موسوعه استدلالیه فی الفقه الاسلامی المجلد 100

اشارة

سرشناسه : حسینی شیرازی، محمد

عنوان و نام پدیدآور : الفقه : موسوعه استدلالیه فی الفقه الاسلامی/ المولف محمد الحسینی الشیرازی

مشخصات نشر : [قم]: موسسه الفکر الاسلامی، 1407ق. = - 1366.

شابک : 4000ریال(هرجلد)

یادداشت : افست از روی چاپ: لبنان، دارالعلوم

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

موضوع : اخلاق اسلامی

موضوع : مستحب (فقه) -- احادیث

موضوع : مسلمانان -- آداب و رسوم -- احادیث

رده بندی کنگره : BP183/5/ح5ف76 1370

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 70-5515

ص:1

اشارة

الطبعة الأولی

1410 ه_ _ 1989م

دار العلوم _ طباعة. نشر. توزیع.

العنوان: حارة حریک، بئر العبد، مقابل البنک اللبنانی الفرنسی

ص:2

الفقه

موسوعة استدلالیة فی الفقه الإسلامی

آیة الله العظمی

السید محمد الحسینی الشیرازی

دام ظله

کتاب

الحقوق

دار العلوم

بیروت لبنان

ص:3

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمین، والصلاة والسلام علی أشرف خلقه سیدنا محمد وعلی آله الطیبین الطاهرین، واللعنة الدائمة علی أعدائهم إلی قیام یوم الدین.

ص:4

((تمهید))

((تمهید))

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمین، والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرین.

وبعد، فهذا کتاب (الفقه: الحقوق) ذکرنا فیه المدخل إلی (الحقوق) فی الفقه الإسلامی، مع ذکر جملة من الصغریات، والله المسؤول أن ینفع به ویثیب علیه، وهو الموفق المستعان، فنقول:

قد ذکرنا کثیراً من الحقوق فی مختلف أبواب (الفقه) بالمناسبة، کما ذکرها الفقهاء من قبلنا فی کتبهم الفقهیة (قدس الله أسرارهم وشکر الله سعیهم).

وإنما أفردنا جملة منها هنا، کمدخل إلی الحقوق باختصار شدید، لتکون مجموعة فی محل واحد، لیسهل علی المراجع الاطلاع علیها.

وحیث إن الحقوق لها عرض عریض لا یسعه هذا الکتاب، اکتفینا ببعض الحقوق منها، نموذجاً لبعضها الآخر من باب الملاک الجاری فی الکل، أو من باب عرض النماذج، وحیث لا قیاس فی الإسلام کما نذهب إلیه، فلا نقول من باب القیاس، بالإضافة إلی أن القیاس لا موضوع له فی المقام غالباً، فلا یقاس حق الزوجیة بحق القذف، أو حق الملکیة بحق الوصی فی شؤون الموصی، وإن کان هناک بین جملة من أقسام الحقوق العموم من وجه، فیجمع اثنان من الحقوق فی مورد، ویفترقان فی موردین.

وعلی أی حال، فهذا جهد متواضع فی هذا الصدد، والله المسؤول أن ینفع به المطالعین، ویجعله مقدمة لتطبیق الأحکام، ویتقبله بقبول حسن.

قم المقدسة

محمد بن المهدی الحسینی الشیرازی

ص:5

ص:6

کتاب حقوق

مقدمة

مقدمة

الحقوق جمع الحق، وهو عبارة عما یلزم الإنسان له أو علیه، فرداً عاش أو فی المجتمع، فإن الفرد أیضاً له الحق کالانتفاع من أشجار الغابة وحیوانات البر والبحر والجو، وعلیه الحق کحق الله سبحانه، وحق نفسه علی نفسه، وحق الحیوان وحق الجماد، کما ذکرنا هذه الحقوق فی کتاب النفقات من النکاح، فقول بعضهم: إنه یتولد من الاجتماع، تعریف بالأخص.

والحق قد یطلق ویراد به الأعم من الواجب، وقد یطلق ویراد به المقابل للواجب، فیقال الحق فی قبال الواجب، فالواجب علی الأجیر العمل وحقه فی الأجرة، کما قد یطلق ویراد به فی قبال الملک أو نحو ذلک، وقد یطلق ویراد به بمعناه الواسع الشامل للملک والحق غیر الملک من المنفعة والإجارة، أو حق الانتفاع من مکانه فی المسجد أو فی المدرسة أو ما أشبه، والثالث کملک أن یملک الإنسان المباحات کصید البحر وفاکهة الغابة أو الأراضی.

وفائدة هذا الحق الثالث أن غیره إذا أراد مزاحمته کان له المنع عن مزاحمة ذلک، أو المصالحة معه، کما إذا أراد الصیاد أن یصید من البحر فقال له صیاد آخر: لا تصد الیوم لأن لی ضیوفاً فإذا صدت قل ما أصید من السمک لأجل ضیوفی، حیث إن البحر والنهر مثلاً قلیل الصید

ص:7

فإذا صاد أحدهما قل ما فی البحر أو النهر للصیاد المضیف، وقال ذلک الصیاد الذی یطلب من زمیله عدم الصید: إنی أعطیک دیناراً فی قبال تنازلک عن حقک فی الإصطیاد.

((جذور الحقوق))

((جذور الحقوق))

ثم إن جذور الحقوق تختلف عند الإلهیین والمادیین، فالإلهیون یرون أن الجذور تنشأ من الإله سبحانه، سواء علی الطریقة الإسلامیة حیث تری أن الله سبحانه هو واضع الحقوق بدون واسطة، أو علی الطریقة المسیحیة حیث تری أن الله سبحانه فوض جعل الحقوق إلی قیصر، مأخوذ من الکلمة المشهورة عندهم: (دع ما لله لله، وما لقیصر لقیصر)، إذ الحقوق باستثناء حق العبادة وما أشبه فی هذا المنظار المسیحی تابع لقیصر الذی استمد حقه من الله، فکلاهما یرون أن الحق الأولی لله سبحانه وتعالی، لکن مع فارق أن الإسلامیین ومن أشبههم یرون أن الله سبحانه وتعالی فوّض لقیصر جعل الحقوق، فالحقوق تنتهی إلی الله سبحانه وتعالی بالواسطة لا مباشرة وبخط مستقیم.

أما المادیون فیرون جذور الحقوق فی البشر.

وهناک ثلاثة آراء:

الأول: إن الفرد هو جذر الحقوق، حیث إن الفرد هو کل شیء، وإن الاجتماع متطفل علیه اضطراراً أو من جهة الفطرة، علی بحث سیأتی إن شاء الله تعالی فی أنه هل الاجتماع ضرورة أو فطرة.

الثانی: إن الاجتماع هو جذر الحقوق، وإنما الفرد شیء بسیط فی هذا الجهاز العام، فالاجتماع هو صاحب الحق أولاً وبالذات، بینما الرأی الأول یقول الفرد أولاً وبالذات.

والثالث: إن کلیهما جذرا الحقوق، فلیس أحدهما أصلاً والآخر فرعاً کما یراه الأولون، وإذا تعارض حق الفرد وحق الاجتماع یلاحظ

ص:8

مسألة الأهم والمهم، وإذا لم یکن هناک أهم ومهم فاللازم التقسیم بین الجانبین أو الإقتراع لترجیح جانب علی جانب أو ما أشبه ذلک.

ومن ذلک یظهر أن ما یراه رؤساء الحکومات الدکتاتوریة من أنهم مصدر الحقوق کلام لم یذهب إلیه أی حقوقی.

((لماذا وضع الحقوق))

((لماذا وضع الحقوق))

وعلی أی حال، فالغرض من وضع الحقوق تأمین حالة الفرد بکل أبعاده، بعده الفردی وبعده الاجتماعی وبعده الکونی الشامل للدنیا والآخرة عند الإلهیین الذین یعتقدون بذلک.

وکذلک تأمین حالة الحیوان، إذ الإنسان یحس بعطف خاص نحو الحیوان، لا لأنه فی نفع الإنسان فحسب بل ولأنه شیء له شعور وألم وحاجة أیضاً، ولذا جعلت القوانین سواء عند الإلهیین أو عند المادیین لحفظ الحیوان ولعدم إیلامه ولقضاء حوائجه.

والظاهر أن هذا الشیء لیس موجوداً فی الشجر، وإن کان له روح، وجعل الحقوق للشجر لا نفسه بل للإنسان، کما أن جعل الحقوق للبنایات والعمارات وما أشبه کذلک، ففرق بین حقوق الحیوان وبین حقوقهما، وإن کان ربما یقال بذلک أیضاً لأن الشجر له روح وألم وحاجة، لکنها فی المرتبة الضعیفة، وفی المرتبة الأضعف الجوامد.

وربما یستدل علی ذلک بقوله سبحانه: ﴿یا جبال أوبی معه والطیر﴾((1))، وقوله سبحانه: ﴿فقال لها وللأرض ائتیا طوعاً أو کرهاً فقالتا أتینا طائعین﴾((2)).

وفی الدعاء مخاطباً للقمر: «أیها الخلق المطیع الدائب السریع»((3)).

وقوله سبحانه بالنسبة إلی الأرض: ﴿فإذا هم بالساهرة﴾((4))، إلی غیر ذلک، لکن هذا المبحث خارج عما نحن بصدده.

((موضوع علم الحقوق))

((موضوع علم الحقوق))

وکیف کان، فقد ظهر مما تقدم موضوع علم الحقوق وهو (الحق) بالمعنی المتقدم لکل من الله والإنسان والحیوان، بل والشجر والجماد، وعلی کل منهم.

لکن الحق علی الله سبحانه لیس بمنزلة الحق علی غیره، حیث إن الحق علیه لیس إلاّ بمعنی جعله سبحانه الحق علی نفسه، ولذا

ص:9


1- سورة سبأ: 10
2- سورة فصلت: 11
3- من لا یحضره الفقیه: ج2 ص101
4- سورة النازعات: 14

ورد فی الدعاء: (وبحقهم علیک الذی هو من أعظم حقک علیهم)((1)).

والحق علی الحیوان والشجر أیضاً لیس بمعنی الحق علی الإنسان، بل المراد حق الاستخدام والانتفاع بالإضافة إلی المفعول، فالجامع وإن سمی حقاً إلاّ أن الأفراد متباینة، مثل أفراد الحیوان المتباین بعضها مع بعض من الإنسان والبقر والفرس وهکذا.

((تعریف الحق))

((تعریف الحق))

وتعریف الحق: إنه شیء للفائدة أو علی الضرر، والأول یسمی حقاً والثانی واجباً فی إصلاح آخر.

((فائدة الحق))

((فائدة الحق))

وفائدة الحق الانتفاع له أو منه.

((مسائل علم الحقوق))

((مسائل علم الحقوق))

ومسائل هذا العلم هی المباحث المذکورة فیه.

کما أن لهذا العلم مبادیة التصوریة والتصدیقیة، علی ما ذکرنا تفصیله فی الأصول.

وهذا العلم متداخل مع جملة من مباحث (الفقه) وغیره کالعبادات والمعاملات من العقود والإیقاعات والأحکام وغیرها، وإنما یکون التداخل لاختلاف الحیثیات، کتداخل علم الأصول والکلام والفقه فی بعض المباحث کمبحث التجری وغیره.

وهذا العلم وإن کان حدیث الانفراد إلاّ أنه قدیم الموضوع والبحث، ولذا أکثر الفقهاء من ذکر الحق فی مختلف الکتب.

ثم إن البحث وإن کان فقهیاً، ولکن توقف الانتفاع بالموضوع علی بیان بعض المسائل الخارجیة أوجب البحث فیها أیضاً.

((ما یبتنی علیه الحقوق))

((ما یبتنی علیه الحقوق))

ثم إن الحقوق بکلا قسمیه أی الحقوق والواجبات، مبنیة علی العدل والنصفة والإحسان، لا علی القدرة، سواء کانت قدرة السلاح أو الرجال أو المال أو الجمال مثلاً، وإن کان صاحب کل من الأربعة یرید بناء الحق علی تلک الأربعة التی یجدها، ولذا نری الحکومات الدکتاتوریة یبنون الحق علی آرائهم الشخصیة، ضاربین عرض الحائط آراء المجتمع وأوامر الله سبحانه وتعالی بالشوری ونحو ذلک.

والفرق بین العدل والنصفة والإحسان: إن العدل ما یکون کفواً للواقع، فإذا أعطی الفرس من الطعام بقدر ضعف

ص:10


1- انظر بحار الأنوار: ج98 ص371 وفیه: (اللهم فبحقک علیهم وبحقهم علیک وبشأنهم عندک فإن لهم عندک شأناً)

طعام الغزال کان عدلاً وإن لم یکن بینهما تساو.

والإحسان شیء فوق العدل، کما إذا أعطی الأجبر الذی استأجره بدینار دیناراً ونصفاً، فإن النصف إحسان ولیس من العدل، وقد ذکرنا فی بعض مباحث (الفقه) أن الإحسان أیضاً واجب فی الجملة، ولذا قال سبحانه: ﴿إن الله یأمر بالعدل والإحسان﴾((1))، فأردف الإحسان فی المأموریة ردف العدل.

ومن الإحسان الواجب ما قاله سبحانه: ﴿وبالوالدین إحساناً﴾((2)).

وقال سبحانه: ﴿وأحسن کما أحسن الله إلیک﴾((3)).

أما الإنصاف ویعبر عنه بالنصفة أیضاً، فقد یکون عدلاً وقد لا یکون عدلاً، لأنها مشتقة من النصف مقابل الربع والخمس وما أشبه، ویراد بها أن یکون النصف لک والنصف لخصمک، وفی مثال طعام الفرس والغزال لیس نصفة وإن کان عدلاً.

هذا إن قوبل الثلاثة بعضها مع بعض، وإلاّ فکل واحد إن ذکر وحده شمل الآخرین أیضاً ولو فی الجملة.

ومما تقدم ظهر أنه یلزم أن یکون القانون متکئاً علی أحد الثلاثة هی العدل والإنصاف والإحسان، وإلا فلیس له صورة القانون، فلیس احترام القانون لأنه مر علی مجلس الأمة أو مجلس الوزراء أو تفوه به الملک أو رئیس الجمهوریة أو ما أشبه، وإنما احترامه أنه متکئ علی أحد الثلاثة المتقدمة.

ومن المعلوم أن القانون الذی یتکئ علی أحد الثلاثة یوجب النظم العام والاجتماع السلیم، وإذا لم یکن القانون متکئاً علی أحد الثلاثة کان بالعکس، وعلی هذا فمن الممکن أن یکون القانون متکئاً علی أحد الثلاثة فی زمان ما أو مکان ما بشروط خاصة، ولا یکون متکئاً علی أحد الثلاثة فی زمان آخر أو مکان آخر أو شروط أخر.

وللقانون فی کل واحد من الأمرین حکمة، أی وجوب احترامه أو عدم وجوب احترامه، والمراد بعدم الوجوب ما یشمل عدم الجواز أیضاً، إذ قد یکون القانون واجب الخرق، مثلاً القانون یقتضی

ص:11


1- سورة النحل: 90
2- سورة البقرة: 83، سورة النساء: 36، سورة الأنعام: 151، سورة الإسراء: 23
3- سورة القصص: 77

احترام أموال الناس ودمائهم وأعراضهم فی حال السلم، ویقتضی عدم الاحترام فی حال الحرب بالنسبة إلی العدو المهاجم، لتعارض الأهم والمهم، وتقدیم الأهم علی المهم، فالعدالة اقتضت احترام دم زید فی حال السلم لأنه مسالم، والعدالة بنفسها تقتضی إراقة دمه فی الحرب لأنه محارب، وهکذا یقال فی الأموال والأعراض، فقد یقتضی العدل احترام عرض عمرو وقد یقتضی إهانته لإیقافه عند حده فیهتک عرضه لأمر أهم.

((روح القانون))

((روح القانون))

ولذا کان من الضروری احترام روح القانون لا جسمه إذا تعارض الروح والجسم، لأن الروح أقرب إلی العدالة من الجسم، بل إنما وضع الجسم لاحترام الروح، مثلاً إذا رأی القاضی أن شاهدین فی قضیة أغفلا وإن کانا عادلین، کان اللازم أن یحکم علی طبق ضد الشاهدین وإن کان جسم القانون یقول: (ما قام علیه الشاهدان العادلان یجب أن یحکم علی طبقه).

((القانون التخییری))

((القانون التخییری))

ثم إن اقتضت العدالة أمراً خاصاً کان ذلک هو القانون، وإن اقتضی أحد شیئین أو أشیاء لزم وضع القانون تخییریاً، إذ لا وجه لترجیح أحدهما علی الآخر، إلاّ إذا کان أمر أهم فی وضع أحدهما فقط، مثل التنسیق أو ما أشبه، مثلاً العدل یقتضی مرور السیارة قادمة من طرف الیمین أو من طرف الیسار، والمجیء من طرف الیمین یعادل المجیء من طرف الیسار، إذ لا ترجیح لهذا علی هذا، ولهذا علی هذا، لکن إنما لا یجعل التخییر للسواق لمراعاة أمر خارج، وهو ملاحظة النظام حیث یوجب التخییر الاصطدام.

ص:12

((إذا اختلفا فی الحق))

((إذا اختلفا فی الحق))

(مسألة) لو اختلفا فی الحق، دیناً أو مذهباً أو تقلیداً، أو لاختلاف رأی المرجع سابقاً ولاحقاً، کما إذا کان استنباطه فی السابق طرفاً وکان استنباطه فی اللاحق فی طرف یقابل ذلک الطرف، فهنا أمران:

الأول: إنه لا یمکن اختلاف الحق، فإن الحق واحد، إما واحد بالشخص أو بالکلیة الجامعة للأفراد، وقد ثبت ذلک فی الفلسفة خلاف النظریة المادیة الجدلیة التی تقرر التناقض مما رد عند العقلاء، بل إنا قد ذکرنا فی بعض کتبنا أن النزاع بین الطرفین لفظی.

الثانی: إنه إذا لم یمیز الحق عند من یرید الأخذ به، کان المتبع القواعد المقررة فی مثل هذا الاختلاف، وقد ألمعنا إلی بعض تلک القواعد المقررة فی کتابی النکاح والطلاق بمناسبة أنه یری أحدهما صحة النکاح ویری الآخر بطلانه، أو یری أحدهما صحة الطلاق ویری الآخر بطلانه، من غیر فرق بین أن یکون الطرفان الزوجین أو أحدهما وثالث یرید نکاح تلک المرأة مثلاً.

وهکذا الحال بالنسبة إلی سائر المعاملات بالمعنی الأعم، کالبیع والرهن والإجارة والإرث وغیرها.

ثم إذا شک الفقیه بوجود الحق وعدمه، فإن کان له سابق تم فیه أرکان الاستصحاب وجوداً أو عدماً استصحب.

وإلاّ فإن لم تتم الأرکان فإن کان شکاً بین الأقل والأکثر کان الدلیل مع الأقل، لأصالة عدم الزیادة، کما إذا شک فی أنه متعة أو دوام، حیث الأصل الثانی لأصالة عدم ذکر الشرط، من غیر فرق بین أن یکون تنازع کما فیما بین الزوجین أو أحدهما ووارث الآخر أو وارثهما بعد فرض کون حقیقتهما واحدة وإنما الاختلاف بالزیادة والنقیصة وإن اختلفت بعض الأحکام بینهما أیضاً.

وإن کان شکاً بین المتباینین فإن کان فی المالیات جرت قاعدة العدل، وإلاّ فالقرعة، وإن لم تجر القرعة لأنها بحاجة

ص:13

إلی العمل فالصلح القهری، علی ما ذکرها الجواهر وغیره فی مثل هذه المسألة، لأن الحاکم مجعول لقطع المنازعات فإن لم یکن طریق للقطع إلاّ ذلک کان جعله شرعاً حاکماً بمعنی إجازة الشرع له فی ذلک، فلا یقال: إنه خلاف تسلط الناس علی أموالهم وأنفسهم، وخلاف أن العقد لا یکون إلاّ برضی، من جهة قوله سبحانه: ﴿إلاّ أن تکون تجارةً عن تراض منکم﴾((1))، وبعض الروایات الأخر التی ذکرناها فی المکاسب.

وهکذا الحال فی الصلح إذا لم یعمل بقاعدة العدل فی المالیات، کما إذا تعارض صاحب البناء العلوی والسفلی فیما إذا أشرف السفلی علی الخراب مما یسبب خرابه خراب العلوی، فهل التعمیر تکلیف صاحب السفلی باعتبار أنه إذا لم یعمره ضرر العلوی، و«لا ضرر» یدفعه بجعل العمارة علی السفلی علی ما ذکرناه فی الأصول، من أن «لا ضرر» یرفع الحکم الأیجابی کالوضوء والغسل الضارین حتی لا یجب، والحکم السلبی فإذا کان السلب ضرراً فهو مدفوع بلا ضرر، ومعنی رفعه تقریر الشارع للحکم الإیجابی، فإن کان واحداً فهو، وإلاّ کان مخیراً بین البدائل الإیجابیات.

أو تکلیف صاحب العلو، لأن «لا ضرر» العلوی معارض بلا ضرر السفلی، وبعد تساقطهما کان من یرید بقاء داره سالمة وهو الطرف العلوی ملتزماً بلوازمه، والتی منها تعمیر الدار السفلی لأجل بقاء داره، نعم لا حق للسفلی فی المنع عن التعمیر باعتبار تسلطه علی مال نفسه، لأن التسلط محدود بحد عدم ضرر الغیر، ولذا لا یتمکن من سقی حدیقته إذا أوجب خراب حائط الجار.

وعلی أی حال، فإذا قلنا بقاعدة العدل نصف التعمیر بینهما أو شبه النصف من النسبة، إذا کان نفع التعمیر مثلاً ثلثه لأحدهما وثلثاه للآخر، إلی غیر ذلک، وإلاّ فاللازم الصلح القهری إذا قلنا بأنه لا مکان للقرعة هنا علی ما عرفت.

ص:14


1- سورة النساء: 29

((الحقوق الفطریة والوضعیة))

((الحقوق الفطریة))

((الحقوق الفطریة والوضعیة))

(مسألة) الحقوق تنقسم إلی قسمین:

((الحقوق الفطریة))

الأولی: الحقوق الفطریة، وهی التی تلائم الإنسان والحیوان والشجر والجماد حسب رتبتهم الکونیة.

بل یمکن أن یقال بتلک الحقوق لخالق الکون أیضاً، حیث إن لله سبحانه مکانته الخالقیة، وتلک المکانة لها حقوقها من الإطاعة والشکر ونحوهما.

والمراد بالملائمة الواقعیة کملائمة التسعة لضرب ثلاثة فی ثلاثة، وإدرکنا لها أو عدم إدرکنا لها لا یضر بالواقع، لأن الواقع واقع سواء أدرکه الإنسان أو لم یدرکه، نعم لا إشکال فی أنه قد تختلف الآراء ولدی التصادم فاللازم الأخذ بالأکثریة، سواء فی الموضوع أو الحکم عند من لا یعتقد بقوانین الإله، حیث إنه یشخص الموضوع ویحکم من تلقاء نفسه ولو حکماً أکثریاً، أو فی الموضوع ومفهوم الحکم عند من یعتقد بالإله سبحانه وتعالی، نعم من یعتقد بالإله لا حق له فی الاختلاف فی نفس الحکم، فإن هناک حکماً وموضوعاً وحدود مفهوم الحکم، فإذا قال مثلاً: الماء مطهر، فالموضوع بنظر العرف، کما أن معنی مطهر ماذا أیضاً بنظر العرف، فهل یشمل أنه یطهر کل شیء حتی نفس الماء مثلاً أم لا، أما الحکم أی إنه مطهر فالإلهی یری أنه بید الله سبحانه وتعالی، وغیره یری أنه أیضاً بید العرف.

((الحقوق الوضعیة))

((الحقوق الوضعیة))

الثانیة: الحقوق الموضوعة وهی التی یضعها الإنسان بزعم أنها تطابق الحقوق الفطریة، وقد تطابقها وقد لا تطابقها، إذ لا یلزم أن یکون الزعم مطابقاً للواقع.

من غیر فرق فی کلا قسمی الحقوق بین الإدارات العامة کالحکومة، أو الخاصة کالشرکات والمعاهد وما أشبه مما هو بید قطاعات خاصة من الأمة.

((التطابق بین الحقوق الفطریة والإلهیة))

((التطابق بین الحقوق الفطریة والإلهیة))

ثم إن الحقوق الفطریة التی یدرکها العقل دائماً تطابق الحقوق الإلهیة، ولذا جعل الفقهاء والأصولیون قاعدة (کل ما

ص:15

حکم به العقل حکم به الشرع) والعکس صحیح أیضاً، أی کلما حکم به الشرع حکم به العقل، ولذا قال نصیر الدین (رحمه الله): (الواجبات الشرعیة ألطاف فی الواجبات العقلیة)، لأن الدین والفطرة متطابقان فی مذهب العدلیة، قال سبحانه: ﴿فطرة الله التی فطر الناس علیها لا تبدیل لخلق الله ذلک الدین القیّم﴾((1)).

ولذا ورد: «إن لله سبحانه وتعالی حجتین، حجة ظاهرة هم الأنبیاء وحجة باطنة هی العقل»((2)).

لا یقال: ألیس هذا مناقضاً لقولهم (علیهم السلام): «دین الله لا یصاب بالعقول»((3))، بالإضافة إلی ما نری من أن الفقهاء لا یعطون مجالاً للعقل فی الأحکام الشرعیة.

لأنه یقال: کل من الخبرین له مورده فلا تصادم بینهما، إذ مجال العقل سلسلة العلل، ومجال الشرع سلسلة المعالیل، وفی هذا المجال الشرعی «دین الله لا یصاب بالعقول» لا فی المجال الأول أی سلسلة العلل.

والفقهاء جعلوا من أدلة الأحکام العقل، فقالوا: أدله الأحکام أربعة، الکتاب والسنة والإجماع والعقل، وحتی من یقول بصحة القیاس والاستحسان أیضاً یرجع ذلک إلی العقل، ولذا قال بعضهم: (حیث ما وجدت المصلحة کان حکم الله)، وقالوا بالمصالح المرسلة، وإن کنا لا نسلمهما، حیث نری أنه لا قضیة إلاّ ولله سبحانه فیها حکم خاص أو حکم عام، فلیست هنالک مصلحة لا یعرف حکمها من الشرع.

أما أن الفقهاء لا یسلمون بالعقل فی الأمور الدینیة، ففیه إنهم کالمتکلمین یقولون به.

أولاً: فی أصول الدین الفطریة، بل یقولون إنه لا یمکن أن یستند الأمور الأصولیه إلاّ إلی الشرع، وإلاّ لزم الدور وأفحام الانبیاء

ثانیاً: فی تطبیق الأحکام الکلیة علی المصادیق.

وثالثاً: فی تقدیم العقل علی الظاهر الشرعی حیث یتعارضان.

ص:16


1- سورة الروم: 30
2- ان ظر الکافی: ج1 ص15
3- مستدرک الوسائل: ج17 ص262 ب6 ح21289

ورابعاً: فی الأمور الاجتهادیة، ولذا یخالف اجتهاد هذا الفقیة عن اجتهاد الفقیة الآخر، ألیس ذلک من جهة تدخل العقل فی الأمر، بل ذهب صاحب القوانین وسائر الانسدادیین إلی أمر خامس وهو حجیة الظن، فإنه تدخیل للعقل فی الأحکام الشرعیة علی ما ذکر تفصیله فی الکتب الأصولیة.

وعلی کل حال، ففی الإسلام القواعد الفطریة تعد من منابع الحقوق الوضعیة.

ثم إن الحقوق الفطریة وإن قال بها المسلمون والغربیون فی العصر الحاضر إلاّ أنها عند الغربیین لا تنتهی إلی الحق الإلهی کما هو کذلک عند المسلمین، فإنهم یرون الحقوق الفطریة منتهیة إلی الله سبحانه وتعالی، فإن الغربیین یرون الفطرة خاتمة المطاف بینما یری المسلمون انتهاءها إلی الله سبحانه وتعالی.

ولیس ذلک بمعنی الحق الإلهی الذی کان یقول به الکنیسة فی القرون الوسطی عندهم، بل قول الکنیسة وواقعها کانا متخالفین فالکنیسة کانت تقول للبابا أن یعمل ما یشاء، فکلما یعمله فهو حکم الله، کما أن بعض المصوبة من المسلمین قالوا بذلک، بینما الحق الإلهی عندنا هو أن المسلمین یرون أنه ما ینادی به الفطرة السلیمة من حسن الإحسان وقبح الظلم وفروعها کلزوم أداء الدین وحرمة الرشوة إلی مئات الأحکام الأخر التی ینادی بها الفطرة.

ولذا نشاهد أن فی کثیر من الأحکام، سواء الأخلاقیة أو المعاملیة أو ما أشبه، یستدل علماء المسلمین بالعقل تارة وبالشرع أخری، وفی کثیر من الأحکام یقولون إنه مما قام به الأدلة الأربعة الکتاب والسنة والإجماع والعقل.

((ما المراد بالفطرة))

((ما المراد بالفطرة))

لا یقال: الفطرة عند الناس مختلفة، مثلاً الزنجی یری حسن السواد بینما الآسیوی یری قبحه، والمسلم یری حسن التزویج بالأربع بینما المسیحی یری قبحه، وهکذا فأیة فطرة

ص:17

تراد فی قولکم بانتهاء الأحکام إلیها.

لأنه یقال: لیس الأمر کذلک، المراد بالفطرة هی المتساویة عند الجمیع مما ذکرنا بعض الأمثلة لها آنفاً، ولذا نری أن الأمم المتحدة یتحدون فی کثیر من الأحکام ولیس من ذلک المثالان المذکوران، فکلاهما لا یرتبطان بالفطرة مباشرة، بل الألف والعادة أوجبا مسألة السواد والبیاض عند الزنجی وغیره، کما أوجب اختلاف الناس فی المأکل والمشرب والملبس والمسکن وغیرها، أما مسألة تعدد الأزواج فهی تنتهی إلی الفطرة بالنظر إلی استعداد الرجل وعدم استعداد المرأة، وکثرة المرأة غالباً علی الرجل مما ذکر فی الکتب التی تعنی بفلسفة الإسلام، ولا یتوهم أنا نرید إنکار اختلاف المصالح أو اختلاف الاجتهادات، فإن هناک ثلاثة أمور:

الأول: اختلاف المصالح، مثلاً مصلحة الزوج أن یعطی مهراً أقل، ومصلحة الزوجة أن تأخذ مهراً أکثر، ومصلحة المقترض أن تمتد مدة القرض إلی سنة، بینما مصلحة المقرض أن تقصر إلی ثلاثة أشهر، إلی غیر ذلک من ألوف الأمثلة التی هی من اختلاف المصالح.

الثانی: اختلاف الاجتهادات، فهذا اجتهاده تقدیم قاعدة العدل فی مورد التعارض بینها وبین قاعدة القرعة، وذلک اجتهاده بالعکس، وهکذا یری هذا تقدیم حبس المخالف للمرور وذلک تقدیم تغریمه حسب المناسبات العالقة بذهن کل بسبب الأمور المکتنفة بالقضیة.

