موسوعه استدلالیه فی الفقه الاسلامی المجلد 105

اشارة

سرشناسه : حسینی شیرازی، محمد

عنوان و نام پدیدآور : الفقه : موسوعه استدلالیه فی الفقه الاسلامی/ المولف محمد الحسینی الشیرازی

مشخصات نشر : [قم]: موسسه الفکر الاسلامی، 1407ق. = - 1366.

شابک : 4000ریال(هرجلد)

یادداشت : افست از روی چاپ: لبنان، دارالعلوم

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

موضوع : اخلاق اسلامی

موضوع : مستحب (فقه) -- احادیث

موضوع : مسلمانان -- آداب و رسوم -- احادیث

رده بندی کنگره : BP183/5/ح5ف76 1370

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 70-5515

ص:1

اشارة

ص:2

الفقه

موسوعة استدلالیة فی الفقه الإسلامی

الجزء الخامس بعد المائة

آیة الله العظمی

السید محمد الحسینی الشیرازی

دام ظله

کتاب السیاسة

الجزء الأول

ص:3

الطبعة السادسة

1407 ه_ _ 1987م

دار العلوم: طباعة. نشر. توزیع.

العنوان: حارة حریک، بئر العبد، مقابل البنک اللبنانی الفرنسی

ص:4

کتاب السیاسة الجزء الأول

اشارة

کتاب السیاسة

الجزء الأول

ص:5

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمین، والصلاة والسلام علی أشرف خلقه سیدنا محمد وعلی آله الطیبین الطاهرین، واللعنة الدائمة علی أعدائهم إلی قیام یوم الدین.

ص:6

تمهید

بسم الله الرحمن الرحیم

لقد کان من الجدیر أن یکون للفقه السیاسی باب مستقل فی الفقه، بعد أن کانت له مسائل متشتتة فی أبواب الجهاد والمکاسب والقضاء والشهادات والحدود والقصاص والدیات وإحیاء الموات وما أشبه ذلک.

إن الفقهاء قلما ألفوا کتاباً خاصاً فی هذا الشأن وما یتبعه بخصوصه، أمثال (قاطعة اللجاج) و(تنبیه الأمة) و(الحکومة الإسلامیة) وغیرها، وذلک لاکتفائهم بما دونوه فی تلک الکتب المذکورة من المسائل المتشتتة، مما استنبطوه من الکتاب العزیز حیث قال سبحانه: {إنی جاعل فی الأرض خلیفة}((1)).

والسنة المطهرة، حیث ورد «اللهم ارحم خلفائی»((2)).

والإجماع فی کثیر من مسائلها، کما لا یخفی علی من راجع کتب الفقه الاستدلالیة.

والعقل: حیث إنه دل علی وجوب تنظیم أمر البشر عامة، والأمة الإسلامیة خاصة، وقبح ترک الناس فوضی لا نظام لهم، أو لهم نظام غیر صحیح، إذ ثبت قبح الترک بلا راع، ووجوب تشکیل الحکومة الرشیدة عقلاً

ص:7


1- سورة البقرة: 29.
2- الوسائل: ج18 ص65 الباب8 من صفات القاضی ح50.

ثبت ذلک شرعاً، للتلازم فی القاعدة المعروفة: (کلما حکم به العقل حکم به الشرع) إذا کان الأمر فی سلسلة العلل، کما حقق فی الأصول، مما یقتضی التدوین المستقل لأنه أسهل إلی التناول.

لکن الفقهاء اکتفوا بما ذکروه فی تلک الکتب الفقهیة، وبما نقحوه فی مسألة الإمامة والخلافة فی الکتب الأصولیة، فجزاهم الله خیر جزاء المحسنین.

وقد کتبت فی سالف الزمان کتاب (الحکم فی الإسلام) علی الأسلوب الفقهی، ثم رأیت أن أکتب کتاباً أوسع لیشمل جملة من المسائل المرتبطة بالحکم بصورة أشمل، لعل الله سبحانه یجعله مقدمة لإقامة حکم إسلامی زاهر، یضم تحت أجنحته ألف ملیون مسلم، حیث قد فرقت الأهواء من الداخل والکفار من الخارج بین صفوف المسلمین، فجعلوا منهم حکومات متشتتة، ومتحاربة أحیاناً، وذلک خلاف کونهم أمة واحدة.

قال سبحانه: {وإن هذه أمتکم أمة واحدة وأنا ربکم}((1)).

وقال (صلی الله علیه وآله): «الناس سواسیة کأسنان المشط»((2))، مما دل علی أنه لا یحق أی تفرقة بینهم بسبب الحدود الجغرافیة أو الألوان أو اللغات أو غیر تلک.

ولا یخفی أن هذا الکتاب الذی نحن بصدده الآن مبنی علی تنقیح الموضوعات السیاسیة حسب متطلب الزمان فی الحال الحاضر، لیعرف انطباق الأحکام الشرعیة علیها، وجوباً وحرمةً واستحباباً وکراهةً وإباحةً، کما هو شأن سائر

ص:8


1- سورة الأنبیاء: 92.
2- الاختصاص: ص321.

الکتب الفقهیة، مثلاً تنقح أقسام المکاسب والنکاح والجرائم، ثم یذکر أحکامها المستقاة من الأدلة الأربعة.

والله سبحانه المسؤول أن یجعله سبباً لفهم الأحکام ویصیره مقدمة لتوحید بلاد الإسلام، وما ذلک علی الله بعزیز.

 

ص:9

العناصر الثلاثة للحکومة

اشارة

العناصر الثلاثة للحکومة

(مسألة1): عناصر الحکومة ثلاثة: (الإنسان) و(النظام) و(الأرض).

وقد خلق الله الإنسان إبداعاً کما یستفاد من الآیات والروایات، لا تکاملیاً کما ذهب إلیه (دارون) وأتباعه.

وألهمه النظام کما قال سبحانه: {وعلّم آدم الأسماء کلها}((1)).

وخلق من قبل ذلک الأرض، فقد تکاملت الأسس الأولیة للحکومة منذ أول إنسان، بالنسبة إلی آدمنا (علیه السلام)، ولذا ورد: «لقد کانت الخلیفة قبل الخلیقة»، وإلیه یشیر ما ورد من قوله سبحانه: {إنی جاعل فی الأرض خلیفة}((2))، والروایة المشهورة: «لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها»((3))، فإن الحجة سیاسیاً، منزلتها منزلة الحجة عبادیاً واقتصادیاً واجتماعیاً وغیرها، علی ما لا یخفی.

نعم لقد تطورت الحکومات حسب تطور الاحتیاجات، کما تطور الاقتصاد حسب تطور الآلة والاحتیاج وسعة أبعاد الإنسان.

وقد جعل الإسلام الأسس الکلیة الکفیلة لاستیعاب کل المسائل المحتاج إلیها، مهما تطورت الأوضاع.

أما الإنسان منذ أن وجد علی الأرض، ولا یُعلم قبل کم وجد، ولعله قبل

ص:10


1- سورة البقرة: 30.
2- سورة البقرة: 29.
3- الکافی: ج1 ص17 ح11.

ملیارات من السنوات، حیث قد عثر علی بقایا إنسان قیل إنه کان یعیش قبل سبعین ملیون سنة، فمنهم من هدی الله، ومنهم من حقت علیه الضلالة.

حیث کان الأول یتبع قوانین السماء فی کل شیء والتی منها (قوانین الحکم).

وکان الثانی یضع بنفسه القوانین أو یتبع الجاهلین، حیث کان یقول: {إنا وجدنا آباءنا علی أمة وإنا علی آثارهم مقتدون}((1)).

ولم یکن فرق من جهة أصل أسس الحکم، سواء کانوا یعیشون کجماعات صغیرة وفی الخیام، کما هو المشاهد الآن فی بعض القبائل وأهل الأریاف والقری الصغیرة حتی التی تحتوی منها علی مائة إنسان أو ما اشبه، أو کجماعات کبیرة، مثل الآلاف أو الملایین، کما هو الحال فی المدن الکبار.

نعم لا شک أن (الحکومة) فی البدائیین لا مؤسسات لها، بینما الحکومة فی المدن والتجمعات الکبیرة لها مؤسسات، فهی فی القسم الثانی عبارة عن مجموعة من مؤسسات اجتماعیة تنشأ لتأمین الروابط وحفظ نظم المجتمع أولاً، ولأجل تقدیم المجتمع إلی الأمام ثانیاً.

وعلیه فشأن الحکومة:

1: إرساء النظام.

2: وحفظ العدل.

3: وتوفیر الرفاه للجمیع.

4: والتقدیم بالمجتمع إلی الأمام.

نعم فی التجمعات الصغیرة مما تسمی بالبدائیة، یکون لشیخ القبیلة ونحوه

ص:11


1- سورة الزخرف: 23.

صفة الأمر والنهی، والحل والفصل، والوقوف أمام العدوان، وإذا حدث حادث من سیل أو حریق أو عدو أو ما أشبه، کان الالتفاف حوله أکثر، وتکون کلمته أقرب إلی السماع، ووضع لها ضوابط وقتیة، ثم لما یذهب الخوف ویندفع الشر رجع أفراد الأسرة والقبیلة إلی حالتهم السابقة.

غنی الجماعات الصغیرة عن الحکومة

غنی الجماعات الصغیرة عن الحکومة

ومما تقدم ظهر أن غنی الجماعات الصغیرة عن الحکومة بمعناها الحضاری، لعدة أسباب أهمها:

1: قلة أفراد الجماعة، فمثلاً الجماعة المکونة من عشرین أو مائة أو ما أشبه، غالباً لا مساکن ثابتة لهم، لأنهم یکونون رحلاً یطلبون الماء والکلأ، ولا اقتصاد لهم بل هم یعیشون علی الحیوانات والزرع الطبیعی، فلا تحدث فیهم منازعات، ولا یکون لهم ما یکون للجماعات الکثیرة من الشؤون.

والغالب أن المناسبات بینهم کالزواج والموت أو نزاع أخ وأخ لا یعدو أن تکون کالمناسبات بین العائلة الواحدة، فکما لا تحتاج العائلة الواحدة إلی الحکومة، کذلک الجماعة الصغیرة وإن تکونت من عوائل، بل الغالب أن تکون الجماعة الصغیرة عائلة واحدة.

2: الملکیة الخاصة توجد فی الجماعات الصغیرة فی نطاق ضیق لا فی النطاق الواسع الذی یوجد فی المدن والجماعات الکبیرة، فالإنسان البدائی لا یملک إلاّ کوخه وأثاث منزله وخیمته أو بیته المبنی من الطین، وأغنامه وأرضه القلیلة المزروعة، وشبکة صیده ونحو ذلک، ومن الواضح أن مثل هذه الأمور لا تحتاج إلی کتب المتاجر وإحیاء الموات والرهن والإجارة وغیرها من المعاملات خصوصاً المعقدة منها.

ص:12

3: قلة الجرائم، لأن الأفراد القلیلین والعائلة الصغیرة لا تقع بینهم جرائم کثیرة، بل الجریمة تکون نادرة جداً، ولذا فلیسوا محتاجین إلی کتب القضاء والشهادات والحدود والقصاص والدیات، وما یتبع ذلک من الشرطة والنجدة والأمن.

وحیث إن التعدی علیهم أو تعدیهم علی غیرهم لا یعدو أن یکون شیئاً طفیفاً سریعاً، لم یکن احتیاج إلی الجیش وما یتبع ذلک.

4: إن الجماعة الصغیرة لا تتبع الآداب والرسوم الکثیرة، ولیست لها مدارس ومکتبات وکتب ومؤسسات ومساجد وما أشبه، بل إنهم یتبعون فی أمورهم العادات القلیلة الموروثة، وعبادتهم تؤدی بصورة بدائیة، أی یجعلون خیمة مثلاً مسجداً، وغالباً ینظرون إلی الکبار فی الأعمال والآداب، فلا حاجة لهم إلی کتب المعاشرات وصنوف القوانین الموضوعة لهذه الأمور حتی تحتاج إلی الحکومة الحامیة والمنظمة لها.

ومن نظر إلی القری والأریاف والجماعات الرحل حتی فی البلاد المتحضرة یلمس کیف أنهم لا یحتاجون إلی الحکومة مثل احتیاج المدینة، وأن الحکومة فیها لو کانت تکون بدائیة إلی أبعد حد.

وقد تبین مما ذکرناه أن قوانین الحکومة مهما کانت موجودة، لا تکون محل استفادة الجماعات الصغیرة، فالأمر من باب السالبة بانتفاء الموضوع، لا أن الحکم والمحمول منتفیان.

وکلما کانت الجماعة أکبر کانت قوانین الحکومة أوسع وأشمل، مثلاً إذا کانت للمعاملات مائة ألف قانون، وللقضاء والجرائم عشرون ألف قانون، تکون کل تلک القوانین محل الابتلاء والأخذ والعطاء فی بلاد نفوسها مائة ملیون، بینما لا تکون إلاّ خمسها محل الابتلاء فی بلاد نفوسها عشرون ملیوناً.

ص:13

الحکومة والجماعة الکبیرة

اشارة

الحکومة والجماعة الکبیرة

(مسألة2): المؤسسات الحکومیة إنما توجد فی الجماعات الکبیرة، وکلما کانت الجماعة أکبر تکون الحکومة أوسع، وأکثر دائرة وأعمق، وتکون صعوبتها أکثر.

کما أنه کلما تقدم العلم والصناعة، تکون صعوبات الحکومة ودوائرها أکثر، فکما أن الأمور الأربعة التی تقدمت فی المسألة السابقة مما تسبب عدم الاحتیاج إلی الحکومة، إلاّ بصورة بدائیة أحیاناً، کذلک تکون فی الجماعات الکبیرة والأمم المتمدنة بالعکس، فالجماعة کبیرة، والأملاک الخصوصیة وفیرة، والجرائم تزداد بقدر سعة الجماعة، والآداب والرسوم والسنن والمراکز التی یکون فیها التجمع کالمساجد والمدارس والحدائق والحمامات والمصحات وما أشبه تکثر عند الجماعة الکبیرة، مما تحتاج کلها إلی الضوابط والموازین وهی بدورها تحتاج إلی الحکومة.

ومن الواضح أن الإسلام جعل لکل ذلک قوانین وأنظمة عامة تشمل کل القضایا المتجددة، أو خاصة بالنسبة إلی الأمور المتکررة لکل البشر، بدائیاً کان أو متحضراً، وقد قسم الأحکام فیها إلی واجب وحرام ومستحب ومکروه ومباح.

وکذلک تنقسم أعمال الحکومة فیها، کانقسام دوائرها إلی الأحکام

ص:14

الخمسة، مثلاً دائرة جمع المعلومات والحیلولة دون الجرائم (الأمن والمحتسب والقضاء) واجبة التکوین، بینما دائرة التجسس والکبت والإرهاب حرام، وهکذا.

اختلاف المواهب والأهواء والاستجابة

اشارة

اختلاف المواهب والأهواء والاستجابة

ثم إن الإنسان لما اختلفت مواهبه وأهواؤه واستجاباته، فیقع فی أفراده وجماعاته التقدم والتأخر، والظلم والاستغلال، ویقع الاحتکاک والثورات والحروب، وکلها تحتاج إلی ضوابط وقوانین لإدارة دفة العدل، ولإعطاء کل ذی حق حقه، بحیث {لا تَظلمون ولا تُظلمون}((1)).

والإدارة لا تکون إلاّ بسبب الحکومة، ولذا احتاج البشر إلی (القوانین) أولاً، وإلی (الحکومة) المدیرة لها فی الاجتماع ثانیاً.

بیان ذلک:

1: المواهب

1: المواهب

إن الإنسان تختلف مواهبه فطرة وخلقة، فهناک الذکی والغبی، والنشیط والخامل، والسریع والبطیء، وقوی الجسم وضعیفه، ومن الواضح أن المالک للصفات المتقدمة یتقدم علی المالک للصفات المتأخرة.

بل مثل هذه الاختلافات توجد فی الحیوان والنبات أیضاً، ولذا إذا فرخت الدجاجة عشرة فروخ، لا یمضی زمان إلاّ وتختلف مواهبها، أی تظهر ما أودع فیها من الصفات، فکما أن بعضها یکون ذکراً وبعضها أنثی، کذلک یکون بعضها مسیطراً

ص:15


1- سورة البقرة: 279.

علی بعض.

أما لماذا خلق الله الإنسان کذلک، ولنترک الکلام فی الحیوان والنبات؟

فالجواب إنه:

أولاً: لأنه سبحانه فیاض، فاللازم إعطاء کل قابل حقه.

ثانیاً: لأنه نوع من الجمال، حیث إذا لم یکن کان نقص فی الخلق، فکما أنه لم یکن من الجمیل تساوی الأشکال والصور، لم یکن من الجمیل تساوی الصفات والمعانی والمحتویات.

2: الأهواء

2: الأهواء

والأهواء فی البشر مختلفة، فإن الإنسان خلق مختاراً، والمختار لا یسلک طریقاً واحداً، وإنما یسلک ما یشاء من الطرق، ولولا الاختیار فی البشر لم یکن بشراً، وإنما کان جماداً لا یعدو الطریق المسلوک له، وحینئذ لم یکن حسن وقبح وثواب وعقاب وجنة ونار.

وهذه الأهواء المختلفة توجب ظلم بعض لبعض، واستغلال بعض لآخر.

3: الاستجابة الجسدیة والنفسیة

3: الاستجابة الجسدیة والنفسیة

وکذلک البشر یختلف فی الاستجابة جسدیاً ونفسیاً، مثلاً إذا کان هناک ماء فاتر، وکان ثلاثة أشخاص، أحدهم وضع یده فی ماء حار، والآخر فی الماء البارد، والثالث فی الماء الفاتر، فإذا أخرجوا أیدیهم من تلک المیاه ووضعوها

ص:16

فی الماء الفاتر، أحس الأول بالبرودة، والثانی بالحرارة، والثالث بالملائمة، فإن الماء الواحد ینعکس إلی حالات مختلفة، حسب الاستجابات الجسدیة، ومثلاً یخاف إنسان من المیت بینما یکون المیت للآخر عادیاً، بحیث یکون مجاورته له کمجاورة الحی، فالمیت الواحد أعطی حالین نفسیین لفردین حسب اختلاف استجاباتهم النفسیة، إلی غیر ذلک من الأمثلة فی البابین.

ولهذه الأمور الثلاثة یقع التقدم والتأخر، والاحتکاک بمختلف أقسامه بین أفراد الجماعات، خصوصاً الکبیرة منها.

خطأ المارکسیة

خطأ المارکسیة

أما ما توهمه مارکس وأتباعه من الطبقیة المبنیة علی الاقتصاد، وحصره الطبقیة فی اثنتین فقط، فلیس إلاّ من جهة البدائیة فی التفکیر.

فأولاً: الناس لا ینقسمون إلی طبقتین فحسب، بل إلی طبقات.

وثانیاً: لایکون الاقتصاد فحسب محرکهم إلی الظلم والاستغلال، فهناک الأغنیاء والفقراء، والعلماء والجهال، والظالمون والمظلومون، والأقویاء والضعفاء إلی غیر ذلک، کما أن السیاسة والمرأة والاقتصاد والدین والغنی وغیرها یحرک الناس.

ومنه یعلم أن ما رتب المارکسیون علی ذلک الوهم من انقسام المجتمع

ص:17

إلی طبقتین، طبقة مستغِلة بالکسر، وطبقة مستغَلة بالفتح، والطبقة المستغلة بالکسر تولد الحکومة لتأمین مصالحها، ولکسر شوکة المقاومین وتحطیمهم من الطبقة المستغلة بالفتح، لیس إلاّ غایة فی السذاجة والسطحیة فی التفکیر.

((الحکومات العصریة))

((الحکومات العصریة))

ثم إن حکومات العصر الحدیث قد تعقدت بصورة کبیرة، وتتحمل وظائف خطیرة، بحیث إن کل حکومة لا تتمکن من السیر فی المسارب الملتویة المتعقدة، الموصل إلی الأهداف المطروحة، أو لم تتمکن من تحمل الوظائف الخطیرة الملقاة علی عاتقها، لابد علیها من أن تخلی مکانها لحکومة أکثر عصریة وأعرف بمسارب الحیاة.

وعدم عرفان الحکومة الإسلامیة لمثل ذلک، أو عدم تحملها للوظائف محرم شرعاً، حیث قال (صلی الله علیه وآله): «لعن الله من ضیع من یعول»((1))، وقد ذکر الفقهاء وجوب تعلم الصناعات((2))، إلی غیر ذلک.

وجوب تقدیم الإسلام

وجوب تقدیم الإسلام

ثم الواجب تقدیم الإسلام إلی الأمام، بل حفظه مساویاً لمستوی الدنیا فی مختلف المجالات، والتی من أهمها الحکم، فقد قال (صلی الله علیه وآله): «الإسلام یعلو ولا یعلی علیه»((3)).

ص:18


1- الوسائل: ج14 ص122 الباب 18 من مقدمات النکاح ح6.
2- انظر المکاسب المحرمة: ص50.
3- الوسائل: ج17 ص376 الباب1 من موانع الإرث ح11.

وفی حدیث بصدد ذکر صفات المؤمن: «عارفاً بأهل زمانه»((1)).

إلی غیرها من الأحادیث الواردة التی تلمح أو تصرح بما یفید ما ذکرناه.

أسباب تعقد الحکومات المعاصرة

اشارة

أسباب تعقد الحکومات المعاصرة

وإنما تعقدت الحکومات العصریة وکثرت وظائفها الشاقة، لعدة أمور:

1: استیعاب الأقوام المختلفة

1: استیعاب الأقوام المختلفة

الأول: سعة أراضی الحکومات واستیعابها لعدة أقوام یختلف بعضها عن بعض فی اللغة والدین والرسوم والتقالید، وفی مثل هذه الحالة یجب علی الحکومة تنظیم أمور هذه الأمم غیر المتجانسة والتنسبق بینها.

فمثلاً نفرض أن حکومة تشمل أراضیها علی المسلمین والمسیحیین، ومن یتکلم بلغة العرب ومن یتکلم بلغة أخری، فهل تضع الدولة الکتب المدرسیة حسب تاریخ ومعطیات هذا الدین أو ذاک، أو تکون الکتب المدرسیة ووسائل الإعلام حسب هذه اللغة أو تلک.

وإذا وضعت حسب الدینین واللغتین کان ذلک هدراً لأوقات کل طائفة بالنسبة إلی ما یوضع بالنسبة إلی الطائفة الأخری، فالإذاعة لما تذیع باللغة العربیة تهدر أوقات الطائفة الذین یریدون اللغة الأردیة، وحیثما تذیع مراسیم دین المسیح (علیه السلام) کان غیر ملائم للمسلمین الذین یریدون الاستماع إلی مراسیم الإسلام مثلاً.

ص:19


1- انظر الوسائل: ج8 ص410 وص418 الأبواب10 _ 11 _ 12.
2: تقدم العلم والصناعة

2: تقدم العلم والصناعة

الثانی: تعقد الحیاة الاجتماعیة الذی سببه تقدم العلم وتدخل الصناعة فی الحیاة، فمثلاً کانت الوسیلة فی الزمان السابق الخیل والبغال والحمیر، بینما صارت الوسیلة الآن السیارة والطیارة والقطار.

ومن المعلوم أن کلاً من الوسائل المذکورة بحاجة إلی:

سلسلة من الأمور المتقدمة، کالمعامل ومصانع صهر الحدید والعمال، والمکان الذی یسکنونه إلی جنب المعامل، والمناجم إلی غیر ذلک.

وسلسلة من الأمور المتأخرة عنها، مثل سعة الطرق، ومحلات وقوف السیارات والمطارات، ومحطات القطار، وإلی غیر ذلک.

ثم الکل بحاجة إلی قوانین خاصة للمرور والحرکة والهبوط والطیران، وإلی غیرها.

3: التحول الدائم فی المجتمع

3: التحول الدائم فی المجتمع

الثالث: التحول الدائم الذی حدث للمجتمعات الإنسانیة، فکل یوم صناعة جدیدة ونظام جدید ومکتشفات حدیثة، فقد کان الإنسان یغط فی سبات عمیق قبل ظهور الإسلام، حتی أن إیران مثلاً لم تجد طوال ألف سنة، منذ ما حفظ التاریخ عنهم إلی حین فتح الإسلام لها، علماء أو مکتشفین أو ما أشبه بحیث یشار إلیهم أو إلیها بالبنان، وکان العلم خاصاً فی مراکز صغیرة، ولما جاء الإسلام وفتح المسلمون البلاد، وأوجبوا العلم علی کل مسلم ومسلمة وهیؤوا سبل العلم والمعرفة، تفتقت الحیاة عن أزهار المعرفة، وقد قال علی

ص:20

(علیه السلام) فی علل بعثة الأنبیاء: «ولیثیروا لهم دفائن العقول»((1))، وبذلک أخذت الحیاة فی الصعود، ومن الواضح أن هذا التحول المتصاعد سبب تعقد واجبات القائمین بالحیاة وهم الحکومات، وکثّر وظائفهم.

ونتیجة هذه الأمور الثلاثة تضطر الحکومات إلی أمرین:

1: تکثیر المؤسسات الحکومیة حتی تتمکن بسبب تلک المؤسسات من فسح المجال وتسهیل الطریق أمام سلسلة الصناعة، سابقة علیها ولاحقه لها، کما تقدم فی أمثلة المواصلات.

2: زیادة الموظفین فی کل مؤسسة، ولو کانت تلک المؤسسة لها سابقة حتی فی الحکومات الغابرة، کمؤسسة الشرطة ومؤسسة الجیش وما أشبه ذلک.

خطأ الحکومات المعاصرة

خطأ الحکومات المعاصرة

ولا یخفی أن الحکومات الحاضرة، قد أخطأت إلی جنب کل ذلک من الأمور المحتاج إلیها، خطأة کبیرة، حیث أوجبت تلک الغلطة لها إضافة مؤسسات هی فی غنی عنها فی طبیعة الحکومة، وإنما غلطت بهذه الغلطة لعاملین: عامل الجهل وعامل الاستبداد.

بیان ذلک: إن قیادات السماء لما انحسرت عن المجتمع لم تدرک موازین الحکم والإدارة، فأخذت الحکومة تضیق دائرة الحریات بتکثیر المؤسسات

ص:21


1- نهج البلاغة: الخطبة 2.

الحکومیة التی هی فی غنی عنها، وبذلک کبتت الحریات وخنقت الحرکات.

ومن الواضح التلازم الطبیعی بین کثرة الدائرة وبین تقلیص الحریة، مثلاً إدارة البلدیة فرضت علی من یرید أن یعمر داراً أو ما أشبه تحصیل الرخصة من الدولة، ولماذا. بینما اللازم إعطاء الحریة للناس فی التعمیر.

وهکذا قد کبتوا حریة السفر والإقامة والعمل، وإبداء الرأی باللسان والکتابة، وحریة الزراعة، والتجارة، والصناعة، والثقافة، والزواج، والطلاق، وغیرها، کما ذکرنا تفصیل ذلک فی کتاب (نریدها حکومة إسلامیة) وغیره، ولم یکن ذلک فی الأغلب إلاّ نتیجة الجهل بموازین الإنسان ومتطلبات الحکم الرشید.

هذا من ناحیة، ومن ناحیة أخری فرضت الفردیة والأنانیة علی الحکومات الحاضرة _ مهما کان لونها، دیمقراطیة، أو غیرها، علی ما سیأتی فی بعض المسائل الآتیة من أن الدیمقراطیة الحاضرة ثوب مهلهل علی الدیکتاتوریة _ تکثیر الموظفین.

حیث إن الدیکتاتور لا یتمکن أن یعیش إلاّ فی جو خانق للناس، لیبدی شخصیته وقدرته، ولذا کثر أفراد الجیش لأجل السیطرة علی الأمم المظلومة، کما کثر الموظفون فی الداخل لأجل السیطرة علی الناس، کالشرطة السریة ونحوه، فلأمریکا ألفا قاعدة عسکریة فی العالم، کما أنه کان لعبد الناصر أکثر من ملیون موظف، بینما الخبراء ذکروا احتیاج مصر إلی مائتی ألف موظف فقط.

نتائج زیادة المؤسسات

نتائج زیادة المؤسسات

وهذه الزیادات، مؤسسةً وأفراداً، فی نظر الإسلام محرمة من جهات:

ص:22

1: تعطیل الأفراد، فبینما کان اللازم أن یکون هؤلاء الأفراد منتجین، تعطلوا عن الإنتاج إلی الاستهلاک.

2: خنق حریات الناس، بینما یقرر الإسلام أن (الناس مسلطون علی أنفسهم وأموالهم)((1)).

3: تثقیل کاهل بیت المال بالمعاشات والرواتب.

4: التخریب الذی هو لازم کثرة المؤسسات الحکومیة وأفرادها، وقد قال سبحانه: {ولا تفسدوا فی الأرض بعد إصلاحها}((2)).

وفی حدیث تحف العقول: «وکل ما فیه الفساد»((3)).

إلی غیر ذلک من الحاذیر.

ونتیجة لزیادة الموظفین والوظائف تتعقد الحرکات الإنتاجیة، لأن کل موظف بقدره یعقد الأمر، کما یتجمد الموظف ویبتلی بالروتین، بالنتیجة تکون زیادتهما سداً فی قبال تکامل المجتمع وتقدم البشر إلی الأمام.

ولنمثل لذلک بزارع یرید زرع أرضه، ففی عالم الحریات لا یحتاج هذا الزرع إلی أکثر من وسائل الزرع، کالثور أو (التراکتور) والبذر والسماد ونحو ذلک من الضروریات الأولیة. أما فی عالم کبت الحریات وکثرة الموظفین والمؤسسات، فهناک مؤسسة للأرض، ومؤسسة للری، ومؤسسة للحیوان، ومؤسسة للسماد، و... واللازم علی هذا الزارع أن یمر بکل هذه المؤسسات لتحصیل الرخصة، ولتحصیل هذه الآلات والوسائل، وإذا انضم إلی ذلک: المؤسسات التی تلاحق الزارع لأجل تحصیل وسائل نقل ثماره، ولأجل التسویق، ولأجل تحصیل بدل ثمره

ص:23


1- بحار الأنوار: ج2 ص272 ح7.
2- سورة الأعراف: 56.
3- تحف العقول: ص246.

عند البیع، و... ظهر قدر کبت الدولة وتمجیدها للزارع، بما لو لم تکن تلک المؤسسات وأولئک الموظفون، لأمکن أن ینتج بقدر ماله المهدور بین تلک المؤسسات وعمره الضائع بین أولئک الموظفین، ما لا یقل من زیادة قدر ربع إنتاجه فی الحال الحاضر، فیجعل الأربعة خمسة، والثمانیة عشرة مثلاً.

جمود الموظفین

جمود الموظفین

ثم إن الموظف لا یکون فی هذه المؤسسات الکابتة، إلاّ جامداً متحجراً، فبدل أن یکون له الإبداع والابتکار، والإنتاج والتکثیر، یکون آلة جامدة تدور حول نفسها، فهو حجر فی نفسه ویوجب تعثر الآخرین، ویکون بمنزلة الحجر الملقی فی الشارع المبلط فبینما کان اللازم أن یکون بلاطاً فی الشارع ینفع وینتفع، یکون ملقی علی مکان مبلط، جامد فی نفسه غیر نافع بالاضافة إلی کونه موجباً لعثرة المارة.

وبالآخرة یکون ما جعل لأجل رفاه المجتمع من المؤسسات والموظفین سبباً لتکثیر مشاکل المجتمع.

ولا یتوهم أنه إذا کان کذلک، فلماذا نری تقدم العالم فی العصر الحاضر؟

إذ یجاب عن ذلک:

أولاً: بأنه رفاه بعض علی حساب بعض، فألف ملیون جائع فی العالم الثالث، وألف وخمسمائة ملیون جائع فی العالم الشیوعی، علی حساب ترفیه ألفی ملیون فی العالم الصناعی وما یدور فی فلکه، ومما یدور فی فلکه الأحزاب الشیوعیة المستولیة علی روسیا والصین وأروبا الشرقیة ونحوها.

ص:24

ثانیاً: إنه لو لم یکن هذا التعقید المتولد من کثرة الوظائف والموظفین لأعطی العلم أضعاف هذا الإنتاج الذی ینتجه الآن، فبینما کان اللازم أن یرفه العلم حیاة ثمانیة ملیارات من البشر مثلاً، لا یرفه الآن إلاّ حیاة ملیارین فقط، إن صح أن نسمی ما یتلقاه الملیاران رفاهاً، حیث إن الرفاه ذو أبعاد، والحال أن ما یتلقاه الملیاران من الرفاه الآن ذو بعد واحد، هو البعد المادی المحدود، أی المشوب بالقلق والتوتر، لا الروحی.

جمود المجتمع

جمود المجتمع

ویتبع جمود الموظفین جمود المجتمع، وذلک لأن الإنسان الجامد یکون حجر عثرة أمام کل انطلاق، حیث یعلم الجامد أنه لو حدث فی المجتمع حرکة وتیار سیال لابد وأن یجرف الجامد، فتکون المؤسسات والموظفین سداً أمام تقدم الاجتماع وتکامله.

وبهذا المنطق کان یقف المکارون أمام رواج السیارات، وأصحاب السیارات أمام رواج الطائرات، وأصحاب النفط أمام تقدم الکهرباء ورواج البرق، إلی غیر ذلک.

إذاً: فالمؤسسات والموظفون الکثیرون یضرون المجتمع ضرراً مثلثاً، ضرر وجودهم بأنفسهم، وضرر تجمید الأمة حیث یوقعونها فی الروتین ویصرفون أموالها وطاقاتها هدراً، وضرر الحیلولة دون التقدم والتکامل.

ومن الواضح أن الإسلام یخالف کل ذلک، ف_ «لا ضرر ولا ضرار فی الإسلام»((1)

ص:25


1- الکافی: ج5 ص292 ح8.

والإسلام تقدمی ومتصاعد:

«الإسلام یعلو ولا یعلی علیه»((1)).

و: «من ساوی یوماه فهو مغبون»((2)).

والإنسان یسأل غداً: «عن عمره فیم أفناه، وعن شبابه فیم أبلاه»((3)).

و: «ساع سریع نجا»((4)).

و: {استبقوا الخیرات}((5)).

و: {سارعوا إلی مغفرة من ربکم}((6)).

إلی غیرها من النصوص الإسلامیة الکثیرة.

ص:26


1- الوسائل: ج17 ص376 الباب1 من موانع الإرث ح11.
2- الوسائل: ج11 ص376 الباب 95 من جهاد النفس ح5.
3- بحار الأنوار: ج74 ص162 ب7 ح162 وفیه: « إِذَا کَانَ یَوْمُ الْقِیَامَةِ لَمْ تَزِلَّ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّی یُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِیمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِیمَ أَبْلَاهُ، وَعَمَّا اکْتَسَبَهُ مِنْ أَیْنَ اکْتَسَبَهُ وَفِیمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ حُبِّنَا أَهْلَ الْبَیْت » .
4- نهج البلاغة: الخطبة 16.
5- سورة البقرة: 148.
6- سورة عمران: 133.

تدخل الحکومة فی الشؤون الشخصیة

اشارة

تدخل الحکومة فی الشؤون الشخصیة

(مسألة3): تدخل الحکومة فی شؤون الشخصیة للناس محرم شرعاً، لکن الحکومات الحاضرة أخذت تتدخل فی شؤون الناس من غیر مبرر، إلاّ الجهل والدیکتاتوریة.

أما الحکومات الشیوعیة، فهی لیست إلاّ أدوات کابتة لکل الناس، وبلادها لیست إلاّ سجوناً کباراً، فالکل فی السجن، والکل مکبل، فالإنسان فی تلک الحکومات مقید فی أکله وشربه ولبسه وسفره وبنائه وزواجه وسائر شؤونه.

وما یقال: إن الاتحاد السوفیاتی أو الصین أو... سجن کبیر، لا یراد به حتی معنی السجن الکبیر، حیث ینطلق الإنسان فی ذلک السجن الکبیر، بل یراد به أن الإنسان فی هذا السجن محدود أیضاً بسجون أخری، کلأقشار البصل حیث الواحد منها علی الآخر، فمثلاً الإنسان فی موسکو مسجون فی جملة کبیرة من القیود، ثم من موسکو حیث لا یتمکن السفر إلاّ بإجازة، ثم فی الاتحاد السوفیاتی ککل، حیث لا یؤذن له فی الخروج منها، ولو حاول الخروج رمی بالرصاص.

وأما الحکومات الرأسمالیة الاستعماریة، فهی تنافق فی إظهار نوع من الحریة، وابطان الاستبداد والاستعلاء بسبب المؤسسات والموظفین، والدعایات

ص:27

وغیرها من الأجهزة التی تجعل الإنسان فی السجن، وإن زعم أنه مطلق ومنطلق.

أما سائر الحکومات فهی أسیرة فی ید هاتین، أو خاصعة، شاءت أو أبت، للضغوط المتزایدة الواردة علیها منهما. ولیس ذلک إلاّ لأجل توسعة الحکومة، مؤسسات وموظفین، فالإنسان وإن کان له نوع من الحریة مثلاً فی البلاد التی تسمی بالدیمقراطیة، إلاّ أنها حریة محاطة بأسوار القانون وأغلفة الدعایة.

وقد نقل عن بعض الإحصاءات أن إمریکا کانت تتدخل فی عام (1858) م فی (14) نوعاً من الأمور الاجتماعیة، ثم أخذ یتصاعد تدخلها إلی (19) ثم (36) ثم (58) ثم (91) ثم (123) حتی وصل تدخلها إبان الحرب العاملیة الأولی سنة (1918) إلی (155)، وعلی هذا المقیاس أخذ یتصاعد تدخلها إلی الحال، بما لا قبل للشعب الإمریکی به، فالشعب لم تبق له إلاّ حریات ضئیلة.

وهکذا القیاس فی بریطانیا وفرنسا وألمانیا والیابان وغیرها، بما لسنا نحن الآن بصدد سردها.

وبالجملة، ففی البلاد الصناعیة أخذ تدخل الدولة _ بواسطة مؤسساتها وموظفیها _ فی الأمور الخاصة یکثر ویتصاعد، بذلک تحولت الدولة من کونها سیاسیة للنظم والإدارة والعدل، إلی دول ما یسمی بالرفاه، ولیس الرفاه فیها إلاّ علی حساب الإنسانیة والانطلاق والحریة.

فالدول الحاضرة هی دول (الإصر والأغلال) التی جاء الإسلام لأجل رفعها وکسرها، قال سبحانه: {یضع عنهم إصرهم والأغلال التی کانت

ص:28

علیهم}((1)).

وأصبح الإنسان فی هذه الدول کمثل دود القز، یفرز حول نفسه علی طول الزمان اللعاب الذی کلما زاد ازداد متانة سجنه، حتی یأتی یوم لا یجد الهواء والخلاص فیموت داخل السجن الذی بناه حول نفسه.

وحیث إن الصبغة العامة فی هذه الحکومات التی بقی لها بقایا من الحریة الجهل والاستبداد، أعم من الاستبداد السیاسی والاقتصادی والاجتماعی، لا ینفک أن تکون فی الحکومة جهات ضاغطة لمصادرة الحریات، وتدخل الدولة فی کل الشؤون، وقد یعللون ذلک بمختلف العلل والأسباب، بینما الجوهر هو مزید من الدیکتاتوریة والتسلط المادی والمعنوی علی الشعوب، من غیر فرق بین شعب نفس البلاد أو شعوب سائر البلدان.

تأمیم التجارة والمؤسسات

تأمیم التجارة والمؤسسات

مثلاً تأمیم مطلق التجارة، أو التجارة الخارجیة، وتأمیم الغابات والمنابع الطبیعیة العامة، وتأمیم منابع الثروة الصناعیة، کالمعامل والمطارات والقطارات ومؤسسات الإعلام، وتأمیم المدارس الأهلیة، وملکیة الدولة للأراضی کلاً أو بعضاً، والاستیلاء علی الأوقاف حتی الخاصة منها، وتأمیم المستشفیات الأهلیة، ودور العجزة، والمؤسسات الخاصة، إلی غیر ذلک من بقایا ما بید الشعب وله الحریة فی إنجازها وإدارتها، کل ذلک لیس إلاّ خطوات إلی الاستبداد المطلق

ص:29


1- سورة الأعراف: 156.

وسلب الشعوب حریاتها تحت أغطیة براقة، من مصلحة الشعب، ومن قطع ید الاستغلال وغیرهما من الأغطیة الکاذبة.

((نتیجة تدخلات الدولة))

((نتیجة تدخلات الدولة))

والنتیجة الحتمیة لمثل هذه التدخلات من الحکومات الحاضرة، فی مختلف شؤون الناس أمران:

الأول: تقلیص الحریات وکبت الأعمال والحیلولة دون الانطلاق.

الثانی: الوقوف دون صحة العمل ونمو الحیاة، حیث إن الإنسان إذا کان حراً اندفع للعمل، ولأجل جلبه للناس حول نفسه یعمل أحسن ما یمکن، وأکثر ما یمکن، وأجمل ما یمکن، وأرخص ما یمکن، وبالإضافة إلی الاندفاع النفسی یحدوه إلی الکثرة والجمال والإتقان والرخص سائق المنافسة الحرة بینه وبین سائر من یعمل عمله، سواء کان صنع السیارات أو علاج المرضی أو بناء الدور وما أشبه أو غیر ذلک.

أما إذا أخذت الدولة الأعمال من أیدی الناس، وجعلت مکانهم الموظفین، مات الاندفاع ومات التنافس، وبذلک لا یهم الموظف أیاً من الأمور الأربعة المذکورة، وبذلک تتبدل الحیاة إلی التأخر فالجمود فالموت.

ولذا قال سبحانه: {استبقوا}((1)).

و: {سارعوا}((2)).

و: (فلیتنافس}((3)).

وقال الإمام علی (علیه السلام): «ساع سریع نجا»((4)).

وقال: «استبقوا الأعمار»((5)).

إلی غیر ذلک من الأدلة الشرعیة.

وتشتد قبضة الحکومة علی مختلف مرافق الحیاة فی أیام الحرب، لأن

ص:30


1- سورة البقرة: 148.
2- سورة آل عمران: 133.
3- سورة المطففین: 26.
4- نهج البلاغة: الخطبة 16.
5- نهج البلاغة: الخطبة 16.

الدولة فی أیام الحرب ترید توجیه کل الطاقات لأجل ربح الحرب، مع الحفاظ علی سلامة المجتمع، فتأخذ کل شیء بیدها حتی لا تختل أمور الأمة، وحتی تتمکن أن تستفید من کل الإمکانات بقدر احتیاجات الحرب.

مثلاً إذا کان الحدید بید الناس، استولت علیه الدولة إبان الحرب، لأجل أن توجه قسماً منه إلی الجبهة، کأسلحة وکبناء الخطوط الدفاعیة وما أشبه ذلک، ولذا تتحول البلاد إبان الحرب إلی شبه قاعدة عسکریة کل شیء فیها بانتظام وتوجیه وقدر، فإذا وضعت الحرب أوزارها لم تتنازل الحکومة عن مکاسبها الاستبدادیة.

ولذا لم ترجع حالة إمریکا وإنکلترا وفرنسا وغیرها بعد الحرب العالمیة الثانیة کحالتها قبل الحرب، بل الاستعداد للحرب الثالثة أوجب تضییق النطاق الإداری أکثر فأکثر، حیث حولت تلک الدول جملة من أعمال الناس إلی عملها، استعداداً للحرب، مثلاً استولت علی جملة من الصنائع والمخازن وما أشبه لتوجیهما إلی ما ینفع الحرب المستقبلة حتی لا تقع فی الحرج إذا فوجئت بالحرب.

خطأ استیلاء الدولة علی الأعمال

خطأ استیلاء الدولة علی الأعمال

وکلا الامرین _ الاستیلاء أبان الحرب، والاستیلاء قبلها استعداداً لها _ خطأ، حیث إن تقلیص الحریات بأکثر من قدر الضروری یساوی تجمید الطاقات علی ما تقدم، وإذا جمدت الطاقات والکفاءات کان التنزل فالسقوط، ولا فرق فی ذلک بین ما قبل الحرب أو ما بعد الحرب أو فی حالة الحرب، وقد ورد

ص:31

فی الشریعة المطهرة: (الضرورات تقدر بقدرها)، فما کان فوق القدر لا یکون إلاّ محرماً، لأنه تخصیص للقانون الأولی من غیر مخصص.

فاللازم أن تحذر الدولة أن تکون دولة إنتاجیة، بل اللازم أن تکون دولة سیاسة فحسب، بأن تکون کل الأعمال والمهن بید الناس، وإنما الدولة تنظم وتحفظ العدل وتمنع الإجحاف وتوجه إلی النقائص لتکمل.

إن الدولة وظیفتها أن تضع النظام العام، وتقوی جهاز القضاء، وتقف دون إجحاف أصحاب المهن کالطبیب والمهندس، وتوجه أصحاب الکفاءات إلی سد النقائص الموجودة فی البلاد.

ولذا نری بعض الحکومات التی لها نوع من الاعتدال، إذا رأت نقصاً فی المدارس والمستشفیات والمطارات والقطارات وما أشبه، وجهت الشرکات والأثریاء إلی بنائها، فإذا لم یبنوها بنتها بنفسها ثم باعتها إلی الناس، وتشرف علی صحة وعدالة سیرها، وبذلک تخف کاهل الحکومة وتتمکن من إدارة الأمور الأصلیة الموکلة إلیها، وتظهر الکفاءات التی یتوقف ظهورها علی کون الناس أحراراً فیما یفعلون، بالإضافة إلی ما تقدم من الرفاه وعدم الإجحاف.

أدلة جواز التسعیر

أدلة جواز التسعیر

وقد ذکرنا فی کتاب (الاقتصاد) و(التجارة) أن للدولة حق التسعیر، وحق الوقوف أمام الإجحاف، وذلک تبعاً للمقنعة وابن حمزة والعلامة وولده

ص:32

والشهید وغیرهم، خلافاً لآخرین حیث لم یجوزوا ذلک، واستدللنا علیه:

1: بأن الدولة وضعت لمصلحة المسلمین، فإذا کان فی ترک التسعیر ضرر علیهم کان علیها أن تفعل ذلک.

2: وبدلیل «لا ضرر»((1))، وهو عام یشمل الأضرار الخاصة والعامة، وقولهم أن «لا ضرر» لا یثبت الحکم، وإنما ینفی الحکم خلاف مورد دلیل لا ضرر، حیث رتب الرسول (صلی الله علیه وآله) علیه قلع الشجرة، ولذا رتب الفقهاء علیه خیار الغبن ونحوه.

3: وببعض الروایات الخاصة، مثل کتاب علی (علیه السلام) إلی مالک الأشتر المروی فی نهج البلاغة، الذی قوة مؤلفه الذی أسنده إلیه (علیه السلام) یغنی عن الفحص عن سنده، فحاله حال الفقیه والکافی فی مراسیلهما، علی ما ذکرناه فی بعض مباحث (الفقه) _

قال علی علیه السلام: «ولیکن البیع بیعاً سمحاً بموازین عدل وأسعار لا تجحف بالفریقین من البائع والمبتاع»((2)).

إلی غیر ذلک من الأدلة الممکن الاستدلال بها لوجوب التسعیر والمنع عن الإجحاف.

وإن استدل لعدم جوازه بقاعدة: تسلط الناس علی أموالهم((3))، وبعض الروایات الخاصة المذکورة فی الجواهر وغیره فی باب الاحتکار مما لا حجیة فی سندها أو لا دلالة لها أو لا مقاومة لها لما ذکرناه من الأدلة.

کما أن الإشکال فی الأدلة التی ذکرناها غیر تام، کما لا یخفی علی من راجعه فی مظانه.

وحیث إن هذا البحث خارج عن مهمة الکتاب نکتفی منه بهذا القدر، والله سبحانه العالم.

ص:33


1- الکافی: ج5 ص292 ح8.
2- نهج البلاغة: ص438 الرسالة رقم 53.
3- راجع بحار الأنوار: ج2 ص292 ح7.

لا دکتاتوریة فی الإسلام

اشارة

لا دکتاتوریة فی الإسلام

(مسألة4): لیس للحاکم حق الدیکتاتوریة إطلاقاً، وکل حاکم یستبد یعزل عن منصبه فی نظر الإسلام تلقائیاً، لأن من شرط الحاکم العدالة، والاستبداد (الذی معناه التصرف خارج النطاق الإسلامی، أو خارج نطاق رضی الأمة فی تصرف الحاکم فی شؤونها الشخصیة) ظلم مسقط له عن العدالة.

وقد انقسم عالم الیوم إلی أکبر حکومتین فی الشرق والغرب:

الأولی: تمارس أبشع أنواع الدیکتاتوریة، وبکل صراحة، حیث تسّمیه دیکتاتوریة البرولیتاریا.

والثانیة: تمارس الدیکتاتوریة تحت غطاء، وإن کانت تعطی بعض أقسام الحریة النسبیة.

وعلیه فکلتا الحکومتین خلاف موازین الإسلام، کما أنها خلاف موازین العقل والمنطق، ولا یجوز لحکومة بلاد الإسلام احتذاء أی منهما.

((دکتاتوریة الشیوعیة))

((دکتاتوریة الشیوعیة))

وقد کذبت الحکومات الشیوعیة کذبتین:

الأولی: تزییف التاریخ، حیث زعمت أن الحکومة فی التاریخ مرت بمراحل الشیوعیة الأولی، ثم الرق، ثم الإقطاع، ثم رأس المال، والآن أخذت ترجع إلی الشیوعیة أیضاً، وذلک لأن تجعل لنفسها سنداً تاریخیاً، وتبرر

ص:34

وجودها بأنها من طبیعة الإنسان، ولم تقتنع بذلک بل جعلت کل شیء من الاجتماع والسیاسة والدین والعلم والفن وغیرها ولیدة الاقتصاد، الذی زعمت أنه أساس الحکومات والتحولات.

والکل یعلم أنه لا سند تاریخی لکل هذه الأکذوبة، فمن أین أن الإنسان فی أول أمره کان شیوعیاً ثم صار کذا وکذا.

والذی یراجع أدلتهم یجدها فی غایة الوهن والبدائیة.

الثانیة: تزییفهم لإرادة الإنسان، حیث جعلوا الشیوعیة التی هی أسوأ أنواع الدیکتاتوریة التی عرفها تاریخ الإنسان الطویل، هی من إرادة الطبقة العاملة، وأی عامل یرید الاستبداد من حکامه، وکل ما فی الأمر أن جملة من زعماء الشیوعیة رأوا أن هذا التزییف أحسن سلم للتسلط علی رقاب العباد وأزمة البلاد، کما جعل فرعون من ذی قبل خوف تغییر الدین سلماً للتسلط، قائلاً فی موسی (علیه السلام): {إنی أخاف أن یبدل دینکم}((1))، وهذا هو شأن کل مستبد حیث یأتی إلی الناس بما یفهمون لیغفلهم ویتسلط علیهم بما أخفاه من جوهر مآربه.

دیکتاتوریة الرأسمالیة

دیکتاتوریة الرأسمالیة

أما الحکومات الرأسمالیة، فإن عملها مع الشعوب أشبه بالاستعمار الفکری الذی یتبع المستعمَر بالفتح المستعمِر بالکسر، لأنه أصابه غسل المخ، فإن تلک الحکومات أقنعت شعوبها بصحة الانتخابات وهی غالباً مزیفة، حیث

ص:35


1- سورة المؤمن: 27.

إن المال المتمرکز فی أیدی القلة، یجمع حول نفسه الجماعات الضاغطة والإعلام والضمائر المشتراة، وبذلک یکون الحکم بید من یریده رأس المال لا بید من یریده الشعب، وهذه دیکتاتوریة مغلفة بغلاف من الدیمقراطیة والحریة، وتکون النتیجة الاستبداد لکن مشوباً بشیء من الحریة الصوریة.

ولا علاج للشعب فی مثل هذه الحکومات إلاّ أن یراقب عدم تجمع المال، وإنما ینتفی التجمع، إذا کان المال فی قبال خمسة أشیاء فحسب: العمل الجسدی، والعمل الفکری، وشرائط الزمان والمکان، والعلاقات الاجتماعیة، والمواد الأصلیة.

کما ذکرنا تفصیل ذلک فی کتاب (الفقه: الاقتصاد)، وحینذاک یکون المال بید الکل، کل بقدر حقه الطبیعی، ولا یکون هناک تجمع غیر مشروع للمال، وبذلک لا یکون للمال قبضة علی الإعلام والجماعات الضاغطة والضمائر، ویکون الدور لإرادة الشعب فی من ینتخبه.

ومن المعلوم أن المنتخب الطبیعی للشعب، لا یقدم بضرر الشعب بتقلیص حریاته، وبتسلیط المؤسسات والموظفین علیه.

وإذا تحررت شعوب الرأسمالیة من الحکام المزیفین، لابد وأن تحرر سائر الشعوب المضطهدة، إذ الشعوب لا تفکر فی الاستعلاء، وإنما الذی یفکر فی الاستعلاء هم الحکام المزیفون، حیث تتوفر فی أیدیهم الأموال والأسلحة والسلطة، فیفکرون فی المزید منها حیث لا رقیب علیهم.

نتائج أنانیة الحکام

نتائج أنانیة الحکام

وحیث یجری دم التزییف والأنانیة فی عروق الحکام، لا ینعکس الاضطهاد

ص:36

الذی یمارسونه علی الشعوب المستضعفة فحسب، بل ینعکس ذلک علی شعوب أنفسهم أیضاً، وإنما یختلف الأمر بین الشعبین، من جهة الرقابة فی الجملة علیهم فی داخل بلادهم من الحزب المعارض، بینما لا یوجد مثل هذا الشیء بالنسبة إلی سائر الشعوب، فإن الطبیعة إذا انحرفت تکون منحرفة مع الکل، ولذا ورد: «من أعان ظالماً سلطه الله علیه»((1))، فالظالم الذی من طبیعته الظلم، یظلم من غیر فرق بین المظلومین، أکانوا من شعبه أم من شعب آخر، وفی المثل: (عجلة الدیکتاتوریة إذا تحرکت تسحق حتی أقرب المقربین إلی الدیکتاتور).

وحیث إن الشعوب فی البلاد التی تسمی بالدیمقراطیة، تعرف تلاعب الساسة بمقدرات الناس، وأنهم دیکتاتوریون فی أثواب مهلهلة من الدیمقراطیة، وأنها تعرف أن الرؤساء إنما یعملون لأجل أنفسهم أکثر مما یعملون لأجل شعوبهم، فإن ذلک من لوازم الدیکتاتوریة، إذ الدیکتاتور أنانی یرید نفسه لا غیره، وأنها تعرف أن الضرر علیه، والنفع لیس له.

مثلاً فضائح حکام إمریکا وبریطانیا تؤدی بسمعة الشعبین، وذلک أکبر ضرر علی الشعب، ولا فوائد ملموسة للشعب، إن الشعب یعطی الضرائب، ویخضع لنظام الجندیة، وتقلص من حریته، بینما لا یعود بمقدار ذلک نفع إلیه.

ص:37


1- الکافی: ج2 ص224 ح18.

الشعوب تعرف المرارات

الشعوب تعرف المرارات

أقول: حیث إن الشعب یعرف هذه الحقائق الثلاثة المرة، اشتهرت بینها أن السیاسة لعب وخداع وجر نفع للحکام علی حساب الشعوب، کما أنها لا تهتم بالانتخابات کما ینبغی.

فمثلا: فی عام (1956) م کان الذین حق لهم الانتخاب فی إمریکا (000/700/102) بینما لم یقدم للانتخاب منهم إلاّ اثنان وستون ملیوناً.

أما فی روسیا فلا انتخابات إلاّ لأعضاء الحزب، والناس بعدُ لا شیء، یساقون أسوأ مما یساق الأغنام، حیث إن الأغنام تساق قسراً فی قبال شبع بطونها والعنایة بها، أما الشعب الروسی أو الصینی وما أشبه فعلیهم الغرم ولیس لهم حتی شبعة بطونهم.

ونتیجة للخداع السیاسی الذی فهمته شعوب الحکومات التی تسمی بالدیمقراطیة لا یهتم الشعب بالسیاسة، ولا یهمه ما یدور فی فلک الحکومة لأن القضیة لا تعنیه.

وإنی لأذکر کیف أن الأمة فی العراق إبان حکم الملکیین _ حیث کان بعض الدیمقراطیة سائداً فی العراق، وإنما نقول بعض الدیمقراطیة لأن الدیمقراطیة هی أن یتبدل کل جهاز الحکم، بینما فی العراق کانت الملکیة الوراثیة هی التی تسود وتحکم، وإنما کان باختیار الشعب بعض أقسام الحریة الضئیلة _ کانت لا تهتم بالانتخابات، مع أنهم کانوا یغلّفونها بأغلفة کثیفة من الدعایة، وکیف أن الشعب لم یکن یهتم بأی حدث یحدث فی العراق، حتی أن الشعب ما کان یهتم بوجود القاعدة العسکریة البریطانیة فی (الحبانیة)، وإذا قیل له إنه خلاف الاستقلال، کان یتلقی الکلام بالسخریة قائلاً: وهل نحن مستقلون، وهل إن إرادتنا بأیدینا حتی نفکر فی دفع هذا الخطر، وقد نظم أحد الشعراء:

إن الوزارة لا أبا لک عندنا

ثوب یفصل فی معامل لندنا

ص:38

السیاسة من صمیم الإسلام

اشارة

السیاسة من صمیم الإسلام

(مسألة 5): السیاسة من صمیم الإسلام، وهنا سؤالان:

الأول: ما هی السیاسة؟

الثانی: بأی دلیل هی من صمیم الإسلام؟

ما هی السیاسة؟

ما هی السیاسة؟

والجواب عن الأول: إن السیاسة عبارة عن (إدارة البلاد والعباد)، وهی وإن عرفت فی کتب السیاسة بتعاریف مختلفة، إلاّ أن الجامع أو الأجمع لخصوصیاتها هی ما ذکرناه.

نعم لا شک فی أن حدود هذا التعریف أمر غیر مبین، إذ لکل صاحب نظر أن یوسع أو یضیق حدود هذا التعریف بما یلائم نظره، لأن الإدارة قد تشمل حتی أمور الناس الشخصیة من مأکل ومشرب ومسکن وزواج وما أشبه، کما تفعله الحکومات الشیوعیة، ولذا عرف بعض علماء الشرق الروسی السیاسة: بأنها عبارة عن الأمور الیومیة للناس، وعلیه فإدارة البلاد والعباد فی نظرهم إدارة کل شؤون البلاد والعباد، بما لا یبقی للناس حریة فی أی شأن.

ص:39

کما أن الإدارة فی مثل الیابان البلد الأکثر رأسمالیة، أضیق دائرة من الإدارة فی مثل بریطانیا الأکثر میلاً إلی الاشتراکیة، إلی غیر ذلک.

وهذا التهلهل فی التعریف للسیاسة لیس بدعاً، فإن أی شیء متوسط بین المفهوم الوضعی والحقیقة الخارجیة یصاب بمثل هذا التهلهل، لوضوح أن الأشیاء الخارجیة لها حدود خاصة بقدر سعة وجودها، والمفاهیم الوضعیة لها حدود ضیقة بقدر الوضع الذی وضعه واضع المفهوم.

مثلاً الإنسان له مفهوم خاص بقدر سعة وجوده الخارجیة. والصلاة لها مفهوم خاص بقدر ما وضع الشارع هذا الاسم علی الذی قصده من المسمی. أما السیاسة والاقتصاد والاجتماع وما أشبه منها، فتعریفاتها تکون مهلهلة، لأنها لیست مفاهیم وضعیة، ولا حقائق خارجیة، وإنما یراد بها الجامع بین الأفراد الخارجیة، حیث لا یعلم ما هی الأفراد الخارجیة لها بالضبط حتی یعلم حدودها.

ولذا فإنک إذا راجعت کتب السیاسة أو الاقتصاد أو الاجتماع، تری اختلاف التعاریف، والبحث والنقاش حول حدود تلک التعاریف.

تهلهل حدود السیاسة

تهلهل حدود السیاسة

والسیاسة إنما أصابها ما أصابها من عدم وضوح حدودها الدقیقة لأمرین:

الأول: إنها تشمل بنحو کل أفراد الإنسان، سواء عاشوا فرادی أو جماعات، فی حکومات بدائیة أو متحضرة، ومن الواضح أنه کلما کان استیعاب

ص:40

معنی لفظ أکثر، کان جعل تعریف جامع مانع له أصعب، لأنه تکون الأفراد المشکوک دخولها وخروجها عن ذلک المفهوم الذی یراد جعل التعریف له کثیرة، وبقدر هذه الکثرة یصعب جعل التعریف الجامع للأفراد الطارد للأغیار، مما یصطلح علیه بالطرد والعکس، لذلک المفهوم.

الثانی: إن المسائل المرتبطة بالسیاسة کثیرة، وکثرة المسائل المتنوعة المتشعبة توجب صعوبة التعریف، فإن کل مسألة اقتصادیة أو اجتماعیة أو تربویة أو عسکریة أو غیرها تصبغ عند التأمل بالسیاسة، ومن المعلوم أن تشتت المسائل یوجب صعوبة التعریف.

وعلی هذا، فالتعریف المتقدم الذی ذکرناه للسیاسة، لم یکن تعریفاً یطمئن فیه إلی العبارة، بل هو أشبه بشرح اللفظ، بتدیلها بلفظ لعله أوضح فی أذهان غیر المطلعین من لفظ: (السیاسة) ذاتها، وهذا هو مراد من قال فی بعض تعریفات السیاسة: إنها نسبیة.

إطلاقات النسبیة

إطلاقات النسبیة

فإن النسبیة لها إطلاقات:

1: إطلاق علی کل الأشیاء، کما ذهب إلیه بعض المفکرین، فقالوا بأن کل أشیاء العالم نسبیة، فلیس لدینا شیء ثابت، وهذا الإطلاق باعتقادنا خطأ، لوضوح أن من الأشیاء ثابتة أبدیة، فهل (أربعة زوج) و(المثلث له ثلاثة أضلاع) و(الکل أعظم من الجزء) و(مزج الخل بالعسل یولد شیئاً ثالثاً) وغیرها أمور نسبیة.

ص:41

2: وإطلاق علی بعض الأشیاء مما أنها نسبیة حقیقیة، مثل نسبة زید، فهو بالنسبة إلی عمرو أب، وبالنسبة إلی خالد ابن، ومثل السقف المتوسط بین العلو والسفل، فهو تحت بالنسبة إلی الأول، وفوق بالنسبة إلی الثانی، ومثل: الدینار، فهو کثیر بالنسبة إلی فلس، وقلیل بالنسبة إلی ألف دینار.

3: وإطلاق علی التعریف غیر الجامع والمانع، فمثل هذا التعریف نسبی، أی یعرف المعرف فی الجملة، فلیس بأجنبی عن المعرف، ولیس بمطرد منعکس، جامع لکل الأفراد ومانع عن کل الأغیار.

هذا إلماع إلی معنی السیاسة وتعریفها فی الجملة.

کیف أن السیاسة من صمیم الإسلام

کیف أن السیاسة من صمیم الإسلام

وأما أن السیاسة من صمیم الإسلام، فلأن الإسلام هو الدین المستوعب لأحکام ما یفعله الإنسان، سواء کان فعل الجوارح الظاهرة أو فعل الجوانح، فکل أفعال الإنسان مشمولة للأحکام الخمسة، حتی أن تفکیره السیء منهی عنه نهی تحریم أو کراهة، وتفکیره الحسن مأمور به أمر وجوب أو استحباب، ولذا قال السید بحر العلوم:

موضوعه فعل مکلفینا

غایته الفوز بعلیینا

نصوص شرعیة عامة

نصوص شرعیة عامة

وقد روی الکافی، عن حماد، عن أبی عبد الله (علیه السلام)، قال: سمعته یقول:

ص:42

«ما من شیء إلاّ وفیه کتاب وسنة»((1)).

وروی أیضاً، عن سماعة، عن أبی الحسن موسی (علیه السلام) فی حدیث، قال: قلت أصلحک الله، أتی رسول الله (صلی الله علیه وآله) الناس بما یکتفون فی عهده، قال (علیه السلام): «نعم وما یحتاجون إلیه إلی یوم القیامة»، فقلت: فضاع من ذلک شیء، فقال (علیه السلام): «لا هو عند أهله»((2)).

وروی أیضاً عن مرازم، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: «إن الله تبارک وتعالی أنزل فی القرآن تبیان کل شیء، حتی والله ما ترک شیئاً یحتاج إلیه العباد، حتی لا یستطیع عبد أن یقول: لو کان هذا أنزل فی القرآن، إلاّ وقد أنزل الله فیه»((3)).

أقول: المراد الحکم العام والخاص کما حقق فی محله، ولذا قال الصادق (علیه السلام) فی حدیث المعلی: «ما من أمر یختلف فیه اثنان إلاّ وله أصل فی کتاب الله، ولکن لا تبلغه عقول الرجال»((4)).

وفی الکافی فی حدیث، عن عبد العزیز، عن الرضا (علیه السلام): «وما ترک» أی الرسول (صلی الله علیه وآله) «شیئاً یحتاج إلیه الأمة إلاّ بیّنه، فمن زعم أن الله لم یکمل دینه فقد رد کتاب الله»((5)).

أقول: قد ذکر (علیه السلام) قبل ذلک آیة الإکمال: {الیوم أکملت لکم دینکم وأتممت علیکم نعمتی}((6)).

إلی غیرها من الروایات العامة المتواترة الشاملة للسیاسة وغیرها.

ص:43


1- الکافی: ج1 ص59 ح4.
2- الکافی: ج1 ص61 ح9.
3- الکافی: ج1 ص59 باب فضل العلم ح1.
4- الکافی: ج1 ص62 ح6.
5- الکافی: ج1 ص62 ح10.
6- سورة المائدة: 3.

نصوص خاصة

نصوص خاصة

وهناک روایات خاصة بالسیاسة، مثل ما ذکره الإمام الرضا (علیه السلام) کما فی الکافی، فی أوصاف الإمام، من قوله (علیه السلام): «عالم بالسیاسة»((1)).

وفی زیارة الجامعة الکبیرة فی أوصاف الأئمة (علیهم السلام): «وساسة العباد».

وقال علی (علیه السلام) فی کتابه لمالک الأشتر، کما فی تحف العقول: «فاصطف لولایة أعمالک أهل الورع والعلم والسیاسة»((2)).

وقال (علیه السلام) فی نفس الکتاب فی مکان آخر: «فولّ جنودک أنصحهم فی نفسک لله ولرسوله ولإمامک... وأجمعهم علماً وسیاسة»((3)).

وقال (علیه السلام) کما فی الغرر: «خیر السیاسات العدل»((4)).

وکتب (علیه السلام) فی کتابه إلی معاویة، کما فی نهج البلاغة: «متی کنتم یا معاویة ساسة الرعیة»((5))، فإن مفهومه أن غیرهم الساسة، ولیس إلاّ الإمام بعد الرسول (علیهما السلام)، ومن بعد الإمام نوابه.

إلی غیر ذلک من ألفاظ السیاسة الواردة فی الروایات.

الأنبیاء سیاسیون

الأنبیاء سیاسیون

أما الأنبیاء (علیهم السلام) کانوا ساسة، فقد ورد فی جملة من الروایات، کما یراها الطالب

ص:44


1- الکافی: ج1 ص202 ذیل ح1.
2- تحف العقول: ص97.
3- تحف العقول: ص93.
4- غرر الحکم: الرقم 5037.
5- نهج البلاغة: الکتاب 10.

فی (مجمع البحرین) وغیره فی هذه المادة، بالإضافة إلی دلالة الآیات علیه، کما فی قوله: {إنی جاعل فی الأرض خلیفة}((1))، و{یا داود إنا جعلناک خلیفة}((2)). إلی غیرهما.

بضمیمة قول الرسول (صلی الله علیه وآله): «اللهم ارحم خلفائی، قیل یا رسول الله ومن خلفاؤک، قال: الذین یأتون من بعدی ویروون حدیثی وسنتی»((3)).

وقد ذکرنا جملة من الأدلة علی ذلک فی کتابی (التقلید)، و(القضاء) وکتابی (الحکم فی الإسلام) و(الاقتصاد) فراجع.

ومما تقدم ظهر أن السیاسة من صمیم الإسلام، وأن کل محاولة لفصل الدین عن السیاسة هی من قبیل محاولة فصل العبادة عن الإسلام، وقد کان دأب الأنبیاء والأئمة (علیهم السلام) والعلماء أخذ زمام السیاسة بأیدیهم ما قدروا، فإن لم یتمکنوا من ذلک وجهوا الناس إلی وجوب ذلک مهما قدروا، وکانوا (علیهم السلام) یرجعون الناس إلی علماء الأمة ونواب الأئمة، کقوله (علیه السلام): «فإنی قد جعلته علیکم حاکماً»((4))، وغیر ذلک.

