موسوعه استدلالیه فی الفقه الاسلامی المجلد 109

اشارة

سرشناسه : حسینی شیرازی، محمد

عنوان و نام پدیدآور : الفقه : موسوعه استدلالیه فی الفقه الاسلامی/ المولف محمد الحسینی الشیرازی

مشخصات نشر : [قم]: موسسه الفکر الاسلامی، 1407ق. = - 1366.

شابک : 4000ریال(هرجلد)

یادداشت : افست از روی چاپ: لبنان، دارالعلوم

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

موضوع : اخلاق اسلامی

موضوع : مستحب (فقه) -- احادیث

موضوع : مسلمانان -- آداب و رسوم -- احادیث

رده بندی کنگره : BP183/5/ح5ف76 1370

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 70-5515

ص:1

اشارة

ص:2

الفقه

موسوعة استدلالیة فی الفقه الإسلامی

الجزء التاسع بعد المائة

آیة الله العظمی

السید محمد الحسینی الشیرازی

دام ظله

کتاب الاجتماع

الجزء الأول

ص:3

الطبعة السادسة

1408 ه_ _ 1987م

دار العلوم: طباعة. نشر. توزیع.

العنوان: حارة حریک، بئر العبد، مقابل البنک اللبنانی الفرنسی

ص:4

کتاب الاجتماع الجزء الأول

اشارة

کتاب الاجتماع

الجزء الأول

ص:5

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمین، والصلاة والسلام علی أشرف خلقه سیدنا محمد وعلی آله الطیبین الطاهرین، واللعنة الدائمة علی أعدائهم إلی قیام یوم الدین.

ص:6

المقدمة

 

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحیم

أ: الإنسان نفس وبدن وروح، وقد ذکر القرآن الحکیم (النفس) وجعلها محتملة الأمرین، مثل قوله سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَکَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}((1)).

وقد ذکر (البدن) بطور حیادی کأنه لا شأن له، مثل قوله سبحانه: {فإذا سَوَّیْتُهُ وَنَفَخْتُ فِیهِ مِن رُّوحِی فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِینَ}((2)).

وذکر (الروح) بإعظام کالآیة الآنفة وغیرها.

فکأن البدن سفل، والروح علو، والنفس بینهما، إن مالت إلی الأعلی کانت مع العلیین، وإن مالت إلی الأسفل کانت فی سجین.

والنفس یحیط بها البدن، والبدن فی الاجتماع، ویحیط به المدینة ونحوها، وحولها المحیط الطبیعی، والنفس قادرة علی إصلاح نفسها، ثم بدنها، ثم الاجتماع، ثم المحیط الاصطناعی، ثم المحیط الطبیعی، کما أن النفس قادرة علی تخریب الکل.

والمجتمع إنما یتولد من نقطة البدء، فاللازم فی علم الاجتماع أن نشرع من هنا، ونبنی الهیکل الاجتماعی الصحیح من النفس النقیة النظیفة، و(أفلح) و(خاب) فی الآیة الکریمة لیسا للآخرة

ص:7


1- سورة الشمس: الآیة 7.
2- سورة الحجر: الآیة 29 .

فحسب، وإنما للدنیا أیضاً، فإنه وإن کان مطرح نظر القرآن الحکیم الآخرة، فإن الدار الآخرة هی الحیوان، لکنه ینظر إلی الدنیا کقنطرة، ولذلک ورد فی القرآن الحکیم: {وَابْتَغِ فِیمَا آتَاکَ الله الدَّارَ الآخرة وَلا تَنسَ نَصِیبَکَ مِنَ الدُّنْیَا}((1)).

کیفیة إعادة المجتمع الإسلامی

کیفیة إعادة المجتمع الإسلامی

ب: وحیث إن الاجتماع الإسلامی لألف ملیون مسلم قد تحطم، بل قد تحطم الاجتماع البشری کله، حیث استبد بالعالم قیادات غیر رشیدة، فاللازم أن نتحری أفضل السبل لإعادة الاجتماع الصحیح، لا بالنسبة إلی المسلمین فقط، بل بالنسبة إلی البشریة جمعاء.

قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاکَ إلاّ کَافَّةً لِّلنَّاسِ}((2)).

وقال تعالی: {وَمَا لَکُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ الله وَالْمُسْتَضْعَفِینَ}((3)).

وهذه الإعادة تکون بالأسس الخمسة بإذن الله تعالی، وهی:

1: التنظیم الحدیدی الذی یراعی فیه جانب التنظیم من ناحیة، وجانب الحریة من جانب آخر، حتی یکون التنظیم هیکلاً استشاریاً فی العمل.

قال سبحانه: {مِن کُلِّ شَیْءٍ مَّوْزُونٍ}((4)).

وقال علی (علیه السلام): «نظم أمر کم»((5)).

ص:8


1- سورة القصص: الآیة 77.
2- سورة سبأ: الآیة 28.
3- سورة النساء: الآیة 75.
4- سورة الحجر: الآیة 19.
5- نهج البلاغة: الکتب 47.

وقال سبحانه: {یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِی کَانَتْ عَلَیْهِمْ}((1))

2: التوعیة الکاملة المناسبة للعصر، والتی تبدأ _ بعد الإیمان الرشید _ بالسیاسة والاقتصاد والاجتماع، فقد ورد: «وساسة العباد».

و: «من لا معاش له لا معاد له».

وقال علی (علیه السلام): «واجعل نفسک میزاناً فیما بینک وبین غیرک، فأحبب لغیرک ما تحب لنفسک، وأکره له ما تکره لها، ولا تظلم کما لا تحب أن تُظلم، وأحسن کما تحب أن یحسن إلیک»((2)).

3: السلم، فإن السلام نبتة لا تقلعها العواصف، قال سبحانه: {ادْخُلُواْ فِی السِّلْمِ کَآفَّةً}((3))، وشعار الإسلام السلام، وحتی الدولة المرهوبة الجانب خیر لها أن تحل کل مشا کلها بسلام، لأنّه أحمد عاقبة، وأهنأ مذاقاً، والقوة وضعت لقصوی حالة الضرورة، ولذا نری شعار الأنبیاء (علیهم السلام) عند دعوتهم السلام، وقد روی عن المسیح (علیه السلام): «أحبوا أعداءکم».

4: الجماهیریة، فلا یکون التنظیم صنماً دون المبدأ، وکل حرکة اتخذت الصنمیة انفصلت عن الجماهیر، وبذلک تذوی وتذبل، وجزاؤها حینئذ أن لا تصل إلی الهدف المنشود، بینما تری غیرها تقدمت فی المیادین، وأخذت الساحات التی کانت الحر کة تأمل کسحها، فالناس إما أخ لک فی الدین أو نظیر لک فی الخلق.

5: ویأتی أخیراً، دور الاکتفاء الذاتی، فکل محتاج إلی غیره مقود

ص:9


1- سورة الأعراف: الآیة 157.
2- نهج البلاغة: الکتب 31.
3- سورة البقرة: الآیة 208.

له، وبذلک یفقد صفة القیادة.

قال الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام): (احتج إلی من شئت تکن أسیره، واستغن عمن شئت تکن نظیره، وأحسن إلی من شئت تکن أمیره)((1)).

تجنب الأخطاء حین العمل

تجنب الأخطاء حین العمل

ج: ویلزم تجنب الأخطاء التی کثیراً ما تقع فیها الجماعات العاملة، مما یسبب وقوفها فی منتصف الطریق، أو ارتدادها القهقری.

1: مثل الانتهازیة بالأعمال النفعیة التی لا تؤمن بها الجماعة، وإنما لکسب القوة الوقتیة، إذ بعد عمل أو عملین کهذه تنکشف سوأة الجماعة، ومثل هذه الجماعة غیر جدیرة بالاعتماد، فینفضّ الناس من حولها، وکثیراً ما تری حزباً یعمل خمسین سنة أو أکثر ولا یکون إلاّ کجمعیة خیریة کبیرة، لها شعب وفروع وبینه وبین هدفه مسافة شاسعة، ولیس ذاک إلاّ لارتکابه مثل هذا الخطأ أوغیره.

2: أو عدم أطروحة جدیدة لهم، بعد نقدهم الأطروحة الموجودة المطبقة فی الساحة، فنظامهم الذی یأملون تطبیقه، فیه إبهام وإجمال، من حیث الحریات، أو السیاسة والاجتماع والاقتصاد، أو معاملة الأقلیات، أو نحو ذلک، والناس لا یتر کون ما جربوه إلی شیء مجهول.

فعلی الجماعة التی ترید التقدم والاشتهار والسیطرة، أن یکون لها برنامج معلوم مفهوم، ویکون أفضل من البرنامج الموجود، وإلاّ باء بالفشل.

3: أو توجس الناس منهم خیفة، حیث لا سلام لهم مع الجماعات

ص:10


1- انظر بحار الأنوار: ج71 ص411 ب30 ح21.

والقوذ التی فی الساحة، وبذلک یأخذون فی هدمهم، وتفریق الناس من حولهم، وقد ورد فی الحدیث: «لو وضع الرفق علی شیء زانه، ولو وضع عنه قط إلاّ شانه»((1)).

وفی الحدیث: «إن جبرئیل (علیه السلام) کلما نزل، أمر الرسول (صلی الله علیه وآله) بمداراة الرجال»((2)).

وهکذا یلزم علی کل جماعة عاملة أن تدقق فی الأخطاء التی وقعت فیها الجماعات الأخر، فتتجنّبها، وإلاّ کان مصیرها الفشل، کما کان مصیر تلک الجماعات.

مراحل التخطیط والعمل

مراحل التخطیط والعمل

د: ثم إن الطریق إلی جمع کلمة المسلمین، وإنقاذهم من براثن التخلف والذل، بعید المدی، حیث إن الأمراض قد استفحلت فیهم، وقد انطبق علی جملة منهم قوله سبحانه: {فی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً}((3)).

هذا بالنسبة إلی إنقاذ المسلمین فحسب، فکیف بإنقاذ غیرهم، من الذین سقطوا فی أنیاب الطغاة.

إذاً فاللازم علی الجماعة العاملة أن تخطط تخطیطاً سلیماً، لأجل الوصول إلی الهدف، والتخطیط لابد وأن یقسم إلی مراحل ثلاث:

1: المرحلة القصیرة المدة، بالتکوین والتنظیم بکل هدوء وحزم وتعقل، کالنبتة تکوّن نفسها بإذن الله تعالی تحت التراب، فتمتص من

ص:11


1- وسائل الشیعة: ج8 ص453.
2- بحار الأنوار: ج2 ص69.
3- سورة البقرة: الآیة 10.

الماء والنور والآملاح وغیرها حتی تتأهل لآن تکون نبتة تخرج برأسها إلی السطح، {کَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ}((1))

2: المرحلة المتوسطة المدة، وذلک بوضع الأسس الفکریة الصحیحة المتکاملة اللائقة، المؤهلة لأن تکون بدیلة عن الأوضاع السائدة، وهذه المرحلة متوسطة بین الأولی والأخیرة، حیث تهضم فی نفسها المرحلة السابقة، وتکون کالفرخ الذی یخرج من البیضة، وقد تقوی بالبیضة وجعلها قاعدة الانطلاق، وهذه المرحلة تحمل أعباء المرحلة السابقة من ناحیة، وتؤهل نفسها للمرحلة اللاحقة.

3: ثم یأتی دور المرحلة الأخیرة والنهائیة بتجمیع القوی والقدرات، وتکوین الأنصار والشمول والسعة، حتی تکون بالفعل بدیلاً عن النظام القائم، وبذلک تکون الجماعة قد وصلت إلی هدفها المنشود، وتمکّنت من إقامة حکم الله فی الأرض، بما لا مثیل له، لا من حیث الحریة، ولا من حیث السلام، ولا من حیث الرفاه.

المیزانیة الدقیقة

المیزانیة الدقیقة

و کما نشاهد فی عالم الصناعات وجود المیزانیة الدقیقة للأخذ والعطاء، فإذا زادت الکهرباء مثلاً جعل المیزانیة الضغط منخفضاً، وإذا قلت جعلته عالیاً، کل ذلک لحفظ التوازن المطلوب فی المحل المجهز بالکهرباء، کذلک یلزم أن تکون الجماعات العاملة ذات میزانیات دقیقة، تعرف کیف تأخذ الکر والفر مع الضغوط العالمیة علی البلاد الإسلامیة، فإذا علا الضغط تخففه، وإذا

ص:12


1- سورة الفتح: الآیة 29.

انخفض تأخذ بالسیر للأمام وهکذا.

وهذا الأمر فی الإنسان یحتاج إلی رؤیة مستقبلیة دقیقة، بینما المادیات مثل المیزانیة الکهربائیة لا تحتاج إلی ذلک.

ثم لا یخفی أن ما ذکرناه فی هذا الکتاب، کما أن ما ذکرناه فی کتابی (الفقه: الاقتصاد) و(الفقه: السیاسة) کان حسب ما وصل إلیه الفکر مما یستنبط من الأدلة الأربعة مع أخذ الموضوعات من العرف، حسب {مَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}((1))، و«نحن معاشر الأنبیاء أمرنا أن نکلم الناس علی قدرعقولهم»((2)).

ولعل الله سبحانه یقیّض جماعة من علماء المسلمین لیستنبطوا هذه المواضیع الثلاثة بالإضافة إلی الکتب المعنیة بهذه الشؤون من قبل، لیجد الطالب فیما یستخرجه من الأوفق بالحق منها بغیته، والله المسؤول أن یوفقنا لاتباع مراضیه، وهو الموفق المستعان.

ص:13


1- سورة إبراهیم: الآیة 4.
2- بحار الأنوار: ج2 ص69.

المعرفة

اشارة

المعرفة

(مسألة 1): الإنسان یتلاقی مع المحیط الطبیعی أو الاجتماعی أو الصناعی، وقد أودع الله فی الإنسان ذخائر، کما قال علی (علیه السلام) فی حکمة بعث الأنبیاء (علیهم السلام): «ویثیروا لهم دفائن العقول»((1))، وبهذا التلاقی تنعکس حالات المحیط إلی داخله، مما یسمی (أول المعرفة).

وقد أودع الله فی الإنسان حب الاستطلاع، ولذا نری الطفل منذ صغره الباکر یهتم بالأشیاء، یأخذها ویقلبها ویتذوقها ویستمع إلیها، لیعرف خصوصیاتها وطعومها وأصواتها وملمسها، وأحیاناً یستشمها لمعرفة روائحها.

ثم هناک فی داخل الإنسان جهاز العقل، وهو کالنبتة، تنمو وتنمو، فإن شذب وهذب نمی نمواً مستقیماً، وإلاّ نمی نمواً منحرفاً، وهذان: (الحس والعقل) یتعاونان لیکوّنا للإنسان المعرفة، إن قلیلاً أو کثیراً.

والثواب والعقاب فی الدنیا والآخرة مرتبطان بالعقل، وإلاّ فالمجنون یحّس ولا یعاقب کما لا یثاب، لأنه لا عقل له، وفی الحدیث: «إن الله لما خلق العقل قال له: بک أثیب وبک أعاقب»((2)).

ص:14


1- نهج البلاغة: الخ طب 43.
2- غوالی اللئالی: ج4 ص99 ح142.

ثم إن تلاقی الإنسان والمحیط، یوجب تأثیر أحدهما فی الآخر، فالمحیط بأقسامه الثلاثة یؤثر فی الإنسان من طریق الحواس الخمس، ولذا کان المحکی عن ابن سینا أنه قال: (من فقد حساً فقد علماً)، أی سلسلة من العلوم المرتبطة بتلک الحاسة.

کما أن الإنسان یؤثر فی المحیط تشذیباً وتهذیباً وتنظیماً وإصلاحاً.

المعرفة صحیحة وخاطئة

المعرفة صحیحة وخاطئة

والمعرفة الذهنیة المستفادة من الحواس، والعقلیة التی تتکون عند الإنسان من داخله، لیست صحیحة دائماً ولا باقیة دائماً، بل أحیاناً تکون اشتباهاً، کمن یری ماء البحر أسود، أو الشیء الکبیر من البعید صغیراً.

کما أن المعرفة أحیاناً تتغیر بأقسامها الثلاثة من الصحیح إلی الغلط، وبالعکس، أو من الغلط إلی الغلط، ونادراً یمکن أن یکون من الصحیح إلی الصحیح، باعتبار أن الصحیحین لهما جامع صحیح هما جزئیاه، کما فی قصة داود وسلیمان (علیهما السلام) حیث کان أخذ صاحب البستان الأغنام لنفسه فی قبال زرعه، حیث کانا بقیمة واحدة، وکان أخذها لأجل الاستفادة مدة استدراکه مقدار ما فسد من زرعه، ثم ردها، کلاهما صحیحاً، ولذا قال سبحانه: {وَکُلًّا آتَیْنَا حُکْمًا وَعِلْمًا}((1))، وإن کان الثانی أفضل، ولذا قال تعالی: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَیْمَان}((2)).

سیر الحرکة الفکریة

سیر الحرکة الفکریة

ثم إن المعرفة تبتدئ _ صحیحة أومنحرفة _ بالرؤیة، حسیةً  _ والمراد بها أعم

ص:15


1- سورة الأنبیاء: الآیة 79.
2- سورة الأنبیاء: الآیة 79.

من الحواس الخمس _ أو عقلیةً، ثم تتحول إلی الشک، وبعده الظن، ثم العاطفة، وأخیراً العقیدة، والمرتبة الرابعة إلاّ ما کانت فی سلسلة العواطف، قد تکون مقرونة بالحقیقة، وقد تکون مقرونة بالإحساس المجرد.

والدال إن کان لفظاً، أوغیر لفظ، یرشد إلی شیء آخر یسمی (مد لولاً) و(مفهوماً) و(معنی) باعتبارات ذکر ناها فی الأصول، وقد یسمی (مراداً) و(مقصوداً) وغیر ذلک.

ثم إن جمع المعلومات تنتهی إلی الاستنتاج بسبب الفکر، وقد عرّفه الحاج السبزواری بقوله:

والفکر حرکة إلی المبادی

ومن مبادی إلی المراد

لکن (الجزئی لا یکون کاسباً ولا مکتسباً)، وإنما الکاسبة والمکسبوبیة تکونان بالکلیة المنتزعة عن الجزئی، وللکلیة کذلک.

فإن أقسام الحرکة الفکریة أربعة: لإنها أما من الجزئی، أو من الکلی، وکل إما إلی الجزئی، أو إلی الکلی، فإن کان من الجزئی إلی الجزئی کذلک سمی (تمثیلاً)، وإن کان منه إلی الکلی سمی (استقراءً)، وإن کان من الکلی إلی الکلی أو إلی الجزئی سمی (قیاساً).

والانتقال من شیء إلی شیء قد یکون سریعاً، وقد یکون بطیئاً، وقد یتوقف إلی الأبد، وقد یهیؤ المقدمات إنسان، فیأتی إنسان آخر لیأخذ النتیجة.

والمادیون حیث ینکرون ما وراء المادة، ینکرون أن تکون المعرفة ما ورائیة، لکن الثابت فی علم الفلسفة وجود الماوراء، ولذا فقد تکون المعرفة غیبیة، بمقدماتها ونتائجها، وقد لا تکون کذلک بإحداها.

ثم إن المعرفة تنقسم بانقسام الأحکام الخمسة:

1) فهی بین واجبة: کمعرفة أصول الدین والأحکام الشرعیة المبتلی بها، وتعلم الصناعات کفایة.

2) ومحرمة:

ص:16

مثل تعلم السحر وما أشبه علی الشرط المذکور فی کتاب المکاسب.

3) ومستحبة، کتعلم الآداب والأخلاق غیر الواجبة منهما.

4) ومکروهة، کتعلم النساء الکتابة وسورة یوسف فی صورة احتمال الخطر بما لا یوجب الحرمة.

5) ومباحة، هی ما دون الأقسام الأربعة، فتأمل.

ص:17

العاطفة

اشارة

العاطفة

(مسألة 2): ارتطام الإحساس بالذهن قد یتولد منه العاطفة الحسنة أو السیئة، بینما الفکر المنطقی لا یوجد هذا الشیء إلاّ نادراً، فإن الإنسان قد یری فقیراً یتضور جوعاً ویرتعد من البرد، فیأخذ طعام أطفاله ویعطیه له، فإن هذه العاطفة السیئة غالباً _ لأنها طغت علی الحقیقة _ إنما وجدت لإجل ارتطام الحس بالذهن، بینما إذا کان قیل له: إن هناک فقیراً، ربما لم یقدم له حتی ما یستحق فکیف بطعام واجبی النفقة علیه، ولذا الإنسان لا یبکی غالباً لمأساة کربلاء وحده وإنما یبکی إذا سمع الخطیب ینعی، مع أن المأساة موجودة فی ذهنه.

وکذلک الحال فی العاطفة الحسنة.

لکن نفس العاطفة قد تتحرک بدون الارتطام بالخارج، وإنما من مجرد التفکر، ولذا قد یبکی أو یضحک الإنسان المنفرد، فیما لا یواجه موجب الضحک أو البکاء خارجاً، نعم إنما تتحرک العاطفة من الحس أو الفکر إذا کان ما یراه أو فکر فیه من سلسلة محرکات العواطف.

العواطف المتحجرة

العواطف المتحجرة

وقد یوجد من لا تتحرک عاطفته، وإن واجهت مثل هذه السلسلة، وهو لا یخلو من انحراف فی خلقته، لا انحرافاً هو علة تامة بل بقدر المقتضی، إذ الإنسان وإن خلق أطواراً، إلاّ أنهم معادن کمعادن الذهب والفضة، بین خیر

ص:18

وأخیر وحسن وأحسن، لا سیء وحسن، فقد ثبت فی أصول الدین أن الله لا یخلق ما لا خیر فیه ولا شر، ولا ما شره یساوی خیره، ولا ما شره یزید علی خیره، وإنما یخلق الأمرین الآخرین فقط، وانحراف الخلقة یمکن تقلیله وسحبه إلی الجادة المستقیمة ولو بقدر.

أو من عدم إنماء لملکته، فإن الصفات النفسیة علی الأغلب، کالعضلات الجسمیة قابلة للنمو، کما ثبت فی علم الأخلاق، فکما أن الإنسان بالریاضة الجسدیة یقوی وتتشد عضلاته وأعصابه، کذلک الإنسان بالریاضة الأخلاقیة تتقوی ملکاته الحسنة، وتزوی صفاته السیئة، قال الشاعر:

(ولن تستطیع الحلم حتی تحلما).

ولذا ورد مدح التباکی فی الأخبار.

وحیث إن جمود العاطفة مذموم فی الشریعة، قال رسول الله (صلی الله علیه وآله) لذلک الشخص الذی قال لم أقبل أولادی: ماذا أفعل إن نزع الله الرحمة من قبلک((1)).

ومن المعلوم أن المراد بنزع الله، ما کان بسبب ترک الإنسان مقدماته، مثل طبع الله، وأضله الله، کما حقق فی علم أصول الدین، فی مبحث الجبر والاختیار.

وورد فی الدعاء الاستعاذة بالله من قلب لا یخشع، ومن عین لا تدمع، ومن هذا المنطلق _ منطلق تأثر الإنسان بالحواس فی تحرک عاطفته _ ذکر الإنسان فی القرآن الحکیم والسنة المطهرة بالآیات الکونیة، قال سبحانه: {إِنَّ فِی خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّیْلِ وَالنَّهَارِ لآیَاتٍ لأُوْلِی الألْبَابِ * الَّذِینَ یَذْکُرُونَ الله قِیَامًا وَقُعُودًا وَعَلَیَ جُنُوبِهِمْ وَیَتَفَکَّرُونَ فِی خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَکَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار}((2)).

ص:19


1- بحار الأنوار: ج101 ص92 ب2، وفیه: ( قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صل ی الله علیه وآله الْحَسَنَ وَ الْحُسَیْنَ علیهما السلام فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ إِنَّ لِی عَشَرَةً مِنَ الْأَوْلَادِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِداً مِنْهُمْ فَقَالَ مَا عَلَیَّ إِنْ نَزَعَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِنْکَ أَوْ کَلِمَةً نَحْوَهَا).
2- سورة آل عمران: الآیة 191.

مع وضوح أن الأدله المنطقیة والاستدلالات العقلیة کانت کافیة فی الدلالة والإیصال.

ثم إن إنماء العاطفة الموجب للعمل بالواجب واجب، لو قیل بوجوب مقدمة الواجب، مثل إنماء العاطفة نحو واجب النفقة والأرحام حتی یوجب القیم بشؤونهم الواجبة والصلة الواجبة.

وللعمل بالمحرم محرم، إن قیل بحرمة مقدمة الحرام، کإنمائها لأجل الزنا وما أشبه.

وإنمائها لأجل المستحب والمکروه له حکمهما.

وما عدا ذلک مباح.

ص:20

الحقائق ثابتة ومتغیرة

اشارة

الحقائق ثابتة ومتغیرة

(مسألة 3): إن العالم منقسم إلی حقائق ثابتة ومتغیرة.

فالثابتات أمثال الریاضیات، والکل أعظم من الجزء، وامتناع اجتماع وارتفاع النقیضین، واحتیاج کل معلول إلی علة، وحسن الإحسان، وقبح الظلم.

والمتغیرات مثل تحول الزمان، واللغات، والإضافات، والحالات.

فإنه من غیر المعقول أن تکون نتیجة ثلاثة فی ثلاثة ذات یوم ثمانیة أو عشرة، وأن یصبح جزء الشیء أعظم من کله، وأن یوجد زید وعدمه فی آن واحد، أو أن یوجد لا زید ولا لا زید فی آن واحد بشرائط اجتماع النقیضین وارتفاعهما، وأن یوجد شیء بلا علة، مثل أن ترتفع کفة میزان وتنخفض الأخری بدون سبب إطلاقاً، وأن یکون رفع الظلم عن المظلوم قبیحاً، أو یکون ظلم الناس حسناً.

کما أن فی المتغیرات من غیر المعقول أن یجمد الزمان، بأن لا یکون للجسم بعد رابع، وجرت العادة بتغیر اللغات؛ کما أن الإنسان المنفرد قد یتزوج فیصبح زوجاً، والرجل بلا ولد قد یلد فیصبح أباً، والطفل یتحول شاباً، وهکذا.

وربما ینقسم الأشیاء إلی حقائق خارجیة، کالإنسان والحیوان، وإلی أمور انتزاعیة لا مدخلیة للاعتبار فیها، فهی هی لا تتغیر بتغیر الاعتبار، مثل

ص:21

زوجیة الأربعة، وإلی أمور اعتباریة تحتاج إلی اعتبارالمعتبر، مثل جعل الورقة مالاً، فباعتباره تکون ذات مالیة، کما أن بسبب الاعتبار تسقط عن الاعتبار.

وبذلک ظهر أن المعرفة قسمان: ثابتة ومتغیرة.

((لیست کل الأمور متغیرة))

((لیست کل الأمور متغیرة))

أما جعل بعض علماء الاجتماع تبعاً لبعض علماء الفلسفة، کل الأمور متغیرة، کما ذکروه فی منطق الدیالکتیک، وتبعاً لذلک جعلوا المعرفة متغیرة ونسبیة، بحجة أن المعرفة فرع المحیط والإنسان، وحیث إن کلیهما فی تغیر وتحول دائم، فلابد وأن تکون المعرفة متغیرة أیضاً، فذلک مما لم یقم علیه دلیل، بل الدلیل علی خلافه، إذ یرد علیه:

1: إن المعرفة قسم منها فرع المذکورین، لا کل أقسامها، کما تقدم.

2: إن جملة من الحقائق فی الخارج لا تتغیر.

3: النقض، بأنه لو کانت کل الحقائق فی تغیر والمعرفة تبع لها، فمن أین أثبتم تلک الکلیة، القائلة بأن المعرفة تتغیر، فاللازم بطلان أحد الأمرین کما ذکروا فی من قال: کل أخباری کاذبة.

ومما تقدم ظهر أن المعرفة قد تکون صحیحة، وقد تکون فاسدة، وإحداهما لا یمکن تنقلب إلی الأخری، فإن المعرفة الصحیحة حق باعتبار أن الواقع یطابقها، وصدق باعتبار أنها تطابق الواقع، أما اصطلاح الصحیح والأصح والفاسد والأفسد، فذلک باعتبار مجموع الأجزاء، فإن طابق الکل کان أصح، وإلاّ کان صحیحاً، وإن خالف الکل کان أفسد، وإلاّ کان فاسداً.

مثل الغذاء الصحیح الذی هو عبارة عما یلائم الصحة، وإن کان یحرف الصحة بقدر غیر ضار، مثل إیجابه بعض النعاس فی غیر مورده، بینما الأصح لا یوجب

ص:22

حتی مثل ذلک، وقد تقدم أن فتوی داود وسلیمان (علیهما السلام) کانت صحیحة بینما فتوی الثانی کانت أکثر استیعاباً للفضل.

وکذلک الکلام فی الفاسد والافسد.

لا مدخلیة للزمان فی الحقائق

لا مدخلیة للزمان فی الحقائق

ثم إن الزمان بعد رابع للموجود الخارجی، کما ذهب إلیه بعض المحققین، وهو لا تأثیر له علی الموجود، بأن یجعله نسبیاً، بل عامل یقع فی زمان دون زمان، فلا تتغیر الحقیقة بأن تکون نسبیة، بل بتبّدل العوامل تتبدل المسببات، کالطفل والشاب والهرم، أما فی مثل الریاضیات وما تقدم من سائر الأمثلة، فلا عوامل متعددة حتی توجب التغییر.

وعلی کل، فتوهم جماعة من الدیالکتیکیین من علماء الاجتماع أن الحقیقة بدون الزمان وهم، لا أساس له من علم أومنطق.

أماقوله (علیه السلام): «إن اللیل والنهار یبلیان کل جدید ویقربان کل بعید»((1))، فهو کنایة محضة، بالإضافة إلی أنه لا ربط له بکلام أولئک.

ولما کانت العلل والمعلولات لها نظام عام، مثل قاعدة (طغیان القدرة بدون الإیمان)، قال سبحانه: {إِنَّ الْإنسان لَیَطْغَی ) أنْ رَّآهُ اسْتَغْنی}((2)).

ومثل: (إن السلاح والعلم والمال والکثرة قدرة)، کان ماضی الزمان دائماً مرآة لمستقبله، مثلاً یقال: التاریخ یعطینا أنه کلما تجمعت القدرة فی ید إنسان _ غیر المعصوم وشبهه _ طغی فی السابق، کان الحکم کذلک فی اللاحق، ثم یقال: إن البلد الفلانی قد أخذ یجمع القدرة، فلابد وأنه یطغی، وطغیانه یسبب

ص:23


1- نهج البلاغة: الخ طبة 90.
2- سورة العلق: الآیة 6.

إضرار جیرانه، فاللازم تهیئه القدرة فی قباله، أو الحیلولة دون تجمیعه القدرة، ومن هنا أخذ المثل المعروف: (التاریخ یعید نفسه).

وقال علی (علیه السلام): «وسر فی دیارهم، وانظر إلی آثارهم»((1)).

ص:24


1- انظر نهج البلاغة: ال کتب 31. وفیه: (وسر فی دیارهم وآثارهم فانظر فیما فعلوا وعما انتقلوا وأین حلوا ونزلوا).

المعرفة علمیة وفلسفیة

اشارة

المعرفة علمیة وفلسفیة

(مسألة 4): المعرفة قدیقال لها (علم)، وقد یقال لها (فلسفة)، وهی کلمة یونانیة من (فیلاسوفا) أی محب الحکمة، وبینهما عموم مطلق، إذ کل فلسفة علم، ولیس العکس، والفارق اصطلاحی.

فإن الإنسان قد یکون بصدد معرفة موضوع واحد ینتهی إلی غایة واحدة، فیحصل ذلک، وهذا ما یسمی بالعلم، کما إذا صار بصدد الموضوع الذی هو بدن الإنسان لیعرف صحته وسقمه، وعلائم کل منهما، وعلاج سقمه بمختلف أقسامه.

ولذا کان موضوع کل علم هوالجامع لموضوعات مسائله، کما أن محمول کل علم هو الجامع لمحمولات مسائله، وهذه الجملة الواحدة اعتباراً من المسائل تعطی معرفة الغایة المتوخاة، وکذلک الکلام فی علم التفسیر والتاریخ والنحو والبلاغة وغیرها.

أما الفلسفة فهی عبارة عن المسائل التی تعطی المعلومات العامة عن الحیاة والکون، والمبدأ والمعاد، ولذا قد تسمی بالمعرفة الکونیة، ولیس ذلک خاصاً بطائفة خاصة من المعلومات، مثل العلوم التی هی عبارة عن طائفة خاصة، ولذا یتکلم فی الفلسفة عن الوجود والعدم، والمهیة والجواهر والأعراض وغیرها، ولذا کان الفیلسوف فی الزمان السابق یسعی لاستیعاب العلوم، ثم یسعی لاستخراج الفلسفة الموحدة من کل تلک.

ص:25

أما فی الحال الحاضر، حیث تکثرت العلوم تکثراً خارجاً عن استیعاب الإنسان، لم یبق للفیلسوف إلاّ أن یعرف العمومیات.

ثم إن جملة من علماء الاجتماع جعلوا (الفنون الجمیلة) فی قبال (العلم)، وذکروا أن الفارق بینها وبین العلم: أن العلم یتغلّب فیه الجانب الإدراکی، بینما الفنون الجمیلة یتغلّب فیها الجانب العاطفی، وهذا لیس أکثر من اصطلاح، فهو مثل أن یجعل (العلم) فی قبال (النحو) بحجة أن العلم یهتم بالفکر، والنحو یهتم باللسان، أوغیر ذلک من التشقیقات الممکنة التی لا تخرج الشقوق من واقع کونها أقساماً من العلوم.

الواقع: تجربی وذهنی

الواقع: تجربی وذهنی

ثم إن الواقع قسمان: قسم یخضع للتجربة، حیث إنها أمور عملیة، والتجربة تقود إلی القوانین المودعة فی ذات الأشیاء، مثلاً مکتشف الکهرباء وصل إلیها بسبب التجربة، فکانت قوانینها المودعة فی الکون مجهولة، والتجربة والبحث قادا المجرب إلی تلک القوانین.

علیه فلا مدخلیة للتجربة فی تغییر الواقع، وإنما لها مدخلیة فی کشف الواقع، وکلما زاد الإنسان تجربة فی هذا المیدان زاد کشفاً الواقع، وقد قال علی (علیه السلام) فی حکمة بعث الأنبیاء (علیهم السلام): «ویروهم الآیات المقدرة، من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع»((1)).

وقسم آخر لا یخضع للتجربة، مثلاً هل أن الشیء مرکب من جنس وفصل، وأن الوجود والعدم لا یجتمعان، وأن الزمان لا یعقل جمع أطرافه،

ص:26


1- نهج البلاغة: الخ طب 43.

وأن کل ترجح بلا مرجح محال، و... لا یمکن إخضاعه للتجربة.

ومنه یعلم أن قول بعض المادیین: إن کلما لم یخضع للتجربة لیس بعلم، مخالف للبداهة.

وعلی ما تقدم فتراکم التجارب لا یغیر الواقع، وإنما یصل إلی أسرار أکثر تعقداً وغموضاً، کالذی یسیر فی المدن کلما أکثر من السیاحة ظهرت له مجهولات جدیدة، لا أن المعلوم الجدید ناسخ للمعلوم القدیم.

ثم إن التجربة التی هی مقدمة للعلم الواجب واجب، علی القول بوجوب المقدمة، ومن ذلک یعرف الأقسام الأربعة الأخر من الأحکام الخمسة.

ص:27

الطریق إلی المعرفة

اشارة

الطریق إلی المعرفة

(مسألة 5): العلماء قسموا العلم إلی قسمین: قسم مرتبط بما وراء المادة، وقسم مرتبط بالمادة.

أ: فالأول هو العلم الإلهی، وما یتبع ذلک من النبوة والإمامة والمعاد، وهذا هو المسمی بعلم أصول الدین، فی قبال علم فروع الدین المرتبط بالسلوک الإنسانی، والذی یتمرکز فی حواسه الخمس، بإضافة ما یرتبط بعمل نفسه، أی النیة والفکرة.

وقد ورد فی الحدیث الشریف: «إنما الأعمال بالنیات، ولکل امرئ ما نوی»((1)).

وورد أیضاً: «فکرة ساعة خیر من عبادة سبعین سنة»((2)).

ب: والثانی هو العلم المرتبط بالمادة، والمراد بالمادة الأعم من المادة الثقیلة کالأرض والجسم، أو الخفیفة کالنفس والعقل، إذ لم یثبت أنهما مجردان، فإن أدلة تجردهما لا تکفی لإثبات ذلک.

وعلی أی حال، فهذا العلم فی تقسیم أولی ینقسم إلی خمسة علوم:

1) علم النفس، والمراد به الأعم من النفس والعقل والروح، فی الاصطلاح.

ص:28


1- الوسائل: ج1 ص34 الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ح10.
2- بحار ال أنوار : ج68 ص326.

2: علم الجسد.

3: علم المحیط الاجتماعی المکون من الترابط الإنسانی بعضهم ببعض.

4: علم المحیط الاصطناعی المرتبط بالمدینة، مما یعیش الإنسان فیه، سواء کان المحیط مرتبطاً بالصنعة، کالمحیطات الحاضرة، أم لا کالمحیطات السابقة علی اکتشاف العلوم والصنائع الحدیثة.

5: علم المحیط الطبیعی مما حول الإنسان، من سماء وأرض، وحیوان ونبات وماء، وغیر ذلک.

وقد جاء بعض المحدثین فقسموا العلوم إلی أربعة:

1) العلم الإلهی.

2) العلم بالمادة التی لا روح لها، مما یسمی بالفیزیاء الأعم، کعلوم الفیزیاء والکیمیاء وعلم الفلک، وعلم الأرض بمختلف شعبه من معدن وماء وتراب وغیرها.

3) العلم بالمادة التی لها روح، مثل علم النبات وعلم الحیوان وعلم البیئة.

4) العلم الاجتماعی المرتبط بالإنسان، وقد یسمی بالعلوم الإنسانیة، کعلم الاجتماع، وعلم السیاسة، وعلم الاقتصاد، وعلم النفس.

والمهم فی هذا الکتاب نوع من القسم الرابع، أی علم الاجتماع بالمعنی الأخص.

وحیث إن کل واحد من هذه العلوم له جهة مشترکة مع سائر العلوم وجهة مختصة، یحتاج کل عالم بأحدهما إلی نوعین من العلم:

ص:29

1) مبادئ العلوم العامة، وقد یصطلح علیه بالجنس أو الجامع.

2) العلم بالشیء الذی یهمه من العلم الخاص مثل هذا، مثل من یرید معرفة الإنسان فإنه بحاجة إلی معرفة الحیوان فی الجملة، ثم معرفة الإنسان بما هو إنسان.

ثم إن کشف المعلومات فی کل علم مادی بحاجة إلی شیئین:

الأول: الطرق الفکریة.

والثانی: الطرق التجربیة.

وذلک لأن الفکر هو الذی یصدق أو یکذب التجربة، وبعبارة أخری یقول: بأن ما أدر که الإنسان هل هو صحیح مطابق للواقع أو لا، إذ ربما یدرک الإنسان الشیء فیزعمه صحیحاً، بینما یدل الفکر علی بطلانه، وبالعکس.

وقد عد بعض السوفسطائیین أخطاء الحس فأوصلها إلی ثمانمائة، مثلاً یری الإنسان منتهی الخطین الموازیین ملتصقاً، بینما لا التصاق، وإنما تخیله الحس کذلک حیث التصاق نوری العینین، وهکذا بالنسبة إلی المریض الذی یزعم أن الحلو مر، أو أن القریب بعید، أو ما أشبه ذلک.

إذاً یحتاج کل علم مادی إلی معرفة الفلسفة ومعرفة المنطق، قبل البدأ فی تحقیق مسائل ذلک العلم الخاص، وإخضاعها للتجربة، فالمنطق یعطی معرفة استقامة الفکر وانحرافه، والفلسفة تعطی العلم بالحقائق فی مجالها الوسیع الشامل لکل العلوم.

وبعد هذین تأتی دور التجربة لاکتشاف مجهولات کل علم علم، من طرقه التجریبیة.

مراحل المعرفة

مراحل المعرفة

وحیث قد ظهر أن الفکر والتجربة یتعاضدان فی کشف القوانین وحل

ص:30

المشا کل، لابد وأن یعرف أن کشف القانون وماوراء القانون یمر بمراحل ستة:

1: معرفة المقصود، إذ بدونها یکون الإنسان طالباً المجهول، ولذا کان اللازم علی کل باحث أن یعرف أول ما یعرف ما هو مقصوده للبحث والفحص، کالمسافر الذی یعین مقصده ثم یسیر إلیه متحریاً أفضل الطرق وأقصرها.

2: تجربة بدائیة للوصول إلی المقصود، فإن التجربة کالنبات تبتدئ بنبتة صغیرة ثم تنمو، وهکذا التجربة، وهی وإن کانت ربما تصادف الواقع، لکن الأغلب أنها تخفق، بل وتخفق معها تجارب أخر، خصوصاً إذا کان الهدف عالی المنال.

وقد نقل عن مکتشف الکهرباء أنه جرب لحفظ النور فی الزجاج أکثر من تسعة آلاف تجربة، حتی قال له بعض أصدقائه: ألم یکفک ما صرفت من عمرک هباءً أن تعترف أن ما ترومه شیء غیر عملی، قال: إنی لم أصرف ولا شیئاً قلیلاً من عمری هباءً، لأنی عرفت أن هذه التسعة الآلاف تجربة لیست بطرق، والآن أحاول تجربة جدیدة لسلوک طریق جدید لعله یکون موصلاً، وأخیراً وصل، واستنار الإنسان بالمصابیح الکهربائیة.

3: تکوین فرضیة للوصول إلی الهدف، لأن التجربة العمیقة إنما تکون بعد الفرضیة.

4: تجربة وسیعة لأجل معرفة مدی صحة الفرضیة المذکورة، بالملاحظة والتجزئة والتر کیب والتحلیل والدقة وما أشبه ذلک.

6: وعند ذلک ینکشف القانون، الذی کان الهدف الأسمی للعالم الباحث، ولذا قالوا: إن الغرض أول فی الفکر وآخر فی العمل، کمن یفکر فی دار سکنی ثم یهیء أدواتها ویبنیها، فإذا تم البناء صارت صالحة السکنی،

ص:31

ویحصل غرضه فی الخارج.

7: وتبقی مرحلة أخیرة إن کان الباحث یرید التوسع والتقدم، لا الجمود والوقوف، وهی مرحلة الربط بین هذا القانون المکتشف وسائر القوانین، أیها تجتمع مع هذا القانون المکتشف فی قانون أعم، وأیها لا تجتمع، وإن شئت قلت: کشف النسب الأربع بین المکتشف وغیره، هل تباین، أو تساو، أو عموم مطلق، أو عموم من وجه.

مثلاً إذا کان عالم الاجتماع یری فساد المجتمع بتفشی المنکرات، المقامر والمخامر والمباغی وما إلیها، ویفکر فی علاجها، فإنه یمر بالمراحل الست المذکورة.

فأولاً: مسألته تفشی المنکرات، لا تدنی مستوی المعیشة، ولا کثرة اللصوص فی الطرق.

وثانیاً: یفکر فی أن العلاج غلق أبواب المباغی والمقامر والحانات.

وثالثاً: یری بعد التعمق فی المسألة، أن لیس العلاج ذلک، إذ ما دام جماعة من الناس یتعاطونها، یکون الغلق علاجاً صوریاً، فإن المتعاطین ینتشرون ویتحایلون بالاختفاء عند التعاطی إلی غیر ذلک، فیصل إلی فرضیة مفادها العلاج الحقیقی هو إیجاد الوعی فی الناس، لأن تعاطی هذه الأمورالضارة إنما یکون لعدم رشد الناس فکریاً، ولذا لا یعرفون مصلحتهم ومفسدتهم، فیرجحون اللذة العابرة علی العاقبة المحموده.

ورابعاً: یقوده الأمر الثالث إلی تجربة فکریة أو عملیة واسعة، من باب تداعی الأفکار فی الفکر وارتباط الأمور فی التجربة العملیة، إلی أنه لماذا المنکرات، لماذا الاستعمار، لماذا تحطم الزراعة والصناعة والتجارة، لما انعدام الحریة،

ص:32

لماذا السجون، وهکذا من الأفکار المناسبة أو العملیات المناسبة فی حقل التجارب.

وخامساً: یصل الأمر إلی اکتشاف القانون، وهو (کلما تدنی وعی الأمة تفشت المنکرات، وکلما ارتفع الوعی قلت المنکرات إلی أن تنعدم)، إذاً فالعلاج ترفیع مستوی الوعی.

وسادساً: إذا أراد الانطلاق وعدم الجمود علی القانون المکتشف، یفکر فی النسبة بین هذا القانون المکتشف، وقانون السیاسة والاجتماع والاقتصاد والعقیدة والأخلاق والحریات والقدرة وغیرها، وبذلک یظهر طریق العلم (وحدته وکثرته، وتداخله وتباینه) وطریق العمل.

وإذا لم یمر الإنسان بهذه المرحلة السادسة، کانت علومه المتناثرة وتجاربه المتشتتة غیر مرتبطة، ولا تعطی رؤیة وسیعة، ولا قاعدة متینة.

الإسلام والتفکیر

مراحل المعرفة

وقد أمر الإسلام بالتفکر والتدبر، والتفقه والتعقل، وما إلی ذلک، کما یجدها المتتبع فی القرآن الحکیم، وأقوال الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) وأولاده الطاهرین (علیهم السلام).

وقدورد فی الحدیث: «فی التجارب علم مستأنف»((1)).

وقال علی (علیه السلام): «قیمة کل امرئ ما یحسنه»((2)).

وقال (علیه السلام): «فإن أشکل علیک شیء من ذلک فاحمله علی جهالتک، فإنک أول ما خلقت کنت جاهلاً ثم علمت، وما أکثر ما تجهل من الأمر، ویتحیر فیه رأیک

ص:33


1- فروع الکافی: ج8 ص22.
2- نهج البلاغة: قص ار الحکم 81.

ویضل فیه بصرک ثم تبصره بعد حین»((1)).

وقال (علیه السلام): «الفکر مرآة صافیة»((2)).

وقال (علیه السلام): «اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعایة لا عقل روایة، فإن رواة العلم کثیر ورعاته قلیل»((3)).

وقال: (علیه السلام): «لا علم کالتفکر، ولا شرف کالعلم»((4)).

وقال: (علیه السلام): «ما لی أری الناس إذا قرب إلیهم الطعام لیلاً، تکلفوا إنارة المصابیح لیبصروا ما یدخلون بطونهم، ولا یهتمون بغذاء النفس بأن ینیروا مصابیح ألبابهم بالعلم، لیسلموا من لواحق الجهالة والذنوب، فی اعتقاداتهم وأعمالهم»((5)).

وقال (علیه السلام): «العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل، والعلم یهتف بالعمل، فإن أجابه وإلاّ ارتحل عنه»((6)).

وسائل المعرفة

وسائل المعرفة

ثم إن العلوم تختلف فی الوسائل التی تنتهی إلی مسائلها:

1) فالعلوم الفلسفیة والعقائدیة تعتمد علی الطریقة التفکیریة.

2) والعلوم الفیزیائیة والکیمیائیة تعتمد علی الأغلب علی التجربة العملیة، وإن کان اللازم التفکر والتدبر حول جملة من خصوصیاتها کما تقدم

ص:34


1- نهج البلاغة: ا لکتب 31.
2- نهج البلاغة: قصار ال حکم 365.
3- نهج البلاغة: قصار الحکم 98.
4- بحار الأنوار: ج1 ص179.
5- شرح نهج البلاغة: ج20 ص261.
6- نهج البلاغة: قصار الحکم: 366.

فی بحث المراحل الست.

3) أما العلوم الاجتماعیة، بمختلف شعبها کالاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة والتاریخیة ونحوها، فإنها تعتمد علی المشاهدات والإحصاءات والأسناد، فالعالم الاجتماعی یلتقی بالأفراد ویسألهم، أو یقدم لهم أوراقاً بالأسئلة لیملؤوها، أو یأخذ نماذج من الأمور لیعلم بها کلیات تلک النماذج، إلی غیر ذلک.

والواجب علی المحقق الاجتماعی فی اللقاءات وما أشبه، أن لا یعتمد علی الشائعات والأجواء المصطنعة، بل یکون له من الذکاء ما لا یخلط معه الحقیقة بالاصطناع، مثلاً المستبدون من الحکام یفرضون أنفسهم علی وسائل الإعلام وعلی المحلات العامة بواسطة البولیس السری، وعلی قطاعات کبیرة بواسطة الترغیب والترهیب، وبذلک یملؤون الاجتماع من أنفسهم، مع أنه إملاء کاذب، فالمحقق یجب أن یمیز بین مثل هذه الأجواء، وبین مثل الأجواء الحرة، مما یکون کل شیء طبیعیاً فیها.

فإذا کان الجو من القسم الأول کان علی المحقق أن یتجنب فی إحصائیاته ومقابلاته عمّا یرتبط بالحاکم ولو کان سیطر علیه بسبب الإعلام وسیاسة التجهیل.

أما إذا کانت الأجواء مثل القسم الثانی، تمکن المحقق من السؤال والاستعلام بکل حریة، مثالهما مثال من یمشی فی أرض شائکة حیث یلزم علیه أن یلاحظ بکل دقة لئلا یصیب الشوک بدنه وملابسه، بینما من یمشی فی أرضه مستویة لیس علیه هذه الملاحظة.

وقد یذهب الحاکم الد کتاتور إلی أبعد من ذلک، فیشتری _ فی خارج بلده _ وسائل الإعلام والضمائر، ویکون بذلک قد نصب شبکة لاصطیاد المغفلین.

والعلامة للقسمین لا تخفی، فإنک إذا رأیت فی دولة الباطل حزباً واحداً، وتقدیساً للفرد، وعدم تبدل الحاکم بین مدة ومدة،

ص:35

وعدم حریة الصحافة والإذاعة والتلفزیون، وما أشبه، علمت بأن الجو ملغوم، فالإحصاءات وأوراق الأسئلة والنماذج لا تعطی إلاّ رائحة الحاکم، إلاّ إذا کان المحقق دقیقاً نابهاً، وبالعکس من ذلک إذا رأیت أحزاباً متعددة، وتعرض الفرد للتقدیس والنقد، إلی آخره، فإنه علامة صلاح الجو، وإمکان الاعتماد علیه.

والأسناد أیضاً یجب أن نعرف صحیحها من سقیمها، وهی تعرف من الخط والورق والإنشاء، وزمان ومکان الإنشاء، کما أن ما ینشأ فی حاشیة رئیس مستبد لا یکون سنداً، بینما ما ینشأ فی جو نظیف یکون سنداً، وهکذا یلزم الإحصاء فی صحة هذا التاریخ أو ذاک، إلی غیر ذلک.

ص:36

من أین الاجتماع

اشارة

من أین الاجتماع

(مسألة 6): الإنسان خلقه الله سبحانه جسماً ونفساً، وله متطلبات جسمیة، ومتطلبات نفسیة.

فالأ کل والسکن والراحة واللباس ونحوها من الأول.

والعلم والأدب والاجتماع والفضیلة ونحوها من الثانی.

ثم إن الله سبحانه هیأ للإنسان حاجیاته _ سواء حاجیاته التی لا تحتاج إلی العمل کالهواء والأرض ونحوهما، أو التی تحتاج کالدار والمأکل والملبس _ من ناحیة، کما بیّن له بقوانین سماویة، کیفیة حرکته وسکونه وتفکیره وعمله من ناحیة ثانیة، حاله فی ذلک _ فی مثال بسیط _ حال صانع معمل مّا، حیث یهیؤ لوازم المعمل ویبین قوانین المعمل.

فهناک فی الخلقة تعادل بین الإنسان فی حاجیاته وقوانینه، والانحراف عن تلک القوانین یوجب العطب والهلاک، ولذا قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِکْرِی فإنّ لَهُ مَعِیشَةً ضَنکًا}((1)).

وقال تعالی: {وَیَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِی کَانَتْ عَلَیْهِمْ}((2)).

وقال عن لسان نوح (علیه السلام): {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کَانَ غَفَّارًا * یُرْسِلِ السَّمَاء عَلَیْکُم مِّدْرَارًا * وَیُمْدِدْکُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ وَیَجْعَل لَّکُمْ جَنَّاتٍ وَیَجْعَل لَّکُمْ أَنْهَارًا}((3)).

ص:37


1- سورة طه: الآیة 124.
2- سورة الآعراف: الآیة 157.
3- سورة نوح: الآیة 10.

فإن الإعراض عن القوانین الصالحة یوجب ارتطام الإنسان بالحواجز، کالذی یسیر فی الطریق المسدود حیث یرتطم بالجدار، کما أن اتباع غیر السنن الالهیة یوجب ثقل الحیاة علی الإنسان ثقلاً علی نفسه (إصرهم) وثقلاً علی أعضائه وجوارحه (والأغلال التی کانت علهیم).

أما الاستغفار بالسیر فی طریق الله _ وهو الاستغفار الحقیقی _ فإنه یوجب تدارک نقص السابق (إنه کان غفاراً)، کالمریض إذا شرب الدواء حیث یستعید صحته.

وإذا مشی الإنسان فی طریق الله بالتعاون وزراعة الأرض وشق الأنهار والتزاوج والاستیلاء، کان درّ المطر کثیراً، لأنه یتولد من کثرة میاه الأرض، ویکثر الأموال بالتجارة والزراعة والصناعة، ویکثر البنون، وتکون الجنات والأنهار.

فالآیات الثلاث هی بیان لطبیعة عدم سلوک أو سلوک القوانین الصالحة التی جعلها الله سبحانه، بالإضافة إلی الأمر الغیبی الذی یعمله سبحانه ما ورائیاً، فإن الحیاة یسیرها أمران:

1: القوانین الطبیعیة المودعة فی الکون بإذن الله سبحانه.

2 والأمور الماورائیة التی یجریها الله سبحانه، بدون أسباب ظاهرة.

کالمعمل الذی یسیر بسبب قوانینه، وبسبب المهندس الذی یسیره.

أما من یقول بالإنسان الأول المنحدر من نسل الحیوان، وبالاشتراکیة الأولی، وبالاجتماع لأجل الاقتصاد، وأن الاقتصاد هو البناء التحتی لکل القوانین والأنظمة والأخلاق والآداب والأدیان وما إلی ذلک، فإنه لا یعوزه الدلیل فحسب، بل الدلیل علی خلافه فی کل خطوة خطوة.

بین الترابط والتباعد

بین الترابط والتباعد

ثم إن الإنسان حیث خلق اجتماعیاً بالطبع، لا لحاجاته الجسدیة فقط، بل

ص:38

لحاجاته النفسیة، حیث الإنسان یستأنس بالإنسان، ویستوحش لفقده، کان الإنسان یؤثر فی الإنسان الآخر، سواء کانا فردین أو مجتمعین، أو بالاختلاف.

والتأثیر قد ینتج الإیجاب بالترابط، وقد ینتج السلب بالتدابر.

والترابط:

1) قد یکون لأجل هدف واحد، فیجتمعون للوصول إلیه، بدون أن یکون للمجتمعین لون واحد، وهذا یسمی بالترابط الهدفی.

2) وقد یکون من أجل وحدة اللون التابعة لوحدة الثقافة فی الأخلاق والآداب والدین والمراسیم، وهذا یسمی بالترابط الاجتماعی.

کما أن التدابر بانفصال أحدهما عن الآخر علی ثلاثة أقسام، لأنه:

1: قد یکون لأجل الوصول وحده إلی الهدف بدن عمل ما یوجب تأخیر الآخر، وإن کان الآخر أیضاً یرید نفس الشیء، سواء فی فردین أو جماعتین، وهذا یسمی بالاستباق، حیث إن کلاً منهما یستبق الآخر فی نیل هدف خاص کالمسابقة بالخیل.

2: وقد یکون کالأول، ولکن مع عمل ما یوجب تأخیر الآخر، فهو إیجابی بالنسبة إلی نفسه وسلبی بالنسبة إلی الآخر، ویسمی بالرقابة، کرقابة التجار وسائر الحرفیین.

3: وقد یکون الثانی بإضافة کون الرقابة بالعداء والبغضاء، ویسمی بالمحاربة، کما فی المقاتلات والحروب.

ثم إن کلاً من الترابط والتدابر غالباً ینتهیان إلی المسالمة، وهی العیش الاجتماعی بین الفردین أو الطائفتین بسلام، فالمسالمة فی الترابط قد تکون مسالمة الآمریة والمأموریة، حیث یتسلط أحد الطرفین علی الآخر

ص:39

فیسلم الطرف الثانی بآمریة الطرف الأول.

وقد تکون مسالمة التوافق الاجتماعی بدون الآمریة والمأموریة، والتوافق قد یکون بالعدل بأن أعطی کل طرف حقه، وقد لا یکون بالعدل، مثلاً نهر بین قریتین، نفوس إحداهما ألف ونفوس الأخری ألفان، فإن قسم النهر بینهما نصفین کان مساواتهما بدون عدل، وإن قسم للأولی ثلثه کان عدلاً، فإن بین اللفظین عموماً من وجه.

وکل من الآمریة والمأموریة والتوافق، قد یکون مع الرضا الباطنی، وقد یکون بدونه، وأهم القسمین ما یکون بالرضا، إذ القسر لا یدوم، ولا یحصل الرضا الباطنی أبداً إلاّ إذا کان التطبیق یصادف الأصول المقبولة.

وبعبارة أخری کان النظام مطابقاً للإیدولوجیة، لأنه بدون ذلک یقع التدافع الخفی، ثم الجلّی، بین النظام والأصول، وینتهی أخیراً إلی الانفصام، سواء فی الحقل السیاسی أو الاقتصادی أو غیرهما.

مثلاً إذا کانت السیاسة المتخذة من الشریعة الإسلامیة فی قیادة الأمة بالنحو الاستشاری، کانت القیادة الدیکتاتوریة فرضاً علی الأمة، فیقع التصادم بین معتقد الأمة وبین نظامها السیاسی، وذلک ینتهی إن عاجلاً أو آجلاً إلی التضارب والانفصام، ولذا قالوا خیر القیادات وأطولها عمراً ما نبعت من باطن الأمة.

وکذلک فی الاقتصاد، فإذا کان الاقتصاد الإسلامی أمراً وسطاً بین إفراط الرأسمالیة، وتفریط الشیوعیة، کان الاقتصاد السلیم القابل للتطبیق ما کان وسطاً بینهما، فإذا جعل النظام الاقتصادی مائلاً إلی أحدهما، أوجب التصارع بین الأصول: الأیدولوجیة الاقتصادیة، والتطبیق: النظام المجعول، وینتهی أخیراً إلی التعارض والانفصام، وکذلک الأمر فی الثقافة وغیرها.

ص:40

أما المسالمة التی ینتهی التخالف إلیها، فالغالب أن تکون بسبب المصلحین، بعد تهیؤ الطرفین نفسیاً لها، حیث إن الإنسان مغرور غالباً، فیزعم أنه بإمکانه أن یخرج خصمه عن الساحة، وبعد تجربة العداء یری أنه لم ینفعه ذلک، وأخذ من طاقاته الشیء الکثیر، بالإضافة إلی ما حط من سمعته، بما لو صرفها فی البناء لکان أجدی له.

وذلک هو المناخ المناسب التعایش السلمی، وحینذاک ینشط المصلح لجعل شروط تقارب وجهات النظر.

والتوافق بین الجانبین قد یکون علی نحو (المهادنة)، أو علی نحو (المعاهدة)، أو علی نحو (المصالحة)، أو علی نحو (المعایشة).

وهذه مراتب متدرجة، فالمهادنة عدم الخصام، والمعاهدة یضاف إلی المهادنة أن یتعهد کل طرف بعدم الاعتداء، ثم یأتی دور المصالحة حیث یصطلح الطرفان ویکونان کأخوة، وأخیراً یمتزجان کجماعة واحدة وهی المعایشة.

الإسلام یدعو إلی السلم

الإسلام یدعو إلی السلم

وقد حرض الإسلام علی السلام، حتی مع الأعداء، قال سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فإذا الَّذِی بَیْنَکَ وَبَیْنَهُ عَدَاوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ وَمَا یُلَقَّاهَا إلاّ الَّذِینَ صَبَرُوا وَمَا یُلَقَّاهَا إلاّ ذُو حَظٍّ عَظِیمٍ}((1)).

وقال الامام السجاد (علیه السلام): «اللهم سددنی لأن أعارض من غشنی بالنصح، وأجزی من هجرنی بالبر، وأثیب من حرمنی بالبذل، وأکافی من قطعنی بالصلة، وأخالف من اغتابنی إلی حسن الذکر، وأشکر الحسنة، وأغضی عن السیئة»((2)).

ص:41


1- سورة فصلت: الآیة 34.
2- الصحیفة السجادیة: دعاء مکارم الأخلاق.

وفی القرآن الحکیم: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَکَّلْ عَلَی الله}((1)).

وقال سبحانه: {یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِی السِّلْمِ کَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّیْطَانِ}((2)).

أما قوله سبحانه: {أَشِدَّاء عَلَی الْکُفَّارِ رُحَمَاء بَیْنَهُمْ}((3))، فذلک حیث قصوی حالات الاضطرار، کالعملیة الجراحیة الخطرة حیث لا یقدم علیها إلاّ فی قصوی حالات الضرورة، ولذا کان الرسول (صلی الله علیه وآله) والأئمة (علیهم السلام) یخففون أبداً أسباب العداء ویقلصونها، فقال (صلی الله علیه وآله): «اذهبوا فأنتم الطلقاء»((4))، وأعطی علی (علیه السلام) الماء لمن حاربوه، وکذلک فعله ابنه الحسین (علیه السلام) فی کربلاء، إلی غیر ذلک.

أقسام التجمعات

أقسام التجمعات

والجماعة قد تکون جماعة إرادیة، أی اجتمع أفرادها بالإرادة والتخطیط المسبق، وتسمی بالجماعة الرسمیة، أو الهیئة الرسمیة. مثل أعضاء الحکومة فإنها جماعة شکلت لأجل حفظ العدالة وتقدیم البلاد إلی الأمام، مع إرادة وتخطیط.

وقد تکون جماعة غیر إرادیة، بأن لم یکن اجتماعهم عن تخطیط وإرادة خاصة، مثل الاجتماع فی القری والمدن، حیث لم یجمع الأفراد تخطیط وإرادة خاصة فهی جماعة غیر إرادیة.

ثم الجماعة المجتمعة قد تکون طویلة الأمد، کالمثالین السابقین، وقد تکون قصیرة الأمد.

وهذه الثانیة قد تکون عن تخطیط، وقد لا تکون کذلک.

ص:42


1- سورة الأنفال: الآیة 61.
2- سورة البقرة: الآیة 208.
3- سورة الفتح: الآیة 29.
4- الوسائل: ج11 ص119 الباب 72 من أبواب جهاد العدو ح1.

فالأولی: کالمظاهرات التی خطط لها، ولابد أن یکون وراءها عقل مدبر.

والثانیة: کالمظاهرات العشوائیة، کما إذا اجتمع جماعة فی أیام الغلاء عند الخباز، ثم أخذوا یتظاهرون بسبب الجوع وتطلب الخبز.

والجماعة قد تکون بدائیة طبیعیة، کأفراد عائلة واحدة، أو غیر طبیعیة، کالأطفال الذین یجتمعون للّعب، وقد تکون غیر بدائیة، وتسمی بالجماعة الثانویة، وهی التی تجتمع لأجل هدف خاص، ویصرف أفرادها قسماً من نشاطهم فی إطار الاجتماع، کالجماعة الاقتصادیة أو الثقافیة أو الصناعیة.

وأعضاء الجماعة قد یکونون أعضاء مواجهة، لأن اجتماعهم یتطلب المواجهة، مثل أعضاء العائلة، وأعضاء اللعب، وقد یکونون أعضاء غیر مواجهة، حیث إن اجتماعهم لا یتطلب المواجهة، مثل أعضاء الشرکات والأسهم، حیث إن التلاقی لا یکون بینهم، وإنما یرتبط کل عضو بالمکتب الذی فتح لأجل تلک الشرکة أو تلک الأسهم.

والأعضاء إن ربوا فی محیط واحد أو محیط مشابه، سمیت الجماعة بالجماعة المنسقة، وإلاّ کانت جماعة غیر منسقة، حیث إن العرف والعادة والأعمال عند الفعل وردود الفعل فی الأولی مشابهة، بخلافها فی الثانیة.

مثلاً قد یکون من ربی فی الغابة، إذا رأی السبع حمل علیه، بینما من ربی فی المدینة إذا رأی السبع فرّ منه، فإذا رأی أحدهم من صدیقه فراراً أو حملةً وهو بعید عنه علم الحادث فی المنسقة، بینما لا یعلم الحادث فی غیر المنسقة، إلی غیر ذلک من الأفعال وردودها.

ثم إن کل جماعة بالنسبة إلی أفرادها تسمی بالداخلة، وبالنسبة إلی غیر أفرادها

ص:43

تسمی بالخارجة، سواء کانت الخارجة أفراداً متناثرین، أوجماعة أخری.

والأعضاء قد یکونون أصلیین، فیما کانوا نواة مرکزیة، وقد یکونون فرعیین فیما کانوا ثانویین، وهکذا قد یکونون أعضاء التشکیل، وقد یکونون أعضاء الولاء، حیث لا یترکب تشکیل الجماعة منهم وإنما هم موالون یجمعون لهم المال، ویدافعون عنهم، ویروجون لهم.

وقد تحتاج التشکیلة إلی أفراد آخرین، فتنخب من الموالین من تجعلهم ضمن التشکیلة.

والأعضاء قد یربطهم رابط اللحم والدم، وتسمی بالعشیرة أو نحوها، وقد یربطهم رابط غیره، وتسمی بالجماعة الاسترشادیة، حیث یستر شد أعضاؤها بالآراء والأفکار التی تتخذها الجماعة منهجاً لأجل بقاء الجماعة وتقدمها إلی الأمام فی مقاصدها وأهدافها.

ثم الجماعات العاملة لها حرکة خاصة بها فی البعد الذی یهم الجماعة، کالبعد السیاسی بالنسبة إلی الأحزاب، والطبی بالنسبة إلی جماعة الأطباء وهکذا، وهذه الحرکة الخاصة غالباً تکون دوریة، أی إن الجماعة توجد فی أفرادها نوعاً من الحرکة من حیث الکیف والکم، والفرد من الأعضاء المتأثر بالحرکة یعطی رد الفعل إلی الجماعة، بما یزیدها حماساً وحرکة، والجماعة بدورها سترد الحرکة علی نحو أشد من حرکتها الأولی إلی الأعضاء، وهکذا تکون حرکة الجماعة والفرد بین فعل وردّ فعل.

وهذه الحالة کما توجد فی الجماعة المنظمة ذات الأهداف البعیدة، کذلک توجد فی الجماعات التلقائیة الذین اجتمعوا صدفةً لأجل حادث طارئ، مثل مشاهدة تمثیلیة، أو انتظار مأکل أو سفر، أو ما أشبه ذلک، فإن أخذت الجماعة فی الهرج والمرج والتخریب سمیت بالغوغاء.

ص:44

ثم قد یکون للجماعة معنی غیر ما تقدم، وهو الأفراد المشتر کون فی أمر حسن أو سیء، بدون أن یکون بینهم ربط أو رابطة، مثل جماعة المهربین، وجماعة اللصوص، وجماعة الکتّاب، وجماعة الفقراء، وما أشبه.

وفی الاصطلاح فی اللغة العربیة تختلف (الجماعة) عن (الجمعیة)، وإن کان بینهما لغةً تساو أو ترادف، مثلاً إذا کانت هناک جماعة مترابطة لأجل التألیف والنشر یقال لهم: (جمعیة)، بینما إذا لم یکن بینهم ترابط، بل کانوا متناثرین، إذا أرید التعبیر عنهم یقال لهم (جماعة) المؤلفین، وهکذا.

وهکذا جری الاصطلاح فی تسمیة الجماعات السیاسیة بالأحزاب، وإن کان المعنی اللغوی أعم من ذلک، فکل تجمع یسمی (حزباً) وإن کان بدون ترابط قریب کترابط الجمعیات.

قال سبحانه: {وَلَمَّا رَأَی الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ}((1)).

وقال: {أَلا إنَّ حِزْبَ الله}((2)).

وقال: {کُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَیْهِمْ فَرِحُون}((3)).

وکذلک جری الاصطلاح علی تسمیة جماعة بالهیئة، ولا یطلق علیهم حزب أو جمعیة، مثل هیئة الدولة، لأعضائها، أو الهیئة لحسینیة کذا ونحو ذلک، وقد یطلق علی الهیئة (الجماعة) أیضاً.

الجمهور والأمة

الجمهور والأمة

أما (الجمهور) أو (الجماهیر) فالغالب إطلاقها علی (العامة)، وإنما یطلق علیهم هذا اللفظ إذا أرید التعبیر عن إرادة لهم، مثل: لا یرغب الجمهور فی کذا، أو الجمهور یریدون المرشح الفلانی، فقد یلاحظ کل قطعة من العامة

ص:45


1- سورة الأحزاب: الآیة 22.
2- سورة المجادلة: الآیة 22.
3- سورة المؤمنون: الآیة 53.

جمهوراً، فیقال المجموع (جماهیر)، وقد یلاحظ المجموع من حیث المجموع فیقال (جمهور)، وحیث إن الجمهور یطلق علی القطعة من العامة، صح إطلاقه علی طائفة خاصة مثل: جمهور الفقراء، أو جمهور البطالین، أو جمهور الزراعین، إلی غیر ذلک.

و(الأمة) و(الشعب) یطلقان علی طائفة کبیرة من الناس، والفارق بینهما أن (الأمة) تقال باعتبار المبدأ، و(الشعب) یقال باعتبار الذات.

قال سبحانه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُکُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}((1)).

وقال: {وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ}((2)).

ولذا لا یصح أن یقال: الأمم الإسلامیة، لأن کلهم أمة واحدة، بینما یصح أن یقال: الشعوب الإسلامیة، لأن الإسلام اشتمل علی شعوب.

وحیث إن الجماعة المشتر کة فی هدف خاص طویل الأمد، کالجماعة الاقتصادیة أو الثقافیة أو ما أشبههما لها نظم خاص، وروابط بین أفرادها، وعمل خاص، سمیت ب_ (المنظمة).

الاجتماع وشعبه

الاجتماع وشعبه

أما (الاجتماع) فهو المرکب من أناس کثیرین، وغالباً یکون لهم منظمات وجماعات، وجمعیات، ومؤسسات، سواء کانت رسمیة أی دولیة، أو غیر رسمیة.

والاجتماع یشتمل علی (الأخلاق الاجتماعیة)، و(الآداب الاجتماعیة)، و(المواثیق الاجتماعیة)، و(القوانین الاجتماعیة)، و(المواریث الاجتماعیة)،

ص:46


1- سورة المؤمنون: الآیة 52.
2- سورة الحجرات: الآیة 13.

و(الشعائر الاجتماعیة) و(المقررات الاجتماعیة).

فالأول: صفاتهم النفسیة، کالکرم والبخل، والشجاعة والجبن، وحبّ الضیف وکرهه.

والثانی: آدابهم فی بناء الدور، والسلام، والمجالسة، والصلة للرحم، وکیفیة الملابس، وما أشبه.

والثالث: ما یحصل من العهود بواسطة جماعة من کبار المجتمع مع آخرین منه، أو مع مجتمع آخر.

والرابع: القوانین المرعیة فی بیعهم ونکاحهم ومواریثهم ومرافعاتهم، مما جعل العقاب لمن خرقها.

والخامس: ما ورثوها من الآباء والأجداد من الرسوم والآداب وغیرها.

والسادس: ما یظهرونها من الأعمال فی فترات خاصة بحسب عقیدتهم.

والسابع: ما کان من القوانین المرعیة مما یحسن اتباعها ولا تصل إلی القانون الذی یعاقب مخالفه، فإذا لم یسر فرد علی هذه الأمور سمی (شاذاً)، فإن استمر علی خلافه مع الاجتماع سمی (منحرفاً).

ثم الحالة التی تظهر فی الاجتماع وتشمل قطعة کبیرة منه بما فیها من حرکة واضطراب إن کانت سریعة الزوال سمیت (هوساً اجتماعیاً)، وإن کانت بطیئة الزوال سمیت (جداً اجتماعیاً)، فإن وافق تلک هرج ومرج وحالات غیر عادیة سمیت ب_ (الجنون الاجتماعی)، فإن کان مثل ذلک حصل من حادث مخوف کسیل أوحرب فجائیة أو زلزلة شدیدة، سمیت ب_ (الوحشة الاجتماعیة).

والروابط التی تحکم أفراد الاجتماع إن کانت سماویة سمیت (دیناً)، کما أن الروابط سواء کانت سماویة أم لا، تسمی (أنظمة) و(مناهج) و(قوانین) و(مسائل) و(روابط) وغیرها.

ص:47

علاقة الفرد بالمجتمع ونحوه فی ضوء الإسلام

علاقة الفرد بالمجتمع ونحوه فی ضوء الإسلام

ثم لنختم هذه المسألة بکلمات عن علی أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی (نهج البلاغة).

قال (علیه السلام) فی وصیة له للحسنین (علیهما السلام): «أوصیکما...  بتقوی الله، ونظم أمرکم، وصلاح ذات بینکم، فإنی سمعت جد کما (صلی الله علیه وآله) یقول: صلاح ذات البین أفضل من عامة الصلاة والصیام»((1)).

وقال (علیه السلام): «وعلیکم بالتواصل والتباذل، وإیاکم والتدابر والتقاطع»((2)).

وقال (علیه السلام): «وإنما أنتم إخوان علی دین الله، ما فرق بینکم إلاّ خبث السرائر وسوء الضمائر، فلا توازرون ولا تناصحون، ولا تباذلون ولا توادون، وما یمنع أحدکم أن یستقبل أخاه بما یخالف من عیبه إلاّ مخافة أن یستقبله بمثله»((3)).

وقال (علیه السلام): «فإن الله سبحانه قد امتن علی جماعة هذه الأمة فیما عقد بینهم من حبل هذه الألفة، التی ینتقلون فی ظلها، ویأوون إلی کنفها، بنعمة لا یعرف أحد من المخلوقین لها قیمة، لأنها أرجح من کل ثمن وأجل من کل خطر»((4)).

ص:48


1- نهج البلاغة: الکتب 47.
2- نهج البلاغة: الکتب 47.
3- نهج البلاغة: الخ طب 113.
4- نهج البلاغة: الخ طب 192 .

وقال (علیه السلام): «وألزموا السواد الأعظم، فإن ید الله مع الجماعة، وإیاکم والفرقة، فإن الشاذ من الناس الشیطان، کما أن الشاذ من الغنم للذئب»((1)).

وقال (علیه السلام): «ألزموا ما عقد علیه حبل الجماعة، وبنیت علیه أرکان الطاعة»((2)).

وقال (علیه السلام): «فإیاکم والتلون فی دین الله، فإن جماعة فیما تکرهون من الحق خیر من فرقة فیما تحبون من الباطل، وإن الله سبحانه لم یعط أحداً بفرقة خیراً ممن مضی ولا ممن بقی»((3)).

وقال (علیه السلام): «فانظروا کیف کانوا حیث کانت الأملاء» _ جمع ملأ _ «مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأیدی مترادفة، والسیوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة، ألم یکونوا أرباباً فی أقطار الأرضین، وملوکاً علی رقاب العالمین، فانظروا إلی ما صاروا إلیه فی آخر أمورهم، حین وقعت الفرقة، وتشتت الألفة، واختلفت الکلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفین، وتفرقوا متحازبین»((4)).

المجتمع المتخلف بؤرة للرذائل الخلقیة

المجتمع المتخلف بؤرة للرذائل الخلقیة

ثم إن الاجتماع إذا انحرف صار مرکزاً للرذائل الخلقیة والعملیة، حیث إن الاجتماع هو الجهاز الضاغط علی الأفراد والجماعات فی الاستقامة أو الانحراف، والفرقة من موالید الاجتماعات المنحرفة.

فإن الاجتماع إذا کان مستقیماً، اشتغلت جماعاته وأفراده بالبناء، فتوجد المؤسسات البانیة، والجمعیات الخیرة، والمنظمات العاملة فی سبیل التقدم، وهی تجذب أکثر قدر من الأفراد، فیعج الاجتماع بالفضیلة، ویأخذ سبیل

ص:49


1- نهج البلاغة: الخ طب 127.
2- نهج البلاغة: الخطب 154 .
3- نهج البلاغة: الخطب 176.
4- نهج البلاغة: الخطب 192.

الرقی والتقدم، والسیر فی مدارج الکمال.

بینما الاجتماع إذا کان منحرفاً، آخذت الجمعیات فیه بالتحلل والتفسخ، وتفشت البطالة، وکثر الجهل، وشاعت الفردیة، وصار مرکزاً للجمود والتأخر، وشاع فیه الفساد والإفساد.

أما اختلاف الاجتهادات، ففی الاجتماع المتقدم یعالج بسیادة الکلمة، والبحث الحر، والانتقاد النزیه، وحتی فی الحقول السیاسیة نجد الأحزاب الحرة تحاول کل واحدة منها التقدم بکثرة العمل وحسن الخدمة، ویقع التنافس فی البناء، والاستباق إلی الفضیلة.

وقد أکّد القرآن الحکیم علی ذلک، قال سبحانه: {وَسَارِعُواْ إلی مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّکُمْ}((1)).

وقال: {اسْتَبِقُواْ الْخَیْرَاتِ}((2)).

وقال: {وَفِی ذَلِکَ فَلْیَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}((3)).

بالعکس من الاجتماع المتخلف، حیث تأخذ القوة مکان الکلمة، والسیف والسجن والسوط مکان الانتقاد البنّاء والبحث الحر، ویسلط الأشرار حیث إنهم أقدر علی الفتک والإرهاب، هذا من ناحیة.

من ناحیة أخری تکثر فیه العزلة والانزواء، حیث لا یجد الصالحون مجالاً للتنفس، وتفشت البطالة والترهب والتزهد، وکذلک صار المجتمع المسیحی إبان حکم البابوات، بل والمجتمع الإسلامی فی فترات منه، وکان من تلک ما قبل خلافة الإمام أمیر المؤمین (علیه السلام)، فقد ورد أن علیاً (علیه السلام) لما جاء إلی الکوفة رأی فی مسجده أناساً لا عمل لهم یعیشون علی صدقات الناس ویتزهدون فی الدنیا، فأخرجهم الإمام (علیه السلام) عن المسجد بنَهَر وأمرهم بالعمل.

ص:50


1- سورة آل عمران: الآیة 133.
2- سورة البقرة: ال آیة 148.
3- سورة المطففین: الآیة 26.

الثقافة الاجتماعیة

اشارة

الثقافة الاجتماعیة

(مسألة 7): لکل إنسان ثقافة دینیة أو دنیویة، ورثها أو اکتسبها من مجتمعه، أو اخترعها، وثقافات الأفراد تتجمع حتی تعطی لوناً خاصاً للمجموع، ثم تتجمع ثقافات الجماعات فی وحدة أکبر، وتتغیر اللون إلی المتوسط بین تلک الألوان، وهکذا تتجمع الوحدات الکبری فی وحدة جامعة تعد تلک ثقافة المجتمع.

مثلاً إذا اجتمعت عائلة کرمها مائة فی مائة، وعائلة کرمها عشرون فی المائة، وعائلة کرمها ثلاثون فی المائة، کان المجتمع من هذه العوائل کرمهم خمسون فی المائة، فإذا جمعت وحدة کبری بین هذه المجموعة ومجموعة أخری کرمهم عشرة فی المائة، کان الاجتماع کرمه ثلاثون فی المائة.

وکذلک الحال فی الثقافة، والصناعة، والأخلاق، والشجاعة، وغیرها، ولذا کان فی الثقافة الاجتماعیة جهات اجتماع وجهات اختلاف، وکلما کبرت الوحدة الجامعة، کان الرقی أکثر، حیث إن الفضائل فی الأفراد والجماعات تجد متنفساً أکثر وظهوراً أقوی، ولذا حیث جمع الإسلام بین الشعوب المختلفة من عرب وفرس وقبط وهند وغیرهم، وصلت الأمة الإسلامیة إلی أکبر قدر من النضج فی مختلف ثقافات الحیاة.

