موسوعه استدلالیه فی الفقه الاسلامی المجلد 106

اشارة

سرشناسه : حسینی شیرازی، محمد

عنوان و نام پدیدآور : الفقه : موسوعه استدلالیه فی الفقه الاسلامی/ المولف محمد الحسینی الشیرازی

مشخصات نشر : [قم]: موسسه الفکر الاسلامی، 1407ق. = - 1366.

شابک : 4000ریال(هرجلد)

یادداشت : افست از روی چاپ: لبنان، دارالعلوم

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

موضوع : اخلاق اسلامی

موضوع : مستحب (فقه) -- احادیث

موضوع : مسلمانان -- آداب و رسوم -- احادیث

رده بندی کنگره : BP183/5/ح5ف76 1370

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 70-5515

ص:1

اشارة

ص:2

الفقه

موسوعة استدلالیة فی الفقه الإسلامی

الجزء السادس بعد المائة

آیة الله العظمی

السید محمد الحسینی الشیرازی

دام ظله

کتاب السیاسة

الجزء الثانی

ص:3

الطبعة السادسة

1407 ه_ _ 1987م

دار العلوم: طباعة. نشر. توزیع.

العنوان: حارة حریک، بئر العبد، مقابل البنک اللبنانی الفرنسی

ص:4

کتاب السیاسة الجزء الثانی

اشارة

کتاب السیاسة

الجزء الثانی

ص:5

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمین، والصلاة والسلام علی أشرف خلقه سیدنا محمد وعلی آله الطیبین الطاهرین، واللعنة الدائمة علی أعدائهم إلی قیام یوم الدین.

ص:6

الدولة والقوی الثلاث

اشارة

الدولة والقوی الثلاث

(مسألة 28): استقر رأی جماعة من السیاسیین علی أن المؤسسات السیاسیة فی الدولة یجب أن تقسم إلی ثلاثة أقسام:

1) القوة التشریعیة.

2) القوة التنفیذیة.

3) القوة القضائیة.

((القوة التشریعیة المقننة))

اشارة

((القوة التشریعیة المقننة))

فالقوة التشریعیة: عبارة عن الذین تنتخبهم الأمة فی انتخابات حرة لیکونوا نوابهم فی جعل القوانین الصالحة، لأجل رفاههم وتقدمهم، وبذلک تکون الأمة مسیطرة علی مقدرات نفسها بواسطة نوابها.

حیث إن الأمة غالباً لا تقدر علی التشریع المباشر، وإن کان ربما یمکن ذلک بصعوبة کما فی الإنتاج.

ویقول بعض السیاسیین بإمکان تشریع الأمة مباشرة، وذلک لأن القوانین المهمة _ غیر الجانبیه _ لیست کثیرة، فکلما رأت الدولة الصلاح، أو رأی المنتخبون الصلاح فی سن قانون تجمهر الناس، فی کل محلة محلة، أو کل بلد بلد، إذا کانت البلاد صغیرة، وأدلوا بآرائهم حول القانون، وترفع الآراء إلی مجلس الأمة، ویقرر الأکثر صوتاً.

وکیف کان، فیقع الکلام فی القوة المقننة فی عدة أمور.

ص:7

وحدة القوة المقننة أم تعددها

وحدة القوة المقننة أم تعددها

الأمر الأول: فی وحدة مجلس القوة المقننة، وفی المسألة ثلاثة آراء:

الرأی الأول: لزوم وحدة القوة المقننة، لأن تعددها یوجب التضارب، بالإضافة إلی عدم الحاجة إلی تعدده، لأن مجلس الأمة نواب للأمة انتخبوا بملأ إرادتها فقولهم قول الأمة، وتشریعهم تشریع الأمة، فلماذا الحاجة إلی مجلس ثان، ثم کما لا حاجة إلی المجلس الثالث کذلک لا حاجة إلی المجلس الثانی.

وعلی هذا لا فرق فی لزوم وحدة المجلس بین الحکومات الفدرالیة والحکومات الواحدة، فاللازم أن تلاحظ کمیة الجمعیة مطلقاً، ویجعل لکل فئة منها مائة ألف أو ملیون أو أکثر أو أقل، نائب فی مجلس التشریع، أو یجعل للأکثر صوتاً بدون تعیین العدد حق النیابة.

وهکذا إلی العدد المطلوب، مثلاً إذا کان للملیون حق خمسة فالخمسة هم الأکثر صوتاً من غیرهم، ولو کان هناک عشرون مرشحاً حاز أحدهم مائة صوت والآخر تسعین، إلی أن حاز عاشرهم عشرة أصوات فالفوز حینئذ للخمسة الأول.

والحاصل: إنه قد تکون العبرة بعدد الأصوات، قد تکون العبرة باکثریة الأصوات، وکل نوع من الاعتبارین جار فی بعض البلدان الدیمقراطیة.

الرأی الثانی: لزوم تعدد القوة المقننة، والتعدد له أشکال:

1: شکل الانتخاب فی کلا المجلسین من قبل الأمة، وذلک لأن یکون نضج الحکم المشرع أکثر، حیث یشرف المجلس الثانی علی المجلس الأول، وإذا خرج من المجلس الأول حکم غیر ملائم أوقفه المجلس الثانی، وحیث تکون الرقابة بین المجلسین یکون الحکم المقنن أکثر نضجاً وصلاحاً للأمة، کما یقف

ص:8

المجلس أمام طغیان المجلس الأول.

2: شکل انتخاب المجلس الثانی مجلس الأعیان من قبل السلطة التنفیذیة أو من قبل الملک، وذلک حیث ینتخب أحدهما جماعة من عقلاء القوم وکبار السن المجربین منهم، ویکون هذا المجلس کالمجلس الاستشاری للسلطة التنفیذیة أو الملک.

وقد ینتخب بعض هذا المجلس الأمة، وبعض هذا المجلس السلطة التنفیذیة أو الملک حسب المقرر بینهما، وقد یکون بعض أعضاء هذا المجلس بالوراثة لاعتبار مالی أو نحو ذلک، وقد کان مثل هذا المجلس فی العراق وإیران قبل حکم الجمهوریة فیهما، کما فی بریطانیا وغیرهما.

3: شکل انتخاب الأمة أو السلطة التنفیذیة هذا المجلس الثانی، من جماعة من المثقفین أو الحرفیین أو النقابات، مثلاً فی یوغسلافیا کان المجلس مرکباً من المنتجین، وفی إیطالیا کان مرکباً من الحرفیین، إلی غیر ذلک.

الرأی الثالث: التفصیل فی المجلس الثانی بین الحکومات الفدرالیة المتشکلة من حکومات متعددة، وبین الحکومات الواحدة، ففی الأولی یحتاج الأمر إلی المجلس الثانی، فلکل حکومة مجلسه النیابی، وللکل مجلس آخر قد یکون الممثلون فیه حسب أفراد الأمة، وقد یکون الممثلون فیه حسب أعداد الحکومة.

مثلاً إذا کانت لإمریکا خمسون ولایة، فلکل ولایة مجلس برلمان، ثم یکون للکل مجلس برلمان مشترک، قد یکون لکل ولایة عشرة نواب بالتساوی، وقد یکون لکل ولایة حسب أفرادها، فللولایة التی نفوسها عشرة ملایین عدد النواب ضعف الولایة التی نفوسها خمسة ملایین وهکذا.

وسیأتی فی مسألة ولایة الفقیه أن الأقرب جمعاً بین الأدلة، فی الدولة الإسلامیة وجود مجلسین: مجلس

ص:9

الأمة ومجلس الفقاهة، حیث تنتخب الأمة کلیهما بأسلوب ملائم لمصالح الإسلام ولمصالح المسلمین، أما مجلس الأعیان فلا مبرر له، ومجلس الحرف ونحوه فهو تابع لمجلس الأمة.

التفکیک بین القوة التشریعیة والقوة التنفیذیة

التفکیک بین القوة التشریعیة والقوة التنفیذیة

الأمر الثانی: استقلال القوة المشرعة عن القوة المنفذة، وهذا ما تصر علیه الدیمقراطیة فی الحال الحاضر أشد إصرار، بینما کان فی الزمان السابق خلط بینهما.

وذلک لأنه لولا الاستقلال التام للقوة التشریعیة لسیطرت علیها القوة التنفیذیة، فکانت من أدوات الدیکتاتوریة، أو لا أقل لم تکن تقدر علی العمل الجاد المستمر فی جو من المنطق والعقل والمصلحة العامة، وذلک لأمور.

1: إذا لم یکن استقلال للقوة المشرعة، کانت اللوائح والتنظیم والتدوین للقوانین خاضعة للمنفذة، وبذلک تکون الدیکتاتوریة، وقد قال علی (علیه السلام): «من ملک استأثر»((1))، والدیکتاتور لا یکون دیکتاتوراً إلاّ لأن بیده التشریع والتنفیذ.

والحکومات الانقلابیة إنما تضج بالمظالم، لأنها إما لا تسمح بمجلس التشریع إطلاقاً، أو تسمح لکن تحت نظرها، مما یسقط القوة التشریعیة عن الواقعیة، وإنما تکون آلة بید الدیکتاتور.

وکذلک الحال فی الحکومات ذات الحزب الواحد، حیث إن الحزب الواحد یسیطر علی المجلس فیفعل ما یشاء.

ولذا فأی مبرر للانقلاب العسکری والحزب الواحد لیس إلاّ خداعاً یخفی وراءه الدیکتاتور، وقد کان (ماو) یقول

ص:10


1- نهج البلاغة: الحکمة 160.

قبل وصوله إلی الحکم: دعوا ألف زهرة تتفتح، وألف مدرسة تفتح. لکن لما وصل إلی الحکم بحزبه الواحد، أوصل الصین إلی أسفل سافلین، مما أعاد الاستعمار الغربی إلی بلاده فورموته بعد ثلاثین سنة من حکمه.

وکان بکر العراق ینتقد تصرف الدولة قبله إذا أفرطت فی دینار، أو سجنت إنساناً، ولما وصل إلی الحکم بحزبه الواحد، ضجت العراق بالمظالم بما لم یشاهد مثله منذ أیام نمرود، باستثناء مثل قتل الإمام الحسین (علیه السلام).

إلی غیر ذلک من الأمثلة الکثیرة فی السابق وفی الحال الحاضر.

2: إذا لم یکن استقلال للقوة المشرعة یکون مواعید انفتاح المجلس وغلقه وما أشبه ذلک بید القوة المنفذة، ومن الواضح أن فی مثل هذا الحال لا فعالیة للقوة المشرعة، حیث إنها کلما أرادت تشریعاً لیس فی صالح الدیکتاتور أغلق المجلس أو عطله، کما فعل ذلک (محمد علی شاه) و(البهلوی الأول) بمجلس الأمة، فی إیران، وکذلک کان یفعله (أتاتورک) بمجلس ترکیا، وإلی غیر ذلک من الأمثلة القدیمة والمعاصرة.

3: إذا لم تکن حصانة للقوة المشرعة، وهی نوع من الاستقلال، تمکن القوة التنفیذیة من عقوبة کل عضو ینتقد الدولة، أو یصر علی وضع قانون لصالح الأمة، وللحد من نشاطات الدیکتاتور، والأمثلة کثیرة فی معاقبة الدول الدیکتاتوریة للأعضاء، بما أخفها سحب الجواز، وأشدها الإعدام، مروراً بالسجن والتعذیب وهتک العرض ومصادرة الأموال.

4: وقد کان من أسباب خوف القوة التشریعیة من التنفیذیة، إقالته عن وظیفته فیما کانت له وظیفة حکومیة، حیث کان لأفراد القوة التشریعیة وظائف حکومیة، وقد کانت التنفیذیة تجعل ذلک سیفاً مسلطاً علی العضو، والعضو خوفاً من قطع راتبه الذی کان یعیش به لم یکن یجرؤ علی التشریع أو الاقتراح الذی لا ترضی

ص:11

به الدولة، فجاء نص القانون علی حظر الجمع بین الوظیفتین لأعضاء البرلمان، حیث یهدد ذلک استقلاله فی إبداء الرأی وتشریع القانون.

5: وحاولت بعض السلطات التنفیذیة الحیلولة دون نشر أخبار مجلس الأمة حیث یکون فیه النقد للحکومة، حیث إنه یوجب توعیة الناس، والحد من دیکتاتوریة التنفیذیة، ولذا قرر القانون استقلال المجلس فی نشر أخباره بمختلف وسائل الإعلام، حیث لا حق للسلطة التنفیذیة فی الوقوف دون ذلک، فإذا کانت لائحة فی صالح الأمة یجب أن تنفذ، وإذا کان نقد للدولة فعلی الدولة أن تکف عن عملها، أو تجیب جواباً مقنعاً.

وعلی أی حال، فاللازم تشریع إرادة الأمة علی ألسنه نوابها: المجلس، وتنفیذ ذلک التشریع علی أیدی خدامها: الحکومة، فلماذا لا تعرف الأمة ما یدور فی المجلس، وما المبرر فی عدم معرفة الأمة ما یفعله بائبها أو خادمها.

6: وقد قررت بعض القوانین لمزید الاستقلال والإنتاج، مجانبة أعضاء البرلمان لکل نوع من أنواع العمل، لأن ذلک قد یوجب نقص الاستقلال، حیث إن طرف العمل یمکنه الضغط علی العضو، فیکون ذلک من وسائل الدولة فی الضغط علی العضو، مثلاً إذا کان العضو محرراً فی جریدة، أمکنت الدولة الضغط علی العضو بواسطة إدارة الجریدة وهکذا. أما أن العمل یحد من نشاط العضو فی صالح الأمة فمما لا شک فیه.

7: وأخیراً، لم یکن فی السابق للنائب راتب من بیت المال، وکان ذلک یعنی عدم تمکن الفقیر من ترشیح نفسه، حیث إن نیابته کانت تمنعه عن الارتزاق، وکان ذلک یقف دون تمکن الأمة من تحیید المجلس حسب إرادتها، لاضطرارها إلی انتخاب غیر الفقیر، وفی ذلک صدمة لاستقلالیة المجلس، ولذا شرع قانون وجوب إعطاء الراتب للعضو.

ص:12

((الإسلام والقوة المشرعة))

اشارة

((الإسلام والقوة المشرعة))

أما رأی الإسلام فی هذه الأمور ف_ :

1) لابد وأن تکون القوة المشرعة _ أی المؤطرة والمطبقة للقوانین الإسلامیة المستقاة عن الأدلة الأربعة، فی إطار یلائم التطبیق فی کل زمن زمن _ تعمل بکامل استقلالها فی التقنین.

2) وتعمل بکامل استقلالها فی مواعید انفتاح المجلس وانغلاقه وعطلاته وما أشبه ذلک، لأنهم وکلاء الأمة الجامعون للشرائط الإسلامیة، فلا ولایة علیهم، و«الناس مسلطون علی أموالهم وأنفسهم»((1)).

3) والقوة المشرعة محصنة إذا لم تخالف الإسلام، وإذا خالفت لزم إعطاؤها عقوبتها الشرعیة، وإذا اختلفت فی أنها خالفت أم لا، کان القضاء المستقل تماماً والعادل کاملاً المرجع فی التشخیص.

4) ولا مانع من جمع العضو بین العضویة والوظیفة، ولا حق للدولة فی إقالته إلاّ بسبب مشروع یقبله المجلس، أما إذا کان عمله الآخر ینافی نیابته عن الأمة فاللازم أن یترک أحدهما، لأنه حر فی انتخابه أی العملین، کما أن الأمة حرة فی إبقائه أو إقالته.

5) وأخبار المجلس یجب أن تنشر حسب الموازین الشرعیة.

6) وقد عرفت حکم عمل العضو من الذی ذکرناه فی البند الرابع.

(7) أما الراتب من بیت المال فیصح لأنه من سبیل الله، ولما ورد فی ارتزاق القاضی من بیت المال، وقد ذکرنا تفصیل ذلک فی کتاب (القضاء)، والله سبحانه العالم.

ص:13


1- راجع بحار الأنوار: ج2 ص272.
وجود اللجان المختلفة فی مجلس الأمة

وجود اللجان المختلفة فی مجلس الأمة

الأمر الثالث: یجب أن تکون فی داخل مجلس الأمة تجمعات وکتل، تنقسم فی أقسامها الأولیة إلی:

1) تجمعات دائمة، أمثال الکتلة الاقتصادیة، والکتلة الثقافیة، والکتلة القضائیة.

2) تجمعات غیر دائمة، وتلک بالنسبة إلی الأمور التی تحدث فی وقت کارثة أو حرب أو أزمة أو ما أشبه ذلک.

والواجب علی المجلس أن یجمع حول نفسه المثقفین وذوی الاختصاص، ویجعل لکل مهمة فرعاً، کفرع التجارة، وفرع الزراعة، وفرع الصناعة، وفرح السیاحة، وفرع الأقلیات، من غیر فرق بین أن تکون الأقلیة قومیة أو دینیة أو لغویة أو غیرهما، کما لا فرق بین أن یکون للأقلیة نائب فی المجلس أم لا، إذ الأقلیات غالباً لهم مشکلات بحاجة إلی الحلول.

وقد ذکرنا فی کتب (الجهاد) و(القضاء والشهادات)، و(الحدود والتعزیزات) طرفاً من المسائل المرتبطة بالأقلیات، ورجحنا هناک أن لا فرق بین أقسام الکفار فی أنه یصح أن یدخلوا تحت حمایة الإسلام إذا التزموا بالموازین للمواطنة الصالحة، کما فعل رسول الله (صلی الله علیه وآله) بمشرکی مکة وغیرها، حیث إنهم لما ألقوا السلاح عمل معهم أحسن عمل عرفه التاریخ.

((الأقلیات))

((الأقلیات))

وبهذا تبین أن الأقلیة الاصطلاحیة علی قسمین:

الأول: من یکون مسلماً، وهذا لا یسمی أقلیة، بل کل المسلمین متساوون فی الحقوق والواجبات، من غیر تفاوت بین الألوان واللغات والقومیات وغیرها.

الثانی: من لا یکون مسلماً، وهذا القسم یسمی فی الاصطلاح الإسلامی

ص:14

بالاقلیة، أو بالذمی، وهؤلاء یترکون وشأنهم، إذ((لاَ إِکْرَاهَ فِی الدِّینِ))((1))، و))لَکُمْ دِینُکُمْ وَلِیَ دِینِ))((2))، ولهم شعائرهم إذا لم یظهروا بالمناکیر، ویحق لهم أن یراجعوا قضاتهم أو قضاتنا، وأحوالهم الشخصیة تجری حسب ما عندهم، فلا یجبرون علی اتباع فقهنا، ویجری فی حقهم قانون «ألزموهم بما التزموا به»((3)).

لکن إذا رأی المسلمون الصلاح فی دخولهم فی مجلس الأمة، لا یکون لهم إلاّ حق التصرف فی شؤون موکلیهم من غیر المسلمین، کما لهم المطالبة بما هو حقهم فی الدولة الإسلامیة، من حفظ النفس والمال والعرض، وما جعل الإسلام لهم من حق فی قبال ما یؤخذ منهم من المال.

أما الأقلیة السیاسیة، وهی عبارة عن تجمع الأقلیة، والتی یجب أن تکون فی الإطار الإسلامی، لأن المفروض أن الدولة للإسلام، فلهم حق نقدهم واجتهادهم، ومعارضتهم فی إطار النصیحة، کما قال (علیه السلام): «الدین النصیحة»((4))، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، والمعاونة علی البر، والمشورة.

وفی الحدیث عنه (صلی الله علیه وآله): «أیها الناس أشیروا علی»، وتقدم قول علی (علیه السلام) فی المشورة، کما ورد فی حدیث عنهم (علیهم السلام): «خیر الإخوان من أهدی إلیّ عیوبیّ»((5))، إلی غیر ذلک مما سنذ کره إن شاء الله تعالی.

ولا یخفی أن الحقوق المذکورة ثابته حتی للأفراد، ولا تختص بالأقلیات السیاسیة، لإطلاق أدلتها.

ص:15


1- سورة البقرة: 256.
2- سورة الکافرون: 6.
3- الوسائل: ج17 ص598 الباب 3 من أبواب میراث الجد ح2.
4- الوسائل: ج11 ص595 الباب 35 من فعل المعروف ح7.
5- الوسائل: ج18 ص32 الباب 24 من العشرة ح1.

القوة التنفیذیة وأنواع الحکومات

اشارة

القوة التنفیذیة وأنواع الحکومات

(مسألة 29): ذکرنا فی المسألة السابقة القوة التشریعیة من القوی الثلاث السیاسیة فی الدولة، والآن نذکر شیئاً من شؤون القوة التنفیذیة، وهی القوة التی تتکفل الإجراء، ولا ترتبط بالتشریع إلا نادراً، کما یأتی بیان النادر فی مسألة تفکیک القوی الثلاث.

والصور التی تتصور فی القوة الإجرائیة اثنتی عشرة صورة:

هی أن یکون الحکم بید واحد، أو اثنین، أو أکثر، وکل من الأقسام الثلاثة إما بالوراثة أو بالانقلاب أو بالانتخاب، والانتخاب إما من قبل الأمة أو من قبل المجلس، ونحن نذکر من هذه الصور ما هی الآن واقعة فی الخارج.

((الملکیة الوراثیة))

((الملکیة الوراثیة))

1) أن تکون القوة الإجرائیة بالملوکیة الوارثیة، ولیس المهم اسم الملک، وإنما المهم هذه الصیغة، إذ قد یکون باسم (السلطان) أو (الأمیر) أو (الخلیفة) أو (الشیخ) أو ما أشبه ذلک، کما فی الخلفاء فی الإمارات المطلة علی الخلیج.

کما أن الإرث قد یکون فی الأولاد، وقد یکون فی القبیلة، کما إذا مات أحدهم ورثه ابن عمه أو ما أشبه ذلک.

والغالب أن ترافق هذه الصورة حالة الاستبداد، فإن «من ملک استأثر» کما قاله أمیر المؤمنین (علیه السلام)((1))، لکن لا ملازمة، إذ

ص:16


1- نهج البلاغة: الحکمة 160.

من الممکن أن یکون الملک عادلاً، ویکون حسب رضی الأمة.

ولذا ورد فی القرآن الحکیم:((إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَکُمْ طَالُوتَ مَلِکًا))((1))، ومن الواضح أنه إذا کان بأمر الله سبحانه لایکون للأمة الاختیار.

قال تعالی: ﴿فَلا ورَبِّکَ لا یُؤْمِنُونَ حَتَّی یُحَکِّمُوکَ فیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فی أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَیْتَ ویُسَلِّمُوا تَسْلیماً﴾((2)).

نعم لا شک أن الذی ینتخبه الله لإدارة الأمة یکون فی قمة العدالة، وإنما قولنا (لإدارة الأمة) فهو لإخراج المنتخب للانتقام، کما هو قول بعض المفسرین فی قوله سبحانه:((بَعَثْنَا عَلَیْکُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِی بَأْسٍ شَدِیدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّیَارِ وَکَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً))((3)).

کما ورد ذکر الملک فی آیة أخری قال سبحانه:((وَإِذْ قَالَ مُوسَی لِقَوْمِهِ یَا قَوْمِ اذْکُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إذ جَعَلَ فِیکُمْ أَنبِیَاءَ وَجَعَلَکُم مُّلُوکًا وَآتَاکُم مَّا لَمْ یُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِینَ))((4))، أما ما ورد فی القرآن:((قَالَتْ إنَّ الْمُلُوکَ إذا دَخَلُوا قَرْیَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً))((5))، فهو عام مخصص کسائر العمومات.

وربما کانت القوة التنفیذیة فی بعض الأزمان ملوکیة غیر وراثیة، فکان إذا مات الملک انتخبوا ملکاً آخر مکانه، وکان ملکاً إلی آخر العمر.

وقد ظهر مما تقدم أن الخلافة الأمویة والعباسیة والعثمانیة وما أشبه لم تکن إلاّ ملوکیة

ص:17


1- سورة البقرة: 247.
2- سورة النساء: 65.
3- سورة الإسراء: 5.
4- سورة المائدة: 20.
5- سورة النمل: 34.

وراثیة، وتسمیتها باسم الخلافة لم تکن علی واقعها، ولذا سمیت فی الأحادیث ب_ (الملک العضوض).

((الملکیة الرمزیة))

((الملکیة الرمزیة))

 (2: أن تکون القوة الإجرائیة بالسلطنة المشروطة، فیکون الملک السید المطلق، ولکن لا تنفذ الأحکام التی یرید تنفیذها إلاّ بموافقة المجلس من قبل الأمة، وفی هذه الصورة _ إذا کان واقعیة _ لا یکون الملک إلاّ رمزاً، وإنما تکون القدرة التشریعیة هی السیدة فی البلاد، وبریطانیا الحاضرة حالها هکذا حیث نجد الملک وهو رمز، وإلی جانبه القوة التشریعیة فی البلاد والقوة التنفیذیة، لکن لا وجه فی الحقیقة لهذه الملوکیة، بل اللازم أن تنسحب من المیدان بعد أن لم یکن مبرر لبقاء الملک، بل هو إرهاق لخزانة الأمة.

وأما إن لم تکن واقعیة، کما فی أیام البهلویین فی إیران، حیث إن الملک کان دیکتاتوراً، والمجلس لم یکن إلاّ صورة دیکوریة، فالمجلس لیس له أمر وسلطة. وعلی هذا فصورة الجمع بین الملک والمجلس، لیست إلاّ کالجمع بین الحجر والإنسان، أحدهما زائد لا فائدة فیه.

وقد استدل بعضهم للجمع بین الأمرین بقوله تعالی حکایة عن بلقیس: ﴿قَالَتْ یَا أَیُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِی فِی أَمْرِی مَا کُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّی تَشْهَدُونِ، قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِیدٍ وَالأمر إِلَیْکِ فَانظُرِی مَاذَا تَأْمُرِینَ﴾((1))، حیث استشارتهم الملکة، وأرجعوا هم الأمر إلیها بعد إعطائهم لها وجه الرأی، لکن فیه إن قولهم لیس حجة، ولم تکن القوة ملکیة استشاریة، بل استشارت الملکة وزراءها، فلم یکن الأمر مشروطة.

((انتخاب القوة التنفیذیة))

((انتخاب القوة التنفیذیة))

3) أن یکون رئیس القوة التنفیذیة بالانتخاب، فقد یکون انتخابه من

ص:18


1- سورة النمل: 32 _ 33.

قبل الأمة مباشرة، کما فی رئیس إمریکا، ورئیس فرنسا، حیث إن الشعب مباشرة ینتخبونه، لکن لا یحق للرئیس اتخاذ القرار بدون مشارکة المجلس التقنینی، بل الکونجرس وغیره دخیل فی قرارات الرئیس وناظر علی أعماله.

وحاصل ذلک أن الأمة تتصرف فی شؤون نفسها بإشرافین، إشراف الرئیس المنتخب وإشراف المجلس المنتخب.

وقد یکون انتخابه بواسطة جماعة خاصة، مثل مجلس الشوری، أو مجلس الأعیان، أو ما أشبه، أو کلا المجلسین، وحینئذ فالأمة انتخبت نوابها، ونوابها انتخبوا خادم الأمة (رئیس التنفیذ: کرئیس الجمهوریة)، ولا شک أن للامة أن تختار إحدی الکیفیتین، إلاّ أن الکیفیة الأولی أقرب إلی إشراف الأمة علی مقدرات نفسها.

((تعدد الرئیس التنفیذی))

((تعدد الرئیس التنفیذی))

4) أن یکون الرئیس التنفیذی اثنین أو أکثر، والغالب فی هذا النحو من الحکم أن یکون أحد الرئیسین بیده التنفیذ ولیست له مسؤولیة، والرئیس الثانی یشارک الأول فی التنفیذ إلاّ أنه مسؤول أیضاً، ویکون أحدهما رئیس الجمهوریة، والآخر رئیس الوزراء، أو یکون أحدهما رئیس مجلس الجمهوریة، والآخر رئیس الوزراء، کما کان فی العراق فی أیام قاسم، وإن کان الأمر صوریاً.

وفی هذا الحال یکون المسؤول عن التنفیذ وعن إدارة البلاد ودوائرها أحدهما، کرئیس الوزراء مثلاً، وحینئذ قد یکون مجلس السیادة ذا فرد واحد، وقد یکون ذا أفراد.

أما إذا کا الرئیس التنفیذی أکثر من اثنین، فیکون للقوة التنفیذیة أفراد فی مجلس أعلی، مثل مجلس السوفیت الأعلی فی روسیا، وکذلک فی سویسرا، وإن کان أولهما أقرب إلی الدیکتاتوریة حتی فی مجلس السوفیت، وذلک لأن الدیکتاتوریة عجلة إذا تحرکت لا تعرف نظاماً ولا قانوناً وإنما یسود

ص:19

فیهم شریعة الغاب، ولذا تمکن ستالین من قتل أصدقائه، وبرجنیف من إقالة خروشوف، ففی سویسرا یکون المجلس الأعلی للقوة التنفیذیة مرکباً من سبعة أشخاص ینتخبون لمدة أربع سنوات.

((من علائم الحکم الدکتاتوری))

((من علائم الحکم الدکتاتوری))

ویجب أن یعرف أنه إذا أرید معرفة أن الحکم دیکتاتوری أو استشاری، یجب أن یلاحظ أمران:

الأول: هل فی البلد حزب واحد أو أکثر.

الثانی: هل أن الرئیس الذی بیده التنفیذ حقیقة _ لا الرئیس الصوری کملکة بریطانیا _ هل یبدل کل أربع سنوات أو أقل أو أکثر أم لا.

فإن کان البلد ذا حزب واحد، أو أن الرئیس لا یبدل، فالحکم دیکتاتوری، والناس لا قیمة لهم، وإن کان فی البلد حزبان أو أکثر والرئیس یبدل فالحکم استشاری.

وسیأتی الکلام فی مسألة تعدد الأحزاب وعدمه فی بعض المسائل الآتیة إن شاء الله تعالی.

((القوة التنفیذیة والانقلاب العسکری))

((القوة التنفیذیة والانقلاب العسکری))

5) أن تکون القوة التنفیذیة بید الرئیس الذی جاء إلی الحکم بالانقلاب العسکری، ومثل هذا الحکم لا یکون إلاّ دیکتاتوریاً، والناس تحت مثل هذا الحکم لا یکونون إلاّ أسوأ من العبید.

ومهما قیل فی شأن الانقلاب العسکری فلیس إلاّ استئثاراً بالسلطة بالقوة والسلطة المتکیة علی القوة دون الآراء الحرة، لا شرعیة لها لا فی میزان العقل ولا فی میزان الدین.

هذا مع الغض عن أنا لم نر منذ الحرب العالمیة الثانیة، انقلاباً عسکریاً فی آسیا وإفریقیا، إلاّ کان انقلاب استعماریاً.

بقی الکلام فی أمرین:

((الأقرب إلی النظرة الإسلامیة))

اشارة

((الأقرب إلی النظرة الإسلامیة))

الأول: إن الأقرب إلی الاستشارة والنیابة عن الإمام (علیه السلام) فی الإسلام، أن یکون الحکم ذا رتبتین طولاً، فتنتخب الأمة نوابها لمجلس الأمة، وتنتخب

ص:20

الفقیه الجامع للشرائط، لأن یکون سلطة أعلی فی الدولة، وهذان المنتخبان یتعاونان فی انتخاب السلطة التنفیذیة، کرئیس الجمهوریة إما مباشرة، وإما ترشیحاً فی عدد ینتخب الجمهور أحدهم، فیکون الفقیه المشرف الاستشاری الأعلی، والمجلس یقنن _ أی یؤطر القوانین الإسلامیة ویری التطبیق الألیق لها _ ورئیس الدولة ینفذ، مع أن یکون فی الدولة أحزاب متعددة، ولا فرق بعد ذلک أن تکون قیادة الفقیه علی نحو الجماعیة والتعدد والشوری، أو تکون علی نحو الوحدة.

وسیأتی تفصیل الکلام فی ذلک فی مسألة ولایة الفقیه.

کیف تتوفر الحریة الحقیقیة

کیف تتوفر الحریة الحقیقیة

الثانی: إن الحریة الحقیقیة لا تکون للأمة، إذا لم یتوفر هناک أمران:

1) الوعی الکافی للأمة.

2) عدم وجود جهة مزیفة لإدارة الأمة، کالاقتصاد المنحرف بسبب رأس المال.

وذلک لوضوح أن عدم الوعی الکافی یوجب سیطرة أهل المکائد والحیل علی الأمة، ولو کان النظام ذا أحزاب وانتخابات حرة فیتبدل الرئیس الأعلی کل أربع سنوات مرة.

کما أن منهاج المال لو کان منحرفاً إلی الرأسمالیة، حیث یستغل الأثریاء العمال والفلاحین والمعلمین ومن إلیهم، وذلک بأن لا یکون المال إزاء الأمور الخمسة: (العمل الفکری، والجسدی، والمواد، والعلاقات والشروط، کما فصلناه فی کتاب: الفقه الاقتصاد)، وبذلک یتجمع لدی الرأسمالیین المال الزائد عن حقهم، ولا یکون التوزیع علی الأمة توزیعاً عادلاً،

ص:21

فیستعمل فائض هذا المال الذی جمع بغیر حق، فی تحویر الانتخابات حسب صالح الرأسمالی، ولا یکون حینئذ حسب صالح الأمة، والحاصل یکون المحور المال، وعلی قمته بضعة من الرأسمالیین، ولا یکون المحور الأمة وعلی قمته إرادة الأمة وصالحها.

وهذا هو الذی یشاهد فی بلاد الرأسمالیة، وعلی رأسها إمریکا، حیث إن الحریة الموجودة فیها بانتخابات وتبدل الرئیس کل أربع سنوات، لیست إلاّ شکلیة، حیث إن الکلمة الحقیقیة لجماعة من الرأسمالیین، لا للشعب، وقد ذکرنا بعض تفصیل ذلک فی (الفقه: الاقتصاد).

ص:22

القوة القضائیة

اشارة

القوة القضائیة

(مسألة 30): تقدم الکلام حول القوة التشریعیة والقوة التنفیذیة، والکلام الآن حول القوة القضائیة.

وهذه القوة تعد من القوی السیاسیة الثلاث، بینما إطلاق السیاسة علی هذه القوة إنما هو بنوع من التوسع، إذ السیاسة معناها الإدارة، والقضاء لا یدیر، بل المدیر حقیقة للبلاد القوة التنفیذیة، وإذا أرید ملاحظة القوی الثلاث، فالتشریعیة شأنها قبل التنفیذیة، لأن التشریعیة هی التی تقنن أو تؤطر، وبعد ذلک یأتی دور التنفیذیة لتدیر البلاد حسب تلک التشریعات.

وأما القضائیة فهی تتدخل فی موارد النزاع، سواء بین الأفراد أو المنظمات فی دولة، أو بینهما وبین الدولة، أو بین الدول، لأجل أن تقول کلمتها فی أن القانون الذی صدق علیه التشریع ماذا یقتضی، وبذلک یفصل بین الدعاوی.

بساطة القضاء فی الإسلام

بساطة القضاء فی الإسلام

وقد کانت (القوة التشریعیة) فی الإسلام متمثلة فی الفقهاء الذین یستنبطون الأحکام من الأدلة الأربعة، و(القوة التنفیذیة) متمثلة فی الدولة ممن یسمی بالخلیفة

ص:23

أو غیره، و(القوة القضائیة) متمثلة فی القضاة الذین تخرجوا علی أیدی الفقهاء.

وقد تقدم سابقاً أن فی الإسلام لا یلزم هذا القسم من الانفکاک، الذی یشاهد الآن بین القوی الثلاث.

کما أن القوة القضائیة فی الإسلام کانت لها صلاحیات واسعة، فالذی جعل فی القانون الحدیث دوائر، کانت فی الإسلام ضمن دائرة القضاء، من الأوقاف، وأموال الأیتام وسائر القاصرین، والحدود والدیات والقصاص، والأحوال الشخصیة وما أشبه ذلک، والسبب فی ذلک بساطة الدوائر الإسلامیة، حیث تعددت فی الدول الحدیثة، وقد کان وجه تلک البساطة أمران:

الأول: إن الإسلام یربی الأمة علی خوف الله والفضیلة، مما یقلل الاحتیاج إلی القضاء، إذ الإیمان والتزام الفضیلة یقللان الجرائم والمنازعات وما إلی ذلک، ولذا نری مدینة ذات أربعة ملایین _ کما یقول بعض المؤرخین _ مثل الکوفة یدیر شؤونها القضائیة رجل واحد فقط.

الثانی: إن الإسلام لا یعرف الالتواء فی قوانینه، إذ قوانین الإسلام وضعت لأجل الإنسان، لا لأجل المادة، کما ألمعنا إلی ذلک فی مسألة سابقة، وبذلک تکون القوانین الإسلامیة إنسانیة، والقانون الإنسانی المتحری للحقیقة لا یکون فیه التواء، وإذا لم یکن التواء لم یحتج الأمور إلی کثرة الموظفین، کما فصلنا الکلام حول ذلک فی جملة من کتبنا الإسلامیة.

((مهام القوی الثلاث))

((مهام القوی الثلاث))

وکیف کان فالقوة التشریعیة تلاحظ المجتمع من ناحیة، والمنظمات والأحزاب والدوائر من ناحیة ثانیة، فتضع لها القوانین الملائمة، الکفیلة بسلامتها وتقدمها، وفی الإسلام حیث القوانین موضوعة من قبل الله سبحانه فالقوة التشریعیة تعمل أمرین:

ص:24

1: استنباط القوانین الملائمة من الأدلة الأربعة.

2: تفهم کیفیة تطبیق القوانین المستنبطة علی الخارج، مثلاً فی باب الاقتصاد یستنبط المجلس کیفیة الاقتصاد فی الإسلام، وهل أنه رأسمالی أو شیوعی أو اشتراکی أو توزیعی أو قسم خامس، وهو ما ذکرناه فی کتاب (الفقه: الاقتصاد)، وبعد هذا الاستنباط یأتی دور التطبیق، وأن هذا المیزان کیف یمکن تطبیقه فی المعمل، فأی قدر من النتائج للمعمل، ولرأس المال، وللعامل، وللمدیر، وهکذا.

والقوة التنفیذیة توفر الأجواء الملائمة لتنفیذ تلک القوانین، أو تجعل الموظفین والإدارات، وتشرع القوانین التنفیذیة، وتطبق القوانین التشریعیة علی الخارج، مثلاً وزارة المواصلات تجعل الموظفین المراقبین للطرق، وتجعل قوانین للمرور، وتشرع عقوبات للمخالف، کل ذلک مستقی من قوانین مجلس الأمة، فقوانین المواصلات فی الدرجة الثانیة من القوانین، بینما قوانین مجلس الأمة فی الدرجة الأولی.

أما القوة القضائیة، فهی تنفذ قوانین مجلس الأمة فی حقل خاص، هو حقل المنازعات، فیما إذا راجعها المتنازعون، أو کان الأمر یتطلب تدخل القضاء لأنه من صلاحیة الادعاء العام، ولذا کانت القوة القضائیة کالقوة التنفیذیة فی جعل الموظفین والإدارات الخاصة بالقضاء، وتشریع القوانین المرتبطة بهذا الشأن، بشرط أن تکون تلک القوانین مستقاة من قوانین مجلس الأمة.

وقد سبق الفرق بین سعة دائرة القضاء الإسلامی، وضیق دائرة القضاء علی الأسلوب الغربی، وبهذا تبین أن القوة القضائیة فی الإسلام تشمل أمثال الأحوال الشخصیة والحدود والأوقاف، وما إلی ذلک.

ثم إن القوة القضائیة فی بعض البلاد الغربیة تهتم بموضوع آخر بالإضافة إلی المنازعات، وهو التوفیق بین القانون الأساسی للبلاد وبین القوانین التی یرید المجلس وضعها، وکذلک بین القانون الإساسی وبین إجراءات

ص:25

الدستور، یقول: کل إنسان حر فی أن یتصرف فی ماله وفی نفسه بما لا یضره ولا یضر الآخرین.

والقوة التنفیذیة ترید الاستفادة من هذه الحریة، بإجازة مصارعة الثیران، فالقوة القضائیة تأتی لتنظر هل أن هذا الإجراء یلائم المستثنی أو المستثنی منه، فإن کان داخلاً فی الأول منعه، وإن کان داخلاً فی الثانی أجازه، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

وفی الحقیقة إن هذا العمل من القوة القضائیة، عبارة عن حل النزاع بین القوة التشریعیة والقوة التنفیذیة، لأنه ملاحظة أن لا تخالف القوة التنفیذیة القوة التشریعیة، وعلیه یشکل القضاء شعبة خاصة، لتکون المرجع الأخیر فی هذه المنازعة بین القوتین المذکورتین، ویعین لهذه الشعبة أقدر الخبراء المحنکین فی القوانین وفصل المنازعات.

کیفیة نصب القضاة

کیفیة نصب القضاة

وحیث قد عرفت أن أعلی سلطة فی الدولة الإسلامیة هی سلطة الفقیه الجامع للشرائط المنتخب من قبل أکثریة الأمة، فاللازم أن یکون نصب قضاة هذه الشعبة القضائیة بید الفقیه، لکن الأفضل أن یکون مع استشارة المجلس، أو یعین بعضهم الفقیه وبعضهم المجلس، ویکون النظر لأکثریة الآراء، کما إذا کانوا خمسة أو سبعة مثلاً.

وقد تعرضنا فی کتاب القضاء أنه لا مانع من تعدد القضاة وحکمهم بأکثریة الآراء، بل هذا هو الأقرب فی القضایا المهمة، أمثال عمل هذه الشعبة، حیث إن الشوری قاعدة عقلیة، قررها الإسلام کتاباً وسنةً وإجماعاً، وإطلاق أدلة

ص:26

الشوری یشمل المقام، بل یشمله المناط فی قوله (علیه السلام): «خذ بما اشتهر بین أصحابک»((1))، بل والمناط والإطلاق فی استشارات الرسول (صلی الله علیه وآله) وأقوال علی (علیه الصلاة والسلام) کما تقدم.

وبعد ذلک یسهل الأمر فی أن القضاة الذین یعینون لهذه الشعبة، یکونون دائمین أو موقتین، فإن الخصوصیات یعین حسب رأی الفقیه القائد والمجلس.

نعم، لا إشکال فی لزوم أن یتوفر فیهم العلم والعدالة والخبرة وغیر ذلک من الشروط الإسلامیة.

والظاهر أن هذا النوع من القضاء داخل فی إطلاقات أدلة القضاء، فلا حاجة إلی القول بأن هذا النوع یفهم من مناط أدلة القضاء.

وجه ما ذکرناه أن التعارض بین القانون الأساسی والقوانین الثانویة یرجع فی حقیقته إلی التعارض بین حقین لإنسانین أو لجماعتین، وإعطاء الحق إلی مستحقه بالقضاء مشمولاً لأدلة القضاء، وأی فرق بین الفصل عند منازعة حقین شخصیین، وبین الفصل عند منازعة حقین تقمصتهما شخصیتان حقوقیتان.

ومثل ذلک المنازعة بین مختلف أجهزة الدولة، مثلاً طلبت جماعة فتح ناد فی المحل الفلانی، وأراد وزیر الشؤون إعطاء الإجازة استناداً إلی قانون الحریات الإسلامیة، وأراد وزیر البلدیات المنع استناداً إلی قانون «لا ضرر»((2))، حیث إن ضوضاء النادی یسلب راحة المارة أو الجیران، فمنع هیئة القضاة لهذا الوزیر أو ذاک، یرجع بالنتیجة إلی ترجیح حق المارة أو حق الطالبین لفتح النادی، صحیح أن الوزیرین یتنازعان فی شخصیتهما الحقوقیة، إلاّ أن الشخصیة الحقوقیة راجعة بالآخرة إلی الحق الفردی، کما تقدم الکلام فی ذلک.

ص:27


1- مستدرک الوسائل: ج3 ص185 الباب 9 من صفات القاضی ح2.
2- الکافی: ج5 ص292 ح8، والتهذیب: ج7 ص147 ح651.

بین القوة القضائیة والقوة التنفیذیة

بین القوة القضائیة والقوة التنفیذیة

ثم إن القوة القضائیة لها حقوق بالنسبة إلی القوة التنفیذیة، هی لأجل استقلال القضاء وتوفر الإمکانات لها لتعمل حسب العدالة التامة، وهی:

1: لا یحق للقوة التنفیذیة نقل القضاة من مکان إلی مکان، إلاّ حسب القوانین الدقیقة جداً، وإلاّ لتعرض کل قاض لا یطیع القوة التنفیذیة فی أوامرها إلی النقل، لتأتی التنفیذیة مکانه بمن یطیع أوامرها، ویکون حق النقل للتنفیذیة سیفاً مصلتاً علی رأس القاضی، وبذلک لا یتمکن من إجراء العدالة فی القضایا التی تدیر التنفیذیة طرفاً من أطراف القضیة المتنازع فیها.

2: یجب علی التنفیذیة توفیر المال والمکان والشرائط الملائمة للقاضی ومن إلیه، لیتمکن القاضی من استفراغ الوسع فی تحری الحق فی کافة القضایا، سواء کانت بین الناس، أو بین الناس والدولة، أو بین المنظمات والأحزاب، أو بین الدولة وبین الأحزاب والمنظمات، أو بین الناس والأحزاب والمنظمات.

3: یجب علی التنفیذیة تنفیذ آراء القضاة المتعلقة بفصل المنازعات، واذا تکاسل بعض موظفط التنفیذیة من التنفیذ تجب عقوبته بماقرره الإسلام(اوالقانون فی الدولة غیر الإسلامیة) والالم یکن ضمان لاجراء العدالة.

4: لا یحق للتنفیذیة أن تتدخل فی شؤون القضاة، بأن تصدر إلیهم الأمر والنهی، وإلاّ کان ذلک نقضاً للعدالة وتجمیداً لفعالیة القضاء.

5: یجب أن یکون کل أفراد الأمة بما فیهم الرئیس الأعلی للدولة خاضعاً للقضاء، فالکل أمام القانون سواء، والقوة التنفیذیة یجب علیها إطاعة القضاء فیما یأمر بالنسبة إلی أی فرد أو جماعة.

وفی قضایا الرسول (صلی الله علیه وآله) وعلی (علیه السلام) وکل منهما کان الرئیس الأعلی للدولة فی زمانه، ما یدل علی

ص:28

احترام الإسلام للقضاء وخضوع کل الأفراد له، بما یجب أن یکون درساً وعبرةً.

6: لا حق للتنفیذیة فی التعرض لأی شأن إلاّ بموافقة القضاء، إذ التنفیذ بدون القضاء معناه الحکم علی أحد المتنازعین بدون الرجوع إلی القضاء، مثلاً إذا أراد الشرطی إلقاء القبض علی إنسان، لا یحق له ذلک إلاّ بعد جلب موافقة القضاء، حیث إن جوهر القضیة نزاع بین حق الشرطة وحق ذلک الإنسان، وتقدیم أحد الحقین علی الآخر بدون الرجوع إلی القضاء خرق لقانون العدالة.

إلی غیر ذلک من الأمور التی لسنا نحن بصددها الآن.

وقد قرر بعض القوانین عدم الحق للقاضی فی الانتماء إلی الأحزاب والمنظمات السیاسیة أو ما أشبه السیاسیة، مما یجعل القاضی مظنة للتحیز، وذلک نقض لحیاد القضاء.

وهذا الشرط فی الشریعة الإسلامیة قد یمکن أن یستند إلی بعض الأدلة فی بعض الحالات، مثل اشتراط أن لا یکون الشاهد متهماً، کما دل علیه النص((1)) والإجماع، فإذا کان محظوراً فی الشاهد کان أولی أن یکون محظوراً فی القاضی، فتأمل.

وعلی هذا فلمجلس الشوری أن یقرر هذا الشیء، أو لقاضی القضاة، أو لوزیر العدل، أن یراعی هذا الأمر فی القضاة الذین یرید استخدامهم.

ص:29


1- انظر: الوسائل: ج18 ص287 الباب 32 من الشهادات.

مهمات الدولة

اشارة

مهمات الدولة

(مسألة 31): الدولة بقواها الثلاث التشریعیة والتنفیذیة والقضائیة، تراعی (القانون) و(حقوق الإنسان) و(العدالة) و(الرفاهیة) و(حسن التدبیر) و(رعایة النظام) و(تقدیم الأمة)، ومن هذه المجموعة تتکون الدولة الصالحة، وبسببها تکون الأمة الرشیدة.

((الدولة والقانون))

((الدولة والقانون))

1: القانون، فعلی الدولة أن تطبق نصوص القانون علی الأمة، ولا تحید عنها إرضاءً لفئة أو للحاکم، ولا فرق فی ذلک بین الدولة الإسلامیة وبین غیرها.

ففی الإسلام یجب علی الدولة تطبیق القوانین الإسلامیة علی الجمیع وإن لم یفهم الحاکم وجه القانون، بل وإن زعم أنه غیر کامل.

واللازم أن لا یحید الحاکم عن ذلک إلاّ إلی القانون الثانوی الإسلامی أیضاً، فقد یکون ذلک القانون الثانوی بسبب (قاعدة لا ضرر) أو (قاعدة لا حرج) أو (قاعدة الأهم والمهم) أو غیر ذلک من القواعد الثانویة.

ومنها ما إذا رأی الحاکم الإسلامی الذی بیده الأمر، الصلاح فی العفو أو ما أشبه ذلک، کما عفی رسول الله (صلی الله علیه وآله) عن أهل مکة، وعفی علی (علیه السلام) عن أهل البصرة، وعفی عن سارق، فقال له (علیه السلام) «وهبتک لسورة البقرة»((1))، إلی غیر ذلک مما ألمعنا إلیه فی کتب (الحکم فی الإسلام) و(القضاء)

ص:30


1- الوسائل: ج11 ص120 الباب 72 من أحکام الأرضین ح1.

و(الحدود) وغیرها.

وفی الدولة غیر الإسلامیة واجب الدولة تنفیذ القانون، حتی إذا کان لا ینصف المواطن ولا یقوم علی أساس من العدالة، ولا یرد الحقوق إلی أربابها، بل اللازم السعی لإسقاط القانون باستفتاء الشعب فی تبدیله إلی القانون الصالح، وبإثارة الشعب إلی حد الهیاج لیعدل المشرعون القانون، وبإصدار الهیئة التشریعیة قوانین جدیدة.

وذلک لأن مراعاة القانون أهم من مراعاة الأفراد الذین یطبق علیهم قانون غیر عادل، حیث إن الفوضی التی تترتب علی عدم مراعاة القانون أضر من ذهاب حق بعض المواطنین.

بل قد نجد فی الإسلام مثل ذلک تقنیناً وتطبیقاً، فیقال: إن (العدة) لأجل عدم اختلاط المیاه، لکن العدة تجری بالنسبة إلی العقیم، ضرباً للقاعدة وتوحیداً للقانون، مع أن فی عدتها ذهاباً لحقها، إن لم نقل بأن العدة لمصلحة احترام الزوج أیضاً، وهی موجودة فی العقیم.

وفی التطبیق نری أنه إذا کان خوف سرایة الوباء جاز منع استعمال أنواع اللبن ومشتقاته، مع أنه لیس کل لبن فیه جراثیم الوباء، وذلک لتقدیم مصلحة حفظ الصحة العامة علی مصلحة حق صاحب اللبن فی ماله.

((بین روح القانون وصورته))

((بین روح القانون وصورته))

أما هل للدولة مراعاة (روح القانون) أو مراعاة (صورة القانون) فی صورة التعارض بینهما؟

قولان:

الأول: لزوم مراعاة روح القانون، لأن القانون وضع لروحه لا لصورته، کما قال الفقهاء فی العمل بالمرکوز فی ذهن الواقف، إذا لم یمکن العمل بالوقف مصدراً أو مصرفاً.

الثانی: مراعاة صورة القانون، بحجة أنه لو ترک الأمر إلی الروح، لاتسع المجال لکل مخالف للقانون أن یخالف القانون بأنه رجح روح

ص:31

القانون علی صورة القانون، وفساد ذلک أکثر من صلاح روح القانون.

وکیف کان، فإذا لم تعمل جهة من جهات الدولة بالقانون، عوقبت علی ذلک العقوبة القانونیة فی دول القانون، والعقوبة الشرعیة فی الحکم الإسلامی، والعقوبة قد تکون بدنیة کالسجن والتعزیر، وقد تکون مالیة کالتغریم، وقد یجمع بینهما، إلاّ أن من مختصات الشریعة الإسلامیة عدم العقوبة الجسدیة لغیر المقصر، فبینما ترتب العقوبة المالیة حتی للجاهل القاصر کما فی الإتلافات، لا ترتب العقوبة الجسدیة إلاّ للعامد والجاهل المقصر، علی ما فصل فی کتب الحدود والدیات والقصاص وغیرها.

نعم قد ترتب العقوبة الجسدیة فی موارد نادرة، کسجن المتهم بالقتل ستة أیام، کما فی حدیث عن رسول الله (صلی الله علیه وآله)، وذلک لقاعدة الأهم والمهم، وإذا کانت هناک أبدال رجح البدل الأنسب بالحریة وبحقوق الإنسان، مثل أخذ الکفیل الذی هو مقدم علی السجن، علی ما ذکرناه فی کتاب القضاء.

الدولة وحقوق الإنسان

الدولة وحقوق الإنسان

2: وحقوق الإنسان هی مستقی القانون، سواء فی الإسلام (حقیقة)، أو فی الدول الدیمقراطیة (صورة)، أما الدول الدیکتاتوریة فمستقی القانون فیها رأی الدیکتاتور، ولا یهمنا الکلام حولها، وإنما نذکر الأولین فقط.

فالإسلام جعل الإنسان محور العالم، کما ذکر فی آیات مکررة، قال سبحانه: ﴿اللّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّکُمْ

ص:32

وَسَخَّرَ لَکُمُ الْفُلْکَ لِتَجْرِیَ فِی الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَکُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَکُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَینَ وَسَخَّرَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاکُم مِّن کُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إنَّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ کَفَّارٌ﴾((1)).

وفی الحدیث القدسی: «خلقت الأشیاء لأجلک، وخلقتک لأجلی»، ومعنی الجملة الثانیة تفسیر لقوله سبحانه: {وإن إلی ربک المنتهی}((2))، حیث إن (کل ما بالغیر لابد وأن ینتهی إلی ما بالذات) کما تقول بذلک القاعدة الفلسفیة.

وحیث إن القانون الإسلامی وضع لأجل الإنسان، فالقاسم المشترک فی کل قوانین الإسلام السیاسیة والاقتصادیة والعبادیة والجزائیة والشخصیة هو فائدة الإنسان، إبقاءً وإنماءً، ولذا کان الناس فی نظر الإسلام سواسیة کأسنان المشط((3))، وکان {أکرمکم عند الله أتقاکم}((4))، وکان «کلکم راع وکلکم مسؤول عن رعیته»((5))، وکان «الناس مسلطون علی أموالهم وأنفسهم»((6))، ولذا کان الإسلام دین الحریة والکفاءة والتقدم، و«من ساوی یوماه فهو مغبون»((7))، إلی غیر ذلک.

الأنظمة الغربیة تسحق حقوق الإنسان

اشارة

الأنظمة الغربیة تسحق حقوق الإنسان

أما الدولة الدیمقراطیة فلم تصل إلی الدیمقراطیة إلاّ بعد قرنین من الکفاح والحروب والثورات، أی عبر القرنین السابع عشر والثامن عشر المسیحی،

ص:33


1- سورة إبراهیم: 34.
2- سورة النجم: 43.
3- انظر من لا یحضره الفقیه: ج4 ص379 وفیه: « الناس کأسنان المشط سواء » .
4- سورة الحجرات: 13.
5- إرشاد القلوب: ج1 ص184 ب51.
6- انظر بحار الأنوار: ج2 ص272.
7- الوسائل: ج11 ص376 الباب 9 من جهاد النفس ح5.

ثم بعد ذلک الکفاح الطویل، لم یحصل الإنسان الغربی علی حقوق الإنسان إلاّ مزیجاً بأخطاء کبار نلخصها فی خمسة:

((أخطاء الدیمقراطیة الغربیة))

((أخطاء الدیمقراطیة الغربیة))

الأول: تقیید الحریات، فتری الشعوب الغربیة مقیدة فی أغلب شؤونها، فالسفر والإقامة والبناء والزراعة والصناعة والتجمع وغیرها کلها مقیدة بالإذن والرخصة من الدولة، ولماذا الإذن، ألیس ذلک تقییداً للحریة.

وقد ذکرنا فی کتاب (إلی حکم الإسلام)((1))، و(نریدها حکومة إسلامیة)((2)) وغیرهما، سعة الحریة الممنوحة للإنسان فی ظل النظام الإسلامی، بما لا یوجد مثلها فی أی قانون أو دستور حتی فی الدستور الأمریکی والقانون الفرنسی، وإن تبجح بهما أصحابهما، وغالوا فی إطرائها.

الثانی: السماح لرأس المال بالتراکم الجائر، حتی أوجب ذلک سیطرته علی مختلف الشؤون السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة وغیرها، فحریة الرجل الغربی وحقوق الإنسان بالنسبة إلیه، مثلهما مثل حریة الطائر وحقه وهو فی القفص، إنه حر هناک، وله حق فی داخله الحرکة، وهل مثل هذا یسمی حریة وحقاً.

وقد ذکرنا فی بعض الکتب الاقتصادیة ومنها (الفقه: الاقتصاد) کیف أن رأس المال سلب الإنسان الغربی سیادته وحریته وحقوقه، بل وحتی صحته وراحته، فأورثه المرض الجسدی والقلق النفسی، وکتاب (دع القلق) یکشف الستار عن بعض جوانب هذا المرض والقلق، ولذا ندد بالحقوق القانونیة والحقوق السیاسیة أمثال (راسل) و(هاکسلی)، وقد ذکر غیر واحد من علماء الغرب وفلاسفته أن (ثورة فرنسا) والتی أسموها (کبری) اسماً بدون مسمی، إن الثورة وقفت فی منتصف الطریق.

ص:34


1- طبع فی بیروت مؤسسة الوفاء.
2- طبع فی إیران دار القرآن الحکیم.

أقول: بل اللازم أن یقال: انتکست علی عقبیها، بینما الإسلام قیّد رأس المال بما لا یتمکن من الطغیان، وطبقاً لذلک لا یقدر رأس المال علی تقیید الحریات وتضییع الحقوق.

الثالث: الاستعمار للخارج، فحقوق الإنسان فی الغرب تنظر بعین واحدة، حالها حال القومیة وما أشبه، فلیست للإنسان وإنما للسادة فقط، ولا فرق بینها وبین قانون سیادة السادة علی استعباد العبید، ولذا نری أبشع استعمار عرفه العالم فی تاریخه مارسته فرنسا وبریطانیا وإمریکا وسائر دول أوروبا بالنسبة إلی آسیا وإفریقیا وغیرهما، بینما یری الإسلام أن الناس «إما أخ لک فی الدین أو نظیر لک فی الخلق»((1))، کما فی نهج البلاغة.

ولا یخفی أن الاستعمار للخارج، لم ینحصر فی ممارسة الظلم للخارج، إذ عادت هذه الحالة إلی الإنسان الغربی نفسه، إذ الملکة إذا حصلت فی الإنسان لم یمیز فی موضوع ممارستها بین الغریب والقریب، حاله حال سائر الملکات، وهذه الملکة السیئة وإن لم تقدر أن تتنفس فی داخل الغرب بمثل ما تنفست فی خارج الغرب، إلاّ أنها أظهرت نفسها بشکل أو بآخر بما أضرت أهل البلاد أیضاً، وهذا ما سبب انزعاج جملة من فلاسفة الغرب وحکمائها فنددوا بالممارسات الاستعماریة لا فی المستعمرات بل فی بلادهم أنفسهم.

الرابع: رد الفعل للقوانین الموضوعة فی الغرب، وللمارسات والتطبیقات لتلک القوانین حیث إن ذلک خلق الشیوعیة مما أتت بأبشع الثمار، ومن یعرف داخل روسیا والصین وأوروبا الشرقیة وکوبا وأمثالها، یعرف کیف یهان الإنسان فی هذه البلاد، بما لا یجد مثیلاً له علی طول التاریخ المحفوظ،

ص:35


1- نهج البلاغة: الکتاب 53.

والشیوعیة وإن أخذت منذ عشرین سنة فی النقص ووصلت الآن إلی الإشراف علی الزوال، حتی أن جملة من الخبراء لایقدرون باقی عمرها بأکثر من عشر سنوات أو ما أشبه، إلاّ أن إهانة زهاء ربع البشریة فی مدة طویلة _ أکثر من ربع قرن _ هی من سیئات الممارسات الغربیة، وقد کان شأن الغرب التذرع بحقوق الإنسان لإقامة الحروب والثورات ونصب الدیکتاتوریین وصنع الانقلابات، أمثال اغتصاب فلسطین ولبنان وإقامة البهلوی وأتاتورک وانقلابات مصر والعراق، إلی کثیر من الأمثلة.

أما القوانین الإسلامیة فحیث کانت عادلة لم یکن لها الأثر السیء، بل کان لها الاطراد والتقدم حتی أن الغرب بنفسه یسمی المسلمین آباء العلم والحریة، وذکر المنصفون منهم أن علم الغرب وما فیه من الحریة إنما هو من آثار الإسلام.

الخامس: الاضطراب الذی أوجدوه حول المرأة، فمن ناحیة جعلوا المرأة سلعة رخیصة وأداة إطفاء الشهوات، فجعلوها وسیلة لجلب المال، وفتحوا لها المواخیر ومراکز الفساد، وبذلک أهانوا المرأة أکبر إهانة، حیث سبب ذلک تبذلها ورخصها من ناحیة، وبقاءها عانسة تتسکع فی دروب الحیاة الصعبة من جهة أخری.

ومن ناحیة أخری زعموا أنها تساوی الرجل فی کل شیء، فصار ذلک وبالاً علیها، حیث لم تتمکن أن تقدم کما تقدم الرجل فی الوزارات والسفارات والنیابات ونحوها، لأنها بطبیعتها لشؤون غیر هذه الشؤون، بینما ألقیت علیها خشونة الحیاة الصناعیة مما أضرت بجمالها وأنوثتها وسائر شؤونها الطبیعیة، التی خلقها الله سبحانه لها، ولذا أخذ علماء الغرب یفکرون فی وضع القوانین العادلة للمرأة

ص:36

لإخراجها من الإهانة والخشونة، کما ذکر ذلک فی جملة من الکتب، وقد ذکرنا نحن جملة من شؤون المرأة فی الإسلام فی کتاب (فی ظل الإسلام)((1)) وفی غیره.

الدولة بین العدل والإحسان

الدولة بین العدل والإحسان

3: والمراد بالعدالة فی اصطلاح القانون هو ما یسمیه الإسلام بالإحسان، والاصطلاح الإسلامی أقرب إلی الحقیقة، وکیف کان فهناک (مساواة) و(عدل) و(إحسان)، قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾((2)).

فالمساواة معناه التساوی، وقد یکون التساوی عدلاً وقد لا یکون عدلاً، وکذلک النسبة فی العکس، فبینهما عموم من وجه علی الاصطلاح المنطقی، فإذا ساوی الأخوین فی الإرث کان تساویاً وعدلاً، وإذا ساوی الکبیر والصغیر فی إعطاء قماش اللباس کان تساویاً لا عدلاً، وإذا أعطاهما متفاوتاً کلاً بقدر حاجته کان عدلاً لا مساواةً.

فالعدل إعطاء کل ذی حق حقه، وإدانة کل ذی جرم بجرمه، والإحسان إعطاء المزید من الحق فیما لا یضر بحق آخر، والعفو عن المجرم فیما لا یکون العفو سیئاً لبطلان حق.

والإحسان فوق القانون، فإن القانون مجرد الحقوق والواجبات والإدانات، أما الإحسان فهو مراعاة ترطیب الحیاة وتلطیف الجو، والدولة یلزم علیها مراعات ذلک، لیجعل من القانون واحة خضراء فیها الرحمة والحنان علی الإنسان، وهو یوجب تقویة الروابط بین الدولة والأمة وتقدیم الأمة إلی الأمام، إذ العلاقة المتبادلة توجب أجواءً من الثقة والحریة والرفاه، وکل

ص:37


1- طبع فی دار الصادق بیروت، ومطبعة الآداب العراق.
2- سورة النحل: 90.

ذلک من مقومات التقدم، بله الاطمینان والسکینة ورفع القلق.

ولهذا القانون یشرع المشرعون نصوصاً لأجل رفاه الأمة، کما ینفذ المنفذون أکثر من النصوص المرفهة، ویمتنع القضاة عن الإدانات الثقیلة سواء کانت الإدانة حکم الإعدام أو التعزیر أو السجن أو الغرامة.

وقد ذکرنا فی کتاب الحدود والقضاء الإطار الذی یمکن للقاضی ولقائد المسلمین أن یخفف من العقوبات، وقد عفی رسول الله (صلی الله علیه وآله) من أهل مکة((1))، وقرر القانون الإسلامی ب_ (جب ما قبله)((2))، وعفی عن غیرهم، کما عفی علی (علیه السلام) والحسن والحسین (علیهما السلام) وغیرهم من الأئمة (علیهم السلام) عن جملة من المجرمین، کأهل البصرة، وکان علی (علیه السلام) یعطی جوائز الخوارج، إلی غیر ذلک.

والفرق بین العدل والإحسان: أن العدل واجب إطلاقاً، بینما الإحسان فی الجملة، فلا یحق للقائد أو القاضی أو ما إلیهما، تطبیق القانون بحذافیره، بل اللازم أن یتخلله إحسان فی الجملة، وهذا هو الفارق بین وجوب العدل ووجوب الإحسان، حیث قال تعالی: {یأمر...}، أما حمل الأمر فی الأول علی الوجوب وفی الثانی علی الاستحباب، فهو خلاف الظاهر أولاً، وخلاف لظاهر (ینهی...) الذی هو فی سیاقه، فکما أن النهی تحریمی کذلک الأمر وجوبی.

لا یقال: وحمل (الإحسان) علی الجملة خلاف الظاهر أیضاً، إذ الظاهر فی کل من (العدل) و(الإحسان) الإطلاق.

لأنه یقال: نحن أمام أحد خلافی الظاهر، وما ذکرناه أولی، لما نعلم من

ص:38


1- الوسائل: ج11 ص120 الباب 72 من أحکام الأرضین ح1.
2- بحار الأنوار: ج40 ص230.

الخارج من عدم وجوب کل إحسان بالضرورة، فهذه قرینة علی کون وجوب الإحسان فی الجملة.

بل یمکن أن یقال فی تقریب وجوب الإحسان فی الجملة: إن خلافه فظاظة وهی محرمة، لأنها توجب انفضاض الناس، والتسبیب فی ذلک محرم، إذ هو نقض للغرض، قال سبحانه:((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ کُنتَ فَظًّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِکَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ))((1))، وقال سبحانه: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِینَ))((2)).

ثم إنه لا حاجة إلی تقیید الإحسان بأن لا یکون موجباً للتجری أو إضاعة حق الآخرین، إذ لا یکون ذلک حینئذ إحساناً، بل إساءة، والفرق بینهما فی هذا المورد دقیق، ولذا کان اللازم علی القوی الثلاث (السیاسیة) تفهم الفرق، لئلا یقع الخطأ فی التطبیق، حتی یقع فی إفراط مر القانون، أو تفریط الإساءة بزعم الإحسان، قال الشاعر:

ووضع الندا فی موضع السیف بالعلا

مضر کوضع السیف فی موضوع الندا

وقد یصطلح علی العدل المذکور، (الإحسان) فی اصطلاح الإسلام بالعدالة الاجتماعیة، ولا مشاحة فی الاصطلاح.

توفیر الرفاهیة للأمة

توفیر الرفاهیة للأمة

4: أما الرفاهیة التی هی واجبة علی القوی السیاسیة، فهی عبارة عن أن

ص:39


1- سورة آل عمران: 159.
2- سورة الأعراف: 198.

یکون التشریع والتنفیذ والقضاء موجباً للرفاه بقدر الإمکان.

فالقانون یلزم أن یکون بحیث یسبب وجود العمل لکل عامل، ویجعل الأجر المجزی الکافی لکل عامل، مع وضع ساعات العمل بقدر الیسر لا بقدر العسر، وتکون للعمال الإجازات والعطلات، وزیادة الأجور بزیادة التضخم، والعطلة للنساء العاملات أیام الولادة وقبلها وبعدها بمدة معقولة، وتسهیل وسائل الزواج بإعطاء المزید لذلک منحاً وسلفاً، وتسهیل وسائل العلاج والدراسة والسیاحة وما أشبه ذلک، مثل المدارس والمستشفیات والمستوصفات ودور العجزة، والحدائق والمخیمات ودور الریاضة والنوادی، وما أشبه ذلک.

وتلطیف الهواء بالتشجیر، وتکثیر المیاه فی المناطق الحارة، وعکس ذلک فی المناط الباردة، ومد الجسور والطرق وتکثیر وسائل المواصلات، مع جعل القوانین المسهلة للمرور، وجعل الدوائر المرفهة للموظفین والمراجعین، وکون القضاء وإجراء الحدود فی أجواء ملائمة، وقد ذکرنا فی کتاب القضاء ما یرتبط بهذا الشأن، فلاحاجة إلی تکراره.

أما الدلیل الشرعی علی هذه الأمور، فلأن الدولة موضوعة للمصالح العامة والخاصة، فاللازم علیها مراعاتها، والإجحاف محرم، فالواجب علی الدولة أن تحفظ الموازین حتی لا یحجف عامل ولا فلاح بصاحب العمل والأرض، ولا العکس.

بینما نری فی الشرق إجحافاً من العمال والفلاحین (دیکتاتوریة البرولیتاریا).

وفی الغرب إجحافاً من أصحاب الأعمال والأراضی (طغیان رأس المال)، وکذا حال ما یدور فی فلکهما.

وکذا لا عسر فی الإسلام:((یُریدُ اللَّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ ولا یُریدُ

ص:40

بِکُمُ الْعُسْرَ))((1)).

وفی الحدیث: «اتقوا الله فی الضعیفین، الأیتام والنساء»((2)).

وقال (علیه السلام): «المرأة ریحانة ولیست بقهرمانة»((3))، إلی غیرها من الأدلة النقلیة والعقلیة.

ومع ذلک فاللازم علی الدولة الجمع بین حقی الحریة والرفاه، فی مثل العامل وصاحب العمل وما أشبه ذلک، حیث إنه لا یصح لها إلاّ رفع الإجحاف من الطرفین، وکذا من البائع والمبتاع وسائر أطراف المعاملة، لا أن تضغط الدولة علی حریة طرف لأجل التوفیر علی طرف آخر.

وهذه الأمور التی ذکرناها جاریة علی القوة التشریعیة بالنسبة إلی التشریع، (تأطیر القوانین الإسلامیة) وعلی القوة التنفیذیة بالنسبة إلی التنفیذ.

ومن أهم ما تجب علی الحکومة مراعاته: الحفاظ علی حریات الناس، فإن کل قانون کابت وکل إجراء کابت خلاف جعل الإسلام الناس مسلطین علی أنفسهم وأموالهم، إلاّ بقدر المصلحة العامة حقیقة، لا ما تتذرع بها الدول من المصلحة العامة التی تختفی وراءها جهلهم وأنانیتهم، کما تعارف الآن فی أغلب الدول من سلب الناس حریاتهم فی کثیر من الشؤون.

الدولة وحسن التدبیر

الدولة وحسن التدبیر

5: ویأتی بعد ذلک دور حسن التدبیر من الدولة فی الشؤون العامة والخاصة، وذلک:

ص:41


1- سورة البقرة: 185.
2- الوسائل: ج14 ص121 الباب 88 من مقدمات النکاح ح2.
3- نهج البلاغة: الکتاب 31، ورواه الوسائل: ج14 ص120 الباب 87 من مقدمات النکاح ح1.

أ) بالعمل الإیجابی، بأن تسهر الدولة علی مصالح الأمة، وتبادر إلی إنجاح طلبها وإسعافها فی الساعات الحرجة، فالدولة لیست إلاّ خادمة للأمة ووکیلة لها، والدائرة لیست محل إهانة المواطن وإرهاقه، بل محل إکرامه وتسهیل أمره، فعلی الموظف أن یسرع فی إعطاء المراجع حاجته، وفی إرشاده إلی موضع حاجته إن لم تکن حاجته عنده، وعلی کل موظف أن یهیئ الأجواء الملائمة فی دائرته، سواء الأجواء العملیة أو الأجواء المناخیة، فإذا احتاج تسریع الأمر إلی جعل کاتب وخادم وما أشبه جعلهما، وإذا احتاج الهواء إلی مدفئة ومروحة وفرهما، إلی غیر ذلک.

وکذلک بالنسبة إلی القوة التشریعیة، حیث یجب علیها تقنین القوانین المؤدیة إلی ذلک، فإن من أهم أسباب نجاح الدولة وتقدم الأمة تسهیل الأمور والإجراءات بالمقدر الممکن، وفی حدود عمل کل قوة من القوی الثلاث السیاسیة.

ب) وبالعمل السلبی، وذلک بأن لا یوضع القانون، ولا ینفذ القانون الموضوع، سواء فی التنفیذیة أو القضائیة الذی ینبی عن التعسف والتجاوز، وما یوجب عدم أمن واستقرار المواطن من جهة نفسه أو ماله أو عرضه.

فإن اللازم علی الدولة أن تکون بحیث یشعر المواطن تحت لوائها بالراحة الجسدیة والفکریة، لا بالقلق والعذاب، ولا یسمح للدولة بأی حال من الأحوال أن یفضل مواطناً علی مواطن، وطبقةً علی طبقة، فی جعل القانون أو تنفیذه، بل اللازم علیها النظر إلیهم بحد سواء، وحتی فی الإنسان المنحرف عقیدة أو عملاً، اللازم علی الدولة مراعاة قاعدة (الضرورات تقدر بقدرها) وقاعدة (الأهم والمهم).

ولذا نجد فی الإسلام حیث أراد تصحیح العقیدة فی باب الأدیان، وإصلاح المجرم فی باب الأعمال، لاحظ هاتین القاعدتین، وقد ألمعنا إلی طرف من

ص:42

ذلک فی کتاب الجهاد: حکم الأقلیات الدینیة، وفی کتاب القضاء والحدود ونحوهما.

الدولة ومراعاة النظام

الدولة ومراعاة النظام

6: وأخیراً مراعاة النظام، فإن القانون العادل وتطبیق القانون علی الدوائر لا یکفی فی سیر النظام علی ما یرام، بل اللازم حسن التدبیر فی الإدارة، وصنع جهاز المراقبة والتنسیق والکفاءة وما أشبه ذلک.

فالأجهزة الثلاثة للدولة _ التشریع والتنفیذ والقضاء _ لابد وأن تسود فیها روح تسیرها علی أحسن وجه، وذلک بأن تمکن تلک الروح من إعطاء الدولة حقها، وإعطاء الفرد حقه.

ولهذا الأمر عینت الدول الحدیثة إدارة التنسیق، ودیوان المحاسبة، وإدارة مراقبة أعمال الدولة والأمة، ومجلس الدولة، وقواعد التأدیب للمخالف، إلی غیر ذلک، کما هیأت الدول الحدیثة لذلک الآلات الحاسبة، والعقول الالکترونیة، وآلات الإنصات، وغیر ذلک.

بل قد جعلت بعض الدول أسلوباً حدیثاً لبناء الدوائر، حیث تبنی الغرف بنصف حائط، وتکون منصة مشرفة علی کل الغرف فیجلس فیها المراقب الکفوء، ویشرف دائماً علی الموظفین لئلا یعطلوا المراجع أکثر من قدر الاحتیاج.

وهذه الأمور فی الدولة الإسلامیة بین الواجب ومستحب، قال (صلی الله علیه وآله): «رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه»((1)).

وقال (صلی الله علیه وآله):

ص:43


1- الوسائل: ج2 ص883 الباب 60 من الدفن ح1.

«لعن الله من ضیع من یعول»((1)).

وقال (صلی الله علیه وآله): «کلکم راع وکلکم مسؤول عن رعیته»((2)). إلی غیر ذلک.

هذا بالإضافة إلی شمول مثل:((أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ))((3))، وقوله (صلی الله علیه وآله): «الإسلام یعلو ولا یعلی علیه»((4))، حیث یجب أن تکون البلاد الإسلامیة فی مقدمة البلاد، وأن لا یکون غیر المسلمین أعلی من المسلمین، وغیر ذلک مما یستفاد منه الدقة والإتقان فی کل شیء، والتی منها شؤون السیاسة بشعبها الثلاثة: التشریعیة والتنفیذیة والقضائیة.

أما تفصیل کیفیة هذا الأمر (مراعاة النظام) فموکول إلی الکتب المعنیة بهذا الشأن.

ص:44


1- ان ظر الکافی: ج4 ص12 ح9 وفیه: « ملعون ملعون من ضیع من یعول » .
2- جامع الأخبار: ص119 ف75، وغوالی اللئالی: ج1 ص129 ف8 ح3.
3- سورة الأنفال: 62.
4- الوسائل: ج17 ص376 الباب 1 من موانع الإرث ح11.

کیف نضمن استقلال القوة التشریعیة؟

اشارة

کیف نضمن استقلال القوة التشریعیة؟

(مسألة 32): القوی الثلاث (التشریعیة والتنفیذیة والقضائیة) تتفاعل وتتدخل بعضها فی بعض، ویقع الکلام حول ذلک فی مباحث:

((تدخل التنفیذیة فی التشریعیة)

((تدخل التنفیذیة فی التشریعیة))

الأول: فی تدخل القوة التنفیذیة فی القوة التشریعیة، وذلک بأمور:

1) إن القوة التنفیذیة کثیراً ما یکون بیدها المال، کما أن بیدها القوة والإعلام، وبذلک یتسنی لها التدخل فی التشریعیة من ناحیتین.

ألف: ناحیة النصب والعزل، ففی انتخاب مجلس الأمة تتدخل القوة التنفیذیة فی السر لنصب الموالین لها، بتزیف إرادة الأمة وانتخابهم لغیر الصالح لهم، الصالح للقوة التنفیذیة. وکذلک تعزل القوة التنفیذیة فروع القوة التشریعیة التی لا تکون فی صالح التنفیذیة، بل أحیاناً توجد مبررات لإسقاط النائب أو تجمیده إذا لم یکن فی صالح التنفیذیة، وفی بعض الأحیان تنصب التنفیذیة نواباً ومشرعین بالشکل الخفی غیر الصریح، وبذلک لا یکون لمجلس الأمة وما أشبهه من أجهزة التشریع فعالیة مطلوبة فی صالح الأمة، بل یکون الأمر فی صالح التنفیذیة.

ب: ناحیة الترغیب والترهیب بالنسبة إلی نواب الأمة حقیقة، فإن القوة

ص:45

التشریعیة لا تملک التنفیذ، وحیث إنها نائبة الأمة، والأمة لها حوائج بید التنفیذیة، تضطر التشریعیة للتنازل أمام التنفیذیة لأجل تمشیة أمور الأمة، هذا بالإضافة إلی الترغیب والترهیب المالی ونحوه.

وهذا النحو من التدخل مما یعتاد فی البلاد المتأخرة، کآسیا وإفریقیا وإمریکا اللاتینیة وغیرها.

والعلاج الأول والأخیر لهذا التدخل الضار بالمصالح العامة والخاصة رشد الأمة، فإذا رشدت الأمة لم تقبل بالتنفیذیة الوراثیة وما أشبه، کما راقبت تحرکات التنفیذیة فلا تدعها تنصب الموالین، أو تتصرف ترغیباً وترهیباً بالنسبة إلی المشرعین.

ومن أهم ما یفسد علی الأمة مصالحها فی البلاد التی تسمی بالدیمقراطیة _ أما البلاد الشیوعیة فهی خارجة عن محل البحث حیث إن التنفیذ والتشریع والقضاء وکل شیء بید فئة خاصة هی الحزب _ هو طغیان رأس المال، حیث إن الرأسمالیین یصرفون المال لتسنیم من فی صالحهم، سواء فی التشریعیة أو التنفیذیة أو القضاء أو الإعلام أو غیرها، وبذلک تکون الأمة مکتوفی الأیدی لا أمام التشریع فحسب بل أمام کل شیء.

ولذا فالواجب لتحریر إرادة الأمة من قص أجنحة رأس المال الطاغی، وإلا فکل الإجراءات لعدم تدخل التنفیذیة فی التشریعیة غیر مجد.

((استقلالیة التشریعیة))

((استقلالیة التشریعیة))

2) یلزم أن تکون کل شؤون القوة التشریعیة بید نفسها، حتی قدر المال المحتاج إلیه، والحمایة المحتاج إلیها فی التشریع، إذ قد تحتاج التشریعیة إلی قدر من المال لموظفیها المساعدین لها فی التشریع، وقد تحتاج إلی الحمایة لحفظ الهدوء المحتاج إلیه عند التشریع.

وقد تتدخل التنفیذیة فی مجلس التشریع لأجل التشریع أو لأجل عدم التشریع فی نفع التنفیذیة، ولذلک صور:

ص:46

ألف: أن تحیط المجلس بالمتظاهرین، لأجل تشریع حکم أو عدم تشریع حکم، فیکون ضغط المتظاهرین موجباً لتشریع الحکم أو عدم تشریعه، ومثل الإحاطة بالمتظاهرین صنع المتظاهرین داخل المجلس.

ب: حیث إن القوة التشریعیة بحاجة إلی المؤسسات واللجان، مثل الهیئة الرئیسیة واللجان الاقتصادیة والخارجیة وما أشبه، فاللازم أن لا تکون تلک المؤسسات واللجان منصوبة من طرف القوة التنفیذیة، إذ لو کانت منصوبة من قبلها کانت تحت نفوذها، مما یفسد علی التشریعیة استقلالها.

ج: یلزم أن یکون اختیار عقد المجلس التشریعی بید نفس النواب لا بید التنفیذیة، إذ لو کان اختیار عقد المجلس بید التنفیذیة، تحول دون عقده فیما إذا علمت أنهم یریدون عقده لأجل تشریع قانون لا ترغب فیه التنفیذیة، أو لأجل إلغاء قانون ترغب فیه التنفیذیة، وکذلک تحول دون عقده فیما إذا علمت أن التشریعیة ترید إسقاط الدولة.

د: أن یکون اختیار جدول أعمال التشریعیة بید نفسها، إذ لو کان اختیار الجدول بید التنفیذیة، أدرجت فی الجدول ما ترید، لا ما تریده الأمة أو یریده نواب الأمة.

إلی غیرها من الاختیارات، فاللازم أن تکون التشریعیة حرة طلیقة فی کل شؤون نفسها بدون أدنی قدر من التدخل للتنفیذیة فی شؤونها.

((کیفیة تقدیم اللوائح))

((کیفیة تقدیم اللوائح))

3) یلزم أن یکون جواز تقدیم اللوائح لأجل التصدیق علیها بید کلتا القوتین التنفیذیة والتشریعیة، لا بید التنفیذیة فحسب.

أما أن یکون بید کلتیهما فلأن کلتیهما تحتکان بالواقع المعاش، وینقدح فی أنفسهما الاحتیاج إلی سن القانون، فلا معنی لاحتکار أحدهما حق تقدیم اللوائح، کما لا وجه لأن لا یکون

ص:47

للتنفیذیة أن تقدم اللوائح بنفسها، بأن یقال إن التنفیذیة لا حق لها فی تقدیم اللوائح، بل إذا رأت من الصالح تشریع قانون کان لها أن تتوسل إلی التقدیم بالتشریعیة، بأن تلمس من التشریعیة أن تقدم اللائحة، أو أن تتوسل بالأمة لتضغط الأمة علی نوابها لتقدیم اللائحة.

وإنما قلنا (لا وجه) إذ یقال: ما هو المبرر لسلوک التنفیذیة الطریق الملتوی إلی تقدیم اللائحة دون الطریق المستقیم، بتقدیم نفسها اللائحة إلی المجلس.