وقد وقع الخصام بین الأئمة (علیهم السلام) والعلماء وبین أصحاب الأهواء من أمویین وعباسیین، ومن حذی حذوهم فی التصدی لمرجعیة الأمة، وأخذ زمام السیاسة منذ وفاة الرسول (صلی الله علیه وآله)، فتارة حکم الأئمة (علیهم السلام) والعلماء

ص:45


1- سورة البقرة: 30.
2- سورة ص: 26.
3- الوسائل: ج18 ص65 الباب 8 من صفات القاضی ح5.
4- الوسائل: ج18 ص101 الباب 11 من صفات القاضی ح9.

وتارة غصب حقهم، حتی جاء دور المستعمر، فأدخل فی المیدان عنصراً جدیداً هو عنصر انفصال الدین عن السیاسة، وأشاع بواسطة عملائه: أن العالم الدینی الخیر هو الذی یشتغل بالعبادة والإرشاد، ولا یتدخل فی شؤون السیاسة، وذلک لأنهم رأوا أن العلماء هم السد المحکم أمام استعمارهم للبلاد وتسلطهم علی رقاب العباد.

وأقل نظرة إلی المذاکرات المعنیة بهذا الشأن أمثال: (مذکرات المس بل) و(کینیاز الکورکی) و(مستر همفر) وغیرها یجلی هذه الحقیقة.

واجب العالم الدینی

واجب العالم الدینی

وعلی هذا، فالواجب الشرعی علی العالم الدینی، کوجوب الصلاة والصیام، أن یهتم لإبعاد الحکام الظلمة عن الساحة الإسلامیة، لیقبض زمام الأمة العلماء الراشدون، فیسیرون بالأمة کما أراد الله سبحانه.

وهذا ما فعله العلماء فی هذا القرن الأخیر مع الغض عن القرون السابقة، أمثال السید المجاهد، والمیرزا الکبیر الشیرازی، والآخوند صاحب الکفایة، والمیرزا الثانی وغیرهم.

فإن فی ترک الأمر بید الحکام الظلمة هدم الإسلام کله، وأحیاء الکفر والفسق کله، قال علی (علیه السلام): «لولا حضور الحاضر وقیام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله علی العلماء أن لا یقاروا علی کظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقیت حبلها علی غاربها»((1)).

ص:46


1- نهج البلاغة: الخطبة 3.

وقال (صلی الله علیه وآله): «إذا ظهرت البدع فعلی العالم أن یظهر علمه وإلاّ فعلیه لعنة الله»((1)).

ص:47


1- الکافی: ج1 ص54 باب فضل العلم ح2.

الاضطلاع بالسیاسة واجب

اشارة

الاضطلاع بالسیاسة واجب

(مسألة 6): یجب اضطلاع العالم الدینی بالعلم السیاسی، بل ذلک وظیفة کل متدین، علی نحو الوجوب الکفائی.

وذلک لأنه یتوقف علیه إدارة أمور المسلمین، بل إنقاذ المستضعفین من براثن المستکبرین، ونشر الإسلام، وهدایة الناس من الظلمات إلی النور، اللذان هما واجبان أیضاً.

قال سبحانه: {وما لکم لا تقاتلون فی سبیل الله والمستضعفین}((1)).

وقال تبارک وتعالی: {ادع إلی سبیل ربک بالحکمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتی هی أحسن}((2)).

إلی غیرهما من الأدلة الأربعة الدالة نصاً أو بالمناط علی الإنقاذ والهدایة.

ومعرفة السیاسة لا تکون إلاّ بمعرفة ما لا یقل من أمور ستة: معرفة الدین، والاقتصاد، والحقوق، والاجتماع، والنفس، والتاریخ، وذلک لأن معرفة السیاسة لا یمکن إلاّ بهذه المعارف الستة.

ص:48


1- سورة النساء: 75.
2- سورة النحل: 125.

((1: الارتباط بین السیاسة والدین))

اشارة

((1: الارتباط بین السیاسة والدین))

1: فالدین داخل فی ترکیبة الأمم والشعوب بما لا یمکن فصلهم عنها، أما البلاد الإسلامیة والمسیحیة والبرهمیة والبوذیة ونحوها، فتدخل الدین فی شؤونها واضح.

وأما البلاد الشیوعیة، فالشیوعیة علی مسیرتها أکثر من نصف قرن والقسوة التی مارستها ضد الدین وأهله، لم تتمکن أن تستأصل المتدینین، ولا أن تقلع جذور الدین عن نفوس غیر المتدینین، ففی الاتحاد السوفیاتی زعمیة الدیکتاتوریة والإلحاد العالمیین زهاء مائة ملیون مسلم، کما فی مجلة اکتوبر، بالإضافة إلی الأعداد الکبیرة من المسیحیین وقلة من الیهود وسائر الأدیان والمبادئ، والصین الشیوعی فیه بقدر ذلک من المسلمین، وملایین کبیرة من البوذیین، بالإضافة إلی وجود قدر لا یستهان به من المسیحیین.

أما الذین ألقوا عن کاهلهم شرف الدین وانخرطوا فی سلک الإلحاد، فحیث إن الالحاد لا یملؤ الروح والفکر، فإن للإنسان جانباً مادیاً تملؤه المادة، وجانباً روحیاً لا یملؤه إلاّ الروحیات، بقوا مرتبطین إلی الدین، والدین یوجههم من طرف خفی، شاؤوا أم أبوا، اعترفوا أ، أنکروا، وحیث إن الشعوب موجهة بالتوجیهات الدینیة علناً أو خفیة، لابد لمعرفة السیاسة التی هی إدارة عامة للشعوب، من معرفة الدین والأمواج التی یحدثها الدین فی الناس علی طول الزمان، فإن الإنسان لا یتمکن أن یدیر إذا لم یعرف طبیعة الذین یرید إدارتهم، والتیارات التی توجههم وتأخذ بأزمتهم.

ولذا فاللازم أن یعرف الإنسان السیاسة من خلال معرفته بالدین، وکیفیة أخذه لزمام الحیاة فی الأفراد والشعوب، هذا من الناحیة العلمیة التی نحن بصددها الآن، فإن الإنسان لا یفهم السیاسة إذا لم یفهم الدین.

وکذلک من

ص:49

الناحیة العملیة، والتی لسنا نحن بصددها الآن، فإن السیاسی لا یتمکن أن یدیر البلاد إن لم یأخذ بالاعتبار فی أعماله وقراراته الناحیة الدینیة فی الشعب، ولذا فشل ناصر مصر وشاه إیران وقاسم العراق وأیوب باکستان وسوکارنو إندنوسیا، وإلی آخرهم فی إدارة البلاد، وکانوا فی صراع دائم مع شعوب هذه فی البلاد، إلی أن سقطوا غیر مأسوف علیهم متحملین سخط الناس وکرههم وازدراءهم، بینما کانوا قد جعلوا أنفسهم فی دعایاتهم أنصاف آلهة، بل عبر خطیب فی العراق فی الإذاعة عن قاسم: بإله الکائنات، وقال شاعر البعث: آمنت بالبعث رباً لا شریک له.

الدین العلمی والعملی

الدین العلمی والعملی

ومما تقدم تبین أن المراد بالدین العلمی الذی لابد للساسة من معرفته، وأن المراد بالدین العملی فی الأوساط الذی لابد للسیاسی من رعایته، هو الدین الذی له تیار فی الاجتماع، یعتقد به الناس ویعملون _ قلیلاً أو کثیراً _ علی طبقه، لا الدین المزیف الذی یزیفه الحکام ویریدون أن یکون وسیلة لهم إلی مآربهم السیاسیة والاقتصادیة، فمعرفة الدین المزیف لا تعطی معرف السیاسة، کما أن العمل بالدین المزیف وإرادة إجرائه فی المجتمع لا یسبب علاقة الشعب بالحکام، بل بالعکس یوجب انفصالهم عن الحکام، حیث یصفونهم حینذاک بالدجل والنفاق، وقد ورد فی حدیث شریف: «إن الحیلة فی ترک الحیلة».

فعلم السیاسة یعطی للإنسان علم کیفیة الإدارة، وما لم یعلم الإنسان الدین

ص:50

السائد فی الاجتماع کیف یعلم کیفیة الإدارة، وإذا لم یعلم کیفیة الإدارة لم یکن عالماً بالسیاسة، هذا بالنسبة إلی العلم.

أما بالنسبة إلی العمل، فإن الاجتماع السائر فی تیار دینی خاص یرفض کل ما یقاوم ذلک التیار.

جولة الباطل

جولة الباطل

فالسیاسی الذی یرید تزییف الدین معناه أنه یقاوم التیار، وسرعان ما یلفظه الاجتماع وإن تمکن أن یخدعهم أو یسیطر علیهم بالقوة برهة من الزمان، ولذا ورد: «للباطل جولة وللحق دولة»، وقبل ذلک قال سبحانه: {لا یغرنک تقلب الذین کفروا فی البلاد متاع قلیل}((1)).

((2: الارتباط بین السیاسة والاقتصاد))

اشارة

((2: الارتباط بین السیاسة والاقتصاد))

2: والاقتصاد یتفاعل مع السیاسة، فکل منهما یرتبط بالآخر ویتداخل فیه، فإن المال یأتی بالسیاسة کما أن الساسة یضعون ضوابط للمال، فالسیاسة فی الإسلام یتوقف علی فهم الاقتصاد الإسلامی السلیم الذی هو عبارة عن: (کون المال فی قبال خمسة أشیاء: العمل الفکری، والجسدی، والمواد الأولیة، وشرائط الزمان والمکان، والعلاقات الاجتماعیة)، کما فصلنا ذلک فی کتاب (الاقتصاد).

کما أن المراد بالتفاعل التفاعل السلیم، مثلاً منتخب الأمة یجب أن یکون مثقفاً، والمثقف لا یتکون إلاّ بالمال، فإن المثقف ثمرة المعاهد والمدارس والمکتبات والمختبرات وما أشبه، وکل ذلک یتوقف علی الاقتصاد، وإذا أخذ

ص:51


1- سورة آل عمران: 196.

المثقفون أزمة البلاد تصرفوا فی کیفیة تسییر الاقتصاد، ولو فی إطار الإسلام مثلاً، إذ الکلیات الإسلامیة تنزل إلی الساحة العلمیة حسب الاجتهادات الخاصة فی حدود الشریعة، فإذا لم یکن اقتصاد لم یکن مثقفون صالحون لإدارة البلاد، وإذا صار المثقفون الصالحون تأثر بهم الاقتصاد، وإذا لم ینظر السیاسی إلی السیاسة من زاویة الاقتصاد أیضاً لم یستوعب السیاسة، کما أن السیاسة إذا لم تأخذ بالاعتبار الاقتصاد، لم تکن سیاسة متکاملة.

هذا إذا لاحظنا السیاسة والاقتصاد بالنظر الإسلامی فی کلیهما.

السیاسة فی الرأسمالیة

السیاسة فی الرأسمالیة

أما إذا لاحظنا السیاسة والاقتصاد بالمفهوم الرأسمالی لکلیهما، فالتفاعل بین الأمرین خارجاً، ولزوم فهم الاقتصاد فی فهم السیاسة واضح، إذ الدیمقراطیة لا تکون إلاّ بالانتخابات، وهی لا تکون إلاّ بالمال الذی یحرکه رأس المال لانتخاب الذین سیکونون عونه فی حفظ ثروة الأثریاء وفتح الطریق أمامهم بالتشریعات القانونیة لأجل مزید تکدیس الثروة، وإذا جاء المنتخبون إلی مجالس التشریع أو إلی مناصب التنفیذ مثلاً رئاسة الجمهوریة، کان أکبر همهم الوفاء لمن أوصلوهم إلی تلک المراکز، فکل لائحة تقدم إلی مجلس الأمة ترید إنصاف الفقراء من الأثریاء تجمد، کما أن کل لائحة تقدم لأجل زیادة من رأس مال الأثریاء تصدق بسرعة.

وهکذا تکون السیاسة فی خدمة الاقتصاد، والاقتصاد فی خدمة السیاسة، وهل یمکن فهم السیاسة إلاّ بفهم أسسها وثمارها وهما الاقتصاد.

ص:52

وفی النظرة المارکسیة

وفی النظرة المارکسیة

واخیراً یأتی الدور إلی لزوم فهم الاقتصاد فی فهم السیاسة بالنظر المارکسی، بعد الغض عن النظر إلی الاقتصادین الآخیرین، وهما الاقتصاد الاشتراکی والاقتصاد التوزیعی، ووجه الغض وضوح کلیهما من فهم تدخل فهم الاقتصاد بأقسامه الثلاثة فی فهم السیاسة.

فإن المارکسیة تری أن الاقتصاد أساس کل شیء، من السیاسة والاجتماع والدین والأخلاق والحقوق والفن وغیرها، فإن کل ذلک فی هذا المنطق البناء الفوقی للاقتصاد الذی هو البناء التحتی، فإذا کان الاقتصاد بید الجمیع کان البناء الفوقی شکلاً خاصاً، وإذا کان الاقتصاد بید الرأسمالی کان البناء الفوقی شکلاً آخر، إذ لو کانت وسائل الإنتاج بید زمرة خاصة اضطرت تلک الزمرة أن تنظم السیاسة والأخلاق والدین وغیرها بشکل یضمن بقاء الاقتصاد بأیدیهم.

أما إذا کانت وسائل الإنتاج بید المجموع، کانت السیاسة وغیرها بحیث تقدم المجموع لا زمرة خاصة، مثلاً إذا کان المال بید عدة خاصة من التجار صرفوه لیأتوا بأناس یخدمونهم فی مجلس الأمة وفی السلطة التنفیذیة وفی السلطة القضائیة وفی الإعلام وفی غیرها، فتکون السیاسة والقضاء والإعلام وغیرها ذات لون خاص، بینما لو کان المال بید المجموع، کما فی الشیوعیة علی ادعاء الشیوعیین، صرفوه بحیث تکون السیاسة والقضاء والإعلام وغیرها تخدم المجموع علی زعمهم، لا أن تخدم طبقة خاصه علی حساب المجموع.

ص:53

تقسیم الأدوار المزیف

تقسیم الأدوار المزیف

وقد قسم الشیوعیون أدوار التاریخ إلی أربعة:

الأول: دور الشیوعیة الأولی، حیث لا إنتاج ولا أدوات إنتاج، وإنما کان الناس یعیشون رحلاً، یقتاتون ثمار الغابات وصید البر والبحر، ولم تکن هناک ملکیة فردیة ولا حکومة، إذ لا نظام ولا سیاسة ولا غیرها من الدین والأخلاق والفن والجیش ونحوها.

الثانی: دور العبید، حیث ظهرت بعض آلات الصید والنار ونحوهما، فاستولی علیها جماعة من الناس وأخذوا یستولون علی آخرین لقاء شبع بطون الآخرین بما یصطادونه من الصید بآلاتهم ووسائلهم، وحینذاک أخذت تظهر بعض الأنظمة المرتبطة للربط بین السید والعبید.

الثالث: دور الزراعة، حیث اکتشفت أدوات الزراعة وتعلم البشر کیف یزرع، وأخذ البشر فی هذا الدور یستقر فی أماکن خاصة من الأرض، کسیف البحار وشطوط الأنهار وقرب مجاری العیون والسیول، وهنا استولی جماعة خاصة علی أدوات الزراعة، مما قسم المجتمع إلی طبقتین، وظهرت الملکیة الفردیة للطبقة المالکة لأدوات الزراعة وللأرض، وحینذاک وضعت القوانین التی تربط المالک بالزارع، وأنظمة القضاء وما أشبه، وذلک لأن تحفظ تلک القوانین والأنظمة أدوات الزراعة والأرض فی أیدی الملاکین. وفی هذا الدور ظهرت السلطة الدیکتاتوریة، حیث کان الملاکون یجمعون حول أنفسهم کل وسائل بقاء السلطة فی أیدیهم، لئلا تنفلت من أیدیهم الملکیة الفردیة الوسیعة، فوضعوا الدین وخلقوا الإله _ بزعمهم _ لأن یقولوا للفلاحین إنهم یستمدون سلطتهم

ص:54

من الله الخالق للکون، فلا حق للفلاح فی مخالفتهم، لأن المخالفة تثیر علی الفلاح غضب الإله، کما وضعوا الأخلاق، مثل أن الخیانة قبیحة، حیث أرادوا بذلک أن لا یخونهم الفلاح فی الاستیلاء علی قدر من الحاصل، وکذلک وضعوا قوانین القضاء بما یخدمهم.

وهکذا إلی أن جاء الدور الرابع وهو دور الصناعة، والذی کان الإنتاج بسبب المکائن الکبار، وحینذاک تنازل الملاکون عن بعض الدیکتاتوریات الموجودة فی زمان الزراعة، فی قبال الاستیلاء علی أکبر قدر من رأس المال، حیث رأوا أن رأس المال لا ینمو إلاّ بإشراک أکبر عدد ممکن من الشعب فی الرأی، لتکوین المجالس التشریعیة والتنفیذیة حتی تشرع ما یفید توسیع العمل وغزو الأسواق، بحمایة جیش من الشعب یحفظ الأسواق العالمیة الذی یرید رأس المال غزوها، إذ من دون اشتراک الشعب فی الحفظ والرعایة والحراسة ونحوها لا یتمکن رأس المال من امتصاص خیرات سائر الشعوب، ومن فتح الأسواق لمنتجات الرأسمالی، ولذلک فقد عمل رأس المال فی میدانین:

أ: میدان حصر أدوات الإنتاج بیده مما بسببه یتمکن من المزید من تملک الربح.

ب: میدان الدیمقراطیة المزیفة، لیتمکن بذلک من جلب أکثر عدد من الشعب فی خدمته، وبذلک نافق رأس المال فی إعطاء حریات صوریة، وانتخابات مزیفة للناس، فی حال أنه أوجد الجماعات الضاغطة والإعلام المزیف الذی یحتوش الشعب، وصب قسماً من المال لاشتراء الضمائر، کل ذلک لکی یأتی إلی الحکم بمن یریده مشرعاً ومنفذاً وقاضیاً، لیکونوا جمیعاً فی خدمة ما احتوی علیه من رأس المال، کما تقدم بیان ذلک فی بیان معرفة السیاسة من خلال معرفة الاقتصاد، فی الأسلوب الرأسمالی.

قالوا: وحیث

ص:55

وعی العمال والفلاحون ومن إلیهم دور الرأسمالیة فی امتصاص حق الطبقة الکادحة، أخذوا یرفضون سیادة الرأسمالیة علیهم، وأخذوا بالقوة فی روسیا الشیوعیة بأزمة البلاد، وأعادوا الدور الأول للبشر الذی کان الشیوعیة، وهکذا تتوسع الشیوعیة حتی تشمل کل أقطار العالم، وإذا سادت الشیوعیة زالت الدولة عن الوجود، لأنه لا یبقی حینئذ الاحتیاج إلی الدولة.

هکذا قالوا.

تفنید الأدوار الأربعة

تفنید الأدوار الأربعة

وبهذا الاستدلال المبنی علی ادعاءات فقط، جعلت الشیوعیة للاقتصاد الدور الأساسی فی کل شیء، والتی منها السیاسة، فالسیاسة ولیدة الاقتصاد، ولذا فالشیوعی إذا أراد أن یدرس السیاسة لابد وأن ینظر إلیها من زاویة الاقتصاد.

وحیث ذکرنا فی کتاب (الفقه: الاقتصاد) و(مارکس ینهزم) وغیرهما من الکتب نقد النظریة الشیوعیة بشیء من التفصیل، لا نری حاجة إلی تکراره هنا، وإن کان لا بأس بالإلماع إلی:

1: إنه لا دلیل علی أدوار التاریخ المذکورة.

2: وإنه لا دلیل علی أن الاقتصاد هو المحرک للتاریخ.

3: وإنه لا دلیل علی أن الاقتصاد أساس للسیاسة والدین والأخلاق وغیرها، بل الدلیل فی کل ذلک بالعکس.

4: ثم لم تکن رأسمالیة فی بلاد روسیا بل کانت بلاد زراعیة، فکیف قفزت إلی الشیوعیة طافرة دور الرأسمالی.

ص:56

5: بالإضافة إلی أن الشیوعیة لم تطبق فی روسیا ولا فی غیرها إلی الآن.

6: وإن بلاد الشیوعیة أسوأ من کل ناحیة من بلاد الرأسمالیة، علی أنها سیئة أیضاً.

إلی غیرها من الإشکالات الکثیرة التی أوردت علی الشیوعیة، ولم یجدوا حتی عن أحدها جواباً.

ارتباط الحقوق بالسیاسة

اشارة

ارتباط الحقوق بالسیاسة

3: أما مدخلیة معرفة الحقوق فی معرفة السیاسة، فلأن السیاسة تنبع عن الأنظمة الحقوقیة فی الجملة، فإن الأنظمة الحقوقیة والتی تدرس فی کلیة الحقوق، هی قوانین عامة توضع لأجل إجرائها علی المجتمع فی الارتباطات الفردیة والاجتماعیة، سواء فی الاجتماعیة ربط الفرد بالدولة أو العکس، أو ربط الدولة بدولة أخری أو ما أشبه ذلک، فمثلاً الحقوق تضع القوانین لأجل القوی الثلاثة (المقننة والمنفذة والقضائیة) ولأجل روابط هذه القوی بعضها إلی بعض، ولأجل الحریات العامة، والأمور التی تجری فی البلد والأحزاب والمنظمات والصحف وسائر وسائل الإعلام وغیرها.

والإنسان إذا أراد معرفة السیاسة، لابد وأن یعرف هذه الأمور الحقوقیة، والسیاسی غالباً یجعل الحقوق إطاراً لما یرید تطلبه من الدولة أو الأمة، فاللازم أن یعترف السیاسی بهذا الإطار، وأن یجتهد فی کیفیة التطبیق علی الخارج، وأحیاناً یختلف الاجتهادات حتی إلی طرفی النقیض.

إن الاتکاء السیاسی إلی القوانین الحقوقیة حتی فی مورد تناقض الاحتمالات، یظهر بالمثال

ص:57

الآتی، حیث إنه لا إشکال أن الأدلة الأربعة هی معتمد الفقهاء فی استنباط الأحکام، ومع ذلک فقد تناقض الاجتهادات لا فی الحکم فحسب، بل وحتی فی الاستفادة من مدرک واحد.

مثلاً یری أحد الفقهاء بطلان المعاطاة أو جوازها، استناداً إلی قوله سبحانه: {یا أیها الذین آمنوا أوفوا بالعقود}((1))، حیث یقول: إنها لیست عقداً فهی باطلة، أو لا أقل من کونها جائزة ولیست بلازمة، بینما یری الفقیه الآخر صحة المعاطاة ولزومها استناداً إلی نفس هذه الآیة، حیث یقول: إنه عقد عرفی، إذ لا یلزم فی العقد اللفظ فیشمله قوله سبحانه.

وکما أن الإطار لم یختلف فی المسألة المذکورة وإن اختلفت الاجتهادات إلی حد طرفی النقیض، کذلک الإطار الحقوقی لا یختلف فی الاجتهادات السیاسیة وإن وصلت إلی طرفی النقیض.

وکذلک یتوقف العرفان السیاسی علی عرفان القانون الأساسی، والقانون الأساسی فی الحقیقة موجز لکل قوانین البلاد الموضوعة، أو التی ستوضع، فبینما قوانین الاقتصاد والاجتماع والقضاء وغیرها قد تکون مئات الألوف، یکون القانون الأساسی فی نفس الوقت أقل من ألف، مثلهما فی ذلک مثل (الکتاب) و(السنة)، حیث إن الثانی شرح للأول وتفسیر وتبیین له.

وعلیه، فاللازم لمن یرید عرفان السیاسة معرفته للقانون الأساسی، کما یلزم علیه إن أراد إدارة سیاسة البلاد، أن لا یخرج من إطاره وإن کان له الحق فی أن یجتهد فی هذا الإطار.

ص:58


1- سورة المائدة: 1.
الأدلة الأربعة فقط المصدر للدستور

الأدلة الأربعة فقط المصدر للدستور

وحیث انجر بنا الکلام إلی هنا، لابد من الإلماع إلی حقیقة یلزم أن لا یغفل السیاسی الإسلامی عنها، وهی أن القانون الأساسی _ الدستور، الذی یدون لأجل بلد إسلامی لابد وأن یؤخذ من الأدلة الأربعة حسب الأحکام الأولیة، فإذا تدخلت فی الدستور أحکام ثانویة کالاضطرار والعسر والأهم والمهم ونحوها سقطت تلک المادة عن صلاحیة کونها ضمن الدستور.

کما أن الدستور إذا وجدت فیها مادة ملفقة من الإسلامی وغیر الإسلامی کانت تلک المادة غیر صالحة، وهکذا الحال إذا تغافل الدستور عن شیء إسلامی وان کان التغافل لمصلحة ثانویة.

ولهذه الأسباب الثلاثة التی ذکرناها، ینبغی أن یکون بعض المواد فی (دستور الجمهوریة الإسلامیة فی إیران) موقتاً لا دائماً حسب الظروف الاضطراریة الخاصة، ویجب حذفها إذ أرید أن یکون القانون إسلامیاً بحتاً ودائماً.

فمثلاً: النص علی أن الرئیس یلزم أن یکون إیرانی الجنسیة إنما هو وقتی للظروف الطارئة المعاصرة، وإلاّ فإن المسلمین أخوة، لا فرق بین عربهم وعجمهم وسائر جنسیاتهم فی صلاحیة تسنم أی منصب رفیع من المناصب، فإن اشتراط الجنسیة الخاصة من مخلفات القومیة التی لم یعترف بها الإسلام من أول یوم، بل فیما ورد علی لسان رسوله الکریم (صلی الله علیه وآله): «الناس سواسیة کأسنان المشط، لا فضل لعربی علی عجمی إلاّ بالتقوی»((1)).

ولا شک أن مجلس

ص:59


1- الاختصاص: ص341.

الخبراء الذین وضعوا هذه المادة کانوا یعلمون کل العلم بما ذکرناه، لکنهم آثروا إقحام هذه المادة مراعاة لظروف طارءة، لأن الظروف الطارءة الاستثنائیة التی تمر بها البلاد فی حال الثورة، تفرض ملاحظة مثل هذا الشرط اضطراراً.

ومثال آخر: مسألة جعل التجارة (تعاونیاً، فردیاً، شعبیاً) بینما هذه المادة ملتقطة من حکم أولی ومن حکم ثانوی، بینما کان اللازم (جعل التجارة حرة بشروطها المقررة فی الإسلام فحسب).

والمثال الثالث: حذف (المضاربة ونحوها) من القانون وذلک مراعاة لظروف خاصة.

والمثال الرابع: فصل السلطات بعضها عن بعض، مع أن ذلک لیس حکماً أولیاً، وإنما هو مأخوذ من الغرب، وأی مانع من أن یکون نائب المجلس قاضیاً، أو الوزیر نائباً إذا کان صالحاً، إلی غیر ذلک.

ثم إنه وإن کان من الممکن الجواب عن کل هذه المآخذ بالحکم الثانوی، إلاّ أن الحکم الثانوی لا یصلح أن یکون مادة دائمة فی الدستور إلاّ بعنوانه حکماً ثانویاً، فهل یصح أن یجعل من مادة الدستور (منع التجول فی اللیالی) لظرف خاص اکتنفت وضع القانون الأساسی، ومجرد الاستحسان فی التفکیک بین السلطات الثلاث لا یکفی فی التشریع الأساسی الدائم.

انتهاک الساسة للنظم الحقوقیة

انتهاک الساسة للنظم الحقوقیة

وکیف کان، فقد اندفع بما تقدم من بیان لزوم معرفة السیاسی للقوانین الحقوقیة، الإشکال الذی ربما یتبادر إلی بعض الأذهان، من أنه لا فائدة فی هذه

ص:60

المعرفة بعد أن کانت القوانین الحقوقیة لا تطبق غالباً، فإن الشعوب بما فیهم الحکام یتجاوزون القوانین فی أعمالهم، والغالب أنها تکون ذریعة للوصول إلی مآربهم.

فمثلاً القوانین الدیمقراطیة، أول من ینتهکها هم الحکام والنواب، حیث إن المهم لدیهم الوصول إلی الکراسی، سواء کان ذلک الوصول عن الطرق القانونیة، أو عن طریق الإرشاء واشتراء الضمائر وتزییف الانتخابات.

وکذلک الکلام فی القضاة وسائر قطاعات الدولة، والشعب لا یشذ عن ذلک، حیث إن أسهل شیء عندهم انتهاک القانون، وفی مثل هذا الجو الذی فیه القانون أهون شیء، أیة فائدة لمعرفة السیاسی للحقوق، وأی احتیاج للسیاسة إلی القانون الحقوقی.

وجه الاندفاع: إن الانتهاک شیء، والمسلمیة لدی الجمیع لیکون مورد الأخذ والعطاء ومرجعاً لدی الاختلاف والتنازع شیء آخر، وهل یتمکن أن تعیش أمة بدون مسلمیات تجعل المرجع والمنطق، فإن الفرد یحتاج فی حیاته الشخصیة والاجتماعیة إلی ما یبنی علیه أمره من الأصول والمقررات، وإلاّ کانت حیاته فرطاً، کما قال سبحانه: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذکرنا واتبع هواه وکان أمره فرطا}((1)).

والإنسان المفرط لا یصلح للبقاء لأنه هادم، فکیف یصلح للعشرة وأن یکون للاجتماع الذی یراد إصلاحه، وإذا صارت الأمة مفرطة فأجدر بها أن تزول، کما قال الشاعر:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقیت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ص:61


1- سورة الکهف: 28.
التدقیق فی المجتمع

التدقیق فی المجتمع

ومما تقدم ظهر أمر آخر أیضاً، وهو أن السیاسی لیس بإمکانه أن یکتفی بمعرفة القوانین الحقوقیة بما فیها الدستور، إذ لا یعرف الاجتماع من خلال مطالعة القانون، وذلک لما تقدم من أن القانون ینتهک دائماً، بل اللازم علیه أن یدقق النظر فی الاجتماع أیضاً، لأن السیاسی یرید الانطلاق من الاجتماع لإصلاح الاجتماع، وإذا لم یعرف المجتمع وقدر تطبیقه للقانون وهتکه للقانون، کیف یمکنه إصلاح المجتمع.

فإن الطبیب الذی لا یعرف الداء لا یمکنه إعطاء الدواء، ومجرد معرفة الطبیب بالقوانین الطیبة والأمراض والأدویة لا یکفی فی اعطائه الدواء الملائم، إذا لم یشخص مواضع العطب والخلل.

الارتباط بین السیاسة وبین علم الاجتماع

اشارة

الارتباط بین السیاسة وبین علم الاجتماع

4: أما احتیاج السیاسة إلی علم الاجتماع، واحتیاج السیاسی إلی أن یکون عالماً بالاجتماع، فلأن السیاسة شکل من أشکال الروابط الاجتماعیة.

فعلاقة العائلة بعضهم إلی بعض رابطة اجتماعیة، وعلاقة المتعاملین أحدهم بالآخر رابطة اجتماعیة، وعلاقة التلامیذ بالأستاذ، وعلاقة المجرم بمن وقعت علیه الجریمة، وإلی غیرها من العلاقات، کلها روابط اجتماعیة، والسیاسة وهی علاقة مجموع الشعب بهیئة حکامه، وبالعکس من أکبر الروابط الاجتماعیة، لوضوح أن ما عداها محدود بقطاعات خاصة، بینما هذه (السیاسة) تشمل کل الأمة بمختلف قطاعاتها.

فإن بحوث علم الاجتماع من أمثال: الارتباط بین الطبیعة

ص:62

والمجتمع، وبین العلم والمجتمع، وکیفیة السلوک الاجتماعی، وتقسیم المجتمع إلی طبقات، والأمور المرتبطة بالشخصیة والمؤسسات الاجتماعیة، والطوارئ علی المجتمع کالحرب والسلم والتقدم والجمود، والتکامل الاجتماعی، وغیرها مما یذکر فی علم الاجتماع من المسائل، ترتبط بالسیاسة مباشرة، حتی إن علم السیاسة (وهو علم الإدارة العامة) لا یتم إلاّ به، وحتی إن السیاسی لا یتمکن من الإدارة إلاّ بالعلم بتلک المواضیع.

تبادل الاحتیاج بین العلمین

تبادل الاحتیاج بین العلمین

ثم إن (علم الاجتماع) و(علم السیاسة) یتبادلان الاحتیاج، فالسیاسة بدون الاجتماع ناقصة، کما أن علم الاجتماع بدون علم السیاسة ناقص، فإجمالاً کل داخل فی کلی الآخر، فالسیاسة تأخذ عینات من علم الاجتماع لتجعلها موضع الدراسة والاعتبار، کما أن علم الاجتماع یأخذ جملاً من علم السیاسة لیطالعها ویفهم علی ضوئها بعض الروابط الاجتماعیة، حیث إن علم الاجتماع بصدد فهم الروابط الاجتماعیة.

وبدون معرفة السیاسی علم الاجتماع من ناحیة المفهوم، ومطالعته لذات المجتمع من ناحیة الانطباق، لا یتمکن أن یکون منطلقاً عن المجتمع، کما لا یتمکن أن یکون موجهاً للمجتمع، فهو کما ذکرنا فی الموضوع الثالث المتقدم، کالطبیب الذی لابد له من علم الطب مفهوماً وانطباقاً لیتمکن من العلاج.

ص:63

الارتباط بین علم النفس والسیاسة

اشارة

الارتباط بین علم النفس والسیاسة

5: ومن هنا یظهر وجه احتیاج السیاسة إلی علم النفس، حیث إن مهمة السیاسة الإدارة، والإدارة لا تکون إلاّ علی البشر ولأجل البشر، وبدون أن یتعرف السیاسی علی النفسیات للأفراد والفئات، کیف یتمکن من الإدارة.

فان حجر الزاویة فی کل شیء إنسانی هو فرد الإنسان، وفرد الإنسان (جسد) و(نفس) و(روح)، فالجسد هذا المشاهد السفلی، والروح نفحة قدسیة، قال سبحانه: {ونفخت فیه من روحی}((1))، همّها السمو بالإنسان، والنفس شیء بین ذین الشیئین یجرها الجسد تارة إلی السفل، وتجرها الروح تارة إلی العلو.

ولذا نشاهد الازدواجیة فی الإنسان، حیث إن شیئاً فی داخله یأمره بالحسن، وشیئاً آخر فی داخله أیضاً ینهاه عن الحسن، وکذلک یأمره أحدهما بالقبیح وینهاه الآخر عنه، مما یظهر منه أنهما قوتان فی داخل الإنسان، فإن القوة الواحدة لا یصدر منه إلاّ أمر واحد، وإلاّ لصدر کل شیء من کل شیء، کما قالوا فی الفلسفة.

ومن جهة توسط النفس بین السمو والانحطاط، بخلاف الروح التی هی سامیة أبداً، نری فی القرآن الحکیم أنه إذا جاء فیه ذکر (الروح) قورن بالاحترام، بینما إذا جاء فیه ذکر النفس قورن بالاحتمالیة، قال سبحانه: {ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها}((2)).

وإذ ظهر أن مهمة السیاسی الإنسان، والإنسان جسد ونفس وروح، والروح سامیة أبداً فهو مکفی المؤونة،

ص:64


1- سورة الحجر: 29، سورة ص72.
2- سورة الشمس: 7 _ 8.

وإنما یبقی (الجسد) الذی من شأن الطبیب علاج عطبه، و(النفس) التی یجب علی السیاسی وغیره تقویمها، ظهر وجه احتیاج السیاسة إلی علم النفس.

ومن الواضح أنا لا نقصد أن السیاسی وحده علیه تقویم النفس، بل القصد مدخلیة السیاسة فی ذلک، فإن المقوم الأهم للنفس الدین والأخلاق، وذکر الأخلاق بعد الدین من باب ذکر الخاص بعد العام.

جوهر النفس یؤثر فی أمور أربعة

والنفس إذا قومت تقوم کل شیء، حیث إن جوهر النفس یحیط به أربعة أمور:

1: النفس العاملة، حیث إن جوهر النفس یؤثر فی عمل النفس أیضاً، ولذا جعلناهما شیئین.

2: والبدن.

3: والمحیط الاجتماعی بکلا شقیه، المجتمع الصغیر کالعائلة والمدرسة، والمجتمع الکبیر وهی الأمة کلها.

4: والمحیط الطبیعی من الأرض وما فیها وما علیها، ومن الواضح أنه إذا صلح جوهر النفس قامت النفس بإصلاح کل تلک المحیطات، وإذا ترک جوهر النفس وشأنه فسد وأفسد تلک المحیطات.

والساسة یجب أن تعرف الاجتماع، ومعرفة الاجتماع لا یمکن إلاّ بمعرفة النفس، وإصلاح جوهر النفس أهم مهمات السیاسی، لما قد عرفت من أن الاجتماع من الأمور المحیطة بالنفس، فإذا صلح جوهر النفس صلح، وإلاّ لم یصلح.

ص:65

احتیاج السیاسی إلی التاریخ

اشارة

احتیاج السیاسی إلی التاریخ

6: وأخیراً تحتاج السیاسة إلی علم التاریخ، فالسیاسی لا یکون سیاسیاً بمعنی الکلمة إلاّ إذا عرف التاریخ، لأن ما یجده الإنسان الآن فی الحال الحاضر لیس ولید نفسه، وإنما التاریخ الطویل له مدخلیة فی تکوینه، وإذا لم یعرف الإنسان العلة لم یعرف المعلول، ولم یتمکن أن یعالج الأمر المطلوب علاجه.

مثلاً السیاسی الذی یهمه أمر العراق، لابد له من العمل لإسقاط حزب البعث الذین طغوا فی البلاد فأکثروا فیها الفساد، وإسقاط حزب البعث إنما یتسنّی للإنسان إذا عرف الظروف السیاسیة والأحوال الاجتماعیة والأسباب الاقتصادیة التی کانت فی العراق مما ساعدت علی تکون هذا الحزب، معرفة تحلیلیة فقهیة لا سردیة، إذ لو لا معرفة تلک الظروف والأحوال والأسباب لم یعرف الإنسان مکمن المرض فی الأمة، واذا لم یعرف مکمن المرض لم یتمکن من إزالته، لتعود الحالة الطبیعیة إلی البلاد.

المعرفة الفقهیة

المعرفة الفقهیة

وإنما قلنا یجب أن تکون المعرفة فقهیة لا سردیة، إذ العلم بمسلسل التاریخ لا یوصل الإنسان إلی جوهر المشکلة، فمثل (سرد التاریخ) و(فقه التاریخ) مثل (الأحادیث) و(الفقه)، فالإنسان لا یعرف الأحکام والمسائل بمجرد معرفة الروایات سرداً، وإنما الفقیه بحاجة إلی جمع الروایات ومعرفة عامها وخاصها،

ص:66

ومحکومها وحاکمها، ومطلقها ومقیدها، وجهات الصدور فیها، إلی غیر ذلک من قواعد الدرایة والرجال والأصول.

التاریخ المعاصر والسیاسة

التاریخ المعاصر والسیاسة

وبذلک یعرف أنه لا یکفی للسیاسی معرفة التاریخ فقط، بل اللازم علیه عرفان مجریات الأحداث والتیارات التی تتفاعل فی البلاد من الخارج، إذ کل بلد مهما کان معتزلاً عن العالم بالستار الحدیدی، کبلاد الشیوعیین مثلاً، لابد له من الفعل والانفعال فی سائر بلاد العالم، اقتصادیاً وسیاسیاً واجتماعیاً وغیرها، فإذا لم یعرف السیاسی أحوال العالم المعاصر لا یتمکن فهم ما یجری فی بلاده.

وهذا نوع من التاریخ أیضاً، فإن الزمان سیال یستوعب الکل، وینقضی عن الکل، وما یخفی فی باطنه یسمی (تاریخاً)، فإن کل لحظة سابقة علی (الحال) تاریخ، سواء لوحظ بالنسبة إلی بلد السیاسی، أو بالنسبة إلی سائر البلاد.

والتاریخ الذی یجب أن یعرفه السیاسی، بعضه أهم من بعض، فالتاریخ السیاسی والاجتماعی والاقتصادی أهم من غیرها، کما أن التاریخ السیاسی بصورة أعم لا یغنی عن معرفة التاریخ الدبلوماسی، وتاریخ الروابط بین الأمم.

معرفة تاریخ استیعابی

معرفة تاریخ استیعابی

ثم إن التاریخ الذی یجب علی السیاسی معرفته یجب أن یکون استیعابیاً تصاعدیاً، وکلاهما فیه قدر کبیر من الصعوبة، إذ (الاستیعابی) بحاجة إلی معرفة

ص:67

کدس کبیر من التاریخ عمودیاً، أی بامتداد الزمان، وأفقیاً، أی بسعة الأمم والمکان.

مثلاً من یرید إعادة حکم الإسلام وتوحید المسلمین تحت حکومة واحدة کما أمر الإسلام، بحاجة إلی معرفة التاریخ منذ میلاد المسیح علیه السلام عمودیاً، کما أنه بحاجة إلی معرفة کل الأمم والأمکنة التی تفاعلت بعضها فی بعض منذ عشرین قرناً أفقیاً، وحیث إن ذلک لا یتسنی لإنسان واحد، یحتاج إلی الاعتماد علی جماعات تخصص کل واحد فی قطعة من التاریخ، قطعة زمانیة أو مکانیة.

ومن الواضح أن القطعة لا تکون حینئذ متفاعلة حتی تعطی وحدة شاملة هی مهمة السیاسی، فاللازم أن یعتمد السیاسی حینئذ علی ذکائه فی استنتاج الوحدة من تلک القطع المتعددة، وإلاّ لم یعرف الروح العامة للتاریخ، وقد فرض أن الروح العامة فی الغابر هی المؤثرة فی العالم الحاضر.

أما التصاعدی، فلأن الاستنتاجات عن الأحداث، تختلف کلما تقدم الزمان وظهرت معالم الحق أکثر فأکثر، فمثلاً قد ینظر التاریخ إلی هارون کأمیر المؤمنین، ثم کملک عادل، ثم کملک عادی، ثم کدیکتاتور سفاک فاجر، فإنه کلما جلی التاریخ ظهرت الحقائق أکثر فأکثر، ومن المعلوم أن التاریخ الحقیقی هو المؤثر، لا التاریخ المزیف.

ولذا یجب علی السیاسی أن یتصاعد مع التاریخ، وإلاّ کانت النتائج عکسیة، فإن الرئیس العادل غیر الرئیس الجائر، فی جعله أسوة واتباعه فی السیرة، فإن التاریخ یتجدد بتجدد الحیاة فی کل زمان، بسبب مؤرخین جدد، یستندون إلی مدارک جدیدة واستنتاجات جدیدة، فإذا لم یکن السیاسی تصاعدیاً فی فهمه

ص:68

السیاسة من خلال التاریخ، لم یتصاعد فهمه فی الأسباب، وبذلک یفشل فی علاجه للمسببات، العلاج الذی هو مکلف به، باعتباره رجل سیاسة علیه إدارة الأمور علی النحو الأفضل.

وحیث إن المؤرخین ینقسمون إلی مجموعات، وکل مجموعة تخالف المجموعة الأخری فی النظریات، فاللازم علی السیاسی أن لا یؤطر تفکیره بإحدی تلک الإطارات، وإلاّ لم یکن استیعابیاً یصل إلی أفضل النتائج، وفی الحدیث: «أعقل الناس من جمع عقل الناس إلی عقله».

مثلاً المؤرخون المارکسیون یجعلون أدوار التاریخ أربعة کما تقدم، ویستخلصون من ذلک أن الأساس لکل شیء الاقتصاد، ولذا یبنون تفکیرهم المستقبلی علی الاقتصاد، بینما المؤرخ (توینبی) یقسم أدوار التمدن البشری إلی واحد وعشرین قسماً، ویجعل لکل تمدن أربع مراحل، کمراحل الفرد من ولادة ورشد وشیخوخة وموت، کما یری أن حجر الأساس فی تسییر الفرد الدین، وکذلک هو حجر الأساس فی التحولات الاجتماعیة، فی کل أدوار التاریخ عنده... ولعله یأتی المؤرخون الفرویدیون ویجعلون المحرک الأساسی فی التاریخ الجنس، قیاساً علی کون المحرک الأساسی فی الفرد الجنس، حسب نظریة فروید، وکذلک تأتی فئة رابعة یجعلون حجر الأساس الزعامة وحب السیطرة، وهکذا.

ترجمة التاریخ وتطبیقه

ترجمة التاریخ وتطبیقه

وقد تبین مما تقدم أن اللازم علی السیاسی أن لا یجعل التاریخ کالمیت

ص:69

المحنط الذی ینقله أصحاب الآثار من متحف إلی متحف، فالزمان لیس متحفاً، والتاریخ لیس میتاً.

بل اللازم أن یترجم التاریخ _ الذی یرید أن یجعله أسوة _ إلی روح تلائم عصره، لیستفید منه سیاسیاً فی حال کونه یتخذه أسوة أیضاً.

فمثلاً انتصارات الإسلام، یجب أن لا یغفل عنها جسماً وروحاً، لأجل نهضة إسلامیة جدیدة، وفی نفس الوقت یجب أن لا تتخذ جسماً هامداً یراد نقلها بأبعادها المعلومة تاریخیاً إلی الزمان الحاضر، فإنه یکون حینئذ من قبیل المحاربة فی عصر الصاروخ بالسهم، والاستطلاع فی عصر الأواکس بالدخان الذی کان یعتمد علیه فی إرسال الأخبار المهمة إلی البلاد البعیدة بسبب المنائر المنصوبة لذلک.

ص:70

السیاسة علم وفن ومعرفة

اشارة

السیاسة علم وفن ومعرفة

(مسألة 7): قد یتوهم أن السیاسة لیست علماً، وإنما هی إدارة، والإدارة عمل، وذلک یعتمد علی ذکاء الإنسان وتجاربه وما یأخذه من المحیط.

وقد یتوهم أن السیاسة لیست إلاّ إتقان فن الکذب والدجل والنفاق.

وقد یتوهم أن السیاسة لیست من الإسلام، وأن العالم الدینی هو العارف بالتفسیر والتاریخ الإسلامی والفقه وما أشبه.

وکل هذه الاوهام لا أساس لها من الصحة، فالسیاسة علم کسائر العلوم، ولعل هذا التوهم نشأ من أن البریطانیین قلما یطلقون العلم علی السیاسة، وکثیر من بلاد الشرق الأوسط کانت خاضعة للاستعمار البریطانی وسرت إلیها ثقافتهم.

ولذا زعم جمع من المثقفین فی هذه البلاد تبعاً لهم، أن السیاسة لیست علماً، وماذا هو العلم، إن العلم هو مجموعة کشوف للحقائق الکونیة، سواء کانت حقائق خارجیة، أو حقائق انتزاعیة، أو حقائق اعتباریة، والفرق بین الأخیرین أن الأمور الانتزاعیة له تقرر فی ظرف ما، سواء کان إنساناً أو عیناً أو لم یکن أحدهما، أمثال أن (الأربعة زوج) و(الکل یساوی أجزاءه) إلی غیر

ص:71

ذلک، حیث إنه إذا فرض عدم وجود مفکر کانت الأربعة زوجاً، والکل یساوی أجزاءه، وکذلک إذا لم یکن مخلوق أصلاً لم تخرج هاتان الحقیقتان عن واقعهما، فالأربعة کلما وجدت فهی زوج، وهکذا.

أما الأمور الاعتباریة فهی التی لا حقیقة لها فی عالم ما، لا عالم الخارج والعین، ولا عالم الانتزاع، بل وجودها باعتبار المعتبر حتی إذا لم یکن معتبر لم تکن، مثل کون الدینار له اعتبار المالیة، فإن الدینار (الورق) لا یسوی فلساً واحداً، وإذا کان بدون اعتبار من بیده الاعتبار لا یعطی فی قبال مائة منه حتی قرص خبز واحد، بینما إذا اعتبره المعتبر کان کل دینار فی قبال مائة خبز مثلاً.

واذا تحقق أن العلم عبارة عن مجموعة کشوف، فالسیاسة علم، حیث إنه کشوف لکیفیة الإدارة العامة، ولکیفیة الارتباطات، وأنها عبارة عن مجموعة أغصان علوم، کعلم التاریخ والاجتماع والاقتصاد وغیره.

ولعل الذین نشروا أن السیاسة لیست بعلم فی البلاد الإسلامیة کانوا عامدین، حتی ینسحب المسلمون عن تعلم السیاسة، فیخلو لهم الجو فی أن یستغلوا جهل الناس، فیفعلوا ما یشاؤون، کما حدث ذلک بالفعل.

ترکیز الیهود لانعدام الوعی السیاسی

اشارة

ترکیز الیهود لانعدام الوعی السیاسی

إن عدم الوعی السیاسی رکّز إسرائیل فی المنطقة، واقتطع لبنان الإسلامی وأعطاه للصلیبیة، وجاء بحکومات الانقلابات التی لیس لها أی سند من العقل والمنطق حتی قدر قلامة ظفر، وشتت بلاد الإسلام إلی دویلات لا حول لها ولا طول، وجاء المستعمرون إلی البلاد تارة بالقومیة، وأخری

ص:72

بالشیوعیة، وثالثة بالاشتراکیة، ورابعة بالوجودیة، وهکذا، وجعلوا (القانون) مکان أحکام الإسلام، إلی غیرها وغیرها من المآسی التی لم یکن یمکن أن تقع حتی جزء منها لو کان الوعی السیاسی موجوداً.

((هل السیاسة ملوثة))

((هل السیاسة ملوثة))

أما التوهم الثانی: فهو ولید لعمل المستعمرین، مفهوماً ومصداقاً، فإنهم هم الذین نشروا تفسیر السیاسة بالمعنی المذکور، حتی یأباها أصحاب الضمائر والدین، وبذلک یتسنی لهم أن یأتوا بعملائهم إلی الحکم، وفی غیاب من الرشد الفکری والوعی السیاسی وفی جو وُصمت السیاسة فیه بالانتهازیة والدجل والنفاق، مما سبب انسحاب الأخیار من المیادین، جاء الاستعمار بأتاتورک ترکیا، وبهلوی إیران، وسادات مصر، وقاسم العراق، وغیرهم فی سائر بلاد الإسلام، هذا من جهة المفهوم.

وأما من جهة المصداق، فإن الذین دفع بهم المستعمر إلی سدة الحکم فی بلاد الإسلام کان کل منهم مصدقاً لما نشروه من المفهوم الآنف، حیث لم یر الناس فیهم إلاّ بائعی الأوطان والمبتغین للشهوات الرخیصة والمنافقین والدجالین، إلی آخر قائمة صفاتهم المعروفة، وإذ (صدق الخبر الخبر) تجنب الصالحون السیاسة أکثر فأکثر، مما فسح المجال أمام المستعمرین وعملائهم.

((هل السیاسة لیست من الإسلام))

((هل السیاسة لیست من الإسلام))

وأما التوهم الثالث، فقد کان من نشر المستعمر، حیث إن علماء الإسلام إذا انزووا عن المیدان تسنی للمستعمر أخذ أزمة البلاد، وجعل القوانین التی تخدم الکفر والکفار عوض الإسلام الذی فیه العزة والاستقلال والنجاة، وإلاّ فقد کان الرسول والائمة (علیهم الصلاة والسلام) کلهم یزاولون السیاسة، وکذلک کان شأن العلماء قبل دخول المستعمر البلاد.

وهذه کتبهم الفقهیة وصفحات تاریخهم المشرق، تنبی عن بیانهم المسائل

ص:73

السیاسة وتدخلهم فی الأمور، کما ینبی عن تدخلهم أحوال الشریفین والفاضلین والمجلسیین والعاملیین والشیرازیین وغیرهم ممن سردت أحوالهم فی کتب مفصلة.

ثم نرجع إلی الذین قالوا إن السیاسة لیست بعلم ونقول لهم: ما هی میزات العلم، لنری هل أن السیاسة علم أم لا.

میزات العلم الثلاث

وإذا لاحظنا میزات العلم، نجد أنها ثلاث میزات رئیسیة:

الأولی: میزة الضبط والمحاسبة.

الثانیة: میزة الرؤیة المستقبلیة.

الثالثة: میزة الانفلات عن الخرافة ومشاکل الحیاة.

ونری أن کل هذه المیزات الثلاث موجودة فی علم السیاسة.

((الضبط والمحاسبة))

((الضبط والمحاسبة))

أما المیزة الأولی: فالسیاسة تضبط الاجتماع، وتجعل له الحسابات الدقیقة أو التقریبیة، فمثلاً السیاسة تبین الروابط بین الفرد والدولة، والدوائر بعضها ببعض، والدول بعضها ببعض، وتجعل للانتخابات والأکثریة والحریات وسائر الأمور السیاسیة حسابات وضوابط.

ولیس معنی ذلک أنها کالمحاسبات الریاضیة والهندسیة بتلک الدقة المتناهیة، وعدم التخلف حتی فی کل ألف واحد، کما هو شأن جملة من العلوم کالعلمین السابقین، وکالمنطق والکلام والفلسفة والفیزیاء والکیمیاء ونحوها، فإن من العلوم ما لا تخرم قواعدها إطلاقاً، ومن العلوم ما تجعل القواعد الأکثریة والضوابط الأغلبیة، فمن القسم الأول الضرب حساباً، والمثلث هندسة، والأشکال الأربعة منطقاً، وأصول

ص:74

الدین کلاماً، ومباحث الوجود والعدم فلسفةً، وآثار المادة بنفسها أو تفاعلها فی غیرها فیزیاءً وکیمیاءً، حیث لا تخلف لقواعد هذه العلوم إطلاقاً.

کما أن من القسم الثانی مباحث علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاقتصاد وعلم الطب ونحوها، حیث إنها غالبیة لا تدقیقیة.

مثلاً (الاجتماع) یقول: الحرب تسرع عجلة العلم إلی الأمام. وهذه القاعدة لیست صادقة علی کل الحروب، إذ منها ما تستنفذ قوی الشعب فتسقطه إلی الحضیض.

و(النفس) یقول: الإیحاء النفسی تلون النفس بلون الإیحاء. ولیس ذلک إلاّ أغلبیاً، إذ ربما لا ینفع الإیحاء فی بعض السفهاء وأصحاب الاتجاهات القویة.

و(الاقتصاد) یقول: بقاعدة العرض والطلب فی الرخص والغلاء. بینما قد یتدخل شیء آخر مما یأخذ الزمام عن القاعدة المذکورة، فیقل العرض مع الرخص أو یکثر مع الغلاء.

و(الطب) یقول: إن الطعام الفلانی یوجب إسهالاً. بینما قد یتدخل عامل آخر فیورث الطعام المذکور إمساکاً.

ولذا تری أن علماء هذه العلوم یعترفون بأغلبیة قواعدهم الموضوعة لتلک العلوم، بینما تری العلماء من القسم الأول یقولون بدقة قواعدهم المقررة دقة متناهیة.

وعلم السیاسة من القسم الثانی، فقواعدها أغلبیة لا دائمیة، ومجرد ذلک لا یخرج السیاسة عن کونه علماً، وهذا ما یعبر عنه عند بعض بأن أسبابها بالنسبة إلی مسبباتها من باب (المقتضی) لا من باب (العلة التامة).

ثم إن ما ذکرناه من أغلبیة قواعد بعض العلوم، لا یراد بها أنه لا ضوابط دقیقة لقواعد تلک العلم إطلاقاً، بل المراد أن البشر لم یصل فی معرفته إلی تلک القواعد بشرائطها وموانعها، وإلاّ فالله سبحانه جعل لکل شیء قاعدة دقیقة

ص:75

لا یمکن التخلف عنها قید شعرة، وإنما یصل علم البشر إلی بعض تلک القواعد بکل شرائطها وموانعها، فتکون القاعدة مکتشفة بدقة کقاعدة أرخمیدس فی السوائل، وبعض قواعد نصیر الدین فی الفلک، وقواعد رسطالیس فی المنطق.

وقد لا یبلغ علم البشر إلی کل تلک القواعد فی شرائطها وموانعها، فیضع القاعدة الأغلبیة، کقواعد الطب، إنه لا شک أن سقمونیا مثلاً إذا اجتمع فیه الشرائط الواقعیة کان مسهلاً للصفراء. لکن حیث لا یعرف الطبیب کل تلک الشرائط بدقة، کان لابد له أن یقول: إنه مسهل أغلبی، إذ ربما یصادف فقد شرط أو وجود مانع فلا یؤثر الأثر المذکور.

وهکذا بالنسبة إلی کل علم له قواعد أغلبیة لا قواعد دقیقة، ولذا کلما تقدم العلم فی أمر تقدم الضبط فی قواعده، حیث إن معنی تقدم العلم المزید من معرفة الشرائط والموانع.

وإنما ادعینا أن کل القواعد الواقعیة دقیقة غایة الدقة، للقاعدة العقلیة المعروفة: (الواحد لا یصدر إلاّ من الواحد، ولا یصدر منه إلاّ الواحد) بالنسبة إلی الفاعل بالجبر، وإلاّ لصدر کل شیء عن کل شیء.

وإن شئت قلت: (قاعدة العلل والمعالیل) عقلیة بکل دقة، وتلک لا تدع مجالاً لعدم الانضباط ولو بقدر شعرة، وإن الذی ندعی هو عدم کشف الإنسان حین کشف القاعدة لکل شرائطها وموانعها، وإلاّ فمع اجتماع الشرائط وفقدان الموانع لابد وأن تؤثر العلة فی المعلول بدون التخلف.

الرؤیة المستقبلیة

الرؤیة المستقبلیة

أما المیزة الثانیة: وهی میزة الرؤیة المستقبلیة، فإن العلم عبارة عن مجموعة

ص:76

کشوف یصل الإنسان بسببها إلی مناهل الحقائق، فیعطی العلم للإنسان رؤیة المستقبل، بأنه کلما تحقق السبب تحقق المسبب، وهل العلم إلاّ ذلک.

فعلم الطب مثلاً یعطی للإنسان معرفة أنه کلما تعفنت الأخلاط کانت الحمی، أو کلما دخلت الجرثومة الفلانیة فی رئة الإنسان تحقق التدرن الرئوی.

وعلم الهندسة یعطی رؤیة أنه کلما تحقق المعین من أبعاد ثلاثة خاصة تحقق للجسم الاستیعاب بالقدر الفلانی.

وهکذا بالنسبة إلی سائر العلوم حتی اللفظیة منها، ففی علم النحو یقال: کلما تحقق وصف فضلة نصب علی الحالیة.

والسیاسة هکذا تعطی الرؤیة المستقبلیة، مثلاً فی فصل الانتخابات تعطی السیاسة قاعدة أنه کلما کان المرشح أکثر نزاهةً وأکبر دعایةً کان فوزه أقرب من فوز خصمه.

وفی فصل السیاسة الدولیة نری القاعدة العامة القائلة، بأنه کلما کانت الحضارة فی دولة أکمل، کانت السیادة فیها علی الدول الأقل حضارة منها أکثر، إلی غیر ذلک من المسائل السیاسیة التی تعطی الرؤیة المستقبلیة.

انعدام الرؤیة للمستقبل

انعدام الرؤیة للمستقبل

أما ما نشاهد من عدم تمکن السیاسی من الرؤیة الدقیقة للمستقبل فی کثیر من الأحیان، فإنه یعود إلی أحد أمرین:

الأول: عدم اهتمامه بالمقدمات اهتماماً کافیاً، وحیث غلطت عنده المقدمات لم تکن النتیجة المتوخاة.

الثانی: عدم درکه لکل الأسباب والشرائط والموانع، ومن الواضح أن النتائج تابعة لمقدماتها، لا لما أدرک الإنسان من الإدراکات الناقصة غیر الواقعیة،

ص:77

وإلا فحتی العلوم الریاضیة إذا لم یهتم الریاضی بالمقدمات حق الاهتمام، أو لم یدرکها حق الإدراک، لم یصل إلی فهم النتیجة الصحیحة.

الإنقاذ من الخرافة والمشکلة

الإنقاذ من الخرافة والمشکلة

وأما المیزة الثالثة للعلم: وهی میزة الإنقاذ من الخرافة والمشکلة، فهی متوفرة أیضاً فی علم السیاسة، فإن السؤال المطروح فی کل أنواع العلوم: إنه ما فائدة العلم، وماذا ننتفع من التحقیقات حول علم ما، والجواب: إن العلم بالغض عن کونه فضیلة، وعن کونه قد یکون لنفسه، فیقال: العلم للعلم، یعطی للإنسان أحد شیئین:

1) الإنقاذ من الخرافة والبدائیة.

2) الخلاص من مشکلات الحیاة.

فالإنسان یخلق خالی الذهن، کما قال سبحانه: {والله أخرجکم من بطون أمهاتکم لا تعلمون شیئاً}((1))، وهذا الفراغ الذهنی ینتج أول ما ینتج (البدائیة التفکیریة) ثم (عدم وصول الإنسان إلی الحیاة السعیدة) وکثیراً تصل البدائیة إلی الخرافة، فتزرع فی الذهن المواد الضارة وخلاف الحقائق مما یسمی بالخرافة، کما أنه کثیراً ما ینتج الفراغ الذهنی المشکلات الجمة، والتی أحیاناً تؤدی إلی عطب الإنسان أو فقده حیاته.

فمثلاً من لا یعتقد بوجود إله عالم قدیر حکیم، لابد وأن یعبد الصنم أو أن ینتهی إلی أن الکون معلول طبیعة جامدة عاجزة، وکلاهما خرافة، مثلهما مثل من یعتقد بأن مجلدات دائرة المعارف من تألیف بقرة، أو من تألیف

ص:78


1- سورة النحل: 78.

الشمس والهواء والماء والتراب، وهل الطبیعة شیء إلاّ هذه الأمور الأربعة وما أشبهها.

ویأتی بعد ذلک دور المشکلات، فمن ینزل فی عینه الماء، ولا یعرف الطب ولیس هناک طبیب، یعیش طول حیاته أعمی، ومن ابتلی بحمی السل، ولم یکن طبیب ینقذه، اخترمه الموت فی ریعان شبابه، وهکذا بالنسبة إلی راکب البحر بدون ربان، وبانی الدار بدون قواعد البناء، حیث یغرق الأول ویخر السقف علی الثانی فتتکسر عظامه، فیدخل فی قافلة الزمنی والمعوقین.

وجود هذه المیزة فی السیاسة

وجود هذه المیزة فی السیاسة

والسیاسة تغترف من منهل هذه المیزة الثالثة أیضاً، فإن من لیس بسیاسی لابد وآن یزعم بأن الحاکم الدیکتاتور ظل الله! وینفذ إرادة الله، وهی خرافة، بالإضافة إلی أنه یصبح عبداً یساق کما یشتهیه الدیکتاتور حسب أهوائه، وذلک یوجب شقاء حیاته، وأحیاناً یجزره الحاکم المستبد جزر الأضاحی فیکون قتیل جهله.

ص:79

للسیاسة ساحتان: داخلیة وخارجیة

اشارة

للسیاسة ساحتان: داخلیة وخارجیة

(مسألة 8): الفقیه السیاسی یجب أن یلاحظ السیاسة فی ساحتین، ساحة الداخل والساحة العالمیة، وذلک لأن السیاسة بنفسها لها الساحتان المذکورتان، فإن الإدارة وأعمال القدرة والنفوذ التی هی عبارة اخری عن السیاسة، لابد وأن تکون فی الداخل، کما لابد وأن تکون فی الخارج، ولکل منهما شعبتان.

للداخل شعبتان

للداخل شعبتان

الأولی: حفظ الداخل بما هو وظیفة الدولة فی ضبط النظام وأخذ زمام العدل والإنماء، وما إلی ذلک.

الثانیة: الحیلولة دون تسرب السیاسات الأجنبیة إلی الداخل، هذا بالنسبة إلی داخل البلاد المحدودة بحدود هذه الدولة أو تلک.

للخارج شعبتان

للخارج شعبتان

وأما بالنسبة إلی الخارج، فللدولة شعبتان أیضاً:

الأولی: وضع التأثیر علی سائر الشعوب فی الإسهام بنظمها، وکف الظلم

ص:80

عنها، وذلک لأن الإنسانیة وحدة واحدة، واللازم علی الإنسان بما هو إنسان خدمة الإنسان الآخر مهما کان لونه وعقیدته واتجاهه والنظام المسیطر علیه.

قال سبحانه: {وما لکم لا تقاتلون فی سبیل الله والمستضعفین}((1)).

وقال (صلی الله علیه وآله): «الناس سواسیة کأسنان المشط»((2)).

وقال الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی کتابه إلی مالک الأشتر: «إما أخ لک فی الدین، أو نظیر لک فی الخلق»((3)).

وفی الشعر المنسوب إلیه (علیه السلام):

الناس من جهة التمثیل أکفاء

أبوهم آدم والأم حواء((4))

وقد کان من أولیات الإسلام ما ذکره سبحانه: {إنا خلقناکم من ذکر وأنثی وجعلناکم شعوباً وقبائل لتعارفوا}((5)).

وقال (صلی الله علیه وآله): «لکل کبد حراء أجر»((6)).

مما یوجب أن ینظر الإنسان إلی أخیه الإنسان بنظر الإنسانیة، فیساعده ویخفف عنه المآسی والتی منها مأساة خرافة العقیدة.

الثانیة: محاولة کف حکوماتها عن التأثیر فی البلد الإسلامی، مثلاً بسبب (الجماعات الضاغطة) وما أشبه، حیث إنه لو لم تتدخل الحکومة فی الحیلولة عن التأثیر فی بلدها أثرت الحکومة الخارجیة فی البلد بمختلف أنواع التأثیر

ص:81


1- سورة النساء: 75.
2- الاختصاص: ص341.
3- نهج البلاغة: الکتاب 53.
4- دیوان الإمام علی (علیه السلام): ص5 قافیة الألف.
5- سورة الحجرات: 13.
6- جامع الأخبار: ص139 ف99، وبحار الأنوار: ج71 ص370 ب23.

کما سیأتی بعض الکلام فی کیفیة تأثیر الدول بعضها فی بعض.

إذا عرفت ذلک نقول: المسرح الأول من مسرحی أعمال الدولة نفوذها وسیاستها، هو مسرح الداخل.

إطلاقات الدولة ومعانیها

اشارة

إطلاقات الدولة ومعانیها

والدولة لها ثلاث إطلاقات:

الأول: أن یراد بالدولة (القوة التنفیذیة)، فیقال: قد صممت الدولة علی کذا أو کفت الدولة یدها عن کذا فإن المراد بالدولة حینئذ القوة التنفیذیة.

الثانی: أن یراد بالدولة کل التشکیلات الحکومیة، من السیاسیة والقضائیة والتنفیذیة وغیرها، وهذا الإطلاق أعم من الإطلاق الأول.

الثالث: أن یراد بالدولة ما یشمل الأمة أیضاً، وذلک کما یقال إن دولة العراق محددة بإیران وترکیا والخلیج، فإن الدولة یراد بها حینئذ مجموع السکان بحدودها الأرضیة الخاصة، وهذا الإطلاق أعم من الإطلاقین الأولین، واللازم تعیین المراد من الدولة بالقرائن المکتنفة بالکلام.

وبذلک ظهر أن قولنا: الدولة تعمل نفوذها فی مسرح الداخل، نرید بالدولة أحد الإطلاقین الأولین، والغالب إرادة الإطلاق الثانی حیث اعتاد الناس أن یریدوا بالدولة مجموع التشکیلات السیاسیة وغیرها، فمجلس الأمة کمجلس الوزراء کالهیئة القضائیة وسائر الإدارات مسرح أعمال نفوذها مجموع الأمة بما لها من الأرض.

((نقد بعض التعاریف))

((نقد بعض التعاریف))

وانطلاقاً مما عرفت من معنی الدولة، قد یعرف بعض السیاسیین الدولة

ص:82

بأنها الجبهة السیاسیة والاداریة المتحضرة المستقاة من إرادة الأمة، والتی تعمل لنفع المجموع فی المجموع. ولکن هذا التعریف بقیوده المذکورة لا یمکن انطباقه علی کل الدول، أو بعبارة أخری إن التعریف المذکور تقریبی ولیس جامعاً مانعاً، إذ:

أولاً: لیست الدولة الجبهة السیاسیة والإداریة المتحضرة دائماً، ففی الحکومات الدیمقراطیة تعمل الأقلیة غیر الفائزة بالحکم، أیضاً فی مجال الحکم مع وجود الشرعیة لها، سواء فی مجلس الأمة، أو فی دوائر الإعلام، أو فی سائر الدوائر. نعم کلمة الفصل فی مورد الاختلافات، تکون للحزب الحاکم.

وفی الحکومات الدیکتاتوریة تعمل الجبهة المعارضة نفس أعمال الأقلیة فی الدیمقراطیة، ولکن لیس مع الشرعیة الموجودة فی الدیمقراطیة.

ومن الواضح أن للمعارضة تأثیرها فی حرکة الدولة لأجل مآربها، فالجبهة المعارضة تقف من الدولة دائماً بالمرصاد، مما تخرب أحیاناً، وتسبب صرف نظر الدولة عن أهدافها ومقرراتها أحیاناً أخری.

وثانیاً: لیست الدولة مستقاة من إرادة الأمة إلاّ فی الدول الاستشاریة، وإلاّ فالدول الدیکتاتوریة لیست الدولة مستقاة إلاّ من السلاح أحیاناً، والاستعمار أحیاناً، فلیست الدولة ثمرة الأمة، بل مفروضة علیها.