لکن إنما یکون ذلک إذا توفر مناخ الحریة الکاملة للأفراد، وإلاّ لم تکن حصیلة الاجتماع الکبیر إلاّ التأخر، فإن الثقافة بحاجة إلی تحرک وانتشار

ص:51

وهما لا یتوفران إلاّ فی مناخ الحریة، وکذلک ما یتبع الثقافة من فروسیة وصناعة وزراعة وتجارة وغیرها.

ثم الثقافة مادیة ومعنویة، فالمادیة ما یرتبط بالجسد، والمعنویة ما یرتبط بالنظام والعقیدة ونحوهما، وکلتاهما فی عرض واحد.

أما قول جماعة من المادیین بأن الاقتصاد هوالبناء التحتی للدین والأخلاق والأنظمة وغیرها، مما هی فی نظرهم بناء فوقی، فهو قول خال عن الدلیل، بل قام الدلیل علی خلافه.

والفرد فی الاجتماع، وکذلک فی الجماعة المترابطة فی وحدة منظمة واحدة، له:

1) مکانة.

2) وعمل اجتماعی.

فالأول: عبارة عما له فی الاجتماع من الشخصیة الموجبة لاحترامه، ولسهولة نفوذ أوامره، وهذه المکانة الاجتماعیة تابعة للمال والسلاح والعلم والعشیرة ونحوها، والإیمان والأخلاق والأعمال، وأحیاناً الجسد، کالإنسان الجمیل أو الإنسان القوی البنیة.

بینما الثانی: عبارة عما یزاوله الشخص من الأعمال، وکلما کان عمل الإنسان أکثر وأحسن، کماً وکیفاً، زاد ذلک فی مکانته الاجتماعیة.

الکفاءة میزان التقدم

الکفاءة میزان التقدم

ثم فی المجتمع الصالح تکون الکفاءة والحریة میزان التقدم، ف_ {کل امرئ بما کسب رهین}((1))، و{أن لیس الإنسان إلاّ ما سعی}((2))، و«الناس مسلطون علی أموالهم وأنفسهم»((3)).

ولذا تکون السیادة والمال وغیرهما منقسمة بین المجتمع، والاجتماع فی مثل هذا المجتمع یأخذ فی التحرک.

ص:52


1- سورة الطور: الآیة 21.
2- سورة النجم: الآیة 39.
3- بحار الأنوار: ج2 ص272، غوالی اللئالی: ج1 ص222.

بینما فی المجتمع الطبقی المنحرف، تستولی طبقة علی الناس، فهم طبقة والناس طبقة، والکفاءات تسحق، والحریات تسلب، والطبقة الحا کمة هی کل شیء، بیدها المال والسلاح والسیادة، أو الطبقة الحاکمة تتحالف مع الأثریاء لیکون بیدهما کل شیء، والمال دولة، وسائر الناس طبقة مطحونة، کما نجد فی الحال الحاضر مثال الأول فی الشرق، ومثال الثانی فی الغرب.

التحرک الأفقی والعمودی للمجتمع

التحرک الأفقی والعمودی للمجتمع

قد تقدم أن الاجتماع یأخذ فی التحرک إذا کان المجتمع صالحاً، والتحرک علی نحوین:

الأول: التحرک الأفقی، بأن یغیر الفرد مکانته الاجتماعیة إلی مکانة مماثلة، کان یخرج من جمعیة لیدخل فی جمعیة أخری، حیث مکانته فیهما متساویة.

الثانی: التحرک العمودی، وذلک صعوداً، حیث إن الحریة والکفاءة توجبان صعود الفرد إلی المکانة اللائقة به فی أعلی درجات الاجتماع، أو نزولاً حیث إن توفر الکفاءة فی غیر الصاعد، یوجب أن یصعد، فیخلی الصاعد مکانه للأکثر کفاءة، بینما هو ینزل إلی المستوی اللائق به، ولذا تکون المجتمعات الراقیة فی حال تحرک دائم وصعود ونزول، بخلاف المجتمعات المتأخرة حیث إنها فی حال جمود ورکود.

والاجتماع بالنسبة إلی تحرک الأفراد أفقیاً أو عمودیاً علی ثلاثة أقسام:

الأول: الاجتماع المنغلق الذی لا یسمح للتحرک، لوجود الاستبداد المطلق الکابت للناس عن الحرکة، والکبت یکون بالقتل والتعذیب والسجن والمصادرة وتلفیق التهم، وفی مثل هذا المجتمع تموت المواهب، وتقبر الحریات.

ص:53

والثانی: الاجتماع المنفتح، وهو بعکس الأول، وعلامة هذا المجتمع حریة الصحافة والتجارة والثقافة والإعلام والتحرک فی مختلف أبعاد الحیاة، والحاکم فیه کسائر الأفراد ینتقد علناً، ویحاسب علی کل ما عمله، وفی مثل هذا المجتمع تتفتق المواهب، ویتقدم الاجتماع بکفاءاته إلی الأمام.

الثالث: الاجتماع المتوسط بین الاجتماعین، فلا استبداد إلاّ نصفیاً، ولا حریات إلاّ فی الجملة، وهذا الاجتماع أسبابه مأخوذة من الاجتماعین السابقین کل فی الجملة، کما أن علائمه وآثاره بین الأمرین.

وحیث کانت مزایا الاجتماعات الثلاثة علی ما ذکر، المنطلق یتقدم علی القسمین الآخرین دائماً، بینما المنبثق منهما یتقدم علی المنغلق أبداً.

وقد کان هذا من أسباب تقدم بلاد الإسلام علی بلادالعالم إبان ظهور الإسلام، حیث کانت بلاد العالم منغلقة، وبلاد الإسلام منطلقة، کما أن بنفس هذا السبب تقدمت البلاد الصناعیة علی بلاد الإسلام فی هذه الحقبة من التاریخ، إذ أن تلک البلاد منبثقة، بینما بلاد الإسلام أصبحت منغلقة.

ثم إن التغییر الاجتماعی یحدث أول ما یحدث فی مؤسسة من مؤسسات الاجتماع، ثم ینتقل إلی مؤسسة ثانیة وثالثة، وهکذا حتی یشمل کل الاجتماع، سواء کان ذلک فی طرف الصعود أوالنزول، مثلاً إذا نشطت المؤسسات الدینیة إیماناً وأخلاقاً وعلماً، سری النشاط إلی المؤسسات الثقافیة، ومنها یسری إلی المؤسسات الصناعیة، وهکذا حتی یعم المجتمع الإیمان الصحیح والأخلاق الفاضلة والعلم الوفیر، وإذا جمدت المؤسسة الحکومیة بأن صارت دیکتاتوریة، جمدت المؤسسات التابعة، ثم المستقلة، ثم یسری الجمود إلی الجماعات والأفراد، وینزل الاجتماع، فإن الانطلاق والجمود مثلهما مثل

ص:54

الماء یتطلب تساوی السطوح.

((جماعات ضد الدولة))

((جماعات ضد الدولة))

ثم إنه قد یقوم جماعة من الناس ضد الدولة، فیسمون فی المنطق الإسلامی بالخوارج، وفی المصطلح حالاً بالمنشقین.

فإن أرادوا الانفصال سموا بالانفصالیین، فإن تمکنت الجماعة التی قامت ضد الدولة من إسقاط الدولة سموا بالثوار. وقد یطلق الثوار علی مطلق الخوارج والمنشقین. وإن لم تتمکن من إسقاط الدولة، سموا فی منطق تلک الدولة بالمتمردین والعصاة.

وإذا کان الذین قاموا ضد الدولة هم أغلبیة الناس سموا بالثائرین، وسمی عملهم إذا أسقطوا الدولة ثورة، ثم إذا استقر الحکم للثوریین وقام جمع ضد الثورة لإعادة الحکومة السابقة، أو تشکیل حکومة جدیدة سمی عملهم ذلک بالثورة المضادة.

وقد لا تکون الثورة فی البعد الحکومی، بل فی البعد الاجتماعی، بأن أراد الناهضون تحسین الوضع الاجتماعی، أو الصناعی، أو الزراعی، أو الثقافی، أو السیاسی، فإن مثل هذه النهضات تسمی بأسامی أهدافها، فیقال: الثورة الاجتماعیة أو الصناعیة وإلی آخره.

نظرة علی الانقلابات العسکریة

نظرة علی الانقلابات العسکریة

أما کیف نجد الانقلابات العسکریة فی البلاد المتخلفة، ولا نجدها فی العالمین الشرقی والغربی، فذلک لأن البلاد المتخلفة _ ومنها بلاد الإسلام فی الحال الحاضر _ فیها تخلف فی جمیع أبعاد الحیاة، من ناحیة، ومن ناحیة ثانیة هی تحت نیر الاستعمار المباشر، أو غیر المباشر، وکثیراً ما یتغلب استعمار علی استعمار فی تبدیل الحکام، أو یرید الاستعمارالسابق تبدیل وجوه عملائه،

ص:55

لیکونوا أرضی للشعب، أویرید أرباحاً أکثر مما لا یسمح العملاء السابقون له بذلک، فیقوم المستعمر بواسطة جماعة من عملائه بالانقلاب فی غیاب من الوعی الجماهیری ورشد الأمة.

ولذا کان اللازم علی المفکرین تنویر الأمة وتوعیتها حتی لا یقع فیها انقلاب، کما أن اللازم بیان أن کل الانقلابات التی وقعت فی العالم الثالث _ بما فیها العالم الإسلامی _ کانت من ولائد الاستعمار، مهما أظهر عمال الانقلاب أنفسهم بمظهر النظافة والطهارة والإخلاص.

والدلیل علی ذلک أنک لا تجد فی أی من تلک الانقلابات تحسیناً فی حالة الشعب، بل بالعکس کانت کلها سبباً لإجراء سیل من ا لدماء، وملأ السجون وتعذیب الأبریاء، وانتهاک أعراض النساء والأولاد، ومصادرة الأموال، وتشرید الآمنین، وتحطیم بقایا الحریات، وإلی آخرها.

وقد ذکرنا فی المقدمة الطریق إلی نجاة المسلمین من براثن المستعمرین وعملائهم.

أما أنه کیف لا تقع الانقلابات العسکریة فی البلاد الشرقیة والغربیة:

أما فی البلاد الشرقیة فلأن الدیکتاتوریة الحاکمة تقمع کل احتمال معارضة بأبشع أنواع القمع، فمثلاً فی عهد ستالین قتل من الفلاحین زهاء خمسة ملایین فی تطبیق نظام المزارع الجماعیة، ووصل عدد السجناء والمبعدین إلی معسکرات الاعتقال فی سیبریا إلی أکثر من عشرین ملیوناً، والأمر وإن خّف بعد ستالین، إلاّ أن الحال کذلک إلی الآن، حکومة بولیسیة، وکبت وخنق، والبلد سجن کبیر، والناس یقتلون ویسجنون بالشک والوهم، ویجبرون علی الاعترافات علی أنفسهم فی أثر تعذیبات شدیدة وأعمال شاقة، وقد قتلوا من

ص:56

المسلمین أکثر من خمسة ملایین عند استیلائهم علی الجمهوریات الست الإسلامیة، وبعد أن مات  ماوتسی تونغ ظهر أن قتلاه أکثر من عشرین ملیوناً، وفی کوبا نصف ملیون سجین من تسعة ملایین هم مجموع أفراد البلد، وهکذا.

وفی مثل هذه الأجواء من غیر المترقب الانقلاب أو الثورة.

وأما فی البلاد الغربیة، فإن الدعایة المکذوبة، وشیئاً من الحریة المخدرة، وبعض الرفاه النسبی، والضبط البولیسی الشدید لعدم بروز أعمال العنف، أوجب عدم الانقلاب والثورة.

بین حکم السماء وحکم الأرض

بین حکم السماء وحکم الأرض

وإذا قامت دولة إسلامیة حسب موازین الکتاب والسنة، ومثل ما حکم رسول الله (صلی الله علیه وآله) وعلی (علیه السلام)، مما وفر للناس الحریة الکاملة بما أوجب رفاه الناس کاملاً، وانطلاقهم کما أراد الإسلام، لرأی الناس البون الشاسع بین نمط هذا الحکم، وبین الإنماط للحکومات الغربیة التی تدعی الحریة والرفاه، ولرأوا أن البولیس الإجرامی یقل، والدعایة لا تکون إلاّ صحیحة.

وأسس مثل هذا الحکم:

1) الإیمان باالله والیوم الآخر.

2) الأخلاق الفاضلة.

3) الشوری من القمة إلی القاعدة، حتی إن القیادة العلیا تتکون من المراجع الذین هم المقلَّدون للأمة، فإن کان للأمة عشرة مقلدین کانوا کلهم داخلین فی المجلس الاستشاری الأعلی وهکذا.

4) إطلاق کافة الحریات الفکریة والعملیة فی جمیع المجالات، إلاّ

ص:57

مجال المحرمات، حیث إن المحرم ضار بالنفس أو الغیر، ولاحریة للضار.

5) تعدد الأحزاب الحرة السلیمة، والتی هی مدارس لتربیة القادة السیاسیین.

6) الاقتصاد السلیم الذی لا یولد الرأسمالیة المنحرفة، ولا الاشتراکیة الباطلة.

7) الاجتماع الصحیح الذی یتخد قوانین الإسلام منهجاً فی العبادات والمعاملات والأحوال الشخصیة والعقوبات والقضاء وغیرها.

وحیث قد أزیح حکم السماء عن الأرض ابتلی الناس بالانحراف، وکما قال سبحانه فقد صار للناس: {معیشة ضنکاً}((1))، وقد وصف مثل ذلک الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) بأن الشعار الخوف، والدثار السیف.

وقد صار للاجتماع البشری بمجموعه الخواص التالیة:

أ: تمرکز رأس المال بید النخبة الحاکمة فی البلاد الشرقیة، والرأسمالیین فی البلاد الغربیة، إلی جانب فقر مدقع ومسکنة لا نظیر لهما فی التاریخ، شملا الملایین والملایین من الناس.

ب: سباق التسلح والخوف المطلق، والحروب والمؤامرات، والانقلابات المتتالیة، واستیلاء روح الانتقام والتوحش.

ج: ضعف الإیمان والأخلاق، والتحاسد والتباغض، والفوضی والاضطراب.

د: استیلاء الروح المنفعیة والمصلحیة والانتهازیة علی السیاسة والاقتصاد والاجتماع وغیرها.

ولا علاج لشیء من ذلک إلاّ برجوع قوانین السماء إلی الأرض: {ومن یؤمن بالله یهد قلبه}((2))، و {ألا بذکر الله تطمئن القلوب}((3)).

ص:58


1- سورة طه: الآیة 124.
2- سورة التغابن: الآیة 11.
3- سورة الرعد: الآیة 28 .

مراحل علم الاجتماع

اشارة

مراحل علم الاجتماع

(مسألة 8): إذا لاحظنا علم النحو، رأینا أنه یمر بثلاث مراحل:

مرحلة المطالعة لکلمات العرب، ومرحلة کشف القوانین للّغة العربیة، ومرحلة تنظیم تلک القوانین فی الکتب تنظیماً عمودیاًً، بتقدیم ما حقه التقدیم وتأخیر ما حقه التأخیر، وأفقیاً بترتیب المسائل التی لا ترتیب بینها.

وإذا لاحظنا سائر العلوم رأینا فیها المراحل الثلاث، مثلاً علم الطب یمر بمرحلة ملاحظة الطبیب الأبدان وأمراضها وعلاجها وعلائمها، ثم مرحلة کشف القوانین العامة أو الغالبیة، ثم تدوین تلک القوانین عمودیاً وأفقیاً.

وکذلک علم الاجتماع له هذه المراحل الثلاث، فالعالم الاجتماعی:

أولاً: یلاحظ الاجتماع، ویدقق فی سیر الأمور المرتبطة به تدقیق ملاحظة وإحصاء وکشف، لا تدقیق تجربة وعمل، إذ الاجتماع لا ینفعل، وإنما یفعل، بخلاف من یجرب دواءً فإنه یجربه بالفعل، أی یزرعه ویسقیه ماءاً زائداً أو ناقصاً، ویقطعه ویعطیه لحیوان لیری أثره فیه، إلی غیر ذلک.

فعلم الاجتماع داخل فی سلسلة العلوم الانفعالیة، أی إن العالم یلاحظ، لا العلوم الفعلیة فإن العالم الاجتماعی لا یفعل ولا یجرب.

وثانیاً: یدرک القوانین المطلقة، مثل قانون (الحسن یحسنه الاجتماع) و(القبیح یقبحه الاجتماع)، وأنه (کلما ارتفعت ثقافة الناس ارتفع اقتصادهم) و(کلما تحسنت أخلاق الاجتماع تقدمت سائر شؤنهم).

أو المقیدة، أی بزمان أو

ص:59

مکان خاصین، مثل: (الولادة فی الأریاف أکثر من الولادة فی المدن)، و(الثقافة فی المدن أکثر من الثقافة فی الأریاف) حیث إنه لا تلازم بین الأمرین، وإنما الحکم کذلک غالباً فی جملة من المدن والأریاف، لأسباب خاصة سببت هذا الاختلاف.

وثالثاً: یضع عالم الاجتماع القوانین المکتشفة فی مدونات خاصة، مرتبة عمودیاً وأفقیاً، ویخرج علم الاجتماع إلی الظهور.

وقد کان علم الاجتماع قلیلاً أو کثیراً منذ القدیم منتشراً فی کتب، ثم فی القرون الأخیرة وضعت له کتب وقواعد وما أشبه، شأنه شأن سائر العلوم التی کانت منتشرة ثم جمعت فی مدونات خاصة، وتکاملت بکثرة البحث والمطالعة.

علم الاجتماع: الموضوع والمسائل والغرض

علم الاجتماع: الموضوع والمسائل والغرض

حیث إن لکل علم موضوعاً، هو جامع موضوعات مسائله، ومحمولاً هو جامع محمولات مسائله، موضوعاتها صغریات کلی الموضوع، ومحمولاتها صغریات کلی المحمول، وبهذه الوحدة الاعتباریة یؤثر ذلک العلم فی غرض خاص، هو مورد توجه المدون لذلک العلم، کان لعلم الاجتماع أیضاً تلک الأمور الثلاثة:

أ: فموضوع علم الاجتماع هو (کیفیة الحیاة البشریة من حیث الاجتماع)، وکما إذا قلنا: إن موضوع علم النحو (الکلمة من حیث نطق آخرها) کانت (الکلمة) موضوعاً للعلم، جامعاً لموضوعات مسائله، و(من حیث نطق آخرها) محمولاً للعلم، جامعاً لمحمولات مسائله، کذلک موضوع علم الاجتماع (کیفیة الحیاة البشریة) ومحموله (من حیث الاجتماع).

ص:60

ولا یخفی أن علم الاجتماع بمعناه الأعم، یشمل الاجتماع الحیوانی أیضاً، مثل حیاة النملة والنحلة والأرضة وما أشبهها، لکن المهم عندنا الآن علم الاجتماع بمعناه الخاص، أی الاجتماع الإنسانی.

ب: ومسائل علم الاجتماع صغریات ذلک الموضوع والمحمول العامین، مثل البحث عن الاجتماع المتقدم والمتأخر، والصناعی والزراعی وغیرهما، والمثقف والجاهل، والغنی والفقیر، والمستعمِر والمستعمَر، إلی غیرها من المسائل الکثیرة.

ج: والغرض من هذا العلم کشف القوانین الاجتماعیة العامة أو الخاصة لأجل معرفة الخطأ والصواب فی الاجتماع، حتی یمکن انتشال الاجتماع المتأخر بترشیده الفکری لیعرف مواقع خطئه فیتجنبها، ولحفظ الاجتماع المتقدم عن الانحطاط بممارسة المناهج الصحیحة دائماً، لحث الاجتماع المتقدم للمزید من التقدم.

وبذلک ظهر تعریف علم الاجتماع بأنه معرفة القوانین الحاکمة علی الحیاة البشریة من حیث الاجتماع((1)).

مهمة علماء الاجتماع

مهمة علماء الاجتماع

ثم إن العالم الاجتماعی لدی ملاحظته الاجتماع ووضعه، حیث یکلف ببیان الروابط الاجتماعیة یلزم علیه:

أولاً: بیان:

ص:61


1- لا یخفی أنا لم نلاحظ فی هذا المبحث الدقة المتعارفة فی علم الأصول، لأن المهم کان الإلماع فقط . منه (دام ظله).

1: الروابط الأحیائیة المبعثرة.

2: الروابط التی یجری علیها الاجتماع عادةً وتقلیداً فی شؤونه المتنوعة من ساعة ولادته إلی بعد موته، مما یشبه المؤسسات الدائمة، مثلاً کل اجتماع له مراسیم خاصة للولادة، ومراسیم خاصة للزواج، ومراسیم خاصة للموت، ومراسیم خاصة للتهنئة والتعزیة، مما یجری فی الاجتماع نسلاً بعد نسل، وکأن تلک المراسیم مؤسسات تحقق خیر الإنسان من ساعة ولادته إلی ساعة إهالة التراب مثلاً علی قبره.

3: الروابط الدائرة فی مؤسساته المختلفة من رسمیة أو اقتصادیة أو سیاسیة أو غیرها.

وثانیاً: بیان مواضع الخطأ والصواب، والحسن والأحسن، والسیء والأسوأ، فی تلک الأمور الثلاثة الآنفة الذکر، مثلاً فی مراسیم الموت، من عادة بعض الوحوش أکل لحم میتهم، ومن عادة بعض المبذرین دفنه بأشیاء ثمینة، ومن عادة بعضهم حرق میتهم، ومن عادة بعضهم دفنه فی تابوت، کما أن من عادة المسلمین دفنه بعد تنظیفه بالغُسل، ولفه فی ثوب نظیف کالکفن، إلی غیر ذلک، فاللازم علی علم الاجتماع أن یبین فلسفة الفساد فی الفاسد، والصلاح فی الصالح، وبذلک یقرب الاجتماع إلی ما یصلحه ویقدمه، ویبعده عما یفسده ویؤخره.

ثم إن علم الاجتماع لما کان یأخذ سیر الاجتماع وخصوصیاته ومزایاه فهو مجموعة علوم ألغیت فیها جانب مزایا تلک العلوم، وأدرجت فی علم الاجتماع، ولذا فاللازم ملاحظة أربعة أمور:

1) علم الاجتماع من حیث الغرض.

ص:62

2) علم الاجتماع من حیث الموضوع.

3 ) علم الاجتماع من حیث السند.

4) علم الاجتماع من حیث الحدود.

علم الاجتماع النظری والعملی

علم الاجتماع النظری والعملی

أ: أما علم الاجتماع من حیث الغرض، فإنه ینقسم إلی:

1) النظری.

2) العملی.

فالأول: هو الذی یعتمد علی الذهن أکثر مما یعتمد علی الخارج، بأن یأخذ من الخارج أشیاء لیکشف بها القوانین العامة الحاکمة علی الاجتماعات والمؤسسات الاجتماعیة، من دون نظر إلی کیفیة التطبیقات.

بینما الثانی یهتم بالجانب العملی، أی کیف یمکن تطبیق تلک القوانین علی الخارج، مثل أنه کیف یمکن إصلاح الاجتماع، وکیف یمکن التخطیط والهندسة للاجتماع، وکیف یمکن القیام بالثورة الاجتماعیة، وإلی آخر مثلهما فی ذلک، مثل من یتعلم قواعد علم الطب، ومن یتعلم کیف یطبق تلک القواعد علی الخارج.

علم الاجتماع سعةً وضیقاً

مهمة علماء الاجتماع

ب: وأما علم الاجتماع من حیث الموضوع، فإن العالم الاجتماعی قد یتکلم حول هذا العلم بمعناه العام من دون ملاحظة کل مسألة مسألة علی حدة، وقد یخصص علمه بمسألة خاصة من هذا العلم، فإنه قد توسعت فروع علم الاجتماع، إلی علم الاجتماع السیاسی، وعلم الاجتماع الاقتصادی، وعلم الاجتماع الصناعی، وعلم الاجتماع الزراعی، وعلم الاجتماع القضائی، وعلم الاجتماعی الحقوقی، وعلم الاجتماع الدینی، وإلی غیر ذلک.

فالأول: وهو علم الاجتماع بمعناه العام والمطلق، یأخذ من کل علم

ص:63

من هذه العلوم قدراً أساسیاً، ویتکلم حوله باقتضاب.

بینما الثانی یجعل أی فرع من تلک الفروع موضع هدفه، ویتکلم فیه بأسهاب.

ویلحق بهذا القسم الثانی فرع الفرع، کما إذا أخذ عالم الاجتماع جانب الإنتاج الاجتماعی، أو جانب التوزیع الاجتماعی بالنسبة إلی الاقتصاد، أو جانب الأحزاب الاجتماعیة، أو جانب القدرة الاجتماعیة بالنسبة إلی السیاسة.

علم الاجتماع من حیث السند

علم الاجتماع من حیث السند

ج: وأما علم الاجتماع من حیث السند، فإن العالم الاجتماعی قد یسند فی استخراحه القوانین إلی الوثائق والمدارک التاریخیة، وذلک فیما إذا أراد التحقیق حول (الاجتماع التاریخی).

وقد یسند فی استخراجه القوانین إلی الاجتماع الحاضر المشاهد، وذلک فیما إذا أراد التحقیق حول (الاجتماع الحاضر).

وإذا أراد عالم الاجتماع التحقیق حول ما سیکون علیه الاجتماع فی المستقبل کان لابد وأن یسند إلی کلا السندین، لأجل التکهن بالمستقبل فی حدود الإمکان.

علم الاجتماع وسائر العلوم

علم الاجتماع وسائر العلوم

د: وأما الأمر الرابع، وهو علم الاجتماع من حیث الحدود مع سائر العلوم، وبین علم الاجتماع المطلق، وعلم الاجتماع الخاص، فهو علی ثلاثة أمور:

1) بین العلم العام والخاص، أی علم الاجتماع بصورة مطلقة، وعلم الاجتماع السیاسی مثلاً، والنسبة بینهما نسبة العموم المطلق، حیث الثانی أخص من الأول، نعم هناک أمور تذکر فی الخاص من حیث الاستیعاب لا

ص:64

تذکر فی العام إلاّ بالإجمال والإیجاز.

2) بین علم الاجتماع العام وعلم الزراعة مثلاً، والنسبة بینهما عموم من وجه، حیث إن علم الاجتماع یشمل الزراعة الاجتماعیة والصناعة والسیاسة وغیرها، بینما علم الزراعة یشمل هذا العلم سواء من جهته الاجتماعیة أو سائر جهاته.

3) بین علم الاجتماع الخاص، مثل علم الاجتماع الاقتصادی، وبین علم الاقتصاد، والنسبة بینهما عموماً من وجه، حیث إن علم الاجتماع الاقتصادی یلون علم الاقتصاد بلون الاجتماع، بینما لیس هذا موجوداً فی علم الاقتصاد، ومن ناحیة أخری علم الاقتصاد یتعرض لما لا یتعرض له علم الاجتماع الاقتصادی، مثل تاریخ الاقتصاد، وکیفیة تحصیل الدولة لما تحتاجها من المال، وکیفیة صرفه، وأمور البنک، وغیر ذلک.

ما یجب ملاحظته فی التحقیق الاجتماعی

ما یجب ملاحظته فی التحقیق الاجتماعی

بقی شیء، وهو أن من أهم ما یلزم علی العالم الاجتماعی فی تحقیقاته ملاحظة أمور:

أ: الدقة فی التحقیق، فإنه بالإضافة إلی أن العلم أمانة، والخیانة من أشد المحرمات الشرعیة العقلیة، قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَی السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَیْنَ أن یَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ کَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}((1)).

ص:65


1- سورة الأحزاب: الآیة 72.

إن عدم استقامة القوانین والنظریات الاجتماعیة ینتهی إلی ظلم الناس، وذلک محرم عقلاً وشرعاً أیضاً، مثلاً لو لم یحقق العالم الاجتماعی فی الفوائد الاجتماعیة لتعدد الأحزاب، مما حبّذ وحدة الحزب اجتماعیاً انتهی إلی الدیکتاتوریة الموجبة لهدر الأموال والأعراض والدماء، فإن العلم یأخذ طریقه إلی العمل غالباً.

قال سبحانه: {وَلَیَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}((1)).

وقال سبحانه: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِینَ یُضِلُّونَهُم بِغَیْرِ عِلْم}((2)).

وقال سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}((3)).

ب: عدم التعصب، فإن المحقق کثیراً ما یقع تحت نیر التعصب، وذلک یحرف تحقیقه مما له آثار سیئة، ولا فرق فی ذلک بین التعصب لبلده أو قومه أو دینه أو جماعته أو غیر ذلک.

ج: عدم تأثیر القدرة علیه، سواء فی الحکومات الدیکتاتوریة بسبب المال والسلاح، أو فی الحکومات الاستشاریة بسبب المال والجاه، ولذا نری سقوط کثیر من المؤرخین لأجل تزلفهم للسلطات خوفاً أو طمعاً، فلا عبرة بتواریخهم، وهکذا حال غیر المؤرخ من العلماء الذین یتأثرون بالقدرة، ویصبحون فقهاء البلاط، أو وعاظ الملوک، أوشعراء وکتاب الأمراء.

د: عدم تأثره بالدعایة والأجواء، فإن عدم الاحتیاط والحزم والدقة یسقط العالم فی الأجواء المصطنعة، بدعایة أو غیرها، فإن ذلک أیضاً یوجب

ص:66


1- سورة العنکبوت: الآیة 13.
2- سورة النحل: الآیة 25.
3- سورة الإسراء: الآیة 36.

الانحراف المسقط العالم الاجتماعی، وغیره عن درجه الاعتبار دیناً ودنیاً.

وقد ورد فی الحدیث: «رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه»((1)).

وورد أیضاً: «من أبدی صفحته للحق هلک»((2)).

وقال سبحانه: {فَوَیْلٌ لِّلَّذِینَ یَکْتُبُونَ الْکِتَابَ بِأَیْدِیهِمْ ثُمَّ یَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ الله لِیَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِیلاً فَوَیْلٌ لَّهُم مِّمَّا کَتَبَتْ أَیْدِیهِمْ وَوَیْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا یَکْسِبُونَ}((3)).

وفی الحدیث: «فلا یغرنک طنطنة الرجال من نفسک»((4)).

ص:67


1- الأمثال النبویة: ج2 ص103.
2- ال کافی: ج8 ص67.
3- سورة البقرة: الآیة 79.
4- نهج البلاغة: الخ طب 132 وف یه: (فلا یغرنک سواد الناس من نفسک).

مستلزمات إتقان التحقیق الاجتماعی

اشارة

مستلزمات إتقان التحقیق الاجتماعی

(مسألة 9): المحقق الاجتماعی یلزم علیه لإتقان المسألة أمور:

((منطلق التحقیق))

((منطلق التحقیق))

الأول: انتخاب منطلق تحقیقه، فإن المنطلقات المختلفة تؤدی إلی النتائج المختلفة، وذلک یؤدی کثیراً ما إلی الخطأ، حیث إن المنطلق یکون منحرفاً.

مثلاً قد یری المحقق بلداً فیه حریات النقد والکتابة والإذاعة والتلفزیون والکسب والانتخابات وما أشبه، ومن هذا المنطلق المرئی یقول بوجود الحریات فی البلد الفلانی، بینما أن المنطلق لیس ما یری، بل المنطلق هو البنیة الاجتماعیة للمجتمع، فإذا لو حظت تلک البنیة یجد أن تلک الحریات مزیفة، وأن الناس یعیشون تحت الکبت، حالهم حال المخدر الذی یظن أنه سالم، لکن التخدیر أورثه هذا الزعم، وإنما هو فی أشد حالات المرض، فمثلاً الرأسمالیة المنحرفة مسلطة علی ذلک البلد، فقبضت کل شیء، فالنقد حر لکن لغیر رأس المال، والانتخاب حّر لکن لا یفید حریة الإنسان بعد أن اشترت رأس المال الضمائر، والکلام حرّ لکن یخاف المجتمع من الکلام حیث إن من ورائه الأخطبوط الذی یسبب الازدراء بکل کلام ضد رأس المال، وهکذا، وقد ذکرنا شیئاً من تفصیل ذلک فی کتاب الاقتصاد.

بینما المحقق الاجتماعی إذا اختار المنطلق من الحریات الواقعیة، والتی لم یسیطر علیها الأخطبوط، ذهب إلی عدم الحریة الواقعیة فی ذلک البلد، وإنما فیه سراب حریة خادع، وشبح لا روح له ولا حول ولا طول.

ص:68

تشخیص مفردات البحث

تشخیص مفردات البحث

الثانی: تشخیص مفردات البحث، وإلاّ لوقع فی الخطأ، علی ما ذکروا فی علم المنطق.

مثلاً إذا قیل هل البلدة الفلانیة دیمقراطیة أم لا، أو الحکومة الفلانیة دیکتاتوریة، أو الجمعیة الفلانیة وطنیة، لولم یحقق المحقق حول الکلمات الثلاث بکل دقة ویبین حدودها، لوقع فی نتائج مغلوطة.

ففی (الدیمقراطیة) لم لو یحقق أنها عبارة عن الحریة الکاملة فی الانتخاب، بدون تأثیر جو أو دعایة أو مال أو ما أشبه، لزعم أنها دیمقراطیة، بینما الواقع أنها لیست کذلک.

وفی (الدیکتاتوریة) لو زعم أنها ما یقابل البلد الذی فیه مجلس الأمة وصحف حرة وما أشبه، لقال بأنها لیست دیکتاتوریة، بینما أحیاناً الدیکتاتوریة تغلف بثوب مهلهل من الحریات، یعرفها المدقق ویغفل عنها السطحی، فاللازم علی المحقق الاجتماعی أن یحقق أولاً عن معنی کلمة (الدیکتاتوریة) ثم یصدر حکمه بأن البلدة لیست دیکتاتوریة.

و(فی الوطنیة) إن زعم أنها ما تکون أفرادها متجنسین بجنسیة الوطن، رأی أن الجمعیة وطنیة، أما إن حدد الکلمة بأنها ما تخدم الوطن، تغیر رأیه حیث کانت تلک الجمعیة لا تخدم الوطن.

ومن هنا زعم کثیر من المسلمین أن قوله (علیه السلام): «حب الوطن من الإیمان»، یراد به الوطن الجغرافی الذی حدد حدوده الاستعمار فی القرن الأخیر، ولذا یطلقون کلمة (الأجنبی) علی غیر من کان فی تلک الحدود، بینما الوطن فی الحدیث (الوطن الإسلامی)، والأجنبی من لم یکن مسلماً، وإن کان آباؤه منذ ألف سنة فی هذا البلد.

ص:69

اتخاذ النماذج المختلفة

اتخاذ النماذج المختلفة

الثالث: اتخاذ النماذج المختلفة فی إرادة إصدار الأحکام الکلیة الغالبیة، إذ لما کان الإحصاء التام غیر میسور غالباً، یکتفی المحقق الاجتماعی باتخاذ النماذج، فقد یتخذها من ردیف واحد، زماناً أو خصوصیة، وحینداک لا یصح الحکم کلیاً، وقد یتخذها من مختلف الأردفة، فیکون الحکم الکلی قریباً من الصواب.

ففی مثال الزمان، إذا أراد المحقق أن یحکم علی أهل قطر کذا بالذکاء أو الغباء، لم ینفع أن یأخذ الإحصاء عن معاصریه فقط، بل اللازم أن یسبر غور التاریخ، فإذا رأی فی جمله من الأزمنة ذکاءهم، قال بأنهم أذکیاء، وإلاّ لم یحکم بذلک.

وفی مثال المکان، إذا أراد أن یحکم بأن القطر الفلانی حسن المناخ أو سیئه، لم ینفع أن یجد أحدهما فی عشرة من المائة من أماکنه، بل ولا الخمسین فی المائة، وإلا کان حکمه اعتباطاً.

وفی مثال سائر المشخصات إذا أراد أن یحکم أن الشباب فی البلد الفلانی مائلون إلی العلم، لا ینفع أن یأخذ أمثالاً من شباب الأغنیاء أو شباب الفقراء أو شباب الأحزاب، بل اللازم أن یأخد عینات من کل الفئات حتی یکون حکمه غالبیاً کلیاً اصطلاحاً.

الانتخاب الدقیق للجمل

الانتخاب الدقیق للجمل

الرابع: الانتخاب الدقیق للکلمات والجمل التی یرید البحث حولها، حتی لا تسبب کتبه ومقالاته، ضلالاً وتحریفاً، فإن الکلمات الرجراجة والجمل المهلهله ذات الاحتمالات والمحامل تؤدی إلی الانحراف فی السامع والقارئ،

ص:70

مثلاً إذا قال: بأن المجتمعات التی وصلت إلی تساوی الحقوق بین أفرادها تعیش حیاةً أکثر سلاماً ورفاهاً من غیرها، لم ینفع ذلک عن الانزلاق.

إذ هناک سؤال، هل المراد بالتساوی المماثلة أو العدالة، إذ کل واحد منهما قد یستعمل فی المقام الآخر، فإن بینهما عموماً من وجه.

وإذا قیل العدالة، فهل العدالة بالنسبة إلی رؤساء العوائل، أو افراد العائلة، وهکذا.

ثم یتساءل ما هو المراد من الحقوق، فهل المراد الحقوق السیاسیة، أو الحقوق الاقتصادیة، أو الحقوق الاجتماعیة، أو المراد کافة الحقوق، وإذا کان المراد الحقوق السیاسة، فهل السیاسة عموماً، أو حق الانتخابات، أو حق الحکم والإدارة.

کشف الأسباب والمسببات والملازمات

کشف الأسباب والمسببات والملازمات

الخامس: کشف الأسباب والمسببات والملازمات، وعلی قول الفلاسفة والأصولیین: العلل والمعلولات والملازمات، أو اللازم والملزوم والملازم، فإن الدنیا عالم الأسباب، وأبی الله أن یجری الأمور إلاّ بأسبابها، وفی القرآن الحکیم: {ثم اتبع سبباً}((1))، وأصول ذلک یرجع إلی خمسة أمور:

أ: هل الشیء الفلانی علة، فإن المحقق الذی یرید کشف القانون یلزم أن یلاحظ أن الظاهرة الاجتماعیة مسببة عما ذا، فإذا لاح فی ذهنه فرضیة یدقق ویتساءل: هل الشیء الفلانی علة، مثلاً رأی هیاج الاجتماع، فیتساءل هل الأمر الاقتصادی علة لهذا الهیجان، بأن کان السبب تدنی الأجور وتضخم السلع.

ب: فإذا تحقق لدیه أن السبب الأمر الاقتصادی یتساءل: هل هو وحده السبب، لإمکان أن یکون شیء آخر معه أیضاً، مثل بعض العوامل السیاسیة مما یسبب الهیجان.

لا یقال: لا یمکن تأثیر سببین فی مسبب واحد.

ص:71


1- سورة الکهف: الآیة 89 و92 .

لأنه یقال: إذا صار اثنین کان کل واحد جزء السبب، کما أن الرصاصة إذا کانت قاتلة فتعددت صارت کل واحدة جزء سبب القتل.

ج: فإذا تحققت العلة واحدة أو أکثر، کان علی المحقق أن یتساءل: وهل للعلة علة، وهکذا حتی ینتهی إلی جذور الظاهرة، مثلاً ظهر له أن الهیجان لأجل قلة المعاشات المسببة عن التضخم، فیتساءل: وما هی أسباب التضخم، فیصل إلی أنه من جهة صرف الدولة أموالاً طائلة لأجل الحرب، فیتسائل: ولماذا الحرب، وهکذا.

د: وبعد الوصول إلی جذور المشکلة، یأتی دور آثارها، وآثار آثارها، فإن المعلول قد یکون بدوره علة لشیء آخر، ففی المثال السابق حیث الهیجان یتساءل: فما هو آثار الهیجان، فإذا أجیب: مظاهرات وإضرابات، تساءل مرة أخری: وإلی ماذا تنتهی المظاهرات والإضراب، هل تقابلها الحکومة بالشدة لتملأ السجون والمستشفیات والمقابر، وإلی غیر ذلک.

ه_: وأخیراً یأتی دور التحقیق عن الملازمات، سواء للظاهرة، أو لأسبابها، أو لمسبباتها.

ففی المثال السابق، المظاهرة تلازم فصل المدیرین جماعة من العمال عن أعمالهم، مما یوجب تفشی البطالة، والفرق بین المعلول والملازم واضح، فإن العلة والمعلول فی سلسلة واحدة، بینما الملازم فی عرض المعلول، مثلاً نور النهار وحرارته لیس أحدهما علة للآخر، وإنما کلاهما معلولان لعلة ثالثة هی إشراق الشمس مثلاً.

ثم إن الإنسان بالتعقل والتفکر والتجربة یصل إلی هذه الأمور، فاللازم أن یکون المحقق متأنیاً دقیقاً، یلاحظ الأشباه ویقارن الاضداد حتی یستخلص الواقع.

قال الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام): «العقل حفظ التجارب، وخیر ما جربت

ص:72

ما وعظک»((1)).

وقال (علیه السلام) فی کتاب له إلی أبی موسی الأشعری: «فإن الشقی من حرم نفع ما أوتی من العقل والتجربة»((2)).

وقال (علیه السلام): «الفکر مرآة صافیة»((3)).

ص:73


1- نهج البلاغة: قصار الحکم 191.
2- نهج البلاغة: الخطب 78.
3- نهج البلاغة: قصار الحکم 365.

العوامل المؤثرة فی الفرد

اشارة

العوامل المؤثرة فی الفرد

(مسألة 10): إذا أردنا أن نعرف الاجتماع یلزم علینا أن نعرف کیف یتولد الاجتماع، وکیف یعیش، وکیف یصعد ویهبط، وکیف یضعف ویقوی کماً أو کیفاً.

فنقول: الاجتماع مرکب من أفراد، وحالات الأفراد تتجلی فی الاجتماع، ولذا یلزم أن نعرف أول ما نعرف ما هی العوامل المؤثرة فی الفرد.

إن العوامل المؤثرة فی الأفراد _ علی الأغلب _ أمور عشرة:

1: الجسم

1: الجسم

الأول: جسمه الظاهر، فإن الترکیب الخاص ببدن الإنسان مما یؤثر فی سلو که وأعماله واجتماعه، فلو کان الإنسان مثل الفیل، أو مثل الطیر، أو مثل السمک، أو مثل النمل، لکان اجتماع الإنسان بغیر هذه الصورة الحالیة، وإن کان فی داخل ذلک الإنسان المفروض نفس العقل والغرائز الموجودة الآن فی داخل هذا الإنسان بهذا الشکل.

کما أن تلک الحیوانات التی مثل بها إذا کانت فی غیر تلک الأشکال، لکان لها حیاة بغیر هذه الحیاة التی تعیشها الآن، مثلاً لو کان النمل بقدر الحمام هل کان یعیش فی ثقب البیوت، أو هل کان یقتنع بجمع ذرات الطعام، ولوکان الفیل ذا أجنحة، هل کان یعیش کما یعیش الآن.

ص:74

إن نطفة کل حیوان أو نبات بأیة کیفیة کانتا، لابد وأن تشتمل علی أربعة أجهزة (قوی)، هی التی تسیر الحیوان من بدء تکونه إلی یوم وفاته، وکذلک هذه الأربعة موجودة فی داخل کل نطفة مثمرة، وفی نطفة الإنسان أیضاً:

1: الجهاز الذی لا یترک الجسم لیکبر عن قدره المقدر له، أو یصغر عن ذلک، فمثلاً العصفور لا یبقی بقدرة جرادة، ولا یکبر إلی أن یکون بقدر الحمام، وکذلک قل فی التفاح إنه لا یبقی صغیراً بقدر لوزة، ولا یکبر بقدر دابوعة، والإنسان لا یبقی صغیراً بقدر أرنبة، ولا یکبر بقدر الخرتیت، ألیس کل ذلک بسبب جهاز مخفی یترک الشیء إلی أن یصل قدره، ثم یمسکه أن یتجاوزعن ذلک القدر.

2: الجهاز الذی یحفظ الجسم عن خروجه عن التوازن المقدر بین أعضائه، مثلاً ید الإنسان لا تکبر بقدر ذراعین، ولا تبقی بقدر نصف ذراع، وعینه لا تأخذ مسافة بقدر الحاجب، ولا تبقی صغیرة بقدر حمصة.

3: وجهاز یلاحظ الکیفیة، فلا یسود الجسم فی الإنسان الأبیض، ولا یبیض فی الإنسان الأسود، وإن أکل الأول طول عمره الأشیاء السود مثل التوت الأسود، والثانی الأشیاء البیض کاللبن، لکن بشرط توفر المواد الحتاج إلیها البدن فی تلک الأطعمة، وکذلک بالنسبة إلی الجمیل لا ینقلب قبیحاًً، وبالعکس، وحمرة الشفه، وسواد العین، وبیاض أطراف الحدقة، إلی غیر ذلک لا تتغیر إلاّ فی حالات مرضیة، لیس الکلام فیها الآن.

4: وجهاز یحفظ التوازن بین الذکر والأنثی فی حدود إمکانه، فلو لم تلد النساء خمسین سنة رجلاً أو امرأة لانعدم النسل، وکذلک فی الحیوان، ألیس ذلک ولید جهاز خاص فی داخل أبدان الآباء أو الموالید یحفظ هذا

ص:75

التوازن بما یمکن للإنسان ضبطه نسبیاً.

وقد قال سبحانه: {الَّذِی أَعْطَی کُلَّ شَیْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَی}((1)).

2: الغرائز

2: الغرائز

الثانی: الغرائز، فإن کل إنسان فطر علی غرائز خاصة هی حقائق فی داخله، تبعث علی صفات خاصة، وقد سماها القرآن الحکیم فطرة، فقال: {فِطْرَةَ الله الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا}((2)).

ألیس الکرم والشجاعة والرأفة وما أشبه صفات نابعة من داخل الإنسان، فکما أن الجسم یتلوّن بمختلف الألوان _ والتی عدت إلی خمسة وعشرین ملیون لون _ کذلک النفس لها ألوان.

وفی الأحادیث: «إن الله خلق العقل والجهل، وأعطی کل واحد منهما جنوداً»((3)).

ألیس ذلک حقیقة، وإلاّ فمن أین هذه الصفات.

کما أنا نشاهد أن فی الحیوان أیضاً غرائز مختلفة.

أما قابلیة الإنسان تغییر غرائزه دون الحیوان، فلعل ذلک لأن غرائز الإنسان خلقت هکذا دون غرائز الحیوان، أو لعل الحیوان قابل أیضاً لکنه بحاجة إلی وسائل صعبة ومدد طویلة، مما لیس الإنسان کذلک، أو غیرهما.

3: العقل

3: العقل

الثالث: العقل، وهو ما یحسه الإنسان فی باطنه، حیث یجد التنازع فی

ص:76


1- سورة طه: الآیة 50.
2- سورة الروم: الآیة 30.
3- أصول الکافی: ج1 ص21.

کثیر من الأمر بین نزعة الخیر ونزعة الشر، ومن الواضح أن الذات الواحدة لا اثنینة فیها حتی تکون آمرة رادعة.

وقد وردت فی الأحادیث أن أول ما خلق الله العقل، ثم قال له: «بک أثیب وبک أعاقب»((1))، فالسارق مثلاً فی داخله شیء یأمره بالسرقة، وآخر ینهاه عنها، ومن یرید بناء مسجد یقع بین ذلک الآمر والزاجر.

وقد أشار الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلی ما تقدم من الأمور الثلاثة فی جملة من کلماته.

فقال (علیه السلام): «أنشأ الخلق إنشاءً وابتداءً، بلا رویة أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حرکة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فیها، أحال الأشیاء لأوقاتها، ولام بین مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها أشباحها، علماً بها قبل ابتدائها»((2)).

وقال (علیه السلام): «فجعل منها صورة ذات أحناء ووصول وأعضاء وفصول... فمثلت إنساناً ذا أذهان یجیلها، وفکر یتصرف بها، وجوارح یختدمها، وأدوات یقلبها، ومعرفة یفرق بها بین الحق والباطل، والأذواق والمشام، والألوان والاجناس، معجوناً بطینة الألوان المختلفة، والأشباه المؤتلفة، والأضداد المتعادیة، والأخلاط المتباینة، من الحر والبرد، والبلة والجمود»((3)).

4: الوراثة

4: الوراثة

الرابع: الوراثة، فإن الإنسان کسائر الحیوانات یرث من أبویه کثیراً من

ص:77


1- بحار الأنوار: ج1 ص97.
2- نهج البلاغة: الخ طب 1.
3- نهج البلاغة: الخ طب 42 .

الصفات والمزایا والخصوصیات مما یؤثر فی حیاته وطریقة أعماله، وقد ورد فی الحدیث: «الولد سرّ أبیه».

وفی حدیث آخر: «العرق دساس»((1)).

وفی کلام الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) لولده محمد: «أدرکک عرق من أمک»((2)).

إلی غیر ذلک.

وقد أکد ذلک جمع من العلماء، بل إن بعضهم ذهب إلی أبعد من ذلک، من أن الإنسان یرث معظم الصفات، إلاّ أنها لا تظهر إلی الفعلیة، بل تبقی کامنة لضغط العوامل الأخر علی هذا العامل.

5: القوم

4: الوراثة

الخامس: القومیة الخاصة، فإنها إطار أعم من إطار الوراثة، مثلاً الولد یشبه أبویه، وفی نفس الوقت یشبه قومه، وهذا شیء حفل به التاریخ الغابر والمعاصر، فبنو هاشم کانوا کرماء حلماء شجعان، بینما بنو أمیة کانوا بخلاء لئماء أصحاب حیل ومکر وخداع.

ولیس المراد بالقومیة الرسوم والآداب والعادات غیر المرتبطة بالعرق، بل بالتربیة، فإن ذلک من عامل خارجی، وإنما الکلام الآن فی العامل الداخلی، حتی إذا ربی إنسان أجنبی مع قوم کانت له تلک الآداب والرسوم، ولکن لا تکون له تلک الصفات القومیة.

ومن قبیل القومیة، أن الإنسان من أی فصیل من فصائل البشر، الفصیل الأبیض أو الأسود أو الأصفر، فقد قسم جمع من علماء الاجتماع کل البشر

ص:78


1- مکارم الأخلاق: ص197.
2- بحار الأنوار: ج42 ص98.

إلی هذه الفصائل الثلاث، وبعضهم قال بأنه أکثر، والمهم فی البحث أن هذا الإطار العام أیضاً یؤثر فی کیفیة الإنسان الباطنیة، کما یؤثر فی کیفیته الظاهریة.

بل ذهب بعضهم إلی أبعد من ذلک، وقال بأن الذکاء یختلف فی هذه الأجناس، لکن هذا ما لم یقم علیه دلیل قطعی.

أما جمال الظاهر فمن الطبیعی أن تری کل جماعة نفسها أجمل من غیرها، فالأسود یری الجمال فی السواد، بینما یری الأبیض عدم الجمال فی ذلک.

وهل هو حقیقی کالجمال، أم اعتباری فی الجملة، أو واقعی، وإنما العادة سببت تحریف الذوق، احتمالان.

أما قوله سبحانه: {وَصَوَّرَکُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَکُمْ}((1))، و{فَتَبَارَکَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِینَ}((2))، فلا یستفید منها الإطلاق، وإنما علی نحو القضیة الطبیعیة، أو بالقیاس إلی غیر الإنسان.

بل قد ذهب بعض الحکماء، أن کل المخلوقات فی غایة الجمال، والمجموع من حیث المجموع جمال المجموع، فحتی العقرب والرتیلاء جمیلتان، وإنما حیث ینظر الإنسان إلیهما نظر الاشمئزاز والتنفر یراهما قبیحتین، {مَا تَرَی فِی خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ}((3)).

6: الدین

6: الدین

السادس: الدین، فإن له أهمیة کبری فی التأثیر فی الفرد، ثم التأثیر فی الاجتماع، ولذا نشاهد الفرق الشاسع بین المجتمع المتدین بدین والمتدین بدین آخر، وبینهما وبین المجتمع اللادینی.

ومن جراء ذلک نشاهد أن الخطط التی توضع لمجتمع ما، لا تصلح لمجتمع آخر، إذا کان الثانی بلون

ص:79


1- سورة غافر: الآیة 64.
2- سورة المؤمنون: الآیة 14.
3- سورة الملک: الآیة 3.

غیر لون الأول، مثلاً وضع الدکتور شاخت خطة للتنمیة الاقتصادیة فی ألمانیا فنجحت نجاحاً باهراً، بینما وضع نفس الدکتور خطة مشابهة للتنمیة فی إندونیسیا، ففشلت فشلاً ذریعاً، ولم یکن السبب إلاّ أن المجتمع الإندونیسی مجتمع إسلامی دینی، بینما المجتمع الألمانی مجتمع مسیحی علمانی.

ولا یخفی الفرق بین الدین المرتبط بالحیاة کالإسلام، حیث له مناهج فی کل الشؤون، وبین غیر المرتبط کالمسیحیة، ففی مثل الأول یلزم أحد الأمرین: إما انسلاخ المجتمع عن الدین حتی یتمکن منهاج موضوع علی خلاف الدین من النفوذ، وإما أن یفشل المنهاج، قریباً أو بعیداً، حیث إن الأصول تصادم التطبیق. والأصول _ لکونها عقدة فی جذور الإنسان وتحملها الملیارات من الکتب _ لیست قابلة للسقوط، وإنما یسقط المنهاج الموضوع.

وهذا هو سر ما نشاهده من تصادم الشعوب الإسلامیة مع حکوماتها، مما یسبب أن تعیش الحکومة فی عزلة من الشعب إلی أن تسقط، وعند سقوطها تکون للشعب فرحة کبری بزوال الطاغوت.

قال الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام): «إن الله تعالی خصکم بالإسلام، واستخلصکم له، وذلک لأنه اسم سلامة وجماع کرامة، اصطفی الله تعالی منهجه، وبیّن حججه، من ظاهر علم، وباطن حکم، لا تفنی غرائبه، ولا تنقضی عجائبه، فیه مرابیع النعم، ومصابیح الظلم، لا تفتح الخیرات إلاّ بمفاتیحه، ولا تکشف الظلمات إلاّ بمصابیح، قد أحمی حماه، وأرعی مرعاه، فیه شفاء المشتفی، وکفایة المکتفی»((1)).

وقال (علیه السلام): «فمن یبتغ غیر الإسلام دیناً، تتحقق شقوته، وتنفصم عروته،

ص:80


1- نهج البلاغة: الخ طب 152.

وتعظم کبوته، ویکن مآبه إلی الحزن الطویل، والعذاب الوبیل»((1)).

وقال (علیه السلام): «لا یترک الناس شیئاً من أمر دینهم لاستصلاح دنیاهم إلاّ فتح الله علیهم ما هو أضر منه»((2)).

7: الثقافة

6: الدین

السابع: الثقافة، فإنها حیث تبین للناس رسم الحیاة، التی یمکن أن یتجنب فیها الأخطار، بل الحیاة السعیدة إلی أن یصل إلی الحیاة التقدمیة، توجب توجیه الإنسان.

والمراد بالثقافة: أعم عن التی تعلمها من بیته أو مدرسته أو محیطه، أو اکتسبها هو بفکره وتجربته.

وما یقال: من أن (ولد العالم نصف العالم)، یراد به أنه رأی أباه کیف یعمل فتعلمه، والمراد أن العلم نظری وعملی، والعملی یستوعبه الإنسان من أبیه العالم، کما أن ما یقال: (لا أدری نصف العلم)، یراد به أن العلم نصفان، نصفه أن تعلم أنک تعلم، ونصفه أن تعلم أنک لا تعلم، فی قبال الجهل المر کب.

وقد ورد فی الحدیث: «إن لقمان (علیه السلام) کان کثیر التفکر».

کما ورد فی أبی ذر (رضوان الله علیه): کان أکثر عبادته التفکر((3)).

فالفکر یعطی الإنسان معرفة الأسباب والمسببات، وارتباط الأشیاء بعضها ببعض، وطرق النجاح والفشل، والفکر مثله مثل القائد الآمر، بینما العمل الجوارحی مثله مثل التابع المأمور، ولذا ورد: «فکر ساعة خیر من عبادة سبعین سنة»((4)).

وورد: «إنما الأعمال بالنیات»((5)).

ص:81


1- نهج البلاغة: الخ طب 161.
2- نهج البلاغة: قصار الحکم 106 .
3- بحار الأنوار: ج68 ص326.
4- بحار ال أنوار : ج68 ص326.
5- الوسائل: ج1 ص34 الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ح7.

إلی غیر ذلک.

والسعداء لم یسعدوا إلاّ بالفکر الصالح الذی تعقبه عمل صالح، والأشقیاء لم یشقوا إلاّ بالفکر الفاسد الذی تعقبه عمل فاسد، وقد تکرر فی القرآن الحکیم: {الَّذِین آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ}((1))، فالإیمان فکر ونیة وعزم، والعمل الصالح ما یتبع ذلک.

8: الأسوة

8: الأسوة

الثامن: الأسوة، فإن الإنسان یتأسی فی أعماله بمثال أو أمثلة، ویجعل تلک منهجاً لعمله، ولذا نجد الصالحین یتبعهم رعیل من الصالحین، وبالعکس من ذلک الفاسدین.

وفی القرآن الحکیم: {قَدْ کَانَتْ لَکُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِی إِبْرَاهِیمَ وَالَّذِینَ مَعَهُ}((2)).

وقال تعالی: {لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن کَانَ یَرْجُو الله وَالْیَوْمَ الآخِرَ وَذَکَرَ الله کَثِیرًا}((3)).

وفی کلام للإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام): «فلیتّأس متأسٍ بنبیه وإلاّ فلا یأمنن الهلکة»((4)).

ولعله لذا ورد: «من سنّ سنة حسنة کان له أجرها وأجر من عمل بها، ومن سنّ سنة سیئة کان له وزرها ووزر من عمل بها»((5)).

ص:82


1- سورة البقرة: الآیة 25.
2- سورة الممتحنة: الآیة 4.
3- سورة الأحزاب: الآیة 21.
4- مکارم الأخلاق: ص9.
5- مشکاة الأنوار: ص247.

9: المحیط الطبیعی

9: المحیط الطبیعی

التاسع: المحیط الطبیعی، فإنه یؤثر فی الإنسان تأثیراً کبیراً، فکل إنسان کثیراً ما یکیف حیاته علی الطبیعة، إما تکییفاً طبیعیاً، وإما اصطناعیاً.

فالأول: مثل تأثیر المناطق الإستوائیة فی لون بشرة الإنسان، بینما لیس کذلک تأثیر المناطق غیر الاستوائیة، وإذا سمن إنسان من الإستواء فی المناطق غیر الحارة لم تمر أجیال منه إلاّ ویعتدل لونه، والعکس بالعکس.

وکذلک من التأثیر الطبیعی کون الأمزجة حارة فی الإستوائیة، بلغمیة فی القطبیة، وبینهما فی غیر المناخین المذکورین.

وأمراض المناطق المختلفة تختلف حسب المحیط الطبیعی، کما أن الحضارات ازدهرت فی الأماکن الملائمة، لا القطبیة والإستوائیة، لأن المناخ المناسب یعطی للإنسان فرصة تکوین الحضارة وتکمیلها، بینما المناخ غیر المناسب لا یلائم ذلک.

وقد أرسل الأنبیاء (علیهم السلام) بکثرة فی الشرق الأوسط، وقال سبحانه: {بَارَکْنَا حَوْلَهُ}((1))، حیث قال بعض المفسرین: البر کة بالأنبیاء، وورد فی الحدیث: إن موسی (علیه السلام) کان معه سبعون نبیاً((2)).

ومن الواضح، وجود النشاط فی الربیع والخریف بما لیس مثله فی الشتاء والصیف، وقد ورد: «توقوا البرد فی أوله، وتلقوه فی آخره، فإن أوله یورق، وآخره یحرق، وإنه یفعل بأبدانکم کما یفعل بأشجارکم»((3)).

والذین یسکنون القطب یصنعون البیوت من الجلید، بینما سکان الغابات

ص:83


1- سورة الإسراء: آ یة 1.
2- بحار الأنوار: ج4 ص47.
3- راجع نهج البلاغة: قصار الحکم 128.

یصنعونها من الخشب، وسکان البادیة یصنعونها خباءً، من الجلد تارة، ومن الوبر والصوف اخری، أما سکان الجبال والغابات من المتوحشین فیسکنون الکهوف ورؤوس الأشجار، ومن علی الضفاف یصنعون بیوت الطوب والآجر والطین.

أما أکل سکان سیوف البحار فالسمک، بینما سکان الواحات والمعاشب یأکلون لحم الأغنام، أما سکان الغابات فیأکلون مختلف أنواع الصید، وکل یعمل أدواته مما عنده، فسکان الغابة یعملونها من الأخشاب، بینما سکان الجبال ونحوها یصنعونها من الأحجار، وأهل الحضارات من المعادن.

وفی مراکبهم یستفید کل مما لدیه من أوعال وأحمرة وجمال وأفراس ونحوها.

وملبس کل حسب ما یجده عنده، من جلد حیوان، أو قطن أو صوف أو أوراق أشجار متینة.

وهکذا الاستفادة من الأدویة تختلف حسب اختلاف المناطق، فلکل منطقة أدویة خاصة لا یلائم أهل تلک المنطقة إلاّ تلک الأدویة.

10: المحیط الاجتماعی

10: المحیط الاجتماعی

العاشر: المحیط الاجتماعی، حیث یؤثر الاجتماع فی الإنسان تأثیراً کبیراً، وکلما کان الاجتماع أکبر، کان تأثیره فی الإنسان أکثر.

ویکون من کبر الاجتماع اتصاله بالوسائل الحدیثة باجتماعات أخر، بالحرکة أو الاستماع أو المشاهدة، بل وحتی بالتجارة والزراعة، فإنه إذا نقلت بضائع ومصنوعات وحبوب من بلد آخر إلی بلد الإنسان تعلم منها التقدم والتطور.

فإن الإنسان للغریزة المودعة فیه من حب البقاء وحب التطور، یقتضی دائماً ما یبقیه وما یقدمه، فإذا رأی شیئاً یصادم أحدهما تجنبه، وإذا رأی شیئاً

ص:84

یمده فی أحدهما اتخذه، والاجتماع حیث یمتلأ بالمصادمات وبأسباب التقدم یسبب انسحاب الإنسان عن میادین المصادمة، وسیره إلی میادین التقدم.

فهو بین انفعال وفعل، حاله حال من فی الغابة یهرب من الأسد، ویتقدم لقطف الثمر، وکما أنه لو لم یکن أسد ولا ثمر لم یهرب ولم یتقدم، کذلک إذا لم یکن اجتماع لم یکن هرب عن مصادمات الاجتماع، ولا تقدم إلی مواضع الفائدة.

لا للأنانیة والعصبیات

لا للأنانیة والعصبیات

بقی أمران:

أ: فی الأفراد غیر الناضجین تؤثر الأنانیة والتعصب القومی والتعصب الجغرافی، وکل ذلک یؤخر الإنسان، فالأنانیة الفردیة والقومیة والجغرافیة، ستر یحجب بین الإنسان وبین مصالحه، فلنفرض أن الإنسان طبیب وابتلی بمرض لا یفهمه، فهل خیر له أن یراجع طبیباً یفهم مرضه ولو من غیر قومه ومن غیر محل سکناه، أو یتعصب فیعمل بمداواة نفسه، أو إلی طبیب قومه، أو طبیب محل سکناه، والحال هکذا فی کل الأمور العلمیة والصناعیة وغیرها.

أما ما نشاهده من تقدیم العقلاء بضائع أنفسهم علی بضائع غیرهم، فلیس ذلک إلاّ لأجل موازنة أهم، فهم فی الحقیقة أیضاً یرجعون إلی الأصلح لا إلی الفاسد لأجل الأنانیة.

والحال کذلک بالنسبة إلی القضاء للقریب والقوم ومن محل السکن، قبل تبیّن الحق، أو بعد تبیّن أن الحق لیس لهم.

وکذلک بالنسبة إلی غلق أبواب البلاد أمام العلم، أو أمام الغیر ممن

ص:85

یسمونه بالأجنبی فی غیر المصطلح الإسلامی، مع أن ضرر کل ذلک یعود إلی الإنسان نفسه.

ومن هذا القبیل صنمیة الأحزاب والمنظمات والجمعیات، حیث إنها تطرد الغیر وإن کان صالحاً، وتمدح الذات وإن کانت طالحة.

وقد ذکر الإسلام نصوصاً کثیرة فی مضادة هذه الأمور، والتی لا تنتهی إلاّ بضرر الفرد والجماعة، ففی القرآن الحکیم: {لاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أشیاءهُمْ}((1)).

وقال سبحانه عن لسان شعیب (علیه السلام): {وَیَا قَوْمِ لاَ یَجْرِمَنَّکُمْ شِقَاقِی أنْ یُصِیبَکُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أوْ قَوْمَ هُودٍ أوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنکُم بِبَعِیدٍ}((2)).

وقال تعالی: {وَلاَ یَجْرِمَنَّکُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أنْ صَدُّوکُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أنْ تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَی الْبرِّ وَالتَّقْوَی وَلاَ تَعَاوَنُواْعَلَی الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}((3)).

وقال سبحانه: {یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ کُونُواْ قَوَّامِینَ لله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ یَجْرِمَنَّکُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَی ألاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَی وَاتَّقُواْ الله إنّ الله خَبِیرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}((4)).

وقال سبحانه: {یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ کُونُواْ قَوَّامِینَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لله وَلَوْ عَلَی أَنفُسِکُمْ أو الْوَالِدَیْنِ وَالأَقْرَبِینَ إن یَکُنْ غَنِیًّا أوْ فَقَیرًا فَاللهُ أَوْلَی بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَی أن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أوْ تُعْرِضُواْ فإنَّ اللهَ کَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِیرًا}((5))

وقال علی (علیه السلام): «إما أخ لک فی الدین ، أو نظیر لک فی الخلق»((6)).

ص:86


1- سورة الأعراف: الآیة 85.
2- سورة هود: الآیة 89.
3- سورة المائدة: الآیة 2.
4- سورة المائدة: الآیة 8.
5- سورة النساء: الآیة 135.
6- نهج البلاغة: الکتب 53.

وفی الحدیث: «إنصاف الناس من نفسک»((1)).

وفی حدیث آخر: «من تعزی بعزاء الجاهلیة فاعضوه بهن أبیه ولاتکنّوا».

وفی شعر منسوب إلی الإمام (علیه السلام):فإن یکن لهم فی أصل نسب

یفاخرون به فالطین والماء((2)).

وفی الآیة الکریمة: {إِنَّا خَلَقْنَاکُم مِّن ذَکَرٍ وَأُنثَی وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا أنَّ أَکْرَمَکُمْ عِندَ الله أَتْقَاکُمْ}((3)).

وفی الآیة الکریمة: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}((4)).

إلی غیرها من الآیات والروایات الواردة بصدد ما ذکرناه.

الزهد فی الدنیا

الزهد فی الدنیا

ب: حیث ذکرنا المؤثرات العشر فی الإنسان، وذکرنا فی البند السابق مسألة الأنانیة، ینبغی ذکر أن اللازم علی الإنسان أن یتزهد فی الدنیا، لا زهد التار کین الرهبان، بل زهد من یعرف عدم قیمة الدنیا فی نفسها، فکیف بقیمتها فی قبال الآخرة، فلا یفسد آخرته لتعمیر دنیاه، بل یجعل الدنیا کالقنطرة، ویعمل بما قاله الإمام الحسن (علیه السلام): «اعمل لدنیاک کأنک تعیش أبداً، واعمل لآخرتک کأنک تموت غداً»((5)).

ص:87


1- بحار الأنوار: ج72 ص29.
2- دیوان الإمام علی (علیه السلام): ص5.
3- سورة الحجرات: الآیة 13.
4- سورة الإسراء: الآیة 36.
5- وسائل الشیعة: ج12 ص49.

وفی القرآن الحکیم آیات بهذا الصدد، قال سبحانه: {وَابْتَغِ فِیمَا آتَاکَ الله الدَّارَ الآخرة وَلا تَنسَ نَصِیبَکَ مِنَ الدُّنْیَا وَأَحْسِن کَمَا أَحْسَنَ الله إِلَیْک}((1)).

وقال تعالی: {رَبَّنَا آتِنَا فِی الدُّنْیَا حَسَنَةً وَفِی الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِکَ لَهُمْ نَصِیبٌ مِّمَّا َکسَبُوا}((2)).

وفی کلمات الرسول (صلی الله علیه وآله) والأئمة (علیهم السلام) أحادیث کثیرة بهذا الصدد:

قال علی (علیه السلام): «لبئس المتجر أن تری الدنیا لنفسک ثمناً، ومما لک عند الله عوضاً}((3)).

وقال (علیه السلام): «إقبالها خدیعة، وإدبارها فجیعة»((4)).

وقال (علیه السلام): «فلتکن الدنیا فی أعینکم أصغر من حثالة القرظ» _ هو شیء یدبغ به _ «وقراظة الجلم»((5))، هو المقص الذی یجز به الصفوف.

وقال (علیه السلام): «إن دنیاکم هذه أزهد عندی من عفطة عنز»((6)).

وفی کلام آخر له (علیه السلام): «من عراق خنزیر فی ید مجذوم»((7)).

ص:88


1- سورة القصص: الآیة 77.
2- سورة البقرة: الآیة 201.
3- نهج البلاغة: الخطب 32.
4- غرر الحکم: ص197 ح3753.
5- نهج البلاغة: الخطب 32.
6- نهج البلاغة: الخطب 3.
7- نهج البلاغة: قصار الحکم 236.

التأثیر المتقابل بین المحیط الاجتماعی والمحیط الطبیعی

اشارة

التأثیر المتقابل بین المحیط الاجتماعی والمحیط الطبیعی

(مسألة 11): بین المحیط الاجتماعی والمحیط الطبیعی تأثیر متقابل، فکل واحد منهما یؤثر علی الآخر تأثیراً کثیراً أحیاناً، وقلیلاً أحیاناً، ویتراوح الأمر بین الجانبین، فربما کان تأثیر أحدهما علی الآخر أکثر من العکس، إذ کلما کان الاجتماع أکثر قدرة من حیث الفکر والآلة والصنعة، کان تأثیره علی الطبیعة أکثر، وکلما کان بالعکس کان تأثیر الطبیعة علی الاجتماع أکثر.

فمن ناحیة قوة الاجتماع یقلع الإنسان أشجار الغابة الزائدة، ویجفف المستنقع، ویغیر مجری الأنهر، ویقلع الجبال، ویشق فی ظاهرها الطرق، وینقب فی باطنها لمرور السیارات والقطارات، وینقب تحت الأرض لیصنع المدن ونحوها أو لیستخرج المعادن، ویغیر الهواء علی الأقل فی داخل الغرف، من الحر إلی البرد وبالعکس، وینشأ المطر، ویقرب البعید بالوسائل السمعیة والبصریة، وبالمواصلات، وینیر ظلام اللیل وظلام القطب، ویستخدم قوی المیاه والأریاح لأجل إدارة المعامل، ویشق فی الأراضی النائیة الوعرة الطرق، ویثقب الأرض حتی یصل إلی المواد المذابة فی داخلها لأجل الاستفادة من حرها فی النور والحرکة.

والحاصل: إنه یهیؤ لنفسه وسائل الراحة والتقدم من الطبیعة.

ص:89

ومن ناحیة الطبیعة، تؤثر الطبیعة فی الإنسان فی تغییر بشرته، وتجعید شعره، وانکماش جلده، وتصغیر ثقب أنفه، کما فی الذین یعیشون فی البرد القارص حیث إن الإنسان یصغر ثقب أنفه حتی یصعب وصول الهواء البارد بسرعة إلی رئته بحیث یوجب له الأمراض، وتشحیذ ذکائه فی المناطق الحارة فی الجملة، أو تکثیر بلادته فی المناطق الباردة فی الجملة، وتحریف مزاجه أو استقامته، وسرعة بلوغه لأن النضج یکون أسرع، أو تأخیره فی المجال الممکن بین الأمرین، وسرعة أو بطئ شیبه، فالأول فی المناطق الحارة، والثانی فی المناطق الباردة.

کما أن الأغذیة المختلفة والمیاه کذلک تسبب صحة الإنسان تارة، ومرضه أخری.

وقد تسهل الطبیعة فیتمکن الإنسان فیها من بناء الحضارة، سواء بناها أم لا، وقد تصعب فیصعب الإنسان بناء الحضارة فیها.

ولا تلازم بین الأقوام المختلفة فی الاستفادة وعدمها، کما لا تلازم بین وحدة الطبیعة ووحدة خصوصیات الأقوام، فمثلاً فی النرویج قومان، أحدهما أرفع طولاً من الآخر، وأحدهما أنصع لوناً من الآخر.

وفی مکة المکرمة کانت تعیش قریش وأمیة، وأخلاق الأولی العدل والکرم والصراحة والصفاء والخدمة، بینما أخلاق الثانیة بالعکس تماماً من الأولی.

وفی الجنوب الغربی من أمریکا یعیش قومان من الهنود الحمر (هوبی) و(ناواهو) فمع اتحاد المناخ بالنسبة لهما، واتحاد المزاج فیهما، فهوبی یمتهنون الزراعة ویبنون البنایات الکثیرة الطبقات، بینما ناواهو یمتهنون الرعی ویسکنون عمارات ذات طبقة واحدة.

نعم الغالب أن المناخ الواحد یشبه ساکنوه بعضهم لبعض فی أکثر

ص:90

الامور، کما أن الساکنین فی مناخ واحد یستفیدون من خیرات الطبیعة استفادة واحدة.

قد تختلف معیشة الأبناء مع معیشة الآباء

قد تختلف معیشة الأبناء مع معیشة الآباء

ولا تلازم بین کیفیة معیشة الآباء ومعیشة الأبناء، وإن کان المناخ واحداً، والکیفیة العامة واحدة، إذ کثیراً ما تنقلب أحوال الأمم من حالة إلی حالة، حتی فی جیل واحد.

وذلک حسب اختلاف الثقافة والأسوة، فقد أری التاریخ أن عرب الجاهلیة کانوا فی شظف من العیش، یشربون الطرق، ویقتاتون القد والورق، وکانوا أذلة خاسین، الجهل صبغتهم العامة، ووأد البنات من المکرمات عندهم، والقتال ونهب الأموال وهتک الأعراض دیدنهم، والعبادة للخشب والحجارة مفخرتهم، والمعاقرة والزنا والشدوذ الجنسی رائجة بینهم.

وفجئة تحولت تلک الأمة ببرکة الإسلام، إلی کل ما کان یخالف حالتهم السابقة، حتی صاروا {خیر أمة أخرجت للناس}، و{شهداء علی الناس}، و{وأمة وسطاً}، بلا إفراط وتفریط، وقد حملوا مشاعل العلم والهدایة والفضیلة والتقوی إلی مشارق الأرض ومغاربها.

وقد أشار الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلی حالهم قبل الإسلام وبعده، بقوله: «إن الله بعث محمداً (صلی الله علیه وآله) نذیراً للعالمین، وأمیناً علی التنزیل، وأنتم معشر العرب علی شر دین، وفی شر دار، منیخون بین حجارة خشن، وحیاة صم، تشربون الکدر، وتأکلون الجشب، وتسفکون دماءکم، وتقطعون أرحامکم، الأصنام فیکم منصوبة، والآثام بکم معصوبة»((1)).

ص:91


1- نهج البلاغة: الخ طب 26.

وقال (علیه السلام): «إن الله بعث محمداً (صلی الله علیه وآله) لیس أحد من العرب یقرأ کتاباً، ولا یدعی نبوة، فَسَاقَ الناس حتی بوأهم محلتهم، وبلغهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم، واطمأنت صفاتهم»((1)).

وقال (علیه السلام): «وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ابتعثه والناس یضربون فی غمرة، ویموجون فی حیرة، قد قادتهم أزمة الحین» _ الهلاک _ «واستغلقت علی أفتدتهم أقفال الرین»((2)).

وقال (علیه السلام): «فالأحوال مضطربة، والأیدی مختلفة، والکثرة متفرقة، فی بلاء أزل» _ شدة _ «وأطباق جهل، من بنات موؤدة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة»((3)).

وقال (علیه السلام): «أضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة، والجهالة الغالبة، والجفوة الجافیة، والناس یستحلون الحریم، ویستدلون الحکیم، یحیون علی فترة، ویموتون علی کفرة»((4)).

وقال (علیه السلام): «فانظروا إلی مواقع نعم الله علیهم، حین بعث إلیهم رسولاً، فعقد بملته طاعتهم، وجمع علی دعوته ألفتهم، کیف نشرت النعمة علیهم جناح کرامتها، وأسالت لهم جداول نعیمها، والتفت الملة بهم فی عوائد برکتها، فأصبحوا فی نعمتها غرقین، وفی خضرة عیشها فکهین، قد تربعت الأمور بهم فی ظل سلطان قاهر، وآوتهم الحال إلی کنف عز غالب، وتعطفت الأمور علیهم فی دوی ملک ثابت، فهم حکام علی العالمین وملوک

ص:92


1- نهج البلاغة: الخ طب 33.
2- نهج البلاغة: الخطب 191.
3- نهج البلاغة: الخطب 192.
4- نهج البلاغة: الخطب 150.

فی أطراف الأرضین، یملکون الأمور علی من کان یملکها علیهم، ویمضون الأحکام فیمن کان یمضیها فیهم، لا تغمز لهم قناة، ولا تقرع لهم صفاة»((1)). أی الحجر الصلد.

قوة الاجتماع تبعد الإنسان عن أضرار الطبیعة

قوة الاجتماع تبعد الإنسان عن أضرار الطبیعة

ثم إنه کلما قوی الاجتماع، کان الإنسان أبعد عن أضرار الطبیعة، کالحر والبرد، والشمس المحرقة، والظلمة المرکدة، والعوائق الطبیعیة، والحیوانات الضارة والمؤذیة.

بینما کلما ضعف الاجتماع، کان الأمر بالعکس، بل الإنسان یکون فی ظل الحضارة الاجتماعیة أکثر عمراً وأصح جسداً وأکثر أولاداً، بل وأجمل جسماً وأهنأ نفساً، وأبعد عن المنازعات والمقاتلات، والفوضی والاضطراب، والعکس بالعکس.

وقد ورد فی الآیة الکریمة: {سَلامٌ هِیَ حَتَّی مَطْلَعِ الْفَجْرِ}((2))، إن کل مقدرات الإنسان التی ینزلها الله سبحانه فی لیلة القدر لعامه سلام، وإنما تتحول عن السلام بسوء فعل الإنسان، وحتی مثل طغیان البحر، والقحط الناشئ عن قلة المطر، والمرض والموت الباکر، وتشوه الأطفال، والتلف بالزلازل والصواعق، إنما تکون من سوء فعل الإنسان.

فلماذا لا یتعاون الإنسان لأجل جعل السد أمام ماء البحر، ولماذا لا یحفر الإنسان الآبار الارتوازیة لئلا یرتبط رزقه بالمطر، ولماذا لا یحافظ علی صحته

ص:93


1- نهج البلاغة: الخطب 192.
2- سورة القدر: الآیة 5.

الشخصیة، وصحة البیئة عن التلوث حتی یبتلی بالمرض، وکذلک الموت أکثر من سوء فعل الإنسان، ولذا ورد فی الحدیث: «أکثر أهل المقابر من التخمة»، ولماذا لا یحافظ علی الجنین حتی یتشوه، ولماذا لا یجعل أنفاقاً فی الأرض حتی تجر الزلزال إلی خارج المدن، أو یجعل للزلزال آلات تخبر عنها قبل تکونها لیتجنبها الناس، ولماذا لا یدفع شر الصواعق بالآلات المخمدة لها.

فالإنسان یتمکن أن یقوی جسمه ونفسه حتی لا تؤثر فیهما العوامل الطبیعیة، کما یتمکن أن یزم الطبیعة بزمام العلم حتی لا تطغی علیه، وقد جعل سبحانه الکون مسخراً الإنسان، لا أنه جعل الإنسان مسخراً للکون.

قال تعالی: {وَلَوْ أنَّ أَهْلَ الْقُرَی آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَیْهِم بَرَکَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَکِن کَذَّبُواْ}((1)).

هذا بالإضافة إلی الأسباب الغیبیة التی هی وراء المادیات.

ص:94


1- سورة الأعراف: الآیة 96.

أسس رقی المجتمعات

اشارة

أسس رقی المجتمعات

(مسألة 12): إن الله سبحانه خلق الإنسان أول ما خلقه إنساناً، وقد دل علی ذلک مختلف الأدیان، أما التفصیل الذی ذکره المادیون من أن أصل الإنسان کان حیواناًً، فقد دلت الأدلة علی عدم صحة ذلک.

وقد زود الله الإنسان بأمور خمسة:

1) الفکر.

