولهذا تضيف الآية: «فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِى مَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَّعْرُوفٍ». كأن يخترن زوجاً جديداً، فلا مانع من ذلك ولا إثم عليكم ولكن يسقط حقها في النفقة والسكنى.

وفي ختام الآية تشير إلى أنّه لا ينبغي التخوّف من عاقبة خروج النسوة، فتقول بأنّ اللَّه قادر على فتح أبواب اخرى أمامهنّ بعد وفاة الأزواج فلو حدثت مشكلة في البيت ولحقت بها مصيبة فإنّ ذلك سيكون لحكمة حتماً لأنّ اللَّه تعالى عزيز حكيم: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

فلو أغلق باباً بحكمته فسوف يفتح اخرى بلطفه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 198

يعتقد الكثير من المفسرين أنّ هذه الآية قد نسخت بالآية (234) من هذه السورة التي سبق بيانها وفيها ورد أنّ عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام وعلى الرغم من أنّ تلك الآية تأتي قبل هذه الآية من حيث الترتيب ولكننا نعلم أنّ الآيات في السورة لم ترتّب بحسب نزولها بل قد نجد آيات متأخرة في النزول وضعت متقدمة في الترتيب.

في الآية الثانية يبين القرآن الكريم حكماً آخر من أحكام الطلاق ويقول: «وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ». أي أنّ المتقين يجب عليهم تقديم هديّة لائقة للنساء المطلقات.

وبالرغم من أنّ ظاهر الآية يشمل جميع النساء المطلقات، ولكن بقرينة الآية (236)

السابقة نفهم أنّ هذا الحكم يختص بمورد النسوة التي لم يقرّر لهنّ مهر بعد وقوع الطلاق قبل الوطى ء.

إنّ هذه الهدية- وطبق الروايات الواردة من الأئمة المعصومين عليهم السلام- تُعطى إلى المرأة بعد تمام العدة والإفتراق الكامل لا في عدة الطلاق الرجعي. وبعبارة اخرى: أنّ هذه الهدية ليست وسيلة للعودة، بل للوداع النهائي.

وفي آخر آية من الآيات مورد البحث والتي هي آخر آية من الآيات المتعلقة بالطلاق تقول: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في أهل داوردان قرية قُبُلَ واسط، وقع فيهم طاعون فخرجوا هاربين فأماتهم اللَّه. قيل: إنّ ملكاً من ملوك بني اسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم فخرجوا فعسكروا. ثم جنبوا وكرهوا الموت، فاعتلوا وقالوا: إنّ الأرض التي نأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء! فأرسل اللَّه عليهم الموت، فلمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فراراً من الموت. فلمّا رأى الملك ذلك قال: اللّهمّ ربّ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 199

يعقوب وإله موسى، قد ترى معصية عبادك فأرهم آية من أنفسهم حتى يعلموا أنّهم لا يستطيعون الفرار منك! فأماتهم اللَّه جميعاً وأمات دوابهم وأتى عليهم ثمانية أيّام حتى انتفخت وأروحت أجسادهم.

قالوا: وأتى على ذلك مدّة حتى بليت أجسادهم وعريت عظامهم وتقطعت أوصالهم فمرّ عليهم حزقيل «1» وجعل يتفكر فيهم متعجباً منهم. فأوحى اللَّه إليه: يا حزقيل تريد أن أريك آية وأريك كيف احيي الموتى؟ قال: نعم. فأحياهم اللَّه تعالى.

التّفسير

هذه الآية تشير

إشارة عابرة ولكنها معبّرة عن قصة أحد الأقوام السالفة التي انتشر بين أفرادها مرض خطير وموحش بحيث هرب الآلاف منهم من ذلك المكان فتقول الآية: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ».

ثم إنّ الآية أشارت إلى عاقبتهم فقالت: «فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ» لتكون قصّة موتهم وحياتهم مرّة اخرى عبرة للآخرين.

ومن الواضح أنّ المراد من «مُوتُوا» هو أمر اللَّه التكويني الحاكم على كل حيّ في عالم الوجود. أي إنّ اللَّه تعالى أوجد أسباب هلاكهم فماتوا جميعاً في وقت قصير، وهذه أشبه بالأمر الذي ورد في الآية (82) من سورة يس: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ».

وجملة «ثُمَّ أَحْيَاهُمْ» إشارة إلى عودتهم إلى الحياة بعد موتهم إستجابة لدعاء (حزقيل النّبي عليه السلام) كما ذكرنا في سبب نزول الآية، ولمّا كانت عودتهم إلى الحياة مرّة اخرى من النعم الإلهية البينة (نعمة لهم ونعمة لبقية الناس للعبرة) ففي ختام الآية تقول: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَشْكُرُونَ». فليست نعمة اللَّه وألطافه وعنايته تنحصر بهؤلاء، بل لجميع الناس.

العالم الشيعي المعروف ب «الصدوق» استدلّ بهذه الآية على القول بالرجعة وقال: (إنّ من معتقداتنا الرجعة) أي رجوع طائفة من الناس الذين ماتوا في الأزمنة الغابرة إلى هذه الدنيا مرّة اخرى، ويمكن كذلك أن تكون هذه الآية دليلًا على المعاد وإحياء الموتى يوم القيامة.

______________________________

(1) قيل: إنّ حزقيل هو ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى (تفسير مجمع البيان).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 200

وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْسُطُ وَ

إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان في سبب نزول الآية الثانية: إنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «من تصدّق بصدقة فله مثلها في الجنة». فقال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول اللَّه إنّ لي حديقتين إن تصدقت بإحداهما فإنّ لي مثليها في الجنة؟ قال: «نعم». قال: وامّ الدحداح معي؟ قال: «نعم». قال:

والصبية معي؟ قال: «نعم». فتصدّق بأفضل حديقتيه فدفعها إلى رسول اللَّه. فنزلت الآية، فضاعف اللَّه له صدقته ألفي ألف وذلك قوله: «أَضْعَافًا كَثِيرَةً».

التّفسير

هذه الآيات تشرع في حديثها عن الجهاد. في البداية تقول الآية: «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». يسمع أحاديثكم ويعلم نيّاتكم ودوافعكم النفسية في الجهاد.

ثم يضيف القرآن في الآية التالية: «مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً». أي: ينفق من الأموال التي رزقه اللَّه تعالى إيّاها في طريق الجهاد وحماية المستضعفين والمعوزين. فعلى هذا يكون إقراض اللَّه تعالى بمعنى المصارف التي ينفقها الإنسان في طريق الجهاد.

وفي ختام الآية يقول: «وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

وتشير الآية إلى أنّه لا تتصوروا إنّ الإنفاق والبذل سوف يؤدّي إلى قلة أموالكم، لأنّ سعة وضيق ارزاقكم بيد اللَّه.

لماذا ورد التعبير بالقرض؟ لقد ورد التعبير بالقرض في مورد الإنفاق في عدّة آيات قرآنية، وهذا من جهة يحكي عظيم لطف اللَّه بالنسبة لعباده، وأهمية مسألة الإنفاق من جهة اخرى.

يقول الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة الخطبة (183): «واستقرضكم وله خزائن السماوات والأرض وهو الغنيّ الحميد وإنّما أراد أن يبلوكم أيّكم أحسن عملًا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 201

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ

هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَنْ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَ مَا لَنَا أَنْ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَ أَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَ زَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَ آلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَ جُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَ جُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَ انْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَ لَوْ لَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

مختصر الامثل، ج 1،

ص: 202

مختصر الامثل ج 1 239

اليهود الذين كانوا قد استضعفوا تحت سلطة الفراعنة استطاعوا أن ينجوا من وضعهم المأساوي بقيادة موسى عليه السلام الحكيمة حتى بلغوا القوّة والعظمة. لقد أنعم اللَّه على اليهود ببركة نبيّهم الكثير من النِعم بما فيها «صندوق العهد»، إلّاأنّ تلك النِعم والانتصارات أثارت في اليهود الغرور شيئاً فشيئاً، وأخذوا بمخالفة القوانين، وأخيراً اندحروا على أيدي الفلسطينيين وخسروا قوّتهم ونفوذهم بخسارتهم صندوق العهد.

استمرّت حالهم على هذا سنوات طوالًا، إلى أن أرسل إليهم اللَّه نبيّاً اسمه «اشموئيل» لإنقاذهم وهدايتهم، فتجمّع حوله اليهود الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بالظلم وكانوا يبحثون عن ملجأ يأوون إليه، وطلبوا منه أن يختار لهم قائداً وأميراً لكي يتوحّدوا تحت لوائه، ويحاربوا العدوّ متّحدين يداً ورأياً، لإستعادة عزّتهم الضائعة.

فتوجّه اشموئيل إلى اللَّه يعرض عليه ما يطلبه القوم فأوحى إليه: أن اخترنا «طالوت» ملكاً عليهم.

التّفسير

في أوّل آية يخاطب اللَّه تعالى نبيّه الكريم ويقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِىّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلَكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».

«الملأ»: هم الجماعة يجتمعون على رأي فيملأون العيون رواءً ومنظراً والنفوس بهاءً وجلالًا ولذلك يقال لأشراف كل قوم (الملأ) لأنّهم بما لهم من مقام ومنزلة يملأون العين.

وعلى الرغم من أنّ الجماعة المذكورة كانت تريد أن تدفع العدو المعتدي الذي أخرجهم من أرضهم ويعيدوا ما اخذ منهم، فقد وُصفت تلك الحرب بأنّها في سبيل اللَّه، وبهذا يتبين أنّ ما يساعد على تحرر الناس وخلاصهم من الأسر ورفع الظلم والعدوان يعتبر في سبيل اللَّه.

ولما كان نبيهم يعرف فيهم الضعف والخوف قال لهم: يمكن أن يصدر إليكم الأمر للجهاد فلا تطيعون «قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا

تُقَاتِلُوا».

ولكنهم قالوا: كيف يمكن أن نتملّص من محاربة العدو الذي أجلانا عن أوطاننا وفرّق

مختصر الامثل، ج 1، ص: 203

بيننا وبين أبنائنا «قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا» وبذلك أعلنوا وفاءهم وتمسكهم بالعهد.

ومع ذلك فإنّ هذا الجمع من بني إسرائيل لم يمنعهم اسم اللَّه ولا أمره ولا الحفاظ على استقلالهم والدفاع عن وجودهم ولا تحرير أبنائهم من نقض العهد، ولذلك يقول القرآن مباشرة بعد ذلك: «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ».

وذكر صاحب تفسير روح المعاني (والتفسير الكبير أيضاً) أنّ عدّة من بقي مع طالوت (313 نفر) بعدد جيش الإسلام يوم بدر.

وعلى كل حال فإنّ نبيّهم أجابهم على طلبهم التزاماً منه بواجبه وجعل عليهم طالوت ملكاً بأمر من اللَّه تعالى: «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا».

يظهر من كلمة «ملكاً» أنّ طالوت لم يكن قائداً للجيش فحسب، بل كان ملكاً على ذلك المجتمع.

ومن هنا بدأت المخالفات والاعتراضات وقال بعضهم: «قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ».

وهذا هو أوّل اعترضاً ونقض في العهد من قِبل بني إسرائيل لنبيّهم مع أنّه قد صرح لهم أنّ اللَّه هو اختار طالوت، وفي الواقع أنّهم اعترضوا على اللَّه تعالى.

غير أنّ القرآن الكريم يشير إلى الجواب القاطع على هذا الاعتراض إذ يقول: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ».

وهذا يعني أوّلًا: أنّ هذا الاختيار هو اختيار اللَّه تعالى؛ وثانياً: إنّكم على خطأ كبير في تشخيص شرائط القيادة، لأنّ النسب الرفيع والثروة الكبيرة ليستا امتيازين للقائد إطلاقاً لأنّهما من الامتيازات الاعتبارية الخارجيّة، أمّا العلم والمعرفة وكذلك القوة الجسمية فهما

امتيازان واقعيان ذاتيان حيث يلعبان دوراً مهماً في شخصية القائد.

ثم تضيف الآية: «وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى شرط ثالث للقائد، وهو توفير اللَّه تعالى الإمكانيات وآليات القيادة ووسائل الحكم.

الآية التالية تبين أنّ بني إسرائيل لم يكونوا قد اطمأنوا كل الاطمئنان إلى أنّ طالوت مبعوث من اللَّه تعالى لقيادتهم على الرغم من أنّ نبيهم صرح بذلك لهم ولهذا طلبوا منه

مختصر الامثل، ج 1، ص: 204

الدليل، فكان جوابه أنّ الدليل سيكون مجي ء التابوت أو صندوق العهد إليهم: «وَقَالَ لَهُمُ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ».

إنّ التابوت هو الصندوق الذي وضعت فيه ام موسى ابنها موسى وألقته في اليم، وبعد أن انتشل أتباع فرعون الصندوق من البحر وأتوا به إليه وأخرجوا موسى منه، ظل الصندوق في بيت فرعون ثم وقع بأيدي بني إسرائيل، فكانوا يحترمونه ويتبركون به.

موسى عليه السلام وضع فيه الألواح المقدسة- التي تحمل على ظهرها أحكام اللَّه- ودرعه وأشياء اخرى تخصّه وأودع كل ذلك في أواخر عمره لدى وصيه يوشع ابن نون.

وبهذا ازدادت أهمية هذا الصندوق عند بني إسرائيل، فكانوا يحملونه معهم كلما نشبت حرب بينهم وبين الأعداء، ليصعّد معنوياتهم.

ولكن بعد هبوط التزاماتهم الدينية وغلبة الأعداء عليهم سلب منهم الصندوق.

واشموئيل- كما تذكر الآية- وعدهم بإعادة الصندوق باعتباره دليلًا على صدق قوله.

«فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هرُونَ».

هذه الفقرة من الآية تبين أنّ الصندوق كما قلنا كان يحتوي على أشياء تضفي السكينة على بني إسرائيل وترفع معنوياتهم في الحوادث المختلفة.

«تَحْمِلُهُ الْمَلِكَةُ».

كيف جاء الملائكة بصندوق العهد؟ جاء في التاريخ أنّه عندما وقع صندوق العهد بيد عبدة الأصنام في فلسطين وأخذوه إلى حيث يعبدون فيه

أصنامهم، أصابتهم على أثر ذلك مصائب كثيرة، فقال بعضهم: ما هذه المصائب إلّابسبب هذا الصندوق، فعزموا على إبعاده عن مدينتهم وديارهم، ولمّا لم يرض أحد بالقيام بالمهمة اضطّروا إلى ربط الصندوق ببقرتين وأطلقوهما في الصحراء، واتفق هذا في الوقت الذي تمّ فيه نصب طالوت ملكاً على بني إسرائيل. وأمر اللَّه الملائكة أن يسوقوا الحيوانين نحو مدينة اشموئيل. وعندما رأى بنو إسرائيل الصندوق بينهم، اعتبروه إشارة من اللَّه على اختيار طالوت ملكاً عليهم.

وعليه نسب حمل الصندوق إلى الملائكة، لأنّهم هم الذين ساقوا البقرتين إلى بني إسرائيل.

ويستفاد مما تقدم أنّه بالرغم من ثبوت مسألة القيادة الإلهية لطالوت بالأدلة والمعاجز الإلهيّة، فهناك بعض الأفراد لضعف إيمانهم لم يسلّموا إلى هذا الحق، وقد ظهرت هذه الحقيقة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 205

على أعمالهم العبادية، ومن ذلك تشير الجملة الأخيرة في هذه الآية: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

ثم إنّ بني إسرائيل رضخوا لقيادة طالوت فصنع منهم جيوشاً كثيرة وساروا إلى القتال، وهنا تعرض بني إسرائيل لاختبار عجيب ومن الأفضل أن نجمع تلك الأحداث ومجريات الامور من القرآن نفسه حيث يقول: «فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» «1».

ويتضح في هذه الموارد الإمتحان الكبير الذي تعرض له بنو إسرائيل وهو المقاومة الشديدة للعطش وكان هذا الامتحان ضرورياً لجيش طالوت وخاصة مع سوابق هذا الجيش السيئة في بعض الحروب السابقة لأنّ الانتصار يتوقف على مقدار الانضباط وقدرة الإيمان والاستقامة في مقابل الأعداء والطاعة لأوامر القيادة.

وشرب الأكثرية كما قلنا في سرد الحكاية وكما جاء بإيجاز في الآية.

وهكذا جرت التصفية الثانية في جيش طالوت، وكانت التصفية

الاولى عندما نادى المنادي للاستعداد للحرب وطلب الجميع بالاشتراك في الجهاد إلّاالذين كانت لهم التزامات تجارية أو عمرانية أو نظائرها.

«فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَاطَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ».

تفيد هذه الآية أنّ تلك القلة التي نجحت في الامتحان هي وحدها التي تحرّكت معه، ولكن عندما خطر لهؤلاء القلة أنّهم مقدمون على مواجهة جيش جرّار وقوي، ارتفعت أصواتهم بالتباكي على قلة عددهم، وهكذا بدأت المرحلة الثالثة في التصفية.

«قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُّلقُوا اللَّهِ كَمْ مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ». إنّ «يظنّون» هنا تعني يعلمون، أي أنّهم على يقين من قيام يوم القيامة.

في الآية التالية يذكر القرآن الكريم موضوع المواجهة الحاسمة بين الجيشين ويقول: «وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».

«برزوا»: من مادة «بروز» بمعنى الظهور، فعندما يستعد المحارب للقتال ويتّجه إلى

______________________________

(1) «جنود»: جمع «جند» في الأصل بمعنى الأرض الكثيره الأحجار والمتراكمة الصخور ثم اطلقت على كل شي ء متراكم وعادةً تأتي بمعنى الجيش الكبير.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 206

الميدان يقال أنّه برز للقتال، وإذا طلب القتال من الأعداء يقال أنّه طلب مبارزاً. انّ طالوت وجنوده طلبوا من اللَّه العلي القدير ثلاثة امور، الأوّل: الصبر والاستقامة، الثاني: أن يثبّت أقدامهم حتى لا يُرجّح الفرار على القرار، الثالث: من الامور التي طلبها جيش طالوت هو «وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» وهو في الواقع الهدف الأصلي من الجهاد ويُنفّذ النتيجة النهائية للصبر والإستقامة وثبات الأقدام.

ومن المسلّم أنّ اللَّه تعالى سوف لا يترك عبادة هؤلاء لوحدهم أمام الأعداء مع قلة عددهم وكثرة جيش العدو، ولذلك تقول الآية التالية: «فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ».

وكان داود في

ذلك الوقت شابّاً صغير السن وشجاعاً في جيش طالوت. أنّ داود كان ماهراً في قذف الحجارة بالقلّاب حيث وضع في قلّابه حجراً أو اثنين ورماه بقوة وبمهارة نحو جالوت، فأصاب الحجر جبهته بشدة فصرعه في الوقت، فتسّرب الخوف إلى جميع أفراد جيشه، فانهزموا بسرعة أمام جيش طالوت، وكأنّ اللَّه تعالى أراد أن يظهر قدرته في هذا المورد وأنّ الملك العظيم والجيش الجرّار لا يستطيع الوقوف أمام شاب مراهق مسلح بسلاح ابتدائي لا قيمة له.

تضيف الآية: «وَءَاتَيهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ». وعلى الرّغم من أنّ الآية لا تقول أنّ داود هذا هو داود النبي والد سليمان عليهما السلام ولكن جملة «وَءَاتَيهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ» تدلّ على أنّه وصل إلى مقام النبوة.

وفي ختام الآية إشارة إلى قانون كلي فتقول: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ».

وهذه الآيات بشارة للمؤمنين الذين يقفون في مواقع أمامية من مواجهة الطواغيت والجبابرة فينتظرون نصرة اللَّه لهم.

و آخر آية في هذا البحث تقول: «تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ».

تشير هذه الآية إلى القصص الكثيرة التي وردت في القرآن بشأن بني إسرائيل وأنّ كلّا منها دليل على قدرة اللَّه وعظمته ومنزهة عن كل خرافة واسطورة (بالحق) حيث نزلت على نبي الأكرم صلى الله عليه و آله وكانت إحدى دلائل صدق نبوته وأقواله.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 207

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَ آتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ

آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) دور الأنبياء في حياة البشر: هذه الآية تشير إلى درجات الأنبياء ومراتبهم وجانباً من دورهم في حياة المجتمعات البشرية، تقول الآية: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ».

«مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ». هذه إشارة إلى بعض فضائل الأنبياء، وواضح أنّ المقصود بالآية موسى عليه السلام المعروف باسم «كليم اللَّه».

ثم تضيف الآية: «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ». ومع الإلتفات إلّاأنّ الآية أشارت إلى التفاضل بين الأنبياء بالدرجات والمراتب، فيمكن أن يكون المراد في هذا التكرار إشارة إلى أنبياء معينين وعلى رأسهم نبي الإسلام الكريم لأنّ دينه آخر الأديان وأكملها.

أو أنّ المقصود من بعض الأنبياء السابقين، مثل إبراهيم إذ يقول سبحانه في الآية التالية:

«وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم». أي: لو شاء اللَّه ما أخذت امم هؤلاء الأنبياء تتقاتل فيما بينها بعد رحيل أنبيائها.

«وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيَّدْنهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ». أي أنّنا وهبنا عيسى عليه السلام براهين واضحة مثل شفاء المرضى المزمنين وإحياء الموتى والمعارف الدينية السامية.

أمّا المراد من (روح القدس) هو جبرائيل حامل الوحي الإلهي.

وتشير الآية كذلك إلى وضع الامم والأقوام السالفة بعد الأنبياء والاختلافات التي جرت بينهم فتقول: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ».

فمقام الأنبياء وعظمتهم لن يمنعا من حصول الاختلافات والإقتتال والحرب بين أتباعهم لأنّها سنّة إلهية أن جعل اللَّه الإنسان حرّاً ولكنه أساء الاستفادة من هذه الحرية: «وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ».

ثم تؤكد الآية أنّ اللَّه تعالى قادر على منع الاختلافات بين الناس بالإرادة التكوينية وبالجبر، ولكنه يفعل ما يريد وفق الحكمة المنسجمة مع تكامل الإنسان

ولذلك تركه مختاراً

مختصر الامثل، ج 1، ص: 208

«وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ».

ولا شك في أنّ بعض الناس أساء استخدام هذه الحرية، ولكن وجود الحرية في المجموع يُعتبر ضرورياً لتكامل الإنسان لأنّ التكامل الإجباري لا يُعدّ تكاملًا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَ لَا خُلَّةٌ وَ لَا شَفَاعَةٌ وَ الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) الإنفاق من أهمّ أسباب النجاة يوم القيامة: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الامم الماضية وجهاد حكوماتها الإلهيّة والاختلافات التي حدثت بعد الأنبياء عليهم السلام تخاطب هذه الآية المسلمين وتشير إلى أحد الواجبات المهمة عليهم التي تسبّب في تقوية بنيتهم الدّفاعيّة وتوحّد كلمتهم فتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم».

جملة «مِمَّا رَزَقْنَاكُم» لها مفهوم واسع حيث يشمل الإنفاق الواجب والمستحب وكذلك الإنفاق المعنوي كالتعليم وأمثال ذلك، ولكن مع الإلتفات إلى التهديد الوارد في ذيل الآية لا يبعد أن يكون المراد به الإنفاق الواجب يعني الزكاة وأمثالها، مضافاً إلى أنّ الإنفاق الواجب هو الّذي يعزّز بيت المال ويقوّم كيان الحكومة.

ثم تضيف الآية: «مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّابَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ» «1».

«وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ». لأنّهم بتركهم الإنفاق والزكاة يظلمون أنفسهم ويظلمون الناس.

إنّ الكفر في الآية يعني التمرد والعصيان والتخلف عن إطاعة أمر اللَّه.

اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لَا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَ هُوَ الْعَلِيُّ

الْعَظِيمُ (255)

______________________________

(1) «خُلّة»: مأخوذة من مادة «خلل» بمعنى الفاصلة بين شيئين وبما أنّ المحبّة والصداقة تحل في وجود الإنسان وروحه وتملأ الفواصل لذا اطلقت هذه المفردة على الصداقة العميقة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 209

آيةالكرسي من أهم آيات القرآن: يكفي لبيان أهمية وفضيلة هذه الآية ما جاء في تفسير مجمع البيان عن ابي بن كعب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «يا أبا المنذر! أيّ آية في كتاب اللَّه أعظم؟» قلت: اللَّه لا إله إلّا هو الحي القيوم. قال: فضرب في صدري، ثم قال: «لِيَهْنِئْكَ العلم. والذي نفس محمّد بيده! إنّ لهذه الآية للساناً وشفتين، تقدس الملك عند ساق العرش».

وفي حديث آخر في المجمع عن عليّ عليه السلام قال سمعت رسول اللَّه يقول: «... سيّد القرآن البقرة وسيّد البقرة آية الكرسي. يا علي! إنّ فيها لخمسين كلمة في كل كلمة خمسون بركة».

وروى في المجمع عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ آية الكرسي مرّة، صرف اللَّه عنه ألف مكروه من مكاره الدنيا وألف مكروه من مكاره الآخرة، أيسر مكروه الدنيا الفقر وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر».

وعن في المجمع أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إنّ لكل شي ء ذروة وذروة القرآن آية الكرسي».

تبدأ الآية بذكر الذات المقدسة ومسألة التوحيد في الأسماء الحسنى والصفات العُليا للَّه عزّ وجلّ فتقول: «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ».

«اللَّه»: يعني الذات الواحدة الجامعة لصفات الكمال، إنّه خالق عالم الوجود.

«الحي»: من كانت فيه حياة، وهذه الصفة المشبّهة كمثيلاتها تدلّ على الدوام والاستمرار، وحياة اللَّه حياة حقيقية لأنّ حياته عين ذاته وليس عارضة عليه مأخوذة من غيره، في الآية (58) من سورة الفرقان يقول: «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىّ الَّذِى لَايَمُوتُ».

«القيوم»: صيغة مبالغة من القيام.

لذلك فالكلمة تدلّ على الموجود الذي قيامه بذاته، وقيام كل الكائنات بوجوده.

ويتضح من هذا أنّ «قيّوم» هي في الواقع أساس كل صفات الفعل، وعليه فإنّ صفات الخالق والرازق والهادي والمحيي وأمثالها تتجمع كلها في «القيّوم».

وفي الحقيقة أنّ (الحي) يشمل جميع الصّفات الإلهية كالعلم والقدرة والسميع والبصير وأمثال ذلك، و (القيوم) تتحدث عن احتياج جميع المخلوقات إليه، ولذا قيل أنّ الاسم الأعظم الإلهي هو مجموع هاتين الصفتين.

ثم تضيف الآية: «لَاتَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ». «سنة»: عبارة عن النوم العارض للعين ولكن عندما يتوغّل كثيراً في الإنسان ويتعمّق ويعرض على العقل فيقال له (نوم).

وتشير هذه الآية إلى حقيقة استمرار فيض اللطف الإلهي وديمومته وعدم انقطاعه عن وجوده لحظة واحدة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 210

«لَّهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». لا يكون هناك قيام بشؤون العالم بغير ملكية السماوات والأرض وما فيها، لذلك فهذه الآية- بعد ذكر قيومية اللَّه- تشير إلى حقيقة كون العالم كله ملك خاص للَّه، وأنّ كل تصرف يحدث فيه فبأمر منه.

من الواضح أنّ التقيد بهذا يعتبر في الواقع عاملًا مهماً من عوامل التربية، إذا اعتقد الإنسان أنّه ليس المالك الحقيقي لما يملك وإنّما هو يتصرف به لفترة قصيرة من الزمن، فسيمتنع- دون شكّ- عن الإعتداء على حقوق الآخرين وعن الحرص والطمع والاحتكار والبخل وأمثالها مما يتولد في الإنسان نتيجة التصاقه بالدنيا، فيكون ذلك مدعاةً لتربيته تربية تجعله قانعاً بحقوقه المشروعة.

«مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ». وهذا ردّ على ادعاء المشركين الذين يقولون إننا نعبد الأوثان لتكون شفعاءنا عند اللَّه كما ورد في الآية (3) من سورة الزمر: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى .

وهذه الآية من نوع الاستفهام الاستنكاري، أي ما من أحد

يتقدم بشفاعة إليه إلّابإذنه.

هذه الآية تكمل معنى قيومية اللَّه ومالكيته المطلقة لجميع ما في عالم الوجود.

«يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ». بعد الإشارة إلى الشفاعة في الآية السابقة، وإلى أنّ هذه الشفاعة لا تكون إلّابإذن اللَّه، تأتي هذه الجملة لبيان سبب ذلك فتقول إنّ اللَّه عالم بماضي الشفعاء ومستقبلهم، وبما خفي عليهم أيضاً.

وعلى هذا فأنّ اللَّه محيط بكلّ أبعاد الزمان والمكان فكل عمل حتى الشفاعة يجب أن تكون بإذنه.

وفي ثامن صفة مقدسة تقول الآية: «وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ».

ومن هذه الفقرة من الآية يستفاد أمرين:

الأوّل: أنّه لا أحد يعلم شيئاً بذاته، فجميع العلوم والمعارف البشرية إنّما هي من اللَّه تعالى.

والآخر: هو أنّ اللَّه تعالى قد يضع بعض العلوم الغيبية في متناول من يشاء من عباده فيطلعهم على ما يشاء من أسرار الغيب.

وفي تاسع وعاشر صفة إلهية تقول الآية: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يُودُهُ حِفْظُهُمَا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 211

وفي الصفة الحادية عشر والثانية عشر تقول الآية: «وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ».

وعلى هذا أنّ العرش حكومة اللَّه وقدرته يهيمن على السموات والأرض جميعاً وأنّ كرسىّ علمه يحيط بكل هذه العوالم، وما من شي ء يخرج عن نطاق حكمه ونفوذ علمه. أي أنّ اللَّه الذي هو أرفع وأعلى من كل شبيه وشريك، ومنزه عن كل نقص وعيب، وهو العظيم اللّامحدود، لا يصعب عليه أي عمل ولا يتعبه حفظ عالم الوجود وتدبيره، ولا يغفل عنه أبداً، وعلمه محيط بكل شي ء.

بل يستفاد من بعض الروايات أنّ الكرسي أوسع بكثير من السماوات والأرض. فقد جاء في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «ما السماوات والأرض عند الكرسي إلّا كحلقة خاتم في فلاة، وما الكرسي عند العرش إلّاكحلقة

في فلاة».

لم يتوصّل العلم البشري بَعد لمعرفته وكشف الستار عن هذا المعنى.

إنّ جميع الروايات التي اوردت فضيلة آية الكرسي وعبّرت عنها بآية الكرسي تدلّ على أنّها آية واحدة لا أكثر.

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في رجل من الأنصار يدعى أبا الحصين. وكان له ابنان، فقدم تجّار الشام إلى المدينة، يحملون الزيت. فلمّا أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النصرانية، فتنصّرا ومضيا إلى الشام. فأخبر أبو الحصين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فأنزل اللَّه تعالى «لَاإِكْرَاهَ فِى الدّينِ».

التّفسير

إنّ آية الكرسي هي مجموعة من توحيد اللَّه تعالى وصفاته الجمالية والجلالية التي تشكّل أساس الدين، وبما أنّها قابلة للأستدلال العقلي في جميع المراحل وليست هناك حاجة للإجبار والإكراه تقول هذه الآية: «لَاإِكْرَاهَ فِى الدّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىّ».

«الرشد»: لغوياً تعني الهداية للوصول إلى الحقيقة، بعكس (الغيّ) التي تعني الانحراف عن الحقيقة والإبتعاد عن الواقع.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 212

وهذه الآية ردّ حاسم على الذين يتهمّون الإسلام بأنّه توسل أحياناً بالقوة وبحدّ السيف والقدرة العسكرية في تقدمه وإنتشاره.

ثم إنّ الآية الشريفة تقول كنتيجة لما تقدم: «فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَاانْفِصَامَ لَهَا».

«الطاغوت»: صيغة مبالغة من طغيان، بمعنى الإعتداء وتجاوز الحدود، ويطلق على كل ما يتجاوز الحد، لذلك فالطاغوت هو الشيطان والصنم والمعتدي والحاكم الجبار والمتكبر، وكل معبود غير اللَّه، وكل طريق لا ينتهي إلى اللَّه.

والمقصود بالطاغوت هو كل متعدّ للحدود وكل مذهب منحرف ضال.

«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». الإشارة في نهاية الآية إلى الحقيقة

القائلة إنّ الكفر والإيمان ليسا من الامور الظاهرية، لأنّ اللَّه عالم بما يقوله الناس علانية- وفي الخفاء- وكذلك هو عالم بما يكنّه الناس في ضمائرهم وقلوبهم.

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) بعد أن أشير في الآيات السابقة إلى مسألة الإيمان والكفر وإتضاح الحق من الباطل والطريق المستقيم عن الطريق المنحرف توضّح هذه الآية الكريمة إستكمالًا للموضوع أنّ لكل من المؤمن والكافر قائداً وهادياً فتقول: «اللَّهُ وَلِىُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا». فهم يسيرون في ظل هذه الولاية من الظلمات إلى النور: «يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ».

ثم تضيف الآية إنّ أولياء الكفار هم الطاغوت (الأوثان والشيطان والحاكم الجائر وأمثال ذلك) فهؤلاء يسوقونهم من النور إلى الظلمات: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ» ولهذا السبب «أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 213

تعقيباً على الآية السابقة التي تناولت هداية المؤمنين بواسطة نور الولاية والهداية الإلهيّة، وضلال الكافرين لإتّباعهم الطاغوت، يذكر اللَّه تعالى في هذه الآية: عدة شواهد لذلك، وأحدها ما ورد في الآية أعلاه وهي تتحدث عن الحوار الذي دار بين إبراهيم عليه السلام وأحد الجبارين في زمانه ويدعى (نمرود) فتقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْرهِيمَ فِى رَبّهِ».

وتعقّب الآية بجملة اخرى تشير فيها إلى الدافع الأساس لها

وتقول: إنّ ذلك الجبار تملّكه الغرور والكبر وأسكره الملك «أَن ءَاتَيهُ اللَّهُ المُلْكَ».

وما أكثر الأشخاص الذين نجدهم في الحالات الطبيعية أفراد معتدلين ومؤمنين، ولكن عندما يصلون إلى مقام أو ينالون ثروةً فإنّهم ينسون كل شي ء ويسحقون كل المقدسات.

وتضيف الآية أنّ ذلك الجبار سأل إبراهيم عن ربّه: من هو الإله الذي تدعوني إليه؟ «إِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ رَبّىَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ».

الواقع أنّ أعظم قضية في العالم هي قضية الخلقة، يعني قانون الحياة والموت الذي هو أوضح آية على علم اللَّه وقدرته.

ولكن نمرود الجبار إتّخذ طريق المجادلة والسفسطة وتزييّف الحقائق لإغفال الناس والملأ من حوله فقال: إنّ قانون الحياة والموت بيدي «قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ».

ومن أجل إثبات هذه الدعوى الكاذبة استخدم حيلة كما ورد في الرواية المعروفة حيث أمر بإحضار سجينين أطلق سراح أحدهما وأمر بقتل الآخر، ثم قال لإبراهيم والحضّار:

أرأيتم كيف أحيي واميت.

ولكن إبراهيم قدّم دليلًا آخر لإحباط هذه الحيلة وكشف زيف المدعي بحيث لا يمكنه بعد ذلك من إغفال الناس فقال: «قَالَ إِبْرهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ» وهنا ألقم هذا المعاند حجراً «فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

وبهذا اسقط في يدي العدوّ المغرور، وعجز عن الكلام أمام منطق إبراهيم عليه السلام الحي، وهذا أفضل طريق لاسكات كل عدوّ عنيد.

ويتضح ضمناً من جملة «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» أنّ الهداية والضلالة بالرغم من أنّهما من أفعال اللَّه تعالى، إلّاأنّ مقدماتهما بيد العباد، فارتكاب الآثام من قبيل الظلم والجور والمعاصي المختلفة تشكّل على القلب والبصيرة حُجُباً مظلمة تمنع من ادراك الحقائق على حقيقتها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 214

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ

مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَ شَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (259) هذه الآية تقصّ حكاية أحد الأنبياء القدامى، وهي من الشواهد الحيّة على مسألة البعث. الآية تشير إلى حكاية رجل سافر على حماره ومعه طعام وشراب، فمرّ بقرية قد تهدّمت وتحوّلت إلى أنقاض تتخلّلها عظام أهاليها النخرة، وإذ رأى هذا المشهد المروع قال:

كيف يقدر اللَّه على إحياء هؤلاء الأموات؟

عند ذلك أماته اللَّه مدة مائة سنة، ثم أحياه مرّة اخرى وسأله: كم تظنّ أنّك بقيت في هذه الصحراء؟ فقال وهو يحسب أنّه بقي سويعات: يوماً أو أقل، فخاطبه اللَّه بقوله: بل بقيت هنا مائة سنة، انظر كيف أنّ طعامك وشرابك طوال هذه المدة لم يصبه أي تغيّر بإذن اللَّه. ولكن لكي تؤمن بأنّك قد أمضيت مائة سنة كاملة هنا انظر إلى حمارك الذي تلاشى ولم يبق منه شي ء بموجب نواميس الطبيعة، بخلاف طعامك وشرابك، ثم انظر كيف إننا نجمع أعضاءه ونحييه مرّة اخرى، فعندما رأى كل هذه الامور أمامه قال: «أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». أي: إنّني الآن على يقين بعد أن رأيت البعث بصورة مجسمة أمامي.

ومَن هذا النبي الذي تحدثت عنه هذه الآية؟ جاء في تفسير مجمع البيان: إنّ أشهر الأقوال: إنّه «العزير» ويؤيده حديث عن الإمام الصادق عليه السلام.

نعود إلى تفسير الآية: «أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْىِ هذِهِ اللَّهُ

بَعْدَ مَوْتِهَا».

هذه الآية تكملة للآية السابقة التي دارت حول التوحيد، هذه الآية والآيات التالية تجسّد مسألة المعاد.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 215

«عروش»: جمع عرش وهنا تعني السقف؛ و «خاوية»: في الأصل بمعنى خالية ولكنها هنا كناية عن الخراب والدمار وعليه فإنّ قوله «وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا» تعني أنّ دور تلك القرية كانت كلها خربة، فقد هوت سقوفها ثم انهارت الجدران عليها وهذا هو الخراب التام.

«فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ». إنّ ظاهر الآية يدل على أنّ النبي قد فارق الحياة، وبعد مائة سنة استأنف الحياة مرة اخرى، ولا شك أنّ موتاً وحياة كهذين هما من خوارق العادات، وإن لم يكن مستحيلًا، وعلى كل حال فإنّ الحوادث الخارقة للعادة في القرآن ليست منحصرة بهذه الحادثة بحيث نعمد إلى تأويلها.

«قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ». يسأل اللَّه نبيه في هذه الآية عن المدّة التي قضاها في النوم، فيتردد في الجواب بين قضائه يوماً كاملًا أو جزءاً من اليوم، ويستفاد من هذا التردّد أنّ الساعة التي أماته اللَّه فيها تختلف عن الساعة التي أحياه فيها من ساعات النهار، كأن تكون إماتته قد حدثت مثلًا قبل الظهر، واعيد إلى الحياة بعد الظهر، لذلك انتابه الشكّ إن كان قد نام يوماً كاملًا بليله ونهاره، أم أنّه لم ينم سوى بضع ساعات من النهار، ولهذا بعد أن قال إنّه قضى يوماً، راوده الشك فقال: «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ». ولكنّه ما لبث أن سمع اللَّه يقول له: «بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ».

ثم أنّ اللَّه تعالى أمر نبيّه بأن ينظر إلى طعامه الذي كان معه من جهة، وينظر إلى مركوبه من جهة اخرى ليطمئن إلى واقعية الأمر فالأوّل بقي سالماً تماماً، أمّا الثاني

فتلاشى وأصبح رميماً، ليعلم قدرة اللَّه على حفظ الأشياء القابلة للفساد خلال هذه الأعوام ويدرك من جهة اخرى مرور الزمان على وفاته: «فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ». أي أنّ اللَّه القادر على إبقاء ما يسرع إليه التفسّخ والفساد كالطعام والشراب، قادر أيضاً على إحياء الموتى بيسر، فإبقاء الطعام والشراب نوع من إدامة الحياة لهذه المواد السريعة التفسّخ وعملية الإبقاء هذه ليست بأيسر من إحياء الموتى.

«وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ». إنّ الآيات التالية تشير إلى أنّ حماره قد تلاشى تماماً بمضيّ الزمان ولولا ذلك لما كان هناك ما يشير إلى انقضاء مائة سنة.

«وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ». أي أنّ حكايتك هذه ليست آية لك وحدك، بل هي كذلك للناس جميعاً.

«وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا». واضح أنّ العظام المقصودة هي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 216

عظام حماره المتلاشي، لا عظام أهل القرية لما في ذلك من انسجام مع الآيات السابقة.

«فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». عندما اتّضحت كل هذه المسائل للنبيّ المذكور قال إنّه يعلم أنّ اللَّه قادر على كل شي ء.

وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) تجلّ آخر للمعاد في هذه الدنيا: يذكر القرآن الكريم حول مسألة المعاد بعد قصّة عزير قصّة اخرى عن إبراهيم عليه السلام ليكتمل البحث، ويذكر معظم المفسرين والمؤرخين في تفسير هذه الآية الرواية التالية:

روى في الكافي (وفي تفسير العياشي أيضاً) عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّه

قال: لمّا رأى إبراهيم عليه السلام ملكوت السماوات والأرض التفت ... فرأى جيفة على ساحل البحر بعضها في الماء وبعضها في البرّ تجي ء سباع البحر فتأكل ما في الماء ثم ترجع فيشتمل على بعض فيأكل بعضها بعضاً وتجي ء سباع البرّ فتأكل منها فيشتمل بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضاً فعند ذلك تعجّب إبراهيم عليه السلام ممّا رأى وقال: يا ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟

هذه أمم يأكل بعضها بعضاً. قال: أوَلم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئنّ قلبي. يعني حتى أرى هذا كما رأيت الأشياء كلها. قال: خذ أربعة من الطير فقطّعنّ وأخلطهنّ كما اختلطت هذه الجيفة في هذه السباع التي أكل بعضها بعضاً فخلط ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزءاً ثم ادعهنّ يأتينك سعياً فلمّا دعاهنّ أجبنه وكانت الجبال عشرة، قال: وكانت الطيور: الديك، والحمامة، والطاووس والغراب.

«وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى .

سبق أن قلنا إنّ هذه الآية تكملة للآية السابقة في موضوع البعث، يفيد تعبير «أَرِنِى كَيْفَ ...» أنّه طلب الرؤية والشهود عياناً لكيفية حصول البعث لا البعث نفسه.

«قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى».

كان من الممكن أن يتصور بعضهم أنّ طلب إبراهيم عليه السلام هذا إنّما يدل على تزلزل إيمان

مختصر الامثل، ج 1، ص: 217

إبراهيم عليه السلام ولإزالة هذا التوهم أوحى إليه السؤال: «أوَلم تؤمن؟» لكي يأتي جوابه موضحاً الأمر، ومزيلًا كل التباس قديقع فيه البعض في تلك الحادثة، لذلك أجاب إبراهيم عليه السلام: «بَلَى وَلكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلبِى».

«قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا».

«صرهنّ»: من «الصَوْر» أي التقطيع، أو الميل، أو النداء، ومعنى التقطيع أنسب. أربعة من الطير واذبحهنّ وقطّعهنّ واخلطهنّ.

لقد كان

المقصود أن يشاهد إبراهيم عليه السلام نموذجاً من البعث وعودة الأموات إلى الحياة بعد أن تلاشت أجسادها.

وبذلك قام إبراهيم بهذا العمل وعندما دعاهنّ تجمّعت أجزائهنّ المتناثرة وتركبت من جديد وعادت إلى الحياة، وهذا الأمر أوضح لإبراهيم عليه السلام أنّ المعاد يوم القيامة سيكون كذلك على شكل واسع وبمقياس كبير جداً.

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) تعتبر مسألة الإنفاق إحدى أهمّ المسائل التي أكدّ عليها الإسلام والقرآن الكريم، والآية أعلاه هي أوّل آية في مجموعة الآيات الكريمة من سورة البقرة التي تتحدث عن الإنفاق، ولعل ذكرها بعد الآيات المتعلقة بالمعاد من جهة أنّ أحد الأسباب المهمة للنجاة في الآخرة هو الإنفاق في سبيل اللَّه. تقول الآية الشريفة: «مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ». فيكون المجموع المتحصّل من حبّة واحدة سبعمائة حبّة، وتضيف الآية بأنّ ثواب هؤلاء لاينحصر بذلك: «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ».

وذلك بإختلاف النيّات ومقدار الإخلاص في العمل وفي كيفيته وكميته. ولا عجب في هذا الثواب الجزيل لأنّ رحمة اللَّه تعالى واسعة وقدرته شاملة وهو مطلع على كل شي ء «وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

الإنفاق ومشكلة الفوارق الطبقية: بالتدقيق في آيات القرآن الكريم يتضح أنّ واحداً من الأهداف التي يسعى لها الإسلام هو إزالة هذه الفوارق غير العادلة الناشئة من الظلم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 218

الاجتماعي بين الطبقتين الغنية والفقيرة، ورفع مستوى معيشة الذين لا يستطيعون رفع حاجاتهم الحَيَوية ولا توفير حدّ أدنى من متطلباتهم اليومية دون مساعدة الآخرين.

وللوصول إلى هذا الهدف وضع الإسلام برنامجاً واسعاً يتمثّل

بتحريم الربا مطلقاً، وبوجوب دفع الضرائب الإسلامية كالزكاة والخمس، والحثّ على الإنفاق، والقرض الحسن، والمساعدات المالية المختلفة، وأهمّ من هذا كله هو إحياء روح الأخوة الإنسانية في الناس.

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَ لَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) الإنفاق المقبول: الآية السابقة بيّنت أهمية الإنفاق في سبيل اللَّه بشكل عام، ولكن هذه الآية بينت بعض شرائط هذا الإنفاق (ويستفاد ضمناً من عبارات هذه الآية أنّ الإنفاق هنا لا يختص بالإنفاق في الجهاد). تقول الآية: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا ... وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» «1».

يستفاد بوضوح من هذه الآية أنّ الإنفاق في سبيل اللَّه لا يكون مقبولًا عند اللَّه تعالى إذا تبعته المنة وما يوجب الأذى والألم للمعوزين والمحتاجين، وعليه فإنّ من ينفق ماله في سبيل اللَّه ولكنه يمنّ به على من ينفق عليه، أو ينفقه بشكل يوجب الأذى للآخرين فإنّه يحبط ثوابه وأجره بعمله هذا.

بل لعل المنة التي يمنّ بها عليه ونظرة التحقير التي ينظر بها إليه ذات أضرار باهضة يفوق ثمنها ما أنفقه من مال.

«لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ». تُطمئن هذه الآية المنفقين أنّ أجرهم محفوظ عند اللَّه لكي يواصلوا هذا الطريق بثقة ويقين، فما كان عند اللَّه باق ولا ينقص منه شي ء، بل أنّ عبارة (ربّهم) قد تشير إلى أنّ اللَّه تعالى سيزيد في أجرهم وثوابهم.

في تفسير البرهان، ذيل الآية مورد البحث، عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من أسدى إلى مؤمن معروفاً ثم آذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل صدقته».

______________________________

(1) «منّ»: بمعنى حجر الميزان المعروف ثم

اطلقت على النعم المهمة التي يلاحظ فيها الجانب العملي «ومنن اللَّه تعالى من هذا القبيل» وإن كان الملحوظ فيها الجانب اللفظي كانت قبيحة جدّاً وفي الآية أعلاه وردت بهذا المعنى الثاني.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 219

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) هذه الآية تكمّل ما بحثته الآية السابقة في مجال ترك المنّة والأذى عند الإنفاق والتصدّق فتقول: إنّ الكلمة الطيبة للسائلين والمحتاجين والصفح عن أذاهم أفضل من الصدقة التي يتبعها الأذى: «قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى».

ويجب أن يكون معلوماً أنّ ما تنفقوه في سبيل اللَّه فهو في الواقع ذخيرةٌ لكم لإنقاذكم ونجاتكم لأنّ اللَّه تعالى غير محتاج إليكم وإلى أموالكم وحليم في مقابل جهالاتكم «وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌ».

روي في تفسير مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث، عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها، ثم ردّوا عليه بوقار ولين إمّا ببذل يسير أو ردّ جميل، فإنّه قد يأتيكم من ليس بإنسٍ ولا جانٍ ينظرونكم كيف صنيعكم فيما خوّلكم اللَّه تعالى».

في هذا الحديث يبيّن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جانباً من آداب الإنفاق. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللَّهُ

بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) دوافع الإنفاق ونتائجه: في هاتين الآيتين نهي للمؤمنين عن المنّ والأذى عند إنفاقهم في سبيل اللَّه، لأنّ ذلك يحبط أعمالهم، ثم يضرب القرآن مثلًا للإنفاق المقترن بالمنّ والأذى، ومثلًا آخر للإنفاق المنطلق من الإخلاص والعواطف الإنسانية.

يقول تعالى في المثال الأوّل: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ...» «1».

______________________________

(1) قيل: إنّ حزقيل هو ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى (تفسير مجمع البيان).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 220

تصوّر قطعة حجر صلد تغطّيه طبقة خفيفة من التراب، وقد وضعت في هذا التراب بذور سليمة، ثم عرّض الجميع للهواء الطلق وأشعة الشمس، فإذا سقط المطر المبارك على هذا التراب لا يفعل شيئاً سوى اكتساح التراب والبذور وبعثرتها، ليظهر سطح الحجر بخشونته وصلابته التي لا تنفذ فيها الجذور، وهذا ليس لأنّ أشعة الشمس والهواء الطلق والمطر كان لها تأثير سي ء، بل لأنّ البذر لم يزرع في المكان المناسب، ظاهر حسن وباطن خشن لا يسمح بالنفوذ إليه، قشرة خارجية من التربة لا تعين على نموّ النبات الذي يتطلّب الوصول إلى الأعماق لتتغذّى الجذور.

ويشبّه القرآن الإنفاق الذي يصاحبه الرياء والمنة والأذى بتلك الطبقة الخفيفة من التربة التي تغطّي الصخرة الصلدة والتي لا نفع فيها، بل أنّها بمظهرها تخدع الزارع وتذهب بأتعابه أدراج الرياح، هذا هو المثل الذي ضربه القرآن في الآية الاولى للإنفاق المرائي الذي يتبعه المنّ والأذى.

وفي نهاية الآية يقول تعالى: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ». وهو إشارة إلى أنّ اللَّه تعالى سوف يسلبهم التوفيق والهداية، لأنّهم أقدموا على الرياء والمنّة والأذى بأقدامهم، واختاروا طريق الكفر باختيارهم ومثل هذا الشخص لا يليق بالهداية.

في الآية التالية نقرأ مثالًا جميلًا آخر يقع في النقطة المقابلة لهذه الطائفة من المنفقين، وهؤلاء هم الذين ينفقون

أموالهم في سبيل اللَّه بدافع من الإيمان والإخلاص فتقول الآية:

«وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ».

تصوّر هذه الآية مزرعة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة تستقبل الهواء الطلق وأشعة الشمس الوافرة والمطر الكثير النافع، وإذا لم يهطل المطر الوابل ينزل الطلّ وهو المطر الخفيف وذرات الهباب ليحافظ على طراوة المزرعة ولطافتها، فتكون النتيجة أنّ مزرعة كهذه تعطي ضعف ما تعطي المزارع الاخرى، فهذه الأرض فضلًا عن كونها خصبة بحيث يكفيها الطلّ والمطر الخفيف ناهيك عن المطر الغزير لإيناع حاصلها، وفضلًا عن كونها تستفيد كثيراً من الهواء الطلق وإشعة الشمس وتلفت الأنظار لجمالها، فإنّها لوقوعها على مرتفع تكون في مأمن من السيول.

فالآية الشريفة تريد أن تقول: إنّ الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللَّه لتمكّن الإيمان واليقين في قلوبهم وأرواحهم هم أشبه بتلك المزرعة ذات الحاصل الوافر المفيد والثمين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 221

وفي ختام الآية تقول: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». فهو سبحانه يعلم ما إذا كان الدافع على هذا الإنفاق إلهيّاً مقترناً بالمحبة والإحترام، أو للرياء المشفوع بالمنّة والأذى.

أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَ أَصَابَهُ الْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) هنا يضرب القرآن مثلًا آخر يبين حاجة الإنسان الشديدة إلى الأعمال الصالحات يوم القيامة، وكيف أنّ الرياء والمن والأذى تؤثّر على الأعمال الصالحات فتزيل بركتها.

يتجسّد هذا التمثيل في صاحب مزرعة مخضرة ذات أشجار متنوعة كالنخيل والأعناب، وتجري فيها المياه بحيث لا تتطلّب السقي، لكن السنون نالت من صاحبها وتحلّق حوله أبناؤه الضعفاء، وليس ثمة ما يقيم أودهم سوى

هذه المزرعة، فإذا جفّت فلن يقدر هو ولا أبناؤه على إحيائها، وفجأةً تهبّ عاصفة محرقة فتحرقها وتبيدها، في هذه الحالة ترى كيف يكون حال هذا العجوز الهرم الذي لا يقوى على الإرتزاق وتأمين معيشته ومعيشة أبنائه الضعفاء؟ وما أعظم أحزانه وحسراته!

«أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ» «1».

إنّ حال اولئك الذين يعملون عملًا صالحاً ثم يحبطونه بالرياء والمن والأذى أشبه بحال من تعب وعانى كثيراً حتى إذا حان وقت اقتطاف النتيجة ذهب كل شي ء ولم يبق سوى الحسرات والآهات. وتضيف الآية: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ».

لما كان منشأ كل تعاسة وشقاء- وعلى الأخص كل عمل أحمق كالمن على الناس- هو عدم إعمال العقل والتفكير في الامور، فإنّ اللَّه في ختام الآية يحثّ الناس على التعمق في التفكير في آياته: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ».

______________________________

(1) «الإعصار»: ريح تثير الغبار و هى تهب من اتجاهين مختلفين بحيث إنها تتجه من الأرض عمودياً إلى السماء.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 222

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

سبب النّزول

روى في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام أنّها نزلت في أقوام لهم أموال من ربا في الجاهلية، وكانوا يتصدّقون منها فنهاهم اللَّه عن ذلك وأمر بالصدقة من الطيّب الحلال.

التّفسير

الأموال التي يمكن إنفاقها: هذه الآية تبين نوعية الأموال التي يمكن أن تنفق في سبيل اللَّه. في بداية

الآية يأمر اللَّه المؤمنين أن ينفقوا من (طيبات) أموالهم. أي الأموال الجيدة النافعة والتي لا شبهة فيها من حيث حليتها. «وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ».

تقول هذه الآية: إننا وضعنا مصادر الثروة هذه تحت تصرفكم، لذلك ينبغي أن لا تمتنعوا عن إنفاق خير ما عندكم في سبيل اللَّه.

«وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بَاخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ» «1».

اعتاد معظم الناس أن ينفقوا من فضول أموالهم التي لا قيمة لها أو الساقطة التي لم تعد تنفعهم في شي ء، إنّ هذا النوع من الإنفاق لا هو يربّي روح المنفق، ولا هو يرتق فتقاً لمحتاج، بل لعلّه إهانة له وتحقير، فجاءت هذه الآية تنهى بصراحة عن هذا.

الآية تشير إلى فكرة عميقة وهي أنّ للإنفاق في سبيل اللَّه طرفين، فالمحتاجون في طرف، واللَّه في طرف آخر، فإذا اختير المال المنفق من زهيد الأشياء ففي ذلك إهانة لمقام اللَّه العزيز الذي لم يجده المنفق جديراً بطيبات ما عنده كما هو إهانة للذين يحتاجونه، وهم ربما يكونون من ذوي الدرجات الإيمانية السامية، وعندئذ يسبّب لهم هذا المال الردي ء الألم والعذاب النفسي.

وفي ختام الآية يقول: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ». أي لا تنسوا أنّ اللَّه لا حاجة به

______________________________

(1) «تيمّم»: في الأصل بمعنى القصد أي شي ء وجاءت هنا بهذا المعنى واطلقت هذه الكلمة على التيمم لأنّ الإنسان يقصد الاستفادة من التراب الطاهر كما يقول القرآن: «فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا» (سورة النساء/ 43).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 223

لإنفاقكم فهو غنيّ من كل جهة، بل أنّ جميع المواهب والنعم تحت أمره وفي دائرة قدرته، ولذلك فهو حميد ومستحق للثناء والحمد، لأنّه وضع كل هذه النعم بين أيديكم.

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً

مِنْهُ وَ فَضْلًا وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) مكافحة موانع الإنفاق: تشير الآية هنا وتعقيباً على آيات الإنفاق إلى أحد الموانع المهمة للإنفاق، وهو الوساوس الشيطانية، فتقول الآية في هذا الصدد: «الشَّيْطنُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ».

ويقول لكم: لا تنسوا مستقبل أطفالكم وتدبروا في غدكم، وأمثال هذه الوساوس المضلة، ومضافاً إلى ذلك يدعوكم إلى الإثم وإرتكاب المعصية: «وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ».

«الفحشاء»: تعني كل عمل قبيح وشنيع، ويكون المراد به في سياق معنى الآية البخل وترك الإنفاق في كثير من الموارد حيث يكون نوع من المعصية والإثم، لأنّ الإنفاق وإن بدأ في الظاهر أنّه أخذ، ولكنه في الواقع عطاء لرؤوس أموالهم مادياً ومعنوياً.

جاء في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «أنّ في الإنفاق شيئين من اللَّه وشيئين من الشيطان، فاللذان من اللَّه هما غفران الذنوب والسعة في المال، واللذان من الشيطان هما الفقر والأمر بالفحشاء».

«وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا». وعليه فإنّ المقصود بالمغفرة هو غفران الذنوب، والمقصود بالفضل هو إزدياد رؤوس الأموال بالإنفاق.

«وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». في هذا إشارة إلى أنّ للَّه قدرة واسعة وعلماً غير محدود، فهو قادر على أن يفي بما يعد، ولا شك أنّ المرء يطمئن إلى هذا الوعد، لا كالوعد الذي يعده الشيطان المخادع الضعيف الذي يجرّ المرء إلى العصيان، فالشيطان ضعيف وجاهل بالمستقبل، ولذلك ليس وعده سوى الضلال والتحريض على الإثم.

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) مع الإلتفات إلى ما تقدم في الآية السابقة التي تحدثت عن تخويف الشيطان من الفقر ووعد الرحمن بالمغفرة والفضل الإلهي، ففي هذه الآية مورد البحث دار الحديث عن الحكمة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 224

والمعرفة والعلم لأنّ الحكمة

فقط هي التي يمكنها التفريق والتمييز بين هذين الدافعين الرحماني والشيطاني وتدعوا الإنسان إلى ساحل المغفرة والرحمة الإلهية وترك الوساوس الشيطانية وعدم الإعتناء بالتخويف من الفقر. فتقول الآية: «يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ». وقد ذكر لكلمة «الحكمة» معان كثيرة منها (المعرفة والعلم بأسرار العالم) ومنها (العلم بحقائق القرآن) و (الوصول إلى الحق بالقول والعمل) و (معرفة اللَّه تعالى) و (أنّها النور الإلهي الذي يميّز بين وساوس الشيطان وإلهامات الرحمان).

والظاهر هو أنّ الحكمة تأتي بالمعنى الواسع حيث تشمل جميع هذه الامور بما فيها النبوّة التي هي نوع من العلم والإطلاع والإدراك.

«وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا».

رغم أنّ واهب الحكمة هو اللَّه فإنّ اسمه لم يرد في هذه الآية وإنّما بني الفعل للمجهول «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ».

«وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ».

«التذكّر»: هو حفظ العلوم والمعارف في داخل الروح، والألباب جمع لب وهو قلب كل شي ء ومركزه، ولهذا قيل العقل اللّب.

تقول هذه الفقرة من الآية إنّ أصحاب العقول هم الذين يحفظون هذه الحقائق ويتذكرونها، رغم أنّ جميع الناس ذو عقل- عدا المجانين- فلا يوصفون جميعاً باولي الألباب، بل هؤلاء هم الذين يستخدمون عقولهم فيشقّون طريقهم على ضوء نورها الساطع.

وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوهَا وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) تحدثت الآيات السابقة عن الإنفاق وبذل المال في سبيل اللَّه، وأن ينفق الشخص ذلك المال من الطيّب دون الخبيث، وأن يكون مشفوعاً بالمحبة والإخلاص وحسن الخلق، أمّا في

مختصر الامثل، ج 1، ص: 225

هاتين الآيتين أعلاه فيدور الحديث عن

كيفية الإنفاق وعلم اللَّه تعالى بذلك. فيقول اللَّه تعالى في الآية الاولى: «وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ».

تقول الآية: إنّ كل ما تنفقونه في سبيل اللَّه سواءً كان قليلًا أو كثيراً، جيداً أم رديئاً، من حلال إكتسب أم من حرام، مخلصاً كان في نيّته أم مرائياً، إتّبعه المنّ والأذى أم لم يتبعه، أكان الإنفاق ممّا أوجب اللَّه تعالى عليه أم ممّا أوجبه الإنسان على نفسه بنذر وشبهه، فإنّ اللَّه تعالى يعلم تفاصيله ويثيب عليه أو يعاقب.

وفي الختام تقول الآية: «وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ».

«الظالمين»: هنا إشارة إلى المحتكرين والبخلاء والمرائين والذين ينفقون بالمن والأذى، فإنّ اللَّه تعالى لا ينصرهم، وسوف لا ينفعهم ما أنفقوا لا في الدنيا ولا في الآخرة.

أجل فهؤلاء ليس لهم ناصر في الدنيا ولا شفيع في الآخرة، وهذه النتيجة من الخصائص المترتبة على الظلم والجور بأيّ صورة كان.

ويستفاد من هذه الآية ضمناً مشروعية النذر ووجوب العمل بمؤدّاه.

في الآية الثانية إشارة إلى كيفية الإنفاق من حيث السرّ والعلن فتقول: «إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ».

وسوف يعفو اللَّه عنكم بذلك: «وَيُكَفّرُ عَنكُم مِّن سَيَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».

وقد جاء في بعض الأحاديث أنّ الإنفاق الواجب يفضّل فيه الإظهار، والمستحب يفضّل فيه الإخفاء.

هنالك أحاديث كثيرة بشأن غفران الذنوب بالإنفاق وردت عن أهل البيت عليهم السلام وفي كتب أهل السنة. من ذلك ما روى في تفسير مجمع البيان: «صدقة السرّ تطفي ء غضب الربّ وتطفي ء الخطيئة كما يطفي ء الماء النار».

يستفاد من جملة «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» هو أنّ اللَّه عالم بما تنفقون سواء أكان علانية أم سرّاً كما أنّه عالم بنياتكم وأغراضكم من إعلان إنفاقكم ومن إخفائه.

لَيْسَ

عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ مَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 226

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: كان المسلمون يمتنعون عن الصدقة على غير أهل دينهم، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

تحدثت الآيات السابقة عن مسألة الإنفاق في سبيل اللَّه بشكل عام، ولكن في هذه الآية الحديث عن جواز الإنفاق على غير المسلمين، بمعنى أنّه لا ينبغي ترك الإنفاق على المساكين والمحتاجين من غير المسلمين حتى تشتدّ بهم الأزمة والحاجة فيعتنقوا الإسلام بسبب ذلك.

تقول الآية: «لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَيهُمْ». فلا يصحّ أن تجبرهم على الإيمان وترك الإنفاق عليهم نوع من الإجبار على دخولهم إلى الإسلام وهذا الاسلوب مرفوض ورغم أنّ المخاطب في هذه الآية الشريفة هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلّاأنّه في الواقع يستوعب كل المسلمين.

ثم تضيف الآية: «وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ» ومن تكون له اللياقة للهداية.

فبعد هذا التذكر تستمر الآية في بحث فوائد الإنفاق في سبيل اللَّه فتقول: «وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ».

وفي آخر عبارة من هذه الآية الكريمة نلاحظ تأكيداً أكثر على مقدار الإنفاق وكيفيته حيث تقول الآية: «وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَاتُظْلَمُونَ».

يعني أنّكم لا ينبغي أن تتصوروا أنّ إنفاقكم سيعود عليكم بربح قليل، بل إنّ جميع ما أنفقتم وتنفقون سيعود إليكم كاملًا، وذلك في اليوم الذي تحتاجون إليه بشدة، فعلى هذا لا تترددوا في الإنفاق أبداً.

ولكن لا ينبغي أن يتصور أنّ نتائج الإنفاق اخروية فحسب، بل إنّ له منافع في هذه الدنيا أيضاً

مادية ومعنوية.

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «نزلت الآية في أصحاب الصفّة وهم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 227

نحو أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر يأوون إليهم، فجعلوا أنفسهم في المسجد، وقالوا: نخرج في كل سرية يبعثها رسول اللَّه فحثّ الناس عليهم، وكان الرجل إذا أكل وعنده فضل، أتاهم به إذا أمسى».

التّفسير

خير مواضع الإنفاق: يبيّن اللَّه في هذه الآية أفضل مواضع الإنفاق وهي التي تتّصف بالصفات التالية:

1- «لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ». أي الذين شغلتهم الأعمال الهامّة كالجهاد ومحاربة العدو، وتعليم فنون الحرب، وتحصيل العلوم الاخرى عن العمل في سبيل الحصول على لقمة العيش كأصحاب الصفّة الذين كانوا خير مصداق لهذا الوصف «1».

ثم للتأكيد تضيف الآية: «لَايَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الْأَرْضِ». أي الذين لا يقدرون على الترحال لكسب العيش بالسفر إلى القرى والمدن الاخرى حيث تتوفر نِعم اللَّه تعالى، وعليه فإنّ القادرين على كسب معيشتهم يجب أن يتحمّلوا عناء السفر في سبيل ذلك وأن لا يستفيدوا من ثمار أتعاب الآخرين إلّاإذا كانوا منشغلين بعمل أهمّ من كسب العيش كالجهاد في سبيل اللَّه.

2- الذين «يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ». هؤلاء الذين لا يعرف الآخرون شيئاً عن بواطن امورهم ولكنهم- لما فيهم من عفة النفس والكرامة- يظنّون أنّهم من الأغنياء.

ولكن هذا لا يعني أنّهم غير معروفين. لذا تضيف الآية: «تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ». فإنّ على وجوههم علامات تنطق بما يعانون يدركها العارفون، فلون وجناتهم ينبي ء عما خفي من أسرارهم.

3- والثالث

من صفات هؤلاء أنهم لايصرّون في الطلب والسؤال: «لَايَسَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا» «2». أي أنّهم لا يشبهون الفقراء الشحّاذين الذين يلحّون في الطلب من الناس، فهم يمتنعون عن السؤال فضلًا عن الإلحاف، فالإلحاح في السؤال شيمة ذوي الحاجات العاديين وهؤلاء ليسوا عاديين.

______________________________

(1) «حصر»: بمعنى الحبس والمنع والتضييق و جاءت هنا بمعنى جميع الامور التى تمنع الإنسان من تأمين معاشه.

(2) «الحاف»: من مادة «لحاف» بمعنى الغطاء المعروف، واطلق على الاصرار فى السؤال لانه يغطى قلب الشخص المقابل.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 228

«وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ». في هذه الآية حثّ على الإنفاق وعلى الأخص الإنفاق على ذوي النفوس العزيزة الأبية، لأنّ المنفقين إذا علموا أنّ اللَّه عالم بما ينفقون حتى وإن كان سرّاً وأنّه سوف يثيبهم على ذلك، فستزداد رغبتهم في هذا العمل الكبير.

الاستجداء بدون حاجة حرام: إنّ أحد الذنوب الكبيرة هو السؤال والاستجداء والطلب من الناس من دون حاجة، لذلك وقد ورد في روايات متعددة النهي عن هذا العمل بشدة، ففي الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «إنّ الصّدقة لا تَحلّ لِغنىّ».

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ سِرّاً وَ عَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

سبب النّزول

جاء في تفسير العياشي عن أبي اسحاق، قال: كان لعليّ بن أبي طالب عليه السلام أربعة دراهم لم يملك غيرها، فتصدّق بدرهم ليلًا وبدرهم نهاراً وبدرهم سرّاً وبدرهم علانيةً فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و آله فقال: «يا علي ما حملك على ما صنعت؟» قال: «إنجاز موعود اللَّه». فأنزل اللَّه «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً» الآية «1».

التّفسير

في هذه الآية يدور الحديث أيضاً عن

مسألة اخرى مما يرتبط بالإنفاق في سبيل اللَّه وهي الكيفيات المتنوعة والمختلفة للإنفاق، فتقول الآية: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ».

ومن الواضح أنّ إنتخاب أحد هذه الطرق المختلفة يتمّ مع رعاية الشرائط الأفضل للإنفاق، يعني أنّ المنفق يجب عليه مراعاة الجوانب الأخلاقية والاجتماعية في إنفاقه الليلي أو النهاري العلني أو السرّي.

ويمكن أن يكون تقديم الليل على النهار والسرّ على العلانية في الآية مورد البحث إشارة

______________________________

(1) ورد مضمون هذا الحديث في كتب تفسير أهل السنّة أيضاً، وينقله صاحب (الدرّ المنثور) عن ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن عساكر ومجاهد. ويرى البعض أنّ علماء الشيعة بالاتّفاق وأكثر علماء السنّة ذهبوا إلى أنّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام وفي علماء السنّة: الواحدي، الثّعلبي، مجاهد، السّدي، الكلبي، أبي صالح، علي بن حرب الطائي، القشيري، الثّمالي، الماوَردي، ابن أبي الحديد وغيرهم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 229

إلى أنّ صدقة السرّ أفضل إلّاأن يكون هناك موجب لإظهاره رغم أنّه لا ينبغي نسيان الإنفاق على كل حال.

ومن المسلّم أنّ الشي ء الذي يكون عند اللَّه (وخاصة بالنظر إلى صفة الربوبية الناظرة إلى التكامل والنمو) لا يكون شيئاً قليلًا وغير ذا قيمة، بل يكون متناسباً مع ألطاف اللَّه تعالى وعناياته التي تتضمن بركات الدنيا وكذلك حسنات الآخرة والقرب إلى اللَّه تعالى.

ثم تضيف الآية: «وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». لأنّهم يعلمون أنّهم بإزاء ما أنفقوه سوف ينالون أضعافه من فضل اللَّه وبركات إنفاقهم الفردية والاجتماعية والأخلاقية في الدنيا والآخرة.

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ

جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عَادَ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَ يُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ آتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) في الآيات التي مضت كان الكلام على الإنفاق وبذل المال لمساعدة المحتاجين وفي سبيل رفاه المجتمع، وفي هذه الآيات يدور الكلام على الربا الذي يقف في الجهة المضادّة للإنفاق.

يقول تعالى: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَوا لَايَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطنُ مِنَ الْمَسّ» «1».

فالآية تشبّه المرابي بالمصروع أو المجنون الذي لا يستطيع الإحتفاظ بتوازنه عند السير، فيتخبّط في خطواته. أي أنّ الذين يقومون في الدنيا قياماً غير متعقّل وغير متوازن يخالطه اكتناز جنوني للثروة سسيحشرون يوم القيامة كالمجانين.

______________________________

(1) «يتخبّطه»: من مادة «الخبط» هو فقدان توازن الجسم عند المشي أو القيام.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 230

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوا». هذه الآية تبين منطق المرابين فهم يقولون: ما الفرق بين التجارة والربا؟ ويقصدون أنّ كليهما يمثّلان معاملة تبادل بتراضي الطرفين واختيارهما.

يقول القرآن جواباً على ذلك: «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوا» ولم يزد في ذلك شرحاً وتفصيلًا، ربما لوضوح الإختلاف.

«فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مّن رَبّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ».

تقول الآية إنّ من بلغته نصيحة اللَّه بتحريم الربا واتّعظ فله الأرباح التي أخذها من قبل «أي أنّ القانون ليس رجعياً» لأنّ القوانين الرجعية تولد الكثير من المشاكل والاضطرابات في حياة الناس، ولذلك فإنّ القوانين تنفّذ عادةً من تاريخ سنّها.

وهذا لا يعني بالطبع أنّ للمرابين أن

يتقاضوا أكثر من رؤوس أموالهم من المدينين بعد نزول الآية، بل المقصود إباحة ما جنوه من أرباح قبل نزول الآية.

ثم يقول: «وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ». أي أنّ النظر إلى أعمال هؤلاء يوم القيامة يعود إلى اللَّه، وإن كان ظاهر الآية يدلّ على أنّ مستقبل هؤلاء من حيث معاقبتهم أو العفو عنهم غير واضح، ولكن بالتوجّه إلى الآية السابقة نفهم أنّ القصد هو العفو، ويظهر من هذا أنّ إثم الربا من الكبر بحيث إنّ حكم العفو عن الذين كانوا يتعاطونه قبل نزول الآية لا يذكر صراحة.

«وَمَنْ عَادَ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ». أي أنّ من يواصل تعاطي الربا على الرغم من كل تلك التحذيرات، فعليه أن ينتظر عذاباً أليماً في النار دائماً.

إنّ العذاب الخالد لا يكون نصيب من آمن باللَّه، لكن الآية تعد المصرّين على الربا بالخلود في النار، ذلك لأنّهم بإصرارهم هذا يحاربون قوانين اللَّه، ويلجّون في ارتكاب الإثم، وهذا دليل على عدم صحّة إيمانهم، وبالتالي فهم يستحقون الخلود في النار.

ثم إنّ الآية التالية تبين الفرق بين الربا والصدقة وتقول: «يَمْحَقُ اللَّهُ الرّبَوا وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ».

ثم يضيف: «وَاللَّهُ لَايُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ». يعني الذين تركوا ما في الصدقات من منافع طيبة والتمسوا طريق الربا الذي يوصلهم إلى نار جهنم.

«المحق»: النقصان التدريجي؛ و «الربا»: هو النمو التدريجي.

فالقرآن يقول إنّ اللَّه يسوق رؤوس الأموال الربوية إلى الفناء.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 231

وبالمقابل، فالأشخاص الذين يتقدمون إلى المجتمع بقلوب مليئة بالعواطف الإنسانية وينفقون من رؤوس أموالهم وثرواتهم يقضون بها حاجات المحتاجين من الناس يحظون بمحبة الناس وعواطفهم عموماً، وأموال هؤلاء فضلًا عن عدم تعرضها لأي خطر تنمو بالتعاون العام نموّاً طبيعياً، وهذا ما يعنيه القرآن بقوله: «وَيُربِى الصَّدَقَاتِ».

«الكفار»: من الكفور، بوزن

فجور، وهو المغرق في نكران الجميل والكفر بالنعمة، و «الأثيم»: هو الموغل في ارتكاب الآثام.

هذه الفقرة من الآية تشير إلى أنّ المرابين بتركهم الإنفاق والإقراض والبذل في سبيل رفع الحاجات العامة يكفرون بما أغدق اللَّه عليهم من النِعم، بل أكثر من ذلك يسخّرون هذه النِعم على طريق الإثم والظلم والفساد، ومن الطبيعي أنّ اللَّه لا يحب أمثال هؤلاء.

«إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ».

مقابل المرابين الآثمين الكافرين بأنعم اللَّه، هناك اناس من المؤمنين تركوا حبّ الذات، وأحيوا عواطفهم الفطرية، وارتبطوا باللَّه بإقامة الصلاة، وأسرعوا لمعونة المحتاجين بدفع الزكاة، وبذلك يحولون دون تراكم الثروة وظهور الاختلاف الطبقي المؤدّي إلى الكثير من الجرائم. هؤلاء ثوابهم محفوظ عند اللَّه ويرون نتائج أعمالهم في الدنيا والآخرة.

ثم إنّ هؤلاء لا يعرفون القلق والحزن، ولا يهدّدهم الخطر الذي يتوجّه إلى المرابين من قبل ضحاياهم في المجتمع.

وأخيراً فإنّهم يعيشون في اطمئنان تام «وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 232

سبب النّزول

في تفسير القمي: كان سبب نزولها أنّه لما أنزل اللَّه تعالى (الذين يأكلون الربا) فقام خالد بن الوليد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه! ربا أبي في ثقيف، وقد أوصاني عند موته بأخذه فأنزل اللَّه تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ».

التّفسير

في الآية الاولى يخاطب اللَّه المؤمنين ويأمرهم بالتقوى ثم يأمرهم أن يتنازلوا عما بقي لهم في ذمّة الناس من فوائد ربوية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرّبَوا إِن كُنتُم مُّوْمِنِينَ».

يلاحظ أنّ الآية بدأت بذكر الإيمان باللَّه واختتمت بذكره، ممّا يدلّ بوضوح على عدم انسجام الربا مع الإيمان باللَّه.

«فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا

بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ».

تتغيّر في هذه الآية لهجة السياق القرآني، فبعد أن كانت الآيات السابقة تنصح وتعظ، تهاجم هذه الآية المرابين بكل شدة، وتنذرهم بلهجة صارمة أنّهم إذا واصلوا عملهم الربوي ولم يستسلموا لأوامر اللَّه في الحق والعدل واستمرّوا في امتصاص دماء الكادحين المحرومين فلا يسع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّاأن يتوسل بالقوة لإيقافهم عند حدّهم وإخضاعهم للحق، وهذا بمثابة إعلان الحرب عليهم، وهي الحرب التي تنطلق من قانون: «قَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ» «1».

يستفاد من هذه الآية أنّ للحكومة الإسلامية أن تتوسل بالقوة لمكافحة الربا.

«وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَاتَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ».

أمّا إذا تبتم ورجعتم عن غيّكم وتركتم تعاطي الربا فلكم أن تتسلّموا من الناس المدينين لكم رؤوس أموالكم فقط «بغير ربح». وهذا قانون عادل تماماً لأنّه يحول دون أن تظلموا الناس ودون أن يصيبكم ظلم.

إنّ تعبير «لَاتَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ» وإن كان قد جاء بشأن المرابين ولكنه شعار إسلامي

______________________________

(1) سورة الحجرات/ 9.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 233

واسع وعميق. يعني أنّ المسلمين بقدر ما يجب عليهم تجنّب الظلم، يجب عليهم كذلك أن لا يستسلموا للظلم ولو قلّ الذين يتحمّلون الظلم لقلّ الظالمون أيضاً.

«وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ».

استكمالًا لبيان حق الدائن في الحصول على رأسماله «بدون ربح» تبين الآية هنا حقّاً من حقوق المدين إذا كان عاجزاً عن الدفع، ففضلًا عن عدم جواز الضغط عليه وفرض فائدة جديدة عليه كما كانت الحال في الجاهلية، فهو حقيق بأن يمهل مزيداً من الوقت لتسديد أصل الدَين عند القدرة والإستطاعة.

«وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ». وهذه في الواقع خطوة أبعد من المسائل الحقوقية، أي أنّها مسألة أخلاقية وإنسانية تكمل البحث

الحقوقي المتقدم، تقول الآية للدائنين أنّ الأفضل من كل ما سبق بشأن المدين العاجز عن الدفع هو أن يخطو الدائن خطوة إنسانية كبيرة فيتنازل للمدين عما بقي له بذمّته، فهذا خير عمل إنساني يقوم به، وكل من يدرك منافع هذا الأمر يؤمن بهذه الحقيقة.

من المألوف في القرآن أنّه بعد بيان تفاصيل الأحكام وجزئيات الشريعة الإسلامية يطرح تذكيراً عاماً شاملًا يؤكد به ما سبق قوله، لكي تنفذ الأحكام السابقة نفوذاً جيداً في العقل والنفس.

لذلك فإنّه في هذه الآية يذكّر الناس بيوم القيامة ويوم الحساب والجزاء، ويحذّرهم من اليوم الذي ينتظرهم حيث يوضع أمام كل امرى ء جميع أعماله دون زيادة ولا نقصان، وكل ما حفظ في ملفّ عالم الوجود يسلّم إليه دفعة واحدة، عندئذ تهوله النتائج التي تنتظره، ولكن ذلك حصيلة ما زرعه بنفسه وما ظلمه فيه أحد، إنّما هو نفسه ظلم نفسه «وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ».

ومما يلفت النظر أنّ تفسير «الدرّ المنثور» ينقل بطرق عديدة أنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولا يُستبعد هذا إذا أخذنا مضمونها بنظر الاعتبار.

إنّ للربا أثراً أخلاقياً سيئاً جدّاً في نفسيّة المدين ويثير في قلبه الكره والضغينة، ويفصم عرى التعاون الاجتماعي بين الأفراد والملل.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 234

في الأحاديث الإسلامية إشارة إلى آثار الربا الأخلاقية السيئة وردت في جملة قصيرة عن علة تحريم الربا عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّما حرّم اللَّه عزّ وجلّ الربا لكي لا يمتنع الناس من اصطناع المعروف» «1».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ

الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَ لَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَ لَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَ أَدْنَى أَنْ تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَكْتُبُوهَا وَ أَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَ لَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَ لَا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282) تدوين الأوراق التجارية: بعد أن شنّ القرآن على الربا والاحتكار والبخل حرباً شعواء، وضع تعليمات دقيقة لتنظيم الروابط التجارية والاقتصادية، لكي تنمو رؤوس الأموال نموّاً طبيعياً دون أن تعتريها عوائق أو تنتابها خلافات ومنازعات.

تضع هذه الآية التي هي أطول آيات القرآن تسعة عشر بنداً من التعليمات التي تنظّم الشؤون المالية، نذكرها على التوالي:

1- إذا أقرض شخص شخصاً أو عقد صفقة، بحيث كان أحدهما مديناً، فلكي لا يقع أيّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 12/ 423/ 4 (الباب 1 من أبواب الربا).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 235

سوء تفاهم واختلاف في المستقبل، يجب أن يكتب بينهما العقد بتفاصيله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ». هذه الآية تشمل جميع المعاملات التي فيها دَين يبقى في ذمّة المدين، بما في ذلك القرض.

2- لكي يطمئن الطرفان على صحة العقد ويأمنا احتمال تدخّل أحدهما فيه، فيجب أن يكون الكاتب شخصاً ثالثاً:

«وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ».

3- على كاتب العقد أن يقف إلى جانب الحق وأن يكتب الحقيقة الواقعة «بِالْعَدْلِ».

4- يجب على كاتب العقد، الذي وهبه اللَّه علماً بأحكام كتابة العقود وشروط التعامل، أن لا يمتنع عن كتابة العقد، بل عليه أن يساعد طرفي المعاملة في هذا الأمر الاجتماعي: «وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ».

5- على أحد الطرفين أن يملي تفاصيل العقد على الكاتب ولكن أيّ الطرفين؟ تقول الآية: المدين الذي عليه الحق: «وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ».

6- على المدين عند الإملاء أن يضع اللَّه نصب عينيه، فلا يترك شيئاً إلّاقاله ليكتبه الكاتب: «وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيًا».

7- إذا كان المدين واحداً ممّن تنطبق عليه صفة «السفيه» وهو الخفيف العقل الذي يعجز عن إدارة أمواله ولا يميّز بين ضرره ومنفعته، أو «الضعيف» القاصر في فكره والضعيف في عقله المجنون، أو «الأبكم والأصم» الذي لا يقدر على النطق، فإنّ لوليّه أن يملي العقد فيكتب الكاتب بموجب إملائه: «فَإِن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَايَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ».

8- على «الولي» في الإملاء والاعتراف بالدَين، أن يلتزم العدل وأن يحافظ على مصلحة موكّله وأن يتجنّب الإبتعاد عن الحق: «فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ».

9- بالإضافة إلى كتابة العقد، على الطرفين أن يستشهدا بشاهدين: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ» «1».

10 و 11- يجب أن يكون الشاهدان بالغين ومسلمين وهذا يستفاد من عبارة «مِن رِّجَالِكُمْ». أي ممّن هم على دينكم.

______________________________

(1) قال بعض إنّ التفاوت بين «شاهد» و «شهيد»: هو أنّ الشاهد يقال لمن حضر الواقعة حتى يمكنه أن يشهد عليها، والشهيد هو الذي يؤدّي الشهادة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 236

12- يجوز اختيار شاهدتين من النساء وشاهد من الرجال: «فإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ

فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ».

13- لابدّ أن يكون الشاهدان موضع ثقة: «مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ». يتبين من هذه الآية أنّ الشهود يجب أن يكونوا ممّن يُطمأنّ إليهم من جميع الوجوه، وهذه هي «العدالة» التي وردت في الأخبار أيضاً.

14- وإذا كان الشاهدان من الرجال، فلكل منهما أن يشهد منفرداً، أمّا إذا كانوا رجلًا واحداً وامرأتين، فعلى المرأتين أن تدليا بشهادتهما معاً لكي تذكّر إحداهما الاخرى إذا نسيت شيئاً أو أخطأت فيه.

أمّا سبب اعتبار شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، فهو لأنّ المرأة كائن عاطفي وقد تقع تحت مؤثرات خارجية، لذلك فوجود امرأة اخرى معها يحول بينها وبين التأثير العاطفي وغيره: «أَن تَضِلَّ إِحْدَيهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَيهُمَا الْأُخْرَى .

15- ويجب على الشهود إذا دُعوا إلى الشهادة أن يحضروا من غير تأخير ولا تهاون كما قال: «وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا».

وهذا من أهم الأحكام الإسلامية ولا يقوم القسط والعدل إلّابه.

16- تجب كتابة الدين سواء أكان الدَين صغيراً أو كبيراً، لأنّ الإسلام يريد أن لا يقع أيّ نزاع في الشؤون التجارية، حتى في العقود الصغيرة التي قد تجرّ إلى مشاكل كبيرة: «وَلَا تَسَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ». والسأم هو الملل من أمر لكثرة لبثه.

وتشير الآية هنا إلى فلسفة هذه الأحكام، فتقول إنّ الدقة في تنظيم العقود والمستندات تضمن من جهة تحقيق العدالة، كما أنّها تطمئن الشهود من جهة اخرى عند أداء الشهادة، وتحول من جهة ثالثة دون ظهور سوء الظن بين أفراد المجتمع: «ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا».

17- إذا كان التعاقد نقداً فلا ضرورة للكتابة: «إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا».

18- في المعاملات النقدية وإن لم تحتج إلى كتابة

عقد، لابدّ من شهود: «وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ».

19- وآخر حكم تذكره الآية هو أنّه ينبغي ألّا يصيب كاتب العقد ولا الشهود أيّ ضرر

مختصر الامثل، ج 1، ص: 237

بسبب تأييدهم الحق والعدالة: «وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ».

ثم تقول الآية إنّه إذا آذى أحد شاهداً أو كاتباً لقوله الحق فهو إثم وفسوق يخرج المرء من مسيرة العبادة للَّه: «وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ».

وفي الختام، وبعد كل تلك الأحكام، تدعو الآية الناس إلى التقوى وإمتثال أمر اللَّه:

«وَاتَّقُوا اللَّهَ». ثم تقول إنّ اللَّه يعلّمكم كل ما تحتاجونه في حياتكم المادية والمعنوية:

«وَيُعَلّمُكُمُ اللَّهُ». وهو يعلم كل مصالح الناس ومفاسدهم ويقرّر ما هو الصالح لهم: «وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

إنّ جملة «وَاتَّقُوا اللَّهَ» وجملة «وَيُعَلّمُكُمُ اللَّهُ» رغم أنّهما ذكرتا في الآية بصورة مستقلّة وقد عطفت إحداهما على الاخرى، ولكن إقترانهما معاً إشارة إلى الإرتباط الوثيق بينهما، ومفهوم ذلك هو أنّ التقوى والورع وخشية اللَّه لها أثر عميق في معرفة الإنسان وزيادة علمه وإطلاعه.

وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) هذه الآية تكمل البحث في الآية السابقة وتشتمل على أحكام اخرى:

1- عند التعامل إذا لم يكن هناك من يكتب لكم عقودكم، كأن يقع ذلك في سفر، عندئذ على المدين أن يضع شيئاً عند الدائن بإسم الرهن لكي يطمئن الدائن: «وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ».

قد يبدو من ظاهر الآية لأوّل وهلة أنّ تشريع «قانون الرهن» يختص بالسفر، ولكن بالنظر إلى الجملة التالية وهي «وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا» يتبين أنّ القصد هو

بيان نموذج لحالة لا يمكن الوصول فيها إلى كاتب وعليه فللطرفين أن يكتفيا بالرهن حتى في موطنهما.

2- يجب أن يبقى الرهن عند الدائن حتى يطمئن «فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ».

3- جميع هذه الأحكام- من كتابة العقد واستشهاد الشهود وأخذ الرهن- تكون في حالة عدم وجود ثقة تامة بين الجانبين وإلّا فلا حاجة إلى كتابة عقد وعلى المدين أن يحترم ثقة الدائن به، فيسدّد دَينه في الوقت المعين وأن لا ينسى تقوى اللَّه: «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 238

فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ». 4- على الذين لهم علم بما للآخرين من حقوق في المعاملات أو في غيرها، إذا دعوا للإدلاء بشهادتهم أن لا يكتموها لأنّ كتمان الشهادة من الذنوب الكبيرة «وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ».

طبيعي أنّ الشهادة تجب علينا إذا لم يستطع الآخرون إثبات الحق بشهادتهم، أمّا إذا ثبت الحق فيسقط وجوب الإدلاء بالشهادة عن الآخرين، أي أنّ أداء الشهادة واجب كفائي.

وبما أنّ كتمان الشهادة والإمتناع عن الإدلاء بها يكون من أعمال القلب، فقد نسب هذا الإثم إلى القلب، فقال: «فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ» ومرّة اخرى يؤكد في ختام الآية ضرورة ملاحظة الأمانة وحقوق الآخرين: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ».

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (284) هذه تكملة للجملة الأخيرة في الآية السابقة وتقول: «لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». ولهذا السبب فهو يعلم جميع أفعال الإنسان الظاهرية منها والباطنية «وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ».

يعني لا ينبغي لكم أن تتصوروا أنّ أعمالكم

الباطنية مثل كتمان الشهادة والذنوب القلبية الاخرى سوف تخفى على اللَّه تعالى الحاكم على الكون بأجمعه والمالك للسموات والأرض، فإنّه لا يخفى عليه شي ء، فلا عجب إذا قيل أنّ اللَّه تعالى يحاسبكم على ذنوبكم القلبية ويجازيكم عليها: «فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ».

في ختام الآية تقول: «وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». فهو عالم بكل شي ء يجري في هذا العالم، وقادر أيضاً على تشخيص اللّياقات والملكات، وقادر أيضاً على مجازات المتخلفين.

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلَائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قَالُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 239

علائم الإيمان وطريقه: لقد شرعت سورة البقرة ببيان بعض المعارف الإسلامية والاعتقادات الحقّة واختتمت بهذه المواضيع أيضاً كما في الآية أعلاه والآية التي بعدها، وبهذا تكون بدايتها ونهايتها متوافقة ومنسجمة.

وقد ذكر بعض المفسرين في تفسير بحر المحيط في سبب نزول هذه الآية أنّه لما نزل «وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ» الآية، أشفقوا منها ما تقرر الأمر على أن قالوا سمعنا وأطعنا فرجعوا إلى التضرع والاستكانة فمدحهم اللَّه وأثنى عليهم وقدّم ذلك بين يدى رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر وهذه ثمرة الطاعة والإنقطاع إلى اللَّه تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا وهذه ثمرة العصيان والتمرد على اللَّه أعاذنا اللَّه تعالى من نقمه.

في البداية تقول: «ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ». فهذا المعنى وهذه الخصيصة تعتبر من إمتيازات الأنبياء الإلهيين جميعاً بأنّهم

مؤمنون بما جاءوا به إيماناً قاطعاً، فلا شك ولا شبهة في قلوبهم عن معتقداتهم، فقد آمنوا بها قبل الآخرين واستقاموا وصبروا عليها قبل الآخرين.

ثم تضيف الآية الكريمة: «وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَانُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ». وهذه الجملة الأخيرة من كلام المؤمنين أنفسهم، حيث يؤمنون بجميع الأنبياء والمرسلين وشرائعهم.

ثم تضيف الآية أنّ المؤمنين مضافاً إلى إيمانهم الراسخ والجامع فإنّهم في مقام العمل أيضاً كذلك: «وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».

وبهذا يتناغم الإيمان بالمبدأ والمعاد مع الالتزام العملي بجميع الأحكام الشرعية والدساتير الإلهية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 240

مختصر الامثل ج 1 279

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَ لَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَ لَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنَا وَ ارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) كما تقدم في تفسير الآية السابقة أنّ هاتين الآيتين تتعلقان بالأشخاص الذين استوحشوا من تعبير الآية السابقة في أنّ اللَّه تعالى مطلع على نياتهم وسيحاسبهم ويجازيهم عليها فقالوا: لا أحد منا يصفو قلبه عن الوسوسة والخاطرات القلبية. فالآية الحاضرة تقول: «لَايُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا».

إنّ كل الأحكام يمكن تقييدها وتفسيرها بهذه الآية حيث تتحدّد في إطار قدرة الإنسان.

ثم تضيف الآية: «لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ».

فالآية تنبّه الناس إلى مسؤولياتهم وعواقب أعمالهم، وتفنّد الأساطير التي تبري ء بعض الناس من عواقب أعمالهم، أو تجعلهم مسؤولين عن أعمال الآخرين دون دليل.

«رَبَّنَا لَاتُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا».

لما كان المؤمنون يعرفون أنّ مصيرهم يتحدّد بما كسبت أيديهم من أعمال

صالحة أو سيئة بموجب قانون «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» لذلك يتضرعون ويخاطبون اللَّه بلفظ «الرب» الذي يوحي بمعاني اللطف في النشأة والتربية قائلين: إذا كنا قد أذنبنا بسبب النسيان أو الخطأ، فاغفر لنا ذنوبنا برحمتك الواسعة وجنّبنا العقاب.

وعليه فإنّ النسيان الناشي ء عن التساهل يوجب العقاب.

فالخطأ يقال عادة في الامور التي تقع لغفلة من الإنسان وعدم إنتباه منه، أمّا النسيان فهو أن يتّجه الإنسان للقيام بعمل ما ولكنه ينسى كيف يقوم بذلك.

«رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا». «الإصر»: عقد الشي ء

مختصر الامثل، ج 1، ص: 241

وحبسه. وتطلق على الحمل الثقيل الذي يمنع المرء من الحركة.

وفي هذا المقطع من الآية يطلب المؤمنون من اللَّه تعالى طلبين: الأوّل أن يرفع عنهم الفروض الثقيلة التي قد تمنع الإنسان من إطاعة اللَّه، وهذا هو ما ورد (في الكافي) على لسان النبي صلى الله عليه و آله بشأن التعاليم الإسلامية، إذ قال: «بعثني (اللَّه تعالى) بالحنيفيّة السّهلة السّمحة».

وفي الطلب الثاني يريدون منه أن يعفيهم من الإمتحانات الصعبة والعقوبات التي لا تطاق «وَلَا تُحَمّلْنَا مَا لَاطَاقَةَ لَنَا بِهِ».

إنّ المؤمنين طلبوا من اللَّه أن يزيل الآثار التكوينية والطبيعية لزللهم عن أرواحهم ونفوسهم. وفي المرحلة الثالثة يطلبون «رحمته الواسعة» التي تشمل كل شي ء.

«أَنتَ مَوْلنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».

وفي آخر دعواهم يخاطبون اللَّه على أنّه مولاهم الذي يتعهّدهم بالرعاية والتربية ويطلبون منه أنّ يمنحهم الفوز والانتصار على الأعداء.

«نهاية تفسير سورة البقرة»

مختصر الامثل، ج 1، ص: 243

3. سورة آل عمران

محتوى السورة:

1- إنّ قسماً مهمّاً من هذه السورة يرتبط بمسألة التوحيد وصفات اللَّه والمعاد والمعارف الإسلامية الاخرى.

2- وقسم آخر منها يتعلق بمسألة الجهاد وأحكامه المهمة والدقيقة، وكذلك الدروس المستفادة من غزوتي بدر واحد.

3- وفي قسم

من هذه السورة يدور الحديث حول سلسلة من الأحكام الإسلامية في ضرورة وحدة صفوف المسلمين وفريضة الحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولي والتبري ومسألة الأمانة والإنفاق في سبيل اللَّه وترك الكذب وضرورة الاستقامة والصبر في مقابل الأعداء والمشكلات والامتحانات الإلهية المختلفة وذكر اللَّه على كل حال.

4- وتطرّقت هذه السورة إلى تكملة للأبحاث التي تتحدث عن تاريخ الأنبياء عليهم السلام وقصة مريم وكرامتها ومنزلتها عند اللَّه وكذلك المؤامرات التي كان يحوكها أتباع الديانة اليهودية والمسيحية ضدّ الإسلام والمسلمين.

فضيلة تلاوة هذه السورة: روى في تفسير مجمع البيان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة آل عمران اعطى بكلّ آية منها أماناً على جِسر جهنّم».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 244

وفي تفسير نور الثقلين عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ البقرة وآل عمران جائا يوم القيامة يظلّانه على رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين».

الم (1) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت أوائل السورة إلى نيف وثمانين آية في وفد نجران «1»، وكانوا ستين راكباً، قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفيهم أربعة عشر رجلًا من أشرافهم وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم: العاقب أمير القوم، وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلّاعن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم، وصاحب رحلهم، واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم. وكان قد شرف فيهم،

ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم قد شرّفوه ومَوّلوه وبنو له الكنائس، لعلمه واجتهاده.

فقدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المدينة ودخلوا مسجده حين صلّى العصر، عليهم ثياب الحِبَرات، جُبَبٌ وأردية في جمال رجال بَلحَرِث بن كعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ما رأينا وفداً مثلهم وقد حانت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس وقاموا فصلّوا في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت الصحابة: يا رسول اللَّه! هذا في مسجدك؟ فقال رسول اللَّه: «دعوهم فصلوا إلى المشرق». فتكلم السيد والعاقب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال لهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «أسلما». قالا: قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما للَّه ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير». قالا: إن لم يكن ولد اللَّه فمن أبوه؟ وخاصموه جميعاً في عيسى. فقال لهما النبي صلى الله عليه و آله: «ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلّا ويشبه أباه»؟ قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه

______________________________

(1) «نجران»: منطقة في جبال اليمن الشمالية على بعد نحو عشرة منازل من صنعاء، وتسكنها قبائل همدان التي كان لها في الجاهلية صنم باسم «يعوق».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 245

الفناء»؟ قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كل شي ء ويحفظه ويرزقه»؟ قالوا:

بلى. قال: «فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً»؟ قالوا: لا. قال: «ألستم تعلمون أنّ اللَّه لا يخفى عليه شي ء في الأرض ولا في السماء»؟ قالوا: بلى. قال: «فهل يعلم عيسى من ذلك إلّاما علم»؟ قالوا:

لا. قال: «فإنّ ربّنا صَوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربّنا لا يأكل ولا

يشرب ولا يُحدث». قالوا:

بلى. قال: «ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته امّه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِي كما يُغذى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث»؟ قالوا: بلى. قال: «فكيف يكون هذا كما زعمتم»؟ فسكتوا، فأنزل اللَّه فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.

التّفسير

فيما يتعلق بالحروف المقطعة في القرآن، سبق الحديث عنها في بداية سورة البقرة فلا موجب لتكرار ذلك. في الآية الثانية يقول تعالى: «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ».

سبق أنّ شرحنا هذه الآية في الآية (255) من سورة البقرة.

الآية التي تليها تخاطب نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وتقول: إنّ اللَّه تعالى قد أنزل عليك القرآن الذي فيه دلائل الحق والحقيقة، وهو يتطابق تماماً مع ما جاء به الأنبياء والكتب السابقة (التوراة والإنجيل) التي بشّرت به وقد أنزلها اللَّه تعالى أيضاً لهداية البشر: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ» «1».

ثم تضيف الآية: «مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ».

وبعد إتمام الحجة بنزول الآيات الكريمة من اللَّه تعالى وشهادة الفطرة والعقل على صدق دعوة الأنبياء، فلا سبيل للمخالفين سوى العقوبة، ولذلك تقول الآية محل البحث بعد ذكر حقانية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والقرآن المجيد: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ».

ومن أجل أن لا يتوهّم أحد أو يشك في قدرة اللَّه تعالى على تنفيذ تهديداته تضيف الآية: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ».

«عزيز»: في اللغة بمعنى كل شي ء صعب وغير قابل للنفوذ، ولذلك يقال للأرض الصعبة العبور (عزاز) وكذلك يطلق على كل أمر يصعب الحصول عليه لقلّته وندرته (عزيز) وكذلك تطلق هذه الكلمة على الشخص القوي والمقتدر الذي يصعب التغلّب عليه

أو

______________________________

(1) «الحق»: هو الموضوع الثابت المكين الذي لا باطل فيه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 246

يستحيل التغلّب عليه، وكلما أطلقت كلمة (عزيز) على اللَّه تعالى يراد بها هذا المعنى، أي أنّه لا أحد يقدر على التغلّب عليه، وأنّ كل المخلوقات خاضعة لمشيئته وإرادته.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) علم اللَّه وقدرته المطلقة: هاتان الآيتان تكمّلان الآيات السابقة. في البداية تقول الآية الشريفة: «إِنَّ اللَّهَ لَايَخْفَى عَلَيْهِ شَىْ ءٌ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ».

فكيف يمكن أن يختفي عن أنظاره شي ء من الأشياء في حين أنّه حاضر وناظر في كل مكان، فلا يخلو منه مكان؟! وبما أنّ وجوده غيرمحدود، فلا يخلو منه مكان معين، ولهذا فهو أقرب إلينا من كل شي ء حتى من أنفسنا، وفي نفس الوقت الذي يتنزّه فيه اللَّه تعالى عن المكان والمحل، فإنّه محيط بكلّ شي ء.

ثم تبين الآية التالية واحدة من علم وقدرة اللَّه تعالى الرائعة، بل هي إحدى روائع عالم الخلقة ومظهر بارز لعلم اللَّه وقدرته المطلقة حيث تقول الآية: «هُوَ الَّذِى يُصَوّرُكُمْ فِى الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ». ثم تضيف: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

إنّه لأمر عجيب ومحيّر حقّاً أن يصوّر اللَّه الإنسان وهو في رحم امّه صوراً جميلة ومتنوعة في أشكالها ومواهبها وصفاتها وغرائزها.

وهذه الآية تؤكد أنّ المعبود الحقيقي ليس سوى اللَّه القادر الحكيم الذي يستحق العبادة، فلماذا إذن يختارون مخلوقات كالمسيح عليه السلام ويعبدونها؟!