وإنما قلنا: (الاستشاریة) لأن الدولة النابعة من إرادة الأمة علی قسمین:

الأول: الدولة الدیمقراطیة، التی تنتخب الأمة فیها نوابها، وهم یعینون القوة التنفیذیة ویشرعون الأحکام، سواء للقوة القضائیة أو التنفیذیة أو الإداریة أو غیرها.

ص:83

الثانی: الدولة الإسلامیة التی تنتخب الأمة نوابها، لیکونوا مأطرین للقانون الإلهی، ومعینین للقوة التنفیذیة، فإن الأمة فی الإسلام لیس بیدها التشریع، وإنما بیدها التنفیذ فقط، مع فارق آخر وهو أن الفقیه الجامع للشرائط یکون المشرف الأعلی علی الدولة والأمة، کما سیأتی تفصیل الکلام فی ذلک فی مسألة آتیة إن شاء الله تعالی.

وعلی هذا فکلتا الدولتین (استشاریة) وان لم تکن کلتاهما (دیمقراطیة) ولذا استأثرنا کلمة (الاستشاریة) علی ذکر (الدیمقراطیة).

وثالثاً: لیس دائماً تعمل الدولة لنفع المجموع، وإن کانت ترفع هذا الشعار غالباً، إذ فی الدولة الدیکتاتوریة إنما یکون العمل للحاکم الآخذ بزمام الحکم، سواء کان الحاکم واحداً کما فی الحکومات الملکیة، أو جماعة خاصة کما فی الحکومات الإشرافیة.

وفی الدولة الاستشاریة إنما یکون العمل للأکثریة، لوضوح أن تعارض مصالح الجماعات وعدم ‘مکان جمعها، یجعل الدولة بین أن تعمل علی حسب مصالح الأکثریة أو الأقلیة، وإذا دار الأمر بین الاثنتین قدمت الدولة الأولی.

ولا نرید بهذا الکلام أن الدولة لا تعمل للجمیع إطلاقاً حتی فی التعلیم والطب وما أشبه، بل المراد أن العمل لیس دائماً لنفع الکل، بل العمل فی کثیر من الأحیان یکون لنفع الأکثر.

نعم یکون العمل لنفع الکل فی الحالات الطارئة، مثل حالة الحرب من عدو خارجی، أو حالة کارثة طبیعیة تهدد الکل، أو تحرک عواطف الکل، حیث إن الأمة بجمیع فئاتها تقف صفاً واحداً، وتکون الدولة حینئذ عاملة

ص:84

لمصلحة المجموع.

ورابعاً: لیست الدولة تعمل فی المجموع مطلقاً.

1) فإن الدولة الفدرالیة، تشترک الدول الواقعة تحت الوحدة فی أمور ثلاثة فقط، وهی: (الجیش والمال والخارجیة)، وإنما لکل دولة نظام خاص بها، وأحیاناً یکون الاختلاف بین تلک الدول فی أنظمتها اختلافاً کبیراً.

2) وفی بعض الدول، حیث تضعف القوة المرکزیة للدولة، تفوض الدولة لبعض مناطقها الحکم الذاتی، ولذا توجد سیاسات صغیرة فی أجزاء من الدولة، هی التی تحل القضایا وتعمل النفوذ، وإنما الدولة المرکزیة تبارک تلک السیاسات، إلی غیر ذلک من الأمور التی تجعل التعریف السابق تعریفاً فی الجملة، لا تعریفاً جامعاً مانعاً.

وحیث إن الدولة الإسلامیة لها قانون واحد، هو الإسلام المستفاد من الکتاب والسنة والإجماع والعقل، ویکون رئیسها الفقیه الجامع للشرائط الذی تنتخبه الأمة، فالشکل الأولی لهذه الدولة هو الشکل المنطبق علیه التعریف المتقدم بکل قیوده.

نعم إذا اضطرت الدولة الإسلامیة لظروف قاهرة أن تجعلها کالدول الفدرالیة أو ما أشبه تلک، جاز حسب القانون الثانوی، قال سبحانه: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}((1))، فکلما کانت قوة الدولة أکثر، کانت أقرب إلی الروح الإسلامیة.

ص:85


1- سورة الأنفال: 40.

میزان وحدة الأمة

میزان وحدة الأمة

ثم إن أرض الدولة الإسلامیة هی أرض واحدة، وکل أفراد المسلمین أخوة، وسواسیة فی کل شیء مرتبط بالدولة، لا یفضل بعضهم علی بعض اختلاف اللون أو اللغة أو العراق أو الحدود الجغرافیة أو غیرها، فالقانون یجری علی الکل علی حد سواء.

فالأمة فی الإسلام تتوحد علی هذا المیزان، وبهذا ظهر أن میزان (الأمة) عند الإسلام هو (العقیدة) فحسب، خلافاً لما اعتبره الغربیون میزاناً.

فقد اختلفوا فی میزان وحدة الأمة إلی قوانین:

الأول: إن المیزان إرادی، وهو إحساس الفرد بتعلقه باجتماع خاص، وتبعاً لهذا الإحساس یشترک الفرد مع اجتماع ما فی العمل ویربط مسیره ومصیره بذلک الاجتماع، وهذا الرأی ذهب إلیه جماعة من علماء السیاسة فی فرنسا.

الثانی: إن المیزان قهری، وهو الاشتراک فی اللغة والأرض وسوابق التاریخ والثقافة العامة، وهذا الرأی ذهب إلیه جماعة من علماء السیاسة فی ألمانیا.

وهناک قول ثالث: یمزج بین الأمرین السابقین، فتکون الأمة واحدة باعتبار العناصر القهریة والإرادیة معاً.

ولو أردنا الموازنة بین هذه الآراء مع الغض عن المیزان الإسلامی الذی ذکرناه، کان المیزان الأول أقرب إلی إنسانیة الإنسان.

مسرح الخارج وتدخلات الدول

اشارة

مسرح الخارج وتدخلات الدول

المسرح الثانی من مسرحی إعمال الدولة نفوذها وسیاستها: هو مسرح

ص:86

الخارج، فإن دول العالم منذ القدیم کانت تتدخل بعضها فی شؤون بعضها، بمختلف الأسباب والعلل.

فإن الإنسان لم یزل یطلب العلم والاستیلاء، وهما جناحا الإنسان إلی السمو إن صرفهما فی الخیر، کما أنهما من أسباب شقاء الإنسان إن صرفهما فی الشر، حالهما حال الماء والنار إن صرفهما الإنسان فی النافع نفعتا، وإلاّ کانت النار محرقة، والماء مغرقاً له.

وقد کان التدخل فی الزمان السابق قبل وجود الصناعة والآلة تدخلاً قلیلاً، إلاّ ما إذا کان التدخل عسکریاً، أما فی الحال الحاضر فالتدخل أخذ یتشکل بمختلف الأشکال والوسائل التی وضعها العلم فی ید الإنسان، ولا مناص لأیة دولة من هذا التدخل، شاءت أم أبت.

((عوامل الحیلولة))

((عوامل الحیلولة))

وأهم عامل للحیلولة أمام هذا التدخل _ بعد ملاحظة وجوب ترک الناس وحریاتهم فی قبال ضرب الستار الحدیدی حول البلاد مما یجعل الإنسان أسوأ من البهیمة کما فعلته الدول الشیوعیة _ هو تقویة المراکز فی الداخل حتی لا یکون تأثیر من الخارج وتأثر من الداخل.

وذلک بأن یمنح الإنسان داخل الدولة حاجته الفکریة والجسدیة، فإذا کان الأمر کذلک لم یکن نقص فی الإنسان حتی یلتمس سده من التیارات الخارجیة، فإن الإنسان بطبیعته متطلب للکمال، فإذا وجد الکمال فی بلده اتبعه، ولم یتأثر بالتیارات الخارجیة، أما إذا لم یجده فی بلده ووجده فی خارج بلده اتبعه، ولم یمنعه عن السیر وراءه أی شیء.

وهذا هو سرّ ما یعمله الاستعمار من طمس معالم نقاط الکمال فی البلد، ومن تزیین نقاط الکمال فی بلد المستعمر، مهما کان الأمر بالعکس.

وقد مثل لذلک أحد المستعمرین قائلاً: إن ما فی الإسلام مثله کمثل ضیاء

ص:87

ساطع النور، وما عندنا مثله مثل ضیاء خافت النور، وإذا وجد الناس الضیاء الساطع لم یلتفوا حول الضیاء الخافت، فالمهم أن نطفی ذلک الضیاء حتی إذا لم یجد الناس نوراً أقوی من النور الذی عندنا التفوا حول نورنا تلقائیاً.

ولعلنا نعود إلی تفصیل هذا الذی یفعله المستعمر بالبلاد المستعمرة فی مسألة أخری.

عوامل النفوذ

اشارة

عوامل النفوذ

وکیف کان، فعوامل تدخل الدول بعضها فی بعض، مما تجعل الدولة المتنفذة الدولة الأجنبیة مسرحاً لأعمالها السیاسیة ولنفوذ قدرتها، أمور:

1: عامل الدین

1: عامل الدین

الأول: عامل الدین أو ما یشبه الدین، فإن ترابط الشعوب بعضها ببعض فی الدین یجعل إمکانیة تدخل دولة فی دولة تتحدان دیناً أمراً سهلاً، والفکر لا حدود له مهما حاولت الحکومات جعل الحد له، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة ثانیة، فإن الدین أو ما أشبه الذی له الاستیعاب العالمی، لابد وأن یمهد لجو لنفسه فی کل مکان یمکنه ذلک، وکذلک سائر الافکار والمبادئ، ولذا تهتم الفئات الدینیة والأحزاب السیاسیة بالتدخل فی شؤون الدول، وإذا کان بید الدین أو الحزب السیاسی الدولة کان التدخل أشد، حیث تملک الدولة وسائل التدخل الکثیرة، من المال وأجهزة الإعلام وسهولة التحرک وغیر ذلک.

ص:88

ومن الواضح أن الدین حیث یرتبط بالروح، أسهل فی النفوذ من الحزب السیاسی المرتبط بالمادة، فإن المادة لیس لها من الإغراء ما یکون للدین حتی الدین المزیف إطلاقاً، أو المنحرف عن نبعه الصافی.

2: عامل القدرات

2: عامل القدرات

الثانی: عامل القدرات الکبری، فإن الدول تنقسم إلی ثلاثة أقسام: الکبری والمتوسطة والصغار.

والقدرات الکبری تتدحل بشکل وبآخر فی القدرتین الأخریین، کما أن القدرة المتوسطة تتدخل فی الأخیرة، ولذا نری أن القدرتین الأخریین فی اضطراب دائم، وکلما حدثت الحروب أو ما أشبه بین قدرتین غیر کبیرتین، تدخلت القدرات الکبری فی الحلبة رأساً.

کما وجدنا ذلک فی قصة فیتنام وفلسطین وغیرهما، فإن روسیا وقفت إلی جانب فیتنام، وإمریکا ضدها، وکذلک الحال فی فلسطین فی الحرب العربیة الإسرائیلیة، ولو أن وقوف روسیا إلی جانب العرب کان صوریاً، بینما کان وقوف إمریکا إلی جانب إسرائیل واقعیاً، کذلک بالنسبة إلی التدخل المصری السعودی فی الیمن، والإیرانی العراقی فی حرب الأکراد فی زمن الشاه، إلی غیرها.

ولذا فإذا تمکنت الدولة الکبیرة من فرض سیاستها فی الدولة الصغیرة من وراء الستار فعلت ذلک، لتظهر نفسها بمظهر النزاهة والبراءة، وإلاّ تدخلت علناً إعلامیاً ثم عسکریاً.

3: عامل الثقافة

3: عامل الثقافة

الثالث: عامل الثقافة، حیث إن الثقافة المشترکة توجب تفاهم الشعوب

ص:89

وذلک یسهل تأثیر بعضها فی بعض.

والثقافة تشمل اللغة والتقالید والعادات وکیفیة التفکیر ووحدة الأصول العقائدیة والفروع الفقهیة وما أشبه، ولذا یحاول الاستعمار دائماً أن ینشر ثقافته فی البلاد المستعمرة، لیسهل بذلک استعمارها، ویتسابق المستعمرون فی جذب طلاب المدارس إلی بلادهم لیتلونوا بلونهم، ویکونوا رسلهم إلی البلاد المستعمرة بالفتح، فإن الإنسان لا یفرز إلاّ ما أخذ، فلو أخذ طلاب إندنوسیا مثلاً لون الثقافة البریطانیة أو الفرنسیة أو الروسیة، أفرزوا ذلک اللون فی بلادهم، مما یسهل للاستعمار أن یفتح موضع قدم هناک.

ولهذه الجهة نری أن الاستعمار لما ورد بلاد الإسلام فعل أمرین:

الأول: تضعیف ثقافة الإسلام ولغته العربیة، فأعاد تقویة اللغات والآداب والرسوم المحلیة التی کانت قبل الإسلام، کالسنسکریتیة فی الهند، والفهلویة فی إیران، والبشتو فی أفغان، إلی غیر ذلک.

أما فی البلاد العربیة، فقد أحیوا اللهجات المحلبة بما سبب اندثار اللغة الفصحی، التی هی لغة القرآن والسنة، وفی جملة من المستعمرات منعوا اللغة العربیة إطلاقاً، کما فی الجزائر، کما منعوا الخط العربی فی بعضها کما فی ترکیا.

هذا إلی جانب إحیائهم سوابق البلاد، وذلک لقطع صلتهم بالإسلام الذی هو عامل وحدة البلاد، وإحیاء صلاتهم بسوابق البلاد، کما أحیوا الفرعونیة فی مصر ناصر، والشاهنشاهیة المجوسیة فی إیران الشاه، والبابلیة فی العراق، وهکذا أحیوا الکلدانیة والآشوریة والطورانیة والبرهمیة وغیرها فی مختلف بلاد الإسلام.

الثانی: تقویة ثقافة بلاد المستعمر، من لغة وآداب ورسوم وما أشبه،

ص:90

فصار تعلم لغة المستعمر مفخرة، والتأدب بآداب المستعمر فضیلة، والدراسة فی بلاد المستعمر مباهاة، إلی غیر ذلک.

وقد أثمرت هذه الثقافة ثمارها المرة حتی بعد الاستقلال، فزعماء الهند الذین تعلموا ثقافة بریطانیا، ألغوا الإسلام الذی کان دین الهند منذ ألف سنة بعد أن استقلوا، وزعماء الجزائر الذین تعملوا ثقافة فرنسا، لم یعملوا بأحکام الإسلام بعد استقلالها، وزعماء إندنوسیا الذین تعلموا ثقافة هولندا، حالوا دون إحیاء الإسلام بعد زوال الاستعمار الهولندی عن بلادهم، بل وزعماء ما یسمی بالاستقلال فی البلاد العربیة، هم الذین کانوا من أشد الناس عداوة للإسلام فی هذه البلاد.

 

4: الأمم المتحدة

4: الأمم المتحدة

الرابع: عامل الأمم المتحدة ومؤسسهاتها الکثیرة، التی هی زهاء مائة وخمسین مؤسسة.

فإن هذه المؤسسة خلفت (عصبة الأمم) وممارستها الوقوف دون الحرب بین الدول التی هی أعضاء فی المؤسسة، والمؤامرات التی تحاک ضد الدول غیر الکبری، جعلت هذه المؤسسة لا قلیلة الفعالیة فحسب، بل آلة بید الدول الکبری.

وقد صارت آلة لإیجاد الاضطراب والفوضی والحروب فی العالم، حیث إن لهذه المؤسسة بفروعها الکثیرة، وحدورها فی مختلف شعب الحیاة، الثقافیة والاقتصادیة والاجتماعیة والتربویة وغیرها، الید الطولی فی إیجاد الاضطرابات.

وهی تتعاون غالباً مع سفارات الدول الکبری فی التدخل فی الشؤون الداخلیة فی البلاد، وحیث إنها ملجأ للدول الصغری کان ضرها أکثر، لأنه من قبیل الاستعمار الفکری، بل إنها تنشر بالفعل الاستعمار الفکری، فمثل الذین یلتمسون العون من هذه المؤسسة کما قال الشاعر:

ص:91

المستجیر بعمرو عند کربته

کالمستجیر من الرمضاء بالنار

وعلی أی حال، فالأمم المتحدة من وسائل البلدان الکبار للتدخل فی الشؤون الداخلیة فی بلدان العالم.

وأحیاناً تعمل مؤسسات الأمم المتحدة، لأجل توسعة الاستعمار الواحد، وأحیاناً لأجل توسعة أکثر من استعمار، وأحیاناً تتحد دولتان کبیرتان أو أکثر فی مقاومة ثورات الشعوب من خلال بث مؤامراتهم فی البلاد الصغیرة.

وحال (جامعة الدول العربیة) و(مؤسسة الوحدة الإفریقیة) و(مؤسسة دول عدم الانحیاز) لیس بأفضل من حال (الأمم المتحدة)، فإنها أیضاً أدوات بید الدول الکبری لتوسیع نفوذها فی الدول الصغیرة التی تشملها هذه الأغطیة البراقة.

وبکلمة واحدة، حیث إن دول العالم الثالث ضعیفة فی کل شؤونها ومحتاجة إلی الدول الکبری فی کل شؤونها، فهی مسرح لتدخل الدول الکبری فیها، وقد قال علی أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام): «أحسن إلی من شئت تکن أمیره»((1))، «واستغن عمن شئت تکن نظیره»((2))، «واحتج إلی من شئت تکن أسیره»((3)).

وقد قال الشاعر:

کل من کان ضعیفاً أکلته الأقویاء.

مسرح السیاسة للحکومة

مسرح السیاسة للحکومة

وکیف کان، فقد ظهر مما تقدم أن مسرح السیاسة لحکومة ما أکبر

ص:92


1- غرر الحکم: الرقم 2405.
2- غرر الحکم: الرقم 2406.
3- غرر الحکم: الرقم 2407.

من الدولة المحدودة بالحدود الجغرافیة من ناحیة، وفی نفس الحال أصغر من الدولة المذکورة من ناحیة أخری، ففی ناحیة أنها أکبر من الحکومة توسع نشاطها إلی داخل الدول الأخری:

1) إما بقصد الاستعمار، کما هو شأن الدولة المستعمرة بالکسر.

2) أو بقصد الحفظ والوقایة، حتی لا تتآمر ضدها الدول الأخری.

3) أو بقصد الهدایة والإنقاذ، حیث إن الحکومة ترید هدایة الآخرین الذین هم تحت نفوذ سائر الدول المنحرفة، وإنقاذ أفرادها عن الخرافة والظلم، وهذا غالباً هو شأن الحکومات الدینیة.

ومن الواضح الفرق بین الحکومات الاستعماریة والحکومات الدینیة المخلصة، حیث إن الأولی ترید الاخذ والاستغلال، والثانیة ترید العطاء والإنقاذ.

ولیس معنی هذا الکلام أن الحکومة الدینیة دائماً کذلک، ولذا قیدناها بالمخلصة، إذ الحکومة قد تکون فی سطحها دینیة وفی باطن استعماریة، کما هو کذلک بالنسبة إلی حکومات التبشیر، بل المراد أن الحکومة إذا کانت منطلقة عن الدین الصحیح تکون ضد الاستعمار فی جوهرها وفی عملها.

أما من ناحیة أنه أصغر، فقد عرفت أن جبهات سیاسیة مجازة أو محظورة تعمل دائماً إلی جانب الحکومة الرسمیة، والتی تسمی بالمشروعة، ولذا تتقلص سیاسة الحکومة الرسمیة بقدر نفوذ تلک السیاسات الظلیة، فإن کانت مجازة عملت بصراحة، وحددت من السلطة السیاسیة الرسمیة علناً، وإن کانت محظورة عملت فی الخفاء بالدعایة والتهریج والجماعات الضاغطة مما یقلص الحکومة الرسمیة، أحیاناً خوفاً، وأحیاناً من جهة عدم قدرتها علی تنفیذ مآربها.

هذا بالإضافة إلی ما تقدم من انحسار نفوذ الحکومات الفدرالیة عن

ص:93

الحکومات المهضومة فی معدنها، والحکومات الضعیفة فی قبال قطعات من الدولة لها حکم ذاتی فی قبال الدولة المرکزیة.

توحید سیاسة الدولة الإسلامیة

توحید سیاسة الدولة الإسلامیة

ثم إن الدولة الإسلامیة یلزم أن تکون لها وحدة سیاسیة، تضم کل أقطار بلاد الإسلام، تحت حکومة مرکزیة واحدة، وإذا لم یمکن جمع الأقطار فی وحدة شاملة، کان من الممکن جعلها فی حکومات ولایات، لها انتخابات حرة لرؤسائها، وإن کانت کلها خاضعة لحکومة مرکزیة واحدة، تجمع شملها وتوحد صفوفها.

کما أن اللازم أن تکون الخارجیة والجیش والمال فیها واحداً، فتکون کلها مشمولة لوحدة اقتصادیة، کما هو الحال فی بلدان قطر واحد، لا أن یغوص قطر فی النعیم بینما لا یجد البلد الآخر لقمة العیش.

وقد قرأت فی تقریر أن بعض البلدان الإسلامیة فی الحال الحاضر دخل الفرد فیها فی العام ما یقارب عشرة آلاف دینار، بینما قطر آخر دخل الفرد فیها فی العام عشرون دیناراً.

وبالوحدة الاقتصادیة یحصل النمو الاقتصادی أیضاً، مثلاً أراضی السودان القاحلة القابلة للزراعة التی تعطی الکثیر من احتیاجات البلاد الإسلامی، تزرع بواسطة البلاد النفطیة، وهکذا.

لا للاحتکار التجاری

لا للاحتکار التجاری

وسوف تکون التجارة حرة، کما هو المنهاج الإسلامی، لکن یمنع من الإجحاف.

ص:94

أولاً: بواسطة اتجار الدولة، ومن الواضح أن بعض التجار لو باع الشیء رخیصاً، لم یتمکن الآخرون من الاحتکار والغلاء.

وثانیاً: بواسطة المنافسة الحرة بین التجار.

وثالثاً: بواسطة المعاقبة لمن سولت له نفسه بالغلاء، کما ذکرنا ذلک فی (الفقه: الاقتصاد)، وهنا إلماعاً.

وکذلک سوف تکون للدولة الإسلامیة الواحدة المترامیة الأطراف، وحدة اجتماعیة، إذ وحدة الدین ووحدة القانون ووحدة الاقتصاد ووحدة السیاسة لابد وأن تنتهی إلی وحدة الاجتماع.

ولا تکون البلاد الإسلامیة الموحدة کالولایات المتحدة الإمریکیة، حیث لکل قطر منها سیاسة خاصة وقوانین خاصة، لوضوح الفرق بین الدولة العقائدیة وبین الدولة الململمة، خصوصاً إذا فرضنا وحدة اللغة العامة لکل الولایات، وهی اللغة العربیة، حیث إن الواجب علی المسلم تعلمها من أجل الصلاة ونحوها.

وبذلک یعاد مجد الإسلام الغابر، ویأخذ الدین بزمام العالم، فینجی الناس من الدیکتاتوریات، بقوانینه التی تضع {عنهم إصرهم والأغلال التی کانت علیهم}((1)).

ص:95


1- سورة الأعراف: 157.

النظرة الإسلامیة المستوعبة

اشارة

النظرة الإسلامیة المستوعبة

(مسألة 9): للإسلام نظرة واقعیة إلی (الأفراد) الذین لهم شخصیة علمیة أو سیاسیة أو اجتماعیة أو اقتصادیة أو غیرها.

وإلی (التاریخ) الذی یضم الأفراد فی رحم التیار العام.

فلیس الإسلام مما یخصص بأهمیته الأول وحده، ولا الثانی وحده، بخلاف المدارس الفکریة العالمیة علی الأغلب، حیث تهتم بأحدهما فقط.

فتری الإسلام تارة یذکر أحوال الأشخاص، صالحین کانوا أم طالحین، أمثال آدم (علیه السلام) والشیطان، وهابیل وقابیل، ونوح (علیه السلام) وولده، وإبراهیم (علیه السلام) ونمرود، وموسی (علیه السلام) وفرعون، وامرأة فرعون وامرأة لوط، إلی غیر ذلک.

وتارة أخری یذکر أحوال الأمم، کعاد وثمود وقوم یونس وبنی إسرائیل، إلی غیر ذلک.

فقد قال تعالی: {قل سیروا فی الأرض فانظروا کیف بدأ الخلق}((1)).

وفی الحدیث: «من ورخ مؤمناً فقد أحیاه».

ص:96


1- سورة العنکبوت: 20.

وقال أمیر المؤمنین (علیه السلام): «فسر فی دیارهم وانظر إلی آثارهم»((1)).

وأنشد (علیه السلام):

باتوا علی قلل الأجبال تحرسهم

غلب الرجال فلم تنفعهم القلل((2))

إلی غیر ذلک.

وهذه النظرة الإسلامیة المزدوجة هی النظرة الواقعیة، إذ کل واحد من الشخصیات والأحداث التاریخیة، یتفاعل بعضها فی بعض خارجاً، وکل واحد منهما یوضع نصب عین الإنسان اللاحق، والتاریخ أسوة، فإن الأخیار تحیی للأسوة، والأشرار تبقی لیری الإنسان کیف أن شرهم لم یعد إلیهم وإلی غیرهم إلاّ بالخسران فیجتنب، هذا بالنسبة إلی الأفراد.

أما بالنسبة إلی الأحداث التاریخیة، فالتاریخ تکاملی، إذ الإنسان الذی هو محور التاریخ وصانعه میال بطبعه إلی الکمال، ولذا یری التاریخ فی حال التکامل، وکلما صنع فی التاریخ بقی وبنی علیه أکمل منه، کالمصباح یبتدئ بالسعف وإلی أن ینتهی إلی الذرة، ووسیلة النقل فی البحر تبتدئ بالخشبة وإلی أن تنتهی إلی الباخرة وهکذا، والزمان یسیر إلی الأکمل، وقد فسر بعضهم قوله سبحانه: {لترکبن طبقاً عن طبق}((3)) بذلک.

تفاعل الإنسان والتاریخ

تفاعل الإنسان والتاریخ

والإنسان العبقری والتاریخ المتصاعد یتفاعل أحدهما مع الآخر، ویستفید

ص:97


1- نهج البلاغة: الخطبة 224.
2- دیوان الإمام علی (علیه السلام): ص321.
3- سورة الانشقاق: 19.

أحدهما من الآخر، فالعبقری یستفید من التاریخ قدر تکامله إلی زمانه، مثلاً العبقری یرکب الطائرة بسرعة للوصول إلی محل تدریسه، ویستنجد بالطابعة لإیصال أفکاره إلی الطلاب.

کما أن التاریخ یضع نسبة جدیدة فی بنائه التکاملی من العبقری، فابن سینا یقدم الطب، والعلامة یقدم الفقه، والمجدد الشیرازی یقدم استقلال إیران.

نسف مدرسة مارکس

نسف مدرسة مارکس

وبذلک تبین أن اهتمام مدرسة مارکس بالتاریخ وعدم الاهتمام بالأفراد، لأن التاریخ تکاملی یسیر لإجل انقاذ الإنسان من ید استثمار الإنسان، وذلک یکون بتعمیم الشیوعیة، غیر تام.

إذ یرد علیه:

أولا: إن النظرة إلی التاریخ فقط لیست نظرة مستوعبة، کما عرفت لزوم ازدواجیة النظرة.

وثانیاً: إنهم لم یلتزموا بهذه النظرة، ولذا أخذوا یهتمون بمارکس وانجلز ولنین وستالین وماو وکاسترو وکیم، فإذا کان الأمر کما ذکروا فلماذا هذا الاهتمام.

وثالثاً: إن التاریخ الذی قالوا به من أدوار أربعة، لم یدل علیه دلیل، بل الدلیل دل علی عدمه، کما ذکرناه سابقاً، وفی (کتاب الاقتصاد) و(مارکس ینهزم) وغیرهما، فکبراهم بتکامل التاریخ تام، لکن صغراهم ترقیع دل الدلیل علی عدمه.

ورابعاً: التکامل اختیاری ولیس بجبری، إذ الإنسان یصنع هذا التکامل، والإنسان مخیر ولیس بمسیر، کما ثبت فی علم الکلام والفلسفة.

ص:98

المدرسة الغربیة الأخری

المدرسة الغربیة الأخری

کما تبین مما ذکرناه من ازدواجیة الأمر أن الأهمیة لیست للأفراد فقط، کما تقوله المدرسة الأخری التی شاعت فی الغرب والشرق، ولها بقیة إلی الآن.

ثم یشتبه غالباً بعض مناصری هذه المدرسة، بل هو اشتباه عام لکثیر من المؤرخین، حیث یذکرون علی الأغلب (السلاطین) و(الدیکتاتوریین) و(الفاتحین) ومن إلیهم، مع أنهم جزء ولیسوا بکل، بل اللازم إلی جنب أولئک ذکر العلماء والخطباء والمؤسسین والبناة ومن الیهم ممن تعاونوا فی تکمیل الحیاة والإنسان.

وقد تقدم أن الإنسان یکمل نفسه وجسده ومجتمعه ومحیطه الطبیعی، وقد سار أثرهم الشعراء الذین یتبعهم الغاوون، فتری دیوان فلان عربیاً کان أو فارسیاً، ملیئاً بمدح الطغاة والمستبدین والقتلة وممتهنی کرامة الإنسان، أما الأمة فلا أثر لهم فی أمثال هذه التواریخ والدواوین.

وکیف کان، فاللازم أن یکون مسرح السیاسة أمور ثلاثة:

1: الأشخاص الذین لهم مدخلیة فی السیاسة بالمعنی العام.

2: والتاریخ بما فیه الأمم، حیث إن الفرد العبقری بدون الأمة لا یقدر علی البناء، کما أن ضده بدونها لا یتمکن من الهدم.

3: الإطارات الحقوقیة والقوانین التی لها مدخلیة فی صنع الإنسان والتاریخ، إذ فی کل هذه الإطارات ینمو أو یسقط الإنسان والتاریخ، وإن لم تکن الإطارات بوحدها بانیة وهادمة.

وإذ قد عرفت أن المسّیر للتاریخ إلی الإمام الذی یجب أن یکون مسرحاً للنظر السیاسی، هو الأفراد والقیادات جمیعاً، نقول: إن هاتین تظهران فی ثلاثة وحدات: (الوحدة العلیا) و(الوحدة الوسطی) و(الوحدة القاعدیة).

ص:99

الوحدة العلیا: الدولة

الوحدة العلیا: الدولة

فالوحدة العلیا هی الدولة، حیث إنها تکون فی صدد تسییر دفة الحکم والسیر بالبلاد والمجتمع إلی حیث الهدف المنشود، ولا یهم فی الأمر أن یکون المسیّر للدولة فرداً کما فی الدکتاتوریات، أو جماعة کما فی حکومة الأشراف ونحوهم، أو نواب الأمة کما فی الاستشاریات، دیمقراطیة کانت أم لا.

إذ المهم فی کلامنا الآن أن الدولة هی مرکز التصمیم الذی یجب أن ینظر إلیه السیاسی، ولابد أن یعلم أن الدولة لسعة قدراتها المادیة والمعنویة من أهم عوامل تسییر المجتمع.

أما قدرتها المادیة فواضح، وبها توظف الناس رغباً ورهباً فی مختلف الخدمات، والتی منها الجیش والشرطة والأمن والقضاء وغیرها.

وأما قدرتها المعنویة، فلوضوح أن الدولة تستمد شرعیتها من أمرین:

الأول: القانون، فإن القانون مسلم الاتباع عند قطاعات کبیرة من الأمة، والدولة تنفذ القانون، سواء کان القانون موضوعاً فی الدین، أو بسبب نواب الأمة، أو بسبب قیادات الحزب، وحتی الدول الدیکتاتوریة تزیف إرادة جماعة باسم (مجلس قیادة الثورة) أو (مجلس الشعب) أو ما أشبه ذلک.

ومن الجدیر بالذکر أن نقول بین قوسین: (إن الأمم یجب أن لا تخدع بأمثال هذه الظواهر إطلاقاً، وإلاّ تمشت فیهم الدیکتاتوریة المطلقة مما یوجب هلاک الحرث والنسل، وقتل الأبریاء وفتح باب السجون والتعذیب ومصادرة الأموال وخنق الأصوات إلی آخر الأمور الدیکتاتوریة، بل اللازم أن تعی الأمة، فإن کانت الحکومة دینیة کان اللازم أن یکون القانون حسب دساتیر الدین الموجودة

ص:100

فی منابعه، وأن یکون تطبیق الکلی علی الشخصی حسب رأی أکثریة مجلس الأمة المنتخبة بکل حریة وأمانة، وإن کانت دولة غیر دینیة یجب أن یکون القانون والتطبیق حسب رأی أکثریة الأمة کذلک).

الثانی: المعنویات، فقد تکون هذه بسبب أن الدولة علی طبق معنویات الناس کما فی الدول الدینیة، والدول التی لها مبادئ خاصة منطبقة علی مبادئ الناس المسلّم بها لدیهم.

وقد تکون هذه بسبب القوة الخامسة، التی تنظمها الدولة داخل صفوف الناس بقصد تهیئة الرأی العام علی وفق أعمال الدولة، فهذه القوة الخفیة بالإضافة إلی وسائل الإعلام هی التی تحتوش الناس لقبولهم أعمال الدولة.

وهذه القوة قد تتمکن من التأثیر علی رأی الأکثریة إذا کانت غیر واعیة، أو إذا کانت أعمال الدولة ملائمة نوعاً ما، وقد لا تتمکن إلاّ من إیجاد رأی ثان فی المجتمع، بسببه لا تکون الدولة منفردة فی المیدان لتصب الجماهیر علیها اللعنة والبراءة.

وإذا تمکن وعاة الأمة من سلب الشرعیة عن أعمال الدولة لم تتمکن القوة الخامسة من أداء رسالتها، بإضفاء الشرعیة علی أعمال الدولة، وسرعان ما ینکشف للجماهیر زیف الدولة، فإن تمکنوا من إسقاطها بالطرق المقبولة أسقوطها کذلک، وإلاّ توسلوا بالقوة، ولذا یجب علی الدول الدیکتاتوریة أن لا تطمئن بهذه الأسالیب فی بقائها، وأفضل لها أن تعدل سیاستها تجاه الأمة من السیر فی مثل هذا الخط المنحرف الذی یؤدی أخیراً بنفسها وسمعتها.

وبما تقدم تبین أن بین (القانون) و(المعنویة) عموماً من وجه، حسب اصطلاح المنطقیین، إذ ربما یکون قانون ومعنویة، وربما یکون قانون دون معنویة، کما فی حکومات الاستعمار حیث یوضع القانون علی ید المستعمر وعملائه، إلاّ أن الناس ینظرون إلی القانون شزراً، وربما تکون معنویة دون

ص:101

قانون کما فی الحکومات الدینیة، حیث أکثریة الشعب متدینون، وبعد لم توضع القوانین التی تستند إلیها الدولة فی أمورها.

والتجربة والمنطق یدلان علی أن الحکومات الدینیة أکثر دواماً من غیرها، والسبب أن الحکم تحمله القلوب والأبدان، بینما الحکومات غیر الدینیة حاملها الأبدان فقط، وإذا اختلف القلب والبدن کان الأجدر أن ینتهی الحکم فی مدة وجیزة، بخلاف ما إذا اتفقا، إذ لا مبرر لسقوط الحکم حینئذ بسرعة.

الوحدة الوسطی: الجماعات

الوحدة الوسطی: الجماعات

والوحدة الوسطی الجماعات ذات النفوذ والفعالیة فی الجماهیر، کالجمعیات والمنظمات والأحزاب، سواء تشکلت باسم الدین أو الدنیا، أمثال الجمیعات الاقتصادیة والطبیة والثقافیة وغیرها، وهذه الجمیعات والجماعات إن کان هدفها الوصول إلی الحکم کانت أحزاباً سیاسیة وما إلیها، وإن لم یکن هدفها ذلک کانت جماعات اجتماعیة واقتصادیة وغیرهما.

وعلی أی حال، فأمثال هذه الوحدات تؤثر فی السیاسة دائماً، إما تأثیراً مباشراً إذا هدفت السیاسة، فتطلب من الدولة إجراء سیاسة خاصة مما توجب اضطرار الدولة القبول، أو تحول دون أعمال الدولة سیاسة خاصة مما تحد مسار حرکة الدولة، وإما تأثیراً غیر مباشر إذا لم تهدف السیاسة، کما إذا تصرفت فی الاقتصاد، حیث إن الاقتصاد وجه ثان للدولة.

ولنفرض أن الجماعات الصناعیة عملت للتقلیل من الصناعة، فإن الصناعة تقل ویؤثر ذلک فی بیع الدولة مصنوعاتها للخارج، مما یؤثر فی ضبط

ص:102

الدولة رقبة الأسواق الخارجیة، وهذه ضربة سیاسیة تتلقاها الدولة، وبقدر الضربة یضعف وزن الدولة فی الخارج.

وعلی أی حال، فأمثال هذه الوحدة الوسطی تکون مسرحاً لمطالعة السیاسی لها، کمسیرة لسیاسة الدولة فی الجملة.

وکثیراً ما تجعل الدولة بین بعض هذه الوحدات وبین وحدات أخری تنافساً بقصد عدم إمکانها الضغط علی الدولة بالقدر الطبیعی، ولا یمکن ذلک إلاّ إذا جعلت الدولة تنافساً طبیعیاً، إذ الجمعیة المصطنعة العمیلة للدولة لا تقدر علی التخفیف من الضغط الطبیعی الذی تورده الجمعیة الحقیقیة علی الدولة.

مثلاً إذا کانت بعض التجمعات العمالیة حول معمل تضغط علی الدولة، فبإمکان الدولة أن تکوّن معملاً آخر یجتمع حوله العمال، یضغطون علی التجمع الأول، لیکفوا الضغط عن الدولة من جهة ضغطهم المضاد علی التجمع الأول.

الوحدة القاعدیة: الجماهیر

اشارة

الوحدة القاعدیة: الجماهیر

والوحدة القاعدیة هی ثالث الوحدات فی ملاحظة السیاسی، وهم جماهیر الناس الذین لیسوا من الوحدتین السابقتین، ومع ذلک لهم مطالب منبعثة عن الدین أو القومیة أو الاقتصاد أو غیرها، توجب الضغط علی الدولة فی سیاستها حتی تلتزم الدولة سیاسة خاصة إیجاباً أو سلباً أو تعدیلاً.

وأسلوب ضغط الجماهیر علی الدولة، مع أنهم لیسوا بمتشکلین فی شکل خاص، هو ضغطهم علی الجماعات ذات النفوذ وعلی أفراد الدولة مما ینعکس الضغط علی الدولة، وأحیاناً یجتمعون فی مظاهرات وإضرابات جماهیریة إذا کانت مطالبهم قویة، والدولة فی ما إذا کانت استشاریة بکلا شقیها، تفادی الرأی العام غالباً بمختلف

ص:103

الأسالیب والأسباب، لأن الرأی العام إذا صار ضد الدولة یسقطها.

أما فی الحکومات الدیکتاتوریة، فهی غالباً تتجاهل الرأی العام وتقابله بالعنف، لکن هذا لا یدوم زماناً طویلاً، وإنما تتمکن الدولة أن تقاوم مدة حسب قوة المعارضة العامة أو ضعفها، وأخیراً تسقط حیث تأخذ الجماهیر مطالیبها.

((1: الانبعاث عن الدین))

((1: الانبعاث عن الدین))

(أ): فالانبعاث عن الدین، فیما إذا کان عمل الدولة مخالفاً للدین، حیث إن الجماهیر المتدینة تأخذ فی المجتمع وإبداء الرأی والضغط علی الجماعات ذات النفوذ وعلی الأفراد المنخرطین فی سلک الدولة.

والمثال الظاهر لمثل هذا الانبعاث، ما حدث فی ایران إبان قصة التنباک، وإبان الدعوة إلی المشروطة: الدستور، وإبان الدعوة إلی تأمیم البترول، وإبان الدعوة إلی إزالة الملوکیة لتأخذ الجمهوریة الإسلامیة مکانها، وکذلک ماحدث فی العراق حیث الدعوة إلی إسقاط البعثیین الذین ثبت عمالتهم لبریطانیا وإسرائیل وإمریکا، فقد کان الانبعاث فی کل هذه الموارد دینیاً بحتاً.

وأدل دلیل علی ذلک أن العلماء المراجع قادوا هذه المعارک والجماعات الصغیرة الذین ألقوا دلوهم فی الدلاء، لم یکن لهم أی تأثیر یذکر، وإنما هم أرادوا تسجیل موقف لیکون لهم فی المغانم نصیب، وهذا بالنسبة إلی الجماعات الصغیرة الصادقة فی الوطنیة.

أما غیرهم من عملاء الشرق والغرب الذین أدخلوا أنوفهم فی المعرکة، فلیس المهم الکلام حولهم، إذ هؤلاء کانوا یمثلون الاستعمار والثورة المضادة،

ص:104

وإن تظاهروا فی ثوب الوطنیة والإخلاص.

تحطم الثورات لنقص الوعی السیاسی

تحطم الثورات لنقص الوعی السیاسی

ولا بأس هنا بالإلماع إلی أنه إذا کانت الجماهیر وراء هذه الحرکات فلماذا تبدل الأمر، إلی أن جاء عملاء الغرب إلی الحکم بعد فترة وجیزة من الحرکة.

فالبهلویان والملوکیون ومن بعدهم وهم عملاء الغرب، کیف جاؤوا إثر تلک الحرکات الجماهیریة الثوریة.

والجواب: إن الجماهیر الذین وقفوا وراء العلماء لتحریر بلادهم عن الاستعمار والاستبداد، کان ینقصهم الوعی السیاسی، ولذا لم یصنعوا التنظیم اللائق بحفظ الحکم، کما لم یهیؤوا الجو الصناعی الذی یسند الحکم، فإن هذه الثلاثة هی أساس الحکم فی الوقت الحاضر: (الوعی) و(التنظیم) و(الکفاءة الذاتیة).

ومن الواضح أن الوعی یستدعی الأمرین الآخرین، إذ الجماهیر المسلمة الذین قاموا بتلک الحرکات لم یشعروا بأن الغرب الذی یقف وراء التخریب قد أعد عدته، والثوار الذین قاموا بالحرکات أمثال (الآخوند) و(الشیرازی) و(الشیخ النوری) وغیرهم (رحمهم الله) ماتوا بالسم أو قتلوا، فلم یکن لهم زمان التوعیة وإن صرحوا بما وعوا للجماهیر حتی قال (النوری): (المشروطة التی یطبخها البریطانیون لا تنفعنا)، (ولماذا تستوردون قوانین القضاء من باریس وقوانین مجلس الأمة من انکلترا)، ولذا أصر علی إضافة (المشروعة) إلی (المشروطة).

والجماهیر کانت غافلة عن المؤامرات الاستعماریة، وعن أسالیب الحکم

ص:105

فی العصر الحاضر، وکانوا یزعمون أن مجرد التقویض یکفی فی رجوع الزمام إلی الإسلام، ولذا لم ینظموا أنفسهم التنظیم اللائق، ولم یسرعوا فی صنع الاکتفاء الذاتی، وجاء المستعمرون ونظموا عملاءهم، کما أن الحاجة سببت خضوع المحتاج إلی المحتاج إلیه، کما قال علی (علیه السلام): «احتج إلی من شئت تکن أسیره»((1))، وبذلک ضاعت البلاد.

وهکذا حدث فی ترکیا بعد تحطیم الغرب الخلافة الهشة التی أنهکتها مخالفة الملوک _ الذین سموا أنفسهم بالخلفاء _ للدین، ولم یکونوا یشبهون خلفاء الرسول (صلی الله علیه وآله) فی قلیل أو کثیر.

واجب حرکات التحریر

اشارة

واجب حرکات التحریر

وعلی هذا، فاللازم علی حرکات التحریر فی بلاد الإسلام أن یهتموا بهذه النواحی الثلاث:

1: إیجاد الوعی السیاسی والاقتصادی والاجتماعی بین الأمة بقدر الکفایة، فإن الواعی لا یستعد للخضوع ولا تنطلی علیه المکائد.

2: التنظیم الدقیق، وقد قال تعالی: {وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة}((2))، والتنظیم من أهم وسائل القوة، وقد قال علی (علیه السلام): «ونظم أمرکم»((3)).

3: والعمل للاکتفاء الذاتی صناعة وسلاحاً وأرزاقاً وغیرها، وإلاّ فبدون هذه الثلاثة، لا یمکن تحرر یبقی.

ص:106


1- غرر الحکم: رقم2407.
2- سورة الأنفال 62.
3- نهج البلاغة: الکتاب: 47 ومن وصیة له (علیه السلام) للحسن والحسین (علیهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه الله.
((استطلاع الرأی العام))

((استطلاع الرأی العام))

ثم إن استطلاع الرأی العام له صورتان:

الأولی: الاستطلاع من الجمعیات والمنظمات وما أشبه، کالاستطلاع من قراء الصحف، حیث إن نسبة انتشار الصحیفة بین الجماهیر دلیل علی قدر رأی الناس، مثلاً لو کانت هناک صحیفتان، إحداهما تطبع ملیوناً، والأخری ربع ملیون، کان ذلک دلیلاً علی أن إقبال الناس علی الأولی أربعة أضعاف الثانیة، فإذا کان لکل من الصحیفتین خط سیاسی مستقل، أو خط اقتصادی مستقل، کان ذلک دلیلاً علی أغلبیة الرأی الأولی عند الأمة، وإلاّ لم یکثر مشترو الأولی، ولم یقل مشترو الثانیة.

الثانیة: من الجماهیر مباشرة، بسبب السؤالات فی کافة المجالات التی یراد الاستطلاع بواسطتها، فینزل أعضاء المؤسسة الاستطلاعیة، مؤسسة کانت أو جریدة أو غیرهما، إلی الشارع یسألون المارة والدکاکین والدور وغیرها، عن رأیهم حول القضیة الفلانیة، کالحرب أو السلم، أو حول الشخص الفلانی مثل من هو ألیق بالحکم فی الانتخابات القادمة، ونتیجة الآراء تدل علی الرأی العام مائة فی مائة أو أقل.

ومثل تحصیل هذا الرأی لیس لفائدة تنبؤ المستقبل، لیکون ترفاً فکریاً بل ینفع السیاسی والاقتصادی والدینی والاجتماعی، فرداً وموسسة ومنظمة، لیعملوا علی طبق تلک الآراء، مثلاً رجل اقتصادی یرید معرفة نوع السیارة التی یرغب فیها الناس أکثر لیصنعها، أو منظمة سیاسیة ترید استطلاع رأیهم حول المنتخب المستقبل لیساومه، أو رجل یرید أن یعقد فی داره مجلس وعظ فیرید استطلاعهم حول الخطیب المرغوب فیه، وهکذا.

نصوص الشریعة فی الرأی العام

نصوص الشریعة فی الرأی العام

ویظهر من المطالعات الإسلامیة، اهتمام الإسلام بالرأی العام، فقد کان

ص:107

الرسول (صلی الله علیه وآله) یقول: «أیها الناس أشیروا علی»((1))، ویستطلعهم حول الحرب.

وکذلک شاور (صلی الله علیه وآله) فی قصة إعطاء التمر للیهود، وأخذ برأی من أشار إلیه بالمنع.

وفی قرآن الحکیم: {وأمرهم شوری}((2)).

وقال تعالی: {وشاورهم فی الأمر}((3)).

وورد أیضاً: إن علیاً (علیه السلام) إذا بعث والیاً، قاله له: اقرأ کتابی علیهم فإذا رضوا بک کن والیاً علیهم.

وقصة استشارته (علیه السلام) فی صفین، والمرأة التی جاءت شاکیة إلیه (علیه السلام) فعزل الوالی بشکایتها، وغیرهما معروفة((4)).

وقال علی (علیه السلام) للأمة: «فلا تکفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل»((5)).

وقال (علیه السلام) أیضاً: «من استبد برأیه هلک»((6)).

وقال (علیه السلام): «من شاور الرجال شارکها فی عقولها»((7)).

وقال (علیه السلام): «لا ظهیر کالمشاورة»((8)).

وقال (علیه السلام): «ولا مظهرة أوثق من المشاورة»((9)).

وفی الحدیث: «خذ بما اشتهر بین أصحابک ودع الشاذ النادر((10))، فإن المجمع علیه لاریب فیه»((11)).

ص:108


1- شرح نهج البلاغة لأبن أبی الحدید: ج3 ص329 وص361.
2- سورة الشوری: 38.
3- سورة آل عمران: 159.
4- انظر وقعة صفین: لنصر بن مزاحم.
5- نهج البلاغة: الخطبة 316.
6- نهج البلاغة: الحکم 161.
7- نهج البلاغة: الحکم 161.
8- نهج البلاغة: الحکم 54.
9- نهج البلاغة: الحکم 113.
10- مستدرک الوسائل: ج3 ص185 الباب9 من صفات القاضی ح2.
11- مستدرک الوسائل: ج3 ص186 الباب9 من صفات القاضی ح11.

ومن هذا الباب حجیة العرف العام فی معانی الألفاظ، والذی یستدل له بقوله سبحانه: {وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه}((1)).

وفی الکافی: إن رسول الله (صلی الله علیه وآله) قال: «إنا معاشر الأنبیاء أمرنا أن نکلم الناس علی قدر عقولهم»((2))، إلی غیر ذلک.

بل الإسلام یحبذ استطلاع الآراء حتی فی الأمور الشخصیة، أمثال الزواج، کما استشار علی (علیه السلام) فی زواجه بفاطمة أم البنین.

والرضاع، کما قال سبحانه: {وتشاور}((3))، مما یدل علی سبق الإسلام بقرون ما اکتشفه المتأخرون من الغربیین من الاهتمام بالرأی العام، فإن ذلک حدث عنهم فی عام (1930) م وجعل (جورج کلوب) له أسساً فی عام (1935) م.

وقد یستطلع الفرد أو المؤسسة الرأی العام بالنسبة إلی الماضی، لیتخذ منه عبرة للمستقبل، مثلاً یسأل عن الحرب العراقیة القومیة مع الأکراد بعد انتهائها، لیظهر إیجابیة أو سلبیة الرأی العام تجاهها، لیتخذ من ذلک درساً لما إذا تهیأت الظروف فی المستقبل لمثل تلک الحرب، هل الأفضل خوضها، أو تفادیها بالتنازلات وما أشبه.

الرأی العام والعاطفة العامة

اشارة

الرأی العام والعاطفة العامة

ومن الجدیر بالذکر أن هناک فرقاً بین الرأی العام والعاطفة العامة، فإن الأول من آثار الجذور الناشبة فی الأنفس، والتی تبقی مدة طویلة فی الاجتماع

ص:109


1- سورة إبراهیم: 4.
2- الکافی: ج1 ص23 کتاب العقل والجهل ح15.
3- سورة البقرة: 233.

وأحیاناً تکون کرواسب یرثها الأبناء من الآباء، أما الثانی فلیس إلاّ ولید ظروف خاصة، تشتعل فی النفوس کالنار فی الهشیم، ولا تلبث أن تزول بسرعة، أمثال الانقلابات العسکریة التی تأتی بعد طول الکبت والإرهاب، فیلتف الناس حولها عاطفیاً، بزعم أنها جاءت منقذة، وحیث إن الثوار _ علی فرض إخلاصهم، وهذا ما لم نشاهده فی کل الانقلابات التی شاهدناها _ لا یعرفون إدارة البلاد، ولا یعرفون الناس حق قدرهم، سرعان ما ینفض الناس من حولهم، حتی لا یبقی إمامهم إلاّ السلاح والسجن، وحینذاک یظهر الرأی العام علی حقیقته فی کرههم وازدرائهم والسعی للتخلص منهم.

((مردود الرأی العام))

الرأی العام والعاطفة العامة

ثم إن من الغنی عن الذکر أن الرأی العام له مردودان:

الأول: المردود الإیجابی، وهو فی الرأی العام المتفق علیه.

الثانی: السلبی، وهو فی الرأی العام المتضارب بین رأیین مثلاً، فإنه وإن لم یعط الإیجابیة، إلاّ أنه یعطی السلبیة بالنسبة إلی الأمر المخالف لکلا الرأیین، فإذا کان رأیان فی انتخابات هذا أو ذاک، استفید منه عدم مساعدة الرأی العام لانتخاب الثالث المرشح مثلاً.

((2: الانبعاث عن القومیة والوطنیة))
اشارة

((2: الانبعاث عن القومیة والوطنیة))

(ب): والانبعاث عن القومیة والوطنیة، عامل آخر من عوامل تکوین الرأی العام الضاغط علی الدولة من القاعدة.

والمراد بوحدة القوم أنهم من نسل واحد وإن کانوا مختلفی اللغات وفی أراضی ذات دول متعددة، کما أن المراد بوحدة الوطن أنهم فی أرض واحدة وإن کانوا من نسل مختلف وبلغات مختلفة، فقد اعتاد الإنسان أن ینضم إلی الآخرین لیقوی جانب نفسه، فقد یختار آخرین من لغته، أو من قومه، أو فی أرض محددة، أو من دین واحد، أو ما أشبه ذلک، وکثیراً ما یشتد هذا الانضمام أمام عدو خارجی، أو حاجة داخلیة، کالاحتیاج

ص:110

إلی تکوین سد لحفظ الماء من جهة ری الأراضی التی تعود إلی الجمیع بالنفع.

ویلحق بهذا القسم الانبعاث من لون واحد.

أنواع انقسام التجمعات

أنواع انقسام التجمعات

ثم إن هذا التجمع حول أحد هذه الأمور، والذی یکوّن الرأی العام:

1: قد یکون غیر حاد، فیکون مطلب الرأی العام المکوّن من ذلک الانبعاث هو جلب النفع لنفسه، أو دفع الضرر عن نفسه، بدون التعدی علی الآخرین.

2: وقد یکون حاداً، بأن کان معتدیاً علی الآخرین.

3: وقد یکون أکثر حدة، وذلک بأن یری التفوق لجماعته علی الآخرین خلقة، کما کان الیهود یقولون: {نحن أبناء الله وأحباؤه}((1))، وکانوا یقولون: إن سائر الناس من أولاد البغال والحمیر، وکما ظهر فی التاریخ الحدیث الفاشیة والنازیة وغیرهما.

وغالباً الدول الغالبة کالأفراد الغالبین یزعمون هذا الزعم، ولذا کان السلطان یسمی نفسه بظل الله، إذا لم یزعم أنه الله، کما قال فرعون: {ما علمت لکم من إله غیری}((2))، وکما قال نمرود: {أنا أحیی وأمیت}((3)).

وقد جاء الإسلام لینظر إلی الحقیقة، فینسف کل هذه المعاییر، لأمرین:

الأول: کذب هذه المعاییر، فقد قال سبحانه: {إنا خلقناکم من ذکر وأنثی وجعلناکم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أکرمکم عند الله أتقاکم}((4)).

ص:111


1- سورة المائدة: 18.
2- سورة القصص: 38.
3- سورة البقرة: 258.
4- سورة الحجرات: 13.

وقال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «الناس سواسیة کأسنان المشط»((1)).

وقال علی (علیه السلام) فی شعر المنسوب إلیه:

الناس من جهة التمثال أکفاء

أبوهم آدم والأم حواء

فإن یکن لهم من أصلهم نسب

یفاخرون به فالطین والماء((2))

بل روی السیوطی، عنه (علیه السلام) أنه قال: «من تعزی بعزاء الجاهلیة فاعضوه بهن أبیه ولا تکنوا». فمن أین له الفخر وقد خرج من مخرج البول مرتین، وهذا هو المعنی المتبادر من الحدیث.

ودلیل الکذب وضوح أن اللغة والأرض والقوم لا یرتبط بالکمال، فإن الکمال بالنفس.

یقول الشاعر:

اقبل علی النفس واستکمل فضائلها

فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

الثانی: إن هذه المعاییر توجب نضوب الفضائل، وظهور الرذائل، إذ الإنسان الذی لا ینفتح إلاّ علی قومه أو لغته أو أرضه، لا یتعاون مع الآخرین، وکثیراً ما یزدری بهم، فإن الانغلاق یوجب رؤیة النفس فوق الآخرین، کما قال سبحانه: {کل حزب بما لدیهم فرحون}((3)).

إذ یصنع هذا الإنسان المنغلق صمناً من قوقعته یعبده من دون الله، ومن الطبیعی أن یزدری مثل هذا الشخص بالآخرین، ولذا قال شاعرهم:

بلادی وإن جارت علیّ عزیزة

وقومی وإن جاروا علیّ کرام

خلافاً للروایة التی تقول: «خیر البلاد ما حملک»((4)).

ولماذا البلاد الجائرة عزیزة، والقوم الجائرون کرام؟

ص:112


1- الاختصاص: ص341.
2- دیوان الإمام علی (علیه السلام): ص5 قافیة الألف.
3- سورة المؤمنون: 53.
4- نهج البلاغة: قصار الحکم 444.

ومن شعب نضوب الفضائل، عدم تقدم العلم ولا العمران، حیث إن تقدمهما رهن التعاون، والمفروض أن تقدیس القوم والأرض واللغة کلها یمنع التعاون.

وهکذا حال اللون، إن للأبیض الحق فی أن یتزوج بمن یرید، وکذا الأسود، لکن لیس لأحدهما الحق أن یری نفسه فوق الآخرین، وقد حدث هذا بالفعل فی الأمم غیر المتدینة، حیث إن کلا من اللونین یری نفسه أجمل من الآخر وأفضل.

وقد کان من خطط الإسلام الحکیمة، نسف کل هذه الاعتبارات، ولذا تقدم فی فترة وجیزة ذلک التقدم الهائل، فقد قال (صلی الله علیه وآله): «لا فضل لعربی علی عجمی، ولا لأبیض علی أسود إلاّ بالتقوی»((1)).

فالتقوی معناها الفضیلة النفسیة، ومن المعلوم أن الفاضل مقدم علی المفضول، لکن لیس بمعنی الأنانیة ورؤیة النفس خیراً، بل معنی القیمة الذاتیة، کما قال علی (علیه السلام): «قیمة کل امرئ ما یحسن»((2)).

وتبعاً لهذه الفلسفة الإنسانیة الرفیعة، نری رسول الإسلام (صلی الله علیه وآله) یجلس إلی جنبه أبوذر العربی، وسلمان الفارسی، وصهیب الرومی، وبلال الحبشی، ویتزوج ابنه الحسین (علیه السلام) بشهربانویة الفارسیة، ولما قال ذلک الرجل: من هذا العجمی المتصدر بین العرب، نهره رسول الله (صلی الله علیه وآله). ویقول علی (علیه السلام) لما أعطی لعربیة وفارسیة عطاءاً بالسویة: «إنی لا أجد فی کتاب الله فضلا لبنی إسماعیل علی بنی إسحاق»((3))، إلی غیرها من النصوص الکثیرة

ص:113


1- الاختصاص: ص341.
2- انظر: نهج البلاغة: الحکمة81، وغرر الحکم: الرقم 6831.
3- الغارات: ص46.

والسیرة الوضاءة التی لم یصل العالم إلیها بعد، ولن یصل إلاّ إذا قبل رسالة الإسلام، عقیدةً وشریعةً ونظاماً.

یقظة العالم الإسلامی

یقظة العالم الإسلامی

ولما رآی المستعمرون یقظة العالم الإسلامی بعد طول سبات، بفعل الدیکتاتوریات والابتعاد عن تعالیم الإسلام، نشروا فکرة القومیة وتقدیس القدیم بین الأمة الواحدة لتبدید أوصالها.

فجاؤوا إلی البلاد العربیة بالقومیة العربیة، وإلی إیران بالقومیة الفارسیة، وهکذا فی ترکیا، والهند، وأفغانستان، وإندنوسیا، وغیرها، کما جاؤوا بتقدیس القدیم أمثال دین المجوس والفرعونیة والآشوریة والبابلیة وما أشبه، وهکذا جاءوا بالشیوعیة والوجودیة والبعثیة ونحوها، لقلع جذور الإسلام، وتفتیت الأمة الواحدة.

هذا من ناحیة، ومن ناحیة ثانیة جاؤوا بالانقلابات لیرکزوا عملاءهم، ویفعلوا ما یشاؤون بالإسلام والمسلمین، وفعلوا ما أرادوا، لکن المسلمین أخذوا فی الیقظة من جدید، وذلک بفضل عدة أمور:

1: انکشاف الأمر لکثیر منهم بسبب اقتطاع فلسطین وجعلها یهودیة، واقتطاع لبنان وجعلها مسیحیة، واقتطاع بلاد المسلمین فی کل من روسیا والصین وجعلها شیوعیة، واقتطاع الهند وجعلها وثنیة.

2: إشعال نار الحرب فی جملة من البلاد ضد المسلمین، کإرتریا والفلیبین وبورما وأفغانستان والعراق ولبنان والیمن وغیرها.

3: نهب خیرات البلاد، کالنفط وسائر المعادن بواسطة عملائهم، نهباً لم یسبق له مثیل طول التاریخ.

ص:114

4: کبت المسلمین وإذلالهم وإهانتهم، بأنواع من الکبت والإرهاب والسجون والإعدامات وغیرها.

5: تجزئة البلاد الإسلامیة إلی قطع، وجعل حدود وهمیة لها، یحفظها عملاء لهم أمام المسلمین، بینما أهل الغرب والشرق یدخلون البلاد بکل حریة.

6: فرض التخلف الزراعی والصناعی والتجاری والثقافی علی المسلمین بمختلف الوسائل والحیل.

7: نشر الأدیان المزیفة بین المسلمین، کالوهابیة والبهائیة والقادیانیة، بقصد تفتیتهم وتضعیف شأنهم أکثر فأکثر.

8: تبدیل القوانین الإسلامیة بالقوانین الوضعیة، بما فی الثانیة من النقص والتهافت ومخالفة طبیعة البشر.

إلی غیرها من الأسباب التی لا یهمنا ذکرها فی هذا الکتاب.

وبذلک جدد المسلمین عزمهم لخوض الکفاح من أجل رفض المبادئ المستوردة، وإرجاع الحکومة الواحدة، ولذا أخذ یظهر زیف القومیات، وکذب المبادیء المستوردة، ولم یبق أمام المستعمر للبقاء فی بلاد الإسلام وإبقاء عملائه إلاّ قوة السلاح، وهی قوة ضعیفة أمام عزیمة الأمم ووعیها، {ولقد نصرکم الله ببدر وأنتم أذلة}((1)).

((3: الانبعاث عن الاقتصاد))
اشارة

((3: الانبعاث عن الاقتصاد))

(ج): وأخیراً یأتی دور الانبعاث عن الاقتصاد، الذی هو من عوامل تکون الرأی العام.

فإن الاقتصاد أحد أسس الإنسان فی حیاته الفردیة والاجتماعیة، فإن مارکس وإن أخطأ خطأً جسیماً، حیث زعم أن الأساس الوحید هو الاقتصاد _ کما بینا زیفه هنا وفی بعض الکتب الأخر _ إلاّ أنه أحد الأسس، ویسبب تجمیع

ص:115


1- سورة آل عمران: 123.

الرأی العام، فی حالتین:

الأولی: خوف انهیار الاقتصاد الموجود، کما إذا کانت الأمة تعیش علی معدن أو زرع أو ماء أو ما أشبه، فأخذت عوامل الطبیعة أو نحوها فی نسف ذلک المورد، کما إذا أخذ المعدن فی الانتهاء، أو الزرع فی عدم الفائدة، کما إذا سدت طرق حمل الحاصل إلی الأسواق التی یباع فیها، أو أخذ الماء فی النضوب، أو ما أشبه ذلک، فإن الأمة إذا تحطم اقتصادها تتحطم، کما تحطمت سبأ وغیرها فی قصص مذکورة فی القرآن الحکیم وغیره.

الثانیة: عدم استقامة الاقتصاد، مما یسبب الجوع والفقر والمرض والموت، فیتجمع الرأی العام حول حل المشکلة، لأجل إنقاذ الأمة من تلک الحالة.

ثم إن ما ذکرناه من (أ) و(ب) و(ج) وإن لم تکن الحالات الوحیدة لتکوین الرأی العام عند الأمة، إلاّ أنها أکثرها دوراً.

التفاعل الثلاثی

التفاعل الثلاثی

بقی شیء، وهو أن القمة والقاعدة والوسط، یؤثر بعضها فی بعض، ویتأثر بعضها من بعض، فالقاعدة تؤثر فی الأحزاب والمنظمات والجماعات، لتؤثر هی بدورها فی القمة فی مطالب الرأی العام.

وبالعکس إذا أرادت القمة شیئاً من القاعدة، والوسط غالباً یکون جهاز امتصاص التعدیل وامتصاص الضغط من الجانبین.

ولهذه الشؤون کان اللازم علی السیاسی الاطلاع الکامل علی أحوال هذه الأطراف بکل دقة.

ص:116

بین الشخصیة الإنسانیة وشلال التاریخ

اشارة

بین الشخصیة الإنسانیة وشلال التاریخ

(مسألة 10): لا شک أن للتاریخ سیراً تصاعدیاً، یضم تحت جناحه کل شیء من الأحداث.

ومرادنا بقولنا تصاعدیاً لیس علی الإطلاق، فإن التاریخ یتعثر فی سیره أحیاناً، بل احیاناً کثیرة، کما لیس مرادنا حتمیة التاریخ الذی ذکره مارکس وأتباعه، إذ لا دلیل علی هذه الحتمیة علی الکیفیة التی ذکروها، بل قد عرفت فی هذا الکتاب وفی غیر هذا الکتاب بأن الأدلة دلت علی بطلان نظریة مارکس، سواء فی الفلسفة أو فی السیاسة أو فی الاقتصاد، بل حتی فی تنبؤاته.

فقد صدّق فی الفلسفة المقولة القائلة بالإثبات والنفی ونفی النفی، أی التقریر فی الجانب الموجب، والنقیض فی الجانب السالب، والتوفیق فی الوضع الجدید المتولد من الأولین، وقد ذکرنا بطلان هذه النظریة، فی کتاب (الفقه: الاقتصاد)، وکتاب (مارکس ینهزم)، وبذلک تسقط تسمیة مارکس هذه الفکرة بالعلمیة، فی قبال نظریة الخیالیین ودعاة الإصلاح ودعاة الانقلاب.

حیث قال: إن الأول لیس بواقعی وإنما یصلح فی عالم الخیال، والثانی لا ینفع، لأن الإصلاح الفوقی غیر منتج، بل اللازم تغییر بنیة الاجتماع، والثالث غیر صحیح إذ الانقلاب بدون وصول المرحلة السابقة حد النضج لا یؤثر فی تغییر البنیة

ص:117

وإنما یغیر الشکل فقط.

وبما رددناه فی ذین الکتابین، ظهر أن نظریته أیضاً لیست علمیة، وإنما هی کسائر النظریات الخیالیة، وقد دلت التجربة الشیوعیة علی بطلان هذه النظریة.

 

مارکس: لا للسیاسة

اشارة

مارکس: لا للسیاسة

وقال مارکس فی الحقل السیاسی: بإلغاء علم السیاسة، بسبب اختفاء الدولة عاجلاً أو آجلاً، ولذا لایدرس المارکسیون السیاسة دراسة مستقلة، بل یلحقونها ببقیة أجزاء النظریة المارکسیة، ویدرسونها فی إطارها.

واستدل لهذه النظریة بأن فی المجتمع طبقتین متصارعتین: المستغلون والمستغلون، بالکسر وبالفتح، فإذا کانت وسائل الإنتاج بید الرأسمالیین احتاج الأمر إلی الدولة لحفظ مصالح أولئک إزاء الطبقة العاملة، وإذا صارت الوسائل بسبب الثورة البرولیتاریة بید الطبقة العاملة احتاج الأمر إلی الدولة لحفظ هذه الطبقة إزاء الطبقة الرأسمالیة، أما إذا صار التوزیع والاستهلاک عادلاً، فالکل عمل بقدر جهده، والکل استهلک بقدر احتیاجه، اختفت الدولة تلقائیاً، إذ لا تکون حینذاک طبقتان حتی تحتاج إحدی الطبقتین إلی الدولة فی قبال الطبقة الأخری.

وهذه النظریة أشبه بالخیال، فالدولة لإقامة العدل، ولتنظیم النظام، ولتقدیم الأمة إلی الأمام، فکیف یتسنی کل ذلک، وإن فرض مستحیلا عادیاً ذهاب الطبقیة.

وقال مارکس فی الاقتصاد بنظریة فائض القیمة، وأن القیمة الاقتصادیة للسلع هی بقدر ما بذل فی إنتاجها من عمل، وقد سبقه إلی هذا دیکارت، کما

ص:118

سبقه إلی نظریة فی الفلسفة هیجل مع تعدیل.

وطبقاً لهذه النظریة قال: بأن الرأسمالی یسرق من العمال والفلاحین ما هم مستحقون له بإزاء عملهم.

وقد ذکرنا فی کتاب (الفقه: الاقتصاد) وکتاب (الاقتصاد الإسلامی المقارن) بطلان هذه النظریة، وأن القیمة فی قبال خمسة أشیاء: (العمل الجسدی، والفکری، والمواد، وشرائط الزمان والمکان، والعلاقات الاجتماعیة).