الثالث: الفطرة واللافطرة، فحسن الإحسان فطری وقبح إعطاء حق المدعی للمنکر فی باب القضاء کذلک فطری، فی ما إذا رأی القاضی أن الحق مع المدعی وإنما یعطی الحق للمنکر لقرابة أو رشوة أو صداقة،

ص:18

فهذه أمور ثلاثة لا یختلط بعضها ببعض، والکلام الأن فی الأمر الثالث وهو الفطرة التی هی مستند الأحکام العقلیة، ولیس الکلام فی مسألة اختلاف المصالح أو اختلاف الاجتهادات.

ص:19

((الفطرة والحریات الفردیة))

اشارة

((الفطرة والحریات الفردیة))

(مسألة) حیث وصل الأمر إلی الأحکام الفطریة، فالفطرة تقتضی الحریات الفردیة إطلاقاً، ولا خارج منه إلاّ أمران:

ما إذا کانت ضارة بنفس الإنسان أو بفرد آخر، أو ضارة بالاجتماع، کأن یکون حراً فی استعمال المخدرات أو فی السرقة أو حراً فی خرق قانون المرور، إلی غیر ذلک من المضار الفردیة نفساً أو غیراً أو اجتماعاً.

أمّا إذا کانت ضارة بآخرة الإنسان فإن الآخرة وإن لم تکن مورد تصدیق الجمیع إلاّ إنها عندنا واقعیة حسب ما نعتقده نحن الإلهیین کافة، وخصوصاً نحن المسلمین، فهذا استثناء رابع عندنا.

علی أی حال، فالحریة الفردیة من مقتضیات الفطرة، وحتی الذین نادوا بالدکتاتوریة کالشیوعیین لم ینادوا بها من جهة أنها فطرتهم، بل هم قالوا بلزوم الحریة لکنهم یقولون إن الرأسمالیین استغلوا الحریة، وحیث إن السلب لا یمکن إلاّ بالدکتاتوریة فاللازم دکتاتوریة العمال لفترة خاصة حتی یرجع الأمر إلی نصابه وحینذاک تکون الحریة للجمیع حیث لا رأسمالیة یمتص ثروات العمال ومنافعهم.

وبکلامهم هذا یشبهون من یقول: لا یکون للمریض حریة المأکل والمشرب حتی یعود إلی صحته، فإنه لا یناهض الحریة وإنما یناهض الحریة لفترة خاصة من جهة حریة أوسع، لکن فی مثال المریض الحریة بالنسبة إلی الفرد فی حالتیه وفی مثال الشیوعیین الحریة بالنسبة إلی فردین، وکلامهم وإن کان حتی فی هذه الجهة مورد السؤال بل هو خال عن الدلیل کما ذکرناه مفصلاً فی کتبنا السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة وغیرها، إلاّ أنّا الآن بصدد أنه لا أحد یخالف مقتضی فطرة الإنسان فی حریته حتی الذین هم أظهر مظاهر الدکتاتوریة.

وعلی أی حال، فالفطرة

ص:20

تنادی بحریة الإنسان إلی حیث لا یضر نفسه دنیا أو آخرة، ولا یضر غیره فرداً أو اجتماعاً، ولذا قالوا: إن منتهی حریة زید هو ابتداء حریة عمرو.

وحیث إن الاجتماع لیس إلاّ عبارة عن الأفراد، فالمجمل فی الأمر أن منتهی حریة الفرد هو مبدأ حریة فرد آخر، کما أن حریة نفسه محدودة بلا ضرر نفسه، وعلی هذا الأساس تسن القوانین، ولذا کانت القوانین التی توضع فی مجلس الأمة فی البلاد الإسلامیة هی قوانین تطبیقیة لا تشریعیة، ولیس معنی ذلک غسل ید المجلس التابع لشوری الفقهاء، فإن تطبیق الأحکام الکلیة علی الصغریات الخارجیة له عرض عریض بعد وفرة الأصول الموجودة فی الأدلة الأربعة، ولذا تنفتح ید الفقیة فی عشرات الألوف من الصغریات والتی منها فی الحال الحاضر قوانین الشرطة والنجدة والمستشفیات والمعاهد والمرور وغیرها.

والقول بأن الفقه الإسلامی متأخر عن زمان الحضارة الحدیثة یدفع بمراجعة الفقه نفسه، فهل یوجد فیه ما لا یمکن تطبیقه علی الصغریات المبتلی بها فی الحال الحاضر، فکما أن الفقه قبل ألف سنة إلی مائة سنة أعطی کل حاجات المجتمع مع شدة التطور الذی عرض علی المجتمع فی تلک القرون، کذلک حال الفقه بالنسبة إلی الحضارة الحدیثة، ولا أدل علی ذلک من استمرار الفقهاء فی التحدیث وعدم وقوفهم فی جواب أی سؤال یوجه إلیهم فی أیة حادثة، ولذا قال (علیه الصلاة والسلام): «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة أحادیثنا»((1)) إلی غیر ذلک مما لسنا نحن بصدده.

وقد قالوا (علیهم الصلاة والسلام) ما مضمونه: (علینا الأصول وعلیکم الفروع)((2)).

((فتح باب الاجتهاد))

((فتح باب الاجتهاد))

ومن الواضح أن الفروع لا تقف عند حد، بل تتجدد بتجدد الأزمان إلی ما شاء الله، فاحتمال عدم انفتاح ید الفقیه فی التفریع بأعذار لم یقم علیها دلیل، ابتعاد عن موازین الفقه، وقد قال علی (علیه الصلاة

ص:21


1- وسائل الشیعة: ج27 ص140 ب11 ح33424
2- انظر وسائل الشیعة: ج27 ص62 ب6 ح33202، وفیه: « علینا إلقاء الأصول وعلیکم التفریع »

والسلام: «یعطف الهوی علی الهدی إذا عطفوا الهدی علی الهوی»((1)).

وعلیه فاللازم مثلاً ملاحظة أنه کیف یمکن حفظ اقتصاد البلد بدون مکوس أو عشور، أو کیف یمکن قیام الدولة بدون ضرائب ما عدی الأربع المقررة فی الشریعة الإسلامیة، أو کیف یمکن حفظ سیاج الجیش للبلد بدون تحطیم حریات الجند، إلی غیر ذلک مما ذکرنا بعضه فی کتاب (نریدها حکومة إسلامیة) و(إلی حکم الإسلام) وما أشبه من الکتب المعنیة بهذه الشؤون والله سبحانه المستعان.

((الشریعة أوسع من الفطرة))

((الشریعة أوسع من الفطرة))

وقد ظهر مما تقدم أن مبنی الحقوق عبارة عن الفطرة، ثم ما لا تصل الفطرة إلیه وهی الشریعة، والفطرة وإن کانت متطابقة فی الکلیات مع الشریعة، لأن الشریعة فطرة من الخارج، کما أن الفطرة شریعة من الداخل، علی ما تقدم من روایة الحجتین، إلاّ أن الإنسان حیث لا یکون محیطاً لا بد وأن یقف مکتوف الأیدی أمام کثیر من الأحداث، فلا یتمکن من جعل القانون لها، بخلاف الله سبحانه المحیط بکل شأن من الشؤون، ولذا نشاهد أن بتقدم العلم یظهر فلسفة بعض الأحکام مما کان الإنسان لا یدرکها فی وقت وضعها.

أما أصحاب المدارس الأخر القائلة بأن مستند القانون شیء آخر من العدالة أو التجربة أو الاجتماع فإنهم وإن استدلوا لآرائهم ببعض الأدلة إلاّ أنها لیست تامة.

مثلاً استدل أصحاب مدرسة العدالة بأن الإنسان عادل فی طبیعته، وهذه العدالة هی مبعث وضعه القانون، مثلاً إعطاء الحق لصاحبه فی باب القضاء من طرف القاضی أو الشهادة بالحق أو عدم أهانة الإنسان أو احترام الإنسان حیاً ومیتاً أو عدم أکل أموال الناس بلا سبب أو عدم الاستبداد بالأمر أو إعطاء وارث کل إنسان ما

ص:22


1- نهج البلاغة: الخطب 138

ترکه ذلک الإنسان کلها تتبع من حس العدالة، فهی مبعث جعل القوانین المطابقة لها، ومعارضة ما یکون ظلماً وجوراً علی خلاف العدل.

کما استدل أصحاب مدرسة التجربة بأن القوانین هی انعکاس من التجارب، فحیث رأینا أن الشیء الفلانی أضر والشیء الفلانی أنفع والشیء الثالث لم یضر ولم ینفع وضعنا القوانین علی طبق ذلک.

فالأول: قانونه سلبی، فکل شیء ضار مرفوض فی القانون.

والثانی: قانونه إیجابی، فکل شیء نافع إلی حد المنع من النقیض، القانون یطابقه.

والثالث: تخییری، مثلاً جرب الإنسان أن القتل یضر المجتمع وکذلک السرقة وما أشبه، بینما الأطباء وأصحاب المهن ینفعون المجتمع، والسفر واللاسفر لا یضر ولا ینفع إلی حد المنع من النقیض بمعنی الالتزام إیجاباً أو سلباً، ولذا قرروا المنع عن الأول، وإلزام وجود الثانی، وتخییر الثالث.

أما أصحاب مدرسة الاجتماع فقالوا: إن القوانین انعکاس عن العرف والعادة، ولذا تختلف القوانین باختلاف الأعراف، ففی بعض ولایات الغرب یحرم القانون زرع الحشیش، وفی بعضها یبیحه، کما أن فی بعض الولایات یبیح القانون الشذوذ بینما فی بعضها الآخر یحرم القانون ذلک وهکذا، وبذلک یظهر أن القانون انعکاس عن الاجتماع والعرف والعادة، کما أن البلاد التی تبنی علی الاقتصاد الزراعی تضع القوانین المنحدرة عن الزراعة، أما بلاد المعادن فالقوانین فیها تنحدر عن المعادن وهکذا، فتری القوانین فی الأول تحوم حول الزراعة والماء والفلاح والبذر

ص:23

وما أشبه ذلک، بینما القوانین فی الثانیة تحوم حول النفط مثلاً إذا کان المعدن نفطاً، والعمال والمهندسین والمعامل، ألیس هذا دلیلاً علی أن مستند القانون هو الاجتماع.

والجواب عن کل ذلک بإیجاز: إن الکل وإن کان لها المدخلیة لکنها ترجع بالآخرة إلی الفطرة، فتعلیل القانون بها تعلیل إلی السبب المتوسط فیما یلزم أن یعلل بالسبب النهائی، فالعدالة مستندة إلی الفطرة، والتجربة طریق إلی معرفة الضار والنافع والفطرة التی تقول بأن هذا ضار وهذا نافع، ثم تقول بأخذ النافع وترک الضار، وبعبارة أخری یحسن الأول ویقبح الثانی، والمجتمع لیس خارجاً عن الأفراد کالبحر الذی هو عبارة عن القطرات، وطبیعة البحر هی طبیعة القطرات وإن أضیف إلیها التجمع الذی هو قوة لم تکن موجودة فی کل قطرة قطرة، کالجیش الذی یضاف إلی قدرة کل فرد فرد قدرة المجموع، وهکذا حال الاجتماع، فالعرف والعادة یستندون إلی فطرتهم، والأمثلة غیر تامة حیث إن فی البلد الذی یحلل الحشیش مضطر إلیه لاقتصاده بخلاف البلد الذی یحرم استعماله، أو أن الناس لا یزرعون فی البلد المحلل تلقائیاً، فعدم التحریم من باب السالبة بانتفاء الموضوع بخلاف البلد المحرم وهکذا.

((إشکال اختلاف الفطرة عند الناس))

((إشکال اختلاف الفطرة عند الناس))

ثم إنه لا یقال: الفطرة تختلف عند الناس، فکیف یمکن جعل المختلف مصدراً للقانون، ولذا نری أن بعضهم بفطرتهم یمیلون إلی العنف وبعضهم یمیلون إلی اللاعنف، وبعضهم متکبرون وبعضهم متواضعون، وهکذا حال الکرم والبخل والشجاعة والجبن والقناعة والحرص إلی غیر ذلک مما یؤثر فی القانون تلقائیاً، فإن العنیف یضع القانون المناسب للعنف، مثلاً یضع القانون الذی یقوی الجیش والسلاح والسجون والتعذیب والمطاردة والنفی وما أشبه ذلک، بینما اللا عنیف یضع القوانین المناسبة

ص:24

لللاعنف، والعنف واللاعنف نفسیان، وأخذ السلاح ووضعه من آثارهما، کما أن کل ظاهرة من آثار الواقع القائم بالنفس وإن کان هناک قیام واقع أولی وقیام واقع ثانوی.

إذ ربما یکون الإنسان لا عنفاً لا من جهة النفس بسبب التعقل، بل حیث یری قوة خصمه وأنه إن استعمل السلاح فاقه خصمه، فیضع السلاح فیغلب الروح السلاح، وهذا ما نعبر عنه باللاعنف من الضعف.

وربما یکون العکس، أی اللاعنف من القوة، وذلک فیما إذا کان الإنسان محباً للمحبة والسلام، حیث إنه وإن کان أقوی من خصمه لکنه یحل الأمور بالسلم والمداراة والمحبة والصفح، کما ورد فی الحدیث قوله (علیه الصلاة والسلام): «وهل الدین إلاّ الحب»((1))، ویحکی عن عیسی المسیح (علیه الصلاة والسلام) أنه قال: «أحبوا أعداءکم»((2)).

وهذا لا عنف من القوة، فإن کلیهما وإن أثر فی ترک السلاح إلاّ أن أحدهما قسری وهو الأول، والآخر اختیاری وهو الثانی.

وهکذا یقال بالنسبة إلی التکبر والتواضع حیث إن الإنسان قد یتواضع ونفسه تجیش بالتکبر وإنما یتواضع لأنه لم یجد بداً إلاّ من التواضع فی الوصول إلی هدفه واجتناب المکروه، وقد یتواضع لأن الإنانیة فی نفسه وصلت إلی حد الصفر، فالأول تواضعه قسری والثانی تواضعه اختیاری.

وفی کلا الحالین فالظاهری فقط فضیلة جسمانیة، والنفسی فضیلة روحانیة، والفضیلة الروحانیة مقدمة علی الفضیلة الجسمانیة کما هو واضح، وهکذا یقال فی سائر الصفات من الکرم والشجاعة وغیرهما فإنها قد تکون جسمانیة وقد تکون روحانیة.

وعلی أی، تؤثر فی جعل القوانین، فالحاکم الکریم یضع القانون الذی یوسع علی الناس ویقلل من أخذ الضرائب منهم، وهکذا بالنسبة إلی سائر الصفات الظاهرة، سواء کانت مستندة إلی واقع النفس أو کانت مستندة إلی التوازنات والمعادلات الخارجیة، وتقدیم الأهم علی

ص:25


1- الکافی: ج8 ص79
2- شرح النهج: ج10 ص159

المهم.

فإذا کانت الفطرة تختلف عند الناس فما هو المیزان إذاً، وهل یمکن أن یکون الشیء المختلف مصدراً للقانون.

والجواب:

أولاً: إنا لا نسلم اختلاف الفطرة، ولذا نشاهد أن أصحاب الرذیلة أیضاً یعترفون بأن عملهم رذیلة ولکنهم یبررونها بعدم العلاج واقتضاء الظروف والضرورة للمنکر.

فإنما ینکر باللسان

وقلبه اطمأن بالإیمان.

وثانیاً: علی فرض الاختلاف، وهذا غیر بعید ولو فی الجملة، حیث اختلاف التشخیصات المؤثرة فی اختلاف الصغریات، مثلاً کلاهما یعترفان بأن اللاعنف فضیلة والعنف رذیلة، فهناک جواب نقضی وجواب حلی:

أما نقضاً: فلأن المصدر للقانون أیاً کان حاله حال الفطرة، مثلاً إذا أخذنا المصدر العرف فالعرف قد یختلف، إلی غیر ذلک، فما یرد علینا یرد علی الطرف أیضاً.

وأما حلاً: فلأن العلاج منحصر فی هذا أو ذلک، والإسناد إلی الفطرة هو الواقع دون غیره، وهو کمن یسند بناء الدار إلی إنسان عامی لا اطلاع له من الهندسة وموازین البناء، بینما غیره الواقعی یسنده إلی مهندس قدیر، وبالآخرة فإن الإسناد إلی الفطرة أقل خطئاً من الإسناد إلی الأسباب الأخر.

ص:26

((هل یلزم اتباع قوانین الدولة))

((القانون الشرعی))

((هل یلزم اتباع قوانین الدولة))

(مسألة): لا یجب الاتباع لقوانین الدولة إلاّ فی صورتین:

((القانون الشرعی))

الأولی: ما إذا کان القانون مطابقاً لحدود الشریعة، فإن الوجوب إنما هو لأنه شرعی لا لأنه قانونی، کما إذا حرم القانون التزویج بأکثر من أربع، أو حرم السرقة أو القتل أو ما أشبه ذلک.

ومن القانون المطابق لحدود الشریعة ما إذا کان حکم الدولة مطابقاً لقانون ثانوی من قوانین الشریعة، کقانون الأضطرار مثل أن الدولة أباح شرب الخمر وهذا مضطر إلی شربها لمرض لا علاج له إلاّ الخمر مع کون المرض مؤذیاً مما ذکر تفصیله فی الفقه، أو کانت مخالفة قانون الدولة توجب ضرراً علیه، کما إذا کان خلاف قانون الجندیة یوجب سجنه أو إعدامه بما لا یرضی الشارع به، بمعنی أن الشارع حرم ذلک، فهو یأخذ بقانون الدولة من جهة الاضطرار، وقانون الدولة حینئذ واجب الاتباع لأمر الشارع باجتناب المضطر الشدید الاضطرار الحکم الأولی، وقد ذکرنا فی الفقه أن الاضطرار علی قسمین:

((أقسام الاضطرار))

((أقسام الاضطرار))

1: ما إذا کان خفیفاً، وهذا یختار الشخص فی الأخذ بالاختیاری أو الأضطراری، وقد مثل الفقهاء لذلک بما إذا لم یکن الصوم شدید الضرر فإنه مختار بین الصیام وبین الأفطار، وکذلک حال الوقوف أو الجلوس فی الصلاة، وحال الغسل أو التیمم، إلی غیر ذلک.

2: ما إذا کان الاضطرار شدیداً، کما إذا کان صومه یوجب ذهاب بصره أو موته أو ما أشبه ذلک حیث یحرم علیه الصوم، وتفصیل الکلام فی ذلک فی الکتب المعنیة مما ذکرنا بعضه فی شرح العروة کتاب الصیام وغیره.

ومطابقة القانون اختیاراً أو اضطراراً أعم من مطابقته أوامر الدولة أو نواهیها.

ص:27

((قوانین الدولة المشروعة))

((قوانین الدولة المشروعة))

الثانیة: ما إذا کانت الدولة مشروعة، أی بقیادة الفقهاء العدول علی نحو الشوری فیما إذا تعددوا، أو الفردیة فیما إذا اتحد، حسب ما ذکرناه فی الکتب السیاسیة.

فإن اللازم حینئذ اتباع قانون الدولة ولو کان قانون الدولة من باب تطبیق الکبری علی الصغری، بما إذا لم تکن الدولة شرعیة لم یکن الشارع أجبر علی الاتباع، مثلاً قانون الشرطة والمرور والنجدة والجندیة وقوانین التجارة والزراعة والصناعة والسفر والإقامة وغیرها إذا وضعتها الدولة العادلة تطبیقاً للکبریات علی الصغریات لزم اتباع تلک الصغریات، وإلاّ لم یلزم.

فإذا قننت الدولة العادله لزوم مرور السیارات من الیمین، أو الوقوف عند احمرار الضوء، أو قننت عدم استیراد البضاعة الفلانیة أو للدخول فی سلک الجندیة من السنة الثامنة عشرة أو ما أشبه ذلک، لزم اتباعها باعتبار أن الدولة عادلة، فاتباعها اطاعة لأمر الإمام (علیه الصلاة والسلام) القائل: «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا»((1)).

((قوانین الدولة غیر المشروعة))

((قوانین الدولة غیر المشروعة))

أما إذا کانت الدولة غیر عادلة لم تلزم هذه الأمور، لعدم وجوب اتباع هذه الدولة، إذ لا دلیل علی لزوم الاتباع بل یبقی علی الأصل من حریة الإنسان فی تصرفاته، وعلیه فإذا حرمت الدولة الجائرة الاستنارة من الکهرباء أو الاستفادة من الماء أو من سیارات الدولة المخصصته لجهة خاصة أو ما أشبه ذلک لم یلزم الاتباع، بل یبقی الإنسان علی حریته بأن یستفید أو لا یستفید.

نعم یحرم الاتباع فیما إذا کان قانون الجائر خلاف قانون الإسلام، مثلاً قیل لموظف الحدود خذ الجمرک من البضائع الفلانیة، أو قیل لموظف المطار فرق بین أهل البلد وبین سائر أهل البلاد الأخر فی أخذ الأجور، فأجرة غیر أهل البلد ضعف أجرة أهل البلد أو ما أشبه ذلک، فإنه یحرم علی الموظف التنفیذ، لأنه خلاف تحریم الشارع أخذ العشور وخلاف إیجاب الشارع التسویة بین المسلمین، فلیس أحدهم

ص:28


1- غیبة الطوسی: ص290

أهلیاً والآخر أجنبیاً، وإنما المسلم أهلی فی کل بلاد الإسلام من غیر ملاحظة الحدود الجغرافیة، والأجنبی هو غیر المسلم. لکن یجب أیضاً أن تراعی حقوق الأقلیات علی ما ذکر فی الإسلام، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

((قانون الأهم والمهم))

((قانون الأهم والمهم))

ثم جواز الاتباع أو حرمته فی الجائر إنما هما إذا لم یکن هناک عنوان طارئ معارض، وإلاّ لوحظ ذلک العنوان الطارء أیضاً مما ینتهی الأمر بالآخرة إلی قانون الأهم والمهم وما أشبه، فإذا قتل إنسان إنساناً ظلماً وکان إخبارنا الدولة بذلک یوجب سجن القاتل مع أن السجن لیس قانون الإسلام بل الدیة أو القصاص علی ما ذکر فی کتابهما، فإنه یجب إخبارنا للدولة بالقاتل لأن لا یطل دم امرئ مسلم، ولأن لا یترک القاتل فی غیه فیقتل الآخرین.

وهکذا بالنسبة إلی ما إذا أخبرناها بالسرقة أو الاغتصاب أو الزنا أو الإفطار فی شهر رمضان عمداً علناً، حیث تسجنه الدولة إلی آخر الشهر فقط وهو لیس بحکم إسلامی، وإنما یجب علینا الأخبار لا من باب أنها تطبق قانون الإسلام أو حتی أن تطبیقها جائز لأن التطبیق لیس إلاّ علی الدولة العادلة، والحکم لیس ما تطبقه الدولة وإنما من باب قانون الأهم والمهم.

وإنما ذکرنا هذا المبحث هنا لبیان أن القانون إذا لم یکن قانون الفطرة والشریعة فی أی مکان یجوز اتباعه وفی أی مکان یجب وفی أی مکان یحرم، ومن ذلک تبین أن قول بعض الحقوقیین الغربیین من أن القانون إذا وضع وجب اتباعه، ولا حق لأحد فی مخالفته، سواء کان واضع الحقوق تابعاً لمدرسة الفطرة أو مدرسة التجربة أو مدرسة الاجتماع أو غیرها، کلام غیر تام، لا بالنظر الإسلامی فحسب، بل بالنظر العقلی أیضاً، إذ معنی ذلک وجوب اتباع قوانین المستبدین والظالمین، وهل هذا إلاّ تحکیم قوة السلاح فی وضع القانون، إذ المستبد إذا وضع القانون إنما

ص:29

یضعه بقوة السلاح، ومنه یعلم أنه لا ملزم لمثل هذا القانون بل اللازم مخالفته سراً وعلناً حتی یخلی مکانه للقانون الصحیح.

((وضع القانون أم اتباع العرف))

((وضع القانون أم اتباع العرف))

ثم إن فی العالم غیر الإسلامی حیث دولة القانون، فالدولة قد تضع القانون وقد لا تضعه، وإنما تتبع العرف والعادة، یعنی تصدق الدولة أن العرف والعادة هما القانون فیما إذا لم یکن قانون للدولة مقنن من قبل ذلک، فلا أهمیة منحصرة للتقنین فی مجلس الأمة أو الأعیان أو ما أشبه، أی لیس ذلک القانون الوحید.

والفرق بین العرف والعادة: إن الأول عبارة عما یراه العرف وإن لم یکن له سابق أو کان له سابق مخالف، بینما العادة عبارة عن وجود سابق وإن لم یره العرف، فبینهما عموم من وجه.

مثلاً قد یری العرف حرمة اصطیاد الحیوانات النادرة بینما العادة علی الاصطیاد، وقد یکون الأمر بالعکس، وسیأتی بعض الکلام فی ذلک.

((الصور الست للقانون مع العرف والعادة))

((الصور الست للقانون مع العرف والعادة))

ومن ذلک یعرف أن الصور الأولیة المتصورة فی هذا الباب ستّ:

حیث إن القانون قد یکون مع عرف مخالف، أو مع عرف موافق، أو مع عرف حیاد أی من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وهذه الصور الثلاث أیضاً تأتی فی القانون مع العادة، فإن العادة قد تکون مخالفة للقانون، وقد تکون موافقة، وقد تکون العادة حیادیة.

أما الأمر بالنسبة إلی الشریعة ففی الصغریات المجعولة إنما یکون لها قوة القانون بلزوم الاتباع فیما إذا وضعها شوری الفقهاء بأکثریة الآراء، فالتقلید یکون فی مثل الصلاة والصوم والحج وما أشبه أما فی القوانین العامة الموضوعة للشرطة والجیش والنجدة والاقتصاد والزراعة والصناعة والتجارة والقضاء وغیر ذلک فاللازم أن تکون موضوعة حسب رأی الشوری سواء وضعها الشوری مستقیماً أو وضعها بواسطة، مثلاً شوری الفقهاء وهم من انتخبته الأمة للتقلید وللقیادة

ص:30

یوکلون أمر وضع قوانین القضاء الموحد إلی لجنة من المجتهدین العدول منضماً إلیهم جملة من علماء الحقوق الزمنیین، فإنهم إذا وضعوا شیئاً یکون له قوة القانون بلزوم الاتباع، إذ هو کما إذا أمر مالک الأشتر شعب مصر بشیء لعلة أن نصبه الأمام أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) بالآخرة.

((لماذا شوری الفقهاء))

((لماذا شوری الفقهاء))

والحاصل إنه یجب تنظیر الأمر فی حال الغیبة بحاله فی حال الحضور، فإذا نصب الإمام (علیه الصلاة والسلام) لإدارة الحجاز مثلاً خمسة من أصحابه فکیف یلزم أن یدیروا دفة الحکم ألیس بالشوری والأکثریة، وإذا اختلفوا فی اجتهاداتهم مثلاً ولم یتمکنوا من الوصول إلی الإمام إلاّ بعد سنة فإذاً یعملون بأکثریة آرائهم فی کل شؤون الدولة المحتاجة إلی التقنین ورد الصغریات التی هی محل الابتلاء إلی الکبریات الکلیة التی سمعوها من الإمام (علیه الصلاة والسلام) ووجدوها فی السنة المطهرة وفی القرآن الکریم، فکذلک حال الغیبة، حیث المراجع المتعددون الذین کلهم مراجع تقلید الناس، وکلهم وکلاء إمام واحد (علیه الصلاة والسلام) فإن ولایتهم عرضیة، بینما ولایتهم فی طول ولایة الإمام (علیه السلام)، کولایة الإمام التی هی فی طول ولایة الرسول (صلی الله علیه وآله) والذی ولایته فی طول ولایة الله سبحانه وتعالی، فهم فی حال الغیبه کحال الأوصیاء المتعددین بالنسبة إلی صغار المیت أو کالأبناء المتعددین المتساوین عمراً بالنسبة إلی أمور المیت، إلی غیر ذلک.

((بین التشریع والتطبیق))

((بین التشریع والتطبیق))

ثم إنه قد تبین أن التشریع خاص بالله سبحانه وتعالی، وأن تشریعات الله عزوجل مؤیدة بالفطرة التی جعلها الله سبحانه وتعالی فی الإنسان، لکن یبقی شیء:

وهو أن تطبیق الکبریات الکلیة علی الصغریات الخارجیة غالباً یکون له أفراد متعددة، فیکون الحاکم مخیراً بین هذا الفرد وهذا الفرد، مثلاً قال الإمام (علیه الصلاة والسلام): «فللعوام أن

ص:31

یقلدوه»((1))، أو قال بالائتمام بإمام جماعة، أو قال بالرجوع إلی قاض متصف بصفات مخصوصة، فإذا کان هناک مرجعان متساویان أو إمامان أو قاضیان یتوفر فی کلهم الشروط المقررة شرعاً، حق للإنسان أن یقلد أو یأتم أو یتقاضی إلی هذا أو ذاک.

وکذلک الحال إذا قال: ﴿ولا تقربوا مال الیتیم إلاّ بالتی هی أحسن﴾((2))، وکان مصداق الأحسن کلاً من التجارة والزراعة والصناعة، حیث إنه إذا کان الجمیع علی قدم المساواة فی الربح العائد إلی الیتیم وعدم الضرر، حق لولّی الیتیم أن یضع أمواله فی هذا أو ذاک أو ذلک، إلی غیرها من الأمثلة.

لکن الدولة عند وضع القانون لا تتمکن أن تجعل الأمر رجراجاً، بل لا بد من جعل القانون علی طبق إحدی الصغریات المتعددة، مثلاً لا تتمکن الدولة أن تقول السیارات حرة فی کیفیة السیاقة یمیناً أو یساراً، وبأیة سرعة أرادوا، وبالوقوف کیف ما شاؤوا وهکذا، بل لابد لها أن تعین إما الیمین أو الیسار وأن تقول:  یلزم وقوف السیارات إما عند ضوء الأحمر أو الأخضر، وهکذا بالنسبة إلی غالب الشؤون المرتبطة بالدولة.

إذ عدم التعیین یوجب الفوضی والضرر والهرج والمرج، وکل هذه العناوین تقید القوانین الأولیة، فحینئذ فإن العرف والعادة والوضع الجغرافیائی والاقتصادی والسیاسی والاجتماعی وغیرها کلها لها مدخلیة فی اختیار الحاکم الإسلامی علی السیر علی الیمین مما لا یمکن ردهم إلی السیر علی السیار مثلاً، فیجعل الحاکم ذلک قانوناً، وإن کان السیر علی کل من الیمین ومن الیسار جائزاً فردیاً لولا المصلحة الثانویة.

وکذلک لو کان احتیاج البلاد إلی الزراعة دون الصناعة، یجعل الحاکم صرف المال فی الزراعة قانوناً، إلی غیر ذلک، وهذا الذی نذکره لیس عبارة أخری عن حق الحاکم فی جعل الحکم مما هو خلاف الإسلام، بل هو

ص:32


1- وسائل الشیعة: ج27 ص131 ب10 ح33401
2- سورة الأنعام: 152، سورة الإسراء: 34

عبارة عن حق الحاکم فی ترجیح موضوع علی موضوع حیث عدم الترجیح الابتدائی، وإنما یکون الترجیح بسبب تدخل مصلحة إسلامیة خارجیة فی القانون الأولی، حیث إن عدم الترجیح والتقنین علی طبق ذلک المرجح موجب للفوضی والضرر وما أشبه.