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَ أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مَا يَعْلَمُ

تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَ مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)

سبب النّزول

جاء في تفسير نور الثقلين نقلًا عن كتاب «معاني الأخبار» حديث عن الإمام الباقر عليه السلام ما مضمونه: أنّ نفراً من اليهود ومعهم «حيي بن أخطب» وأخوه، جاءوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

مختصر الامثل، ج 1، ص: 247

واحتجّوا بالحروف المقطعة «الم» وقالوا: بموجب حساب الحروف الأبجدية، فإنّ الألف في الحساب الأبجدي تساوي الواحد، واللّام تساوي 30، والميم تساوي 40، وبهذه فإنّ فترة بقاء امّتك لا تزيد على إحدى وسبعين سنة! ومن أجل أن يلجمهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تساءل وقال ما معناه: لماذا حسبتم «ألم» وحدها؟ ألم تروا أنّ في القرآن «المص» و «الر» ونظائرها من الحروف المقطعة، فإذا كانت هذه الحروف تدلّ على مدة بقاء امتي، فلماذا لا تحسبونها كلها؟ (مع أنّ القصد من هذه الحروف أمر آخر) وعندئذ نزلت هذه الآية.

التّفسير

المحكم والمتشابه في القرآن: تقدم في الآيات السابقة الحديث عن نزول القرآن بعنوان أحد الدلائل الواضحة والمعجزات البيّنة لنبوة الرسول صلى الله عليه و آله ففي هذه الآية تذكر أحد مختصّات القرآن وكيفية بيان هذا الكتاب السماوي العظيم للمواضيع والمطالب فيقول في البداية: «هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ». أي: آيات صريحة وواضحة والتي تعتبر الأساس والأصل لهذا الكتاب السماوي «هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ». ثم إنّ هناك آيات اخرى غامضة بسبب علوّ مفاهيمها وعمق معارفها أو لجهات اخرى «وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ».

هذه الآيات المتشابهة إنّما ذكرت لاختبار العلماء الحقيقيين وتميزهم عن الأشخاص المعاندين اللجوجين الذين يطلبون الفتنة، فلذلك تضيف الآية: «فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ

مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ» «1». فيفسّرون هذه الآيات المتشابهة وفقاً لأهواءهم كيما يضلّوا الناس ويشبّهوا عليهم.

«وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ».

ثم تضيف الآية: أنّ هؤلاء أي الراسخون في العلم بسبب دركهم الصحيح لمعنى المحكمات والمتشابهات «يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبّنَا». أجل «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ».

من هذه الآية نستنتج أنّ آيات القرآن قسمان: قسم معانيها واضحة جدّاً بحيث لا يمكن إنكارها ولا إساءة تأويلها وتفسيرها، وهذه هي الآيات «المحكمات» وقسم آخر مواضيعها رفيعة المستوى أو أنّها تدور حول عوالم بعيدة عن متناول أيدينا، كعلم الغيب، وعالم يوم القيامة، وصفات اللَّه، بحيث إنّ معرفة معانيها النهائية وإدراك كنه أسرارها

______________________________

(1) «زيغ»: في الأصل بمعنى الانحراف عن الخط المستقيم والتمايل إلى جهة، والزيغ في القلب بمعنى الانحراف العقائدي عن صراط المستقيم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 248

يستلزم مستوىً عالياً من العلم، وهذه هي الآيات «المتشابهات».

المنحرفون والشواذ من الناس يسعون لاستخدام إبهام هذه الآيات لتفسيرها بحسب أهوائهم وبخلاف الحق، لكي يثيروا الفتنة بين الناس ويضلّوهم عن الطريق المستقيم، بيدَ أنّ اللَّه والراسخين في العلم يعرفون أسرار هذه الآيات ويشرحونها للناس.

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَ هَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) النجاة من الزيغ: بالنظر لاحتمال أن تكون الآيات المتشابهات وأسرارها موضع زلل الناس، فإنّ الراسخين في العلم المؤمنين يلجأون إلى ربّهم إضافة إلى استعمال رأسمالهم العلمي في إدراك حقيقة الآيات. وهذا ما تبيّنه هاتان الآيتان على لسان الراسخين في العلم، وتقولان إنّ الراسخين في العلم والمفكّرين من ذوي البصيرة لا يفتأون يراقبون أرواحهم وقلوبهم لئلّا

ينحرفوا نحو الطرق الملتوية، فيطلبون لذلك العون من اللَّه، فالغرور العلمي يخرج بعض العلماء عن مسيرهم إلى متاهات الضلال، لأنّهم لا يلتفتون إلى عظمة الخلق والخالق وتفاهة ما عندهم من علم، فيحرمون من هداية اللَّه، أمّا العلماء المؤمنون فيقولون:

«رَبَّنَا لَاتُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ».

وليس أشدّ تأثيراً في السيطرة على الميول والأفكار من الاعتقاد بيوم القيامة والمعاد، إنّ الراسخين في العلم يصحّحون أفكارهم عن طريق الإعتقاد بالمبدأ والمعاد، ويحولون دون التأثّر بالميول والأحاسيس المتطرّفة التي تؤدّي إلى الزلل، ونتيجة لذلك يستقيمون على الصراط المستقيم بأفكار سليمة ودون عائق، نعم هؤلاء هم القادرون على الاستفادة من آيات اللَّه كل الاستفادة. «رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّارَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَايُخْلِفُ الْمِيعَادَ».

في الحقيقة تشير الآية الاولى إلى إيمان هؤلاء الكامل «بالمبدأ»، وتشير الآية الثانية إلى إيمانهم الراسخ «بالمعاد».

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَ لَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 249

بعد بيان مواقف الكفار والمنافقين والمؤمنين من الآيات «المحكمات» و «المتشابهات» في الآيات السابقة، تقول هذه الآية: إذا كان الكفار المعاندون يحسبون أنّهم بثرواتهم وأبنائهم قادرون على الدفاع عن أنفسهم في الآخرة فهم على خطأ كبير، فهذه الوسائل قد يكون لها تأثيرها المؤقت في هذه الدنيا، ولكنها عند اللَّه لن يكون لها أي تأثير، لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة، لذلك ينبغي ألّا يغترّ الإنسان بهذه الامور فتحمله على إرتكاب الإثم، وإلّا فإنّه يصلى ناراً سيكون هو حطبها. «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِىَ

عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلدُهُم مّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ».

يفيد هذا التعبير أنّ نار الجحيم مستعرة بوجود المذنبين، وهؤلاء المذنبون هم الذين يديمون أوارها ولهيبها.

ثم تشير الآية إلى نموذج من الامم السالفة التي كانت قد اوتيت الثروة الإنسانية والمادية الكثيرة، ولم تستطيع هذه الثروة أن تكون مانع من هلاكهم. «كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

هذا في الواقع إنذار للكافرين المعاندين على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لكي يعتبروا بمصير الفراعنة والأقوام السالفة، ويصحّحوا أعمالهم.

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهَادُ (12)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في اليهود لما قتل الكفار ببدر وهزموا، قالت اليهود: إنّه النبي الامي الذي بشرنا به موسى، ونجده في كتابنا بنعته وصفته، وأنّه لا تُردّ له راية. ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة اخرى.

فلما كان يوم احد ونكّب أصحاب رسول اللَّه، شكوا وقالوا: لا واللَّه ما هو به. فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا. وقد كان بينهم وبين رسول اللَّه عهد إلى مدة لم تنقض، فنقضوا ذلك العهد قبل أجله، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة في ستين راكباً، فوافقوهم وأجمعوا أمرهم على رسول اللَّه لتكونن كلمتنا واحدة، ثم رجعوا إلى المدينة. فأنزل اللَّه فيهم هذه الآية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 250

التّفسير

مع ما تقدم في سبب النزول يتضح أنّ الكفار المغرورين بأموالهم وأولادهم، وعددهم وعدّتهم يتوقعون هزيمة الإسلام، ولكن القرآن الكريم يصرح في هذه الآية بأنّهم سيُغلبون، ويخاطب النبي صلى الله عليه و آله بأن يخبرهم بذلك وأنّ عاقبتهم في الدنيا والآخرة ليست سوى الهزيمة والذلّ والعذاب الأليم: «قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا

سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ» «1».

هناك أخبار غيبية كثيرة في القرآن الكريم تعتبر من أدلة عظمته وإعجازه والآية أعلاه واحدة من هذه الأخبار الغيبية.

وفي هذه الآية يبشّر اللَّه نبيه صلى الله عليه و آله بالانتصار على جميع الأعداء.

ولم تمض فترة طويلة حتى تحققت نبوءة الآية وهُزم يهود المدينة «بنو قريضة وبنو النضير» وفي خيبر- أهم معقل من معاقلهم- اندحروا وتلاشت قواهم كما هُزم المشركون في فتح مكة هزيمة نكراء.

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت هذه الآية في قصّة بدر، وكان المسلمون 313 رجلًا على عدّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر؛ 77 رجلًا من المهاجرين و 236 رجلًا من الأنصار، وكان صاحب لواء رسول اللَّه والمهاجرين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة. وكانت الإبل في جيش رسول اللَّه 70 بعيراً، و الخيل فرسين: فرس للمقداد بن أسود وفرس لمرثد بن أبي مرثد وكان معهم من السلاح ستة أدرع، وثمانية سيوف، خاضوا بها تلك الحرب الكبيرة، في وجه عدوّ يزيد عدده على الألف، وكانت خيلهم مائة فرس، وجميع من استشهد يومئذ 14 رجلًا من المهاجرين و 8 من الأنصار في مقابل 70 قتيلًا و 70 أسيراً من الأعداء وعادوا إلى المدينة تزيّنهم أكاليل النصر.

______________________________

(1) «مهاد»: بمعنى المكان المهيأ، كما يقول الراغب، وهي في الأصل من مادة (مَهْد) وهو محل استراحة الطفل.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 251

التّفسير

تعقيباً على الآيات السابقة التي حذّر القرآن فيها الكافرين من الإغترار بالمال والأبناء

والأتباع، جاءت هذه الآية شاهداً حيّاً على هذا الأمر، فتدعوهم إلى الاعتبار بما جرى في معركة بدر التاريخية. «قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِى فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا». كيف لا تكون لهم عبرة وهم يرون أنّ جيشاً صغيراً لا يملك شيئاً من العدّة سوى الإيمان الراسخ ينتصر على جيش يفوقه أضعافاً في العدد والعدّة.

«يَرَوْنَهُم مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ». تقول الآية: إنّ الكفار كانوا يرون جند المسلمين ضعف عددهم، أي أنّهم إذا كانوا 313 شخصاً كان الكفار يرونهم أكثر من 600 شخص، ليزيد من خوفهم، وكان هذا أحد أسباب هزيمة الكفار.

«وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ». تشير الآية إلى حقيقة أنّ اللَّه ينصر من يشاء.

«إِنَّ فِى ذلِكَ لَعِبْرَةً لّاُولِى الْأَبْصَارِ» «1». في ختام الآية يؤكّد سبحانه أنّ الذين وهبوا البصيرة بحيث يرون الحقائق كما هي، يعتبرون بهذا الانتصار الذي أحرزه اناس مؤمنون، ويدركون أنّ أساس هذا الانتصار هو الإيمان ... الإيمان وحده.

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعَامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) تعقيباً على الآيات السابقة التي اعتبرت الإيمان رأس المال الحقيقي للإنسان- لا المال والبنين والأنصار- تشير هذه الآية إلى حقيقة أنّ الزوجة والأبناء والأموال إنّما هي ثروات تنفع في الحياة المادية هذه، ولكنها لا يمكن أن تشكّل هدف الإنسان الأصيل، صحيح أنّه بغير هذه الوسائل لا يمكن السير في طريق السعادة والتكامل المعنوي، إلّاأنّ الاستفادة منها في هذا السبيل شي ء وحبّها وعبادتها- بغير أن تكون مجرد وسيلة يستفاد منها- شي ء آخر.

______________________________

(1) «عبرة»: فى الأصل من مادة «عبور» بمعنى الإنتقال من مرحلة إلى اخرى أو من مكان إلى آخر،

ويقال لدمع العين «عبرة» على وزن «حسرة» لانه يعبر من العين، ويقال للكلمات التى تمر من خلال اللسان و الاذن «عبارات» أيضاً، و كذلك يقال للحوادث «عبرة» لأجل أن الإنسان عند ما يراها يعلم بمخلفاتها من الحقائق.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 252

«زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ...» «1». إنّ التفسير الذي يبدو صحيحاً هو أنّ اللَّه هو الذي زيّن للناس ذلك عن طريق الخلق والفطرة والطبيعة الإنسانية.

إنّ اللَّه هو الذي جعل حبّ الأبناء والثروة في جبلّة الإنسان لكي يختبره ويسير به في طريق التربية والتكامل كما- في الآية (7) من سورة الكهف- يقول القرآن: «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا».

قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقَانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) هذه الآية توضّح الخط البياني الصاعد لتكامل الحياة الإنسانية الذي اشير إليه في الآية السابقة، تقول الآية: هل اخبركم بحياة أرفع وأسمى من هذه الحياة المادية المحدودة في الدنيا، تلك الحياة فيها كل ما في هذه الحياة من النِعم لكنها صورتها الكاملة الخالية من أيّ نقص وعيب خاصة بالمتقين. «قُلْ أَؤُنَبّئُكُم بِخَيْرٍ مّن ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتٌ».

بساتينها، لا كبساتين الدنيا، لا ينقطع الماء عن الجريان بجوار أشجارها: «تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ».

ونِعمها دائمة أبدية، لا كنِعم الدنيا السريعة الزوال: «خَالِدِينَ فِيهَا».

نساؤها خلافاً لكثير من غواني هذه الدنيا، ليس في أجسامهن ولا أرواحهن نقطة ظلام وخبث: «وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ».

كل هذا بإنتظار

المتقين. وأسمى من ذلك كله، النِعم المعنوية التي تفوق كل تصور وهي:

«رِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ».

وتخبر الآية المؤمنين أنّهم إذا امتنعوا عن اللذائذ غير المشروعة والأهواء الطاغية

______________________________

(1) «الشهوات»: جمع شهوة، أي حبّ شي ء من الأشياء حبّاً شديداً، ولكنّها في هذه الآية بمعنى المشتهيات.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 253

الممزوجة بالمعصية، فإنّهم سيفوزون في الآخرة بلذائذ مشابهة ولكن بمستوى أرفع وخالية من كل نقص وعيب إلّاأنّ هذا لا يعني حرمان النفس من لذائذ الحياة الدنيا التي لهم أن يتمتعوا بها بصورة مشروعة.

«الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا».

في هذه الآية والآية التي بعدها نتعرّف على المتقين الذين كانوا في الآية السابقة مشمولين بنِعم اللَّه العظيمة في العالم الآخر، فتعددان ستّ صفات من صفاتهم الممتازة:

1- إنّهم يتوجّهون إلى اللَّه بكل جوارحهم والإيمان يضي ء قلوبهم ولذلك يحسّون بمسؤولية كبيرة في كل أعمالهم ويخشون عقاب أعمالهم خشية شديدة فيطلبون مغفرته والنجاة من النار: «فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».

2- مثابرون صابرون ذوو همّة، ومقاومون عند مواجهتهم الحوادث في مسيرة إطاعتهم للَّه وتجنّبهم المعاصي، وعند ابتلائهم بالشدائد الفردية والاجتماعية «الصَّابِرِينَ».

3- صادقون ومستقيمون وما يعتقدون به في الباطن يعملون به في الظاهر ويتجنّبون النفاق والكذب والخيانة والتلوّث «وَالصَّادِقِينَ».

4- في طريق العبودية للَّه خاضعون ومتواضعون ومواظبون على ذلك «وَالْقَانِتِينَ» «1».

5- لا ينفقون من أموالهم فحسب، بل ينفقون من جميع ما لديهم من النِعم المادّية والمعنوية في سبيل اللَّه، فيعالجون بذلك أدواء المجتمع «وَالْمُنْفِقِينَ».

6- في أواخر الليل وعند السحر، أي عندما يسود الهدوء والصفاء وحين يغطّ الغافلون في نوم عميق وتهدأ ضوضاء العالم المادّي، يقوم ذوو القلوب الحيّة اليقظة، ويذكرون اللَّه ويطلبون المغفرة منه وهم ذائبون في نور اللَّه وجلاله، وتلهج كل ذرّة من وجودهم بتوحيده سبحانه «وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ».

روي في

تفسير البرهان عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: «من قال في آخر الوتر في السحر: استغفر اللَّه وأتوب إليه، سبعين مرّة، ودام على ذلك سنة كتبه اللَّه من المستغفرين بالأسحار».

______________________________

(1) «قانتين»: من مادة «قنوت» بمعنى الخضوع أمام اللَّه وأيضاً بمعنى المداومة على الطاعة والعبودية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 254

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلَائِكَةُ وَ أُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) تعقيباً على البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين الحقيقيين، تشير هذه الآية إلى بعض أدلة التوحيد ومعرفة اللَّه فتقول بأنّ اللَّه تعالى يشهد بوحدانيته (من خلال إيجاد النظام الكوني العجيب)، كما تشهد الملائكة، ويشهد بعد ذلك العلماء والذين ينظرون إلى حقائق العالم بنور العلم والمعرفة: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ».

هذه الآية من الآيات التي كانت موضع اهتمام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دائماً وكان يردّدها في مواضع مختلفة.

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) «الدين»: في الأصل بمعنى الجزاء والثواب، ويطلق على «الطاعة» والإنقياد للأوامر، و «الدين» في الاصطلاح: مجموعة العقائد والقواعد والآداب التي يستطيع الإنسان بها بلوغ السعادة في الدنيا، وأن يخطو في المسير الصحيح من حيث التربية والأخلاق الفردية والجماعية.

«الإسلام»: يعني التسليم وهو هنا التسليم للَّه وعلى ذلك، فإنّ معنى «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلمُ»: إنّ الدين الحقيقي عند اللَّه هو التسليم لأوامره وللحقيقة، في الواقع لم تكن روح الدين في كل الأزمنة سوى الخضوع والتسليم للحقيقة.

وإنّما أطلق اسم الإسلام على الدين الذي

جاء به الرسول الأكرم لأنّه أرفع الأديان.

ثم إنّ الآية تذكر علة الاختلاف الديني على الرغم من الوحدة الحقيقية للدين الإلهي وتقول: «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ».

فعلى هذا إنّ الاختلاف ظهر أوّلًا: بعد العلم والإطلاع على الحقائق، وثانياً: كانت الدوافع لذلك هي الظلم والطغيان والحسد.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 255

فالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله مثلًا- بالإضافة إلى أنّ المعجزات والدلائل الواضحة في نصوص دينه تؤكد صدقه- وردت أوصافه وعلاماته في الكتب السماوية السابقة التي بقي قسم منها في أيدي اليهود والنصارى، ولذلك بشّر علماؤهم بظهوره قبل ظهوره، ولكنهم بعد أن بُعث رأوا مصالحهم في خطر، فأنكروا كل ذلك، يحدوهم الظلم والحسد والطغيان.

«وَمَنْ يَكْفُرْ بَايَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ».

هذا بيان لمصير أمثال هؤلاء الذين لا يعترفون بآيات اللَّه، إنّهم سوف يتلقّون نتائج عملهم هذا، فاللَّه سريع في تدقيق حساباتهم.

المراد من «آيات اللَّه» في هذه الآية ما يشمل جميع آياته وبراهينه وكتبه السماوية، ولعلها تشمل أيضاً الآيات التكوينية في عالم الوجود.

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) «المحاجّة»: أن يسعى كل واحد في ردّ الآخر عن حجّته ومحجّته دفاعاً عن عقيدته.

من الطبيعي أن يقوم أتباع كل دين بالدفاع عن دينهم، ويرون أنّ الحق بجانبهم، لذلك يخاطب القرآن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قائلًا: قد يحاورك أهل الكتاب (اليهود والنصارى ...) فيقولون إنّهم قد أسلموا بمعنى أنّهم قد استسلموا للحق، وربّما هم يصرّون على ذلك، كما فعل مسيحيّو نجران مع رسول

اللَّه صلى الله عليه و آله.

فالآية لا تطلب من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يتجنّب محاورتهم ومحاججتهم، بل تأمره أن يسلك سبيلًا آخر وذلك عندما يبلغ الحوار منتهاه فعليه لكي يهديهم ويقطع الجدل والخصام أن يقول لهم: إنّني وأتباعي قد أسلمنا للَّه واتّبعنا الحق «فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ».

ثم يسأل أهل الكتاب والمشركين إن كانوا هم أيضاً قد أسلموا للَّه واتّبعوا الحق فعليهم أن يخضعوا للمنطق: «وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمّيّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا».

فإذا لم يستسلموا للحقيقة المعروضة أمامهم، فإنّهم لا يكونون قد أسلموا للَّه. عندئذ لا تمضي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 256

في مجادلتهم، لأنّ الكلام في هذه الحالة لا تأثير له وما عليك إلّاأن تبلّغ الرسالة لا غير:

«وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلغُ». ومن الواضح أنّ المراد ليس هو التسليم اللّساني والادعائي، بل التسليم الحقيقي والعملي في مقابل الحق. وفي الختام يقول: «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ». فهو سبحانه يعلم المدعي من الصادق وكذلك اغراض ودوافع المتحاجّين، ويرى أعمالهم الحسنة والقبيحة ويجازي كل شخص بعمله.

يتّضح من هذه الآية بكل جلاء أنّ اسلوب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يكن اسلوب فرض الفكرة والعقيدة، بل كان اسلوبه السعي إلى توضيح الحقائق أمام الناس ثم يتركهم وشأنهم لكي يتخذوا قرارهم في اتّباع الحق بأنفسهم.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) تعقيباً للآية السابقة التي تضمّنت أنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا يجادلون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولا يستسلمون للحق، ففي الآية

الاولى إشارة إلى بعض علامات هذا الأمر حيث تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بَايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ».

وتشير هذه الآية في البداية إلى ثلاث ذنوب كبيرة وهي الكفر بآيات اللَّه وقتل الأنبياء بغير الحق وقتل الذين يدعون إلى العدالة ويدافعون عن أهداف الأنبياء، وكل واحد من هذه الذنوب يكفي لوحده لجعل الإنسان معانداً ومتصلّباً بكفره وعدم تسليمه للحق، بل يسعى لخنق كل صوت يدعو إلى الحق.

ثم إنّ الآية تشير إلى ثلاثة عقوبات مترتّبة على إرتكاب هذه الذنوب، ففي البداية تشير الآية: «فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ».

ثم تقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ» فلو فرض أنّهم عملوا بعض الأعمال الصالحة فإنّها ستمحى وتزول بسبب الذنوب الكبيرة التي يرتكبونها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 257

والثالث أنّ الآية تقول: «وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ» فلا أحد يحميهم من العقوبات الإلهيّة التي تنتظرهم ولا أحد يشفع لهم في ذلك اليوم.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّ رجلًا وامرأة من أهل خيبر زنيا وكانا ذوي شرف فيهم، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما، ورجوا أن يكون عند رسول اللَّه رخصة في أمرهما، فعرفوا أمرهما إلى رسول اللَّه، فحكم عليهما بالرجم، فقال له النعمان بن أوفى، وبحرّي بن عمرو: جُرْتَ عليهما يا محمّد، ليس عليهما الرجم

فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«بيني وبينكم التوراة». قالوا: أنصفتنا. قال: «فمن أعلمكم بالتوراة»؟ قالوا: رجل أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا. فأرسلوا إليه فقدم المدينة، وكان جبرائيل قد وصفه لرسول اللَّه، فقال له رسول اللَّه: «أنت ابن صوريا»؟ قال: نعم. قال: «أنت أعلم اليهود»؟ قال:

كذلك يزعمون. قال: فدعا رسول اللَّه بشي ء من التوراة فيها الرجم مكتوب، فقال له:

«إقرأ». فلما أتى على آية الرجم، وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها. فقال ابن سلام: يا رسول اللَّه! قد جاوزها. وقام إلى ابن صوريا، ورفع كفه عنها، ثم قرأ على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعلى اليهود، بأنّ المحصن والمحصنة إذا زنيا، وقامت عليهما البيّنة رجما، وإن كانت المرأة حبلى، انتظر بها حتى تضع ما في بطنها. فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله باليهودين فرجما. فغضب اليهود لذلك.

فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية «1».

______________________________

(1) في التوراة الموجودة حاليّاً، في سفر اللاويّين في الفصل العشرين، الجملة العاشرة، نقرأ ما يلي: «إذا زنا أحد بامرأة غيره، أي بامرأة جاره (مثلًا) يجب قتل الزاني والزانية». على الرغم من أنّ الرجم نفسه لم يرد، فقد ورد العقاب بالموت، وربما يكون التصريح بالرجم قد ورد في النسخة التي كانت موجودة على عهد رسول اللَّه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 258

التّفسير

هذه الآيات تصرّح ببعض تحريفات أهل الكتاب الذين كانوا يتوسّلون بالتبريرات والأسباب الواهية لتفادي إجراء حدود اللَّه، مع أنّ كتابهم كان صريحاً في بيان حكم اللَّه بغير إبهام، وقد دُعوا للخضوع للحكم الموجود في كتابهم: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ».

ولكن عصيانهم كان ظاهراً ومصحوباً بالإعراض والطغيان واتخاذ موقف المعارض

لأحكام اللَّه: «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ».

يمكن الاستنتاج من «أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ» أنّ ما كان بين أيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل لم يكن كاملًا، بل كان قسم منهما بين أيديهم، بينما كان القسم الأعظم من هذين الكتابين السماويين قد ضاع أو حُرّف.

وفي الآية الثانية شرح سبب عصيانهم وتمرّدهم، وهو أنّهم كانوا يحملون فكرة خاطئة عن كونهم من عنصر ممتاز، وهم اليوم أيضاً يحملون هذه الفكرة الباطلة الواضحة في كتاباتهم الدالة على الاستعلاء العنصري.

كانوا يظنّون أنّ لهم علاقة خاصة باللَّه سبحانه، حتى أنّهم سمّوا أنفسهم «أبناء اللَّه» كما ينقل القرآن ذلك على لسان اليهود والنصارى في الآية (18) من سورة المائدة قولهم: «نَحْنُ أَبْنؤُا اللَّهِ وَأَحِبؤُهُ». وبناءاً على ذلك كانوا يرون لأنفسهم حصانة تجاه العقوبات الربانية، وكانوا ينسبون ذلك إلى اللَّه نفسه. لذلك كانوا يعتقدون أنّهم لن يعاقَبوا على ذنوبهم يوم القيامة إلّالأيّام معدودات: «قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ».

هذه الإمتيازات الكاذبة المصطنعة، التي أسبغوها على أنفسهم ونسبوها إلى اللَّه، صارت شيئاً فشيئاً جزءاً من معتقداتهم بحيث إنّهم اغترّوا بها وراحوا يخالفون أحكام اللَّه ويخرقون قوانينه مجترئين عليها جرأةً لا مزيد عليها «وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 259

وتدحض الآية الثالثة كل هذه الخيالات الباطلة وتقول: لا شك أنّ هؤلاء سوف يلاقون يوماً يجتمع فيه البشر أمام محكمة العدل الإلهي فيتسلّم كل فرد قائمة أعماله، ويحصدون ناتج ما زرعوه، ومهما يكن عقابهم فهم لا يُظلمون لأنّ ذلك هو حاصل أعمالهم «فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّارَيْبَ فِيهِ وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ».

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ

وَ تُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَ تُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: لمّا فتح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مكة ووعد امّته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود: هيهات من أين لمحمّد ملك فارس والروم؟ ألم يكفه المدينة ومكة حتى طمع في الروم وفارس؟ ونزلت هذه الآية.

التّفسير

دار الكلام في الآيات السابقة حول المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخصّون أنفسهم بالعزة وبالملك، وكيف أنّهم كانوا يرون أنفسهم في غنى عن الإسلام. فنزلت هاتان الآيتان تفنّدان مزاعمهم الباطلة. يقول تعالى: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ».

إنّ المالك الحقيقي للأشياء هو خالقها، وهو الذي يعطي لمن يشاء الملك والسلطان، أو يسلبهما ممّن يشاء، فهو الذي يعز، وهو الذي يذل، وهو القادر على كل هذه الامور: «وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

ولا حاجة للقول بأنّ مشيئة اللَّه في هذه الآيات لا تعني أنّه يعطي بدون حساب ولا موجب، أو يأخذ بدون حساب ولا موجب، بل إنّ مشيئته مبنية على الحكمة والنظام ومصلحة عالم الخلق وعالم الإنسانية عموماً، وبناءاً على ذلك فإنّ أي عمل يقوم به إنّما هو خير عمل وأصحّه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 260

إنّ مشيئة اللَّه هي نفسها عالم الأسباب، إنّما الاختلاف في كيفية استفادتنا من عالم الأسباب هذا. في الآية التالية ولتأكيد حاكمية اللَّه المطلقة على جميع الكائنات تضيف الآية:

1- «تُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ».

وبهذا تذكر

الآية بعض المصاديق البارزة على قدرة اللَّه تعالى، ومنها مسألة التغيير التدريجي لليل والنهار، بمعنى أنّ الليل يقصر مدّته في النصف من السنة وهو ما عُبّر عنه بدخوله في النهار بينما يطول الليل ويقصر النهار في النصف الثاني من السنة وهو دخول وولوج النهار في الليل وكذلك اخراج الموجودات الحية من الميتة وبالعكس وكذلك الرزق الكثير الذي يكون من نصيب بعض الأشخاص دون بعض كلها من علائم قدرته المطلقة.

«الولوج»: بمعنى الدخول والقصد من الآية هو هذا التغيير التدريجي الذي نراه بين الليل والنهار طوال السنة، هذا التغيير ناشى ء عن انحراف محور الأرض عن مدارها بنحو 23 درجة واختلاف زاوية سقوط أشعة الشمس عليها.

إنّ للتدرّج في تغيير الليل والنهار آثاراً مفيدة في حياة الإنسان والكائنات الاخرى على الأرض لأنّ نموّ النباتات وكثير من الحيوانات يتمّ في إطار نور الشمس وحرارتها التدريجية.

2- «وَتُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَىِّ».

إنّ معنى خروج «الحي» من «الميت» هو ظهور الحياة من كائنات عديمة الحياة، فنحن نعلم أنّه في اليوم الذي استعدّت فيه الأرض لاستقبال الحياة، ظهرت كائنات حية من كائنات عديمة الحياة، أضف إلى ذلك أنّ مواد لا حياة فيها تصبح بإستمرار أجزاءً من خلايانا الحية وخلايا جميع الكائنات الحية في العالم، وتتبدل إلى مواد حية.

أمّا خروج «الميت» من «الحي» فهو دائم الحدوث أمام أنظارنا.

إنّ الآية- في الواقع- إشارة إلى قانون التبادل الدائم بين الحياة والموت، وهو أعمّ القوانين التي تحكمنا وأعقدها، كما أنّه أروعها في الوقت نفسه.

3- «وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

هذه الآية تعتبر من باب ذكر «العام» بعد «الخاص» إذ الآيات السابقة قد ذكرت نماذج

مختصر الامثل، ج 1، ص: 261

من الرزق الإلهى، أمّا هنا فالآية تشير إلى

جميع النِعم على وجه العموم، أي أنّ العزة والحكم والحياة والموت ليست هي وحدها بيد اللَّه بل بيده كل أنواع الرزق والنعم أيضاً.

وتعبير «بِغَيْرِ حِسَابٍ» يشير إلى أنّ بحر النعم الإلهية من السعة والكبر بحيث إنّه مهما اعطى منه فلن ينقص منه شي ء ولا حاجة به لضبط الحسابات.

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) ذكرت الآيات السابقة أنّ العزة والذلة وجميع الخيرات بيد اللَّه تعالى. وبهذه المناسبة فإنّ هذه الآية تحذّر المؤمنين من مصادقة الكافرين وتنهاهم بشدة من موالاة الكفار، لأنّه إذا كانت هذه الصداقة والولاء من أجل العزة والقدرة والثروة، فإنّها جميعاً بيد اللَّه عزّ وجلّ ولذلك تقول الآية: «لَّايَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ». ولو إرتكب أحد المؤمنين ذلك فإنّه يقطع إرتباطه مع اللَّه تماماً: «وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِى شَىْ ءٍ». وقد نزلت هذه الآية في وقت كانت هناك روابط بين المسلمين والمشركين مع اليهود والنصارى.

وهذه الآية درس سياسي واجتماعي مهم للمسلمين فتحذّرهم من إتّخاذ الأجنبي صديقاً أو حامياً أو عوناً ورفيقاً في أيّ عمل من أعمالهم ومن الإنخداع بكلامه المعسول وعروضه الجذّابة وتظاهره بالمحبة الحميمة، لأنّ التاريخ قد أثبت بأنّ أقسى الضربات التي تلقّاها المؤمنون جاءت من هذا الطريق.

قوله تعالى «مِنْ دُونِ الْمُؤمِنِينَ» إشارة إلى أنّ الناس في حياتهم الاجتماعية لابد لهم من إتّخاذ الأولياء والأصدقاء فعلى المؤمنين أن يختاروا أولياءهم من بين المؤمنين لا من بين الكافرين.

«فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِى شَىْ ءٍ».

تقول الآية: إنّ الذين يعقدون أواصر صداقتهم وولاءهم مع أعداء اللَّه، ليسوا من اللَّه

في أيّ شي ء من الأشياء، أي إنّهم يكونون قد تخلّوا عن إطاعة أوامر اللَّه وقطعوا علاقتهم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 262

بالجماعة المؤمنة الموحدة، وانقطعت إرتباطاتهم من جميع الجهات. «إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَيةً». هذا استثناء من الحكم المذكور وهو أنّه إذا اقتضت الظروف- التقية- فللمسلمين أن يظهروا الصداقة لغير المؤمنين الذين يخشون منهم على حياتهم، ولكن الآية تعود في الختام لتؤكّد الحكم الأوّل فتقول: «يُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ». فاللَّه ينذر الناس أوّلًا بغضب منه وبعقاب شديد، ثم إنّ مرجع الناس جميعاً إلى اللَّه وإن تولّوا أعداء اللَّه نالوا عاجلًا نتيجة أعمالهم.

إنّ التقية في موضعها حكم عقلي قاطع ويتّفق مع الفطرة الإنسانية.

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (29) نهت الآية السابقة عن الصداقة والتعاون مع الكافرين والاعتماد عليهم نهياً شديداً، واستثنت من ذلك حالة «التقية». إلّاأنّ بعضهم قد يتخذ من «التقية» في غير محلها ذريعة لمدّ يد الصداقة إلى الكفار أو الخضوع لولايتهم وسيطرتهم. وبعبارة اخرى أنّهم قد يستغلّون «التقية» ويتخذونها مبرّراً لعقد أواصر العلاقات مع أعداء الإسلام، فهذه الآية تحذّر أمثال هؤلاء وتأمرهم أن يضعوا نصب أعينهم علم اللَّه المحيط بأسرار القلوب والعالم بما ظهر وما خفي وتقول: «قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ». ولا يقتصر علم اللَّه الواسع على ذلك، بل: «وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

في الواقع أنّ هذه الآية لكي تنبّه الناس إلى إحاطة اللَّه بأسرارهم الخفية، تشير إلى أنّ معرفة اللَّه بأسرارهم إنّما هي جانب صغير من مدى علمه اللامحدود الذي يسع السماوات والأرض، وهو

إضافة إلى علمه الواسع قادر على معاقبة المذنبين: «وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) تشير هذه الآية إلى حضور الأعمال الصالحة والسيئة يوم القيامة، فيرى كل امري ء ما عمل من خير وما عمل من شرّ حاضراً أمامه، فالذين يشاهدون أعمالهم الصالحة يفرحون

مختصر الامثل، ج 1، ص: 263

ويستبشرون، والذين يشاهدون أعمالهم السى ئة يستولي عليهم الرعب ويتمنّون لو أنّهم استطاعوا أن يبتعدوا عنها: «تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا». فالآية لم تقل أنّه يتمنّى فناء عمله وسيئاته، لأنّه يعلم أنّ كل شي ء في العالم لا يفنى فلذلك يتمنّى أن يبتعد عنه كثيراً.

«وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ».

في الجزء الأوّل من هذه العبارة يحذّر اللَّه الناس من عصيان أوامره وفي الجزء الثاني يذكّرهم برأفته، ويبدو أنّ هذين الجزءين هما- على عادة القرآن- مزيج من الوعد والوعيد.

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

سبب النّزول

في تفسير المنار: قيل: أنّ الآية نزلت كالجواب لقوم ادّعوا أمام الرسول صلى الله عليه و آله إنّهم يحبّون ربّهم.

وفي تفسير مجمع البيان: نزلت الآيتان في وفد نجران من النصارى لمّا قالوا: إنّا نعظّم المسيح حبّاً للَّه.

التّفسير

تقول الآية الاولى إنّ الحبّ ليس بالعلاقة القلبية فحسب، بل يجب أن تظهر آثاره في عمل الإنسان، إنّ من يدّعي حبّ اللَّه، فعليه أوّلًا اتّباع رسوله: «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى».

في الواقع أنّ من

آثار الحب الطبيعية إنجذاب المحب نحو المحبوب والاستجابة له.

هذه الآية لا تقتصر في ردّها على مسيحيي نجران والذين ادّعوا حبّ اللَّه على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بل هذا الرد أصيل وعام في منطق الإسلام موجّه إلى جميع العصور والقرون، إنّ الذين لا يفتأون- ليلَ نهار- يتحدّثون عن حبّهم للَّه ولأئمة الإسلام وللمجاهدين في سبيل اللَّه وللصالحين والأخيار، ولكنهم لا يشبهون اولئك في العمل، هم كاذبون.

«يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». إذا كنتم تحبّون اللَّه، وبدت آثار ذلك في أعمالكم وحياتكم، فإنّ اللَّه سيحبّكم أيضاً، وسوف تظهر آثار حبّه أنّه سيغفر لكم ذنوبكم، ويشملكم برحمته.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 264

«قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ». هذه الآية تتابع حديث الآية السابقة وتقول: ما دمتم تدّعون الحب للَّه، إذاً اتّبعوا أمر اللَّه ورسوله، وإن لم تفعلوا فلستم تحبون اللَّه، واللَّه لا يحب هؤلاء «فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْكَافِرِينَ».

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) في مبتدأ هذه الآية يشرع القرآن بسرد حكاية مريم وأجدادها ومقامهم، فهم النموذج الكامل لحبّ اللَّه الحقيقي وظهور آثار هذا الحب في مقام العمل والذي أشارت إليه الآيات السابقة.

«اصطفى»: من الصفو وهو خلوص الشي من الشوائب ومنه «الصفا» للحجارة الصافية وعليه فالاصطفاء هو تناول صفو الشي ء.

تقول الآية: إنّ اللَّه إختار آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران من بين الناس جميعاً، هذا الاختيار قد يكون «تكوينياً» وقد يكون «تشريعياً» أي أنّ اللَّه قد خلق هؤلاء منذ البدء خلقاً متميزاً، وإن لم يكن في هذا الإمتياز ما يجبرهم على اختيار طريق الحق، بل إنّهم بمل ء

اختيارهم وحرّية إرادتهم إختاروه، غير أنّ ذلك التميّز أعدّهم للقيام بهداية البشر ثم على أثر إطاعتهم أوامر اللَّه، والتقوى والسعي في سبيل هداية الناس نالوا نوعاً من التميّز الإكتسابي، الذي إمتزج بتميزهم الذاتي، فكانوا من المصطفين.

«ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ» «1».

تشير هذه الآية إلى أنّ هؤلاء المصطفين كانوا- من حيث الإسلام والطهارة والتقوى والجهاد في سبيل هداية البشر- متشابهين، بمثل تشابه نسخ عدّة من كتاب واحد، يقتبس كل من الآخر: «بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ».

«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». في النهاية تشير الآية إلى حقيقة أنّ اللَّه كان يراقب مساعيهم ونشاطهم، ويسمع أقوالهم، ويعلم أعمالهم. وفي هذا إشارة أيضاً إلى مسؤوليات المصطفين الثقيلة نحو اللَّه ومخلوقات اللَّه.

______________________________

(1) «الذرّيّة»: أصلها الصغار من الأولاد، وقد يشمل الأبناء الصغار والكبار أيضاً بلا واسطة أو مع الواسطة، والكلمة من «الذرء» بمعنى الخلق والإيجاد.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 265

في هذه الآية إشارة إلى جميع الأنبياء من اولي العزم، فبعد نوح الذي صرّح بإسمه، يأتي آل إبراهيم الذين يضمّون نوحاً نفسه وموسى وعيسى ونبي الأكرم.

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَ إِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَ ذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) تعقيباً على ما جاء في الآية السابقة من إشارة إلى آل عمران، تشرع هاتان الآيتان بالكلام على مريم بنت عمران وكيفية ولادتها وتربيتها وما جرى لهذه السيدة العظيمة.

ورد في الأحاديث أنّ اللَّه قد أوحى إلى «عمران» أنّه سيهبه ولداً مباركاً يشفي المرضى الميؤوس من شفائهم، ويحيي الموتى بإذن اللَّه، وسوف يرسله نبيّاً إلى بني

إسرائيل، فأخبر عمران زوجته «حنة» بذلك، لذلك عندما حملت ظنّت أنّ ما تحمله في بطنها هو الابن الموعود، دون أن تعلم أنّ ما في بطنها ام الابن الموعود «مريم» فنذرت ما في بطنها للخدمة في بيت اللَّه «بيت المقدس» ولكنها إذ رأتها انثى إرتبكت ولم تدر ما تعمل إذ إنّ الخدمة في بيت اللَّه كانت مقصورة على الذكور ولم يسبق أن خدمت فيه انثى.

والآن نباشر بالتفسير من خلاله نتعرف على تتمة الأحداث:

«إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا». هذه إشارة إلى النذر الذي نذرته امرأة عمران وهي حامل بأنّها تهب ابنها خادماً في بيت المقدس، لأنّها كانت تظنّه ذكراً بموجب البشارة التي أتاها بها زوجها ولذلك قالت «محرّراً» ولم تقل «محرّرة» ودعت اللَّه أن يتقبل نذرها: «فَتَقَبَّلْ مِنّى إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

«فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى .

هذه الآية تشرح حال ام مريم بعد ولادتها، فقد أزعجها أن تلد انثى، وراحت تخاطب اللَّه قائلة: إنّها انثى وأنت تعلم أنّ الذكر ليس كالانثى في تحقيق النذر، فالانثى لا تستطيع أن تؤدّي واجبها في الخدمة كما يفعل الذكر فالبنت بعد البلوغ لها عادة شهرية ولا يمكنها

مختصر الامثل، ج 1، ص: 266

دخول المسجد، مضافاً إلى أن قواها البدنية ضعيفة، وكذلك المسائل المربوطة بالحجاب والحمل وغير ذلك: «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى . «وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ».

يتّضح من هذه الجملة أنّ ام مريم هي التي سمّتها بهذا الإسم عند ولادتها و «مريم» بلغتها تعني «العابدة» وفي هذا يظهر منتهى إشتياق هذه الام الطاهرة لوقف وليدها على خدمة اللَّه لذلك طلبت من اللَّه- بعد أن سمّتها- أن يحفظها ونسلها من وسوسة الشياطين وأن يرعاهم بحمايته ولطفه: «وَإِنّى أُعِيذُهَا

بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطنِ الرَّجِيمِ».

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَ كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) تواصل هذه الآية سرد حكاية مريم. لقد أشرنا من قبل أنّ ام مريم لم تكن تصدّق إمكان قبول الانثى خادمة في بيت اللَّه، لذلك كانت تتمنّى أن تلد مولوداً ذكراً، إذ لم يسبق أن اختيرت انثى لهذا العمل. ولكن الآية تقول إنّ اللَّه قد قبل قيام هذه الانثى الطاهرة بهذه الخدمة الروحية والمعنوية، لأوّل مرّة.

وكلمة «أنبتها» إشارة إلى تكامل مريم أخلاقياً وروحياً، كما أنّه يتضمن نكتة لطيفة هي أنّ عمل اللَّه هو «الإنبات» والإنماء. أي كما أنّ بذور النباتات تنطوي على استعدادات كامنة تظهر وتنمو عندما يتعهّدها المزارع، كذلك توجد في الإنسان كل أنواع الاستعدادات السامية الإنسانية التي تنمو وتتكامل بسرعة إن خضعت لمنهج المربّين الإلهيين ولمزارعي بستان الإنسانية الكبير، ويتحقق الإنبات بمعناه الحقيقي.

«وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا». في هذه الآية يقول القرآن: إختار اللَّه زكريا كي يتكفل مريم، إذ إنّ أباها عمران قد ودّع الحياة قبل ولادتها، فجاءت بها امها إلى بيت المقدس وقدّمتها لعلماء اليهود وقالت: هذه البنت هدية لبيت المقدس، فليتعهّدها أحدكم، فكثر الكلام بين علماء اليهود، وكان كل منهم يريد أن يحظى بهذا الفخر، وفي احتفال خاص- سيأتي شرحه في تفسير الآية (44) من هذه السورة- اختير زكريا ليكفلها.

وكلّما شبّت وتقدّم بها العمر ظهرت آثار العظمة والجلال عليها أكثر إلى حدّ يقول القرآن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 267

عنها: «كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا».

كَبُرت مريم تحت رعاية زكريا، وكانت غارقة

في العبادة والتعبد. بحيث إنّها- كما يقول ابن عباس- عندما بلغت التاسعة من عمرها كانت تصوم النهار وتقوم الليل بالعبادة، وكانت على درجة كبيرة من التقوى ومعرفة اللَّه حتى أنّها فاقت الأحبار والعلماء في زمانها، وعندما كان زكريا يزورها في المحراب يجد عندها طعاماً خاصاً، فيأخذه العجب من ذلك، سألها يوماً: «يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذَا». فقالت: «هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

الآية لا تذكر شيئاً عن ماهية هذا الطعام ومن أين جاء، لكن بعض الأحاديث تفيد أنّه كان فاكهة من الجنة في غير فصلها تحضر بأمر اللَّه إلى المحراب، وليس ما يدعو إلى العجب في أن يستضيف اللَّه عبداً تقيّاً.

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَ هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قلنا إنّ زوجة زكريا وام مريم كانتا اختين، وكانتا عاقرين، وعندما رزقت ام مريم بلطف من اللَّه هذه الذرّية الصالحة، ورأى زكريا خصائصها العجيبة، تمنّى أن يرزق هو أيضاً ذرّية صالحة وطاهرة وتقيّة مثل مريم، بحيث تكون آية على عظمة اللَّه وتوحيده، وعلى الرغم من كبر سن زكريا وزوجته، وبُعدهما من الناحية الطبيعية عن أن يرزقا طفلًا، فإنّ حبّ اللَّه ومشاهدة الفواكه الطرية في غير وقتها في محراب عبادة مريم، أترعا قلبه أملًا بإمكان حصوله في فصل شيخوخته على ثمرة الابوّة، لذلك راح يتضرع إلى اللَّه: «هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا

رَبَّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ».

لم يمض وقت طويل حتى أجاب اللَّه دعاء زكريا: «فَنَادَتْهُ الْمَلِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى .

مختصر الامثل، ج 1، ص: 268

وفيما كان يعبد اللَّه في محرابه، نادته ملائكة اللَّه وقالت له: إنّ اللَّه يبشّرك بمولود اسمه يحيى بل إنّهم لم يكتفوا بهذه البشارة حتى ذكروا للمولود خمس صفات: الأوّلًا: سوف يؤمن بالمسيح ويشدّ أزره بهذا الإيمان: «مُصَدّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ».

ثانياً وثالثاً: سيكون من حيث العلم والعمل قائداً للناس «وَسَيّدًا». كما أنّه سيحفظ نفسه عن الشهوات الجامحة وعن التلوّث بحبّ الدنيا «وَحَصُورًا». «الحصور» من الحصر، أي الذي يضع نفسه موضع المحاصرة.

ورابعاً وخامساً: من مميّزاته أيضاً أنّه سيكون «نَبِيًّا» وأنّه «مّنَ الصَّالِحِينَ».

فلما سمع زكريا بهذه البشارة غرق فرحاً وسروراً، ولم يمتلك نفسه في إخفاء تعجبه من ذلك فقال: «رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلمٌ وَقَدْ بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ». فأجابه اللَّه تعالى:

«قَالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ». فلما سمع زكريا هذا الجواب الموجز الذي يشير إلى نفوذ إرادته تعالى ومشيئته، قنع بذلك.

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَنْ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكَارِ (41) هنا يطلب زكريا من اللَّه إمارة على بشارته بمجي ء يحيى، إنّ إظهار دهشته- كما قلنا- وكذلك طلب علامة من اللَّه، لا يعنيان أبداً أنّه لا يثق بوعد اللَّه، خاصة وأنّ ذلك الوعد قد توكّد بقوله: «كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ». إنّما كان يريد زكريا أن يتحوّل إيمانه بهذا إيماناً شهودياً، كان يريد أن يمتلي ء قلبه بالاطمئنان، كما كان إبراهيم يبحث عن اطمئنان القلب والهدوء الناشئين عن الشهود الحسي.

«قَالَ

رَبّ اجْعَل لِى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا».

أجاب اللَّه طلب زكريا هذا أيضاً، وعيّن له علامة، وهي أنّ لسانه كفّ عن الكلام مدة ثلاثة أيام بغير أيّ نقص طبيعي، فلم يكن قادراً على المحادثة العادية، ولكن لسانه كان ينطلق إذا ما شرع يسبّح اللَّه ويذكره، هذه الحالة العجيبة كانت علامة على قدرة اللَّه على كل شي ء، فاللَّه القادر على فكّ لجام اللسان عند المباشرة بذكره، قادر على أن يفكّ عقم رحم امرأة فيخرج منه ولداً مؤمناً هو مظهر ذكر اللَّه، وهكذا تتّضح العلاقة بين هذه العلامة وما كان يريده زكريا.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 269

«وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بِالْعَشِىّ وَالْإِبْكَارِ». «العشي»: تطلق عادة على أوائل ساعات الليل كما يقال «الإبكار» للساعات الأولى من النهار. وقيل إنّ «العشي» هو من زوال الشمس حتى غروبها و «الإبكار» من طلوع الفجر حتى الظهر.

وفي الآية يأمر اللَّه زكريا بالتسبيح. إنّ هذا التسبيح والذكر على لسان لا ينطق موقتاً دليل على قدرة اللَّه على فتح المغلق، وكذلك هو أداء لفريضة الشكر للَّه الذي أنعم عليه بهذه النعمة الكبرى.

وَ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) بعد الإشارات العابرة إلى مريم في الآيات السابقة التي دارت حول عمران وزوجته، هذه الآية تتحدّث بالتفصيل عن مريم. تقول الآية إنّ الملائكة كانوا يكلّمون مريم: «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ».

ما أعظم هذا الإفتخار بأن يتحدّث الإنسان مع الملائكة ويحدثونه، وخاصة إذا كانت المحادثة بالبشارة من اللَّه تعالى باختياره وتفضيله، كما في مورد مريم

بنت عمران، فقد بشرتها الملائكة بأنّ اللَّه تعالى قد إختارها من بين جميع نساء العالم وطهّرها وفضلها بسبب تقواها وإيمانها وعبادتها.

«يَا مَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الرَّاكِعِينَ».

هذه الآية تكملة لكلام الملائكة مع مريم، فبعد أن بشّرها بأنّ اللَّه قد اصطفاها، قالوا لها:

الآن اشكري اللَّه بالركوع والسجود والخضوع له اعترافاً بهذه النعمة العظمى.

ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) هذه الآية تشير إلى جانب آخر من قصة مريم عليها السلام وتقول بأنّ ما تقدّم من قصة مريم وزكريا إنّما هو من أخبار الغيب: «ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ». لأنّ هذه القصة بشكلها الصحيح والخالي من شوائب الخرافة لا توجد في أيّ من الكتب السابقة، مضافاً إلى أنّ سند هذه القصة هو وحي السماء.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 270

ثم تضيف الآية: «وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ». أي إنّك لم تكن حاضراً حينذاك، بل جاءك الخبر عن طريق الوحي.

يستفاد من هذه الآية والآيات الاخرى الخاصة بيونس في سورة الصافات أنّ من الممكن اللجوء إلى القرعة لحلّ النزاع والخصام الذي يصل إلى طريق مسدود بحيث لا يكون هناك أيّ حلّ مقبول من أطراف النزاع.

قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) هذه الآية تبين حادث ولادة المسيح الذي يبدأ بتقديم الملائكة البشارة لمريم عليها السلام بأمر من اللَّه قائلين لها إنّ اللَّه سوف يهب لك ولداً اسمه المسيح عيسى بن مريم، وسيكون له مقام مرموق في

الدنيا والآخرة، وهو مقرّب عند اللَّه. «إِذْ قَالَتِ الْمَلِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ».

تشير الآية التي بعدها إلى إحدى فضائل ومعاجز عيسى عليه السلام وهي تكلّمه في المهد:

«وَيُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ». فقد جاء في سورة مريم أنّه لدفع التهمة عن امه تكلم في المهد كلاماً فصيحاً أعرب فيه عن عبوديته للَّه وعن كونه نبياً.

ولما لم يكن من الممكن أن يولد نبي في رحم غير طاهرة، فإنّه يؤكد بهذا الإعجاز طهارة امه.

والظاهر من آيات سورة مريم أنّه عليه السلام تكلم منذ بداية تولده مما يستحيل على كل طفل أن يقوم به في هذا العمر عادة وبهذا كان كلامه في المهد معجزة كبيرة ولكن الكلام في مرحلة الكهولة «1» أمر عادي ولعل ذكره في الآية أعلاه مقارناً للحديث في المهد إشارة إلى أنّ كلامه في المهد مثل كلامه في الكهولة والكمال لم يجانب الصواب والحق والحكم.

______________________________

(1) «الكهولة»: هي متوسط العمر، وقيل إنّها الفترة ما بين السنة الرابعة والثلاثين حتّى الحادية والخمسين، وماقبلها «شاب» وما بعدها «شيخ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 271

إنّنا نعلم أنّ هذه الدنيا هي دنيا العلل والأسباب، وأنّ اللَّه قد دبّر أمر الخلق بحيث إنّ خلق كل كائن يتمّ ضمن سلسلة من العوامل، فلِكي يولد إنسان قرّر اللَّه أن يكون ذلك عن طريق الإتصال الجنسي، ونفوذ الحيمن في البويضة، لذلك حق لمريم أن تصيبها الدهشة وأن تتقدّم بسؤالها: كيف يمكن أن تحمل وتلد ويكون لها ولد بغير أن يكون لها أيّ اتصال جنسي مع أيّ بشر؟ «قَالَتْ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ».

فجاءتها الملائكة بأمر ربّها تخبرها بأنّ اللَّه

يخلق ما يشاء وكيفما يشاء، فنظام الطبيعة هذا من خلق اللَّه وهو يأتمر بأمره، واللَّه قادر على تغيير هذا النظام وقتمايشاء، فيخلق وفق أسباب وعوامل اخرى غير عادية ما يشاء: «كَذلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ».

ثم لتوكيد هذا الأمر وإنهائه يقول: «إِذَا قَضَى أَمرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ».

إنّ تعبير «كن فيكون» إشارة إلى سرعة الخلق.

وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْرَاةَ وَ الْإِنْجِيلَ (48) وَ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَ مَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) بعد أن ذكرت الآيات السابقة أربع صفات للمسيح عليه السلام (وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد، ومن الصالحين) شرعت هاتان الآيتان بذكر صفتين اخريين من صفات هذا النبي العظيم، فالاولى تقول: «وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ». ففي البداية تشير إلى تعليمه الحكمة والعلم بشكل عام ثم تبين مصداقين من مصاديق الكتاب والحكمة وهماالتوراة والإنجيل.

في الآية الاولى كان الكلام عن علم المسيح وكتبه السماوية وفي الآية الثانية إشارة إلى معجزاته العديدة ثم تبين الهدف من كل ذلك وهو هداية بني إسرائيل المنحرفين: «وَرَسُولًا إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ».

ثم تضيف الآية: «أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بَايَةٍ مِّن رَّبّكُمْ». وليست آية واحدة، بل آيات عديدة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 272

ولما كانت دعوة الأنبياء في الحقيقة دعوة إلى حياة حقيقية، فإنّ هذه الآية- عند بيان معجزات السيد المسيح عليه السلام- تبدأ بذكر بثّ الحياة في الأموات بإذن اللَّه، وتقول على لسان المسيح: «أَنّى

أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطّينِ كَهَيَةِ الطَّيرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ».

ثم تشير إلى معالجة الأمراض الصعبة العلاج أو التي لا علاج لها وتقول على لسانه:

«وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ» «1». لا شكّ أنّ القيام بكلّ هذه الأعمال وخاصة لدى علماء الطب في ذلك الزمان كان من المعجزات التي لا يمكن إنكارها.

بعد ذلك تشير إلى إخباره عن أسرار الناس الخافية، فلكل امرى ء في حياته بعض الأسرار التي لا يعرف الآخرون شيئاً عنها، فإذا جاء من يخبرهم بما أكلوه، أو ما ادّخروه، فهذا يعني أنّه يستقي معلوماته من مصدر غيبي: «وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ». وأخيراً يقول: إنّ هذه كلها دلائل صادقة للذين يؤمنون منكم «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

تفيد هذه الآية وآيات اخرى أنّ رسل اللَّه وأولياءه يستطيعون بإذن منه وبأمره- إذا اقتضى الأمر- أن يتدخّلوا في عالم الخلق والتكوين وأن يحدثوا ما يعتبر خارقاً للقوانين الطبيعية.

وهذا مقام أرفع من مقام الولاية التشريعية، أي إدارة الناس وحكمهم ونشر قوانين الشريعة بينهم ودعوتهم إلى اللَّه وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.

وَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) هذه الآية جاءت على لسان المسيح عليه السلام ولبيان بعض اهداف النبوّة حيث يقول: جئت اؤكّد لكم التوراة واثبت اصولها ومبادئها «وَمُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَيةِ». كما جئت لأرفع الحظر الذي فرض عليكم بالنسبة لبعض الأشياء في دين موسى عليه السلام بسبب

______________________________

(1) «اكمه»: قيل إنّه يعني أعمى وذهب بعض إلى أنّه العشو الليلي، ولكن أغلب

المفسّرين وأرباب اللغة ذهبواإلى أنّه يعني الأعمى منذ الولادة، وبعض ذهب إلى أكثر من ذلك بأنّ المراد هو عدم وجود أصل العين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 273

عصيانكم- مثل منع لحم الأباعر وبعض شحوم الحيوانات وبعض الطيور والأسماك- «وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِى حُرّمَ عَلَيْكُمْ».

ثم مرّة اخرى تتكرّر الجملة التي قرأناها على لسان المسيح في الآية السابقة: «وَجِئْتُكُم بَايَةٍ مِّن رَّبّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ».

وفي الآية الثانية تؤكد على لسان السيد المسيح عليه السلام عبودية المسيح لرفع كل إبهام وريب قد ينشأ من كيفية ولادته التي قد يتشبث بها البعض لإثبات الوهيته وتقول: «إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ». يتضح من هذه الآية ومن آيات اخرى أنّ السيد المسيح لكي يزيل كل إبهام وخطأ فيما يتعلّق بولادته الخارقة للعادة ولكي لا يتخذونها ذريعة لتأليهه كثيراً ما يكرر القول: «إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ» و «إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتنِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا» «1». بخلاف ما نراه في الأناجيل المحرّفة الموجودة التي تنقل عن المسيح أنّه كان يستعمل «الأب» في كلامه عن اللَّه، إنّ القرآن يذكر «الرب» بدلًا من ذلك: «إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ». وهذا أكثر ما يمكن أن يقوم به المسيح في محاربة من يدّعي الوهيّته، بل لكي يكون التوكيد على ذلك أقوى يقول للناس: «فَاعْبُدُوهُ». أي اعبدوا اللَّه ولا تعبُدوني.

ولذلك نجد أنّه لم يكن أحد من الناس يتجرأ في حياة السيّد المسيح أن يدعي الوهيته أو أنّه أحد الآلهة وحتى بعد عروجه بقرنين من الزمان لم تخالط تعليماته في التوحيد شوائب الشرك، إلّاأنّ التثليث باعتراف أرباب الكنيسة ظهر في القرن الثالث للميلاد (وسيأتي تفصيل ذلك في ذيل الآية 171 من سورة النساء).

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ

أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) كان اليهود ينتظرون مجي ء المسيح عليه السلام بموجب ما بشّرهم به موسى عليه السلام قبل أن يولد ولكنه عندما ظهر وتعرّضت مصالح جمع من الظالمين والمنحرفين من بني إسرائيل للخطر لم

______________________________

(1) سورة مريم/ 30.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 274

يبق معه إلّانفر قليل، بينما تركه الذين احتملوا أن يؤدّي قبولهم دعوة المسيح والتقيّد بالقوانين الإلهية إلى ضياع مصالحهم. بعد أن أعلن عيسى دعوته وأثبتها بالأدلة الكافية، أدرك أنّ جمعاً من بني إسرائيل يصرّون على المعارضة والعصيان ولا يتركون المعاندة والانحراف: «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ». فنادى في أصحابه و «قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ» «1». فاستجاب لندائه نفر قليل، كانوا أطهاراً سمّاهم القرآن ب «الحواريين» لبّوا نداء المسيح ولم يبخلوا بشي ء في سبيل نشر أهدافه المقدسة.

أعلن الحواريون استعدادهم لتقديم كل عون للمسيح عليه السلام وقالوا: «نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ».

لاحظ أنّ الحواريين قالوا: نحن أنصار اللَّه ننصر دينه. بل لكي يعربوا عن منتهى إيمانهم بالتوحيد وليؤكّدوا إخلاصهم ولم يقولوا: نحن أنصارك.

وبعد أن قبل الحواريون دعوة المسيح إلى التعاون معه واتخاذه شاهداً عليهم في إيمانهم، اتّجهوا إلى اللَّه يعرضون عليه إيمانهم قائلين: «رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ». ولكن لما كانت دعوى الإيمان لا تكفي وحدها، فقد اتّبعوا ذلك بقيامهم بتنفيذ أوامر اللَّه واتّباع رسوله المسيح وقالوا مؤكّدين: «وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ».

عندما يتغلغل الإيمان في روح الإنسان لابدّ أن ينعكس ذلك على عمله، فبدون العمل يكون إدّعاؤه الإيمان تقوّلًا، لا إيماناً حقيقياً.

بعد

ذلك طلبوا من اللَّه قائلين «فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ». والشاهدون هم اولئك الذين لهم صفة قيادة الامم، ويوم القيامة يشهدون على أعمال الناس الحسنة والسيئة.

وبعد أن إنتهى الحواريون من شرح إيمانهم، أشاروا إلى خطط اليهود الشيطانية، وقالوا:

إنّ هؤلاء- لكي يقضوا على المسيح عليه السلام وعلى دعوته ويصدّوا انتشار دينه- وضعوا الخطط الماكرة، إلّاأنّ ما رسمه اللَّه من مكر فاق مكرهم وكان أشدّ تأثيراً: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ».

______________________________

(1) التعبير ب «أحسّ» مع أنّ الكفر أمر باطني لا يدرك بالحواس قد يكون أنّ إصرارهم على الكفر بلغ مرتبة من الشدّة وكأنّه أصبح محسوساً (الميزان في تفسير القرآن، ذيل الآية مورد البحث).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 275

أمّا سبب تسمية تلامذة المسيح بالحواريين فقد ذكرت له احتمالات كثيرة ولكن الأقرب إلى الذهن وهو الوارد في أحاديث أئمة الدين، هو لأنّهم فضلًا عن طهارة قلوبهم وصفاء أرواحهم، كانوا دائبي السعي في تطهير الناس وتنوير أفكارهم وغسلهم من أدران الذنوب.

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رَافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) قلنا إنّ اليهود- بالتعاون مع بعض المسيحيين الخونة- قرّروا قتل السيد المسيح، فأحبط اللَّه مكرهم ونجى نبيّه منهم، في هذه الآية يذكر اللَّه نعمته على المسيح قبل وقوع الحادثة، قائلًا: «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنّى مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ».

من المعروف عند المفسرين، بالإستناد إلى الآية (157) من سورة النساء، أنّ المسيح لم يُقتل وأنّ اللَّه رفعه إلى السماء.

ثم تضيف الآية: «وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا». هذا جانب آخر من خطاب اللَّه إلى المسيح، والقصد من التطهير هنا هو إنقاذه

من الكفار الخبثاء البعيدين عن الحق والحقيقة الذين كانوا يوجّهون إليه التهم الباطلة، ويحوكون حوله المؤامرات ساعين إلى تلويث سمعته فنصر اللَّه دينه وطهّره من تلك التهم.

«وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيمَةِ».

وهذه بشارة يبشّر بها اللَّه المسيح وأتباعه لتشجيعهم على المضيّ في الطريق الذي اختاروه، والواقع أنّ هذه واحدة من آيات الإعجاز ومن تنبّؤات القرآن الغيبية التي تقول إنّ أتباع المسيح سوف يسيطرون دائماً على اليهود الذين عادوا المسيح.

وفي ختام الآية يقول تعالى: «ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».

ويعني أنّ ما تقدم من الانتصارات والبشائر يتعلق بالحياة الدنيا أمّا المحكمة النهائية ونيل الجزاء الكامل فسيكون في الآخرة.

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 276

الآية الاولى والثانية تتابعان الخطاب للسيد المسيح وحال أتباعه وأعدائه بينما الآية الثالثة خاطب نبي الخاتم صلى الله عليه و آله.

وبعد ذكر رجوع الناس إلى اللَّه ومحاكمتهم- في الآية السابقة- يأتي في هذه الآية ذكر نتيجة تلك المحاكمة، فالكافرون والمعارضون للحق والعدالة سيُلاقون في الآخرة من العذاب الأليم مثل ما يُلاقون في الدنيا ولن يكون لأيّ منهم حامٍ ولا نصير: «فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ».

ومن الإشارة في هذه الآية إلى عذاب الدنيا نفهم أنّ الكافرين- وهم هنا اليهود- لا ينجون من العذاب، وهذا ما يؤكده تاريخ اليهود، ومن ذلك تفوّق الآخرين عليهم كما جاء في الآيات السابقة.

ثم أشار القرآن الكريم إلى الفئة

الثانية وقال: «وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ». ثم يؤكد القول: «وَاللَّهُ لَايُحِبُّ الظَّالِمِينَ».

ومن الواضح أنّ اللَّه لا يحبّ الظالمين ولا يقدم على ظلم عباده بل يوفيهم اجورهم بالكامل.

وبعد ذكر تاريخ المسيح وبعض ما جرى له، يتّجه الخطاب إلى رسول الأعظم صلى الله عليه و آله فيقول: كل هذا الذي سردناه عليك دلائل صدق لدعوتك ورسالتك وكان تذكيراً حكيماً جاء بصورة آيات قرآنية نزلت عليك، تبين الحقائق في بيان محكم وخالٍ من كل هزل وباطل وخرافة. «ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأَيَاتِ وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ».

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَكُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنَا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت الآيات في وفد نجران: العاقب والسيد ومن معهما، قالوا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: هل رأيت ولداً من غير ذكر؟ فنزل: «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 277

الآيات. فقرأها عليهم، فلما دعاهم رسول اللَّه إلى المباهلة «1» استنظروه إلى صبيحة غد من يومهم ذلك ...

فلمّا كان الغد جاء النبي صلى الله عليه و آله آخذاً بيد علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام بين يديه يمشيان وفاطمة عليها السلام تمشي خلفه وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم ...

روي أنّ الأسقف قال لهم: إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا اللَّه أن يزيل جبلًا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم

القيامة.

التّفسير

الآية الاولى تورد استدلالًا قصيراً وواضحاً في الرد على مسيحيي نجران بشأن ألوهية المسيح: إنّ ولادة المسيح من غير أب لا يمكن أن تكون دليلًا على أنّه ابن اللَّه أو أنّه اللَّه بعينه، لأنّ هذه الولادة قد جرت لآدم بصورة أعجب فهو قد ولد من غير أب ولا ام، وعليه، فكما أنّ خلق آدم من تراب لا يستدعي التعجب، لأنّ اللَّه قادر على كل شي ء، ولأنّ «فعله» و «إرادته» متناسقان فإذا أراد شيئاً يقول له: كن فيكون، كذلك ولادة عيسى من ام وبغير أب، ليست مستحيلة «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ».

«الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلَا تَكُنْ مِّنَ الْمُمْتَرِينَ». هذه الآية تؤكد الموضوع وتقول: إنّ ما أنزلنا عليك بشأن المسيح أمر حقيقي من اللَّه ولا يعتوره الشك، فلا تتردّد في قبوله.

بعد الآيات التي استدلّ فيها على بطلان القول بالوهية عيسى بن مريم، يأمر اللَّه نبيّه بالمباهلة إذا جاءه من يجادله من بعد ما جاء من العلم والمعرفة، وأمره أن يقول لهم: إنّي سأدعو أبنائي، وأنتم ادعوا أبناءكم، وأدعو نسائي، وأنتم ادعوا نساءكم، وأدعو نفسي، وتدعون أنتم أنفسكم، وعندئذ ندعو اللَّه أن ينزل لعنته على الكاذب منّا: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ».

إِنَّ هذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَ مَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

______________________________

(1) بمعنى الملاعنة بين الشخصين، ولذا يجتمع أفراد للحوار حول مسألة دينية مهمّة في مكان واحدويتضرعون اللَّه أن يفضح الكاذب ويعاقبه.

مختصر الامثل، ج 1،

ص: 278

تقول الآية- بعد شرح حياة المسيح عليه السلام- إنّ ما قصصناه عليك من قصة عيسى حقيقة أنزلها اللَّه عليك وعليه، فإنّ المزاعم الباطلة القائلة بالوهية المسيح، أو اعتباره ابن اللَّه، أو بعكس ذلك اعتباره لقيطاً، كلها خرافات باطلة «إِنَّ هذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ».

ثم تضيف للتوكيد: إنّ الذي يليق للعبادة هو اللَّه «وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ» وحده، وأنّ اتخاذ معبود آخر دونه عمل بعيد عن الحق والحقيقة «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» فهو قادر على أن يخلق ولداً بدون أب، وذلك على اللَّه يسير.

الآية الثانية تهدد من لم يستسلم من هؤلاء للحق بعد الاستدلالات المنطقية في القرآن بشأن المسيح عليه السلام وكذلك إذا لم يخضعوا للمباهلة واستمرّوا في عنادهم وتعصبهم، لأنّ ذلك دليل على أنّهم ليسوا طلاب حق، بل هم مقيدون بأغلال تعصبهم المجحف، وأهوائهم الجامحة، وتقاليدهم المتحجرة، وبذلك يكونون من المفسدين في المجتمع: «فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ».

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَنْ نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) الدعوة إلى الإتحاد: في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الإسلام (بكل تفاصيله) ولكن الدعوة هذه المرّة تتّجه إلى النقاط المشتركة بين الإسلام وأهل الكتاب، وبهذا يعلّمنا القرآن درساً، مفاده: أنّكم إذا لم توفّقوا في حمل الآخرين على التعاون معكم في جميع أهدافكم، فلا ينبغي أن يقعد بكم اليأس عن العمل، بل إسعوا لإقناعهم بالتعاون معكم في تحقيق الأهداف المشتركة بينكم، كقاعدة للإنطلاق إلى تحقيق سائر أهدافكم المقدسة «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ

إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيًا».

«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ».

لو أنّهم- بعد دعوتهم دعوة منطقية إلى نقطة التوحيد المشتركة- أصرّوا على الإعراض، فلابد أن يقال لهم: اشهدوا أنّنا قد أسلمنا للحق، ولم تسلموا، وبعبارة اخرى: فاعلموا أنّ من يطلب الحق، ومن يتعصّب ويعاند. ثم قولوا لهم: «اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ». فلا تأثير لعنادكم وعصيانكم وابتعادكم عن الحق في أنفسنا، وإنّا ما زلنا على طريقنا- طريق الإسلام- سائرون، لا نعبد إلّااللَّه، ولا نلتزم إلّاشريعة الإسلام، ولا وجود لعبادة البشر بيننا.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 279

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَ مَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَ لَا نَصْرَانِيّاً وَ لكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ أحبار اليهود ونصارى اجتمعوا عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فتنازعوا في إبراهيم، فقالت اليهود: ما كان إلّايهودياً، وقالت النصارى: ما كان إلّانصرانياً. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إِبْرهِيمَ». هذه الآية تردّ على مزاعم اليهود والنصارى، وتقول: إنّ جدلكم بشأن إبراهيم النبي المجاهد في سبيل اللَّه جدل عقيم لأنّه كان قبل موسى والمسيح بسنوات كثيرة والتوراة والإنجيل نزلا بعده بسنوات كثيرة «وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَيةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ». أيعقل أن يدين نبي سابق بدين لاحق؟ «أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

«هَا أَنتُمْ هؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم

بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ».

هنا يوبّخهم اللَّه قائلًا إنّكم قد بحثتم فيما يتعلق بدينكم الذي تعرفونه (وشاهدتم كيف أنّكم حتى في بحث ما تعرفونه قد وقعتم في أخطاء كبيرة وكم بعدتم عن الحقيقة، فقد كان علمكم، في الواقع، جهلًا مركباً)، فكيف تريدون أن تجادلوا في أمر لا علم لكم به، ثم تدّعون ما لا يتفق مع أيّ تاريخ؟

وفي نهاية الآية يقول: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ». توكيداً للموضوع السابق وتمهيداً لبحث الآية التالية.

أجل، إنّه يعلم متى بعث إبراهيم عليه السلام بالرسالة لا أنتم الذين جئتم بعد ذلك بزمن طويل وتحكمون في هذه المسألة بدون دليل.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 280

مختصر الامثل ج 1 319

«مَا كَانَ إِبْرهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا». وهذا ردّ صريح على هذه المزاعم يقول إنّ إبراهيم لم يكن من اليهود ولا من المسيحيين، وإنّما كان موحّداً طاهراً مخلصاً أسلم للَّه ولم يشرك به أبداً.

«الحنيف»: من الحنف، وهو الميل من شي ء إلى شي ء، وهو في لغة القرآن ميل عن الضلال إلى الإستقامة.

يصف القرآن إبراهيم أنّه كان حنيفاً لأنّه شقّ حجب التعصب والتقليد الأعمى، وفي عصر كان غارقاً في عبادة الأصنام، نبذ هو عبادة الأصنام ولم يطأطى ء لها رأساً.

إنّ القرآن بعد أن وصف إبراهيم بأنّه كان «حَنِيفًا» أضاف «مُّسْلِمًا» ثم أردف ذلك بقوله «وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» لإبعاد إحتمال آخر.

ومما تقدم يتّضح أنّ إبراهيم عليه السلام لم يكن تابعاً لهذه الأديان، ولكن كيف يمكننا إتّباع هذا النبي العظيم الذي يفتخر باتّباعه جميع أتباع الأديان السماوية؟

آخر آية من الآيات مورد البحث توضح هذا المطلب وتقول: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ...». وعليه، إذا كان أهل الكتاب بعقائدهم المشركة قد انحرفوا عن أهم مبدأ

من مبادى ء دعوة إبراهيم، فقد بقي رسول الإسلام صلى الله عليه و آله والمسلمون- بالاستناد إلى هذا المبدأ نفسه وتعميمه على جميع اصول الإسلام وفروعه- من أوفى الأوفياء له، فلابدّ أن نعترف بأنّ هؤلاء هم الأقربون إلى إبراهيم، لا اولئك.

وفي ختام الآية يبشر اللَّه تعالى الذين يتبعون رسالة الأنبياء حقيقة ويقول: «وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ».

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ مَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ (69)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي: نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر حين دعاهم اليهود من بني النضير وقريظة وبني قينقاع إلى دينهم.

التّفسير

هذه الآية تكشف خطّة الأعداء، وتنذرهم بالكفّ عن محاولاتهم العقيمة استناداً إلى التربية التي نشأ عليها هذا الفريق من المسلمين في مدرسة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بحيث لا يمكن أن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 281

يكون هناك أيّ احتمال لارتدادهم. إنّ هؤلاء قد إعتنقوا الإسلام بكل وجودهم، ولذلك فإنّهم يعشقون هذه المدرسة الإنسانية بمجامع قلوبهم ويؤمنون بها، وبناء على ذلك لا سبيل للأعداء إلى تضليلهم، بل إنّهم إنّما يضلّون أنفسهم.

«وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ» وذلك لأنّهم بإلقاء الشبهات حول الإسلام وعلى رسول الإسلام واتّهامهما بشتّى التهم، إنّما يربّون في أنفسهم روح سوء الظن.

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) تعقيباً للحديث عن الأعمال التخريبية لأهل الكتاب الواردة في الآية السابقة، توجّه هاتان الآيتان الخطاب لأهل الكتاب وتلومهم على كتمانهم للحقائق وعدم التسليم لها، فتقول: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بَايَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ».

السؤال هنا أيضاً موجه إلى أهل الكتاب عمّا

يدعوهم إلى العناد واللجاجة والإصرار عليهما بعد أن قرأوا علامات نبي الخاتم في التوراة والإنجيل ويعلمون ما فيهما، فلماذا ينكرونها؟

«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ». مرّة اخرى يستنكر القرآن قيامهم بالخلط بين الحق والباطل، وإخفاءهم الحق مع علمهم به، فهم على علمهم بالأمارات الواردة في التوراة والإنجيل عن رسول الأكرم صلى الله عليه و آله يخفونها.

وَ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَ لَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: تواطأ إثنا عشر رجلًا من أحبار اليهود خيبر وقرى عرينة، وقال

مختصر الامثل، ج 1، ص: 282

بعضهم لبعض: أدخلوا في دين محمّد أوّل النهار باللسان دون الإعتقاد واكفروا به آخر النهار. وقولوا: إنّا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدا محمّداً ليس بذلك، وظهر لنا كذبه، وبطلان دينه. فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينه، وقالوا: إنّهم أهل الكتاب وهم أعلم به منّا. فيرجعون عن دينهم إلى دينكم.

التّفسير

تكشف هذه الآية عن خطّة هدّامة اخرى من خطط اليهود، وتقول إنّ هؤلاء لكي يزلزلوا بُنية الإيمان الإسلامي توسّلوا بكل وسيلة ممكنة، من ذلك أنّ «وَقَالَتْ طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» اتفقوا أن يؤمنوا بما أنزل على المسلمين في أول النهار ويرتدّوا عنه في آخره «ءَامِنُوا بِالَّذِى أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا ءَاخِرَهُ».

لا شك أنّ مثل هذه المؤامرة كانت ستؤثّر في نفوس ضعفاء

الإيمان، خاصة وأنّ اولئك اليهود كانوا من الأحبار العلماء، وكان الجميع يعرفون عنهم أنّهم عالمون بالكتب السماوية وبعلائم خاتم الأنبياء، فإيمانهم ثم كفرهم كان قادراً على أن يزلزل إيمان المسلمين الجديد، لذلك كانوا يعتمدون كثيراً على خطّتهم الماهرة هذه، وقوله: «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» دليل على أملهم هذا.

وكانت خطّتهم تقضي أن يكون إيمانهم بالإسلام ظاهرياً، وأن يبقى إرتباطهم القلبي بدينهم. «وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ».

«قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ». هذه جملة معترضة جاءت ضمن كلام على لسان اليهود في ما قبلها وما بعدها من الآيات.

«أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ».

هذه الآية استمرار لأقوال اليهود، بتقدير عبارة (ولا تصدّقوا) قبلها.

وعلى ذلك يصبح معنى الآية هكذا: «لا تصدّقوا أن ينال أحد ما نلتم من الفخر وما نزل عليكم من الكتب السماوية وكذلك لا تصدّقوا أن يستطيع أحد أن يجادلكم يوم القيامة أمام اللَّه ويدينكم لأنّكم خير عنصر وقوم في العالم، وأنتم أصحاب النبوة والعقل والعلم والمنطق والاستدلال».

بهذا المنطق الواهي كان اليهود يسعون لنيل ميزة يتميّزون بها من حيث علاقتهم باللَّه ومن حيث العلم والمنطق والاستدلال على الأقوام الاخرى، لذلك يردّهم اللَّه في الآية

مختصر الامثل، ج 1، ص: 283

التالية بقوله: «قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». أي: قل لهم إنّ المواهب والنعم، سواء أكانت النبوّة والإستدلالات العقلية المنطقية، أم المفاخر الاخرى، هي جميعاً من اللَّه، يسبغها على من يشاء من المؤهّلين اللّائقين الجديرين بها.

«يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».

هذا توكيد لما سبق أيضاً: إنّ اللَّه يخصّ من عباده من يراه جديراً برحمته- بما في ذلك مقام النبوّة والقيادة- دون أن يستطيع أحد تحديده فهو صاحب الأفضال والنِعم العظيمة.

ويستفاد ضمناً

من هذه الآية الكريمة أن الفضل الإلهي إذا شمل بعض الناس دون بعض، فليس ذلك لمحدودية الفضل الإلهي، بل بسبب تفاوت القابليات فيهم.

خطط قديمة: تعتبر هذه الآيات، في الواقع، من آيات إعجاز القرآن، لأنّها تكشف أسرار اليهود وأعداء الإسلام وتفضح خططهم لزعزعة مسلمي الصدر الأوّل، فتيقّظ المسلمون ببركتها ووعوا وساوس الأعداء المغرية، ولكنّنا لو دقّقنا النظر لأدركنا أنّ تلك الخطط تجري في عصرنا الحاضر أيضاً بطرق مختلفة، إنّ وسائل إعلام الأعداء القوية المتطورة مستخدمة الآن للغرض نفسه، فهم يحاولون هدم أركان العقيدة الإسلامية في عقول المسلمين، وبخاصة الجيل الشاب، وهم في هذا السبيل لا يتورّعون عن كل فرية، ويلجأون إلى كل السبل ويتلبسون بلبوس العالم والمستشرق والمؤرخ وعالم الطبيعيات والصحفي، بل حتى الممثّل السينمائي.

إنّهم يصرّحون أنّ هدفهم ليس التبشير بالمسيحية وحمل المسلمين على اعتناقها، ولا إعتناق اليهودية، بل هدفهم هو هدم اسس المعتقدات الإسلامية في أفكار الشباب، وجعلهم غير مهتمّين بدينهم وتراثهم، إنّ القرآن اليوم يحذّر المسلمين من هذه الخطط كما حذّرهم في القديم.

وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَ اتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 284

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: يعنى بقوله «مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ» عبد اللَّه بن سلام، أودعه رجل 1200 أوقية «1» من ذهب، فأدّاه إليه، فمدحه اللَّه سبحانه.

ويعنى بقوله «مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّايُؤَدّهِ إِلَيْكَ» فنحاص بن عازوراء وذلك أنّ رجلًا

من قريش استودعه ديناراً، فخانه. واللَّه يذمّه في هذه الآية لخيانته الأمانة.

التّفسير

ترسم الآية ملامح اخرى لأهل الكتاب، كان جمع من اليهود يعتقدون أنّهم لا يكونون مسؤولين عن حفظ أمانات الناس، بل لهم الحق في تملّك أماناتهم! كانوا يقولون: إنّنا أهل الكتاب، وأنّ النبي والكتاب السماوي نزلا بين ظهرانينا، لذلك فأموال الآخرين غير محترمة عندنا. لقد تغلغلت فيهم هذه الفكرة بحيث غدت عقيدة دينية راسخة، وهذا ما يعبّر عنه القرآن بقوله «يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» قال اليهود: إنّ لنا حق التصرف بأموال العرب واغتصابها لأنّهم مشركون ولا يتّبعون دين موسى.

من الجدير بالذكر أنّ هذه الآية تعلن أنّ أهل الكتاب لم يكونوا جميعاً ينهجون هذا الطراز من التفكير غير الإنساني، بل كان فيهم جماعة ترى أنّ من واجبها أن تؤدي حق الآخرين. ولذلك فإنّ القرآن لم يدنهم جميعاً ولم يلق تبعة أخطاء بعضهم على الجميع ولذلك يقول: «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّايُؤَدّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا».

إنّ الحوادث التي جرت في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أنّ القرارات الدولية والرأي العام العالمي، وقضايا الحق والعدالة وأمثالها، لا قيمة لها في نظر الصهاينة ولا معنى، وما من شي ء يحملهم على الخضوع للحق سوى القوة، وهذه من المسائل التي تنبّأ بها القرآن.

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الْأُمّيّينَ سَبِيلٌ». هذه الآية تبين منطقهم في أكل أموال الناس، وهو قولهم بأنّ «لأهل الكتاب» أفضلية على «الاميين» أي على المشركين والعرب الذين كانوا اميين غالباً أو أنّ المقصود كل من ليس له نصيب من قراءة التوراة والإنجيل، لذلك يحق لهم أن يستولوا على أموال

الآخرين، وليس لأحد الحق أن يؤاخذهم على ذلك، حتى أنّهم ينسبون إلى اللَّه تقرير التفوق الكاذب.

______________________________

(1) «الأوقية»: تساوي 1/ 12 من الرطل ويساوي 7 مثاقيل، جمعها: أواق.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 285

لا شك أنّ هذا المنطق كان أخطر بكثير من مجرد خيانة الأمانة، لأنّهم كانوا يرون هذا حقّاً من حقوقهم، فيشير القرآن إلى هذا قائلًا: «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

هؤلاء يعلمون أنّه ليس في كتبهم السماوية أيّ شي ء من هذا القبيل بحيث يجيز لهم خيانة الناس في أموالهم، ولكنهم لتسويغ أعمالهم القبيحة راحوا يختلقون الأكاذيب وينسبونها إلى اللَّه.

الآية التالية تنفي مقولة اليهود: «لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الْأُمّيّينَ سَبِيلٌ» التي قرّروا فيها لأنفسهم حرية العمل، فاستندوا إلى هذا الزعم المزيّف للإعتداء على حقوق الآخرين بدون حق، حيث يتلاعبون بمصائر شعوب العالم، ولا يتورّعون عن إرتكاب كل إعتداء على حقوق الإنسان، ويرون القوانين مجرد العوبة بيدهم لتحقيق مصالحهم، فتقول: «بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ».

تقرر هذه الآية أنّ مقياس الشخصية والقيمة الإنسانية ومحبة اللَّه يتمثّل في الوفاء بالعهد وفي عدم خيانة الأمانة خاصة، وفي التقوى بشكل عام.

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لَا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في جماعة من أحبار اليهود أبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وحيي بن الأخطب، وكعب بن الأشرف، كتموا ما في التوراة من أمر محمّد وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا أنّه من عند اللَّه، لئلا تفوتهم الرياسة وما كان لهم على أتباعهم.

التّفسير

تشير الآية إلى جانب آخر من آثام اليهود وأهل الكتاب، ولكونها

وردت بصيغة عامة، فإنّها تشمل كل من تنطبق عليه هذه الصفات. تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا». أي الذين يجعلون عهودهم مع اللَّه والقسم باسمه المقدس موضع بيع وشراء لقاء مبالغ مادية، سيكون جزاءهم خمس عقوبات:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 286

1- انّهم سوف يُحرمون من نِعم اللَّه التي لا نهاية لها في الآخرة «أُولئِكَ لَاخَلقَ لَهُمْ» «1».

2- إنّ اللَّه يوم القيامة يكلم المؤمنين ولكنه لا يكلم أمثال هؤلاء «وَلَا يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ».

3- إنّ اللَّه سوف لا ينظر إليهم بنظر الرحمة واللطف يوم القيامة «وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ».

4- ولا يطهّرهم من ذنوبهم «وَلَا يُزَكّيهِمْ».

5- وأخيراً سيعذبهم عذاباً شديداً «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

بديهي أنّ كلام اللَّه ليس نطق اللسان لأنّ اللَّه منزه عن التجسّد، إنّما الكلام عن طريق الإلهام القلبي، أو عن طريق إحداث أمواج صوتية في الفضاء كالكلام الذي سمعه موسى عليه السلام من شجرة الطور. وكذلك النظر إليهم فهو إشارة إلى العناية الخاصة بهم وليس المقصود النظر الجسماني.

وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَ مَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ مَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (78) هذه الآية التي تؤكد ما بحثته الآيات السابقة بشأن خيانة بعض علماء أهل الكتاب وتقول: إنّ فريقاً من هؤلاء يلوون ألسنتهم عند تلاوتهم الكتاب، وهذا كناية عن تحريفهم كلام اللَّه. وتضيف: إنّهم في تحريفهم هذا من المهارة بحيث إنّكم تحسبون ما يقرأونه آيات أنزلها اللَّه، وهو ليس كذلك «لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ».

ولكنهم لا يقنعون بذلك، بل يشهدون علانية بأنّه من كتاب اللَّه، وهو ليس كذلك «وَيَقُولُونَ هُوَ

مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ».

مرّة اخرى يقول القرآن: إنّهم في عملهم هذا ليسوا ضحية خطأ، بل هم يكذبون على اللَّه بوعي وبتقصّد، وينسبون إليه هذه التهم الكبيرة وهم عالمون بما يفعلون «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

______________________________

(1) «خلاق»: من مادة «خُلُق» بمعنى النصيب والفائدة. وذلك لأنّ الإنسان يحصل عليها بواسطة اخلاقه (وهو إشارة إلى أنّهم يفتقدون الأخلاق الحميدة التي تؤهلهم للانتفاع في ذلك اليوم).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 287

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَ لَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: إنّ رجلًا قال: يا رسول اللَّه! يسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال: «لا ينبغي أن يُسجد لأحد من دون اللَّه، ولكن اكرموا نبيّكم، واعرفوا الحق لأهله». فأنزل اللَّه تعالى الآية.

التّفسير

سبق أن قلنا إنّ واحدة من عادات أهل الكتاب القبيحة- اليهود والنصارى- كانت تزييف الحقائق، من ذلك قولهم بالوهية عيسى، زاعمين أنّه هو الذي أمرهم بذلك، وكان هذا ما يريد بعضهم أن يحققه بشأن رسول الأكرم أيضاً، للأسباب التي ذكرناها في نزول الآية.

إنّ الآية ردّ حاسم على جميع الذين كانوا يقترحون عبادة الأنبياء. تقول الآية: ليس لكم أن تعبدوا نبي الخاتم ولا أيّ نبي آخر ولا الملائكة، ويخطى ء من يقول إنّ عيسى قد دعاهم إلى عبادته. «مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ».

الآية تنفي

نفياً مطلقاً هذا الأمر، أي أنّ الذين أرسلهم اللَّه وآتاهم العلم والحكمة لا يمكن- في أيّة مرحلة من المراحل- أن يتعدّوا حدود العبودية للَّه، بل إنّ رسل اللَّه هم أسرع خضوعاً له من سائر الناس، لذلك فهم لا يمكن أن يخرجوا عن طريق العبودية والتوحيد ويجرّوا الناس إلى هوة الشرك.

«وَلكِن كُونُوا رَبَّانِيّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ».

«الربّاني»: هو الذي أحكم إرتباطه باللَّه، ولمّا كانت الكلمة مشتقة من «ربّ» فهي تطلق أيضاً على من يقوم بتربية الآخرين وتدبير امورهم وإصلاحهم. وعلى هذا يكون المراد من

مختصر الامثل، ج 1، ص: 288

هذه الآية: إنّ هذا العمل (دعوة الأنبياء الناس إلى عبادتهم) لا يليق بهم، إنّ ما يليق بهم هو أن يجعلوا الناس علماء إلهيين في ضوء تعليم آيات اللَّه وتدريس حقائق الدين، ويصيّروا منهم أفراداً لا يعبدون غير اللَّه ولا يدعون إلّاإلى العلم والمعرفة. «وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلِكَةَ وَالنَّبِيّينَ أَرْبَابًا».

هذه تكملة لما بحث في الآية السابقة، فكما أنّ الأنبياء لا يدعون الناس إلى عبادتهم، فإنّهم كذلك لا يدعونهم إلى عبادة الملائكة وسائر الأنبياء. وفي هذا جواب لمشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أنّ الملائكة هم بنات اللَّه، وبذلك يسبغون عليهم نوعاً من الالوهية، ومع ذلك كانوا يعتبرون أنفسهم من أتباع دين إبراهيم، كذلك هو جواب للصابئة الذين يقولون إنّهم أتباع «يحيى» وكانوا يرفعون مقام الملائكة إلى حدّ عبادتهم، وهو أيضاً ردّ على اليهود الذين قالوا إنّ «عزيراً» ابن اللَّه، أو النصارى الذين قالوا إنّ «المسيح» ابن اللَّه، وأضفوا عليه طابعاً من الربوبية، فالآية تردّ هؤلاء جميعاً وتقول إنّه لا يليق بالأنبياء أن يدعوا الناس إلى عبادة غير اللَّه.

وفي الختام تقول الآية: «أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُمْ

مُّسْلِمُونَ».

أيمكن أن يدعوكم النبي إلى الكفر بعد أن اخترتم الإسلام ديناً؟ أي: كيف يمكن لنبي أن يدعوا الناس أوّلًا إلى الإيمان والتوحيد، ثم يدلّهم على طريق الشرك؟

تنوّه الآية ضمنياً بعصمة الأنبياء وعدم انحرافهم عن مسير إطاعة اللَّه.

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى وجود علائم لنبي الخاتم صلى الله عليه و آله في كتب الأنبياء السابقين، أشارت هذه الآية إلى مبدأ عام، وهو أنّ الأنبياء السابقين وأتباعهم قد أبرموا مع اللَّه ميثاقاً بالتسليم للأنبياء الذين يأتون بعدهم، وبالإضافة إلى الإيمان بهم، لا يبخلون عليهم بشي ء في مساعدتهم على تحقيق أهدافهم. تقول الآية: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّينَ لَمَا ءَاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُونَّهُ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 289

وفي القرآن إشارات كثيرة على وحدة الهدف عند أنبياء اللَّه، وهذه الآية نموذج حيّ على ذلك.

ثم لتوكيد هذا الموضوع جاءت الآية: «قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ إِصْرِى» «1».

هل اعترفتم بهذا الميثاق وقبلتم عهدي وأخذتم من أتباعكم عهداً بهذا الموضوع؟

وجواباً على ذلك: «قَالُوا أَقْرَرْنَا».

ثم لتوكيد هذا الأمر المهمّ وتثبيته يقول اللَّه: كونوا شهداء على هذا الأمر وأنا شاهد عليكم وعلى أتباعكم «قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ».

وفي الآية الأخيرة يذم ويهدد القرآن الكريم ناقضي العهود ويقول: «فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ».

فلو أنّ أحداً بعد كل هذا التأكيد على أخذ المواثيق والعهود المؤكّدة- أعرض

عن الإيمان بنبيّ كنبي الخاتم الذي بشرت به الكتب القديمة وذكرت علائمه، فهو فاسق وخارج على أمر اللَّه تعالى، ونعلم أنّ اللَّه لايهدي الفاسقين المعاندين، كما مرّ في الآية (80) من سورة التوبة:

«وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ». ومن لا يكون له نصيب من الهداية الإلهية فإنّ مصيره إلى النار.

أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَ مَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْبَاطِ وَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَ عِيسَى وَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) مرّت بنا حتى الآن بحوث مسهبة في الآيات السابقة عن الأديان الماضية، وابتداءاً من هذه الآية يدور البحث حول الإسلام وفيها إلفات لأنظار أهل الكتاب وأتباع الأديان السابقة إلى الإسلام. تبدأ الآية بالتساؤل: «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ».

______________________________

(1) «الإصر»: العهد المؤكّد الذي يستوجب نقضه العقاب الشديد.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 290

أيريد هؤلاء ديناً غير دين اللَّه؟ وما دين اللَّه سوى التسليم للشرائع الإلهية، هي كلها قد جمعت بصورتها الكاملة الشاملة في دين نبي الخاتم صلى الله عليه و آله. فإذا كان هؤلاء يبحثون عن الدين الحقيقي فعليهم أن يسلموا. «وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

يبدأ القرآن بتفسير الإسلام بمعناه الأوسع، فيقول: كل من في السماوات والأرض، أو جميع الكائنات في السماوات والأرض، مسلمون خاضعون لأوامره «طَوْعًا وَكَرْهًا».

هذا الإستسلام والخضوع يكون «طوعاً» أو اختيارياً أحياناً، إزاء «القوانين التشريعية» ويكون «كرهاً» أو إجبارياً أحياناً اخرى، إزاء

«القوانين التكوينية».

«قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا». في هذه الآية يأمر اللَّه النبي والمسلمين بأنّهم، فضلًا عن إيمانهم بما انزل على رسول الإسلام، عليهم أن يظهروا إيمانهم بكل الآيات والتعليمات التي نزلت على الأنبياء السابقين، وأن يقولوا: إنّنا لا نفرّق بينهم من حيث صدقهم وعلاقتهم باللَّه، إنّنا نعترف بالجميع، فهم جميعاً كانوا قادة إلهيين، وهم جميعاً بُعثوا لهداية الناس، إنّا نسلم بأمر اللَّه من جميع النواحي، وبذلك نقطع أيدي المفرّقين.

«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ». «يبتغ»: من «الإبتغاء» بمعنى الطلب والسعي، ويكون في الامور المحمودة وفي الامور المذمومة.

تقول الآية: أنّه لا يقبل من أحد سوى الإسلام مع الأخذ بنظر الاعتبار احترام سائر الشرايع الإلهية المقدسة. وأمّا الذين يتخذون غير هذه الحقيقة ديناً، فلن يقبل منهم هذا أبداً، ولهم على ذلك عقاب شديد «وَهُوَ فِى الْأَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ».

في تفسير القرطبي (وفي تفسير روح الجنان أيضاً): نزلت هذه الآية في الحارث بن سويد أخو الجُلاس بن سويد وكان من الأنصار، إرتدّ عن الإسلام هو واثنا عشر معه ولحقوا بمكة كفاراً، فنزلت هذه الآية.

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَ لَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 291

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له: حارث بن سويد بن الصامت. وكان قتل المحذر بن زياد البلوي غدراً، وهرب وارتد عن الإسلام، ولحق

بمكة ثم ندم، فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: هل لي من توبة؟ فسألوا.

فنزلت الآية إلى قوله «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا» فحملها إليه رجل من قومه، فقال: إنّى لأعلم أنّك لصدوق، ورسول اللَّه أصدق منك، وأنّ اللَّه أصدق الثلاثة. ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه.

التّفسير

كان الكلام في الآيات السابقة عن أنّ الدين الوحيد المقبول عند اللَّه هو الإسلام، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول من قبلوا الإسلام ثم رفضوه وتركوه، ويسمى مثل هذا الشخص «مرتد». تقول الآية: «كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ».

فالآية تقول: إنّ اللَّه لا يعين أمثال هؤلاء الأشخاص على الإهتداء، لماذا؟ لأنّ هؤلاء قد عرفوا النبي بدلائل واضحة وقبلوا رسالته، فبعدولهم عن الإسلام أصبحوا من الظالمين والشخص الذي يظلم عن علم واطلاع مسبق غير لائق للهداية الإلهية: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

المراد من «البينات» في هذه الآية، القرآن الكريم وسائر معاجز النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والمراد من «الظالم» هو من يظلم نفسه بالمرتبة الأولى ويرتد عن الإسلام وفي المرتبة الثانية يكون سبباً في إضلال الآخرين.

ثم تضيف الآية: «أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».

عقاب أمثال هؤلاء الأشخاص الذين يعدلون عن الحق بعد معرفتهم له، كما هو مبيّن في الآية، أن تلعنهم الملائكة وأن يلعنهم الناس.

«خَالِدِينَ فِيهَا لَايُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ».

تضيف الآية هنا أنّهم فضلًا عن كونهم موضع لعن عام، فإنّهم سيبقون في هذا اللعن إلى الأبد، فهم في الواقع كالشيطان الخالد في اللعن الأبدي.

ولا شكّ أنّ نتيجة ذلك هو أن يكونوا في عذاب شديد ودائم بغير تخفيف ولا إمهال.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 292

وفي آخر

آية تفتح طريق العودة أمام هؤلاء الأفراد، وتدعوهم للتوبة، لأنّ هدف القرآن هو الإصلاح والتربية، ومن أهم الطرق لذلك هو فتح باب العودة للمذنبين والملوثين كيما تتاح لهم الفرصة لجبران ما فرط منهم، فتقول: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

يستفاد من هذه الآية أنّ الذنب عبارة عن نقص في الإيمان، وأنّه بعد التوبة يقوم الشخص التائب بتجديد الإيمان ليتطهر من هذا النقص.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدَى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول الذين يندمون حقّاً على إنحرافهم عن طريق الحق فيتوبون توبة صادقة، في هذه الآية يدور الكلام على الذين لن تُقبل توبتهم، وهم الذين آمنوا أوّلًا، ثم إرتدّوا وكفروا، وأصرّوا على كفرهم. إنّ اللَّه لن يقبل توبة هؤلاء، لأنّهم لن يتخذوا باختيارهم خطوة في سبيل اللَّه، بل هم مجبرون على إظهار الندم والتوبة بعد رؤيتهم انتصار المسلمين، لذلك فتوبتهم ظاهرية ولن تُقبل.

وفي الآية الثانية يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ».

تخصّ الآية اولئك الذين يقضون أعمارهم كافرين في هذه الدنيا، ثم يموتون وهم على تلك الحال، يقول القرآن، بعد أن اتّضح لهؤلاء طريق الحقّ، يسيرون في طريق الطغيان والعصيان، وهم ليسوا مسلمين، ولن يُقبل منهم كل ما ينفقونه، وليس أمامهم أيّ طريق للخلاص، حتى وإن أنفقوا مل ء الأرض ذهباً في سبيل اللَّه.

من الواضح أنّ القصد من القول

بإنفاق هذا القدر الكبير من الذهب إنّما هو إشارة إلى بطلان إنفاقهم مهما كثر، لأنّه مقرون بتلوّث القلب والروح بالعداء للَّه، وإلّا فمن الواضح أنّ مل ء الأرض ذهباً يوم القيامة لا يختلف عن ملئها تراباً، إنّما قصد الآية هو الكناية عن أهمية الموضوع.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 293

أمّا بشأن مكان هذا الإنفاق، أفي الدنيا أم في الآخرة؟ فقد ذكر المفسرون لذلك احتمالين إثنين، ولكن ظاهر الآية يدل على العالم الآخر، أي كانوا كافرين «وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ». فلو كانوا يملكون مل ء الأرض ذهباً، وظنّوا أنّهم بالاستفادة من هذا المال، كما هي الحال في الدنيا، يستطيعون أن يدرأوا العقاب عن أنفسهم، فهم على خطأ فاحش، وفي الواقع فإنّ مضمون هذه الآية يشبه قوله تعالى في الآية (15) من سورة الحديد: «فَالْيَوْمَ لَايُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا».

وفي الختام يشير إلى نكتة اخرى في المقام ويقول: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ».

لا شك في أنّهم سينالون عقاباً شديداً مؤلماً، ولن يكون بإستطاعة أحد أن ينتصر أو يشفع لهم، لأنّ الشفاعة لها شرائط، وأهمها الإيمان باللَّه، ولهذا السبب فلو أن جميع الشفعاء اجتمعوا لإنقاذ أحد الكفار من عذاب النار لم تقبل شفاعتهم. وأساساً، بما أنّ الشفاعة بإذن اللَّه، فإنّ الشفعاء لا يشفعون أبداً لمثل هؤلاء الأفراد غير اللائقين للشفاعة، لأنّ الشفاعة تحتاج إلى قابلية المحل، والإذن الإلهي لا يشمل الأفراد غير اللائقين.