صحیح أن الرأسمالیة الغربیة أیضاً باطلة، کما ذکرناه فی الکتابین، لکن ذلک لا یعنی صحة نظریة مارکس.

وقال مارکس فی تنبؤاته: بأن العالم الصناعی سوف یهدم إلی الشیوعیة بمعاول هدم الطبقة العاملة للرأسمالیة، ثم لم یذکر صورة العالم الخالی عن الطبقیة، وکأنه کان یفترض أنه علی أثر استیلاء العمال علی الحکم تصح الأوضاع الفاسدة التی هی ولیدة الرأسمالیة، بطریقة آلیه تلقائیة، ومن ثم یتجمد التاریخ إلی الأبد ویصبح المجتمع بدون دولة.

والتنبؤ الأول لم یقع، بل وقع ضده، وهو انهدام العالم المتخلف الزراعی فی روسیا، ولم تصح الأوضاع الفاسدة، بل إن روسیا أشد فساداً من العالم الرأسمالی، والتاریخ لا یعقل أن یتجمد، والحکومة لم تختف، بل صارت أشد الحکومات دیکتاتوریة وطمعاً((1)).

وإذا ظهر عدم صحة نظریة مارکس السیاسیة، والتی لسنا نحن بصددها الآن، نرجع إلی ما کنا بصدده من أن للتاریخ سیراً تصاعدیاً، لکنه لیس کل شیء، کما أن للشخصیة الإنسانیة الأثر القوی فی الاجتماع والاقتصاد

ص:119


1- راجع فی شأن تنبؤات مارکس الاقتصادیة، کتاب بیربیجو ونحوه.

وغیرها، کما تقدم الإلماع إلی ذلک فی المسألة السابقة.

((بین الشخصیة والتاریخ))

((بین الشخصیة والتاریخ))

ویأتی هنا سؤالان:

الأول: هل أن الشخصیة الإنسانیة عامل مؤثر فی عالم السیاسة، أم عامل بسیط فی شلال التاریخ الجارف.

الثانی: وهو نتیجة جواب أول شقی السؤال الأول، هل بالإمکان تغییر الشخصیة العاملة ووضع غیرها مکانها، أم لا.

فإذا کانت الشخصیة لها الأثر الکبیر فی الحیاة، لم یمکن تغییرها إلی إنسان آخر، فلیست الشخصیة کالموظف العادی الذی یمکن تغییره إلی موظف آخر، أما إذا لم تکن الشخصیة کذلک، بل کانت قطرة فی بحر التاریخ، وإنما الأثر الکبیر لشلال التاریخ الجارف، کانت الأهمیة للتاریخ، وأمکن تبدیل الشخصیة.

وفائدة هذا الاختلاف فی السیاسة هی هل أن السیاسی یجب أن یجعل ثقل بحثه وعمله علی الأشخاص السامیة، أو أن یجعل ثقل بحثه وعمله علی التاریخ.

المارکسیون غالباً یذهبون إلی النظرة التاریخیة، بینما جماعة آخرون من المفکرین ذهبوا إلی النظرة الشخصیة، مع أن مقتضی القاعدة أن لا نغالی بإحدی النظریتین، بل نقول: إن لکل من التاریخ والشخصیة دوراً کبیراً فی التأثیر علی الآخر، فالإنسان الکبیر یغیر مجری التاریخ بقدر، کما أن شلال التاریخ یلون الإنسان الکبیر بلونه، فبدون المؤهلات التاریخیة لا یمکن أن تبرز الشخصیة الکبیرة، کما أنه بدون المؤهلات الشخصیة لا یمکن أن یتغیر مجری التاریخ.

ص:120

أما لماذا ذهب کل صاحب رأی إلی رأیه، فمارکس حیث أراد أن یعطی کل الدور للاقتصاد الصانع للتاریخ، لم یکن یقدر علی إعطاء الدور للشخصیة الإنسانیة، ولذا جعل ثقله علی التاریخ، بینما کثیر من المفکرین وجهوا أنظارهم إلی الملوک الدیکتاتوریین والفاتحین القساة، بل وشیئاً من أنظارهم إلی أمثال الأنبیاء (علیهم السلام) والعلماء، کأفلاطون وأرسطو وأشباههم، فرأوا أن التاریخ مشی فی رکابهم وتبعهم، لا العکس، ولذا جعلوا الثقل علی الشخصیات، وقد عرفت لزوم جعل الثقل علی کلا الأمرین.

أقوال فی مرکزیة الشخصیة

أقوال فی مرکزیة الشخصیة

ثم إن الذین قالوا بأن مرکز الثقل الشخصیة، انقسموا إلی ثلاث فئات:

الأولی: من قال بأن الشخصیة المؤثرة هی الطبقة الحاکمة والأبطال، من غیر نظر إلی أن الحاکم أو البطل المؤثر فی التاریخ هل توفرت فیه اللیاقة النفسیة أم لا.

الثانیة: من قال بأن الشخصیة المؤثرة هی أصحاب النفسیات الغیبیة، والتی استمدت القوة والشعلة من الغیب، بدون أن یکون للشخصیة العملیة والتربویة مدخل فی تکوین شخصیته.

الثالثة: من قال بأن الشخصیة المؤثرة هی أصحاب النفسیات المرباة تربیة قویة جدیرة بأن تجعل الإنسان شخصیة، فلا أثر للغیب فی ذلک، وإنما المؤثر تقویة النفس وتربیتها والإقدام فی الأمور المهمة.

ولا یخفی أن الغالب عدم إنکار کل فئة رأی الفئة الأخری إنکاراً کلیاً،

ص:121

وإنما الکلام فی مرکز الثقل حتی یکون القول الثانی قولاً ثانیاً، والاختلاف المذکور لیس اختلافاً فی مجرد العلمیات، بل له آثاره، فإذا کان الثقل لشلال التاریخ، یکون اللازم الاهتمام بصنع التاریخ حسب القدر الممکن، کالأرض إذا صلحت أنبتت نباتاً حسناً.

أما إذا کان الثقل لأمر غیبی، لم یکن علاج بید الإنسان، إذ الغیب خاص به سبحانه، {وربک یخلق من یشاء}((1))، {وما تشاؤون إلاّ أن یشاء الله}((2)).

نعم إذا کان الثقل للتربیة والإیحاء والتلقین والإقدام کان من الممکن إیجاد کل ذلک.

وکل الآراء الثلاثة مقبولة بنسبة جزئیة.

أما أن الثقل لأی الأقسام، فذلک بحاجة إلی مطالعات دقیقة، وإحصائیات کثیرة.

نعم، لا شک فی أنه لا یستوی الکل فی ذاتیة النفسیات، کما لا تستوی أزمنة التاریخ وأمکنته فی الصلاحیة للإنماء وإظهار الکفاءات، وکذلک لا تتساوی کیفیة التربیة فی بروز القابلیات.

ثم إن المراد بشلال التاریخ ألوف العوامل التی تحقق الإنماء والإظهار، من العوامل الغیبیة والطبیعیة والاجتماعیة وغیرها، ولعل شخصاً بارزاً فی التاریخ لم یکن یظهر لولا أی جزئی من الجزئیات المکتنفة بحیاته، وکثیراً ما یقرأ الإنسان أن صفعة معلم، أو موت حبیب، أو غبطة التسامی، أو صدمة مفاجئة أثرت فی تغییر مجاری حیاة إنسان.

ص:122


1- سورة القصص: 68.
2- سورة الدهر: 30.

سمات الشخصیة السیاسیة

اشارة

سمات الشخصیة السیاسیة

ثم إنه لما کان وضع الید علی بعض الصفات التی تغیر التاریخ بقدرها مما یساعد السیاسی فی تفهم مجریات التاریخ فی الماضی والمستقبل، ذکر بعض علماء السیاسة عدة من هذه الصفات، نذکرها نحن أیضاً تباعاً بدون الإسهاب وذکر الخصوصیات.

1: فالسیاسی قد یکون بطبعه محارباً، وقد یکون مسالماً.

فالأول یبقی النزاعات ویهتم لتشدیدها، بل ویخلق عداوات جدیدة، بالعکس من القسم الثانی، حیث یقلل العداوات کماً وکیفاً، ویسلک الطرق الأقرب إلی السلم، والقسم الثانی هو الذی حبذه الإسلام.

قال سبحانه: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو کنت فظاً غلیظ القلب لانفضوا من حولک فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فی الأمر فإذا عزمت فتوکل علی الله}((1)).

وقال سبحانه: {ادع إلی سبیل ربک بالحکمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتی هی أحسن»((2)).

وقال سبحانه: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}((3)).

وقال سبحانه: {ادخلوا فی السلم کافة}((4)).

وقال سبحانه: {ادفع التی هی أحسن فإذا الذی بینک وبینه عداوة کأنه ولی

ص:123


1- سورة آل عمران: 159.
2- سورة النحل: 125.
3- سورة الأنفال: 61.
4- سورة البقرة: 208.

حمیم ولا یلقّاها إلاّ الذین صبروا ولا یلقّاها إلاّ ذو حظ عظیم}((1)).

إلی غیرها من الآیات والروایات الکثیرة، والسیرة الطاهرة للأنبیاء والأئمة (علیهم الصلاة والسلام).

2: والسیاسی قد یکون صاحب نظریة خاصة، وقد لا یکون کذلک، بل یدور مع السیاسة حیث ما دارت.

فالأول یهتم لتطبیق السیاسة علی نظریته، سواء کانت نظریة دینیة أو إلحادیة أو غیرهما، بخلاف الثانی حیث یعمل الأوفق بمزاجه، ومن المعلوم أن الإسلام یربی السیاسی من القسم الأول، حیث إنه دین عقائدی، وله فی کل مسرح نظریة، سواء کان اجتماعیاً أو اقتصادیاً أو غیر ذلک.

ولا یخفی أن کلاً من القسمین من السیاسی قابل للانعطاف، إلاّ أن صاحب النظریة إنما یکون انعطافه فی مسائل ینطبق علیها قاعدة الأهم والمهم، بخلاف غیره حیث یتوخی الفائدة.

وإن شئت قلت: إن الثانی انتهازی بخلاف الأول، وقد ینطبق علی الثانی قوله سبحانه: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذکرنا واتبع هواه وکان أمره فرطا}((2))، بخلاف الأول الذی ینطبق علیه قوله سبحانه: {وقل الحق من ربکم فمن شاء فلیؤمن ومن شاء فلیکفر}((3)).

کما أنه فرق واضح بین (قاعدة الاهم والمهم) وبین (قاعدة الهدف یبرر الواسطة)، حیث إن القاعدة الأولی تقدم الأهم وهی قاعدة عقلائیة، بینما القاعدة الثانیة تقدم الهدف مساویاً کان أو مرجوحاً أو راجحاً.

3: والسیاسی قد یکون ثوریاً، وقد یکون مصلحاً.

فالأول یرید الثورة

ص:124


1- سورة فصلت: 34 _ 35.
2- سورة الکهف: 38.
3- سورة الکهف: 39.

علی الأوضاع، لأن یقلبها إلی الصالح بنظره، بینما الثانی یرید الإبقاء علی صلاح الأوضاع وإن رأی خراباً أراد ترمیمه وإصلاحه، مثلهما مثل من یرید هدم الدار لیبنی داراً بطرز جدید، ومن یرید تعمیر بعض جوانب الدار التی وصل إلیها العطب.

أما ما قد یری من تحول الثوری إلی المصلح وبالعکس، فهو معلول أن الثوری قد یحصل علی النظام المطلوب له فیهتم لإصلاح الفاسد من البناء الجدید، بینما قد یری المصلح خراب تمام الدار فیرید بناءه من جدید علی الطرز السابق.

وبما ذکرنا ظهر أن الإسلام یرید الثوری المصلح فی کل حال، ثوریاً بالنسبة إلی الأبنیة غیر الإسلامیة، ومصلحاً بالنسبة إلی الأبنیة الإسلامیة التی أصابها العطب والفساد.

نعم حیث إن الإسلام دین عالمی، فهو ثوری ما دام هناک بناء غیر إسلامی، فإذا شمل الإسلام العالم کله انقلب إصلاحیاً، قال سبحانه: {وما لکم لا تقاتلون فی سبیل الله والمستضعفین}((1))، فما دام هناک سبیل الله مصدود، ومستضعف حقه مهدور، فالثورة مستمرة.

4: والسیاسی قد یکون عنیداً، وقد یکون محنکاً.

فالأول یواجه المشاکل بروح التعصب والعناد، ولا یعرف الطرق الدبلوماسیة والحلول السیاسیة، أما المحنک فهو بالعکس، یحل المشاکل من أقرب الطرق، کالطبیب البصیر الذی یداوی المرض بالعلاج الأیسر الأسلم، وقد ورد فی وصف الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله): «طبیب دوار بطبه، قد أحکم مراهمه، وأحمی

ص:125


1- سورة النساء: 75.

میاسمه»((1)).

ولذا فالإسلام یرید تکوین السیاسی المحنک الذی یدفع بالتی هی أحسن، وفی الحدیث: «لو وضع الرفق علی شیء زانه، ولو وضع الخرق علی شیء شانه»((2)).

والإسلام یری القلع والقمع والبتر والقطع ضرورة، ویری أن الضرورات تقدر بقدرها، وفی الآیة الکریمة: {یرید الله بکم الیسر ولا یرید بکم العسر}((3)).

والسیاسی العنید وإن أرضی کبریاءه، إلاّ أن العاقبة تعاکسه، بینما المحنک وإن لم یرض کبریاءه فی أول مرحلة، إلاّ أن العاقبة المحمودة تحالفه.

5: والسیاسی قد یکون عالمیاً، وقد یکون إقلیمیاً، ولیس الفارق النطق بالأمرین، فما أیسر أن ینطق الإنسان بأنه عالمی، بل الواقع والتخطیط.

فالأول یخطط ویعمل فی نطاق العالمیة حسب الممکن، والثانی یعمل فی نطاق الإقلیمیة، والإسلام یری الأول.

قال علی (علیه السلام): «الناس إما أخ لک فی الدین، أو نظیر لک فی الخلق»((4))، وقال: «أحب لغیرک ما تحب لنفسک»((5))، إلی غیر ذلک من المعاییر العالمیة التی زخرت بها الشریعة الإسلامیة.

6: إلی غیرهم من أقسام السیاسیین الموجودین فی الخارج، کالمقدام والمحجم، والعمیق والسطحی، وغیرهم.

ولا یخفی أن هذه التقسیمات إنما

ص:126


1- نهج البلاغة: الخطبة 108.
2- تحف العقول: ص39 باب مواعظ النبی (صلی الله علیه وآله) وحکمه.
3- سورة البقرة: 185.
4- انظر نهج البلاغة: الخطبة 53.
5- نهج البلاغة: کتاب 31.

هی بالنسبة إلی السیاسة والساسة، مجرداً عن اعتبار الشریعة.

((من أقسام السیاسة والسیاسی))

((من أقسام السیاسة والسیاسی))

أما إذا لاحظنا هذا الاعتبار، فالسیاسة إما شرعیة تلاحظ الدنیا والدین، وإما عقلیة تلاحظ الدنیا الموزونة، وإما مادیة تلاحظ الدنیا الشهوانیة.

والسیاسی ینقسم بهذا الاعتبار إلی الأقسام الثلاثة.

1: فالسیاسة الشرعیة تخطط لسلامة الدنیا والدین، کما قال سبحانه: {ومنهم من یقول ربنا آتنا فی الدنیا حسنة وفی الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}((1)).

وکما قال (علیه السلام): «لیس منا من ترک آخرته لدنیاه، ولیس منا من ترک دنیاه لآخرته»((2)).

وفی کلمة أخری قال (علیه السلام): «اعمل لدنیاک کانک تعیش أبداً، واعمل لآخرتک کأنک تموت غداً»((3)).

2: أما السیاسة الفلسفیة، أی التی ینظر إلیها الفلاسفة وأصحاب العقول المجردة عن الشریعة، فإنها تخطط لسلامة الدنیا عن الأخطار والمکاره، والتی یعیش کل إنسان فیها بسلام ورفاه، وبذلک تسقط الشهوات العاجلة لأجل العافیة.

3: وأخیراً یأتی دور السیاسة المادیة التی لا تهتم إلاّ بالشهوات، ومن الطبیعی أن یرتطم الإنسان تحت ظل هذه السیاسة، فی أوحال المشاکل والأمراض والمنازعات، إذ الدنیا محدودة فإذا أراد الإنسان أن یسیر فیها بدون ضوابط وموازین ارتطم بالحدود، ونشب الخلاف بین الأفراد الذین یریدون الانتهاز

ص:127


1- سورة البقرة: 20.
2- الوسائل: ج12ص49 الباب 28 من مقدمات التجارة ح1.
3- الوسائل: ج12ص49 الباب 28 من مقدمات التجارة ح2. 

من مناهلها المحدودة، والنیل من فرضها القلیلة.

ولعل إلی ما ذکرناه أشار بعض علماء المسلمین فی تقسیمه السیاسة، إلی (طبیعیة وعقلیة وشرعیة):

فالأولی: ما تحمل الناس إلی مقتضی الغرض والشهوة.

والثانیة: ما تحملهم إلی مقتضی جلب المصالح الدنیویة ودفع مضارها.

والثالثة: تحملهم إلی ما یصلحهم فی دنیاهم وأخراهم. وذلک لما هو واضح من أن الإسلام دین ودنیا، أو بالأحری إن الإسلام یری الأولی والأخری مملکة واحدة لرب واحد، والکل عبیده، وبهذه النظرة وضع الخطط العامة لصلاح العبید فی أرجاء هذه المملکة الواحدة، العاجلة منها والآجلة.

وکیف کان، فالسیاسی الإسلامی هو الذی یضیف إلی المحامد التی ذکرت فی الأقسام الستة السابقة، المنهجیة الإسلامیة فی أسلوبه السیاسی.

ص:128

السیاسة علم أم علوم

اشارة

السیاسة علم أم علوم

(مسألة11): فرق بین (العلم) و(العلوم)، فالأول له موضوع واحد، بینما الثانی له موضوعات متعددة، والعلم الواحد لیس علوماً، وکذلک العکس، فعلم النحو علم واحد، وکذلک علم الاقتصاد وغیرهما.

وأما إذ لاحظنا الأدب، قلنا العلوم الأدبیة، الشاملة للصرف والنحو والمعانی وغیرها.

وبهذا المیزان یظهر أن ما اصطلح علیه جماعة من علماء السیاسة القدامی بتسمیة هذا العلم بالعلوم السیاسیة، کان فی غیر محله، إذ هو بمثابة أن نقول: العلوم النحویة أو العلوم الاقتصادیة، إذ السیاسة موضوع واحد له مسائل کسائر العلوم.

أما أولئک الذین جعلوا هذه التسمیة، فکان منطلق تفکیرهم أن جمیع العلوم الإنسانیة تهتم بالحیاة السیاسیة، بوجه أو بآخر، فلیس للسیاسة میدان خاص، بل لکل علم من العلوم الإنسانیة فرع مرتبط بالسیاسة، کالتاریخ السیاسی، والجغرافیا السیاسیة، والاقتصاد السیاسی، وعلم النفس السیاسی، وعلم الاجتماع السیاسی، وإلی غیر ذلک.

لکن هذا المنطق لا یکفی لرفض وحدة العلم السیاسی، فهذه فروع من السیاسة، أخذتها سائر العلوم، لا أن کل فرع علم.

ص:129

ولذا جاء جمع من المتأخرین قبل أربعین عاماً تقریباً وصححوا هذا الانحراف، وأرجعوا الأمر إلی ما أشار إلیه القدماء من کون السیاسة علماً لا علوماً، فقالوا: (علم السیاسة).

والأمر وإن کان اصطلاحیاً ولامشاحة فی الاصطلاح، إلاّ أن التحدید الواقعی فی الأمور الاعتباریة أجدر بأن لا یخطأ الإنسان فی مسارب تلک الأمور الاعتباریة، کما التحدید الواقعی فی الأمور الخارجیة یحفظ الإنسان من التیه.

((أقسام موضوع السیاسیة))

((أقسام موضوع السیاسیة))

ثم إن جمعاً من علماء السیاسة حددوا موضوع هذا العلم بالنظر وبالعمل، والعمل قسموه إلی الداخلیة والدولیة، فالموضوع له أربعة فروع أساسیة:

الأول: یشمل:

1: النظریة السیاسیة.

2: وتاریخ الأفکار السیاسیة.

وإنما جعلوا التاریخ من العمل، لأجل مساعدة العلم بذلک فی تعلیم السیاسة، وفی تمرین الذهن لإعداد العالم علی التطبیق الخارجی.

الثانی: المؤسسات السیاسیة الشاملة:

1: للمؤسسات السیاسیة المقارنة.

2: والمؤسسات التشریعیة کالدستور.

3: والمؤسسات التنفیذیة کالحکومة.

وهذه الثلاثة بمجموعها تتحلل إلی ست مؤسسات هی (الدستور) و(الحکومة المرکزیة) و(الحکومة الإقلیمیة والمحلیة) و(الإدارة العامة) و(وظائف الحکومة الاقتصادیة والاجتماعیة) و(المؤسسات السیاسیة المقارنة).

الثالث: الأمور التی هی بمنزلة النسبة الأولی للسیاسة، حیث إن منها منطلق السیاسة، وفیها یکون النضج السیاسی، وما إلی ذلک.

ص:130

وقد قسم علماء السیاسة الجدد هذا إلی أربعة أمور:

1: الرأی العام.

2: الفئات أو الجمیعات.

3: الأحزاب السیاسیة.

4: مشارکة الإنسان فی الإدارة أو الحکومة.

وقد تقدم فی المسألة السابقة أن هذه الثلاثة _ بتوحید الثانی والثالث _ بمنزلة القمة والوسط والقاعدة، وعلیه یکون التدرج السیاسی من الرأی إلی الفئة إلی الدخول فی الحکم تنفیذاً أو تشریعاً.

لا یقال: فأین مکان القضاء؟

لأنه یقال: القضاء داخل فی قسم التنفیذ، وإن لم یصطلح علیه بذلک.

الرابع: وأخیراً یأتی دور العلاقات الدولیة التی هی عبارة:

1: عن السیاسة الدولیة.

2: والتنظیمات والإدارات الدولیة.

3: والقانون الدولی.

ومما تقدم یظهر نقص علم السیاسة عند من یعرفه بأن السیاسة علم الدولة، اللهم إلاّ إذا أراد السعة فی معنی تعریفه ذلک، حتی یشمل مثل الرأی العام والفئات الضاغطة وما أشبه، لکن مثل هذا المعرف للسیاسة بذلک إنما یشرح السیاسة بما یخص الدولة فقط، فیکون حاله حال من یخصص علم الاقتصاد بالنقد مثلاً، أو علم البلاغة بالبیان فقط.

نعم، لا شک أن أهم فروع علم السیاسة علم الدولة، ومن هذا المنطق انطلق

ص:131

الیونانیون والمسیحیون والمسلمون فی سالف الزمان فی محور دراساتهم للسیاسة.

1: فالفلاسفة الیونانیون الذین تعرضوا للسیاسة، کان محور کلامهم الدولة المثلی، ولا یخفی أن تخطئة بعض لهم بأنهم مثالیون لا واقعیون، غیر جدیر بالاعتناء، إذ هم أرادوا التخطیط لسعادة الإنسان، فمهما وصل الإنسان إلی ذلک المخطط کان أقرب إلی السعادة، مثالهم فی ذلک مثال کل عالم وباحث یهدف أخیر المطاف، وصل إلیه الإنسان بسرعة أو بطء.

2: والمسیحیون تعرضوا للعلاقة بین الدولة والکنیسة، انطلاقاً مما أثر عنهم (ما لله لله، وما لقصیر لقیصر).

3: والمسلمون انطلقوا من فکرة الدولة الشرعیة والخلافة الإلهیة.

فالمحور عند الأولین (الإنسان)، وعند المسیحین (الله)، وعند المسلمین (کلاهما)، حتی جاء الساسة المحدثون فنظروا إلی السیاسة بما أنها سیاسة مبتدئاً بنشأة الدولة وسیاستها، وهذا وإن کان خطأً عند المسلمین، کالرأی الأول والثانی، إلاّ أن لکل وجهة نظر منطلقه من خلفیاته الفکریة.

ص:132

بحوث فی الدولة والأمة

اشارة

بحوث فی الدولة والأمة

(مسألة12): لقد تقدم الکلام حول الشخصیة السیاسیة والمسرح السیاسی، وأن المسرح السیاسی هو الذی یظهر فیه السیاسی کرجل سیاسة، کما أن المسرح السیاسی قد یکون محصوراً فی حدود البلاد الذی هو موطن رجل السیاسة، وقد یتعداه إلی سائر الأمم والبلدان.

ثم إن السیاسی القدیر هو الذی یتمکن من تعدی حدود بلاده، وإعمال السیاسة فی البلدان الأخر، وذلک لأن السیاسة کالشجرة لها جذور، وکلما قلت جذور الشجرة کانت عرضة للسقوط أکثر فأکثر، خصوصاً عند هبوب العواصف، ولذا اعتاد السیاسیون الأقویاء علی تحصیل الصداقات خارج حدود بلادهم، والنفع حینئذ یکون متبادلاً بین الجانبین، فیشد أحدهما أزر الآخر، هذا بالإضافة إلی أن بعضهم یشتری الصحف والرجال وما أشبه خارج البلاد.

وکیف کان، فموضع الکلام حول السیاسة، فی أمرین:

أ: الدولة.

ب: الأمة.

فالأمة تکون موضعها المملکة، والدولة هی المتصرفة فی کلتیهما، وربما

ص:133

یتعدی السیاسی حدود بلاد إلی سائر البلاد والأمم کما ذکرنا.

کما أن السیاسة قد یکون مسرحها بین الأمم، کما تقدم فی المسألة السابقة.

((الحاجة إلی الدولة))

((الحاجة إلی الدولة))

أما الدولة، فهی أرقی التشکلات البشریة لإدارة أمور جماعة کبیرة فی مختلف شؤونها.

وکلما تقدم العلم والصناعة وکثر البشر فی منطقة وتعقدت أحوال الأمم، کان الاحتیاج إلی الدولة أکثر، حیث إن العلم یزید حاجات البشر، والکثرة توجب تبادل العلاقات أکثر، وتعقد أحوال الأمم یؤثر تلقائیاً علی أحوال غیرهم، وکل ذلک یرفع درجة الاحتیاجات، وبارتفاع درجة الاحتیاجات یکون الاحتیاج إلی الدولة المنظمة لهذه الاحتیاجات، والمملیة لفراغات الحاجات أکثر فأکثر.

1: مثلاً بعد أن تدخلت فی الحیاة الماء والکهرباء والمواصلات الحدیثة، واحتاج الناس إلی معامل التصفیة، ومکائن الکهرباء والمطارات والمحطات وما أشبه، زادت وظیفة الدولة باعطاء هذه الحاجات، بینما لم تکن من ذی قبل.

2: والفرق واضح بین الدولة التی تشرف علی إصلاح شؤون ملیون إنسان، وبین الدولة التی تشرف علی إصلاح شؤون مائة ملیون، حیث إن الأولی تعالج مشاکل علاقات ملیون، بینما الثانیة تعالج مشاکل مئات الملایین من العلاقات، حیث إن التضاعف العددی فی الأفراد لا یوجب التضاعف العددی فی العلاقات، بل یوجب التضاعف الهندسی.

مثلاً: علاقة إنسان واحد بآخر علاقتان من الطرفین، أما إذا وجد إنسان ثالث صارت العلاقات ستاً، فإذا وجد رابع صارت العلاقات اثنتی عشرة، وهکذا کلما زاد فرد زادت العلائق بالقیاس السابق.

وبذلک یعرف وجه کثرة

ص:134

الاحتیاج إلی الدولة فیما إذا تعددت الأمم، وتعقدت الظروف لکل أمة، حیث إن تعدد الأمم حاله حال الثانی، وتعقد ظروفها حاله حال الأول.

وبما تقدم ظهرت شدة الاحتیاج إلی الدولة، کلما تقدم العلم، وکثر أفراد البشر.

النظریة المارکسیة فی الدولة ونقدها

النظریة المارکسیة فی الدولة ونقدها

لکن المارکسیین خالفوا ذلک، فهم یرون الدولة أمراً عارضاً، لم تکن فی أول أزمنة البشر، حیث لا وسائل للإنتاج، وإنما حدثت عند ظهور الملکیة وبروز وسائل الإنتاج، حیث أخذ بعض البشر یستغل البعض تبعاً للطبقیة، فظهور الدولة إنما هو انحراف فی طبیعة البشر، والدولة هی الحافظة لمصالح الأقلیة المستغلین بالکسر، ضد الأکثریة المستغلین بالفتح، وإذا تمکنت الأکثریة من الاستیلاء علی وسائل الإنتاج زالت الطبقیة، وتساوی الکل فی الانتاج والاستهلاک، کل یعمل بقدر طاقته، ویستهلک بقدر حاجته، وإذا زالت الطبقیة زالت الاحتیاج إلی الدولة.

وهذه النظریة یرد علیها أمور:

الأول: ما تقدم من وجه الحاجة إلی الدولة، فلیس الاحتیاج إلی الدولة من جهة ما ذکروا، بل من جهة ما ذکرنا من الأمور الثلاثة (1 _ 2 _ 3)، وهذه الثلاثة التی هی مبعث الاحتیاج إلی الدولة باقیة ما بقی الإنسان إنساناً.

وقد ذکرنا فی بعض المسائل السابقة زیف نظریة الإنسان المتوحش الأول التی ذکرها دارون، وتبعه علیها مارکس وغیره، فإن العقل والنقل متطابقان

ص:135

علی تحضر الإنسان منذ أن وجد وسیبقبی متحضراً إلی النهایة.

الثانی: إن قولهم: (إن الدولة ولیدة الطبقات المتضادة) لازمه اختفاء الدولة إذا اختفت الطبقات المتضادة، مع أنا نجد عدم اختفاء الدولة فی ذلک الحال، کما إذا توحدت الطبقات أمام خطر داخلی کالسیول والأوبئة، أو خارجی کالحرب، ففی الحرب العالمیة الأولی والثانیة اتحدت الطبقات، ولم تختف الدولة، بل کان الاحتیاج إلیها أکثر، ولماذا حاربت طبقة العمال الألمان طبقة العمال الفرنسیین فهل الحرب کانت طبقیة، وکذا حارب المسلمون الیهود فی فلسطین والفرنسیین فی الجزائر، وقد سببت هذه الحروب توحید طبقات المسلمین، ومع ذلک لم تختف الدولة، بالإضافة إلی أن الشغیلة حاربت الشغلیة ولم تحارب طبقة طبقة.

الثالث: إن النزاع لیس بین الطبقتین الاقتصادیتین، المستغلون بالکسر، والمستغلون بالفتح فقط، حتی إذا اختفت اختفت الدولة، بل النزاع له منطلقات متعددة، کالقومیة والثقافة والدین والرئاسة وغیرها، والدولة حیث إنها الحافظة للعدل وعدم تعدی بعض علی بعض تبقی، ما دامت هذه المنطلقات موجودة وإن اختفت الطبقیة الاقتصادیة.

الرابع: الدولة لا تحفظ مصالح طبقة ضد طبقة، حتی یکون وجودها رهن وجود المصالح، فإذا اختفت المصالح اختفت الدولة، نعم ذلک ممکن فی الدولة المنحرفة.

إذ الدولة غالباً تراعی کل الجوانب، وإن کانت رعایتها لبعض الجوانب أکثر فی بعض الأحوال، فالمارکسیون نظروا إلی بعض الدول ثم عمموا أحوالها إلی کل دولة، مع أن من أولیات المنطق أن (الجزئی لایکون کاسباً ولا مکتسباً).

وسنذکر فی آخر هذا الفصل النظریة الإسلامیة حول الدولة، لمزید توضیح هذا الأمر.

ص:136

الخامس: لو کان تسلم العمال لوسائل الإنتاج یوجب اختفاء الطبقات الموجب لاختفاء الدولة، فلماذا نری فی کل البلاد الشیوعیة وجود الطبقات وقد مر علی بعضها زهاء ثلثی قرن، حیث إن ثورة اکتوبر فی روسیا کانت سنة (1917م)، وقد ملک العمال کل شیء حسب زعمهم.

السادس: لا أنه لم تختف الدولة فی روسیا وسائر بلاد الشیوعیة فقط، بل ازدادت شدة وصلابة ومؤسسات ودوائر.

وبالسادس والخامس ظهر بطلان ما ادعوه من التلازمین (تأمیم وسائل الإنتاج لاختفاء الطبقات) و(اختفاء الطبقات لاختفاء الدولة).

الدولة فی منظار علی علیه السلام

الدولة فی منظار علی علیه السلام

قال علی أمیر المؤمنین (علیه السلام) کما فی نهج البلاغة: «لابد للناس من أمیر بر أو فاجر».

_ الظاهر أن المراد حاکم بر فی بلاد الأبرار، وحاکم فاجر فی بلاد الفجار، لأن کل طائفة تنتخب من نفسها، أو کما ورد: «کیفما تکونوا یولّی علیکم» _ .

«یعمل فی إمرته المؤمن، ویستمتع فیها الکافر، ویبلغ الله فیها الأجل، ویجمع به الفیء، ویقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ویؤخذ به للضعیف من القوی، حتی یستریح بر، ویستراح من فاجر»((1))، انتهی کلامه (علیه السلام).

وقال عبد الله بن عباس: دخلت علی أمیر المؤمنین (علیه السلام) بذی قار، وهو یخصف نعله، فقال لی: «ما قیمة هذه النعل»، فقلت: لا قیمة لها، فقال (علیه

ص:137


1- نهج البلاغة: الخطبة 41.

السلام): «والله لهی أحب إلیّ من إمرتکم، إلاّ أن أقیم حقاً أو أدفع باطلاً»((1)).

وقال علیه السلام: «فقد جعل الله لی علیکم حقاً بولایة أمرکم، ولکم علی من الحق مثل الذی لی علیکم، والحق أوسع الأشیاء فی التواصف، وأضیقها فی التناصف، لا یجری لأحد إلاّ جری علیه، ولا یجری له إلاّ جری علیه، ولو کان لأحد أن یجری له ولا یجری علیه لکان ذلک خاصاً لله سبحانه دون خلقه، لقدرته علی عباده، ولعدله فی کل ما جرت علیه صروف قضائه، ولکنه سبحانه جعل حقه علی العباد أن یطیعوه، وجعل جزاءهم علیه مضاعفة الثواب، تفضلاً وتوسعاً بما هو من المزید أهله».

«ثم جعل سبحانه من حقوقه، حقوقاً افترضها لبعض الناس علی بعض، فجعلها تتکافأ فی وجوهها، ویوجب بعضها بعضاً، ولایستوجب بعضها إلاّ ببعض».

«وأعظم ما افترض الله سبحانه من تلک الحقوق، حق الوالی علی الرعیة، وحق الرعیة علی الوالی، فریضة الله سبحانه لکل علی کل، فجعلها نظاماً لألفتهم، وعزاً لدینهم، فلیست تصلح الرعیة إلاّ بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعیة، فإذا أدت الرعیة إلی الوالی حقه، وأدی الوالی إلیها حقها، عز الحق بینهم، وقامت مناهج الدین، واعتدلت معالم العدل، وجرت علی إذلالها السنن، فصلح بذلک الزمان، وطمع فی بقاء الدولة، ویئست مطامع الأعداء».

«وإذا غلبت الرعیة والیها، أو أجحف الوالی برعیته، اختلفت هنالک

ص:138


1- نهج البلاغة: الخطبة 33.

الکلمة، وظهرت معالم الجور، وکثر الأوغال فی الدین، وترکت محاج السنن، فعمل بالهوی، وعطلت الأحکام، وکثرت علل النفوس، فلا یستوحش بعظیم حق عطل، ولا بعظیم باطل فعل، فهناک تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد»((1)).

وسأله (علیه السلام) رجل: العدل أفضل أم الجود، فقال (علیه السلام): «العدل یضع الأمور مواضعها، والجود یخرجها من جهتها، والعدل سائس عام والجود عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلها»((2)).

وقال (علیه السلام): «الحق القدیم لا یبطله شیء، والله لو وجدته» _ أی المال المغصوب _ «قد تزوج به النساء وملک به الإماء لرددته، فإن فی العدل سعة، ومن ضاق علیه العدل فالجور علیه أضیق»((3)).

وقال (علیه السلام): «أما والذی فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقیام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله علی العلماء أن لا یقاروا علی کظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقیت حبلها علی غاربها، ولسقیت آخرها بکأس أولها، ولألفیتم دنیاکم هذه أزهد عندی من عفطة عنز»((4)).

وطلب منه (علیه السلام) بعض أن یعمل حسب القاعدة المعروفة: (الغایة تبرر الوسیلة) فقال (علیه السلام): «أتأمروننی أن أطلب النصر بالجور، والله ما أطور به ما سمر سمیر، وأم نجم فی السماء نجماً، لو کان المال لی لسویت بینهم، فکیف وإنما المال مال الله»((5)).

ص:139


1- نهج البلاغة: الکتاب 34.
2- نهج البلاغة: الحکمة 437.
3- نهج البلاغة: الخطبة 15.
4- نهج البلاغة: الخطبة 3.
5- نهج البلاغة: الخطبة 126.

وقال (علیه السلام): «ولیس امرؤ _ وإن عظمت فی الحق منزلته، وتقدمت فی الدین فضیلته _ بفوق أن یعان علی ما حمله الله من حقه، ولا امرؤ _ وإن صغرته النفوس واقتحمته العیون _ بدون أن یعین علی ذلک، أو یعان علیه»((1)).

وقال (علیه السلام): «فلا تکلمونی بما تکلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا منی بما یتحفظ عند أهل البادرة، ولا تخالطونی بالمصانعة، ولاتظنوا بی استثقالا فی حق قیل لی، ولا التماس إعظام لنفسی، فإنه من استثقل الحق أن یقال له أو العدل أن یعرض علیه کان العمل بهما أثقل علیه، فلا تکفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل»((2)).

وقال (علیه السلام) فی کتابه إلی عامله بأذربایجان: «وإن عملک لیس لک بطعمة، ولکنه فی عنقک أمانة، وأنت مسترعی لمن فوقک، لیس لک أن تفتات فی رعیته»((3)).

وقال (علیه السلام) فی مرسومه العام: «فأنصفوا الناس من أنفسکم، اصبروا لحوائجهم، فإنکم خزان الرعیة، ووکلاء الأمة، وسفراء الأئمة»((4)).

وفی عهد الإمام (علیه السلام) إلی مالک الأشتر حین ولاه مصر:

(وأشعر قلبک الرحمة للرعیة، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تکونن علیهم سبعاً ضاریاً تغتنم أکلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لک فی الدین، أو نظیر لک فی الخلق... ولا تقولن إنی مؤمر آمر فأطاع، فإن ذلک إدغال فی القلب ومنهکة للدین وتقرب من الغیر... فإن حقاً علی الوالی أن لا یغیره علی رعیته فضل ناله، ولا طول خص به، وأن یزیده ما قسم الله له من نعمة دنواً من عباده، وعطفاً

ص:140


1- نهج البلاغة: الخطبة 216.
2- نهج البلاغة: الخطبة 216.
3- نهج البلاغة: الکتاب 5.
4- نهج البلاغة: الکتاب 51.

علی إخوانه»((1)).

وهنا نکتفی بهذا المقدار من کلام الإمام (علیه السلام)، لکفایته فی عرض النماذج الذی نحن بصدده، وإن کانت جملة من الآیات والروایات الواردة عن الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله) والأئمة الطاهرین (علیهم الصلاة والسلام) بهذا المعنی کثیرة، وسیأتی الکلام حول بعضها.

ص:141


1- نهج البلاغة: الکتاب53.

بحوث فی الأمة

اشارة

بحوث فی الأمة

(مسألة 13): وأما (الأمة) فهی الجماعة التی ربطت أنفسها بعضاً ببعض لمصیر واحد، فلهم علائق متبادلة، سواء کانت لهم لغة واحدة أو عدة لغات، ودین واحد أو عدة أدیان، وهکذا، وقد تقدم فی بعض المسائل السابقة وجه توحید الأمة وسبب تمایز بعضها عن بعض، وأن لعلماء السیاسة الألمان والفرنسیین رأیین مختلفین فی هذا السبب.

وسیکون الکلام فی هذا الصدد فی أربعة أمور:

الأول: الفرق بین الأمة والناس.

الثانی: ظهور الأمم فی طول التاریخ واختفاؤها.

الثالث: العناصر التی تشکل الأمم.

الرابع: المکان الجغرافی المحدود الذی تعیش فیه کل أمة بما أنها أمة واحدة.

((الفرق بین الأمة والناس))

((الفرق بین الأمة والناس))

أما الأول: فالناس أعم من الأمة، لأن الأمة لا تطلق إلاّ علی مجموعة ربطت مصالحها بعض ببعض، بحیث توحدت فی وحدة ما، وتمکنت أن یتفاعل بعضها فی بعض بنوع من التفاعل وجعل العلائق بینها، ولها إطلاقان باعتبارین:

1: الإطلاق المرتبط بالحدود الجغرافیة، فیقال: الأمة الهندیة،

ص:142

فی قبال الأمة الترکیة مثلاً.

2: الإطلاق المرتبط بالحدود الدینیة، فیقال: الأمة الإسلامیة، فی قبال الأمة المسیحیة مثلاً.

ومن الواضح أن الأمة بأی من الاعتبارین یلاحظ فیها وحدة خاصة، ویکون بینهما عموم من وجه، علی الاصطلاح المنطقی، فالأمة الهندیة تشمل الأمة الإسلامیة وغیرها، والأمة الإسلامیة تشمل الأمة الهندیة وغیرها.

أما بین الناس والأمة فعموم مطلق، إذ الناس أوسع مفهوماً من الأمة، نعم قد یتحدان مفهوماً بسبب الإضافة، فیقال: الأمة العربیة، والناس العرب.

وحیث إن الغالب صیاغة کل شیء من فلسفة نظریة خاصة، اختلفت الاصطلاحات فی الأمة أیضاً، مثلاً الاجتماع والاقتصاد والسیاسة قد تصاغ من فلسفة الدین، وقد تصاغ من فلسفة القومیة، وقد تصاغ من فلسفة الجغرافیا، فإن المفکرین یجعلون فلسفة لأنفسهم ویرجعون کل الأنظمة إلی تلک الفلسفة.

فالمتدین مثلاً یلاحظ فی المسائل الاقتصادیة الحلال والحرام، بینما القومی یلاحظ ماذا ینفع قومه، وماذا لا ینفع، ومن ینطلق من الفلسفة الجغرافیة یلاحظ ما ینفع الذین یعیشون فی هذا القطعة الخاصة من الأرض.

وأما من وضع فلسفته علی اللون _ کما فی إفریقیا وإمریکا _ فإنه ینطلق من فلسفة وجوب الاهتمام بهذا اللون دون ذاک، فیضع اقتصاده علی طبق تلک الفلسفة، ولذا تجد أفکاراً اقتصادیة متعددة فی مکان واحد، فالمسلم فی العراق مثلاً ینطلق من الاقتصاد الإسلامی، بینما القومی ینطلق من الاقتصاد للأمة العربیة، وهکذا الملاحظ للحدود الجغرافیة الخاصة ینطلق من الاقتصاد العراقی.

ص:143

أقول: حیث إن الغالب اختلاف صیاغة المسائل من فلسفات خاصة، کان اصطلاح (الأمة) أیضاً مما تأثر بهذه الصیاغات، فقد یلاحظ فیها الدین فیقال: (الأمة الإسلامیة) من دون نظر إلی اللغة والحدود الأرضیة، وقد یلاحظ فیها اللغة فیقال (الأمة العربیة) من دون نظر إلی الدین والحدود الأرضیة، وقد یلاحظ فیها الأرض فیقال: (الأمة المصریة) من دون نظر إلی الدین واللغة.

وقد ظهر بما تقدم أن الإطلاقات المختلفة لیست مجرد اصطلاحات، وإنما یترتب علی ذلک الأبنیة الفوقیة التی تبنی علی هذه الفلسفات التی انطلقت منها الصیاغات المتعددة، وکثیراً ما یقع الخلط والمغالطة، لعدم اهتمام الشخص فی صیاغاته بالمنطلقات والأسس الفکریة.

تکون الأمة المسلمة

تکون الأمة المسلمة

ولا بأس فی المقام أن نشیر _ فی مثال الرابطة بین المنطلقات الفکریة وبین العمل فی تکوین الأمة فی قبال سائر الأمم _ إلی الأمة الإسلامیة، والتی یقاس علیها سائر الأمم فی کیفیة الارتباط بین المنطلق الفکری لها، وبین تکونها أمة واحدة لأجل ذلک المنطلق.

فالإسلام بنی أمته علی العقیدة بالتوحید، إذاً فالأرض وما فیها کلها الله، والناس مخلوقون لله، والتشریع لله، والجزاء علی الله، حیث یجازی المحسن بالإحسان، وأما المسیء فإن شاء عفی عنه وإن شاء عذبه، والمشیئة حسب المصلحة لا اعتباطیة فیهما.

ومن هذا المنطلق بنی الإسلام علی الصلاة والصوم والحج والزکاة والولایة.

فالصلاة لدوام الارتباط مع الله، والصوم للسیطرة علی النفس، ومن الواضح أن النفس مبعث الخیرات والشرور، فإن جوهر النفس إذا صلح

ص:144

صلحت النفس والبدن والمحیط الاجتماعی والمحیط الطبیعی، والحج لاجتماع المسلمین حتی یحلوا مشاکلهم ویتشاوروا فیما یقدمهم ویهیئوا الأسباب لإنقاذ المستضعفین ولإعلاء کلمة الله، والزکاة مال لابد للنظام منه، والولایة بشقیها قیادة الأصلح، فإن القیادة إذا کانت صالحة رشیدة صلحت الأمة، وإذا لم تکن کذلک وقعت الأمة فی مهاوی الضلال والانحطاط.

والمراد بشقیها: الشق المعین الذی انتهی دوره الظاهر، وإن بقیت القیادة فی حال ستار، لفلسفة مذکورة فی مسألة الإمام الغائب (علیه السلام)، والشق المنطبق علی کل واحد توفرت فیه المواصفات الشرعیة ورضایة أکثریة الأمة، کما ذکرناه فی کتاب (الحکم فی الإسلام).

وإذ قد ظهر المنطلقان الأول والثانی للإسلام، ظهر کیف تکونت الأمة الإسلامیة التی نحن بصددها، فالأمة هی کل من یؤمن بالله الواحد، ویتمسک بشریعته المنزلة علی خاتم أنبیائه محمد (صلی الله علیه وآله).

وقد قرر فی الشریعة أن الأقلیات التی تعیش فی بلاد الإسلام ملتزمةً بشروط الإسلام، تعیش فی أمن وسلام، من جهة نفسها وعرضها ومالها.

وعلی هذا الاساس، فالمسلمون کلهم أخوة، ولهم حقوق وواجبات متساویة، إلاّ ما خرج لفلسفة خاصة، کالرجل والمرأة وما أشبه فی بعض الأحکام. فلا فضل للغة علی لغة، ولا للون علی لون، ولا لقطر علی قطر، ولا لعرق علی عرق، ولا لمکانة اجتماعیة علی غیرها، فالعربی والعجمی، والأبیض والأسود، والعراقی والمصری، وبنو تمیم وبنو ساسان، ورئیس الدولة وکناس البلدیة، کلهم سواء أمام القانون الإلهی، والمفاضلة بالتقوی، ولیست تلک المفاضلة فی أن یشمل القانون أحدهما دون الآخر، وإنما المفاضلة عند الله، فکلاهما متحد الحکم بالنسبة إلی العبادات والمعاملات والأحوال الشخصیة والجنایات

ص:145

والکفاءات، ألیس إلههم واحد، وألیست شریعتهم واحدة، فلماذا التفاضل بغیر الکسب، {لها ما کسبت وعلیها ما اکتسبت}((1))، و{لهن مثل الذی علیهن بالمعروف}((2)).

حکومة واحدة لکل المسلمین

حکومة واحدة لکل المسلمین

ومن هذا المنطلق تتکون الدولة الإسلامیة الواحدة لکل مسلمی العالم، حیث قال سبحانه: {إن هذه أمتکم أمة واحدة»((3)).

وحیث إن الاتحاد قوة، وقد قال سبحانه: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}((4)).

إلی غیر ذلک من الأدلة المذکورة فی محلها، فالمسلم فی کل بلاد الإسلام مواطن، له جمیع حقوق المواطنة، لا تفصله عن سائر المسلمین حدود جغرافیة ولا لغة ولا لون ولا غیر ذلک.

بل الإسلام یقول فوق ذلک: إن کل البشر فی کل الأرض «إما أخ لک فی الدین، أو نظیر لک فی الخلق»، فالتفرقات: لغة وقوماً وحدوداً کلها مصطنعة، وإنما الفارق الوحید هو الدین، وذلک لا إکراه فیه، وإنما منطق واستدلال واتباع للأفضل الذی دل علیه البرهان، ولذا قال سبحانه: {ادع إلی سبیل ربک بالحکمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتی هی أحسن}((5))، إلی غیرها من الآیات والروایات بهذا الصدد.

والفرد المسلم _ ضمن هذه الأمة الواحدة ذات المبادئ المنطقیة _ حر

ص:146


1- سورة البقرة: 286.
2- سورة البقرة: 228.
3- سورة الأنبیاء: 92.
4- سورة الأنفال: 61.
5- سورة النحل: 125.

فی أخذه وعطائه، وسفره وإقامته، وإبداء رأیه بمختلف وسائل الإظهار، وعمله أی عمل شاء، من زراعة وصناعة واکتساب وعمل جسدی أو فکری، أو غیر ذلک.

کما أنه حر فی أن یملک ما یشاء من الأرض وغیرها، بشرط عدم الغصب وعدم الضرر بالآخرین بأی نحو من ألوان الضرر، وعدم أخذ الفرصة من الآخرین علی ما ذکرنا تفصیله فی (کتاب الاقتصاد).

ولا یخفی أن هذا المنطلق الصحیح المبنی علیه تلک الشریعة الکاملة، والذی انطبق کثیر من بنودها فی زمان الإسلام الأول، کان هو سر دخول الناس فی دین الله أفواجاً، وامتداد دولة الإسلام إلی أقاصی الأرض، صحیح أن الأمویین والعباسیین وأشباههم کانوا لایطبقون الإسلام علی أنفسهم وذویهم، إلاّ أن الخط العام فی البلاد کان الإسلام، مثلاً لم یکن الحد الجغرافی واللسان واللون والعرق مفرقاً بین لون ولون، وکان العلماء حفظة الشریعة، ولذا کانوا مضطهدین من قبل الخلفاء (الملوک)، وکذا کان القضاء ونحوه بأیدیهم، وکان الحکم علی عمومه مستقی من الکتاب والسنة والإجماع والعقل، أی من الإطار الإسلامی، علی اختلاف الاجتهادات داخل هذا الإطار، وکانت الحریات متوفرة، فالناس مسلطون علی أنفسهم وأموالهم((1))، یتحرک أحدهم من أقاصی البلاد الإسلامیة إلی أقاصیها بدون مانع أو رادع، یعمر کیف شاء، وکذلک کانت شؤونه التجاریة والزراعیة والصناعیة وغیرها.

ص:147


1- راجع بحار الأنوار: ج2 ص272 ح11.

التقدم الإسلامی

التقدم الإسلامی

ولما رأی الناس احترام الإنسان تحت لواء الإسلام، بینما لم تکن توفر لهم هذا الاحترام سائر الأدیان والأنظمة الموجودة فی ذلک الوقت، ورأوا صحة العقیدة والشریعة بالاستدلال والمنطق، أخذوا یتهافتون علی الإسلام.

ولم یقف دون الناس فی دخولهم فی الإسلام کل المناقشات العقائدیة التی صاغها علماء سائر الأدیان والمذاهب ضد الإسلام، لأنها کانت مناقشات واهیة لا یتمکن الالتزام بها حتی من أصحابها.

وکذلک لم تنفع کل الاتهامات السیاسیة التی صاغها سیاسوا الدول الکافرة لتوقیف مد الإسلام، أمثال الاتهام بأنه دین السیف ونحوه، لأن الاتهام _ کما یقال _ سهل، ولکن إقامة الدلیل علیه صعب، فقد رأی الناس أن حروب النبی (صلی الله علیه وآله) کانت کلها دفاعیة، وبعض الحروب الأخر بعده (صلی الله علیه وآله) وإن کانت هجومیة إلاّ أنها کانت هجوماً علی الحکام الذین کانوا ضد الشعوب، لأجل منعهم عن الظلم، والمعیار فی کل زمان هم الشعوب لا الحکام الظلمة، فرأت الشعوب کذب الاتهام، ولذا لم تمتنع عن الدخول فی الإسلام.

وبعد أن کان المسلمون یأخذون بزمام البلاد، لم یکونوا یظهرون التعصب، بل یجعلون نفس أهل البلاد حکاماً، کما صنعه الرسول الاعظم (صلی الله علیه وآله)، وبعده کان کذلک علی الأغلب، وإذا کان الحاکم یأتی من طرف الدولة کان یحتف به العلماء والشعراء والمثقفون من أهل البلاد، لیکونوا جهاز ضغط علی الحاکم إن أراد بالمسلمین أو بغیرهم من الشعب سوءاً.

ثم لم یکن الحکام یجبرون الناس علی الإسلام، فقد کان قانون: {لا إکراه

ص:148

فی الدین}((1)) هو الحاکم فی هذا السبیل، أخذاً من النبی (صلی الله علیه وآله) حیث لم یجبر لا أساری بدر، ولا أهل مکة، ولا أهل طائف، ولا غیرهم من الذین وقعوا تحت سلطته علی أن یسلموا، بل کانوا یدعون الأمر للشعوب أنفسهم، إن شاؤوا أسلموا وأقاموا الصلاة وأدوا الزکاة، وإن شاؤوا بقوا علی دینهم وأدوا الجزیة، فی قبال توفیر الدولة لهم الحریة والأمن، الحریة والأمن الذین لم تحلم الشعوب بمثلهما قبل ذلک.

کما لم یکن الحکام یجبرون الناس علی تغییر لغتهم، وإنما غیر بعضهم لغتهم کأهالی العراق ومصر وما أشبه تلقائیاً، حباً لهم بالإسلام ولغته، وإنما لم یغیر البعض الآخر لغته کأهالی إیران والهند، لأنهم رأوا بإمکانهم الجمع بین اللغتین: المحلیة والإسلامیة، ولذا نبغ فیهم حفظة لغة الإسلام علی غرار ما نبغ فیهم من حفظة دینه، أمثال صاحب القاموس والکلینی (رحمه الله).

هذا کله بالإضافة إلی أن الشعوب رأوا أن الإسلام فتح باب العلم وربی العلماء وحسن أحوالهم الاجتماعیة والاقتصادیة والعائلیة، بالإضافة إلی تحسین أحوالهم السیاسیة، بما بهر الأبصار، ومن الطبیعی أن الناس یلتفون حول النور أینما وجدوه.

فقد کان رسول الله (صلی الله علیه وآله) بحر العلم الذی لا ینزف، والقرآن یفتح علی الإنسان آفاقاً بعیدة من المعرفة المتجددة، والإمام علی (علیه السلام) کان یقول: «سلونی قبل أن تفقدونی»((2))، وقد أحصی التاریخ أن إماماً واحداً من الأئمة (علیهم الصلاة والسلام) ألقی من العلم علی أربعة آلاف

ص:149


1- سورة البقرة 256.
2- نهج البلاغة الخطبة: 189.

تلمیذ، أو عشرین ألف تلمیذ، ما تمکن التلامیذ بسببه من تألیف أربعمائة کتاب فی مختلف العلوم، والتی منها الکیمیاء والفیزیاء والطب والنجوم وغیرها، کما أحصی التاریخ أن تلامیذ الأئمة من الإمام علی (علیه السلام) إلی الإمام العسکری (علیه السلام) ألفوا ما لا تقل من ستة آلاف وستمائة کتاب، أی ما یقارب کتاب واحد فی کل عشرة أیام لمدة مائتی سنة، هذا بالإضافة إلی سائر الکتب التی ألفها آخرون من العلماء.

وهکذا وبهذه الأوصاف وتحت هذه الظروف، تکونت الأمة الإسلامیة الواحدة.

ص:150

ظهور الأمم واختفاؤها

اشارة

ظهور الأمم واختفاؤها

(مسألة 14): الثانی من الأمور الأربعة فی مادة (ب) بحث ظهور الأمم فی طول التاریخ، والتی شکلت المسرح السیاسی فی کل زمان ومکان، وبهذا الصدد نقول:

إن تأسیس الأمم ابتدأ منذ زمان آدم (علیه السلام)، حیث إنه جاء إلی العالم بحضارة سماویة، کما اتفقت علی ذلک الأدیان، خلافاً لغیبیات دارون ومارکس وأتباعهما((1)).

حیث زعم الأول التطور فی الخلقة، وزعم الثانی التکامل فی الحضارة، فکلا المذهبین غارق فی الغیبیات بدون أساس، لأن دارون قال بکیفیة خلق الإنسان، کما قال بما ینتهی إلی الإنسان من الشکل، حسب نظریته فی التطور، وهل هذان إلاّ أمران غیبیان بدون دلیل.

ومارکس قال بتدرج الحضارة، ثم جمودها فی المستقبل علی الشیوعیة العالمیة، وهل هذان إلاّ أمران غیبیان بدون دلیل. بل الأدلة العلمیة نسفت کل ما ذکره هذان الاثنان حول ماضی الإنسان وحضارته وحول مستقبل الإنسان وحضارته.

أما الألهیون الذی قالوا بالإنسان الأول، والحضارة الأولی، ویقولون بانتهاء الحضارة والإنسان، فقد أقاموا لذلک أدلة علمیة لا تستند إلی الغیب فقط، والأدلة العلمیة تنتهی إلی المنطق المبنی علی أوضح البدیهیات، وهی (قانون

ص:151


1- المراد بالغیبیات هنا تخرصاتهم حیث قالوا ما لم یشاهدوه، وبلا دلیل، بل الدلیل علی خلافهم.

التناقض) المبنی علیه (استحالة ظهور المعلول بدون علة) لأنه یستلزم کون الشیء واجباً ممکناً فی آن واحد.

فالفرق بین غیبیات دارون ومارکس، وبین علمیات المتدینین، کالفرق بین من یقول: ألف الکتاب الفلانی حصاة لا شعور لها ولا علم ولا قدرة، وبین من یقول: ألفه عالم قدیر، فمع أن کلیهما لم یرا المؤلف إلاّ أن قول الأول خلاف العقل، وقول الثانی وفق العقل، وحیث إن هذا البحث خارج عن مرمی النظر السیاسی نترکه لمحله.

وإنما نرجع لنقول: لا شک أن الحضارة التی نعیشها الآن، التی تشمل الأمم بهذه الصورة الفعلیة، إنما هی ولیده التدرج، ولا منافاة بین وجود الخطوط العامة لحضارة، وبین أن الجزئیات والتفاصیل کانت ولائد الأزمنة المتتالیة.

((تاریخ عهود البشر))

((تاریخ عهود البشر))

وقد قسم بعض علماء التاریخ عهود البشر إلی أربعة أدوار: (العهد القدیم) و(القرون الوسطی) و(العصر الحدیث) و(العصر الحاضر).

ولا یخفی أن هذا التقسیم فیه نوع من الأنانیة، إذ (العهد القدیم) الذی جعلوه عصر التوحش قول بدون دلیل، بل قد ظهر فی الحفریات ما ینسف هذا الرأی، حیث دل علی وجود حضارة راقیة للبشر فی نفس الأزمنة التی ذکروا أنها عهد قدیم.

کما أن (القرون الوسطی) والتی قالوا عنها مظلمة، إنما یصح بالنسبة إلی الغربیین، لا بالنسبة إلی أجزاء آخر من العالم کان یحکمها المسلمون، وبذلک ظهر أن التقسیم المذکور، ناش عن رأی أنانی یری النفس فوق الأخرین، و{کل حزب بما لدیهم فرحون}((1)).

نعم هنالک اصطلاح علی جعل العهد القدیم، مبتدئاً من عشرین قرناً قبل میلاد المسیح (علیه السلام) أی قبل أربعة آلاف سنة تقریباً، وعدم وجود

ص:152


1- سورة المؤمنون: 53.

الحضارة القویة فی هذه الحقبة یدل علی التاریخ.

وکیف کان، فالعهد الأول ینتهی إلی سنة (395) بعد المیلاد، ثم تبتدئ القرون الوسطی من (395) حیث موت (تئودوز) وتنتهی فی عام (1492) م حیث اکتشفت إمریکا لمرة ثانیة بواسطة (کرستوف کولمبس)، حیث إن إمریکا اکتشفت قبل ذلک بواسطة رجل یسمی (أحمد)، کما ذکره جمع من العلماء المنقبین فی التاریخ، ولعل المکتشف الثانی مشی علی خریطة المکتشف الأول.

أما العصر الثالث فیبتدئ من ذلک العام وینتهی بعام (1789) م حیث الثورة الفرنسیة، حیث یبتدئ الزمان المعاصر والذی دام إلی الآن، وکما کان الأمر بالنسبة إلی (القدیم والوسطی) مشتملاً علی الأنانیة کما عرفت، کذلک الأمر بالنسبة إلی (الجدید والمعاصر)، حیث قد عرفت کیف أنهم أسسوا الأساس علی کشف إمریکا) وثورة فرنسا.

وعلی هذا، فالأمر بحاجة إلی بحث علمی نزیه لتقسیم الأدوار التاریخیة حسب الحضارات والأمم، وقد تعرض لذلک جمع من علماء المسلمین، وتقسیمهم أقرب إلی النزاه التاریخی والبحث العلمی، وحیث إن تفصیل ذلک خارج عن مهمة البحث نترکه لمظانه، وإنما نقول: إن (الأمة) والتی نحن بصددها الآن، مفهومها فی الحال الحاضر غیر مفهومها فی الأدیان، حیث إن العهد الحاضر لا یقیم للدین وزناً، ولذا فالأمة عبارة عن القومیة الخاصة، أو الذین یعیشون فی مکان جغرافی خاص، أو ما أشبه ذلک، بینما الأمة فی اصطلاح الأدیان هو کل من قبل ذلک الدین، مثل الأمة المسیحیة والأمة الإسلامیة.

ص:153

((الأدیان والدول))

((الأدیان والدول))

الأدیان السماویة عامة، وخصوصاً الإسلام، الذی یکون أقرب إلی المطالعة لقرب عهده، کانت تکوّن الأمم، وتغیر جذور حیاة الإنسان، التی کانت ناشبة فی عروق الفرد والمجتمع، وذلک لأن الدین السماوی بطبعه، حیث یبنی علی المصلحة الإنسانیة، یقلع جذور المناهج المبنیة علی مصلحة القوم أو اللغة أو الحدود الجغرافیة.

فمثلاً جاء الإسلام حیث الأمم المتشتتة، التی حکّم التشت لا بین اللغات والحدود والقومیات والألوان فحسب، بل وحتی حکم بین الأمة الواحدة أیضاً، فالعرب قبائل متحاربة مع وحدة قومیتها ولغتها وحدودها الأرضیة.

والفرس طبقات حتی فی تحصیل العلم، حتی أن سواد الناس کان یحظر علیهم التعلم، کما یظهر ذلک من قصة (درفش کاوه) وغیرها، والعلماء مضطهدون حتی أن ألف سنة من تاریخ فارس، منذ تأسیسه إلی ظهور الإسلام لم یظهر فیه إلاّ رجلان لهما الاسم والشهرة الواسعة، واضطهد کلاهما، أحدهما نبی المجوس الذی ورد عن علی (علیه السلام) إنهم قتلوه وأحرقوا کتابه، والثانی (بوذر جمهر) الحکیم المشهور الذی سجنه (هرمزد) سنتین فی صندوق داخله محددات ثم أمر بصلبه عاریاً.

ولم یکن حال الروم أحسن، فقد کانت التفرقة والاضطهاد من أظهر سماتهم، کما ذکرت أحوالهم فی تواریخ بهذا الشأن.

وقد جاء الإسلام بکل المعاییر الإنسانیة، بالعکس تماماً من الجاهلیة، ولذا انضوی تحت لوائه مختلف الأدیان والشعوب بسهولة فائقة، فأول ما انضوی تحت لوائه قبائل العرب، ثم الفرس وأهالی سوریا وفلسطین والحبشة ومصر والبربر وغیرهم، أی العالمان

ص:154

المتحضران، حیث ذهبت الدولة الفارسیة بکاملها وتحولت إلی الدولة الإسلامیة.

أما الروم فلم یتحول کله، وذلک لأنهم اعتزوا بما کان فیهم من إثارة علم، بالإضافة إلی أن الأمویین وقد تسلموا أریکة الحکم لم یهتموا بالإسلام بل ضربوه، فلم یعرف العالم الغربی لا رونق الإسلام المنهاجی، ولا أسوة الإسلام العلمیة، فإن الناس قد جبلوا علی النظر فی المنهج، ثم التطبیق، فإذا کان المنهج سلیماً والتطبیق جذاباً انجذب الناس إلیه، أما إذا لم یکن أحدهما کان الانجذاب ضعیفاً، فکیف إذا ما کان کلاهما مفقوداً.

وقد أورثت الثقافة الأمویة الدخلیة بواسطة علماء البلاد، سلب الإسلام رونقه، أما العمل الأموی فکان نسخة أخری أو أقسی من نسخة ما عند الروم وغیرهم، فلماذا ینجذب الناس إلی الإسلام والحال هذه.

ولذا فقد تشتت الأمة الواحدة فی زمان الأمویین، وإن لم یظهر التشتت علی السطح لشدة بأسهم، وقامت السلطة الزمنیة مکان السلطة الدینیة، وإن تزیت أحیاناً زی الدین للخداع، وبذلک هیأت الظروف للثورة الداخلیة التی قام بها العباسیون، وللغزو الخارجی من الغرب تارة تحت لواء الصلیب، ومن المشرق أخری تحت لواء الإلحاد، وهکذا تحولت تلک الأمة الواحدة النقیة المنهج والسیرة إلی أمة فی ثنایا التاریخ وأوراق الکتب.

ولولا محاولة الأئمة (علیهم السلام) إیقاف الثقافة الدخلیة من الأمویین والعباسیین داخلاً، والغرب والشرق غزواً، لکان الإسلام الیوم غیر ظاهر الملامح، وأصابه ما أصاب الأدیان السماویة السابقة، وقد تقدم أن تلامیذهم أخرجوا إلی العالم کتباً بمعدل کتاب واحد فی کل عشرة أیام تقریباً مدة قرنین من الزمن، ومحاولات

ص:155

التجدید من العلماء والدول وإن تعددت لإرجاع الإسلام إلی حالته الأولیة وإرجاع المسلمین إلی الأمة الواحدة، إلاّ أنها لم توفق إلی الآن لذلک، وعمدة السر فی عدم التوفیق عدم وجود الوعی الکافی بین المسلمین إلی الآن.

ولقد کان هذا مثالاً من أمثلة تکوین الأمة الواحدة، کما کان مثالاً لتفتت الأمة الواحدة إلی أمم، فقد کان الذین دخلوا فی الإسلام أمماً، ثم تحولوا من جهل الداخل وکید الکفار والمستعمرین من الخارج إلی أمم تجمع أفرادها لواء القومیة تارة، ولواء الشیوعیة أخری، ولواء الحدود الجغرافیة ثالثة، ولواء اللغات المختلفة رابعة وهکذا، فبینما کان علی (علیه الصلاة والسلام) یحکم رقعة شاسعة من الأرض بلغات وقومیات وما أشبه، تحولت تلک الرقعة الآن إلی خمسین دولة.

ولم یکن التجمع تحت لواء العرب، حیث یحلو للشرق والغرب تسمیة الإسلام بالعرب، إلاّ لأمرین:

الأول: إحیاء الأصل العربی فی قبال سائر الأصول، حتی یری المسلم العربی أن الأصل هو کونه عربیاً لا کونه مسلماً، فیدافع عن العرب لا عن المسلمین.

الثانی: الفصل بین المسلمین بعضهم عن بعض، فلماذا یحن الباکستانی والإندنونسی والإیرانی والترکی وغیرهم علی الدین الذی جاء لمجد العرب ولتحطیمهم، وأخیراً لا روابط ولا وحدة بین المسلمین حسب هذا المنطق.

علیه فاللازم علی المسلمین أن یعوا إمکان رجوع الأمة الواحدة إذا وفروا فی أنفسهم عناصر الإرجاع، وأمامهم منذ نصف قرن تلاحم الأمة الروسیة ذات حکومة تستوعب مائتین وخمسین ملیوناً، وتلاحم الأمة الهندیة ذات حکومة تستوعب

ص:156

ثمانمائة ملیون، وتلاحم الأمة الصینیة ذات حکومة تستوعب ألف ملیون، مع وجود التناقضات الهائلة بین محتوی کل هذه الحکومات، والأمة الإسلامیة ذات ألف ملیون مسلم، لیس لهم حتی عشر تلک التناقضات.

ص:157

العناصر التی تشکل الأمم

اشارة

العناصر التی تشکل الأمم

(مسألة 15): الثالث من الأمور الأربعة فی مادة (ب) بحث العناصر التی تشکل الأمم، ورؤوس هذه العناصر أمران:

الأول: العنصر المعنوی.