2) النطق.

3) الکتابة.

4) إمکانیة تطویر ما حوله بسبب الید والرجل والحرکة.

5) کونه اجتماعیاً.

فإن الإنسان بهذه الأمور الخمسة، تمکن من التدرج إلی مدارج الرقی، فبالثلاثة الأولی تمکن الإنسان أن یستوعب علماً کثیراً، وثقافةً واسعةً بالنسبة إلی ذاته وبالنسبة إلی ما حوله.

1: حیث إن الله سبحانه خلق ملایین المخلوقات، وقد أحصی فی علم الحیوان ملیون حیوان، کما أحصی من الأشیاء غیر الحیة ملیونان، ومن الواضح أن کل شی ء من هذه الأمور ذات أبعاد متعددة، وکثیراً ما تکون ذات أشیاء وأجزاء.

مثلاً الوردة لها جسم، وأوراق، وألوان، وعطر، وبزر، وغیرها.

وحتی الشیء الذی لیس له أجزاء، ذو أبعاد من لون وملمس وجسم وغیرها، هذا من ناحیة.

2: ومن ناحیة ثانیة، هذه المخلوقات فی حرکة وتطور واجتماع وانفصال مما یضیف إلی حالتها الذاتیة حالة أخری، مثلاً الوردة من ابتداء تکونها إلی حین رجوعها إلی التراب والماء والضوء والهواء لها حالات مختلفة، وقد

ص:95

قال الحاج السبزواری:

کون المراتب فی الاشتداد

أنواعاً استنار للمراد

وإنما قلنا: (إلی حین رجوعها) لأن الأربعة السابقة أهم مقومات التکون، ثم الشیء یتحلل إلی سابق حاله، ولذا سمی الحکماء العلم بالکون والفساد، فإن بزر الزهرة ماکنة وفیها قوة تتمکن أن تجذب إلی نفسها تلک العناصر الأربعة، کلاً بقدر خاص، وتمزج بینها وتغیر صورها إلی ما یناسب الزهرة، من اللون والحجم والعطر والکیفیة وغیرها، ثم بعد انتهاء قوة الماکنة تتحلل وترجع الأجزاء إلی ما کانت علیه سابقاً من التراب والماء وغیرها.

ولیس هذا بالنسبة إلی الحیوان والنبات والإنسان فحسب، بل الجماد أیضاً فی تحرک دائم، کما ثبت فی علم الذرة، وأشار إلی ذلک الإمام الصادق (علیه السلام)، حیث قال لبعض أصحابه: «إن الآجرة التی یراها الرأی جامدة ساکنة هی فی حرکة دائمة».

وإن شئت قلت: إن العالم قد خلق فیه ملیارات الأجزاء، وهی مبعثرة فی کل العالم، والماکنات الصغار المودعة فی الذرات تجذب ما یناسبها من تلک الملیارات فتکبر نفسها، مثلاً بزر الزهرة _ وهی ماکنة أو مئات الماکنات _ تجذب شیئاً من العطر واللون والطعم والفائدة، و... المناسبة لها، أی حسب ترکیب الله تعالی لتلک الماکنة، حتی تبلغ بلوغها النهائی، ثم تقف الماکنة عن الحرکة لتأخذ الزهرة فی التحلل، ویرجع کل شیء إلی الفضاء لتمتص ماکنة ثانیة فی وقت مناسب آخر الأجزاء المذکورة، وتتکون زهرة جدیدة، وهکذا.

ص:96

3: ثم من ناحیة ثالثة، جعل الله للکون ملیارات من القوانین، قانون حرکة الأرض واحد منها، وقانون أن النفط یعطی الدفء والضوء اثنان منها، وقانون أن فی کل جزء من البدن قوة جاذبة للغذاء وقوة مبقیة لها، وقوة غاذیة وقوة دافعة للزائد، أربعة قوانین منها، وقانون أن فی الکبد ألفی ماکنة ألفا قانون منها، وهکذا.

4: ومن ناحیة رابعة، هناک قوانین اعتباریة وانتزاعیة، وما لها تقرر فی وعاء خاص، وقوانین ذهنیة، مثل اعتبار الورق دیناراً، وأن الأربعة زوج، وأن الکل أعظم من الجزء، ولو فرض أنه لم یوجد کل وجزء، ولا ذهن ذاهن أبداً، والصور الذهنیة والتی هی إحدی الوجودات للشیء _ علی ما یقوله الحکماء _ من لفظی وکتبی وذهنی وخارجی.

وکل هذه المجموعات الأربع، هی أمور بتصور الإنسان لها وتصدیقه لها یتکون العلم والثقافة.

وکثیراً لا یصل الإنسان إلی قانون من القوانین المودعة إلاّ بعد ملایین السنوات، ولا یهم ذلک فی کون القانون قانوناً، کما أن الخسارة تکون للإنسان حیث یرتطم بالواقع، ولا یعرف السبیل إلی المخرج، حتی یصل بسبب التصاعد الزمنی والفکری والعملی إلی ذلک القانون الذی أودعه الله فی الکون.

مثلاً فی باب القدرة، قانون: إن الترویض بالقدرة لا یدوم، بینما الترویض بالإدارة یدوم، قانون لم تصل إلیه کافة الحکومات الدیکتاتوریة، ولذا أخذوا یتخبطون ویقعون فی تناقض مع الشعوب ینتهی بضربهم للشعوب وأخیراً ضرب الشعوب لهم.

ص:97

وفی باب التطبیق، قانون: إن التطبیق إذا لم یکن موافقاً لللأیدولوجیة، وقع التعارض بین الأمرین، حتی ینتهی الأمر إلی طرد الإیدولوجیة للتطبیق، قانون عرف بعد تجارب کثیرة، وفشل ألوف القوانین التی وضعت خلافاً للإیدولوجیات.

وفی باب الاقتصاد قانون: عدم جدوی حلّ القضیة الاقتصادیة بالعقوبة، أو قانون: إن الاقتصاد المتین بحاجة إلی سیاسة متمرکزة، أوقانون: إن برمجة الاقتصاد تعارض القانون مما ینتهی بانتصار أحدهما علی الآخر، قوانین أودعت فی الکون، لم یصل إلیها الناس إلاّ بعد معاناة وتجارب وفشل وتعدیلات.

فالتاجر إذا تکسّر، إنما یکون حل قضیته بانسحابه عن میدان الاقتصاد، بینما بعض الأنظمة یحل قضیته بالعقوبات، وذلک شیء غیر لازم، لأن الإخراج عن میدان الاقتصاد هو الحل العادل فلماذا المزید من الحل بالعقوبة.

والمال یحتاج إلی الحمایة فی تحرکه ونموه، والحمایة إنما یوفرها السیاسة المتمرکزة، إذ بدونها یکون المال معرضاً للنهب، أو الصدّ أمامه عن التحرک، مما یسبب جموده علی أقل تقدیر، فإن المال جبان.

والبرمجة سلب للحریة التی منحها القانون العام، ولذا لابد وأن یکون أحدهما یهزم الآخر عن المیدان.

إن ماذکرناه من القوانین الخمس علی سبیل المثال، وملایین القوانین الأخر، بإضافة ما تقدم من الحقائق وغیرها، هی التی تشکل مجموع العلم، فی محیط معرفتنا الإجمالیة، وإلاّ فلعل هناک فئات أخر من المعلومات لا نعرفها حتی إجمالاً، ولا نتمکن أن نشیر إلیها ولو إشارة مقتضبة.

ص:98

والمجتمع یکون له تلک الثقافة التی حصلها من أجداده، وانتقلت إلیه بالنطق والکتابة، أو حصلها بنفسه، وتلک الثقافة الکلیة هی التی لها أکبر الأثر فی تسییر الجامعة، بالإضافة إلی المحیط الطبیعی وغیره، مما تقدم بیانه فی المسألة السابقة فی الأمور العشرة.

المجتمع کلی متمایز عن أفراده

المجتمع کلی متمایز عن أفراده

والمجتمع من جهة الکم، وإن کان مرکباً من أفراده، فهو حاصل الجمع، فإذا ولد فرد زاد المجتمع کماً، وإذا مات فرد نقص من المجتمع فرد، إلاّ أن المجتمع من ناحیة الکیف کلی مستقل متمایز عن أفراده فهو:

1: قبل کل فرد فرد.

2: وبعد کل فرد فرد.

3: ولا یتغیر بزیادة الأفراد ونقصها.

4: وهو یضغط علی الفرد، ویعدل سلوکه أو یحرفه.

5: والفرد معه فی تصارع دائم.

ولذا قال بعض الفلاسفة: بأن للمجتمع روحاً مستقلة.

فقد حدد أفلاطون الفرد والمجتمع فی بنود سبعة:

أ) الإنسان موجود له روح وجسد، ولابد له لاستمرار حیاته من إعطائه لوازم الحیاة من المأکل والمشرب والملبس والمسکن و...

ب) الاجتماع کالإنسان، له روح وجسد، وإذا أرید بقاؤه لابد وأن یعطی حوائجه الأساسیة حتی یتمکن من استمرار الجیاة.

ج) الموجودات الحیة _ الإنسان والاجتماع _ تطلب البقاء والدوام، ولکل منهما کیفیة خاصة من البقاء.

ص:99

د) الإنسان بالصورة الاجتماعیة قابل للبقاء، وتقسیم العمل سبب دوام الإنسان وتکامله.

ه_) الإنسان ذاتاً اجتماعی، وبالتعاون مع الثقافة المشتر که یرتبط ببقیة الأفراد ویتعاون معهم، والثقافة عبارة أخری عن الفکر الاجتماعی.

و) الإنسان یعیش تحت ظل نظام اجتماعی، فلابد وأن یکون فی کل اجتماع نوع من النظم والانتظام.

ز) النظم الاجتماعی، أی الروابط التی تحکم الاجتماع، قابلة للدرک.

وکلامه وإن کان تاماً فی بعض بنوده، إلاّ أن بعض بنوده الآخر محل نظر، إذ للاجتماع روح خاصة، وأما متطلباته، إنما فی آثار ومتطلبات المجموع من حیث المجموع، حیث إن الاجتماع یوجد علاقات جدیدة، مثلاً إنسان واحد لا یکذب ولا یضرب ولا یستغیب ولا ینافق ولا یتزاوج، ولا یحزن لفقد صدیق ومرضه، وهکذا، فإذا صار إنسانان صار کل ذلک، فهل معنی ذلک أن إنسانین لهما ثلاثة أرواح، روحان لکل واحد، وروح للمجموع.

وأطولیة عمر الجامعة، وضغطها علی الأفراد وما أشبه، معناه أن الأفراد الآخرین موجودون قبل هذا الفرد، کما أنهم موجودون بعده بأعیانهم أو بأبدالهم، وإن جماعة إذا تطلبوا شیئاً کان الفرد _ بحکم أنه یرید أن یعیش معهم، وأنه إذا لم ینسق معهم صعب عیشه معهم لازدرائهم به، وعدم قضائهم حوائجه _ مجبوراً علی إعطائهم ما طلبوه، من باب قاعدة الأهم والمهم، الکامنة فی فطرة کل إنسان حیث یقدم الأهم علی المهم.

ولذا الذی ذکرناه من النظر فی روح الاجتماع، لم یوافق الحکماء الذین

ص:100

جاؤوا بعد أفلاطون معه، إلاّ نادراً، وإن ذهبوا إلی بعض بنوده السبعة المتقدمة، بل أضاف بعضهم أن الاجتماع له نداء ضد الظلم، ولذا ینبری جماعة للمقاومة علی الحاکم الظالم مهما کلفهم من مال أو روح أو جاه أو غیرها.

ثم إنه إذا أرید معرفة الاجتماع یلزم أن یلاحظ الاجتماع بنفسه لتدرک قوانینه، فإن ملاحظة المزاج الفردی والمحیط الطبیعی والمحیط المصطنع السیاسی الجغرافی، وإن کانت دخیلة فی فهم الاجتماع، لکن للاجتماع بالإضافة إلی ذلک قوانین خاصة، لا تتسنی معرفتها إلاّ بمعرفة تلک الثلاثة، بالإضافة إلی قوانینه الخاصة، والمجموع من حیث المجموع یعطی معرفة قوانینه.

ص:101

الثقافة

اشارة

الثقافة

(مسألة 13): فی الاجتماع نوعان من الثقافة، أحدهما فی ضمن الآخر.

أما الثقافة العامة فهی التی تعطی الاجتماع لوناً خاصاً وتمیزها عن سائر الاجتماعات، سواء عمودیاً أو أفقیاً، حتی وإن کانا من دین واحد، فالاجتماع العربی المعاصر مثلاً یختلف عن الاجتماع الفارسی والهندی الحاضرین، کما أنه یختلف عن الاجتماع العربی قبل مائة سنة.

کما أن کل اجتماع عامّ فی داخله جماعات إما طبیعیة کالقبایل، أو اصطناعیة کالأحزاب والجمعیات، لکل جماعة جماعة ثقافة خاصة، لکن لیس بینهما کالبون بین ثقافات الاجتماعات، ومن مجموع تلک الثقافات المضمونة تتولد الثقافة العامة للاجتماع، بعد أن یضاف علی تلک الثقافات لون الاجتماع بما هو اجتماع.

ولعله إلی ذلک تشیر الآیة الکریمة: {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً}((1)).

ولعل التعمید الذی نراه عند المسیحین _ إن کان له أصل _ کان إشارة إلی تغییر اللون ظاهریاً، إشارة إلی تغییر اللون معنیً.

والثقافة الاجتماعیة عبارة عن الدین والعلم والأخلاق والرسوم والعادات ونحوها.

مثلاً الرسوم فی الزواج والطلاق والولادة والموت والمعاملات والمواریث

ص:102


1- سورة البقرة: الآیة 138.

والعقوبات والحرب والسلم والمعاهدة وما أشبه، کلها تدخل فی تکوین اللون العام للاجتماع مما یسمی بالثقافة الاجتماعیة.

والدین الإسلامی ونحوه، وإن کان یعطی برامج لکل أتباعه، إلاّ أن کثیراً من البرامج لیست بحد الواجبات والمحرمات، بل فی کثیر منها سعة للأقوام أن یأخذوا بأی جزئی منها، ولذا نری تختلف عادات الفرس عن العرب عن الهنود عن الترک وهکذا، وإن کان الإطار الإسلامی العام محکماً علی جمیعها، هذا بالإضافة إلی الأسباب التابعة للمناخ ونحوه مما یدخل فی تلوین الاجتماع، مثلاً شدة الحر فی قلب الأسد توجب التعطیل فی مدینة کذا، وهکذا التبلیغ فی وقت کذا، أو الزیارة فی موسم کذا فی الأعتاب المقدسة أو ما أشبه، بینما لیس فی مکان آخر هذا اللون.

وقد ذکروا أن من فضائل الإسلام أمرین:

أحدهما: مرتبط بالمقام، وهو أن الإسلام یصلح للانسجام مع مختلف الشعوب فی مختلف الأزمان والأماکن، لأنه دین یسر.

قال سبحانه: {یُرِیدُ الله بِکُمُ الْیُسْرَ وَلاَ یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ}((1)).

وقال تعالی: {وَمَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ}((2)).

وقال عز من قائل: {یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِی کَانَتْ عَلَیْهِمْ}((3)).

وقال (صلی الله علیه وآله): «رفع عن أمتی تسع»((4)) الحدیث.

إلی غیر ذلک، بالإضافة إلی ملائمة قوانینه للعقل، ولذا یتمکن کل جماعة أن یتخذه دیناً وعقیدةً ونظاماً

ص:103


1- سورة البقرة: الآیة 18.
2- سورة الحج: الآیة 78.
3- سورة الأعراف: الآیة 157.
4- تحف العقول: ص41.

مع بقاء عاداته وتقالیده وما أشبه مما لا تتصادم مع الإسلام.

والأمر الثانی: مرتبط بنبی الإسلام (صلی الله علیه وآله)، وکان سبباً لسرعة تقدم الإسلام مما یرتبط بالآخرة إلی الإسلام نفسه، وهو أن کل إنسان وإن کان من ألد أعداء الإسلام، عرف أنه یتمکن أن یعیش فی کنف الإسلام فی أمن وسلام، سواء أسلم أم لا، ولذا قال (صلی الله علیه وآله) لکفار مکة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»((1))، مع أنهم کانوا جناة مجرمین ولم یسلموا، حتی یشملهم «الإسلام یجبّ عما قبله».

وکیف کان، فالثقافة الاجتماعیة عبارة عن العقائد والأعمال الفردیة منضّمة إلی الأمور الاجتماعیة من الروابط التی یأتی بها الفرد مع الآخر، والجماعات مع الجماعات.

تکامل الثقافة

تکامل الثقافة

وکلما تقدمت الثقافة ظهرت لها خاصیتان:

1: التکامل، وهی فی داخل الاجتماع، حالها حال ما بالقوة فی داخل ما بالفعل، فإن الله تعالی خلق أشیاء الکون بعضها بالفعل وبعضها بالقوة، لا علی نحو تز و آنتی تز وسنتز، فالدجاجه فی بطن الفرخ، والفرخ فی بطن البیضة، والبیضة فی بطن الدجاجة، وکذلک الشجرة فی بطن النبتة، وهی فی بطن الحبة,

فکل مرتبة حالیة تسمی بالفعل، وکل مرتبة مستقبلیة تسمی بالقوة، حیث إنه قد أودع فی داخل الشیء قوة تسیر تلک القوة ذلک الشیء إلی ذلک الکائن المستقبلی.

والثقافة فی داخل الاجتماع هکذا، تسیر من القوة إلی الفعل، مثلاً مسائل

ص:104


1- الوسائل: ج11 ص119 الباب 72 من أبواب جهاد العدو ح1.

الفقه فی (جواهر الکلام) وهی تقارب ربع ملیون مسألة کانت فی بطن (الشرائع)، وهو بدوره کان فی بطن (الکتب الأربعة) مثلاً، وهکذا کلما تقدم الاجتماع أخذت الثقافة فی التکامل، فالعقل الذی هو حجة باطنة لله سبحانه مودع فی الإنسان، یحذف الزائد ویأخذ باللباب، وینمّی ذلک اللباب بقدر الحاجة الفردیة والاجتماعیة، وبذلک یتکامل الإنسان فی نفس الوقت.

تعقد الثقافة

تعقد الثقافة

2: التعقد، فإن حاجات الإنسان الجسدیة والنفسیة کثیرة، وکلما وجد الإنسان إمکانیة تحصیلها أخذ فی اکتسابها، وبذلک تتشابک الروابط أکثر فأکثر، وتتعقد الحضارة.

فمثلاً إذا کان للإنسان مائة صدیق، وکان لکلٍ رسم زواج وولادة، وسفر ومرض وموت، کان علیه لهم خمسمائة مرسوم، کما أن علیهم له کذلک، فإذا فرض تعقد کل واحد من هذه المراسیم، بأن انتقلت من البساطة البدائیة إلی التعقد الحضاری، کان التکلیف علیه أکثر ثقلاً، فمثلاً فی رسم الموت یحضر احتضاره وتشییعه والصلاة علیه ودفنه وفاتحته، وحضور قبره فی الأسبوع والأربعین والسنة، وکل مرة یحتج الأمر إلی الوقوف فی صف السیارة للرکوب والنزول مرتباً إلی غیر ذلک.

والفارق بین الإنسان والحیوان یظهر فی هاتین الجهتین، بالاضافة إلی جهة ثالثة:

1) فالحیوان له غرائز، کل یسیر فی المسیر المقرر له، {أعطی کل شیء خلقه ثم هدی}((1))، إلی زمان استمراره فی الحیاة، فلا تکامل له حسب ما وصل إلیه العلم، وإن کان من المحتمل أنه یأتی یوم یتکامل فیه الحیوان،

ص:105


1- سورة طه: الآیة 50.

بأن یربی حتی یصل إلی التطویر، کما قاله بعض علماء الحیوان، و قال ابن سیناء: (فذره فی بقعة الإمکان)، وقد ذکر بعض علماء الحیوان: إن الآثار والتنقیب دلّت علی أن النمل منذ خمسین ملیون سنة لم یطرأ علی حیاته أی تطویر.

2) وحیث لا تطویر فی حیاة الحیوان، لا تعقد فیها، إذ التعقد من ولائد التطویر، وإن کان من الممکن مثلاً أن یقال: إن نملتین حیاتهما أکثر بساطة من خمس نملات، حیث إن واجب کل واحدة یکثر، حیث للجمیع الولادة والموت وما أشبه مما یوزع بعض أعمالها علی جمیعها.

3) ثم الحیوان لا ینتقل إرث الثقافة من جیل منه إلی جیل آخر، مما یوجب تراکم الثقافة علی الجیل الثانی، ثم ثقافتهما علی الجیل الثالث، وهکذا.

4) والإنسان فی حیاته یتعثر فی النزول ثم الصعود وهکذا، ولذا کانت لثقافة الاجتماع تعاریج، بینما لیس للحیوان کذلک.

تشابه المجتمعات

تشابه المجتمعات

ثم إن الإنسان حیث خلقه الله سبحانه بفطرة واحدة، لابد وأن یتشابه بعضه مع بعض فی الأولیات الاجتماعیة والانفرادیة.

وهذه الأولیات هی الجامع بین أفراد البشر وکل اجتماعاته، سواء الاجتماعیة البدائیة، أمثال قبائل إسکیمو، أو التی وصلت إلی غایة الحضارة الحاضرة، مثل العقیدة بشیء کالإله الوا حد، أو المتعدد المرئی أو غیر المرئی، أو الطبیعة أو ما أشبه ذلک، ومثل صنع الوسائل، والأخذ والعطاء، والعبادة أی الخضوع أمام شیء ولو الأصنام البشریة أو الحجریة، والتعاون والزواج وتربیة الأولاد، وجعل

ص:106

الارتباطات وحفظها، سواء القلبیة أو الحزبیة أو ما أشبه، والزراعة والتجارة والطبخ، وصنع الملبس والمسکن، وطلب الراحة واللعب وتربیة الحیوان، والحرب والسلم، وعقوبة المجرم، وتطلب الحق، وتحسین الحسن، وتقبیح القبیح، ومراسیم خاصة للزواج والولادة والموت، وحب الاستطلاع وغیر ذلک.

وثقافة کل اجتماع، مستقاة مما تقدم فی بعض المسائل السابقة، کما أنها هی التی تنعکس علی العقائد والنیات والأعمال والسیر لکل اجتماع، فمثلاً الثقافة الفلانیة توجب حرق الأموات، وثقافة أخری توجب جعل المیت للغربان ونحوها لتأکله، وثقافة ثالثة توجب دفنه بمراسیم خاصة.

ولیست للإنسان طبیعة خاصة توجب علیه سلوکاً خاصاً کالحیوان، کما أن المحیط الطبیعی لیس دخیلاً فی کل عمل یعمله الإنسان، بل الثقافة هی التی تفرض علیه ما تقدم من العقیدة والسلوک وغیرهما، والإنسان دائماً ومن قدیم الزمان یغیر ثقافته إلی الأفضل، کما أنه دائماً یأخذ بالجانب الاجتماعی، فیفکر ویعمل لکسب أکثر قدر من الأصدقاء، وکذلک یسعی لترویض الطبیعة، لا للأمن من شرها فحسب، بل للاستفادة منها أیضاً.

تاریخ الإنسان

تاریخ الإنسان

والإنسان لا یعلم تاریخه، وأنه متی کان آدم (علیه السلام)، وکل ما فی بعض التواریخ لیس مستنداً إلی علم قطعی، أو قول معصوم (علیه السلام) یعلم الغیب بإذن الله تعالی.

أما قول المادیین بأن الإنسان کان قرداً، وأنه أتم المراحل التی وجدناها فی نصف ملیون سنة مقسماً علی عصر الإنسان القردی، ثم إنسان نئان درتال، ثم إنسان کرومان یون، ثم الإنسان الحالی، فلم یقم علیه حتی مستند استحسانی، کما

ص:107

لا یخفی علی من راجع أدلتهم.

ومثل ذلک فی عدم الدلیل، جعل إنسان إسکیمو دلیلاً علی حال الإنسان الأول، وقد قرر فی علم المنطق أن (الجزئی لا یکون کاسباً ولا مکتسباً).

وقال سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ}((1)).

و: {إَنَّ الظَّنَّ لاَ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا}((2)).

بل الإنسان الأول کالإنسان الحالی، له نفس الغرائز والمتطلبات والمخاوف وغیرها کما تقدم.

التنقیب عن الآثار التاریخیة

التنقیب عن الآثار التاریخیة

ثم إنه یلزم معرفة ثقافة أی مجتمع دثر فی التاریخ، کعاد وثمود وفرعون وقوم لوط وأصحاب الأیکة، وکذلک من قبلهم، ومن بعدهم، ومعرفة الثقافة تحصل من آثارهم.

ومن هنا یهتم العلماء بحفظ الآثار، وبالتنقیب عن الاثار، وفی الأحادیث: (عندنا مصحف فاطمة علیها السلام)((3))، وقد حفظوا (علیهم السلام) عصی رسول الله (صلی الله علیه وآله)، وکتاب علی (علیه السلام)، وثوبه الذی ضرب فیه، إلی غیر ذلک، وقد وردت أحادیث بأن الإمام الحجة (علیه السلام) إذا ظهر تکون معه مواریث الأنبیاء (علیهم السلام) والرسول وفاطمة وآبائه (علیهم الصلاة والسلام).

وقد اهتم علماء الاجتماع والآثار، لجعل وسائل لمعرفة الأدوار بالوسائل العلمیة التی وصلت إلیها الإنسانیة فی العصر الحاضر، ویجعلون متاحف أثریة إلی جنب المتاحف العلمیة، والأمم الحاضرة تحاول أن ترفع نسبها إلی قرون

ص:108


1- سورة الإسراء: الآیة 36.
2- سورة یونس: الآیة 36.
3- أصول الکافی: ج1 ص239.

وقرون، لإفادة تراکم الثقافة والحضارة عندهم، فقد تقدم أن کل جیل یرث ثقافة الأجیال المتقدمة.

والتنقیب عن الآثار لکشفها یفید الإنسان _ بالإضافة إلی العلم بالغابر، والعلم مطلوب طبیعی للإنسان _ معلومات یستفید منها الإنسان لحیاته الحاضرة.

مثلاً إذا فحصنا عن حیاة الإمام موسی بن جعفر (علیه السلام) وهارون العباسی، فرأینا أن الأول کان مطارداً للظلم والظالمین والفساد والترف، بینما کان الثانی غارقاً فی کل ذلک، عرفنا أن بقاء الإنسان خالداً فی التاریخ سببه الثانی، وبذلک یکون الظلم منفوراً لنا، والعدل محبوباً، وتلک عبرة نستلخصها من التاریخ، وکذلک غیر ذلک.

ولا فرق فی الاستفادة من الآثار بین کون الثقافة التی نجدها فی غابر التاریخ (مادیة) مما صنعت بأیدیهم، من زراعة وصناعة ووسائل حیاة آخر، أو (معنویة) کعلمهم وعقیدتهم وفنونهم ومراسیمهم فی الولادة والزواج والموت والمعاملات والمرافعات وما أشبه، وحتی الکلمة المکتوبة والآنیة الحجریة لهما دلالة علی جانب من الحضارة الغابرة لتلک الأمة.

مثلاً إذا وجدت کلمة (ماء) محفورة علی کوز فی حفریات قبل عشرة الآف سنة فی (تل أبیب) دلت علی أن العرب کانوا یسکنون هذه المنطقة، وأن اللغة العربیة کانت فی ذلک المکان، وکذلک إذا وجدت قطعة رخام منقوش علیها صورة محاربین ملابس بعضهم کذا، وملا بس بعضهم کذا، دلت علی أن الحرب کانت بین السلطتین اللتین کانتا معلمتین بهذه الشارات وتلک الشارات.

قال الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام): «وسر فی دیارهم وانظر إلی آثارهم»((1)).

وقبل

ص:109


1- انظر نهج البلاغة: ال کتب 31، وفیه: (وسر فی دیارهم وآثارهم فانظر فیما فعلوا ..) .

ذلک قال الله تعالی: {فَسِیرُواْ فِی الأَرْضِ}((1))، وقال: {وَإِنَّهَا لَسلسَبِیلٍ مُّقیمٍ}((2)).

ولما مرعلی (علیه السلام) علی إیوان کسری، أنشد بعض من حضره:

جرت الریاح علی محل دیارهم

فکأنهم کانوا علی میعاد

فکأنهم کانوا علی میعاد

فقال له الإمام (علیه السلام)، بل اقرأ: ­{کَمْ تَرَکُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُیُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ کَرِیمٍ وَنَعْمَةٍ کَانُوا فِیهَا فَاکِهِینَ}((3)).

ثم إنه من تراکم الثقافة الماضیة والثقافة الحاضرة، یمکن أن یستکشف الخطوط العریضة للثقافة المستقبلة، بعد ملاحظة وحدة سیر الإنسان، فیما حفظ من التاریخ، مضافاً علیها کیفیة سیر الحضارة، فإذا رأینا سیارة تسیر فی الساعة الأولی خمسة فراسخ، وفی الثانیة ستة، وفی الثالثة ثمانیة، حکمنا بأنها تصل إلی البلد الفلانی فی ساعة کذا، بعد جمع ماضی السیر ومستقبله، ملحوظاً فیه تصاعد سیر السیارة فی کل ساعة، وکتاب (صدمة المستقبل) و(التحدی العالمی) إلماع إلی هذا الأمر.

الهیکل العظمی للثقافة

ثم إن ثقافة الاجتماع علی کثرة وحداتها، تنتظم فی ثقافة موحدة، هی بمنزلة الهیکل العظمی للثقافة العامة للاجتماع، وکما أن الهیکل العظمی موحد وإن تر کب من أجزاء.

ثم یأتی بعد ذلک دور ما یحیط الهیکل من اللحم والأنسجة والعروق والأوردة وما أشبه، کذلک حال الثقافة، فثقافة العقیدة، وثقافة الآداب

ص:110


1- سورة آل عمران: الآیة 137.
2- سورة الحجر: الآیة 76.
3- سورة الدخان: الآیة 25.

والرسوم، وثقافة المعاملات، وثقافة العبادات، وثقافة الأحوال الشخصیة و... أجزاء یرکب منها الهیکل الثقافی العام للاجتماع.

ثم تلک الوحدات (الأعضاء) تملأها الخصوصیات والمزایا لکل ثقافة ثقافة.

وکما أن الهیکل العظمی للإنسان غیر الهیکل العظمی للغزال والسمک والطائر، کذلک لکل اجتماع هیکل عظمی خاص من الثقافة، یتمایز عن الاجتماع الآخر بذلک، وحتی الأنبیاء (علیهم السلام) حیث کانت تختلف أزمنتهم، کان لکل هیکل ثقافی خاص، وإن کان الجمیع یجتمعون فی الأمور الأعم من ذلک، حال اجتماع الإنسان والطیر والسمک والغزال فی أصل الهیکل العظمی مثلاً، وإلی هاتین الرتبتین: رتبة الاجتماع والافتراق، أشارت الآیات الکریمة:

فمن الأولی: قوله سبحانه: {قُولُواْ آمَنَّا بِالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَیْنَا وَمَا أُنزِلَ إلی إِبْرَاهِیمَ وَإِسْمَاعِیلَ وَإِسْحَاقَ وَیَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِیَ مُوسَی وَعِیسَی وَمَا أُوتِیَ النَّبِیُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}((1)).

ومن الثانیة: قوله تعالی: {مَا نَنسَخْ مِنْ آیَةٍ أو نُنسِهَا نَأْتِ بِخَیْرٍ مِّنْهَا أو مِثْلِهَا}((2)).

وقال: {وَمَن یَبْتَغِ غَیْرَ الإسلام دِینًا فَلَن یُقْبَلَ مِنْهُ}((3)).

وقال: {لِکُلٍّ جَعَلْنَا مِنکُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَکُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَکِن لِّیَبْلُوَکُمْ فِی مَآ آتَاکُم}((4)).

ثم إن الکوارث أمثال الزلازل والفیضانات وما أشبه، إذا لم تبدد

ص:111


1- سورة البقرة: الآیة 136.
2- سورة البقرة: الآیة 106.
3- سورة آل عمران: الآیة 85.
4- سورة المائدة: الآیة 48.

الاجتماع تبدیداً کاملاً، وکما فی عذاب الله حیث یفنی الأمة، لا تحطم الهیکل العظمی للثقافة، وإن کانت تحطم جملة من الأعضاء والأغشیة، وما إلی ذلک.

ص:112

عوامل تشکل الجماعات

اشارة

عوامل تشکل الجماعات

(مسألة 14): قد تقدم بعض الکلام حول الاجتماع، وبقی بعض أخر حول الجماعات بمختلف أشکالها وأسامیها، فنشرحه فی هذا البحث.

إن الجماعة إنما تتشکل لأحد أمور ثلاثة:

1) لأجل الاحتیاج الذاتی، إما حاجة دینیة أو حاجة دنیویة، مادیة أو غیر مادیة، فالحاجة الدینیة مثل الصلاة الواجیة جماعة کالفطر والأضحی والجمعة فی أیام الحضور، والحاجة الدنیویة المادیة مثل ما إذا اجتمعوا لأجل بناء أو صنع طعام أو ما أشبه مما لا یتأتی إلاّ بالجماعة، والحاجة الدنیویة غیر المادیة، مثل الجماعة لأجل اللعب أو النظر إلی تمثیلیة أو نحوهما.

2) لأجل قضاء حاجة الاجتماع، مثل الجماعات الخیریة الاجتماعیة لأجل حاجة المجتمع، کما تتشکل جماعة لأجل فتح المدارس والمستشفیات وبناء دور للفقراء وما أشبه دلک، وفی هذا یدخل ما یتشکل لأجل دفع حاجة الاجتماع الدینیة، کتشکل الجمعیة لأجل بناء المساجد فی القری الجدد التی لا مساجد لها.

3) لأجل الضغط الاجتماعی، مما لیس سببه القریب الاحتیاج الذاتی أو الغیری، وإن کان ینتهی بالآخرة إلی أحد الأمرین السابقین، کالاجتماع لأجل تکلیف مجلس الأمة بعض أعضائه لأجل النظر فی قانون أو حاجة اجتماعیة أو ما أشبه ذلک، فإن الضغط الاجتماعی المنصب علی المجلس

ص:113

سبب تکلیف الأعضاء من قبل المجلس بذلک.

التسالم والتنازع فی الجماعات

التسالم والتنازع فی الجماعات

ثم إن الجماعات المتشکلة حسب اختلاف ثقافتها من ناحیة، واختلاف المحیطین الطبیعی والاجتماعی من ناحیة ثانیة، تنقسم إلی:

1: ما یمیل إلی التسالم.

2: وما یمیل إلی التنازع.

فقد تکون الثقافة المبنی علیها الجماعة ثقافة سلام، وقد تکون بالعکس، کما أن الاجتماع قد یحبذ السلام، وقد یحبذ النزاع، وطبقاً لذلک فالجماعة أیضاً تمیل إلی أی منهما.

أما المحیط الطبیعی فالمحیطات الحارة ذات أمیاه الثقیلة أقرب إلی تربیة الجماعة خشنة الأخلاق، بینما المحیطات الباردة بالعکس تربی الجماعة جانحة إلی السلام، ولا یخفی أنه بالإمکان تبدیل الثقافة الخشنة فی المجتمع إلی الثقافة المسالمة، وکذلک المحیط الطبیعی بتغییر الماء والهواء، بصنع الأنهار الجاریة، ولو من الآبار الارتوازیة، فإن الماء الجاری یکون خفیفاً من جهة کثرة مرور الهواء فی داخله، بالعکس من الماء الراکد الموجب لثقله، ثم یصفی الماء من المواد العالقة، حتی یخف ولا یؤثر فی أحداث الأریاح الغلیظة فی البدن، مما یسبب سوء الهضم والمرض، وأخیراً سوء الأخلاق.

وأما الهواء فبکثرة التشجیر والأحواض والنافورات، والساحات العامة الملطفة بالماء والشجر، وقد استخدمت حکومة بعض البلاد خبراء لتخفیف حر الصیف حیث کان یصل إلی خمس وخمسین درجة، بالإضافة إلی رطوبة الهواء والغبار مما یزید الأمر إعضالاً، فقالوا بأن التخفیف ممکن بقدر عشر

ص:114

درجات، إذا غرست الدولة مائة وعشرة ملایین شجرة.

ثم للطعام أیضاً الأثر البالغ فی السلام والنزاع، کما أن المنهج الحیوی المقرر له تأثیره أیضاً.

فالأطعمة الباردة طبعاً، تسبب میل الإنسان إلی البرودة المنتجة للسلام، وبالعکس من ذلک الأطعمة الحارة.

وإذا کانت الأنظمة شرعیة، والمواعید مضبوطة، والمشاکل محلولة بمناهج سهلة و... مالت الأمزجة إلی السلام، بینما العکس یکون مبعثاً لخلاف ذلک.

روی حبیب الخثعمی، عن أبی عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «أفضلکم أحسنکم أخلاقاً، المؤطئون أکنافاً، الذین یألفون ویؤلفون وتوطأ رحالهم»((1)).

وعن القداح، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: «المؤمن آلف مألوف، ولا خیر فی من لا یألف ولا یؤلف»((2)).

وقال علی (علیه السلام) کما فی (نهج البلاغة): «قلوب الرجال وحشیة، فمن تألفها أقبلت علیه»((3)).

وعن ابن سنان، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: «ألا أخبرکم بمن تحرم علیه النار غداً، قالوا: بلی یا بن رسول الله، قال: الهین القریب، اللین السهل»((4)).

وعن علی بن دعبل، عن الرضا (علیه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام)، عن علی (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «المؤمن هین لین سمح، له خلق حسن، والکافر فظ غلیظ، له خلق سیء، وفیه جبریة)((5)).

ص:115


1- الکافی: ج2 ص102.
2- الکافی: ج2 ص102.
3- نهج البلاغة: قصار الحکم 50.
4- الوسائل: ج8 ص511.
5- الوسائل: ج8 ص511.

وفی الرسالة الذهبیة للإمام الرضا (علیه السلام): «إن قوی النفس تابعة لمزاجات الأبدان، ومزاجات الأبدان لتصرف الهواء، فإذا برد مرة وسخن أخری تغیرت بسببه الأبدان وتابعه الصور، فإذا استوی الهواء واعتدل صار الجسم معتدلاً، لأن الله عز وجل بنی الأجسام علی أربع طبائع، علی الدم، والبلغم، والصفراء، والسوداء، فاثنان حاران، واثنان باردان، وخولف بینهما، فجعل حار یابس، وحار لین، وبارد یابس، وبارد لین، هم فرق ذلک علی أربعة أجزاء من الجسد، علی الرأس، والصدر، والشراسیف، وأسفل البطن»((1))، إلی آخره.

النضج الفکری یقلل النزاعات

النضج الفکری یقلل النزاعات

ثم إن الجماعة کلما قربت إلی الفهم مالت إلی المعایشة بسلام مع کل الجماعات، سواء جمعهم الإطار العام أم لا، وإنا نری أن البلاد الأوروبیة تحاربت طویلاً، ثم سالمت بعضها البعض، لکنها لم تصل بعد إلی المسالمة مع العالم الثالث مثلاً، حیث إن استعمار فرنسا وبریطانیا وغیرهما لا زال موجوداً، بینما إنا نجد أن البلاد الإسلامیة حیث ابتعدت من الکتاب والسنة تحارب بعضها بعضاً فی سبیل الأوهام، بمختلف أنواع المحاربة.

ولو أخذت الدنیا بالعقل والعدل اختفت الحروب، حیث إن سبب الحروب والمنازعات إما الأوهام، وإرادة کل أن یتقدم مما لیس حقه، وإما المال حیث یستغل بعضهم بعضاً، فالاتحاد السوفیاتی وأمریکا مثلاً یحاربان الشعوب، الأولی لحب السلطة، والثانیة لحب الثروة، أما بریطانیا فإنها تحارب لأجل أن لا ترجع إلی مکانها اللائق بها مما یقضیه حجمها الواقعی.

ص:116


1- الرسالة الذهبیة: ص47.

لا یقال: فکیف الإسلام یحارب.

لأنه یقال: إنه یحارب:

1: لأجل الدفاع عن نفسه أمام المهاجمین، وهذا بسببهم لا بسببه.

2: لأجل إعلاء کلمة الله وإنقاذ المستضعفین، حیث یرید إنقاذ الناس من الخرافة، أو إنقاذ المستضعفین من براثن المستغلین والمستکبرین، فیحارب الذین انحرفوا لأجل إزاحتهم فقط، وبقدر أقصی والضرورة.

3: لأجل إخماد البغاة الذین بغوا، وکل ذلک یرجع إلی رد الاعتداء، لا الاعتداء، وذلک لا ینافی ما ذکرناه من أن العقل والعدل یوجبان اختفاء الحروب.

ولذا کان الوعی من أولیات لوازم العیش بسلام للجماعة مع الجماعات الأخر، فإن فهم أن عدم الانسجام ینتهی إلی سقوط عدم المنسجم بنفسه، یوجب الانسجام والوئام، ولذا ورد فی الحدیث، إنه سئل (علیه السلام) عن الحیلة، فقال: «فی ترک الحیلة»((1)).

 

أنواع التسالم

أنواع التسالم

ثم اللازم أن لا یکون التسالم والتعاون ناشئاً عن الاحتیاج، وإلاّ لم یکن له فضلیة أولاً، ولا دوام له ثانیاً، بل اللازم أن یکون عن علاقة وحب لنوع الإنسان، وقد قال الإمام الحسین (علیه السلام) لأهل الکوفة: «إن لم یکن لکم دین، وکنتم لا تخافون المعاد، فکونوا أحراراً فی دنیا کم»((2)).

ص:117


1- بحار الأنوار: ج35 ص382 ب18.
2- بحار الأنوار: ج45 ص51.

وعلیه، فالتسالم علی ثلاثة أنواع:

1) أن یکون لعدم التصادم فی المصالح.

2) أن یکون للاحتیاج والترابط فی المصالح.

3) أن لکون لأجل الإنسانیة والفضیلة.

وهذا الثالث بالإضافة إلی أنه معنی سام، أدوم وأبقی وأکمل وأجمل، وقد سمی بعض علماء الاجتماع القسم الثانی بالوحدة المیکانیکیة، والقسم الثالث بالوحدة الحیویة.

وحیث إن أفراد الجماعة المتشکلة لا یمکن أن یکون تسالمهم من القسم الأول، کان لابد وأن یکون من أحد القسمین الأخیرین، من غیر فرق بین أن یکون الاحتیاج فی القسم الثانی مادیاً، کما إذا تشکلوا لأجل مطعمهم ومسکنهم، أو معنویاً کما إذا تشکلوا لأجل العلم والثقافة والفن ونحوها.

ثم إنه کلما کان الانسجام بین أفراد الجماعة أکثر، بأن کانت الأنفس مماثلة فی التربیة، کان التحام الجماعة أکثر وکان التقدم أسرع وکانت النتائج أکبر، وبالعکس من کل ذلک ما کان الابتعاد بین النفسیات أکثر، لعدم وحدة التربیة، بله ما إذا کان بعض سیء التربیة.

طرح تحقیق الانسجام

طرح تحقیق الانسجام

والانسجام الأکثر یتحقق بأمور:

الأول: قلة أفراد الجماعة بالحد المحتاج إلیه فقط، إذ کون الأفراد أقل من المحتاج إلیه یوجب عدم إمکان الوصول للهدف، مثل سیارة تحتاج إلی أربع عجلات، بینما لها ثلاث عجلات.

کما أنه کلما کان الأفراد أکثر من الاحتیاج کان الانسجام أبعد، إذ تزداد الروابط الموجبة لبطء تقدم الجماعة، مثلاً

ص:118

إذا احتاج الأمرالی خمسة أعضاء فصعد العدد إلی سبعة، کانت الأکثریة المطلوبة لحسم الاختلاف أربعة، بینما الخمسة الحسم یکون بثلاثة، ومن الواضح أن الحصول علی الثلاثة أسهل من الحصول علی أربعة.

ویمکن أن یقال ذلک ببیان آخر، فإنه إذا کان الاحتیاج إلی اثنین فصاروا ثلاثة، کانت الروابط فی الثلاثة ثلاثاً، بینما الروابط فی الاثنین واحد فقط، والرابط الواحد أخف ثقلاً من ثلاث روابط، فإن إرضاء إنسان واحد أسهل من إرضاء إنسانین، وهکذا إذا صار فی المثال الأعضاء أکثر من ثلاثة.

الثانی: أن یکون الاجتماع أکثر مدةً وأبعد عمقاً، فإن الجماعة التی تتجمع کله لیلة ثلاث ساعات مثلاً، أکثر انسجاماً من التی لا تجتمع إلاّ فی الأسبوع مرة وهکذا.

ولذا قسم بعض علماء الاجتماع الجماعة إلی الابتدائیة والثانویة، وجعل من الأولی مثل العائلة، ومثل الأصدقاء، وجعل من الثانیة مثل الجمعیات المتداولة، حیث إن أفراد الأولی أکثر انسجاماً، لطول مدة الصحبة، بینما الثانیة لیست کذلک لقصر مدة الصحبة.

والبحث الحر النزیه غیر المشتمل علی الجدل والمراء بین أفراد الجماعة، یوجب متانة الرابطة وقوة العلاقة، وذلک لأن نقاط الاختلاف تقل، بل قد تختفی نهائیاً.

وبالعکس من ذلک إذا تحکمت الدیکتاتوریة بین أفراد الجماعة، حیث إنها تؤول إلی الشتات والفرقة.

الثالث: أن تقل فی الجماعة أسباب الفرقة، فإن الجماعة إذا کان فیهم سبب أو أسباب للفرقة، یکون التجانس بینهم أقل، وربما آل إلی التشتت، فالعائلة الواحدة ذات الأدیان المختلفة، والألوان السیاسیة المختلفة

ص:119

والتصادم المصالحی، مثل جماعة بقالین، کل یرید کسب المشتری من الآخر، والانهزام النفسی فی بعض الافراد لأکثریة علم أو مال أو مکانة الآخر، حیث تثیر تلک الأمور فی المتأخر حس الغبن والضعة، لا تنسجم أفرادها کما تنسجم أفراد العائلة إذا لم تکن کذلک.

ولذا نشاهد أن الجماعات التی تهاجر عن وطنها بالطرد أو غیره، والجماعات التی تهاجم من قبل أعدائها، أو تبتلی بالکوارث الطبیعیة، أو ما أشبه ذلک، تنحطم بسرعة، بینما لیست کذلک أحوال الجماعة المستقرة.

بین الجماعة والأعضاء والجماعات الأخری

بین الجماعة والأعضاء والجماعات الأخری

بقی شیء، وهو أن اللازم فی الجماعة ملاحظة ثلاثة أمور:

1: حالة الجماعة مع جماعة أخری.

2: حالة أعضاء الجماعة مع نفس الجماعة.

3: حالة بعض أعضاء الجماعة مع بعض الأعضاء الأخر.

أما الأولی: فهی علی ثلاثة أقسام:

أ) الحیادیة بینهما، وتلک توجب عدم التأثیر والتأثر بینهما.

ب) النزاع، وذلک یوجب تماسک کل جماعة حول نفسها، والتنافس بینهما لأجل السبق وکسب المغانم.

ج) الصداقة، وهی إن کانت فی سبیل الهدف أوجبت التعاون والتقدم، وإن کانت خالیة عن ذلک لم تضر ولم تنفع، لکن الغالب کون الصداقة فی سبیل الهدف المشترک.

وأما الثانیة: فإن الجماعة إذا خالف بعض أعضائها لها، کانت بقدر تلک المخالفة راکدة، وبالعکس إذا کان الانسجام التام، ومعنی هذا القسم

ص:120

أن تکون الأکثریة الکاسحة إلی جانب، بینما الأقلیة إلی جانب آخر، والغالب أن یکون الخلاف والوفاق تابعین لحسن الإدارة فی الاجتماع وسوئها، واللازم اهتمام الجماعة لعدم حدوث مثل هذا الانشقاق.

وأما الثالثة، قد یکون الأعضاء مع الأعضاء فی حالة:

أ) رقابة، ومثل هذه الحالة توجب التقدم، إذ التنافس الحر یوجب استثارة الأعضاء لئلا یتأخر بعضهم عن بعض، والإدارة الحازمة تجعل التنافس والرقابة بین الأعضاء، لکن اللازم أن لا یصل التنافس إلی حالة العداء وما أشبه.

ب) العداوة، وفی هذه الحالة تهدد الجماعة بالانفصام، وتکوین کل جماعة منها جماعة جدیدة، بالإضافة إلی وقوف تقدم الجماعة، بل تأخرها.

ج) الصداقة، وحالها کما تقدم فی الحالة الأولی.

ثم إن الجماعتین المعادیتین أو المتصادقتین، قد یکون بعض أعضائها علی خلاف المجموع، بأن تکون صداقة بین بعض أفرادهما فی المتعادیة، وبالعکس فی المتصادقة. ­

ص:121

بین الفرد والجماعة

اشارة

بین الفرد والجماعة

(مسألة 15): الجماعة، سواء کانت کبیرة کالاجتماع، أو صغیرة کجمعیة اقتصادیة أو ثقافیة، کالنهر الجاری لها وحدة واحدة، وإن تبدلت أجزاؤها، فالأجزاء تتجدد:

1: من حیث الکم، حیث فی الاجتماع الکبیر یموت الفرد ویولد الفرد، وفی الاجتماع الصغیر یدخل عضو جدید ویخرج عضو جدید.

2: ومن حیث الکیف، حیث یصعد الاجتماع وینزل، من حیث الأخلاق والدین والاقتصاد والسیاسة وغیرها، وکذلک فی الاجتماع الصغیر من حیث النشاط والخمول، والأعمال الموجبة لصعوده أو نزوله اجتماعیاً.

والجماعة دائماً توجه أفرادها إلی:

1) جهتها العلمیة، فإن لکل جماعة ثقافة خاصة، تهتم الجماعة بالسیر فیها، والتبنی لها.

2) وجهتها العملیة، حیث إن کل جماعة _ غیر الفکریة البحتة وهی قلیل _ لها هدف تسیر إلیه، وذلک ما لا یکون إلاّ بالعمل.

والتوجیه:

1: فی الأولیات، بأن یقبل الفرد الانضمام إلی الجماعة والسیر فی رکابها.

2: وفی الثانویات، بأن یقبل الفرد التعمق فی الثقافة الخاصة بالجماعة.

ص:122

والفرد السطحی یقبل الأول بینما الفرد العمیق یقبل الثانی.

کما أن العضو:

1) قد یکون عضواً حقیقیاً سجل نفسه مع الجماعة ویشارکهم فی کل شیء.

2) وقد یکون عضو شرف لا یشارکهم إلاّ فی بعض الأمور، سواء کان (عضو شرف) یشرفهم لرفعة مکانه، أو یتشرف بهم لضعة مکانه.

والجماعة:

1: قد تستفید من الفرد أکثر مما تفیده.

2: وقد یکون الأمر بالعکس.

3: وثالثة بین الأمرین تساو.

4: وقد یکون العضو ضاراً محضاً، لکن اللابدیة توجب إبقاءه.

والجماعة تؤثر فی الفرد أثرین:

1) الأثر العمدی، بتربیة الاجتماع للفرد.

2) الأثر التلقائی، بتأثر الفرد بالجماعة لاتخاذه لهم أسوة.

ویری الأثران فی العائلة بالنسبة إلی الأولاد، حیث إن الأب مثلاً یربی ولده، بینما الولد یتعلم من أبیه السلوک تلقائیاً.

وکذلک الحال فی الجمعیات الاصطناعیة والاجتماع الإنسانی.

الانغلاق والانطلاق والانفلاق

الانغلاق والانطلاق والانفلاق

والجماعة _ وکذلک الاجتماع _ تنقسم إلی:

1: المنغلق، حیث تقدس نفسها وترید کل خیر لنفسها، بینما لا تری

ص:123

محاسن الغیر، ولا معایب نفسها، وهذه الجماعة أنانیة جاهلة منکمشة، لا یمر زمان _ طال أو قصر _ إلاّ وینفض الناس من حولها، وأحیاناً تخسر حتی جماعتها بالتبدد والاضمحلال، وتسمی هذه بالجماعة المنغلقة.

2: والمنفتح، حیث إنها تری معایب نفسها کما تری محاسنها، وتری محاسن غیرها کما تری معایبها، وهذه الجماعة تأخذ فی الصعود، ویلتف الناس حولها، وهی جماعة واقعیة مثقفة متواضعة خیرة، وتسمی: المنطلقة.

3: والمنبهر، حیث إنها تری معایب نفسها ومحاسن غیرها، ولا تری محاسن نفسها ولا معایب غیرها، وهی عکس الأولی تماماً، وهی جماعة منهزمة مهزوزة جاهلة، لا یمر زمان _ طال أو قصر _ حتی تتشقق، ویؤول أمرها إلی الفناء والاضمحلال وتسمی المنفلقة.

وحیث یکثر القسم الأول (المنغلق) فی الأفراد والجماعات والجمعیات، نبه الإسلام إلی أضراره وأمر باجتنابه.

قال علی (علیه السلام) فی وصیته لابنه الحسن (علیه السلام): «یا بنی اجعل نفسک میزاناً فیما بینک وبین غیرک، فأحبب لغیرک ما تحب لنفسک، وأکره له ما تکره لها، ولا تظلم کما لا تحب أن تُظلم، وأحسن کما تحب أن یحسن إلیک، واستقبح من نفسک ما تستقبحه من غیرک، وأرض من الناس بما ترضاه لهم من نفسک، ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن یقال لک»((1)).

وقال (علیه السلام): «وکفی أدباً لنفسک تجنبک ما کرهته لغیرک»((2)).

وقال (علیه السلام): «کفاک أدباً لنفسک اجتناب ما تکرهه من غیرک»((3)).

ص:124


1- نهج البلاغة: الکتب 31 .
2- نهج البلاغة: قصار الحکم 365.
3- نهج البلاغة: قصار الحکم 412.

وقال (علیه السلام): «ومن نظر فی عیوب الناس فأنکرها ثم رضیها لنفسه فذلک الأحمق بعینه»((1)).

وقال (علیه السلام): «أکبر العیب أن تعیب ما فیک مثله»((2)).

دور الثقافة فی حرکة المجتمع

دور الثقافة فی حرکة المجتمع

ثم إن الثقافة الاجتماعیة لها حالة التأثیر، والإنسان له حالة التأثر، والتأثیر والتأثر قد یکون عمیقاً، وقد یکون سطحیاً، والعمیق قد یکون سریعاً، وقد یکون بطیئاً:

1: فالطفل یتأثر بثقافة الاجتماع سریعاً، لأن ذهنه لم یغرس فیه ثقافة غیرها، حتی یصعب إزالة تلک الثقافة، ثم غرس غیرها مکانها، ولذا ورد (العلم فی الصغر کالنقش فی الحجر).

2: أما من یقلع عن مکانه لهجرة اختیاراً، أو تهجیر قهراً، فإنه حیث یرد المجتمع الجدید ذا الثقافة المغایرة لثقافة سابقة، کان نفوذ الثقافة الجدیدة فیه بطیئاً، وأحیاناً یتحفظ فی باطنه بثفافة نفسه، وإنما یلون سطحه فقط بالثقافة الجدیدة.

3: وهکذا حال من یدخل مؤسسة ونحوها، کمن یدخل فی وظیفة الدولة أو فی حزب أو جمعیة أو ما أشبه، حیث یرتطم بالثقافة الجدیدة الخاصة بتلک المؤسسة، فإنه یصعب نفوذ الثقافة الجدیدة فیه، وربما لا تعدو أن یکون التلون بها سطحیاً.

ص:125


1- نهج البلاغة: قصار الحکم 349.
2- نهج البلاغة: قصار الحکم 353.

4: وأما الثقافة الغازیة، فإنها تجرف المجتمع المغزی سطحیاً فقط، إلاّ فی النادر من عباد الأجانب، وإلاّ فی ما کانت الثقافة الواردة أصلح للحیاة وأکثر ملائمة للفطرة، حیث إن الخرافة والأغلال السابقة کانت علی خلاف الفطرة.

وهذا هو سر ما نجده من عدم نفوذ الثقافة الاستعماریة فی البلاد الإسلامیة، وقد دامت فی بعض البلاد أکثر من ثلاثة قرون، کالهند وإندونیسیا، أو أکثر من قرن کما فی الجزائر، حیث إن تلک الثقافة الغازیة لیست إلاّ خرافة وأغلالاً، نعم الصناعة حیث کانت أکثر ملائمة للطبع نفذت بسرعة، وتقبلتها البلاد بکل ترحاب.

والعکس من ذلک ثقافة الإسلام عند ظهوره، حیث دخلت البلاد بکل ترحاب من الأهالی، لما وجدوا فیها من الحقیقة والحریة.

قال تعالی: {إنا أرسلناک بالحق بشیراً ونذیراً}((1))، وقال: {یحل لهم الطیبات ویحرم علیهم الخبائث ویضع عنهم إصرهم والأغلال التی کانت علیهم}((2)).

وهذا هو سر قوله سبحانه: {لیظهره علی الدین کله}((3))، فإن صانع السیارة یوم کانت وسائل النقل الدواب، وصانع الکهرباء یوم کانت وسائل الإنارة الزیت، کان یحق له أن یقول: سوف تنسخ الدابة أمام السیارة، والزیت أمام الکهرباء، لأن الأمر لا یعدو أن یفهم الإنسان طبیعة الإنسان.

ثم إنه إذا کانت لإنسان ثقافتان فلا یخلو:

ص:126


1- سورة البقرة: ال آیة 119.
2- سورة الأعراف: الآیة 157.
3- سورة التوبة: الآیة 33.

1: من کونها ثقافة مجتمعین ظاهرتین.

2: أو ثقافة جماعته ومجتمعه.

فالأول: کما إذا کان ذا وطنین مثلاً، حیث یلتقی بالثقافتین، وهذا فی الغالب یأخذ منهما، وإن کان لا یتظاهر بالثقافة العمیقة عنده فی المجتمع غیر المثقف بتلک الثقافة العمیقة.

والثانی: تصبح الثقافة الخفیة فیه عمیقة، والعلنیة سطحیة، کما فی المذاهب الأقلیة والأحزاب السریة، وإنما تکون العلنیة سطحیة لاضطراره إلی المماشاة والمداراة.

أما الثقافة الخفیة، فلأنها:

1) تکون لکثرة التلقین عمیقة، حیث إن الجماعة المحیطة به یضطرون إلی التلقین المداوم، لئلا یذوب فی وسط المجتمع الذی لا یعتقدون به.

2) ولتکوّن العرف الخاص حوله، إذ الأکثریة لا یرتبطون به ارتباط الأقلیة، فهو بحکم کونه فیهم، لابد له من التعاطی أخذاً وعطاءً، وذلک یوجب تعمیق الثقافة.

3) ولأنه یرید أن لا تخیب الثقة التی وضعتها الجماعة الخاصة فیه، فإن الإنسان فطر علی جذب الناس، وتخییب ثقة الناس یوجب انفضاضهم من حوله، وهذه الإرادة توجب تعمیق الثقافة فیه، وقد ورد: «إن المرء علی دین خلیله»((1)).

والجماعة المنسجمة لأجل هدف ما، لها جانبان:

1: الوجوه المشترکة بین أعضاء الجماعة.

2: والوجوه الخاصة بکل فرد فرد، أو بکل تجمع صغیر فی داخل الجماعة.

وما دامت الوجوه المشترکة أقوی من الوجوه المختلفة، فالجماعة

ص:127


1- الوسائل: ج8 ص430.

بخیر، وکلما کثرت وازدادت الوجوه المشترکة کان الانسجام أکثر والتقدم أسرع، وإذا انعکس الأمر، آلت الجماعة إلی الشتات والبعثرة.

ومن ینفصل عنها، إن کان فیه داعی الهدف قویاً کوّن بنفسه جماعة جدیدة، أو التحق بجماعة یشبهها هدفاً، وإن کان الداعی فیه ضعیفاً عاش فردیاً بلا انضمام.

الانضمام إلی الجماعات

الانضمام إلی الجماعات

ثم إن الانضمام إلی جماعة ما، یحتاج إلی أخلاقیات خاصة، فلیست الجماعة ترفاً فکریاً، أو لهواً عملیاً، بل الالتحاق الذی ینبع من نفس الإنسان یحتاج إلی تحمل المتاعب والاتهامات والمشاکل، والقدرة علی الأخذ والعطاء، وإلی آخره.

ولذا نری بعض الأفراد یلتحقون بجماعة ما، ثم سرعان ما ینفصل عنهم بأعذار، والعذر الحقیقی الذی لا یبدیه غالباً، هو عدم کفاءته بالنسبة إلی الأخلاقیات التی تتطلبها الجماعة.

ثم الملتحق بجماعة جدیدة، إذا کانت لغة المضیف تخالف لغة الضیف، سواء کان ذلک من جهة الهجرة، أو من جهة أن الجماعة ذات لغة خاصة لابد له وأن یتعلم تلک اللغة، ولیس تعلم اللغة مشکلة واحدة، وإنما هی مشاکل، إذ یلزم علیه أن یحتوی الآداب والرسوم والعلوم المرتبطة بتلک اللغة.

فلیس الأمر کالماء وآب، بل أعمق من ذلک، مثلاً (الصلاة) فی دین الإسلام شعائر خاصة، بینما ترجمتها فی اللغة المسیحیة تعطی شعائر آخر، وإذا اضطر الإنسان إلی جماعة هکذا، یضطر ثالثاً إلی الشطب علی معلوماته الموازیة لألفاظه، فالأمر هو:

1: تعلم لغة.

ص:128

2: وما یوازیها من المعانی.

3: والشطب علی مایوازی لغته السابقة من المعانی.

4: ویأتی دور أمر رابع صعب علیه أیضاً، هو تغییر العادات والتقالید السابقة إلی العادات والتقالید الجدیدة، وإلاّ لم یتمکن من الانسجام، وکان فی السجن الانفرادی إلی أن ینفصل.

5: ویأتی بعد ذلک دور المناخ فی مثل المهجر، حیث اللازم أن یتثقف بالثقافة الملائمة للمناخ الجدید، إذ الاطلاع علی کیفیة العیش فی المناخ نوع ثقافة أیضاً.

ولذا ورد: إن أصحاب الرسول (صلی الله علیه وآله) لما وردوا المدینة مرض أکثرهم، حتی اعتادوها، وعلموا کیف یعیشون فیها.

موقف الجماعة تجاه المنضمین إلیها

موقف الجماعة تجاه المنضمین إلیها

هذا کله من ناحیة الضیف، أما من ناحیة المضیف، فلابد أن یتقبل الضیف وذلک ما یسمی بالتقبل الاجتماعی، بأن یستقبله، وینسجم معه، ویعطیه العمل ولوازم بقائه المعنویة والمادیة.

ومن المعروف أن کل بلد یرده الإنسان أو جماعة یصیر عضواً فیها له سم، والمراد أن عدم الانسجام الابتدائی _ حیث إن الانسجام یحتاج إلی مدة طویلة أو قصیرة _ لابد وأن یهج ضد الضیف الجدید، بما یلفحه مادیاً أو معنویاً، وأحیاناً یوجب ذلک السم إخراج الضیف عن البلد أو الجماعة.

ولهذا السبب کانت قد جرت العادة فی البلاد الإسلامیة علی أن ینتقل

ص:129

الزوج إلی بیت عائلة الزوجة، أو بالعکس، لأن الزوجین من جهة عدم انسجامهما قبل ذلک لابد وأن یتصادما، بما یورث الشقاق أو الطلاق، أما إذا احتفا مما یقرب ثقافتهما إلی الآخر تدریجاً یحصل الانسجام التام مما یکون أول لبنة للحیاة العائلیة.

ومن أفضل الطریق لتعود حیاة خارجین عن ثقافة جماعة، أن یختلطوا بأولئک الجماعة مدة، لا لیعلموا ثقافتهم، فإن ذلک یحصل من الکتاب، ولا لیتعلموا لغتهم، فإن ذلک یحصل بالعلم، بل لیروا حیاتهم، ویمتزجوا بهم امتزاجاً حتی یتلونوا بلونهم، فإذا رجعوا إلی بلادهم حملوا تلک الثقافة علماً ولغةً وعملاً إلی بلادهم.

وقد نبه الإسلام إلی ذلک، بقوله سبحانه: {وما کان المؤمنون لینفروا کافة فلولا نفر من کل فرقة منهم طائفة لیتفقهوا فی الدین ولینذروا قومهم إذا رجعوا إلیهم لعلهم یحذرون}((1)).

وقد أراد الله فی الحج، وفی زیارة الرسول (صلی الله علیه وآله) والأئمة الطاهرین (علیهم السلام) ذلک، حیث یختلط المسلمون بعضهم ببعض، ولذا جعل تعالی حرمه {سواء العاکف فیه والباد}((2)).

وکان من صنع المستعمرین أن جعلوا الحجیج لا یختلط بعضهم ببعض، وإنما لکل جماعة مکان خاص، وکیفیة خاصة، لعدم توحد المسلمین حیاةً.

وکان مما عملته الحوزات العلمیة فی مثل النجف وکربلاء وقم وخراسان، أن لا یجعل التمیز فی المدارس والدروس والاجتماعات، فالفارسی إلی جنب العربی والهندی والترکی وهکذا.

ص:130


1- سورة التوبة: الآیة 122.
2- سورة الحج: ال آیة 25.

وقد أخذ المستعمرون بالخطة الإسلامیة، حیث الاختلاط فی الکنائس ونحوها والمعاهد ونحوها، وحیث یستضیفون کل عام جماعات من البلاد لیختلطوا معهم ویتلونوا بلونهم، فإذا رجعوا إلی بلادهم بعد انتهاء الضیافة لونوا بلادهم بلون المستعمر حرکةً وأسلوباً وتفکراً، بل ومنطقاً، وحیث إن البلاد المضیفة فیها إغراءات کثیرة من کل لون بما یفقدها الضیوف فی بلادهم، یحاول الضیوف بعد رجوعهم إلی بلادهم تلوین بلادهم بلون بلاد المستعمر.

ولذا فمن الضروری علی البلاد الإسلامیة:

1: المنع عن مثل هذه الأسفار.

2: تهیئة الجو الإسلامی المناسب للطلاب ونحوهم الذین یذهبون إلی تلک البلاد، فی فنادق خاصة بالمسلمین، لئلا یمتزجوا بحیاة أولئک، ویجب أن تعطی تلک الفنادق وسائل الراحة الفکریة نزلاءها بما لا یکون جو تلک البلاد أکثر إغراءً.

3: إعادة استضافة المسلمین إلی بلاد الإسلام المتقدمة مع تهیئة الأجواء المناسبة.

4: ترفیع مستوی بلاد الإسلام المتقدمة صناعیاً وزراعیاً وسیاسیاً واجتماعیاً، حتی یمکن أن تتخذ أسوة، وتکون جذابة ولو بنسبة ضعیفة، بالمقارنة إلی بلاد المستعمرین.

فلقد کان من أسباب تقدم الإسلام السریع بدء بزوغه، أن بلاد الإسلام کانت خیراً من البلاد الأخری، حتی إذا جاءها الأضیاف رأوا فیها من العدل والأمن والحریة والرفاه والعلم والنظافة وحسن الخلق والصفات الرفیعة، ما لم یکونوا یجدونه فی بلادهم، ولذا کانوا یسلمون، ویکونون دعاة إلی الإسلام

ص:131

فی بلادهم، ویطورون بلادهم علی صورة البلاد الإسلامیة.

الإسلام والحریة الثقافیة

الإسلام والحریة الثقافیة

کما أنه کان من أسباب تقدم بلاد الإسلام: اختلاط الثقافات المختلفة، لما وفره الإسلام من الحریة والجذب لمختلف الناس، فقد اختلطت ثقافة العرب بثقافة مصر وإیران والهند والعراق وغیرها، ومن الطبیعی أن یأخذ الاجتماع بأحسن الثقافات، حاله حال الفرد الذی یتسوق حیث یشتری البضاعة الأحسن من غیرها.

ونشاهد فی العصر الحاضر، أن من أسباب قوة الاستعمار فی أمریکا وبریطانیا وفرنسا، نفس نفس هذا السبب، فأمریکا مکونة من ثقافات مختلفة، وبریطانیا تموج فیها ثقافات الکومنولث ذات خمس وأربعین دولة، وفرنسا تلونت بألوان ثقافات المستعمرات التی تتکلم بلغتها، وهی کما فی بعض الإحصاءات أربعمائة وخمسون میلوناً من البشر، ما یقارب عُشر العالم، بینما البلاد الإسلامیة ذات الألف ملیون مسلم، تقطعت قطعة قطعة بینها التدابر والتناکر والتحارب.

وکذلک تعلمت جملة من البلاد الحاضرة من الإسلام، عدم الضغط علی الثقافات المختلفة، فإن ذلک کان من إبداعات الإسلام، بما لم یکن له مثیل فی العالم قبل الإسلام، حسب ما حفظ التاریخ.

فقد قرر الإسلام فی باب العقیدة: {لا إکره فی الدین}((1))، وإنما أنذر من لم یقبل الصحیح عن تعقل وتدبر بالحیاة الضنک فی الدنیا والخسارة الفادحة فی الآخرة، حیث قال سبحانه: {ومن یبتغ غیر الإسلام دیناً فلن یقبل منه * وهو

ص:132


1- سورة البقر ة: الآیة 257.

فی الآخرة من الخاسرین}((1)).

وقال تعالی: {ومن أعرض عن ذکری فإن له معیشة ضنکاً * ونحشره یوم القیامة أعمی}((2)).

کما أن الإسلام فی باب العمل، قال: «لکل قوم نکاح»((3)).

وقال: «ألزموهم بما التزموا به»((4)).

وقال: «لحکمت بین أهل التوراة بتوراتهم، وبین أهل الإنجیل بإنجیلهم، بین أهل الزبور بزبورهم، وبین أهل القرآن بقرآنهم»((5))، إلی غیر ذلک.

وقال بالنسبة إلی کل من العقیدة والعمل: {لکم دینکم ولی دین}((6)).

وقال: {إن هذه تذکرة فمن شاء ذکره}((7)).

وقد ذکرنا فی الفقه: (الجهاد) و(القضاء والشهادات) بعض الکلام فی هذه المسألة.

فإن الإنسان إذا رأی الحق ولم یکن ضغط لابد وأن یستجیب له، إن قریباً أو بعیداً، قال سبحانه: {وإن أحد من المشرکین استجارک فأجره حتی یسمع کلام الله ثم أبلغه مأمنه}((8)).

وقد استمر المسلمون بعد رسول الله (صلی الله علیه وآله) إلاّ النادر جداً علی ذلک، حیث لم یحفظ التاریخ أنهم أجبروا کافراً علی ترک عقیدته، أو بالتخلی عن شریعته وإن کان مشرکاً بالله، ولذا لم یضغظ الرسول (صلی الله علیه وآله) علی مشرکی بدر بعد الأسر، وعلی کفار مکة، ویهود خبیر، وکفار الطائف، فی عقیدتهم أو عملهم.

ص:133


1- سورة آل عمران: الآیة 85.
2- سورة طه: الآیة 124.
3- تهذیب الأحکام: ج6 ص387.
4- الوسائل: ج17 ص598.
5- بحار الأنوار: ج35 ص387.
6- سورة الکافرون: الآیة 6.
7- سورة المدثر: الآیة 55.
8- سورة التوبة: الآیة 6.

أما المستعمرون الذین أرادوا فرض ثقافتهم علی غیرهم بالقوة، فکان الطریق مسدوداً أمامهم ولم یجنوا من ذلک إلاّ الکره والنفرة، ورفض الشعوب لهم فی أول فرصة، ولا أدل علی ذلک من القرون الوسطی فی أوروبا، حیث الظلم الفظیع ومحاکم التفتیش وما أشبه.

ص:134

التعدیل الاجتماعی

اشارة

التعدیل الاجتماعی

(مسألة 16): الاجتماع تدریجیاً یجعل لنفسه قوانین یراها ملائمة لحیاته النفسیة والجسمیة، سواء کان الجعل اقتباسیاً، کالذین یتدینون بدین السماء، أو اختراعیاً، کالذین یخترعون القانون.

وحیث إن الاجتماع یری ملائمة تلک القوانین کان لابد له من مراعاتها، لکی لا تنهدم وینهدم بسببه الاجتماع الآمن، إذ القانون الملائم إذا انهدم فإما أن ینهدم أصل الاجتماع بالتفرق والتشتت، وإما أن ینهدم أمن الاجتماع، بابتلائه بالفوضی وعدم الملائمات النفسیة أم الجسمیة، مثل القلق والقحط والمرض مثلاً.

ولأجل سلامة القوانین یرکز الاجتماع علی قانونین:

أ: قانون الجذب، حیث یجذب إلی قوانینه الأفراد والجماعات، لیهضمهم فی داخله، ولا یسمح أن یکون فرد أو جماعة حیادیاً عن قوانینه، لأن من یتمتع بخیرات الاجتماع لاحق له فی عدم مشارکة الاجتماع، فإن الاجتماع یسدی إلی الفرد الحمایة والتعاون والأمن وغیر ذلک، واللازم فی مقابل ذلک أن یلتزم الفرد بقوانین الاجتماع.

فإذا لم یلتزم عاقبوه بالهجر والتقبیح والکشح عنه وعدم الاحترام وعدم التعاون معه، وأحیاناً یصل العقاب إلی الشدة والخشونة معه.

ب: قانون الدفع، حیث إذا رأی الاجتماع من فرد أو جماعة خرق قوانینه بما یراه ضاراً، ضیّق علی الخارق بما یراه مناسباً لخرقه، ولا یتمکن

ص:135

الخارق أن یحتج بأنه حر، إذ یرده الاجتماع بأنه لا حریة لأعداء الحریة، وهذان البندان (أ _ ب) هما اللذان یسمیان بالتعدیل الاجتماعی.

إشکال التعدیل الاجتماعی

إشکال التعدیل الاجتماعی

وللتعدیل الاجتماعی صورتان:

أ) الإقناع حیث الاجتماع یمدح المستقیم علی قوانینه، ویذم المنحرف، سواء کان مدحاً وذماً عملیاً أو لفظیاً، فمثلاً الکاسب الحسن الأخلاق یلتف الاجتماع حوله بالبیع والشراء، وإمام الجماعة الزاهد یکثر مأموموه، والخطیب البارع یکتظ مجلسه، والفقیه الورع یکثر ملقدوه، فإذا انحرف هؤلاء عن تلک الصفات ذمهم الاجتماع عملیاً بالانفضاض من حولهم.

وکذلک لا ینتخب الاجتماع فی الحکومات الاستشاریة الشخص الذی لا یراه مناسباً، لعدم سیره وفق المقررات الاجتماعیة، وإذا سبق أن انتخبه ثم ظهر انحرافه سحب البساط من تحته وأسقطه، بله إنه لا ینتخبه فی مرة ثانیة.

أما الحاکم الدیکتاتور المحتمی بالسلاح حیث لا یتمکن الاجتماع من تعدیله ولا من سحب البساط عن تحته بالإقناع بالسلام، فإنه یعامله الاجتماع بالصورة الثانیة، وهی:

ب) الإجبار بمثل الضرب والشتم والسجن وما أشبه، سواء تحقق ذلک بواسطة الدولة، أو بواسطة من له القدرة علی ذلک، والإجبار قد یصل إلی الإعدام، ولیس ذلک لفائدة المعدم، وإنما:

1) لتطهیر الاجتماع عن لوثه.

2) ولتنفیر غیره ممن یمکن أن تسول نفسه القیام بمثل عمل الخارق.

ومما تقدم یظهر أن الضغط الاجتماعی لأجل التعدیل:

ص:136

أ: إما بدنی، کالضرب والإجاعة ونحوهما، و یدخل فی هذا الباب فرض الحصار الاقتصادی ونحوه.

ب: وإما روحی، بالشتم والإهانة، وفرض الحصار الاجتماعی بعدم التکلم معه وعدم احترامه فی المجالس، وعدم إعطائه الصلاحیة لمقام سیاسی أو إداری أو ما أشبه ذلک.

وقد روی فی تفسیر قوله سبحانه: {وعلی الثلاثة الذین خلفوا حتی إذا ضاقت علیهم الأرض بما رحبت}((1)) الآیة، أن ثلاثة من الصحابة لم یأتمروا بأمر الرسول (صلی الله علیه وآله) فی الاشتراک فی الحرب، فضرب الرسول (صلی الله علیه وآله) علیهم حصاراً اجتماعیاً، بأن أمر المجتمع بعدم التعامل معهم، ثم لما تابوا ورجعوا إلی الطاعة رفع (صلی الله علیه وآله) الحصار عنهم.

لکی یکون التعدیل الاجتماعی ناجحاً

لکی یکون التعدیل الاجتماعی ناجحاً

ثم إن الخارج عن قوانین الاجتماع، مما یسلط الاجتماع ضغطه علیه:

1) إن أحب الاجتماع لا یقوم بعداء الاجتماع، بل یعدل سلوکه أو یلائم، وإن رأی صحة سلوکه وخطأ الاجتماع، کما إذا أدب الآباء الأولاد.

2) وإن لم یحب الاجتماع قام بعدائه، وربما أخذ فی الإفراط فی انحرافه انتقاماً من الاجتماع الذی ضغط علیه.

ولذا فاللازم علی الاجتماع أن یلاحظ الأهم والمهم فی کیفیة الضغط، حتی لا یوجب الضغط الأسوأ، فإنه یکون حینئذ کالفرار من الرمضاء إلی النار، وقد عزل الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) أبا الأسود الدؤلی قاضیه العادل النزیه،

ص:137


1- سورة التوبة: الآیة 118.

فقال له: یا أمیر المؤمنین، لم عزلتنی وما خنت ولا جنیت، قال (علیه السلام): «لأنک یعلو صوتک صوت الخصمین»((1)).

وقال الرسول (صلی الله علیه وآله) لمن أتی بأساری الیهود: کیف تمر بالنساء علی قتلاهن، فکأن الله نزع الرحمة عن قلبک.

ومنع عن التمثیل بالکفار بعد الموت، وقال (صلی الله علیه وآله): «لا تمثلوا ... وإیاکم والمثلة ولو بالکلب العقور»((2))، إلی غیر ذلک.

إذاً فاللازم:

1: أن تکون العقوبة بقدر المخالفة بدون زیادة، ولو بإهانة ونحوها.

2: الاهتمام بأن تکون رادعة، لا تشفیاً ونحوه.

3: أن یلاحظ الأهم والمهم بکل دقة، فلا تجری العقوبة إذا کان العفو أفضل.

ولذا ورد: أن الرسول (صلی الله علیه وآله) عفی عن أهل مکة، وقال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»((3)).

وعفی علی (علیه السلام) عن أهل البصرة، وقال: «مننت علی أهل البصرة، کما منّ رسول الله (صلی الله علیه وآله) علی أهل مکة»((4)).

وکذلک عفی (علیه السلام) عمن بقی من الخوارج، وعمن ظفر به من أهل صفین.

وقال (علیه السلام) لشاب سارق: ما تحفظ من القرآن، قال: سورة البقرة، قال (علیه السلام): «قد عفوت عنک لسورة البقرة»، إلی غیر ذلک.

فالمهم فی الاجتماع أن یعمل لأجل إیصال المفرط، وإرجاع المفرّط، لا أن تطبق العقوبة حرفیاً، فکیف بما إذا زید علیها، وهذا هو الذی یسمی

ص:138


1- مستدرک الوسائل: ج3 ص197.
2- نهج البلاغة: کتب 47 . عن أمیر المؤمنین علیه السلام عن رسول الله (صلی الله علیه وآله).
3- الوسائل: ج11 ص119 الباب 72 من أبواب جهاد العدو ح1.
4- انظر الجواهر: ج21 ص334« وانظر الوسائل: ج11 ص58 الباب 25 من جهاد العدو ح6.

بروح القانون، وجعل ذلک إلی ید ولی الأمر، قال سبحانه: {هذا عطاؤنا فامن أو أمسک بغیر حساب}((1)).

وقال تعالی: {سماعون للکذب أکالون للسحت ، فإن جاؤوک فاحکم بینهم أو أعرض عنهم}((2)).

إلی غیرهما من الآیات والروایات بهذا لصدد، حیث إن ولی الأمر هو الذی یشخص روح القانون عن مادته الهامدة.

المتمردون بین المحیط الطبیعی والمحیط الاجتماعی

المتمردون بین المحیط الطبیعی والمحیط الاجتماعی

ثم إن حال الاجتماع مع الفرد المنحرف، حال المحیط الطبیعی معه، مع فارق أن الأول یعمل حسب موازین العقل، ولذا یتحمل الضغط عمن یضغط، بینما الثانی یعمل حسب القانون الخاص به بدون مرونة وتحمل ضغط.