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) من علائم الإيمان: بعد أن تحدثت الآية السابقة عن حال الكفار حينما يواجهون الواقع يوم القيامة، ويودون لو أنفقوا مل ء الأرض ذهباً ليفتدوا به، جاءت هذه الآية لتعطي درساً

مهماً في «الإنفاق» بالمناسبة، فقد قال سبحانه وتعالى في هذه الآية: «لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ».

إنّ لكلمة «البر» معنى واسعاً يشمل كل أنواع الخير إيماناً كان أو أعمالًا صالحة، كما أنّ المستفاد من الآية (177) من سورة البقرة هو إعتبار «الإيمان باللَّه واليوم الآخر، والأنبياء، وإعانة المحتاجين، والصّلاة، والصيام، والوفاء، والإستقامة في البأساء والضراء» جميعها من شعب البر ومصاديقه. وعلى هذا فإنّ للوصول إلى مراتب الأبرار الحقيقيين شروطاً عديدة، منها: الإنفاق مما يحبه الإنسان من الأموال.

وحتى يطمئن المنفقون إلى أنّ أي شي ء مما ينفقونه لن يعزب عن اللَّه سبحانه ولن يضيع، عقب اللَّه على حثه للناس على الإنفاق مما يحبون بقوله: «وَمَا تُنفِقُوا مِن شَىْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 294

عَلِيمٌ». إنّه يعلم بما تنفقونه صغيراً أم كبيراً، تحبونه أو لا تحبونه. تأثير القرآن في قلوب المسلمين: لقد كان لآيات الكتاب العزيز تأثير بالغ ونفوذ سريع في أفئدة المسلمين الأوائل، فما أن سمعوا آيات جديدة النزول، إلّاوظهر هذا التأثير على سلوكهم ومواقفهم وتصرفاتهم، ونذكر من باب المثال ما نقرأه في كتب التفسير والتاريخ الإسلامي مما ورد في مجال هذه الآية بالذات.

1- الشيخ ابو الفتوح الرازي في تفسيره (روح الجنان): أنّ رجلًا من الصحابة كان اسمه أبو طلحة وكان له في المدينة من النخيل ما لم يكن لأحد غيره وكان له نخيل في تجاه مسجد الرسول صلى الله عليه و آله في غاية النّضارة والعمارة، وكان كثير الغلّة، وكان فيها عين ماء، والرسول صلى الله عليه و آله كان يأتي إليها ويشرب من مائها ويتوضّأ منها، فلما نزل قوله تعالى: «لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» أتى أبو طلحة وقال: يا

رسول اللَّه! إنّ اللَّه تعالى يعلم أنّ أحبّ المال إليّ وأكرمه عليّ هذه النخيلات، تصدّقت بها رجاء البرّ غداً لتكون لي ذخيرة، يا رسول اللَّه فضعها في موضع ترى فيه الصّلاح، فقال الرسول صلى الله عليه و آله: «بخّ بخّ ذلك مال رابح لك».

2- في تفسير (روح الجنان): كان لزبيدة زوجة هارون الرشيد مصحف ثمين جدّاً، قد طلت غلافه بالذهب ورصعته بأنواع المجوهرات النفيسة وبينما كانت تتلوا القرآن ذات يوم بلغت الآية الكريمة: «لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» فتأملت فيه فقالت في نفسها:

«إنّه ليس شي ء ما هو أحبّ إلي من هذا المصحف» فأرسلت إلى باعة الجواهر وباعت جواهره ثم أنفقت ثمنه في بركة ما زالت تنسب إليها حتى يومنا هذا.

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)

سبب النّزول

المستفاد من الروايات الواردة حول هذه الآيات وما ينقله المفسرون هو: أنّ اليهود طرحوا إشكالين آخرين على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ضمن جدالهم له، أحدهما: أنكر اليهود تحليل النبي لحوم الإبل فقال: كل ذلك كان حلًّا لإبراهيم. فقالت اليهود: كل شي ء تحرمه فإنّه محرم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 295

على نوح وإبراهيم، وهلمّ جرّا حتى إنتهى إلينا. فنزلت الآية.

والآخر: صلاته باتّجاه الكعبة فكانوا يقولون: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنّه مهاجر الأنبياء والأرض المقدسة. وقال المسلمون بل الكعبة أفضل.

فجاءت الآيات الثلاثة تردّ على إنكارهم للأمر الأوّل وتفند زعمهم، بينما تكفلت

الآيات القادمة الردّ على اعتراضهم الأخير.

التّفسير

صرحت الآية الاولى من هذه الآيات الثلاث بتفنيد كل المزاعم اليهودية حول تحريم بعض أنواع الطعام الطيب (مثل لحوم الإبل وألبانها) وردت على هذه الكذبة بقولها: «كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَيةُ» «1».

إنّ المستفاد من الروايات الإسلامية هو أنّ يعقوب أخذه وجع العرق الذي يقال له عرق النسا «2» فنذر إن شفاه اللَّه أن يحرم العروق، ولحم الإبل، وهو أحبّ الطعام إليه. فاقتدى به أتباعه في هذا، حتى اشتبه الأمر على من أتوا من خلفهم فيما بعد فتصور بعض أنّه تحريم إلهي، فنزلت الآية وتصرّح بأنّ نسبة هذا التحريم إلى اللَّه سبحانه محض إختلاق.

وتأكيداً لهذه الحقيقة أمر اللَّه نبيّه في هذه الآية أن يطلب من اليهود بأن يأتوا بالتوراة الموجودة عندهم ويقرأوها ليتبين كذب ما ادعوه، وصدق ما أخبر به اللَّه حول حلية الطعام الطيب كله إذ قال: «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَيةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

ولكنهم أعرضوا عن تلبية هذا الطلب لعلمهم بخلو التوراة عن التحريم الذي إدعوه.

والآن بعد أن تبين كذبهم وافتراؤهم على اللَّه لعدم استجابتهم لطلب النبي بإحضار التوراة، فإنّ عليهم أن يعرفوا بأنّ كل من افترى على اللَّه الكذب إستحق وصف الظلم، لأنّه بهذا الإفتراء ظلم نفسه بتعريضها للعذاب الإلهي، وظلم غيره بتحريفه وإضلاله بما افترى، وهذا هو ما يعنيه قوله سبحانه في ختام هذه الآية: «فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

______________________________

(1) «إسرائيل»: هو الاسم الآخر ليعقوب.

(2) «عرق النسا»: ألم عصبي يمتد على مسار العصب الوركي من الالية إلى معصم القدم ويشتد هذا الألم جدّاًإذا ما ثنيت الساق الممتدة عند مفصل الحوض

(الموسوعة العربية الميسرة).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 296

إنّ اليهود كانوا يحرمون الإبل وكل ما شق ظلفاً من البهائم، ولكن ذلك لا يدل على أنّها كانت محرمة في شريعة نوح وإبراهيم أيضاً، إذ يمكن أن يكون هذا التحريم مختصاً باليهود عقاباً لهم وتنكيلًا. فإذا لم يكن لليهود حجة على زعمهم، وإذا تبين لهم صدق الرسول الكريم صلى الله عليه و آله في دعوته، واتضح لهم أنّه على ملة إبراهيم، ودينه الحنيف حقاً يوجب عليهم أن يتبعوه «قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ». اتبعوا ملة إبراهيم الذي كان حنيفاً مستقيماً لا يميل إلى شي ء من الأديان الباطلة، والأهواء الفاسدة، بل يسير في الطريق المستقيم، فلم يكن في دينه أي حكم منحرف مائل عن الحق وحتى في ال أطعمة الطيبة الطاهرة لم يكن يحرم شيئاً بدون مبرر أو سبب وجيه للتحريم ... إنّه لم يكن مشركاً.

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَ هُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) لقد أنكرت اليهود على النبي صلى الله عليه و آله أمرين وقد ردّ القرآن على الأمر الأوّل في الآيات الثلاث المتقدمة، وها هو يرد على الأمر الثاني، وهو: إنكارهم على النبي اتخاذه الكعبة قبلة، وتفضيله لها على بيت المقدس بينما كانوا يفضلونه على الكعبة. يقول سبحانه: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا». فلا عجب إذن أن تكون الكعبة قبلة للمسلمين، فهي أوّل مركز للتوحيد.

إنّ المصادر الإسلامية والتاريخية تحدثنا بأنّ الكعبة تأسست على يدي «آدم عليه السلام»

ثم تهدمت بسبب الطوفان الذي وقع في عهد النبي «نوح عليه السلام» ثم جدد بناءها النبي العظيم «إبراهيم الخليل عليه السلام» فهي إذن عريقة عراقة التاريخ البشري.

إنّ «الكعبة» والتي تسمى في تسمية واخرى ب «بيت اللَّه» وصفت في هذه الآية بأنّها «بيت للناس» وهذا التعبير يكشف عن حقيقة هامّة وهي: أنّ كل ما يكون بإسم اللَّه ويكون له، يجب أن يكون في خدمة الناس من عباده، وأنّ كل ما يكون لخدمة الناس وخير العباد فهو للَّه سبحانه.

لقد ذكرت في هاتين الآيتين أربع مزايا اخرى هي:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 297

1- مُبَارَكاً: «المبارك» يعني كثير الخير والبركة، وإنّما كانت الكعبة المعظمة مباركة لأنّها تعتبر بحق واحدة من أكثر نقاط الأرض بركة وخيراً، سواء الخير المادي، أو المعنوي.

2- هُدًى لِلْعَالَمِينَ: أجل، إنّ الكعبة هدى للعالمين فهي تجتذب الملايين من الناس الذين يقطعون إليها البحار والوهاد، ويقصدونها من كل فج عميق ليجتمعوا في هذا الملتقى العبادي العظيم وهم بذلك يقيمون هذه الفريضة فريضة الحج التي لم تزل تؤدّي بجلال عظيم منذ عهد إبراهيم الخليل عليه السلام.

3- فِيهِ ءَايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرهِيمَ: إنّ في هذا البيت معالم واضحة وعلائم ساطعة لعبادة اللَّه وتوحيده، وفي تلك النقطة المباركة من الآثار المعنوية ما يبهر العيون ويأخذ بمجامع القلوب وإنّ بقاء هذه الآثار والمعالم رغم كيد الكائدين وإفساد المفسدين الذين كانوا يسعون إلى إزالتها ومحوها لَمن تلك الآيات التي يتحدث عنها القرآن في هذا الكلام العلوي.

4- وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا: لقد طلب إبراهيم عليه السلام من ربّه بعد الانتهاء من بناء الكعبة، أن يجعل بلد مكة آمناً إذ قال: «رَبّ اجْعَلْ هذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا» «1». فاستجاب اللَّه له وجعل مكة بلداً آمناً.

وبعد أن استعرض

القرآن الكريم فضائل هذا البيت وعدد مزاياه، أمر الناس بأن يحجّوا إليه- دون استثناء- وعبر عن ذلك بلفظ مشعر بأنّ مثل هذا الحج هو دَين للَّه على الناس، فيتوجب عليهم أن يؤدّوه ويفرغوا ذممهم منه إذ قال: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ».

وتعني لفظة «الحج» أصلًا القصد، أمّا وجه تسمية هذه الزيارة وهذه المناسك الخاصة بالحج فلأن قاصد الحج إنّما يخرج وهو «يقصد زيارة بيت اللَّه» ولهذا أضيفت لفظة الحج إلى البيت فقال تعالى: «حِجُّ الْبَيْتِ».

إنّ الحج يجب على كل إنسان مستطيع، في العمر مرّة واحدة، ولا يستفاد من الآية المبحوثة هنا أكثر من ذلك، لأنّ الحكم فيها مطلق، وهو يحصل بالإمتثال مرّة واحدة.

إنّ الشرط الوحيد الذي ذكرته الآية الحاضرة لوجوب الحج واستقراره هو «الاستطاعة» المعبر عنها بقوله سبحانه: «مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا».

ثم إنّه يستفاد من هذه الآية أنّ هذا القانون- مثل بقية القوانين الإسلامية- لا يختص

______________________________

(1) سورة إبراهيم/ 35.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 298

بالمسلمين، فعلى الجميع أن يقوموا بفريضة الحج مسلمين وغير مسلمين. وللتأكيد على أهمية الحج قال سبحانه في ذيل الآية الحاضرة: «وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ». أي أنّ الذين يتجاهلون هذا النداء، ويتنكرون لهذه الفريضة، ويخالفونها لا يضرون بذلك إلّاأنفسهم لأنّ اللَّه غني عن العالمين، فلا يصيبه شي ء بسبب إعراضهم ونكرانهم وتركهم لهذه الفريضة.

ويستفاد من هذه الآية أمران:

الأول: الأهمية الفائقة لفريضة الحج، إلى درجة انّ القرآن عبر عن تركها بالكفر، ويؤيد ذلك ما رواه الصدوق في كتاب «من لا يحضره الفقيه» من أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال لعلي عليه السلام: «يا علي! تارك الحج وهو مستطيع كافر يقول اللَّه تبارك وتعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ

سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»؛ يا علي! من سوف الحج حتى يموت بعثه اللَّه يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً».

الثاني: إنّ هذه الفريضة الإلهية المهمة- مثل بقية الفرائض والأحكام الدينية الاخرى- شرعت لصلاح الناس، وفرضت لفرض تربيتهم، وإصلاح أمرهم وبالهم أنفسهم فلا يعود شي ء منها إلى اللَّه سبحانه أبداً فهو الغني عنهم جميعاً.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

سبب النّزول

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية: مرّ شماس بن قيس وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب

مختصر الامثل، ج 1، ص: 299

النبي صلى الله عليه و آله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فعاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، واللَّه ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً معه من يهود فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس

على الخزرج.

ففعل، فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين، على الركب- أوس بن يقظي أحد بني حارثة من الأوس. وهبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج- فتقاولا، ثم أحدهما لصاحبه: إن شئتم واللَّه رددناها الآن وغضب الفريقان جميعاً وقالوا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة- والظاهرة الحرة- فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: «يا معشر المسلمين اللَّه اللَّه، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم اللَّه إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟» فعرف القوم أنّها نزغة من الشيطان وكيد لهم من عدوّهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سامعين مطيعين قد أطفأ اللَّه عنهم كيد عدوّ اللَّه تعالى شماس، وأنزل اللَّه تعالى في شأن شماس وما صنع «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ» إلى قوله سبحانه «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» وأنزل في أوس بن يقظي وهبار ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا» الآية «1».

التّفسير

مفرقو الصفوف ومثيرو الخلاف: بعد أن فعل بعض العناصر اليهودية الحاقدة فعلتها وكادت أن تشعل نيران العداوة بين المسلمين نزل قوله تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بَايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ». والمخاطب في هذه الآية هم أهل الكتاب

______________________________

(1) تفسير روح

المعاني 4/ 14، ذيل الآية مورد البحث.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 300

ويقصد منهم هنا اليهود، فاللَّه سبحانه يأمر نبيّه في هذه الآية أن يسألهم معاتباً عن علة كفرهم بآيات اللَّه في حين أنّ اللَّه يعلم بأعمالهم. والمراد من آيات اللَّه المذكورة في هذا المقام إمّا الآيات الواردة في التوراة حول النبي الخاتم صلى الله عليه و آله وعلائم نبوّته، أو مجموعة الآيات والمعجزات التي نزلت على نبي الأكرم، وتحققت على يديه، وكشفت عن حقانيته، وصدق دعوته، وصحة نبوّته.

ثم جاءت الآية الثانية تلومهم قائلة: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ». أي قل يا رسول اللَّه لهم لائماً ومندداً: إذا كنتم غير مستعدين للقبول بالحق، فلماذا تصرون على صرف الآخرين عنه، وصدهم عن سبيل اللَّه، وإظهار هذا الطريق المستقيم في صورة السبيل الأعوج بما تدخلون من الشبه على الناس؟

في حين ينبغي- بل يتعين- أن تكونوا أوّل جماعة تبادر إلى تلبية هذا النداء الإلهي، لما وجدتموه من البشائر بظهور هذا النبي في كتبكم وتشهدون عليه.

هل تتصورون أنّ كل ما تفعلونه سيخفى علينا؟ كلّا ... «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

إنّه تهديد بعد تنديد وإنّه إنذار بعد لوم شديد.

وبعد أن ينتهي هذا التقريع والتنديد والإنذار والتهديد لمشعلي الفتن، الصادّين عن سبيل اللَّه القويم، المستفيدين من غفلة بعض المسلمين يتوجه سبحانه بالخطاب إلى هؤلاء المخدوعين من المسلمين، يحذرهم من مغبة الإنخداع بوساوس الأعداء، والوقوع تحت تأثيرهم والسماح لعناصرهم بالتسلل إلى جماعتهم وترتيب الأثر على تحريكاتهم وتسويلاتهم وأنّ نتيجة كل ذلك هو الإبتعاد عن الإيمان والوقوع في أحضان الكفر، إذ يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ

إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ».

من هذا البيان اتضح أنّ المراد من الرجوع إلى الكفر- في الآية- هو «الكفر الحقيقي والإنفصال الكامل عن الإسلام» كما ويمكن أن يكون المراد من ذلك هي تلك العداوات الجاهلية التي تعتبر- في حد ذاتها- شعبة من شعب الكفر وعلامة من علائمه وأثراً من آثاره لأنّ الإيمان لا يصدر منه إلّاالمحبة والمودة والتآلف، وأمّا الكفر فلا يصدر منه إلّاالتقاتل والعداوة والتنافر.

ثم يتساءل- في عجب واستغراب-: «وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 301

وَفِيكُمْ رَسُولُهُ». أي: كيف يمكن أن تسلكوا سبيل الكفر، وترجعوا كفاراً والنبي صلى الله عليه و آله بين ظهرانيكم، وآيات اللَّه البينات تقرأ على أسماعكم، وتشع أنوار الوحي على قلوبكم وتهطل عليكم أمطاره المثيرة للحياة؟

إنّ هذه العبارة ما هي إلّاالإشارة إلى أنّه لا عجب إذا ضل الآخرون وانحرفوا، ولكن العجب ممّن يلازمون الرسول ويرونه فيما بينهم، ولهم مع عالم الوحي إتصال دائم ... ومع آياته صحبة دائمة، إنّ العجب إنّما هو من هؤلاء كيف يضلون وكيف ينحرفون؟

ثم في ختام هذه الآيات يوصي القرآن الكريم المسلمين- إن أرادوا الخلاص من وساوس الأعداء وأرادوا الإهتداء إلى الصراط المستقيم- أن يعتصموا باللَّه ويلوذوا بلطفه ويتمسكوا بهداياته وآياته، ويقول لهم بصراحة تامة: «وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لَا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَ كُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: افتخر رجلان من

الأوس والخزرج: ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج فقال الأوسي: منّا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنّا حنظلة غسيل الملائكة ومنّا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين، ومنّا سعد بن معاذ الذي اهتزّ عرش الرحمن له، ورضي اللَّه بحكمه في بني قريظة. وقال الخزرجي: منّا أربعة أحكموا القرآن:

ابي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنّا سعد بن عبادة، خطيب الأنصار ورئيسهم. فجرى الحديث بينهما فغضبا وتفاخرا وناديا. فجاء الأوس إلى الأوسي، والخزرج إلى الخزرجي ومعهم السلاح. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و آله فركب حماراً وأتاهم. فأنزل اللَّه سبحانه وتعالى هذه الآيات فقرأها عليهم فاصطلحوا.

التّفسير

الدعوة إلى التقوى: في الآية الاولى من هاتين الآيتين دعوة إلى التقوى لتكون التقوى

مختصر الامثل، ج 1، ص: 302

مقدمة للإتحاد والتآخي. وفي الحقيقة أنّ الدعوة إلى الإتحاد دون أن تستعين هذه الدعوة وتنبع من الجذور الخلقية والاعتقادية، دعوة قليلة الأثر، إن لم تكن عديمة الأثر بالمرّة، ولهذا يركز الاهتمام في هذه الآية على معالجة جذور الاختلاف، وإضعاف العوامل المسببة للتنازع في ضوء الإيمان والتقوى ولهذا توجه القرآن بالخطاب إلى المؤمنين فقال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ». إنّ «حق التقوى» يعد من أسمى درجات التقوى وأفضلها لأنّه يشمل اجتناب كل إثم ومعصية، وكل تجاوز وعدوان، وإنحراف عن الحقّ.

ثم إنّه بعد أن أوصى جميع المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى إنتهت الآية بما يعتبر تحذيراً- في حقيقته- للأوس والخزرج وغيرهم من المسلمين في العالم، تحذيراً مفاده: أنّ مجرد إعتناق الإسلام والانضمام إلى هذا الدين لا يكفي، إنّما المهم أن يحافظ المرء على إسلامه وإيمانه واعتقاده إلى اللحظة الأخيرة من عمره وحياته،

ولهذا قال سبحانه: «وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ».

الدعوة إلى الإتحاد: بعد أن أوصت الآية السابقة كل المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى ومهدت بذلك النفوس وهيّأتها، جاءت الآية الثانية تدعوهم بصراحة إلى مسألة الإتحاد، والوقوف في وجه كل ممارسات التجزئة وإيجاد الفرقة، فقال سبحانه في هذه الآية:

«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا».

إنّ المقصود من «حبل اللَّه» هو كل وسيلة للإرتباط باللَّه تعالى سواء كانت هذه الوسيلة هي الإسلام، أم القرآن الكريم، أم النبي وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام.

ثم إنّ القرآن بعد كل هذا يعطي مثالًا حيّاً من واقع الامة الإسلامية لأثر الإرتباط باللَّه وهو يذكر- في نفس الوقت- بنعمة الإتحاد والاخوة- تلك النعمة الكبرى- ويدعو المسلمين إلى مراجعة الماضي المؤسف، ومقارنة ذلك الاختلاف والتمزق بهذه الوحدة القوية الصلبة ويقول: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا».

والملفت للنظر هو أنّ اللَّه نسب تأليف قلوب المؤمنين إلى نفسه فقال: «فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ». أي إنّ اللَّه ألف بين قلوبكم، وبهذا التعبير يشير القرآن الكريم إلى معجزة اجتماعية عظيمة للإسلام، لأنّنا لو لاحظنا ما كان عليه العرب والمجتمع الجاهلي من عداوات

مختصر الامثل، ج 1، ص: 303

واختلافات وما كان يكمن في القلوب من أحقاد طويلة عميقة وما تراكم فيها من ضغائن مستحكمة، وكيف أن أقل شرارة صغيرة أو مسألة جزئية كانت تكفي لتفجير الحروب، وإندلاع القتال في ذلك المجتمع المشحون بالأحقاد.

تلك المعجزة التي أثبتت أنّ تحقيق مثل هذه الوحدة وتأليف تلك القلوب المتنافرة المتباغضة، وإيجاد امة واحدة متآخية من ذلك الشعب الممزق الجاهل ما كان ليتيسر في سنوات قليلة بالطرق والوسائل العادية.

لقد كان وضع العرب سيئاً إلى أبعد الحدود حتى أنّ القرآن يصف تلك الحالة

بأنّهم كانوا على حافة الإنهيار والسقوط إذ يقول: «وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا».

«شفا»: في اللغة حافة الهاوية وطرف الحفرة أو الخندق وما شابه ذلك، ومن ذلك «الشفة» كما وتستعمل لفظة «شفا» هذه في البُرء من المرض لأنّ الإنسان بسببه يكون على حافة السلامة والعافية.

ويريد سبحانه من قوله هذا: أنّكم كنتم على حافة السقوط والإنهيار في الهاوية، ولكن اللَّه نجاكم من ذلك السقوط المرتقب، وأبدلكم بعد الخوف أمناً.

و النار في هذه الآية كناية عن نيران الحروب والمنازعات التي كانت تتأجج كل لحظة بين العرب في العهد الجاهلي بحجج واهية، ولأسباب طفيفة.

ولمزيد من التأكيد على ضرورة الإعتصام بحبل اللَّه مع الاعتبار بالماضي والحاضر، يختم سبحانه الآية بقوله: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهْتَدُونَ».

إذن فالهدف الأساسي هو خلاصكم ونجاتكم وهدايتكم إلى سبل الأمن والسلام، وحيث إنّ في ذلك مصلحتكم فإنّ عليكم أن تعيروا ما بيّناه لكم مزيداً من الاهتمام، ومزيداً من العناية.

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَ لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) الدعوة إلى الحق ومكافحة الفساد: بعد الآيات السابقة التي حثّت على الاخوة والإتحاد

مختصر الامثل، ج 1، ص: 304

جاءت الإشارة- في الآية الاولى من الآيتين الحاضرتين- إلى مسألة «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر» اللذين هما بمثابة غطاء وقائي اجتماعي لحماية الجماعة وصيانتها، إذ تقول: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». وهذه الآية تتضمن دستوراً أكيداً للُامة الإسلامية بأن تقوم بهاتين الفريضتين دائماً، وأن تكون امة آمرة بالمعروف ناهية عن

المنكر أبداً لأنّ فلاحها رهن بذلك: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

في مسند عبد اللَّه ابن المبارك عن نعمان بن بشير قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «إنّ قوماً ركبوا البحر في سفينة فاقتسموها فأصاب كل رجل مكاناً فأخذ رجل منهم الفاس فبقر مكانه فقالوا ما يصنع قال هو إنّي أصنع فيه ما شئت فإن أخذوا على يديه نجوا ونجا وإن تركوه غرق وغرقوا فخذوا على أيدي سفهائكم قبل أن يهلكوا».

ولقد جسد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله- بهذا المثال الرائع- موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنطقية هاتين الفريضتين بغض النظر عن أمر الشارع بهما، وبذلك قرر حق الفرد في النظارة على المجتمع على أساس أنّه حق طبيعي ناشى ء من اتحاد المصائر في المجتمع وارتباط بعضها ببعض.

تقتضي أهمية الوحدة أن يركز القرآن الكريم ويؤكد عليها مرة بعد اخرى ولذا يذّكر بأهمية الإتحاد، ويحذر من تبعات الفرقة والنفاق وآثارها المشؤومة، بقوله: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ».

إنّ هذه الآية تحذر المسلمين من أن يتبعوا- كالأقوام السابقة مثل اليهود والنصارى- سبيل الفرقة والاختلاف بعد أن جاءتهم البينات وتوحدت صفوفهم عليها، فيكسبوا بذلك العذاب الأليم.

«وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

إنّه ليس من شك في أنّ نتيجة الاختلاف والفرقة لن تكون سوى الذلة والإنكسار، فذلك هو سر سقوط الامم وذلتها، إنّه الاختلاف والتشتت والنفاق والتدابر.

إنّ المجتمع الذي تحطمت وحدته بسبب الفرقة، وتفتّت تماسكه بسبب الاختلاف سيتعرض- لا محالة- لغزو الطامعين وستكون حياته عرضة لأطماع المستعمرين، بل

مختصر الامثل، ج 1، ص: 305

ومسرحاً لتجاوزاتهم، وما أشد هذا العذاب، وما أقسى هذه العاقبة؟ أجل تلك هي عاقبة النفاق والاختلاف في الدنيا.

وأمّا عذاب الآخرة فهو- كما وصفه اللَّه

تعالى في القرآن الكريم- أشد وأخزى.

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) الوجوه المبيضّة والوجوه المسودّة: في تعقيب التحذيرات القوية التي تضمنتها الآيات السابقة بشأن التفرقة والنفاق والعودة إلى عادات الكفر ونعرات الجاهلية، جاءت الآيتان الحاضرتان تشيران إلى النتائج النهائية لهذا الإرتداد المشؤوم إلى خُلُق الجاهلية وعاداتها، وتصرّحان بأنّ الكفر والنفاق والتنازع والعودة إلى الجاهلية توجب سواد الوجه، فيما يوجب الثبات على طريق الإيمان والإتحاد، والمحبة والتآلف، بياض الوجوه فتقول: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ». ففي يوم القيامة تجد بعض الناس وجوههم مظلمة سوداء والبعض الآخر وجوههم نقية بيضاء ونورانية: «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ». فلماذا اخترتم طريق النفاق والفرقة والجاهلية على الإتحاد في ظل الإسلام، فذوقوا جزاءكم العادل، وأمّا المؤمنون فغارقون في رحمة اللَّه:

«وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

إنّ هاتين الآيتين تصرّحان بأنّ المنافقين والمتفرقين بعد ما جاءتهم البينات هم المسودة وجوههم الذائقون للعذاب الأليم بسبب كفرهم، وأمّا المؤمنون المتآلفون المتحابون المتحدون فهم في رحمة اللَّه ورضوانه مبيضة وجوههم.

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ (108) وَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) هذه الآية إشارة إلى ما تعرضت الآيات السابقة له حول الإيمان والكفر والإتحاد والاختلاف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآثارها وعواقبها، إذ تقول: «تِلْكَ ءَايَاتُ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 306

اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ». فكل هذه الآيات تحذيرات

عن تلك العواقب السيئة التي تترتب على أفعال الناس أنفسهم «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ» وإنّما هي آثار سيئة يجنيها الناس بأيديهم. ويدلّ على ذلك أنّ اللَّه لا يحتاج إلى ظلم أحد، كيف وهو القوي المالك لكل شي ء وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وإلى هذا يشير قوله سبحانه: «وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ».

فالآية تشتمل على دليلين على عدم صدور الظلم منه سبحانه:

الأوّل: إنّ اللَّه مالك الوجود كله فله ما في السماوات وما في الأرض، فلا معنى للظلم ولا موجب له عنده، وإنّما يظلم الآخرين ويعتدي عليهم من يفقد شيئاً، وإلى هذا يشير المقطع الأوّل من الآية وهو قوله تعالى: «وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

الثاني: إنّ الظلم يمكن صدوره ممن تقع الامور دون إرادته ورضاه، أمّا من ترجع إليه الامور جميعاً، وليس لأحد أن يعمل شيئاً بدون إذنه فلا يمكن صدور الظلم منه، وإلى هذا يشير قوله سبحانه: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ».

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) مكافحة الفساد والدعوة إلى الحق أيضاً: في هذه الآية تطرح مرّة اخرى مسألة «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر». فالآية السابقة تشير إلى القسم الخاصّ، وهذه الآية تشير إلى القسم العام من هاتين الفريضتين. «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ».

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم يصف المسلمين- في هذه الآية- بأنّهم خير امة هُيئت وعُبئت لخدمة المجتمع الإنساني، والدليل على أنّ هذه الامة خير امة رشحت لهذه المهمة الكبرى هو «قيامها بالأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر وإيمانها باللَّه» وهذا يفيد أنّ إصلاح المجتمع البشري لا يمكن بدون الإيمان باللَّه والدعوة إلى الحق، ومكافحة الفساد.

أمّا هذه الامة خير الأمم، لأنّها تختص بآخر الأديان الإلهية والشرائع السماوية، ولا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 307

شك أنّ هذا يقتضي أن يكون أكمل الشرائع وأتمها في سلّم الأديان.

ثم إنّ الآية تشير إلى أنّ ديناً بمثل هذا الوضوح، وتشريعاً بمثل هذه العظمة، وتعاليم تنطوي على مثل هذه الفوائد التي لا تنكر، ينبغي أن يؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأنّ في ذلك صلاحهم، وخيرهم إذ يقول سبحانه: «وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم».

ولكن- وللأسف- لم يؤمن به إلّاقلة ممن نبذ التعصب الأعمى، واعتنق الإسلام برغبة صادقة، واستقبل هذا الدين برحابة صدر، فيما أعرض الأكثرون منهم، وفضلوا البقاء على ما هم عليه من الكفر والعصبية على إتباع هذا الأمر الإلهي، متجاهلين حتى تلك البشائر التي نطقت بها كتبهم حول هذا الدين وإلى هذا يشير سبحانه بقوله: «مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ». الخارجون عن هذا الأمر الإلهي.

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَ إِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَ بَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ (112)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ رؤوس اليهود مثل كعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وابن صوريا، عمدوا إلى مؤمنيهم كعبد اللَّه بن سلام وأصحابه فأنّبوهم لإسلامهم، فنزلت الآية.

التّفسير

تبشر الآية الاولى المسلمين الذين يواجهون ضغوطاً شديدة وتهديدات أحياناً من جانب قومهم الكافرين بسبب اعتناق الإسلام، تبشرهم وتعدهم بأنّهم منصورون،

وأنّ أهل الكتاب لا يقدرون عليهم ولا تنالهم من جهتهم مضرة، وأنّ ما سيلحقهم من الأذى من جانبهم لن يكون إلّاطفيفاً وعابراً: «لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ».

إنّ هاتين الآيتين تحتويان على عدّة أخبار غيبية، وبشائر مهمة للمسلمين قد تحقق

مختصر الامثل، ج 1، ص: 308

جميعها في زمن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وحياته الشريفة وهي: 1- إنّ أهل الكتاب لا يقدرون على إلحاق أي ضرر مهم بالمسلمين، وأنّ ما يلحقونه بهم لن يكون إلّاأضراراً بسيطة، وعابرة «لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى».

2- إنّهم لن يثبتوا- في القتال- أمام المسلمين، بل ينهزمون ويكون الظفر للمسلمين، ولا يجدون ناصراً ولا معيناً: «وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَايُنصَرُونَ».

3- إنّهم لن يستطيعوا الوقوف على أقدامهم ولن يتمكنوا من العيش مستقلين، بل سيبقون أذلاء دائماً، إلّاأن يعيدوا النظر في سلوكهم، ويسلكوا طريق اللَّه، أو أن يعتمدوا على الآخرين ويستعينوا بقوتهم إلى حين: «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ».

ولم يمض على هذه الوعود الإلهية والبشائر السماوية زمن حتى تحققت برمّتها في حياة الرسول صلى الله عليه و آله.

وعلى هذا إنّ على اليهود أن يعيدوا النظر في برنامج حياتهم، ويعودوا إلى اللَّه، أو أن يستمروا في حياتهم النكدة المزيجة بالنفاق. فأمّا الإيمان باللَّه والدخول تحت مظلته وفي حصنه الحصين، وأمّا الاعتماد على معونة الناس الواهية والاستمرار في الحياة التعسة.

لقد كان أمام اليهود طريقان: إمّا أن يعودوا إلى منهج اللَّه، وإمّا أن يبقوا على سلوكهم فيعيشوا أذلّاء ما داموا، ولكنهم إختاروا الثاني ولهذا لزمتهم الذلة «وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ».

وعلى هذا أنّ اليهود بسبب إقامتهم على المعاصي وتماديهم في

الذنوب اصيبوا بأمرين:

أوّلًا: طردوا من جانب المجتمع وحل عليهم غضب اللَّه سبحانه، و ثانياً: إنّ هذه الحالة «أي الذلة» أصبحت تدريجاً صفة ذاتية لازمة لهم حتى أنّهم رغم كل ما يملكون من إمكانيات وقدرات مالية وسياسية، يشعرون بحقارة ذاتية، وصغار باطني.

وهذا هو ما يشير إليه قوله سبحانه إذ يقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بَايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ». وبذلك يشير سبحانه إلى علة هذا المصير الأسود الذي يلازم اليهود، ولا يفارقهم.

إنّهم لم يصابوا بما أصيبوا به من ذلة ومسكنة، وحقارة وصغار لأسباب قومية عنصرية أو ما شابه ذلك، بل لما كانوا يرتكبونه من الأعمال فهم:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 309

أوّلًا: كانوا ينكرون آيات اللَّه ويكذبون بها.

ثانياً: يصرون على قتل الأنبياء الهداة الذين ما كانوا يريدون سوى إنقاذ الناس من الجهل والخرافة، وتخليصهم من الشقاء والعناء.

ثالثاً: إنّهم كانوا يرتكبون كل فعل قبيح، ويقترفون كل جريمة نكراء، ويمارسون كل ظلم فظيع، وتجاوز على حقوق الآخرين، ولا شك أنّ أي قوم يرتكبون مثل هذه الامور يصابون بمثل ما أصيب به اليهود، ويستحقون ما استحقوه من العذاب الأليم والمصير الأسود.

لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَ مَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: أنّه لمّا أسلم عبد اللَّه بن سلام وجماعة، قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمّد إلّاشرارنا. فأنزل اللَّه «لَيْسُوا سَوَاءً» إلى قوله «مِنَ الصَّالِحِينَ».

التّفسير

الإسلام وخصيصة البحث عن الحق: بعد كل ذلك الذم

لليهود، الذي تضمنته الآيات السابقة بسبب مواقفهم المشينة وأفعالهم الذميمة نجد القرآن- كما هو شأنه دائماً- يراعي جانب العدل والإنصاف، فيحترم كل من تنزه عن ذلك السلوك الذميم الذي سار عليه اليهود، ويعلن بصراحة أنّه لا يعمم ذلك الحكم، وأنّه لا يمكن النظر إلى الجميع بنظرة واحدة دون التفريق بين من أقام على تلك الفعال، وبين من غادرها وطلب الحق، ولهذا يقول:

«لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَاءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ».

ثم إنّه سبحانه يقول: «يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ».

وبهذا يتورع القرآن الكريم عن إدانة العنصر اليهودي كافة، بل يركز على أفعالهم وأعمالهم وممارساتهم، ويحترم ويمدح كل من انفصل عن أكثريتهم الفاسدة، وخضع للحق

مختصر الامثل، ج 1، ص: 310

والإيمان، وهذا هو اسلوب الإسلام الذي لا يعادي أحداً على أساس اللون والعنصر، بل يعاديه على أساس اعتقادي محض، ويكافحه إذا كانت أعماله لا تنطبق مع الحق والعدل والخير. ثم إنّه سبحانه قال: «وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ». معقباً بذلك على العبارات السابقة ومكملًا للآية ويعني بقوله أنّ هؤلاء الذين أسلموا واتخذوا مواقعهم في صفوف المتقين لن يضيع اللَّه لهم عملًا، وإن كانوا قد إرتكبوا في سابق حالهم ما ارتكبوه من الآثام، وما إقترفوه من المعاصي، ذلك لأنّهم قد أعادوا النظر في سلوكهم وأصلحوا مسارهم، وغيروا موقفهم.

كيف «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» وكأنّ هذه العبارة التي يختم بها سبحانه الآية الحاضرة تشير إلى حقيقة من الحقائق الهامة وهي: أنّ المتقين وإن كانوا قلة قليلة في الأغلب، وخاصة في جماعة اليهود الذين عاصروا النبي صلى الله عليه و آله حيث كان المسلمون المهتدون منهم قلة ضعيفة،

ومن شأن ذلك أن لا تلفت كميتهم النظر، ولكنهم مع ذلك يعلّمهم اللَّه بعلمه الذي لا يعزب عنه شي ء، فلا موجب للقلق، ولا داعي للاضطراب ما دام سبحانه يعلم بالمتقين على قلتهم، ويعلم بأعمالهم، فلا يضيعها أبداً قليلة كانت أو كثيرة.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَ لَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) في مقابل العناصر التي تبحث عن الحقّ، وتؤمن به من الذين وصفتهم الآية السابقة، هناك عناصر كافرة ظالمة وصفهم اللَّه سبحانه في هاتين الآيتين بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيًا» لأنّه لا ينفع في الآخرة سوى العمل الصالح والإيمان الخالص لا الإمتيازات المادية، في هذه الحياة: «يَوْمَ لَايَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَىَ اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» «1».

إنّ القرآن ينادي بصراحة بأنّ الإمتيازات المالية والقدرة البشرية الجماعية لا تعد

______________________________

(1) سورة الشعراء/ 88 و 89.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 311

إمتيازاً في ميزان اللَّه، وأنّ الاعتماد عليها وحدها هو الخطأ الجسيم إلّاإذا قرنت بالإيمان والعمل الصالح، واستخدمت في سبيلهما، وإلّا فستؤول بأصحابها إلى الجحيم وعذابها الخالد. «أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

ولما كان الكلام عن الثروة والمال كان لابدّ من الإشارة إلى مسألة الإنفاق فيقول سبحانه: «مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِى هذِهِ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ».

وهذا هو حال غير المؤمن في إنفاقه، فإنّه لا ينفق ماله بدافع صحيح، بل ينفقه رياءاً وسمعة وأهواء وأهداف شريرة، وبذلك يكون

كالريح العاتية، اللّافحة أو الباردة، تأتي على كل ما أنفقه كما تأتي على الزرع، فتصيبه بالجفاف والفناء، والدمار والهلاك.

إنّ مثل هذا الإنفاق لا يعالج أية مشكلة اجتماعية (لأنّه صرف للمال في غير محله في الأغلب) كما لا ينطوي على أي أثر أخلاقي ونفسي للمنفق الباذل.

ثم إنّه سبحانه يعقب على ما قال بشأن إنفاق الكفّار الذي لا يعود عليهم إلّابالوبال والويل بقوله: «وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لَا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَ إِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَ إِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّ هذه الآيات نزلت في رجال من المسلمين، كانوا يواصلون رجالًا من اليهود لما كان بينهم من الصداقة والقرابة والجوار والحلف والرضاع.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 312

التّفسير

لا تتخذوا الأعداء بطانة: هذه الآية التي جاءت بعد الآيات السابقة التي تعرضت لمسألة العلاقات بين المسلمين والكفّار، تشير إلى قضايا حساسة بالغة الأهمية، وتحذر المؤمنين- ضمن تمثيل لطيف- بأن لا يتخذوا من الذين يفارقونهم في الدين والمسلك أصدقاء يسرون إليهم ويخبرونهم بأسرارهم، وأن لا يطلعوا الأجانب على ما تحتفظ به صدورهم وما خفي من نواياهم وأفكارهم الخاصة بهم، قال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا

لَاتَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ». وهذا يعني أنّ الكفار لا يصلحون لمواصلة المسلمين ومصادقتهم، كما لا يصلحون بأن يكونوا أصحاب سر لهم، وذلك لأنّهم لا يتورعون عن الكيد والإيقاع بهم ما استطاعوا: «لَايَأْلُونَكُمْ خَبَالًا» «1».

فليست الصداقات والعلاقات بقادرة على أن تمنع اولئك الكفار- بسبب ما يفارقون به المسلمين في العقيدة والمسلك- من إضمار الشر للمسلمين، وتمني الشقاء والعناء لهم «وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ». أي أحبوا في ضمائرهم ودخائل نفوسهم لو أصابكم العنت والعناء.

إنّهم- لإخفاء ما يضمرونه تجاهكم- يحاولون دائماً أن يراقبوا تصرفاتهم، وأحاديثهم كيلا يظهر ما يبطنونه من شر وبغض لكم، بيد أنّ آثار ذلك العداء والبغض تظهر أحياناً في أحاديثهم وكلماتهم، عندما تقفز منهم كلمة أو اخرى تكشف عن الحقد الدفين والحنق المستكن في صدورهم: «قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ».

وقد أوضح اللَّه سبحانه في هذه الآية إحدى سبل التعرف على بواطن الأعداء ودخائل نفوسهم، ثم إنّه سبحانه يقول: «وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ». أي أنّ ما يبدو من أفواههم ما هي إلّاشرارة تحكي عن تلك النار القوية الكامنة في صدورهم.

ثم إنّه تعالى يضيف قائلًا: «قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأَيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ». أي أنّ ما ذكرناه من الوسيلة للتعرف على العدو أمر في غاية الأهمية لو كنتم تتدبرون فيه، فهو يوقفكم على وسيلة جداً فعالة لمعرفة ما يكنّه الآخرون ويضمرونه تجاهكم، وهو أمر في غاية الخطورة بالنسبة لأمنكم وحياتكم وبرامجكم.

______________________________

(1) «الخبال»: في الأصل بمعنى ذهاب شي ء وهي تطلق في الأغلب على الأضرار التي تؤثر على عقل الإنسان وتلحق به الضرر.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 313

يحسب بعض المسلمين أنّ في مقدورهم أن يكسبوا حبّ الأعداء والأجانب إذا أعطوهم حبهم وودهم، وهو خطأ فظيع، وتصور باطل، يقول سبحانه: «هَا أَنتُمْ أُولَاءِ

تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ».

إنّه سبحانه يخاطب هذا الفريق من المسلمين ويقول لهم: إنّكم تحبّون من يفارقكم في الدين لما بينكم من الصداقة أو القرابة أو الجوار، وتظهرون لهم المودّة والمحبّة، والحال أنّهم لا يحبّونكم أبداً، وتؤمنون بكتبهم وكتابكم المنزل من السماء- على السواء- في حين أنّهم لا يؤمنون بكتابكم ولا يعترفون بأنّه منزل من السماء.

إنّ هذا الفريق من أهل الكتاب ينافقون ويخادعون «وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ».

ولا شكّ أنّ هذا الغيظ لن يضر المسلمين في الواقع، إذن فقل لهم يا رسول اللَّه: «قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ». واستمروا على هذا الحنق فإنّه لن يفارقكم حتى تموتوا.

هذه هي حقيقة الكفّار التي غفلتم عنها ولم يغفل عنها سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

ثم إنّ اللَّه يذكر علامة اخرى من علائم العداوة الكامنة في صدور الكفّار إذ يقول: «إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا».

ولكن هل تضر هذه العداوة وما يلحقها من ممارسات ومحاولات شريرة بالمسلمين؟

هذا ما يجيب عنه ذيل الآية الحاضرة حيث يقول سبحانه: «وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ».

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) من هنا تبدأ الآيات التي نزلت حول واحدة من أهم الأحداث الإسلامية ألا وهي معركة احد. في البدء تشير الآية الاولى إلى خروج النبي صلى الله عليه و آله من المدينة لاختيار المحل الذي يعسكر فيه عند «احد» وتقول: «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ». أي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 314

واذكر عندما خرجت

غدوة من المدينة تهيى ء للمؤمنين مواطن للقتال لغزوة احد. ثم إنّ الآية الثانية تشير إلى زاوية اخرى من هذا الحدث إذ تقول: «وَإِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

والطائفتان كما يذكر المؤرخون هما بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج.

فقد صممت هاتان الطائفتان على التساهل في أمر هذه المعركة والرجوع إلى المدينة، وهمتا بذلك.

وقد كان سبب هذا الموقف المتخاذل هو أنّهما كانتا ممن يؤيد فكرة البقاء في المدينة ومقاتلة الأعداء داخلها بدل الخروج منها والقتال خارجها، وقد خالف النّبي هذا الرأي، مضافاً إلى أنّ عبداللَّه بن أبي سلول الذي التحق بالمسلمين على رأس ثلاثمائة من اليهود عاد هو وجماعته إلى المدينة، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله عارض بقاءهم في عسكر المسلمين، وقد تسبب هذا في أن تتراجع الطائفتان المذكورتان عن الخروج مع النبي وتعزما على العودة إلى المدينة من منتصف الطريق.

ولكن يستفاد من ذيل الآية أنّ هاتين الطائفتين عدلتا عن هذا القرار، واستمرتا في التعاون مع بقية المسلمين، ولهذا قال سبحانه: «وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

يعني أنّ اللَّه ناصرهما فليس لهما أن تفشلا إذا كانتا تتوكلان على اللَّه بالإضافة إلى تأييده سبحانه للمؤمنين.

غزوة احد: يستفاد من الروايات والنصوص التاريخية الإسلامية، أنّ قريشاً لما رجعت من بدر إلى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر، لأنّه قُتل منهم سبعون واسر سبعون، قال أبو سفيان: يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم فإنّ الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمّد. وأخذ أبو سفيان على نفسه العهد على أن لا يقرب فراش زوجته ما لم ينتقم لقتلى بدر.

وفي السنة الثالثة للهجرة عزمت قريش على غزو النبي

وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس وألفي راجل، مجهزين بكل ما يحتاجه القتال الحاسم، وأخرجوا معهم النساء والأطفال والأصنام، ليثبتوا في ساحات القتال.

العباس يرفع تقريراً إلى النبي: لم يكن العباس عمّ النبي قد أسلم إلى تلك الساعة، بل

مختصر الامثل، ج 1، ص: 315

كان باقياً على دين قريش، ولكنه كان يحب ابن أخيه غاية الحب، ولهذا فإنّه عندما عرف بتعبئة قريش وعزمهم الأكيد على غزو المدينة ومقاتلة النبي، بادر إلى إخبار النبي، محمّلًا غفارياً (من بني غفار) رسالة عاجلة يذكر فيها الموقف في مكة وعزم قريش، وكان الغفاري يسرع نحو المدينة، حتى أبلغ النبي رسالة عمه العباس، ولما عرف صلى الله عليه و آله بالخبر إلتقى سعد بن أبي وأخبره بما ذكره له عمه، وطلب منه أن يكتم ذلك بعض الوقت.

النّبي يشاور المسلمين: عمد النبي- بعد أن بلغته رسالة عمه العباس- إلى بعث رجلين من المسلمين إلى طرق مكة والمدينة للتجسس على قريش، وتحصيل المعلومات الممكنة عن تحركاتها.

ولم يمض وقت طويل حتى عاد الرجلان وأخبرا النبي بما حصلا عليه حول قوات قريش وأنّ هذه القوات الكبيرة يقودها أبو سفيان.

وبعد أيّام استدعى النّبي صلى الله عليه و آله جميع أصحابه وأهل المدينة لدراسة الموقف، وما يمكن أو يجب إتخاذه للدفاع، وبحث معهم في أمر البقاء في المدينة ومحاربة الأعداء الغزاة في داخلها، أو الخروج منها ومقاتلتهم خارجها، فاقترح جماعة قائلين: «لا نخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودروبنا وما خرجنا إلى عدو لنا قط إلّاكان الظفر لهم علينا». وكان هذا هو ما قاله عبد اللَّه

بن أبي.

وقد كان النبي صلى الله عليه و آله يميل إلى هذا الرأي نظراً لوضع المدينة يومذاك، فقد كان صلى الله عليه و آله يرغب في البقاء في المدينة ومقاتلة العدو في داخلها، إلّاأنّ فريقاً من الشباب الأحداث الذين رغبوا في الشهادة وأحبّوا لقاء العدو، خالفوا هذا الرأي. فوافقهم النبي صلى الله عليه و آله- رغم أنّه كان يميل إلى البقاء في المدينة- احتراماً لمشورتهم، ثم خرج مع أحد أصحابه ليرتب مواضع استقرار المقاتلين المسلمين خارج المدينة وإختار الشعب من جبل احد لإستقرار الجيش الإسلامي باعتباره أفضل مكان من الناحية العسكرية والدفاعية.

لقد استشار النبي أصحابه في هذه المسألة يوم الجمعة، ولذلك فإنّه بعد انتهاء المشاورة قام يخطب لصلاة الجمعة وقال بعد حمد اللَّه والثناء عليه:

«انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم اللَّه فلكم النصر ما صبرتم».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 316

ثم تولى صلى الله عليه و آله بنفسه قيادة المقاتلين وكان يستعرض جيشه طوال الطريق، ويرتب صفوفهم.

يقول المؤرخ المعروف الحلبي في سيرته: وسار إلى أن وصل «رأس الثنية» وعندها وجد كتيبة كبيرة فقال صلى الله عليه و آله: «ما هذا؟» قالوا: هؤلاء خلفاء عبد اللَّه بن أبي اليهودي فقال صلى الله عليه و آله:

«أسلموا؟» فقيل: لا. فقال صلى الله عليه و آله: «إنّا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك». فردهم، ورجع عبد اللَّه بن ابي اليهودي ومن معه من أهل النفاق وهم ثلاثمائة رجل.

والنبي صلى الله عليه و آله بعد أن أجرى التصفية اللازمة في صفوف جيشه واستغنى عن بعض أهل الريب والشك والنفاق استقر عند الشعب من «احد» في عدوة الوادي إلى الجبل وجعل «احداً» خلف ظهره واستقبل المدينة.

وبعد أن صلّى بالمسلمين الصبح

صف صفوفهم وتعبأ للقتال.

فأمّر على الرماة «عبد اللَّه بن جبير» والرماة خمسون رجلًا جعلهم صلى الله عليه و آله على الجبل خلف المسلمين وأوعز إليهم قائلًا:

«إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا وألزموا مراكزكم».

ومن جانب آخر، وضع أبو سفيان «خالد بن الوليد» في مأتي فارس كميناً يتحينون الفرصة للتسلل من ذلك الشعب ومباغتة المسلمين من ورائهم وقالوا: «إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم».

ثم اصطف الجيشان للحرب، ها هي تكبيرات المسلمين ونداءات «اللَّه أكبر، اللَّه أكبر» تدوي في جنبات ذلك المكان، وتملأ شعاب «احد» وسهولها، بينما تحرض هند والنسوة اللاتي معها من نساء قريش وبناتها الرجال ويضربن بالدفوف ويقرأن الأشعار المثيرة.

وبدأ القتال وحمل المسلمون على المشركين حملة شديدة هزمتهم شر هزيمة، وألجأتهم إلى الفرار وراح المسلمون يتعقبونهم ويلاحقون فلولهم.

هذه الهزيمة النكراء التي لحقت بالمشركين دفعت ببعض المسلمين الجديدي العهد بالإسلام إلى التفكر في جمع الغنائم والانصراف عن الحرب، بظن أنّ المشركين هزموا هزيمة كاملة، حتى أنّ بعض الرماة تركوا مواقعهم في الجبل متجاهلين تذكير قائدهم «عبداللَّه بن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 317

جبير» إيّاهم بما أوصاهم به النبي صلى الله عليه و آله ولم يبق معه إلّاقليل ظلوا يحافظون على تلك الثغرة الخطرة في الجبل محافظة على المسلمين.

فتنبه «خالد بن الوليد» إلى قلة الرماة في ذلك المكان، فحملوا على الرماة وقتلوهم بأجمعهم، ثم هجموا على المسلمين من خلفهم.

وفجأة وجد المسلمون أنفسهم وقد أحاط بهم العدو بسيوفهم. في هذه الكرة «حمزة» سيد الشهداء وطائفة من أصحاب النبي الشجعان، وفر بعضهم خوفاً، ولم يبق حول النبي سوى نفر قليل

جداً يدافعون عنه ويردون عنه عادية الأعداء، وكان أكثرهم دفاعاً عن النبي صلى الله عليه و آله ورداً لهجمات العدو، وفداء بنفسه هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي كان يذب عن النبي الطاهر ببسالة منقطعة النظير، حتى أنّه تكسر سيفه فأعطاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سيفه المسمى بذي الفقار، ثم تترس النبي بمكان، وبقي علي عليه السلام يدفع عنه فلم يزل عليّ عليه السلام يقاتلهم حتى أصابه في رأسه ووجهه، ويديه وبطنه ورجليه سبعون جراحة. فقال جبرائيل: «إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد». فقال محمّد: «إنّه منّي وأنا منه». فقال جبرائيل: «وأنا منكما».

قال الإمام الصادق عليه السلام: «نظر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى جبرائيل بين السماء والأرض على كرسي من ذهب، وهو يقول: لا سيف إلّا ذوالفقار ولا فتى إلّاعليّ».

وفي هذه اللحظة صاح صائح: قتل محمّد.

يذهب بعض المؤرخين إلى أنّ «ابن قمئة» الذي قتل الجندي الإسلامي البطل «مصعب بن عمير» وهو يظن أنّه النبي، هو الذي صاح «واللات والعزى: لقد قتل محمّد».

وهذه الشائعة كانت في صالح الإسلام والمسلمين لأنّها جعلت العدو يترك ساحة القتال ويتجه إلى مكة بظنّه أنّ النبي قد قتل وانتهى الأمر، ولولا ذلك لكان جيش قريش الفاتح الغالب لا يترك المسلمين حتى يقتلوا رسول اللَّه لأنّهم لم يجيئوا إلى «احد» إلّالهذه الغاية.

إلّا أنّ شائعة مقتل النبي أوجدت زلزالًا كبيراً في نفوس بعض المسلمين، ولذلك فر هؤلاء من ساحة المعركة.

وأمّا من بقي من المسلمين في الساحة فقد عمدوا- بهدف الحفاظ على البقية من التفرق وإزالة الخوف والرعب عنهم- إلى أخذ النبي صلى الله عليه و آله إلى الشعب من «احد» ليطلع المسلمون على وجوده

الشريف ويطمئنّوا إلى حياته، وهكذا كان، فإنّهم لما عرفوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عاد الفارون وآب المنهزمون واجتمعوا حول الرسول ولامهم النبي صلى الله عليه و آله على فرارهم في تلك

مختصر الامثل، ج 1، ص: 318

الساعة الخطيرة، فقالوا: يا رسول اللَّه أتانا الخبر بأنّك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين. وهكذا لحقت بالمسلمين- في معركة أحد- خسائر كبيرة في الأموال والنفوس، فقد قتل منهم في هذه الموقعة اثنان وسبعون من المسلمين في ميدان القتال، كما جرح جماعة كبيرة، ولكنهم أخذوا من هذه الهزيمة والنكسة درساً كبيراً ضمن انتصاراتهم في المعارك القادمة.

وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) فقد بدأت هذه الآيات بتذكير المسلمين بما تحقق لهم من نصر ساحق بتأييد اللَّه لهم في «بدر» «1» إذ قال سبحانه: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ».

وقد كان الهدف من هذا التذكير هو شد عزائم المسلمين وزرع الثقة في نفوسهم والإطمئنان إلى قدراتهم، والأمل بالمستقبل، فقد نصرهم اللَّه وهم على درجة كبيرة من الضعف، وقلة العدد وضآلة العدة (حيث كان عددهم 313 مع إمكانيات بسيطة قليلة، وكان عدد المشركين يفوق ألف مقاتل مع إمكانيات كبيرة).

فإذا كان الأمر كذلك فليتقوا اللَّه وليجتنبوا مخالفة أوامر النبي صلى الله

عليه و آله ليكونوا بذلك قد أدوا شكر المواهب الإلهية: «فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

ثم تتعرض الآية اللاحقة لذكر بعض التفاصيل حول ما جرى في بدر، إذ قالت: «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلثَةِ ءَالفٍ مِّنَ الْمَلِكَةِ مُنْزَلِينَ». أي: اذكروا واذكر أيّها النبي يوم كنت تقول للمسلمين الضعفاء آنذاك اخرجوا وسيمدكم اللَّه بالملائكة ألا

______________________________

(1) «بدر»: سميت بدر لأنّ الماء كان لرجل من جهينة اسمه بدر (مجمع البحرين).

وبدر من حيث اللغة يعني الممتلى الكامل. ولهذا سمي القمر إذا امتلأ: بدراً.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 319

يكفيكم ذلك لتحقيق النصر الساحق على جحافل المشركين المدججين بالسلاح؟

نعم، أيّها المسلمون لقد تحقق لكم ذلك في بدر نتيجة صبركم واستقامتكم، واليوم يتحقق لكم ذلك أيضاً إذا أطعتم أوامر النبي، وسرتم وفق تعليماته وصبرتم: «بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالفٍ مِّنَ الْمَلِكَةِ مُسَوّمِينَ» «1».

على أنّ نزول الملائكة هذا لن يكون هو العامل الأساسي لتحقيق هذا الإنتصار لكم بل النصر من عند اللَّه، وليس نزول الملائكة إلّالتطمئن قلوبكم «وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» فهو العالم بسبل النصر ومفاتيح الظفر، وهو القادر على تحقيقه.

ثم إنّه سبحانه عقب هذه الآيات بقوله: «لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ».

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وقع بين المفسرين في تفسير هذه الآية كلام كثير، إلّاأنّ ما هو مسلّم تقريباً هو أنّ الآية الحاضرة نزلت بعد معركة احد وهي ترتبط بأحداث تلك المعركة، والآيات السابقة تؤيد هذه الحقيقة أيضاً.

يكون معنى الآية كالتالي: ليس لك حول مصيرهم شي ء، فإنّهم قد استحقوا

العذاب بما فعلوه، بل ذلك إلى اللَّه، يعفو عنهم إن شاء أو يأخذهم بظلمهم.

ولقد نقلت في تفسير الدر المنثور: إنّ هذه الآية أنزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم أحد وقد جرح في وجهه وأصيب بعض رباعيته وفوق حاجبه فقال- وسالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه-: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربّهم». فأنزل اللَّه الآية وأخبره تعالى فيها أنّه ليس إليه إلّاما امر به من تبليغ الرسالة ودعائهم إلى الهدى، فهو ليس مسؤولًا عن هدايتهم إن لم يهتدوا ولم يستجيبوا لندائه.

وَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

______________________________

(1) «الفور»: السرعة التي تقلب المعادلات كما يفور القدر وتتقلب محتوياتها بسرعة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 320

مختصر الامثل ج 1 349

هذه الآية تأكيد لمفاد الآية السابقة، فيكون المعنى هو: أنّ العفو أو المجازاة ليس بيد النبي، بل هو للَّه الذي بيده كل ما في السماوات وكل ما في الأرض، فهو الحاكم المطلق لأنّه هو الخالق، فله الملك وله التدبير، وعلى هذا الأساس فإنّ له أن يغفر لمن يشاء من المذنبين، أو يعذّب، حسب ما تقتضيه الحكمة، لأنّ مشيئته تطابق الحكمة. ثم إنّه سبحانه يختم الآية بقوله: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». تنبيهاً إلى أنّه وإن كان شديد العذاب، إلّاأنّ رحمته سبقت غضبه، فهو غفور رحيم قبل أن يكون شديد العقاب والعذاب.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) هذه الآيات الثلاث، والآيات الست اللاحقة بها تحتوي

على سلسلة من البرامج الاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، ثم يستأنف القرآن بعد هذه الآيات التسع، حديثه حول معركة «احد» ووقائعها.

إنّنا نعلم أيضاً أنّ المجتمع العربي في العهد الجاهلي كان مصاباً- بشدة- بداء الربا، حيث كانت الساحة العربية (وخاصة مكة) مسرحاً للمرابين، وقد كان هذا الأمر مبعثاً للكثير من المآسي الاجتماعية، ولهذا استخدم القرآن في تحريم هذه الفعلة النكراء اسلوب المراحل، فحرم الربا في مراحل أربع:

1- يكتفي في الآية (39) من سورة الروم بتوجيه نصح أخلاقي حول الربا.

2- يشير في الآية (161) من سورة النساء- ضمن إنتقاد عادات اليهود وتقاليدهم الخاطئة الفاسدة- إلى الربا كعادة سيئة من تلك العادات.

3- يذكر في الآية الحاضرة حكم التحريم بصراحة، ولكنّه يشير إلى نوع واحد من أنواع الربا، وهو النوع الشديد والفاحش منه فقط.

4- وأخيراً أعلن في الآيات (275- 279) من سورة البقرة عن المنع الشامل والشديد عن جميع أنواع الربا، واعتباره بمنزلة إعلان الحرب على اللَّه سبحانه.

قلنا إنّ الآية الحاضرة إشارة إلى الربا الفاحش معبرة عن ذلك بقوله: «أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 321

والمراد من «الربا الفاحش» هو أن تكون الزيادة الربوية تصاعدية، بمعنى أن تُضم الزيادة المفروضة أوّلًا على رأس المال ثم يصبح المجموع مورداً للربا، بمعنى أنّ الزيادة ثانياً تقاس بمجموع المبلغ، ثم تضم الزيادة المفروضة ثانياً إلى ذلك المبلغ، وتفرض زيادة ثالثة بالنسبة إلى المجموع. ولهذا قال القرآن الكريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَأْكُلُوا الرّبَوا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً».

ولا شكّ أنّ مثل هذا الفعل يدر على أصحاب الأموال مبالغ ضخمة دون عناء، فلا يمكن الإرتداع عنه الإّ بتقوى اللَّه، ولهذا عقب سبحانه نهيه عن مثل هذا الربا الظالم بقوله:

«وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

ولكن هل يكفي الأمر بتقوى اللَّه والترغيب في

الفلاح في صورة ترك الربا؟ أم لابدّ من التلويح بالعذاب الأخروي للمرابين؟ ولهذا قال سبحانه في الآية الثانية: «وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ». فهذه الآية تأكيد لحكم التقوى الذي مرّ في الآية السابقة.

ثم إنّه سبحانه يمزج ذلك التهديد بشي ء من التشجيع والترغيب للمطيعين والممتثلين لأوامره تعالى إذ يقول: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

وَ سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَ الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) السباق في مضمار السعادة: بعد أن هددت الآيات السابقة العصاة وتوعدتهم بالعذاب والجحيم، وبشّرت الأبرار المطيعين بالرحمة الإلهيّة وشوقتهم إليها جاءت الآية الاولى من هذه الآيات تشبّه سعي المطيعين واجتهادهم بالسباق، والمسابقة المعنوية التي تهدف الوصول إلى الرحمة الإلهية والنعم والعطايا الربانية الخالدة: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 322

رَّبّكُمْ». فلأنّ الوصول إلى أي مقام معنوي لا يتأتى بدون المغفرة والتطهر من أدران الذنوب، فلابد إذن من تطهير النفس من الذنوب أوّلًا، ثم الدخول في رحاب القرب الإلهي، ونيل الزلفى لديه. هذا هو الهدف الأوّل.

وأمّا الهدف الثاني لهذا السباق المعنوي العظيم فهو «الجنة» التي يصرح القرآن الكريم أنّ سعتها سعة السماوات والأرض: «وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّموَاتُ وَالْأَرْضُ».

ثم إنّه سبحانه يختم الآية الحاضرة بقوله: «أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ». فهذه الجنة العظيمة الموصوفة بتلك السعة قد أعدّت

للذين يتقون اللَّه ويخشونه ويجتنبون معاصيه ويمتثلون أوامره.

وينبغي أن نعلم أنّ المراد بالعرض هنا ليس هو الطول والعرض الهندسي بل المراد- كما عليه أهل اللغة- هو السعة.

لما صرح في الآية السابقة بأنّ الجنة اعدت للمتقين، تعرضت الآية التالية لذكر مواصفات المتقين فذكرت خمساً من صفاتهم الإنسانية السامية هي:

1- إنّهم ينفقون أموالهم في جميع الأحوال، في الشدة والرخاء، في السراء والضراء «الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ».

إنّ أوّل صفة ذكرت للمتقين هنا هو «الإنفاق» لأنّ هذه الآيات تذكر ما يقابل الصفات التي ذكرت للمرابين والمستغلّين في الآيات السابقة. هذا مضافاً إلى أنّ غض النظر عن المال والثروة في السراء والضراء من أبرز علائم التقوى.

2- إنّهم قادرون على السيطرة على غضبهم: «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ».

«الكظم»: تعني في اللغة شدّ رأس القربة عند ملئها، فيقول كظمت القربة إذا ملأتها ماء ثم شددت رأسها، وقد استعملت كناية عمن يمتلى ء غضباً ولكنّه لا ينتقم. و «الغيظ»: بمعنى شدة الغضب والتوتر والهيجان الروحي الشديد الحاصل للإنسان عندما يرى ما يكره.

في الكافي عن الإمام الصّادق عليه السلام قال: «من كظم غيظاً ولو شاء أن يُمضيه أمضاه، أملأ اللَّه قلبه يوم القيامة رضاه».

3- إنّهم يصفحون عمن ظلمهم «وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ».

إنّ كظم الغيظ أمر حسن جدّاً، إلّاأنّه غير كاف لوحده، إذ من الممكن أن لا يقلع ذلك جذور العداء من قلب المرء، فلابد للتخلص من هذه الجذور والرواسب أن يقرن «كظم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 323

الغيظ» بخطوة اخرى وهي «العفو والصفح» ولهذا أردفت صفة «الكظم للغيظ» التي هي بدورها من أنبل الصفات بمسألة العفو.

4- إنّهم محسنون: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ».

وهنا إشارة إلى مرحلة أعلى من «العفو والصفح» وبهذا يرتقي المتقون من درجة إلى أعلى في سلّم التكامل المعنوي.

وهذه

السلسلة التكاملية هي أن لا يكتفي الإنسان تجاه الإساءة إليه بكظم الغيظ ولا يكتفى أيضاً بأن يعفو ويصفح عن المسى ء ليغسل بذلك آثار العداء عن قلبه، بل يعمد إلى القضاء على جذور العداء في فؤاد خصمه المسي ء إليه أيضاً، وذلك بالإحسان إليه، وبذلك يكسب وده وحبّه، ويمنع من تكرار الإساءة إليه في مستقبل الزمان.

5- إنّهم لا يصرّون على ذنب: «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ».

«الفاحشة»: مشتقة أصلًا من الفحش، وهو كل ما اشتد قبحه من الذنوب، ولا يختص بالزنا خاصة، لأنّ الفحش يعني «تجاوز الحد» الذي يشمل كل ذنب.

يستفاد من هذه الآية أنّ الإنسان لا يذنب مادام يتذكر اللَّه، فهو إنّما يذنب إذا نسي اللَّه تماماً واعترته الغفلة، ولكن لا يلبث هذا النسيان وهذه الغفلة- لدى المتقين- حتى تزول عنهم سريعاً ويذكرون اللَّه، فيتداركون ما فات منهم، ويصلحون ما أفسدوه.

إنّ المتقين يحسّون إحساساً عميقاً بأنّه لا ملجأ لهم إلّااللَّه، فلابد أن يطلبوا منه المغفرة لذنوبهم دون سواه «وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ».

ثم إنّه سبحانه تأكيداً لهذه الصفة قال: «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

والآن جاء الدور ليذكر القرآن الكريم ما ينتظر هذا الفريق من الثواب والجزاء اللائق.

وكان ذلك إذ قال سبحانه: «أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا».

لقد ذكر في هذه الآية جزاء المتقين الذين تعرضت الآيات السابقة لذكر أوصافهم وأبرز صفاتهم، وهذا الجزاء عبارة عن: مغفرة ربانية، وجنات خالدات تجري من تحتها الأنهار بدون إنقطاع أبداً.

ثم إنّه سبحانه يعقب ما قال عن الجزاء بقوله: «وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ». أي: ما أروع هذا الجزاء الذي يُعطى للعاملين لا للكسالى، الذين يتهرّبون من مسؤولياتهم، ويتملّصون من

التزاماتهم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 324

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدًى وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) النظر في تاريخ الماضين وآثارهم: يعتبر القرآن الكريم ربط الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي أمراً ضرورياً لفهم الحقائق، لأنّ الإرتباط بين هذين الزمانين (الماضي والحاضر) يكشف عن مسؤولية الأجيال القادمة، ويوقفها على واجبها، ولهذا قال سبحانه:

«قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ».

وهذا يعني أنّ للَّه في الامم سنناً لا تختص بهم، بل هي قوانين وسنن عامة في الحياة تجري على الحاضرين كما جرت على الماضين سواء بسواء، وهي سنن للتقدم والبقاء وسنن للتدهور والإندحار، التقدم للمؤمنين المجاهدين المتحدين الواعين، والتدهور والإندحار للُامم المتفرقة المتشتتة الكافرة الغارقة في الذنوب والآثام.

ولهذا نجد القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى السير في الأرض والنظر بإمعان وتدبر في آثار الامم والشعوب التي سادت ثم بادت إذ يقول: «فَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ».

ولما كان التعليم الإلهي العظيم- رغم كونه موجهاً إلى عامة المخاطبين- لا ينتفع به ولا يستلهمه إلّاالمتقون قال سبحانه تعقيباً على الآية السابقة: «هذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ».

أجل، إنّ المتقين الهادفين هم الذين يتعظون بهذه الامور لأنّهم يبحثون عن كل ما يعمق روح التقوى في نفوسهم، ويزيد بصيرتهم بالحق.

وَ لَا تَهِنُوا وَ لَا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ

الصَّابِرِينَ (142) وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 325

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت الآية تسلية للمؤمنين، لما نالهم يوم احد من القتل والجراح.

وفي تفسير القرطبي عن ابن عباس قال: انهزم أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم احد فبيناهم كذلك إذ أقبل خالد بن وليد بخيل من المشركين، يريد أن يعلوا عليهم الجبل؛ فقال النبي صلى الله عليه و آله: «اللهم لا يَعلُنّ علينا اللهم لا قوّة لنا إلّابك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر». فأنزل اللَّه هذه الآيات.

التّفسير

دراسة نتائج غزوة أحد: في الآية الاولى من هذه الآيات حذر القرآن المسلمين من أن يعتريهم اليأس والفتور بسبب النكسة في معركة واحدة، وأن يتملكهم الحزن وييأسوا من النصر النهائي، قال سبحانه: «وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

والوهن المذكور في الآية هو كل ضعف يصيب الجسم أو الروح أو يصيب الإرادة والإيمان. تعني أنّ هزيمتكم إنّما كانت بسبب فقدانكم لروح الإيمان وآثارها، فلو أنّكم لم تتجاهلوا أوامر اللَّه سبحانه لم يصبكم ما أصابكم، ولم يلحقكم ما لحقكم، ولكن لا تحزنوا مع ذلك، فإنّكم إذا ثبتم على طريق الإيمان كان النصر النهائي حليفكم، والهزيمة في معركة واحدة لا تعني الهزيمة النهائية.

ثم إنّه سبحانه يقول: «إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ». وبذلك يعطي للمسلمين درساً آخر للوصول إلى النصر النهائي.

و «القرح» جرح يصيب البدن بسبب اصطدامه بشي ء خارجي.

«وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ» «1».

ففي هذا القسم يشير سبحانه إلى واحدة من السنن الإلهية وهي أنّه قد تحدث في حياة

البشر حوادث حلوة أو مرّة ولكنها غير باقية ولا ثابتة مطلقاً، فالانتصارات والهزائم، والغالبية والمغلوبية، والقوة والضعف كل ذلك يتغير ويتحول، وكل ذلك يزول ويتبدل، فلا ثبات ولا دوام لشي ء منها.

______________________________

(1) «الأيام»: جمع يوم يعبر به عن وقت طلوع شمس إلى غروبها، وقد يطلق على فترات الإنتصارات الكبرى فى حياة الشعوب، و «نداولها»: من المداولة بمعنى إذا صار الشى ء من بعض القوم إلى البعض الآخر.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 326

ثم إنّه سبحانه يشير إلى نتيجة هذه الحوادث المؤلمة فيقول: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا».

أي أنّ ذلك إنّما هو لأجل أن يتميز المؤمنون حقاً عن أدعياء الإيمان.

ثم إنّه في قوله: «وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ» يشير إلى إحدى نتائج هذه الهزيمة المؤلمة وهي تقديم المسلمين بعض الشهداء في هذه المعركة، فيجب أن تعلموا أنّ هذا الدين لم يصل إليكم بالهيّن، فلا يفلت منكم كذلك في المستقبل.

ثم إنّه تعالى يختم هذا الإستعراض للسنن والدروس والنتائج بقوله: «وَاللَّهُ لَايُحِبُّ الظَّالِمِينَ». فهو لا ينصرهم ولا يدافع عنهم، ولا يمكّنهم من المؤمنين الصالحين العاملين بتعاليم السماء الآخذين بسنن اللَّه في الكون والحياة.

أجل، إنّ لمعركة «احد» وما لحق بالمسلمين فيها من هزيمة نتائج وآثاراً، ومن نتائجها وآثارها الطبيعية أنّها كشفت عن نقاط الضعف في الجماعة والثغرات الموجودة في كيانها، وهي وسيلة فعالة ومفيدة لغسل تلك العيوب والتخلّص من تلك النواقص والثغرات، ولهذا قال سبحانه: «وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا» «1». أي أنّ اللَّه أراد- في هذه الواقعة- أن يتخلص المؤمنون من العيوب ويريهم ما هم مبتلون به من نقاط الضعف.

وأمّا نتيجة هذه التربية والصياغة التي يتلقاها المؤمنون في خضم المحن والمصائب وآتون الحوادث المرّة فهو حصول القدرة الكافية لدحر الشرك والكفر دحراً ساحقاً وكاملًا، وإلى هذا

أشار بقوله: «وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ» «2».

ثم إنّه يفيدنا القرآن درساً من واقعة «احد» في تصحيح خطأ فكري وقع فيه المسلمون فيقول: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ».

أي هل تظنون أنّكم تنالون أوج السعادة المعنوية بمجرد اختياركم لإسم المسلم، أو بمجرد أنّكم حملتم العقيدة الإسلامية في الفكر دون أن تطبقوا ما يتبعها من التعاليم؟

لو كان الأمر كذلك لكان هيناً جدّاً، ولكن ليس كذلك حتماً، فإنّه ما لم تطبق التعاليم التي تتبع تلك المعتقدات، في واقع الحياة العملية لم ينل أحد من تلك السعادة العظمى شيئاً.

وهنا بالذات يجب أن تتميز الصفوف، ويعرف المجاهدون الصابرون عن غيرهم.

ثم إنّه كان هناك جماعة من المسلمين- بعد معركة «بدر» واستشهاد فريق من أبطال

______________________________

(1) «المحيص» والمحص أصله: تخليص الشي ء ممّا فيه من عيب.

(2) «المحق»: النقصان ومنه المحاق لآخر الشهر إذا انمحق الهلال وامتحق وقل ضياؤه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 327

الإسلام- يتمنون الموت في أحاديثهم ومجالسهم ويقولون: ليتنا نلنا الشهادة في «بدر»، ومن الطبيعي أن يكون بعض تلك الجماعة صادقين في تمنيهم والبعض الآخرون كاذبين يتظاهرون بهذه الأمنية، أو يجهلون حقيقة أنفسهم، ولكن لم يلبث هذا الوضع طويلًا، فسرعان ما وقعت معركة احد الرهيبة المؤلمة، فقاتل المجاهدون الصادقون بشهامة وبسالة وصدق وكرعوا كؤوس الشهادة، وحققوا أمانيهم، ولكن الذين كانوا يتمنونها كذباً وتظاهراً ما إن رأوا علائم الهزيمة التي لحقت بالجيش الإسلامي في تلك الواقعة حتى فروا خوفاً وجبناً، وضناً بنفوسهم وأرواحهم، تاركين الساحة للعدو الغاشم، فنزلت هذه الآية توبّخهم وتعاتبهم إذ تقول: «وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ». فلماذا فررتم وهربتم من الشي ء الذي كنتم تتمنونه طويلًا وكيف يفر المرء من

محبوبه، وهو يراه وينظر إليه؟

وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلًا وَ مَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ مَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال أهل التفسير: سبب نزول هذه الآية أنّه لما ارجف بأنّ النبي صلى الله عليه و آله قد قتل يوم احد واشيع ذلك، قال اناس: لو كان نبياً لما قتل. وقال آخرون: نقاتل على ما قاتل عليه، حتى نلحق به وارتد بعضهم وانهزم بعضهم. وكان سبب انهزامهم وتضعضعهم، إخلال الرماة لمكانهم من الشعب. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نهاهم عن الإخلال به وأمّر عبد اللَّه بن جبير وهو أخو خوّات بن جبير، على الرماة وهم خمسون رجلًا وقال: «لا تبرحوا مكانكم، فإنّا لا نزال غالبين ما ثبتم بمكانكم».

التّفسير

لا لعبادة الشخصية وتقديس الفرد: تعلّم الآية الاولى من هاتين الآيتين حقيقة اخرى للمسلمين استلهاماً من أحداث معركة «احد» إذ تقول: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 328

قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِين مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ». وهذه الحقيقة هي أنّ الإسلام ليس دين عبادة الشخصية حتى إذا قتل النبي صلى الله عليه و آله ونال الشهادة في هذه المعركة. إنّ عبادة الشخصية وتقديس الفرد من أخطر ما يصيب أية حركة جهادية ويهددها بالسقوط والانتهاء، فإنّ إرتباط الحركة أو الدين بشخص معين حتى لو كان ذلك هو النبي الخاتم صلى الله

عليه و آله معناه توقف كل الفعاليات وكل تقدم بفقدانه وغيابه عن الساحة، وهذا النوع من الإرتباط هو أحد علائم النقص في الرشد الاجتماعي.

ثم إنّه سبحانه يقول: «وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرُّ اللَّهَ شَيًا». يعني أنّ العودة إلى الكفر والوثنية تضرّكم أنتم دون اللَّه سبحانه، لأنّ أمثال هذا التراجع لا يعني سوى توقفكم في طريق الخير والسعي نحو السعادة الكاملة، بل فقدان كل ما حصلتموه من العزة والكرامة والمجد بسرعة.

ثم إنّه لما كان هناك- في معركة احد- أقلية استمرت على جهادها رغم الصعوبات، وإنتشار الخبر المفجع عن مقتل الرسول صلى الله عليه و آله كان من الطبيعي أن ينال صمودهم هذا وثباتهم التقدير اللائق، ولهذا قال سبحانه: «وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ». وبذلك مدح القرآن الكريم استقامتهم وصمودهم، ووصفهم بالشاكرين لأنّهم أحسنوا الاستفادة والإنتفاع بالنعم في سبيل اللَّه، وهذا أفضل مصاديق الشكر.

ثم إنّ جماعة كثيرة من المسلمين ارعبوا وزلزلوا لشائعة مقتل النبي في احد- كما أسلفنا- إلى درجة أنّهم تركوا ساحة المعركة، وفروا بأنفسهم من الموت وحتى أنّ بعضهم فكر في الردة عن الإسلام، فكان قوله سبحانه: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذِنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا». وهو يكرر توبيخهم، وتنبيههم إلى أنّ الموت بيد اللَّه، والفرار لا ينفع في الخلاص من الأجل الإلهي.

ومن ناحية اخرى أنّ الفرار من المعركة لا يدفع الأجل كما أنّ مواصلة القتال والبقاء في المعركة لا يقرب هو الآخر أجلًا.

وبعد عرض هذه الحقائق يعقب سبحانه على ما قال بقوله: «وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْأَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا». أي إنّ ما عمله الإنسان لا يضيع أبداً، فإن كان هدفه دنيوياً مادياً كما كان عليه بعض المقاتلين في «احد»

فإنّه سيحصل على ما يسعى إليه ويناله. وأمّا إذا كان هدفه أسمى من ذلك، وصب جهوده في سبيل الحصول على الحياة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 329

الخالدة والفضائل الإنسانية بلغ إلى هدفه حتماً وأوتي ثواب الآخرة الذي هو أعظم من كل ثواب وأسمى من كل نتيجة، فلماذا إذن لا يصرف الإنسان جهوده، ويوظف ما أوتي من طاقات معنوية ومادية في الطريق الثاني وهو الطريق الخالد السامي؟

وتأكيداً لهذه الحقيقة قال سبحانه مرة اخرى: «وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ».

وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ مَا ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكَانُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَ مَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ إِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَ ثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَ انْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَ حُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) المجاهدون السابقون: بعد استعراض حوادث معركة احد في الآيات السابقة، جاءت الآيات الحاضرة لتحث المسلمين على التضحية والثبات وتشجعهم وتثبّتهم بذكر تضحيات من سبقوهم من أصحاب الرسل الماضين وأتباعهم المؤمنين الصادقين الأبطال، وتوبّخ ضمناً اولئك الذين فرّوا في «احد» وحدّثوا أنفسهم بما حدّثوا إذ يقول سبحانه في الآية الاولى من هذه الآيات: «وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ» «1». فأنصار الأنبياء إذا واجهوا المصاعب والجراحات والشدائد في قتالهم الأعداء لم يشعروا بالضعف والهوان أبداً، ولم يخضعوا للعدو أو يستسلموا له، ومن البديهي أنّ اللَّه تعالى يحب مثل هؤلاء الأشخاص الذين يثبتون ويصبرون في القتال: «وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ».

فهؤلاء عندما كانوا يواجهون المشاكل بسبب بعض الأخطاء أو العثرات وعدم الإنضباط لم

يفكروا في الإستسلام للأمر الواقع، أو يحدثوا أنفسهم بالفرار أو الإرتداد عن الدين والعقيدة بل كانوا يتضرعون إلى اللَّه يطلبون منه الصبر والثبات، والعون والمدد ويقولون: «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».

______________________________

(1) «ربّيّون»: جمع «ربى» وزان «على» يطلق على من اشتد إرتباطه باللَّه عزّ وجلّ، ويكون مؤمناً عالماً، صامداًمخلصاً.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 330

إنّهم بمثل هذا التفكر الصحيح والعمل الصالح كانوا يحصلون على ثوابهم دون تأخير، وهو ثواب مزدوج، أمّا في الدنيا فالنصر والفتح، وأمّا في الآخرة فما أعد اللَّه للمؤمنين المجاهدين الصادقين: «فَاتَيهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْأَخِرَةِ».

ثم إنّه سبحانه يعد هؤلاء من المحسنين إذ يقول: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) إنّ أعداء الإسلام أخذوا- بعد معركة احد- يسعون في إلقاء الفرقة في صفوف المسلمين ببث سلسلة من الدعايات المسمومة، والمغلفة أحياناً بلباس النصيحة، والتحرّق على ما آل إليه المسلمون، وكانوا بالاستفادة من الأوضاع النفسية المتردية التي كان يمر بها جماعة من المسلمين، يحاولون زرع بذور النفور من الإسلام بينهم.

الآية الاولى من هذه الآيات تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ». فهي تحذر المسلمين من إطاعة الكفار وتقول: إنّ إطاعة الكفار تعني العودة إلى الجاهلية بعد تلك الرحلة العظيمة في طريق التكامل المعنوي والمادي في ظل التعاليم الإسلامية.

ثم إنّه سبحانه يؤكد بأنّ لهم خير ناصر وولي وهو اللَّه: «بَلِ

اللَّهُ مَوْلكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ».

إنّه الناصر الذي لا يغلب، بل لا تساوي قدرته أية قدرة، في حين ينهزم غيره من الموالي، ويندحر غيره من الأسياد.

ثم إنّه سبحانه يشير إلى نموذج من نماذج التأييد الإلهي للمسلمين في أحرج الظروف، وأحلك المراحل إذ يقول: «سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ». أي إنّنا كما ألقينا الرعب في قلوب الكفار في أعقاب معركة «احد» ورأيتم نموذجاً منه بأم أعينكم، سنلقي مثله في قلوب الذين كفروا فيما بعد، ولهذا ينبغي أن تطمئنوا إلى المستقبل، ولا تأخذكم في اللَّه لومة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 331

لائم، ولا تهزكم ولا تزعزعكم شماتة شامت ووسوسة موسوس.

والجدير بالذكر أنّ الآية تعلل نشأة هذا الرعب الواقع في قلوب الكفار كالتالي: «بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَانًا».

لقد ظلم هؤلاء الكافرون أنفسهم وظلموا مجتمعاتهم ف: «مَأْوَيهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ» وما أسوأه من مثوى ومآل.

وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَ تَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَ لَا مَا أَصَابَكُمْ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَ طَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ

الْأَمْرِ شَيْ ءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) الهزيمة بعد الانتصار: قاتل المسلمون في المرحلة الاولى من معركة «احد» بشجاعة خاصة، إلّاأنّ تجاهل فريق من الرماة لأوامر الرسول صلى الله عليه و آله المشددة بالبقاء عند ثغر الجبل والمحافظة عليه سبّب في أن تنقلب الآية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 332

وعندما عاد المسلمون بعد تحمل خسائر عظيمة إلى المدينة كان يسأل أحدهم رفيقه: ألم يعدنا اللَّه سبحانه بالفتح والنصر، فلماذا هزمنا في هذه المعركة؟

فكانت الآيات الحاضرة جواباً على هذا السؤال، وتوضيحاً للعلل الحقيقية التي سببت تلك الهزيمة، وإليك فيما يلي تفسير جزئيات هذه الآيات وتفاصيلها:

قال سبحانه: «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ» «1».

يعنى أنّ عليهم أن لا يتوهموا بأنّ الوعد بالتأييد والنصر مطلق لا قيد له ولا شرط، بل كل الوعود الإلهية بالنصر مقيدة باتباع تعاليم اللَّه بحذافيرها، والتمسك بأهدافها.

ثم إنّه سبحانه يقول بعد بيان هذه الحقيقة حول النصر الإلهي: «وَتَنَازَعْتُمْ فِى الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَيكُم مَّا تُحِبُّونَ».

ومن هذه العبارة التي هي إشارة إلى ما طرأ على وضع الرماة في جبل «عينين» يستفاد بوضوح بأنّ الرماة الذين كلفوا بحراسة الثغر قد اختلفوا فيما بينهم في ترك ذلك الثغر ومغادرة ذلك الموقع في الجبل فعصى فريق كبير منهم، (وهذا قد يستفاد من لفظة عصيتم التي تفيد أنّ الأغلبية والأكثرية من الرماة قد عصت وتجاهلت تأكيدات النّبي بالبقاء هناك).

أجل لقد اختلفتم فيما بينكم وتنازعتم في تلك اللحظات الحساسة البالغة الأهمية:

«مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْأَخِرَةَ».

وهنا

تغير مجرى الامور وانعكست القضية فبدّل اللَّه الإنتصار إلى الهزيمة ليمتحنكم وينبهّكم ويربّيكم: «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ».

ثم إنّ سبحانه غفر لكم كل ما صدر وبدر منكم من عصيان وتجاهل لأوامر الرسول صلى الله عليه و آله وما ترتب على ذلك من التبعات في حين كنتم تستحقون العقاب وما ذلك إلّالأنّ اللَّه لا يضنّ بنعمة على المؤمنين ولا يبخل عليهم بموهبة: «وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ».

ثم إنّه سبحانه يذكّر المسلمين بموقفهم في نهاية معركة «احد» فيقول: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَيكُمْ» «2». أي تذكروا إذ فررتم من المعركة، ورحتم

______________________________

(1) «الحس»: القتل على وجه الاستئصال، وسمي القتل حساً لأنّه يبطل الحس.

(2) «أخريكم»: بمعنى «ورائكم».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 333

تلوذون بالجبل أو تنتشرون في السهل، تاركين رسول اللَّه وحده بين المهاجمين المباغتين من المشركين وهو يدعوكم من ورائكم ويناديكم قائلًا: «إليّ عباد اللَّه- إليّ عباد اللَّه فإنّي رسول اللَّه». وأنتم لا تلتفتون إلى الوراء أبداً، ولا تلبّون نداء النبي صلى الله عليه و آله.

وفي ذلك الوقت أخذت الهموم والأحزان تترى عليكم «فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمّ» لِما أصابكم من النكسة ولفقدان مجموعة كبيرة من خيار فرسانكم وجنودكم ولِما بلغكم من شائعة قتل النبي صلى الله عليه و آله.

ولقد كان هجوم تلك الغموم عليكم من أجل أن لا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم الحرب، وما أصابكم من الجراحات في ساحة المعركة في سبيل تحقيق الإنتصار «لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَافَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ».

«وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ». فهو يعرف جيداً من ثبت منكم وأطاع وكان مجاهداً واقعياً ومن هرب وعصى.

إتسمت الليلة التي تلت معركة «احد» بالقلق والاضطراب الشديدين، فقد كان المسلمون يتوقعون أن يعود

جنود قريش الفاتحون المنتصرون إلى المدينة مرّة اخرى لاجتياح البقية الباقية من القوة الإسلامية.

بيد أنّه كان هناك بين المسلمين ثلة من المجاهدين الصادقين الذين ندموا على الفرار من الميدان في «احد» فتابوا إلى اللَّه، واطمأنوا إلى وعود النبي الكريم صلى الله عليه و آله حول المستقبل.

وإلى هذا كله يشير الكتاب العزيز في الآية الحاضرة إذ يقول: «ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ» «1».

ثم إنّ القرآن الكريم يعمد إلى بيان واستعراض طبيعة ما كان يدور بين اولئك المنافقين وضعاف الإيمان من أحاديث وحوار، وما كان يدور في خلدهم من ظنون وأفكار، إذ يقول:

«يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ».

إنّهم كانوا يظنون باللَّه ما كانوا يظنونه به أيام كانوا يعيشون في الجاهلية، وقبل أن تبزغ عليهم شمس الإسلام فقد كانوا يتصورون أنّ اللَّه سيكذبهم وعده ويظنون أنّ وعود

______________________________

(1) «الأمنة»: أي الأمن، والنعاس هو النوم الخفيف.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 334

النبي صلى الله عليه و آله غير محققة ولا صادقة وكان يقول بعضهم للآخر: «هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَىْ ءٍ».

أي هل سيصيبنا النصر ونحن في هذه الحالة من السقوط والهزيمة، والمحنة والبلية؟ إنّهم كانوا يستبعدون أن ينزل عليهم نصر من اللَّه بعد ما لقوا، أو كانوا يرون ذلك محالًا. ولكن القرآن يجيبهم قائلًا: «قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ». أي كيف تستبعدون ذلك أو ترونه محالًا والأمر كله بيد اللَّه، وهو قادر أن ينزل عليكم النصر متى وجدكم أهلًا لذلك.

على أنّهم لم يظهروا كل ما كان يدور في خلدهم من ظنون وأوهام وهواجس خوفاً من أن يُعدوا في صفوف الكفار: «يُخْفُونَ فِى أَنفُسِهِم مَّا لَايُبْدُونَ لَكَ».

وكأنّهم كانوا يتصورون أنّ الهزيمة في «احد»

من العلائم الدالة على بطلان الإسلام، ولذا كانوا يقولون: «لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَىْ ءٌ مَا قُتِلْنَا ههُنَا». أي لو كنّا على حق لكسبنا المعركة، ولم نخسر كل هذه الأرواح والنفوس.

ولكنّ اللَّه تعالى أجابهم وهو يشير في هذه الإجابة إلى مطلبين:

الأوّل: إنّ عليكم أن لا تتوهموا بأنّ الفرار من ساحة المعركة، وتجنب الصعاب يمكنه أن ينقذكم من الموت الذي هو قدر لكل إنسان ولهذا يقول سبحانه: «قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ». فإنّ الذين جاء أجلهم، وحان حين موتهم لابدّ أن يموتوا ولا محالة هم مقتولون حتى لو كانوا في مضاجعهم.

والثاني: إنّ هذه الحوادث لابد أن تقع حتى يبدي كل واحد مكنون صدره، ومكتوم قلبه، فتتشخص الصفوف، وتتميز جواهر الرجال، هذا مضافاً إلى أنّ هذه الحوادث سبب لتربية الأشخاص شيئاً فشيئاً، ولتخليص نياتهم، وتقوية إيمانهم، وتطهير قلوبهم «وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ».

ثم في ختام هذه الآية يقول سبحانه: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَذَاتِ الصُّدُورِ». ولذلك فهو لا ينظر إلى أعمال الناس بل يمتحن قلوبهم، ليطهرها من كل ما تعلق بالنفوس والأفئدة من شوائب الشرك والنفاق والشك والتردد.

الذنب ينتج ذنباً آخر: هذه الآية ناظرة أيضاً إلى وقائع معركة «احد» وتقرر حقيقة اخرى للمسلمين، وهي أنّ الذنوب والانحرافات التي تصدر من الإنسان بسبب من

مختصر الامثل، ج 1، ص: 335

وساوس الشيطان، تفرز آثاماً وذنوباً اخرى بسبب وجود القابلية الحاصلة في النفس الإنسانية نتيجة الذنوب السابقة، والتي تمهد لذنوب مماثلة وآثام اخرى، وإلّا فإنّ القلوب والنفوس التي خلت وطهرت من آثار الذنوب السالفة لا تؤثر فيها الوساوس الشيطانية، ولا تتأثر بها.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ

إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَ مَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) استغلال المنافقين: كانت حادثة «احد» فرصة مناسبة للمنافقين بأن يقوموا بمحاولاتهم التشويشية. فهذه الآيات تتوجه بالخطاب أوّلًا إلى المؤمنين بهدف تحطيم جهود المنافقين ومحاولاتهم التخريبية وتحذير المسلمين منهم فتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِى الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا».

«لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ». أنّكم أيّها المؤمنون إذا وقعتم تحت تأثير هذه الكلمات المضلّة الغاوية، وكررتم نظائرها ستضعف روحيتكم أيضاً، وستمتنعون أيضاً وحينئذ سيتحقق للمنافقين ما يصبون إليه، ولكن لا تفعلوا ذلك، وتقدموا إلى سوح الجهاد ليجعل اللَّه ذلك حسرة في قلوب المنافقين المخذلين، أبداً.

ثم إنّ القرآن الكريم يرّد على خبث المنافقين وتسويلاتهم وتشويشاتهم بثلاث أجوبة منطقية هي:

1- إنّ الموت والحياة بيد اللَّه على كل حال، وأنّ الخروج والحضور في ميدان القتال لا يغير من هذا الواقع شيئاً، وأنّ اللَّه يعلم بأعمال عباده جميعها: «وَاللَّهُ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

2- ثم إنّكم حتى إذا متم أو قتلتم، وبلغكم الموت المعجل- كما يحسب المنافقون- فإنّكم لم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 336

تخسروا شيئاً، لأنّ رحمة اللَّه وغفرانه أعظم وأعلى من كل ما تجمعه أيديكم أو يجمعه المنافقون مع الإستمرار في الحياة من الأموال والثروات «وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ

وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ». 3- وبغضّ النظر عن كل ذلك فإنّ الموت لا يعني الفناء والعدم حتى يخشى منه هذه الخشية ويخاف منه هذا الخوف، ويستوحش منه هذا الإستيحاش، إنّه نقلة من حياة إلى حياة أوسع وأعلى وأجل وأفضل، حياة مزيجة بالخلود موصوفة بالبقاء «وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ».

إنّ الجدير بالملاحظة في هذه الآيات هو جعل الموت في اثناء السفر، في مصاف الشهادة في سبيل اللَّه، لأنّ المراد بالسفر هنا هي تلك الأسفار التي يقوم بها الإنسان في سبيل اللَّه ولأجل اللَّه كالسفر وشد الرحال إلى ميادين القتال أو للعمل التبليغي.

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) الأمر بالعفو العام: هذه الآية ترتبط بواقعة «احد» لأنّه بعد رجوع المسلمين من «احد» أحاط الأشخاص الذين فروا من المعركة برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأظهروا له الندامة من فعلتهم وموقفهم، وطلبوا منه العفو. فأصدر اللَّه سبحانه إلى نبيّه صلى الله عليه و آله أمره بأن يعفو عنهم، ويتجاوز عن سيئتهم ويستقبل المخطئين التائبين منهم بصدر رحب. إذ قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ».

ولقد أشير في هذه الآية إلى واحدة من المزايا الأخلاقية لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله ألا وهي اللين مع الناس والرحمة بهم، وخلوه من الفظاظة والخشونة.

«الفظّ»:- في اللغة- هو الغليظ الجافي

الخشن الكلام و «غليظ القلب» هو قاسي الفؤاد الذي لا تلمس منه رحمة ولا يحس منه لين.

وهاتان الكلمتان وان كانتا بمعنى واحد هو الخشونة، إلّاأنّ الغالب استعمال الاولى في

مختصر الامثل، ج 1، ص: 337

الخشونة الكلامية، واستعمال الثانية في الخشونة العملية والسلوكية، وبهذا يشير سبحانه إلى ما كان يتحلى به الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله من لين ولطف تجاه المذنبين والجاهلين.

ثم إنّه سبحانه يأمر نبيّه بأن يعفو عنهم إذ يقول: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ».

وهذا الكلام يعني أنّه سبحانه يطلب من نبيّه أن يعفو عنهم فيما بينه وبينهم، وأمّا ما بين اللَّه وبينهم فهو سبحانه يغفر لهم ذلك. وقد فعل الرسول الكريم صلى الله عليه و آله ما أمره به ربّه وعفى عنهم جميعاً.

بعد إصدار الأمر بالعفو العام يأمر اللَّه نبيّه صلى الله عليه و آله بأن يشاور المسلمين في الأمر ويقف على وجهات نظرهم، وذلك إحياءاً لشخصيتهم، ولِبث الروح الجديدة في كيانهم الفكري والروحي اللذين أصابهما الفتور بعد الذي حدث، إذ يقول: «وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ».

صحيح أنّ كلمة «الأمر» في قوله تعالى «وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ» ذات مفهوم واسع يشمل جميع الامور، ولكن من المسلم أيضاً أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يشاور الناس في الأحكام الإلهيّة مطلقاً، بل كان في هذا المجال يتبع الوحي فقط.

بقدر ما يجب على المستشير أن يتخذ جانب الرفق واللّين في المشورة مع مستشاريه يجب إتخاذ القرار الأخير بصرامة وحسم، وهذا هو ما يعبر عنه بالعزم في قوله سبحانه في هذا السياق إذ يقول: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ».

ثم إنّه سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين في ختام الآية أن يتوكلوا على اللَّه فحسب لأنّه تعالى يحبّ المتوكلين إذ يقول: «إِنَّ

اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ».

هذا ويستفاد من هذه الآية أنّ التوكل يجب أن يكون بعد التشاور، وبعد الأخذ والاستفادة من جميع الإمكانيات المتاحة للإنسان حتماً.

بعد أن يحث الباري سبحانه وتعالى عباده على أن يتوكلوا عليه، يبين في هذه الآية- التي هي مكملة للآية السابقة- نتيجة التوكل وثمرته وفائدته العظمى فيقول: «إِن يَنْصُرُكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرْكُم مِّن بَعْدِهِ». وهو بهذا يشير إلى أنّ قدرة اللَّه فوق كل القدرات، فإذا أراد بعبد خيراً وأراد نصره وتأييده والدفاع عنه لم يكن في مقدور أية قوة في الأرض- مهما عظمت- أن تتغلب عليه.

والكلام في الآية السابقة موجه إلى شخص النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأمر له ولكنه في هذه الآية موجه إلى جميع المؤمنين وكأنّها تقول لهم: إنّ عليهم أن يتوكلوا على اللَّه كما يفعل النبي صلى الله عليه و آله

مختصر الامثل، ج 1، ص: 338

ولهذا يختم هذه الآية بقوله: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

وَ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) الخيانة ممنوعة مطلقاً: بالنظر إلى الآية السابقة التي نزلت بعد الآيات المتعلقة بوقعة «احد» تعتبر هذه الآية ردّاً على بعض التعللات الواهية التي تمسك بها بعض المقاتلين.

فجاء القرآن يرد على زعمهم وتصورهم هذا فقال: «وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَن يَغُلَّ» «1». أي إنّكم تصورتم وظننتم أنّ النّبي يخونكم، والحال أنّه ليس لنبي أن يغل ويخون أحداً.

إنّ اللَّه سبحانه ينزه في هذه الآية جميع الأنبياء والرسل من الخيانة، ويقول: إنّ هذا الأمر لا يصلح- أساساً- للأنبياء، ولا يتناسب مع مقامهم العظيم.

ثم تقول: «وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا

غَلَّ يَوْمَ الْقِيمَةِ». أي أنّ كل من يخون سيأتي يوم القيامة وهو يحمل على كتفه وثيقة خيانته، أو يصحبه معه إلى المحشر، وهكذا يفتضح أمام الجميع، وتنكشف أوراقه وتعرف خيانته.

«ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ». يعني أنّ الناس يجدون عين أعمالهم هناك، ولهذا فهم لا يظلمون لأنّه يصل إلى كل أحد نفس ما كسبه خيراً كان أو شراً.

أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) المتخلفون عن الجهاد: تضمنت الآيات السابقة الحديث عن شتى جوانب معركة «احد» وملابساتها ونتائجها، وقد جاء الآن دور المنافقين وضعاف الإيمان من المسلمين الذين تقاعسوا عن الحضور في «احد» تبعاً للمنافقين، فنزل قوله تعالى: «أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ». ولبى نداء النبي واتبع أمره بالخروج «كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَيهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ

______________________________

(1) «الغلول»: تعني الخيانة، وأصله تدرع الشي ء وتوسطه ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر، وهو الماء الذي يتسلل ويتسرب فيما بين الشجر ويدخل فيه، ويطلق الغليل على ما يقاسيه الإنسان في داخله من العطش ومن شدة الوجد والغيظ، لهذا السبب.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 339

الْمَصِيرُ».

ثم يقول تعالى: «هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ». أي أنّ لكل واحد منهم درجة بنفسه ومكانة عند اللَّه.

ثم يقول سبحانه في ختام هذه الآية: «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ». أي: أنّه سبحانه عالم بأعمالهم جميعاً فهو يعلم جيداً من يستحق أية درجة من الدرجات، بحيث تليق بنيّته وإيمانه وعلمه.

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

(164) النعمة الإلهية الكبرى: في هذه الآية يدور الحديث حول أكبر النعم الإلهية، ألا وهي نعمة بعثة الرسول الأكرم والنبي الخاتم صلى الله عليه و آله وهو إجابة قوية على التساؤل الذي خالج بعض الأذهان من حديثي العهد بالإسلام بعد معركة احد وهو: لماذا لحق بنا ما لحق، ولماذا أصبنا بما أصبنا به؟ فيجيبهم القرآن الكريم بقوله: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ». أي إذا كنتم قد تحملتم كل هذه الخسائر، وأصبتم بكل هذه المصائب، فإنّ عليكم أن لا تنسوا أنّ اللَّه قد أنعم عليكم بأكبر نعمة، ألا وهي بعثه نبيّاً يقوم بهدايتكم وتربيتكم، فمهما تحملتم في سبيل الحفاظ على هذه النعمة العظمى والموهبة الكبرى، ومهما كلفكم ذلك من ثمن، فهو ضئيل إلى جانبها، وحقير بالنسبة إليها.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يقول: «مِّنْ أَنفُسِهِمْ». إنّ إحدى مميزات هذا النبي هو أنّه من نفس الجنس والنوع البشري، وذلك لكي يدرك كل احتياجات البشر وحتى يلمس آلام إلانسان وآماله، ثم يقوم بما يجب أن يقوم به من التربية والتوجيه على ضوء هذه المعرفة.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يقول واصفاً مهمات هذا النبي العظيم: «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ». أي أنّه يقوم بثلاثة امور في حقّهم:

1- تلاوة آيات اللَّه على مسامعهم، وإيقافهم على هذه الآيات والكلمات الإلهية.

2- تعليمهم بمعنى إدخال هذه الحقائق في أعماق ضمائرهم وقلوبهم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 340

3- تزكية نفوسهم، وتنمية قابلياتهم الخلقية، ومواهبهم الإنسانية. ولكن حيث إنّ الهدف الأصلي هو «التربية» لذلك قدمت على «التعليم» مع أنّ الحال- من حيث الترتيب الطبيعي- تقتضي تقديم التعليم على التربية.

إنّ أهمية هذه النعمة العظمى (البعثة النبوية) إنّما تتضح تمام الوضوح وتتجلى تمام الجلاء

عندما يقاس الوضع الذي آلوا إليه بالوضع الذي كانوا عليه، وملاحظة مدى التفاوت بينهما وهذا هو ما يعنيه قوله: «وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

أَ وَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (165) دراسة اخرى لمعركة احد: إنّ بعض المسلمين كانوا يعانون من حزن عميق وقلق بالغ لنتائج احد، فذكرهم اللَّه- في هذه الآية- بثلاث نقاط هي:

1- يجب أن لا تقلقوا لنتائج معركة معينة، بل عليكم أن تحاسبوا كل قضايا المجابهة مع العدو، وتزنوا المسألة من جميع أطرافها فلو أنّه أصابتكم على أيدي أعدائكم في هذه المعركة مصيبة فإنّكم قد أصبتم أعداءكم ضعفها في معركة اخرى (معركة بدر) لأنّهم قتلوا من المسلمين في معركة «احد» سبعين ولم يأسروا أحداً بينما قتل المسلمون من المشركين في معركة «بدر» سبعين وأسروا سبعين: «أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مّثْلَيْهَا».

2- أنتم تقولون هذه المصيبة كيف أصابتنا؟ «قُلْتُمْ أَنَّى هذَا». ولكن «قل» أيّها النّبي:

«هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ». أي: هو نابع من مواقفكم في تلك المعركة، فابحثوا عن أسباب الهزيمة في أنفسكم.

3- يجب أن لا تقلقوا للمستقبل لأنّ اللَّه قادر على كل شي ء، فإذا أصلحتم أنفسكم، وأزلتم النواقص، وتخلصتم مما تعانون منه من نقاط الضعف شملكم تأييده، وأنزل عليكم نصره «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

وَ مَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)

مختصر الامثل،

ج 1، ص: 341

لابد أن تتميز الصفوف: تنوه الآيتان الحاضرتان بحقيقة هامة هي أنّ أيّة مصيبة (كتلك التي وقعت في احد) مضافاً إلى أنّها لم تكن دون سبب وعلة، فإنّها خير وسيلة لتمييز صفوف المجاهدين الحقيقيين عن المنافقين أو ضعفاء الإيمان، ولذلك جاء في القسم الأوّل من الآية الاولى: «وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذنِ اللَّهِ». أي: أنّ ما أصابكم يوم تقاتل المسلمون والمشركون فهو بإذن اللَّه ومشيئته وإرادته لأنّ لكل ظاهرة في عالم الكون المخلوق للَّه سبحانه سبباً خاصاً وعلة معينة.

ثم يقول سبحانه في المقطع التالي من الآية: «وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا».

ثم إنّ القرآن الكريم يستعرض حواراً قد وقع بين بعض المسلمين، والمنافقين قبل المعركة بالشكل التالي: «وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا». فإنّ بعض المسلمين (وهو عبد اللَّه بن عمر بن حزام على ما نقل عن ابن عباس) عندما رأى إنسحاب عبد اللَّه بن أبي سلول وانفصالهم عن الجيش الإسلامي، وإعتزامهم العودة إلى المدينة قال: تعالوا قاتلوا في سبيل اللَّه أو ادفعوا عن حريمكم وأنفسكم إن لم تقاتلوا في سبيل اللَّه.

ولكنهم تعللوا، واعتذروا بأعذار واهية إذ قالوا: «لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ». أي إنّنا نظن أنّ الأمر ينتهي بلا قتال فلا حاجة لوجودنا معكم.

فإنّ هذه كانت مجرد إعتذارات وتعللات، لأنّ الحرب كانت حتمية الوقوع، ولأنّ المسلمين إنتصروا في بداية المعركة، وأمّا ما لحق بهم من الهزيمة والإنكسار فلم يكن إلّا بسبب أخطاء ومخالفات إرتكبوها هم أنفسهم بحيث لولاها لما وقعت بهم هزيمة، ولذا يقول اللَّه سبحانه: «هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ». أي إنّهم يكذبون.

ثم علل سبحانه ما ذكره عنهم بقوله: «يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ». أي إنّهم يظهرون خلاف

ما يضمرون، ويبدون من القول خلاف ما يكتمون من الاعتقاد والنية، فإنّهم لإصرارهم على إقتراحهم بالقتال داخل أسوار المدينة، أو رهبة من ضربات العدو، أو لعدم حبّهم للإسلام أحجموا عن الإسهام في تلك المعركة، وامتنعوا عن المضي إلى احد في صحبة المسلمين، «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ». فإنّ اللَّه يعلم جيداً ما يخفونه ويضمرونه من النوايا.

الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 342

مزاعم المنافقين الباطلة: لم يكتف المنافقون بانصرافهم عن الإسهام مع المؤمنين في القتال، والسعي في إضعاف الروح المعنوية للآخرين، بل عمدوا إلى لوم المقاتلين المجاهدين بعد عودتهم من المعركة وبعد ما لحق بهم ما لحق قائلين: «لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا».

فيرد عليهم القرآن الكريم في الآية الحاضرة قائلًا: «الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

لقد عبّر القرآن عن المؤمنين في هذه الآية بأنّهم إخوان للمنافقين في حين لم يكن المؤمنون إخواناً للمنافقين إطلاقاً، فما هذه الأنواع من الملامة والتوبيخ للمنافقين؟ فيكون المعنى هو: إنّكم أيّها المنافقون كنتم تعتبرون المؤمنين إخواناً لكم فكيف تركتم نصرتهم في هذه اللحظات الخطيرة؟ ولهذا أردف سبحانه هذه الكلمة «لِإِخْوَانِهِمْ» بكلمة «قَعَدُوا» أي تقاعسوا عن المشاركة في المعركة.

وَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَنْ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الحياة الخالدة: إنّ الآيات الحاضرة نزلت في شهداء «احد» وإن

كان محتواها ومضمونها يعم حتى شهداء «بدر». فجاءت الآيات الحاضرة لتفند كل هذه التصورات، وتذكر بمكانة الشهداء السامية ومقامهم الرفيع وتقول: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا».

والخطاب- هنا- متوجه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خاصة حتى يحسب الآخرون حسابهم.

ثم يقول سبحانه معقباً على العبارة السابقة: «بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ».

والمقصود من الحياة في الآية هي «الحياة البرزخية» في عالم ما بعد الموت، وإن لم تختص الحياة البرزخية بالشهداء فللكثير من الناس حياة برزخية أيضاً ولكن إنّ حياة الشهداء محفوفة بالنعم والمواهب المعنوية العظيمة وكأنّ حياة الآخرين من البرزخيين بما فيها لا تكاد تكون شيئاً يذكر بالنسبة إليها.

ثم إنّ الآية التالية تشير إلى بعض مزايا حياة الشهداء البرزخية، وما يكتنفها ويلازمها من عظيم البركات من خلال الإشارة إلى عظيم إبتهاجهم بما أوتوا هناك فتقول: «فَرِحِينَ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 343

بِمَا ءَاتَيهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ».

ثم إنّ السبب الآخر لإبتهاجهم ومسرتهم هو ما يجدونه ويلقونه من عظيم الثواب ورفيع الدرجات الذي ينتظر إخوانهم المجاهدين الذين لم ينالوا شرف الشهادة في المعركة إذ يقول القرآن: «وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ».

ثم يردف هذا بقوله: «أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». يعني أنّ الشهداء يحسّون هناك وفي ضوء ما يرونه أنّ إخوانهم المجاهدين لن يكون عليهم أي حزن على ما تركوه في الدنيا ولا أي خوف من الآخرة ووقائعها الرهيبة.

ثم إنّه سبحانه يقول: «يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ» «1».

وهذه الآية مزيد تأكيد وتوضيح حول البشائر التي يتلقاها الشهداء بعد قتلهم واستشهادهم، فهم فرحون ومسرورون من ناحيتين:

الاولى: من جهة النعم والمواهب الإلهية التي يتلقونها.

والثانية: من جهة أنّهم يرون أنّ اللَّه سبحانه وتعالى لا يضيع أجر

المؤمنين ... لا أجر الشهداء الذين نالوا شرف الشهادة، ولا أجر المجاهدين الصادقين الذين لم ينالوا ذلك الشرف رغم اشتراكهم في المعركة: «وَأَنَّ اللَّهَ لَايُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ».

الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَ قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) غزوة حمراء الأسد: قلنا إنّ جيش أبي سفيان المنتصر أسرع بعد إنتصاره في معركة «احد» على الجيش الإسلامي يحثّ السير في طريق العودة إلى مكة حتى إذا بلغ أرض «الروحاء» ندم على فعله، وعزم على العودة إلى المدينة للإجهاز على ما تبقى من فلول المسلمين، واستئصال جذور الإسلام حتى لا تبقى له ولهم باقية.

ولما بلغ هذا الخبر إلى النبي صلى الله عليه و آله أمر مقاتلي احد أن يستعدوا للخروج إلى معركة اخرى مع المشركين.

______________________________

(1) «الاستبشار» يعني الإبتهاج والسرور الحاصل بسبب تلقي بشارة أو مشاهدة نعمة للنفس أو للغير من الأحبّة؛ وليست بمعنى التبشير والإبشار.

إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَ خَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 344

فلما بلغ هذا الخبر أبا سفيان وأدرك صمود المسلمين، خاف وارعب. هذا وقد حدثت في هذا الموضع حادثة زادت من إضعاف معنوية المشركين، وهي أنّه: مرّ برسول اللَّه «معبد الخزاعي» وهو يومئذ مشرك، فلما شاهد النبي وما عليه هو وأصحابه من الحالة تحركت عواطفه وجاشت، فقال للنبي صلى الله عليه و آله: يا محمّد واللَّه لقد عزّ علينا ما أصابك في قومك

وأصحابك، ثم خرج من عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وأجمعوا الرجعة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلما رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراك يا معبد؟ قال: محمّد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قطّ يتحرقون عليكم تحرقاً. وقد اجتمع عليه من كان تخلّف عنه في يومكم، وندموا على صنيعهم، وفيه من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط. فاهتزّ لذلك أبو سفيان ومن معه وقفل راجعاً ومنسحباً إلى مكّة بسرعة، وحتى يتوقف المسلمون عن طلبه وملاحقته ويجد فرصة كافية للإنسحاب قال لجماعة من بني عبد قيس كانوا يمرون من هناك قاصدين المدينة لشراء القمح: «اخبروا محمّداً إنّا قد أجمعنا الكرّة عليه وعلى أصحابه لنستأصل بقيتهم» ثم انصرف إلى مكة.

ولما مرّت هذه الجماعة برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو بحمراء الأسد أخبروه بقول أبي سفيان، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «حسبنا اللَّه ونعم الوكيل». وبقي هناك ينتظر المشركين ثلاثة أيام، فلم ير لهم أثراً فانصرف إلى المدينة بعد الثالثة، والآيات الحاضرة تشير إلى هذه الحادثة وملابساتها «1».

يقول سبحانه: «الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أجْرٌ عَظِيمٌ».

ثم إنّ القرآن الكريم يبين إحدى العلائم الحيّة لِاستقامتهم وثباتهم إذ يقول: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ».

ثم بعد ذكر هذه الإستقامة الواضحة وهذا الإيمان البارز يذكر القرآن الكريم نتيجة عملهم إذ يقول: «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ».

وتأكيداً لهذا الأمر يقول القرآن: «لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ». مضافاً إلى أنّهم «اتَّبَعُوا رِضْوَانَ

اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ». إنّه فضل عظيم ينتظر المؤمنين الحقيقيين، والمجاهدين الصادقين.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 345

هذه الآية تعقيب على الآيات التي نزلت حول غزوة «حمراء الأسد». ويكون معنى هذه الآية هو: إنّ عمل نعيم بن مسعود، أو ركب عبد القيس من عمل الشيطان لكي يخوفوا به أولياء الشيطان. يعني أنّ هذه الوساوس إنّما تؤثر في أتباع الشيطان وأوليائه خاصة.

إنّ التعبير عن نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس ووصفهم ب «الشيطان» إمّا لكون عملهم ذلك من عمل الشيطان، وإمّا أنّ المقصود من الشيطان هم نفس هؤلاء الأشخاص، فيكون «هذا المورد» من الموارد التي يطلق فيها اسم الشيطان على المصداق الإنساني له.

ثم إنّه سبحانه يقول في ختام الآية: «وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ». يعني أنّ الإيمان باللَّه والخوف من غيره لا يجتمعان.

وعلى هذا الإساس فإن وجد في أحد الخوف من غير اللَّه كان ذلك دليلًا على نقصان إيمانه وتأثيره بالوساوس الشيطانية لأننا نعلم أنّه لا ملجأ ولا مؤثر بالذات في هذا الكون العريض سوى اللَّه الذي ليس لأحد قدرة في مقابل قدرته.

وَ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) مواساة القرآن للنبي صلى الله عليه و آله: الآية الأولى موجه إلى النبي صلى الله عليه و آله فاللَّه تعالى يعزّي نبيه في أعقاب أحداث «احد» المؤلمة قائلًا له: أيّها الرسول: «وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ». وكأنّهم يتسابقون إليه «إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيًا» بل يضرّون بذلك أنفسهم.

هذا

مضافاً إلى أنّ اللَّه سوف لن ينسى مواقفهم المشينة ولن تفوته مخالفاتهم، وسيصيبهم جزاء ما يعملونه يوم القيامة: «يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِى الْأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

فإنّ الآية تقول: إذا كان هؤلاء يتسابقون في الكفر فليس ذلك لأنّ اللَّه لا يقدر على كبح جماحهم، بل لأنّ اللَّه أراد أن يكونوا أحراراً في اتخاذ المواقف وسلوك الطريق الذي يريدون، ولا شك أنّ نتيجة ذلك هو الحرمان الكامل من المواهب الربانية في العالم الآخر.

ثم يقرر القرآن هذه الحقائق في الآية الثانية بشكل أكثر تفصيلًا إذ يقول: «إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيًا». يعني ليس الذين يتسابقون في طريق الكفر ويسارعون إليه هم وحدهم على هذا الحال، بل كل الذين يسلكون طريق الكفر بشكل من

مختصر الامثل، ج 1، ص: 346

الأشكال ويشترون الكفر بالإيمان، كل هؤلاء لن يضرّوا اللَّه شيئاً، وإنّما يضرّون أنفسهم.

ويختم سبحانه الآية بقوله: «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

وَ لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) بعد تسلية خاطر النبي صلى الله عليه و آله في الآيات السابقة توجّه سبحانه إلى الأعداء في هذه الآية بالخطاب، وأخذ يحدّثهم عن المصير المشؤوم الذي ينتظرهم. يقول فيها سبحانه: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لِّانفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ» «1». تحذّر المشركين بأنّ عليهم أن لا يعتبروا ما أتيح لهم من إمكانات في العدة والعدد، وما يكسبونه من انتصارات في بعض الأحيان، وما يمتلكونه من حرية التصرف، دليلًا على صلاحهم، أو علامة على رضا اللَّه عنهم.

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ

الطَّيِّبِ وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) المسلمون في بوتقة الاختبار والفرز: لم تكن قضية «المنافقين» مطروحة بقوة قبل حادثة معركة «احد» ولهذا لم يكن المسلمون يعرفون عدواً لهم غير الكفار، ولكن الهزيمة التي أفرزتها «احد» وما دبّ في المسلمين على أثرها من الضعف المؤقت مهّد الأرضية لنشاط المنافقين المندسين في صفوف المسلمين، وعلى أثر ذلك عرف المسلمون وأدركوا بأنّ لهم عدواً آخر أخطر يجب أن يراقبوا تحركاته ونشاطاته وهو «المنافقون» وكان هذا إحدى أهم معطيات حادثة «احد» ونتائجها الإيجابية. والآية الحاضرة التي هي آخر الآيات التي تتحدث- هنا- عن معركة «احد» وأحداثها، تبين وتستعرض هذه الحقيقة في صورة قانون عام إذ تقول: «مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ».

______________________________

(1) «نملي»: مشتقة من الإملاء، وتعني المساعدة والإعانة وتستعمل في أكثر الموارد في إطالة المدّة والإمهال الذي هو نوع من المساعدة، وقد جاءت في الآية الحاضرة بالمعنى الثاني.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 347

فلابد أن تتميز الصفوف، وتتم عملية الفرز بين الطيب الطاهر، والخبيث الرجس، وهذا قانون عام وسنّة إلهيّة، فليس كل من يدعي الإيمان، ويجد مكاناً في صفوف المسلمين يترك لشأنه، بل ستبلى سرائره وتنكشف حقيقته في الآخرة بعد الاختبارات الإلهية المتتابعة له.

وهنا يمكن أن يطرح سؤال وهو: إذا كان اللَّه عالماً بسريرة كل إنسان وأسراره فلماذا لا يخبر بها الناس- عن طريق العلم بالغيب- ويعرفهم بالمؤمن والمنافق؟

إنّ المقطع الثاني من الآية وهو قوله: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ». يجيب على هذا السؤال، أي إنّ اللَّه سبحانه لن

يوقفكم على الأسرار، لأنّ الوقوف على الأسرار لا يحلّ مشكلة، بل سيؤدي إلى الهرج والمرج وإلى تمزق العلاقات الاجتماعية.

والأهم من كل ذلك هو أنّه لابد أن تتضح قيمة الأشخاص من خلال المواقف العملية والسلوكية، ومسألة الاختبار الإلهي لاتعني سوى هذا الأمر.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يستثني الأنبياء من هذا الحكم إذ يقول: «وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ». أي إنّه يختار في كل عصر من بين أنبيائه من يطلعهم على شي ء من تلك الغيوب ويوقفهم على بعض الأسرار بحكم احتياج القيادة الرسالية إلى ذلك.

إنّ المراد من المشيئة الإلهيّة هو «الإرادة المقرونة بالحكمة» أي إنّ اللَّه سبحانه يطلع على الغيب كل من يراه صالحاً لذلك، وتقتضي حكمته سبحانه ذلك.

ثم أنهّ تعالى يذكرهم- في ختام الآية- أن يجتهدوا لينجحوا في هذا الامتحان ويخرجوا مرفوعي الرؤوس من هذا الاختبار العظيم، إذ يقول: «فَامِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ».

وَ لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) طوق الأسر الثقيل: تبين الآية الحاضرة مصير البخلاء في يوم القيامة، اولئك الذين يبذلون غاية الجهد في جمع الثروة ثم يمتنعون عن الإنفاق في سبيل اللَّه، ولصالح عباده. والآية هذه وإن لم تتعرض صراحة لذكر الزكاة وغيرها من الحقوق والفرائض المالية، إلّاأنّ الأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السلام خصصت هذه الآية وما وعد به فيها من الوعيد

مختصر الامثل، ج 1، ص: 348

بمانعي الزكاة. تقول الآية أوّلًا: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَيهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ». ثم

تصف مصير هؤلاء في يوم القيامة هكذا: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيمَةِ». أي ستكون تلك الأموال التي بخلوا بها طوقاً في أعناقهم في ذلك اليوم الرهيب. ومن هذه الجملة يستفاد أنّ الأموال التي لم يدفع صاحبها الحقوق الواجبة فيها، ولم ينتفع بها المجتمع، بل صرفت فقط في سبيل الأهواء الشخصية، وربما صرفت في ذلك السبيل بشكل جنوني، أو كدّست دون أي مبرر ولم يستفد منها أحد سيكون مصيرها مصير أعمال الإنسان، أي أنّها- طبقاً لقانون تجسّم الأعمال البشرية- ستتجسم يوم القيامة وتتمثل في شكل عذاب مؤلم يؤذي صاحبها ويخزيه.

ففي تفسير العياشي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «الذي يمنع الزكاة يُحوّل اللَّه ماله يوم القيامة شجاعاً من نار ... فيطوّقه إيّاه، ثم يقال له: الزمه كما لزمك في الدنيا. وهو قول اللَّه: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ» الآية».

ثم إنّ الآية تشير إلى نقطة اخرى إذ تقول: «وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

يعني أنّ الأموال سواء أنفقت في سبيل اللَّه أو لم تنفق فإنّها ستنفصل في النهاية عن أصحابها، ويرث اللَّه الأرض والسماء وما فيهما، فالأجدر بهم- والحال هذه- أن ينتفعوا من آثارها المعنوية، لا أن يتحملوا وزرها وعناءها، وحسرتها وتبعتها.

ثم تختم الآية بقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ». أي إنّه عليم بأعمالكم، يعلم إذا بخلتم، كما يعلم إذا انفقتم ما اوتيتموه من المال في سبيل الصالح العام وخدمة المجتمع الإنساني، ويجازى كلًا على عمله بما يليق.

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)

سبب النّزول

في تفسير مجمع

البيان عن ابن عباس قال: كتب النبي صلى الله عليه و آله إلى يهود بني قينقاع يدعوهم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 349

إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا للَّه قرضاً حسناً (والمراد منه الإنفاق في سبيل اللَّه وإنّما عبّر عنه بالإقراض لتحريك المشاعر وإثارتها لدى الناس قدراً أكبر) فدخل رسول النبي إلى بيت مدارستهم (حيث يتلقى اليهود دروساً في دينهم) فوجد ناساً كثيراً منهم اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازورا فدعاهم إلى الإسلام والصلاة والزكاة، فقال فنحاص: إن كان ما تقول حقّاً فإنّ اللَّه إذن لفقير ونحن أغنياء، ولو كان غنياً لما استقرضنا أموالنا! وهو يشير إلى قوله تعالى: «مَن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا» «1». هذا مضافاً إلى أنّ «محمّداً» يعتقد أنّ اللَّه نهاكم عن أكل الربا، وهو يعدكم أن يضاعف لكم إذا انفقتم أضعافاً مضاعفة، وهو يشير إلى قوله تعالى: «يُرْبِى الصَّدَقَاتِ» «2». ولكن فنحاص أنكر أنّه قال شيئاً من هذه في ما بعد فنزلت الآيتان المذكورتان أعلاه.

التّفسير

تقول الآية الاولى: «لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ». أي لو أنّ هؤلاء استطاعوا أن يخفوا عن الناس مقالتهم هذه فإنّ اللَّه قد سمعها ويسمعها حرفاً بحرف فلا مجال لإنكارها، فهو يسمع ويدرك حتى ما عجزت أسماع الناس عن سماعها من الأصوات الخفية جدّاً أو الأصوات العالية جداً.

ثم يقول سبحانه: «سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا». أي إنّ ما قالوه لم نسمعه فحسب، بل سنكتبه جميعه.

إنّ المراد من الكتابة ليس هو ما تعارف بيننا من الكتابة والتدوين، بل المراد هو حفظ آثار العمل التي تبقى خالدة في العالم حسب قانون بقاء «الطاقة- المادة».

ثم يقول: «وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ». أي إنّنا لا نكتفي بكتابة

مقالاتهم الكافرة الباطلة فحسب، بل سنكتب موقفهم المشين جداً وهو قتلهم للأنبياء.

وأمّا تسجيل وكتابة أعمالهم فلم يكن أمراً اعتباطياً غير هادف، بل كان لأجل أن نعرضها عليهم يوم القيامة، ونقول لهم: ها هي نتيجة أعمالكم قد تجسدت في صورة عذاب محرق ونقول: «ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ».

______________________________

(1) سورة الحديد/ 11.

(2) سورة البقرة/ 276.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 350

مختصر الامثل ج 1 379

إنّ هذا العذاب الأليم الذي تذوقونه ليس سوى نتيجة أعمالكم، فأنتم- أنفسكم- قد ظلمتم أنفسكم «ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ».

ولقد نقل عن الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة أنّه قال: «وأيم اللَّه ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلّابذنوب اجترحوها لأنّ اللَّه ليس بظلّام للعبيد». الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت الآية في جماعة من اليهود قالوا: يا محمّد إنّ اللَّه عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن زعمت أنّ اللَّه بعثك إلينا فجئنا به نصدقك. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

مغالطات اليهود وتعللاتهم: كانت اليهود تتحجج وتجادل كثيراً بهدف التملّص من الإنضواء تحت راية الإسلام. ومن مغالطاتهم ما جاء ذكره في هذه الآية الحاضرة التي تقول:

«الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ».

يقول القرآن في مقام الردّ عليهم: «قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ

قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ». وفي ذلك إشارة إلى زكريا ويحيى وطائفة من الأنبياء الذين قتلوا على أيدي بني اسرائيل.

ثم يعقب سبحانه على الآية السابقة بقوله: «فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ».

وفي هذه الآية يسلي اللَّه سبحانه النبي صلى الله عليه و آله ويقول: إن كذبتك هذه الجماعة فلا تقلق لذلك ولا تحزن، فذلك هو دأبهم مع أنبياء سبقوك حيث كذبوهم، وعارضوا دعوتهم بصلابة وعناد.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 351

ولم يكن هؤلاء الأنبياء غير مزوّدين بما يبرهن على صدقهم، بل «جَاءُو بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ».

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَ إِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَ مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) الموت وقانونه العام: تعقيباً على البحث حول عناد المعارضين وغير المؤمنين تشير هذه الآية- أوّلًا- إلى قانون عام يشمل جميع الأحياء في هذا الكون وتقول: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ».

إنّ لهذه الحياة نهاية لا محالة، ولابد أن يأتي ذلك اليوم الذي يزور فيه الموت كل أحد، ولا يكون أمامه- حينئذ- إلّاأن يفارق هذه الحياة.

إنّ المراد من «النفس» في هذه الآية هو مجموعة الجسم والروح، وإن كانت النفس في القرآن تطلق أحياناً على خصوص «الروح» أيضاً.

والتعبير بالتذوق إشارة إلى الإحساس الكامل.

ثم تقول الآية بعد ذلك: «وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ». أي إنّه ستكون بعد هذه الحياة مرحلة اخرى هي مرحلة الثواب والعقاب، وبالتالي الجزاء على الأعمال، فهنا عمل ولا حساب وهناك حساب ولا عمل.

وعبارة «تُوفَّون» التي تعني إعطاء الجزاء بالكامل تكشف عن إعطاء الإنسان أجر عمله- يوم القيامة- وافياً وبدون نقيصة.

ثم قال سبحانه: «فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ».

«زحزح»: تعني محاولة الإنسان لإخراج نفسه من تحت

تأثير شي ء، وتخليصها من جاذبيته تدريجاً؛ و «فاز»: تعني في أصل اللغة النجاة من الهلكة ونيل المحبوب والمطلوب.

والجملة بمجموعها تعني أنّ الذين استطاعوا أن يحرروا أنفسهم من جاذبية النار ودخلوا الجنة فقد نجوا من الهلكة ولقوا ما يحبونه وكأنّ النار تحاول بكل طاقتها أن تجذب الأدميين نحو نفسها ... حقّاً أنّ هناك عوامل عديدة تحاول أن تجذب الإنسان إلى نفسها، وهي على درجة كبيرة من الجاذبية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 352

أليس للشهوات العابرة، واللذات الجنسية الغير المشروعة، والمناصب، والثروات الغير المباحة مثل هذه الجاذبية القوية؟ ثم يقول سبحانه في نهاية هذه الآية: «وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ».

وهذه الجملة تكمل البحث السابق وكأنّها تقول: إنّ هذه الحياة مجرد لهو ومتاع تخدع الإنسان من بعيد، فإذا بلغ إليها الإنسان ونال منها ولمسها عن كثب وجدها- على الأغلب- فراغاً في فراغ وخواء في خواء، وما متاع الغرور إلّاهذا.

إنّ هذه التعابير قد تكررت في القرآن والأحاديث كثيراً، والهدف منها جميعاً شي ء واحد هو أن لا يجعل الإنسان هذه الحياة المادية ولذاتها العابرة الفانية الزائلة هدفه الأخير، وأمّا الإنتفاع بالحياة المادية ومواهبها كوسيلة للوصول إلى التكامل الإنساني والمعنوي فليس غير مذموم فقط، بل هو ضروري وواجب.

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: عندما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة وابتعدوا عن دورهم وديارهم، راحت أيدي المشركين تطال أموالهم وتمتدّ إلى ممتلكاتهم، وتنالها بالتصرف والسيطرة عليها، وإيذاء كل من وقعت عليه أيديهم والإيقاع فيه بالهجاء والاستهزاء.

وعندما جاءوا إلى المدينة، واجهوا أذى اليهود القاطنين

في المدينة، خاصة كعب بن الأشرف الذي كان شاعراً سليط اللسان، وكان يهجو النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين ويحرّض المشركين عليهم ويشبب بنساء المسلمين.

فقال صلى الله عليه و آله: «من لي بابن الأشرف»؟ فقال محمد بن سلمة: أنا يا رسول اللَّه. فخرج هو وأبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة، وأتوا برأسه إلى النبي صلى الله عليه و آله آخر الليل، وهو قائم يصلي.

التّفسير

لا تتعبكم المقاومة: «لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ». أجل إنّ هذه الحياة ساحة اختبار

مختصر الامثل، ج 1، ص: 353

ودار امتحان، فلابد أن يتهيأ الإنسان لمواجهة كل الحوادث والمفاجئات الصعبة العسيرة، وهذا تحذير لجميع المسلمين بأن لا يظنوا بأنّ الحوادث العسيرة في حياتهم قد انتهت، أو أنّهم قد تخلصوا من أذى الأعداء، وسلاطة لسانهم بمجرد قتلهم لكعب بن الأشرف الشاعر السليط اللسان الذي كان يؤذي المسلمين بلسانه وشعره. ولهذا قال سبحانه: «وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا».

ثم إنّه سبحانه عقب على هذا الإنذار والتنبيه بقوله: «وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ».

وبهذا يبين القرآن وظيفة المسلمين وواجبهم في أمثال هذه الحوادث الصعبة والظروف العسيرة، ويدعوهم إلى الصبر والاستقامة والصمود و التزام التقوى في مثل هذه الحوادث معلناً بأنّ هذه الامور من الامور الواضحة النتائج، ولذلك يتعين على كل عاقل أن يتخذ موقفه منها.

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) بعد ذكر جملة من أعمال أهل الكتاب المشينة ومخالفاتهم تشير الآية الحاضرة إلى واحدة اخرى من تلك الأعمال والمخالفات، ألا وهو كتمان الحقائق فتقول: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابِ

لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَاتَكْتُمُونَهُ». أي اذكروا إذ أخذاللَّه مثل هذا الميثاق منكم.

من هذه التعابير يستفاد أنّ اللَّه سبحانه قد أخذ بوساطة الأنبياء السابقين آكد المواثيق والعهود من أهل الكتاب ولكن خانوا تلك العهود وتجاهلوا تلك المواثيق وأخفوا ما أرادوا إخفاءه من حقائق الكتب السماوية، ولهذا قال سبحانه عنهم: «فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ».

ثم إنّه سبحانه أشار إلى حرص اليهود وجشعهم وحبّهم المفرط للدنيا إذ يقول:

«وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ».

إنّ الآية الحاضرة وإن كانت قد وردت بحق أهل الكتاب (من اليهود والنصارى) إلّاأنّها في الحقيقة تحذير وإنذار لكل علماء الدين ورجاله بأنّ عليهم أن يجتهدوا في تبليغ الحقائق وبيان الأحكام الإلهية، وتوضيحها وإظهارها بجلاء، وإنّ ذلك مما كتبه اللَّه عليهم، وأخذ منهم ميثاقاً مؤكداً وغليظاً.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 354

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (189)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: نزلت في اليهود حيث كانوا يفرحون بإجلال الناس لهم ونسبتهم إيّاهم إلى العلم.

وقيل: نزلت في أهل النفاق لأنّهم كانوا يجمعون على التخلف عن الجهاد مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فإذا رجعوا اعتذروا وأحبّوا أن يقبل منهم العذر ويحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان.

التّفسير

إنّ الآية الحاضرة في شأن علماء اليهود الذين يحرفون آيات الكتب السماوية تقول: «لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ». أي لا تحسبن أنّ هؤلاء يعذرون على موقفهم هذا وينجون من العذاب، إنّما النجاة لمن يستحون- على الأقل- من

أعمالهم القبيحة، ويندمون على أنّهم لم يفعلوا شيئاً من الأعمال الصالحة.

إنّ هؤلاء المعجبين بأنفسهم ليسوا فقط ضلّوا طريق النجاة وحُرموا من الخلاص، بل «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» ينتظرهم.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يقول في آية لاحقة: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». وهذا الكلام يتضمن بشرى للمؤمنين وتهديداً للكافرين.

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَ قُعُوداً وَ عَلَى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَ تَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَ آتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَ لَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 355

أوضح السبل لمعرفة اللَّه: آيات القرآن الكريم ليست للقراءة والتلاوة فقط، بل نزلت لكي يفهم الناس مقاصدها ويدركوا معانيها، وما التلاوة والقراءة إلّامقدمة لتحقيق هذا الهدف، أي التفكر والتدبر والفهم، ولهذا جاء القرآن في الآية الاولى من الآيات الحاضرة يشير إلى عظمة خلق السماوات والأرض، ويقول: «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلفِ الَّيلِ وَالنَّهَارِ لَأَيَاتٍ لِأُولِى الْأَلْبَابِ».

إنّ هذا النقش الساحر الآسر للقلوب، المبثوث في كل ناحية من نواحي هذا الكون العريض يشدّ إلى نفسه فؤاد كل لبيب وعقله شدّاً- يجعله يتذكر خالقه، في جميع الحالات، قائماً أو قاعداً، وحين يكون في فراشه نائماً على جنبه، ولهذا يقول سبحانه: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ». أي إنّهم مستغرقون كامل

الإستغراق في التفكير الحيوي حول هذا الكون الرائع ونظامه البديع ومبدعه، ومبديه.

ولقد اشير- في هذه الآية- إلى الذكر أوّلًا، ثم إلى الفكر ثانياً، ويعني ذلك أنّ ذكر اللَّه وحده لا يكفي، إنّ الذكر إنّما يعطي ثماره القيّمة إذا كان مقترناً بالفكر، كما أنّ التفكر في خلق السماء والأرض هو الآخر لا يُجدي ولا يوصل إلى النتيجة المتوخاة ما لم تقترن عملية التفكر بعملية التذكر.

إنّ العقلاء يواجهون هذه الحقيقة الساطعة إلّاأن يقولوا بخشوع هذه الجملة: «رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ».

إنّ أصحاب العقول السليمة الواعية بعد أن يعترفوا بالهدفية في الخليقة يتذكرون أنفسهم فوراً ويسألون اللَّه التوفيق للقيام بها حتى يتجنّبوا عقابه ولهذا يقول: «فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ». ثم يقول: «رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ».

ويستفاد من هذه العبارات أنّ العقلاء يخافون من الخزي قبل أن يخافوا من نار جهنم، وهذا هو حال كل من يمتلك شخصية، فإنّ أشدّ عقوبات الآخرة على هؤلاء هو الخزي في محضر اللَّه وعند عباده.

على أنّ النقطة الجديرة بالاهتمام التي تنطوي عليها جملة «وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ» هي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 356

أنّ العقلاء بعد التعرف على الأهداف التربوية المطلوبة للإنسان يقفون على هذه الحقيقة وهي أنّ الوسيلة الوحيدة لنجاح الإنسان ونجاته هي أعماله وممارساته، ولهذا لا يمكن أن يكون للظالمين أي أنصار. ثم إنّ أصحاب العقول وذوي الألباب بعد التعرف على هدف الكون والغاية من الخلق ينتبهون إلى هذه النقطة، وهي أنّ هذا الطريق الوعر يجب أن لا يسلكه أحد بدون قيادة الهداة الإلهيين، ولهذا فهم يترصدون نداء من يدعوهم إلى الإيمان بصدق وإخلاص ويستجيبون لأوّل دعوة يسمعونها منه ويسرعون إليه، ولهذا يقولون في محضر ربهم:

«رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى

لِلْإِيمَانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبّكُمْ فَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ». أي ربنا الآن وقد آمنّا بكلّ وجودنا وإرادتنا، ولكننا يحيط بنا طوفان الغرائز المختلفة من كل جانب، فربّما ننزلق وربّما نزلّ ونرتكب معصية، ربنا فاغفر لنا زلتنا، واستر عثرتنا، وتوفّنا مع الأبرار الصالحين.

ثم إنّ هؤلاء العقلاء يطلبون من ربهم في نهاية المطاف، وبعد أن يسلكوا طريق الإيمان والتوحيد وإجابة دعوة الأنبياء والقيام بالواجبات الموجهة إليهم، أن يؤتيهم وعدهم على لسان الرسل فيقولون: «رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ». أي ربنا لقد وفينا بالتزاماتنا، فأتنا ما وعدتنا عن طريق أنبيائك ورسلك ولا تفضحنا ولا تلحق بنا الخزي يوم القيامة:

«وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيمَةِ إِنّكَ لَاتُخْلِفُ الْمِيعَادَ».

هذه الآيات الخمسة التي تعد من القمم القرآنية العظيمة التأثير، والتي امتزجت فيها مجموعة من معارف الدين بلحن لطيف وساحر من المناجاة والدعاء، فإذا هي نعمة سماوية تدغدغ المشاعر، وتثير الشعور، وتحرك ما غفا من العقل والضمير.

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قَاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: هذه الآية تعقيب على الآيات السابقة حول اولي الألباب

مختصر الامثل، ج 1، ص: 357

والعقول النّيرة ونتيجة أعمالهم. روي أنّ ام سلمة (وهي إحدى زوجات النبي صلى الله عليه و آله) قالت: يا رسول اللَّه! ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟ فأنزل اللَّه هذه الآية.

ولكن السبب المذكور لنزول الآية لا ينافي الإرتباط الذي أشرنا إليه

بين هذه الآية والآيات السابقة.

التّفسير

النتيجة الطيّبة لموقف أولي الألباب: في الآيات الخمس الآنفة استعرض القرآن الكريم موجزاً من إيمان اولي الألباب والعقول النّيرة، وفي هذه الآية يقول سبحانه:

«فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ».

ثم يضيف قائلًا: «أَنّى لَاأُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم». دفعاً للإشتباه والتوهّم الذي قد يسبق إلى الذهن بأنّه لا إرتباط بين الفوز والنجاة، وبين أعمال الإنسان ومواقفه.

ثم إنّه سبحانه يقول: «مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ». وهذا لأجل أن لا يتصور أحد أنّ هذا الوعد الإلهي يختص بطائفة معينة، لأنّ الجميع يعودون في أصل الخلقة إلى مصدر واحد «بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ» أي تولد بعضكم من بعض، النساء من الرجال، والرجال من النساء، فلا تفاوت في هذه المسألة إذن بين الذكر أو الانثى، فلماذا يكون تفاوت في الجزاء والثواب؟

من هنا يتضح مدى ابتعاد بعض المغفلين عن الحقيقة حيث يتّهمون الإسلام أنّه دين الرجال دون النساء.

ثم إنّه سبحانه يستنتج من ذلك إذ يقول: «فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيَاتِهِمْ». أي: إنّ اللَّه سبحانه كتب على نفسه أن يغفر لهؤلاء ذنوبهم، جاعلًا من هذه المشاق والمتاعب التي نالتهم كفارة لذنوبهم، ليطهروا من أدرانها تطهيراً.

ثم يقول تعالى: «وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ». مضافاً إلى غفران ذنوبهم والتكفير عنهم.

وهذا هو الثواب الإلهي لهم على ما قاموا به من تضحية وفداء «ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ». يعنى أنّ الأجر الإلهي والمثوبات الإلهية ليست قابلة للوصف للناس بشكل كامل في هذه الحياة، بل يكفي أن يعلموا بأنّه أفضل وأعلى من أي ثواب.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 358

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهَادُ (197)

لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في مشركي العرب، وكانوا يتجرون ويتنعمون بها، فقال بعض المسلمين: إنّ أعداء اللَّه في العيش الرخيّ، وقد هلكنا من الجوع! فنزلت الآية.

التّفسير

سؤال مزعج: السؤال الذي مرّ ذكره في سبب نزول هذه الآيات والذي كان يطرحه بعض المسلمين في عصر النبي يعتبر سؤالًا عاماً يطرح نفسه على الناس في كل زمان ومكان. فإنّهم يرون كيف يتنعم العصاة والطغاة، والفراعنة والفساق، ويرفلون في النعيم، ويعيشون الحياة الرفاهية ويقيسونه- غالباً- بحياة الشدة والعسرة التي يعيشها جماعة من المؤمنين، ويقولون متسائلين: كيف ينعم اولئك العصاة- مع ما هم عليه من الإثم والفساد والجريمة- بمثل تلك الحياة الرغيدة، بينما يعيش هؤلاء- مع ما هم عليه من الإيمان والتقوى والصلاح- في مثل هذه الشدة والعسرة، وربّما أدى هذا الأمر ببعض ضعفاء الإيمان إلى الشك والتردد؟!

ولو أنّنا درسنا هذا السؤال وحلّلنا عوامل الأمر وأسبابه في كلا الجانبين، لظهرت أجوبة كثيرة على هذا التساؤل، وقد أشارت هذه الآيات إلى بعضها، ويمكننا الوقوف على بعضها الآخر بشي ء من التأمل والفحص. تقول الآية الاولى من هذه الآيات: «لَايَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلدِ». والمخاطب في هذه الآية وإن كان شخص النبي الكريم صلى الله عليه و آله إلّاأنّ المراد هو عموم المسلمين.

ثم تقول: «مَتَاعٌ قَلِيلٌ». أي إنّ هذه النجاحات المادية التي يحرزها المشركون، وهذه الثروات الهائلة التي يحصلون عليها من كل سبيل ليست سوى متاع قليل ولذة عابرة.

«ثُمَّ مَأْوَيهُمُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ». فالملذات المادية تستعقب عواقب سيئة، فإنّ مسؤولية هذه الأموال والثروات ستجرّهم إلى مصير مشؤوم،

ذلك هو الجحيم الذي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 359

ستكون محطتهم الأخيرة ومآلهم وبئس المآل.

إنّ أكثر مظاهر تفوّق هؤلاء العصاة الطّغاة الظالمين محدودة الأبعاد، كما أنّ متاعب أكثر المؤمنين ومشاكلهم ومحنهم كذلك مؤقتة، ومحدودة أيضاً. ولهذا لا يمكن (أو لا تصح) المقارنة والمقايسة بين هؤلاء وهؤلاء لأنّ النجاحات المادية التي يحرزها بعض العصاة والفاسقين إنّما هي لكونهم لا يتقيّدون في جمع الثّروة بأي قيد أو شرط، فهم يجمعون المال من كل سبيل، سواء كان مشروعاً أم غير مشروع، حراماً كان أم حلالًا، بل إنّهم يجوّزون لأنفسهم اكتناز الثروة، في حين يتقيّد المؤمنون بمبادى ء الحق والعدالة في هذا المجال، فلا يسوّغون لِأنفسهم بأن يكتسبوا المال من أي طريق كان، وأي سبيل اتفق.

ثم إنّ اللَّه سبحانه بعد أن بيّن مصير الكفار في الآية السابقة، بيّن هنا- في الآية التي تلت تلك الآية- مصير المؤمنين، إذ قال: «لكِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا». أي إنّ الذين اتبعوا موازين الحق والعدل في الوصول إلى المكاسب المادية، أو أنّهم بسبب إيمانهم تعرضوا للحصار الاقتصادي والاجتماعي ولكنهم مع ذلك بقوا ملتزمين بالتقوى، فإنّه تعالى سيعوّضهم عن كل ذلك بجنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها «نُزُلًا مّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ».

وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: اختلفوا في نزولها فقيل: نزلت في النجاشي ملك الحبشة وذلك أنّه لمّا مات نعاه جبرائيل لرسول اللَّه في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول

اللَّه: «اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم». قالوا: ومن؟ قال: «النجاشي». فخرج رسول اللَّه إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة، فأبصر سرير النجاشي، وصلّى عليه. فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلّي على عِلْج نصراني حبشي لم يره قطّ وليس على دينه! فأنزل اللَّه هذه الآية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 360

التّفسير

الآية الحاضرة بعد أن وبّخت كثيراً من أهل الكتاب على كتمانهم لآيات اللَّه وطغيانهم وتمردهم في الآيات السابقة ذكرت هذه القلة المؤمنة، وبيّنت خمساً من صفاتها الممتازة هي: 1- «إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ». أي: إنّهم يؤمنون باللَّه عن طواعية وصدق.

2- «وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ». أي: يؤمنون بالقرآن.

3- «وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ». أي: إيمانهم بنبي الخاتم نابع من إيمانهم بكتبهم السماوية الواقعية التي بشّرت بهذا النبي ودعت إلى الإيمان به إذا ظهر، فهم يؤمنون بكتبهم.

4- «خَاشِعِينَ لِلَّهِ». أي: إنّهم مسلمون لأمر اللَّه وخاضعون لإرادته، وهذا التسليم والخضوع هو السبب الحقيقي لإيمانهم، وهو الذي فرّق بينهم وبين العصبيات الحمقاء، وحرّرهم من التعنت والاستكبار تجاه منطق الحق.

5- «لَايَشْتَرُونَ بَايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا». أي: إنّهم ليسوا مثل بعض أحبار اليهود الذين يحرّفون آيات اللَّه حفاظاً على مراكزهم وإبقاءاً على حاكميتهم على أقوامهم وجماعاتهم، وصولًا إلى بعض المكاسب المادية.

وسيكون لهذه الطائفة من أهل الكتاب بسبب هذه الصفات الإنسانية العالية و هذا الموقف الواضح الحي، أجرهم عند ربّهم «أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ».

«إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» فلا يتأخّر عن إعطاء الصالحين المؤمنين أجرهم، كما لا يبطى ء عن مجازاة المنحرفين والظالمين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صَابِرُوا وَ رَابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) هذه الآية هي آخر الآيات من سورة آل عمران وتحتوي على برنامج يتكون

من أربع نقاط لعامة المسلمين وهي لذلك تبدأ بتوجيه الخطاب إلى المؤمنين إذ تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا».

1- «اصْبِرُوا»: إنّ أوّل مادة في هذا البرنامج الذي يكفل عزّة المسلمين وإنتصارهم هو الاستقامة والثبات، والصبر في وجه الحوادث.

2- «وَصَابِرُوا»: وهي من المصابرة (من باب المفاعلة) بمعنى الصبر والاستقامة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 361

والثبات في مقابل صبر الآخرين وثباتهم واستقامتهم.

فإنّ القرآن يوصي المؤمنين أوّلًا بالصبر والاستقامة (التي تشمل كل ألوان الجهاد، كجهاد النفس، والاستقامة في مواجهة مشاكل الحياة)، ثم يوصي ثانياً بالصبر والثبات والاستقامة أمام الأعداء، وهذا بنفسه يفيد أنّ الامة ما لم تتغلب وتنتصر في جهادها مع النفس، وفي إصلاح ما بها من نقاط الضعف الداخلية يستحيل إنتصارها على الأعداء، وهذا يعني أنّ أكثر هزائمها أمام أعدائها إنّما هي بسبب ما لحق بها من هزائم في جبهة الجهاد مع النفس وما أصابها من إخفاقات في إصلاح نقاط الضعف التي تعاني منها.

3- «وَرَابِطُوا»: وهذه العبارة مشتقة من مادة «الرباط» وتعني ربط شي ء في مكان (كربط الخيل في مكان) و «المرابطة» بمعنى مراقبة الثغور وحراستها لأنّ فيها يربط الجنود أفراسهم.

وهذه العبارة أمر صريح إلى المسلمين بأن يكونوا على استعداد دائم لمواجهة الأعداء، وأن يكونوا في حالة تحفّز وتيقظ ومراقبة مستمرة لثغور البلاد الإسلامية وحدودها حتى لا يفاجؤا بهجمات العدو المباغتة.

4- «وَاتَّقُوا اللَّهَ»: وهذا بمثابة المظلة الواقية لما سبقها من التعاليم أنّه حثّ على التقوى.

«لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». وهكذا تختم الآية هذا البرنامح بذكر النتيجة التي تنتظر كل من يطبق هذا البرنامج.

«نهاية تفسير سورة آل عمران»

مختصر الامثل، ج 1، ص: 363

4. سورة النساء

هذه السورة تقع من حيث ترتيب النزول بعد سورة الممتحنة، لأنّ الترتيب الفعلي للسور القرآنية لا يطابق ترتيبها في النزول، بمعنى أنّ

كثيراً من السور التي نزلت في مكة تقع في الترتيب الحاضر في آخر القرآن الكريم وكثيراً من السور التي نزلت في المدينة تقع في أوائل القرآن.

إنّ هذه السورة تعتبر- من حيث عدد الكلمات والأحرف- أطول السور بعد سورة البقرة وتحتوي على (176) آية وتسمّى بسورة النساء نظراً لتضمنها أبحاثاً كثيرة وحديثاً مفصلًا حول أحكام «المرأة» وحقوقها.

محتوى السورة: هذه السورة نزلت في المدينة، بمعنى أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عندما كان مقبلًا على تأسيس حكومة إسلامية وتكوين مجتمع إنساني قويم، نزلت هذه السورة وهي تحمل جملة من القوانين التي لها أثر كبير في إصلاح المجتمع، وإيجاد البيئة الاجتماعية الصالحة النقية. إنّ المواضيع المختلفة التي تحدثت عنها هذه السّورة هي عبارة عن:

1- الدعوة إلى الإيمان والعدالة، وقطع العلاقات الودّية بالأعداء الألداء، والخصوم المعاندين.

2- ذكر بعض قصص الأمم الماضية لأجل التعرف على عواقب المجتمعات غير الصالحة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 364

3- العناية بالمحتاجين إلى الحماية مثل الأيتام، وبيان التعاليم اللازمة لصيانة حقوقهم.

4- قانون الإرث والتوارث بنحو طبيعي وعادل.

5- القوانين المتعلقة بالزواج والبرامج التي تصون العفاف العام.

6- القوانين العامة لحفظ الأموال العامة.

7- التعريف بأعداء المجتمع الإسلامي وتحذير المسلمين منهم.

8- الحكومة الإسلامية ووجوب طاعة قائد هذه الحكومة.

9- أهمية الهجرة ووجوبها.

فضيلة تلاوة هذه السورة: روي في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من قرأها فكأنّما تصدّق على كل مؤمن ورث ميراثاً، واعطي من الأجر كمن اشترى محرّراً».

ومن البيّن أنّ المقصود في هذه الرواية وأمثالها ليس هو القراءة المجردة، بل تلك القراءة التي تكون مقدمة للفهم والإدراك الذي هو بدوره مقدمة لتطبيق تعاليم هذه السورة في الحياة الفردية والاجتماعية.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) مكافحة التمييزات والإستثناءات: الخطاب في الآية الاولى من هذه السورة موجّه إلى كافة أفراد البشر، لأنّ محتويات هذه السورة نفس الامور التي يحتاج إليها كل أفراد البشر في حياتهم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ».

ثم إنّ الآية تدعو إلى التقوى باعتبارها أساساً لأيّ برنامج إصلاحي للمجتمع، فاداء الحقوق والتقسيم العادل للثروة، وحماية الأيتام، ورعاية الحقوق العائلية، وما شابه ذلك كلها من الامور التي لا تتحقق بدون التقوى، ولهذا تفتتح هذه السورة- التي تحتوي على جميع هذه الامور- بالدعوة إلى التزام التقوى: «اتَّقُوا رَبَّكُمُ».

وللتعريف باللَّه الذي يراقب كل أعمال الإنسان وتصرفاته اشير في الآية إلى واحدة من صفاته التي تعتبر أساساً للوحدة الاجتماعية في عالم البشر: «الَّذِى خَلَقَكُم مّن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ». والمراد من «نفس واحدة» هو أوّل إنسان قد سمّاه القرآن الكريم ب «آدم» ويعتبره أبا البشر.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 365

ثم إنّ قوله تعالى: «وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا». والمراد منها هو أنّ اللَّه سبحانه خلق زوجة آدم من جنسه (أي جنس البشر).

ووفقاً لرواية منقولة عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنّه كذّب بشدة فكرة خلق حواء من ضلع آدم، وصرح بأنّه خلقت من فضل الطينة التي خلق منها آدم.

قال سبحانه: «وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً». هذه العبارة يستفاد منها أنّ انتشار نسل آدم، وتكاثره قد تمّ عن طريق آدم وحواء فقط، أي بدون أن يكون للموجود الثالث أي دخالة في ذلك.

إنّ أهمية التقوى، ودورها في بناء قاعدة المجتمع الصالح سببت في أن تذكر مجدداً في نهاية الآية الحاضرة، وأن يدعو سبحانه

الناس إلى التزام التقوى، غاية الأمر أنّه تعالى أضاف إليها جملة اخرى إذ قال: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ». أي اتقوا اللَّه الذي هو عندكم عظيم، وتذكرون اسمه عندما تطلبون حقوقكم وحوائجكم فيما بينكم.

ثم إنّه يقول: «وَالْأَرْحَامَ». ومعناها: واتقوا الأرحام ولا تقطعوا صلاتكم بهم.

إنّ ذكر هذا الموضوع هنا يدلّ على الأهمية الفائقة التي يعطيها القرآن الكريم لمسألة الرحم.

ثم يختم الآية بقوله: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا». أي إنّه يحصي عليكم نيّاتكم وأعمالكم، ويعلم بها ويراها جميعاً، كما أنّه هو الذي يحفظكم أمام الحوادث.

والرقيب أصله من الترقب وهو الإنتظار من مكان مرتفع، ثم استعمل بمعنى الحافظ والحارس لأنّ الحراسة من لوازم الترقب والنظارة.

وَ آتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَ لَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (2)

سبب النّزول

في الدر المنثور: إنّ رجلًا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلمّا بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه و آله فنزلت الآية: «وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ».

التّفسير

لا ... للخيانة في أموال اليتامى: كثيراً ما يحدث في المجتمعات البشرية أن يفقد أطفال

مختصر الامثل، ج 1، ص: 366

صغار أباءهم بسبب الحوادث والنكبات والكوارث. وفي هذه الآية ثلاثة تعاليم بشأن أموال اليتامى: 1- «وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ». أي يجب أن تعطوا اليتامى عند رشدهم أموالهم المودعة عندكم، ويكون تصرفكم في هذه الأموال على نحو تصرف الأمين والناظر والوكيل لا على نحو تصرف المالك.

2- «وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ». أي لا تأخذوا أموالهم الطيبة وثرواتهم الجيدة وتضعوا بدلها من أموالكم الخبيثة والمغشوشة، وهذا التعليم يهدف إلى المنع مما قد يرتكبه بعض القيّمين على أموال اليتامى من أخذ الجيد من مال اليتيم

والرفيع منه وجعل الخسيس والردى ء مكانه، بحجة أنّ هذا التبديل يضمن مصلحة اليتيم، أو لأنّه لا تفاوت بين ماله والبديل، أو لأنّ بقاء مال اليتيم يؤول إلى التلف والضياع وغير ذلك من الحجج والمعاذير.

3- «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ». يعني لا تخلطوا أموال اليتامى مع أموالكم بحيث تكون نتيجتها تملّك الجميع، أو أنّ المراد لا تخلطوا الجيد من أموالهم بالردى ء من أموالكم بحيث تكون نتيجتها الإضرار باليتامى وضياع حقوقهم.

ثم إنّه سبحانه، لبيان أهمية هذا الموضوع والتأكيد عليه يختم الآية بقوله: «إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا». «الحوبة»: حقيقتها هي الحاجة التي تحمل صاحبها على إرتكاب الإثم وحيث إنّ العدوان على أموال اليتامى ينشأ- في الأغلب- من الحاجة، أو بحجة الحاجة استعمل القرآن الكريم مكان لفظة الإثم في هذه الآية لفظة «الحوب» للإشارة إلى هذه الحقيقة.

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَ ثُلَاثَ وَ رُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى أَنْ تَعُولُوا (3)

سبب النّزول

لقد نقل لهذه الآية- في تفسير القرطبي- سبب نزول خاص. قيل: هي اليتيمة تكون في حجر وليّها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليّها أن يتزوّجها من غير أن يُسقِط في صداقها فيُعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهنّ إلّاأن يُسقطوا لهنّ ويبلُغوا أعلى سنّتهنّ من الصّداق وامروا أن ينكحوا ما طاب من النساء سِواهنّ.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 367

التّفسير

يقول سبحانه في هذه الآية: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النّسَاءِ مَثْنَى وَثُلثَ وَرُبعَ». وقد جاء هذه الآية بعد ما جاء في الآية السابقة من الحث على حفظ أموال اليتامى من التلف وعدم التفريط

فيها، فجاءت هذه الآية لتنوه بحق آخر من حقوقهم، وهو هذه المرّة يتعلق باليتيمات خاصة.

يعنى إنّ عليكم أن تنصرفوا عن الزواج باليتيمات تجنباً من الجور عليهن، وأن تتزوجوا بالنساء اللاتي لا تسمح مكانتهنّ الاجتماعية والعائلية بأن تجوروا عليهن، وتظلموهن، ويجوز لكم أن تتزوجوا منهنّ بإثنتين أو ثلاث أو أربع، غاية ما في الأمر حيث إنّ الخطاب هنا موجّه إلى عامة المسلمين، عبر بالمثنى، والثلاث، والرباع فلا شك في أنّ تعدد الزوجات- بالشروط الخاصة- لا يشمل أكثر من أربع نساء.

ثم إنّه سبحانه عقّب على ذلك بقوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً». أي التزوج بأكثر من زوجة إنّما يجوز إذا أمكن مراعاة العدالة الكاملة بينهن، أمّا إذا خفتم أن لا تعدلوا بينهن، فاكتفوا بالزوجة الواحدة لكي لا تجوروا على أحد.

ثم يقول: «أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ». أي: يجوز أن تقتصروا على الإماء اللّاتي تملكونهن بدل الزوجة الثانية لأنهنّ أخفّ شروطاً.

ويقول: «ذلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا». أي: أنّ هذا العمل أحرى بأن يمنع من الظلم والجور، ويحفظكم من العدوان على الآخرين.

وَ آتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) «النّحلة»: في اللغة تعني العطية؛ و «صدقاتهن»: جمع الصداق وهي بمعنى المهر. والآية الحاضرة التي جاءت بعد البحث المطروح في الآية السابقة حول انتخاب الزوجة تتضمن إشارة إلى إحدى حقوق النساء المسلّمة وتؤكد قائلة: «وَءَاتُوا النّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً». أي:

أعطوا النساء كامل مهرهن الذي هو عطية من اللَّه لهنّ لأجل أن يكون للنساء حقوق أكثر في المجتمع وينجبر بهذا الأمر ما فيهن من ضعف جسمي نِسبي.

ثم بعد أن يأمر اللَّه سبحانه في مطلع الآية بأن تعطى للنساء مهورهن كاملة ودون نقصان حفظاً لحقوقهن، يعمد في

ذيل هذه الآية إلى بيان ما من شأنه إحترام مشاعر كلا الطرفين،

مختصر الامثل، ج 1، ص: 368

ومن شأنه تقوية أواصر الودّ والمحبة والعلاقة القلبية وكسب العواطف إذ يقول: «فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْ ءٍ مّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيًا مَّرِيًا». أي: لو تنازلت الزوجة عن شي ء من المهر ووهبته للزوج عن طيب نفسها جاز للزوج أكل الموهوب له، وإنّما أقرّ الإسلام هذا المبدأ لكيلا تكون البيئة العائلية والحياة الزوجية ميداناً لسلسلة من القوانين والمقررات الجافة، بل يكون مسرحاً للتلاقي العاطفي الإنساني، وتسود في هذه الحياة المحبة جنباً إلى جنب مع المقررات والأحكام الحقوقية المذكورة. الصّداق دعامة إجتماعية للمرأة: لما كانت المرأة- في العصر الجاهلي- لم تحظ بأية قيمة أو مكانة كان الرجل إذا تزوج امرأة ترك أمر صداقها- الذي هو حقها المسلم- إلى أوليائها، فكان أولياؤها يأخذون صداقها، ويعتبرونه حقّاً مسلماً لهم لا لها، وربّما جعلوا التزوج بامرأة صداقاً لإمرأة اخرى، مثل أن يزوج الرجل أخته بشخص على أن يزوج ذلك الشخص أخته بذلك الرجل، وكان هذا هو صداق الزوجتين.

ولقد أبطل الإسلام كل هذه التقاليد والأعراف الظالمة، واعتبر الصداق حقّاً مسلماً خاصاً بالمرأة، وأوصى الرجال مرّات عديدة وفي آيات الكتاب العزيز برعاية هذا الحق للمرأة.

وأمّا تفسير البعض لمسألة المهر بنحو خاطى ء، واعتبار الصداق أنّه من قبيل ثمن المرأة فلا يرتبط بالقوانين الإسلامية، لأنّ الإسلام لا يعطي للصداق الذي يقدمه الرجل إلى المرأة صفة الثمن كما لا يعطي المرأة صفة البضاعة القابلة للبيع والشراء، وأفضل دليل على ذلك هو صيغة عقد الزواج الذي يعتبر فيه الرجل والمرأة كركنين أساسيين في الرابطة الزوجية، في حين يقع الصداق والمهر على هامش هذا العقد، ويعتبر أمراً إضافياً، بدليل صحّة العقد إذا لم

يرد اسم المهر فيه، و ليس كذلك في صيغة البيع والشراء وغير ذلك من المعاملات المالية إذ بدون ذكر الثمن تبطل هذه المعاملات.

من كل ما قيل نستنتج أنّ المهر بمثابة جبران للخسارة اللاحقة بالمرأة، وبمثابة الدعامة القوية التي تساعد على احترام حقوق المرأة، لا أنّه ثمن المرأة، ولعل التعبير بالنّحلة التي هي بمعنى العطية في الآية إشارة إلى هذه النقطة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 369

وَ لَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (5) وَ ابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَ لَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَ بِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) الآيات الحاضرة تكملة للأبحاث المرتبطة باليتامى، التي مرّت في الآيات السابقة. يقول اللَّه سبحانه: «وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ». بل انتظروا رشدهم ونضجهم في المسائل الاقتصادية لكي لا تتعرض أموالكم للتلف والفناء.

والمراد من السّفه في الآية الحاضرة هو عدم الرشد اللازم في الامور الإقتصادية بحيث لا يستطيع الشخص من تدبير شؤونه الاقتصادية وإصلاح ماله على الوجه الصحيح، ولا يتمكن من ضمان منافعه في المبادلات والمعاملات المالية، ويدل على هذا المعنى ما جاء في الآية الثانية إذ يقول سبحانه: «فَإِن ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ».

إنّ الآية الحاضرة وإن كانت تبحث حول اليتامى، لكنها تتضمن حكماً كلياً وقانوناً عاماً لجميع الموارد، وهو أنّه لا يجوز لأحد مطلقاً أن يعطي أموال من يتولى أمره، أو ترتبط به حياته بنوع من الإرتباط، إليه إذا كان سفيهاً غير رشيد.

ثم إنّ القرآن الكريم

يصف الأموال المذكورة في مطلع الآية الحاضرة بقوله: «الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا». هو تعبير جميل ورائع جدّاً عن الأموال والثروات، فهي قوام حياة الناس والمجتمع، وبدونها لا يمكن للمجتمع الوقوف على قدميه، فلا يصحّ إعطاؤها إلى السفهاء والمسرفين الذين لا يعرفون إصلاحها.

ومن هذا التعبير نعرف جيداً ما يوليه الإسلام من الاهتمام بالامور والشؤون الاقتصادية والمالية، وعلى العكس نقرأ في الإنجيل الحاضر: «فقال يسوع لتلاميذه: الحق أقول لكم أنّه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات» «1».

______________________________

(1) إنجيل متى الإصحاح/ 19- 23.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 370

في حين يرى الإسلام أنّ الامة الفقيرة لا تستطيع أبداً الوقوف على قدميها. وأنّه لعجيب أن نرى تلك الطائفة بلغت إلى ما بلغت من المراتب في عالمنا الراهن في حقول التقدم الاقتصادي مع ما هم عليه من التعاليم الخاطئة، في حين نعاني من هذا الوضع المأسوي مع ما نملك من التعاليم الحيوية العظيمة. غير أنّه لا داعي للعجب، فهم تركوا تلك الخرافات والأضاليل فوصلوا إلى ما وصلوا، بينما تركنا نحن هذه التعاليم الراقية فوقعنا في هذه الحيرة، والتخلف.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يأمر- في شأن اليتامى- بأمرين مهمين هما:

أوّلًا: رزق اليتامى وإكسائهم من أموالهم حتى يبلغوا سنّ الرشد إذ يقول: «وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ».

ثانياً: مخاطبة اليتامى والتكلم معهم بقول طيب ورقيق إذ قال سبحانه: «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا». وذلك لإزالة ما يشعر به اليتامى من نقصان روحي وعُقد نفسية، ويساعدوا بذلك على ترشيدهم وبلوغهم حد الرشد العقلي، وبهذا يكون بناء شخصية اليتيم وترشيده عقلياً من وظائف الأولياء ومسؤولياتهم أيضاً.

ها هنا تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم، إذ يقول سبحانه: «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَ». فإذا بلغوا سنّ الرشد الذي آنستم فيه

قدرتهم على إدارة أموالهم والتصرف فيها بنحو معقول فأعطوهم أموالهم: «فَإِن ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ» «1».

ثم إنّه سبحانه قال: «وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا». وهو تأكيد آخر للأولياء بأن لا يسلموا الأموال إلى اليتامى قبل أن يكبروا بأن يحافظوا على أموال اليتامى ولا يتلفوها أبداً.

ثم إنّه تعالى يردف هذا التأكيد بقوله: «وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ». وبهذا أذن اللَّه تعالى للأولياء بأن يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى لقاء ما يتحملون من أتعاب في حفظها، وحراستها، على أن يراعوا جانب العدل والإنصاف فيما يأخذونه بعنوان الاجرة، هذا إذا كان الولي فقيراً، أما إذا كان غنياً فلا يأخذ من مال اليتيم

______________________________

(1) «الإيناس»: بمعنى المشاهدة والرؤية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 371

شيئاً أبداً.

ثم يقول سبحانه: «فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ». لكي لا يبقى أي مجال للإتهام والتنازع، وهذا هو آخر حكم في شأن الأولياء واليتامى جاء ذكره في هذه الآية.

واعلموا أنّ الحسيب الواقعي هو اللَّه تعالى، والأهم من ذلك هو أنّ حسابكم جميعاً عنده ولا يخفى عليه شي ء أبداً ولا يفوته صغير ولا كبير فإذا بدرت منكم خيانة خفيت على الشهود فإنّه سبحانه سيحصيها عليكم، وسوف يحاسبكم عليها ويؤاخذكم بها: «وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا».

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7)

سبب النّزول

في الدر المنثور عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت وترك ابنتين وابنا صغيراً فجاء ابنا عمّه وهما عصبته فأخذا ميراثه كله فقالت امرأته لهما تزوجا بهما وكان

بهما دمامة فأبيا فأتت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت يا رسول اللَّه توفى أوس وترك ابنا صغيراً وابنتين فجاء ابنا عمه خالد وعرفطة فأخذا ميراثه فقلت لهما تزوجا ابنتيه فأبيا فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما أدري ما أقول، فنزلت الآية.

التّفسير

خطوة اخرى لحفظ حقوق المرأة: هذه الآية مكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة، لأنّ العرب الجاهليين كانوا- حسب تقاليدهم وأعرافهم الظالمة- يمنعون النساء والصغار من حق الإرث، ولا يسهمون لهم من المواريث، فأبطلت هذه الآية هذا التقليد الخاطى ء الظالم إذ قال سبحانه: «لِلرّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ».

ثم قال سبحانه في ختام هذه الآية بغية التأكيد على الموضوع: «نَصِيبًا مَّفْرُوضًا». حتى يقطع الطريق على كل تشكيك أو ترديد في هذا المجال.

وَ إِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (8)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 372

حكم أخلاقي: نزلت الآية الحاضرة بعد قانون تقسيم الإرث ويتضمن محتوى هذه الآية حكماً أخلاقياً إستحبابياً في شأن طبقات محجوبة عن الإرث بسبب وجود طبقات أقرب منها إلى المورث.

إنّ كلمتي «اليتامى» و «المساكين» وإن ذكرتا بنحو مطلق في هذه الآية، غير أنّ الظاهر هو أنّ المراد منهما هم اليتامى والمساكين من قربى الميت.

ثم إنّه سبحانه يختم هذه الآية بدستور أخلاقي إذ يقول: «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا». يعني أنّه مضافاً إلى تقديم مساعدة مادية إلى هؤلاء اشفعوا ذلك بموقف أخلاقي واستفيدوا من المعين الإنساني لكسب مودتهم، وحتى لا يبقى في قلوبهم أي شعور عدائي تجاهكم، وهذا الدستور علامة اخرى ودليل آخر على أنّ الأمر بإعطاء شي ء من

الميراث إلى اليتامى والمساكين إنّما هو على نحو الندب لا الوجوب.

وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (9) دعوة إلى العطف على اليتامى: يشير القرآن الكريم- بهدف إثارة مشاعر العطف والإشفاق لدى الناس بالنسبة إلى اليتامى- إلى حقيقة يغفل عنها الناس أحياناً، وتلك الحقيقة هي: إنّ على الإنسان أن يعامل يتامى الآخرين كما يحبّ أن يعامل الناس يتاماه.

وعلى هذا يكون مفهوم قوله سبحانه: «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ». هو أنّ الذين يخافون على مستقبل أولادهم الصغار عليهم أن يخافوا مغبة الخيانة في شؤون اليتامى ويخافوا مغبة إيذائهم.

وأساساً: إنّ القضايا الإجتماعية تنتقل في شكل سنّة من السنن- من اليوم إلى الغد، ومن الغد إلى المستقبل البعيد، فالذين يُروّجون في المجامع سنّة ظالمة مثل إيذاء اليتامى فإنّ ذلك سيكون سبباً لسريان هذه السنّة على أولادهم وأبنائهم أيضاً، وعلى هذا لا يكون مثل هذا الشخص قد آذى يتامى الآخرين وورثتهم فقط، بل فتح باب الظلم على أولاده ويتاماه أيضاً. لهذا وجب أن يتجنّب أولياء اليتامى مخالفة الأحكام الإلهية، ويتقوا اللَّه في اليتامى ويقولوا لهم قولًا عدلًا موافقاً للشرع والحق، قولًا ممزوجاً بالعواطف الإنسانية والمشاعر

مختصر الامثل، ج 1، ص: 373

الأخوية، لكي يندمل بذلك ما في قلوب اولئك من الجراح، وينجبر ما في أفئدتهم من الكسر، وإلى هذا يشير قوله سبحانه: «فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا».

إنّ هذا التعليم الإسلامي إشارة إلى ناحية نفسية في مجال تربية اليتامى وهي: إنّ حاجة الطفل اليتيم لا تنحصر في الطعام والكساء، بل- مضافاً إلى الرعاية الجسدية- أن يحظى بالرعاية الروحية والعناية العاطفية، وإلّا نشأ قاسياً مهزوماً، عديم الشخصية، بل وحاقداً

خطيراً.

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) الوجه الحقيقي لأفعال البشر: ابتدأت هذه السورة بعبارات شديدة النكير على من يتصرف في أموال اليتامى تصرفاً غير مشروع وغير صحيح، والآية الحاضرة هي أوضح هذه العبارات. تقول هذه الآية: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا».

ثم إنّه سبحانه يقول في بيان نتيجة أكل أموال اليتامى: «وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا».

ويستفاد من هذه الآية أنّ لأعمالنا مضافاً إلى وجهها الظاهري وجهاً واقعياً أيضاً، وجهاً مستوراً عنّا في هذه الدنيا، لا نراه بعيوننا هنا، ولكنه يظهر في العالم الآخر، وهذا الأمر هو ما يشكل مسألة تجسم الأعمال المطروحة في المعتقدات الإسلامية.

إنّ القرآن يصرح في هذه الآية بأنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً وجوراً، وإن كان الوجه الظاهري لفعلهم هذا هو الأكل من الأطعمة اللذيذة الملونة، ولكن الوجه الواقعي لهذه الأغذية هو النار المحرقة الملتهبة، وهذا الوجه هو الذي يظهر ويتجلّى على حقيقته في عالم الآخرة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 374

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَ إِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَ لَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ

وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري أنّه قال: مرضت فعادني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاغمي عليّ، فدعا بماء فتوضأ ثم صبّه عليّ فأفقت، فقلت: يا رسول اللَّه! كيف أصنع في مالي؟ فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فنزلت آية المواريث فيّ.

التّفسير

قال اللَّه تعالى في الآية الاولى من هذه الآيات: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ». وهو بذلك يشير إلى حكم الطبقة الاولى من الورثة (وهم الأولاد والآباء والامهات).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 375

وهذا نوع التأكيد على توريث النساء ومكافحة للعادة الجاهلية المعتدية القاضية بحرمانهن من الإرث والميراث، حرماناً كاملًا.

ثم يقول سبحانه وتعالى: «فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ». أي لو زادت بنات الميت على اثنتين فلهنّ الثلثان أي قسّم الثلثان بينهن.

ثم قال: «وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ». أي لو كانت البنت واحدة ورثت النصف من التركة.

لماذا يرث الرجل ضعف المرأة؟ إذا راجعنا التراث الإسلامي حيث إنّ هذا السؤال نفسه قد طرح منذ بداية الإسلام وخالج بعض الأذهان.

في الكافي: علي بن إبراهيم عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك كيف صار الرجل إذا مات وولده من القرابة سواء ترث النساء نصف

ميراث الرجال وهنّ أضعف من الرجال وأقلّ حيلة؟ فقال: «لأنّ اللَّه عز وجل فضّل الرجال على النساء بدرجة ولأنّ النساء يرجعن عيالًا على الرجال».

وأمّا ميراث الآباء والامهات الذين هم من الطبقة الاولى، وفي مصاف الأبناء أيضاً، فإنّ له كما ذكرت الآية الحاضرة ثلاث حالات هي:

الحالة الاولى: إنّ الشخص المتوفى إن كان له ولد أو أولاد، ورث كل من الأب والام السدس: «وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ».

الحالة الثانية: إن لم يكن للمتوفى ولد، وانحصر ورثته في الأب والام، ورثت الام ثلث ما ترك، يقول سبحانه: «فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمّهِ الثُّلُثُ».

الحالة الثالثة: إذا ترك الميت أباً وامّاً واخوة من أبويه أو من أبيه فقط، ولم يترك أولاداً، ففي مثل هذه الحالة ينزل سهم الام إلى السدس، وذلك لأنّ الأخوة يحجبون الام عن إرث المقدار الزائد عن السدس وإن كانوا لا يرثون، ولهذا يسمى أخوة الميت بالحاجب، وهذا ما يعنيه قول اللَّه سبحانه: «فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمّهِ السُّدُسُ».

ثم إنّ اللَّه سبحانه يقول: «مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ». فلابد من تنفيذ ما أوصى به الميت من تركته، أو أداء ما عليه من دين أوّلًا، ثم تقسيم البقية بين الورثة.

(وقد ذكرنا في باب الوصية أنّ لكل أحد أن يوصي بامور في مجال الثلث الخاص به فقط، فلا يصح أن يوصي بما زاد عن ذلك إلّاأن يأذن الورثة بذلك).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 376

ثم قال سبحانه: «ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَاتَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا». وهذه العبارة تفيد أنّ قانون الإرث المذكور قد ارسي على أساس متين من المصالح الواقعية، وأنّ تشخيص هذه المصالح بيد اللَّه.

ولأجل أن يتأكد كل ما ذكر

من الامور ويتخذ صفة القانون الذي لا يحتمل الترديد، ولا يكون فيه للناس أي مجال نقاش، يقول سبحانه: «فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا». وبذلك يقطع الطريق على أي نقاش في مجال القوانين المتعلقة بالأسهم في الإرث.

سهم الأزواج بعضهم من بعض: في الآية السابقة أشير إلى سهم الأولاد والآباء والامهات وفي الآية التي تليها يقول اللَّه سبحانه: «وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ». ويشير سبحانه إلى كيفية إرث الزوجين بعضهما من بعض، فإنّ الزوج يرث نصف ما تتركه الزوجة هذا إذا لم يكن للزوجة ولد، فإن كان لها ولد أو أولاد (ولو من زوج آخر) ورث الزوج ربع ما تتركه فقط، وإلى هذا يشير تعالى في نفس الآية: «فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ».

على أنّ هذا التقسيم يجب أن يتمّ بعد تنفيذ وصايا المتوفاة، أو تسديد ما عليها من ديون كما يقول سبحانه: «مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ».

ويكون لها الربع إن لم يكن للزوج الميت ولد لقوله سبحانه: «وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ».

وأمّا إرث الزوجة مما يتركه الزوج، فإذا كان للزوج أولاد (وإن كانوا من زوجة اخرى) ورثت الزوجة الثمن لقوله سبحانه: «فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم».

على أنّ هذا التقسيم يجب أن يتمّ أيضاً من بعد تنفيذ وصايا الميت أو تسديد ديونه من أصل التركة: «مّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ».

ثم إنّه سبحانه بعد أن يذكر سهم الأزواج بعضهم من بعض، يعمد إلى ذكر أسهم اخوة الميت وأخواته فيقول: «وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَللَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ». أي إن مات

رجل ولم يترك إلّاأخاً أو اختاً، أو ماتت امرأة ولم تترك سوى أخ أو اخت، يورث كل منهما السدس من التركة، هذا إذا كان الوارث أخاً واحداً واختاً واحدة.

أمّا إذا كانوا أكثر من واحد ورث الجميع ثلثاً واحداً، أي قسم مجموع الثلث بينهم: «فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِى الثُّلُثِ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 377

ثم أضاف القرآن: «مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ». أي: تكون قسمة الميراث هكذا بعد أن ينفذ الورثة من التركة ما أوصى به المتوفى، أو يسددوا ما عليه من ديون، ثم قال:

«غَيْرَ مُضَارٍّ». أي: فيما إذا لم يكن ما أوصى الميت بصرفه من الميراث وكذا الدين مضرّاً بالورثة.

ثم إنّه سبحانه للتأكيد على هذا الحكم يقول: «وَصِيَّةً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ». أي إنّ هذا المطلب وصية من اللَّه يجب أن تحترموها، لأنّه العالم بمصلحتكم وخيركم، فهو أمركم بهذا عن حكمة، كما أنّه تعالى عالم بنيات الأوصياء، هذا مع أنّه تعالى حليم لا يعاقب العصاة فوراً، ولا يأخذهم بظلمهم بسرعة.

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَ لَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) قد بدأت الآية الاولى من هاتين الآيتين بالإشارة إلى قوانين الإرث التي مرّت في الآيات السابقة بلفظة «تلك» إذ قال سبحانه: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ». أي تلك حدود اللَّه التي لا يجوز تجاوزها وتجاهلها لأحد، فإنّ من تعدى هذه الحدود كان عاصياً مذنباً.

ثم بعد الإشارة إلى هذا القسم من حدود اللَّه يقول سبحانه: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا

الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا». وهو بذلك يشير إلى النتيجة الاخروية للالتزام بحدود اللَّه واحترامها. ثم يصف هذه النتيجة الاخروية بقوله: «وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ». ثم يذكر سبحانه ما يقابل هذا المصير في صورة المعصية، وتجاوز الحدود الإلهية إذ يقول: «وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا».

وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَ اللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَ أَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 378

الآية الاولى- من هاتين الآيتين- تشير إلى جزاء المرأة المحصنة التي تزني. فتقول:

«وَالتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ». وعلى هذا يكون جزاء المحصنة التي ترتكب الزنا في هذه الآية هو الحبس الأبدي.

ولكنه تعالى أردف هذا الحكم بقوله: «أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا». فإذن لابدّ أن يستمر هذا الحبس في حقهن إلى الأبد حتى يأتي أجلهن، أو يعين لهن قانون جديد من جانب اللَّه سبحانه.

ويستفاد من هذه العبارة أنّ هذا الحكم (أي: الحبس الأبدي للمحصنة الزانية) حكم مؤقت، وحكم آخر في المستقبل (وبعد أن تتهيأ الظروف والأفكار لمثل ذلك).

ثم إنّ اللَّه سبحانه يذكر بعد ذلك حكم الزنا عن غير إحصان إذ يقول: «وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَاذُوهُمَا». ويقصد أنّ الرجل غير المحصن أو المرأة غير المحصنة إن أتيا بفاحشة الزنا فجزاؤهما أن يؤذيا.

إنّ الحكم المذكور في هذه الآية (أي الإيذاء) عقوبة كلية، يمكن أن تكون الآية الثانية من سورة النور التي تذكر أنّ حد الزنا هو (100) جلدة لكل واحد من الزاني والزانية تفسيراً وتوضيحاً لهذه

الآية وتعييناً للحكم الوارد فيها.

ثم إنّ اللَّه سبحانه بعد ذكر هذا الحكم يشير إلى مسألة التوبة والعفو عن مثل هؤلاء العصاة، فيقول: «فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا».

هذا ويستفاد من هذا الحكم- أيضاً- أنّه يجب أن لا يعير العصاة الذين رجعوا إلى جادة الصواب وتابوا وأصلحوا على أفعالهم القبيحة السابقة، وأن لا يلاموا على ذنوبهم الغابرة.

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 379

في الآية السابقة بيّن اللَّه تعالى بصراحة مسألة سقوط العقوبة عن مرتكبي الفاحشة ومعصية الزنا إذا تابوا وأصلحوا، وفي هذه الآية يشير سبحانه إلى شرائط قبول التوبة إذ يقول: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ».

والمراد من «الجهالة» في الآية المبحوثة هنا هو طغيان الغرائز، وسيطرة الأهواء الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإيمان، وفي هذه الصورة وإن لم يفقد المرء العلم بالمعصية، إلّاأنّه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة، ينتفي دور العلم ويفقد مفعوله وأثره، وفقدان العلم لأثره مساو للجهل عملًا.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يشير إلى شرط آخر من شروط قبول التوبة إذ يقول: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ».

ثم إنّه سبحانه- بعد ذكر شرائط التوبة- يقول: «فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا». مشيراً بذلك إلى نتيجة التوبة التي توفرت فيها الشروط المذكورة.

ثم يقول تعالى: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ النَ». وهو إشارة إلى

من لا تقبل توبته.

وأمّا الطائفة الثانية الذين لا تقبل توبتهم فهم الذين يموتون كفاراً، إذ يقول سبحانه:

«وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ». يعني إنّ الذين يتوبون من ذنوبهم حال العافية والإيمان ولكنهم يموتون وهم كفار لا تقبل توبتهم ولا يكون لها أي أثر.

ثم يقول سبحانه في ختام الآية: «أُولئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَ لَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)

سبب النّزول

روي في مجمع البيان عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام: «نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده، لا حاجة له إليها وينتظر موتها حتى يرثها». أي فيأخذ أموالها من بعد وفاتها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 380

مختصر الامثل ج 1 419

وعن ابن عباس: نزلت في الرجل تكون تحته امرأة، يكره صحبتها، ولها عليه مهر، فيطول عليها، ويضارّها لتفتدي بالمهر، فنهوا عن ذلك.

التّفسير

الدفاع عن حقوق المرأة: في هذه الآية بالذات تشير إلى بعض العادات الجاهلية المقيتة وحذّر اللَّه سبحانه فيها المسلمين من التورّط بها، وتلك هي:

1- لقد كانت إحدى العادات الظالمة في الجاهلية أنّ الرجل كان يتزوج بالنساء الغنيات ذوات الشرف والمقام اللّاتي لم يكن يحظين بالجمال، ثم كانوا يذرونهن هكذا فلا يطلقونهن، ولا يعاملونهن كالزوجات، بانتظار أن يمتن فيرثوا أموالهن. تقول الآية الحاضرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَايَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النّسَاءَ كَرْهًا». وبهذا استنكر الإسلام هذه العادة السيئة.

2- فقد كان من عادات الجاهليين المقيتة أيضاً أنّهم كانوا يضغطون على الزوجات بشتى الوسائل والطرق ليتخلين عن مهورهن، ويقبلن بالطلاق، وكانت هذه العادة تتبع إذا كان المهر

ثقيلًا باهظاً، فمنعت الآية الحاضرة من هذا العمل بقولها: «وَلَا تَعْضِلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ». أي: من المهر.

ولكن ثمّة استثناء لهذا الحكم قد اشير إليه في قوله تعالى في نفس الآية: «إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ». و «الفاحشة»: هي أن ترتكب الزوجة الزنا وتخون بذلك زوجها، ففي هذه الحالة يجوز للرجل أن يضغط على زوجته لتتنازل عن مهرها، وتهبه له ويطلقها عند ذلك.

والمقصود من الفاحشة المبينة كل سلوك ناشز مع الزوج.

3- عاشروهن بالمعاشرة الحسنة، وهذا هو الشي ء الذي يوصي به سبحانه الأزواج في هذه الآية بقوله: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ». أي: عاشروهن بالعشرة الإنسانية التي تليق بالزوجة والمرأة، ثم عقب على ذلك بقوله: «فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا». إنّ للخير الكثير في الآية الذي يبشّر به الأزواج الذين يدارون زوجاتهم مفهوماً واسعاً، ومن مصاديقه الواضحة الأولاد الصالحون والأبناء الكرام.

وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (20) وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (21)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 381

سبب النّزول

في تفسير الصافي: كان الرجل إذا أراد جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجأها إلى الإفتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج الجديدة فنهوا عن ذلك.

التّفسير

نزلت الآيتان الحاضرتان لتحميا قسماً آخر من حقوق المرأة، فقد جاءت الآية الاولى تقول: «وَإِن أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَيهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيًا».

فهي تخبر المسلمين- إذا عزموا على تطليق الزوجة واختيار زوجة اخرى- أنّه لا يحق لهم أبداً أن يبخسوا من صداق الزوجة الاولى شيئاً أو يستردوا شيئاً من الصداق إذا كانوا

قد سلّموه إلى الزوجة مهما كان مقداره كثيراً وثقيلًا.

ثم إنّ الآية تشير في مقطعها الأخير إلى الاسلوب السائد في العهد الجاهلي حيث كان الرجل يتّهم زوجته بالخيانة الزوجية لحبس الصداق عنها، إذ تقول في استفهام إنكاري:

«أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا». أي: هل تأخذون صداق الزوجة عن طريق بهتهنّ، واتهامهنّ بالفاحشة، وهو إثم واضح ومعصية بيّنة، وهذا يعني أنّ أصل حبس الصداق عن الزوجة ظلم ومعصية، والتوسل لذلك بمثل هذه الوسيلة الأثيمة معصية اخرى واضحة، وظلم آخر بيّن.

ثم أضاف سبحانه بهدف تحريك العواطف الإنسانية لدى الرجال بأنّه كيف يحق لكم ذلك، وقد عشتم مع الزوجة الاولى زمناً طويلًا، وكانت لكم معهن حياة مشتركة، واختليتم بهن واستمتع كل واحد منكما بالآخر كما لو كنتما روحاً واحدة في جسمين، أفبعد ما كانت بينكما هذه العلاقة الزوجية الحميمة يحق لكم- أيّها الأزواج- أن تبخسوا حق الزوجة الاولى؟ وقد لخصّ سبحانه كل هذه بقوله: «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ» «1». أفيصح أن تفعلوا ذلك وكأنّكما غريبان لا رباط بينكما ولا علاقة؟

ثم إنّه سبحانه تعالى: «وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقًا غَلِيظًا». أي: كيف تبخسون الزوجة حقها في الصداق وقد أخذت منكم- لدى عقد الزواج بينكما- ميثاقاً غليظاً وعهداً موثقاً بأن

______________________________

(1) «الإفضاء»: أصله من الفضاء، وهو السعة، وبذلك يكون معنى الإفضاء إيجاد السعة، لأنّ الإنسان بسبب الإتصال والتعايش مع شخص آخر يكون وكأنّه وسع دائرة وجوده، ولهذا استعمل الإفضاء بمعنى الملامسة والإتّصال.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 382

تؤدوا إليهن حقوقهن كاملة، فكيف تتنكرون لهذا الميثاق المقدس وهذا العهد المأخوذ منكم حالة العقد؟

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه، فقالت: إنّي أعدك ولداً وأنت

من صالحي قومك، ولكني آتي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأستأمره فأتته فأخبرته، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ارجعي إلى بيتك». فأنزل اللَّه هذه الآية.

التّفسير

هذه الآية تبطل عادة سيئة من العادات الجاهلية المقيتة فتقول: «وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مّنَ النّسَاءِ». أي لا تنكحوا زوجة أبيكم.

ولكن بما أنّ القانون لا يشمل ما سبق من الحالات الواقعة قبل نزول القانون عقب سبحانه على ذلك النهي بقوله: «إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ».

ثم إنّه سبحانه لتأكيد هذا النهي يستخدم ثلاث عبارات شديدة حول هذا النوع من الزواج والنكاح إذ يقول أوّلًا: «إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً». ثم يضيف قائلًا: «وَمَقْتًا». أي عملًا منفراً لا تقبله العقول، ولا تستسيغه الطباع البشرية السليمة، بل تمقته وتكرهه، ثم يختم ذلك بقوله: «وَسَاءَ سَبِيلًا». أي أنّها عادة خبيثة وسلوك شائن.

حتى أننا لنقرأ في التاريخ أنّ الناس في الجاهلية كانوا يكرهون هذا النوع من النكاح ويصفونه بالمقت، ويسمّون ما ينتج منه من ولد بالمقيت، أي الأولاد المبغوضين.

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَ بَنَاتُكُمْ وَ أَخَوَاتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خَالاتُكُمْ وَ بَنَاتُ الْأَخِ وَ بَنَاتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَ أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَ رَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 383

تحريم الزواج بالمحارم: في هذه الآية أشار سبحانه إلى النساء اللاتي يحرم نكاحهن والزواج بهن، ويمكن أن تنشأ هذه الحرمة من ثلاث طرق أو أسباب وهي:

1- الولادة التي يعبّر عنها بالإرتباط النسبي.

2- الزواج الذي

يعبّر عنه بالإرتباط السببي.

3- الرضاع الذي يعبّر عنه بالإرتباط الرضاعي.

وقد أشار في البداية إلى النساء المحرمات بواسطة النسب وهنّ سبع طوائف إذ يقول:

«حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ». والمراد من «الام» ليس هي التي يتولد منها الإنسان دونما واسطة فقط، بل يشمل الجدّة من ناحية الأب ومن ناحية الام وإن علون، كما أنّ المراد من البنت ليس هو البنت بلا واسطة، بل تشمل بنت البنت وبنت الابن وأولادهما وإن نزلن، وهكذا الحال في الطوائف الخمس الاخرى.

ثم يشير اللَّه سبحانه إلى المحارم الرضاعية وتقول: «وَأُمَّهَاتُكُمُ التِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مّنَ الرَّضَاعَةِ».

ثم إنّ اللَّه سبحانه يشير- في المرحلة الأخيرة- إلى الطائفة الثالثة من النسوة اللاتي يحرم الزواج بهن ويذكرهن ضمن عدة عناوين:

1- «وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ». يعني أنّ المرأة بمجرد أن تتزوج برجل ويجري عقد النكاح بينهما تحرم امها وام امها وإن علون على ذلك الرجل.

2- «وَرَبَائِبُكُمُ التِى فِى حُجُورِكُم مّن نِسَائِكُمُ التِى دَخَلْتُم بِهِنَّ». يعني أنّ مجرّد العقد على إمرأة لا يوجب حرمة نكاح بناتها من زوج آخر على زوجها الثاني، بل يشترط أن يدخل بها أيضاً مضافاً على العقد عليها.

ثم يضيف سبحانه لتأكيد هذا المطلب عقيب هذا القسم قائلًا: «فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ». أي: إذا لم تدخلوا بام الرّبيبة جاز لكم نكاح بناتهن.

3- «وَحَلِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلبِكُمْ» «1». والمراد من حلائل، الأبناء زوجاتهم؛ وأمّا

______________________________

(1) «الحلائل»: جمع الحليلة، وهي من مادة حل، وهي بمعنى المحللة، أي المرأة التي تحل للإنسان، أو من مادة حلول بمعنى المرأة التي تسكن مع الرجل في مكان واحد وتكون بينهما علاقة جنسية، لأنّ كل واحد منهما يحل مع الآخر في الفراش.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 384

التعبير ب

«من أصلابكم» فهو لأجل أنّ هذه الآية تبطل عادة من العادات الخاطئة في الجاهلية، حيث كان المتعارف في ذلك العهد أن يتبنى الرجل شخصاً ثم يعطي للشخص المتبني كل أحكام الولد الحقيقي، ولهذا كانوا لا يتزوجون بزوجات هذا النوع من الأبناء كما لا يتزوجون بزوجة الولد الحقيقي تماماً، والتبني والأحكام المرتبة عليها لا أساس لها في نظر الإسلام. 4- «وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ». يعني أنّه يحرم الجمع بين الاختين في العقد.

وبما إنّ الزواج باختين في وقت واحد كان عادة جارية في الجاهلية، وكان ثمّة من إرتكبوا هذا العمل فإنّ القرآن عقب على النهي المذكور بقوله: «إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ». يعني أنّ هذا الحكم كالأحكام الاخرى لا يشمل الحالات السابقة، فلا يؤاخذهم اللَّه على هذا الفعل وإن كان يجب عليهم أن يختاروا إحدى الاختين، ويفارقوا الاخرى، بعد نزول هذا الحكم.

ثم إنّ بعض المفسرين احتمل أن تعود جملة «إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ» إلى كل المحارم من النسوة اللّاتي مرّ ذكرهن في مطلع الآية فيكون المعنى: إذا كان قد أقدم أحد في الجاهلية على التزوج بإحدى النساء المحرم عليه نكاحهن لم يشمله حكم تحريم الزواج بهن هذا، وإن وجب عليهم بعد نزول هذه الآية أن يتخلوا عن تلكم النساء، ويفارقوهن.

وتناسب خاتمة هذه الآية أعني قوله سبحانه وتعالى: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا» هذا المعنى الأخير.

وَ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) هذه الآية تواصل البحث السابق حول النساء اللاتي

يحرم نكاحهن والزواج بهن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 385

وتضيف قائلة: «وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ النّسَاءِ». أي: ويحرم الزواج بالنساء، اللاتي لهن أزواج.

«المحصنات»: جمع المحصنة وهي مشتقة من «الحصن» وقد اطلقت على المرأة ذات الزوج لأنّها بالزواج برجل تكون قد أحصنت فرجها من الفجور، وكذا اطلقت على النساء العفيفات النقيات الجيب، أو اللاتي يعشن في كنف رجل وتحت كفالته وبذلك يحفظن أنفسهن ويحصنها من الفجور والزنا.

نعم يستثنى من هذا الحكم فقط النساء المحصنات الكتابيات اللّاتي أسّرهن المسلمون في الحروب، فقد اعتبر الإسلام أسرهنّ بمثابة الطلاق من أزواجهن، وأذن أن يتزوج بهن المسلمون بعد انقضاء عدتهن «1» أو يتعامل معهن كالإماء كما قال سبحانه: «إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ».

ثم إنّ اللَّه سبحانه أكّد هذه الأحكام الواردة في شأن المحارم من النساء ومن شابههن حيث قال: «كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ». وعلى هذا لا يمكن تغيير هذه الأحكام أو العدول عنها أبداً.

ثم إنّه يشير سبحانه إلى حلية الزواج بغير هذه الطوائف إذ يقول: «وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ». أي إنّه يجوز لكم أن تتزوجوا بغير هذه الطوائف من النساء شريطة أن يتمّ ذلك وفق القوانين الإسلامية وأن يرافق مبادى ء الفقه والطهر ويبتعد عن جادة الفجور والفسق.

وجملة «أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم» إشارة إلى أنّ العلاقة الزوجية إمّا يجب أن تتمّ من خلال الزواج مع دفع صداق ومهر، أو من خلال تملك أمة في لقاء دفع قيمتها.

يقول سبحانه: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً». أي إنّه يجب عليهم دفع أجور النساء اللاتي تستمتعون بهن، وهذا القسم من الآية إشارة إلى مسألة الزواج المؤقت أو ما يسمّى بالمتعة، ويستفاد منها أنّ أصل تشريع الزواج المؤقت كان قطعياً ومسلماً عند المسلمين

قبل نزول هذه الآية، ولهذا يوصي المسلمون في هذه الآية بدفع أجورهن.

ثم إنّ اللَّه سبحانه قال:- بعد ذكر وجوب دفع المهر- «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ

______________________________

(1) مقدار عدتهن حيضة واحدة أو وضع حملهن إذا كن حبالى.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 386

مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ». وهو بذلك يشير إلى أنّه لا مانع من التغيير في مقدار الصداق إذا تراضى طرفا العقد، ولا فرق في هذا الأمر بين العقد المؤقت والعقد الدائم. ثم إنّ هناك احتمالًا آخر في تفسير الآية أيضاً وهو أنّه لا مانع من أن يقدم الطرفان- بعد انعقاد الزواج المؤقت على تمديد مدة هذا الزواج وكذا التغيير في مقدار المهر برضا الطرفين، وهذا يعني أنّ مدة الزواج المؤقت قابلة للتمديد حتى عند إشرافها على الانتهاء (أي: قبيل انتهائها) بأن يتفق الزوجان أن يضيفا على المدة المتفق عليها في مطلع هذا الزواج، مدة اخرى معينة لقاء إضافة مقدار معين من المال إلى الصداق المتفق عليه أوّلًا (وقد اشير في روايات أهل البيت عليهم السلام إلى هذا التفسير أيضاً).

ثم إنّه سبحانه قال: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا». يريد بذلك أنّ الأحكام المذكورة في هذه الآية تتضمن خير البشرية وصلاحها وسعادتها لأنّ اللَّه عليم بمصالحهم، حكيم في ما يقرره لهم من القوانين.

الزواج المؤقت ضرورة إجتماعية: هناك قانون عام وهو أنّ الغريزة الجنسية هي إحدى أقوى الغرائز الإنسانية إلى درجة أنّ بعض المحللين النفسانيين اعتبرها الغريزة الإنسانية الأصيلة التي إليها ترجع بقية الغرائز الاخرى.

فإذا كان الأمر كذلك يُثار سؤال في المقام وهو أنّه قد يكون هناك من لا يمكنه- وفي كثير من الظروف والأحوال- أن يتزوج بالزواج الدائم في سنّ خاص، أو يكون هناك من المتزوجين من سافر

في رحلة طويلة ومهمة بعيدة عن الأهل فيواجه مشكلة الحاجة الجنسية الشديدة التي تتطلب منه التلبية والإرضاء. خاصة وأنّ هذه المسألة قد اتخذت في عصرنا الحاضر الذي أصبح فيه الزواج- بسبب طول مدة الدراسة وبعد زمن التخرج وبعض المسائل الاجتماعية المعقدة التي قلّما يستطيع معها الشباب أن يتزوجوا في سنّ مبكرة، أي في السنّ التي تعتبر فترة الفوران الجنسي لدى كل شاب- اتّخذت صفة أكثر عنفاً وضراوة.

وأنّنا نرى إنّ الزواج الدائم لم يكن لا في السابق ولا في الحاضر بقادر على أن يلبّي كل الاحتياجات الجنسية، ولا أن يحقق رغبات جميع الفئات والطبقات في الناس، فنحن لذلك أمام خيارين لاثالث لهما وهما: إمّا أن نسمح بالفحشاء والبغاء ونعترف به (كما هو الحال في المجتمعات المادية اليوم حيث سمحوا بالبغاء بصورة قانونية) أو أن نعالج المسألة عن طريق

مختصر الامثل، ج 1، ص: 387

الزواج المؤقت (المتعة) فما هو يا ترى جواب الذين يعارضون فكرة البغاء، وفكرة المتعة، على هذا السؤال الملح؟

إنّ اطروحة الزواج المؤقت (المتعة) ليست مقيدة بشرائط النكاح الدائم لكي يقال بأنّها لا تنسجم ولا تتلاءم مع عدم القدرة المالية، أو لا تتلاءم مع ظروف الدراسة، كما لا تنطوي على اضرار الفحشاء والبغاء ومفاسده وويلاته.