الثانی: العنصر المادی.

ففی الأول: یکون سبب تکون الأمة وحدة العقیدة، فلا اعتبار لسائر الموازین، وهذا ما یوجد فی الأدیان، حیث إن العقیدة الواحدة تکوّن الأمة الواحدة.

نعم قد یکون أهل الدین یعتقدون بقومیة الدین، فالدین لا یکون الوحدة الجامع بل الدین والقوم الخاص یکونان معاً جامعاً، کما فی الیهودیة المنحرفة، حیث إنهم یدّعون أن دینهم خاص بهم، فلا یقبلون دخول إنسان فی دینهم، ولا شک أنه تحریف، حیث إن الأدلة دلت علی أن دین موسی (علیه السلام) کان عالمیاً، ولذا کان (علیه السلام) من أولی العزم، کما ثبت فی علم الاعتقاد، والظاهر أن هذا التحریف دخل فی دینهم لأجل شدة إرادة انطوائهم علی أنفسهم، حیث إن مبادءهم التی وضعوها فی التوراة والتلمود لم تکن تنسجم مع الناس، فاضطروا إلی الانطواء، وأورث الانطواء زعمهم قومیة الدین حتی لا یدخل فیهم داخل یطلع علی أسرارهم، وربما کان الدخول بعنوان التجسس، فرأوا من

ص:158

الافضل اختراع مبدأ قومیة الدین.

کیف تتکون الأمة علی العنصر المادی

کیف تتکون الأمة علی العنصر المادی

أما فی الثانی، أی کون سبب تکون الأمة العنصر المادی، فقد اختلفوا فیه علی أقوال:

1: کون الأصل الواحد هو سبب تکون الأمة الواحدة، فالمشتق من الأصل العربی مثلاً أمة، والمشتق من الأصل الحبشی أمة أخری وهکذا، وهذا ما ذهب إلیه جماعة من علماء فرنسا وألمانیا قبل هتلر، ونفخ فیه هتلر للأغراض سیاسیة.

2: کون الاقتصاد المشترک هو سبب تکون الأمة الواحدة، سواء کان منبع الاقتصاد الماء أو المعدن أو الزرع أو غیرها، فالناس المجتمعون علی هذا الاقتصاد والمنتفعون به یشکلون أمة واحدة.

قال فرعون: {ألیس إلی ملک مصر وهذه الأنهار تجری من تحتی}((1))، وکان سد مأرب سبب وحدة أمة سبأ فلما انهدم السد تفرقوا أیادی سبأ، إلی غیرهما من الأمثلة بالمصلحة الواحدة إلی أن تتجمع لدیها أناس.

وهؤلاء حیث لابد لهم من التزاوج وتنظیم العلاقات الاجتماعیة والاقتصادیة والجنائیة والعائلیة وغیرها بینهم، هذه العلاقات والأنظمة تصهرهم فی بوتقة واحدة وتجعل منهم أمة واحدة، ولذا إذا انهدمت تلک المصلحة الاقتصادیة تفرقوا، وتفککت الأمة إلی أن تزول من الوجود، لتجمع أشلاؤها فی أعضاء أمة جدیدة، أم أمم جدیدة، إذ لیس معنی تحطم الأمة عدمها، بل معنی ذهاب سماتها، ولذا لم ینعدم الآشوریون

ص:159


1- سورة الزخرف: 51.

والفینقیون والکلدانیون وغیرهم، بل اضمحلت وحدتهم ودخلوا تحت وحدات جدیدة.

3: کون تجمع عوامل متعددة سبباً لتشکیل أمة واحدة، وهؤلاء بین من یری أن القومیة واللسان والدین هی المقومات الأساسیة لتکوین الأمة الواحدة، وهم جملة من علماء السیاسة، وبین من یری عدم کفایة تلک فقط، بل اللازم إضافة العامل الاقتصادی والتاریخی ونحوهما إلی تلک العوامل، وهم جملة من علماء السیاسة الفرنسیین، فإنهم یرون المسیر المشترک والمصیر المشترک، والحروب والأحزان والأعیاد والأفراح والانتصارات والانکسارات هی التی توحد الأفراد والمجتمعات وتجعل منهم وحدة واحدة.

ولا یخفی أن عوامل متعددة تتجمع حتی تشکل الأمة الواحدة، أهمها المعنویات، حتی عند المنکرین للمعنویات کالشیوعیین، إذ لا نقصد بالمعنویة إلاّ المثل التی یؤمن بها جماعة من الناس، سواء کانت تلک المثل مستمدة من العقل والبرهان، أو من الأوهام والسفسطات.

وبعد المعنویات تأتی المادیات، کالأمور المتقدمة فی (2و3)، لکن لیس کل واحد من تلک الأمور مما لابد منه، بل یتبادل بعضها مکان بعض، مثلاً قد تکون القومیة، وقد تکون اللغة، وقد تجتمعان من باب منع الخلو، علی اصطللاح المنطقیین.

ولذا فالأقلیات التی ترید الاستقلال السیاسی قد توفق لذلک، حیث تتجمع فیهم عوامل الأمة الواحدة، وقد لا توفق حیث لا تکون کذلک، ولذا نشاهد أن بعض الأمم الکبیرة التی تتجزؤ بعض أجزائها تستقل فی أمة واحدة ذات استقلال سیاسی، وبعضها لا تستقل کذلک، وربما تساعد العوامل الأجنبیة فی إضفاء الأمة الواحدة وعدم إضفائها علی الجزء المذکور، وانفصال جزء عن أمة

ص:160

واحدة إلی الاستقلال أصعب من انضمام جزء ضعیف مستقل إلی أمة کبیرة، لأن الأمة الکبیرة بإمکانیاتها الکثیرة تتمکن من هضم الأمة الصغیرة فی نفسها، بینما قد لا یتمکن الجزء الذی یرید الانفصال من الاستقلال لعدم توفر إمکانیات الأمة المستقلة لها.

فمثلاً الجزء الذی یرید الاستقلال بحاجة إلی المثقفین والسلاح والمال والمراکز وغیرها، وکثیراً ما لا تتوفر لها کل ذلک، بینما إذا أرادت أمة کبیرة هضم عضو ضعیف، تمکنت أن تشمله بکل المقومات المذکورة.

وأحیاناً ینفصل عضو من أمة، لکن عدم توفر الإمکانیات لها یجعلها ضعیفاً فی سیرها إلی الاستقلال الذاتی، ولذا یسیر إلی الفناء حتی تصطادها أمة قویة فتهضم فی داخل تلک الأمة القویة، وبالعکس فأحیاناً یتصل عضو قوی بأمة کبیرة، لکن إمکانیاتها المتوفرة تجعلها تنفصل عن الأمة الکبیرة بعد مرور زمان.

وفی العصر القریب انفصلت فیتنام إلی جزأین ثم اتصلت، واتصلت سوریا بمصر ثم انفصلت، وکوریا، والیمن، وألمانیا المجزءات، تحاول الرجوع إلی الوحدة، کما أن البلاد الإسلامیة المنهضمة فی روسیا والصین، وایرلندا المنهضمة فی بریطانیا تحاول الانفصال.

ومن ذلک یعرف أن محاولات الاتصال یلزم أن تکون عن تخطیط تحتی للوحدة، کما أن محاولات الانفصال یجب أن تکون عن تخطیط تحتی للانفصال، ومن الواضح أن کلا القسمین من التخطیط یشتمل علی جانبین، إیجابی إلی الهدف، وسلبی عن الأمر المرغوب عنه، فاللازم فی محاولة الاتصال التخطیط لإیجاد عواملها، وکذلک التخطیط لإزالة عوامل الفرقة، وبالعکس فی محاولة الانفصال.

ص:161

التفکیر السیاسی الموحد

اشارة

التفکیر السیاسی الموحد

ونوعیة التفکیر السیاسی هی أهم عامل لإضفاء التوحید أو الانفصال، إذ التفکیر السیاسی هو الذی یستوعب جمیع مقومات التوحید، ومقومات التجزئة، سواء المقومات الإیجابیة أو السلبیة.

ولا یخفی أن من أهم عوامل وحدة الأمم، عامل الاستقامة الفکریة والرفاه المادی، کما أن من أهم عوامل وحدة تجزأة الأمم عامل الانحراف الفکری والجشوبة المادیة، فإن حال الاجتماع حال الفرد، فکما أن الفرد یتطلب دائماً صحة الفکر ورفاهة الحیاة، کذلک الاجتماع، ولذا الأمم الکبیرة التی ترید هضم الأمم الصغیرة فی نفسها تسبغ علیهم أولاً نوعیة ثقافتها وکیفیة تفکیرها، وثانیاً تعدهم بالتحریر، فإن صدقت التفت حولها الأمم الصغیرة بسرعة، وبقوا فی داخلها بل انصهروا فیها انصهاراً کاملاً، وإن کذبت کان الأمر بالعکس.

((دخول الأمم فی الإسلام))

((دخول الأمم فی الإسلام))

ولذا نری الأمم دخلت فی الإسلام بسرعة، حیث إن فکره مبنی علی المنطق والعقل، والقرآن الحکیم أشار بالعقل ودعی إلی التعقل، وطلب من الناس إعمال فکرهم ورویتهم، ضاربین بالتقالید عرض الحائط، وفی نفس الوقت دعا إلی الحریة والرفاه وتحکیم الکفاءات.

فقال سبحانه: {یضع عنهم إصرهم والأغلال التی کانت علیهم}((1)).

وقال سبحانه: {من حرم زینة الله التی أخرج لعباده، والطیبات من الرزق}((2)).

وقال تبارک وتعالی: {إن أکرمکم عند الله أتقاکم}((3)).

ص:162


1- سورة الأعراف: 157.
2- سورة الأعراف: 32.
3- سورة الحجرات: 14.

وقد کان سبب تحطم العالم المسیحی هو عکس ذلک تماماً، فتعقد الفکر المسیحی المحرف الذی یبتدئ بکون الواحد ثلاثة وبکون الثلاثة واحداً، وضغط الکنیسة علی کل أنواع الحریة والرفاه والکفایة کان سبب تحطمه السریع.

ونفس هذا السبب موجود الآن فی العالم الشیوعی، حیث تنبؤ عن تحطمه السریع مما یظهر بوضوح من:

1: تنازلاته الکثیرة عن مبدأ مارکس.

2: وإنقاذ الغرب له فی الحرب العالمیة الثانیة.

3: وتقویة إمریکا له بالتکنولوجیا والقمح لبقائه إلی الآن.

4: وأخذ رومانیا ویوغسلافیا وبولندا والصین فی الانفلات.

5: والاضطرابات الداخلیة التی أخذت تهددها بالانفجار، وذلک بسبب توفر عاملی التجزئة فیه.

أ) حیث ابتناء عقیدته علی مصادمة العلم والعقل، بصحة التناقض وباللاءات الخمسة: لا دین، لا أخلاق، لا عائلة، لا حریة، لا ملکیة.

ب) وحیث إن مثل هذه العقیدة المطبقة بکل قسوة، لا تدع مجالاً لأبسط أنواع الرفاه والحریة والکفاءة.

ص:163

الحدود الجغرافیة للأمة

اشارة

الحدود الجغرافیة للأمة

(مسألة 16): الرابع من الأمور الأربعة فی مادة (ب) هو بحث المکان الجغرافی للأمة الواحدة، ونقول بهذا الصدد:

((أمة بلا دولة))

((أمة بلا دولة))

1: إنه من الممکن أن تکون الأمة الواحدة بدون مکان جغرافی، وذلک لعوامل سببت تشتت الأمة الواحدة، سواء کانت تلک العوامل نابعة من داخل الأمة أو من خارجها، کما فی الیهود الذین عاشوا زهاء أربعین قرناً بلا مملکة واحدة، وقد کان ذلک نابعاً من داخل أنفسهم، حیث إنهم انتهازیون، فلا یتمکن أن یعیش بعضهم مع بعض فی مکان واحد، إذ من طبیعة الانتهازی المستغل التصادم، والتصادم یخالف وحدة المکان الجغرافی، وبسبب هذا الأمر نفسه أیضاً کانوا یعیشون بین الأمم فی قواقع، وکلما ظهر استغلالهم لتلک الأمم التی عاشوا بینها أخرجهم أهل البلاد، کما أخرجوا من روسیا وبریطانیا وألمانیا، وبعض البلاد الإسلامیة وغیرها.

أما تجمعهم الحالی فی فلسطین المغتصبة فشیء لا یدوم، وقد ظهر الآن ولما یمر علی دولتهم ثلث قرن، آثار الانشقاق والنفاق والتخاصم بینهم، وأثر ذلک علی هجرتهم من هذه البلاد زرافات، ولولا الضبط الشدید للدولة

ص:164

الغاصبة لهم، لکانت الهجرة بأعداد أکبر، بالإضافة إلی انضمام الغرب والشرق بکل وسائلهما لبقائهم هناک، لیکونوا رأس رمح الاستعمار فی جسم الأمة الإسلامیة.

لکن القسر لا یدوم، والیهود ما داموا متمسکین بمبادئهم تبقی طبیعتهم التجزئیة، وصدق الله سبحانه حیث قال: {إلا بحبل من الله وحبل من الناس}((1))، فإذا غیروا مبادءهم إلی مبادئ الله، خرجوا عن الذلة، وکذلک إذا قواهم الناس فیما لو بقوا علی مبادئهم، فالواو فی الآیة المبارکة بمعنی (أو)، مثل: (الکلمة اسم وفعل وحرف).

((أمة ودول متعددة))

((أمة ودول متعددة))

2: کما أنه من الممکن أن تکون للأمة الواحدة عدة أماکن جغرافیة، کما فی المسلمین الآن، وذلک لعوامل داخلیة کقلة الوعی، أو خارجیة کتشتیت القوی الکبری الخارجیة للأمة الواحدة.

وقد اجتمع کلا الأمرین فی الوقت الحاضر بالنسبة إلی الأمة الإسلامیة الواحدة، مما لسنا نحن الآن بصدد تفصیله.

أما کیف یتحد المکان الجغرافی للأمة حتی تکون أمة واحدة، فذلک لأن من عادة الإنسان أن یتزاوج للشهوة وللنسل وللتقوی بالأولاد، وللتعاون وللدین ولغیر ذلک مما ذکر فی علم الاجتماع، وتکوّن العائلة ینتهی بالآخرة إلی وحدات قبائلیة، کبیرة أو صغیرة، إما ثابتة فی مناخ ملائم ذی ماء وهواء وعشب، علی سیف البحار وضفاف العیون والأنهار غالباً، وهذه المقومات للحیاة العائلیة والقبلیة إن دامت طول السنة سکنوا ذلک المحل فی بیوت طینیة ونحوها، وإن کانت المقومات فصیلة صاروا رحلاً للاستنفاع بالمکان المناسب، لکن کونهم رحلاً لا یدوم، فحیث توجد الثقافة للحیاة ذللوا الطبیعة حتی

ص:165


1- سورة آل عمران: 112.

تلائم بقاءهم فی المکان الواحد دائماً، حیث إن السفر بطبعه صعب، فینزع الإنسان إلی الاستقرار.

فإذا صارت هناک فی رقعة فسیحة من الأرض وحدات عائلیة ثم قبلیة تأخذ فی النمو البشری والزراعی وما أشبه، ثم تأخذ العلائق بین تلک العوائل والقبائل فی النمو والتشابک، وهذان الأمران: النمو المادی والنمو المعنوی، أول نواة للأمة الواحدة، فإن تلک القدرات الصغیرة والمتجمعة فی شکل وحدات عائلیة أو قبلیة تتبدل تدریجیاً إلی قوة واحدة لها مقومات خمسة أساسیة:

مقومات الدولة

مقومات الدولة

الأول: إن حدود المناطق تتبدل إلی حدود الدولة، فبینما کان لکل قدرة صغیرة حدود خاصة بها، فی القریة أو فی المدینة الصغیرة أو ما أشبه، تتخد تلک القدرات فی وحدة جغرافیة کبیرة تضم کل تلک الحدود.

الثانی: إن قوانین تلک المناطق، والتی کان لکل منطقة قانون خاص بها، فی باب العائلة وباب الجنایات وباب المعاملات وسائر الأبواب، تتحول إلی قانون واحد یعم الجمیع.

وربما لا یقدر القانون الواحد أن یفرض نفسه کوحید فی المیدان، فیکون القانون العامّ الجدید إلی جانب القوانین السابقة، فلکل من المتخاصمین أو المتعاملین أو نحوهما أن یرجع إلی أی قانون یشاء من القانون العام أو القانون الخاص، کما هو الحال فی بعض القوانین، مثلاً

ص:166

فی الإسلام یحق للأقلیات الرجوع إلی قوانین أنفسهم فی أمورهم، کما یحق لهم أن یرجعوا إلی القانون العام للأمة الإسلامیة.

الثالث: إن اقتصادیات القدرات الصغیرة تتحول إلی اقتصاد عام شامل للجمیع، فالبحر الذی فی جانب، والمعدن الذی فی جانب، والغابة التی فی جانب، وهکذا لا یختص بأهل جانبه، کما کان کذلک قبل تکون الحدود الجغرافیة الموسعة، بل الجمیع یشترکون فی الجمیع بکیفیة أو بأخری، حسب الموازین الاقتصادیة التی جعلت منهاجاً للعموم من رأسمالیة أو اشتراکیة أو شیوعیة أو إسلامیة أو غیرها.

الرابع: إن المجتمعات الصغیرة تتحول إلی مجتمع کبیر فی تقالیده وأعرافه وعاداته، مثلاً کان بعض المجتمعات الصغیرة تجعل أعیادها وأحزانها ومناسباتها فی أیام أبطالها، ولما تحول إلی المجتمع الکبیر لم یعد لتلک المناسبات معنی، لأنها أصغر من مناسبة الأمة الکبیرة، فولادة ابن رئیس القبیلة لیست قابلة لأن یحتفل الشعب کله لأجلها، وکذلک موت أخ الرئیس، أو انتصار القبیلة علی قبیلة أخری لیس له أهمیة علی مستوی الأمة، فکل هذه تلغی تلقائیاً، ویأخذ مکانها یوم الاستقلال ویوم إخراج الأجنبی من کل تلک الرقعة الکبیرة من الأرض، إلی غیر ذلک.

کما أن تلقائیة الاندماج لکل بعض فی المجموع یجدد العلاقات فی مناسبات أخری، فالزواج من بنات القبیلة لیس احتکاراً علی شباب القبیلة، کما أن دعوة التأبین للموت لا یکون خاصاً بأفراد القبیلة، وهکذا فالتقالید والأعراف والعلاقات کلها تجدد علی مستوی المجموع، لا علی مستوی کل قطعة قطعة.

الخامس: توسیع الشبکات الإداریة، فالجبایة للمال، والانخراط فی

ص:167

الجیش، ودوائر القضاء، وکیفیة صرف المال علی المشاریع العمرانیة والثقافیة والصحیة وغیرها، تکون علی مستوی الأمة فی حدودها الجغرافیة الجدیدة، بینما کانت فی السابق علی مستویات أصغر، إذ العقل المفکر وهی الدولة یکون عقلاً لکل الجسم ویدیر کل الجسم، لا کالسابق الذی کانت لکل قبیلة ونحوها دائرة صغیرة تهتم بشؤون القبیلة مثلاً، وحینئذ یکون التقسیم حسب العدل، لا حسب قدرة القبیلة وضعفها، مثلاً کانت موارد قبیلة کذا تمکنها من جعل قاض واحد لألف إنسان، بینما القبیلة الأخری لکثرة مواردها تتمکن من القاضی الواحد لکل خمسمائة إنسان، وحیث صارت الوحدة یکون التقسیم حسب النفوس وعدد القضاة، فلکل سبعمائة وخمسین قاض واحد.

هذه هی أهم المقومات التی تتبدل حسب التبدل الجغرافی، فالإطارات الصغیرة للجماعات الصغیرة کلها تنتهی لتعطی مکانها للإطار الکبیر للأمة فی حدودها الجغرافیة الجدیدة.

((تحولان جدیدان فی الأمة))

((تحولان جدیدان فی الأمة))

ومن الجدیر بالذکر أن نقول: إنه حسب النمو البشری وسرعة الاتصالات، مما سببت سرعة اتصال البشر بعضهم ببعض وتفهم البشر بعضهم لبعض، لابد وأن یحدث تحولان جدیدان عند الشعب:

((الفهم الأصلح))

((الفهم الأصلح))

الأول: التحول إلی الفهم الأصلح، فإذا کان أحدهم یعتقد أن لا ربّ، والآخر یعتقد بأن هنالک ربین، والثالث یعتقد برب واحد، لابد وأن ینتخب المجموع الأقرب من هذه الآراء الثلاثة إلی العقل والمنطق، حیث إن الإنسان بطبعه میال إلی الأخذ بالأصلح.

وکذا الکلام فی سائر الشؤون، کالمناهج الاقتصادیة والسیاسیة والاجتماعیة والتربویة وغیرها، وکما یحق لأدیسون یوم اکتشف الکهرباء أن یقول: ستغزو الکهرباء العالم، لأن تفوق طبیعة الکهرباء علی المصباح

ص:168

النفطی یوحی بذلک، وهکذا بالنسبة إلی تقدم الطائرة علی الدابة، والباخرة علی القوارب الشراعیة، إلی غیر ذلک، کذلک یحق للفکر الأصلح أن یقول: بأن فکره سیغزو الأفکار الأخر، حیث إنها تعطی مجالها للفکر الأصلح، ومن هنا یکون مفهوم الآیة الکریمة: {لیظهره علی الدین کله}((1)) طبیعیاً إلی جانب کونه غیبیاً، وفی الأحادیث الشریفة کثرة تدل علی ذلک.

((العالم والحکومة الواحدة))

((العالم والحکومة الواحدة))

الثانی: توحد العالم فی حکومة واحدة، بکل مقومات تلک الحکومة الواحدة من اقتصادیة واجتماعیة وسیاسیة وغیرها، لأن بلدان العالم الیوم مثلها مثل تلک القبائل المتناثرة التی تنتهی إلی حکومة واحدة، فکما أن الإطارات الصغیرة تتحطم لتعطی مکانها للإطار الکبیر الذی هو الدولة، کذلک إطارات الدول تتحطم لتعطی مکانها للإطار الکبیر الذی هو العالم.

ولیست المحاولات الکثیرة من الأمم لجمعها فی وحدات، مثل جامعة الدول العربیة، والوحدة الإفریقیة، ورابطة العالم الإسلامی، وتجمع دول عدم الانحیاز، أو لجمعها فی وحدة واحدة کالامم المتحدة، إلاّ طریقاً إلی تلک الوحدة الحقیقیة، وقد بشر بذلک الدین الإسلامی فی أحادیث متعددة، ومسألة قرب ذلک الیوم أو بعده منوطة بالرشد الفکری للإنسان، فحینما حصل ذلک الرشد تحولت الدول إلی دولة واحدة.

وحین هذا التحول الواسع تکون الأمور الخمسة السابقة حسب الإطار العالمی، فلا حدود لبلد، وتکون القوانین لکل البلاد، والاقتصاد الموحد للجمیع، والمجتمع یکون بسعة العالم، والشبکات الإداریة تستوعب کل الکرة الأرضیة.

ص:169


1- سورة التوبة: 33، سورة الفتح: 28، سورة الصف: 9.

ولنرجع إلی ما طرحناه فی أول المسألة من المکان الجغرافی للأمة، فنقول: إن المکان الجغرافی الواحد للأمة له حدود خاصة، توجب أموراً ثلاثة:

((الحدود المائیة والفضائیة))

((الحدود المائیة والفضائیة))

الأمر الأول: إن الحدود لیست خاصة بالأرض، بل الحدود تشمل الفضاء أیضاً دائماً، وقسماً من البحر فیما کانت الدولة مطلة علیه، وتعین الحدود الدولیة بواسطة القوانین الدولیة التی تطبقها لجان خاصة من العلماء.

((لا حدود بین بلاد الإسلام))

((لا حدود بین بلاد الإسلام))

وبعد أن عرفنا سابقاً أنه لا حدود بین المسلمین إطلاقاً، فکل أرض الإسلام بلد لکل مسلم، وأن هذه الحدود کلها مصطنعة، عاملها الجهل الداخلی والاستعمار الخارجی، نقول: کل مسلم لابد له أن یهتک هذه الحدود حسب إمکانه، لأنه من باب دفع المنکر والنهی عنه، فالواجب علی المسلمین خرق قوانین الحدود، ولیس من یدخل بلداً آخر من بلده بدون المراسیم متسللاً، وإنما هو فاعل لما هو حقه الطبیعی، کمن یدخل من غرفة من غرف داره إلی غرفة أخری، واللازم تخصیص التقید بالمراسیم الحدودیة بصورة الاضطرار، وإلاّ کان المقید بها فاعلاً للمنکر، حاله حال من یأکل المیتة فی حال الاختیار.

الحدود بین بلاد الإسلام وبلاد الکفر

الحدود بین بلاد الإسلام وبلاد الکفر

وأما بالنسبة إلی الحدود بین بلاد الإسلام وبلاد الکفر، ففیه أمران:

الأول: ما کان الکفار سیطروا علیه وهو من بلاد الإسلام، کروسیا المسیطرة علی الجمهوریات الإسلامیة، وکالیهود المسیطرین علی فلسطین، وهنا حال القطعة المغتصبة المسیطر علیها الاستعمار حال سائر قطع بلاد الإسلام، فلا حدود بین الأردن وفلسطین المستعمرة بالفتح، وکذلک لا حدود بین

ص:170

أفغانستان وتاجکستان المستعمرة بالفتح، فإن حال القطعتین حال غرفتین لعائلة واحدة غصب إحداهما غاصب.

الثانی: ما لم یکن کذلک، أمثال لندن وباریس، وفیه تختلف الأحکام فهو (باعتبار) أرض الکفر، لها أحکام أرض الکفر، مثل أحکام اللقطة وأحکام الأموات وأحکام اللحوم وما أشبه ذلک، و(باعتبار) أرض الله الفسیحة التی منحها لعباده المؤمنین، فلهم التمتع بما یشاؤون منها، ولا احترام لقوانین الکفار بالنسبة إلی تجزئتها.

نعم یستثنی من ذلک ما لو کانت بین الکفار وبین المسلمین معاهدة، فاللازم علی المسلمین احترام تلک المعاهدة، وذلک لأن دلیل الوفاء بالعهد بین الحکومة الإسلامیة وبین الحکومة الکافرة وارد علی دلیل: (حل ما فی الأرض)((1))، ودلیل: (کل شیء مطلق)((2))، وغیرهما من الأدلة، کما هو واضح.

ومما تقدم ظهر أن الحدود الفضائیة والحدود البحریة حالهما حال الحدود الأرضیة، التی تعین من قبل الدول، لا احترام لها إطلاقاً إلاّ فی مورد المعاهدة فقط، مع قید أن تکون المعاهدة من قبل الدولة الإسلامیة المشروعة، لا ما یسمی بالدول الإسلامیة، فإن الإسلام لا یقبل کون الدولة إسلامیة إلاّ بشرطین من:

1: کون قانون الدولة قانون الإسلام.

2: وکون رئیس الدولة رجلاٌ یرضاه الإسلام وترضاه أکثریة الأمة، کما ذکرناه فی کتاب (الحکم فی الإسلام)، وبدون هذین الشرطین فکل أعمال الدولة غیر نافذة، والمسلمون أحرار فیما یفعلونه فی نطاق الأحکام الإسلامیة

ص:171


1- الوسائل: ج6 ص384 ح18.
2- انظر: الوسائل: ج18 ص127 الباب12 من صفات القاضی.

أی إنهم لا یقیدون بمقررات الدولة، وفی مثل هذه الدولة لا احترام لأموال الدولة، بل هی من قسم مجهول المالک المرتبط بالحاکم الشرعی.

مقررات الدولة الإسلامیة

مقررات الدولة الإسلامیة

أما مقررات الدولة الإسلامیة الشرعیة، فالواجب اتباعها، وإن کان بعضها خلاف بعض الأحکام الأولیة، لا من جهة إطلاق ولایة الفقیه، فإن ولایة الفقیه لیست مشرعة، بل اللازم علی الفقیه کغیره أن یسیر فی النطاق الإسلامی، وإنما یلزم الاتباع فی ما کان خلاف الأحکام الأولیة من جهة الحکم الثانوی النابع من الاضطرار، وملاحظة الأهم والمهم، وما أشبه ذلک.

مثلاً یحرم عمل العشار، ویحرم العشر والمکوس فی الإسلام، فإذا رأی الفقیه الرئیس للدولة جعل الحدود علی الاقتصاد الذی یدخل من الخارج أو یخرج من الداخل، لأنه إذا لم یجعل ذلک سبب تهاجم الاقتصاد الأجنبی مما یسبب تضرر بلاد الإسلام وإفلاس المسلمین، جاز أن یجعل ذلک من باب «لا ضرر»((1))، وقاعدة الأهم والمهم((2)) وغیرهما، وحینئذ یجب اتباعه وکان المال المأخوذ عشراً حلالاً للدولة، ویدل علیه الأدلة المذکورة والتی منها ما قاله علی (علیه السلام) کما فی الکافی، من أنه لم یتقید ببعض الأحکام، خوفاً من انهدام عسکره.

لکن مثل هذا الحکم الثانوی لا یکون قانوناً، بل یبقی حکماً ثانویاً مقدراً بقدره، لقاعدة: (الضرورات تقدر بقدرها)، فإذا ارتفعت الحالة الثانویة لزم علی الفقیه إرجاع الأمر إلی ما کان، ولو لم یرجع لاشتباه ونحوه انتهی مفعول

ص:172


1- انظر: الکافی: ج5 ص292ح8.
2- انظر: القواعد والفوائد، للبجنوردی.

أمره بالنسبة إلی الحکم الثانوی، حاله حال ما إذا علم اشتباه الفقیه، وقد قال (صلی الله علیه وآله): «فقد اقتطعت له قطعة من النار» کما فی کتاب القضاء((1)).

ومما تقدم یظهر أنه یلزم أن یکون القانون الثانوی مجعولاً من قبل الفقیه أو نائبه، فحکم النائب حکمه، کما أن حکم والی الإمام (علیه السلام) حکم الإمام، فلا یتقید الأمر فی جعل القوانین الثانویة بمباشرة الفقیه بنفسه.

((الحدود بین الدول))

((الحدود بین الدول))

الأمر الثانی: إن الحدود الجغرافیة للدولة، تمیز الدولة عن الدولة الأخری فی سیادتها علی أراضیها، من جهة (المکوس) و(حدود الدخول والخروج) و(المنابع) و(المیاه) و(إمکانیة العمل)، حیث یصح لها أن تزرع هنا دون هناک، وتبنی هنا دون هناک، إلی غیر ذلک.

واذا أرادت أن تؤجر قسماً من حدودها أو تعطیها مجاناً لدولة أخری مدة من الزمان، لقاعدة عسکریة أو ما أشبه، کان لها ذلک، ولا یضر ذلک باختیارها إذا کان الإیجار ونحوه ملأ إرادتها.

((الحدود والتمیز بین الشعوب))

((الحدود والتمیز بین الشعوب))

الأمر الثالث: إن الحدود الجغرافیة تمیز الشعب عن باقی الشعوب، فالساکن فیها خاضع لأوامر هذه الدولة سواء کان مواطناً أو لا.

وقد تقدم أن الإسلام لا یجعل الناس درجات، فالمسلمون کلهم إخوة، والأقلیات کلها لها حکم واحد، فلیس هناک مسلم له الدرجة الأولی، وآخر له الدرجة الثانیة، وثالث أجنبی مقیم فی البلد، کما هو الحال فی الدول، سواء منها ما یسمی بالدولة الإسلامیة أو التی لا تسمی بهذا الاسم، فإن هذه القوانین قوانین کافرة، یجب محوها عن بلاد الإسلام.

ص:173


1- انظر: الوسائل: ج18ص157 الباب2 من صفات القاضی، ومستدرک الوسائل: ج17 ص366 ب2 أبواب کیفیة الحکم.

وقد عرفت أن الحدود الجغرافیة لا قیمة لها فی بلاد الإسلام إطلاقاً، وإنما القیمة الوحیدة للمعاهدة التی یبرمها البلد الإسلامی الشرعی مع البلد الکافر، ولم تکن هذه الحدود الموجودة الآن إلی قبل القرن السابع عشر المسیحی، وإنما نظمت الحدود بهذا الشکل منذ ذلک الزمان، وذلک تبعاً لضیق النظر الغربی فی تحطم الحریات الإنسانیة.

ولو رجع الغرب إلی العقل، ولو لم یأخذ بالإسلام، یجب علیه إلغاء الحدود فی وجه الإنسان، وإنما یجوز عقلاً الحدود إذا کان اضطرار، وإلاّ فلماذا تقید حریات الإنسان، ویکون أسوأ من الطیور والبهائم وما أشبه، فاللازم أن یکون الإنسان حراً أینما سافر وسار، وکیفما استفاد من الأرض وخیراتها، وحیثما تاجر، وللدولة أن تأخذ الضرائب((1)) ممن وجدته فی بلادها عند حیلولة وقت الضربیة، ومن الواضح أن (بلادها) غیر (الحدود).

وحیث لسنا الآن بصدد الاستدلال لبطلان القانون الغربی بتحدید البلاد، وإنما مهمة هذا الکتاب الموضوع السیاسی فقط، نترک الأمر فی الحدود صحةً وبطلاناً إلی موضعه، ویکفی أن نلمع أن الحدود منذ القرن السابع عشر المیلادی قد أوجد للإنسان مشاکل جمة، لم یکن لها قبل ذلک عین ولا أثر.

ص:174


1- أی الشرعیة منها، لا کالضرائب الکثیرة فی عالم الیوم.

القدرة الإنسانیة وآثارها فی الحقل السیاسی

اشارة

القدرة الإنسانیة وآثارها فی الحقل السیاسی

(مسألة 17): البحث حول القدرة بحث طویل، لا یهمنا فی هذا الکتاب إلاّ بقدر ارتباطه بالسیاسة، فنقول:

البحث فی القدرة حول أمور:

((القدرة الإیجابیة والسلبیة))

((القدرة الإیجابیة والسلبیة))

الأول: أن القدرة تنقسم إلی إیجابیة وسلبیة.

فالقدرة السلبیة عبارة عن المقاومة، وهذا ما یأتی من کل شیء یقاوم، حیاً کان بقسمیه: (ذی الحیاة الإرادیة: الإنسان والحیوان، وذی الحیاة غیر الإرادیة أی النبات) أو لم یکن حیاً کالجماد بأقسامه الثلاثة: (السیال، وغیر السیال، سواء کان السیال کالماء، أو کان کالهواء) فإن فی کل هذه الأمور قدرة المقاومة، وحتی السیال الأولی کالهواء، یقاوم النور ونحوه بنحو من أنحاء المقاومة.

ووجه تسمیة هذا القسم من القدرة بالسلبیة واضح، حیث هی حالة فی الشیء لولاها لم تحصل تلک المقاومة.

ومما ذکرنا یظهر أنا لم نصل إلی جوهر القدرة ولم نعرف حقیقتها، ولذا کان تعریفنا لها بمنزلة (الرسم) لا (الحد) علی الاصطلاح المنطقی, وتدخل حقیقة القدرة فی ضمن دائرة جهل الإنسان، حیث إن عرفان حقائق الأشیاء من أصعب الأمور، فإن الوجود الذی هو من أوضح الأمور فی نفس الوقت معرفة حقیقته من أصعب الأشیاء، وکما قال السبزواری (رحمة الله علیه):

ص:175

مفهومه من أعرف الأشیاء

وکهنه فی غایة الخفاء

فکیف بمثل القدرة، التی لیس لها من الظهور ما للوجود.

أما القدرة الإیجابیة، فیمکن أن تعرف تعریفاً رسمیاً أیضاً، بأنها التأثیر فی الأشیاء، والتأثیر تجمعه أنحاء ثلاثة:

أ) تأثیر إرادی، کما فی الإنسان والحیوان، وإن کان فرق بینهما أیضاً، بأن الإنسان یعمل القدرة عن إرادة وتعقل، بینما الحیوان یؤثر عن إرادة بدون تعقل، ویظهر الفرق بین الإرادة والتعقل أن الثانی متطور حیث القیاس والاستنتاج والتصاعد، بخلاف الأول حیث إنها مجردة عن التعقل، ولیست إلاّ عملاً روتینیاً یؤدی غریزیاً، ولذا لا تطور فیه، ومن هذه الجهة لم نر تصاعد عالم الحیوان، فعالمه الآن مثل عالمه قبل ملایین السنوات، إن فرض أن عمر الحیوان هذا المقدار المدید.

نعم هناک بعض العلماء یفترضون إمکان تصاعد عالم الحیوان إلی التعقل إن صرفت له الطاقات الکثیرة، کما تطورت الوسائل الآلیة، بعد صرف الطاقات لها، وهذا البحث خارج عن مهمة الکتاب، ولذا ندعه لموضعه فی علم الحیوان.

ب) تأثیر حیوی غیر إرادی، کما فی النبات، حیث إنه یؤثر فی التقدم والاطراد، فیأخذ من الماء والهواء والضوء والأملاح بتأثیره فیها فیجعلها جزءاً من نفسه، ثم ینمو ویشق الأرض والفضاء، کل ذلک تأثیر، وقد عرفت أن التأثیر هو القدرة الإیجابیة.

ج) تأثیر غیر إرادی، یصدر من الجماد، لکن بضمیمة قدرة أجنبیة إلیه، کما فی تأثیر السکین فی الشق، والحجر المرمی فی الخرق، وماء الشلال فی التخریب أو البناء، والهواء ونحوه فی جملة من الأشیاء، لکن هذه الأمور بدون

ص:176

المحرک لا تتحرک حتی تؤثر، وحتی فی الشلال المحرک جاذبیة الأرض، وهی أجنبیة عن الماء، وفی الهواء تمدید الحرارة لها، وتقلیص البرودة إیاها، کما هو واضح.

القدرة الإنسانیة

القدرة الإنسانیة

وکلامنا فی هذا المبحث فی (القدرة الإنسانیة) التی هی مرمی نظر السیاسی فنقول:

الأمر الثانی: إن القدرة فی الإنسان عبارة عن الأمر والطاعة، فهی داخلة فی قسم التأثیر والتأثر، فهما من قبیل المتلازمین أو من قبیل الکسر والانکسار، حیث إن المتلازمین أمران، أما الکسر والانکسار فهما وجهان لعمل واحد، إذا نسب العمل إلی المؤثر سمی کسراً، وإذا نسب إلی المتأثر سمی انکسارا.

والقدرة هکذا، فوجهها فی طرف المؤثر (أمر)، ووجهها فی طرف المتأثر (إطاعة)، ولولا أحدهما لم تعقل قدرة، فهما اثنان فی الذهن لا فی الخارج.

والغالب أن الآمرین قلة والمطیعین کثرة، ولماذا الأمر هکذا.

فهل إن الناس سواء فی القدرة، وإنما بعضهم یعلمها وبعضهم لا یعملها، حتی أن القدرة مثل قابلیة العلم والکتابة والصنعة بعض یکتسبه وبعض یترکه، فإذا اکتسبها الکل کانوا سواء فی الفعلیة، فتقسم القدرة بینهم حینئذ فلا آمر إلاّ وهو مطیع، ولا مطیع إلاّ وهو آمر، حتی إن بعض علماء الغرب قال: إن الدیمقراطیة الحقیقیة هی ذلک، وإنه کلما تصاعد الإنسان اقتربت أعداد الآمرین وأعداد المأمورین، أو أنه لیس کذلک فکما فی الحیوان، یکون حیوان مسلطاً علی حیوانات أخر،

ص:177

وان کانوا إخوة عن أب وأم واحد، کذلک فی الإنسان.

ولماذا یطیع المطیعون، فهل عامل ذلک الخوف من الآمر، أو عن فوت المصلحة التی یتوخونها، لکن الکلام فی أنه کیف تمکن الآمر من جمع القوة حتی یخشی منه المطیعون، ألیس تلک القوة تنتهی إلی القوة البشریة الذین هم أعضاء تنفیذ إرادة الآمر.

وننقل الکلام إلی أولئک البشر الذین هم أعضاء تنفیذ إرادته، وأعوانه علی المطیعین، فهل أولئک خافوا فوت مصلحتهم فانضموا إلیه، ویأتی الکلام فی أنه ما هی تلک المصلحة، والحال أن مصالحهم توجد بدون أمر الآمر، وبدون تعاونهم مع الآمر، وبدون إطاعتهم للآمر.

إننا یجب أن نطالع القدرة بما هی هی، ثم نلاحظها فی إطار الدولة، حیث إن هذا الإطار هو مرمی نظر السیاسی، الذی نحن بصدده فی هذا الکتاب.

إنه لا شک فی وجود القدرة فی جمیع أفراد الإنسان بما هو هو، کما أنه لا شک فی تفاوت أفراد الإنسان فی هذه الصفة، کتفاوتهم فی الشجاعة والکرم وسائر الصفات، کما لا شک فی أن هذه الصفة الکامنة فی الإنسان قابلة للظهور وللنمو إلی حد ما {فسالت أودیة بقدرها}((1))، والغالب أن أهل القدرة فی الخارج یصلون إلی هذه المرتبة الظاهرة من قدرتهم، بأحد سببین:

1: کونهم فی ظروف القدرة، کما إذا ولد فی عائلة تملک القدرة، کأبناء السلاطین، ومنه ما إذا وصل نفسه بالقدرة المهیئة، کما إذا صار موظفاً عند ذی القدرة کوزراء السلاطین.

2: کونهم استمروا فی إنماء قدرتهم، کما إذا کون حزباً أو ما أشبه.

حیث یکون الأول کابن التاجر الذی ولد فی مال أبیه، والثانی کالذی یتجر

ص:178


1- سورة الرعد: 17.

حتی یصل إلی المال، وما ذکرناه هو الذی یجده الإنسان بالفطرة.

وعلی أی حال، لابد للآمر فی کلا القسمین أن تکون له حالة آمریة، وهی ما تسمی بالقدرة الطبیعیة.

وإلی هنا ظهر الجواب عن السؤال الأول، وهو هل الناس سواء فی القدرة؟

والمتحصل من الجواب: عدم استوائهم، وإنما کلهم ذو قدرة فی الجملة، وبعضهم یکون فی ظرف حسن، وبعضهم ینمّی قدرته، وبعضهم لا یکون فی ظرف حسن، ولا ینمّی قدرته.

أسباب الطاعة

أسباب الطاعة

أما الجواب عن السؤال الثانی، وهو لماذا یطیع المطیعون؟

فحاصله: إن الأطاعة لأحد سببین، إما لجلب النفع، أو لدفع الضرر.

لکن تزاید القدرة فی جانب الآمرین، وتزاید الإطاعة فی جانب المطیعین، ناش عن جهل المطیعین، فإن القدرة کالثروة، فکما أنها مشترکة بین الجمیع، وإنما الرأسمالی یظلم العمال باستیلائه علی أکثر من حقه فی حقوق العمال، وإنهم إنما یترکونه واستیلاءه لجهلهم بقدر حقهم وبقدر حقه، إذ لیس حقه إلاّ بقدر عمله، أی الفکری والجسدی، کما ذکرناه فی کتاب (الفقه: الاقتصاد)، کذلک الکلام فی القدرة، فإن القدرة مشترکة بین الجمیع، وإنما جهل المطیعین بأن أی قدر منها حق الآمر، وأن أی قدر منها حق المطیعین، یسبب أن یترکوا الآمر یستولی علی قدراتهم، بینما إذا لم یکن هذا الجهل أعطوا الآمر بقدر قدرته الذاتیة، وکانت لهم باقی القدرات.

فإذا فرضنا أن التفاوت الذاتی من القدرة فی نفس جملة من الناس

ص:179

بین (1 و2 و3) کان حق من فی الدرجة الثالثة نصف مجموع القدرات، فله أن یأمر یقدر النصف، ویأتمر من الاثنین الآخرین بقدر النصف، بینما یوجب جهل الأول والثانی أن یستولی الثالث علی قدرتهما، فالثالث یستولی علی ست درجات من القدرة، بینما الأولان لا یحصلان حتی علی حقهما، أی النصف من مجموع القدرة التی فرضناها ستة.

ویظهر ذلک جلیاً إذا فرضنا أن کل قدرة تتحول إلی درهم مجسم، فإذا استولی الثالث علی ستة دراهم کان معنی ذلک أنه سرق ثلاثة دراهم، أما إذا استولی علی ثلاثة دراهم وبقی درهم للأول ودرهمان للثانی، کان معنی ذلک أن أحداً لم یسرق من الآخر شیئاً.

وکون الحکم استشاریاً کما فی الإسلام، أو دیمقراطیاً کما فی رأی علماء السیاسة الغربیین، وقد ذکرنا الفرق بینهما فی بعض المسائل السابقة، معناه هو توزیع القدرة، حسب المواهب الذاتیة التی یظهرها الإنسان القادر فی طاقاته الخارجیة، حتی یکون الحال فی المثال: أن للأول قدر درجة، وللثانی قدر درجتین، وللثالث قدر ثلاث درجات، فإذا ترجمت القدرة وجسمت فی المال أو فی السلاح أو فی صلاحیة الآمر وإطاعة الناس، کان للأول من الحاصل السدس، وللثانی الثلث، وللثالث النصف.

أما أن یستوعب الثالث علی الکل، أو علی خمسة أسداس، أو علی أربعة أسداس، فذلک ظلم للآخرین، وکذلک إذا استولی الأول علی أکثر من السدس، أو استولی الثانی علی أکثر من الثلث.

وإذا علمنا هذا القانون فی القدرة، کونها مثل الثروة لکل بقدره، وجب أن نسیر إلی أن یطبق القانون فی الخارج حتی لا یکون ظلم.

ص:180

القدرة الذاتیة والعرضیة

القدرة الذاتیة والعرضیة

الأمر الثالث: تنقسم القدرة إلی قدرة ذاتیة، إی إن الإنسان بنفسه له قدرة، سواء کان هناک من یمده أم لا، ولا کلام فی هذا القسم.

وإلی قدرة عرضیة، وهی ما یستمده الإنسان من الخارج لأجل السیطرة علی الآخرین، وهذا هو محل البحث، وقد اختلفت فیه أنظار السیاسیین إلی أقوال، أهمها اثنان:

الأول: إن قدرة الآمر مستمدة من الله سبحانه، بمعنی أنه لا حق لأحد أن یتسلط علی أحد إلاّ بإجازة الله تعالی.

الثانی: إن القدرة مستمدة من الشعب.

والأول کان نظر الکنیسة فی القرون الوسطی، حتی أن الملوک والرؤساء عندهم کان علیهم أن یستمدوا سلطانهم من البابا الأکبر الذی کانوا یرون أنه خلیفة عیسی المسیح (علیه السلام) والواسطة بینهم وبین الله تعالی.

والثانی هو نظر الدیمقراطیین، حیث یرون وجوب استمداد القدرة من الشعب.

ونظر الإسلام: إن بعض أقسام القدرة مستمدة من الله سبحانه فقط، کما فی الرسول والإمام (علیهما السلام)، وبعض أقسام القدرة مستمدة من الله ومن الأمة، حیث إن الرئیس یلزم فیه شرطان:

1: أن یکون فقیهاً عادلاً جامعاً للشرائط.

2: أن تختاره أکثریة الأمة، لما دل علی وجوب الشوری فی الحکم، کما ذکرنا دلیله فی کتاب (الحکم فی الإسلام) _.

وعلیه فإذا انتخبت أکثریة الأمة إنساناً لا توجد فیه شروط الإسلام، لم یکن ذا سلطة بنظر الإسلام، بل کان غاصباً، وکانوا أعوانه فی اغتصابه للمنصب.

ص:181

کما أنه إذا لم ینتخبوه وإن کان بشروط الإسلام، لم یکن له أن یزاول السلطة والقدرة.

وإذ یوجد الشرطان فی إنسان، الشرط الشرعی ورضی الأمة، لا یفرق أن یجعل المرضی ملکاً ما دام عمره، أو لفترة معینة.

وفی کلا الحالین إذا فقد أحد الشرطین سقط عن الأهلیة فور فقده.

کما لا فرق بین أن یجعل میزان رضی الأمة رضی نوابهم الذین هم فی مجلس الشوری، أو رضی الأمة مباشرة، ففی الأول أکثریة مجلس الشوری إذا اختارت إنساناً کان له الحکم، بینما فی الثانی تختار نفس الأمة مباشرة الرئیس لها.

ولا یخفی أن کل النظریات الثلاثة (الإلهیة) و(الأمیة) و(المرکبة) إنما یمکن تطبیقها فی الخارج إذا آمن بتلک النظریة الناس، مثلاً فی أمة لا تؤمن بأن القوة إلهیة، لا یمکن أن یسیطر علیهم إنسان باسم الإله، وکذلک لا یمکن ذلک بالنسبة إلی النظریتین الأخریین، نعم یمکن أن یری الرئیس نفسه مؤهلاً وإن لم یر رأی الناس، کما إذا کان الشعب ینتخبه حسب میزان الدیمقراطیة، بینما یری هو (الإلهیة) أو (المرکبة).

ومما ذکرنا تبین أن (ولایة الفقیه فی الحکم) التی نقول بها، لیست خلاف (الاستشاریة) فی الحکم، بل تزید علی الاستشاریة شرطاً جدیداً، وهو أن یکون المنتخب واجداً لشرط الفقاهة والعدالة وسائر الأوصاف المذکورة فی کتاب التقلید، ویکون حینئذ علی الحکم التنفیذی والقضائی والإداری رقیبان من قبل الأمة، رقیب هو نوابهم فی مجلس الشوری، ورقیب هو الفقیه المنتخب من عندهم، ویکون الحکم حینئذ أقرب إلی الصواب من الحکم الدیمقراطی الذی اخترعه الشرق والغرب.

وإنما نقول أنه شرقی غربی، لأنه ورد فی التواریخ انتهاج کلا الجانبین هذا النهج فی برهة ما من الزمان فقد، سن هذا النظام داریوش الأول عام (521)

ص:182

قبل المیلاد، کما أنه سن فی الهند، وفی الصین، وفی آثنا، نعم اختفی النظام الاستشاری فی کل العالم حتی أظهره الإسلام، بقوله سبحانه: {وشاورهم}((1))، و{أمرهم شوری}((2))، وأخذ به الغرب فی العصر الحاضر.

لکن یجب أن نعترف بأن الغرب خلط الشوری بمادتین سامیتن:

الأولی: مادة الاقتصاد فی الداخل، فإن الاقتصاد هو الآخذ بزمام الحکم بالآخرة، حیث ذکرنا فی کتاب (الفقه: الاقتصاد) فی أعداد أضرار الرأسمالیة ما یوضح ذلک، فإن الرأسمالیین: القلة بیدهم الإعلام والانتخابات، وتلقائیاً تقع فی أیدیهم السلطة التنفیذیة والسلطة القضائیة، التابعة للقانون الموضوع حسب أهوائهم.

الثانیة: مادة الاستعمار فی الخارج، حیث إنهم یریدون أن یفتحوا الأسواق فی الخارج، وفتح السوق ملازم للاستعمار، کما ذکرنا تفصیل ذلک فی الکتاب الآنف ذکره.

القدرة والطغیان

القدرة والطغیان

الأمر الرابع: القدرة من طبیعتها الطغیان، قال سبحانه: {إن الإنسان لیطغی أن رآه استغنی}((3)). وقال علی (علیه السلام): «من ملک استأثر»((4)).

ص:183


1- سورة آل عمران: 159.
2- سورة الشوری: 38.
3- سورة العلق: 6.
4- انظر نهج البلاغة: الحکمة 16، و غرر الحکم: الرقم 7754.

وقال الشاعر:

الظلم من شیم النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعلة لا یظلم

ولذا فکر عقلاء العالم منذ القدیم فی ترویض القدرة، کما فکروا فی الوقوف أمام طغیان البحر والکوارث الطبیعیة، وهناک مناهج لهذا الترویض نذکر منها ثلاثة:

((مناهج ترویض القدرة))

((الترویض الدینی))

((الترویض الدینی))

الأول: الترویض الدینی، ویعتمد علی عاملین:

1) العامل الداخلی، بتهذیب النفوس وتخویفها من عذاب الله سبحانه.

وهذا مقدم علی کل شیء، ولذا قال سبحانه: {یزکیهم ویعلمهم الکتاب والحکمة}((1)).

وهذه الرقابة إذا حصلت، فهی من أشد الرقباء دقة ومحاسبة وضبطاً. قال علیه السلام: «وکیف أظلم أحداً بنفس یسرع إلی البلی قفولها، ویطول فی الثری حلولها»((2)).

وقال: «والله لأن أبیت علی حسک السعدان مسهّداً وأجرّ فی الأغلال مصفداً، أحب إلیّ من أن ألقی الله ورسوله (صلی الله علیه وآله) یوم القیامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشیء من الحطام»((3)).

إلی غیر ذلک من الآیات والروایات التی تدل علی جریان آثار النفس المرباة المؤدبة علی جوارحها، بحیث تکفها عن الظلم، بخلاف النفس غیر المرباة التی تنضح منها الأنانیة والکبریاء.

قال یوسف النبی (علیه السلام): {رب قد آتیتنی من الملک وعلمتنی من تأویل الأحادیث فاطر السماوات والأرض أنت ولیی فی الدنیا والآخرة توفنی مسلماً وألحقنی

ص:184


1- سورة الجمعة: 3.
2- نهج البلاغة: الخطبة 224.
3- نهج البلاغة: الخطبة 224.

بالصالحین}((1)).

وبالعکس من ذلک قال فرعون: {ألیس لی ملک مصر وهذه الأنهار تجری من تحتی}((2)).

فالملک له ومبعث الخیرات من تحته، أما یوسف (علیه السلام) فملکه من الله، وعلمه من الله، والملک کله لله لأنه فاطره، وهو المشرف علیه فی الدنیا والآخرة، ومنتهی رغبته أن یبقی مسلماً صالحاً إلی حین الممات.

2) العامل الخارجی، بالقوانین التی توقف الإنسان عند حده، وقوانین عقوبات الجنایات، وقوانین الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر: (الرقابة الاجتماعیة).

وعدم تطبیق الناس لهذه القوانین _ حتی طغت قدرة الحکام وفعلوا ما یشاؤون، وبمعاونة نفس الناس الذین کان من المفروض أن یکونوا عوناً علی الحکام، لا للحکام علی الناس _ ذنب الناس لا ذنب القانون، کما أن عدم تطبیق الناس لقوانین الدیمقراطیة عند من یؤمن بها، حتی صار الاستغلال الداخلی والاستعمار الخارجی، ذنب الناس لا ذنب الدیمقراطیة.

مع فارق بین الدین الاستشاری التربوی، والدیمقراطیة، هو أن الدین مستوعب لجانبی الروح والجسد، وفی جانب الجسد مستوعب لکل ما یصلح، بینما الدیمقراطیة خاصة بجانب الجسد، فلیس لها جانب روحی، وفی جانب الجسد أیضاً حکمها ناقص ولیس بمستوعب، فالدیمقراطیة تعطی ربع الإصلاح بینما الدین _ ونقصد الأدیان السماویة غیر المحرفة _ یعطی الوحدة الکاملة للإصلاح.

 ((الترویض الدیمقراطی))

 ((الترویض الدیمقراطی))

الثانی: الترویض الدیمقراطی، حیث إن الدیمقراطیین فکروا أن یقفوا

ص:185


1- سورة یوسف: 101.
2- سورة الزخرف: 51.

سداً أمام طغیان القدرة، وذلک بجعل زمام القدرة بید الناس، ومن الطبیعی أن الإنسان لا یطغی علی نفسه، فلا یقتل نفسه، ولا ینتهک عرض نفسه، ولا یتلف أموال نفسه، إلاّ شاذاً.

إلا أن الدیمقراطیین أخفقوا فی ترویض القدرة، فالذین استند الزعماء إلیهم فی القدرة أصبحوا هم عبید القدرة، حالهم فی ذلک حال العمال حیث أوجدوا هم المال، لکنهم أصبحوا عبید المال، حیث یتصرف فیهم الرأسمالیون بقدرتهم التی حصلوها من أموالهم کیف شائوا.

وفی ظل الدیمقراطیة ولد (هتلر) و(موسیلینی) و(الشاه) و(إسرائیل) والاستعمار، وقامت الحرب الجزائریة، کما قامت الحربان العالمیتان، وفی ظل الدیمقراطیة أصبح ألف ملیون جائع فی العالم، وأصبح بمعدل حرب إقلیمیة فی کل شهرین ونصف منذ ستین سنة، وقذفت القنابل الذریة علی بلاد الیابان، کما أن فی ظلها تصاعدت الطبقیة فی نفس بلاد الرأسمالیة بصورة حادة.

من أخطاء الدیمقراطیة

وسبب ذلک أمران:

أ) إن الدیمقراطیة لم تضع برامج لتهذیب النفس، فهی کما إذا نظر إلی الشیء من زاویة واحدة، ومن المعلوم أن الإنسان لیس کالطین والخشب یستجیب لداعی التغییر حیث یأخذ الإنسان فأساً فیقطع الخشبة، أو معولاً فیهدم البناء، أو یصنع من الطین آجراً، ومن الخشب باباً، بل الإنسان عواطف وأهواء وشهوات إلی آخرها، وبدون التهذیب لا یخضع للقانون، مهما کان القانون

ص:186

نزیهاً، ووضعه العدول المستقیمون، وعلیه فماذا یحول دون حماة الدیمقراطیة أن یکونوا هادمین لها، کما حدث بالفعل، من غیر فرق بین أن یکون الحماة من قبیل المشرعین أو المنفذین أو الدعاة أو القضاة.

ب) إن الدیمقراطیة الغربیة، استغلها رأس المال فی صالحه، ولذا فهی رأسمالیة فی قالب الدیمقراطیة، والرأسمالیة لا تعمل إلاّ لصالح نفسها، أما الأمة فهی لیست فی مرمی تفکیر الرأسمالی، إن همه أن یحصل علی أکبر قدر من المال ولو بقتل الناس وإشعال نار الحروب.

وإلیک شاهداً من الشواهد لهذه الحقیقة، قالها إیزنهاور الرئیس الإمریکی عند انتهاء ولایته الثانیة عام (1961) م:

(إن الولایات المتحدة لم تعرف صناعة الأسلحة حتی نشوب آخر حرب عالمیة... وأصبحنا منذ ذلک الحین مکرهین علی أن نخلق صناعة للأسلحة ذات أبعاد شاسعة، وأضفنا إلی هذه الصناعة ثلاثة ملایین ونصف من الرجال والنساء یرتبطون بالمؤسسة الدفاعیة ارتباطاً مباشراً، وأصبحنا ننفق سنویاً علی الأمن العسکری أکثر من الدخل الصافی للشرکات الإمریکیة. وهذا التواتر بین مؤسسة عسکریة ضخمة، وبین صناعة کبیرة للأسلحة هو تجربة إمریکیة جدیدة، ولذلک فإن کل مدینة وکل مجلس من مجلس الولایات وکل إدارة من إدارات الحکومة الفدرالیة، تشعر بالتأثیر الکلی لهذه البدعة الجدیدة، سواءً کان هذا التأثیر اقتصادیاً أو سیاسیاً أو روحیاً، ونحن نقر بحاجتنا لمثل هذا التطور، ولکن علینا أن لا نغفل عن مضاعفاته، لأن هذه المضاعفات تدمر عملنا ومواردنا وحیاتنا، أی إنها تمر بنیة مجتمعنا، فیتوجب علینا أن نحذر من اکتساب المرکب العسکری الصناعی لقوة تأثیر فی مجالس

ص:187

الحکومة، سواء أسعی المسؤولون عنه لاکتساب هذا التأثیر أو لم یسعوا إلیه، ویکمن فی مثل هذا التأثیر خطر کارثی، وهو خطر نشوء قدرة تحل محل جمیع القدرات الأخری، وهو خطر موجود ویمکن أن یستمر. فعلینا أن لانتیح مطلقاً لقوة هذا المرکب الجدید، أن تهدد حریاتنا وعملیاتنا الدیمقراطیة، ولابد أن یکون المواطنون فی حالة یقظة وبصیرة، تمکنهم من إکراه الآلة الدفاعیة الصناعیة العسکریة، علی أن تظل خاضعة لأسالیبنا وأهدافنا السلیمة، وتؤمن لهم أن یضمنوا نمو سلامتنا وحریاتنا معاً).

ولذا فالدیمقراطیة، أصبحت جوفاء لا وسیلة للحد من القدرة، بل آلة بید المقتدرین ضد المستضعفین، ولا علاج للدیمقراطیة من هذه المشکلة إلاّ بالحد من سیطرة رأس المال، هذا مع الغض من نقص الدیمقراطیة بذاتها، حیث تفقد مناهج للروح کما تقدم.

وقد ذکرنا فی کتاب (الفقه: الاقتصاد) أنه لابد وأن یکون المال بإزاء خمسة أشیاء هی: (العمل الفکری، والجسدی، والمواد الأولیة، وشرائط الزمان والمکان، والعلاقات الاجتماعیة)، ومثل هذا المال لا یتکوّن منه رأس المال بالمعنی الغربی، حتی یتبع ذلک القدرة الموجبة للأخذ بأزمة الدیمقراطیة.

وقد أصبحت القدرة الاقتصادیة المستظهرة بالدیمقراطیة المزیفة ذات حدین، حد التزییف لإرادة الشعب فی الداخل، وحد الاستعمار فی الخارج.

ثم إن هذا الاستعمار للخارج، حیث إنه صار من منهج من بیدهم القدرة السیاسیة الاقتصادیة،

ص:188

وحیث إنه لا تزدوج طبیعة الإنسان بأن تکون ظالمة فی مکان دون مکان، أثّرت تلک الطبیعة فی الداخل أیضاً، حیث الظلم لنفس الشعب إلاّ بقدر الخوف من الأحزاب المناوئة التی لها شیء من الحریة، ولذا فقد تحول ما یسمی بالبلدان الدیمقراطیة إلی بلدان للظلم لنفسها ولغیرها، وأخذت الحریات تتقلص إلی أن یخنق الحبل عنق صاحبه.

((الترویض الشیوعی))

((الترویض الشیوعی))

الثالث: الترویض الشیوعی، حیث فکر الشیوعیون أن یقفوا سداً أمام طغیان القدرة التی بید الرأسمالیین بتوزیع المال علی العمال، فمن کل بقدر طاقته، ولکل بقدر حاجته. وإذا سقطت آلة المال عن ید الرأسمالیین، لم تکن هنالک قدرة طاغیة، ویعیش الکل بسلام، وقالوا: إن هذا لا یمکن فی مرحلته الأولی إلاّ بدیکتاتوریة البرولیتاریا، حتی ینتهی إلی سقوط الدولة، فیعیش الناس بدون دولة، کما تقدم تقریب وجه سقوط الدولة.

لکن انعکس الأمر فصارت القدرة فی هذا المنهج أطغی: حیث جمع أولئک الذین صارت بیدهم القدرة السیاسیة بین (المنهج الدیکتاتوری) إذ قد عرفت أنهم انتهجوا منهج دیکتاتوریة البرولیتاریا، وبین (القدرة السیاسیة) وبین (القدرة الاقتصادیة). أما فی المنهج الرأسمالی فقد أصبح القانون دیمقراطیاً ظاهریاً، والقدرة السیاسیة بید الدولة، والقدرة الاقتصادیة بید التجار، ولذا عجت بلاد الشیوعیة بمظالم لم یسبق لها مثیل.

ولنسمع ذلک من لسان المفکر الیوغسلافی (دجیلاس) علی ما کتبه (حسن صعب) بالنسبة إلی الطبقة السیاسیة المارکسیة:

(فجمیع التغییرات التی یحدثها الزعماء الشیوعیون تملیها قبل کل شیء مصالح الطبقة الجدیدة وأمانیها، شأن هذه الطبقة الآن شأن أیة فئة اجتماعیة أخری، فهی تعیش وتتصرف وتدافع عن نفسها وتتقدم، تحدوها الرغبة فی أن

ص:189

تزید قدرتها).

قال الصعب: (وبلغ نقد القدرة السیاسیة الشخصیة المطلقة أشد ما یمکن أن یبلغه فی الحملة التی شنها خروشوف علی ستالین، فی التقریر الذی قدمه للمؤتمر العشرین للحزب الشیوعی السوفیاتی، وقد استهل خروشوف التقریر بقوله: عمدت اللجنة المرکزیة بعد وفاة ستالین إلی تنفیذ سیاسة ترمی لإعلان استنکار التعالیم المارکسیة اللینینیة لإعلاء فرد ما ورفعه فوق البشر، ونعته بصفات خارقة للطبیعة تشبه صفات الآلهة، وتفترض فی هذا الإنسان أنه یعرف کل شیء ویری کل شیء ویفکر بکل شیء ویستطیع أن یفعل أی شیء، وهو معصوم عن الخطأ فی کل ما یفعل).

ولا نرید أن نطیل البحث بذکر الأرقام والشواهد علی أن الشیوعیة فی کل مکان لم تحد من طغیان القدرة، بل زادتها أضعافاً مضاعفة، حتی أن کوبا البلد ذا التسعة ملایین نسمة، فیه نصف ملیون سجین، وأن (ماو) الصین قتل فی ثورة ثقافیة واحدة ملیونی إنسان، وأن روسیا قتلت إلی الآن فی أفغانستان ملیون إنسان، وشردت زهاء ثلاثة ملایین، مع العلم أن الشعب الأفغانی زهاء عشرین ملیوناً، إلی غیر ذلک من مآسیهم فی أوروبا الشرقیة وفی غیرها.

مناقشة فکرة (راسل)

مناقشة فکرة (راسل)

ومما ذکرنا تبین وجه النظر فی فکرة (راسل) حیث قال: (وإن الدیمقراطیة الکلاسیکیة والدیمقراطیة المارکسیة الجدیدة أرادتا ترویض القدرة وأخفقتا فی ذلک، أخفقت الأولی لأنها سیاسیة صرفة، وأخفقت الثانیة لأنها اقتصادیة صرفة، ولا یمکن أن تحل المشکلة إلاّ بالجمع بین الاثنین)..

وجه النظر أن الجمع بینهما

ص:190

أیضاً لا ینفع حیث لا یکون تهذیب للروح، إذ الاهتمام بنصف الإنسان لا یصلح الإنسان.

هذا مع الغض عن أن أی قانون یضعه إنسان لا یمکن أن یکون کاملاً، حیث إن الإنسان لابد وأن یعیش فی شرائط وظروف خاصة وهی تکون وراء وضع القانون مهما کان نزیهاً، والقانون الصالح لشرائط وظروف لا یصلح لغیرها، فیکون فی غیر تلک الشرائط والظروف جائراً، فإن معنی عدم الصلاح الجور.

لا یقال: والإسلام أیضاً لم یتمکن أن یضع حداً لطغیان السیاسة، ولذا نشاهد الظلم بعد الرسول (صلی الله علیه وآله) وإلی الآن، إلاّ فی فترات؟

لأنه یقال: فرق بین کون القانون منحرفاً، وبین کون التطبیق منحرفاً، فقد یکون الطریق ملتویاً وقد تسیر السیارة فیه بالتواء، والنقص فی الدیمقراطیة الغربیة والشیوعیة فی نفس القانون، أما الحکام الظلمة فی بلاد الإسلام فقد انحرفوا عن القانون.

إذ قد عرفت أن الدیمقراطیة الغربیة لا تقف دون کثرة المال عند الرأسمالی وإن کان یجمعه من مجهود الآخرین، وإذا زاد المال فی أیدی قلة، ونضب عن أیدی الکثرة، تلاعب أهل المال بالمقدرات کلها، وطغت قدرتهم بسبب المال، کما أن الشیوعیة أرست دعائمها علی جمع المال والقدرة وإضفاء الشرعیة علی الدیکتاتوریة، ومن الواضح أن جمع هذه الثلاثة فی مکان یوجب أبشع أنواع طغیان القدرة.

أما فی الإسلام ف_ (المال له ضوابط) و(لا دیکتاتوریة) و(القدرة من الله لمن فیه الشرائط ممن تنتخبه الأمة).

ص:191

القدرة الاجتماعیة

القدرة الاجتماعیة

الأمر الخامس: فی القدرة الاجتماعیة، التی یحصلها الإنسان من ربط نفسه بالمجتمع، وذلک لأن الإنسان ضعیف غایة الضعف، حتی من أضعف الحیوانات بل النباتات، إذ الحیوان مهما کان ضعیفاً یتمکن من تحصیل شؤون نفسه بنفسه بدون مساعدة الحیوانات الأخر، بینما الإنسان لا یتمکن من ذلک إلاّ بمساعدة الآخرین، ولذا فکل إنسان لابد له من ربط نفسه برابطتین:

الأولی: الرابطة الاجتماعیة، حیث یجتمع من الآخرین من عائلة أو نحوها، وحتی إذ کان یعیش فی الأکواخ وبیوت الطین والکهوف، حیث یتعاون الجمیع فی تحصیل اللباس والمسکن والمأکل ونحوها، وإذا شذ إنسان فعاشر وحده فی جزیرة، لأنه انکسرت سفینته أو ما أشبه، فذلک اضطرار أو انحراف فردی.