وذلک بخلاف الغربیین الذین یجعلون الحکم والموضوع کلیهما بید الحاکم.

((الهدف من القانون))

((الهدف من القانون))

بقی شیء، وهو أنه مع قطع النظر عن مبعث القانون، حیث قد تقدم أن القانون یختلف حسب انحداره عن الاجتماع أو التجربة أو الفطرة أو غیر ذلک، وأن کل ذلک له مدخلیة فی اختلاف القانون، إذ المقنن أیضاً لیس حراً فی جعله القانون بل تابع لموجب له من عرف أو اجتماع أو تجربة أو فطرة أو أخلاق أو غیر ذلک.

یأتی الکلام فی الهدف من القانون أیضاً، إذ القانون یختلف بحسب الهدف کما یختلف الأمر فی المادیات کالسریر من حیث المادة ومن حیث الهدف، وأن صانع السریر مثاله مثال جاعل القانون، فصانع السریر یختلف صنعه بین أن یکون من الخشب أو من الحدید، وأیة کانت المادة العیدان أو الحدید فقد یصنع السریر لأجل الجلوس وقد یصنع لأجل النوم، فالأقسام أربعة، سریر النوم من الخشب أو الحدید، وسریر الجلوس من الخشب أو الحدید.

وفی مقام القانون کذلک:

قد یکون المبعث الأدلة الأربعة، والهدف لأجل ترفیع الاقتصاد أو لأجل ترفیع الثقافة.

وقد یکون المبعث العرف والعادة، لأجل ترفیع الثقافة أو لأجل ترفیع الاقتصاد.

والقانون فی کل من الأقسام الأربعة یختلف عن الأقسام الثلاثة الأخر، فإذا کان المصدر الأدلة الأربعة یجب أن یجعل القانون منبعثاً من ﴿أحل الله البیع وحرم الربا﴾((1))، فبالمال التجاری تبنی المدارس للثقافة أو تنصب المعامل للاقتصاد، حیث قد یکون الهدف من القانون الثقافة وقد یکون الهدف من القانون الاقتصاد.

أما إذا کان العرف والعادة هو المبعث کما فی

ص:33


1- سورة البقرة: 275

بعض المجتمعات المتفسخة فی البلاد الإسلامیة مثلاً، فالمبعث أخذ المال من الربا لأجل أحد الهدفین السابقین، فتأتی الأقسام الأربعة هنا أیضاً.

وعلیه ففی العرف المتفسخ أو عرف غیر المسلم قد یکون المبعث حلالاً أو حراماً، وعلی کل فالهدف حلال أو حرام کفتح المخمر مثلاً.

وقد ذکرنا سابقاً أن الفرق بین الإسلام وغیر الإسلام أن الإسلام إنما یضع القانون فی إطار الصغریات فقط، بینما غیر الإسلام یضع القانون فی إطار الصغریات والکبریات معاً.

ص:34

((أصالة الفرد أم المجتمع))

((القول الأول وأدلته))

((أصالة الفرد أم المجتمع))

(مسألة): خلاف بین علماء الحقوق والقانون وغیرهم، فی أن الأصل الفرد أو المجتمع، قال بکل جماعة.

((القول الأول وأدلته))

فالأولون استدلوا بأن الإنسان ولد حراً ویبقی حراً ولا یمکن أن یسلب شیئاً من حریته أحد إلاّ الدین الإلهی الذی یسلب حریته فی مصلحته أیضاً فی دنیاه أو آخرته. والدولة وغیرها إنما یلزم علیهم أن یحموا هذه الحریة.

وهو وحده له الحق فی أن یتنازل عن حریته تلقائیاً إطلاقاً، أو بعقد کأن یلقی متاعه فی الشارع إعراضاً، أو یهب شیئاً من أمواله إلی الآخرین، أو یبدله بمال آخر فی عقد مع آخرین بأی نوع من أنواع التبدیل فی ما إذا لم یکن منع شرعی.

بالإضافة إلی أن حریته محدودة بحریة الآخرین، فلا یحق لأحد أن یضر الآخرین أو یسلب حریاتهم، وکذلک العکس.

ومن هذا المنطلق یکون الاقتصاد والسیاسة والاجتماع والدولة والعقود والثقافة وغیرها کلها تابعة للإنسان، فإن الکل یدور مدار الإنسان:

ففی حقل الاقتصاد المعیار (دعه یعمل.. دعه یسیر).

وفی حقل السیاسة هو حر فی انتخاباته إلی أبعد حد.

وفی حقل الدولة، الدولة خادمة له، یقبلها الإنسان متی شاء ویردها متی شاء، حالها حال خادم البیت.

وفی حقل الاجتماع له أن یجتمع مع من شاء، ویراجع الطبیب والمهندس وغیره کما یشاء، ویتزوج ممن یشاء.

وفی حقل العقود له أن یبیع أو یرهن أو یؤجر أو یستأجر کما یشاء.

وفی حقل الثقافة له أن ینخرط فی أی ثقافة شاء.

إلی غیر ذلک مما یحفظ کرامته وحریته وملکه الفردی وغیر ذلک، وعلی هذا فوظیفة الحقوق جعل القوانین لحفظ التنسیق بین الأفراد الذین یتکون منهم الاجتماع، وعلیه فالعدالة لیست إلاّ حفظ الحریات والتنسیق بین الأفراد فی الإطار الشرعی فیما إذا کان متشرعاً، وفی إطار العرف والعادة ونحوهما فی غیره.

والحاصل إن إرادة الفرد

ص:35

هی روح الاقتصاد والدولة والحقوق وغیر ذلک، ومن ذلک ینشأ حق التجارة الحرة والعقود المعاملیة والنکاح والطلاق وغیر ذلک من شؤون الفرد.

((القول الثانی وأدلته))

((القول الثانی وأدلته))

أما القول الثانی، فقد استدل بأن الاجتماع هو الأصل، لأنه هو الذی یؤمّن مصالح الأفراد، ومنه یقوم الأفراد الکبار والمخترعون العظام، فلو لم یکن الاجتماع هل کان بالإمکان وجود علماء بارزین أو مخترعین فائقین أو زعماء کبار أو ما إلی ذلک.

والفرد له الحق بقدر أن یعیش فی هذا الاجتماع موفور الجانب، محترم المال والعرض والدم، فحریة الفرد سواء فی حقل السیاسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو غیرها محدودة بحدود مصلحة الاجتماع.

وعلیه فاللازم أن یتکئ کل شیء من السیاسة والاقتصاد والحقوق وغیرها علی إرادة الاجتماع والتی تمثلها الدولة، وعلیه فاللازم أن یدور کل شیء مدار الدولة الممثلة للاجتماع.

نعم فی هذا المدار یجب أن تشکل المدرسة الحقوقیة المرتبطة بالأفراد، والمراد بالمؤسسة الحقوقیة أن الفرد له حق الکسب والاتجار والسفر والعمارة والزراعة والنکاح والطلاق والمعاملة وغیرها.

وعلیه فالعدالة عبارة عن إعطاء الفرد حقه فی إطار الجماعة، فکلما کان ضاراً بالجماعة لم یکن حقاً للفرد، وإن کان الفرد إذا عاش وحده کان له ذلک الحق، مثلاً إذا عاش الفرد فی غابة کان له أن یستفید من کل الثمار أکلاً وتجفیفاً ونحوها، وإذا عاش علی البحر کان له أن یستفید من کل الأسماک، وإذا عاش فی الصحراء کان له أن یسوق سیارته کیف ما شاء وهکذا، أما إذا عاش فی الاجتماع فإن القانون یجعل الثمار والأسماک للکل، وإنما له بقدر حصته فی ضمن الکل، کما أن له بقدر ما یقرره القانون من السیر یمیناً أو یساراً، سریعاً أو بطیئاً، ومن الوقوف أو الجری بما فیه مصلحة الاجتماع.

وعلی هذا الرأی

ص:36

فخصوصیات الأفراد وتکالیفهم وآراؤهم وحقوقهم تعنی بواسطة الاجتماع، وتستفاد من العرف والعادة وغیر ذلک. فالأفراد مجبورون أن یعیشوا فی هذا الإطار فی کل شؤونهم الفردیة والاجتماعیة.

بخلاف الرأی الأول، حیث یری أن کل شیء یوضع حسب حریة الفرد وبرأیه، لکن فی أطار حریة الآخرین وآرائهم، وقد تقدم انتهاء حریة الفرد ورأیه حیث یبتدئ حریة الآخرین.

وعلی هذا فالدولة تتدخل فی کل شؤون الأفراد بما تراه صلاحاً، سواء شؤونهم السیاسیة أو الاجتماعیة أو الاقتصادیة أو الحقوقیة أو غیرها، لأن الدولة بما أنها ممثلة للاجتماع هی الأصل الذی یجب أن یکون الفرد فرعاً له، لا أنها هی الفرع الذی یکون الفرد أصلاً لها.

ولذا فالعدالة فی نظریة الاجتماع تقتضی توزیع الثروة، بمعنی أن الدولة تقسم الثروة حسب ما تراه تقسیماً عادلاً بین الأفراد، وذلک بمعنی أنه یؤخذ من الکل لیعطی للکل، ولا حق للمأخوذ منه أن یعترض بأنه لماذا تأخذ منی المال الذی اکتسبه، بینما فی نظریة الفرد العدالة معاوضیة، بمعنی أن الفرد یعطی بقدر ما هو یری فی قبال أخذه من الطرف حسب المراضاة بینهما.

والحاصل: إن الفرد فی نظر الاجتماعی محکوم، کما أن الاجتماع فی نظر الفردی محکوم، ومن النظرة الفردیة نشأت الدول الرأسمالیة، ومن النظرة الاجتماعیة نشأت الدول الشیوعیة، ومن الجمع بینهما نشأت الدول الاشتراکیة، ولا نقصد أن الشیوعیة مبنیة علی الاجتماعیة فحسب، أو الرأسمالیة مبنیة علی الفردیة فحسب، إذ کل من الدولتین تبنی علی عدة أسس والتی من أهمها النظرة الفردیة أو النظرة الاجتماعیة، کما أن الاشتراکیة لم تنشأ من الجمع بین النظریتین مطلقاً، بل أخذت بعضاً من هذا وبعضاً من هذا وإن کانت نسبة المأخوذ مختلفة أی لم تتساو النظریتان فی

ص:37

تکوین الاشتراکیة، بل بنسب مختلفة مثل أربعة أخماس من الفردیة وخمس من الاجتماعیة، بالإضافة إلی أن الاشتراکیات مختلفة حسب اختلاف آرائهم بقدر الأخذ من هذا الرأی أو من هذا الرأی.

((أصالة الفرد وشروطها))

((أصالة الفرد وشروطها))

هذا ولکن النظریة الفردیة أقرب ألی العقل والمنطق وإلی الفطرة والإسلام حسب الأدلة المتوفرة فی المقام، ذلک بشروط وضعها الإسلام.

الأول: أن یکون لکل حقه.

وهذا الشرط عبارة أخری عن تحقق الموضوع، فلا یحق للإنسان استغلال إنسان آخر ولو بالإکراه الأجوائی، کما فصلناه فی الکتب الاقتصادیة، مثلاً الإنتاج حاصل من العمل والعمال ورأس المال والإدارة وصاحب المال، فاللازم أن یوزع الربح علی هذه الخمسة حسب حقوقهم العادلة فی نظر العرف، وبذلک لا تتحقق الرأسمالیة بمعناها الغربی، بل الرأسمالیة بمعناها الإسلامی حیث قال سبحانه: ﴿لکم رؤوس أموالکم﴾((1))، ولذا قد یعبر عنه بالاشتراکیة أیضاً کما فی الروایة (شّرک).

الثانی: أن لا یکون ضرر علی الآخرین.

وهذا الشرط عبارة عن تحقق الوضوع، لما تقدم من أن حق الفرد محدود بحقوق الآخرین، کما أن حریة کل فرد محدودة بحریات الأفراد الآخرین.

الثالث: تقسیم حقه بین جانبیه الفردی والاجتماعی.

فإن الإنسان فردی من ناحیة واجتماعی من ناحیة أخری، ولذا فاللازم أن یقسم سعیه بین الجانبین، فإعطاء الاجتماع شیئاً من سعیه لیس بمعنی أن الاجتماع سلبه حقه، أو أن الدولة هی الحاکمة والأصل والفرد هو المحکوم والفرع، بل بمعنی إعطاء جانبه الاجتماعی حقه أیضاً.

وحق الاجتماع عبارة عن حفظ النظم وتقدیم الاجتماع إلی الأمام، وهذان ما یقوم بهما الدولة نیابة عن  

ص:38


1- سورة البقرة: 279

الأفراد فی انتخابات حرة، علی ما ذکرنا تفصیله فی کتبنا السیاسیة.

ومن الواضح أن حفظ النظم یعود بالخیر إلی الفرد، فهو خروج عن الفرد إلی الفرد، کما أن تقدیم الاجتماع یعود بالخیر إلی الفرد أیضاً، فإن الفرد فی الاجتماع المتأخر مهان وماله وعرضه ودمه معرض للزوال بواسطة اجتماع آخر متقدم، إذ من طبیعة الاجتماع المتقدم أن یطغی حسب قوله سبحانه: ﴿إن الإنسان لیطغی * أن رآه استغنی﴾((1))، بالإضافة إلی أن الاجتماع المتفکک معرض لأن یعتدی بعضهم علی بعض مما یجعل الفرد فی معرض الإهانة.

الرابع: التکافل الاجتماعی.

مثل إعطاء المرضی والمعلولین وما أشبه، وهذا أحیاناً یعود إلی نفس الفرد أیضاً حین عجزه وضعفه، وإحیاناً لا یعود إلی نفسه إلاّ من جهة الضمیر والوجدان، ومن جهة أن احترام المجتمع احترام لکل فرد من أفراده، حیث إن التکافل الاجتماعی نوع من احترام الاجتماع والإنسانیة، وهذا الاحترام عائد إلی کل فرد فرد.

وهذا وإن أمکن عکسه، بأن یقال بأصالة الاجتماع ویخصص بأمثال هذه المخصصات الأربع، إلاّ أن الفرد أولی والاجتماع ثانوی، فمثالهما مثال القطرة والبحر، ومثال الرملة والصحراء، ولذا فاللازم أن یجعل الفرد أصلاً والاجتماع استثناءً لا العکس.

((إشکال وجواب))

((إشکال وجواب))

وبذلک ظهر أن أشکال الاجتماعیین علی الفردیین غیر وارد، حیث إنهم أشکلوا علی الفردیین بأنه إن أعطینا الحریة للأفراد سبب ذلک إضرار أنفسهم وغیرهم وجمود الاجتماع، إذ الفرد لا یتمکن من تقدیم الاجتماع إلی الأمام، بل الاجتماع المتمثل بالدولة یتمکن من التقدیم للاجتماع، وبذلک یتقدم کل فرد فرد، لا أن الاجتماع مکون من أفراد إن تقدم الاجتماع تقدموا، وإن تأخر الاجتماع تأخروا.

 

ص:39


1- سورة العلق: 6_ 7

بالإضافة إلی أن ذلک یوجب استغلال الأفراد الأثریاء، وهم قلة دائماً، للأفراد الفقراء وهم الذین یشکلون الکثرة دائماً، کما نشاهده فی العالم الرأسمالی حیث ملایین الجائعین فی قبال ألوف الأثریاء الذین هم یستغلون العمل والعمال والمعمل وکل شیء لأجل مزید المال وجلب الثروة إلی کیسهم.

ولا ینفع أن یقال: إن العمل یکون بالرضا، فإن العمال یعملون بالمعاقدات ملئ رضاهم مع الرأسمالیین، حیث إن هذا الرضا إکراهی أجوائی، فإنهم ما ذا یعملون لأجل إمرار معاشهم إذا لم یعملوا لأجل الرأسمالی، وهم کالطیر فی القفص إنه یتحرک فیطیر إلاّ أنه فی نطاق القفص لا أنه حر یطیر کسائر الطیور الخارجة عن القفص حیث تذهب فی أجواء السماء وآفاق الأرض.

إذ قد عرفت أن الفردیة محدودة بحدود تحل کل هذه المشاکل.

ولیس معنی عدم الاجتماعیة صحة الفردیة الرأسمالیة بالمفهوم الغربی، بل تصح الرأسمالیة بالمفهوم الإسلامی، کما ذکرناه فی (الفقه الاقتصاد) وغیره.

هذا بالإضافة إلی أن النظریة الاجتماعیة تنتهی إلی الدکتاتوریة حتی یصبح الفرد آلة بسیط فی المعمل، کما هو المشاهد فی الدول الشیوعیة، فالنظرة الاجتماعیة أکثر بطلاناً من النظریة الفردیة إذا دار الأمر بینهما، فإن الاجتماعیة لا تعطی للعمال لا حریة العمل حتی بقدر إعطاء الفردیة لهم، ولا حقهم فی الاقتصاد، بل إن الدولة تسلب الناس أموالهم وحریاتهم فی وقت واحد.

وحیث إنا ذکرنا تفصیل الکلام فی الاقتصاد والسیاسیة فی کتاب (الفقه الاقتصاد) و(فقه السیاسة) فلا حاجة إلی التکرار فی المقام.

ص:40

((میزات الحق))

((الحقوق إلزامیات))

((میزات الحق))

(مسألة) الحقوق لها میزات أوجبت جمعها فی کتاب خاص، وذلک للخصوصیات المشترکة بین جمیع الحقوق:

((الحقوق إلزامیات))

الأول: من تلک المیزات أنها إلزامیات فی الجملة، وإنما قلنا (فی الجملة) لأنه قد یکون الحق إلزامیاً مطلقاً سواء أراد صاحب الحق أم لم یرد، کحق الأبّوة والأمومة والأولاد والأقرباء وما أشبه، فإن الأب إذا قال: أعرضت عن حق الأبوة، لا یسقط حقه بذلک، بل هو أب، وهکذا بالنسبة إلی سائر الأقرباء.

وکذلک حق الزوجیة، لأنه حق دائمی((1))، ولذا لم یکن قبل الزواج هذا الحق ولا بعد الفسخ أو الطلاق أو ما أشبه.

وقد یکون الحق إلزامیاً إذا أراد صاحب الحق، فله إسقاطه، کما تسقط الزوجة حق القسم، والأقرباء حق النفقة، وما أشبه ذلک، فإذا لم ترد الزوجة أو الأقرباء سقط الحق، أما إذا أرادت أو أرادوه کان لازماً علی الزوج والأقرباء.

ومن القبیل الأول حق الحیاة وحق الملکیة وحق الحریة وما أشبه ذلک.

والحق غیر القابل للإسقاط یسمی فی عرف الفقهاء بالحکم.

((بین الحق والحکم))

((بین الحق والحکم))

وعلی هذا فالحق له إطلاقان، إطلاق عام یشمل الحکم، وإطلاق فی مقابل الحکم، حیث یکون بین الحق والحکم فی الإطلاق الثانی تباین، بینما فی الإطلاق الأول یکون بینهما العموم المطلق.

وهناک موارد فی الفقه اختلف الفقهاء فی أنها حق بالمعنی الأخص أو حکم، ولو لم یقم الدلیل علی أی من الأمرین فهل الأصل الحق بالمعنی الأخص أی لیس ملزماً لصاحب الحق فله أن یسقطه أو یصالحه أو ما أشبه ذلک، أو حکم، لا یبعد الأول، إذ الحق العرفی قابل للإسقاط بدلیل (الناس مسلطون علی أموالهم وأنفسهم) ومن شأن الأموال والأنفس الحقوق المتعلقة بهما وذلک یقتضی تسلط الإنسان علیه أیضاً بالملاک الأولوی، وحیث لم یعرف أن الشارع أضاف علی الحق

ص:41


1- أی ما دامت الزوجیة، فهو زوج وهی زوجة لا یمکن إسقاطه بالإسقاط

العرفی الإلزام فالأصل عدمه.

وربما یقال: الأصل الحکم، لأن کونه حقاً ثابت ولم یعلم أنه قابل للإسقاط أو الانتقال أو ما أشبه ذلک، فالأصل عدم قبوله له.

لکنه مردود، حیث إن الأصل فی الحقیة لا یدع مجالاً لهذا الأصل، لأن الشک فی أنه قابل للإسقاط أم لا ناشئ عن الشک فی أن الشارع زاد علی الحق العرفی أم لا فإذا جری الأصل فی السبب لم یبق مجال لجریان الأصل فی المسبب.

((الدول وضمان إجراء الحقوق))

((الدول وضمان إجراء الحقوق))

الثانی: من میزات الحقوق أن الدولة ضامنة لأجرائها، وهذا یصدق سواء فی داخل الدولة أو فی الحقوق بین الدول المتعددة، فإن الحقوق بین الدول إذا لم یعطها من علیه الحق قوبل بالجزاء، مثل إسقاط کیانها الاعتباری عند الدول، ومثل اعتراضات منظمات حقوق الإنسان وما أشبه علیها، ومثل تضییق الدول علیها بالمقاطعة السیاسیة بسحب سفرائهم عنها وإرجاع سفرائها إلیها، والاقتصادیة بعدم البیع والشراء وسائر المعاملات معها، ومثل تسلیط أجهزة الإعلام ضدها، إلی غیر ذلک، وأحیاناً یصل الأمر إلی محاربتها لإیقافها عند حدها، أو المؤامرة ضدها علناً لإسقاطها.

((نقص القانون الدولی))

((نقص القانون الدولی))

لکن لا یخفی أن القانون الدولی ناقص، من جهة أنه لیس هنالک محکمة ذات صلاحیة دولیة یکون للفرد الحق فی الشکایة ضد دولته عند انتهاک الدولة لحقوقه، فإن الدولة إذا انتهکت حق فرد من رعایاها بمصادرة أمواله أو هتک عرضه أو سجنه اعتباطاً أو تعذیبه والتشهیر به لإسقاط سمعته أو منعه عن الحقوق، کما نجد کل ذلک فی کل الدول الدکتاتوریة بلا استثناء، فمن یکون الحَکَم فی انتصافه من الدولة الظالمة له، فإذا کانت هنالک محکمة دولیة یشتکی إلیها المظلوم، وإذا ثبت إدانة

ص:42

الدولة الدکتاتوریة فعلت الدول بتلک الدولة الظالمة المقاطعات والعقوبات السابقة أو ما أشبه ذلک، فإن مثل ذلک یوجب إیقاف الدکتاتوریین عند حدودهم ولو نوعاً ما.

((الدول ومقومات ضمان الحقوق))

((الدول ومقومات ضمان الحقوق))

ثم إن ضمان الدولة والمجتمع إیصال الحقوق إلی أصحابها یتجلی فی أمور:

1: العقوبات المقررة للمخالف، کالسجن والتغریم والنفی والقتل أحیاناً، والمقاطعة والحرمان عن الحقوق السیاسیة أو الاقتصادیة أو الاجتماعیة، مثل حرمانه عن السیاقة أو عن الترشیح أو عن الانتخاب أو ما أشبه ذلک من أسباب الردع.

ونحن لا نقصد أن کل ذلک مشروع فی شریعة الإسلام، بل نقصد أن وسیلة الدول فی ضمان إجراء الحقوق ذلک فی الجملة، ومن المعلوم أن بعض تلک الأمور صحیح فی الإسلام وبعضها غیر صحیح، علی ما ذکروه فی کتاب الجهاد والقصاص والدیات والحدود، وفی بعض کتب متفرقة من العقود والإیقاعات.

لا یقال: کیف یمکن إجراء العقاب والحال أنه کثیراً ما یسری العقاب إلی الأبریاء، مثلاً إذا قتل القاتل یسری ذلک إلی ترمل زوجته وتیتم أولاده، أو أن البنت الزانیة إذا جلدت سبب ذلک سقوط سمعة عائلتها، مع أن العائلة مبرأة، أو أن الشخص المجرم إذا سجن تبقی عائلته بدون نفقة.

فإنه یقال: لوحظ فی العقاب الأهم والمهم، نعم یلزم حصر المشکلة فی أضیق نطاقها حتی لا یسری العقاب إلی البریء بالقدر الممکن، جمعاً بین الحقین.

2: إبطال أعمال مخالف الحقوق، مثلاً إذا تزوج بالخامسة أو طلق طلاقاً غیر مشروع أو عامل معاملة غیر متوفر فیها الشروط، فإن

ص:43

الدولة تبطل تلک الأعمال.

ولا یخفی أن الدول الدکتاتوریة فی البلاد الإسلامیة تضیف علی مقررات الإسلام فی مثل هذه الأعمال، بل علی مقررات العقل والوجدان أشیاء کثیرة، إما غروراً وإما جهلاً وإما لأجل ملء کیسها، مثل أنها تبطل العقود والإیقاعات التی لم تثبت فی محاضر الدولة، أو تهدم الدار التی لم تبن بإجازة الدولة، أو تغلق الدکان الذی لم یفتح بإجازة الدولة، أو تصادر المطبعة التی طبعت شیئاً ضد الرقابة، إلی غیرها مما هو خلاف المنطق والعقل والشرع.

3: إلزام الدولة جبر ما أتی به الفرد خلاف الحقوق، مثل رد السرقة وإرجاع الغصب وتدارک الجرح وإعطاء ضرر من تضرر بسبب السیاقة، أو بسبب سقی حدیقته الماء مما تعدی إلی دار الجیران، إلی غیر ذلک.

وأحیاناً یکون أثران مثل سجن السائق وتغریمه إذا سبب قتلاً أو هدماً أو ما أشبه ذلک.

وهنا أیضاً الدول الدکتاتوریة تجمع بین عقابین، بینما لیس إلاّ عقاب واحد، فمن قتل غیره سجنته الدولة بالإضافة إلی أخذ الدیة منه، بینما لیس فی الإسلام والعقل إلاّ القصاص أو الدیة، إلی غیر ذلک.

4: وهذه عقوبة یتلقاها مخالف الحقوق من المجتمع، الإعراض عنه فی المجالس وعدم السلام له وعدم تزویجه أو التزویج منه، وعدم ائتمانه فی المستقبل، أو مثل رد الصبی الآبق والزوجة الناشزة إلی دار الأبوین وبیت الطاعة، إلی غیرها.

5: کل ذلک بالإضافة إلی الآثار الدینیة، مثل عدم قبول شهادته إذا فسق، أو عدم الصلاة خلفه إذا ارتکب معصیة، أو عدم تقلیده إذا کان خرقه للحقوق یسلب عدالته، أو ما أشبه ذلک.

ص:44

((القانون والوضع الکلی))

((القانون والوضع الکلی))

الثالث: المیزة الثالثة للقانون إنه کلی عرضاً وطولاً.

ومعنی ذلک أن القانون لا یوضع لفرد واحد أو لأفراد معدودین، بل یوضع کلیاً وإن کان الانطباق قد یکون فردیاً، مثلاً یقال من سرق فله جزاء کذا، فإنه کلی وإن لم یوجد فی البلد إلاّ سارق واحد، بل أحیاناً لا یوجد حتی السارق الواحد.

ومعنی ذلک أن وضع القانون علی نحو (القضیة الحقیقیة) المذکورة فی المنطق، بمعنی أنه کلما وجد هذا الموضوع ترتب علیه هذا الحکم، فکلما وجد سارق کان جزاؤه کذا.

وهذا معنی الطولیة، حیث السارق الثانی فی طول السارق الأول، وهکذا إذا قیل الملک أو الوزیر أو السفیر حکمه کذا، حیث الحکم فی وقت واحد لا یشمل إلاّ واحداً أو عدة أفراد فقط، وإنما الحکم سار طولاً لکل من صار ملکاً أو وزیراً فی المستقبل.

بینما الحکم بأن کل واحد حر أو له حق الحیاة أو ما أشبه عرضی وطولی، لکثرة الأفراد المشمولین لهذا القانون فی وقت واحد.

وحیث إن القانون له صفة العموم والإطلاق، فالأفراد متساوون أمامه، نعم لا شک أن بعض القوانین یشمل قطاعاً کبیراً وبعضها یشمل قطاعاً صغیراً، مثل أن حکم الطلاب کذا، أو أن منتخبی الأمة لهم المصونیة القانونیة أو ما أشبه ذلک.

لا یقال: کیف یمکن شمول القانون لجمیع الأفراد مع اختلاف الأفراد فی الخصوصیات، وهل هذا إلاّ خلاف العدل، مثلاً یقال: إن علی القاتل الدیة بقدر کذا، أو أن کل بالغ عاقل غیر محجور له حق الاتجار بکل أمواله، مع وضوح أن قاتل من یکتسب کل یوم عشرة دنانیر قد خسر عائلته فی کل سنة أکثر من ثلاثة آلاف دینار، بینما قاتل من یکتسب کل یوم دیناراً خسرهم عشر الأول، وکذا الذکاء مختلف فکیف یسلم کل الأموال إلی الیتیم بعد البلوغ والعقل، بینما قد یکون حسن الملکة فی التصرف فی ماله فیکون من الصالح تسلیم کل أمواله له، وقد یکون سیء الملکة مما یقتضی المنطق

ص:45

عدم إعطائه کل المال إلاّ تدریجاً، وهکذا.

والجواب: إن سبب ذلک العقلاء، لأن الأمر دائر بین الأهم والمهم، فإذا قیل کل إنسان یقتل یجب إعطاء دیته حسب میزان أرباحه یستشکل علیه.

أولاً: إن بعض الناس لا أرباح لهم.

وثانیاً: إن بعض الناس لا یمکن إعطاء دیتهم بقدر أرباحهم لکثرتها.

وثالثاً: إذا جاء هذا الشیء فی الأرباح یأتی النقض أیضاً فی اختلاف الأعمار، وفی اختلاف استفادة المجتمع من المقتولین الفوائد المعنویة والمادیة، وفی اختلاف الصفات النفسیة، وفی اختلاف الصفات البدنیة، إلی غیر ذلک.

مثلاً کیف یتساوی المقتول الذی عمره فی ریعان الشباب، للمقتول الذی هو فی أواخر عمره أو فی أوائل عمره، وکیف یجعل من یستفید المجتمع منه الوعظ والإرشاد ویسبب تقویم أخلاق الناس، مثل الذی لیس هکذا، وکذلک بالنسبة إلی تساوی الکریم والبخیل، وقوی البدن وضعیفه، وجمیل الوجه وقبیحه، والصحیح والمریض، إلی غیرها من الصفات النفسیة والجسمیة، والشروط الخارجیة الکثیرة.

فحیث رأی العقلاء عدم تمکنهم من هذه التمایزات لجؤوا إلی جعل القانون عاماً.

هذا بالإضافة إلی أنه لو فرض جعل مائة قانون لمائة قسم من المقتولین والقاتلین، أوجب ذلک اختلافاً کبیراً وتنازعات کثیرة فی المجتمع، حیث یدعی القاتل أنه کان کذا، وأولیاء المقتول أن المقتول لم یکن کما یدعیه القاتل، وهکذا.

والظاهر أن هذه المیزات تظهر فی الآخرة فحسب، ولذا ورد فی الدعاء خطاباً إلی الله سبحانه وتعالی: (یا من عند المیزان قضاؤه)، لأن المحذورات المذکورة لا تتمشی مع کون علام الغیوب هو القاضی،

ص:46

فیعرف الحقائق بدقة متناهیة، ویتمکن من الإثابة والمعاقبة علی حسب تلک الموازین الدقیقة، ﴿فمن یعمل مثقال ذرة خیراً یره، ومن یعمل مثقال ذرة شراً یره﴾((1)).