لکن کما لا ینبغی أن تطرد التنفیذیة من تقدیم اللائحة، کذلک لا یحق أن یکون حق التقدیم خاصاً بالتنفیذیة، إذ لو کان خاصاً بالتنفیذیة، أوجب ذلک:

ألف: خروج الزمام من ید التشریعیة، ویقع المجلس تحت التنفیذیة، حیث إنها تقدم ما فی نفعها ولو فی ضرر الأمة، ولا تقدم ما فی ضررها ولو فی نفع الأمة.

صحیح أن التشریعیة مختارة فی تصدیق أو عدم تصدیق ما قدم من قبل التنفیذیة، لکنها لیست مختارة حینئذ فی تقدیم ما تراه صالحاً فی حق الأمة، وبذلک تکون التنفیذیة سیدة المجلس وبیدها الزمام.

ب: یجب أن لا یکون للتنفیذیة الحق المطلق فی التدخل فی مذاکرات التشریعیة فی المجلس، إذ لو لم یحدد هذا الحق لتمکنت التنفیذیة من التدخل فی المذاکرات، وتحریف سیاسة التشریعیة إلی نفع التنفیذیة، والتقلیل من أهمیة المجلس أمام الرأی العام، فاللازم أن یکون حق تدخل التنفیذیة فی مذاکرات المجلس محدوداً، لتستریح التشریعیة فی ملاحظة الأمور بکل تجرد لأن تضع لها القانون أو أن لا تضع.

ج: یلزم أن یکون حق نشر القانون المصدّق من قبل المجلس فی الوقت المطلوب باختیار التشریعیة، لا باختیار التنفیذیة، إذ لو کان بید التنفیذیة

ص:48

استغل هذا الحق فی أن تنشر القانون فی الوقت الذی یصلح لها لا للأمة، إذ القانون إذا لم ینشر لم یکن صالحاً للتنفیذ، فکون الاختیار فی وقت النشر بید التنفیذیة نوع آخر من أنواع تدخل التنفیذیة، مما یخرج الزمام عن ید نواب الأمة.

د: یحق للتشریعیة أن تعطی الصلاحیة للتنفیذیة فی تقدیم اللوائح، کما یحق لها أن تمنع التنفیذیة من التقدیم ولکن لمدة محدودة، أما أن تعطی الصلاحیة للتنفیذیة بأن تکون المقدم الوحید للّوائح، فذلک تسلیط للتنفیذیة علی مقدرات الأمة، اللهم إلاّ أن یکون إعطاء التشریعیة للتنفیذیة هذا الحق لمدة محدودة جداً، وذلک محل نظر أیضاً، إذ بأیة صلاحیة تسقط التشریعیة حق نفسها فی التقدیم، وتعطی الحریة لمن یسلبها الحریة.

نعم فی بعض الحالات الاضطراریة التی لا تتحمل البطء، مثل حالات الحرب المفاجئة، یعطی المجلس الصلاحیة للتنفیذیة لمصلحة ثانویة، وهذا أمر اضطراری، وفی القاعدة الإسلامیة المعروفة: (الضرورات تقدر بقدرها).

تساؤلات فی حل الدولة لمجلس الأمة

تساؤلات فی حل الدولة لمجلس الأمة

4) من وسائل نفوذ التنفیذیة فی التشریعیة حق الأولی فی حل المجلس، وهنا أسئلة وهی:

هل التنفیذیة لها حق حل التشریعیة، وما المبرر لهذا الحق مع أن التنفیذیة لیست إلاّ مثل الخادم بینما التشریعیة وکیل، والوکیل فوق الخادم، ولو کان هناک مجلسان للأمة والأعیان أو غیر الأعیان، فهل للتنفیذیة حق حل

ص:49

کلیهما، ولماذا تحل التنفیذیة المجلس، وما هی منافع وأضرار حل التنفیذیة للمجلس.

الف: أما هل للتنفیذیة حق الحل.

فالجواب: إنه تابع للقانون المجعول المصدق من قبل الأمة بواسطة نوابهم، فإن سمح القانون جاز، وإلاّ لم یجز، ومثل ذلک مثل أن یعطی صاحب الدار الصلاحیة لخادمه بعزل وکیله، والدلیل الشرعی «الناس مسلطون» شامل للمقام، إذ التشریعیة وکلاء الأمة، والتنفیذیة خدامها.

ب: والمبرر لهذا الحق.

إنه قدیکون تضاد حاد بین القوتین التنفیذیة والتشریعیة، ولا یمکن حل التضاد، فإذا حلت التنفیذیة التشریعیة، کان معنی ذلک إرجاع الأمر إلی الأمة، هل ینتخبون نفس هؤلاء النواب، لتنتخب التنفیذیة أو ینتخبون غیرهم، فیکون لهؤلاء النواب الجدد أن یقبلوا بالتنفیذیة، أو یبدلوها.

وفی صورة التضاد الحاد، یمکن حلول أخری مثل الإرجاع إلی الأمة فی استفتاء عام، هل یریدون التنفیذیة أو التشریعیة، وعند إرادة الأمة إحداهما، یجب انسحاب الأخری، لأن الکلمة للأمة، وقد عرفت فی مسألة (الشوری) أن للامة أن تنتخب أحد الأفراد الجامعین للشرائط، کما دل علیه النص والفتوی.

ج: ولو کان للأمة مجلسان، فالغالب أن یکون تضاد بین المجلسین، لأن الأعیان کثیراً ما یرد تشریعات مجلس الأمة، بحکم أکثریة خبراته، فیکون بینهما تضاد، تستغل التنفیذیة ذلک التضاد، لتقترب من أحدهما، فلایکون العمل إلاّ لأحد المجلسین، وحینذاک یستقل المجلس الآخر بالتشریع إلی حین انفتاح المجلس الثانی، وقد تحل التنفیذیة کلا المجلسین، فیما لو خولتها الأمة ذلک، لکن

ص:50

اللازم أن لا یحق للتنفیذیة ذلک إلاّ لمصلحة تفوق خطر الدیکتاتوریة التی تمارسها التنفیذیة بعد حل المجلسین.

د: والتنفیذیة تحل المجلس، إما لأجل التضاد بین التشریعیة وبین التنفیذیة، وأما لأجل إرادة العجلة فی الأمور مما ینافیها تداول المجلس للقضایا، کما فی حالات الحرب ونحوها، وإما لأجل أن التنفیذیة تری الجو الملائم لدخول أنصارها فی المجلس فتحل المجلس فی أیام الانتخابات لیفوز الحزب الموالی لها، وهذه الحالة توجد فی بعض البلاد الغربیة، أو لغیر ذلک من أسباب حل المجلس.

ه: أما ضرر حل المجلس، فهو شدة قبضة التنفیذیة علی البلاد، إذ هی لا تخاف إلاّ من أمور أهمها فضح المجلس لها، فإذا انغلق المجلس تصرفت التنفیذیة کما تشاء، إذ لا سوط من الانتقاد علیها.

بل أن یکون للتنفیذیة حق الحل وتهدد بذلک، یکفی فی نکوص التشریعیة عن المجاهرة بمصالح الأمة وانتقادها للتنفیذیة، إذ النائب إنما وصل إلی المجلس بشق الأنفس، ولا یأمن الوصول ثانیاً بعد الانحلال، فإذا هددته التنفیذیة بالحل سکت عن النقد ولم یفعل ما یغضب التنفیذیة.

وأما نفع حل المجلس، فهو إعطاء الفرصة للأمة بانتخاب من تریدها، وللحد من النزاع بین القوتین، ولأن التشریعیة تلتجئ أحیاناً لتغریر السذج، برفع اللوم عن نفسها وإلقائها علی التنفیذیة، وبالتشدید علی انتقاد التنفیذیة بینما هی المقصرة أو الشریکة فی التقصیر، فتصلت التنفیذیة سیف تهدید الحل علی رقبتها، وبذلک تقطع علیها طریق التغریر وتبرئة ساحة نفسها لتقوی جاهها عند الأمة.

ولا یخفی أن التنفیذیة إنما تتمکن من حل المجلس لمرة واحدة مثلاً، إذ

ص:51

لا یعطیها القانون حق الحل مکرراً، فإن إعطاءها هذا الحق یوجب تسلیطها علی التشریعیة تسلیطاً کاملاً، وبذلک لا تتمکن التشریعیة من تشریع القوانین الصالحة للأمة إذا کانت مما لا ترضی بها التنفیذیة.

ولا یخفی أن قانون حق حل التشریعیة((1)) للتنفیذیة، فی الدولة الإسلامیة یجب أن یکون فی إطار المصلحة العامة، وولایة الفقیه، ورضی أکثریة الأمة، إذ لا یجوز الإضرار بالعامة، وإن رضیت الأکثریة، وإن کان التفکیک بین الأمرین صرف فرض، والفقیه ولی من قبلهم (علیهم السلام)، فالتصرف یجب أن یکون برضاه، فإن أی تصرف فی شؤون المسلمین والبلاد یجب أن یکون حسب دستوره، ومن الواضح أن الإطار الذی یعمل فیه الفقیه فی صورة ولایته هو:

1) النصوص الشرعیة، مثل کون الحق المالی خمساً أو زکاةً.

2) والقواعد العامة التی بیده انطباقها، مثل سجن المتهم بالحبس أو أخذ الکفیل عنه أو أخذ مال عنه أو وثیقة وما أشبه، مما یدخل فی ضمن دائرة دفع الفساد،((وَاللَّهُ لا یُحِبُّ الْفَسادَ))((2))، أو دفع المنکر، أو ما أشبه ذلک.

3) وقاعدة الأهم والمهم، بعد القطع بأن المورد من صغریات هذه القاعدة، کما ذکروا فی مسألة قتل المسلم الذی تترس به الکفار، إلی غیر ذلک.

وقد ذکرنا بعض ذلک فی الفقه (القضاء، والشهادات، والحکم فی الإسلام) کما سیأتی تفصیل الکلام فیه إن شاء الله تعالی فی بعض المسائل الآتیة.

وکیف کان، فاللازم تشریع قانون حل التنفیذیة للتشریعیة((3)) بکمال الاحتیاط، ومراعاة عدم مصادرة الحریات، فإن التنفیذیة من شأنها الطغیان، فإنها قوة وغنی،

ص:52


1- هذا من إضافة المصدر إلی مفعوله، و(للتنفیذیة) متعلق ب_ (حق) لا (حل).
2- سورة البقرة: 205.
3- هذا من إضافة المصدر إلی فاعله، و(للتشریعیة) متعلق ب_ (حل).

و{الإنسان لیطغی * أن رآه استغنی}((1))، وقد قال الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام: «من ملک استأثر»((2))، فاللازم أن لا یجعل للتنفیذیة القدرة الطاغیة، یقول الشاعر:

والظلم من شیم النفوس فإن تجد

ذا عفّة فلعلة لا یظلم

وللإمام (علیه السلام) کلمة أجمل من هذا الشعر مذکورة فی نهج البلاغة.

ولا یخفی أن قوة الرشد فی الأمة، وکثرة المؤسسات السیاسیة والثقافیة، تحدّ من نشاط التنفیذیة حتی مع حلها للتشریعیة، بینما لوکان العکس کانت ضراوة التنفیذیة أکثر.

ص:53


1- سورة العلق: 6 _ 7.
2- نهج البلاغة: الحکمة 168.

حدود تدخل التشریعیة فی القوة التنفیذیة

اشارة

حدود تدخل التشریعیة فی القوة التنفیذیة

(مسألة 33): ذکرنا فی المسألة السابقة تدخل القوة التنفیذیة فی القوة التشریعیة، وکیفیات التدخل، وأضرارها ومنافعها.

وفی هذه المسألة نذکر المبحث الثانی، وهو عکس ذلک، أی تدخل التشریعیة فی التنفیذیة، وذلک یکون بصور:

ألف): إن نصب أعضاء التنفیذیة غالباً یکون بواسطة التشریعیة، وإنما ذکرنا غالباً، لأن هناک منهجین:

الأول: کون نصب رئیس الجمهوریة بید الأمة مباشرة، وحینذاک لا یتدخل المجلس فی نصبه.

الثانی: کون نصبه بید مجلس الأمة.

ولکل واحد من هذین المنهجین محاسن ومساوئ، وإن کانت المحاسن أکثر فی الأول، حیث إن إشراف الأمة علی نوابها، ومنفذی إرادتها یکون أکثر، ولا یهمنا الآن بحث ذلک، وإنما محل البحث أن نصب التشریعیة للتنفیذیة کلاً أو بعضاً له صورتان:

الأولی: أن یحصر القانون أفراد التنفیذیة الذین یحق للتشریعیة نصبهم فی نطاق مجلس الأمة، وبذلک یکون مجال النصب للتشریعیة ضیقاً، بالإضافة إلی أنه حیث ینصبهم الأکثریة، وحیث کانوا هم قبلاً نواب الأمة، تکون سلطة

ص:54

المجلس علی التنفیذیة قلیلة، لأنهم حینئذ أکفاء، وکلاهمان یتمتعان بانتخاب الأمة لهم، ولأن الأقلیة فی المجلس الذین لم یصوتوا لانتخاب أفراد التنفیذیة یکونون خارج حلبة المنفوذ حیث لم یصوتوا.

الثانیة: أن لا یحصر القانون أفراد التنفیذیة فی نطاق المنتخبین فی مجلس الأمة، وحینئذ ترتفع المحذورات الثلاثة المرکوزة فی الأولی.

وهاتان الصورتان وإن کانت حسب اختیار نواب الأمة، إلاّ أن الصورة الثانیة لعلها أقرب إلی الإتقان، وأبعد عن إیجاد التضاد بین القوتین، ومن المعلوم أن کلما کان انسجام بینهما کانت الأعمال تسیر فی صالح الأمة بسرعة أکثر، فیشمل ذلک وجوباً أو استحباباً مثل «رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه»((1))، وغیره.

ب) للتشریعیة الإشراف علی التنفیذیة، بأن تلزمها بآرائها، وذلک لأنه قد تقدم أن المجلس نواب الأمة، والتنفیذیة خدام الأمة، والوکیل أعلی سلطة من الخادم، ولو لم تستجب التنفیذیة للتشریعیة فی طلباتها، تمکنت التشریعیة من استیضاح التنفیذیة فی المجلس، وذلک یحرج وضع التنفیذیة مما یحوج التنفیذیة إلی أخذ الاعتماد من المجلس، وربما لا یوافق أکثریة المجلس إعطاء الاعتماد علی التنفیذیة بعد الاستیضاح وإجابة التنفیذیة، وحینذاک تسقط التنفیذیة وتضطر إلی الاستقالة، وإذا کانت التشریعیة قویة خافت التنفیذیة من العمل المخالف.

ج) وقد تتدخل التشریعیة فی شؤون التنفیذیة، بجعل لجنة دائمة فی المجلس لتلقی الشکایات الموجهة إلی التنفیذیة، وإعلام التشریعیة بها، وحینذاک تخاف التنفیذیة من أی عمل مخالف، لأن ذلک سیف سلط علی رقبة التنفیذیة، بسببه

ص:55


1- الوسائل: ج3 ص883 الباب 60 من الدفن ح1.

لا تتمکن من الانحراف، ومثل هذه اللجنة لازمة وإن کانت متداولة فی بعض الحکومات فقط.

د) ومن أقسام تدخل التشریعیة فی شؤون التنفیذیة: جعل القانون الذی یحول التشریعیة بمحاکمة المنحرف من أسرة التنفیذیة، وفرض العقوبات السیاسیة أو الجزائیة علیه، فإذا فعلت التنفیذیة خلافاً حاکمتها التشریعیة، فإذا ثبتت الإدانة فرضت العقوبة المناسبة علیها.

وقد أراد مجلس الشیوخ محاکمة (نکسون) فی فضیحة (وترغیت) لکن عدم رؤیة الجهات العلیا الصلاح فی محاکمته لأسباب دولیة، أوجبت نصحها له سراً بالاستقالة، فاستقال وبذلک نجی نفسه عن المثول أمام المحکمة.

ولا یخفی أن القضاء فی الإسلام، یصلح للنظر فی الشکایات المرفوعة حتی ضد رئیس الدولة، کما راجع الرسول (صلی الله علیه وآله) وعلی (علیه السلام) القضاء فی قصة الناقة وقصة درع طلحة وغیرهما، علی ما ذکرنا تفصیله فی کتاب القضاء.

نعم لا یمنع الإسلام عن تخصیص لجنة خاصة فی مجلس الأمة أو غیره للنظر فی قضایا التنفیذیة، بشرط أن تکون اللجنة صالحة للنظر، حیث تتوفر فیها شروط القضاء المقررة فی الشریعة الإسلامیة.

((مسؤولیات التنفیذیة قبال التشریعیة))

((مسؤولیات التنفیذیة قبال التشریعیة))

ثم إن مسؤولیة التنفیذیة أمام التشریعیة قد تکون سیاسیة، والمراد بها أن تکون التنفیذیة قصرت فی تقدیم البلاد إلی الأمام، وإذا ثبت ذلک لزم علی التنفیذیة التنحی لیملأ الفراغ الأکثر کفاءة منها، فإن هذا الأمر وإن لم تکن قضیة قضائیة مقرراً لها عقوبة فی القانون، إلاّ أنه تقصیر، وأقل جزاء المقصرر أن ینحی.

ولا یبعد أن یعد فی الإسلام قضیة قضائیة، حیث ورد: «لعن الله من ضیع

ص:56

من یعول»((1)) وهذا نوع من التضییع.

وقال تعالی:((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ))((2))، وتخلفها عن ذلک منکر، وفاعل المنکر یحد أو یعزر، إلی غیر ذلک.

لکن ذلک إذا عد عدم تقدیم البلاد تضییعاً ومخالفة لأمر الإعداد.

ثم إنا حیث ذکرنا فی بعض المسائل السابقة تدخل القوة القضائیة فی القوتین، وتدخلهما فی القضائیة لا داعی هنا إلی تکرار ذلک.

ثم إن مسألة تدخل القوتین فی القضائیة وبالعکس، غیر مسألة تدخل سائر القوی الاجتماعیة کالسیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة وغیرها فی القضائیة، إذ فیما إذا کان أحد طرفی النزاع یتمتع بمال أو جاه أو قوة، شفع لنفسه قوته فی إنجاح القضیة فی جعل القضاء إلی جانبه، والقاضی دائماً بین محذورین، فإن کان اجتماعیاً عملت الضغوط الاجتماعیة لتحریفه، وإن لم یکن اجتماعیاً لم یتمکن من فهم الموازین الاجتماعیة التی لها مدخلیة فی القضاء، إذ القضاء یعتمد علی رکنین: رکن القانون، ورکن الاطلاع علی الاجتماع، لیعرف کیف یتمکن أن یطبق القانون.

وکیف کان، فهذا بحث خارج عن مرمی نظر هذا الکتاب، ونترکه لمظانه.

ص:57


1- انظر الوسائل: ج14 ص122 الباب 88 من مقدمات النکاح ح6.
2- سورة الأنفال: 60.

بحوث فی الدیمقراطیة

اشارة

بحوث فی الدیمقراطیة

(مسألة 34): قد عرفت أن الدیمقراطیة أسست علی التشریعیة، والتنفیذیة، والقضائیة، فلابد من البحث عن الأمور التی تکتنف الدیمقراطیة، من الشرائط والأضرار والمنافع وسائر الخصوصیات، فنقول:

الدیمقراطیة أفضل أنواع الحکم

الدیمقراطیة أفضل أنواع الحکم

الأمر الأول: إن الدیمقراطیة (الاستشاریة) _ ونسمیها استشاریة أخذاً من: {أمرهم شوری}((1))، و{شاورهم}((2))، لأن فی الاستشاریة لا تشریع بمعنی جعل القانون، وإنما فیها تأطیر القانون الوارد فی الأدلة الأربعة، بینما فی الدیمقراطیة تشریع للقانون _.

نقول: إن الدیمقراطیة (الاستشاریة) أفضل أسالیب الحکم، لأنها تهیؤ الجو الکامل للحریة، وفی الحریة تظهر الکرامة الإنسانیة من جانب، والکفاءة الإنسانیة من جانب آخر، فتنموا لملکات وتبرز العبقریات، ویعمل النقد البریء

ص:58


1- سورة الشوری: 38.
2- سورة آل عمران: 159.

علی إظهار عیوب الاستنباطات، ومؤاخذة التطبیقات للقوانین.

وبذلک یظهر فی الحیاة الأصلح فالأصلح، وهو یوجب إعطاء الإنسان حاجاته ویقدم الإنسان إلی الأمام، لأن التنافس البریء سوط لتقدیم الإنسان، کما أن المراقبة الدائمة من الرقباء توجب سد الإنسان خلله وستر عیوبه.

وخوفاً من ألسنة النواب فی أروقة المجلس تقف السلطة التنفیذیة موقف الحذر، کما أن النواب لابد لهم من العمل الجاد المثمر، لأنهم جاؤوا إلی المجلس من أجل ذلک، وإذا حادوا سقطت حرمتهم عند الجماهیر، وفضحتهم الصحافة المسؤولة حیث الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وانقطع أملهم فی انتخاب الأمة لهم فی المستقبل.

و(الاستشاریة) لیست بالألفاظ، ولا بتسطیر دستور یتضمن نصه الحریات والعدالة وما أشبه ذلک، بل علامة الاستشاریة الصادقة انتخاب الأمة لنوابها بکل حریة، وجعل النواب أو الأمة مباشرة للسلطة التنفیذیة، وتمکن النواب من إبداء الرأی وتأطیر القوانین، وأن یعطی کل فرد وجماعة حریته فی نطاق الدستور الإسلامی، وحینذاک یکون المیزان فی التقدم الکفاءة، ولکل أن یعمل حسبما یرید فی إطار الدستور، ویکون لکل إنسان کرامته.

وبذلک یتوفر لکل إنسان العیش الکریم، وتکون الدولة ساهرة علی مصلحة الأمة، وفی مثل هذا الجو تتقدم الأمة إلی الأمام، ویکون السائد رأیها فی کل شیء.

فالاستشاریة حقیقة فی باطن الحکم، حالها حال الروح السائدة فی الجسد، لا فی الألفاظ والأعلام والدستور فحسب، ویعرف وجودها وعدمها من آثارها، فإن ظهرت تلک الآثار، فالاستشاریة موجودة وإلاّ فهی مفقودة.

ص:59

((العالم الثالث ودول الاستبداد))

((العالم الثالث ودول الاستبداد))

وإذا کان المیزان هذا، وهو ما یقوله العقل ویؤیده الإسلام، فالعالم الثالث خال عنه، لا فی بلاده المسلط علیها الدیکتاتوریون بالانقلابات العسکریة والحکومات الوارثیة _ فإن بین الاستشاریة وبینهما تضاداً لا یمکن جمعهما، فهل الذی جاء إلی الحکم بالوراثة أو بالانقلاب العسکری جاء بالاستشارة _ فحسب، بل حتی فی بلاد العالم الثالث التی لها صورة دیمقراطیة.

وأظهر دلیل علی عدم وجود الاستشاریة _ الدیمقراطیة فیها، عدم حریة الأحزاب، وعدم حریة الصحف، وعدم وجود العدالة الاجتماعیة، وعدم حریة بناء المدارس والمستشفیات، وکون الحکم للأقرباء والأنسباء، لا للناضجین والأکفاء، إلی غیرها من آثار الاستبداد والفردیة، وإن تغلفت بصورة الدیمقراطیة والاستشاریة.

لکی لا تکون الدیمقراطیة عقیمة

لکی لا تکون الدیمقراطیة عقیمة

الأمر الثانی: قد تقدم أن الحکم الاستشاری الدیمقراطی، هو أفضل أقسام الحکم، لکن یجب أن یقال:

أولاً: إنه قد لا یکون الحکم دیمقراطیاً بمعنی الکلمة، وإن تظاهر بمظهر الدیمقراطیة، وحینذاک یکون منبع السیئات، فالذنب علی التطبیق لا علی المبدأ.

وبعبارة أخری: لا إشکال فی الکبری الکلیة، وإنما الإشکال فی الصغری، فهو کما إذا قال: هذا إنسان، وکل إنسان ناطق، مع أن الصغری خطأ، حیث إن المتکلم أشار إلی صورة الإنسان المجسمة، لا إلی الإنسان الخارجی، وأزمة الحکم الغربی هی هذه، مع الغض عن أن کل حکم اتکأ فی تشریعاته علی الإنسان

ص:60

لا علی خالق الإنسان لابد وأن یکون خطأً، فإن رأس المال قد أخذ بأزمة البلاد الأروبیة والأمریکیة، فالحکم رأسمالی فی صورة الدیمقراطیة لا أنه دیمقراطی.

ومن الواضح أن رأس المال یعمل لنفسه لا للبشر، سواء بشر الداخل أو بشر الخارج، ولذا کان البؤس الفظیع فی الداخل والاستعمار البغیض فی الخارج.

ومنه یعلم أن هتلر وموسیلین وأشباههما لم ینبتوا فی منبت الدیمقراطیة، بل فی منبت الاستبداد، کما أن الشیوعیة نبتت فی نفس المنبت، ومن نفس المنطق المکذوب انطلقت الحربان العالمیتان، ویهیؤ الآن للحرب الثالثة.

((معایب الحکم الدیمقراطی))

((معایب الحکم الدیمقراطی))

ثانیاً: إن الحکم الاستشاری الدیمقراطی له معایب:

1) مثل أن الخطأ یضیع غالباً بین الفئات والأحزاب والتشریعیة والتنفیذیة، حیث إن کلاً مهم یلقی الخطأ علی الآخر، ویتنصل عن المسؤولیة، فإذا عقدت صفقة أسلحة وظهر خطأ ذلک، قال کل: إن الآخر هو السبب فی هذا العقد، ولا یشخص المجرم حتی ینال عقابه، وهذا وإن أمکن تدارکه بإظهار المجرم الحقیقی بسبب القضاء العالی، کما تقدم فی مسألة القوة القضائیة إلاّ أن الغالب إضاعة الخطأ فی متاهات السیاسة.

2) ومثل أن الرقابة والتنافس بین الأحزاب والکتل البرلمانیة وما أشبه توجب عدم تقدم الأمة، حیث إن کل فئة تتربص بالأخری أن لا تتقدم، وأن تظهر عیوبها، وخوفاً من الوقوع فی المشکلة تتجمد الفئات، بل أحیاناً تنتکص فترفع الید عن مشروع حیوی ابتدأته خوفاً من توجیة النقد، أو تحرزاً عن تفاقم الأمر ضد الفئة البادیة بالمشروع، فإن عنصر الخوف یسیطر علی الساسة وعلی المحکومین فی وقت واحد، حیث یتخذ کل منهم حذره من الآخر، وذلک سبب آخر من أسباب التجمد وعدم التقدم.

ص:61

3) والشعب فی الحکم الدیمقراطی کثیراً ما یستهین بالقانون وبالقائمین بالحکم، وذلک لأن القانون خصوصاً الجزائی منه یمشی فی الحکومة الدیمقراطیة مشی السلحفاة، حیث إن تشابک الحکام بالشعب یقف دون إجراء القانون، فإن الوساطات والصداقات والرشوات تجد فی الحکم الدیمقراطی سوقاً رائجة.

4) کما أن الدائرات ضد الحکم من المتنفذین کالأحزاب والکتل تقوم علی أنشط ما یکون، وبذلک أحیاناً تتساقط الحکومات إحداها تلو الأخری بدون أی مبرر إلاّ المؤامرات الحزبیة، وبذلک تضعف الحکومة، کما أن رأس المال والصحافة وما أشبه تقوم بدور کبیر فی هذا الأمر، وإذا ضعفت الحکومة لم تتمکن من القیام بالخطوات الإصلاحیة فی الداخل ولا کبح جماح الأعداء فی الخارج.

5) وحیث تتوفر الحریات الکثیرة فی الحکومة الدیمقراطیة، ویجد المخرب والمتأمر مآربه فی ظل القانون المهلهل، تنحرف الدیمقراطیة عن مسیرها الشعبی إلی المسیر التآمری، فلا تعطی ثمارها المتوخاة، ولذا کان المحکی عن (أرسطو) أنه قال: (إذا کان یسهل إنشاء حکومة دیمقراطیة فإنه یصعب السهر علی تقویمها والاحتفاظ بکیانها).

لکن لا یخفی أنه الإسلام یخفف من هذه المشاکل التی تتعرض سبیل الاستشاریة، بأمور:

الأول: إن الفقیه العادل یکون المشرف الأعلی علی الدولة حسب ولایة الفقیه، کما سیأتی فی بعض المسائل الآتیة، وبذلک یکون هو المرجع الأول والأخیر، والمقوم لانحراف الدولة وما إلیها، وقد کان غاندی الزعیم الهندی

ص:62

بعد تسلم حزبه الحکم، یقول: لابد من بقاء زمرة صالحة من المکافحین خارج الحکم، لیکونوا قائمین علی سلامة الحکم، وبقی هو خارجاً أیضاً.

الثانی: إن الإیمان الذی یتمتع به الحکام فی الدولة الإسلامیة أفضل مقوم للإنسان.

الثالث: مع الغض عن أن نفس القانون الإسلامی قانون إلهی لا یمکن التلاعب به، وفی ظله لا یمکن الانحراف، والمنحرف حیث یعرف کره المجتمع له یحذر من الانحراف، وهذا عبارة أخری عن تنفیذ الأمة قانون الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وإرشاد الجاهل وتنبیة الغافل، و«الدین النصیحة»((1))، وغیر ذلک من المعاییر الإسلامیة التی تقف دون الانحراف.

الصراع بین القوة والحقیقة

الصراع بین القوة والحقیقة

الأمر الثالث: هناک تنازع دائم بین القوة وبین الحقیقة، فالقوة ترید تزییف الحقیقة، واستخدامها فی سبیل مآربها، کما یفعله الدیکتاتوریون غالباً، بینما الحقیقة ترید استخدام القوة وترویضها لصالح القوة والإنسانیة، کما یفعله الأکفاء الاستشاریون، والغلب أخیراً للثانی، وإن کان الأول قد یجول فی الساحة.

ولذا ورد «للحق دولة»((2))، و«للباطل جولة»((3))، وقبل ذلک قال القرآن الحکیم: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَیَذْهَبُ جُفاءً وأَمَّا ما یَنْفَعُ النَّاسَ فَیَمْکُثُ فِی الْأَرْضِ﴾((4)).

وقال سبحانه فی آیة أخری: ﴿لا یَغُرَّنَّکَ تَقَلُّبُ الَّذینَ کَفَرُوا فِی الْبِلادِ مَتاعٌ

ص:63


1- مستدرک الوسائل: ج13 ص327 ب6 ح15494.
2- غرر الحکم: ص68 ح924.
3- غرر الحکم: ص71 ح1024.
4- سورة الرعد: 17.

قَلیلٌ))((1)).

إلی غیرها من الآیات والروایات المشیرة إلی حقیقة واحدة هی: إن الباطل سواء کان فی العقیدة أو فی العمل، خلاف نظام الکون المبنی علی الحق والعدل، فالسائر فی طریق الباطل یصطدم أخیراً بالقوانین الکونیة، مما یسقطه من الاعتبار، کالذی یسیر فی الطریق المسدود حیث یصطدم أخیراً بالحائط.

بینما الحق والعدل یسیران فی الطریق المفتوح، ولذا یسیران دائماً، وقصص التاریخ ملیئة بالعبر والعظات من هذه الجهة، والاستشاریة تحاول دائماً إخضاع القوة واستخدامها فی سبیل إقامة العدل، بینما الاستبدادیة ترید العکس، ولکن العاقبة للمتقین، وکما قال الشاعر:

للمتقین من الدنیا عواقبها

وإن تعجّل فیها الظالم الآثم

1) والعاقبة قد تکون لشخصه بانتصار صاحب الحق.

2) وقد تکون لسمعة صاحب الحق، کما قال (علیه الصلاة والسلام): {واجعل لی لسان صدق فی الآخرین}((2)).

3) وقد تکون للمبدأ الذی عمل لأجله صاحب الحق.

وکل ذلک انتصار، بل الثالث أهم الأقسام، ولذا قال سبحانه: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والَّذینَ آمَنُوا فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا))((3))، إذ صاحب الحق إنما یعمل دائماً لأجل الهدف، لا لأجل الشخص والسمعة، وإن أراد السمعة أرادها لذلک أیضاً.

ومع الغض عن الأمثلة المشهورة المستقاة من الکتاب والسنة وتاریخ الأنبیاء والأئمة والصالحین (علیهم السلام)، مما هی متداولة عند کل الناس، نذکر مثالاً واحداً لبقاء الاستشاریة وزوال الاستبدادیة مما حفظه التاریخ، وبقیت آثاره إلی الآن وهو (حکومتا: أثینا وإسبارطة).

((بین أثینا وإسبارطة))

((بین أثینا وإسبارطة))

فالأولی کانت دیمقراطیة تعمل _ نسبیاً _ علی

ص:64


1- سورة آل عمران: 196 _ 197.
2- سورة الرعد: 17.
3- سورة الشعراء: 84.

تقویة روح الحریة وإبراز المواهب الإنسانیة الفکریة والعملیة، ووضع العدل فی نصابه، واستخدام القوة لحفظ الإنسان وتقدیمه إلی الأمام، وقد أثمرت تلک الجهود فی ولادة دولة دیمقراطیة نعمت بالحریة والرفاه، وتقدم فیها العلم والمعرفة، وتفتقت فیها المواهب الإنسانیة، وصارت نبراساً للإنسان، منذ ذلک الوقت إلی هذا الیوم.

وأصبحت مدینة أثینا الصغیرة تربة خصبة للعلماء والعلوم، والجهابذة والحکماء، والفلاسفة والمفکرین، صحیح أن فی بعضهم کان الانحراف، لکن الأشواک تسقی لأجل الأوراد، وأبو سفیان یتنعم بالإسلام لأجل أبی ذر، وقد قال بعض العلماء: إنه لا یستبعد أن تکون تلک الحضارة مستندة إلی بعض الأنبیاء الذین بعثوا هناک، وقد قال سبحانه:((وَإنْ مِنْ أُمَّةٍ إلاّ خَلا فیها نَذیرٌ))((1))، بل قد شخص بعض علماء الغرب نبی ذلک الزمان، بأحد الحکماء المعروفین.

وکیف کان، فقد تربی تحت ظل الحریات، سقراط وأفلاطون وأرسطو، آباء الحکمة والفلسفة، وفیدیاس الفرید فی عالم الفن، وآرخمیدس صاحب نظریة العوم فی الماء، وبرکلیس السیاسی المشهور، ودیموستین أشهر رجال الخطابة، وموستوکلیس الذی عد من أکبر قادة الجیوش فی ذلک الیوم، وأشیل وسوفوکل صاحبا القصص التراجیدیة، وأرسطفان المبدع فی تمثلیاته الهزلیة، إلی غیرهم، وقد قال الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام): «فسر فی دیارهم وانظر إلی آثارهم»((2)).

وهکذا کلما لاحت الحریات وظهرت الاستشاریات تفتقت العبقریات، وفی

ص:65


1- سورة فاطر: 24.
2- نهج البلاغة: الکتاب 31.

نهج البلاغة فی فلسفة بعثة الأنبیاء (علیهم السلام) نجد هذه الجملة الحکمیة: «لیثیروا لهم دفائن العقول ویروهم آیات المقدرة»((1))، وقبل ذلک قال القرآن الحکیم:((یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والْأَغْلالَ الَّتی کانَتْ عَلَیْهِمْ))((2)).

وهذه الظاهرة نجدها فی الإسلام بأجلی مظاهرها، فمثلاً إیران کانت بلاد الکبت والإرهاب منذ تأسیس الدولة قبل (25) قرناً إلی ما قبل (14) قرناً، وحتی أن نبی المجوس قُتل مع آیاته الباهرات، کما روی عن علی (علیه السلام)، والحکیم المشهور (بوذرجمهر) صلب عاریاً بعد أن سجن مدة مدیدة، فی سجن ذی شفرات محددة لایتمکن من الحرکة فیه، ولما سیطر علیها الإسلام عند مقدم الرسول (صلی الله علیه وآله) صارت منطلق العلم والحکمة والنور وکل فنون المعرفة، ونبع فیه العلماء العظام من کل لون وصنف، أمثال المحمدین الثلاثة، والمحمدین الأربعة، وابن سینا ومحمد بن زکریا، والبهائی، والصدرا، والفیاضین، والنراقیین، وشریف العلماء، وتلمیذه الأنصاری، والمجلسیین، والداماد، والفندرسکی، ونصیر الدین الطوسی، والشیرازیین، وغیرهم ممن هم مفخرة العالم إلی الیوم، وسیبقون کذلک إلی ما شاء الله.

أما (سبارطة) التی اعتمدت الدیکتاتوریة، وجعلت تهتم بالسلاح وتقویة العضلات وقضت علی الحریة والعدالة، فذهبت أدراج الریاح، وقد تحطمت شر تحطم ولم یبق منها إلاّ ذکری الاستبداد وکبت الحریات وخنق الأصوات، فلا عین منها بقیت، ولا سمعة طیبة، ولا هدف یتصاعد ویستضاء به، بینما آثار(أثینا)

ص:66


1- نهج البلاغة: الخطبة 1.
2- سورة الأعراف: 154.

نقلها المسلمون بضمیمة ما أضافوا علیها من عبقریاتهم، وما تعلموها من دینهم إلی کل العالم، مما أخذ منهم العالم الصناعی الیوم، ولذا یسمی المسلمون ب_ (آباء العلم) کما اعترف بذلک (راسل) و(لبون) وغیرهما من فلاسفة الغرب والشرق، مما لسنا بصدد تفصلیه الآن.

((زوال قوة الباطل))

((زوال قوة الباطل))

ولابد هنا من إشارة عابرة إلی أن القوة لیست إلاّ لتقویم الباطل، والتوجیه بالفرد والمجتمع إلی الطریق المستقیم، وإلاّ فإن استعملت القوة فی وجه الحق والنبل منه کان أخیرها الفشل.

وقد لخص الله سبحانه قوة الباطل أمام الحق فی هذه الآیة الکریمة: ﴿وَنُریدُ أن نَمُنَّ عَلَی الَّذینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ ونَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ونَجْعَلَهُمُ الْوارِثینَ ونُمَکِّنَ لَهُمْ فِی الْأَرْضِ ونُرِیَ فِرْعَوْنَ وهامانَ وجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما کانُوا یَحْذَرُونَ﴾((1))، فالحق المجرد عن القوة المادیة لابد وأن یقوی وینمو حتی یأخذ مکان الباطل المزود بالقوة المادیة وینقلب المیزان، فالحق یجعل إماماً ووارثا، والباطل ومستشاره وقدرته یکون مصیره إلی الهلاک والجحیم، ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً﴾((2)).

وهکذا کان حال أنبیاء الله (علیهم السلام) مع المستکبرین، وکذلک رأینا حال الأمم المستضعفة مع المستعمرین وعمالهم، ومن نظر فی القرن الحاضر إلی أمثال (بهلوی، وأتاتورک، ویاسین) وغیرهم من أعوان الباطل، وعرف کیف تحطمت إمبراطوریة الیابان وهولندا وبریطانیا وإیطالیا وما إلی ذلک، لم یشک فی أن الحق هو المنتصر، وأن المستکبر وقوته یندمر بما لا یبقی له إلاّ الخزی والشنار.

ص:67


1- سورة القصص: 5 _ 6.
2- سورة نوح: 26.

البیئة الصالحة ضرورة لاستمرار الدیمقراطیة

الأمر الرابع: قد عرفت أن النظام الاستشاری خیر الأنظمة البشریة التی عرفها العالم فی حفظ العدل، وإظهار الکفاءات والتقدیم بالأمة ومنحها الرخاء والرفاه، والسیر بها إلی مدارج الرقی والکمال، لکن یجب أن یعرف أن النظام الدیمقراطی (الاستشاری) إنما یتمکن من العمل علی أحسن وجه فی البیئة الصالحة، فکلما کانت البیئة أصلح کان النظام أقدر علی العمل، فإن الدولة إنما تتکون من الأمة، والأمة إنما تتکون من الأفراد، وکیف کانت الأفراد کانت الدول.

وقد ورد «کیفما تکونوا یولی علیکم»، فإن الثمرة إنما تکون من نحو الشجرة، وهل یظهر التفاح من شجرة الحنظل، وهل یعطی العنب شوکاً.

وعلی هذا فاللازم علی المصلحین تعاهد الأمم بأفرادها لیکونوا صالحین بوجود المعانی السامیة فیهم، من التواضع والإیمان، وصحة المواعید، واحترام الکلمة، والشوری فی الأمور، وحب الخیر للناس، والتعاون والأریحیة، وتقبیح القبیح وتحسین الحسن، والإتقان، والتضحیة والاندفاع وغیرها، وقد قال الشاعر:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقیت

وإنما الأمم الأخلاق ما بقیت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

نعم للأفراد والمنظمات والأحزاب والکتل أن تختلف فی الذوق والعمل والاجتهاد، لکن لیس لهم الاختلاف والانطواء علی المعانی الشریرة، والمؤامرات وتحیین الفرص لنیل بعضهم من بعض، وغیرها من أسباب التأخر والانحطاط، فکلما کانت الأمة بأفرادها فی الصعود، کانت الدیمقراطیة (الاستشاریة) أحسن وأکمل وأتقن وأقدر، والعکس بالعکس.

وفی التاریخ الحدیث فضلاً عن التاریخ الغابر، أمثلة لهذین النوعین من

ص:68

الأمة، حیث ظهرت فیها الدیمقراطیة فسقطت بعضها وبقیت بعضها الآخر، فمثلاً العراق ومصر والسودان وباکستان وما أشبه، ازدهرت فیها الدیمقراطیة ولو فی الجملة، لکن لما لم یکن کل الشعب آهلاً بالمعانی السامیة، لم یمر زمان إلاّ وسقطت فیها تلک الصورة، وسیطر علیها الدیکتاتوریون بمعونة الاستعمار الخارجی، بینما لو کان الشعب منطویاً علی تلک الفضائل لم یتقبل الدیکتاتور، ولم یجد عملاء الغرب والشرق سبیلاً إلی الإطاحة بالدیمقراطیة ولو الصوریة منها.

الاستشاریة ضمانة تطبیق القانون

الاستشاریة ضمانة تطبیق القانون

الأمر الخامس: الاستشاریة الدیمقراطیة والدیکتاتوریة، أمران متقابلان، فالحکومة إذا کانت دیکتاتوریة لم تکن استشاریة، وبالعکس، والدیکتاتوریة لها سببان:

1: السبب الداخلی، بأن یتسلط علی الحکم من لا یحترم إرادة الأمة، مهما جاء لذلک بأعذار.

2: السبب الخارجی، بأن تستعمر دولة هذه الدولة، سواء بالاستعمار العسکری أو بسائر أنحاء الاستعمار، فتنصب للحکم دیکتاتوراً یعمل لصالح المستعمر لا لصالح البلد، ومثل هذا الحکم لا یمکن أن یکون استشاریاً، إذ الاستشارة تنتهی إلی خیر الأمة، والاستعمار جاء بهذا الحکم لینتهی إلی فائدة المستعمر.

ومن هذا یظهر أن الدستور الصحیح المعمول به، لا یمکن وجوده فی الحکومة الدیکتاتوریة، إذ لو وضع الدستور فی الحکومة الدیکتاتوریة، أی ألوانها

ص:69

کانت، فلابد وأن لا یکون صحیحاً، فإن الدیکتاتور یقف دون وضع الدستور الصحیح، مثلاً یرید الدیکتاتور دوام السلطة له، أو حتی لورثته، أو وضع منهاج السیاسة أو الاقتصاد لینفعه أو ینفع أسیاده.

و بهذا لابد له أن یقف أمام صحة بنود الدستور، فأولاً یمنع الدیکتاتور وضع الدستور صحیحاً. ولو کان الدستور قد وضع صحیحاً بأن کان قد وضع قبل زمان الدیکتاتور، حیث کان المنهج صحیحاً، وقف الدیکتاتور دون تطبیق مواده، إما بالتزییف أو بالقوة.

فتطبیق الدستور الصحیح والاستشاریة وجهان لعملة واحدة، فإذا رأی المواطن الدستور غیر صحیح، أو رأی التطبیق غیر صحیح، علم بوجود الدیکتاتوریة، ولزم علیه أن یعمل لأجل تقویضها، لتأخذ مکانها الاستشاریة.

((الدکتاتوریة الداخلیة))

((الدکتاتوریة الداخلیة))

ألف: والغالب فی العالم السابق کون الدیکتاتوریة داخلیة، ففرعون ونمرود ومعاویة وهارون وعبد الحمید، ومن إلیهم کانوا دیکتاتوریین داخلیین، یریدون کل خیرات البلاد لأنفسهم، فبینما کان فی بغداد عشرات الألوف من الذین لا یجدون حتی لقمة الخبز، کان الخلیفة وأتباعه یتقیؤون الغذاء لیأکلوا ما یشتهون مرة أخری، وکان یفرش فی قصر عبد الحمید سبعمائة مائدة لسبعمائة زوجة وحظیة، وإلی غیر ذلک.

وقد کان الدستور فی عهد فرعون ونمرود غیر صحیح، حیث إن الدستور کان رأی الدیکتاتور. بینما کان التطبیق فی زمن بنی أمیة وبنی العباس والعثمانیین غیر صحیح، إذ الدستور کان الإسلام، والإسلام منهاج مستقیم، وانما حرف تطبیقه الحکام، فکان معاویة ملکاً وینصب من بعده الملک، ولا مکان للأمة والاستشارة التی أمر بها الإسلام فی أی من العهدین، وجاء هارون

ص:70

إلی الحکم بالوراثة، وأعطی عهده للأمین والمأمون والمعتصم، وکأن الحکم ملکاً له ولأولاده، کل ذلک فی الوقت الذی یقتل فی لیلة واحدة ستین علویاً ممن یطالبون بتطبیق الدستور الإسلامی، ویلقی بجثثهم فی حفائر بلا غسل ولا صلاة ولا مراسیم.

وقد کان من أسباب بقاء الصلیبیین فی فلسطین، أخطاء صلاح الدین الأیوبی، حیث إن الدکتاتوریة التی سیطرت علیه، بضربه الاستشاریة عرض الحائط، سببت تقسیم مصر وسوریا إلی مدینتین، وبذلک ضعفت المقاومة الإسلامیة للصلیبیة.

ثم اشعل نار الطائفیة مما جزأ سوریا إلی قسمین أیضاً، وأحرق المکتبات وقتل العلماء وطاردهم، ولما ضعفت الجبهة الداخلیة لم یتمکن من مقاومة الصلیبیین، فاضطر إلی مهادنتهم، ولم یکتف بهذا بل قسم البلاد من بعده بین أبنائه، کأنه إرث ورثه من أبیه، ولذا بقی الصلیبیون فی البلاد (باستثناء بعض ما استرجعه منهم) فی زمانه، وبعد زمانه عندما انقسمت البلاد أکثر فأکثر بین أولاده.

((الدکتاتوریة الخارجیة))

((الدکتاتوریة الخارجیة))

ب: بینما الغالب فی زماننا، کون الدیکتاتوریة فی البلاد الضعیفة خارجیة، حیث إن الدول القویة تأتی بالحکام الدیکتاتوریین، أو تحالف من کان منهم موجوداً، لاستخدامهم فی مصالح المستعمر، فیصبح کل واحد من الحکام عبداً للأجنبی، وسیداً دیکتاتوراً علی الأمة، وبذلک تسام الأمة الخسف المضاعف، والذل المکرر.

أسد علی وفی الحروب نعامة

فتخاء تنفر من صفیر الصافر

والأمثلة لذلک فی العصر الحدیث کثیرة، فقد جاء البریطانیون بالبهلوی الأول، فجعل بلاد إیران طعمة لنفسه ولهم، یعیث فیها ما شاء من الفساد قتلاً وسلباً ونهباً وسرقةً، ثم نصب من بعده ولده ولیاً للعهد، فلم یترک حرمة لله سبحانه إلاّ انتهکها،

ص:71

ولما أرادت الأمة إسقاطه قبل ربع قرن أرجعه الأمریکان إلی أریکة الحکم وفعل ما فعل فی قصص مشهورة.

فمثلاً بینما کان نصف أطفال إیران یموتون من جهة عدم وجود الدواء وسوء التغذیة، حسب الإحصاءات الدقیقة، سرق هو وحده _ مع الغض عما سرقه آل البهلوی من إخوانه وأخواته و... _ زهاء خمسین ملیاراً من الدولارات حسب إحصاء بعض الصحف.

((الدکتاتوریة والاستعمار))

((الدکتاتوریة والاستعمار))

إن من الطبیعی أن تصطدم أهواء الدیکتاتور مع مصالح البلاد، کما أن من الطبیعی أن تصطدم رغبات المستعمر مع مصالح الأمة، وإذا اجتمع الأمران، الدیکتاتوریة والاستعمار فالویل للبلاد، إذ لا یکتفی المستعمرون حینذاک بالاقتصاد والسیاسة، بل یکون همهم إذلال الأمة وإفراغ حقدهم.

فعبد الناصر الذی جاء به الأمریکیون، کان من جملة تعذیباته أنه کان یربی الکلاب الوحشیة ویترکها جائعة لیسلطها علی السجناء.

وینقل أن بوکاسا، کان یحشی بطن المیت بالإطعمة ویجعله فی الأفران ثم یتغذی به هو وأصحابه.

وصدام کان یشرب من دم ضحیته، حیث إن کاهنه قال له إنه یقوی القلب، وإنه بحاجة إلی قوة القلب.

وعیدی أمین، کان یعبث بجثث الضحایا بمشرطه لیفرغ حقده، ثم یغرق فی ضحک هستیری.

وهؤلاء الثلاثة کانوا من عملاء بریطانیا وإسرائیل.

وقصص أحقاد عملاء الروس فی أفغانستان والجمهوریات الإسلامیة المستعمرة بالفتح، وعملاء (ماو) مشهورة غنیة عن الذکر.

فالدستور الصحیح هو الجسد، والاستقلال (الاستشاریة) هو الروح، فإذا حرمت أمة استشاریتها واستقلالها، ونکبت بالدیکتاتور مع الاحتلال أو بدونه، أصبح الدستور الصحیح فی خبر کان، وإذا کتب فرضاً کان حبراً علی ورق،

ص:72

وصارت الحریات اسماً بلا مسمی، ویکون للدیکتاتور وأسیاده کل الرغائب، بینما الأمة لهم العرق والجوع والسجون والمشانق.

الحریة بحاجة إلی ضوابط

الحریة بحاجة إلی ضوابط

الأمر السادس: الاستقلال والحریة متلازمان، إذ کل مستقل حر، وکل حر مستقل، إذ لا یمکن أن تجتمع إرادتان متعارضتان علی شخص واحد أو أمة واحدة، فإذا کانت الإرادة النافذة فی إنسان أو أمة إرادة غیره، لم تکن إرادة نفسه نافذة، وبذلک فلا حریة ولا استقلال، وبالعکس إذا کان الفرد والأمة صاحب الإرادة، لم تکن إرادة أجنبیة نافذة فیه، فتحریر الإنسان یعنی تحریر إرادته.

والحریة الصحیحة (الاستقلال) فی الأمة، بحاجة إلی إطارات وضوابط، وإلا انقلبت الحریه فوضی، أو عبودیة، فإن الحریة هی الخط الفاصل بین الأمرین، وطرفاها الإفراط والتفریط.

والضوابط والإطارات نفسیة وخارجیة، فالإنسان یجب أن یبنی علی الضوابط، کالشوری والوفاء بالوعد والاستقامة والإتقان والتعاون وما أشبه، وإلاّ أخذت الإنانیة والأثرة مکان کل ذلک، وبهما یحصل التضارب حیث یصل الأمر إلی الفوضی، أو إلی تسلط بعض الأفراد علی بعض حیث الدکتاتوریة، فلا حریة ولا استقلال، سواء لوحظ ذلک فی سطح الأمة، أو فی سطح الأفراد.

وإلی هذا یشیر ما فی الحدیث الشریف: «إذا ترکوا الأمر بالمعروف والنهی

ص:73

عن المنکر نزعت عنهم البرکات وسلط بعضهم علی بعض»((1)).

فإن المعروف عبارة عن الضوابط، والمنکر عبارة عن عدم الضوابط، فإن لمن یکن معروف وکان منکر کان معنی ذلک انهدام الضوابط، واذا انهدمت انجر الأمر إلی الفوضی، والفوضی تنتهی إلی تسلط الأقوی (الدیکتاتور)، وحیث لا تعاون حینذاک لا برکة، بالإضافة إلی أن الدیکتاتور ینهب الخیرات فلا یدع البرکة، وقد ذکرنا فی کتاب (الفقه: الاقتصاد) مسألة البرکة.

((ضوابط الحریة))

((ضوابط الحریة))

ثم إن معنی جعل الضوابط الخارجیة للحریة _ وقایة لها عن الانحراف وإنماءً لها إلی الحدود الممکنة _ :

1) وضع القانون الکفیل بحدود الحریة، فلا تتعدی الحریة حدودها المعقولة، ولا تتقلص الحریة عن حدودها المعقولة.

2) تطبیق القانون علی الخارج، فیکون الخارج وعاءً للحریة، فلها أوعیة منطبقة لا ضیقة ولا مهلهة، ولنمثل للأمرین ب_حریة إبداء الرأی لساناً وقلماً وأفلاماً.

فاللازم أولاً أن یحدد القانون کمیة وکیفیة تلک الحریة، فهل حریة فی إبداء العقیدة، أو فی إبداء الآراء السیاسیة، أو فی إبداء الآراء الاقتصادیة، أو فی إبداء الآراء الاجتماعیة، وهکذا؟

ثم الحریة فی کل ذلک مثلاً هل بکیفیة خاصة من الإیجابیة فقط بإبداء الرأی، أو بالسلبیة أیضاً بنقد الآراء المخالفة، ولو حدد القانون جواز النقد، فهل نقداً لاذعاً أو نقداً ملائماً، إلی غیر ذلک من حدود الکم والکیف.

ص:74


1- الوسائل: ج11 ص394 الباب 1 من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ح4.

أوعیة الحریة

أوعیة الحریة

هذا بالنسبة إلی تحدید القانون، ثم یأتی بعد ذلک دور الخارج، بتکوین الأوعیة الخارجیة لهذه الحریات القانونیة.

والأوعیة، هی (الإعلام): الصحف والرادیو والتلفزیون وما أشبه ذلک، و(الهیئات): الأحزاب والجمعیات والکتل والمنظمات، و(المعاهد): المدارس والکلیات والجامعات، و(مراکز الإشعاع الثقافی): المکتبات والکتب والأفلام والنوادی، إلی غیر ذلک.

فإن هذه هی التی ترعی القانون وتحفظه عن خطر الدیکتاتوریین، کما تحفظه عن خطر الفوضی والترجرج.

ثم اللازم أن یکون کل ذلک بنسبة معقولة، تستوعب کمیة الحریة وکیفیتها، بلا زیادة فتکون هدراً، ولا نقصان فتکون فوضی أو دیکتاتوریة، حال ذلک حال المدرسة والطلاب، فإذا لم تکن المدرسة بقدر الطلاب بقی فائض الطلاب بدون تثقیف، وإذا کانت أکثر منهم کان الزائد هدراً.

بقی: إن أوعیة الحریة لابد لها من (مال) یمدها، إذ لا یمکن بقاء المؤسسات بدون الأموال الکافیة، ومن (قوة) تمنع خصومها من الاعتداء علیها، وقد ورد عن رسول الله (صلی الله علیه وآله) قوله: «لولا مال خدیجة وسیف علی علیه السلام»، وفی الآیات المبارکات:((آتُوا الزَّکاةَ))((1))، و))أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ))((2)).

ثم لا یخفی أن أوعیة الحریة کما تحفظ الحریة تنمی الحریة، إذ کل

ص:75


1- سورة البقرة: 43.
2- سورة الأنفال: 60.

من الحریة والدیکتاتوریة قابلة للنمو، کالأشجار القابلة لها، مثلاً المستبد یحدد أسفار الناس، ثم بناءهم للعمارات، ثم کتابتهم، ثم إبداءهم للآراء، ثم مداخلهم للمال، ثم مصارفهم له، إلی غیر ذلک.

وبالعکس أوعیة الحریة تحررهم عن الضرائب الباهضة، وعن قیود سفرهم وحضرهم، وزواجهم وبنائهم، وغیر ذلک.

ولذا کان من الضروری فی الحکومات الاستشاریة وجود کتلة فی مجلس الأمة للتحریر، شأنها سن القوانین المحررة تدریجیاً، وذلک بالإضافة إلی أنه عمل إنسانی یحکم به العقل، هو أمر شرعی واجب، لقاعدة «الناس مسلطون علی أموالهم وأنفسهم»((1))، فکل سلب لحریة من حریاتهم إسقاط لجانب من التسلط علی أنفسهم وأموالهم، فهو منکر تجب إزالته، ولقاعدة «لا یتوی حق امرئ مسلم»((2))، ولأن العقل إذا حکم فقد حکم به الشرع، لتلازمهما فی سلسلة العلل کما قرر فی الأصول، إلی غیر ذلک من الأدلة.

نعم لو دخل هذا فی باب الترفیه علی الأمة ولم یکن عنوان ثانوی یوجبه کان مستحباً، فمثلاً جعل الطرق وتنظیم المرور، بحیث لا یکون فیها وقوف ولو لحظة مما یعطی حریة السیر السریع، ترفیه مستحب.

ومثل الکلام فی المسائل السیاسیة (الحریة) الکلام فی المسائل الاقتصادیة وغیرها، فإن اللازم أن تکون کتلة برلمانیة لأجل تخفیض الأسعار علی المستهلک، فإنه إن کان الغلاء إجحافاً کان واجباً، وإلاّ کان ترفیهاً مستحباً، قال سبحانه:

ص:76


1- انظر بحار الأنوار: ج2 ص272.
2- مستدرک الوسائل: ج3 ص215 الباب 46 من الشهادات ح5.

))یُریدُ اللَّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ))((1))، وفی الحدیث: «من نفّس عن مؤمن کربة»((2)).

وفی حدیث آخر: «أحب لغیرک ما تحب لنفسک»((3))، إلی غیر ذلک.

وفی بعض الحکومات الدیمقراطیة کلما اجتمعت اللجنة الخاصة بتخفیض الأسعار استبشر الشعب، لکن لا یخفی أن اللازم فی باب التخفیض، ملاحظة الأهم والمهم من بقاء الاسعار وتخفیضها، فقد ذکرنا فی کتاب (الفقه: الاقتصاد) آراء الاقتصادیین فی تثبیت الأسعار وتخفیضها تدریجیاً وترفیعها تدریجیاً، فالمسألة فی ما نحن فیه مبنیة علی تلک المسألة.

یبقی الکلام فی مسألة فسح المجال أمام الحریات، وجعل الضوابط الحافظة والمنمیة لها، فإن هناک أمراً آخر، وهو أن الحریة قد توجد بإیجاد موضوعها، فإذا لم یکن الموضوع کان عدمها من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

مثلاً حریة إبداء لرأی بواسطة المذیاع، لم یکن لها موضوع قبل اختراع المذیاع، وحریة السفر بالطائرة لم یکن لها موضوع قبل اختراع الطائرة، وهکذا وهکذا، فقبل الآلة لا معنی للحریة، وبعدها لا وجه لکبتها، وإیجاد الموضوع لها یکون مستحباً، لأنه نوع من التیسیر والترفیه وما أشبه، وإن کان قد یکون واجباً أو حراماً، لأمر ثانوی.

ص:77


1- سورة البقرة: 185.
2- الوسائل: ج11 ص586 الباب 29 من فعل المعروف ح2.
3- نهج البلاغة: الکتاب 21.

القومیة أم الکفاءة

القومیة أم الکفاءة

الأمر السابع: القومیة فی الحکم تقابل الإنسانیة بکل معنی الکلمة، لأن القومیة تری تقدم القوم، ولا تعتنی بالکفاءة، بینما الإنسانیة لا تقدم إلاّ الکفاءة، ولذا کانت القومیة حتی فی الفرد نوعاً من القوقعة والانغلاق، والانحطاط إلی الأسوأ، فإذا طبیبان أحدهما أفهم لکنه لیس من القوم، والآخر أقل فهماً لکنه من القوم، قدم القومی الثانی علی الأول، وهکذا فی کل الأمور إلی أن یصل إلی الحکم، بینما المعیار عند غیر القومی الکفاءة.

وقد قال سبحانه: ﴿وَجَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاکُمْ﴾((1))، بینما قال الشاعر القومی:

سلام علی کفر یوحد بیننا

وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم

وهل الخیر یکون بعده جهنم، إلاّ إذا أنبتت شجرة البرتقال حنظلاً، ألیس ما یکون بعده جهنم نواة لجهنم، ثم هل الکفر یوحد أو یفرق، إن الکفر أنانیة، والأنانیة فرقة دائماً، بینما الإیمان تواضع وتحرٍ للحقیقة، والتواضع وتحری الحقیقة سبب التجمع.

ولذا قال سبحانه: ﴿إِنَّ هذِهِ أُمَّتُکُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّکُمْ﴾((2)).

وقال سبحانه: ﴿عَلا فِی الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِیَعاً یَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ یُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَیَسْتَحْیی نِساءَهُمْ﴾((3)).

ص:78


1- سورة الحجرات: 13.
2- سورة الأنبیاء: 92.
3- سورة القصص: 3.

وبقدر تأصل النظام القومی فی بلد یکون التأخر بکل أسبابه، فإن من یقول القوم أفضل من غیره، لابد وأن یقول القطر أفضل من غیرها، والبلد أفضل من غیره، والمحلة أفضل من غیرها، والدار أفضل من غیره، وهو بنفسه أفضل من سائر عائلته، فإن الحکماء یقولون: (حکم الأمثال فیما یجوز وفیما لا یجوز واحد)، وقد رأینا کیف أن القومیات الضیقة جنت علی البلاد القومیة.

ومن أوضح الأمثلة لذلک (القومیة العربیة) فهی یوم تحکمت فی الجزیرة العربیة قبل بزوغ شمس الإسلام کانت من أسوأ أسباب الجهل والتأخر والتفرقة حتی أوصلتهم إلی ما قالته الصدیقة الطاهرة (سلام الله علیها): «کنتم تشربون الطرق، وتقتادون القد والورق، أذلة خاسئین»((1)).

ثم وحدهم کما وحد غیرهم معهم الإسلام، إلی أن جاء الغرب بالقومیة مرة ثانیة إلی البلاد العربیة فی غیاب من التعقل والإدراک، وإذا بنفس الحالة تعاد إلی البلاد، فصاروا أذلة خاسئین، تدمغهم حتی أذل الأمم والذین قال الله عنهم:((ضُرِبَتْ عَلَیْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْکَنَةُ))((2)).

ولذا کان الواجب أن یکون الحکم إنسانیاً، حتی وإن لم یکن إسلامیاً، لکنا نعتقد أن الإنسانیة لایمکن وجودها إلاّ بالإسلامیة، ولقد أخطأ القومیون من المسلمین سواء بالنسبة إلی القومیة العربیة، أو سائر القومیات، حیث تحطمت الامبراطوریة العثمانیة بسبب تمسکها بالقومیة الترکیة، کما تحطمت غیرها بمثل هذا أیضاً، حیث رأوا الغرب تقدم باسم القومیة فلم یعرفوا أن القومیة الغربیة کانت تحطیماً للسجن الأصغر إلی السجن الأکبر، بینما

ص:79


1- انظر بلاغات النساء: ص12.
2- سورة البقرة: 61.

کانت القومیة العربیة أو الترکیة أو الفارسیة أو غیرها تحطیماً للحریة إلی العبودیة.

إن البلاد الغربیة کانت یحکمها البابا فی أسلوب دیکتاتوری فردی یجمع بین أصابعه مقدرات الناس دیناً ودنیاً، وحیث لم یکن الغرب یعرف الإنسانیة فی الحکم أراد تحطیم الدیکتاتوریة الفردیة إلی القومیة، لأنها أوسع دائرة، وهکذا نبتت القومیة الغربیة فی منبت الجهل بالإنسانیة، بینما العرب الذین قلدوا الغرب، وغیر العرب من سائر المسلمین القومیین، حطموا الإنسانیة المتمثلة فی الإسلام إلی القومیة الضیقة.

فإن الحکم قد یتقمص:

1) الإلهیة المزیفة، کما کان یفعله البابا، یحکم باسم الإله، فینهب ما یشاء ویقتل من یشاء ویفعل ما یشاء، و(باستیل) و(حروب الکثلکة) و(محاکم التفتیش) وعشرات الأمثلة غیرها من أوضح الشواهد لذلک.

2) وقد یکون الحکم شعبیاً، أی یکون الشعب مصدر السلطات، وبهذا یخرج الحکم عن الفردیة إلی الشعبیة، فلا تکون الدیکتاتوریة المسماة بالإلهیة.

3) وقد یکون الحاکم دیکتاتوریاً زمنیاً، فردیاً کالملک، أو جماعیاً کحکومة الأشراف، أو قومیاً، والقومیة فی الحکم نوع من الدیکتاتوریة، لأن الحکم ینحصر فی دائرة القوم، وألیس کل انحصار ضد الکفاءة.

4) بینما الإسلام جاء بالحکم الذی یجمع فیه رضی الله ورضی الأمة، فهو إنسانی صرف أکثر من الإنسان الذی لا یلاحظ فیه الإطار الإلهی المستفاد من الکتاب والسنة، فإرادة الإنسان بما هو إنسان هی سیدة الموقف فی إطار

ص:80

إرادة الله سبحانه، فإذا کان فقیهان للدنیا والدین عادلان کفوءان للحکم، کان للأمة أن تختار أحدهما، وأین هذا من الحکم القومی الضیق المصادم للکفاءة، بله الإلهیة المزیفة.

کیف یکون الحکم إلهیاً

کیف یکون الحکم إلهیاً

ومعنی کون الحکم مرضیاً لله بالإضافة إلی انتخاب الناس، أمران:

الأول: أن یکون الحاکم ممن یرضاه الله سبحانه، بأن یکون فقیهاً، صائناً لنفسه، حافظاً لدینه، مخالفاً لهواه، مطیعا لاًمر مولاه((1))، فإن الصائن لنفسه بأن لا یأتی بالمحرمات، والمطیع بأن یأتی بالأوامر، والمخالف لهواه بأن لا یتطلب المحرّم نفسیاً، والحافظ لدینه بأن تقف نفسه علی الواجب، فالأربعة المذکورة اثنان منها تذکر الأعمال إیجابیا وسلبیاً، واثنان منها تذکر صفة النفس سلبیة وإیجابیة.

والصفات النفسیة وإن لم تکن ذات تأثیر فی الطاعة والعصیان فی غیر مثل الکفر والإیمان، کما قرره الشیخ فی الرسائل وغیره فی غیره، إلاّ أن العدالة حیث کانت (ملکة) کما ذهب إلیه المشهور من المتأخرین، لقوله (علیه السلام): «أن یعرف بالستر والعفاف» ولغیره، کانت لها مدخلیه فی خلافة النبی (صلی الله علیه وآله) والإمام (علیه السلام)، حیث قال (صلی الله علیه وآله): «اللهم ارحم خلفائی»((2))، وقال

ص:81


1- الوسائل: ج18 ص101 الباب 11 من صفات القاضی ح9.
2- الوسائل: ج18 ص101 الباب 11 من صفات القاضی ح7.

(علیه السلام): «أما الحوادث الواقعة»((1))، إلی غیر ذلک.

الثانی: أن یؤخذ القانون من الأدلة الأربعة، ومن الواضح أن الحکم الذی وضعه الله سبحانه خیر من حکم البشر من جهة:

((میزات الحکم الإلهی علی القانون البشری))

((میزات الحکم الإلهی علی القانون البشری))

ألف) عدم تأثیر الظروف والأهواء فی الأول، بخلاف الثانی.

ب) ومن جهة علم الله سبحانه بما یصلح البشر، وجهل المشرعین مهما کانوا نزیهین ومعتدلین.

ج) ومن جهة أن الحکم المستند إلی الله یوجب اطمینان الإنسان فی الاستناد إلیه، بخلاف الحکم الموضوع من قبل البشر، حیث لا یصلح للاستناد، فإن کل شیء من الخلق والأمر لابد وأن ینتهی إلی ما بالذات وإلا کان وراءه شیء.

ولذا قال سبحانه:((لَهُ الْخَلْقُ وَ الأمر))((2))، وقال سبحانه:((وَأنَّ إِلی رَبِّکَ الْمُنْتَهی))((3)).

ولنفرض أن أغلبیة المجلس فی الحکم الدیمقراطی وضعت قانوناً بکل نزاه، فهل الأقلیة الذین هم نواب الملایین مثلاً، المخالفون لذلک القانون، یعتمدون علیه، وإذا لم یعتمد أولئک نفسیاً فهل مثل هذا القانون یکون مبعث رضا الجماهیر، وحیث لا اعتماد علیه عند أقلیة الجماهیر لایهمهم خرق القانون.

وهذه هی من مشاکل القانون الذی تحیر فیه عقلاء الغرب، ولا یجدون له حلاً.

((کیف سیطر الغرب علی بلادنا))

((کیف سیطر الغرب علی بلادنا))

وقد رأی الغرب أن أهم ما یتمکن به من تمزیق أوصال البلاد الإسلامیة،

ص:82


1- الاحتجاج: ج2 ص283.
2- سورة الأعراف: 54.
3- سورة النجم: 42.

ونهب خیراتهم، واستعباد أهلها، أن یفرقها بالقومیات والإقلیمیات واللغات، وأن یضع القانون الوضعی مکان القانون الإلهی، وأن یوصل إلی الحکم عملاءه الذین یطیعون أوامره فی ضرب الإسلام والمسلمین.

ولقد قال (غلادستون): ما دام القرآن قانون بلاد الإسلام، والعلماء مسیطرین علی الأمة، والکعبة محل اجتماعهم، لا تستقر أرجل بریطانیا فی بلاد الإسلام، قالوا له: وهل نحرق القرآن ونقتل العلماء ونهدم الکعبة، قال: لا، قالوا: فماذا نفعل، قال: ضعوا القانون مکان القرآن، وفرقوا بین الدین والدولة، وارموا العلماء بما یفرق الشعب عن حولهم، واجعلوا الکعبة محل ظهور خلافاتهم، حتی تکون مبعثاً للتفرقة بدل کونها مبعثاً للتألیف((1)).

وهکذا فعل الغربیون کما أوصی، ومطالعة کتاب (الغارة علی العالم الإسلامی) و(مذاکرات المس بل) و(التبشیر والاستعمار) و(مذاکرات کینیاز) و(مذکرات مستر همفر) وعشرات الکتب الأخر، تدل علی هذه الحقیقة المرة.

هذا بالإضافة إلی ما رآه المسلمون فی هذا القرن، من تطبیق تلک المبادئ الغلادستونیة.

1) من إحیاء القومیات فی بلاد العرب والهند وترکیا وأفغانستان وإیران وإندونیسیا، وغیرها وغیرها.

(2) ومن فصل الدین عن الدولة، لیأخذ مکانه القانون الوضعی، حیث صار لکل بلد قانون خلاف القانون فی البلد الآخر، إمعاناً فی التفرقة، مثلاً أخذ القانون فی إیران (العهد الملکی) من (بلجیکا)، وفی العراق من (بریطانیا)، وهکذا.

ص:83


1- انظر: شبهات حول الإسلام: ص17.

3) ومن إحیاء الاقلیمیات، فلکل بلد حدود، وکل مسلم فی غیر بلده أجنبی، بینما الکافر وطنی أهلی.

4) والعلماء حوربوا جهراً، کما حاربهم البهلویان وأتاتورک وناصر، والمسیطرون علی الحکم فی بغدادهم أتباع (دروزة) والحورانی وعفلق وفهد، ومن إلیهم من الصلیبیین والصهیونیین والشیوعیین وفروعهم.

5) کما أوجدوا فی الحجاز عائلة سعود والوهابیة، فصار الحج مرکز تکفیر المسلمین، وتفریق کلمتهم، وإیجاد الشقاق بین فئاتهم، إلی غیر ذلک مما لسنا بصدده فی هذا الکتاب.

الحروب الفردیة والحروب الهدفیة

الحروب الفردیة والحروب الهدفیة

الأمر الثامن: کانت الحروب فی الزمان السابق حروب الأفراد غالباً، سواء کانت حروب الملوک الدیکتاتورییین، أو حروب الزیجات، أو الحروب الدینیة المزیفة، حیث إن البابا یرید الاسنتئثار بالسلطة، فیشعل نار الحرب لأجل السیطرة علی أکثر ما یقدر من البلاد والعباد.

وأما حروب القبائل فی الجاهلیة ونحوها للأطماع، فقد کانت حروباً أطماعیة، أشبه بالحروب الفردیة، لأن شیخ القبیلة کان المقرر للحرب.

وقد کانت حروب الصلیبیین للبلاد الإسلامیة، وحروب المغول کلها حروباً ذات شعارات دینیة وأهداف دنیویة تقمصت لباس الدین للأطماع الدنیویة، فإن المغول وإن کانوا وثنیین، إلاّ أن المحرک لهم کانت المسیحیة، کما ثبت فی التاریخ، ولذا کانوا یهدمون المساجد ویبنون مکانها الکنائس.

ص:84

ولولا الشیخ الجلیل نصیر الدین الطوسی (رحمه الله) لم یبق للإسلام أثر کبیر علی أقل تقدیر فی ذلک الزمان، فقد رأی أن السیل جارف ومن الممکن أن یزمه بمسایرته، وهکذا فعل، وکان من أثر ذلک:

أن طلب من الملک أن ینظر فی النجوم لیری کیف یتغلب الملک علی الأعداء، وذلک بعد أن اطمأن الملک بصدقه، لأن الشیخ أظهر له عدة أعمال جلیلة، أمثال تبرید غرفة الملک بواسطة نوع خاص من الشوک، وإسکات نقیق الضفادع بواسطة أمعاء البقر، وغیر ذلک، مما ذکر فی التواریخ المفصلة.

ولما قبل منه الملک قال له: إن ذلک بحاجة إلی الکتب والأوقاف والعلماء، ولذا منح الملک إیاه أن یحفظ ما یشاء فجمع حول نفسه علماء کثیرین نجاهم من القتل، وکتباً بلغت زهاء أربعمائة ألف، وحفظ أوقافاً کثیرة، باسم أن تکون مادة لاستخراج الفلکیات، حیث بنی مرصد (مراغة) المشهور، وهکذا حفظ علماء وعتبات النجف وکربلاء والحلة وغیرهم.

أما اتهام بعض المتعصبین لابن العلقمی والطوسی بالتآمر مع الملک انتقاماً من السنة، فلیس ذلک إلاّ کذباً صریحاً، یفضحه أن الشیعة فی بغداد کالسنة کلاهما أصابهما إعصار المغول، کما یفضحه أن الطوسی حفظ علماء الطرفین وکتبهما وأوقافهما، وفی المثل: (ما أسهل کیل التهم، وأصعب إقامة الدلیل علی ذلک).

الحروب الإسلامیة کانت دفاعیة

الحروب الإسلامیة کانت دفاعیة

أما الحروب الإسلامیة فی زمان الرسول (صلی الله علیه وآله) فقد کانت دفاعیة بأجمعها، کما ذکرنا ذلک فی کتاب (فی ظل الإسلام)، فإن الجهاد الابتدائی وإن کان جائزاً فی سبیل الله والمستضعفین، إلاّ أن الرسول (صلی الله علیه وآله)

ص:85

أراد إتمام الحجة بعد أن کان یعلم أنه لابد من الاصطدام، فما أفضل أن یبدأها الکفار، وبنفس هذه الفلسفة لم یبدأ علی والحسن والحسین (علیهم السلام) حروبهم فی الجمل وصفین والنهروان وکربلاء وغیرها، مع أنه کان لهم البدء بالحرب.

ومن نظر إلی کتاب (الدعوة إلی الإسلام) وهو تألیف لبعض المسیحیین، یری کیف أن الإسلام دخل أغلب البلاد بدون حرب، وإذا کانت حرب کان الأکثر تعدی غیر المسلمین علی المسلمین أولاً، فإن من طبیعة الإسلام السلام، فإن من أسامی الله (السلام)، وتحیة المسلم (السلام)، ولیلة القدر فی کل سنة((سَلامٌ هِیَ))((1))، وقد قال سبحانه:((ادْخُلُوا فِی السِّلْمِ کَافَّةً))((2))، وقد ألمعنا إلی بعض ذلک فی کتاب (کیف انتشر الإسلام)((3)).

وبهذه المناسبة فی الحروب الدینیة والأطماعیة وما أشبه، مما تأخذ بالآخرة طابع الفردیة، نذکر حروب أوروبا للأمبراطوریة العثمانیة، وحروب العثمانیین لبلاد إیران، وحروب روسیا القیصریة من طرف الشمال والشرق، والحروب التی مزقت أوصال الإمارات الألمانیة والممالک الأروبیة، وحروب الکثلکة ضد البروتستانیتة، وکفاح رجال الدین المسیحی أمثال (إیراسمس) و(لوثر) و(کالفن) للإصلاح ضد البابا، إلی غیر ذلک.

ثم تطور الباعث للحروب من الفردیة إلی الأمة، حیث أصبحت الحروب الفردیة باسم الدین والملوک والزیجات فی خبر کان، وصارت الحروب استعماریة تخوضها الأمة المستعمرة من جانب، والبلاد التی ترید استقلالها

ص:86


1- سورة القدر: 5.
2- سورة البقرة: 208.
3- للتفص یل الأکثر انظر (فقه السلم والسلام) للإمام الشیرازی (قدس سره).

من جانب آخر، والأمثلة علیها کثیرة، أمثال حروب بریطانیا ضد الصین، وضد العراق، حیث قتلوا فی الأولی عشرین ملیون إنسان، فیما سمی بحرب الأفیون، وفی الثانیة مائتی ألف إنسان من ثلاثة ملایین عراقیین، ویلحق بذلک قتل البریطانیین زهاء خمسة ملایین من الهنود، فی ثورتهم اللاعنفیة للاستقلال بزعامة غاندی والجناح، حیث قتلوا قسماً من هؤلاء تجویعاً، وقسماً فی السجون، وقسماً عند انفصال باکستان عن الهند.

ومن هذا القبیل کانت حروب (بونابرت) وحروب تحریر إمریکا الشمالیة من إنکلترا، وإمریکا اللاتینیة من إسبانیا والبرتغال، وحرب الترنسفال، وحروب البلفان، وحرب الریف فی بلاد المغرب ضد فرنسا وإسبانیا، وحروب جنوب شرق آسیا، وکفاح البلاد الإفریقیة، وحروب البلاد الإسلامیة مع إسرائیل، إلی غیر ذلک، حیث بدأ المستعمرون بالحرب لأجل السیطرة، أو بدأتها الدول التی وقعت تحت الاحتلال.

وقد امتدت هذه الحروب حتی الآن فی أطراف فلسطین المحتلة، وفی إرتریا، والفلیبین، کما تجددت فی أفغانستان حیث غزتها الروس، کما غزت الروس من ذی قبل الجمهوریات الست الإسلامیة، والحکومات اللامرکزیة الإسلامیة السبع عشرة.

کما أن بعض الحروب کانت بین دولتین استعماریتین، لأن کلاً منهما یرید الاستعمار، واستغلال موارد بلاد الآخر، کما فی الحرب العالمیة الأولی والحرب العالمیة الثانیة، حیث سبقهما اشتداد التنافس الاقتصادی ونحوه بین کبریات إمبراطوریات الغرب الصناعیة، وتسابقهما فی سبیل السیادة علی مسالک البر والبحر، للسیطرة علی الشعوب واستغلال أکبر قدر ممکن من موارد البلاد، ولذا أطلق علیهما الحرب الاستعماریة.

ومنذ انتهاء الحرب العالمیة الثانیة،

ص:87

إلی سنة ثمانین م، تحدث فی کل شهر ونصف حرب أو ثورة أو انقلاب صغیر أو کبیر، ووراء الکل مطامع الشرق والغرب.

والحاصل أن الحروب غیر التحریریة _ أمثال حروب الشعوب المستضعفة، والحروب الإسلامیة الدفاعیة والإنقاذیة _ ربما کانت فردیة، من ملک یرید السیطرة، أو بابا یرید الاستغلال، أو زوجة ترید فرض الرأی، أو ما أشبه، وربما کانت جماعیة، لأجل الاقتصاد، أو توسیع رقعة السیادة، أو غیر ذلک.

والقسم الأول کان الطابع العام للحروب السابقة، کما أن القسم الثانی هو الطابع العام للحروب الحاضرة.

وهذا القسم من الحروب تنطلق من المنطلق السیاسی الاقتصادی، لأنهما وجهان لعملة واحدة، وتنتهیان إلی المنتهی السیاسی الاقتصادی أیضاً.

الدولة وتنظیم الحیاة الاقتصادیة

الدولة وتنظیم الحیاة الاقتصادیة

الأمر التاسع: کان للاقتصاد ولایزال الدور الفعال فی حیاة الأفراد والأمم، وقد ورد فی الإسلام: «من لا معاش له لا معاد له»، و«الفقر سواد الوجه فی الدارین»((1))، و«کاد الفقر أن یکون کفراً»((2)).

ص:88


1- بحار الأنوار: ج69 ص30 باب 94 ذیل ح26.
2- الوسائل: ج11 ص293 الباب 55 من جهاد النفس ح4.

أما قوله (صلی الله علیه وآله): «الفقر فخری»((1))، فالظاهر إرادته (صلی الله علیه وآله) أنه فخره حیث إنه کان قائداً، والقائد إذا کان فقیراً کان سلوة للفقراء، ولذا قال علی (علیه السلام): «لئلا یتبیغ الفقیر بفقره»((2)).

بالإضافة إلی إیجابه التفاف الناس حوله أکثر، لأنهم یعرفونه مخلصاً، ولکی یتخذه (صلی الله علیه وآله) القادة أسوة، فإنهم إذا کانوا فقراء معوزین عرفوا ما یعانیه الفقراء، مما یحثهم علی العمل لمصلحة الشعب أکثر، فإن الجائع یعرف ألم الجائع، أما الشبعان فهو یعیش فی قصر عاجی فلا یعرف مشاکل سکنة الأکواخ، وقیل غیر ذلک فی معنی الحدیث المتقدم، مما لسنا بصدده.

والدولة مکلفة بتنظیم اقتصاد الناس بحیث یکون لکل فرد الرفاه، بما للرفاه من شمول فی المعنی، وقد ذهبت المذاهب الاقتصادیة إلی أنواع خاصة من تنظیم الاقتصاد، لکن کلها أبدی فشله، حیث لم یعالج أی منها مشکلة التأخر الاقتصادی بالنسبة إلی أغلبیة الأمة.

فالرأسمالیة بکلا قسمیها (الرأسمالیة الغربیة، حیث إن المال بید التجار، وأغلبیة الشعب یعیش دون الرفاه، أو البؤس. والرأسمالیة الشرقیة، حیث إن المال بید الطبقة الرفیعة من الحزب الشیوعی، وکل الشعب یعیش البؤس)، والاشتراکیة، والتوزیعیة، وهما مزیجان من قسمی الرأسمالیة، کلها لم تحل المشکلة الاقتصادیة. کما فصلنا ذلک فی کتاب (الفقه: الاقتصاد).

ص:89


1- غوال ی اللئالی: ج1 ص39 ح38.
2- نهج البلاغة: الخطبة 209.

الإسلام والمشکلة الاقتصادیة

الإسلام والمشکلة الاقتصادیة

والإسلام هو المبدأ الوحید الذی تمکن من حل المشکلة الاقتصادیة، حیث أباح الاتجار والمضاربة والمیراث والملکیة الفردیة من ناحیة، وحدد ذلک بأن یکون المصدر حلالاً، والمصرف حلالاً، وأن لا یکون إجحاف وإضرار، وأن یعطی الحق فی المال، علی تفصیل ذکرناه فی کتاب الاقتصاد.

ولازم کل ذلک التحفظ علی الحریة الاقتصادیة من ناحیة، وعلی عدم طغیان المال من ناحیة ثانیة.