الثانیة: الرابطة السیاسیة، فیما إذا کان هناک حکم أی لون من الحکم کان، حیث إن الإنسان له مصالح عالیة، وتلک المصالح تؤمن بواسطة الدولة، فیربط الإنسان نفسه بالدولة، حیث یتفیؤ تحت ظلالها، وفی قبال ذلک یطیع أوامرها کرهاً أو طوعاً.

وقد یکون الارتباط بجماعة سیاسیة ارتباطاً عضویاً، کما إذ صار عضواً فی حزب أو منظمة أو ما أشبه، وقد یکون الارتباط بجماعة غیر سیاسیة لأجل وحدة الهدف بین هذا الفرد وتلک الجماعة، کجمعیة ثقافیة أو اقتصادیة أو تربویة أو نحوها من الجماعات الکثیرة ذات الأهداف المختلفة.

وبهذا تبین أن الارتباطات علی أربعة أقسام، لأنها إما تلقائیة، أو تعمدیة، وعلی کل حال إما سیاسیة أو غیر سیاسیة، والنتیجة فی الکل واحدة، هو کسب القدرة.

ص:192

ثم أهداف الإنسان الذی انضم إلی جماعة إما معنویة مثل کسب الشهرة والحکم، أو مادیة مثل کسب الملابس والمآکل والثروة أو إرضاء الشخصیة بإبداء رأیه أو إمکانیة الخدمة للآخرین، إلی غیر ذلک.

العلاقة بین الفرد والجماعة

العلاقة بین الفرد والجماعة

ثم إن الجماعة کما تعطی للفرد المنضم إلیها قدرة فوق قدرته الفردیة، تأخذ منه قسطاً من حریته، حیث إن الواجب علیه أن یترک بعض آرائه وقدراته الفردیة إزاء رأی الجماعة وعملها، فلو کان فرداً مثلاً استراح فی أیام العطلة، بینما إذا انضم لزم علیه أن یعمل، وکذلک لو کان فرداً انتخب زیداً للنیابة فی مجلس الأمة مثلاً، بینما حیث صار منضماً إلی الجماعة وصار رأی الجماعة انتخاب عمرو، لزم علیه أن ینتخب عمرواً ویترک رأیه لرأی جماعته، لکن حیث إن الإنسان یوازن بین حریته الفردیة وبین قدراته الاجتماعیة، ویری أن الثانیة أهم، یرجح الأهم علی المهم.

وبذلک یقع الفرد المنضم إلی الجماعة فی کثیر من الأحیان، بین تناقض آرائه وآراء الجماعة، ویقع فی داخله تدافع فی اتخاذ أی المسلکین، أیترک مسلک نفسه وفی ذلک وخز ضمیره، أو یترک مسلک الجماعة وفی ذلک تأنیب الجماعة وأحیاناً عقابهم له بالطرد أو الإهانة أو ما أشبه ذلک.

وفی بعض الأحیان یجد الإنسان والجماعة فی مفترق الآراء حلاً وسطاً، وبذلک یکون تنازل من کل جانب عن بعض آرائه.

لکن قد لا یتحمل الفرد التنازل عن رأیه لرأی الجماعة، والجماعة تصر

ص:193

علی رأیها، فیخرج الفرد عن الجماعة، ملتزماً بکل عواقب ذلک السیئة، وقد یتخطی إلی أن ینضم إلی أعداء الجماعة، أو إلی تشکیل جماعة جدیدة تکون بالنتیجة فی قبال الجماعة الأولی، وقد یحدث الانشقاق فی الجماعة فتصبح کتلاً تعادی بعضها بعضاً، وإن اجتمع الکل فی إطار عام یحترم الکل ذلک الإطار، کما یحدث ذلک فی غالب مجالس الأمة ولهیئة الوزراء وما أشبه ذلک.

وفی النظر الفلسفی: اختلاف الآراء رحمة، إذ لولاه لجمدت الحیاة، فإن الحیاة تتقدم بالابتکار الموجب لاختلاف المبتکر وغیره، بالإضافة إلی أن الاختلاف دافع إلی التناقس الموجب لتقدم عجلة الحیاة، نعم اللازم أن لا یخرج الاختلاف عن موازینه العلمیة والعملیة إلی موازین التخاصم والتحارب.

ثم إنه کلما کان الانسجام بین أفراد الجماعة أکثر، کان التقدم الخارجی والاطمینان النفسی فیهم أکثر، وبالعکس کلما کان التخاصم وعدم الانسجام أکثر.

ولذا فالواجب علی الجماعة أن یقرروا ضوابط للعمل تحد من نشاط التخاصم والنزاع، أمثال الشوری بأخذ أغلبیة الآراء، والقرعة إن تعادل الجناحان، وقرار الحلول الوسطی فیما لو أمکن فیه ذلک، إلی غیر ذلک.

وفی الإسلام ضوابط کثیرة بهذا الصدد، أمثال: {أمرهم شوری}((1))، و«القرعة لکل أمر مشکل»((2))، و«إنصاف الناس من نفسک»((3))، و«أحب لغیرک ما تحب لنفسک»((4))، مما قد ذکر فی کتاب العُشرة، وفی کتب الأخلاق بإسهاب.

ص:194


1- سورة الشوری: 38.
2- الوسائل: ج18 ص191 الباب 13 من کیفیة الحکم.
3- نهج البلاغة: الکتاب52.
4- الوسائل: ج18 ص544 الباب121 من العشرة ح7.

وتعلق الفرد بالجماعة قد یکون شدیداً، إما طمعاً أو خوفاً، بحیث یتنازل الإنسان عن کل ارتباطاته العائلیة والاجتماعیة لأجل ذلک الارتباط، فیضحی بمصالحه الطبیعیة لأجل مصلحة جماعته، وأحیاناً یضحی بنفسه فی سبیل ذلک الارتباط، خصوصاً إذا کان معتقداً بالثواب والأجر فی الآخرة.

ولا یخفی أن إطاعة الفرد لجماعته التی انضم إلیها لا توجب الضغط علیه دائماً، فإن الأمر إذا کان بدون الموازین أوجب الضغط، أما إذا کان بالموازین التی قررت للأفراد واعتقد الفرد بها، لم یکن الأمر ضاغطاً علیه، بل کثیراً ما یوجب السرور والبهجة، حیث یری الفرد فی الإطاعة راحة ضمیره ووصوله إلی هدفه.

ولذا فاللازم أن یکون للجماعة هدف ووسیلة واضحان، وتعمل الجماعة لتهیئة الجو العام لذلک الهدف ولتلک الوسیلة، وکلما کان جو الحریة أوفر للأفراد فی الجماعة وکان الإنصاف أکثر سیادة وکانت الشوری حقیقیة، کان تعلق الفرد بالجماعة أوثق، وتحققت الإطاعة بصورة تلقائیة مع الرضا الکامل، إذ الإنسان یعیر المعنویات احتراماً بمثل ما یعیر المادیات اهتماماً، ولذا وضع الإسلام خطوط الشوری، وکان الرسول (صلی الله علیه وآله) یقول: «أیها الناس أشیروا علی»((1))، إلی غیر ذلک مما تقدم الإلماع إلیه، وقد قال (صلی الله علیه وآله): «یسعی بذمتهم أدناهم»((2)).

فکل فرد کان یری نفسه کغیره فی الجماعة الإسلامیة، فلا یحس بثقل الأوامر علیه، ولذا ذکروا فی فن القیادة أن الرئیس الناجح هو الذی یشعر جماعته بأن ما یفعله هو رأی الجماعة، لا أنه استبد بالأمر.

ص:195


1- الوسائل: ج18 ص32 الباب24 من العشرة 51.
2- الوسائل: ج19 ص56 الباب30 من القصاص فی النفس ح4.

أنواع انتماء الإنسان

أنواع انتماء الإنسان

ثم إن انتماء الإنسان قد یکون إلی جماعات متکافئة أو متسلسلة، کما إذا کان عضواً فی جماعة اقتصادیة وجماعة سیاسیة، وکما إذا کان عضواً فی جماعة، وفرداً فی دولة.

وفی مثل هذا الحال قد یتصارع رأی الطرفین، ویکون لکل رأی تطلب لانضمام هذا الفرد إلیه، فإذا کان رأی الجماعة السیاسیة انتخاب زید لأنه أقدر علی الإدارة، ورأی الجماعة الاقتصادیة انتخاب عمرو لأنه أکفأ فی تقدیم الاقتصاد، أو کان رأی الجماعة عدم الحرب لأنها جماعة سلام، ورأی الدولة الحرب باعتبارها ضرورة لهیبة الدولة، وقع العضو فی تضاد هل یطیع هذا أو ذاک، وفی کل إطاعة خسارة الطرف الآخر، بل أحیاناً عقوبته، کما إذا لم یطع الدولة حیث یکون معرضاً لعقوبة المخالفین.

نعم أحیاناً یکون هنا فرجة یتمکن الفرد من الفرار عن المحذور، لکن الفرجة لیست دائماً، فعلی الفرد أن ینتخب أحسن الطریقین بنظره، لأن المقام من باب الأهم والمهم، وهی قاعدة عقلائیة.

ثم إن کلا من الجماعة والفرد ینقسم إلی (أهوج) و(معتدل)، فالاقسام المتصورة أربعة، إذ مع کلا حالی الجماعة حالان للفرد، وخیر الأقسام ما کانا معتدلین.

فالجماعة الهوجاء هی التی تفرض رأیها علی الفرد، وإذا خالف فی رأی أو عمل، تجعله محل الضغط أو تفصله، ویکون الرأی فیها بید فرد أو قلة یفرضون آراءهم علی المجموع، وکانت آراؤها بدون الاستقاء من الشرائط والظروف.

والفرد الأهوج هو الذی یدخل الجماعة بدون ملاک، ویخرج منها بدون

ص:196

مبرر، ویکثر المخالفة، ویستبد برأیه وإذا خالف الجماعة اشتغل بالتخریب.

وبالعکس من الجماعة الهوجاء والفرد الأهوج، الجماعة والفرد المعتدلان، فلیس کل إنسان یدخل فی الجماعة أو یخرج عنها اعتباطاً وبدون رؤیة، وإذا کان فی الجماعة أعمل رؤیته فی القرارات، ولا یغتر بالانتصارات، ولا ییأس من الانتکاسات، بل یعالج الأمر بالواقعیة والرؤیة الرزینة، سواء فی صنع القرارات أو فی مقابلة الانتصار والانکسار، کما أنه لیس کل جماعة تعمل الدیکتاتوریة فی قبال الفرد.

نعم هناک بعض الجماعات تعمل الدیکتاتوریة، فلا تحترم رأی الفرد، ولا تجنح إلی الاستشارة، وتخلط الحق بالقوة الباطلة، ومثل هذه الجماعة تکون خطراً علی الفرد.

ص:197

شروط تقدم الجماعات

اشارة

شروط تقدم الجماعات

(مسألة 18): حیث انتهی بنا الکلام فی المسألة السابقة إلی الفرد فی ضمن الجماعة، وإلی الجماعة المشتملة علی الأفراد، من جهة تبادل القدرات، واستفادة کل منهما من الآخر امتداد قدرته نحو الأهداف التی یتوخاها کل منهما، نعطف عنان الکلام فی هذه المسألة إلی المؤهلات التی تؤهل الإنسان لأن یکون عضواً صالحاً فی الجماعة، سواء کان رئیساً أو غیره.

فإن الجماعة إنما تترکب من الأفراد، کما أن المجتمع الکبیر إنما یترکب من الجماعات، فإن صلح الفرد وکان بالمستوی اللائق فی الإطار الفکری المناسب، صلحت الجماعة، لأنها لیست إلاّ أفراداً، وإذا صلحت الجماعات صلح المجتمع الکبیر، والعکس بالعکس، وإذا توفرت فی العضو هذه المؤهلات کان أقرب إلی بلوغ أقصی القدرة مما یقربه إلی الهدف.

ومن المؤهلات:

أ: الهدوء والتوازن

أ: الهدوء والتوازن

الهدوء والصفاء والتوازن الفکری والعملی، فإن القلق والهیاج والخلط

ص:198

فیهما خلیقة بأن تجعل من الإنسان عضواً فاسداً مفسداً، فهو لا یبتعد عن القدرة فقط، بل یسقط قدراته أیضاً فی الوصول.

وکما یلزم أن یکون العضو بنفسه متصفاً بتلک الصفات الحسنة الآنفة الذکر، کذلک یلزم أن یکون له الإیحاء بهذه الصفات إلی غیره، فإن للإیحاء أیضاً تأثیراً کبیراً فی کبح جماع الهیجان الذی قد یحدث عند النقاش فی الاجتماعات.

وعلی العضو إذا رأی من نفسه هیاجاً لا یتمکن من کبحه، أو رأی ذلک فی النقاش، أن یعتزل انعزالاً بسلام، لا بشدة لیهدّئ من نفسه ومن الاخرین، والانعزال فی هذا الحال یعطی الإنسان الهدوء الذی یهیؤ المناخ الملائم للتفکیر وتحری المخرج.

ومما یؤثر سلباً علی الهدوء الدخول فی الجانبیات، فإن المهم عند النقاش أن ینظر الإنسان إلی الهدف ویسیر إلیه، ولا یدخل فیما لا یهم الأمر.

واللازم أن لا یقول السیاسی القدیر أبداً أن له أتعاباً کثیرة، وأنه مشغول الذهن، وأنه لا یستجیب ذهنه، أو لا یسعه عمله، فإن کل ذلک یوحی إلی النفس بما یقوله الإنسان، وینتهی به الأمر إلی الاعتقاد بصحة ما یقول.

ب: الصبر فی المشاکل

ب: الصبر فی المشاکل

الصبر علی المشاکل وعلی السیر إلی الهدف، فإنه من أقوی سمات القدرة، قال سبحانه: {ولمن صبر وظفر أن ذلک من عزم الأمر}((1))، والصبر ضمان لحفظ النظام ولحفظ الهدوء، ولتبصر العواقب ولمعرفة ارتباط الأشیاء بعضها ببعض.

ص:199


1- سورة الشوری: 43.

ولذا ورد: «والصبر من الإیمان کالرأس من الجسد»((1))، فإنه المسیطر المسیر للأمور، کما أن الرأس هو المسیر للأعضاء والمسیطر علیها.

وقد قال أحد الفلاسفة: (أخضع نفسک لتستطیع إخضاع الآخرین، فإن لم تفعل ذلک لم تستطع أن تسطیر علی الآخرین)، والوجه فی ذلک واضح، فإن الناس لا یخضعون لهش النفس الضعیف الإرادة، أما إذا تمکن الإنسان من جمع نفسه وتقویتها صلحت للسیطرة علی الآخرین، ومن بعض علل الصوم هو هذا، حیث إن الصوم یوجب تقویة الإرادة والسیطرة علی الذات، وفی الآیة الکریمة: {واستعینوا بالصبر والصلاة}((2))، فمن یعرف فن الصبر یعرف فن الإصبار، ومن یقدر علی الخضوع، فإن الصلاة خضوع لله سبحانه، یقدر علی الإخضاع.

واللازم أن یوحی العضو إلی الأعضاء بالصبر، فیقول لهم: اصبروا وثقوا وکونوا مثابرین تتذلل لکم الصعاب، قال سبحانه: {یا أیها الذین آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلکم تفلحون}((3))، والمرابطة والتقوی أیضاً نوعان من الصبر.

ج: معرفة الناس

ج: معرفة الناس

والعضویة تتطلب أول ما تتطلب معرفة الناس، حتی یتمکن الإنسان أن یضع کل أحد موضعه، ویعامل کل فرد وکل جماعة المعاملة اللائقة به وبها.

ص:200


1- نهج البلاغة: قصار الحکم 82.
2- سورة البقرة: 45.
3- سورة آل عمران: 200.

یجب أن یعرف الإنسان أن الناس لا یطلبونه لحل مشکلاتهم، وإنما یریدون منه الاستماع الجید لمشکلاتهم، ثم حل المیسور من تلک المشکلات، وهذا ما یقدره العضو غالباً بقدره، وقد ورد عن رسول الله (صلی الله علیه وآله): «إنکم لن تسعوا الناس بأموالکم فسعوهم بأخلاقکم»((1)).

والأخطاء التی تصدر عن العضو الآخر أو عن سائر الناس، یجب علی الإنسان السیاسی أن یلاحظها مراعیاً الظروف المحیطة بالخطأ، ولذا قد یکون خطأ واحد من إنسان واحد، مختلفاً فی درجات البشاعة بین زمان وزمان وشرط وشرط، وهکذا بالنسبة إلی الخطأ الواحد من نفرین.

د: مستویات مختلفة

د: مستویات مختلفة

تختلف درجة العضو فی الجماعة باختلاف فهمه وحزمه وهمته، بالنسبة إلی الهدف، فقد یکون عضو فاتر الهمة لا یؤمن بالهدف إیماناً کاملاً، وقد لا یفهم الهدف حق فهمه، وقد لا یکون حازماً عند سیره إلی الهدف، وکل ذلک مما یقلل قیمة العضو، ویجعله سیاسیاً فاشلاً.

ولذا فاللازم أن یجتنب العضو عن الأقوال المثبطة، والروح السلبیة، والفکرة التشائمیة، فإن السیاسی الناجح هو الذی یکون إیجابیاً، ویخلق فی نفسه مزیداً من القدرة، فمثل (هذا الأمر لا یفید) و(لن نقدر علیه) و(لا نصل إلی الهدف) و(لیس هنالک مخرج من المشکلة) و(لا أجد ما یمکن عمله)، إلی غیر هذه الجمل، لا تفید العضو إلاّ تأخراً، والجماعة إلاّ انحطاطاً.

ص:201


1- الوسائل: ج8 ص513 الباب107 من العشرة ح8.

واللازم أن ینقل العضو إیمانه بالهدف وإمکانه إلی سائر الأعضاء، وبذلک یکون الاقتراب إلی القدرة أکثر فأکثر.

ه: القدرة

ه: القدرة

والقدرة أمانة فی ذمة الإنسان، لا یحق له تبذیرها ولا تجمیدها.

فالأول: أن یصرفها فی غیر مصرفها، سواء کان مصرفاً باطلاً، أو مصرفاً أقل من المصرف المقرر.

والثانی: أن لا یصرفها.

والأول کما إذا صرف دیناره المقرر صرفه فی کتاب درسه فی الأفیون أو فی کتاب دون درسه.

والثانی کما إذا جمد الدینار فلم ینتفع به، والإنسان القدیر لیس ملکاً لنفسه بل للمجتمع، إذ القدرة مستمدة من الجمع، فإذا لم یستعمل القدرة حق قدرها کان قد خان.

قال الله سبحانه: {إن عرضنا الأمانة علی السماوات والأرض والجبال فأبین أن یحملنا وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه کان ظلوماً جهولاً}((1))، إنه لیظلم نفسه والآخرین، ویجهل قدر نفسه والآخرین، فلا یرد الأمانة أصلاً، أو لا یؤدیها حق أدائها.

والقدرة کالشجرة، کلما صرفها الإنسان نمت أکثر فأکثر، وجاءت بقدرات جدیدة، بینما إذا لم یصرفها، أو لم یجعلها فی المکان اللائق بها، تقلصت و

ص:202


1- سورة الأحزاب: 72.

ذبت حتی تموت.

قال سبحانه: {أنفقوا مما جعلکم مستخلفین فیه}((1)).

وفی الحدیث: إن ملکاً ینادی ویدعو: اللهم أعط کل منفق خلفاً، وکل ممسک تلفاً((2)).

واللازم علی ذی القدرة أن ینمی قدرته، فإن القدرة أیضاً قابلة للنمو، فالقدرة السیاسیة والاقتصادیة والعلمیة وغیرها کلها قابلة للنمو، وإنما نمو کل قدرة حسب موازین تلک القدرة.

و: الفکر المتکامل

و: الفکر المتکامل

الفکر المتکامل والجرأة والمبادرة واتخاذ القرار من الأمور الضروریة للإنسان ذی القدرة، وعلیه فاللازم علی القدیر أن لا یقدم بدون تفکر فی جوانب الأمر، وإلاّ کان ما یفسده أکثر مما یصلحه، ثم إذا فکر لکنه تجبجب وتردد لم ینفعه تفکره، والسابقون هم الفائزون فاللازم المبادرة.

قال سبحانه: {والسابقون السابقون أولئک المقربون}((3)).

وقال تعالی: {سارعوا}((4)).

و: {استبقوا}((5)).

و: {فی ذلک فلیتنافس المتنافسون}((6)).

یقول أحد الحکماء: (الجریء من فکر فی الأشیاء بهدوء، ودرسها بدقة، ووازن بین

ص:203


1- سورة الحدید: 7.
2- الکافی: ج4 ص42 باب الإنفاق ح1.
3- سورة الواقعة: 10.
4- سورة آل عمران: 133.
5- سورة البقرة: 148.
6- سورة المطففین: 26.

الأمور واختار الأصلح، ثم بادر وأسرع، لا یلوی علی شیء).

ولذا یکون الروتین أضر شیء بالقدرة، وإذا رأی ذو القدرة أن أمره یسیر بروتین، لزم علیه أن یخترع أمراً جدیداً یمکنه المبادرة فی نطاقه، فإذا فتح مدرسة وتجمد، فکر فی فتح مکتبة ثم مستشفی ثم مطبعة وهکذا.

وکذلک یجب أن یکون دائماً علی أهبة الاستعداد للعمل، ویفکر لکل ظرف فی رد فعل حسن وسریع، فالحیاة عبارة عن مجموعة قرارات وإنجازات، وکل من کانت قراراته وإنجازاته أکثر، کان أکثر حیویة وأجدر بالاحترام والتقدیر.

ولذا فلا یجوز انتظار الوقت الأفضل إلاّ فی موارد خاصة، أما من یقول إنه ینتظر ذلک، فلیس إلاّ تهرباً من المسؤولیة فی بعض الأحیان، ومثله من یقول: إنه یتحری العمل الأفضل، ولیتذکر صاحب القدرة المثل المشهور: (من لم یحطم المتاعب حطمته).

ز: الإرادة الفولاذیة

و: الفکر المتکامل

لیتذکر صاحب القدرة دائماً أن إرادة التنفیذ عامل من عوامل النجاح، والمرید للتنفیذ إذا أوصد أمامه ألف باب دخل من الباب الواحد والألف، فلیس الجو مهما کان خانقاً بدون فرج، کما أن الجو لمن لا یرید التنفیذ لا یوجد فیه ولا کوة، فالأعذار تلبد الأجواء.

وإذا أراد ذو القدرة أن یعالج معضلة مستعصیة کان علیه أن یحللها، فإن المعضلات الصعاب عبارة عن أمور صعبة تجمعت فی صورة واحدة، کالعقد فی الخیط تحل عقدة عقدة، وکلما کان الإنسان أکثر

ص:204

نفوذاً وعملاً وحلاً للصعاب کان أجدر بالحیاة وبأن یکون سیاسیاً بارعاً، فإن السیاسة کالبناء له أحجار توضع بعضها فوق بعض حتی یکون بناءً متکاملاً، وإذا لم یقدر الإنسان من عمل کبیر، فخیر له أن یعمل أعمالاً صغاراً، فإن بتجمیع القطرات یکون البحار، وبجمع الذرات یکون الصحاری.

ح: الانضباط

ح: الانضباط

ومهما کان الانضباط رائد الإنسان القدیر فی کل شأنه، ازداد قدرة علی قدرة، وهو عبارة عن وضع العمل المناسب فی المکان المناسب وفی الزمان المناسب، وکذلک بالنسبة إلی وضع الأفراد فی أماکنهم، فالشجرة قد تعطی ألف برتقالة إذا کانت فی مکان مناسب، بینما لا تعطی حتی مائة فی المکان غیر المناسب.

والانضباط لا یأتی إلاّ بعد رؤیة مستقبلیة وحالیة، لیعرف مقادیر الأشیاء ومواضعها، فهو العمل ضمن فکرة مدروسة بإتقان، بعد أن یفهم القدیر بسبب الدراسة المشاکل ویضع الحلول وکیفیة رد الفعل لها، والانضباط یجب أن ینفذ فی جو مرح، ولا یکون قاسیاً، وإلاّ حطم الروح مما یوجب قلة التقدم، فإن الروح والجسم یشترکان فی تقدیم الأمور، فإذا انسحب أحدهما من المیدان لم یقدر الآخر علی أمر.

ط: رفع المستحیل

ط: رفع المستحیل

ولیعلم السیاسی القدیر أن لا مستحیل إلاّ ما ینتهی إلی النقیضین، جمعاً أو

ص:205

رفعاً، فکل شیء ممکن حتی ما إذا أراد توحید ألف ملیون إنسان تحت حکومة واحدة، ولقد فعل مثل ذلک غیره قبله، فإذا قال: إنه لا یمکن فتح مدرسة أو تشکیل منظمة أو إنقاذ بلد، کان ذلک منبئاً عن عدم جدارته بنفسه، لا عن عدم إمکان العمل.

واللازم فی السیر أن یجعل برنامجین برنامج الطریق وبرنامج المتاعب، فإذا فعل ذلک وارتطم بالمشکلات لم یؤثر ذلک علیه، حیث قد أدرجه مسبقاً فی برنامجه العام.

وهناک قد تأتی حواجز استثنائیة، ولا یهتم بها السیاسی القدیر، حیث إنه هضم أمثالها، وقد قالت الفلاسفة: (حکم الأمثال فیما یجوز وفیما لا یجوز واحد).

وکلما قوّی العضو نفسه کان أجدر بالوصول إلی الأهداف، فمهما قویت النفس قل ضغط الانفعالات والاضطرابات علیها، ولذا ورد فی الحدیث: «المؤمن أصلب من الجبل، فإن الجبل یقتطع منه والمؤمن لا یقتطع منه»((1)).

ی: التخطیط السلیم

ی: التخطیط السلیم

أما الأمانی فهی بضائع النوکی، أی الحمقی، کما یقول علی (علیه السلام)((2))، فالقدرة لا تأتی بالأمانی، وإنما بالتخطیط السلیم، ووضوح الرؤیة المستقبلیة، وتحری الوسیلة التی تنتج الهدف، بأیسر الطرق وأقربها.

وما من شک فی أن کل أسباب السعادة لیس بید الإنسان، بل منها ما بید التقدیر، ولذا

ص:206


1- انظر: نهج البلاغة: الخطبة 37.
2- انظر: من لا یحضره الفقیه: ج4 ص384 ح5834 وفیه: وَقَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام فِی وَصِیَّتِهِ لِابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِیَّةِ رَضِیَ اللَّهُ عَنْهُ: « یَا بُنَیَّ إِیَّاکَ وَالِاتِّکَالَ عَلَی الْأَمَانِیِّ، فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْکَی وَتَثْبِیطٌ عَنِ الْآخِرَ » .

قال سبحانه: {أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون}((1)).

وقال: {وما رمیت إذ رمیت ولکن الله رمی}((2)).

وقال: {نبلوکم بالخیر والشر فتنة}((3)).

وإنما الکلام فیمن ینال السعادة، إنه هو الذی یهیؤ کل الأسباب الممکنة، مثله فی ذلک مثل من ینال الصید، فإنه لیس کل أسباب الصید بید الإنسان، لکن مع ذلک الذی ینال الصید هو الذی هیأ أسبابه الممکنة، وإلی غیر ذلک من الأمثلة.

فمن سمع الإنسان أنه ذو حق فی التقدم لابد وأن یفهم السامع أن ما جناه من الثمرة الطیبة إنما هو نتیجة جهد وعمل طویلین، قد یضرب بجذوره إلی ما قبل خمسین عاماً، فالماشی علی الدرب باستمرار یصل کثیراً ما.

وإذا أصابه نوع من الیأس لما یجده من عدم الثمرة، فلیعلم أن الأعمال وإن کانت ثمر مضنیة وثقیلة وبلا نتیجة فی بعض الأحیان، إلاّ أن الواقع غیر ذلک، فالجهد لا یکون ضائعاً، والتعثر لیس دائماً، وإنما بعض الأشجار یعطی الثمرة بعد حین، وقد قال سبحانه: {ومثل کلمة طیبة کشجرة طیبة أصلها ثابت وفرعها فی السماء تؤتی أکلها کل حین بإذن ربها}((4)).

وکما أن البذور تختلف فی الإنتاج، وکذلک تختلف البذرة الواحدة فی الإنتاج حسب شروط الزمان والمکان، کذلک الأعمال السیاسیة وبذل الطاقات والقدرات تختلف اختلافاً إنتاجیاً، واختلافاً زمنیاً.

ص:207


1- سورة الواقعة: 64.
2- سورة الأنفال: 17.
3- سورة الأنبیاء: 35.
4- سورة إبراهیم: 24و35.

یا: اغتنام الفرص

یا: اغتنام الفرص

ومن أهم ما ینتج القدرة اغتنام الفرصة، فبینما «إضاعة الفرصة غصة»((1))، یکون انتهازها قوة، وقد ورد فی الحدیث: «انتهزوا الفرص فإنها تمر مر السحاب»((2)).

والفرصة لا تطرق أبواب کل أحد، کما لا تستمر فی طرق باب أحد، فاللازم أن یکون السیاسی ذکیاً، ینتهزها أینما وجدها، ولذا یقول أحد الحکماء: (انتهز الفرصة کلما وجدتها، ولا تجعل وقتک یذهب بتعلل، فإذا تذکرت فی نصف اللیل فی الفراش الوثیر أنک لم تفعل ما کان ینبغی علیک أن تفعله فانهض واعمله).

والحیاة کلها قدرات وفرص، کالبحر کل جوانبه ماء، وإنما الکلام فیمن یغترف، فإذا لم تغترف واغترف غیرک فلا تلم إلاّ نفسک، واعلم أن اللوم لا ینفع.

ولا یزعم الإنسان أن غداً أیضاً وقت، فهو وقت عمل ثان، ولا یستوعب غداً عمل نفسه وعمل الیوم الماضی، وانتهاز الفرصة یحتاج إلی یقظة دائمة، واستشارة مستمرة، وعمل دائب، وتحرٍ للأفضل فی کل لحظة.

یب: التواضع

یب: التواضع

والقدرة تلازم التواضع، والسیاسی القدیر هو الذی یعلم أن الأراضی المرتفعة محرومة من میاه الأنهار، فالمتواضع مصب القدرات، ولأن البحر

ص:208


1- نهج البلاغة: الحکمة 188.
2- نهج البلاغة: الحکمة 21.

ذو تواضع یجمع میاه الأمطار المستعلیة، أما الربی فیسیل عنها الماء حتی لا یبقی فیها منه قطرة، والحرکات إنما تنجح بتجمیعها قطرات القدرة، حیث تتواضع للقدرات، بینما الحکومات إنما تفشل لاستعلائها، فتنحدر عنها القطرات إلی أن لا تبقی فیها قطرة فتسقط.

وإذا أراد الإنسان أن یعرف سر سقوط حکومة مع قدراتها الکثیرة، وبدء حکومة مع أنه لا قدرة لها إطلاقاً فی حال الشروع، فلینظر إلی مجنون الغرور والتواضع، فقبل الوصول إلی الحکم تواضع وأخذ فی الصعود، ولما وصل إلی الحکم أخذه الغرور فأخذ فی الهبوط، وهکذا حتی یسقط ویأخذ غیره مکانه.

ومن طرق التواضع أن یحترم الإنسان آراء الآخرین ویستشیرهم، فقد ورد فی الحدیث: «أعقل الناس من جمع عقل الناس إلی عقله»((1)).

وفی شعر منسوب إلی علی (علیه السلام): «وتری قفاک بجمع مرآتین».

فإذا فکر السیاسی القدیر أنه إنسان، وکل إنسان _ باستثناء المعصوم علیه السلام _ معرض للخطأ، لم یمتنع أن یتحری الرأی الأصوب فی أموره، کما لم یمتنع أن یعترف بالخطأ إذا ظهر له ذلک، وفی المثل: (الاعتراف بالخطاء فضیلة)، وهذان الأمران، الشوری والاعتراف بالخطأ، یزیدان الإنسان قدرة، کما یزیدان الناس به ثقة.

ص:209


1- انظر الأمالی للصدوق: ص27 المجلس السادس ح4.

یج: البحث عن النقد

یج: البحث عن النقد

وعلی الإنسان الذی یتطلب القدرة لإنجاح المهمات، أن لا یتطلب المدیح ولا یقبله من أحد، بل بالعکس یجب علیه أن یفحص عن النقد، ویتطلب النقد البناء عن أصدقائه وعن الآخرین.

وفی الحدیث: «خیر الأصدقاء من أهدی إلیّ عیوبی»((1))، فکل معرفة بالنقص توجب إکمال الناقص، وهو خطوة جدیدة إلی القدرة، فإن القدرة والکمال متلازمان.

أما إذا انتظر الإنسان مدح الآخرین له بما هو کذب وهش لمدحهم إیاه بما لیس فیه، فهو أخذ فی السقوط، والقدرة تنحدر عنه انحدار الماء من الشلال.

ومن أسباب سقوط الإنسان أن یمدح نفسه، وإذا أراد أن یتحدث بما عمله لأجل مصلحة فی الحدیث مرتبطة بالمهمة، فاللازم أن یترک کلمة (أنا)، وإنما یستبدلها ب_ (نحن)، فإن (أنا) یعنی إنه وحده عمل، بینما (نحن) معناه إنه جزء فی العمل، وإنما کانت جماعة عاملة هو أحدهم، وفی ذلک تواضع واکتساب قدرة.

کما أن اللازم اجتناب کلمات تدل علی الغرور، مثل: (لقد قلت لکم)، (لقد تنبأت)، (لقد کنت أتوقع)، (سترون إصابة رأیی)، (ألا تذکر أنی قلت هذا قبل مدة)، إلی غیرها مما یعطی تبجحاً، فإن أمثال هذه الألفاظ توجب انفضاض الناس، ولازمه تقلیل القدرة.

ص:210


1- انظر الوسائل: ج8 ص413 الباب 12 من أبواب أحکام العشرة ح2.

ید: الإنسان الواقعی

ید: الإنسان الواقعی

وأخیراً، فلیعلم الذی یرید تحصیل القدرة أن حل الأمور لا یمکن بالأقوال المجردة والتأفف، وإظهار النفس بمظهر الجد مع الفراغ عن العمل، بل القدیر هو الإنسان الواقعی الذی یلاحظ الأمور بکل واقعیة، وبدون أن ینظر إلیها بمنظار غیر صحیح.

فإن عدم الانسجام مع الواقع فی الفکر والعمل أول خطوة للعجز، فالتشائم والتفائل ورؤیة الأمور صغاراً أو کباراً بما لیس بواقع، کل بدوره ینقص القدرة.

ولا یخفی أن الکلام فی هذه المسألة ینتهی إلی مئات المواد، نکتفی منها بهذا القدر، تمشیاً مع وضع الکتاب، والله المستعان.

ص:211

بین الحقوق والقدرات

اشارة

بین الحقوق والقدرات

(مسألة 19): فی الشریعة الإسلامیة (الحق) یقال لما یطابق الواقع من جانب الواقع، و(الصدق) یقال له من جانب الخارج، فإذا قیل: زید قائم، فإن لوحظ کونه خارجاً قیل له (حق)، وإن لوحظ الکلام المطابق لذلک الخارج یقال له (صدق)، فهما وجهان لشیء واحد.

و(المشروع) یقال لما شرع من قبل الله سبحانه، ولذا یکون ذلک خاصاً بالأحکام، ویکون أخص مطلقاً من (الحق)، ولا یشرع إلاّ ما یطابق المصلحة، عند العدلیة حیث یرون أن الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد الموجودة فی متعلق الأوامر والنواهی. والمصلحة ما تعطی نفعاً دینیاً أو دنیویاً للفرد أو الجماعة، والمفسدة بعکس ذلک، والنفع ما یلائم الإنسان.

أما فی الاصطلاح السیاسی ف_ (الحق) یقال لما اختاره کل الناس أو أکثریتهم قانوناً لأنفسهم، ولا یختار الناس شیئاً قانوناً لأنفسهم إلاّ فیما کانوا شرکاء فی وضعه، وبقوا علی رؤیتهم حسنة، أما إذا لم یشترکوا فی وضعه بأنفسهم أو بنوابهم فهو (باطل)، کما أنه إذا وضعوه ثم وجدوا ضرره، لم یروه مشروعاً، فإن تمکنوا من إزالته أزالوه، وإلاّ أسندته القوة الدیکتاتوریة وسقطت مشروعیته، فلا یکون حقاً.

ولذا فالحق والمشروع شیء مترجرج عند السیاسة، بینما کلاهما شیء ثابت عند الإسلام، وسر الفرق أن الاستناد إلی

ص:212

الله سبحانه الثابت یوجب ثبات المسند، بینما الاستناد إلی الإنسان المتقلب الأحوال یوجب ترجرج المسند.

وبما ذکرنا تبین أن النسبة بین (القدرة) و(الحق) فی الاصطلاح السیاسی:

إن کل قدرة استندت إلی القانون الموضوع من قبل الأکثریة ابتداءً واستدامةً فهی قدرة حقة، وما عداها قدرة باطلة، بینما فی الاصطلاح الإسلامی القدرة الحقة ما کانت مستندة إلی القانون الإلهی.

وبذلک تبین، أن القدرة التی ترید النفوذ علی الإنسان علی قسمین:

الأول: ما یثقل علی کاهل الأفراد والجماعات، وهی القدرة التی یراها الفرد أو الجماعة غیر حقة.

الثانی: ما لا یثقل، بل أحیاناً یکون موجب الراحة والسرور، وهی القدرة التی یرونها حقة.

وعلیه فاذا تضادت القدرات، سواء کانت فی العرض کقدرتین لجمعیتین، أو فی الطول کقدرة الجمیعة وقدرة الحکومة، لابد وأن یری الإنسان حقیة إحداهما، فإذا کان الإنسان حراً فی الاختیار اختار ما رآه حقاً. أما إذا کان الإنسان مضطراً، فهو یختار ما یضطر إلیه وإن رآه باطلاً، کاختیار فرد المرشح من قبل الجماعة المعارض لسیاسة الدولة الدیکتاتوریة، حیث إن الفرد الخائف من الدولة المنضم إلی عضویة تلک الجماعة یقع بین أمرین متضادین، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

والحقوق والقدرات فی المجتمع، توجب تنظیم الروابط، والإنسان فی هذا الدرب المعقد لابد وأن یختار فی کل خطوة، ویرجح الأهم علی المهم إذا لم یتمکن من حل الاختلافات بالحلول الوسطی، وفی صورة تضاد القدرات

ص:213

لابد وأن ینتهی الإنسان إلی ما ینفع جانباً ویضر الجانب الآخر، وکثیراً ما یطیع الإنسان الأجواء الضاغطة وإن لم یرها حقاً، وذلک خوفاً من عواقب عدم الإطاعة، الذی یکون ضرره بنظره أکثر من ضرر سلوک الباطل الذی لیس بحق.

والجماعات السیاسیة غالباً یجدّون فی أن یلبسوا قدراتهم لباس الحق حتی الدیکتاتوریین منهم، وذلک لئلا یقاوموا من قبل الأمة من ناحیة، وحتی یحصلوا علی أکبر قدر ممکن من النفع من ناحیة أخری، حیث إن رؤیة الناس الحق إلی جانبهم یوجب استجابتهم تلقائیاً للجماعة السیاسیة، وفی ذلک أکبر الفائدة للجماعة.

ومما تقدم یظهر أنه کثیراً ما یستجیب الإنسان لأمر ما وإن لم یکن قانوناً، لأنه یراه حقاً، بل ویحاول أن یقدمه إلی مشرعی القانون لیجعلوه قانوناً، حیث إن القانون الموضوع من قبل الأکثریة أیضاً لابد وأن یستند إلی روح القانون الذی هو عبارة عن وجود المصلحة فی نظرهم.

وغنی عن الذکر أنه إذا تکافأت المصلحتان أو المصلحة والمفسدة، سرت تلک الروح إلی هیکل القانون، وتکون النتیجة تقدیم الأهم، وإذ لا أهمیة فالنتیجة التخییر.

کما أنه قد تتعارض القدرات فی مقام التشریع، ویکون الغلب لمن خرج رأیه بالاقتراع، فالقرعة قدرة هائلة سریة، لا ضوابط لها، توجب ثقل الکفة بدون مبرر خارجی، یستند إلیها العقلاء حلاً للتضاد، إذ لا علاج لهم سواها.

أما کیف تستند القدرة العاقلة فی الإنسان إلی قدرة غیر عاقلة فی القرعة، فلإنه إنصاف یقرره العقل أیضاً، أو لأن تقدیم هذا أو ذاک مجهول غیر قاطع، یحال إلی القرعة التی هی مجهولة لکنها قاطعة، والإنسان واسطة فقط، إلی غیرهما من الاحتمالات الفلسفیة والتی لسنا بصددها الآن، ولذا لم

ص:214

نتعرض إلی فلسفة القرعة المذکورة فی الروایات.

أقسام قدرة الجمعیة

اشارة

بین الحقوق والقدرات

ثم إن أیة جمعیة مرتبطة بعضها ببعض لابد لها من قدرة، فهی کالروح الساریة فی الجسم، وتنقسم القدرة الموجودة فی الجماعة إلی قسمین:

الأول: القدرة غیر المتمرکزة.

الثانی: القدرة المتمرکزة.

((القدرة غیر المتمرکزة))

((القدرة غیر المتمرکزة))

أما الأولی: فهی القدرة الموزعة علی أعضاء الجماعة، سواء کانت بنسبة واحدة أو بنسب مختلفة، وهذه القدرة هی المنحصرة فی الجماعة، ولا ربط لها بالخارج عن الجماعة، کما لا رئیس ولا مرؤوس فیها.

وفیها النظر إلی القدرة لا من حیث ذاتها الموجودة، بل من حیث ظهورها فی الجماعة، وهذه القدرة تسود الجماعة بدون ترکیز لها، وبدون جعل ضوابط لها من قبل الجماعة، بل أفراد الجماعة حیث استقوا الآداب والرسوم من غیرهم، سواء کانت الجماعة مغلقة، أو تعیش فی جو اجتماعی، أخذ یعامل أحدهم الآخر حسب تلک الآداب والرسوم.

وإنما قلنا (سواء) لأن الجماعة قد تعیش فی جو صاخب، کالجماعة فی المدینة والقریة وما أشبه، وقد تعیش منعزلة.

أما استقاء الآداب والرسوم فی الجماعة التی تعیش فی جو صاخب فواضح أنها کیف استقت من المجتمع آداباً ورسوماً تأتی بها إلی الجماعة، فکل فرد فیها یعامل الآخر کما عرف أن یعامل المجتمع.

وأما استقاء الآداب والرسوم فی الجماعة التی تعیش منعزلة، ولنفرض رجلاً

ص:215

وامرأة ذهبا إلی غابة وتوالدا وتناسلا هناک منعزلین عن العالم إطلاقاً، کما یذکرون فی جماعة تازاری التی تعیش فی غابة من غابات إندنوسیا، حیث وصل إلی عام (1967) م عدد أفرادها خمسة وعشرین فرداً منقطعین عن العالم إطلاقاً، فإنه لا شک أن للجماعة آداباً ورسوماً استقیت أولاً من الاجتماع الصاخب الذی عاش فیه الوالدان، ثم سرت تلک الآداب والرسوم إلی الأولاد والأحفاد، مع خلطها بشیء من الآداب والرسوم الجدیدة التی اقتضتها حیاة الجماعة وسط الغابة، حیث التعاون المشترک فی تهیئة الثمار للآکل، وتنظیف المکان، والطبخ، واستعمال الآلات الأولیة، ثم قضایا الزواج، وعلاج مرضاهم، وإلی غیر ذلک.

ولابد وأن یحدث بینهم سلسلة مراتب فی الاحترام، وفی الرئاسة والمرؤوسیة وفی السیطرة، فقد تحقق فی علم الاجتماع وفی علم النفس وفی علم الحیوان أن الإنسان والحیوان وإن کانوا لوحدهم، لابد وأن یحصل بینهم سلسلة مراتب ومسلط ومسلط علیه، فالدجاجة تفرخ عشرة أفراخ، فإذا کبروا خاف بعضهم من بعض، وسیطر بعضهم علی بعض، وهکذا فی سائر أفراد الحیوان، وفی أفراد الإنسان.

إن القدرة فی مثل هذه الجماعة غیر مرکزة، حیث إن القدرة الطبیعیة تسیر الجماعة، کما أن القدرة غیر المرکزة تسیر الجماعة التی ینضم أعضاؤها لهدف واحد، بدون أن تقسم القدرات بین الأفراد، کما فی الجماعات السریة غالباً، حیث إن الآداب والرسوم المستقاة من المجتمع هی السائدة بینهم، بدون أن یسمی أحدهم رئیساً والآخر معاوناً وهکذا، فإنه من غیر الشک أن سلسلة

ص:216

المراتب التی ذکرناها فی الحیوان موجودة فی الجماعات السریة، کما أن مما لا شک فیه أن الجماعة السریة قد تجعل لنفسها ضوابط فترکز القدرة فی بعض أفرادها أو بعض فئاتها، فهذه الفئة للمال، وتلک للقرارات، والثالثة للثقافة وهکذا.

إلاّ أن الکلام فی أنه قد تعیش أیضاً بدون ترکیز قدرة، فتکون القدرة السائدة فیها قدرة غیر مرکزة، فلا ضوابط ولا قرارات، وإنما یربط الجماعة بعضها ببعض القدرة الخفیة بسبب الضوابط والآداب والرسوم التلقائیة التی استقاها أفراد الجماعة من المجتمع الصاخب المدنی أو القروی.

القدرة المتمرکزة

القدرة المتمرکزة

الثانی: القدرة المتمرکزة، حیث إن الجماعة تجعل لنفسها ضوابط وتوزع القدرات، وتکتب فیما بینها وثیقة العمل والحرکة والتقدم.

وبذلک تتمرکز القدرة فی وحدات خاصة، فرداً کانت أو فئةً فی ضمن الجماعة، وهذا هو المظهر الثالث من مظاهر القدرة، بعد القدرة الطبیعیة الکامنة والقدرة الظاهرة فی الجماعة، کما ذکرناها فی القسم الأول.

وهذه القدرة المرکزة قد تکون ضعیفة، فیما کانت حسب المقررات للجماعة فقط، وقد تقوی وتشتد إذا حصل الارتباط بین هذه الجماعة وسائر الجماعات البشریة، سواء حصل الارتباط بواسطة الحرب أو بواسطة الصداقات والتعاونات أمام کارثة، أو لأجل زواج هذه من تلک، أو بواسطة المعاملات.

وبهذه الارتباطات بین الجماعة یحصل أمران:

أ: تمرکز واشتداد القدرة فی الجماعة أکثر فأکثر، فإن رئیس الجماعة

ص:217

یکون أقوی عند الحرب _ حیث لزوم السمع والطاعة وصرامة النظام الحربی _ من الرئیس حال السلم، وکذلک سائر الفئات التی تمرکزت فیها القدرة عند الحرب، وکذلک عند أقسام الارتباطات الأخر.

ب: استفادة کل جماعة من الجماعة الأخری الآداب والرسوم، حیث إنه لدی المقایسة بین الضوابط الموجودة عند هؤلاء وهؤلاء، ینتخب کل جانب الأفضل من الآداب والرسوم، وهذا هو سر عدوی صفات الأمم إلی الأمم الأخری.

وقد ذکروا فی علم الاجتماع أن التجار والسواح والمحاربین والعیون ومن إلیهم هم طلائع تغییر الأمم، حیث إنهم یرون آداباً ورسوماً جدیدة، فینقلونها إلی أمم أنفسهم، کما أنهم ینقلون آداب ورسوم أمم أنفسهم إلی سائر الأمم التی یحتکون بها.

((أسباب تمرکز القدرة))

((أسباب تمرکز القدرة))

ثم إن تمرکز القدرة له سببان أساسیان:

1) السبب الداخلی.

2) السبب الخارجی.

من غیر فرق فی کون الجماعة عائلةً، أو حزباً، أو نقابةً، أو حکومةً، أو غیرها.

(1) فالسبب الداخلی هو الأمر النابع من داخل الجماعة، الموجب لتمرکز القدرة، کالعلم والدین والمال والسلاح وما أشبه ذلک، فالعالم فی الجماعة قدرته أکثر من قدرة غیره، وذلک لحس الاحتیاج إلیه فی الهدایة والإرشاد وفی رفع المشکلات الناشئة عن الجهل، فإن الجهل یوصل الإنسان إلی الطریق المسدود، بینما العلم یهدی الإنسان إلی الطرق السالکة التی تنتهی إلی المطلوب، من غیر فرق بین علم الحرب أو علم الطب أو علم الهندسة أو سائر العلوم، ومن أقسام العلم العلم الدینی.

ص:218

الدین قسمان

الدین قسمان

فالدین علی قسمین:

أ) الدین الصحیح، أی الهادی للإنسان إلی مصالح دنیاه وآخرته، ومن الواضح أن العلم الهادی إلی مصالح الدنیا إذا کان موجباً لتمرکز القدرة یکون العلم الهادی إلی کلتا المصلحتین أکثر إیجاباً لتمرکز القدرة.

والدین غریزة فطریة فی الإنسان ولا یرتبط بتحول الاقتصاد کما زعمه مارکس وأتباعه، ولذا نجد الدین یرافق البشر منذ ما حفظ التاریخ وإلی الآن، وقوله (الدین البناء الفوقی للاقتصاد) یشبه قول من یقول إن الشجاعة والجبن والذکاء والغباء بناء فوقی للاقتصاد، وقد ذکرنا فی جملة من کتبنا الاعتقادیة الأدلة الفطریة والعقلیة للدین فی مستویات مختلفة، أمثال: (کیف عرفت الله؟)((1))، و(هل تحب معرفة الله؟)((2))، و(العقائد الإسلامیة)((3))، و(القول السدید فی شرح التجرید)((4)) وغیرها.

ب) الدین المزیف، وکما للنقد صحیح ومزیف، وللمصنوعات صحیح ومزیف، وللمعجونات صحیح ومزیف، کذلک للدین، فأحیاناً یلبس الزیف لباس الدین، لأن اللابس جاهل، أو لأنه دجال، فقد یستغل بعض جهل الناس بالکوارث الطبیعیة، فیزعمون أنهم قادرون علی رفعها بسبب الاتصال بالآلهة، وبذلک یستدرون القدرة والمال من الناس الجهلة، وکثیراً ما یرافق هذا الزیف ذکاء المستغل فیعطی لزیفه مثال الواقع، مما یستدّر قدرة متمرکزة من الجهلة

ص:219


1- طبع فی بیروت مؤسسة الوفاء.
2- طبع فی العراق مطبعة الآداب.
3- طبع فی بیروت مؤسسة الوفاء ودار الصادق.
4- طبع فی العراق مطبعة النعمان، وفی إیران قم دار القرآن الحکیم.

کما ینقل أن أحدهم کان راکباً فی السفینة، ولما تلاطمت الأمواج وأشرفت السفینة علی الغرق، قال لجماعته: إنه اتصل بالآلهة طالباً منها أن لا یغرقوا واتفق لهم السلامة، فقال له بعضهم وکان یعلم أنه مزیف: کیف قلت ذلک، قال: إن السفینة لا تخرج من حالین، فإن غرقت لم یبق أحد یخبر عن کذبی، وإن لم تغرق استفدت من قوة اعتقاد الجماعة بی بهذا النبأ الغیبی.

وکان آخر ینبئ عن المستقبل فی جماعة جهلة، وأحیاناً یطابق خبره الواقع، فلما سأله بعض أصدقائه عن مصدر علمه، قال: إنی أخبر أخباراً إجمالیة، والأخبار الإجمالیة تطابق أحیاناً   الواقع، مثلاً أقول لکل فتاة تراجعنی: إنها تتزوج، ولکل محارب أنه سینتصر، ولابد فی الفتیات من الزواج وللمحاربین من الانتصار، أما من لم تتزوج ولم ینتصر فإذا استفسرنی عن عدم مطابقة کلامی، أقول له: إنه فعل ما یوجب سوء حظه، إلی غیر ذلک من طرق الزیف.

ولذا کان الدین فی المزیفین خلیطاً مع السحر والکهانة والقیافة وما أشبه، حیث إنهم کانوا یستمدون دینهم المزیف من هذه الأسباب، کما استمد مارکس طریقته من الغیبیات حیث جعل التاریخ الغابر أدواراً بدون دلیل یستند إلیه، وکذلک قال: إن الشیوعیة هی الصیغة المستقبلیة للبشر، حیث إذا وصل التاریخ إلیها یتجمد وإلی الأبد، وکلا الغیبیین ظهر زیفه کما حققه العلماء، وقد ذکرنا طرفاً من ذلک فی کتبنا الاقتصادیة، وفی کتب أخری أمثال: (مارکس ینهزم) وغیره.

ولذا فالمارکسیة تعد دیناً مزیفاً، استمدت قدرتها من جهل الناس، فسردت لهم الغیبیات فی ظلام، فلما ظهر الزیف استمد القائمون بها قدرتهم من السلاح والسلطان، حالها حال کل دکتاتور یأتی إلی الناس باسم تهیئة مصالحهم، فلما استولی علی الحکم جعل السلاح حاکماً.

ص:220

المال والقدرة

المال والقدرة

والمال أیضاً من أسباب تمرکزة القدرة، فالملکیة الصحیحة هی التی تکون فی قبال الأشیاء الخمسة، وهی توجب توزیع الثروة بین الجمیع، ولا یکون هناک محتاج یضطر إلی إتعاب جسده وإعطاء قدرته للأثریاء، کما لا یکون هناک رأسمالی بالمفهوم الغربی أو الشرقی _ فإن الأول یجعل المال فی أیدی التجار الکبار کما فی إمریکا، والثانی یجعل المال فی ید الطبقة الحاکمة کما فی البلاد الشیوعیة _ یکون محل تمرکز القدرة.

وبهذا ظهر أن الملکیة الخاصة الصحیحة، لا توجب إلاّ تمرکزة القدرة بقدر الاستحقاق، مثل العلم الذی یمرکز القدرة بقدر تعب العالم، وإنما الملکیة الخاصة الموجبة لتمرکز القدرة الاعتباطیة هی سیطرة فئة أو فرد علی المال سیطرة مطلقة تفعل ما تشاء، واللازم أن لا ینخدع الإنسان بالدعایة الشیوعیة، حیث یذکرون أنه لا ملکیة خصوصیة فی بلادها، فالقلة الحاکمة فی تلک البلاد أقدر علی التصرف فی أموال الناس التی هی نتیجة أتعابهم، من قدرة الرأسمالیین فی الغرب.

السلاح والقدرة

السلاح والقدرة

والسلاح هو الآخر من أسباب تمرکز القدرة، ولذا یعتمد الحکام الدیکتاتوریون علیه فی ضرب الداخل وحرب الخارج.

فهذه أمور داخلیة توجب تمرکز القدرة، سواء کان من بیده هذه الأمور حصل علیها بالحق

ص:221

أو بالباطل، سواء کان داخلاً فی حزب سیاسی أو نقابة صناعیة أو زراعیة أو غیر تلک، کما إذا کان فرداً فی أمة.

السبب الخارجی للقدرة

اشارة

السبب الخارجی للقدرة

(2) أما السبب الخارجی لتمرکز القدرة، فهو أمثال الحروب والکوارث« نحو هیجان البحر والسیول والجفاف ونحوها، فإن العائلة مثلاً التی تعیش فی سلام، لا تحتاج إلی الرئیس المتمرکز فیه القدرة، أما لدی محاربة جماعة لهم، أو جفاف میاههم أو ما أشبه، یحتاجون إلی رئیس یمرکزون فیه قدراتهم، لأجل إزالة تلک المشکلة، إذ المشکلات لا تزال إلاّ بقدرات کبیرة، والقدرة الکبیرة إنما تکون ولیدة تمرکز القدرة.

وقد تبین مما سبق أن تمرکز القدرة یلازم التخصص، حیث إن القدرات المنتشرة فی الأفراد یتجمع کل نوع منها فی فرد أو فئة، مثلاً توزع فی الجماعة السیاسیة التی هدفها الوصول إلی الحکم القدرات، ففئة للإعلام، وأخری للاتصال بالمجتمع، وثالثة للمال، وهکذا، وکذلک القدرة الدینیة لدی تشکلها، فجماعة للخطابة، وأخری للدراسة، وثالثة لبناء المؤسسات، فإن الدین یسیطر علی الناس من ناحیتین:

((مقومات سیطرة الدین))

((مقومات سیطرة الدین))

1: ناحیة الولایة الشرعیة، حیث إن حق التصرف فی الکون لله ولرسوله ولخلفائه (علیهم السلام) ولأمنائهم، بشرط أن یکون الأمین مرضیاً من قبل الأکثریة، فإذا کان هناک أمینان واختارت الأمة أحدهما، کان هو الولی.

ص:222

قال علیه السلام: «فإنی قد جعلته علیکم حاکماً»((1)).

وقال سبحانه: {أمرهم شوری}((2)).

وحذف المتعلق یفید العموم، هذا بالاضافة إلی قوله (علیه السلام): «إیاکم... أن تحاکموا إلی أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بینکم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا»((3)) الحدیث.

إلی غیر ذلک مما ذکرناه فی کتاب (الحکم فی الإسلام).

2: ناحیة الإدارة الدینیة، فإن الإدارة الدینیة ببیان أحکام الإسلام وفهم تطبیقها علی الخارج لا یمکن إلاّ للعالم الدینی.

والحاصل: إن القدرة تتمرکز عند جعل الجماعة الوظائف الاقتصادیة والعسکریة والدینیة وغیرها، لفرد أو لفئة منهم، ووصول فرد أو جماعة إلی نوع من القدرة المتمرکزة یحتاج إلی أمرین:

أ) شرائط المجتمع الذی یعیش فیه، فإن المجتمعات تختلف فی شرائط الوصول إلی القیادة، أی نوع من القیادة.

مثلاً فی المجتمع الإسلامی لا تشترط الوطنیة أو القومیة أو اللون للوصول إلی المراتب الراقیة فی السلطة التشریعیة (تأطیر القانون الإسلامی)، أو السلطة التنفیذیة، فکل من اکتملت فیه شروط الإسلام کان قابلاً للحکم، کان من أی قطعة جغرافیة من الأرض، أو من أی قوم، أو من أی لون، أو لغة، بینما فی المجتمعات القومیة أو الوطنیة أو العنصریة أو ما أشبه لا یصل إلاّ من کان له تلک اللغة أو ذاک اللون إلی آخره.

ب) المؤهلات النفسیة التی تدفع بالفرد إلی مقام قبول الجماهیر له، إذ من الواضح أنه لیس کل فرد توفرت فیه شرائط القومیة أو غیره تقبله الجماهیر

ص:223


1- الوسائل: ج18 ص4 الباب1 من صفات القاضی ح5.
2- سورة الشوری: 38.
3- الوسائل: ج18 ص4 الباب1 من صفات القاضی ح4.

قائداً مرشداً.

((شروط الإسلام فی منح القدرة))

((شروط الإسلام فی منح القدرة))

والإسلام لا یعطی القدرة إلاّ لمن اجتمع فیه شرطان:

1: شرط الکفاءة، فإن الإسلام دین الکفاءات، وقوله سبحانه: {إن أکرمکم عند الله أتقاکم} إشارة إلی الکفاءة، فالتقوی وهی التحذر عن المزالق الدینیة والدنیویة تعطی للإنسان الکفاءة الفائقة، التی لا تماثلها الکفاءات الدنیویة التی تشترطها القوانین الوضعیة، وأقل الفرق الرقابة الداخلیة الموجودة فی المتقی دون غیره من أصحاب الکفاءات، ومن المعلوم أهمیة الرقابة النفسیة فی تسییر الأمور علی النحو الأصلح.

2: شرط أن تکون القدرة المعطاة لذی الکفایة قدرة مشروعة، آی بقدر الحق ابتداءً واستمراراً، فإن القدرة المتمرکزة دیکتاتوریاً لا یعترف بها الإسلام، فلا تجمع القدرة فی نظر الإسلام بالدیکتاتوریة، کما أن القدرة المتمرکزة بالعدل تزال إذا مارست الدیکتاتوریة، ولذا فتمرکز القدرة فی القادة إسلامیاً تمرکز بالعدل ابتداءً وبقاءً.

قدرة لاحقة

قدرة لاحقة

بقی شیء، وهو أن ذا القدرة المتمرکزة، فرداً کان أو جماعة، یلتف حوله جماعة آخرون، یعطونه مزیداً من القدرة، ویستمدون منه القدرة، إذ أنهم یرون نجاحه نجاحهم، وسقوطه سقوطهم، فالتفافهم حوله یزیده قدرة، کما أنهم بقدرته المتمرکزة یستمدون منه القدرة، مثله ومثلهم مثل ماء البحر وقطرات الأمطار، حیث إن البحر یستمد منها مزیداً من القدرة، بینما تلک القطرات تصبح ذات

ص:224

قدرة کثیرة باستهلاکها فی البحر، وکذلک فی قدرة الجیش فإن الأفراد الذین ینضمون إلی الجیش یزیدونه قدرة، کما أنهم یتقوون به.

وتصاعد القدرة بالانضمام هندسی لا عددی، فإن تفاحة وتفاحة أخری لا تزید علی تفاحتین، أما قدرة وقدرة أخری تکون أکثر من قدرتین، ولذا الجیش یقدر علی فتح المدن، بینما لا توجد هذه القدرة الجدیدة بسبب الانضمام فی کل فرد فرد من أفراد الجیش.

فالقدرة کالبذرة إذا زرعت، حیث إنها تنمو وتعطی الأغصان والأوراد والأزهار والثمار، وعلیه فالقدرة ذات نماء وأطوار، ولیست جامدة محدودة کسائر الجوامد.

ص:225

أقسام القدرة

اشارة

أقسام القدرة

(مسألة 20): القدرة قد تکون بالسلطة، وقد تکون بالشخصیة، وقد تکون بالسندیة، فإن کلها قدرات وإن اختلفت أسبابها:

1: السلطة

1: السلطة

فالسلطة هی القدرة التی توجب خضوع الضعفاء أمام الأقویاء، والخضوع إنما یکون لرغبة أو لرهبة.

ثم الرغبة والرهبة قد تکون بالحق، وقد تکون بالباطل، فالدیکتاتور یکون مرهوب الجانب، مرغوباً فیما عنده، وتکون سلطته بالباطل، بینما الحاکم العادل یرهبه الفساق والمجرمون، ویرجوه الضعفاء والمحرومون وسلطته بالحق.

وقد مر فی مسألة سابقة موضوع الحق والباطل.

والسلطة قد تأتی بواسطة المال، وقد تأتی بواسطة السلاح، وقد تأتی بواسطة السیاسة والحکم، وإلی غیر ذلک.

ثم قد تکون السلطة حاصلة بالتدریج، کمن یجمع السیاسة قطرة قطرة، وقد تأتی فجئة، کمن ینصبه السلطان أمیراً، أو یختاره الناس رئیساً.

والقدرة لها مصادر، ولها مراکز، ولها موارد، فإن کانت الثلاثة بالحق، کانت القدرة

ص:226

فی مجراها الصحیح، وإلاّ کانت باطلة، مثلاً قد تکون الآراء مصدر السلطة، ویکون المرکز الذی فیه الآراء له الکفاءة والقابلیة والشرائط وتصرف السلطة فی إقامة العدل وإعطاء کل شیء حقه.

کما أنه بالعکس قد لا تکون آراء، بل قفز إلی الحکم بواسطة السلاح، وقد تکون آراء لکن حصلها غیر الکفوء بالتزویر، وقد یجتمع الشرطان لکن یصرفه ذو السلطة فی ما لیس بموردها، وفی کل هذه الموارد یکون الأمر باطلاً.

 

2: الشخصیة

2: الشخصیة

والشخصیة هی القدرة التی تعطی لفرد أو أمة رفعة علی الآخرین، سواء کانت من ناحیة العلم أو المال أو السلاح أو الإدارة أو الصناعة أو الفن أو غیرها، فالخطیب البارع، والکاتب القدیر، والعالم المتفوق علماً، والفنان الماهر، والصناعی المتقدم، والبطل القوی، والإداری الحسن الإدارة، وغیرهم من أمثالهم، له قدرة الشخصیة، ولذا یقال: فلان له وزن، فلان له ثقل، فلان له شخصیة.

وهذا یجری فی الأمم والأحزاب والمنظمات والجمیعات، کما یجری فی الأفراد أیضاً، والمحتفون حول مثل هذه القدرة ینالون منها عادة، کالذی فی أمة قویة، أو ولد عالم عادل، أو زوجة خطیب بارع، أو ما شاکل ذلک.

وفی الحدیث: «المرء یحفظ فی ولده»((1))، وذلک لیس عطاءً من الاجتماع اعتباطیاً، بل هو نوع تشجیع للفضیلة، فإن الإنسان إذا عرف أنه تکون له الشخصیة لنفسه ولذویه إذا حصل علی الکمال الفلانی، کان اهتمامه بتحصیله أکثر من اهتمام من یعلم أن شخصیته لا تتعداه إلی ذویه.

ص:227


1- انظر دلائل الإمامة: ص35 حدیث فدک.

واحترام الناس لمثل هذه القدرة، له عاملان:

الأول: التشجیع علی الکمال.

الثانی: استفادتهم منها، فالعالم یفیض علماً، والفنان یعطی الرفاه، إلی غیرهما، وهذا هو سر انجذاب الناس إلی ذوی الشخصیة.

والمنجذب قد لا یستفید بنفسه إلاّ أنه یعیش حالة سرور وغبطة، کالإنسان الذی ینزح إلی بلد قوی لیجد السرور النفسی فی کونه من أتباع تلک الدولة.

3: السندیة

3: السندیة

والسندیة قسم ثالث من القدرة، قد یحصلها الفرد أو الجماعة أو الأمة بسبب ما، مثلاً یقال: المحقق سند فقهی، والطریحی حجة فی اللغة، والکلینی مطلع علی موازین الحدیث، وإلی غیر ذلک، والمقصود أنه إذا قال أو کتب أصغی إلیه وأخذ قوله مدرکاً.

وهذه السندیة تعطی للإنسان نوع قدرة، وإن لم تکن قدرة السلطة وقدرة الشخصیة، إذ بین هذه الأقسام الثلاثة عموم من وجه، علی الاصطلاح المنطقی، وإنما نسمیها قدرة لأن مفهوم القدرة (وهو الخضوع للمقتدر) حاصل للسند.

ثم قد یکون السند فرداً، وقد یکون جماعة، مثلاً الجریدة الفلانیة سند، والحال أن هیئة تحریر عشرون إنساناً، وحیث إنهم سند فالمنتسب إلیهم وهی الجریدة أیضاً سند، کما أن الأمة قد تکون سنداً مثلاً یقال أن هذا الکتاب صدر من النجف، أو فلان من أهالی کربلاء، ومجرد ذلک یکفی فی اعتماد الناس علیهما، بعد أن عرفوا القاطنین فی البلدین بالعلم والنزاه والخبرة.

والسندیة لا تزول بالموت، بل تبقی إلی الأبد إذا مات سنداً، أمثال

ص:228

العلماء العظام ومن أشبههم، کما أنها لا تزول بانحراف السلطة عنهم، بینما لا تکون السندیة بالسلطة، فموسی بن جعفر (علیهما السلام) فی السجن وتحت الکبت سند، بینما هارون فی قمة السلطة لیس سنداً.

نعم قد یسقط السند إذا سقط مستنده، مثلاً إذا فسق العادل سقط عن صحة سندیته فی الشهادة، وإذا ابتلی العالم بالنسیان سقط سندیته فی ما یقول، وإذا خان الأمین سقطت سندیته فی ائتمان الناس عنده.

ومن الواضح أن السندیة إنما تکون إذا کانت واقعیة لا بالتزویر، وإلاّ کان الشخص غیر سند واقعاً، وإن زعم بعض الناس أنه سند، کالذی لیس بطبیب ویری نفسه طبیباً.

کیف تدوم القدرة؟

کیف تدوم القدرة؟

ثم إن کل الأقسام الثلاثة من القدرة، إنما تدوم بشرطین:

الأول: أن تکون القدرة قد حصلت من مجاریها الطبیعیة، فإذا حصلت بالتزویر أو القفز أو الصدفة أو ما أشبه ذلک لم تدم، کما أن العکس أیضاً کذلک، فإذا خرج من له قدرة حقیقیة عن مجری القدرة بالدیکتاتوریة أو التزویر أو ما أشبه ذلک، لم یدم وسار إلی الانعزال.

ففی الأول: لو وصل إنسان إلی السلطة صدفة، أو حصلت له الشخصیة بالتزویر، کما إذا زور شهادة دکتوراه لنفسه، والحال أنه لم یحصل علیها حقیقة، أو جعل نفسه سنداً بالدعایة، فإنه سرعان ما ینکشف زیفه، وتنفلت القدرة من یده، ولذا أجاب الإمام (علیه السلام) لمن سأله: ما الحیلة، بقوله: «فی ترک الحیلة»((1))، وفی المثل: (سریع النمو سریع الزوال).

وقد أشار الشاعر إلی هذه

ص:229


1- بحار الأنوار: ج35 ص382.