فالإنسان إذ جاع مات، وکذلک إذا عطش، أو لفحته الحرارة، أو عضته البرودة، أو ما أشبه، إذا وصل إلی حد عدم تمکنه من المقاومة، أما الذی یدرب حتی یتمکن من المقاومة الأکثر، فإن عدم موته لأجل أنه خرج عن قانون طبیعی ودخل فی قانون آخر، لا أن الطبیعة انسحبت أمامه. ­

أما الاجتماع الضاغط، فإنه یرجع المفرط والمفرّط إلی الاعتدال المطلوب له، وکثیراً ما یستحق أحدهما عقوبة، لکن الاجتماع یلاحظ الأهم والمهم، فیترک أصل العقوبة أو قدر الاستحقاق، فإن الإنسان لیس کالشجر الیابس، بل کالغصن الرطب، ولذا یخطأ الذین یتصورون أن الإنسان یستجیب للأوامر فی باب التربیة والإطاعة. ­­­

ص:139


1- سورة ص: الآیة 39.
2- سورة المائدة: الآیة 42.

إن الفلاح یدخل البستان، فیقطع ما شاء ویشذب ویهذب ویغرس وما أشبه، کل ذلک والأشجار تستجیب ولا تبدی مخالفة، أما الإنسان فلیس کذلک، وإنما التربیة والطاعة إنما تکونان مع السیر فی قانون أن الإنسان یحتوی علی العواطف والأفکار والحاجات والصفات.

وکذلک الحال فی رد المنحرف إلی الصراط، أو عقوبته ولو بالإعدام، لأجل تطهیر الاجتماع عن لوثه، وإخافة الآخرین أن لا یخرقوا مثل هذا القانون.

ثم إنا ذکرنا فی کتاب: (الحدود) و(القصاص) وغیرهما، أن الذین یحکم الشرع بقتلهم قلیلون جداً، مثل المرتد الذی لم یرجع، ولم یکن ارتداده بشبهة، والزانی إکراهاً أو بمحارمه أو ما أشبه، أما غیرهم فالقتل له بدل، کالمحارب لله ولرسوله، والقاتل عمداً، وغیرهما، وفی أولئک الأولین للحاکم الإسلامی حق العفو، کما عفی علی (علیه السلام) عن اللاطی مع أن حکمه القتل، فإذا رأی الحاکم الإسلامی العفو، ولو من باب الأهم والمهم حق له ذلک، علی تفصیل مذکور فی تلک الکتب.

مصدر التعدیل الاجتماعی

مصدر التعدیل الاجتماعی

ثم إن المسلمین لا یختلفون فی أن مصدر التعدیل الاجتماعی، هو ما یستفاد من الأدلة الشرعیة: (الکتاب، والسنة، والإجماع، والعقل).

أما غیر المسلمین فحیث إنهم یحکمون الآراء فی القوانین، کان لابد وأن یری کل جماعة منهم قانوناً غیر ما تراه الأخری، وحسب ذلک القانون المصوب عندهم یضغطون علی المخالف، فلیس القانون الوضعی عندهم کالقانون الطبیعی، حیث إن الثانی مستند إلی الطبیعة لا یتغیر ولا یتبدل.

ص:140

بخلاف المسلمین، حیث إن القانون الوضعی عندهم کالقانون الطبیعی، لأن کلیهما مستند إلی الإله الدائم الأبدی.

وقد صار عدم استناد القانون الوضعی إلی شیء دائم ثابت مصدر مأساة لغیر المسلمین، إذ هم یفکرون ماذا هو المیزان، فهم یرون تساقط القوانین الواحد تلو الآخر بتبدل رأی الأکثریة، وباختلاف الاکثریة هنا عن الأکثریة هناک.

فهل الزنا واللواط والعادة السریة ونکاح المحارم و… حلال أم حرام.

وهل قتل الضعفاء والمبتلین بالأمراض التی لا یرجی شفاؤها والمعوقین و... جائز أو ممنوع.

وهل المرأة تدخل فی کل الأمور السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة و... مطلقاً أو بقدر، أو لا تدخل.

وهل الاقتصاد رأسمالی أو اشتراکی أو شیوعی أو توزیعی.

وهل الحکومة دیکتاتوریة البرولیتاریا أو دیمقراطیة رأسمالیة أو دیمقراطیة اشتراکیة.

وهل الإعدام صحیح أم لا، وهل...؟!

کل ذلک، لا میزان ثابت لها عندهم، ولذا تری مجتمعاً یختلف رأیه زماناً عن زمان، یحرم شیئاً زماناً ثم یعود فیحلله، کما تری مجتمعاً یختلف عن المجتمع الآخر، فهذا یجوز ما یمنعه الآخر، بل ربما شدد المنع، مثل استعمال المواد المخدرة، فإنه مباح فی بعض بلاد أمریکا، بینما هو ممنوع أشد المنع فی بعض بلادها الأخر، مع أن الجمیع فی إطار عام للدولة المتحدة سیاسیاً، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

ثم إن الاجتماع الذی جعل العقوبة علی المخالف، قد یکف عن العقاب، فلا ینزل علیه العقاب المقرر، بأن یغض النظر عنه، أو ینزل علیه عقاباً خفیفاً، وذلک بملاحظة قانون الأهم والمهم، حیث یری أن إنزال کل العقاب أو بعضه یوجب فوات شیء أهم، فیصرف النظر عن قانون المهم رعایة لقانون الأهم، وربما یسمی ذلک بالمداراة الاجتماعیة، والغالب أن تکون المداراة

ص:141

للامور التالیة:

1) المکانة الشخصیة لخارق القانون، حیث إنه کما کان ذا مکانة أرفع کان الإغماض عنه أکثر:

أ: وهذا أحیاناً یکون لصرف التملق ونحوه، وذلک لیس بمستحسن، بل هو موجب لزوال الأمة، حیث إن الکبراء إذا أساؤوا إن عفی عنهم سری ذلک إلی سائر الطبقات، ویکون الحاصل هدم القانون الموجب لهدم الاجتماع، ولذا أصر الرسول (صلی الله علیه وآله) علی قطع ید المرأة الشریفة فی قومها لئلا ینهدم القانون.

ب: وأحیاناً یکون لقاعدة الأهم والمهم، مثلاً محسن کبیر أساء إساءة، وعقابه یوجب قطع إحسانه، فیری العقل ترک عقابه دواماً لإحسانه، أو أن رئیس الجیش قد خان، فإذا أخذ بخیانته، لم یهتم بالجیش مما یسبب الانکسار أمام الأعداء، فترکه والإغضاء عنه إنما هو لأمر أهم.

ولذا عفی رسول الله (صلی الله علیه وآله) عن حاطب، حیث رأی أن بقاءه أهم من عقابه، حیث خان بالکتابة إلی أهل مکة.

ولا یخفی أنه کما أن بین التهور والشجاعة خیط رفیع، وبین الکرم والإسراف کذلک، کذلک بین (أ)  و(ب)، فاللازم ملاحظة أن المورد من أیهما حتی لا یوضع (ب) مکان (أ)، ولا العکس.

أما إذا انقسم العرف إلی قسمین، وأنه هل المورد من هذا أو ذاک، فاللازم إجراء أصل تنفیذ القانون، إلاّ إذا ثبت خلافه، وهذا یشبه ما یقال فی الأصول والفقه بأن المرجع لدی الشک الأصول العملیة.

ثم إن المکانة الشخصیة لخارق القانون قد توجب العکس، أی إنه إذا

ص:142

کان عادیاً أمکن الغض عنه، لأن القانون لیس بتلک الأهمیة التی توجب تتبع جزئیات مخالفیه، کما إذا سرق فقیر أجرة سیارة الدولة، فلم یدفعها لأنه لا یملکها، ویحتاج إلی السفر، فإنه أمر یغض عنه أحیاناً، بینما إن الخارق إذا کان غیر عادی أخذ بالخرق من جهة لزوم مراعاة المکانة بکل نظافة لنوع الخارق بکل دقة، کما إذا کان الخارق عالماً أو واعظاً أو ما أشبه، وقد قالوا إن (زلة العالِم زلة العالَم).

وقد قال الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام): «قصم ظهری اثنان: عالم متهتک، وجاهل متنسک»((1)).

وفی الحدیث: «إن الله یغفر سبعین ذنباً للجاهل قبل أن یغفر ذنباً للعالم»((2)).

2: أزمنة الاضطرابات، فإن الاضطراب یوجب تشدید المجتمع العقاب بالنسبة إلی بعض أقسام الخرق، بینما یوجب تخفیف العقاب أو ترکه بالنسبة إلی بعض آخر من أقسام الخرق، مثلاً فی أیام القحط، یصرف المجتمع نظره عن سارق الطعام لأجل سد جوعه، بینما لیس کذلک حال الرفاه، ولذا ورد فی الشریعة: عدم قطع ید السارق أیام المخمصة.

وبالعکس من ذلک أیام الحرب، یعاقب من یتصل بالعدو عقوبة شدیدة، بینما لیس کذلک أیام الهدنة، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

3: کون العضو الخارق منتسباً إلی جماعة یلزم علیها التشدید أو التخفیف بحکم مکانة الجماعة، مثلاً الخداع السیاسی من فرد من الحزب یوجب تشدید العقوبة، بینما مثل ذلک الخداع من جماعة اقتصادیة لا یوجب

ص:143


1- بحار الأنوار: ج1 ص208.
2- أصول الکافی: ج1 ص47.

التشدید، ولذا کان للارتداد والزنا بالمحارم والزنا الإکراهی وما أشبه قوانین بالغة الأهمیة فی الإسلام، بینما الظهار واللعان لیس کذلک.

ولیعلم أن الإسلام، حیث إنه دین الإنسان والحریات، قد قلل من القانون الکابت للإنسان، ولذا لا یتحقق موضوع النقض فی کثیر من التصرفات، بینما القوانین الوضعیة حیث کثرت لعدم جعلها الإنسان المحور، وإنما المحور المادة، قد کثرت من القوانین الکابتة.

وکذلک بالنسبة إلی انحراف أخلاقی فی مربی دین یوجب الصعوبة، بینما لیس کذلک الأمر إذا صدر ذلک من إنسان عادی، خصوصاً إذا کان بعیداً عن مراکز الدین ومواضع الفضیلة.

4: کون القانون الذی نقضه الناقض ذا أهمیة أم لا، فإن کان ذا أهمیة لا یری الاجتماع مداراة ناقضه، بینما إذا لم یکن ذا أهمیة رأوا فیه المداراة، وقد أشرنا إلی بعض تفصیل ذلک فی کتب: (نریدها حکومة إسلامیة) و(السیاسة) و(الحکم فی الإسلام) وغیرها.

وقد ورد فی أحادیث کیثرة المداراة، لانها فی غیر مقام الضرورة أوجب لحسن الاجتماع وتقدمه.

فقد روی عبد الله بن سنان، عن أبی عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «أمرنی ربی بمداراة الناس، کما أمرنی بالفرائض»((1)).

وعن الحسین بن الحسن، قال: سمعت جعفراً (علیه السلام) یقول: «جاء جبرئیل إلی النبی (صلی الله علیه وآله) فقال: یا محمد ربک یقرئک السلام، ویقول لک: دارِ خلقی»((2)).

وروی السکونی، عن أبی عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «ثلاث

ص:144


1- أصول الکافی: ج2 ص117
2- أصول الکافی: ج2 ص116.

من لم یکن فیه لم یتم له عمل، ورع یحجزه عن معاصی الله، وخُلُق یداری به الناس، وحلم یرد به جهل الجاهل»((1)).

وروی مسعدة بن صدقة، عن أبی عبد الله (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «مداراة الناس نصف الإیمان، والرفق بهم نصف العیش»((2)).

وعن حذیفة بن منصور، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) یقول: «إن قوماً قلّت مداراتهم للناس فألقوا من قریش، وأیم الله ما کان بأحسابهم بأس، وإن قوماً من غیر قریش حسنت مداراتهم فألحقوا بالبیت الرفیع»((3))، ثم قال (علیه السلام): «من کف یده عن الناس، فإنها یکف عنهم یداً واحدة، ویکفون عنه أیدی کثیرة»((4)).

إلی غیر ذلک من الروایات.

ص:145


1- کتاب الخصال: التعارف ص143.
2- أصول الکافی: ج2 ص117.
3- أصول الکافی: ج2 ص116.
4- أصول الکافی: ج2 ص117.

الجمع والجماعة

اشارة

الجمع والجماعة

(مسألة 17): حیث إن الإنسان خلقه الله محتاجاً إلی بنی نوعه، لا فی الجهات الجمسیة فحسب، بل فی جهاته الروحیة أیضاً، کالعلم والعاطفة وإظهار الصفات وما أشبه، یجتمع مع الآخرین فی اجتماعات صغیرة، ثم کبیرة. والاجتماع الذی یعیش الإنسان تحت ظله لا یکفیه غالباً، فی ملئ رغباته، فیعمل لأجل أن یجتمع فی وحدات، وهذه تسمی بالجماعة، وهی غیر (الجمع)، فإن الأول له الانسجام والدوام النسبی، بخلاف الثانی، فإن الجمع یطلق علی ما له المواصفات التالیة:

الفرق بین الجمع والجماعة

الفرق بین الجمع والجماعة

1) الجمع یجتمع تلقائیاً، وبدون سابق تخطیط له، کما إذا اجتمع جمع لأجل منظر، أو حادثة سارة، أو حریق، نعم یمکن أن یکون الجمع مقدمة (الجماعة)، کما إذا استغل بعض الجمع جماعة منهم لأجل تشکیلهم بسبب متابعة هدف خاص، قصیر الأمد أو طویله، کما إذا حدث زلزال فاجتمع الناس، ثم استغل بعضهم فجمع جمعاً منهم لأجل تکوین جماعة لأجل تعمیر مکان الزلزال، أو لأجل تکوین جماعة اقتصادیة دائمة، للقیام بالشؤون الاقتصادیة لتلک المنطقة.

2) الجمع سریع الزوال، فکما یجتمع فجئةً ینفض فجئةً، وقد یسمی

ص:146

بالغوغاء، وهذا یفسد أیضاً، قال (علیه السلام): «إذا اجتمعوا ضروا، وإذا تفرقوا نفعوا»((1))، ثم فسر نفعهم فی التفرق بأن کل واحد یذهب إلی عمله.

3: الجمع لیس بین أعضائه تجانس، بخلاف الجماعة، فالجمع یجتمع تلقائیاً، بینما الجماعة إنما تکون بین أصحاب أهداف مشترکة، فالجماعة السیاسیة أو التربویة إنما تجتمع لأجل تسییر دفة السیاسة أو لأجل تربیة المجتمع، بینما الذین یجتمعون لأجل منظر أو مأساة یدخل فیهم العالم والجاهل والعامل والبطال، وإلی آخره.

4: الجمع یمکن بدون تجمع أفراده، کالذین یأتون لانتخاب النواب، حیث یأتی کل واحد ویذهب بدون تجمع بین أفراده، وکالذین یحضرون الولائم أفراداً، بینما الجماعة لابد لها من التجمع، لأن الجماعة تستشیر وتصمم وتوزع الأعمال، وکل ذلک یحتاج إلی تجمع ولو تلفزیونی.

العقل أم العاطفة

العقل أم العاطفة

5: الجمع غالباً تحدوه العاطفة الشدیدة للتجمع والعمل، بدون تفکر فی العواقب، ولذا یذوب الفرد فی الجمع، حیث لا یری إلاّ الجهة التی ینساق إلیها بسبب تلک العاطفة المشبوبة، والغالب أن الدیکتاتوریین یستفیدون من هذه العاطفة فی سوق الناس إلی أهدافهم، ولذا نری أن مثل ذلک یلازم تقدیساً مطلقاً لدیکتاتور هو وراء الإثارة.

لکن یلزم أن یعلم أن مثل هذه الحالة سواء کانت فی الجمع أو فی الجماعة لها رد الفعل من جهات:

أ: من جهة أن العقل أخیراً یغلب علی العاطفة، فینقلب العمل المعمول

ص:147


1- نهج البلاغة: قصار الحکم 199.

فترة إلی أبشع صور الکره والذم، ویبقی الذم علی القائمین بذلک طول المستقبل.

ب: سقوط الدیکتاتور الذی وراء العمل سقوطاً هائلاً، حیث تتکشف عوراته وحیله ومکایده.

ج: تسلط الأعداء علی مثل تلک الجماعة، حیث إن الأعداء یعملون بتعقل، والجماعة عملت بعاطفة، والعاطفة لا تتمکن من البناء فتسقط، بینما العقل یتمکن من البناء فیغلب.

ومن الأمثلة فی العصر السابق: بنو أمیة حیث استغلوا عواطف السذج ضد أهل البیت (علیهم السلام)، فتسلط علیهم أعداؤهم ونسفوهم بما بقوا لعنة التاریخ.

کما أن من الأمثلة فی العصر الحاضر: هتلر، وستالین، وموسیلینی، وماو، حیث سقط کلهم سقوطاً ذریعاً، فانتحر الأول وقسمت ألمانیا، وأحرقوا الثانی بعد موته، وصار بلد الثالث مرتعاً للماسونیة وأعمال العنف إلی الآن، وصار ماو فضیحة التاریخ، وتغلب أعداء الصین علیه.

ومن الأمثلة فی للبلاد الإسلامیة: أتاتورک والبهلوی ویاسین وغیرهم.

6: الجمع غالباً لا ترکیب ثابت له، بینما الجماعة بالعکس، فالجماعة لها أعضاء یغلب بقاؤهم، وتبدلهم قلیل، أما الجمع _ کالذین یجتمعون لمشاهدة زلزال أو مظاهرة فجائیة أو ما أشبه _ فأعضاء منه ینصرف ویلحق إلی الجمع أعضاء أخر، ففی کل مدة التجمع لا یکون الأعضاء باقین.

الإسلام یدعو إلی التعقل

الإسلام یدعو إلی التعقل

وحیث إن اللازم علی الإنسان اتباع العقل، وإن کان فیه مرارة عاجلة وحرمان موقت، وعدم الانسیاق وراء العاطفة، وإن کان فیه حلاوة وملأ غرور، فقد حذر الإسلام أکبر قدر من التحذیر عن ترک التعقل والأخذ بالعاطفة، بل

ص:148

أمر بالتعقل وما تقضیه الموازین الصحیحة.

قال الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام): «العقل حفظ التجارب، وخیر ما جربت ما وعظک»((1)).

وقال (علیه السلام): «إن الشقیّ من حرم نفع ما أوتی من العقل والتجربة»((2)).

وقال (علیه السلام): «أغنی الغنی العقل، وأکبر الفقر الحمق»((3)).

وقال (علیه السلام): «لا غنی کالعقل، ولا فقر کالجهل»((4)).

وقال (علیه السلام): «لا تری الجاهل إلاّ مفرطاً أو مفرّطاً»((5)).

وقال (علیه السلام): «إذا تم العقل نقص الکلام»((6)).

وقال (علیه السلام): «لا مال أعود من العقل، ولا وحشة أوحش من العجب، ولا عقل کالتدبیر»((7)).

وقال (علیه السلام): «التودد نصف العقل»((8)).

وقال (علیه السلام): «أول عوض الحلیم من حلمه أن الناس أنصاره علی الجاهل»((9)).

وقیل له (علیه السلام): صف لنا العاقل، فقال (علیه السلام): «هو الذی یضع الشیء مواضعه»، فقیل له (علیه السلام): فصف لنا الجاهل، فقال (علیه السلام): «قد فعلت»((10)).

ص:149


1- نهج البلاغة: الکتب 31 .
2- نهج البلاغة: ال کتب 78.
3- نهج البلاغة: قصار الحکم 38.
4- نهج البلاغة: قصار الحکم 54.
5- نهج البلاغة: قصار الحکم 70.
6- نهج البلاغة: قصار الحکم 71.
7- نهج البلاغة: قصار الحکم 113.
8- نهج البلاغة: قصار الحکم 142.
9- نهج البلاغة: قصار الحکم 206.
10- نهج البلاغة: قصار الحکم 235.

وقال (علیه السلام): «لا یغش العقل من استنصحه»((1)).

وقال (علیه السلام): «ما استودع الله امرءاً عقلاً إلاّ استنقذه به یوماً ما»((2)).

وقال (علیه السلام): «کفاک من عقلک ما أوضح لک سبل غیک من رشدک»((3)).

وقال (علیه السلام): «الحلم غطاء ساتر، والعقل حسام قاطع، فاستر خلل خلقک بحلمک، وقاتل هواک بعقلک»((4)).

الانسجام بین أفراد الجماعة

الانسجام بین أفراد الجماعة

أما الجماعة، فقد عرفت أنها تتشکل من أفراد لهم هدف خاص، ولها دوام وفکرة وأسلوب عمل، والانسجام بین الجماعة یقوی بکثرة التبادل والمشورة، کما أن السیر نحو الهدف یزید من الارتباط والانسجام.

وإذا کان إمام الجماعة من جماعة أخری منافسة اشتد التجانس وکثر العمل، حیث إن التنافس من أقوی أسباب تقدم الإنسان، حیث جعل الإنسان علی أنه لا یتمکن أن یری غیره متفوقاً علیه، فإذا أحس بتفوق غیره أوصار ذلک محتملاً، أخذ الإنسان فی العمل الأکثر، وضغط علی نفسه فی الإبداع لئلا یسبقه غیره.

وهذه الحالة موجودة فی الفرد، فإذا انضم الأفراد بعضهم إلی بعض صار التنافس أشد، لأن بعضهم یؤثر فی البعض نشاطاً وتحفیزاً، والمنفعل بدوره یؤثر فی الفاعل والآخرین، وهکذا.

ولذا فالجماعة بحاجة إلی أمرین:

1) الفلسفة التی تجمعهم وتکون منهجاً لحیاتهم الاجتماعیة.

ص:150


1- نهج البلاغة: قصار الحکم 181.
2- نهج البلاغة: قصار الحکم 407.
3- نهج البلاغة: قصار الحکم 421.
4- نهج البلاغة: قصار الحکم 424.

2) العاطفة المشبوبة التی تسیرهم وتحثهم علی التقدم، فهما معاً ضمان بقاء الجماعة، فإذا فقدت الجماعة أحدهما تبددت واندثرت.

وکلما کانت فلسفة الجماعة ألصق بقلوبهم، کانوا مؤمنین بها إیماناً شدیداً، وکلما کان الانبعاث العاطفی فیهم أکثر اشتدت أواصر الجماعة، وکانت أکثر سرعة إلی الأمام، والعکس بالعکس.

کما أن الجماعة لو کانت جماعة جذبیة، أی بنیت علی جذب الناس، کالجماعة الاقتصادیة السهامیة، کان الأمران السابقان یوجبان انجذاب الناس إلیهم أکثر، سواء الأعضاء أو المناصرون أو الموالون.

تأثیر الجماعة فی الفرد

تأثیر الجماعة فی الفرد

ثم إن الجماعة تسبب تغییراً فی أفرادها، والغالب أن یکون ذلک التغییر فی الأبعاد الخمسة الآتیة، وهی:

1: تحطم الفردیة، حیث إن الجماعة تعطی سعة لأعضائها، مما یکون الفرد فی هذا الحال مثل القطرة من الماء إذا وقعت فی إناء ماء حیث تتحطم فردیتها، وتأخذ فی السعة بقدر سعة مجموع الماء.

2: الانصهار فی الجماعة، وهذا وجه آخر للأمر الأول، فالأول یسبب عدم عمل الفرد بمصالحه الشخصیة، وهذا یسبب عمل الفرد بمصالح الجماعة.

3: إحساس الفرد بالأمن الذی لم یکن یحس بمثله حال عدم انضمامه، فإن الإنسان یحس بالغربة، حیث یخاف وقت بؤسه ومرضه وفقره وهجوم عدوه و... وحیث إن الجماعة تکفل قضاء الحوائج یحس المنضم إلیهم

ص:151

بالأمن، وبقدر قدرة الجماعة یکون الحس بالأمن أکثر وأعمق.

4: إحساس المنضم إلی الجماعة بالقیمة بما لا یحس بمثله الفرد، إذ قیمة الفرد المنضم قیمة کل الجماعة، وقیمة کل الجماعة لیست قیمة کل فرد فرد، بل قیمة المجموع، فإذا فرضت قیمة کل فرد دیناراً کان قیمة عشرة أفراد مائة دینار.

5: شعور الفرد المنضم إلی الجماعة بالسعة فی وجوده، حاله حال القطرة المنضمة إلی إناء ماء، لکن السعة فی القطرة مادیة، وهنا معنویة.

أما استفادة الفرد من الجماعة ما لم یکن یستفیده لو کان فرداً، من التجارب العملیة، فذلک ما لا یحتاج إلی الذکر، فإن الحضارة عملیة قبل أن تکون علمیة، والاجتماع یعطی الحضارة العملیة، ولذا لا یفهم الاجتماع إلاّ من کان فی الاجتماع.

وقد قال علماء الأخلاق: الإنسان الذی یعیش بمفرده لا یسمی عادلاً ولا صادقاً ولا أمیناً ولا وفیاً ولا ما أشبه تلک، حیث إنها صفات عملیة، لا ذهنیة فحسب، فإذا کان فی الاجتماع سمی صادقاً أو کاذباً، أمیناً أو خائناً.

عوامل قوة الجماعة

عوامل قوة الجماعة

ثم إن قوة الجماعة وشدة أواصرها إنما تکون تبعاً للأمور التالیة:

أ) قوة الفلسفة التی بنت الجماعة نفسها علیها، فإن قوة الفلسفة المذکورة تعمق جذور الجماعة فی نفوس أعضائها، وکلما حملت الجماعة القلوب أکثر فأکثر، کانت الجماعة أقوی وأبقی.

وقد ذکر علماء السیاسة أن الدولة الدینیة الدنیویة أقوی وأبقی من الدولة المرتبطة بالدنیا فقط، لأن الأولی تحملها

ص:152

القلوب والأبدان، بینما الثانیة تحملها الأبدان فقط.

ب) الهدف الذی تتوخاه الجماعة، فإنه کلما کان أسمی کانت الجماعة أشد استمساکاً وأبقی زماناً، وذلک لأن الهدف الأسمی یجعل علاقة الناس بالجماعة أشد، فکم فرق بین أن یکون هدف جماعة إسلامیة إنقاذ المسلمین، وبین أن یکون هدفها تجمیل مدینة، والفرق بین الفلسفة والهدف کالفرق بین قوة کتاب فی مطالبه، وبین الهدف المتوخی من ذلک الکتاب.

ج) ثم یأتی دور القیمومة، فکلما کانت القیمومة علی الجماعة من کبارها أشد وأقوی، کانت الجماعة أمتن وأدوم، والعکس بالعکس، وقوة القیمومة وضعفها وإن کانا فی کثیر من الأحیان تابعین للأفراد القائمین، إلاّ أن الأهم هی ترکیبة الجماعة فإنها توجب القوة أو الضعف، فقد یکون نظام الجماعة بحیث یأتی إلی القیادة بالأکفاء، وقد لا تکون الترکیبة هکذا، حالها حال رجال الحکم، فقد ینظم القانون تنظیماً دقیقاً یأتی إلی الحکم بالأقدر والأفضل، وقد لا یکون هکذا.

د) وأعضاء الجماعة کلما کانوا أکثر طاعة للقیادة، سارت الجماعة سیراً حسناً، ولذا کان من شرائط الإسلام: السمع والطاعة، ولا یراد بذلک التقلید الأعمی، بل کما قال علی (علیه السلام): «وثقوا بالقائد فاتبعوه»((1))، حیث إنه إن ظهرت صحة الطریق یلزم کمال الإطاعة.

ه_) ثم کلما توسعت الجماعة فی أعضائها ومناصریها والمدافعین عنها کانت أقوی، إذ السعة تلازم کثرة الکفاءات والاستمراریة، ولذا تحاول

ص:153


1- نهج البلاغة: الخ طب 182.

الجماعات دائماً توسعة عدد أفرادها، وقلة أفراد الجماعة وإن کان لها مزایا، کما ذکرناها فی بعض المسائل السابقة، إلاّ أن ما بصدده نحن الآن إنما یکون بالکثرة، ولعل «ید الله مع الجماعة» یدل علی هذه الجهة أیضاً، حیث إن مناط الحدیث یشمل کثرة الأفراد.

و) وکلما کان نظم الجماعة أدق وأصح، کانت الجماعة أقوی وأدوم، إذ النظم یضع کل شیء موضعه، ویمیز الواجبات والحقوق، مما یخفف الحمل ویوجب دوامها، والعکس بالعکس، وعدم السوابق اللامعة یوجب الضعف، ولذا کان اللازم علی قیادة الجماعة أن تهتم بالمردود، وأن تهتم بما یجعل للجماعة سوابق مشرقة، حتی تکون دافعة للأفراد إلی الأمام.

ط) ویلزم المراقبة الدقیقة لقلة الأخطاء، فإن قلتها توجب حرارة القلوب حول الجماعة، بینما کثرتها توجب البرودة والانفضاض، وهذا یجعل الفرد یتشوق إلی عمله أکثر فأکثر، بالعکس من الفوضی تماماً، أو فی الجملة.

ز) وإذا کانت الجماعة سریة، کلما کان السر أکتم بقیت الجماعة أسلم وقویت أکثر.

ح) ثم یأتی دور مردود الجماعة وسوابقها، فإن الناتج کلما کان أکثر والسوابق أشرق، کانت علاقة الأفراد بالجماعة أکثر فأکثر، مما یوجب متانتها، وهذا من أسرار لزوم کون النبی والأمام (علیهما السلام) معصوماً.

ی) ثم کلما قویت حالة الاستشاریة فی الجماعة، کانت الجماعة أمتن، بینما حالة الدیکتاتوریة توجب انفضاض القلوب وتحطم الجماعة.

ص:154

منطلقات الجماعة

اشارة

منطلقات الجماعة

(مسألة 18): بعد طول تجربة الدنیا لأقسام الحکم، وصلت أخیراً إلی ما ذکره الإسلام من الاستشاریة، حیث إنها أدوم الأحکام وأحسنها، وتوجب ظهور الکفاءات واستقرار الناس وتعاونهم وقلة المشکلات للحاکم والأمة علی حد سواء.

ومن هذه الجهة کان اللازم علی الحکومات، وعلی جماعات الاستکشاف ممن لهم هدف فی الکشف، أن تتعرف علی منطلقات الناس فی أعمالهم، من العقائد والصفات وغیرها، فإنه إذا اکتشفت الحکومة ذلک، تمکنت من إعطاء الرغبات، وحل المشکلات، وتعدیل القوانین، بدون تصادم بالعقائد والمآرب.

فاستکشاف ذلک من قبیل الوقایة قبل المشکلة، والعلاج بعدها، فإن مشاکل الأمم حالها حال مرض الفرد، فکما أن الطبیب الحاذق یحاول الکشف عن صحة الإنسان حتی لا یبتلی بالمرض، وإذا مرض قطع جذوره بالعلاج الملائم، کذلک إذا جست الحکومة نبض الاجتماع اطلعت علی مکامن المشکلة، ففعلت ما یوجب عدم استفحالها، فإذا برزت المشکلة تمکنت من علاجها بما تنحل، فلا تبقی بله أن تستفحل.

أقسام الجماعة

أقسام الجماعة

ومن هذا المنطلق فقد قسم علماء الاجتماع الجماعة إلی أقسام:

ص:155

1: الجماعة الاستعراضیة، التی تعرض عضلاتها بالمظاهرة أو بإعطاء الشعار أو ما أشبه.

2: الجماعة التصادفیة، التی عملت الصدفة فی تجمعها، لأجل منظر مفرح أو مؤلم، کمجیء کبیر أو فیضان أو نحوهما.

3: الجماعة المنتظمة، کالجماعة التی تحضر مجلس الدرس أو الخطابة أو تمثیلیة أو ما أشبه.

4: الجماعة الانفعالیة، کالتی یؤثر فیها شیء یهیج أعصابها، فتهتاج بالتصفیق والحرکة وما أشبه.

5: الجماعة المخربة التی ترید هدفاً _ بنفسها أو بتحریک محرک _ فتأخذ فی التخریب لأجل الوصول إلی هدفها.

6: الجماعة المنضمة _ اسم مفعول من باب الإفعال، لا من باب التفعیل _ وهی التی انضمت أعضاؤها لأجل هدف خاص، أمثال الجماعة الاقتصادیة والسیاسیة ونحوهما.

7: الجماعة المبعثرة، وهی التی لا انضمام لها، وإنما کلها ذات طریقة واحدة، أمثال هواة السباحة، والریاضیین، وقراء مجلة کذا، ونظار التلفزیون الفلانی، ومثل هذه الجماعة هی الأکثر احتیاجاً إلی معرفة نوایاها وأهدافها وتطلباتها، إذ إنها هی التی لا یطلع علی أحوالها ضمن مجموعة خاصة، ولذا یلزم استطلاع الحکومة عنها بصورة عامة، وهذه النوایا تسمی بالمطلب العمومی، أو العقیدة العمومیة.

وقد یکون المطلب العمومی ظاهراً، وإنما الاستکشاف لأجل معرفة درجة الشدة والضعف فی ذلک، مثلاً الحکومة تعلم أن نظار التلفزیون غیر راضین

ص:156

عن برامجه، لکن لا تعلم مقدار عدم الرضا، هل هو خمسون فی المائة، أو أکثر أو أقل.

وإنما ترید استطلاع ذلک لأجل الموازنة بین الأهم والمهم، مثلاً المیزانیة المخصصة للإعلام تصرف فی الإذاعة والتلفزیون والصحف أثلاثاً، فإذا أرید تبدیل برامج التلفزیون کلف ذلک نصف میزانیة الإذاعة والتلفزیون، فهل التبدیل أهم حتی تنقص میزانیة تین، أم البقاء علی میزانیتهما،  لأن عدم رضی الناس بتنقیص میزانیتهما أکثر من عدم رضاهم برامج التلفزیون.

ثم إن الشیء الذی یمیل نحوه المجتمع، یصطلح علیه بأن له قیمة اجتماعیة، وکلما کانت علاقة المجتمع به أکثر، کانت قیمته الاجتماعیة أکثر، والعکس بالعکس، ومعرفة القیم الاجتماعیة من أهم الأمور لدی الساسة، لأن کیانهم مرتبط بها.

التوعیة الجماهیریة

التوعیة الجماهیریة

ثم إن المجتمع لیس معصوماً، یعرف قیمة ذوات القیم، أو یعرف تفاهة ما لا قیمة له، خصوصاً إذا عملت معه سیاسة التجهیل والتضلیل، وعلیه فاللازم علی المفکرین أن یعدلوا انحراف المجتمع الفکری، حتی یعرف ما له قیمة من غیره، ویعرف قدر قیمة کل ذی قیمة، وهذا الأمر محتاج إلیه فی حالتین:

1: حالة سیطرة القوة، حیث إن الحکومات الدیکتاتوریة تمارس سیاسة التجهیل والتضلیل، بواسطة أبواق دعایتها وأجهزة إرهابها، فإن الطبقة المستنیرة تنسحب عند ذاک عن المیدان، ولا یبقی إلاّ الهمج الذین یسبّحون

ص:157

بحمد الدیکتاتور، وعند ذلک لا تعرف العامة القیم من الزیف، کما لاتعرف مرتبة کل قیمة، ودرجة کل زیف.

وفی الحدیث: «إذا ظهرت البدع فی أمتی فعلی العالم أن یظهر علمه فمن لم یفعل فعلیه لعنة الله»((1)).

وقال الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام): «ولولا... ما أخذ الله علی العلماء أن لا یقاروا علی کظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقیت حبلها علی غاربها، ولسقیت آخرها بکأس أولها»((2)).

فاللازم توعیة المفکرین للأمة، بما یوجب انقشاع الظلمات، ورجوع الأمة إلی حریتها، وعرفانها للقیم.

2: حالة سیطرة المال، فإن المال وإن لم یکن له القوة، إلاّ أنه أیضاً له دور خطر فی الدعایة والتعمیة والإضلال، وربما کان هذا أسوأهما، لأنه یخدر بما یوجب اتباع الضحیة للجلاد، وقد ورد فی الحدیث: «لعن الراشی والمرتشی»((3))، وأنه یسأل عن الإنسان یوم القیامة عن ماله من أین اکتسبه وفیم أنفقه((4))، وقد ذکرنا فی کتاب (الفقه: الاقتصاد) أن رأس المال کیف یسیطر علی المجتمع بما یخرب السیاسة والقانون وغیرهما.

وهذا أیضاً یحتاج إلی توعیة الجماهیر حتی لا یقعوا ضحیة التعمیة والتجهیل.

کیفیة استکشاف العقیدة الاجتماعیة

ثم إن عقیدة العامة((5)) ونظریاتهم، لیست

بذلک الظهور حتی یتمکن تحصیلها

بذلک الظهور حتی یتمکن تحصیلها

ص:158


1- وسائل الشیعة: ج11 ص510.
2- نهج البلاغة: الخ طب 3.
3- بحار الأنوار: ج101 ص274.
4- بحار الأنوار: ج39 ص299، ومعدن الجواهر: ص49.
5- أی عامة الناس فی کل مجتمع.

بسبب الإحصاءات الرسمیة، بل ظهورها یحتاج إلی تعمق أکثر وتدقیق واسع، لأنه لیس کل أحد یستعد للکشف عن نظریاته فی مختلف الأمور بمجرد سؤال صحفی أو نحوه، فإن اقتنع بمجرد الإحصاء لم یستفد المحصی ما یریده من الکشف حتی یرتب علیه أثره، فإذا حصل علی شیء مخالف للواقع ورتب ذلک الأثر المرتب علی المکشوف بقی الواقع یؤثر أثره، حاله حال ما إذا لم یقل المریض الواقع للطبیب، حیث إن دواء الطبیب لا یؤثر، ویبقی المرض یؤثر أثره.

ولذا اتجه علماء الإحصاء، وعلماء النفس، وعلماء الاجتماع إلی البحث حول السبل المنجعة لکشف عقائد ونظریات العامة خارج نطاق الإحصاءات الرسمیة، مثل التوسل إلی رؤساء الأحزاب والمنظمات والجمعیات، ومراقبة أعداد قراء الجرائد ونظار المسارح ونحوها، وملاحظة أعداد الکتب ذات الاتجاهات الخاصة التی تباع وتتداول، إلی غیر ذلک.

داء التعصب الاجتماعی

داء التعصب الاجتماعی

ثم إنه کما قد یبتلی الفرد بالمرض العضال مما یصعب علاجه، وقد یبتلی الاجتماع بذلک کما فی أیام الطاعون ونحوه، کذلک قد یبتلی الفرد أو الاجتماع بالمرض النفسی، ویسمی بالتعصب، حیث إنه انحراف فی العاطفة بدون المنطق، ولذا یصر علی ما فی جانبه وإن لم یکن له دلیل، ویرفض ما فی جانب طرفه وان کان له دلیل.

کذلک قد یبتلی الحزب والجماعة بمثل ذلک.

وإذا اشتد التعصب حتی صار الفرد أو الاجتماع حساساً شدید الحساسیة تجاه ما یذهب إلیه، سمی ذلک بالعُقدة، کأن النفس انعقدت علی ذلک الجانب

ص:159

بدون ملاحظة التوسط والحق، وقد أکد الإسلام فی آیات وروایات، علی اجتناب مثل هذه الأمور، وتقدمت بعض النصوص فی ذلک.

الجماعات الضاغطة

ثم إنه لما کان للاتجاه العام، وللاتجاه الخاص فی الأمور الخاصة، مثل اتجاه الأمة ککل فی الحرب أو السلم، واتجاه الاقتصادیین فی ترفیع الأسعار أو عدمه، وزن وقیمة فی سیر دفة الأمور، حدثت فی العصر الحاضر طائفتان من جماعات الضغط:

الأولی: الذین یریدون إنقاذ الأمة من الانحراف الفکری، الذی سببه الجهل، أو التجهیل من أصحاب المصالح المنحرفة، هؤلاء یضغطون علی الاتجاه العام المنحرف حتی یستقیم، کی لا یخدع بسبب الخادعین، فیسیر فی ضد مصلحة نفسه، ومثل هذه الجماعات الضاغطة تتشکل من المصلحین والمفکرین وأصحاب العقول الحرة والأقلام النزیهة.

الثانیة: الذین یریدون استغلال الناس، لأجل أهدافهم وأغراضهم، فإنهم یحاولون أحد أمرین:

1: إما تحریف الاتجاه العام أو الخاص إلی جانبهم.

2: أو فرض آرائهم علی الناس.

وسائل الضغط

وضغط کلتا الطائفتین _ الأولی والثانیة _ یکون بأسباب، هی:

أ) الوسائل الدعائیة، حیث تحاول الجماعة الضاغطة السیطرة علی وسائل

ص:160

الإعلام، من الکتب والإذاعة والتلفزیون والصحف والسینماءات والمسارح وما أشبه ذلک.

ب) الوسائل الاقتصادیة، مثل الرشوة والهدیة والضیافة وما أشبه، حیث إنها تؤثر فی الفرد أو الجماعة التی یراد توجیهها، فإذا کان الهدف من ذلک شریفاً، أی تخلیص الناس من الانحراف، کان حسناً، کما قرر الإسلام سهماً للمؤلفة قلوبهم، وإلاّ کان باطلاً وسیئاً.

ج) الوسائل الحقوقیة، فإنه تسعی الجماعة الضاغطة لأجل سن قوانین بما یخدم اتجاهها، ولذا یحاولون النفوذ فی المجالس التشریعیة والقضاة والمحامین وما إلی ذلک.

د) الوسائل التخریبیة، فإن الجماعة الضاغطة تحاول تخریب وهدم المقاومة سواء بالتصفیة الجسدیة، أو تلویث السمعة، أو هدم مؤسسة أو جماعة أو جمعیة، أو ما أشبه ذلک، حتی یبقی الطریق منفتحاً أمام مآرب الجماعة الضاغطة، وبذلک تتمکن من النفوذ والتغییر.

الإعلام الصحیح والإعلام المزیف

الإعلام الصحیح والإعلام المزیف

ثم إن الإعلام لو کان لأجل الهدایة إلی الحق والإرشاد إلی الصحیح، سمی تبلیغاً، وإن کان لأجل التحریف والإضلال سمی (دعایة)، وإن کانت هذه اللفظة تطلق علی الأول أیضاً.

وحیث صار العالم الحاضر منحرفاً عن طریق الله سبحانه، وبذلک جعل المحور الدنیا، لا الدنیا والآخرة کما جعله الإسلام، راجت أسواق الدعایة بالباطل، وخرج الإنسان عن محوریة الکون، إلی کون المادة محوراً، ولذا نجد مآسی الإنسان فی هذا العصر أکثر من مآسیه فی کل عصر مضی.

ص:161

­­وقد اتخذ أصحاب الباطل الدعایة سبباً لرواج بضاعتهم، أخذاً من الإلحاد الشیوعی فی الشرق، إلی التثلیث الرأسمالی فی الغرب، إلی ما یدور فی فلکهما، کالصهیونیة، والقومیة، والبعثیة، والوطنیة، والطائفیة الضالة، فی العالم الإسلامی.

والدعایة السیئة تلبس الحق بالباطل، وتزیف الحقائق، وتستفید من جهل الناس، فتحملهم الأباطیل فی صورة حقائق، سواء فی العقیدة أو فی العمل أو فی البضاعة أو فی غیرها، وأخشی ما یخشی منه الدعائی هو النور، حیث یظهر الزیف عن الواقع.

وهذا الأسلوب وإن کان قدیماً، حتی إن فرعون کان یقول عن موسی (علیه السلام): {إنی أخاف أن یبدل دینکم * أو أن یظهر فی الأرض الفساد}((1))، و: {یرید أن یخرجکم من أرضکم بسحره}((2))، إلاّ أن کثرة الأدلة وتقدم الوسائل والأسباب سببت تقویة ذلک فی العصر الحاضر.

ولذا کان اللازم علی أصحاب الحق والفضیلة، أن یفتحوا الطریق أمام البحوث الحرة، ویهتموا بمختلف الوسائل لفضح الباطل اللابس ثوب الحق، ویکشفوا عن مواضع الإعلام الباطل، ومکامن الدعایة الزائفة، وبذلک یکون إنقاذ الضحایا، وسیأتی بعض الکلام فی ذلک.

طرق التزییف الإعلامی

طرق التزییف الإعلامی

وللدعایة المزیفة طرق کثیرة، وقد کتبت فی هذا الشأن کتب سخرت لها

ص:162


1- سورة غافر: الآیة 26.
2- سورة الشعراء: الآیة 35.

أقلام اجتماعیة ونفسیة وتربویة، وهنا نذکر جملة من الأسالیب التی یتبعها أصحاب الدعایات الباطلة، وهی:

1: استغلال مواضع الضعف عند الإنسان، مثل حالة المرض والفقر والفوضی وما أشبه، حیث إن الإنسان فی هذه الأحوال هش النفس، سریع القبول، ولذا یشکلون من أمثال هؤلاء طابوراً خامساً لنیل أهدافهم، ومن هذا القبیل فتح الجماعات المنحرفة مدارس للعمیان وللصم البکم وما أشبه، وتربیتهم تربیة منحرفة، لیکونوا آلة هدم فی المستقبل.

2: استغلال ضعاف الشخصیة لأجل قبول الدعایة، ثم النفوذ فی المجتمع من طریقهم کبعض النساء والأطفال والمعوقین.

3: تسخیر الألسنة المقبولة، مثل إرشاء خطیب أو مدرس أو مذیع أو ما أشبه، لینشر فی المجتمع ما یریدونه.

4: التأثیر فی الاجتماع بسبب أقلام الأدباء وقریحة الشعراء، إذ الأدب والشعر أنفذ إلی الاجتماع من غیرهما.

5: التوسل بمختلف الإغراءات، أمثال صور النساء شبه العاریة وغیرها، وقد هیأ المحاربون الصلیبیون صورة للمسیح (علیه السلام) فی هندام شاب حسن الصورة، وصورة لنبی الإسلام (صلی الله علیه وآله) فی هندام بدوی خشن، وقد ضرب الثانی رأس الأول بالسیف حتی جرت دماؤه، فأخذوا یطوفون بهذا فی البلاد المسیحیة، وجمعوا بذلک أکبر قدر من المال والرجال، وفی المثل: (صورة واحدة أنفذ من ألف کتاب).

6: تحری الجماعات لأجل نشر دعایتهم، مثل جمعیة خیریة، أو جمعیة الرفق بالحیوان، خصوصاً إذا کانت الجمعیة ذات عنوان براق وسوابق مشرقة.

ص:163

7: اللیّ فی اللسان، کما قال سبحانه: {یلوون ألسنتهم بالکتاب لتحسبوه من الکتاب}((1)).

مثلاً یخترع من نفسه کلاماً یشبه القرآن الحکیم فی الأسلوب أو الاحادیث الشریفة، لیظن الجاهل أنه قرآن أو سنة فیقبل کلامه، فیقول کما ورد: (حشر مع الناس عید)، أو یقول: (لا یوضع أحد فی قبر آخر)، یرید بذلک الانسیاق وراء الجهال وعدم التعرض لعمل الآخرین السیء.

8: یکرر کلامه حتی یؤثر فی السامع، فإن التلقین والإیماء بالتکرار لهما أثرهما الکثیر، قال الشاعر:

أما تری الحبل بتکراره

فی الصخرة الصماء قد أثرا

وقال أحد زعماء الإلحاد: (اکذب ثم اکذب حتی یصدقک الناس).

9: تحری الحق النصفی، أی ذکر بعض الحق، والسکوت عن بعضه الآخر، مما یوجب بتر الکلام وتحریف الحق، مثلاً یحفظ فی الشریط (لا إله) ویسقط فیه (إلاّ الله)، فیظن السامع أن المتکلم کافر.

10: تأویل الحق باطلاً، أو الباطل حقاً، کما قال سبحانه: {یحرفون الکلم عن مواضعه}((2))، مثلاً أوّل بعضهم: «أنا مدینة العلم وعلی بابها»((3))، إلی أن المراد من (علی) عال، أی رفیع، أو أوّل «لا أشبع الله بطنه»، أی حتی لا یأکل إلی حد الشبع.

ص:164


1- سورة آل عمران: الآیة 78.
2- سورة النساء: الآیة 46.
3- إحقاق الحق: ج5 ص495، وکنز العمال ح32890.

11: إراءة ما یریده فی ثوب قشیب، بینما لیس الأمر بذلک الجمال، مثل تدلیس القبیحة بالمساحیق لتظهر فی مظهر الجمیلة.

12: الاستناد إلی أقوال العظماء لیوهم أن ما یقوله مأخوذ عنهم.

13: استعمال الأسالیب المنفرة عن الشیء الصحیح، مثل الاستهزاء بکلام صحیح، وبالعکس کالاستماع بکل جد إلی کلام باطل، لیوهم الآخر أن الأول باطل والثانی صحیح.

14: خلط الباطل بالصحیح حتی ینخدع السامع والقارئ والناظر بالصحیح الموجود فی البین، فیظن أن کل ما یری ویسمع صحیح.

إلی غیر ذلک من الأسالیب.

کیفیة مجابهة قوی الضغط المنحرفة

کیفیة مجابهة قوی الضغط المنحرفة

واللازم أن یعمل أمام الجماعات الضاغطة المنحرفة، أمور:

أ: کشف تلک الجماعات للملأ، حتی یفضحوا أمام الناس، فلا یجدوا مجالاً للتستر والإفساد باسم الإصلاح، قال سبحانه: {وإذا قیل لهم لا تفسدوا فی الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولکن لا یشعرون}((1))، ویلزم أن تتم عملیة الکشف کماً وکیفاً فی إطار الإسلام والإنسانیة لا غیر.

ب: تثقیف الناس بالثقافة الصحیحة حتی یعرفوا الزیف من الحق، فإن الجماعات الضاغطة إنما یتسترون وراء الحق لیروجوا بضاعتهم الزائفة، فإذا انکشف الحقائق للناس، لم یبق مجال للظلام الذی یتلفع به الضاغطون.

ج: إیجاد حس الفحص والنقد فی الناس، لئلا یقبلوا الشیء بدون

ص:165


1- سورة البقرة: الآیة 11 _ 12.

التدقیق حوله، وقد بنی الإسلام علی العقل والبحث، وعدم الانسیاق وراء التقلید والعاطفة، بل وحتی الظن.

قال سبحانه: {إن الظن لا یغنی من الحق شیئاً}((1)).

وقال: {ولا تقف ما لیس لک به علم إن السمع والبصر والفؤاد کل أولئک کان عنه مسؤولاً»((2))، إلی غیر ذلک.

وحتی أن المشهور لزوم الدلیل فی أصول الدین، فلا یصح للمسلم أن یقبل أن الله واحد، أو عادل، أو أن محمداً (صلی الله علیه وآله) نبی، إلاّ بالدلیل، ولذا دوّن علم الکلام.

فإذا قیل إن فلاناً رئیس مدی العمر، أو إنه أفضل من غیره، أو إن الاقتصاد الإسلامی کذا، أو إن اللازم للدولة جعل الدستور، أو… یلزم أن یسأل الإنسان لماذا.

ولا ینفع أن تقول للمتنسم أریکة الحکم: لماذا تفعل کذا، والحال أن الشعب غیر مثقف، فإن الشعب غیر المثقف هم الذین یمکنون له، بل اللازم أن یتثقف الشعب حتی لا یتمکن المتنسم أن یعمل حسب هواه، ولذا قال علی (علیه السلام): «لا تکن عبد غیرک وقد جعلک الله حراً»((3)).

فلم یخاطب القمة، وإنما خاطب القاعدة، إذ القمة حصلت علی امتیازات فلا یهمها بعد ذلک أی شیء.

وبهذه المناسبة لابأس أن نقول: إن المشکلة فی البلاد الإسلامیة ذات

ص:166


1- سورة یونس: الآیة 36.
2- سورة الإسراء: الآیة 36.
3- نهج البلاغة: الکتب 31.

الألف ملیون مسلم لیس فی حکامها، وإن کانوا هم الدیکتاتوریین العملاء. وإنما المشکلة فی الأمة الإسلامیة نفسها، فهی إنها ربیت علی بعض الإسلام، وهی الصلاة والصیام والمسجد والحسینیة والاحتفالات والمآتم وما إلی ذلک، وترکت بعض الإسلام الآخر، وهو:

1) الثقافة الحیة الاجتماعیة وغیرها.

قال (علیه السلام): «العالم بزمانه لا تهجم علیه اللوابس»((1)).

وفی حدیث آخر: «عالماً بأهل زمانه»((2)).

وفی وصف علی (علیه السلام): «کان والله بعید المدی، شدید القوی»((3)).

2) والسیاسة، فلا یعرفون منها ما ینجیهم، وما یضع الحکام وأسیاد الحکام عند حدهم، فکل بلاد الإسلام بین حکم وراثی أو حکم عسکری، ولا ثالث، أما الأمة فهی بمعزل عن الحکام، لا تملک من أمرهم شیئاً.

3) والاقتصاد الذی هو عصب الحیاة، ولذا کان اقتصاد کل بلد بلد إما رأسمالیاً، أو شیوعیاً، أو مزیجاً منهما. والغرب والشرق ینهب خیراتهم نهباً لا مثیل له فی التاریخ، وإذا علمنا أن (الفقر سواد الوجه فی الدارین) عرفنا لماذا المسلمون لا کیان لهم فی العالم الحاضر.

4) وفهم خطط المستعمرین، وکیفیة تغلغلهم فی البلاد، وکیف یمکن التخلص منهم واقعاً، لا صورةً.

ومادام هذا الجزء من الإسلام مشلولاً، عاش المسلمون فی ضیاع.

د: الجماعات المضادة للجماعات الضاغطة، حتی یتحری هؤلاء مواضع

ص:167


1- تحف العقول: ص261.
2- أمالی الطوسی: ص146.
3- نهج السعادة فی مستدرک نهج البلاغة: ج3 ص199.

حرکة أولئک ویبطلوا کیدهم ویردوا مکرهم إلی نحورهم، وفی المثل: (لا یفل الحدید إلاّ الحدید).

وتدخل الجماعات المضادة للجماعات الضاغطة فی میزان الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فإنهما وإن کانا واجبین علی کل مسلم ومسلمة، کما یدخل البنود (أ _ ب _ ج) أیضاً فی موازین إسلامیة أخر، إلاّ أن عدم تأتی الأمر والنهی کاملاً أمام الجماعات الضاغطة إلاّ بهذه الصورة یجعل الوجوب لها آکد.

وقد حرض الإسلام علی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر بأبلغ تحریض.

قال الله تعالی: {ولتکن منکم أمة یدعون إلی الخیر ویأمرون بالمعروف وینهون عن المنکر وأولئک هم المفلحون}((1)).

وقال علی (علیه السلام): «أَیُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، إِنَّهُ مَنْ رَأَی عُدْوَاناً یُعْمَلُ بِهِ، وَمُنْکَراً یُدْعَی إِلَیْهِ، فَأَنْکَرَهُ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ وَبَرِئَ، وَمَنْ أَنْکَرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَدْ أُجِرَ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ، وَمَنْ أَنْکَرَهُ بِالسَّیْفِ لِتَکُونَ کَلِمَةُ اللَّهِ هِیَ الْعُلْیَا وَکَلِمَةُ الظَّالِمِینَ هِیَ السُّفْلَی فَذَلِکَ الَّذِی أَصَابَ سَبِیلَ الْهُدَی، وَقَامَ عَلَی الطَّرِیقِ وَنَوَّرَ فِی قَلْبِهِ الْیَقِین »((2)).

وفی کلام آخر له (علیه السلام) قال: «فَمِنْهُمُ الْمُنْکِرُ لِلْمُنْکَرِ بِیَدِهِ وَلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، فَذَلِکَ الْمُسْتَکْمِلُ لِخِصَالِ الْخَیْرِ، وَ مِنْهُمُ الْمُنْکِرُ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَالتَّارِکُ بِیَدِهِ، فَذَلِکَ مُتَمَسِّکٌ بِخَصْلَتَیْنِ مِنْ خِصَالِ الْخَیْرِ، وَمُضَیِّعٌ خَصْلَةً، وَمِنْهُمُ الْمُنْکِرُ بِقَلْبِهِ وَالتَّارِکُ بِیَدِهِ وَلِسَانِهِ، فَذَلِکَ الَّذِی ضَیَّعَ أَشْرَفَ الْخَصْلَتَیْنِ مِنَ الثَّلاثِ وَتَمَسَّکَ بِوَاحِدَةٍ، وَمِنْهُمْ تَارِکٌ لإِنْکَارِ الْمُنْکَرِ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَیَدِهِ، فَذَلِکَ مَیِّتُ الأَحْیَاءِ وَمَا أَعْمَالُ

 

ص:168


1- سورة آل عمران: الآیة 104.
2- نهج البلاغة: قصار الحکم 373 .

الْبِرِّ کُلُّهَا وَالْجِهَادُ فِی سَبِیلِ اللَّهِ عِنْدَ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْیِ عَنْ الْمُنْکَرِ إِلاّ کَنَفْثَةٍ فِی بَحْرٍ لُجِّیٍّ، وَإِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْیَ عَنِ الْمُنْکَرِ لا یُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ وَلا یَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِکَ کُلِّهِ کَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِر»((1)).

وقال (علیه السلام): «أَوَّلُ مَا تُغْلَبُونَ عَلَیْهِ مِنَ الْجِهَادِ، الْجِهَادُ بِأَیْدِیکُمْ، ثُمَّ بِأَلْسِنَتِکُمْ، ثُمَّ بِقُلُوبِکُمْ، فَمَنْ لَمْ یَعْرِفْ بِقَلْبِهِ مَعْرُوفاً وَلَمْ یُنْکِرْ مُنْکَراً، قُلِبَ فَجُعِلَ أَعْلاهُ أَسْفَلَهُ، وَأَسْفَلُهُ أَعْلَاه»((2)).

إلی غیرها من الآیات والروایات الکثیرة جداً.

ص:169


1- نهج البلاغة: قصار الح کم 374.
2- نهج البلاغة: قصار الحکم 375 .

الأدوار الاجتماعیة

اشارة

الأدوار الاجتماعیة

(مسألة 19):

1: الاجتماع یتجزؤ إلی رتب اجتماعیة، کل فرد فی درجة خاصة منها.

2: والإنسان فی درجته الاجتماعیة له مکانة خاصة به، وتسمی بالمکانة الاجتماعیة.

والفرق بینهما بالعموم المطلق، فکل مکانة اجتماعیة لابد وأن تکون تحت درجة اجتماعیة خاصة، ولیس کل درجة تلازم المکانة.

3: ثم الفرد یقوم بدور اجتماعی حسب مکانته غالباً، وذلک الدور ینقسم إلی:

أ) دور محول إلیه.

ب) ودور هو یقوم به خارج ما حول إلیه.

4: ثم للإنسان تحرک اجتماعی فی رتبته ومکانته:

أ) أحیاناً أفقیاً.

ب) وأحیاناً عمودیاً.

5: وأخیراً یأتی دور تأثیر الأمور السابقة فی حیاة الإنسان الفردیة، والاجتماعیة:

أ) الاجتماع الخاص به، کما إذا کان عضواً فی جماعة.

ب) والاجتماع العام، أی المجتمع.

وقبل ذکر تفاصیل هذه الأمور نذکر قطعة من کلام الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) حول الرتب الاجتماعیة:

قال (علیه السلام): (واعلم أن الرعیة طبقات، لا یصلح بعضها إلاّ ببعض، ولاغنی ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها کتّاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزیة والخراج من أهل الذمة

ص:170

ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلی من ذوی الحاجة والمسکنة. وکل قد سمی الله له سهمه، ووضع علی حده فریضة فی کتابه أو سنة نبیه (صلی الله علیه وآله) عهداً منه عندنا محفوظاً»((1)).

أقول: لعل المراد بالسهم نصیبه وحقه، وبالفریضة واجبه الذی یجب علیه أن یأتی به، فإن الحق فی قبال الواجب.

أما تفاصیل البنود والتی ذکرناها فی البدء فهی کالتالی:

مقیاس الرتب الاجتماعیة

مقیاس الرتب الاجتماعیة

الأول: الرتبة الاجتماعیة، عبارة عن مثل رتبة العلماء، ورتبة المعلمین، ورتبة الخطباء، ورتبة التجار، ورتبة الجنود، ورتبة العمال، ورتبة الفلاحین، وما أشبه ذلک، فکل جماعة لهم تمایز عن جماعة أخری تسمی رتبة.

وهناک أقوال أخر لعلماء الاجتماع فی وجه تمایز رتبة من رتبة:

أ) فالشیوعیون ذهبوا إلی أن تمایز معیار الرتب مالکیة وسائل الإنتاج والقدرة الناشئة من ذلک، وعلیه فالاجتماع رتبتان أساسیتان الملاک وغیرهم، والأولون ینقسمون إلی کبار الملاک وصغارهم.

وفیه: إنهم إن أرادوا صرف الاصطلاح فلا مشاحة فیه، فهو مثل أن نقسم الناس إلی رتبة الرجال، ورتبة النساء، ورتبة الخناثی، وإن أرادوا الواقع فقد ثبت فی العلم بطلان النظریة القائلة بأن الاقتصاد هو البناء التحتی للمجتمع.

ثم علی فرض تسلیم أنه البناء التحتی، فأی ربط بین ذلک وبین انقسام رتب

ص:171


1- نهج البلاغة: الکتب 53.

الاجتماع بالنسبة إلی ذلک.

ب) وذهب آخرون إلی أن التمایز ینشأ من تصور کل جماعة لأنفسهم میزة خاصة، مثل أن من تصور أنه من الأشراف حشر معهم، ومن تصور نفسه من العلماء حشر معهم، وهکذا، وإن لم یکن فی الواقع من أولئک.

وفیه: إن الأمر واقعی لا تصوری، فحشر غیر العالم لا یجعله من رتبة العلماء، کما أن حشر العالم نفسه مع الجنود مثلاً لا یجعله من رتبة الجنود.

ج) وذهب ثالث إلی أن المعیار فی الرتبة الشغل.

وفیه: إنه فی الجملة وإن کان صحیحاً، إلاّ أن الشغل یعطی التصنیف لا الرتب، فالتجار رتبة واحدة وإن کان شغل جماعة منهم التجارة فی الأراضی، وآخرین التجارة فی الأسهم والسندات، وثالث التجارة فی مواد الإنشاء، وهکذا بالنسبةالی أصناف سائر الرتب.

د) ومن ذلک ظهر بطلان قول القائل: إن منشأ الرتب مقدار الدخل ومصدره أو محل السکونة ونحو ذلک، فإنه وإن کان صحیحاً أن جماعة یسکنون محلاً خاصاً، ینضم بعضهم إلی بعض فی کثیر من الشؤون، کما أنه وإن کان صحیحاً أن المتساوین فی الدخل لهم أحکام جامعة، مثل کون عیشهم شبه متساو، ونحو ذلک.

إلاّ أن أمثال هذه الأمور لا توجب تسمیة الأفراد الذین هم تحت أمثال هذه الکلیات رتبة، إلاّ إذا ارید الاصطلاح المجرد، فإن الرتبة الاجتماعیة حقیقة اجتماعیة، وهی کما ذکرناه فی أول البحث، ولذا لا یقال: الرتبة الساکنة فی محلة کذا، ولا الرتبة الذین یملک کل أحد منهم مائة ألف، إلی غیر ذلک.

ص:172

مظاهر اختلاف الرتب

مظاهر اختلاف الرتب

ثم إن اختلاف الرتب الاجتماعیة یتجلی فی أمرین:

1: الثقافة، فإنه وإن کان لکل اجتماع لون خاص من الثقافة، یمیز ذلک الاجتماع عن الاجتماعات الأخر، مثلاً لون الثقافة الإسلامیة غیر لون الثقافة المسیحیة، وکلاهما یمتازان عن الثقافة الیهودیة، إلاّ أن فی المجتمع الإسلامی ثقافة رتبة المعلم تختلف عن ثقافة رتبة العالم الدینی، وکلاهما یختلفان فی الثقافة عن ثقافة التاجر، وهکذا.

ومصدر هذه الثقافة الخاصة، أن کل رتبة بحکم مصدرها وموردها تمتص عن الاجتماع لوناً خاصاً من الثقافة یلائم مسیرها ومصیرها.

وإن شئت قلت: إنما تأخذ من فنون الثقافة المبعثرة فی الاجتماع مایلائم دورها فی الأداء، فالجنود یأخذون من الثقافة ما یساعدهم فی حفظ المدن والغلبة علی الأعداء عند الحرب، بینما التجار یأخذون من الثقافة ما یساعدهم علی جلب البضائع وإنتاجها وحفظها وتسویقها وتوزیعها، إلی غیر ذلک من ثقافات الرتب المختلفة.

مناقشة فی نظریة المساواة

مناقشة فی نظریة المساواة

1: وتبعاً لهذه الثقافة، والمسیر والمصیر الخاص، فإن کل فرد رتبة یأوی إلی أفراد رتبته فی لون الحیاة، من لباس خاص، کألبسة العلماء والجنود وغیرهم، وکیفیة خاصة فی المأکل والمشرب، ولحن خاص فی الکلام، وکیفیة خاصة فی المسکن، وغیر ذلک.

ولا یراد بهذا الامتیاز الکامل، بل

ص:173

الخصوصیات المتفرقة والمزایا المبعثرة.

وقد یزعم بعض الناس أن اللازم التسویة الاجتماعیة فی کل شیء، وقد عمل البهلوی وأتاتورک ویاسین وماو، وأضرابهم علی توحید الملابس، بل والمأکل وما أشبه، وجاء آخر فزعم أن المجتمع الإسلامی مجتمع غیر متفاوت، ونسبوه إلی أنه مقتضی التوحید، فمادام الرب واحداً، والناس سواسیة کأسنان المشط، کان اللازم ذلک.

وفیه: أولاً: الحیاة خلقت ملونة بملایین الألوان، فلماذا یشذ الإنسان عن ذلک.

وثانیاً: الإنسان خلق مختلف الأجسام والصفات، فمن الأفضل أن یعمل کل حسب ما یشتهی فی إطار الإسلام عند المسلم، وفی إطار الإنسان عند غیر المسلم.

فکلما أن من یری لزوم تساوی الذکی والغبی، أو تساوی کل ما فی الکون، بأن یکون کل الأشیاء ماءً، أو فاکهة رمان، أو جمیلاً، أو تساوی أفراد الإنسان فی الذکورة والأنوثة، أو … لا یدعم زعمه دلیل، بل الدلیل علی خلافه، أولاً: لماذا التساوی، وثانیاً: ألیس المتفاوت أجمل، وفی نفس الوقت إعطاء لکل مهیة متطلبة طلبها.

کذلک من یری تساوی الملابس، أو سائر شؤون الحیاة، وحتی التساوی فی المال خلاف العدل، وقد ذکرناه فی (الفقه _ الاقتصاد) أن المال بإزاء:

1: العمل الجسدی.

2: والفکری.

3: والمواد الأولیة.

4: وشرائط الزمان والمکان.

5: والعلائق الاجتماعیة.

ولا یخفی أنه لیس معنی ذلک الابتعاد فی الرتب بعضهم عن بعض، بل معناه:

ص:174

أ: حریة کل إنسان أن یعمل ما یشاء، فی إطار الإسلام، وعند غیر المسلم فی إطار الإنسان.

ب: إن من الطبیعی أن کل رتبة بحکم عملها وثقافتها الخاصة بطبقتها، لها مزایا، فلا داعی إلی تحطیم تلک المزایا، بل ربما أوجب التحطیم خللاً.

مثلاً شرطة المرور لابد لهم من شارة خاصة، وإلاّ لم یقعوا فی موضع انقیاد الجماهیر لهم مما یسبب عطباً فی السیر، والریاضی لابد له وأن یلبس ملابس خاصة تمکنه من أعمال الریاضیة، کما أن مأکل الزراع والعمال بحاجة إلی خشونة أکثر من مأکل من لا یحرک عضلاته، کالطبیب والمهندس، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

ج: أما ما عدا ذلک، کان تسکن کل رتبة محلاً خاصاً بها، أو لا یزاوج بعضهم بعضاً، أو یکون امتیاز فی المدرسة والفندق والمطعم والسیارة وما أشبه فذلک غیر صحیح.

وعلیه فاللازم أن توطر الحیاة فی إطار الحریة والکفاءة، وهذا هو الذی قرره الإسلام تبعاً لفطرة الإنسان، فإن التشریع صدر من الذی صنع الکون.

قال سبحانه: {یضع عنهم إصرهم والأغلال التی کانت علیهم}((1)).

وقال تعالی: {إن أکرمکم عند الله أتقاکم}((2)).

ومن المعلوم أن التقوی عبارة أخری عن الکفاءة.

ص:175


1- سورة الأعراف: الآیة 157.
2- سورة الحجرات: الآیة 13.

مزایا الرتبة الاجتماعیة

مزایا الرتبة الاجتماعیة

ثم الرتبة لها مزایا هی:

أ: السعة.

ب: الدوام.

ج: التعارض.

أ) أما السعة، فهی عبارة عن أن الرتبة لا تحد بالحدود القومیة واللغویة والجغرافیة والمذهبیة، إلاّ فی أطر أخری، أی إن علماء أی مذهب یختلفون فی اللون المذهبی عن علماء المذهب الآخر، وکذلک حال الجنود وغیرهم، وکذلک بالنسبة إلی الجغرافیات والقومیات المختلفة، وإلی آخره.

فالعلماء مثلاً أو الجنود أو الزراع متساوو المزایا، وإن اختلفت قومیاتهم ولغاتهم ومناطقهم ومذاهبهم.

ب) وأما الدوام، فلأن الرتبة إنما تتولد تحت موزاین خاصة، نفسیة واجتماعیة ونحوهما، وحیث إن تلک الموازین لیست سریعة النمو، کما لیست سریعة الزوال، فالرتبة تبقی مستمرة، نعم أحیاناً تتطور حسب تطور الآلة، مثلاً رتبة المکارین تطورت إلی رتبة السواق والطیارین، بینما رتبة الملاحین بقیت علی حالتها السابقة، وإن تطورت السفن من الشراعیة إلی البخاریة.

وکذلک رتبة العمال تطورت من العمل الیدوی إلی العمل فی المعامل، أما أصل الرتبة فقد بقیت.

وفی الاتحاد السوفیانی مثلاً تطورت رتبة علماء الدنیا، فإن أفراد الحزب هم المبشرون بمبادئ مارکس الدنیویة، بینما علماء المسلمین مثلاً فی الجمهوریات الست المحتلة، کانوا علماء دین ودنیا، وإلی غیر ذلک.

ج) وأما التعارض، فلأن الرتبة حیث تحتوی علی أفراد تتزاحم مصالحهم لابد وأن یقع بینهم التعارض، إذ النفسیات مختلفة والمصالح قلیلة لا تکفی الکل، ولذا یرید کل دفع الإضرار عن نفسه، واکتساب أکبر قدر من المزایا،

ص:176

وهذه الحالة النابعة من ذات الإنسان، وقلة المصالح، وإن کانت تأخذ فی کثیر من الأحیان صورة حادة، إلاّ أن الإسلام خففها:

أولاً: بتنطیف الضمائر.

وثانیاً: بجعل التنافر إیجابیاً، بدل أن یکون فی السلب.

ولایخفی أن حالة التعارض، وإن کانت بین أفراد الرتبة أجلی لاحتکاک المصالح فیها أکثر من الأفراد المبعثرین الذین لا مصالح مشترکة لهم، إلاّ أن تلک الحالة توجد أیضاً بین الرتب المختلفة، إذا احتکت مصالحهم.

ثم إنه کلما کانت الرتبة أقرب إلی الإیمان أو إلی التعقل، کان التعارض فیها أقل، إلی أن یصل إلی شیء لا یکاد یذکر.

المکانة الاجتماعیة

المکانة الاجتماعیة

الثانی: المکانة الاجتماعیة، فإن الإنسان فی رتبته الاجتماعیة له مکانة خاصة، إذ لا یتساوی أفراد الرتبة الواحدة، مثلاً فی رتبة رجال العلم قد یکون الإنسان ذا مکانة اجتماعیة لکونه خطیباً، أو مدرساً، أو مرجعاً، أو مبتدئاً، وهذه المکانة إنما هی بالنسبة إلی سائر أفراد الرتبة وإن کانت النسبة مع سائر الرتب أنه رجل دین فی قبال أنه تاجر أو جندی.

وذلک لأن أفراد الرتبة ذو درجات، فإن القیمة إنما تظهر بالمقارنة، وإن کان الإطار العام شامل للکل، مثلاً کون هذا تاجراً من الدرجة الأولی أو الثانیة أو الثالثة، إنما یعرف بالمقایسة إلی التجارة، أما المقایسة إلی المعلمین أو الفلاحین فلا درجة، وإنما یلاحظ الإطار العام فی قبال الإطار العام.

القیمة الاجتماعیة

القیمة الاجتماعیة

ومن المکانة الاجتماعیة تظهر القیمة الاجتماعیة، وکما أن فی المواد

ص:177

تکون القیمة حسب الأمور الخمسة (العمل الفکری والجسدی و...) کذلک القیمة الاجتماعیة تکون حسب الفائدة، سواء کانت الفائدة مادیة کالإنتاج المادی، أو معنویة کما إذا کان الشخص ینتج إنتاجاً معنویاً، مثل مدرس الأخلاق ومعلم الفضیلة.

وحیث إن القیمة کانت بذلک جرت القیمة بین الرتب، وبین أفراد رتبة ورتبة، مثلاً القیمة الاجتماعیة للفلاحین أکثر من القیمة الاجتماعیة للفحامین، وبهذه المناسبة القیمة الاجتماعیة لفلاح أکثر من القیمة الاجتماعیة لفحام.

ثم إنه من الممکن أن یکون شخص داخلاً فی رتبتین اجتماعیتین أو أکثر، کأن یکون مهندساً وطبیباً، وحینئذ یمکن أن تکون مکانته الاجتماعیة فی إحداهما أرفع من مکانته الاجتماعیة فی الاخری، مثلاً کان فی الرعیل الأول من الأطباء، بینما کانت مکانته الاجتماعیة المهندسیة فی آخر سلم المهندسین.

ثم إن المکانة الاجتماعیة تصاحب دائماً:

1: الوجاهة الاجتماعیة.

2: والنفوذ الاجتماعی.

فالوجاهة إنما تحصل من الاحترام الذی یتلقاه الفرد من المجتمع، بسبب ما یحیط بمکانته من الملابسات التی توجب الاحترام، أو لا توجبه، إذ ربما یکون لإنسان مکانة رفیعة، لکن حیث لا یحفظ نفسه شروط تلک المکانة، لا تکون له تلک الوجاهة اللائقة بتلک المکانة، وربما کان بالعکس، بأن تکون الوجاهة أکثر من المکانة.

وهذان اللفظان یطلقان باعتبارین، کالشجرة لها جذور ولها غصون، فالمکانة بمنزلة الأولی، والوجاهة بمنزلة الثانیة.

ص:178

أما النفوذ الاجتماعی، فهو قدر امتداد قدرة الإنسان فی المجتمع، ویأتی دور النفوذ الاجتماعی بعد دور الوجاهة، والتی هی تأتی بعد دور المکانة.

والنفوذ یحتاج إلی شرائط، فقد تکون الوجاهة بحیث تقتضی النفوذ الکذائی، لکن صاحبها حیث لا یقوم بشرط النفوذ، لیس له ذلک النفوذ المطلوب، وقد یکون الأمر بالعکس.

المکانة الطبیعیة والمکانة المکتسبة

المکانة الطبیعیة والمکانة المکتسبة

ثم إن المکانة الاجتماعیة، والتی تجعل الإنسان من قبل الاجتماع فی مکانة خاصة، قد یقتنع بها الإنسان فلا یبرحها، وإنما یلازم تلک المکانة بدون زیادة أو نقیصة، وقد یتعداها الإنسان إلی مکانة أخری بالإضافة إلی الأولی، کما إذا کان خطیب یستعد لقضاء حوائج الناس، أو طبیب یساعد الفقراء ویفحصهم مجاناً، فإنهما قد یرفعان مکانة الخطیب والطبیب إلی مکانة أخری.

وعلماء الاجتماع یسمون الأولی بالمکانة الطبیعیة، والثانیة بالمکانة المکتسبة.

ثم إن المکانة الاجتماعیة لفرد فی رتبة لیسث شیئاً ثابتاً فی کل الأمم، فقد تکون المکانة فی أمة دون أمة، مثلاً للسحرة مکانة فی الجهال لیست لهم مثلها فی المثقفین، نعم أصل القیم شیء حقیقی، کالحسن والقبح العقلیین، فلیستا من الأمور الاعتباریة تختلف باختلاف الاعتبار، وهی تتکون باعتبار الفائدة الحقیقیة، لا باعتبار الوهم والزیف.

الدور الاجتماعی

الدور الاجتماعی

الثالث: والدور الاجتماعی، هو ما یقوم به الفرد فی مجتمعه الکبیر، أو

ص:179

فی جماعته التی هو عضو فیها، والغالب أن یقوم الفرد بجملة أدوار، سواء کان عضواً فی جماعة، أو فی جماعات، أو لیس عضواً فی جماعة، وإنما یکون فرداً من الاجتماع.

وذلک لأن الإنسان مربوط بعدة أشکال اجتماعیة، یقوم فی کل شکل منها بدور، فالإنسان مربوط ببلد، وبمنطقة، وبحزب، وبعائلة، وبصنف، وهکذا، وکل واحد من تلک یتطلب منه القیام بدور، وربما صار وکیلاً أو وصیاً عن آخر فیقوم بدوره أیضاً، وهذه الأدوار إن جمعت جمیعاً سمیت بالدور.

وحیث إن الإنسان غالباً تقدمی، ویرید مزید المنفعة المادیة أو المعنویة، لا یقتنع بالقیام بالدور المحول إلیه، بل یقوم بما یزید علی واجبه، ولذا کان للإنسان:

1) دور محول إلیه.

2) ودور اکتسبه بنفسه.

ثم المجتمعات البدائیة، تکون الأدوار فیها قلیلة، بینما کلما تقدم المجتمع تعقد، وکانت الأدوار فیه کثیرة، وکلما کثرت أدوار المجتمع یکون للفرد أدوار متعددة، فالمجتمع الذی لا جمعیات فیه، أو لا أحزاب، لا یکون للفرد مثل هذین الدور، وکلما کثرت الجمعیات أمکن کثرة أدوار الفرد، مثلاً یکون عضواً فی جمعیة خیریة، وفی جمعیة الأطباء إذا کان طبیباً، وفی الجمعیة الثقافیة المرتبطة بالحزب الفلانی، وفی جمعیة تجاریة، وهکذا.

وربما تعارض دورا الإنسان فیقدم أهمهما، کما إذا کثرت أشغاله الحزبیة قل دوره فی إدارة عائلته، وکذلک إذا کانت هوایته إدارة جمعیة خیریة یقلل من دوره فی الجمعیة الثقافیة التی هو عضو فیها.

ص:180

انتخاب الدور الأفضل

انتخاب الدور الأفضل

ثم إن الدور الأفضل الذی یمکن أن یقوم به الإنسان، وعرفانه أی الادوار الموکولة إلیه اجتماعیاً أو إمکانیاً أفضل من غیره، بحاجة إلی حسن الانتخاب، وحسن الانتخاب لیس بالشیء الهین، فإنه بعد الاحتیاج إلی الکفاءات الذاتیة والکفاء ات المنمیة، یحتاج إلی دقة تأمل وکثرة تفکر، لیمیز الأرجح من غیره.

کما أن إنماء الکفاءات بید الإنسان غالباً، إذا لم تکن الإمکانات الطبیعیة أو الاجتماعیة عائقة دون الإنماء، مثلاً الفرد الهندی له ربع إمکانیة الفرد الأمر یکی فی تحصیل العلم والمعرفة، فمن کل أربعة أولاد یوجد ولد واحد له إمکانیة التحصیل فی الهند، بینما کل الأربعة لهم إمکانیة التعلیم فی أمریکا.

فإذا فرض وجود الذاتیة، کان لم یکن بلیداً ولا مریضاً، ووجود الکفاءة الاجتماعیة، یأتی دور حسن الانتخاب، والغالب أن سوء الانتخاب هو الذی یؤخر المتأخر، فنفران کلاهما طلبا العلم الدینی یصل أحدهما إلی المرجعیة، بینما الآخر یبقی فی المراتب النازلة، وهکذا کاسبان یصل أحدهما إلی الدرجات الرفیعة من التجارة حتی یکون فی الرعیل الأول من التجار، بینما یبقی الآخر بقالاً فی دکان صغیر، وهکذا سائر من له دور اجتماعی.