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَ لَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) التزوج بالإماء: تعقيباً على الأبحاث السابقة المتعلقة

بالزواج نزلت هذه الآية تبيّن شروط التزويج بالإماء، فتقول أوّلًا: «وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ» «1». أي من لم يجد قدرة مالية على أن يتزوج بالحرائر من النساء المؤمنات، وليس لديه ما يقدر على مهرهنّ ونفقتهن، فإنّ له أن يتزوج مما ملكت أيمانكم من الإماء، فإنّ مهورهن أقل، ومؤنتهن أخفّ عادة.

على أنّ المراد من الأمة هنا هي أمة الغير.

كما أنّ التعبير ب «المؤمنات» في الآية يستفاد منه أنّه يجب أن تكون «الأمة» التي يراد نكاحها مسلمة حتى يجوز التزوج بها، وعلى هذا لا يصح التزوج بالإماء الكتابيات.

ثم إنّ اللَّه سبحانه عقّب على هذا الحكم بقوله: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم». ويريد بذلك

______________________________

(1) «الطول»: على وزن «نوع» مأخوذ من الطول (على وزن النور) بمعنى القدرة والإمكانية المالية وما شابه ذلك.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 388

أنّكم لستم مكلفين- في تشخيص إيمان الإماء- إلّابالظاهر، وأمّا الباطن فاللَّه هو الذي يعلم ذلك، فهو وحده العالم بالسرائر، والمطلع على الضمائر.

وحيث إنّ البعض كان يكره التزوج بالإماء ويستنكف من نكاحهن قال تعالى:

«بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ». أي إنّكم جميعاً من أب واحد، وام واحدة، فإذن يجب أن لا تستنكفوا من التزوج بالإماء اللاتي لا يختلفن من الناحية الإنسانية عنكم.

نعم لابد أن يكون التزوج بالإماء بعد إذن أهلهن وإلّا كان باطلًا، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: «فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ». والتعبير عن المالك بالأهل إنّما هو للإشارة إلى أنّه لا يجوز التعامل مع الإماء على أنّهن متاع أو بضاعة، بل يجب أن يكون التعامل معهن على أنّهن من أعضاء العائلة، فلابد أن يكون تعاملًا إنسانياً كاملًا.

ثم إنّه سبحانه قال: «وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» ومن هذه الجملة يستفاد أنّ

الصداق الذي يعطى لهن يجب أن يكون متناسباً مع شأنهن ومكانتهن، وأن يعطى المهر لهن، يعني أنّ الأمة تكون هي المالكة للصداق.

كما يستفاد من التعبير ب «المعروف» أنّه لا يجوز أن تظلم الإماء في تعيين مقدار المهر، بل هو حقهن الطبيعي الحقيقي الذي يجب أن يعطى إليهن بالقدر المتعارف.

ثم إنّ اللَّه سبحانه ذكر شرطاً آخر من شروط هذا الزواج، وهو أن يختار الرجل للزواج العفائف الطاهرات من الإماء اللائي لم يرتكبن البغاء إذ قال: «مُحْصَنَاتٍ» سواء بصورة علنية «غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ» أو بصورة خفية «وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ». أي أصدقاء وأخلاء في السرّ.

ثم إنّ اللَّه سبحانه قال: «فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصِنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ».

وتتضمن الآية بحثاً حول عقوبة الإماء إذا خرجن عن جادة العفة والطهر، وذلك بعد أن ذكر قبل هذا بعض أحكام الزواج بالإماء، وبعض الأحكام حول حقوقهن.

والحكم المذكور في هذا المجال هو أنّ الإماء إذا زنين فجزاؤهن نصف جزاء الحرائر إذا زنين، أي خمسون جلدة. ثم قال سبحانه معقباً على الحكم السابق: «ذلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُمْ».

«العنت»: على وزن (سند) يقال في الأصل للعظم المجبور- بعد الكسر- إذا أصابه ألم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 389

وكسر آخر فهضّه قد أعنته، لأنّ هذا النوع من الكسر مؤلم جدّاً، ولهذا يستعمل في المشاكل الباهظة والأعمال المؤلمة.

ويقصد الكتاب العزيز من العبارة الحاضرة إنّ الزواج بالإماء إنّما يجوز لمن يعاني من ضغط شديد بسبب شدة غلبة الغريزة الجنسية عليه ولم يكن قادراً على التزوج بالحرائر من النساء، وعلى هذا الأساس لا يجوز الزواج بالإماء لغير هذه الطائفة.

ثم عقّب سبحانه على ذلك بقوله: «وَإِن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ». أي إنّ صبركم عن التزوج بالإماء ما استطعتم وما

لم تقعوا في الزنا خير لكم ومن مصلحتكم: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

أي: يغفر اللَّه لكم ما تقدم منكم بجهل أو غفلة فهو رحيم بكم.

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً (28) بعد أن بيّن اللَّه سبحانه في الآيات السابقة أحكام مختلفة في مجال الزواج، يمكن أن ينقدح سؤال في ذهن البعض وهو: ما المقصود من كل هذه القيود ولماذا الحدود القانونية؟ إنّ الآيات الحاضرة هي إجابة على هذه التساؤلات إذ يقول سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ». أي إنّ اللَّه يبين لكم الحقائق بواسطة هذه القوانين ويهديكم إلى ما فيه مصالحكم، مع العلم بأنّ هذه الأحكام لا تختص بكم، فقد سار عليها من سبقكم من أهل الحق من الأمم الصالحة، هذا مضافاً إلى أنّ اللَّه تعالى يريد أن يغفر لكم ويعيد عليكم نعمه التي قطعت عنكم بسبب انحرافكم عن جادة الحق، وكل هذا إنّما يكون إذا عُدتم عن طريق الإنحراف الذي سلكتموه في عهد الجاهلية وقبل الإسلام.

«وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ». يعلم بأسرار الأحكام ويشرعها لكم عن حكمة.

ثم إنّ اللَّه سبحانه أكّد ما مرّ بقوله: «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا». أي إنّ اللَّه يريد بتشريع هذه الأحكام لكم أن يعيد عليكم نعمه التي قطعت ومنعت عنكم بسبب ذنوبكم، وارتكابكم للشهوات، ولكن الذين

مختصر الامثل، ج 1، ص: 390

يريدون الإنسياق وراء الشهوات الغارقين في الآثام والذنوب يريدون لكم أن تنحرفوا

عن طريق السعادة، إنّهم يريدون أن تسايروهم في اتّباع الشهوات وأن تنغمسوا في الآثار انغماساً كاملًا، فهل ترون- والحال هذه- إنّ هذه القيود والحدود الكفيلة بضمان سعادتكم وخيركم ومصلحتكم أفضل لكم، أو الحرية المنفلتة المقرونة بالانحطاط الخلقي، والفساد والسقوط؟ إنّ هذه الآيات تجيب على تساؤل اولئك الأفراد الذين يعيشون في عصرنا الحاضر أيضاً والذين يعترضون على القيود والحدود المفروضة في مجال القضايا الجنسية، وتقول لهم: إنّ الحريات المطلقة المنفلتة ليست أكثر من سراب، وهي لا تنتج سوى الإنحراف الكبير عن مسير السعادة والتكامل الإنساني، وكما توجب التورط في المتاهات والمجاهل، وتستلزم العواقب الشريرة التي يتجسد بعضها في ما نراه بام أعيننا من تبعثر العوائل، ووقوع أنواع الجرائم الجنسية البشعة، وظهور الأمراض التناسلية والآلام الروحية والنفسية المقيتة، ونشوء الأولاد غير الشرعيين حيث يكثر فيهم المجرمون القساة الجناة.

ثم إنّه سبحانه يقول بعد كل هذا: «يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْانسَانُ ضَعِيفًا».

وهذه الآية إشارة إلى أنّ النقطة التالية وهي أنّ الحكم السابق في مجال حرية التزوج بالإماء بشروط معينة ما هو إلّاتخفيف وتوسعة، ذلك لأنّ الإنسان خلق ضعيفاً، فلابد وهو يواجه طوفان الغرائز المتنوعة الجامحة التي تحاصره وتهجم عليه من كل صوب وحدب أن تطرح عليه طرق ووسائل مشروعة لإرضاء غرائزه ليتمكن من حفظ نفسه من الانحراف والسقوط.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَ لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَاناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَ كَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) سلامة المجتمع ترتبط بسلامة الإقتصاد: الآية الاولى من هاتين الآيتين تشكل القاعدة الأساسية للقوانين الإسلامية في مجال

المسائل المتعلقة «بالمعاملات والمبادلات المالية» إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً (31)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 391

ولهذا يستدل بها فقهاء الإسلام في جميع أبواب المعاملات والمبادلات المالية. إنّ هذه الآية تخاطب المؤمنين بقولها: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ». وعلى هذا الأساس يندرج تحت هذا العنوان الكلي كل لون من ألوان العدوان، والغش، وجميع المعاملات الربوية، والمعاملات المجهولة الخصوصيات تماماً، وتعاطي البضائع التي لا فائدة فيها بحكم العقلاء، والتجارة بأدوات اللهو والفساد والمعصية وما شاكل ذلك.

إنّ التعبير ب «الأكل» كناية عن كل تصرف، سواء تمّ بصورة الأكل المتعارف أو اللبس، أو السكنى أو غير ذلك، تعبير رائج في اللغة العربية وغير العربية.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يقول معقباً على العبارات السابقة: «إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنكُمْ».

ثم إنّه تعالى ينهى في ذيل هذه الآية عن قتل الإنسان لنفسه إذ يقول: «وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ». وظاهر هذه الجملة بقرينة قوله: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا». النهي عن الانتحار، يعني أنّ اللَّه الرحيم كما لا يرضى بأن تقتلوا أحداً، كذلك لا يسمح لكم ولا يرضى بأن تقتلوا أنفسكم بأيديكم.

ويشير القرآن بذكر هذين الحكمين بصورة متتالية إلى نكتة اجتماعية مهمة، وهي أنّ العلاقات الاقتصادية في المجتمع إذا لم تكن قائمة على أساس صحيح، ولم يتقدم الاقتصاد الاجتماعي في الطريق السليم، ووقع الظلم والتصرف العدواني في أموال الغير أصيب المجتمع بنوع من الإنتحار، وآل الأمر إلى تصاعد حالات الانتحار الفردي مضافاً إلى الانتحار الجماعي الذي هو من آثار الانتحار الفردي ضمناً.

كما حذّر قائلًا: «وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَانًا وَظُلمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا» «1». أي إنّ من يعصي هذه الأحكام ويتجاهل هذا التحذير، ويأكل

أموال الآخرين بالباطل ودون استحقاق، أو ينتحر بيديه لم يصبه العذاب الأليم في الدنيا فحسب، بل ستصيبه نار الغضب الإلهي، وهذا أمر هيّن على اللَّه: «وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا».

______________________________

(1) «الصلي»: يعني في الأصل الإقتراب إلى النار، ويطلق على التدفؤ والإحتراق والإكتواء بالنار أيضاً، وقداستعملت في الآية الحاضرة في معنى الإحتراق بالنار.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 392

هذه الآية تقول بصراحة: «إِن تَجْتَنِبُوا كبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنكُمْ سَيَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا».

ومن هذا التعبير يستفاد أنّ المعاصي والذنوب على قسمين:

القسم الأول: هو ما يسمّيه القرآن الكريم بالمعصية الكبيرة.

والقسم الثاني: وهو ما يسمّيه القرآن الكريم بالسيئة.

وقد عبّر في الآية (32) من سورة النجم ب «اللمم» بدلًا عن السيئة، وفي الآية (49) من سورة الكهف ذلك لفظة «الصغيرة» في مقابل الكبيرة.

إنّ الكبيرة هي كل معصية بالغة الأهمية من وجهة نظر الإسلام، ويمكن أن تكون علامة تلك الأهمية أنّ القرآن لم يكتف بالنهي عنها فقط، بل أردف ذلك بالتهديد بعذاب جهنم، مثل قتل النفس والزنا وأكل الربا وأمثال ذلك.

والصغيرة تبقى صغيرة ما لم تتكرر، هذا مضافاً إلى كونها لا تصدر عن استكبار أو غرور وطغيان.

وَ لَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ اسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (32)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: إنّ ام سلمة (وهي من أزواج النبي صلى الله عليه و آله) قالت: يا رسول اللَّه! يغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنّما لنا نصف الميراث، فليتنا رجال فنغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال. فنزلت الآية.

التّفسير

لقد أوجب التفاوت في سهم الرجال والنساء من الإرث تساؤلًا لدى البعض، ويبدو أنّهم لم

يلتفتوا إلى أنّ هذا التفاوت إنّما هو لأجل أنّ النفقة بكاملها على الرجل، وليس على النساء شي ء من نفقات العائلة، بل نفقة المرأة هي الاخرى مفروضة على الرجل، ولهذا يكون ما تصيبه المرأة ضعف ما يصيبه الرجل من الثروة، ولهذا قال اللَّه تعالى في هذه الآية:

«وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ». لأنّ لكل نوع من أنواع هذا التفضيل

مختصر الامثل، ج 1، ص: 393

والتفاوت أسرار خفية عنكم غير ظاهرة لكم. على أنّه يجب أن لا نتصور خطأ أنّ الآية الحاضرة تشير إلى التفاوت المصطنع الذي برز نتيجة الاستعمار والاستغلال الطبقي.

ولذا عقّب اللَّه سبحانه على الجملة السابقة بقوله: «لِّلرّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبْنَ». أي: لكل من الرجال والنساء نصيب من سعيه وجهده ومكانته سواء كانت مكانة طبيعية (كالتفاوت والفرق بين جنسي الرجل والمرأة) أو غير طبيعية ناشئة عن التفاوت بسبب الجهود الإختيارية.

ثم يقول: «وَاسْئَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ». أي: بدل أن تتمنّوا هذا التفضيل والتفاوت اطلبوا من فضل اللَّه واسألوا من لطفه وكرمه أن يتفضل عليكم من نعمه المتنوعة وتوفيقاته ومثوباته الطيبة لتكونوا- بنتيجة ذلك- سعداء رجالًا ونساء، ومن أي عنصر كنتم، وعلى كل حال اطلبوا واسألوا ما هو خيركم وسعادتكم واقعاً.

«إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمًا». أي: يعلم ما يحتاج إليه نظام المجتمع وما يلزمه من الفروق سواء من الناحية الطبيعية أو الحقوقية، ولهذا لا وجود للظلم والحيف ولا لأي شي ء من التفاوت الظالم والتمييز غير العادل في أفعاله، كما أنّه تعالى خبير بما في بواطن الناس من الأسرار والخفايا والنوايا ويعلم من الذي يتمنّى الأماني الخاطئة في قلبه، ومن يتمنّى الأماني الإيجابية الصحيحة البنّاءة.

وَ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَ

الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (33) يعود القرآن مرّة اخرى إلى مسألة الإرث إذ يقول: «وَلِكُلّ جَعَلنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ» «1». أي: لكل رجل أو امرأة جعلنا ورثة يرثون مما ترك الوالدان والأقربون الذي يجب أن يقسّم بينهم طبق برنامج خاص.

ثم إنّ اللَّه تعالى يضيف قائلًا: «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ». أي ادفعوا إلى الذين عقدتم معهم عقداً نصيبهم من الإرث.

______________________________

(1) «الموالي»: جمع مولى، وهي في الأصل من مادة الولاية بمعنى الإتّصال والإرتباط، وتطلق على جميع الأفراد الذين يرتبط بعضهم ببعض بنوع من الإرتباط، غاية ما هناك أنّها تكون في بعض الموارد بمعنى إرتباط الولي مع أتباعه، وأمّا في الآية الحاضرة فتكون بمعنى الورثة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 394

من هم الذين عقد معهم الميثاق، الذين لابد أن يعطوا نصيبهم من الإرث؟

إنّ ما هو أقرب إلى مفهوم الآية هو عقد «ضمان الجريرة» الذي كان رائجاً قبل الإسلام، وهو: «أن يتعاقد شخصان فيما بينهما على أن يتعاونا فيما بينهما بشكل أخوي أن يعين أحدهما الآخر عند المشكلات، وإذا مات أحدهما قبل الآخر ورثه الباقي» ولقد أقرّ الإسلام هذا النوع من التعاقد الأخوي الودّي، ولكنه أكّد على أنّ التوارث بسبب هذا الميثاق إنّما يمكن إذا لم يكن هناك ورثة من طبقات الأقرباء.

ثم ختم سبحانه الآية بقوله: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدًا». أي إذا قصّرتم في إعطاء نصيب الورثة ولم تعطوهم حقوقهم كاملة، علم اللَّه بذلك ولم يخف عليه ما فعلتم، لأنّه على كل شي ء شهيد وبكل شي ء عليم.

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَ بِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا

حَفِظَ اللَّهُ وَ اللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً (34) قال اللَّه تعالى في مطلع هذه الآية إلى أنّ العائلة وحدة اجتماعية صغيرة، وهي كالاجتماع الكبير لابد لها من قائد وقائم بأمورها، لأنّ القيادة والقوامة الجماعية التي يشترك فيها الرجل والمرأة معاً، لا معنى لها ولا مفهوم، فلابد أن يستقل الرجل أو المرأة بالقوامة، ويكون «رئيساً» للعائلة، بينما يكون الآخر بمثابة «المعاون» له الذي يعمل تحت إشراف الرئيس.

إنّ القرآن يصرّح- هنا- بأنّ مقام القوامة والقيادة للعائلة لابدّ أن يعطى للرجل إذ تقول: «الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاءِ». والمقصود من هذا التعبير هو أن تكون القيادة واحدة ومنظمة تتحمل مسؤولياتها مع أخذ مبدأ الشورى والتشاور بنظر الإعتبار.

إنّ جملة «بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ» إشارة أيضاً إلى هذه الحقيقة، لأنّ القسم الأول من هذه الفقرة يقول: إنّ هذه القوامة إنّما هو لأجل التفاوت الذي أوجده اللَّه بين أفراد البشر من ناحية الخلق لمصلحة تقتضيها حياة النوع البشري، بينما يقول في القسم الثاني منها: وأيضاً لأجل أنّ الرجال كلّفوا بالقيام بتعهدات مالية تجاه الزوجات والأولاد في مجال الإنفاق والبذل.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 395

ثم إنّه سبحانه يضيف قائلًا: «فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ». وهذا يعني أنّ النساء بالنسبة إلى الوظائف المناطة إليهن في مجال العائلة على صنفين:

الطائفة الأولى: وهنّ «الصالحات» أي غير المنحرفات «القانتات» أي الخاضعات تجاه الوظائف العائلية «الحافظات للغيب» اللاتي يحفظن حقوق الأزواج وشؤونهم لا في حضورهم فحسب، بل يحفظنهم في غيبتهم، يعني أنّهن لا يرتكبن أيّة خيانة سواء في مجال المال، أو في المجال الجنسي، أو في مجال

حفظ مكانة الزوج وشأنه الاجتماعي، وأسرار العائلة في غيبته، ويقمن بمسؤولياتهن تجاه الحقوق التي فرضها اللَّه عليهن والتي عبّر عنها في الآية بقوله: «بِمَا حَفَظَ اللَّهُ» خير قيام.

ومن الطبيعي أن يكون الرجال مكلفين باحترام أمثال هذه النسوة، وحفظ حقوقهن، وعدم إضاعتها.

الطائفة الثانية: النسوة اللاتي يتخلفن عن القيام بوظائفهن وواجباتهن، وتبدو عليهن علائم النشوز واماراته فإنّ على الرجال تجاه هذه الطائفة من النساء واجبات لابد من القيام بها مرحلة فمرحلة، وهذه الوظائف هي بالترتيب:

1- الموعظة: إنّ المرحلة الاولى التي على الرجال أن يسلكوها تجاه النساء اللاتي تبدو عليهنّ علائم التمرد والنشوز والعداوة، تتمثل في وعظهن كما قال سبحانه في الآية الحاضرة:

«وَالتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ» «1».

2- الهجر في المضاجع: وتأتي هذه المرحلة إذا لم ينفع الوعظ ولم تنجع النصيحة «وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ». وبهذا الموقف والهجر وعدم المبالاة بالزوجة أظهروا عدم الرضا من الزوجة، لعل هذا الموقف الخفيف يؤثر في أنفسهن.

3- الضرب: وأمّا إذا تجاوزن في عصيانهن، والتمرد على واجباتهن ومسؤولياتهن الحد، ومضين في طريق العناد واللجاج دون أن يرتدعن بالأساليب السابقة، فلا النصيحة تفيد، ولا العظة تنفع، ولا الهجر ينجح، ولم يبق من سبيل إلّااستخدام العنف، فحينئذ يأتي دور الضرب «وَاضْرِبُوهُنَّ». لدفعهن إلى القيام بواجباتهن الزوجية لانحصار الوسيلة في هذه الحالة في استخدام شي ء من العنف، ولهذا سمح الإسلام في مثل هذه الصورة بالضغط عليهن ودفعهن إلى القيام بواجباتهن من خلال العقوبة الجسدية.

______________________________

(1) «النشوز»: من نشز (على وزن نذر) يعني الأرض المرتفعة، ويكنى به هنا عن الطغيان والترفع.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 396

ومن المسلم أنّ أحد هذه الأساليب لو أثر في المرأة الناشزة ودفعها إلى الطاعة، وعادت المرأة إلى القيام بوظائفها الزوجية لم يحق للرجل أن يتعلل على

المرأة، ويعمد إلى إيذائها، ومضايقتها حتى تعود إلى جادة الصواب واستقامت في سلوكها ولهذا عقب سبحانه على ذكر المراحل السابقة بقوله: «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا».

ثم إنّ اللَّه سبحانه ذكّر الرجال مرّة اخرى في ختام الآية بأن لا يسيئوا استخدام مكانتهم كقيمين على العائلة فيجحفوا في حق أزواجهم، وأن يفكروا في قدرة اللَّه التي هي فوق كل قدرة «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا».

وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) محكمة الصلح العائلية: في هذه الآية إشارة إلى مسألة ظهور الخلاف والنزاع بين الزوجين، فهي تقول: «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا» ليتفاوضا ويقربا من أوجه النظر لدى الزوجين. ثم يقول تعالى: «إِن يُرِيدَا إِصْلحًا يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا». أي: ينبغي أن يدخل الحكمان المندوبان عن الزوجين في التفاوض بنيّة صالحة ورغبة صادقة في الإصلاح، فإنّهما إن كانا كذلك أعانهما اللَّه ووفق بين الزوجين بسببهما.

ومن أجل تحذير (الحكمين) وحثّهما على استخدام حسن النّية، يقول سبحانه في ختام هذه الآية: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا».

إنّ محكمة الصلح العائلية التي أشارت إليها الآية الحاضرة، هي إحدى مبتكرات الإسلام العظيمة، فإنّ هذه المحكمة تمتاز بميزات تفتقر إليها المحاكم الاخرى، من جملتها:

1- إنّه لا يمكن- في البيئة العائلية- العمل بمقياس القوانين الجافة، فهنا يجب حل الخلافات العائلية بالطرق العاطفية حدّ الإمكان، ولهذا يأمر القرآن الكريم أن يكون الحكمان في هذه المحكمة ممن تربطهم بالزوجين رابطة النسب والقرابة ليمكنهما تحريك المشاعر والعواطف باتجاه الإصلاح بين الزوجين، ومن الطبيعي أن تكون هذه الميزة هي ميزة هذا النوع من المحاكم

خاصة دون بقية المحاكم الاخرى.

2- إنّ المدعي والمدعى عليه في المحاكم العادية القضائية مضطرين- تحت طائلة الدفاع عن النفس- أن يكشفا عن كل ما لديهما من الأسرار، ومن المسلم أنّ الزوجين لو كشفا عن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 397

الأسرار الزوجية أمام الأجانب والغرباء لجرح كل منهما مشاعر الطرف الآخر، بحيث لو اضطر الزوجان أن يعودا- بحكم المحكمة- إلى البيت لما عادا إلى ما كانا عليه من الصفاء والمحبة السالفة.

3- إنّ الحكمين في المحاكم العادية المتعارفة لا يشعران عادة بالمسؤولية الكاملة في قضايا الخلاف والمنازعات، ولا تهمهما كيفية انتهاء القضية المرفوعة إلى المحكمة، هل يعود الزوجان إلى البيت على وفاق، أو ينفصلا مع طلاق؟

في حين أنّ الأمر في محكمة الصلح العائلية على العكس من ذلك تماماً، فإنّ الحكمين في هذه المحكمة حيث يرتبطان بالزوجين برابطة القرابة، فإنّ لافتراق أو صلح الزوجين أثراً كبيراً في حياة الحكمين من الناحية العاطفية، ومن ناحية المسؤوليات الناشئة عن ذلك، ولهذا فإنّهما يسعيان- جهد إمكانهما- أن يتحقق الصلح والسلام والوفاق والوئام بين الزوجين اللذين يمثلانهما.

4- مضافاً إلى كل ذلك فإنّ مثل هذا المحكمة لا تعاني من أية مشكلات، ولا تحتاج إلى أية ميزانيات باهظة، ولا تعاني من تلك الخسارة والضياع.

وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ بِذِي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَ الْجَارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُوراً (36) الآية الحاضرة تبين سلسلة من الحقوق الإسلامية بما فيها الحقوق الإلهية وحقوق العباد وآداب العشرة مع الناس ويستفاد منها عشرة تعاليم:

1- «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيًا». إنّ

الآية تدعو الناس قبل أي شي ء إلى عبادة اللَّه والخضوع له وحده، وترك الشرك والوثنية الذي هو أساس كل البرامج والمناهج الإسلامية. إنّ الدعوة إلى التوحيد وعبادة اللَّه وحده تطهر الروح، وتخلص النّية، وتقوي الإرادة، وتشدد من عزيمة الإنسان على الإتيان بأي برنامج مفيد. وحيث إنّ الآية الحاضرة تبيّن سلسلة من الحقوق الإسلامية لذلك فقد أشارت إلى حق اللَّه على الناس قبل أي شي ء وقبل أي حق.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 398

2- «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا». ثم إنّها تشير إلى حق الوالدين وتوصي بالإحسان إليهما ولا شك أنّ حق الوالدين من القضايا التي يهتمّ بها القرآن الكريم كثيراً، وقلّما حظى موضوع بمثل هذا الإهتمام والعناية، فقد جاءت التوصية بالوالدين بعد الدعوة إلى التوحيد في العبادة في أربعة مواضع في القرآن الكريم.

3- «وَبِذِى الْقُرْبَى . ثم إنّها توصي بالإحسان إلى كل الأقرباء، وهذا الموضوع من المسائل التي يهتم بها القرآن الكريم إهتماماً بالغاً تارة تحت عنوان «صلة الرحم» واخرى بعنوان «الإحسان إلى القُربى».

4- «وَالْيَتَامَى . ثم أشارت إلى حقوق «اليتامى» وأوصت المؤمنين ببرهم والإحسان إليهم، لأنّه يوجد في كل مجتمع أطفال أيتام على أثر الحوادث المختلفة، لا يهدد تناسيهم وإهمالهم وضعهم الخاص فقط، بل الوضع الاجتماعي بصورة عامة، لأنّ الأطفال اليتامى لو تركوا دون ولاية أو حماية ولم ينالوا حاجتهم من المحبة واللطف يتحولون إلى أفراد منفلتين فاسدين، بل أشخاص خطرين جُناة.

وعلى هذا يكون الإحسان إلى اليتامى إحساناً إلى الفرد وإلى المجتمع معاً.

5- «وَالْمَسَاكِينِ». ثم يذكّر سبحانه- في هذه الآية- بحقوق الفقراء والمساكين، لأنّه قد يوجد حتى في المجتمع السليم الذي يسوده العدل من يعاني من نواقص وعاهات تعوقه عن الحركة والنشاط والفعالية، ولا شك أنّ تناسي هؤلاء أمر

يخالف كل الاسس والقيم الإنسانية، فلابد من تقديم العون إليهم، ومعالجة حرمانهم.

6- «وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى . ثم يوصي بالجيران من ذوي القربى، والمراد هو القرب المكاني لا القرب النسبي، لأنّ الجيران الأقربين مكاناً يستحقون احتراماً وحقوقاً أكثر من غيرهم، أو أن يكون المراد الجيران الأقربين إلى الإنسان من الناحية الدينية والاعتقادية.

7- «وَالْجَارِ الْجُنُبِ». ثم إنّها توصي بالجيران البعيدين، والمراد هو البعد المكاني. إنّ لحق الجوار في الإسلام أهمية بالغة إلى درجة أنّنا نقرأ في وصايا الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام المعروفة: «ما زال (رسول اللَّه) يوصي بهم حتى ظننّا أنّه سيورّثهم» «1». (وقد ورد هذا الحديث- في تفسير المنار؛ وتفسير القرطبي- مثل هذا المضمون عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً).

وفي تفسير القرطبي عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «واللَّه لا يؤمن واللَّه لا يؤمن واللَّه لا يؤمن». قيل: يا رسول اللَّه ومَن؟ قال: «الذي لا يأمن جارُه بوائقَه».

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 47.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 399

8- «وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ». ثم أوصت بالرفيق والصاحب، غير أنّه لابد من الإنتباه إلى أنّ ل «الصاحب بالجنب» معنى أوسع من الرفيق والصديق المتعارف، وبهذا الطريق تكون هذه الآية أمراً كلياً وجامعاً بحسن معاشرة كل من يرتبط بالمرء، سواء كان صديقاً واقعياً، أو زميلًا، أو رفيق سفر، أو مراجعاً، أو تلميذاً، أو مشاوراً، أو خادماً.

وقد فسرت لفظة الصاحب بالجنب في بعض الروايات بالزّوجة، ولكن لا يبعد أن يكون هذا من باب بيان أحد المصاديق أيضاً.

9- «وَابْنِ السَّبِيلِ». وأمّا الصنف الآخر الذي أوصت بهم الآية هنا فهم الذين تحدث لهم حاجة السفر وبلاد الغربة، فابن السبيل هو الذي ينقطع في السفر وإن كان يمكن أن يكون متمكّناً ذا

مال في بلده.

10- «وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ». وفي نهاية المطاف توصي هذه الآية بالإحسان إلى العبيد والأرقاء، وبهذا تكون الآية قد بدأت بحق اللَّه، وختمت بحقوق العبيد، لعدم انفصال هذه الحقوق بعضها عن بعض.

ثم إنّه سبحانه يقول في ختام هذه الآية: «إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا». وهو بذلك يحذر كل من يتمرّد ويعصي أوامر اللَّه، ويتقاعس عن القيام بحقوق أقربائه ووالديه واليتامى والمساكين وابن السبيل والأصدقاء والأصحاب بدافع التكبر بأنّه سيكون معرضاً لسخط اللَّه، وسيحرم من عنايته سبحانه، ولا ريب أنّ من حرم من اللطف الإلهي والعناية الربانية حرم من كل خير وسعادة «1».

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (37) وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً (38) وَ مَا ذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَ كَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)

______________________________

(1) «مختال»: من مادة «خيال» حيث يرى الشخص نفسه بسبب بعض المتخيلات عظيماً و كبيراً، وسمى الخيل خيلًا لأن مشيتة تشبة مشية المتكبر؛ «فخور»: من مادة «فخر» والفرق بينها و بين الاولى أن المختال إشارة إلى تخيلات الكبر فى مجالها الذهنى و الاخرى يراد بها الأعمال الصادرة عن كبر فى المجال الخارجى.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 400

الإنفاق رياءً والإنفاق قربةً: الآية الاولى من هذه الآيات الثلاث تعقيب على الآيات السابقة وإشارة إلى المتكبرين إذ تقول: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ». هذا مضافاً إلى أنّهم يسعون دائماً أن يخفوا عن الآخرين ما تفضل اللَّه عليهم به من الخير كيلا يتوقع المجتمع

منهم شيئاً «وَيَكْتُمُونَ مَا ءَاتهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ».

ثم يقول عن نهاية هذا الفرق من الناس وعاقبة أمرهم: «وَاعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا». ولعل السرّ في استخدام هذا التعبير في حق هذه الطائفة هو أنّ «البخل» ينبع في الغالب من الكفر، لأنّ البخلاء لا يمتلكون الإيمان الكامل بالمواهب الربانية المطلقة والوعود الإلهية العظيمة للمحسنين. إنّهم يتصورون أنّ مساعدة الآخرين وتقديم العون إليهم يجرّ إليهم التعاسة والشقاء.

وأمّا الحديث عن الخزي في عذاب هؤلاء، فلأن الجزاء المناسب للتكبر والإستكبار هو العذاب المهين.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يذكر صفة اخرى من صفات المتكبرين إذ يقول: «وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْأَخِرِ» إنّهم ينفقون أموالهم لا في سبيل اللَّه وكسب رضاه، بل مراءاة الناس لكسب السمعة وجلب الشهرة والجاه، وبالتالي ليس هدفهم من الإنفاق هو خدمة الناس وكسب رضا اللَّه سبحانه.

إنّ هؤلاء اختاروا الشيطان رفيقاً وقريناً لهم: «وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا». إنّه لن يكون له مصير أفضل من مصير الشيطان، لأنّ منطقهم هو منطق الشيطان، وسلوكهم سلوكه سواء بسواء، إنّه هو الذي يقول لهم: إنّ الإنفاق بإخلاص يوجب الفقر «الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ» «1».

من هذه الآية يستفاد أنّ علاقة «المتكبرين» ب «الشيطان والأعمال الشيطانية» علاقة مستمرة ودائمة لا مؤقتة ولا مرحلية.

وهنا يقول سبحانه وكأنّه يتأسّف على أحوال هذه الطائفة من الناس: «وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ». أي شي ء عليهم لو تركوا هذا السلوك وعادوا إلى جادة الصواب وأنفقوا مما رزقهم اللَّه من الخير والنعمة في سبيل اللَّه، بإخلاص لا

______________________________

(1) سورة البقرة/ 268.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 401

رياء، وكسبوا بذلك رضا اللَّه، وتعرضوا للطفه وعنايته، وأحرزوا سعادة الدنيا والآخرة؟

وعلى كل حال

فإنّ اللَّه يعلم بأعمالهم ونواياهم ويجزيهم بما عملوا: «وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا».

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) إنّ الآية الحاضرة تقول: إنّ اللَّه لا يظلم قط زنة ذرّة، بل يضاعف الحسنة إذا قام بها أحد، ويعطي من لدنه على ذلك أجراً عظيماً: «إِنَّ اللَّهَ لَايَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا».

«الذّرة»: في الأصل هي النملة الصغيرة التي لا ترى، ولكنّها اطلقت تدريجاً على كل شي ء صغير جدّاً، وتطلق الآن ويراد منها ما يتكون من الإلكترون والبروتون أيضاً. وبما أنّ «مثقال» يعني الثقل، فإنّ التعبير ب «مثقال ذرّة» يعني جسماً في غاية الدقة والصغر.

إنّ هذة الآية تقول للكافرين الذين يبخلون والذين مرّ الحديث عن أحوالهم في الآيات السابقة: إنّ العقوبات التي تصيبكم ما هي إلّاجزاء ما قمتم به من الأعمال، وأنّه لا يصيبكم أي ظلم من جانب اللَّه، بل لو أنّكم تركتم الكفر والبخل وسلكتم طريق اللَّه لنلتم المثوبات العظيمة المضاعفة.

يبقى أن نعرف لماذا لا يظلم اللَّه سبحانه؟ فإنّ السبب فيه واضح، لأنّ الظلم عادة- إمّا ناشى ء عن الجهل، وإمّا ناشى ء عن الحاجة، وإمّا ناشى ء عن نقص نفسي.

ومن كان عالماً بكل شي ء، وكان غنيّاً عن كل شي ء، ولم يكن يعاني من أي نقص، لا يمكن صدور الظلم منه، فهو لا يظلم أساساً، لا أنّه تعالى لا يقدر على الظلم، بل مع قدرته تعالى على الظلم- لا يظلم أبداً لحكمته وعلمه، فهو يضع كل شي ء في عالم الوجود موضعه، ويعامل كل أحد حسب عمله، وطبقاً لسلوكه وسيرته.

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلَاءِ شَهِيداً (41)

يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 402

شهود يوم القيامة: تعقيباً على الآيات السابقة التي كانت تدور حول العقوبات والمثوبات المعدّة للعصاة والمطيعين، جاءت هذه الآية تشير إلى مسألة الشهود في يوم القيامة فتقول: «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلَاءِ شَهِيدًا». وهكذا يكون نبي كل امّة شهيداً عليها، مضافاً إلى شهادة أعضاء الإنسان وجوارحه، وشهادة الأرض التي عليها عاش، وشهادة ملائكة اللَّه على أعماله وتصرفاته، ويكون نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله وهو آخر أنبياء اللَّه ورسله وأعظمهم، شاهداً على امته أيضاً، فكيف يستطيع العصاة مع هؤلاء الشهود إنكار حقيقة من الحقائق، وتخليص أنفسهم من نتائج أعمالهم.

عندئذ يندم الكفار الذين عارضوا الرسول وعصوه، أي عندما رأوا بام أعينهم تلك المحكمة الإلهية العادلة، وواجهوا الشهود الذين لا يمكن إنكار شهاداتهم، إنّهم يندمون ندماً بالغاً لدرجة أنّهم يتمنون لو أنّهم كانوا تراباً أو سوّوا بالأرض كما يقول القرآن الكريم في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين إذ يقول سبحانه: «يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ».

وقد ورد مثل هذا التعبير في آخر سورة النبأ إذ يقول تعالى: «وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِى كُنْتُ تُرَابًا».

إنّهم في هذه الحالة لا يمكنهم أن ينكروا أية حقيقة واقعة ولا أن يكتموا شيئاً: «وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا» لأنّه لا سبيل إلى الإنكار أو الكتمان مع كل تلكم الشهود.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَ أَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَ لَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ

أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43) بعض الأحكام الفقهية: تستفاد من الآية الحاضرة عدة أحكام إسلامية هي:

1- بطلان الصلاة في حال السكر: وفلسفة ذلك واضحة، فإنّ الصلاة حديث العبد إلى ربّه ومناجاته ودعاؤه، ولابد أن يتمّ كل هذا في حالة الوعي الكامل، والسكارى أبعد ما يكونون عن هذه الحالة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 403

2- بطلان الصلاة في حال الجنابة: الذي أشير إليه بعبارة «وَلَا جُنُبًا». ثم استثنى سبحانه من هذا الحكم بقوله: «إِلَّا عَابِرِى سَبِيلٍ». أي إذا فقدتم الماء في السفر جاز لكم أن تقيموا الصلاة (شريطة أن تتيمموا كما يجي ء في ذيل الآية).

3- جواز الصلاة أو عبور المسجد بعد الإغتسال: هو المبين بقوله: «حَتَّى تَغْتَسِلُوا».

4- التيمم لذوي الأعذار: ثم تشير الآية إلى حكم التيمم لذوي الأعذار فتقول: «وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ». وفي هذه العبارة من الآية قد اجتمعت كل موارد التيمم، فالمورد الأوّل هو ما إذا كان في استعمال الماء ضرر على البدن، والمورد الآخر هو ما إذا تعذر على الإنسان الحصول على الماء (أم لم يمكن استعماله) وبقوله: «أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لمَسْتُمُ النّسَاءَ». إشارة إلى علل الإحتياج إلى التيمم وأسبابه، ومعناه إذا أحدثتم حدثاً أو جامعتم النساء «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً». أي لم تقدروا على تحصيل الماء أو استعماله «فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا».

ثم إنّه سبحانه يبين طريقة التيمم بقوله: «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ».

وفي ختام الآية يشير إلى حقيقة أنّ الحكم المذكور ضرب من التخفيف عنكم، لأنّ اللَّه كثير الصفح كثير الستر لذنوب عبادة «إِنَّ اللَّهَ كَانَ

عَفُوًّا غَفُورًا».

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَ كَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَ كَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) في هذه الآيات يخاطب اللَّه سبحانه نبيه الكريم بعبارة حاكية عن التعجب والإستغراب قائلًا: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّللَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ». أي عجيب أمر هؤلاء الذين اتوا نصيباً من الكتاب السماوي، ولكنهم بدل أن يقوموا بهداية الآخرين وإرشادهم في ضوء ما أوتوا من الهدى، فإنّهم يشترون الضلالة لأنفسهم ويريدون أن تضلّوا أنتم أيضاً.

وبهذا الطريق فإنّ ما نزل لهدايتهم وهداية الآخرين تحوّل إلى وسيلة لضلالهم وإضلال الآخرين بسوء نيّتهم، لأنّهم لم يكونوا أبداً بصدد الحقيقة، بل كانوا ينظرون إلى كل شي ء بمنظار النفاق والحسد والمادية السوداء.

ثم يقول سبحانه: إنّ هؤلاء وإن تظاهروا بمظهر الأصدقاء لكم إلّاأنّهم أعداؤكم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 404

الحقيقيون «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ». وأيّة عداوة أشدّ وأكثر من أن يكرهوا هدايتكم ويخالفوا سعادتكم، تارة باللسان وتارة عن طريق إظهار النصح، وثالثة عن طريق الذم، ويجتهدون في تحقيق أهدافهم المشؤومة في كل ظرف وزمان بنحو خاص، وشكل معين.

ولكن لا تخافوا عداوتهم أبداً ولا تستوحشوا لمواقفهم المعادية فلستم وحدكم في الميدان، فكفاكم أنّ اللَّه قائدكم ووليكم وناصركم: «وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا».

مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَ عَصَيْنَا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ رَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) جانب آخر من أعمال اليهود: تعقيباً

على الآيات السابقة تشرح هذه الآية صفات جماعة من أعداء الإسلام، وتشير إلى جانب من أعمالهم ومواقفهم، فتقول أوّلًا: إنّ أحد أعمال هذه الجماعة هو تحريف الحقائق، وتغيير حقيقة الأوامر الإلهية: «مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ». أي أنّ جماعة من اليهود يحرّفون الكلمات عن مواضعها.

وهذا التحريف قد يكون له جانب لفظي، وقد يكون له جانب معنوي وعملي.

أمّا العبارات اللاحقة فتفيد أنّ المراد من التحريف في المقام هو التحريف اللفظي وتغيير العبارة، لأنّه تعالى يقول بعد هذه الجملة: «وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا». يعني بدل أن يقولوا «سمعنا وأطعنا» يقولون «سمعنا وعصينا».

ثم يشير إلى قسم آخر من أحاديثهم العدائية المزيجة بروح التحدي والصلافة حيث يقول: إنّهم يقولون: «وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ». وبهذا الطريق يتوسل هذا الفريق للحفاظ على جماعة من المغفلين.

جملة «رَاعِنَا» التي معناها «تفقدنا وأمهلنا» وكان المسلمون الصادقون في صدر الإسلام ومطلع الدّعوة المحمّدية يرددونها أمام النّبي صلى الله عليه و آله ليتمكنوا من سماع صوت النبي وكلامه بنحو أفضل، ولكن هذا الفريق من اليهود كانوا يتوسلون بهذه الجملة لإيذاء النبي ويسيئون استخدامها ويكررونها أمام النبي صلى الله عليه و آله وهم يقصدون منها معناها العبري الذي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 405

هو «سمعنا غير مسمع» أو «أسمعنا لا سمعت» أو معناه العربي الآخر، وهو ما يرجع إلى الرعونة الذي يعني الحمق «1».

وقد كان هذا كله بهدف إزاحة الحقائق عن محورها الأصلي بألسنتهم والطعن في الدين الحق، والشريعة الحقة: «لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِى الدّينِ».

«وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ». أي: إنّهم إن سلكوا الطريق المستقيم وتركوا كل ذلك اللجاج والعناد، ومعاداة الحق، وسوء الأدب، والجرأة والوقاحة وقالوا: سمعنا كلام اللَّه وأطعنا، فاستمع

إلى كلامنا وأمهلنا لكي ندرك الحقائق إدراكاً كاملًا، لكان ذلك من مصلحتهم، وكان في ذلك منفعتهم، وأكثر انسجاماً وتوافقاً مع العدل والمنطق والعدل والأدب.

«وَلكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا». أي: إنّهم لن يتخلوا عن هذا السلوك الشائن بسرعة، كيف؟ وقد ابتعدوا عن رحمة اللَّه بسبب ما هم عليه من كفر وتمرد وطغيان، وماتت أفئدتهم وتحجّرت بحيث صار من المتعذّر أن تخضع للحق، وأن تحيا من رقدتها بهذه السرعة، اللّهم إلّابعضهم ممن يمتلك فؤاداً طاهراً وعقلًا يقظاً، فهؤلاء هم المستعدون للقبول بالحقائق، والاستماع إلى نداء الحق والإيمان به.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) مصير المعاندين: تعقيباً على البحث السابق في الآية المتقدمة حول أهل الكتاب، وجه الخطاب في هذه الإية إليهم أنفسهم، إذ قال سبحانه: «يَا أيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدّقًا لِّمَا مَعَكُم». أي: آمنوا بالقرآن الكريم الذي تجدونه موافقاً لما جاء في كتبكم من العلامات والبشائر.

______________________________

(1) «راعنا»: إذا اخذت مشتقة من مادة الرعى تكون بمعنى فعل الطلب من المراعاة و المراقبة، و بمعنى أمهلنا، و إذا اخذت مشتقة من الرعونة تكون بمعنى «أخذناو اجعلنا حمقى عندك» يقولون ذلك على سبيل الاستهزاء و السب، و لابد من الالتفات إلى أن راعنا على الوجه الأول تكون بدون تشديد النون، و على الوجه الثانى بتشديد النون، و يستفاد من جملة من الراوايات أن اليهود كانوا يتعمدون تشديد النون فى راعنا و مد آخرها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 406

ثم إنّ اللَّه سبحانه يهددهم بأنّ عليهم أن يخضعوا للحق ويذعنوا له

قبل أن يُصابوا بإحدى عقوبتين: الاولى: أن تنمحي صورهم كاملة، وأن تذهب عنهم جوارحهم وأعضاؤهم التي يرون ويسمعون ويدركون بها الحق، كلها ثم تقلب وجوههم إلى خلف كما يقول سبحانه: «مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا» «1».

والمراد من «الطمس وإعفاء الأثر والرّد على العقب» في الآية الحاضرة هو المحو الفكري والروحي، والتأخر المعنوي.

وأمّا العقوبة الثانية التي هددهم اللَّه بها فهي اللعن والطرد من رحمته تعالى إذ قال: «أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ» «2».

إنّ أهل الكتاب بإصرارهم على مخالفة الحق يسقطون ويتقهقرون أو يهلكون.

ثم إنّ اللَّه يختم هذه الآية بقوله: «وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» ليؤكّد هذه التهديدات، فإنّه لا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تقف في وجه إرادة اللَّه ومشيئته.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) أرجى آيات القرآن: الآية الحاضرة تعلن بصراحة أنّ جميع الذنوب والمعاصي قابلة للمغفرة والعفو، إلا «الشرك» فإنّه لا يغفر أبداً، إلّاأن يكف المشرك عن شركه ويتوب ويصير موحداً. «إِنَّ اللَّهَ لَايَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ». إنّ إرتباط هذه الآية بالآيات السابقة إنّما هو من جهة أنّ اليهود والنصارى كانوا بشكل من الاشكال مشركين، كل طائفة بشكل معين، والقرآن ينذرهم- بهذه الآية- بأن يتركوا هذه العقيدة الفاسدة التي لا يشملها العفو والغفران، ثم يبين في خاتمة الآية دليل هذا الأمر إذ يقول:

«وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا» «3».

______________________________

(1) «الطمس»: هو إزالة الأثر بالمحو، مثل أن نهدم بيتاً ثم نزيل أثره بالمرة، ولكنّه يطلق- كناية- على ما فقد أثره وخاصيّته.

(2) أصحاب السبت هم الذين ستأتي قصّتهم

في سورة الأعراف عند تفسير الآيات (163- 166).

(3) «الإفتراء»: مشتقة من مادة «فرى» على وزن (فرد) بمعنى القطع، وحيث إنّ قطع بعض أجزاء الشى ء السالم يفسد ذلك الشي ء ويخربه إستعمل في كل مخالفة، ومن جملة ذلك الشرك والكذب والتهمة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 407

وهذه الآية من الآيات التي تطمئن الموحدين إلى رحمة اللَّه ولطفه، لأنّ في هذه الآية قد بيّن سبحانه إمكان العفو عن جميع المعاصي والذنوب غير الشرك، فهي كما جاء في حديث عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام أرجى آيات القرآن الكريم إذ قال: «ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية».

أسباب مغفرة الذنوب: إنّه يستفاد من آيات عديدة في القرآن الكريم أنّ وسائل التوصل إلى العفو والمغفرة الإلهية متعددة، ويمكن تلخيصها في خمسة امور:

1- التوبة والعودة إلى اللَّه تعالى، المقرونة بالندم على الذنوب السابقة، والعزم على الإجتناب عن الذنب والمعصية في المستقبل، وجبران وتلافي الأعمال الطالحة السالفة بالأعمال الصالحة.

2- الأعمال الصالحة المهمة جدّاً والتي تسبب العفو عن الأعمال القبيحة.

3- الشفاعة التي مرّ شرحها عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.

4- الإجتناب عن المعاصي الكبيرة الذي يوجب العفو عن المعاصي الصغيرة كما مرّ شرحها عند تفسير الآيتين (31 و 32) من هذه السورة.

5- العفو الإلهي الذي يشمل الأشخاص اللائقين له.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَ لَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ كَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)

سبب النّزول

روي أنّ اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم اموراً وامتيازات، فهم- كما نرى ذلك في آيات القرآن الكريم عند الحكاية عنهم- كانوا يقولون: «نَحْنُ أَبْنؤُا اللَّهِ».- الآية (18) من سورة المائدة- وربّما قالوا: «لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ

إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى .- الآية (111) من سورة البقرة- فنزلت هذه الآيات تبطل هذه التصورات والمزاعم.

التّفسير

تزكية النفس: قال تعالى في الآية الاولى من الآيتين الحاضرتين: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 408

يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم» «1». وفي هذه إشارة إلى إحدى الصفات الذميمة التي قد يبتلى بها كثير من الأفراد والشعوب، إنّها صفة مدح الذات وتزكية النفس، وإدعاء الفضيلة لها. ثم يقول سبحانه: «بَلِ اللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاءُ». فهو وحده الذي يمدح الأشخاص ويزكيهم طبقاً لما يتوفر عندهم من مؤهلات وخصال حسنة دون زيادة أو نقصان، وعلى أساس من الحكمة والمشيئة البالغة، وليس اعتباطاً أو عبثاً. ولذلك فهو لا يظلم أحداً مقدار فتيل: «وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» «2».

وفي الحقيقة أنّ الفضيلة هي ما يعتبرها اللَّه سبحانه فضيلة لا ما يدعيه الإشخاص لأنفسهم انطلاقاً من أنانيتهم، فيظلمون بذلك أنفسهم وغيرهم.

في الآية اللاحقة التفوق العنصري، ويعتبره نوعاً من الكذب على اللَّه والإفتراء عليه سبحانه، ومعصية كبرى وذنباً بيّناً إذ يقول سبحانه: «انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا». أي أنظر كيف أنّ هذه الجماعة بافتعالها لهذه الفضائل وإدعائها لنفسها من ناحية، ونسبتها إلى اللَّه من ناحية اخرى، تكذب على اللَّه، ولو لم يكن لهذه الجماعة أي ذنب إلّاهذا لكفى في عقوبتهم.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل، وهو قول أكثر المفسرين: إنّ كعب بن الأشرف خرج مع سبعين راكباً من اليهود إلى مكة، بعد وقعة احد،

ليخالفوا قريشاً على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

______________________________

(1) «يزكّون»: من مادة «تزكية» بمعنى تطهير، وتأتي أحياناً بمعنى التربية والتنمية، ففي الحقيقة إذا كانت التزكية مقترنة بالعمل فإنّها تعتبر امراً محموداً، وإلّا لو كانت مجرّد إدّعاء وكلام فارغ فهي مذمومة.

(2) «الفتيل»: في اللغة بمعنى الخيط الدقيق الموجود بين شقي نواة التمر، ويأتي كناية عن الأشياء الصغيرة والدقيقة جداً، وأصله من مادة «فتل» بمعنى البرم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 409

وينقضوا العهد الذي كان بينهم، وبين رسول اللَّه، فنزل كعب على أبي سفيان، فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة: إنّكم أهل كتاب ومحمّد صاحب كتاب، فلا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما. ففعل. فذلك قوله «يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ»، ثم قال كعب: يا أهل مكة! ليجي ء منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون فنلصق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد ربّ البيت لنجهدنّ على قتال محمّد! ففعلوا ذلك. فلمّا فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن اميّون لا نعلم، فأينا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحق، نحن أم محمّد؟

قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء «1» ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفكّ العاني «2»، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربّنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمّد فارق دين آبائه، وقاطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم، ودين محمّد الحديث. فقال كعب: أنتم واللَّه أهدى سبيلًا مما عليه محمّد. فأنزل اللَّه تعالى الآيات.

التّفسير

إنّ الآية الاولى من الآيتين الحاضرتين تعكس صفة اخرى من صفات اليهود الذميمة، وهي أنّهم لأجل الوصول إلى أهدافهم كانوا يداهنون كل جماعة من الجماعات، حتى أنّهم لكي يستقطبوا المشركين سجدوا لأصنامهم، ولهذا يقول

سبحانه في هذه الآية مستغرباً:

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُتُوا نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ» وهي الأصنام؟

ولكنهم لا يقتنعون بهذا، ولا يقفون عند هذا الحدّ، بل: «وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلًا».

ثم إنّه سبحانه بيّن- في الآية الثانية- مصير أمثال هؤلاء المداهنين قائلًا: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا».

إنّ اليهود- كما تقول هذه الآية- لم يحصلوا من مداهنتهم الفاضحة على نتيجة، بل انهزموا في النهاية، وتحققت نبوءة القرآن الكريم في شأنهم.

إنّ الآيات الحاضرة وإن كانت قد نزلت في شأن جماعة خاصة، ولكنها لا تختص بهم حتماً، بل تشمل كل الأشخاص المداهنين المصلحيين (الانتهازيين) الذين يضحّون

______________________________

(1) الكوماء: الناقة العظيمة السنام.

(2) العاني: الأسير.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 410

بشخصيتهم ومكانتهم، بل وإيمانهم ومعتقداتهم في سبيل الوصول إلى مآربهم السافلة وأغراضهم الدنيئة. فإنّ هؤلاء أبعد ما يكونون عن رحمة اللَّه في الدنيا والآخرة، وغالباً مايؤول أمرهم إلى الهزيمة والفشل.

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) في تفسير الآيتين السابقتين قلنا أنّ اليهود عمدوا- لإرضاء الوثنيين في مكة واستقطابهم- إلى الشهادة بأنّ وثنية قريش أفضل من توحيد المسلمين، بل وعمدوا عملياً إلى السجود أمام الأصنام، وفي هذه الآيات يبين سبحانه أنّ حكمهم هذا لا قيمة له لوجهين:

1- إنّ اليهود ليس لهم- من جهة المكانة الاجتماعية- تلك القيمة التي نؤهلهم للقضاء بين الناس والحكم في امورهم، ولم يفوّض الناس إليهم حق الحكم والقضاء بينهم

أبداً ليكون لهم مثل هذا العمل: «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ».

هذا مضافاً إلى أنّهم لا يمتلكون أيّة قابلية وأهلية للحكومة المادية والمعنوية على الناس، لأنّ روح الاستئثار قد استحكم في كيانهم بقوة إلى درجة أنّهم إذا حصلوا على مثل هذه المكانة لم يعطوا لأحد حقه، بل خصّوا كل شي ء بأنفسهم دون غيرهم «فَإِذًا لَّايُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا» «1».

2- إنّ هذه الأحكام الباطلة ناشئة من حسدهم البغيض للنبي صلى الله عليه و آله وأهل بيته المكرمين، ولهذا تفقد أيّة قيمة، إنّهم إذ خسروا مقام النبوة والحكومة بظلمهم وكفرهم، ولأجل هذا يحاولون بإطلاق تلك الأحكام الباطلة وتلك المزاعم السخيفة أن يخففوا من لهيب الحسد في كيانهم: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ».

ثم إنّ اللَّه سبحانه يقول معقباً على هذا: ولماذا تتعجبون من إعطائنا النبي صلى الله عليه و آله وبني هاشم

______________________________

(1) «النقير»: مشتقة من مادة النقر (وزن فقر) الدق في شي ء بحيث يوجد فيه ثقباً واشتق منه المنقار، وقال بعض: النقير وقبَة صغيرة جدّاً في ظهر النّواة ويضرب به المثل في الشي ء الطفيف.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 411

ذلك المنصب الجليل وذلك المقام الرفيع، وقد أعطاكم اللَّه سبحانه وأعطى ال إبراهيم الكتاب السماوي والعلم والحكمة والملك العريض (مثل ملك موسى وسليمان وداود) ولكنكم- مع الأسف- أسأتم خلافتهم ففقدتم تلكم النعم المادية والمعنوية القيمة بسبب قسوتكم وشروركم: «فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا».

في تفسير البرهان عن أبي الصباح قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عز وجل «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ...» فقال: «يا أبا الصباح نحن [واللَّه الناس المحسودون».

ثم قال القرآن الكريم في الآية اللاحقة: «فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ

عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا». أي إنّ من الناس آنذاك من آمن بالكتاب الذي نزل على آل إبراهيم، ومنهم من لم يكتف بعدم الإيمان بذلك الكتاب، بل صدّ الآخرين عن الإيمان وحال دون انتشاره، اولئك كفاهم نار جهنم المشتعلة عذاباً وعقوبة. وسينتهي إلى نفس هذا المصير كل من كفر بالقرآن الكريم الذي نزل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) تعقيباً على الآيات السابقة شرحت هاتان الآيتان مصير المؤمنين والكافرين. فالآية الاولى تقول: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا» «1».

وعلة تبديل الجلود- على الظاهر- هي أنّه عندما تنضج الجلود يخف الإحساس بالألم لدى الإنسان، ولكي لا تتخفف عقوبتها وعذابها وليحس الإنسان بالألم إحساساً كاملًا، تبدل الجلود، وتأتي مكان الجلود الناضجة جلود جديدة، وما هذا إلّانتيجة الإصرار على تجاهل الأوامر الإلهية، ومخالفة الحق والعدل، والإعراض عن طاعة اللَّه.

______________________________

(1) «نصليهم»: من مادة «الصلى» بمعنى الإلقاء فى النار، والإشتواء بالنار، أو التدفؤ بالنار و «نضجت»: من مادة «نضج» بمعنى أدركت شيها و صارت مشوية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 412

ثم يقول سبحانه في ختام الآية: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا». أي إنّه قادر بعزته أن يوقع هذه العقوبات بالعصاة، وأنّه لا يفعل ذلك اعتباطاً، بل عن حكمة وعلى أساس الجزاء على المعصية.

ثم يقول سبحانه في الآية الثانية: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ

جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًا ظَلِيلًا» «1».

أي: إنّنا نعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأنّ ندخلهم جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار والسواقي يعيشون فيها حياة خالدة، هذا مضافاً إلى ما يعطون من أزواج مطهرات يستريحون إليهن، ويجدون في كنفهن لذة الروح والجسد، وينعمون تحت ظلال خالدة بدل الظلال الزائلة، لا تؤذيهم الرياح اللافحة كما لا يؤذيهم الزمهرير أبداً.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ هذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه و آله بردّ مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة حين قبض منه المفتاح يوم فتح كعبة وأراد أن يدفعه إلى العباس، لتكون له الحجابة والسقاية. (والظاهر أنّ العباس أراد أن يستفيد من نفوذ ومكانة ابن أخيه الاجتماعية والسياسية لمصلحته الشخصية) ولكن النبي صلى الله عليه و آله فعل خلاف ذلك، فإنّه بعد ما طهّر الكعبة من الأصنام والأوثان، أمر علياً عليه السلام أن يردّ المفتاح إلى عثمان بن طلحة ففعل ذلك وهو يتلو الآية المبحوثة.

التّفسير

الآية الحاضرة تتضمّن حكماً عامّاً وشاملًا للجميع، فهي تقول بصراحة: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا».

إنّ للأمانة معنى وسيعاً يشمل كل شي ء مادي ومعنوي، ويجب على كل مسلم- بصريح

______________________________

(1) «الظليل»: من مادة «الظل» بمعنى الفي ء، واستعمل هنا للتأكيد، لأنّ معناه الظل المظلل أو الظل الظليل وهو كناية عن غاية الراحة والدعة والرفاه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 413

هذه الآية- أن لا يخون أحداً في أيّة أمانة دون استثناء، سواء كان صاحب الأمانة مسلماً أو

غير مسلم، وهذا هو إحدى المواد في «الميثاق الاسلامي لحقوق الإنسان» التي يتساوى تجاهها كل أفراد البشر.

ثم إنّه سبحانه يشير- في القسم الثاني من الآية- إلى قانون مهم آخر، وهو مسألة «العدالة في الحكومة» فيقول: «وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ». أي إنّ اللَّه يوصيكم أيضاً أن تلتزموا جانب العدالة في القضاء والحكم بين الناس، فتحكموا بعدل.

ثم قال سبحانه تأكيداً لهذين التعليمين: «إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ».

ثم يقول مؤكّداً ذلك أيضاً: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» فهو يراقب أعمالكم وهو يسمع أحاديثكم ويرى أفعالكم.

إنّ الأمانة لا تنحصر في الأموال التي يودعها الناس- بعضهم عند بعض- بل العلماء في المجتمع هم أيضاً مستأمنون يجب عليهم أن لا يكتموا الحقائق، بل حتى أبناء الإنسان وأولاده أمانات إلهية لدى الآباء والامهات فلا يفرطوا في تربيتهم، ولا يقصروا في تأديبهم وتعليمهم، وإلّا كان ذلك خيانة في الأمانة الإلهية التي أمر اللَّه بأدائها، بل وفوق ذلك كله الوجود الإنساني، فهو وجميع الطاقات المودوعة فيه «أمانات اللَّه» التي يجب على الإنسان أن يجتهد في المحافظة عليها، كما عليه أن يحافظ على صحّة جسمه وسلامة روحه.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لأحد أصحابه: «اعلم أنّ ضارب علي بالسيف وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثم قبلت ذلك منه لأدّيت إليه الأمانة».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) هذه الآية وبعض الآيات اللاحقة تبحث عن واحدة من أهم المسائل الإسلامية، ألا وهي مسألة القيادة، وتعيين القادة والمراجع الحقيقيين للمسلمين في مختلف المسائل

الدينية والاجتماعية. فهي تأمر المؤمنين- أوّلًا- بأن يطيعوا اللَّه، ومن البديهي أنّه يجب أن تنتهي جميع الطاعات- عند الفرد المؤمن- إلى طاعة اللَّه سبحانه، وكل قيادة وولاية يجب أن تنبع من ولاية اللَّه سبحانه وذاته المقدّسة تعالى وتكون حسب أمره ومشيئته، لأنّه الحاكم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 414

والمالك التكويني لهذا العالم، وكل حاكمية ومالكية يجب أن تكون بإذنه وبأمره: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ». وفي المرحلة الثانية تأمر باتّباع النبي صلى الله عليه و آله وإطاعته، وهو النبي المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ولا ينطلق من الأنا، والنبي الذي هو خليفة اللَّه بين الناس، وكلامه كلام اللَّه، وقد أعطي هذا المقام من جانب اللَّه سبحانه.

وفي المرحلة الثالثة يأمر سبحانه بإطاعة أولي الأمر القائمين من صلب المجتمع الإسلامي، والذين يحفظون للناس أمر دينهم ودنياهم.

من هم أولوا الأمر؟ ذهب جميع مفسّري الشيعة بالإتفاق إلى أنّ المراد من «أولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون عليهم السلام الذين انيطت إليهم قيادة الأمة الإسلامية المادية والمعنوية في جميع حقول الحياة من جانب اللَّه سبحانه والنّبي الأكرم صلى الله عليه و آله ولا تشمل غيرهم، اللّهم إلّا الذي يتقلد منصباً من قبلهم، ويتولى أمراً في إدارة المجتمع الإسلامي من جانبهم- فإنّه يجب طاعته أيضاً إذا توفرت فيه شروط معينة، ولا تجب طاعته لكونه من اولي الأمر، بل لكونه نائباً لُاولي الأمر ووكيلًا من قبلهم.

يقول سبحانه في ذيل الآية إلى مسألة التنازع والاختلاف بين المسلمين إذ قال: «فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا». والمراد من الاختلاف والتنازع في العبارة الحاضرة هو الاختلاف والتنازع في الأحكام، لا في المسائل المتعلقة

بجزئيات الحكومة والقيادة الإسلامية، لأنّه في هذه المسائل يجب إطاعة اولي الأمر (كما صرح بذلك في الجملة الاولى من الآية المبحوثة هنا).

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيداً (60)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة. فقال اليهودي أحاكم إلى محمّد؛ لأنّه علم أنّه لا يقبل الرشوة ولا يجور في الحكم. فقال المنافق: لا بل بيني وبينك كعب بن الأشرف؛ لأنّه علم أنّه يأخذ الرشوة، فنزلت الآية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 415

التّفسير

الآية الحاضرة مكملة للآية السابقة، لأنّ الآية السابقة كانت تدعو المؤمنين إلى طاعة اللَّه والرسول واولي الأمر والتحاكم إلى الكتاب والسنّة، وهذه الآية تنهى عن التحاكم إلى الطاغوت واتّباع أمره وحكمه وتقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ».

ثم يضيف القرآن قائلًا: «وَيُرِيدُ الشَّيْطنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَللًا بَعِيدًا». أي إنّ التحاكم إلى الطاغوت فخّ الشيطان ليضل المؤمنين عن الصراط المستقيم.

وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَ تَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً (63) نتائج حكم الطاغوت: في أعقاب النهي الشديد عن التحاكم إلى الطاغوت وحكام الجور الذي مرّ في الآية السابقة جاءت هذه

الآيات الثلاث تدرس نتائج أمثال هذه الأحكام والأقضية، وما يتمسك به المنافقون لتبرير تحاكمهم إلى الطواغيت وحكام الجور والباطل.

ففي الآية الاولى يقول سبحانه: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا».

إنّ الإصرار على هذا العمل يكشف عن ضعف إيمانهم وروح النفاق فيهم، وإلّا لوجب أن ينتبهوا ويثوبوا إلى رشدهم على دعوة رسول الكريم صلى الله عليه و آله لهم ويعترفوا بخطأهم.

ثم في الآية الثانية يبين هذه الحقيقة، وهي أنّ هولاء المنافقين عندما يتورطون في مصيبة كنتيجة لمواقفهم وأعمالهم، ويواجهون طريقاً مسدودة يعودون إليك عن اضطرار ويأس:

«فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ».

ويحلفون في هذه الحالة أنّ هدفهم من التحاكم إلى الآخرين لم يكن إلّاالإحسان والتوصل إلى الوفاق بين طرفي الدعوي: «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِن أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 416

ولكن كشف سبحانه في الآية الثالثة النقاب عن وجههم، وأبطل هذه التبريرات الكاذبة وقال: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ». ولكنّه سبحانه يأمر نبيّه مع ذلك أن ينصرف عن مجازاتهم وعقوبتهم فيقول: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ».

ولقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يداري المنافقين ما أمكنه لأجل تظاهرهم بالإسلام، لأنّه كان مأموراً بالتعامل معهم على حسب ظواهرهم، فلم يكن يجازيهم إلّافي بعض الموارد الاستثنائية.

ثم إنّه سبحانه يأمر النبي أن يعظهم، وأن ينفذ إلى قلوبهم بالقول البالغ، والعظة المؤثرة، يذكرهم بنتائج أعمالهم: «وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا».

وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) في الآيات السابقة شجب القرآن الكريم التحاكم إلى حكّام الجور، وفي

هذه الآية يقول سبحانه مؤكداً: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ». أي أنّنا بعثنا الأنبياء ليطاعوا بإذن اللَّه وأمره ولا يخالفهم أحد، لأنّهم كانوا رسل اللَّه وسفراءه كما كانوا رؤساء الحكومة الإلهيّة أيضاً، وعلى هذا يجب على الناس أن يطيعوهم من جهة بيان أحكام اللَّه ومن جهة طريقة تطبيقها، ولا يكتفوا بمجرد ادعاء الإيمان.

يستفاد من عبارة «بِإِذْنِ اللَّهِ» أنّ كل ما عند الأنبياء من اللَّه.

ثم إنّه سبحانه يترك باب التوبة والإنابة- عقيب تلك الآية- مفتوحاً على العصاة والمذنبين، وعلى الذين يراجعون الطواغيت ويتحاكمون إليهم أو يرتكبون معصية بنحو من الأنحاء، ويقول: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا».

إشارة إلى أنّ فائدة الطاعة لأمر اللَّه وأمر الرسول تعود إليكم أنفسكم، وإن مخالفة ذلك نوع من الظلم توقعونه على أنفسكم، لأنّها تحطّم حياتكم المادية، وتوجب تخلفكم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 417

وانحطاطكم من الناحية المعنوية.

إنّ هذه الآية تجيب ضمناً على كل الذين يعتبرون التوسل برسول اللَّه أو بالإمام نوعاً من الشرك، لأنّ الآية تصرح بأنّ التوسل بالنبي والاستشفاع به إلى اللَّه، وطلب الاستغفار منه لمغفرة المعاصي، مؤثر وموجب لقبول التوبة وشمول الرحمة الإلهية.

فَلَا وَ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في الزبير ورجل من الأنصار، خاصمه إلى النبي صلى الله عليه و آله في شراج من الحرة «1»، كانا يسقيان بها النخل كلاهما فقال النبي للزبير: أسق ثم أرسل إلى جارك فغضب الإنصاري وقال: يا رسول اللَّه لئن كان ابن عمّتك! فتلون وجه رسول اللَّه صلى الله عليه

و آله ثم قال للزبير: أسق يا زبير، ثم إحبس الماء، حتى يرجع إلى الجُدُر واستوف حقّك ثم أرسل إلى جارك. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أشار إلى الزبير برأى فيه السعة له ولخصمه. فلما أحفظ رسول اللَّه، استوعب للزبير حقّه من صريح الحكم.

التّفسير

هذه الآية تكميلًا لما جاء من البحث في الآيات السابقة، ولقد أقسم اللَّه- في هذه الآية- بأنّ الأفراد لا يمكن أن يمتلكوا إيماناً واقعياً إلّاإذا تحاكموا إلى النبي وقضائه، ولم يتحاكموا إلى غيره «فَلَا وَرَبّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ».

ثم يقول سبحانه: يجب عليهم، أن يتحاكموا إليك فقط، ومضافاً إلى ذلك ليرضوا بما تحكمه، سواءاً كان في صالحهم أو في ضررهم ولا يشعروا بأي حرج في نفوسهم فضلًا عن أن لا يعترضوا، وبالتالي ليسلموا تسليماً.

«ثُمَّ لَايَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيمًا».

يستفاد من الآية الحاضرة مطلبان مهمان- ضمناً:

______________________________

(1) الشراج جمع الشرجة: وهى مسيل الماء من الحرة إلى السهل. الحرة: أرض ذات حجارة نخرة سود، كأنّهااحرقت بالنار.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 418

1- إنّ الآية إحدى الأدلة على عصمة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لأنّ الأمر بالتسليم المطلق أمام جميع أحكامه وأوامره قولًا وعملًا، دليل واضح على أنّه صلى الله عليه و آله لا يخطي ء في أحكامه وأقضيته وتعليماته، ولا يتعمّد قول ما يخالف الحق فهو معصوم عن الخطأ، كما هو معصوم عن الذنب أيضاً.

2- إنّ الآية الحاضرة تبطل كل اجتهاد في مقابل النص الوارد عن النبي صلى الله عليه و آله وتنفي شرعية كل رأي شخصي في الموارد التي وصلت إلينا فيها أحكام صريحة من جانب اللَّه تعالى ونبيه صلى الله عليه و آله.

وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا

عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَ إِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَ لَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68) تكميلًا للبحث السابق حول اولئك الذين يشعرون بضيق وحرج تجاه أحكام النبي صلى الله عليه و آله وأقضيته العادلة بعض الأحيان- يشير القرآن هنا إلى بعض التكاليف والفرائض الثقيلة في الامم السالفة فيقول: «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ». أي إنّنا لم نكلّفهم بأية فريضة شاقة لا تتحمل، ولو أنّنا كنّا نكلّفهم بمثل ما كلّفنا به الامم السابقة (مثل اليهود الذين أمروا بأن يقتل بعضهم البعض الآخر كفارة لما إرتكبوه من عبادة العجل، أو يخرجوا من وطنهم المحبب إليهم لذلك) كيف كانوا يتحملونه؟

إنّهم لم يتحملوا حكماً بسيطاً أصدره النبي في أمر سقي نخلات، ولم يسلموا لهذا القضاء العادل، فكيف ترى يمكنهم أن يقوموا بالمهمات العظيمة والمسؤوليات الجسيمة ويمرّوا بالاختبارات الصعبة بنجاح، فلو أنّنا أمرناهم بأن يقتلوا أنفسهم (أي يقتل بعضهم بعضاً) أو يخرجوا من وطنهم المحبب عندهم لما فعله إلّاقليل منهم.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يقول: «وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا». أي لو أنّهم قبلوا نصائح النبي ومواعظه لكان ذلك من مصلحتهم، ولكان سبباً لتقوية اسس الإيمان عندهم.

إنّ اللَّه سبحانه يقول في ختام هذه الآية: «وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا». أي كلّما اجتهد الإنسان في السير في سبيل طاعة اللَّه وتنفيذ أوامره ازدادت استقامته وإزداد ثباته، وهذا يعني أنّ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 419

إطاعة الأوامر الإلهية نوع من الرياضة الروحية التي تحصل للإنسان

إلى مرحلة لا يمكن لأية قدرة أن تغلب قدرته أو تخدعه أو تزعزعه.

ثم إنّه سبحانه يبين- في الآية الثانية- الفائدة الثالثة من فوائد التسليم لأوامر اللَّه وطاعته إذ يقول: «وَإِذًا لَّأَتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا». أي إذاً لأعطيناهم- مضافاً إلى ما ذكرناه- أجراً من عندنا عظيماً، لا يعرف منتهاه ولا يدرك مداه.

ثم في آخر آية من هذه الآيات يشير سبحانه إلى رابع نتيجة إذ يقول: «وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا». والمراد من هذه «الهداية» ليس هو الإرشاد إلى أصل الدين، بل المراد الطاف جديدة يمن بها اللَّه سبحانه على مثل هؤلاء العباد الصالحين بعنوان الثواب والهداية الثانوية.

وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَدَاءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في ثوبان وكان شديد الحب لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغيّر لونه ونحل جسمه فقال صلى الله عليه و آله: «يا ثوبان! ما غيّر لونك»؟ فقال:

يا رسول اللَّه! ما بي من مرض ولا وجع غير أنّي إذا لم أرك اشتقت إليك حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أنّي لا أراك هناك، لأنّي عرفت أنّك ترفع مع النبيين وإنّى إن أدخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك وإن لم أدخل الجنة فذاك حتى لا أراك أبداً. فنزلت الآية.

ثم قال صلى الله عليه و آله: «والذي نفسي بيده لا يؤمننّ عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين». أي: يكون مسلماً لتعاليمي وأوامري، تسليماً كاملًا.

التّفسير

رفقاء الجنة: في هذه الآية

يبين القرآن ميزة اخرى من ميزات من يطيع أوامر اللَّه تعالى والنبي صلى الله عليه و آله ومكملة للميزات التي جاء ذكرها في الآيات السابقة، وهي صحبة الذين أتمّ اللَّه نعمه عليهم ومرافقتهم: «وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم».

وكما أسلفنا في سورة الحمد فإنّ الذين أنعم اللَّه عليهم هم الذين ساروا في الطريق

مختصر الامثل، ج 1، ص: 420

مختصر الامثل ج 1 449

المستقيم ولم يرتكبوا أي خطأ، ولم يكن فيهم أي انحراف. ثم يشير- لدى توضيح هذه الجملة وتحديد من أنعم اللَّه عليهم- إلى أربع طوائف يشكلون الأركان الأربعة لهذا الموضوع وهم:

1- الأنبياء: أي رسل اللَّه تعالى الذين كانوا طليعة السائرين في سبيل هداية الناس ودعوتهم إلى الصراط المستقيم «مِّنَ النَّبِيّينَ».

2- الصادقون: وهم الذين يصدقون في القول ويصدقون إيمانهم بالعمل الصالح، ويثبتون أنّهم ليسوا مجرد أدعياء الإيمان، بل مؤمنون بصدق بأوامر اللَّه وتعاليمه «وَالصّدّيقِينَ».

ومن هذا التعبير يتّضح أنّه ليس بعد مقام النبوة أعلى من مقام الصدق، والصدق هذا لا ينحصر في الصدق في القول فقط، بل هو الصدق في الفعل والعمل ... الصدق في الممارسات والمواقف، وهو لذلك يشمل الأمانة والإخلاص أيضاً، لأنّ الأمانة هي الصدق في العمل كما أنّ الصدق أمانة في القول.

3- الشهداء: الذين قتلوا في سبيل اللَّه وفي سبيل العقيدة الإلهية الطاهرة، أو الذين يشهدون على الناس وأعمالهم في الأخرة «وَالشُّهَدَاءِ».

4- الصالحون: وهم الذين بلغوا بأعمالهم الصالحة والمفيدة وبإتّباع الأنبياء وأوامرهم إلى مراتب عالية ومقامات رفيعة «وَالصَّالِحِينَ».

ومن الواضح البيّن أنّ مسألة مرافقة الصالحين وصحبة الرفقاء الطيبين لها من الأهمية بحيث تعتبر في الآخرة الجزء المكمل للنعم الإلهية الكبرى التي يمنّ اللَّه بها على المطيعين في الجنة، فهم علاوة

على كل ما يحصلون عليه من نعم وميزات سيحظون بمرافقة رفقاء كالأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.

ثم يبين سبحانه في الآية اللاحقة أهمية هذا الإمتياز الكبير (أي مرافقة تلك الصفوة المختارة) إنّ هذه الهبة من جانب اللَّه، وهو عليم بأحوال عباده ونواياهم ومؤهلاتهم: «ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا». فلا يخطى ء في الإثابة والجزاء.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) الحذر الدائم: «الحذر»: يعني اليقظة والتأهب والترقب لخطر محتمل، كما يعني أحياناً

مختصر الامثل، ج 1، ص: 421

الوسيلة التي يستعان بها لدفع الخطر. أمّا كلمة «ثبات»: فتفيد معنى المجموعات المتفرقة.

والقرآن يخاطب عامة المسلمين في الآية المذكورة أعلاه، ويقدم لهم اثنتين من التعاليم اللازمة لصيانة وجود المسلمين والمجتمع الإسلامي تجاه كل خطر يهدد هذا الوجود. ففي البداية تأمر الآية المؤمنين بالتمسك باليقظة والبقاء في حالة التأهب من أجل مواجهة العدو وتحذرهم من الغفلة عن هذا الامر: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ».

ثم تأمر الآية بالاستفادة من الأساليب والتكتيكات المختلفة في مواجهة العدو، من ذلك الزحف على شكل مجموعات إن تطلب الأمر مثل هذا الأسلوب، أو على شكل جيش موحّد مترابط إن استدعت المواجهة هجوماً شاملًا منسجماً وفي كلتا الحالتين لابد من المواجهة الجماعية «فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا».

الآية الكريمة هذه تشتمل على أمر عام مطلق لجميع المسلمين في كل العصور والأزمنة، ويدعو هذا الأمر المسلمين إلى الالتزام باليقظة والاستعداد الدائم لمواجهة أي طارى ء من جانب الأعداء ولحماية أمن الامة، وذلك عن طريق التحلّي بالاستعداد المادي والمعنوي الدائمين.

وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَ لَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ

تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) بعد صدور الأمر العام إلى المسلمين بالجهاد والاستعداد لمقابلة العدوّ في الآية السابقة تبين هاتان الآيتان موقف المنافقين من الجهاد، وتفضح تذبذبهم، فهم يصرّون على الإمتناع عن المشاركة في صفوف المجاهدين في سبيل اللَّه ... «وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ» «1».

وحين يعود المجاهدون من ميدان القتال أو حين تصل أنباء معاركهم، فإن كان قد أصابهم مكروه في قتالهم يتحدث المنافقون بابتهاج بأنّ اللَّه قد أنعم عليهم نعمة كبيرة إذ لم يشاركوا المجاهدين في ذلك القتال، ويفرحون لعدم حضورهم في مشاهد الحرب الرهيبة

______________________________

(1) «ليبطّئنّ»: من «البطء» في الحركة، وهو فعل لازم ومتعد. أي أنّهم يبطّؤون في حركتهم ويدعون الآخرين إلى البطء، ولعلّ استعمال الفعل في باب التفعيل هنا يعني أنّه متعد فقط، أي إنّهم يدفعون أنفسهم إلى البطء تارةً ويدفعون الآخرين إلى ذلك تارةً اخرى.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 422

«فَإِن أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا». وحين تصل الأخبار بانتصار المسلمين المجاهدين ونيلهم المغانم، يتبدل موقف هؤلاء المنافقين فتبدو الحسرة عليهم ويظهر الندم على وجوههم، ويشرعون- وكأنّهم غرباء لا تربطهم بالمسلمين أيّة رابطة- بترديد عبارات التأسف: «وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا».

فالذي يرى الشهادة والقتل في سبيل اللَّه مصيبةً وبلاءً، ويخال النجاة من القتل أو الشهادة في هذه السبيل نعمة إلهية، لا ينظر إلى النصر والفوز إلّامن خلال منظار كسب الغنائم والمتاع المادي لا غير.

فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً

(74) إعداد المؤمنين للجهاد: بعد أن أوضحت الآية السابقة إحجام المنافقين عن مشاركة المجاهدين في القتال تتوجه الآية (74) والتي تليها- بلغة مشجعة مشوقة- إلى المؤمنين فتدعوهم إلى الجهاد في سبيل اللَّه. وتوضح الآية في بدايتها أنّ أعباء الجهاد يجب أن تكون على عاتق اولئك النفر الذين باعوا حياتهم الدنيوية المادية الزائلة، مقابل فوزهم بالحياة الاخروية الخالدة: «فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالْأَخِرَةِ». أي أنّ المجاهدون الحقيقيون هم وحدهم المستعدون للدخول في هذه الصفقة.

وتستمر الآية مبيّنة أنّ مصير المجاهدين الحقيقيين الذين باعوا الحياة الدنيا بالآخرة واضح لا يخرج عن حالتين: إمّا النصر على الاعداء، أو الشهادة في سبيل اللَّه، وهم في كلتا الحالتين ينالون الأجر والثواب العظيم من اللَّه تعالى: «وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا». وبديهي أنّ جنوداً كهؤلاء لا يفهمون معنى الهزيمة، فهم يرون النصر إلى جانبهم في الحالتين.

وَ مَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ وَ الْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 423

الإستعانة بالعواطف والمشاعر الإنسانية: كانت الآية السابقة تطالب المؤمنين بالجهاد معتمدة على إيمانهم باللَّه واليوم الآخر، وقد اعتمدت أيضاً قضية الربح والخسارة في سياق دعوتها إلى الجهاد، أمّا هذه الآية فتستند في دعوتها الجهادية إلى العواطف والمشاعر الإنسانية وتستثيرها في هذا الإتجاه- فهي تخاطب مشاعر المؤمنين وعواطفهم بعرض ما يتحمله الرجال والنساء والأطفال المضطهدون من عذاب وظلم بين مخالب الطغاة الجبارين، وتطالب المؤمنين- مستثيرة عواطفهم في هذا الإتجاه- عن طريق عرض المشاهد المأساوية التي يعاني

منها المستضعفون وتدعوهم إلى الجهاد في سبيل اللَّه من أجل إنقاذ هؤلاء المظلومين فتقول الآية: «وَمَا لَكُمْ لَاتُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ» «1».

ولأجل إثارة المشاعر أكثر، تنبّه الآية المؤمنين بأنّ المستضعفين المذكورين لكثرة معاناتهم من البطش والارهاب والاضطهاد قد انقطع أملهم في النجاة ويئسوا من كل عون خارجي، فأخذوا يدعون اللَّه لإخراجهم من ذلك المحيط الرهيب المشحون بأنواع البطش والرعب والظلم الفاحش: «الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا».

ويطلب المستضعفون من اللَّه- أيضاً- أن يرسل لهم من يتولى الدفاع عنهم وينجيهم من الظالمين بقولهم: «وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا».

الآية تشير إلى أنّ اللَّه قد استجاب دعاء المستضعفين، فهذه الرسالة الإنسانية الكبرى قد أوكلت إليكم أنتم أيّها المسلمون المخاطبون.

الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) لقد أوضحت الآيات السابقة قضية الجهاد، وأبرزت عناصره والمخاطبين به ودوافعه، وفي هذه الآية نلاحظ أنّها تحث المجاهدين على القتال، وتبيّن أهدافهم، مؤكّدة أنّهم يقاتلون في سبيل اللَّه ولمصلحة عباد اللَّه، وأنّ الكافرين يقاتلون في سبيل الطاغوت المتجبر: «الَّذِينَ

______________________________

(1) إنّ الفرق بين المستضعف والضعيف واضح وجلي، فالضعيف هو من كان معدوم القدرة والقوّة، والمستضعف هو من أصابه الضعف بسبب ظلم وجور الآخرين، سواء كان الاستضعاف فكرياً أم ثقافياً أم كان أخلاقياً أو اقتصادياً أم سياسياً أم اجتماعياً، فالعبارة هنا جامعة شاملة تستوعب جميع أنواع الاستضعاف.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 424

ءَامَنُوا يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّاغُوتِ». أي إنّ الحياة في كل الأحوال لا تخلو من الكفاح والصراع، غير أنّ جمعاً يقاتلون

في طريق الحق، وجمعاً يقاتلون في طريق الشيطان والباطل. لذلك تطلب الآية من أنصار الحق أن ينبروا لقتال أنصار الشيطان دونما رهبة وخوف:

«فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطنِ».

كما توضح هذه الآية حقيقة مهمة، هي أنّ الطاغوت والقوى المتجبرة- مهما إمتلكت من قوة ظاهرية- ضعيفة في نفسها وجبانة في باطنها، وبهذا تطمئن الآية المؤمنين كي لا يخافوا من هؤلاء الطواغيت، ولأنّهم لا يعتمدون على منشأ القدرة الأزلية الأبدية الذي هو اللَّه العزيز القدير، بل يعتمدون على قدرة الشيطان الضعيفة الجوفاء: «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطنِ كَانَ ضَعِيفًا».

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْ لَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَ لَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)

سبب النّزول

في الدر المنثور عن ابن عباس: أنّ عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه و آله فقالوا: يا نبي اللَّه كنا في عز ونحن مشركون فلمّا آمنا صرنا أذلة فقال: إنّى امرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوّله اللَّه إلى المدينة أمره اللَّه بالقتال فكفوا فأنزل اللَّه الآية.

التّفسير

قوم بضاعتهم الكلام دون العمل: تتحدث الآية بلغة التعجب من أمر نفر أظهروا رغبة شديدة في الجهاد خلال ظرف غير مناسب، وأصرّوا على السماح لهم بذلك، وقد صدرت الأوامر لهم- حينئذ- بالصبر والاحتمال، ودعوا إلى إقامة الصلاة، وأداء الزكاة، وبعد أن سنحت الفرصة وآتت الظروف للجهاد بصورة كاملة وأمروا به، استولى على هؤلاء النفر الخوف والرعب، وانبروا يعترضون على الأمر الإلهي ويتهاونون في أدائه. تقول الآية: «أَلَمْ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 425

تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً». فكان هؤلاء في اعتراضهم على أمر الجهاد يقولون صراحة: لماذا أسرع اللَّه في إنزال أمر الجهاد؟ ويتمنون لو أخر اللَّه هذا الأمر ولو قليلًا! أو يطلبون أن يناط أمر الجهاد للأجيال القادمة «1» «وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ».

والقرآن الكريم يردّ على هؤلاء أوّلًا من خلال عبارة: «يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً». أي أنّ هؤلاء بدل أن يخافوا اللَّه القادر القهار، أخذتهم الرّجفة واستولى عليهم الرعب من إنسان ضعيف عاجز، بل أصبح خوفهم من هذا الإنسان أكبر من خشيتهم اللَّه العلي القدير.

ثم يواجه القرآن هؤلاء بهذه الحقيقة: لو أنّهم استطاعوا بعد تركهم الجهاد أن يوفّروا لأنفسهم- فرضاً- حياة قصيرة رغيدة هانئة، فإنّهم سيخسرون هذه الحياة لأنّها زائلة لا محالة، بينما الحياة الأبدية التي وعد اللَّه بها عباده المؤمنين المجاهدين الذين يخشونه ولا يخشون سواه، هي خير من تلك الحياة الزائلة، وإن المتقين سيلقون فيها ثوابهم كاملًا غير منقوص دون أن يصيبهم أي ظلم، «قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا».

أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَا لِهؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَ أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) إنّ هاتين الآيتين تقصدان

مجموعة من المنافقين تسللوا إلى صفوف المسلمين، أنّ هؤلاء قد أبدوا الخوف والقلق من المشاركة في مسؤولية الجهاد، وقد ظهر عليهم الضجر والإستياء حين نزول حكم الجهاد، فردّ عليهم القرآن الكريم- في الآية (77) من نفس السورة-

______________________________

(1) تدلّ بعض الأحاديث أنّ هذا النفر من المسلمين كان قد سمع بحديث نهضة المهدي المنتظر، فكان البعض منهم يترقب أن يؤخر الجهاد إلى زمن المهدي عليه السلام. (تفسير نور الثقلين 1/ 518).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 426

وأنّبهم لموقفهم هذا بقوله: «قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى . وفي هذا المقطع القرآني ردّ آخر على اولئك المنافقين، حيث بيّن أنّ الموت آتيهم يوماً لا محالة، حتى إذا تحصنوا في قلاع عالية ومنيعة بحسب ظنّهم، ومادام الموت يدرك الإنسان بهذه الصورة أليس من الخير له أن يموت على طريق مثمر وصحيح كالجهاد؟!

يشير القرآن في هاتين الآيتين إلى وهم آخر من أوهام المنافقين، حين يوضح أنّ هؤلاء إذا أحرزوا نصراً أو غنموا خيراً قالوا: إنّ اللَّه هو الذي أنعم عليهم بذلك، وزعموا أنّهم أهل لهذه النعمة: «وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ».

أمّا إذا مني هؤلاء بهزيمة أو لحقهم أذى في ميدان القتال، ألقوا اللوم على النبي صلى الله عليه و آله وافتروا عليه بقولهم إنّ ما نالهم من سوء هو من عنده، متهمين خططه العسكرية بالضعف، من ذلك ما حدث في غزوة احد. تقول الآية: «وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِندِكَ».

إنّ القرآن الكريم يردّ على هؤلاء مؤكداً إنّ الإنسان المسلم الموحد الذي يؤمن صادقاً باللَّه ويعبده ولا يعبد سواه، إنّما يعتقد بأنّ كل الوقائع والأحداث والإنتصارات والهزائم هي بيد اللَّه العليم الحكيم، فاللَّه هو الذي يهب الإنسان ما

يستحقه ويعطيه بحسب قيمته الوجودية، وفي هذا المجال تقول الآية: «قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ».

والآية- هذه- تحمل في آخرها تقريعاً وتأنيباً للمنافقين الذين لا يتفكرون ولا يمعنون في حقائق الحياة المختلفة، حيث تقول: «فَمَالِ هؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا».

وبعد هذا- في الآية التالية- يصرح القرآن بأنّ كل ما يصيب الإنسان من خيرات وفوائد وكل ما يواجهه الكائن البشري من سرور وإنتصار هو من عند اللَّه، وإنّ ما يحصل للإنسان من سوء وضرر وهزيمة أو خسارة فهو بسبب الإنسان نفسه. تقول الآية: «مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ».

وتردّ الآية في آخرها على اولئك الذين كانوا يرون وجود النبي صلى الله عليه و آله سبباً لوقوع الحوادث المؤسفة فيما بينهم فتقول: «وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا».

وحين تنسب الآية الاولى الخير والشر كله للَّه، فإنّ ذلك معناه أنّ مصادر القوة جميعها بيد اللَّه العليم القدير حتى تلك القوّة التي يساء استخدامها، ومن هذا المنطلق تنسب الخير والشر للَّه، لأنّه هو واهب القوى. والآية الثانية: تنسب «السيئات» إلى الناس إنطلاقاً من مفهوم «الجوانب السلبية» للقضية ومن الإساءة في استخدام المواهب الإلهية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 427

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَ يَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَ اللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) سنّة النبي صلى الله عليه و آله بمنزلة الوحي: توضح الآية الاولى موضع النبي صلى الله عليه و آله من الناس وحسناتهم وسيئاتهم وتؤكد أوّلًا بأنّ إطاعة النبي صلى الله عليه و آله هي طاعة

للَّه: «مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ». أي لا انفصال بين طاعة اللَّه وطاعة الرسول.

ثم تبين أنّ النبي صلى الله عليه و آله ليس مسؤولًا عن الذين يتجاهلون ويخالفون أوامره، كما أنّه ليس مكلفاً بإرغام هؤلاء على ترك العصيان، بل إنّ مسؤولية النبي صلى الله عليه و آله هي الدعوة للرسالة الإلهية التي بعث بها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الضالين والغافلين. تقول الآية: «وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا».

فعبارة «حفيظ» تعني الذي يراقب ويحافظ بصورة دائمة مستمرة، ويستدل من الآية على أنّ واجب النبي صلى الله عليه و آله هو قيادة الناس وهدايتهم وإرشادهم.

والأمر المهم الآخر في هذه الآية هو أنّها واحدة من أكثر آيات القرآن دلالة على حجّية السنّة النبوية الشريفة.

أمّا الآية الثانية ففيها إشارة إلى وضع نفر من المنافقين أو المتذبذبين من ضعاف الإيمان، الذين يتظاهرون حين يحضرون عند النبي صلى الله عليه و آله والمسلمين بأنّهم مع الجماعة، ويظهرون الطاعة للرسول صلى الله عليه و آله ليدفعوا بذلك الضرر عن أنفسهم وليحموا مصالحهم الخاصة، بدعوى الإخلاص والطاعة للنبي صلى الله عليه و آله: «وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ».

وبعد أن ينصرف الناس من عند النبي صلى الله عليه و آله ويختلي هؤلاء بأنفسهم يتجاهلون عهودهم في إطاعة النبي ويتآمرون في ندواتهم الخاصة- السرّية الليلية- على أقوال النبي: «فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ».

ولكن اللَّه يأمر نبيه بأن لا يلتفت إلى مكائد هؤلاء، وأن لا يخافهم ولا يخشى خططهم وأن يتجنب الاعتماد عليهم في مشاريعه، بل يتوكل على اللَّه الذي هو خير ناصر ومعين:

«فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 428

أَ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ

مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً (82) خلوّ القرآن من الإختلاف دليل حي على إعجازه: هذه الآية تخاطب المنافقين وسائر الذين يرتابون من حقيقة القرآن المجيد، وتطلب منهم- بصيغة السؤال- أن يحققوا في خصائص القرآن ليعرفوا بأنفسهم أنّ القرآن وحي منزل، ولو لم يكن كذلك لكثر فيه التناقص والاختلاف، وإذا تحقق لديهم عدم وجود الاختلاف، فعليهم أن يذعنوا أنّه وحي من اللَّه تعالى.

ونستدل من هذه الآية إنّ الناس مكلفون بالبحث والتحقيق في اصول الدين والمسائل المشابهة لها، مثل صدق دعوى النبي صلى الله عليه و آله وحقانية القرآن، وأن يتجنّبوا التقليد والمحاكاة في مثل هذه الحالات.

والقرآن قابل للفهم والإدراك للجميع ولو كان على غير هذه الصورة لما أمر اللَّه بالتدبر فيه.

وَ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) نشر الإشاعات: تشير هذه الآية إلى حركة منحرفة اخرى من حركات المنافقين أو ضعاف الإيمان، تتمثل في سعيهم إلى تلقف أي نبأ عن إنتصار المسلمين أو هزيمتهم، وبثّه بين الناس في كل مكان، دون التحقيق والتدقيق في أصل هذا النبأ أو التأكد من مصدره، وكان الكثير من هذه الأنباء لا يتعدى إشاعة عمد أعداء المسلمين إلى بثّها لتحقيق أهدافهم الدنيئة وليسيؤوا إلى معنويات المسلمين ويضروا بهم، «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمِنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ».

بينما كان من واجب هؤلاء أن يوصلوا هذه الأخبار إلى قادتهم كي يستفيدوا من معلومات هؤلاء القادة وفكرهم ولكي يتجنّبوا دفع المسلمين إلى حالة من الغرور حيال انتصارات خيالية وهمية، أو إلى

إضعاف معنوياتهم بإشاعة أنباء عن هزيمة لا حقيقة لها

مختصر الامثل، ج 1، ص: 429

«وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِى الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ».

«يستنبطونه»: من مادة «نبط» التي تعني أوّل ما يستخرج من ماء البئر أو الينبوع، والاستنباط استخراج الحقيقة من الأدلة والشواهد والوثائق، سواء كانت العملية في الفقه أو الفلسفة أو السياسة أو سائر العلوم.

وتؤكد الآية في ختامها على أنّ اللَّه قد صان المسلمين بفضله ولطفه وكرمه من آثار إشاعات المنافقين والمغرضين وضعاف الإيمان، وأنقذهم من نتائجها وعواقبها الوخيمة، ولولا الإنقاذ الإلهي ما نجى من الإنزلاق في خط الشيطان إلّاقليلًا: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا». أي إنّ النبي وأصحاب الرأي والعلماء المدققين هم وحدهم القادرون على أن يكونوا مصونين من وساوس الشائعات ومشيعيها، أمّا أكثرية المجتمع فلابد لها من القيادة السليمة لتسلم من عواقب اختلاق الشائعات ونشرها.

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ أبا سفيان لما رجع إلى مكة يوم احد، واعد رسول اللَّه موسم بدر الصغرى وهو سوق تقوم في ذي القعدة فلما بلغ النبي الميعاد قال للناس: «اخرجوا إلى الميعاد». فتثاقلوا وكرهوا ذلك كراهة شديدة أو بعضهم. فأنزل اللَّه هذه الآية، فحرّض النبي المؤمنين، فتثاقلوا عنه ولم يخرجوا. فخرج رسول اللَّه في سبعين راكباً حتى أتى موسم بدر، فكفاهم اللَّه بأس العدو، ولم يوافهم أبو سفيان ولم يكن قتال يومئذ، وانصرف رسول اللَّه بمن معه سالمين.

التّفسير

بعد ما تقدم من الآيات الكريمة حول الجهاد، تأتي هذه الآية لتعطي أمراً جديداً وخطيراً إلى الرسول الأكرم

صلى الله عليه و آله وأنّه مكلف بمواجهة الاعداء وجهادهم حتى لو بقي وحيداً ولم يرافقه أحد من المسلمين إلى ميدان القتال. لأنّه صلى الله عليه و آله مسؤول عن أداء واجبه هو، وليس عليه مسؤولية بالنسبة للآخرين سوى التشويق والتحريض والدعوة إلى الجهاد: «فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لَاتُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ».

الآية تشتمل على حكم اجتماعي مهم يخصّ القادة، ويدعوهم إلى التزام الرأي الحازم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 430

والعمل الجاد في طريقهم ومسيرتهم نحو الهدف المقدس الذي يعملون ويدعون من أجله، حتى لو لم يجدوا من يستجيب لدعوتهم، لأنّ استمرار الدعوة غير مشروط باستجابة الآخرين لها، وأي قائد لا يتوفر فيه هذا الحزم فهو بلا ريب عاجز عن النهوض بمهام القيادة، فلا يستطيع أن يواصل الطريق نحو تحقيق الأهداف المرجوة خاصة القادة الإلهيون الذين يعتمدون على اللَّه ... مصدر كل قدرة وقوة في عالم الوجود، وهو سبحانه أقوى من كل ما يدبّره الأعداء من دسائس ومكائد بوجه الدعوة، لذلك تقول الآية: «عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا» «1».

مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً (85) عواقب التحريض على الخير أو الشر: لقد أشير في الآية السابقة إلى أنّ كل إنسان مسؤول عن عمله وعما هو مكلف بأدائه، ولا يُسأل أي إنسان عن أفعال الآخرين. أمّا هذه الآية فقد جاءت لكي تسدّ الطريق أمام كل فهم خاطى ء للآية السابقة، فبينت أنّ الإنسان إذا حرّض الغير على فعل الخير أو فعل الشر فينال نصيباً من ذلك الخير أو الشر: «مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً

يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا» «2».

وهذا بحد ذاته- حثّ على دعوة الآخرين إلى فعل الخير والتزام جانب الحق، ونهي الغير عن فعل الشر، كما تبين هذه الآية اهتمام القرآن بنشر الروح الاجتماعية لدى المسلمين، ودعوتهم إلى نبذ الأنانية أو الإنطوائية، وإلى عدم تجاهل الآخرين، وذلك من خلال التواصي بالخير والحق والتحذير من الشر والباطل.

وبناء على هذه النظرة الإسلامية، فإنّ مرتكبي الذنب ليسوا هم وحدهم مذنبين، بل يشترك في الذنب معهم كل الذين شجعوا المرتكبين على ذنبهم، عن طريق وسائل الإعلام

______________________________

(1) «البأس» و «البأساء»: بمعنى الشدّة والقهر والغلبة. «التنكيل»: من نكل في الشي ء، أي ضعف وعجز، و «النكل» قيد الدابة وحديدة اللجام لكونهما مانعين؛ و «التنكيل» أداء عمل يردع مشاهده عن الذنب وهو العقاب الذي ينزل بالظالمين فيردعهم ويردع من يتعض بمصيرهم.

(2) «الكفل»: هو عجز الحيوان ومؤخرته التي يصعب ركوبها ويشق، من هنا فكلّ ذنب وحصة رديئة كفل، والكفالة كل عمل ينطوي على تعب وعناء.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 431

المختلفة أو إعداد الأجواء المساعدة، بل حتّى عن طريق إطلاق كلمة صغيرة مشجعة وهكذا الذين يقومون بمثل هذه الأعمال على طريق الخيرات ينالون سهمهم من نتائجها. والآية- هذه- تؤكد أيضاً حقيقة ثابتة اخرى، وهي أنّ اللَّه قادر على مراقبة الإنسان وتدوين ما يقوم به من أعمال، ثم محاسبته عليها، واثابته على خيرها، ومعاقبته على شرها «وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ مُّقِيتًا».

وَ إِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً (86) دعوة إلى مقابلة الودّ بالودّ: هذه الآية تأمر المسلمين بمقابلة مشاعر الحبّ بما هو أحسن منها، أو على الأقل بما يساويها أو يكون

مثلها، فتقول الآية: «وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا».