الحقیقة بقوله:

ومن أخذ البلاد بغیر حرب

یهون علیه تسلیم البلاد

فالنمو یجب أن یکون طبیعیاً.

وفی الثانی: لابد أن یظهر الحق، وقد قالت الحکماء: (القسر لا یدوم)، إذ القسر باق ما دام القاسر، فإذا زال القاسر ظهر الأمر علی حقیقته.

وفی قصص القرآن الحکیم والتاریخ الغابر أمثلة وعبر، قال سبحانه: {ونرید أن نمّن علی الذین استضعفوا فی الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثین * ونمکن لهم فی الأرض ونری فرعون وهامان وجنودهما منهم ما کانوا یحذرون}((1)).

فطالما ادعی فرعون ونمرود الربوبیة، وطالما اضطهد موسی وإبراهیم (علیهما السلام)، لکن لم یدم الباطل فی عرشه، ولم یبق الحق فی مخبئه، بل ورث موسی (علیه السلام) ملک مصر، کما دُمر فرعون، وظهر ابراهیم (علیه السلام) مسیطراً علی التاریخ، بینما ذهب نمرود (إلی حیث ألقت رحلها أم قشعم).

ولذا فاللازم علی صاحب القدرة الذی غصب السلطة أو الشخصیة أو السندیة إن کان أحب نفسه وأراد بقاء قدرته أن یحوّل الزیف حقیقه، فإذا زور شهادة الطب، درس الطب حتی یستحق الشهادة، وإذا زیف الانتخابات فوصل إلی السلطة، أن یهیئ آراء العام لنفسه بمختلف الوسائل والسبل الصحیحة.

کما أنه فی العکس اللازم لذی القدرة الحقیقیة أن یظهر زیف الغاصب بما یسقطه عن قدرته المغتصبة، لیرجع الحق إلی أهله، وفی الشریعة الإسلامیة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وإحقاق الحق وإبطال الباطل واجبات، والزیف

ص:230


1- سورة القصص: 5 _ 6.

مبغوض حتی فی الدرهم، ولذا قال الإمام (علیه السلام) فی النقد المزیف: «اکسره وألقه فی البالوعة»((1)) فإن جزاء الزیف الکسر والتلویث.

الثانی: إدامة مقومات القدرة، فمثلاً (السلطة) التی جاءت بالانتخابات المشروعة، إنما حصلت للسلوک الحسن، فإذا تغیر سلوک المنتخب، سقطت سلطته عن القلوب أولاً، وعن الأبدان ثانیاً، فإن تمکنت الجماهیر من إسقاطه أسقطوه، کما سقط نکسون فی فضیحة ووترغیت، وإن لم یتمکنوا من الإسقاط لم ینتخبوه مرة ثانیة.

وکذلک حال (الشخصیة) الحاصلة من أسبابها، فإن صاحب الشخصیة إذا لم یدم الأسباب سقطت شخصیته بما یذهب قدرته.

وهکذا بالنسبة إلی (السندیة)، فالسند یبقی سنداً ما دام یستمر فی تحفظه علی مقومات السندیة، فإن زالت المقومات السندیة، مثلاً السیاسی الفلانی حجة فی آرائه وتنبئاته المستقبلیة، لاتصاله الدائم بالعالم عن طریق وسائل الإعلام، فإذا قطع اتصاله بالعالم تدرج إلی ضعف آرائه وتنبئاته، إلی حین یسقط نهائیاً.

بل قسم من القدرة بقاؤها بحاجة إلی تصعیدها الدائم، فمثلاً الطبیب المشهور إنما یبقی کذلک إذا أضاف کل علم جدید إلی علمه، أما إذا جمد واقتنع بما تعلمه عند تخرجه من المعهد، تقدم علیه غیره وانتزع منه الشهرة، فتأخر إلی الصف الخلفی بعد أن کان فی الصف الأمامی.

وکذلک الدولة القویة ذات السلاح المتطور، إذا جمدت علی سلاحها السابق، تقدمت علیها غیرها ممن استمرت فی تطویر السلاح، فبریطانیا قبل نصف قرن کانت أقوی الدول، والآن رجعت فی الصف الثالث، بینما قفزت غیرها إلی الصف الثانی والأول، ولذا قرر الإسلام أن: «من ساوی یوماه فهو مغبون، ومن کان غده شراً من أمسه فهو ملعون»((2))، أی مطرود من الخیر.

ص:231


1- راجع الکافی: ج6 ص160 باب الغش ح3, فیه: (عَنْ مُوسَی بْنِ بَکْرٍ، قَالَ: کُنَّا عِنْدَ أَبِی الْحَسَنِ علیه السلام فَإِذَا دَنَانِیرُ مَصْبُوبَةٌ بَیْنَ یَدَیْهِ، فَنَظَرَ إِلَی دِینَارٍ فَأَخَذَهُ بِیَدِهِ ثُمَّ قَطَعَهُ بِنِصْفَیْنِ، ثُمَّ قَالَ لِی: أَلْقِهِ فِی الْبَالُوعَةِ حَتَّی لَا یُبَاعَ شَیْ ءٌ فِیهِ غِشّ).
2- انظر الوسائل: ج11 ص376 الباب 95 من أبواب جهاد النفس ح5.

وأخیراً: فالأقسام الثلاثة (السلطة والشخصیة والسندیة) تلازم بعضها بعضاً خارجاً غالباً، وإن کان بینها تفاوت مفهوماً کما عرفت.

ثم إن لکل من الفرد والمجتمع نوعاً من القدرة، وقد تتعارض القدرتان، ویقدم أقواهما، کما إذا أراد الفرد انتخاب رئیس أو نائب، وأرادت جماعته انتخاب غیره، فإن قدرة الفرد قد تطغی علی الجماعة، وقد یکون العکس، ولا یلزم طغیان قدرة الفرد الدیکتاتوریة، إذ قد یکون الطغیان من جهة حب الجماعة للفرد، بما یوجب ترجیح رأیه علی رأیهم.

وقد کان غاندی الزعیم الهندی یستفید من هذه القدرة (المحبوبیة) فی فرض آرائه علی حزب المؤتمر، وکان الحزب رغم أنه یخالف رأی غاندی، یخضع له لطغیان محبوبیته علیهم.

وهذه القدرة التی تکون للفرد أو الجماعة، قد تکون قدرة غیر مقیدة بالحقوق، وقد تقید بها، فإن القدرة بذاتها مطلقة وحشیة، وإنما الروابط بین الفرد فی ضمن الجماعة، وبین الفرد بالنسبة إلی سائر أفراد المجتمع هی التی تقید القدرة وتحددها، مثلاً الفرد له قدرة إبداء آرائه، لکن ربطه بالجماعة یحدد ذلک، حیث إن إبداء رأیه یوجب ضرر الجماعة، وکذلک فقد تکون الجماعة ذات القدرة علی إبداء رأیها، تتقید برابطتها بالرئیس أو نحوه، فتکف عن إبداء رأیها، لأن الإبداء یضر ذلک الفرد.

وهذه الروابط التی توجد بین الفرد وبین جماعته، أو بینه وبین سائر أفراد المجتمع، تسمی بالحقوق، ومن هنا یتبین الفرق بین (الشخص الطبیعی) و(الشخص الحقوقی)، فالأول هو الفرد بدون ملاحظة روابطه، والثانی هو الفرد مع ملاحظة روابطه.

والجماعة أیضاً لها شخصیة طبیعیة، کما أن لها شخصیة حقوقیة.

ومن

ص:232

آثار ذلک، أن الفرد فی ضمن الجماعة کل التزاماته تحت غطاء الجماعة، لا ترتبط به، وإنما ترتبط بمن له هذا المقام، فإذا تبدل رئیس الجمهوریة أو رئیس الوزراء أو غیرهما، وحتی فی الجماعات الصغیرة، لا یکون لهذا الفرد بعد خروجه عن ذلک المنصب، أیّ من تلک الالتزامات، بل کان الملتزم بها الفرد الجدید الذی خلّفه فی مقامه، وکذلک إذا تبدل کل أعضاء الجماعة، کانت الأفراد الجدیدة التی تشکل الجماعة مکان الجماعة الأولی، لها کل تلک الحقوق، کما أن علیها کل واجبات الجماعة الأولی.

فإن الفرد فی ضمن الجماعة، أو بالنسبة إلی سائر الأفراد، وکذلک الجماعة فی قبال أفرادها، أو سائر الأفراد، أو سائر الجماعات، له ولها حقوق وواجبات، والحق أخذ والواجب إعطاء، فإذا تعادلا کان الفرد أو الجماعة فی حالة جمود ورکود، أما إذا کانت الحقوق أکثر کان الفرد أو الجماعة فی حالة تأخر، کمن یستهلک أکثر مما یحصل، وإذا کان الأمر بالعکس بأن کانت الواجبات أکثر، کان الفرد أو الجماعة فی حالة تقدم، کمن یحصل أکثر مما یستهلک.

((التکامل والتطور))

((التکامل والتطور))

ثم إن للحقوق والواجبات تکاملاً وتطوراً:

أما التکامل، فهو أن الإنسان فی مسیره التاریخی یکشف حاجات جدیدة، هی بحاجة إلی ضوابط جدیدة، وهذه الضوابط هی الروابط، ولذا کلما سارت الأمة أو الجماعة ازدادت روابطها، حیث تکشف لهم الأیام حاجات جدیدة هی بحاجة إلی جعل ضوابط جدیدة.

ولا فرق فی ذلک بین أن یکون السائد علی الجماعة الدین أو القانون، ففی الأول یطبقون الحاجة الجدیدة علی الکلیات الدینیة، وفی الثانی یضعون قوانین جدیدة، إن لم یکن قانون یمکن تطبیقه علی الواقعة الجدیدة، ولذا قال (علیه السلام): «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا»((1))، فإن راوی الحدیث

ص:233


1- الوسائل: ج18 ص101 الباب 11 من صفات القاضی ح9.

یعرف کیف یطبق الکلی علی الواقعة الجدیدة، وقد قال الإمام الرضا (علیه السلام): «علینا الأصول وعلیکم الفروع»((1)).

وقد قرر فی محله أن الإسلام ذکر کل حاجات البشر، إما فی صور الجزئیات أو فی صور القوانین الکلیة، راجع (هکذا الإسلام) و(الأصول الأصلیة للبشر).

وأما التطور، فلأن الجماعة تواجه ظروفاً مختلفة، کل ظرف له حقوق خاصة، وبتطور الظروف تتطور الحقوق، فمثلاً ظرف الحرب فی الحقوق والواجبات غیر ظرف السلم، وظرف تکاثر الناس فی المدینة غیر ظرف قتلهم، حیث إن تقسیم المدینة فی حال الانتخابات تختلف فی باب السیاسة،کما أنها تختلف بالنسبة إلی المجتمع، حیث صعوبة المرور فی حال الکثرة مما یحتاج إلی قوانین جدیدة، وکذلک فی حال تطور الاقتصاد، وإلی غیر ذلک.

ثم إن مجموعة الحقوق التی توضع من جهة الروابط، سواء للامة أو للجماعة، تسمی بالضوابط، مثل ضوابط الإدارات وضوابط الجیش وضوابط المدارس وضوابط المقاومة الشعبیة وضوابط الحزب أو المنظمة أو الجمعیة، وهکذا.

وهذه الضوابط قسم منها مقدمة علی الأمة والجماعة، حیث سبق أن وضعت، وقسم منها تضعها نفس الأمة والجماعة.

وهکذا تسیر الضوابط علی طول التاریخ کنهر جار، یتسع ویکثر ماؤه بروافد العیون التی تنصب فیه علی طول الطریق.

ص:234


1- انظر: الوسائل: ج18 ص41 الباب 6 من صفات القاضی ح52.

مهمة علم السیاسة تجاه القدرة

اشارة

مهمة علم السیاسة تجاه القدرة

(مسألة 21): القدرة حقیقة واحدة حالها فی المجتمع حال الطاقة فی الکون، فکما أن القدرة فی أمواج البحار وفی العواصف وفی الشلالات وفی النار وفی غیر ذلک هی واحدة، تعطی تارة البناء وأخری الهدم، کذلک القدرة فی المجتمع، سواء کانت فی السلاح أو الثروة أو العلم أو الدین أو الدعایة.

وکما أن النار إن قیدت بقیودها أعطت طبخ الطعام أو صهر الحدید المفید للإنسان وغیر ذلک، وإن أطلق سراحها قتلت، کذلک الثروة مثلاً إن زمت بزمام الصلاح کانت مفیدة ومنعشة للمجتمع، بینما إن أطلق کونت الرأسمالیة التی تضر الرأسمالی، وتضر الطبقة الکادحة.

وکذلک العلم إن صرف فی الصلاح نفع، وإن صرف فی صنع القنابل الذریة وما أشبه من أجل الفتک والتدمیر ضر، وقد قالت جملة من الفلاسفة القدماء: إن الماء والنار والتراب والهواء جوهر واحد، تتبدل صورها بهذه الأمور الأربعة.

وهنا یمکن أن یأتی هذا الکلام فی القدرة، فهی حقیقة واحدة تظهر فی مظاهرها المختلفة، ولذا یتمکن الإنسان أن یبدل بعضها ببعض، فالمال یجعله سلاحاً، أو دعایة، والسلاح یبدله إلی المال، والدعایة یبدلها إلی المال، وهکذا.

ص:235

ولولا الروح الواحدة السائدة فی الجمیع لم یکن إمکان التبدیل، وهکذا یقال فی عالم الاقتصاد، فلولا أن الدهن والصوف یشتملان علی روح واحدة اقتصادیة، لم یبدل الرجل الریفی أحدهما بالآخر.

نعم هناک خطأ وقع فیه بعض، حیث زعم أن الروح العامة فی أنواع القدرة المتعددة الروح العسکریة، وزعم آخر أنها الاقتصاد، وزعم ثالث أنها الدعایة، ووجه الخطأ فی ذلک أنه لا وجه لجعل أحدها أصلاً والبقیة أشکالاً، بل الجمیع أشکال، والروح السائدة تختفی، فإن الشیء المشکل لا یمکن أن یکون جوهراً.

وقد قالوا فی الفلسفة: إن الکم والکیف وباقی المقولات التسع لا یمکن أن تکون جواهر، وإلاّ لم یتحول الجوهر من أحدها إلی الآخر، فالمربع لا یمکن أن یکون مثلثاً وهکذا، وعلیه فالشمع لا شکل له بنفسه إطلاقاً، وإنما یتبادل علیه الأشکال، وإن لم یمکن رؤیة الشمع خالیاً عن شکل.

ووظیفة العلم الاجتماعی والذی هو من فروع السیاسة، اکتشاف طاقة القدرة، وقوانین القدرة، سواء فی:

1) أسبابها.

2) أو مسبباتها.

3) أو أسباب تحولها من شکل إلی شکل.

وعلی هذا فإذا عرفت القدرة بما هی نتمکن من أن نعرف قوانینها، وإذا عرفت قوانینها أمکن ترویضها بما یوجب استعمالها فی الصلاح، والوقوف دون استعمالها فی الفساد، فنقف دون هدر القدرة، کما نقف دون طغیان القدرة،

ص:236

سواء فی علم السیاسة حتی لا تظهر الدیکتاتوریات، أو فی علم الاقتصاد حتی لا تظهر الرأسمالیات((1))، أو فی غیرهما من أشکال القدرة، حال القدرة فی المجتمع حال النار فی الطبیعة، فإن الإنسان إذا لم یعرف کیف یستخرجها من الزنار، وکیف یحوطها بالاحتیاجات، إما لم ینتفع بها، وإما أحرقته، إلی غیر ذلک.

وکلما عرفنا أنواع القدرة، ودققنا فی مزایاها، واستقرأنا خصوصیاتها، نکتشف قوانینها أکثر فأکثر، ولذا یقول (راسل): یجب إلقاء النظرة الفاحصة إلی أشکال القدرة الرئیسیة، أمثال القدرة الکهنوتیة، والقدرة الملکیة، والقدرة الغاشمة، والقدرة الثوریة، والقدرة الاقتصادیة، والقدرة علی التأثیر فی الرأی وغیرها، حتی نتمکن من ترویضها، وذلک بعد أن نعرف أن القدرة فی الجمیع شیء واحد وهی تحقیق النتائج المطلوبة.

وإذا کان للقدرة جوهر واحد ولها أشکال، فکل فئة تتطلب القدرة فی شکلها المطلوب لها، فالإنسان السیاسی یندفع فی طلب هذه القدرة فی شکلها الموجب بقبول الناس أمره ونهیه ونفوذه فیهم وإطاعتهم له، بینما الإنسان الاقتصادی یندفع فی طلب هذه القدرة (الجوهر) فی شکلها الموجب لجمع الثورة والوصول إلی نتائج الثروة من الشخصیة الخاصة، إلی غیر ذلک من أشکال القدرات.

ولیس معنی ذلک أن الإنسان یحصل علی شکل من أشکال القدرة فقط بحیث یمکن عزله عن سائر الأشکال، بل معناه أن المهم لدیه أولاً وبالذات هذا الشکل دون ذلک، وإن کانت الأشکالات متشابکة لا یمکن عزل بعضها من بعض، کما تقدم الکلام فی مثل ذلک فی القدرة السلطویة، والشخصیة، والسندیة.

ص:237


1- أی الباطلة منها.

ویظهر من النصوص الإسلامیة أن القدرة واحدة فی جوهرها، حیث إن کونه سبحانه قدیراً، یفسر بالقدرة علی الخلق والرزق والإعطاء والمنع والإحیاء والإماته وغیرها، کما أن اکتشاف أسباب القدرة داخل فی مثل: {قل انظروا}((1))، و{سیروا}((2))، و{سخر لکم}((3)).

أما ترویض القدرة فی النظر الإسلامی فقد سبق الکلام حوله، فی مسألة سابقة.

الأمور التی هی محور علم السیاسة

الأمور التی هی محور علم السیاسة

وإذ قد عرفت أن السیاسة هی عبارة عن أعمال القدرة، وأن القدرة حقیقة واحدة لها مظاهر، وأن بعض أقسام أعمال القدرة مصلح، وبعضه مفسد، فأهم ما یجب أن یبحث عنه فی علم السیاسة أمور ثلاثة:

الأول: ما هو نوع السیاسة الذی یجب أن یسود المجتمع حتی یوفر أکبر قدر من الخیر لأکبر کمیة من أفراد المجتمع، وإنما لم نقل کل أفراد المجتمع لأن الغالب _ إن لم یکن الدائم _ تضارب مصالح المجتمع حقیقة، ولا أقل من زعم التضارب عند جماعات من الناس، فلا یمکن أن یعم الخیر فی المفهوم العرفی الجمیع.

مثلاً فی الحال الحاضر، النظام الرأسمالی تتضارب فیه مصلحة کبار الأثریاء مع مصلحة الطبقة العاملة، والنظام الشیوعی تتضارب فیه مصلحة الطبقة

ص:238


1- سورة یونس: 101.
2- سورة الأنعام: 11.
3- سورة الحج: 65.

الحاکمة (المالکة للثروة والقدرة) مع مصلحة بقیة الشعب، والنظام الدیمقراطی تتضارب فیه مصلحة الأحزاب بعضها مع بعض، إذ کل یرید تنفیذ برنامجه والوصول إلی الحکم، والنظام الدیکتاتوری تتضارب فیه مصلحة الدیکتاتور ومصلحة الشعب، إلی غیر ذلک.

الثانی: ما هی الوسائل التی تصطنعها الدولة لتنفیذ هذه السیاسة، إذ قد تختلف الوسائل مع وحدة الهدف، فمثلاً الهدف هو کبت العدو، فهل الوسیلة إلی ذلک السلم والحرب، أو فی ما نحن فیه الهدف مشارکة أکثر الأمة فی صنع القرارات، أی حکومة الناس علی الناس للناس، لکن هل الوسیلة إلی ذلک کون الأمة تنتخب رئیس الجمهوریة مباشرة، أو أن نواب الأمة ینتخبون رئیس الجمهوریة، إلی غیر ذلک من أمثلة تتعدد الوسائل مع وحدة الهدف.

الثالث: ما هو نوع التأثیر الذی یمکن أن یکون لنا فی اختیار هذه السیاسة واختیار هذه الوسائل، إذ کما أن عللاً متعددة تعطی أثراً واحداً کذلک تکون حال الواسطة مع الأثر النهائی الذی یتوخاه الإنسان، إذ لیس المهم غالباً السبب والمسبب، بل المهم نتیجة المسبب، إذاً فالبحث السیاسی قرار وکیفیة تنفیذ ونتائج تترتب علی القرار، وکلاً من الثلاثة لها أشکال، ولذا یجب أن یبحث السیاسی عن ما هو القرار الملائم، وعن ما هو التنفیذ الملائم لهذا القرار، وعن ما هو الأثر الذی یتوخاه من هذا القرار.

ص:239

المؤسسات السیاسیة

اشارة

المؤسسات السیاسیة

(مسألة 22): الأمة هی التی توجد السیاسة، والسیاسة تکبر بمرور الزمان کماً وکیفاً، وکلما کبرت السیاسة کبرت المؤسسات المرتبطة بها، سواء المؤسسات السیاسیة أو الاقتصادیة أو الاجتماعیة أو الإداریة أو غیرها.

والإدارة السیاسیة للدولة أکبر الإدارات السیاسیة فی البلاد، مثل دوائر الأحزاب والمنظمات والجمعیات السیاسیة، فإنها کلها فی جنب الإدارة السیاسیة للدولة إدارات صغیرة، وبین الإدارة السیاسیة للدولة وتلک الادارات تجاذب وتدافع، فحیث إن کلاً منهما یستفید من الآخر ویستند إلیه یکون بینها تجاذب، أما حیث إن کلا منها یرید التوسع علی حساب الآخر یکون بینهما تدافع.

ثم إن الإدارة السیاسیة للدولة أکمل الإدارات، وأکثرها أجهزةً، وأشدها تعقیداً، فإن الإمکانیات المتوفرة للدولة توجب تکمیل الإدارة السیاسیة، بینما الدوائر السیاسیة الصغیرة غالباً تشکو من نقص فی العنصر البشری، ومن نقص فی العنصر المادی، بینما الدولة لا تشکو أی النقصین، نعم فی الدول الدیکتاتوریة نقص فی العنصر البشری للدولة، حیث إنها لا تقدر علی جذب ذوی الخبرة والحصافة.

ص:240

وحیث کثرت أعمال الدولة یجب تکثیر الأجهرة لتکون الأجهزة کافیة للحاجات المتکثرة، کما أن الکثرة المرتبطة توجب التعقید، حیث إنه کلما کثر الارتباط کثر التعقید، وقد تقدم أن الاثنین بینهما علاقتان، فإذا صار العدد ثلاثة کانت العلاقة ستة، فإذا صار العدد أربعة صارت العلاقة اثنتی عشرة وهکذا، ولذا تجعل الدول الحدیثة إدارة للتنسیق بین دوائرها المختلفة.

وفی هذا الإطار المکمل المعقد الکبیر، یجرب السیاسی حظه فی القرارات والحلول والتأثیر، إذ کلما اتسع الأمر أکثر وتعقد وکثرت أجهزته یکون القرار أخطر، وحل المشکلة أصعب، وکلاهما بحاجة إلی شدة الانتباه، مع کثرة العلم وطول التجربة، فکلما کان الطریق أطول وأکثر شوکاً، یکون المسیر فیه بسلام إلی آخر الطریق أخطر وأصعب، خصوصاً إذا کانت حریة الصحافة وکان حزب منافس یتربص بأخطاء السیاسی.

إذ کل خطأ صغیر خلیق بإسقاط السیاسی عن علیائه إلی أسفل سافلین، کما یشاهد فی فضائح الحکام فی البلاد التی تتمتع بشیء من الحریات.

والغالب أن القرار فی الدول لا یکون إلاّ بأکثریة آراء الساسة، فلا موضع _ فی غیر الدول الدیکتاتوریة _ للقرارات الفردیة، وحتی الذین یأخذون القرار فردیاً یجبرون أصدقاءهم علی الإمضاء علی القرار، أو یعلنون فی أجهزة الإعلام أن القرار بالأکثریة.

والقرار الصحیح هو الذی یعالج موضوعاً طبیعیاً بأحسن علاج، فقد لا یحتاج الأمر إلی قرار، وقد یحتاج إلیه، فوضع القرار فی الأول کعدم وضعه فی الثانی کلاهما غیر ملائم للواقع.

کما أنه فی صورة وضع القرار حیث الاحتیاج إلیه، قد یکون القرار أقل، وقد یکون أکثر، وقد یکون مساویاً، وقد یکون أفضل، ولنفرض الواقع

ص:241

طیراً، فهو قد لا یحتاج إلی الحب، وقد یحتاج، فإعطاؤه فی الأول کعدم إعطائه فی الثانی کلاهما غیر صحیح.

وإذا احتاج فقد نعطیه أقل من حاجته، وقد نعطیه أکثر، وقد نعطیه بالقدر اللازم کماً، لکن لیس أحسن حب نوعاً، وقد نعطیه أحسن الحب نوعاً، ومن الواضح أن خمسة من الأقسام الستة لیس علی ما ینبغی.

مثلاً فی الأمور الاجتماعیة، الرابط الجنسی أمر طبیعی، وهذا الأمر الطبیعی یحتاج إلی قرار وضع الآداب والرسوم والضوابط، فعدم الوضع کوضع الأقل مما یتطلب أو أکثر منه أو غیر الأحسن کله خروج عن استقامة القرار.

ونحن فی هذا الکتاب إنما نقصد القرارات السیاسیة، لا مطلق القرارات فی الأمور الاقتصادیة أو الاجتماعیة أو نحوهما، وإنما ذکرنا الزواج من باب المثال، ففی عالم السیاسة مثلاً توسیع العاصمة أمر یتطلبه الواقع، فعدم تقریر الدولة ذلک أو تقریره بأکثر أو أقل مما یتطلب أو توسیعه بما لا ینبغی _ مثل توسیعه من طرف واحد مثلاً بینما الذی ینبغی توسیعه من کل الجوانب _ کل ذلک خبال فی القرار السیاسی.

ثم إن الأمة وهی المجتمع الإنسانی الکبیر، لا یمکن استقامتها بدون القدرة السیاسیة المتشکلة، کما لا یمکن صحتها بدون التشکل الصحیح للقدرة السیاسیة الکامنة فی الأمة. والأمر بالعکس أیضاً، حیث إن القدرة السیاسیة المتشکلة لا یعقل وجودها بدون وجود الأمة، فالامران متلازمان استقامة، وإن کان الثانی بدون الأول لا یعقل، بینما الأول یعقل بدون الثانی.

نعم یصبح الأمر حینئذ فوضی ویکون کما قال الشاعر:

لا یصبح الناس فوضی لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

ص:242

التفاعل بین الأمة والمؤسسات السیاسیة

التفاعل بین الأمة والمؤسسات السیاسیة

الأمة والقدرة السیاسیة المتشکلة تتفاعل إحداهما مع الأخری، فالأمة هی التی تصنع السیاسة المتشکلة، کما أن السیاسة المتشکلة هی التی تقرر مصیر الأمة ومسیرها، لا فی سیاستها فحسب بل فی کل الحقول الاجتماعیة والاقتصادیة والعسکریة والثقافیة وغیرها.

وکذلک حال الأمة والفرد، فإن الأمة وإن تکونت من الأفراد، لکن للأمة واقعیة غیر واقعیة کل فرد، کما أن للغابة والمدینة والبحر واقعیة غیر واقعیة الشجرة والدار والقطرة، وإن کانت الثلاثة الأول مکونة من وحدات من الثلاثة الثانیة. والسر فی ذلک أن الصورة غیر المادة، والغابة لها صورة بالإضافة إلی کل شجرة شجرة، وکذلک فی المدینة والبحر والأمة.

وکما تتفاعل المادة والصورة إحداهما مع الأخری، فالصورة تتقوم بالمادة، والمادة لا تکون خارجیة إلاّ بالصورة، کذلک الفرد والأمة فی عالم السیاسة، فالمجتمع یحمل الفرد قراراته، کما أن الفرد بانضمامه إلی غیره یحمل المجتمع إرادته، وبالنتیجة فالفرد فاعل ومنفعل، وأقصی امنیة السیاسة أن تصل إلی هذه الحالة بأن یکون کل فرد فاعلاً للسیاسة، ومنفعلا بها، إذ الغالب أن الأمة محل تنفیذ قرارات الأقلیة، سواء الأقلیة التی قفزت إلی الحکم بدون رضاها، أو الأقلیة التی اختارتها نفس الأمة، لکن وقعت الأمة فی شباکها، حیث إن قراراتها لیست فی صالح الأمة مائة فی مائة.

وقد تقدم فی مسألة سابقة، لزوم الوصول إلی طرق ترویض القدرة بما تکون للأمة، لا علی الأمة، وقد ذکرناها هناک أن ذلک لا یمکن إلاّ فی الإسلام الصحیح وحده.

ص:243

وما تقدم من أن للفرد شخصیة عادیة وشخصیة حقوقیة، یجری فی الأمة، فللأمة شخصیة عادیة هی ذات الأمة مع الغض عن القرارات الشاملة لها، وشخصیة حقوقیة هی الأمة مع ملاحظة القرارات المحملة علیها.

وکما أن قرارات الأمة تؤثر علی کل فرد فرد، کذلک یمکن للفرد _ انفرادیاً أو فی ضمن المجتمعات الصغیرة کالأحزاب والمنظمات _ أن یؤثر علی القرارات، وهذا ما أشرنا إلیه من التفاعل بین الأمة والفرد.

وأخیراً تؤثر القرارات علی الأفراد، سواء کانوا داخلین فی جماعة ما أو لا، کما أن قرارات الدولة تؤثر فی الجماعات، وقرارات الجماعات تؤثر علی الدولة، وتؤثر بعضها علی بعض.

ص:244

الدولة أکبر المؤسسات السیاسیة

اشارة

الدولة أکبر المؤسسات السیاسیة

(مسألة 23): الدولة مؤسسة سیاسیة، وهی من أکبر المؤسسات السیاسیة التی تعمل داخل البلاد، أمثال الأحزاب والمنظمات السیاسیة وما إلی ذلک.

وهی المؤسسة السیاسیة التی تعمل داخل البلاد وخارجها بکل حریة، بینما سائر المؤسسات لا مسرح لها خارج البلاد إلاّ بقدر جزئی وتحت أغطیة أخری، ومسرح سائر المؤسسات فی الداخل هو القدر الذی تسمح المؤسسة الکبری الدولة بمزاولة أعمالها.

صحیح أن الضغوط تتوجه إلی المؤسسة الکبری من المؤسسات الصغیرة، إذ لکل حزب ومنظمة وجماعة سیاسیة ضغط علی الدولة توجب أحیاناً منع الدولة عن المسیرة التی تریدها، إلاّ أن ذلک من باب الضغط لا من باب القرار ووضع الضوابط، أما الذی یتمکن من وضع القرار والضابطة فإنما هو الدولة وحدها.

ومثل ذلک الکلام فی مزاولة المؤسسات الصغری أعمالها فی خارج الدولة، حیث إنها قد تشتری الصحف وتتستر بالأحزاب المجازة هناک وإلی غیر ذلک، إلاّ أنها لا شرعیة لها وإنما تتستر بالشرعیة المحلیة، بینما الدولة لها شرعیة ذاتیة فی العمل السیاسی خارج بلدها، بواسطة السفارة فی حدود فسح تلک الدولة الأجنبیة للعمل فی بلدها.

ص:245

((مقومات معرفة الدولة))

((مقومات معرفة الدولة))

ثم إذا أردنا معرفة المؤسسة السیاسیة الکبری فی البلد، أی الدولة، کان اللازم معرفة أمرین:

الأول: معرفة المؤسسات التی تحتوی الدولة علیها، لأن الدولة لیست إلاّ تلک المؤسسات، فکما أن معرفة جسم الإنسان عبارة عن معرفة أجزاء بدنه، کذلک معرفة الدولة لیست إلاّ عبارة عن معرفة المؤسسات.

نعم لا تکفی معرفة المؤسسات بانفراد کل منها، بل اللازم معرفة المجموع من حیث هو مجموع أیضاً، کما تقدم فی مثال الغابة وکل شجرة شجرة.

الثانی: معرفة الواقع السیاسی لکل دولة، إذ المؤسسات إنما توضع بإزاء واقع یتطلبها، والواقع السیاسی إنما یعرف إذا عرف الإنسان تاریخ الأمة واعتقاداتها وتقالیدها، والضوابط الحقوقیة التی تجری فی الدولة، والتی بحسبها یکون الأخذ والعطاء، وتکون هی الإطار لحق کل فرد وجماعة، ولواجب کل فرد وجماعة.

بل یظهر من بعض علماء السیاسة، وجوب معرفة شیء ثالث لمعرفة الدولة، وهی معرفة الأرض والمناخ، وطقسه البارد أو الحار أو المعتدل، مع نوعیة التربة وموقع البلد وحجم السکان وما أشبه ذلک، حیث إن القوانین لا توضع إلاّ للذی یعیش فی مثل هذا الجو، فإذا لم یعرف الجو لم یعرف ما یلزم أن یوضع، وما یلزم أن لا یوضع.

مثلاً السیاسی الناجح هو الذی یعطی الرفاه للمجتمع، والرفاه له شُعب، منها تهیئة المرور المریح، وتهیئة الراحة فی مختلف الأزمان، ومن الواضح أن المرور یتأثر بکثافة السکان وقلته، کما أن من الواضح أن المکان المریح _ فی المدارس والمؤسسات والمستشفیات وما إلی ذلک _ یختلف من جهة کون المناخ حاراً أو بارداً أو معتدلاً، حیث إن الأول بحاجة إلی وسائل التبرید، والثانی

ص:246

إلی وسائل التدفئة، بینما الثالث لا یحتاج إلی شیء منهما، إلی غیر ذلک من الأمثلة لسائر ما ذکر للسیاسی.

الشخصیة الحقوقیة للدولة

الشخصیة الحقوقیة للدولة

ثم إن الدولة عبارة عن جریان مستمر، کانت وستکون ما دامت الأمة موجودة، أما الأفراد الذین یتقدمون فی صف الدولة من رئیس ومدیر ووزیر وسفیر، فإنما هم أفراد وقتیون لهم مدة محدودة، یظهرون فی النور ثم یختفون، ولذا جاء فی المثل: (الکراسی عواری).

وهؤلاء الأفراد لهم صفتهم الشخصیة قبل وصولهم إلی مؤسسات الحکم، فإذا وصلوا إلیها کانت لهم شخصیة ثانیة، هی شخصیة الدولة، وما یسمی بالشخصیة الحقوقیة، وهذه الشخصیة حیث إنها جزء من شخصیة الدولة تکون باقیة ببقاء الدولة.

والشخص الواصل إلی مؤسسات الدولة یعامل معاملتین:

1) معاملة فردیة، مثل أن یشتری لنفسه طعاماً، أو یقتل إنساناً خطأً أو ما أشبه، وعلی عمله هذا تترتب القوانین الشخصیة، فسواء کان فی الحکم أو لم یکن کانت لمعاملاته الشخصیة آثار خاصة، فهو ملزم ببیعه وقتله، کما یلزم بها سائر من لیس فی الحکم.

2) ومعاملة بشخصیته الدولیة، حیث إن إمضاءاته ومعاملاته لأجل الدولة، وغیرهما کلها لیست من جهة أنه فرد، بل من جهة الشخصیة الحقوقیة، التی حصلها بواسطة الکرسی، ولذا لم تکن له هذه الصلاحیة قبل وصوله إلی الحکم، کما أنه إذا تنحی عن الحکم لم یکن مسؤولاً عما فعله، وإنما المسؤول من یأتی بعده، فإذا اشتری رئیس الدولة ألف طن من القمح، کانت الدولة

ص:247

مسئولة عن الوفاء، فإذا تنحی عن الحکم کان الرئیس الذی یأتی بعدد مسؤولاً عن ذلک لا الرئیس المنحی.

رأی الدین فی الشخصیة الحقوقیة

رأی الدین فی الشخصیة الحقوقیة

ولا بأس فی المقام بالإشارة إلی موضوع تاریخی إسلامی یدل علی أن الإسلام مقر بالشخصیة الحقوقیة، وهو أن النبی (صلی الله علیه وآله) لما أراد الوصیة طلب من عمه العباس ذلک، لکنه لم یقبل لأنه لا یقدر علی دیونه، وطلب من علی (علیه السلام) فقبل، فقال (صلی الله علیه وآله) له: «أنت تقضی دینی»((1)).

وقد قرأ بعض العلماء الدال مکسوراً، کما فی شرح التجرید، فالمراد أن ما لم أقله من الدین أنت تقوله، ولا ینافی ذلک أن النبی (صلی الله علیه وآله) أکمل، حیث إن الإکمال بما فی ذلک الوصی، فکل ما یحتاج إلیه الناس قاله (صلی الله علیه وآله) حتی لا یبقی الناس بدون مرشد فی أحکامهم، سواء کان المرشد ما قاله (صلی الله علیه وآله) أو من عینه من بعده.

أما من قرأ الدال مفتوحاً، فقد یقال إن المراد دیونه الشخصیة، بما فی ذلک مواعیده (صلی الله علیه وآله)، لأن الوعد عند الحر دین کما یقال، لکن إباء العباس ینفی ذلک، وأقله أنه یبعده، حیث إن دیونه (صلی الله علیه وآله) لم تکن بمنزلة لا تمکّن قیام العباس بذلک.

وقد یقال إن المراد دیونه الحکومیة أی معاهداته، فإن النبی (صلی الله علیه وآله) بما أنه رئیس دولة، کانت له مواعید ومعاهدات وما أشبه ذلک

ص:248


1- انظر بحار الأنوار: ج22 ص469 ب1.

مما هو من شؤون رئیس الدولة، وبهذا المعنی یکون علی (علیه السلام) الخلف الذی یتحمل الشخصیة الحقوقیة للرسول (صلی الله علیه وآله)، وهذا المعنی أنسب بقرینة الحکم والموضوع، فیکون قد ألبس الرسول (صلی الله علیه وآله) علیاً (علیه الصلاة والسلام) شخصیته الحقوقیة.

ویؤید وجود الشخصیة الحقوقیة فی الإسلام قول علی (علیه السلام): «لقد تقمصها فلان»((1))، فالخلافة شخصیة حقوقیة شبهت باللباس.

هذا بالإضافة إلی أن مقتضی الأدلة الشرعیة وجود الشخصیة الحقوقیة، حیث إنه أمر عقلائی فی المعاملات، فیشمله {أوفوا بالعقود}((2))، فإنه لا یلازم وجود الموضوع فی زمان الشارع، کما لا یلزم وجود الطیب الخاص فی زمان الشارع، فیشمل حل الطیبات الطیب المستحدث بعده.

وکذلک فی سائر الموضوعات التی لم یکن لها بعض المصادیق فی زمان الشارع، کما إذ قال الشارع: «کل مسکر حرام»((3))، ثم أحدث مسکر بعده، إلی غیر ذلک.

فقوله سبحانه: {أوفوا بالعهد}((4)) و{أوفوا بالعقود}((5))، یشمل العهد والعقد مما یعهد ویعقد مع الرئیس بما أنه شخصیة حقوقیة، لا بما أنه شخصیة خارجیة، وقد ذکرنا فی (الفقه) شرح العروة الوثقی فی کتاب الحج ما یؤید ذلک.

وحدة المواقف بین الرسول وعلی (علیهما السلام)

وحدة المواقف بین الرسول وعلی (علیهما السلام)

وقد قام علی (علیه السلام) بالشخصیة الحقوقیة للرسول (صلی الله علیه وآله)

ص:249


1- نهج البلاغة: الخطبة 3.
2- سورة المائدة: 1.
3- الکافی: ج6 ص407 ح1.
4- سورة الإسراء: 34.
5- سورة المائدة: 1.

وحذی حذوه، بدون زیادة أو نقیصة، وربما توهم أن علیاً (علیه السلام) کان له تکلیف غیر تکلیف الرسول (صلی الله علیه وآله)، لکنه لا دلیل علیه، وإن کان ربما یستدل له بقول عمار:

إنا ضربناکم علی تنزیله

والیوم نضربکم علی تأویله((1))

لکنه لا دلالة له، بل ظاهره أنه جاء وقت التأویل، کما قال سبحانه: {یوم یأتی تأویله}((2))، وإلاّ فلو کان الرسول (صلی الله علیه وآله) حیاً، ثم حاربته فئة من المسلمین ألم یکن یحاربهم، فعلی (علیه السلام) حارب کما حارب الرسول (صلی الله علیه وآله)، وعفی عن أهل البصرة کما عفی الرسول (صلی الله علیه وآله)، وقال: مننت علی أهل البصرة کما من رسول الله (صلی الله علیه وآله) علی أهل مکة.

وکما قال الرسول (صلی الله علیه وآله): لأهل مکة «اذهبوا فأنتم الطلقاء»((3))، أطلق علی (علیه السلام) سراح مروان وغیره من أقطاب أهل الجمل، مع أنهم یستحقون القتل، لأنهم کانوا مجرمی حرب.

والرسول (صلی الله علیه وآله) لم یسترجع داره التی بیعت فی مکة لما فتحها، وعلی (علیه السلام) لم یسترجع فدک التی أخذت بعد أن وصل إلی الحکم، وقال کلاماً بهذا الشأن کما فی نهج البلاغة((4)).

أما خطبة علی (علیه السلام) بعد مقتل عثمان فی قطائعه، فالظاهر أنها لم تکن إلاّ مجرد تهدید، وإلاّ فلم ینقل أنه استرجع شیئاً مما اقتطعه عثمان، فحال

ص:250


1- مروج الذهب: ج2 ص391.
2- سورة الأعراف: 53.
3- الوسائل: ج11 ص120 الباب72 من أحکام الأرضین ح1.
4- نهج البلاغة: الکتاب 45.

الخطبة حال قوله سبحانه: {جاهد الکفار والمنافقین}((1))، حیث إن الرسول (صلی الله علیه وآله) لم یحارب مع المنافقین، فهو مجرد تهدید بأن له (صلی الله علیه وآله) حق حربهم.

أما حمل (جاهد) علی أعم من الحرب لیشمل ما فعله (صلی الله علیه وآله) بالمنافقین، فهو خلاف الظاهر، حیث إن المتبادر من الجهاد الحرب، وکون عدم حربه (صلی الله علیه وآله) مع المنافقین قرینة علی إرادة الأعم لیس بأولی من کونه تهدیداً، بل الثانی أقرب إلی الذهن العرفی.

والرسول (صلی الله علیه وآله) کان یقسم بالسویة وکذلک فعله علی (علیه السلام).

والرسول (صلی الله علیه وآله) کان یعزل الأمراء، وکذلک فعل علی (علیه السلام) بمعاویة، وبالجملة فلم نجد دلیلاً علی الاختلاف بینهما (علیهما السلام) حتی یقال إنه کان له (علیه السلام) تکلیف خاص.

ثم إن العفو کان لهما رخصة لا عزیمة، کما یدل علیه تمثیل الرسول (صلی الله علیه وآله) أهل مکة بإخوة یوسف، وقول علی (علیه السلام): «مننت»، حیث إن یوسف کان له العقاب، وظاهر لفظ (المن) أن له خلاف المن.

بل الظاهر أن هذا الحکم جار فی الدولة الإسلامیة، حیث إن لرئیسها العفو عن کل ما سلف، ولم یکن عفو الرسول (صلی الله علیه وآله) عن أهل مکة، لقاعدة جب الإسلام عما قبله، فإنهم لم یسلموا، ثم بماذا یجاب عن عدم تغییر علی (علیه السلام) أحکام من سلفه، بل یدل علی ذلک ما رواه الکافی، عن العباس بن هلال، عن أبی الحسن الرضا (علیه السلام) ذکر أنه لو أفضی إلیه الحکم لأقر الناس علی ما فی أیدیهم إلاّ بما حدث فی سلطانه، وذکر أن النبی (صلی الله علیه وآله) لم ینظر

ص:251


1- سورة التوبة: 73.

فی حدث أحدثوه وهم مشرکون، وأن من أسلم أقره علی ما فی یده.

ولهذا الأمر الذی فعله الرسول (صلی الله علیه وآله) وعلی (علیه السلام) وقال الرضا (علیه السلام) وجه عقلی أیضاً، حیث إن التغییر بالنسبة إلی السابق یوجب ضجة تقف دون تقدم الإسلام، فقاعدة الأهم والمهم تقتضی عدم التغییر.

لا یقال: إذا اقتضت قاعدة الأهم والمهم ذلک لم یکن ترکهم وشأنهم منة، فلماذا قال علی (علیه السلام مننت)، ثم «الإسلام یجب ما قبله»((1))، فکیف کان للرسول (صلی الله علیه وآله) حق الأخذ؟

لأنه یقال: قد یکون الأهم إلی درجة الوجوب، وقد یکون إلی درجة الفضل، وقد کان المصداق فی أهل مکة من القسم الثانی.

وعلیه ففی الدولة الإسلامیة المعیار درجة أهمیة العفو، فإن کانت إلی حد المنع عن النقیض وجب العفو، وإلاّ کان فضلاً وندبا. و(الإسلام یجبّ) بالنسبة إلی غیر ما کان للحاکم الأخذ، فالصلاة والصیام وما أشبه مجبوب، أما قتل مجرم الحرب واسترداد ما أخذه من المال الذی عینه موجودة ونحو ذلک فلیس الإسلام یجبه، بل للحاکم الإسلامی الأخذ، إلاّ إذا تفضل عفواً، أو انطبق علیه قانون الأهم والمهم اللزومی، فیترک الحاکم الجزاء وجوباً.

وحیث إن تفصیل البحث التاریخی والفقهی من هذا الحیث، خارج عن موضوع الکتاب، أجملنا المقام بما ارتبط بالبحث فی الجملة.

ص:252


1- انظر: بحار الأنوار: ج40 ص30، کنز العرفان: ج1 ص166.

بحوث فی الدولة

اشارة

بحوث فی الدولة

(مسألة 24): الدولة فی الحکومات الدیکتاتوریة غیر مرتبطة بالشعب، ولذا إذا تحدث الناس عن الحکومة، جاؤوا بضمیر الغائب فقالوا: هم فعلوا، هم قرروا، هم منعوا.

بینما الحکومات الاستشاریة مرتبطة بالشعب، بل هی جزء منهم، ولذا حین التحدث یأتی الناس بضمیر المتکلم، فقالوا: نحن فعلنا، نحن قلنا، نحن عملنا.

والسر واضح، إذ فی الحکومة الاستبدادیة لا یکون العمل للناس فلماذا یقولون نحن، بینما فی الحکومة الاستشاریة الناس یصنعون القرار بأکثریة الآراء مباشرة، کما فی انتخاب رئیس الجمهوریة والنواب، أو نوابهم یصنعون القرار، وصنع الوکیل صنع الأصیل، ولذا یقولون انتخبنا، قررنا، والأقلیة التی لم تنتخب أیضاً تنسب إلی نفسها، لأنها قبلت بأن الأکثریة إذا حکمت فالحکم حکمها، فالمنتخب بالآخرة انتخب حسب قبولها للأکثریة.

وبهذا ظهر أن إحساس الناس بالدولة إما إحساس بالجزئیة، وأما إحساس بالغربة، ولا یخفی أن الإحساس بالجزئیة فی الحکومات الاستشاریة لا یکفی فیه أول الانتخابات، فإن الناس قد ینتخبون إنساناً، ثم یسیء التصرف فیعزل عنه الناس، فإن أمکن نحّوه، وإلاّ تنحوا عنه، وحینئذ لا یقولون قررنا، بل یقولون

ص:253

قرر، کما أن الناس قد یبقون مع الحاکم لکنهم یخالفون قراره، وحینئذ أیضاً لا یقولون قررنا، بل یقولون قرر.

إذاً فالشرط فی رؤیة القرار قرارهم أمور:

1) أن یکون الحکم استشاریاً.

2) أن یبقوا مع الحاکم.

3) أن یکونوا مع القرار.

والحاکم إذا فقد أحد هذه الثلاثة، فهو غاصب لحق الأمة، مهما تردی برداء النزاه، لأن الحق حق الأمة فکیف یأتی أو یبقی أو یتصرف بدون رضاهم، وفی الإسلام شرط رابع، وهو أن یکون الحاکم مرضیاً لله ولرسوله، أما اشتراط أن یکون حکماً برضی الله فمستدرک، إذ لو حکم بما لا یرضی الله فقد الشرط الرابع.

آثار وجود الشخصیة الحقوقیة للدولة

اشارة

آثار وجود الشخصیة الحقوقیة للدولة

ثم إن الأمر بالنسبة إلی السیاسة یکون فی ثلاثة أمور:

1) الدولة.

2) الحکومة.

3) الأمة.

والکلام فی هذا الباب فی أمرین: (الدولة والحکومة) و(الدولة والأمة)، والکلام فی هذه المسألة فی الدولة والحکومة، فنقول:

للدولة (شخصیة حقوقیة) و(حاکمیة). والشخصیة الحقوقیة نمت حتی صارت بهذا الشکل المعترف به الآن، ولولا الشخصیة الحقوقیة للدولة لم تتمکن الحکومة من بعض ما هو ضروری لصالح الأمة، کما فی بعض الأمور المرتبطة بالدولة

ص:254

والحکومة بلا تغییر، فإن الشخصیة الحقوقیة للدولة تفسر (التداوم) وتبرر (التعامل)، والتعامل له شعبتان، شعبة التعامل الخارجی، وشعبة التعامل الداخلی، فالکلام فی ثلاثة أمور:

((التدوام للدولة))

((التدوام للدولة))

أ) التداوم للدولة، إذ لو لم تکن للدولة الشخصیة الحقوقیة لم یکن تداوم واستمرار، فإن الأشخاص القائمین بالحکم یتغیرون، فلماذا تبقی التعهدات علی الدولة، إن ذلک دلیل علی فرض العقلاء شخصیة مستمرة للدولة کاستمرار النهر، فإن قطرات میاهه وإن تغیرت فی کل لحظة إلاّ أن وحدته باقیة ما دام الجریان، وبهذا الاعتبار العقلائی یجوز للرئیس عقد الاتفاقات، لا عن نفسه بل عن الدولة، وما دامت الدولة جاریة کان الاتفاق المذکور ساری المفعول، وبتبدل الرئیس لا یتبدل الاتفاق.

والشخصیة الحقوقیة لیست خاصة بالدولة، بل کل رئیس وکل عضو فی جمعیة أو جماعة سیاسیة أو اقتصادیة أو ثقافیة أو اجتماعیة أو غیرها، تکون له هذه الشخصیة، فإذا اشتری مدیر المدرسة شیئاً بما أنه مدیر کانت المعاملة علی المدرسة لا علی المدیر، ولذا بتبدل المدیر لا یصیب المعاملة شیء، وهکذا فی الأحزاب والجمعیات ومن إلیهم.

أما ما یشاهد أحیاناً، من نقض الرئیس الثانی الاتفاق والمعاملة، فلیس ذلک نقضاً بما أنه شخص، وإنما النقض بما أنه ممثل للدولة، حیث یری الرئیس الثانی الغبن، وذلک بما یجر النقض حق للرئیس الأول، أو یری الخیانة، والخیانة خارجة عن تخویل الأمة ومصلحة الشعب، فهو کمن أجری عقداً بعنوان الوکالة من زید، فظهر أنه لم یکن وکیلاً.

ص:255

حجم النقد أم القوة الشرائیة؟

حجم النقد أم القوة الشرائیة؟

نعم هناک مسألة اقتصادیة یتبعها نقض بعض الاتفاقات، وهی هل أن المعیار (حجم النقد) أو (قوته الشرائیة).

مثلاً یأخذ المقاول ملیون دینار لبناء مطار فی البلد، ثم تتصاعد الأسعار تضخماً إلی الضعف، حیث ینقض المقاول الاتفاق إلاّ إذ أدت الدولة الفرق.

وبالعکس قد تتنزل الأسعار إلی النصف، حیث تنقض الدولة الاتفاق، إلاّ إذا استعد المقاول لأخذ نصف ملیون فقط، وهل هذا صحیح شرعاً أم لا. الظاهر أن یقال: إنه إذا کان المرکوز فی أذهان المتعاملین عند المعاملة، مرکوزاً بنی علیه العقد من قبیل الشرط الضمنی، القیمة العادلة من حین العقد إلی حین الإنجاز، کان نقض الاتفاق صحیحاً، إذ المعاملة حینئذ فی الحقیقة بین صنع المطار وبین ذات المواد، مثل مائة طن من الحدید، وألف طن من الإسمنت وهکذا، والنقد حینئذ لیس إلاّ بمنزلة الواسطة العادلة للمواد، فبارتفاع المواد یکبر حجم النقد، الملیون یصعد إلی ملیونین، وبانخفاض المواد یصغر حجم النقد، الملیون ینزل إلی نصف الملیون.

وإن کان الاتفاق علی ذات النقد بدون ملاحظة المواد، کان نقض الاتفاق باطلاً.

وهذه المسألة سیالة فی الإجارة والمهر والوقف وغیرها، کما إذا استأجر الدار عشر سنوات کل سنة مائة دینار، أو جعل المهر الغائب بعد عشرین سنة مائة دینار، أو وقفه لیکون لکل فقیر من ریعه دینار.

بل وتأتی المسألة فی القرض أیضاً، فهل القرض حجم أو قیمة، فعلی الأول إذا أخذ دیناراً رد دیناراً، وعلی الثانی یکلف برد قیمة الدینار، الذی هو طن من الحدید مثلاً، والاعتبار بقیمة متوسطة بین قیم المواد، فأحیاناً یجب علیه أن یرد

ص:256

نصف دینار فی التنزل، وأحیاناً یجب علیه أن یرد دینارین فی التضخم، ولا یلزم الربا إذا کان المیزان القیمة، لأنه علل فی الأحادیث حرمة الربا بأنه فساد فی المال، وهنا لیس فساداً فی مال، بل عکسه فساد للمال.

وکیف کان، فهذه مسألة اقتصادیة لسنا الآن بصدد الکلام حولها، وقد ألمعنا إلیها فی (الفقه: الاقتصاد).

((التعامل الخارجی))

((التعامل الخارجی))

ب) التعامل الخارجی، فإن الدول بعضها تتعامل مع بعض باعتبار الدولة، لا باعتبار أشخاص الرؤساء، فالحقوق المجعولة للأمم بعضها مع بعض لاحظت الشخصیة الحقوقیة للدولة، ولذا لا یهم الدول تغیر الرؤساء، بل وحتی الأنظمة، والنظام الجدید لا یحق له نقض الاتفاق دولیاً، إلاّ إذا ثبت الغبن أو خیانة النظام السابق.

نعم هنا مسألة مطروحة أخذت الأمم المتحدة بطرف منها، بینما الطرف الآخر هو الصحیح الذی ینبغی الأخذ به دولیاً، وذلک أن الأمم المتحدة تعامل الدول بما أنها دولة من غیر نظر إلی عدد أفرادها، فدولة ذات مئات الملایین لها صوت، بینما دولة نفوسها مائة الف إنسان کبعض بلاد الخلیج لها صوت، فالشخصیة الحقوقیة للثانیة کالشخصیة الحقوقیة للأولی، بینما هذا التساوی باطل عقلاً، إذ القرار الذی تعترف به الشعوب الحرة، والإسلام فی الشوری، الأکثریة الحقیقیة، لا الأکثریة الاعتباریة، وإلاّ إذا لوحظت الأکثریة الاعتباریة کان معناه تصرف الأقلیة أحیاناً فی الأکثریة، فإذا قررت أکثریة دول الأمم المتحدة قراراً نفذت فی کل البشر، بینما أکثریة الدول قد لا تکون ممثلة لأکثریة البشر.

نعم إذا کانت کل الشعوب هی التی تختار بأنفسها حکوماتها، وحکوماتها

ص:257

الممثلة لها قررت بأکثریة الحکومات عند التصویت فی الأمم المتحدة، صحت أکثریة الدول بینما الواقع لیس کذلک.

مع أن شعوب معظم الدول فی العصر الحاضر لیست هی التی اختارت حکوماتها، بل الحکومات تسلقت إلی الحکم بدیکتاتوریة، أو نصف دیکتاتوریة، أو تزویر، أضف إلی ذلک أن فرض إرادة شعب مهما کثروا علی شعب آخر مهما قل عددهم لیس صحیحاً فی نفسه.

((التعامل الداخلی))

((التعامل الداخلی))

ج) التعامل الداخلی، ویظهر ذلک فی الأمور المالیة وغیرها، فإن للدولة مالاً مستقلاً لا یرتبط بأموال أفراد الأمة، ولا أموال أفراد الحکومة، ویصرف الرئیس والأعضاء هذا المال فی المحتاجین ومصالح البلاد ولأجل تقدیم الأمة إلی الإمام.

وهذه الأموال لها موارد خاصة، کما لها مصارف خاصة، وحتی رئیس الدولة لا یتمکن من الزیادة والنقیصة، إلاّ حسب القوانین المقررة، فلو لم تکن للدولة شخصیة حقوقیة لمن کان یجمع هذا المال، والحال أنه لا یجمع فی کیس فرد من الأمة أو الحکومة.

وفی الإسلام سمی ذلک ب_ (بیت المال)، فالأموال تجمع فی بیت المال، ویصرف من بیت المال فی الأمور اللازمة، کرواتب الموظفین والمصالح العامة وغیر ذلک، أمثال خطأ القضاة ودیة من لا یظهر له قاتل، وقد أمر علی (علیه السلام) فی أن یجری من بیت المال راتب لمن کان یتکفف فی الکوفة، کما أودی المرأة وولدها حیث قتلا من الزحام فی البصرة، إلی غیر ذلک مما ذکرناه فی کتاب (الفقه: الاقتصاد) وکتاب (القضاء) وغیرهما.

لکن الإسلام زاد علی متعارف الدول مصرفاً جدیداً علی بیت المال، هو أنه کلما زاد شیء قسم علی کافة المسلمین، من غیر فرق بین غنیهم وفقیرهم، کما کان یفعله الرسول (صلی الله علیه وآله)، وقد قسم علی (علیه السلام) بیت مال المدینة بعد أن بویع له بین الناس، وکذا قسم بیت مال البصرة وکان یقسم

ص:258

بیت مال الکوفة کذلک.

والسبب فی ذلک أن المسلمین أعوان الإسلام، فی صلاته وصیامه وحجه وجهاده وغیر ذلک، فکما أن علیهم الواجب کان لهم الحق، وذلک یوجب شدة ارتباطهم بالإسلام وتعلقهم به وتفانیهم فی سبیله.

أما سائر تفاصیل بیت المال فلیس الکتاب محل ذکرها، وإنما یرجع بشأنها إلی الکتب التی ذکرناها علی ما تقدم.

وحیث إن مال بیت المال لیس لأحد، لا یتعلق به خمس ولا زکاة.

الشخصیة الحقوقیة أمر اعتباری أو متأصل

الشخصیة الحقوقیة أمر اعتباری أو متأصل

بقی الکلام فی أن الشخصیة الحقوقیة للدولة، حیث ذکرنا ترتب (ألف، ب، ج) علیها، هل هی شخصیة افتراضیة، أی إن العقلاء افترضوا لها هذه الشخصیة مثل سائر الأمور الاعتباریة، أم أن الافتراض إنما کان بإزاء أمر واقعی، فلیست أمراً مجعولاً لواضعی القوانین.

وقد اختلف السیاسیون فی ذلک، والفرق أنه لو کانت أمراً مجعولاً کانت بقدر الجعل، کما تکون الشخصیة للشرکات والجمعیات والمنظمات أمراً مجعولاً، ویکون ذلک الأمر المجعول بقدر الجعل، وکذلک الحال فی کل أمر مجعول فإنه بقدر الجعل، بینما لو کانت الشخصیة أمراً واقعیاً لزم أن یکون الجعل بقدره، فإذا کان الجعل أقل أو أکثر کان نقصاً فیه، ولزم تکمیله.

والذی تقتضیه ملاحظة الواقع، أن الشخصیة الحقوقیة أمر خارجی، بل هو کذلک بالنسبة إلی الشرکات والأحزاب وغیرهما، إذ العلاقات التی توجد فی الشرکة والمنظمة وما أشبه تقتضی فرض الشخصیة الحقوقیة، فإن الدولة عبارة عن مجموعة علاقات، وتلک العلاقات لا ترتبط بالفرد، بل ترتبط بالمجموع

ص:259

بما هو مجموع.

وفی إزاء تلک العلاقات تکون الشخصیة الحقوقیة، وحیث إن قوله (علیه السلام): «لا یتوی حق امرئ مسلم»((1)) وما أشبه، مطلق یشمل حق المسلمین یشمل المقام أیضاً، کما یشمل الحق الفردی، بل شموله للحق الاجتماعی بالأولویة.

وهذا بخلاف ما لو کان أمراً مجعولاً، فإن الأمر المجعول لا یکون حقاً عرفیاً، حتی یشمله الدلیل المذکور، فإن الأدلة تشمل الموضوعات الحقیقیة لا الموضوعات الفرضیة.

فإذا قال الشارع: الماء طاهر، أو التراب یصح به التیمم، کانت الطهارة وصحة التیمم حکماً للماء الواقعی والتراب الحقیقی، لا ما فرض ماءً وتراباً، ولذا فإذا فرض إنسان لنفسه أن حقه أن لا یمشی أحد إلی جنبه بمسافة ذراعین مثلاً، لم یکن ذلک حقاً یشمله «لا یتوی حق امرئ مسلم».

ومنه یعلم أن الرأیین فی موضوع الشخصیة الحقوقیة بالنسبة إلی الدولة، یؤثران فی الأمر الشرعی أیضاً، بالإضافة إلی تأثیرهما فی الأمر الخارجی، حیث إن کونها حقیقیة تکون بقدر الحقیقة، بینما کونها فرضیة تکون بقدر الفرض.

وحیث قد ظهر أن الشخصیة الحقوقیة التی یعتبرها العقلاء إنما هی أمر بإزاء الواقع، کان اللازم أن تختلف باختلاف قدر الواقع، فشرکة أفراد البشر فی التعاون والتعامل لجلب المنافع ودفع المضار، وکل قسم من الشرکة مرکز من مراکز الجذب والدفع، الجذب للمنفعة والدفع للمضرة، وکلما کانت الشرکة أکثر کماً، وأعمق کیفاً، کانت الشخصیة الحقوقیة کذلک، فإذا کان هناک تجمعان کانت شخصیتان حقوقیتان، وفی ثلاثة اجتماعات تکون ثلاث شخصیات

ص:260


1- المستدرک: ج3 ص215 الباب46 من الشهادات ح5.

وهکذا، وکذلک الأمر بالنسبة إلی الأعمق کیفیة، إذ قد تکون الشرکة معقدة وقد تکون بسیطة.

لا یقال: إذا کانت الشرکة بید الأفراد، والشرکة مبعث الشخصیة الحقوقیة، فلیست أمراً واقعیاً وقد فرضتم أنها أمر واقعی.

لأنه یقال: ما نفیناه أن یکون اعتباریاً بحتاً وفرضیاً صرفاً، وما أثبتناه هو أن یحقق الإنسان الموضوع الخارجی، فإن تکوین الموضوع الخارجی بید الإنسان، وتتبعه الشخصیة الحقوقیة، مثل کون البیع بید الإنسان ویتبعه الحکم الشرعی لوجوب الوفاء والخیار وغیر ذلک.

الشخصیة الحقوقیة بین الدولة والتکتلات

الشخصیة الحقوقیة بین الدولة والتکتلات

وکیف کان، فالدولة حیث إنها أکبر مرکز للتجمع الإنسانی، بالنسبة إلی التجمعات الصغیرة فی داخلها، کتجمع الأحزاب والشرکات والنقابات وغیرها، تکوّن الشخصیة الحقوقیة لتلک التجمعات الصغیرة، والدولة کتلک التجمعات الصغیرة بیدها توسیع واقعها وتعمیقها، فتکون الشخصیة الحقوقیة لها أوسع وأعمق، کما أن لها التضییق والتبسیط، فتکون الشخصیة أضیق وأبسط.

مثلاً کلما زادت الصناعة والثقافة والتجمعات الصغیرة فی باطن الدولة، وما أشبه ذلک، توسعت وتعمقت الشخصیة الحقوقیة أکثر فأکثر، والعکس بالعکس.

ثم إن کلاً من تجمعی الدولة والجماعات فی باطنها، یؤثر علی الشخصیة الحقوقیة للآخر، لأن الشخصیة الحقوقیة تکون بقدر الواقع کما تقدم، والأحزاب والمنظمات تحدّ من واقعیة الدولة، مثلاً تمنع من صنع الأسلحة النوویة،

ص:261

وبقدر الحد من الواقعیة تحد من الشخصیة، کما أن الدولة تحد من من نشاطات الجمیعات والأحزاب إما بالقوة الدیکتاتوریة، وإما لأجل المصلحة فی الحکومات الاستشاریة، والحد من النشاط یقلل الواقعیة، وبقدر التقلیل یکون التقلیل من الشخصیة الحقوقیة.

وبهذا تبین أن حدّ إحداهما عن نشاط الأخری قد یکون مشروعاً بنظر الإسلام، وقد لا یکون مشروعاً، لکن فی کلتا الصورتین إذا لم یکن واقع لم یکن حق، وإن کان التحدید فی صورة عدم المشروعیة محرماً شرعاً، فیکون کمن یقتل إنساناً ظلماً، حیث ینتفی حق المقتول فی الخمس والزکاة وما أشبه تلقائیاً، من باب انتفاء الموضوع.

وکما أن الجمعیات والمنظمات تحل الدولة إذا خالفت القوانین التی عینت لها، وبذلک تسقط الشخصیة الحقوقیة لهؤلاء الأفراد لیأخذ مکانهم أفراد آخرون، وذلک عن طریق الإسقاط أو الضغط حتی الاستقالة، کذلک للدولة حل الجمیعات والمنظمات إذا خالفت القوانین المرعیة، فتسقط الشخصیة الحقوقیة لها، لکن فی الإطار الإسلامی، وحیث الناس مسلطون علی أموالهم وانفسهم((1))، یکون حل الأمة للدولة سهلاً، إذ الدولة تابعة للأمة ونائبة لها، فإذا لم یرد الموکل الوکیل عزله.

أما حل الدولة للمنظمة والجمعیة، فلا تؤثر إلاّ إذا انطبق علیه میزان إسلامی، مثل باب النهی عن المنکر، أو قاعدة لا ضرر، أو قاعدة الأهم والمهم، أو ما أشبه ذلک، ولذا لا یؤثر الحل فی الحکومات التی لا تتوفر فیها الموازین الإسلامیة، لأنها غاصبة ومثلها لاولایة لها، فلأفراد الجمعیة المنحلة رسمیاً العمل کما کانت

ص:262


1- بحار الأنوار: ج40 ص272.

تعمل سابقاً.

ثم إن الشخصیة الحقوقیة للدولة لیس معناها أن کل قوة من قواها (المقننة والمنفدة والقضائیة) لها شخصیة حقوقیة، مثلاً القوة القضائیة لیس لها تلک الشخصیة، بل المراد أن الدولة بمجموعها لها الشخصیة الحقوقیة، کما أن التقسیم إلی القوی الثلاث غیر مهم فی نظر الإسلام، حیث یمکن أن یکون إنسان نائباً وقاضیاً فی وقت واحد، وهکذا.

نعم یجب أن یقدر علی إدارة الأمرین، وإلاّ شمله الحدیث: «لعن الله من ضیع من یعول»((1))، بل یکون ذلک منه خیانة وتفریطاً بحق الأمة، وذلک محرم فی الشریعة الإسلامیة.

ص:263


1- انظر الکافی: ج4 ص12 ح9، وفیه: (ملعون ملعون من ضیع من یعول).

علی الدولة تحری الغرض الصالح

اشارة

علی الدولة تحری الغرض الصالح

(مسألة 25): وإذ قد تقدم فی المسألة السابقة البحث حول الشخصیة الحقوقیة للدولة، وهی الشخصیة التی قررها العقل والمنطق والدین، ولعل قوله سبحانه: {ولا تفسدوا فی الأرض بعد إصلاحها}((1))، ونحوه یلمع إلیه أیضاً.

نقول: اللازم علی الدولة (الحکومة) تحری الغرض الصالح، لحفظ مصالح الأمة، والتقدیم بها إلی الأمام، وجعل القوة وسیلة للعدل والمساواة فی موضعها، وإنما قلنا فی موضعها لأن المساواة فی کل موضوع قد یکون خلاف العدل، ولذا قال سبحانه: {إن الله یأمر بالعدل والإحسان}((2))، وقد ألمعنا إلی ذلک فی هذا الکتاب، وفی (الفقه: الاقتصاد).

والغرض الصالح یتجلی فی ثلاثة أمور:

الأول: کون الهدف مطابقاً للعقل والمنطق، وفی الدولة الإسلامیة أن یکون مطابقاً للإسلام أیضاً، بأن تکون الدولة عاملة للحسن فی کل الشؤون، مجتنبة عن القبیح، فیوجب عملها حفظ الأنفس والأعراض والأموال للکل، فلا استبداد، ولا اعتباط، ولا ترفیع أو تخفیض لفرد أو لجماعة علی حساب الآخرین،

ص:264


1- سورة الأعراف: 56.
2- سورة النحل: 90.