ملاک الأدوار الاجتماعیة

ملاک الأدوار الاجتماعیة

ثم إن الأدوار الاجتماعیة، لیس ملاکها القابلیات والکفاءات الفردیة، بل اللازم مدخلیة الموازین الاجتماعیة فی قبول إعطاء الدور للذی یرید أن یقوم به، مثلاً فی غالب المجتمعات لا یعطی صلاحیة الانتخابات لمن لم یکن بالغاً

ص:181

_ والبلوغ یختلف میزانه عند الأدیان والأمم _ وتبعاً لمثل ذلک یختلف دور الشیبة عن دور الکهول، ودورهم عن دور الشباب، ودورهم عن دور الأطفال، کما یختلف دور الرجل عن دور المرأة، ودور العالم عن دور الجاهل، ودور رؤساء القبائل أو الاحزاب عن دور سائر الأفراد، وهکذا.

وفی الحدیث: «اعتمدا فی دینکما علی کل مسن فی حبنا، کثیر القدم فی أمرنا»((1)).

وعدم إعطاء الاجتماع الدور إلی قسم خاص من الناس، قد یکون لموازین عقلیة، وقد یکون لموازین عرفیة، مثلاً إعطاء دور الاصطلاح إلی الشیبة وذوی الخبرة والتجربة أمر عقلی، أما إعطاء الدور لمن له مال أکثر لمجرد ذلک کما فی بعض المجتمعات، إنما یتبع العادة، وإلاّ فالمال لا ربط له بمثل ذلک الدور.

الجماعات والأدوار

الجماعات والأدوار

والجماعة حالها حال الفرد، فی أنها قد تؤهل نفسها للقیام بدور کثیر الأهمیة، وقد تبقی عادیة، بحیث لا یراها الاجتماع مؤهلة للقیام بذلک الدور الذی أزمعت القیام به، مثلاً الحزب الذی یرید الحکم فقد یوجد فی نفسه مؤهلات الحکم، ومثل هذا الحزب یصل إلی الحکم، أما إذا لم یوجد فی نفسه تلک المؤهلات وصل الآخرون وبقی هو فی ذیل القافلة.

فقد یجد الإنسان فی بلد کذا حزباً کبیراً له سوابق مشرقة، وأعضاء بارزین وثقافة عالیة، ومع ذلک لا یصل إلی الحکم، بل ولا أمل له بذلک، بینما حزب آخر تمکن من الوصول، ولا أقصد وصول القفز بانقلاب عسکری، فإن ذلک

ص:182


1- رجال الکشی: ص4 ح7 طبعة مشهد. والمذکور فیه: (فاصمدا فی دینکما).

الوصول أیضاً لمؤهلات الأجانب الذین کانوا وراء الانقلاب، بالإضافة إلی أن مثل ذلک الوصول لم یکن شرعیاً، وکلامنا نحن فی الشرعیة.

وإذ یحقق فی شأن عدم وصول ذلک الحزب اللامع یری أن عدم وصوله نابع من ذاته، حیث إن مداراته الناس قلیلة فلا یستعد الناس لانتخابه سیداً علیهم، فالاجتماع لا یعطیه الدور الذی یطلبه، لأنه لیس بمؤهل فی نفسه لذلک الدور، فإن للاجتماع بالنسبة إلی إعطاء الأدوار الرفیعة شروطاً صعبة لا یحظی بتلک الأدوار إلاّ أولئک الذین یستعدون للعمل بتلک الشروط.

وإذا فرض أن قفز إنسان إلی ذلک الدور بدون مؤهلاته، أنزله الاجتماع عنه بمختلف الوسائل والسبل، إن قربیاً أو بعیداً.

تحرک الإنسان فی رتبته

تحرک الإنسان فی رتبته

الرابع: تحرک الإنسان فی رتبته أو فی مجتمعه عمودیاً أو أفقیاً.

فالأول: هو أن ینتقل من درجة أعلی إلی درجة أسفل، أو بالعکس، کأن یکون مرؤوساً فیصبح رئیساً، أو ینتقل من الرئاسة إلی المرئوسیة.

والثانی: أن ینتقل من عمل فی الحزب إلی عمل آخر فیه مساو للأول مثلاً، أو أن ینتقل من جمعیة إلی جمعیة أخری وهکذا، وقد حرض الإسلام علی تحرک الإنسان إلی أعلی دائماً، فقال (علیه السلام): «من تساوی یوماه فهو مغبون»((1)).

ضرورة الرتب

ضرورة الرتب

ثم إن المجتمع مهما کان، لابد له من الرتب، وذلک لأن الرتبة من مقتضیات

ص:183


1- وسائل الشیعة: ج11 ص376.

­1: الطبیعة، حیث إن بعض الأفراد أشجع من بعض، وأکرم من بعض، وأزکی من بعض، وهکذا مما یوجب تقدمهم علی الرتبة التی لیست لها هذه المزایا النفسیة والجسمیة.

2: والزمان حیث إن کبر السن الذی یسببه مرور الزمان یعطی للکبار رتبة فی قبال الصغار، والسبب لذلک أن الکبار أکثر تجربة، وأنهم هم الذین ربوا الصغار، ولذا کان لهم احترام أکثر، وهیبة وعزة فی النفوس.

3: بالإضافةالی انقسام المجتمع تلقائیاً إلی الرجال والنساء، حیث إن النساء یصلحن لشیء لا یصلح له الرجال، لمکان کثرة العاطفة والنعومة فیهن، والرجال یصلحون لشیء لا تصلح النساء له، لمکان کثرة التعقل والخشونة فیهم.

4: ثم بحکم احتیاج الاجتماع إلی الإدارة، یجعل بعض أفراده رئیساً لمکان إدارته، وأولئک الأفراد یشکلون رتبة خاصة، هی رتبة الحکام فی قبال رتبة المحکومین.

وهذه الرتب موجودة فی کل اجتماع، سواء کان ابتدائیاً، أو متقدماً صناعةً، نعم الفارق أن الاجتماع الابتدائی لیس فیه بعض الرتب، من باب السالبة بانتفاء الموضوع، مثل المخترعین أو الأحزاب أو ما أشبه ذلک.

أما الزعم بأنه لا تفاوت فی الرتب فی الاجتماعات الابتدائیة، لأن التفاوت یأتی من الملکیة الفردیة، ولا ملکیة فردیة فی تلک المجتمعات، فالدلیل علی خلافه، لا فی الرتب فحسب، بل فی الملکیة الفردیة أیضاً، وقد دلت التجارب التی أجریت علی أمم معاصرة تعیش عیشة البداوة، فظهرت النتائج أنهم توجد فیهم الملکیة الفردیة والرتب.

ص:184

والمجتمع المارکسی الذی بنی دولته وأمته علی آراء مارکس، ظهر له عدم استقامة تلک الآراء، ولذا رجعت إلیه کل الحقائق الإنسانیة، کالرتب والملکیة الفردیة وعدم إشاعة النساء وغیر ذلک، وإنما کل ما فعله ذلک المجتمع أن سلب الإنسان دینه وأخلاقه وحریته بالقوة، بقدر ما تمکن من سلبها، وإلاّ فنفس تلک المجتمعات أیضاً فیها کثرة کبیرة من المتدینین، ولکن تعیش تلک الکثرة تحت الکبت والإرهاب.

عوامل تکون الرتب

عوامل تکون الرتب

ثم إن الغالب فی سببیة تکوین الرتب هو:

1) الثقافة: فالمثقفون یشکلون رتبة فی قبال غیرهم، والأرفع ثقافة کالطبیب والمهندس والمرجع والخطیب البارع ونحوهم یشکلون رتبة فی قبال الأقل ثقافة.

2) والملکیة: تکون رتبة الملاک فی قبال غیرهم، والأکثر ملکاً یکون رتبة فی قبال الأقل ملکاً، ولا یخفی أن الملک الحاصل من الأسباب الخمسة السابقة: (العمل الجسدی، والفکری، والمواد، والشرائط، والعلائق) مشروع، وماعداه لیس بمشروع.

3) والحکام یشکلون رتبة فی قبل سائر الناس.

ولا یخفی أن الحاکمیة المشروعة فی الإسلام هی التی یتوفر فیها شرطان:

أ: مواصفات الإسلام.

ب:انتخاب الناس، وهذا وإن کان راجعاً إلی بعض المواصفات أیضاً، إلاّ أنه أفرد بالذکر لأهمیته.

ص:185

وهذه الثلاثة هی أصول أسباب تکون الرتب، وإن کانت هناک فروع أخر من نفس هذه الأصول أو غیرها.

التفاوت الصحیح والتفاوت الباطل

التفاوت الصحیح والتفاوت الباطل

ثم إن الرتب إذا رجعت إلی أسباب عقلائیة صحیحة کانت صحیحة، کالثقافة والملک عن استحقاق، والحکم عن استحقاق.

أما إذا رجعت إلی أسباب غیر صحیحة کانت باطلة، ویلزم إزالتها، مثل الحکومة الدیکتاتوریة الموجودة فی الشیوعیة، حیث إن الحکام یصلون إلی الحکم بالإرهاب والکبت، ومثل المالکیة الرأسمالیة الغربیة، حیث إن المالکیة لا تکون إلاّ بأکل أتعاب الناس.

وإذا کانت الاختلافات فاسدة، أفسدت أیضاً، کما أفسدت الحکومة الشیوعیة مسألة المال فأخذته من أیدی المستحقین إلی ید الحکومة، وکما أفسدت الرأسمالیة الغربیة مسألة الحکم، حیث تحکم رأس المال فی الانتخابات، علی ما ذکرنا تفصیله فی (فقه الاقتصاد).

ولا یخفی أن الانحراف ینتهی إلی سقوط المنحرف، ولذا یتنبأ الخبراء بسقوط الشرق الدیکتاتور والغرب الرأسمالی، کما سقطت قبل ذلک الرومان، حیث قسمت الناس إلی الأشراف والعوام والعبید، وسقطت حکومات القرون الوسطی، حیث قسمت الناس إلی ملاک الأرض والعبید وسائر الناس، وکذلک سقطت الدولة الفارسیة لمثل ذلک.

ثم إن منشأ العبید فی الإسلام، غیر منشئه فی تلک الدولة، وقد ذکرنا فی (الفقه الاقتصاد) تفصیل ذلک.

أما وجه سقوط المنحرفة، فهو أن الإنسان حیث خلق نقی الفطرة، لابد وأن یمیز الانحراف عن الاستقامة، مهما تزود الانحراف بالمال والقوة والدعایة، وإذا میز الناس ذلک أخذوا فی هدم الانحراف

ص:186

إلی إسقاطه.

وإنما یطول أو یقصر زمان الانحراف تبعاً لعاملین:

1) عامل قوة کید المنحرف.

2) عامل ذکاء الذین یریدون إسقاطه.

وعلی أی، فالباطل ساقط، قال سبحانه: {لا یغرنک تقلب الذین کفروا فی البلاد متاع قلیل}((1)).

وقال (صلی الله علیه وآله): «تضایقی تنفرجی».

وورد: «للحق دولة، وللباطل جولة»((2)).

إلی غیر ذلک من الآیات والروایات واقوال الحکماء، بالإضافة إلی التجارب.

ولذا فمن الأجدر بالإنسان أن یمشی فی الطریق المستقیم، وقد سئل الامام (علیه السلام) ما الحیلة، فقال (علیه السلام): «فی ترک الحیلة».

ثم إن أول ما یوجب إسقاط المنحرف هو وعی الناس، ولذا یمارس المنحرفون سیاسة التجهیل، ویجعلون العقوبات الصارمة للوعاة والمرشدین، فمثلاً حکومة البلاد الشیوعیة تحظر العلم التوعوی، کما تحظر الحریات التی تنتهی إلی العلم، فیزعم کثیر من أهل تلک البلاد أنه لا شیء وراء الشیوعیة.

کما أن الرأسمالیین فی البلاد الغربیة یوهمون الناس أنهم فی نعیم، وأنه لیس وراء ما هم فیه تقدم ورفاه وحریة.

فالطبقیة المنحرفة أخذة بالأکظام فی کلا النظامین، وإن کانت الکیفیة فیهما مختلفة، ولذا نری أن أکثر الأولاد فی کلاالنظامین لا یتمکنون من التخلی عن حرفة آبائهم، حیث لیس المجتمع منفتحاً یتمکن کل إنسان فیه من تقریر مصیره بنفسه، کما نری فی کلا البلدین أن الزواج بین الرتب السفلی والعلیا شبه معدوم، وذلک لانحراف الثقافة، حیث جعلت الحواجز

ص:187


1- سورة آل عمران: الآیة 196.
2- الکافی: ج2 ص447.

النفسیة، ولا مخلص للشعوب من هذین النظامین إلاّ بالوعی والحریة.

تأثیر الرتبة فی الإنسان

تأثیر الرتبة فی الإنسان

الخامس: دور تأثیر الأمور السابقة فی حیاة الإنسان، فإن الرتبة علی قسمین:

أ: الرتبة عن استحقاق، النابعة عن المؤهلات الحقیقیة، کالعلم والمال المستحق والحاکمیة الانتخابیة وما أشبه، وهذه الرتبة لا توجب فساداً وتخریباً، بل بالعکس عدمها یوجب حرمان ذی الحق عن حقه.

ب: الرتبة لا عن استحقاق، کالموجودة فی النظام الرأسمالی أو الشیوعی، وهذه الرتبة توجب إسراف رتبة وحرمان رتبة.

وقد روی عن علی (علیه السلام) أنه قال: «ما رأیت نعمة موفورة إلاّ وإلی جانبها حق مضیع».

وهذا التفاوت المنحرف یوجب حرمان الرتبة النازلة عن کثیر من الأمور الحیویة، بینما لو کان الاختلاف مستقیماً، کان أفراد البشر سواءً أمام کل مؤهلات الحیاة.

ص:188

الطبقیة المنحرفة تؤثر فی الحیاة

اشارة

الطبقیة المنحرفة تؤثر فی الحیاة

(مسألة 20): الأمور الحیویة التی یحتاج إلیها کل إنسان، یلزم علی الدول والأفراد علی حد سواء توفیرها حتی لا تبقی حاجة ومحتاح، وقد ذم الإسلام الفقر، وأوصی بترفیع مستوی الفقراء حتی یصبحوا أغنیاء، ونظم برامجه، حیث لا یبقی فقر ولا فقیر، کما فصلناه فی کتاب (الفقه الاقتصاد).

قال علی (علیه السلام): «الفقر یخرس الفطن عن حجته، والمقل غریب فی بلدته»((1)).

وقال (علیه السلام): «الغنی فی الغربة وطن، والفقر فی الوطن غربة»((2)).

وقال (علیه السلام): «الفقر الموت الأکبر»((3)).

وقال (علیه السلام): «ینام الرجل علی الثکل، ولا ینام علی الحرب» ((4))، أی سلب المال.

وقال (علیه السلام): «إن الله فرض فی أموال الأغنیاء أقوات الفقراء، فما جاع فقیر إلاّ بما متع به غنی، والله تعالی سائلهم عن ذلک»((5)).

إلی غیرها من الروایات.

أما فی بلاد الطبقات المنحرفة کروسیا وأمریکا، فالدولة ورأس المال

ص:189


1- نهج البلاغة: قصار الح کم 3.
2- نهج البلاغة: قصار الح کم 56.
3- تحف العقول: ص153.
4- نهج البلاغة: قصار الح کم 307.
5- نهج البلاغة: قصار الح کم 328 .

یتعاونان لجعل الامتیازات لطبقة ؛لی حد الاتخام« وحرمان طبقة ؛لی حد الاحتیاج إلی أولیات الحیاة.

الفقر والحیاة

الفقر والحیاة

وبصورة عامة فالطبقیة المنحرفة، تعطی إمکانیات کثیرة لطبقة، مما تحرم طبقة أخری عن مثلها، وهی:

أ: امکان أن یحیی، فإن الفقیر لا یتمکن کثیراً ما من الزواج إما لأجل تکالیفه، أو لإجل إدامة المعیشة العائلیة، مما یوجب حرمان الأولاد الممکن حیاتهم لو تزوج عن رؤیة نور الحیاة، وإذا تزوج منع عن الولد إما بالاجهاض، أو بالحیلولة دون تولده خوفاً من الفقر، مثل ما کان فی الجاهلیة.

قال سبحانه: {ولا تقتلوا أولادکم من إملاق}((1)).

وفی آیة أخری: {خشیة إملاق}((2)).

وقال تعالی: {وإذا الموؤدة سئلت * بأی ذنب قتلت}((3)).

بینما لیس کذلک غیر مثل هذه الطبقة، حیث إن المتمکن والمرفه، أی الطبقة الوسطی والعلیا، لا یشکون من مثل ذلک.

أما قوله سبحانه: {نحن نرزقکم وإیاهم}((4))، وقوله: {إن یکونوا فقراء یغنهم الله}((5))، فذلک بصدد الرزق فی المنهاج المستقیم، فإنه لو کان المنهج مستقیماً

ص:190


1- سورة الأنعام: الآیة 151.
2- سورة الإسراء: الآیة 31.
3- سورة التکویر: الآیة 9.
4- سورة الأنعام: الآیة 151.
5- سورة النور: الآیة 32.

لا یبقی فقیر.

أما إذا نهبت الدولة والرأسمالیون الثروة، فالفقیر لا یعانی من عدم إرزاق الله تعالی، بل من نهب الظالمین حقه، ولذا تقدم فی کلام علی (علیه السلام): «فما جاع فقیر إلاّ بما متع به غنی»((1)).

ب: إمکان إدامة الحیاة، فإن الطبقة الفقیرة:

1) یموت أولادهم أکثر من غیرهم، لعدم تمکنهم من الغذاء والدواء للأولاد، وقد دلت التجارب أن فی بعض البلاد یبقی من أولاد الفقراء ما یقارب النصف فقط، بینما بقاء أولاد غیرهم أکثر من تسعین فی المائة.

2) یموت الفقیر، لعدم توفر وسائل الغذاء والدواء والراحة بنسبة کبیرة، بینما لیس کذلک موت غیره، والإحصاءات فی آسیا وإفریقیا بالنسبة إلیها فی البلاد الأوروبیة والیابان وأمریکا، دلت علی ذلک.

3) الفقراء تلتهمهم الحروب أکثر من الأغنیاء بنسبة کبیرة، لأن الفقراء غالباً لا یثقفون، ولا نفوذ لهم حتی یمنع نفوذهم عن الذهاب إلی الحرب، ولا مال لهم لإعطاء البدل، مستقیماً فیما کان للجندیة بدل، أو ملتویاً بالتخلص بالرشوة ونحوها.

4) الموت الناشئ من جهة الإجرام، فإن المجرم الفقیر ینطبق علیه القانون فیُقتل، أو یسجن مما یوجب مرضه وموته، أو یعذب مما یوجب موته، أما غیر الفقیر فیخلص نفسه من الموت المذکور بسبب ماله ونفوذه.

ص:191


1- نهج البلاغة: قصار الح کم 328.

الفقر والأخلاق الفاضلة

الفقر والأخلاق الفاضلة

ج) إمکان الأخلاق الفاضلة، فإن سوء الأخلاق ناشئ من المرض والفقر فی کثیر من الأحیان، والمرض ناشئ من الفقر أیضاً، والغنی وإن کان یبتلی بالکبر ونحوه، إلاّ أن توتر الأعصاب وضیق الصدر ونحوهما یعطی الأخلاق السیئة غالباً.

ولذا نری النزاعات وسوء الأخلاق فی العوائل الفقیرة، وانتهاء الأمر إلی الطلاق أکثر من غیرهم، والأمر بحاجة إلی إحصاءات دقیقة حتی تظهر النسبة الواقعیة بین الفقراء وغیرهم من الطبقتین المرفهة والمتوسطة.

الفقر والصحة

الفقر والصحة

د) إمکان حفظ الصحة، فإن الفقیر حیث لا یقدر علی الدواء من ناحیة، ولا من حفظ صحته من جهة عدم الوسائل من ناحیة أخری، وبالجملة لا علی الوقایة ولا علی العلاج، أکثر مرضاً وأدوم مرضاً من الغنی، وقد دلت الإحصاءات علی ذلک.

ثم من ناحیة ثانیة، الفقیر یبتلی بالأمراض العصبیة والنفسیة أکثر من غیره، حیث إن الفقر والبطالة والمنازعات وما أشبه تنتهی إلی أمثال هذه الأمراض، مما الغنی یأمن منها، وقد دلت إحصاءات مستشفیات الأعصاب ودور المجانین علی هذه الحقیقة.

والأغنیاء وإن کانت لهم أمراض خاصة بهم، أمثال ضغط الدم وتصلب الشرائین والتخمة والسکر ونحوها، إلاّ أن أمراض الفقراء أکثر وأدوم وأخطر.

ص:192

الفقر والسلام

الفقر والسلام

ه_) إمکان السلام، حیث إن الأغنیاء یحفظون أنفسهم عن الحرب ببذل المال، أما الفقراء فحیث لا مال لهم لابد لهم أن یلتجئوا إلی الحرب لحل مشکلاتهم، فإن الحل للمشکلة إما یکون من الطریق الدبلوماسیة، وإما من طرق الحرب، وحیث یفقد الأول لابد من الالتجاء إلی الثانی.

هذا بالإضافة إلی أن المستکبرین دائماً یحاربون المستضعفین لأجل السیطرة علیهم لاتخاذهم خولاً، وما بقی من ثرواتهم _ بالقوة _ دولاً، وحرب المستکبرین للمستضعفین إنما هو بواسطة مستضعفین آخرین، مما ینتج أن إمکانات السلام فی الفقراء أقل من إمکانات السلام فی غیرهم.

الفقر والعلم

الفقر والعلم

و) إمکان تحصیل العلم، وذلک لأن تحصیل العلم بحاجة إلی المال من جهة:

1: وسائل العلم من الکتب وأجرة المدرسة ونحوها.

2: إمکان النفقة علی النفس لیتفرغ الإنسان، إذ لو لم تکن له نفقة اضطر إلی الکسب، وکلا الأمرین موفران للغنی دون الفقیر.

ومنه یعلم أن الدول مهما وفرت المجانیة للمدارس، لم ینفع ذلک فی تساوی مجال الفقیر والغنی لطلب العلم، فإنه بعد التوفیر یبقی:

1: أمر النفقة.

2: بالإضافة إلی إمکان الغنی من التحقیق الأکثر بسبب ما یملک، بینما یحرم منه الفقیر، ولذا تجد فی کل المجتمعات أن الطبقة المثقفة أغلبهم من

ص:193

الأغنیاء، بینما أقلهم من الفقراء، وکلما کانت الثقافة أرفع، کانت نسبة الأغنیاء فیها أکثر.

الفقر والعمران

الفقر والعمران

ر) إمکان العمران، فإن العمران یستند إلی الأغنیاء دون الفقراء، فإن الفقیر مهما تعب لا یتمکن إلاّ بناء دار لنفسه، أما الأغنیاء فهم وحدهم القادرون علی تکثیر العمران، سواء بالبناء للدور وإیجاد البساتین أو غیر ذلک.

الفقر والحیاة النظیفة

الفقر والحیاة النظیفة

ح) إمکان العیش النظیف، فإن الفقر والحرمان والضغط الاجتماعی الوارد علی الفقیر، یوجب انحرافه وسقوطه فی الرذیلة، ولذا یکون أکثریة السجناء ونزلاء دور البغاء والمعطین للشذوذ الجنسی، وما أشبه من الفقراء.

لذا نجد التلازم فی الأذهان العرفیة بین اللص والغبی والولد الساقط ومن أشبههم، وبین أنهم فقراء لا یملکون المال لانتشال أنفسهم من حضیض الرذیلة، وقد تقدم أن الفاسد من الأغنیاء ینفلت عن العقاب، فلا یبتلی بالسجن ونحوه.

الفقر والقدرة

الفقر والقدرة

ط) وإمکان تحصیل القدرة والوصول إلی المناصب الرفیعة فی المجتمع یتوفر للأغنیاء ومن إلیهم من الطبقة المتوسطة أکثر مما یتوفر للفقراء، وذلک لأن المال یعطی للإنسان إمکانات لا یجدها غیر ذی المال، وتبعاً لهذا الإمکان

ص:194

یصل الأغنیاء إلی مناصب شامخة، أکثر من وصول غیرهم.

لا یقال: إنا نجد أن جملة کبیرة من فقهاء الشیعة وصلوا إلی المراتب السامیة بینما کانوا فقراء.

لأنه یقال: إن مبدأ إعطاء الحقوق جعلهم أغنیاء وإن عاشوا مدة من الزمن فقراء فی أوائل تحصیلهم للعلم، فبقاؤهم أیضاً تابع للمال الذی یتوفر لهم، فیتسنی له الاستمرار فی تحصیل المراتب العالیة والسیر إلی الدرجات الرفیعة.

أما إمکانیة إنقاذ ذی المال الفقراء والمرضی والملوثین ومن أشبه بماله دون غیر المال، فلم نجعله فی عداد ما تقدم، لأجل أنه یرتبط بشأن غیرهم، والکلام فی المقام فی شأن الطبقة الغنیة بالنسبة إلی الطبقة الفقیرة.

الاختلاف الفکری بین الفقراء والأغنیاء

الاختلاف الفکری بین الفقراء والأغنیاء

وأخیراً فإن نظرة کل من الفقیر والغنی تختلف إلی أمور فی الحیاة، وکذا سبک تعاملهما مع الحیاة، مثلاً:

1: نظرة الفقراء إلی المصلحین نظرة إنقاذ وهدایة، ولذا یلتفون حولهم، بینما نظرة الأثریاء والمترفین الطاغین نظرة هدم وتخریب، حیث إنهم یرون المصلحین یسببون لهم المشاکل وإنزالهم عن مقامهم وامتیازاتهم.

2: وحیث إن المال قلیل عند الفقیر، کان من الطبیعی أن یکون دقیقاً فی الصرف بخلاف الغنی.

3: ویربی الغنی أولاده وما یتعلق به بالنظافة والأدب، بینما الفقیر لیس له وقت ولا مال یفیان بمثل ذلک.

4: والفقیر یری لزوم تقویة طبقة العامل والفلاح ومن إلیهما، بینما یری

ص:195

الغنی المنحرف عکس ذلک، وذلک لتضارب مصلحة الطرفین فی طرفی الأمر.

5: والحریة التجاریة ینظر إلیها الغنی کأنها حقه الطبیعی، بینما لا شأن للفقیر بذلک، من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

6: والغنی المنحرف ینظر إلی کل شیء نظرة اکتساب وتجارة، فالمعنویات تضعف لدیه، لأن عقلیته طبعت علی المال والتجارة، بینما لیس الفقیر کذلک.

إلی غیر ذلک من أنظارهم المختلفة إلی جملة من شؤون الحیاة، حیث إن کل واحد منهما ینظر إلیها من زاویته الخاصة.

موقف الإسلام تجاه الفقراء

موقف الإسلام تجاه الفقراء

ولا یخفی أن الإسلام قرر منهجین لأجل الفقراء ومن إلیهم:

أ: منهج إغنائهم، لأن الإسلام کما یحرم الشیوعیة یحرم الرأسمالیة، فکلا النظامین یستغل أموال الناس، فی النظام الرأسمالی یستغله الرأسمالیون، وفی النظام الشیوعی تستغله الدولة التی تجمع بین المال والقوة، بل اللازم فی المال أن یکون لکل أحد حقه النابع من الأمور الخمسة السابقة الذکر.

ب: منهج أن من لا یتمکن من الغنی لیتم أو مرض أو ما أشبه، یلزم علی الدولة القیام بکل حوائجه، حقاً له علیها، لا استعطاءً وصدقةً وتبرعاً.

قال علی (علیه السلام) فی کتابه إلی مالک الأشتر (رحمه الله): «ثم الله الله الطبقة السفلی، من الذین لا حیلة لهم من المساکین والمحتاجین وأهل البؤسی والزمنی، فإن هذه الطبقة قانعاً ومعتراً» _ أی من یسأل ومن یری نفسه من غیر سؤال _ .

«واحفظ الله ما استحفظک من حقه فیهم، واجعل لهم قسماً من بیت المال، وقسماً من غلات صوافی الإسلام فی کل بلد، فإن للأقصی منهم مثل الذین للأدنی،

ص:196

وکل قد استرعیت حقه، فلا یشغلنک عنهم بطر، فإنک لا تعذر بتضییعک التافه لأحکامک الکثیر المهم».

«وتفقد أمور من لایصل إلیک منهم ممن تقتحمه العیون، وتحقره الرجال، ففرغ لأولئک ثقتک من أهل الخشیة والتواضع، فلیرفع إلیک أمورهم، ثم اعمل فیهم بالأعذار إلی الله یوم تلقاه، فإن هؤلاء من بین الرعیة أحوج إلی الإنصاف من غیرهم، وکل فأعذر إلی الله فی تأدیة حقه إلیه».

وتعهد أهل الیتیم، وذوی الرقة فی السن ممن لا حیلة له، ولا ینصب للمسألة نفسه، وذلک علی الولاة ثقیل، وقد یخففه الله علی أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم»((1)).

ثم حیث إن المال یتراکم من التجارة، الأعم من الزراعة والصناعة والاکتساب، وأن هذه هی التی إن عدلت اعتدلت الأمور، وإلاّ حدثت الطبقیة المنحرفة، فاللازم أن یجتمع فیها بین الحریة الصحیحة، والتقید المعقول، وقد جمعهما الإمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام) فی عهده إلی الأشتر، فقال (علیه السلام):

(ثم استوص بالتجار وذوی الصناعات وأوص بهم خیراً، المقیم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجلاّبها من المباعد والمطارح، فی برک وبحرک وسهلک وجبلک، وحیث لا یلتم الناس لمواضعها، ولا یجترئون علیها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشی غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتک وفی حواشی بلادک».

«وأعلم مع ذلک أن فی کثیر منهم ضیقاً فاحشاً، وشحاً قبیحاً، واحتکاراً

ص:197


1- نهج البلاغة: الکتب 53.

للمنافع وتحکماً فی البیاعات، وذلک باب مضرة للعامة، وعیب علی الولاة، فامنع من الاحتکار، فإن رسول الله (صلی الله علیه وآله) منع منه، ولیکن البیع بیعاً سمحاً بموازین عدل، وأسعار لا تجحف بالفریقین، من البائع والمبتاع، فمن قارف حکرة بعد نهیک إیاه، فنکل به وعاقبه فی غیر إسراف»((1)).

ص:198


1- نهج البلاغة: ال کتب 53.

عوامل تکوین الشخصیة

اشارة

موقف الإسلام تجاه الفقراء

(مسألة 21): معرفة شخصیة الإنسان _ الشخصیة بالاصطلاح الاجتماعی _ توجب تهیئة الظروف التی تسبب استقامة الشخصیة، أو لا أقل من التقلیل عن الشخصیات المنحرفة، وعن انحرافات الشخصیة المنحرفة.

ثم إن الشخصیة تتکون من:

1: الفطرة، حیث إنها الأرضیة المفطورة بحیث لا یمکن تغییرها کلیاً، وإنما الممکن أن یزرع فیها الزرع المختلف.

2: الوراثة.

3: المحیط الطبیعی.

4: المحیط الاجتماعی.

5: الثقافة.

الفطرة والشخصیة

الفطرة والشخصیة

1) أما الفطرة، فقد قال سبحانه: {فطرة الله التی فطر الناس علیها}((1))، فإن الإنسان یخلق وله فطرة خاصة، قابلة للتغییر فی حدود مخصوصة، بینما أخواه الآخران الحیوان والنبات لیس لهما إلاّ تغیر قلیل جداً، فالحیوان لیس

ص:199


1- سورة الروم: الآیة 30.

له ذلک المجال الواسع للتقلب، وإنما له غزائز یسیر الحیوان من أول عمره إلی آخره علی تلک الغرائز، ولا اختلاف بین أفراده طیلة ملایین السنوات، وإن احتمل بعض العلماء إمکان التطویر فی الحیوان أیضاً.

والنبات أقل تطوراً، وإن کان فیه بعض التطور أیضاً، حیث إن شجرة التفاح مثلاً تختلف عن أمها فی بعض الکیفیة والخصوصیات، وفی بعض خصوصیات الثمر، بل قابلة للتحسین، أو الترک حتی تکون أسوأ.

والإنسان وحده دائرة تطوره کبیرة جداً، یبتدئ بالمشی علی قدمه، وینتهی إلی ارتیاد الفضاء، وهذا لابد وأن یکون له أرضیة قابلة لمثل هذا التجول علیها بهذا الدائرة الوسعیة، وحدود هذه الأرضیة وان لم تکن معلومة لنا، إلاّ أنها وسیعة فی الدنیا والآخرة جداً.

قال سبحانه: {لترکبن طبقاً عن طبق}((1)).

وقد قال بعض الحکماء: ثم أصعد عن الملائکة وأصل إلی ما لا یناله الوهم.

وفی الحدیث عن الآخرة إنه ینال الإنسان «فیها ما لا عین رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر علی قلب بشر»((2)).

والإنسان یخلق فطرة مختلفاً، ف_ «الناس معادن کمعادن الذهب والفضة»((3)).

الوراثة والشخصیة

الوراثة والشخصیة

2) وبعد ذلک یأتی دور الوراثة، ففی الحدیث: (الولد سر أبیه)، وقد

ص:200


1- سورة الانشقاق: الآیة 19.
2- غوالی الل ئالی : ج4 ص101 ح148.
3- روضة الکافی: ج8 ص177.

ثبت فی علم الوراثة ذلک، وإن الابن یحمل معه بعض ملامح الأب وبعض ملامح الأم، وهذا جار فی ملامحه الجسدیة وملامحه النفسیة، فکان نفسیاته الفطریة تؤطر بنفسیاته الوراثیة.

وهاتان: الفطرة والوراثة، لا توجبان الإلجاء، بل الاقتضاء، حالهما حال الأدویة حیث إنها اقتضائیات لا أنها توجب الآثار قطعاً، والفطرة والوراثة تبقیان مع الإنسان من أول عمره إلی یوم مماته.

دور المحیط الطبیعی فی تکوین الشخصیة

دور المحیط الطبیعی فی تکوین الشخصیة

3) وبعدهما یأتی دور المحیط الطبیعی، فإن للمناخ المحتوی علی کیفیة خاصة من الحرارة والبرودة، والرطوبة والیبوسة، تأثیراً علی الإنسان لا یمکن إنکاره، ولذا کان أهالی البلاد المعتدلة أکثر اعتدالاً من أهالی البلاد الحارة، حیث تغلب علیهم الیبوسة، ومن أهالی البلاد الباردة، حیث تغلب علیهم الرطوبة، وکل من الرطوبة والیبوسة لها آثارها فی النفس، کما لها آثارها فی الجسد.

بل للبلاد الجبلیة، والسفحیة، وسواحل البحر، وبلاد الأشجار والأنهار، تأثیرات کبیرة فی الصفات والمزایا، ولذا اعتادوا من القدیم وصف أهالی البلدان بالصفات المختلفة مما یری علماء النفس والاجتماع والوراثة ما لتلک البلاد من التأثیر فی تکوین شخصیة أهالیها.

وکان تقسیم أرسطو الأمزجة إلی الدمویة والبلغمیة والصفراویة والسوداویة مستقی من ذلک، هذا فی الجملة، لا أن کل التأثیر للبلد والمناخ.

وإذا کان لأنواع الأطعمة التأثیر فی الاخلاق _ لا أقل العابرة منها _ کان للمناخ التأثیر أیضاً، إن قل أو کثر.

ص:201

تأثیر المحیط الاجتماعی

تأثیر المحیط الاجتماعی

4) أما المحیط الاجتماعی وما یتلقاه الإنسان من مجتمعه، فلا یخفی تأثیره فی تکوین شخصیته، فإن الإنسان یولد فی کمال العجز، ویبقی عاجزاً إلی حین مماته، ویکمل عجزه من محیطه الاجتماعی، کما یکمل بعض عجزه من محیطه الطبیعی.

وکما یأخذ حاجاته عن الاجتماع کذلک یأخذ صفاته وأخلاقه عن الاجتماع، ویؤطر نفسه بإطار الاجتماع، فیلاحظ کیف أنه یتمکن أن یعیش فی وسط ذلک الاجتماع، ویأخذ منه حاجاته الجسدیة والنفسیة، فیلاحظ الفعل ورد الفعل ویؤطر نفسه بتلک الشبکة المنسوجة حوله.

والفطرة والوراثة والمحیط الطبیعی، تنسحب أمام المحیط الاجتماعی بقدر ممکن من الانسحاب، ولذا نجد حتی المرضی ونحوهم إذا وقعوا فی الضغط الاجتماعی، ساروا کما یریده الاجتماع حسب الممکن.

الثقافة صانعة الإنسان

الثقافة صانعة الإنسان

5) وأخیراً یأتی دور الثقافة، فالإنسان یتمکن أن یخزن ثقافته التی استفادها بأی طریق کان، فی الکتب ونحوها، وکل جیل متأخر یتعلم من الجیل المتقدم لا تجاربه فحسب، بل ما اختزنه فی الکتب، حتی یأتی دور جیل _ کجیلنا المعاصر _ تجمعت لدیه ملیارات العلوم والتجارب المتراکمة منذ الأجیال السابقة.

وهذه الثقافة التی تلون الاجتماع تحتوش الإنسان من کل مکان، وتؤثر فیه وتؤطره بإطارها، وحتی الذین یفرون من الاجتماع إلی الکهوف والصوامع قد لونوا بلون اجتماع ما، ویحملون معهم ذلک اللون إلی هناک، کما یحملون معهم لغة

ص:202

اجتماعهم وذکریاته، نعم إذا ربی الطفل بین الحیوانات لا یتلون بلون الاجتماع.

وهذا الاجتماع الذی یحتوش الإنسان یعطی للإنسان هیئة اجتماعیة، فیعیش الإنسان فی شبکته، ویتغیر حسب تغیره، ویبتدئ احتواء الاجتماع للإنسان من أول أیام حیاته، ولذا تجد الطفل من أوائل أیامه یأخذ فی ملاحظة الاجتماع والتعلم منه، والأنس به وطلب الحوائج إلیه.

ولذا قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «اطلب العلم من المهد إلی اللحد».

وقد ثبت فی العلم أن مخ الطفل کالشریط یأخذ ما یلاقیه، ثم یختزن ذلک فی لا وعیه، ویرشح بعدئذ ذلک المخزون من أفکاره وأعماله، والمیت یفهم وهو فی لحده، ولذا یلقن فی القبر، کما ورد فی الشرع.

ثم الإنسان لا یتعلم حاجاته الأولیة وأصول معاشرته من الاجتماع فقط، بل یتعلم الحاجات الثانویة مما یحتاج إلیه فی معاشرته الاجتماعیة أیضاً، کالآداب والرسوم والتقالید والعادات الاجتماعیة وهی حاجات اجتماعیة لا أولیة، فإن الحاجات الأولیة هی المأکل والمشرب والمسکن ونحوها.

ویبدأ الاحتواء الاجتماعی من العائلة، ثم المدرسة، وإلی الاجتماع الکبیر، بل وإلی الاجتماع الأکبر، بسبب الإذاعات والأسفار ونحوها، ولذا قالوا: (من لم یؤدبه الأبوان أدبه الزمان)، حیث إن الإنسان إذا لم یتطور حسب التطور الاجتماعی ولم ینفعه نصح العائلة، اصطدم بموازین الاجتماع مما یصفع بسببه.

والثقافة بضمیمة الأمور الأربعة السابقة، تعطی الإنسان فرداً أو جماعة الشخصیة، فیقال شخصیة فلان، أو شخصیة البلد الفلانی، وهکذا.

ص:203

الثقافة والحریة

الثقافة والحریة

ودور الثقافة من أهم الأدوار فی حیاة الإنسان، حتی أن بعض علماء الاجتماع نسب تکون شخصیة الإنسان إلی الثقافة فقط، دون الأربعة المتقدمة، فبالثقافة الصحیحة تتوفر أجواء الحریة، والتی بدورها تؤثر فی المزید من الثقافة وتوسیع کل أبعاد الإنسان.

ولا أدل علی ذلک من المسلمین، فإن الدنیا کانت مغلقة قبلهم طوال الألوف من السنوات حتی إذا جاء الإسلام وهیأ أجواء الثقافة بإعطائه الحریات وتشویقه إلی العلم، وحصل عند المسلمین:

1: حس البحث والتنقیب.

2: وشجاعة إبداء الآراء والنقد.

ملؤوا الدنیا علماً ونوراً، وأعطوا للإنسان دفعة تقدمیة لیست الصناعة الحاضرة إلاّ بعض ثمارها.

قال (علیه السلام): «فی التجارب علم مستأنف»((1)).

وقال (علیه السلام): «العقل عقلان، عقل الطبع، وعقل التجربة»((2)).

وقال (علیه السلام): «رأی الرجل علی قدر تجربته»((3)).

وقال (علیه السلام): «الظفر بالحزم، والحزم بالتجارب»((4)).

وقال (علیه السلام): «العقل حفظ التجارب»((5)).

ص:204


1- فروع الکافی: ج8 ص22.
2- بحار الأنوار : ج75 ص6 ح58، عن مطالب السؤول ص49.
3- غرر الحکم: ص287 ح5509.
4- نهج البلاغة: قصار الحکم 48.
5- نهج البلاغة: ال کتب 31.

وقال (علیه السلام): «فإن الشقی من حرم نفع ما أوتی من العقل والتجربة»((1)).

المسلمون والنبوغ العلمی

المسلمون والنبوغ العلمی

وقد نبغ فی المسلمین علماء کثیرون، إحصاؤهم یحتاج إلی مجلدات، بل قدر بعض العلماء المعاصرین عدد علماء وفضلاء خراسان منذ أول ظهور الإسلام إلی الیوم، فکانوا أربعة وعشرین ألفاً، ونحن إلماعاً إلی المطلب نعد أسامی جملة من العلماء الکبار فی مختلف العلوم، من غیر نظر إلی اتجاهات بعضهم المذهبیة.

­­1: ففی الاعتقادات والفقه والأصول والأخلاق والتفسیر والحدیث منذ ألف سنة نبغ: المفید، والمرتضی، والرضی، والشیخ، وابن البراج، وابن إدریس، والعمانی، والإسکافی، والکلینی، والصدوق، وعلی بن إبراهیم، والمحقق، والعلامة، وولده، والشهیدان، والمحقق الثانی، والطبرسی، والفیض، والبهائی، والمجلسیان، والمقدس الأردبیلی، وصاحبا المعالم والمدارک، ونصیر الدین طوسی، والوحید، وبحر العلوم، وصاحبا الحدائق والجواهر، وکاشف الغطاء، والنراقیان، والمحقق القمی، والشیخ، والشیرازیان، والآخوند، والطباطبائی، وشرف الدین، والعاملی، وغیرهم کثیرون.

2: وفی الاقتصاد: أبو یوسف یعقوب بن إبراهیم، وأبو عبیدة القاسم بن سلام، وابن یحیی الدمشقی، وعبد الرحمان بن خلدون.

3: وفی الأدب والشعر والبلاغة: الدؤلی، والفرزدق، والکسائی، وسیبویه، وابن مالک، ودعبل، وأبو نؤاس، والمتنبی، والرضی، ومهیار، والکمیت، وأبو

ص:205


1- نهج البلاغة: ال کتب 78.

فراس، والحلی، والفردوسی، والنظامی، والجامی، وناصر خسرو، والأزری، والسعدی، والحافظ، والقزوینی، والتفتازانی.

4: وفی الفلسفة والکلام والمنطق والحکمة: الفارابی، وابن سینا، وبهمینار، وابن طفیل، وابن مسکویه، وابن رشد، والکندی، والرازی، والمیبدی، والطوسی، والغزالی، والمولوی، وصدر المتألهین، والداماد، والسهروردی، والفیض، والفیاض، والمولی عبد الله.

5: وفی علم الفلک: أبو الحسن الأهوازی، وأبوالوفاء البوزجانی، والفرغانی، والبیرونی، وخالد، والمروزی، وعلی الطبری، ویحیی بن أبی منصور، وسند بن علی، وعلی الأسطرلابی، والحاسب، والشیخ البهائی، والماهانی، وأبو عثمان الحانی، والدینوری.

6: وفی علم البیئة: الجاحظ، وعماد الدین الکاتب.

7: وفی علم البحر: سهل بن أبان، وأحمد بن ماجد، ومحمد بن شاذان، وابن کحلان.

8: وفی علم النبات: أحمد الدینوری، وابن بیطار الحالقی، وابن سیدة، ومنصور بن فضل السوری، وأبو العباس النباتی، وعبد الله بن صالح، ومحمد بن علی بن سفر، وابن الأوان الإشبیلی، والإدریسی، وابن العوام.

9: وفی علم التاریخ: سلیم بن قیس، والثقفی، والواقدی، ونصر بن مزاحم، وابن العماد، وابن الأثیر، والطبری، والمسعودی، والیعقوبی، والبیرونی، والخزرجی، والقفطی، والشهرستانی، والسمعانی، وابن خلکان، وابن واصل، والدینوری، والمقریزی، وأبو الفداء، وابن عساکر، والجوینی، وأبو مخنف، والأزدی، والذهبی، والأصفهانی، والبلاذری، والمحدث القمی.

ص:206

10: وفی علم الریاضیات: أبو الحسن بن المنجم، والنسوی، وموسی الخوارزمی، ومحمد بن جابر، والخیامی، والمحقق الطوسی، وثابت بن قرة، وابن هیثم، وأبو کامل، وابن مطر، وابن الطاهر البغدادی، وابن یعقوب الدمشقی، ومحمود الأصفهانی، وابن لیث، والحاسب الکرخی، وابن عبد الباقی البغدادی، وغیرهم کثیرون.

11: وفی علم المیکانیک والفیزیاء: منصور الخازنی، وحسن بن هیثم البصری، وأحمد بن مسکویه، ومحمود بن المصلح، وحسن السمناتی، وکمال الدین الفارسی، وعمید الدولة، والدمشقی الجویری، ومحمد بن السماوی.

12: وفی علم الکیمیاء: جابر بن حیان، والرازی، والتمیمی، والخوارزمی، وأحمد الکلدانی، والبونی، والمالقی.

13: وفی علوم الطب والتشریح ومعرفة الأجنة والصیدلة: ابن سیناء، وابن نفیس، وابن زهر، والرازی، وعلی الطبری، وأبو الحسن الطبری، والأهوازی، والخزاز، وحسن بن نوح، والهروی، والمقدسی، وأبو القاسم الموصلی، والمصری، والعراقی، وغیرهم کثیرون.

14: وفی علم الجغرافیا: الخوارزمی، وسلیمان، وخرداد به، والسیرافی، والسرخسی، والکلبی، والهمدانی، والشیزری، والبلخی، والمسعودی، وابن فضلان، والبغدادی، وابن الحائک، والخزرجی، وابن حوقل، والمقدسی، والقبادیانی، والبکری، والاصطخری، والغردیزی، والوزان، والحموی، والکبری، والصقلی، والمازنی، والکنانی.

15: وفی علم المعدن: عطارد الحاسب، والبیرونی، والذهبی الکاملی، ونصیر الدین الطوسی، والقاسانی، والقبجقی، وعربشاه، وابن منصور.

ص:207

16: وفی العلوم العسکریة: حسن الرماح، والأوسی.

17: ومن المترجمین: الفزاری، والأهوازی، وثابت بن قرة، والمقدسی، والحمصی، والرهاوی، وأولاد موسی بن شاکر الثلاثة، وحبش بن الحسن، وأبو الفرج، والهارونی، وابن نوبخت.

18: ومن الذین ألفوا دائرة المعارف: الأبرشی، والخوارزمی الکاتب، وجمال الدین القزوینی، وأبو یحیی القزوینی، والجرجانی، والقلقشندی، والسکالی.

إلی غیر ذلک، مما تزخر به التراجم والفهارس والکتب المعدة لذلک، وقد جمع مکتبة بعض قضاة صاحب بن العباد ملیوناً وخمسین ألف کتاب، وجمع مکتبة العزیز الفاطمی فی القاهرة ملیونا وستمائة ألف کتاب، کان سته آلاف وخمسمائة منها فی الریاضیات، وثمانیة عشر ألف منها فی الفلسفة، إلی غیر ذلک من الأرقام الکبیرة لمکتبات الأفراد وأعضاء الدولة.

العلم فی خدمة الإنسان

العلم فی خدمة الإنسان

وفی القرآن الحکیم وأقوال النبی (صلی الله علیه وآله) والأئمة (علیهم السلام)، یجد الإنسان منطلق الحرکة الإسلامیة فی أبعاد العلم والثقافة، ولذا نجد علماء المسلمین فی أوائل وأواخر کتبهم یذکرون لطف الله بهم فی أن وقفهم لارتیاد العلم وجوب آفاق المعرفة.

وکان هذا التوجه إلی الله هو السبب فی أن المسلمین لم یسخروا علمهم لضرر الناس، بل لنفعهم، فلم یستعمروا البلاد، ولم یکبتوا الحریات، ولم یصنعوا الأشیاء الضارة، وکانوا دائماً بین طرفی نقیض مع السلطات الجائرة، وکان کثیر منهم یُضطهدون من أجل ذلک، لا من الفقهاء وأهل الحدیث فحسب،

ص:208

بل وحتی أمثال جابر بن حیان الذی اختفی من جور السلطان حتی مات فی مخبئه، ونصیر الدین الذی سجن سنوات کثیرة.

بینما نجد الحضارة الحدیثة، حیث خلت عن الإیمان بالله، صار العلم فی خدمة الظلم والاستعمار، فمن مئات الملایین من الناس الذین یجوعون، إلی عشرات الملایین من الأطفال الذین یموتون جوعاً ومرضاً، إلی البلاد المستعمرة بکاملها، إلی الشعوب ذات مئات الملایین الذین یخنقون، إلی أدوات الفتک الهائلة، إلی أدوات التعذیب القاسیة، إلی غیرها.

وبالجملة العلم حیث تخلی عن الله، صار فی خدمة الظلم والظالمین، وآلة الفناء والدمار.

أما کیف یمکن نجاة العلم من الانحراف، فذلک بمزجه بالخوف من الله، وبذلک ینجو الإنسان عن سیطرة رأس المال والدیکتاتوریة، وإذا نجی الإنسان من ذین، صار العلم آخذاً بالزمام، لا أن یکون مقوداً للأهواء والشهوات، ولذا قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «أول العلم معرفة الجبار، وآخر العلم تفویض الأمر إلیه»((1)).

وفی حدیث آخر: «لیس العلم بکثرة التعلم، وإنما هو نور یقذفه الله فی قلب من یشاء».

بل وقبل ذلک قال سبحانه: {إنما یخشی اللهَ من عباده العلماءُ}((2)).

فالعالم ذو الخشیة یستحیل أن یسخر علمه لضرر الناس، کما أن العلم بدون

ص:209


1- بحار الأنوار: ج1 ص225.
2- سورة فاطر: الآیة 28.

معرفة الجبار، والذی لا ینتهی إلی التفویض إلیه _ بأن یعرف أن کل الأمور صائرة إلیه تعالی، کما قال سبحانه: {ألا إلی الله تصیر الأمور}((1)) _ لیس بعلم، کما أنه لیس بنور، إذ النور ینیر لا أنه یظلم، وینجی لا أنه یدمر.

ص:210


1- سورة الشوری: الآیة 53.

کیف تتکون الشخصیة؟

اشارة

کیف تتکون الشخصیة؟

(مسألة 22): الشخصیة هی (أنا)، وهل هی تتکون، کما قال بذلک جمع من علماء الاجتماع، أم هی شیء یولد مع الإنسان وإنما ینمو، کما قال به آخرون، وهل هو شیء واحد، أو اثنان، أو ثلاثة، کما قال بکل ذلک جمع، احتمالات.

وفی الحدیث: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»((1))، قال جماعة فیه: إنه کنایة عن أن الإنسان یستحیل أن یعرف نفسه، کما یستحیل أن یعرف ربه، وقال آخرون: إن المراد به أن الإنسان إذا التفت إلی نفسه وأنها مخلوقة جاهلة عاجزة و... عرف أن لها خالقاً عالماً قادراً و...

والقائلون بأن (أنا) لا یولد، بل یتکون، قالوا: بأن (أنا) عبارة عن جملة من أعمال الفعل وردود الفعل التی یکتسبها الإنسان فی مسیره الطویل من الأسابیع الأولی من الولادة إلی آخر عمره، حیث إن (انا) أی (الشخصیة) لا یولد، وإنما بالتدریج یعرف الطفل أنه غیر إنسان آخر، ثم تتبلور هذه الشخصیة بملاحظة:

1) عمل الناس تجاه الإنسان.

2) وعمل الإنسان تجاه نفسه أو تجاه الآخرین.

وتصورات الإنسان عن نفسه وعن الآخرین أول ما یشعر مبهمة غایة الإبهام، ثم تأخذ فی الوضوح،

ص:211


1- بحار الأنوار: ج2 ص32.

والوضوح الأکثر، حتی تصل إلی درجة الکمال، حیث لیس فوقه کمال، لکن الکنه یبقی مجهولاً علی کل حال.

ولذا قال أحد العلماء: إن معرفة کنه الأشیاء من أشکل المشکلات، وقال آخر: إنه مستحیل، ثم أردف: إنا قد علمنا بعد درکنا لکل فنون العلوم: أنه لم نعلم شیئاً.

لکن هذا القول لم یتم علیه دلیل، إذ الظهور تابع للواقع، کما قالوا بذلک فی الحرکة الجوهریة، وأن ظهور الحرکة دلیل علی واقع الحرکة فی الجوهر.

أما من قال بأن فی الإنسان (أنا) و(أنا)، استدل بما یجده الشخص، من نازع ینزع فیه إلی الخیر وینهی عن الشر، ونازع بالعکس، إذا الواحد لا یصدر منه إلاّ الواحد.

ومن قال ب_ (أنا) ثالث، استدل بما یشاهد من حکم ثالث بین النفرین (أنا وأنا).

لکن دلیل کلا الرأیین لیس مقنعاً، وفی القرآن الحکیم: {ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها}((1)).

وفی الحدیث: «إن فی قلب الإنسان لمتین، لمة من الملک، وأخری من الشیطان»((2)).

وفی حدیث آخر تفصیل وجود جنود العقل وجنود الجهل((3)).

وکیف کان، فالمهم التکلم عن (الشخصیة) مما یجدها کل إنسان، وهو مهم علم الاجتماع.

تکون شخصیة الطفل

تکون شخصیة الطفل

إن الطفل یلاحظ الأشیاء حوله بحواسه الخمسة، سواء ما تفعل الطبیعة

ص:212


1- سورة الشمس: الآیة 7.
2- الوسائل: ج11 ص336.
3- للتفصیل انظر بحار الأنوار: ج1 ص158.

أو الحیوان أو الإنسان، سواء بالنسبة إلی الطفل، أو إلی بعضهم البعض، کما یلاحظ ردود الفعل لأعماله بالنسبة إلی الطبیعة أو الحیوان والإنسان:

1) فمثلاً یری الشمس والماء والشجر والمروحة والمصباح، وینصدم بالهواء والحرارة، ویسمع الأصوات الطبیعیة والحیوانیة والإنسانیة.

2) ویری معاملة بعض أفراد الحیوان للبعض الآخر، کالحیوانات الداجنة، وبعض أفراد الإنسان لبعض فی التکلم والتعارف والمصارعة ونحوها.

3) کما یری أنه إذا فعل فعلاً صار رد الفعل کذا، مثلاً إذا ذهب إلی النار احترق، أو إلی السلّم سقط، أو إذا بکی حملوه أو أطعموه، وهکذا، ثم إنه یأخذ کل شیء لیراه جیداً، ویدخله فی فمه لیعرف مذاقه، وهکذا.

فإذا عرف الأشیاء یدخل تدریجاً فی عالم الأفکار، أی یعرف ما وراء الأشیاء، مثلاً أولاً یری الکبریت، ثم بعد ذلک یشعر بأنه إذا قدح شبت منه النار، ویری الدینار ثم یعرف أنه ذو قیمة، وهکذا.

وبکل ذلک تنمو شخصیته، ولذا کانت الشخصیة رهینة الأفعال وردود الأفعال المحیطة به، فإذا حقروا الطفل نشأ محقراً ذا عقدة، وإذا عظموه نشأ کبیراً سمحاً، وقد رأی رسول الله (صلی الله علیه وآله) الحسن (علیه السلام) فقال: «هذا سید ابن سید»((1)).

وهکذا بالنسبة إلی الکرم والبخل، والشجاعة والجبن، واللطف والخشونة، والنظافة والوساخة، والأدب وسوء الأدب، وغیرها، فإن الملکات کالبذور تبذر فی النفس، ویعتنی بها فتنمو من جنس ذلک البذر الذی بذر فیها.

وبالجملة فالشبکات الاجتماعیة الهائلة تأخذ شیئاً فشیئاً تحیط بالطفل فعلاً وردّ فعل، وفی وسط تلک الشبکات تنمو ملکاته.

ص:213


1- بحار الأنوار: ج43 ص295.

بین الضمیر والمجتمع

بین الضمیر والمجتمع

وحیث إن فی الإنسان حالة حکیمة داخلیة مما یسمی برؤیة الحسن والقبح، وحیث إن الاجتماع ولید ضغوط ونتائج حاصلة من تلک الضغوط، بالأهم والمهم، والماضی والحال والمستقبل، فمیراث الماضی حیث یأخذ القدسیة والعادة، ومصالح الحاضر، والاستعداد للمستقبل، وفی کل هذه الثلاثة الأهم والمهم، یخلی المهم مکانه للأهم، کما أن الأهم من الماضی یزاحم المهم فی الحاضر، والأهم المستقبلی یزاحم المهم فی الماضی والحاضر.

أقول: حیث کل ذلک، تتکون عند الشخص شخصیتان:

1) شخصیة ضمیره.

2) شخصیة اجتماعه.

فإذا خلی ونفسه أو بأفراد عرفه الخاص، الذین أطرت شخصیاتهم شبیهة بالآخر، أظهر ضمیره وتکلم وعمل بکل حریة.

أما إذا کان مع الاجتماع اضطر إلی أن یتنازل إلی شبکة الاجتماع حذراً من أن یفقد مصالحه، وهذا لیس نفاقاً، بل من باب ترجیح الأهم علی المهم، وهی قاعدة عقلیة.

وهذا هو الفارق بین النفاق والمداراة، فالأول انتهازیة ووصولیة ونفعیة، والثانی أهم ومهم، ومصلحة واحترام الآخرین.

وقد ذم الله سبحانه الأول، قال: {ودوا لو تدهن فیدهنون}((1))، وغیرها من الآیات.

ومدح الثانی، قال: {لتعارفوا}((2))، وغیرها من الآیات.

ص:214


1- سورة القلم: الآیة 9.
2- سورة الحجرات: الآیة 13.

وبالسبب السابق ضمیر الشخص واجتماعه، بالإضافة إلی المیول والشهوات الداخلیة والضغوط الخارجیة الأحیانیة، یتراوح الشخص فی أفکاره وأعماله، فربما صار مؤمناً، وربما منافقاً، وربما کافراً، وکذلک ربما صحیح الفکر أو العمل، وربما فاسدهما، ولذا کانت الشخصیة کثیراً ما متأرجحة بین عوامل أربع:

1: ضمیره المنعقد علی حسن الحسن، وقبح القبیح.

2: شهواته ومیوله الطاغیة.

3: عرفه الخاص، کحزبه وجمعیته.

4: عرف الاجتماع العام، حیث تختلف موازینه عن موازین العرف الخاص غالباً.

ومما تقدم ظهر أن الشخصیة لیس محض انعکاس للمحیط الاجتماعی، بل أمر مزیج من الذاتیة والانعکاسات الاجتماعیة وأمور أخر، فإن کل هذه الأمور دخیلة فی تکوین الشخصیة، أما من یراها صرف الانعکاس للمیحط الاجتماعی، ولذا یری أنه لو تغیر المحیط الاجتماعی تغیرت الشخصیة، فالدلیل علی خلافه، فإنه لو کان الأمر کذلک، لماذا کانت الازدواجیة بین الضمیر والخارج، ولماذا یتغیر الاجتماع تدریجاً، إلی غیر ذلک.

مراحل تدرج الطفل

مراحل تدرج الطفل

ثم إن الطفل فی تقدم شخصیته یتدرج فی مراحل ابتدائیة أربع:

1: مرحلة التقلید للناس، حیث یعمل کما یعملون، کأن یصلی مع أبیه وأمه وغیرهما، أو یأخذ اللقمة کما یأخذون، أو یتنحنح مثلهم، إلی غیر ذلک.

ص:215

2: مرحلة جعل نفسه مکانهم، والنظر إلی نفسه کما هم ینظرون إلیه، مثلاً یمثل نفسه بالأم ویلاطف مع نفسه، أو مع آلة لعب صورت فی صورة الطفل، وبالأب ویأتی إلی نفسه بالفواکه، أو یهز نفسه کأن الأب أخذ یهزه، وشبه ذلک.

3: مرحلة اللعب الجماعی، حیث تنتهی مرحلة اللعب الفردی، وإنما یلعب فی شبکة من الارتباطات، حیث یراقب دوره فی اللعب، ویلاحظ فشل ونجاح زملائه، ویکون حکماً فی أن أیاً منهم خالف الدور، أو زور فی اللعب، أو ما أشبه ذلک.

4: وأخیراً یصل إلی مرتبة یأخذ تدریجاً فی الخروج عن مرحلة الطفولة، ویتکون فی نفسه هدف فی الحیاة، ویرفع بنفسه عن الألعاب الطفولیة، ویکون الزمان بنظره أبطأ، فإن الزمان _ کما قرر فی محله _ یختلف مروره بالنسبة إلی الأشخاص، فمن فی لذة یری تقضی الزمان بالنسبة إلیه سریعاً، بینما من فی الألم یری الساعة عشر ساعات مثلاً، والمنتظر للصدیق الحمیم یری بطء الزمان، بینما من ینتظر مکروهاً یری سرعته، وهکذا، حتی قال بعض العلماء: إن الزمان محله فی ذهن الإنسان لا فی الخارج، وکلما قرب الإنسان إلی الطفولة یری بطء الزمان، فالساعة عند الطفل کنصف ساعة عند المراهق، بینما هو ربع ساعة عند الشاب، وهکذا.

تصورات الإنسان عن نفسه

تصورات الإنسان عن نفسه

وحیث یتکون فی نفس الطفل الذی أخذ فی الکبر هدف ما، یقارن ذلک أنه یأخذ فی تقییم نفسه، وفی هذه المرحلة والتی تبقی إلی آخر العمر یلاحظ أموراً:

ص:216

1: تصوره عن نفسه، وأنه کیف هو، فإن الإنسان یزن نفسه عند نفسه، هل له وزن أم لا، وکم وزنه، وکیف وزنه، وما هی مرتبته فی الاجتماع، إلی غیر ذلک.

2: تصوره أنه کیف یکون عند الناس، هل له وزن أم لا، وکم وزنه، وکیف، وهکذا، فیجعل نفسه مکان الآخرین وینظر إلی نفسه من منظارهم، وإذا کان یحیط به عرفان، عرف عام وعرف خاص، کما إذا کان فی منظمة أو حزب أو جمعیة أو ما أشبه، یلاحظ أنه کیف عند هؤلاء، وکیف عند هؤلاء، وهکذا.

وغالباً یعدل الإنسان طریقته إلی ما یراه یوجب ارتفاعه عند العرفین، وإذا کان تعارض بین العرفین، فغالباً یقدم عرفه الخاص، لأنه أقوی صلة ورابطة به، ولذا یشاهد أنه یتحمل مشاکل هذا العرف ضد العرف العام، وقلیل هم الذین یخرقون عرفهم الخاص لیلحقوا برکب العرف العام.

ولأجل التناقض بین العرفین، وأن العرف الخاص لابد وأن یکون فی المجتمع علناً أو سراً، تحاول الحکومات الحازمة:

أ) إعطاء المجال لأعضاء العرف الخاص بالظهور والاختلاط بالمجتمع لئلا یقعوا فی قوقعة السریة، حیث یتبع السر الانغلاق ثم العنف، وأضرار العنف بالاجتماع وبسمعة الحکومة أکثر من إعطاء المجال لأعضاء العرف الخاص بالظهور.

ب) ثم إذا کان العرف الخاص فیه طبیعة الهدم، تحاول الحکومة سحب البساط بالمغریات من تحت أرجل ذلک العرف، وإن لم یکن فیه طبیعة الهدم تحاول الحکومات ترقیق مشاعر العرف الخاص بإعطائه طلباته حسب الإمکان، وحل المشاکل بالتی هی أحسن.

وحیث إن الحکومات الدیکتاتوریة لا تتحلی بالحزم، توقع نفسها

ص:217

والمجتمع فی مشاکل جمة، وأخیراً یأتی دور المحاربة بینها وبین أعضاء الأعراف الخاصة، فالمظاهرات والإضرابات، وأخیراً القلاقل والفوضی والثورة.

3: وأخیراً یأتی دور المحاکمة، فیتصور الطفل المتقدم فی أنه هل أن تصور الآخرین عنه صحیح أو باطل، وینقسم الحال إلی ثلاثه أقسام:

أ: أن یری تصورهم صحیحاً.

ب: أن یری أنهم قد بخسوا حقه، وأنه فوق ما یتصورون عنه، وهذا هو الغالب، لأن الإنسان حیث یحب نفسه لا یری أخطاءه ونواقصه، بینما یراها الناس، فهو عند نفسه رفیع، بینما یکون عند الناس وضیعاً، أو لا أقل من أنه دون تصور نفسه.

ولذا ورد فی الحدیث: «أحب إخوانی من أهدی إلی عیوبی»((1)).

و: «صدیقک من صدقک لا من صدّقک»((2)).

و«یا صالح اتبع من یبکیک وهو لک ناصح ولا تتبع من یضحکک هو لک غاش»((3)).

و: «المؤمن مرآة لأخیه المؤمن»((4)).

ج: أن یری أنهم قد وضعوه فوق مستواه، وهذا نادر، وکثیراً ما یکون ذلک ولید الدیکتاتوریة أو المال أو التزویر، حیث یعلم الإنسان بحال نفسه، إلاّ أن قوته أو ماله أو ریاءه یجعل الناس یتصورونه _ ولا أقل من إظهارهم ذلک _ فوق ما یری هو لنفسه.

ولذا نری أن العظماء حقیقة، یأبون من مدح أنفسهم، ومن مدح الناس لهم، وقد مدح الإمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام) بعض فی وجهه، فقال (علیه السلام): «اللهم إنک أعلم

ص:218


1- الوسائل: ج8 ص413.
2- انظر غرر الحکم: ص215 ح3967.
3- وسائل الشیعة: ج8 ص413.
4- نوادر الراوندی: 8.

بی من نفسی، وأنا أعلم بنفسی منهم، اللهم اجعلنا خیراً مما یظنون، واغفر لنا ما لا یعلمون»((1)) .

وقد لقیه (علیه السلام) عند مسیره إلی الشام دهاقین الأنبار، فترجلوا له واشتدوا بین یدیه، فقال (علیه السلام): ما هذا الذی صنعتموه، فقالوا: خلق منا نعظم به أمراءنا، فقال: «والله ما ینتفع بهذا أمراؤکم، وأنکم لتشقون علی أنفسکم فی دنیاکم، وتشقون به فی آخرتکم، وما أخسر المشقة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار»((2)).

وقال (علیه السلام): «کرهت أن یکون جال فی ظنکم أنی أحب الإطراء واستماع الثناء، ولست بحمد الله کذلک، ولو کنت أحب أن یقال ذلک، لترکته انحطاطاً له سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والکبریاء، وربما استحلی الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا علی بجمیل ثناء لإخراج نفسی إلی الله سبحانه وإلیکم من التقیة، فی حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لابد من إمضائها، فلا تکلمونی بما تکلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا منی بما یتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطونی بالمصانعة»((3)).

الشخصیة الفردیة والشخصیة الاجتماعیة

الشخصیة الفردیة والشخصیة الاجتماعیة

ثم الشخصیة تطلق:

1) إما علی الفرد، ویراد بها ما للفرد من الخصوصیات والصفات الظاهرة أو الباطنة.

ص:219


1- نهج البلاغة: قصار الحکم 100.
2- نهج البلاغة: قصار الح کم 37 .
3- نهج البلاغة: الخطب 216.

2) وإما علی الاجتماع، ویراد بها ما یغلب علی الاجتماع من الصفات الظاهرة والباطنة، فی قبال الاجتماع الآخر، مثلاً یقال: إن الاجتماع الفلانی له الشخصیة الرفیعة، لکونه کریماً نظیفاً محباً للخیر، بخلاف الاجتماع الفلانی الآخر فله شخصیة منحطة، لعدم تحلیه بالصفات الجمیلة.

وفی التاریخ أن سبارطة کانت لها الشخصیة الحربیة، بینما أثینا کانت لها الشخصیة العلمیة.

الشخصیة مادیة ومعنویة

الشخصیة مادیة ومعنویة

والشخصیة، فردیة کانت أو اجتماعیة:

أ: مادیة.

ب: معنویة.

والثانیة تنقسم إلی:

1) اعتباریة.

2) وانتزاعیة.

3) وحقیقیة.

أ: فالمادیة هی المرتبطة بالأولیات المدرکة بالحواس، مثل ما یحفظ الإنسان فی خاطره، وما یظهره من الفعل ورد الفعل عند المسموعات والمنظورات والمشمومات والمذوقات والملموسات، مع العلم أن قوة اللامسة: تشمل: (1: الخشن واللین. 2:  والرطوبة والیبوسة. 3:  والحرارة والبرودة. 4: والأحجام. 5: والعلو والهبوط. 6: والمرغوب وغیره مثل الملامسة الزوجیة).

فالشخص یکون قبال هذه الأمور فی شبکة من الارتباطات، وکذلک الاجتماع، وکل ذلک یکوّن للفرد أو الاجتماع الشخصیة المادیة.

تغیر الشخصیة المادیة

والشخصیة المادیة تتغیر حسب تغیر الإمکانات أو المعارف، فمثلاً من یری النظافة، أو الکرم، أو تعلیم الأولاد، أو تزویج أولاده مبکراً، إذا فقد الماء أو المال، تحول إلی شخصیة غیر نظیفة، ولا مضیافة، ولا یعلم أولاده، ولا یزوجهم مبکراً.

ص:220

کل ذلک لعدم توفر الأسباب، وإن توفرت المعرفة لدیه، وهذه الحالة تعطی للشخص شخصیة خاصة، بینما إذا توفر الماء والمال تبدلت شخصیته إلی خلاف تلک الشخصیة.

وهکذا حال المجتمع الفاقد والواجد، ومثل ذلک الحال إذا تغیرت المعنویات، مثلاً کان له المال، لکن لم یکن له رأی فی تزویج أولاده، أو حفظ نسائه، أو إکرام ضیوفه، فإن له حینئذ شخصیة خاصة، ولم تکن تلک الشخصیة مستندة إلی المادة، وإنما تستند إلی معرفة خاصة، فإذا تبدلت تلک المعرفة إلی معرفة مضادة تبدلت الشخصیة.

ولذا نری أن الجاهلیین عرباً وفرساً وروماً، کانت لهم شخصیات خاصة، مثل السجدة للملوک، وإطاعة العلماء فی الباطل، وحظر التعلیم، وزواج المحارم، وفی الجزیرة قتل البنین والبنات خوف العار والإملاق والمقاتلة، وشاع فی الکل المعاقرة، وقطع الرحم، والانحراف الجنسی نساءً ورجالاً، وإلی غیر ذلک.

فلما غیرت معارفهم تحت لواء الإسلام، صارت لهم شخصیة مخالفة لتلک الشخصیة السابقة، وکذلک لما وفر علیهم الماء ووجب التطهر صاروا نظافاً، بعد أن کانوا من أوسخ الناس، وبقی الغرب فی الوساخة، حتی أن بعضهم لما بلّطوا الشوارع وفتحوا الحمامات فی فرنسا قال علماؤهم: إنهم تشبهوا بالکفار _ أی المسلمین _، وأغلقوا الحمامات وأرجعوا الشوارع کما کانت.

وکان مما اشتکی المسلمون فی حروب الصلیبیین لهم، کثرة تعفن أبدان جیوش الصلیب، فلما دخلت الحضارة المادیة إلی تلک البلاد تغیرت شخصیتهم.

وکذلک نری الحال فی التفرقة اللونیة والعنصریة وما أشبه، فما دامت

ص:221

التفرقة لا تکون مزاوجة، ولا معاشرة، بل طائفة المنبوذین فی الهند إذا أراد رئیس المعمل أو الإقطاعی إعطاءهم أجرتهم، وقف بحیث لا یقع ظل المنبوذ علیه وإلاّ لتنجس، وأعطی المال بواسطة، حتی لا تلمس یده ید المنبوذ.

وفی أمریکا البیض لا یعاشرون السود، وکذلک القومیون لا یتزاوجون مع آخرین، بل ولا یرثونهم، کما رأینا ذلک فی بعض البلاد العربیة المعاصرة إبان المد القومی.

وکان شیء کثیر من ذلک إبان الجاهلیة، فلما جاء الإسلام صار بلال الحبشی، وأبوذر العربی، وصهیب الرومی، وسلمان الفارسی، فی صف واحد فی کل الشؤون، من غیر فوق بین اللون واللغة والقومیة والقطریة، فی العبادة والمعاملة والزواج والعقوبات والعلم وغیر ذلک، بل قد صار میزان المفاضلة الإیمان والعمل الصالح فقط. ولم یکن ذلک المیزان سبباً للفصل فی زواج أو عقوبة أو معاملة، بل مجرد الاحترام والأجر فی الآخرة ونحوهما.

أقسام الشخصیة المعنویة

أقسام الشخصیة المعنویة

ب) الشخصیة المعنویة:

1: هی التی تحیط الشخص بالاعتباریات، فیکون الفرد أو الجماعة فی شبکة من أمور غیر عینیة، وأما هی تکون باعتبار المعتبر، فإذا اعتبرها المعتبر کانت، وإذا أزالها زالت، مثل أن النقد الورقی یقابل کذا من السعر أو المادة بالاعتبار، فإذا اعتبر المعتبر بأیة درجة کالدینار ونصفه وربعه والدرهم، صار له اعتبار، وإذا أزال اعتباره زال اعتباره.

والأمور اعتباریة جاریة فی المعاملات والحقوق والحدود والأحوال الشخصیة وغیرها، ولذا یتطور کل ذلک حسب تطور الاعتبار.

ص:222

2: والتی تحیط الشخص بالانتزاعیات، والفرق بینها وبین الاعتباریات أن الانتزاعیات لیس بید المعتبر، وإنما هی حقائق لها واقع منتزع من أمر حقیقی، مثل زوجیة الأربعة، والمناقضة بین الوجود والعدم، والمضادة بین الأسود والأبیض، والتضایف بأقسامه:

أ: المعاند.

ب: وغیر المعاند.

ج: المتشابه.

د: وغیر المتشابه، کالفوق والتحت، والعالم والمعلوم، والأخ والأخ، والاب والابن.

فإن هذه الأمور الاعتباریة أیضاً تحیط حول الشخص فرداً واجتماعاً، وتعطیه شخصیة، مثلاً القطر ذو خمسین ملیون فرد له شخصیة زوجیة، بینما القطر ذو تسعة ملایین له شخصیة فردیة، والقوم الذین یسکنون الجبال لهم شخصیة فوقیة حسّیة علی القوم الذین یسکنون السفوح، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

ولا یخفی أن کلاً من الاعتبار والانتزاع له آثار، فلیس مجرد ألفاظ، فاعتبار جواز الزواج بأربع یجعل کل النساء ذات زوج، بینما اعتبار عدم الجواز إلاّ بواحدة، یجعل کثیراً من النساء عوانس وأرامل، والذین هم یسکنون الجبال أمنع عند المحاربة من الذین یسکنون السفوح وهکذا.

ومما تقدم ظهر أن الاعتبار لابد له من التواضع، وذلک یکون حسب المصالح، فی نظر الواضعین.

أما الانتزاع فإنه حقیقة خفیفة، لیس أمره بید أحد.

والفرق بین الانتزاع والحقائق الأصلیة أن الانتزاع یستند إلی الحقائق، ولیس العکس، حالهما _ ولا مناقشة فی المثال _ حال الجوهر والعرض، فالشکل مستند إلی الذات، ولیس العکس، ولا ینافی ذلک أن الذات لا تخلو عن شکل ما قطعاً.

ص:223

3 : والتی تحیط الشخص بالحقائق، مثل واقع المبدأ والمعاد، والرسالة والإمامة، وغیرها فإنها حقائق، لیست اعتباریة ولا انتزاعیة، وإنما هی تحیط بالشخص والاجتماع، فتعطیهما شخصیة خاصة من الاعتقاد، والامتثال وتلون الأفکار والأقوال والأعمال والسیرة بها.

وإنا لا نرید بذلک أن کل شخصیة لفرد أو أمة فی إطار الحقائق تطابق الواقع، بل نرید بیان أن الحقائق أیضاً تعطی شبکة الشخصیة، سواء وصل الاجتماع إلیها فرتب الآثار علی الحقائق، أو لم یصل، بل اتخذ بدل الواقع زیفاً، فرتب آثار الزیف مکان ما یلزم علیه من ترتیب آثار الحقائق.

ولیست الشخصیة فی الواقع والزیف متشابهة، إلاّ من حیث الاسم، وإلاّ فالحقائق تعطی آثاراً لا یعطیها الزیف، مثلها مثل المادیات، فکلما أن السراب لا یروی، والحائط لا یمکن النفوذ فیه، وإن ظن المخدوع أنه ماء وباب، کذلک تختلف آثار الحقائق المعنویة عن آثار الزیف الذی ظنه الظان حقیقة.

بل هکذا الحال فی الانتزاعیات والاعتباریات، فزیفها لا یؤثر أثر الواقع منها، وإن ظن الظان أنه واقع، فمن ظن أن السیارة زوجیة العجلات، بینما کانت فردیة العجلات، لم یحصل السیر لأن الزوج یمکنها المشی لا الفرد، ومن ظن أن هذا الورق دینار لم ینفعه ذلک فی إعطاء کمیة من المواد فی قباله، إذا کان زیفاً لا اعتبار له حقیقة، نعم قد یخدع الزیف، کما یخدع السراب الظمآن، فیعطیه الاطمینان.

ومما تقدم ظهر أن کلاً من الثقافة المادیة أی المرتبطة بالمادة، والثقافة المعنویة أی المرتبطة بالحقائق غیر المادة، من حقائق واقعیة وحقائق انتزاعیة وحقائق اعتباریة، والفارق بین الثقافتین أن المادیة تدرک بالحواس

ص:224

الخمس، والمعنویة لا تدرک بها بل بالفکر، تؤطر الإنسان فی إطار خاص من الشخصیة، سواء کان ذلک الإنسان فرداً أو جماعة.

أما أنه هل الأثر الأکثر للمادیة أو للمعنویة، فقد اختلف فیه علماء الاجتماع بین مرحج للأول، ومرحج للثانی، وقائل بالتساوی، وقائل بالتفصیل، فبعض الأفراد أو الاجتماعات یتأثرون بالمادیة، وبعضهم بالمعنویة أکثر، وهکذا.

ص:225

أجواء نمو الشخصیة

اشارة

أجواء نمو الشخصیة

(مسألة 23): کیف یمکن إنماء الشخصیة الاجتماعیة حتی یصل الاجتماع إلی الشخصیة المطلوبة، أی القابلة.

إن ذلک إنما یکون فی ظل إنماء الشخصیة الفردیة، إذ الشخصیة الاجتماعیة عبارة أخری عن تجمع الشخصیات الفردیة، إنه لا شک فی أن الاجتماع له شخصیة غیر شخصیة کل فرد فرد، کما أن البحر له قوة غیر قوة کل قطرة قطرة، لکن بصورة عامة یتوقف الکیان الاجتماعی علی الکیان الفردی، سواء فی الشخصیة، أو فی البحر والقطرة، أو فی الجیش والجندی، أو فی البناء والآجرة، أو فی الواحد والألف من الأعداد _.

وعلیه فاللازم ملاحظة أنه کیف تنمو شخصیة الفرد.

ثم إذا کان للاجتماع بما هو اجتماع شرائط وآداب لنموه، یلزم ملاحظة ذلک فی مرتبة ثانیة، ولدی الاستقراء والسبر یری أن الشخصیة الفردیة إنما تنمو فی ظل کون (الحکم) و(العلم) و(المال) للجمیع، بأن یکون الناس یحکمون أنفسهم بأنفسهم، وکل یتمکن من العلم تمکنه من الماء والهواء، وکل له نتیجة سعیه الفکری والجسدی، بالإضافة إلی قیمة المواد، وما له من الشرائط والعلاقات الاجتماعیة.