وهکذا یقال بالنسبة إلی الأمثلة الأخر التی تسبب القوانین استواء الناس فیها، کمثال إعطاء الأموال للبالغ العاقل وغیر ذلک مع الاختلافات الکثیرة بین الأفراد المتساوین فی القانون، سواء فی المعاملات أو فی الأحکام أو فی المواریث أو فی غیرها.

((الحقوق وتنظیم شؤون المجتمع))

((الحقوق وتنظیم شؤون المجتمع))

الرابع: المیزة الرابعة أن علم الحقوق وجد لأجل تنظیم الاجتماع، حیث إن الاجتماع لا ینظم فی معاملاته بالمعنی الأعم للمعاملة (فإن المعاملة بهذا المعنی تشمل حتی مثل القضاء والإرث والدیات والقصاص والحدود وحیازة المباحات وما أشبه، وبالجملة إنها فی قبال العبادة) إلاّ بموازین وضوابط، والحقوق وجدت لأجل ذلک، أی تنظیم شؤون المجتمع وعدم تعدی بعضهم علی بعض، وعدم النقص فی جانب من أجل الزیادة فی جانب آخر.

وربما یشمل الحقوق الأمور الفردیة أیضاً، مثل حق الإنسان الفرد علی نفسه.

وعلی أی حال، طهارة الضمیر وسلامة الروح والجسم وحسن النیة وما أشبه کلها من شأن علم الأخلاق، لا أنها داخلة فی الحقوق.

نعم قد تتدخل هذه الأمور الفردیة فی جعل الحقوق وتطبیق صغریات الحقوق علی کبریاتها، مثلاً من یقتل إنساناً عن حسن النیة بزعم أنه یرید قتل الناس، بینما لم یکن الأمر کذلک، أو یفعل عکسه عن سوء نیة، مثلاً زید یستحق القتل لکن القاتل یقتله حقداً ولیس بمطلع علی أنه مهدور الدم إلی ذلک، فإن القتل شیء واحد وإن اختلف فی کونه داخلاً فی حق القصاص وعدمه.

وعلی هذا، فالحقوق المصطلحة عبارة عن الضوابط التی تحکم الأفراد بما هم مربوطون بالمجتمع، وضامن إجراء هذه

ص:47


1- سورة الزلزلة: 7 _ 8

الحقوق الدولة، والدولة بید الفقهاء العدول، ثم عدول المؤمنین علی ما فصله الشیخ وغیره فی باب الولایة فی کتاب المکاسب.

((بین الدین والحقوق))

((بین الدین والحقوق))

ومما تقدم ظهر أن کلاً من (الدین) ومن (الحقوق) بالمعنی العام للکلمة، بینهما عموم من وجه، لتصادقهما فی بعض المواد، وتفارق کل واحد من الآخر فی بعض الموارد الأخر.

أما الدین والحقوق بالنسبة إلی الدین الإسلامی فبینهما عموم مطلق، حیث الحق شعبة من شعب الدین.

وفی البلاد الإسلامیة حیث الحکومات التابعة للغرب قلباً وقالباً، أو قلباً وإن تظاهروا بالإسلام قالباً، یجعلون من منابع الحق والقانون الدین، خصوصاً فی الأحوال الشخصیة وما أشبه.

والدین الذی هو مصدر الحق مأخوذ من الکتاب الکریم والسنة المطهرة والإجماع والعقل، ولا یخفی أن المراد بالعقل ما ذکره علماء الشیعة وألمعنا إلیه سابقاً، أما عند علماء السنة فهو القیاس والاستحسان وغیرهما.

وربما بالإضافة إلی القوانین الغربیة والعرف والعادة وما أشبه ذلک.

((هل یتطور القانون))

((هل یتطور القانون))

ثم إن الذین یجعلون من مصادر القانون ما لیس بإسلامی، یرون تطور القانون مع تطور الاجتماع والأعراف والعادات، ولذا یعرف الحق بعضهم بأنه ما یختلف مفهومه تبعاً لطبیعة المجتمع الإنسانی وکیانه، ونتیجة لوضع الفرد فی البناء الاجتماعی والاقتصادی الذی یعیش فی ظله.

ففی المجتمعات البدائیة التی لم تکن تعرف الملکیة الخاصة، کان أفراد الجماعة یتمتعون بالمساواة المطلقة فیما یحصلون علیه من ثمار الإنتاج، ومن ثم لم تعرف تلک المجتمعات ذلک المفهوم الذی یمیز إنساناً علی آخر.

((الحق بالمعنی الفلسفی))

((الحق بالمعنی الفلسفی))

ومن الناحیة الفلسفیة الحق اصطلاح قانونی یعنی السلطة والقدرة التی یقررها القانون لشخص، ویکون له بمقتضاها القیام بعمل معین، فهی قدرة علی عمل شیء، والحیاة القانونیة هی التی تکفل احترام وحمایة هذه القدرة فی مواجهة الغیر، وکل حق یقابله واجب یفرضه القانون علی الشخص.

ص:48

((أنواع الحقوق))

((أنواع الحقوق))

ثم الحقوق علی أنواع:

کالحقوق السیاسیة، مثل حق الانتخاب وحق الترشیح وحق التولی للوظائف العامة.

والحقوق الخاصة، کالحقوق التی تنشأ طبقاً لقواعد خاصة بفروعه المختلفة، مثل حقوق الأسرة التی تقررها قوانین الأحوال الشخصیة، والحقوق المالیة التی تقررها قواعد المعاملات.

قال بعضهم: وذلک بسبب تطور قوی الإنتاج وتقدمها، وأنه بظهور المجتمع الطبقی بدأت فکرة الحق تتبلور باعتباره امتیاز تتمتع به فئة معینة من أفراد المجتمع، وهی التی تقبض علی زمام الثروة ووسائل الإنتاج، ففی المجتمعات التی یمارس فیها الاسترقاق أصبح الناس ینقسمون إلی أحرار وعبید، وکان الأحرار هم وحدهم الذین یتمتعون بحق الملکیة وبالحقوق السیاسیة التی تمنحهم فرصة المشارکة فی إدارة شؤون المجتمع، أما العبید فکانوا مجردین من کل الحقوق بما فیها حق الحیاة نفسه، کما أثبت تاریخ المجتمعات الرأسمالیة أن الحق الوحید الذی تضمنه کاملاً وعملیاً هذه المجتمعات هو حق الرأسمالیین فی جنی الأرباح، حتی لو أدی ذلک إلی انخفاض أجور العمال والهبوط بالظروف العامة للصناعة، انتهی.

لکن فی هذا الکلام خلط بین التاریخ والعقیدة والقانون، إذ هو تعریف یصح علی مذهبی دارون ومارکس، وقد ثبت علمیاً عدم استقامتهما، کما ألمعنا إلی تفصیل ذلک فی فقهی الاقتصاد والاجتماع وغیرهما، فلا داعی إلی تکراره.

((بین الحق والأخلاق))

((بین الحق والأخلاق))

وبعد أن عرفت الکلام فی النسبة بین الحق والدین، یأتی دور الکلام فی النسبة بین الحق والاخلاق.

ومن الواضح کون النسبة بینهما عموماً من وجه أیضاً، ولو من جهة المصداق، حیث قد یکون الحق حسب الأخلاق أیضاً.

مثلاً: الوفاء بالعقد وبالعهد، ورد الأمانة إلی أصحابها، وما أشبه ذلک أخلاقی مع أنها حق أیضاً.

بینما التواضع والکرم وما أشبه من

ص:49

الأمور الأخلاقیة ولیست من الحق بالمعنی المعاملی الذی وضع هذا المبحث لأجله.

وفی عکسه قد یکون من الحق ولیس من الأخلاق بمعناه المتعارف، فإن من یطلق زوجته بعد أن خدمته سنوات ولم یر منها أی سوء وإنما لیتزوج بفتاة جمیلة لا ترضی بالزواج به إلاّ بطلاق زوجته، هذا الطلاق لیس أخلاقیاً وإن کان حقاً له.

والشارع الإسلامی بنی حقوقه علی الأخلاق إلاّ ما اضطر إلی رفع الید عنها من جهة أهم، ولذا ورد عن النبی (صلی الله علیه وآله) أنه قال: «إنما بعثت لأتمم مکارم الأخلاق»((1))، وورد أن «العرش لیهتز من الطلاق»((2))، وقد ذکرنا فی کتاب الطلاق أن المراد الطلاق بدون مبرر، وإلاّ فقد طلق رسول الله (صلی الله علیه وآله) بعض زوجاته لأمر أهم، کما طلق جملة من الأئمة (علیهم الصلاة والسلام) زوجاتهم کالحسن والسجاد والصادق (علیهم الصلاة والسلام) علی ما ثبت فی التواریخ والأحادیث.

((من فروق الحق والأخلاق))

((من فروق الحق والأخلاق))

وعلی هذا فالفرق بین الحق والأخلاق فی أمور:

الأول: إن بینهما عموماً من وجه، فلا تلازم الحق الأخلاق، ولا العکس.

الثانی: إن الأخلاق لیست مما یوجبها القانون فی الأخلاق الحسنة، ولا یعاقب علیها القانون فی الأخلاق السیئة، إلاّ بالقدر المتطابق بین القانون والأخلاق، مثلاً الکسل والنوم المتزاید والأکل الکثیر وما أشبه لا یعاقبها القانون إلاّ إذا کانت من أسباب خرق القانون بجهة من الجهات، کما أن الإحسان إلی الضعفاء والمشارکة الوجدانیة مع المنکوبین والتعاون فی الخیر لا یأمر به القانون إلاّ فی واجبی النفقة، بینما القانون فیما له أمر ونهی إلزامیان.

ص:50


1- مستدرک الوسائل: ج11 ص187 ب6 ح12701
2- راجع وسائل الشیعة: ج22 ص8 ب1 ح27880، وفیه: « فإن لطلاق یهتز منه العرش »

الثالث: إنه لا ضمان لإجراء القواعد الأخلاقیة، بینما الدولة ضامنة لإجراء القواعد الحقوقیة، بالثواب المقرر قانوناً فی الفعل والعقاب المقرر قانوناً فی الترک، أما القواعد الاخلاقیة فضمان إجرائها الضمیر والاستحسان الاجتماعی أو التقبیح کذلک فی جانبی الحسن والقبیح.

((بین الحق والعدالة))

((بین الحق والعدالة))

أما النسبة بین الحقوق والعدالة، فاللازم أن یعرف أولاً العدالة.

فقد عرفها غیر واحد: بأنها الوسط بین الإفراط والتفریط.

وعرفها آخرون: بأنها إعطاء کل ذی حق حقه.

وأضاف بعضهم علی التعریف الثانی کلمة: بشرط عدم الضرر بحقوق الآخرین. لکن القید الأخیر مستدرک حیث إذا کان ضاراً لم یکن حقاً بالفعل، بالإضافة إلی أنه لو کان لهذا الشرط واقع لکان التعریف ناقصاً أیضاً، لأنه یلزم إضافة: بشرط أن لا یضر الحق ذا الحق أیضاً، فإن للیتیم والسفیه حقهما لکن لا یعطیان لأنه یضرهما.

هذا بالإضافة إلی ما فی التعریفین السابقین أیضاً من الإشکال:

حیث یرد علی التعریف الثانی ما هو الحق، مما یضطر إلی تعریفه بأنه المطابقیة بالکسر أو المطابقیة بالفتح للواقع، ثم یتساءل ما هو الواقع، وقد ذکرنا بعض الکلام فی ذلک فی کتاب (الأصول).

أما التعریف الأول فهو دوری، فإن الطرفین لا یعرفان إلاّ بالوسط، فلو عرف الوسط بهما کان دوراً، فإن الطرف معناه عدم الوسط، کما أن الوسط معناه عدم الطرف.

والظاهر أن التعریف أقرب إلی شرح الاسم.

ثم یأتی بعد ذلک الکلام فی لفظ (العدالة)، حیث إنها من العدل والعدول، فکأنها سمیت عدلاً لأنه عدول عن الباطل، ومنه الحدیث «کذب العادلون بالله»((1))، ولذا اصطلح المنطقیون بالمعدولة فی قبال المحصلة، إلی غیر ذلک.

والذی یمکن أن یقال: إن الواقع شیء أدرکه الإنسان أو لم یدرکه، بل کان إنسان أو لم یکن، فإذا

ص:51


1- الکافی: ج1 ص350

انطبق الفکر والعمل والکلام مع ذلک کان عدلاً، وإلاّ لم یکن. وفی الحدیث: «بالعدل قامت السماوات والأرض»((1)).

أما من یمیز الانطباق فی عالم الإثبات، فهو الذهن غیر المشوب.

((العدالة بین تنقیح الکبری وتشخیص الصغری))

((العدالة بین تنقیح الکبری وتشخیص الصغری))

وعلی أی حال، فلا ینتهی الکلام بتنقیح الکبری، بل اللازم معرفة الصغریات، ولا یلزم أن یکون الإنسان عامداً فی التحریف، فإن هذا یری کون الشیء الفلانی صغری للعدالة، بینما غیره یری أنه لیس بصغری لها، کما تقدم أن بعضهم یری الثروة للجمیع من دون اختیار الساعی فی أن یکون له کل ما سعی، وبعضهم یری أن الثروة للساعی وأنه یؤخذ منها بقدر الضرورة.

وقد ذکر بعضهم بصغری العدالة: (إن لکل حسب رغباته)، وآخر: (إن لکل حسب حاجاته)، وثالث: (إن لکل حسب حقوقه المناقبیة)، ورابع: (إن لکل حسب ما سعی)، وخامس: (إن لکل حسب ما یعطیه القانون).

والتعریف الأخیر هو الذی تراه الحکومات والقضاة والمحامون ومن أشبه، لأن هذا النوع من العدالة هی التی هم قیمون علیها، والتی یبحثون عنها فی إجراء الحقوق، فالعدالة بهذا المعنی هو تعبیر للمنحازین إلی القانون.

لکن یأتی الکلام فی أن القانون کیف یکون عدلاً أو لا یکون عدلاً، لأن القانون لیس هو الأمر الأخیر، بل هو الوسط فی مثل ذلک، بالإضافة إلی أنه من وجهة نظر الإنسان العادی لا ینطبق ما فی ذهنه من العدالة علی هذه الصغری الخارجیة فقط، فإن للعدالة مفهوماً أوسع ووجوهاً أخری یمکن أن تکون تلک الوجوه أیضاً صغریات لهذا المعنی، وقد تقدم الإلماع إلی أن إحدی المشاکل التی فرضها مفهوم العدالة هو الاختلاف بین المبادئ مما یمکن تحدیدها بتلک المبادئ.

وهذه التعریفات الأربع((2)) التی ذکرناها تتعارض بعضها مع بعض، فإن إعطاء کل حسب رغباته قد یتعارض مع إعطاء کل حسب حاجاته، وکذلک بین هذین الاثنین والثلاثة الأخر، فإن بین کل

ص:52


1- غوالی اللئالی: ج4 ص102
2- أو الخمس

اثنین من تلک الأمور عموم من وجه.

وکما أن الصغریات للعدالة فی الحقل الاقتصادی متنازع علیها، کذلک فی الحقل السیاسی، حیث الاختلاف بین المفکرین حول النظام السیاسی الأفضل، فکل یری أن ما یراه أفضل هو صغری العدالة.

وکذلک الحال فی سائر الحقول، کالحقل الاجتماعی والحقل التربوی وغیرها.

((صغریات لا خلاف فیها))

((صغریات لا خلاف فیها))

إن الأمور الریاضیة لا یمکن الاختلاف فی صغریاتها، وکذلک التجربیات والخارجیات، ففی الخارج هذا زید أو عمرو، وهذه دار أو حمام، فإنه لا یمکن الاختلاف فی أمثال ذلک إلاّ عن جهل، کذلک إن نتیجة تفجیر الذرات کذا واحدة لا یمکن الاختلاف فیها إلاّ عن جهل، وهکذا بالنسبة إلی أن نتیجة عشرة فی عشرة مائة، أو أن المربع کیف تؤخذ مساحته واضحة، ومن یری خلاف الواقع لا یمکن إلاّ أن یکون عن جهل، ومن الممکن إقناعه غالباً حتی یرجع إلی الواقع.

((صغریات فیها خلاف))

((صغریات فیها خلاف))

أما اختلاف النظریات فی السیاسیة والاجتماع والاقتصاد والتربیة وغیرها، فلا یمکن رفعه إلاّ بقدر، ولذا نشاهد أن الفقهاء العظام الذین نعترف لهم بالخوف من الله سبحانه وتحریهم الواقع مائة فی مائة، یری التلمیذ خلاف ما یری أستاذه، ویری المعاصر خلاف ما یراه المعاصر الآخر، مع أن کلهم یستقون من الأدلة الأربعة.

((وجوه الاختلاف وأسبابه))

((وجوه الاختلاف وأسبابه))

والاختلاف قد یکون عن اجتهاد، وقد یکون عن مصالح، وقد یکون عن تعمد الانحراف، ولا شک أن الأولین لهما واقع واحد ولو بعد الکسر والانکسار، کما فی اختلاف المصالح بین البائع والمشتری، وبین عائلة الطبیب والمریض المحتاج إلی طلب الطبیب نصف اللیل، کما تقدم بعض الأمثلة فی ذلک، إذ الواقع بعد الکسر والانکسار إما مع هذا الجانب أو مع ذاک إلاّ أن الواقع الواحد

ص:53

یکون غالباً فی حجاب من الغیب، ومن هنا یقع الاختلاف فی الصغریات مع تسلیم الکبری.

بل کثیراً ما یختلف آراء إنسان واحد من زمان إلی زمان آخر، فیری فی هذا الزمان ما یری خلافه فی زمان آخر، مع أنه مطمئن من نفسه أنه تحری الواقع فی کلا الزمانین، وجهد غایة الجهد فی کل مرة لإدراک الواقع.

((العدالة السیاسیة وغیرها))

((العدالة السیاسیة وغیرها))

وکیف کان، فالعدالة السیاسیة قد تغایر العدالة الاجتماعیة، وکلتاهما تغایر العدالة الاقتصادیة، وکلها تغایر العدالة الدینیة، أو العدالة الأخلاقیة، ویراد بها غیر الأخلاق المنشعبة من الدین، وإلاّ فقد عرفت أن بین الدین والأخلاق عموماً مطلقاً فی الإسلام، فإن الأخلاق فرع من فروع الدین، کما أن فرعاً آخر منه السیاسیة والاقتصاد والاجتماع والعقیدة والعبادة والأحکام وغیر ذلک.

((العموم من وجه بین العدل والحق))

((العموم من وجه بین العدل والحق))

وعلی أی حال، فبین العدل وبین الحق عموم من وجه، فالرجل ذو زوجتین من العدل أن یساوی بینهما فی کل شیء، لکن ذلک لا ینافی أن لا یکون حق الزوجة أکثر من المسکن والملبس والمأکل والمشرب اللائق بها، وإن کان الرجل یرجح المرأة الأخری علیها فی هذه الأمور، وهکذا هذا حسب الاصطلاح.

وإلاّ فربما یقال إنهما شیء واحد، فکل حق عدل وبالعکس، وقد قال سبحانه: ﴿فماذا بعد الحق إلاّ الضلال﴾((1))، فکل ما یکون حقاً عدل وإن زعم بعض الناس أنه لیس بعدل، وهکذا الکلام فی العکس، فإذا تجاوز الأمر عن الحق لا یکون إلاّ ضلالاً، فلا یمکن أن یکون عدل خارجاً عن الحق، کما لا یمکن أن یکون حق خارجاً عن العدل.

ص:54


1- سورة یونس: 32

((الحکم حق إلهی إنسانی))

اشارة

((الحکم حق إلهی إنسانی))

(مسألة) الحکم((1)) کما ذکرناه فی الکتب السیاسیة حق إلهی إنسانی، فله جهتان:

الأولی: کونه حقاً إلهیاً، بمعنی أن الله سبحانه وتعالی فوض هذا الحق إلی الإنسان الجامع للشرائط، وشرائطه هی شرائط التقلید من العلم والعدالة وغیرهما.

الثانیة: کونه حقاً إنسانیاً، بمعنی أن الناس هم الذین یحق لهم اختیار أی فرد من الأفراد المؤهلین دینیاً لیتولّی إدارة الحکم، فإذا اختار کل الناس فرداً واحداً مؤهلاً فهو، وإن اختاروا عدة أفراد کما نشاهد فی غالب الأزمنة أنهم یرجعون إلی عدة من مراجع التقلید، فکل هؤلاء بأکثریة الآراء یدیرون دفة الحکم.

وبهذا یظهر أن کلاً من الحق الإلهی الذی کانت الکنیسة تقول به فی قرون وسطی الغرب، والدیمقراطیة التی یقول بها الغرب فی الحال الحاضر، خارج عن الطریقة الإسلامیة المستفادة من الکتاب والسنة.

أما أسلوب الخلافة الأمویة والعباسیة والعثمانیة ومن أشبههم، فقد کانت مستندة إلی السیف أولاً، ثم الوراثة ثانیاً، ومن المعلوم أن الإسلام لا یقر أیاً من الأمرین.

((نظریة الحکم عند الغرب فی القرون الوسطی))

((نظریة الحکم عند الغرب فی القرون الوسطی))

فقد کان الغرب فی قرونه الوسطی یعتقد بأن الحکم حق إلهی، وقد کانوا یعتقدون أن الحق الإلهی تحدد العلاقة بین الحکام والمحکوم علی أسس مطلقة یختار الحاکم ما یشاء من التطبیقات ومن الکلیات، وکانوا یقولون بأن الملک یستمد سلطانه من الله، فلا یمکن محاسبته من قبل غیر الله سبحانه، کالشعب أو المجالس التنفیذیة أو غیر ذلک، وعلی هذا الأساس تصبح عدم إطاعة الملک معصیة دینیة، کما أن طاعته طاعة لله سبحانه وتعالی، وکان الملک غالباً مطلق العنان فی ما یضع من الدساتیر والقوانین، وفی ما یطبق من الصغریات، وبذلک کان یثبت

ص:55


1- فی زمان غیبة المعصوم (علیه السلام)

سلطته علی الناس کقانون الزامی لا مجال لمعارضته أو التشکیک فیه أو مناقشته، وتصبح سلطة الملک مقدسة وغیر مقیدة، وهذه العقیدة کانت مأخوذة من الرومان والیونان کمصر الفرعونیة وبابل النمرودیة والصین والیابان إلی غیر ذلک، بل کان بعضهم یزعهم أنه من أبناء الله وأحبائه، کما نقل القرآن الحکیم ذلک بالنسبة إلی الیهود.

((نظریتان غربیتان سابقتان))

((نظریتان غربیتان سابقتان))

وکان هنالک نظریتان فی مجال تطبیق الحق الإلهی بالنسبة للذین یتولون الملک:

الأولی: وتسمی الحق الإلهی المباشر، تقول: بأن الله لم یخلق السلطة السیاسیة وحسب، بل اختار أیضاً وبشکل مباشر الشخص أو السلالة الملکیة التی تتولاها فی بلد من البلدان، فإذا استولی ملک علی ملک وأخرجه عن الساحة فالملک الثانی هو مختار الله سبحانه وتعالی.

کما أن الذین کانوا یقولون بأن الملوک من أبناء الله، کانوا یقولون إن هذا الابن الذی أزاحه الملک الجدید خرج عن البنوة ودخل الثانی فی مجال البنوة.

الثانیة: وتسمی بالحق الإلهی غیر المباشر، وهی التی تقول: بأن الله یعین متولی السلطة من خلال عنایة غیر منظورة وغیر مباشرة توجه إرادة البشر، دون تحدید الشخص أو السلالة.

وقد شهدت القرون الوسطی الغربیة تحالفاً وثیقاً بین الکنیسة والملک، وقد اعتبرت الکنیسة الحق الإلهی بمثابة حکمة إلهیة أعطت السلطة الدنیویة للحاکم، ومنحت بالمقابل السلطة الروحیة للکنیسة، وقد رووا فی ذلک عن المسیح (علیه الصلاة والسلام): (اعطوا ما لقیصر لقیصر وما لله لله)، بمعنی أن العقیدة والعبادة تابعتان للکنیسة، أما الأمور الدنیویة فهی تابعة للملک، وحیث ازدواجیة القدرة فی حکم الکنیسة والملک قام صراع قوی بین الکنیسة والدولة، حیث إن الکنیسة کالدولة کانت مؤسسة واسعة الانتشار فی

ص:56

الناس لها فروعها وقواها وأملاکها وکانت تتقاضی الضرائب، وکانت علی علاقة مباشرة بالناس وبتحدید سلوکهم، وکانت تعاقب المخالفین، کما أن الدولة کانت کذلک.

وکانت الکنیسة فی بعض الأحوال تحد من حریات الملک فی تصرفاته، فالکنیسة کانت ترید إخضاع الملک لنفسه، کما أن الملک کان یسعی إلی إخضاع الکنیسة لسلطته، وتسخیرها لخدمته السیاسیة والاقتصادیة وغیر ذلک، وانتهی الصراع أخیراً بانتصار الملوک علی الکنیسة، وذلک عند قیام المذهب البروتستانی المسیحی الذی ألغی إلی حد بعید حق مؤسسة الکنیسة فی التدخل بین الخالق والمخلوق، وأقیمت کنائس وطنیة یرأسها الملک بحیث کان الدین ألعوبة بیده، وذلک لمصلحة تثبیت سلطة الحاکم وغلبته فی هذا الصراع.

وبینما الصراع قائم بین الکنیسة والملک قامت نهضة أوروبیة دفعت الأفکار والتطورات فی اتجاه جعل الشعب مرکز الحکم وأنه مسؤول عن تصرفاته ومصیره، وبالتالی أصبح الحق الإلهی لأی من الملک والکنیسة موضوع الشک، فقام شیء ثالث وهی المجالس التمثیلیة حیث اشتد الصراع بینها وبین الملک أیضاً بعد ما أخرجوا الکنیسة عن الساحة، وأخیراً انتهت المجالس الدستوریة إلی إخراج الملک عن الساحة أیضاً لإعطاء الشعب حق تقریر المصیر من غیر اعتبار للدین وللملک أبداً، وبذلک خرج الغرب جملة وتفصیلاً عن مظلة الأنبیاء الواقعیة والاسمیة التی کان تمارسها الکنیسة فی قرونهم الوسطی.

وجملة منهم ذهبوا إلی أبعد عن ذلک بإنکار الله سبحانه وتعالی، لکن موجة الإلحاد بقیادة مارکس ومن أشبهه أوجبت رجوع الغرب إلی الله بعض الشیء، ولو اسمیاً تحفظاً علی کیان الدولة واستقلالیة الشعب.

وعلی أی حال، فقد ظهر مما تقدم أن السیادة فی الإسلام إلهیة

ص:57

إنسانیة بالمعنی الذی ذکرناه، فقول بعض الخلفاء بتأیید من بعض فقهاء السلطة من أن الخلافة ثوب ألبسهم الله سبحانه وتعالی، بینما لم یکن یتوفر فیهم لا شروط الله سبحانه وتعالی ولا انتخاب الأمة، کان قولاً غیر مطابق مع الأدلة.

مثلاً کان المنصور الدوانیقی یقول أنا سلطان الله علی الأرض، وکان الحجاج یقول: إن عبد الملک أفضل من رسول الله، لأن الرسول رسول، وعبد الملک خلیفة، والخلیفة أفضل من الرسول، وکتب أبو یوسف قاضی قضاة بغداد إلی هارون الرشید: إن الله قلدک أمر هذه الأمة، إلی غیر ذلک من أمثال هذه العبارات التی کان یتفوه بها الخلفاء أو فقهاء السلطة ووعاظها.

((الحاکم الإسلامی والتقید بالنصوص))

((الحاکم الإسلامی والتقید بالنصوص))

ثم إن الحاکم الإسلامی الصحیح حکمه یتقید بنصوص الشریعة الواردة فی الکتاب والسنة، والمراد بالسنة: قول المعصوم وفعله وتقریره، بالإضافة إلی ما دل علیه العقل والإجماع، کما فصلناه فی (الأصول).

هذا بالنسبة إلی الکبریات، أی الأحکام فلا حق له فی تشریع الحکم، أما بالنسبة إلی الصغریات للموضوعات فهو اجتهاده، حیث إن رد الفروع إلی الأصول غیر ممکن إلاّ للمجتهد القوی الاستنباط.

والمراد بالأصول التی یتفرع منها الفروع أعم من الأدلة الأولیة التی تسمی بالأدلة الاجتهادیة أو الأدلة الثانویة التی تسمی بالأصول العملیة من البراءة والاستصحاب والاحتیاط والتخییر، کما أنه إذا لم یجد الفقیه عنواناً أولیاً یتمکن من استنباط الحکم منه یلتجئ إلی العنوان الثانوی، مثل دلیل الضرر والحرج والمیسور والأهم والمهم ونحوها.

لکنا ذکرنا فی الکتب الفقهیة أنه إذا کان مراجع التقلید الذین بیدهم شوری الحکم متعددین، لا یمکن الاتکال علی العناوین الثانویة إلاّ بأکثریة الآراء، کما أن العناوین

ص:58

الثانویة هی مؤقتة ولیس لها استمراریة القانون، مثل دلیل «لا ضرر» ثانوی یتقید بمدة بقاء الضرر، وهکذا بالنسبة إلی سائر العناوین الثانویة التی یراد إجراؤها علی الأمة ککل.

أما العناوین الثانویة الشخصیة فهی مرتبطة بنفس الإنسان، وإذا لم یمیز الإنسان یرجع إلی أهل الخبرة، مثل ضرریة صوم زید فإنه إن عرف أن الصوم ضرری له فله أن لا یصوم ویفطر، کما کتب الإمام (علیه الصلاة والسلام) إلی ذلک الذی سأله عن هذه المسألة، فکتب الإمام (علیه الصلاة والسلام) فی جوابه: ﴿بل الإنسان علی نفسه بصیرة﴾((1)).

وإذا لم یمیز هو فالمرجع أهل الخبرة، کالطبیب ونحوه.

((کفایة الاحتمال فی بعض العناوین الثانویة))

((کفایة الاحتمال فی بعض العناوین الثانویة))

نعم ذکرنا فی (الفقه) أن فی بعض العناوین الثانویة یکفی احتماله، مثل احتمال الضرر فی الإفطار إذا کان احتمالاً عقلائیاً، فلا حاجة إلی العلم بالضرر، کما أن الأمر کذلک فی ما إذا کان احتمال الضرر بالنسبة إلی الغیر، مثلاً إذا کانت دار الجار خالیة من السکان مما یحتمل العقلاء ضرراً متوجهاً منها إلی الجار، حیث یحتمل أن تکون الدار الخالیة محل عبور اللصوص أو مرکز فساد البطالین مما یوجه الضرر إلی دار الجار، حق له جبر صاحب الدار الخالیة برفع هذه المشکلة، ولا یقال لصاحب الدار احتفظ أنت بنفسک علی أمن دارک بالسهر أو استیجار من یسهر، ففی المقام الاحتمال العقلائی کاف فی عدم تضرر الإنسان بنفسه أو بغیره.