«التحية»: مشتقة من «الحياة» وتعني الدعاء لدوام حياة الآخرين، ومهما تنوعت صيغ التحية بين مختلف الأقوام تكون صيغة «السلام» المصداق الأوضح من كل تلك الأنواع، ولكن بعض الروايات والتفاسير تفيد أنّ مفهوم التحية يشمل- أيضاً- التعامل الودي العملي بين الناس.

وهكذا يتضح لنا أنّ الآية هي حكم عام يشمل الرد على كل أنواع مشاعر الودّ والمحبة سواء كانت بالقول أو بالعمل- وتبين الآية في آخرها أنّ اللَّه يعلم كل شي ء، حتى أنواع التحية والسلام والردّ المناسب لها، وأنّه لا يخفى عليه شي ء أبداً، حيث تقول: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ حَسِيبًا».

اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) جاءت هذه الآية مكملة لما سبقتها ومقدمة لما تليها من آيات، فالآية السابقة بعد أن أمرّت بردّ التحية قالت: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ حَسِيبًا». والآية موضوع البحث تشير إلى قضية غيبية مهمة هي قضية يوم البعث والحساب، حيث محكمة العدل الإلهية العامة للبشر أجمعين وتقرنها بمسألة التوحيد الذي هو ركن آخر من أركان الإيمان «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 432

هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمَ الْقِيمَةِ لَارَيْبَ فِيهِ». وعبارة «لَيَجْمَعَنَّكُمْ» تدل على الشمولية لكل البشر من أوّلهم حتى آخرهم، حيث سيجمعون «كلهم» في يوم واحد هو يوم الحشر والقيامة.

وعبارة «لَارَيْبَ فِيهِ» الواردة في الآية وفي آيات اخرى، إنّما هي إشارة إلى الأدلة القطعية البديهية على وقوع يوم القيامة، مثل دليل «قانون التكامل» و «حكمة الخلق» و «قانون العدل الإلهي» المذكورة بالتفصيل في مبحث المعاد.

وتؤكد الآية في نهايتها على حقيقة أنّ اللَّه هو أصدق الصادقين: «وَمَنْ

أَصْدَقَ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا». من هنا لا يجوز أن يساور أحد الشك فيما يعد به اللَّه من بعث ونشور وغيره من الوعود.

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)

سبب النّزول

صاحب تفسير مجمع البيان قال: إختلفوا فيمن نزلت هذه الآية فيه. فقيل: نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الإسلام ثم رجعوا إلى مكة لأنّهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا فقال بعضهم: لا نفعل فإنّهم مؤمنون. وقال آخرون: إنّهم مشركون. فأنزل اللَّه فيهم الآية. قال: وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.

التّفسير

هذه الآية تخاطب في البداية المسلمين وتلومهم على انقسامهم إلى فئتين، كل فئة تحكم بما يحلو لها بشأن المنافقين، حيث تقول: «فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ». وتنهى المسلمين عن الإختلاف في أمر نفر أبوا أن يهاجروا معهم، وتعاونوا مع المشركين.

وتبين الآية بعد ذلك: إنّ اللَّه قد سلب من هؤلاء المنافقين كل فرصة للنجاح، وحرمهم من لطفه وعنايته بسبب ما اقترفوه وإنّ اللَّه قد قلب تصورات هؤلاء بصورة تامة فأصبحوا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 433

كمن يقف على رأسه بدل رجليه: «وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا» «1».

وفي الختام تخاطب الآية اولئك البسطاء من المسلمين الذين انقسموا على أنفسهم وأصبحوا يدافعون لسذاجتهم عن المنافقين، فتؤكد لهم أنّ هداية من حرمه اللَّه من لطفه ورحمته بسبب أفعاله الخبيثة الشنيعة أمر لا يمكن تحقيقه، لأنّ اللَّه قد كتب على هؤلاء المنافقين ما يستحقونه من عذاب وضلال وحرمان من الهداية والنجاة «أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ

لَهُ سَبِيلًا».

إذ أنّ عمل كل شخص لا ينفصل عنه ... وهذه سنة إلهية ... فكيف يؤمل في هداية أفراد امتلأت أفكارهم وقلوبهم بالنفاق، واتجهت أعمالهم إلى حماية أعداء اللَّه؟! إنّه أمل لا يقوم على دليل.

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَ لَا نَصِيراً (89) لقد تحدثت الآية السابقة عن المنافقين الذين كانوا يحظون بحماية نفر من المسلمين البسطاء وشفاعتهم، وأوضحت أنّ هؤلاء المنافقين غرباء عن الإسلام، وهذه الآية تبين أنّ المنافقين لفرط انحرافهم وضلالتهم يعجبهم أن يجرّوا المسلمين إلى الكفر كي لا يظلّوا وحدهم كافرين: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً».

ولهذا السبب فإنّ المنافقين أسوأ من الكفار، لأنّ الكافر لا يحاول سلب معتقدات الآخرين، والمنافقون يفعلون هذا الشي ء ويسعون دائماً لإفساد المعتقدات، وهم بطبعهم هذا لا يليقون بصحبة المسلمين أبداً، تقول الآية الكريمة: «فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ». إلّاإذا غيروا ما في أنفسهم من شرّ، وتخلوا عن كفرهم ونفاقهم وأعمالهم التخريبية.

ولكي يثبتوا حصول هذا التغيير، ويثبتوا صدقهم فيه، عليهم أن يبادروا إلى الهجرة من

______________________________

(1) «أركسهم»: مَن ركس وهو قلب الشي ء على رأسه، وتأتي أيضاً بمعنى ردّ أوّل الشي ء إلى آخره.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 434

مركز الكفر والنفاق إلى دار الإسلام (أي يهاجروا من مكّة إلى المدينة) فتقول الآية: «حَتَّى يُهَاجِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ». أمّا إذا رفضوا الهجرة فليعلم المسلمون بأنّ هؤلاء لا يرضون لأنفسهم الخروج من حالة الكفر والنفاق، وإن تظاهرهم بالإسلام ليس إلّامن أجل تمرير مصالحهم وأهدافهم الدنيئة ومن أجل أن يسهل عليهم التآمر والتجسس على المسلمين. وفي هذه الحالة يستطيع المسلمون

أن يأسروهم حيثما وجدوهم، وأن يقتلوهم إذا استلزم الأمر، تقول الآية الكريمة: «فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ».

وتكرر هذه الآية التأكيد على المسلمين أن يتجنّبوا مصاحبة هؤلاء المنافقين وأمثالهم فتقول: «لَاتَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا».

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)

سبب النّزول

في تفسير القمي في قوله «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا» الآية أنّها نزلت في أشجع وبني ضمرة وهما قبيلتان وكان من خبرهم أنّه لما خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى غزاة الحديبية مرّ قريباً من بلادهم وقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هادن بني ضمرة، وواعدهم قبل ذلك فقال أصحاب رسول اللَّه: يا رسول اللَّه! هذه بنو ضمرة قريباً منّا ونخاف أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشاً فلو بدأنا بهم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «كلّا، إنّهم أبر العرب بالوالدين وأوصلهم للرحم وأوفاهم بالعهد».

وكان أشجع بلادهم قريباً من بلاد بني ضمرة وهم بطن من كنانة وكانت أشجع بينهم وبين بني ضمرة حلف بالمراعاة والأمان فأجدبت بلاد أشجع وأخضبت بلاد بني ضمرة فسارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة، فلمّا بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مسيرهم إلى بني ضمرة تهيأ للمسير إلى أشجع ليغزوهم للموادعة التي كانت بينه وبين بني ضمرة فأنزل اللَّه: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ...» الآية. ثم استثنى بأشجع فقال: «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ ...» وكانت أشجع محالها البيضاء والحل والمستباح وقد كانوا قربوا من

رسول اللَّه فهابوا لقربهم من رسول اللَّه أن يبعث إليهم من يغزوهم وكان رسول اللَّه قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئاً فهم بالمسير إليهم فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع ورئيسها مسعود بن رجيلة وهم سبعمأة فنزلوا شعب سلع وذلك في شهر ربيع الأول سنة ستّ من الهجرة فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اسيد

مختصر الامثل، ج 1، ص: 435

بن حصين وقال له: «اذهب في نفر من أصحابك حتى تنظر ما أقدم أشجع».

فخرج اسيد ومعه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم؟ فقام إليه مسعود بن رجيلة وهو رئيس أشجع فسلم على اسيد وعلى أصحابه فقالوا: جئنا لنوادع محمّداً فرجع اسيد إلى رسول اللَّه فأخبره فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني وبينهم». ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدمها أمامه ثم قال: «نعم الشي ء الهدية أمام الحاجة». ثم أتاهم فقال: «يا معشر أشجع ما أقدمكم»؟ قالوا: قربت دارنا منك وليس في قومنا أقل عدداً منّا فضقنا لحربك لقرب دارنا منك وضقنا لحرب قومنا لقلتنا فيهم فجئنا لنوادعكم فقبل النبي صلى الله عليه و آله منهم ووادعهم فأقاموا يومهم ثم رجعوا إلى بلادهم وفيهم نزلت هذه الآية «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ» إلى قوله «فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا».

التّفسير

التّرحيب باقتراح السّلم: بعد أن أمر القرآن الكريم المسلمين في الآيات السابقة باستخدام العنف مع المنافقين الذين يتعاونون مع أعداء الإسلام، تستثني هذه الآية من الحكم المذكور طائفتين:

1- من كانت لهم عهود ومواثيق مع حلفائكم «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ».

2- من كانت ظروفهم لا تسمح لهم بمحاربة المسلمين، كما أنّ

قدرتهم ليست على مستوى التعاون مع المسلمين لمحاربة قبيلتهم «أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ».

ولكي لا يستولي الغرور على المسلمين ازاء كل هذه الإنتصارات الباهرة، وكي لا يعتبروا ذلك نتيجة قدرتهم العسكرية وابتكارهم، ولا تستفز مشاعرهم تجاه هذه المجموعات المحايدة، تقول الآية: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ».

وتكرر الآية في ختامها التأكيد بأنّ اللَّه لا يسمح للمسلمين بالمساس بقوم عرضوا عليهم الصلح وتجنبوا قتالهم، وأنّ المسلمين مكلفون بأن يقبلوا دعوة الصلح هذه، ويصافحوا اليد التي امتدت إليهم وهي تريد الصلح والسلام «فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 436

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (91)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: نزلت في اناس كانوا يأتون النبي، فيسلّمون رئاء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا قومهم، ويأمنوا نبي اللَّه، فأبى اللَّه ذلك عليهم.

التّفسير

عقاب ذي الوجهين: إنّ هذه الآية تصور لنا طائفة من الناس نقيض تلك الطائفة التي تحدثت عنها الآية السابقة وأمرت بقبول الصلح منها، والطائفة تتشكل من أفراد نفعيين إنتهازيين، همّهم الوحيد تحقيق مصالحهم والتحرك بحرية تامة لدى المسلمين، وقريش عن طريق الرياء والخيانة والخداع، والتظاهر بتأييد واتباع الجانبين والتعاون معهما، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: «سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ».

وهؤلاء حين تسنح لهم الفرصة ينقلبون على أعقابهم وينغمسون في الفتنة والشرك نكساً على رؤوسهم «كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا».

وقد

اشترط القرآن الكريم على هذه الطائفة ثلاثة شروط من أجل أن تبقى في مأمن من إنتقام المسلمين، وهذه الشروط هي: إعتزال المسلمين، أو مصالحتهم، أو الكف عن إيذائهم حيث تقول الآية الكريمة: «فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ».

وإذا رفضت هذه الطائفة الشروط المذكورة وأصرت على العصيان والتمرد، فالمسلمون مكلفون عند ذلك بإلقاء القبض على أفرادها وقتلهم أينما وجدوا، كما تقول الآية: «فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ».

ولما كانت الحجة قد تمّت على هؤلاء، تقول الآية في الخاتمة: «وَأُولئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا». وقد يكون هذا التسلط في مجال الكلام والمنطق إذا تغلب منطق المسلمين على منطق المشركين والكافرين، وقد يكون سلطاناً مادياً ظاهرياً عليهم لأنّ الآية نزلت في وقت كان المسلمون يتمتعون فيه بقدر كاف من القوة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 437

وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، أخي أبي جهل لُامه، لأنّه كان أسلم، وقتل بعد إسلامه رجلًا مسلماً وهو لا يعلم إسلامه. والمقتول: الحارث بن يزيد.

التّفسير

أحكام القتل الناتج عن الخطأ: لقد أطلقت الآية السابقة أيدي المسلمين في المنافقين الذين كانوا يشكّلون خطراً كبيراً على الإسلام، وسمحت لهم حتى بقتل أمثال هؤلاء المنافقين، ولكن تفادياً لاستغلال هذا الحكم استغلالًا سيّئاً،

ولسد الطريق أمام الأغراض الشخصية التي قد تدفع صاحبها إلى قتل إنسان بتهمة أنّه منافق، وأمام أي تساهل في سفك دماء الأبرياء، بيّنت هذه الآية والتي تليها أحكام قتل الخطأ وقتل العمد، لكي يكون المسلمون على غاية الدقّة والحذر في مسألة الدماء التي تحظى باهتمام بالغ في الإسلام. تقول الآية الكريمة: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً».

ثم تبين الآية الكريمة غرامة قتل الخطأ، وتقسمها إلى ثلاثة أنواع:

فالنوع الأوّل: هو أن يحرر القاتل عبداً مسلماً، ويدفع الديّة عن دم القتيل إلى أهله إذا كان القتيل ينتمي إلى عائلة مسلمة «وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ». فإذا وهب أهل القتيل الديّة وتصدقوا بها له فليس على القاتل أن يدفع شيئاً:

«إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 438

والنوع الثاني: من غرامة قتل الخطأ يكون في حالة ما إذا كان القتيل مسلماً ولكن من عائلة معادية للإسلام ويجب في هذه الحالة عتق عبد مسلم ولا تدفع الدية إلى أهل القتيل، لأنّ الإسلام يرفض تعزيز الحالة المالية لأعدائه، بالإضافة إلى ذلك فإنّ الإسلام قد قطع الصلة بين هذا الفرد وعائلته المعادية للإسلام فلا معنى إذن لجبران الخسارة.

أما النوع الثالث: من غرامة القتل الناتج عن الخطأ فيكون في حالة كون القتيل من عائلة غيرمسلمة لكن بينها وبين المسلمين عهداً وميثاقاً، في مثل هذه الحالة أمر بدفع دية القتيل إلى أهله، كما أمر- أيضاً- بتحرير عبد من العبيد المسلمين احتراماً للعهود والمواثيق تقول الآية: «وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ».

وظاهر الآية والروايات التي وردت في تفسيرها تدل على أنّ المقصود فيها هو القتيل «المسلم».

وتستطرد الآية في بيان الحكم

فتتطرق إلى اولئك النفر من المسلمين الذين يرتكبون القتل عن خطأ، ولا يسعهم- لفقرهم- دفع المال دية عن القتيل، كما لا يسعهم شراء عبد لتحرير رقبته غرامة عن إرتكابهم للقتل الخطأ، وتبين حكم هؤلاء، وتعلن أنّهم يجب أن يصوموا شهرين متتابعين غرامة عن القتل الخطأ الذي إرتكبوه، بدلًا من الدية وتحرير الرقبة، وقد اعتبرت ذلك نوعاً من تخفيف الجزاء على الذين لا يطيقون الغرامة المالية وتوبة منهم إلى اللَّه، علماً أنّ جميع أنواع الغرامات التي ذكرت في الآية عن القتل الخطأ، إنّما هي توبة وكفارة للذنب المرتكب في هذا المجال، واللَّه يعلم بخفايا الامور وقد أحاط علمه بكل شي ء حيث تقول الآية: «تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا».

وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن جماعة من المفسرين: نزلت في مقيس بن صبابة الكناني، وجد أخاه هشاماً قتيلًا، في بني النجار فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأرسل معه قيس بن هلال الفهري وقال له: «قل لبني النجار إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتصّ منه وإن لم تعلموا فدفعوا إليه ديته».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 439

فبلغ الفهري الرسالة فأعطوه الدية فلما انصرف ومعه الفهري وسوس إليه الشيطان فقال: ما صنعت شيئاً، أخذت دية أخيك فيكون سُبَّة «1» عليك! اقتل الذي معك لتكون نفس بنفس والدّية فضل. فرماه بصخرة فقتله، وركب بعيراً ورجع إلى مكة كافراً. فقال النبي صلى الله عليه و آله: «لا أؤمنه في حلّ ولا حرم»! فقتل يوم الفتح.

التّفسير

عقوبة القتل العمد: لقد بيّنت الآية السابقة عقوبة- أو غرامة- القتل

الناتج عن الخطأ، وجاءت الآية الأخيرة عقوبة القتل عن عمد وسبق إصرار، في حالة إذا كان القتيل من المؤمنين، وبما أنّ جريمة قتل الإنسان من أعظم وأكبر الجرائم وأخطر الذنوب، وأنّ التهاون في مكافحة مثل هذه الجريمة يهدد أمن المجتمع وسلامة أفراده، الأمن الذي يعتبر من أهم متطلبات المجتمع السليم، لذلك فإنّ القرآن الكريم قد تناول هذه القضية في آيات مختلفة بأهمية بالغة، حتى أنّه اعتبر قتل النفس الواحدة قتلًا للناس جميعاً، إلّاأن يكون القتل عقاباً لقتل مثله أو عقاباً لجريمة الإفساد في الأرض حيث يقول القرآن في الآية (32) من سورة المائدة: «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا».

وقد قررت الآية- موضوع البحث- أربع عقوبات اخروية لمرتكب القتل العمد، وعقوبة اخرى دنيوية هي القصاص، والعقوبات الأخروية هي:

1- الخلود والبقاء الأبدي في نار جهنم، حيث تقول الآية: «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا».

2- احاطة غضب اللَّه وسخطه بالقاتل: «وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ».

3- الحرمان من رحمة اللَّه: «وَلَعَنَهُ».

4- العذاب العظيم الذي ينتظره يوم القيامة: «وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)

______________________________

(1) سبة (بالضم): العار.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 440

سبب النزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت في أسامة بن زيد وأصحابه بعثهم النبي صلى الله عليه و آله في سرية فلقوا رجلًا قد انحاز بغنم له إلى جبل، وكان قد أسلم، فقال لهم: السلام عليكم. لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه فبدر

إليه اسامة فقتله، واستاقوا غنمه.

التّفسير

بعد أن وردت التأكيدات اللازمة- في الآيات السابقة- فيما يخص حماية أرواح الأبرياء، ورد في هذه الآية أمر احترازي يدعو إلى حماية أرواح الأبرياء الذين قد يعرضون إلى الإتهام من قِبل الآخرين، إذ تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا».

وتؤكّد الآية بعد ذلك محذرة وناهية عن أن تكون نعم الدنيا الزائلة سبباً في إتهام أفراد أظهروا الإسلام، أو قتلهم على أنّهم من الأعداء والإستيلاء على أموالهم، إذ تقول الآية:

«تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا» «1». وتؤكّد على أنّ النعم الخالدة القيمة هي عند اللَّه بقوله:

«فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ».

وتشير الآية أيضاً إلى حروب الجاهلية التي كانت تنشب بدوافع مادية مثل السلب والنهب فتقول: «كَذلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ».

وتضيف- مخاطبة المسلمين- أنّهم في ظل الإسلام ولطف اللَّه وكرمه وفضله قد نجوا من ذلك الوضع السي ء مؤكدة أنّ شكر هذه النعمة الكبيرة يستلزم منهم التحقق والتثبيت من الامور، إذ تقول الآية: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا».

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)

______________________________

(1) «العرض»: كلمة على وزن «مرض» وتعني كل شي ء زائل لا دوام له وعلى هذا الأساس فإنّ «عرض الحيوة الدّنيا» معناه رؤوس الأموال الدنيوية التي يكون مصير جميعها إلى الزوال والفناء لا محالة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 441

تناولت الآيات السابقة الحديث عن الجهاد، والآيتان الأخيرتان تبيّنان التمايز

بين المجاهدين وغيرهم من القاعدين، فتؤكد عدم التساوي بين من يبذل المال والنفس رخيصين في سبيل الهدف الإلهي السامي، وبين من يقعده عن هذا البذل سبب آخر غير المرض الذي يحول دونه ودون المشاركة في الجهاد، «لَّايَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ».

وتكرر الآية من جديد مسألة التفاضل بشكل أوضح وأكثر صراحة، وتؤكّد في نهاية المقارنة، أنّ اللَّه وهب المجاهدين أجراً عظيماً: «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً».

ولكن- كما أسلفنا- لما كان في الجانب المقابل لهؤلاء المجاهدين يقف اولئك الذين لم يكن الجهاد بالنسبة لهم واجباً عينياً أو لم يشاركوا في الجهاد بسبب مرض أو عجز أو علة اخرى أعجزتهم عن هذه المشاركة، فذلك ولأجل أن لا يغفل ما لهؤلاء من نيّة صالحة وإيمان وأعمال صالحة اخرى فقد وعدوا خيراً حيث تقول الآية الكريمة: «وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى .

وبما أنّ أهمية الجهاد في الإسلام بالغة جداً، لذلك تتطرق الآية مرّة اخرى للمجاهدين وتؤكّد بأنّ لهم أجراً عظيماً يفوق كثيراً أجر القاعدين عن الجهاد عن عجز، «وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا».

وتشرح الآية التالية- وهي الآية (96) من سورة النساء- نوع هذا الأجر العظيم فقول أنّه: «دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً».

فلو أنّ أفراداً من بين المجاهدين تورطوا في زلة أثناء أدائهم لواجبهم فندموا على تلك الزّلة، فقد وعدهم اللَّه بالمغفرة والعفو، حيث يقول في نهاية الآية: «وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ سَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ وَ الْوِلْدَانِ لَا

يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 442

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أنّ المشركين يوم بدر، لم يخلفوا إذ خرجوا احداً، إلّاصبياً أو شيخاً كبيراً أو مريضاً. فخرج معهم ناس ممن تكلم بالإسلام فلما التقى المشركون ورسول اللَّه نظر الذين كانوا قد تكلّموا بالإسلام إلى قلّة المسلمين فارتابوا واصيبوا فيمن اصيب من المشركين، فنزلت فيهم الآية.

التّفسير

تعقيباً للبحوث الخاصة بالجهاد، تشير الآيات الثلاث الأخيرة إلى المصير الأسود الذي كان من نصيب اولئك الذين ادعوا الإسلام ولكنهم رفضوا أن يطبقوا خطة الإسلام في الهجرة. فالقرآن الكريم يذكر كيف أنّ الملائكة لدى قبضهم لأرواح هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، يسألونهم عن حالهم في الدنيا وأنّهم لو كانوا حقاً من المسلمين، فلماذا اشتركوا في صفوف المشركين لقتال المسلمين: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفهُمُ الْمَلِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ». فيجيب هؤلاء بأنّهم تعرضوا في مواطنهم للضغط وأنّ ذلك أعجزهم عن تنفيذ الأمر الإلهي «قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الْأَرْضِ».

لكن عذرهم هذا لم يقبل منهم، إذ يرد الملائكة عليهم قائلين: لماذا لم تتركوا موطن الشرك وتنجوا بأنفسكم من الظلم، والكبت عن طريق الهجرة إلى أرض غير أرضكم من أرض اللَّه الواسعة، «قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا».

وفي النهاية تشير الآية إلى مصير هؤلاء، فتقول بأنّ الذين امتنعوا عن الهجرة لأسباب واهية أو لمصالحهم الشخصية، وقرروا البقاء في محيط ملوث وفضلوا الكبت والقمع على الهجرة فإنّ مكان هؤلاء سيكون في جهنم، وإنّ نهايتهم وعاقبتهم هناك ستكون سيئة لا محالة: «فَأُولئِكَ مَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا».

أمّا الآية الاخرى من الآيات الثلاث المذكورة، فهي تستثني

المستضعفين والعاجزين الحقيقيين لا المزيفين، فتقول: إنّ اولئك الرجال والنساء والأطفال الذين لم يجدوا لأنفسهم مخرجاً للهجرة، ولم يتمكنوا من إيجاد وسيلة للنجاة من محيطهم الملوث، فهم مستثنون من حكم العذاب، لأنّ هؤلاء معذورون في الحقيقة، وإنّ اللَّه لا يكلف نفساً ما لا تطيق، «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَايَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا».

و الآية الأخيرة من الآيات الثلاث المذكورة تبيّن احتمال أن يشمل اللَّه بعفوه هؤلاء، إذ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 443

تقول: «فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ للَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا».

إنّ الإتيان بكلمة «توفّى» في الآية الشريفة المارة الذكر بدلًا من ذكر كلمة «الموت» إنّما هو إشارة إلى أنّ الموت ليس هو الفناء التام، بل هو حالة تتلقى فيها الملائكة روح الإنسان، أي أنّ الملائكة يقبضون من الإنسان روحه التي هي جوهر وجوده، فتؤخذ هذه الروح إلى العالم الآخر.

وَ مَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) الهجرة حكم اسلامي بنّاء: بعد أن بحثت الآيات السابقة حول الأفراد الذين يقعون فريسة الذل والمسكنة بسبب عدم إيفائهم بواجب الهجرة، تشرح الآية الأخيرة بشكل صريح وحاسم أهمّية الهجرة في قسمين:

في القسم الأوّل: تشير هذه الآية إلى نعم وبركات الهجرة في الحياة الدنيا، فتقول إنّ الذي يهاجر في سبيل اللَّه إلى أي نقطة من نقاط هذه الأرض الواسعة، سيجد الكثير من النقاط الآمنة الواسعة ليستقر فيها، ويعمل هناك بالحقّ ويرغم أنف المعارضين «وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً».

بعد ذلك تشير الآية في القسم

الثاني منها إلى الجانب المعنوي الاخروي للهجرة: «وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا». وعلى هذا الأساس فإنّ المهاجرين في كل الأحوال سينالهم نصر كبير، سواء وصلوا إلى المكان الذي يستهدفونه ليتمتعوا فيه بحرية العمل بواجباتهم، أو لم يصلوا إليه فيفقدوا حياتهم في هذا الطريق.

وَ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً (101) صلاة المسافر: بعد الآيات التي تحدثت سابقاً عن الجهاد والهجرة، تتطرق الآية (101) من سورة النساء- التي هي موضوع بحثنا الآن- إلى صلاة المسافر، فتبين أن لا مانع للمسلم من أن يقصر صلاته لدى السفر إذا خاف من خطر الكافرين الذين هم الأعداء البارزون

مختصر الامثل، ج 1، ص: 444

للمسلمين، وقد عبّرت هذه الآية عن السفر بالضرب في الأرض، لأنّ المسافر يضرب الأرض برجليه لدى السفر. وعلى أي حال، فليس هناك من شك أنّ صلاة القصر للمسافر- مع الأخذ بنظر الاعتبار الروايات المفسرة لهذه الآية- لا تقتصر على حالة الخوف، ولهذا السبب فإنّ النبي صلى الله عليه و آله كان في أسفاره حتى في موسم الحج (في أرض منى) يقصر صلاته.

وَ إِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ

إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (102)

سبب النّزول

في تفسير القمي: نزلت- يعني آية صلاة الخوف- لما خرج رسول اللَّه إلى الحديبية يريد مكة فلما وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً ليستقبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على الجبال، فلما كان في بعض الطريق وحضرت صلاة الظهر فأذن بلال فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالناس، فقال خالد بن الوليد: لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم فإنّهم لا يقطعون صلاتهم ولكن يجي ء لهم الآن صلاة أخرى هى أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم فنزل جبرئيل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بصلاة الخوف بهذه الآية.

التّفسير

بعد آيات الجهاد السابقة تبيّن هذه الآية للمسلمين طريقة صلاة الخوف التي تؤدّى في ساحة الحرب، فتخاطب الآية النبي صلى الله عليه و آله قائلة: «وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ». فإذا سجدت جماعة وانقضت الركعة الاولى من

مختصر الامثل، ج 1، ص: 445

الصلاة، على النّبي أن يقف في مكانه فتؤدّي الجماعة- سريعاً- الركعة الثانية وتعود إلى ساحة القتال لمواجهة العدو. وتأتي بعد ذلك الجماعة الثانية التي لم تصل بعد، وتأخذ مكان الجماعة الاولى فتصلّي مع النبي: «فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ». وعلى الجماعة الثانية أن لا تضع أرضاً لامة حربها، بل تحتفظ بها معها: «وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ».

وتشير الآية إلى أنّ أداء الصلاة بهذا الاسلوب من أجل أن يبقى المسلمون في مأمن من أي هجوم مباغت قد يقوم به العدو عليهم، لأنّه يتحين الفرص دائماً لتنفيذ هذا الهجوم، ويتمنى لو

تخلى المسلمون وغفلوا عن أسلحتهم وأمتعتهم ليشنّ عليهم حملته الغادرة: «وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً».

ولمّا كان حمل السلاح والوسائل الدفاعية الاخرى صعباً أثناء أداء الصلاة في بعض الأحيان، تأمر الآية في الختام قائلة: «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ».

وهذا مشروط بأن يحتفظ المسلمون بما يقيهم من وسائل الدفاع كالدروع، وأمثالها حتى في حالة وجود العذر كالضعف أو المرض، وذلك لحماية أنفسهم إذا باغتهم العدو بهجومه إلى أن تصلهم الإمدادات حيث تقول الآية: «وَخُذُوا حِذْرَكُمْ».

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَ قُعُوداً وَ عَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً (103) أهمية فريضة الصلاة: بعد أن ذكرت الآية السابقة صلاة الخوف، وأكدت ضرورة إقامتها حتى في جبهات الحرب، تحث الآية (103) المسلمين على أن لا ينسوا ذكر اللَّه بعد أداء الصلاة، وليذكروا اللَّه حين قيامهم وقعودهم وأثناء نومهم على جنوبهم وليسألوه العون والنصر، والقصد من ذكر اللَّه في حالة القيام والقعود والنوم على الجنبين، يحتمل أن تكون في الحالات المختلفة للقتال، أي أثناء وقوف المقاتل أو جلوسه أو استلقائه على أحد جنبيه وهو يقاتل بأحد أنواع الأسلحة الحربية كالقوس والسهم مثلًا.

إنّ هذه الآية تشير إلى أمر إسلامي مهم، يدل على أنّ أداء الصلاة في أوقات معينة ليس معناه أن ينسى الإنسان ذكر اللَّه في الحالات الاخرى. وتؤكد هذه الآية أنّ حكم صلاة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 446

الخوف هم حكم استثنائي طارى ء، وعلى المسلمين إذا ارتفعت عنهم حالة الخوف أن يؤدّوا صلاتهم بالطريقة المعتادة «فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ». وتوضح الآية في النهاية سرّ التأكيد على الصلاة

بقولها إنّ الصلاة فريضة ثابتة للمؤمنين وأنّها غير قابلة للتغيير: «إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا».

إنّ عبارة «موقوت» من المصدر «وقت» وعلى هذا الأساس فإنّ الآية تبيّن أنّه حتى في ساحة الحرب يجب على المسلمين أداء هذه الفريضة الإسلامية، لأنّ للصلاة أوقات محددة لا يمكن تخطيها.

وَ لَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)

سبب النّزول

قرع السلاح بسلاح يشابهه: في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: لمّا أصاب المسلمين ما أصابهم يوم أحد وصعد النبي الجبل، قال أبو سفيان: يا محمّد لنا يوم ولكم يوم، فقال:

«أجيبوه». فقال المسلمون لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! فقال أبو سفيان: لنا عُزّى ولا عزّى لكم. فقال النبي، قولوا: «اللَّه مولانا ولا مولى لكم!» فقال أبو سفيان: اعل هُبل.

فقال النبي صلى الله عليه و آله قولوا: «اللَّه أعلى وأجل».

فقال أبو سفيان: موعدنا وموعدكم يوم بدر الصغرى. ونام المسلمون وبهم الكلوم «1» وفيهم نزلت «إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ» وفيهم نزلت «إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ» الآية لأنّ اللَّه أمرهم على ما بهم من الجراح أن يتبعوهم، وأراد بذلك إرهاب المشركين وخرجوا إلى حمراء الأسد وبلغ المشركين ذلك، فأسرعوا حتى دخلوا مكة.

إنّ سبب النزول هذا يعلّمنا أنّ المسلمين يجب أن لا يغيب عن بالهم أنواع التكتيك الذي يستخدمه العدو، وأن يواجهوا كل أسلوب حربي يتبعه العدو، ويقابلوا سلاحهم بسلاح أمضى، وحتى شعارات الأعداء يجب أن تقابل بشعارات إسلامية ضاربة، وبغير ذلك فإنّ الرياح ستجري بما يشتهيه الأعداء.

______________________________

(1) الكلوم: الجروح.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 447

التّفسير

أعقبت الآية- موضوع البحث هذه- الآيات السابقة

التي تحدثت عن الجهاد والهجرة واستهدفت إحياء روح التضحية والفداء لدى المسلمين بقولها: «وَلَا تَهِنُوا فِى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ». وهذا تأكيد على ضرورة أن لا يواجه المسلمون عدوهم اللدود باسلوب دفاعي، بل عليهم أن يقابلوا هذا العدو بروح هجومية دائماً.

بعد ذلك تأتي الآية باستدلال حي وواضح للحكم الذي جاءت به، فتسأل المسلمين لماذا الوهن؟ فأنتم حين يصيبكم ضرر في ساحة الجهاد فإنّ عدوكم سيصيبه هو الآخر سهم من هذا الضرر، مع فارق هو أنّ المسلمين يأملون أن يعينهم اللَّه ويشملهم برحمته الواسعة، بينما الكافرون لا يرجون ولا يتوقعون ذلك، حيث تقول الآية: «إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَايَرْجُونَ».

وفي الختام- ومن أجل إعادة التأكيد- تطلب الآية من المسلمين أن لا ينسوا علم اللَّه بجميع الامور، فهو يعلم معاناة المسلمين ومشاكلهم وآلامهم ومساعيهم وجهودهم، ويعلم أنّهم أحياناً يصابون بالتهاون والفتور، فتقول الآية: «وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا» وسيرى المسلمون نتيجة كل الحالات تلك.

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَ لَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105) وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في بني الابيرق وكانوا ثلاثة اخوه: بشر، وبشير، ومبشّر.

وكان بشير يكنى أبا طعمة، وكان يقول الشعر، يهجو به أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ثم يقول: قاله فلان. وكانوا أهل حاجة في الجاهلية والإسلام، فنقب أبو طعمة على عِليّة رفاعة بن زيد. وأخذ له طعاماً وسيفاً ودرعاً فشكا ذلك إلى أخيه قتادة بن النعمان، وكان قتادة بدرياً فتجسسا في الدار، وسألا أهل الدار في ذلك، فقال بنو أبيرق: واللَّه ما صاحبكم إلّا لبيد بن سهل، رجل ذو

حسب ونسب. فأصلَتَ عليهم لبيد بن سهل سيفه، وخرج إليهم وقال: يا بني أبيرق أترمونني بالسّرَق، وأنتم أولى به مني، وأنتم منافقون تهجون رسول اللَّه، وتنسبون ذلك إلى قريش! لتبيننّ ذلك، أو لأضعنّ سيفي فيكم! فداروه وأتى قتادة رسول

مختصر الامثل، ج 1، ص: 448

اللَّه، فقال: يا رسول اللَّه! إنّ أهل بيت منا، أهل بيت سوء عدوا على عمي، فخرقوا عِليّة له من ظهرها، وأصابوا له طعاماً وسلاحاً. فقال رسول اللَّه: «انظروا في شأنكم». فلمّا سمع بذلك رجل من بطنهم الذي هم منه، يقال له أسير بن عروة، جمع رجالًا من أهل الدار، ثم انطلق إلى رسول اللَّه، فقال: إنّ قتادة بن النعمان، وعمّه، عمدا إلى أهل بيت منا، لهم حسب، ونسب، وصلاح، وأبنوهم بالقبيح، وقالوا لهم ما لا ينبغي، وانصرف، فلما أتى قتادة رسول اللَّه بعد ذلك، ليكمله، جبهه رسول اللَّه جبهاً شديداً، وقال: عمدت إلى أهل بيت حسب ونسب، تأتيهم بالقبيح، وتقول لهم ما لا ينبغي؟! قال: فقام قتادة من عند رسول اللَّه، ورجع إلى عمه، وقال: يا ليتني متّ، ولم أكن كلمت رسول اللَّه، فقد قال لي ما كرهت! فقال عمّه رفاعة: اللَّه المستعان، فنزلت الآيات «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ» إلى قوله «إِنَّ اللَّهَ لَايَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ» فبلغ بشيراً ما نزل فيه من القرآن، فهرب إلى مكة، وارتدّ كافراً.

التّفسير

منع الدفاع عن الخائنين: يعرف اللَّه سبحانه وتعالى- في بداية الآية (105) من سورة النساء- نبيّه محمّداً صلى الله عليه و آله بأنّ الهدف من إنزال الكتاب السماوي هو تحقيق مبادى ء الحق والعدالة بين الناس، إذ تقول الآية: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَيكَ اللَّهُ».

ثم يحذّر النبي صلى الله عليه

و آله من حماية الخائنين أبدأ بقوله: «وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا».

ومع أنّ الآية خطاب للنبي صلى الله عليه و آله ولكن ممّا لا شك فيه هو أنّ هذا الحكم حكم عام لجميع القضاة والمحكمين.

أمّا الآية الاخرى فهي تأمر النبي صلى الله عليه و آله بطلب المغفرة من اللَّه سبحانه وتعالى، إذ تقول:

«وَاسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا».

وَ لَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَ كَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَا أَنْتُمْ هؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 449

بعد الآيات التي جاءت بتحريم الدفاع عن الخائنين، تستطرد الآيات الثلاث الأخيرة في التشديد على حرمة الدفاع عن الخائنين، بالأخص اولئك الذين يخونون أنفسهم «وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا».

لقد تعرض الخائنون في الآية الاخرى إلى التوبيخ، حيث قالت إنّ هؤلاء يخجلون أن تظهر بواطن أعمالهم وسرائرهم وتنكشف إلى الناس، لكنهم لا يخجلون لذلك من اللَّه سبحانه وتعالى، إذ تقول الآية: «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ». فلا يتورع هؤلاء من تدبير الخطط الخيانية في ظلام الليل، والتحدث بما لا يرضى اللَّه الذي يراهم ويراقب أعمالهم، أينما كانوا: «وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لَايَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا».

بعد ذلك تتوجه الآية (109) من سورة النساء بالحديث عن شخص السارق الذي تمّ الدفاع عنه، وتقول بأنّه على فرض أن يتمّ الدفاع عن هؤلاء في

الدنيا فمن يستطيع الدفاع عنهم يوم القيامة، أنّ من يقدر أن يكون لهؤلاء وكيلًا ليرتب أعمالهم ويحل مشاكلهم؟! حيث تقول الآية: «هَا أَنتُمْ هؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا». ولذلك فإنّ الدفاع عن هؤلاء الخونة في الدنيا ليس له أثر إلّاالقليل، لأنّهم سوف لا يجدون أبداً من يدافع عنهم أمام اللَّه في الحياة الآخرة الخالدة.

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (112) لقد بيّنت هذه الآيات الثلاث، ثلاثة أحكام كلّية بعد أن تطرقت الآيات السابقة إلى مسائل خاصة بالخيانة والتهمة. الآية الاولى تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ باب التوبة مفتوح أمام المسيئين على كل حال، فإذا ارتكب أحد ظلماً بحق نفسه أو غيره، وندم حقيقة على فعلته، أو استغفر اللَّه لذنبه، وكفّر عن خطيئته فيجد اللَّه غفوراً رحيماً، حيث تقول الآية: «وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا».

إنّ الآية الثانية من الآيات الثلاث الأخيرة، تحكي نفس الحقيقة التي وردت بصورة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 450

مختصر الامثل ج 1 479

إجمالية في الآيات السابقة، حيث تؤكد أنّ أي ذنب يقترفه الإنسان ستكون نتيجته في النهاية على المذنب نفسه، ويكون قد أضرّ بنفسه بذنبه، إذ تقول الآية: «وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ». وفي آخر الآية تأكيد على أنّ اللَّه عالم بأعمال العباد، وهو حكيم يجازي كل إنسان بما يستحقه: «وَكَانَ

اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا».

وبالصورة المارة الذكر فإنّ الذنوب مهما اختلفت في الظاهر، فإنّ اضرارها ستلحق أحياناً بالغير وتلحق أحياناً اخرى بمرتكبها، ولكن بالتحليل النهائي، فإنّ الذنب تعود نتيجته كلها إلى الإنسان المذنب نفسه، وإنّ الآثار السيئة للذنب تظهر قبل كل شي ء في روح ونفس الشخص المذنب.

أمّا الآية الثالثة من الآيات الأخيرة، فهي تشير إلى خطورة خطيئة إتهام الناس الأبرياء، إذ تقول: «وَمَن يَكْسِبْ خَطِيَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا».

جريمة البهتان: إنّ اتهام إنسان بري ء يعتبر من أقبح الأعمال التي أدانها الإسلام بعنف.

في عيون الأخبار قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه أقامه اللَّه تعالى يوم القيامة على تلّ من نار حتى يخرج ممّا قاله فيه».

وحقيقة الأمر أنّ إشاعة مثل هذا العمل الجبان- في أي محيط إنساني كان- يؤدي في النهاية إلى إنهيار نظام العدالة الاجتماعية، واختلاط الحق بالباطل، وتورط البري ء وتبرئة المذنب، وزوال الثقة من بين الناس.

وَ لَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ مَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) في هذه الآية الكريمة إشارة اخرى إلى حادثة «بني الابَيرِق» التي تحدثنا عنها لدى تطرقنا إلى سبب النزول في آيات سابقة، وهذه تؤكد أنّ اللَّه قد صان النبي صلى الله عليه و آله بفضله ورحمته- سبحانه وتعالى- من كيد بعض المنافقين الذين كانوا يأتمرون به صلى الله عليه و آله ليحرفوه عن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 451

طريق الحق والعدل،

فكانت رحمة اللَّه أقرب إلى نبيّه فصانته من كيد المنافقين، حيث تقول الآية: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ».

لقد سعى اولئك المنافقون- من خلال اتهامهم لشخص بري ء وجرّ النبي وتوريطه في هذه الحادثة- إلى إلحاق ضربة بشخصية النبي صلى الله عليه و آله الاجتماعية والمعنوية أوّلًا، وتحقيق مآربهم الدنيئة بحق إنسان مسلم بري ء ثانياً، ولكن اللَّه العزيز العليم كان لهم بالمرصاد، فصان نبيّه صلى الله عليه و آله من تلك المؤامرة وأحبط عمل المنافقين.

بعد ذلك تذكر الآية أنّ هؤلاء القوم إنّما يرمون بأنفسهم في الضلالة ولا يضرّون بعملهم النّبي صلى الله عليه و آله شيئاً، إذ تقول: «وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْ ءٍ».

وأخيراً توضح الآية سبب عصمة النبي عن الخطأ والزلل والذنب، فتذكر أنّ اللَّه أنزل على نبيّه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم من قبل: «وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ». ثم تردف الآية ذلك بجملة: «وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا».

وقد ورد في آخر الآية دليل من الأدلة الأساسية لقضية العصمة بشكل مجمل، وهذا الدليل هو قوله تعالى أنّه علم نبيّه من العلوم والمعارف التي يكون النبي في ظلها مصوناً من الوقوع في أي خطأ أو زلل، ولأنّ العلم والمعرفة تكون نتيجتهما في المرحلة النهائية حفظ الإنسان من ارتكاب الخطأ.

لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) النجوى أو الهمس: لقد أشارت الآيات السابقة إلى اجتماعات سرية شيطانية كان يعقدها بعض المنافقين أو أشباههم، وقد تطرقت الآية الأخيرة إلى هذا الأمر بشي ء من

التفصيل، وكلمة «النجوى» لا تعني الهمس فقط، بل تطلق على كل اجتماع سري أيضاً.

والآية هنا تذكر أنّ أغلب الاجتماعات السرّية التي يعقدها اولئك تهدف إلى غايات شيطانية شريرة لا خير فيها ولا فائدة، إذ تقول: «لَّاخَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَيهُمْ».

ولكي لا يحصل وهم من أنّ كل نجوى أو همس أو اجتماع سرّي يعتبر عملًا مذموماً أو

مختصر الامثل، ج 1، ص: 452

حراماً جاءت الآية بأمثال كمقدمة لبيان قانون كلي، وأوضحت الموارد التي تجوز فيها النجوى، مثل أن يوصي الإنسان بصدقة أو بمعونة للآخرين أو بالقيام بعمل صالح أو أن يصلح بين الناس، فتقول الآية في هذا المجال: «إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلحٍ بَيْنَ النَّاسِ». فإذا كان هذا النوع من النجوى أو الهمس أو الاجتماعات السرّية لا يشوبه الرياء والتظاهر، بل كان مخصصاً لنيل مرضاة اللَّه، فإنّ اللَّه سيخصص لمثل هذه الأعمال ثواباً وأجراً عظيماً، حيث تقول الآية: «وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا».

وقد عرف القرآن النجوى والهمس والاجتماعات السرّية- من حيث المبدأ- بأنّها من الأعمال الشّيطانية، في قوله تعالى: «إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطنِ».

والنجوى إذا حصلت إبتداءً في جمع من الناس، أثارت لديهم سوء الظّن حيالها، حتى أنّ سوء الظن قد يبدر من الأصدقاء حيال النجوى التي تحصل بينهم، وعلى هذا الأساس فإنّ الأفضل أن لا يبادر الإنسان إلى النجوى إلّاإذا اقتضت الضرورة ذلك، وهذه هي فلسفة هذا الحكم الوارد في القرآن.

وَ مَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصِيراً (115)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت في شأن ابن أبي ابَيْرِق، سارق الدرع ولما

أنزل اللَّه في تقريعه وتقريع قومه الآيات، كفر وارتدّ، ولحق بالمشركين من أهل مكة، ثم نقب حائطاً للسرقة، فوقع عليه الحائط فقتله.

التّفسير

حين يرتكب الإنسان خطأ ويدرك هذا الخطأ، فليس أمامه سوى طريقين:

أحدهما: طريق العودة والتوبة التي أشارت الآيات السابقة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 453

والطريق الثاني: هو أن يسلك الإنسان سبيل العناد، وقد أشارت الآية الأخيرة إلى الآثار والعواقب السيئة لهذا الطريق، حيث أعلنت أنّ من يواجه النبي صلى الله عليه و آله بالعناد والمخالفة بعد وضوح الحق له، ويسير في طريق غير طريق المؤمنين فإنّ اللَّه سوف لن يهديه إلى غير هذا الطريق، وسيرسله اللَّه في يوم القيامة إلى جهنم، وما أسوأ هذا المكان الذي ينتظره! فتقول الآية: «وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا».

إنّ عبارة «يُشَاقِقِ» مأخوذة من مادة «شقاق» بمعنى المخالفة الصريحة المقرونة بالحقد والضغينة.

وجملة «نُوَلّهِ مَا تَوَلّى فهو إشارة إلى حرمان هؤلاء من التوفيق المعنوي، لتمييز الحقّ، ومواصلتهم السير في طريق الضلالة.

وجملة «نُصْلِهِ جَهَنَّمَ» فهي تشير إلى مصير هؤلاء يوم القيامة.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيداً (116) الشرك ذنب لا يغتفر: تشير هذه الآية مرة اخرى إلى خطورة جريمة الشرك الذي يعتبر ذنباً لا يغتفر ولا يتصور وجود ذنب أعظم منه، ويأتي هذا البحث بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المنافقين والمرتدين الذين ينساقون بعد إسلامهم إلى الكفر. ولقد مرّ ما يشابه مضمون هذه الآية في نفس سورة النساء في الآية (48) ولكن تتمة الآيتين تختلف في إحداهما عن الأخرى اختلافاً طفيفاً، حيث تقول

الآية الأخيرة: «وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَللًا بَعِيدًا» بينما يقول في مورد سابق «وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا».

إنّ الآية السابقة تشير إلى الفساد العظيم الذي ينطوي عليه الشرك فيما يخص الجانب الإلهي ومعرفة اللَّه، أمّا الآية الأخيرة فقد بيّنت الأضرار التي يلحقها الشرك بنفس الإنسان والتي لا يمكن تلافيها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 454

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَ قَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ لَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121) مكائد الشيطان: إنّ الآية الاولى تشرح أوضاع المشركين الذين أشارت إليهم الآية السابقة لهذه الأخيرة وهذه الآية إنّما تبيّن سبب ضلال المشركين، فتذكر أنّهم يعانون من ضيق شديد في أفق تفكيرهم، إذ يتركون عبادة اللَّه خالق ومنشى ء عالم الوجود الوسيع، ويخضعون أمام المخلوقات التي لا تملك أقل أثر إيجابي في الوجود، بل هي- أحياناً- مضللة كالشيطان: «إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا».

إنّ هذه الآية تحصر أصنام المشركين بنوعين من المخلوقات هما «إناث» و «شيطان مريد».

«إناث»: تعني المخلوق الرقيق اللطيف والمرن. أي أنّ المشركين يعبدون مخلوقات ضعيفة ومطاوعة بين يدي الإنسان، وأنّ وجود هذه المخلوقات بكاملها قابل للتأثر والانحناء أمام الأحداث، وبعبارة أوضح: أنّها موجودات لا تملك الإرادة والاختيار ولا تنفع ولا تضرّ شيئاً أبداً.

و «مريد»: مأخوذة من مادة «مرد» بمعنى سقوط أوراق وأغصان الشجر ولهذا سمّي

الشاب اليافع الذي لم ينبت الشعر في وجهه بالأمرد، وعلى هذا فإنّ الشيطان المريد يعني ذلك الشيطان الذي سقطت منه جميع صفات الفضيلة ولم يبق في وجوده شي ء من مصادر القوّة.

إنّ القرآن قسم أصنام هؤلاء المشركين إلى نوعين: بعضها ضعيف الإرادة مطلقاً والبعض الآخر طاغ متكبر متجبر، لكي يبيّن أنّ الذي يسلم قياده ويخضع لمثل هذه الأصنام إنّما يعيش في ضلال واضح مبين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 455

بعد ذلك كله تشير الآية إلى صفات الشيطان وأهدافه وعدائه الخاص لأبناء آدم وتتناول بالشرح بعضاً من خططه الدنيئة، وقبل كل شي ء تؤكد أنّ اللَّه قد أبعد الشيطان عن رحمته «لَعَنَهُ اللَّهُ».

وفي الحقيقة فإنّ أساس شقاء وتعاسة الشيطان هو البعد عن رحمة اللَّه، التي أصابته بسبب غروره وتكبره المفرطين.

ثم تذكر الآية التالية أنّ الشيطان قد أقسم على أن ينفذ بعضاً من خططه:

أوّلها: أن يأخذ من عباد اللَّه نصيباً معيناً، حيث تقول الآية حاكية قول الشيطان: «وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا». فالشيطان يعلم بعجزه عن اغواء جميع عباد اللَّه، لأنّ من يستسلم لإرادة الشيطان ويخضع له هم فقط اولئك المنجرفون وراء الأهواء والنزوات والذين لا إيمان لهم، أو ضعاف الإيمان.

والثانية: خطط الشيطان تلخصها الآية بعبارة: «وَلَأُضِلَّنَّهُمْ».

والثالثة: اشغلهم بالامنيات العريضة وطول الأمل: «وَلَأُمَنّيَنَّهُمْ» «1».

أمّا الخطة الرابعة: ففيها يدعو الشيطان أتباعه إلى القيام بأعمال خرافية، مثل قطع أو خرق أذان الحيوانات كما جاء في الآية: «وَلَأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءَاذَانَ الْأَنْعَامِ».

وهذه إشارة لواحد من أقبح الأعمال التي كان يرتكبها الجاهليون المشركون، حيث كانوا يقطعون أو يخرقون أذان بعض المواشي، وكانوا يحرمون على أنفسهم ركوبها بل يحرمون أي نوع من أنواع الإنتفاع بهذه الحيوانات.

وخامس: الخطط التي أقسم الشيطان أن ينفذها ضد الإنسان، هي ما

ورد على لسانه في الآية إذ تقول: «وَلَأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ».

وهذه الجملة تشير إلى أنّ اللَّه قد أوجد في فطرة الإنسان منذ خلقة إياه- النزعة إلى التوحيد وعبادة الواحد الأحد، بالإضافة إلى بقية الصفات والخصال الحميدة الأخرى.

وهذا الضرر الذي لا يمكن التعويض عنه، يلحقه الشيطان بأساس سعادة الإنسان، لأنّه يعكس له الحقائق والوقائع ويستبدلها بمجموعة من الأوهام والخرافات والوساوس التي

______________________________

(1) إنّ عبارة «ولُامنينّهم»: تعود إلى المصدر «منى» على وزن «منع» وتعني قياس الشي ء أو تقييمه، ولكنّها ترد في أغلب الأحيان لتعني القياس والتقييم والآمال الوهمية والخيالية أمّا النطفة التي تسمّى ب «مني» فمعناها أنّ قياس تركيب أولى الموجودات الحسية قد تمّ فيها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 456

تؤدّي إلى تغيير السعادة بالشقاء للناس، وقد أكّدت الآية في آخرها مبدأ كلياً، وهو أنّ أي إنسان يعبد الشيطان ويجعله لنفسه ولياً من دون اللَّه، فقد ارتكب إثماً وذنباً واضحاً إذ تقول الآية: «وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا». والآية التي تلت هذه الآية جاءت ببعض النقاط بمثابة الدليل على ما جاءت به الآية السابقة حيث ذكرت أنّ الشيطان يستمر في إعطائه الوعود الكاذبة لأولئك ويمنيهم الأمنيات الطوال العراض، ولكنّه لا يفعل شيئاً بالنسبة لهؤلاء غير الإغواء والخداع:

«يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطنُ إِلَّا غُرُورًا» «1».

وبيّنت آخر آية من الآيات الخمس الأخيرة مصير أتباع الشيطان، بأنّهم ستكون نتيجتهم السكنى في جهنم التي لا يجدون منها مفراً أبداً، فتقول الآية: «أُولئِكَ مَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا» «2».

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لقد بيّنت الآيات السابقة

أنّ الذين يتخذون الشيطان وليّاً لهم، إنّما ينالهم ضرر واضح ومبين، وأنّ الشيطان يعدهم زيفاً وخداعاً ويلهيهم بالامنيات الواهية الخيالية الطويلة العريضة، وإن وعد الشيطان مكر وخداع لا غير. أمّا في هذه الآية الأخيرة- التي هي موضوع بحثنا الآن- فقد بيّنت مقابل اولئك في النهاية أعمال المؤمنين والثواب الذي سينالونه يوم القيامة، من جنّات وبساتين وأنهار تجري فيها، حيث تقول الآية: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ».

وإنّ هذه النعمة العظيمة دائمة أبداً، وليست كنعم الدنيا الزائلة، فالمؤمنون في الجنة يتمتعون بما اوتوه من خير دائماً أبداً، تؤكد هذه بعبارة «خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا».

______________________________

(1) «الغرور»: يعني في الأصل الأثر الواضح للشي ء، ولكنّه يطلق في الغالب على الآثار التي لها ظاهر خادع وباطن كريه، ويطلق على كل شي ء يخدع الإنسان مثل المال والجاه والسلطان التي تبعد الإنسان عن الحق وعن جادة الصواب على أنّه مادة للغرور.

(2) «المحيص»: من «المحص» ويعني العدول والانصراف عن الشي ء، وعلى هذا الأساس فإنّ المحيص هو وسيلة الانصراف والفرار.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 457

وإنّ هذا الوعد وعد صادق وليس كوعود الشيطان الزّائفة، حيت تقول الآية: «وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا».

وبديهي أنّ أي فرد لا يستطيع- أبداً- أن يكون أصدق قولًا من اللَّه العزيز القدير في وعوده وفي كلامه، كما تقول الآية: «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا». وطبيعي أنّ عدم الوفاء بالوعد ناتج إمّا عن العجز وإمّا الجهل والحاجة، واللَّه سبحانه منزّه عن هذه الصفات.

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَ لَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَ لَا نَصِيراً (123) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ

لَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: تفاخر المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى باللَّه منكم! فقال المسلمون: نبيّنا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب وديننا الإسلام. فنزلت الآية، فقال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء. فأنزل اللَّه الآية التي بعدها «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ» الآية.

التّفسير

امتيازات حقيقية واخرى زائفة: لقد بيّنت هذه الآية واحداً من أهم أعمدة أو أركان الإسلام، هو أنّ القيمة الوجودية لأي إنسان وما يناله من ثواب أو عقاب، لا تمت بصلة إلى دعاوى وامنيات هذا الإنسان مطلقاً، بل إنّ تلك القيمة ترتبط بشكل وثيق بعمل الإنسان وإيمانه وإنّ هذا مبدأ ثابت، وسنّة غير قابلة للتغيير، وقانون تتساوى الامم جميعها أمامه، ولذلك تقول الآية في بدايتها: «لَيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلَا أَمَانِىّ أَهْلَ الْكِتَابِ». وتستطرد فتقول:

«مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا».

وكذلك الذين يعملون الخير ويتمتعون بالإيمان- سواء أكانوا من الرجال أو النساء- فإنّهم يدخلون الجنة ولا يصيبهم أقل ظلم أبداً، حيث تقول الآية: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 458

وبهذه الصورة يعمد القرآن إلى نبذ كل العصبيات بكل بساطة، معتبراً الاعتبارات والإرتباطات المصطنعة الخيالية والاجتماعية والعرقية وأمثالها خاوية من كل قيمة إذا قيست برسالة دينية، ويعتبر الإيمان بمبادي ء الرسالة والعمل بأحكامها هو الأساس.

وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ كَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ

مُحِيطاً (126) لقد تحدثت الآيات السابقة عن أثر الإيمان والعمل، كما بيّنت أنّ إتّباع أي مذهب أو شريعة غير شرع اللَّه لا يغني عن الإنسان شيئاً، والآية الحاضرة تداركت كل وهم قد يطرأ على الذهن من سياق الآيات السابقة، فأوضحت أفضيلة شريعة الإسلام وتفوقها على سائر الشرائع الموجودة، حيث قالت: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا».

لقد بيّنت الآية- موضوع البحث- اموراً ثلاثة تكون مقياساً للتفاضل بين الشرائع وبياناً لخيرها:

1- الإستسلام والخضوع المطلق للَّه العزيز القدير، حيث تقول الآية: «أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ».

2- فعل الخير، كما تقول الآية: «وَهُوَ مُحْسِنٌ». والمقصود بفعل الخير- هنا- كل خير يفعله الإنسان بقلبه أو لسانه أو عمله.

3- إتّباع شريعة إبراهيم النقية الخالصة، كما في الآية: «وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا» «1».

ودليل الإعتماد على شريعة إبراهيم ما ذكرته الآية نفسها في آخرها، إذ تقول: «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرهِيمَ خَلِيلًا».

بعد ذلك تتحدث الآية التالية بملكية اللَّه والمطلقة وإحاطته بجميع الأشياء، حيث تقول:

______________________________

(1) «ملّة»: تعني «الشريعة أو الدين» والفرق بين الملّة والدين أنّ الاولى لا تنسب إلى اللَّه، أى لا يقال «ملّة اللَّه» ويمكن أن تضاف إلى النّبي بينما كلمة الدين أو الشريعة يمكن أي يضافا إلى لفظ الجلالة فيقال: «دين اللَّه» أو «شريعة اللَّه» كما يمكن إضافتهما إلى النّبي أيضاً. و «حنيف»: تعني الشخص الذي يترك الأديان الباطلة ويتبع دين الحق.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 459

«وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ مُّحِيطًا». وهذه إشارة إلى أنّ اللَّه حين انتخب إبراهيم عليه السلام خليلًا له، ليس من أجل الحاجة إلى إبراهيم فاللَّه منزّه عن الاحتياج لأحد، بل إنّ هذا الاختيار قد تمّ لما لإبراهيم من صفات

وخصال وسجايا طيّبة بارزة لم توجد في غيره.

وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً (127) عود على حقوق المرأة: تجيب الآية الأخيرة هذه على أسئلة وردت حول النساء من قبل المسلمين (وبالأخص حول اليتامى منهنّ) فتخاطب النبي صلى الله عليه و آله وتبين له أنّ اللَّه هو الذي يفتي في الأسئلة التي وجهت إليك يا محمّد حول الأحكام الخاصة بحقوق النساء، فتقول:

«وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ».

وتضيف الآية إنّ ما ورد في القرآن الكريم حول الفتيات اليتامى اللواتي كنتم تتصرفون في أموالهن، ولم تكونوا لتتزوّجوا بهن، ولم تدفعوا أموالهن إليهن لكي يتزوجن من آخرين، فإنّه يجيب على قسم آخر من اسئلتكم ويبيّن لكم قبح ما كنتم تعملون من ظلم بحق هؤلاء النسوة: «وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاءِ التِى لَاتُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنْكِحُوهُنَّ».

ثم توصي الآية الكريمة بالأولاد الذكور الصغار الذين كانوا يحرمون من الإرث وفق التقاليد الجاهلية، فتؤكد ضرورة رعاية حقوقهم، حيث تقول: «وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ».

كما تعود الآية فتكرّر التأكيد على حقوق اليتامى، فتذكّر أنّ اللَّه يوصيكم في أن تراعوا العدالة في تعاملكم مع اليتامى: «وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ».

وفي الختام تجلب الآية الإنتباه إلى أنّ أي عمل خير يصدر منكم وبالأخص إذا كان في حق اليتامى والمستضعفين- فإنّه لا يخفى على اللَّه- وإنّكم ستنالون أجر ذلك في النهاية، حيث تقول الآية: «وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا».

مختصر الامثل،

ج 1، ص: 460

إنّ عبارة «يَسْتَفْتُونَكَ» مشتقة من المصدر «فتوى» أو «فتيا» ومعناها الإجابة على كل سؤال معضل.

وَ إِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: كانت بنت محمد بن سلمة، عند رافع بن خديج، وكانت قد دخلت في السن وكانت عنده امرأة شابة سواها فطلّقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسير.

قال: إن شئتِ راجعتكِ وصبرتِ على الأثَرة «1» وإن شئتِ تركتكِ! قالت: بل راجعني وأصبر على الأثرة. فراجعها، فذلك الصلح الذي بلغنا أنّ اللَّه تعالى أنزل فيه هذه الآية.

التّفسير

الصلح خير: وقد بيّنت الآيات السابقة حكم نشوز المرأة، وفي هذه الآية إشارة لنشوز الرجل فالآية تتحدث عن المرأة إذا أحست من زوجها التكبر والإعراض عنها، وتبيّن أن لا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها، وتتصالح مع زوجها، من أجل حماية العلاقة الزوجية من التصدع، فتقول: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا».

بعد ذلك تؤكّد الآية على أنّ الصلح خير وأحسن، حيث تقول: «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ». وهذه الجملة الصغيرة مع أنّها جاءت في مجال الخلافات العائلية، لكنها تبين قانوناً كلياً، وتؤكّد أنّ الصلح هو المبدأ الأوّل في كل المجالات، وأنّ الخلاف والنزاع والصراع والفراق ليس له وجود في الطبع والفطرة الإنسانية السليمة، ولذلك فلا تسوّغ هذه الفطرة التوسل بالنزاع وما يجري مجراه إلّافي الحالات الاستثنائية الطارئة.

وتشير الآية بعد ذلك مباشرة إلى أنّ الإنسان بسبب غريزة حبّ الذات التي يمتلكها تحيط به أمواج البخل، بحيث إنّ كل إنسان

يسعى إلى نيل حقوقه دون التنازل عن أقل شي ء منها، وهذا هو سبب ومنبع النزاع والصراع، تقول الآية: «وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ».

______________________________

(1) الأثرة: الإختيار: أي اختياري للمرأة الشابة وتقديمي إيّاها عليك.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 461

ولكي لا يسي ء الرجال استغلال هذا الحكم الوارد في الآية، وجه الخطاب إليهم في نهايتها ودعوا إلى فعل الخير والتزام التقوى، ونبهوا إلى أنّ اللَّه يراقب أعمالهم دائماً فليحذروا الإنحراف عن جادة الحق والصواب، تقول الآية في هذا المجال: «وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا».

وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَ إِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَ كَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً (130) العدالة شرط في تعدد الزوجات: نستنتج من الجملة التي وردت في نهاية الآية السابقة- التي تمّ البحث عنها والتي دعت الرجال إلى فعل الخير والتزام التقوى- إنّها تعتبر نوعاً من التهديد للأزواج من الرجال، بأن يراقبوا حالهم ولا ينحرفوا قيد شعرة عن جادة الحق والعدالة لدى التعامل مع زوجاتهم. وقد يرد إعتراض وهو: إنّ تحقيق العدالة في مجال الحب والعلاقات القلبية أمر بعيد المنال، فكيف يمكن إذن والحالة هذه اتباع العدل مع الزوجات؟

وردّاً على الإعتراض المذكور توضح الآية (129) من سورة النساء، بأنّ تحقيق العدالة في مجال الحب بين الزوجات أمر غير ممكن، مهما بذل الإنسان من سعي في هذا المجال، فتقول الآية: «وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ».

ولكي لا يسي ء الرجال استغلال هذا الحكم، طالبت الآية الرجال بأن لا يظهروا الميل الكامل لإحدى الزوجات إذا تعسر عليهم تحقيق المساواة في حبهم

لهن جميعاً، كي لا يضيع حق الاخريات ولا يحرن في أمرهن ماذا يفعلن! حيث تقول الآية: «فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ».

وتحذر الآية في آخرها اولئك الذين يجحفون في حق زوجاتهم، وتطالبهم بأن يتبعوا طريق الإصلاح والتقوى، ويعرضوا عمّا فات في الماضي، كي يشملهم اللَّه برحمته وعفوه، فتقول الآية: «وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا».

أمّا الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين، فهي تشير إلى هذه الحقيقة، وهي أنّه لو استحال مواصلة الحياة الزوجية للطرفين- الزوج والزوجة- واستحال الإصلاح بينهما، فإنّهما-

مختصر الامثل، ج 1، ص: 462

والحالة هذه- غير مرغمين على الإستمرار في مثل هذه الحياة المُرّة الكريهة، بل يستطيعان أن ينفصلا عن بعضهما وعليهما اتخاذ موقف شجاع وحاسم في هذا المجال دون خوف أو رهبة من المستقبل، لأنّهما لو انفصلا في مثل تلك الحالة فإنّ اللَّه العليم الحكيم سيغنيهما من فضله ورحمته، فلا يعدمان الأمل في حياة مستقبلية أفضل، فتقول الآية الكريمة في هذا المجال: «وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا».

وَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ كَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً (131) وَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ كَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ كَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) لقد أوضحت الآية السابقة أن إذا اقتضت الضرورة لزوجين أن ينفصلا عن بعضهما دون أن

يجدا حلًا بديلًا عن الانفصال فلا مانع من ذلك، وليس عليهما أن يخافا من حياة المستقبل، لأنّ اللَّه سيشملهما بكرمه وفضله، ويزيل احتياجهما برحمته وبركته. أمّا في الآية- موضوع البحث- فإنّ اللَّه يؤكّد قدرته على إزالة ورفع تلك الاحتياجات، لأنّه مالك ما في السماوات وما في الأرض «وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». وإنّ من يملك ملكاً لا نهاية له كهذا الملك، ويملك قدرة لا نفاد لها أبداً، لن يكون عاجزاً- مطلقاً- عن رفع احتياجات خلقه وعباده.

ولكي تؤكد الآية ضرورة التقوى في هذا المجال وفي أي مجال آخر، تشير الآية إلى أنّ اليهود والنصارى وكل من كان له كتاب سماوي قبل المسلمين قد طلب منهم جميعاً كما طلب منكم مراعاة التقوى: «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ».

بعد ذلك تتوجه الآية إلى مخاطبة المسلمين، فتؤكّد لهم أنّ الالتزام بحكم التقوى سيجلب النفع لهم، وأن ليس للَّه بتقواهم حاجة، كما تؤكد أنّهم إذا عصوا وبغوا، فإنّ ذلك لا يضرّ اللَّه أبداً، لأنّ اللَّه هو مالك ما في السماوات وما في الارض، فهو غير محتاج إلى أحد أبداً، ومن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 463

حقّه أن يشكره عباده دائماً وأبداً: «وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا».

وفي الآية التالية جرى التأكيد- وللمرة الثالثة- على أنّ كل ما في السماوات وما في الأرض هو ملك للَّه، وأنّ اللَّه هو الحافظ والمدبر والمدير لكل الموجودات «وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا».

ثم يبيّن- عزّ من قائل- أنّه لا يأبه في أن يزيل قوماً عن الوجود، ليأتي مكانهم بقوم آخرين أكثر استعداداً وعزماً وأكثر دأباً في طاعة

اللَّه وعبادته، واللَّه قادر على هذا الأمر «إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بَاخِرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذلِكَ قَدِيرًا».

و الآية الأخيرة من الآيات الأربع الماضية، ورد الحديث فيها عن اناس يزعمون أنّهم مسلمون، ويشاركون في ميادين الجهاد، ويطبقون أحكام الإسلام، دون أن يكون لهم هدف إلهي، بل يهدفون لنيل مكاسب مادية مثل غنائم الحرب فتنبه الآية إلى أنّ الذين يطلبون الأجر الدنيوي يتوهمون في طلبهم هذا، لأنّ اللَّه عنده ثواب الدنيا والآخرة معاً «مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ».

فلماذا لا يطلب- ولا يرجو- هؤلاء، التوّابون معاً؟ واللَّه يعلم بنوايا الجميع ويسمع كل صوت ويرى كل مشهد ويعرف أعمال المنافقين وأشباههم: «وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) العدالة الإجتماعية: على غرار الأحكام التي وردت في الآيات السابقة حول تطبيق العدالة مع الأيتام والزوجات تذكر الآية الأخيرة- موضوع البحث- مبدأ أساسياً وقانوناً كلياً في مجال تطبيق العدالة في جميع الشؤون والموارد بدون استثناء، وتأمر جميع المؤمنين بإقامة العدالة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ».

والمراد من التعبير بالقيام في الآية يكون تأكيداً لضرورة تحقيق العدالة دون أقل انحراف إلى أي جهة كانت.

ولتأكيد الموضوع جاءت الآية بكلمة «الشهادة» فشددت على ضرورة التخلي عن كل

مختصر الامثل، ج 1، ص: 464

الملاحظات والمجاملات أثناء أداء الشهادة، وأن يكون هدف الشهادة بالحق هو كسب مرضاة اللَّه فقط، حتى لو أصبحت النتيجة في ضرر الشاهد أو أبيه أو أمه

أو أقاربه: «شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ». وتشير الآية بعد ذلك إلى عوامل الانحراف عن مبدأ العدالة، فتبيّن أنّ ثروة الأغنياء يجب أن لا تحول دون الإدلاء بالشهادة العادلة، كما أنّ العواطف والمشاعر التي تتحرك لدى الإنسان من أجل الفقراء، يجب أن تكون سبباً في الإمتناع عن الادلاء بالشهادة العادلة حتّى ولو كانت نتيجتها لغير صالح الفقراء، لأنّ اللَّه أعلم من غيره بحال هؤلاء الذين تكون نتيجة الشهادة العادلة ضدهم، فلا يستطيع صاحب الجاه والسلطان أن يضرّ بشاهد عادل يتمتع بحماية اللَّه، ولا الفقير سيبيت جوعاناً بسبب تحقيق العدالة، تقول الآية في هذا المجال:

«إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا».

وللتأكيد أكثر تحكم الآية بتجنّب إتّباع الهوى، لكي لا يبقى مانع أمام سير العدالة وتحقيقها إذ تقول الآية: «فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا» «1».

ويتّضح من هذه الجملة أنّ مصدر الظلم والجور كلّه، هو إتّباع الهوى، فالمجتمع الذي لا تسوده الأهواء يكون بمأمن من الظلم والجور.

ولأهمية موضوع تحقيق العدالة، يؤكد القرآن هذا الحكم مرّة اخرى، فيبين أنّ اللَّه ناظر وعالم بأعمال العباد- فهو يشهد ويرى كل من يحاول منع صاحب الحق عن حقه، أو تحريف الحق، أو الإعراض عن الحق بعد وضوحه، فتقول الآية: «وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا» «2».

وتثبت الآية اهتمام الإسلام المفرط بقضية العدالة الاجتماعية، وإنّ مواطن التأكيد المتكررة في هذه الآية تبيّن مدى هذا الإهتمام الذي يوليه الإسلام لمثل هذه القضية

______________________________

(1) يمكن أن تكون عبارة «تعدلوا» اشتقاقاً إمّا من مادة «العدالة» أو من مادة «العدول» فإن كانت من مادة «العدالة» يكون معنى الجملة القرآنية هكذا: فلا تتبعوا الهوى لأن تعدلوا أي لكي تستطيعوا تحقيق العدل،

وأما إذا كانت من مادة «العدول» يكون المعنى هكذا: فلا تتّبعوا الهوى في أن تعدلوا أي لا تتّبعوا الهوى في سبيل الانحراف عن الحق.

(2) «تلووا»: مشتقة من المصدر «لي» وتعني المنع والإعاقة وقد وردت في الأصل بمعنى اللّي والبرم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 465

الانسانية الاجتماعية الحساسة، وممّا يُؤسف له كثيراً أن نرى الفارق الكبير بين عمل المسلمين وهذا الحكم الإسلامي السامي، وإنّ هذا هو سرّ تخلف المسلمين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلَائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيداً (136)

سبب النّزول

روي في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّه قال: إنّ الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب، عبد اللَّه بن سلام، وأسد وأسيد، إبني كعب، وثعلبة بن قيس وابن اخت عبد اللَّه بن سلام ويامين بن يامين وهؤلاء من كبار أهل الكتاب، قالوا: نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب وبمن سواهم من الرسل. فقيل لهم: بل آمنوا باللَّه ورسوله الآية.

التّفسير

يتبيّن من سبب النزول أنّ الكلام في الآية موجه إلى جمع من مؤمني أهل الكتاب الذين قبلوا الإسلام، ولكنهم لعصبيات خاصة أبوا أن يؤمنوا بما جاء قبل الإسلام من أنبياء وكتب سماوية غير الدين الذي كانوا عليه، فجاءت الآية توصيهم بضرورة الإيمان والإقرار والإعتراف بجميع الأنبياء والمرسلين والكتب السماوية، لأنّ هؤلاء جميعاً يسيرون نحو هدف واحد، وهم مبعوثون من مبدأ واحد. ولذلك فلا معنى لقبول البعض وإنكار البعض الآخر من هؤلاء الأنبياء والرسل، فالحقيقة الواحدة لا يمكن التفريق بين أجزائها، وأنّ العصبيات ليس بإمكانها الوقوف أمام الحقائق،

لذلك تقول الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنزَلَ مِن قَبْلُ».

وقد بيّنت الآية- في آخرها- مصير الذين يجهلون هذه الحقائق، حيث قالت: «وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَللًا بَعِيدًا».

وفي هذه الآية اعتبر الإيمان واجباً وضرورياً بخمسة مبادى ء، فبالإضافة إلى ضرورة الإيمان بالمبدأ والمعاد، فإنّ الإيمان لازم وضروري بالنسبة إلى الكتب السماوية والأنبياء والملائكة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 466

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) مصير المنافقين المعاندين: تماشياً مع البحث الذي ورد في الآية السابقة والذي تناول وضع الكفار وضلالهم البعيد، تشير هذه الآيات الأخيرة إلى وضع مجموعة من الكفار الذين يتلوّنون في كل يوم تلون الحرباء، فالآية الاولى من الآيات الثلاثة الأخيرة تتحدث عن مصير أفراد كهؤلاء، فتؤكّد بأنّ اللَّه لن يغفر لهم أبداً، ولن يرشدهم إلى طريق الصواب:

«إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا».

ثم تؤكد الآية التالية نوع العذاب الذي يستحقه هؤلاء فتقول: «بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

وقد أشارت الآية الأخيرة إلى المنافقين بأنّهم يتخذون الكفّار أصدقاءاً وأحباءاً لهم بدلًا من المؤمنين، بقولها: «الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ».

ثم يأتي التساؤل في الآية عن هدف هؤلاء المنافقين من صحبة الكافرين، وهل أنّهم يريدون حقّاً أن يكتسبوا الشرف والفخر عبر هذه الصحبة؟ تقول الآية: «أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ».

بينما العزة والشرف كلها للَّه «فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا». لأنّها تنبع من العلم والقدرة، وأنّ الكفار لا يمتلكون من القوة والعلم شيئاً، ولذلك فإنّ علمهم لا شي ء أيضاً، ولا يستطيعون إنجاز شي ء لكي يصبحوا مصدراً للعزة والشرف.

إنّ هذه الآية تحذير للمسلمين بأن لا يلتمسوا الفخر والعزة في شؤونهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية عن طريق إنشاء علاقات الود والصداقة مع أعداء الإسلام لأنّهم متى ما اقتضت مصالحهم الشخصية تخلّوا عن أقرب حلفائهم وركضوا وراء مصالحهم، وكأنّهم لم يكونوا ليعرفوا هؤلاء الحلفاء مسبقاً، والتاريخ المعاصر خير دليل على هذا السلوك النفعي الإنتهازي.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 467

وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَ يُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَ الْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)

سبب النّزول

نقل في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن، فنهاهم اللَّه تعالى عن ذلك.

التّفسير

النهي عن المشاركة في مجالس يعصى اللَّه فيها: لقد ورد في الآية (68) من سورة الأنعام أمر صريح إلى النبي صلى الله عليه و آله في أن يعرض عن اناس يستهزئون بآيات القرآن ويتكلمون بما لا يليق، والآية هذه تكرر الحكم المذكور مرة اخرى، وتحذّر المسلمين مذكرة إيّاهم بحكم سابق في القرآن نهى فيه المسلمون عن المشاركة في مجالس يستهزأ فيها ويكفر بالقرآن الكريم، حتى يكفّ أهل هذه المجالس عن الاستهزاء ويدخلوا في حديث آخر، تقول الآية: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ».

بعد ذلك تبين الآية لنا

نتيجة هذا العمل، وتؤكّد أنّ من يشارك في مجالس الاستهزاء بالقرآن فهو مثل بقية المشاركين وسيكون مصيره نفس مصير اولئك المستهزئين. تقول الآية: «إِنَّكُمْ إِذًا مّثْلُهُمْ».

ثم تكرر الآية التأكيد على أنّ المشاركة في المجالس المذكورة تدل على الروحية النفاقية التي يحملها المشاركون، وإنّ اللَّه يجمع المنافقين والكافرين في جهنم حيث العذاب الأليم، تقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا».

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 468

صفات المنافقين: تبيّن هذه الآية- وآيات اخرى تالية- قسماً آخر من صفات المنافقين وأفكارهم المضطربة، فتؤكّد أنّ المنافقين يسعون دائماً لاستغلال أي حدث لصالحهم، فلو انتصر المسلمون حاول المنافقون أن يحشروا أنفسهم بين صفوف المؤمنين، زاعمين بأنّهم شاركوا المؤمنين في تحقيق النصر وأدعوا بأنّهم قدموا دعماً مؤثراً للمؤمنين في هذا المجال، مطالبين بعد ذلك بمشاركة المؤمنين في الثمار المعنوية والمادية للنصر حيث تقول الآية في حقهم: «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ».

وهؤلاء المنافقون ينقلبون على أعقابهم حين يكون النصر الظاهري من نصيب أعداء الإسلام فيتقربون إلى هؤلاء الأعداء، ويعلنون لهم الرضى والموافقة بقولهم أنّهم هم الذين شجعوهم على قتال المسلمين وعدم الإستسلام لهم، ويدعون بأنّهم شركاء في النصر الذي حققه أعداء الإسلام تقول الآية: «وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعَكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ».

وعلى هذا المنوال تحاول هذه الفئة المنافقة أن تكون تارة رفاق الطريق مع الكفار وتارة شركاءهم في الجريمة

وهكذا يمضون حياتهم بالتلون والنفاق واللعب على الحبال المختلفة.

ولكن القرآن الكريم يوضح بعبارة واحدة مصير هؤلاء ونهايتهم السوداء، ويبين أنّهم- لا محالة- سيلاقون ذلك اليوم الذي تكشف فيه الحجب عن جرائمهم ويرفع النقاب عن وجوههم الكريهة، وعند ذلك- أي في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة- سيحكم اللَّه بينهم وهو أحكم الحاكمين، فتقول الآية في هذا المجال: «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ».

ولكي يطمئن القرآن المؤمنين الحقيقيين من خطر هؤلاء، تؤكد هذه الآية- في آخرها- بأنّ اللَّه لن يجعل للكافرين مجالًا للانتصار أو التسلط على المسلمين، وذلك حيث تقول الآية: «وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا».

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خَادِعُهُمْ وَ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلَى هؤُلَاءِ وَ لَا إِلَى هؤُلَاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 469

لقد وردت في هذه الآية خمس صفات للمنافقين، وهي:

1- إنّ هؤلاء- لأجل تحقيق أهدافهم الدنيئة- يتوسلون بالخدعة والحيلة، حتى أنّهم يريدون على حسب ظنهم أن يخدعوا اللَّه تعالى أيضاً، ولكنّهم يقعون في نفس الوقت ومن حيث لا يشعرون في حبال خدعتهم ومكرهم، إذ هم- لأجل اكتساب ثروات مادية تافهة- يخسرون الثروات الكبيرة الكامنة في وجودهم، تقول الآية في هذا المجال: «إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ».

2- إنّ المنافقين بعيدون عن رحمة اللَّه، ولذلك فهم لا يتلذذون بعبادة اللَّه والتقرب إليه، ويدل على ذلك أنّهم حين يريدون أداء الصّلاة يقومون إليها وهم كسالى خائرو القوى، تقول الآية في هذا الأمر: «وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَوةِ قَامُوا كُسَالَى .

3- ولما كان المنافقون لا يؤمنون باللَّه وبوعوده، فهم حين يقومون

بأداء عبادة معينة، إنّما يفعلون ذلك رياءاً ونفاقاً وليس من أجل مرضاة اللَّه، تقول الآية: «يُرَاءُنَ النَّاسَ».

4- ولو نطقت ألسن هؤلاء المنافقين بشي ء من ذكر اللَّه، فإنّ هذا الذكر لا يتجاوز حدود الألسن، لأنّه ليس من قلوبهم، ولا هو نابع من وعيهم ويقظتهم، وحتى لو حصل هذا الأمر فهو نادر وقليل. تقول الآية: «وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا».

5- إنّ المنافقين يعيشون في حيرة دائمة ودون أي هدف أو خطّة معيّنة لطريقة الحياة ولهذا فهم يعيشون حالة من التردد والتذبذب، فلا هم مع المؤمنين حقّاً ولا هم يقفون إلى جانب الكفار ظاهراً، وفي هذا تقول الآية الكريمة: «مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَاإِلَى هؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هؤُلَاءِ».

وتبيّن الآية في الختام مصير هؤلاء المنافقين، وتوضح أنّهم اناس قد سلب اللَّه عنهم حمايته نتيجة لأعمالهم وتركهم يتيهون في الطريق المنحرف الذي سلكوه بأنفسهم، فهم لن يهتدوا أبداً إلى طريق النجاة، لأنّ اللَّه كتب عليهم التيه والضلالة عقاباً لهم على أعمالهم.

تقول الآية الكريمة في ذلك: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 470

لقد أشارت الآيات السابقة إلى قسم من صفات المنافقين، والآيات التالية- هذه- تحذر المؤمنين وتأمرهم أن لا يعتمدوا على المنافقين والكفار بدل الإعتماد على المؤمنين، وأن لا يطلبوا النصرة منهم «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ».

وتبيّن أنّ

الاعتماد على الكفار يعتبر جريمة وخرقاً صارخاً للقانون الإلهي وشركاً باللَّه، ونظراً لقانون العدل الإلهي فإنّ هذه الجريمة تستحق عقاباً شديداً، حيث تؤكد الآية:

«أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا».

وفي الآية الثانية من الآيات الأخيرة بيان لأحوال المنافقين، الذين اتخذهم بعض الغافلين من المؤمنين اصدقاء لأنفسهم، حيث توضح الآية أنّ المنافقين يستقرون في القيامة في أحط وأسفل دركة من دركات جهنم، ولن يستطيع أحد أن ينصرهم أو ينقذهم من هذا المصير أبداً، تقول الآية: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا».

ويتبيّن من هذه الآية أنّ النفاق في نظر الإسلام أشد أنواع الكفر، وأنّ المنافقين أبعد الخلق من اللَّه.

وقد أوضحت الآية الثالثة من الآيات الأخيرة، أنّ المجال مفتوح حتى لأكثر الناس تلوثاً للتوبة من أعمالهم وإصلاح شأنهم، والسعي للتعويض بالخير عن ماضيهم المشين، والعودة إلى رحمة اللَّه والتمسك بحبله والإخلاص للَّه بالإيمان به تقول الآية: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ».

فالتائبون هؤلاء سيكونون أهلًا للنجاة في النهاية ويستحقون صحبة المؤمنين، تقول الآية: «فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ».

وإنّ اللَّه سيهب ثواباً وأجراً عظيماً لكل المؤمنين «وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا».

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) العقاب الإلهي ليس دافعه الإنتقام: هذه الآية تشير إلى حقيقة ثابتة وهي أنّ العقاب الإلهي الموجه للبشر العاصين ليس بدافع الإنتقام ولا هو بدافع التظاهر بالقوة، كما أنّه ليس تعويضاً عن الخسائر الناجمة عن تلك المعاصي، فهذه الامور إنّما تحصل ممن في طبيعته النقص والحاجة، واللَّه سبحانه وتعالى منزّه من كل نقص ولا يحتاج أبداً إلى شي ء. إذن فالعقاب الذي يلحق الإنسان لما يرتكبه من معاص، إنّما هو انعكاس

للنتائج السيئة التي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 471

ترتبت على تلك المعاصي.

ولتأكيد هذا الأمر تضيف الآية مبيّنة أنّ اللَّه عالم بأعمال ونوايا عباده، وهو يشكر ويثيب كل من يفعل الخير من العباد لوجه اللَّه. فتقول الآية: «وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا».

وقد قدمت هذه الآية مسألة الشكر على الإيمان لأجل بيان هذه الحقيقة، وهي أنّ الإنسان ما لم يدرك نعم اللَّه وهباته العظيمة ويشكره على هذه النعم فلن يستطيع التوصل إلى معرفة اللَّه والإيمان به، لأن أنعمه سبحانه وتعالى إنّما هي وسائل لمعرفته.

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَ كَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً (149) في هذه الآية إشارتان إلى التكاليف الأخلاقية الإسلامية:

الاولى تبيّن أنّ اللَّه لا يحبّ التجاهر بالكلام البذى ء، ولا يرضى بما يصدر من كلام عن عيوب الناس وفضائح أعمالهم، فتقول الآية: «لَايُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ».

إنّ عدم الرضى من نشر فضائح أعمال الناس، نابع من حقيقة أنّ اللَّه هو ستار العيوب، فلا يجب أن يقوم عباده بكشف سيئات الآخرين من أمثالهم أو الإساءة إلى سمعتهم، إلّاأنّ الآية الكريمة لم تحرّم (القول بالسّوء) تحريماً مطلقاً، فقد استثنت حالة يمكن فيها أن يصار إلى الكشف والفضح، وهذه الحالة هي إذا وقع الإنسان مظلوماً حين قالت الآية: «إِلَّا مَن ظُلِمَ». وبهذا الدليل يستطيع المظلوم- في مقام الدفاع عن نفسه- أن يكشف فضائح الظالم، سواء عن طريق الشكوى أو فضح مساوى ء الظالم أو توجيه النقد له، أو استغابته، ولا يسكت على الظلم حتى استعادة حقوقه من الظالم.

ولكي تسد الآية الطريق على كل انتهازي كاذب يريد إساءة استغلال هذا الحكم بدعوى

وقوع الظلم عليه أكدّت على أنّ اللَّه يراقب أعمال البشر ويعلم ويسمع بكلّ ما يصدر عنهم من أفعال حيث تقول الآية: «وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا».

وفي الآية التالية يشير القرآن الكريم إلى النقطة المواجهة لهذا الحكم، حيث يبيح التحدث عن محاسن الأفراد أو كتمانها (على عكس المساوى ء التي يجب أن تكتم إلّافي حالة استثنائية) كما تبيح- أو بالأحرى تحثّ- الفرد على إصدار العفو على من إرتكب السوء بحقه، لأنّ العفو عند المقدرة من صفات اللَّه العزيز القدير الذي يعفو عن عباده مع إمتلاكه

مختصر الامثل، ج 1، ص: 472

القدرة على الإنتقام بأي صورة شاء، فتقول الآية في هذا المجال: «إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا».

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (150) أُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (151) وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) لا تمييز بين الأنبياء: تحدثت الآيات الأخيرة عن مواقف طائفة من الكافرين، ومواقف اخرى لطائفة من المؤمنين، كما ذكرت هذه الآيات نهاية كل من الطائفتين، وهي بهذا تأتي مكملة للآيات السابقة التي تحدثت بشأن المنافقين.

وتشير الآية الاولى إلى طائفة فرقوا بين الأنبياء، فاعتبروا بعضهم على حق والبعض الآخر على باطل، فتؤكد أنّ هذا النفر من الناس كفار حقيقيون.

والواقع أنّ هذه الآية توضح موقف اليهود والنصارى، فاليهود كانوا يرفضون الإيمان بالنبي عيسى نبي النصارى، واليهود والنصارى معاً كانوا يرفضون الإذعان لنبوّة نبي الخاتم صلى الله

عليه و آله في حين أنّ كتابيهم السماويين قد أثبتا نبوة هؤلاء الأنبياء.

وعلى هذا الأساس فإنّ ما يتظاهرون به من إيمان لا حقيقة ولا قيمة له مطلقاً، لأنّه لا ينبع من روح طلب الحقيقة. والقرآن الكريم يهدد هؤلاء- وأمثالهم- بأنّهم يلقون الذل والهوان، حيث تقول الآية: «وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا».

وقد يكون وصف العذاب في هذه الآية ب «المهين» سببه أنّ هؤلاء بقبولهم بعض الأنبياء ورفضهم الإيمان بالبعض الآخر منهم، إنّما يوجّهون الإهانة بحق عدد من الأنبياء، لذلك يجب أن ينال هؤلاء عذاباً مهيناً يتناسب واهانتهم تلك.

وقد تطرقت الآية الأخيرة إلى موقف المؤمنين الذين آمنوا باللَّه وبجميع أنبيائه ورسله ولم يفرقوا بين أي من الأنبياء والرسل واخلصوا للحق، وكافحوا كل أنواع العصبيات الباطلة، وبيّنت أنّ اللَّه سيوفّي هؤلاء المؤمنين أجرهم وثوابهم في القريب العاجل، فتقول الآية:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 473

«وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ».

وقد أكّدت الآية في الختام أنّ اللَّه سيغفر للمؤمنين الذين إرتكبوا اخطاء بالإنجرار وراء العصبيات وممارسة التفرقة بين الأنبياء إن أخلص هؤلاء المؤمنون في إيمانهم وعادوا إلى اللَّه، أي تابوا إليه من أخطائهم السابقة، حيث تقول الآية: «وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً (153) وَ رَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَ قُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَ قُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (154)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: روي أنّ كعب بن الأشرف وجماعة من

اليهود، قالوا: يا محمّد! إن كنت نبيّاً فأتنا بكتاب من السماء جملة: أى كما موسى بالتوراة جملة، فنزلت الآية.

التّفسير

هدف اليهود من اختلاق الأعذار: تشير الآية الاولى إلى طلب أهل الكتاب (اليهود) من النبي محمّد صلى الله عليه و آله بأن ينزل عليهم كتاباً من السماء كاملًا وفي دفعة واحدة، فتقول: «يَسَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ».

ولا شك أنّ هؤلاء لم يكونوا صادقين في نواياهم مع النبي صلى الله عليه و آله لأنّ الهدف من نزول الكتاب السماوي هو الإرشاد والهداية والتربية، وقد يتحقق هذا الهدف أحياناً عن طريق نزول كتاب كامل من السماء دفعة واحدة، وأحياناً اخرى يتحقق الهدف عن طريق نزول الكتاب السماوي على دفعات وبصورة تدريجية.

ولهذا السبب فضح اللَّه نواياهم السيئة بعد طلبهم هذا وأوضح للنبي صلى الله عليه و آله بأنّ هذا العمل هو ديدن اليهود، وأنّهم معروفون بصلفهم وعنادهم واختلاقهم الأعذار مع نبيّهم الكبير موسى بن عمران عليه السلام فقد طلب هؤلاء من نبيّهم ما هو أكبر وأعجب إذ سألوه أن يريهم اللَّه جهاراً وعلناً. تقول الآية: «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 474

وما مصدر هذا الطلب العجيب الغريب البعيد عن المنطق غير الصلف والعناد، فهم بطلبهم هذا قد تبنّوا عقيدة المشركين الوثنيين في تجسيد اللَّه وتحديده، وقد أدّى عنادهم هذا إلى نزول عذاب اللَّه عليهم، صاعقة من السماء أحاطت بهم لما إرتكبوه من ظلم كبير. تقول الآية: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ». ثم تشير الآية إلى عمل قبيح آخر ارتكبه اليهود، وذلك حين لجؤوا إلى عبادة العجل بعد أن شاهدوا بأعينهم المعجزات الكثيرة والدلائل الواضحة، فتقول: «ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا

جَاءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ».

ومع كل هذا الصلف والعناد والشرك، يريهم اللَّه لطفه ورحمته ويغفر لهم لعلهم يرتدعوا عن غيّهم، ويهب لنبيهم موسى عليه السلام ملكاً بارزاً وسلطاناً مبيناً، ويفضح السامري صاحب العجل ويخمد فتنته وفي هذا تقول الآية: «فَعَفَوْنَا عَن ذلِكَ وَءَاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا».

لكن اليهود بسبب ما انطوت عليه سريرتهم من شرّ- لم يستيقظوا من غفلتهم، ولم يخرجوا من ضلالتهم، ولم يتخلوا عن صلفهم وغرورهم، فرفع اللَّه جبل الطور لينزله على رؤوسهم، حتى أخذ منهم العهد والميثاق وأمرهم أن يدخلوا خاضعين خاشعين- من باب بيت المقدس- دليلًا على توبتهم وندمهم، وأكّد عليهم أن يكفوا عن أي عمل في أيام السبت، وأن لا يسلكوا سبيل العدوان، وأن لا يأكلوا السمك الذي حرم صيده عليهم في ذلك اليوم، وفوق كل ذلك أخذ اللَّه منهم ميثاقاً غليظاً مؤكداً، ولكنهم لم يثبتوا- مطلقاً- وفاءهم لأي من هذه المواثيق والعهود يقول القرآن الكريم في هذا المجال: «وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَاتَعْدُوا فِى السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مّيثَاقًا غَلِيظًا».

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156) وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ مَا قَتَلُوهُ وَ مَا صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَ مَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 475

نماذج اخرى من ممارسات اليهود العدوانية: تشير هذه الآيات إلى

نماذج اخرى من انتهاكات بني إسرائيل وممارساتهم العدوانية التي واجهوا بها أنبياء اللَّه. فالآية الاولى تشير إلى قيام اليهود بنقض العهود، وإلى إرتداد بعضهم وكفرهم بآيات اللَّه وقتلهم للأنبياء، بحيث استوجبوا غضب اللَّه والحرمان من رحمته وحرمانهم من قسم من نعم اللَّه الطاهرة.

فقد أنكر هؤلاء آيات اللَّه وكفروا بها بعد نقضهم للعهد واتّبعوا بذلك سبيل الضلال ولم يكتفوا بهذا الحدّ، بل تمادوا في غيّهم، فارتكبت أياديهم الآثمة جريمة كبرى، إذ عمدوا إلى قتل الهداة والقادة إلى طريق الحق من أنبياء اللَّه، إيغالًا منهم في إتّباع طريق الباطل والإبتعاد عن طريق الحق.

لقد كان هؤلاء اليهود بدرجة من العناد والصلف والوقاحة، بحيث كانوا يواجهون كلام الأنبياء بالسخرية والاستهزاء، ووصل بهم الأمر إلى أن يقولوا بكل صراحة أنّ قلوبهم تغطيها حجب عن سماع وقبول قول الأنبياء! تقول الآية الاولى من الآيات الأربع الأخيرة:

«فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَايَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ».

وهنا يؤكد القرآن الكريم أنّ قلوب هؤلاء مختومة حقاً، بحيث لا ينفذ إليها أي حق، وسبب ذلك هو كفرهم وانعدام الإيمان لديهم، فهم لا يؤمنون لعنادهم وصلفهم إلّاالقليل منهم.

وقد تجاوز هؤلاء المجرمون الحدّ، فألصقوا بمريم العذراء الطاهرة تهمة شنيعة وبهتاناً عظيماً، هي امّ لأحد أنبياء اللَّه الكبار، وذلك لأنّها حملت به بإذن اللَّه دون أن يمسّها رجل.

تقول الآية في هذا المجال: «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا».

وقد تباهى هؤلاء الجناة وافتخروا بقتلهم الأنبياء، وزعموا أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول اللَّه، تقول الآية: «وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ». وقد كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، بل صلبوا شخصاً شبيهاً بعيسى المسيح عليه السلام وإلى

هذه الواقعة تشير الآية بقولها: «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلكِن شُبّهَ لَهُمْ».

وأكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيح عليه السلام كانوا- هم أنفسهم- في شك من أمرهم، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول، بل كانوا يتبعون الأوهام والظن. تقول الآية: «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِى شَكّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتّبَاعَ الظَّنّ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 476

ويأتي القرآن ليؤكّد هنا بأنّ هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبداً، بل رفعه اللَّه إليه، واللَّه هو القادر على كل شي ء، وهو الحكيم لدى فعل أيّ شي ء، تقول الآية: «وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا* بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا». وحين تلاحظ أنّ القرآن يؤكد على قضية عدم صلب المسيح عليه السلام مع أنّ هذه القضية تظهر للعيان وكأنّها مسألة اعتيادية بسيطة، من أجل دحض عقيدة الفداء الخرافية بشدة، لمنع المسيحيين من الإيغال في هذا الاعتقاد الفاسد، ولكي يؤمنوا بأنّ طريق الخلاص والنجاة إنّما هو في أعمالهم هم أنفسهم وليس في ظل الصليب.

وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) هنالك احتمالان في تفسير هذه الآية وكل واحد منهما جدير بالملاحظة من جوانب متعددة:

1- إنّ الآية تؤكد أنّ أي إنسان يمكن أن لا يعتبر من أهل الكتاب ما لم يؤمن قبل موته بالمسيح عليه السلام حيث تقول: «وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ». وأنّ هذا الأمر يتمّ حين يشرف الإنسان على الموت وتضعف صلته بهذه الدنيا، وتقوى هذه الصلة بعالم ما بعد الموت، وفي هذه اللحظة يرى المسيح بعين بصيرته ويؤمن به، فالذين أنكروا نبوته يؤمنون به، والذين وصفوه بالالوهية يدركون في تلك اللحظة

خطأهم وإنحرافهم.

وبديهي أنّ مثل هذا الإيمان لا ينفع صاحبه.

2- قد يكون المقصود في الآية هو أنّ جميع أهل الكتاب يؤمنون بعيسى المسيح قبل موته، فاليهود يؤمنون بنبوته والمسيحيون يتخلون عن الاعتقاد بربوبية المسيح عليه السلام ويحدث هذا- طبقاً للروايات الإسلامية- حين ينزل المسيح عليه السلام من السماء لدى ظهور المهدي المنتظر عجل اللَّه تعالى فرجه، وواضح أنّ عيسى المسيح سيعلن في مثل هذا اليوم انضواءه تحت راية الإسلام لأنّ الشريعة السماوية التي جاء بها إنّما نزلت قبل الإسلام ولذلك فهي منسوخة به.

وتقول الآية في الختام: «وَيَوْمَ الْقِيمَةِ يِكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا». أي: شهادة المسيح عليه السلام على قومه بأنّه قد بلّغهم رسالة اللَّه ولم يدعهم لإتّخاذه إلهاً من دون اللَّه، بل دعاهم إلى الإقرار بربوبية اللَّه الواحد القهار.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 477

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) مصير الصالحين والطالحين من اليهود: لقد أشارت الآيات السابقة إلى نماذج من انتهاكات اليهود، أمّا الآيات الأخيرة فإنّما ذكرت نماذج اخرى من تلك الإنتهاكات، وبيّنت العقوبات التي استحقها اليهود بسبب تمردهم وعصيانهم، والعذاب الذي لا قوه وسيلاقوه نتيجة لذلك في الدنيا والآخرة. فالآية الاولى من الآيات الأخيرة تبيّن أنّ اللَّه قد حرّم بعضاً من الأشياء الطاهرة على اليهود بسبب ممارستهم الظلم والجور، وتصديهم للسائرين في طريق اللَّه،

حيث تقول الآية: «فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا». كما عاقبهم اللَّه بالحرمان من تلك الطيّبات لتعاملهم بالربا على الرغم من منعهم من ممارسة المعاملات الربوية ولإستيلائهم على أموال الآخرين بطرق غير مشروعة، فتقول الآية في هذا المجال: «وَأَخْذِهِمُ الرّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ».

وتؤكد الآية أنّ عذاب اليهود لمعاصيهم تلك لا يقتصر على العقاب الدنيوي، بل سيذيقهم اللَّه- أيضاً- عقاب وعذاب الآخرة الأليم الذي يشمل الكافرين من اليهود. تقول الآية الكريمة: «وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

وقد أشارت الآية الثالثة من الآيات الأخيرة إلى حقيقة مهمة اعتمدها القرآن الكريم مراراً في آيات متعددة، وهي أنّ ذمّ اليهود وانتقادهم في القرآن لا يقومان على أساس عنصري أو طائفي على الإطلاق، لأنّ الإسلام لم يذم ابناء أي طائفة أو عنصر لإنتمائهم الطائفي أو العرقي، بل وجه الذم والإنتقاد للمنحرفين والضالين منهم فقط، لذلك استثنت هذه الآية المؤمنين الأتقياء من اليهود ومدحتهم وبشّرتهم بنيل أجر عظيم، حيث تقول الآية الكريمة: «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 478

مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا». وقد آمن جمع من كبار الطائفة اليهودية بالإسلام حين بعث النبي محمد صلى الله عليه و آله وحين شاهدوا على يديه الكريمتين دلائل أحقّية الإسلام، ودافع هؤلاء بأرواحهم وأموالهم عن الإسلام، وكانوا موضع احترام وتقدير النبي وسائر المسلمين.