وفی مثل هذا الجو: لکل قدر استحقاقه من الحکم والعلم والمال، تنمو الشخصیات نمواً ممکناً، وقد کان قبل الإسلام کل من الثلاثة محتکرة علی طائفة الحکام، وحتی أن العلم کان محظوراً إلاّ للموبذ فی إیران،

ص:226

وللکنیسة فی الرومان، وجاء الإسلام لیعطی لکل حقه، ولکن إلی الآن لم تقدر الدنیا علی ذلک، حیث إن العلم محروم منه الطبقات الفقیرة، کما تقدم فی مسألة سابقة.

والحکم فی الغرب تحت سیطرة المال، وفی الشرق تحت سیطرة الدیکتاتور، والمال یستغل فی الغرب لمصلحة الرأسمالیین، وفی الشرق لمصلحة الحکام، ولیس المراد بکون الحکم للجمیع إلاّ الاستشاریة الصحیحة، مع لزوم أن یکون بالشرائط الإسلامیة کما هو عقیدة المسلم.

ولا یمکن إخراج الحکم والمال والعلم عن السیطرة الفردیة، والاحتکار إلی التوزیع العادل بین الجمیع، إلا بتوزیع القدرة، فقد قال الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام): «من ملک استأثر»((1)).

وتوزیع القدرة لا یمکن إلاّ بالوعی الجماهیری، بأن یعرف الکل کم حق کل أحد من العلم والمال والحکم.

فإذا وعی الجمیع لا یتمکن المستثمرون من استثمار علم أو مال أو حکم غیرهم، کما هو الحال فی عالم الیوم، وإن اختلفت البلاد فی شدة الاستثمار وضعفه، نتیجة لکثرة الوعی _ فی الجملة _ فی بعض البلاد، وقلته فی بعض البلاد الأخر.

فإذا وعی الجمیع تبع ذلک تشکل المنظمات الحافظة للمکاسب والمنمیة لها.

أما المنظمة الواحدة فهی عبارة أخری عن الدیکتاتوریة، کما نشاهد ذلک فی البلاد التی یحکم فیها حزب واحد، فإن الإنسان أقرب شیء إلی الدیکتاتوریة والفردیة.

ص:227


1- تحف العقول: ص15.

طبیعة الحکم الدکتاتوری

طبیعة الحکم الدکتاتوری

ومن طبیعة الدیکتاتوریة:

­1: السریة فی العمل، حیث إن الدیکتاتور دائماً متآمر، یرید بذلک أن یحفظ قدسه أمام الناس، فیعمل فی السر ما یظهر فی العلن خلافه.

2: إظهار أنه العامل الوحید فی الساحة، وأن کل الفضل یرجع إلیه.

3: تنفیذ آرائه فقط، أما غیره فرأیه غیر صحیح، فهو فرد الله المختار الذی یفهم ما لا یفهمه غیره.

4: استئثاره بکل الغنائم، أی إن کل السمعة وکل الدعایة وکل الخیر له فقط، أما من عداه فله بقدر ما تفضل علیه الدیکتاتور تفضلاً محضاً وإحساناً صرفاً، فقد یجعل خیرة الأموال لنفسه وجماعته ملکاً صرفاً، وقد لا یجرؤ علی ذلک بل یحوط الأموال لصرفها فی هواه، وإن سمی ذلک بألف اسم آخر.

ولا فرق فی الدیکتاتوریة بین الصریحة، أو الملتویة تحت صورة مجلس الأمة، أو مجلس القیادة، أو مجلس الشعب، أو غیر ذلک، وقد شاهد العالم أمثلة واضحة لذلک فی ستالین وهتلر وموسیلینی وماو، وأضرابهم من الدیکتاتوریین الأصغر منهم حجماً، وإن کانوا مثلهم فی کل الخصوصیات.

ومما تقدم ظهر أنه لو نظم المجتمع تنظیماً صحیحاً، بحیث یکون العلم والمال والحکم فی متناول الجمیع بما یستحقون، نمت الشخصیة الاجتماعیة نمواً صحیحاً، بالعکس من المجتمع المبنی علی الفوضی، حیث کل أحد یحاول أن یحفظ نفسه بالقدر المستطاع فلا مجال له للنمو، ومن المجتمع المبنی علی الدیکتاتوریة، حیث إن البناء الدیکتاتوری یمنع عن النمو.

ص:228

اختلاف النفسیات

اختلاف النفسیات

وکما أن البذور مختلفة، فإذا وجدت المناخ المناسب نمت کل بذرة بما فطر لها، من الأشکال والألوان والطعوم وغیر ذلک، کذلک أفراد الاجتماع بصفاتهم المختلفة.

وقد قسم بعض علماء الاجتماع أفراد الاجتماع إلی أربعة أقسام هی:

1: الهادئ، حیث یرجح التعقل والتفکر والتأنی والتروی.

2: المتحمس، حیث یرجح الإقدام والاقتحام والاستهانة بالمخاطر.

3: المنسجم الذی یمیل إلی الانسجام والمداراة.

4: المتنفر الذی یمیل إلی الانفصام والابتعاد.

ولا یخفی أن الصفات المذکورة تکمل بعضها البعض الآخر، ولذا یشاهد أن الجمعیة المرکبة من القسمین الأولین، یمنع هادؤها متحمسها من الإفراط، کما یمنع متحمسها هادءها عن الرکود، وتکون النتیجة الإقدام العقلائی، وکذلک فی جمعیة تجمیع بین المنسجم والمتنفر، وهکذا بالنسبة إلی بقیة أقسام ضرب الأربعة بعضها فی بعض.

ومع أنا نری فی عائلة واحدة قسمین أو أقساماً من الأولاد، إلاّ أن التربیة لها أثر فعال فی تلوین المجتمع بأحد الألوان المذکورة، أوالمزیج المتوسط منها، فبعض الأمم یربون علی التعقل والتأنی، بینما بعض آخر یربون علی الإقدام والاندفاع، وهکذا.

ولذا اشتهر أن شعب العراق له صفة کذا، وشعب إیران له صفة کذا، والآسویین لیسوا فی صفاتهم کالإفریقیین، وتخلف سمات الإمریکیین عن الأوربیین، وهکذا.

ثم إنه لیست حدود خاصة بین الأقسام المذکورة، حتی تکون التمایز کلیاً، ولذا یشاهد فی أمة لها شخصیة خاصة، أفراد لهم شخصیة متوسطة أو

ص:229

مخالفة، وإنما همّ عالم الاجتماع ملاحظة الأعم الأغلب.

الاهتمام بالتربیة والتثقیف

اختلاف النفسیات

وحیث إن کثیراً من الشخصیة الفردیة والاجتماعیة، یتوقف علی أسلوب التربیة والتثقیف، فاللازم علی الذین یریدون إصلاح المجتمعات، الاهتمام بهذا الجانب.

فإن ظهور الشخصیة _ حسب التأدیب _ وإن کان بطیئاً، إلاّ أنه نواة لابد وأن یظهر ثمرها ولو بعد حین، ولا فرق فی ذلک بین تأدیب الإنسان نفسه، أو أولاده، أو أقرباءه، أو من یتمکن علیه من أفراد مجتمعه.

قال علی (علیه السلام): «سوء الأدب سبب کل شر»((1)).

وقال (علیه السلام): «أفضل الأعمال ما أکرهت نفسک علیه»((2)).

وقال (علیه السلام): «لا میراث کالأدب»((3)).

وقال (علیه السلام): «أیها الناس تولوا من أنفسکم تأدیبها، وأعدلوا بها عن ضراوة عادتها»((4)).

وقال (علیه السلام): «غایة الأدب أن یستحی الإنسان عن نفسه»((5)).

وقال (علیه السلام): «لا تقروا أولادکم علی آدابکم، فإنهم مخلوقون لزمان غیر زمانکم»((6)).

أقول: فإن ذلک من بعد المدی، حیث یجب أن یؤدب الإنسان ولده اجتماعیاً، بحیث یقدر علی أن یسایر الاجتماع فی نطاق الأحکام الإسلامیة.

ص:230


1- شرح نهج البلاغة: ج20 ص258.
2- نهج البلاغة: قصار الح کم 249.
3- نهج البلاغة: ق صار الحکم 54.
4- نهج البلاغة: قصار الحکم 359 .
5- شرح نهج البلاغة: ج20 ص265.
6- شرح نهج البلاغة: ج20 ص267.

وقال (علیه السلام): «المرآة التی ینظر الإنسان فیها إلی أخلاقه هی الناس، لأنه یری محاسنه من أولیائه منهم، ومساوءه من أعدائه فیهم»((1))، إلی غیرها.

ولا یخفی أن المجتمع کلما کان أکبر، کان أقرب إلی القوام والاعتدال، لأن العناصر المختلفة التی تصب فیه بثقافاتها المختلفة توجب تلون الاجتماع باللون الأنصع، فإن من طبیعة الإنسان أن ینظر إلی الأعلی فیتخذه أسوة، وأن یسعی بمثل سعی الأکثر سعیاً لئلا یفوته الرکب.

ولذا کان من صفات المجتمعات الکبیرة:

1: وجود المحاسن فیها.

2: اقترابها بمجموعها إلی الاعتدال.

3: سرعتها فی السیر والتقدم إلی الإمام.

فإنه وإن کانت المشاکل فی مثل هذه المجتمعات أکثر، إلاّ أن محاسنها أکثر من مساوئها، ولذا أمر علی (علیه السلام) بسکنی المدن الکبار.

وکان المجتمع الکبیر من أحسن أسباب إعطاء الشخصیة المعتدلة للإنسان، فرداً أو جماعةً أو مجتمعاً.

عوامل صیاغة الشخصیة الفردیة

اشارة

عوامل صیاغة الشخصیة الفردیة

ثم إن الشخصیة الفردیة _ والتی تؤثر بالآخرة فی شخصیة الاجتماع _ إنما تصاغ بسبب العوامل التالیة:

1: الصفات النفسیة

1: الصفات النفسیة

1) الصفات النفسیة الفطریة المودعة فی نفس الفرد منذ الولادة، ولذا

ص:231


1- شرح نهج البلاغة: ج20 ص271.

نشاهد طفلین شرائطهما متحدة من جمیع الحیثیات، ومع ذلک أحدهما أجرأ من الآخر، أو أکرم، أو أذکی، أو ما أشبه ذلک.

وقد ثبت علمیاً أن صفات الأبوین، بل الأقرباء کالعم والخال، وحالتهما عند انعقاد النطفة، وخصوصیات غذاء الأم حال الحمل، بل وبعض جهاتها الأخر، لها مدخلیة فی نفسیة الطفل، وفی (الفقه) باب النکاح، فصل الأولاد، روایات بهذا الشأن.

2: الخصوصیات الجسدیة

2: الخصوصیات الجسدیة

2) خصوصیاته الجسمیة، من طول وقصر، وجمال وقبح، وکمال ونقص، وصحة ومرض، وما أشبه، فإنها سهیم فی تکون الشخصیة، مثلاً القصر غیر المتعارف أو الطول غیر المتعارف یسببان تحقیر الناس له، وإن کان التحقیر غیر صحیح، والتحقیر یسبب عقدة نفسیة فی الإنسان، مما یسبب له شخصیة معقدة یظهر أثرها فی أعماله.

بالعکس الجمیل یحظی باحترام الناس، مما یسبب له عدم الانطوائیة، وحفظ احترام نفسه، لئلا یخیب ظن الناس فیه، وقد ورد: «إن الله جمیل یحب الجمال»((1))، وورد: اتخاذ الظئر الجمیل للرضاع، لان اللبن یعدی، وورد: «خیر نساء أمتی أصبحن وجهاً وأقلهن مهراً»((2)).

وحال القبیح والناقص والمریض، حال القصیر والطویل.

بالإضافة إلی أن المریض أو الناقص لا یقدران علی ما یقدر علیه الصحیح والکامل، وکل

ص:232


1- أصول الکافی: ج2 ص164.
2- مکارم الأخلاق: ص198.

ذلک یعطی للإنسان شخصیة مناسبة لتلک الظواهر.

3: المحیط الطبیعی

3: المحیط الطبیعی

3) کون الفرد ریفیاً أو مدنیاً، یعیش فی ساحل البحر أو الغابة أو الجبل أو غیرها، وذلک لأن المناخ یعطی للإنسان شخصیة خاصة، کما تقدم فی بعض المسائل السابقة الإلماع إلی مثل ذلک، مثلاً الریفی أصرح من المدنی، والذی یعیش فی الغابة أشجع من غیره.

ومن هذه المنطق کانت عادة قریش قبل الإسلام، إیداع أولادهم الرضع إلی المراضع البدویة، لینشؤوا شجعاناً فصحاء صرحاء أصحاء الجسم، وکما قال علی (علیه السلام): «فإن الشجرة البریة أصلب عوداً، وأکثر وقوداً، وأبطأ خموداً»((1)).

4: الوضع المعیشی

4: الوضع المعیشی

4) إنه عاش فی طبقة فقیرة أو غنیة أو متوسطة:

أ: فالفقیرة، ترضع الأمهات أولادها طویلاً، ویتعلم الولد علی حیاة الخشونة، وحیث إن للفقیر روابط قلیلة یخرج الولد بشخصیة جسورة صریحة بسیطة، بینما العکس من کل ذلک أولاد الطبقة الغنیة، أما المتوسطة فالأولاد یکونون بین الأمرین.

ب: حیث إن الطبقة الفقیرة تعمل دائماً لأجل المعاش، لا یتسرب إلی أولادها مسائل المعاشقة والأمور غیر المشروعة، مما یکون سببها الفراغ والجدة، بالعکس من أولاد الأغنیاء المنحرفین، حیث یتوفر لهم ذان الأمران بتوابعهما.

ص:233


1- راجع نهج البلاغة: الکتب 45.

ج: سهولة الحیاة عند الطبقة الفقیرة، بخلاف الطبقة الغنیة، حیث إن قلة المادة والاشتغال بالمعاش یمنع الفقیر من أن یرکم علی نفسه أغلال الحیاة، من رسوم الزواج والولادة والموت وغیر ذلک مما تلازم حیاة الغنی والدعة فی الغالب، وکذلک الحال فی المسکن والملبس والمرکب والسفر والمرض، وغیر ذلک.

د: یغلب فی الطبقة الفقیرة الإقدام والإفراط، فیما الغالب فی الطبقة الغنیة العکس، وذلک لأن الروابط التی تحیط الفقیر أقل، ولا مال ولا جاه له حتی یلاحظهما فی سلوکه، بینما کل ذلک بالعکس فی الطبقة الغنیة.

وعلیه فالطبقة الغنیة لهم شخصیة خاصة لیست کشخصیة الطبقة الفقیرة، والطبقة المتوسطة تعیش بین الطبقتین فی الشخصیة.

5: العمل الاجتماعی

5: العمل الاجتماعی

5) بعد ذلک یأتی دور الشغل، فإن الأشغال المختلفة تعطی للإنسان شخصیات متفاوتة، فالمرجع الدینی والخطیب والقاضی والمعلم، لهم شخصیة خاصة لا تماثل شخصیة الجندی والتاجر والموظف وما إلی ذلک، والسبب أن العمل فی نفسه، والمرتبطین بأی عامل عامل، یتطلبان نوعیة خاصة، فاللازم أن یصب العامل من أی لون عمل نفسه فی قالب تلک الکیفیة من الطلب وإلاّ لم یتمکن من إنجاح عمله.

ومنه یعلم اختلاف الشخصیات ولو کانوا فی إطار عام واحد، کالمرجع والخطیب، بل ومدرس الابتدائیة والثانویة والجامعة.

ص:234

6: التعلیم

6: التعلیم

6) وأخیراً یأتی دور التعلیم بشعبه:

أ: البیتی.

­­ب: والمدرسی.

ج: والاجتماعی الصغیر.

د: والاجتماعی الکبیر.

حیث إن العائلة مدرسة للأطفال، یتعلمون فیها کثیراً من الآداب والرسوم، ثم المدرسة تعطی التوجیهات، وإذا کان الإنسان منضماً إلی جماعة: کقومیة، أو دین، أو منظمة، أو حزب، أو ما أشبه، تعلم منهم أموراً لیست کسائر التعالیم السابقة، وأخیراً یأتی دور ما یتعلمه الإنسان من الاجتماع العام.

وهذه الأمور کلها تعطی الشخص کیفیة خاصة من الشخصیة.

ولا یخفی أن بعض الأمور المذکورة التی لها مدخلیة فی إضفاء الشخصیة علی الفرد، أکثر نفوذاً فی الشخص من البعض الآخر، مما تکون شخصیة الشخص مستندة إلیه بنسبة أعلی من استنادها إلی أمر آخر، مثلاً النفوذ البیتی والمدرسی أثرهما أکثر من النفوذ الاجتماعی والحزبی.

والسر أن الطفل صفحة بیضاء، فکلما نقش فیها تلونت تلک الصفحة بذلک اللون، فإذا جاء لون آخر یرید إزالة ذلک اللون السابق لم ینفذ کنفوذ اللون السابق، فیبقی اللون الجدید باهتاً، بینما اللون القدیم یبقی قاتماً، هذا بالإضافة إلی أن تقبل الطفل أکثر وأسرع من تقبل غیره، وإن لم یکن اللون الجدید مضاداً للون القدیم، ولذا یبقی لون العائلة والمدرسة فی نفس الإنسان وفی أسلوب حیاته إلی زمان موته، بینما لیس کذلک لون حزبه واجتماعه الکبیر.

ص:235

اختلاف الاستجابة للمؤثرات

اختلاف الاستجابة للمؤثرات

ثم لا یخفی أن استجابة الناس، أطفالاً أو کباراً، للألوان التی یراد إضفاؤها علی النفس والسلوک، مما بالآخرة تعطی (الشخصیة) مختلفة، وذلک لأن الأنفس فطرت متفاوتة، کما أن الشخصیات تتفاوت فی قدر تقبل اللون الجدید، والمدة التی یحتاج إلیها الشخص حتی یتهیأ للتقبل.

مثله مثل الماء الواحد الذی یلمسه ثلاثة أفراد، فیحس کل واحد منهم بحس مخالف للحس الآخر، فإذا کان (ماء فاتر)، وکان ثلاثة أشخاص أحدهم خرج من الماء البارد، والآخر من الماء الحار، والثالث من الماء الفاتر، فإذا دخل الثلاثة فی هذا الماء الفاتر، وجده الأول حاراً، والثانی بارداً، والثالث فاتراً، ولیس ذلک لاختلاف الماء، وإنما لاختلاف الاستجابة.

وقد فحص جماعة من علماء الاجتماع کیفیة تکون الشخصیة، فوجدوا أن فی مائة عائلة یتقولب الأطفال بأخلاق أبویهم خمسة وخمسین، وبأخلاق أصدقائهم ثلاثة وثلاثین، وبأخلاق المرشدین تسعة، وبأخلاق المعلمین ثلاثة، وهذه النسب وإن کانت مشکوکة، إلاّ أن المسلم أکثریة تأثیر العائلة ثم الأصدقاء، وقد ورد: «المرء علی دین خلیله»((1)).

کما أن مثل هذا الإحصاء لا یصدق إلاّ فی الظروف العادیة، فإذا کانت العائلة فی فوضی واضطراب، وکان الأصدقاء فی تضامن وبناء، صار العکس، بأن تقولبت شخصیة الأولاد بقوالب الأصدقاء لا بقوالب العائلة.

التخطیط لإنماء الشخصیة

التخطیط لإنماء الشخصیة

والاجتماع بشلاله الهادر قادر علی الاستفلادة من مادة الشخصیة، أکبر قدر

ص:236


1- الکافی: ج2 ص375.

من الاستفادة، کما أنه بالعکس قادر علی إلزام (الشخصیة القابلة) زاویة العزلة والإنزواء، ولذا کان علی المخططین الاجتماعیین تنظیم الاجتماع، بحیث تکون الشخصیات الرفیعة، وبحیث یستفید من المواد ومن الشخصیات إلی آخر قطرة من الاستفادة الممکنة، ولا یمکن ذلک إلاّ بحریة العلم والمال والحکم، کما ذکرناه فی أول المسألة، والله المستعان.

ومما تقدم ظهر أن الاجتماع یربی الأفراد تربیة عامة، حسب اتجاه الاجتماع، محارباً أو مسالماً عالماً أو عاطلاً، کریماً أو بخیلاً، جباناً أو شجاعاً.

التوجیه السلیم لصفات الامة

التوجیه السلیم لصفات الامة

وحیث إن بعض الصفات یمکن استخدامها فی الصحیح أو فی الباطل، فالمصلح القدیر هو الذی یتمکن من توجیه الصفة التی تستخدم فی الباطل فی الأمر الصحیح، مثلاً إذا کانت الأمة مسرفة فی الصرف علی الولادة والزواج والأموات، أمکن صرف صفتها الإنفاقیة والتی تصرف بإسراف فی الأمور المذکورة، فی المشاریع الخیریة، کالمدارس والمساجد والمستوصفات وما أشبه.

والنبی (صلی الله علیه وآله) استفاد من هذه القاعدة الإلهیة، فقد کانت القبائل العربیة تصرف طاقة شجاعیة هائلة فی محاربة بعضها لبعض، فصرفها الرسول (صلی الله علیه وآله) فی محاربة الخارج، لأجل إعلاء کلمة الله وإنقاذ المستضعفین، کما صرف (صلی الله علیه وآله) إسرافهم فی إنفاقات کانوا یسمونها کرماً، فی إعطاء الحقوق الشرعیة والصرف فی سبیل الجهاد، وصرف قریحتهم البلیغة وفصاحتهم الشعریة والنثریة فی الإرشاد والبلاغة.

ص:237

فبینما کانت تصرف القریحة الشعریة فی:

قفا نبک من ذکری حبیب ومنزل

بسقط اللوی بین الدخول فحومل

صرفها الرسول (صلی الله علیه وآله) فی:

ینادیهم یوم الغدیر نبیهم

بخم واسمع بالرسول منادیاً

إلی غیر ذلک، وبینما کان العربی یقتل العربی فی سبیل ناقة فی حرب البسوس، أخذ المسلم یجالد الفرس والروم فی سبیل الحقیقة عوض الخرافة، وفی سبیل نشر العلم بعد أن کان محتکراً عند الأشراف، وهکذا.

وإذا کانت بعض الأمم تفقد الصفة الخیرة، فاللازم علی المصلح إرشادهم إلی فطرتهم المطویة علی تلک الصفة، کما أن اللازم علی المصلح صرف الصفة المنحرفة من أولیات رغبات الإنسان فی الجهة المستقیمة، مثل أمة تصرف شهواتها فی الشذوذ والانحراف الجنسی، حیث إن اللازم توجیههم نحو صرفها فی {ما خَلَقَ لَکُمْ رَبُّکُمْ}((1))، کما قاله لوط (علیه السلام) لقومه.

فإن الفرد کالمجتمع أرض قابلة لمختلف الزرع، فاللازم زرع الطیب فیها إن کانت قفراء، وإن کانت مزروعة بالزرع السیء لزم اقتلاع ذاک الزرع وزرع الطیب مکانه، ولذا قدم القرآن الحکیم التزکیة.

قال سبحانه: {هو الذی بعث فی الأمیین رسولاً منهم یتلو علیهم آیاته ویزکیهم ویعلمهم الکتاب والحکمة}((2)).

فالإنسان هو الإنسان، وإنما الاختلاف بظهور الصفات والکوامن، مثلاً المرأة فی کل عصر ومصر هی المرأة، وإن کانت عاراً فی أمة، وسیدة فی أمة، ومربیة فی أمة، وأداة شهوة فی أمة، وهکذا.

ص:238


1- سورة الشعراء: الآیة 166.
2- سورة الجمعة: الآیة 2.

انحراف الشخصیة

اشارة

انحراف الشخصیة

(مسألة 24): لکل شیء واقع، وقد یکون ذلک الواقع ذا مصادیق، فالکلی واقع والجزئیات مصادیق متساویة بالنسبة إلی ذلک الواقع الکلی، مثلاً الواقع بالنسبة إلی الأمة أن تصرف مالها فی تقدمها، لکن هذا التقدم یمکن أن یکون فی سبیل تکثیر الزراعة، ویمکن أن یکون فی سبیل تکثیر الصناعة، إذا لم یکن أحدهما أهم.

والواقع لا یختلف فی أمة عن أمة، وإنما الاختلاف فی أمرین:

1: أخذ إحداهما مصداقاً، والأخری مصداقاً آخر.

2: استقامة إحداهما وانحراف الأخری.

وقد تکون کلتاهما فی انحراف إذ الواقع واحد والانحراف کثیر.

ثم إذا خالف الفرد الاجتماع فی مسیره:

1) فإن کانت المخالفة عابرة لم یعتن الاجتماع بخلافه.

2) أما إذا کانت المخالفة مستمرة سمی المخالف منحرفاً.

الانحراف لیس قدراً

الانحراف لیس قدراً

وقد کان فی القرون الوسطی، وجماعة من المسلمین فی حاشیة الخلفاء، ینظرون إلی الانحراف کأنه قدر محتوم وقضاء لازم، ویضمون إلی ذلک أن القضاء والقدر لا تبدیل له، وکانوا یؤیدون ذلک بآیات وروایات خصوصاً

ص:239

إذا کان المخالف المنحرف من طبقة الحکام، فکان من أسباب ذلک طبع أذهان جماعة من العامة علی أن المستقبل بید الله، فلا یمکن تغییره عما کتب، حتی قال شاعرهم:

جری قلم القضاء بما یکون

فسیّان التحرک والسکون

بل أبعد النزع بعضهم، حیث قال فی أشعار له _ ما معناه _:

إنی أشرب الخمر وکل من کان مثلی علماً

رأی فی شربی الخمر أمراً سهلاً

وذلک لأن الله کان یعلم شربی للخمر

فإذا لم أشرب تبدل علم الله جهلاً.

فالمستقبل، بل وکل عمل الإنسان تقدیر لابد منه، وإلی مثل هذا التفکر یعزی کثیر من تأخر المسلمین، حیث منع ذلک عن التخطیط للمستقبل.

بینما کان الإسلام أمر بالعکس من إعداد العدة، وبُعد المدی، قال سبحانه: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}((1)).

ووصف علیاً (علیه السلام) بعضُ أصحابه فقال: (کان بعید المدی)((2)).

وقد أجاب بعض العلماء ذلک الشاعر قائلاً _ ما معناه _:

إن هذا الکلام لا یقوله من کان من أهل العلم

إذ جواب کلامه سهل

فإن جعل علم الله تعالی علة للعصیان

فی غایة الجهل عند العقلاء

ص:240


1- سورة الأنفال: الآیة 60.
2- نهج السعادة فی مستدرک نهج البلاغة: ج3 ص199.

بل کان عند بعض الأقوام بعض الانحرافات الناشئة عن المرض کالصرع علامة السیادة والکبر، حتی کان بعض الانتهازیین یتصنع الصرع لیحوز هذا المقام.

انحراف الحکام

انحراف الحکام

أما انحراف الحکام فقد کان مما لا مرّد له، إذ الشرعیة کانت تستمد من مصادر ثلاثة:

1: الوراثة، کما کان خلفاء بنی أمیة والعباس وعثمان یصلون إلی الحکم من هذا الطریق فی غیر رئیس السلسلة، ومثل هذه الشرعیة باقیة إلی الآن فی بعض بلاد الإسلام.

2: الثورة حیث إن الذی قدر أن یجمع السلاح والرجال کان یثور، فإذا استولی کانت له الشرعیة، کما فی أول کل سلسلة من غالب الحکام الوراثیین.

ومن الواضح، أن السند لو کان الإرث أو السلاح کانت النتیجة تسلم المنحرفین أریکة الحکم، وبعد ذلک یفعلون ما یشاؤون، حتی أن بعضهم کان یخاطب:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحکم فأنت الواحد القهار.

ویقال فی آخر:

والآن صرت إلی أمیة

والأمور لها مصایر.

3: أما الأمر المشروع الذی قاله الإسلام وألمع إلیه العقل، فهو الحکم الانتخابی، لمن له المؤهلات، ثم یعزل بمجرد أن فقد ولو مؤهلاً واحداً من تلک المؤهلات، قال سبحانه: {أمرهم شوری}((1))، وقال (علیه السلام): «أن یختاروا»((2)) کما

ص:241


1- سورة الشوری: الآیة 28.
2- مست درک الوسائل: ج6 ص14.

ذکرنا تفصیله فی کتابی: (السیاسة) و(الحکم).

لا لفردیة الحکام

لا لفردیة الحکام

ثم إذا توفرت المؤهلات وانتخب الحاکم، فالقرار لا یمکن أن یصدره الحاکم بمفرده، ولا مع جماعة من الأفراد، بل بتعدیل من مراکز القوی التی هی عبارة عن خیرة الشعب الذین اختاروا الحاکم، فإن الدولة لیست لعبة صماء تتحرک فی الفراغ وتعمل حسب أهوائها وشهواتها ومنافعها، وإنما هی کائن حی مرتبط بجمیع أفراد الأمة بوجه أو بآخر، تتفق تلک المراکز بعضها مع بعض فی المصلحة، وتتعارض بعضها مع بعض مما یتقدم فی الرأی أکثرهم فی المؤهلات.

ولذا قالوا: لا یوجد فی السیاسة صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، بل ملاحظة الأصلح الدائم، وهذا ما یسمی فی (الفقه) بقاعدة الأهم والمهم.

والسلطة قمة عالیة جداً ضیقة، ملیئة أطرافها بالأشواک والحبائل والفخاخ، فلا ینالها إلاّ الأقوی الأصلح الأکثر حزماً، وبمجرد أن نالها تتحرک القوی المناوئة والصدیقة ضدها، الأولی لإسقاطها، والثانیة لتحریفها حتی تستفید منها أکبر قدر من الاستفادة، فأی خطأ فی محاربة الأولی ومحاباة الثانیة توجب الإسقاط المفضوح، ولذا کانت السلطة قبل الوصول إلیها ثم البقاء فیها بحاجة إلی القوة والصلاح والحزم.

ولهذا السبب: البقاء لا یکون إلاّ بالتوازن بین مراکز القوی، یکون الانحراف فی السلطة بعد الوصول مساوقاً للسقوط، کما کان الوصول إلیها من المنحرف یساوق الاستحالة.

ص:242

1: فالإحساس الشخصی بأن القرار ضرورة.

2: والانفعال الشخصی والإیحاء الذاتی.

3: وصداقة الحاکم مع شخص أو جهة فی إصداره القرار وعدم إصداره، أو عداوته کذلک فی إصدار القرار أو عدم إصداره.

4: وإعلان الحرب والسلام والمعاهدة وشروط أیهما بمجرد رأی الحاکم.

5: والاعتباطیة فی الصداقة والعداوة، لأنها تابعة لمزاج الحاکم، وکذلک الاعتباطیة فی إبقاء الصدیق صدیقاً والعدو عدواً.

6: وتبدل الاتجاهات السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة وما إلی ذلک بتبدل الحاکم، بل وحتی بتبدل أنظمة الحکم، إلی غیر ذلک.

لا یمکن أن یکون المبرر للقرار والعمل للقمة.

إن هذه الأمور وان کان یعملها الوارث السلطة إذا کان منحرفاً، أو الحاکم الذی أتی بالانقلاب العسکری، إلاّ أن ذلک یوجب تزلزل حکمه والانزجار العام حتی السقوط المشین، بالعکس من الحکم الانتخابی حیث لا یجد الانحراف إلیه سبیلاً، وإنما ینزل عن کرسی الحکم إذا انتهت مدته، ویکون حاله بعد السلطة کحاله قبلها بلا تفاوت، إلاّ إذا انحرف حیث یکون حاله حال الانقلابی والوراثی یسقط بفضیحة.

موقف المجتمع من الانحراف

موقف المجتمع من الانحراف

وکیف کان فانحراف الشخصیة:

أ: قد یکون انحرافاً ملائماً للاجتماع، حیث یراه الاجتماع انحرافاً

ص:243

لکنه یری أنه لابد من مثله، بل قد یوضع القانون لأجله من جهة أن الاجتماع یری جعل المنحرف فی دائرة خاصة أفضل من تسییبه، مثل عادة شرب المسکر أو استعمال المخدر أو إجازة الشذوذ الجنسی فی کلا الجنسین، وما أشبه  هذا وإن کان فی نظر الإسلام خطأً کبیراً، ویری الإسلام منعه أهم من النفع المتوهم له، وقد قال سبحانه: {قل فیهما إثم کبیر ومنافع للناس وإثمهما أکبر من نفعهما}((1))، إلاّ أن جملة من الأمم لم تدرک أهمیة الترک، أو أدرکت ولکن لا علاج لها، حیث لیس لدیها دین یدخل القلب، فیکون الامتناع تلقائیاً، ولذا أجازت مثل هذه الانحرافات.

ب: وقد یکون انحرافاً غیر ملائم، وهذا هو الانحراف الذی یقف الاجتماع دون ظهوره، وإذا ظهر حاول تقویمه، سواء کان المنحرف یراه انحرافاً لکنه لا یقدر علی إزالته، أو لا یراه انحرافاً، مثل الذی له عقدة الحقارة، حیث إن بعضهم لا یرونها سیئة، وبعضهم یرونها سیئة لکنهم یرون عدم قدرتهم علی إزالتها.

­مثلهما فی ذلک مثل من یری أن أربعة فی أربعة یعادل عشرین!، ومن یری أنه یعادل ستة عشر لکنه یتأذی من ذلک، وفی المثال الإسلامی _ ولا مناقشة فی أنه عکس الممثل له _ قد یری غیر المسلم أن محمداً (صلی الله علیه وآله) لیس بنبی، وقد یراه نبیاً لکنه یتأذی من ذلک، وقد قال سبحانه: {وجحدوا بها واستیقنتها أنفسهم}((2)).

ص:244


1- سورة البقرة: الآیة 219.
2- سورة النمل: الآیة 14.

عوامل الانحراف

عوامل الانحراف

ثم إن الانحراف:

1: قد یکون بالوراثة، فإن الانحراف فی الآباء یرثه الأبناء، فالولد سر أبیه، کما أن الولد یشبه العم والخال، إلی غیر ذلک مما حقق فی علم الوراثة، لکن الإرث لا یکون علة تامة، بل أمر اقتضائی، ولذا لا ینافی التکلیف کما قرر فی علم الکلام.

وهذا الانحراف الوراثی إن أمده الاجتماع قوی الانحراف، وإلاّ بقی علی حاله، إلاّ إذا کان الاجتماع صالحاً، حیث یتمکن من تقلیله، وأحیاناً من إزالته.

فمثلاً الرجل السیء الخلق، إن کانت له زوجة حسنة الخلق، نزل الرجل عن غلوائه بنسبة فی المائة، أما إذا کانت له امرأة سیئة الخلق بقی علی سوء خلقه إن لم تزده سوءاً علی سوء، وکذلک حال المعلم والمدیر، والموظف ورئیسه، والأولاد والوالدین.

2: وقد یکون بالعرض، وهو علی ضربین:

أ) فقد یکون بسبب المعاناه فی الصغر، مثل تحقیر الأولاد فی البیت أو المدرسة أو فی محل لعبه أو ما أشبه ذلک، أو تدلیل الأولاد أکثر من القدر المعتاد، أو إبعاده عن الاجتماع، أو جعله فی اجتماع سیء، أو ما أشبه ذلک؛ فإن أمثال هذه الأمور تجعل الأولاد عرضة للانحراف بعقدة الحقارة أو بالخمول أو بالنشاط المحرم أو بما أشبه ذلک.

فإن حال النفس حال الجسم، کما أنه إذا ربّی الولد بعیداً عن مختلف الأغذیة والمناخاة الطبیعیة أوجب انحراف صحته الجسدیة، کذلک إذا ربی فی جو غیر ملائم للنفس أوجب انحراف صحته النفسیة.

ص:245

ب) وقد یکون بسبب عدم ملائمة ظروف الحیاة، مثل الفقر أو الحرمان، وحالة الفوضی والحرب، والخصومات والمنازعات مع المنافسین، والفشل فی الحیاة، والسجن خصوصاً الانفرادی منه، والکبت والمصیبة، وبالأخص إذا منع من التنفیس عن کبته ببکاء أو سفر أو سیاحة أو ریاضة أو ما أشبه ذلک، مما یوجب تنظیف النفس من المشاعر السوداء، والدَین الذی یتراکم علیها من الأمور السابقة الذکر.

ولعل من أسباب جعل الإسلام إطلاق السجناء فی أیام الجمع والأعیاد لاجل الصلاة، وعدم منع عائلة السجین عن ملاقاته، بل وبقائهم معه، حیث لا دلیل علی منع ذلک، هو أن لا تتوفر الظروف السیئة حوله، حتی یوجب انحراف شخصیته.

کما أن من ذلک أیضاً إباحته البکاء علی المیت، وغیر ذلک مما تزخر به الأحادیث الواردة من المعصومین (علیهم السلام) فی أمثال هذه الشؤون وقایةً وعلاجاً.

وإذا کان للإنسان أرضیة وراثیة، أو أرضیة من زمان صغره للاختلال النفسی، أسرع إلیه الاختلال بمجرّد حصول الظروف الملائمة لذلک الاختلال.

تأثیر المجتمع فی الانحراف والاستقامة

تأثیر المجتمع فی الانحراف والاستقامة

ثم الاجتماع کلما کان أکثر انغلاقاً کان أخصب لرشد الانحراف، کما أنه کلما کان أکثر حریة صحیحة کان أخصب لرشد الاستقامة، هذا من جهة، ومن جهة ثانیة کلما بنی الاجتماع علی إعطاء الحاجات وتوفرت فیه وسائل الحیاة کان أبعد عن تکوین الانحراف، والعکس بالعکس، ولذا أکد الإسلام علی إعطاء حاجات الجسد ومنع عن الکبت.

ص:246

ففی الحدیث: «لجسدک علیک حقاً».

وقال النبی (صلی الله علیه وآله) لمن رآه قد أنهکته العبادة: «إن هذا الدین رفیق فأوغل فیه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقی»((1))، إلی غیرها من الأحادیث.

والاجتماع بکلتا حالتیه العادیة وغیر العادیة، یوجب الانحرافات المختلفة، مثلاً فی الحالة العادیة الریف لسکّانه یوجب قسماً من الأمراض الروحیة، أما المدینة المزدحمة فتوجد مرض توتر الأعصاب والقلق والحالة السبعیة والاندفاع فی بعض، وبالعکس یوجب الانعزال والانقطاع عن الاجتماع لبعض آخر.

أما الحالات غیر العادیة للاجتماع مثل الحرب، بل والذین یتصدون الحرب کالجنود، فهی سبب انحرافات من قسم آخر:

1: فالتغییر الفجائی فی الحرب یوجب صدمة الأعصاب بما لا یتحمله بعض، فیوجب فیه أمراضاً نفسانیة، وانحرافاً فی الروح مما یؤثر أثره علی العمل.

2: والجندی حیث یضطر إلی الانضباط والأعمال الصعبة التدریبیة ونحوها، تتحول حالته العادیة إلی حالة غیر طبیعیة، مما یوجب صدمة روحیة له توجب انحرافه.

الکبت والأمراض النفسیة

الکبت والأمراض النفسیة

3: ثم إن الکبت النفسی الذی یضطر إلیه الجنود، بعدم البکاء وعدم إظهار

ص:247


1- أصول الکافی: ج2 ص86.

الخوف، وعدم الشکایة وما أشبه، حیث إن مثل ذلک مما یعاب به فی کثیر من الأعراف، یوجب أمراضاً نفسیة وانحرافاً، هی من ولائد الکبت والانغلاق، ولذا جعل بعض الحکومات من نظام الجیش التنفس عن الکبت بالأمور السابقة وإظهاره عواطفه حتی لا تقوی نفس الجنود ولا یسبب ذلک أمراضه النفسیة وانحرافه.

ومن هذا المنطلق یتعارف عند الناس أنه إذا أصیب شخص بعزیز له أو بمال أو بآفة، کقطع ید أو قلع عین فی عملیة جراحیة أو ما أشبه، أن یأمروه بالبکاء، أو بالشکایة ببث الأشجان، وبالانصراف عن القیود والانضباط، کما أن العرف یصرون علیه بالسفر أو تغییر المنزل فی من مات عزیزه، حتی یصبح فؤاده فارغاً، ولا یکون له ما یذکره بما فجع به، بالإضافة إلی أمره بالصبر، فقد ورد فی الحدیث: «من عزّی مصاباً کان له مثل أجره»((1))، و«من عزی ثکلی کسی برداً فی الجنة»((2)).

وقد لخص جملة من علماء الاجتماع، أسباب الانحراف فی:

1: عدم استقامة العائلة.

2: الحرمان.

3: تناقضات الاجتماع.

العائلة وانحراف الشخصیة

العائلة وانحراف الشخصیة

1) فعدم استقامة العائلة، عبارة عن عدم سلامة وأمن البیت الذی یربی فیه

ص:248


1- ثواب الأعمال: ص458.
2- بحار الأنوار: ج79 ص94.

الأولاد، أما بالکبت أو بالتنازع أو بالمزید من العطف، فإن کل ذلک یوجب عدم استقامة النفس مما ینتهی بالآخرة إلی الانحرافات الروحیة، قالوا: ولذا نجد کثرة الانحرافات النفسیة عند الایرلندیین لتشدید الأمهات فی تربیة أولادهم، وعند الیهود لتکثیر الأمهات من العطف واللطف بأولادهم، وعند الإیطالیین لتشدید الآباء علی الأولاد، وعند جماعة من الأمریکیین لکثرة المنازعات بین الأخوة والأخوات.

وفی کثیر من البلاد الغربیة یقع الأولاد أوائل بلوغهم بین تناقض متطلبات العائلة منهم، مثلاً من ناحیة یرید الأبوان من البالغین الاستقلال فی إدارة أمورهم الاقتصادیة وغیرها، بل وحتی الجنسیة، ومن ناحیة أخری یربطون الأولاد بالبیت وبالطاعة للأبوین والکبراء، ومن الطبیعی أن یقع التناقض بین الاستقلال واللا استقلال.

وکذلک الحال یکون مع الأولاد الذین یرید الآباء منهم الطاعة، ولا یقومون بکل حوائجهم ولو عدم تزویجهم، وبذلک یحدث الانفصام والعقد النفسیة، فاللازم إما اعطاء الحاجة ولو النواقص منها فی قبال الطاعة، وأما ترک الأولاد لیقوموا بحوائج أنفسهم باستقلال من غیر تطلب إطاعة منهم.

فالطاعة لا تکون إلاّ فی قبال إعطاء الحاجة، فإذا اختل المیزان اختلت الصحة النفسیة بما أوجب الانحراف، وهذه هی حالة الحکومات فی قبال الشعوب، فاللازم إما إعطاء حاجاتهم فی قبال تطلب الطاعة منهم، وإما ترکهم وشأنهم لتحصیل حاجاتهم بأنفسهم بدون تطلب الطاعة، وإنما یکون شأن الحکومة حینئذ شأن المراقب لئلا یطغی بعضهم علی بعض.

وفی بعض الأمم یتجلی التضاد فی العائلة بمظاهر أخر، مثلاً الأب یرید

ص:249

المجازات للمسیء من الأولاد، لکن الأم تمنع ذلک، فیقع الطفل بین هذین النقیضین، أو یرید الأب إنهاء الدراسة للأولاد لیساعدوه فی عمله ومزرعته، وترید الأم عکس ذلک، أو ترید الأم زواج البنت، ویرید الأب عدم زواجها لأجل خدمة البیت أو غیر ذلک.

ولون آخر من ألوان التضاد، تسییب الأولاد فی الدار، وإرادة الانضباط منهم لدی الذهاب إلی السفر، أو إلی الضیافة، أو عند حلول الضیف لدیهم.

والحاصل: إنه کلما یوجب الازدواجیة یوجب انفصام الشخصیة، مما ینجر بالآخرة إلی الأمراض والعقد النفسیة، وحیث إن النفس والجسم یتبادلان المرض، ولذا قیل: (العقل الصحیح فی الجسم الصحیح)، فإذا مرضت النفس وتعقدت أوجبت بالإضافة إلی انحراف خط سیر الحیاة للمریض ولمن یرتبط به، تأثیر المرض النفسی إلی جسمه.

ولذا اعتاد علماء الطب النفسی الجسمی، فحص صور المرض الجسمی فی النفس، فإن لم یوجد هناک مرض، استوجده فی الأعضاء والاجهزة البدنیة.

دور الحرمان فی الانحراف

دور الحرمان فی الانحراف

2) أما دور الحرمان، فهو کبیر فی خلق الانحراف، فإنه یؤثر فی الانحراف من جهتین:

الأولی: إن الحرمان یؤثر علی الجسم نقصاً فی جهاز من الأجهزة، سواء

ص:250

کان بسبب سوء التغذیة، أو بسبب عدم الوقایة من الحر والبرد، أو بسبب عدم وسائل الصحة فی الماء والهواء، أو بسبب عدم الدواء، فیؤثر الاختلال الجسمی فی الاختلال النفسی، کما تقدم وجهه.

ولذا نری فی البلاد ذات الاختلاف الطبقی تبتلی الطبقة الفقیرة بأمراض النفس، مما لا یوجد مثل ذلک فی الطبقة الغنیة، ویعرف ذلک جلیاً فی الأحیاء السکنیة الفقیرة والغنیة.

فالأحیاء السکنیة الفقیرة، کما تکثر فیها الأمراض والأسقام الجسمیة، کذلک تکثر فیها الأمراض النفسیة والانحرافات الروحیة، بخلاف الأحیاء السکنیة الغنیة، وإذا ارتاد الإنسان المستشفیات والمصحات العقلیة ودور المجانین یجد أن نسبة من فیها من الفقراء أکثر بکثیر من نسبة من فیها من الأغنیاء.

ومن أجل ذلک یکون المبتلی بالانحراف النفسی أکثر بکثیر فی العوانس والأرامل والأیتام والنساء اللاتی طلقن، والرجال الذین طلقوا زوجاتهم، من غیر هؤلاء، کالنساء والرجال ذی الأزواج، والذین لم یصلوا مبلغ الزواج من الصنفین، والأولاد الذین لم یصابوا بفقد أحد الأبوین.

تناقضات المجتمع تزرع الانحراف

تناقضات المجتمع تزرع الانحراف

3) أما تناقضات الاجتماع، فهی الأخری توجب الانحراف، حیث یقع الفرد بین جهتین متضادتین، ویسبب ذلک انفصام شخصیته واختلالاً فی داخله یجره إلی الانحراف، مثل ما إذا وقع الاجتماع بین کماشتی الثقافة القدیمة والثقافة الجدیدة، أو وقع الفرد بین التضاد الثقافی، لأن ثقافته الاجتماعیة توجب شیئاً، وثقافته الحزبیة أو ما أشبه توجب شیئاً آخر، وکما إذا أمره دینه بشیء

ص:251

واجتماعه بشیء آخر.

ولذا نجد الانحراف فی البلاد الإسلامیة بکثرة بعد أن غزتها الثقافات الدخیلة، ونری من یفرط فی شرب الخمر بما لا یفعل مثله زمیله فی بلاد المستعمر، إلی جانب من یفرط فی التطهیر إلی حد الوسوسة بما لم یأمر به الإسلام، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

وقد نعی جماعة من علماء الاخلاق فی الغرب، تحطم الاجتماع الغربی من جهة التناقضات السائدة فی تلک البلاد، لأن الاجتماع یدعو الفرد من ناحیة إلی حب الإنسان وخدمته ومراعاة حقوقه، ومن ناحیة إلی حب الشهرة وجمع المال وتطلب المزید من الربح، وکذلک یدعوه تارة إلی الرؤیة المستقبلیة والوعی والرشد الفکری، وتارة إلی حقائق مقبولة بواسطة الدعایات الملتویة فی الإذاعات والصحف وغیرها، وهکذا یزید تارة من حاجاته الاقتصادیة بسبب المنتجاب الاقتصادیة الجدیدة ذات الجمال والبریق، ثم لا یهیؤ له الوسائل الکافیة والإمکانات لاحتواء تلک الحاجات، وکذلک فی أمر السلام والحرب والاستعمار والتحرر، بینما السلام هو ظاهر دعایاتهم، والتحرر هو مدعاهم، یعملون لیل نهار للحرب، وللاستعمار الأکثر فالأکثر.

حربة الاستعمار تصیب حاملیها

حربة الاستعمار تصیب حاملیها

وینبغی هنا أن ننوه إلی حقیقة هی أن الإنسان لا یمکن أن یکون علی شاکلتین، إلاّ إذا کان مریضاً منفصم الشخصیة، قال سبحانه: {ما جعل الله لرجل من قلبین فی جوفه}((1)).

والشاکلة الواحدة لا تأتی إلاّ بالعمل الواحد المشابه لتلک الشاکلة.

ص:252


1- سورة الأحزاب: الآیة 4.

{قل کل یعمل علی شاکلته}((1)).

ولذا عادت أضرار استعمار البلاد ونیران حروبها إلی أنفسها بمثل ما رجعت إلی البلاد المستعمرة والمحاربة، ولکن بصورة مختلفة، وإن کان المغزی واحداً.

فالحالة الاستعماریة فی تلک البلاد سببت:

1: استعمار دولها لشعوبها، کما استعمرت تلک الدول البلاد المستعمرة، وقد صدقت الحکمة القائلة: «من أعان ظالماً علی مظلوم لم یزل الله علیه ساخطاً حتی ینزع من معونته»((2)). وما ورد من أنه: «کما تدین تدان»((3)).

فإن حالة الظلم إذا وجدت فی إنسان لم یهتم أن یظلم عدوه أو صدیقه، وفی المثل الإسلامی: إن هارون کما قتل الإمام موسی بن جعفر (علیه السلام) قتل البرامکة الذین ساعدوه علی ظلمه.

2: المؤامرة الدائمة من بعضهم ضد بعض، بما لا تدع لهم راحة، فهم فی ضیق البلاد المستعمرة، وإن لم یکن من جهة الاستعمار الظاهر، وقد قال سبحانه: {ومن أعرض عن ذکری فإن له معیشة ضنکاً}((4)).

کما أن حروبهم لأجل الاستعمار أورثت لهم بالإضافة إلی کره الأمم المحاربة لهم، والحروب الباردة بینهم، حربین عالمیتین کانت کل حرب منهما تساوی القدر الذی حاربوه مع الأمم الضعیفة، قبل تلک الحرب إن لم تکن أکثر، وقد یجتمع هذه الحروب التی أشعلوها ضد الامم _ بعد الحرب العالمیة الثانیة _ لتنفجر ضدهم فی حرب عالمیة ثالثة.

ص:253


1- سورة الإسراء: الآیة 84.
2- ثواب الأعمال وعقابها: ص597 ح رقم 1243.
3- الوسائل: ج8 ص424 الباب 21 من أبواب أحکام العشرة ح3.
4- سورة طه: الآیة 124.

شروط عقاب المنحرف

اشارة

شروط عقاب المنحرف

(مسألة 25): المنحرف یجب أن یعاقب بعد ملاحظة أربعة آمور:

1: الجریمة.

2: والمجرم.

3: والاجتماع.

4: والصلاح.

فمثلاً هل حجم الجریمة زنا محصن أو زنا غیر محصن، وهل المجرم غیر بالغ لیؤدب، أو بالغ لیحد، وهل الاجتماع صالح حتی یکون المنحرف خارقاً للصلاح العام، قال سبحانه: {ولا تفسدوا فی الأرض بعد إصلاحها}((1)).

أو الاجتماع غیر صالح حتی یکون المنحرف خارقاً للقانون لا للصلاح العام، وقد قال (صلی الله علیه وآله): «ساحر المسلمین یقتل، وساحر الکفار لا یقتل، لأنه فی أسوأ من السحر»((2))، ولم یکن جزاء السارق فی المخصمة قطع الید.

وبعد تلک الأمور یأتی دور الأهم والمهم، وهل أن الصلاح العقوبة أو ترکها أو قدر منها، قال الله تعالی: {وخذ بیدک ضغثاً فاضرب به ولا تحنث}((3)).

وجعل الإسلام الصلح سید الأحکام، وقال تعالی: {والصلح خیر}((4))

ص:254


1- سورة الأعراف: الآیة 56.
2- الجعفریات: ص128، والوسائل: ج18 ص576.
3- سورة ص: ال آیة 44.
4- سورة النساء: الآیة 128.

حتی لا یستفز الحق أحد الطرفین ویهیأ الأرضیة للانحراف، وقد عزل علی (علیه السلام) أبا الأسود الدئلی قاضیه، فقال له: لم عزلتنی یا أمیر المؤمنین، وما خنتُ ولا جنیتُ، قال (علیه السلام): «نعم ولکن یعلو صوتک صوت الخصمین»((1)).

فلماذا الصیاح من القاضی، فإن اللازم علیه أن یحکم حسب ما یراه من الحق، وذلک ممکن بصوت خافت، أما ما عداه فإنه یزرع الحقد ویهیؤ الأرضیة للانحراف.

وقد عفا علی (علیه السلام) عن شاب سارق، قال له: ماذا تحفظ من القرآن، قال سورة البقرة، قال (علیه السلام): «عفوت عنک لسورة البقرة...».

وعفا (علیه السلام) عن لائط بعد أن تاب واستعد لتقبل العقاب.

وأنّب رسول الله (صلی الله علیه وآله) الذین أرجعوا ماعزاً إلی الحفرة حتی رجم فمات، وأداه من بیت المال.

إلی غیرها من القصص التی تبین مسألة کون العقوبة حسب الجریمة أو حسب المجرم، وکون الاجتماع والصلاح یتدخلان فی الأمر.

کیف یعالج الانحراف؟

کیف یعالج الانحراف؟

وعلی أی حال، فالمهم فی باب الانحراف:

1: العلاج.

2: وإصلاح المجتمع الصغیر.

3: وإصلاح المجتمع الکبیر.

فإن المنحرف غالباً لیس إلاّ ضحیة الاجتماع، فیجب أن ینظر إلیه بنظر العطف والشفقة لا بنظر الغضب والازدراء، ولذا لم یرد فی التاریخ ازدراء

ص:255


1- انظر مستدرک الوسائل: ج3 ص197.

الرسول (صلی الله علیه وآله) وعلی (علیه السلام) بالمجرمین، وإن طبقوا علیهم أحیاناً الحدود الشرعیة.

وحتی المنافقین الذین ورد فیهم إنهم: {فی الدَرَک الأسفل}((1)) وإنهم {هم العدو}((2))، لم یواجههم الرسول (صلی الله علیه وآله) وعلی (علیه السلام) إلاّ بأقل القدر الممکن من التأنیب، وکذلک الذین فروا من الزحف، أو خانوا الرسول (صلی الله علیه وآله) فی أوامره الحربیة مما سببوا قتل خیرة أصحابه کحمزة (علیه السلام)، مع أنه قال الله تعالی: {ومن یولهم یومئذ دبره إلاّ متحرفاً لقتال أو متحیزاً إلی فئة فقد باء غضب من الله}((3)).

وقال سبحانه: {یا أیها النبی جاهد الکفار والمنافقین}((4)).

بل عامل الرسول (صلی الله علیه وآله) وعلی (علیه السلام) الذین حاربوهما بأقل القدر الممکن من العنف مما لابد منه، فی قصص معروفة، إذ العقاب اضطرار، لم یجعل تشفیاً، وإنما جعل علاجاً، فهو کالعملیة الجراحیة لا یقدم علیها إلاّ اضطراراً، ثم یکون کمها وکیفها بقدر الاضطرار أیضاً، فإن الله سبحانه خلق البشر لیرحمهم، قال تعالی: {ولذلک خلقهم}((5)).

أما العذاب فی الآخرة، فهو أیضاً بقدر الاضطرار، ولذا تکون الشفاعة والعفو، ثم بعد ذلک إذا حدث الاضطرار یأتی {جزاءً وفاقاً}((6))، {وإنما تجزون ما کنتم تعملون}((7)).

ص:256


1- سورة النساء: الآیة 145.
2- سورة المنافقون: الآیة 63.
3- سورة الأنفال: الآیة 16.
4- سورة التوبة: الآیة 73.
5- سورة هود: الآیة 119.
6- سورة النبأ: الآیة 26.
7- سورة الطور: الآیة 16.

ولذا کان شعار الإسلام: {قولوا للناس حسناً}((1)).

و: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلین}((2)).

و: {ادفع بالتی هی أحسن فإذا الذی بینک وبینه عداوة کأنه ولی حمیم ولا یلقاها إلاّ الذین صبروا ولا یلقاها إلاّ ذو حظ عظیم}((3)).

و: {وإن أحد من المشرکین استجارک فأجره حتی یسمع کلام الله ثم ابلغه مأمنه}((4)).

وقال علی (علیه السلام): «واکظم الغیظ، وتجاوز عند المقدرة، واحلم عند الغضب، واصفح مع الدولة» _ السلطة _ «تکن لک العاقبة»((5)).

وقال (علیه السلام): «إذا قدرت علی عدوک فاجعل العفو عنه شکراً للقدرة علیه»((6)).

وقال (علیه السلام): «أولی الناس بالعفو أقدرهم علی العقوبة»((7)).

وقال (علیه السلام): «العفو زکاة الظفر»((8)).

إلی غیر ذلک من کلماتهم (علیهم السلام) وأعمالهم، سواء بالنسبة إلی المجرمین السیاسیین أو المجرمین الجنائیین.

وقد اکتشف علماء السیاسة والاجتماع أخیراً لذلک قاعدة (عجز القوة وقوة العجز)، حیث إن القوة یختفی فی طیاتها العجز، فهل یمکن أن یضرب لص بمدفع میدان، وهل یمکن أن یقابل سلم العدو (العجز) بالقمع، وللمثال فقد انتزع حزب المؤتمر استقلال الهند من بریطانیا بالسلم، کما أن عالم الیوم

ص:257


1- سورة البقرة: الآیة 83.
2- سورة الأعراف: الآیة 199.
3- سورة فصلت: الآیة 34.
4- سورة التوبة: الآیة 6.
5- نهج البلاغة: ال کتب 69 .
6- نهج البلاغة: قصار الحکم 11 .
7- نهج البلاغة: قصار الحکم 52.
8- نهج البلاغة: قصار الح کم 211.

عجز عن دفع عدوه مع أنه یملک السلاح النووی.

ومن کلام لعلی (علیه السلام) کما فی (نهج البلاغة): «وإنما ینبغی لأهل العصمة والمصنوع إلیهم فی السلامة، أن یرحموا أهل الذنوب والمعصیة ... یکون الشکر هو الغالب علیهم، والحاجز لهم عنهم، فکیف بالعائب الذی عاب أخاه وعیّره ببلواه».

«أما ذکر موضع ستر الله علیه من ذنوبه مما هو أعظم من الذنب الذی عابه به، وکیف یذمه بذنب قد رکب مثله، فإن لم یکن رکب ذلک الذنب بعینه فقد عصی الله فیما سواه، مما هو أعظم منه، وأیم الله لئن لم یکن عصاه فی الکبیر وعصاه فی الصغیر، لجرأته علی عیب الناس أکبر، یا عبد الله لا تعجل فی عیب أحد بذنبه، فلعله مغفور له، ولا تأمن علی نفسک صغیر معصیة، فلعلک معذب علیه، فیکفف من علم منکم عیب غیره لما یعلم من عیب نفسه، ولیکن الشکر شاغلاً له علی معافاته، مما ابتلی به غیره»((1)).

وعلی أی حال، فعلاج الانحراف:

أ) استدراج المنحرف إلی الاستقامة من أقرب الطرق وأسهلها، فإذا کان إجرامه لأجل فقر أو عدم زوج أو زوجة أو مرض أو منافسة أو ما أشبه، عالج فقره، وزوّجه _ وقد زوج علی (علیه السلام) مومسة _ وهیأ وسائل صحته، وأصلح بینه وبین منافسه، أو أبعد أحد المنافسین عن الآخر إن أمکن الإبعاد، وقد أمر الإمام الصادق (علیه السلام) بعض أصحابه أن یعطی من مال الإمام (علیه السلام) لطرف النزاع حتی یصطلحا إذا کان النزاع علی مال.

ب) تهیئة مصحات تمزج العلاج بتشغیل المنحرف، إذ المنحرف إذا ارتبط بالعمل لم یبق له فراغ للانحراف الفکری أو العملی، فإن فکره یشتغل

ص:258


1- نهج البلاغة: الخطب 140.

بعمله، وتعبه العملی یورث انضباط أکله ونومه مما یسببان له راحة وبهجة، وبالأخص إذا کان شغله مغریاً وموجباً لتقدمه، حیث إن ذلک یسبب أن ینظر إلی نفسه بالرفعة، فیتجنب تعاطی الأمور الوضیعة، والتفکر فی الأمور السخیفة.

ج) إذا کان مستحقاً للعقوبة عاقبه بقدر الضرورة، کماً وکیفاً، کما تقدم.

إصلاح المجتمع الصغیر

إصلاح المجتمع الصغیر

د) إصلاح المجتمع الصغیر، أی العائلة والمدرسة ونحوهما.

فقد سبق أن المشاکل العائلیة وسوء تربیتهم للأولاد، وانحراف الثقافة فی المدرسة وسوء معاشرة المعلم ونحوه للتلامیذ، یسببان لهم انحرافاً، فاللازم علی الأبوین إعطاء الأولاد العقل والعاطفة معاً، بدون إهمال أو تشدید حتی یحس الطفل بالأمن ویشعر بحدود عمله، فیعطیانه حاجاته، وفی نفس الوقت یعلمانه الانضباط والنظافة والأدب والعمل وحب الآخرین والمشارکة معهم وعدم الاستبداد.

یقول الشاعر:

والام مدرسة إذا أعددتها

أعددت جیلاً طیب الأعراق

أما المدرسة فهی محل التربیة الفکریة والعملیة، وتقویم الطفل فیها أصعب من تقویمه فی البیت، حیث إنه فی المدرسة تختلط الأجواء، فإن لکل طالب جواً، والنفس تسرع فی اکتساب السیئات أکثر من کسبها للحسنات، ولذا یکون اللازم استقامة الثقافة، واستقامة التربیة، والمواظبة الکاملة علی عدم سرایة الأخلاق السیئة من بعض الطلاب إلی بعض.

ولا یخفی أن المجتمع الصغیر حیث إنه مندمج فی المجتمع الکبیر، یلزم أن یصلح المجتمع الکبیر أیضاً، إذا أرید إصلاح المجتمع الصغیر.

ص:259

إصلاح المجتمع الکبیر

إصلاح المجتمع الکبیر

3: أما إصلاح المجتمع الکبیر، فهو من أشکل الأمور، إذ یتدخل فیه الاقتصاد والسیاسة والشؤون الاجتماعیة، والعمران والتربیة وغیرها.

وهو بحاجة إلی جیش من المصلحین ومن المثقفین والمحنکین حتی یمکن إصلاحه، فإن مثل محاربة تعاطی الخمور والمواد المخدرة والانحراف والشذوذ الجنسی، وفتح مدرسة أو إخراج مجلة أو ما أشبه، أمور جزئیة، لا یمکن إصلاح المجتمع الکبیر بها، وإنما إصلاحه بحاجة إلی تخطیط عام یشمل کل جوانبه، وأول الإصلاح هو أن یکون القائمون به صالحین، وإلاّ (فاقد الشیء لا یعطیه).

دعائم إصلاح المجتمع

اشارة

دعائم إصلاح المجتمع

والتخطیط العام لإصلاح المجتمع یبنی علی دعائم:

أ: الإیمان.

ب: واقتسام العلم والحکم والمال.

1: الإیمان بالله

1: الإیمان بالله

أما الإیمان فلأنه الوحید الذی یمکن به تعدیل الصفات والملکات والعواطف والأعمال، وإلاّ فمهما کان السطح منظماً ومنضبطاً، أمکن الخروج منه، وحیث لیس کلامنا الآن فی الإیمان، ندع الأمر لموضعه.

2: اقتسام القدرات

2: اقتسام القدرات

ب: وأما الاقتسام فلأن من طبیعة الاستغناء علماً أو مالاً أو حکماً الطغیان، ولا یأخذ أمام الطغیان، إلاّ الاقتسام، فإن فی ذلک وقایة للاجتماع عن الانحراف

ص:260

والوقایة خیر من العلاج.

فإن أحد الأمور الثلاثة، إذا لم یکن فی متناول الجمیع علی حد سواء _ باستثناء عدم قدرة بعض للاستیعاب من جهة عدم الکفایة فکریاً أو جسمیاً _ أوجب ذلک الحرمان، والحرمان ینتهی إلی الانحراف، ولذا یجب تحریر الثلاثة عن نیر الرأسمالیة والشیوعیة ونحوهما، حتی یکون المیزان الکفایة والعمل، فکل یقدر علی أن یحصل (المال) بقدر الآخر فی صورة استوائهما کفاءة، وکل یقدر علی أن یحصل علی أعلی مراتب (العلم)، الجامعة وفوقها، وکل یقدر علی أن یحصل علی (الحکم) بعد وجود المؤهلات له، من الشرائط الشخصیة کالعلم والعدالة، والشرائط الاجتماعیة کاختیار أکثریة الناس له، هذا فیما فیه اختیار الناس، أما إذا کان الحکم من قبیل الوظائف، کان لابد وأن ینظر إلی الأفراد المتأهلین بنظرة واحدة، وإذا کثروا وتساووا ولا احتیاج إلی جمیعهم کان الحکم القرعة، فالقرعة لکل أمر مشکل.

وبذلک یأمن الاجتماع عن الطبقیة المنحرفة، والمحسوبیة والمنسوبیة، وعن تدخل غیر الکفایة فی الوصول إلی المال والعلم والحکم، وحینذاک تکون الأرضیة الاجتماعیة خصبة للنبات الصالح، فلا یوجد الانحراف، إلاّ ما کان خارجاً عن تحت قدرة البشر.

فإذا حصلت الموازنة الصحیحة بین المعنویات (الإیمان والعلم والحکم) والمادیات (المال) لم یترد المجتمع فی مساقط الانحراف، بخلاف ما إذا لم تحصل الموازنة، کما إذا کان الإیمان عند من لا علم له، أو العلم عند من لا مال له، أو المال عند من لا إیمان له، أو ما أشبه ذلک، فإن المجتمع حینئذ یصبح

ص:261

محلا خصباً للانحراف.

فلماذا الشاب الفلانی یقدر علی دخول الجامعة، وأنا لا أقدر مع أن مستواه الفکری مثلی، فهل لأن والده یملک المال ولا یملک والدی، وإذا کان الأمر کذلک فلماذا ملک والده المال ولم یملکه والدی، مع أن الکفاءة فیهما متساویة، ألیس ذلک من ذنب الاجتماع الذی نظم القانون الاقتصادی بحیث یسحق الکفاءات، ویوجب الاختلاف فی الطبقات بدون مبرر.

ولماذا تمکن فلان من الوصول إلی مجلس الأمة، ولم اتمکن أنا، فهل لأن ذاک من حاشیة الحاکم، ولست أنا من حاشیته، وهل میزان الحکم الحاشیة، أو أن المیزان الکفاءة وانتخاب الناس، وإذا کان المیزان الأول، فأی اجتماع هذا الذی ینظم القانون بحیث یحرم الکفوء بدون أی سبب.

ولماذا لا أتمکن أنا من کسب المال الکافی لشؤونی، مع أن عندی کفاءة وأنا مستعد للعمل، ألیس ذلک لأجل أن الرأسمالی الفلانی یتمکن من التلاعب بالأسواق، فینزل البضاعة لیکسر باعة المفرد، حتی یوسع لنفسه المحلات لبیع المفرد التابعة له، وإذا کان الأمر کذلک فأی اجتماع هذا الذی یسنّ مثل هذه القوانین حتی یحرم الإنسان عن لقمة العیش، بله التقدم.

إلی غیر ذلک من أسباب الطبقیة المنحرفة فی کل من العلم والمال والحکم، مما یسبب أن یکون الاجتماع محلاً لولادة الانحراف.

القوانین الوضعیة تصنع الانحراف

القوانین الوضعیة تصنع الانحراف

وقد أوغلت القوانین الوضعیة فی تهیئة مناخ الانحراف:

1) فالقانون یطبق علی العالم وغیر العالم، والمضطر وغیر المضطر،

ص:262

مع أن الإنسان یری الظلم فی القانون إذا رأی نفسه بریئاً بعدم العلم وبالاضطرار، وذلک مناخ خصب لوجود الانحراف، فإن المظلوم یهیؤ نفسه للانتقام، ویختمر فی نفسه العداء، وذلک ما یسبب الانفجار أحیاناً فی غیر المحل المناسب.

وأما الإسلام فقد رفع تسعة أشیاء: (ما لا یعلمون، وما لا یطیقون، وما اضطروا إلیه، وما استکرهوا علیه، والنسیان، والسهو، والطیرة، والحسد ما لم یظهر بید أو لسان، والوسوسة فی التفکر فی الخلق) ((1))، لأن کل ذلک لا یدخل تحت الاختیار، فکیف یؤخذ الإنسان به.

کما أن من خطأ القوانین الوضعیة الموجبة لتهیئة مناخ الانحراف، جعل المال بدل العقاب، وبدل الوظیفة، فالقاتل وکثیر من المجرمین إذا أعطوا المال خلصوا من السجن أو الإعدام أو ما أشبه.

کما أن المکلف بالجندیة الإجباریة إذا دفع المال سقط عنه التکلیف بالخدمة، وهکذا فی کثیر من القوانین، ومثل ذلک من أخصب المناخ للانحراف.

إن الفقیر _ الذی لم یرجع فقره إلی تقصیره _ إذا أجرم هو والغنی، سجن الأول وأطلق الثانی، أو قتل الأول وخفف عن الثانی، ولماذا، لأن الأول عثر به حظه فلم تتهیأ الظروف لأن یکون له مال، وکذلک إذا أخذ الفقیر جندیاً مکلفاً وأطلق الغنی بسبب عطائه المال، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

وکذلک الحال فی إجرام ذی نفوذ وغیره، حیث إن شخصیة الأول تحول دون عقابه أو عقابه الکثیر، بینما غیره یتلوی لأمر لم یکن باختیاره، حیث إنه لا شخصیة له، لعدم کونه من عشیرة أو ما أشبه، فإن أمثال هذه الأمور _ والأمر إنما فی إطار القانون _ توسع رقعة الانحراف، وربما جرفت الثورة بواضعی أمثال هذه القوانین.

ص:263


1- تحف العقول: ص41.

بین المدینة والقریة

اشارة

بین المدینة والقریة

(مسألة 26): الاجتماع عبارة عن حیاة أفراد کثیرین یسکنون فی محل واحد.

والمراد بالمحل الواحد المعنی الإضافی منه، مثل اجتماع القریة، واجتماع المدینة، واجتماع الدولة.

ولا فرق فی صدق الاجتماع بین الاجتماع البدائی، کالذین یعیشون علی الصید ویسکنون الکهوف والخیام، وبین المتوسط کالذین یعیشون علی الرعی والزراعة، وبین الصاعد کالذین یعیشون فی المدن علی الصناعة، فالأولون یصطادون الأکل، والثانیون ینتجونه، والأخیرون یعیشون حیاة الحضارة المعقدة.

ثم المدینة محل سکنی الاجتماع، قد تکون مدینة متمرکزة، وقد تکون مدینة قطاعاتیة، وقد تکون مدینة مراکزیة، تتناسب کل مدینة مع الاجتماع الذی یختار ذلک النوع من السکنی.

وسکان البلاد فی العصر الحاضر _ وبالأخص المتقدمون أکثر صناعیاً _ لهم حیاة خاصة، من ناحیة هی متقدمة، ومن ناحیة هی متأخرة، ومن ناحیة هی أکثر تعقداً وضوضاءً وضغطاً، ولذا تکون المشاکل فیها أکثر.

وقد حصل البون الشاسع بین حیاة القریة، وحیاة المدینة.

وحیث یرید الإنسان السلامة، فاللازم أن یضع البرامج التی تضیق شقة الابتعاد بین القریة والمدینة من ناحیة، وتقلل من المشاکل الناجمة من کثرة الناس ومن لوازم الصناعة فی المدینة.

ص:264

وحیث إن الأحکام الشرعیة تابعة للموضوعات، ولا یعلم الحکم ما لم یعرف الموضوع، کان اللازم بیان الموضوعات حتی یعرف أحکامها من منابعها التی تستقی منها الأحکام، وکثیراً ما لا یعرف الموضوع فلا یمکن حل المشکلة، مما یوجب اضطرار الفقیه إلی بیان الحکم الثانوی له.

مثلاً إذا عرف أن الاجتماع الحاضر مبنی علی البنک، ولم یعرف کیف یمکن التخلص من الربا فیه، کان لابد من إجازة تعامل الناس مع البنوک الربوبة اضطراراً، بینما إذا عرف الاقتصاد الحاضر، وکیف أنه دخل فیه الربا، أمکن علاج الأمر بتقویم الاقتصاد بما یظهر منه أنه لا اضطرار إلی تقبل الربا.

الاجتماع العام والاجتماع المحلی

الاجتماع العام والاجتماع المحلی

وکیف کان، فالجماعة الإنسانیة مع ملاحظة محل السکنی والروابط بین الأفراد، فیما دام الاجتماع، هی محل هذا البحث.

ولذا یخرج عن ذلک الکلام حول طلاب مدرسة أو أعضاء مؤسسة یجتمعون أحیاناً لأمر ما أو ما أشبه ذلک، هذا من ناحیة الطرد.

أما من ناحیة العکس، فاجتماع قبیلة، أو قریة، أو مدینة، أو قطر، أو بین أمم، أو بین کل الأمم، کلها داخلة فی محل البحث.

ولذا کان بین الاجتماع المحلی والاجتماع عموم مطلقاً، فالأول یرتبط ببیئة خاصة، لوحظ فیها الماء والهواء والمناخ والمأکل وما أشبه، بینما الثانی یلاحظ الأمم لا من بیئة خاصة.

وحیث إن الکلام فی هذا المبحث أعم من بیئة خاصة، یکون البحث عن المطلق لا عن الخاص، والفرق بین علم البیئة وبین علم الاجتماع أن الأول یلاحظ الإنسان من حیث ارتباطه بالمحیط الطبیعی، والثانی یلاحظ من حیث ارتباطه بالمحیط الاجتماعی،

ص:265

فعالم البیئة یلاحظ خصوصیات البیئة وتأثیر الطبیعة فی الإنسان، بینما عالم الاجتماع یلاحظ خصوصیات الاجتماع، ونفوذ الاجتماع فی الأفراد.

ویتکلم القسمان من العلماء حول کیفیة مجیء الجماعات والأقوام إلی الأماکن، لهجرة طبیعیة أو مطاردة أو حرب أو غیرها، وکیف أنهم تمرکزوا، وکیف توسطوا، کیف عاشوا، ثم کیف هجروا وجاء مکانهم أناس آخرون.

بدء الحیاة الإنسانیة

بدء الحیاة الإنسانیة

والإنسان أول ما وجد کان کاملاً عالماً، {وعلّم آدم الأسماء کلها}((1))، إلاّ أن الحیاة تدرج، فربما کان بدء مجیئه إلی الأرض یعیش علی الصید والفاکهة، ثم ورد أن هابیل (علیه السلام) وقابیل أخذا فی الزرع والرعی، ذلک تطور من الحیاة التی لا استقرار لها إلی حیاة الاستقرار فی الجملة، بسبب التقیّد بمحل الزرع، وبالقطیع المحتاج إلی مکان خصب، ثم یأتی دور تطور جدید:

1: بالسکنی مجتمعاً فی خیام أو قریة أو ما أشبه، أما مسألة الإنسان الأول والتطور الداروینی فمما لم یقم علیه دلیل، بل الدلیل قام علی خلافه.

2: وباجتماعات تعیش عیشة البداوة، واخری تعیش عیشة التوسط.

3: کما أن فی القسم الثالث أناس یعیشون قمة الحضارة الحدیثة بصنائعها ورفاهها ومشاکلها، وآخرون یعیشون قبل ذلک، فلهم بعض محسنات ومشاکل المرحلة السابقة والمرحلة اللاحقة.

وقد أصبح الاجتماع بواسطة الوسائل الحدیثة وحدة واحدة، مرکبة من المدینة الکبیرة، والمدینة العادیة، والمدینة الصغیرة، والقریة، وما قبل القریة.

ص:266


1- سورة البقرة: الآیة 31.

القریة أم المدینة

القریة أم المدینة

وهناک خلاف بین علماء الاجتماع فی أفضلیة سکن المدینة أو القریة، الأولی لأنها مرکز الحضارة والمدنیة، ولحصول الإنسان فیها علی وسائل الرفاه، وتمکنه من التقدم إلی مدارج الکمال، والثانیة لقلة المشاکل والضوضاء فیها، ولسلامة البیئة عن التلوث، ولقلة الأمراض، بل ولطول الأعمار.

ولکل وإن کان وجهة نظره، إلاّ أن القول الأول أقرب إلی الصواب لمن له قدرة المقاومة، فإن التقدمیة التی جبل الإنسان علیها لا تحصل فی القریة.

وحسب الاختلاف المتقدم، فقد اختلفت الآراء إلی:

1: هدم القریة وتکبیر المدینة، وذلک بتشویق أهل القریة للهجرة إلی المدینة:

أ) إیجابیاً بالدعایة ونحوها.

ب) بإهمال القریة حتی ینسحب أهلها تلقائیاً، مع توفیر الإمکانیات للمدینة لاستیعاب أهل القریة.

2: تقلیل أهالی المدینة، وتکثیر القریة، وتکبیر الموجودة من القری بما لا یخرج عن کونها قریة بمحسناتها، والعمل علی العکس من الأول، حیث تشجّع الدولة الهجرة إلی القری، وتوفر بعض الحوائج، وتسهّل أمور الاستیطان فیها.

3: تمدن القری بإیصال بعضها ببعض، وتحصیل الوسائل الکافیة لها، حتی تکون مرحلة وسطی بین المدینة المعقدة، وبین القریة البسیطة.

وعلی أی، اللازم الدقة الکاملة لما هو الأصلح بحال الإنسان _ حیث إنه

ص:267

المحور _ فی رفاهه وتقدمه، وبعد ذلک الشروع فی التطبیق بما لا یوجب تزلزل أرکان الاجتماع.

المدن المغلقة أم المفتوحة

المدن المغلقة أم المفتوحة

ثم هناک خلاف آخر فی أنه هل من الأفضل صنع المدن الجدیدة حول المدن الکبار، کما یتعارف الآن، مدناً منغلقة علی طائفة، کالمعلمین وعمال المصارف والفلاحین وما أشبه، أو مدناً منفتحة، أمثال القری والمدن العادیة، یسکنها من یشاء من غیر فرق بین المهن وما أشبه.

الأولون: یستدلون بأنه أقرب إلی الراحة، للانسجام بین أصحاب الدور، حیث لهم مهنة واحدة، والانسجام یوجب الرفاه النفسی والجسدی.

والآخرون یقول: إن وحدة المهنة بین الجیران تسبب الانغلاق الفکری، حیث إن عدم رقابة الحیاة((1)) توجب جمودها، وصعوبة الاختلاط غیر المتجانس أهون من مشکلة عدم الرقابة المجمّد.

ولعل الثانی أقرب، وفیها فوائد أخر، مثل الزواج من مختلف الأقسام، وتنوع الحیاة المستقبلیة للأولاد، وغیر ذلک.

نعم بعض المدن الصناعیة الحدیثة، لابد لها من وحدة المهنة، أمثال عمال مصنع کبیر وما أشبه، کما هو الحال فی القری الزراعیة ونحوها، ومع ذلک یجب أن تنظم حیاة أمثال هؤلاء بما لا یوجب جمود الفکر الناشئ من عدم رقابة الحیاة.

الفوارق بین المدینة والقریة

الفوارق بین المدینة والقریة

وکیف کان، فالفروق الأساسیة بین المدینة والقریة هی:

ص:268


1- المراد بعدم الرقابة عدم التنافس.

1: المدینة أکثر ناساً بخلاف القریة.

2: روابط الأفراد فی المدینة عادیة، بینما الروابط فی القریة شدیدة، وهکذا معاداة أفراد المدن بعضهم لبعض ضعیفة، بینما معاداة أفراد القریة شدیدة، والسر أن کثرة أعمال روابط فرد المدینة لا تدع له مجالاً لشدة الولاء أو شدة العداء بخلاف القریة.

3: سعة مجال العمل والزواج والانضمام إلی الجمعیات والمؤسسات فی المدینة دون القریة.

4: قوة العلم والدین والأخلاق والآداب فی المدینة، لکثرة المدارس والمعلمین والوعاظ والمربین فی المدینة دون القریة.

5: کثرة الأمراض ویسر العلاج فی المدینة، وبالعکس من الأمرین القریة، حیث تلوث البیئة فی المدینة أکثر، والطب والوسائل الطبیة فیها أکثر، بخلافهما فی القریة.