فلیس موقف الدستور الإسلامی من الاقتصاد موقفاً سلبیاً، بل إنه قد عین بکل دقة المنهج الاقتصادی السلیم، کما أنه تبعاً لذلک لیس موقف الحکومة موقفاً سلبیاً، فاللازم أن تراعی الدولة تطبیق الدستور فی الحیاة الخارجیة، ولم یکن الإسلام فی یوم من الأیام مثل الشرق والغرب، سواء فی السابق أو فی الحال، أما فی السابق فکانت دول العالم غیر المسلمة تصب جهودها علی شؤون الجیش والقضاء والأمن، ولا شأن لها بالاقتصاد لا فی أصله ولا عند الأزمات، کما لم تکن تهتم بالبطالة والأسواق والغلاء والقحط وما أشبه.

وأما فی الحال الحاضر، فالدول الغربیة تهتم باقتصاد الرأسمالیین، أما سائر الشعب وهم الأکثریة الکاسحة، فغایة اهتمام الدولة لها رعایة بعض شؤونها الاقتصادیة، مما هو أقل من الرفاه، وتحت ظل مثل هذه الدول یعیش کثیر من الشعب فی حالة البؤس.

والدول الشرقیة، الشعب عندها أقل من الأغنام، بل الفرد حاله حال آلة فی معمل کبیر، قیمته قیمة الجماد، ولذا فالبؤس والعوز والمرض هی الحالة العامة، کما دل علی ذلک قانون الشیوعیین،

ص:90

وخطابات زعمائهم، ومشاهدة من رأی بلادهم عن کثب.

والإسلام یتدخل فی الشؤون الاقتصادیة، لا تدخلاً بإیراث الفوضی والإفراط والتفریط، ولا تدخلاً بالکبت وسلب الحریات وإلغاء الملکیة الفردیة ولوازمها، بل تشرف الدولة إشرافاً فعالاً علی الشؤون الاقتصادیة، من العمل والأرباح والمعامل والمزارع والمعادن وغیرها.

وتضع حداً للاحتکار والربا والإجحاف وإرهاق المستهلک وحدوث الأزمات الاقتصادیة، وذلک بأمرین:

1) تأطیر القوانین الاقتصادیة الإسلامیة بأطر تناسب العصر، لأن کیفیة تطبیق القوانین العامة تختلف حسب اختلاف الظروف، فإن الحکم یتبع الموضوع، مثلاً إذا کانت مائة کیلومتر من الأراضی البائرة، وکان الذین یریدون تعمیرها مائة إنسان کل له قابلیة تعمیر کیلومتر، قررت الدولة لکل واحد کیلومتراً، أما إذا کانوا ألفاً کذلک قررت الدولة لکل واحد عُشر کیلومتر.

وهکذا سائر الشؤون الاقتصادیة، فقد یکون ربح واحد فی عشرة لیس بإجحاف، وقد یکون حتی ربح عشر العشرة فی واحد إجحافاً، فالذی استورد ما یکون ربحه بقدر قوته لم یکن العشر بالنسبة إلیه إجحافاً، بینما من استورد ما یکون ربحه بقدر مئات أضعاف قوته یکون ربح عشر العشرة له أیضاً إجحافاً غالباً، إلی غیر ذلک من تغیر الأحکام بتغیر الموضوعات، ولا یخفی أن هذا التأطیر هو شأن مجلس الأمة.

وعلیه فاللازم أن یکون فی مجلس الأمة کتلة اقتصادیة، تحفّ بها جمهرة من الدکاترة الاقتصادیین، وفقهاء الإسلام، والخبراء الاجتماعیین، کیما یعرفوا موازین الفقه والاقتصاد والاجتماع، فیصبوا القوانین الاقتصادیة بحیث

ص:91

تطابق الإسلام وتکون صالحة فی نفس الوقت لإعطاء حیاة اقتصادیة مرفهة للأمة.

أما السیر فی المنهاج الاقتصادی اعتباطیاً بالتأمیم، أو بإطلاق حریات اقتصادیة ضارة، أو بجعل المنابع الکبری والتجارة عموماً أو خصوصاً بید الدولة، أو ما أشبه ذلک، فلیس إلاّ طفولة فی التفکیر، وبدائیة فی وضع المنهاج، لا تزید الأمر إلاّ إعضالاً.

فالمهم أن توضع القوانین الاقتصادیة المطابقة للموازین الإسلامیة _ وهی التی تجعل للفرد حریة العمل والملکیة الفردیة علی أساس العدالة الاجتماعیة والمساواة القانونیة _ علی أساس الکفاءة والجد بما لا یکون ضرراً ولا إجحافاً، وقد ذکرنا فی الکتب الاقتصادیة بعض مشخصات هذه الموازین.

2) ضمان إجراء تلک القوانین المؤطرة، وهذا شأن القوة التنفیذیة، فإن التنفیذ لیس سهلاً کما ربما یزعم، بل اللازم فی التنفیذ إجراء المحاسبات الدقیقة، وإعطاء کل ذی حق حقه، وصعوبة هذا لیس بأقل من صعوبة التأطیر، مثلاً

أ) لزید المعمل.

ب) ولعمرو رأس المال.

ج) وهناک مدیر یدیر المحل، ویشرف علی العمال.

(د) ورابع لجلب رأس المال الخام، کالصوف الذی یصنع منه القماش، ولتسویقه بعد الصنع.

ه) والعمال باختلاف درجاتهم ومراتبهم.

ولنفرض أن المعمل کانت قیمته ألفاً، والصوف قیمته أربعة آلاف، وکان ناتج الربح خمسة آلاف، بأن کانت قیمة

ص:92

البیع تسعة آلاف، فإن صاحب الصوف یأخذ أربعة آلاف قیمة صوفه الخام، وبعد ذلک یجب أن تقسم خمسة آلاف بین صاحب المعمل، ومالک الصوف، والمدیر، والعمال.

وهنا المشکلة، لکل واحد منهم کم من هذه الخمسة، لأن:

أ: صاحب المعمل یرید حقه من جهة تحطم شیء من معمله، وربح ذلک أیضاً، فإن المعمل عمل مجسم وله ربحه.

ب: وصاحب الصوف یرید ربح صوفه.

ج: والمدیر یرید ما یقابل عمله الفکری والجسدی.

د: وکذلک الدلال الجالب والمسوق.

ه_: والعمال یریدون بقدر عملهم الجسدی.

ومن الواضح أن مثل هذا التقسیم بحاجة إلی عدة من الفقهاء والاقتصادیین والاجتماعیین لیعرفوا الشرع والعرف والموازین الاقتصادیة.

ومثل هذا الکلام یجری باختلاف، فی کل انواع التجارة والمهن والزراعة وغیرها، فکم یکون لکل من المتضاربین حتی لا یکون إجحاف من أحدهما علی الآخر، وکم یکون أجر الطبیب بمختلف ما یقوم به من العملیات الجراحیة وغیرها، وکم یکون أجر المهندس، والمعلم، وصاحب المطبعة و...، وکم یکون لمالک الأرض الذی تعب علیها بدون استغلال وأخذ الفرص من الآخرین، وللزارع وللمسوقین للحاصل، إلی غیر ذلک من عشرات المسائل الاقتصادیة العویصة.

ص:93

بین نص القانون وروحه

بین نص القانون وروحه

الأمر العاشر: الدستور الإسلامی فی الحکم له روح تنبع من الفطرة الإنسانیة، کما قال سبحانه:((فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْها))((1))، وحیث إن الإنسان بنی فی خلقته علی السماح والتعاون والحریة واحترام الإنسان ومساواة أفراده والخضوع للقوة التی خلقته، فقد وضع الدستور الإسلامی علی تلک المبادئ.

کما أشار إلی کل تلک المبادئ القرآن الحکیم بقوله:((خُذِ الْعَفْوَ وَ أمر بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلینَ))((2)).

و:((تَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَ التَّقْوی))((3)).

و:((وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتی کانَتْ عَلَیْهِمْ))((4)).

و:((وَجَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاکُمْ))((5)).

و:((إِنِّی وَجَّهْتُ وَجْهِیَ لِلَّذی فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنیفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِکینَ))((6)).

إلی غیر ذلک من الآیات والروایات.

وحیث إن القانون بنفسه قد لا یتلاءم مع الإنسان، لاختلاف البیئات والمناخات والشعوب وما أشبه ذلک، فقد لاحظ الإسلام فی جعل القوانین ثلاثة أمور:

1) الأمور الأصیلة التی لا تختلف إطلاقاً، کالمبادئ السابقة.

2) القوانین الکلیة التی هی إطارات تصح ضمنها مختلف التطبیقات، فلکل ظرف تطبیقه الخاص به.

ص:94


1- سورة الروم: 30.
2- سورة الأعراف: 199.
3- سورة المائدة: 2.
4- سورة الأعراف: 157.
5- سورة الحجرات: 13.
6- سورة الأنعام: 79.

3) الأحکام الثانویة التی تطبق عند تعذر أو تعسر الأحکام الأولیة، مثل قوانین «ما لا یعلمون»، و«ما اضطروا»((1))، و«ما استکرهوا» و«الحدود تدرء بالشبهات»((2))، وقاعدة العدل والإنصاف، وقاعدة الأهم والمهم وغیرها، وبسبب هذا التنویع فی الأحکام أصبح للدستور الإسلامی جسم وروح، تستقی منهما التطبیقات فی مختلف الظروف والأحوال.

أما القوانین الوضعیة، فقد اختلف القائمون بها، بین أن یعملوا بالنص أو بالروح عند التضارب، سواء فی التشریعیة، إذا خالف الدستور الظروف، فهل یتقید المتشرعون فی وضع القوانین الجدیدة بإطار الدستور، أم لهم الخروج عنه إلی المماشاة مع الظروف.

أو التنفیذیة، فیما کانت السلطة التنفیذیة تری المضادة بین قوانینها وبین متطلبات الظروف الخارجیة.

أو القضائیة، کما إذا رأی القاضی المخالفة بین روح القانون الموضوع لأجل الحق والعدل، وبین القانون الموضوع، مثلاً کانت البینة فی جانب المدعی، لکن کانت القرائن فی جانب المنکر.

ولهذا التضاد والتناقض تجبر الدولة علی تعدیل القوانین بین حین وحین، ولیس التعدیل فی الحقیقة إلاّ تقییداً لمطلق القانون، أو إطلاقاً لمقیده، أو شطباً لقانون لتضع مکانه قانوناً ملائماً.

لکن الإسلام کما عرفت غنی عن کل ذلک، حیث إن قوانینه وضعت ذات روح وجسد، والأمر لا یخرج عنهما أبداً، ولذا ورد: «حلال محمد (صلی الله علیه وآله) حلال إلی یوم القیامة، وحرام محمد (صلی الله علیه وآله) حرام إلی یوم القیامة»((3)).

ص:95


1- انظر الوسائل: ج11 ص295 الباب 56 من جهاد النفس.
2- مستدرک الوسائل: ج3 ص219 الباب 21 من الحدود ح4.
3- الوسائل: ج18 ص124 الباب 11 من صفات القاضی ح47.

الترقیع فی القوانین

الترقیع فی القوانین

وقد وقعت البلاد بعد أن دخلها المستعمرون وعملاؤهم فی اضطراب شدید من جهة الدستور، حیث إن المشرعین الغربیین حقیقة أو ائتماراً وقعوا فی حیرة بین قوانین الإسلام السائدة فی البلاد، والتی لا یتمکن المسلمون بحکم دینهم أن یغضوا عنها، وبین القوانین الوضعیة التی أرادوا إجراءها لتلوین البلاد بلون الغرب، حتی یکون ذلک ضماناً لتبعیة البلاد للغرب.

وهکذا کان شأن البلاد الإسلامیة التی استعمرها الشرق، ومن هذه الجهة حدثت ترقیعات مشینة فی القوانین، مثلها مثل ترکیب فهد مع طائر، وأصبحت الدساتیر متهافتة متناقضة، کما أصبح المجرون لتلک القوانین کیفیین یحملون حسب أمزجتهم.

وفی بعض البلاد کالعراق، جعل المستعمر بریطانیا منذ أول الملکیین وإلی الیوم حیث یحکم البعث، ثلاثة أشکال من القوانین: القانون المدنی المتهافت والقانون الشرعی والقانون العشائری، والثلاثة متناقضة بعضها مع بعض، بالإضافة إلی تناقض نفس کل واحد فی مواده المتعددة، حیث إنهم أرادوا خداع المسلمین فأدخلوا فی کل واحد من الثلاثة أموراً إسلامیة وغیر إسلامیة، وقد مثل أحد ظرفاء شعراء إیران حکومة رضا خان البهلوی ب_ (بعیر ثور نمر)((1)).

أما دساتیر سائر البلاد، فمن الواضح أنه لم یکن للمسیحیة وغیرها من الأدیان السائدة إلی ما قبل الحضارة الحدیثة دستور سیاسی اقتصادی اجتماعی، بل

ص:96


1- قال: (این است حکومت شتر کَاو بلنک) تشبیهاً بالزرافة التی یسمیها الفُرس بهذا المزیج من الأسماء الثلاثة، لأنها تشبه البعیر فی رقبتها، والثور فی ضخامتها، والنمر فی لون جلدها.

کان الشعار: (دع ما لقیصر لقیصر، وما لله لله)، ولما أن وضعت الدساتیر تداخلت الأطماع مع الإخلاص، فالمخلصون الذین أرادوا تحریر الإنسان ورفاهه کان لهم اتجاه فی کتاباتهم وأشعارهم وشعاراتهم، کالعدالة والحریة والمساواة وتخلیص الإنسان من استغلال الإنسان. وأصحاب الاطماع والأهواء أمثال الرأسمالیة والشیوعیة، کان لهم اتجاه آخر، من النفعیة والسیطرة (دیکتاتوریة البرولیتاریا)، وبین هذین الاتجاهین: المخلص والطامع، وضعت الدساتیر، ولذا کانت الدساتیر ترقیعاً مشیناً، بالإضافة إلی أن التطبیقات صارت حسب الأهواء.

هذا بالإضافة إلی أنه قد اختلفت الدساتیر من بلد إلی بلد، مع أن الإنسان فیها واحد، فإذا أغمضنا النظر عن المناخات المختلفة والطبائع المختلفة، لم یکن وجه للاختلاف فی الدساتیر، بالإضافة إلی أن المناخات والطبائع لا تغیر من الأمر المشترک، مع أن الدساتیر تختلف فی الأمر المشترک، مثلاً تجد بلداً یحکم بالإعدام بالنسبة إلی بائع المواد المخدرة، بینما تری بلداً آخر یبیح بیعها.

وحینما کان بلد غربی أو شرقی یرید تصدیر دستوره، کان لابد له من ملاحظة البیئة والمناخ ومزاج الشعوب المصدر إلیهم، فکان یأقلمه بصفات البلاد المصدر إلیها، وبذلک کان یقع التناقض بین دستور المستعمر بالکسر والمستعمر بالفتح.

وحسب هذه الأمور والتی ذکرت جملة منها وضع الدستور الغربی غالباً علی العقیدة المسیحیة والفکر الرأسمالی الدیمقراطی، بینما وضع الدستور الشرقی علی الإلحاد والفکر الشیوعی الدیکتاتوری، مع العلم أنه اختلفت البلدان الغربیة والشرقیة فی وضع الدستور المأخوذ من نفس تلک المبادئ التی آمن بها زعماؤها، بین متشدد ومستهسل.

ص:97

بحوث فی الأحزاب

اشارة

بحوث فی الأحزاب

(مسألة 35): نتکلم فی هذه المسألة حول الأحزاب بالقدر المحتاج إلیه فی هذا الکتاب، فنقول:

الجماعة من الناس إذا لم یکن لهم لون بنائی، أی لم یبنوا علی لون خاص، تسمی (شعباً)، فیقال الشعب الهندی، والشعب الإندونیسی، حیث إن الذین یعیشون فی الهند أو إندونیسیا لم یبنوا علی هذا اللون، بل ولدوا فی ذلک البلد بغیر إرادتهم، وإذا بنوا علی شیء سمی (أمة) مثل الأمة الإسلامیة.

ثم فی داخل الشعب والأمة قد تتکون مجموعة لها هدف خاص، من سیاسة أو ثقافة أو مال أو نحوها، فیسمی (جماعة) أو (جمعیة) أو (هیئة) أو (فرقة)، وفی الغالب تسمی (حزباً)، إذا کان لها هدف سیاسی، أی إدارة البلاد.

وقد تنسب الجماعة إلی محل جلوسهم مثل (مجلس العموم البریطانی)، ویقال: (مجلس الأمة) باعتبار أن نواب الأمة یجلسون فی ذلک المجلس، ومثله (مجلس اللوردات) وما أشبه ذلک.

وهذه الأسامی اصطلاحات _ ولا مشاحة فی الاصطلاحات _ وإن کانت هنالک واقعیة باعتبار (اللابناء) أی لا بشرط، و(البناء) علی شیء من عقیدة أو عمل، والبناء قد یکون واسعاً کالأمة، وقد یکون خاصاً

ص:98

کالحزب والجماعة، وفی البناء الخاص قد تکون النسبة إلی المحتوی بالکسر کالمجلس، وقد تکون النسبة إلی المحتوی بالفتح کالجماعة والحزب.

وقد ورد اسم الحزب فی القرآن الحکیم، لا بالمعنی الاصطلاحی فی الحال الحاضر، فهناک سورة فی القرآن الحکیم باسم (سورة الأحزاب).

واستعماله فی القرآن الحکیم تارة فی الخیّرین، مثل((حِزْبَ اللَّهِ))((1)).

وتارة فی الشرّیرین، أو الاعم، مثل قوله سبحانه:((وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأحزاب))((2)).

وقوله سبحانه: ﴿مِنَ الَّذینَ فَرَّقُوا دینَهُمْ وَکانُوا شِیَعاً کُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَیْهِمْ فَرِحُونَ﴾((3)).

وقوله تعالی: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَیْنَهُمْ زُبُراً کُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَیْهِمْ فَرِحُونَ﴾((4)).

کیف تتکون الأحزاب

کیف تتکون الأحزاب

وأصل تکوّن الحزب إنما هو من وجود الفوارق النفسیة بین الناس، فکل جماعة وأمة وشعب وقبیلة لابد وأن یوجد بینهم أناس لهم صفات نفسیة متمایزة وکفاءات خاصة، وتلک الصفات تدعو أولئک الأفراد إلی الأنانیة تارة، وإلی المشارکة الوجدانیة أخری.

وبذلک یجمع ذلک الإنسان حول نفسه جماعة یصبهم فی اتجاهه، إما لإشباع رغبته فی السیادة والأنانیة، وإما لجعلهم خدمة الناس بالقیام بحوائجهم لحسه بالمشارکة مع الناس فی أحزانهم وآلامهم وآمالهم، وهذا ما یصطلح علیه بالمشارکة الوجدانیة.

ص:99


1- سورة المائدة: 56.
2- سورة الأحزاب: 22.
3- سورة الروم: 32.
4- سورة المؤمنون: 53.

الأحزاب والتواجد الدائم

الأحزاب والتواجد الدائم

وحیث إن التجمع الصغیر فی داخل التجمع الکبیر نابع عن داخل الإنسان کما عرفت، فقد کان الحزب موجوداً منذ الأول، وإنما اختلفت الضوابط والخصوصیات وتطورت حسب تطور الزمان، وحیث إن الحکم کان فی کل تجمع حتی البدائی منه، إذ رئیس القبیلة یحکم فی قبیلته، فالتجمع السیاسی (الحزب) کان موجوداً منذ ذلک الحین.

ثم إنه فرق بین (الحزب السیاسی) وبین (الجمعیة السیاسیة) فی المصطلح الحدیث.

فالأول: عبارة عن جماعة ذات ضوابط خاصة ترید الوصول إلی الحکم.

بینما الثانی: یکون فی هامش الحکم، مثل ما یسمی ب_ (جمعیة الصداقة)، حیث یکون فی البلد جماعة یهوون حکومة خاصة، ویدافعون عن مصلحتها، إما عمالة أو أصالة، حیث یرون أن من صالح البلاد الارتباط بتلک الحکومة، فمثل هذه الجمعیة لا ترید الوصول إلی الحکم، وإنما تکون فی هامش الحکم لأنها تقوی الحکم.

وإذ قد عرفت أن لفظ (الحزب) لیس إلاّ اصطلاحاً، فقد کان هذا اللفظ غیر متداول فی السابق، ولذا خلی الدستور الفرنسی المدون (1831) م عن هذا اللفظ، ثم لما دون الدستور البلجیکی مقتبساً عن الدستور الفرنسی لم یذکر فیه هذا اللفظ، ولما أخذ الدستور الإیرانی عن البلجیکی فی أبان الحرکة الدستوریة (المشروطة) خلی عن هذا اللفظ، وإن ذکر فیه لفظ آخر بمعناه أیضاً، مثلاً ذکر فی متمم القانون الأساسی الإیرانی: (إن کل مجلس وتجمع لا یولد فتنة دینیة أو دنیویة ولا یوجب الفوضی فهو حر فی عمله).

ص:100

نظرة علی الحرکة الدستوریة

نظرة علی الحرکة الدستوریة

ومما یجب التنبیه علیه بهذا الصدد، أن العلماء الذین قادوا الحرکة الدستوریة، أمثال الزعیم الرشید الواعی آیة الله الآخوند صاحب الکفایة، لم یخطؤوا فی الحرکة:

1) فإن تسلیمهم بالملوکیة کان من باب جعلهم الملک یسود ولا یحکم، فهو لیس إلاّ رمزاً لأجل اللابدیة، فیکون فی الدولة نفران: رمز وحاکم. کما فی رئیس الجمهوریة ورئیس الوزراء. أو ملک انکلترا والحکومة، فقرروا ملکاً رمزاً.

ولسنا نحن الآن بصدد وجه الاحتیاج إلی الرمز، وإن کان یلخص فی کونه وجه المحبوبیة فی الدولة مما یستلزم الالتفاف حول الدولة أکثر، وإن کنا نحن لا نری هذا الرأی، واختلاف رأینا ورأیهم من باب اختلاف الاجتهاد، لا من باب التخطئة.

2) کما أن انحراف الدستوریة کان مما لابد منه، حتی وإن لم تکن مشروطة، بل إنا نعتقد أنه لولاها لکانت إیران الیوم جزءاً من الإمبراطوریة الروسیة الشیوعیة.

أما أنه لولا الحرکة الدستوریة لکانت إیران کذلک، فلوضوح أن تجدد الحیاة فی الغرب والشرق وجمود الدولة الإیرانیة مما جمد بسببه شعبها، کان قد أوصل إیران إلی حافة الهاویة، ومن الطبیعی أن الأمة النشطة تأکل الأمة الخاملة الجامدة، کلما کان ضعیف أکلته الأقویاء، ولذا کان لابد وأن تؤکل إیران، وحیث إن الغرب بعید عن إیران، کان لابد من أکل الشرق الشیوعی لها، فإن الشیوعیة کانت غازیة نشطة فی أول تکونها، ولذا تمکنت من أکل بلاد الإسلام وتحویلها إلی الشیوعیة فی الجمهوریات الست وغیرها.

ص:101

وقد کان من وصایا (لینین): خذوا إیران فإنها باب الشرق، وقد رأینا محاولة الشیوعیة اقتطاع آذربایجان ودخولهم شرق إیران بعد الحرب العالمیة الثانیة، کما نری الآن دخولهم أفغانستان بالحدید والنار.

وأما کیف أن الدستوریة وقفت دون تلک المحاولة، فلأن المشروطة أیقظت الشعب الإیرانی مما حال دون ابتلاع دولة لها، لکن الخطأ وقع فی أن من بعد الآخوند (رحمه الله) لم یقدروا الغرب الاستعماری حق قدره، وعذرهم فی ذلک هو عدم اطلاعهم علی الأوضاع العالمیة، فقد مات الآخوند (رحمه الله) بالسم عند بزوغ المشروطة، والذین جاؤوا من بعده، لم تکن لهم قوة الآخوند الاجتماعیة ونفوذه الشعبی، بالإضافة إلی أنه لم تکن عندهم تلک الرؤیة المستقبلیة، ولذا وقعت إیران فی أنیاب الاستعمار الغربی.

وبمثل هذا السبب وقع العراق فی أنیاب الاستعمار، حیث إن القائد المخطط للثورة ضد المستعمر، وهو آیة الله المیزا الشیرازی (رحمه الله) مات سماً عند بزوغ الاستقلال، ولم یکن لمن خلفه الرؤیة والشعبیة التی تمکنه من إیصال سفینة الاستقلال إلی الشاطئ بسلام، وبین عدم الرؤیة المستقبلیة وعدم النفوذ الشعبی سقط العراق فی أنیاب المستعمر البریطانی العجوز.

وکیف کان، فالکلام الآن فی مهیة الحزب وبعض خصوصیاته.

أرکان التکتل الحزبی

اشارة

أرکان التکتل الحزبی

إن السیاسین قالوا: بأن الحزب لابد وأن تکون له أرکان خمسة.

ص:102

((الاستمراریة))

((الاستمراریة))

الأول: یجب أن یکون الحزب شلالاً مستمراً، کالنهر الجاری الذی لا یوقت بزمان دون زمان، بل اللازم أن یکون بحیث لا یرتبط وجوده ببقاء زعمائه، کلما مات زعیم قام آخر مکانه، وحتی لو مات جمیع الزعماء دفعة واحدة بقی الحزب، وإنما سمیناه شلالاً، لأن الواجب فی الحزب النشاط المتزاید المندفع، وإلاّ فلو سار الحزب سیراً جریانیاً، لتوقف عن التزاید الکمی والکیفی، وکل شیء لیس فیه تزاید أفل إلی الزوال، کما ورد فی الحدیث: «ومن لم یکن فی زیادة فهو فی نقصان»، إذ الأحداث تلطمه وتلطمه حتی تمحیه من الوجود.

الفلسفة الحزبیة

الفلسفة الحزبیة

الثانی: أن یکون له فلسفة حزبیة ینبعث منها، فلیس الحزب عملاً خارجیاً فقط، وإنما فلسفة توجب شد بعض أجزائه ببعض، وتحدد له هدفاً ووسیلة، وتکون هی المرجع عند الاختلاف، وذلک مثل فلسفة استمرار الرأسمالیة أو الاشتراکیة أو الشیوعیة أو تعمیمها أو ما أشبه، ومثل فلسفة تطبیق عقیدة أو شریعة أو تعمیمها، إلی غیر ذلک من الفلسفات التی ترجع بالنتیجة إلی العقیدة، أو النظام، أو کیفیة التطبیق.

مثلاً إنا نرید التعمیم للعقیدة الإسلامیة، أو تطبیق الشریعة الإسلامیة، ویکون التطبیق للشریعة بأسلوب اللاعنف المستفاد من((ادْعُ إِلی سَبیلِ رَبِّکَ...))((1))، أو((ادْخُلُوا فِی السِّلْمِ کَافَّةً))((2))، إلی غیر ذلک.

ص:103


1- سورة النحل: 125.
2- سورة البقرة: 208.
فروع الحزب

فروع الحزب

الثالث: یجب أن یکون الحزب ذا تنظیمات ومؤسسات محلیة ترتبط کلها بالنواة المرکزیة للحزب، لأن تلک التنظیمات المحلیة إذا لم تکن، لم یقدر الحزب علی العمل فی ذلک المحل، ولو کانت ولکنها لم ترتبط بالمرکز حصل الانفصام المخرج للحزب عن الوحدة، فلا یکون بینهما ترابط، وبذلک یخرج عن کونه حزباً واحداً، بل کان مثله فی عالم الحکومات مثل الملوک للطوائف، أو کالبدن المقطوع أجزاؤه.

ارتباط الحزب بالجماهیر

ارتباط الحزب بالجماهیر

الرابع: یلزم أن یکون الحزب مرتبطاً بالناس ارتباطاً وثیقاً، إذ إن ذلک هو الذی یمکن الحزب من التوسعة الکمیة والکیفیة والتصاعد، وإلاّ فلو انحصر الحزب بأعضاء خاصین بدون الارتباط بالناس، کان کأقلیة فی أکثریة، مثل قلة من الیهود فی ضمن بلاد المسیحیین، فإن الناس هم مصدر الاستمرار والتوسع والتصاعد، وکما لا یتمکن غصن بعد قطعه عن الشجرة من الاستمرار فی الحیاة وإعطاء الزهر والورق والثمر، کذلک یکون الحزب الذی قطعت صلته بالناس.

ولذا یجب علی الحزب أن یکون مع الناس، فیشرح فلسفته للناس ویخدم الناس ویعطی ویأخذ منهم، وبدون هذه الأعمال الثلاثة یقطع الناس علاقتهم به، إذ الناس لا یریدون دکتاتوراً فی الفکر، ولا دکتاتوراً فی العمل، ولا من

ص:104

یرید السیادة علیهم، بل یریدون من یفهمونه ویفهمهم، ومن یعطونه ویعطیهم، ومن یخدمهم لا من یستخدمهم، وإذا قطع الناس علاقتهم بالحزب بقی حزباً فی الفراغ، لا یمر زمان إلا ویذوی ویموت کما یموت الغصن المنقطع عن شجرته.

ولا یخفی أن الحزب السری أکثر احتیاجاً إلی مثل هذا الشیء، إذ طبیعة الناس الخوف من الأعمال السریة، حیث لا یعلمون ماذا وراءها، لأنها لیست فی النور حتی یرونها.

ولذا یکون من الضروری فی الحزب السری أن یکون هدفه معلوماً للناس، وإنما الذی یخفی علیهم هو أفراده، وإذا علم الناس بالهدف وبالوسیلة التی یسلکها الحزب فی الوصول إلی ذلک الهدف، وإنما کان المجهول الأفراد فقط وأقنعوا بأن اختفاء الأفراد إنما هو خوفاً من بطش السلطة، وثقوا بالحزب والتفوا حوله، وحفظوه عن قمع السلطة.

فإن مثل الحزب الصحیح السری فی الناس مثل السمکة فی الماء، فکما أنه إذا نضب الماء ظهرت السمکة وماتت، کذلک إذا انحسر الناس عن أطراف الحزب، لم یقدر علی التحرک وعلی الازدیاد فی الأفراد، وعلی الازدیاد فی الکیف بالتصاعد الفکری وإعطاء فکرته للناس، وبذلک یذوی ویموت.

الهدف: الوصول إلی السلطة

الهدف: الوصول إلی السلطة

الخامس: یلزم علی زعماء الحزب أن یکون هدفهم الوصول إلی الحکم، سواء کان قصدهم الوصول وحدهم کما فی الأحزاب المبنیة علی الدیکتاتوریة، أو بمعاونة الأحزاب الأخر کما فی الأحزاب المبنیة علی الدیمقراطیة، وإلاّ فإذا لم یقصد الحزب ذلک لم یکن له هدف سیاسی، وهو خارج عن محل الکلام،

ص:105

وفی الاصطلاح الحدیث لا یسمی مثل ذلک حزباً.

وما ذکرناه من أن قصد الحزب إذا کان الاستئثار بالحکم لوحده کان دیکتاتوریاً، هو فیما إذا لم یکن هناک جناحان حقیقیان فی الحزب هما بمنزلة حزبین أو أجنحة، وإلاّ لم یکن دیکتاتوریاً إذا توفرت فی تلک الأجنحة أو الجناحین ما یتوفر فی الأحزاب المستقلة أو الحزبین المستقلین، وسیأتی الکلام حول ذلک.

ومما تقدم من المقومات الخمسة للحزب یتجلی تعریف الحزب، وهو (الجماعة المترابطة من الناس الذین لهم تنظیم علی سطح الدولة، ولهم فلسفة خاصة، وهدفهم الوصول إلی الحکم).

وهناک تعاریف أخر للحزب لا یهمنا التعرض لها.

لکی یکون الحزب ناضجاً

لکی یکون الحزب ناضجاً

وأهم شیء فی الحزب هو النضج، والنضج عبارة عن:

1) فهم السیاسة والاقتصاد والاجتماع فهماً کاملا.

2) الاتصاف بالحزم واللین والاستقامة وروح الشوری والواقعیة.

قال الشاعر:

وأحزم الناس من لم یرتکب عملاً

حتی یفکر ما تجنی عواقبه

وهذا المعنی هو شیء من الحزم، وقد وصف الإمامَ أمیر المؤمنین (علیه السلام) أحدُ تلامیذه بقوله: «کان والله بعید المدی».

وقد قال الرسول (صلی الله علیه وآله) لعلی (علیه السلام): «إن من مکارم الأخلاق

ص:106

الدنیا والآخرة اللین والعفو والسخاء».

وقد نظمه الشاعر بقوله:

مکارم الأخلاق فی ثلاثة منحصرة

لین الکلام والسخا والعفو عند المقدرة

والاستقامة توجب اطمینان الناس بالحزب، قال سبحانه:((فَاسْتَقِمْ کَما أُمِرْتَ))((1))، والاستقامة تکون فی الکم وفی الکیف، فالسیارة التی تمشی بسرعة أو ببطء غیر مستقیمة، کما إنها إذا مشت تارة ذات الیمین وأخری ذات الشمال لیست مستقیمة.

وروح الشوری، أن یکون الحزب بحیث لا یرید الدیکتاتوریة والاستبداد برأیه، ففی الحدیث: «من استبد برأیه هلک»((2)). وذلک لأن الأعضاء یتفرقون عن الحزب، ولا ینضم إلیه أعضاء جدد، وبذلک یضمحل الحزب.

والشوری وإن کانت تدمغ الأنانیة الکامنة فی بعض النفوس، إلاّ أن دمغة التأخر والسقوط أشد إیلاماً من دمغة الشوری.

والواقعیة عبارة عن رؤیة الواقع کما هو، والعمل بتلک الرؤیة، وذلک بالإضافة إلی أنه صدق، یوجب التفاف الناس حول الحزب، فإن الکذب والخداع وما أشبه أمور وقتیة، ثم تتبخر ویبقی عادها الموجب لانفضاص الناس من حول الحزب.

قال سبحانه: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَیَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما یَنْفَعُ النَّاسَ فَیَمْکُثُ فِی الْأَرْضِ﴾((3)).

ص:107


1- سورة هود: 112.
2- نهج البلاغة: الحکمة 161.
3- سورة الرعد: 17.

نعم شجرة الحق کسائر الأشجار، قد تکون بطیئة الثمر کثمرة التفاح، وقد تکون سریعة الثمر کشجرة الیقطین، ولذا قال سبحانه: ﴿أَ لَمْ تَرَ کَیْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً کَلِمَةً طَیِّبَةً کَشَجَرَةٍ طَیِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِی السَّماءِ﴾((1)).

وعلی أی حال، فالحزب مثله مثل الفرد، فی أنه کلما کان متصفاً بالعلم والفضیلة کان تقدمه فی المجتمع أسرع، والتفاف الناس حوله أکثر، واحتمال سقوطه أقل، وکلما کان بالعکس کان الأمر بعکس ذلک، وقد سأل رجل عن الإمام (علیه السلام) ما الحیلة، فقال: «فی ترک الحیلة»، فإن الحیلة لا تفتؤ أن تنکشف وعند ذلک السقوط الذی لا قیام بعده.

ومما تقدم یفهم وجوب کون الحزب متصفاً بالدقة فی فهم الزمان ومتغیراته، إذ الزمان کالنهر الجاری کل آن غیر الآن السابق، وکما قال علی (علیه السلام): «یتقلب بأهله من حال إلی حال»، فإذا لم یفهم الحزب متغیرات الزمان تغیر فجأة بما یسقط الحزب فی کثیر من الأحیان، ویجعله تاریخاً فی ثنایا الکتب، وقد رأیت أنا ثلاثة وأربعین حزباً فی العراق کلها سقطت فی أقل من ربع قرن، وذلک بسبب عدم امتلاکها لشرائط الحزب الصحیح.

ولا یخفی أن من شرائط الحزب: الانسجام مع ذهنیات وعقائد الأمة التی یرید الحزب أن یعیش فیها، ففی البلد المؤمن لا یمکن أن یعیش حزب لیس مقیداً بالإیمان فکیف بالحزب الکافر، فإذا أراد حزب أن یعیش فی بلد الإسلام وجب علیه أن یتقید بالإیمان عقیدةً وشریعةً ونظاماً، وبهذا السبب سقطت

ص:108


1- سورة ابراهیم: 24.

الأحزاب الشیوعیة والاشتراکیة والبعثیة فی جمیع البلاد الإسلامیة، مهما کان الشرق والغرب وراءها وکانت مزودة بالمال والإرهاب، والسر أنها لم تکن خالیة عن الخداع والإرهاب والاستظهار بالاستعمار.

بین حزب الحاکم والحزب الحاکم

بین حزب الحاکم والحزب الحاکم

ثم إن الحزب علی قسمین:

1) الحزب الحاکم.

2) وحزب الحاکم.

فالأول: هو الحزب الذی وصل بالطرق الاستشاریة والانتخابات الحرة إلی الحکم بأکثریة الآراء، ومثل هذا الحزب لابد وأن یکون من الأمة وتکون له قواعد فی الأمة، بینما الثانی بالعکس، حیث إنه یصدق فی مقامین:

أ) ما إذا کان حزباً دیکتاتوراً ضرب سائر الأحزاب، وبقی الحزب الوحید فی الساحة، فهو حزب وحاکم فی نفس الوقت، ومثل هذا الحزب یعتمد دائماً علی القوة: قوة المال وقوة السلاح وقوة الخداع، لأن الناس بطبعهم ضد الدیکتاتوریة، فلابد لمثل هذا الحزب من القوة وسیلة لبقائه، ولکن لا یمر زمان إلاّ وینهار مثل هذا الحزب، طال الزمان أم قصر، أمثال الحزب الفاشستی والنازی وغیرهما.

ب) ما إذا کوّن الحاکم الحزب، فإن مثل هذا الحزب لا یکون إلاّ مهلهلاً نفعیاً، لا تلائم بین أفراده، ولا هدف سامی له، ولا وسیلة صحیحة، وإنما یجمعهم الانتفاع، ویحدوهم الحکم لمجرد الحکم، وهذا أیضاً فی سبیل الانهیار، أمثال

ص:109

الحزب الاشتراکی الذی کوّنه ناصر مصر، وحزب رستاخیز الذی کونه شاه إیران، ومن الواضح أن مثل هذا الحزب یبقی ببقاء الحاکم، فإذا زال الحاکم زال، وقد یکون الحاکم بنفسه یحل الحزب.

أما الحزب بالمعنی السیاسی الصحیح لهذه الکلمة، فهو جزء من الأمة، له هدف تقدیم الأمة إلی الأمام، وإصلاح المفاسد، ودرء الأخطار، فهو جزء من الأمة یمتاز عنها بالتنظیم، وکثرة التفهم للواقع، وکثرة العمل، فیکون من الأمة وإلی الأمة، وإذا وصل إلی الحکم وسع خدماته وإصلاحاته، حیث یتمتع حینذاک بالمال والقدرة، وحیث إن الحزب جزء من الأمة یرید خدمة کل الأمة، فهو یتکلم عن الأمة ککل، ویناضل لأجل الوصول إلی الحکم لأجل الکل، ولذا یعد من یخالفه مخالفاً للأمة.

ثم إنه وکثیراً ما یوحد الحزب القوی الذی هو خارج الحکم جهوده مع سائر الأحزاب الضعیفة، لأجل أن یقفوا ضد الحزب الحاکم، أو ضد حزب الحاکم، لأجل الوصول إلی الحکم وإسقاط الدولة، ویعدُ الأحزاب والمنظمات الضعیفة بإعطاء بعض رغباتهم إذا ساعدوه فی الوصول إلی الحکم.

أحزاب غیر سلیمة

أحزاب غیر سلیمة

ثم إن الحزب بالمفهوم الحالی، لما لم یکن بعید عهد بالتکوّن، وإنما کان فی السابق الحزب بمعنی الجماعة العاملة، أو ما أشبه کما تقدم، وقع العالم فی اضطراب کبیر حول تکوین الأحزاب، کما هو شأن کل سریع النمو، وفی المثل: (سریع النمو سریع الزوال) و(سریع النمو کثیر الاضطراب).

ص:110

فقد قال بعض السیاسیین: إنه لم یکن قبل مائة وثلاثین سنة حزب سیاسی بالمفهوم الحدیث فی أی من بلاد العالم باستثناء إمریکا الشمالیة، بینما صار الحزب علناً أو سراً یعمل فی کل بلاد العالم بعد مائة عام من ذلک التاریخ.

ولأجل هذا التسرع فی تکون الأحزاب حدث أمران:

1) ولادة الأحزاب الدیکتاتوریة، کالأحزاب الشیوعیة فی البلاد الشیوعیة، وکالأحزاب البعثیة والاشتراکیة وما إلیهما فی البلاد الدیکتاتوریة، وذلک لأن الدیکتاتوریة لیست إلاّ أنانیة، لا یمکن أن تنمو إلاّ فی بلاد ضعف الرشد الفکری فیها، فکما أن الإنسان الأنانی لا یمکن أن یعیش إلاّ فی مجتمع جاهل، کذلک الحزب الواحد الدیکتاتوری لا یمکن أن یعیش فی مجتمع رشید ناضج، ولذا نری أنه کلما نضج المجتمع اشتد صراعه مع الحزب الدیکتاتوری.

2) الأحزاب الفجة، فإن الفجاجة لا تکون إلاّ من آثار السرعة، فکما أن رجل الشارع إذا وضع فی مکان مدیر قدیر لم یتمکن من الإدارة وأتی بالأعمال الفجة، کذلک إذا تکون الحزب بدون المقومات الأساسیة له فإنه یکون فجاً، وإذا کان سریاً کانت الفجاجة فیه أکثر، حیث لم ینبت فی جو طبیعی، وتعقدت نفسیات کوادره.

وکلما کان الحزب أکثر فجاحة کان أعماله اللاإنسانیة أکثر، وکان عنفه واعتباطیاته أکثر، وذلک یوجب اجتثاثه عن المجتمع، فلا محل له فی المجتمع، ولا یتمکن من عمل شیء إلاّ بمساندة الاستعمار وبالعنف، وبقاء هذین النوعین من الأحزاب رهین بجهل الأمة، ولذا یمارس کلاهما سیاسة التجهیل، ویحارب الرشد بکل قوة وخداع.

ثم إن الحزب الذی یتمتع بالشعبیة، یقدر علی تکوین المظاهرات والإضرابات، وکلما کان الحزب أقدر علی هذین الأمرین کان دلیلاً علی کثرة شعبیته، وبالقوة الشعبیة المتزایدة یتمکن الحزب من فرض إرادته علی الدولة،

ص:111

وتحقیق المصالح الاجتماعیة حسب ما یراه صالحاً، والعکس بالعکس.

اتحاد الأحزاب واندماجها

اتحاد الأحزاب واندماجها

ثم إنه فی کثیر من الأحیان تشکل الأحزاب المتعددة وحدة واحدة لأجل الوصول إلی الحکم، من جهة تقویة إعلام کل حزب، أو من جهة التقلیل من مصارف الانتخابات، وقد تندمج بعض الأحزاب فی بعض، وذلک لقرب أهدافها، أو لإمکان وقوفها فی مواجهة الحزب القوی الذی هو ضد أهداف کل هذه الأحزاب، مثلاً الأحزاب المتعددة التی تجمعها الرأسمالیة تتحد ضد الحزب الاشتراکی.

وکذلک الأحزاب المتعددة التی تجمعها الاشتراکیة، تتحد ضد الحزب الرأسمالی، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

وکثیراً ما تتعارض الأحزاب عند إرادتها التوحد أو التجمع تحت وحدة واحدة لأجل تحدید کیفیة وکمیة تقسیم الأضرار والأرباح.

وإذا حصل لهم تجمع أو توحد عینوا المرشحین فی الانتخابات، والمرشحین للسلطة التنفیذیة والسلطة القضائیة، فیعرّفونهم للمنتخبین لیدلوا بآرائهم لهؤلاء المرشحین دون من سواهم، أو لیعینهم المرشحون إذا فازوا فی الانتخابات للسلطتین التنفیذیة والقضائیة، ومثل هذا الترشیح یکون بالنسبة إلی الحزب الواحد حیث یرشح من یختاره لیعرّفه للأمة، کیما تدلی بأصواتها لأولئک المرشحین.

ومن الطبیعی بعد ذلک أن یتقید النائب أو الحاکم أو القاضی فی السلطتین بآراء أکثریة حزبه فی علاج الأوضاع، لکن فی الإطار المعین دستوریاً أو

ص:112

تنفیذیاً أو قضائیاً، مثلاً الحزب الحاکم لا یری محاربة دولة، فلا یصوّت نوابه للحرب مع تلک الدولة، أو یری لزوم قبول زید لا عمرو لوزارة المال، أو یکون الحزب ضد أن یدخل القاضی الفلانی ضمن القضاة الذین هم مرجع التضارب بین الدستور والقوانین الجزئیة التی یضعها مجلس الأمة، أو تضعها السلطة التنفیذیة، إلی غیر ذلک من الأمثلة، لوضوح أن من یرشحه الحزب لابد وأن یکون مقیداً بآراء الحزب، لکن فی ضمن الإطار المقرر فإنه لا یتمکن أحد فی الدول الدیمقراطیة أن یتجاوز الإطار المقرر من أی السلطات الثلاث کان.

فوائد تعدد الأحزاب

فوائد تعدد الأحزاب

ونظام الأحزاب فی الدولة، یسبب:

1) توفیر الحریات للناس، حیث إن کل حزب یخاف من الحزب الآخر، فیعمل جهده فی إصلاح شأنه وخدمة الناس، لئلا یتقدم الحزب الآخر علیه، وبذلک یعیش الناس أحراراً، لا یتمکن أن یکبتهم أحدهم إلاّ فی إطار القانون.

2) کما یصل الناس فی مثل هذه الأنظمة إلی أهدافهم وحاجاتهم، وذلک لأن الحزب یعمل جاهداً لإعطاء حاجة الناس لئلا ینفرط منه أحد إلی الحزب الآخر، فهو نوع تنافس یسبب ظهور الکفاءات ودرء المظالم والتقدیم بالبلاد إلی الأمام، ولذا قال السیاسیون: إن الأحزاب السیاسیة المتعددة تسبب للجماهیر تنسم الحریات والتعبیر عن آرائها وإبداء رغباتها والوصول إلی أهدافها.

ومن الواضح أن مثل هذا النظام یقوم علی حزبین أو أکثر، والأکثر یجب

ص:113

أن یکون بقدر تحمل الأمة، فإنه کما یکون الحزب الواحد دیکتاتوریاً کذلک تکون کثرة الأحزاب فوضی، وفی النظام المتعدد الأحزاب یتعین أن تکون الجولة الانتخابیة حرة وصریحة، وإذا أسفر الانتخاب عن فوز فریق علی الآخر انقطع التنافس والتصارع، ولم تکن أحقاد، وینتهی الأمر بوضع کل یده فی ید الآخر فی صداقة تامة، وإلی جولة انتخابیة أخری، ویبدأ الجمیع الفائز وغیره فی العمل فی إطار القانون.

ولا یتعجب من أنه کیف ینقلب العدو صدیقاً، لأنه لم تکن صداقة ولا عداوة، وإنما تنافس علی الفوز، فإذا انتهی الأمر انتهی التنافس، لأن الطرفین قد ربیا علی ذلک، ومن الواضح أن التربیة لها أثرها، حال ذلک حال الألعاب الریاضیة، وحال الوصول إلی الدور فی السابق أو اللاحق.

نعم تبقی بقایا المرارات، فهی حاصلة لکل متأخر علی کل متقدم، وحتی إذا وصل أحدهم إلی إمامة الجماعة أو التدریس أو ما أشبه ذلک.

نعم فی البلاد المتخلفة حیث لا تربیة انتخابیة یکون الأمر بالعکس، فکثیراً ما ینتهی الأمر إلی صراع دام وإلی صدام بین الأطراف، کما شاهدنا مثل ذلک فی العراق وسوریا والباکستان وغیرها.

ولذا فاللازم تأصل روح الشوری فی مثل هذه البلاد حتی لا یسبب الفوز مثل هذه المآسی.

کما أن جنوح أکثر البلاد المتخلفة إلی الحزب الواحد فی الحکم، إنما هو أیضاً ولید الحالة الدیکتاتوریة المتأصلة فی النفوس، حیث توارثها الأبناء عن الآباء، فإذا ما أرادوا العمل الحزبی جنحوا إلی احتکار الأمر فی أنفسهم وضرب الأحزاب الأخر.

وقد کان (ماو) قبل وصوله إلی الحکم یقول: دعوا ألف مدرسة تفتح، وألف زهرة تتفتح، فلما وصل إلی الحکم أظهر دیکتاتوریة هائلة، وکذلک کان حال حزبی البولشفیک والمنشفیک فی روسیا، إلی غیر ذلک.

ص:114

أما حزب البعث والحزب الشیوعی ونحوهما، فلا یمکن عدهم فی هذا الصراط، لأنهم لم یکونوا من الوطن إطلاقاً، وإنما جاء بهم المستعمر إلی الشرق الأوسط لضرب بلاد الإسلام ونهب خیراته وتمکین إسرائیل أکثر فأکثر، وقد عمل کلهم حسب المخطط المرسوم له، فهم فی الحقیقة جیش احتلال لا حزب أمة وبرلمان.

الأحزاب السیاسیة وبرامج الإصلاح

الأحزاب السیاسیة وبرامج الإصلاح

وللأحزاب السیاسیة برامج فی إصلاح أداة الحکم وجهاز الدولة وتوفیر الرفاهیة للأمة، وفی علاج مشکلات النقد والأجور والأسعار، وفی مکافحة الأزمات الاقتصادیة، وحل مشکلة البطالة، وفی تعمیم الثقافة، وفی توفیر وسائل العمل، وتنمیة الإنتاج، وتکثیر الزراعة، وتصنیع البلاد، أو التقدیم بها فی هذا المضمار، وفی التقارب مهما أمکن مع الشعوب وبالأخص الجیران، والتبعد مهما أمکن عن الحرب.

وإذا کان الحزب دینیاً فی فکرته أو فی أفراده، حاول توسیع المناهج الدینیة وتضییق دائرة الإلحاد والرذیلة والفساد.

ولا یخفی أن الإصلاح الذی یبرمجه الحزب لایکون قفزیاً، إذ القفز العالی یوجب السقوط والانکسار غالباً، بل ینظم الحزب برامج فی جداول زمنیة معقولة للتسییر بالأمة صعداً، ولحل المشاکل بأسلوب معقول.

ولذا یحتاج الحزب إلی جیش من المثقفین والخبراء والفنیین من مختلف قطاعات الثقافة، سواء قبل وصوله إلی الحکم، أو بعد وصوله إلی الحکم، إذ عرض البرنامج علی الجماهیر لکسبهم حتی یصوتوا للحزب عند الانتخابات، لا یمکن أن یکون غیر مدروس بدقة، وإلا لم یتمکن الحزب من اکتساب الجماهیر

ص:115

الذین فیهم المثقف والعالم والخبیر، وما إلی ذلک ممن یمیز بین الشعار والواقع.

کما أن الحزب إذا وصل إلی الحکم ولم یقدر علی تنفیذ ما وعده سقط عن الاعتبار.

ص:116

موقف الإسلام تجاه الأحزاب

اشارة

موقف الإسلام تجاه الأحزاب

(مسألة 36): حیث قد عرفت فی المسألة السابقة مهمة الحزب وبعض خصوصیاته، نبین هنا رأی الإسلام فی الحزب، وهل أنه جائز أو حرام، فنقول:

1) الحزب إذا کان مقدمة البرلمان الذی یحکم حسب الآراء والأهواء کان حراماً، وذلک لأنه مقدمة الحرام وتعاون علی الإثم والعدوان، بل یعد فی عرف المتشرعة من أبشع المنکرات، حیث إنه یهیؤ لهدم الإسلام کله، وإحیاء الباطل کله، وانتهاک الأعراض والأنفس والأموال والحقوق، ولا یخفی أن مثل هذه الأمور تجعل الشیء من أشد المحرمات وإن قیل فی (الأصول) بعدم حرمة مقدمة الحرام.

2) وکذلک یحرم الحزب إذا کان سبباً لقبض أزمّة السیاسة فی البلاد من دون الانضواء تحت لواء الفقیه العادل الجامع للشرائط، إذ الإسلام قرر الولایة لله سبحانه، ثم الرسول (صلی الله علیه وآله)، ثم الإمام (علیه السلام)، ثم الفقیه الذی هو نائبهم.

3) ویحرم أیضاً إذا کان الحزب سبباً لتسلیط من لا ترضی به أکثریة الأمة، ولو کان فقیهاً عادلاً، إذ قد ذکرنا فی کتاب (الحکم فی الإسلام) وهنا أن رئیس الدولة فی البلاد الإسلامیة یجب أن یکون بالإضافة إلی کونه مرضیاً لله سبحانه،

ص:117

منتخباً من قبل أکثریة الأمة، فإذا کان الحزب سائراً إلی جعل من لیس کذلک کان عاملاً علی خلاف الموازین الإسلامیة، وذلک محرم.

ومنه یعلم حرمة الحزب الواحد، أی استئثار الحزب الواحد بالحکم، حیث إنه یوجب الدیکتاتوریة المحرمة فی الإسلام، لأن الإسلام دین بنی علی الشوری وحریة الآراء فی الإطار الإسلامی، هذا مع الغض عن أن الحزب الواحد یکبت ویستبد، کما قال علی (علیه السلام): «من ملک استأثر»((1))، فإذا انضمت إلی ذلک کلمته (علیه السلام) الأخری حیث قال: «من استبد برأیه هلک»((2))، ظهر وجه حرمة الحزب الواحد من جهة ثانیة أیضاً.

أما الحزب الذی لیس أساساً لتشریع الأحکام، وکان الهدف منه إقامة حکم الله وإیصال الفقیه المرضی لله وللأمة إلی رئاسة البلاد حسب الشوری الإسلامیة، وکان لا یستبد بالأمر بأن یسمح بعمل سائر الأحزاب المکونة فی الإطار الإسلامی، فمثل هذا الحزب إن توقف علیه إقامة حکم الله کان واجباً تعیینیاً، وإن کانت هناک صورة أخری لإقامة حکم الله، کان واجباً تخییراً، بیان ذلک فی أمور:

الحکم لله

الحکم لله

الأول: مجلس الأمة المنتخب یجب أن یحکم بحکم الله، لا بحکم غیر الله، وحکم غیر الله له صورتان:

ص:118


1- نهج البلاغة: الحکمة 161.
2- انظر غرر الحکم: رقم 7921 و9275.

الأولی: الحکم المخالف للحکم الصریح لله سبحانه، مثل وضع حکم ینافی الحریات الممنوحة للإنسان، حیث قال تعالی:((وَیَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتی کانَتْ عَلَیْهِمْ))((1))، أو رفع حکم حرمة الخمر، حیث قال سبحانه:((إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَیْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّیْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ))((2)).

الثانیة: الحکم المخالف لمصلحة المسلمین، أی أن یکون التطبیق غیر ملائم، مثلاً کان الدخول فی السلم صلاحاً، فیقول بالحرب، أو بالعکس، أو أن یکون اللازم تقدیم الصناعة علی الزراعة، فیخصص المال للزراعة دون الصناعة، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

الحزب ومقررات البرلمان

الحزب ومقررات البرلمان

الثانی: قد یکون الحزب لا یهمه ماذا یکون الحکم، إذا وصل إلی البرلمان وهذا غیر جائز، إذ التربیة الفکریة الإسلامیة مقدمة للتطبیق الإسلامی، وبدونها لا یمکن التطبیق الإسلامی، فإذا لم یهتم الحزب بالإسلام کتشریع وکتطبیق، لم یقدر علی العمل بالإسلام بعد الوصول إلی مجلس الأمة، وإلی السلطة التنفیذیة والقضائیة، وفی ذلک هدم الإسلام، وقد قال سبحانه:((وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً))((3)).

ومن الواضح أن کون همّ الحزب إقامة حکم الله یلازمه أن یربّی أفراده علی

ص:119


1- سورة الأعراف: 157.
2- سورة المائدة: 90.
3- سورة التوبة: 46.

هذا اللون من الحکم تشریعاً وتطبیقاً، فحینذاک یقدر علی أن یؤطر الأحکام الإسلامیة حسب متطلبات الزمان، کما ذکرنا مثاله فی ما سبق، کما أنه یقدر علی أن یصوّت فی المجلس ویعمل فی التنفیذ حسب الموازین الإسلامیة، ومثاله ما إذا کان جاران للدولة کلاهما متساویان من جهة صلاح البلاد اقتصادیاً، لکن أحدهما أقرب إلی روح الإسلام، اختار الحزب صداقة هذا علی ذاک، فیما تتمکن الدولة من صداقة أیة منهما، إلی غیر ذلک من الأمثلة التشریعیة والتطبیقیة.

الولایة للفقیه العادل

الولایة للفقیه العادل

الثالث: الذی یصح أن یجعل فی الإسلام رئیساً للدولة، هو الفقیه العادل الجامع للشرائط((1))، فالحزب یلزم علیه أن یکون مقصده ذلک، وإلاّ کان حائداً عن الإسلام، فلا یجوز له أن ینصب للرئاسة العلیا غیر المؤهل، کما لا یجوز له أن یصوت لغیر المؤهل.

التزویر الانتخابی

التزویر الانتخابی

الرابع: لا یجوز للحزب أن یجنح إلی الأسالیب الملتویة غیر أسلوب الشوری وأکثریة الأمة فی سبیل تقدیم مرشحه للرئاسة وإن کان ذلک المرشح مؤهلاً، إذ ذلک هدم للشوری الإسلامیة، وإضاعة لحق الأمة، وقد قال علیه السلام: «لا یتوی حق امرئ مسلم»((2))، ومثل هذا جار فی انتخاب أعضاء

ص:120


1- أو شوری الفقهاء إن کان هناک أکثر من فقیه .
2- انظر مستدرک الوسائل: ج17 ص446 ب46 ح21826 وفیه: (لئلا یتوی).

مجلس الأمة، لوضوح أن هناک أمرین:

1) کون الرئیس والمنتخب مؤهلاً بنظر الإسلام.

2) کونه حائزاً لأکثریة الأصوات.

فکما لا یجوز ترشیح غیر المؤهل فقهیاً، کذلک لا یجوز تقدیم المؤهل الذی لا ترضی به أکثریة الأمة، والوصول إلی تقدیمه بالأسالیب الملتویة غیر الشرعیة.

لا لنظام الحزب الواحد

لا لنظام الحزب الواحد

الخامس: أن لا یستبد الحزب بالأمر، فالحزب الواحد استبداد لا یجوز شرعاً، لأنه إضاعة لحق سائر المسلمین.

لا یقال: إن کان الحزب الآخر یرید الإسلام تشریعاً وتطبیقاً، فلا داعی إلی تنظیم حزب ثان، بل ینضم من یرید ذلک إلی هذا الحزب الواحد، وإن کان لا یرید الإسلام تشریعاً أو تطبیقاً فلا یجوز له تشکیل الحزب السیاسی، ولم لا یحق للحزب الأول منعه عن التشکیل.

لأنه یقال: نختار الشق الأول ونقول: إن الحزب الثانی یرید إقامة الإسلام لکن له رأی خاص فی کیفیة التأطیر وکیفیة التطبیق، فمثل الحزبین فی ذلک مثل المجتهدین الذین کلاهما یستنبط فی دائرة الأدلة الأربعة، لکن یختلف استنباط هذا عن ذاک، فکلا الحزبین یعملان استنباطاً وتطبیقاً فی دائرة الإسلام وإن کان لهما اختلاف فی الاجتهاد، واختلاف فی انتخاب الأصلح لحال الأمة فی السلطة التنفیذیة وما أشبه.

ص:121

لا یقال: إذا کان الأمر کذلک بأن یکون عدم إجازة الحزب الثانی آئلاً إلی الدیکتاتوریة ومحرماً من جهة أنه إضاعة الحقوق، کان اللازم إجازة حزب ثالث ورابع، وهکذا حتی یؤول الأمر إلی الفوضی.

لأنه یقال: اللازم إجازة کل حزب، مؤطراً بإطار عدم الفوضی، لأن ذلک لا یجوز شرعاً وعقلاً، ومن الواضح عدم التلازم بین أن یجوز الحزب الثانی وبین الفوضی، کما أن من الواضح أن أی استدلال للحزب الواحد لیس إلاّ جنوحاً للاستبداد.

والحاصل: إنه یلزم أن یکون الإطار إسلامیاً تشریعیاً وتنفیذیاً، ثم بعد ذلک فلکل اجتهاده المستند إلی الأدلة.

ثم الذی قد یمکن أن یستنبط من القرآن الحکیم والسنة المطهرة والسیرة العطرة، أن سیرة الإسلام کان علی تشقیق المسلمین إلی جماعتین، فمثلاً فی عهد الرسول (صلی الله علیه وآله) کانت جماعتان، جماعة المهاجرین، وجماعة الأنصار، فمع أنه لم یکن بینهما أی تفاوت فی الأمور الدینیة کالصلاة والصوم والحج وما إلی ذلک، وفی الأمور الدنیویة کالرئاسة فی الجهاد، وقدر الحقوق الذی کانوا یعطونه لدی التقسیم، وفی الزواج والإرث والحدود وما أشبه ذلک، مع ذلک جعلا جماعتین متمایزتین فی الاسم والتکتل، والرسول (صلی الله علیه وآله) یمدح هؤلاء تارة، وأولئک أخری، کما کان یلتجأ إلی هؤلاء تارة إذا ضغط علیه أولئک، وإلی أولئک أخری إذا ضغط علیه هؤلاء، کما لا یخفی علی من راجع سیرته الطاهرة (صلی الله علیه وآله).

قال سبحانه: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأولونَ مِنَ الْمُهاجِرینَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذینَ اتَّبَعُوهُمْ

ص:122

بِإِحْسانٍ رَضِیَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ﴾((1)).

وقال تعالی: ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَی النَّبِیِّ وَالْمُهاجِرینَ وَالْأَنْصارِ الَّذینَ اتَّبَعُوهُ فی ساعَةِ الْعُسْرَةِ﴾((2)).

وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذینَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فی سَبیلِ اللَّهِ وَالَّذینَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِکَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ﴾((3)).

وقال سبحانه وتعالی: ﴿وَالَّذینَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فی سَبیلِ اللَّهِ وَالَّذینَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِکَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾((4)).

إلی غیر ذلک من الآیات التی تکرر فیها لفظ المهاجرین والأنصار بمختلف اشتقاقاتهما.

وقد قال النبی (صلی الله علیه وآله) فی غزوة حنین، حین أجزل قسمة الغنائم للمؤلفة قلوبهم، وجعل للأنصار شیئاً یسیراً: «لو سلک الناس وادیاً وسلک الأنصار شعباً لسلکت شعب الأنصار، اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الإنصار»((5)).

وقد وصی (صلی الله علیه وآله) للأنصار قرب وفاته، وقال (صلی الله علیه وآله) للانصار: «إنکم سترون بعدی أثرة»، فلما تولی معاویة منعهم العطاء.

وفی الحدیث، عن الإمام الباقر (علیه السلام): «جاءت الأنصار إلی رسول الله

ص:123


1- سورة التوبة: 100.
2- سورة التوبة: 117.
3- سورة الأنفال: 72.
4- سورة الأنفال: 74.
5- بحار الأنوار: ج21 ص171 ب28.

(صلی الله علیه وآله) فقالوا: إنا قد آوینا ونصرنا فخذ طائفة من أموالنا فاستعن بها علی ما نابک.

إلی غیر ذلک مما یجده الإنسان بکثرة فی سیرته المطهرة.

وهکذا کان الأمر فی زمن الخلفاء، فهما فریقان یتصارعان أحیاناً، کما یظهر من قصة سورة المنافقین، وقولهم بعد الرسول (صلی الله علیه وآله): «منا أمیر ومنکم أمیر»، وکذلک کان فی زمن علی (علیه السلام) ثم تحول الأمر إلی جماعتین أخریین هما (المضریة والیمنیة)، وفی أیام العباسیین إلی فرقتین طرفی دجلة، کما فی قصة (قثم)، ویدل کل ذلک علی وجود طائفتین اعتنی ببقائهما متمایزتین فی إطار الکتاب والسنة، وتبع ذلک الخلفاء بنفس اللون الإسلامی أو بلون آخر.

موقف الإسلام من الأحزاب غیر الإسلامیة

موقف الإسلام من الأحزاب غیر الإسلامیة

بقی شیء، وهو أنه لماذا لا یجوّز الإسلام الحزب غیر الإسلامی، ألیس ذلک کبتاً للحریات، وألیس ذلک یوجب أن تکون حکومة الإسلام أقل حریة من حکومة إمریکا وفرنسا مثلا، مع أن الإسلام دین الحریات، لا دین الکبت والخنق.

والجواب: إن الإسلام دین بنی علی العقیدة الصحیحة والشریعة المدعمة بالأدلة، ولیس من الصحیح إجازة الصحیح للغلط، والمستقیم للمنحرف.

أما الصغری فقد استدل له فی الکتب الاعتقادیة، وأما الکبری فلوضوح أن الانحراف فی العقیدة ینتهی إلی الانحراف فی العمل، والانحراف فی العمل معناه هدم الحیاة، فإجازة الحزب غیر الصحیح مثل اجازة التحزب للصوص والقتلة،

ص:124

أما أن الانحراف فی العقیدة ینتهی إلی الانحراف فی العمل، فلأن العمل تابع للعقیدة، مثلاً الذی یعتقد بأن الآلهة ثلاثة ینتهی إلی جملة (دعوا ما لقصیر لقیصر، وما لله لله).

ومن الواضح أنه تقریر للدیکتاتوریة، والتی تنتهی إما إلی الظلم فی داخل البلاد کما فی عهود الکنیسة، وإما إلی الظلم خارج البلاد کما فی الحال الحاضر حیث یستعمر الغرب بلاد العالم بقدر إمکانه، ولا یخفی وجود الظلم فی الحال الحاضر لبلاد الغرب بالنسبة إلی داخل بلادها أیضاً، کما ألمعنا إلی ذلک هنا وفی کتاب (الفقه: الاقتصاد وغیرهما.

وهل یجوز أن یفسح المجال للقاتل، أو نعطی الحریة للظلمة لیوسعوا الظلم والفساد.

وبما ذکرناه ظهر الجواب عن الإشکال الثانی أیضاً: أی کیف یکون بلد الإسلام أقل حریة من مثل إمریکا وفرنسا، وحاصل الجواب: إن تلک لیست حریة بل فوضی.

فلا یقال: إن بلد الإسلام أقل حریة.

بل یقال: إن إمریکا بجهلها أجازت الفوضی، کما أباحت الزنا وکما أجازت استغلال الإنسان القوی الرأسمالی، للإنسان الضعیف، أغلب أفراد الشعب.

هذا بالإضافة إلی جواب ثان عن هذا الإشکال الثانی، وهو أن إمریکا وفرنسا وبریطانیا، مثلاً لم تجز إلاّ الأحزاب التی تعمل فی إطار الوطنیة، ولا تجیز الأحزاب التی تعمل فی خارج هذا الإطار، فلا یکون لها حریات أکثر من حریات الإسلام، منتهی الأمر أن الإسلام أجاز الأحزاب الکائنة فی إطار العقیدة بینما البلاد الغربیة تجیز الأحزاب الکائنة فی إطار الوطنیة، مع وضوح أن

ص:125

إطار الوطنیة باطل عقلاً، إذ لیس ذلک مبنیاً علی الکفاءات، بینما إطار الإسلام صحیح عقلاً، حیث إنه مبنی علی الکفاءة، فإن معنی کون الإسلام دین العقل کونه دین الکفاءة.

فهل إذا ولد الإنسان فی هذا البلد أو ذاک یؤهله، لأن یکون له هذا الحق أو یسلب عنه أهلیة هذا الحق.

أما أن الإنسان لو اختار هذا الطریق الصحیح فی العقیدة، دون ذلک الطریق فی العقیدة التی قام علی بطلانها الدلیل، فإنه یؤهله لأن یکون له هذا الحق، لأن الاهلیة ترجع فی الثانی إلی الاختیار، ولیس کذلک فی الأول.

لا یقال: کل من الإسلام والغرب یدعی صحة عقیدته وشریعته وطریقته.

لأنه یقال: بالإمکان الکشف عن صحة وزیف الادعاء بالبحث الحّر فی التلفزیون، فإن ظهرت صحة عقیدة من یرید طلب إجازة تشکیل الأحزاب غیر الإسلامیة أباح الإسلام له ذلک، ولکن من أین له إثبات عقیدته.

وبعبارة أخری: لو أراد مسلم غیر مواطن فی الغرب تأسیس حزب لم یجزه قانون الغرب، ویعلله بأنه لیس من أهل الوطن، وکذلک لو أراد کافر فی بلد الإسلام تأسیس حزب لم یجزه الإسلام، ویعلله بأنه لیس من أهل العقیدة، وإلی هنا لا یکون بلد الإسلام أضیق دائرة من بلد الغرب.

ثم یأتی الکلام فی أن بلد الإسلام لم یجز الحزب الکافر لوجه صحیح عقلی، وبلد الغرب لم یجز الحزب المسلم لوجه باطل، إذ الإسلام لم یجز لفقد العقیدة وهو بمعنی عدم الکفاءة فی طالب الحزب، لأن عدم إسلامه یرجع إلی اختیاره، أما الغرب فلم یجز الحزب المسلم لفقد الوطنیة، وهو بمعنی الاعتباط، لأن عدم ولادته فی ذلک الوطن یرجع إلی ما لیس باختیاره، وبهذا ظهر أن الإسلام له حریة مبنیة علی الصحیح، والغرب له کبت مبنی علی الباطل، وکم من فرق بین الأمرین.

ص:126

معطیات الأحزاب السیاسیة

اشارة

معطیات الأحزاب السیاسیة

(مسألة 37): الأحزاب السیاسیة ذکرت لها فوائد وأضرار، وفی هذه المسألة نذکر جملة من الفوائد التی ذکرت لها.

1: انتخاب الأصلح

1: انتخاب الأصلح

الأولی: إن الحزب السیاسی هو الصیغة الکاملة لتطبیق الشرط الثانی الإسلامی فی باب الحکم فی الواقع الخارجی، فإن الإسلام کما تقدم یشترط فی الحاکم أن یکون مرضیاً لله وحسب شوری الأمة، أی برضاهم الذی هو رضی الأکثریة، کما هو المستفاد من الشوری، إذ انتهاء الشوری إلی توافق آراء الکل أمر نادر غالباً، فاللازم کون الحاکم منتخباً بین متعدد، کل واحد منهم یحمل مواصفات الفقیه العادل، مرضیاً لأکثریة الأمة.

أما الشرط الأول: أی الفقاهة والعدالة و...، فذلک واضح غالباً لأهل الخبرة الذین یتوفرون فی المراکز العلمیة.

ویبقی الشرط الثانی: وهو اختیار أکثریة الأمة له، وذلک ما یحصل بالانتخاب، وتلک غالباً تتحقق بواسطة الأحزاب السیاسیة، حیث إنهم أهل الخبرة

ص:127

فی تحدید الأصلح لإدارة الدین والدنیا بین المتعدد.

لا یقال: فلماذا لم یکن من هذا الأمر (الانتخاب) أثر فی سالف الزمان.

لأنه یقال: لم یکن الحکم بید المسلمین حسب موازین الإسلام بل بید الدیکتاتوریین من الملوک وما أشبه، فکان التقلید وتوابعه بید المسلمین، وفی تعیین الأعلم والأعدل والأورع کان یکفی أهل الخبرة العلمیة الدینیة بدون الاحتیاج إلی أهل الخبرة السیاسیة.

هذا بالإضافة إلی أنا لا ندعی أن الحکم الصحیح یتوقف علی الأحزاب السیاسیة مطلقاً، بل ذکرنا سابقاً وهنا أنه أفضل الطرق، فإذا رضیت الأمة بأکثریة آرائها بملک عادل، أو بمن یعینه أهل الحل والعقد، کفی ذلک فی وجود الشرط الثانی فی الحاکم، فالمهم أن یکون الحاکم مرضیاً لله ومرضیاً لأکثریة الأمة فی دائرة المتعدد الذین کلهم فقهاء عدول، فإذا عین الفقیه العادل الذی رضیت به أغلبیة الأمة وکیلاً عن نفسه، ملکاً أو رئیساً، توفر الشرطان، واذا عینت الأمة بالأکثریة أهل الحلق والعقد، وهم عینوا الفقیه، توفر الشرطان، وإذا عینوا هم بأنفسهم بالأکثریة _ کما فی النظام الحزبی _ الفقیه، کذلک توفر الشرطان، وهذا الطریق خیر الطرق بالنسبة إلی الطرق الثلاثة، کما دل علیه العقل والاستقراء، وعلیه فللأمة أن تختار جماعة من الفقهاء لإدارة الحکم کعشرة من الفقهاء یکون بینهم الشوری، ویؤخذ بأغلبیة آرائهم فی الإدارة، والظاهر أن هذا أفضل أیضاً.

1) لأنه أقرب إلی الشوری المطلقة الشاملة، لشوری الأمة (الأکثریة) وشوری النواب (مجلس الأمة) وشوری المرجعیة (شوری الفقهاء).

ص:128

2) ولأنه أقرب إلی قوله سبحانه:((فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ))((1))، مما یلمع إلی کون الفقهاء طائفة، ومن المعلوم أن الطائفة أقرب إلی الاستیعاب من ناحیة، وإلی الأداء من ناحیة ثانیة.

3) ولأنه أقرب إلی جمع الکلمة، وإلی اصابة الواقع، وإلی الهیبة لدآ الجماهیر، وإلی سعة العمل، فإن ید الله مع الجماعة، کما فی الحدیث، فإنه عقلی شرعی کما هو واضح.

2: تحکیم إرادة الشعب

2: تحکیم إرادة الشعب

الثانیة: إن الأفراد بما هم أفراد قوی مبعثرة لا یقدرون علی تنفیذ آرائهم بالنسبة إلی مصیر أنفسهم، فإن الحکم کما هو واضح، إدارة الأفراد والتصرف فی شؤونهم.

وهذه الإدارة والتصرف سواء کان کلیاً کما فی البلاد التی لا تؤمن بعقیدة أو شریعة، حیث إن الحکام یضعون القانون وینفذون القانون بالسلطتین التنفیذیة والقضائیة، أو فی الجملة کما فی البلاد التی تؤمن بالعقیدة والشریعة، حیث إن الحکام مقیدون بالإطار الخاص کما فی البلاد الإسلامیة، لابد وأن تکون تصرفاً فی الناس، ولماذا هذا التصرف دون إرادة المتصرف فیه؟

ومن هنا ینشأ لزوم کون الحاکم هو الذی یریده الناس، سواء کانت إرادة مطلقة، کما فی البلاد غیر المؤمنة، أو إرادة مقیدة بإطار خاص، کما فی الإسلام

ص:129


1- سورة التوبة: 122.

حیث یشترط فی الحاکم الفقاهة والعدالة و...، فاللازم تجمیعهم فی وحدات کبار تستقی من وحدات صغار، إلی أن یصل الدور إلی الأفراد، کالقطرات التی تتجمع فتکون العیون الصغار، ثم الکبار، ثم الأنهر، حتی ینصب الجمیع فی النهر الکبیر أو البحر.

فلابد وأن یکون هناک جماعة من الزعماء، یعرفون الأمور السیاسة حق معرفتها، یستقون من المجتمع بواسطة التجمعات الصغیرة، الاتجاهات والأفکار والآراء، ویوصلون إلی المجتمع، بتلک الوسائط آراءهم حول الأمور، وبذلک تتجمع القدرات والأفکار فی سواقی خاصة، وتتمرکز حتی تأتی بالنتائج المطلوبة التی تکون فی صلاح المجتمع، فلا یکون الفرد الضعیف فی مقابل قوی الدولة المتمرکزة وحیداً لا یقدر علی أمر ولا علی تغییر، وعلیه فالحزب یعطی القدرات المبعثرة الضعیفة غیر المتمرکزة القدرة والتمرکز والجمع.

ومثله مثل الزجاج الجامع لأشعة الشمس، حیث إن ألف کیلو من نور الشمس لا یسبب إشعال شیء، أما إذا تجمع النور ولو بمقدار کف فی مثل هذا الزجاج أعطی النار، وقد ورد عن الرسول (صلی الله علیه وآله): «ید الله مع الجماعة»((1)) فإن الید بمعنی القوة والقدرة، والجماعة تکون معهم قوة الله، لأن الله سبحانه جعل القوة فی التجمع.

فلا یقال: کیف وفاقد الشیء لا یعطیه، ببیان أن کل فرد فاقد، فکیف بجمع الفاقدین یکون الشیء الذی فقدوه، وألیس ذلک مثل أن یکون الإنسان بتجمع الحیوانات، أو یکون العلم بتجمع أفراد من الجهلة وهکذا.

ص:130


1- نهج البلاغة: الخطبة 127.

فإن الجواب واضح، إن التجمع صفة جدیدة، والله سبحانه جعل فی هذه الصفة الجدیدة صفة القدرة، وکذلک فی کثیر من التجمعات، فإن تجمع القطرات یکوّن الشلال الذی له قدرة خارقة عن قدرة القطرات، وبتجمع البیوت تکون المدینة، وبتجمع ذرات الحدید یکون الفاس القادر علی هدم الجدران، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

3: مدرسة السیاسة التطبیقیة

3: مدرسة السیاسة التطبیقیة

الثالثة: الحزب مدرسة السیاسة التطبیقیة للجماهیر، فإن المدارس لا ترتبط بالسیاسة لا علمیاً ولا تطبیقیاً، ومدارس السیاسة الخاصة بها لا تعمل إلاّ تعلیم السیاسة علمیاً، ومن الواضح أن العلم غیر العمل، فالذی یدرس الطب غیر الذی له خبرة فی الطبابة، وکذلک من درس الهندسة غیر من عمل مدة فی الأعمال الهندسیة، إلی غیر ذلک.

فالحزب یوجد الفهم السیاسی فی أفراده، کما أنه مدرسة علمیة للسیاسة، حیث إن الأفراد الذین علموا السیاسة سواء فی المدارس السیاسة أو فی الحزب یطبقونها تطبیقاً عملیاً خارجیاً، حیث التداول الیومی للمواضیع السیاسیة، والتهیؤ الدائم للأخذ والعطاء السیاسیین، فحالهم حال البناء الذی یبنی الدور کل یوم.

وبهذه المدرسة الحزبیة یکون التعلم والتعلیم السیاسیین، کما أن هذه المدرسة تعطی الرشد السیاسی لکل أفراد المجتمع، حیث عرفت أن الحزب تیار کبیر یصب فیه أنهر المجتمع، الأنهر المکونة من العیون الصغیرة، المکونة من القطرات، وبهذا یندفع الفرد فی الحزب إلی تعلم السیاسة وتطبیقها العملی، فإن ورد فی الحزب عالماً بالسیاسة تقدم علمه، وإن ورده جاهلاً تعلمها، وفی کلا

ص:131

الحالین یتدرب عملیاً علی التطبیق الخارجی.

4: تحمل المسؤولیة السیاسیة

4: تحمل المسؤولیة السیاسیة

الرابعة: المجتمع بحاجة إلی من یحمل المسؤولیة السیاسیة، والحزب هو الذی یقدر علی حمل هذه المسؤولیة، بینما الفرد لیس کذلک، ولذا فالمجتمع بحاجة إلی الحزب.

وهذا ما یعبر عنه فی الاصطلاح السیاسی بأن الحزب مدرسة الأخلاق، إذ لیس مرادهم الأخلاق التی یصطلح علیها فی علم الفلسفة والأخلاق، بل الأخلاق التی یجب أن تتوفر فی حملة السیاسة.

ولتوضیح هذا الأمر لابد من تحلیل کل أجزائه الأربعة، فنقول:

أ) أما أن المجتمع بحاجة إلی من یحمل المسؤولیة السیاسیة، فلوضوح أنه کما تقدم عبارة عن إدارة الناس، والتسلط علی أموالهم وأعراضهم ودمائهم ومقدراتهم، فاللازم أن یکون فی المجتمع من یثق الاجتماع به فی إلقاء مقالید السیاسة إلیه، فیحمل مسؤولیة السیاسة.

ب) والحزب هو الذی یقدر علی حمل هذه المسؤولیة، لأن الحزب عبارة عن جماعة کبیرة من نفس الناس، وبالنتیجة یکون معنی الحزب أن الناس یدیرون أنفسهم بواسطة جمهرة کبیرة من أبنائهم وإخوانهم الذین یثقون بهم.

ج) أما الفرد فلا یتمکن من تحمل المسؤولیة، لأن الفرد:

1: لا قدرة له علی الإدارة السیاسیة الطویلة العریضة مهما کانت قدراته کثیرة.

2: ولا دوام له، فإنه یموت أو یمرض أو ما أشبه ذلک، فلا یمکن أن یکون

ص:132

موضع الثقة.

3: ولا ضمان لبقاء نزاهته، حیث إنه کثیراً ما ینقلب الفرد النزیه فی أنظار الناس إلی فرد غیر نزیه، بینما الحزب لکثرة أفراده له قدرة الإدارة السیاسیة، ولاستمرار حیاته له دوام وبقاء ممتد، ولأن مفاهیم الحزب لا تتغیر بمثل تغیر الفرد فإذا کان الحزب نزیهاً بقی علی نزاهه نسبیاً، وبذلک یکون الحزب مورد ثقة الناس سیاسیاً، من جهة السعة العلمیة، ومن جهة الامتداد الزمانی، ومن جهة بقاء النزاه الذی تحتاجه الأمة فی من تضع ثقتها عنده، أی کماً وکیفاً وجهةً.

د) ومما تقدم ظهر وجه الأمر الرابع، أی وجه تسمیة الحزب بمدرسة الأخلاق، فإن الفرد کما قد یکون صدوقاً مستقیماً متواضعاً محباً للخیر عاملاً لخیر المجتمع، وبذلک یقال: فلان ذو أخلاق رفیعة، کذلک الحزب المبنی علی تلک الصفات الخیرة، وحیث وجد حزب لا یکون إلاّ من الناس وإلی الناس، لا یمکن أن یوجد حزب لیس بهذه الصفات.

((الأحزاب المنحرفة))

((الأحزاب المنحرفة))

نعم، قد یوجد فی الأحزاب السریة التی یصنعها المستعمرون، أو الأفراد المنحرفون، من لا توجد فیه هذه الصفات، لکن لیس الکلام فی مثل هذه الأحزاب، حیث إن ما یصنعه الاستعمار رتل خامس، ولیس بحزب وإن یسمی باسمه زوراً، وذلک أمثال الحزب الشیوعی والبعثی فی البلاد الإسلامیة، کما أن ما یصنعه منحرف داخلی لایکون حزباً بالمفهوم الصحیح للحزب، بل تجمع أصحاب عقد لانتقام أو وصول إلی هدف شخصی، ولذا لایکون لأی منهما أخلاقیات، ولا یعتمد علیهما الناس، وسرعان ما یتشتت أفرادهما، بقطع الاستعمار عونه فی الأول، وبموت زعمائه المنحرفون فی الثانی.

ص:133

5: مدرسة الانضباط الفکری والعملی

5: مدرسة الانضباط الفکری والعملی

الخامسة: الحزب مدرسة الانضباط الفکری والعملی، وذلک لأن الحزب یحاول الوصول إلی الحکم، وسحب البساط من تحت أقدام منافسیه، وذلک لأن للحزب برنامجاً إصلاحیاً یرید تطبیقه فی المجتمع، والتطبیق لا یمکن إلاّ بالوصول إلی مقالید القدرة، ومقالید القدرة هی الحکم، وحیث إنه یحاول منافسة الحکومة، والحکومة مؤسسة کبیرة ذات قدرة وانضباط، کان لابد للحزب من الانضباط الشدید فی أفراده وبرامجه حتی یتمکن من المنافسة، فیعطی الحزب لأفراده الانضباط الفکری، بأن یفکروا بموضوعیة وصحة واستقامة.