وهذا فی الفروع شبیه بالذی یقولونه فی الأصول من أن (استحالة احتمال المحال کاستحالة نفس المحال)، فهل یعقل أن یحتمل الإنسان اجتماع النقیضین، أو کون الحاصل من ضرب خمسة فی خمسة یساوی عشرین، فکما أن کلاً من احتمال المحال شکاً أو ظناً أو وهماً غیر معقول، کذلک کل من احتمال الضرر شکاً أو ظناً أو وهماً إذا کان عقلائیاً مرفوع.

ص:59


1- سورة القیامة: 14

((أقسام الحق))

((الحق الطبیعی))

((أقسام الحق))

(مسألة): ما یسمی بالحق قسمان:

الأول: الحق الطبیعی.

و الثانی: الحق الوضعی.

((الحق الطبیعی))

والأول: ما تقتضیه فطرة الإنسان أو اجتماعه، فإنه قد یری الإنسان حقاً لأن ضمیره یوحی إلیه به، کحق الحیاة وحق التمتع بالمأکل والمشرب والمنکح والمسکن وما أشبه، وقد یری الإنسان حقاً لأن اجتماعه یراه حقاً، مثل رؤیة اجتماع الرأسمالیین حقهم فی استغلال العمال، ورؤیة اجتماع الشیوعیین حقهم فی الرقابة علی الشعب رقابة دکتاتوریة، وفی الأمثال الدینیة حق المسیحی فی الذهاب إلی الکنیسة، وحق المسلم فی الذهاب إلی المسجد، فإن هذه الحقوق لم تنبع من الفطرة وإنما نبعت عن الاجتماع، بدلیل اختلاف الاجتماعات فی رؤیة وعدم رؤیة مثل هذا الحق حقاً أو لا.

((الحق الوضعی))

((الحق الوضعی))

أما الثانی: وهو الحق الوضعی فهو الحق الذی یضعه القانون، وبینه وبین الحق الطبیعی عموم من وجه، فربما یتصادقان وربما یتخالف هذا عن ذاک أو بالعکس.

((الفارق بین الحق الطبیعی والوضعی))

((الفارق بین الحق الطبیعی والوضعی))

والفارق بین قسمی الحق وإن کان واضحاً، إلاّ أنه ربما یفرق بینهما بأمور:

الأول: إن الحق الطبیعی لا یحتاج إلی الوضع، بخلاف الحق الوضعی، وإذا قرر فی القانون الحق الطبیعی کان حقاً طبیعیاً ووضعیاً معاً، کما أنه إذا قرر فی القانون ضد الحق الطبیعی أو لم یقرره أصلاً کان حقاً طبیعیاً لا وضعیاً، وإذا قرر فی القانون حق لا تراه الطبیعة والاجتماع کان حقاً وضعیاً لا طبیعیاً.

الثانی: إن الحق الوضعی إذا اختلف فیه کان المرجع القانون،

ص:60

بخلاف الحق الطبیعی حیث المرجع داخل الإنسان أو اجتماعه حسب ما ذکرناه من القسمین.

الثالث: إن الحق الوضعی بحاجة إلی التعلم، بینما الحق الطبیعی یستفید علمه الإنسان بمجرد نفسه أو بمجرد نشوئه فی اجتماع ما.

الرابع: إن الحق الطبیعی إذا خولف لا یعاقبه القانون، بینما الحق الوضعی إذا خولف عاقب المخالف القانون.

الخامس: الحق الوضعی یمکن تبدیله، بینما الحق الطبیعی لا یمکن تبدیله.

والحاصل: إن الحق الوضعی قابل للفرض، وإذا لم یفرض بطل أن یکون حقاً وضعیاً، أما الحقوق الطبیعیة فبعضها یفرض وبعضها لا یفرض.

ثم إن الحق قد یتقاضی وقد لا یتقاضی، مثلاً إن الإنسان إذا قال إن لی حقاً فی تقاضی راتبی المحترم، لا یعنی القول بأننی أتقاضاه فعلاً، وکذلک إذا قال أبو العائلة إن لی الحق فی أن أطلع ماذا یجری فی بیتی، أو ما أشبه ذلک من الحقوق.

ولکن عرفت أن الإنسان یستطیع معرفة ما هی الحقوق الطبیعیة بالرجوع إلی نفسه أو إلی مجتمعه، بینما معرفته بالحقوق الوضعیة محتاجة الی قراءة القوانین التی سنت، ومراجعة کتب القوانین أو الذهاب إلی الحاکم وسؤال الحاکم عن تلک الحقوق.

ولیس هناک مرجع مشابه یستطیع الإنسان استشارته حول الحقوق الطبیعیة إلاّ المجتمع أو العقلاء الذین یجتمع معهم فیتساءل هل لی هذا الحق أو لیس لی هذا الحق، مثلاً إنسان یستضیف ضیوفاً کثیرة مما یزعج أصوات أطفالهم الجار، فیستشیر أصدقاءه هل لی حق منعهم أم لا، أو أن إنساناً اشتبه فی طرق بابه فیتساءل هل لی حق تأنیبه أم لا.

وقد یختلف العرف والعقلاء فی ذلک، فیزعم إنسان أن له حقاً طبیعیاً فی شیء ما، بینما یعتقد غیره أنه لا یملک مثل هذا الحق، ولذا نری کثرة اختلاف الفقهاء فی باب إحیاء الموات

ص:61

وغیره فی أن هذا الحق هل هو ثابت للإنسان أو لیس بثابت له.

وإذا اختلفا فی حق طبیعی، فلیس هناک مرجع یرجعان إلیه من کتاب أو منشور أو قانون أو ما أشبه ذلک، وإنما کل طرف یبرر له الحق، أو لیس له الحق بتبریرات خارجیة، ومن الواضح أن الشواهد والقرائن والتبریرات أمر مختلف عن البرهان وعن الحصول علی حکم ذی صلاحیة من إحدی المؤسسات القانونیة التی تشیر إلی هذا الجانب أو هذا الجانب.

((الحقوق العامة والخاصة))

((الحقوق العامة والخاصة))

ثم إن کلاً من الحقوق الطبیعیة والحقوق الوضعیة قد تعم الناس، وقد تخص جماعة خاصة من الاجتماع.

مثلاً قسم من الحقوق یخص المالکین أو المحررین أو الصحفیین أو العلماء أو القضاة أو مدراء الدوائر أو ما أشبه ذلک، فمثلاً العالم بما هو عالم له حق طبیعی باحترامه، وحق قانونی هو توظیفه مثلاً إذا کان القانون یقول بأن کل عالم خریج معهد یوظف فی وظیفة کذا، فإن الحق الطبیعی والوضعی هما بالنسبة إلی العالم بما هو عالم لا للإنسان بما هو إنسان.

بینما حق الإنسان فی الحیاة والحریة وما أشبه عبارة عن حق الإنسان بما هو إنسان، وهذا حق طبیعی ویقرره القانون أیضاً.

وکذلک قد یکون للإنسان بما هو إنسان حق قانونی، مثل ما یقرره الأمم المتحدة للإنسان بما هو إنسان، سواء عملت به الدول أو لم تعمل به، ولذا قال بعض علماء الحقوق: إن الشخص الإنسانی یملک حقوقاً لمجرد کونه شخصاً، فهو ککل سید نفسه وأفعاله، وهو بالتالی لیس مجرد وسیلة للغایة، ولکن غایة قائمة بنفسها یتوجب معاملته علی هذا الأساس.

((حق الکرامة الإنسانیة))

((حق الکرامة الإنسانیة))

وماذا عن کرامة الشخص الإنسانی، إن هذه العبارة لا تعنی شیئاً إذا لم تدل علی أنه بفضل القانون الطبیعی للشخص الإنسانی الحق فی أن یحترم، وأنه موضوع الحقوق یملک الحقوق، وأن هذه الأشیاء تمت للإنسان لمجرد کونه إنساناً، انتهی.

ثم الغالب أن القانون الوضعی

ص:62

للحقوق مستمد من الحقوق الطبیعیة ولا عکس.

((تقسیم آخر للحق))

((تقسیم آخر للحق))

وربما یقسم الحق إلی أقسام ثلاثة:

الأول: الحقوق المتطلبة للوضع مما لم توضع فی القوانین بعدُ ولها صلاحیة الوضع، ولذا نری أن جماعة من الناس یتطلبون جعل حقوق خاصة إما للجمیع أو لفئة خاصة أو لفرد خاص طولی.

الثانی: الحقوق الموضوعة القائمة والتی یعمل بها، والدولة ملزمة فی تنفیذها وتعاقب من تخلف عنها.

الثالث: الحقوق الموضوعة الاسمیة، وهی الحقوق التی تضعها الدول ولکنها لا تعمل بها، کما نشاهد الدکتاتوریین یضعون حق التکلم والطبع والنشر والتجمع والمظاهرة والإضراب وغیر ذلک لکنهم لا یعملون بها إطلاقاً، أما وضعها فللتبجح أمام العالم بأن لبلادهم هذه الحقوق، وأما عدم العمل بها فلأنهم یریدون الاستبداد والاستئثار وهما ینافیان الحق، لأن الحق معناه التوجه إلی الخارج، والاستبداد والاستئثار معناه التوجه إلی داخل الشخص، وهما طریقان متقابلان لا یمکن التقاؤهما فی نقطة أبداً.

((تقسیمات فرعیة للحقوق))

((تقسیمات فرعیة للحقوق))

ثم هذه الأقسام الثلاثة من الحقوق کل واحد منها ینقسم إلی ثلاثة إقسام.

((الحقوق العامة))

((الحقوق العامة))

الأول: الحقوق العامة والتی هی لعامة البشر، سواء فهمها الجمیع علی مستوی واحد أو علی مختلف المستویات، مثلاً فهم حق الحیاة فهم واحد لکافة البشر، فإن کل إنسان یفهم أن له حق الحیاة، کما أن غیره أیضاً یفهم أن فلاناً له حق الحیاة، وحتی أن الاستثناء یحتاج إلی الدلیل.

وقسم من الحقوق العامة لیست کذلک، بمعنی أن الناس یفهمونه فهماً مختلفاً، مثلاً الحق فی الحریة مع أنه عام لجمیع البشر، والکل یفهم أن له حق

ص:63

الحریة وأن غیره له حق الحریة أیضاً، لکن الفهم مختلف حسب اختلاف المجتمعات وحسب اختلاف الحدود بین الحریة والانفلات، مثلاً قسم یفهمون الحریة مطلقاً وهم سکان الغاب، وقسم یفهمونه فی إطار القانون، وقسم یفهمونه فی إطار الشریعة.

ثم حیث قوانین الدول مختلفة یکون فهم کل دولة للحریة ضمن القانون مختلفاً عن فهم دولة أخری، وکذلک حیث الشرائع الدینیة مختلفة یفهم کل صاحب شریعة حق الحریة فهماً مختلفاً عن فهم صاحب شریعة أخری.

((حق الحریة فی الإسلام))

((حق الحریة فی الإسلام))

ولا یخفی أن الشریعة الإسلامیة أعطت حریة مسؤولة للناس جمیعاً، بما لم یسبق له مثیل، ولم یلحق به الغرب الذی یدعی الحریة.

وقد ذکرنا تفصیل ذلک فی کتاب (الصیاغه الجدیدة) مما لا حاجة إلی التکرار، یقول عبد الرزاق عودة فی کتابه (النظام السیاسی فی الإسلام): لقد سبقت الشریعة الإسلامیة القوانین الوضعیة فی تقریر نظریة الحریة بأحد عشر قرناً، لأن القوانین الوضعیة لم تبدأ بتقریر هذه النظریة إلاّ فی أواخر القرن التاسع عشر، أما قبل ذلک فلم تکن هذه القوانین تعترف بالحریة، بل کانت أقسی العقوبات تخص المفکرین ودعاة الإصلاح ولمن یعتقد عقیدة تخالف العقیدة التی یعتنقها أولو الأمر.

هذا هو الواقع وهذه حقائق التاریخ، فمن شاء بعد ذلک أن یعرف کیف نشأت الأکذوبة الکبری التی تقول: إن الأوروبیین هم أول من دعا للحریة، فلیعلم أنها نشأت من الجهل بالشریعة الإسلامیة، وقد یعذر الأروبیون عن هذا الجهل، أما نحن فلم نجد لأنفسنا عذراً.

((الحقوق الخاصة))

((الحقوق الخاصة))

الثانی: الحقوق الخاصة بفئة، وهذه هی الحقوق التی یتمتع بها أعضاء فئة معینة، سواء حقوقاً وضعیة أو حقوقاً طبیعیة، مثل حقوق رجال الدین، وحقوق الأشراف، وحقوق الأطباء، وحقوق الفقراء، وحقوق

ص:64

المتزوجین، وحقوق العزاب، ومن أشبههم.

((حقوق فردیة طولیة))

((حقوق فردیة طولیة))

الثالث: الحقوق الخاصة بفرد واحد طولی، کحق رئیس الدولة أو من أشبهه، حیث إنه لا یجوز فی الدولة إلاّ رئیس واحد ومجلس شوری واحد مثلاً، وذلک یتمتع بهذه الحقوق فإذا تبدل رئیس الدولة إلی فرد آخر تمتع ذلک الرئیس الجدید بتلک الحقوق، بینما تسلب تلک الحقوق عن الرئیس المعزول.

((التصادم بین الحقوق))

((التصادم بین الحقوق))

ثم إن الحقوق الطبیعیة لا تصادم بینها، بینما الحقوق الوضعیة أحیاناً تتصادم بعضها مع بعض، ولذا کان اللازم علی واضع القوانین الإصلاح بین القانونین المتصادمین إما بتخصیص هذا بذاک أو بالعکس، أو بتحدید کل واحد منهما بحیث یأخذ حده بدون تجاوز إلی منطقة توجب التصادم، ومعنی هذا الثالث هو تخصیص کلا القانونین بما یقع التصالح بینهما.

((الحقوق الطبیعیة وأقسامها))

((الحقوق الطبیعیة وأقسامها))

ثم إن هذه الأقسام الثلاثة التی ذکرناها فی الحقوق الوضعیة تأتی فی الحقوق الطبیعیة أیضاً، فإذا قال إنسان: أنا أملک شبکة من الحقوق التی تنبع من حقیقة قیامی بأفعال معینة أو دفعی أموالاً معینة أو انتخاب الناس لی لمراکز معینة وهکذا، فإنه قد یتکلم عن حقوقه الشخصیة الفطریة، وقد یتکلم عن حقوقه الوضعیة، سواء کانت فطریة توافق القوانین الوضعیة أو تخالفها، وسواء کانت الحقوق الوضعیة المکتوبة أو المتطلبة للوضع.

وهکذا بالنسبة إلی الفئة الخاصة التی تتکلم بمثل هذا الکلام، أو یتکلم کل إنسان بمثل هذا الکلام بما أنه بشر.

ثم إن الحقوق الشخصیة قد یستحقها الإنسان بسبب عمل منه، أو بسبب انتقال قهری أو اختیاری إلیه، فاذا ألف الإنسان مؤلفاً یقول إنی استحققت حق التألیف، کما أنه إذا اشتری حقاً یقول إنی اشتریت ذلک الحق، کما فی اشتراء حق التحجیر، أو حق المبیت مع الزوج لزوجة هی غیر ذات الحق وإنما تشتریه

ص:65

من زوجة أخری هی صاحبة الحق.

وقد یقول الإنسان: إنی أعطیت هذا الحق إما إعطاءً مجانیاً أو إعطاءً بمقابل، کما إذا منح المحجّر إنساناً القطعة من الأرض التی له فیها حق التحجیر، وقد یقول الإنسان إنی صولحت علی هذا الحق، أو یقول إنی ورثت هذا الحق، إلی غیر ذلک من أشکال انتقال الحق من إنسان إلی إنسان آخر، من غیر فرق بین أن یکون الحق فی قبال الملک أو حقاً شاملاً للملک.

نعم ذکر الفقهاء أن بعض الحقوق لا تقبل الانتقال، وذلک یسمی بالحکم اصطاحاً، فمثلاً حق الزوجیة لا تنتقل وإنما هو قابل للإثبات بالنکاح، أو للإسقاط بالطلاق ونحوه.

وقسم من الحقوق لا یقبل حتی مثل ذلک، کحق الأبوة حیث لا تنتقل إطلاقاً ولیست قابلة للإثبات أو الإسقاط تشریعاً، وإنما یقبله تکویناً بالولادة أو بوفاة الولد، ولذا ذکروا أن الأمة الوالدة عن السید إذا مات ولدها سقط حقها التابع لکونها أم ولد.

ثم إن بعض الحقوق المذکورة قابلة للوضع بالشرط، أو الرفع بالشرط، کحق الزوجة فی القسم حیث یرفع بشرط الزوج عدمه، وحقها فی السکنی فی بلد خاص حیث یوضع بشرط الزوجة وجوده.

هذا ثم من الواضح أن الحقوق غیر الطبیعیة کلها قابلة للوضع والرفع، کما أنها قابلة للتوسعة أو التضییق، حیث نظر المشرع المتبع رأیه فی هذا الباب، سواء کان المشرع الدین أو القانون.

وقد تبین مما تقدم أن الحقوق الطبیعیة والتی أحیاناً یعبر عنها بالحقوق الإنسانیة، لیست قابلة للوضع والرفع والاشتراء والانتقال وما أشبه، ولا تنشأ بواسطة أیة عملیة تعاقدیة، ولیست حصریة تأتی وتذهب مع الوظیفة.

ص:66

((علم الحقوق وفنها))

اشارة

((علم الحقوق وفنها))

(مسألة) علم الحقوق غیر فن الحقوق، وکل واحد من الأمرین محتاج إلی الآخر.

فإن علم الحقوق عبارة عن الحقائق الکلیة المرتبطة بهذا العلم.

أما الجزئیات بما هی جزئیات فلا یمکن أن تکون کاسبة ولا مکتسبة، لوضوح أن خصوصیات الجزئیات مما لا یمکن أن یقاس بعضها ببعض، وإنما کل فئة من الجزئیات تنخرط فی سلک عام، ذلک السلک العام یسمی بالقاعدة الحقوقیة، مثلاً التنازع بین زید وعمر فی الدار، وبین الزوج والزوجة فی قدر المهر، وبین الجارح والمجروح فی کون الجرح کان عمداً أو غیر عمد، جزئیات متنافرة فی صورة الظاهر، إلاّ أن الجمیع داخل فی کلی المدعی والمنکر، وعالم الحقوق یحاول فهم تلک القاعدة الکلیة التی تشمل تلک الجزئیات الخارجیة، فهذا وألوف من أمثالها تنخرط فی علم الحقوق، ولذا قالوا: إن الأعلم هو الذی یکون أکثر استحضاراً للأشباه والنظائر وللجزئیات حتی یتمکن من قیاس بعضها ببعض وجعل الجامع بینها.

أما فی الحقوق فهو أمران:

الأول: کیفیة تطبیق تلک القواعد الکلیة علی الجزئیات الخارجیة، مثلاً قاعدة (المدعی من إذا تَرک تُرک) أو (من کان قوله خلاف الأصل) هل تنطبق علی زید فی هذه القصة الخاصة أو علی عمرو، ولذا نشاهد أن بعض الفقهاء یقولون إن زیداً هو المدعی فی هذه القضیة الخاصة، بینما آخر یری أن عمرواً هو المدعی.

الثانی: کیفیة الکشف عن تلک القواعد الکلیة من ضمن الجزئیات الخارجیة، فإن الإنسان یری الجزئیات ویکشف وحده ملاکاتها ثم یلبسها الملابس الحقوقیة، فالقواعد الحقوقیة التی هی علم الحقوق وسط بین فن الحقوق الکاشف عن تلک القواعد أولاً وفن الحقوق

ص:67

المطبق لتلک الجزئیات علی الموارد الخاصة ثانیاً، وذلک مثل قولهم (الممکن بین واجبین).

ومن الواضح أن عالم الحقوق بحاجة إلی فن الحقوق فی کشف القواعد الکلیة عن الجزئیات الخارجیة، بینما القاضی بحاجة إلی فن الحقوق فی تطبیقه تلک القواعد العامة المکشوفة والمودوعة فی بطون الکتب علی الجزئیات الخارجیة.

کما أن من الواضح أن الإنسان إذا لم یکشف عن الجزئیات القواعد العامة حتی یضعها کقوانین حقوقیة، وإذا لم یتمکن من تطبیق القواعد علی الجزئیات الخارجیة لم یکن عالماً بالحقوق، فإن الفن والعلم متداخلان تداخلاً دقیقاً، إن الإنسان إذا لم یعرف أن أذی الجار لجاره خرق حقوقی لقانون الجوار، ثم لم یعرف أن صوت الدیکة والأغنام وما أشبه فرد من کلی الأذی، کیف یتمکن أن یعرف الجزئی الخارجی بأن هذا الجار یلزم إخراج غنمه ودیکه من داره لأجل عدم أذی جاره، فإن فی المسألة احتمالات ثلاثة:

الأول: إنها مطلقاً لیست من الأذی.

والثانی: إنها مطلقاً من الأذی.

والثالث: إنها أذی فی مثل المدن لا فی مثل القری، حیث یتعارف مثل ذلک فی أکثر الجیران، فإن موضوع الأذیة یختلف زماناً عن زمان، ومکاناً عن مکان، مثلاً إلقاء التراب علی البلاط المبنی فی الشارع أذی للمارة، بخلاف إلقائه علی الشارع غیر المبلط، کما أن ذبح الخروف فی أیام الأضحی لیس من الأذی المعاقب علیه قانوناً وإن سبب أذی الجیران من العفونة خصوصاً فی الصیف، وذلک لتعارف کثیر من البیوت ذلک، بینما هو من الأذی فی غیر عید الأضحی وهکذا.

نعم لا شک أن کشف القواعد من الجزئیات کتطبیق القواعد علی الجزئی الخارجی قد یکون عادیاً

ص:68

یتمکن منه کل عالم حقوقی، وقد یکون دقیقاً لا یتمکن منه إلاّ الأوحدی من العلماء، وذلک کما هو الحال فی کثیر من الکشوف الخارجیة غیر المرتبطة بمثل هذا البحث، مثل کشف الشرطة اللص فیما إذا لم یکن أی أثر ظاهر له.

((قصة الحجة الشفتی))

((قصة الحجة الشفتی))

وبهذا الصدد ینقل عن حجة الإسلام الشفتی (رحمه الله) الذی کان یقضی فی أصفهان، أنه جاءته امرأة وقالت: سیدنا إن جاری رجل من الأعیان الکبار وتمکن أن یسلب حدیقتی المجاورة له وزور أوراقاً شهد علیها شهوداً، فهل تتمکن من رد حدیقتی.

فقال لها حجة الإسلام: وهل لک شهود أو إثبات.

قالت: کل شیء لیس عندی إلاّ الحق.

فطلب حجة الإسلام ذلک الجار وبین الحال، لکن الجار أنکر الأمر أشد الإنکار وأظهر الأوراق والمستندات والتی ثبتت فیها شهادات الشهود الکبار من العلماء والأثریاء والجیران ومن أشبه أن الحدیقة له لا لغیره، وحیث إن حجة الإسلام کان عارفاً صدق المرأة من لهجتها أراد کشف الأمر بالفن، حیث کانت الموازین الظاهریة مع الرجل لا مع المرأة، وکان حجة الإسلام مشغولاً بقضایا الناس، فسأل أثناء بعض قضائه عن الرجل: هل أنت عمرت الحدیقة بنفسک، وأجاب الرجل ببساطة: لا، ثم اشتغل حجة الإسلام بقضیة إنسان آخر وفی أثنائها سأل عن الرجل: وهل ورثت الحدیقة، قال الرجل ببساطة: لا، واشتغل حجة الإسلام بقضیة ثالثة وسأل الرجل فی أثنائها: وهل اشتریت الحدیقة، فقال الرجل ببساطة: لا، وفی المرة الرابعة سأله: هل وهبت لک الحدیقة، فقال الرجل: لا، وفی المرة الخامسة سأله: هل صولحت علیها، فقال: لا.

وهکذا سأل حجة الإسلام عن الرجل أسألة متقطعة متباعدة عن کل أسباب الملک، والرجل ینکر هذا السبب وهذا السبب، فارغ الذهن عن ارتباط الإنکار بعضه ببعض فی قاعدة عامة یرید کشفها

ص:69

حجة الإسلام، لأنه کان خالی الذهن عن مثل ذلک.

وأخیراً قال له حجة الإسلام: فمن أین لک الحدیقة وقد أنکرت کل أسباب الملک، فتفطن الرجل لاشتباه نفسه وقال فی الجواب: لعلی حصلتها من السماء.

فقال له حجة الإسلام: لا یمکن سقوط حدیقة من السماء إلی الإنسان، فلا بد وأنک مفتر مزور، وهنا حکم حجة الإسلام بالحدیقة للمرأة وأحرق أوراق شهادات الرجل المزورة والتی خدع بها الشهود حیث شهدوا فی أوراقه بزعم أنه یدعی ما لا یدعیه أحد، فتنطبق علیه القاعده التی تقول بأن شیئاً لو کان فی ید أحد ولا مدعی له یکون کلام صاحب الید حجة بالنسبة إلی ذلک الشیء.

إلی غیرها من القصص الکثیرة التی هی من هذا القبیل، والمتواجدة فی الکتب المعنیة بشؤون القضاء.

ص:70

((ارتباط الحقوق بعلوم مختلفة))

((الحقوق وعلم الفقه))

((ارتباط الحقوق بعلوم مختلفة))

(مسألة) الحقوق مرتبطة بجملة من العلوم.

((الحقوق وعلم الفقه))

مثلاً الحقوق مرتبطة بعلم الفقه بمقدماته التی هی الأصول ونحوه، وذلک لأن الحقوق مرتبطة بالمعاملات بالمعنی الأعم، إذ المعاملة تطلق خمس إطلاقات:

علی العقود، وعلی الأعم منها ومن الإیقاعات، وعلی الأعم منها ومن مثل الإرث وحیازة المباحات، وعلی الأعم منها ومن مثل القضاء، وعلی الأعم منها ومن مثل الحدود والدیات والنکاح والطلاق بتوابعه فی قبال العبادات.

نعم ربما فی اصطلاح قرآنی یطلق حتی علی العبادات، قال سبحانه: ﴿إن الله اشتری من المؤمنین أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة﴾((1)).

وقال تعالی: ﴿فاستبشروا ببیعکم الذی بایعتم﴾((2)).

وقال: ﴿تجارة لن تبور﴾((3)).

وقال: ﴿هل أدلکم علی تجارة تنجیکم من عذاب ألیم﴾((4))، إلی غیر ذلک.

وعلی کل فکل تلک المعاملات بالمعنی الأعم، أی المعنی الخامس للمعاملات حیث یکون إنسان طرفاً کالإرث والنکاح والقضاء، أو لا یکون إنسان طرفاً کحق حیازة المباحات وملک الإنسان لها، کل تلک منشأ الحقوق، والتی علم الحقوق مبنی علیها.

((هل الأمور الفردیة تسمی حقوقا))

((هل الأمور الفردیة تسمی حقوقا))

نعم هنا کلام بالنسبة إلی الفردیات، وهو هل أن تلک الفردیات تسمی حقاً اصطلاحاً أم لا، مثلاً إنسان صاد طیراً أو سمکاً أو غزالاً حیث هو منقطع فی جزیرة ولا أحد عنده إطلاقاً، هل یسمی أنه ملک ذلک، أو بنی داراً هناک هل یسمی أنه مالک لها، أو هل یصح أن یوقف مثلاً داراً أو حسینیة أو مسجداً هناک، احتمالات، نعم لا إشکال فی أنه یسمی مالکاً لنفسه حیث یتسلط علی نفسه، قال سبحانه: ﴿لا أملک إلاّ نفسی وأخی﴾((5)) فی قصة موسی (علیه الصلاة والسلام)، کما لا إشکال فی أنه یصح له أنواع التقلب الجائز فی ذلک الحیوان أو فی الدار، نعم لا یحل له مقاربة الحیوان فاعلاً أو مفعولاً أو أن یؤذیة أو ما أشبه ذلک، کما لا حق له

ص:71


1- سورة التوبة: 111
2- سورة التوبة: 111
3- سورة فاطر: 29
4- سورة الصف: 10
5- سورة المائدة: 29

أن یهدم الدار المبنیة فی الجزیرة حیث یصدق الأسراف.

والحاصل: الشک فی أن هذه العناوین کالملک والوقف وما أشبه عناوین اجتماعیة حتی إذا لم یکن اجتماع لم تکن تلک العناوین، فهی مثل عناوین الصدق والأمانة والریاء والسمعة وما أشبه حیث إنها عناوین اجتماعیة ولا صدق لها مع وجود فرد واحد فقط، أو لا بل هی عناوین مطلقة حتی مع الفرد، فیقال حجز الأرض وملک السمک وحق له فی الدار ووقف الحسینیة إلی غیر ذلک. لکن هذا المبحث خارج عن محل الکلام هنا.

هذا فی ربط الحقوق بالفقه.

((الحقوق وعلم الاجتماع))

((الحقوق وعلم الاجتماع))

أما ربطه بعلم الاجتماع، فلأن الحقوق شعبة من شعب علم الاجتماع، والحقوقی ینظر فی أنه کیف یمکن إعطاء الحقوق للناس بحیث یبقی الاجتماع سلیماً.

فاللازم علی من یرید وضع الحقوق أو یعمل بالحقوق حاکماً أو محامیاً أو معاوناً أو من أشبه، أن یکون عالماً بعلم الاجتماع حتی یتمکن من وضع الحقوق فی صورة القانون وتفسیرها، وتکمیل ما لم یذکر من علم الحقوق وتخصیصها وتعمیمها، والجمع بین حقین من الحقوق إذا تعارضا أو تزاحما.

لا یقال: هذا یصح بالنسبة إلی غیر بلاد الإسلام، حیث عالم الحقوق منفتح الید یضع الحقوق کیف ما رأی صلاحاً، أما بالنسبة إلی بلاد الإسلام فالحقوق موضوعة من قبله سبحانه وتعالی، ولا یمکن تغییرها ولا تبدیلها ولا تحریفها ولا تخصیصها ولا تعمیمها، فلا حاجة إلی مثل هذه الأمور بالنسبة إلی الرجل الإسلامی.

فإنه یقال: فی بلاد الإسلام أیضاً حاجة إلی وضع الحقوق، وذلک لأنه فی الإسلام وإن لم یوضع الحکم إلاّ لله سبحانه وتعالی، ولکن تطبیق الکبریات الکلیة الإسلامیة علی الصغریات الجزئیة الخارجیة بحاجة إلی

ص:72

علم الاجتماع، إذ من الممکن أن یکون هناک عدة صغریات لکبری کلیة إسلامیة، وعالم الحقوق بحاجة إلی تشخیص الصغری التی ترید المحاکم تطبیقها أو ما أشبه ذلک.