6: تعقد النفس فی المدینة دون القریة، وذلک لأن کثرة الروابط وتناقضها وشدة الطبقیة وکثرة الحرمان فی المدینة توجب ذلک، والقریة لیست کذلک.

7: سهولة المعاملات وعدم التدقیق فی أمرها فی المدینة، وذلک لأن کثرة الشأن فیها لا یسمح بالدقة، بخلاف القریة حیث قلة الشأن فیها فتکون مسرحاً للدقة.

8: ضعف مراقبة الأهل والأولاد فی المدینة، وشدتها فی القریة، إذ سعة المدینة من ناحیة، وکثرة شغل الإنسان فیها من ناحیة ثانیة، تجعل الأولاد ونحوهم بمنأی عن عین الأب والأم، ثم إن أشغالهما یمنعان من المراقبة الدقیقة،

ص:269

وبالعکس من کلا الأمرین القریة.

9: فی المدینة الدخل أکثر والأرباح أوفر، بخلاف القریة، وذلک من جهة ارتفاع مستوی المعیشة فی المدینة، دون القریة من ناحیة، ومن جهة وجود النقد أکثر فی المدینة مما یجعله أکثر ابتذالاً، وبالعکس من ذلک القریة.

10: التحرک الاجتماعی فی المدینة عمودیاً وأفقیاً، حیث مختلف المؤسسات، ومتفاوت الدرجات، فیتمکن الإنسان أن ینتقل من وظیفة إلی وظیفة، کما یتمکن أن یصعد من مرتبة نازلة إلی مرتبة رفیعة، وأحیاناً بالعکس، ولیس کذلک القریة، ولذا یکون هناک الجمود.

11: أخطار المدینة أکثر، من حیث السرقة والسطو والاختطاف والدهس وغیرها، حیث کثرة السیارات وتنوع الناس، وإمکانیة المفسد من الاختفاء فی بحر الناس، بخلاف القریة فی کل ذلک.

12: کثرة الفساد فی المدینة، من زنا ولواط واستعمال المخدرات ونحوها بخلاف القریة، وذلک للأسباب التی تقدمت فی البند الحادی عشر.

13: زیادة الحر والبرد فی القریة، لقلة العائق لهما من الأبنیة والعمارات، بخلاف المدینة لکثرة العائق، ولذا یمکن الاستفادة من الطبیعة أکثر فی القریة من المدینة.

14: تشتد النزاعات القومیة والطائفیة والعرقیة وغیرها فی القریة دون المدینة، وذلک لأن المدینة بحضارتها الکثیرة ترقق من المشاعر، وتعطی رؤیة أوسع، بخلاف القریة فی ذلک.

15: تجعل القریة أفرادها أبعد عن عین الحکومة ومتناولها، حیث تضعف أجهزة الحکومة فی القریة، وحیث القرابة والصداقة الشدیدة فی القریة،

ص:270

مما یستر بعضهم علی بعض، ولیس کذلک المدینة، ولذا تشد القریة من أزر التنظیمات المناوئة للحکومة.

ولا یخفی أنه تختلف المدن والقری الساحلیة، والجبلیة، والغابیة، والسطحیة فی بعض تلک الجهات، کما أن حرکة التهریب فی الساحلیة، والحرب فی الجبلیة والغابیة، وغیرهما تختلف اختلافاً کبیراً، کما أن المدن الصناعیة تختلف عن غیرها من بعض الحیثیات المتقدمة، وکذلک بالنسبة إلی القریة.

الدین والمسکن

الدین والمسکن

ثم لا یخفی أن الدین _ الأعم من الأخلاق _ الذی هو الإطار الصحیح للدنیا السلیمة، وللآخرة السعیدة، تختلف إمکانیة تمسک الإنسان به فی القریة من المدینة، وفی مدینة عن مدینة، وقریة عن قریة، وعدم التمسک به کاملاً یوجب خبالاً فی الحیاة، بله الآخرة، کما قال سبحانه: {ومن أعرض عن ذکری فإن له معیشة ضنکاً}((1)).

ولذا کان اللازم:

1: أن یسکن الإنسان فی محل هو أقرب إلی إمکانیة تطبیق الدین، سواء سکناه الدائم، أو سکناه لأجل علم أو غیره.

2: أن یهتم القائمون بالدین فی تنظیم وسائله بما یجعل الناس أقرب إلی الأخذ به، مثل أن تبنی فی کل مدینة وقریة مدرسة دینیة، وأن تنشر الکتب والنشرات فی الأحیاء الصناعیة، وأن یبنی المسجد فی المراکز العمالیة، وأن یهتم لاستعمال وسائل الإعلام کالصحف والرادیو والتلفزیون، لأجل بث الدین وتذکیر الغارقین فی أعمالهم بالموازین الدینیة، مما یوجب السعادة الدنیویة والأخرویة.

ص:271


1- سورة طه: الآیة 124.

بناء المدن

اشارة

بناء المدن

(مسألة 27): من الطبیعی أن ینظم الإنسان حیاته حسب:

1: ما یقربها إلی حاجاته.

2: ویبعدها عن الأخطار.

فإن غریزة البقاء تعطی للإنسان هذه النظرة، ولذا یبنی الإنسان داره حیث توفر له الأمرین السابقین، وکیفیة تراکم الاجتماع تتبع ذلک، ولذا تبنی المدن حوالی أمثال:

1: المساجد وسائر محلات العبادة لکل أمة.

2: المؤسسات الاقتصادیة بفروعها سواء.

أ) النقدیة کالمصارف.

ب) أو الإنتاجیة کالمعامل.

ج) أو الاستهلاکیة، کمحلات الأکل واللباس وما أشبه.

3: المؤسسات العلمیة کالمدارس والمعاهد والمکتبات.

4: مراکز القوة، مثل محل وجود العشیرة، ومنطلقات القوة الحکومیة، ومحل تجمع الحزب ونحوه، مما یعطی للإنسان قوة الدفاع.

والغالب فی المدن أن تتشکل من أقسام مثل:

1: قسم السکن.

2: وقسم الأخذ والعطاء کالأسواق.

3: وقسم الإنتاج کالمعامل والمصانع.

ص:272

4: قسم دوائر الدولة، فی بعض البلاد.

وإنما یجعلون المدن کذلک، للراحة فی المسکن، وتجمع الحوائج فی قسم التعامل، وإخراج الضوضاء إلی ناحیة فی قسم الإنتاج، وتجمع الاحتیاجات الإداریة فی مکان آخر، وهکذا.

أقسام المدن

أقسام المدن

ثم إن الغالب فی المدن أن تبنی علی أقسام:

1: المدینة المرکزیة الشعاعیة، بأن یکون للمدینة مرکز واحد، ثم تبنی من عند ذلک المرکز، فتتسع حسب الشعاع المنبثق من المرکز.

2: المدینة المتعددة المراکز، وهی أن تکون للمدینة مراکز، حتی لا توجب الصعوبات الناجمة من المرکز الواحد، وفی کثیر من الأحیان حیث تلتصق القری بعضها ببعض توجد المدینة المتعددة المراکز، والاتساع یکون حینئذ من شعاع المراکز لا من شعاع المرکز الواحد.

3: المدینة القطاعیة ذات المرکز الواحد، فالمرکز وإن کان واحداً، إلاّ أنها تبنی قطاعات، لا دائریة شعاعیة کالقسم الأول.

فشعاع من المرکز سکنی، ویبتعد هذا الشعاع بکثرة المساکن، وشعاع من المرکز للدوائر الحکومیة، وشعاع للمدارس، وشعاع للأسواق وهکذا، وبذلک لا تکون الشعاعات فی بعد واحد، کالدائرة بل یکون شعاع کل جهة حسب امتداد حاجة ذلک الشعاع.

وهذا القسم من المدینة یرید الاحتفاظ بفائدة کل من القسمین السابقین بدون أضرارهما، حیث إن تعدد المراکز یوجب التبعثر، ووحدة امتداد الشعاع توجب الصعوبة.

ثم إن کل مدینة حسب بنائها تحتاج إلی مؤهلات خاصة، مثلاً المدینة

ص:273

ذات المرکز الواحد تتکدس البضائع ومرافق الاجتماع فی محلات واسعة فی المرکز، وتتطاول أبنیة ناطحات السحاب بسرادیبها العمیقة فی أطراف المرکز وهکذا، بینما لیس کذلک المدینة ذات المراکز، إذ تقسم الحاجات حسب انقسام المراکز.

کما أن التحولات الاجتماعیة تؤثر تأثیراً مناسباً فی وضع المدن وتغیر من ملامحها، مثلاً قبل صنع السیارات کانت الأزقة والشوارع الضیقة، أما بعد اختراعها فقد تغیرت معالم المدن، وقبل صنع الطائرة کانت تصنع حول المدن الأسوار، حفظاً لها من المهاجمین بالسهام والسیوف، أما بعد صنع الطائرة لم یبق للسور فائدة، فأخذت المدن تتکشف وتخرج من قوقعتها، وهکذا بالنسبة إلی جملة من الصنائع الأخر.

المدن الکبیرة، المشاکل والحلول

المدن الکبیرة، المشاکل والحلول

ثم إن المدن الکبار أخذت تعانی من مشاکل جمة سبب کبرها لتلک المشاکل، أمثال:

1: عدم سعة المدینة بقدر سعة الأفراد، فمثلاً کانت أرض المدینة لکل فرد بمقدار خمسین ذراعاً، ثم صارت بمقدار عشرة أذرع لکثرة النفوس، وعدم توسعها التوسع المطلوب.

2: تزاید الضوضاء.

3: عسر التنقل سواء للإنسان أو لحاجیاته.

4: تلوث البیئة لکثرة الملوثات التابعة لکثرة النفوس.

5: تکثر الجنایات، حیث إن الجانی یتمکن أن یختفی بسرعة، وغیر

ص:274

ذلک، کما تقدم.

أما کیف یمکن حل مشکلات المدن الکبار، فهو بأمور:

1: المواظبة الکاملة بسعة أرض البلد بقدر کثرة السکان، بعد ملاحظة الوجه الصحیح فی احتیاج کل فرد إلی الکمیة اللازمة من الأرض.

2: جعل المرافق بقدر الحاجة، مع توزیع المرافق توزیعاً عادلاً، فإذا احتاج کل ألف إنسان إلی خباز وطبیب وحمام عمومی مثلاً، جعل ذلک مع أن یکون کل ذلک فی وسط الجماعات، لا أن یکون عشرة من محلات الخبازة فی ناحیة، وتسع نواحی بحاجة إلی الذهاب إلی تلک الناحیة، إلی غیر ذلک.

3: إخراج المعامل والمحطات والکراجات والدائر الحکومیة وما أشبه عن البلد، ببعد ملائم لا یسبب الإزعاج بعداً، ولا الصعوبة قرباً.

4: منع السیارات الشخصیة وسیارات الأحمال وما أشبه عن العبور فی الأماکن المزدحمة.

5: تصغیر وسائل الحمل والنقل بقدر الإمکان، سواء للإنسان أو للحمل حتی لا تحتاج إلی أکثر من القدر المحتاج إلیه واقعاً.

6: الدقة الکاملة فی سلامة البیئة، بالحدائق العامة والنافورات، والساحات العامة وکثرة الأشجار، والمیاه النظیفة فی داخل المدینة وخارجها، والمنع عن استعمال السیارات للأدهان الملوثة، وما أشبه ذلک.

7: الحیلولة دون توسیخ المعامل وما أشبه، والدقة فی تنظیف المدینة والحوانیت ونحوها.

8: تنظیم المرور تنظیماً دقیقاً، وصنع الجسور والأنفاق، والطائرات العمودیة لأجل عدم صعوبة الانتقال.

ص:275

9: شدة الرقابة علی الفساد، وقایةً وعلاجاً، أمثال السطو والسرقة والدهس وبیوت الدعارة وغیر ذلک.

10: المنع عن الضوضاء، أمثال أصوات السیارات والمعامل والقطارات والمکبرات والأجراس، وغیر ذلک.

11: إعطاء حاجات القریة، حتی لا ینساب أهلها إلی المدینة _ وقد تقدم الخلاف فی أن توسیع أیهما علی حساب الآخر أفضل.

12: تکثیر التثقیف الموجب لقلة المشاکل بمختلف الوسائل، والتی منها جعل أسابیع للصحة، وللنظافة، وللمرور، وللتجمیل، وللزارعة، وللوقایة، وغیر ذلک.

ص:276

بحث فی الجمعیة

اشارة

بحث فی الجمعیة

(مسألة 28): الجمعیة عبارة عن جماعة یرتبط بعضهم ببعض، إما بسبب وحدة المحل، أو الوحدة السیاسیة، أو الوحدة القومیة، أو الوحدة الدینیة، أو الوحدة العرقیة، أو غیر ذلک.

والکلام فیها فی نواحٍ متعددة:

أ: توزیع الجمعیة.

ب: ترکیب الجمعیة.

ج: حرکة الجمعیة.

توزیع الجمعیة

توزیع الجمعیة

1) أما التوزیع، فهو عبارة عن تقسیم الجمعیة باعتبار المکان أو العمر أو الجنس أو ما أشبه ذلک، وفائدة هذا التوزیع جعل خصائص لکل جماعة جماعة، مثل بیان خصائص الأطفال أو الشباب أو الکهول، فإن ذلک یساعد لکشف الأسباب والمسببات لحل المشاکل، فإن حلول مشاکل الأطفال غیر حلول مشاکل الشباب، وهکذا.

ولذا إذا قسمت الجمعیة باعتبار المکان لوحظ المکان ولم یلحظ العمر، والمکان یشمل مختلف الأعمار، بینما العمر یشمل العمر الخاص فی مختلف الأمکنة، وربما یلاحظ الأمران، مثل نشاط الشباب منضماً إلی حرارة الطقس فی منطقة کذا، حیث إن حل المشکلة حینئذ غیر حل المشکلة للشباب فی الطقس

ص:277

البارد، أو للشیوخ فی الطقس الحار، وهکذا.

ترکیب الجمعیة

ترکیب الجمعیة

ب) وأما الترکیب، فهو الهیئة الناشئة من جمیع الأقسام، کالمجتمع الفلانی مثلاً مرکب من القومیات المختلفة والأدیان المختلفة، فالحلول یجب أن تکون حلاً وحدویاً أو أشکالیاً، مثلاً قد یراد نجاة إیران المسلمة من استعمار بریطانیا، وقد یراد نجاة الهند التی یعیش فیها ثلاثمائة دین، فإن نجاة کل بلد منهما بشکل غیر نجاة البلد الآخر، وهکذا فی سائر التراکیب.

حرکة الجمعیة

حرکة الجمعیة

ج: أما حرکة الجمعیة، فهی علی قسمین:

1) الحرکة الکمیة، أی زیادة ونقص الأفراد.

2) الحرکة الکیفیة، أی تبدل کیف الجمعیة بدون زیادة أو نقص الأفراد.

وکلتا هاتین الحرکتین وإن کانت ملازمة للأخری، مثل حرکة الثمرة حیث إنها کمیة کیفیة، إلاّ أن الملاحظ قد یلحظ الکم وقد یلحظ الکیف، ثم بعد ذلک یأتی دور اللحاظ الثانی، مثلاً زیادة أو نقص عدد الجمعیة تلازم تغیر الکیفیة أیضاً، وکذلک العکس.

الحرکة الکیفیة

الحرکة الکیفیة

فالحرکة الکیفیة عبارة عن:

1) کثرة أو قلة الولادة، سواء کان السبب الثقافة، مثل ثقافة تکثیر النسل

ص:278

أو تقلیله، وثقافة تعدد الزوجات أو وحدتها، أو کان السبب المناخ أو الاقتصاد، أو غیر ذلک.

2) وکثرة أو قلة الأموات، بنحو من الأسباب المتقدمة.

3) وطول العمر أو قصره، وهذا غیر الثانی، فإن بینهما عموماً من وجه، إذ قد یکثر الأموات مع طول العمر، وقد یکون مع قصر العمر، وقد یکثر العمر مع قلة الأموات.

الحرکة الکمیة

الحرکة الکمیة

أما الحرکة الکمیة، فهی:

1: بالتبعثر، وهو ما لم یکن تحت ضابط وهدف منظم.

2: بالهجرة، وهی ما کان تحت ضابط وهدف منظم، وکل منهما إما بالمطاردة أو بالاختیار، کما أن کلاً من الاختیارین، إما لأجل دفع محل السکنی، أو لأجل جذب المحل الجدید.

ومن الواضح أن الهجرة توجب تقلیل الحرکة فی المحل الأول، وتکثیره فی المهجر، کما أن من الواضح تلازم قلة الکم لقلة الکیف فی الأول، وکثرته فی الثانی.

والهجرة الاختیاریة غالباً تکون:

1) للعلم، حیث یوجد أو یکثر فی المهجر.

2) أو للدین، کما هاجر المسلمون إلی المدینة المنورة.

3) أو للرزق، حیث تشح الأرزاق فی البلد الأول، وتکثر فی الثانی.

4) أو للکیان، کما فعلته إسرائیل الغاصبة.

5) أو للعدو، حیث یدهم _ أو یخاف دهمه _ البلد الأول.

ص:279

6) أو للمرض، حیث یکون المحل الأول موبوءاً.

والغالب أن یهاجر المهاجرون إذا کانت الهجرة اختیاریة، وکان المهجر الممکن الوفود إلیه متعدداً، إلی المهجر المناسب لهم فی المناخ، ولا فرق فی ما ذکرناه من الهجرة، أن تکون داخل خریطة سیاسیة أو خارجها.

فالأول: کما إذا ذهب إلی بلد آخر فی داخل القطر.

والثانی: کما إذا ذهب إلی بلد أجنبی.

ثم الهجرة الاختیاریة أحیاناً تجب، کما إذا کانت فی طلب الإیمان، أو التخلص من بلد لا یتمکن الإنسان فیه من إقامة شعائر الإسلام، أو فی طلب العلم الواجب، أو الرزق الواجب، أو الصحة الواجبة، أو ما أشبه ذلک.

کما أنها أحیاناً تحرم، کما إذا کانت عکس الصورة الأولی.

وأحیاناً تکون حسب الأحکام الثلاثة الأخر.

والهجرة قد تطلق أیضاً علی الهجرة عن الصفات السیئة والمعاصی، کما ورد فی الحدیث: «والمهاجر لمن هاجر السیئات»((1)).

وقال علی (علیه السلام): «والهجرة قائمة علی حدها الأول، ما کان لله فی أهل الأرض حاجة، من مستسر الأمة ومعلنها، لا یقع اسم الهجرة علی أحد بمعرفة الحجة فی الأرض، فمن عرفها وأقر بها فهو مهاجر، ولا یقع اسم الاستضعاف علی من بلغته الحجة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه»((2)).

ص:280


1- مکارم الأخلاق: ص438.
2- بحار الأنوار: ج97 ص99.

الهجرة من الریف إلی المدینة

الهجرة من الریف إلی المدینة

ثم إن الهجرة قد کثرت فی العصر الحاضر من القریة إلی المدینة، وذلک لسهولة التنقل من ناحیة، ولتأخر القریة، ولکثرة المال والعلم والصناعة فی المدینة من ناحیة ثانیة، ولذا أخذت المدن فی التوسع والقری فی الانکماش بل والاختفاء أحیاناً.

وقد تقدم الکلام فی حسن تخریب القری وتوسیع المدن وعکسه، لکن مما لا کلام فیه أنه ما دامت القری متأخرة، یکون الإقبال علی المدن کثیراً.

وحیث إن بعض المدن الصناعیة، لا طاقة لها فی استیعاب أکثر، وسهل المراودة إلیها، أخذ أهل القری یسعون إلیها بمختلف وسائل النقل نهاراً، ویرجعون إلی قراهم لیلاً، حتی أن بعض تلک المدن یعد الوافدون إلیها کل یوم بالملایین، وهذا الأمر وإن سبب تبعثر العائلة، وحرمان الإنسان عن التمتع بالتجمع العائلی المتین، إلاّ أن السعی وراء المال ونحوه حال دون ذلک التمتع.

ص:281

الأرض والسکان

اشارة

الأرض والسکان

(مسألة 29): أغلب سکان الأرض تمرکزوا فی النصف الشمالی من الکرة الأرضیة، أما فی النصف الجنوبی من الکرة الأرضیة، وهو زهاء ثلث الیابسة من الکرة الأرضیة، فقد تمرکز فیه عشر مجموع البشر.

أما قارات الأرض، فآسیا من أکثرها سکاناً، حیث یقطنها زهاء نصف البشر، کما أن فی أوروبا یقطن زهاء ربع البشر.

أما من حیث الألوان، زهاء نصف البشر ذو لون أبیض، وهؤلاء یسکنون فی بعض نواحی آسیا وإفریقیا الشمالیة وأوروبا وأمریکا والهند.

وزهاء ربع البشر ذو لون أصفر، ویسکنون فی بعض آسیا وجزر البحر الهادی، ویعد من الصفر الإسکیمو، والهنود الحمر فی أمریکا.

أما ذو اللون الأسود وهم ما یقارب عشر البشر فیسکنون فی إفریقیا وأمریکا وأسترالیا وبعض جزر البحر الهادئ.

تراکم السکان وأسبابه

تراکم السکان وأسبابه

أما تراکم السکان فهو فی ثلاث مناطق من الأرض، وهی:

1: الهند والسیلان والبرما.

2: الیابان والصین الشرقیة.

ص:282

3: أوروبا.

بینما أکثر بقاع الأرض وبالأخص شمال آسیا وأمریکا، وقلب أمریکا الجنوبیة وأفریقیا واسترالیا، یسکنها قلة من البشر، وبین الکثرة والقلة یسکن شمال الولایات المتحدة الأمریکیة وبعض جزر آسیا وأمریکا اللاتینیة.

ومع أن المناخ لیس السبب الوحید فی تراکم الجمعیة وعدمه، إلاّ من له تأثیراً کبیراً فی ذلک، سواء کان المناخ:

1: باعتبار الماء والهواء.

2: أو باعتبار الارتفاع عن سطح البحر وانخفاضه.

3: أو باعتبار سهولة الأرض وصعوبتها

فالأرض ذات الماء القلیل والهواء الشدیدة البرودة أو الحرارة لا تصلح للسکنی، حیث یصعب العیش فیها من جهة الإنسان ذاته، أو من جهة عدم النبات والحیوان الملازمین لحیاة الإنسان.

والارتفاع والانخفاض مؤثر فی حیاة الإنسان أیضاً، حیث تختلف الیابسة ارتفاعاً وانخفاضاً، فما یقارب نصف الیابسة یرتفع عن سطح البحر، بمقدار ألف قدم، بینما یصل الارتفاع فی بعض النواحی کالنواحی الأستوائیة وتبّت إلی خمسة عشر ألف قدم، وفی عکسه یصل أحیاناً إلی أقل من الألف.

ثم إن أموراً متعددة لها مدخلیة فی تکون المدن وکثرة التجمع:

1: الماء والهواء والأرض: حیث إن حسن هذه الأمور تجلب الناس، لأن الإنسان یقیم حیثما یری الرفاه، وحسن الثلاثة المذکورة تعطی الرفاه، حیث یستفید الإنسان من الهواء والماء، ویتمکن من الزرع ورعی الحیوان فی الأرض الجیدة ذات المناخ الحسن، وتعطی الطبیعة جمالها، فی أمثال هذه المناخات.

ص:283

2: الدین: فإن من طبیعة الإنسان تطلّب الدین، فإذا کان محلاً مرتبطاً بالدین التف الناس حوله وکثروا ولذا حدثت مدینة کربلاء والنجف والکاظمیة وسامراء، وکثر الناس حول هذه البقاع، وکذلک المشهد وقم وغیرها.

3: مقابلة الأعداء، حیث إن الثغور ونحوها توجد ویکثر أفرادها من أجل ذلک، کما حدثت الکوفة فی أول الفتح الإسلامی، وکذلک حدثت فی أواسط العراق، حیث إن أهالی الکوفة بعد علی (علیه السلام) تشیعوا، وبذلک لم یتمکن بنو أمیة من إقرار أمنهم فی العراق، فاضطروا إلی جعل بعض جیش الشام قرب الکوفة التی کانت عاصمة المنطقة الشرقیة للبلاد الإسلامیة آنذاک.

4: تقدم الاقتصاد، حیث إنه إذا تحسن الاقتصاد فی بلد جلب الناس حوله، کما نشاهده فی العصر الحاضر فی بعض بلاد الخلیج، حیث تفجرت ینابیع النفط، فجذبت الناس حول نفسها، مع عدم مساعدة الماء والهواء والأرض، حیث إن الإنسان لیس مقهوراً للطبیعة، بل یقهرها بحیث یتمکن من سکناها برفاه.

دور الثقافة فی ازدیاد الأفراد

دور الثقافة فی ازدیاد الأفراد

ثم إن تقدم ثقافة الاجتماع، یوجب تکثر أفراد المجتمع، وذلک لأن العلم یوجب:

1: تقدم الاقتصاد، فإن الاقتصاد یبنی علی:

أ) الزراعة.

ب) والصناعة.

ج) والتجارة.

د) والحیازة.

وکلها تتحسن وتتقدم بواسطة تقدم العلم، وقد تقدم أن الاقتصاد الحسن یوجب تجمع الأفراد.

ص:284

الثقافة وکثرة الولادة

الثقافة وکثرة الولادة

2: وکثرة الولادة، حیث إن عدم الولادة مبنی علی:

أ) عدم الزواج.

ب) قلة الزواج.

ج) عدم الاستیلاد.

وکل ذلک ینتفی بسبب التقدم الثقافی، حیث التقدم الاقتصادی الموجب لإمکانیة الزواج، والتقدم الثقافی الموجب لفهم الحیاة، وأن الزواج من أسباب الرفاه، ولذا قال سبحانه: {إن یکونوا فقراء یغنهم الله من فضله}((1))، فإن الزوج إذا عرف أن وراءه مسؤولیة العائلة یکدح أکثر، کما أن الزوجة حیث لها علاقة بالزوج والأولاد تکدح لرفاه حیاتهم، ومن المعلوم أن التعاون یوجب التقدم الاقتصادی، فالزواج یسبب الغنی من جهة الاندفاع النفسی، ومن جهة التعاون العملی.

ثم الأولاد بدورهم أیضاً یتعاونون فی الرفاه الاقتصادی للعائلة.

هذا بالإضافة إلی أن الزواج یقف سداً دون الأمراض النفسیة فی کلا الطرفین، والأمراض الجسدیة، فقد ثبت فی علم النفس أن عدم الزواج یوجب العقد النفسیة، والأمراض الجسدیة حیث إن عدم الزواج یوجبها کما ثبت فی علم الطب.

هذا بالإضافة إلی أن عدم الزواج یوجب الانحراف والشذوذ الجنسی، وکلاهما مبعث الأمراض الکثیرة، والتی بدورها تحطم الاقتصاد، من جهة أن المریض لا یتمکن من العمل، ومن جهة أن المریض یحتاج إلی صرف المال لشفائه أو لعدم تردیه أکثر.

ص:285


1- سورة النور: الآیة 32.

وقد حرض الإسلام علی کثرة الأولاد، فقال النبی (صلی الله علیه وآله): «تناکحوا تناسلوا تکثروا، فإنی أباهی بکم الأمم یوم القیامة ولو بالسقط»((1)).

وربما یتوهم أن الکرة الأرضیة لا تتحمل کثرة البشر من حیث المساحة ومن حیث المواد، وفی کلا الأمرین نظر، حیث إن أغلب مساحة الأرض فارغة الآن، بالإضافة إلی إمکان سکنی البحار، وسکنی الجو، بسبب البیوت الأقماریة، وأما المواد فهی کافیة لعشرات أضعاف البشر الحالی، وهم زهاء أربعة ملیارات ونصف، کما یمکن زراعة البحر وغیر ذلک.

إن الذی حال دون کفایة البشر هی الأنظمة الرأسمالیة والشیوعیة، حیث الاستغلال الفاحش، وصرف کثیر من خیرات البشر فی وسائل التدمیر، والحیلولة دون نمو الکفاءات بسبب کبت الحریات، لا بالنسبة إلی العالم الثالث فحسب، بل بالنسبة إلی نفس العالمین الشرقی والغربی أیضاً، أما العالم الشرقی فنظامه مبنی علی دیکتاتوریة البرولیتاریا، وأما العالم الغربی فرأس المال یکبت الحریات، وقد ذکرنا بعض تفصیل ذلک فی (الفقه الاقتصاد) و(السیاسة).

الثقافة وقلة الموت

الثقافة وقلة الموت

3: قلة الموت غیر الطبیعی، فإن الموت غیر الطبیعی یقلل من أفراد المجتمع، فإن نسبة الموت إلی الولادة علی ثلاثة أقسام:

أ: التساوی، وفی هذه الصورة یبقی المجتمع ثابتاً لا یزید ولا ینقص.

ب: أکثریة الموت، وفی هذه الصورة یأخذ المجتمع فی النقص.

ج: أکثریة الولادة، وفی هذه الصورة یأخذ المجتمع فی الزیادة.

ص:286


1- بحار الأنوار: ج100 ص220.

وإذا تقدمت الثقافة دفع المجتمع الموت غیر الطبیعی بوسائل الوقایة وبوسائل العلاج، وحینذاک لا یکون الموت غیر الطبیعی، وحیث إن الولادة  بطبعها _ کما دلت الإحصاءات بل هو ملموس لکل ملاحظ _ أکثر من الموت، یأخذ المجتمع فی الکثرة، أی التقدم الکمی.

وقد قرر الإسلام لزوم الوقایة، حتی أن خوف الضرر یمنع من الوضوء والغسل، ومن الصلاة قائماً ونحوها، ومن الصوم ومن الحج، إلی غیرها، کما قرر لزوم العلاج، حتی بأشد المحرمات کالخمر ولحم الخنزیر، کما ذکروه فی کتاب (الأطعمة والأشربة) وغیره.

الثقافة وطول العمر

الثقافة وطول العمر

4: طول العمر، فإن الثقافة توجب طول عمر الإنسان حیث:

أ: توفر وسائل الوقایة.

ب: ووسائل العلاج.

ج: وما یسبب تنمیة الحیاة، فإن الإنسان قابل لأن یطول عمره مئات السنوات، وقدورد فی الأحادیث، أن العمر فی زمان الإمام المهدی (عجل الله فرجه) یطول کثیراً، ولعل ذلک لتقدم الثقافة والاقتصاد حینذاک، حیث ترتفع وصایة الدیکتاتوریین عن البشر کما فی الحال، فالثقافة تعم وتتقدم، والرفاه یکون شاملاً، ولعل ما قیل من أن السماء تمطر جراداً ذهباً کنایة عن التقدم الاقتصادی الکبیر.

وقد دلت جملة من التواریخ، وأیدته الآیات والروایات، أن أعمار البشر فی فترة کانت طویلة، بل أحیاناً طویلة جداً، قال تعالی: {فلبث فیهم ألف سنة

ص:287

إلاّ خمسین عاماً}((1)),

وقال علی (علیه السلام): «من کان أطول منکم أعماراً»((2)).

نعم فی بعض فترات التاریخ قلّ العمر، حتی أن بعض العلماء ذکر أن فی العصر الفلانی وصل العمر إلی ثمانیة عشر سنة، ووصل فی القرون الوسطی فی البلاد الأروبیة إلی ثلاثة وثلاثین، وفی العصر الحاضر تختلف البلاد طولاً وقصراً، ففی البلاد التی یکون فیها رفاه أکثر ووقایة وعلاج أحسن، یمتد العمر أکثر من امتداده فی بلاد لیست کذلک، ولذا ذکرت إحصاءات أن طول العمر فی أمریکا وأوروبا أکثر من طوله فی آسیا وإفریقیا.

وقد حرض الإسلام علی طول العمر حتی ورد فی الأدعیة: «وطول عمری فی خیر وعافیة»، والظاهر أن الادعیة بالإضافة إلی کونها طلباً من الله سبحانه، بأن یفعل تعالی الأسباب الغیبیة لذلک، إلماع إلی تهیئة وسائل المطلوب، مثل: (اللهم أغن کل فقیر، اللهم أشبع کل جائع، اللهم اکس کل عریان، اللهم اقض دین کل مدین، اللهم فرج عن کل مکروب»((3))، إلی غیر ذلک بأن یساهم الإنسان فی تلک الأمور، لا أن یدعو بلقلقة اللسان فقط، ثم یأخذ طریقه ولایهتم بشیء.

الانفجار السکانی والتخطیط الدقیق

الانفجار السکانی والتخطیط الدقیق

بقی شیء، وهو تصاعد نفوس البشر کماً، إذا لم یصادف التخطیط الدقیق

ص:288


1- سورة العنکبوت: الآیة 14.
2- نهج البلاغة: الخ طب 226.
3- مستدرک الوسائل: ج7 ص447 ب14.

لتصاعد تلبیة الحاجیات، سبب مشاکل جمة، والمعارض الوحید للتخطیط الصحیح الدقیق هم الحکومات الغربیة والشرقیة بما فی فلکهما، لا بالنسبة إلی البلاد المستعمرة فحسب، بل بالنسبة إلی شعوب بلاد الشرق والغرب أیضاً.

أما روسیا، فأغلبیة الناس لا ینالون حتی حوائجهم الأولیة، وأسوأ منها البلاد التی استعمرتها روسیا.

وأما أمریکا فما لا یقل من خمسة وعشرین ملیوناً فیها فقراء، علی ما صرح به مستشار الأمن القومی لها، فإذا کان ذلک حال أغنی البلاد، فما هی حال بلاد أوروبا، وبالأسوأ حال مستعمرات تلک البلاد، فإن الاستعمار من الخارج والاستغلال فی الداخل یذران البلاد بلاقع.

ومادام العلم والحکم والثروة لم تحرر، ترتطم البشریة فی مشاکل جمة، لا بالنسبة إلی الضیوف الجدد من الموالید، بل بالنسبة إلی الجیل المعاصر أیضاً.

وکیف کان، فاللازم أن تتصاعد تلبیة الحاجیات تصاعداً هندسیاً، کما یتصاعد الموالید تصاعداً هندسیاً، أما أن تتصاعد تلبیة الحاجیات تصاعداً عددیاً فتلک هی الکارثة.

واللازم فی الخطة التی توضع لتصعید تلبیة الحاجیات أن تکون خطة سباعیة:

أ) إعطاء الأمور بید الناس، بدل أن تکون بید الحکومات فإن الناس أعرف بسدّ حاجاتهم، مثلاً الدولة تعلن احتیاج البلاد إلی مطارات وقطارات ومعامل ومواصلات وتلفونات وما أشبه، وتحدد الأرباح ومدة استیفائها، ثم تدع کل تلک إلی الناس لیؤسسوها، وتشرف حتی لا یجحف البناة لها.

وفی مثل هذه الخطة:

ص:289

1: خفة حمل الدولة حتی تتمکن من القیام بمهامها خیر قیام.

2: إطلاق الحریات.

3: ظهور الکفاءات.

4: إعطاء الحاجیات.

5: إبقاء الوئام بین الدولة والأمة، إذ الکبت والدیکتاتوریة وعدم وصول الناس إلی حاجاتهم من أقوی أسباب الانفجار والثورة.

ب) توسیع المدن، بما یکفی لمدة خمسین سنة مثلاً.

ج) تهیئة وسائل التعلیم والتربیة.

د) تهیئة وسائل الصحة.

ه_) المواصلات الکافیة.

و) توسعة أجهزة الدولة، کالأمن والقضاء والنجدة وما أشبه.

ز) تهیئة لوازم الحیاة الأولیة، کالمأکل والمشرب والملبس، والثانویة کالکمالیات والحدائق وغیر ذلک.

هل الأرض تکفی

هل الأرض تکفی

والأرض قابلة للسکنی والزراعة وغیرها، فمجموع مساحة الیابسة زهاء خمسة عشر ملیون هکتار، والقدر المزروع فی الحال الحاضر زهاء سبعة فی المائة، والمعلوم أن الاستفادة الکیفیة من تلک السبعة أیضاً لیست بالمستوی المطلوب.

فإذا فرض زراعة الکل وبالمستوی المطلوب، لکفی مقدار عشرین ضعف البشر الحالی، هذا مع الغض عن إمکان زراعة البحر.

والوسائل الصناعیة موجودة وبالإمکان تکثیرها، مما یسبب سهولة

ص:290

الزراعة، ومن الواضح أن الزراعة لا تعطی حاجیات الأکل فحسب، بل وکثیراً من الحاجیات، أمثال الأخشاب للبناء، والقطن ونحوه للباس، إلی غیر ذلک، انظر کتاب (آفاق لا تحد) ونحوه.

أما المسکن، فالشرکات الأهلیة غیر الاستعماریة ولا الاستغلالیة، بإمکانها أن تهیأ للکل فی مدة قصیرة.

قال سبحانه: {ألم نجعل الأرض کفاتاً * أحیاءً وأمواتاً}((1)).

نعم، المعادن غیر الدوریة أخذت فی النفاد، إلاّ أن من الممکن وضع برنامج صحیح لها لتکفی لما لا یقل من ألف سنة، ثم نواة الأرض کلها معادن، بالإضافة إلی إمکان الاستفادة بعد ذلک من سائر الکواکب.

وأما سعة سطح الأرض لاستیعاب الضیوف القادمین، ولو کانوا عشرات المرات أکثر من الجیل المعاصر، فتعلم من أن کثیراً من الأراضی القابلة للسکنی بائرة فی الحال الحاضر، بالإضافة إلی إمکانیة التجمع، فمثلاً یسکن فی کل کیلومتر مربع فی:

1: بریطانیا کل (195) شحصاً.

2: وفی الهند (90).

3: وفی الصین (41).

4: وفی الولایات المتحدة (17).

5: وفی الاتحاد السوفیتی (8)، إلی غیر ذلک.

فیمکن أن یکون الجمیع کبریطانیا، بل هی أیضاً قابلة للتجمع الأکثر مع عدم الضغط، هذا بالإضافة إلی ما تقدم من سکنی البحر والفضاء.

ص:291


1- سورة المرسلات: الآیة 25.

عوامل ارتفاع مستوی المعیشة

عوامل ارتفاع مستوی المعیشة

وکیف کان، فارتفاع وانخفاض سطح المعیشة ولید عوامل خمس:

أ) القانون الصحیح، فإنه هو الذی یوجب تصفیة داخل الإنسان، وتنظیم خارجه، وذلک لا یوجد إلاّ فی السلام، کما دل علیه الدلیل.

قال سبحانه: {ومن یبتغ غیر الإسلام دیناً فلن یقبل منه وهو فی الآخرة من الخاسرین}((1)).

وقال عز وجل: {فقلت استغفروا ربکم إنه کان غفاراً * یرسل السماء علیکم مدراراً * ویمددکم بأموال وبنین ویجعل لکم جنات ویجعل لکم أنهاراً»((2)).

إلی غیرهما من الآیات والروایات.

ب) المنابع الطبیعیة، ومن الواضح أن المنابع الطبیعیة المخلوقة فی الأرض کافیة لکل البشر، إلاّ أن التقسیمات الجغرافیة الناشئة من الجهل والاستعلاء سببت غنی منطقة وفقر منطقة، بل من الممکن الاستفادة من نور الشمس وشلال الماء ومجری الهواء لتشغیل مختلف المعامل بدل الوقود، بل صنع الطعام أیضاً.

ج: الاختراعات، فإن المکتشفات الحدیثة تساعد علی ترفیع مستوی المعیشة، وإعطاء الرفاه الکافی للمجتمع، فإن وسائل الزراعة الحدیثة ووسائل صنع الطعام من مختلف الأشیاء والاستفادة من الشلالات وغیر ذلک توجب ترفیع مستوی المعیشة، والعالم یلهث _ فی الحال الحاضر _ لإرجاع الوقود الذی یتبدد فی الهواء، ویقال: إنه إذا وصل العالم إلی ذلک، تقدمت الحضارة بما یساوی مائة ألف سنة، انظر (صدمة المستقبل).

ص:292


1- سورة آل عمران: الآیة 85.
2- سورة نوح: الآیة 10.

د) النظام الاجتماعی، فإنه إذا کان صحیحاً بما سبب تنسیق المجتمع، کان سبباً لترفیع مستوی المعیشة.

ه_) کثرة وقلة الجمعیة، فإنهما مع الأسالیب الصحیحة یعینان علی ترفیع المستوی أیضاً.

فهذه العوامل الخمس معاً تعین مستوی المعیشة، ارتفاعاً أو انخفاضاً.

ص:293

المؤسسات الاجتماعیة

اشارة

المؤسسات الاجتماعیة

(مسألة 30): الاجتماع البشری مع تبعثر أفراده له تنسیق، وکل یعمل فی ذلک التنسیق.

1: لأجل أن البشر خلق هکذا، فهو یحب العمل فی ضمن المجموعة.

2: ولأجل أن التقدم وقضاء الحوائج إنما یکون بالعمل التنسیقی، وهذا التنسیق یتحقق حتی مع تعارض أفراده بعضهم مع بعض، وکذلک فی داخل الاجتماع، تعمل المؤسسات بتنسیق، أی إن کل مؤسسة تکون مع المؤسسة الأخری فی تنسیق.

فمثلاً المؤسسة الاقتصادیة تقوم بتوفیر الجهات الاقتصادیة لمؤسسة تربویة، والثانیة تقوم بتوفیر الجهات التربویة للأولی، وهکذا.

وهذا التنسیق، سواء کان بین أفراد الاجتماع، أو بین المؤسسات، أو بین الأفراد والمؤسسات، یسمی بالنظم وبالنظام، وهذا النظم هو روح الاجتماع، بل یمکن أن یقال بالتساوی بین الأمرین، فالنظام یساوی الاجتماع وبالعکس.

والفرق بین النظم والنظام: أن الثانی ولید الأول، وإن کان ربما یطلق کل واحد منهما مکان الآخر، وکما أن الإنسان له فکرة وقول وسیرة وعمل، وأن الثالث عبارة عن کیفیة امتداد حیاته، والرابع عبارة عن فعله

ص:294

وإنتاجه، کذلک المؤسسة لها تلک الأمور الأربعة، إذ المؤسسة تنطوی علی فکرة خاصة، کالفکرة التثقیفیة، ثم الدعایة والإعلان، ثم منهجها فی حیاة نفسها، ثم إنتاجها وعملها.

ومن الواضح أن تغییر فکرة المؤسسة یؤثر فی الثلاثة الأخر، فإذا کانت مؤسسة اقتصادیة نقدیة، ثم نظمت نفسها لتکون مؤسسة اقتصادیة تجاریة، تغیرت کل أسالیبها الثلاثة الأخر.

المؤسسة والأعراف الاجتماعیة

المؤسسة والأعراف الاجتماعیة

والمؤسسة تبقی حیة ما دامت تعمل، فإذا ترکت العمل ماتت وتلاشت.

والمؤسسة حالها حال الفرد، فی أنه قد یکون یعمل طبق الموازین العرفیة، وفی هذا الحال تدوم المؤسسة، أما إذا عملت المؤسسة علی خلاف العرف السائد، کأن تعمل مؤسسة اقتصادیة فی البلاد الرأسمالیة علی طبق الموازین الاشتراکیة، فإنها تعد منحرفة.

فإن دامت فی الانحراف، فإما أن یغلقها الاجتماع بمختلف الوسائل والسبل، والتی أخیرها القوة، وإما أن تتمکن من إثبات نفسها بسبب ما لها من مقومات اجتماعیة، وإذا بقیت غیرت من الاجتماع بعض الشیء علی لون نفسها.

وذلک لأن الاجتماع لا یتحمل وجود المخالف، فرداً أو مؤسسةً أو جماعةً، فهو یغیر المنحرف أولاً بالنصح والإرشاد، وثانیاً بالاستهزاء والهمز وما أشبه، وثالثاً بالتفرق من حوله حتی یذوی تلقائیاً، وأخیراً بالقوة، مثل سجن المنحرف أو قتله، وغلق المؤسسة المنحرفة وهکذا.

نعم إذا تمکن المنحرف عن الاجتماع أو المؤسسة کذلک إثبات صحة طریقته مما أقنع الاجتماع بذلک جلب الاجتماع إلی نفسه، وکذا نری تقلب الاجتماع بسبب المصلحین، کما

ص:295

نری تقلبهم بسبب من یلبس ثوب الإصلاح، وإن کان کلاهما رمیا أول عملهما بالانحراف.

بین المؤسسة والمؤسسات الأخری

بین المؤسسة والمؤسسات الأخری

وکما تعمل المؤسسات فی المجتمع معاً، کذلک تعمل أجزاء المؤسسة الواحدة معاً، حالهما حال أجزاء بدن الإنسان، وعملهما علی ثلاثة أقسام:

1: العمل فی زمان واحد بدون رتبة، مثل أن تعمل مؤسسة اقتصادیة إلی جنب عمل مؤسسة سیاسیة.

2: العمل فی زمان واحد مع الرتبة کان تعمل مؤسسة الحلج فی رتبة متقدمة علی عمل مؤسسة النسج، وإن کانتا تعملان فی زمان واحد.

3: العمل فی زمانین کعمل مؤسسة حصد القصب قبل عمل مؤسسة صنع السکر.

ومثالها فی البدن عمل العین والأذن معاً، وعمل القلب قبل عمل الشرایین رتبة، وعمل الجفن قبل عمل العین بالنظر، وإذا کان العمل رتبیاً یلزم ملاحظة التنسیق، لا أن یعمل أحدهما أکثر، فإن ذلک یوجب فوضی فی عملهما، فإذا عمل المتقدم أکثر لم یطق المتأخر الاستیعاب، وإذا عمل المؤخر أکثر لزم توقفه عند عدم وصول الوقود اللازم إلیه.

والمؤسسات علی قسمین:

أ) قسم یحتوی علی عدة أفراد لهم عمل واحد.

ب) وقسم یحتوی علی عدة مؤسسات صغیرة، إما تعمل کل فی اتجاه واحد عام، أو فی عدة اتجاهات، مثلاً مؤسسة الخیاطة تعمل فروعها فی أمور شتی، مثل القص والخیاطة والکی وما أشبه، والإطار العام للکل واحد، بینما مؤسسة تربویة کبیرة یعمل فرع منها فی المدارس، وفرع فی التمثیلیات، وفرع فی الطباعة، وهکذا.

ص:296

مهمات المؤسسة

مهمات المؤسسة

واللازم فی المؤسسة ملاحظة أمرین:

1: التنسیق فی العمل والنمو والضمور.

2: ملأ الفراغ بالقدر الممکن، فإذا کانت مؤسسة سیاسیة لها فروع، التربیة السیاسیة، والدعایة، وتکثیر الأفراد، وجمع المال، کان اللازم أن یحصل فرع المال علی مقدار من المال یکفی للفروع المذکورة، کما أن علی فرع التربیة أن یربی بقدر الأفراد المنخرطین فی فروع المؤسسة، وهکذا، فإذا ضمر المال مثلاً قللوا من الکل، وإذا نمی المال أنموا من الکل، وکذلک الحال فی سائر الفروع.

أما بالنسبة إلی ملأ الفراغ: فإن المؤسسات لها إمکانیات تختلف سعةً وضیقاً حسب قوة وضعف المؤسسة، والغالب أن المؤسسة لا تملأ فراغاتها، ولا تستغل قدراتها، وبذلک تهدر الطاقات، بما لواستغلت أتت بثمار طیبة.

 مثلاً إذا کانت المؤسسة تربویة ولها عشرة أعضاء کان لأولئک مقدار عشرة فی المائة من الوجاهة لجمع المال ولجذب الشباب، لکنهم یصرفون خمسة فی المائة من تلک الوجاهة، فتبقی الخمسة الباقیة معطلة وهکذا.

والقدرة علی ملأ الفراغ غیر إعمال تلک القدرة، فاللازم علی المؤسسة وضع المنهاج الکامل لاستنفاد تلک القدرات، وملأ فراغ تلک الطاقات، وبذلک تکون المؤسسة آخذة فی التقدم والصعود.

ومن المعلوم أن قدرة المؤسسة لیست بقدر قدرة أفرادها فرداً فرداً، بل تتضاعف القدرة أضعاف قدرة کل فرد فرد، فإذا کانت قدرة عشرة أفراد مبعثرین بقدر تربیة مائة فرد _ کل فرد یربی عشرة _ کانت قدرة العشرة المجتمعة

ص:297

بقدر تربیة خمسمائة فرد مثلاً ینظرون فی عشرة صفوف، ویتبادل أفراد المؤسسة فی الصفوف المذکورة، حسب المنهاج المدرسی المنظم، وبذلک تکون النتیجة خمسة أضعاف نتیجة الأفراد المبعثرین.

ثم اللازم علی القائمین بالمؤسسة، أن یلاحظوا أن لا یتجاوزهم الزمان، فإذا تجاوزهم الزمان یلزم علیهم أن یلائموا مؤسستهم مع الزمان، وإلاّ کان صرفاً للطاقات البشریة والمادیة فی غیر موردها، حتی إذا کان الزمان مر بمقدار واحد فی المائة، یلزم اللحوق بالزمان، وإلاّ کان هدراً بمقدار ذلک الواحد، مثلاً مؤسسة للمواصلات بین بلدین تستعمل سیارات کبیرة، ثم تغیر الزمان وأخذت السیارات الصغیرة تستعمل هناک، فإن بقاء المؤسسة علی حالتها السابقة لا ینتج إلاّ هدر طاقات المؤسسة.

أنواع المؤسسات

أنواع المؤسسات

وکل مؤسسة تصنف فی الصنف الذی تعمل لأجله، فالمؤسسة التی تعمل لأجل ترفیع المستوی الثقافی، تصنف فی ضمن المؤسسات الثقافیة، وما تعمل لأجل الوقایة والعلاج، تصنف فی ضمن المؤسسات الصحیحة، وهکذا.

والصعب فی الأمر أن تصنف المؤسسة فی نطاق عمل، بینما هی تعمل لأجل شیء آخر، کما هو الحال فی الأعمال الأمنیة والأحزاب السریة، حیث إن الحزب مثلاً یعمل لأجل تبدیل السلطة إلی سلطة ملائمة فی نظر المؤسسة، بینما یضطر أعضاؤها إلی تغطیة أعمالهم بغطاء تجاری أو ثقافی أو ما أشبه، وعلی مثل هذه المؤسسة العمل المضاعف سراً واقعاً، وعلناً تغطیةً.

والمؤسسة:

1: قد تؤسس لأجل التوجه إلی داخلها، مثل العائلة، ومؤسسة الریاضة

ص:298

البدنیة، حیث إنهما تتوجهان إلی داخل المؤسسة، ولا هم لهما خارج أفراد العائلة، وخارج الأفراد فی المؤسسة الریاضیة.

2: وقد تؤسس لأجل الخارج، کالمؤسسة الصحیة للأطباء، والمؤسسة الدفاعیة للمحامین، حیث إن همهما علاج الفقراء من المرضی، والدفاع عن المعوزین من المظلومین.

وتقسم المؤسسات إلی ثلاثة أقسام:

1) المؤسسة الرسمیة وهی المؤسسات الحکومیة المرتبطة بإدارة البلاد والعباد.

2) المؤسسة شبه الرسمیة، وهی التی تشترک فیها الحکومة والأهالی.

3) المؤسسة غیر الرسمیة، وهی التی أسسها الأهالی، وهذه الأسماء علی هذه المؤسسات اصطلاح، کما هو واضح.

والغالب أن المؤسسات الحکومیة تخلو من العطف والنشاط والحرکة الحارة، وذلک لأن الموظفین فی أکثر الأوقات یریدون بالوظیفة المعاش أو المکانة الاجتماعیة التی تحصل لهم بسبب انتسابهم إلی الدولة، وبذلک یتمکنون من نیل مکانة مرموقة بقدر رفعة الوظیفة، ومن تمشیة أمورهم، ولذا لا یهتمون بعد ذلک بالعمل.

وهذا الجمود یکثر فی الحکومات الدیکتاتوریة، ویقل فی الحکومات الاستشاریة، حیث تنافس الأحزاب المتصارعة علی الحکم، بینما المؤسسات غیر الرسمیة علی العکس من المؤسسات الرسمیة، والمؤسسات شبه الرسمیة متوسطة بینهما.

وعلاج أن یکون أفراد المؤسسة بالمستوی المطلوب من العمل:

ص:299

1: وجود الإیمان فی باطن الإنسان، فإن الإیمان من أشد المحفزات للخدمة والعمل والتقدم، ولا یعادله شیء، ولذا کان للمؤمنین بالله والیوم الآخر _ علی طول التاریخ _ نشاط وحرکة غریبان.

2: رقابة الدولة رقابة حکیمة.

3: رقابة الطرف الآخر من حزب أو مؤسسة أو ما أشبه، فإن وقوع الإنسان فی التنافس یعطیه دفعاً کبیراً.

4: أن یکون سعی الإنسان لنفسه، سواء من جهة العلم، أو من جهة القدرة، أو من جهة المال، أو من جهة الشهرة، أما أن یعمل الإنسان لیکون سعیه فی کیس الدولة کما فی الحکومات الشیوعیة، أو فی کیس الرأسمالی کما فی الحکومات الرأسمالیة، فذلک مما یثبط الإنسان عن العمل.

ثم المؤسسة أما أن تنشأ للعلاقات الأولیة، مثل العائلة فإنها مؤسسة أنشئت من جهة العلاقة الأولیة بین الزوجین والآباء والأولاد، وأما أن تنشأ للعلاقات الثانویة مثل إدارة الدولة، حیث إنها تنشأ لا بذاتها، بل باعتبار تنظیم الاجتماع وحفظ العدالة، والغالب أن المؤسسة الأولیة یکون بین أعضائها الحرارة والنشاط والحب، بینما المؤسسة الثانویة یکون بین أعضائها الجمود إلاّ بقدر ما  یفرضه العمل من التبادل والتآلف.

وربما تنشأ فی داخل مؤسسة ثانویة مؤسسة أولیة، حیث یکون بین جملة من أعضاء تلک المؤسسة الثانویة صداقة وتآلف وحب، وفی هذه الصورة تنشط المؤسسة الثانویة، حیث إن نشاط المؤسسة الأولیة التی فی داخلها یبعث علی التحرک والاندفاع، ولذا تحاول المؤسسات الثانویة إیجاد هذا النوع من النشاط فی داخلها، بسبب منظمة ریاضیة، أو کشافة موسمیة، أو

ص:300

تدریب علی الکاراتیه والسلاح، أو جعل جوائز فی مجالات تنافسیة، أو نحو ذلک.

ثم المؤسسة:

1) قد تنشأ لإعطاء الحاجات الأولیة للإنسان، مثل المؤسسات الدینیة، حیث إن الدین فطری للإنسان، وحتی الذین ینکرون الدین کالطبیعیین فإنما یغیرون الاسم، وإلاّ فهم یعترفون بدین مبعثه الطبیعة، بینما المتدینون اصطلاحاً کالمسلمین یعترفون بدین ینبعث عن الله سبحانه، ومثل المؤسسات الاقتصادیة ونحوها، حیث إنها تعطی الحاجات الاساسیة للإنسان، ولذا فهذه المؤسسات موجودة حتی فی سکان الکهوف والغابات.

2) وقد تنشأ لإعطاء الحاجات الثانویة.

أ: سواء کانت سهیمة فی تقدیم الحضارة، کالمؤسسات الثقافیة والصناعیة والأخلاقیة والتربویة.

ب: أو لم تکن، کالمؤسسات التی تنشأ لأجل السیاحة والسفر والسباحة والفن وما أشبه.

الانشطار والاندماج فی المؤسسة

الانشطار والاندماج فی المؤسسة

وحیث إن الإنسان ذو أبعاد، فالمؤسسة التی تعنی ببعد واحد من أبعاد الإنسان لابد لها من:

أ) الانشطار حیث تری الحاجة إلی الاختصاص، مثلاً المؤسسة الطبیة لعلاج بدن الإنسان، لا یمر علیها زمان إلاّ وتنشطرالی مؤسستین، إحداهما للروح والعلاجات النفسیة، والأخری للجسد، وهکذا المؤسسة الجسدیة تنشطر

ص:301

إلی مؤسسة للأطفال وأخری للکبار وهکذا.

ب) والاندماج حیث یدخل الارتباط ببعد فی الارتباط ببعد آخر، ففی مثال المؤسسة الطبیة تندمج فی مؤسسة الصیدلة، لأن الطبیب بحاجة إلی التیقن من الدواء لغرض سلامة المریض، أو تندمج فی مؤسسة السیاسة، حیث تحتاج المؤسسة إلی من یدافع عن آرائها، وذلک شأن السیاسی، مثلاً تری المؤسسة الاحتیاج إلی التعقیمات الصحیة لظهور بوادر الوباء، فإذا لم یکن للمؤسسة جناح سیاسی، لم تصل المؤسسة إلی هدفها، فلابد لها من جعل ذلک الجناح، وهکذا.

نفوذ الطبقیة فی المؤسسات

نفوذ الطبقیة فی المؤسسات

وحیث إن المؤسسات غالباً بحاجة إلی الحمایة السیاسیة وإلی المال، لا لبقائها فقط، بل لنموها وتقدمها، تسرع الطبقیة المنحرفة إلی الدخول فی المؤسسات.

وقلنا: (المنحرفة)، لأن التفاوت السلیم، وهو ما کان بقدر حق الإنسان، لا خوف منه، بل اللازم وجوده، وإلاّ کان خلاف إعطاء کل ذی حق حقه.

وأحیاناً تتحول المؤسسة التی وضعت لخدمة الناس إلی مؤسسة تکون وبالاً علی الناس، مثلاً جماعة یؤسسون محلات تعاونیة لغرض إیصال البضاعة إلی الناس بالقیمة العادلة، وإذا بالرأسمالیة المنحرفة تدخل أنفها فی المؤسسة وتتوسع حتی تأخذ المؤسسة بیدها، وتکون المؤسسة حینئذ آلة لامتصاص المزید من أموال الفقراء، لتکون دولة بین الأغنیاء.

وکذلک أحیاناً تؤسس مؤسسة لتثقیف أولاد الناس، وإذا بالدکتاتوریة تدس أنفها فی المؤسسة، لتحتکرها لأجل دعایتها، ولأجل أن تمتص منها الدم

ص:302

الجدید، لیکون وقوداً للمزید من کبت الناس وإرهابهم وتقویة سلطانها.

ولذا یجب علی أصحاب المؤسسات الخیریة، أن یهتموا بجعل الشروط والمواثیق لئلا تنقلب المؤسسة إلی ضد أغراضهم الشریفة.

الفقراء والمؤسسات

الفقراء والمؤسسات

ومع ذلک یبقی شیء، وهو أن الطبقة الفقیرة الذین ظُلموا بتحالف الدولة مع الرأسمالیة، أو باستیلاء الدولة علی رأس المال، وفی کلا الحالین أکلت أتعابهم، هی بنفسها تنسحب عن میدان تأسیس المؤسسات أولاً، وعن میدان البقاء فی المؤسسات بعد أن أسسوها.

وذلک لأن اشتغال هذه الطبقة بأمور معاشها لا یدع لها وقتاً للاشتراک، فلا تؤسس، وإذا أسست تنسحب بسرعة لتملأ مکانها الطبقة الغنیة التی یسیر أمر معاشها بیسر، لکن هذا أیضاً تابع لأخذ الفرص من الطبقة الفقیرة قبل ذلک.

فالمهم علاج المشکلة جذریاً، حتی یکون لکل أتعابه فی جو صالح، فإن العلم والقدرة والمال إذا فقدت فی طبقة، ووجدت فی أخری، کانت الخیرات للثانیة وحرمت منها الأخری، فإن المؤسسة تحتاج إلی العلم وإلی القدرة وإلی المال، وحیث لم تکن الثلاثة متاحة لکل من یسعی استغلها جماعة، وحرم منها جماعة، وبذلک یحرمون أیضاً، عن سائر آثار هذه الثلاثة.

هذا من ناحیة، ومن ناحیة أخری: الطبقة الفقیرة لا تقدر علی المؤسسات الرفیعة، مثل المؤسسات الحربیة حیث تحتاج إلی السلاح، والمؤسسات الثقافیة حیث تحتاج إلی العلم، والمؤسسات المالیة حیث تحتاج إلی المال، وهذه الطبقة محرومة عن کل ذلک، فإن المؤسسة لا توضع إلاّ فی الجو المناسب لها، فمؤسسة البنوک من نصیب الأغنیاء، ومؤسسة صنع الجامعات

ص:303

من نصیب کبار المثقفین، ومؤسسة استخراج السلاح وتنظیمه من نصیب کبار العسکریین.

کبر المجتمع یتطلب کثرة المؤسسات

کبر المجتمع یتطلب کثرة المؤسسات

والمجتمع کلما صار أکبر وصارت حریاته أکثر، صار أکثر تعقیداً، وکلما کثر تعقید المجتمع احتاج إلی مؤسسات أکثر، فإن المجتمع الحر ینتج ویصنع أکثر، لأن حریة الظهور تفسح أمام الکفاءات، وکلما کان الإنتاج والصناعة أکثر کان التعقید أکثر.

مثلاً البلد الذی لا حریة فیه للثقافة لا مجلة له ولا صحیفة ولا رادیو ولا تلفزیون ولا نوادی ثقافیة، ولا مطابع وما یتبعها، مثل محلات بیع الکتب، والمکتبات، ومعامل التجلید، وهکذا.

أما البلد الذی له هذه الحریة، فتخرج فیها عشرة صحف، کل صحیفة تحاول تحسین مطالبها، وتکثیر قرائها، فإذا دخلت الصحافة فی حیاة البلد کثرت أعمال أهل البلد قراءة وکتابة و...

وبذلک یتعقد الاجتماع، ویحتاج إلی مؤسسات صحافیة، ومؤسسات لحمایة المستهلک عن الأفکار المنحرفة، وعن غلاء الصحف، وهکذا بالنسبة إلی سائر فروع الثقافة، وکذلک فی سائر أقسام الصناعة والإنتاج.

ولهذا السبب لا یکون تعقید فی الأامم البدائیة، ولا مؤسسات کثیرة، بل المؤسسات الواحدة کانت تکفی لنجاح عدة أمور، مثلاً کانت العائلة تؤدی التربیة والتعلیم، وصنع الغذاء والکساء والمسکن، بل وحتی صنع المرکب، حیث کانت لها دواب تتوالد بما یکفی الأولاد فی المستقبل.

ص:304

التعقید النافع والتعقید الضار

التعقید النافع والتعقید الضار

وربما یتوهم أن معنی ما ذکرناه مطلق تعقید الحیاة، حتی بالنسبة إلی أشغال الناس فی الدوائر المعینة، فإذا رأوا أن ثبت ملکیة دار یحتاج إلی صرف ساعات من الوقت فی الدوائر، قالوا: إنه من تقدم الحیاة الموجب للتعقید.

لا، لیس الأمر کذلک، فهناک تعقید ناشئ من جهة الحریة والتقدم، وتعقید ناشئ من جهة سوء التربیة والغرور والاستغلال، فالتعقید الملازم للتقدم هو القسم الأول، کما مثلناه فی أمر الثقافة، حیث إن الحاجة الجدیدة المولودة من التقدم تعقد الحیاة بقدرها.

أما القسم الآخر من التعقید فهو ناشئ عن الأمور الثلاثة:

1) سوء التربیة، فمثلاً فی السابق کان یقتنع عند بیع الدار بورقة یکتب علیها اعتراف البائع والمشتری، وشهادة نفرین من أهل المنطقة، أما حیث ساءت النیات وکثر الاحتیال، احتاج الأمر إلی ضبط أکثر، مما أورث تعقیداً جدیداً، وعلاج ذلک تحسین التربیة الاجتماعیة، لرد ثقة الناس بعضهم ببعض.

2) الغرور، فإن الحکومات الدیکتاتوریة تحتاج إلی المصفقین، فیعطون کراسی لمن یصفق لهم، وکل کرسی یزید الأمر تعقیداً، ولذا أخذت الدوائر تنتفخ بصورة مدهشة، وقد حدد الخبراء احتیاج دولة فی العالم الثالث إلی مائتی ألف موظف، بینما کان لها ملیون وألف موظف، وقال الخبراء: إنه ما دام أن الرئیس یرید المصفقین، فلا علاج لمرض تضخم الوظائف والموظفین.

3) والاستغلال ثالث أثافی التعقید الفارغ، حیث إن الدیکتاتوریین

ص:305

یحتاجون إلی مال أکثر لإدارة أمورهم من ناحیة، وإلی المصفقین الذین هم بحاجة إلی المال أیضاً، ولا یمکن استغلال الناس إلاّ بالتعقید وکثرة الدوائر، لتتمکن من امتصاص الأموال فی اللف والدوران الذی یطوف الدوائر.

وبهذا النوع من التعقید _ القسم الآخر _ تهدر الأموال والأعمار والکرامات، وهذا النوع من التعقید یسبب:

أ: تضخم الدوائر المحتاج إلیها، أمثال دائرة القضاء، ودائرة الجبایة، ونحوهما.

ب: إحداث دوائر جدیدة لا حاجة إلیها، أمثال دوائر الکمارک وغیرها.

ج: ثم فی الدول الدیکتاتوریة، یأتی دور دوائر أخر تزید الأمور تعقیداً، هی الدوائر المشرفة علی أعمال أخذتها الدولة من أیدی الناس بألف حجة مکذوبة، وإنما أخذتها لتزید من غرورها واستغلالها، أمثال دوائر القطارات والمطارات والمعامل ونحوها.

فإن الدولة الصحیحة هی التی تدع الناس یعملون بقدر طاقاتهم، وإنما شأن الدولة الإشراف لعدم الإجحاف، وتکمیل النواقص، مثلاً تحتاج البلاد إلی عشرین مطاراً، وألف مدرسة، فتعلن الدولة أن للناس أن یبنوا تلک ویدیروها، بشرط أن لا یجحفوا فی أخذ الأجور ونحوها، فإذا لم یقم الناس إلاّ بصنع عشر مطارات قامت الدولة بصنع الباقی وهکذا.

وبذلک یخف کاهل الدولة، وتشتغل کل الطاقات الممکنة، وتعطی کل حاجات الشعب، بینما الدول الدیکتاتوریة تستأثر بکل شیء لنفسها، لملئ غرورها، ولاستغلال الناس أکثر فأکثر، وبذلک تهدر طاقات الناس الخلاقة، وتبقی الحوائج معطلة، ویکثر التعقید، ویزید الصلف.

ص:306

ثم حیث إن الطبقة الفقیرة تشتغل بأمور معاشها، ولا فائض من الوقت والمال لها، لیس لها مجال فی بعض المؤسسات أمثال المخیمات الکشافة، والفرق الریاضیة وأمثالها، إلاّ نادراً، وبالعکس من ذلک فالطبقة الغنیة کثیراً ما یکون فرد منها عضواً فی أکثر من مؤسسة، حیث له فائض المال والوقت مما یؤهله لمثل ذلک.

ولا یخفی أن المؤسسات العاملة فی خدمة الإنسان، مهما کانت معایبها فی الأجواء العالمیة المعاصرة، فهی أمور حسنة، یلزم الإکثار منها، لأنها تعطی ما لا تعد ولا تحصی من الحاجات، مما لو أغلقت بقیت تلک الحاجات معطّلة، نعم یلزم تهذیبها حسب القدرة.

ص:307

بحوث فی الاقتصاد الاجتماعی

اشارة

بحوث فی الاقتصاد الاجتماعی

(مسألة 31): نلمع فی هذه المسألة إلی أنه کیف بدأ الاقتصاد فی المجتمع، وکیف تطور، ولماذا وجدت المؤسسات الاقتصادیة، وما هی الکیفیة الاقتصادیة فی العصر الحاضر، عصر المعامل والمصانع، ومن أین المشکلة، وما هو الحل.

حاجات الإنسان

حاجات الإنسان

طبیعة الإنسان التی خلقها الله سبحانه، فیه الاحتیاج إلی الأکل واللباس والمسکن والزواج والعقیدة، لأن الإنسان بدون الأکل یموت، واللباس یقیه الحر والبرد، والمسکن یقیه الحیوانات، بالإضافة إلی أنه یقیه الحر والبرد والأعداء و... والزواج حالة اندفاعیة فی الإنسان لا یتمکن أن یصبر علیها، والعقیدة فطریة، فإنه حیث یری الکون ینقدح فی ذهنه کیف وجد، ومن أوجده، وإلی ما یکون آخره؟

فمن احتیاج الإنسان إلی الأکل نشأ صیده الحیوانات، واقتطافه فواکه الأشجار والأعشاب، ورعیه للحیوانات کالأغنام، وزرعه، ولا فرق بین أن یکون ألهم ذلک، کما یعتقده أهل الأدیان، أو تدرج إلی الزرع والرعی، فإنه فی کلا الحالین احتاج فی مأکله إلی کل ذلک.

ومن احتیاجه إلی اللباس صنع الجلد والورق والصوف وما أشبه

ص:308

لباساً.

ومن احتیاجه إلی المسکن، اتخذ الکهف والکوخ، وصنع بیوتاً فی الغابة، ودوراً من الجلد، والثلج کما فی الإسکیمو، کما صنع دوراً من الطین ونحوه.

ونشأ من احتیاجها إلی الزواج أحکام بهذا الشأن.

کما نشأ من العقیدة العبادة والخضوع لمن رآه إلهاً.

وقد أحدث الإنسان لرفع حاجاته آلة الصید، وآلة قطع الأشجار، وآلة الطبخ، ووجد السبیل إلی النار، کما أن نزاعه _ و هو طبیعی للإنسان _ هداه إلی آلة المحاربة، ومن کل ذلک حدثت أحکام السلم والحرب، وأحکام القضاء، وأحکام التبادل، وأحکام الزواج والطلاق، وأحکام الولادة والموت، وأحکام تقسیم المال لدی الموت.

ومن الاحتیاج إلی مسائل الحفظ والدفاع والهجوم وقطع المنازعات وما أشبه، حدثت الحکومة، کما أن من فطرة الإنسان الملکیة الخاصة، ولذا حدثت الأحکام الخاصة بذلک.

کما أن سفره وحضره فی البر والبحر، هداه إلی تذلیل الحیوانات لحمله کالفرس، وصنع السفن، ومن هنا تولدت الموازین الاقتصادیة.

تکامل جوانب الحیاة

تکامل جوانب الحیاة

وحیث قام الدلیل علی الإله وأنبیائه (علیهم السلام) فالمتدینون یصدقون بأن الله ألهم أنبیاءه (علیهم السلام) کیفیة الحیاة وأحکامها، نعم لا شک فی حصول التکامل فی کل جوانب الحیاة حتی وصلت النوبة إلی خاتم الأنبیاء (صلی الله علیه وآله)، حیث قال: «بعثت لأتمم مکارم الأخلاق»((1))، وحیث لم یکن همّ الأنبیاء (علیهم السلام) صنع مواد الحیاة اهتموا بالجانب

ص:309


1- مکارم الأخلاق: المقدمة.

الذی بعثوا له، أی تعلیم الإنسان الحیاة السعیدة فی الدنیا والآخرة.

وإنما تکاملت الحیاة الاجتماعیة والاقتصادیة و... تدریجاً إلی أن وصلت إلی هذه الحالة التی نشاهدها من الوسائل والأسباب والآلات، أما توهم الإنسان المتسلسل من نسل القرد، وتدرج الحیاة علی ما ذکره دارون ومارکس، فقد قامت الأدلة العلمیة علی أنهما عاریان عن الدلیل، بل الأدلة الأکیدة متوفرة علی خلافهما.

عصر الآلة

عصر الآلة

ومنذ قرون قریبة أخذت المعامل والمصانع، ووسائل التجارة تملأ مکان الوسائل السابقة الیدویة وغیرها، وقد هدی الإنسان إلی صنع الوسائل المذکورة من أجزاء لا شیئاً واحداً، لما فی جعلها أجزاء من فوائد، مثل:

1: سهولة صنع الأجزاء وترکیبها، بخلاف صنعها بدناً واحداً.

2: واحتیاج البدن الواحد إلی أزمنة متطاولة فی صنع کل بدن بدن، بینما یمکن صنع ملایین الأجزاء لألوف الأبدان فی زمان واحد، أو أزمنة قصیرة، وذلک بصنع قوالب کثیرة للأجزاء، وإفراغ تلک القوالب للأجزاء مرة واحدة، أو ما أشبه ذلک.

3: الحمل والنقل للأجزاء سهل، بینما حمل الأبدان _ فی الآلات الکبیرة _ صعب جداً.

4: یمکن تکمیل الآلة بتکامل أجهزتها، بینما إذا کان لها بدن واحد کان التکمیل صعباً وموجباً لتبدیل الجهاز.

5: إذا عطب الجهاز یمکن تبدیل ماعطب من أجزائه، أما إذا کان بدناً

ص:310

واحداً کان الإصلاح صعباً، أو لم یمکن إصلاحه مما یسبب ضرر المستهلک.

6: یمکن لمن رأس ماله قلیل أن یوجد الأجزاء، بینما إذا کان بدناً واحداً لم یتمکن من ذلک إلاّ أصحاب الرأسمال الکبیر، أو بالاشتراک فی الأجهزة الکبیرة.

7: لا یتمکن من یصنع الأجزاء من الضغط الاستعماری أو الاستغلالی علی المستهلک، حیث تتوفر الأجزاء، بینما إذا کان بدناً واحداً کان بأیدی قلة، مما یمکنهم من الضغط والاستعمار والاستغلال.

8: إذا عطب الجهاز الکبیر بما لا یمکن إصلاحه، یمکن الاستفادة من أجزائه غیر المعطوبة، بینما لم یکن الأمر کذلک إذا کان بدناً واحداً، إلی غیرها من الفوائد.

المعامل تقضی علی محوریة العائلة والعشیرة

المعامل تقضی علی محوریة العائلة والعشیرة

وقبل صنع المعامل کان الاقتصاد _ غیر التجاری والزراعی _ یدور حول العائلة، حیث إن العائلة کانت هی وحدة العمل، فهی تغزل، وهی تنسج، وهی تربی الدواجن، وهی تطحن فی المطاحن الحجریة وهکذا.

لکن حیث جاء دور المعمل، تبدل وضع الاقتصاد ووضع العائلة، فالاقتصاد تحول من الاقتصاد العائلی إلی الاقتصاد المعملی، والعائلة تبدلت من العائلة المجتمعة إلی العائلة المتفرقة، حیث إن أفرادها أصبحوا مشتتین فی معامل متعددة، وکثیراً لا یری بعضهم بعضاً إلاّ باللیل، أو فی کل أسبوع مرة، وهکذا.

وکذلک تبدل الوضع فی العشائر للسبب السابق، وبسبب آخر هو أن الولاء فی العشائر کان لشیخ العشیرة، حیث إنه المبعث الطبیعی للأولاد

ص:311

والأحفاد ومن إلیهم، فلما کثرت الثقافة من ناحیة، وتفرق أفراد العشیرة فی المصانع من ناحیة ثانیة، تحول الولاء من العشیرة إلی ولاء النقابة بالنسبة إلی العمال، وإلی ولاء الحزب بالنسبة إلی المثقفین، حیث إن الثقافة لم تدع مجالاً للولاء العشائری المبنی علی اللحم والدم، فإن الثقافة مرتبطة بالروح، والروح مقدم علی الجسد.

لکن یجب أن یعرف أن التحول المذکور من العائلة والعشیرة، کان بسبب عدم تمکن الإنسان من استیعاب العلم فی العصر الحاضر، والسبب أن الإنسان خرج عن کونه محوراً، وجعلت المادة بدل الإنسان المحور، وبذلک حرم الإنسان عن دفء العائلة ودفء العشیرة.

واللازم أن یرجع الإنسان إلی المحوریة، بأن تنظم الحیاة علی کیفیة إرجاع الإنسان إلی مکانته، وجعل المادة خادمة له، لا العکس، وهو ممکن بأن تجعل الوحدة العائلیة مرتبطة بالمعمل، مع إعطاء العائلة أکبر مهلة للاجتماع بتقلیص ساعات العمل، وکذلک تجعل الوحدة العشائریة مرتبطة بالحزب، وکذلک الأمر بالنسبة إلی النقابة، وبذلک یتنعم الإنسان بالدفء الروحی بالإضافة إلی تنعمه بالمادة وخیراتها.

والظاهر أن مثل ذلک غیر ممکن ما دامت الرأسمالیة تلتهم الطاقات، وتستثمر المساعی، حیث الساعات الطویلة للعمل، والأجور الزهیدة، ونقصد بالرأسمالیة کلا قسمیها الشیوعیة الشرقیة والرأسمالیة الغربیة، فإن کلتیهما تستهلک سعی العاملین، وتستثمر الإنسان تحت أغطیة مختلفة.

الصناعة فی خدمة التجارة والزراعة

الصناعة فی خدمة التجارة والزراعة

ثم إن الصناعة لم تقدم حیاة الإنسان فی قسم الصناعات فقط، بل قدمتها

ص:312

فی قسمی التجارة والزراعة أیضاً، حیث الآلات الحاسبة والتلفونات ووسائل الحمل والنقل وغیر ذلک، کما أن وسائل الحرث والزرع والحصاد وما أشبه قدمت الزراعة تقدیماً کبیراً، ولذا تهتم الدول بالصناعة قبل اهتمامها بالزراعة، حیث إن الأولی تحسن الثانیة دون العکس.

تحولات عصر الصناعة

تحولات عصر الصناعة

وفی عصر الصناعة حدث تحول کبیر:

1) باندثار الوسائل السابقة، وإخلائها مکانها إلی المعامل الحدیثة.

2) ظهور مؤسسات جدیدة، أمثال الشرکات والنقابات والبنوک ونحوها.

3) ظهور الرأسمالیات الکبیرة الموجبة للاستغلال والاستعمار.

فإن الرأسمالیة المنحرفة سببت استغلال الإنسان، مما سبب ظهور طبقتین حادتین، طبقة الرأسمالیین وطبقة الفقراء، وبذلک حدث رد فعل عنیف وخاطئ ضد رأس المال، هو ظهور الشیوعیة، حیث أعطت رأس المال بید الدولة، أی جمعت فی ید فئة خاصة المال والقوة، بعد أن کانت بید فئتین، وبذلک بلغت مأساة الإنسان إلی أبعد درجة متصورة.

الاستعمار ولید الرأسمالیة

الاستعمار ولید الرأسمالیة

أما کیف سببت الرأسمالیة الاستغلال والاستعمار، فذلک من جهة أنها نفذت فی السیاسة والقانون والأحزاب والصحف وما أشبه، فجعلت توجه الحیاة حسب ما تشتهی، من بقاء رأس المال المنحرف وزیادته، فلم تجد الطبقة العاملة فی الزراعة والصناعة، بل وحتی مثل الموظف والمعلم

ص:313

ونحوهما، من ینتصر لها ضد انحراف رأس المال.

کما أن قوة رأس المال سببت قوة السلاح والدعایة وما أشبه، مما وجدت السبیل إلی بلاد الأجانب واستعمارها، من غیر فرق فی ذلک بین الرأسمالیة المنحرفة الغربیة، والرأسمالیة الأکثر انحرافاً الشرقیة، وإنما نقول الأکثر انحرافاً، لأن الأولی تغلفت ببعض الحریة، بینما الثانیة رفضت ذلک وتظاهرت بالدیکتاتوریة.

الإسلام هو الخلاص

الإسلام هو الخلاص

والطبقة الفقیرة _ وهم الأکثریة الکاسحة من البشر _ وکذلک الطبقة المستعمرة، لا علاج لهم فی التخلص من شرور الرأسمالیة بقسمیها، ومن شرور الاستعمار الشرقی والغربی، إلاّ بالمنهج الذی وضعه الإسلام، لا للمال فحسب، بل ولسائر الشؤون.

ومرادنا الأن التکلم فی المال، والمنهج هو:

1) أن یکون المال بإزاء خمسة أشیاء: (العمل الفکری، والجسدی، والمواد، والعلاقات، وشروط الزمان والمکان)، وبذلک یکون المال بقدر السعی ونحوه، فلا تحدث الرأسمالیة الکبیرة.

2) أن یکون الرأی محترماً، فالحکم وسائر الشؤون بأکثریة الأراء الحرة.

وبهذین تختفی الرأسمالیة الوالدة، والشیوعیة الولیدة، وتنتهی مأساة البشر من هذه الجهة.

ضرورة التوازن بین المستوی الصناعی والزراعی

ضرورة التوازن بین المستوی الصناعی والزراعی

ثم إن تقدم الصناعة أوجب تأخر الزراعة، إذ المعامل جلبت إلی نفسها

ص:314

کثیراً من أهل القری والأریاف، حیث الأجور المترفعة والأتعاب الأقل من أتعاب الزراعة، وحیث إن المدینة تتوفر فیها ما لا یتوفر فی القریة من مختلف أسباب الحضارة، وهذا التأخر فی الزراعة سبب جوع الإنسان، وقد ذکرت بعض الإحصاءات أن ربع أهل العالم یعیشون جائعین.