إذ لولا الانضباط الفکری لم یحصل الانضباط العملی، ولولا الانضباط العملی لا یمکن مقابلة الانضباط الموجود لدی الحکومة.

کما یعطی الحزب لأفراده الانضباط العملی، حیث إن کثرة العمل الفکری والجسدی هی التی توجب التفاف الناس وثقتهم وإعطاءهم الرأی للحزب فی الانتخابات، وبدون الانضباط لا یکون علم ولا عمل.

وکلما کان انضباط الحزب أحسن، وکان عمله أکثر، کان أقرب إلی النجاح، وهذا الانضباط العلمی لا تعطیه المدارس إلاّ بقدر، کما أن الانضباط العملی لا یوجد إلاّ فی مثل المؤسسات الحکومیة وغیرها، ومن المعلوم أن الانضباط الحکومی ونحوه لا یرتبط بالمجتمع، لیدخلوا فی مدرسته ویتعلموا الانضباط، فینحصر الأمر فی الحزب.

ولذا نجد الأحزاب یطردون من لا نشاط له ولا انضباط، إما من الحزب رأساً وإما من المهام الحزبیة، وإذا ربی الفرد فی الحزب علی الانضباط الفکری والعملی، یکون عضواً صالحاً حتی إذا خرج عن الحزب، وحتی فی أعماله الخارجة عن أعمال الحزب وهو داخل فی الحزب، وبهذا المیزان (الانضباط والنشاط)

ص:134

یتقدم فرد وأفراد فی الحزب علی الآخرین، وقد یکون هذا الفرد أو الأفراد فی رتبة متأخرة من السابقین علیهم فی الدخول فی الحزب.

ولذا یکون هناک تصارع دائم بین القدمة والجدة، فالقدیم یرید احترامه وتقدیمه لأنه قدیم، والجدید یرید شق الطریق إلی الصف الأمامی، لأنه ألیق وأنشط، بینما القدیم قد ترهل وکسل، ولکن العاقبة دائماً لأکثرهم صلاحیة، إذ المجتمع جبل علی تقدیم الأحسن.

قال سبحانه: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَیَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما یَنْفَعُ النَّاسَ فَیَمْکُثُ فِی الْأَرْضِ﴾((1)).

6: صنع التنافس الخلاق

6: صنع التنافس الخلاق

السادسة: حیث إن الحزب یوجد التنافس بین أفراده من ناحیة، وبین هذا الحزب والحزب الآخر من ناحیة ثانیة، وبین أفراده وبین أفراد المجتمع المبعثرین من ناحیة ثالثة _ حیث إن الإنسان بطبعه لا یتمکن أن یری تأخر نفسه وتقدم غیره علیه _ یکون الحزب مضماراً للتقدم والتقدیم، ولذا نجد الحکومات ذات الأحزاب فی تسابق دائم، سواء فی العلم أو الفن، أو غیر ذلک.

وقد أرشد القرآن الحکیم إلی التنافس فی الخیر، فقال سبحانه: ﴿وَسارِعُوا﴾((2))، و﴿فَاسْتَبِقُوا﴾((3))، و﴿وَفی ذلِکَ فَلْیَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ﴾((4)).

7: تقدیم الشعب إلی الامام

7: تقدیم الشعب إلی الامام

السابعة: الحزب له قیمة المؤسسة، کسائر المؤسسات التی لها قیمها، فکما أن المؤسسات الاجتماعیة والاقتصادیة والتربویة وما أشبه لها قیمها، حتی أن وجودها خیر من عدمها، کذلک المؤسسات السیاسیة، فإن المؤسسة تقدم الأمة فی الجهة التی وضعت المؤسسة لأجلها، وهکذا بالنسبة إلی الحزب، حیث إنه یقدم الأمة بالنسبة إلی السیاسة.

والظاهر أن هذه الفائدة لیست فائدة جدیدة غیر الفوائد السابقة، وإنما هذه إجمال لتلک الفوائد.

ص:135


1- سورة الرعد: 17.
2- سورة آل عمران: 133.
3- سورة البقرة: 148.
4- سورة المطففین: 26.

وکیف کان، فلهذه الجهة یتقدم الأعضاء إلی اختیار العضویة فیه، کما یقدمون النشاط والعون المالی لأجل تقویته، فإن الحزب لما لم یکن من قبیل الأشیاء الضارة، والعقلاء یقدمون علیه کان لابد وأن یؤخذ إقدامهم دلیلاً علی حسنه، مثل سائر ما یقدم العقلاء علیه، حیث إن اقدامهم دلیل علی حسنه.

وقد قررت جملة من الحکومات إعانة الأحزاب السیاسیة بالمال لأجل تقدیم شؤونها، تصدیقاً منها بفائدة الحزب، أمثال إیطالیا وإمریکا الشمالیة وألمانیا الغربیة والیابان وغیرها، وذلک بحجة أن الحزب حتی المخالف منه للدولة، یسیر فی تقدیم الأمة إلی الأمام فی هذا المجال، وأنه مما یریده الشعب، فلیس علی الحکومة أن تلاحظ موافقته للدولة بالأکثریة أو مخالفته بالأقلیة.

نعم فی أکثر دول العالم ذات الأحزاب المتعددة لا تساعد الدولة الحزب، وإنما علیه أن یحصل ما یحتاجه من الأموال، من أمثال بیع الجرائد وبطاقات العضویة وتبرعات المحسنین، إلی غیر ذلک.

أما الحکومات المبنیة علی وحدة الحزب، فحیث إنها دیکتاتوریة، یتصرف الحزب فی أموال الأمة کیف یشاء.

ص:136

ولا یخفی أن الإسلام لا یخالف ما تقدم من البنود السبعة، إذا لم تکن فیها أضرار، إذ لا شیء أهم من فوائد وجود الحزب:

1) کتفریغ إرادة الأمة فی المنتخب.

2) وتجمیع القوی المبعثرة فی الشعب.

3) والتقدیم بالأمة سیاسیاً.

4) وتکوین المسؤولیة النظیفة الصالحة.

5) وصنع مدرسة الانضباط الفکری والعملی.

6) وإیجاد التنافس الحر الصحیح لتقدیم الأمة.

7) وتکوین قیمة جدیدة فی المجتمع فی ناحیة من النواحی والتی منها السیاسیة.

ص:137

الحزب بین مؤیدیه ومعارضیه

اشارة

الحزب بین مؤیدیه ومعارضیه

(مسألة 38): قد ذکرنا فی المسألة السابقة فوائد الحزب، ونذکر فی هذه المسألة ماذکروا من أضرار الحزب، ولنقدم المذکورات ونری وزن کل عیب فی نفسه، وما یمکن أن یکون أهم من الأضرار والمنافع المتقدمة، حتی یوجب الجواز أو الحرمة أو الوجوب، فإن کل شیء ثبت أن له أضراراً ومنافع، إن تساویا أو زاد أحدهما بما لا یمنع النقیض کان جائزاً بأحد أقسامه الثلاثة، وإن زاد أحدهما بما یمنع النقیض کان واجباً أو حراماً.

والمذکور من الأضرار أمور:

((مزاحمة الحریة الفردیة))

((مزاحمة الحریة الفردیة))

الأول: إن الحزب یزاحم الحریة الفردیة، فإن الإنسان قبل دخوله فی الحزب حر فی آرائه وأعماله، فإذا دخل فی الحزب یجب علیه بأن یتقید بآراء الأکثریة فی قوله وعمله، وإلاّ طرد من الحزب، ولذا لم یکن للفرد فی الحزب أهمیة خاصة، بل الأهمیة للأکثریة.

وربما أضاف علی ذلک بعض الإسلامیین إن تحطیم الحریة الفردیة خلاف الإسلام الذی جعل الناس مسلطین علی أموالهم وأنفسهم.

وفیه:

أولاً: إن الإنسان یدخل فی الحزب باختیاره، ویحق للإنسان أن یحدد من حریة نفسه بنفسه، بما لا یصل إلی القدر المحرم، ومقتضی کون الإنسان

ص:138

مختاراً فی شؤونه غیر المحرمة أن له ذلک، فإن «الناس مسلطون علی أموالهم وأنفسهم»((1)).

ثم إن الفرد حرّ فی أن یخرج من الحزب فی أی وقت شاء، فهو حتی بعد الدخول لم یفقد حریته، فالحزب لم یناف الحریة.

وثانیاً: إن التقید برأی الأکثریة فی نفع الفرد إلی جنب ضرر التقید، وهو مزید قوة الإنسان وقدرته کما تقدم من مثال القطرات المتجمعة، والإنسان کثیراً ما یقدم المصلحة الأهم علی المصلحة المهم.

وثالثاً: إن الفرد فی الرأی والعمل لیس دائماً یقع فی الصف المقابل للأکثریة، ونفع کونه فی الصف الموافق أحیاناً یوازی أو یغلب علی ضرر کونه فی الصف المخالف أحیاناً، والفرق بین هذا وسابقه أن السابق کان یقول: إن ضرر المخالف یقابل بنفعه فی کونه قویاً بالانضمام، وهذا یقول: إن ضرر المخالف فی هذا الرأی المخالف مثلاً یقابل بنفعه فی الرأی الآخر الموافق.

((خلاف وحدة الأمة))

((خلاف وحدة الأمة))

الثانی: إن وجود الحزب یخالف وحدة الأمة، سواء فی الحکومات ذات الأحزاب، أو الحکومات ذات الحزب الواحد، حیث الأحزاب تفرق کلمة الأمة فی الأول، والحزب الواحد یوجب تشقیق الأمة إلی الحزبی واللاحزبی فی الثانی، فلو لم یکن حزب کان جمیع الأفراد بشکل واحد، ورأی الکل أنهم أفراد أسرة واحدة، بخلاف ما إذا تشکل الحزب داخل الأمة، حیث تتکوّن الانتماءات المختلفة، ویحدث التضارب والاختلاف.

ولا یخفی أن هذا الرأی یخالف أصل الحزب وحدةً وتعدداً.

وهناک رأیان آخران:

ص:139


1- انظر بحار الأنوار: ج2 ص272 ح11.

1: الرأی الذی یخالف الحزب الواحد، لأنه یوجب الدیکتاتوریة ولا یفسح المجال إلاّ لمن کان فی اتجاهه فقط.

2: الرأی الذی یخالف الأحزاب المتکثرة المتعددة، بحجة ضرر الأحزاب المتعددة دون الحزب الواحد.

موقف الشیوعیة تجاه الأحزاب

موقف الشیوعیة تجاه الأحزاب

الشیوعیة والفاشیة من أنصار الرأی الثانی.

أما الشیوعیة، فقد استدلت لرأیها، بأن اللازم قیادة الشعب إلی الاشتراکیة حیث لا طبقات، والحزب إذا کان متعدداً کان سبباً للطبقات، فلا ینتهی الأمر إلی الاشتراکیة.

وأما الفاشیة، فقد استدلت لرأیها، بأن الأمة واحدة وتعدد الأحزاب یوجب تحطم الوحدة، فالجمع بین فائدة الحزب حیث إنها مدرسة السیاسة، وبین ضرر تعدد الأحزاب، یوجب أن یکون فی البلد حزب واحد.

وحیث قد تقدم فوائد الحزب المتعدد فی المسألة السابقة، لابد وأن نتعرض لرد الرأیین الآخرین، أی عدم الحزب وعدم الحزب المتعدد.

فنقول: أما ما ذکر للحزب من الضرر، فالجواب عنه:

إنه إن أرید بتشقق الأمة التشقق الضار، فهو أول الکلام، وإن أرید التشقق غیر الضار، کان التشقق غیر مهم، فلا یمکن أن یکون التشقق سبباً لإلغاء الحزب.

إن قلت: کل تشقق ضار.

قلت: لیس کذلک، فإن الأخذ ببعض الأمة لتقدیم الأمة إلی الأمام نافع، وهو کذلک

ص:140

فی کل مؤسسة اجتماعیة أو اقتصادیة أو ثقافیة أو غیرها، بل وحتی الدین کذلک، قال سبحانه: ﴿کانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرینَ وَمُنْذِرینَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِیَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ فیمَا اخْتَلَفُوا فیهِ وَمَا اخْتَلَفَ فیهِ إلاّ الَّذینَ أُوتُوهُ﴾((1)).

وسبب ذلک أن کثیراً من الناس لا یتحملون التقدم، فی أیة جهة کان التقدم، سیاسیة أو اجتماعیة أو اقتصادیة أوغیرها، حسداً، أو جهلاً بظنهم ضرر ذلک التقدم، ولذا حارب الناس حتی الأنبیاء والأئمة (علیهم السلام) والمصلحین.

قال سبحانه: ﴿یا حَسْرَةً عَلَی الْعِبادِ ما یَأْتیهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلاّ کانُوا بِهِ یَسْتَهْزِؤُنَ﴾((2)).

وقال تعالی: ﴿وَهَمَّتْ کُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِیَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِیُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾((3)).

وقال عزمن قائل: ﴿أَمْ یَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾((4)).

إلی غیر ذلک من الآیات والأخبار.

فإذا تکوّن حزب لتوعیة الأمة، وللسیر بهم فی طریق الشوری الصحیحة، کی لا یستغلهم الدیکتاتوریون، لابد وأن یجهل بعض فوائد ذلک، کما لابد وأن یحارب من یرید الاستبداد هذا العمل، وبذلک تتشّقق الأمة.

هذا بالإضافة إلی أنه لو قیل بضرر التشقق، لکان ربحه من الجهة التی ذکرناها أکثر من ضرره، ولدی الموازنة لابد وأن یقدم الربح علی الضرر، فمثله مثل عمل الجراح، إما لأنه لیس بضار، أو أنه ضار لابد منه، لأن ما یتبعه من الصحة فائدة ترجح

ص:141


1- سورة البقرة: 213.
2- سورة یس: 30.
3- سورة غافر: 5.
4- سورة النساء: 54.

علی ضرره.

وأما ما ذکره الشیوعیون دلیلاً علی لزوم وحدة الحزب، فیرد علیه أنهم یریدون ضرب الاستغلال کما یزعمون، ولا ربط لذلک بوحدة الحزب وتعدده، إذ من الممکن تعدد الحزب فی إطار العمال، کما کان من الممکن تعدد الحزب فی إطار الاستغلال فی إمریکا ونحوها.

وقولهم: لابد وأن ینتهی تعدد الأحزاب إلی تسلّل الاستغلال إلی بعضها، قول لم یقم علیه دلیل، والحقیقة: إن بناة الشیوعیة حلیت الدیکتاتوریة فی مذاقهم فأرادوها، ولما قوبلوا بالاعتراض أجابوا بهذا الجواب، الذی بمثله یجیب کل دیکتاتور، ألیس إنهم یجیبون: بأن الخطر یهدد البلاد إذا ما رضوا بحزب آخر، وقبلهم قال الدیکتاتور الکبیر فرعون:((إِنِّی أَخافُ أن یُبَدِّلَ دینَکُمْ أَوْ أن یُظْهِرَ فِی الْأَرْضِ الْفَسادَ))((1))، إلی غیر ذلک من التبریرات التی یتذرع بها المستبدون لإخفاء جوهر مآربهم.

موقف الفاشیة تجاه الأحزاب

موقف الفاشیة تجاه الأحزاب

ویأتی بعد ذلک دور الفاشیین، وأی منا لا یعلم دیکتاتوریة هذا الحزب، ویکفی بذلک دلیلاً علی أن کلامهم صرف تبریر مهلهل تختفی وراءه الدیکتاتوریة، وإلاّ فهل سحق إرادة نصف الأمة الذین لا یرون رأی الحزب الواحد أفضل، أو إعطاء الإرادة لکل الأمة، فیریدون ما یشاؤون.

هذا مع الغض عما تقدم من

هذا مع الغض عما تقدم من

ص:142


1- سورة غافر: 26.

أن کل تقدم یوجب تشقق الأمة، وأنه لا ضرر فی ذلک إطلاقاً.

هذا مع أنا نسلم أن بعض الأحزاب کبعض الأفراد انتهازیون وصولیون نفعیون، لا تصح إجازتهم وإطلاق سراحهم، لکن انحراف البعض لیس ملازماً لانحراف کل بعض، وقد قالت الفلاسفة من القدیم: (الجزئی لا یکون کاسباً ولا مکتسباً).

ثم إنه ینتقض من یحارب تعدد الأحزاب ویسلم أصل الحزب بحجة أن التعدد یسبب التشقق، بنفس الحزب الواحد، ألیس الحزب الواحد أیضاً یسبب تشقق الأمة إلی الحزبی واللاحزبی، وإذاً یعود المحذور بالحزب الواحد أیضاً.

ثم یأتی دور النتائج، فهل الإنسان فی ظل الحزب الواحد أکثر مأساة، أو الإنسان فی ظل الأحزاب المتعددة، ومن یقول بالثانی، لابد وأن یکون غالطاً أو مغالطاً.

هل یزید الحزب المشاکل إعضالاً

هل یزید الحزب المشاکل إعضالاً

الثالث: إن الحزب یلون کل مشکلة باللون السیاسی، وإن کانت المشکلة اجتماعیة أو اقتصادیة أو نحوهما، وذلک لکی یجنی الحزب من وراء ذلک أرباحاً سیاسیة، فی تقویة نفسه، أو تضعیف الحزب المخالف له، لیسحب البساط من تحت أقدامه.

أما وجه ضرر تلوین کل مشکلة باللون السیاسی فهو أن حل المشکلة یصعب حینئذ، بینما إذا لم تلوّن باللون السیاسی کان حلها سهلاً، وببقاء المشکلة تتضرر الأمة، فالحزب بالآخرة یوجب تضرر الأمة.

مثلاً قد تغلق الدولة الجامعات لأجل تعدیل مناهجها، حیث کانت تلک

ص:143

المناهج قدیمة لا تسایر تقدم العلم والصناعة، وحل هذه المشکلة أن تتعاون الأحزاب فی وضع البرامج الصحیحة التقدمیة للجامعات، کیما تفتح بعد مدة قلیلة، وإذا حصل ذلک التعاون انتفعت الأمة بفتح الجامعات، بینما الحزب السیاسی المخالف للدولة علناً کان أو سراً یفسر غلق الجامعات بأن الدولة لا تتحمل انتقاد الطلاب والأساتذة لسوء تصرف الدولة، ولذا أغلقت الجامعات لتستریح من انتقادهم ومظاهراتهم وإضراباتهم أطول مدة ممکنة، وبذلک یبرر الحزب المناوئ عدم اشتراکه فی إصلاح المناهج، وبذلک تتضرر الأمة من خبرة وعمل الأفراد الصالحین الذین لا یشارکون بتأثیر من الحزب المناوئ فی إصلاح المناهج، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

ولا یخفی أن هذا النقد إنما یوجهه إلی الحزب أصحاب السلطات، وذلک بقصد أن یظهروا الحزب أمام الرأی العام مضراً بمصالح الأمة، فیکون لهم المبرر فی الدیکتاتوریة، التی یریدونها لانفسهم، ویختفون وراء المبررات لابقاء صفتهم الاصلاحیة.

ویرد علی هذا التبریر أن اتخاذ بعض الأحزاب مثل هذه التهجمات علی الدولة لا یوجب أن یکون الحزب غیر ذی فائدة أکثر من ضرر هذا النحو من التهجم، والأمة لیست جاهلة إلی هذا الحد حتی لا تدرک أن أیة من الجهتین الدولة أو الحزب المخالف صادقة فی مدعاها، والمفروض أن کلتیهما تملک وسائل الإعلام والدعایة، سواء کان الحزب المناوئ محظوراً أو مجازاً.

ص:144

هل یضیق التحزب من آفاق الفکر

هل یضیق التحزب من آفاق الفکر

الرابع: إن الحزب ضیق، ای یوجب تضییق إطار فکر أعضائه، فلایهم عندهم الحق والباطل، بل المهم عندهم رأی الحزب مهما کان ولذا قال سبحانه:((کُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَیْهِمْ فَرِحُونَ))((1)) بینما الفرد غیر الداخل فی الحزب لیس له هذا الافق الضیق، بل یکون مع الحق این وجده، ولذا اشتهر عند الناس لفظة (الحزبیات الضیقة).

وفیه أولاً: إن هذا حال کل انتماء إلی دین أو قوم أو أرض أو لغة أو ما أشبه، وهل یمنع کل انتماء لذلک,

وثانیاً: لا تلازم، حیث إن الأحزاب الطبیعیة هم فی المجتمع ومن المجتمع وإلی المجتمع، ومثل هذا الحزب لابد وأن یحس کما یحس المجتمع، وإذا کان هناک ضیق حتی فی مثل هذا الحزب فلابد وأن یتحمل هذا الضیق، لما فیه من الفوائد المتقدمة، من باب قاعدة الأضرار والأرباح.

وهذا الإشکال نشأ من غلبة کون الأحزاب فی الشرق الأوسط أحزاباً استعماریة لیست من المجتمع، ولا إلی المجتمع، ولا فی المجتمع، بل هی أحزاب دیکتاتوریة تطبق أوامر الأسیاد، ولیذهب المجتمع بعد إلی الجحیم!، کما هو الحال فی حزب البعث والحزب الاشتراکی والحزب الشیوعی وغیرهم، ولذا کان شعارهم: (نفذ ثم ناقش)، وکان دیدنهم الفردیة، والمطارة للأحزاب الأخری، والاستبداد بالسلطة، وإلی آخره.

نعم لابد للحزب من المراقبة الکاملة حتی لا ینحرف، فإنه باعتباره قوة،

ص:145


1- سورة المؤمنون: 53.

و{­الإنسان لیطغی * أن رءاه استغنی}((1))، وجب کبریاء أفراده إذا لم یواظبوا مواظبة کاملة، حاله حال سائر القدرات، أمثال العلم والمال والسلاح والعشیرة وغیرها، بل المواظبة اللازمة فی الحزب أکثر من المواظبة اللازمة فی الفرد، من جهة أنه مؤسسة، والمؤسسات لها أعداء کثیرون، بینما لیس الأفراد کذلک، و«کل ذی نعمة محسود»((2)) کما فی الحدیث، فإذا لم یکن لأفراد الحزب المواظبة الکاملة _ ولو مشوا مشیاً عادیاً _ کان لهم خطر السقوط.

هذا بالإضافة إلی أن سلبیات الفرد فی الحزب، تسری إلی کل الحزب، لأنهم وحدة واحدة، ما لبعضهم لجمیعهم، وما علی بعضهم علی جمیعهم.

الحزب والوسائل اللاأخلاقیة

الحزب والوسائل اللاأخلاقیة

الخامس: إن الحزب مدرسة الانحراف، حیث إن الذین یرأسون الحزب حیث یریدون امتداد بقائهم فی الرئاسة، لابد لهم من الکذب والخداع والتضلیل، إذ بدون هذه الأمور یقصر بقاؤهم، بل ولا یقدرون علی السیطرة الکاملة علی الحزب وإظهار أنفسهم بمظهر النشط العامل لخیر المجموع، إلی غیر ذلک من المحاذیر المقارنة للسلطة.

وفیه:

أولاً: لا نسلم کلیة التلازم، فهذه الکلیة مثل کلیة التلازم بین التسلط علی البلاد وبین انحراف الطبقة المتسلطة، ومثل کلیة التلازم بین کل قدرة من علم ومال وجاه و... وبین الانحراف.

وثانیاً: إذا سلم بالتلازم، فاللازم المقارنة بین الأضرار والمنافع، ولا شک أن المنافع أکثر، حیث الترشید الفکری للأمة والوقوف فی وجه طغیان السلطة

ص:146


1- تحف العقول: ص48. مجموعة ورام: ج1 ص127.
2- سورة المؤمنون: 53.

والتنافس الحر للتقدم، إلی غیر ذلک مما تقدم فی مسألة منافع الحزب.

هل الحزب عدو للدیمقراطیة

هل الحزب عدو للدیمقراطیة

السادس: إن الحزب یأتی إلی المجتمع بعنوان کونه مؤسسة للدیمقراطیة، بینما الحزب من أعداء الدیمقراطیة، وذلک لأن الحزب إنما یتکون لأجل جعل الناس متساویین فی الحقوق، وإتاحة الفرصة لکل فرد فی التقدم والتمتع بکل مزایا المجتمع، من المال والرفاه والسلطة وغیرها، وحیث یصل بعضهم إلی قیادة الحزب، ینسی مصالح حتی قاعدة الحزب من الأفراد، بل مصالح سائر الأمة، وإنما کل همه مصالح نفسه إبقاءً لما حصله، واکتساباً لمصالح جدیدة.

ولذا نجد أن رؤساء الأحزاب یتنعمون بأضعاف أضعاف ما یحصله أفراد القاعدة.

وحینذاک تقوم فئة من الحزب بنقد الزعماء، حتی یقوضوا عروشهم، ویأتی بعدهم جماعة أخری إلی الرئاسة یکررون نفس المنهج السابق إذا وصلوا إلی القیادة، فالحزب مطیة للاستغالیین والدیکتاتوریین أعداء الدیمقراطیة والعدالة الاجتماعیة.

وفیه:

أولاً: إن هذا الأمر یأتی بالنسبة إلی الحکومة، فهل هؤلاء الناقدون للحزب یرون مثل هذا الرأی فی الحکومة، وإذا لم یکونوا یرون ذلک _ وهم لایرون ذلک بالفعل _ فما هو مبررهم لتجویزهم الحکومة، بینما لا یجوزون مثل ذلک فی الحزب.

وثانیاً: لا نسلم أن کل حزب یعیش فی الحریات حاله هکذا، فإن الرقابة الجماهیریة تمنع مثل ذلک، أما الحزب الذی یعیش فی حالة دیکتاتوریة فلیس الکلام فیه، إذ مطرح نقد أولئک فی الأحزاب الدیمقراطیة.

ص:147

وثالثاً: نسأل هل إطلاق السلطة تفعل ما تشاء خیر أم وجود أحزاب تراقب السلطة، وإن کان بعض رؤساء الأحزاب یفعلون ما ذکرتم.

وکیف کان، فالمجتمع والرقابة جناحان للتقدم، وفی الحدیث: «ید الله مع الجماعة»((1))، وقد شرّع الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر لأجل الرقابة، فانسلاخ المجتمع عن أحدهما معناه هبوط المجتمع، کما هو المشاهد فی البلاد الدیکتاتوریة، حزبیة کانت أو غیر حزبیة.

وبعکسه ما یشاهد فی البلاد الاستشاریة، وإن کان لنا مأخذ علی البلاد الدیمقراطیة، بأنها انحرفت عن طریق الاستشاریة والعدالة الاجتماعیة إلی الرأسمالیة التی تتدخل فی کل شیء، سیاسة کانت أو اجتماعاً أو اقتصاداً أو ثقافة أو غیرها، فتحرّفه، کما ألمعنا إلی شیء من ذلک فی کتبنا الاقتصادیة.

ص:148


1- نهج البلاغة: الخطبة 127.

ص:149

صور التجمع وأشکاله

اشارة

صور التجمع وأشکاله

(مسألة 39): التجمع له صور، ألمعنا إلی إجمالها فی السابق، ولتوضیح الصور المذکورة لما فیها من الفائدة السیاسیة، نأتی فی هذه المسألة إلی تفصیل بعض تلک الصور، فنقول:

1: التکتلات النقابیة

اشارة

1: التکتلات النقابیة

من التجمعات النقابة، وقد أسست النقابات فی الأصل لتجمیع قطعة خاصة من الأمة، لأجل رعایة مصالحها.

وقد ذکر فی القرآن الحکیم، حیث قال سبحانه:((وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ میثاقَ بَنی إِسْرائیلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَیْ عَشَرَ نَقیباً وَ قالَ اللَّهُ إِنِّی مَعَکُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَیْتُمُ الزَّکاةَ...))((1)).

وقد کان بید والد المرتضی والرضی (قدس الله أسرارهم) نقابة الطالبیین.

وحیث انتقلت علوم المسلمین إلی الغرب وعرفوا بفائدة هذا الشیء، شکلوا هم أول نقابة فی بریطانیا کما یقال للعمال، وقد اعترفت بمشروعیتها الدول الصناعیة، وأخذت تنتشر هناک فی النصف الثانی من القرن التاسع عشر

ص:150


1- سورة المائدة: 12.

المسیحی، وکان الاعتراف بها فی المملکة المتحدة علی نطاق واسع، ثم اعترفت بالنقابة فرنسا عام (1884 م)، وهکذا توالت البلاد الصناعیة فی تکوین النقابات للعمال.

هدف تشکیل النقابات

هدف تشکیل النقابات

وإنما یکوّن العمال النقابات للدفاع عن مصالحهم، التی أهمها زیادة الأجور وتخفیض ساعات العمل، ولیس ذلک اعتباطاً وظلماً من العمال لأصحاب العمل، سواء کان صاحب العمل رأسمالیاً أو شرکةً أو حکومة، بل لأجل الأجر العادل للجسد، بأن یکون الأجر بقدر العمل، بما یسبب الرفاه للعامل، وأن یکون بقدر العمل والفکر، فیما یکون العمل جسدیاً فکریاً کما فی المدیر ونحوه.

والغالب أن التضخم یسبب ارتفاع الأسعار، بینما الأجور لا ترفع بقدر ذلک الغلاء، کما ذکرنا تفصیل ذلک فی کتاب (الفقه: الاقتصاد).

کما أن النقابة تهتم لحمایة العامل ضد إصابات العمل وأخطار المهنة، وحمایة المرأة العاملة بصورة خاصة، حیث نعومتها الطبیعیة، وحیث لها واجبات الحمل والولادة والرضاع وحقوق الزوج، وکذلک حمایة الأطفال العاملین، إذا کان هناک طفل عاملاً.

وتهتم بتوفیر ساعات الراحة للعمال، وأوقات الرفاه والإجازات السنویة، وإنشاء تأمینات جماعیة، وصنادیق ادخار تساهم الدولة فیها للتأمین فی حال البطالة والعجز والشیخوخة، وضمان التعلیم للعامل، وتوفیر الوسائل الصحیة والمدرسیة وما أشبه للعامل وأسرته، وإذا کان إجحاف علی العمال دعت النقابة

ص:151

إلی الإضراب والمظاهرات مما یوجب إعطاءهم حقهم.

وفی نظر الإسلام لا بأس بهذا الأمر، بل هو لازم شرعاً، إذا کان من طرق إنقاذ الحق، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، والتقدیم بهذا القطاع من الأمة إلی الأمام، وقد جعل الإسلام دساتیر خاصة ومناهج محددة للعمال والفلاحین، مذکورة فی الفقه الإسلامی، وفی الأحادیث الشریفة، وقد جمع جملة من علمائنا حقوقهم فی کتب خاصة، فعلی الطالب مراجعتها.

نقابات جدیدة

نقابات جدیدة

ولم یتوقف أمر النقابات إلی حد نقابة العمال، بل تعدته إلی نقابات الفلاحین، والمعلمین، والأطباء، والمهندسین، والصیادلة، والطیارین، والموظفین، إلی غیر ذلک من سائر أصحاب المهن وعمال المصالح.

وهناک مجلس إدارة، وأعضاء منتخبین، وانتخابات حرة للجمعیة الإداریة، کل سنة مثلاً مرة، إلی غیر ذلک.

ثم تعدی نشاط النقابات من الأمور المذکورة سابقاً إلی السیاسة، وکانت هی النواة الأولی لتکوین الأحزاب العمالیة فی مختلف البلدان الصناعیة فی الغرب وغیره، وحاولت أن تستغل مثل ذلک الشیوعیة فتجعله سلماً إلی تسلمها السلطة وبناء الدیکتاتوریة علی أکتافهم، مما لسنا بصدد تفصیله الآن.

وإنما تدخلت النقابات فی السیاسة، لأجل أن توصل أصوات العمال ومطالبهم إلی مسامع مجلس الأمة، لإجبار السلطة التنفیذیة علی الاتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن إنصاف العمال.

وبقیت نقابات لم تربط نفسها بالسیاسة کاملة

ص:152

وإن کان لها دلو من الدلاء فی هذا المجال.

وحیث إن النقابات تحتاج إلی المال، لأجل شؤون العمال حال البطالة والمرض والشیخوخة وما أشبه، کان لابد لها من وضع صنادیق لجمع المال، والاتجار بذلک المال للاسترباح، بغرض وفاء الحاجات لا لغرض التجارة علی غرار الشرکات، وإلاّ خرجت عن نظام النقابات إلی نظام الشرکات، وذلک غیر مقصود للنقابة.

2: القوی الضاغطة

اشارة

2: القوی الضاغطة

ب) القوی الضاغطة، وهی عبارة عن جماعات من الناس لهم مطالب معینة فی إطار مصلحتهم أو المصلحة العامة، یشکلون مظاهرات وإضرابات ومراجعات إلی الدولة، لإلغاء قانون، أو تشریع قانون، أو تعدیل قانون.

وقد یطلق علی هذه الجماعات کلمة (لوبی)، ویرمز بهذه الکلمة إلی الممرات وغرف الانتظار والمداخل والأشخاص الذین یترددون علی المجالس التشریعیة للتأثیر علی أعضائها، وهم یطلبون من رجال الحکومة وممثلیهم من المجالس النیابیة أن یستجیبوا لمطالبهم، بتشریع أو إلغاء أو تعدیل قانون وفق طلبهم، لإعطائهم حقاً أو رفع کلفة عنهم، أو إعطاء الجماهیر ذلک الحق، أو رفع الکلفة عن الجماهیر.

وهذا الممر أو غرفة الانتظار بمثابة المأوی لحقوق الجماعة، ومنها یتوجهون لتفسیر مطالبهم، والدفاع عن حقوقهم، ویعبر عن اللوبی فی اللغة العربیة باللولب.

وأهم الشرائط فی هذه القوی الضاغطة:

1) استخدام الضغط بدون العنف، ولا شق عصا الطاعة، وإلاّ کان فوضی

ص:153

واضطراباً، ولا تستعمل هذه القوی الضغط بتحطیم الأملاک الحکومیة، ولا الأملاک الخاصة، ولا عرقلة المواصلات وإرهاب الناس فی الشوارع، ولا حرق المبانی ونهب الحوانیت والقتل والجرح وما أشبه، فالضغط أدبی بالإضراب والمظاهرات ومراجعة القوی.

2) أن یکون الضغط فی خطوط مدروسة لفترة معینة، تبدی فیها الجماعة احتجاجها علی السلوک المتبع فی رعایة مصالحها، أو المصالح العامة.

وذلک مثل إضراب عمال الموانئ وشحن السفن والمناجم والمواصلات وغیرها، فی فرنسا وإمریکا وبریطانیا وإیطالیا والیابان وغیرها. فقد شکل (مارتن) مسیرة سلمیة کبیرة للاحتجاج علی التمیز العنصری فی إمریکا، کما فعل جماعة إضراباً لمنع مطار خاص فی الیابان.

وهذا دائم ومستمر فی البلاد الغربیة التی لها بعض الحریات، بینما لایوجد مثل هذا الشیء فی البلاد الشیوعیة إطلاقاً، إذ تقابل مثل هذه الحرکة بمنتهی القسوة والعنف والقتل الجماعی، إذ لا قیمة للإنسان فی هذه البلاد، وإنما قیمته قیمة آلة حقیرة فی معمل کبیر، إلاّ ما حدث فی بولونیا فی هذه الآونة الأخیرة، فلم تتمکن الحکومة الشیوعیة من قمعه بشدة، لأجل خوفها من الدعایة المضادة فی العالم، ومن تدخل الغرب بما لا یحمد للشیوعیین عقباه.

وقد تبعت البلاد الشیوعیة فی القمع القاسی البلاد ذات الانقلابات العسکریة الغربیة، أمثال إیران الشاه، ومصر عبد الناصر والسادات، وعراق قاسم وسلام والبعث وغیرها، حیث إن الإضراب والمظاهرة تقابل بأقسی العنف، وذلک لأن حکومات هذه البلاد عمیلة یأتی بها الغرب الأمریکی أو البریطانی أو الإسرائیلی أو ما أشبه، لإملاء جیوب المستعمر، وتحطیم بلاد الإسلام، ومن

ص:154

الواضح أن الأحزاب والمظاهرة وما أشبه تنافی مثل هذه المصلحة للمستعمر، ومثل هذه الحالة تکون فی بلاد العملاء الوراثیین.

موقف السلطة تجاه القوی الضاغطة

موقف السلطة تجاه القوی الضاغطة

الحکومات الدیمقراطیة ولو الصوریة منها، تتخذ کثیراً وسائل السلم فی إرجاع القوی الضاغطة إلی حالتها الطبیعیة، وذلک بإعطاء بعض حقوقها وإرضائها للتنازل عن بعض دعاواها الأخر.

مثلاً إذا کان التضخم بمقدار خمسة فی المائة، وطالب العمال بواسطة القوی الضاغطة تلک الزیادة فی الأجور، أعطتهم الدولة ثلاثة فی المائة، وأقنعتهم بالتنازل عن الاثنین الآخرین، بحجج تکون فی الصورة صحیحة.

وتعمل الحکومات الیوم جاهدة علی علاج ارتفاع الأسعار، والتوفیق بین أرباب الأعمال والعمال، کما ینشأ ضمن النظام السیاسی فی الدولة مجلس اقتصادی، أو لجنة خاصة للتوفیق بین الأسعار والأجور حتی لا یؤدی اتساع الهوة إلی موجة من السخط والتذمر تنتهی بتهدید النظام السیاسی.

وقد ذکرنا فی کتاب (الفقه: الاقتصاد) أن الغالب فی أسباب هذا الغلاء الفاحش الذی أورث التضخم، هو أنانیة الحکومات الرأسمالیة والشیوعیة علی حد سواء، حیث إنها تصرف مبالغ طائلة فی التسلح، وهذا یوجب صرف الشیء الکثیر من المواد والنقود فی هذه الجهة وبه یحدث التضخم.

ثم إن مطالب القوی الضاغطة، قد تکون غیر عادلة، مما یضر إعطاؤها بالآخرین

ص:155

خصوصاً إذا کانت القوی الضاغطة قوة مرتبطة بخارج البلاد، کما هو الحال بالنسبة إلی الصهیونیة المتواجدة فی إمریکا وفرنسا وبریطانیا، فإن القوة الیهودیة حیث إنها تلاحظ الشبکة العالمیة للیهود من ناحیة، ومصلحة إسرائیل من ناحیة ثانیة، لا تهتم بمصالح البلاد التی تقطنها، وإنما تضغط علی تلک البلاد لأجل مصالحها الخاصة، وبذلک یختل توازن البلاد.

فاللازم أن تلاحظ القوی الثلاث _ التشریعیة والتنفیذیة والقضائیة _ قدر العدل فی القوة الضاغطة، فتعطیها ولا تتعدی عن ذلک، حیث یورث التعدی الفوضی والاضطراب واختلال التوازن، فقد تزعج القوی الضاغطة السلطة التشریعیة فتشرع قانوناً لیس فی مصلحة البلاد، أو تطلب القوة الضاغطة تنحی السلطة التنفیذیة عن الحکم بحجة عجز التنفیذیة عن حل المشاکل، فإذا استجابت التشریعیة لذلک کان معناه ضعف السیاسة، إلاّ إذا کان الحق مع القوی الضاغطة.

والقوی الضاغطة البریئة لها أهمیتها فی البلدان الدیمقراطیة، لأنها القوی المعبرة عن مطالب الجماعات فی میادین الاقتصاد والزراعة والتجارة والعمل والمهن وما إلی ذلک.

وکل قوة لجماعة معینة تنبؤ عن نشاط تلک الجماعة فی الدفاع عن مصالحها، وعن عدالة القضیة أو عدم عدالتها، فالجماعة إن لم تکن مربوطة بالخارج وکانت ناضجة، کانت مصالحها أقرب إلی العدالة، بخلاف العکس.

وتستعین الهیئات التشریعیة بآراء جمعیاتها فی الحصول علی رأی الجماعات الضاغطة، فاللازم علی القوة التشریعیة أن تعرف قدر وقیمة الجماعات الضاغطة، حتی لا تخطئ فی إعطائها دون قدر العدالة، أو فوق قدر العدالة، إذ کلا الأمرین یمثل انحرافاً عن الحق، بالإضافة إلی أن إعطاءها فوق حقها یشکل خطراً علی اقتصاد البلاد ومیزانیتها، ورؤوس أموال الشرکات وأرباحها، والنظام

ص:156

الاجتماعی.

وقد ذکرنا هنا إجمالاً، وفی الکتب الاقتصادیة تفصیلاً، أن الاقتصاد السلیم هو الذی یعترف بالملکیة الفردیة بما فی فلکها، فی إطار الحق العادل للعمل الجسدی والفکری والمواد والشرائط والعلاقات، فاللازم علی التشریعیة ملاحظة هذه الجهة عند إعطاء القوی الضاغطة مطالیبها، فاللازم أن لا تکون القوی الضاغطة کلاً علی النظام الدیمقراطی ومحرفة له، بل عوناً له فی وضع العدالة فی نصابها، وجعل الاستشارة والأکثریة میزاناً فی أمورها.

ولذا فاللازم زم المتطرفین فی القوی الضاغطة، حتی لا یتعدوا عن حدودهم، وتجنیب المسؤولین عن النظام عن دخولهم فی القوی الضاغطة، وإلاّ کان ذلک تمهیداً للانحراف واختلالاً بالتوازن.

والجماعات الضاغطة تکون إسلامیة، إذا قامت بواجب إحقاق الحق وإبطال الباطل، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فلم تتعد الحق ولم تطلب الأمر الجائر، فهی بالنتیجة جماعة، و«ید الله مع الجماعة» بشرط أن تلتزم بالإطار الإسلامی.

3: الجمعیات التعاونیة

اشارة

3 : الجمعیات التعاونیة

ج) الجمعیات التعاونیة، تؤسس علی أساس إعطاء کل ذی حق من المنتج والمستهلک حقه، بالإضافة إلی التخفیف عن المستهلک مهما أمکن، حتی یتمکن من الوصول إلی حاجاته، فإن المستهلک قد لا یصل إلی حاجة إطلاقاً، وقد یصل إلی حاجة بأکثر من قیمته، وکذلک المنتج قد لا یتمکن من الإنتاج إطلاقاً، کما

ص:157

قد یتمکن من الإنتاج لکن بصعوبة أکثر من الصعوبة المتعارفة، وقد یستغل فیعطی إنتاجه بأقل مما یجب أن یعطیه.

ولذا کانت الجمعیات التعاونیة وسیلة وضع الحق فی نصابه بواسطة شعبها الثلاث:

1) شعبة تعاونیات المنتج.

2) وشعبة تعاونیات الموزع.

3) وشعبة تعاونیات المستهلک.

فإن هذه الجماعات الثلاث حیث تجمع کل طائفة منهم المصلحة المشترکة، یشکلون تعاونیات لأجل الوصول إلی تلک المصلحة، سواء کانت تعاونیات زراعیة أو صناعیة أو بنائیة أو ثقافیة أو غیرها.

وهذه التعاونیات لها أنظمة خاصة، وتشریعات وأسالیب تنفیذ، ونجاح التعاونیات یؤدی إلی کون الکسب مشروعاً، وإلی الوقوف فی وجه الربا والاحتکار والإجحاف، وإلی الوقوف فی وجه اختفاء المواد الأولیة والسلع، حیث لولاها لعمل المحتکرون ذلک حتی یبیعوها بأسعار باهضة، کما أنها تقف دون سوء التوزیع، ودون استغلال حاجة المنتج لبیع منتوجاته بأقل من القیمة العادلة، إلی غیر ذلک من الفوائد، والتی منها أیضاً عدم تمکن الشیوعیة من الاستغلال المکذوب للعمال والفلاحین، فهی تقف بوجه کلا الانحرافین الرأسمالی والشیوعی.

وأحیاناً تمتد نشاط التعاونیات إلی إعانة الأقسام الثلاثة فی غیر الأمور الاقتصادیة، کزواج عزابهم وعلاج مرضاهم وثنقیف جهالهم إلی غیر ذلک.

والتعاونیات تأخذ العون من الدولة غالباً، کما أن الدولة تشرف علی صحة سیرها، وتراقب نشاطها حتی لا تتحول إلی شرکات تجاریة غرضها الربح وتکوین رأس المال بهذا الاسم.

ص:158

جمعیات أخری

جمعیات أخری

وإلی جانب الجمعیات التعاونیة المتقدمة، تؤسس جمعیات تعاونیة من نوع آخر:

1) مثل الجمعیات التی تؤسس فی صورة صنادیق لإقراض طائفة معینة کالفلاحین، أو کل من یطلب العون، واللازم فی المنهج الإسلامی أن لا یکون القرض بربا، کما یلزم أن لا یکون اقتراض الصندوق من الناس بربا، بل یمکن تدارک الأمرین بجعل قسم من المال فی المضاربة، فیعطی الصندوق أجور عماله من الأرباح المقررة له بالنسبة لا بقدر خاص، سواء کانت المضاربة بالأموال التبرعیة التی هی ملک الصندوق، أو بأموال الناس الذین أودعوها فی الصندوق بدون إرادة أرباحها، أو مع طلبهم أرباحها المضاربیة النسبیة.

وکثیراً ما تعطی الجمعیات التعاونیة للإقراض الزراعی السلف، نظیر إیداع حاصلات الزارع فی مخازن الجمعیة إلی حین ارتفاع الأسعار وبیعها بما یتفق وجهد الفلاح المقترض، حتی لا یدفعه الاضطرار إلی بیع حاصله بخسارة أو بأقل من الربح المناسب لعمله.

2) والجمعیات التی تؤسس لأجل إعطاء سائر المحتاجین حوائجهم، مثل جمعیة الزواج، وجمعیة بناء المساکن، وجمعیة تشجیر البلاد، أو تصنیعها، أو تجمیلها، وجمعیة تشغیل العاطلین، وجمعیة بناء المستشفیات، ودور العجزة، ودور الحضانة، وغیرها.

ص:159

وفی النظر الإسلامی کل جمعیة تعاونیة بالشروط الإسلامیة، حسنة ومرغوب فیها، یشملها قوله سبحانه:((وَتَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَ التَّقْوی))((1))، وقوله (صلی الله علیه وآله): «ید الله مع الجماعة»((2)) وغیرهما.

کما أن الرأسمالیة والشیوعیة من أشد الناقمین علی الجمعیات، أما الرأسمالیة فلأنها ترید امتصاص جهود الناس، والجمعیة تقف دون ذلک، وأما الشیوعیة فلأنها ترید زیادة نقمة الناس لتتسنم السلطة باسم العامل والفلاح، والجمعیات تقف دون هذا الهدف.

4: التکتلات الرأسمالیة

4: التکتلات الرأسمالیة

د) التکتل الرأسمالی، وذلک بتجمع أصحاب رأس المال الذین منهجهم فی الاقتصاد منهج الرأسمالیة، لأجل امتصاص المزید من أموال الأمة، بالربا والاحتکار والإجحاف والاستغلال، وصنع وعمل ما یدر ربحاً من دون نظر إلی ضرره علی الشعب، مثل صنع المواد الضارة وفتح المواخیر وغیر ذلک.

وحیث إن مثل هذا التکتل ینکشف أمره فوراً فیحول القانون دون عملهم، کان لابد لأمثاله من السیطرة علی الأحزاب السیاسیة والقضاة والسلطة التنفیذیة ووسائل الإعلام، حتی تکون أکثریة المجلس لهم، فلا یشرعون قانوناً ضد رأس المال لإنصاف الناس، وإذا کان قانون هکذا لم تنفذه القوة التنفیذیة، وإذا أوصل الأمر إلی القضاء، توقف القضاء عن إدانتهم، وأخذ الإعلام الذی سیطروا علیه

ص:160


1- سورة المائدة: 2.
2- نهج البلاغة: الخطبة 137.

یضلل الرأی العام، فلا یکون الرأی العام ضدهم، وهکذا یسخر رأس المال کل القوی لأجل بقائه وامتداد سیطرته.

وبعد ما یطمئن التکتل من إحکام قدرته فی الأمة، یفعل ما یشاء فی کنز أفراده الثروات الفاحشة، علی حساب کد الفقراء وعرق العمال ودماء الذین یقتلون فی ساحات الحرب بسلاح الرأسمالیین الذین هم تجار الأسلحة، ویریدون رواج هذا السوق.

وبالجملة تعمل هذه التکتلات ضد الغالبیة فی الخفاء، وتقیم حکومات وتسقط أخری، بمختلف الاتهامات التی لا أساس لها، إلاّ أنها أرادت الوقوف دون نشاط الکتلة، وهذا الوضع له الأثر الفعال فی بلاد رأس المال، کإمریکا وألمانیا الغربیة وما أشبه تلک البلاد.

ومثل هذه الأمور کلها محرمة فی الشریعة الإسلامیة، بل بعضها من أشد المحرمات کالربا الذی ورد فیه:((فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ))((1))، وأن درهماً منه أعظم إثماً من سبعین زنیة کلها بذات محرم((2))، کما ورد أن «غبن المسترسل سحت»((3))، إلی غیرها من النصوص.

والعلاج أن ینظم الاقتصاد لیکون فی قبال الأشیاء الخمسة: (العمل والفکر والمواد والشرائط والعلاقات)، وإذا کان الاقتصاد بهذا اللون الإسلامی العادل لم یتکون رأس المال المجحف، لیتکون التکتل الرأسمالی الآنف الذکر.

ص:161


1- سورة البقرة: 279.
2- انظر تفسیر القمی: ج1 ص93.
3- الکافی: ج5 ص153 باب آداب التجارة ح14.

تقسیمات الأحزاب السیاسیة

اشارة

تقسیمات الأحزاب السیاسیة

(مسألة 40): تقسم الأحزاب السیاسیة إلی عدة تقسیمات نذکر أهمها، لنری مزایاها، والأصلح منها عقلاً، والأوفق بالقواعد الإسلامیة شرعاً، فنقول:

الأحزاب العلنیة والأحزاب السریة

الأحزاب العلنیة والأحزاب السریة

1) الحزب قد ینشأ فی الإطار الحکومی، وقد ینشأ خارج الإطار الحکومی.

ولابد فی القسم الأول أن یکون علنیاً وله کل الامتیازات القانونیة، وقد یسبق مثل هذا الحزب الحکومة بأن تکوّن الحزب، ثم وصل إلی الحکم وقرر له القانون وجعلت له الامتیازات، کما أنه قد تسبق الحکومة الحزب، کما إذا جاءت الدولة وقررت قانون الأحزاب.

فمثلاً فی العراق قبل حکم الملکیین لم یکن حزب، ولما جاء الملکیون نظموا الأحزاب وقرروا قوانینها، وکذلک کان الأمر بالنسبة إلی بعض الأحزاب فی إیران.

أما فی إیران قبل الحرکة الدستوریة فلم تکن هناک أحزاب، وإنما کانت جمعیات ومنظمات ومجالس شکلتها الاضطرابات التی حدثت من ثورة التبغ، فلما أرست المشروطة دعائمها تحولت المنظمات وما إلیها إلی جماعات سیاسیة

ص:162

انتهت إلی تکون الأحزاب، أما قبل الثورة فقد کانت فی إیران أحزاب سیاسیة حکومیة، ومناوءة للحکومة، نشطت لموافقة الملکیة ک_ (رستاخیز) وبقیت بعضها الإسلامیة تعمل بتلکؤ، ومن دون موافقة الحکومة لها.

أما القسم الثانی، فإن کانت الحکومة ضعیفة عمل الحزب علناً، وحیث تضعف الحکومة لا تتمکن من منعه أو تحدیده، بل یکون هو والحکومة فی منافسة دائمة، وإن کانت الحکومة قویة اضطر الحزب إلی العمل سراً، ووقع مطرود الحکومة.

لکن هذا القسم المطرود المختفی یکون قویاً فی المعنی، بل أقوی من الحکومة فی بعض الأحیان، لأن مثل هذا الحزب لما کان خارج النظام مبغوضاً عند الحکومة، وعاملاً لتقویض الحکومة، لابد له أن یقوی نفسه کماً وکیفاً، لیتمکن من مقابلة النظام.

وسلاح مثل هذا الحزب فی مقابل النظام الدعایة الواسعة ضد النظام، والتهجم علی أرکانه، والتشکیک فی کل ما یتبناه النظام من مشاریع، ولو کان الحزب فی الحقیقة مؤمناً بأولئک الأشخاص أو بتلک المشاریع.

والأحزاب السریة غالباً تتشقق وتلتحم، وذلک لأن سریة الحزب تفسح المجال لظهور الأنانیات، إذ لا مناقشات ولا شوری حقیقیة غالباً، ولا جماهیر تقف دون التشقق، ولذا قلما تجد حزباً سریاً إلاّ وتجده قد انشق علی نفسه، وأحیاناً حدثت منه عدة انشقاقات.

کما أن حزبین سریین قد یلتحمان لتوحید جهودهما ضد الحکم القائم، خصوصاً إذا کان الضغط شدیداً.

وفی مثل هذه الأحوال ربما یوجد حزب جدید أقدر من الحزب السابق علی قیادة دفة المعارضة، وأحیاناً یضمحل الحزب السابق أو الحزبان السابقان، لإخلاء المکان للحزب الجدید.

وحالة التشقق والالتحام توجد فی الأحزاب العلنیة أیضاً، بجهة الاختلاف فی النظر وقلة النضج، وبسبب توحید الجهود

ص:163

للتحصیل علی مغانم أکثر، سواء المغانم الشخصیة أو المغانم الهدفیة، فإن أصحاب الأهداف یعدون الوصول إلی أهدافهم من أکبر المغانم.

الأحزاب الشخصیة

الأحزاب الشخصیة

1) الأحزاب قد تکون شخصیة، أی أن الشخص القوی سواء کان فی الحکم أو خارج الحکم، یکوّن حزباً، فقد یکون هدفه الأنانیة وحب الظهور، وقد یکون هدفه برامج إصلاحیة أو ثوریة، یرید إجراءها فی المجتمع، وغالباً إذا کان الشخص الموجد للحزب أنانیاً لم یبق الحزب، إذا ضعفت تلک الشخصیة أو ماتت، لأن هذا الحزب لیس هدفیاً حتی یمتد بعد ضعف أو موت مؤسسه.

أما إذا کان الحزب وجد لأجل الهدف، وکان حاویاً علی عناصر الدوام، دام وإن مات أو ضعف المؤسس له.

ومن عناصر الدوام الشوری، والاهتمام باقتصادیات الحزب، وبثقافة أفراده، وسعة الارتباط بالناس، حیث إن الشوری تمنع الاستبداد والأثرة الموجبة لتفرق القلوب، والاقتصاد والثقافة والارتباط أسباب بقاء المادیات والمعنویات والأجواء الصالحة.

وقد تکون الشخصیة قویة إلی حد أن الأحزاب تستمد منه الشخصیة وتتفیؤ تحت ظلاله حتی بعد موته، کما حدث مع (دیغول) رئیس فرنسا، وإن لم یکن هو حزبیاً ولا مؤسس حزب.

ص:164

الأحزاب الوقتیة والدائمیة

الأحزاب الوقتیة والدائمیة

ح) وقد تکون الأحزاب وقتیة، فیتشکل الحزب فی وقت خاص ولأجل هدف خاص، فإذا انتهی ذلک الهدف انتهی الحزب، کما إذا أراد أحد الحصول علی مقام فی مجلس الأمة، أو فی السلطة التنفیذیة، فإنه یشکل جماعة ویتخذ مقراً ویخرج جریدة، ویعمل لأجل التفاف الناس حوله، فإذا فاز فی الانتخابات أو ما أشبه أو لم یفز، أغلق محله وحل حزبه، وانفض الناس من حوله، وکذلک إذا تشکل الحزب لأجل عدو خارجی، أو کارثة داخلیة، أو اضطرابات، أو ما أشبه ذلک.

وهذه الأحزاب الوقتیة أشبه بالتجمعات، وغالباً انسجام حقیقی بین أفرادها، ولذا لا تتمکن من إدامة عمرها بعد انتهاء الوقت المذکور.

نعم، قد ینتهز بعض أعضائها الفرصة لتشکیل حزب حقیقی لا ینتهی بانتهاء الفصل المذکور.

وکثیراً ما تتوحد تجمعات واقعیة عند الأمور المذکورة، لطرد العدو الخارجی، أو الکارثة الداخلیة، فتشکل حزباً واحداً، کما فعلت ذلک تجمعات الجزائر، وشکلت (جبهة تحریر الجزائر)، ویسمی هذا التجمع بالجبهة أو الاتحاد أو ما أشبه ذلک، وهکذا فعل الفلسطینیون حین تجمعوا تحت ألویة متعددة منها (منظمة فتح).

ثغرتان فی الکفاح الفلسطینی

ثغرتان فی الکفاح الفلسطینی

وإن کان ربما یؤخذ علی بعض المنظمات الفلسطینیة مأخذان مهمان، ویبعد أن

ص:165

تنجح هذه المنظمات بسبب وجود هاتین الثغرتین فیها، وهما:

الأولی: إنها تجمع تحت لواء فلسطین أو العرب، ومن الواضح أنه لا تنجح فی بلاد الإسلام إلاّ التجمعات الإسلامیة، فإن شعور الناس وعواطفهم مع الإسلام، والقومیة والوطنیة لا أساس لهما من الصحة فی نظر المسلمین.

هذا بالإضافة إلی أن الیهود یحاربون تحت لواء دینهم، والدین سلاح لیس عند هؤلاء مثله، لأنهم لم یحاربوا تحت لواء الدین.

وثانیاً: التجمع تحت لواء الوطنیة والقومیة أوجب ابتعاد سائر المسلمین منهم إلاّ عاطفیاً أحیاناً، فلماذا یحارب الباکستانی والإندونیسی مثلاً لأجل وطن جماعة أو قوم غیر قومه.

والمظنون أن الأستعمار البریطانی الأمریکی الإسرائیلی الروسی، هو الذی أوقع أهل فلسطین فی هذا الفخ، حتی یبتعد عنهم سائر المسلمین، فلا یقدروا علی الحرب الحقیقیة، کما حصل ذلک بالفعل.

أما الخطب والتجمعات والجرائد وما أشبه، فلا تخرج عن کونها أموراً هامشیة، لا تتمکن أن تدخل فی المتن، لتنهی الحرب فی صالح أهل البلاد من المسلمین الفلسطینیین.

وعذرهم بأنه لابد لهم من تجنب اسم الإسلام، لأجل إرضاء المسیحیین، فالجواب ذکره القرآن الحکیم: {وَلَنْ تَرْضَی عَنْکَ الیَهودُ ولا النَصاری حَتّی تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}((1))، بالإضافة إلی أن أیهما خیر، إرضاء (850) ملیون مسلم غیر عربی، أو (15) ملیون عربی مسیحی، علی تقدیر أن یکون عدد المسیحیین هذا الرقم، وتأتی بعد ذلک مسأله الأکثریة، فاللازم اتباع الأکثریة الإسلامیة، أو العربیة، أو

ص:166


1- سورة البقرة: 120.

الفلسطینیة وهم المسلمون ولا حق للأقلیة أن لا ترضی لا شرعاً ولا عرفاً، والزمان کفیل بأن یظهر صحة ما ذکرناه أو صحة ما عملوه، وإن کان التاریخ أیضاً یدل علی صحة ما ذکرناه، لأن مستقبل الدنیا کماضیها، فالإسلام نجّی فلسطین من الظلم أول ما فتحها الإسلام، ثم استردها بعد الحروب الصلیبیة، والآن لایستردها إلاّ الإسلام.

الثانیة: إن هناک محاولات جادة من المستعمرین لإدخال هؤلاء فی لعبة الأمم، والثوری إذا دخل فی اللعبة سقط، کما دل علی ذلک سالف التاریخ وحاضره، والثوری لا یوالی العملاء، سعودیاً کان أو عراقیاً، لمثلت الاستعمار البریطانی والإسرائیلی والأمریکی، إلی غیر ذلک مما هی معروفة.

وقد یجاب عن ذلک بأنهم مضطرون، لأجل تحصیل المال، ولأجل الإعلام، ولأجل أن لا یضربهم هؤلاء العملاء.

لکن هذا الجواب غیر مقنع، فمن هدف الثورة تحصیل المال النظیف، لا أن یکون الثوری تاجراً، وعمل التجارة غیر عمل الثورة، والإعلام المرتبط بالعملاء یضر بدل أن ینفع، أما أن لا یضربهم العملاء فإن العملاء لا یتجاوزون خط أسیادهم فی الکف والضرب، وکفهم خدعة أسوأ من ضربهم.

وهذا شیء معلوم فی الفنون الدبلوماسیة، کما هو معروف فی الموازین العسکریة.

ص:167

کیف ننقذ فلسطین؟

کیف ننقذ فلسطین؟

ولا بأس هنا بالإلماع إلی کیفیة إنقاذ فلسطین کلها من أیدی الیهود، کما أنقذت کلها من ذی قبل من الصلیبیین، والکیفیة تعرف من سبب سقوط فلسطین، وهی ضعف الحکومة العثمانیة التی کانت حامیة فلسطین، لأنها لم تر أهمیة لقوله سبحانه:((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ))((1))، ولغیر ذلک من الموازین الإسلامیة.

أما الآن، فاللازم أن یشکل المسلمون تکتلاً داخل کل بلاد الإسلام وغیره، مثل تکتل الیهود فی العالم تحت لواء الصهیونیة، وذلک التکتل یأخذ بأسباب القوة من العلم والصناعة والمال والسلاح والدعایة وغیرها، فإذا وصلت قوتهم التنظیمیة وسائر قواهم بقدر قوة الصهاینة، وزودوا بالإیمان، قابلوا بقواهم المادیة قوة الغاصبین، وبقواهم المعنویة (الإیمان) قوی من وراء الیهود من المستعمرین الشرقیین والغربیین، وبذلک یحصل النصر بإذن الله تعالی.

والکلام حول إنقاذ فلسطین طویل، نکتفی منه بهذا القدر، حیث إنه خارج عن صلب البحث فی هذا الباب، والله العاصم الناصر.

الأحزاب الهدفیة

الأحزاب الهدفیة

د) وقد تکون الأحزاب هدفیة، أی تشکل للوصول إلی هدف خاص،

ص:168


1- سورة ال أ نفال: 60.

وهذه الأحزاب هی الأحزاب الحقیقیة، إن لم تکن بهدف تقویة المستعمرین، وإلاّ کانوا عملاء، ولا کلام لنا فیهم.

ومثل هذه الأحزاب تتکون من الجماعة الذین تتقارب أفکارهم، ولذا نجد أن الأحزاب الثوریة غالباً تشکل من الشباب، حیث إن التغییر وتجدید البناء یلائم أفکار الشباب، بینما الأحزاب المحافظة تشکل غالباً من الشیوخ وکبار السن، حیث إن المحافظة علی القدیم والسیر فی رکاب التقالید أقرب إلی أفکار الشیوخ، ونادراً ینعکس الأمر، فالشاب قد یدخل فی المحافظین، والشیخ قد یدخل فی الثوریین، لأن بنیتهم الفکریة تلائم غیر طبقتهم.

وهکذا تشکل الأحزاب الدینیة من المتدینین، والأحزاب الإلحادیة والحیادیة من الملحدین والحیادیین، وینطبق علی ذلک قوله سبحانه:((قُلْ کُلٌّ یَعْمَلُ عَلی شاکِلَتِهِ))((1))، وقد قال أحد الحکماء: قل لی فی ماذا یفکر المرء أقول لک أی رجل هو.

وحسب هذا التقسیم فالأحزاب قد تنظر إلی المستقبل (الشباب)،  وقد تنظر إلی الماضی (الشیوخ)،  وقد تنظر إلی الدنیا والآخرة (المتدینون)، وقد تنظر إلی الدنیا (الملحدون والحیادیون)، فإن کان نظره إلی الآخرة سلبیاً، کما قال سبحانه:((ادَّارَکَ عِلْمُهُمْ فِی الآخرةِ بَلْ هُمْ فی شَکٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ))((2)) کان ملحداً، وإن کان بغیر مبالاة کان حیاداً.

الأحزاب الیمینیة والیساریة

الأحزاب الیمینیة والیساریة

ه) وقد تصنف الأحزاب إلی الیمییة والیساریة، وکل منهما إفراطی،

ص:169


1- سورة ال إ سراء: 84.
2- سورة النمل: 66.

واعتدالی.

قالوا: فالیمین الإفراطی هو الذی یرید الرجوع إلی القدیم، وینظر إلی الحاضر والمستقبل شرراً.

والیمین المتعدل هو الذی یرید حفظ الحاضر، لا نظر له بالنسبة إلی الماضی أو المستقبل.

والیسار الافراطی هو الذی یهدف الشیوعیة، أی ما فیه اللاءات الخمسة (لا دین، لا أخلاق، لا حریة، لا ملکیة، لا عائلة).

والیسار المعتدل هو الذی یرید الاشتراکیة.

وأکثر هذه الأربعة رجعیة هو الیسار المتطرف، لأنه یقول: کان الإنسان فی قدیم الزمان شیوعیاً، والآن یجب العود إلی ذلک القدیم.

ثم من بعده الاشتراکی، ثم الیمین المتطرف، ثم الیمین المعتدل، لکن هذه الأحزاب التی لا تنظر إلی الآخرة لابد وأن تعد رجعیة، حیث لا نظرة لهم إلی المستقبل، کما قال سبحانه:((یَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ هُمْ عَنِ الآخرةِ هُمْ غافِلُونَ))((1)).

هذا بالإضافة إلی أنهم یرجعون فی التشریع والتنظیم والتنفیذ إلی الهوی والشهوات والمیول النفسیة، وهذا رجعیة بحتة، حیث إن العقل تقدمی، ومنه تستمد الرؤیة المستقبلیة، ولذا ورد فی الحدیث: «من ساوی یوماه فهو مغبون»((2)).

وقال سبحانه: ﴿قیلَ ارْجِعُوا وَراءَکُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً﴾((3)).

وقال الشاعر الإسلامی:

وقال بنی المسلمین تقدموا

وأحبب إلینا أن نکون المقدما

ص:170


1- سورة الروم: 7.
2- الوسائل: ج11 ص376 الباب 95 من جهاد النفس ح5.
3- سورة الحدید: 13.

الأحزاب الإسلامیة والکافرة

الأحزاب الإسلامیة والکافرة

و) وقد تقسم الأحزاب إلی الأحزاب الإسلامیة والأحزاب الکافرة.

فالحزب الإسلامی بمعناه الصحیح، هو الذی یعمل لإعادة حکم الإسلام، ولإعادة توحید المسلمین.

والأحزاب الکافرة هی التی تعمل لتقویة سیطرة الکفار، أمثال: (البعث: الغربی) و(الشیوعی: الشرقی) أما ما یخلط بین هذا وذاک، أو یقف حیاداً من العقیدة والشریعة، فأحری به أن ینطبق علیه قوله سبحانه:((مُذَبْذَبینَ بَیْنَ ذلِکَ لا إِلی هؤُلاءِ وَ لا إِلی هؤُلاءِ))((1)).

من مقومات الحزب الإسلامی

من مقومات الحزب الإسلامی

ومن معالم الحزب الإسلامی الصحیح:

1) أن یکون متفائلاً بالنسبة إلی المستقبل، کما قال سبحانه: ﴿وَنُریدُ أن نَمُنَّ عَلَی الَّذینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثینَ وَنُمَکِّنَ لَهُمْ فِی الْأَرْضِ وَنُرِیَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما کانُوا یَحْذَرُونَ﴾((2))، إلی غیر ذلک من الآیات الکریمات، والروایات المبارکات.

2) أن یعتقد بتساوی الإنسان، وإنما الفارق التقوی، کما قال سبحانه: ﴿وَجَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاکُمْ﴾((3)).

ص:171


1- سورة النساء: 143.
2- سورة القصص: 5 _ 6.
3- سورة الحجرات: 13.

وقال (صلی الله علیه وآله): «الناس سواسیة کأسنان المشط»((1)).

وقال (علیه السلام): «الناس أما أخ لک فی الدین أو نظیر لک فی الخلق»((2))،إلی غیرها.

3) یری تساوی الرجل والمرأة فی کل الشؤون، إلاّ الشؤون النابعة من الفرق بینهما خلقة، حیث وضعت الشریعة الإسلامیة فروقاً تبعاً لآثار تلک الفوارق الخلقیة، أما من یرید تنقیص الرجل حقه أو سحب المرأة إلی مراکز الفساد، وفرض الأعمال الخشنة التی لا تناسب مع خلقتها الجسدیة علیها، ومع وظائفها الطبیعیة من الحمل والولادة والرضاع والتربیة، ومع جمالها وعواطفها وأنوثتها، فلا ینبغی أن یسمی حزباً رجعیاً فحسب، بل وخارجاً عن دائرة العقلانیة.

4) أن یری لزوم اقتران العلم بالإیمان، إذ العلم بدون الإیمان إعطاء السلاح بید الشهوات، کما نری ذلک فی العالمین الغربی والشرقی، ونتیجته حربان عالمیتان، وتهیؤ لحرب ثالثة، وألف ملیون جائع، والقلق والحروب والثروات وملأ السجون و... کما أن الإیمان بدون العلم سطح بدون عمق، ولذا قال سبحانه:((شَهِدَ اللَّهُ أنه لا إِلهَ إلاّ هُوَ وَ الْمَلائِکَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ))((3)).

وقال الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام): «قیمة کل امرئ ما یحسن»((4))، إلی غیر ذلک من الآیات والروایات.

ص:172


1- الاختصاص: ص341.
2- نهج البلاغة: الکتاب 53.
3- سورة آل عمران: 17.
4- نهج البلاغة: الحکمة 81.

5) أن یری عدم التفکیک بین الدین والسیاسة، بل السیاسة جزء من الدین، ولزوم الانتخابات الحرة، وکون الحاکم مرصیاً لله ولأکثریة الأمة، ولزوم وحدة بلاد الإسلام، ولزوم رفاه الأقلیات تحت الحکم الإسلامی، وإعطائهم حقوقهم.

6) أن یری فی الاقتصاد، بطلان الخطین الشیوعی والرأسمالی وما یدور فی فلکهما، وصحة الخط الإسلامی الذی یجعل المال فی قبال خمسة أشیاء کما سبق، وبذلک یعیش الکل متساویین اقتصادیاً حسب العدل، وینعمون بالرفاه، وإعطاء الحاجات، وینالون ما یسبب تقدمهم وظهور کفاءاتهم، کما قال سبحانه:((وَإذ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْیَةَ فَکُلُوا مِنْها حَیْثُ شِئْتُمْ رَغَداً))((1))، إلی غیرها من الآیات والروایات الواردة بهذا الصدد.

7) وقد حاول المستعمر الغربی والشرقی لتربیة الأحزاب الإلحادیة أو الحیادیة أو المذبذبة فی بلاد الإسلام، ولا یصح أن یسمی أحدها بالحزب الإسلامی، أو بحزب المسلمین.

ونذکر هنا نموذجاً واحداً من تلک الأحزاب، والتی شکلها جماعة ممن أحسن ما یقال فیهم إنهم کانوا مغفلین، قبل ثلاثة أرباع قرن فی إیران، والذی کان یسمی بالحزب الدیمقراطی العمومی، وقد کان منهج حزبهم الذی طبعوه مؤلفاً من مقدمة وسبعة فصول، واثنتین وثلاثین مادة، وعناوین الفصول هی هذه:

الأول) التربیة الإسلامیة.

الثانی) الحقوق المدنیة.

الثالث) الانتخابات.

الرابع) القضاء.

ص:173


1- سورة البقرة: 58.

الخامس) الأمور الدینیة والمعارف.

السادس) الدفاع القومی.

السابع) الاقتصاد.

ثم اشتمل البرنامج المذکور فصل الدین عن السیاسة و...

ومن غیر الخفی استعماریة:

1) جعل الدین فی زاویة خاصة، غیر مرتبط بسائر الأمور، کما فی البند الخامس.

2) وفصل الدین من السیاسة، کما ذکر فی المنهج.

3) وتسمیة الحرب دفاعاً، لا جهاداً.

4) وإضافة القومیة علیه بدل الإسلامیة.

إلی غیر ذلک مما ذکر فی داخل البرنامج.

أحزاب الأقلیات

أحزاب الأقلیات

ز) وقد تشکل الأقلیات أحزاباً للدفاع عن مصالحها، سواء کانت الأقلیة دینیة، أو لغویة، أو نازحین من بلد آخر، أو ما أشبه ذلک، ومثل هذه الأحزاب لا تسمی نفسها الأحزاب المدافعة عن الأمة، ولا تجمع حول نفسها کل من تمکن، بل من کان داخلاً فی تلک الأقلیة.

وفی البلاد التی فیها جملة من الأقلیات، مثل الکردیة والعربیة والیهودیة والمسیحیة، فی ترکیا وما أشبه، تشکل کل أقلیة منهم حزباً، وذلک لتحصیل منافع أکثر، من مدارس ومصحات وإذاعة وثقافة خاصة بهم، وما أشبه ذلک.

ص:174

وفی الإسلام نسمی غیر المتدین بدین الإسلام أقلیة، أما المتدین بهذا الدین فلا فرق بین أفراده فی أی جهة من الجهات کما هو واضح.

ولذا لا یصح تشکیل حزب أقلیة من جهة اللغة أو القوم أو ما أشبه.

وکثیراً ما یصل من أحزاب الأقلیة مندبون إلی المجلس، مثل وصول الإیرلندیین إلی مجلس العموم البریطانی، ومثل وصول أعضاء من الحزب الکردی إلی مناصب رفیعة فی الدولة فی العراق عام (1960 م).

وینبغی هنا الإلماع إلی أن تشکیل الأکراد حزباً فی العراق، إنما کان لأجل اضطهاد القومیة العربیة للأکراد مما اضطرهم إلی تشکیل حزب الأقلیة وحمل السلاح فی وجه الحکم، فإنهم قالوا إذا کنتم أنتم أیها العراقیون قوماً عرباً فنحن قوم کرد، فلماذا یکون لکم کل شیء ولا یکون لنا شیء، لکن العراق إذا صارت إسلامیة زالت الفوارق، وکان المیزان الکفاءة، فلا فرق بین الکردی والعربی والفارسی وغیرهم، وإنما کل مسلم متساوی الحقوق مع الآخرین.

وفی إیران شکلت الأرامنة فی أوائل الحرکة الدستوریة حزب (دشناکسیون)، إلی غیر ذلک من أمثلة الأحزاب للأقلیات فی البلاد الإسلامیة وغیرها.

وکلما کان حزب الأقلیة أکثر نضوجاً، تمکن من الوصول إلی أهدافه أسرع.

وربما یتبدل حزب الأقلیة إلی حزب سیاسی حاد، إذا لم تستجب الدولة إلی مطالیبها، کما تبدل حزب (الاتحاد الإسلامی الأحمر) الذی تشکل فی إندونیسیا إلی الحزب الشیوعی، زعماً منه أنه بهذه الطریقة یتمکن من إنقاذ حقوق المسلمین.

کما أن حزب الأقلیة قد یتبدل إلی حزب الأکثریة إذا سار فی هذا الطریق، مثل الحزب (الدیمقراطی المسیحی) فی ألمانیا، حیث تمکن من النفوذ فی کثیر من الکاثولیک والبروتستانت، فصاروا من أنصاره وبذلک صار حزباً للأکثریة.

ص:175

الدولة وأحزاب الاقلیة

الدولة وأحزاب الاقلیة

ثم إن من الضروری علی الدولة أن تلاحظ أحزاب الأقلیة، لکی لا تسبب تجزأة الدولة فیما کان الحزب قویاً، کما حدث ذلک بالنسبة إلی الجناح الإسلامی فی حزب المؤتمر فی الهند، حیث سبب تجزأة الهند إلی الهند والباکستان، وذلک أثر عدم قبول حزب المؤتمر إعطاءهم حق الأکثریة فی الأقلیة، بأن یعملوا بالنسبة إلی المسلمین الذین کانوا یمثلونهم ما یشاؤون، فقال الجناح الإسلامی: الآن وأنتم تحت الاستعمار البریطانی وضعفاء، لا تقررون لنا ذلک الحق، فإذا وصلتم إلی الحکم وکانت لکم الأکثریة ذاب المسلمون فی أکثریتکم، ولذا جنح الجناح الإسلامی بقائده (جناح) إلی الاستقلال.

وهناک خلاف بین المسلمین فی الباکستان والمسلمین فی الهند، هل کان استقلال الباکستان فی نفع البلاد، حیث لولا الاستقلال لذاب المسلمون فی الأکثریة غیر الإسلامیة کما یقوله الباکستانیون، أو کان الأصلح العکس، بأن لاتستقل الباکستان حیث تکون القوة الإسلامیة فی القارة الهندیة ضمان رجوع الهند إلی کما کانت فی أیدیهم قبل استعمار بریطانیا للهند، منذ ثلاثمائة وخمسین سنة، حیث إن الإسلام دخل الهند من زمان الإمام السجاد (علیه السلام) وأخذ البریطانیون الهند من أیدی المسلمین بعد کونها فی أیدی المسلمین قرابة عشرة قرون، کما یقوله الهندیون.

وقد ابتلی باکستان بابتلاء التجزأة من جهة حزب الأقلیة الذی تشکل فی الباکستان الشرقی باسم حزب (العوام) حیث قوی هذا الحزب وبمساعدة الهند وسائر الحکومات الاستعماریة تمکن من تجزئة باکستان، وتولدت بذلک حکومة (بنغلادش)، واللازم علی مسلمی هذه البلدان الثلاثة (الهند

ص:176

وبنغلادش وباکستان) أن یکونوا حزباً قویاً واحداً، لإرجاع قارة الهند إلی الحکومة الواحدة الإسلامیة، وذلک ممکن بعد أن نعرف أن الهنود منذ القدیم أهل حکمة وتأمل وإنصاف، فإذا وجدوا الحق رجعوا إلیه.

ولهذا السبب رجعوا إلی الاستقلال لما وجد حزب المؤتمر، ولم ینفع بریطانیا کل ألاعیبها فی إبقائها خاضعة لتاجها، کما أن الشیوعیة لم تتمکن أن تجد موضع قدم فیها مع کونها جارة لها، ومع شدة الفقر والبؤس فی الهند، حتی أن أعضاء الحزب الشیوعی فی (800) ملیون هندی، لا یتجاوز عن (30) ألفاً، مع أنه حزب مجاز قانوناً، کما أن إمریکا لم تتمکن من جذبها إلی جانب نفسها، وکذلک لم تتمکن روسیا مع کثرة ما أغریا به الهند للدخول فی فلکهما.

ثم إنه قد تتشکل أحزاب الأقلیة بالنسبة إلی الصنائع والمهن، مثل حزب أصحاب الصنائع، وحزب التجار، وما أشبه، لکن الغالب فشل هذه الأحزاب، حیث إن الأمة لا تقف وراء هذه الأحزاب، وکل حزب لا یستمد نشاطه وقوته من الأمة لابد وأن یفشل بالآخرة.

الأحزاب العمالیة

الأحزاب العمالیة

أ) الأحزاب العمالیة، وهذه الأحزاب تشکلت أول ما تشکلت فی البلاد الغربیة، لأجل إنقاذ حقوق العمال من أیدی الرأسمالیین، الذین کانوا یظلمونهم بأخذ کثیر من أتعابهم، وقد کانت تلک الأحزاب تشکل سریة، لأن الحکومات کانت بأیدی الرأسمالیین وهی تمنع مثل هذه الأحزاب، ثم تسربت الشیوعیة

ص:177

إلی هذه الأحزاب، وقد زعم أولئک العمال أن فی الشیوعیة خلاصهم، لأنها أداة هدم وإذا تمکنوا من هدم الحکم بالعنف ووصلوا هم إلی الحکم _ کما وعدهم الشیوعیون المتسللون _ تحسنت أحوالهم، ولم یستغلهم الرأسمالیون، لکن سرعان ما أنقذت الأحزاب العمالیة من زیف الشیوعیة:

1) بتشکیل النقابات للعمال، وقد کانت تلک النقابات حرة، فتحسنت أحوال العمال نسبیاً بما لم یحتاجوا إلی الانضواء تحت لواء الشیوعیة.

2) إن الشیوعیة التی وصلت إلی الحکم فی روسیا أظهرت نوایاها تجاه العمال، فالحکومة صارت دیکتاتوریة إلی أبعد حد، فسحقت العمال تحت أرجلها، کما سحقت سائر الناس، والقتل والموت والسجن والتعذیب التی شاهدها العمال والفلاحون فی أیام لینین وستالین لم یحدث مثلها فی کل تاریخ العالم حسب ما حفظه التاریخ مما سبّب عداء العمال فی کل مکان للشیوعیة.

ثم البلاد الغربیة أجازت الأحزاب العمالیة الشیوعیة، فأخذت تعمل ببعض حریة، لکن لم ینضو بعد ذلک تحت لوائها إلاّ ندرة یدارون غالباً من بلاد الروس، وأمامی کتاب مطبوع قبل ست سنوات أحصی أفراد الأحزاب الشیوعیة فی کل البلاد حسب الإحصاءات الرسمیة لتلک البلاد، ویجد الإنسان فی ذلک الإحصاء ضئالة أفراد الأحزاب الشیوعیة فی البلاد الغربیة ونحوها، فعددهم فی فرنسا زهاء ثلاثة وثلاثین ألفاً، وفی ألمانیا الغربیة تسعة وثلاثون ألفاً، وفی سویسرا ثلاثة آلاف، وفی انکلترا ثمانیة وعشرون ألفاً، وفی کل من البلجیک والسوید خمسة وعشرون ألفاً، إلی غیر ذلک.

کما إنی رأیت فی إحصاء رسمی آخر أن عدد الشیوعیین فی إمریکا الشمالیة زهاء خمسین ألفاً.

ص:178

ولیس معنی ذلک أنا نقول بأن الغرب أعطی العمال والفلاحین حقهم، بل معناه إن العمال والفلاحین رضوا بلقمة العیش التی یحصلونها تحت مظلة النقابات بدلاً من الانضواء تحت ألویة الشیوعیة التی تحرمهم حتی لقمة العیش.

ولو أن البلاد الشیوعیة أعطت لعمالها وفلاحیها مهلة أسبوع واحد لإبداء آرائهم فی أجواء حرة، لم یبق من العمال والفلاحین فی الحزب الشیوعی حتی أمثال أعداد الأحزاب الشیوعیة التی تتواجد فی البلاد الغربیة، وإن کانت الدول الشیوعیة تنکر ذلک فلتجرب التجربة التی تجعلها (المادیة الدیالکتیکیة) الدلیل الوحید فی کل العلوم والمعارف، وفی المثل: (التجربة أکبر برهان).

ومما یؤید ما ذکرناه تجربة شیء من الحریة فی مصر والعراق والسودان وإیران وغیرها، فقد خرج العمال من الحزب الشیوعی بمجرد أن أتیحت لهم فرصة ضئیلة، حیث لم یبق فی تلک الأحزاب منهم إلاّ المرتبطون بروسیا والصین وما یدور فی فلکهما، والآن نجد الصین حیث صار لشعبها بعض التنفس بعد موت الدیکتاتور (ماو)، تنزل تصاویر مارکس ولنین وستالین وماو عن الساحات والدوائر والمحلات وغیرها، ویخرجون من الحزب الشیوعی زرافات، مع أن الدیکتاتوریة بعد باقیة فی تلک البلاد.

هذا مع العلم أن البلاد الرأسمالیة لا تعطی حق العامل والفلاح، کما لا تعطیهما الحریة الصحیحة.

ولو وصل الإسلام إلی تلک البلاد، فأعطی العمال والفلاحون حقهم الشرعی فی المال وفی الحریة، علی ما بیّنا خطوطهما العریضة فی کتابی: (الاقتصاد) و(نریدها حکومة إسلامیة) وغیرهما، لرأوا ما لم یکونوا یحلمون به.

ص:179

مصائر الأحزاب العمالیة

مصائر الأحزاب العمالیة

وکیف کان، فقد آلت حالة الأحزاب العمالیة فی العالم إلی ثلاثة مصائر:

الأول: حال الأحزاب العمالیة فی البلاد التی أعطیت لهم بعض الحریة فی العمل، وفی هذه البلاد تقلّصت إلی أدنی حد، کما أنها لم تستقل کاملاً، بل صارت عملاء للشیوعیة العالمیة نوعاً ما.