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْبَاطِ وَ عِيسَى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هَارُونَ

وَ سُلَيْمَانَ وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً (163) وَ رُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) لقد تناولت الآيات السابقة مسألة التمييز الذي مارسه اليهود بشأن الأنبياء، حيث كانوا يؤمنون ويصدقون ببعض أنبياء اللَّه تعالى ويكفرون بالبعض الآخر منهم. أمّا الآيات أعلاه فهي ترد على اليهود، وتؤكد أنّ اللَّه أوحى إلى نبيه محمّداً صلى الله عليه و آله كما أنزل الوحي على أنبيائه نوح والنبيين الذين جاؤوا من بعد نوح، وكما أوحى إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأنزل الوحي على الأنبياء من أبناء يعقوب، وعلى عيسى وأيّوب ويونس وهارون وسليمان عليهم السلام وكما أنزل اللَّه على داود كتاب الزبور حيث تقول الآية: «إِنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهرُونَ وَسُلَيْمنَ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا».

ثم تبيّن الآية أنّ الوحي لم يقتصر نزوله على هؤلاء الأنبياء، بل نزل على أنبياء آخرين حكى اللَّه قصصهم للنبي محمّد صلى الله عليه و آله من قبل، وأنبياء لم يذكر اللَّه قصصهم، وكل هؤلاء الأنبياء أرسلهم اللَّه إلى خلقه وأنزل عليهم الوحي من عنده، تقول الآية: «وَرُسُلًا قَدْ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 479

قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ».

وتبيّن هذه الآية في آخرها قضية مهمّة جدّاً، وهي أنّ اللَّه قد كلّم موسى بدل أن ينزل عليه الوحي، فتقول: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا».

وعلى هذا الأساس فإنّ

صلة الوحي ظلت باقية بين البشر، ولم يكن من عدل اللَّه أن يترك البشر دون مرشد أو قائد، أو أن يتركهم دون أن يعين لهم واجباتهم وتكاليفهم، وهو الذي بعث الأنبياء والرسل للبشر مبشرين ومنذرين، لكي يبشروا الناس برحمته وثوابه، ويُنذرونهم من عذابه وعقابه لكي يتمّ الحجة عليهم فلا يبقى لهم عذر أو حجة. تقول الآية:

«رُّسُلًا مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ».

فقد أحكم اللَّه العزيز القدير خطّة إرسال الأنبياء ونفّذها بكل دقة، وبهذا تؤكد الآية:

«وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا». فحكمته توجب تحقيق هذا العمل، وقدرته تمهد السبيل إلى تنفيذه.

أمّا الآية الاخرى فهي تطمئن النبي صلى الله عليه و آله وتوضح له أنّ المهم هو أنّ اللَّه قد شهد بما أنزل عليه من كتاب، وليس المهم أن يؤمن نفر من هؤلاء بهذا الكتاب أو يكفروا به- فتؤكّد الآية في هذا المجال-: «لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ».

ولم يكن اختيار اللَّه لمحمّد صلى الله عليه و آله لمنصب النبوة أمراً عبثاً- والعياذ باللَّه- بل كان هذا الاختيار نابعاً من علم اللَّه بما كان يتمتع به النبي من لياقة وكفاءة لهذا المنصب العظيم، ولنزول آيات اللَّه عليه- حيث تقول الآية: «أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ».

والقرآن الكريم يؤكد أن ليس اللَّه وحده الذي يشهد بأنّ دعوة محمّد صلى الله عليه و آله هي الحق، بل يشهد معه ملائكته بأحقّية هذه الدعوة، مع أنّ شهادة اللَّه كافية وحدها في هذا المجال. تقول الآية الكريمة: «وَالْمَلِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا».

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ

فِيهَا أَبَداً وَ كَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) جرى البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين وغير المؤمنين، أمّا الآيات الثلاثة الأخيرة فهي تشير إلى مجموعة اختارت أقبح أنواع الكفر، فهؤلاء- بالإضافة- إلى انحرافهم وضلالهم سعوا إلى تحريف وإضلال الأخرين، وقد ظلموا أنفسهم بفعلهم هذا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 480

مختصر الامثل ج 1 499

وظلموا الآخرين معهم لأنّهم لم يسيروا في طريق الحق ولم يسمحوا للآخرين- أيضاً- باتّباع هذا السبيل، والآية الكريمة تصف هؤلاء بأنّهم في ضلال بعيد وذلك بقولها: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَللًا بَعِيدًا». أمّا الآية الاخرى فتشير إلى الذين كفروا وظلموا، إذ ظلموا الحق أوّلًا لعدم التزامهم بالصواب، كما ظلموا أنفسهم بذلك- أيضاً- إذ حرموها من السعادة وسقطوا في هوّة الضلالة، وظلموا الآخرين حين منعوهم من التوجه إلى طريق الحق والصواب، فهؤلاء لن يشملهم أبداً عفو اللَّه، وإنّ اللَّه لا يهديهم أبداً إلّاإلى طريق جهنم، تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا* إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ».

فهؤلاء باقون وخالدون في جهنم دائماً وأبداً، كما تقول الآية: «خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا».

وعلى هؤلاء أن يعلموا أنّ وعد اللَّه حق، وأنّ تهديده يتحقق لا محالة، فليس ذلك على اللَّه بالأمر الصعب تقول الآية: «وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا».

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) لقد أوضحت الآيات السابقة نهاية وعاقبة الناس الذين انعدم لديهم عنصر الإيمان، أمّا الآية الأخيرة فهي تدعو إلى الإيمان وتبيّن نتيجة هذا الإيمان، وتستخدم في ترغيب الناس إلى هذا الهدف السامي عبارات

واصطلاحات تثير عند الأفراد الرغبة والإندفاع نحو الإيمان. وهذه الآية تشير في البداية إلى أنّ النبي المرسل هو ذلك الذي كان ينتظر الناس ظهوره، والذي أشارت إليه الكتب السماوية السابقة، وهو يحمل إليهم شريعة الحق والعدالة فتقول الآية في هذا المجال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقّ».

ثم تردف الآية بأنّ هذا النبي قد جاء إلى الناس من اللَّه الذي تعهد تربية الخلق أجمعين، وذلك من خلال العبارة القرآنية الواردة في هذه الآية، وهي عبارة: «مِن رَّبّكُمْ».

وبعد ذلك تؤكد الآية- على أنّ إيمان الأفراد إنّما تعود فائدته ويعود نفعه عليهم أنفسهم، أي أنّ الإنسان إذا آمن إنما يخدم نفسه بهذا الإيمان قبل أن يخدم به غيره. تقول الآية:

«فَامِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ».

كما تؤكّد الآية في النهاية على أنّ من يتخذ الكفر سبيلًا لنفسه فلن يضرّ اللَّه بعمله هذا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 481

أبداً، لأنّ اللَّه يملك كل ما في السماوات وما في الأرض، فهو بهذا لا يحتاج إلى أي شي ء من الآخرين، تقول الآية في هذا الصدد: «وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

وتبيّن الآية في النهاية أنّ أحكام اللَّه وأوامره كلها لمصلحة البشر، لأنّها نابعة من حكمة اللَّه وعلمه وهي قائمة على أساس تحقيق مصالح الناس، ومنافعهم الخيّرة، فتقول الآية:

«وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا».

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ كَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) اسطورة التثليث

الوهمية: تتطرق هذه الآية والآية التي تليها إلى واحد من أهم انحرافات الطائفة المسيحية، وهذا الانحراف هو اعتقاد المسيحيين بالتثليث، أي وجود آلهة ثلاثة ويأتي التطرق إلى هذا البحث في سياق البحوث القرآنية التي وردت في الآيات السابقة عن أهل الكتاب والكفار. فهذه الآية تحذر في البداية أهل الكتاب من المغالاة والتطرف في دينهم، وتدعوهم أن لا يقولوا على اللَّه غير الحق، حيث تقول: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَاتَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ».

لقد كانت قضية الغلوّ في حق القادة السابقين إحدى أخطر منابع الانحراف في الأديان السماوية، ولهذا السبب فقد عامل الإسلام الغلاة أو المغالين بعنف وشدّة، إذ عرفت كتب الفقه والعقائد هذه الفئة من الناس بأنّهم أشد كفراً من الآخرين.

بعد ذلك تشير الآية الكريمة إلى عدة نقاط، يعتبر كل واحد منها في حدّ ذاته دليلًا على بطلان قضية التثليث وعدم صحة الوهية المسيح عليه السلام وهذه النقاط هي:

1- لقد حصرت الآية بنوة السيد المسيح عليه السلام بمريم عليها السلام: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ». وإشارة البنوة- هذه الواردة في ستة عشر مكاناً من القرآن الكريم- إنّما تؤكد أنّ المسيح عليه السلام هو إنسان كسائر الناس، خلق في بطن امّه، ومرّ بدور الجنين في ذلك الرحم،

مختصر الامثل، ج 1، ص: 482

وفتح عينيه على الدنيا حين ولد من بطن مريم عليها السلام كما يولد أفراد البشر من بطون امهاتهم ومرّ بفترة الرضاعة وتربى في حجر امّه، ممّا يثبت بأنّه امتلك كل صفات البشر فكيف يمكن- وحالة المسيح عليه السلام هذه- أن يكون إلهاً أزلياً أبدياً، وهو في وجوده محكوم بالظواهر والقوانين المادية الطبيعية ويتأثر بالتحولات الجارية في عالم الوجود؟! 2- تؤكد الآية الكريمة أنّ

المسيح عليه السلام هو رسول اللَّه ومبعوث إلى البشر من قبله سبحانه وتعالى وإنّ هذه المنزلة- أي منزلة النبوة- لا تتناسب ومقام الألوهية.

3- تبيّن الآية أنّ عيسى المسيح عليه السلام هو كلمة اللَّه التي ألقاها إلى مريم عليها السلام حيث تقول:

«وَكَلِمَتُهُ أَلْقهَا إِلَى مَرْيَمَ».

4- تشير الآية إلى أنّ عيسى المسيح عليه السلام هو روح مخلوقة من قبل اللَّه، حيث تقول:

«وَرُوحٌ مِّنْهُ». وهذه العبارة التي وردت في شأن خلق آدم- أو بعبارة اخرى خلق البشر أجمعين- في القرآن الكريم، إنّما تدل على عظمة تلك الروح التي خلقها اللَّه تعالى وأودعها في أفراد البشر بصورة عامة، وفي المسيح عليه السلام وسائر الأنبياء بصورة خاصة.

بعد ذلك تؤكد الآية على ضرورة الإيمان باللَّه الواحد الأحد وبأنبيائه، ونبذ عقيدة التثليث، مبشرة المؤمنين بأنّهم إن نبذوا هذه العقيدة فسيكون ذلك خيراً لهم حيث قالت الآية: «فَامِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ».

وتعيد الآية التأكيد على وحدانية اللَّه قائلة: «إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ». وهي تخاطب المسيحيين لأنّهم حين يدعون التثليث يقبلون- أيضاً- بوحدانية اللَّه، فلو كان للَّه ولد لوجب أن يكون شبيهه، وهذه حالة تناقض أساس الوحدانية.

فكيف- إذن- يمكن أن يكون للَّه ولد، وهو منزه من نقص الحاجة إلى زوجة أو ولد، كما هو منزه من نقائص التجسيم وأعراضه. تقول الآية: «سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ». واللَّه هو مالك كل ما في السماوات وما في الأرض والموجودات كلها مخلوقاته وهو خالقها جميعاً، والمسيح عليه السلام- أيضاً- واحد من خلق اللَّه، فكيف يمكن الإدعاء بهذا الاستثناء فيه. وهل يمكن المملوك والمخلوق أن يكون ابناً للمالك والخالق، حيث تؤكد الآية: «لَّهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». واللَّه هو المدبر والحافظ والرازق والراعي لمخلوقاته،

تقول الآية: «وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا».

والحقيقة هي أنّ اللَّه الأزلي الأبدي الذي يرعى جميع الموجودات منذ الأزل إلى الأبد لا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 483

يحتاج مطلقاً إلى ولد، فهل هو كسائر الناس لكي يحتاج إلى ولد يخلفه من بعد الموت.

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَ اسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَ لَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَ لَا نَصِيراً (173)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: روي أنّ وفد نجران، قالوا لنبينا: يا محمّد لِمَ تعيب صاحبنا؟ قال:

«ومن صاحبكم»؟ قالوا: عيسى عليه السلام. قال: «وأىّ شي ء أقول فيه»؟ قالوا: تقول: إنّه عبد اللَّه ورسوله. فنزلت الآية.

التّفسير

المسيح هو عبد اللَّه: على الرغم من أنّ هاتين الآيتين لهما سبب نزول خاص بهما، إلّا أنّهما جاءتا في سياق الآيات السابقة التي تحدثت في نفي الالوهية عن المسيح عليه السلام وعلاقتهما بالآيات السابقة في دحض قضية التثليث واضحة وجلية.

في البداية تشير الآية الاولى إلى دليل آخر لدحض دعوى الوهية المسيح، فتقول مخاطبة المسيحيين: كيف تعتقدون بالوهية عيسى عليه السلام في حين أنّ المسيح لم يستنكف عن عبادة اللَّه والخضوع بالعبودية له سبحانه، كما لم يستنكف الملائكة المقربون من هذه العبادة.

حيث قالت الآية: «لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ».

وبديهي أنّ من يكون عبداً لا يمكن أن يصبح معبوداً في آن واحد.

بعد ذلك تشير الآية إلى أنّ الذين يمتنعون عن عبادة اللَّه والخضوع له بالعبودية، يكون امتناعهم هذا ناشئاً عن التكبر والأنانية وإنّ اللَّه سيحضر هؤلاء

الناس في يوم القيامة ويجازي كل واحد منهم بالعقاب الذي يناسبه، فتقول الآية: «وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا».

وإنّ اللَّه العزيز القدير سيكافى ء في يوم القيامة اولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات

مختصر الامثل، ج 1، ص: 484

وقاموا بالأعمال الخيرة، ويعطيهم ثوابهم كاملًا غير منقوص ويجزل لهم الثواب والنعم، أمّا الذين تكبروا وامتنعوا عن عبادة اللَّه، فإنهم سينالون منه عذاباً أليماً شديداً، ولن يجدوا في يوم القيامة لأنفسهم وليّاً أو حامياً من دون اللَّه، حيث تقول الآية: «فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا».

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (175) النور المبين: بعد أن تناولت الآيات السابقة بعضاً من انحرافات أهل الكتاب بالنسبة لمبدأ التوحيد ومبادى ء وتعاليم الأنبياء، جاءت الآيتان الأخيرتان لتختما القول في بيان سبيل النجاة والخلاص من تلك الانحرافات. لقد توجّه الخطاب أوّلًا إلى عامة الناس، مبيناً أنّ اللَّه قد بعث من جانبه نبياً يحمل معه الدلائل والبراهين الواضحة، وبعث معه النور المبين المتجسد في القرآن الكريم الذي يهدي الناس إلى طريق السعادة الأبدية، حيث تقول الآية الاولى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا».

والمقصود بالبرهان هو شخص نبي الخاتم صلى الله عليه و آله وأنّ المقصود بالنور هو القرآن المجيد الذي عبّرت عنه آيات اخرى بالنور أيضاً.

وتوضح الآية الثانية عاقبة اتّباع هذا البرهان وهذا النور، فتؤكّد على أنّ الذين آمنوا باللَّه وتمسكوا

بهذا الكتاب السماوي، سيدخلهم اللَّه عاجلًا في رحمته الواسعة، ويجزل لهم الثواب من فضله ورحمته، ويهديهم إلى الطريق المستقيم. تقول الآية: «فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا».

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَ إِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَ نِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (176)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 485

سبب النّزول

روي- في تفسير مجمع البيان- عن جابر بن عبد اللَّه، أنّه قال: اشتكيت وعندي تسع أخوات لي- أو سبع- فدخل عليّ النبي فنفخ في وجهي، فأفقت، فقلت: يا رسول اللَّه! ألا أوصي لأخواتي بثلثين؟ قال: «أحسن». قلت الشطر. قال: «أحسن». ثم خرج وتركني، ورجع إليّ، فقال: «يا جابر! إنّي لا أراك ميتاً من وجعك هذا، وإنّ اللَّه تعالى قد أنزل في الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين». قالوا: وكان جابر يقول انزلت هذه الآية في.

التّفسير

تبيّن الآية الواردة أعلاه والتي تسمّى- أيضاً- ب «آية الفرائض»، كمية الإرث للُاخوة والأخوات، وقد بيّنا عند تفسير الآية (12) من سورة النساء إنّ القرآن اشتمل على آيتين توضحان مسألة الإرث للُاخوة والأخوات وإنّ إحدى هاتين الآيتين هي الآية (12) من سورة النساء والثانية هي الآية الأخيرة موضوع بحثنا هذا وهي آخر آية من سورة النساء.

فالآية الاولى تخصّ الاخوة والأخوات غير الأشقاء، أي الذين هم من ام واحدة وآباء متعددين. أمّا الآية الثانية أي الأخيرة، فهي تتناول الإرث بالنسبة للأخوة الأشقاء، أي الذين هم من ام

واحدة وأب واحد، أو من امهات متعددات وأب واحد.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الآية جاءت لتفصل إرث الكلالة أي إرث الأخوة والأخوات فتقول الآية: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَللَةِ». أي يسألونك فخبرهم بأنّ اللَّه هو الذي يعين حكم «الكلالة» (أي الأخوة والأخوات).

بعد ذلك تشير الآية إلى عدد من الأحكام، وهي:

1- إذا مات رجل ولم يكن له ولد وكانت له أخت واحدة، فإنّ هذه الاخت ترث نصف ميراثه تقول الآية الكريمة: «إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ».

2- وإذا ماتت امرأة ولم يكن لها ولد، وكان لها أخ واحد- شقيق من أبيها وحده أو من أبيها وامّها معاً- فإنّ أخاها الوحيد يرثها، تقول الآية: «وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ».

3- وإذا مات شخص وكانت له أختان فقط، فإنّهما ترثان ثلثي ما تركه من الميراث، تقول الآية الكريمة: «فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ».

4- وإذا كان ورثة الشخص المتوفى عدداً من الاخوة والأخوات أكثر من اثنين، فإنّ ميراثه يقسم جميعه بينهم، بحيث تكون حصّة الأخ من الميراث ضعف حصّة الاخت

مختصر الامثل، ج 1، ص: 486

الواحدة منه. تقول الآية الكريمة: «وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنثَيَيْنِ».

وفي الختام تؤكد الآية أنّ اللَّه يبين للناس هذه الحقائق لكي يصونهم من الانحراف والضلالة، ويدلهم على طريق الصواب والسعادة (وحقيق أن يكون الطريق الذي يرسمه اللَّه للناس ويهديهم إليه هو الطريق الصحيح) واللَّه هو العالم العارف بكلّ شي ء، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: «يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

إنّ الآية إنّما تبين إرث الأخوة والأخوات في حالة عدم وجود ولد الشخص المتوفى، ولكن بناء على الآيات الواردة

في بداية سورة النساء- فإنّ الأب والام يأتون في مصاف الأبناء في الطبقة الاولى من الوارثين ولذلك يتوضح أنّ المقصود من الآية الأخيرة هي حالة عدم وجود أبناء وعدم وجود أبوين للشخص المتوفى.

«نهاية تفسير سورة النساء»

مختصر الامثل، ج 1، ص: 487

5. سورة المائدة

محتوى السورة: تشتمل هذه السورة على مجموعة من المعارف والعقائد الإسلامية بالإضافة إلى سلسلة من الأحكام والواجبات الدينية.

وقد وردت في القسم الأول منها الإشارة إلى قضية الخلاف بعد النبي صلى الله عليه و آله وقضايا اخرى مثل: عقيدة التثليث المسيحية ومواضيع خاصة بيوم القيامة والحشر واستجواب الأنبياء حول اممهم.

أمّا القسم الثاني فقد اشتمل على قضية الوفاء بالعهود والمواثيق، وقضايا العدالة الاجتماعية، والشهادة العادلة، وتحريم قتل النفس (من خلال ذكر قضية إبني آدم، وقتل قابيل لأخيه هابيل) بالإضافة إلى بيان أقسام من الأغذية المحرمة والمحللة وأقسام من أحكام الوضوء والتيمم.

أمّا وجه تسمية السورة ب «سورة المائدة» فهو لورود قصة نزول المائدة السماوية على حواري المسيح عليه السلام في الآية (114) منها.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 488

الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق: تدل الروايات الإسلامية وأقوال المفسرين على أنّ هذه السورة هي آخر سورة أو من السور الأخيرة التي نزلت على النبي صلى الله عليه و آله. لقد تمّ التأكيد في هذه السورة- لما تمتاز به من موقع خاص- على مجموعة من المفاهيم الإسلامية، وعلى آخر البرامج والمشاريع الدينية، وقضية قيادة الامّة وخلافة النبي صلى الله عليه و آله وقد يكون هذا هو السبب في استهلال سورة المائدة بقضية الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق، حيث تقول

الآية في أوّل جملة لها: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ». وذلك لكي تلزم المؤمنين بالوفاء بعهودهم التي عقدوها في الماضي مع اللَّه أو تلك التي أشارت إليها هذه السورة. فإنّ الآية تعتبر دليلًا على وجوب الوفاء بجميع العهود التي تعقد بين أفراد البشر بعضهم مع البعض الآخر، أو تلك العهود التي تعقد مع اللَّه سبحانه وتعالى عقداً محكماً.

إنّ مفهوم هذه الآية- لسعته- يشمل حتى تلك العقود والعهود التي يقيمها المسلمون مع غير المسلمين.

وبعد أن تطرقت الآية إلى حكم الوفاء بالعهد والميثاق- سواء كان إلهياً أو إنسانياً محضاً- أردفت ببيان مجموعة اخرى من الأحكام الإسلامية، كان الأوّل منها حلية لحوم بعض الحيوانات، فبيّنت أنّ المواشي واجنّتها تحل لحومهما على المسلمين، حيث تقول الآية:

«أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ».

«الأنعام»: صيغة جمع من «نِعم» وتعني الإبل والبقر والأغنام.

«بهيمة»: مشتقة من المصدر «بهمة» وتعني في الأصل الحجر الصلب، ويقال لكل ما يعسر دركه «مبهماً» وجميع الحيوانات التي لا تمتلك القدرة على النطق تسمى «بهيمة» لأنّ أصواتها تكون مبهمة للبشر، وقد جرت العادة على إطلاق كلمة «بهيمة» على المواشي من الحيوانات فقط، فأصبحت لا تشمل الحيوانات الوحشية والطيور.

والظاهر من الآية أنّها تشمل معنىً واسعاً، أي تبين حلية هذه الحيوانات بالإضافة إلى حلية لحوم أجنتها أيضاً.

ويتبيّن لنا ممّا تقدم أنّ علاقة الجملة الأخيرة وحكمها بالأصل الكلي- الذي هو لزوم الوفاء بالعهد- هي التأكيد على كون الأحكام الإلهية نوعاً من العهد بين اللَّه وعباده- حيث تعتبر حلية لحوم بعض الحيوانات وحرمة لحوم البعض الآخر منها قسماً من تلك الأحكام.

وفي الختام تبين الآية موردين تستثنيهما من حكم حلية لحوم المواشي، وأحد هذين

مختصر الامثل، ج 1، ص: 489

الموردين هو اللحوم التي سيتم بيان حرمتها فيما

بعد، حيث تقول الآية: «إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ». والمورد الثاني هو أن يكون الإنسان في حالة إحرام للحج أو العمرة، حيث يحرم عليه الصيد في هذه الحالة، فتقول الآية: «غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ».

وفي آخر الآية يأتي التأكيد على أنّ اللَّه إذا أراد شيئاً أو حكماً انجزه أو أصدره، لأنّه عالم بكل شي ء، وهو مالك الأشياء كلها، وإذا رأى أنّ صدور حكم تكون فيه مصلحة عباده وتقتضي الحكمة صدوره، أصدر هذا الحكم وشرعه، حيث تقول الآية في هذا المجال: «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا الْقَلَائِدَ وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْوَاناً وَ إِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوَى وَ لَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) ثمانية احكام في آية واحدة: لقد بيّنت هذه الآية عدداً من الأحكام الإلهية الإسلامية المهمة، وهي من الأحكام الأواخر التي نزلت على النّبي صلى الله عليه و آله وكلّها أو أغلبها تتعلق بحج بيت اللَّه، وهي على الوجه التالي:

1- الطلب من المؤمنين بعدم انتهاك شعائر اللَّه، ونهيهم عن المساس بحرمة هذه الشعائر المقدسة، كما تقول الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ». والمراد بكلمة «الشعائر»: هي مناسك الحج التي كلّف المسلمون باحترامها كلها.

2- دعت الآية إلى احترام الأشهر الحرم وهي شهور من السنة القمرية، كما نهت عن الدخول في حرب في هذه الشهور، حيث قالت: «وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ».

3- حرمت الآية المساس بالقرابين المخصصة للذبح

في شعائر الحج سواء ما كان منها ذا علامة وهو المسمّى ب «الهدي» أو تلك الخالية من العاملات والتي تسمّى ب «القلائد» أي نهت عن ذبحها وأكل لحومها حتى تصل إلى محل القربان للحج وتذبح فيه، فقالت الآية:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 490

«وَلَا الْهَدْىَ وَلَا الْقَلِدَ» «1». 4- أوجبت الآية توفير الحرية التامة لحجاج بيت اللَّه الحرام أثناء موسم الحج، الذي تزول خلاله كل الفوارق القبلية والعرقية واللغوية والطبقية، ونهت عن مضايقة المتوجهين إلى زيارة بيت اللَّه الحرام ابتغاء لمرضاته، أو حتى الذين توجهوا إلى هذه الزيارة وهم يحملون معهم أهدافاً اخرى كالتجارة والكسب الحلال لا فرق فيهم بين صديق أو غريم، فما داموا كلهم مسلمين وقصدهم زيارة بيت اللَّه، فهم يتمتعون بالحصانة كما تقول الآية الكريمة: «وَلَا ءَامّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبّهِمْ وَرِضْوَانًا».

5- لقد خصصت هذه الآية حكم حرمة الصيد بوقت الإحرام فقط، وأعلنت أنّ الخروج من حالة الإحرام إيذان بجواز الصيد للمسلمين- حيث تقول الآية الكريمة: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا».

6- منعت هذه الآية الكريمة المسلمين من مضايقة اولئك النفر من المسلمين الذين كانوا قبل إسلامهم يضايقون المسلمين الأوائل في زيارة بيت اللَّه الحرام ويمنعونهم من أداء مناسك الحج، وكان هذا في واقعة الحديبية، فمنع المسلمون من تجديد الأحقاد ومضايقة اولئك النفر في زمن الحج بعد أن أسلموا وقبلوا الإسلام لهم ديناً، تقول الآية الكريمة: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا».

7- تؤكد الآية- جرياً على سياق البحث الذي تناولته وبهدف إكماله- على أنّ المسلمين بدلًا من أن يتحدوا للإنتقام من خصومهم السابقين الذين أسلموا- وأصبحوا بحكم إسلامهم أصدقاء- عليهم جميعاً أن يتحدوا في سبيل فعل الخيرات والتزام التقوى، وأن

لا يتعاونوا- في سبيل الشر والعدوان تقول الآية: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانَ».

8- ولكي تعزز الآية الأحكام السابقة وتؤكدها تدعو المسلمين في الختام إلى اتّباع التقوى وتجنّب معصية اللَّه، محذرة من عذاب اللَّه الشديد، فتقول: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

______________________________

(1) «الهدى»: جمع «هدية» وهو يعني هنا المواشي التي تهدى لتكون قرابين إلى بيت اللَّه الحرام. و «القلائد»: جمع «قلادة» وهي الشي ء الذي يوضع حول رقبة الإنسان أو الحيوان، وتعني هنا المواشي التي تعلم بالقلائد لذبحها في مراسم الحج.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 491

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ مَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) لقد تمّت الإشارة في بداية السورة إلى الحلال من لحوم المواشي، وورد- أيضاً- أنّ هناك استثناءات تحرم فيها لحوم المواشي، حيث ذكرتها الآية الأخيرة- موضوع البحث- في أحد عشر مورداً تكرر ذكر بعضها في آيات قرآنية اخرى على سبيل التأكيد. والمحرمات التي وردت في هذه الآية، بحسب الترتيب الذي جاءت عليه كما يلي:

أوّلًا: «الْمَيْتَةُ».

ثانياً: «وَالدَّمُ».

ثالثاً: «وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ».

رابعاً: الحيوانات التي تذبح باسم الأصنام، أو باسم غير اسم اللَّه، كما كان يفعل الجاهليّون: «وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ».

خامساً: الحيوانات المخنوقة، سواء كان الخنق بسبب الفخ الذي تقع فيه أو بواسطة الإنسان أو بنفسها، وكان الجاهليون يخنقون

الحيوانات أحياناً للإنتفاع بلحومها وقد أشارت الآية إلى هذا النوع باسم «الْمُنْخَنِقَةُ».

سادساً: الحيوانات التي تموت نتيجة تعرضها للضرب والتعذيب، أو التي تموت عن مرض وسمّيت في الآية ب «الْمَوْقُوذَةُ» «1».

سابعاً: الحيوان الذي يموت نتيجة السقوط من مكان مرتفع، وقد سمي هذا النوع في الآية ب «الْمُتَرَدّيَةُ».

______________________________

(1) «الموقوذة»: من مادة «وقذ» يعني المضروبة بعنف حتّى الموت.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 492

ثامناً: الحيوان الذي يموت جراء نطحه من قبل حيوان آخر، وقد سمت الآية هذا النوع من الحيوانات ب «النَّطِيحَةُ».

تاسعاً: الحيوان الذي يقتل نتيجة هجوم حيوان متوحش عليه، وسمي هذا النوع في الآية ب «مَا أَكَلَ السَّبُعُ».

لقد ذكرت الآية شرطاً واحداً لو تحقق لأصبحت لحوم الحيوانات المذكورة حلالًا، وهذا الشرط هو أن يذبح الحيوان قبل موته وفق الآداب والتقاليد الإسلامية، ليخرج الدم منه بالقدر الكافي فيحل بذلك لحمه، ولذلك جاءت عبارة «إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ» بعد موارد التحريم مباشرة.

عاشراً: كان الوثنيون في العصر الجاهلي ينصبون صخوراً حول الكعبة ليست على أشكال أو هيئات معينة، وكانوا يسمون هذه الصخور ب «النصب» حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور تلك بدم القربان.

والفرق بين النصب والأصنام هو أنّ النصب ليست لها أشكال وصور بخلاف الأصنام، وقد حرّم الإسلام لحوم القرابين التي كانت تذبح على تلك النصب، فجاء حكم التحريم في الآية بقوله تعالى: «وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ».

وواضح أنّ تحريم هذا النوع من اللحوم إنّما يحمل طابعاً معنوياً وليس مادياً.

أحد عشر: وهناك نوع آخر من اللحوم المحرمة، وهو اللحوم التي تذبح وتوزع بطريقة القمار، وتوضيح ذلك هو أنّ عشرة من الأشخاص يتراهنون فيما بينهم فيشترون حيواناً ويذبحونه، ثم يأتون بعشرة سهام كتب على سبعة منها عبارة «فائز» وعلى الثلاثة الاخرى كتبت عبارة «خاسر»

فتوضع في كيس وتسحب واحدة واحدة باسم كل من الأشخاص العشرة على طريقة الإقتراع، فالأشخاص الذين تخرج النبال السبعة الفائزة بأسمائهم يأخذون قسماً من اللحم دون أن يدفعوا ثمناً لما أخذوه من اللحم، أمّا الأشخاص الثلاثة الآخرون الذين تخرج النبال الخاسرة بأسمائهم فيتحملون ثمن الحيوان بالتساوي، فيدفع كل واحد منهم ثلث قيمة الحيوان دون أن يناله شي ء من لحمه.

وقد سمى الجاهليون هذه النبال ب «الأزلام» وهي صيغة جمع من «زلم» وقد حرم الإسلام هذا النوع من اللحوم، لا بمعنى وجود تأصل الحرمة في اللحم، بل لأنّ الحيوان كان يذبح في عمل هو أشبه بالقمار، ويجب القول هنا أنّ تحريم القمار وأمثاله لا ينحصر في اللحوم فقط، بل إنّ القمار محرم في كل شي ء وبأيّ صورة كان.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 493

ولكي تؤكد الآية موضوع التحريم وتشدد على حرمة تلك الأنواع من اللحوم تقول في الختام: «ذلِكُمْ فِسْقٌ».

الإعتدال في تناول اللحوم: إنّ الذي نستنتجه من البحث المار الذكر ومن المصادر الإسلامية الاخرى، هو أنّ الإسلام اتّبع في قضية تناول اللحوم اسلوباً معتدلًا تمام الإعتدال جرياً على طريقته الخاصّة في أحكامه الاخرى.

ويختلف اسلوبه هذا اختلافاً كبيراً مع ما سار عليه الجاهليون في أكل لحم النصب والميتة والدم وأشباه ذلك، وما يسير عليه الكثير من الغربيين في الوقت الحاضر في أكل حتى الديدان والسلاحف والضفادع وغيرها.

ويختلف مع الطريقة التي سار عليها الهنود في تحريم كل أنواع اللحوم على أنفسهم.

فقد أباح الإسلام لحوم الحيوانات التي تتغذى على الأشياء الطاهرة التي لا تعافها النفس البشرية، وألغى الأساليب التي فيها طابع الإفراط أو التفريط.

وقد عيّن الإسلام شروطاً أبان من خلالها أنواع اللحوم التي يحلّ للإنسان الإستفادة منها.

بعد أنّ بيّنت الآية الأحكام التي

مرّ ذكرها أوردت جملتين تحتويان معنى عميقاً، الاولى منهما تقول: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ».

والثانية هي: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلمَ دِينًا».

متى أكمل اللَّه الدين للمسلمين؟ إنّ أهمّ بحث تطرحه هاتان الفقرتان القرآنيتان يتركز في كنهه وحقيقته كلمة «اليوم» الواردة فيهما.

إنّ ما ذكره جميع مفسّري الشيعة في تفاسيرهم وأيدوه كما دعمته روايات كثيرة، وهذا الاحتمال يتناسب تماماً مع محتوى الآية حيث يعتبر «يوم عذير خم» أي اليوم الذي نصب النبي صلى الله عليه و آله عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام بصورة رسمية وعلنية خليفة له، حيث غشى الكفار في هذا اليوم سيل من اليأس، وقد كانوا يتوهمون أنّ دين الإسلام سينتهي بوفاة النبي صلى الله عليه و آله وأنّ الأوضاع ستعود إلى سابق عهد الجاهلية، لكنهم حين شاهدوا أنّ النبي أوصى بالخلافة بعده لرجل كان فريداً بين المسلمين في علمه وتقواه وقوته وعدالته، وهو علي بن أبي طالب عليه السلام ورأوا النبي وهو يأخذ البيعة لعليّ عليه السلام أحاط بهم اليأس من كل جانب وفقدوا الأمل فيما توقعوه من شرّ لمستقبل الإسلام وأدركوا أنّ هذا الدين باق راسخ.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 494

ففي يوم غدير خم أصبح الدين كاملًا، إذ لو لم يتمّ تعيين خليفة للنبي صلى الله عليه و آله ولو لم يتمّ تعيين وضع مستقبل الامة الإسلامية، لم تكن لتكتمل الشريعة بدون ذلك ولم يكن ليكتمل الدين.

وقد وردت في الآية (55) من سورة النور نقطة مهمة جديرة بالإنتباه- فالآية تقول:

«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا».

واللَّه

سبحانه وتعالى يقطع في هذه الآية وعداً على نفسه بأن يرسخ دعائم الدين، الذي ارتضاه للمؤمنين في الأرض.

ولمّا كان نزول سورة النور قبل نزول سورة المائدة، ونظراً إلى جملة «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلمَ دِينًا» الواردة في الآية الأخيرة- موضوع البحث- والتي نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام لذلك كلّه نستنتج أنّ حكم الإسلام يتعزز ويترسخ في الأرض إذا اقترن بالولاية، لأنّ الإسلام هو الدين الذي ارتضاه اللَّه ووعد بترسيخ دعائمه وتعزيزه، وبعبارة أوضح أنّ الإسلام إذا اريد له أن يعم العالم كله يجب عدم فصله عن ولاية أهل البيت عليهم السلام.

أمّا الأمر الثاني الذي نستنتجه من ضمن الآية الواردة في سورة النور إلى الآية التي هي موضوع بحثنا الآن، فهو أنّ الآية الاولى قد أعطت للمؤمنين وعودا ثلاثة:

أوّلها: الخلافة على الأرض.

والثاني: تحقق الأمن والإستقرار لكي تكون العبادة للَّه وحده.

والثالث: استقرار الدين الذي يرضاه اللَّه في الأرض.

ولقد تحققت هذه الوعود الثلاثة في «يوم غدير خم» بنزول آية: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» فمثال الإنسان المؤمن الصالح هو علي عليه السلام الذي نصب وصيّاً للنّبي صلى الله عليه و آله ودلّت عبارة «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ» على أنّ الأمن قد تحقق بصورة نسبية لدى المؤمنين، كما بيّنت عبارة: «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلمَ دِينًا» إنّ اللَّه قد اختار الدين الذي يرتضيه، وأقرّه بين عباده المسلمين.

لقد أعادت الآية- في نهايتها- الكرة في التحدث عن اللحوم المحرمة فبيّنت حكم الاضطرار في حالة المعاناة من الجوع إذ أجازت تناول اللحم المحرم بشرط أن لا يكون هدف الشخص ارتكاب المعصية من تناول ذلك، مشيرة إلى غفران اللَّه ورحمته في عدم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 495

إلجاء عباده عند الاضطرار إلى تحمل المعاناة

والمشقة، وعدم معاقبتهم في مثل هذه الحالات.

قالت الآية الكريمة: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

والمراد بالمخمصة هنا الجوع الشديد الذي يؤدّي إلى انخماص البطن، سواء كان بسبب حالة المجاعة العامّة، أو كان ناتجاً عن الحرمان الخاص.

يَسْأَلُونَكَ مَا ذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي: نزلت بسبب عديّ بن حاتم وزيد بن مهلهل وهو زيد الخيل الذي سمّاه رسول اللَّه زيد الخير؛ قالا: يا رسول اللَّه! إنّا قوم نصيد بالكلاب والبُزاة وإنّ الكلاب تأخذ البقر والحُمُر والظّباء فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما تقتله فلا نُدرك ذكاته، وقد حرّم اللَّه الميتة فماذا يَحلّ لنا؟ فنزلت الآية.

التّفسير

الحلال من الصيد: أعقبت الآية الأخيرة آيتين سبق وأن تناولتا أحكاماً عن الحلال والحرام عن اللحوم وقد بيّنت هذه الآية نوعاً آخر من اللحوم أو الحيوانات التي يحل للإنسان تناولها وجاءت على صيغة جواب لسؤال ذكرته الآية نفسها بقولها: «يَسَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ».

فتأمر الآية النبي صلى الله عليه و آله- أوّلًا- بأن يخبرهم إنّ كل ما كان طيباً وطاهراً فهو حلال لهم، حيث تقول: «قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ» دالة على أنّ كل ما حرمه الإسلام يعتبر من الخبائث غير الطاهرة، وإنّ القوانين الإلهية لا تحرم- مطلقاً- الموجودات الطاهرة التي خلقها اللَّه لينتفع بها البشر.

ثم تبيّن الآية أنواع الصيد الحلال، فتشير إلى الصيد الذي تجلبه أو تصيده الحيوانات المدربة على الصيد، فتؤكد بأنّه حلال، بقولها: «وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ».

مختصر الامثل، ج 1،

ص: 496

«جوارح»: مشتقة من المصدر «جرح» الذي يعني أحياناً «الكسب» وتارة يعني «الجرح» الذي يصاب به البدن ولذلك يطلق على الحيوانات المدرّبة على الصيد، سواء كانت من الطيور أو من غيرها، اسم «جارحة» وجمعها «جوارح» أي الحيوان الذي يجرح صيده، أو بالمعنى الآخر الحيوان الذي يكسب لصاحبه.

وبديهي أنّ الصيد الذي تجلبه حيوانات مدرّبة اخرى، يعتبر حلالًا في حالة جلبه حيّاً وذبحه وفق الطريقة الشرعية.

وبديهي أنّ الحيوان الذي تصيده كلاب الصيد، يجب أن يذبح وفق الطريقة الشرعية إن جلب حيّاً، وإن مات الحيوان قبل دركه فلحمه حلال وإن لم يذبح.

وأخيراً أشارت الآية الكريمة إلى شرطين آخرين من شروط تحليل مثل هذا النوع من الصيد:

أوّلهما: أن لا يأكل كلب الصيد من صيده شيئاً، حيث قالت الآية: «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ». وعلى هذا الأساس فإنّ الكلاب لو أكلت من الصيد شيئاً قبل إيصاله إلى صاحبها، وتركت قسماً آخر منه، فلا يحل لحم مثل هذا الصيد ومثل هذا الكلب الذي يأكل الصيد لا يعتبر كلباً مدرباً، كما لا يعتبر ما تركه من الصيد مصداقاً لعبارة «مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» لأنّه في هذه الحالة يكون (أي الكلب) قد صاد لنفسه.

والأمر الثاني: هو ضرورة ذكر اسم اللَّه على الصيد بعد أن يتركه الكلب، حيث قالت الآية: «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ».

ولكي تضمن الآية رعاية الأحكام الإلهية- هذه- كلها، أكّدت في الختام قائلة:

«وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ». داعية إلى الخوف من اللَّه العزيز القدير ومن حسابه السريع.

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَ طَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَ لَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 497

حكم طعام أهل الكتاب وحكم الزواج معهم: تناولت هذه الآية، التي جاءت مكملة للآيات السابقة، نوعاً آخر من الغذاء الحلال، فبيّنت أنّ كل غذاء طاهر حلال، وإنّ غذاء أهل الكتاب حلال للمسلمين، وغذاء المسلمين حلال لأهل الكتاب، وحيث قالت الآية:

«الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ».

والمقصود ب «طعام أهل الكتاب» هو غير اللحوم المذبوحة بأيدي أهل الكتاب. فقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال في هذه الآية: «عني بطعامهم الحبوب والفاكهة غير الذبائح التي يذبحونها، فإنّهم لا يذكرون اسم اللَّه على ذبائحهم».

حكم الزواج بغير المسلمات: بعد أن بيّنت هذه الآية حلية طعام أهل الكتاب تحدثت عن الزواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب، فقالت بأنّ المسلمين يستطيعون الزواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب، شرط أن يدفعوا لهن مهورهن، حيث تقول الآية: «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ». على أن يكون التواصل بوسيلة الزّواج المشروع وليس عن طريق الزنا الصريح، ولا عن طريق المعاشرة الخفية، حيث تقول الآية:

«مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ».

وهذا الجزء من الآية الكريمة يقلل الحدود التي كانت مفروضة على الزواج بين المسلمين وغيرهم، ويبيّن جواز زواج المسلم بالمرأة الكتابية ضمن شروط خاصة.

ولا يخفى علينا ما شاع في عالم اليوم من تقاليد الجاهلية بصورة مختلفة، ومن ذلك إنتخاب الرجل أو المرأة خليلًا من الجنس الآخر وبصورة علنية، وقد تمادى إنسان عالم اليوم أكثر من نظيره الجاهلي في التحلل والخلاعة والمجون الجنسي، ففي

حين كان الإنسان الجاهلي ينتخب الأَخلاء سرّاً وفي الخفاء، أصبح إنسان اليوم لا يرى بأساً من إعلان هذا الأمر والتباهي به بكل صلف ووقاحة، ويعتبر هذا التقليد المشين نوعاً صريحاً ومفضوحاً من الفحشاء وهدية مشؤومة انتقلت من الغرب إلى الشرق وأصبحت مصدراً للكثير من النكبات والكوارث.

ولكي تسد الآية طريق إساءة استغلال موضوع التقارب والمعاشرة مع أهل الكتاب والزواج من المرأة الكتابية على البعض من ضعاف النفوس، وتحول دون الانحراف إلى هذا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 498

الأمر بعلم أو بدون علم، حذّرت المسلمين في جزئها الأخير فقالت: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الْأَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ». وهذه إشارة إلى أنّ التسهيلات الواردة في الآية بالإضافة إلى كونها تؤدّي إلى السعة ورفع الحرج عن حياة المسلمين، يجب أن تكون- أيضاً- سبباً لتغلغل الإسلام إلى نفوس الأجانب، لا أن يقع المسلمون تحت نفوذ وتأثير الغير فيتركوا دينهم، وحيث سيؤدّي بهم هذا الأمر إلى نيل العقاب الإلهي الصارم الشديد.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) تطهير الجسم والروح: لقد تناولت الآيات السابقة بحوثاً متعددة عن الطيبات الجسمانية والنعم المادية، أمّا الآية الأخيرة فهي تتحدث عن الطيبات الروحية وما يكون سبباً لطهارة الروح و النفس الإنسانية، فقد بيّنت هذه الآية أحكاماً مثل الوضوء والغسل والتيمم،

التي تكون سبباً في صفاء وطهارة الروح الإنسانية- فخاطبت المؤمنين في البداية موضحة أحكام الوضوء بقولها: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ».

وقد شرحت الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام اسلوب الغسل وفق سنّة النبي صلى الله عليه و آله وهو غسل اليدين من المرفق حتى أطراف الأصابع.

بعد ذلك كله بيّنت الآية حكم الغسل عن جنابة حيث قالت: «وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا». والواضح أنّ المراد من جملة «فاطّهروا» هو غسل جميع الجسم، لأنّه لو كان المراد جزءاً خاصاً منه لأقتضى ذكر ذلك الجزء.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 499

إنّ كلمة «جُنُباً»- وكما أوضحنا لدى تفسير الآية (43) من سورة النساء- تعني في الأصل «المتباعد» أو «البعيد» وسبب إطلاق هذا اللفظ على الإنسان المجنب لأنّ هذا الإنسان يجب عليه أن يبتعد عن الصلاة والتوقف في المساجد وأمثالها.

ويمكن أن يستدل من الآية التي تدعو المجنب إلى الإغتسال قبل الصلاة على أنّ غسل الجنابة يجزي ء، وينوب عن الوضوء أيضاً.

ومن ثم بادرت الآية إلى بيان حكم التيمم حيث قالت: «وَإِن كُنتُم مَّرضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا».

لقد بيّنت الآية- بعد ذلك- اسلوب التيمم بصورة إجمالية فقالت: «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ».

وقد أوضحت الآية- في آخرها- أنّ الأوامر الإلهية ليس فيها ما يحرج الإنسان أو يوجد العسر له، بل إنّها أوامر شرعت لتحقق فوائد ومنافع معينة للناس، فقالت الآية «مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

وتؤكد هذه العبارات القرآنية الأخيرة أنّ جميع الأحكام والأوامر الشرعية الإلهية والضوابط الإسلامية هي لمصلحة

الناس ولحماية منافعهم، وليس فيها أيّ هدف آخر، وإنّ اللَّه يريد بالأحكام الأخيرة الواردة في الآية- موضوع البحث- أن يحقق للإنسان طهارته الجسمانية والروحية معاً.

إنّ جملة «مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ» تبيّن قانوناً عامّاً معناه أنّ أحكام اللَّه ليست تكاليف شاقّة أبداً، ولو كان في أيّ حكم شرعي العسر والحرج لأي فرد لسقط التكليف عن هذا الفرد بناء على الاستثناء الوارد في الجملة القرآنية الأخيرة من الآية موضوع البحث، ولهذا لو كان الصوم يشكل مشقة وعناء على أيّ فرد بسبب مرض أو شيخوخة أمّا ما شابه ذلك، لسقط أداؤه عن هذا الفرد وارتفع التكليف عنه، بناء على هذا الدليل نفسه.

وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 500

مختصر الامثل ج 1 539

العهود الربانية: تناولت الآية السابقة مجموعة من الأحكام الإسلامية بالإضافة إلى موضوع إكمال النعمة الإلهية على المسلمين، وجاءت الآية الأخيرة لتكمل السياق الموضوعي لما سبق من آيات، فاستقطبت انتباه المسلمين إلى أهمية وعظمة النعم الإلهية التي أعظمها وأهمّها نعمة الإيمان والهداية والإسلام، تقول الآية: «وَاذْكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ». فأيّ نعمة أعظم من أن ينال الإنسان- في ظل الإسلام- كل الهبات الإلهية والمفاخر والإمكانيات الدنيوية، بعد أن كان الناس يعانون في الجاهلية من التشتت والجهل والضلال ويسود بينهم قانون الغاب، وكان الفساد والظلم يعم مجتمعهم آنذاك، وقد تحولوا بفضل الإسلام إلى مجتمع يسوده الإتحاد والتماسك والعلم، ويرفل بالنعم والإمكانيات المادية والمعنوية الزّاخرة.

بعد هذا تعيد الآية إلى الأذهان ذلك العهد الذي بين البشر وبين اللَّه، فتقول: «وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا».

والمراد بلفظة

«العهد» في هذه الآية إشارة إلى جميع العهود والمواثيق التكوينية والتشريعية التي أخذها اللَّه أو النبي صلى الله عليه و آله من المسلمين بمقتضى فطرتهم في مراحل مختلفة.

وفي النهاية تؤكد الآية على ضرورة التزام التقوى، محذّرة أنّ اللَّه محيط بأسرار البشر، وعالم بما يختلج في صدورهم، بقولها: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) دعوة مؤكّدة إلى العدالة: إنّ الآية الاولى من الآيات الثلاث أعلاه تدعو إلى تحقيق العدالة، وهي شبيهة بتلك الدعوة الواردة في الآية (135) من سورة النساء، التي مضى ذكرها مع اختلاف طفيف، فتخاطب هذه الآية أوّلًا المؤمنين قائلة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ».

ثم تشير إلى أحد أسباب الانحراف عن العدالة وتحذّر المسلمين من هذا الانحراف مؤكّدة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 501

أنّ الأحقاد والعداوات القبلية والثارات الشخصية، يجب أن لا تحول دون تحقيق العدل، ويجب أن لا تكون سبباً للإعتداء على حقوق الآخرين، لأنّ العدالة أرفع وأسمى من كل شي ء، فتقول الآية الكريمة: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا». وتكرر الآية التأكيد لبيان ما للعدل من أهمية قصوى فتقول: «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى . وبما أنّ العدالة تعتبر أهم أركان التقوى تؤكد الآية مرّة ثالثة قائلة: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».

بعد التأكيد الشديد الذي حملته الآية الكريمة حول قضية العدالة وضرورة تطبيقها بادرت الآية

التالية وتمشياً مع الاسلوب القرآني، فأعادت إلى الأذهان ما أعده اللَّه للمؤمنين العاملين بالخير من غفرانه ونعمه العظيمة، حيث تقول الآية: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ».

كما ذكرت الآية في المقابل جزاء الكافرين الذين يكذبون بآيات اللَّه، فقالت: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ».

وممّا يلفت النظر أنّ الآية جعلت المغفرة والأجر العظيم في إطار «وعد اللَّه» بينما ذكرت عقاب جهنم بأنّه نتيجة للكفر وللتكذيب بآيات اللَّه، وما هذا إلّاإشارة إلى فضل اللَّه ورحمته لعباده فيما يخص نعم وهبات الآخرة التي لا يمكن لأعمال الإنسان مهما كبرت وعظمت أن تباريها أو تعادلها مطلقاً، كما أنّها إشارة- أيضاً- إلى أنّ عقاب الآخرة ليس فيه طابع انتقامي أبداً، بل هو نتيجة عادلة لما إرتكبه الإنسان من أعمال سيئة في حياته.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) لقد ذكرت الآيات السابقة بعضاً من النعم الإلهية، وجاءت الآية الأخيرة تخاطب المسلمين وتذكر لهم أنواعاً من النعم التي أنعم اللَّه بها عليهم، لكي يؤدّوا شكرها عن طريق طاعة اللَّه والسعي لتحقيق مبادى ء العدالة، فتقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ».

والآية تلفت إنتباه المسلمين إلى الأخطار التي تعرضوا لها، وكان يحتمل أن تدفع

مختصر الامثل، ج 1، ص: 502

بالوجود الإسلامي إلى الفناء والزوال وإلى الأبد، ولكن فضل اللَّه ونعمته شملتهم وأنقذت الإسلام والمسلمين من تلك الأخطار. كما تحذر الآية المسلمين وتنبههم إلى ضرورة التزام التقوى والإعتماد على اللَّه كدليل على شكر ذلك الفضل وتلك النعمة،

وليعلموا بأنّهم بتقواهم سيضمنون لأنفسهم الدعم والسند والحماية من اللَّه في حياتهم الدنيوية هذه، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ بَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) لقد أشارت هذه الآية أوّلًا إلى قضية الوفاء بالعهد، وقد تكررت هذه الإشارة في مناسبات مختلفة في آيات قرآنية عديدة، وربّما كانت إحدى فلسفات هذا التأكيد المتكرر على أهمية الوفاء بالعهد وذم نقضه، هي إعطاء أهميّة قصوى لقضية ميثاق الغدير الذي سيرد في الآية (67) من هذه السورة. والآية في بدايتها تشير إلى العهد الذي أخذه اللَّه من بني إسرائيل على أن يعملوا بأحكامه وإرساله إليهم بعد هذا العهد اثني عشر زعيماً وقائداً ليكون كل واحد منهم زعيماً لطائفة واحدة من طوائف بني إسرائيل الإثنتي عشر- حيث تقول الآية الكريمة: «وَلَقَد أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا».

والأصل في كلمة «نقيب» إنّها تعني الثقب الكبير الواسع، وتطلق بالأخص على الطرق المحفورة تحت الأرض، وسبب استخدام كلمة نقيب للدلالة على الزعامة، لأنّ زعيم كل جماعة يكون عليماً بأسرار قومه، وكأنّه قد صنع ثقباً كبيراً يطلع من خلاله على أسرارهم.

وتشير الآية بعد ذلك إلى وعد اللَّه لبني إسرائيل حيث تقول: «وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ».

وإنّ هذا الوعد سيتحقق إذا التزم بنو إسرائيل بالشروط التالية:

1- أن يلتزموا بإقامة الصلاة كما تقول الآية: «لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوةَ».

2- وأن يدفعوا

زكاة أموالهم: «وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوةَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 503

3- أن يؤمنوا بالرسل الذين بعثهم اللَّه ويحترموا وينصروا هؤلاء الرسل، حيث تقول الآية: «وَءَامَنتُم بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ» «1».

4- وبالإضافة إلى الشروط الثلاثة المذكورة أعلاه، أن لا يمتنع بنو إسرائيل عن القيام ببعض أعمال الإنفاق المستحب التي تعتبر نوعاً من معاملات القرض الحسن مع اللَّه سبحانه وتعالى حيث تقول الآية: «وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا».

ثم أردفت الآية الكريمة ببيان نتائج الوفاء بالشروط المذكورة بقوله تعالى: «لَّأُكَفّرَنَّ عَنكُمْ سَيَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ».

كما بيّنت الآية مصير الذين يكفرون ولا يلتزمون بما أمر اللَّه حيث تقول: «فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ».

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ نَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) إنّ هذه الآية الكريمة جاءت تشير إلى نقض بني إسرائيل للعهد الذي أخذه اللَّه عليهم والذي ذكرته الآية السابقة. كما ذكرت هذه الآية نتائج وعواقب هذا النقض حيث تقول:

«فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً» «2».

والحقيقة هي أنّ هؤلاء عوقبوا بهذين الجزاءين بسبب نقضهم لميثاقهم، فقد حرموا من رحمة اللَّه، وتحجرت أفكارهم وقلوبهم فلم تعد تبدي أي مرونة أمام الحقائق.

وتشرح الآية آثار هذا التحجّر فتقول: «يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ» و «وَنَسُوا حَظًّا مّمَّا ذُكّرُوا بِهِ».

______________________________

(1) «عزّرتموهم»: مشتقة من مادة «تعزير» أي المنع أو العون، أمّا حين تسمّى بعض العقوبات الإسلامية بالتعزير فذلك لأنّ هذه العقوبات تكون عوناً للمذنب لكي يرتدع عن مواصلة الذنب وهذا دليل على أنّ العقوبات الإسلامية لا تتسم بطابع الإنتقام بل تحمل طابعاً تربوياً لذلك سمّيت

بالتعزير.

(2) «لعن»: تعني في اللغة «الطرد والإبعاد» وحين ينسب اللعن إلى اللَّه فإنّه يعني الحرمان من رحمته، أمّا كلمة «قاسية»: فهي في الأصل مشتقة من المصدر «قساوة» وتطلق على الأخص على الحجر الصلد، ولذلك أطلقت على الذين لا يبدون أي مرونة من جانبهم أمام الحقائق التي تتكشف لهم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 504

ولا يستبعد أن تكون علامات وآثار نبي الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله والتي اشير إليها في آيات قرآنية اخرى، جزءاً من الامور التي نسيها بنو إسرائيل- كما يحتمل أن تكون هذه الجملة القرآنية إشارة إلى ما حرفه أو نسيه جمع من علماء اليهود أثناء تدوينهم للتوراة من جديد بعد أن فقدت التوراة الأصلية، وإنّ ما وصل إلى هؤلاء من كتاب موسى الحقيقي كان جزءاً من ذلك الكتاب وقد اختلط بالكثير من الخرافات، وقد نسي هؤلاء حتى هذا الجزء الباقي من كتاب موسى عليه السلام.

ثم تتطرق الآية إلى ظاهرة خبيثة طالما برزت لدى اليهود- بصورة عامّة- إلّاما ندر منهم، وهي الخيانة التي كانت تتكشف للمسلمين بين فترة واخرى. تقول الآية الكريمة في هذا المجال: «وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ».

وفي الختام تطلب الآية من النّبي صلى الله عليه و آله أن يعفو عن هؤلاء ويصفح عنهم، مؤكّدة أنّ اللَّه يحب المحسنين، وذلك في قوله تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ».

إنّ العفو والصفح المطلوبان في الآية يشملان- فقط- تلك الحالات التي كان اليهود يوجهون فيها أذاهم وتحرشاتهم واستفزازاتهم إلى النبي صلى الله عليه و آله ولا يشملان أخطاء اليهود وجرائمهم بحق الأهداف والمبادى ء الإسلامية، حيث لا معنى للعفو في هذا المجال.

وَ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا

حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَ الْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) العداء الأبدي: لقد تناولت الآية السابقة ظاهرة نقض بني إسرائيل للعهد الذي أخذه اللَّه منهم، أمّا الآية الأخيرة- هذه- فهي تتحدث عن نقض العهد عند النصارى الذين نسوا قسماً من أوامر اللَّه التي كلّفوا بها- فتقول الآية في هذا المجال: «وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مّمَّا ذُكّرُوا بِهِ». فهذه الآية تدل بوضوح على أنّ النصارى- أيضاً- كانوا قد عقدوا مع اللَّه عهداً على أن لا ينحرفوا عن حقيقة التوحيد، وأن لا ينسوا أوامر وأحكام اللَّه، وأن لا يكتموا علائم خاتم النبيين لكنهم تورطوا بنفس ما تورط به اليهود.

أمّا كلمة «نصارى» التي وردت في الآية فهي صيغة جمع نصراني، ويحتمل أن يكون وجه التسمية ناشئاً عن قول المسيح عليه السلام كما تحكيه الآية (14) من سورة الصّف عنه إذ تقول:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 505

«كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلحَوَارِيّينَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ».

فسمّي المسيحيون لذلك بالنصارى.

ولما كان جمع من النصارى يقولون ما لا يفعلون، ويزعمون أنّهم من أنصار المسيح عليه السلام يقول القرآن في هذه الآية: «وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى . وهم لم يكونوا صادقين في دعواهم هذه، لذلك تستطرد الآية الكريمة فتبيّن نتيجة هذا الإدعاء الكاذب، وهو انتشار عداء أبدي فيما بينهم حتى يوم القيامة، كما تقول الآية: «فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ».

كما ذكرت الآية نوعاً آخر من الجزاء والعقاب لهذه الطائفة النصرانية، وهو أنّهم سوف يعلمون نتيجة أعمالهم وسيرونها بأعينهم حيث تقول الآية: «وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ».

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ

جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن نقض اليهود والنصارى لميثاقهم، جاءت الآية الأخيرة لتخاطب أهل الكتاب بصورة عامة وتدعوهم إلى الإسلام. وتبين الآية- في البداية- أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المبعوث إليهم جاء ليظهر الكثير من الحقائق الخاصة بالكتب السماوية التي أخفوها هم (أهل الكتاب) وكتموها عن الناس، وأنّ هذا الرسول يتغاضى عن كثير من تلك الحقائق التي انتفت الحاجة إليها وزال تأثيرها بزوال العصور التي نزلت لها، فتقول الآية في هذا المجال: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ».

وتشير الآية الكريمة- أيضاً- إلى أهمّية وعظمة القرآن المجيد وآثاره العميقة في هداية وإرشاد وتربية البشرية، فتقول: «قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ». النور الذي يهدي به اللَّه كل من يبتغي كسب مرضاته إلى سبل السلام، كما تقول الآية الاخرى: «يَهْدِى بِهِ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 506

اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلمِ» وينقذهم من أنواع الظلمات (كظلمة الشرك وظلمة الجهل وظلمة التفرقة والنفاق وغيرها ...) ويهديهم إلى نور التوحيد والعلم والإتحاد، حيث تقول الآية: «وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ». وإضافة إلى ذلك كله يرشدهم إلى الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج ولا انحراف في جانبيه العقائدي والعملي أبداً، كما تقول الآية: «وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ

اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17) كيف يمكن للمسيح أن يكون هو اللَّه؟ جاءت هذه الآية الكريمة لتكمل بحثاً تطرقت إليه آيات سابقة، فحملت بعنف على دعوى ربوبية المسيح عليه السلام وبيّنت أنّ هذه الدعوى ما هي إلّاالكفر الصريح، حيث قالت: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ».

ولكي يتّضح لنا مفهوم هذه الجملة، يجب أن نعرف أنّ للمسيحيين عدّة دعاوي باطلة بالنسبة إلى اللَّه سبحانه وتعالى:

فهم أوّلًا: يعتقدون بالآلهة الثلاث (أي الثالوث) وقد أشارت الآية (171) من سورة النساء إلى هذا الأمر.

وثانياً: إنّهم يقولون: إنّ خالق الكون والوجود هو واحد من هؤلاء الآلهة الثلاث ويسمونه بالإله الأب والقرآن الكريم يبطل هذا الاعتقاد- أيضاً- في الآية (73) من سورة المائدة حيث يقول: «لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلثَةٍ وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ وَاحِدٌ».

وثالثاً: إنّ المسيحيين يقولون: إنّ الآلهة الثلاث مع تعددهم الحقيقي هم واحد، حيث يعبرون عن ذلك أحياناً ب «الوحدة في التثليث» وهذا الأمر أشارت إليه الآية الأخيرة حيث قالت حكاية عن دعوى المسيحيين: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ». وقالوا: إنّ المسيح ابن مريم هو اللَّه! وإنّ هذين الإثنين يشكّلان مع روح القدس حقيقة واحدة في ثلاثة متعددة!

مختصر الامثل، ج 1، ص: 507

بعد ذلك ولكي تبطل الآية الكريمة عقيدة الوهية المسيح عليه السلام تقول: «قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا».

وهذه إشارة إلى أنّه لو كان المسيح عليه السلام

إلهاً لإستحال على خالق الكون أن يهلكه وتكون نتيجة ذلك أن تتحدد قدرة هذا الخالق ومن كانت قدرته محدودة لا يمكن أن يكون إلهاً، لأنّ قدرة اللَّه كذاته لا تحدّها حدود مطلقاً (تدبّر جيداً).

وفي الختام ترد الآية الكريمة على أقوال اولئك الذين اعتبروا ولادة المسيح من غير أب دليلًا على الوهيته فتقول: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». فاللَّه قادر على أن يخلق إنساناً من غير أب ومن غير ام كما خلق آدم عليه السلام وهو قادر أيضاً على أن يخلق إنساناً من غير أب كما خلق عيسى المسيح عليه السلام وقدرة اللَّه هذه كقدرته في خلق البشر من آبائهم وامهاتهم، وهذا التنوع في الخلق دليل على قدرته، وليس دليلًا على أيّ شي ء آخر سوى هذه القدرة.

وَ قَالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) استكمالًا للبحوث السابقة التي تناولت بعض إنحرافات اليهود والنصارى، تشير الآية الأخيرة إلى أحد الدعاوى الباطلة التي تمسك بها هؤلاء، فتقول: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنؤُا اللَّهِ وَأَحِبؤُهُ».

إنّ القرآن الكريم حارب كل هذه الإمتيازات والدعاوى الوهمية، فهو لا يرى للإنسان امتيازاً إلّابالإيمان والعمل الصالح والتقوى، ولذلك تقول الآية الأخيرة في تفنيد وإبطال الإدّعاء الأخير: «قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم». فهؤلاء- بحسب اعترافهم أنفسهم- يشملهم العذاب الإلهي حيث قالوا بأنّ العذاب يمسّهم لأيّام معدودة، فكيف يتلاءم ذلك الإدعاء وهذا الإعتراف؟ وكيف يمكن أن يشمل عذاب اللَّه أبناءه وأحباءه؟! ومن هنا يثبت أن لا أساس

ولا صحة لهذا الإدعاء، وقد شهد تاريخ هؤلاء على أنّهم حتى في هذه الدنيا ابتلوا بسلسلة من العقوبات الإلهية، ويعتبر هذا دليلًا آخر على زيف وبطلان دعواهم تلك.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 508

ولكي تؤكد الآية الكريمة زيف وبطلان الدعوى المذكورة استطردت تقول: «بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مّمَّنْ خَلَقَ». والقانون الإلهي عام، فإن اللَّه «يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ». وبالإضافة إلى ذلك فإنّ كل البشر هم من خلق اللَّه، وهم عباده وأرقاؤه، وعلى هذا الأساس ليس من المنطق إطلاق اسم «ابن اللَّه» على أي منهم، حيث تقول الآية: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا».

وفي النهاية تعود المخلوقات كلها إلى اللَّه، حيث تؤكد الآية هنا بقولها: «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ».

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَ لَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (19) تكرر هذه الآية الخطاب إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فتبيّن لهم أنّ النبي المرسل إليهم مرسل من عند اللَّه، أرسله في عصر ظلت البشرية قبله فترة دون أن يكون لها نبيّ، فبيّن لهم هذا النّبي الحقائق، لكي لا يقولوا بعد هذا إنّ اللَّه لم يرسل إليهم من يهديهم إلى الصراط السوي ويبشرهم بلطف اللَّه ورحمته ويحذّرهم من الانحراف والإعوجاج، وينذرهم بعذاب اللَّه، حيث تقول الآية: «يَا أَهلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ».

«فترة»: تعني في الأصل الهدوء والسكينة كما تطلق على الفاصلة الزمنية بين حركتين أو جهدين أو نهضتين أو ثورتين.

وقد شهدت الفاصلة الزمنية بين موسى وعيسى عليهما السلام عدداً من الأنبياء والرسل، بينما لم

يكن الأمر كذلك في الفاصلة الزمنية بين عيسى عليه السلام والنّبي محمّد صلى الله عليه و آله ولذلك أطلق القرآن الكريم على هذه الفاصلة الأخيرة اصطلاح «فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ». والمعروف أنّ هذه الفترة دامت ستمائة عام تقريباً.

وفي الختام تؤكد الآية على شمولية قدرة اللَّه عزّ وجلّ فتقول: «وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». وهذا بيان بأنّ إرسال الأنبياء والرسل وتعيين أوصيائهم أمر يسير بالنسبة لقدرة اللَّه العزيز المطلقة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 509

وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) بنو إسرائيل والأرض المقدسة: جاءت هذه الآيات لتثير لدى اليهود دافع التوجه إلى الحق والسعي لمعرفته أوّلًا، وإيقاظ ضمائرهم حيال الأخطاء والآثام التي إرتكبوها ثانياً، ولكي تحفزهم إلى السعي لتلافي اخطائهم والتعويض عنها، ويذكرهم القرآن في الآية الاولى بما قاله النبي موسى عليه السلام لأصحابه حيث تقول: «وَإِذْ

قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ».

وفي ظل هذه النعمة (نعمة وجود الأنبياء) نجا اليهود من هاوية الشرك والوثنية وعبادة العجل وتخلصوا من مختلف أنواع الخرافات والأوهام والقبائح والخبائث.

بعد هذا تشير الآية إلى أكبر نعمة مادية وهبها اللَّه لليهود فتقول: «وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا» وتعتبر هذه النعمة- أيضاً- مقدمة للنعم المعنوية، فقد عانى بنو إسرائيل لسنين طويلة من ذل العبودية في ظل الحكم الفرعوني، فلم يكونوا ليمتلكوا في تلك الفترة أي نوع من حرية الإرادة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 510

وتشير هذه الآية في آخرها إلى أنّ اللَّه قد وهب بني إسرائيل في ذلك الزمان نعماً لم ينعم بها على أحد من أفراد البشر في ذلك الحين فتقول: «وَءَاتكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ».

وكانت هذه النعم الوافرة كثيرة الأنواع، فمنها نجاة بني إسرائيل من مخالب الفراعنة الطغاة وإنفلاق البحر لهم ونزول غذاء خاص عليهم مثل «المنّ والسلوى».

و الآية التالية تبيّن واقعة دخول بني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة نقلًا عن لسان نبيّهم موسى عليه السلام فتقول: «يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ».

والمراد بعبارة «الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ» الواردة في الآية، كل أرض الشام التي تشمل جميع الاحتمالات الواردة، لأنّ هذه الأرض- كما يشهد التاريخ- تعتبر مهداً للأنبياء، ومهبطاً للوحي، ومحلًا لظهور الأديان السماوية الكبرى، كما أنّها كانت لفترت طوال من التاريخ مركزاً للتوحيد وعبادة اللَّه الواحد الأحد ونشر تعاليم الأنبياء.

وقد واجه بنو إسرائيل دعوة موسى عليه السلام للدخول إلى الأرض المقدسة مواجهة الضعفاء الجبناء الجهلاء، الذين يتمنون أن تتحقق لهم الانتصارات في ظل الصدف والمعاجز دون أن يبادروا بأنفسهم إلى بذل جهد في هذا المجال، وردّ هؤلاء على طلب موسى

عليه السلام بقولهم كما تنقله الآية: «قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ» «1».

ويدل جواب بني إسرائيل هذا على الأثر المشؤوم الذي خلّفه الحكم الفرعوني على نفوس هؤلاء.

والمراد من عبارة «قَوْمًا جَبَّارِينَ» فهم كما تدل عليه التواريخ قوم «العمالقة» «2» الذين

______________________________

(1) «جبّار»: مأخوذةً أو مشتقة من الأصل «جبر» أي إصلاح الشي ء بالقسر والإرغام، ولذلك سمّي إصلاح العظم المكسور «تجبيراً» فهذه الكلمة تطلق من جهة على كل نوع من التجبير والإصلاح، ومن جهة اخرى تطلق على كل أنواع التسلط القسري، وحين تطلق كلمة «جبّار» على اللَّه سبحانه وتعالى فذلك إمّا لتسلطه على كل شي ء، أو لأنّه هو المصلح لكل موجود محتاج إلى الإصلاح.

(2) «العمالقة»: قوم من العنصر السامي يعيشون في شمال شبه جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء، وقدهاجموا مصر واستولوا عليها لفترات طويلة ودامت حكومتهم حوالي 500 عام منذ عام 2213 قبل الميلاد حتى عام 1703 قبل الميلاد (دائرة المعارف لفريد وجدي 60/ 232).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 511

كانوا يمتلكون أجساماً ضخمة، وكانت لهم أطوال خارقة.

بعد هذا الحديث يشير القرآن الكريم إلى رجلين أنعم اللَّه عليهما بالإيمان والتقوى والورع وشملهما بنعمه الكبيرة، فجمعا صفات الشجاعة والشهامة والمقاومة مع الدرك الاجتماعي والعسكري ممّا دفعهما إلى الدفاع عن اقتراح النبي موسى عليه السلام فواجها بني إسرائيل بقولهما: ادخلوا عليهم من باب المدينة، وحين تدخلون عليهم سيواجهون الأمر الواقع فتكونون أنتم المنتصرون، تقول الآية الكريمة في هذا المجال: «قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ».

وتؤكد الآية- بعد ذلك على ضرورة الإعتماد على اللَّه في كل خطوة من الخطوات والاستمداد

من روح الإيمان بقوله تعالى: «وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

وما ذكره أغلب المفسّرين حول هوية هذين الرجلين هو أنّهما «يوشع بن نون» و «كالب بن يوحنا» وهما من النقباء الإثني عشر في بني إسرائيل.

والذي حصل حقيقة هو أنّ بني إسرائيل لم يقتنعوا بأي من الإقتراحات المذكورة، فهم بسبب الضعف والجبن المتأصلين في نفوسهم خاطبوا موسى عليه السلام وأخبروه صراحة بأنّهم لن يدخلوا تلك الأرض مادام العمالقة موجودين فيها، وطالبوا موسى أن يذهب هو وربه لمحاربة العمالقة وسألوه أن يخبرهم عن إنتصاره حيث هم قاعدون، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: «قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا ههُنَا قَاعِدُونَ».

ثم نقرأ في الآية التالية أنّ موسى أصابه اليأس والقنوط من القوم، ورفع يديه للدعاء مناجياً ربّه قائلًا: إنّه لا يملك حرية التصرف إلّاعلى نفسه وأخيه، وطلب من اللَّه أن يفصل بينهما وبين القوم الفاسقين العصاة، لكي يلقى هؤلاء جزاء أعمالهم ويبادروا إلى إصلاح أنفسهم، حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال: «قَالَ رَبّ إِنّى لَاأَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ».

وبديهي إنّ رفض بني إسرائيل القاطع لأمر نبيهم كان بمثابة الكفر.

وكانت نتيجة صلف وعناد بني إسرائيل أنّهم لاقوا عقابهم، إذ استجاب اللَّه دعاء نبيه موسى عليه السلام فحرم عليهم دخول الأرض المقدسة، المليئة بالخيرات مدّة أربعين عاماً، وفي هذا المجال تقول الآية القرآنية الكريمة: «قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً».

وزادهم عذاباً إذ كتب عليهم التيه والضياع في البراري والقفار طيلة تلك الفترة، حيث تقول الآية في ذلك: «يَتِيهُونَ فِى الْأَرْضِ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 512

بعد ذلك تذكر الآية أنّ ما نال بني إسرائيل من عذاب في

تلك المدّة، كان مناسباً لما فعلوه، وتطلب من موسى عليه السلام أن لا يحزن على المصير الذي لا قوه حيث تقول الآية الكريمة:

«فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ».

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَ ذلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) أوّل حادثة قتل على الأرض: لقد تناولت هذه الآيات الثلاث الأخيرة قصة ولدي آدم عليه السلام وكيف قتل أحدهما أخاه، ولعل وجه الصلة بين هذه الآيات والآيات التي سبقتها في شأن بني إسرائيل، هو غريزة «الحسد» التي كانت دائماً أساساً للكثير من مخالفات وانتهاكات بني إسرائيل حيث يحذرهم اللَّه في هذه الآيات من مغبة وعاقبة الحسد الوخيمة القاتلة، التي تؤدّي أحياناً إلى أن يعمد أخ إلى قتل أخيه! والآية تقول في هذا المجال لنبيّ اللَّه أن يتلو على قومه قصّة ولدي آدم: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْ ءَادَمَ بِالْحَقّ».

ولعلّ استخدام كلمة «بالحقّ» في هذه الآية جاء للإشارة إلى أنّ القصّة المذكورة قد أضيفت لها خرافات مختلفة، ولبيان أنّ القرآن الكريم جاء بالقصة الحقيقية التي حصلت بين ولدي آدم عليه السلام.

وتواصل الآية سرد القصّة فتقول: «إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأَخِرِ». وقد أدت هذه الواقعة إلى أن يهدد الأخ- الذي لم يتقبل اللَّه القربان منه- أخاه بالقتل ويقسم أنّه قاتله لا محالة، كما جاء في قوله تعالى في الآية: «قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ».

أمّا الأخ الآخر فقد نصح أخاه مشيراً

إلى أنّ عدم قبول القربان منه إنّما نتج عن علّة في عمله، وأنّه ليس لأخيه أي ذنب في رفض القربان، مؤكّداً أنّ اللَّه يقبل أعمال المتقين فقط حيث تقول الآية: «قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ».

وأكد له أنّه لو نفذ تهديده وعمد إلى قتله، فإنّه- أي الأخ الذي تقبل اللَّه منه القربان- لن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 513

يمد يده لقتل أخيه، فهو يخاف اللَّه ويخشاه، ولن يرتكب أو يلوث يده بمثل هذا الإثم، حيث تقول الآية: «لَئِنْ بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدَىَّ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ».

وأضاف هذا الأخ الصالح- مخاطباً أخاه الذي أراد أن يقتله- أنّه لا يريد أن يتحمل آثام الآخرين، قائلًا له: «إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ» «1». (أي لأنّك إن نفذت تهديدك فستتحمل ذنوبي السابقة أيضاً، لأنّك سلبت مني حق الحياة وعليك التعويض عن ذلك، ولما كنت لا تمتلك عملًا صالحاً لتعوض به، فما عليك إلّاأن تتحمل إثمي أيضاً، وبديهي أنّك لو قبلت هذه المسؤولية الخطيرة فستكون حتماً من أهل النار، لأنّ النار هي جزاء الظالمين) كما تقول الآية: «فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزَاؤُا الظَّالِمِينَ».

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) التّستر على الجريمة: تواصل هاتان الآيتان بقية الواقعة التي حصلت بين إبني آدم عليه السلام فتبيّن الآية الاولى منهما أنّ نفس قابيل هي التي دفعته إلى قتل أخيه فقتله، حيث تقول:

«فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ».

«طوع»: تأتي في الأصل من «الطاعة» لذلك

يستدل من هذه العبارة على أنّ قلب «قابيل» بعد أن تقبل اللَّه قربان أخيه هابيل أخذت تعصف به الأحاسيس والمشاعر المتناقضة، فمن جانب استعرت فيه نار الحسد وكانت تدفعه إلى الإنتقام من أخيه «هابيل» ومن جانب آخر كانت عواطفه الإنسانية وشعوره الفطري بقبح الذنب والظلم والجور وقتل النفس، يحولان دون قيامه بارتكاب الجريمة، لكن نفسه الأمارة بالسوء تغلبت رويداً رويداً على مشاعره الرادعة فطوّعت ضميره الحي وكبلته بقيودها واعدته لقتل أخيه.

وتشير الآية- في آخرها- إلى نتيجة عمل «قابيل» فتقول: «فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ».

فأيّ ضرر أكبر من أن يشتري الإنسان لنفسه عذاباً سيلازمه إلى يوم القيامة ويشمل

______________________________

(1) «تبوء»: مشتقة من المصدر «بواء» أي «العودة».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 514

عذاب الضمير وعقاب اللَّه والعار الأبدي! وتفيد بعض الروايات المنقولة عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّ قابيل حين قتل أخاه ترك جثته في العراء حائراً لا يدري ما يفعل بها، فلم يمض وقت حتّى حملت الوحوش المفترسة على جثة «هابيل» فاضطر «قابيل» (ربّما نتيجة لضغط وجداني شديد) إلى حمل جثة أخيه مدّة من الزمن لإنقاذها من فتك الوحوش، لكن الطيور الجارحة أحاطت به وهي تنتظر أن يضعها على الأرض للهجوم عليها ثانية وفي تلك الأثناء بعث اللَّه غراباً (كما تصرّح الآية) فأخذ يحفر الأرض ويزيح التراب ليدفن جسد غراب ميت آخر، أو ليخفي جزءاً من طعامه- كما هي عادة الغربان- وليدل بذلك «قابيل» كيف يدفن جثة أخيه، حيث تقول الآية الكريمة: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِى الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوءَةَ أَخِيهِ» «1».

ثم تشير الآية الكريمة إلى أنّ قابيل استاء من غفلته وجهله، فأخذ يؤنّب نفسه كيف أصبح أضعف من الغراب فلا يستطيع دفن أخيه مثله، فتقول الآية: «قَالَ

يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِىَ سَوْءَةَ أَخِى».

وكانت العاقبة أن ندم قابيل على فعلته الشنيعة كما تقول الآية: «فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ».

في تفسير في ظلال القرآن، ذيل الآية مورد البحث، عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «لا تقتل نفس ظلماً إلّاكان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنّه كان أوّل من سن القتل».

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) وحدة الإنسانية وكرامتها: إنّ هذه الآية تقوم باستخلاص نتيجة إنسانية كلّية بعد الآيات التي تطرقت إلى قصّة ولدي آدم عليه السلام. ففي البداية تشير الآية إلى حقيقة اجتماعية

______________________________

(1) جاء في تفسير مجمع البيان أنّ كلمة «يبحث»: معناها في الأصل هو البحث عن شى ء في التراب ثم استعملت في مختلف أنواع البحوث. أمّا كلمة «سوءة»: فهي تعني كل شي ء يستاء الإنسان من رؤيته ولذلك تطلق أحياناً على جسد الميت وعلى عورة الإنسان.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 515

تربوية مهمّة، وهي أنّ قتل أيّ إنسان، إن لم يكن قصاصاً لقتل إنسان آخر، أو لم يكن بسبب جريمة الإفساد في الأرض، فهو بمثابة قتل الجنس البشري بأجمعه، كما أنّ إنقاذ أيّ إنسان من الموت، يعد بمثابة إنقاذ الإنسانية كلّها من الفناء، حيث تقول الآية الكريمة: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» «1».

ويرد هنا سؤال وهو: كيف يكون قتل إنسان

واحد مساوياً لقتل الناس جميعاً، وكيف يكون إنقاذ إنسان من الموت بمثابة إنقاذ الإنسانية جمعاء من الفناء؟

ولقد وردت أجوبة عديدة من قبل المفسّرين على هذا السّؤال ....

وكما قلنا في بداية تفسير هذه الآية، فإنّها تتحدث عن حقيقة اجتماعية تربوية، لانّه:

أوّلًا: إنّ من يقتل إنساناً بريئاً ويلطخ يده بدم بري ء يكون مستعداً لقتل أناس آخرين يساوونه في الإنسانيه والبراءة، فهو إنسان قاتل، وضحيته إنسان آخر بري ء، ومعلوم أنّه لا فرق بين الأبرياء من الناس من هذه الزاوية.

كما أنّ أي إنسان يقوم- بدافع حب النوع الإنساني- بإنقاذ إنسان آخر من الموت، يكون مستعداً للقيام بعملية الإنقاذ الإنسانية هذه بشأن أيّ إنسان آخر.

ونظراً لكلمة «فكأنّما» التي يستخدمها القرآن في هذا المجال، فإنّنا نستدل بأنّ موت وحياة إنسان واحد مع أنّه لا يساوي موت وحياة المجتمع إلّاأنّه يكون شبيهاً بذلك.

وثانياً: إنّ المجتمع يشكل كياناً واحداً، واعضاؤه أشبه بأعضاء الجسد الواحد وأنّ أي ضرر يصيب أحد اعضائه يكون أثره واضحاً- بصورة أو بأُخرى في سائر الأعضاء.

ومن جانب آخر فإنّ إحياء فرد من أفراد المجتمع يكون- لنفس السبب الذي ذكرناه- بمثابة إحياء وإنقاذ جميع أفراد المجتمع.

وتبيّن هذه الآية بجلاء أهمّية حياة وموت الإنسان في نظر القرآن الكريم، وتتجلى عظمة هذه الآية أكثر حين نعلم أنّها نزلت في محيط لم يكن يعير أي أهمية لدماء أفراد الإنسانية.

جاء في تفسير نور الثقلين: سأل شخص الإمام الصادق عليه السلام عن هذه الآية فأجابه قائلًا:

______________________________

(1) «أجل»: على وزن «نخل» تعني في الأصل الجريمة، وقد شاع استعمالها فيما بعد في كل عمل له عاقبة سيئة، ثم استعملت لكل عمل ذي عاقبة، وهي الآية تستخدم للتعليل أو بيان علّة الشي ء.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 516

«من حرق أو غرق»-

ثم سكت- ثم قال: «تأويلها الأعظم أن دعاها فاستجاب له». وفحوى قول الإمام الصادق عليه السلام في هذه الرواية هو الإنقاذ من الحريق أو الغرق ثم يستطرد الإمام- بعد سكوت- فيبين أنّ التأويل الأعظم لهذه الآية هو دعوة الغير إلى طريق الحق والخير أو الباطل والشر، وتحقق القبول من الجانب الآخر المخاطب بهذه الدعوة.

وتشيرالآية- في آخرها- إلى انتهاكات بني إسرائيل، فتؤكّد أنّ هذه الطائفة على الرغم من ظهور الأنبياء بينهم يحملون الدلائل الواضحة لإرشادهم، إلّاأنّ الكثير منهم قد نقضوا وانتهكوا القوانين الإلهيّة واتبعوا سبيل الإسراف في حياتهم، حيث تقول الآية: «وَلَقَد جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذلِكَ فِى الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ».

إنّ كلمة «إسراف» لها معان واسعة، تشمل كل تجاوز أو تعدّ عن الحدود ولو أنّها تستخدم في الغالب في مجال الهبات والنفقات.

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي عن أنس بن مالك: أنّ قوماً من عُكْل «1»- أو قال من عُرَينَة- قدموا على رسول اللَّه فاجتَوَوا «2» المدينة؛ فأمر لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بلِقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحّوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه و آله واستاقوا النَّعَم؛ فبلغ النبي صلى الله عليه و آله خبرهم من أوّل النهار فأرسل في آثارهم؛ فما ارتفع النهار حتى جي ء بهم؛ فأمر بهم فقطعت

______________________________

(1) عكل (بضم

العين المهملة وسكون الكاف): قبيلة مشهورة.

(2) أي أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول، ذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموا.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 517

أيديهم وأرجلهم وسَمَر «1» أعينهم وألقوا في الحرة «2» يستسقون فلا يُسقَون.

قيل: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا اللَّه ورسوله. وفي رواية: فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم؛ وفي رواية فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في طلبهم قافة فاتي بهم؛ قال: فأنزل اللَّه تبارك وتعالى في ذلك الآية.

التّفسير

جزاء مرتكب العدوان: تكمّل الآية الاولى- من الآيتين الأخيرتين- البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول قتل النفس، وتبيّن جزاء وعقاب من يشهر السلاح بوجه المسلمين، وينهب أموالهم عن طريق التهديد بالقتل أو بإرتكاب القتل، فتقول: «إِنَّمَا جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ لْأَرْضِ».

ومعنى قطع الأيدي والأرجل من خلاف هو أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.

والذي يلفت الإنتباه في هذه الآية هو أنّها اعتبرت العدوان الممارس ضد البشر بمثابة إعلان الحرب وممارسة العدوان ضد اللَّه ورسوله، وهذه النقطة تبيّن بل تثبت مدى اهتمام الإسلام العظيم بحقوق البشر ورعاية أمنهم وسلامتهم.

وفي الختام تشير الآية إلى أنّ هذه العقوبات هي لفضح المجرمين في الدنيا، وسوف لا يتوقف الأمر على هذه العقوبات، بل سينالون يوم القيامة عقاباً أشد وأقسى حيث تقول الآية: «ذلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

ويستدل من هذه الجملة القرآنية على أنّ العقوبات الإسلامية الدنيوية التي تنفذ في المجرمين لن تكون حائلًا دون نيلهم لعقاب الآخرة، ولكن طريق العودة والتوبة لا يغلق حتى بوجه مجرمين خطيرين كالذين ذكرتهم

الآية إن هم عادوا إلى رشدهم وبادروا إلى إصلاح أنفسهم، ولكي يبقى مجال التعويض عن الأخطاء مفتوحاً تقول الآية الثانية: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وبديهي أنّ توبة هؤلاء في مثل هذه الجرائم لها تأثير في ما يخص اللَّه فقط، أمّا حق الناس فلا يسقط بالتوبة ما لم يرض صاحب الحق.

______________________________

(1) سمر عين فلان: سملها (فقأها).

(2) الحرة (بفتح الحاء و تشديد الراء): أرض خارج المدينة ذات حجارة سود.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 518

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) حقيقة التوسل إلى اللَّه: توجه هذه الآية الخطاب إلى الأفراد المؤمنين، تتضمّن تكاليف ثلاثة يؤدّي الالتزام بها وتطبيقها إلى نيل الفلاح، وهذه التكاليف هي:

1- إتّباع الحيطة والتقوى، كما تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ».

2- إختيار وسيلة للتقرب إلى اللَّه سبحانه وتعالى، حيث تقول الآية: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ».

3- الجهاد في سبيل اللَّه، إذ تقول الآية: «وَجَاهِدُوا فِى سَبِيلِهِ».

وستكون نتيجة الإلتزام بهذه التكاليف الإلهية وتطبيقها نيل الفلاح، بشرط تحقق الإسلام والإيمان فتقول الآية الكريمة في هذا المجال: «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

«الوسيلة»: في الأصل بمعنى نشدان التقرب وعلى هذا الأساس فإنّ كلمة «الوسيلة» الواردة في هذه الآية لها معان كثيرة واسعة، فهي تشمل كل عمل أو شي ء يؤدّي إلى التقرب إلى اللَّه سبحانه وتعالى، وأهم الوسائل في هذا المجال، كما يقول الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبة (110) في نهج البلاغة منها: «إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى اللَّه سبحانه وتعالى، الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله فإنّه ذِروة الإسلام وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة، وإقام الصلاة فإنّها الملّة

«1» وإيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة وصوم شهر رمضان فإنّه جنّة من العقاب وحجّ البيت واعتماره فإنّهما ينفيان الفقر ويرحضان «2» الذنب وصلة الرحم فإنّها مثراة «3» في المال ومنسأة «4» في الأجل وصدقة السّرّ فإنّها تُكفّر الخطيئة وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السّوء وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان».

كما أنّ شفاعة الأنبياء والأئمة والأولياء الصالحين تقرّب- أيضاً- إلى اللَّه وفق ما نص عليه القرآن الكريم، وهي داخلة في المفهوم الواسع لكلمة «الوسيلة».

______________________________

(1) الملّة: شريعة الإسلام.

(2) يرحضان: يطهران أو يغسلان.

(3) مثراة: مكثرة.

(4) منساة: مطيلة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 519

والجدير بالذكر هنا هو أنّ المراد من التوسل لا يعني- أبداً- طلب شي ء من شخص النبي أو الإمام، بل معناه أن يبادر الإنسان المؤمن- عن طريق الأعمال الصالحة والسير على نهج النّبي والإمام- بطلب الشفاعة منهم إلى اللَّه، أو أن يقسم بجاههم وبدينهم (وهذا يعتبر نوعاً من الإحترام لمنزلتهم وهو نوع من العبادة) ويطلب من اللَّه بذلك حاجته، وليس في هذا المعنى أيّ أثر للشرك، كما لا يخالف الآيات القرآنية الاخرى، ولا يخرج عن عموم الآية الأخيرة موضوع البحث «فتدبر».

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) تعقيباً على الآية السابقة التي كلّفت المؤمنين بالتقوى والجهاد وإعداد الوسيلة، جاءت الآيتان الأخيرتان وهما تشيران إلى مصير الكافرين وتؤكدان أنّهم مهما بذلوا- حتى لو كان كل ما في الأرض أو ضعفه- في سبيل إنقاذ أنفسهم من عذاب يوم القيامة، فلن يقبل منهم ذلك- وأنّهم سينالون العذاب

الشديد، فتقول الآية الكريمة في هذا المجال: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيمَةِ مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

بعد ذلك تشير الآية التالية إلى استمرار عذاب اللَّه، وتوضح أنّ الكافرين مهما سعوا للخروج من نار جهنم فلن يقدروا على ذلك، وأنّ عذابهم ثابت وباق لا يتغير، كما تقول الآية: «يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ».

وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (40)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 520

عقوبة السرقة: لقد بيّنت آيات سابقة عقاب وحكم المحارب الذي يتعرض لأرواح وأموال ونواميس الناس عن طريق التهديد بالسلاح، أمّا الآيات الثلاث الأخيرة فهي تبيّن حكم السارق والسارقة أي الفرد الذي يسرق خلسة أموال وممتلكات الناس، فتقول الآية أوّلًا: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا».

وقد قدمت هذه الآية الرجل السارق على المرأة السارقة، بينما الآية التي ذكرت حد وعقوبة الزنا قد قدمت المرأة الزانية على الرجل الزاني، ولعلّ هذا التفاوت ناشى ء عن حقيقة أنّ السرقة غالباً ما تصدر عن الرجال، بينما النساء الخليعات المستهترات يشكّلن في الغالب العامل والعنصر المحفّز للزنا!

بعد ذلك تبيّن الآية أنّ العقوبة المذكورة هي جزاء من اللَّه لجريمة السرقة المرتكبة من قبل الرجل أو المرأة، حيث تقول: «جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكلًا مِّنَ اللَّهِ».

ولكي لا يتوهم الناس وجود الإجحاف في هذه العقوبة،

تؤكد الآية- في آخرها- على أنّ اللَّه عزيز، أي قادر على كل شي ء، فلا حاجة له للإنتقام من الأفراد، وهو حكيم- أيضاً- ولا يمكن أن يعاقب الأفراد دون وجود مبرر أو حساب لذلك، حيث تقول الآية: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

أمّا الآية الثانية فهي تفتح لمن إرتكب هذه المعصية باب العودة والتوبة، فتقول: «فَمَنْ تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

والسؤال الوارد هنا هو: هل أنّ التوبة وحدها تكفي لغفران الذنب فقط، أم أنّها تسقط عنه حد أو عقوبة السرقة أيضاً؟

إنّ المعروف لدى فقهاء الشيعة أنّ مرتكب السرقة إن تاب قبل أن تثبت سرقته في محكمة إسلامية يسقط عنه حدّ السرقة أيضاً، أمّا إذا شهد عادلان على سرقته فإنّ التوبه لا تسقط عنه الحد.

ثم توجّه الآية الاخرى الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 521

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذَا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)

سبب

النّزول

في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر عليه السلام قال: إنّ إمراة من خيبر ذات شرف بينهم، زنت مع رجل من أشرافهم، وهما محصنان، فكرهوا رجمهما فأرسلوا إلى يهود المدينة، وكتبوا إليهم، أن يسألوا النبي عن ذلك، طمعاً في أن يأتي لهم برخصة، فانطلق قوم منهم: كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، وشعبة بن عمرو، ومالك بن الصيف، وكنانة بن أبي الحقيق، وغيرهم فقالوا: يا محمّد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما؟ فقال: «وهل ترضون بقضائي في ذلك؟» قالوا: نعم. فنزل جبرائيل بالرجم، فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به، فقال جبرائيل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، ووصفه له. فقال النبي صلى الله عليه و آله: «هل تعرفون شاباً أمرد، أبيض، أعور، يسكن فدكاً يقال له ابن صوريا؟» قالوا: نعم. قال: «فأيّ رجل هو فيكم؟» قالوا: أعلم يهوديّ بقي على ظهر الأرض بما أنزل اللَّه على موسى. قال: «فأرسلوا إليه». ففعلوا فأتاهم عبد اللَّه بن صوريا، فقال له النبي صلى الله عليه و آله: «إنّي أنشدك اللَّه الذي لا إله إلّاهو، الذي أنزل التوراة على موسى، وفلق لكم البحر، وأنجاكم، وأغرق آل فرعون، وظلّل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المنّ والسلوى، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟» قال ابن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 522

صوريا: نعم. والذي ذكرتني به، لولا خشية أن يحرقني ربّ التوراة إن كذبت أو غيّرت، ما اعترفت لك ولكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمّد؟ قال: «إذا شهد أربعة رهط عدول، أنّه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة، وجب عليه الرجم.» قال ابن صوريا: هكذا أنزل اللَّه في التوراة على موسى. فقال له النبي: «فماذا كان

أوّل ما ترخصتم به أمر اللَّه؟» قال: كنا إذا زنى الشريف تركناه، وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحد، فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنى ابن عم ملك لنا فلم نرجمه، ثم زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه، فقال له قومه: لا حتى ترجم فلاناً، يعنون ابن عمه. فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرجم، يكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم، وهو أن يجلد أربعين جلدة، ثم يسوّد وجوههما، ثم يحملان على حمارين ويجعل وجوههما من قبل دبر الحمار، ويطاف بهما. فجعلوا هذا مكان الرجم. فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به، وما كنت لما أتينا عليك بأهل ولكنّك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك! فقال: إنّه أنشدني بالتوراة، ولولا ذلك لما أخبرته به. فأمر بهما النبي فرجما عند باب مسجده. وقال: «أنا أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه». فأنزل اللَّه فيه: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير» فقام ابن صوريا، فوضع يديه على ركبتي رسول اللَّه، ثم قال: هذا مقام العائذ باللَّه وبك، أن تذكر لنا الكثير الذي أمرت أن تعفو عنه، فأعرض النبي صلى الله عليه و آله عن ذلك.

ثم سأله ابن صوريا عن نومه؟ فقال: «تنام عيناي ولا ينام قلبي». فقال: صدقت، وأخبرني عن شبه الولد بأبيه، ليس فيه من شبه أمه شي ء، أو بأمه ليس فيه من شبه أبيه شي ء؟ فقال: «أيّهما علا وسبق ماء صاحبه، كان الشبه له». قال: قد صدقت، فأخبرني ما للرجل من الولد وما للمرأة منه؟ قال: فأغمي على رسول اللَّه طويلًا ثم خلي عنه محمراً وجهه يفيض عرقاً، فقال: «اللحم، والدم، والظفر، والشحم للمرأة

والعظم والعصب والعروق للرجل». قال له: صدقت أمرك أمر نبي. فأسلم ابن صوريا عند ذلك، وقال: يا محمّد من يأتيك من الملائكة؟ قال: «جبرائيل». قال: صفه لي. فوصفه النبي صلى الله عليه و آله فقال: أشهد أنّه في التوراة كما قلت، وأنّك رسول اللَّه حقاً.

فلما أسلم ابن صوريا، وقعت فيه اليهود وشتموه فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريضة ببني النضير فقالوا: يا محمد إخواننا بنو النضير: أبونا واحد، وديننا واحد، ونبيّنا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 523

واحد، إذا قتلوا منّا قتيلًا لم يُقد وأعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر وإذا قتلنا منهم قتيلًا، قتلوا القاتل، وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجا منّا وبالرجل منهم رجلين منّا، وبالعبد الحر منا وجراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم فأنزل اللَّه في الرجم والقصاص الآيات.

التّفسير

التحكيم بين الأنصار والأعداء: تدلّ هاتان الآيتان والآيات التي تليهما، على أنّ للقاضي المسلم الحق- في ظل شروط خاصة- في الحكم في جرائم الطوائف الاخرى من غير المسلمين. لقد بدأت الآية الاولى الخطاب بعبارة: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ». وربّما جاء استخدام هذا التعبير من أجل إثارة أكثر لدافع الشعور بالمسؤولية لدى النّبي صلى الله عليه و آله.

بعد ذلك تُطمئن الآية النبي صلى الله عليه و آله- كتمهيد لبيان الحكم التالي- فتقول: «لَايَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ».

وبعد أن تذكر الآية تجاوزات المنافقين والأعداء الداخليين، تتناول وضع الأعداء الخارجيين واليهود الذين كانوا سبباً لحزن النبي صلى الله عليه و آله فتقول الآية: «وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا».

ثم تشير الآية إلى قسم من تصرفات هؤلاء المشوبة بالنفاق والرياء، فتؤكّد أنّهم إنّما يستمعون كلام

النبي لا لأجل اطاعته، بل لكي يجعلوا من ذلك وسيلة لتكذيب النبي والإفتراء عليه حيث تقول الآية: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ».

ثم تفضح الآية الصفة الثالثة لليهود، فتبيّن أنّهم يتجسّسون على المسلمين لمصلحة قوم آخرين ممّن لا يحضرون الاجتماعات الإسلامية التي تعقد في مجلس النبي صلى الله عليه و آله فتقول الآية:

«سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ».

ثم تذكر الآية انحرافاً آخر لهؤلاء اليهود، فتشير إلى تحريفهم لكلام اللَّه سبحانه وتعالى من خلال تحريف الألفاظ أو تحريف المعاني الواردة في هذا الكلام، فهم إن وجدوا في كلام اللَّه حكماً يخالف مصالحهم أوّلوه أو رفضوه جملة وتفصيلًا، كما تقول الآية: «يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ».

والأعجب من ذلك أنّ هؤلاء قبل أن يحضروا مجلس النّبي كانوا يقرّرون كما يأمرهم كبارهم أنّهم إن تلقّوا من محمّد صلى الله عليه و آله حكماً موافقاً لميولهم وأهوائهم قبلوا به، وإن كان مخالفاً لهوى أنفسهم ردّوه وابتعدوا عنه، تقول الآية الكريمة: «يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 524

تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا». فهؤلاء قد غرقوا في الضلال بحيث لم يبق أمل في هدايتهم، فاستحقوا بذلك عذاب اللَّه ولم تعد تنفع فيهم شفاعة الشافعين، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: «وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيًا». وقد تدنّست قلوب هؤلاء إلى درجة لم تعد قابلة للتطهير، وحرمهم اللَّه لذلك طهارة القلوب، فتقول الآية: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ». وعمل اللَّه مقرون بالحكمة دائماً، لأنّ من يقضي عمراً في الانحراف ويمارس النفاق والكذب ويخالف الحق ويرفض الحقيقة، ويحرف قوانين اللَّه لن يبقى له مجال للتوبة والعودة إلى الحق، حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال: «لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ

وَلَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

أمّا الآية الثانية فتؤكد- مرّة اخرى- على أنّ هؤلاء لديهم آذان صاغية لإستماع حديث النّبي صلى الله عليه و آله لا لإطاعته بل لتكذيبه، أو كما يقول تفسير آخر فإنّ هؤلاء آذانهم صاغية لإستماع أكاذيب كبارهم، فتقول الآية: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ».

كما أضافت الآية صفة شنيعة اخرى اتّصف بها اليهود وهي تعوّدهم وادمانهم على أكل الأموال المحرّمة والباطلة من الربا والرشوة وغير ذلك، حيث تقول الآية: «أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» «1».

ثم تخيّر الآية النبي صلى الله عليه و آله بين أن يحكم بينهم أو أن يتجنبهم ويتركهم، حيث تقول الآية:

«فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ».

ولكي تعزز الآية الإطمئنان في نفس النبي صلى الله عليه و آله- إن هو ارتأى الإعراض عن هؤلاء لمصلحة- أكّدت قائلة: «وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيًا».

كما أكّدت ضرورة إتّباع العدل وتطبيقه إذا كانت الحالة تقتضي أن يحكم النبي بين هؤلاء فقالت الآية: «وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».

وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ مَا أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)

______________________________

(1) «سحت»: في الأصل نزع القشرة، أو شدّة الجوع، ثم اطلقت على كل مال غير مشروع، أي محرّم، وبالأخص الرشوة، لأنّ مثل هذه الأموال تنزع الصفاء والمودّة عن المجتمع وتزيل عنه البركة والرخاء مثلما يؤدّي نزع قشر الشجرة إلى ذبولها وجفافها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 525

تتابع هذه الآية موضوع الحكم بين اليهود الذي تطرّقت إليه الآيتان السابقتان اللتان بيّنتا أنّ اليهود كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه و آله ويطلبون منه الحكم فيهم وقد أظهرت هذه الآية الأخيرة الإستغراب من حالة اليهود الذين كانوا مع وجود التّوراة بينهم واحتوائها على حكم

اللَّه، يأتون إلى النبي محمّد صلى الله عليه و آله ويطلبون منه الحكم فيهم بالرغم من وجود التوراة عندهم، فتقول: «وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَيةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ».

والعجيب في أمر هؤلاء اليهود أنّهم حين كانوا يطلبون التحكيم من نبي الإسلام بينهم، كانوا لا يقبلون بحكمه إذا كان مطابقاً لحكم التوراة لكنّه لم يوافق ميولهم ورغباتهم حيث تقول الآية: «ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلِكَ». وما ذلك إلّالأنّ هؤلاء لم يكونوا بمؤمنين، ولو كانوا مؤمنين لما استهزؤوا هكذا بأحكام اللَّه، حيث تؤكد الآية قائلة: «وَمَا أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ».

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَ كَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) إنّ هذه الآية والآية التي تليها تكملان البحث أو الموضوع الوارد في الآيات السابقة، وتبين هذه الآية أهمية الكتاب السماوي الذي نزل على النبي موسى عليه السلام أي التوراة، حيث تشير إلى أنّ اللَّه أنزل هذا الكتاب وفيه الهداية والنور اللذان يرشدان إلى الحق، وأنّ النور والضياء الذي فيه هو لإزاحة ظلمات الجهل من العقول فتقول الآية: «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَيةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ».

ولذلك فإنّ الأنبياء الذين أطاعوا أمر اللَّه، والذين تولّوا مهامّهم بعد نزول التوراة كانوا يحكمون بين اليهود بأحكام هذا الكتاب، تقول الآية الكريمة: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا».

كما أنّ علماء اليهود ووجاءهم ومفكّريهم المؤمنين الأتقياء، كانوا يحكمون وفق هذا الكتاب السماوي الذي وصل أمانة بأيديهم وكانوا شهوداً عليه، حيث تقول الآية:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 526

«وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن

كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ» «1». ثم توجّه الآية الخطاب إلى اولئك العلماء والمفكّرين من اليهود الذين كانوا يعيشون في ذلك العصر، فتطلب منهم أن لا يخافوا الناس لدى بيان أحكام اللَّه، بل عليهم أن يخافوا اللَّه، فلا تسوّل لهم أنفسهم مخالفة أوامره أو كتمان الحق، وإن فعلوا ذلك فسيلقون الجزاء والعقاب، فتقول الآية هنا: «فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ».

ثم تحذّر الآية من الاستهانة والاستخفاف بآيات اللَّه، فتقول: «وَلَا تَشْتَرُوا بَايتِى ثَمَنًا قَلِيلًا».

وحقيقة كتمان الحق وأحكام اللَّه نابعة إمّا عن الخوف من الناس، وإمّا بدافع المصلحة الشخصية، وأيّاً كان السبب فهو دليل على ضعف الإيمان وانحطاط الشخصية، وقد أشير في الجمل القرآنية أعلاه إلى هذين السببين.

وتصدر الآية حكماً صارماً وحازماً على مثل هؤلاء الأفراد الذين يحكمون خلافاً لما أنزل اللَّه فتقول: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ».

وواضح أنّ عدم الحكم بما أنزل اللَّه يشمل السكوت والإبتعاد عن حكم اللَّه الذي يؤدّي بالناس إلى الضلال، كما يشمل التحدّث بخلاف حكم اللَّه.

وتبين هذه الآية- أيضاً- المسؤولية الكبرى التي يتحمّلها علماء ومفكّروا كل امّة حيال العواصف الاجتماعية، والأحداث التي تقع في بيئاتهم، وتدعو بأسلوب حازم لمكافحة الانحرافات وعدم الخوف من أيّ بشر- كائناً من كان- لدى تطبيق أحكام اللَّه.

وَ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) القصاص أو العفو: تشرح هذه الآية الكريمة قسماً آخر من الأحكام الجنائية والحدود الإلهية التي وردت في التوراة، فتشير إلى ما ورد في هذا الكتاب السماوي من أحكام وقوانين

تخصّ القصاص، وتبين أنّ من يقتل انساناً بريئاً فإنّ لأولياء القتيل حق القصاص من

______________________________

(1) «أحبار»: صيغة جمع من «حبر» (على وزن فكر) فهي تعني كل أثر خير، اطلقت على المفكّرين الذين يخلفون أثاراً خيّرة في مجتمعهم، ويطلق أيضاً على حبر الدواة الذي يستعمل للكتابة لما فيه من أثر خير.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 527

القاتل بقتله، نفساً بنفس. حيث تقول الآية في هذا المجال: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ».

كما بيّنت أنّ من يصيب عين انسان آخر ويتلفها، يستطيع هذا الإنسان المتضرر في عينه أن يقتصّ من الفاعل ويتلف عينه، إذ تقول الآية في هذا المجال: «وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ».

وكذلك الحال بالنسبة للأنف والأذن والسن والجروح الاخرى، «وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسّنَّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ».

وعلى هذا الأساس فإنّ حكم القصاص يطبّق بشكل عادل على المجرم الذي يرتكب أحد الجرائم المذكورة.

وقد أنهت هذه الآية التمايز غير العادل الذي كان يمارس في ذلك الوقت.

ولكي لا يحصل وَهمٌ أنّ القصاص أو المقابلة بالمثل أمر إلزامي لا يمكن الحيدة عنه، استدركت الآية بعد ذكر حكم القصاص فبيّنت أنّ الذي يتنازل عن حقه في هذا الأمر ويعفو ويصفح عن الجاني، يعتبر عفوه كفارة له عن ذنوبه بمقدار ما يكون للعفو من أهمية «فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ».

وفي الختام تؤكد الآية قائلة: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ». وأيّ ظلم أكبر من الإنجرار وراء العاطفة الكاذبة، وترك القاتل دون أن ينال قصاصه العادل بحجة أنّ الدم لا يُغسل بالدم، وفسح المجال للقتلة للتمادي بارتكاب جرائم قتل اخرى، وبالنهاية الإساءة عبر هذا التغاضي إلى أفراد أبرياء، وممارسة الظلم بحقهم نتيجة لذلك.

وَ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ

مِنَ التَّوْرَاةِ وَ آتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَ هُدًى وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) بعد الآيات التي تحدّثت عن التوراة جاءت هذه الآية، وهي تشير إلى حال الإنجيل وتؤكد بعثة ونبوّة المسيح عليه السلام بعد الأنبياء الذين سبقوه، وتطابق الدلائل التي جاء بها مع تلك التي وردت في التوراة، حيث تقول الآية: «وَقَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَارِهِم بِعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَيةِ».

ثم تشير الآية الكريمة إلى انزال الإنجيل على المسيح عليه السلام وفيه الهداية والنور فتقول:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 528

«وَءَاتَيْنهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ». إنّ كلمة النّور التي اطلقت في القرآن الكريم على التّوراة والإنجيل، إنّما عنت التوراة والإنجيل الأصليين الحقيقيين.

بعد ذلك تكرر الآية التأكيد على أنّ عيسى عليه السلام لم يكن وحده الذي أيّد وصدّق التوراة، بل إنّ الإنجيل- الكتاب السماوي الذي نزل عليه- هو الآخر شهد بصدق التوراة حيث تقول الآية: «مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَيةِ».

وفي الختام تؤكد الآية أنّ هذا الكتاب السماوي قد حوى سبل الرشاد والهداية والمواعظ للناس المتقين، حيث تقول: «وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ».

وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) الإمتناع عن الحكم بالقانون الإلهي: بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى نزول الإنجيل، أكّدت هذه الآية محل البحث أنّ حكم اللَّه يقضي أن يطبّق أهل الإنجيل ما أنزله اللَّه في هذا الكتاب من أحكام، فتقول الآية: «وَلْيَحْكُمْ أَهَلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ».

فالمراد هو أنّ المسيحيين تلقّوا الأوامر من اللَّه بعد نزول الإنجيل بأن يعملوا بأحكام هذا الكتاب وأن يحكّموها في جميع قضاياهم.

وتؤكد هذه الآية- في النهاية- فسق

الذين يمتنعون عن الحكم بما أنزل اللَّه من أحكام وقوانين فتقول: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ».

ويلفت النظر اطلاق كلمة «الكافر» مرّة و «الظالم» اخرى و «الفاسق» ثالثة، في الآيات الأخيرة على الذين يمتنعون عن تطبيق أحكام اللَّه، ولعلّ هذا التنوّع في اطلاق صفات مختلفة إنّما هو لبيان أنّ لكل حكم جوانب ثلاثة:

أحدها: ينتهي بالمشرّع الذي هو اللَّه.

والثّاني: يمسّ المنفّذين للحكم (الحاكم أو القاضي).

الثّالث: يرتبط بالفرد أو الأفراد الذين يطبّق عليهم الحكم.

أي إنّ كل صفة من الصفات الثلاث المذكورة قد تكون إشارة إلى واحد من الجوانب الثلاثة، لأنّ الذي لا يحكم بما أنزل اللَّه يكون قد تجاوز القانون الإلهي وتجاهله، فيكون قد

مختصر الامثل، ج 1، ص: 529

كفر بغفلته هذه، ومن جانب آخر إرتكب الظلم والجور- بابتعاده عن حكم اللَّه- على إنسان برى ء مظلوم، وثالثاً: يكون قد خرج عن حدود واجباته ومسؤوليته، فيصبح بذلك من الفاسقين.

وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهَاجاً وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) تشير هذه الآية إلى موقع القرآن بعد أن ذكرت الآيات السابقة الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء السابقين.

«مهيمن»: تطلق في الأصل على كل شي ء يحفظ ويراقب أو يؤتمن على شي ء آخر ويصونه، ولمّا كان القرآن الكريم يشرف في الحفاظ على الكتب السماوية السابقة وصيانتها من التحريف إشرافاً كاملًا ويكمل تلك الكتب، لذلك أطلق عليه لفظ «المهيمن» حيث تقول الآية: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ

الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ».

فالقرآن بالإضافة إلى تصديقه الكتب السماوية السابقة، اشتمل- أيضاً- على دلائل تتطابق مع ما ورد في تلك الكتب، فكان بذلك حافظاً وصائناً لها.

ثم تؤكد على النبي صلى الله عليه و آله- انطلاقاً من الحقيقة المذكورة- ضرورة الحكم بتعاليم وقوانين القرآن بين الناس، حيث تقول: «فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ».

ثم تؤكد عليه أن يبتعد عن أهواء وميول أهل الكتاب، الذين يريدون أن يطوّعوا الأحكام الإلهية لميولهم ورغباتهم، وأن ينفّذ ما نزل عليه بالحق، حيث تقول الآية: «وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقّ».

ولأجل اكمال البحث تشير الآية إلى أنّ كل ملّة قد أفردت لها شرعة ونظام للحياة يهديها إلى السبيل الواضح، حيث تقول: «لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا».

وكلمة «شرع» أو «الشريعة»: تعني الطريق الذي يؤدّي إلى الماء وينتهي به، واطلاق

مختصر الامثل، ج 1، ص: 530

كلمة «الشريعة» على الدين لأنّ الدين ينتهي بحقائق وتعاليم هدفها تطهير النفس الإنسانية وضمان الحياة السليمة للبشرية؛ أمّا كلمة «النهج» أو «المنهاج»: فتطلقان على الطريق الواضح. ثم تبيّن الآية أنّ اللَّه لو أراد أن يجعل من جميع أبناء البشر امة واحدة، تتبع ديناً وشرعة واحدة لقدر على ذلك، لكن هذا الأمر يتنافي مع قانون التكامل التدريجي، وحركة مراحل التربية المختلفة، فتقول: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا ءَاتَيكُمْ».

بعد ذلك تخاطب الآية- في الختام- جميع الأقوام والملل، وتدعوهم إلى التسابق في فعل الخيرات بدل تبذير الطاقات في الاختلاف والتناحر، حيث تقول: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ».

مؤكّدة أنّ الجميع يكون مرجعهم جميعاً وعودتهم إلى اللَّه الذي يخبرهم في يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون: «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».

وَ أَنِ

احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَ فَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

سبب النّزول

في تفسير المنار عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد وعبد اللَّه بن صوريا وشاس بن قيس من اليهود: اذهبوا بنا إلى محمّد لعلنا نفتنه عن دينه. فأتوه فقالوا: يا محمّد إنّك عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم وساداتهم وإنّا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا وأنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فنقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك. فأبى ذلك. وأنزل اللَّه عزّ وجلّ فيهم «وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم» إلى قوله «لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ».

التّفسير

تكرر هذه الآية تأكيد الباري عزّ وجلّ على نبيّه محمّد صلى الله عليه و آله في أن يحكم بين أهل الكتاب طبقاً لأحكام اللَّه وأن لا يستسلم لأهوائهم ونزواتهم، فتقول: «وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 531

ثم تحذّر الآية النبي صلى الله عليه و آله من مؤامرة هؤلاء الذين أرادوا عدول النبي صلى الله عليه و آله عن شرعة الحق والعدل وطالبته بأن يراقب تحرّكاتهم، حيث تقول: «وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ».

وأكّدت هذه الآية استمراراً لخطابها لنبي الخاتم محمّد صلى الله عليه و آله أنّ أهل الكتاب هؤلاء إن لم يذعنوا لحكمه العادل فإنّ ذلك يكون دلالة على أنّ ذنوبهم وآثامهم قد طوّقتهم فحرمتهم من التوفيق، وأنّ اللَّه يريد أن يعاقبهم ويعذّبهم بسبب بعض ذنوبهم، حيث تقول الآية:

«فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ

أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِم».

وتشير الآية في النهاية إلى أنّ إصرار هؤلاء القوم من أهل الكتاب على باطلهم يجب أن لا يكون باعثاً للقلق عند النبي لأنّ الكثير من الناس منحرفون عن طريق الحق، أي أنّهم فاسقون، حيث تقول الآية: «وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ».

أمّا الآية الاخرى فتساءلت بصيغة استفهام استنكاري: هل أنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم أتباع الكتب السماوية يتوقّعون أن تحكم بينهم (الخطاب للنبي صلى الله عليه و آله) بأحكام الجاهلية التي فيها أنواع التمايز المقيت؟ حيث تقول الآية: «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ».

لكنّ أهل الإيمان لا يرون أيّ حكم أرفع وأفضل من حكم اللَّه، حيث تتابع الآية قولها:

«وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ».

وفي الكافي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: «الحكم حكمان: حكم اللَّه، وحكم الجاهلية، فمن أخطأ حكم اللَّه حكم بحكم الجاهلية».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إختلف في سبب نزوله، وإن كان حكمه عاماً لجميع المؤمنين. قيل:

لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من اليهود: آمنوا قبل أن يصيبكم اللَّه بيوم مثل

مختصر الامثل، ج 1، ص: 532

يوم بدر. فقال مالك بن ضيف: أغرّكم أن أصبتم رهطاً من قريش، لا علم لهم بالقتال، أما لو أمرونا العزيمة أن

نستجمع عليكم، لم يكن لكم يدان بقتالنا! فجاء عبادة بن الصامت الخزرجي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه! إنّ لي أولياء من اليهود كثيراً عددهم، قوية أنفسهم، شديدة شوكتهم وإنّي أبرأ إلى اللَّه ورسوله من ولايتهم، ولا مولى لي إلّااللَّه ورسوله. فقال عبد اللَّه بن ابي: لكني لا أبرأ من ولاية اليهود لأنّي أخاف الدوائر ولابدّ لي منهم. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «يا أبا الحباب! ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت، فهو لك دونه». قال: إذاً أقبل. وأنزل اللَّه الآية.

التّفسير

لقد حذّرت الآيات الثلاث مورد البحث المسلمين- بشدّة- من الدخول في أحلاف مع اليهود والنصارى، فالآية الاولى منها تمنع المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى أو الإعتماد عليهم (أي إنّ الإيمان باللَّه يوجب عدم التحالف مع هؤلاء إن كان ذلك لأغراض ومصالح مادية) حيث تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ».

«أولياء»: صيغة جمع من «ولي» وهي مشتقة من مصدر «الولاية» وهي بمعنى التقارب الوثيق بين شيئين؛ لكن المراد هو منع المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى أو الإعتماد عليهم في مواجهة الأعداء.

بعد ذلك تبين الآية سبب هذا النهي في جملة قصيرة، وتقول بأنّ هاتين الطائفتين إنّما هما أصدقاء وحلفاء أشباههما من اليهود والنصارى حيث تقول: «بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ». أي إنّهما يهتّمان بمصالحهما ومصالح أصدقائهما فقط، ولا يعيران اهتماماً لمصالح المسلمين، ولذلك فإنّ أيّ مسلم يقيم صداقة أو حلفاً مع هؤلاء فإنّه سيصبح من حيث التقسيم الاجتماعي والديني جزءاً منهم، حيث تؤكد الآية هذا المعنى بقولها: «وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ».

وبديهي أنّ اللَّه لا يهدي الأفراد الظالمين الذين يرتكبون الخيانة

بحق أنفسهم واخوانهم وأخواتهم المسلمين والمسلمات، ويعتمدون على أعداء الإسلام، تقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَهدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

وتشير الآية التالية إلى الأعذار التي كان يتشبث بها أفراد ذوي نفوس مريضة لتبرير علاقاتهم اللاشرعية مع الغرباء، واعتمادهم عليهم وتحالفهم معهم، مبررين ذلك بخوفهم من

مختصر الامثل، ج 1، ص: 533

الوقوع في مشاكل إن أصبحت القدرة يوماً في يد حلفائهم الغرباء، فتقول الآية: «فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ» «1».

ويذكّر القرآن الكريم هؤلاء الضعفاء، ذوي النفوس المريضة ردّاً على تعللهم في التخلّي عن حلفهم مع الغرباء، فيبيّن لهم أنّهم حين يحتملون أن يمسك اليهود والنصارى يوماً بزمام القدرة والسلطة يجب أن يحتملوا- أيضاً- أن ينصر اللَّه المسلمين فتقع القدرة بأيديهم، حيث يندم هؤلاء على ما أضمروه في أنفسهم، كما تقول الآية: «فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ».

وتشير الآية في الختام إلى مصير عمل المنافقين وتبيّن أنّه حين يتحقق الفتح للمسلمين المؤمنين وتنكشف حقيقة عمل المنافقين يقول المؤمنون- بدهشة-: هل أنّ هؤلاء المنافقين هم اولئك الذين كانوا يتشدّقون بتلك الدعاوى ويحلفون بالأيمان المغلّظة بأنّهم معنا، فكيف وصل الأمر بهم إلى هذا الحد؟ حيث تقول الآية: «وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَهؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ».

إنّ هؤلاء لنفاقهم هذا ذهبت أعمالهم أدراج الرياح، لأنّها لم تكن نابعة من نيّة خالصة صادقة، ولهذا فقد أصبحوا من الخاسرين- سواء في هذه الدنيا أم الآخرة معاً- حيث تؤكد الآية هذا الأمر بقولها: «حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى

الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) بعد الانتهاء من موضوع المنافقين، يأتي الكلام- في هذه الآية الكريمة- عن المرتدين الذين تنبّأ القرآن بارتدادهم عن الدين الإسلامي الحنيف، وهذه الآية أتت بقانون عام يحمل انذاراً لجميع المسلمين، فأكّدت أنّ من يرتد عن دينه فهو لن يضر اللَّه بارتداده هذا

______________________________

(1) «دائرة»: مشتقة من المصدر (دور) أي الشي ء الذي يكون في حالة دوران، وبما أنّ القدرات المادية والحكومات هي في حالة دوران دائم على طول التّاريخ، لذلك يقال لها (دائرة) كما تطلق هذه الكلمة- أيضاً- على أحداث الحياة المختلفة التي تدور حول الأشخاص.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 534

أبداً، ولن يضر الدين ولا المجتمع الإسلامي أو تقدّمه السريع، لأنّ اللَّه كفيل بإرسال من لديهم الإستعداد في حماية هذا الدين، حيث تقول الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأتِى اللَّهُ بِقَومٍ». ثم تتطرق الآية إلى صفات هؤلاء الحماة الذين يتحمّلون مسؤولية الدفاع العظيمة، وتبيّنها على الوجه التالي:

1- إنّهم يحبون اللَّه ولا يفكّرون بغير رضاه، فاللَّه يحبهم وهم يحبونه، كما تقول الآية:

«يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ».

2 و 3- يبدون التواضع والخضوع والرأفة أمام المؤمنين، بينما هم أشدّاء أقوياء أمام الأعداء الظالمين، حيث تقول الآية: «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ».

4- إنّ شغلهم الشاغل هو الجهاد في سبيل اللَّه، إذ تقول الآية: «يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».

5- وآخر صفة تذكرها الآية لهؤلاء العظام، هي أنّهم لا يخافون لوم اللائمين في طريقهم لتنفيذ أوامر اللَّه والدفاع عن الحق، حيث تقول الآية: «وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ».

وتؤكد الآية- في الختام- على أنّ إكتساب أو نيل مثل هذه الإمتيازات السامية

(بالإضافة إلى الحاجة لسعي الإنسان نفسه) مرهون بفضل اللَّه الذي يهبه لمن يشاء ولمن يراه كفؤاً له من عباده، حيث تقول الآية في هذا المجال: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ».

وفي النهاية تبيّن الآية أنّ مجال فضل اللَّه وكرمه واسع، وهو يعرف الأكفّاء والمؤهلين من عباده، وكما تقول الآية: «وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُونَ (55)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: بينا عبد اللَّه بن عباس جالس على شفير زمزم، يقول قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذ أقبل رجل متعمم بعمامة، فجعل ابن عباس لا يقول قال رسول اللَّه، إلّاقال الرجل قال رسول اللَّه، فقال ابن عباس: سألتك باللَّه، من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه وقال: يا أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا اعرفه بنفسي، أنا جندب بن جنادة البدري، أبو ذر الغفاري، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بهاتين وإلّا فصمتا، ورأيته بهاتين وإلّا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 535

فعميتا، يقول: «عليّ قائد البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره، مخذول من خذله».

أمّا إنّي صلّيت مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوماً من الأيّام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئاً فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللّهم اشهد أنّي سألت في مسجد رسول اللَّه فلم يعطني أحد شيئاً، وكان عليّ راكعاً فأوما بخنصره اليمنى إليه، وكان يختتم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. فلمّا فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: «اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال:

«رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسّرْ لِى أَمْرِى وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِى يَفْقَهُوا قَوْلِى وَاجْعَلْ لِى وَزِيرًا مِن أَهْلِى هرُونَ أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى». فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: «سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا». اللّهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك أللّهمّ فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيراً عليّاً أشدد به ظهري».

قال أبو ذر: فو اللَّه ما استتم رسول اللَّه الكلمة، حتى نزل جبرائيل من عند اللَّه فقال: يا محمّد إقرأ. قال: وما أقرأ؟ قال: إقرأ «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا» الآية.

التّفسير

ابتدأت هذه الآية بكلمة «إنّما» التي تفيد الحصر، وبذلك حصرت ولاية أمر المسلمين في ثلاث هم: اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله والذين آمنوا وأقاموا الصلاة وأدّوا الزكاة وهم في حالة الركوع في الصّلاة كما تقول الآية: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ».

إنّ المراد من كلمة «ولي» في هذه الآية هو ولاية الأمر والإشراف وحق التصرف والزعامة المادية والمعنوية، خاصة وقد جاءت مقترنةً مع ولاية النبي صلى الله عليه و آله وولاية اللَّه حيث جاءت الولايات الثلاث في جملة واحدة. وبهذه الصورة فإنّ الآية تعتبر نصّاً قرآنياً يدل على ولاية وإمامة علي بن أبي طالب عليه السلام للمسلمين.

إنّ الكثير من الكتب الإسلامية ومصادر أهل السنة تشتمل على العديد من الروايات القائلة بنزول هذه الآية في شأن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وقد ذكرت بعض هذه الروايات قضية تصدّق الإمام علي عليه السلام بخاتمه على السائل وهو في حالة الركوع، كما لم تذكر روايات اخرى مسألة التصدّق هذه، بل اكتفت بتأييد نزول هذه الآية في حق علي عليه

السلام.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 536

وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) جاءت هذه الآية مكمّلة لمضمون الآية السابقة وهي تؤكد وتتابع الهدف المقصود في تلك الآية وتعلن للمسلمين أنّ النصر سيكون حليف اولئك الذين يقبلون القيادة المتمثلة في اللَّه ورسوله والذين آمنوا، الذين أشارت إليهم الآية السابقة. وتصف الآية الذين قبلوا بهذه القيادة بأنّهم من حزب اللَّه المنصورين دائماً، حيث تقول: «وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ».

وتشتمل هذه الآية- أيضاً- على قرينة اخرى تؤكد المعنى المذكور في تفسير الآية السابقة لكلمة «الولاية» وهو الإشراف والتصرف والزعامة لأنّ عبارة «حزب اللَّه» والتأكيد على أنّ الغلبة تكون لهذا الحزب- في الآية- لهما صلة بالحكومة الإسلامية، ولا علاقة لهما بقضية الصدقة التي هي أمر بسيط وعادي وهذا يؤكد بنفسه أنّ الولاية- الواردة في الآية- تعني الإشراف والحكم والقيادة للمجتمع الاسلامي، لأنّ معنى الحزب يتضمن التنظيم والتضامن والإجتماع لتحقيق أهداف مشتركة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَ إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَ لَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث قد أظهرا الإسلام، ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فنزلت الآية.

أمّا بخصوص سبب نزول الآية الثانية من هاتين الآيتين فقيل: إنّهم كانوا إذا أذّن المؤذن للصلاة، تضاحكوا فيما بينهم، وتغامزوا على طريق السُخْف والمجون «1» تجهيلًا لأهلها، وتنفيراً للناس عنها، وعن الداعي إليها.

التّفسير

يحذّر القرآن في الآية المؤمنين

من اتّخاذ أصدقاء لهم من بين المنافقين والأعداء، إلّاأنّه

______________________________

(1) «السخف»: قلة العقل؛ «المجون»: الصلابة والغلظة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 537

لأجل استثارة عواطف المؤمنين واستقطاب انتباهم إلى فلسفة هذا الحكم خاطبهم بهذا الاسلوب، كما تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ».

ولتأكيد التحذير تقول الآية في الختام: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ». بمعنى أنّ التودد مع الأعداء والمنافقين لا يتناسب والتقوى والإيمان أبداً.

و الآية الثانية تتابع البحث في النهي عن التودد إلى المنافقين وجماعة من أهل الكتاب الذين كانوا يستهزؤون بأحكام الإسلام، وتشير إلى إحدى ممارساتهم الإستهزائية دليلًا وشاهداً على هذا الأمر، فتقول: «وَ إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا».

بعد ذلك تبين الآية الكريمة دوافع هذا الإستهزاء، فتذكر أنّ هذه الجماعة إنّما تفعل ذلك لجهلها وابتعادها عن الحقائق، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَعْقِلُونَ».

ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام من أنّ الأذان نزل وحياً على النبي صلى الله عليه و آله.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنَازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي (وفي المجمع أيضاً) قال ابن عباس: جاء نفر من اليهود- فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع- إلى النبي صلى الله عليه و آله فسألوه عمن يؤمن به الرسل عليهم السلام؛ فقال: نؤمن باللَّه وما أنزل إلينا وما أنزل

على إبراهيم وإسماعيل إلى قوله «و نحن له مسلمون». فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوّته وقالوا: واللَّه ما نعلم أهل دين أقل حظّاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم؛ فنزلت هذه الآية وما بعدها.

التّفسير

في هذه الآية يأمر اللَّه نبيّه صلى الله عليه و آله أن يسأل أهل الكتاب عن سبب اعتراضهم وانتقادهم للمسلمين، وهل أنّ الإيمان باللَّه الواحد الأحد والإعتقاد بما أنزل على نبي الخاتم والأنبياء الذين سبقوه يجابه بالإعتراض والإنتقاد، حيث تقول الآية: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 538

تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَن ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ» «1». وتأتي في آخر الآية عبارة تبين علة الجملة السابقة، حيث تبين أنّ اعتراض اليهود وانتقادهم للمسلمين الذين آمنوا باللَّه وبكتبه، ما هو إلّالأنّ أكثر اليهود من الفاسقين الذين انغمسوا في الذنوب، ولذلك فهم- لإنحرافهم وتلوّثهم بالآثام- يعيبون على كل انسان شريف اتباعه للصواب وسيره في طريق الحق حيث تؤكد الآية: «وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ».

فتخاطب الآية النّبي بأن يسأل هؤلاء: إن كانوا يريدون التعرّف على أناس لهم عند اللَّه أشد العقاب جزاء ما اقترفوه من أعمال، حيث تقول: «قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُم بِشَرّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ» «2».

بعد هذا تبادر الآية إلى شرح الموضوع، فتبيّن أنّ اولئك الذين شملتهم لعنة اللَّه فمسخهم قروداً وخنازير، والذين يعبدون الطاغوت والأصنام، إنّما يعيشون في هذه الدنيا وفي الآخرة وضعاً أسوأ من هذا الوضع، لأنّهم ابتعدوا كثيراً عن طريق الحق وعن جادة الصواب، تقول الآية الكريمة: «مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءَ السَّبِيلِ» «3».

وَ إِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَ

قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)

______________________________

(1) «تنقمون»: مشتقة من المصدر «نقمة» وتعني في الأصل إنكار شي ء معيّن نطقاً أو فعلًا كما تأتي بمعنى إيقاع العقاب أو الجزاء.

(2) إنّ كلمة «مثوبة» وكذلك كلمة «ثواب»: تعنيان- في الأصل- الرجوع أو العودة إلى الحالة الاولى كما تطلقان- أيضاً- لتعنيا المصير والجزاء (الأجر أو العقاب) لكنّهما في الغالب تستخدمان في مجال الجزاء الحسن، وأحياناً تستخدم كلمة «الثواب» بمعنى العقاب وفي الآية جاءت بمعنى المصير أو العقاب.

(3) «سواء»: تعني في اللغة (المساواة والإعتدال والتساوي) وأنّ وجه تسمية الصراط المستقيم في الآية ب «سواء السبيل» لأنّ جميع أجزاء هذا الطريق مستوية ولأنّ طرفيه متساويان وممهّدان، كما تطلق هذه التسمية على كل طريقة تتسم بالإعتدال وتخلو من الانحراف.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 539

الآية الاولى من هذه الآيات الثلاث- واستكمالًا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة حول المنافقين- تكشف عن ظاهرة الإزدواجية النفاقية عند هؤلاء، وتنبّه المسلمين إلى أنّ المنافقين حين يأتونهم يتظاهرون بالإيمان وقلبهم يغمره الكفر، ويخرجون من عندهم المسلمين ولا يزال الكفر يملأ قلوبهم، حيث لا يترك منطق المسلمين واستدلالهم وكلامهم في نفوس هؤلاء المنافقين أيّ أثر يذكر، تقول الآية الكريمة: «وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ».

ثم تبيّن الآية الاخرى علائم من نوع آخر للمنافقين، فتشير إلى أنّ كثيراً من هؤلاء في انتهاجهم طريق العصيان والظلم وأكل المال الحرام، يتسابقون بعضهم مع بعضهم الآخر تقول

الآية: «وَتَرَى كَثِيرًا مّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ». أي إنّ هؤلاء يسرعون الخطى في طريق المعاصي والظلم، وكأنّهم يسعون إلى أهداف تصنع لهم الفخر والمجد، ويتسابقون فيما بينهم في هذا الطريق دون خجل أو حياء.

في الختام لكي يؤكد القرآن قبح هذه الأعمال، قالت الآية: «لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

بعد ذلك تحمل الآية الثالثة على علمائهم الذين أيّدوا قومهم على إرتكاب المعاصي بسكوتهم، فتقول: «لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ».

وفي الختام، يمارس القرآن الكريم نفس أسلوب الذم الذي إتّبعه مع أهل المعاصي الحقيقيين، فيذمّ العلماء الساكتين الصامتين التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقبّح صمتهم هذا، كما تقول الآية: «لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ».

وهكذا تبيّن أنّ مصير الذين يتخلّون عن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العظيمة- وخاصة إن كانوا من العلماء- يكون كمصير أصحاب المعاصي، وهؤلاء شركاء في الذنب مع العاصين.

في تفسير المنار روي عن ابن عباس أنّه قال: ما في القرآن أشدّ توبيخاً من هذه الآية أي فهي حجة على العلماء إذا قصروا في الهداية والارشاد وتركوا النهي عن البغي والفساد.

وبديهي أنّ هذا الحكم لا ينحصر في علماء اليهود والنصاري، بل يشمل كل العلماء مهما كانت دياناتهم إن هم سكتوا وصمتوا أمام تلوّث مجتمعاتهم بالذنوب وتسابق الناس في الظلم والفساد، ذلك لأنّ حكم اللَّه واحد بالنسبة لجميع البشر.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 540

مختصر الامثل ج 1 574

في الكافي: خطب أمير المؤمنين عليه السلام فحمد اللَّه وأثنى عليه وقال: «أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حيث ما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربّانيون والأحبار عن ذلك وإنّهم لمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربّانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات

فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر».

وَ قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَ كُفْراً وَ أَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَ الْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) تبرز هذه الآية واحداً من المصاديق الواضحة للأقوال الباطلة التي كان اليهود يتفوّهون بها، وقد تطرّقت الآية السابقة إليها- أيضاً- ولكن على نحو كلي.

ويتحدّث لنا التّأريخ عن فترة من الوقت كان اليهود فيها قد وصلوا إلى ذروة السلطة والقدرة، وكانوا يمارسون الحكم على قسم مهم من المعمورة، ويمكن الإستشهاد بحكم سليمان وداود كمثال على حكم الدولة اليهودية، وقد استمر حكم اليهود بعدهما بين رقيّ وانحطاط حتى ظهر الإسلام، فكان ايذاناً بأفول الدولة اليهودية، وبالأخص في الحجاز، إذ أدّى قتال النبي صلى الله عليه و آله ليهود بني النضير وبني قريظة ويهود خيبر إلى إضعاف سلطتهم بصورة نهائية.

وفي ذلك الوضع كان البعض من اليهود حين يتذكّرون سلطتهم القوية السابقة، كانوا يقولون- استهزاء وسخرية- إنّ يد اللَّه أصبحت مقيدة بالسلاسل (والعياذ باللَّه) وأنّه لم يعد يعطف على اليهود!

وبما أنّ سائر أبناء الطائفة اليهودية أظهروا الرضى عن أقوال كبار قومهم هؤلاء، لذلك جاء القرآن لينسب هذه الأقوال إلى جميعهم، كما تقول الآية: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةً».

واللَّه تعالى يرد على هؤلاء توبيخاً وذمّاً لهم ولمعتقدهم هذا بقوله: «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا». ثم لكي يبطل هذه العقيدة الفاسدة يقول سبحانه وتعالى «بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 541

يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ». فلا إجبار في عمل اللَّه كما أنّه

ليس محكوماً بالجبر الطبيعي ولا الجبر التأريخي، بل إنّ إرادته فوق كل شي ء وتعمل في كل شي ء.

ثم تشير الآية إلى أنّ آيات اللَّه التي تفضح أقوال ومعتقدات هؤلاء تجعلهم يوغلون أكثر في صلفهم وعنادهم ويتمادون في طغيانهم وكفرهم بدلًا من تأثيرها الإيجابي في ردعهم عن السير في نهجهم الخاطي ء حيث تقول الآية الكريمة: «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا».

بعد ذلك تؤكد الآية على أنّ صلف هؤلاء وطغيانهم وكفرهم سيجر عليهم الوبال، فينالهم من اللَّه عذاب شديد في هذه الدنيا، من خلال تفشّي العداء والحقد فيما بينهم حتى يوم القيامة، فتقول الآية الكريمة: «وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ».

وتشير الآية- في الختام- إلى المساعي والجهود التي كان يبذلها اليهود لتأجيج نيران الحروب، وعناية اللَّه ولطفه بالمسلمين في انقاذهم من تلك النيران المدمرة الماحقة، فتقول:

«كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ».

وتعتبر هذه الظاهرة إحدى معاجز حياة النبي الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله لأنّ اليهود كانوا الأقوى بين أهل الحجاز والأعرف بمسائل الحرب.

ثم تبيّن الآية- أيضاً- أنّ هؤلاء لا يكفّون عن نثر بذور الفتنة والفساد في الأرض فتقول: «وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا» وتؤكد أيضاً قائلة: «وَاللَّهُ لَايُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) بعد أن وجّهت الآيات السابقة النقد لنهج واسلوب أهل الكتاب، جاءت هاتان الآيتان وفقاً لما تقتضيه مبادى ء التربية الإنسانية لتفتحا باب العودة والتوبة أمام المنحرفين من أهل الكتاب، لكي

يعودوا إلى الطريق القويم، ولتريهم الدرب الحقيقي الذي يجب أن يسيروا فيه، ولتثمّن دور تلك الأقلية من أهل الكتاب التي عاشت في ذلك العصر لكنها لم تواكب

مختصر الامثل، ج 1، ص: 542

الأكثرية في أخطائها، فتقول الآية الاولى في البدء: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيَاتِهِمْ». بل ذهبت إلى أبعد من هذا فوعدتهم بالجنة ونعيمها، إذ قالت: «وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتٍ النَّعِيمِ» وهذه إشارة إلى النعم المعنوية الأخروية.

ثم تشير الآية الثانية إلى الأثر العميق الذي يتركه الإيمان والتقوى، في الحياة الدنيوية للإنسان، فتؤكّد أنّ أهل الكتاب لو طبّقوا التوراة والإنجيل وجعلوهما منهاجاً لحياتهم وعملوا بكل ما نزل عليهم من ربّهم، سواء في الكتب السماوية السابقة أم في القرآن، دون تمييز أو تطرّف لغمرتهم النعم الإلهية من السماء والأرض، فتقول الآية: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم».

وبديهي أنّ المراد من إقامة التوراة والإنجيل هو إتّباعهم لما بقي من التوراة والإنجيل الحقيقيين في أيديهم في ذلك العصر.

إنّ الآية الأخيرة تؤكد مرّة اخرى هذا المبدأ الأساسي القائل بأنّ اتّباع التعاليم السماوية التي جاء بها الأنبياء، ليس لإعمار الحياة الآخرة التي تأتي بعد الموت فحسب، بل إنّ لها- أيضاً- انعكاسات واسعة على الحياة الدنيوية المادية للإنسان، فهي تقوّي الجماعات وتعزز صفوفها وتكثّف طاقاتها، وتغدق عليها النعيم وتضاعف امكانياتها وتضمن لها الحياة السعيدة المقترنة بالأمن والإستقرار.

ولو ألقينا نظرة على الثروات الطائلة والطاقات البشرية الهائلة التي تهدر اليوم في عالم الإنسان نتيجة للانحراف عن هذه التعاليم، في صنع وتكديس أسلحة فتّاكة، وفي صراعات لا مبرر لها ومساع هدّامة، لرأينا أنّ ذلك كله دليل حيّ على هذه الحقيقة، حيث إنّ الثروات التي

تستخدم لإشاعة الدمار في هذا العالم- إذا أمعنا النظر جيداً- إن لم تكن أكثر حجماً من الثروات التي تنفق في سبيل البناء، فهي ليست بأقل منها.

إنّ العقول المفكّرة التي تسعى وتعمل جاهدة- اليوم- لإكمال وتوسيع انتاج الأسلحة الحربية، ولتوسيع بقعة النزاعات الاستعمارية، إنّما تشكّل جزءاً مهمّاً من الطاقات البشرية الخلّاقة التي طالما احتاجها المجتمع البشري لرفع احتياجاته، وكم سيصبح وجه الدنيا جميلًا وجذّاباً لو كانت كل هذه الطاقات تستغل في سبيل الإعمار؟

وفي الختام تشير الآية الكريمة إلى الأقلية الصالحة من أهل الكتاب الذين اختاروا طريق الإعتدال في حياتهم خلافاً لنهج الأغلبية المنحرفة، فعزل اللَّه حسابهم عن حساب

مختصر الامثل، ج 1، ص: 543

هذه الأكثرية الضالة، حيث تقول الآية: «مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ».

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) اختيار الخليفة مرحلة إنتهاء الرسالة: هذه الآية تتوجّه بالخطاب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحده وتبيّن له واجبه، فهي تبدأ بمخاطبة الرّسول: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ» وتأمره بكل جلاء ووضوح أن «بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ».

ثم لكي يكون التوكيد أشد وأقوى، تحذّره وتقول: «وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ».

ثم تُطمئن الآية الرسول صلى الله عليه و آله- وكأنّ أمراً يقلقه- وتطلب منه أن يهدى ء من روعه وأن لا يخشى الناس، فيقول له: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ».

وفي ختام الآية إنذار وتهديد بمعاقبة الذين ينكرون هذه الرسالة الخاصة ويكفرون بها عناداً، فتقول: «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ».

أسلوب هذه الآية، ولحنها الخاص، يدل على أنّ الكلام يدور حول أمر مهم جدّاً بحيث إنّ

عدم تبليغه يعتبر عدم تبليغ للرسالة كلها.

فما هذه المسألة المهمة التي برزت في الشهور الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه و آله بحيث تنزل هذه الآية وفيها كل ذلك التوكيد؟

ليس ثمّة شك أنّ قلق الرسول صلى الله عليه و آله لم يكن لخوف على شخصه وحياته، وإنّما كان لما يحتمله من مخالفات المنافقين وقيامهم بوضع العراقيل في طريق المسلمين.

هل هناك مسألة تستطيع أن تحمل كل هذه الصفات غير مسألة استخلاف النبي صلى الله عليه و آله وتعيين مصير مستقبل الإسلام؟!

في مختلف الكتب التي كتبها علماء من أهل السنة في التفسير والحديث والتأريخ، أوردوا فيها روايات كثيرة تقول جميعها بصراحة: إنّ الآية المذكورة قد نزلت في علي عليه السلام.

حادثة الغدير بايجاز: إنّه في السنة الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه و آله أدّى المسلمون مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حجّة الوداع في عظمة وجلال.

لم يكن أهل المدينة وحدهم قد رافقوا النبي صلى الله عليه و آله في هذه الحجة، بل إلتحق بركبه مسلمون توافدوا من سائر أنحاء الجزيرة العربية لينالوا شرف الصحبة في هذه الحجة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 544

كانت الشمس ترسل أشعّتها اللافحة المحرقة على الوديان والسهول لكن لذّة هذا السفر الروحي يسّرت كل شي ء. اقترب وقت الظهيرة، واقترب الركب الكبير من أرض الجحفة، وظهرت من بعيد أرض «غدير خم» القاحلة الجافة المحرقة. كان يوم الخميس من السنة العاشرة للهجرة، وقد مضت ثمانية أيّام على عيد الأضحى، وإذا برسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصدّر أمره للحجيج بالتوقف، وصعد مؤذن النبي صلى الله عليه و آله ينادي في الناس لصلاة الظهر، وأخذ الناس يستعدّون- مسرعين- لأداء الصلاة، كانت الرياح لافحة

محرقة، حتى اضطر بعضهم إلى أن يضع قسماً من عباءته تحت قدميه وقسماً منها فوق رأسه كي يتّقي حرارة الحصى وأشعة الشمس.

إنتهت صلاة الظهر وهرع الحجيج يريدون نصب خيامهم الصغيرة التي كانوا يحملونها معهم ليلوذون بها من حر الهاجرة، إلّاأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أخبرهم أنّ عليهم أن يستعدّوا لسماع رسالة إلهيّة جديدة في خطبته، وكان الذين يقفون على مسافة من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا يستطيعون رؤيته، لذلك صنعوا له منبراً من أهداج الإبل ارتقاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال:

«الحمد للَّه ونستعينه ونؤمن به ونتوكّل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضلّ ولا مضلّ لمن هدى وأشهد أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله. أمّا بعد: أيّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمر نبيّ إلّامثل نصف عمر الذي قبله، وإنّي أوشك أن ادعى فأجيب، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟»

قالوا: نشهد أنّك بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك اللَّه خيراً.

قال: «ألستم تشهدون أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله وأنّ جنّته حق وناره حق وأنّ الموت حق وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ اللَّه يبعث من في القبور؟»

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قال: «اللّهم اشهد». ثم قال: «أيّها الناس ألا تسمعون؟» قالوا: نعم.

ثم ساد الجوّ صمت عميق ولم يُسمع فيه سوى أزيز الرياح ... قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«... فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».

قالوا: وما هذان الثقلان يا رسول اللَّه؟

قال: «أمّا الثقل الأكبر فكتاب اللَّه عزّ وجلّ سبب ممدود من اللَّه ومني في أيديكم، طرفه بيد اللَّه والطرف الآخر بأيديكم فيه علم ما مضى

وما بقي إلى أن تقوم الساعة، وأمّا الثقل الأصغر

مختصر الامثل، ج 1، ص: 545

فهو حليف القرآن وهو علي بن أبي طالب وعترته عليهم السلام وأنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».

ثم أخذ بيد أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- فرفعها حتى بدا للناس بياض إبطيهما ثم قال: «أيّها الناس: من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟»

قالوا: اللَّه ورسوله أعلم.

قال: «إنّ اللَّه عزّ وجلّ مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه». (يقولها ثلاث مرات) وفي لفظ الإمام أحمد إمام الحنابلة: (أربع مرات). ثم قال:

«اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبّه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».

ثم لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي اللَّه بقوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى» الآية. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «اللَّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الربّ برسالتي والولاية لعليّ من بعدي».

ثم طفق القوم يهنّئون أمير المؤمنين عليه السلام وممّن هنّأه أبوبكر وعمر كل يقول: بخّ بخّ لك يابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْ ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَ كُفْراً فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هَادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان وتفسير القرطبي عن ابن عباس قال: جاء جماعة من اليهود

إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: ألست تقرّ بأنّ التّوراة من عند اللَّه؟ قال: «بلى». قالوا: فإنّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها (وفي الحقيقة فإنّ التوراة تعتبر القدر المشترك بيننا وبينكم، ولكن القرآن كتاب مختص بكم). فنزلت الآية الاولى.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 546

التّفسير

هذه الآية تشير إلى جانب آخر من ذلك العقبات التي كان يضعها أهل الكتاب (اليهود والنصارى) تردّ فيها على منطقهم الواهي الداعي إلى اعتبار التوراة كتاباً متفقاً عليه بين المسلمين واليهود، وترك القرآن باعتباره موضع خلاف. لذلك فالآية تخاطب الرسول صلى الله عليه و آله قائلة: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَىْ ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبّكُمْ». وذلك لأنّ هذه الكتب صادرة عن مبدأ واحد وأصولها واحدة.

ويعود القرآن ليشير إلى حالة أكثريتهم، فيقرّر أنّ أكثرهم لا يأخذون العبرة والعظة من هذه الآيات ولا يهتدون بها، بل إنّهم- لما فيهم من روح العناد- يزدادون في طغيانهم وكفرهم «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا».

وفي ختام الآية يخفف اللَّه من حزن رسوله صلى الله عليه و آله إزاء تصلّب هذه الأكثرية من المنحرفين وعنادهم فيقول له: «فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».

هذه الآية ليست مقصورة على اليهود- طبعاً- فالمسلمون أيضاً إذا اكتفوا بادّعاء الإسلام ولم يقيموا تعاليم الأنبياء، وخاصة ما جاء في كتابهم السماوي، فلن تكون لهم منزلة ومكانة لا عند اللَّه، ولا في حياتهم الفردية والاجتماعية.

الآية التالية تعود لتقرّر مرّة اخرى هذه الحقيقة، وتؤكد أنّ جميع الأقوام وأتباع كل المذاهب دون إستثناء، مسلمين كانوا أم يهوداً أم صابئين أم مسيحيين، لا منقذ لهم من الخوف من المستقبل والحزن على ما فاتهم إلّاإذا آمنوا

باللَّه وبيوم الحساب وعملوا صالحاً:

«إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَن ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». «1»

هذه الآية ردّ قاطع على الذين يظنون النجاة في ظل قومية معينة، ويفضّلون تعاليم بعض الأنبياء على بعض، ويتقبّلون الدعوة الدينية على أساس من تعصب قومي، فتقول الآية إنّ طريق الخلاص ينحصر في نبذ هذه الأقوال.

لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَ حَسِبُوا أَنْ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)

______________________________

(1) «الصابئون»: هم أتباع يحيى أو نوح أو إبراهيم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 547

في آيات سابقة من سورة البقرة، وفي أوائل هذه السورة أيضاً إشارة إلى عهد وميثاق أخذه اللَّه تعالى على بني إسرائيل وفي هذه الآية تذكير بهذا الميثاق: «لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا».

ثم يضاف إلى ذلك القول بأنّهم، فضلًا عن كونهم لم يعملوا بذاك الميثاق: «كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَاتَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ».

هذه هي طرائق المنحرفين الأنانيين وسبلهم، فهم بدلًا من إتّباع قادتهم، يصرّون على أن يكون القادة هم التابعين لأهوائهم.

في الآية التالية إشارة إلى غرورهم أمام كل ما اقترفوه من طغيان وجرائم: «وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فُتْنَةٌ». أي ظنّوا مع ذلك أنّ البلاء والجزاء لن ينزل بهم، واعتقدوا- كما صرحت الآيات الاخرى- أنّهم من جنس أرقى، وأنّهم أبناء اللَّه!

وأخيراً إستحال هذا الغرور الخطير والتكبر إلى ما يشبه حجاباً غطّى أعينهم وآذانهم:

«فَعَمُوا وَصَمُّوا» عن رؤية آيات اللَّه وعن سماع كلمات الحقّ.

ولكنهم عندما أصابتهم مظاهر من عقاب

اللَّه وشاهدوا نتائج أعمالهم المشؤومة، ندموا وتابوا بعد أن أدركوا أنّ وعد اللَّه حق، وأنّهم ليسوا عنصراً متميزاً فائقاً.

وتقبل اللَّه توبتهم: «ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ».

إلّا أنّ حالة الندم والتوبة لم تلبث طويلًا، فسرعان ما عاد الطغيان والتجبّر وسحق الحق والعدالة، وعادت أغشية الغفلة الناتجة عن الإنغماس في الإثم تحجب أعينهم وآذانهم مرّة اخرى «ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مّنْهُمْ» فلم يعودوا يرون الآيات أو يسمعوا كلمة الحق، وعمّت الحالة الكثير منهم.

في نهاية الآية جملة قصيرة عميقة المعنى تقول: إنّ اللَّه لا يغفل أبداً عن أعمالهم، إذ أنّه يرى كل ما يعملون: «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ».

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْوَاهُ النَّارُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَ مَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ وَاحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَ فَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 548

تعقيباً على البحوث الماضية بشأن انحرافات اليهود التي مرّت في الآيات السابقة، تتحدّث هذه الآيات والتي تليها عن انحرافات المسيحيين، فتبدأ أوّلًا بأهم تلك الانحرافات، أي «تأليه المسيح» و «تثليث المعبود»: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ».

وأيّ كفر أشدّ من أن يجعلوا اللَّه اللامحدود من جميع الجهات متحداً مع مخلوق محدود من جميع الجهات، وأن يصفوا الخالق بصفات المخلوق، مع أنّ المسيح عليه السلام نفسه يعلن صراحة لبني إسرائيل: «يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ»

وبهذا يستنكر كل لون من ألوان الشرك، ويرفض الغلوّ في شخصه ويعتبر نفسه مخلوقاً كسائر مخلوقات اللَّه.

ولكي يشدد المسيح التوكيد على هذا الأمر، وليزيل كل إبهام وخطأ، يضيف قائلًا:

«إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَيهُ النَّارُ».

ويمضي في التوكيد وإثبات أنّ الشرك والغلو ضرب من الظلم الواضح، فيقول أيضاً:

«وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ».

فإنّ ما ورد في الآية المذكورة عن إصرار المسيح عليه السلام على مسألة التوحيد إنّما ينسجم مع المصادر المسيحية الموجودة ويعتبر من دلائل عظمة القرآن.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ الموضوع الذي تتناوله الآية هو الغلو ووحدة المسيح باللَّه، أو بعبارة اخرى هو «التوحيد في التثليث» ولكن الآية التالية تشير إلى مسألة «تعدد الآلهة» في نظر المسيحيين، أي «التثليث في التوحيد» وتقول: إنّ الذين قالوا إنّ اللَّه ثالث الأقانيم «1» الثلاثة لا ريب أنّهم كافرون: «لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلثَةٍ».

ويردّ القرآن عليهم ردّاً قاطعاً فيقول: «وَمَا مِن إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ وَاحِدٌ».

وفي ذكر «من» قبل «إله» نفي أقوي لأيّ معبود آخر.

ثم ينذرهم بلهجة قاطعة: «وَإِنْ لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

في الآية الثالثة يدعوهم القرآن إلى أن يتوبوا عن هذه العقيدة الكافرة لكي يغفر لهم اللَّه تعالى، فيقول: «أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

______________________________

(1) «الأقنوم»: بمعنى الأصل والذات، جمعها «أقانيم».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 549

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَ لَا نَفْعاً وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي

دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَ لَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) تواصل هذه الآيات البحث الذي جاء في الآيات السابقة حول غلو المسيحيين في المسيح عليه السلام واعتقادهم بألوهيته، فتفنّد في بضع آيات قصار اعتقادهم هذا، وتبدأ متسائلة عمّا وجدوه في المسيح من اختلاف عن باقي الأنبياء حتى راحوا يؤلّهونه، فالمسيح ابن مريم قد بعثه اللَّه كما بعث سائر الأنبياء من قبله: «مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ».

إذا كان بعثه من قبل اللَّه سبباً للتأليه والشرك، فلماذا لا تقولون القول نفسه بشأن سائر الأنبياء؟

ولمزيد من التوكيد يقول: «وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ». أي إنّ من تكون له ام حملته في رحمها، ومن يكون محتاجاً إلى كثير من الامور، كيف يمكن أن يكون إلهاً؟! ثم إذا كانت امه صديقة فذلك لأنّها هي أيضاً على خط رسالة المسيح عليه السلام منسجمة معه وتدافع عن رسالته، لهذا فقد كان عبداً من عباد اللَّه المقربين، فينبغي ألّا يتخذ معبوداً كما هو السائد بين المسيحيين الذين يخضعون أمام تمثاله إلى حد العبادة.

ومرّة اخرى يشير القرآن إلى دليل آخر ينفي الربوبية عن المسيح عليه السلام فيقول: «كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ».

وفي ختام الآية إشارة: إلى وضوح هذه الدلائل من جهة، وإلى عناد اولئك وجهلهم من

مختصر الامثل، ج 1، ص: 550

جهة اخرى، فيقول: «انظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الْأَيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» «1». ولكي يكمل الاستدلال السابق تستنكر الآية التالية عبادتهم المسيح مع أنّهم يعلمون أنّ له احتياجات بشرية، وإنّه لا قدرة له على دفع الضرر عن نفسه أو نفعها، فكيف يتسنى له دفع الضرر عن الغير أو نفعهم؟ «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن

دُونِ اللَّهِ مَا لَايَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا».

وفي النهاية يحذّرهم من أن يظنّوا أنّ اللَّه لا يسمع ما يتقوّلونه أو لا يعلم ما يكنونه:

«وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

الآية التالية تأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- بعد اتضاح خطأ أهل الكتاب في الغلو- أن يدعوهم بالأدلة الجلية إلى الرجوع عن السير في هذا الطريق: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَاتَغْلُوا فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ» «2».

إنّ غلو النصارى معروف، إلّاأنّ غلو اليهود، الذي يشملهم تعبير «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ» قد يكون إشارة إلى ما كانوا يقولونه عن عُزير وقد اعتبروه ابن اللَّه، ولمّا كان الغلو ينشأ- أكثر ما ينشأ- عن إتّباع الضالين أهواءهم، لذلك يقول اللَّه سبحانه «وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ».

وفي هذا إشارة أيضاً إلى ما انعكس في التأريخ المسيحي، إذ أنّ موضوع التثليث والغلو في أمر المسيح عليه السلام لم يكن له وجود خلال القرون الاولى من المسيحية، ولكن عندما اعتنق بعض الهنود وأمثالهم من عبدة الأصنام المسيحية أدخلوا فيها شيئاً من دينهم السابق كالتثليث والشرك.

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)

______________________________

(1) «الإفك»: كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، و «المأفوك»: المصروف عن الحقّ، وإن كان عن تقصيره، ومن هنا يسمّى إفكاً، لأنّه يصد الإنسان عن الحقّ.

(2) «تغلو»: من مادة «الغلو» وهي بمعنى تجاوز الحدّ، إلّاأنّها تستعمل للإشارة إلى

تجاوز الحدّ بالنسبة لمقام شخص من الأشخاص ومنزلته.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 551

تشير هذه الآيات إلى المصير المشؤوم الذي انتهى إليه الكافرون السابقون، لكي يعتبر به أهل الكتاب فلا يتّبعونهم إتّباعاً أعمى، فيقول: «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ».

فالآية تشير إلى أنّ مجرد كون الإنسان من بني إسرائيل، أو من أتباع المسيح دون أن ينسجم مع خط سيرهما، لا يكون مدعاة لنجاته، بل إنّ هذين النبيين قد لعنا من كان على هذه الشاكلة من الناس.

وفي آخر الآية توكيد لهذا الأمر وبيان للسبب: «ذلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ».

و تتحرك الآية التالية من موقع الذم ولتقريع لتؤكّد أنّ هؤلاء لم يعترفوا أبداً بأنّ عليهم مسؤولية اجتماعية، ولم يكونوا يتناهون عن المنكر، بل إنّ بعضاً من صلحائهم كانوا بسكوتهم وممالاتهم يشجّعون العصاة عملياً «كَانُوا لَايَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ» لذلك فقد كانت أعمالهم سيئة وقبيحة: «لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ».

في تفسير العياشي عن الإمام الصّادق عليه السلام في قوله: «كَانُوا لَايَتَنَاهَوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ» قال: «أمّا أنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجلسون مجالسهم ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم وآنسوا بهم».

الآية الثالثة تشير إلى معصية اخرى من معاصيهم: «تَرَى كَثِيرًا مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا».

من البديهي أنّ صداقتهم لأولئك لم تكن صداقة عادية، بل كانت ممتزجة بأنواع المعاصي، وكانوا يشجّعون الأعمال والأفكار الخاطئة، لذلك أدانت الآية في عباراتها الأخيرة الأعمال التي قدّموها ليوم المعاد، تلك الأعمال التي استوجبت غضب اللَّه وعذابه الدائم: «لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ». وَ لَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ النَّبِيِّ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَ

لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) هذه الآية تبيّن لهم طريق النجاة من نهجهم الخاطى ء، وهو أنّهم لو كانوا حقاً يؤمنون

مختصر الامثل، ج 1، ص: 552

باللَّه وبرسوله وبما أنزل عليه، لما عقدوا أواصر الصداقة مع أعداء اللَّه ولا اعتمدوا عليهم أبداً: «وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِىّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ».

ولكن الذي يؤسف له هو أنّ الذين يطيعون أوامر اللَّه قلّة، ومعظمهم خارجون عن نطاق إطاعته وسائرون على طريق الفسق «وَلكِنَّ كَثِيرًا مّنْهُمْ فَاسِقُونَ».

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبَاناً وَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَ إِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَ مَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ مَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ذلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)

سبب النّزول

المهاجرون الاوَل في الإسلام: نزلت في النجاشي، وأصحابه. قال المفسرون: ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، يؤذونهم ويعذّبونهم، فافتتن من افتتن، وعصم اللَّه منهم من شاء ومنع اللَّه رسوله بعمه أبي طالب. فلما رأى رسول اللَّه ما بأصحابه، ولم يقدر على منعهم، ولم يؤمر بعد بالجهاد، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال: «إنّ بها ملكاً صالحاً، لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتى يجعل اللَّه عزّ وجلّ للمسلمين فرجاً». وأراد

به النجاشي، واسمه أصحمة وهو بالحبشية عطية.

فخرج إليها سرّاً أحد عشر رجلًا، وأربع نسوة ... وذلك في رجب، في السنة الخامس من مبعث رسول اللَّه وهذه هي الهجرة الاولى.

ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون إليها، وكان جميع من هاجر إلى الحبشة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 553

من المسلمين 82 رجلًا سوى النساء والصبيان، فلما علمت قريش بذلك، وجّهوا عمرو بن العاص وصاحبه عمارة بن الوليد بالهدايا، إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردّوهم إليهم.

فلما ركبوا السفينة شربوا الخمر ... وألقى اللَّه بينهما العداوة في مسيرهما، قبل أن يقدما إلى النجاشي.

ثم وردا على النجاشي فقال عمرو بن العاص: أيّها الملك! إنّ قوماً خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا، وصاروا إليك فردّهم إلينا. ثم قدّما ما حملاه من هدايا إلى النجاشي.

فبعث النجاشي إلى جعفر، فجاءه، فقال: يا أيّها الملك سلهم، أنحن عبيد لهم؟

فقال: لا بل أحرار.

قال: فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟

قال: لا، ما لنا عليكم ديون.

قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبونا بها؟

قال عمرو: لا.

قال: فما تريدون منّا؟ آذيتمونا فخرجنا من دياركم. ثم قال: أيّها الملك! بعث اللَّه فينا نبيّاً أمرنا بخلع الأنداد وترك الإستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي.

فقال النجاشي: بهذا بعث اللَّه عيسى، ثم قال النجاشي لجعفر: هل تحفظ مما أنزل اللَّه على نبيّك شيئاً؟ قال: نعم، فقرأ سورة مريم، فلمّا بلغ قوله: «وَهُزّى إِلَيْكَ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا». قال: هذا واللَّه هو الحق! فقال عمرو: إنّه مخالف لنا فردّه إلينا.

فرفع النجاشي يده وضرب بها وجه عمرو وقال: اسكت، واللَّه لئن ذكرته بعد بسوء لأفعلنّ بك. وقال: أرجعوا إلى هذا هديته، وقال لجعفر وأصحابه: امكثوا فإنّكم سيوم، والسيوم:

آمنون، وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق، فانصرف عمرو وأقام المسلمون هناك بخير دار، وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول اللَّه وعلا أمره وهادن قريشاً، وفتح خيبر، فوافى جعفر إلى رسول اللَّه بجميع من كانوا معه، فقال رسول اللَّه: «لا أدري أنا بفتح خيبر أسرّ أم بقدوم جعفر».

ووافي جعفر وأصحابه رسول اللَّه في سبعين رجلًا، منهم إثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام، فيهم بحيراء الراهب، فقرأ عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سورة «يس» إلى آخرها

مختصر الامثل، ج 1، ص: 554

فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل اللَّه فيهم هذه الآيات.

التّفسير

حقد اليهود ومودّة النصارى: تقارن هذه الآيات بين اليهود والنصارى الذين عاصروا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. وضعت الآية الاولى اليهود والمشركين في طرف واحد، والمسيحيين في طرف آخر: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى .

يشهد تاريخ الإسلام بجلاء على هذه الحقيقة، ففي كثير من الحروب التي أثيرت ضد المسلمين كان لليهود ضلع فيها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولكنّنا قلّما نجد المسلمين يواجهون المسيحيين في غزواتهم.

ثم يعزوا القرآن هذا الاختلاف في السلوك الفردي والاجتماعي إلى وجود خصائص في المسيحيين المعاصرين لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم تكن موجودة في اليهود:

فأوّلًا كان بينهم نفر من العلماء لم يسعوا- كما فعل علماء اليهود- إلى إخفاء الحقائق «ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ» «1».

ثم كان منهم جمع من الزهاد الذين تركوا الدنيا، وهي النقطة المناقضة لما كان يفعله بخلاء اليهود الجشعين.

وعلى الرغم من كل انحرافاتهم كانوا على مستوى أرفع بكثير من مستوى

اليهود:

«وَرُهْبَانًا».

وكثير منهم كانوا يخضعون للحق، ولم يتكبّروا، في حين كان معظم اليهود يرون أنّهم عنصر أرفع، فرفضوا قبول الإسلام الذي لم يأت على يد عنصر يهودي: «وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ».

ثم إنّ نفراً منهم كانوا إذا استمعوا لآيات من القرآن تنحدر دموعهم مثل من صحب جعفر من الأحباش لأنّهم يعرفون الحق إذا سمعوه: «وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ».

______________________________

(1) «القسيس»: تعريب لكلمة سريانية تعني الزعيم والموجّه الديني عند المسيحيين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 555

فكانوا ينادون بكل صراحة وشجاعة، و «يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ».

لقد كان تأثّرهم بالآيات القرآنية من الشدة بحيث إنّهم كانوا يقولون: «وَمَا لَنَا لَانُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ».

الآيتان الأخيرتان فيهما إشارة إلى مصير هاتين الطائفتين وإلى عقابهما وثوابهما، اولئك الذين أظهروا المودة للمؤمنين وخضعوا لآيات اللَّه وأظهروا إيمانهم بكل شجاعة وصراحة:

«فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ» «1».

وأمّا اولئك الذين ساروا في طريق العداء والعناد فتقول الآية عنهم: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

سبب النّزول

لا تتجاوزوا

الحدود: في تفسير القمي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين عليه السلام وبلال وعثمان بن مظعون، فأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فحلف أن لا ينام بالليل أبداً وأمّا بلال فإنّه حلف أن لا يفطر بالنهار أبداً وأمّا عثمان بن مظعون فإنّه حلف أن لا ينكح أبداً فدخلت امرأة عثمان على عائشة وكانت امرأة جميلة، فقالت عائشة ما لي أراك معطلة فقالت ولمن أتزين فواللَّه ما قاربني زوجي منذ كذا وكذا فإنّه قد ترهب ولبس

______________________________

(1) «أثابهم»: من الثواب وهي في الأصل بمعنى العودة وما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 556

المسوح وزهد في الدنيا، فلما دخل رسول اللَّه أخبرته عائشة بذلك فخرج فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: «ما بال أقوام يحرمون أنفسهم الطيبات ألا إنّي أنام بالليل وأنكح وأفطر بالنهار فمن رغب عن سنتي فليس مني».

فقاموا هؤلاء فقالوا: يا رسول اللَّه فقد حلفنا على ذلك فأنزل اللَّه تعالى عليه «لَايُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ ...» الآية.

التّفسير

القسم وكفارته: في هذه الآية والآيات التالية لها مجموعة من الأحكام الإسلامية المهمة.

في الآية الاولى إشارة إلى قيام بعض المسلمين بتحريم بعض النعم الإلهية، فنهاهم اللَّه عن ذلك قائلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتُحَرّمُوا طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ».

فبذكر هذا الحكم يعلن الإسلام صراحة إستنكار الرهبنة وهجر الدنيا كما يفعل المسيحيون والمرتاضون.

ثم لتوكيد هذا الأمر تنهى الآية عن تجاوز الحدود، لأنّ اللَّه لا يحبّ الذين يفعلون ذلك:

«وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ».

وفي الآية التي تليها نهي آخر للأمر، إلّاأنّ الآية السابقة كان فيها نهي عن التحريم، وفي هذه الآية أمر بالإنتفاع المشروع من

الهبات الإلهية، فيقول: «وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَللًا طَيّبًا».

والشرط الوحيد لذلك هو الإعتدال والتقوى عند التمتع بتلك النعم: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ». أي إنّ إيمانكم باللَّه يوجب عليكم إحترام أوامره في التمتع وفي الإعتدال والتقوى.

و الآية التي بعدها تتناول القسم الذي يقسم به الإنسان في حالة تحريم الحلال وفي غيره من الحالات بشكل عام، ويمكن القول أنّ القسم نوعان:

فالاولى: هو القسم اللغو، فيقول: «لَايُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ».

والقسم الثاني: هو القَسَم الجاد الإرادي الذي قرره المرء بوعي منه، هذا النوع من القسم هو الذي يعاقب عليه اللَّه إذا لم يف به الإنسان: «وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ».

بديهي أنّ الجد وحده في القَسَم لا يكفي لصحته، بل لابدّ أيضاً من صحة محتواه وأن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 557

يكون أمراً مباحاً في الأقل، كما لابدّ من القول بأنّ القسم بغير اسم اللَّه لا قيمة له.

وعليه إذا أقسم إمرؤ باللَّه، فيجب عليه أن يعمل بقَسَمه، فإن لم يفعل، فعليه كفارة التخلف.

وكفارة القسم هي ما ورد في ذيل الآية المذكورة، وهي واحدة من ثلاثة:

الاولى: «فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ». ولكيلا يؤخذ هذا الحكم على إطلاقه بحيث يصار إلى أيّ نوع من الطعام الدني ء والقليل، فقد جاء بيان نوع الطعام بما لا يقل عن أوسط الطعام الذي يعطى لأفراد العائلة عادة: «مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ».

الثانية: «أَوْ كِسْوَتُهُمْ».

من الطبيعي أنّ ذلك يعني الملابس التي تغطّي الجسم حسب العادة، لذلك لا يستبعد أن تكون الكسوة التي تعطى كفارة تختلف أيضاً باختلاف الفصول والأمكنة والأزمنة.

الثالثة: «أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ».

ولكن قد يوجد من لا قدرة له على أيّ منها، لذلك فإنّه بعد بيان تلك الأحكام يقول سبحانه وتعالى: «فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلثَةِ

أَيَّامٍ».

ثم يؤكد القول ثانية: «ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ».

ومع ذلك، فلكي لا يظن أحد أنّه بدفع الكفارة يجوز للمرء أن يرجع عن قَسَم صحيح أقسمه، يقول تعالى: «وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ».

في ختام الآيات يبين القرآن أنّ هذه الآيات توضّح لكم الأحكام التي تضمن سعادة الفرد والمجتمع وسلامتها لتشكروه على ذلك: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصَابُ وَ الْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَ الْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)

سبب النّزول

في تفسير المنار: في مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي والترمذي أنّ عمر (وكان يكثر

مختصر الامثل، ج 1، ص: 558

من الخمر، كما جاء في تفسير في ظلال القرآن ج 3، ص 33) كان يدعو اللَّه تعالى: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً. فلمّا نزلت الآية (219) من سورة البقرة: «يَسَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...» قرأها عليه النبي صلى الله عليه و آله فظل على دعائه وكذلك فلمّا نزلت الآية (43) من سورة النساء: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى . فلمّا نزلت آية المائدة دعي فقرأت عليه فلما بلغ قول اللَّه تعالى «فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ» قال: انتهينا انتهينا!

التّفسير

مراحل تحريم الخمر وحكمها النهائي: سبق أنّ ذكرنا في ذيل الآية (43) من سورة النساء، إنّ معاقرة الخمر في الجاهلية وقبيل الإسلام كانت منتشرة إنتشاراً أشبه بالوباء العام، حتى قيل: أنّ حبّ عرب الجاهلية كان مقصوراً على ثلاثة: الشعر

والخمر والغزو.

من الواضح أنّ الإسلام لو أراد أن يحارب هذا البلاء الكبير الشامل بغير أن يأخذ الأوضاع النفسية والاجتماعية بنظر الاعتبار لتعذّر الأمر وشقّ تطبيق التحريم، لذلك إتخذ أسلوب التحريم التدريجي وإعداد الأفكار والأذهان لإقتلاع هذه الآفة من جذورها، وهي العادة التي كانت قد تأصّلت في نفوسهم وعروقهم، ففي أوّل الأمر وردت إشارات في الآيات المكية تستقبح شرب الخمر، إلّاأنّ تلك العادة الخبيثة- عادة معاقرة الخمرة- كانت أعمق من أن تستأصل بهذه الإشارات، عندما هاجر المسلمون إلى المدينة وأسسوا أولى الحكومات الإسلامية، نزلت آية ثانية- هى الآية (219) من سورة البقرة- أشدّ في تحريم الخمر من الاولى.

إنّ تقدّم المسلمين في التعرّف على أحكام الإسلام، أصبحا سبباً في نزول آية صريحة تماماً في تحريم الخمر حتى سدّت الطريق أمام الذين كانوا يتصيّدون الأعذار والمسوّغات، وهذه الآية هي موضوع البحث.

وإنّه مما يستلفت النظر أنّ تحريم الخمرة يعبّر عنه في هذه الآية بصوره متنوعة:

1- فالآية تبدأ بمخاطبة المؤمنين: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا». أي إنّ عدم الصدوع بهذا الأمر لا ينسجم مع روح الإيمان.

2- استعمال «إنّما» التي تعني الحصر والتوكيد.

3- وضعت الخمر والقمار إلى جانب الأنصاب (وهي قطع أحجار لا صورة لها كانت تتخذ كالأصنام) للدلالة على أنّ الخمر والقمار لا يقلّان ضرراً عن عبادة الأصنام، ولهذا جاء (في تفسير جامع البيان) عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «شارب الخمر كعابد الوثن».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 559

4- الخمر والقمار وعبادة الأصنام، والإستقسام وبالأزلام (ضرب من اليانصيب) كلها قد اعتبرها القرآن رجساً وخبثاً: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلمُ رِجْسٌ».

5- وهذه الأعمال القبيحة كلها من أعمال الشيطان: «مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطنِ».

6- وأخيراً يصدر الأمر القاطع الواجب الإتباع: «فَاجْتَنِبُوهُ».

7- وفي الختام يقول

تعالى أنّ ذلك: «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». أي لا فلاح لكم بغير ذلك.

8- وفي الآية التالية لها يعدد بعضاً من أضرار الخمر والقمار، التي يريد الشيطان أن يوقعها بهم: «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوةِ».

9- وفي ختام هذه الآية يتقدّم بإستفهام تقريري: «فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ».

أي بعد كل هذا التوكيد والتوضيح، ثمّة مكان لخلق المبررات أو للشك والتردد في تجنّب هذين الإثمين الكبيرين؟ لذلك نجد أنّ عمر الذي كان شديد الولع بالخمر والذي كان- لهذا السبب- لا يرى في الآيات السابقة ما يكفي لمنعه، قال عندما سمع هذه الآية: إنتهينا، إنتهينا! لأنّه رأى فيها الكفاية.

10- في الآية الثالثة التي تؤكد هذا الحكم، يأمر المسلمين: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا».

ثم يتوعّد المخالفين بالعقاب، وأنّ مهمة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هي الإبلاغ: «فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلغُ الْمُبِينُ».

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: لما نزل تحريم الخمر والميسر، قالت الصحابة: يا رسول اللَّه! ما تقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر؟ فأنزل اللَّه هذه الآية.

التّفسير

تجيب هذه الآية الذين يتساءلون عن الماضين قبل نزول آية تحريم الخمر والميسر، أو

مختصر الامثل، ج 1، ص: 560

الذين لم يسمعوا بعد تلك الآية لبعد مناطقهم التي يعيشون فيها، فتقول: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا». ولكنها تشترط لتلك التقوى والإيمان والعمل الصالح: «إِذَا مَا اتَّقَوا وَّءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ». ثم تكرر ذلك:

«ثُمَّ اتَّقَوا وَّءَامَنُوا».

وللمرّة الثالثة تكرر الآية بقليل من الاختلاف: «ثُمَّ اتَّقَوا وَأَحْسَنُوا». وتنتهي بالتوكيد:

«وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ». إنّ المقصود بالتقوى في المرّة الاولى هو ذلك الإحساس الداخلي بالمسؤولية والذي يسوق الإنسان نحو البحث والتدقيق في الدين ومطالعة معجزة الرسول صلى الله عليه و آله والبحث عن اللَّه، فتكون نتيجة ذلك الإيمان والعمل الصالح.

وتكرار التقوى للمرّة الثانية إشارة إلى التقوى التي تنفذ إلى أعماق الإنسان فيزداد تأثيرها، وتكون نتيجتها الإيمان الثابت الوطيد الذي يؤدّي إلى العمل الصالح.

وفي المرحلة الثالثة يدور الكلام على التقوى التي بلغت حدّها الأعلى بحيث إنّها فضلًا عن دفعها إلى القيام بالواجبات، تدفع إلى الإحسان أيضاً، أي إلى الأعمال الصالحة التي ليست من الواجبات.

وعليه فإنّ هذه الضروب الثلاثة من التقوى تشير إلى ثلاث مراحل من الإحساس بالمسؤولية وكأنّها تمثّل المرحلة (الابتدائية) والمرحلة (المتوسطة) والمرحلة (النهائية)، ولكل مرحلة قرينة تدل عليها الآية.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 561

سبب النّزول

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «حشرت لرسول اللَّه صلى

الله عليه و آله في عمرة الحديبية الوحوش حتى نالت أيديهم ورماحهم».

وفي الدرّ المنثور: انزلت هذه الآية في عمرة الحديبية فكانت الوحوش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا؛ فنهاهم اللَّه عن قتله وهم محرمون ليعلم اللَّه من يخافه بالغيب.

التّفسير

أحكام الصيد عند الإحرام: تبين هذه الآيات أحكام صيد البر والبحر أثناء الإحرام للحج أو للعمرة. في البداية إشارة إلى ما حدث للمسلمين في عمرة الحديبية، فيقول سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْ ءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ».

ثم يقول من باب التوكيد: «لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ».

والآية في الخاتمة تتوعّد الذين يخالفون هذا الحكم الإلهي بعذاب شديد: «فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

على الرغم من أنّ الجملة الأخيرة في الآية تدل على تحريم الصيد أثناء الإحرام، ولكن الآية التالية لها تصدر حكماً قاطعاً وصريحاً وعاماً بشأن تحريم الصيد أثناء الإحرام، إذ تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ».

ثم بعد ذلك يشار إلى كفارة الصيد في حال الإحرام، فيقول: «وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّدًا فَجَزَاءٌ مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ».

والمقصود من «مثل» هو التماثل في الشكل والحجم. أي إذا قتل أحد حيواناً وحشياً كبيراً مثل النعامة- مثلًا- يجب عليه أن يختار الكفارة من الحيوانات الكبيرة، كالبعير مثلًا أو إذا صاد غزالًا، كفارته تكون شاة تقاربه في الحجم والشكل.

ولما كان من الممكن أن تكون قضية التماثل موضع شك عند بعضهم فقد أصدر القرآن حكمه بأنّ ذلك ينبغي أن يكون بتحكيم شخصين مطّلعين وعادلين: «يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ».

أمّا عن مكان ذبح الكفارة، فيبين القرآن أنّه يكون بصورة «هدي» يبلغ أرض الكعبة:

«هَدْيًا بلِغَ الْكَعْبَةِ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 562

ثم يضيف أنّه

ليس ضرورياً أن تكون الكفارة بصورة أضحية، بل يمكن الإستعاضة عنها بواحد من اثنين آخرين: «أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ» و «أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيَامًا».

إنّ الهدف من هذه الكفارات هو: «لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ» «1». ثم لمّا لم يكن لأيّ حكم أثر رجعي يعود إلى الماضي، فيقول: «عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ».

أمّا من لم يعتن بهذه التحذيرات المتكررة ولم يلتفت إلى أحكام الكفارة وكرر مخالفاته لحكم الصيد وهو محرم فإنّ اللَّه سوف ينتقم منه في الوقت المناسب: «وَمَن عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ».

بعد ذلك يتناول الكلام صيد البحر: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ».

والمقصود من الطعام في الآية هو ما يهيّأ للأكل من سمك الصيد إذ أنّ الآية تريد أن تحلل أمرين: الأوّل هو الصيد، والثاني هو الطعام المتخذ من هذا الصيد.

ثم تشير الآية إلى الحكمة في هذا الحكم وتقول: «مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ». أي لكيلا تعانوا المشقة في طعامكم وأنتم محرمون، فلكم أن تستفيدوا من نوع واحد من الصيد، ذلكم هو صيد البحر.

وللتوكيد تعود الآية إلى الحكم السابق مرّة اخرى وتقول: «وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا».

ولتوكيد جميع الأحكام التي ذكرت، تقول الآية في الخاتمة: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

حكمة تحريم الصيد حال الإحرام: معلوم أنّ الحج والعمرة من العبادات التي تفصل الإنسان عن عالم المادة وتنقله إلى محيط ملى ء بالمعنويات، فخصوصيات الحياة المادية، والجدال والخصام، والرغبات الجنسية، واللذائذ المادية كلها تنفصل عن الإنسان في مناسك الحج والعمرة، ويبدأ الإنسان ضرباً من الرياضة الإلهية المشروعة، ويبدو أنّ تحريم صيد البرّ في حال الإحرام يرمي إلى الهدف نفسه.

ثم لو أحلّ الصيد لزائري بيت اللَّه الحرام، مع الأخذ بنظر الاعتبار كثرة الزوار وكثرة ترددهم في كل سنة على

هذه الأرض المقدسة، لقضي على وجود الكثير من الحيوانات

______________________________

(1) «وبال»: من «الوبل والوابل» وهو المطر الغزير، ثم اطلق على العمل الشاق الجسيم، ولمّا كان العقاب شديداً وثقيلًا عادة، فقد وصف بأنّه «وبال».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 563

القليلة أصلًا في تلك الأرض القاحلة الخالية من الماء والزرع، فجاء هذا التشريع لضمان بقاء حيوانات تلك المنطقة والحفاظ عليها من الإنقراض.

وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّه حتى في غير حال الإحرام يمنع صيد الحرم، وكذلك قطع أشجاره وحشائشه، تبين لنا أنّ لهذا التشريع إرتباطاً وثيقاً بقضية الحفاظ على البيئة وعلى النبات والحيوان في تلك المنطقة، وصيانتها من الإبادة.

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلَائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا تَكْتُمُونَ (99) بعد الكلام في الآيات السابقة عن تحريم الصيد في حال الإحرام، يشير القرآن الكريم في هذه الآية إلى أهمّية «مكّة» وأثرها في بناء حياة المسلمين الاجتماعية، فيقول: «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ».

فهذا البيت المقدس رمز وحدة الناس فهم في ظل هذا البيت المقدس يستطيعون إصلاح الكثير ممّا يستوجب الإصلاح والترميم في حياتهم، وإقامة سعادتهم على قواعده المتينة، لذلك فقد وصف هذا البيت في الآية (96) من سورة آل عمران: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ».

ولما كانت هذه المناسك يجب أن تجري في جوّ آمن وخال من الحروب والمنازعات والمخاصمات، فقد أشارت الآية إلى أثر الأشهر الحرم (وهي الأشهر

التي تمنع فيها الحرب مطلقاً) وقالت: «وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ» كما أشارت إلى الأضاحي الفاقدة للعلامة (الهدي) والأضاحي ذات العلامة (القلائد) التي منها يطعم الناس في موسم الحج، وتؤمّن جانباً من احتياجات الحاج للقيام بمناسكه، فقالت: «وَالْهَدْىَ وَالْقَلِدَ».

ولمّا كان مجموع هذه الأحكام والقوانين والتشريعات بشأن الصيد، وكذلك بشأن حرم مكة والشهر الحرام وغير ذلك، يحكي عمق تدبير الشارع وسعة علمه تقول الآية: «ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 564

الآية التالية تؤكد تلك التشريعات وتحثّ الناس على إتّباعها وتهدد المخالفين والعاصين فتقول: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

ومرّة اخرى تؤكد الآية على أنّ الناس هم المسؤولون عن أعمالهم وأنّ النبي مسؤول عن تبليغ الرسالة لا غير «مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلغُ». وفي الوقت نفسه: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ».

قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) الأكثرية ليست دليلًا على الحق: دار الحديث في الآيات السابقة حول تحريم الخمر والقمار والأنصاب والأزلام وصيد البر في حال الإحرام، ولكن قد نجد أناساً يتذرّعون لإرتكاب هذه المعاصي بالكثرة الكاثرة من الذين يرتكبونها في بعض الأمصار، يضع اللَّه سبحانه قاعدة كلية ورئيسية في عبارة قصيرة شاملة يخاطب بها رسوله الكريم: «قُلْ لَا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ».

وعليه فإنّ الخبيث والطيب- في الآية- يشملان كل ما يرتبط بالإنسان، طعاماً كان ذلك أم فكراً.

وفي الختام يخاطب العلماء وأصحاب العقول والأذكياء فيقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا

حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: خطب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: «إنّ اللَّه كتب عليكم الحج». فقام عكاشة بن محصن- وقيل: سراقة بن مالك- فقال: أفي كل عام يا رسول اللَّه؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال رسول اللَّه: «ويحك ما يؤمّنك أن أقول نعم، واللَّه لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني كما

مختصر الامثل، ج 1، ص: 565

تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شي ء فاجتنبوه».

التّفسير

الأسئلة الفضولية: لا شك أنّ السؤال مفتاح المعرفة، وفي القرآن وفي الروايات الكثير من التوكيد على الناس أن يسألوا عما لا يعرفون، ولكن لكل قاعدة استثناء، ولهذا المبدأ التربوي الأساس استثناءاته أيضاً، منها أنّ هناك- أحياناً- بعض المسائل التي يكون إخفاؤها أفضل لحفظ النظام الاجتماعي ولمصلحة أفراد المجتمع، ففي أمثال هذه الحالات لا يكون الإلحاح في السؤال عنها والسعي لكشف النقاب عن حقيقتها بعيداً عن الفضيلة فحسب، بل يكون مذموماً أيضاً. والقرآن في هذه الآية يشير إلى الموضوع نفسه ويقول:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَسَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ».

ولكن الحاح بعض الناس بالسؤال من جهة، وعدم الإجابة على أسئلتهم من جهة اخرى، قد يثير الشكوك والريب عند الآخرين بحيث يؤدّي الأمر إلى مفاسد أكثر، لذلك تقول الآية: «وَإِن تَسَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ» فيشق عليكم الأمر.

ثم لا تحسبوا اللَّه غافلًا عن ذكر

بعض الامور إن سكت عنها فقد «عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ».

في تفسير مجمع البيان عن علي عليه السلام قال: «إنّ اللَّه افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء، ولم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها».

الآية التي بعدها تؤكد هذه الحقيقة، وتبين أنّ أقواماً سابقين كانت لهم أسئلة كهذه، وبعد أن سمعوا أجوبتها خالفوها وعصوا: «قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ».

ينبغي ألا يظن أحد بأنّ هذه الآيات لا تمنع أبداً القاء الأسئلة المنطقية التربوية والبنّاءة، بل تتحدد بالأسئلة التي لا لزوم لها، وبالتعمّق في امور لا ضرورة للتعمّق فيها والتي من الأفضل بل من اللازم- أحياناً- بقاؤها في طيّ الكتمان.

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لَا سَائِبَةٍ وَ لَا وَصِيلَةٍ وَ لَا حَامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَ وَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لَا يَهْتَدُونَ (104)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 566

في الآية الاولى إشارة إلى أربعة «بدع» كانت سائدة في الجاهلية، فقد كانوا يضعون على بعض الحيوانات علامات وأسماء لأسباب معينة ويحرّمون أكل لحومها ولا يجيزون شرب لبنها أو جزّ صوفها أو حتى امتطاءها، أي أنّهم كانوا يطلقونها سائبة دون أن يستفيدوا منها شيئاً، لذلك يقول اللَّه تعالى: «مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ».

1- «البحيرة»: هي الناقة التي ولدت خمسة أبطن خامسها أنثى- وقيل ذكر- فيشقّون أذُنها وتترك طليقة ولا تذبح.

2- «السائبة»: هي الناقة التي تكون قد ولدت

اثني عشر بطناً- وقيل عشرة أبطن- فيطلقونها سائبة ولا يمتطيها أحد، وقد يحلبونها أحياناً لإطعام الضيف.

3- «الوصيلة»: هي الشاة التي ولدت سبعة أبطن- وقيل أنّها التي تلد التوائم- وكانوا يحرّمون ذبحها.

4- «الحام»: واللفظة يطلق على الفحل الذي يتخذ للتلقيح.

هذه المعاني تدل جميعاً على حيوانات قَدّمت خدمات كبيرة لأصحابها في «النتاج» فكان هؤلاء يحترمونها ويطلقون سراحها لقاء ذلك.

صحيح أنّ عملهم هذا ضرب من العرفان بالجميل ومظهر من مظاهر الشكر، حتى نحو الحيوانات، ولكنه مضيعة للمال وإتلافاً لنعم اللَّه وتعطيلها عن الإستثمار النافع، ثم إنّ هذه الحيوانات، بسبب هذا الإحترام والتكريم، كانت تعاني من العذاب والجوع والعطش لأنّه قلّما يقدم أحد على تغذيتها والعناية بها، ولهذا كله وقف الإسلام بوجه هذه العادة!

إضافة إلى ذلك، يستفاد من بعض الروايات والتفاسير أنّهم كانوا يتقرّبون بذلك كله، أو بقسم منه إلى أصنامهم، فكانوا في الواقع ينذرون تلك الحيوانات لتلك الأصنام، ولذلك كان إلغاء هذه العادات تأكيداً لمحاربة كل مخلّفات الشرك.

والعجيب في الأمر، أنّهم كانوا يأكلون لحوم تلك الحيوانات إذا ما ماتت موتاً طبيعياً (وكأنّهم يتبرّكون بها) وكان هذا عملًا قبيحاً آخر.

ثم تقول الآية: «وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» قائلين أنّ هذه قوانين إلهيّة دون أن يفكّروا في الأمر ويعقلوه، بل كانوا يقلّدون الآخرين في ذلك تقليداً أعمى:

«وأَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ».

الآية الثانية تشير إلى منطقهم ودليلهم على قيامهم بهذه الأعمال: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 567

إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا».

في الواقع، كان كفرهم وعبادتهم الأصنام ينبع من نوع آخر من الوثنية، هو التسليم الأعمى للعادات الخرافية التي كان عليها أسلافهم، معتبرين ممارسات أجدادهم لها دليلًا قاطعاً على صحتها، ويردّ القرآن بصراحة على

ذلك بقوله: «أَوَ لَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَايَعْلَمُونَ شَيًا وَلَا يَهْتَدُونَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) كل امرى ء مسؤول عن عمله: دار الحديث في الآية السابقة حول تقليد الجاهليين آباءهم الضالين، فأنذرهم القرآن بأنّ تقليداً كهذا لا ينسجم مع العقل والمنطق، فمن الطبيعي أن يتبادر إلى أذهانهم السؤال: إنّنا إذا كان علينا أن ننفصل عن أسلافنا في هذه الامور، فماذا سيكون مصيرهم؟ ثم إذا نحن أقلعنا عن هذه التقاليد فما مصير الكثير من الناس الذين ما يزالون متمسكين بها وواقعين تحت تأثيرها فكان جواب القرآن: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَايَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ».

ثم يشير إلى موضوع البعث والحساب ومراجعة حساب كل فرد: «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَ لَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَ مَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اسْمَعُوا وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 568

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: أنّ ثلاثة نفر خرجوا من المدينة تجاراً إلى الشام: تميم بن

اوس الداري وأخوه عدي، وهما نصرانيان، وابن أبي مارية، مولى عمرو بن العاص السهمي، وكان مسلماً، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، مرض ابن أبي مارية، فكتب وصيّة بيده، ودسّها في متاعه وأوصى إليهما، ودفع المال إليهما وقال: أبلغا هذا أهلي. فلما مات فتحا المتاع وأخذا ما أعجبهما منه ثم رجعا بالمال إلى الورثة. فلما فتش القوم المال، فقدوا بعض ما كان قد خرج به صاحبهم، فنظروا إلى الوصية، فوجدوا المال فيها تامّاً، فكلموا تميماً وصاحبه، فقالا: لا علم لنا به وما دفعه إلينا أبلغناه، كما هو، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه و آله فنزلت الآية.

التّفسير

من أهم المسائل التي يؤكدها الإسلام هي مسألة حفظ حقوق الناس وأموالهم وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهذه الآيات تبيّن جانباً من التشريعات الخاصة بذلك، فلكيلا تغمط حقوق ورثة الميت وأيتامه الصغار، يصدر الأمر للمؤمنين قائلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنكُمْ».

لابدّ من القول بأنّ القضية هنا لا تتعلق بالشهادة العادية المألوفة، بل هي شهادة مقرونة بالوصاية، أي إنّ هذين وصيّان وشاهدان في الوقت نفسه.

ثم تأمر الآية: إذا كنتم في سفر ووافاكم الأجل ولم تجدوا وصيّاً وشاهداً من المسلمين فاختاروا اثنين من غير المسلمين: «أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ».

والمقصود من غير المسلمين هم أهل الكتاب من اليهود والنصاري طبعاً، لأنّ الإسلام لم يقم وزناً في أيّة مناسبة للمشركين وعبدة الأصنام مطلقاً.

ثم تقرّر الآية حمل الشاهدين عند الشهادة على القسم باللَّه بعد الصلاة، في حالة الشك والتردد: «تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدَ الصَّلَوةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ».

ويجب أن تكون شهادتهما بما مفاده: إنّنا لسنا على استعداد أن

نبيع الحق بمنافع مادية فنشهد بغير الحق حتى وإن كانت الشهادة ضدّ أقربائنا: «لَانَشْتَرِى بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 569

قُرْبَى وإنّنا لن نخفي أبداً الشهادة الإلهية، وإلّا فسنكون من المذنبين: «وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْأَثِمِينَ».

وفي الآية التالية يدور الكلام على ثبوت خيانة الشاهدين إذا شهدا بغير الحق، كما جاء في سبب نزول الآية، فالحكم في مثل هذه الحالة- أي عند الإطلاع على أنّ الشاهدين قد إرتكبا إثم العدوان على الحق واضاعته- هو أن تستعيضوا عنهما باثنين آخرين ممن ظلمهما الشاهدان الأولان (أي ورثة الميت) فيشهدان لإحقاق حقهما: «فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ».

و الآية الأخيرة بيان لحكمة الأحكام التي جاءت في الآيات السابقة بشأن الشهادة وهي أنّه إذا أجريت الامور بحسب التعاليم، أي إذا طلب الشاهدان للشهادة بعد الصلاة بحضور جمع، ثم ظهرت خيانتهما، وقام اثنان آخران من الورثة مقامهما للكشف عن الحق، فذلك يحمل الشهود على أن يكونوا أدق في شهادتهم، خوفاً من اللَّه أو خوفاً من الناس: «ذلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ».

في الواقع سيكون هذا سبباً في الخشية من المسؤولية أمام اللَّه وأمام الناس، فلا ينحرفان عن محجّة الصواب.

ولتوكيد الأحكام المذكورة يأمر الناس قائلًا: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَا ذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) هذه الآية تكملة للآيات السابقة، ففي ذيل تلك الآيات الخاصة بالشهادة الحقة والشهادة الباطلة، كان الأمر بالتقوى والخشية من عصيان أمراللَّه، وفي هذه الآية تذكير بذلك اليوم الذي يجمع اللَّه الرسل فيه ويسألهم

عن رسالتهم ومهمتهم وعما قاله الناس ردّاً على دعواتهم «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ».

لقد نفوا عن أنفسهم العلم، وأوكلوا جميع الحقائق إلى علم اللَّه و «قَالُوا لَاعِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ». وعليه فإنّكم أمام علّام الغيوب وأمام محكمة هذا شأنها، فاحذروا أن تنحرف شهادتكم عن الحق والعدل.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 570

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْرَاةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) نعم اللَّه على المسيح: هذه الآية والآيات التالية لها حتى آخر سورة المائدة تختص بسيرة حياة السيد المسيح عليه السلام والنعم التي أسبغها اللَّه عليه وعلى امّه، يبيّنها اللَّه هنا لتوعية المسلمين وايقاظهم فتقول الآية: «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ».

ثم تشرع الآية بذكر النعم: «إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ».

من نعم اللَّه الاخرى: «تُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلًا». أي إنّ كلامك في المهد، مثل كلامك وأنت كهل، كلام ناضج ومحسوب، لا كلام طفل غر.

ثم أيضاً: «وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ».

ومن النعم الاخرى: «وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِى».

ومع ذلك فإنّك تشفي بإذن اللَّه الأعمى بالولادة والمصاب بالمرض الجلدي (البرص):

«وَتُبْرِى ءُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِى».

ثم: «وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِى».

وأخيراً كان من نعمي عليك بأن منعت عنك أذى

بني إسرائيل يوم قام الكافرون منهم بوجهك ووسموا ما تفعل بأنّه السحر، فدفعت أذى اولئك المعاندين اللجوجين عنك وحفظتك حتّى تسير بدعوتك: «وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ».

و ممّا يلفت النظر في هذه الآية أنّها تكرر «باذني» أربع مرات لكيلا يبقى مكان للغلو في

مختصر الامثل، ج 1، ص: 571

المسيح عليه السلام وادعاء الألوهية له، أي أنّ ما كان يحققه المسيح عليه السلام بالرغم من إعجازه وإثارته الدهشة ومشابهته للأفعال الإلهيّة، لم يكن ناشئاً منه، بل كان من اللَّه وباذنه، فما كان عيسى سوى عبد من عبيد اللَّه، مطيع لأوامره وما كان له إلّاما يستمدّه من قوّة اللَّه الخالدة.

وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَ نَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَ آخِرِنَا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنَا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ (115) قصة نزول المائدة على الحواريين: تعقيباً على ما جاء في الآيات السابقة من بحث حول ما أنعم اللَّه به على المسيح عليه السلام وامّه يدور الحديث هنا حول النعم التي أنعم اللَّه بها على الحواريين، أي أصحاب المسيح عليه السلام. ففي البداية تشير

الآية إلى ما أوحي إلى الحواريين أن يؤمنوا باللَّه وبرسوله المسيح عليه السلام فاستجابوا «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَن ءَامِنُوا بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا ءَامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ».

إنّ للوحي في القرآن معنى واسعاً لا ينحصر في الوحي الذي ينزل على الأنبياء، بل أنّ الإلهام الذي ينزل على قلوب الناس يعتبر من مصاديقه أيضاً.

ثم تذكر الآية نزول المائدة من السماء: «إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ».

«المائدة»: تعني في اللغة الخوان والسفرة والطبق، كما تعني الطعام الذي يوضع عليها.

شعر المسيح عليه السلام بالقلق من طلب الحواريين هذا الذي يدل على الشك والتردد، على الرغم من كل تلك الأدلة والآيات، فخاطبهم و «قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 572

ولكنهم سرعان ما أكّدوا للمسيح عليه السلام أنّ هدفهم برى ء، وأنّهم لا يقصدون العناد واللجاج، بل يريدون الأكل منها (مضافاً إلى الحالة النورانية في قلوبهم المترتبة على تناول الغذاء السماوي لأنّ للغذاء ونوعيته أثر مسلّم في روح الإنسان) «قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ».

فبيّنوا قصدهم أنّهم طلبوا المائدة للطعام، ولتطمئن قلوبهم به لما سيكون لهذا الطعام الإلهي من أثر في الروح ومن زيادة في الثقة واليقين. ولمّا أدرك عيسى عليه السلام حسن نيّتهم في طلبهم ذاك، عرض الأمر على اللَّه: «قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

فاستجاب اللَّه لهذا الطلب الصادر عن حسن نيّة وإخلاص: «قَالَ اللَّهُ إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَابًا لَّاأُعَذّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ».

فبعد نزول المائدة تزداد

مسؤوليات هؤلاء وتقوى الحجة عليهم، ولذلك فإنّ العقاب سيزداد أيضاً في حالة الكفر والانحراف.

وَ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَ لَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) براءة المسيح من شرك أتباعه: هذه الآيات تشير إلى حديث يدور بين اللَّه والمسيح يوم القيامة. تقول الآية الاولى: «وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ».

فيجيب المسيح عليه السلام بكلّ احترام ببضع جمل على هذا السؤال:

1- أوّلًا ينزّه اللَّه عن كل شرك وشبهه: «قَالَ سُبْحَانَكَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 573

2- ثم يقول: «مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ». أي ما لا يحق لي قوله ولا يليق بي أن أقوله.

فهو لا ينفي هذا القول عن نفسه فحسب، بل ينفي أن يكون له حق في قول مثل هذا القول الذي لا ينسجم مع مقامه ومركزه.

3- ثم يستند إلى علم اللَّه الذي لا تحدّه حدود، تأكيداً لبراءته فيقول: «إِنْ كُنتَ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلَا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلمُ الْغُيُوبِ» «1».

4- «مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبّى

وَرَبَّكُمْ». لا أكثر من ذلك.

5- «وَكُنتَ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ». أي كنت أحول دون سقوطهم في هاوية الشرك مدّة بقائي بينهم، فكنت الرقيب والشاهد عليهم، ولكن بعد أن رفعتني إليك، كنت أنت الرقيب والشاهد عليهم.

6- «إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». أي على كل حال فالأمر أمرك والإرادة إرادتك، إن شئت أن تعاقبهم على انحرافهم الكبير فهم عبيدك وليس بامكانهم أن يفرّوا من عذابك، فهذا حقك بإزاء العصاة من عبيدك وإن شئت أن تغفر لهم ذنوبهم فإنّك أنت القوي الحكيم فلا عفوك دليل ضعف ولا عقابك خال من الحكمة والحساب.

قَالَ اللَّهُ هذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (120) الفوز العظيم: بعد الحوار الذي جرى بين اللَّه والمسيح عليه السلام يوم القيامة- كما شرحناه في تفسير الآيات السابقة- تقول الآية: «قَالَ اللَّهُ هذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ».

وهؤلاء الصادقون: «لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا». وخير من هذه النعمة المادية أنّهم: «رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ». ولا شك أنّ هذه النعمة الكبرى التي تجمع بين النعم المادية والنعم المعنوية شي ء عظيم: «ذلِكَ الفَوْزُ الْعَظِيمُ».

______________________________

(1) إطلاق كلمة «نفس» على اللَّه لا يعني الروح، فمن معاني النفس الذات.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 574

وفي آخر الآية إشارة إلى امتلاك اللَّه كل شي ء وسيطرته على السماوات والأرض وما فيها وأنّ قدرته عامّة تشمل كل شي ء: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا

فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

هذه الآية تعتبر سبب رضى عباد اللَّه عن اللَّه، وذلك لأنّ الذي يملك كل شي ء في عالم الوجود له القدرة أن يعطي عباده ما يريدون وأن يغفر لهم وأن يفرحهم ويرضيهم، كما تتضمن إشارة إلى عدم صدق أعمال النصارى في عبادة مريم، لأنّ العبادة جديرة بأن تكون لمن يحكم عالم الخليقة بأكمله، لا مريم التي لا تزيد عن كونها مخلوقة مثلهم.

«نهاية تفسير سورة المائدة»

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.