وفیما إذا لم تکن عدة بدائل وإنما الأمر دائر بین الوجود والعدم یمکن أن یکون القانون وجودیاً أو عدمیاً فیما یکون الطرف الآخر من القانون مثاراً للنزاع والمشکلات، مثلاً النکاح مجعول شرعاً لکن عالم الحقوق بحاجة إلی أن یعرف طبیعة الاجتماع هل یقبل نکاح البنت الباکر بدون رضا الأبوین فیما إذا قلنا بأنه لا حاجة إلی رضا الأب والجد فی البکر، کما هو رأی جماعة من الفقهاء، وعلی طبق قبول الاجتماع وعدم قبوله یضع المنظر القانونی القانون الذی یقول حیث إن نکاح البکر بدون رضا الأب والجد یوجب النزاع وإراقة الدماء وسائر المفاسد، کما أن الأمر کذلک فی جملة من العشائر، فعلی الشباب أن یترکوا ذلک إطلاقاً.

أما فی البلد الذی لا یهمهم ذلک، کغالب البلاد الغربیة حتی بالنسبة إلی المسلمین القاطنین فیها، حیث تلونوا بذلک اللون فلا یهمهم أن تتزوج بنتهم بمن شاءت من الاکفاء، فیسمح بالنکاح کذلک.

إلی غیر ذلک من الأمثلة، هذا بالنسبة إلی جعل الصغریات.

أما بالنسبة إلی شرح القانون وتفسیرة والجمع بینه وبین غیره فذلک لا فرق فیه بین واضع الکبریات کما فی البلاد الغربیة، أو مطبق الصغریات علی الکبریات کما فی البلاد الإسلامیة، مثل قانون أنه إذا کانت عمارة تزاحم الطریق العام یجوز هدمه، فإن هذا القانون یوضع کبرویاً فی البلاد غیر الإسلامیة، أما فی بلد الإسلام فالمقنن یلاحظه صغرویاً وهو هل أن بقاء المسجد أهم أو مراعاة الطریق أهم، فإذا رأی الثانی یضع القانون هکذا: إن المسجد إذا أضر بالطریق العام جاز هدمه مع تبدیل الدولة له فی مکان آخر، جمعاً بین

ص:73

الحقین، فیطبق المنظر القانونی قانون الأهم والمهم الإسلامی علی هذه الصغری الخارجیة.

((الحقوق وعلم الاقتصاد))

أما ربط الحقوق بالاقتصاد، فإن عالم الحقوق حیث یرید وضع القوانین الاقتصادیة یجب أن یعرف موازین الاقتصاد، سواء فی الاقتصاد الإسلامی الذی هو مورد البحث، أو غیر الإسلامی کالاشتراکیة والشیوعیة والرأسمالیة والتوزیعیة بالنسبة إلی علماء حقوقهم حتی یتمکن من وضع القوانین الملائمة للاقتصاد المعترف به عند الأمم.

فإن عالم الحقوق إذا لم یعرف أن الاقتصاد الإسلامی مبنی علی (لکل جهده) بمقتضی ﴿أن لیس للإنسان إلاّ ما سعی﴾((1)) إلاّ فی القدر الاجتماعی عن الذی یستثنی من الجهد للصالح العام، کما تقدم الألماع الیه، کیف یتمکن من وضع القوانین الکفیلة بتطبیق الکبری الکلیة الإسلامیة علی الصغریات الخارجیة.

مثلاً لا یتمکن أن یضع قانوناً یصحح استملاک الحکومة لبقاء الدار وسائر الأملاک التی وقعت بعضها فی الشارع، ولا من وضع القانون الذی یبیح بقاء المستأجر فی الدار والدکان والحمام وما أشبه خلاف رضا المؤجر الذی هو خلاف (الناس مسلطون علی أموالهم)، إلی غیر ذلک.

وهکذا بالنسبة إلی سائر أنحاء الاقتصاد، بل الأمر أدق من هذا أحیاناً، فإنه إذا کان اضطرار من المستأجر إلی السکنی فی الدار المستأجرة حیث إن المستأجر لا یتمکن من السکنی فی الکوخ والخیمة والشارع ولا یتمکن من استیجار دار أخری، فاللازم أن یضع المقنن قانوناً بإجازة ذلک بشرط إعطائه الأجرة العادلة، فیما إذا لم یکن اضطرار المستأجر فی قبال اضطرار المؤجر فی السکنی، وإلاّ تساقط الاضطراران وبقی (الناس مسلطون) حاکماً لیدل علی لزوم إخلاء المستأجر الدار.

وربما یکون أمر أدق، کما إذ کان المؤجر غیر

ص:74


1- سورة النجم: 39

مضطر إلاّ داره تستأجر فی أیام الزیارة، کأیام الحج فی مکة المکرمة والمدینة المنورة، أو أیام الزیارة فی العتبات المقدسة فی مدة شهر مثلاً بما أجرته بقدر أجرة کل السنة، فالمؤجر یقول للمستأجر: أنت مخیر فی أن تعطینی أجرة شهر الزیارة وأجرة أحد الأشهر الأخر من الأشهر العادیة، أو تخرج من الدار، والمستأجر لا یتمکن من الإعطاء بقدر أجرتین لکل سنة، فهل للمؤجر الحق مطلقاً، أو للمستأجر الحق مطلقاً، أو یفصل فی المسألة العامة بین تمکن المستأجر وعدم تمکنه، أو یفصل بین اضطرار المؤجر للاحتیاج إلی هذه الأجرة لإدارة معاشه وبین عدم اضطراره.

إلی غیر ذلک من الأمثلة التی هی عبارة عن تطبیق الکبریات الشرعیة الإسلامیة علی الصغریات الخارجیة الجزئیة.

((الاقتصاد والحقوق))

((الاقتصاد والحقوق))

ثم کما أن الحقوق مبنی علی الاقتصاد، کذلک الاقتصاد مبنی علی الحقوق، فالقوانین الحقوقیة هی التی تحدد قدر التولید ونوعه وکیفیة تسویقه وکیفیة توزیعه وغیر ذلک، حیث إنها إذا لم تتدخل فی أمثال هذه الشؤون توجب تحطم الاقتصاد لبلاد الإسلام، مما تعارض المصلحة العامة مع المصلحة الخاصة.

وإن شئت قلت: بتدخل العنوان الثانوی لأجل إنقاذ البلاد عن الاستعمار والاستثمار غیر الجائز، وإنقاذ العباد عن الفقر والجوع والعوز والمسکنة.

لکن لا یخفی أن کون الاقتصاد من مبانی الحقوق، لا یراد به ما یقوله مارکس من أن الاقتصاد کل شیء فی هذا الباب، فإن الإنسان یسیره العرف والعادة والغرائز والحریة والحب والمیول والدین والأخلاق والتاریخ وغیرها، وإنما الاقتصاد بعض المسیرات، إذاً لکل لها مدخلیة فی الحقوق کبرویاً کما فی غیر المسلمین، أو صغرویاً کما فی المسلمین، علی ما سبق الإلماع إلیه.

ص:75

((الحقوق وعلم السیاسة))

((الحقوق وعلم السیاسة))

أما بالنسبة بین الحقوق والعلوم السیاسیة، فلأن السیاسة هی التی تقرر جملة من الحقوق.

مثلاً إذا کانت السیاسیة مع الأسلوب الاستشاری مما یسمی بالدیمقراطیة، فالحق یکون مستنداً إلی القوانین التی یضعها مجلس الشوری، وإذا کانت السیاسة دکتاتوریة فالحق یضعه الدکتاتوریة أو مجلس الثورة.

ولا یراد بالحق الواقعی فقط، بل المقّرر الأعم من ذلک، فإن من یصدق بالدیمقراطیة یصدق بأن الحق هو ما یضعه المجلس وهکذا.

والإسلام حیث ینتهی فی الحکم الصغروی إلی مجلس (شوری الفقهاء) فالحق ما یضعونه بأکثریة الآراء وهکذا.

مثلاً إذا تصادمت سیارتان کانت إحداهما علی خلاف قانون مجلس شوری الفقهاء فی السیر، فالآخر یقول الحق فی الطریق کان لی، والسیارة الثانیة خرقت الحق وعلیها التبعة، وهکذا فی سائر الصغریات الموضوعة.

أما إذا لم یکن الحق موضوعاً من قبل هذا المجلس، فلا یعتنی بالقانون الذی یوضع من قبل مجلس الدیمقراطیین أو من قبل مجلس الدکتاتوریین، ولا یوجب حقاً ولا واجباً، وإنما الحق والواجب یبقیان علی الأصل، مثلاً لا یعتنی بالضوء الأحمر فی الطریق بل المعیار الضرر و اللا ضرر، فاذا سبب الضرر کان محرماً وعلیه التبعة، وإذا لم یسبب ضرراً لم یکن علیه شیء، إلی غیر ذلک من القوانین التی توضع فی البلاد مستندة إلی الأمور السیاسیة.

وهکذا أصل الحریة وأصل المساواة وغیرهما، فإن الحریة والمساواة أصلان سیاسیان لهما مدخلیة فی وضع الحقوق، فأصل الحریة یعطی الحق فی أن یتاجر الإنسان بما یشاء، ویسکن کیف یشاء، ویسافر ویتکلم ویکتب کیف یشاء، فی الأطار الإسلامی علی ما نراه، وقد تقدم أنه لا یعطی الحق مثل هذه الحریة للاستغلال، حتی یتکون رأس المال بالمفهوم الغربی، وهکذا فی سائر أبعاد

ص:76

حریة الإنسان.

کما أن أصل المساواة یوجب أن لا تتمکن الدولة من إعطاء عامل أقل من عامل آخر، لأنه من جنس دون جنس، أو لغة دون لغة، أو قطر دون قطر، کما نشاهد مثل ذلک فی کافة بلاد الإسلام، حیث یرجحون أفراداً حسب الحدود الجغرافیة أو حسب اللغة أو ما أشبه ذلک علی أفراد آخرین، فإن أصل المساواة الإسلامی یمنع عن مثل ذلک، بخلاف الدول القومیة حیث إن السیاسة وراء التفرقة.

وقد تقدم الفرق بین الحقوق الطبیعیة والحقوق الوضعیة، حیث إن الدولة وراء الحقوق الوضعیة، لجعلها الثواب والعقاب حولها، بینما الحقوق الطبیعیة الدولة لیست وراءها إلاّ إذا کانت مصدقة من قبل واضعی الحقوق حتی تکون حقوقاً وضعیة وطبیعیة فی آن واحد.

لکن یؤخذ علی هذه التفرقة ما ذکره بعضهم من أن الحقوق الثلاثین المنصوص علیها فی شرعة حقوق الإنسان الصادرة من الأمم المتحدة لم تصبح بعد حقوقاً إیجابیة، ولذلک یتعجب الفرد بأنه کیف لا تسمح له دولته بترک بلاده، أو لا تسمح دولة بالدخول فی بلادها، فما معنی المادة الثلاثین من شرعة الحقوق التی تذکر:

(إن لکل إنسان الحق فی ترک أی بلاد بما فیها بلاده وأن یعود فی بلاده).

ولذا کتب بعض العلماء الغربیین (إن حقوق الإنسان هی بکل بساطة هراء)، وهذا تام فإن الإنسان الذی یحرم من ترک بلاده أو الدخول فی بلد آخر یکون أول الموافقین علی قول هذا العالم الغربی القائل بأن حقوق الإنسان هراء.

نعم یمکن الفرق بأن یقال: إن الحق الذی لا یعطی وقد وضع خرق للقانون، بینما الحق الذی لا یعطی ولم یوضع لیس خرقاً للقانون، فالفرق اعتیادی لا خارجی، ولذا فقد أجاب بعضهم عن هذا العالم بأن الفارق بین الحق

ص:77

الطبیعی والحق القانونی یمکن أن یحدد علی هذا الشکل:

إن الأول: هو حق أخلاقی غیر موضوع، فهو حق یجب أن یمتلکه الإنسان حسب القانون.

أما الثانی: فهو حق ممتلک حسب القانون، ویصبح بإمکان الذی حرم من مغادرة بلاده أن یقول إنه یحب أن یمنح هذا الحق، بدل أن یقول إن تقیید حرکاته خطأ أخلاقی.

فالأخلاق والمناقبیة متعلقان بهذا الوضع، فقد یکره الفرد أن یقید ضمن حدود دولة واحدة، ولکن لا یمکنه أن یدعی أن قیده هذا ظالم إلاّ إذا تمکن أن یبنی شکواه علی مبدأ عام دولی، مما أشرنا إلیه سابقاً بأنه نقص فی الدول الحضاریة أنها لم تجعل مثل هذه المحکمة لیراجعها الفرد المضطهد.

وعلی أی حال، فللقانون الوضعی ثغرات کثیرة، منها هذا ومنها غیر ذلک، ولیس الکلام الآن فیه، وإنما الکلام فی أن العلوم السیاسیة من مصادر القانون، فعلی المنظر القانونی أن یعتمد العلوم السیاسیة، ولا یمکن ذلک إلاّ بعد أن یعرفها حتی یتمکن من وضع القانون کبرویاً کما فی غیر الإسلام، أو صغرویاً کما فی الإسلام حسب موازین السیاسیة.

((الحقوق والعلوم الریاضیة والطبیعیة))

((الحقوق والعلوم الریاضیة والطبیعیة))

أما رابطة الحقوق مع العلوم الریاضیة والعلوم الطبیعیة فلا تخفی، فإن تقدم العلم والصناعة سبب حقوقاً جدیدة وضع لها قوانین، سواء فی غیر المسلمین حیث إنهم یضعون الکبریات، أو فی المسلمین حیث إنهم یطبقون الصغریات الحدیثة علی الکلیات المقررة الأدلة الشرعیة، من الکتاب والسنة والإجماع والعقل عند الشیعة، أو القیاس والاستحسان وما أشبه، بالإضافة إلی ما تقدم عند السنة.

مثلاً الحقوق الجزائیة التی وضعت فی الإسلام وکتبت فی الفقه منذ ألف سنة، لا تکفی بحرفیتها عصر السیارات والطائرات والقطارات والدراجات الهوائیة ونحوها، فإن تلک القوانین التطبیقیة إنما کانت قوانین لعصور الخیل

ص:78

والبغال والحمیر وما أشبه.

أما القوانین التی یجب أن تسود فی هذا الزمان فهی صغریات لکبریات شرعیة کلیة، یجب استخراجها منها لهذا العصر.

وهکذا بالنسبة إلی أقسام التجارة الخارجیة والداخلیة، حیث إنه إذا لم توضع قوانین «لا ضرر» فی حدود بلاد الإسلام موضع التنفیذ، لا یمکن حمایة الصناعة الوطنیة، کما لا یمکن إبقاء حاجات الناس إذا ما أخذت البضائع الخارجیة تغزو الأسواق مما یوجب توقف الصناعة الوطنیة وکثرة العاطلین إلی غیرها.

((الوطن الإسلامی وحرمة الحدود المصطنعة))

((الوطن الإسلامی وحرمة الحدود المصطنعة))

والمراد من الوطن الإسلامی هو الوطن بمعناه العام، لا الحدود الجغرافیة الحدیثة التی قطعت البلاد الإسلامیة تحت عناوین مختلفة، مما کل ذلک مخالف للشرع علی ما ألمعنا إلیه فی کتبنا السیاسیة.

وعلی أی حال، فإذا لم توضع قوانین «لا ضرر» ونحوها موضع التنفیذ الصغروی، وجب غزو البلاد بالصناعات الأجنبیة أو وجب سیلان البضائع الداخلیة إلی الخارج مما یوجب إفقار الناس عن حاجاتهم الضروریة.

((نماذج مستحدثة))

((نماذج مستحدثة))

وهکذا حال التلقیح الصناعی حیث سبب تحولات فی صغریات قوانین العائلة والإرث والقضاء وما أشبه ذلک، وقد ذکرنا بعض أمثلتها فی کتاب النکاح، کما لو زرقت المرأة منی زوجها المتوفی فی نفسها، أو زوجها المطلّق لها کذلک، أو زرقت منی الرجل قبل الزواج فی نفسها ثم تزوجت به.

وهکذا قانون طبع الأصابع وسائر التدقیقات المشخصة للسارق والسرقة والزانی واللائط وما إلی ذلک، کمسألة کلب الإجرام والرادار والتصاویر الأوتوماتیکیة التی تزود بها الشوارع لظهور المخالف والسارق والمتعرض لبنات الناس وأولادهم، فإنها کلها وغیرها مما هو کثیر سببت موازین جدیدة وصغریات للحقوق، وقد ذکرنا ألف مسألة منها فی کتاب (ألف مسألة حدیثة)، کما ذکرنا جملة منها فی کتاب (الفقه) بالمناسبات المختلفة، فإن کل

ص:79

ذلک أصبحت من مبانی الحقوق، فعلم الحقوق بحاجة إلی الاطلاع علی هذه الأمور حتی تتمکن أن تضع الحلول المناسبة لصغریات الکبریات الکلیة فی البلاد الإسلامیة، وبذلک ظهر کیف یرتبط علم الحقوق بالعلوم الریاضیة والعلوم الطبیعیة وما أشبه ذلک.

((القانون وعدم الشمول والدوام))

((القانون وعدم الشمول والدوام))

ثم لا یخفی أن تطبیق الصغریات علی الکبریات فی القانون الإسلامی لا یلزم أن یأخذ صورة الشمول والدوام، فمن الممکن أن یطبق فی زمان دون زمان، أو فی بلد دون بلد، مثلاً یطبق صغری فی هذا البلد أو فی هذا الزمان، بینما یطبق فی زمان آخر أو بلد آخر صغری أخری.

کما مثلنا ذلک بالنسبة إلی إلزام السیارات بالمرور من الطرف الأیمن فی بلد، أو الأیسر فی بلد آخر، أو الوقوف عند احمرار الضوء أو عند اخضراره، ویمکن فی بلد واحد أن یعاکس الأمر بین الشتاء والصیف، أو فی أوقات الزیارة والازدحام وغیر أوقات الزیارة والازدحام، حسب ما یراه المقننون المتشرعون صلاحاً، فإن القوانین الطبیعیة هی الأصل، أما القوانین الوضعیة فهی فروع یمکن اختلافها حسب الزمان والمکان والشرائط والملابسات.

ولذا ذهب بعض المفکرین الإسلامیین إلی التمییز بین مبادئ القانون الطبیعی فی حد ذاتها، وأطلقوا علیها اسم القانون الطبیعی المبدئی أو الأولی، وبین الحلول العادلة التی تتفرع عن تلک المبادئ والتی تراعی جزئیات کل حالة وظرف کل شخص، وأطلقوا علیها اسم القانون الطبیعی الثانوی أو التطبیقی، کما أطلقوا علیها اسم قواعد العدالة، ولیس المهم الاسم بل الواقع علی ما عرفت.

ومما تقدم ظهر التمییز بین مبادئ القانون الموضوع التی تعنی قلة من المبادئ الأولیة المذکورة فی الأدلة الأربعة أو غیرها عند العامة

ص:80

کالقیاس والاستحسان وما أشبه، وبین الصغریات والتی هی عبارة عن تطبیق مبادئ القانون الموضوع علیها مع مراعاة ظروف الأشخاص وجزئیات الحالات.

وهذا هو مراد بعض المقننین الإسلامیین حیث قالوا: بوجوب الحکم بمقتضی مبادئ القانون وقواعد العدالة المستفادة من العرف، والمراد بالعرف هو عرف المشترعة مما هو مرکوز فی أذهانهم من المبادئ الإسلامیة.

((القانون الصریح والمستنبط))

وعلی أی حال، فالقانون الإسلامی الذی یطبق علی الصغریات الخارجیة، قد یکون قانوناً صریحاً، وقد یکون قانوناً کلیاً یستفیده الفقهاء من الصغریات الخارجیة، معتدین بالملابسات الخاصة والاعتبارات الجزئیة.

والأول: لا یکون قابلاً للاختلاف والفرق فإن «حلال محمد (صلی الله علیه وآله) حلال إلی یوم القیامة، وحرامه حرام إلی یوم القیامة».

بخلاف الثانی حیث عرفت قابلیة للاختلاف زماناً عن زمان أو مکاناً عن مکان أو شرائط عن شرائط.

وعلی أی حال، فالکلام فی المقام مرتبط باستمداد الحقوق من العلوم الطبیعیة والریاضیة بصورة عامة وهی تابعة للأمر الثانی.

ص:81

((جعل القانون وملاحظة العدالة والاجتماع))

اشارة

((جعل القانون وملاحظة العدالة والاجتماع))

(مسألة): عالم الحقوق الذی یرید وضع الحقوق لابد أولاً أن یتطلب أحسن القواعد الحقوقیة التی تراعی العدالة والاجتماع، إذ عدم العدالة خلاف الموازین، وعدم ملاحظة الاجتماع یوجب عدم اعتماد الناس علیه.

وقد ذکرنا مکرراً أن ما نذکره فی هذا الکتاب بالنسبة إلی بلاد الإسلام وقوانین المسلمین یراد به تطبیق الصغریات علی الکبریات الکلیة المسلّمة، وأما بالنسبة إلی غیر بلاد المسلمین فإنه یشمل حتی وضع الکبریات.

وعالم الحقوق الذی یراعی الجهتین بحاجة إلی معرفة تامة بالفقه والأصول والأخلاق والاجتماع والعلوم السیاسیة والاقتصادیة والتاریخ وغیرها، وحیث إنه کثیراً ما یتعارض بعض هذه الأمور مع بعض، یلزم علی عالم الحقوق الذی یرید تدوین القانون أمور:

((الشخصیة المبدعة))

أولاً: أن یکون مبدعاً بالنسبة إلی کیفیة استخراج الحقوق وجعلها، وبصیراً بکیفیة الجمع بین الأدلة، ولا یمکن ذلک إلاّ بکثرة العلم أولاً، وبکثرة حضوره مجالس الحکم ثانیاً، سواء کان حاکماً بنفسه أو یحضر مجالس الحکم حتی یری کیفیة استدلال الطرفین المدعی والمنکر، والشرکاء والزوجین ومن أشبههم، وکیفیة تلقی الحاکم الکلام وکیفیة رده، وکیفیة تبنی المحامین والادعاء العام هذه الجهة أو تلک الجهة.

وهذا لا یمکن إلاّ بالتجارب الکثیرة العملیة، مثلاً یرید عالم الحقوق وضع قانون لاستفادة صاحب النقود من ملک صاحب الملک کالدار والحمام والدکان والبستان، فإنه قد یضع هذا القانون فی إطار تملیک المنفعة، أو فی إطار الرهن مع سکنی من له النقد فی المحل، حیث یری أن فائدة النقد المضاربیة بقدر فائدة أجرة الدار مثلاً، أو یضعه فی قانون الرهن والإجارة معاً، فیعطیه ألف دینار فی قبال رهنه داره ویستأجرها منه کل شهر خمسة دنانیر، بینما

ص:82

أنه إذا کان الإیجار فقط کان علیه کل شهر عشرة، وإذا کان رهن فقط کان علیه إقراض ألفی دینار، حیث إن کل ألف أرباحه المضاربیة ستون دیناراً کل سنة، فإن من الضروری أن تکون الفائدة المضاربیة وقدر الأجرة المأخوذ بحسب العدالة فی المقابلة بین الفائدة والدار، فإن هناک فائدة المال وفائدة الدار فیجب تساویهما، وإلاّ کان هذا غابناً لذاک أو ذاک غابناً لهذا.

((التجارب وعلم الحقوق))

((التجارب وعلم الحقوق))

أما استفادة عالم الحقوق عند وضعه القوانین الحقوقیة عن تجارب الآخرین، فاللازم أن تکون تلک التجارب مقبولة فی بلاد التقنین من ناحیة العقیدة ومن ناحیة العادة، وإلاّ آل أخذ التجربة بالفشل، وهذا من أسرار فشل حکومات بلاد الإسلام فی هذا القرن، حیث إنهم یأخذون تجارب الشرق والغرب، وحیث إن المسلمین یرون بطلان تلک التجارب عقیدة أو عادة، لا یحترمون القانون بل کثیراً ما لا یحترمون مجری القوانین من القاضی ونحوه، حیث یعلم فی باطنه أن هذا القانون باطل، لأنه خلاف الإسلام، أو لأنه خلاف عادات الناس، لا یحترم هو بنفسه مثل القوانین ویضرب بها عرض الحائط.

ویفصل فی الأمر بما یراه صحیحاً، وقد رأینا فی العراق أن الحکومة الملکیة اعتبرت قوانین ثلاثة لفصل الخصومات، قوانین دینیة تطابق شریعة الإسلام، وقوانین مدنیة مأخوذة من الغرب والشرق، وقوانین عشائریة مأخوذة من عادات العشائر العراقیة فی فصلهم الأمور، لکن العراقیین إلاّ من شذ کانوا یضربون بما سوی قانون الدین عرض الحائط، ولا یعیرون لذینک القانونین أیة أهمیة، مما کان الغالب فشلهما، وإن کانت الحکومة مصرة علیهما، وکثیراً ما کان الناس یحلون مشاکلهم عند المحاکم

ص:83

اضطراراً ثم یراجعون العلماء لحل مشاکلهم حسب الشریعة الإسلامیة، کما أنه کانوا کثیراً ما یجرون العقد أو الطلاق عند المحاکم اضطراراً، لأن الحکومة ما کانت تسجل إلاّ العقد والطلاق الذی وقع عند المحاکم، ثم بعد ذلک یأتون أبواب العلماء لیعقدوا علی أزواجهم من جدید، أو لیطلقوا زوجاتهم ثانیاً، لاعتبارهم أن العقد والطلاق عند المحاکم العرفیة باطلاً.

هذا کله هو الأمر الأول بالنسبة إلی واضعی القوانین الحقوقیة.

((وضوح القانون))

((وضوح القانون))

أما الأمر الثانی: فهو أن یصب المقنن تلک القوانین المستخرجة فی قوالب مفهومة، لا تتعارض مع القوانین الأخر، ولا تکون مورد النقص والإبرام، بأن لا تکون القوالب فضفاضة أو ضیقة، کتعریف الحیوان بأنه جسم، أو بأنه إنسان.

إذ کثیراً ما تختلف القوالب وإن کان المفاد واحداً، مثل ذلک مثل ذین المعبرین اللذین قال أحدهما للملک عندما رأی أن أسنانه سقطت: إن أقرباء الملک یموتون قبل الملک، فاضطرب الملک وأهانه وطرده، بینما قال له الثانی: إنک أطول عمراً من أعمار أقربائک، فاحترمه الملک وأجازه، مع أن المفاد فی کلا التعبیرین واحد.

((مقبولیة القانون عند مختلف الأطراف))

((مقبولیة القانون عند مختلف الأطراف))

الأمر الثالث: حیث إن الاجتماع فیه أفراد متعددون من حیث الذوق والتاریخ والفکر والعرف والعادة وما أشبه، فاللازم أن یضع العالم الحقوقی القوانین بما یکون المجال مفتوحاً أمام مجری القانون بأن ینفذ القانون بحیث یکون مقبولاً عند أطراف النزاع ومن إلیهم، کما فتح الشارع الطریق أمام القاتل بإعطائه أیة دیة شاء من الدیات الست، وهکذا بالنسبة إلی أقسام التعزیر والکفاءات، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

هذا تمام الکلام فی کیفیة جعل القانون.

((کیفیة تطبیق القانون))

اشارة

((کیفیة تطبیق القانون))

أما کیفیة تطبیق القانون

ص:84

للقضاة ومن إلیهم، فاللازم علی مطبق القانون مراعاة ثلاثة أمور:

((فهم القانون))
اشارة

((فهم القانون))

الأول: أن یفهم القانون فهماً جیداً، لأنه یرید تطبیق القانون ولیس کالمقنن یرید وضع القانون، فلیس علیه استخراج القانون، أو ملاحظة أن القانون الموضوع أحسن أو قانون آخر غیر موضوع یمکن أن یوضع أحسن.

فمثله مثل السائق علیه أن یقف أمام حمرة الضوء، لا أن یفکر فی أن الأفضل تقنن الوقوف أمام ضوء أحمر أو ضوء أخضر.

نعم قد تقدم الکلام حول تعارض جسم القانون وروح القانون، وهی مسألة أخری.

وعلی أی حال، فاللازم علی القاضی فهم القانون، وذلک بفهم أن الجزئی الذی أمامه یدخل تحت أی الکلیات القانونیة، إذ کثیراً ما یتحیر القاضی فی أن هذا الجزئی مصداق لهذا الکلی أو لکلی آخر، بینما الکلیان لهما أحکام مختلفة، مثلاً علیه أن یفهم أن معاملة الفضول داخلة تحت قانون ﴿أحل الله البیع﴾((1)) حتی یکون صحیحاً، أو تحت قانون ﴿لا تأکلوا أموالکم بینکم بالباطل﴾((2)) حتی یکون باطلاً.

أو أن بیع الصک بأقل من محتواه داخل تحت بیع الدین بأقل منه، أو تحت الربا.

أو أن الیانصیب المتعارف فی البلاد داخل تحت القمار، أو تحت البیع ونحوه من سائر العقود، أو عقد جدید لیس له أحکام العقود المتعارفة، بل أحکام کلی العقد، إلی غیر ذلک.

((القضاء والأشباه والنظائر الخارجیة))

((القضاء والأشباه والنظائر الخارجیة))

وکثیراً ما یحتاج القاضی فی فهم القانون للأمثلة التاریخیة والقیاسات والاستقراء والعرف والعادة، ولیس المراد القیاس فی الأحکام بل فی الموضوعات، بمعنی تنقیح المناط، مثلاً إذا رأی الإنسان أن الرسول (صلی الله علیه وآله) لعن القسم الفلانی من الناس ولا یعرف هل أن لعنه دلیل الحرمة حتی یسقط الفاعل عن العدالة، فلا تصح شهادته ولا الاقتداء به وما أشبه ذلک، أم لا، فإنه إذا أخذ لعن الرسول (صلی الله علیه

ص:85


1- سورة البقرة: 275
2- سورة البقرة: 188، سورة النساء: 29

وآله): «من أکل زاده وحده، ومن رکب الفلاة وحده، ومن نام فی سطح بلا محجر»((1)) إلی غیر ذلک، أفاده الاستقراء والقیاس عدم الحرمة، فیمکن الطلاق أمام فاعل ذلک، ولا أقل من الشک فی المورد المطلوب فهمه، فالأصل بقاء عدالته مثلاً.

((تطبیق القانون علی العرف))

((تطبیق القانون علی العرف))

الثانی: أن یهتم القاضی بتطبیق القانون علی العرف والاجتماع، حیث إذا لم یطبقه یکون أسقط احترام قانونه واحترام نفسه، مثلاً القانون یعطی جواز تزویج الصغیرة بإذن الولی، فإذا زوج القاضی ذلک مع أنه خلاف العرف أوجب استهانة العرف به وبزواجه، وکثیراً ما یسبب المشاکل، ولذا فعلیه أن ینظر إلی هذا الجانب ویراعیه، ولذا قال الإمام الصادق (علیه الصلاة والسلام) لذلک الإنسان الذی زاره فی المدینة المنورة: لا تتمتع هنا.

فقد روی الشیخ المفید، عن سهل بن زیاد، عن عدة من أصحابنا، إن أبا عبد الله (علیه السلام) قال لأصحابه: «هبوا لی المتعة فی الحرمین، وذلک أنکم تکثرون الدخول علی فلا آمن من أن تؤخذوا، فیقال هؤلاء من أصحاب جعفر»((2)).