الثانی: حالهم فی البلاد التی لم تعط لهم حریة، فأخذت تعمل فی السر، وفی هذه البلاد تمکنت الشیوعیة العالمیة من تکثیر أعداد المنتمین إلیها، بالمال والإغراء والدعایة، وساعدتها علی ذلک ضغوط الحکومات المحلیة.

الثالث: حالهم فی البلاد التی تحکمها الشیوعیة، وفی هذه البلاد حلت مثل هذه الأحزاب إطلاقاً، واستبدت بالأمر زمرة دیکتاتوریة تسحق العمال بکل قسوة.

قلة أفراد الأحزاب الشیوعیة

قلة أفراد الأحزاب الشیوعیة

ولذا نجد أن أعضاء الحزب الشیوعی مع ما لهم من الامتیازات، ومع ما یخشون من بطش الحکومة إذا لم یقبلوا الدخول فی الحزب بل دخولهم، ومن الخروج من الحزب بعد دخولهم، قلة بالنسبة إلی أهالی البلاد مما یدل علی أن أعضاء الحزب لو وجدوا الحریة لم یدخلوا فیه أو خرجوا عنه، حتی یکون حال الحزب الشیوعی فی البلاد الشیوعیة حال الحزب الشیوعی فی البلاد غیر الشیوعیة، التی أعطی فیها للحزب الشیوعی الحریة.

ص:180

ولا بأس بهذه المناسبة أن نذکر أعضاء الحزب الشیوعی فی البلاد الشیوعیة حسب الإحصاءات الرسمیة إلی قبل ست سنوات:

فعددهم فی الصین ذات الألف ملیون زهاء خمسة وعشرین ملیوناً، وفی الاتحاد السوفیاتی ذات أکثر من ربع ملیار زهاء اثنی عشر ملیوناً، وفی کل من رومانیا وبولونیا ملیونان، وفی چیکوسلفاکیا ملیون ونصف، وفی کوبا ثمن ملیون، إلی غیر ذلک، مع أنا نظن أن الأعداد المذکورة مبالغ فیها، حیث إن الإحصاءات رسمیة فی بلاد لا حریة فیها ولا رقابة، ومن المعلوم أن الدیکتاتوریین یبالغون فی کل شیء منسوب إلیهم، بینما یذکرون ضئالة کل شیء مرتبط بخصومهم.

وقد رأینا المبالغة فی طرفی التضخیم والتقلیل، فی عراق قاسم، والدیکتاتوریین الذین قفزوا علی الحکم بعده، وفی إیران البهلویین، وفی غیرهما.

ولا بأس بالإلماع إلی بعض هذه المظاهر فی جملة من بلاد العالم:

ففی البرتغال کانت الدولة تعلن لمدة ثلاثین سنة، أن أکثریة الجماهیر ترید الدولة، ولما سقط النظام قبل سبع سنوات ظهر أنه إلی أی حد کان الشعب یکره النظام، وأنه کان یحکم بالحدید والنار.

وفی الحبشة (أثیوبیا) حیث إن الاستعمار من عادته تغییر أسامی البلاد الإسلامیة لقطع صلتها بماضیها الإسلامی المجید، کان (هیلاسیلاسی) یحکم البلاد بأبشع دیکتاتوریة منذ انتهاء الحرب العالمیة الثانیة، إلی ما قبل سبع سنوات، ویظهر أن الناس یریدونه، وهم فی بحبوبة الحریة والرفاه، ولما سقط ظهر أنه إلی أی حد کان الشعب فی کبت وفقر وإرهاب.

ص:181

وفی الیونان لما سقط الدیکتاتوریون العسکریون قبل سبع سنوات تقریباً، خرج الناس إلی الشوارع یظهرون الابتهاج والفرح بتحریر بلادهم من الطغاة المستبدین، بینما کان العسکریون من قبل یظهرون حب الشعب لهم، باستثناء زمرة عمیلة خائنة!.

ص:182

دور الأحزاب فی البلاد الإسلامیة

دور الأحزاب فی البلاد الإسلامیة

(مسألة 41): قد تقدم أن الأحزاب الإلحادیة ممنوعة فی البلاد الإسلامیة، وکما لا یحق لمسلم أن یمنح إجازة حزب رأسمالی إمریکی، لأن الرأسمالیة منهج منحرف وإمریکا دولة استعماریة، کذلک لا یحق لمسلم أن یمنح إجازة حزب شیوعی روسی أو صینی، لأن الشیوعیة منهج منحرف، وکل من روسیا والصین دولة استعماریة، ولهذا المیزان لا تجاز الأحزاب المنحرفة والأحزاب المرتبطة بالاستعمار.

أما الأحزاب الإسلامیة التی تهتم بالشؤون الإسلامیة خاصة، أو بکل شؤون البلاد الإسلامیة بصورة عامة، والأحزاب التی تهتم بشؤون البلاد خاصة، کالأحزاب العمالیة، والأحزاب الاقتصادیة، والأحزاب الاجتماعیة، وما أشبه، فتمنح لها الإجازة بشرط أن لا تخرج عن الإطار الإسلامی.

ووجه الجواز جمع قانونی الحریة الإسلامیة والتعاون، وقد قال سبحانه:((وَیَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ))((1))، وقال تعالی:((وَتَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَالتَّقْوی))((2))، وقال (صلی الله علیه وآله): «ید الله مع الجماعة»((3))، إلی غیر ذلک.

ص:183


1- سورة الأعراف: 157.
2- سورة المائدة: 2.
3- نهج البلاغة: الخطبة 127.

وإننا لا یهمنا اسم الحزب، بل المهم أن یکون هناک جماعة واعون نزیهون یتکتلون لبناء (الأفکار) و(الأشیاء) فی ضوء الإسلام، مع جزئیاته مع العصر الحدیث، لإخراج البلاد عن الاستعمار أولاً، ولبناء بلاد الإسلام بناءً حضاریاً إسلامیاً ثانیاً، ولجعل زمام العالم فی ید الإسلام لیقود العالم إلی الرفاه والسلام ثالثاً.

وإنما قلنا لبناء الأفکار والأشیاء، لأن العالم الإسلامی تخلّف عن العصر الحدیث فکریاً وشیئیاً، وما دام لم یبن البلد بهذین البناءین لا یتمکن من الخروج عن حبائل الاستعمار، فکیف بالمرحلتین الثانیتین، ولتوضیح ما ذکرناه نقول: إن المسلمین منذ النهضة الغربیة مروا بأدوار ثلاثة، کأدوار الطفل:

1) فإن الطفل أول ما یولد یکون حاله أشبه بحال النائم، لا یفهم فکراً ولا شیئاً.

2) ثم بعد مدة یفهم الأشیاء، ولا یفهم الأفکار، ولذا یأخذ فی الأکل واللعب وسائر الأعمال الإرادیة، لکن بدون فکر، وبدون الاطلاع علی ما وراء الأشیاء، ولذا نراه یمد یده لیأخذ القمر، ویشعل الثقاب بدون مبالاة لاجتناب النار، ویقفز فی الماء بدون ملاحظة أنه یغرق، ویبدل الذهب بالتمر، بدون إدراک أن قیمة الأول ألوف أضعاف قیمة الثانی، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

وسبب کل ذلک أنه أدرک الأشیاء ولم یدرک الأفکار، وإنما یفعل الأشیاء تقلیدیاً، وبدون إدراک الحسن والقبح، والصحة والسقم، والشرائط والمزایا والخصوصیات.

3) وفی الدور الثالث حین یکبر الطفل، یشرع فی فهم الأفکار، أی ما وراء الأشیاء، ولو لم یفهم الطفل فی هذه المرحلة الثالثة الأفکار، کان ناقصاً

ص:184

یجب علاجه، کما أنه إذا لم یقلد فی المرحلة الثانیة ولم یفهم الأشیاء کان ناقصاً.

4) وهکذا مر المسلمون بحالة النوم والتقلید، عند ما صدموا بالغرب الناهض فی مدة مائة وخمسین سنة الأخیرة.

أما الدور الثالث، وهو دور الإدراک وفهم الأفکار، فلم یصل إلیه المسلمون، فصار مثلهم مثل الطفل الذی وصل إلی دوره الثالث، لکنه بعد لم یتجاوز الدور الثانی، وقد قلنا إن مثله مریض یجب أن یراجع بشأنه الطبیب، بیما نری أن الیابان وفی نفس الوقت مرت بالمرحلة الأولی ثم الثانیة ثم الثالثة.

وعلیه فما تقدم من وجوب التکتل للبناء الفکری الشیئی، لیس المقصود منه تکوین الحزب فقط، وأنه عصی سحریة للإنقاذ وغیره، بل المقصود منه الإیصال بالمسلمین إلی المرحلة الثالثة فی فترة زمنیة معقولة تتناسب وبناء الأفکار والأشیاء.

والأحزاب التی تتمکن من أن تقوم بهذه المهمة یجب أن تکون:

(سیاسیة)، تفهم أعماق السیاسیة ولها نضج سیاسی.

و(حرة) لا تخاف مطاردة السلطة، لتتمکن من أن تعمل بکل حریة، حتی تظهر کفاءات أفرادها فی مختلف المیادین المحتاج إلیها.

و(شعبیة) مرتبطة بالشعب بأن یکون منهم وإلیهم، فهی لیست إلاّ جزءاً من الشعب عاملة لإنقاذه، وحینئذ یلتف الشعب حولها بما یمکنها الوصول إلی هدفها.

ص:185

الحزب بین اعضائه ومناصریه

اشارة

الحزب بین اعضائه ومناصریه

(مسألة 42): الارتباط بین الأفراد وبین الحزب علی ثلاثة أقسام:

الأول: أعضاء الحزب، الذین سجلوا أنفسهم کأعضاء، ولا یکون فرد عضواً إلاّ إذا عرفه الحزب بالذات، أو کان له شاهد کفاءة وتزکیة، وإذا قبل فی الحزب وضع تحت التجربة لمدة، فإن ظهر منه الإخلاص والنشاط والإیمان بمبادئ الحزب فهو، وإلاّ طردوه عن العضویة.

والنواة المرکزیة للحزب تنتخب الأعضاء، لتجعل لکل واحد منهم مهمة، أخذاً من الرئیس، وانتهاءً بالعضو العادی، الذی له مهمة سائر الأعضاء، ویشترک کل الأعضاء فی کل برامج الحزب الجماهیریة، أمثال الانتخابات، ونشر المناشیر، وبیع الصحف، والمظاهرات، وغیر ذلک.

وبقدر نشاط أعضاء الحزب وصلاحیتهم للانسجام مع الأمة، یکون تقدم الحزب.

ومن الواضح أن فی الأعضاء من یعملون للحزب لیل نهار، فلا عمل لهم سوی ذلک، وهؤلاء یتقاضون من الحزب أجورهم، وکلما کان العضو أکثر إخلاصاً للهدف کان أکثر قناعةً بضئالة الأجور التی یتقاضاها، فبینما کان بإمکانه أن یعمل خارج الحزب براتب خمسمائة دینار یعمل للحزب بربع هذا

ص:186

الراتب وهکذا، فالحزب مؤسسة لها موظفون، بمختلف نشاطاتهم واندفاعاتهم وأجورهم وأعمالهم.

الثانی: المناضرون للحزب، وإن لم یقبلوا العضویة، وهؤلاء هم الذین لهم نفس هدف الحزب ویتعاطفون مع الحزب لکنهم لا یستعدون للعضویة، وهؤلاء یشترکون فی الانتخابات والمظاهرات، ویقرؤون نشرات الحزب وجرائده، ویدافعون عنه، ویسددونه قدر إمکانهم، ویکونون عیونه وآذانه وألسنته فی المجتمع، ومن المعلوم أن دائرة هؤلاء أوسع من دائرة الأعضاء. ومن المناصرین غالباً ینتخب الأعضاء لدی الاحتیاج.

الثالث: الجماهیر الذین لیسوا بأعضاء ولا مناصرین، وإنما لهم هوی فی الحزب، یشترکون فی انتخاباته، کل مرة یکون للحزب انتخابات سنویة أو ما أشبه، وإن لم یشترکوا فی مظاهرات الحزب، ولم یعقدوا علاقات قریبة معه.

وکلما کانت الجماهیر الملتفة حول الحزب أکثر، کان فوز الحزب فی الانتخابات لمجلس الأمة أو غیره أقرب، ولا تلتف الجماهیر حول حزب ما إلاّ إذا رأوا منه برنامجاً صحیحاً، ونشاطاً واسعاً، وخدمة صادقة، وصداقة مع الناس بریئة، ولذا قد ینشأ حزب ویترقی سلّم الصعود بسرعة، بینما قد ینشأ حزب ویبقی مدة ثم یزول ویتلاشی.

وقد رأیت فی العراق ثلاثة وأربعین حزباً تلاشت شیئاً فشیئاً، حتی لم یبق منها إلاّ الاسم فی بعض ثنایا التاریخ، ولم یکن ذلک إلاّ لفقدان تلک الأحزاب للمقومات الأساسیة للحزب، وإنما کان لهم تجمع وقتی لهدف عابر، مثلها مثل (سحابة صیف عن قریب تقشع).

ص:187

التشکیلات المتدرجة للحزب

التشکیلات المتدرجة للحزب

ثم أعضاء الحزب، وهو الأمر الأول الذی ذکرناه، یشکلون بین أنفسهم ثلاثة تشکیلات، بعضها فوق بعض، ومؤسستین مرکزیتین إحداهما فوق الآخری، کما ویشکلون مؤتمراً عاماً بین کل فترة وأخری.

1) التشکیل الأول: (الوحدة الصغیرة) المکونة من عدد محدد، کثلاثة أو خمسة أو سبعة أو ما أشبه، التی تتشکل فی المحلة أو الشارع أو السوق، ولهذه الوحدة مسؤول هو الرابط بین الوحدة وبین التشکیلات الفوقیة، ویجتمع أفراد هذه الوحدة کل أسبوع أو أسبوعین، أو أقل أو أکثر، مرة واحدة للتداول فی الشؤون السیاسیة أو المرتبطة بالسیاسة، کالشؤون الاقتصادیة أو الاجتماعیة أو الثقافیة أو غیرها، ویدیر الجلسات ذلک المسؤول الذی ینتخب من قبل الوحدة بین فترة وفترة بأکثریة الأصوات.

وحیث إن مثل هذه الوحدة یسکن أعضاؤها فی محل واحد، یمکن إعلامهم بما یجری فی الحزب أو البلاد بسرعة، وحتی إذا لم تسمح الدولة بالحزب وکان غیر مجاز أمکن اجتماعهم بسهولة، لبعد نظر الرقابة الحکومیة عنهم، لأن کونهم فی محل واحد طبیعی فلا یلفت اجتماعهم الأنظار.

المواصفات الضروریة للوحدة الحزبیة

المواصفات الضروریة للوحدة الحزبیة

واللازم علی الوحدة أن ترفع من معنویاتها، بالمطالعة والمذاکرة والمناقشة،

ص:188

وإلاّ فمجرد الاجتماع الفارغ لا یعطی مفعولاً جیداً.

کما أن الوحدة الناجحة هی التی تتمکن أن توجد الانسجام بین أفکار الحزب وأفکار المجتمع، لا بمعنی أن تسف إلی المجتمع إذا کان مجتمعاً متأخراً، بل بمعنی أن تتمکن من أخذ ید المجتمع إلی الصعود خطوة خطوة، باللطف واللین والإقناع ، کما قال سبحانه:((ادْعُ إِلی سَبیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتی هِیَ أَحْسَنُ))((1)).

ومن أخطر ما یوقع الوحدة فی الانزلاق، أن ترفع الوحدة نفسها عن طبقة الشعب إلی طبقة الکبراء، وأن تأخذها الأنانیة، فتفعل عن وحی ذلک، وقد أشار القرآن الحکیم إلی کلا الأمرین فی آیتین:

((الآیة الأولی))

فقال سبحانه: ﴿الَّذینَ یَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِیِّ یُریدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَیْناکَ عَنْهُمْ تُریدُ زینَةَ الْحَیاةِ الدُّنْیا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِکْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَکانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾((2)).

ففی المؤمنین ثلاث صفات حمیدة:

1: قلبهم مع الله: ﴿یُریدُونَ وَجْهَهُ﴾.

2: وجسمهم مع الله: ﴿یَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ﴾.

3: وهم مستمرون فی هذا الطریق: ﴿وَالْعَشِیِّ﴾.

کما أن فی الذین أخلدوا إلی الأرض من المستکبرین ثلاث صفات سیئة، ضد صفات المؤمنین:

1) قلبه غافل:((مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِکْرِنا))، ومن غفل عن الله غفل عن نفسه ولم یفهم مصالح شخصه، کما قال سبحانه:((نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ))((3)).

ص:189


1- سورة النحل: 125.
2- سورة الکهف: 28.
3- سورة الحشر: 19.

2) ویتبعون فی أعمالهم القطب المخالف لله سبحانه:((وَاتَّبَعَ هَواهُ)).

3) ولیس لهم استقامة فی أمورهم، فإن الهوی تمیل کل یوم إلی جانب:((وَکانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)).

ولذا فعلیک أیها الرسول (صلی الله علیه وآله) وکل من کان علی طریقک اتباع ثلاثة أمور:

1: لا تطرد المؤمنین حتی تبتعد منهم جسماً:((وَلا تَطْرُدِ الَّذینَ))((1)).

2: ولا ینحرف قلبک عنهم: ﴿وَلا تَعْدُ عَیْناکَ عَنْهُمْ﴾((2)).

3: ولا تجعل قطب اتجاهک غیر الله سبحانه:((تُریدُ زینَةَ الْحَیاةِ الدُّنْیا))((3)).

((الآیة الثانیة))

ب) وقال سبحانه: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّکَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِی الْأَرْضِ مَرَحاً﴾((4))، ﴿إِنَّکَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً﴾((5)).

فکن ملائماً مع الناس، لا فی مظهر الکبر والأنانیة وعدم الاعتناء بهم، وکن فی نفسک متواضعاً وإن لم یکن هناک ناس فلا تضرب برجلک الأرض کما یفعله الجبارون لإرضاء أنانیة أنفسهم، ولا ترفع صدرک وعطفک حین المشی کبریاءً واستعلاءً علی الطبیعة، فمهما ضربت الأرض فإن الأرض لا تنشق تحت رجلک، وإنما تتعب رجلک، ومهما مددت قامتک کما یفعله الأنانیون، فإنک لا تصل إلی طول الجبال، فکیف بما هو أطول وأرفع من الجبال، وإنما تتعب جسمک.

والحاصل: کن متواضعاً مع الناس، ومع الطبیعة التی خلقها الله سبحانه، فإن السماء والأرض لا تتکبران،

ص:190


1- سورة الأنعام: 52.
2- سورة الکهف: 28.
3- سورة الکهف: 28.
4- سورة لقمان: 18.
5- سورة الإسراء: 37.

فقد {قالتا أتینا طائعین} فلا ینبغی الکبریاء لمن هو أصغر منهما.

ثم ألیس الحزب إنما شکل لخدمة الناس، وان کان إسلامیاً لخدمة الله سبحانه أیضاً، وهل یمکن خدمة الله وخدمة الناس بالتکبر والاستعلاء.

وبعد فالحزب یحتاج إلی جمع الناس حول نفسه، والناس لا یجتمعون حول الأنانیین، وفی المثال: (قطرة من العسل تجمع حول نفسها من الذباب ما لا یجمعه طن من العلقم).

وما ذکرناه فی (الوحدة) جار فی سائر أعضاء الحزب، وکلما کان اتساع دائرة عمل الفرد فی الحزب أکثر، کان احتیاجه إلی اتباع ما ذکرناه فی الوحدة أکثر، لأنه بقدر دائرة الاتساع تکون مسؤولیة الصلاح والإصلاح، فمن کان معاشراً مع عشرة کان اللازم علیه مراعاة الأخلاقیات مع عشرة، بینما الذی یعاشر مائة یلزم علیه مراعاة الأخلاقیات مع مائة، وهکذا.

واللازم علی أفراد الوحدة إیجاد الالتئام بین سیاسة الحزب وبین السیاسة العامة فی الدولة _ فی غیر الدول الدیکتاتوریة التی یجب علی الحزب هدمها بکل حال _ وذلک لأن الغالب أن سیاسة الجماعة الصغیرة تخالف سیاسة الجماعة الکبیرة، لأن الجماعة الصغیرة ترید فتح المجال لنفسها للتقدم، والجماعة الکبیرة قد ملأت المجال فلا ترید فسح المجال للجماعة الصغیرة، ولذا فإذا کانت الوحدة ترید تقدیم الحزب لزم علیها أن تعرف کیف تقدم من الخلل والفرج ومواضع الثغرة حتی لا تصطدم بالسیاسة العامة للدولة.

ولنفرض أن سیاسة الحزب تقدیم عضو منه لوزارة الخارجیة، وسیاسة الدولة بقاء الوزیر السابق فی مثال التعارض فی السلطة التنفیذیة، فإن الحزب یجب أن یدرک کیف یتمکن من التقدیم بما لا یوجب التصادم، إذ التصادم فی الغالب یوجب انتکاس القوة الصغیرة أمام القوة الکبیرة.

ص:191

الوحدة المدنیة للحزب

الوحدة المدنیة للحزب

2) التشکیل الثانی: (الوحدة المدنیة)، حیث یجتمع فی هذه الوحدة المسؤولون فی الوحدات الصغیرة، مثل أن فی المدینة عشر وحدات، فی شوارعها وأسواقها ومحلاتها، فإن عشرة مسؤولین یشکلون وحدة المدینة، وإذا کانت المدینة کبیرة یمکن تشکیل وسط بین الوحدة الصغیرة وبین وحدة المدینة.

فمثلاً مدینة ذات ملیون إنسان، لا یمکن جمع المسؤولین فی الوحدات الصغیرة فیها فی وحدة المدینة، بل اللازم وحدة متوسطة بین الوحدتین، فللمحلات وحدة متوسطة، وللشوارع وحدة أخری، وللمؤسسات الحکومیة وحدة ثالثة، وللمهنیین وحدة رابعة، وللعمال وحدة خامسة، وهکذا، وهذه الوحدات المتوسطة یجتمع مسؤولوها فی وحدة المدینة.

وأحیاناً یحتاج الأمر إلی وحدات متوسطات بین الوحدات الصغیرة وبین وحدة المدینة، بحیث تکون بین تلک الوحدات المتوسطة أیضاً سلسلة مراتب، فوحدات شوارع محلة تجتمع فی وحدة المحلة، ووحدات المحلات تجتمع فی وحدة المنطقة الشرقیة للمدینة مثلاً، ووحدات المناطق تجتمع فی وحدة المدینة، وهکذا.

الوحدة العامة للحزب

الوحدة العامة للحزب

3) التشکیل الثالث: (الوحدة العامة)، التی تجتمع فیها کل وحدات المدن، وغالباً تجعل عاصمة البلاد مقراً لها، فمثلاً فی شوارع کربلاء:

1: وحدات

ص:192

أولیة، ثم لهذه الوحدات مسؤول عام، ولوحدات (المسیب) و(الطویریج) و(الشفاثة) ثلاثة مسؤولین عامین، فهؤلاء المسؤولون یشکلون:

2: وحدة فوق علی مستوی المحافظة، ثم المسؤولون فی کل محافظة محافظة یشکلون:

3: وحدة فوق هی اللجنة المرکزیة للحزب.

وقد لا تکون الوحدة رقم (2) حسب التقسیمات الإداریة للبلاد کالمحافظات فی المثال، بل تکون حسب التقسیم الصالح بنظر الحزب، مثل شرق البلاد وغربها وجنوبها وشمالها، ومثل القومیات التی تقطن البلاد، مثل: (عرب خوزستان) و(أکراد سنندج) وغیرها و(أتراک آذربیجان) و(فارس الوسط) فی إیران، إلی غیر ذلک من التقسیمات الصالحة لتشکیل الوحدة رقم (2) فی البلاد.

ثم هناک أمر رابع وخامس وسادس مرتبط بالتشکیلات رقم (1، 2، 3) ف_:

4: هو اللجنة التنفیذیة للوحدة رقم (2)، وذلک لأن أعمال الوحدة رقم (2) کثیرة، فلابد للوحدة المذکورة أن تنتخب بعض أعضائها لیشکلوا وحدة منبثقة منهم، لأن یکونوا المشرف علی سیر الأعمال وتنظیم الأمور.

5: وهو اللجنة التنفیذیة للوحدة رقم (3)، وهذه تشکل لکثرة أعمال الوحدة المرکزیة مما لابد لها من انبثاق لجنة من خیرة أفرادها للأشراف العام والتنظیم العام.

والغالب أن تکون هذه اللجنة رقم (5) أهم جهة فی کل الحزب، وإذا أوتوا العلم والفهم والأخلاق والنشاط تمکنوا من ترفیع الحزب، وبالآخرة من ترفیع البلاد، سواء کانوا فی الحکم أو فی المعارضة أو حتی إذا کانوا یعملون فی السر، لتقدیم الحکومة أو تقویضها.

ص:193

الحزب والفکر

الحزب والفکر

وحیث ذکرنا الفکر، لا بأس هنا بالإلماع إلی حقیقة مهمة، هی أن الفکر له مکان الصدارة، لأنه الذی یقود الفرد والأمة إلی الصلاح والفساد، فالطبیب والمهندس والاقتصادی والفقیه إنما وصلوا إلی هذه الدرجات، لأن فکرهم أولاً قادهم إلی لزوم السیر فی هذا الخط، وکذلک کل مجرم وسفاک وطاغوت ودیکتاتور إنما سار فی خطه لأن فکره سبب له ذلک.

ولعل ما ورد من قوله (صلی الله علیه وآله): «نیة المؤمن خیر من عمله، ونیة الکافر شر من عمله»((1))، یشیر إلی ما ذکرناه، کما جعله کشف الغطاء (رحمه الله) أحد احتمالات الروایة، حیث احتمل فیها أکثر من ثلاثین احتمالاً.

ولذا فالواجب علی الحزب، أن یهتم بالتفکیر أکثر من اهتمامه بالعمل، فإن العمل وراء الفکر، وقد یعطی الفکر للعمل قیمة کبیرة، بینما قد یکون العمل بدون الفکر ذا قیمة قلیلة جداً.

وکما أن العمل إذا زاد أو نقص یفقد مفعوله أحیاناً، بل ینقلب إلی ضده، کما إذا خالط الماء شیء من العفص حیث یوجب الماء مزیداً من العطش عوض أن یرفع العطش، أو إذا نقص من السکنجبین الخل زاد فی الصفراء بدل أن ینقص من الصفراء، کذلک إذا زید فی الفکر أو نقص منه، انقلب الفکر فی کثیر من الأحیان ضاراً عوض کونه نافعاً.

مثلاً إن الحزب الإسلامی یفکر فی تشکیل وحدات عاملة فی کل قطر إسلامی، لتنمو تلک الوحدات حتی تتمکن من إسقاط الجدر الاستعماریة، لترجع الأمة الواحدة إلی حکومتها

ص:194


1- الوسائل: ج1 ص35 الباب 6 من مقدمات العبادات ح3.

الواحدة، التی هی حالتها الطبیعیة، وإذا بالاستعمار یأتی لیضیف إلی هذه الفکرة، فکرة أن تکون من مبادئ هذا التشکیل تساوی البشر فی البلاد الإسلامیة من غیر فرق بین مسلمهم وکافرهم أمام القانون، فإن هذه الزیادة فی أصل الفکرة توجب أن ینقلب التشکیل ضاراً.

وهکذا إذا نقص من الفکر، کما إذا انضمت إلی الفکرة الآنفة، فکرة وجوب الشروع من البلاد العربیة فقط، فلا یدخل فی الأمر غیر عربی، فإن نقص الفکر عن الإسلامیة العامة إلی الإسلامیة العربیة فقط، یوجب تشقیق المسلمین، وهو ضار بالعمل، لا أنه لیس بنافع فحسب.

المؤتمرات العامة للحزب

المؤتمرات العامة للحزب

6: والمؤتمرات العامة للحزب، فان الحزب یعقد فی کل فترة زمنیة خاصة، مثل کل سنة مرة، مؤتمراً عاماً من الأعضاء الذین هم أعضاء فی کل الوحدات واللبان المذکورة آنفاً، وذلک لإجراء الانتخابات العامة.

وکیفیته أن یکون لکل فرد صوت بمقدار خدماته، أو یکون لکل فرد مهما کان صوت واحد، بالأسلوب الذی یقرره منهج الحزب.

ویخطب فی المؤتمر الرؤساء، فیذکرون إنجازات الحزب فی العام المنصرم، وما یحتاجه الحزب فی الحال الحاضر، ورؤیة الحزب للمستقبل، وما یحتاجه المستقبل من العدة، وأحیاناً یتکلم غیر الرئیس فی الوحدة ونحوها، کما یقررون الأعمال المستقبلیة إما بأکثریة الآراء، وإما بالاقتراع، أو بغیرهما مما یساعد علیه منهاج الحزب.

واللازم أن یتم الانتخاب للآعضاء الذین یحضرون المؤتمر، والذین یصوت

ص:195

لانتخابهم، فی أجواء حرة، وحینذاک یکون الحزب استشاریاً دیمقراطیاً، فإن لم تکن الأجواء حرة، کان الحزب دیکتاتوریاً، ونتیجة ذلک هی تصفیة الدیکتاتور لأصدقائه، کما حدث فی روسیا وفی الصین وفی غیرهما من البلاد الشیوعیة.

فقد قتل ستالین أصدقاءه، کما قتل ماو أصدقاءه، وکما قتل عبد الناصر عبد الحکیم عامر وأصدقاءه الآخرین، وقتل بکر وصدام أصدقاءهما أمثال ناصر الحانی وحردان التکریتی، إلی غیرهم من الدیکتاتوریین، هذا غیر قتلهم سائر أفراد الشعب.

ولذا فاللازم فی أعضاء الأحزاب أن یقفوا بشدة دون دیکتاتوریة الکلمة والعمل، وإلاّ تنتهی الدیکتاتوریة المذکورة إلی دیکتاتوریة التصفیات الجسدیة.

وکذلک یلزم أن یقف أعضاء الحزب دون عدم عقد المؤتمرات المقرر فی المنهاج، لأن معنی عدم عقد المؤتمرات أن الرؤساء لا یرغبون فی زحزحة مکانتهم فی الحزب، وهو نوع آخر من الدیکتاتوریة.

ویجب أن لا یخدع الأعضاء بممارسة الرؤساء النوعین السابقین من الدیکتاتوریة: عدم حریة أجواء الانتخابات، وعدم انعقاد المؤتمرات.

وأحیاناً یهدد بعض الرؤساء بالخروج عن الحزب إذا لم یستجب الأعضاء لقوله، وحینئذ یکون اللازم قبولهم استقالته، لأن ذلک أهون من بقائه دیکتاتوراً مسلطاً علی رقابهم، من فقدهم عضواً نشطاً کثیر العمل، کما یتفق غالباً أن العضو النشط هو الذی یمارس الدیکتاتوریة.

واللازم أن یعرف الأعضاء أن کل عذر لعدم انعقاد المؤتمر، ولسلب الحریة فی الأجواء الحزبیة، غیر مقبول.

فإن الرؤساء قد یعتذرون لعدم عقدهم المؤتمر، أو سلبهم حریة الأجواء بأن الحزب یعمل فی خفاء، وذلک ما لا یلائم عقد المؤتمر، وقد یعتذرون بأن حریة

ص:196

الأجواء تظهر التناقضات الموجودة فی الحزب، وقد یعتذرون بأعذار واهیة أخری، وکلها تبریرات تختفی وراءها دیکتاتوریة الرؤساء.

فکلما ابتعد المؤتمر عن المؤتمر الآخر فی الفواصل الزمنیة، وکلما کانت الأجواء فی داخل الحزب خانقة، کان ذلک دلیلاً علی دیکتاتوریته، وأنه یسبر إلی تألیه الفرد وتسلیطه علی رقاب الحزب لیفعل مایشاء.

اختلاف الاتجاهات الحزبیة

اختلاف الاتجاهات الحزبیة

ثم إن قیادة الحزب یجب أن تلاحظ بعین الاعتبار أمرین مهمین:

الأول: إن رؤساء الفروع الذین یتجمعون فی المؤتمر، کانت لهم أجواء خاصة فی بلادهم، خصوصاً إذا کانت البلاد متنائیة واللغات مختلفة، والحکومات المسیطرة علی تلک البلاد متعددة، وتلک الأجواء تفرغ العضو إفراغاً فکریاً وعملیاً خاصاً.

ولذا یمکن الاصطدام بین القیادة وبین أولئک الرؤساء، فاللازم تفادی هذا الأمر بالجلسات التحضیریة التی تقرّب من وجهات النظر، حتی لا یقع الاصطدام ثم الشقاق، کما یحدث کثیراً فی الأحزاب.

والأحزاب الشیوعیه المنشقة بعضها علی بعض شاهدة لذلک، حیث إن الأحزاب الشیوعیه مبنیة علی الدیکتاتوریة والعنف، وبذلک یقع التشقق الفظیع بین أعضائها، فإن کان الحزب مسیطراً علی الدولة قتل المسیطرون المنشقین، وإن لم یکن مسیطراً نشطت الاغتیالات بینهم، والتعاون مع السلطة لضربها البعض غیر المرغوب فیه، إلی غیر ذلک من أسالیبهم التصفویة.

ص:197

بین الحزبیین القدامی والجدد

بین الحزبیین القدامی والجدد

الثانی: إن الصغار الحزبیین یکبرون ثقافیاً وسیاسیاً، ومکانة اجتماعیة، وهؤلاء یریدون أن یفتحوا طریقهم إلی التقدم فی درجات الحزب، وکثیراً ما تکون لهم کفاءات إن صبوها فی الحزب تقدم الحزب، وتمکن من الوصول إلی أهدافه.

ومن المعلوم أن القدامی فی الحزب یقفون دون تقدمهم، لأن ذلک یکون علی حساب تأخر القدامی، أو التنازل عن بعض امتیازاتهم، فاللازم علی القادة العقلاء للحزب أن یجمعوا بین تقدم الأفراد الجدد وبقاء الأفراد القدامی علی نشاطهم، فإن القدامی لهم الخبرة والسابقة، والجدد لهم النشاط والکفاءة المتنامیة مما یوجب عدم الاستغناء عن أی منهما.

وقد قال سبحانه:((وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْیاءَهُمْ))((1)).

وفی الحدیث: «لا یتوی حق امرئ مسلم»((2))، إلی غیرهما من الآیات والروایات الشاملة لما نحن فیه.

المحسوبیة والمنسوبیة فی الحزب

المحسوبیة والمنسوبیة فی الحزب

کما أن هناک مشکلة أخری یقع فیها الحزب غالباً، هی مشکلة المحسوبیة والمنسوبیة، فکثیر من القیادیین یریدون إدخال بعض ذویهم فی المناصب

ص:198


1- سورة الأعراف: 85.
2- مستدرک الوسائل: ج3 ص215 الباب 46 من الشهادات ح5.

الحساسة، وفی کل من الإدخال وعدمه محذور، حیث إن فی الإدخال محذور عدم کفاءة ذلک العضو، فهو یضر الحزب أحیاناً بدل أن ینفعه، وفی عدم الإدخال محذور خروج القیادی المذکور عن الحزب، وفی ذلک خسارة الحزب، واللازم حل هذه المشکلة بالموازنة بین أکثر الأمرین نفعاً، أو أقلهما ضرراً من باب قاعدة الأهم والمهم.

نعم إذا کانت التربیة الحزبیة نظیفة، والرقابة الاجتماعیة علی الحزب شدیدة، یکون وقع هذه المشکلات الثلاث: (الأولی والثانی والمحسوبیة) أقل، وحلها أسهل.

ولا یخفی أن هذه المشکلات کلها أو بعضها هی مشاکل اجتماع فی حالة تقدم، أو ممکن التبدل، کالجمعیات والنقابات والتکتلات والحکومات وغیرها.

وکلما کانت الرقابة الاجتماعیة علی هذه التجمعات أکثر وکانت التربیة صحیحة، والانسجام العام بین الأفراد أقوی وأمتن، کانت المشاکل المذکورة أقل بروزاً، وأسرع حلاً، والتربیة والانسجام یمکن تقویتهما بتکثیف الحوار والمناقشات الحرة، وخصوصاً إذا کانت تحت إشراف المجتمع أو عقلاء الحزب، حیث یظهر لکل طرف جوانب القوة والضعف فی آرائه ومتطلباته.

ص:199

بین الأنظمة السیاسیة والأحزاب

اشارة

بین الأنظمة السیاسیة والأحزاب

(مسألة 43): الأنظمة السیاسیة المبنیة علی الأحزاب علی قسمین:

1: النظام السیاسی ذو الحزب الواحد.

2: والنظام السیاسی ذو الأحزاب.

والقسم الثانی ینقسم إلی ما کان بعض الأحزاب مسیطراً علی الحکم مع حریة الأحزاب الأخر، وذلک لقلة أعضاء تلک الأحزاب الأخر، وما لیس کذلک.

وما لیس کذلک ینقسم إلی النظام ذی الحزبین فقط، أو ذی الأحزاب، فالأقسام أربعة:

1) ذو الحزب الواحد.

2) ذو الحزبین.

3) ذو أحزاب أحدها مسیطر.

4) ذو أحزاب کلها تتصارع علی الحکم.

ولا یخفی أن الحکومات کانت قبل أن تکون الأحزاب لها هذه الشخصیة الحاضرة، وإن کان واقع الحزب موجوداً فی کل حکومة، إما بصورة القبائل وإما بصورة الطبقة الممتازة لثروتها أو قوتها العسکریة أو أمور أخر، وعلیه فالأحزاب بهذه الصورة الحاضرة تشکل حدیث غالباً، یتکون فی ظل الدولة التی لها مشخصات جغرافیة ودینیة وقومیة خاصة، ثم یترعرع ویکبر حتی یتمکن أن یصل إلی الحکم.

وتأثیر الحکومة والحزب أحدهما فی الآخر من

ص:200

قبیل تأثیر الولد والعائلة أحدهما فی الآخر، فالولد یکون فی العائلة ویتأثر بالعائلة، ولما یکبر یؤثر فی العائلة، وتدریجیاً یغیر وجه العائلة إلی وجهة نفسه.

1: فی النظام الحزبی الواحد

اشارة

1: فی النظام الحزبی الواحد

والنظام الحزبی الواحد أول ما حدث فی التاریخ، کما قال بذلک بعض السیاسیین، هو فی زمان لینین، حیث ألف کتابه (ما ذا نصنع)، وطرح هناک لزوم وحدة الحزب، وبرر بذلک دیکتاتوریته والتی انتهت إلی جعل روسیا أسوأ مکان یضطهد فیه البشر، وقد کانت قبل هذا النظام مکاناً للحریات النسبیة، والأحزاب المتعددة، وکان اضطهاد قیصر للإنسان الروسی، أقل من اضطهاد الشیوعیین له بأقل من نسبة الواحد إلی الألف.

ولا ینتهی هذا الاضطهاد إلاّ برجوع الحریات إلی روسیا، والظاهر من الغلیان داخل روسیا وتحرک الإنسان الروسی للخلاص من هذا النیر الاستعبادی أن خلاصهم قریب بإذن الله تعالی.

ولولا مساعدة إمریکا والجبهة الغربیة لستالین فی الحرب العالمیة الثانیة، لکانت الدیکتاتوریة الشیوعیة خبراً ینقل فی ثنایا التاریخ، لکنهم ساعدوا الشیوعیة حتی تمکنت من إبقاء دیکتاتوریتها والاستمرار فی اضطهاد الشعوب المتسلطة علی رقابها بالحدید والنار، ولا تزال إمریکا تساعدها بالقمح وبالعلم، ولکن من طبیعة الدیکتاتوریة أن لا تبقی، لأن الإنسان جبل علی الحریة، والحریة هی صاحبة الکلمة أخیراً.

وقد کانت إیطالیا وألمانیا وإسبانیا والبرتغال وغیرها ذات حزب واحد دیکتاتور، لکن تحطمت دیکتاتوریة إیطالیا وألمانیا بانتهاء الحرب العالمیة

ص:201

الثانیة، حیث انهزمت النازیة والفاشیة، والبرتغال تحطمت دیکتاتوریتها قبل سبع سنوات بالانقلاب الذی حدث هناک، کما تحطمت دیکتاتوریة إسبانیا بموت (فرانکو)، والصین وبولندا أخذتا تتململان للخروج عن هذا الطرق بعد موت (ماو) فی الصین، وبعد التحرک العمالی فی بولندا.

أما الدیکتاتوریات العمیلة الصغیرة، أمثال: (الشاه) و(ببرک) و(السادات) و(صدام)، فمنها ما سقطت، ومنها ما تترنح للسقوط، ولم یبق من الأنظمة الدیکتاتوریة إلاّ نظام روسیا وما یدور فی فلکها من أوروبا الشرقیة ونحوها، واللازم تظافر الجهود لتحطیمها، لأجل خلاص الإنسان من هذا المرض العضال.

قال سبحانه: {وما لکم لا تقاتلون فی سبیل الله والمستضعفین}((1)).

کما أن اللازم خلاص البلاد الرأسمالیة، کإمریکا من أخذ رأس المال بخناق الناس، وقد ذکرنا أسلوب الخلاص من هذین النظامین فی جملة من کتبنا، مثل (الفقه: الاقتصاد) و(إلی حکومة ألف ملیون مسلم) وغیرهما، والله سبحانه المستعان.

بطلان منطق الأحزاب الفاشسیة والشیوعیة

بطلان منطق الأحزاب الفاشسیة والشیوعیة

ثم إن الأحزاب الفاشسیة والأحزاب الشیوعیة، وإن اختلفتا فی التکتیک والمنطق، لکنهما لا یختلفان فی الجوهر، حیث إن کلتیهما تحطمان الحریة، وتطاردان الاستشاریة الدیمقراطیة.

فالشیوعیة تقول: إن الدیمقراطیة کذب لبسها رأس المال لیخفی جشعه تحت هذا الثوب المهلهل، ولذا یجب تحطیمها إلی الدیکتاتوریة بقصد تحطیم رأس المال.

ص:202


1- سورة النساء: 75.

والفاشسیة تقول: إن الدیمقراطیة ضعیفة، لا أثر لها إلاّ انتهاز الشیوعیة هذا الضعف لتقوی نفسها وتتسلط علی البلاد، فتطبق منهاجها بالدم والنار والحدید، ولذا فاللازم تحطیم الدیمقراطیة المهلهلة بقصد تحطیم الشیوعیة المنتهزة.

والصحیح بطلان کلتیهما کبطلان الرأسمالیة، وإنما اللازم وجود الحکومة الاستشاریة التی لا یأخذ برقبتها رأس المال، وقد تقدم أن الصحیح فی الحکومة أن تکون فی الإطار الإسلامی.

أضرار الحزب الواحد

بطلان منطق الأحزاب الفاشسیة والشیوعیة

والحکومة ذات الحزب السیاسی الواحد، عرضة للزوال السریع، بینما الحکومة ذات الأحزاب لیست کذلک، والسبب أن الناس لا یتحملون الدیکتاتور، وحتی أعضاء الحزب الواحد تکون بینهم الدیکتاتوریة، إذ الدیکتاتوریة إذا تحرکت عجلتها لا تفهم الغریب والقریب، وتسحق کل من وقف فی طریقها، ولذا نجد الدیکتاتوریین یقتلون حتی أقرب المقربین إلیهم، فشاه إیران قتل أخاه، وعبد الناصر قتل زمیله عامر، والبکر وصدام قتلا زملاءهما، کرشید مصلح وحردان التکریتی.

أما ماو وستالین وهتلر، فلقد أکثروا القتل فی أصحابهم.

ومن الواضح أن الوضع بهذه الحالة لا یدوم، ولا یقصد عدم الدوام علی الإطلاق، بل الدوام المترقب من الحکومة، فعمر الحکومات الدیکتاتوریة أقصر من عمر الحکومات الدیمقراطیة.

ص:203

هذا بالإضافة إلی أن الحکومات الدیکتاتوریة دائماً متأخرة بالنسبة إلی الحکومات الدیمقراطیة، وذلک لأن الدیکتاتوریة ضد ظهور الکفاءات، بینما الدیمقراطیة مهد ظهور الکفاءات، وکلما ظهرت الکفاءات وأعطیت لها فرص العمل کان التقدم أکثر.

ولذا نجد الشیوعیین دائماً محتاجین إلی الدیمقراطیین، حتی الدیمقراطیین فی الجملة، کما هو الحال فی الحکومات الغربیة.

وکلما کانت الدیکتاتوریة أکثر کان التأخر أکثر، کما أنه کلما کانت الدیمقراطیة أکثر کان الدوام والثبات أکثر.

أما کیف بقیت روسیا إلی الحال، فقد تقدم وجهه، فإن إمریکا وسائر البلاد الاستعماریة الغربیة هی التی أوجدتها، کما أنها هی التی أنقذتها فی الحرب العالمیة الثانیة، وهی التی أبقتها، حیث إن بسببها:

1) تتمکن من امتصاص أموال الناس بالباطل، لتخویفهم إیاهم من الشیوعیة، کما تستدر إمریکا وبریطانیا بلاد النفط العربیة بهذه الوسیلة.

2) وتجعل منها سوقاً لقمحها تکنولوجیتها، ولذا نری أن الغرب لما لم یرد بقاء شیوعیة الصین، أخذ یجرها إلی جانب الغرب منذ أواخر (ماو).

((من سمات الحزب الواحد))

((من سمات الحزب الواحد))

والتصفیات الجسدیة والسجن والتعذیب بدون المحاکمة حتی المحاکمة الصوریة، من أظهر سمات الحکومة ذات الحزب الواحد، کما أن الکذب والدجل وقلب الحقائق ظاهرة أخری من ظواهر هذه الحکومات، کیف لا، وقد قال زعمائهم: (لا دین، ولا أخلاق).

وحتی رؤساء الحزب لم یستثنوا من التصفیة، کما صفی بلغانین وبیریا، بل والمشهور أن ستالین هو الذی قتل لینین، وأساس التصفیات فی الحکومات الدیکتاتوریة هی النزاع علی الکرسی والسیطرة.

والطبقیة داخل الحکومات الدیکتاتوریة تدور رحاها علی أشدها،

ص:204

فهناک طبقة الحاکم التی لها کل شیء، وطبقة الشعب التی لیس لها حتی الشبع من الخبز.

ولذا تجد الطبقیة فی روسیا الشیوعیة بشکل لم یوجد لها مثیل طول التاریخ، فمثلاً فی إمریکا المال بید التجار وهم کثرة، والحکم بید الحکام، وبین التجار والحکام وإن کان تقارب من ناحیة، إلاّ أن بینهما تدافعاً من ناحیة ثانیة، بینما فی روسیا المال والحکم بید طبقة واحدة هی الطبقة المستکبرة التی تفعل ما تشاء.

وإنا نعتقد خطأ کلا النظامین، إذ اللازم أن یکون المال بید الکل، والحکم بید الکل، کما قال سبحانه:((کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ))((1)).

وقال تعالی:((وَأَمْرُهُمْ شُوری بَیْنَهُمْ))((2)).

وقد ذکرنا فی کتاب (الفقه: الاقتصاد) و(الفقه: الحکم فی الإسلام) کیفیة توزیع المال بما یخالف المناهج الأربعة (الرأسمالیة، والاشتراکیة، والشیوعیة، والتوزیعیة)، وکیفیة توزیع الحکم بما یکون شوری حقیقیة، لا شوری صوریة کا فی إمریکا والبلاد الرأسمالیة.

ثم إن بریطانیا وفرنسا وبلجیکا وما أشبه، حیث أخذت البلاد المستعمرة تحت نفوذهم فی آسیا وإفریقیا تتحرر، واضطروا بسبب الضغوط العالمیة إلی الانسحاب من تلک البلاد، مکروا لرجوعهم إلیها بنشر مبادئ الدیکتاتوریة فی تلک البلاد، کما أخذوا أزمة الدیکتاتوریین الذین جاؤوا باسم التحرر إلی منصة الحکم، وکان هدفهم من ذلک تضجر أهل البلاد من الدیکتاتوریین وطلبهم رجوع الاستعمار، لأنهم کانوا أقل عنتاً فی حال الاستعمار من عنتهم

ص:205


1- سورة الحشر: 7.
2- سورة الشوری: 38.

حال الاستقلال المزعوم.

2: النظام ذو الحزبین

2: النظام ذو الحزبین

والنظام ذو الحزبین هو الذی یقوی فیه حزبان سیاسیان، مثل بریطانیا وإمریکا الشمالیة، ولیس معنی ذلک أن لا حزب سیاسی آخر فی مثل هذه البلاد، بل هناک تجمعات صغیرة فی جانب هذین الحزبین، مثلاً فی إمریکا إلی جانب الحزبین الدیمقراطی والجمهوری أحزاب صغار تنصب فی نهر الحزبین الکبیرین، مثل الحزب العمالی والحزب الاشتراکی وحزب المزارعین وحزب تحریم المسکرات والحزب التقدمی.

والحزبان فی کلا البلدین لهما إطار واحد، وإن اختلفا فی الاجتهادات الحزبیة، مثلاً أحد الحزبین یهتم بالداخل أکثر، والحزب الآخر یهتم بالخارج أکثر، وأحد الحزبین یهتم بصنع السلاح والصناعات الثقیلة، والحزب الآخر یهتم بالأشیاء التجمیلیة کالثلاجات والمبردات والمدافئ وما أشبه وهکذا، والعمدة فی الدولة ذات الحزبین، أن الحزبین یکونان بمنزلة جناحی الطائر فی طیران الأمة.

وفی کلمة للإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام): «یطیر المرء بهمته کما یطیر الطائر بجناحیه»((1))، فکل حزب یهتم لجمع الناس حول نفسه، ولذا یخدمهم ویتقرب إلیهم ویقضی حوائجهم، کما أن کل واحد منهما یقف بالمرصاد للحزب الآخر،

ص:206


1- نهج البلاغة: الحکمة 47.

فکلما رأی زلة نشرها، وبذلک یعیش الشعب فی راحة من الدیکتاتوریة والأحکام التعسفیة التی یبتلون بها فی الحکومات ذات الحزب الواحد، حیث لا محاسبة ولا مراقبة، کما أنه لا دافع للحزب الواحد فی جلب رضایة الناس، ولذا یکثر غیر الراضین، وحیث لا مسؤول فالحزب یتخذ منهج الدیکتاتوریة والقتل والتعذیب ومصادرة الأموال مخلصاً لتصفیة أعدائه، وقد قال علی (علیه السلام): «من ملک استأثر»((1)).

وجملة من بلاد العالم اتخذوا مسلک الحزبین فی الحکومة، لکن جملة منها وقعت فی شباک الاستعمار، فلم ینفع الحزبان فیها فی توفیر الرفاه وإیجاد جو الحریات الصادقة فی الشعب، إذ لیس وجود حزبین فی الدولة کل شیء، بل اللازم وجود سائر مقومات الحریة والرفاه والاستقلال.

لا یقال: إن کان وجود حزبین یکفی فی رفع الظلم، فلماذا نری أن بریطانیا وإمریکا من أکثر بلاد العالم ظلماً، لا بالنسبة إلی البلاد المستعمرة بالفتح، بل بالنسبة إلی شعوب أنفسها، حیث الطبقیة الحادة، فبطون تتخم وبطون تحرم.

لأنه یقال: إن الحزب فی کلا البلدین وقع أسیر رأس المال، ورأس المال یتحرک لتقویة نفسه من دون ملاحظة الغریب والقریب، فالشعب مثاله مثال طائر فی قفص، بینما شعب ذی حزب واحد کطائر ملفوف بالقیود، ولا خلاص للعالم من الاستعمار، ولا لشعوب البلدان المستعمرة بالکسر من الاستغلال، إلاّ بتحطیم رأس المال المنحرف، وتوزیع الثروة توزیعاً عادلاً، حسب الأمور

ص:207


1- الوسائل: ج8 ص424 الباب 21 من العشرة ح3.

الخمسة، التی ذکرناها فی (الفقه: الاقتصاد).

هذا فقط من ناحیة التحرر من حیث المال، أما التحرر الحقیقی فلیس إلاّ فی ظل الإسلام، کما قال سبحانه: ﴿وَیَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتی کانَتْ عَلَیْهِمْ﴾((1)).

3: النظام ذو الأحزاب المسیطر أحدها

3: النظام ذو الأحزاب المسیطر أحدها

أما النظام ذو أحزاب أحدها مسیطر، فذلک لا یکون إلاّ إذا کان فی أحد الأحزاب مؤهلات أکثر لإدارة الحکم، وکان له أنصار کثیرون، إما لسوابقه وإما لأنه تمکن من استقطاب رضایة الناس أکثر، وحفظ نفسه عن الانزلاق.

فقد ورد فی الحدیث: «من أصلح فاسده أرغم حاسده»، والهند منذ استقلالها من ید بریطانیا عام (1948 م) إلی الآن کذلک، حیث یسیطر علی الحکم فیها (حزب المؤتمر) الذی تحمل أکثر الأتعاب فی تحریرها، ولذا فهذا الحزب له الأکثریة فی المجلسین التشریعی والتنفیذی، وأما سائر الأحزاب المجازة فلیس لها شیء یذکر، وإن کانت لهم الحریات فی مجال السیاسة، أما الأحزاب الأخر فی الهند، مثل الحزب الشیوعی والحزب الاشتراکی، فلم یتمکنوا من أخذ الزمام عن ید حزب المؤتمر.

والسبب أن ذینک الحزبین ثبت ارتباطهما بالأجنبی، فلم یلتف حولهما الناس، کما أنه لم یکن لهما سوابق نضال، بالإضافة إلی أن الحریة الموجودة

ص:208


1- سورة الأعراف: 157.

فی الهند تقف دون هذین الحزبین بالمرصاد، لأن کلاً من الحزب الشیوعی والاشتراکی لا یتمکن أن یعیش إلاّ فی جو من الدیکتاتوریة والظلام، فإذا لم یجد مثل هذا الجو لم یتمکن أی منهما أن یعیش إلاّ عیشة لا یموت فیها ولا یحیی، فإن کلاً من الشیوعیة والاشتراکیة خلاف العقل والمنطق، کما بینا ذلک فی کتبنا الاقتصادیة.

أما بعض الأحزاب الأخر فی الهند، فلیس لها سوابق ولا برامج مغریة، ولذا فإنها بقیت فی ذیل القافلة، وقد حاولت کل من بریطانیا وإمریکا وروسیا والصین جر الهند إلی تبعیتها، لکنها آبت بالفشل، ولیس معنی ما ذکرناه أنا نرضی بالنظام فی الهند، وإنما هذا بیان لسبب تسلط الحزب الواحد، أو کیف أن سائر الأحزاب لم تتقدم منذ ثلث قرن.

4: النظام ذو الأحزاب المتصارعة

3: النظام ذو الأحزاب المسیطر أحدها

وأخیراً یأتی دور النظام ذی الأحزاب المتکثرة والتی تتصارع کلها علی الحکم، من غیر انصباب فی نهر حزبین، کما تقدم فی حزبی إمریکا.

وفی مثل هذا النظام یمکن أن لا یفوز أحد الأحزاب بأکثریة الآراء، ولذا لا یتمکن أحد الأحزاب أن یأخذ بأزمة القدرة فی یده، وإنما تتشکل منهم الحکومة الائتلافیة، وبقدر قدرة کل واحد منهم فی الفوز السیاسی تکون بیده الوزارات، فإذا فرض أن أحد الأحزاب کان له 50 % من المجلس، والثانی له 30 %، والثالث له 20 %، وزعوا الوزراء فیما بینهم بتلک النسبة، فإذا کان عدد الوزراء عشرین کان للأول عشرة، وللثانی ستة، وللثالث أربعة، وهکذا.

ص:209

وإذا لم تأتلف الدولة من قدرات الأحزاب سقطت الدولة، وقد کان لإیطالیا قبل سبع سنوات هذا النوع من الحکم.

لکن إذا کان تعیین رئیس الجمهوریة من قبل الأمة مباشرة، فرئیس الوزراء من قبل رئیس الجمهوریة، لم تتمکن القوة التشریعیة (مجلس الأمة) فی صورة ائتلاف الدولة من إسقاطها، لأن القوة التشریعیة فی أغلب الأحیان لا تتمکن من تعبئة الرأی العام لإسقاط منتخبهم للقوة التنفیذیة: (رئیس الجمهوریة).

کما کان الحال فی فرنسا عام (1958 م) حینما اختیر دیغول رئیساً للجمهوریة فی المرة الثانیة، وفائدة هذا النحو: (الحکم فی فرنسا) أنه یمنع من إسقاط الدولة کلما لم ترغب فیها القوة المقننة، ومن الواضح أن سقوط الدولة یوجب الضعف وفوضی البرامج المقررة للإصلاح والتقدم.

ثم لا یخفی أن الانتخابات قد تکون ذات درجة، وقد تکون ذات درجتین، فالأولی عبارة عن فوز من له أکثریة الأصوات بالنسبة لکرسی مجلس الأمة، فإذا کان هناک عشر مرشحین، حصلوا علی الأصوات (5، 6، 7، 8، 9، 10، 12، 13، 14، 16) کان الفائز من حصل علی (16)، لأنه أکثر المرشحین أصواتاً بالنسبة.

أما الانتخابات ذات درجتین، فمن حصل علی (16) صوتاً، لا یفوز بکرسی المجلس، لأنه لم یحصل علی الأکثریة المطلقة، والأکثریة المطلقة هی (51) من مجموع الأصوات الذی هو مائة صوت، وإذا کانت الانتخابات ذات درجتین تتحد الأحزاب الصغار، ویتنازل المنتخبون بعضهم لبعض، ویبقی فی المیدان فائزان فقط یجربان حظهما فی الانتخابات الثانیة، فمن فاز بأکثریة الأصوات المطلقة (51) فی المثال، حصل علی کرسی المجلس، لکن الأحزاب التی اندمجت فی الانتخابات وتنازلت بعضها لبعض، لا تفعل ذلک

ص:210

اعتباطاً، بل فی مقابل ضمانات وغنائم یوفرها الحزب الفائز بمنتخبه للحزب الذی لم یفز.

طریق معرفة أحجام الأحزاب

طریق معرفة أحجام الأحزاب

ثم إن معرفة أحجام الأحزاب إنما تکون:

1: فی الأحزاب السریة بقدرتها علی نشر الإشاعة ضد الحکم، فیما إذا لم یصل الحزب إلی إمکانیة خلق الفوضی، وإلاّ کانت مظاهر الفوضی دلیلاً علی حجم الحزب.

مثلاً لو تمکن الحزب من إیجاد الفوضی بالمظاهرات والإضرابات وإحراق المبانی الحکومیة وما أشبه فی بلد واحد، کان دلیلاً علی أن له قوة خمس الحزب الذی یتمکن من فعل ذلک فی خمسة بلاد.

وهکذا بالنسبة إلی نشر الإشاعات، مثلاً الحزب الشیوعی السری فی بلد کذا، ضد إدخال مادة الدین والفضیلة فی المدارس، بناءً علی قول مارکس: لا دین، لا أخلاق، فإذا صممت الدولة علی ذلک أخذ الحزب الشیوعی السری فی إشاعة أن هذا العمل خلاف التقدمیة، ورجوع إلی الوراء، فإذا أرید معرفة قوة الحزب الشیوعی، القوة الکیفیة، وإن لم یظهر بذاک القوة الکمیة فی عدد أفراده، علم ذلک من إمکانیة إشاعتهم فی البلدان، فإن تمکنوا من الإشاعة ضد المشروع فی عشر البلد کان دلیلاً علی قوتهم بهذا القدر، وهکذا.

2: أما معرفة أحجام الأحزاب العلنیة، فقد ذکروا لها مقاییس ثلاثة:

1) معرفة کمیة المنتسبین وکیفیتهم، هل لهذا الحزب ألف منتسب أو عشرة

ص:211

آلاف، وکم له من الأطباء والمعلمین والمهندسین ورجال الدین، إلی غیر ذلک.

2) معرفة کمیة الناخبین وکیفیتهم، والکیفیة وإن لم تکن تعطی الصوت الزائد، فإن لکل ناخب صوتاً واحداً، إلاّ أنها تعطی الوزن، حیث إن الناس تبع للمثقفین مثلاً.

3) معرفة عدد المقاعد البرلمانیة، وکیفیة أفراد الحزب فی البرلمان، لأن الکیفیة لها وزن فی التأثیر علی سائر الأعضاء وفی الرأی العام الضاغط علی أعضاء البرلمان، ومن الواضح أنه یقل احترام الحزب عند ما یقل عدد نوابه، لأن وزنه فی المقررات یخف ویتضائل إمکان حصوله علی مقاعد أو مکاسب أو معلومات من الناخبین، وتبعاً لقلة احترامه وقلة مکاسبه یقل نموه فی المجتمع.

ولا یخفی أن البحث فی الأحزاب طویل یصل إلی مجلد أو أکثر، ولذا ألف فیه (موریس) وغیره کتاباً مستقلاً، لکنا ذکرنا بعض تلک المباحث هنا إلماعاً إلی الخطوط العامة لهذا الشأن السیاسی الذی له وزنه فی عالم الیوم، ومن شاء التفصیل فلیرجع إلی المفصلات، والله الموفق المستعان.

ص:212

أصالة الحریة

اشارة

أصالة الحریة

(مسألة 44): الأصل فی الإنسان (الحریة) فی قبال الإنسان الآخر((1)) بجمیع أقسام الحریة، إذ لا وجه لتسلط إنسان علی إنسان آخر وهو مثله.

کما أن الأصل فی الإنسان العبودیة لله سبحانه، فإنه هو الذی خلقه ورزقه وکل أموره بیده، لا تصرفاً فقط بل بقاءً أیضاً، حیث إن الإنسان باق بإرادة الله تعالی، فإن أقل لحظة یصرف الله لطفه عن الإنسان یلحقه بالعدم، وقد مثل الحکماء لذلک _ والأمثال تقرب من جهة وتبعد من جهة _ بالصور الذهنیة، فإنها موجودة فی الذهن ما دام اللاحظ یعیرها الانتباه، فإذا صرف ذهنه عنها لم تکن شیئاً.

ولعل الإمام الصادق (علیه السلام) أشار إلی ذلک، فیما حاصله أن إنساناً سأله (علیه السلام) عن شأن الله فی الکون بعد کونه سبحانه لا یحتاج إلی أکثر من لحظة فی خلق الکون وإبقائه إلی الأبد، کما للإنسان الذی یصنع ماکنة ثم یشغلها ویدعها وشأنها، فلا شأن له سبحانه بعد ذلک، وحاصل جواب الإمام (علیه السلام): إن الاستمراریة مستندة إلیه سبحانه فی کل لحظة.

وعلیه فلا یطابق المثل مع شأن الله فی الخلق، کما أن قوله سبحانه: ﴿کُلَّ

ص:213


1- فلا عبودیة لشخص علی شخص.

یَوْمٍ هُوَ فی شَأْنٍ﴾((1)) لعله إشارة إلی ذلک.

وکیف کان، فیدل علی أصالة حریة الإنسان قول علی أمیر المؤمنین (علیه السلام): «لا تکن عبد غیرک وقد جعلک الله حراً»((2)).

وقد ذکر هذه الأصالة الفقهاء فی مسألة الرق، فراجع کلامهم.

وقد خرج عن هذا الأصل استعباد أسراء الحرب، إذا رأی الإمام (علیه السلام) ذلک صلاحاً، فإنه مخیر بین أمور: (القتل، والسجن، والفک ببدل، والفک بلا بدل، والاسترقاق)، ومن یزعم أنه إهانة لکرامة الإنسان نسأله هل هو أکثر إهانة أم سجنه، لا شک أن السجن أکثر إهانة، لأنه تقیید لحریات کثیرة، بینما الاسترقاق تقیید لحریات قلیلة، فإذا جاز السجن جاز الاسترقاق بطریق أولی.

کما أن من یزعم أن القصاص فی العضو قسوة، نسأله هل القتل أکثر قسوة أو القصاص، فإذا کان القتل جائزاً کان قصاص بعض الأعضاء جائزاً بطریق أولی، وحیث ذکرنا فی کتاب (الفقه الاقتصاد) و(القصاص) تفصیل الکلام حول ذین الأمرین، لم یکن داع إلی الإعادة.

أقسام الحریات

اشارة

أقسام الحریات

والمقصود فی المقام الإلماع إلی بعض الحریات وخصوصیاتها، فنقول:

قد تبین مما سبق أن الحریة لیست من الحقوق الموضوعة ، حتی یعطیها إنسان لإنسان آخر، أو یسلبها إنسان عن إنسان آخر.

ص:214


1- سورة الرحمن: 30.
2- نهج البلاغة: الکتاب 31.

نعم، لمولی العبد _ العبد المتقدم _ أن یحرره، کما ذکره الفقهاء فی کتاب الرق، وفی ما عدا ذلک فالإنسان حر، سواء أقر به فرد أو جماعة أو دولة، أو لا.

والحریة وإن کانت حق الإنسان ولا یمکن إیجاد التزلزل فی أسسها، لکنه قابلة التأطیر بالأطر المعقولة، ونذکر ذلک ضمن أمور:

الحریة الجسدیة
اشارة

الحریة الجسدیة

الأول: فی الحریة الجسدیة والعملیة:

1) فکل إنسان حر فی بدنه لا یُملک، فی غیر المورد المستثنی سابقاً، وما کان یفعله الغرب من سرقة الإنسان وبیعه والاستیلاء علیه بالقوة، کان عملاً باطلاً فی نظر العقل والإسلام، إلی أن ألغاه بعض عقلائهم، وقد أحصی التاریخ أنهم فی فترة خاصة استعبدوا بمثل ذلک الطریق مائتی ملیون إنسان کما فی کتاب (تشریح جثة الاستعمار) وغیره، والعقلیة الغربیة الاستعماریة والتی تبعتها الشرقیة الشیوعیة فی الاستعمار وهضم حقوق الشعوب، هی نفس تلک العقلیة الاستعبادیة القدیمة، لبست ثوب العصر، والحقیقة هی الحقیقة، وإن کانت الآن ظهرت فی صورة أبشع.

حریة العمل

حریة العمل

2) کما أن کل إنسان حر فی عمله، فلا یحق لأحد أن یجبر أحداً علی عمل، نعم یمکن استثناء صورة عن ذلک، وهی ما إذا کان إنسان قادراً علی عمل یتناسب

ص:215

وشأنه، لکنه لا یعمل ویجعل نفسه وعائلته کَلاً علی الناس، فإنه لا یبعد أن یکون للدولة حق الإجبار، لأن ترکه یتسول إفساد له، والدولة الإسلامیة مکلفة برعایة المصالح وهذا منها، بالإضافة إلی أنه تضییع لعائلته.

وقد ورد: «لعن الله من ضیع من یعول»((1))، فیما إذا کانت له عائلة.

ومن باب الإجبار علی العمل لأجل رزق نفسه ورزق عائلته، الإجبار علی العمل لأجل أداء دَینه، فیما إذا کان قادراً علی العمل الذی یتناسب وشأنه، کما أفتی بعض الفقهاء بذلک، وإذا لم یقدر الشخص علی العمل وعلی أداء دینه بالعمل، کان علی بیت المال رزقه وأداء دینه، کما ورد فی الأحادیث، وفصلنا الکلام حول ذلک فی (کتاب الزکاة) من (الفقه).

حریة خصوصیات العمل

حریة خصوصیات العمل

3) وکذلک کل إنسان حر فی خصوصیات العمل، من ساعاته وکمیته وکیفیته وزمانه ومکانه وغیر ذلک، لأن «الناس مسلطون علی أموالهم وأنفسهم»((2)).

نعم للإنسان أن یسلب هذه الحریة عن نفسه بالمعاهدة والمعاملة، فإن کون حق السلب له نوع من الحریة، کما إذا آجر نفسه عشرة أیام لیعمل لزید عمل کذا، بشرط کونه مؤطراً بالإطار الإسلامی ن الشروط والخصوصیات، إذ لا یحق

ص:216


1- الوسائل: ج14 ص122 الباب 88 من مق د مات النکاح ح6.
2- ان ظر بحار ال أ نوار: ج2 ص272 ح11.

للإنسان المعاملة خارج هذا الإطار، ولذا قال الفقهاء: الناس مسلطون علی أنفسهم وأموالهم، لا علی أحکامهم.

التساوی بین الأفراد

التساوی بین الأفراد

4) وهل التساوی بین أفراد الإنسان، الأبیض والأسود، والعربی والعجمی وما أشبه ذلک، نوع من الحریة، کما قال بذلک بعض السیاسیین، أو أنه داخل فی باب آخر، احتمالان، وإن کانت النتیجة أنه لا حق فی منطق الإسلام فی أی نوع من التمییز الذی لا یرجع إلی الکفاءات، والدین من الکفاءات کما ذکرناه سابقاً.

فلا حق للدولة أن تجعل بعض مؤسساتها أو ما أشبه ذلک خاصاً بالأبیض دون الأسود، أو لغة کذا دون لغة کذا، وهکذا، کما کان القانون الأمریکی وبعض البلاد الاستعماریة الأخر یوجب التمییز العنصری، فإن ذلک خلاف موازین العقل والشرع، فإن التمایز فی منطق الشرع للتعارف لا للتناکر.

قال سبحانه: ﴿وَجَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاکُمْ﴾((1)).

وقال (صلی الله علیه وآله): «الناس سواسیة کأسنان المشط»((2))، إلی غیر ذلک.

أما المؤسسات الخاصة کفندق لزید، ومطعم لعمرو، فهل یحق له التمییز، الظاهر أن له ذلک بمقتضی تسلط الناس علی أموالهم، لکن بشرط أن لا یکون

ص:217


1- سورة الحجرات: 13.
2- الاختصاص: ص341.

تمییزه إهانة لکرامة الإنسان، مثلاً یحق له أن یجعل مطعمه خاصاً بالرجال، أو فندقه خاصاً بأهل بلد کذا، أما إذا کان إهانة کما إذا تبانی أصحاب الفنادق علی عدم السماح للسود بدخولها، لم یکن لهم حق فی ذلک، واللازم علی الدولة کسر هذا التبانی، لأنه إهانة ولا حق للإنسان فی إهانة غیره.

حریة الدین

حریة الدین

الثانی: حریة الدین، کما قال سبحانه:((لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ))((1))، وفی هذا الأمر صور وفروع:

أ) لا یجبر إنسان أن یبدل دینه إلی الإسلام، سواء کان أهل کتاب إجماعاً، أو غیر أهل کتاب علی الأظهر، بدلیل إطلاق الآیة المتقدمة، والرسول (صلی الله علیه وآله) لم یجبر أحداً من المشرکین علی الإسلام، کما فی أساری بدر وأهل مکة وأهل الطائف وغیرهم، وعمله (صلی الله علیه وآله) حجة، إلاّ إذا ثبت أنه لأمر ثانوی، کقاعدة الأهم والمهم ونحوها، وحیث لم یثبت ذلک فی المقام فمقتضی القاعدة المستفادة من (إلا لیطاع) و(أسوة) وغیرهما أن الحکم أولی یلزم اتباعه (صلی الله علیه وآله) فیه.

کما لم یؤثر عن علی (علیه السلام) أنه أجبر کافراً غیر کتابی علی الإسلام، مع وضوح کثرة الوثنیین فی زمانه (علیه السلام) تحت حکمه.

ب) کما لا یجبر إنسان أن یبقی علی دینه، إذا أراد أن یبدل دینه إلی دین

ص:218


1- سورة البقرة: 256.

آخر غیر الإسلام، مثلاً أراد الوثنی أن یتنصر، أو المجوسی أن یتهود، أو ما أشبه ذلک، إذ لا دلیل علی الجبر، فالأصل عدمه، و(من بدل دینه فاقتلوه) منصرف إلی المسلم یرید تبدیل دینه.

وإذ کان الأصل عدم الإجبار فلا فرق بین تبدیل الدین إلی الأسوأ أو الأحسن أو المساوئ، فالأول کتهود النصرانی، والثانی عکسه، والثالث کانتقال عباد الشمس إلی عباد القمر.

نعم مقتضی القاعدة أنه إذا غیر أحدهم دینه إلی دین ثان أجریت علیه أحکام الدین الجدید، لقاعدة «ألزموهم بما التزموا به»، وغیره مما ذکرناه فی (الفقه: کتاب القضاء) وغیره، لأنه کلما تحقق الموضوع تبعه الحکم.

ج) لا یحق لمسلم أن یبدل دینه، نصاً وإجماعاً، وقد ذکرنا حکم المرتد فی (کتاب الحدود والتعزیرات) وأنه لماذا لا یسمح الإسلام للارتداد، وأن ما قرره مما یؤیده العقل أیضاً، کما أن له شبیهاً فی سائر بلاد العالم سواء الدیمقراطیة منها أو غیرها.

وقد ذکرنا هناک الفرق بین الرجل والمرأة فی العقاب إذا بدّلا دینهما، والفرق بین المعاند والشاک المشتبه حقیقة، کما أنه ذکرنا هناک أنه إذا تاب المرتد قبلت توبته وإن کان الارتداد عن فطرة، کما أن أحکام الارتداد لا تترتب علی ما إذا کان الارتداد جماهیریاً، بأن حدثت فتنة ارتد فیها جماعات کبیرة، وإنما الأحکام تترتب علی الارتدادات الفردیة.

د) الکفار الذین یعیشون فی بلاد الإسلام، لهم الحریة فی إبراز عقیدتهم بدون أن یدعوا المسلمین إلیها، کما أن لهم الحریة فی إجراء مراسیم عباداتهم، ولا یتعرض مسلم لهم بسوء، ولهم أن یعملوا حسب شریعتهم فی عقدهم ونکاحهم وإرثهم وعباداتهم، بشرط أن لا یظهروا بالمناکیر الإسلامیة((1))، ولهم الحریة فی

ص:219


1- أی ما یراه الإسلام منکراً.

موارد نزاعاتهم أن یرجعوا إلی قاضی المسلمین وإلی قاضیهم، وإذا رجعوا إلی قاضی المسلمین حق للقاضی أن یقضی بحکم الکفار أو بحکم المسلمین أو لا یقضی بینهم وإنما یردهم إلی قضاتهم، ولا یحق للدولة التدخل فی شؤونهم التی لا تضر المسلمین، ولا تنافی مصلحة البلاد.

ویأخذ المسلمون منهم المال المسمی بالجزیة، کما یأخذون من سائر المسلمین المال المسمی بالخمس والزکاة، أما هم فلیس علیهم خمس ولا زکاة، والجزیة یجب أن تکون غیر مجحفة بهم، وأخذ المال منهم إنما هو فی قبال حمایة الدولة لهم، وفی قبال القیام بمصالحهم، وإعطاء فقیرهم.

وإذا فعل الکفار المنکرات فی دینهم لم تمنعهم الدولة، فلیس واجب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر إلاّ بالنسبة إلی المسلمین.

وللدولة الإسلامیة أن تساعدهم فیما لیس بحرام عند المسلمین، کما أن الدولة تساعد المسلمین کذلک، وللدولة الحق فی بر الکفار والإحسان الیهم، علی ما قال سبحانه: {لا ینها کم الله عن الذین لم یقاتلوکم فی الدین ولم یخرجوکم من دیارکم أن تبروهم وتقسطوا إلیهم}((1)).

وقد ذکرنا مدارک هذه الأحکام فی کتاب (القضاء) و(الجهاد) و(الزکاة) و(الاقتصاد) وغیرها من الکتب الفقهیة، وسیأتی بعض الکلام فی الأقلیات أیضاً فی مسألة آتیة إن شاء الله تعالی.

حریة البیان والقلم
اشارة

حریة البیان والقلم

الثالث: حریة البیان والطبع، وفی هذه المسألة أمور:

ص:220


1- سورة الممتحنة: 8.

أ) فی الأدلة التی أقیمت علی لزوم هذه الحریة عقلاً وشرعاً.

ب) فی حدود هذه الحریة، وأنه هل یجوز ترویج العقائد السیاسیة ونحوها الضارة، وفی مطاردة الدولة للبیان والطبع وحدودها، فنقول:

1) أما الأدلة التی أقیمت علی لزوم هذه الحریة فهی الأدلة الأربعة، مثل الکتاب العزیز، حیث قال سبحانه:((وَیَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتی کانَتْ عَلَیْهِمْ))((1))، وإجماع علماء المسلمین، وإطلاق السنة فی الحریة، کقوله (علیه السلام): «وقد جعلک الله حراً»((2)).

أما العقل فقد استدل به لها بوجوه:

1: لو لم یکن البیان والطبع حراً لم تطلع الحکومة علی مواضع النقص فیها، کما لم تطلع علی احتیاجات المجتمع، مع لزوم رفع الحکومة لمواضع النقص وإعطائها الاحتیاجات، فاللازم علی الأفراد أن یکونوا أحراراً فی کل ما یقولون، وفی کل ما یکتبون، بحیث لا یخافون من مطاردة السلطة لهم، وحینذاک یقولون ویکتبون فتطلع الحکومة علی الحاجات والنقائص، وفی الحدیث: «خیر الإخوان من أهدی إلیّ عیوبی».

2: إذا لم یکن البیان والطبع حراً لم یتربَ الناس تربیة سیاسیة، لأن التربیة السیاسیة إنما تتولد من المناقشة وبیان الفضائل والرذائل والحسن والقبیح، فینظر الناس إلی الأقوال المتضاربة والآراء المختلفة ویختاروا الحسن ویترکوا القبیح.

هذا بالإضافة إلی أن حریة البیان والطبع توجب کون الناس فی متن السیاسة لا الانزواء السیاسی، فإنه کما یقال: (الحرب دولاب التقدم) کذلک المنازعات السیاسیة دولاب التقدم، وإلاّ یؤول الأمر إلی إطاعة الناس للأمور

ص:221


1- سورة الأعراف: 157.
2- نهج البلاغة: الحکمة 31.

السیاسیة بدون إبداء الرأی ورفض السیء وقبول الحسن.

3: إذا لم یکن البیان والطبع حراً، بأن صار الکبت والإرهاب حول ذلک، أوجب الانفجار، إذ الناس جبلوا علی مقاومة الکبت، کما جبلوا علی التحقیق والتعمق فی الأمور الممنوعة، وفی المثل: (الضغط یوجب الانفجار).

کما أن الکفاءات تظهر فی جو الاحتکاک، لأن الغالب کون الإنسان یسمو بنفسه عن النقد، وفی الحدیث: «من أصلح فاسده أرغم حاسده».

4: عدم حریة البیان والطبع یؤدی إلی دیکتاتوریة الحکام، إذ المعارضة والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر هی التی تقف دون سیر الحاکم فی طریقه الذی تمیله علیه أهواؤه وشهواته، وحتی إذا کان عادلاً فی نفسه، إذ {کل حزب بما لدیهم فرحون}((1))، وفی الحدیث: «لن تقدس أمة لا یؤخذ من قویها حق ضعیفها غیر متمتع»((2)).

حدود حریة البیان القلم

حدود حریة البیان القلم

ت) أما حدود هذه الحریة، فاللازم أن تحد بما لا یوجب ضرراً علی الغیر، ولا کذباً، سواء کان الغیر فرداً أو مجتمعاً، لأنها حینئذ تعد تجاوزاً ولیست حریة، ویکون حالها حال حریة القتل والسرقة وانتهاک الأعراض.

ولو اختلف المبین والطابع مع الدولة فی أن ما أبداه فی حدود المستثنی منه أو المستثنی، کما قد یتفق کثیراً، کان المرجع الهیئة المنصفة القضائیة التی تقضی هل أن ما قاله

ص:222


1- سورة المؤمنون: 53، سورة الروم: 32.
2- نهج البلاغة: الکتاب 31.

أو کتبه داخل فی نقد الأخلاق والدین نقداً خارجاً عن أسالیب البحث والتحقیق، ونشراً للصور القبیحة، وتحریکاً للأفراد بارتکابهم الجنایة والأعمال اللاإنسانیة أو لا، وفی المثل: (لا حریة لأعداء الحریة).

ومما ذکرناه تبین الجواب عن إشکالات القائلین بلزوم إعطاء البیان والطبع کل حریة، بدون أی قید أو شرط، مستدلین بأمور:

أولا: لأنه إذا قیدت الحریة لم یطلع المجتمع عن حقائق نافعة تنفعه، فلإن عدم اطلاعهم موجب لحرمانهم عن کثیر من النضج والتقدم ورفع النقائص.

وثانیاً: إذا قیدت الحریة بقید ما، لزم فسح المجال أمام قوة الشرطة للمنع عن الأشیاء النافعة أیضاً، لأن الشرطة لا یمیزون بین المستثنی والمستثنی منه فی کثیر من الأحیان، فیمنعون النافع بزعم أنه ضار.

وثالثاً: لا خط فاصل بین النافع والضار، ولا قاعدة تحدد الأمرین، فإن النافع عند إنسان ضار عند آخر، وبالعکس، فتقیید الحریة یوجب کبت الحریة.

وجه الجواب: إن النافع والضار أمران عرفیان، کسائر المواضیع العرفیة، ولو وقع لبس فی مصداق کان المرجع الهیئة القضائیة المنصفة، وعلیه فلا یوجب الاستثناء فسح المجال أمام قوة الشرطه للکبت، کما لا یوجب حرمان الناس من الحقائق.

والاستدلالات المذکورة مثل أن یقال: یجب ترک الناس وشأنهم فی أن یفعلوا ما یشاؤون من غیر تحدید بعدم العمل الضار، استناداً إلی الإشکالات الثلاثة علی التحدید، فإذا لم یسلم المستشکل حریة العمل المطلق من غیر نظر إلی المصلحة والمضرة، یقال له: کیف لم تقبل الحریة المطلقة فی العمل، وقبلت الحریة المطلقة فی البیان والطبع، مع أن الإشکالات الثلاثة مشترکة الورد فی العمل والقول والطبع.

وحاصل جوابنا عن الإشکالات

ص:223

بالحل أولاً، وبالنقض ثانیاً.

ومما تقدم ظهر أنه لا حق شرعاً ولا عرفاً فی إطلاق حریات الذین یهدفون إلی تقویض النظام الصحیح، ولا الذین یهدفون إلی تقویض النظام أی نظام کان بدون أن یکون هناک احتمال عقلائی لأن یخلف نظام أحسن مکان النظام السابق، فإنه من رفع الفاسد بالأفسد، ولذا فاللازم عدم السماح للشیوعیین بإبداء آرائهم بیاناً أو طباعة، ونحن نسأل أمثال هؤلاء هل الحریة حق أو لیست بحق، فإن قالوا: إنها حق، قلنا: فلماذا تدعون إلی الدیکتاتوریة (دیکتاتوریة البرولیتاریا)، وإن قالوا: إنها لیست بحق، قلنا: فلماذا تطالبوننا بإعطائکم الحریة.

کتب الضلال

کتب الضلال

وقد ظهر بما تقدم أنه لا حق للدولة فی مطاردة کتب مختلف العقائد والمبادئ إذا لم تکن تلک الکتب ضارة، بأن کانت محل متناول العلماء الذین لا یخشی خداعهم، فإن الکتاب الضار مثله مثل الدواء الضار، فکما أنه لا یجوز للدولة السماح بتناول الطفل له لأنه محل خطر استعماله والتضرر به، بینما یجوز للدولة السماح بتناول الدکاترة الناضجین له لأنه یؤمن عاقبته، کذلک بالنسبة إلی الکتب الضالة المنحرفة، کما ذکر ذلک الفقهاء فی مسألة (کتب الضلال).

ولیس معنی ما ذکرناه أن الدولة تمنع عن طبع الکتب إلاّ بعد الرقابة، فإنه تحدید للحریة بلا مبرر، مثله مثل دولة تمنع التجول فی الشوارع والأسواق لیلاً بحجة المنع عن السرقة، وذلک لأن الأصل الحریة إلاّ ما خرج بالدلیل.

بل معناه أن الدولة لها حق المصادرة إذا طبع شیء ضار بالعامة، مما یعد

ص:224

کتاب الضلال، کما أن للدولة معاقبة السارق إذا ظهرت سرقته.