ومن خرج عن القانون العقلی والشرعی، فی الدولة المتشرعة عوقب بقدر خروجه، بما یقتضیه العقل والشرع فقط.

وقد ألمعنا هنا وفی بعض کتبنا الإسلامیة أن الإسلام لا یخالف فی قوانینه وتشریعاته حتی قانوناً واحداً عقلیاً، فکل قانون قرر فی الإسلام لیس مخالفاً للعقل، العقل الذی هو الأساس للقانون الطبیعی، نعم قد یوجد فی الإسلام ما لا یصل إلیه العقل، لا ما یخالف العقل، ولذا ورد فی الشریعة الإسلامیة مدح العقل بما لا یشبهه دین أو قانون.

ففی الکافی: قال ابن السکیت لأبی الحسن (علیه السلام)، إلی أن قال: فما الحجة علی الخلق الیوم، قال: فقال (علیه السلام): «العقل یعرف به الصادق علی الله فیصدقه، والکاذب علی الله فیکذبه»، قال ابن السکیت: هذا والله هو الجواب((1)).

وقال موسی بن جعفر (علیه السلام لهشام) کما فی الکافی: «یا هشام إن الله تبارک وتعالی بشر أهل العقل والفهم فی کتابه فقال: {فبشر عبادی الذین یستمعون القول فیتبعون أحسنه أولئک الذین هداهم الله وأولئک هم أولوا الألباب}((2))، یا هشام إن الله تبارک وتعالی أکمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبیین بالبیان ودلهم علی ربوبیته بالأدلة»((3)).

وفی الکافی، عن علی (علیه السلام) قال: «العقل غطاء ستیر، والفضل جمال ظاهر، فاستر خلل خلقک بفضلک، وقاتل هواک بعقلک، تسلم لک المودة، وتظهر

ص:265


1- الکافی: ج1 ص47 ح20.
2- سورة الزمر: 18.
3- الکافی: ج1 ص20 ح12.

لک المحبة»((1)).

وفی الکافی، قال الحسن بن جهم: ذکر عند الرضا (علیه السلام) العقل، فقال (علیه السلام): «لا یعبأ بأهل الدین ممن لا عقل له»، قلت: جعلت فداک إن ممن یصف هذا الأمر قوماً لا بأس بهم عندنا ولیست لهم تلک العقول، فقال: «لیس هؤلاء من خاطب الله» الحدیث((2)).

وفی الکافی، عن أبی عبد الله (علیه السلام)، قال: کان أمیر المؤمنین (علیه السلام) یقول: «بالعقل استخرج غور الحکمة، وبالحکمة استخرج غور العقل»((3)).

وقال ابن عباس کما عن روضة الواعظین: (أساس الدین بنی علی العقل، وفرضت الفرائض علی العقل، وربنا یعرف بالعقل، ویتوسل إلیه بالعقل، والعاقل أقرب إلی ربه من جمیع المجتهدین بغیر عقل، ولمثقال ذرة من بر العاقل أفضل من جهاد الجاهل ألف عام)((4)).

وقال النبی (صلی الله علیه وآله): «قوام المرء عقله، ولا دین لمن لا عقل له»((5)).

إلی غیر ذلک من الروایات الکثیرة.

بل وقبل الروایات الآیات المبارکات، کقوله سبحانه: {لآیات لقوم یعقلون}((6)).

و: {لعلکم تعقلون}((7)).

و: {ما یذکر إلاّ أولوا الألباب}((8)).

و{إن کنتم تعقلون}((9)).

و{لآیات لأولی الألباب}((10)).

و: {أفلا تعقلون}((11)).

ص:266


1- الکافی: ج1 ص29 ح13.
2- الکافی: ج1 ص51 ح32.
3- الکافی: ج1 ص52 ح34.
4- روضة الواعظین: ج1 ص4.
5- روضة الواعظین: ج1 ص4.
6- سورة البقرة: 164.
7- سورة البقرة: 73.
8- سورة البقرة: 269، سورة آل عمران: 7.
9- سورة آل عمران: 18، سورة الشعراء: 28.
10- سورة آل عمران: 190.
11- سورة البقرة: 44.

وقال سبحانه: {إن شر الدواب عند الله الصم البکم الذین لا یعقلون}((1)).

وقال: {ویجعل الرجس علی الذین لا یعقلون}((2)).

و: {إن فی ذلک لآیات لأولی

النهی}((3)).

و: {قد بینا لکم الآیات لعلکم تعقلون}((4)).

إلی سائر الآیات.

موقف الدولة تجاه التکتلات المفسدة

موقف الدولة تجاه التکتلات المفسدة

وقد ظهر مما تقدم أن القراصنة الذین یتخذون حصناً طبیعیاً من غابة أو جبل أو جزیرة أو ما أشبه منطلقاً للسلب والنهب، ولیس لهم هدف طیب، وإن زین لهم سوء عملهم فرأوه حسناً، لا یشکلون دولة، ولذا جعل الإسلام جزاءهم أحد الأمور الأربعة، قال سبحانه: {إنما جزاء الذین یحاربون الله ورسوله ویسعون فی الأرض فساداً أن یقتلوا أو یصلبوا أو تقطع أیدیهم وأرجلهم من خلاف أو ینفوا من الأرض}((5)).

وقد ذکرنا فی کتاب الحدود إجراء الحاکم الإسلامی العادل أحد الأمور المذکورة علیهم حسب ما یراه صلاحاً.

وقد تبع القانون الدولی الحدیث _ بعد أکثر من عشرة قرون _ قانون الإسلام، فاستباح مطاردتهم والقضاء علیهم لخروجهم علی القانون العقلی والدولی.

((من أخطاء القانون))

لکن هناک نقصاً فی القانون الدولی، حیث إن القانون الدولی لم ینظر إلی الأمر من الزاویة الإنسانیة، بل نظر إلیه من الزاویة القانونیة فقط، ومن الواضح أن القانون إن لم یستمد من العقل والمنطق لیس قانوناً صالحاً للإنسان، فقد أباح القانون المذکور قانون مطاردة القراصنة، لکن القانون

ص:267


1- سورة الأنفال: 22.
2- سورة یونس: 100.
3- سورة طه: 54.
4- سورة الحدید: 17.
5- سورة المائدة: 33.

حرم مطاردة الدولة التی تستبیح دم وعرض ومال الأمة التی تسیطر الدولة علیها، وفی نفس الوقت الذی یستبیح القانون الدولی للاستیلاء علی الحکم بالسلاح، ویسمی ذلک حدثاً داخلیاً، لکن القانون الإنسانی یقول:

1) لا حق لأحد الجارَین فی الاعتداء علی الآخر.

2) ولا حق لأحد من أفراد العائلة فی دار الجار أن یستولی بالسلاح علی العائلة وینحی رئیس العائلة بالقوة.

3) وأنه إذا ظلم رئیس العائلة عائلته وجب إنقاذ العائلة عن ظلمه، فکیف إذا کان الظالم هو المستولی بالقوة، فإنه قد ظلم الرئیس المنحی، وقد ظلم العائلة الذین اضطهدهم.

((حق الفیتو خطأ آخر))

((حق الفیتو خطأ آخر))

وما ذکرناه فی العائلة ینطبق علی الدولة تماماً، فإذا انضم إلی المواد الثلاث فی الدولة (رابعة) هی حق الفیتو للأمم القویة فی مجلس الأمم المتحدة، کان للقانون الدولی ثلاثة أخطاء کبار، کلها خلاف العقل والمنطق والإنسانیة.

بینما الإسلام جعل واجب النهی عن المنکر، وإنقاذ المستضعفین، عاماً لا فرق فیه بین أهل هذه الدولة أو الدولة الأخری، وجعل الاستیلاء بالسلاح علی الأمة _ بدون رضی الأکثریة للحاکم _ غیر مشروع، فالحاکم فی الإسلام یجب أن یستمد صلاحیته فی الحکم من (الله) ومن (الأمة).

ثم إن الأکثریة فی النظر الإسلامی، حیث ما یستفاد من إطلاق أدلة الشوری، لا فرق فیها بین:

1: أمة واحدة.

2: أو الأمم.

3: أو کل البشر.

بینما القانون الدولی لا یقول إلاّ بالأول فقط، حیث قد عرفت فی مسألة سابقة أن القانون الدولی یجعل الأمة الصغیرة فی حکم الأمة

ص:268

الکبیرة فی أن لکل منهما فی الأمم المتحدة رأیاً واحداً، فالدولة ذات مائة ملیون، کالدولة ذات مائة ألف، لکل منهما رأی واحد، وحیث قد عرفت جعل حق الفیتو لبعض الدول فلا اعتبار لأکثریة کل بشر فی منطق الأمم المتحدة. فاذا أراد القانون الدولی أن یکون مستقیماً حسب العقل والمنطق یجب أن یأخذ برأی الإسلام.

1) فالحکم لا یکون بالسلاح، بل بالأکثریة، حتی مع الغض عن رأی الإسلام فی لزوم کون الحاکم برضی الله سبحانه والحکم فی إطار القوانین الإسلامیة.

2) والظلم یجب أن یرفع، سواء فی داخل الأمة أو فی خارجها حیث کان، وإن کان بسبب أن حکومة أخری تظلم شعبها.

3) وأکثریة الأمم المتحدة یجب أن تکون حسب أفراد الناس، لا حسب أفراد الحکومات، فلحکومة مائة ملیون مائة رأی، ولحکومة ملیون رأی واحد، إذا کانت الشعوب هی التی تختار بکل حریة حکوماتها.

4) ولا حق للنقض (الفتیو) لأحد من الحکومات مهما کانت قویة وصناعیة، ومن الواضح أن حق الفتیو إنما أملاه الاستکبار وشریعة الغاب.

(1) کما أن تصدیق الاستیلاء بالسلاح أملته إرادة الدول الکبری، حیث ذلک ذریعة لتدخلهم فی الشؤون الداخلیة للأمم المستضعفة، فییبدلون الحکومة الصغیرة لیأتوا مکانها بحکومة موالیة لهم.

(2 و3) أما الظلم داخل حکومة أخری، واعتبار أکثریة الحکومات المعاصرة فقد أملاهما علی القانون الدولی جهل أولئک المقننین بالموازین العقلیة، ولذا لا تجد حتی مبرراً واحداً لهذین القانونین فی کل کتب القوانین المدونة.

ص:269

هدف الدولة وصلاح الفرد

هدف الدولة وصلاح الفرد

الثانی: أن یتجه الهدف الطیب للدولة لصالح الفرد.

1: بتأمین المأکل والمشرب والمسکن والملبس والمرکب والدواء والزواج له إلی سائر حاجاته، وحفظه من الخوف والقلق.

2 وحفظ حقوقه بعدم تعدی الآخرین علیه، سواء کان المتعدی فی الخارج کالدولة الأجنبیة، أو فی الداخل کالسراق ومن إلیهم.

3: وتهیئة وسائل الإنماء والتقدم بما یکفل النهوض به، فقد قال علی (علیه السلام) فی حکمة بعثة الأنبیاء (علیهم السلام): «لیثیروا لهم دفائن العقول»((1)).

ویدل علی ذلک کله بالإضافة إلی العقل، جملة من الأدلة الشرعیة، مثل أن خلاف ذلک تضییع، وقد ورد: «لعن الله من ضیع من یعول»((2))، وأنه خلاف الرعایة، وقد ورد: «کلکم راع وکلکم مسؤول عن رعیته»((3))، وورد: «من ساوی یوماه فهو مغبون»((4))، إلی غیر ذلک.

بالإضافة إلی ما روی عن رسول الله (صلی الله علیه وآله) من قوله: «الإسلام یعلو ولا یعلی علیه»((5))، فیما إذا کان الکفار فی تقدم، وقد استدل به الفقهاء علی عدم جواز بناء الکفار بیوتهم أعلی من المسلمین فکیف بمثل المقام، فإن الظاهر (علو الإسلام) بطبعه، فیشمل (عدم ارتفاع حجة غیره علیه) و(لزوم ترفیع ما یرتبط به)،

ص:270


1- نهج البلاغة: الخطبة1.
2- الوسائل: ج14 ص122 الباب89 من مقومات النکاح ح4.
3- إرشاد القلوب: ج1 ص184، جامع الأخبار: ص119 ف 75.
4- الوسائل: ج11 ص376 الباب59 من جهاد النفس ح5.
5- الوسائل: ج17 ص376 الباب1 من موانع الإرث ح11.

ولیس هذا من باب الجمع بین الإخبار والإنشاء، حتی یقال: إن الجمع بینهما محال أو خلاف الظاهر فلا یصار إلیه إلاّ بالقرینة.

((هدف الدولة وصلاح جماعات الأمة))

((هدف الدولة وصلاح جماعات الأمة))

الثالث: أن یتجه الهدف الطیب للدولة لصالح الجماعات، سواء کانت جماعات سیاسیة أو اقتصادیة أو ثقافیة أو صحیة أو غیرها، والدلیل فی المقام هو الدلیل فی الثانی.

نعم، هناک فرق بین الإسلام وبین القوانین الوضعیة فی هذا الامر، فالأصل فی الإسلام (الحریة)، فإنها المستفادة من (الناس مسلطون علی أنفسهم وأموالهم)((1))، ولذا فلکل إنسان أن ینضم إلی الآخرین، لبناء الحیاة وتقدمها، ولا یحدّ هذه الحریة إلاّ ما یوجب الضرر علی الآخرین أو علی النفس بما لا یجوز تحمله شرعاً، فلیس للدولة فی نظر الإسلام التدخل فی شؤون الجماعات، أو وضع الدساتیر والقوانین لها، وتقییدها بقیود إطلاقاً.

نعم، إذا أخطأ فردها أو کل الجماعة، حق للدولة إیقافها علی المقرر الشرعی، وذلک کالفرد حیث إنه حر لا یقید وإذا ثبت خطأه أوقف عند حده حسب المقرر شرعاً، بینما القوانین الوضعیة تقید الجماعة بقیود کلها مناف للحریة، ولذا کانت کل تلک القیود باطلة فی نظر الإسلام.

ص:271


1- انظر البحار: ج2 ص272.

سیادة الدولة وحاکمیتها

اشارة

سیادة الدولة وحاکمیتها

(مسألة 26): لقد سبق أن ذکرنا الشخصیة الحقوقیة للدولة، وفی هذه المسألة نذکر سیادة الدولة أی حاکمیتها.

والسیادة والحاکمیة معناها رابطة الأمریة والإطاعة، فالحاکم آمر والأمة مطیعة، وبهذه الرابطة تجری الأمور علی موازینها، ولولا هذه الرابطة لم تکن السیادة، وهذه السیادة تکون فی ثلاثة موارد:

1: فی المجتمع الصغیر، کالعائلة والحزب والمنظمة والجمعیة وغیرها، فهناک تکون آمریة ممن قرر أن یکون آمراً، ومأموریة من سائر الأعضاء، وقد یتحد الآمر والمأمور کما إذا قرر أن تکون الأکثریة آمرة ویطیع الجمیع.

2: فی المجتمع الکبیر، کالدولة حیث إن الدولة آمرة والشعب مأمور، ولولا هذه السیادة لم یستتب النظام ولم تتقدم الأمة إلی الأمام.

3: فی المجتمع الأکبر، وهو بین الأمم کلها، مثل (الأمم المتحدة)، أو بین جماعة من الأمم، مثل (رابطة الدول الإسلامیة)، حیث إن لمثل هذه المنظمات السیادة علی تلک الدول، حسب ما قرروا فی ما بین أنفسها بإطاعة ما یصدر من الأکثریة، فیما لو کان نظامها بموازین عدل.

لکن السیادة فی کل هذه الأمور الثلاثة لیست مطلقة، وإنما هی محدودة حسب

ص:272

القوانین الموضوعة، فحقهم إنما یکون فی إطار القانون، وخارج ذلک الإطار لا حق.

هذا حسب کثیر من الأعراف الدولیة، لکنک قد عرفت فی بحث متقدم أنه لا حق للقانون التدخل فی شؤون الناس إلاّ بالقدر المقرر فی الشریعة الإسلامیة، وإلاّ کان خلاف قاعدة (تسلط الناس علی أموالهم وأنفسهم).

وعلی أی حال، فکل من الشریعة السمحة، والأعراف الدولیة المشددة، قد جعل إطاراً للتصرفات الفردیة والاجتماعیة الصغیرة فی نطاق الدولة والدول الکائنة فی ضمن الوحدة، مثلاً تصرف الفرد مشروط ب_ (البلوغ) و(العقل) و(عدم کون التصرف المالی إسرافاً) و(عدم کون التصرف العملی حراماً) إلی غیر ذلک، ومثل هذا الأمر جار فی الجماعة والدولة والدول الموحدة.

ولا بأس بالإلماع السریع، إلی أن جعل الإسلام قانون البلوغ أحد الأشیاء الثلاثة المعروفة فی الفقه مسایرة للطبیعة، بینما جعل العرف الدولی القانون ثمانی عشرة سنة، لا یدل علیه عقل أو منطق، ولذا فاللازم ترک العرف السائد الآن إلی القانون الإسلامی، وقد ثبت حسب الاستقراء أن کلما یخالف القانون المقرر فی الشریعة کان الأوفق بالعقل والمنطق الثانی.

((الغالب فی وضع القانون))

((الغالب فی وضع القانون))

والغالب أن القوانین توضع مع ملاحظة تساوی الأفراد:

1) فی العلاقات، فتکون علاقة زید بعمرو وبالعکس، کعلاقة خالد ببکر وبالعکس مثلاً، أما أن تکون العلاقة من طرف أقوی ومن طرف أضعف، أو تکون علاقة أقوی وعلاقة أضعف، فالقانون لا یتحمله، فلا یکون للشریک الأغنی أن یفرض إرادته علی الشریک الغنی، ولا یحق للشریک الغنی فرض إرادته علی الشریک الأغنی، بل حق فرض الإرادة متساو من الجانبین، کما لا یکون قانون الشرکة بین الأغنی والغنی إلاّ کقانون الشرکة بین فقیرین مثلاً، وهکذا

ص:273

الحال فی قوانین العائلة والجرائم وسائر المعاملات إلی غیرها.

2) وفی النتائج، فالدولة مکلفة بإنماء کل فرد من غیر ترجیح لفرد علی فرد.

نقص القوانین البشریة

نقص القوانین البشریة

لکن هذا الغالب منخرم بأمرین:

الأول: إن القوانین لا تنظر إلی البشر کعائلة واحدة، بل تنظر إلی البشر من زوایا الوطنیة والقومیة واللون واللغة وما أشبه، ففی إمریکا للإمریکی حقوق لیست تلک للفرنسی الذی یعیش فی إمریکا، وفی مصر ناصر للعربی حقوق لا تتوفر للهندی، وفی رودیسیا للأبیض حقوق لیست تلک للأسود، وهکذا.

وهذه التفرقة البشریة لا یقرها عقل ولا منطق، فکما أن العقل لا یقر الفرق بین الإمریکی والإمریکی فی القانون، کذلک لا یقر الفرق بین الإمریکی والفرنسی وهکذا.

وهذا الأمر تابع لضیق النظرات حول البشر، وعدم سعة الفکرة حتی تشمل الإنسانیة، بینما الإسلام یجعل الأمر یدور علی الکفاءة: {إن أکرمکم عند الله أتقاکم}((1)).

أما التفاوت بین المسلم وغیر المسلم، فلم یقره الإسلام إلاّ لأجل اختلاف الکفاءة، حیث إن المسلم دل العقل والمنطق علی صحة طریقته فی العقیدة والشریعة دون من سواه، والاختلاف بین الأفراد من جهة الکفاءة مما یقره العقل والمنطق، بل التساوی مع الاختلاف فی الکفاءة ظلم یأباه العقل.

الثانی: إن القوانین حیث یضعها ذوو النفوذ (نفوذاً خاصاً رأسمالیاً، أو

ص:274


1- سورة الحجرات: 13.

عمالیاً، أو ما أشبه) تنحرف إلی حفظ مصالح تلک الطبقة الواضعة للقوانین، فترجع کفة جماعة ذوی النفوذ، فالقوانین فی إمریکا توضع لصالح الطبقة الرأسمالیة، بینما توضع فی روسیا لصالح الحزب الحاکم، وفی بریطانیا توضع لصالح هذا مرة وهذا مرة، حسب أخذ أحد الحزبین المتصارعین علی الحکم الزمام بیده.

هذا مع الغض عن محذور التطبیق فی القوانین، حیث إن التطبیق لا یکون إلاّ فی صالح الأکثر قدرة.

إشکال القانون الوضعی فی الجماعات

إشکال القانون الوضعی فی الجماعات

وبمقدار ضعف القانون ونقصه فی موردی الجعل والتطبیق بالنسبة إلی الأفراد، للقانون ضعف جعلاً وتطبیقاً فی مورد الأحزاب والمنظمات والجماعات داخل الدولة، وفی مورد الدول بالنسبة إلی القوانین بین الدول، فالمنظمة المرتبطة بجعل القانون تضع القانون لصالحها، کما أن المنظمة المرتبطة بتنفیذ القانون تنفذ القانون لصالحها، والدولة الأقوی فی الأمم المتحدة تضع القوانین وتنفذها لصالح نفسها، ومن هنا نشأ (حق الفیتو) و(حق إسرائیل فی أراضی فلسطین) إلی غیر ذلک.

ومن هنا یصح أن یقال: القانون تحت ظل الوضع لیس إلاّ مخلب نمر فی قفاز حریر.

حاکمیة الدولة ذاتیة ومطلقة

حاکمیة الدولة ذاتیة ومطلقة

وإذ قد تقدم أن حق السیادة والحاکمیة یتجلی فی (الجماعات) و(الدول) و(بین الدول) نقول:

إن حق الحاکمیة فی الدول له خصوصیات لا توجد فی حق المالکیة فی الجماعات وبین الدول، وتلک الخصوصیات تجمعها أمور:

الأول: إن حق الحاکمیة فی الدولة ذاتی، أی إن الأمر ینتهی إلیها، فالدولة

ص:275

هی التی تضع القوانین وتکون المرجع الأخیر فی فصل الخصومات، فهی المنبع وغیرها الأنهر التی تستقی منه، فقوانین العائلة فی الزواج والطلاق والإرث وفصل خصوماتهم وحقوق الأولاد وکبار السن فیهم وإلی غیرها، کلها موضوعة من قبل الدولة.

وکذلک قوانین الأحزاب والمنظمات والنقابات والجمعیات والشرکات وغیرها، وقد ذکرنا سابقاً الفرق بین الدولة الإسلامیة وسائر الدول، بأن الأولی لا تضع القوانین وإنما تؤطر القوانین الإسلامیة المستفادة من الکتاب والسنة والإجماع والعقل، بینما الثانیة تضع القوانین.

وبذلک یظهر أن المراد بکون الدولة المصدر والمرجع فی الدولة الإسلامیة، معناه (فی التأطیر)، وفی الدولة غیر الإسلامیة، معناه فی (التشریع)، وهذا الاختلاف بینهما، لا یهم فی هدف هذا البحث.

ولذا فالعائلة والحزب وما إلیهما، یکون لهم رئیس وقانون داخلی یضمن الحقوق وکیفیة الإجراء، إلاّ أن واضع هذا القانون ومنظم الارتباطات والمرجع لدی المخاصمات التی لا تحل فی داخل العائلة والحزب وما إلیهما، هی الدولة، وهکذا الأمر فی کل تجمع صغیر فی داخل الدولة.

فالسلطة فی الدولة مستقلة قائمة بذاتها، بینما السلطة فی التجمعات الصغیرة التی فی داخل الدولة مستقاة من الدولة ومنتهیة إلیها، ولا تستمد الدولة السلطة من قدرة أخری _ غیر قدرة الأمة کمجموع، وقدرة الله سبحانه فی الإسلام _ سواء کانت تلک القدرة داخلیة أو خارجیة، وحتی دولة المؤسسات، فیما لو تحولت الأمة إلی أمة عصریة، هی مجموعة مؤسسات صناعیة وزراعیة واقتصادیة واجتماعیة وثقافیة وغیرها، تکون الدولة ذات سلطة مستقلة

ص:276

قائمة بذاتها، أی لیست کالتجمع الصغیر الذی یستمد السلطة والقدرة من الدولة.

أما إذا استمدت الدولة سلطتها من دولة أجنبیة، فلیست دولة مستقلة، بل تکون حینئذ إقلیماً تحت الحمایة أو مستعمرة أو ولایة أو مقاطعة.

ولذا لم تکن دول (الدومینیین) فی الدولة البریطانیة دولاً، لأنها لم تکن تملک حق التصرف فی شؤونها الداخلیة والخارجیة، إلا بقدر ما یملک تجمع صغیر داخل الدولة، فکانت تستمد سلطتها من البلد الأم (إنکلترا)، فکان برلمان تلک الدول وحکومتها وحکامها یؤدون وظائفهم بمعونة خارجیة.

أما (الکومنولث) الذی حل محل (الدومینیین) فهی دول مستقلة ذات علاقة متبادلة مع انکلترا، باستثناء أن بریطانیا تأخذ منها أکثر مما تعطی لها، أمثال کندا وأسترالیا ونیوزیلاندة وغیرها، ویصح أن یسمی مثل ذلک ب_ (الاستعمار الحریری).

وهکذا یکون لاستعمار بریطانیا مراتب: السافر، کالهند إبان الاحتلال، والخفی کالعراق فی الحال الحاضر حیث یحکمه البعث ظاهراً وبریطانیا حقیقة، وعلی نحو الدومینون، وعلی نحو الکومنولث، وعلی نحو إیرلندا.

وبینما القسمان الأولان لا استقلال لهما إطلاقاً، بل هما کجمعیة داخل دولة أو أسوأ، تکون الأقسام الثلاثة الأخیرة ذات استقلال، ولکنها ترتبط بخیط الاستعمار بشکل أو بآخر.

أما البلاد الإسلامیة داخل روسیا فهی مستعمرة بالفتح، بکل معنی الکلمة، ولیست لها حتی ما للجمعیة فی داخل حکومة من الحقوق، بینما الولایات الأکثر من الخمسین فی الولایات المتحدة الإمریکیة کل منها دولة باعتبار قوانینها الداخلیة، ولها برلماناتها وحریة تشریعها وقضائها وبولیسها وما إلی ذلک، وکلها دولة واحدة باعتبار سلطات الدفاع والسیاسة الخارجیة وإعلان

ص:277

الحرب وعقد الهدنة والصلح وإبرام الاتفاقات والمعاهدات.

صلاحیات الدولة

صلاحیات الدولة

ثم إن حق الحاکمیة فی الدولة یعطیها صلاحیات کثیرة، کالتشریع وسن القانون (تأطیر القانون فی الإسلام)، ویکون ذلک حسب رأی الأکثریة فی البرلمان، وقد یبنی البرلمان علی صحة العادات فی الأمة، فلا یکون القانون مسطوراً کما فی الدستور الانکلیزی، حیث إن جملة من العادات لها قوة القانون، ولیس ذلک بمسطور فی الدستور.

وکذلک تنظیم المحاکم وتنفیذ الأحکام، وحق فرض الضرائب وجبایتها، والمنع عن جبایة المال للأفراد والجماعات إلاّ بإذن الدولة، وأخذ الناس للخدمة العسکریة بجعل قوانین لها، والنفیر العام لدی الاحتیاج، وأعمال البولیس والمحافظة علی الأمن بمختلف الوسائل، وسن قانون العقوبات وتنفیذها بحق المجرمین، وجعل الوقایات والتی هی خیر من العلاج، خصوصاً فی ظروف الحرب والفوضی والاضطراب، ومنع التجول، وقد تصل العقوبة إلی الإعدام، ولکن اللازم الاحتیاط والتثبت فی ذلک، فإن الدم من أهم ما تعتز به الإنسانیة، ومن تلک الاحتیاطات ربط التوقیع علی الإعدام بلجنة علیا من أنزه الناس العارفین بموازین القانون وأعراف الاجتماع، أو برئیس الدولة النزیة مباشرة.

وجعل القوانین المراعیة لحق الملکیة الفردیة والجماعیة، مما لا إجحاف فیه ولا إضرار، فلکل حقه البدنی والفکری وما یقابل المواد وشروط الزمان والمکان والعلاقات العامة، ولا یکون حق نزاع الملکیة إلاّ فی الحالات النادرة

ص:278

جداً، فإنه کحق القتل وکحق إباحة العرض فی رتبة واحدة مما لا یبیحه عقل أو دین إلاّ فی قصوی حالات الاضطرار.

والاستیلاء علی أرض الغیر فی حالات الاضطرار، کالشؤون العسکریة فی حالات الحرب والحصار مع تعویض أصحابها، ببدل الإیجار أو بدل الملک تعویضاً عادلاً.

ومصادرة ما تصح مصادرته کأدوات الجریمة، مثل ما یستعمل فی الاعتداء، أو یهدد أمن وسلامة المجتمع، ومن ذلک کسر المعازف ونحوها وإراقة الخمر ونحوها فی الشریعة الإسلامیة.

وتشریع قوانین السجون وتنفیذها بحق بعض المجرمین، مع الاحتیاط الکامل، لأنه خلاف حریة الناس المقررة عقلاً وشرعاً.

وحق صک النقود وإصدارها، وقد یخول ذلک إلی البنک المرکزی أو غرف التجارة أو ما أشبه. وإدارة الاشیاء التی لا مالک لها، أو هم قصّر لا ولی خاص لهم، وإعطاء العقود الصیغة الرسمیة وذلک بوضع الدولة خاتمها علی المعاملات.

والوقوف دون نقل بعض الأمور، کالآثار العتیقة والحیوانات النادرة والکتب المخطوطة ونحو ذلک، کالوقوف دون هدم وتغییر الآثار القدیمة، إلی غیر ذلک مما ینبثق عن سیادة الدولة من مجموعة التصرفات السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة، لمکافحة المشکلات ولتوجیه الحیاة ولتنمیتها.

وکذلک تقوم الدولة بالجهود للسلام العالمی، وللسلام المحلی إذا قامت الحرب بین دولتین، أو نشبت حرب أهلیة فی دولة، وبالجهود لإزالة التفرقة العنصریة واللونیة واللغویة وما أشبه، وکذلک بالجهود لأجل تحسین الجوار بین الدول، ولأجل تخفیف أعباء دولة علی شعبها، ولأجل تخفیف المرض والجهل والجریمة وما أشبه الکائنة فی بعض الأمم.

ص:279

((من الفروق بین الدولة الإسلامیة وغیرها))

((من الفروق بین الدولة الإسلامیة وغیرها))

ولا یخفی أن الدولة الإسلامیة تعمل بکل هذه الأمور لکن بثلاثة فوارق، بالقیاس إلی الدولة غیر الإسلامیة:

1) ملاحظة قانون: (الناس مسلطون علی أموالهم وأنفسهم)((1)) إلی أبعد حد، حیث إن الحریة أصل کبیر من الأصول الإسلامیة، وهذا الفارق وإن کان داخلاً فی الفارق الثانی، إلاّ أن أهمیته أوجبت ذکره مستقلاً، بالإضافة إلی أن هذا الأصل مسحوق فی الدول التی تدعی الحریة، فکیف بالدول التی بنیت علی الدیکتاتوریة کالبلاد الشیوعیة.

2) لزوم کون کل القوانین تشریعاً وتنفیذاً فی الإطار الإسلامی الذی استقی من الأدلة الأربعة.

3) لزوم کون التنفیذ مشتملاً علی شرطین:

أ: ولایة الفقیه، أی إن الرئیس الأعلی للدولة هو الفقیه الجامع للشرائط، فهو وحده الذی له الحق فی إدارة البلاد وتوجیه العباد، فإدارة البلاد _ ولو علی نحو الإسلام مائة فی مائة _ لا یجوز لغیر الفقیه، قال الإمام (علیه السلام): «فإنهم حجتی علیکم، وأنا حجة الله علیهم»((2)).

ب: کون الفقیه الصالح منتخباً من قبل أکثریة الأمة، فإذا کان هناک فقیهان جامعان للشرائط انتخبت الأمة أحدهما لا یحق للآخر تولی الشؤون کما هو مقتضی دلیل الشوری، وقوله (علیه السلام): «انظروا إلی رجل منکم...»((3))، وقد ذکرنا تفصیل دلیل الشوری فی کتاب: (الحکم فی الإسلام)، ولعله یأتی له مزید توضیح فی بعض المسائل الآتیة إن شاء الله تعالی.

ص:280


1- انظر بحار الأنوار: ج2 ص272.
2- الوسائل: ج18 ص99 الباب11 من صفات القاضی ح1.
3- الوسائل: ج18 ص99 الباب11 من صفات القاضی ح1.

وبذلک تبین أن لا ولایة للفقیه خارج الإطار الإسلامی، فإن الفقیه هو المراعی لأحکام الإسلام، لا الذی یعمل خارج نطاق الإسلام، کما تبین أن لا ولایة للفقیه خارج انتخاب الأمة، بالنسبة إلی التصرف فی شؤون البلاد والأمة.

بین سیادة الدولة وسیادة الأمم المتحدة

بین سیادة الدولة وسیادة الأمم المتحدة

الثانی: إن سیادة الدولة علی داخلها أقوی من سیادة الأمم المتحدة علی داخل الدولة.

1) إذ لا قدرة عسکریة للأمم المتحدة حتی تنفذ إرادتها فی داخل البلاد، إذا لم ترضخ الدولة لمطالیب الأمم المتحدة، ولا تخرج قدرة الأمم المتحدة عن القدرة الدبلوماسیة، وأحیاناً تصل إلی المقاطعة الاقتصادیة ونحوها، ومثل هذه القدرة لیست کافیة لإخضاع الدولة فی شأن من الشؤون، ولذا کثر فی التاریخ عدم قبول الدولة لمطالب الأمم المتحدة، کما لم ترضخ رودیسیا العنصریة ولا إسرائیل ولا بعض الدول الأخر لما اتخذته الأمم المتحدة من القرارات.

2) هذا بالإضافة إلی أن وجود الدول الکبری العاصیة عن الأوامر، والمتآمرة ضد القرارات، والجاعلة حق (الفتیو) لأنفسها، قد قلل من قدرة الأمم المتحدة، وکثیراً ما تمشی الأمم المتحدة وراء الدول الکبری فی جعل القرارات وتنفیذ الأوامر.

3) وحتی إذا قدرت الأمم المتحدة عسکریاً من التدخل فی داخل البلاد حیثما عصت الدول الصغار، وکانت بعض الدول الکبار موافقة فإن شلل الأمم المتحدة من جهة (توازن القوی) یمنع عن سلطة الأمم المتحدة علی الدول الصغار،

ص:281

بینما سلطة الدولة الصغیرة علی داخلها لا مانع لها، مثلاً تخاف الأمم المتحدة من التدخل لإنقاذ لبنان أن تتدخل روسیا فی بلد آخر، حیث إن تدخل الأمم المتحدة یکون لحساب إمریکا، وهکذا بالعکس، هذا کله مع العلم أن الأمم المتحدة الیوم جهاز بید الاستعمار لیس غیر.

بین سیادة الدولة وسیادة التکتلات

بین سیادة الدولة وسیادة التکتلات

الثالث: لا تعادل أیة من المنظمات العالمیة، حتی ما کانت لها فروع داخل الدولة، قدرة الدولة علی داخلها، وسیادتها علی شعبها وأراضیها.

مثلاً الحزب الشیوعی العالمی، ومنظمة الیونسکو، ونقابة العمال العالمیة، والهلال الأحمر الدولی، وجمعیة حقوق الإنسان، وغیرها، لا تقدر علی ما تقدر علیه الدولة، فإن کل تلک خاضعة لسیاسة الدولة علی داخلها، فإن تلک وإن کانت عالمیة إلاّ أنه لا قدرة تحمیها فی قبال قدرة الدولة، نعم إن تلک القوی تقدر علی إیجاد الضغوط العالمیة علی الدولة التی تسیء التصرف.

السیادة المتکافئة

السیادة المتکافئة

الرابع: قد سبق أن الدول تکافئ بعضها بعضاً، من جهة الحقوق والواجبات والأصوات ولو غالباً، کما سبق أن المکافئة المعاصرة خلاف العقل والمنطق، لکن لا یخفی أن هذا النوع من السیادة _ أی السیادة المکافئة _ لا تکون إلاّ بالنسبة إلی الدول التی یعترف بعضها ببعض، أما إذا لم تعترف بعض الدول لم تکن مکافئة

ص:282

بالنسبة إلی الدول غیر المعترفة، ومن آثار عدم الاعتراف عدم التبادل الدبلوماسی والعلاقات التجاریة ونحوها، لکن ربما یصل عدم الاعتراف إلی عدم دخول دولة فی الأمم المتحدة، وأحیاناً إلی عدم الاعتراف بها داخل الأمم المتحدة.

فالأول: کالصین، حیث إنها دخلت تحت لواء الشیوعیة، عام (1949) م، بعد مجازر رهیبة، فاستغلها العامل السیاسی العالمی ذریعة جعلت لمقاطعتها، فلم یأذنوا لها بدخول الأمم المتحدة، حتی دخلت الأمم المتحدة عام (1970) م، ومن المؤسف أن هذا الشعب الذی یبلغ عدده ملیاراً من البشر تقریباً، أحیاناً تستغله حکومة موسکو، وأحیاناً تستغله حکومة واشنطن، کما حدث فی الحال الحاضر، والسبب أنه لا کفاءة ذاتیة له عقیدةً ونظاماً واقتصاداً، ولا رشد فکری له حتی ینقذه من الاستغلال.

والثانی: کإسرائیل، حیث إنها وإن دخلت الأمم المتحدة تحت مظلة أمریکا وروسیا، إلاّ أن کثیراً من البلاد الإسلامیة بقیت علی عدم الاعتراف بها، لأنها دولة غاصبة، والاعتراف بالغصب لا یصدر إلاّ عمن لا یهتم بالعقل والمنطق.

بقی شیء، وهو أن الدولة ذات السیادة یلزم أن یکون لها من الأراضی وأفراد الشعب ما یتمکن بسببها من القیام بنفسها، وإلاّ کانت سیادتها اصطناعیة، وکانت شبح دولة، إذ کیف یمکن أن تسمی دولة ما لا تتمکن من القیام بنفسها.

وقد حدث أن کان من مصلحة الاستعمار أو غیره تکوین أمثال هذه الدول، إما لأمر روحی کدولة الفاتیکان، فإنها لیست إلاّ رمزیة، کوّنت لیتمکن الدین المسیحی من السیطرة التامة علی مصالحها الروحیة، فی کل العالم المسیحی الخاضع لتلک الکنیسة، بینما لا مقوم لهذه الدولة من حیث الأراضی ولا السکان،

ص:283

وإما لأمر مادی کبعض دول الخلیج، حیث أراد الاستعمار استغلال منطقتها الاستراتیجیة، وثروتها المعدنیة، فجعلها فی صورة دولة، بینما هی فی حقیقتها بقدر المحلة فی المدینة الواحدة المتوسطة.

ص:284

شعاع سیادة الدولة

اشارة

شعاع سیادة الدولة

(مسألة 27): لقد تقدم أن سیادة الدولة سیادة مطلقة، لا تشابهها فی القدرة سیادة أخری، سواء السیادة الداخلیة للأحزاب والجمعیات، أو السیادة الخارجیة للأمم المتحدة أو السیادة للأحزاب والمنظمات العالمیة، کسیادة نقابة العمال العالمیة، وسیادة حقوق الإنسان، وغیرهما.

ونقول: إن للدولة سیادة داخلیة وسیادة خارجیة، والسیادة الداخلیة هی المطلقة نوعاً ما، حیث إن الدولة قادرة علی التشریع والتنفیذ، ضمن إطار ما تسالم علیه الشعب کله من الدستور أو الدین أو العادات التی هی کالدستور وإن لم تکن مدونة کما فی بریطانیا.

والذی یحفظ هذه السیادة المطلقة فی الداخل هو المال والسلاح، حیث إن المال یعطی للموظفین، ولولاه لم یکن خضوع وضبط أمور، والسلاح لإسناد القانون وعقوبة المجرم بسبب الجیش والشرطة والنجدة وما أشبه.

ولا تقدر أیة جماعة أو منظمة غالباً علی مقابلة مال الدولة وسلاحها، حتی تتمکن أن تقاوم إرادة الدولة، وإن کان یسند الجماعة مال کبیر وأسلحة کثیرة، حیث أن لا تنظیم لمال الجماعة وسلاحها کما للدولة، ولذا أحیاناً نجد السلاح بید الشعب لکنه لا یقدر علی مقاومة الدولة، کما نجد أحیاناً

ص:285

ذلک لا تقدر أن تقاوم الدولة.

أما فی الخارج، فقدرة الدولة محدودة ولیست مطلقة کما فی الداخل، وذلک لأن الحریة متکافئة، فالحریة إنما تقدر علی الانطلاق إذا لم تکن حریة أخری إلی جانبها، وإلاّ فکل حریة تأخذ نطاقاً لنفسها تمنع نفوذ الحریة الأخری إلی تلک المنطقة، کحال الأفراد فی داخل الدولة، فإن حریة تصرف زید محدودة بشعاع حریة عمرو، وبالعکس، وحریة حرکة منظمة محدودة بحریة حرکة منظمة أخری، وکذلک حال الدولة، فلکل منها شعاع سیادة لنفسها، وذلک الشعاع یمنع من تعدی الدولة الأخری فی محیط ذلک الشعاع.

فإذا أرادت دولة فتح الأسواق لها فی خارج بلادها، لم تتمکن من ذلک إلاّ بقدر ما تسمح الدولة الأخری ذات السوق، وکذلک فی مجال الثقافة والإعلام والدبلوماسیة وغیرها، بینما الدولة فی داخل بلادها تقدر من کل ذلک بدون أن یکون لها مقاوم، وإذا قاومها فرد أو جماعة سحقته بقواها المسلحة.

ثم إنه کما لا تساوی فی شعاع حریة الأفراد والجماعات فی داخل الدولة، حیث إن الفرد المقتدر مالیاً أو علمیاً أو ما أشبه له شعاع حریة أکبر من الفرد الذی لیس کذلک، وهکذا بالنسبة إلی جماعتین، وکذلک الأمر بالنسبة إلی دولتین فی سطح الأمم، فالدولة الأقدر مالاً وعلماً وما أشبه لها من شعاع الحریة ما لیس للدولة التی لیست بتلک القدرة مالاً وعلماً، هذا بالرغم من أن القانون الدولی یعطی لکل الدول قدراً واحداً من الشعاع، فلکل دولة صوت فی القرارات، کبرت الدولة کماً وکیفاً أو صغرت، باستثناء مثل حق الفتیو ونحوه، وقد عرفت فیما تقدم عدم صحة هذا القانون، بل اللازم إعطاء حق الأصوات حسب کبر الدولة وصغرها، لأن الدولة تمثل الأفراد فلیس من الحق

ص:286

تساوی ألف ملیون مع ملیون واحد، فیما لو توفرت الحریات للشعبین.

ضرورة التعادل بین الکفاءة والشعاع

ضرورة التعادل بین الکفاءة والشعاع

نعم لیس من الحق أن یکبر الشعاع حسب کبر الإمکانیات للدولة، إلاّ إذا کانت الإمکانیات نابعة عن الکفاءات، فاللازم قیاس الدولة بالأفراد من هذه الجهة، فإذا کان فرد أعلم أو أقوی جسماً أو ما أشبه ذلک، کان شعاع حریته بقدر کفاءته، بینما لیس کذلک الأقل علماً أو قدرة.

مثلاً الذی یعمل کل یوم عشر ساعات له خمسة دنانیر، بینما الذی یعمل ثمان ساعات له أربعة دنانیر، فی صورة تساوی العمل من حیث الکیف، وتبعاً للأقدریة مالیاً یکون الفرد الأول أقدر انطلاقاً وأوسع دائرة لشعاع الحریة.

وإذا صح هذا الشیء عقلاً ومنطقاً فی الفرد، صح مثله فی الدولة، فالدولة الأقدر المستندة قدرتها إلی الکفاءة فی أفرادها، إذ کفاءة الدولة بمعنی کفاءة أفرادها، یحق لها أن یکون شعاع حریتها وانطلاقها أکثر من شعاع حریة وانطلاق الدولة التی لیست بتلک المثابة من الحریة.

أما أن یکون الشعاع حسب الأمر الباطل، کما فی إمریکا حیث إن قدرتها بحسب الرأسمالیة المستغلة بالکسر، وفی روسیا حیث إن قدرتها بحسب الدیکتاتوریة المستبدة، فذلک خلاف موازین العدالة التی هی إعطاء کل أحد بقدر کفاءته.

وبما ذکرناه تبین:

1: موقف الإسلام من التساوی بین الدول فی الأمم المتحدة.

ص:287

2: کما تبین الخطأ القانونی والخارجی فی قوة وضعف الأعضاء فی الأمم المتحدة.

أما الأول: فلأن الإسلام لا یری التساوی بین الدول بهذا الشکل الموجود حالاً، بل یری التفاوت حسب أفراد کل دولة وکفاءاتهم، إما حسب الأفراد حیث إن الأکثریة تشکل من الأفراد، لا من الوحدات الدولیة المجعولة، إذ مثلاً هذه المائة ألف دولة، وتلک المائة ملیون دولة، أم جعلی حسب المقررات، ولذا کان قابلاً للتغییر عند تغییر خرائط الدول. وإما حسب الکفاءات، فالعالم مثلاً حیث إنه خبیر مسموع الکلام فی شهادة تحتاج إلی الخبیر، بخلاف غیر الخبیر حیث لا یسمع کلامه، قال تعالی: {فاسألوا أهل الذکر}((1))، وفی الحدیث: الاعتماد علی کثیر القدم فی أمرهم (علیهم السلام)، إلی غیر ذلک من أدلة الاحتیاج إلی الخبرویة فی الأمور المحتاجة إلی أهل الخبرة.

وأما الثانی: فلأن قانون الأمم المتحدة یجعل لکل دولة صوتاً، مهما کانت کبیرة أو صغیرة، ویجعل حق الفتیو لبعض الدول من جهة القانون، کما یجعل المکانة الاقتصادیة والسلاح وما أشبه مبرراً للسیر فی رکاب تلک الدولة والسماع لکلامها، وإن کان مخالفاً للمنطق والعقل من جهة التطبیق.

فالحالة فی الأمم المتحدة کالحالة فی أفراد دولة واحدة، حیث إن الفرد الذی له مکانة اجتماعیة أو مال أو ما أشبه یتمکن أن یفرض علی الفرد الضعیف إرادته بدون أن یکون مبرر لذلک الفرض، وکل ما یجری فی الأمم المتحدة من عدم العدالة، مثل ما یجری بین الأفراد والجماعات فی الدولة الواحدة، 

ص:288


1- سورة النحل 43.

مخل بالحریة الممنوحة للإنسان حسب المنطق والعقل، وحسب الشریعة الإسلامیة، فاللازم أن یکون شعاع الحریة للفرد والجماعة والدولة حسب الکفاءة، ومعلوم أن سیر الأمم المتحدة بهذا الشکل الموجود لا یدعمه عقل ولا منطق کما ذکرنا سابقاً.

توسیع شعاع الحریات بقدر الکفاءات

توسیع شعاع الحریات بقدر الکفاءات

وعلی هذا فسیادة الدول فی المجال الخارجی، یجب أن تکون حسب کفاءاتها، وکلما تقدمت الدول فی النضج والاقتراب من العقل والمنطق، توسع شعاع الحریات للدول، وبالآخرة للأفراد، وذلک لأن کفاءة الأفراد کلما وجدت المجالات المفتوحة تمکنت من الانطلاق حسب سعة ذلک المجال.

فإن الانطلاق العملی الناشئ من الکفاءة الذاتیة، مثله مثل نور العین، کلما صد وقف، وکلما فسح له المجال أبصر بمقدار استعداده الإشعاعی.

فقد کان فی القدیم حکومات القبائل، وفی ذلک الوقت کان مجال کل قبیلة خاصاً بمقدار سیادتها المحدودة بشعاع سیادة القبیلة الثانیة، وإذ توحدت القبائل تحت حکومة صار مجال عمل کل قبیلة بمقدار شعاع الحکومة، أی فی منطقة کل تلک القبائل، وکلما تترفع الحواجز بین الدول فی أمر یتسع انطلاق عمل الحکومة بقدر ما یتسع أمامها المجال.

ولنفرض أن دولتین، مجال عمل کل واحد منهما فی ملیون هکتار من الأرض علی أمة ذات ملیون إنسان، فانطلاق إحداهما علی الأخری، یجعل کفاءات أفرادها تنطلق بقدر أرضها وسکانها فقط، بینما إذا تصافقتا علی فتح المجال

ص:289

الاقتصادی، صارت الکفاءة الاقتصادیة تجد مجال العمل فی ملیونی هکتار وملیونی إنسان، وهذا نوع من الحریة کانت الدولة تقف أمامها قبل فتح هذا المجال.

وهکذا الکلام فی المجال السیاسی والاجتماعی والثقافی والسیاحی وغیرها.

ولیست (الأمم المتحدة) و(الوحدة الإفریقیة) و(السوق الأوروبیة المشترکة) و(نقابة العمال العالمیة) وأشباهها، إلاّ إرهاصات لتوسیع مجال الکفاءات فی کل المیادین.

نعم الصیغة النهائیة للتوسیع إنما تکون بتوحید العالم تحت حکومة واحدة، کما قال سبحانه: {وإن هذه أمتکم أمة واحدة وأنا ربکم}((1)).

وفی آیة أخری ذکرت طریقة الوصول إلی ذلک، قال سبحانه: {إنا خلقناکم من ذکر وأنثی وجعلناکم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اکرمکم عند الله أتقاکم}((2))، فالشعوب والقبائل للتعارف، والمعیار فی التقدم الکفاءة (التقوی).

ولذا کانت المهمة الإسلامیة أن یسعی کل فرد لتضعیف الحاکمیة المحلیة لتقویة الحاکمیة العالمیة، إذ الحاکمیة المحلیة قوقعیة، بینما الحاکمیة العالمیة انطلاقیة، وکلما ضعفت الأولی قویت الثانیة، وبالعکس.

ومن الواضح أنه لیس المراد بالتضعیف الفوضی، بل تکثیر الحریات والانطلاقات، وتوسیع مجال عمل الکفاءات، فإذا تمکنت الکفاءات من العمل بأقصی قدرتها، کان معنی ذلک سقوط الحکومات المحلیة، وقیام الحکومة الواحدة العالمیة.

ص:290


1- سورة الأنبیاء: 92.
2- سورة الحجرات: 13.

الانغلاق سبب تخلف العالم الثالث

الانغلاق سبب تخلف العالم الثالث

ومما تقدم ظهر سبب التناقض بین البلاد الصناعیة وبین البلاد المتأخرة، والتی وصلت جملة منها إلی الاستقلال، حیث إن البلاد الصناعیة أخذت ترفض القومیة، وتوسع الحریات الحدودیة، وتسهل حرکة الکفاءات، فی مختلف المجالات الثقافیة والصناعیة والتجاریة والاجتماعیة ونحوها، بینما البلاد المتأخرة بعکس ذلک، تشدد علی القومیات والإقلیمیات والحدود وما أشبه ذلک.

وجه الظهور أن البلاد الصناعیة بما تقدمت فی رشدها الفکری، وعرفت أن التقدم إنما یکون لإطلاق الکفاءات، أخذت تسیر فی اتجاه توسعة نطاق العمل، ومن الواضح أن کل الحدود المادیة کالحدود الجغرافیة، وما یسمی بالمعنویة کالحدود القومیة، من أکبر العوائق للتقدم، ولذا فقد أدرکت تلک الدول وجوب إزالة تلک العوائق، وأخذت تزیلها بخطی بطیئة، ولولا أنانیة تلک الحکومات وکبریائها علی الأمم الضعیفة، وعدم خروجها عن سباق التسلح، لکان السیر فی إزالة العوائق بخطی سریعة.

ولذا لم تکن مسألة نزع السلاح، مسألة (سلام) فقط، بل هی مسألة (انطلاق) أیضاً، فإن السلام والانطلاق وجهان لعملة واحدة، حیث إن السلام لإزالة القلق، وحینما یزال القلق ینطلق الإنسان إلی أهدافه الرفیعة، وعلیه فالسلام یؤمن الجزء السلبی، بینما الانطلاق یؤمن الجزء الإیجابی.

أما البلاد المتأخرة، سواء ما استقل منها وتسمی مجاملة بالبلاد النامیة، أو ما لا تزال بعدُ تحت الاستعمار الظاهر أو الخفی، فهی بالعکس من تلک تماماً،

ص:291

إنما تمر فی مرحلة الطفولة وحالة القبلیة والانغلاق، وبعبارة ألین: الملوک الطوائفیة.

وهذه الحالة تلازم الدیکتاتوریة، والدیکتاتوریة ضد الکفاءات کما هو واضح، ولذا تتمسک بالقومیة، وتشدد فی أمر الحدود، وتعارض أی انطلاق، فالقومیة تقول: قومی، والإقلیمیة تقول: حدودی، بینما الإنسانیة تقول: أینما وجدت الکفاءات، سواء فی قومی أو غیرهم، أو فی حدودی أو غیرها، والقاعدة الإسلامیة المعروفة: (الناس مسلطون علی أنفسهم وأموالهم)((1))، والآیة الکریمة: {لتعارفوا... أتقاکم}((2))، تشکلان الأساس الأولی لصرح الکفاءات والانطلاقة العالمیة.

القومیة العربیة وسیلة للتقدم أم عامل للانحطاط

القومیة العربیة وسیلة للتقدم أم عامل للانحطاط

لا یقال: إن تم ما ذکر بالنسبة إلی القومیة فی الجملة، لا یتم بالنسبة إلی القومیة العربیة، حیث إن توحید العرب (مائة وخمسون ملیوناً) فی حکومة واحدة یعطی النتائج المطلوبة فی القدرة، وهو خیر من تبعثر العرب فی حکومات متعددة.

لأنه یقال: لم تکن الدعوة إلی القومیة العربیة إلاّ خداعاً، قصد بها الجانب السلبی من القضیة، أی عدم قیام الإسلام الذی هو المنقذ الحقیقی فی هذه البلاد، ولم یقصد قیام وحدة عربیة، بل الذین دعوا إلی القومیة العربیة علموا بأنه

ص:292


1- بحار الأنوار: ج2 ص272 ح7.
2- سورة الحجرات: 13.

لا یعقل توحید البلاد تحت هذا اللواء، وذلک لما تنطوی علیه هذه الدعوة من بذور المقاومة والفرقة والمشکلات.

1) مثل أن القومیة تقاوم من قبل کافة المسلمین، حیث إن المسلمین یعتقدون بالأمة الإسلامیة، ویرون حرمة أی تجمع آخر((1)).

2) وتقاوم من قبل جملة من الأقلیات القاطنة فی هذه البلاد، مثل الأقلیة المسیحیة فی مصر ولبنان وغیرهما، والأقلیة الکردیة فی العراق وغیرها، وسائر الأقلیات الموجودة فی هذا البلاد.

فالمسیحیون عرفوا الإسلام بالسماح لهم، لکنهم لم یعرفوا القومیة بالسماح لهم، بل عرفوا عدم سماح القومیة، حیث قد عرفت أن القومیة ضد الکفاءة، والأکراد قالوا بأنه إذا کان الموضوع الإسلام فالکل سواء وإخوة، أما إذا کان الموضوع القومیة، فنحن قوم، کما أنتم قوم، وبأی مبرر یکون لکم الحکم والسیادة، ونحن نکون شعباً تحت نفوذکم، إلی غیر ذلک.

3) وتقاوم من قبل الإقلیمیة، حیث إن الأقالیم المرتفعة اقتصادیاً لا تستعد أن تتنازل من اقتصادیات لأجل التوزیع تحت لواء لا تؤمن به، وقد حدثت کل هذه المقاومات بالفعل.

4) هذا بالإضافة إلی أن القومیة لم تکن تتمکن من مقابلة إسرائیل التی تجمعت تحت لواء الدین، إذ الدین أعمق أثراً فی النفوس من القومیة، فکانت الدعوة إلی القومیة العربیة مکیدة استعماریة، لترسیخ إسرائیل فی المنطقة أکثر فأکثر، کما حدث بالفعل.

ثم إن القومیة حیث تلازم إیجاد الاعتزاز بالنفس فی الناس اعتزازاً مکذوباً، والاعتزاز بالنفس ضد التواضع، لازمت القومیة الدیکتاتوریة.

ص:293


1- أی التجمع الذی یحارب الأمة الواحدة الإسلامیة .

وهذا ما حدث فی البلاد العربیة الداعیة إلی القومیة بالفعل، کما لازمت القومیة انطلاقاً من اعتزازها المکذوب بالنفس، إحیاء آثار الآباء ولو کانوا کفرة، کما أحیت قومیة مصر فرعون، وقومیة العراق آثار بابل، وقومیة إیران آثار المجوس إلی غیر ذلک، وذلک استلزم انفضاض أهل البلاد عن الحکومة، فضلاً عن انفضاض سائر المسلمین فی البلاد الأخر، فضعفت کل من الحکومة والشعب بما جعلهما لا یقدران علی التقدم فی أی مجال، بل جنحت البلاد إلی التأخر أکثر فأکثر.

ص:294

المحتویات

المحتویات

تمهید 7 [1]

العناصر الثلاثة للحکومة 10 [2]

غنی الجماعات الصغیرة عن الحکومة 12 [3]

الحکومة والجماعة الکبیرة 14 [4]

اختلاف المواهب والأهواء والاستجابة 15 [5]

1: المواهب. 15 [6]

2: الأهواء 16 [7]

3: الاستجابة الجسدیة والنفسیة 16 [8]

خطأ المارکسیة 17 [9]

الحکومات العصریة 18 [10]

وجوب تقدیم الإسلام 18 [11]

أسباب تعقد الحکومات المعاصرة 19 [12]

1: استیعاب الأقوام المختلفة 19 [13]

2: تقدم العلم والصناعة 20 [14]

3: التحول الدائم فی المجتمع. 20 [15]

خطأ الحکومات المعاصرة 21 [16]

نتائج زیادة المؤسسات. 22 [17]

جمود الموظفین. 24 [18]

جمود المجتمع. 25 [19]

تدخل الحکومة فی الشؤون الشخصیة 27 [20]

تأمیم التجارة والمؤسسات. 29 [21]

نتیجة تدخلات الدولة 30 [22]

خطأ استیلاء الدولة علی الأعمال. 31 [23]

أدلة جواز التسعیر. 32 [24]

لا دکتاتوریة فی الإسلام 34 [25]

دکتاتوریة الشیوعیة 34 [26]

ص:295

دیکتاتوریة الرأسمالیة 35 [1]

نتائج أنانیة الحکام 36 [2]

الشعوب تعرف المرارات. 38 [3]

السیاسة من صمیم الإسلام 39 [4]

ما هی السیاسة؟ 39 [5]

تهلهل حدود السیاسة 40 [6]

إطلاقات النسبیة 41 [7]

کیف أن السیاسة من صمیم الإسلام 42 [8]

نصوص شرعیة عامة 42 [9]

نصوص خاصة 44 [10]

الأنبیاء سیاسیون. 44 [11]

واجب العالم الدینی. 46 [12]

الاضطلاع بالسیاسة واجب. 48 [13]

1: الارتباط بین السیاسة والدین. 49 [14]

الدین العلمی والعملی. 50 [15]

جولة الباطل. 51 [16]

2: الارتباط بین السیاسة والاقتصاد 51 [17]

السیاسة فی الرأسمالیة 52 [18]

وفی النظرة المارکسیة 53 [19]

تقسیم الأدوار المزیف.. 54 [20]

تفنید الأدوار الأربعة 56 [21]

ارتباط الحقوق بالسیاسة 57 [22]

الأدلة الأربعة فقط المصدر للدستور. 59 [23]

انتهاک الساسة للنظم الحقوقیة 60 [24]

التدقیق فی المجتمع. 62 [25]

الارتباط بین السیاسة وبین علم الاجتماع. 62 [26]

تبادل الاحتیاج بین العلمین. 63 [27]

الارتباط بین علم النفس والسیاسة 64 [28]

جوهر النفس یؤثر فی أمور أربعة 65 [29]

احتیاج السیاسی إلی التاریخ. 66 [30]

ص:296

المعرفة الفقهیة 66 [1]

التاریخ المعاصر والسیاسة 67 [2]

معرفة تاریخ استیعابی. 67 [3]

ترجمة التاریخ وتطبیقه 69 [4]

السیاسة علم وفن ومعرفة 71 [5]

ترکیز الیهود لانعدام الوعی السیاسی. 72 [6]

هل السیاسة ملوثة 73 [7]

هل السیاسة لیست من الإسلام 73 [8]

میزات العلم الثلاث. 74 [9]

الضبط والمحاسبة 74 [10]

الرؤیة المستقبلیة 76 [11]

انعدام الرؤیة للمستقبل. 77 [12]

الإنقاذ من الخرافة والمشکلة 78 [13]

وجود هذه المیزة فی السیاسة 79 [14]

للسیاسة ساحتان: داخلیة وخارجیة 80 [15]

للداخل شعبتان. 80 [16]

للخارج شعبتان. 80 [17]

إطلاقات الدولة ومعانیها 82 [18]

نقد بعض التعاریف.. 82 [19]

میزان وحدة الأمة 86 [20]

مسرح الخارج وتدخلات الدول. 86 [21]

عوامل الحیلولة 87 [22]

عوامل النفوذ 88 [23]

1: عامل الدین. 88 [24]

2: عامل القدرات. 89 [25]

3: عامل الثقافة 89 [26]

4: الأمم المتحدة 91 [27]

مسرح السیاسة للحکومة 92 [28]

توحید سیاسة الدولة الإسلامیة 94 [29]

لا للاحتکار التجاری. 94 [30]

ص:297

النظرة الإسلامیة المستوعبة 96 [1]

تفاعل الإنسان والتاریخ. 97 [2]

نسف مدرسة مارکس.. 98 [3]

المدرسة الغربیة الأخری. 99 [4]

الوحدة العلیا: الدولة 100 [5]

الوحدة الوسطی: الجماعات. 102 [6]

الوحدة القاعدیة: الجماهیر. 103 [7]

1: لانبعاث عن الدین. 104 [8]

تحطم الثورات لنقص الوعی السیاسی. 105 [9]

واجب حرکات التحریر. 106 [10]

استطلاع الرأی العام 107 [11]

نصوص الشریعة فی الرأی العام 107 [12]

الرأی العام والعاطفة العامة 109 [13]

مردود الرأی العام 110 [14]

2: الانبعاث عن القومیة والوطنیة 110 [15]

أنواع انقسام التجمعات. 111 [16]

یقظة العالم الإسلامی. 114 [17]

3: الانبعاث عن الاقتصاد 115 [18]

التفاعل الثلاثی. 116 [19]

بین الشخصیة الإنسانیة وشلال التاریخ. 117 [20]

مارکس: لا للسیاسة 118 [21]

بین الشخصیة والتاریخ. 120 [22]

أقوال فی مرکزیة الشخصیة 121 [23]

سمات الشخصیة السیاسیة 123 [24]

من أقسام السیاسة والسیاسی. 127 [25]

السیاسة علم أم علوم 129 [26]

بحوث فی الدولة والأمة 133 [27]

الحاجة إلی الدولة 134 [28]

النظریة المارکسیة فی الدولة ونقدها 135 [29]

الدولة فی منظار علی علیه السلام 137 [30]

ص:298

بحوث فی الأمة 142 [1]

الفرق بین الأمة والناس.. 142 [2]

تکون الأمة المسلمة 144 [3]

حکومة واحدة لکل المسلمین. 146 [4]

التقدم الإسلامی. 148 [5]

ظهور الأمم واختفاؤها 151 [6]

تاریخ عهود البشر. 152 [7]

الأدیان والدول. 154 [8]

العناصر التی تشکل الأمم 158 [9]

کیف تتکون الأمة علی العنصر المادی. 159 [10]

التفکیر السیاسی الموحد 162 [11]

دخول الأمم فی الإسلام 162 [12]

الحدود الجغرافیة للأمة 164 [13]

أمة بلا دولة 164 [14]

أمة ودول متعددة 165 [15]

مقومات الدولة 166 [16]

تحولان جدیدان فی الأمة 168 [17]

الفهم الأصلح. 168 [18]

العالم والحکومة الواحدة 169 [19]

الحدود المائیة والفضائیة 170 [20]

لا حدود بین بلاد الإسلام 170 [21]

الحدود بین بلاد الإسلام وبلاد الکفر. 170 [22]

مقررات الدولة الإسلامیة 172 [23]

الحدود بین الدول. 173 [24]

الحدود والتمیز بین الشعوب. 173 [25]

القدرة الإنسانیة وآثارها فی الحقل السیاسی. 175 [26]

القدرة الإیجابیة والسلبیة 175 [27]

القدرة الإنسانیة 177 [28]

أسباب الطاعة 179 [29]

القدرة الذاتیة والعرضیة 181 [30]

ص:299

القدرة والطغیان. 183 [1]

مناهج ترویض القدرة 184 [2]

الترویض الدینی. 184 [3]

الترویض الدیمقراطی. 185 [4]

من أخطاء الدیمقراطیة 186 [5]

الترویض الشیوعی. 189 [6]

مناقشة فکرة (راسل) 190 [7]

القدرة الاجتماعیة 192 [8]

العلاقة بین الفرد والجماعة 193 [9]

أنواع انتماء الإنسان. 196 [10]

شروط تقدم الجماعات. 198 [11]

أ: الهدوء والتوازن. 198 [12]

ب: الصبر فی المشاکل. 199 [13]

ج: معرفة الناس.. 200 [14]

د: مستویات مختلفة 201 [15]

ه: القدرة 202 [16]

و: الفکر المتکامل. 203 [17]

ز: الإرادة الفولاذیة 204 [18]

ح: الانضباط. 205 [19]

ط: رفع المستحیل. 205 [20]

ی: التخطیط السلیم 206 [21]

یا: اغتنام الفرص... 208 [22]

یب: التواضع. 208 [23]

یج: البحث عن النقد 210 [24]

ید: الإنسان الواقعی. 211 [25]

بین الحقوق والقدرات. 212 [26]

أقسام قدرة الجمعیة 215 [27]

القدرة غیر المتمرکزة 215 [28]

القدرة المتمرکزة 217 [29]

أسباب تمرکز القدرة 218 [30]

ص:300

الدین قسمان. 219 [1]

المال والقدرة 221 [2]

السلاح والقدرة 221 [3]

السبب الخارجی للقدرة 222 [4]

مقومات سیطرة الدین. 222 [5]

شروط الإسلام فی منح القدرة 224 [6]

قدرة لاحقة 224 [7]

أقسام القدرة 226 [8]

1: السلطة 226 [9]

2: الشخصیة 227 [10]

3: السندیة 228 [11]

کیف تدوم القدرة؟ 229 [12]

التکامل والتطور. 233 [13]

مهمة علم السیاسة تجاه القدرة 235 [14]

الأمور التی هی محور علم السیاسة 238 [15]

المؤسسات السیاسیة 240 [16]

التفاعل بین الأمة والمؤسسات السیاسیة 243 [17]

الدولة أکبر المؤسسات السیاسیة 245 [18]

مقومات معرفة الدولة 246 [19]

الشخصیة الحقوقیة للدولة 247 [20]

رأی الدین فی الشخصیة الحقوقیة 248 [21]

وحدة المواقف بین الرسول وعلی (علیهما السلام) 249 [22]

بحوث فی الدولة 253 [23]

آثار وجود الشخصیة الحقوقیة للدولة 254 [24]

التدوام للدولة 255 [25]

حجم النقد أم القوة الشرائیة؟ 256 [26]

التعامل الخارجی. 257 [27]

التعامل الداخلی. 258 [28]

الشخصیة الحقوقیة أمر اعتباری أو متأصل. 259 [29]

الشخصیة الحقوقیة بین الدولة والتکتلات. 261 [30]

ص:301

علی الدولة تحری الغرض الصالح. 264 [207]

موقف الدولة تجاه التکتلات المفسدة 267 [208]

من أخطاء القانون. 267 [209]

حق الفیتو خطأ آخر. 268 [210]

هدف الدولة وصلاح الفرد 270 [211]

هدف الدولة وصلاح جماعات الأمة 271 [212]

سیادة الدولة وحاکمیتها 272 [213]

الغالب فی وضع القانون. 273 [214]

نقص القوانین البشریة 274 [215]

إشکال القانون الوضعی فی الجماعات. 275 [216]

حاکمیة الدولة ذاتیة ومطلقة 275 [217]

صلاحیات الدولة 278 [218]

من الفروق بین الدولة الإسلامیة وغیرها 280 [219]

بین سیادة الدولة وسیادة الأمم المتحدة 281 [220]

بین سیادة الدولة وسیادة التکتلات. 282 [221]

السیادة المتکافئة 282 [222]

شعاع سیادة الدولة 285 [223]

ضرورة التعادل بین الکفاءة والشعاع. 287 [224]

توسیع شعاع الحریات بقدر الکفاءات. 289 [225]

الانغلاق سبب تخلف العالم الثالث. 291 [226]

القومیة العربیة وسیلة للتقدم أم عامل للانحطاط. 292 [227]

المحتویات. 295 [228]

ص:302

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.