قال جماعة من أصحابنا: إن العلة فی نهی أبی عبد الله (علیه السلام) عنها فی الحرمین أن أبان بن تغلب کان أحد رجال أبی عبد الله (علیه السلام) والمروی عنهم، فتزوج امرأة بمکة وکان کثیر المال، فخدعته المرأة حتی أدخلته صندوقاً لها ثم بعثت إلی الحمالین فحملوه إلی باب الصفا، ثم قالوا: یا أبان هذا باب الصفا إنا نرید أن ننادی علیک هذا أبان بن تغلب یرید أن یفجر بامرأة، فافتدی نفسه بعشرة آلاف درهم، فبلغ ذلک أبا عبد الله (علیه السلام) فقال لهم: «هبوها لی فی الحرمین»((3)).

وفی روایة أخری، عن أبی عبد الله (علیه السلام)، إنه قال لإسماعیل الجعفی وعمار الساباطی: «حرمت علیکما المتعة ما دمتما تدخلان علی، وذلک لأنی

ص:86


1- انظر من لا یحضره الفقیه: ج2 ص277 ح2434.  ومکارم الأخلاق: ص436
2- مستدرک الوسائل: ج14 ص456 ب5 ح17273
3- مستدرک الوسائل: ج14 ص456 ب5 ح17273 ذیل الحدیث

أخاف أن تؤاخذا وتضربا وتشهراً، فیقال: هؤلاء أصحاب جعفر»((1)).

وفی روایة: إن النبی (صلی الله علیه وآله) قال لمن رآه مع امرأة فی بعض أزقة المدینة: یا هذا إن هذه زوجتی فلانة، وإنما قال له الرسول (صلی الله علیه وآله) ذلک حتی لا یزعم الرجل أنه (صلی الله علیه وآله) ماذا یقول مع امرأة، وحیث أبدی الرجل أنه لا یزعم سوءاً بالنسبة إلی الرسول (صلی الله علیه وآله) قال له الرسول (صلی الله علیه وآله): «إن الشیطان یجری من ابن آدم مجری الدم»((2)).

((معرفة الدعوی وخصوصیاتها))

((معرفة الدعوی وخصوصیاتها))

الثالث: أن یعرف القاضی مهیة الدعوی وخصوصیاتها الخارجیة والداخلیة، أی یعرف الموضوع تماماً.

مثلاً إذا جاءت امرأة شاکیة أن زوجها لا ینفق علیها، کان علی القاضی أن یحقق أولاً هل إنهما زوجان، لا أن یحکم بمجرد دعواها الزوجیة وقد قال أحد القضاة: إذا جاءک الخصم وقد فقأت عینه فلا تحکم له فلعله یجیؤک الخصم الآخر وقد فقأت عیناه.

((مع کاتب القانون))

((مع کاتب القانون))

ثم من یرید کتابة القانون فلیس علیه أن یخرج القانون من القواعد وینظم حسب الموازین الکتابیة فحسب، بل علیه بالإضافة إلی ذلک أن یکون مرشداً إلی کیفیة استخراج القوانین المحتاج إلیها من القوانین الکلیة أو المشابهة بالملاک، حیث تتجدد قضایا غیر مکتوبة، فعلی القاضی التمکن من استخراج القوانین لها.

والقاضی حیث لا یتمکن وحده من ذلک، ولا یکفی شرح القوانین بحیث تکفی لهذه المهمة، فهناک ثلاثة أشیاء:

1) القوانین المدونة.

2) وشروحها وتعلیقاتها مما تفسر روح القانون وقصد المقنن، مما یکفی لظهور الملاکات التی قصدها المقنن.

3) والثالث: أشیاء

ص:87


1- مستدرک الوسائل: ج14 ص456 ب5 ح17274
2- انظر الکافی: ج2 ص440

جدیدة لا یکفی أی من الأمرین السابقین لحلها وبیان حکمها، وهنا یأتی دور القاضی.

وحیث إن القاضی وحده غالباً لا یتمکن من ذلک ولیس له الحق فی التقنین حیث لم یصل إلی هذه المرتبة، فاللازم أن یساعده کاتب القانون بالإلماع إلی لزوم جعل الأحکام الجدیدة أو التطبیقات الجدیدة حسب روح العصر وما یتطلبه المجتمع من التطبیقات التی تهدف العدالة وتجعل الواقع فی نصابه، بملاحظة الاقتصاد والاجتماع والسیاسة وغیرها، فکاتب القانون بالإضافة إلی نقله القوانین تدویناً وترتیباً مرشد لطریق صنع القوانین الجدیدة.

 وفرقه مع المقنن أن المقنن یصب القوانین، وهذا یجمع النتیجة من القوانین الموضوعة ومن روح العصر حتی یحکم علی طبق تلک النتیجة.

مثلاً القانون یقول: کل أحد حر فی تجارته فیما عدا الحرام من الربا والاحتکار والاستغلال وما أشبه، ویقول: الدولة حرة فی تجارتها بالشرط السابق، ویقول: علی الدولة أن تحمی الاقتصاد الوطنی بعدم دخول اقتصاد أجنبی إلی الوطن مما یوجب تحطم الاقتصاد الوطنی وکثرة البطالة، وبعدم هروب الاقتصاد الوطنی مما یوجب افتقار الناس ووقوعهم فی اضطرار، ویقول: لکل من الدولة والتاجر التعاون فی اقتصاد مشترک یؤدی إلی النتائج السابقة. وشرح القانون وتفسیره یقول: الربا فی المکیل والموزون، والاحتکار فی مواد خاصة، إلاّ إذا سبب احتکار أی شیء ضرراً علی الناس حیث یرفعه قانون «لا ضرر» لا لأنه احتکار بالعنوان الأولی، بل لقانون لا ضرر.

واستغلال العمال قد یکون فردیاً وقد یکون أجوائیاً، وکلاهما خلاف المیزان محرم فی الشریعة، لأنهما داخلان فی الإکراه، وإلی هنا مثلاً انتهی القانون وشرحه.

ویبقی دور کاتب القانون أن یصنف مثلاً هذه المواد التی بسببها

ص:88

یتمکن القاضی من تحدید الاقتصاد، وأن أیاً منه ممنوع وأیاً منه مجاز فی إطار تطبیق الکلی فی موضوع خاص بالنسبة إلی الإسلامی، أو جعل الکلی والحکم بالنسبة إلی غیر الإسلامی، وذلک بأن یتعرض للأمور التالیة:

((مقومات تطبیق القانون))

((مقومات تطبیق القانون))

1: وجوب سریان القواعد التشریعیة أو التأطیریة علی کل فعالیات الوحدات الاقتصادیة، سواء کانت فی إطار القطاع العام أو الخاص، أو من تعاون أمر القطاعین المختلط من العام والخاص، إذ یلزم تطویر الثروة الاجتماعیة (المادیة) إلی حیث الهدف المتوخی، وتطویر القوی (البشریة) لخدمة الاقتصاد الوطنی فی ضوء مهمات خطط التنمیة الوطنیة أو الإسلامیة.

والفرق بین الوطنیة هنا والإسلامیة: إن الحکم الإسلامی قد یعم کل البلاد وقد یکون فی بلد واحد، فعلیه أن یهتم بالاقتصاد الوطنی لا بکل البلاد، حیث لم تکن کل البلاد فی دائرة الحکم الإسلامی.

2: وضع القواعد المعجلة لنمو القطاع العام فی فروع الاقتصاد وتحویله إلی قطاع مهیمن علی جمیع قطاعات، وفروع الاقتصاد الإسلامی بحیث یقوم بالدور الرئیسی والحاسم فی عملیة التنمیة الشاملة، بدون أن یکون ذلک سبباً لعدم حریة القطاع الخاص علی ما قرر فی الإسلام من رأس المال الذی هو لیس بمعنی رأس المال الغربی علی ما ألمعنا إلیه سابقاً.

3: وضع القواعد المنظمة لحل وضع الخلافات التی یمکن أن تنشأ داخل الوحدات الاقتصادیة أو فیما بینها فی ضوء مصلحة الاقتصاد الإسلامی أو الوطنی بالمعنی الذی ذکرناه، حلولاً مناسبة للأحکام الإسلامیة فی بحث القضاء ونحوه.

ص:89

4: تحدید اختصاصات وصلاحیات أجهزة الإدارة الاقتصادیة ضمن النظرة الشمولیة للاقتصاد والمجتمع فی إطار المسؤولیة التضامنیة لهذه الأجهزة فی إدارة توجیه وتخطیط النشاط الاقتصادی فی مختلف القطاعات بکفاءات مذکورة فی بابی الإدارة والاقتصاد.

5: وضع القواعد المناسبة لتطویر القطاع المختلط باتجاه تحقیق أهداف خطط التنمیة الإسلامیة وتعزیز دور القطاع العام فیه، وضمان إعادة توظیف جزء مهم من الربح المتحقق فی هذا القطاع من أجل توسیع وتحسین الإنتاج وتعمیمه حتی یشمل کل الأمة التی یحکمها الإسلام.

6: وضع القواعد لضمان تعبیر السیاسة السعریة عن محتوی اقتصادی واجتماعی ینسجم مع الطبیعة الإسلامیة للسیاسة الاقتصادیة للدولة، ووضعها فی خدمة التنمیة مما یفید جماهیر الأمة.

7: توفیر مستلزمات البناء للاقتصاد الإسلامی، حیث تستهدف التشریعات الاقتصادیة صیانة الثروة الاجتماعیة وإغنائها باستمرار، والاستجابة الممکنة بسببها لحاجات الأمة الضروریة والمتنامیة، وضمان التطور للمستقبل المتنوع المتوازن للاقتصاد الوطنی، وتأمین تحقیق التنسیق والتکامل الاقتصادی الإسلامی، بغیة إرساء الأسس المادیة للوحدة الإسلامیة الکبری وتأمین تطویر العلاقات الاقتصادیة المتکافئة مع الدول الأخری فی ضوء المهمات والمصالح الإسلامیة.

8: وضع القواعد لتطویر دور الجماهیر المساهمة فی عملیة التنمیة الشاملة لتنظیم المباراة فیما بینها، وتنشیط طاقتها لزیادة تحسین الإنتاج وتوجیهها نحو رفع مستوی تأهیلها.

ص:90

9: تنظیم الاقتصاد الوطنی فی وحدات تقوم بنشاطات اقتصادیة نوعیة فی مجالات الإنتاج والتوزیع والخدمات، کالمعامل ومزارع الدولة ومزارع الشعب والمزارع الجماعیة، لا بمعنی نظام المزارع الستالینیة، بل بمعنی المزارع الجماعیة التی تجمع عوائل متعددة ممن یریدون التعاون معاً، وکذلک التعاونیات الزراعیة والمنشئات التجاریة والمنشئات المرتبطة بالخدمة، ویجب أن یکون الجمیع یتمتع باستقلال ذاتی خاص وبصلاحیات حرة مع التزامه بواجبات فی إطار تنظیم اقتصادی موحد مرتبط بالعصر مما یکفی حاجات الأمة.

10: وضع القواعد المنظمة للنشاط الذاتی للوحدات الاقتصادیة فی إدارة توجیه شؤونها وعلاقاتها الداخلیة والخارجیة.

11: وضع القواعد المنظمة للعلاقات الاقتصادیة بین الوحدات الاقتصادیة المختلفة من زراعیة وتجاریة وصناعیة وداخلیة وخارجیة وخدماتیة وغیرها.

12_ تنظیم إدارة الوحدات الاقتصادیة المنتجة للسلع، وتلک التی تقدم الخدمات ضمن التخطیط اللا مرکزی للدولة، وعلی أساس النشاط الاقتصادی القطاعی والإقلیمی علی مختلف المستویات والمجالات الاقتصادیة والاجتماعیة، وقد ذکرنا فی کتاب الإدارة الفرق بین الدولة المرکزیة والدولة اللامرکزیة، ورجحنا أن تکون الدولة الإسلامیة الواحدة الواسعة دولة لا مرکزیة، وحتی أن اللا مرکزیة بالنسبة إلی الدول الموجودة من أجزاء الدولة الإسلامیة الواحدة المبعثرة إذا انضمت بعضها لبعض هی أفضل الحلول للتقلیل من المشاکل.

ص:91

13: وجوب تحدید القواعد المنظمة للعلاقات الاقتصادیة القائمة بین المؤسسات الاقتصادیة والمرکزیة والمنشئات التابعة لها فی المحافظات والأقضیة والنواحی، وعلی مستوی العلاقات بین القطاعات الاقتصادیة المختلفة.

14: وضع القواعد لتطویر القطاع التعاونی فی الزراعة، بحیث یشمل مختلف مراحل عملیة إعادة الصیاغة من الإنتاج والتوزیع والتخزین والتبادل والاستهلاک، ولکی یصبح قطاعاً أساسیاً مکملاً لنشاط القطاع العام فی الزراعة.

15: تطویر القطاع التعاونی فی مجال الإنتاج الحرفی، وفی مجال الخدمات ورفع الکفاءات الإنتاجیة، وتحسین مستوی السلع والخدمات المقدمة للجماهیر، وضمان تطور مستوی العاملین فی هذا القطاع.

16: وضع القواعد التی تنظم مجالات نشاطات وحرکات القطاع الخاص فی عملیة التنمیة واستثمار إمکاناته المالیة والفنیة تحت إشراف وتوجیة وقیادة القطاع العام بمعنی الدولة، حتی لا یَظلم ولا یُظلم، کما قال سبحانه: ﴿لا تَظلمون ولا تُظلمون﴾((1))، بحیث یؤمن الحد من استغلاله وعفویة نشاطه من جانب، والحد من أن یستغل بسبب العمال والفلاحین وما أشبه من جانب آخر، لکن لا بمعنی الإشراف فی الشیوعی والتوزیعی والاشتراکی بل بمعناه الإسلامی.

17: وضع القواعد الملزمة للسیر بالاقتصاد الإسلامی فی البلد، سواء کان البلد الإسلامی العام، أو بلد إسلامی خاص، نحو التخطیط الشامل بحیث تشمل جمیع مراحل إعداد ووضع وتنفیذ ومتابعة وتخزین

ص:92


1- سورة البقرة: 279

المواد بالخطط الاقتصادیة والاجتماعیة فی عملیة إعادة الإنتاج، ولا شک أن مثل ذلک یحتاج إلی ملاحظة السیاسیة والعرف والعادة وغیر ذلک.

18: وضع القواعد المناسبة وإعادة توزیع الدخل الإسلامی بما یسنجم وحاجات القطر، إذا کان جزءاً من البلد الإسلامی الواسع، أو حاجات الدولة الإسلامیة الواسعة ومهماتها، إضافة إلی تغییر توزیعه لصالح المنتجین الفعلیین للثروة الاجتماعیة.

19: وضع القواعد المنظمة للسیاسة المالیة، باعتبارها أداة تنفیذیة للسیاسیة الاقتصادیة والاجتماعیة للدولة فی ضمن نظام مالی ومحاسبی موحد، وضمن وحدة المیزانیة العامة، ووضع الأسس التی تکفل تطبیق سیاسات ائتمانیة ونقلیة فعالیة تسهم فی تحقیق مهمات الاقتصاد الإسلامی سواء المرحلیة منها أو ذات المدی البعید.

20: تحدید العلاقة بین قیادة السلطة السیاسیة، باعتبارها المحددة والموجهة للسیاسیة الاقتصادیة والاجتماعیة، وبین أجهزة الدولة الأخری، سواء تلک المسؤولة عن وضع خطط التنمیة الإسلامیة، أو عن تلک المنفذة للسیاسة الاقتصادیة والاجتماعیة، أم تلک المسؤولة عن المتابعة والرقابة علی مجمل العملیات الجاریة فی البلد الإسلامی الکبیر أو فی القطر، فیما إذا کانت سیاسات لا مرکزیة تجری فی الدولة الإسلامیة الکبیرة، وتحدید العلاقة بین الأجهزة علی مختلف المستویات والمجالات وضمن حرکتها الواعیة السریعة للوصول إلی الهدف المنشود.

إلی غیر ذلک من الأمور الممکن کتابته لمساعدة الدولة من ناحیة، والتجار من ناحیة ثانیة، والعمال من ناحیة ثالثة، والملاکین والزارع من ناحیة رابعة، للسیر بالأمة

ص:93

إلی الأمام فی البعد الاقتصادی مثلاً.

فإذا تم لکاتب القانون هذه الأمور الثلاثة، أی کتابة القانون، وکتابة شرحه، وکتابة الأمور المساعدة لهما فی کفایة القانون للقضایا المتطورة والمتجددة یوماً فیوماً، کان کاتب القانون مخبراً من جهة ومنشئاً من جهة أخری، فلیس له دور الکاتب التقلیدی للحقوق، کما لیس له دور المقنن کما عرفت، بل له دور الریادة والإرشاد أیضاً.

وهذا الذی مثلناه فی البعد الاقتصادی یمکن أخذه بالملاک علیه فی البعد السیاسی والاجتماعی والتربوی وغیرها.

ص:94

((حقوق الدولة والأفراد))

اشارة

((حقوق الدولة والأفراد))

(مسألة) تنقسم الحقوق إلی قسمین:

الأول: الحقوق العمومیة، والمراد بها ما تتمتع بها الدولة من الحق غیر المرتبط بالفرد، وإنما حق الدولة بما هی دولة.

الثانی: الحقوق الخصوصیة، والمراد بها ما یقابل حقوق الدولة من حقوق الأفراد أو المؤسسات أو نحوهما.

کما تنقسم الحقوق بتقسیم آخر إلی الحقوق الداخلیة الراجعة إلی الأمة بمجموعها الشاملة للدولة والشعب، وإلی حقوق خارجیة راجعة إلی الحقوق العامة لکل الدول والتی منها کل دولة دولة.

((حقوق الدولة العامة))

((حقوق الدولة العامة))

أما القسم الأول: وهو حقوق الدولة، ففی الدول الصحیحة إنها منحصرة بحفظ النظام أولاً، ومراقبة عدم الاعتداء من فرد علی فرد أو من جهة علی جهة أو من عدو خارجی إلی الأمة ثانیاً، وتقدیم الأمة إلی الأمام ثالثاً، وکل ما عدا ذلک تدخل فی حریات الفرد من غیر مبرر.

نعم کل واحد من هذه الأمور الثلاثة له عرض عریض، وکثیراً ما یوجب تدخل الدولة فی الحریات الفردیة لأجل القیام بالمهمة خیر قیام من باب قانون الأهم والمهم.

مثلاً حفظ النظام أحیاناً یحتاج إلی منع التجول، وهو عبارة عن الأمر الصادر إلی سکان مدینة أو منطقة معینة من قبل سلطات الأمن المختصة، وغالباً ما یکون من السلطة العسکریة، بالتزام المنازل ونحوها وعدم التجول فی الشوارع فی ساعات معینة من النهار أو اللیل لأسباب طارئة کاضطراب الأمن ولا سیما فی حالة إعلان الأحکام العرفیة.

ومن الواضح أن حضر التجول إجراء غیر صحیح ومناف لحریات الناس، وغالباً تلجأ الحکومات الاستبدادیة لتقیید حریة معارضیها، أو تسهیل القبض علیهم، کما أن سلطات الاحتلال تستعمله باستمرار للتضییق علی

ص:95

مقاومة المدن والتمکن من ملاحقة الثوار.

وهذا الإجراء قد وضع أولاً وبالذات لمتطلبات الحرب وکإجراء وقائی ضد غارات العدو، وحمایة للمدنیین ضد أخطار الحرب، إلاّ أنه أصبح یستعمل أکثر فأکثر کوسیلة قمعیة مباشرة.

وعلی أی حال، فلیس الکلام فی تفصیل ذلک، وإنما للإلماع إلی صورة صحیحة لمنع التجول.

((الاستفادة من الأجهزة الحدیثة))

((الاستفادة من الأجهزة الحدیثة))

کما أن مراقبة عدم الاعتداء بحاجة إلی موازین القضاء وأجهزته، وکثیراً ما یتسع ذلک حسب تقدم الحیاة، سواء الحیاة الاجتماعیة أو السیاسیة أو الاقتصادیة أو الفنیة أو غیرها.

مثلاً لو اشتکی غلام أن فلاناً فعل به الفاحشة إکراهاً، فإن الحیاة الفنیة التی أتت لها الصناعة من أجهزة کشف المحل من الفاعل والمفعول وتشخیص الصدق من الکذب، توجب تحقیق القاضی بهذه الوسیلة، أو لو ادعی أحد سرقة فی داره أو دکانه أو ما أشبه ذلک، سواء رمی ذلک إلی متهم خاص أو لا، یوجب الکشف بسبب الکلاب البولیسیة أو ما أشبه من الأمور الفنیة المتداولة الآن، إلی غیر ذلک.

ولا یراد بذلک أن الکشف العلمی کاف مطلقاً، فإنا بینا فی (الفقه) حجیة العلم فی إجراء الحد فی بعض الأماکن دون بعض، مثل الکشف عن الزنا مثلاً علمیاً، فإنه وإن علم القاضی بذلک إلاّ أنه إن لم یکن حسب إقرارات وشهود کما هو المیزان الشرعی، أدب المرتکب لا أنه یحد، إذ لا اعتبار بالعلم فی المقام، بدلیل أن الرسول (صلی الله علیه وآله) وعلیاً (علیه السلام) حصل لهما العلم حسب الموازین العرفیة من إقرارات المدعی کماعز والمدعیة فی الکوفة إلی ثلاث مرات، ومع ذلک لم یجریا الحد إلاّ بأربعة.

وهکذا التقدیم بالأمة إلی الأمام بحاجة إلی کثرة من الوسائل فی مختلف أبعاد الحیاة، إلاّ أن الکلام لیس فی کل ذلک، بل فیما فوقها بضغط الدولة علی حریات الناس، خارجاً

ص:96

عن الأمور المذکورة مما یملیه علی الدولة الکبریاء والأنانیة والترف والسرف والجهل والغرور، کما هو المتعارف الأن فی کل حکومات العالم بلا استثناء. وإن کانت هذه الأمور فی الحکومات الدکتاتوریة أکثر فأکثر.

وعلی أی حال، فالحقوق العمومیة هی التی ترتبط بالدولة لقواه الثلاث، والمؤسسات المربوطة بها وکیفیة حکوماتها علی الأفراد، بینما الحقوق الخصوصیة هی المربوطة بالأفراد والمؤسسات غیر الحکومیة کالشرکات الأهلیة والمعاهد الخاصة والمستشفیات المربوطة بالناس إلی غیرها.

هذا ولکن منذ تحکمت الحکومات فی الحریات الفردیة، حیث وصل ذلک أعلاه فی الحکومات الشیوعیة، وحداً کبیراً فی الحکومات الرأسمالیة، اشتبکت الحقوق العامة والحقوق الخاصة، وهذا بدوره سبب کثرة مشاکل کلا الطرفین، مشاکل الأمة من جهة عدم توفر الحریات لها، ومشاکل الدولة من جهة عدم کفاءتها، فإن من یعمل لنفسه أکثر إخلاصاً وتفانیاً ممن یعمل کموظف لا یهم قلیلاً أو کثیراً بالأمور إلاّ نادراً.

نعم المشاکل لکلا الطرفین أقل فی الحکومات الدیمقراطیة، حیث کثیر من الحریات متوفرة للناس، کما أن نظام تعدد الأحزاب فی أمثال هذه الحکومات سوط علی رؤوس الموظفین حتی یعملوا بجد أکثر وجهد أوسع.

وعلی أی حال، فإن حاکمیة الفرد فی شؤونه أخذاً وعطاءً انخرمت بسبب تدخل الدولة، ولذا نری أن کثیراً من المعاملات الفردیة تبطلها الدولة، مثل بیع الدار والعقار ممن لیس من أهل البلد، أو البیع لبعض الدار والعمارة حیث الدولة تفرض وجوب بیع کل الدار ونحوها، وکذلک بالنسبة إلی النکاح الذی لا یتوفر فیه شروط الدولة، کالسن القانونی وغیر ذلک.

وقد کان القانون الإیرانی فی النظام السابق یری أن الزنا برضایة

ص:97

الطرفین لا بأس به، بینما النکاح بالعقد الشرعی بدون السن القانونی یوجب عقوبة الزوجین والأبوین والعاقدین وحتی من باع الحلویات أو الطعام لهذا الزوج.

وقد راجعنی زوجان لها ثلاثة أطفال فی أیام قاسم فی العراق حیث کان الزواج دون السن القانونی، فأبطلت المحکمة الزواج مع رؤیة الحاکم الأولاد الثلاثة لهما، وکان کل أطراف العائلة راضین بذلک العقد.

إلی غیرها من المعاملات الکثیرة التی تبطله الحکومة لعدم توفرها لشروطها، وبالعکس تفرض الحکومة معاملة علی الأفراد بدون رضاهم کالمؤجر والمستأجر، حیث إن الحکومة تفرض علی المؤجر بقاء المستأجر فی محله، داراً کان المحل أو دکاناً أو غیر ذلک.

وعلیه فالحد بین الحقوق العامة والحقوق الخاصة قد تزلزل تزلزلاً کبیراً بسبب تدخل الدول فی حریات الأفراد وشؤونهم.

((فروق بین الحقوق العامة والخاصة))

((فروق بین الحقوق العامة والخاصة))

ثم إنه لما تدخلت الحکومات فی شؤون الأفراد ولم تتمیز فی کثیر من الموارد الحقوق العمومیة من الحقوق الخصوصیة، مع أنه یترتب علی التمییز بعض الثمار، وضع بعض علماء الحقوق موازین للفرق المذکور.

فقال بعضهم: إن میزان الحقوق العمومیة ما إذا لم یتمکن الناس من الحل والفصل والتراضی بینهم فیها وإنما یحتاج الأمر إلی الحکومة.

لکن یرد علی ذلک: إن حقوق الزوجین والبایع والمشتری والمالک والمستأجر ونحوها لا شک فی کونها حقوقاً خصوصیة، مع أنه کثیراً ما لا یفصل الأمر فی هذا بین الطرفین المتعاملین، بل یحتاج الأمر إلی الحکومة.

وقال آخر: إن الغرض من الحقوق العمومیة منافع الاجتماع، بینما الغرض من الحقوق الخصوصیة منافع الأفراد.

وفیه: إن کثیراً من الحقوق الخصوصیة أیضاً فی نفع الاجتماع، فحقوق الزوجیة والمالکیة والأبوة والبنوة والأوصیاء ومتولی الأوقاف وما أشبه لا شک فی

ص:98

کونها حقوقاً خصوصیة، مع العلم أن الحکومة تحمی هذه الحقوق لأجل ثروة الاجتماع وأمنه واستقراره وحفظ إرادات الواقفین والموصین وما أشبه من التنفیذ، ولذا لایتمکن أحد من أصحاب هذه الحقوق أن یستعملها فیما یضر الاجتماع.

وقال ثالث: کل أمر حاکم علی الحکومة ومؤسساتها فالحقوق المرتبطة به حقوق عمومیة، وکل ما لیس کذلک اندرج فی الحقوق الخصوصیة.

وفیه: إن موارد تجارة الدولة واستثمارها للأراضی ونحوها من جهة نفع المؤسسة الحاکمة، لا شک أنها مؤسسات حکومیة مع أن القواعد الحاکمة علیها ترتبط بالأفراد، وفی عکس ذلک بعض الأفراد المرتبطین بالحکومة کأفراد غرفة التجارة والنقابات ومنظمة المحامین وما أشبه، حقوق الحکومة مرتبطة بها مع أصالة کونها من شأن الأفراد.

فلا یمکن أن یقال: إن الحقوق العمومیة خاصة بالمؤسسات الحکومیة علی سبیل الإطلاق.

هذا ویمکن أن یقال فی الفرق: إن الأصل فی الحقوق العمومیة ما کان مربوطاً بأعمال الحاکمیة، فتجارة الحکومة لیست من الحقوق العمومیة، أی لیست مرتبطة بأعمال الحاکمیة.

لکن یمکن الذب عن بعض التعاریف السابقة، وحیث لم یوضع الکتاب للتفصیل فمن شاءه فعلیه بمظانه.

((الثمرة العملیة بین الحقین))

اشارة

((الثمرة العملیة بین الحقین))

ثم إنا إنما نحتاج إلی تمییز القسمین من الحقوق لا لأمر علمی فحسب، بل لنتائج عملیة أیضاً، مثلاً تعامل الدولة مع الأفراد إذا وقعت فی مشکلات لا یلاحظ فی حلها قصد هذا أو ذاک، بل یلاحظ ما یحفظ لحقوق العامة، فإنه لو کان من الحقوق الخصوصیة کان المرجع قصد هذا أو ذاک بینما القصد هنا لا مدخلیة له.

وکذلک حال الاختلاف بین الدولة والأفراد فی الماء والکهرباء والتلفون وما أشبه، فیما إذا کانت تلک المؤسسات حکومیة لا أهلیة.

وإنما لا یعتبر القصد فی الحقوق العمومیة لأنه

ص:99

یمکن للدولة تحدید السعر بینما إذا کانت الحقوق خصوصیة لم یمکن تحدید السعر، بل کان الأمر علی سابق عهده، إذ فی الدولة لا شأن لمعاملاتها إلاّ المصالح العمومیة، فإذا أضر عقدها بالمصالح العمومیة کان عملها باطلاً وإن کان عملها علی طبق قصد الفرد الذی هو طرف الدولة.

أما التعامل بین الطرفین فالمرجع فیه القصد، سواء أضر بهذا، أو بذاک.

ومنه یعلم وجه حق الدولة فی إبطال العقد فی مثل الماء والکهرباء إذا أضر العقد بالمصلحة العامة لتضخم أو ما أشبه ذلک.

لکن هذا منقوض أیضاً بعمل الوصی والوکیل والولی ومن أشبههم إذا ظهر کون المعاملة لیست فی نفع الیتیم والموکل والمولی علیه والموقوفة وما أشبه اقتضت القاعدة إمکان إبطالها، إذ لیس لهم هذا الحق.

وقد ذکرنا فی کتاب (إحیاء الموات) أن الحکومة إذا ظهر عدم فائدة للأمة فی تعاملها مثل إجارة الأراضی المفتوحة عنوة أو الأوقاف التی بیدها أو ما أشبه ذلک، فعلیها إبطال المعاملة، وأن الأمر کذلک بالنسبة إلی کل من لیس له الحق بذاته بل هو طریق إلی غیره، وهناک موارد أخر یظهر فیها الأثر العملی لکون الحقوق خاصة أو عامة لا یهم ذکرها.

ثم هنا أسئلة:

((بین الفرد والمؤسسة ولماذا القصد))

((بین الفرد والمؤسسة ولماذا القصد))

الأول: إنه إذا کان معیار تقدیم المصلحة العامة علی القصد، أن الأول یرتبط بأناس کثیرین فیما الثانی یرتبط بفرد فی مثل الماء والکهرباء والتلفون الحکومیات وما أشبه، فذلک منقوض بما إذا کان طرف الفرد مؤسسة، فهل یقال بتقدیم مصلحة المؤسسة علی مصلحة الفرد من دون نظر فی العقد إلی القصد.

ثم ما هو المبرر لاعتبار القصد فیما إذا کان الطرف فردین، إذ العقد هو الحکم لا القصد.

((الاختلاف فی الحق العام والخاص))

((الاختلاف فی الحق العام والخاص))

الثانی: إذا اختلف الأمر فی أنه من الحقوق العمومیة أو الخصوصیة، فمن هو الحاکم، هل الدولة وذلک یوجب أن یکون الخصم

ص:100

حاکماً، فإن المؤسسة القضائیة أیضاً من الدولة وتجر النار إلی قرصها، أو الفرد، وذلک بالإضافة إلی الإشکال السابق یوجب تحکیم الفرد علی المجموعة، لأن الدولة ممثلة للمجموعة.