بقی شیء، وهو أن للدولة حق منع المطبوعات الضارة فی حالة الحرب، مما یوجب تضعیف الجیش أو کشف أسراره للعدو أو ما أشبه ذلک، لأنه داخل فی المستثنی علی ما تقدم.

نعم لابد وأن تثبت الدولة لدی الهیئة المنصفة القضائیة أن المطبوعات المذکورة داخلة فی الضارة، وإلاّ ففی بعض الأحیان تکون المطبوعات الناقدة للدولة فی حال الحرب لأجل التبصیر بمواقع الخطأ والصواب، إذ الدیکتاتوریة فی حال الحرب نفس الدیکتاتوریة فی حال السلم، فکما أن الدیکتاتور فی حال السلم إذا سکت عنه تصرف سیئاً، کذلک الدیکتاتور فی حال الحرب، فاللازم ملاحظة الهیئة المنصفة القضائیة أن المطبوعات التی هی مورد التنازع بین الدولة وبین أصحاب تلک المطبوعات، هل إنها ضارة بالقضیة أو إنها صد أمام الدیکتاتوریة.

فإن من المعلوم أن الدیکتاتوریة فی حال الحرب قد تضر الأمة أضعاف الدیکتاتوریة فی حال السلم، کما أن دیکتاتوریة هتلر أسقطت ألمانیا إلی الحال، ودیکتاتوریة ناصر قسمت الیمن وألقت بمصر فی أحضان إسرائیل، ودیکتاتوریة قاسم شطرت العراق إلی الشمال والجنوب وألقته فی أحضان الإنکلیز بواسطة عملائه البعث.

حریة التجمعات
اشارة

حریة التجمعات

الرابع: حریة التجمعات والاجتماعات، ویدخل فی هذا الأصل کل اجتماع وتجمع، سواء کان وقتیاً بعقد مجلس وتداول رأی، أو غیر وقتی کالشرکات،

ص:225

والنقابات والجمعیات، والهیئات وما أشبه ذلک، حیث إن العصر الحاضر عصر أمثال هذه الاجتماعات.

1: فإن الصناعة وضعت فی ید الإنسان امتدادات کبیرة، وهذه الامتدادات حیث لا یتمکن الفرد من الاستفادة منها فی حال کونه فرداً، اضطر الأفراد إلی التجمع للاستفادة من هذه الامتدادات، سواء فی المواصلات أو المعامل أو الأسلحة أو أجهزة الإعلام أو غیر ذلک.

2: وکذلک حیث تجمعت قدرات کبیرة، أمثال القدرة الرأسمالیة، والقدرة الشیوعیة ، وهذه القدرات الکبیرة تضطهد الأفراد، اضطر المضطهَدون بالفتح إلی انضمام بعضهم إلی بعض، لیکونوا قدرة فی قبال تلک القدرات حتی یحدوا من نشاط القدرة المناوئة، (فإن القدرة لا تروضها إلاّ القدرة).

والحاصل: إن التجمع إما لجلب النفع، أو لدفع الضرر، وفی الحدیث: «ید الله مع الجماعة»((1))، وشعار الدیکتاتوریین (قو نفسک حتی احترمک)، وقد تقدم فی بعض المسائل السابقة مباحث حول القدرة وأن القدرة تحتاج إلی الترویض، وإلاّ کانت کالنیران المحرقة والمیاه المغرقة.

وهنا بحوث:

أ) لا حق للدولة فی منع التجمع، سواء کان تجمعاً وقتیاً مثل مجلس احتفال أو عزاء أو تبادل رأی، أو تجمعاً استمراریاً مثل عقد الجمعیات والنقابات والهیئات وما أشبه ذلک، وذلک لما تقدم من أصالة حریة الإنسان.

ص:226


1- نهج البلاغة: الخطبة 127.

نعم، إذا أثبتت الدولة لدی القضاء أو الهیئة المنصفة أنها ضارة، حق لها المنع، کما یحق لها المنع عن کل عمل ضار ولو کان القائم به فرداً.

ومنه ظهر أنه لا حق للدولة فی حل الجمعیات، لأنه تصرف فی حریات أفرادها، وکذلک فی المنع عن المدارس وسائر المؤسسات الأهلیة، لأنه تصرف فی شؤون الأفراد وحریاتهم.

ومنه یظهر وجه بطلان تأمیم المدارس والمصارف والمعامل وما أشبه ذلک، وقد ذکرنا بعض الکلام فی ذلک فی (الفقه: الاقتصاد).

کسر الإضرابات

کسر الإضرابات

ب) لا حق للدولة فی کسر الإضراب عن العمل، إلاّ إذا کان خلاف الوفاء بالعقد.

أما المستثنی منه فلأن للإنسان حریة أن یعمل أو لا یعمل، حسب قاعدة: «الناس مسلطون علی أموالهم وأنفسهم»((1))، وقد تقدم فی بعض المسائل السابقة حکم ترک العمل وأنه جائز إلاّ فی صور خاصة ألمحنا إلیها هناک.

وأما المستثنی، فإذا استأجرت الدولة الشرعیة أو رئیس العمل أجراء، بدون إکراه ولا إجحاف، لم یحق لهم الإضراب عن العمل.

والإضرابات التی تتفق فی الحال الحاضر لا تخرج عن أحد عاملین:

1) عامل ظلم رئیس الأعمال للعمال، فیضرب العمال لأجل تقاضی حقوقهم المشروعة، فإن کل مؤسسة صناعیة أو زراعیة أو دولیة لها طرفان

ص:227


1- راجع بحار الأنوار: ج2 ص272.

أو أطراف، فإذا لم توزع الثمار بین الکل بالعدل کان للمهضوم حق الإضراب للوصول إلی حقه.

مثلاً فی المعامل یجب أن یقسم الربح بین (المعمل) لأنه عمل متراکم له بقدر استهلاکه وبقدر ربحه، وبین (صاحب رأس المال) وبین (المدیر) وبین (العمال)، کل بقدر جهده الفکری والجسدی.

وحیث إن الغالب فی الحکومات الرأسمالیة ظلم الرأسمالی للعمال، کان لهم حق الإضراب حتی یصلوا إلی حقهم، ومقصودنا بالحکومات الرأسمالیة ما کان رأس المال آخذاً بالزمام، سواء کان الرأسمالی التجار کما فی إمریکا، أو کان الرأسمالی الحکومة کما فی روسیا الشیوعیة.

وکذلک الحکم بالنسبة إلی الدولة والموظفین، حیث یجب علیها أن تعطیهم بقدر حقهم الجسدی والفکری، وهکذا بالنسبة إلی صاحب الأرض والفلاحین، وقد ذکرنا فی کتاب (الفقه: الاقتصاد) صحة ملک الأرض واستیجار الفلاحین للزرع فیها عقلاً وشرعاً.

2) عامل إرادة الشیوعیین ونحوهم فوضی العمال حتی یفرضوا إرادتهم، فإن من أسالیب وصول روسیا الشیوعیة وسائر البلاد الشرقیة الاستعماریة إلی فرض إرادتها علی الحکومات الضعیفة أنها تکون نواة الشیوعیة فی المعامل والأراضی والدوائر وما أشبه، ثم لما ترید تلک الحکومة الاستعماریة مغانم من تلک الحکومة الضعیفة، تحرک الشیوعیة المحلیة لضرب مصالح الحکومة الضعیفة، حتی تضطر إلی قبول شروط الحکومة المستعمرة، وأحیاناً تکون الشیوعیة المحلیة ولیدة بریطانیا وإمریکا وما أشبه، فتشرب هذه الحکومات الغربیة حسواً فی ارتغاء.

ص:228

وعلی أی حال، یکون هذا الإضراب ظلماً بحتاً، ظلماً فی الإضراب، وظلماً فی الهدف من الإضراب، وهو شروط الاستعمار الواقف وراء الإضراب، ومثل هذا الإضراب یکون تخریباً، لا حقاً للعمال والفلاحین ومن إلیهم، ولذا لم تکن من الحریة فی شیء.

حریة المظاهرات

حریة المظاهرات

ج) لا حق للدولة فی منع المظاهرات وتوقیفها، حیث إن المظاهرات نوع من التجمع للاحتجاج علی بخس حق العمال والفلاحین ومن إلیهم، لکن یأتی هنا الکلام المتقدم فی الإضراب من حیث المستثنی منه والمستثنی، لأن کلا الأمرین من باب واحد.

ولا یخفی أن المظاهرات والإضراب وإن أوجبت توقف العمل الموجب للخسائر، إلاّ أن توقف العمل لو کان حقاً کان حقهما مقدماً، لأنهما من مظاهر الحریة التی تقدم أنها من الحق الطبیعی للإنسان.

والدولة لها الحق فی أن تتدخل فی عمل العمال، وربطه بالمعمل ورأس المال والمدیر:

1: فتعین حق کل من الأربعة، بحیث لا یکون إجحاف من جانب لجانب آخر، بأن یوزع الربح بینهم بالعدل.

2: وتقرر القوانین فی الإطار الإسلامی لرفع الاختلاف بین الأطراف.

3: وتقرر العقوبات للمتخلف فی إطار الحدود الإسلامیة، أما أن تکون للدولة فوق ذلک فالأصل العدم، لأنه مناف للحریة، أو خارج عن المقررات الإسلامیة.

ص:229

حریة الإضراب عن الطعام

حریة الإضراب عن الطعام

د) ویمکن أن یلحق بهذا الباب، حق الإضراب عن الطعام، فإن ذلک جائز شرعاً، وتقتضیه الحریة الإسلامیة، فیما إذا لم یکن الإضراب موجباً للموت أو شل قوة أو عضو.

أما المستثنی منه فللأصل.

وأما المستثنی فلحرمة إهلاک الإنسان نفسه، وضرره علی نفسه ضرراً بالغاً.

قال سبحانه: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَکُمْ﴾((1)).

وقال تعالی: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَیْدیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ﴾((2)).

وقال (صلی الله علیه وآله): «لا ضرر ولا ضرار فی الإسلام»((3)).

إلی غیرها من الآیات والروایات المذکورة فی محلها.

نعم إذا توقف حقٌ علی ذلک، بأن کان الأمر من باب الأهم والمهم، وعلم الموضوع قطعاً یمکن احتمال جوازه، کما یجوز الذهاب إلی العدو مع أنه یعلم أنه یقتله إذا توقف نصرة الإسلام علی ذلک، وکما یجوز قتل المسلم إذا تترس به الکفار، بل ربما قیل إن إقدام الأئمة (علیهم الصلاة والسلام) علی شرب السم مع أنهم کانوا یعلمون أنه سم، کان من باب الأهم والمهم، مثلاً الإمام الرضا (علیه السلام) کان یعلم أنه لو لم یشرب السم قتله المأمون بالسیف، ومن المعلوم أن الموت بالسیف فضیع جداً، ودونه أن یموت (علیه السلام) بالسم، بل ربما کان اتهمه بتهمة أوجبت تحطیم شخصیة الإمام (علیه السلام)، وهل یستبعد المؤامرة لتحطیم

ص:230


1- سورة النساء: 29.
2- سورة البقرة: 195.
3- الکافی: ج5 ص292 ح8.

الشخصیة بمثل مؤامرة قارون ضد موسی (علیه السلام) فی قصة اتهامه، وللکلام موضع آخر.

وکیف کان، فإذا کان للإنسان حریة الإضراب عن الطعام فلا حق للسلطة فی کسر إضرابه قسراً، سواء بواسطة إیجاره الماء والطعام، أو بواسطة ربطه بالأبر المغذیة أو غیر ذلک، وإن حدث خلاف بینه وبین السلطة فی أنه حق أم لا، کان مقتضی القاعدة الرجوع إلی الهیئة المنصفة القضائیة، فإن حکمت للمضرب ترک وشأنه، وإن حکمت للسلطة کان لها حق الإیجار ونحوه.

ولا بأس بالإلماع إلی ما نقصده من (الهئیة المنصفة القضائیة)، وإن کان تفصیل الکلام حول ذلک خارجاً عن بحثنا الآن فی السیاسة، فنقول:

إن الأمور التی یقع فیها النزاع بین السلطة وبین الأفراد أو الجماعات، قد تتعلق بالموضوعات وقد تتعلق بالأحکام، ومن الواضح أن الموضوعات تشخیصها من شأن العرف، کما أن الأحکام شأنها مرتبط بالفقهاء والقضاة، وحیث إن الغالب فی مثل نزاعات السلطة والأفراد أو الجماعات، احتیاجها إلی توضیح الأمرین، أی الموضوع والحکم معاً، کان اللازم تشکیل جماعة من العرف الخبیر والقاضی البصیر لیدققوا فی الأمر، ویضعوا الحلول الشرعیة للنزاع.

فی حریة أنواع الاکتساب
اشارة

فی حریة أنواع الاکتساب

الخامس: حریة أنواع الاکتساب والمعاملة، سواء کان الکسب بالعمل الجسدی، أو العمل الفکری کالإدارة، أو العمل المهنی کالطبابة، أو کان الکسب بحیازة المباحات، من غیر فرق بین البیع والشراء والإجارة والمضاربة والمزارعة

ص:231

والمساقاة وغیر ذلک، بشرط أن لا یکون إجحافاً، وأن یکون المکسب حلالاً، وأن لا یکون ضرراً علی ما فصلناه فی کتاب (الفقه: الاقتصاد).

نعم، اللازم أمران:

1: أن لا یکون التعامل خارجاً عن الموازین الإسلامیة المذکورة فی الفقه، وبمطالعة الفقه یظهر أن المسائل الفقهیة کلها مبنیة علی الأدلة العقلیة، بالإضافة إلی وجود الأدلة الشرعیة لها.

2: أن یعطی الإنسان الحق المقرر فی الشریعة للدولة الإسلامیة المشروعة، وإذا لم تکن دولة إسلامیة مشروعة أعطی الحق لنواب الإمام (علیه السلام)، وذلک لأن الدولة إذا لم تکن مشروعة فالواجب تقویضها لا مساعدتها، وإذا کانت مشروعة فالواجب إبقاؤها وتأییدها، ولیس المال الذی تأخذه الدولة المشروعة إلاّ اتباعاً لرأی الأکثریة فی الأخذ، بالإضافة إلی مشروعیة الأخذ بعنوان الخمس أو الزکاة أو ما أشبه، من الحقوق المالیة المذکورة فی الشریعة.

ولذا لا یحق للدولة المنع عن أی لون من ألوان الاکتساب المشروع، تجارة داخلیة کانت أو خارجیة، لأنه قوف أمام الحریة، وقد عرفت تطابق العقل والشرع علی حرمة سلب الناس حریاتهم.

ومنه یعلم عدم حق الدولة فی مصادرة أموال الناس، سواء الأموال المنقولة أو الأموال غیر المنقولة، کما لا حق للدولة فی وضع الید علی المنابع العامة الطبیعیة، کالبحار والمعادن، أو غیر الطبیعیة کالمعامل الکبار علی ما هو أسلوب الاقتصاد الاشتراکی، بل للدولة أمران:

1: الرقابة لئلا یفوت إنسان الفرصة علی إنسان آخر، کان یستولی علی الغابة مثلاً بحیث یمنع الآخرین من الانتفاع بها، لأن مقتضی الجمع بین {خلق

ص:232

لکم}((1)) و«من سبق»((2))، أن لکل أحد حق السبق فی إطار (لکم)، وقد ذکرنا تفصیل ذلک فی کتاب (الفقه: الاقتصاد).

2: الرقابة لئلا یجحف إنسان بحق إنسان آخر، مثلاً اللازم أن یکون إنتاج المعمل بین العامل والمدیر وصاحب المعمل وصاحب رأس المال بالعدل لا الإجحاف، کما تقدم الإلماع إلی ذلک.

الحریات فی الظروف الاستثنائیة

الحریات فی الظروف الاستثنائیة

نعم یحق للدولة:

1: سلب مالکیة الأفراد.

2: أو توقیف نوع خاص من التصرف.

3: وجعل العقوبات الرادعة لمن تصرف ذلک النوع، فی موارد خاصة.

1) مثلاً إذا احتاجت المدینة إلی شوارع أو حدائق، مما بدونها تتفشی الأمراض، أو یکون العسر والحرج العام، حق للدولة المشروعة سلب مالکیة أصحاب الدور والأراضی ونحوها الواقعة فی طریق الشارع ونحوه، وإنما یحق للدولة ذلک لأهمیة المشروعات المذکورة بالنسبة إلی دلیل المالکیة، فإن فی المقام تعارضاً بین دلیل (الناس مسلطون) وبین دلیل (لا ضرر ولا حرج)، وحیث أهمیة الثانی یقدم علی الأول.

لکن اللازم فی هذا الحال إعطاء الدولة القیمة العادلة لأرباب تلک الدور ونحوها، لأنه مقتضی الجمع بین الحقین، کما ذکروا مثل ذلک فی الأخذ من أموال الناس فی حال المخمصة، وإذا کان فی

ص:233


1- سو رة البقرة: 29.
2- مستدرک الوسائل: ج17 ص111 ب1 ح20905.

مسیر الشارع وقف عام أو خاص أعطت الدولة بقدر بدله، لیؤسس مثل ذلک الوقف فی مکان آخر، لقاعدة: «الوقوف حسب ما وقفها أهلها»، بعد ضمها إلی قاعدة ارتکاز أذهان الواقفین، کما ذکرها الفقهاء فی کتاب الوقف، وألمع إلیه الشیخ المرتضی (رحمه الله) فی کتاب المکاسب.

وحیث إن سلب مالکیة الأفراد ضرورة، والضرورات تقدر بقدرها، لا یحق للدولة سلب القدر الزائد من المحتاج إلیه، کان تستملک بقیة العرصة، کما اعتادت الحکومات الجائرة استملاک بقیة العرصة، فالباقی من القدر المحتاج إلیه لرب الأرض ونحوها، إن شاء باعها للدولة، وإن شاء تصرف فیه کما یشاء، لقاعدة (الناس مسلطون)((1)).

2) ومما تقدم ظهر وجه حق الدولة المشروعة فی توقیف نوع خاص من تصرف المالک، وذلک لتقدیم الأهم علی المهم، کما إذا وقفت الدولة بناء المعامل، أو المقصب، أو جعل المقبرة فی طرف من المدینة لأجل کون ذلک ضرراً علی الناس، أو عسراً وحرجاً علیهم، فلمالک الأرض أن یتصرف فی أرضه کیف یشاء لکن لا یحق له أن یتصرف التصرف الذی منعته الدولة، وحقیقة ذلک أنه إسقاط حریة أقل لحریات أکثر، فهو ممارسة الحریة ولیس منعاً عن الحریة.

یبقی الکلام فی أنه إذا منعت الدولة نوعاً خاصاً من التصرف، وسبب المنع نقصان قیمة الشیء الممنوع التصرف فیه، فهل الدولة مکلفة بدفع التفاوت من بیت المال أم لا، احتمالان، فإذا کانت الأرض قبل منع نصب المعمل فیها تسوی ألفاً، وبعد المنع ثمانمائة، فهل الدولة مکلفة بإعطاء المائتین، احتمالان،

ص:234


1- بحار الأنوار: ج2 ص272.

من أنه إضرار من الدولة فاللازم تدارکه، ومن أن الدولة لم توجه الضرر المذکور بل لم یکن لصاحب الأرض هذا الحق واقعاً، حیث إن المالک لا یحق له إضرار الآخرین، وإنما الدولة نبهت المالک علی ذلک، ونفذت المنع الشرعی الذی کان موجهاً إلی المالک واقعاً، والثانی أقرب، وإن کان فی بعض مصادیق المسألة نوع من التأمل.

ثم لا فرق فی المسألتین السابقتین (1 و2) بین أن یکون الأهم المقدم علی المهم معیناً أو مردداً، والمردد کما إذا دار أمر الشارع المزمع فتحه بین أن یفتح فی ملک زید أو فی ملک عمرو، فإنه إذا جاز فتحه کان للدولة ترجیح أیهما شاءت، ولا یحق لأحدهما المنع بأن یحتج بأنه لا یتعین أن یکون الفتح فی داره، وکذا فیما إذا کان أمر منع نصب المعامل مردداً بین منعه فی شمال المدینة أو جنوبها، فاختارت الدولة المنع عن النصب فی الجنوب مثلاً.

أما لماذا یکون للدولة حق کل عقوبة رادعة، فلأنه للجمع بین دلیل ولایة الفقیه الجامع للشرائط المنتخب من قبل الأکثریة، وبین دلیل الوقوف أمام المنکر (دفع المنکر)، فالتعزیر الذی هو العقاب الأولی للمحرمات، حسب ما ذکروا فی باب الحدود، إذا لم یکن رادعاً لم تصل الدولة إلی هدفها.

وقد فرض وجوب وصول الدولة، حیث إن الهدف من المصالح العامة التی وضعت الدولة لرعایتها، فعدم وضع العقاب الرادع تضییع لحق الناس، وقد ورد (لعن الله من ضیع من یعول)، ومن باب المثال نقول: إنه إذا کانت سرعة سیر السیارات فی الشارع الفلانی تورث الاصطدام کثیراً، ولم یکن منع الدولة السواق وتعزیر المسرع منتجاً، فهل تترک الدولة الأمر مما یسبب تلف الأرواح والنفوس، أو تجعل العقاب الرادع مثل السجن والغرامة وما أشبه، لا شک أن مقتضی الأدلة

ص:235

الثانی، وقد ذکرنا طرفاً من الکلام فی ذلک فی کتاب (الحدود والتعزیرات) وکتاب (الحکم فی الإسلام) وغیرهما.

سائر الحریات
اشارة

سائر الحریات

السادس: حریة سائر شؤون الإنسان.

1: مثل نکاحه وطلاقه، وفی نفس الوقت نکاحها وطلاقها، إذ النکاح لا یکون إلاّ برضایة الزوجین، والطلاق وإن کان بید الرجل فقط إلاّ أن لها أن تجعل شرطاً لنفسها حال النکاح، أن تکون وکیلاً عن الرجل فی طلاق نفسها، بشرط خاص مثل أن یسیء معاملتها، أو لا یقوم بواجب نفقتها أو أمورها الجنسیة أو ما أشبه ذلک من الشروط التی لیست مخالفة للکتاب والسنة ولا لمقتضی العقد، علی التفصیل الذی ذکروه فی باب الشروط.

2: ومثل بنائه کیف شاء.

3: ودراسته.

4: وسفره واقامته.

5: وزراعته وصناعته، إلی غیر ذلک من الحریات.

نعم للدولة التدخل فی الحد من بعض الحریات إذا کانت هناک أحکام أهم من تلک الحریة، ولکن بعنوان حکم ثانوی، وله حینئذ مفعوله ما دام قانون الأهم والمهم، حاله حال قانون الاضطرار الذی له مفعوله ما دام موضوع الاضطرار باقیاً.

مثلاً إذا کان فتح حدود بلاد الإسلام فی وجه بضاعة الأجنبی یوجب

ص:236

غزو الأجانب بلاد الإسلام ببضائعهم، مما یوجب الاستعمار الاقتصادی بما ینطوی ذلک علی المخاطر، من توقف عجلة الاقتصاد الإسلامی وانتشار البطالة وتأخر بلاد الإسلام، حق للدولة الإسلامیة المنع عن استیراد البضائع الأجنبیة، إلاّ بشروط وقیود ثقیلة، مما یوجب ارتداع التجار عن استیرادها، أو المنع عن الاستیراد مطلقاً.

ثم إنه کما لا یحق الإکراه المباشر بالتدخل فی شؤون الإنسان لمنع حریاته، کأن یکره صاحب المعمل العامل علی العمل، سواء علی أصل العمل أو علی بعض خصوصیات العمل، کذلک لا یحق الإکراه الأجوائی بأن یهیأ إنسان أو جماعة أو دولة الأجواء بحیث یضطر الإنسان أن یعمل عملاً، أو بکیفیة ما مثل ما یتضمن أضراراً أو إجحافاً أو ما أشبه ذلک.

کما إذا اتحد أصحاب البضائع أن لا یعطوا لحمالی المیناء أکثر من أجرة کذا مما کان إجحافاً بحقهم، أو اتحد الحمالون علی قیمة إجحافیة فی عملهم لأصحاب البضائع، إلی غیر ذلک، لأنه أیضاً إکراه، فإن إطلاق المنع عن الإکراه کما یشمل الإکراهات الفردیة، یشمل الاکراهات الإجوائیة.

ومن قبیل ذلک ما لو اتحد التجار الکبار علی تنزیل البضاعة بحیث أوجب ذلک لتعطیل بائعی الفرد عن العمل، حیث لا ینفعهم المبیع کذلک لتضررهم، مثلاً إنهم یشترون کل وحدة بعشرة ویبیعونها بإحدی عشرة، فإذا خفض التجار البضاعة إلی ثمانیة، لم یتمکن هؤلاء من العمل، حیث إن ربح الثمانیة لا یکفی إدارة شؤونهم، وقد ذکرنا طرفاً من الکلام فی ذلک فی کتاب (الفقه: الاقتصاد).

6) وکذلک حقه فی أن یتکلم أو لا یتکلم، أو یحضر أو لا یحضر، فی موارد

ص:237

الشهادات، إذا لم یکن دلیل شرعی یوجب الحضور أو الشهادة، کما ورد فی مثل:((وَلا یَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا))((1)) علی التفصیل المذکور فی کتاب الشهادات.

ویدخل فی هذا الباب عدم الحق للدولة فی أخذ الإقرار عن الناس بالجبر، کما اعتادت الحکومات الغربیة والشرقیة فی الحال الحاضر ذلک، حیث یعذبون الناس فی السجون والمحاکم، لأجل أن یعترف بما یعلمه أو بما یریدون منه، فإنه خلاف الحریة وکرامة الإنسان، وقد منعه الإسلام أشد المنع، کما ذکرناه فی کتاب (القضاء) و(الحدود) وغیرهما.

نعم، للحاکم تکرار الاستنطاق فیما إذا اشتبه فی صدق الشخص، حتی یظهر صدقه أو کذبه، کما فعله داود وعلی (علیهما السلام) فی قصص مشهورة، وهذا التکرار فی الاستنطاق وإن کان منافیاً للحریة، إلاّ أنه لابد منه من باب الأهم والمهم.

ومنه یعلم أنه لو لم یستعد للتکرار حق للدولة حبسه حتی یستبین الأمر.

ومن هذا القبیل إذا کان یعلم بشیء لابد للدولة کشفه، لکنه یأبی من البوح به، کما إذا کان شریکا جرم هرب أحدهما ووقع الآخر فی قبضة العدالة، ولم یستعد المجرم المقبوض علیه من إعطاء اسم صدیقه، کان للدولة سجنه إلی أن یعترف.

ویلحق بهذا الباب حق أطراف النزاع، سواء کان أحد الأطراف الدولة أو لا، فی جعل المحامین لأنفسهم عند المنازعات، وذلک لإطلاق دلیل الحریة، وقد جعل علی (علیه السلام) وکیلاً لنفسه فی نزاع کما ذکر فی الکتب الفقهیة.

وکذلک لا یحق للدولة دخول مساکن الناس لإلقاء القبض علی المتهمین، فإنه

ص:238


1- سورة البقرة: 282.

حرق لحریاتهم، إلاّ إذا أمر القاضی بذلک، وإنما یحق للقاضی أن یأمر بذلک لقاعدة الأهم والمهم، وبیانه أن حفظ الحریات الفردیة یقتضی أن یکون کل إنسان قادراً من أن یعمل أعماله بکل حریة علی ما تقدم، وشرط تمکن کل فرد من من الاستفادة من حریاته وجود الأمن، لأنه لولا الأمن وقع المجتمع فی معرض مهاجمة اللصوص والمختطفین والقتلة والسراق وما أشبه، وفی مثل هذا الجو لا أثر للحریات، وحیث یجب علی الدولة مراعاة المصالح العامة، والتی من أهمها حفظ أجواء الأمن، وکان لازم ذلک توقیف المشتبه بهم والمجرمین الذین ثبت جرمهم، کان لابد أن یکون للقاضی حق إعطاء الشرطة إجازة اقتحام المساکن، وتوقیف الأفراد وجلبهم واستجوابهم وعقاب المتخلف، إلی غیر ذلک مما ذکرناه فی کتاب (الحدود والتعزیرات).

ویؤید ذلک استمرار السیرة منذ زمان الرسول (صلی الله علیه وآله) إلی یومنا هذا علی ذلک، مما لسنا بصدد تفصیله الآن.

تأطیر القوانین بمقتضی الحریة

تأطیر القوانین بمقتضی الحریة

بقی شیء، وهو أن الحکومة الصحیحة لما کانت جامعة بین إرادة الله وإرادة الإنسان، فالمعنی الذی ذکرناه فی بعض المسائل السابقة أی:

1: أن تکون القوانین إسلامیة.

2: أن یکون الرئیس مرضیاً لله سبحانه.

3: أن یکون الرئیس مرضیاً لأکثریة الأمة.

ص:239

4: أن توضع القوانین بسبب نواب الأمة فی إطار الإسلام ورضایة الأمة.

کان اللازم أن تنطلق القوتان: التأطیریة (التشریعیة) والتنفیذیة، من الحریة الإنسانیة التی هی الأصل فی کل إنسان علی ما تقدم، فلا تؤطر القوانین الإسلامیة بالأطر الکابتة للحریة، بل اللازم أن یراعی فی التأطیر أمران:

أ) الإسلام.

ب) العقد الاجتماعی للنواب فی المجلس الذین هم وکلاء الأمة، والوکالة عقد، وللقوة التنفیذیة وکلاء الأمة مباشرة أو بواسطة نواب المجلس، علی اختلاف کیفیة انتخاب رئیس الجمهوریة، مباشرة من الأمة أو بسبب النواب.

فاللازم أن یکون التأطیر للقوانین الإسلامیة حسب مصلحة الأمة، لأنهم لم یوکلوا الوکلاء وکالة تشمل العمل خلاف مصلحتهم، ومن الواضح أن حفظ حریات الأمة من أهم مصالحهم التی یجب علی وکلائهم فی التشریعیة والتنفیذیة ملاحظتها والانطلاق منها، فکل قانون خلاف الإسلام أو خلاف مصلحة الأمة فی تضییق حریاتها باطل مردود.

الأول: لأنه لیس بإسلامی.

الثانی: لأنه تصرف فی شؤون الموکل بدون رضاه.

أسباب الخضوع للسلطة

أسباب الخضوع للسلطة

وهذا البحث ذکرناه لربطه بمبحثنا الذی هو حریة الفرد، وتوضیحه یتوقف علی وجه لزوم إطاعة الناس للحکومة، هل هو من جهة الدین، أو الحق الطبیعی، أی لأن قوانین الحکومة مأخوذة من القوانین الطبیعیة، فکلما کان

ص:240

القانون الاجتماعی أوفق بالقانون الطبیعی کانت النتائج أحسن، أو العقد الاجتماعی أی أنه نوع تعامل بین الحکومة والأفراد کالتعامل بین الوکیل والموکل، أو لأن قوانین الدولة أحسن إطار لتنمیة الحریات والملکات فی الأفراد وتشغیل الطاقات الکامنة فی النوع لنفع الإنسان؟

فقد اختلفت آراء السیاسیین فی ذلک علی الوجوه الأربعة المذکورة، وتفصیل الکلام فی الأقوال المذکورة بقدر ما یتحمله هذا الکتاب، هو:

أنه لما لم یکن أمر الحکومة بمجرد أنه أمر الحکومة واجب الإطاعة، إذ لیس ذلک آخر الحلقة، لابد وأن ینتهی إلی ما یکون آخر الحلقة، لیقتنع الناس بلزوم الإطاعة، وآخر الحلقة هو (اللذة والألم) فإن الإنسان میال إلی اللذة ویفر من الألم، سواء کانا جسدیین أو روحیین، وبذلک ظهر أنه لیس آخر الحلقة (الضار والنافع) کما ربما توهم، إذ یبقی مجال السؤال بعد إثبات کونه ضرراً أو نفعاً، بأنه لماذا أجلب النفع وأدفع الضرر.

وما ذکرناه من أن آخر المطاف اللذة والألم، إنما هو مع الغض عن مرتبة أرقی من ذلک ممن لا یطلب دفع الألم واستجلاب اللذة، وإنما یفعل للحسن ویترک للقبح، کما قال علی (علیه السلام): «وجدتک أهلاً للعبادة»((1))، ومن نافلة القول أن قوله (علیه السلام) لا ینافی قوله سبحانه: {رغباً ورهباً}((2))، إذ لیس فی الایة رغباً فی جنته، ورهباً من ناره، فیمکن أن یکون المراد رغباً فی رضاه، ورهباً من عدم لطفه، وهذا یساوی معنی «وجدتک أهلاً للعبادة».

ص:241


1- تحف العقول: ص175.
2- سورة الأنبیاء: 91

وکیف کان، حیث لا یصلح أمر الحکومة بنفسه مصدراً للطاعة، انقسم السیاسیون إلی أربع طوائف:

الأول: المتدینون، حیث قالوا: إن أمر الحکومة واجب الإطاعة من جهة أمر الدین به، ومن الواضح أن الدین أصوله مبنیة علی العقل، وفروعه مبنیة علی وجوب شکر المنعم، ولذا کان لزوم إطاعة الحکومة مبنیاً علی العقل، وهذا هو الذی نرجحه نحن، إذ ما عدا ذلک لا یصلح أن یکون مصدراً.

الثانی: القائلون بالحق الطبیعی، قالوا: إن الکون له طبیعة خاصة فی سیره، وکل مخالف لتلک الطبیعة لابد وأن یرتطم بما یوجب هلاکه، والقوانین الوضعیة التی تنفذها الحکومة هی ما طابق تلک القوانین الکونیة، فإطاعة الحکومة إنما هی لأجل عدم الارتطام بالقوانین الکونیة، مثلاً الطبیعة تقتضی أن یتهیأ الجسم لإفراغ المنی إذا وصل العمر إلی السادسة عشرة، فإذا وضع القانون علی طبق ذلک وتزوج الإنسان سعد واستراح، وإذا لم یوضع القانون علی طبق ذلک أو لم یطبق الإنسان القانون، فهو إما أن یسلک سبیل الانحراف، وفی ذلک الأمراض الزهریة والعقد النفسیة، وإما أن لا یباشر أصلاً، وفیه الأمراض التی تتولد من الرواسب المنویة.

وهذا وإن کان صحیحاً، إلاّ أنه لا یغنی عن الدین، إذ الدین وضع أحکامه علی المصلحة والمفسدة، کما قرر فی الکتب الأصولیة، فالذی یکشف عن القانون الطبیعی إنما هو الدین، إذ واضع الکون وهو الله هو الذی یعلم قوانین الکون.

وعلیه فالقائل بهذا القول وإن اصاب فی الکبری: القوانین الوضعیة یجب أن تطابق القوانین الطبیعیة، إلاّ أنه أخطأ فی الصغری: الذی یطابق القوانین الطبیعیة هو ما یضعه الناس من عند أنفسهم.

ص:242

الثالث: القائلون بالعقد الاجتماعی، وهؤلاء یقولون بأن وجوب إطاعة الحکومة إنما هو لأجل القرار الذی عقده الجانبان: الحکومة والأمة، فی قیام الأولی بمصالح الثانیة، فی قبال قیام الثانیة بإطاعة الأولی، فالإطاعة وفاء بالمعاملة التی جرت بین الطرفین.

أقول: هذا إنما یتم إذا لم نقل نحن بالموازین الدینیة، وإلاّ لزم أن یکون هذا القول فی الإطار الدینی، إذ کل عقد خارج عن الموازین الدینیة فهو باطل لا یجب الوفاء به، أما الإشکالات الأخر التی أوردوها علی هذا القول فغیر تامة.

الرابع: إن قوانین الدولة أحسن إطار لتنمیة الحریات وتشغیل الطاقات، ولذا یطیعها الناس، وهذا یتم إذا کانت القوانین صحیحة، وصحة القوانین لا تکون إلاّ إذا کانت مستندة إلی الله سبحانه وکان التطبیق بید المجتهد العادل، وإلاّ فأی دلیل علی کون القانون کذلک.

ص:243

الدستور بین السلب والإیجاب

اشارة

الدستور بین السلب والإیجاب

(مسألة 45): الدستور اصطلاح فی العصر الحاضر لموجز الإطارات التی تعمل الدولة بمقتضاها فی مختلف الأمور المرتبطة بالشؤون الداخلیة والخارجیة.

وقد استدلوا لاحتیاج الدول إلیه بأمور:

1: إن الدولة إذا تبدلت احتاج الشعب إلی أن یفهم علاقته بالسیاسة الجدیدة، فلابد لهما بالتوافق بینهما من وضع کلیات القوانین بصورة موجزة، حتی یعرف الجمیع حقوقهم وواجباتهم، کما جعلت إیران عند الحرکة الدستوریة، والهند وباکستان والسیلان بعد استقلالهم عند انتهاء الحرب العالمیة، وجملة أخری من البلاد مثل هذا القانون، ومثال ذلک ما لو أخذ جماعة من الناس وکلاء للتصرف فی أموالهم، احتاج الموکلون والوکلاء إلی جعل ضوابط للوکالة المذکورة، تعین الحق والواجب لکلا الجانبین.

2: إن أغلب البلاد فیها جماعات وأحزاب وأدیان وقومیات ولغات، فاللازم أن یعین الدستور العام الذی یکون لکل تلک الفئات، فی أمورهم التقنینیة والتنفیذیة والقضائیة والمالیة وغیرها، وبذلک تکون أمة واحدة، أو شعباً واحداً فی دولة واحدة، ولا یقع بینهم الشجار والخصام بدون وضوح الإطار العام للدولة مما یکون مرجعاً لجمیعهم.

ص:244

3: حیث إن الغالب أن البلاد الوسیعة المترامیة الأطراف لا تتمکن فیها الدولة من إعطاء حقوق الأفراد النائیة عن العاصمة، ممن یسکنون الأریاف والقری الحدودیة، وذلک یوجب ضعف علاقتهم بالدولة وانفصالهم أحیاناً، والمؤامرات تجد محلاً خصباً فی مثل أولئک، وخصوصاً الغالب أن الدول المتجاورة مختلفون فی أمور مما یسبب أن یتآمر أحدهم ضد الآخر، کان الدستور کصمام أمان لاطمینان الکل بوحدة نظر الحکومة إلیهم جمیعاً، وإعطاء حقوقهم کإعطائها لحقوق من فی المدن والقری القریبة من العاصمة.

4: إن الدستور یوجب توحید البلدان المتحدة، حیث إنه یکون للجمیع قانون واحد یرجعون إلیه، فالدول الأعضاء یعرفون حقوقهم وواجباتهم، والکل خاضع للقانون، لأن الکل اشترک فی وضعه بالأکثریة.

أقول: إن تم ما ذکروه مبرراً لتدوین الدستور فی البلاد غیر الإسلامیة، فقد یناقش فی ذلک بأنه لا تتم هذه الأمور مبرراً للتدوین فی البلاد الإسلامیة باعتباره أصلاً سیاسیاً وأساسیاً ثابتاً، إذ تلک الأسباب غیر موجودة فی البلاد الإسلامیة.

1) فالدولة الإسلامیة أنشأت منذ أربعة عشر قرناً، أسسها رسول الله (صلی الله علیه وآله) فی المدینة المنورة، کما سیأتی فی بعض المسائل الآتیة کیفیته تأسیس الرسول (صلی الله علیه وآله) لها.

2) والبلد الإسلامی مشتمل علی أکثریة مسلمة کلهم خاضعون للإسلام أصولاً وفروعاً ولا خلاف، والأحزاب والمنظمات السیاسیة قابلون بالإسلام بحکم أنهم مسلمون، وإنما یختلفون فی الاجتهادات وکیفیة التطبیقات، أما الأقلیات غیر الإسلامیة فهم یعملون فی أمورهم الخاصة حسب موازینهم،

ص:245

وفی أمورهم العامة حسب موازین الدولة المقررة للذمیین.

3) وإعطاء الحقوق للأفراد لا یتبع القانون الأساسی سلباً وإیجاباً، سواء کانوا فی أطراف البلاد أو فی قلب العاصمة، فإن القانون الإسلامی وضع بالعدالة، کما أن المطبق له یجب أن یکون عادلاً، وفیه لا ظلم، فأین مکان القانون الأساسی من الشریعة أو التنفیذ.

4) ومنه یعلم النقد علی الأمر الرابع.

5) فإذا فرضنا عدم وجود حکومة واحدة إسلامیة لکل بلاد الإسلام، وأنها کانت دولاً، فلا نفع لقانون أساسی مدون فی التوحید وعدمه.

ولتوضیح الأمر فی عدم احتیاج البلاد الإسلامیة إلی القانون الأساسی نقول: هل القانون الأساسی موجز عن الأدلة الأربعة: الکتاب والسنة والإجماع والعقل، أم لا، فإن کان موجزاً عنها، فما الفائدة فی تدوینه، بل تدوینة ربما یضر لأنه یصرف المرجعیة للکتاب والسنة إلی نفسه لدی الاختلاف، حیث نراهم یرجعون إلی القانون الأساسی، لا إلی المصدر الحجة شرعاً وعقلاً، وإن کان مخالفاً لها کان مرفوضاً.

لا یقال: إنما یدون القانون الأساسی وهو موجز عن الأدلة الأربعة لیکون مرجعاً عند الاختلاف.

فإنه یقال: کیف صار الموجز مرجعاً، ولم یکن المفصل مرجعاً، بینما الرجوع إلی المفصل یحل الاختلاف، لتقبل الکل له بخلاف الموجز.

إن قیل: فی المفصل تختلف الاجتهادات.

قلنا: فی الموجز کذلک أیضاً.

إن قلت: فما هو الحل.

ص:246

قلت: واضحات الکتاب والسنة لا اختلاف فیها، والأمور المجملة سواء فی الحکم أو فی التطبیق _ مثل کیف نطبق قانون الخمس والزکاة فی الحال الحاضر لیقوم بواجبات الدولة المالیة _ یرجع بشأنها إلی رأی أکثریة الفقهاء المراجع للمسلمین، فإن کان عشرة فقهاء فی أربعة مدن هم مراجع التقلید، واختلف مجلس الأمة فی الحکم أو فی الموضوع، رجع فقهاء الشوری فی مجلس الأمة إلی أولئک الفقهاء المراجع فی استجلاء الأمر، فما استقر علیه رأی الأکثریة من المراجع طبق فی البلاد.

لا یقال: کیف یؤخذ برأی أکثریة الفقهاء ویترک الآخرون.

قلنا:

أولاً: یقال: کیف یؤخذ برأی أکثریة فقهاء الشوری فی مجلس الأمة لدی الاختلاف فی المجلس، مع أن الرجوع إلی الفقهاء المراجع أولی، لأنهم مورد تقلید الجماهیر، واعتماد الجماهیر علیهم أولاً وبالذات.

وثانیاً: إطلاق دلیل الشوری یحکم بذلک.

وثالثاً: الأولویة فی المقام من اختلاف القاضی والمراجع فی الاجتهاد فیما کان المراجع المخاصم مجتهداً، أو فی التقلید فیما کان المراجع المخاصم مقلداً، وقد اشتهر بینهم لزوم الرجوع إلی القاضی، وأن فصله حجة علی المتنازعین وإن تخالفا اجتهاداً.

وعلی أی حال، فتدوین موجز عن الکتاب والسنة، إن لم یکثر المشکلة لا یحلها، بل ولا یقلل منها، ولما ذکرناه من أن الجماهیر المسلمة لاینظرون نظر الاحترام إلاّ إلی الکتاب والسنة والإجماع والعقل، وجدنا فی إیران المشروطة کان المسلمون أول من أداروا ظهرهم علی الدستور، وکذلک حدث فی کل

ص:247

بلد إسلامی، جعل له وثیقة أو قانون أو غیر ذلک من الاصطلاحات.

ولا یستغرب من قولنا عدم الاحتیاج إلی الدستور، فبریطانیا عاشت منذ تسعمائة سنة بدون أن یکون لها قانون أساسی مدون، مع أنه لیس لهم مرجع کالکتاب والسنة مما یقبله کل الأمة.

ویؤید عدم احتیاج البلاد الإسلامیة إلی القانون الأساسی أن الناس لا یمکن جمعهم باسم هذا القانون، وإنما یمکن جمع المسلمین باسم الکتاب والسنة.

وقد جمع العلماء المسلمین فی إیران باسم الکتاب والسنة فی حربهم مع روسیا قبل قرن ونصف، وفی حربهم مع بریطانیا فی ثورة التبغ، وفی حربهم مع الاستبداد الداخلی والاستعمار الخارجی فی الثورة الدستوریة، وفی حربهم مع الشیوعیة فی آذربایجان، وفی حربهم مع الاستعمار وعملائه فی قصة تأمیم النفط، وفی حربهم مع إمریکا فی العصر الحاضر.

وکذلک جمع شعب العراق العلماء باسم الکتاب والسنة فی حربهم مع بریطانیا قبل ستین سنة، والآن یجمع العلماء الشعب العراقی بنفس ذلک الاسم لحربهم مع بریطانیا وإسرائیل وإمریکا الذین استعمروا العراق فی قفاز البعث.

وهکذا حدث الأمر فی کل بلاد الإسلام فی حربهم مع الاستعمار الخارجی والاستبداد الداخلی.

هذا ولکن الأمر حول الاحتیاج أو عدم الاحتیاج إلی القانون الأساسی بحاجة إلی تأمل أکثر، والله العالم.

تقسیمات الدستور

تقسیمات الدستور

ثم إن علماء السیاسة قسموا القوانین الأساسیة إلی أقسام:

أ) القانون المشکل تغییره، والقانون السهل تغییره.

ص:248

فالأول: هو ما لا یغیر إلاّ بصعوبة، مثل قانون اتحاد إفریقیا الجنوبیة حیث إن تغییره یحتاج إلی تصدیق أغلبیة ثلثی أعضاء المجلسین، وقانون الهند حیث صرح بأنه لا یمکن تغییر قوانین الولایات الهندیة إلاّ إذا وافق علی ذلک أکثریة أعضاء المقننة لکافة الولایات، وقانون أسترالیا حیث إن قانونها لا یغیر إلاّ إذا وافق علی ذلک أکثریة أربع ولایات من ولایاته الست فی استفتاء شعبی عام.

والثانی: هو ما یسهل تغییره، کما إذا وافق أکثریة المجلس علی التغییر، فیکون حال تغییر الدستور حال جعل وحذف سائر القوانین العادیة، وهذه الحالة موجودة فی إنکلترا، فإنه وإن لم یدون فیها دستور إلاّ أن مجموعة من الأعراف والتقالید وما أشبه لها حال الدستور، فإذا إرید تتمیم أو تغییر بعضها کان للمجلس ذلک بأکثریة الآراء.

وفی الإسلام حیث قد عرفت عدم الاحتیاج إلی الدستور، یکون تغییر الحکم حیث یختلف أحیاناً اجتهاد المجتهدین، حسب رأی الفقهاء المراجع المشرفین علی الدولة بکافة أجهزتها، أما تغییر التأطیر للقوانین الإسلامیة بما تلائم العصر کما مثلنا له فیما تقدم، فیکفی فیه رأی أکثریة المجلس مع تصویب أکثر شوری الفقهاء المتواجدین فی المجلس.

نعم إذا کان تغییر التأطیر من الأهمیة بمکان لزم الرجوع فیه إلی الفقهاء المراجع، قال (علیه السلام): «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها لی رواة أحادیثنا»((1))، وإنما جعلنا تغییر الحکم من اختصاصات المراجع، لأن المفروض

ص:249


1- الوسائل: ج18 ص101 الباب 11 من صفات القاضی ح9.

تقلید أکثریة الأمة لهم، فلا شأن للمجلس وشوری فقهائه فی التغییر بدون مراجعتهم.

ب) الدستور لدولة واحدة، والدستور لدولة متحدة، فالأول کالدولة الواحدة والثانی کالدول المتعددة التی أتحدت فیها بینما لکن لم تصبح دولة واحدة، فالقسم الأول له دستور واحد، أما القسم الثانی فله قسمان من الدستور:

1: قسم یشترک فیه الجمیع.

2: وقسم یختص بکل دولة دولة من تلک الدول، فلا القانون بکله واحد فی الجمیع حتی تتشکل من الجمیع دولة واحدة، ولا لکل دولة قانون خاص بها من غیر قوانین مشترکة بین الجمیع حتی تکون دولاً.

مثلاً الخارجیة والمالیة والدفاع مشترکة بین الکل، أما الداخلیة والقضاء وما أشبه فلکل دولة قانونها الخاص بها، وربما حدث التناقض بین الدول المذکورة فی قوانینها، مثلاً بعض الدول تبیح بیع الأفیون، بینما دولة أخری تحرم ذلک أشد التحریم، کما هو الحال فی الولایات المتحدة الأمریکیة.

أما فی الإسلام فقد عرفت فیما تقدم أن اللازم أن یکون لجمیع المسلمین حکومة واحدة، ویکون کلها بلداً إسلامیاً واحداً، أما إذا فرض عدم إمکان ذلک فدخلت البلاد فی اتحاد، فاللازم أن یتحد قانون الجمیع، لأن الإسلام لا یتغیر قانونه بتغییر المناطق.

نعم یمکن أن یکون المشرف الأعلی علی هذه الدولة العضو عدة من الفقهاء، بینما المشرف الأعلی علی دولة أخری من دول الأعضاء عدة آخرین، ویختلفون فی بعض الفتاوی وحسب اختلافهم تختلف قوانین هذه الدولة من تلک، کما أن اختلاف الفتوی بین مجتهدین یوجب اختلاف عمل مقلدیهم.

ص:250

ج) ربما یقسم بعض السیاسیین القانون الإساسی إلی:

1: القانون الجمهوری.

2: والقانون البرلمانی.

فالأول: ما إذا کانت القوة التنفیذیة بموازاة القوة التشریعیة، فکما تعین الأمة نوابها کذلک تعین رئیس الجمهوریة، کما فی الجمهوریة الإسلامیة فی إیران، وکما فی الولایات المتحدة الإمریکیة.

والثانی: کما إذا کانت القوة التنفیذیة تابعة للقوة التشریعیة، بأن تعین الأمة نوابها، والنواب ینصبون القوة التنفیذیة، کما فی بریطانیا وبعض البلاد الآخر.

وقد ذکرنا فی ما تقدم أن کلاً من القسمین لا مانع منه فی الدولة الإسلامیة، وإن کان الأقرب إلی الشوری والرقابة الشعبیة المستفادة من قانون الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر القسم الأول.

التناقض بین القوانین

التناقض بین القوانین

د) قد سبق فی بعض المسائل السابقة الإلماع إلی أن القوانین المتداولة فی البلاد الدیمقراطیة علی أربعة أقسام:

1) الدستور.

2) القوانین العادیة التی یقررها مجلس الأمة.

3) القوانین التی تضعها السلطة التنفیذیة فی مجال صلاحیة القوة التنفیذیة.

ص:251

4) القوانین التی تضعها السلطة القضائیة فی مجال صلاحیة القوة القضائیة.

وعلیه فربما یقع التضاد بین الدستور وبین قانون أحد من المقننین الثلاثة الآخرین، کما قد یقع التضاد بین قوانین المجلس وبین قوانین التنفیذیة والقضائیة، أو یقع التضاد بین قوانین التنفیذیة وقوانین القضائیة.

وقد اختلفت الأقوال فی کیفیة علاج هذه المتضادات، لکن الأقرب إلی المنطق أن یقدم الدستور علی کل الثلاثة الأخر عند تضادهما، وأن یقدم قانون المجلس علی قوانین القضائیة والتنفذیة، لأن الدستور هو الأصل بالنسبة إلی الثلاثة، کما أن قانون المجلس أصل بالنسبة إلی التنفیذیة والقضائیة، أما مع تعارض التنفیذیة والقضائیة فاللازم جعل الحکم القانون الأساسی، فان فقد فالحکم قانون المجلس، فإن فقد فالمرجع هو السلطة القضائیة العلیا فی الدولة، لأنها المرجع فی مثل هذه الأمور.

أما فی الإسلام فالمرجع الأصل هم الفقهاء المراجع، لأن اللازم الرجوع إلیهم فی «الحوادث الواقعة».

والکلام حول شؤون القوانین الأساسیة وغیرها طویل نکتفی منه بهذا القدر، والله سبحانه العالم.

طرق الحیلولة دون طغیان الحکومة

طرق الحیلولة دون طغیان الحکومة

ثم إن القانون لا یکفی بنفسه ضماناً لإجرائه، وإن کان فی غایة النزاه والاستقامة، بل الحکومة هی التی تضمن الإجراء، ومن طبیعة الحکومة الفساد، حیث إنها قدرة کبیرة والقدرة تطغی:((إِنَّ الإنسان لَیَطْغی أنْ رَآهُ اسْتَغْنی))((1))، فإن الإنسان

ص:252


1- سورة العلق: 7 و8.

یأخذه الغرور إذا رأی نفسه غنیاً، مهما کان نزیهاً قبل وصوله إلی الحکم، إلاّ فی الأنبیاء والأئمة (علیهم السلام) والقلیل من الناس جداً، ولا مخلص من الفساد الطارئ علی الحکومة إلاّ بضبطها ضبطاً دقیقاً بکل شدة، وقد ذکر علماء السیاسة أن الضبط یکون بأمور.

الأول: کثرة وقوة المسؤولین الدینیین، حیث إنهم غالباً خارج الحکم، وفی نفس الوقت متنفذون فی الناس، تخافهم الدولة، ویقفون صداً دون فسادها، وکلما کثر عدد هؤلاء وزاد نفوذهم کان ضبطهم للدولة أکثر.

الثانی: أخذ التدابیر اللازمة لضبط الدولة من جهة القوانین المتضمنة لعزل وإخراج العاتی من أفرادها.

الثالث: جعل المشاورین النزیهین والأقویاء لأفراد الدولة المقتدرین منهم، کرئیس الجمهوریة والوزراء ومن إلیهم.

الرابع: فی الموارد اللازمة تعرض أمورهم علی العامة، لیکونوا رقباء علی الدولة، فتخاف الدولة الرأی العام.

الخامس: تکوین وتنظیم وتوسعة المؤسسات المهنیة، حتی یدافع کل صنف عن أفراده بواسطة المؤسسة المرتبطة به، ولا شک أن الحکومة مجبورة علی اتباع هؤلاء، حیث إن الأفراد الذین یشکلون المؤسسة المهنیة لهم خبرة وتجربة ومعرفة بالمشاکل وحلولها، والناس لذلک ملتفون حولهم، وحیث إن الدولة تخاف علی سمعة نفسها إذا أرادت مخالفتهم تضطر إلی الأخذ برأیهم.

وذلک یحد من دیکتاتوریة الدولة، لخشیتها من الرأی العام الملتف حول المؤسسات المذکورة.

أما لدی اختلاف الدولة والمؤسسات المهنیة، فالمرجع القوة القضائیة.

ص:253

السادس: تکثیر الجرائد والمجلات النزیهة، حیث إن الحکومة تخاف نقدها، لعلمها بتأثیرها علی الرأی العام، وذلک یوجب ضبط القوی الثلاث عن الانحراف، وقد کان نابلیون الدیکتاتور المشهور یقول: (ترهبنی أربع صحف أکثر مما ترهبنی مائة ألف بندقیة).

لکن اللازم فی المطبوعات أمران:

1: أن تکون بأیدی نزیهة واعیة، لوضوح أن غیر مثل هذه الأیدی لا تدرک مواقع الضعف والخطأ فی الدولة، ولعل ضرها یکون أقرب من نفعها.

2: أن تکون الصحف مهتمة بالحقائق فی قوالب ملائمة، فالإهانة والهتک والتهریج والکذب وما أشبه لا تفید فی المقصود المذکور من إیقاف الدولة عند حدها.

السابع: الوقوف بکل شدة دون بقاء غیر النزیهین فی أی من السلطات الثلاث، فإن البقاء یورث الغرور والتمادی فی الغی.

الثامن: تکثیر الاجتماعات، حیث إن الاجتماع محل تبادل الرأی وتداول المشورة، وفیها تظهر مساوئ الدولة، مما یجعلها الرأی العام آلة للضغط علی الدولة المنحرفة، ولذا تمنع الدول أحیاناً الاجتماعات، وتکره الدول مراکز الاجتماع حیث تعرف أنها محل النقد وکشف سوءاتها، أمثال المساجد والحسینیات والمدارس، وتتخذ الدول حیطة أیام شهر رمضان والمحرم ونحوهما حیث إنها مراسم الاجتماع.

التاسع: الاهتمام لصحة الاقتصاد العام، إذ انحراف الاقتصاد سواء کان بسبب الأثریاء کما فی الرأسمالیة، أو بسبب الحکومة کما فی الشیوعیة، حیث کلتاهما تسلط فئة خاصة علی جهود الناس وأتعابهم، یوجب أمرین:

5) اشتغال الناس بلقمة عیشهم عن نقد الحکومة وإبداء معایبها.

ص:254

6) تسلط القلة علی کل مقالید البلاد، بسبب ما بیدها من الثروة، حتی أن النقد یکون کصیحة فی واد، والرأی العام لا یهیؤ حتی یضعط علی الدولة.

العاشر: توسعة وتعمیق الثقافة الحیویة، حیث إن الجهل یمنع معرفة الناس بمواضع العیب فی الدولة، وکلما توسعت الثقافة وتعمقت ازداد الرأی العام خبرویة، وبازدیاد خبرویته لا تتمکن الدولة من إعمال الدیکتاتوریة والفساد.

ص:255

ضرورة تشکیل الحکومه الإسلامیه

اشارة

ضرورة تشکیل الحکومه الإسلامیه

(مسألة 46): نذکر فی هذه المسألة بعض الأمور المرتبطة بالحکومة الإسلامیة، وإن کنا قد ذکرنا بعض الأمور المرتبطة بهذه الشؤون فی کتاب (الحکم فی الإسلام)، وألمعنا إلی بعضها الآخر فی مسائل آنفة فی هذا الکتاب، فنقول:

یجب إرساء الحکومة الإسلامیة، وجوباً عینیاً ضروریاً، ویدل علی ذلک:

الرسول ص قدوة

الرسول ص قدوة

أ) کونه من باب الأسوة الواجبة، إذ اللازم العمل علی طبق أعمال الرسول (صلی الله علیه وآله).

قال سبحانه: ﴿لَقَدْ کانَ لَکُمْ فی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کانَ یَرْجُوا اللَّهَ وَالْیَوْمَ الآخر﴾((1))، والآیة تدل علی الوجوب کما لا یخفی، إلی غیر ذلک من أدلة وجوب الأسوة.

وقد قال علی (علیه السلام): «فلیتأسّ متأسّ بنبیه وإلاّ فلا یأمنن الهلکة»((2)).

والرسول

ص:256


1- سورة الأحزاب: 22.
2- نهج البلاغة: الخطبة 160.

(صلی الله علیه وآله) قد أرسی الحکم فی المدینة المنورة، بعد أن اشتغل فی مکة المکرمة طیلة ثلاث عشرة سنة بتربیة الرجال الذین یمکن الاعتماد علیهم فی إرساء ذلک، فقد کون (صلی الله علیه وآله) فی المدینة المنورة الجیش، وجبی المال، وجعل موازین القضاء، وبین القوانین المرتبطة بإدارة البلاد، وبعث السفراء والرسل، أی إنه (صلی الله علیه وآله) جعل السلطات الثلاث وإن لم تکن منفصلة بعضها عن بعض.

وفی القرآن الحکیم والسنة المطهرة آیات وروایات بشأن الحکم، قال سبحانه:((فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ))((1)).

وقال سبحانه: ﴿وَأنِ احْکُمْ بَیْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ﴾((2)).

وقال سبحانه: ﴿فَاحْکُمْ بَیْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوی﴾((3)).

وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِکَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾((4)).

وفی آیة أخری وثالثة: ﴿... هُمُ الظَّالِمُونَ﴾((5))، ﴿... هُمُ الْکافِرُونَ﴾((6)).

وقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ بِما أَراکَ اللَّهُ﴾((7)).

وقال سبحانه: ﴿فَلا وَرَبِّکَ لا یُؤْمِنُونَ حَتَّی یُحَکِّمُوکَ فیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فی أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَیْتَ وَ یُسَلِّمُوا تَسْلیماً﴾((8)).

إلی غیرها من الآیات

ص:257


1- سورة المائدة: 48.
2- سورة المائدة: 49.
3- سورة ص: 26.
4- سورة المائدة: 47
5- سورة المائدة: 45.
6- سورة المائدة: 44.
7- سورة النساء: 105.
8- سورة النساء: 65.

المبارکات، بل وآیات أخر مرتبطة بالحکم، مثل: ﴿وَأنّ هذا صِراطی مُسْتَقیماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِکُمْ﴾((1)).

وقال سبحانه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمیعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾((2)).

وقال سبحانه: ﴿فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ ریحُکُمْ﴾((3)).

وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذینَ فَرَّقُوا دینَهُمْ وَکانُوا شِیَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فی شَیْ ءٍ﴾((4)).

وقال سبحانه: ﴿وَلْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَأُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾((5)).

وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَیْنَ أَخَوَیْکُمْ﴾((6)).

ومن الواضح أن الوحدة لا یمکن توفرها إلاّ تحت ظل الحکومة الإسلامیة، کما أن الدعوة إلی الخیر والأمر والنهی والأخوة لا یمکن إیجادها أصلاً أو کمالاً إلاّ بالحکومة الإسلامیة.

الأئمة والعلماء قدوة

الأئمة والعلماء قدوة

ب) وقد عین الرسول (صلی الله علیه وآله) من بعده الخلفاء بالنص بأسمائهم تارة، وبالإجمال أخری کقوله (صلی الله علیه وآله): «الخلفاء

ص:258


1- سورة الأنعام: 153.
2- سورة آل عمران: 103.
3- سورة الأنفال: 46.
4- سورة الأنعام: 159.
5- سورة آل عمران: 104.
6- سورة الحجرات: 10.

بعدی اثنی عشر»((1)).

وقوله (صلی الله علیه وآله): «الأئمة من قریش»((2)).

وبالعموم ثالثة، کقوله (صلی الله علیه وآله): «اللهم ارحم خلفائی، قیل یا رسول الله: ومن خلفاؤک، قال: الذین یأتون من بعدی ویروون حدیثی وسنتی»((3)).

ومن الواضح أن نصب الخلفاء یکون دلیلاً علی إرساء الحکم والدولة، وقد قام الأئمة (علیهم الصلاة والسلام) بعده (صلی الله علیه وآله) بدور الحکم إما مباشرة حیث أمکن ذلک، کما فعله علی (علیه السلام) والحسنان (علیهما السلام) عند تمکنهم، وإما تسبیباً، کالثورات التی أقاموها (علیهم السلام) بسبب أولادهم وموالیهم وأقربائهم.

فقد کانوا (علیهم السلام) یقودون الثورات ضد الأمویین والعباسیین من وراء الستار، بعد أن کانوا یربون الثائرین فی بیوتهم وحجورهم، ثم کانوا یمدونهم بالدعاء، وینعونهم بعد مقتلهم، ویدفعون الأموال إلی من بقی منهم، ویلعنون قتلتهم، وإنما لم یکن الإمام (علیه السلام) هو الذی یقوم بالثورة الظاهرة، لأجل تکمیل المسیرة الفکریة، عقیدة وشریعة، علی ما فصلنا ذلک فی کتاب (الفقه: الاقتصاد)، وأخیراً کان یظهر أمرهم (علیهم السلام) فی معارضة السلطة والعمل لاجتثاثها، ولذا کان الجائرون یلقون علیهم القبض وینهبون أموالهم ویحرقون دورهم ویسجنونهم وأخیراً یقتلونهم، وإلاّ فهل السلطات الجائرة تفعل مثل ذلک بغیر المعارضین لها المقوضین لدولها.

ولذا نجد عصور الأئمة (علیهم الصلاة والسلام) ملیئة بالثورات الشعبیة التی کان یتزعمها أولاد الأئمة وأقرباؤهم وتلامیذهم وأتباعهم، ففی عهد الإمام السجاد

ص:259


1- أمالی الصدوق: ص255 المجلس 51 ح7.
2- أمالی الصدوق: ص255 المجلس 51 ح8.
3- الوسائل: ج18 ص65 الباب 8 من صفات القاضی ح50.

(علیه السلام) ثار التوابون وحکم المختار وثارت أهل المدینة.

وفی عهد الإمام الباقر (علیه السلام) قام بالثورة أخو الإمام زید بن علی بن الحسین (علیهما السلام)، وبعد مقتله ثار ولده یحیی بن زید.

وفی عهد الإمام الصادق (علیه السلام) حدثت ثورة عبد الله بن معاویة بن جعفر بن أبی طالب (علیهم السلام)، وبعده تفجرت ثورة محمد بن عبد الله ذی النفس الزکیة من أحفاد الإمام الحسن (علیه السلام)، وکذلک ثار أخوه إبراهیم بن عبد الله.

وفی عهد الإمام الکاظم (علیه السلام) ثار الحسین بن علی شهید فخ بجمع کبیر من بنی هاشم، وثار یحیی وإدریس.

وفی عهد الإمام الرضا (علیه السلام) ثار أخو الإمام (علیه السلام) زید، وثار محمد بن إبراهیم أبو السرایا، ومحمد الدیباج ابن الإمام الصادق (علیه السلام) وإبراهیم بن الإمام الکاظم (علیه السلام).

وفی عهد الإمام الجواد (علیه السلام) ظهرت ثورة عبد الرحمان بن أحمد من أبناء عم الإمام الجواد (علیه السلام)، ومحمد بن القاسم من أحفاد الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام).

إلی غیرها مما یجدها الطالب فی کافة التواریخ المعنیة بهذا الشأن.

وإظهار بعض الأئمة (علیهم الصلاة والسلام) ما ینافی بعض الثورات المذکورة، کان إظهاراً من باب التقیة الإیجابیة، کما کانوا أحیاناً یظهرون التبری عن أخص أصحابهم، مما هو مذکور فی علم الرجال، ولذا کانوا یقولون لمن تبرؤوا عنه فی خفاء أن مثلهم مثل السفینة، حیث خرقها العالم حفظاً لها، فیما کان((وَراءَهُمْ مَلِکٌ یَأْخُذُ کُلَّ سَفینَةٍ غَصْباً))((1)).

ص:260


1- سورة الکهف: 79.

وقد أثرت تلک الثورات وما رافقها من تهجم الأئمة (علیهم الصلاة والسلام) علی الحکام أموراً:

1: تهییج الرأی العام ضد تلک الحکومات الجائرة، ولذا قامت ثورات أخر ضدهم.

2: إسقاط بعضهم کما أسقطوا الأمویین ومحوهم عن الوجود.

3: إسقاط شرعیتهم، وإظهار أنهم غصاب دیکتاریون، لا یمتون إلی الإسلام بصلة، والتی بسببها أنقذوا الأمة من الضلال.

4: الحد من دیکتاتوریتهم، وإنقاذ المستضعفین من براثنهم، وجعلهم یرتعدون من الرأی العام الإسلامی.

5: وأخیراً أسست حکومات فی عرض حکوماتهم مما ذهبت بشوکتهم، أمثال حکومة المختار وطباطبا فی الکوفة، زهاء عام المائتین من الهجرة، وحکومة الأدارسة فی عهد الإمام الصادق (علیه السلام) فی المغرب، إلی غیر ذلک.

وبعد الأئمة (علیهم الصلاة والسلام) قام العلماء الذین هم خلفاء الرسول (صلی الله علیه وآله) حسب الحدیث المتقدم بنفس الدور، فحاربوا السلطات الجائرة، وأسسوا الحکومات قدر الإمکان، وأوقفوا الطغاة إلی حد ما، وتعرضوا للطرد والسجن والقتل والحرق، لأنفسهم ولمکتباتهم، وإلی غیر ذلک، وتمکنوا کثیراً ما من تسدید بعض الحکومات ولو بقدر.

کما لا یخفی ذلک لمن راجع تواریخ الناصر، والرضی، والمرتضی، والمفید، والطوسی، ونصیر الدین، وأبناء طاووس، والشهیدین، والعلامة، وابن فهد، والمجلسیین، والبهائی، والکرکی، والشیرازیین، وکاشف الغطاء، والمجاهد، والآخوند، والخالصی، والشفتی، والسید نور الدین صاحب التفسیر، والقمی،

ص:261

والأصفهانی، والحبوبی، وشرف الدین، وغیرهم (قدس الله أسرارهم) ممن ذکرت أحوالهم فی جملة من التواریخ.

ومن الجدیر أن یتصدی لجنة من العلماء الواعین، لکتابة تفاصیل هذه الأمور، ولعلها تبلغ مجلدات ضخام، والله المستعان.

تطبیق قوانین الإسلام متوقف علی إقامة الدولة

تطبیق قوانین الإسلام متوقف علی إقامة الدولة

ج) وقوانین الإسلام شاملة لقوانین الحکم، ولو لم یرد الإسلام الحکم لم یکن وجه لجعل هذه القوانین:

1) مثل قوانین الحرب المذکورة فی کتاب الجهاد، المنقسم إلی:

1: الجهاد الابتدائی، فی سبیل إنقاذ الناس من الخرافة، وإنقاذهم من المستکبرین الذین یظلمونهم، کما قال سبحانه:((وَمَا لَکُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِینَ))((1)).

وقال سبحانه: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّکُمْ﴾((2)).

وقال سبحانه:((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ))((3))، والرباط الکون فی الثغر الإسلامی لمراقبة تحرک العدو.

2: وإلی الجهاد الدفاعی.

3: وإلی الجهاد مع البغاة.

وفی کلمات الرسول (صلی الله علیه وآله) والأئمة الطاهرین (علیهم الصلاة والسلام) ثروة کبیرة فی هذا الجانب، وقد ذکرنا

ص:262


1- سورة النساء: 75.
2- سورة الأنفال: 61.
3- سورة آل عمران: 200.

جملة من الروایات والأحکام فی کتاب (الفقه: الجهاد).

2) وقوانین الأموال، من الخمس والزکاة والخراج والجزیة، ومن الواضح أن الخراج والجزیة من شؤون الدولة، أما الخمس والزکاة فأحکامهما المتعددة تدل علی أنهما أیضاً من شؤون الدولة، مثل کون الخمس علی أرض الذمی التی اشتراها من المسلم، إذ من الواضح أن الذمی لا یعتقد بالخمس، فکیف یدفعه بدون القوة، ومثل إرسال الجبات لأجل الزکوات، ومثل کون الإمام الزائد له والمعوز علیه، ومثل أحکام بیت المال، وما ذکرناه فی الخراج والجزیة لا یحتاج إلی بیان، وقد ذکرنا طرفاً من الکلام فی الأمور المالیة الإسلامیة فی کتاب (الفقه: الاقتصاد).

3) والأحکام المرتبطة بالمرافعات، والحدود والقصاص والدیات، فإن القضاء والشهادات ومعاقبة المجرمین حداً وقصاصاً ودیةً من شؤون الدولة، إذ بعض هذه الأمور وإن کان بالإمکان إجراؤه بدون الدولة، إلاّ أن المجموع من حیث المجموع لا یمکن أن یقوم به إلاّ الدولة، بحیث لولا جعل الدولة کان تشریع هذا المجموع من دون فائدة.

4) هذا بالإضافة إلی الأحکام المتفرقة فی مختلف الأبواب، مثل إذا حضر الوالی جنازة فهو أحق بها، وصلاة الجمعة من شأن الإمام، والخلفاء ابتزوا هذا المنصب، کما فی دعاء الإمام السجاد (علیه السلام)، وأحکام الحج المرتبطة بالإمام، إلی غیر ذلک.

وفی الحدیث: «حلال محمد (صلی الله علیه وآله) حلال إلی یوم القیامة، وحرام محمد (صلی الله علیه وآله) حرام إلی یوم القیامة»((1)).

ص:263


1- الکافی: ج 1 ص58 باب فضل العلم ح11.

ثلاثة خیارات

ثلاثة خیارات

د) الأمر لا یخلو إما من قیام الناس بدون الحکومة، أو مع حکومة جائرة، أو مع حکومة عادلة، وحیث یبطل الأولان یتعین الثالث.

أما بطلان الأول: فواضح، وإن زعم مارکس أنه یأتی یوم یعیش الناس فیه بدون حکومة، لأن الاختلاف بین الطبقات یزول، حیث یتساوی تقسیم المال فلا حاجة إلی الحکومة، لکن یرد علی هذا الکلام.

أولاً: إن الاقتصاد لیس البناء التحتی لکل شیء کما زعم، حتی إذا زال الاختلاف تزول کل الأبنیة الأخری التی جعلها فوقیة.

وثانیاً: إن الناس بحاجة إلی إدارة شؤونهم، والإدارة العامة هی الحکومة، کما تقدم فی بعض المسائل السابقة.

وثالثاً: إن الاختلاف والظلم موجودان، ولا یمکن رفع الاختلاف والظلم إلاّ بالحکومة، ولذا رد آراء مارکس حتی المفکرون من الشیوعین الذین جاؤوا من بعده.

وأما بطلان الثانی: فلأن الله سبحانه نهی عن الجور وأمر بالعدل وحرض علی إزالة العدوان، فکیف یقر الظلم ولا یأمر بإقامة حکومة عادلة.

وإذاً.. لم یبق إلاّ الثالث، وهذا بالإضافة إلی أنه عقلی، قد أشیر إلیه فی الآیات والروایات:

مثل قوله سبحانه: ﴿إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذینَ آمَنُوا الَّذینَ یُقیمُونَ الصَّلاةَ وَیُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَهُمْ راکِعُونَ﴾((1))، حیث إن ولایة سائر الأئمة (علیهم السلام) والعلماء امتداد لولایة من ذکر فی الآیة الکریمة، ومعنی الولایة هو حقه فی

ص:264


1- سورة المائدة: 55.

التصرف فی شؤونهم، فإن مقتضی «الناس مسلطون علی أموالهم وأنفسهم» أنه لا حق لأحد فی التصرف فی أمورهم، والآیة تدل علی استثناء تصرف الولی، فلا یقال: إن الحکم مستلزم للتصرف، «والناس مسلطون» یمنع کل تصرف.

وقال سبحانه:((أَطِیعُواْ اللّهَ وَأَطِیعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِی الأمر مِنکُمْ))((1)).

و(أولو الأمر) هم خلفاء الرسول (صلی الله علیه وآله)، سواء عینهم بالاسم، أو بالصفة الکلیة کما تقدم فی «اللهم ارحم خلفائی»((2)).

وقال علی (علیه السلام) فی (نهج البلاغة): «أما والذی فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقیام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله علی العلماء أن لا یقاروا علی کظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقیت حبلها علی غاربها، ولسقیت آخرها بکأس أولها»((3))، فالله سبحانه أخذ علی العلماء تولی الحکم، لأن الإمام (علیه السلام) کان فی صدد وجه تقبله للإمارة بعد عثمان.

وقال (علیه السلام): «لابد للناس من أمیر بر أو فاجر، یعمل فی إمرته المؤمن، ویستمتع فیها الکافر، ویبلغ الله فیها الأجل، ویجمع به الفیء، ویقاتل به العدو، وتأمن به السبل، وتؤخذ به للضعیف من القوی»((4))، فإن فی أثر النظم والاستقرار المؤمن یعمل لدنیاه وآخرته، والکافر یتمتع لدنیاه، کما قال سبحانه:((یَأْکُلُونَ کَمَا تَأْکُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًی لَّهُمْ))((5))، وکل تحت حکمه یصل إلی أجله المقرر الطبیعی فلا فوضی حتی یحترم القتل الناس قبل

ص:265


1- سورة النساء: 59.
2- الوسائل: ج18 ص65 الباب 8 من صفات القاضی ح5.
3- نهج البلاغة: الخطبة 31.
4- نهج البلاغة: الخطبة 40.
5- سورة محمد: 12.

آجالهم الطبیعیة، وبواسطة الحاکم یجمع المال لأجل المصالح، ویقاتل به المعتدون، ولا ینتشر قطاع الطرق حتی لا یتمکن الناس من السفر، ولا یأکل القوی الضعیف.

ولذا قال الإمام (علیه السلام): (فاجر) ولم یقل (ظالم)، إذ الظالم تجب إزالته، أما الفاجر الذی هو عاص فی نفسه، لکنه یراعی النظام فیترتب علیه ما ذکره (علیه السلام) من الفوائد وإن لم یکن حاکماً شرعیاً.

وروی الفضل بن شاذان، عن الرضا (علیه السلام) أنه قال: «إنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلاّ بقیم ورئیس، لما لابد لهم منه فی أمر الدین والدنیا، فلم یجز فی حکمة الحکیم أن یترک الخلق، لما یعلم أنه لابد لهم منه ولا قوام لهم إلاّ به، فیقاتلون به عدوهم، ویقسمون به فیئهم، ویقیم به جمعهم وجماعتهم، ویمنع ظالمهم من مظلومهم»((1)).

وقال الصادق (علیه السلام): «اتقوا الحکومة، فإن الحکومة إنما هی للإمام العالم بالقضاء، العادل فی المسلمین»((2))، فإن الظاهر منه أن العادل العالم جعل حاکماً من قبل الله سبحانه.

وفی حدیث القداح: إن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «إن العلماء ورثة الأنبیاء، إن الأنبیاء لم یورثوا دیناراً ولا درهماً، ولکن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحفظ وافر»((3))، بناءً علی أن الوارث یقوم مقام المورث، فکما کان الأنبیاء (علیهم السلام) حکاماً، یکون العلماء کذلک.

ص:266


1- عیون أخبار الرضا علیه السلام: ج2 ص99 الباب 34 ح1.
2- الوسائل: ج18 ص7 الباب 3 من صفات القاضی ح3.
3- الوسائل: ج18 ص99 الباب 11 من صفات القاضی ح1.

وروی السکونی، عن الصادق (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «الفقهاء أمناء الرسل ما لم یدخلوا فی الدنیا، قیل: یا رسول الله وما دخولهم فی الدنیا، قال (صلی الله علیه وآله): اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلک فاحذروهم علی دینکم»((1))، وإطلاق الأمانة یشمل الحکم.

وفی خبر عمر بن حنظلة، عن الصادق (علیه السلام): «ینظر إلی من کان منکم ممن قد روی حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا، وعرف أحکامنا، فلیرضوا به حکماً، فإنی قد جعلته علیکم حاکماً، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه فإنما بحکم الله استخف، وعلینا رد، والراد علینا الراد علی الله، وهو حد الشرک بالله»((2))، فإنه یشمل الحکم إما بالمناط أو بالإطلاق، والحدیث موجود فی کتب المشایخ الثلاثة.

وقال علی (علیه السلام) کما فی (نهج البلاغة): «أیها الناس أن أحق الناس بهذا الأمر، اقومهم علیه، واعلمهم بامر الله فان شغب شاغب استعتب، وان ابی قوتل»((3)).

وفی خبر رواه (تحف العقول) عن الإمام الحسین (علیه السلام) سیأتی نقله بتمامه إن شاء الله تعالی، قال (علیه السلام): «ذلک بأن مجاری الأمور والأحکام علی أیدی العلماء بالله، الأمناء علی حلاله وحرامه»((4)).

وروی الکافی، عن الباقر (علیه السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فیه ثلاث خصال، ورع یحجزه عن

ص:267


1- الکافی: ج1 ص64 ح5.
2- الوسائل: ج18 ص76 الباب 9 من صفات القاضی.
3- نهج البلاغة: الخطبة 173.
4- تحف العقول: ص172.

معاصی الله، وحلم یملک به غضبه، وحسن الولایة علی من یلی، حتی یکون لهم کالوالد الرحیم»((1)).

وروی ابن أبی الحدید، عن الإمام الحسن (علیه السلام) أنه قال: «إنما الخلیفة من سار بکتاب الله وسنة نبیه صلی الله علیه وآله»((2)).

وفی (نهج البلاغة) قال علی (علیه السلام): «إن أحق الناس بهذا الأمر أقومهم علیه»((3)).

وعن (روضة الواعظین): إن الإمام الحسین (علیه السلام) قال: «فلعمری ما الإمام إلاّ الحاکم بالکتاب، القائم بالقسط، والداین بدین الله، الحابس نفسه علی ذات الله»((4)).

وعن کامل ابن أثیر، أنه روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال: «أیها الناس إن هذا أمرکم لیس لأحد فیه حق إلاّ من أمرتم، وإنه لیس لی دونکم إلاّ مفاتیح ما لکم معی»((5)).

ویؤید ذلک أن خازن عثمان لما ألقی المفاتیح أمام عثمان، قال ما حاصله: إنه خازن مال المسلمین لا خازن الخلیفة.

ص:268


1- ال کافی: ج1 ص407 باب ما یجب من حق الإمام علی الرعیة وحق الرعیة علی الإمام ح8. ثم قال الکلینی رحمه الله: وفی روایة أخری: (حتی یکون للرعیة کالأب الرحیم).
2- شرح نهج البلاغة: ج16 ص49.
3- نهج البلاغة: الخطبة 173.
4- روضة الواعظین: ج1 ص173 فی ذکر مقتل الحسین (عل یه السلام ).
5- الکامل لأبن الأثیر: ج3 ص193 ذکر بیعة أمیر المؤمنین (علیه السلام).

من هو الحاکم الإسلامی

اشارة

من هو الحاکم الإسلامی

(مسألة 47): الحاکم الإسلامی هو الذی یجمع بین شرطین:

الأول: کونه مرضیاً لله سبحانه تعالی.

الثانی: کونه منتخباً من قبل أکثریة الأمة.

أما الشرط الأول: فإن الولایة لله سبحانه عقلاً وشرعاً، فلا یحق لأحد تولی الأمر بدون رضاه سبحانه.

أما عقلاً: فلأن الله سبحانه خالق الخلق ومالک الملک، وکما لا یجوز عقلاً أن یتصرف أحد فی ملک أحد إلاّ برضاه، کذلک لا یجوز التصرف فی ملک الله إلاّ برضاه.

وأما شرعاً: فلورود الآیات والروایات بلزوم أن یکون من یلی الأمور مرضیاً له سبحانه، مثل آیة {إنما ولیکم}((1))، وآیة((أَطِیعُواْ اللّهَ وَأَطِیعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِی الأمر مِنکُمْ))((2))، وغیرهما مما تقدم، ومثل الروایات المتقدمة.

وأما الشرط الثانی: فلقوله سبحانه:((أَمْرُهُمْ شُوری))((3))، وقوله تعالی:((وَشاوِرْهُمْ فِی الأمر))((4))، فإن إطلاق الآیتین یعطی أنه بدون الشوری لا یصح الحکم إلاّ فیما

ص:269


1- سورة المائدة: 55.
2- سورة النساء: 59.
3- سورة الشوری: 37.
4- سورة آل عمران: 154.

خرج، مثل حکم الرسول وحکم الإمام (علیهما السلام)، وحکم من عیناه نصاً، مثل تعیین الرسول (صلی الله علیه وآله) أسیداً علی مکة، وتعیین علی (علیه السلام) مالکاً لمصر، فإنه لا مجال للشوری مع النص فی الموضوعات، کما لا مجال للشوری مع النص فی الأحکام.

وحیث إنه لا حکم إلا ما ورد به کتاب أو سنة، کما ورد بذلک النصوص وقد ذکرنا بعضها فی مسألة آنفة، یبقی مجال الشوری فی الموضوعات، فما دل علی أن الشوری فیه لیس علی سبیل الوجوب نقول بعدم وجوب الشوری فیه، وإلاّ فظاهر الآیة الوجوب، ولذا نقول بوجوب الشوری فی الحکم، وقد ذکرنا فی کتاب (الفقه: الحکم فی الإسلام) أدلة الشوری فی الحکم الواردة فی الکتاب والسنة.