ولا علاج لهذا الأمر إلاّ بجعل مستوی الزراعة مساویاً لمستوی الصناعة من جهة الأجور، ومن جهة الجهد، بالإضافة إلی توفیر وسائل الحضارة الممکنة فی القریة، حتی لا تکون المدینة أرجح من القریة بحد الإغراء، وذلک ممکن بالدعاة لمحاسن القریة التی تفقدها المدینة، و... مما یسبب حفظ التوازن ولو بقدر بین المدینة والقریة.

وإن لم یعالج هذا الأمر علاجاً جذریاً لزاد عدد الجائعین فی العالم عاماً بعد عام، فقد دلت الإحصاءات علی الانتقال الکبیر من القری والأریاف إلی المدن، حتی أن الصین فی عام 1940م کان تسعون بالمائة من جمعیتها یسکنون القری، بینما تبدل ذلک فی الحال الحاضر، وفی أمریکا فی عام 1790م کان سکان القری والأریاف ما یقارب من سبعة وتسعین فی المائة، بینما انعکس الأمر بعد ذلک، وهکذا.

الدین وعصر الآلة

الدین وعصر الآلة

ثم إنه لما أخذت الصناعة مکان الزراعة والأعمال الیدویة، حدث تحول کبیر فی العالم المسیحی والبوذی ونحوهما، فإن الناس لما هجروا الأریاف إلی المدن وکثرت الثقافة، نشأ جیل مثقف عرفوا خواء دینهم، وأنه لایلائم العلم ولا یصلح للحیاة، وقد زاد الأمر عرفانهم قضایا محاکم التفتیش وتحالف

ص:315

الحکام مع علمائهم المنحرفین ضد الناس ونحوها، مما سبب ابتعادهم عن الدین، وحسبانهم أنه خرافة وارتجاع واضطهاد للشعب، وجاءت نظریات دارون وفروید ومارکس ومن أشبههم لتحاول قلع الدین عن جذوره.

وبذلک وقع الإنسان فی مشکلة لا مثیل لها فی التاریخ منذ أن حفظ، وقد حاولت الکنیسة رد الاعتبار، لکن عدم انسجامها مع العقل، وعدم وجود برامج عملیة لها لتأمین حیاة الناس، وجنوحها إلی الفخفخة والأبّهة حالت دون ذلک، اللهم إلا صورة اعتبار زائف هو إلی الشکلیات أقرب منه إلی الحقائق، وزاد الأمر إعضالاً أن الکنیسة أصبحت طلیعة الاستعمار، انظر (التبشیر والاستعمار) مما نفر الناس أکثر.

وقد اجتاحت هذه الموجة _ موجة الإلحاد والانحلال _ العالم الإسلامی فی حین غفلة من الحکام والقادة، فظن بعض المسلمین أن دینهم مثل دین الکنیسة، بینما الإسلام:

1: دین العلم.

2: وله برامج تقدمیة للحیاة أبداً.

3: ولم یکن یصافق الظالمین، بل کان ضدهم علی طول تاریخه.

4: ولم یکن فی یوم ما استعماریاً.

وعلی هذا، فاللازم علی المفکرین والقادة فرز الحسابات، حتی یعرف المتمردون خطأهم الکبیر فی اتباع المستعمرین، ویفهموا أن الغرب إنما تحرر نسبیاً یوم أن رفض الدین، وأما المسلمون فقد استعبدوا کلیاً یوم أن رفضوا الدین، سواء کان الرفض کلیاً، أو فی الجملة، وإذا عرفوا ذلک رجعوا إلی دینهم الذی فیه سیادتهم وسعادتهم.

ص:316

الأخطبوط الرأسمالی یمتد إلی الریف

الأخطبوط الرأسمالی یمتد إلی الریف

ثم إن نظام رأس المال یؤثر فی القریة لأجل ما یلی:

1: تبدیل الزراعة الحیویة بالزراعة الاستغلالیة، مثلاً القریة تزرع القمح لأجل الأکل، لکن رأس المال یرید زراعة القطن لأنه أربح له، وبذلک یجوع الناس لیمتلأ کیس رأس المال.

2: بیع الصنائع لهم، وجعلهم أسواقاً استهلاکیة، لتقدر علی رأس المال الأرباح.

3: تدویل النقد بینهم، لیستفید من التلاعب بالنقد، ومن أرباح النقد الذی یوضع فی البنوک، ومن الضرائب التی توضع علیهم، حیث إنه لو لم یتداول بینهم النقد لم یعرف قدر أموالهم، کما لم یستفد رأس المال من الضریبة علی بضائعهم لصعوبة تحویل البضائع إلی النقد.

4: تخلیة القریة واستنزاف أهلها، لأجل استخدامهم فی الصناعات، واستثمارهم بأجور هی أقل من حقهم الحقیقی، ولا یهمهم بعد ذلک أن یفسد الزرع، ویختل التوازن بین القریة والمدینة.

مضاعفات النظام الرأسمالی

مضاعفات النظام الرأسمالی

ثم إن النظام الرأسمالی:

1) أفسد جو العائلة والعشیرة.

2) وجعل العمل خواءً لا معنی له، ولا اشتیاق إلیه.

3) وسلب العامل حقه.

ص:317

4) وأفسد العلاقة بین العامل والآمر.

5) کما أفسد العلاقة بین بائع المواد الخام ومشتری البضاعة وبین الرأسمالی.

1: إما افساده جو العائلة والعشیرة فلما تقدم.

2: أما جعل العمل خواءً، فلأن العامل فی داره أو فی معمله الصغیر الیدوی ونحوه، کان یری کل العمل مبدءاً وختاماً، لأنه کان یکمل العمل من أوله إلی آخره وکان فی ذلک لذة الإتمام، ولذة السیادة والتسلط علی العمل، أما فی المعمل الکبیر، فقد أصبح العامل لا علاقة له بالعمل، من جهة أنه لا یری مبدأه ولا منتهاه، وقد صار بعمله الروتین کآلة صغیرة فی المعمل، یلهث ساعات طویلة، بلا شوق ولا علاقة.

3: وأما سلب العامل حقه، فلأن المالک له حقه بقدر الأمور الخمسة السابقة، وباقی الربح حق العمال، بینما العمال لا یتقاضون إلاّ بقدر لا یکفیهم حتی لأولیاتهم، وإنما أتعابهم للر أسمالی، وإلاّ فمن أین له هذا الثراء الطویل، أما نقابات العمال فلا أثر لها فی جو المجلس والحزب والقانون والقضاء، إذ کلها فی خدمة الر أسمالی.

4: وحیث علم العامل بأنه مسلوب الحق فسدت علاقته بالآمر الذی یسلبه حقه.

5: وأما فساد العلاقة بین الثلاثة، فلأن کل واحد من بائعی المواد ومشتری البضاعة یعلم بغبن الرأسمالی لهما، ولا علاج لهما من جهة تحالف الرأسمالیین، فی أن لایشتروا الخام إلاّ بما یشاؤون، ولا یبیعوا إلاّ بما یریدون.

وإذا اشتروا الخام من البلد وباعوا البضاعة علیه، کان ضرراً مزدوجاً علی البلد، واستغلالاً مزدوجاً للبلد.

ص:318

والعلاج لکل ذلک: أن یکون للعامل حقه، ولصاحب العمل حقه، ولصاحب المواد والمشتری للبضائع حقهما، وینظم الأمر بحیث یرجع إلی المعمل الحالة الإنسانیة التی کانت للعائلة وللمعمل الصغیر إبان إنتاجهما، فیما کانا وحدة العمل، وبکلمة واحدة: أن یمنع الإجحاف، وأن یکون الإنسان المحور بدل أن یکون المحور المال.

وإلاّ فنظام الرأسمالی الأعم من الشیوعی _ لأنه من أبشع أقسام الرأسمالیة _ أوجب المآسی العدیدة، والتی منها:

1: فقر أکثر سکان المعمورة.

2: والجوع إلی حد الموت لملایین الناس.

3: والبطالة فی قطاعات کبیرة من البشر.

4: وهدم العائلة.

5: والفساد، حیث تضطر الفقیرات والأولاد الفقراء إلی بیع أبدانهم للّذة من ناحیة، ویفتح الرأسمالیون المواخیر ومراکز الشذوذ للمزید من المال من ناحیة أخری.

6: والطبقیة الحادة فی کل من النظامین الغربی والشرقی.

7: وإشعال الحروب.

8: والثورات.

9: والانقلابات.

10: والاستعمار بمختلف أشکاله.

ولیست النجاة بما زعمه الغرب من إیجاد النظام الاشتراکی الدیمقراطی، کما فعلوا فی الیابان وفرنسا، ولا بما زعمه الشرق من المشی خطوات إلی

ص:319

الرأسمالیة والحریة، فإن کلا الأمرین لا یقطع جذور المشکلة والتی تقدم من أنها الإجحاف، وکون المال المحور، وقد ذکرنا تفصیل جذور المشکلة وعلاجها فی کتاب: (فقه الاقتصاد) بما لا داعی إلی تکراره.

المنطق الرأسمالی والمنطق الشیوعی

مضاعفات النظام الرأسمالی

أما استدلال الرأسمالیین _ بکلا قسمیه الغربی والشرقی _ لصحة رأس المال، فلا یعدو أن یکون عدم تقییم للواقع.

فقد استدل الغربیون:

أ) بأن اختلاف الطبقات من طبیعة الإنسان.

ب) وأن کثرة أمول الرأسمالیین هی مقتضی ذکائهم، بینما الطبقة الفقیرة لا ذکاء لها مثل أولئک، ولذا تأخروا.

ج) وأن رأس المال مخزن للأعمال الکبیرة، فلو قضی علیه توقف التقدم.

د) وأنه لو لم یؤذن للرأسمالی أن یسیر قدماً، بأن حدد، لم یکن له شوق فیخسر الإنسان طاقاته الخلاقة، ولا یربح بإزاء ذلک شیئاً.

ما استدل الشرقیون: بأنه لو لم یکن المال: الإنتاج والتوزیع بید الدولة، تحت ظل حکومة دیکتاتوریة یکون کل الناس عمالاً لها، لاستغل المال الأثریاء، ویکون ذلک بضرر أکثریة الشعب.

مناقشة المنطقین

مناقشة المنطقین

وفی کلا الدلیلین نظر، إذ:

أ) لیس اختلاف الطبقات من طبیعة الإنسان، ومن أین یمکن إثبات

ص:320

ذلک، بل الاختلاف فوق الحق ظلم، وأکل لأموال الناس بالباطل، والظلم خلاف طبیعة الإنسان.

ب) وهل کثرة أموال الرأسمالی بقدر ذکائه، إن هذا شیء دل الإحصاء علی خلافه، بل الوجدان أیضاً یدل علی عدم صحته.

ج) والأعمال الکبیرة إنما تقام بالمال لا برأس المال المنحرف، ویمکن تجمیع المال بالشرکات التی یساهم فیها أصحاب الحقوق، لا الذین استغلوا أموال الناس تحت رایة رأس المال.

د) وهل یشوق الملایین بإعطائهم حقهم، أو یشوق قلة باستغلال سائر الناس، وأیهما أکثر إنتاجاً، وأحمد عاقبة، ثم إذا أعطینا المال بید الدولة ألم نجمع إلی مآسی الرأسمالیة: الاستغلال، مأساة الدیکتاتوریة، وألیس هذا الحال کالفرار من الرمضاء إلی النار.

مآخذ علی النظامین الغربی والشرقی

مآخذ علی النظامین الغربی والشرقی

ومن المآخذ علی نظام رأس المال الغربی، ونظام رأس المال الشرقی، أن الأول یوجب الأزمة الاقتصادیة المنتهیة إلی بطالة وجوع کثیر من العمال، والثانی یجیع العامل والفلاح دائماً، بدون أن یقدروا علی الاعتراض والشکایة.

أ) أما الأزمة، فهی تنشأ من زیادة العرض علی الطلب، حیث إنه:

1: لیس للأثریاء تخطیط منسق فی الإنتاج.

2: ولا نظام صحیح للاقتصاد، بأن یعطی العمال قدر حقهم، فیقوم کل ثری بإنتاج البضائع، مما یوجب زیادة البضائع علی الحاجة، وحینذاک ینزل السوق، ویری الثری أنه لا فائدة من الإنتاج، فیوقف العمل ویطرد العمال،

ص:321

وبذلک تنتشر البطالة، ولا یجد العامل ما یقوت به نفسه وعائلته.

وقد عالج الغرب هذه المشکلة علاجاً جانبیاً، بإعطاء العمال بسبب النقابات، عند الأزمة شیئاً قلیلاً یقیت به نفسه وعائلته، لکن ذلک لا یعالج البطالة، کما لا یعالج هدر الطاقات الإنتاجیة، وربما یعالج ذلک بالتخطیط المنسق للإنتاج، لکن ذلک لا یعالج هدر الطاقات الإنتاجیة أیضاً، إذ الطاقة کبیرة، والاحتیاج أقل، فإما أن یوزع هدر الطاقات إلی أمد بعید، وإما أن یجمع هدر الطاقة لأیام الأزمة.

مثلاً إذا کان الاحتیاج بقدر ستة أشهر من العمل، فالستة الأخری زائدة عن الحاجة، ولا فرق فی ذلک بین أن توزع الستة الزائدة علی طول السنة، کأن یعمل فی یوم ویترک فی یوم، أو یعمل ستة أشهر ویترک ستة أشهر.

ب) وأما الإجاعة، فإن الشرق جمع بین رأس المال والدولة، وبذلک یستغل العامل والفلاح، بإعطائهم شیئاً قلیلاً من إنتاجهم، واستئثاره بنفسه لبقیة الإنتاج، والشیء القلیل لا یکفی لحاجات العمال والفلاحین، وبذلک یجوع العامل والفلاح طول عمره، ولا یقدر حتی علی الاعتراض، حیث إن الخصم هو الحکم.

والنتیجة فی النظامین واحد، وإن کان بینهما فرق صوری، فالنظام الرأسمالی الغربی فیه شیء من الحریة الصوریة، وشیء من الشبع فی قبال الإجاعة والبطالة فی أیام الأزمة، والنظام الرأسمالی الشرقی فیه إجاعة دائمة، ودکتاتوریة مطلقة فی قبال عدم البطالة وعدم الأزمة.

جوهر المشکلة

جوهر المشکلة

وجوهر المشکلة فی النظامین:

ص:322

1: عدم إعطاء العامل والفلاح حقهما.

2: وعدم توزیع المال توزیعاً عادلاً، فالثروة جعلت لکل البشر المعاصر والآتی، بینما النظام الشرقی والغربی یأخذ کل حق الجیل الحاضر وشیئاً کبیراً من حق الجیل الآتی، ثم یصرف بعضاً مما أخذه علی الشعب، ویصرف بعضه الآخر فی الفساد والإفساد وبالحروب والإسراف ونحوها.

مثلاً أوقف والد بستاناً علی أولاده الحاضرین وأولاده الآتین، ولنفرض أنهم عشرة أجیال، فی کل جیل عشرة، والبستان یعطی فی کل عام ألف دینار، بحیث إذا وزع الناتج توزیعاً عادلاً، کان لکل ولد مائة دینار، إلی آخر الأجیال، فإذا آجر الجیل الأول البستان لمائة سنة، ولنفرض أن عشرة أجیال تدوم مائتی سنة، بخمسة آلاف دینار، ثم ثلاثة من الجیل الأول استبد بأربعة آلاف وسبعمائة وتسعین دیناراً، کان معنی ذلک (أولاً) استهلاک هؤلاء الثلاثة حق أربعة أجیال آتیة، و(ثانیاً) استهلاک هؤلاء الثلاثة بعض حق سبعة من جیلهم، أی أعطی الثلاثة لکل من السبعة: ثلاثین، بینما کان حق کل واحد من السبعة: مائة.

فإذا أردنا العدالة فی الثروة یلزم:

1) أن نلاحظ حق هذا الجیل فی الثروات المختزنة فی الأرض حتی لا یؤخذ أکثر من حقهم تعدیاً علی حقوق الأجیال الآتیة.

2) توزع هذه الثروة علی النطاق العالمی، لا النطاق القطری، حتی لا یبقی جائع وفقیر.

3) یوزع الإنتاج علی العامل والمدیر وغیرهما، کل بقدر حقه، لا أن یستبد الرأسمالی الغربی والدولة الشرقیة بأکثریة سعی العمال والفلاحین.

ص:323

وعند ذلک لایکون:

1: فقر.

2: ولا اسراف.

3: ولا ظلم الجیل والأجیال.

4: ولا البطالة.

5: ولا الأزمة.

6: ولا فساد، وقد ذکرنا تفصیل ذلک فی کتاب الاقتصاد.

وهذا الأمر ممکن:

أ: إذا دخل الإیمان بالله والخوف من الحساب القلوب.

ب: واتبع النظام الإسلامی فی المعاملات والانتفاع بالمباحات وفی غیرهما مما یرتبط بالمقام من القوانین الإسلامیة.

قال سبحانه: {خلق لکم}((1)).

وقال تعالی: {ولا تبذر تبذیراً إن المبذرین کانوا إخوان الشیاطین}((2)).

وقال عز من قائل: {ومن أعرض عن ذکری فإن له معیشة ضنکاً}((3)).

ولا یخفی أن الضنک لا یصیب الفقراء فقط بذنب الأغنیاء، بل یصیب الأغنیاء المنحرفین أیضاً الضنک من نوع آخر:

1) ضنک الفقراء حولهم.

2) وضنک السأم، ولذا یکثر فیهم الانتحار، بل قد دلت بعض الإحصاءات

ص:324


1- سورة البقرة: الآیة 29.
2- سورة الإسراء: الآیة 26.
3- سورة طه: الآیة 124.

علی أن أعداد المنتحرین من أولاد الأثریاء أکثر من أعدادهم من أولاد الفقراء.

3) وضنک الکبریاء والغرور، حیث تضیق الأرض علیهم بما رحبت، من جهة المنافسات، ورؤیة النفس فوق مقدارها.

4) وضنک الخسارة أحیاناً.

5) وضنک حفظ المال وإنمائه.

6) وضنک الضرائب.

7) وضنک تشتت العائلة، حیث إن الأغنیاء تتشتت عائلتهم غالباً، لأن اعتماد کل فرد علی العائلة تتحول إلی اعتماده علی الثروة.

8) وضنک أمراض الأغنیاء، أمثال: السمنة وقرحة المعدة والسکر والمفاصل والنقرس.

9) وضنک اختلال الأولاد، حیث إن إکثارهم من الملذات یؤثر فی نسلهم.

10) وضنک إحاطة عداء الفقراء بهم.

هذا بالإضافة إلی: {ونحشره یوم القیامة أعمی قال رب لم حشرتنی أعمی وقد کنت بصیراً قال کذلک أتتک آیاتنا فنسیتها وکذلک الیوم تنسی}((1)).

لکن هذه الأنواع من الضنک، إنما هی إذا لم یؤمن بالله، أو لم یأخذ المال من حله، أو وضعه فی غیر حله، وإلاّ کان المال نعمة وأسباب الرفاه، وقد سماه الله سبحانه (خیراً) فی آیات متعددة، وفی الشعر المنسوب إلی الإمام (علیه السلام):

ص:325


1- سورة طه: الآیة 124.

ما أحسن الدین والدنیا إذا اجتمعا

وأقبح الکفر والإفلاس بالرجل

ثم إنه قد زعم بعض علماء الاجتماع أن المذهب البروتستانتی إنما ظهر حلاً وسطاً بین الدین المسیحی والمدنیة فی عصر الصناعة ورأس المال، وعلله بأن مذهب الکاثولیک لم یکن یلائم عصر رأس المال، لأنه لم یکن یبیح الرأسمالیة والربا والصناعة.

لکن الاطلاع علی تاریخ البروتستانت ینفی ذلک، فإنه ظهر فراراً من احتکار الکاثولیک الدین للأحبار والرهبان، ومن التشدید غیر المستند إلی کتابهم الذی کان یمارسه العلماء المسیحیون، ولذا أخذ لوثر فی ترجمة الکتاب وأباحه للکل، خلافاً لتشدید البابا ضده، ثم کان الکاثولیک یبیح الرأسمالیة والربا، ولذا کانت أموال الکنیسة تجمع من أمثالهما.

نعم، لا شک أن رأس المال أولد:

1: امتداداً بالصهیونیة.

2: ورد فعل بالشیوعیة.

وأکثر فجائع العصر الحاضر مستند إلی هذا المثلث: الوالد وولداه، وکل الثلاثة مشترکة فی:

1) امتصاص الثروات.

2) الإفساد لها.

3) امتصاص أتعاب الناس ببدل أقل من العدالة.

4) ویتبع ذلک الفقر والمرض والجهل والفوضی، وهدم العائلة وإشاعة المفاسد الأخلاقیة، والتأخر للأغلبیة الکاسحة من الناس.

وإن کانت تختلف اختلافاً غیر جوهری، فالشیوعیة أکثر دیکتاتوریة وإجاعة،

ص:326

والرأسمالیة أکثر استعماراً واستغلالاً، والصهیونیة أکبر مکراً وأکثر عنصریة، وحیث ذکرنا فی کتاب (الفقه _ الاقتصاد) أضرار الشیوعیة والرأسمالیة، وفی کتاب (هؤلاء الیهود) أخطار الصهیونیة، فلا حاجة إلی إعادة الکلام حول أضرار الثلاثة، بما هو خارج عن علم الاجتماع الذی بصدده هذا الکتاب.

ثم إن بعض علماء الاجتماع الذین تأثروا بالرأسمالیة قالوا: إن الأزمة الاقتصادیة کما تقدم تفصیلها، وإن کانت ضارة من جهة، إلاّ أنها نافعة من جهة أخری، وهی أنها توجب تصفیة العمال، بإخراج المرضی والشیبة والکسالی وما أشبه، لأنه إذا انتهت الأزمة استرجع أصحاب المعامل الصالحین من العمال فقط.

ویرد علی هذا الکلام:

أولاً: إن الأزمة توجب البطالة والتأخر فی المعیشة لعشرات الألوف من الصالحین للعمل، فما ذنب هؤلاء.

وثانیاً: إن اللازم سن قانون إحالة غیر الصالحین إلی التقاعد، لا الانتظار بهم إلی أیام الأزمة، فما ذنب الشیبة والمرضی حتی یعملوا ویحملوا فوق طاقتهم إلی أیام الأزمة.

الاقتصاد الإسلامی

الاقتصاد الإسلامی

بقی شیء، وهو أن الإسلام له طریق آخر فی الاقتصاد، هو غیر الرأسمالیة الغریبة والشیوعیة والاشتراکیة والتوزیعیة، وهذه الطریقة مستقاة من الکتاب والسنة والإجماع والعقل، وهی تعطی:

ص:327

1: توزیع الثروة توزیعاً عادلاً، بحیث لا یأکل جیل حق جیل، ولا جماعة حق آخرین من معاصریهم.

2: عدم اکتساب الثروة بالاستغلال، أو صرفها فی ما یضر ویفسد.

3: عدم بقاء فقر وحاجة معطلة.

4: جعل الثروة لتقدم الکل، وذلک لأنه حیث یکون التوزیع عادلاً: کل بقدر حقه، تظهر الکفاءات الموجبة للتقدم العام.

أما الثروة فی الحال الحاضر، فلا توجب إلاّ تقدم الرأسمالیین ومن إلیهم، أو أعضاء الحزب الشیوعی ومن فی فلکهم، وبذلک بقیت أکثر الکفاءات الإنسانیة معطلة.

وکما أنه إذا کان العلم خاصاً بجماعة، یحرم البشر من طاقات الآخرین العلمیة الکامنة.

وکما أنه إذا کان الحکم استبدادیاً بید قلة، کبتوا الناس فلم تظهر طاقاتهم.

کذلک الثروة، فإنها حیث تکون بید قلة، لا تظهر الطاقات الکامنة فی الآخرین، وفی الحال الحاضر حیث إن کلاً من الحکم والعلم والمال بید قلة من البشر، حرم الإنسان من مواهب کامنة لا تعد ولا تحصی، وضرر ذلک لا یرجع إلی المحرومین فقط، بل إلی الحارمین أیضاً، إذ الاختراع والاکتشاف وأسباب الصحة وغیرها، لیست نصیب بعض البشر، بل نصیب الکل، فما لم یظهر منها یحرم الکل منه.

ص:328

الحکومة

اشارة

الحکومة

(مسألة 32): الحکومة عبارة عن الإدارة، صغیرة کانت أو کبیرة، بدائیة أو معقدة، وحتی عائلة تسکن وحدها فی غابة أو کهف، لابد وأن یکون أحد أفرادها بمثابة الحکومة، حیث یفصل النزاع، ویرد المعتدی، ویقضی بین المتنازعین، ویفعل ما یقدم العائلة، وهل تفعل الحکومة الکبیرة المعقدة فی الحال الحاضر إلاّ تلک الأمور.

نعم الأمم الابتدائیة تحتاج إلی الحکومة احتیاجاً أقل من احتیاج الأمم المتحضرة، وقد ورد فی الأحادیث أن الخلیفة کان قبل الخلیقة، وفی القرآن الحکیم: {وإذ قال ربک للملائکة إنی جاعل فی الأرض خلیفة}((1)).

وإنما یکون احتیاج الأمم الابتدائیة إلی الحکومة أقل، لأمور:

1: قلة الجماعة الابتدائیة، مثل سکان الکهوف والغابات، وجماعات الرعی والصیادین علی سیف البحار، وما أشبه ذلک، فإن الجماعة القلیلة، قلیلة روابطها ونزاعاتها ونزاعات الآخرین معها، وهکذا.

2: قلة الملکیة وبدائیة التعامل، فإن کثیراً من الأمور المحتاجة إلی الحکومة فی الأمم المتحضرة، إنما تنشأ من کثرة الملک وکثرة التعامل.

3: وحدة الدین والعقیدة والفکرة فی الأمة البدائیة، فلا اختلاف تنتهی

ص:329


1- سورة البقرة: الآیة 30.

إلی المنازعة بما تحتاج إلی الحکومة.

4: کما أن عدم وجود المدینة ونحوها، یقلل من الاحتیاج إلی الحکومة، حیث لا نظم فی حالة عدم وجود المدینة، فلا حاجة إلی وجود النظام وحافظ النظام.

الحکومة فی الأمم البدائیة

الحکومة فی الأمم البدائیة

وفی الأمم الابتدائیة، تبتدئ الحکومة بکبار القوم، وفی مجلس استشاری، کما کانت (دار الندوة) فی مکة المکرمة کذلک، إلاّ إذا کانت عشیرة واحدة مثلاً، فأمور الحکومة منوطة بالکبیر، سواء کان کبیراً سناً وهو الغالب، أو الکبیر علماً ونحوه، ولذا کان الکهان والعرافون فی الجاهلیة مرجعاً فی المنازعات ونحوها.

والعقاب فی الحکومات البدائیة یشبه العقاب فی الحکومات المتحضرة، مع بعض الفوارق، فالضرب والشتم والاستهزاء والطرد والحرمان عن مثل الإرث والمقاطعة، وأحیاناً السجن والقتل والمصادرة عقوبات بدائیة، کما أنها عقوبات فی العصر الحاضر.

الحکومة فی العصر الحاضر

الحکومة فی العصر الحاضر

والحکومة فی العصر الحاضر، عبارة عن مؤسسات متعددة، تحتویها مؤسسة کبیرة تنسق بینها، تقوم بالأمور التالیة هی:

1: النظم.

2: رد اعتداء بعض علی بعض.

ص:330

3: التقدم.

4: الدفاع.

وهذه الأمور تقوی الحکومة، حیث إن الاجتماع یحس بالاحتیاج إلی الحکومة من خلال ممارستها للأمور التالیة أکثر فأکثر، وبالأخص الدفاع فی حال الحرب مع الأعداء، إذ یشعر الاجتماع بالاحتیاج الشدید، حیث إنهم یرون أنه لولا الحکومة، یکون کل شیء لهم فی خطر، ولذا یبذل الناس فی حال الحرب ما لا یبذلون فی حال السلم، وقد اشتهر أن (الحرب من جنون التقدم).

الاحتیاج إلی الحکومة

الاحتیاج إلی الحکومة

ومما تقدم یظهر الاحتیاج إلی الحکومة علی کل حال، لا أنها من ولائد الملکیة الشخصیة، کما یقوله المارکسیون، إذ قد عرفت الدلیل علی خلاف کلماتهم، وقولهم هذا یشبه قول فروید من أن أساس الحکومة القضیة الجنسیة، وقول ثالث أن أساسها حب الاستیلاء والشهرة.

وبذلک یظهر اعتباطیة أن الملک الخصوصی یسبب تقسیم الاجتماع إلی طبقتین، طبقة الأثریاء، وطبقة الفقراء، وأن الأولین یوجدون الحکومة لأجل حفظ أملاکهم، ولأجل استغلال الأخرین، ولأجل تحطیم المقاومة التی یبدیها الآخرون رغبة فی التخلص من نیر الأولین.

ثم إنه قد تصطلح (الدولة) مرادفة للحکومة، وقد تستعمل عبارة عن الأعم من الحکومة، حیث تشمل الدولة: الأمة والأرض والطبقة الحاکمة، فإذا لم تکن أرض أو أمة أو طبقة حاکمة لا تسمی دولة.

ص:331

أسباب تعقد الحکومة فی العصر الحاضر

أسباب تعقد الحکومة فی العصر الحاضر

ثم إن الحکومة فی العصر الحاضر، صارت أصعب من الحکومة فی العصر السابق، لأمرین:

1: للصناعة وکثرة النفوس.

2: للصلف والغرور.

بیان ذلک: إن الصناعة أوجبت کثرة الحاجات، والحاجة تحتاج إلی تمهید السبیل والنظم والتنسیق وما أشبه، مثلاً سفر الإنسان فی الحال الحاضر، صار أضعاف سفره فی زمان الدواب. والسیارة والطائرة والقطار والفندق وما أشبه صارت بکثرة هائلة، وکل تلک الکثرة بحاجة إلی النظم وفتح الطریق أمامها، بصنع المطارات والمحطات والکراجات والفنادق وأنظمة المرور وأنظمة المنازعات المرتبطة بها وغیر ذلک.

وکثرة الجمعیة أوجبت مشاکل جدیدة، حیث یلزم فتح الطرق، وتهیئة الوسائل مثل المدارس والمصحات ودور العجزة وما أشبه، مثلاً إذا کانت مدینة فیها مائة ألف بحاجة إلی عشر طرق عامة، کل طریق بعرض خمسین ذراعاً، فإذا ارتفعت نفوس المدینة إلی خمسمائة ألف احتاجت إلی خمسة أضعاف ذلک طرقاً وسعةً، وهکذا الکلام فی المدارس وغیرها.

أما الصلف، فلأن الحکومات أخذت تحد من الحریات، وترید التوسعة، وترید المصفقین، وبذلک أوجبت لأنفسها مشاکل معقدة، حیث دست أنفها فی کل شیء، ولم تترک الناس یعملون کما یشاؤون، وتکون الدولة رقیبة علیهم فقط، وإدارتها الاستعماریة والاستغلالیة أوجبت لها مشاکل جدد.

کما أن توظیف المصفقین أوجب مشاکل أیضاً، مشکلة کون الوظیفة غطاءً، ومشکلة تحصیل

ص:332

المال لأجلهم، ومشکلة إدارتهم، وإلی آخرها.

بینما الحکومة إذا عقلت ورجعت إلی وظیفتها الحقیقیة، من الأمور الأربعة المتقدمة، لم تتعقد إلاّ ثلث التعقد الحالی، حیث إن نصف تعقدها بسبب الصناعة والجمعیة یزول، وکل تعقدها بسبب الصلف یزول، وذلک لأن إعطاء حریة الثقافة والصناعة والزراعة والتجارة وما أشبه للناس یرفع عن کاهل الحکومة مشکلات کبیرة، فالناس یبنون المدارس والمستشفیات والمصانع والمطارات وغیرها، لکن الحکومة تشرف لعدم إجحاف أصحاب تلک الأمور علی الناس.

فأی لزوم لأن تکون هذه الأمور تابعة للدولة، بل إذا أعطیت الحریة للناس فی هذه الأمور، استفاد الاجتماع فوائد جمة، هی:

1: ظهور الکفاءات والطاقات الکامنة.

2: العمل الدائب، حیث إنه فرق بین الموظف الذی لا یعمل إلاّ بقدر الواجب ببلادة وجمود، وبین من یرکض لنفسه لیل نهار.

3: وصول الحاجات إلی کل الناس، حیث التنافس الحر بین التجار وأصحاب تلک المشاریع، لأن کلاً یرید فتح السوق لنفسه.

4: قلة الأثمان وما أشبه، للتنافس الحر أیضاً.

5: عدم بقاء الأیادی العاطلة، فتختفی البطالة، ولا یخفی ما فی ذلک من الفوائد.

6: عدم نظر المجتمع إلی الدولة بکراهیة، حیث لم تحدد الدولة حریاتهم وطاقاتهم.

7: عدم وجود الطبقیة الحادة.

ص:333

8: عدم توتر الاجتماع بالمظاهرات والإضرابات.

9: اختفاء الأمیة والمرض والجهل والجریمة، وذلک لأن الاجتماع بکله یرکض لإصلاح نفسه، ووصولها إلی أقل قدر ممکن.

وبذلک یظهر أن تحویل کل الأمور من أیدی الناس إلی أیدی الدولة، کما یفعله المار کسیون، أو تحویل بعض الأمور إلی ید الدولة، کما یفعله الرأسمالیون خطأ، وعلیه فاللازم علی الدولة أن تکون المراقب لا المباشر، نعم إذا بقی فراغ سدته الدولة، وبذلک تریح وتستریح.

لا لتکثیر الدوائر

لا لتکثیر الدوائر

فما اتخذتها الدول الحدیثة من تکثیر الدوائر، والتدخل فی کل الشؤون سببت مشکلات جمة منها:

1) تعقد الأمور.

2) تجمید الطاقات، لما تقدم من أن من طبیعة الموظف الجمود.

3) الإضرار بالاقتصاد.

4) خنق الحریات والکفاءات.

5) الروتین القاتل للطاقات.

أما تعقد الأمور، فلأن کثیراً من الأشیاء احتاجت إلی تقریر الدولة لها، بینما لم تکن فی السابق کذلک، مثلاً السفر بالطائرة والقطار أو ما أشبه احتاج إلی إجازة الدولة، بینما السفر بالدواب لم یکن کذلک، والبناء احتاج إلی إجازة الدولة، بینما لم یکن فی السابق کذلک.

وأما تجمد الطاقات، فلأن هؤلاء الموظفین کان علیهم أن یسعوا فی تکثیر الإنتاج أو الثقافة أو العلاج _ بأن یکونوا أطباء _ وهکذا، والآن هم

ص:334

جمدوا فی إدارة وظائف الدولة، وأمامی تقریر یقول:

إن موظفی أمریکا فی عام 1950م((1))، کانوا (1/1) ملیون، بینما ارتفعوا فی عام 1955م (4/7)، إنه لا شک أن بعضهم زادوا لزیادة الجمعیة، أو لأجل تقدم الصناعة، أما الکثرة من الزائد فلیسوا إلاّ لأجل الصلف والغرور.

وأما الإضرار بالاقتصاد، فلأن المنتج صار مستهلکاً، حیث إن الموظف منتج بطبعه، أما إذا صار موظفاً فقد تحول إلی مستهلک.

وأما خنق الحریات وتجمید الکفاءات، فلأن الوقت الذی یصرفه الشعب فی تحصیل الإجازة للسفر والإقامة والبناء والعمل والزراعة والصناعة والتجارة وغیرها _ بینما یلزم أن تکون کلها حرة، کسائر الأعمال الحرة _ خنق لحریته، بالإضافة إلی کونه ضرراً باقتصادیات البلاد، حیث إن هذه الأوقات یجب أن تصرف فی الإنتاج، بالإضافة إلی أن الذهاب إلی الدوائر ومصارف الدائرة والرجوع إلی البیت وما أشبه، کلها تلتهم المال.

ثم إن الدولة لا تأذن لبعض الطالبین بأن یتاجر أو یزارع أو ما أشبه ذلک، لعدم توفر الشروط القانونیة، الموضوعة صلفاً لا بحق، وذلک تجمید لطاقات کثیرة فی الأمة، حیث إنه إذا کانت الحریات، تفتقت تلک الطاقات عن مواهب کامنة، واکتشافات انتفع بها البشر.

والروتین أو کتابنا وکتابکم، حیث تحول هذه الدائرة المراجع إلی دائرة أخری، وهلم جراً، شیء یوجب السأم، وبلادة العمل، والتضجر من

ص:335


1- حیث إن التاریخ المدون فی الکتب التی نقلت منها هذه الاحصائیات هو تاریخ میلادی، ولعدم إمکان تطبیق ذلک علی التاریخ الهجری لعدم ذکر الآشهر غالباً، لذلک ترکنا التاریخ کما هو. منه (دام ظله).

الدولة، فبینما وضعت الدولة لتخدم الناس، صارت تستخدم الناس، وبینما وضعت لحل المشکلات، صارت تزید المشکلات، وتعقد المشکلات، وهکذا.

وربما یقال: إن تعقید الأمور للوقایة، والوقایة خیر من العلاج.

وفیه: إنه هل تمنع الدولة الناس لیلاً من التجول إلاّ من حصل علی الإجازة، أو تبیح التجول کما هو الحق الطبیعی للإنسان، وإذا سرق سارق أو ما أشبه عاقبته علی سرقته؟

إن الفرق بین إعطاء الحریة وعلاج الفاسد، وعدم إعطاء الحریة خوفاً من الفساد، کالمثال الذی ذکرناه.

اعتذارات زائفة

اعتذارات زائفة

ومما تقدم ظهر زیف اعتذار الدول الحاضرة، عن کثرة موظفیها:

1: بکثرة الجمعیة.

2: وبمعطیات الصناعة، مثلاً السیارة تحتاج إلی قوانین المرور، وهی بحاجة إلی موظفین، وهکذا التلغراف والتلفون وغیرها.

3: وبالمظاهرات وبالإضرابات التی واکبت الحریة الحدیثة بسبب الدیمقراطیة، حیث إنها تحتاج إلی العلاج، وذلک لا یمکن إلاّ بالموظفین.

4: وبأن هدم النظام بالانقلابات العسکریة وما أشبه صار کثیراً، ولذا نجد الانقلابات فی کثیر من البلاد، فالدولة مضطرة لحفظ الأمن بواسطة أجهزة کثیرة.

5: وبکثرة الجریمة من السطو والاختطاف والقتل وما أشبه، وذلک بحاجة إلی أجهزة جدیدة للحیلولة دونها، بالإضافة إلی تکثیر أجهزة القضاء للعقاب والفصل.

ص:336

6: بأنها لتسهیل الحیاة، أمثال: شرکات التأمین، مما لم تکن سابقاً، وهی أیضاً بحاجة إلی موظفین لضبطها وتطبیق القوانین علیها.

وجه الزیف:

أ) إن کثرة الجمعیة وتقدم الصناعة، وإن کانا بحاجة إلی موظفین، إلاّ أن سهولة الحیاة بسبب معطیات الصناعة قللت من الموظفین، فإذا لوحظت تلک الزیادة بنسبة هذه القلة، صار الفارق صفراً، أو دون الصفر، حیث إن الاحتیاج إلی زیادة عشرة، بینما الاستغناء عن اثنی عشر مثلاً، مما یلزم أن نستغنی عن بعض الموظفین الذین کنا سابقاً _ قبل الصناعة وکثرة الجمعیة _ بحاجة إلیهم.

مثلاً قبل عصر السیارة، کان البلد الذی نفوسه مائة ألف، بحاجة إلی مائة کناس للبلدیة، أما بعد صنع سیارات الکنس، صار البلد الذی نفوسه مائتا ألف بحاجة إلی عشرة کناسین فقط، حیث تسرع سیارات الکنس فی تنظیف المدینة، وکذا بالنسبة إلی إنارة المدینة، وإیصال الماء إلیها، ونحو ذلک حیث إن ماکنة الکهرباء والماء أغنتا عن جملة من الموظفین، وکذلک بالنسبة إلی سیارات النجدة، والأفراس الدوریة سابقاً، وهکذا.

إذاً: فلنجعل الاستغناء بالآلة مکان الاحتیاج لأجل الآلة، وحینذاک یظهر أن الاستغناء یأخذ رقعة أکبر _ فی خریطة الموظفین _ من الاحتیاج.

ب) والمظاهرات والإضرابات، إنما هی بسبب ظلم الحکومات، إما بعدم إعطاء الناس حقهم فی الحوائج، وإما فی الآراء، بعدم إعطاء الحریة للاشتراک فی الانتخابات، حیث قلة یستبدون بالحکم، وهو ظلم لآراء الآخرین، سواء کان الاستبداد علنیاً، کحکومات الشیوعیین والانقلابیین والوراثیین، أو مغلفاً کالغالب فی الدیمقراطیین، فاللازم دفع الحیف، لا إبقاؤه وتکثیر الموظفین لأجل قمع طلاب العدالة.

ص:337

ج) وأما التطلع إلی هدم النظام، فذلک إما للظلم وهو الغالب، کما تقدم فی بند (ب)، وإما لحب السلطة، فذلک موجود وإن لم یکن ظلم، لکن الثانی لا یوجد إلاّ فی قلة، ومن الممکن علاج أولئک القلة بما یعالج به سائر المجرمین، وذلک لا یحتاج إلی زیادة موظفین.

ولهذا الذی ذکرناه من أن الغالب کون الانقلاب لأجل الظلم، تری کثرة الانقلابات، أو محاولاتها فی البلاد التی هی أقرب إلی الظلم، وأبعد عن العدالة الاجتماعیة.

ولا یخفی أن الانقلابات العسکریة التی رأیناها منذ ثلاثین سنة، لم یکن حتی واحدة منها نابعة من ذات البلاد، بل کانت انقلابات شرقیة أو غربیة أو مزدوجة، وکلها أتت بالأسوأ مما قبل الانقلاب، حیث إن الاستعمار أحکم قبضته علی البلاد أکثر فأکثر، والانقلاب العسکری مهما برر له أصحاب الانقلاب، لا یوافق دیناً ولا عقلاً، إذ کیف یتسلط جماعة من أصحاب الدبابات علی الأمة بدون رضاها واستشارتها، بینما الحکم عقلاً وشرعاً یجب أن یکون مستنداً إلی اختیار الأمة، فی غیر الأنبیاء والأئمة (علیهم السلام) حیث إن هناک اختیار الله تعالی، ولیس لإنسان الخیرة إذا قضی الله أمراً.

ثم کیف تعترف الدول بالحاکم الجدید، ألیس ذلک لأن الغرب والشرق قسموا العالم، فإذا حدث انقلاب من أحدهما، تحت قفاز الجیش وما أشبه اعترفوا به، لأنه فی فلکهم، ونصبوه لیحمی مصالحهم، وهل یقر الشرق والغرب بأن ینصب إنسان معلماً فی مدرسة لیدرس أربعین طفلاً بدون سوابق واختبارات وما أشبه، فإن قالوا: نعم، أجیب: بأن قوانین التعلیم فی کل العالم لا یسمح بذلک، وان قالوا: لا، یقال: فکیف لا یسمح ذلک لمعلم أربعین طفلاً، ویسمح ذلک لحاکم عشرات الملایین أحیاناً، ألیس ذلک دلیلاً

ص:338

علی مؤامرة العالمین، ومن فی فلکهما ضد شعوب العالم الثالث.

والمشکلة لم تنشأ من الخارج، وإنما من داخل بلاد العالم الثالث، والتی منه العالم الإسلامی، وهی عدم الوعی، فلماذا یسلم ملایین الناس أنفسهم لحفنة عسکریین، لا یتجاوزون أحیاناً بضعة ألوف، بل أقل، ولماذا لا یتساءل العالم نفسه: لماذا لا یحدث انقلاب فی أمریکا وبریطانیا وفرنسا و...، بل وحتی فی إسرائیل ذات الملایین القلیلة؟

هل لأن هناک لا أطماع لأعدائهم، أو لأنه لا مغامرین یحبون الحکم، أو لوعی تلک الأمم ضد مثل هذا الشیء، حتی إذا غامرت جماعة واستندت إلی مؤامرة أعدائهم رفضتها شعوبهم، وقدموا الانقلابیین إلی المحاکم، حتی یحکم علیهم بمثل ما یحکم علی قطاع الطرق والسلابین.

ومشکلة الاستعمار المستغل، ومشکلة المغامرین المتآمرین مع الاستعمار ستبقی فی العالم الثالث، إلی أن یحصل الوعی لشعوب هذا العالم، ویکون الحکم فیه تبعاً للانتخابات الحرة، فی إطار الشروط المقبولة للحاکم، والتی منها استجماعه لشرائط الإسلام فی العالم الإسلامی، وسنذکر فی آخر هذه المسألة کیفیة إعادة الحکم الإسلامی إلی بلاد الإسلام بإذن الله تعالی.

د) وأما کثرة الجریمة، فهی تابعة لأمور:

1: عدم الإیمان الرادع الداخلی للإنسان عن الجریمة.

2: الحرمان، مثل الفقر الموجب للمرض والجهل وعدم الزواج وما أشبه.

3: المغریات الموجبة لسهولة ارتکاب الجریمة.

4: تمکن الانفلات من العقاب، لما فی المحاکم من الالتواءات

ص:339

والمنعطفات، والجریمة ستبقی بل تزداد ما دامت هذه العوامل باقیة، سواء کثر الموظفون أم لا، فالمهم إصلاح الجذور، لا قطع الفروع، فهو کمستنقع یعطی الأمراض والجراثیم، فلیس الحل تکثیر الأطباء وتوفیر الأدویة، وإنما الحل علاج المستنقع.

ه_) ویبقی أخیراً، أمثال التأمین والبنوک وما أشبه، مما حدثت فی العصر الحاضر.

وفیه: إنه لماذا الحکومات تستولی علی مثل هذه الشؤون حتی تحتاج إلی کثرة الموظفین، ألم یکن من الأفضل أن تکون هی بأیدی الناس، مع رقابة الدولة حتی لا یجحفوا، کما ذکرناه فی السابق.

طریق الخلاص

طریق الخلاص

وعلی هذا، فاللازم علی الشعوب الواعیة أن تضع البرامج الصحیحة لأجل إنقاذ أنفسها عن هذا الاختلال فی میزان الحکومات، بأن یقلل من الموظفین حتی یصلوا إلی الحد اللازم، وینقلوا البقیة إلی القطاعات العامة، ویجعل هذا التعدیل تدریجاً فی مدة مناسبة، لئلا یختل التوازن.

فتشکل لجان خاصة فی کل وزارة وزارة، لأجل ملاحظة الفائض من الموظفین، وملاحظة الحریات المهدورة للناس، فتعطی للناس الحریات، وبقدره یسحب الموظف المرتبط بتلک الحریة المهدورة، مع جعل ذلک الموظف فی شأن یناسبه لئلا یبقی عاطلاً.

مثلاً بیع المطارات للناس، مع اشتراط عدم إجحاف المشترین علی الناس الذین یریدون السفر، وجعل مراقب فی الدولة لذلک، وموظفو المطارات إن شاؤوا وشاء المشترون بقوا علی أعمالهم، لکن العمل حینئذ للناس، وإلاّ وجدوا لهم عملاً مناسباً، ولو

ص:340

مستقلاً کتربیة الدواجن، وإذا لم یکن للموظف رأس مال لذلک، أعطته الحکومة قرضاً لمدة معقولة حتی یسدده أقساطاً فی تلک المدة، وهکذا.

ویجب أن لا یخدع الإنسان بأن زیادة الدوائر، وزیادة الموظفین تحول الدولة من الدولة السیاسیةالی الدولة الانتاجیة، وهی تحول ضروری، إذا أردنا دفع الامیة، وایصال العلاج إلی کل الشعب، وتحسین معیشة الفقراء و... إذ هذا الکلام صرف خیال لا واقع له، فإن زیادة الموظفین والدوائر قد عرفت مفاسدها، وتسمیة الدولة [بالانتاجیة] لا تغیر من الواقع شیئاً.

نعم الدولة فی حالة الحرب تحتاج إلی تحدید معتدل من حریات الناس، لأجل إدارة الحرب، کما أنها کذلک فی حالة الطوارئ، کالأمراض والزلازل ونحوهما، والضرورات تقدر بقدرها، کما أنها فی حالة السلم بحاجة إلی وزارة الحرب بقدر ما یحفظ السلام، واستعداداً لحرب ممکنة، ولکن هذا أیضاً غیر تکثیر الدوائر والموظفین بصورة مطلقة، مما استدل به أنصار زیادة الدوائر والموظفین.

والحاصل: إن هذا الدلیل الثانی، والدلیل الأول _ الحکومة الإنتاجیة _ أخص من المدعی.

وعلی ما ذکرناه، فاللازم أن یجعل الأصل الحریة للشعب، ثم یجعل تقلیل هذه الحریة بقدر الضرورة، لا أن یجعل الأصل الحکومة الإنتاجیة وتمنح بقیة الحریات للناس.

واللازم علی الشعوب التی تتمتع ببعض الحریات:

1) استرداد بقیة حریاتها عن دولها، وفی المثل: (الحق یؤخذ ولا یعطی)،

ص:341

وقد قال علی (علیه السلام): «لا تکن عبد غیرک، وقد جعلک الله حراً»((1)).

2) الاهتمام لإسقاط الدیکتاتوریة فی سائر الحکومات، لتقوم مقامها الحکومات الاستشاریة، کما أسقطت الشعوب ألمانیا النازیة وإیطالیا الفاشیة وروسیا الستالینیة، و:

أ: سواء کانت الدولة دیکتاتوریة بحتة کروسیا.

ب: أو دکتاتوریة نصفیة، وهی التی فیها انتخابات، ولکن رئیس الدولة یبقی رئیساً، بأی اسم کان، ویعین من بعده خلیفته، ولو کان ذلک تحت أغطیة براقة.

ج: أو دیکتاتوریة مغلفة بالجماعات الضاغطة، والدعایة العریضة، وتدخل رأس المال ونحوها، مما تحرف إرادة الناس فی الانتخابات بإیجاد الأجواء المکذوبة، ولو تبدلت الحکومة من أعلی رئیس فیها کأمریکا.

کیفیة إنقاذ المسلمین

کیفیة إنقاذ المسلمین

وأخیراً، فإن کیفیة نجاة المسلمین بإیجاد حکومة واحدة لهم، تکون بالاختیار الحر لرئیسها المرضی لله، وبکون الأحکام إسلامیة بحتة، لیعیش المسلمون تحت ظلها فی أمن ورفاه وسیادة وتقدم، هی:

1: بالتنظیم الإسلامی العالمی، سواء فی بلاد الإسلام أو غیرها، ولعل ما یحتاج إلیه من التنظیم فی إقامة مثل هذه الحکومة هو عشرون ملیون منظم، یدخل فیه مختلف الأحزاب والتنظیمات الإسلامیة الحالیة، کأجنحة عاملة لأجل ذلک الهدف السامی المتفق علیه.

ص:342


1- نهج البلاغة: الکتب 31.

2: بالتوعیة الإسلامیة العالمیة، توعیة سیاسیة اقتصادیة اجتماعیة إیجاباً، وضد الاستعماریة والتجزیئیة سلباً.

3: بالسلم فی الحرکة، حتی یمکن أخذ الزمام، قال سبحانه: {ادخلوا فی السلم کافة}((1))، وقال تعالی: {کفوا أیدیکم وأقیموا الصلاة}((2)).

4: بالجماهیریة، بأن لا یصبح التنظیم صنماً، وإلاّ کان ذلک یساوق سقوطه.

5: بالاستغناء عن البضائع والأفکار الشرقیة والغربیة، کل ذلک وإن طالت المدة، والله الموفق المستعان.

کیفیة التوعیة والتنظیم

کیفیة إنقاذ المسلمین

ثم إن کیفیة الشروع فی التوعیة والتنظیم أن تشکل نواة مرکزیة مهمتها الأمران المذکوران، فتبعث إلی العالم ما لا یقل من ألف عضو، لینظم کل فی محله تنظیماً لأجل الحکومة الإسلامیة الواحدة، بعد تربیة النواة لأولئک الأعضاء تربیة خلقیة وعملیة، فیشرع کل فرد فی إنماء نفسه بضم أعضاء آخرین إلیه.

أما التوعیة فهی بفتح ما لا یقل من مائة مجلة ومائة مکتبة، لکل مکتبة ما لا یقل من مائة ممثل، یکوّن جمیعهم عشرة آلاف مرکز لبیع الکتب المعنیة بهذا الأمر، واللازم أن تتواجد فی کل مکتبة من الأصول والممثلیات،

ص:343


1- سورة البقرة: الآیة 208.
2- سورة النسا ء: الآیة 77 .

کتب الاقتصاد والسیاسة والاجتماع، والکتب ضد التخلف والاستعمار، وبذلک ینمو الوعی تدریجاً.

وإلی جانب کل ذلک، تکون من مهمة الأعضاء، استدراج الأحزاب والمنظمات والجمیعات والصحف والمکتبات وسائر وسائل الإعلام والمفکرین إلی هذه الفکرة، حتی یجمع الکل فی شلال واحد.

وإنما شرطنا (السلم) فی الحرکة، لأن العالم المدجج بالسلاح لا یمکن للتنظیم المذکور أن یقابله بالسلاح، إذ عدم وجود السلاح فی الطرفین بنسبة متعادلة، یوجب سقوط ذلک التنظیم.

کما أن اشتراط (الجماهیریة) لأجل أن لا یصبح التنظیم صنماً یوالی ویعادی فی سبیل التنظیم مما یفقده الجماهیریة، وکل حرکة لا تسندها الجماهیر خلیقة بأن لا تکون حتی جمعیة خیریة کبیرة.

ولقد کان من أسباب سقوط غالب الحرکات الإسلامیة _ أی عدم وصولها إلی الحکم مع أنها تعمل زهاء نصف قرن أو أکثر _ الصنمیة، مما أخاف الجماهیر من وصولهم إلی الحکم، فحالوا بینهم وبینه بمختلف الوسائل.

وإنا نری أن حرکة الأنبیاء (علیهم السلام) کانت تتسم بالسلم والجماهیریة، حیث إنهم کانوا یسالمون حتی وهم فی أوج قدرتهم، کما فعله الرسول (صلی الله علیه وآله) عند فتح مکة وغیره، إلاّ لدی قصوی حالات الاضطرار، وکذلک فعله علی (علیه السلام) بعد أن ظفر بأصحاب الجمل والنهروان، کما أن الأنبیاء (علیهم السلام) کانوا یقبلون حتی الأراذل، فی اصطلاح الکفار والمنافقین.

أولا: لاستدراجهم إلی الطریق السوی.

وثانیاً: لاکتساب الجماهیریة، فهل الأفضل أن یعادیک إنسان ظاهراً

ص:344

وباطناً، أو باطناً فقط، أما قوله سبحانه: {هم العدو}((1)) و{فی الدرک الأسفل}((2)) فالمراد الکشف عن الحقائق، وأن لا یخدع الإنسان بظاهر المنافق، لان أن یطرده.

­التنظیم الإسلامی وعوامل الاستقطاب

­التنظیم الإسلامی وعوامل الاستقطاب

واللازم علی التنظیم الإسلامی أن یکون مغریاً، یأتی علماً وعملاً بما یسبق العالم، وإلاّ فالناس لا یترکون ما هم فیه من الرفاه إلی الأسوأ بنظرهم، وکذلک فعله الرسول (صلی الله علیه وآله)، حیث أعطی العلم والألفة والرفاه والسیادة والحریة لعالم کان غارقاً فی الجهل والانشقاق وصعوبة العیش، واستعباد طبقة قلیلة لجماهیر الناس، ولذا أقبلوا إلیه (صلی الله علیه وآله) فی وقت قصیر.

ولذا فاللازم أن یعطی التنظیم الإسلامی فی العصر الحاضر ما یفقده العالم المتحضر، من حریة الإنسان، وکون عمل کل إنسان لنفسه، والأخوة لکافة بنی الإنسان.

فإن من طبیعة الناس أن لا ینضووا تحت لواء المتعجرفین الذین یجعلون آراءهم فوق آراء الآخرین، والذین یصعبون الحیاة علی الناس.

ولذا قال سبحانه: {یرید الله بکم الیسر}((3)).

وقال تعالی: {و شاورهم فی الأمر}((4)).

وقال عز شأنه: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو کنت فظاً غلیظ القلب لانفضوا

ص:345


1- سورة المنافقون: الآیة 4.
2- سورة النساء: الآیة 145.
3- سورة البقرة: الآیة 185.
4- سورة آل عمران: الآیة 159.

من حولک}((1)).

وفی دعاء الإمام السجاد (علیه السلام): «اللهم سددنی لأن أعارض من غشنی بالنصح، وأجزی من هجرنی بالبر، وأثیب من حرمنی بالبذل، وأکافئ من قطعنی بالصلة، وأخالف من اغتابنی إلی حسن الذکر، وأن أشکر الحسنة، وأغضی عن السیئة»((2)).

واللازم أن یکون هذا المنهج، هو منهج التنظیم کتابةً وقولاً وعملاً، إذ لا یکفی أن یقول الإنسان للناس کونوا کذا، أو أن یکتب فی کتبه حسن منهجه، ثم یکون عمله خلاف ذلک، فإن الإنسان یُقاس قوله بعمله، ولذا ورد فی الحدیث: «کونوا دعاة الناس بغیر ألسنتکم»((3)).

وقال (علیه السلام): «لعن الله الآمرین بالمعروف التارکین له، الناهین عن المنکر العاملین به»((4)).

وقبل ذلک قال القرآن الحکیم: {یا أیها الذین آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون کبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}((5)).

کیف یتم تأمین البعد المالی؟

­التنظیم الإسلامی وعوامل الاستقطاب

یبقی السؤال فی أنه من أین هذا القدر الکبیر من المال، لإدارة ولو مقدمة التنظیم والوعی، أی ألف شخص، ومائة مجلة، وعشرة آلاف ممثلیة، والارتباط بالإعلام والمفکرین.

والجواب: إن الأمر تدریجی تصاعدی، والمال فی البلاد الإسلامیة

ص:346


1- سورة آل عمران: الآیة 159.
2- الصحیفة السجادیة: دعاء مکارم الأخلاق.
3- بحار الأنوار: ج67 ص303.
4- نهج البلاغة: الخطب 129.
5- سورة الصف: الآیة 2.

کثیر جداً، فاللازم علی النواة العاملة أن تجد إلی المال سبیلاً، ولو بقدر متوسط من المال، تنمیها فی التجارة ونحوها، حتی یکون المال دوریاً، فمثلاً تحصل علی ملیون دینار، وتستثمر بما یعطی الربع کل عام، وبقدر الربع المذکور تتقدم إلی الأمور المذکورة، وهکذا.

ثم الله سبحانه وتعالی وهو أقوی الناصرین، من وراء العاملین المخلصین، قال تعالی: {ومن یتق الله یجعل له مخرجاً ویرزقه من حیث لا یحتسب ومن یتوکل علی الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لکل شیء قدراً}((1)).

وقال سبحانه: {إن تنصروا الله ینصرکم ویثبت أقدامکم}((2)).

وقال تعالی: {إن ینصرکم الله فلا غالب لکم}((3)).

التحریر یجب أن یکون شمولیاً

التحریر یجب أن یکون شمولیاً

وربما یقال: لا یمکن تحریر بلد واحد، فهل یمکن تحریر کل بلاد الإسلام مرة واحدة.

وفیه: إن المشکلة إنما نشأت من إرادة تحریر بلد واحد، فهل یمکن أن یقوم بلد واحد علی قدمه ویستمر استقلاله فی وسط بحر من المناوئین من مستعمری الشرق والغرب وعملائهم فی البلاد الإسلامیة، والکل یعلم أن البلاد الأروبیة وأمریکا تحتوی علی أکثر من تسعمائة ملیون متحالف، وروسیا تحتوی علی أکثر من ربع ملیار، وهکذا.

وربما یظن بأنه یمکن تحریر بلد بلد، تنظیراً لعمل الرسول (صلی الله علیه وآله) حیث

ص:347


1- سورة الطلاق: الآیة 2.
2- سورة محمد: الآیة 7.
3- سورة آل عمران: الآیة 160.

حرر بلداً بلداً، وفیه: إنه تنظیر مع فارق، فإن الرسول (صلی الله علیه وآله) عمل فی عالم متفکک، والآن ارتبط العالم بعضه ببعض، فإذا لم یتحرک العالم الإسلامی بکله لم یتمکن أن یقف علی قدمه.

نقاط فی کیفیة العمل

نقاط فی کیفیة العمل

واللازم لأجل استقامة الأمر، أمور:

1: أن تجعل النواة البادئة بالعمل نفسها میزاناً للحکم، لا أن تتهیأ لتسلّم الحکم، حیث إن العاملین المخلصین إذا مارسوا الحکم لم یتمکنوا من تقویم الحکم، وبذلک یفوتهم الهدف الذی هو تطبیق حکم الإسلام کاملاً غیر منقوص.

2: أن یصب الحکم بحیث توزع القدرة، ولا یبقی مجال للدیکتاتوریة، فإن من طبیعة القدرة أن تطغی إلاً فی المعصوم (علیه السلام)، وقد قال علی (علیه السلام): «من ملک استأثر»((1)).

وإن لم یفعل ذلک ینتهی الحکم إلی مثل حکومة الأمویین والعباسیین، والحکم الدینی المنحرف أبشع من الحکم الدنیوی المنحرف، کما رأیناه فی الحکومتین وحکومة محاکم التفتیش وغیرها، فاللازم أن یکون لکل فئة مجلة وجریدة، وإذاعة وتلفزیون، وکلمة مسموعة، کل ذلک فی نطاق الاستشارة، إلی آخره.

3: أن یکتب برنامج الحکم، فی سیاسته وإدارته واقتصاده واجتماعه وعقوباته وحریاته ومعاملاته، وحکم الأقلیات الدینیة وغیرها، وینشر علی الجمیع حتی یکون الحکم واضح المعالم، یختاره کل من یراه، لأنه یراه أفضل من

ص:348


1- تحف العقول: ص15.

برامج سائر الأحکام السائدة فی العالم الحاضر.

الحکومة الإسلامیة الواحدة والمؤامرات الاستعماریة

نقاط فی کیفیة العمل

وبعد کل ذلک، فهل یمکن قیام حکومة واحدة إسلامیة، وهل تترک الحکومات المحلیة والحکومات الاستعماریة _ خصوصاً والوفاق حاصل بینهما _ أن تقوم مثل هذه الحکومة؟

الجواب: نعم، ذلک ممکن بل واقع، إذا أخذ بهذه المقدمات المذکورة، أما الحکومات المحلیة فإنها تذاب فی بحر تلک الحکومة الواحدة قرب قیامها، فإن الحکومة لیست إلاّ مؤسسة کبیرة، فإذا واجهت مؤسسة أکبر انهزمت من المیدان، شأن ذلک شأن کل حکومة أخذت مکان الحکومة السابقة فی العصر القدیم أو الجدید.

وأما الحکومات الکبری فلا تتمکن من تسدید ضربة قاضیة للحرکة المذکورة، لا بنفسها ولا بعملائها.

أ: أما أنها بالمباشرة لا تقدر، ف_:

1) خوفها من تصادم القوتین الکبیرتین، أی أمریکا وروسیا.

2) إن الحرکة لما ألقت السلاح من نفسها، ألقت السلاح من ید أعدائها، والمناوشات الجزئیة بالسجن ونحوه فضلاً عن أنها لا تزیل الحرکة، فإنها لا توقف الحرکة أیضاً.

3) إن الحرکة منتشرة، لا میدان خاص لمحاربتها، ولو حوربت فی جبهة خاصة لم یضرها ذلک، حیث الجبهات الأخر مفتوحة تعمل، وتمد الجبهة التی تحارب فیها.

ص:349

ب: وأما أنها بوکلائها _ الحکومات العمیلة فی المناطق الإسلامیة المرتبطة بالغرب والشرق _ لا تقدر علی مواجهة الحرکة.

أولاً: لما تقدم من أنها تغرق فی بحر الحرکة الواسعة، فلا تتمکن من أن تنجی نفسها، فکیف تتمکن من أن تحمی أسیادها.

وثانیاً: لأن الحرکة واسعة، لا یضرها قیام حکومة صغیرة ضدها، حیث تشتغل وتنمو سائر أجزاء الحرکة، وتمد الجهة المحاربة بالدعایة وغیرها.

أما الوفاق بین الحکومتین الشرقیة والغربیة فلا یضر.

أولاً: لأنه مائع إلی أبعد حد، حیث إنه لیس عن هدف مشترک، بل حصیلة الرعب النووی والاصطدام.

وثانیاً: فالأقطاب صاروا أربعة، بإضافة دول أوروبا والصین، وفی وجود الأقطاب الأربعة یمکن العمل أحسن مما یمکن فی وجود قطبین، فإن توزیع القدرة یجعل کل قدرة عاجزة عن العمل بمقدار خوفها عن القدرة الأخری.

ولذا نری أن الحکومة ذات الأحزاب لا تقدر من التعدی علی الشعب، بقدر ما تقدره الحکومة ذات الحزب الواحد، إذ الأولی تخاف من المنافس، بینما الثانیة لیست کذلک.

ولأجل ما ذکرناه اشتهر فی الآونة الأخیرة (قوة العجز) و(عجز القوة)، فالعزلة عن السلاح قوة هائلة، فی حال أنها عاجزة عن قوة السلاح، والقوة المتعددة الرؤوس عاجزة عن العمل، لخوف کل رأس عن الرأس الآخر.

رکائز البناء الحرکی

رکائز البناء الحرکی

ثم من أهم الأمور فی النواة المرکزیة للحرکة، أن تبنی نفسها وأفرادها علی:

ص:350

1: أن یصمدوا أمام الصعوبات والإغراءات، فإن أول شیء یهدم الحرکات: الاستجابة للاغراءات أو للمصاعب، فإذا ربیت الحرکة علی الصمود والاستقامة کان البقاء والنمو من نصیبها، والإنسان الصامد المستقیم یجلب أنظار الناس ویوجب التفاف الناس حوله، مما یسبب ربح الحرکة بذلک ربحاً کبیراً.

2: أن یشعر الکل بأنهم یتمکنون أن یعیشوا تحت ظل الحرکة، لا فی أمن وسلام فحسب، بل إن الحرکة توجب نموهم وتوسیع آفاقهم.

ولذا فاللازم علی الحرکة أن تجد المخلص عن تناقضات الاجتماع، بالحزم والمداراة، «فما وضع الرفق علی شیء إلاّ زانه، وما وضع الخرق علی شیء إلاّ شانه»((1)).

3: أن تبنی أبنیة متوازیة بین السیاسة والاقتصاد والاجتماع، وضد التخلف والاستعمار و...، فإن أیة حرکة أو حکومة لم تقدر علی البناء المتوازی، کان مثلها مثل الطائرة أو السیارة التی لا موازاة بین أجنحتها وعجلاتها، فإنها آئلة إلی السقوط والعطب، والله سبحانه المستعان.

ص:351


1- سورة آل عمران: الآیة 160.

المحتویات

المحتویات

المقدمة 7 [1]

کیفیة إعادة المجتمع الإسلامی. 8 [2]

تجنب الأخطاء حین العمل. 10 [3]

مراحل التخطیط والعمل. 11 [4]

المیزانیة الدقیقة 12 [5]

المعرفة 14 [6]

المعرفة صحیحة وخاطئة 15 [7]

سیر الحرکة الفکریة 15 [8]

العاطفة 18 [9]

العواطف المتحجرة 18 [10]

الحقائق ثابتة ومتغیرة 21 [11]

لیست کل الأمور متغیرة 22 [12]

لا مدخلیة للزمان فی الحقائق. 23 [13]

المعرفة علمیة وفلسفیة 25 [14]

الواقع: تجربی وذهنی. 26 [15]

الطریق إلی المعرفة 28 [16]

مراحل المعرفة 30 [17]

الإسلام والتفکیر. 33 [18]

وسائل المعرفة 34 [19]

من أین الاجتماع. 37 [20]

بین الترابط والتباعد 38 [21]

الإسلام یدعو إلی السلم 41 [22]

أقسام التجمعات. 42 [23]

الجمهور والأمة 45 [24]

الاجتماع وشعبه 46 [25]

علاقة الفرد بالمجتمع ونحوه فی ضوء الإسلام 48 [26]

المجتمع المتخلف بؤرة للرذائل الخلقیة 49 [27]

ص:352

الثقافة الاجتماعیة 51 [1]

الکفاءة میزان التقدم 52 [2]

التحرک الأفقی والعمودی للمجتمع. 53 [3]

جماعات ضد الدولة 55 [4]

نظرة علی الانقلابات العسکریة 55 [5]

بین حکم السماء وحکم الأرض... 57 [6]

مراحل علم الاجتماع. 59 [7]

علم الاجتماع: الموضوع والمسائل والغرض... 60 [8]

مهمة علماء الاجتماع. 61 [9]

علم الاجتماع النظری والعملی. 63 [10]

علم الاجتماع سعةً وضیقاً 63 [11]

علم الاجتماع من حیث السند 64 [12]

علم الاجتماع وسائر العلوم 64 [13]

ما یجب ملاحظته فی التحقیق الاجتماعی. 65 [14]

مستلزمات إتقان التحقیق الاجتماعی. 68 [15]

منطلق التحقیق. 68 [16]

تشخیص مفردات البحث. 69 [17]

اتخاذ النماذج المختلفة 70 [18]

الانتخاب الدقیق للجمل. 70 [19]

کشف الأسباب والمسببات والملازمات. 71 [20]

العوامل المؤثرة فی الفرد 74 [21]

1: الجسم 74 [22]

2: الغرائز. 76 [23]

3: العقل. 76 [24]

4: الوراثة 77 [25]

5: القوم 78 [26]

6: الدین. 79 [27]

7: الثقافة 81 [28]

8: الأسوة 82 [29]

9: المحیط الطبیعی. 83 [30]

10: المحیط الاجتماعی. 84 [31]

ص:353

لا للأنانیة والعصبیات. 85 [1]

الزهد فی الدنیا 87 [2]

التأثیر المتقابل بین المحیط الاجتماعی والمحیط الطبیعی. 89 [3]

قد تختلف معیشة الأبناء مع معیشة الآباء 91 [4]

قوة الاجتماع تبعد الإنسان عن أضرار الطبیعة 93 [5]

أسس رقی المجتمعات. 95 [6]

المجتمع کلی متمایز عن أفراده 99 [7]

الثقافة 102 [8]

تکامل الثقافة 104 [9]

تعقد الثقافة 105 [10]

تشابه المجتمعات. 106 [11]

تاریخ الإنسان. 107 [12]

التنقیب عن الآثار التاریخیة 108 [13]

الهیکل العظمی للثقافة 110 [14]

عوامل تشکل الجماعات. 113 [15]

التسالم والتنازع فی الجماعات. 114 [16]

النضج الفکری یقلل النزاعات. 116 [17]

أنواع التسالم 117 [18]

طرح تحقیق الانسجام 118 [19]

بین الجماعة والأعضاء والجماعات الأخری. 120 [20]

بین الفرد والجماعة 122 [21]

الانغلاق والانطلاق والانفلاق. 123 [22]

دور الثقافة فی حرکة المجتمع. 125 [23]

الانضمام إلی الجماعات. 128 [24]

موقف الجماعة تجاه المنضمین إلیها 129 [25]

الإسلام والحریة الثقافیة 132 [26]

التعدیل الاجتماعی. 135 [27]

إشکال التعدیل الاجتماعی. 136 [28]

لکی یکون التعدیل الاجتماعی ناجحاً 137 [29]

المتمردون بین المحیط الطبیعی والمحیط الاجتماعی. 139 [30]

مصدر التعدیل الاجتماعی. 140 [31]

ص:354

الجمع والجماعة 146 [1]

الفرق بین الجمع والجماعة 146 [2]

العقل أم العاطفة 147 [3]

الإسلام یدعو إلی التعقل. 148 [4]

الانسجام بین أفراد الجماعة 150 [5]

تأثیر الجماعة فی الفرد 151 [6]

عوامل قوة الجماعة 152 [7]

منطلقات الجماعة 155 [8]

أقسام الجماعة 155 [9]

التوعیة الجماهیریة 157 [10]

کیفیة استکشاف العقیدة الاجتماعیة 158 [11]

داء التعصب الاجتماعی. 159 [12]

الإعلام الصحیح والإعلام المزیف.. 161 [13]

طرق التزییف الإعلامی. 162 [14]

کیفیة مجابهة قوی الضغط المنحرفة 165 [15]

الأدوار الاجتماعیة 170 [16]

مقیاس الرتب الاجتماعیة 171 [17]

مظاهر اختلاف الرتب. 173 [18]

مناقشة فی نظریة المساواة 173 [19]

مزایا الرتبة الاجتماعیة 176 [20]

المکانة الاجتماعیة 177 [21]

القیمة الاجتماعیة 177 [22]

المکانة الطبیعیة والمکانة المکتسبة 179 [23]

الدور الاجتماعی. 179 [24]

انتخاب الدور الأفضل. 181 [25]

ملاک الأدوار الاجتماعیة 181 [26]

الجماعات والأدوار. 182 [27]

تحرک الإنسان فی رتبته 183 [28]

ضرورة الرتب. 183 [29]

عوامل تکون الرتب. 185 [30]

التفاوت الصحیح والتفاوت الباطل. 186 [31]

ص:355

تأثیر الرتبة فی الإنسان. 188 [1]

الطبقیة المنحرفة تؤثر فی الحیاة 189 [2]

الفقر والحیاة 190 [3]

الفقر والأخلاق الفاضلة 192 [4]

الفقر والصحة 192 [5]

الفقر والسلام 193 [6]

الفقر والعلم 193 [7]

الفقر والعمران. 194 [8]

الفقر والحیاة النظیفة 194 [9]

الفقر والقدرة 194 [10]

الاختلاف الفکری بین الفقراء والأغنیاء 195 [11]

موقف الإسلام تجاه الفقراء 196 [12]

عوامل تکوین الشخصیة 199 [13]

الفطرة والشخصیة 199 [14]

الوراثة والشخصیة 200 [15]

دور المحیط الطبیعی فی تکوین الشخصیة 201 [16]

تأثیر المحیط الاجتماعی. 202 [17]

الثقافة صانعة الإنسان. 202 [18]

الثقافة والحریة 204 [19]

المسلمون والنبوغ العلمی. 205 [20]

العلم فی خدمة الإنسان. 208 [21]

کیف تتکون الشخصیة؟ 211 [22]

تکون شخصیة الطفل. 212 [23]

بین الضمیر والمجتمع. 214 [24]

مراحل تدرج الطفل. 215 [25]

تصورات الإنسان عن نفسه 216 [26]

الشخصیة الفردیة والشخصیة الاجتماعیة 219 [27]

الشخصیة مادیة ومعنویة 220 [28]

تغیر الشخصیة المادیة 220 [29]

أقسام الشخصیة المعنویة 222 [30]

أجواء نمو الشخصیة 226 [31]

ص:356

طبیعة الحکم الدکتاتوری. 228 [1]

اختلاف النفسیات. 229 [2]

الاهتمام بالتربیة والتثقیف.. 230 [3]

عوامل صیاغة الشخصیة الفردیة 231 [4]

1: الصفات النفسیة 231 [5]

2: الخصوصیات الجسدیة 232 [6]

3: المحیط الطبیعی. 233 [7]

4: الوضع المعیشی. 233 [8]

5: العمل الاجتماعی. 234 [9]

6: التعلیم 235 [10]

اختلاف الاستجابة للمؤثرات. 236 [11]

التخطیط لإنماء الشخصیة 236 [12]

التوجیه السلیم لصفات الامة 237 [13]

انحراف الشخصیة 239 [14]

الانحراف لیس قدراً 239 [15]

انحراف الحکام 241 [16]

لا لفردیة الحکام 242 [17]

موقف المجتمع من الانحراف.. 243 [18]

عوامل الانحراف.. 245 [19]

تأثیر المجتمع فی الانحراف والاستقامة 246 [20]

الکبت والأمراض النفسیة 247 [21]

العائلة وانحراف الشخصیة 248 [22]

دور الحرمان فی الانحراف.. 250 [23]

تناقضات المجتمع تزرع الانحراف.. 251 [24]

حربة الاستعمار تصیب حاملیها 252 [25]

شروط عقاب المنحرف.. 254 [26]

کیف یعالج الانحراف؟ 255 [27]

إصلاح المجتمع الصغیر. 259 [28]

إصلاح المجتمع الکبیر. 260 [29]

دعائم إصلاح المجتمع. 260 [30]

1: الإیمان بالله. 260 [31]

ص:357

2: اقتسام القدرات. 260 [1]

القوانین الوضعیة تصنع الانحراف.. 262 [2]

بین المدینة والقریة 264 [3]

الاجتماع العام والاجتماع المحلی. 265 [4]

بدء الحیاة الإنسانیة 266 [5]

القریة أم المدینة 267 [6]

المدن المغلقة أم المفتوحة 268 [7]

الفوارق بین المدینة والقریة 268 [8]

الدین والمسکن. 271 [9]

بناء المدن. 272 [10]

أقسام المدن. 273 [11]

المدن الکبیرة، المشاکل والحلول. 274 [12]

بحث فی الجمعیة 277 [13]

توزیع الجمعیة 277 [14]

ترکیب الجمعیة 278 [15]

حرکة الجمعیة 278 [16]

الحرکة الکیفیة 278 [17]

الحرکة الکمیة 279 [18]

الهجرة من الریف إلی المدینة 281 [19]

الأرض والسکان. 282 [20]

تراکم السکان وأسبابه 282 [21]

دور الثقافة فی ازدیاد الأفراد 284 [22]

الثقافة وکثرة الولادة 285 [23]

الثقافة وقلة الموت. 286 [24]

الثقافة وطول العمر. 287 [25]

الانفجار السکانی والتخطیط الدقیق. 288 [26]

هل الأرض تکفی. 290 [27]

عوامل ارتفاع مستوی المعیشة 292 [28]

المؤسسات الاجتماعیة 294 [29]

المؤسسة والأعراف الاجتماعیة 295 [30]

بین المؤسسة والمؤسسات الأخری. 296 [31]

ص:358

مهمات المؤسسة 297 [1]

أنواع المؤسسات. 298 [2]

الانشطار والاندماج فی المؤسسة 301 [3]

نفوذ الطبقیة فی المؤسسات. 302 [4]

الفقراء والمؤسسات. 303 [5]

کبر المجتمع یتطلب کثرة المؤسسات. 304 [6]

التعقید النافع والتعقید الضار. 305 [7]

بحوث فی الاقتصاد الاجتماعی. 308 [8]

حاجات الإنسان. 308 [9]

تکامل جوانب الحیاة 309 [10]

عصر الآلة 310 [11]

المعامل تقضی علی محوریة العائلة والعشیرة 311 [12]

الصناعة فی خدمة التجارة والزراعة 312 [13]

تحولات عصر الصناعة 313 [14]

الاستعمار ولید الرأسمالیة 313 [15]

الإسلام هو الخلاص... 314 [16]

ضرورة التوازن بین المستوی الصناعی والزراعی. 314 [17]

الدین وعصر الآلة 315 [18]

الأخطبوط الرأسمالی یمتد إلی الریف.. 317 [19]

مضاعفات النظام الرأسمالی. 317 [20]

المنطق الرأسمالی والمنطق الشیوعی. 320 [21]

مناقشة المنطقین. 320 [22]

مآخذ علی النظامین الغربی والشرقی. 321 [23]

جوهر المشکلة 322 [24]

الاقتصاد الإسلامی. 327 [25]

الحکومة 329 [26]

الحکومة فی الأمم البدائیة 330 [27]

الحکومة فی العصر الحاضر. 330 [28]

الاحتیاج إلی الحکومة 331 [29]

أسباب تعقد الحکومة فی العصر الحاضر. 332 [30]

لا لتکثیر الدوائر. 334 [31]

ص:359

اعتذارات زائفة 336 [245]

طریق الخلاص... 340 [246]

کیفیة إنقاذ المسلمین. 342 [247]

کیفیة التوعیة والتنظیم 343 [248]

التنظیم الإسلامی وعوامل الاستقطاب. 345 [249]

کیف یتم تأمین البعد المالی؟ 346 [250]

التحریر یجب أن یکون شمولیاً 347 [251]

نقاط فی کیفیة العمل. 348 [252]

الحکومة الإسلامیة الواحدة والمؤامرات الاستعماریة 349 [253]

رکائز البناء الحرکی. 350 [254]

المحتویات. 352 [255]

ص:360

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.