وعلی هذا یکون هناک انتخابان للناس:

الأول: انتخابهم للفقیه العادل الجامع للشرائط، کما سیأتی بیان الشرائط حتی یکون هو الذی یتولی عامة الأمور، وهذا ما یسمی بولایة الفقیه، فإذا کان هناک جماعة من الفقهاء العدول، اختار المسلمون أحدهم رئیساً أعلی للدولة، ویحق لهم أن یختاروا جماعة منهم لیکونوا رؤساء الدولة بالاستشارة فیما بینهم، وهذا الثانی أقرب إلی روح الإسلام، حیث إن الإسلام استشاری، کما أنه أقرب إلی الإتقان، وقد قال (صلی الله علیه وآله): «رحم الله امرءاً عمل عملاً فأتقنه»((1))، وهؤلاء الفقهاء هم الذین یقررون السیاسة العلیا للدولة بالاستشارة فیما بینهم، إما

ص:270


1- الوسائل: ج2 ص883 الباب 60 من الدفن ح1.

بأن یجعل بعضهم رئیساً والبقیة مشاورون، وإما بأن تنفذ الأمور بالهیئة الجماعیة.

الثانی: انتخابهم لنواب الأمة، الذین یکونون بدورهم تحت إشراف الفقهاء، أی تکون ولایة الفقیه المشرفة العلیا علی النواب وعلی غیرهم، وبعد ذلک إن شاءت الأمة انتخبت رئیس الجمهوریة، وبالتشاور بین الثلاثة یکون انتخاب الوزراء (السلطة التنفیذیة) والهیئة العلیا للقضاء، وإن شاءت الأمة جعلت انتخاب رئیس الجمهوریة علی السلطة التشریعیة مع السلطة الفقهائیة، ولعل انتخاب الأمة لرئیس الجمهوریة أقرب إلی روح التشاور، وإن کان یجعل الأمر أصعب.

حکم التعارض بین المرجع وشوری الفقهاء

حکم التعارض بین المرجع وشوری الفقهاء

ولا یخفی أنه بانتخاب الفقهاء لا یسقط الفقیه عن منصبه التقلیدی المخول إلیه شرعاً، فهو مرجع إذا قلده الناس، کان فی الحکم أو لا، وإذا لم یکن فی الحکم ودار الأمر عند المقلد بین طاعته أو طاعة شوری الفقهاء فی مورد اختلاف نظرهما، فالظاهر لزوم اتباع المقلد لشوری الفقهاء، فهو من قبیل تردد المقلد بین رأی مجتهده ورأی القاضی فیما حدث نزاع رجعا إلی القاضی، حیث ذکروا لزوم أخذ رأی القاضی، وقد فصلنا البحث فی ذلک فی کتاب القضاء.

وإنما نرجح اتباع المقلد لشوری الفقهاء علی اتباعه لمرجعه:

أولاً: للمناط فی مسألة القاضی.

وثانیاً: لظهور بعض الروایات فی ذلک، مثل ما فی (نهج البلاغة) حیث قال

ص:271

(علیه السلام): «وإنما الشوری للمهاجرین والأنصار، فإذا اجتمعوا علی رجل وسموه إماماً کان ذلک لله رضی، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلی ما خرج منه، فإن أبی قاتلوه علی اتباعه غیر سبیل المؤمنین»((1))، واختصاص الأمر بالمهاجرین والأنصار دون کل المسلمین:

1: لأن کل المسلمین ذلک الیوم کانوا راضین بما یفعله المهاجرون والأنصار.

ولأن الإسلام کان فی بدو أمره، حیث کان إیکال الأمر إلی کل المسلمین خطراً علی الدولة من جهة تربص الفرس والروم بالأمة.

أما حمل کلامه (علیه السلام) علی أنه من باب إلزام الخصم بما التزم به، لأن الکتاب موجه إلی معاویة، فهو خلاف الظاهر، إذ اللازم حمل الکلام علی البرهان إلاّ إذا لم یکن مساق له إلاّ الجدل.

بل یمکن أن یستفاد ترجیح رأی شوری الفقهاء علی رأی مرجع تقلیده فی مورد الاختلاف مما یرتبط بشؤون الدولة، من العلة فی قوله (علیه السلام): «خذ بما اشتهر بین أصحابک، ودع الشاذ النادر، فإن المجمع علیه لا ریب فیه»((2))، إذ المراد بالمجمع علیه الشهرة بقرینة الصدر، والعلة آتیة فی المقام، فهو من قبیل منصوص العلة.

وفی المقام روایات أخر یمکن أن یستفاد منها ذلک:

مثل ما رواه أبو أمامة، کما عن الخصال، قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله) یقول: «أیها الناس أطیعوا ولاة أمرکم تدخلوا جنة ربکم»((3)).

ص:272


1- نهج البلاغة: الکتاب 6 إلی معاویة.
2- مستدرک الوسائل: ج3 ص186 الباب 9 من صفات القاضی ح2.
3- الخصال: ج1 ص321 باب السنة ح6.

وعن الصدوق (رحمة الله علیه) أنه روی عن الصادق (علیه السلام) أنه قال: «المحمدیة السمحة إقام الصلاة، وإیتاء الزکاة، وصیام شهر رمضان، وحج البیت، والطاعة للإمام، وأداء حقوق المؤمن»((1)).

وروی أبو حمزة، عن الباقر (علیه السلام)، أنه سأل عن حق الإمام، فقال (علیه السلام): «حقه علیهم أن یسمعوا له ویطیعوا»، قلت فما حقهم علیه، قال: «یقسم بینهم بالسویة، ویعدل فی الرعیة»((2)).

وروی الکافی، عن عبد الأعلی، عن الصادق (علیه السلام)، أنه قال: «السمع والطاعة أبواب الخیر، السامع المطیع لا حجة علیه، والسامع العاصی لا حجة له، وإمام المسلمین تمت حجته واحتجاجه یوم یلقی الله عزوجل»((3)).

وعن ابن أبی الحدید، أنه روی عن الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) أنه قال: «أما بعد، فإن الله جعلکم فی الحق سواء، أسودکم وأحمرکم، وجعلکم من الوالی وجعل الوالی منکم، بمنزلة الولد من الوالد والوالد من الولد، فحقکم علیه إنصافکم، والتعدیل بینکم، والکف عن فیئکم، فإذا فعل ذلک وجبت علیکم طاعته، فیما وافق الحق»((4)).

إلی غیر ذلک.

وقد تقدم الإلماع إلی أن ولایة الفقیه امتداد لولایة النبی والإمام (علیهما السلام)، کامتداد ولایة النبی والإمام (علیهما السلام) إلی من نصبوه بالاسم، فلا یقال: إن بعض الروایات المذکورة خاصة بالإمام (علیه السلام) فلا تشمل ما نحن فیه.

ص:273


1- الوسائل: ج14 ص74 الباب 48 من مقدمات النکاح ح1.
2- الکافی: ج1 ص405 فی ما یجب من حق الإمام علی الرعیة ح1.
3- الکافی: ج1 ص189 فی فرض طاعة الأئمة ح17.
4- شرح نهج البلاغة: ج3 ص195.

((من شروط الولاة))

((من شروط الولاة))

وبعد ما تقدم من اشتراط أن یکون الوالی مجتهداً عادلاً، لا حاجة إلی ذکر أنه لابد أن یعمل بقوانین الله سبحانه، إذ أن أی انحراف عنها یسقط عدالته، وإذا سقطت لزم علی المسلمین إسقاطه وسحب الثقة عنه وتبدیله بالرجل الصالح، وأنه لا طاعة له علی المسلمین، أما عدم وجوب طاعته فی المعصیة، فأوضح من أن یخفی، فإنه «لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق».

وعن الخصال: إنه روی سلیم بن قیس، عن علی (علیه السلام)، قال: «احذروا علی دینکم ثلاثة» إلی أن قال: «ورجلاً أتاه الله سلطاناً، فزعم أن طاعته طاعة الله، ومعصیته معصیة الله وکذب، لأنه لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق» إلی أن قال: «لا طاعة لمن عصی الله، إنما الطاعة لله ولرسوله ولولاة الأمر علیهم السلام»((1)).

هذا بالإضافة إلی أن جملة من الروایات حذرت عن اتباع العالم العاصی، مما تدل علی المقام بالطریق الأولی، مثل ما تقدم فی خبر السکونی المتقدم فی المسألة السابقة: «الفقهاء أمناء الرسل»((2)).

ومثل ما عن محجة الکاشانی (رحمة الله علیه)، روی عن رسول الله (صلی الله علیه وآله) قال: «العلماء أمناء الرسل علی عباد الله عزوجل ما لم یخالطوا السلطان فإذا فعلوا ذلک فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم»((3)).

وعن خراجیة الفاضل القطیفی، قال: روی عن المعصوم (علیه السلام): «العلماء أحباء الله ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنکر، ولم یمیلوا فی الدنیا، ولم یختلفوا أبواب السلاطین، فإذا رأیتم مالوا إلی الدنیا واختلفوا أبواب السلاطین

ص:274


1- الوسائل: ج14 ص588 الباب 82 من النکاح.
2- غوالی اللئالی: ج4 ص77 ح65.
3- المحجة البیضاء: ج1 ص128 الباب السادس.

فلا تحملوا عنهم العلم، ولا تصلوا خلفهم، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تشیعوا جنائزهم، فإنهم آفة الدین وفساد الإسلام، یفسدون الدین کما یفسد الخل العسل».

وعن الدیلمی فی مسنده، إنه روی عن النبی (صلی الله علیه وآله) قال: «إذا رأیت العالم یخالط السلطان مخالطة کثیرة، فاعلم أنه لص».

إلی غیرها من الروایات التی تأتی جملة أخری منها أیضاً إن شاء الله.

ولا یخفی أن شوری فقهاء حفظة مجلس الأمة، غیر شوری الفقهاء المراجع الذی تقدم الکلام حوله، حیث إنهم المرجع الأعلی للدولة، بل شوری الفقهاء المراجع هم الذین یعینون (شوری الحفظة)، إما مستقلاً أو بالتعاون مع سائر وکلاء الأمة.

ص:275

مناقشة نظریة البیعة

اشارة

مناقشة نظریة البیعة

(مسألة 48): قد ظهر مما تقدم أن الدولة الإسلامیة رئیسها الأعلی هو الفقیه الجامع للشرائط، سواء کان بصورة فردیة، أو بصورة اجتماعیة، حسب اختیار الأمة أحد الأمرین.

وقد ذکر بعض الکتاب الإسلامیین إمکان تعیین الرئیس بالبیعة، أو بسبب أهل الحل والعقد.

واستدلوا لذلک، بأن المسلمین بایعوا الرسول (صلی الله علیه وآله)، وبأن أهل الحل والعقد عینوا الخلیفة الثالث، بل بما تقدم من کلام علی (علیه السلام) من کفایة اختیار المهاجرین والأنصار.

لکن کلا الأمرین محل نظر، إذ البیعة إنما تکون بعد الانتخاب ومظهرة له، لا أنها تعین رئیس الحکومة، فالمسلمون بعد أن صدقوا رسالة الرسول (صلی الله علیه وآله) بایعوه، ولو لم تکن البیعة کانوا مصدقین له، وکذلک کانت بیعة بعض الخلفاء، فالبیعة کانت نوعاً من التأکید، فالبائع یبیع نفسه وأهله وماله لله، فی قبال أن یعطیه الله الجنة، کما قال سبحانه:((إِنَّ اللّهَ اشْتَرَی مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ))((1)).

ص:276


1- سورة التوبة: 111.

هذا بالإضافة إلی أنه لم تکن البیعة انتخاباً للرسول، لأنه رسول الله (صلی الله علیه وآله) بایعوه أم لا، بل کانت إظهاراً وتأکیداً، ولذا بایعوه (صلی الله علیه وآله) تحت الشجرة فی صلح الحدیبیة مع أنهم کانوا قد بایعوه قبل ذلک، وکانت علة هذه البیعة التأکید وإرهاب الکفار، فالبیعة لا شأن لها، ولذا إذا انتخبوا بدون البیعة کان لازماً، وإذا بایعوا بدون المؤهلات کانت باطلة.

نعم من بایع کان الأمر علیه آکد، {فمن نکث فإنما ینکث علی نفسه}((1))، کما أن حجة الوالی علیه تکون أقوی، حیث إن الوالی یستدل ببیعته علی أنه قبل وانتخب، فلا حق له فی النقض، ولذا استدل الإمام (علیه السلام) علی الناکثین بأنهم بایعوه، ولذا کان خلفاء الجور یجبرون الناس علی البیعة بالسیف، حتی یستدلوا بعد ذلک لجهلة الناس بأنه بویع لهم بالخلافة.

وقد قال خطیب مرتزق فی مجلس معاویة بحضور یزید: (أمیر المؤمنین هذا، وأشار إلی معاویة. فإن مات فهذا، وأشار إلی یزید. ومن أبی فهذا، وأشار إلی السیف) فقال له معاویة مستبشراً: اجلس فأنت أخطب الخطباء.

حال ذلک حال تزییف الانتخابات فی الزمن الحاضر، حیث إن الدول الدیکتاتوریة تجبر الناس علی الإدلاء بأصواتهم لنفع الدیکتاتور، والظریف فی الأمر أن الدیکتاتور یخرج فائزاً بتسع وتسعین صوتاً من المائة، بینما فی ما یکون الانتخاب فیه شبه الحر لا یخرج الفائز إلاّ بأکثریة ضئیلة غالباً.

وکیف کان، فالبیعة لا شأن أساسی لها فی تشکیل الحکومة.

ص:277


1- سورة الفتح: 10.

مناقشة نظریة اهل الحل والعقد

مناقشة نظریة اهل الحل والعقد

وأما انتخاب أهل الحل والعقد، فدلیله وهو الشوری التی أتت بالخلیفة الثالث، غیر تام، فإن الشوری الواردة فی الکتاب والسنة معناها شوری الجمیع لا شوری جماعة، فبأی حق تسقط آراء الآخرین.

وقد تقدم الجواب عن الاستدلال بکلام علی (علیه السلام) وأنه کان فیما قبلت الأمة ما یفعله أهل الحل والعقد، بالإضافة إلی تعسر الانتخابات من جمیع الأمة فی ذلک الزمان، کما أشار إلیه علی (علیه السلام) فی کلمة له کما فی (نهج البلاغة): «ولعمری لئن کانت الإمامة لا تنعقد حتی تحضرها عامة الناس فما إلی ذلک من سبیل، ولکن أهلها یحکمون علی من غاب عنها، ثم لیس للشاهد أن یرجع ولا للغائب أن یختار»((1)).

هذا مع الإشکالات الأخر التی ذکروها فی قصة الشوری، وقد أشار إلیها علی (علیه السلام) فی قوله: «فیا لله وللشوری»((2))، فراجع شروح نهج البلاغة وشرح تجرید الاعتقاد للعلامة الحلی وللقوشجی وغیرها مما لسنا نحن بصدده هنا.

نعم ربما أورد علی انتخاب الأکثریة، دون أهل الحل والعقد فقط، بأن الأکثریة غالباً جاهلون بالسیاسة، ولذا تشتری أصواتهم، وکثیراً ما ینتخبون غیر الصالح، بخلاف ما إذا کان زمام الانتخاب بید أهل الحل والعقد فإنهم لدرایتهم السیاسیة لا یخدعون، فلا یأتی غیر الصالح إلی الحکم.

لکن هذا الإیراد غیر تام، مع الغض عن أدلة الشوری الظاهرة فی العموم، وعن أنه لماذا تسقط حق الجماهیر

ص:278


1- نهج البلاغة: الکتاب 6.
2- نهج البلاغة: الخطبة 3.

فی اختیار من یتولی شؤونهم، إذ لا نسلم جهل الأکثریة، إذ الأکثریة حیث تتجمع آراؤهم لهم رؤیة حسنة، ولذا یقال: (محکمة الاجتماع) وهم المرجع فی أن أی الأطباء والمهندسین و... خیر من غیره.

واشتراء الصوت أحیاناً لا یخدش حسن رأی الأکثریة، ولا نسلم أنهم ینتخبون غیر الصالح، فإن انتخابهم لغیر الصالح نادر.

ثم یبقی المجال للنقض برأی أهل الحل والعقد، فهل هم لا یقعون تحت تأثر الدعایات، ولا یراعون مصالح أنفسهم، ولا یبیعون أصواتهم، وقد ذکر التاریخ أخطاء آراء أهل الحل والعقد بما لم یذکر مثله، فی آراء العامة.

وقد تقدم إطلاق دلیل الشوری، وفی القرآن الحکیم:((وَیَتَّبِعْ غَیْرَ سَبِیلِ الْمُؤْمِنِینَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّی))((1))، وقد ذکرنا فی کتاب (الفقه: الحکم فی الإسلام) جملة من أدلة الشوری فراجع.

ص:279


1- سورة النساء: 116.

شروط الحاکم الإسلامی

اشارة

شروط الحاکم الإسلامی

(مسألة 49): یشترط فی الحاکم الإسلامی أمور عشرة:

أ) البلوغ، فإن غیر البالغ مولی علیه، فلا یکون ولیاً، وقد ذکر فی الروایات أنه لا یجوز أمر الغلام.

ولا یخفی أن البلوغ الشرعی فی الرجل أقصاه إتمامه الخامسة عشرة والدخول فی السادسة عشرة، أما القوانین التی تجعل البلوغ عند اکتمال الثامنة عشرة، فهی مخالفة للعقل والشرع، ولماذا التأخیر إلی هذا السن وقد اکتملت الطبیعة بدلیل الإمناء، وإن ارید اکتمال العقل فلا إشکال فی أنه أمر تدریجی کل درجة لاحقة یکون العقل فیها أنضج من الدرجة السابقة.

والحریة أیضاً شرط، بنفس الدلیل السابق.

ب) العقل، واشتراطه لا یحتاج إلی دلیل، وقد أطبق علی اشتراطه العقل والشرع، والسفیه والمعتوه ومن أشبه کلهم داخلون فی من لا عقل له.

ج) الإیمان، فإنه لا یصح انتخاب غیر المؤمن رئیساً،((وَلَن یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکَافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً))((1))، هذا بالإضافة إلی أنه ربما یستدل لذلک بالأکثریة، حیث إن الأکثریة الإسلامیة ترغب فی اختیار المؤمن، إلی غیر ذلک من الأدلة التی

ص:280


1- سورة النساء: 141.

ذکرت فی مواضعها، وقد ذکرناها نحن فی کتاب (الفقه: الاجتهاد والتقلید) تفصیلاً، ولذا لا داعی إلی تکرارها هنا، سواء بالنسبة إلی هذا الشرط أو الشرائط الأخر.

د) العلم عن استنباط من الأدلة الأربعة، أی الکتاب والسنة والإجماع والعقل، حیث قد ثبت حجیة الأمور المذکورة فی أصول الفقه، وقد ألمعنا إلی جملة من أدلة بعضها فی بعض المسائل السابقة.

ه) العدالة التامة، وقد قال (علیه السلام): «من کان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدینه، مخالفاً لهواه، مطیعاً لأمر مولاه، فللعوام أن یقلدوه»((1)).

وقد روی المشایخ الثلاثة، عن الصادق (علیه السلام) أنه قال: «اتقوا الحکومة، فإن الحکومة إنما هی للإمام، العالم بالقضاء، العادل فی المسلمین، لنبی أو وصی نبی»((2)).

وروی (روضة الواعظین) عن الإمام الحسین (علیه السلام) أنه قال: «فلعمری ما الإمام إلاّ الحاکم بالکتاب، القائم بالقسط، والدائن بدین الله، الحابس بنفسه علی ذات الله»((3)).

إلی غیرها، وستأتی بعض الروایات الأخر دالة علی ذلک.

و) طهارة المولد، بأن لا یکون ولد زنا، بأن قد ثبت شرعاً أنه ولد زنا، فإنه وإن لم یذنب لکنه لا یصلح لإمامة المسلمین، وقد ذکرنا أدلة ذلک عقلاً وشرعاً فی کتاب (الفقه: الاجتهاد والتقلید) و(کتاب الشهادات) وغیرهما.

ز) الحیاة، وهذا الشرط واضح بالنسبة إلی قائد الأمة، وإن کان فیه خفاء بالنسبة إلی مرجع التقلید، وجه الوضوح أن المیت لا یقدر علی القیادة، فلا یصح

ص:281


1- الوسائل: ج18 ص95 الباب 10 من صفات القاضی ح20.
2- الکافی: ج7 ص406 باب أن الحکومة إنما هی للإمام ح1. والتهذیب: ج6 ص217 الباب 87 فی من إلیه الحکم ح3. والفقیه: ج3 ص4 الباب 3 فی اتقاء الحکومة ح1.
3- روضة الواعظین: ج1 ص173 فی ذکر مقتل الحسین (علیه السلام).

أن تبقی الأمة بدون المرجع الأعلی لیقودهم.

المرأة والقیادة

المرأة والقیادة

ح) الذکورة، ولیس اشتراط الذکورة فی المرجع القائد تنقیصاً للمرأة وإهانة لها، بل من جهة أنها خلقت غیر خشنة، فلا تکلف بالأشیاء التی تحتاج إلی الخشونة، کما أن الرجل خلق خشناً، فیکون حمل الأمور الخشنة علیه.

وقد مثلنا لذلک فی بعض کتبنا بقسمی السیارة، وقسمی المعامل، حیث إن السیارة المصنوعة لحمل المسافر غیر المصنوعة لحمل الحدید، فعدم حمل الحدید علی سیارة المسافرین لیس إهانة وتنقیصاً بالنسبة إلیها، وکذلک عدم صنع الأشیاء الخشنة فی المعامل اللطیفة، لیس إهانة لها وتنقیصاً لقدرها، وإنما من باب وضع کل شیء موضعه.

کما أن أقلیة إرث المرأة ودیتها إنما کانت لأجل أن الرجل مکلف بنفقة المرأة، بنتاً وزوجةً وأماً وأختاً، فحیث کلف الرجل بالنفقة جعل حظه أکثر.

أما لماذا کلف الرجل بالنفقة، فلأنه القادر علی الأعمال الخشنة دون المرأة.

ویدل علی أن للمرأة شأناً غیر شأن الرجل، أنا نجد فی العالم الغربی والشرقی، حیث یقولون بأنهم ساووا بین الجنسین، وحیث إن الطریق مفتوح أمام المرأة لنیل کل ما یتمکن الرجل من نیله، أنه لم تصل المرأة إلی ما وصل إلیه الرجل، من الرئاسة والوزارة والسفارة وقیادة الجیش والاختراع والاکتشاف وما أشبه، ولماذا، إن عدم وصول المرأة إلی تلک المناصب والأمور:

إما لأن فطرة المرأة لم تخلق لمثل هذه الشؤون، وإما لأن الرجل لم یدع

ص:282

لها مجالاً، وإما لأن القانون جار علیها ففرق بینهما.

لکن المفروض أن القانون یساوی بین الجنسین، کما أن الطریق مفتوح أمام کلا الجانبین، فلیس إلاّ قضیة الفطرة، والفطرة لم تکن جائرة، ولولا المرأة کان الخلق ناقصاً، کما أنه لولا الرجل کان کذلک:((ما تَری فی خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ))((1)).

وعلی المثل السابق لو لم تکن فی البلاد السیارة الکبیرة کان البلد محتاجاً إلیها، کما أنه إذا لم تکن فیها السیارة لأجل المسافرین کان البلد محتاجاً إلیها.

لا یقال: إن أفراداً من النساء وصلن إلی الوزارة والرئاسة والاکتشاف.

لأنه یقال: لماذا أفراد، ألیس لو کانت الخلقة فیهما واحدة، کان اللازم تساویهما، إن لم تکن المرأة أکثر أفراداً حیث إنها اکثر عدداً من الرجل.

وبهذا تبین أن المراد (بأنهن نواقص) کما فی بعض الروایات، یراد بالنقص عدم کونها بقدر الرجل، لا النقص بمعنی عدم التمام، فلیس مثل المرأة والرجل مثل الإنسان الذی له ید واحدة والإنسان الذی له یدان، حیث إن الأول ناقص، بل حالهما حال الحمام والبازی، حیث إن صغر جثة الأول وعدم تزوده بالمخلب لیس نقصاً، بل إن الأول أعطی کیلواً من اللحم ولم یعط المخلب بینما أعطی الثانی کیلوین والمخلب، قال سبحانه:((فَسالَتْ أَوْدِیَةٌ بِقَدَرِها))((2)).

نظرة الإسلام إلی المرأة

نظرة الإسلام إلی المرأة

وبما ذکرنا یجمع بین الروایات الواردة التی یتوهم أنها فی ذم المرأة

ص:283


1- سورة الملک: 4.
2- سورة الرعد: 17.

والروایات الواردة فی مدحها، والجمع یکون بقرینة الآیات والروایات الآخر، مثل قوله سبحانه:((وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذی عَلَیْهِنَّ))((1)).

وقوله سبحانه: ﴿فَتَبارَکَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقینَ﴾((2)).

وقوله سبحانه: ﴿وَ صَوَّرَکُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَکُمْ﴾((3)).

وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاکُمْ﴾((4)).

وقوله سبحانه: ﴿فی خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ﴾((5)).

وقوله سبحانه: ﴿سَلامٌ هِیَ حَتَّی مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾((6))، إلی غیر ذلک.

فلا نقص فی حقها، وهی مشمولة کالرجل بأن الله مدح نفسه فی خلقها: {فَتَبارَکَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقینَ}((7))، فی خلق هذا وهذه، وهی مصورة بأحسن صورة، والأتقی منهما أکرم عند الله، ولا نقص فی خلقها: {فما تری فی خلق الرحمن من تفاوت}((8))، وهی جاءت إلی الدنیا سلاماً کما جاء الرجل کذلک.

ولذا نجد إلی جنب الرجال العظام نساءً عظیمات، کآدم وحواء، وإبراهیم وهاجر، وموسی وآسیة، وعیسی ومریم، ومحمد وخدیجة، وعلی وفاطمة، والحسنین والزینبین، والصادق وأم حمیدة، والهادی وحکمیة، والمهدی ونرجس، صلوات الله علیهم أجمعین.

ص:284


1- سورة البقرة: 228.
2- سورة المؤمنون: 14.
3- سورة غافر: 64.
4- سورة الحجرات: 13.
5- سورة الملک: 3.
6- سورة القدر: 5.
7- سورة المؤمنون: 14.
8- سورة الملک: 3 .

والروایات التی یتصور أنها فی ذم المرأة، لیست إلاّ لجعلها فی المکان اللائق بها، فإذا قال إنسان: إن سیارة المسافرین قلیلة الأجهزة لا تقدر علی نقل الحدید، لیست مهیأة للسیر فی الصحاری الخشنة والطرق الوعرة، أفهل یعد ذلک ذماً لتلک السیارة، أم أنها لبیان واقعها حتی لا تحمل ما لا طاقة لها به، ثم لماذا الذم، هل الذم لخلقة الله، وهل هی خلقت نفسها حتی تذم بفعلها الاختیاری، ولا اختیار لها، أم الذم علی شیء لیس من صنعها، وهل یذم الإنسان علی ما لیس باختیاره، وحیث لا یرجع الذم لا إلی صنع الله، ولا إلی ذاتها حیث إنها لم تخلق نفسها، لابد وأن یکون المراد بیان حقیقتها، حتی لا تدخل فی مجال لیس من مجالها.

وهذا الوجه جار فی کثیر من الروایات الواردة فی الأبواب المختلفة، مثل الواردة مما ظاهره ذم (الغنی) أو ذم (الفقر) أو ذم (البکاء والندبة وما أشبه علی المیت).

والبحث حول المرأة طویل، لم نکن بصدد التعرض له إلاّ إلماعاً بالمناسبة لجعلها بمعزل عن قیادة الأمة.

فقد روی الشیخ الطوسی فی الخلاف، عن رسول الله (صلی الله علیه وآله): «لا یفلح قوم ولتهم امرأة»((1)).

وروی الخصال، عن الباقر (علیه السلام) أنه قال: «ولا تولی المرأة القضاء، ولا تلی الإمارة»((2)).

ط) وهل یشترط أن یکون القائد الذی تختاره الأمة أعلم ممن سواه، قال به بعض الفقهاء، تبعاً لما ذکر جمع من اشتراط تقلید الأعلم.

والظاهر عندنا عدم الاشتراط، تبعاً لما ذکرناه فی التقلید من عدم وجود

ص:285


1- الخلاف: ج3 ص228 کتاب القضاء المسألة 6.
2- الخصال: ج2 ص585 باب 73 ح12.

دلیل کاف علی لزوم الأعلمیة، ولذا نفی اشتراطه غیر واحد من الفقهاء مطلقاً، کصاحبی المسالک والجواهر وغیرهما، أو فی الجملة حتی أن فی المسألة عشرة أقوال أو أکثر.

وقد فصلنا أدلة الطرفین فی (کتاب التقلید) من شرح العروة، وإن کان لا شک أن کونه أعلم أفضل، واللازم أن یکون المراد بالأعلم هنا الأعلم بأمور الدین والدنیا، لأن الإدارة بحاجة إلی کلیهما.

صفات أخری للقائد

صفات أخری للقائد

ی) قد ذکر فی جملة من الروایات بعض الصفات الأخر فی القائد، أو مطلقاً مما یمکن أن ینطبق الأمر علی القائد، والظاهر أن أغلبها علی سبیل الأفضلیة، وإن کان من الممکن وجوب بعضها.

فعن علی (علیه السلام) فی (نهج البلاغة) أنه قال: «أیها الناس إن أحق الناس بهذا الأمر أقومهم علیه، وأعلمهم بأمر الله، فإن شغب شاغب استعتب، وإن أبی قوتل»((1)).

وعن الاحتجاج، عن رسول الله (صلی الله علیه وآله) أنه قال: «ما ولت أمة قط رجلاً وفیهم من هو أعلم منه، لم یزل أمرهم سفالاً حتی یرجعوا إلی ما ترکوا»((2)).

وقال أمیر المؤمنین (علیه السلام) کما فی (نهج البلاغة): «وقد علمتم أنه لا ینبغی أن یکون الوالی علی الفروج والدماء والمغانم والأحکام وإمامة المسلمین البخیل

ص:286


1- نهج البلاغة: الخطبة 173.
2- الاحتجاج: ج2 ص286 ط الأعلمی.

فتکون فی أموالهم نهمته، ولا الجافی فیقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فیتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشی فی الحکم فیذهب بالحقوق ویقف به دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فیهلک الأمة»((1)).

وفی الکافی، عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فیه ثلاث خصال، ورع یحجزه عن معاصی الله، وحلم یملک به غضبه، وحسن الولایة علی من یلی حتی یکون لهم کالأب الرحیم»((2)).

وفی الآیة الکریمة: {ولا ترکنوا إلی الذین ظلموا فتمسکم النار}((3)).

وفی آیة أخری: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلین}((4)).

وقال سبحانه: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو کنت فظاً غلیظ القلب لانفضوا من حولک فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فی الأمر}((5)).

وقال تعالی: {إنک لعلی خلق عظیم}((6)).

وقال تعالی: {الذین یدعون ربهم بالغداة والعشی یریدون وجهه ولا تعد عیناک عنهم ترید زینة الحیاة الدنیا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن أمرنا واتبع هواه وکان أمره فرطا}((7)).

وقال تعالی فی ذم بعض الصحابة: {عبس وتولی * أن جاءه الأعمی}((8)) الآیات.

ص:287


1- نهج البلاغة: خطبة 131.
2- الکافی: ج1 ص407 باب ما یجب من حق الإمام ح8.
3- سورة هود: 113
4- سورة الأعراف: 199.
5- سورة آل عمران: 159.
6- سورة القلم: 4.
7- سورة ال کهف: 28.
8- سور ة عبس: 1 _ 2.

مما یدل علی أن اللازم أن لا یکون المسلم کذلک فکیف بالقائد.

وروی عن الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) أنه قال: «ولا تقبلن فی استعمال عمالک وأمرأئک شفاعة، إلاّ شفاعة الکفاءة والأمانة»((1)).

وقال رسول الله (صلی الله علیه وآله) کما عن (تحف العقول): «إنا والله لا نولی هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص علیه».

وعن (الإمامة والسیاسة): إن ابن عباس توسط لنصب الإمام (علیه السلام) طلحة والزبیر والیین عنه (علیه السلام) فی البصرة والکوفة، فقال: «ویحک إن العراقیین بهما الرجال والأموال، ومتی تملکا رقاب الناس یستمیلا السفیه بالطمع، ویضربا الضعیف بالبلاء، ویقویا علی القوی بالسلطان، ولو کنت مستعملاً أحداً لضره ونفعه، لاستعملت معاویة علی الشام، ولولا ما ظهر لی من حرصهما علی الولایة لکان لی فیهما رأی»((2)).

وفی (نهج البلاغة) أنه قال (علیه السلام): «إن شر وزرائک من کان للأشرار قبلک وزیراً، ومن شرکهم فی الآثام، فلا یکونن لک بطانة»((3)).

أقول: فإذا کان الأفضل ترک مثل هذا الوزیر، کان ترک جعله قائداً للأمة أولی، فیما إذا کان عادلاً، وإلاّ لم یصح نصبه لخروجه بشرط العدالة.

ومما تقدم ظهر لزوم اطلاع القائد علی مجاری الزمان، فإنه داخل فی جملة من الإطلاقات المتقدمة، هذا بالإضافة إلی روایات خاصة، مثل ما قاله الصادق (علیه السلام) لمفضل (رحمة الله علیه): «العالم بزمانه لاتهجم علیه اللوابس»((4))، أی ما یوجب اللبس والشبهة حتی لا یعرف کیف یصنع، ویوجب ذلک سقوطه فی المشکلات.

ص:288


1- شرح نهج البلاغة: ج20 ص276.
2- الإمامة والسیاسة: ج1 ص52.
3- نهج البلاغة: الخطبة 53.
4- تحف العقول: ص261.

وعن الوافی، عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: «العامل علی غیر بصیرة کالسائر علی غیر الطریق، لا تزیده سرعة السیر من الطریق إلاّ بعداً»((1)).

الحاکم الإسلامی والاستشارة

الحاکم الإسلامی والاستشارة

کما أن اللازم علی الحاکم الإسلامی کثرة الاستشارة، وفی القرآن الحکیم آیات حول الاستشارة، تقدمت جملة منها، کما تقدمت بعض الروایات حول ذلک.

وقد استشار الرسول (صلی الله علیه وآله) حول أمور متعددة فی حروبه، کما استشار علی (علیه السلام) فی قضایا متعددة.

وعن مجمع البیان فی ذیل آیة:((وَالَّذینَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ))((2))، أنه روی عن رسول الله (صلی الله علیه وآله): «ما من أحد یشاور أحداً إلاّ هدی إلی الرشد»((3)).

وقال علی (علیه السلام) کما فی (نهج البلاغة): «فلا تکلمونی بما تکلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا منی بما یتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطونی بالمصانعة، ولا تظنوا بی استثقالاً فی حق قیل لی، ولا التماس إعظام لنفسی، فإنه من استثقل الحق أن یقال له أو العدل أن یعرض علیه کان العمل بهما أثقل علیه، فلا تکفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل((4)).

وعن شرح نهج البلاغة، أن علیاً (علیه السلام) قال لطلحة والزبیر: «ولو وقع حکم لیس فی کتاب الله بیان ولا فی السنة برهانه لشاورتکما»((5)).

ص:289


1- الوافی: ج1 ص39 س 22.
2- سورة الزمر: 17.
3- انظر مجمع البیان: مجلد 5 جزء 13 ص146.
4- نهج البلاغة: الخطبة 216.
5- شرح نهج البلاغة: ج7 ص39، وبحار ال أ نوار: ج32 ص22.

وعن المحاسن، عن الباقر (علیه السلام)، أنه سئل عن رسول الله (صلی الله علیه وآله) ما الحزم، قال: «مشاورة ذوی الرأی واتباعهم»((1)).

وفی (نهج البلاغة) قال علی (علیه السلام): «لا غنی کالعقل، ولا فقر کالجهل، ولا میراث کالأدب، ولا ظهیر کالمشاورة»((2)).

وقال (علیه السلام): «من استبد برأیه هلک، ومن شاور الرجال شارکها فی عقولها»((3)).

إلی غیرها من الروایات.

لکن اللازم أن تکون المشورة بموازینها، إذ لیس کل أحد یستشار، کما لیس فی الأحکام الشرعیة استشارة، بل الاستشارة فی أمرین:

1) فی الإطارات، بعد لزوم أن یکون المحتوی الأدلة الأربعة.

2) فی التطبیقات فی مجلس الشوری، والهیئة التنفیذیة، والقوة القضائیة، ولا حق لهم فی أن یستشیروا فی حکم شرعی هل یجعلوه کما قاله الشارع أو لا، ولا فی تطبیق الحکم علی الموضوع المتبین أنه موضوع لذلک الحکم، فإن حلال محمد (صلی الله علیه وآله) وحرامه لا یتغیران إلی الأبد.

وقد وردت روایات بالنسبة إلی المشورة بصدد ما ذکرناه، فقد قال علی (علیه السلام) کما فی (نهج البلاغة): «ولا تدخلن فی مشورتک بخیلاً یعدل بک عن الفضل ویعدک الفقر، ولا جباناً یضعفک عن الأمور، ولا حریصاً یزین لک الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی یجمعها سوء الظن بالله»((4)).

اقول: لأن البخیل یسیء الظن بأن الله لا یکفیه إذا احتاج، والحریص یسیء

ص:290


1- المحاسن: کتاب المنافع، باب الاستشارة ح14.
2- نهج البلاغة: الحکمة 54.
3- نهج البلاغة: الحکمة 161.
4- نهج البلاغة: الرسالة 53.

الظن بالله بأنه لا ینزل علیه رزقه، والجبان یسیء الظن بالله بأنه سبحانه لا ینصره إذا أقدم فی الحق.

وروی معاویة بن وهب، عن الصادق (علیه السلام) أنه قال: «استشر فی أمرک الذین یخشون ربهم»((1)).

وروی سلیمان بن خالد، عنه (علیه السلام) أنه قال: «استشر العاقل من الرجال الورع، فإنه لا یأمر إلاّ بالخیر»((2)).

وروی الحلبی، عنه (علیه السلام) أنه قال: «إن المشورة لا تکون إلاّ بحدودها، فمن عرفها بحدودها وإلاّ کانت مضرتها علی المستشیر أکثر من منفعتها له،

فأولها: أن یکون الذی تشاوره عاقلاً.

الثانیة: أن یکون حراً متدیناً.

الثالثة: أن یکون صدیقاً مؤاخیاً.

والرابعة: أن تطلعه علی سرک، فیکون علمه به کعلمک بنفسک، ثم یستر ذلک ویکتمه.

فإنه إذا کان عاقلاً انتفعت بمشورته، وإذا کان حراً متدیناً أجهد نفسه فی النصیحة لک، وإذا کان صدیقاً مؤاخیاً کتم سرک إذا أطلعته علی سرک، وإذا أطلعته علی سرّک فکان علمه به کعلمک تمت المشورة وکملت النصیحة»((3)).

الزهدضرورة ملحة للقائد

الزهدضرورة ملحة للقائد

ومن ألزم الصفات فی القائد: أن یکون زاهداً فی الدنیا بطبعه، وذلک ینفع

ص:291


1- المحاسن: ص601 الباب 3 من کتاب المنافع ح17.
2- المحاسن: ص602 الباب 3 من کتاب المنافع ح24.
3- المحاسن: ص602 الباب 3 من کتاب المنافع ح28.

المجتمع من ناحیة أنه لا یطمع فی أموالهم، ولا یفرط فی تکثیر الزوجات لنفسه فیذرها کالمعلقة لا ذات بعل ولا مطلقة، ولا یفعل الشیء الدون للوصول إلی السمعة الکبیرة والرئاسة العریضة، ومن ناحیة أن وقته کله مصروف فی خیر العباد وإنهاض البلاد، بینما الراغب یصرف کثیراً من وقته فی شهواته.

وقد قال سبحانه: ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَیْنَیْکَ إِلی ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَیاةِ الدُّنْیا﴾((1)).

ویروی عن المسیح (علیه السلام) أنه قال: «الدنیاء داء والعالم طبیب، فإذا رأیتم الطبیب یجر الداء إلی نفسه فاتهموه»((2)).

وقال (علیه السلام): «الدنیا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها»((3))، ومراده (علیه السلام) عمارة راغب فی مقابل عمارة مسافر.

وفی (نهج البلاغة) کلمات للإمام (علیه السلام) بهذا الشأن، فقد قال (علیه السلام): «ألا وإن لکل مأموم إماماً یقتدی به ویستضیء بنور علمه، ألا وإن إمامکم قد اکتفی من دنیاه بطمریه، ومن طعمه بقرصیه، ألا وإنکم لا تقدرون علی ذلک، ولکن أعینونی بورع واجتهاد، وعفة وسداد»((4)).

ص:292


1- سورة طه: 131.
2- بحار الأنوار: ج14 فی مواعظ النبی عیسی (علیه السلام) ص319 ح22.
3- بحار الأنوار: ج14 فی مواعظ النبی عیسی (علیه السلام) ص319 ح12.
4- نهج البلاغة: الکتاب 45.

وقال (علیه السلام): «أتأمرونی أن أطلب النصر بالجور فیمن ولیت علیه، والله لا أطور به ما سمر سمیر، وما أم نجم فی السماء نجماً، لو کان المال لی لسویت بینهم، فکیف وإنما المال مال الله، ألا وإن إعطاء المال فی غیر حقه تبذیر وإسراف، وهو یرفع صاحبه فی الدنیا ویضعه فی الآخرة، ویکرمه فی الناس ویهینه عند الله»((1)).

وقال لبعض ولاته: «وإنی أقسم بالله صادقاً لئن بلغنی أنک خنت من فیء المسلمین شیئاً، صغیراً أو کبیراً، لأشدن علیک شدة تدعک قلیل الوفر، ثقیل الظهر، ضئیل الأمر»((2)).

وروی عنه (علیه السلام) أنه قال: «إن الله جعلنی إماماً لخلقه، ففرض علی التقدیر فی نفسی ومطعمی ومشربی وملبسی کضعفاء الناس، کی یقتدی الفقیر بفقری، ولا یطغی الغنی غناه»((3)).

وقال (علیه السلام): «إن الله فرض علی أئمة العدل أن یقدروا أنفسهم بضعفة الناس کی لا یتبیغ بالفقیر فقره»((4)).

وروی عن رسول الله (صلی الله علیه وآله) أنه قال: «الفقر فخری»((5)).

وقد ذکرنا وجهه فی بعض المسائل.

بقی شیء:

وهو أن الحاکم السلامی یتساوی فی القانون الإسلامی مع غیره، فی العبادات والمعاملات والزواج والطلاق والحدود والدیات والقصاص وغیر ذلک، حتی أنه إذا قتل جنیناً ولجته الروح حق لولی الجنین أن یقتله قصاصاً، إذا کان قتله إیاه عمداً.

وإذا کانت له منازعة، حضر مع طرفه عند القاضی، ولو کان طرفه ذمیاً، فموازین القضاء تطبق علیه کما تطبق علی غیره من غیر فرق.

ص:293


1- نهج البلاغة: الخطبة 126.
2- نهج البلاغة: الرسالة 20.
3- الکافی: ج1 ص410 فی سیرة الإمام ح1.
4- الکافی: ج1 ص410 فی سیرة الإمام ح3.
5- بحار الأنوار: ج69 ص55 ح85.

الحاکم الإسلامی والظلامات

الحاکم الإسلامی والظلامات

واللازم علیه إغاثة الملهوف وقضاء الحوائج والاستماع إلی الشکاوی ورد الظلامات، وإلاّ کثر الفساد فی البلاد، ویئس الناس من العدل، وبذلک یسقط عن العدالة، وکان اللازم عزله.

وقد ورد أن علیاً (علیه السلام) عزل قاضیه أبا الأسود الدؤلی، فلما أتاه قال: یا أمیر المؤمنین لم عزلتنی وما خنت وما جنیت، قال (علیه السلام): «لأنک یعلو صوتک صوت الخصمین»((1)).

کما طلب (علیه السلام) والیه حیث اشتکت علیه عنده امرأة فی قصة ذات مغزی کبیرة.

ولم یؤخر (علیه السلام) فی قصة شاکیة علی زوجها إلی العصر حیث تبرد الهواء، بل رافقها إلی دارها فی الظهیرة وأصلح بینهما((2))، فکیف بالسکوت علی الظلم، أو مساعدة الظالم بإبقائه.

وقد کتب الإمام السجاد (علیه السلام) إلی أحد الساکتین علی الظالمین الموالین له: «واعلم أن أدنی ما کتمت وأخف ما احتملت أن آنست وحشة الظالم، وسهلت له طریق الغی، بدنوک منه حین دنوت، وإجابتک له حین دعیت، فما أخوفنی أن تکون تبوء بإثمک غداً مع الخونة، وأن تسأل عما أخذت بإعانتک علی ظلم الظلمة، إنک أخذت ما لیس لک ممن أعطاک، ودنوک ممن لم یرد علی أحد حقاً، ولم ترد باطلاً حین أدناک، وأحببت من حاد الله، أو لیس بدعائه إیاک حین دعاک جعلوک قطباً أداروا بک رحی مظالمهم، وجسراً یعبرون علیک إلی بلایاهم،

ص:294


1- إحقاق الحق: ج8 ص548.
2- بحار الأنوار: ج40 ص113 فی جوامع مناقبه.

وسلماً إلی ضلالتهم، داعیاً إلی غیهم، سالکاً سبیلهم، یدخلون بک الشک علی العلماء، ویقتادون بک قلوب الجهال إلیهم، فلم یبلغ أخص وزرائهم ولا أقوی أعوانهم إلاّ دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إلیهم، فما أقل ما أعطوک فی قدر ما أخذوا منک، وما أیسر ما عمروا لک فکیف ما خربوا علیک، فانظر لنفسک فإنه لا ینظر لها غیرک، وحاسبها حساب رجل مسؤول»((1)).

ونختم هذه المسألة بروایة رواها صاحب (تحف العقول) عن الإمام الحسین (علیه السلام):

قال: «اعتبروا أیها الناس بما وعظ الله به أولیاءه من سوء ثنائه علی الأحبار، إذ یقول: {لولا ینهاهم الربانیون والأحبار عن قولهم الإثم))((2))، وقال:((لُعِنَ الَّذینَ کَفَرُوا مِنْ بَنی إِسْرائیلَ} إلی قوله: {لَبِئْسَ ما کانُوا یَفْعَلُونَ))((3))، وإنما عاب الله ذلک علیهم لأنهم کانوا یرون من الظلمة الذین بین أظهرهم المنکر والفساد فلا ینهونهم عن ذلک، رغبة فیما کانوا ینالون منهم، ورهبة مما یحذرون، والله یقول:((فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ))((4))، وقال سبحانه:((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ))((5))، فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فریضة منه، لعلمه بأنها إذ أدیت وأقیمت استقامت الفرائض کلها، هینها وصعبها ... وذلک أن الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر دعاء إلی الإسلام مع رد المظالم

ص:295


1- تحف العقول: ص198.
2- سورة المائدة: 63.
3- سورة المائدة: 78 _ 79.
4- سورة المائدة: 44.
5- سورة التوبة: 71.

ومخالفة الظالم، وقسمة الفیء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها، ووضعها فی حقها.

ثم أنتم أیتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، وبالخیر مذکورة، وبالنصیحة معروفة، وبالله فی أنفس الناس مهابة، یهابکم الشریف، ویکرمکم الضعیف، ویؤثرکم من لا فضل لکم علیه، ولا ید لکم عنده، تشفعون فی الحوائج إذا امتنعت من طلابها، وتمشون فی الطریق بهیبة الملوک وکرامة الأکابر، ألیس کل ذلک إنما نلتموه بما یرجی عندکم من القیام بحق الله، وإن کنتم عن أکثر حقه تقصرون.

فاستخففتم بحق الأئمة، فأما حق الضعفاء فضیعتم، وأما حقکم بزعمکم فطلبتم، فلا مالاً بذلتموه، ولا نفساً خاطرتم بها للذی خلقها، ولا عشیرة عادیتموها فی ذات الله، أنتم تتمنون علی الله جنته ومجاورة رسله وأماناً عن عذابه، لقد خشیت علیکم أیها المتمنون علی الله أن تحل بکم نقمة من نقماته، لأنکم بلغتم من کرامة الله منزلة فضلتم بها، ومن یعرف بالله لا تکرمون، وأنتم بالله فی عباده تکرمون، وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائکم تفزعون، وذمة رسول الله (صلی الله علیه وآله) محقورة.

والعمی والبکم والزمن فی المدائن مهملة لا ترحمون، ولا فی منزلتکم تعملون، ولا من عمل فیها تعنون، وبالادهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، کل ذلک مما أمرکم الله به من النهی والتناهی وأنتم عنه غافلون، وأنتم أعظم الناس مصیبة لما غلبتم علیه من منازل العلماء لو کنتم تسعون ...

ذلک بأن مجاری الأمور والأحکام علی أیدی العلماء بالله، الأمناء علی حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلک المنزلة، وما سلبتم ذلک إلا بتفرقکم عن الحق واختلافکم فی السنة بعد البینة الواضحة، ولو صبرتم علی الأذی وتحملتم

ص:296

المؤونة فی ذات الله کانت أمور الله علیکم ترد وعنکم تصدر وإلیکم ترجع، ولکنکم مکنتم الظلمة من منزلتکم، واستسلمتم أمور الله فی أیدیهم، یعملون بالشبهات ویسیرون فی الشهوات، سلطهم علی ذلک فرارکم من الموت، و؛عجابکم بالحیاة التی مفارقتکم.

فأسلمتم الضعفاء فی أیدیهم، فمن بین مستعبد مقهور، وبین مستضعف علی معیشته مغلوب، یتقلبون فی الملک بآرائهم، ویستشعرون الخزی بأهوائهم، اقتداءً بالأشرار، وجرأةً علی الجبار، فی کل بلد منهم علی منبره خطیب یصقع، فالأرض لهم شاغرة، وأیدیهم فیها مبسوطة، والناس لهم حول لا یدفعون ید لامس، فمن بین جبار عنید، وذی سطوة علی الضعفة شدید، مطاع لا یعرف المبدأ المعید.

فیا عجباً، وما لی لا أعجب، والأرض من غاش غشوم، ومتصدق ظلوم، وعامل علی المؤمنین بهم غیر رحیم، فالله الحاکم فیما فیه تنازعنا، والقاضی بحکمه فیما شجر بیننا.

اللهم إنک تعلم أنه لم یکن ما کان منا تنافساً فی سلطان، ولا التماساً من فصول الحصام، ولکن لنری المعالم من دینک، ونظهر الإصلاح فی بلادک، ویأمن المظلومون من عبادک، ویعمل بفرائضک وسننک وأحکامک، فإنکم إن لا تنصرونا وتنصفونا قوی الظلمة علیکم، وعملوا فی إطفاء نور نبیکم، وحسبنا الله وعلیه توکلنا، وإلیه أنبنا والیه المصیر»((1)).

ص:297


1- تحف العقول: ص171.

بین قوانین الله والقوانین البشریة

اشارة

بین قوانین الله والقوانین البشریة

(مسألة 50): لقد وضع الإسلام قوانین لأمور ستة:

1) علاقة الإنسان بربه.

2) علاقة الإنسان بنفسه.

3) علاقة الإنسان بالإنسان.

4) علاقة الإنسان بالحیوان.

5) علاقة الإنسان بالنبات.

6) علاقة الإنسان بسائر الأمور الطبیعیة المخلوقة فی الکون.

وقد وضع الإسلام لهذه الأمور عشرات الألوف من القوانین، مما قد جمع جملة منها بعض الفقهاء فکانت أکثر من ربع ملیون قانون فی الفقه فقط، دون قضایا العقیدة والأخلاق والآداب وما إلی ذلک.

والقوانین التی قررها الله سبحانه أصلح من القوانین التی یضعها البشر لثلاثة أمور:

أ) إن الله عالم بحقیقة الإنسان وحقیقة الکون، فیعلم الصالح من القوانین من فاسدها، والإنسان مهما کان نزیهاً لیس بمطلع علی الحقائق، ولذا نجده

ص:298

تمکن من الوصول إلی القمر وإلی أعماق البحر، حیث عرف حقائقهما فی الجملة، بینما لم یتمکن من وضع القانون لنفسه، بحیث یتخلص من الفقر والجهل والمرض والفوضی والرذیلة والحرب وما أشبه ذلک.

ب) إن الله سبحانه لا تملی الشهوات علیه شیئاً، ولذا یکون قانونه فی صالح الإنسان بما هو إنسان، أما البشر فمهما کان نزیهاً عند نفسه، تملی علیه الشهوات والأهواء والمجتمع ما یسبب تحریف قانونه الذی یضعه، مما لا یصلح لکل البشر.

ولذا نجد المقننین فی بلاد الشیوعیة یضعون القانون فی نفع دیکتاتوریة الحکام، والمقننین فی البلاد الرأسمالیة یضعون القانون فی نفع الرأسمالیین وهکذا، ومن المعلوم أن کلتا الطریقتین خطأ، فالقانون المتولد منهما یکون خطأً لا محالة.

ج) أن قانون الأرض لا یحترم، حیث إن المنفذ له هو البولیس، ولذلک لا یسیطر إلاّ علی بقع خاصة من المجتمع الظاهرة للبولیس، ولذا کثرت الجرائم والمفاسد فی کل الأرض، بینما قانون الله سبحانه یحترم من الأعماق، حیث احترام المؤمن لله وخشیته منه، ولذا تقل الجرائم عند المتدینین إن لم تتعدم رأساً، ولیس کذلک غیر المتدینین حیث تکثر عندهم الجرائم.

وعلی هذا فاللازم اتباع قوانین السماء، مع الغض عن الثواب والعقاب فی الآخرة، فإن قوانین الإله أصلح بحال البشر، أما إذا لوحظت الآخرة والجنة والنار، فالقوانین الإلهیة هی المنجیة فقط، بینما فی اتباع سائر القوانین العقاب والنکال.

کیف یمکن إجراء قوانین الإسلام

کیف یمکن إجراء قوانین الإسلام

وحیث إن تبدیل قوانین الشرق والغرب التی غزت بلاد الإسلام بقوانین

ص:299

الإسلام أمر صعب، من ناحیة الاستنباط ومن ناحیة التطبیق، لأنه قد حدث فی الاجتماع متغیرات کثیرة کلها بحاجة إلی استنباط أحکامها من الأدلة الأربعة.

کما أن وضع قانون السماء مکان قانون الأرض أمر یحتاج إلی مزید الدرایة والخبرویة لئلا تحدث الفوضی فی المجتمع، فاللازم أن یستعین مجلس الشوری الإسلامی بمئات الخبراء والفنیین فی مختلف مجالات الحیاة، وبمئات العلماء الراشدین الفاقهین للدین عن اجتهاد واستنباط، فیقسم المجلس إلی لجان، لجنة للشؤون الاقتصادیة، ولجنة للشؤون الزراعیة، ولجنة للشؤون التجاریة، ولجنة للشؤون العسکریة، ولجنة للشؤون الثقافیة، وهکذا.

وبمعاونة القسمین من الخبراء، خبراء الدین وخبراء الدنیا، یضعون القوانین المؤطرة بالإطار الدینی، والملائمة للتطبیق الدنیوی، ثم یطبقون تلک القوانین علی الحیاة، بمعونة السلطتین التنفیذیة والقضائیة.

وبدون ذلک لا یمکن تطبیق قوانین الإسلام بیسر، إن سلم أنه ممکن ولم نقل إنه مستحیل، فإن صلاحیة ذلک هی من شأن المجلس، والمجلس وحده لا یقدر إلاّ بالأسلوب الذی ذکرناه.

ص:300

أمیر المؤمنین (علیه السلام) یضع مناهج الحکم

وملحقاً بهذه المسألة حیث قد أشرف الکتاب علی الانتهاء، نذکر جملة من کلمات علی أمیر المؤمنین (علیه السلام) المذکورة فی (نهج البلاغة) المرتبطة بمختلف شؤون الحکم، لتکون نبراساً للذی یرید الاهتداء بهدی الإمام (علیه السلام) فی هذا الباب.

ومن المعلوم أن قول وفعل وتقریر الإمام (علیه السلام) حجة، حیث إنها من السنة التی هی أحد الأدلة الأربعة، وحیث إن الإمام (علیه السلام) قد طبق حکم الإسلام إبان مزاولته للخلافة، والله المستعان.

العدل والظلم

العدل والظلم

قال علیه السلام:

«أما والذی فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقیام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله علی العلماء أن لا یقاروا علی کظة ظالم، ولاسغب مظلوم، لألقیت حبلها علی غاربها، ولسقیت آخرها بکأس أولها، ولألفیتم دنیاکم هذه أزهد عندی من عفطة عنز»((1)).

ص:301


1- نهج البلاغة: الخطبة 3.

فیما أراد رده علی المسلمین من قطائع عثمان

فیما أراد رده علی المسلمین من قطائع عثمان

قال علیه السلام:

«والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملک به الإماء لرددته، فإن فی العدل سعة، ومن ضاق علیه العدل فالجور علیه أضیق»((1)).

«ولئن أمهل الظالم فلن یفوت أخذه، وهو له بالمرصاد علی مجاز طریقه، وبموضع الشجا من مساغ ریقه»((2)).

«ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعیتی»((3)).

«أتأمرونی أن أطلب النصر بالجور فیمن ولیت علیه، والله لا أطور به ما سمر سمیر، وما أم نجم فی السماء نجماً»((4)).

«أیها الناس، أعینونی علی أنفسکم، وأیم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته، حتی أورده منهل الحق وإن کان کارهاً»((5)).

«فهم أسراء إیمان لم یفکهم من ربقته زیغ ولا عدول ولا ونی... فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم»((6)).

«وقسمها علی الضیق والسعة فعدل فیها لیبتلی من أراد بمیسورها ومعسورها، ولیختبر بذلک الشکر والصبر من غنیها وفقیرها»((7)).

«ووسعهم عدله، وعدلت بلسانی عن مدائح الآدمیین»((8)).

«واجزه من ابتعاثک له مقبول الشهادة، مرضی المقالة، ذا منطق عدل، وخطبة فصل»((9)).

ص:302


1- نهج البلاغة: الخطبة 15.
2- نهج البلاغة: الخطبة 97.
3- نهج البلاغة: الخطبة 97.
4- نهج البلاغة: الخطبة 126.
5- نهج البلاغة: الخطبة 136.
6- نهج البلاغة: الخطبة 91.
7- نهج البلاغة: الخطبة 91.
8- نهج البلاغة: الخطبة 91.
9- نهج البلاغة: الخطبة 72.

«سیرته القصد، وسنته الرشد، وکلامه الفصل، وحکمه العدل»((1)).

«فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هدی وهدی، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة مجهولة، وإن السنن لنیرة لها أعلام، وإن البدع لظاهره لها أعلام. وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضل به، فأمات سنة مأخوذة، وأحیا بدعة متروکة. وإنی سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله) یقول: یؤتی یوم القیامة بالإمام الجائر ولیس معه نصیر ولا عاذر، فیلقی فی نار جهنم، فیدور فیها کما تدور الرحی، ثم یرتبط فی قعرها»((2)).

«واقدموا علی الله مظلومین، ولا تقدموا علیه ظالمین»((3)).

الظلم ثلاثة

الظلم ثلاثة

قال علیه السلام:

«ألا وإن الظلم ثلاثة، فظلم لا یغفر، وظلم لا یترک، وظلم مغفور لا یطلب. فأما الظلم الذی لا یغفر فالشرک بالله، قال الله تعالی:((إِنَّ اللَّهَ لا یَغْفِرُ أن یُشْرَکَ بِهِ))((4))، وأما الظلم الذی یغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، وأما الظلم الذی لا یترک فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص هناک شدید، لیس هو جرحاً بالمدی ولا ضرباً بالسیاط، ولکنه ما یستصغر ذلک معه»((5)).

«فالله الله فی عاجل البغی، وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الکبر، فإنها مصیدة إبلیس العظمی»((6)).

«فانظروا کیف کانوا حیث کانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب

ص:303


1- نهج البلاغة: الخطبة 94.
2- نهج البلاغة: الخطبة 157.
3- نهج البلاغة: الخطبة 151.
4- سورة النساء: 48.
5- نهج البلاغة: الخطبة 176.
6- نهج البلاغة: الخطبة 192.

معتدلة، والأیدی مترادفة، والسیوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة، ألم یکونوا أرباباً فی أقطار الأرضین، وملوکاً علی رقاب العالمین، فانظروا إلی ما صاروا إلیه فی آخر أمورهم، حین وقعت الفرقة، وتشتت الألفة، واختلفت الکلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفین، وتفرقوا متحاربین، قد خلع الله عنهم لباس کرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقی قصص أخبارهم فیکم عبراً للمعتبرین».

«فاعتبروا بحال ولد إسماعیل وبنی إسحاق وبنی إسرائیل (علیهم السلام)، فما أشد اعتدال الأحوال، وأقرب اشتباه الأمثال»((1)).

«استعدوا للمسیر إلی قوم حیاری عن الحق لا یبصرونه، وموزعین بالجور لا یعدلون به، جفاة عن الکتاب، نکب عن الطریق»((2)).

«الذی صدق فی میعاده، وارتفع عن ظلم عباده، وقام بالقسط فی خلقه، وعدل علیهم فی حکمه»((3)).

«وکان الجور هواهما فمضیا علیه، وقد سبق استثناؤنا علیهما فی الحکومة بالعدل، والصمد للحق سوء رأیهما، وجور حکمهما»((4)).

«فلا تکلمونی بما تکلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا منی بما یتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطونی بالمصانعة، ولا تظنوا بی استثقالاً فی حق قیل لی، ولا التماس إعظام لنفسی، فإنه من استثقل الحق أن یقال له أو العدل أن یعرض علیه، کان العمل بهما أثقل علیه، فلا تکفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل»((5)).

«والله لأن أبیت علی حسک السعدان مسهداً، أو أجر فی الأغلال مصفداً،

ص:304


1- نهج البلاغة: الخطبة 192.
2- نهج البلاغة: الخطبة 125.
3- نهج البلاغة: الخطبة 185.
4- نهج البلاغة: الخطبة 127.
5- نهج البلاغة: الخطبة 216.

أحب إلی من أن ألقی الله ورسوله یوم القیامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشیء من الحطام، وکیف أظلم أحداً لنفس یسرع إلی البلی قفولها، ویطول فی الثری حلولها»((1)).

قصته (علیه السلام) مع عقیل

قصته (علیه السلام) مع عقیل

قال علیه السلام:

«والله لقد رأیت عقیلاً وقد أملق حتی استماحنی من برکم صاعاً، ورأیت صبیانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم، کأنما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودنی مؤکداً، وکرر علی القول مردداً، فأصغیت إلیه سمعی، فظن أنی أبیعه دینی، وأتبع قیاده مفارقاً طریقتی، فأحمیت له حدیدة، ثم أدنیتها من جسمه لیعتبر بها، فضج ضجیج ذی دنف من ألمها، وکاد أن یحترق من میسمها، فقلت له: ثکلتک الثواکل یا عقیل، أتئن من حدیدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرنی إلی نار سجرها جبارها لغضبه، أتئن من الأذی ولا أئن من لظی».

«وأعجب من ذلک طارق طرقنا بملفوفة فی وعائها، ومعجونة شنئتها، کأنما عجنت بریق حیة أوقیتها، فقلت: أصلة أم زکاة أم صدقة، فذلک محرم علینا أهل البیت، فقال: لا ذا ولا ذاک، ولکنها هدیة. فقلت: هبلتک الهبول، أعن دین الله أتیتنی لتخذعنی، أمختبط أنت أم ذو جنة أم تهجر، والله لو أعطیت الأقالیم السبعة بما تحت أفلاکها، علی أن أعصی الله فی نملة أسلبها جلب شعیرة ما فعلته، وإن دنیاکم عندی لأهون من ورقة فی فم جرادة تقضمها، ما لعلی ولنعیم یفنی، ولذة لا تبقی، نعوذ بالله من سبات العقل، وقبح الزلل، وبه نستعین»((2)).

ص:305


1- نهج البلاغة: الخطبة 224.
2- نهج البلاغة: الخطبة 224.

ظلم الضعیف

ظلم الضعیف

قال علیه السلام:

«ظلم الضعیف أفحش الظلم»((1)).

«ولا یکبرن علیک ظلم من ظلمک، فإنه یسعی فی مضرته ونفعک، ولیس جزاء من سرک أن تسوءه»((2)).

«وترکا الحق وهما یبصرانه، وکان الجور هواهما، والأعوجاج رأیهما، وقد طبق استثناؤنا علیهما فی الحکم بالعدل والعمل بالحق سوء رأیهما وجور حکمهما»((3)).

«اللهم أیما عبد من عبادک سمع مقالتنا العادلة غیر الجائرة، والمصلحة غیر المفسدة فی الدین والدنیا»((4)).

«من عبد الله علی أمیر المؤمنین، إلی القوم الذین غضبوا لله حین عصی فی أرضه وذهب بحقه، فضرب الجور سرادقه علی البر والفاجر، والمقیم والظاعن»((5)).

«إذا رجفت الراجفة، وحقت بجلائلها القیامة، ولحق بکل منسک أهله، وبکل معبود عبدته، وبکل مطاع أهل طاعته، فلم یجز فی عدله وقسطه یومئذ خرق بصر فی الهواء، ولا همس قدم فی الأرض إلاّ بحقه»((6)).

«وکونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً»((7)).

«وإن البغی والزور یوتغان المرء فی دینه ودنیاه، ویبدیان خلله عند من یعیبه»((8)).

ص:306


1- نهج البلاغة: الرسالة 31.
2- نهج البلاغة: الرسالة 31.
3- نهج البلاغة: الخطبة 177.
4- نهج البلاغة: الخطبة 212.
5- نهج البلاغة: الکتاب 38.
6- نهج البلاغة: الخطبة 223.
7- نهج البلاغة: الرسالة 47.
8- نهج البلاغة: الرسالة 48.

عهده (علیه السلام) لمالک((1))

قال علیه السلام:

«ثم اعلم یا مالک، أنی قد وجهتک إلی بلاد قد جرت علیها دول قبلک، من عدل وجور، وأن الناس ینظرون من أمورک فی مثل ما کنت تنظر فیه من أمور الولاة قبلک، ویقولون فیک ما کنت تقول فیهم، وإنما یستدل علی الصالحین بما یجری الله لهم علی ألسن عباده، فلیکن أحب الذخائر إلیک ذخیرة العمل الصالح، فأملک هواک، وشح بنفسک عما لا یحل لک، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فیما أحبت أو کرهت».

«وأشعر قلبک الرحمة للرعیة، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تکونن علیهم سبعاً ضاریاً تغتنم أکلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لک فی الدین، أو نظیر لک فی الخلق، یفرط منهم الزلل».

«أنصف الله وأنصف الناس من نفسک، ومن خاصة أهلک، ومن لک فیه هوی من رعیتک، فإنک إن لا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله کان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وکان لله حرباً حتی ینزع أو یتوب، ولیس شیء أدعی إلی تغییر نعمة الله وتعجیل نقمته من إقامة علی ظلم، فإن الله سمیع دعوة المضطهدین، وهو للظالمین بالمرصاد».

«ولیکن أحب الأمور إلیک أوسطها فی الحق، وأعمها فی العدل، وأجمعها لرضی الرعیة، فإن سخط العامة یجحف برضی الخاصة».

«ولا حریصاً یزین لک الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی یجمعها سوء الظن بالله».

«إن شر وزرائک من کان للأشرار قبلک وزیراً، ومن شرکهم فی الآثام، فلا یکونن لک بطانة، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خیر الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، ولیس علیه مثل آصارهم وأوزارهم وآثامهم، ممن لم یعاون ظالماً علی ظلمه، ولا آثماً علی إثمه».

«وإن أفضل قرة عین الولاة استقامة العدل فی البلاد».

«وعما قلیل تنکشف عنک أغطیة الأمور، وینتصف منک للمظلوم، املک حمیة أنفک، وسورة حدک».

ص:307


1- نهج البلاغة: الخطبة 53.

«وإنما أنت أحد رجلین: إما امرؤ سخت نفسک بالبذل فی الحق، ففیم

ص:308

احتجابک، من واجب حق تعطیه، أو فعل کریم تسدیه، أو مبتلی بالمنع، فما أسرع کف الناس عن مسألتک إذا أیسوا من بَذْلک، مع أن أکثر حاجات الناس إلیک مما لا مؤونة فیه علیک، من شکاة مظلمة، أو طلب إنصاف فی معاملة».

«أما بعد، فإنی خرجت من حیی هذا إما ظالماً وإما مظلوماً، وإما باغیاً وإما مبغیاً علیه، وإنی أذکر الله من بلغه کتابی هذا لما نفر إلی، فإن کنت محسناً أعاننی، وإن کنت مسیئاً استعتبنی»((1)).

«فاحذر الشبهة واشتمالها علی لبستها، فإن الفتنة طالما أغدفت جلابیبها، وأغشت الأبصار ظلمتها».

«وقد عرفوا العدل ورأوه، وسمعوه ووعوه، وعلموا أن الناس عندنا فی الحق أسوة، فهربوا إلی الأثرة فبعداً لهم وسحقاً».

«إنهم والله لم ینفروا من جور، ولم یلحقوا بعدل»((2)).

«للظالم من الرجال ثلاث علامات: یظلم من فوقه بالمعصیة، ومن دونه بالغلبة»((3)).

علامات الظالم

علامات الظالم

قال علیه السلام:

«ویظاهر القوم الظلمة»((4)).

«وأفضل من ذلک کله کلمة عدل عند إمام جائر»((5)).

«لیس من العدل القضاء علی الثقة بالظن»((6)).

«والعدل منها علی أربع شعب: علی غائص الفهم، وغور العلم، وزهرة الحکم، ورساخة الحلم، فمن فهم علم غور العلم، ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحکم، ومن حلم لم یفرط فی أمره وعاش فی الناس حمیداً»((7)).

ص:309


1- نهج البلاغة: الرسالة 57.
2- نهج البلاغة: الرسالة 70.
3- نهج البلاغة: الحکمة 350.
4- نهج البلاغة: الحکمة 350.
5- نهج البلاغة: الحکمة 374.
6- نهج البلاغة: الحکمة 220.
7- نهج البلاغة: حکمه 30.

«بئس الزاد إلی المعاد العدوان علی العباد»((1)).

«وبالسیرة العادلة یقهر المناوئ»((2)).

))إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ))((3)): «العدل الإنصاف، والإحسان التفضل»((4)).

«یوم المظلوم علی الظالم أشد من یوم الظالم علی المظلوم»((5)).

«أحلفوا الظالم إذا أردتم یمینه بأنه بریء من حول الله وقوته، فإنه إذا حلف بها کاذباً عوجل العقوبة، وإذا حلف بالله الذی لا إله إلاّ هو لم یعاجل لأنه قد وحد الله تعالی»((6)).

«یوم العدل علی الظالم أشد من یوم الجور علی المظلوم»((7)).

وقال (علیه السلام) لزیاد بن أبیه، وقد اسخلفه لعبد الله بن العباس علی فارس وأعمالها، فی کلام طویل کان بینهما:

«استعمل العدل، واحذر العسف والحیف، فإن العسف یعود بالجلاء، والحیف یدعو إلی السیف»((8)).

«من کفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف، والتنفیس عن المکروب»((9)).

الحق والباطل

«الیوم أنطق لکم العجماء ذات البیان، عزب رأی امرئ تخلف عنی، ما شککت فی الحق مذ أریته، لم یوجس موسی (علیه السلام) خیفة علی نفسه بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال، الیوم تواقفنا علی سبیل الحق والباطل».

ص:310


1- نهج البلاغة: الحکمة 221.
2- نهج البلاغة: الحکمة 224.
3- سورة النحل: 90.
4- نهج البلاغة: الحکمة 231.
5- نهج البلاغة: الحکمة 241.
6- نهج البلاغة: الحکمة 253.
7- نهج البلاغة: الحکمة 341.
8- نهج البلاغة: الحکمة 476.
9- نهج البلاغة: الحکمة 24.

من وثق بماء لم یظمأ»((1)).

«ولعمری ما علیّ من قتال من خالف الحق، وخابط الغی، من أدهان ولا إیهان»((2)).

«وإنی والله لأظن أن هؤلاء القوم سیدالون منکم باجتماعهم علی باطلهم، وتفرقکم عن حقکم، وبمعصیتکم إمامکم فی الحق، وطاعتهم إمامهم فی الباطل»((3)).

«والله یمیت القلب ویجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم علی باطلهم، وتفرقکم عن حقکم»((4)).

«ألا وإنه من لا ینفعه الحق یضره الباطل»((5)).

«ولا یدرک الحق إلاّ بالجد»((6)).

«الذلیل عندی عزیز حتی آخذ الحق له، والقوی عندی ضعیف حتی آخذ الحق منه»((7)).

«فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم یخف علی المرتادین، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندین، ولکن یؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فیمزجان، فهنالک یستولی الشیطان علی أولیائه، وینجو((الَّذینَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنی))((8))»((9)).

«وأیم الله، لأبقرن الباطل حتی أخرج الحق من خاصرته»((10)).

«فعند ذلک أخذ الباطل مآخذه، ورکب الجهل مراکبه، وعظمت الطاغیة وقلّت

ص:311


1- نهج البلاغة: الخطبة 4.
2- نهج البلاغة: الخطبة 24.
3- نهج البلاغة: الخطبة 25.
4- نهج البلاغة: الخطبة 27.
5- نهج البلاغة: الخطبة 28.
6- نهج البلاغة: الخطبة 29.
7- نهج البلاغة: الخطبة 37.
8- سورة الأنبیاء: 102.
9- نهج البلاغة: الخطبة 50.
10- نهج البلاغة: الخطبة 104.

الداعیة، وصال الدهر صیال السبع العقور، وهدر فنیق الباطل بعد کظوم»((1)).

«ووالله إن جئتُها إنی للمحق الذی یتبع، وإن الکتاب لمعی ما فارقته مذ صحبته، فلقد کنا مع رسول الله (صلی الله علیه وآله) وإن القتل لیدور علی الآباء والأبناء والإخوان والقرابات، فما نزداد علی کل مصیبة وشدة إلاّ إیماناً ومضیاً علی الحق»((2)).

«أحملهم من الحق علی محضه، وإن تکن الآخری ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُکَ عَلَیْهِمْ حَسَراتٍ إنَّ اللَّهَ عَلیمٌ بِما یَصْنَعُونَ﴾((3))»((4)).

«فلا یبصرون الحق من الباطل، یموجون فیها موجاً ویمرجون فیها مرجاً»((5)).

«لا یؤنسنک إلاّ الحق، ولا یوحشنک إلاّ الباطل»((6)).

«أیها الناس، من عرف من أخیه وثیقة دین وسداد طریق، فلا یسمعن فیه أقاویل الرجال، أما إنه قد یرمی الرامی وتخطیء السهام ویحیل الکلام وباطل ذلک یبور، والله سمیع وشهید، أما إنه لیس بین الحق والباطل إلاّ أربع أصابع، ثم قال: الباطل أن تقول سمعت، والحق أن تقول رأیت»((7)).

«فلا تنفروا من الحق نفار الصحیح من الأجرب، والبارئ من ذی السقم»((8)).

«أیها الناس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهین الباطل، لم یطمع فیکم من لیس مثلکم، ولم یقو من قوی علیکم، لکنکم تهتم متاه بنی إسرائیل، ولعمری لیضعفن لکم التیه من بعدی أضعافاً بما خلفتم الحق وراء ظهورکم»((9)).

ص:312


1- نهج البلاغة: الخطبة 108.
2- نهج البلاغة: الخطبة 122.
3- سورة فاطر: 8.
4- نهج البلاغة: الخطبة 162.
5- نهج البلاغة: الخطبة 164.
6- نهج البلاغة: الخطبة 130.
7- نهج البلاغة: الخطبة 141.
8- نهج البلاغة: الخطبة 147.
9- نهج البلاغة: الخطبة 166.

الذی یستحق الحکم

الذی یستحق الحکم

«أیها الناس، إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم علیه، وأعلمهم بأمر الله فیه، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبی قوتل، ولعمری لئن کانت الإمامة لا تنعقد حتی یحضرها عامة الناس، فما إلی ذلک سبیل».

«ولا یحمل هذا العلم إلاّ أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحق، أخذ الله بقلوبنا وقلوبکم إلی الحق، وألهمنا وإیاکم الصبر»((1)).

«وأخرجوا إلی الله بما افترض علیکم من حقه، فإن جماعة فیما تکرهون من الحق خیر من فرقة فیما تحبون من الباطل، وإن الله سبحانه لم یعط أحداً بفرقة خیراً ممن مضی ولا ممن بقی»((2)).

«وترکا الحق وهما یبصرانه، وکان الجور هواهما، والاعوجاج رأیهما، وقد سبق استثناؤنا علیهما فی الحکم بالعدل والعمل بالحق سوء رأیهما وجور حکمهما، والثقة فی أیدینا لأنفسنا، حین خالفا سبیل الحق»((3)).

«فإنه من مات منکم علی فراشه وهو علی معرفة حق ربه وحق رسوله (صلی الله علیه وآله) وأهل بیته (علیهم السلام) مات شهیداً ووقع أجره علی الله»((4)).

«عباد الله، أوصیکم بتقوی الله، فإنها حق الله علیکم، والموجبة علی الله حقکم، وأن تستعینوا علیها بالله»((5)).

«فو الذی لا إله إلاّ هو، إنی لعلی جادة الحق وإنهم لعلی مزلة الباطل»((6)).

«رحم الله رجلاً رأی حقاً فأعان علیه، أو رأی جوراً فرده، وکان عوناً بالحق علی صاحبه»((7)).

ص:313


1- نهج البلاغة: الخطبة 173.
2- نهج البلاغة: الخطبة 176.
3- نهج البلاغة: الخطبة 177.
4- نهج البلاغة: الخطبة 190.
5- نهج البلاغة: الخطبة 191.
6- نهج البلاغة: الخطبة 197.
7- نهج البلاغة: الخطبة 205.

تبادل الحق بین الحاکم والأمة

تبادل الحق بین الحاکم والأمة

قال علیه السلام:

«أما بعد، فقد جعل الله سبحانه لی علیکم حقاً بولایة أمرکم، ولکم علیّ من الحق مثل الذی لی علیکم، فالحق أوسع الأشیاء فی التواصف، وأضیقها فی التناصف، لا یجری لأحد إلاّ جری علیه، ولا یجری علیه إلاّ جری له، ولو کان لأحد أن یجری له ولا یجری علیه، لکان ذلک خالصاً لله سبحانه دون خلقه، لقدرته علی عباده، ولعدله فی کل ما جرت علیه صروف قضائه، ولکنه سبحانه جعل حقه علی العباد أن یطیعوه، وجعل جزاءهم علیه مضاعفة الثواب تفضلاً منه، وتوسعاً بما هو من المزید أهله».

«ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس علی بعض، فجعلها تتکافؤ فی وجوهها، ویوجب بعضها بعضاً، ولا یستوجب بعضها إلاّ ببعض، وأعظم ما افترض سبحانه من تلک الحقوق حق الوالی علی الرعیة، وحق الرعیة علی الوالی، فریضة فرضها الله سبحانه لکل علی کل، فجعلها نظاماً لألفتهم، وعزاً لدینهم، فلیست تصلح الرعیة إلاّ بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعیة، فإذا أدت الرعیة إلی الوالی حقه، وأدی الوالی إلیها حقها، عز الحق بینهم، وقامت مناهج الدین، واعتدلت معالم العدل، وجرت علی إذلالها السنن، فصلح بذلک الزمان، وطمع فی بقاء الدولة، ویئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرعیة والیها، أو أجحف الوالی برعیته، اختلفت هنالک الکلمة، وظهرت معالم الجور، وکثر الإدغال فی الدین، وترکت محاج السنن، فعمل بالهوی، وعطلت الأحکام، وکثرت علل النفوس، فلا یستوحش لعظیم حق عطل، ولا لعظیم باطل فعل، فهنالک تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد، فعلیکم بالتناصح فی ذلک، وحسن التعاون علیه، فلیس أحد

ص:314

وإن اشتد علی رضا الله حرصه، وطال فی العمل اجتهاده ببالغ حقیقة ما الله سبحانه أهله من الطاعة له».

«ولکن من واجب حقوق الله علی عباده النصیحة بمبلغ جهدهم، والتعاون علی إقامة الحق بینهم، ولیس امرؤ وإن عظمت فی الحق منزلته، وتقدمت فی الدین فضیلته، بفوق أن یعان علی ما حمله الله من حقه، ولا امرؤ وإن صغرته النفوس، واقتحمته العیون، بدون أن یعین علی ذلک أو یعان علیه».

أسخف حالات الولاة

أسخف حالات الولاة

إن من حق من عظم جلال الله سبحانه فی نفسه، وجل موضعه من قلبه، أن یصغر عنده لعظم ذلک کل ما سواه، وإن أحق من کان کذلک لمن عظمت نعمة الله علیه، ولطف إحسانه إلیه، فإنه لم تعظم نعمة الله علی أحدٍ إلاّ ازداد حق الله علیه عظماً، وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس، أن یظن بهم حب الفخر، ویوضع أمرهم علی الکبر، وقد کرهت أن یکون جال فی ظنکم أنی أحب الإطراء، واستماع الثناء، ولست بحمد الله کذلک، ولو کنت أحب أن یقال ذلک لترکته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والکبریاء».

«وربما استحلی الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا علیّ بجمیل ثناء لإخراجی نفسی إلی الله سبحانه وإلیکم من التقیة فی حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لابد من إمضائها، فلا تکلمونی بما تکلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا منی بما یتحفظ به عند أهل الباردة، ولا تخالطونی بالمصانعة، ولا تظنوا بی استثقالاً فی حق قیل لی، ولا التماس إعظام لنفسی، فإنه من استثقل الحق أن یقال له أو العدل أن یعرض علیه کان العمل بهما أثقل علیه، فلاتکفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإنی لست فی نفسی بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلک من فعلی، إلاّ أن یکفی الله من نفسی ما هو أملک به منی، فإنما أنا وأنتم عبید مملوکون لرب لا رب

ص:315

غیره، یملک منا ما لا نملک من أنفسنا، وأخرجنا مما کنا فیه إلی ما صلحنا علیه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدی، وأعطانا البصیرة بعد العمی»((1)).

«واعلموا رحمکم الله أنکم فی زمان القائل فیه بالحق قلیل، واللسان عن الصدق کلیل، واللازم للحق ذلیل»((2)).

«ألا ومن أکله الحق فإلی الجنة، ومن أکله الباطل فإلی النار، ولا المحق کالمبطل»((3)).

قول الحق واطاعته

قال علیه السلام:

«فأسمعوا له وأطیعوا أمره فیما طابق الحق»((4)).

«وقولا بالحق»((5)).

«من تعدی الحق ضاق مذهبه»((6)).

«وألزم الحق من لزمه من القریب والبعید، وکن فی ذلک صابراً محتسباً، واقعاً ذلک من قرابتک وخاصتک حیث وقع، وابتغ عاقبته بما یثقل علیک منه، فإن مغبة ذلک محمودة، فإن المن یبطل الإحسان، والتزید یذهب بنور الحق»((7)).

«وإنه لن یفنیک عن الحق شیء أبداً، ومن الحق علیک حفظ نفسک، والاحتساب علی الرعیة بجهدک»((8)).

«لنا حق، فإن أعطیناه، وإلا رکبنا أعجاز الإبل وإن طال السری»((9)).

ص:316


1- نهج البلاغة: الخطبة 216.
2- نهج البلاغة: الخطبة 233.
3- نهج البلاغة: الرسالة 17.
4- نهج البلاغة: الرسالة 38.
5- نهج البلاغة: الرسالة 47.
6- نهج البلاغة: الرسالة 31.
7- نهج البلاغة: الرسالة 53.
8- نهج البلاغة: الرسالة 59.
9- نهج البلاغة: الحکمة 21.

«اتقوا ظنون المؤمنین، فإن الله تعالی جعل الحق علی ألسنتهم»((1)).

«فمن تعمق لم ینب إلی الحق، ومن کثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق»((2)).

وقال (علیه السلام): «الراضی بفعل قوم کالداخل فیه معهم، وعلی کل داخل فی باطل إثمان، إثم العمل به، وإثم الرضا به»((3)).

«ولم ینزل الکتاب للعباد عبثاً، ولا خلق السماوات والأرض وما بینهما باطلاً،((ذلِکَ ظَنُّ الَّذینَ کَفَرُوا فَوَیْلٌ لِلَّذینَ کَفَرُوا مِنَ النَّارِ))((4))»((5)).

«ولکن إطفاء باطل أو إحیاء حق»((6)).

«أما بعد، فإنما أهلک من کان قبلکم أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه»((7)).

وقال (علیه السلام): «من قضی حق من لا یقضی حقه فقد عبده»((8)).

وقال (علیه السلام): «ما شککت فی الحق مذ أریته»((9)).

وقال (علیه السلام): «من أبدی صفحته للحق هلک»((10)).

«لا حکم إلاّ لله، کلمة حق یراد بها باطل»((11)).

ص:317


1- نهج البلاغة: الحکمة 309.
2- نهج البلاغة: الحکمة 31.
3- نهج البلاغة: الحکمة 154.
4- سورة ص: 27.
5- نهج البلاغة: الحکمة 78.
6- نهج البلاغة: الرسالة 66.
7- نهج البلاغة: الرسالة 79.
8- نهج البلاغة: الحکمة 164.
9- نهج البلاغة: الحکمة 184.
10- نهج البلاغة: الحکمة 188.
11- نهج البلاغة: الحکمة 198.

وقال (علیه السلام): «إن لله فی کل نعمة حقاً، فمن أداه زاده منها، ومن قصر فیه خاطر بزوال نعمته»((1)).

«إن أسررتم علمه، وإن أعلنتم کتبه، قد وکل بذلک حفظة کراماً، لا یسقطون حقاً، ولا یثبتون باطلاً»((2)).

«قد أعدوا لکل حق باطلاً، ولکل قائم مائلاً، ولکل حی قاتلاً، ولکل باب مفتاحاً، ولکل لیل مصباحاً»((3)).

ص:318


1- نهج البلاغة: الحکمة 244.
2- نهج البلاغة: الحکمة 183.
3- نهج البلاغة: الخطبة 194.

أوامره لعماله باتباع العدل فی الرعیة

أوامره لعماله باتباع العدل فی الرعیة

قال (علیه السلام):

«ولقد بلغنی أن الرجل منهم کان یدخل علی المرأة المسلمة، والأخری المعاهدة، فینتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرین، ما نال رجلا منهم کلم، ولا أریق لهم دم، فلو أن امرءً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما کان به ملوماً، بل کان به عندی جدیراً»((1)).

«وأما حقی علیکم فالوفاء بالبیعة، والنصیحة فی المشهد والمغیب، والإجابة حین أدعوکم، والطاعة حین آمرکم»((2)).

«اتقوا الله فی عباده وبلاده، فإنکم مسؤولون حتی عن البقاع والبهائم»((3)).

«ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس علی بعض، فجعلها تتکافؤ فی وجوهها، ویوجب بعضها بعضاً، ولا یستوجب بعضها إلاّ ببعض، وأعظم ما افترض سبحانه من تلک الحقوق حق الوالی علی الرعیة، وحق الرعیة علی الوالی، فریضة فرضها الله سبحانه لکل علی کل، فجعلها نظاماً لألفتهم، وعزاً لدینهم، فلیست تصلح الرعیة إلاّ بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعیة، فإذا أدت الرعیة إلی الوالی حقه، وأدی الوالی إلیها حقها، عز الحق بینهم، وقامت مناهج الدین، واعتدلت معالم العدل، وجرت علی إذلالها السنن، فصلح بذلک الزمان، وطمع فی بقاء الدولة، ویئست

ص:319


1- نهج البلاغة: الخطبة 27.
2- نهج البلاغة: الخطبة 34.
3- نهج البلاغة: الخطبة 167.

مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرعیة والیها، أو أجحف الوالی برعیته، اختلفت هنالک الکلمة، وظهرت معالم الجور، وکثر الإدغال فی الدین، وترکت محاج السنن، فعمل بالهوی، وعطلت الأحکام، وکثرت علل النفوس، فلا یستوحش لعظیم حق عطل، ولا لعظیم باطل فعل، فهنالک تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد»((1)).

«وإن عملک لیس لک بطعمة، ولکنه فی عنقک أمانة، وأنت مسترعی لمن فوقک، لیس لک أن تفتات فی رعیة، ولا تخاطر إلاّ بوثیقة»((2)).

«وأمره ألاّ یجبههم ولا یعضههم، ولا یرغب عنهم تفضلاً بالإمارة علیهم، فإنهم الإخوان فی الدین، والأعوان علی استخراج الحقوق»((3)).

الوالی الزاهد

قال (علیه السلام):

«ولو شئت لاهتدیت الطریق إلی مصفی هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القر، ولکن هیهات أن یغلبنی هوای، ویقودنی جشعی إلی تخیر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو الیمامة من لا طمع له فی القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبیت مبطاناً وحولی بطون غرثی، وأکباد حری، أو أکون کما قال القائل:

وحسبک داءاً أن تبیت ببطنة

وحولک أکباد تحن إلی القد

أأقنع من نفسی بأن یقال: هذا أمیر المؤمنین، ولا أشارکهم فی مکاره الدهر، أو أکون أسوة لهم فی جشوبة العیش»((4)).

ص:320


1- نهج البلاغة: الخطبة 216.
2- نهج البلاغة: الکتاب 5.
3- نهج البلاغة: الرسالة 26.
4- نهج البلاغة: الکتاب 45.

«أما بعد، فإنک ممن استظهر به علی إقامة الدین، وأقمع به نخوة الأثیم، وأسد به لهاة الثغر المخوف، فاستعن بالله علی ما أهمک، واخلط الشدة بضغث من اللین، وارفق ما کان الرفق أرفق، واعتزم بالشدة حین لا تغنی عنک إلاّ الشدة، واخفض للرعیة جناحک، وأبسط لهم وجهک، وألن لهم جانبک، وآس بینهم فی اللحظة والنظرة والإشارة والتحیة، حتی لا یطمع العظماء فی حیفک، ولا ییأس الضعفاء من عدلک، والسلام»((1)).

«أما بعد، فإن حقاً علی الوالی ألاّ یغیره علی رعیته فضل ناله، ولا طول خص به، وأن یزیده ما قسم الله له من نعمه دنواً من عباده، وعطفاً علی إخوانه»((2)).

«هذا ما أمر به عبد الله علی أمیر المؤمنین، مالک بن الحارث الأشتر فی عهده إلیه، حین ولاه مصر: جبایة خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها».

«أمره بتقوی الله، وإیثار طاعته، واتباع ما أمر به فی کتابه، من فرائضه وسننه، التی لا یسعد أحد إلا باتباعها، ولا یشقی إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ینصر الله سبحانه بقلبه ویده ولسانه، فإنه جل اسمه قد تکفل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزه».

«وأمره أن یکسر نفسه من الشهوات، ویزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء، إلاّ ما رحم الله».

«ثم اعلم یا مالک، أنی قد وجهتک إلی بلاد قد جرت علیها دول قبلک، من

ص:321


1- نهج البلاغة: الکتاب 46.
2- نهج البلاغة: الکتاب 50.

عدل وجور، وأن الناس ینظرون من أمورک فی مثل ما کنت تنظر فیه من أمور الولاة قبلک، ویقولون فیک ما کنت تقول فیهم، وإنما یستدل علی الصالحین بما یجری الله لهم علی ألسن عباده، فلیکن أحب الذخائر إلیک ذخیرة العمل الصالح، فأملک هواک، وشح بنفسک عما لا یحل لک، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فیما أحبت أو کرهت».

«وأشعر قلبک الرحمة للرعیة، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تکونن علیهم سبعاً ضاریاً، تغتنم أکلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لک فی الدین، أو نظیر لک فی الخلق، یفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ویؤتی علی أیدیهم فی العمد والخطأ، فأعطهم من عفوک وصفحک مثل الذی تحب وترضی أن یعطیک الله من عفوه وصفحه، فإنک فوقهم ووالی الأمر علیک فوقک، والله فوق من ولاک، وقد استکفاک أمرهم وابتلاک بهم، ولا تنصبن نفسک لحرب الله فإنه لا ید لک بنقمته، ولا غنی بک عن عفوه ورحمته، ولا تندمن علی عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلی بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن: إنی مؤمّر آمر فأطاع فإن ذلک إدغال فی القلب، ومنهکة للدین، وتقرب من الغیر».

«أنصف الله وأنصف الناس من نفسک، ومن خاصة أهلک، ومن لک فیه هوی من رعیتک، فإنک إلاّ تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله کان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وکان لله حرباً حتی ینزع أو یتوب، ولیس شیء أدعی إلی تغییر نعمة الله وتعجیل نقمته من إقامة علی ظلم، فإن الله سمیع دعوة المضطهدین، وهو للظالمین بالمرصاد».

«ولیکن أحب الأمور إلیک أوسطها فی الحق، وأعمها فی العدل، وأجمعها لرضا الرعیة، فإن سخط العامة یجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة

ص:322

یغتفر مع رضی العامة، ولیس أحد من الرعیة أثقل علی الوالی مؤونة فی الرخاء، وأقل معونة له فی البلاء، وأکره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شکراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة ، وإنما عماد الدین وجماع المسلمین والعدة للأعداء العامة من الأمة، فلیکن صغوک لهم، ومیلک معهم».

«ولیکن أبعد رعیتک منک وأشنأهم عندک، أطلبهم لمعائب الناس، فإن فی الناس عیوباً، الوالی أحق من سترها، فلا تکشفن عما غاب عنک منها، فإنما علیک تطهیر ما ظهر لک، والله یحکم علی ما غاب عنک، فاستر العورة ما استطعت، یستر الله منک ما تحب ستره من رعیتک، أطلق عن الناس عقدة کل حقد واقطع عنک سبب کل وتر، وتغاب عن کل ما لا یضح لک، ولا تعجلن إلی تصدیق ساع، فإن الساعی غاش وإن تشبه بالناصحین».

«ولا یکونن المحسن والمسیء عندک بمنزلة سواء، فإن فی ذلک تزهیداً لأهل الإحسان فی الإحسان، وتدریباً لأهل الإساءة علی الإساءة، وألزم کلا منهم ما ألزم نفسه، واعلم أنه لیس شیء بأدعی إلی حسن ظن راع برعیته من إحسانه إلیهم، وتخفیفه المؤونات علیهم، وترک استکراهه إیاهم علی ما لیس له قبلهم، فلیکن منک فی ذلک أمر یجتمع لک به حسن الظن برعیتک، فإن حسن الظن یقطع عنک نصباً طویلاً، وإن أحق من حسن ظنک به لمن حسن بلاؤک عنده، وإن أحق من ساء ظنک به لمن ساء بلاؤک عنده».

«ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت علیها الرعیة، ولا تحدثن سنة تضر بشیء من ماضی تلک السنن، فیکون الأجر لمن سنها، والوزر علیک بما نقضت منها».

ص:323

«وأما بعد، فلا تطولن احتجابک عن رعیتک، فإن احتجاب الولاة عن الرعیة شعبة من الضیق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم یقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فیصغر عندهم الکبیر، ویعظم الصغیر، ویقبح الحسن، ویحسن القبیح، ویشاب الحق بالباطل، وإنما الوالی بشر لا یعرف ما تواری عنه الناس به من الأمور، ولیست علی الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الکذب، وإنما أنت أحد رجلین إما امرؤ سخت نفسک بالبذل فی الحق ففیم احتجابک من واجب حق تعطیه، أو فعل کریم تسدیه، أو مبتلی بالمنع، فما أسرع کف الناس عن مسألتک إذا أیسوا من بَذْلک، مع أن أکثر حاجات الناس إلیک مما لا مؤونة فیه علیک، من شکاة مظلمة أو طلب إنصاف فی معاملة».

«ثم إن للوالی خاصة وبطانة، فیهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف فی معاملة، فاحسم مادة أولئک بقطع أسباب تلک الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشیتک وحامتک قطیعة، ولا یطمعن منک فی اعتقاد عقدة، تضر بمن یلیها من الناس فی شرب أو عمل مشترک یحملون مؤونته علی غیرهم، فیکون مهنأ ذلک لهم دونک، وعیبه علیک فی الدنیا والآخرة».

«وألزم الحق من لزمه من القریب والبعید، وکن فی ذلک صابراً محتسباً واقعاً ذلک من قرابتک وخاصتک حیث وقع، وابتغ عاقبته بما یثقل علیک منه، فإن مغبة ذلک محمودة».

«وإن ظنت الرعیة بک حیفاً فأصحر لهم بعذرک، واعدل عنک ظنونهم بإصحارک، فإن فی ذلک ریاضة منک لنفسک، ورفقاً برعیتک، وإعذاراً تبلغ به حاجتک من تقویمهم علی الحق».

«إیاک والدماء وسفکها بغیر حلها، فإنه لیس شیء أدنی لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحری بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفک الدماء بغیر حقها، والله سبحانه

ص:324

مبتدئ بالحکم بین العباد فیما تسافکوا من الدماء یوم القیامة، فلا تقوین سلطانک بسفک دم حرام، فإن ذلک مما یضعفه ویوهنه بل یزیله وینقله، ولا عذر لک عند الله ولا عندی فی قتل العمد، لأن فیه قود البدن، وإن ابتلیت بخطأ وأفرط علیک سوطک أو سیفک أو یدک بالعقوبة فإن فی الوکزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بک نخوة سلطانک عن أن تؤدی إلی أولیاء المقتول حقهم».

«وإیاک والإعجاب بنفسک، والثقة بما یعجبک منها، وحب الإطراء، فإن ذلک من أوثق فرص الشیطان فی نفسه لیمحق ما یکون من إحسان المحسنین».

«وإیاک والمنّ علی رعیتک بإحسانک، أو التزید فیما کان من فعلک، أو أن تعدهم فتتبع موعدک بخلفک، فإن المنّ یبطل الإحسان، والتزید یذهب بنور الحق، والخلف یوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالی:((کَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أن تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ))((1))».

«وإیاک والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط فیها عند إمکانها، أو اللجاجة فیها إذا تنکرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت، فضع کل أمر موضعه، وأوقع کل أمر موقعه».

«وإیاک والاستئثار بما الناس فیه أسوة، والتغابی عما تُعنی به مما قد وضح للعیون، فإنه مأخوذ منک لغیرک، وعما قلیل تنکشف عنک أغطیة الأمور، وینتصف منک للمظلوم، املک حمیة أنفک، وسورة حدک، وسطوة یدک، وغرب لسانک، واحترس من کل ذلک بکف البادرة وتأخیر السطوة، حتی یسکن غضبک فتملک الاختیار، ولن تحکم ذلک من نفسک حتی تکثر همومک بذکر المعاد إلی ربک».

ص:325


1- سورة الصف: 3.

«والواجب علیک أن تتذکر ما مضی لمن تقدمک من حکومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبینا (صلی الله علیه وآله)، أو فریضة فی کتاب الله، فتقتدی بما شاهدت مما عملنا به فیها، وتجتهد لنفسک فی اتباع ما عهدت إلیک فی عهدی هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسی علیک، لکیلا تکون لک علة عند تسرع نفسک إلی هواها»((1)).

«أما بعد، فأقم للناس الحج، وذکّرهم بأیام الله، واجلس لهم العصرین، فأفت المستفتی، وعلّم الجاهل، وذاکر العالم، ولا یکن لک إلی الناس سفیر إلاّ لسانک، ولا حاجب إلاّ وجهک، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائک بها، فإنها إن ذیدت عن أبوابک فی أول وردها لم تحمد فیما بعد علی قضائها»((2)).

«ما تکفوننی أنفسکم، فکیف تکفوننی غیرکم، إن کانت الرعایا قبلی لتشکو حیف رعاتها، وإننی الیوم لأشکو حیف رعیتی، کأننی المقود وهم القادة، أو الموزوع وهم الوزعة»((3)).

ص:326


1- نهج البلاغة: الکتاب 53.
2- نهج البلاغة: الکتاب 67
3- نهج البلاغة: الحکمة 261.

طبقات الرعیة

طبقات الرعیة

قال علیه السلام:

«واعلم أن الرعیة طبقات لا یصلح بعضها إلاّ ببعض، ولا غنی ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها کتّاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزیة والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلی من ذوی الحاجة والمسکنة، وکل قد سمی الله له سهمه ووضع علی حده، فریضة فی کتابه أو سنة نبیه (صلی الله علیه وآله) عهداً منه عندنا محفوظاً».

فالجنود، بإذن الله حصون الرعیة، وزین الولاة، وعز الدین، وسبل الأمن، ولیس تقوم الرعیة إلاّ بهم، ثم لا قوام للجنود إلاّ بما یخرج الله لهم من الخراج الذی یقوون به علی جهاد عدوهم، ویعتمدون علیه فیما یصلحهم، ویکون من وراء حاجتهم، ثم لا قوام لهذین الصنفین إلاّ بالصنف الثالث من القضاة والعمال والکتاب، لما یحکمون من المعاقد، ویجمعون من المنافع، ویؤتمنون علیه من خواص الأمور وعوامها، ولا قوام لهم جمیعاً إلاّ بالتجار وذوی الصناعات فیما یجتمعون علیه من مرافقهم ویقیمونه من أسواقهم ویکفونهم من الترفق بأیدیهم ما لا یبلغه رفق غیرهم، ثم الطبقة السفلی من أهل الحاجة والمسکنة الذین یحق رفدهم ومعونتهم، وفی الله لکل سعة، ولکل علی الوالی حق بقدر ما یصلحه، ولیس یخرج الوالی من حقیقة ما ألزمه الله من ذلک إلاّ بالاهتمام والاستعانة بالله، وتوطین نفسه علی لزوم الحق والصبر علیه فیما خف علیه أو ثقل»((1)).

ص:327


1- نهج البلاغة: الکتاب 53.

الوزراء والمشاورون

الوزراء والمشاورون

قال علیه السلام:

«ولا تدخلن فی مشورتک بخیلاً یعدل بک عن الفضل ویعدک الفقر، ولا جباناً یضعفک عن الأمور، ولا حریصاً یزین لک الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی یجمعها سوء الظن بالله».

«إن شر وزرائک من کان للأشرار قبلک وزیراً، ومن شرکهم فی الآثام، فلا یکونن لک بطانة، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خیر الخلف، ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، ولیس علیه مثل آصارهم وأوزارهم وآثامهم ممن لم یعاون ظالماً علی ظلمه، ولا آثماً علی إثمه، أولئک أخف علیک مؤونة، وأحسن لک معونة، وأحنی علیک عطفاً، وأقل لغیرک ألفاً، فاتخذ أولئک خاصة لخلواتک وحفلاتک، ثم لیکن آثرهم عندک أقولهم بمر الحق لک، وأقلهم مساعدة فیما یکون منک مما کره الله لأولیائه، واقعاً ذلک من هواک حیث وقع، وألصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم علی ألاّ یطروک ولا یبجحوک بباطل لم تفعله، فإن کثرة الإطراء تحدث الزهو وتدنی من العزة».

«وأکثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحکماء فی تثبیت ما صلح علیه أمر بلادک، وإقامة ما استقام به الناس قبلک».

«ثم أمور من أمورک لابد لک من مباشرتها، منها إجابة عمالک بما یعیا عنه کتّابک، ومنها إصدار حاجات الناس یوم ورودها علیک بما تحرج به صدور

ص:328

أعوانک، وامض لکل یوم عمله، فإن لکل یوم ما فیه»((1)).

وقال (علیه السلام): «من استبد برأیه هلک، ومن شاور الرجال شارکها فی عقولها»((2)).

وقال (علیه السلام) لعبد الله بن العباس، وقد أشار علیه فی شیء لم یوافق رأیه لک أن تشیر علی وأری، فإن عصیتک فأطعنی((3)).

«فلا تکفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإنی لست فی نفسی بفوق أن أخطی ولا آمن ذلک من فعلی، إلاّ أن یکفی الله من نفسی ما هو أملک به منی، فإنما أنا وأنتم عبید مملوکون لرب لا رب غیره، یملک منا ما لا نملک من أنفسنا، وأخرجنا مما کنا فیه إلی ما صلحنا علیه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدی، وأعطانا البصیرة بعد العمی»((4)).

وقال (علیه السلام): «یَأْتِی عَلَی النَّاسِ زَمَانٌ لَا یُقَرَّبُ فِیهِ إِلَّا الْمَاحِلُ، وَلَا یُظَرَّفُ فِیهِ إِلَّا الْفَاجِرُ، وَلَا یُضَعَّفُ فِیهِ إِلَّا الْمُنْصِفُ، یَعُدُّونَ الصَّدَقَةَ فِیهِ غُرْماً، وَصِلَةَ الرَّحِمِ مَنّاً، وَالْعِبَادَةَ اسْتِطَالَةً عَلَی النَّاسِ، فَعِنْدَ ذَلِکَ یَکُونُ السُّلْطَانُ بِمَشُورَةِ النِّسَاءِ وَإِمَارَةِ الصِّبْیَانِ وَتَدْبِیرِ الْخِصْیَانِ»((5)).

«ولا ظهیر کالمشاورة»((6)).

«ولا مظاهرة أوثق من المشاورة»((7)).

«والاستشارة عین الهدایة»((8)).

«ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِی الْمُرُوءَاتِ وَالْأَحْسَابِ وَأَهْلِ الْبُیُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْکَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ، ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا یَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَلَا یَتَفَاقَمَنَّ

ص:329


1- نهج البلاغة: الکتاب 53.
2- نهج البلاغة: الحکمة 161.
3- نهج البلاغة: الحکمة 321.
4- نهج البلاغة: الخطبة 216.
5- نهج البلاغة: ال حکمة 102.
6- نهج البلاغة: الحکمة 54.
7- نهج البلاغة: الحکمة 113.
8- نهج البلاغة: الحکمة 211.

فِی نَفْسِکَ شَیْ ءٌ قَوَّیْتَهُمْ بِهِ، وَلَا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ، وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ دَاعِیَةٌ لَهُمْ إِلَی بَذْلِ النَّصِیحَةِ لَکَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِکَ، وَلَا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِیفِ أُمُورِهِمُ اتِّکَالًا عَلَی جَسِیمِهَا، فَإِنَّ لِلْیَسِیرِ مِنْ لُطْفِکَ مَوْضِعاً یَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِیمِ مَوْقِعاً لَا یَسْتَغْنُونَ عَنْه» ((1)).

ص:330


1- نهج البلاغة: الرسالة 53.

الکتّاب

الکتّاب

قال علیه السلام:

«ثُمَّ انْظُرْ فِی حَالِ کُتَّابِکَ، فَوَلِّ عَلَی أُمُورِکَ خَیْرَهُمْ، وَاخْصُصْ رَسَائِلَکَ الَّتِی تُدْخِلُ فِیهَا مَکَایِدَکَ وَأَسْرَارَکَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ الْکَرَامَةُ فَیَجْتَرِئَ بِهَا عَلَیْکَ، فِی خِلَافٍ لَکَ بِحَضْرَةِ مَلَإٍ، وَلَا تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِیرَادِ مُکَاتَبَاتِ عُمِّالِکَ عَلَیْکَ، وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَی الصَّوَابِ عَنْکَ، فِیمَا یَأْخُذُ لَکَ وَیُعْطِی مِنْکَ، وَلَا یُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَکَ، وَلَا یَعْجِزُ عَنْ إِطْلَاقِ مَا عُقِدَ عَلَیْکَ، وَلَا یَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِی الْأُمُورِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ یَکُونُ بِقَدْرِ غَیْرِهِ أَجْهَلَ، ثُمَّ لَا یَکُنِ اخْتِیَارُکَ إِیَّاهُمْ عَلَی فِرَاسَتِکَ وَاسْتِنَامَتِکَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْکَ، فَإِنَّ الرِّجَالَ یَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلَاةِ بِتَصَنُّعِهِمْ، وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ، وَلَیْسَ وَرَاءَ ذَلِکَ مِنَ النَّصِیحَةِ وَالْأَمَانَةِ شَیْءٌ، وَلَکِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِینَ قَبْلَکَ، فَاعْمِدْ لِأَحْسَنِهِمْ کَانَ فِی الْعَامَّةِ أَثَراً، وَأَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً، فَإِنَّ ذَلِکَ دَلِیلٌ عَلَی نَصِیحَتِکَ لِلَّهِ وَلِمَنْ وُلِّیتَ أَمْرَهُ، وَاجْعَلْ لِرَأْسِ کُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِکَ رَأْساً مِنْهُمْ لَا یَقْهَرُهُ کَبِیرُهَا وَلَا یَتَشَتَّتُ عَلَیْهِ کَثِیرُهَا وَمَهْمَا کَانَ فِی کُتَّابِکَ مِنْ عَیْبٍ فَتَغَابَیْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ»((1)).

ص:331


1- نهج البلاغة: الرسالة 53.

القضاة

القضاة

قال علیه السلام:

«ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَیْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِیَّتِکَ فِی نَفْسِکَ، مِمَّنْ لَا تَضِیقُ بِهِ الْأُمُورُ، وَلَا تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ، وَلَا یَتَمَادَی فِی الزَّلَّةِ، وَلَا یَحْصَرُ مِنَ الْفَیْ ءِ إِلَی الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ، وَلَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَی طَمَعٍ، وَلَا یَکْتَفِی بِأَدْنَی فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ، وَأَوْقَفَهُمْ فِی الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَی تَکَشُّفِ الْأُمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُکْمِ، مِمَّنْ لَا یَزْدَهِیهِ إِطْرَاءٌ، وَلَا یَسْتَمِیلُهُ إِغْرَاءٌ، وَأُولَئِکَ قَلِیلٌ».

«ثُمَّ أَکْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ، وَافْسَحْ لَهُ فِی الْبَذْلِ مَا یُزِیلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَی النَّاسِ، وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَیْکَ مَا لَا یَطْمَعُ فِیهِ غَیْرُهُ مِنْ خَاصَّتِکَ، لِیَأْمَنَ بِذَلِکَ اغْتِیَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَکَ، فَانْظُرْ فِی ذَلِکَ نَظَراً بَلِیغاً، فَإِنَّ هَذَا الدِّینَ قَدْ کَانَ أَسِیراً فِی أَیْدِی الْأَشْرَارِ یُعْمَلُ فِیهِ بِالْهَوَی وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْیَا»((1)).

من یتصدی للحکم ولیس بأهل

من یتصدی للحکم ولیس بأهل

قال علیه السلام:

«إنَّ أَبْغَضَ الْخَلَائِقِ إِلَی اللَّهِ رَجُلَانِ، رَجُلٌ وَکَلَهُ اللَّهُ إِلَی نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِرٌ

ص:332


1- نهج البلاغة: الکتاب 53.

عَنْ قَصْدِ السَّبِیلِ، مَشْغُوفٌ بِکَلَامِ بِدْعَةٍ وَدُعَاءِ ضَلَالَةٍ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ، ضَالٌّ عَنْ هَدْیِ مَنْ کَانَ قَبْلَهُ، مُضِلٌّ لِمَنِ اقْتَدَی بِهِ فِی حَیَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، حَمَّالٌ خَطَایَا غَیْرِهِ رَهْنٌ بِخَطِیئَتِهِ.

وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلًا مُوضِعٌ فِی جُهَّالِ الْأُمَّةِ عَادٍ فِی أَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ عَمٍ بِمَا فِی عَقْدِ الْهُدْنَةِ قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِماً وَ لَیْسَ بِهِ بَکَّرَ فَاسْتَکْثَرَ مِنْ جَمْعٍ مَا قَلَّ مِنْهُ خَیْرٌ مِمَّا کَثُرَ حَتَّی إِذَا ارْتَوَی مِنْ مَاءٍ آجِنٍ وَ اکْتَثَرَ مِنْ غَیْرِ طَائِلٍ جَلَسَ بَیْنَ النَّاسِ قَاضِیاً ضَامِناً لِتَخْلِیصِ مَا الْتَبَسَ عَلَی غَیْرِهِ فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَی الْمُبْهَمَاتِ هَیَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْیِهِ ثُمَّ قَطَعَ بِهِ فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِی مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْکَبُوتِ لَا یَدْرِی أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ یَکُونَ قَدْ أَخْطَأَ وَ إِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ یَکُونَ قَدْ أَصَابَ جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالَاتٍ عَاشٍ رَکَّابُ عَشَوَاتٍ لَمْ یَعَضَّ عَلَی الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ یَذْرُو الرِّوَایَاتِ ذَرْوَ الرِّیحِ الْهَشِیمَ لَا مَلِیٌّ وَ اللَّهِ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَیْهِ وَ لَا أَهْلٌ لِمَا قُرِّظَ بِهِ لَا یَحْسَبُ الْعِلْمَ فِی شَیْ ءٍ مِمَّا أَنْکَرَهُ وَ لَا یَرَی أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً لِغَیْرِهِ وَ إِنْ أَظْلَمَ عَلَیْهِ أَمْرٌ اکْتَتَمَ بِهِ لِمَا یَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ وَ تَعَجُّ مِنْهُ الْمَوَارِیثُ إِلَی اللَّهِ أَشْکُو مِنْ مَعْشَرٍ یَعِیشُونَ جُهَّالًا وَ یَمُوتُونَ ضُلَّالًا لَیْسَ فِیهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْکِتَابِ إِذَا تُلِیَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ وَ لَا سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَیْعاً وَ لَا أَغْلَی ثَمَناً مِنَ الْکِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ لَا عِنْدَهُمْ أَنْکَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَ لَا أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْکَرِ»((1)).

«سَعِ النَّاسَ بِوَجْهِکَ وَ مَجْلِسِکَ وَ حُکْمِکَ وَ إِیَّاکَ وَ الْغَضَبَ فَإِنَّهُ طَیْرَةٌ مِنَ الشَّیْطَانِ وَ اعْلَمْ أَنَّ مَا قَرَّبَکَ مِنَ اللَّهِ یُبَاعِدُکَ مِنَ النَّارِ وَ مَا بَاعَدَکَ مِنَ اللَّهِ یُقَرِّبُکَ مِنَ النَّار»((2)).

ص:333


1- نهج البلاغة: الخطبة 17.
2- نهج البلاغة: الکتاب 76.

«إن للخصومة قحماً»((1)).

وقال (علیه السلام): «لیس من العدل القضاء علی الثقة بالظن»((2)).

فی ذم التصویب فی الفتیا

فی ذم التصویب فی الفتیا

قال علیه السلام:

«تَرِدُ عَلَی أَحَدِهِمُ الْقَضِیَّةُ فِی حُکْمٍ مِنَ الْأَحْکَامِ فَیَحْکُمُ فِیهَا بِرَأْیِهِ، ثُمَّ تَرِدُ تِلْکَ الْقَضِیَّةُ بِعَیْنِهَا عَلَی غَیْرِهِ فَیَحْکُمُ فِیهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ یَجْتَمِعُ الْقُضَاةُ بِذَلِکَ عِنْدَ الْإِمَامِ الَّذِی اسْتَقْضَاهُمْ فَیُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِیعاً، وَإِلَهُهُمْ وَاحِدٌ وَنَبِیُّهُمْ وَاحِدٌ وَکِتَابُهُمْ وَاحِدٌ، أَفَأَمَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالِاخْتِلَافِ فَأَطَاعُوهُ أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ».

«أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِیناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَی إِتْمَامِهِ، أَمْ کَانُوا شُرَکَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ یَقُولُوا وَعَلَیْهِ أَنْ یَرْضَی، أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِیناً تَامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ (صلی الله علیه وآله) عَنْ تَبْلِیغِهِ وَأَدَائِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ یَقُولُ: {ما فَرَّطْنا فِی الْکِتابِ مِنْ شَیْ ءٍ}((3))، وَفِیهِ تِبْیَانٌ لِکُلِّ شَیْ ءٍ، وَذَکَرَ أَنَّ الْکِتَابَ یُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِیهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً}((4))»((5)).

وقال (علیه السلام): «مَنْ بَالَغَ فِی الْخُصُومَةِ أَثِمَ وَ مَنْ قَصَّرَ فِیهَا ظُلِمَ وَ لَا یَسْتَطِیعُ أَنْ یَتَّقِیَ اللَّهَ مَنْ خَاصَمَ»((6)).

ص:334


1- نهج البلاغة: الحکم ة 3.
2- نهج البلاغة: الحکمة 220.
3- سورة الأنعام: 39.
4- سورة النساء: 85.
5- نهج البلاغة: الخطبة 18
6- نهج البلاغة: الحکمة 298.

العمال

العمال

قال (علیه السلام):

«ثُمَّ انْظُرْ فِی أُمُورِ عُمَّالِکَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِیَانَةِ، وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَیَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُیُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالْقَدَمِ فِی الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ أَکْرَمُ أَخْلَاقاً وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً وَأَقَلُّ فِی الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً وَأَبْلَغُ فِی عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً».

«ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَیْهِمُ الْأَرْزَاقَ، فَإِنَّ ذَلِکَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ، وَغِنًی لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَیْدِیهِمْ، وَحُجَّةٌ عَلَیْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَکَ، أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَکَ، ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وَابْعَثِ الْعُیُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ عَلَیْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَکَ فِی السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِعْمَالِ الْأَمَانَةِ وَالرِّفْقِ بِالرَّعِیَّةِ، وَتَحَفَّظْ مِنَ الْأَعْوَانِ فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ یَدَهُ إِلَی خِیَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَیْهِ عِنْدَکَ أَخْبَارُ عُیُونِکَ اکْتَفَیْتَ بِذَلِکَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَیْهِ الْعُقُوبَةَ فِی بَدَنِهِ وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ وَوَسَمْتَهُ بِالْخِیَانَةِ وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ»((1)).

ص:335


1- نهج البلاغة: الخطبة 53.

التجار وذوی الصناعات

التجار وذوی الصناعات

قال (علیه السلام):

«ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِی الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَیْراً، الْمُقِیمِ مِنْهُمْ وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ وَجُلَّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِی بَرِّکَ وَبَحْرِکَ وَسَهْلِکَ وَجَبَلِکَ، وَحَیْثُ لَا یَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا، وَلَا یَجْتَرِءُونَ عَلَیْهَا، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لَا تُخْشَی غَائِلَتُهُ».

«وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِکَ وَفِی حَوَاشِی بِلَادِکَ، وَاعْلَمْ مَعَ ذَلِکَ أَنَّ فِی کَثِیرٍ مِنْهُمْ ضِیقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِیحاً، وَاحْتِکَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَکُّماً فِی الْبِیَاعَاتِ، وَذَلِکَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ وَعَیْبٌ عَلَی الْوُلَاةِ، فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِکَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) مَنَعَ مِنْهُ».

«وَلْیَکُنِ الْبَیْعُ بَیْعاً سَمْحاً بِمَوَازِینِ عَدْلٍ، وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِیقَیْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ، فَمَنْ قَارَفَ حُکْرَةً بَعْدَ نَهْیِکَ إِیَّاهُ فَنَکِّلْ بِهِ، وَعَاقِبْهُ فِی غَیْرِ إِسْرَافٍ»((1)).

«ویبایع المضطرون، وقد نهی رسول الله (صلی الله علیه وآله) عن بیع المضطرین»((2)).

وقال (علیه السلام): «من اتجر بغیر فقه فقد ارتطم فی الربا»((3)).

ص:336


1- نهج البلاغة: الخطبة 53.
2- نهج البلاغة: الحکمة 468.
3- نهج البلاغة: الحکمة 447.

المحرومون

المحرومون

قال (علیه السلام):

«ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِی الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِینَ لَا حِیلَةَ لَهُمْ، مِنَ الْمَسَاکِینِ وَالْمُحْتَاجِینَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَی وَالزَّمْنَی، فَإِنَّ فِی هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظِ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَکَ مِنْ حَقِّهِ فِیهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَیْتِ مَالِکِ وَقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِی الْإِسْلَامِ فِی کُلِّ بَلَدٍ، فَإِنَّ لِلْأَقْصَی مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِی لِلْأَدْنَی وَکُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِیتَ حَقَّهُ، وَلَا یَشْغَلَنَّکَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّکَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْیِیعِکَ التَّافِهَ لِإِحْکَامِکَ الْکَثِیرَ الْمُهِمَّ، فَلَا تُشْخِصْ هَمَّکَ عَنْهُمْ، وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّکَ لَهُمْ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا یَصِلُ إِلَیْکَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُیُونُ وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لِأُولَئِکَ ثِقَتَکَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْیَةِ وَالتَّوَاضُعِ، فَلْیَرْفَعْ إِلَیْکَ أُمُورَهُمْ ثُمَّ اعْمَلْ فِیهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَی اللَّهِ یَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَیْنِ الرَّعِیَّةِ أَحْوَجُ إِلَی الْإِنْصَافِ مِنْ غَیْرِهِمْ، وَکُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی اللَّهِ فِی تَأْدِیَةِ حَقِّهِ إِلَیْهِ».

«وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْیُتْمِ وَذَوِی الرِّقَّةِ فِی السِّنِّ مِمَّنْ لَا حِیلَةَ لَهُ وَلَا یَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذَلِکَ عَلَی الْوُلَاةِ ثَقِیلٌ وَالْحَقُّ کُلُّهُ ثَقِیلٌ، وَقَدْ یُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَی أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ».

«وَاجْعَلْ لِذَوِی الْحَاجَاتِ مِنْکَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِیهِ شَخْصَکَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً، فَتَتَوَاضَعُ فِیهِ لِلَّهِ الَّذِی خَلَقَکَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَکَ وَأَعْوَانَکَ مِنْ أَحْرَاسِکَ وَشُرَطِکَ حَتَّی یُکَلِّمَکَ مُتَکَلِّمُهُمْ غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ، فَإِنِّی سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) یَقُولُ فِی غَیْرِ مَوْطِنٍ: لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا یُؤْخَذُ لِلضَّعِیفِ

ص:337

فِیهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِیِّ غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ».

«ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِیَّ، وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّیقَ وَالْأَنَفَ، یَبْسُطِ اللَّهُ عَلَیْکَ بِذَلِکَ أَکْنَافَ رَحْمَتِهِ، وَیُوجِبْ لَکَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَیْتَ هَنِیئاً، وَامْنَعْ فِی إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ»((1)).

«وظلم الضعیف أفحش الظلم»((2)).

«وَإِنَّ لَکَ فِی هَذِهِ الصَّدَقَةِ نَصِیباً مَفْرُوضاً وَحَقّاً مَعْلُوماً، وَشُرَکَاءَ أَهْلَ مَسْکَنَةٍ، وَضُعَفَاءَ ذَوِی فَاقَةٍ، وَإِنَّا مُوَفُّوکَ حَقَّکَ، فَوَفِّهِمْ حُقُوقَهُمْ، وَإِلَّا تَفْعَلْ فَإِنَّکَ مِنْ أَکْثَرِ النَّاسِ خُصُوماً یَوْمَ الْقِیَامَةِ، وَبُؤْسَی لِمَنْ خَصْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاکِینُ وَالسَّائِلُونَ وَالْمَدْفُوعُونَ وَالْغَارِمُونَ وَابْنُ السَّبِیلِ، وَمَنِ اسْتَهَانَ بِالْأَمَانَةِ وَرَتَعَ فِی الْخِیَانَةِ وَلَمْ یُنَزِّهْ نَفْسَهُ وَدِینَهُ عَنْهَا فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ الذُّلَّ وَالْخِزْیَ فِی الدُّنْیَا، وَهُوَ فِی الْآخِرَةِ أَذَلُّ وَأَخْزَی، وَإِنَّ أَعْظَمَ الْخِیَانَةِ خِیَانَةُ الْأُمَّةِ، وَأَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَام»((3)).

«فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَکَ، وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَکَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَکَ، وَآسِ بَیْنَهُمْ فِی اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ، حَتَّی لَا یَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِی حَیْفِکَ لَهُمْ، وَلَا یَیْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِکَ عَلَیْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَی یُسَائِلُکُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِیرَةِ مِنْ أَعْمَالِکُمْ وَالْکَبِیرَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَالْمَسْتُورَةِ فَإِنْ یُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ وَإِنْ یَعْفُ فَهُوَ أَکْرَمُ»((4)).

ص:338


1- نهج البلاغة: الکتاب 53.
2- نهج البلاغة: الکتاب 31.
3- نهج البلاغة: الکتاب 26.
4- نهج البلاغة: الکتاب 27.

«وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَیْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَأَیْتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الْأَزَلِّ دَامِیَةَ الْمِعْزَی الْکَسِیرَةَ، فَحَمَلْتَهُ إِلَی الْحِجَازِ رَحِیبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ غَیْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ، کَأَنَّکَ لَا أَبَا لِغَیْرِکَ حَدَرْتَ إِلَی أَهْلِکَ تُرَاثَکَ مِنْ أَبِیکَ وَأُمِّکَ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ، أَوَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ، أَیُّهَا الْمَعْدُودُ کَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِی الْأَلْبَابِ، کَیْفَ تُسِیغُ شَرَاباً وَطَعَاماً وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّکَ تَأْکُلُ حَرَاماً وَتَشْرَبُ حَرَاماً، وَتَبْتَاعُ الْإِمَاءَ وَتَنْکِحُ النِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ الْیَتَامَی وَالْمَسَاکِینِ وَالْمُؤْمِنِینَ وَالْمُجَاهِدِینَ الَّذِینَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَیْهِمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ، وَأَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ الْبِلَادَ»((1)).

«اللَّهَ اللَّهَ فِی الْأَیْتَامِ، فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، وَلَا یَضِیعُوا بِحَضْرَتِکُمْ»((2)).

«أَمَّا بَعْدُ، یَا ابْنَ حُنَیْفٍ فَقَدْ بَلَغَنِی أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْیَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاکَ إِلَی مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَیْهَا، تُسْتَطَابُ لَکَ الْأَلْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَیْکَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّکَ تُجِیبُ إِلَی طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وَغَنِیُّهُمْ مَدْعُوٌّ، فَانْظُرْ إِلَی مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَیْکَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَیْقَنْتَ بِطِیبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْه» ((3)).

ص:339


1- نهج البلاغة: الکتاب 41.
2- نهج البلاغة: الکتاب 47.
3- نهج البلاغة: الکتاب 45.

بیت المال

بیت المال

کان (علیه السلام) یکتب إلی عماله علی الخراج:

«مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِیٍّ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ إِلَی أَصْحَابِ الْخَرَاجِ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ لَمْ یَحْذَرْ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَیْهِ لَمْ یُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ مَا یُحْرِزُهَا، وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا کُلِّفْتُمْ بِهِ یَسِیرٌ، وَأَنَّ ثَوَابَهُ کَثِیرٌ، وَلَوْ لَمْ یَکُنْ فِیمَا نَهَی اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْبَغْیِ وَالْعُدْوَانِ عِقَابٌ یُخَافُ، لَکَانَ فِی ثَوَابِ اجْتِنَابِهِ مَا لَا عُذْرَ فِی تَرْکِ طَلَبِهِ، فَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِکُمْ، وَاصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ، فَإِنَّکُمْ خُزَّانُ الرَّعِیَّةِ وَوُکَلَاءُ الْأُمَّةِ وَسُفَرَاءُ الْأَئِمَّةِ، وَلَا تُحْشِمُوا أَحَداً عَنْ حَاجَتِهِ، وَلَا تَحْبِسُوهُ عَنْ طَلِبَتِهِ، وَلَا تَبِیعُنَّ لِلنَّاسِ فِی الْخَرَاجِ کِسْوَةَ شِتَاءٍ وَلَا صَیْفٍ، وَلَا دَابَّةً یَعْتَمِلُونَ عَلَیْهَا، وَلَا عَبْداً، وَلَا تَضْرِبُنَّ أَحَداً سَوْطاً لِمَکَانِ دِرْهَمٍ، وَلَا تَمَسُّنَّ مَالَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مُصَلٍّ وَلَا مُعَاهَدٍ، إِلَّا أَنْ تَجِدُوا فَرَساً أَوْ سِلَاحاً یُعْدَی بِهِ عَلَی أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا یَنْبَغِی لِلْمُسْلِمِ أَنْ یَدَعَ ذَلِکَ فِی أَیْدِی أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ فَیَکُونَ شَوْکَةً عَلَیْهِ، وَلَا تَدَّخِرُوا أَنْفُسَکُمْ نَصِیحَةً، وَلَا الْجُنْدَ حُسْنَ سِیرَةٍ، وَلَا الرَّعِیَّةَ مَعُونَةً، وَلَا دِینَ اللَّهِ قُوَّةً، وَأَبْلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَیْکُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اصْطَنَعَ عِنْدَنَا وَعِنْدَکُمْ أَنْ نَشْکُرَهُ بِجُهْدِنَا، وَأَنْ نَنْصُرَهُ بِمَا بَلَغَتْ قُوَّتُنَا، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِیِّ الْعَظِیمِ»((1)).

ص:340


1- نهج البلاغة: الکتاب 51.

((إلی عامل الصدقات))

((إلی عامل الصدقات))

کان (علیه السلام) یکتبها لمن یستعمله علی الصدقات:

«انْطَلِقْ عَلَی تَقْوَی اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِیکَ لَهُ، وَلَا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً، وَلَا تَجْتَازَنَّ عَلَیْهِ کَارِهاً، وَلَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَکْثَرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِی مَالِهِ، فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَی الْحَیِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَیْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْیَاتَهُمْ، ثُمَّ امْضِ إِلَیْهِمْ بِالسَّکِینَةِ وَالْوَقَارِ، حَتَّی تَقُومَ بَیْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَیْهِمْ، وَلَا تُخْدِجْ بِالتَّحِیَّةِ لَهُمْ ثُمَّ تَقُولَ: عِبَادَ اللَّهِ أَرْسَلَنِی إِلَیْکُمْ وَلِیُّ اللَّهِ وَخَلِیفَتُهُ، لِآخُذَ مِنْکُمْ حَقَّ اللَّهِ فِی أَمْوَالِکُمْ، فَهَلْ لِلَّهِ فِی أَمْوَالِکُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَی وَلِیِّهِ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَا، فَلَا تُرَاجِعْهُ، وَإِنْ أَنْعَمَ لَکَ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَیْرِ أَنْ تُخِیفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ، فَخُذْ مَا أَعْطَاکَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَإِنْ کَانَ لَهُ مَاشِیَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلَا تَدْخُلْهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ أَکْثَرَهَا لَهُ، فَإِذَا أَتَیْتَهَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَیْهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَیْهِ وَلَا عَنِیفٍ بِهِ، وَلَا تُنَفِّرَنَّ بَهِیمَةً، وَلَا تُفْزِعَنَّهَا، وَلَا تَسُوأَنَّ صَاحِبَهَا فِیهَا، وَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَیْنِ ثُمَّ خَیِّرْهُ، فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ، ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِیَ صَدْعَیْنِ ثُمَّ خَیِّرْهُ، فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ، فَلَا تَزَالُ کَذَلِکَ حَتَّی یَبْقَی مَا فِیهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ فِی مَالِهِ، فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ، فَإِنِ اسْتَقَالَکَ فَأَقِلْهُ ثُمَّ اخْلِطْهُمَا ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِی صَنَعْتَ أَوَّلًا، حَتَّی تَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ فِی مَالِهِ.

وَلَا تَأْخُذَنَّ عَوْداً وَلَا هَرِمَةً وَلَا مَکْسُورَةً وَلَا مَهْلُوسَةً وَلَا ذَاتَ عَوَارٍ، وَلَا تَأْمَنَنَّ عَلَیْهَا إِلَّا مَنْ تَثِقُ بِدِینِهِ، رَافِقاً بِمَالِ الْمُسْلِمِینَ حَتَّی یُوَصِّلَهُ إِلَی وَلِیِّهِمْ فَیَقْسِمَهُ بَیْنَهُمْ، وَلَا تُوَکِّلْ بِهَا إِلَّا نَاصِحاً شَفِیقاً وَأَمِیناً حَفِیظاً غَیْرَ مُعْنِفٍ وَلَا مُجْحِفٍ وَلَا مُلْغِبٍ وَلَا مُتْعِبٍ.

ثُمَّ احْدُرْ إِلَیْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَکَ، نُصَیِّرْهُ حَیْثُ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِینُکَ

ص:341

فَأَوْعِزْ إِلَیْهِ أَلَّا یَحُولَ بَیْنَ نَاقَةٍ وَبَیْنَ فَصِیلِهَا، وَلَا یَمْصُرَ لَبَنَهَا فَیَضُرَّ ذَلِکَ بِوَلَدِهَا، وَلَا یَجْهَدَنَّهَا رُکُوباً، وَلْیَعْدِلْ بَیْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِی ذَلِکَ وَبَیْنَهَا، وَلْیُرَفِّهْ عَلَی اللَّاغِبِ، وَلْیَسْتَأْنِ بِالنَّقِبِ وَالظَّالِعِ، وَلْیُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ، وَلَا یَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الْأَرْضِ إِلَی جَوَادِّ الطُّرُقِ، وَلْیُرَوِّحْهَا فِی السَّاعَاتِ، وَلْیُمْهِلْهَا عِنْدَ النِّطَافِ وَالْأَعْشَابِ حَتَّی تَأْتِیَنَا بِإِذْنِ اللَّهِ بُدَّناً مُنْقِیَاتٍ غَیْرَ مُتْعَبَاتٍ وَلَا مَجْهُودَاتٍ، لِنَقْسِمَهَا عَلَی کِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِیِّهِ (صلی الله علیه وآله) فَإِنَّ ذَلِکَ أَعْظَمُ لِأَجْرِکَ وَأَقْرَبُ لِرُشْدِکَ إِنْ شَاءَ اللَّه» ((1)).

((التسویة فی العطاء))

((التسویة فی العطاء))

قاله (علیه السلام) لما عوتب علی التسویة فی العطاء:

«أَتَأْمُرُونِّی أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِیمَنْ وُلِّیتُ عَلَیْهِ، وَاللَّهِ لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِیرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِی السَّمَاءِ نَجْماً، لَوْ کَانَ الْمَالُ لِی لَسَوَّیْتُ بَیْنَهُمْ، فَکَیْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ، أَلَا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِی غَیْرِ حَقِّهِ تَبْذِیرٌ وَإِسْرَافٌ، وَهُوَ یَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِی الدُّنْیَا وَیَضَعُهُ فِی الْآخِرَةِ، وَیُکْرِمُهُ فِی النَّاسِ وَیُهِینُهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَمْ یَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِی غَیْرِ حَقِّهِ، وَلَا عِنْدَ غَیْرِ أَهْلِهِ إِلَّا حَرَمَهُ اللَّهُ شُکْرَهُمْ، وَکَانَ لِغَیْرِهِ وُدُّهُمْ، فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ یَوْماً فَاحْتَاجَ إِلَی مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِیلٍ وَأَلْأَمُ خَدِینٍ»((2)).

((المال فیء المسلمین))

((المال فیء المسلمین))

ومن کلام له (علیه السلام) کلم به عبد الله بن زمعة وهو من شیعته، وذلک أنه قدم علیه فی خلافته یطلب منه مالاً،

ص:342


1- نهج البلاغة: الکتاب 25.
2- الوسائل: ج11 ص80 الباب 39 من جهاد العدو ح2.

فقال (علیه السلام): « إِنَّ هَذَا الْمَالَ لَیْسَ لِی وَلَا لَکَ، وَإِنَّمَا هُوَ فَیْ ءٌ لِلْمُسْلِمِینَ، وَجَلْبُ أَسْیَافِهِمْ، فَإِنْ شَرِکْتَهُمْ فِی حَرْبِهِمْ کَانَ لَکَ مِثْلُ حَظِّهِمْ، وَإِلَّا فَجَنَاةُ أَیْدِیهِمْ لَا تَکُونُ لِغَیْرِ أَفْوَاهِهِمْ»((1)).

«وَاللَّهِ لَأَنْ أَبِیتَ عَلَی حَسَکِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِی الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ أَنْ أَلْقَی اللَّهَ وَرَسُولَهُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَیْ ءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَکَیْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ یُسْرِعُ إِلَی الْبِلَی قُفُولُهَا، وَیَطُولُ فِی الثَّرَی حُلُولُهَا»((2)).

«وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَیْتُ عَقِیلًا وَقَدْ أَمْلَقَ حَتَّی اسْتَمَاحَنِی مِنْ بُرِّکُمْ صَاعاً، وَرَأَیْتُ صِبْیَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ، کَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِی مُؤَکِّداً، وَکَرَّرَ عَلَیَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَیْتُ إِلَیْهِ سَمْعِی، فَظَنَّ أَنِّی أَبِیعُهُ دِینِی وَأَتَّبِعُ قِیَادَهُ مُفَارِقاً طَرِیقَتِی، فَأَحْمَیْتُ لَهُ حَدِیدَةً ثُمَّ أَدْنَیْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِیَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِیجَ ذِی دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَکَادَ أَنْ یَحْتَرِقَ مِنْ مِیسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَکِلَتْکَ الثَّوَاکِلُ یَا عَقِیلُ، أَتَئِنُّ مِنْ حَدِیدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِی إِلَی نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ، أَتَئِنُّ مِنَ الْأَذَی، وَلَا أَئِنُّ مِنْ لَظَی»((3)).

«وَلَا یَنْبَغِی لِی أَنْ أَدَعَ الْجُنْدَ وَالْمِصْرَ وَبَیْتَ الْمَالِ وَجِبَایَةَ الْأَرْضِ وَالْقَضَاءَ بَیْنَ الْمُسْلِمِینَ وَالنَّظَرَ فِی حُقُوقِ الْمُطَالِبِین»((4)).

ص:343


1- نهج البلاغة: الخطبة 233.
2- نهج البلاغة: الخطبة 224.
3- نهج البلاغة: الخطبة 224.
4- نهج البلاغة: الخطبة 119.

((إلی عماله وولاته))

((إلی عماله وولاته))

کتب (علیه السلام) إلی بعض العمال:

«وَإِنِّی أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً صَادِقاً لَئِنْ بَلَغَنِی أَنَّکَ خُنْتَ مِنْ فَیْ ءِ الْمُسْلِمِینَ شَیْئاً صَغِیراً أَوْ کَبِیراً، لَأَشُدَّنَّ عَلَیْکَ شَدَّةً تَدَعُکَ قَلِیلَ الْوَفْرِ، ثَقِیلَ الظَّهْرِ، ضَئِیلَ الْأَمْرِ، وَالسَّلَامُ»((1)).

وصیته (علیه السلام) إلی بعض عماله:

«فَدَعِ الْإِسْرَافَ مُقْتَصِداً، وَاذْکُرْ فِی الْیَوْمِ غَداً، وَأَمْسِکْ مِنَ الْمَالِ بِقَدْرِ ضَرُورَتِکَ، وَقَدِّمِ الْفَضْلَ لِیَوْمِ حَاجَتِکَ، أَ تَرْجُو أَنْ یُعْطِیَکَ اللَّهُ أَجْرَ الْمُتَوَاضِعِینَ وَأَنْتَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُتَکَبِّرِینَ، وَتَطْمَعُ وَأَنْتَ مُتَمَرِّغٌ فِی النَّعِیمِ تَمْنَعُهُ الضَّعِیفَ وَالْأَرْمَلَةَ أَنْ یُوجِبَ لَکَ ثَوَابَ الْمُتَصَدِّقِینَ، وَإِنَّمَا الْمَرْءُ مَجْزِیٌّ بِمَا أَسْلَفَ، وَقَادِمٌ عَلَی مَا قَدَّمَ، وَالسَّلَام»((2)).

ومن عهد له (علیه السلام) إلی بعض عماله وقد بعثه علی الصدقة:

«أَمَرَهُ بِتَقْوَی اللَّهِ فِی سَرَائِرِ أَمْرِهِ وَخَفِیَّاتِ عَمَلِهِ، حَیْثُ لَا شَهِیدَ غَیْرُهُ، وَلَا وَکِیلَ دُونَهُ، وَأَمَرَهُ أَلَّا یَعْمَلَ بِشَیْ ءٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فِیمَا ظَهَرَ فَیُخَالِفَ إِلَی غَیْرِهِ فِیمَا أَسَرَّ، وَمَنْ لَمْ یَخْتَلِفْ سِرُّهُ وَعَلَانِیَتُهُ وَفِعْلُهُ وَمَقَالَتُهُ فَقَدْ أَدَّی الْأَمَانَةَ، وَأَخْلَصَ الْعِبَادَةَ.

ص:344


1- نهج البلاغة: الکتاب 20.
2- نهج البلاغة: الکتاب 21.

وَأَمَرَهُ أَلَّا یَجْبَهَهُمْ وَلَا یَعْضَهَهُمْ، وَلَا یَرْغَبَ عَنْهُمْ تَفَضُّلًا بِالْإِمَارَةِ عَلَیْهِمْ، فَإِنَّهُمُ الْإِخْوَانُ فِی الدِّینِ، وَالْأَعْوَانُ عَلَی اسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ.

وَإِنَّ لَکَ فِی هَذِهِ الصَّدَقَةِ نَصِیباً مَفْرُوضاً وَحَقّاً مَعْلُوماً، وَشُرَکَاءَ أَهْلَ مَسْکَنَةٍ وَضُعَفَاءَ ذَوِی فَاقَةٍ، وَإِنَّا مُوَفُّوکَ حَقَّکَ فَوَفِّهِمْ حُقُوقَهُمْ، وَإِلَّا تَفْعَلْ فَإِنَّکَ مِنْ أَکْثَرِ النَّاسِ خُصُوماً یَوْمَ الْقِیَامَةِ.

وَبُؤْسَی لِمَنْ خَصْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاکِینُ وَالسَّائِلُونَ وَالْمَدْفُوعُونَ وَالْغَارِمُونَ وَابْنُ السَّبِیلِ وَمَنِ اسْتَهَانَ بِالْأَمَانَةِ وَرَتَعَ فِی الْخِیَانَةِ وَلَمْ یُنَزِّهْ نَفْسَهُ وَدِینَهُ عَنْهَا، فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ الذُّلَّ وَالْخِزْیَ فِی الدُّنْیَا، وَهُوَ فِی الْآخِرَةِ أَذَلُّ وَأَخْزَی، وَإِنَّ أَعْظَمَ الْخِیَانَةِ خِیَانَةُ الْأُمَّةِ، وَأَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَام»((1)).

«أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِی عَنْکَ أَمْرٌ إِنْ کُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّکَ، وَعَصَیْتَ إِمَامَکَ وَأَخْزَیْتَ أَمَانَتَکَ، بَلَغَنِی أَنَّکَ جَرَّدْتَ الْأَرْضَ فَأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَیْکَ وَأَکَلْتَ مَا تَحْتَ یَدَیْکَ، فَارْفَعْ إِلَیَّ حِسَابَکَ، وَاعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ، وَالسَّلَامُ».

«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّی کُنْتُ أَشْرَکْتُکَ فِی أَمَانَتِی، وَجَعَلْتُکَ شِعَارِی وَبِطَانَتِی، وَلَمْ یَکُنْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِی أَوْثَقَ مِنْکَ فِی نَفْسِی، لِمُوَاسَاتِی وَمُوَازَرَتِی وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَیَّ، فَلَمَّا رَأَیْتَ الزَّمَانَ عَلَی ابْنِ عَمِّکَ قَدْ کَلِبَ، وَالْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ، وَأَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِیَتْ، وَهَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ فَنَکَتْ وَشَغَرَتْ، قَلَبْتَ لِابْنِ عَمِّکَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ، فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِینَ، وَخَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِینَ، وَخُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِینَ، فَلَا ابْنَ عَمِّکَ آسَیْتَ، وَلَا الْأَمَانَةَ أَدَّیْتَ.

وَکَأَنَّکَ لَمْ تَکُنِ اللَّهَ تُرِیدُ بِجِهَادِکَ، وَکَأَنَّکَ لَمْ تَکُنْ عَلَی بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّکَ،

ص:345


1- نهج البلاغة: الکتاب 26.

وَکَأَنَّکَ إِنَّمَا کُنْتَ تَکِیدُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَنْ دُنْیَاهُمْ، وَتَنْوِی غِرَّتَهُمْ عَنْ فَیْئِهِمْ، فَلَمَّا أَمْکَنَتْکَ الشِّدَّةُ فِی خِیَانَةِ الْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ الْکَرَّةَ، وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ، وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَیْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَأَیْتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الْأَزَلِّ دَامِیَةَ الْمِعْزَی الْکَسِیرَةَ، فَحَمَلْتَهُ إِلَی الْحِجَازِ رَحِیبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ، غَیْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ، کَأَنَّکَ لَا أَبَا لِغَیْرِکَ، حَدَرْتَ إِلَی أَهْلِکَ تُرَاثَکَ مِنْ أَبِیکَ وَأُمِّکَ.

فَسُبْحَانَ اللَّهِ، أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ، أَوَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ، أَیُّهَا الْمَعْدُودُ کَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِی الْأَلْبَابِ، کَیْفَ تُسِیغُ شَرَاباً وَطَعَاماً وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّکَ تَأْکُلُ حَرَاماً وَتَشْرَبُ حَرَاماً، وَتَبْتَاعُ الْإِمَاءَ وَتَنْکِحُ النِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ الْیَتَامَی وَالْمَسَاکِینِ وَالْمُؤْمِنِینَ وَالْمُجَاهِدِینَ الَّذِینَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَیْهِمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ، وَأَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ الْبِلَادَ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدْ إِلَی هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ، فَإِنَّکَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْکَنَنِی اللَّهُ مِنْکَ لَأُعْذِرَنَّ إِلَی اللَّهِ فِیکَ، وَلَأَضْرِبَنَّکَ بِسَیْفِی الَّذِی مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلَّا دَخَلَ النَّارَ.

وَ وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَیْنَ فَعَلَا مِثْلَ الَّذِی فَعَلْتَ مَا کَانَتْ لَهُمَا عِنْدِی هَوَادَةٌ، وَ لَا ظَفِرَا مِنِّی بِإِرَادَةٍ حَتَّی آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا، وَأُزِیحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ مَا یَسُرُّنِی أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ لِی أَتْرُکُهُ مِیرَاثاً لِمَنْ بَعْدِی، فَضَحِّ رُوَیْداً فَکَأَنَّکَ قَدْ بَلَغْتَ الْمَدَی وَدُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَی، وَعُرِضَتْ عَلَیْکَ أَعْمَالُکَ بِالْمَحَلِّ الَّذِی یُنَادِی الظَّالِمُ فِیهِ بِالْحَسْرَةِ وَیَتَمَنَّی الْمُضَیِّعُ فِیهِ الرَّجْعَةَ {وَلاتَ حِینَ مَناصٍ}((1)) »((2)).

ص:346


1- سورة ص: 38.
2- نهج البلاغة: الکتاب 41.

وکتب (علیه السلام) إلی مصقلة وهو عامله علی أردشیر خرة:

«بَلَغَنِی عَنْکَ أَمْرٌ إِنْ کُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلَهَکَ وَعَصَیْتَ إِمَامَکَ، أَنَّکَ تَقْسِمُ فَیْ ءَ الْمُسْلِمِینَ الَّذِی حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَخُیُولُهُمْ وَأُرِیقَتْ عَلَیْهِ دِمَاؤُهُمْ فِیمَنِ اعْتَامَکَ مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِکَ، فَوَ الَّذِی فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَئِنْ کَانَ ذَلِکَ حَقّاً لَتَجِدَنَّ لَکَ عَلَیَّ هَوَاناً، وَلَتَخِفَّنَّ عِنْدِی مِیزَاناً، فَلَا تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّکَ، وَلَا تُصْلِحْ دُنْیَاکَ بِمَحْقِ دِینِکَ، فَتَکُونَ مِنَ الْأَخْسَرِینَ أَعْمَالًا، أَلَا وَإِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَکَ وَقِبَلَنَا مِنَ الْمُسْلِمِینَ فِی قِسْمَةِ هَذَا الْفَیْ ءِ سَوَاءٌ یَرِدُونَ عِنْدِی عَلَیْهِ وَیَصْدُرُونَ عَنْهُ»((1)).

«وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا یُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِی صَلَاحِهِ وَصَلَاحِهِمْ صَلَاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلَا صَلَاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلَّا بِهِمْ، لِأَنَّ النَّاسَ کُلَّهُمْ عِیَالٌ عَلَی الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ.

وَلْیَکُنْ نَظَرُکَ فِی عِمَارَةِ الْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِکَ فِی اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ، لِأَنَّ ذَلِکَ لَا یُدْرَکُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَیْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ وَأَهْلَکَ الْعِبَادَ، وَلَمْ یَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِیلًا، فَإِنْ شَکَوْا ثِقَلًا أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ یَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ، وَلَا یَثْقُلَنَّ عَلَیْکَ شَیْ ءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَئُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ یَعُودُونَ بِهِ عَلَیْکَ فِی عِمَارَةِ بِلَادِکَ وَتَزْیِینِ وِلَایَتِکَ، مَعَ اسْتِجْلَابِکَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ، وَتَبَجُّحِکَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِیهِمْ، مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ

ص:347


1- انظر نهج البلاغة: الکتاب 43 والخطبة 101.

مِنْ إِجْمَامِکَ لَهُمْ وَالثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِکَ عَلَیْهِمْ وَرِفْقِکَ بِهِمْ، فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الْأُمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِیهِ عَلَیْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَیِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ، فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ، وَإِنَّمَا یُؤْتَی خَرَابُ الْأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا یُعْوِزُ أَهْلُهَا لِإِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلَاةِ عَلَی الْجَمْعِ وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ»((1)).

وکتب (علیه السلام) إلی قثم بن العباس وهو عامله علی مکة:

«وَانْظُرْ إِلَی مَا اجْتَمَعَ عِنْدَکَ مِنْ مَالِ اللَّهِ فَاصْرِفْهُ إِلَی مَنْ قِبَلَکَ مِنْ ذَوِی عِیَالِ مَجَاعَةِ مُصِیباً بِهِ مَوَاضِعَ الْفَاقَةِ وَالْخَلَّاتِ وَمَا فَضَلَ عَنْ ذَلِکَ فَاحْمِلْهُ إِلَیْنَا لِنَقْسِمَهُ فِیمَنْ قِبَلَنَا»((2)).

وروی أنه (علیه السلام) رفع إلیه رجلان سرقا من مال الله، أحدهما عبد من مال الله، والآخر من عروض الناس، فقال (علیه السلام): «أَمَّا هَذَا فَهُوَ مِنْ مَالِ اللَّهِ، وَلَا حَدَّ عَلَیْهِ، مَالُ اللَّهِ أَکَلَ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَأَمَّا الْآخَرُ فَعَلَیْهِ الْحَدُّ الشَّدِیدُ فَقَطَعَ یَدَهُ»((3)).

وکتب (علیه السلام) إلی عامل له:

«وَإِنَّ عَمَلَکَ لَیْسَ لَکَ بِطُعْمَةٍ، وَلَکِنَّهُ فِی عُنُقِکَ أَمَانَةٌ، وَأَنْتَ مُسْتَرْعًی لِمَنْ فَوْقَکَ،

ص:348


1- نهج البلاغة: الکتاب 53.
2- نهج البلاغة: الکتاب 67.
3- نهج البلاغة: الحکمة 271.

لَیْسَ لَکَ أَنْ تَفْتَاتَ فِی رَعِیَّةٍ، وَلَا تُخَاطِرَ إِلَّا بِوَثِیقَةٍ، وَفِی یَدَیْکَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ حَتَّی تُسَلِّمَهُ إِلَیَّ، وَلَعَلِّی أَلَّا أَکُونَ شَرَّ وُلَاتِکَ لَکَ، وَالسَّلَام» ((1)).

ص:349


1- نهج البلاغة: الکتاب 5.

حکم الأقلیات فی البلاد الإسلامیة

حکم الأقلیات فی البلاد الإسلامیة

(مسألة 51): قد تقدمت فی بعض مسائل الکتاب إلماعات إلی أحکام الأقلیات القاطنین فی بلاد الإسلام، وقد قلنا إن الأقلیات غیر الإسلامیة محترمون نفساً ومالاً وعرضاً إذا وفوا بشروط الذمة، مما ذکرناها فی کتاب (الفقه: الجهاد) حیث إن الإسلام لا یتعرض لهم بسوء ویدافع عنهم.

فالإسلام لا یجبر أحداً علی الدخول فی الإسلام، ولذا قال سبحانه:((لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ))((1)).

وقال سبحانه: ﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَیْکَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصیرٌ بِالْعِبادِ﴾((2))، فلیس شأن الرسول (صلی الله علیه وآله) مع أهل الکتاب ومع المشرکین إلاّ الدعوة.

وقال سبحانه: ﴿ادْعُ إِلی سَبیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتی هِیَ أَحْسَنُ﴾((3)).

ص:350


1- سورة البقرة: 256.
2- سورة آل عمران: 20.
3- سورة النحل: 125.

وقال تعالی: ﴿وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْکِتابِ إلاّ بِالَّتی هِیَ أَحْسَنُ إلاّ الَّذینَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذی أُنْزِلَ إِلَیْنا وَأُنْزِلَ إِلَیْکُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُکُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾((1)).

وقال سبحانه: ﴿وَإذا قیلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَیْنا عَلَیْهِ آباءَنا أَوَ لَوْ کانَ آباؤُهُمْ لا یَعْقِلُونَ شَیْئاً وَلا یَهْتَدُونَ﴾((2)).

وعلیه فهم أحرار فی قبول الإسلام وعدم قبوله، وإن کان عدم قبولهم یؤدی بهم إلی مشاکل الدنیا والآخرة،((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِکْری فَإِنَّ لَهُ مَعیشَةً ضَنْکاً وَنَحْشُرُهُ یَوْمَ الْقِیامَةِ أَعْمیA��))((3)).

فإذا لم یقبلوا ترکوا وشأنهم، وإذا کان الإسلام یحارب الحکومات الکافرة لأجل إعطاء الحریة للأمم، حیث إن حکومة الکفر عبارة أخری عن الاستعباد، فإن الإسلام ﴿یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتی کانَتْ عَلَیْهِمْ﴾((4)) علی الشروط الإسلامیة.

کما أمر الإسلام بمداراة الکافرین غیر المحاربین، فقد قال سبحانه: ﴿لا یَنْهاکُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذینَ لَمْ یُقاتِلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَلَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ أنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَیْهِمْ إنّ اللَّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطینَ﴾((5)).

وإذا قبلوا الإسلام کان لهم ما لغیرهم من المسلمین، فإن المسلمین کأسنان المشط لا فرق بین جدیدهم وقدیمهم، ولغاتهم وأقوامهم، وإنما أکرمهم عند الله أتقاهم.

وتفصیل الکلام فی ذلک موکول إلی الکتب الفقهیة والتاریخیة والتفسیریة

ص:351


1- سورة العنکبوت: 46.
2- سورة البقرة: 170.
3- سورة البقرة: 170.
4- سورة الأعراف: 157.
5- سورة الممتحنة: 8.

حیث تبین الأحکام، وتبین سیرة الرسول (صلی الله علیه وآله) وعلی (علیه السلام) بالنسبة إلی الأقلیات.

وهذا آخر ما أردنا إیراده فی هذا الکتاب، وأسأله سبحانه أن یتقبله بقبول حسن ویجعله مقدمة:

1: لتطبیق حکم الإسلام علی ألف ملیون مسلم فی ظل حکومة إسلامیة واحدة.

2: ولهدایة غیر المسلمین إلی الإسلام.

إنه لما یشاء قدیر، وهو الموفق المستعان.

سبحان ربک رب العزة عما یصفون، وسلام علی المرسلین، والحمد لله رب العالمین، وصلی الله علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.

محمد بن المهدی الحسینی الشیرازی

ص:352

المحتویات

المحتویات

الدولة والقوی الثلاث. 7 [1]

القوة التشریعیة المقننة 7 [2]

وحدة القوة المقننة أم تعددها 8 [3]

التفکیک بین القوة التشریعیة والقوة التنفیذیة 10 [4]

الإسلام والقوة المشرعة 13 [5]

وجود اللجان المختلفة فی مجلس الأمة 14 [6]

الأقلیات. 14 [7]

القوة التنفیذیة وأنواع الحکومات. 16 [8]

الملکیة الوراثیة 16 [9]

الملکیة الرمزیة 18 [10]

انتخاب القوة التنفیذیة 18 [11]

تعدد الرئیس التنفیذی. 19 [12]

من علائم الحکم الدکتاتوری. 20 [13]

القوة التنفیذیة والانقلاب العسکری. 20 [14]

الأقرب إلی النظرة الإسلامیة 20 [15]

کیف تتوفر الحریة الحقیقیة 21 [16]

القوة القضائیة 23 [17]

بساطة القضاء فی الإسلام 23 [18]

مهام القوی الثلاث. 24 [19]

کیفیة نصب القضاة 26 [20]

بین القوة القضائیة والقوة التنفیذیة 28 [21]

مهمات الدولة 30 [22]

الدولة والقانون. 30 [23]

بین روح القانون وصورته 31 [24]

الدولة وحقوق الإنسان. 32 [25]

ص:353

الأنظمة الغربیة تسحق حقوق الإنسان. 33 [1]

أخطاء الدیمقراطیة الغربیة 34 [2]

الدولة بین العدل والإحسان. 37 [3]

توفیر الرفاهیة للأمة 39 [4]

الدولة وحسن التدبیر. 41 [5]

الدولة ومراعاة النظام 43 [6]

کیف نضمن استقلال القوة التشریعیة؟ 45 [7]

تدخل التنفیذیة فی التشریعیة 45 [8]

استقلالیة التشریعیة 46 [9]

کیفیة تقدیم اللوائح. 47 [10]

تساؤلات فی حل الدولة لمجلس الأمة 49 [11]

حدود تدخل التشریعیة فی القوة التنفیذیة 54 [12]

مسؤولیات التنفیذیة قبال التشریعیة 56 [13]

بحوث فی الدیمقراطیة 58 [14]

الدیمقراطیة أفضل أنواع الحکم 58 [15]

العالم الثالث ودول الاستبداد 60 [16]

لکی لا تکون الدیمقراطیة عقیمة 60 [17]

معایب الحکم الدیمقراطی. 61 [18]

الصراع بین القوة والحقیقة 63 [19]

بین أثینا وإسبارطة 64 [20]

زوال قوة الباطل. 67 [21]

البیئة الصالحة ضرورة لاستمرار الدیمقراطیة 68 [22]

الاستشاریة ضمانة تطبیق القانون. 69 [23]

الدکتاتوریة الداخلیة 70 [24]

الدکتاتوریة الخارجیة 71 [25]

الدکتاتوریة والاستعمار. 72 [26]

الحریة بحاجة إلی ضوابط. 73 [27]

أوعیة الحریة 75 [28]

القومیة أم الکفاءة 78 [29]

ص:354

کیف یکون الحکم إلهیاً 81 [1]

میزات الحکم الإلهی علی القانون البشری. 82 [2]

کیف سیطر الغرب علی بلادنا 82 [3]

الحروب الفردیة والحروب الهدفیة 84 [4]

الحروب الإسلامیة کانت دفاعیة 85 [5]

الدولة وتنظیم الحیاة الاقتصادیة 88 [6]

الإسلام والمشکلة الاقتصادیة 90 [7]

بین نص القانون وروحه 94 [8]

الترقیع فی القوانین. 96 [9]

بحوث فی الأحزاب. 98 [10]

کیف تتکون الأحزاب. 99 [11]

الأحزاب والتواجد الدائم 100 [12]

نظرة علی الحرکة الدستوریة 101 [13]

أرکان التکتل الحزبی. 102 [14]

الاستمراریة 103 [15]

الفلسفة الحزبیة 103 [16]

فروع الحزب. 104 [17]

ارتباط الحزب بالجماهیر. 104 [18]

الهدف: الوصول إلی السلطة 105 [19]

لکی یکون الحزب ناضجاً 106 [20]

بین حزب الحاکم والحزب الحاکم 109 [21]

أحزاب غیر سلیمة 110 [22]

اتحاد الأحزاب واندماجها 112 [23]

فوائد تعدد الأحزاب. 113 [24]

الأحزاب السیاسیة وبرامج الإصلاح. 115 [25]

موقف الإسلام تجاه الأحزاب. 117 [26]

الحکم لله. 118 [27]

الحزب ومقررات البرلمان. 119 [28]

الولایة للفقیه العادل. 120 [29]

ص:355

لا لنظام الحزب الواحد 121 [2]

موقف الإسلام من الأحزاب غیر الإسلامیة 124 [3]

معطیات الأحزاب السیاسیة 127 [4]

1: انتخاب الأصلح. 127 [5]

2: تحکیم إرادة الشعب. 129 [6]

3: مدرسة السیاسة التطبیقیة 131 [7]

4: تحمل المسؤولیة السیاسیة 132 [8]

الأحزاب المنحرفة 133 [9]

5: مدرسة الانضباط الفکری والعملی. 134 [10]

6: صنع التنافس الخلاق. 135 [11]

7: تقدیم الشعب إلی الامام 135 [12]

الحزب بین مؤیدیه ومعارضیه 138 [13]

مزاحمة الحریة الفردیة 138 [14]

خلاف وحدة الأمة 139 [15]

موقف الشیوعیة تجاه الأحزاب. 140 [16]

موقف الفاشیة تجاه الأحزاب. 142 [17]

هل یزید الحزب المشاکل إعضالاً. 143 [18]

هل یضیق التحزب من آفاق الفکر. 145 [19]

الحزب والوسائل اللاأخلاقیة 146 [20]

هل الحزب عدو للدیمقراطیة 147 [21]

صور التجمع وأشکاله 150 [22]

1: التکتلات النقابیة 150 [23]

هدف تشکیل النقابات. 151 [24]

نقابات جدیدة 152 [25]

2: القوی الضاغطة 153 [26]

موقف السلطة تجاه القوی الضاغطة 155 [27]

3: الجمعیات التعاونیة 157 [28]

جمعیات أخری. 159 [29]

ص:356

4: التکتلات الرأسمالیة 160 [1]

تقسیمات الأحزاب السیاسیة 162 [2]

الأحزاب العلنیة والأحزاب السریة 162 [3]

الأحزاب الشخصیة 164 [4]

الأحزاب الوقتیة والدائمیة 165 [5]

ثغرتان فی الکفاح الفلسطینی. 165 [6]

کیف ننقذ فلسطین؟ 168 [7]

الأحزاب الهدفیة 168 [8]

الأحزاب الیمینیة والیساریة 169 [9]

الأحزاب الإسلامیة والکافرة 171 [10]

من مقومات الحزب الإسلامی. 171 [11]

أحزاب الأقلیات. 174 [12]

الدولة وأحزاب الاقلیة 176 [13]

الأحزاب العمالیة 177 [14]

مصائر الأحزاب العمالیة 180 [15]

قلة أفراد الأحزاب الشیوعیة 180 [16]

دور الأحزاب فی البلاد الإسلامیة 183 [17]

الحزب بین اعضائه ومناصریه 186 [18]

التشکیلات المتدرجة للحزب. 188 [19]

المواصفات الضروریة للوحدة الحزبیة 188 [20]

الوحدة المدنیة للحزب. 192 [21]

الوحدة العامة للحزب. 192 [22]

الحزب والفکر. 194 [23]

المؤتمرات العامة للحزب. 195 [24]

اختلاف الاتجاهات الحزبیة 197 [25]

بین الحزبیین القدامی والجدد 198 [26]

المحسوبیة والمنسوبیة فی الحزب. 198 [27]

بین الأنظمة السیاسیة والأحزاب. 200 [28]

1: فی النظام الحزبی الواحد 201 [29]

ص:357

بطلان منطق الأحزاب الفاشسیة والشیوعیة 202 [1]

أضرار الحزب الواحد 203 [2]

من سمات الحزب الواحد 204 [3]

2: النظام ذو الحزبین. 206 [4]

3: النظام ذو الأحزاب المسیطر أحدها 208 [5]

4: النظام ذو الأحزاب المتصارعة 209 [6]

طریق معرفة أحجام الأحزاب. 211 [7]

أصالة الحریة 213 [8]

أقسام الحریات. 214 [9]

الحریة الجسدیة 215 [10]

حریة العمل. 215 [11]

حریة خصوصیات العمل. 216 [12]

التساوی بین الأفراد 217 [13]

حریة الدین. 218 [14]

حریة البیان والقلم 220 [15]

حدود حریة البیان القلم 222 [16]

کتب الضلال. 224 [17]

حریة التجمعات. 225 [18]

کسر الإضرابات. 227 [19]

حریة المظاهرات. 229 [20]

حریة الإضراب عن الطعام 230 [21]

فی حریة أنواع الاکتساب. 231 [22]

الحریات فی الظروف الاستثنائیة 233 [23]

سائر الحریات. 236 [24]

تأطیر القوانین بمقتضی الحریة 239 [25]

أسباب الخضوع للسلطة 240 [26]

الدستور بین السلب والإیجاب. 244 [27]

تقسیمات الدستور. 248 [28]

التناقض بین القوانین. 251 [29]

ص:358

طرق الحیلولة دون طغیان الحکومة 252 [1]

ضرورة تشکیل الحکومه الإسلامیه 256 [2]

الرسول ص قدوة 256 [3]

الأئمة والعلماء قدوة 258 [4]

تطبیق قوانین الإسلام متوقف علی إقامة الدولة 262 [5]

ثلاثة خیارات. 264 [6]

من هو الحاکم الإسلامی. 269 [7]

حکم التعارض بین المرجع وشوری الفقهاء 271 [8]

من شروط الولاة 274 [9]

مناقشة نظریة البیعة 276 [10]

مناقشة نظریة اهل الحل والعقد 278 [11]

شروط الحاکم الإسلامی. 280 [12]

المرأة والقیادة 282 [13]

نظرة الإسلام إلی المرأة 283 [14]

صفات أخری للقائد 286 [15]

الحاکم الإسلامی والاستشارة 289 [16]

الزهدضرورة ملحة للقائد 291 [17]

الحاکم الإسلامی والظلامات. 294 [18]

بین قوانین الله والقوانین البشریة 298 [19]

کیف یمکن إجراء قوانین الإسلام 299 [20]

أمیر المؤمنین (علیه السلام) یضع مناهج الحکم 301 [21]

العدل والظلم 301 [22]

فیما أراد رده علی المسلمین من قطائع عثمان. 302 [23]

الظلم ثلاثة 303 [24]

قصته (علیه السلام) مع عقیل. 305 [25]

ظلم الضعیف.. 306 [26]

عهده (علیه السلام) لمالک. 307 [27]

علامات الظالم 308 [28]

الحق والباطل. 309 [29]

ص:359

الذی یستحق الحکم 312 [200]

تبادل الحق بین الحاکم والأمة 313 [201]

أسخف حالات الولاة 314 [202]

قول الحق واطاعته 315 [203]

أوامره لعماله باتباع العدل فی الرعیة 318 [204]

الوالی الزاهد 319 [205]

طبقات الرعیة 326 [206]

الوزراء والمشاورون. 327 [207]

القضاة 331 [208]

من یتصدی للحکم ولیس بأهل. 331 [209]

فی ذم التصویب فی الفتیا 333 [210]

العمال. 334 [211]

التجار وذوی الصناعات. 335 [212]

المحرومون. 336 [213]

بیت المال. 339 [214]

إلی عامل الصدقات. 340 [215]

التسویة فی العطاء 341 [216]

المال فیء المسلمین. 341 [217]

إلی عماله وولاته 343 [218]

حکم الأقلیات فی البلاد الإسلامیة 349 [219]

المحتویات. 352 [220]

ص :360

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.