((ضمان العقود بین الدولة والأفراد))

((ضمان العقود بین الدولة والأفراد))

الثالث: إنه لو کانت العبرة بالمصلحة العامة لزم عدم الاعتماد علی العقود المبرمة بین الدولة والأفراد، أو بین الدولة والمؤسسات، فأی ضمان لقوة العقود.

ثم لما کانت المؤسسة الأهلیة حالها حال الفرد فی تقدیم جانب الدولة علیها لدی تضرر مصلحة الدولة، فإذا فرضنا أن عشر مؤسسات کل مؤسسة تمثل مائة ألف فرد، عاملت عشر معاملات مع الدولة، وکانت الدولة ذات ملیون إنسان أو تسعمائة ألف شخص، واختلف الجانبان فی تلک المعاملات العشر فکان بقاؤها ضرراً علی الدولة ونقضها ضرراً علی المؤسسات، فإذا قدمنا الدولة کان معنی ذلک ترجیحاً بغیر مرجح، لأن فی کلا الجانبین ضرر ملیون إنسان فیما کانت الدولة ذات ملیون شخص، أو کان ترجیحاً للمرجوح علی الراجح فیما کانت الدولة ذات تسعمائة ألف شخص بینما المؤسسات تمثل ملیون إنسان.

والجواب عن الأول:

إن حال المؤسسة حال الدولة فی أن ممثلیهما إنما هما وکلاء فی الصلاح لا مطلقاً، بل قد عرفت أن حال الوکیل والوصی والولی أیضاً ذلک، أما المبرر فی اعتبار القصد فی الفرد فلأن العقود تتبع القصود، إذ بدون القصد أو بقصد الخلاف لا یتحقق (عقودکم) الواجب أتباعه شرعاً بقوله سبحانه: ﴿یا أیها الذین آمنوا أوفوا بالعقود﴾((1))، وعقلا ً لبناء العقلاء علیه، فبدون القصد المطابق یکون من السالبة بانتفاء الموضوع، ولیس تخصیصاً فی العقد، بل ذکرنا فی کتاب البیع أن الارتکاز

ص:101


1- سورة المائدة: 1

معتبر أیضاً، لأنه قصد فی اللاّوعی، ولذا یبدل کل من ثمرة الوقف والوصیة والثلث والنذر وما أشبه إلی ما هو المناسب عرفاً إذا کانت الصیغة المصبوب علیها تلک العقود لا تلائم العصر.

وعن الثانی:

إن هیئة القضاء یفرض فیها النزاهة والحیاد، فلا تجر النار إلی قرصها، خصوصاً والمحامون من جانب الفرد أو المؤسسة یدافعون عن عدالة القضیة.

وعن الثالث:

إن الاعتماد باق إلاّ فی مثل هذا الفرد، فهل المخصص یوجب عدم ثمرة للعام، وقد عرفت ورود مثل ذلک حتی بالنسبة إلی الوکیل والوصی والقیم ومن أشبه، وهکذا فی کل مورد کان خیار الفسخ بید طرفین أو طرف واحد، فهل یقال فی مورد الخیارات إنه لا اعتماد علی العقد.

نعم ادعاء الدولة بالضرر أو عدم المصلحة لا یؤخذ به بمجرد الادعاء، بل یحتاج إلی الإثبات عند القاضی.

((لزوم تدارک الضرر))

((لزوم تدارک الضرر))

ثم إذا تضرر الفرد أو المؤسسة بسبب إلغاء الدولة العقد یلزم علی الدولة تدارک الضرر، مثلاً اشتری من الدولة أرضاً بألف وعمرها، ثم إن الدولة فسخت العقد بما یتضرر المشتری باسترجاع الأرض، فإن علی الدولة تدارک الضرر.

أما بالنسبة إلی المثال الأخیر فاللازم ملاحظة أنه هل هناک الضرران متساویان فتبقی العقود، إذ لا ترجیح لتقدیم هذا علی ذاک أو ذاک علی هذا، بعد فرض أن کلیهما ضرر للأمة بمجموعها، فالاستصحاب یقتضی البقاء، أو أن أحدهما أکثر ضرراً من الآخر وهنا حیث یرجع کلا الضررین بالأخرة إلی الأمة بمجموعها فاللازم تقدیم إبطال ما یوجب الضرر الأکثر.

ولا یخفی أن غالب ما ذکر فی هذه المواضیع للتأمل فیه مجال، وإنما کان القصد الإلماع إلی مسیر البحث فقط.

ص:102

((الحقوق الداخلیة والخارجیة))

((الحقوق الداخلیة والخارجیة))

وحیث فرغنا من التقسیم الأول، إی الحقوق العامة والحقوق الخاصة، یأتی دور الکلام فی التقسیم الثانی: وهو تقسیم الحقوق إلی الداخلیة والخارجیة.

فالحقوق الداخلیة تفصل فی الداخل، أما الحقوق الخارجیة فاللازم التصدیق علیها من مختلف الأمم حتی تکون حقوقاً خارجیة عامة، وإلاّ فما فائدة جعل دولة لنفسها حقوقاً خارجیة لا یصدق علیها من سائر الدول.

ومن الواضح أن بلد الإسلام تری لنفسها حقوقاً قررها الإسلام، لکن أمثال هذه الحقوق لیست دائماً مورد قبول الأمم الأخری حتی تعتمد علیها الدولة الإسلامیة فی الأخذ والعطاء، فاللازم للدولة الإسلامیة ملاحظة الأهم والمهم والقواعد الثانویة، ولذا عاهد الرسول (صلی الله علیه وآله) مع الیهود ومع المشرکین ومع النصاری، مع أنه کان یری لزوم استیعاب الدین کل العالم لقوله سبحانه ﴿وما أرسلناک إلاّ کافة للناس﴾((1))، إلی غیرها من الآیات والروایات.

وعلی هذا فلو وقع اختلاف بین دولة ودولة فالمرجع القوانین العامة لکل الدول، ومن هنا کانت الحاجة الواضحة إلی هیئة غیر منحازة تحسم فی هذه الأمور حسب الشرعة العامة للدول کلها، وهذه هی المحکمة الدولیة المعترف بها عند مختلف فئات الدول من أقصی الیمین إلی أقصی الیسار.

ومن ذلک ظهر حال ما إذا کانت الدولة الإسلامیة الصحیحة تری شیئاً حراماً أو واجباً أو ما أشبه ذلک، وکانت الدولة الأخری المرتبطة بدولة الإسلام فی هذا الشیء تری خلاف ذلک، مثلاً أقرضت دولة إسلامیة صحیحة دولة إسلامیة غیر مطبقة للإسلام أو کانت إحدی الدولتین إسلامیة والثانیة غیر إسلامیة، ملیون دینار، وإحدی الدولتین تری الربا بینما الدولة الإسلامیة الصحیحة لا تراها، فهل تأخذ الربا من الدولة غیر الإسلامیة

ص:103


1- سورة سبأ: 28

أو الإسلامیة التی قانونها یری الربا، وفی ذلک نفع الدولة الإسلامیة مادیاً، لکن الإسلام یمنع الربا، أو لا تأخذه وفی ذلک ضرر مادی لکن الدولة الإسلامیة الصحیحة عملت بما تراه من الدین.

مقتضی الأدلة العمل علی الشریعة الإسلامیة بعدم الأخذ، إلاّ فیما إذا کان قانون ثانوی یقتضی جوازه، مثل قانون الإلزام، أو أن الدولة الإسلامیة الاسمیة التی لا تعمل بالإسلام قانوناً أموالها مجهولة المالک، ولا یتضرر المسلمون فیها بأخذ هذه الدولة الصحیحة الربا منها، إلی ما أشبه ذلک من القواعد الثانویة، فإنها حاکمة علی القواعد الأولیة حسب ما تقرر فی الفقه والأصول.

ومن نافلة القول أن نقول: إن قانون الإلزام لیس مطلقاً، بل فیما لم یحرم الإسلام الإلزام، مثل أخذ العصبة الإرث فإنه جائز فی الشریعة الإسلامیة، وکذلک ما أشبه ذلک، لا فیما إذا حرمه الإسلام مثل أخذ الأخ المسلم أخته المجوسیة، فإنه وإن کان جائزاً عندها، لکنه غیر جائز عند المسلم إطلاقاً، وکذلک فی مثل بیع المسلم الخمر للکافر، فإنه وإن جاز عنده الاشتراء لکن لا یجوز بیع الخمر للمسلم((1))، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

ص:104


1- هذا کالإضافة إلی الفاعل، أی بأن یکون البائع للخمر مسلماً

((تقسیمات الحقوق))

اشارة

((تقسیمات الحقوق))

(مسألة) نذکر فی هذه المسألة التقسیمات الحقوقیة الخصوصیة والعمومیة.

حیث إن أرباب الحقوق قسموهما إلی تقسیمات کثیرة، وشققوهما إلی تشقیقات وفیرة، وذکروا لکل واحد حکماً، لکن الظاهر الغنی عنها کما نلمع إلیه.

وقبل الشروع فی ذلک نقدم علیه مقدمة لیظهر حال أمثال هذه التشقیقات بصورة عامة، والتشقیقات فی الحقوق التی کلامنا فیها بصورة خاصة، فنقول:

((الأصل حریة الإنسان))

((الأصل حریة الإنسان))

تقیید حریة الإنسان فی أی بعد من أبعاد الحیاة فی غیر ما یضره ضرراً بالغاً، أو یضر غیره بالنسبة إلی الأمور الحقیقیة خلاف فطرة الإنسان، بالإضافة إلی أنه خلاف تشریعات السماء، وتحمیل علی الإنسان تحمیلاً مکرراً إذ:

أولاً: إن الإنسان یقید بسبب ذلک مما هو خلاف إرادته وانطلاقه.

وثانیاً: إن الدولة التی تقید الإنسان حریته لا بد لها من إخراج جملة من الناس، وهم الموظفون المکلفون بهذه القیود من دائرة الإنتاج إلی دائرة الاستهلاک، وبذلک تحمل مصارفهم علی الأمة الذین هم المنتجون.

((قانون الجنسیة مثالاً))

((قانون الجنسیة مثالاً))

مثلاً یُسأل إن قانون الجنسیة وتوابعها بأن یکون لکل فرد جنسیة تعرف خصوصیاته، ما فائدتها، نعم مضارها کثیرة:

أولاً: إنها تسبب تقیید الإنسان.

وثانیاً: إضاعة وقته فی شیء لا یرتبط بحاجاته.

وثالثاً: کثرة الموظفین الذین یطبقون هذا القانون علی کل الناس لیقیدوا الناس، کمن یأخذ من إنسان بالجبر دیناراً لیشتری القید ویکبله به.

ص:105

ورابعاً: إضاعة المال، حیث یأخذ الموظف من الناس ثمن الجنسیة.

وخامساً: یأخذ تقنین هذا القانون بفروعه وقت الذین هم فی مجلس الأمة أو مجلس الأعیان أو مجلس الوزراء أو التابعین لها من سائر القوی التنفیذیة، فهؤلاء أیضاً بالنسبة إلی هذا التقنین یخرجون من الإنتاج إلی الاستهلاک، بالإضافة إلی أنهم یأخذون أجرة عملهم من الأمة، لأنهم یعیشون علی موائد الأمة.

وسادساً: إن القانون وحده لا یکفی إلاّ إذا وضع للمخالف العقاب، والعقاب الموضوع للمخالف فیه محذور کما ذکرناه فی الخامس.

وسابعاً: إن نفس العقاب یقید من حریة الأمة، کما یسبب تلف أموالها.

ثم ما فائدة هذا القانون بعد هذه المآسی والجرائم التی ترتکبها الدولة فی حق الأمة.

الدولة تجیب بأن الفائدة هی النظم ومعرفة المجرمین لو أجرموا وما إلی ذلک.

والجواب: هل النظم حسن مطلقاً أو فی الجملة، إن قلتم النظم حسن فی الجملة نقول فهل هذا النظم من الحسن، فإن القضایا الجزئیة لا یمکن الاستدلال بها.

وإن قلتم حسن مطلقاً، قلنا فلماذا لا تنظمون خروج الناس من بیوتهم ودخولهم إلیها، وکیفیة لباسهم وأکلهم وشربهم، وسفرهم وحضرهم، ونومهم ویقظتهم، إلی ألف شیء وشی، فقولوا للناس یجب أن تخرجوا الساعة الثامنة صباحاً، وترجعوا الثانیة عشر ظهراً، وهکذا عصراً ولیلاً، وکلوا کل یوم من أیام الأسبوع شیئاً خاصاً، واشربوا کل یوم کوبین أو ثلاثة أکواب من الماء، أحدهما فی الساعة الفلانیة صباحاً والثانیة فی الساعة الفلانیة عصراً، والثالثة فی الساعة الفلانیة مساءً وهلم جراً، ألیس فی کل ذلک نظم وتحدید للمآکل

ص:106

والمشارب والملابس وما أشبه وتوفیر للصحة.

أما جوابکم الثانی بأن الجنسیة وما أشبه تقل من الجرائم لإظهارها المجرمین فیجتنبوا الجرم.

فالجواب: إن القانون زاد الجرائم لا أنه نقصها، إذ من طبیعة الکبت تولید الجریمة علی القانون، علی المثل المشهور الذی یقول (الضغط یولد الانفجار).

وإن قیل: إنا لا نتمکن من رفع قانون الجنسیة، لأن الدول لا تقبل السفر إلیها إلاّ بالجنسیة.

قلنا أولاً: کلامنا فی القانون العالمی للجنسیة.

وثانیاً: إذا اضطرت الدولة إلی ذلک یمکن أن تجعل فی الحدود مراکز لتزوید المسافرین بورقة بسیطة فقط، وإنی أذکر قبل خمسین سنة حینما لم تکن هذه الأوراق فی إیران ولا فی العراق، کان العراقی یسافر إلی إیران، والإیرانی یسافر إلی العراق بدون أی شیء.

نعم البهلوی الأول قبل خمسین سنة تقریباً وضع سجل الأحوال موضع التنفیذ، وکان المسافر الإیرانی إذا أراد أن یزور العراق إن أحب أن یذهب من طریق (کرمانشاه) کان فی هذا البلد مرکز یأخذ منه نصف تومان إزاء إعطائه ورقة بسیطة مکتوب علیها اسمه واسم من معه فقط، ویُلصَق علی الورقة طابع ذو خمسة قرانات، وکذلک إذا أحب أن یأتی من طریق (عبادان)، ومن لا یجب لا یذهب إلی ذلک المرکز، أو یسافر من غیر هذین البلدین، حتی نظمت لهذا التقیید الجدید قصائد وأشعار فی التندید به، ومن جملتها هذا الشعر الذی نعربه:

خمسة قرانات أعطینا لصاحب التذکرة

وقد أدینا بذلک قرضاً بلا سبب.

کما أن أحد أقربائنا کان ینقل لی أنه سافر من العراق إلی الحج

ص:107

ومرّ فی طریقه إلی لبنان وسوریا وفلسطین والأردن ومصر، باعتبار أنها أماکن الزیارة، أو لجهة رکوبه البحر حیث کان السفر بالآبال والسفن، قال: ولم یتعرض لنا أحد فی طول الطریق رواحاً ومجیئاً، ولم یکن فی ذلک الوقت اسم عن الحدود أو عن الجنسیات أو ما أشبه ذلک، وکانت السفرة قبل ثمانین سنة تقریباً.

قال: إن السفر من العراق إلی الحج فی طول هذه الطرق کانت کالسفر من النجف إلی کربلاء، ومن کربلاء إلی الکاظمیة، والحکومات فی هذه البلاد وإن کانت مختلفة إلاّ أن مثلها کانت مثل المحافظین فی ألویة متعددة، حیث إنه لیس بینها حدود ورسوم وجواز وعشور وما أشبه.

ولو قال شخص بأنه یلزم جعل الحدود والجنسیات بین المحافظات، فالذی یجاب به عنه هو الجواب عن قانون الحدود والجنسیة بین البلاد المختلفة والحکومات المتعددة.

والحکومات فی بلاد الإسلام إنما روجت هذه القوانین والتقییدات بسبب أمرین:

الأول: إن حکام هذه البلاد أرادوا تقلید الغرب بزعم أن الغرب کما تقدم فی الصناعة فهو متقدم فی کل شیء، وأنه یجب أن یؤخذ منه کل شیء حتی یتقدم الإنسان، وبذلک صار مثلهم مثل ذلک الغراب الذی نسی المشیتین.

الثانی: لأن الحکام کانوا عملاء، کما لا یزالون إلی الیوم، وقد أجبرهم الأسیاد أن ینفذوا هذا الشیء فی بلدهم لتقیید المسلمین وعدم إمکانهم من التحرک، بالإضافة إلی أن المستعمرین أرادوا تلون کل العالم بلونهم حتی یحفظوا سیادتهم، فی بحث طویل لیس هذا موضع ذکره.

وقد حکی عن جملة من علماء إیران فی تبریز وشیراز وغیرهما أنه لما وضع البهلوی الأول قانون سجل الأحوال وما أشبه صعدوا المنابر وحرموا

ص:108

أخذ سجل الأحوال واستدلوا لذلک بأنها قیود استعماریة لا تخدم سوی المستعمر فی ضرر الإسلام والمسلمین.

و کان الأمر کما ذکر أولئک، وإنی أذکر أن فی العراق إلی ثورة (عبد الکریم قاسم) البریطانیة فی سنة ثمان وخمسین میلادیة کان أکثر الشعب غیر مزود بالجنسیة وما إلیها، لأنهم کانوا یرون أنها آلات استعمار واستثمار ولما جاء عبد الکریم أجبر الناس بذلک بالحدید والنار، وکل یعلم مآسی إیران والعراق بعد البهلوی وقاسم التی فاقت حد الوصف والتعداد إلی هذا الیوم.

لا یقال: فبلاد الغرب أیضاً ملتزمة بالجنسیة والحدود.

لأنه یقال: أولاً: هذا ناشئ عن جهلهم، وهل الإنسان یتبع الجاهل، وقد ذکرنا فی کتاب (الصیاغة الجدیدة) الفرق بین الحریات الإسلامیة والحریات الغربیة، وأن الحریات الإسلامیة أکثر بکثیر من الحریات الغربیة.

وثانیاً: إن القیود عندهم أکثر من القیود عندنا تسعة وتسعین بالمائة، کما یلاحظه الإنسان الذی یقارن بین قیودهم وقیودنا، وإذا أخذ الإسلام بالزمام فی یوم ما بإذن الله سبحانه وتعالی ألغی کل هذه القیود وأرجع حریات الناس إلی حیث قررها الإسلام.

ومثل الکلام فی الجنسیة الکلام فی سائر القیود التی جاء بها الغرب وعملاؤه فی بلاد الإسلام، علی التجارة والزراعة والصناعة والسفر والإقامة والعمارة وحیازة المباحات وإبداء الرأی وغیرها.

لا یقال: فکیف وصل الغرب إلی القمر.

فإنه یقال: بما تبقی لدیهم من الحریات لا بالقود، فالمقید لا

ص:109

یتمکن من السیر علی الأرض فهل یتمکن من السفر إلی آفاق السماء.

ولتوضیح مواضع الخطأ فی هذا الأمر نشیر إلی تفسیر الجنسیة فی بعض الموضوعات السیاسیة، قال:

(الجنسیة بصفة عامة هی رابطة سیاسیة وقانونیة بین الشخص ودولة معینة تجعله عضواً فیها وتفید انتمائه إلیها، وتجعله فی حالة تبعیة سیاسیة لها، ویسمی من یتمتع بهذه الرابطة وطنیاً، أما الذی لا یتمتع بها فهو الأجنبی، ولجنسیة الفرد أهمیة کبری فی تحدید حقوق الشخص وواجباته، فللوطنی حقوق أکثر وعلیه التزامات أکثر من الأجنبی، فمثلاً الحقوق السیاسیة قاصرة علی الوطنیین کالخدمة العسکریة، والوطنیون لا یجوز إبعادهم عن أقلیم الدولة بعکس الأجانب).

(وکما تکون الجنسیة للأشخاص الطبیعیین أی الأفراد فإنها تکون أیضاً للشخصیات الاعتباریة کالشرکات، والقانون التجاری فی أغلب الدول یعترف بجنسیة الدولة للشرکات المساهمة التی تؤسس علی أقلیمها، والتی یکون مرکزها الأصلی فیها، والذی یضع قواعد الجنسیة فی کل دولة هو قانونها الداخلی، وتختلف الدول فیما بینها فی القواعد التی تنظیم بمقتضاها جنسیتها).

(واستبدال الجنسیة عبارة عن استعادة الجنسیة والدخول فیها من جدید بعد أن یکون الشخص قد فقدها وفقاً للقانون، وللاستبدال یفترض شخصاً کانت له جنسیة معینة وفقدها بسبب من الأسباب ثم یسترجعها ثانیة، وتشریعات أغلب الدول تبیح استبدال الجنسیة فی حالات وبشروط معینة، ومن الأمثلة التقلیدیة أنه یجوز للمرأة التی فقدت جنسیتها بسبب زواجها من أجنبی أن تستعید هذه الجنسیة بعد انحلال الزواج، علی أن التشریعات تختلف فیما بینها من حیث سهولة أو صعوبة عملیة استبدال الجنسیة، ففی بعض الحالات یکون الاستبدال حقاً للشخص إذا توافرت

ص:110

فیه شروطه القانونیة، وفی حالات أخری یکون الاستبدال منحة تتوقف علی تقدیر الدولة، وهناک حالات أخیرة لا یمکن فیها استعادة الجنسیة إلاّ عن طریق التجنس وطبقاً لشروطه واجراءاته وأحکامه).

(والجنسیة المکتسبة هی الجنسیة الثانویة، والجنسیة المختارة تطلق علی الجنسیة التی یکتسبها الفرد بعد المیلاد، وأهم الأسباب التی تؤدی إلی حصول الفرد علی جنسیة مکتسبة هی التجنس، وهو یتحقق عندما یستقر الفرد نهائیاً فی دولة غیر وطنه الأول، فتعطیه هذا الدولة جنسیتها إذا طلبها وکان مستوفیاً لشروط معینة أهمها أن یکون قد أقام علی أقلیمها لمدة لا تقل عن فترة معینة تختلف الدول فی تحدیدها، والزواج فقوانین بعض البلاد تقرر اکتساب الزوجة لجنسیة زوجها بمجرد زواجها منه علی أن یکون لها الحق فی رفض هذه الجنسیة والاحتفاظ بجنسیتها الأصلیة إذا رغبت فی ذلک، وقوانین بعض الدول لا تجعل للزواج أثراً علی جنسیة الزوجة الأصلیة فلا تکتسب جنسیة زوجها إلاّ إذا طلبت ذلک، وتتجه القوانین فی بلاد أخری الی أن الزواج لا یؤثر فی جنسیة الزوجة الأصلیة لا بصفة تلقائیة ولا بناءً علی طلبها إلاّ أن الزوجة إذا أرادت الحصول علی جنسیة زوجها فیجب علیها أن تحصل علیها من طریق التجنس وطبقاً لشروطه وأحکامه).

(أما الجنسیة المتعددة فتتحقق هذه الحالة عند ما یجد الفرد نفسه متمتعاً بجنسیة أکثر من دولة واحدة وفقاً لقوانین هذه الدول، ومثال ذلک أن یتمتع الفرد بجنسیة الدولة التی ولد علی أرضها لأنها تعطی جنسیتها الأصلیة علی أساس رابطة الإقلیم، کما یتمتع أیضاً بجنسیة دولة أخری ینتمی لها أبوه لأن هذه الدولة تأخذ بمبدأ رابطة الدم، فعندئذ تکون له الجنسیتان معاً، ولهذه الحالة عیوبها لأن الفرد یکون ملتزماً بأداء الالتزامات

ص:111

المتعددة التی تفرضها علیها القوانین فی کل من الدولتین، وقد تکون التزاماته نحو دولة منها متعارضة مع التزاماته نحو الأخری، کما هو الأمر فی التزامه بالخدمة العسکریة یؤدی تعدد الجنسیة إلی کثیر من الصعوبات فی تحدید المرکز القانونی للفرد).

(وقد یجد الفرد نفسه لسبب أو الآخر بدون جنسیة ینتمی إلیها، لأن الدول جمیعاً لا تعتبره من المتمتعین بجنسیتها طبقاً لقوانینها، ومعدودم الجنسیة وإن کان لا یتحمل الالتزامات التی یتحملها الوطنی إلاّ أنه یکون محروماً من الحقوق التی یتمتع بها هذا الأخیر، وخاصة الحمایة الدبلوماسیة).

إلی آخر أمثال هذه الکلمات التی أوجدها الذین لم یکونوا یعرفون الإدارة وقیدوا بها الإنسان بألوف من القیود بدون مبرر، وهل العالم القدیم الذی لم یکن فیه أثر من هذین الأمرین الحدود والجنسیة کان یعیش أسوأ من عالمنا، أو عالمنا مع هذا التقدم الهائل فی العلم والصناعة یعیش أسوأ وأسوأ، بینما کان اللازم أن یوفر العلم والصناعة للإنسان الرفاه والصحة والأمن والسلام الأکثر فالأکثر.

وعلی أی حال، فلیس هذا الکتاب موضوعاً لهذا الکلام، وإنما ألمعنا إلیه مقدمة لبیان أن التقسیمات القانونیة للحقوق لیس إلاّ من جهة الجهل بواقع الإنسان المفطور علیه، بتزیید القیود علیه وکبته وإرهاقه وخنقه، کما نشاهد فی کل العالم وإن کانت العوالم مختلفة من عالم الدکتاتوریین إلی عالم الدیمقراطیین، حیث العالم الدکتاتوری أکثر وأکثر من جهة القیود من العالم الدیمقرطی.

((لا لکثرة التشقیقات القانونیة وتقسیماتها))

((لا لکثرة التشقیقات القانونیة وتقسیماتها))

وکأن المقسمین لشعب الحقوق تمسکوا بهذا المقیاس: (کلما زاد القانون فی تشقیقاته وتقسیماته قل فرص الحیل والتزویز والاستغلال، وحیث أمن الناس ورفاههم المطلوب الأقصی فاللازم تزیید التشقیق والتقسیم).

لکن یرد علی هذا المقیاس إیرادان:

ص:112

الأول: عدم صحة المقیاس فی نفسه، فإن زیادة القانون یسبب زیادة الملفات والمنعطفات، والأمن والرفاه مهددان فیهما کما أن الحیل والاستغلال تختبئان بینهما.

الثانی: إن الأمن والرفاه مبعثهما الأخلاق والنفسیات الرفیعة لا القوانین الجامدة، فالمقدمة الثانیة المطویة التی تقول (کلما ثبتت المقدمة الأولی کان الأمن والرفاه أکثر) غیر تامة.

ومن الواضح أن المقدمة المطویة فی القیاسات یجب أن تکون تامة حتی ینتج القیاس إنتاجاً صحیحاً، ولذا قالوا: إذا قلنا (جیم یساوی باء، وباء یساوی دال، فجیم یساوی دال)، وقلنا: (أربعة نصف الثمانیة، وثمانیة نصف الستة عشر، فأربعة نصف الستة عشر)، یصح القیاس الأول دون الثانی، حیث المقدمة المطویة فی القیاس الأول وهو (مساوی المساوی مساو) تام، أما المقدمة المطویة فی القیاس الثانی وهو (نصف النصف نصف) غیر تام.

وفی مثال آخر إذا قلنا: إن عشرة عمال یبنون بیتاً فی مائة یوم، یصح القیاس بأن یقال فمائة عامل یبنون مثل ذلک البیت فی عشرة أیام، حیث المقدمة المطویة تقول بالمعادلة المطلقة بین القیاسین، لکن مثل ذلک لا یصح فیما إذ قیل: إن سیارة تسیر من النجف إلی مکة فی ثلاثین یوماً، فیقاس علی ذلک أن ثلاثین سیارة تسیر من النجف إلی مکة فی یوم واحد، وذلک لأن المقدمة المطویة لیست مطلقة، فإن ثلاثین سیارة لا تسیر فی یوم واحد بقدر سیارة واحدة تسیر ثلاثین یوماً، إذ المعادلة فی أصل السیر حیث إن الواحدة تسیر کذا طولاً بینما الثلاثون تسیر کذا عرضاً، والقیاس إنما کان صحیحاً إذا کانت الثلاثون أیضاً تسیر طولاً، وحیث لا إطلاق للمقدمة المطویة لا یصح القیاس فی هذا المثال، وإن صح فی المثال السابق.

ص:113

((تقسیمات الحقوق المدنیة وغیرها))

اشارة

((تقسیمات الحقوق المدنیة وغیرها))

إذا عرفت المقدمة، قلنا: إن العلم الحدیث بالنسبة إلی الحقوق قد قسمها إلی حقوق خصوصیة ترتبط بالأمة، وإلی حقوق عمومیة ترتبط بالدولة علی ما عرفت.

ثم قسم الحقوق الخصوصیة إلی حقوق مدنیة ترتبط بتنظیم علاقات الأفراد بعضهم مع بعض، وبعضهم مع الدولة، والدولة مع بعضهم، وحقوق مربوطة بالأراضی، وحقوق مربوطة بالقرویین، وحقوق مربوطة بالملاک والمستأجرین، وحقوق مربوطة بالتجارة الداخلیة، وحقوق مربوطة بالتجارة الخارجیة، وحقوق مربوطة بالحرکات البحریة الداخلیة، وهذه غیر الحقوق المربوطة بالبحار کما لا یخفی، وحقوق مربوطة بالحرکات الجویة، وغیرها مما یجدها الإنسان فی فقه الحقوق فی قوانین کافة البلاد التی اتخذت من قوانین الغرب وأحیاناً الشرق أیضاً.

هذا بالنسبة إلی الحقوق الخصوصیة أو المختلطة بالحقوق العمومیة.

أما بالنسبة إلی الحقوق العمومیة، فقد قسموها:

إلی الحقوق العمومیة الأساسیة وهی بمنزلة الحقوق المدنیة فی القسم السابق، بمعنی کونها أم الحقوق وأصلها.

وإلی حقوق إداریة المرتبطة بأموال الدولة من الضرائب والاستثمارات والمیزانیة العامة ونحوها.

وحقوق جزائیة مرتبطة بمن خالف القانون، سواء کانت المخالفة للأنظمة الفطریة الطبیعیة التی قررها القانون، أو الأنظمة التی وضعها القانون بدون أن تکون فطریة طبیعیة، وسواء کانت جرائم فی قبال الدولة أو مخلة بالنظام العام، أو جرائم بین بعض الناس مع بعض.

وحقوق للعمل والعمال، حیث إن الدولة تدخلت بین المالک والعامل ووضعت حقوقاً للطرفین لا یحق لأی طرف مخالفتها وإن کان الحق خلاف رضاهما معاً.

والغالب من الحقوقیین یعدون هذه الحقوق من

ص:114

القسم العمومی، وکذلک حقوق المالک والفلاح وحقوق الادعاء العام، إلی غیرها.

((کثرة التقسیمات الحقوقیة مخالفة للشرع والعقل))

((کثرة التقسیمات الحقوقیة مخالفة للشرع والعقل))

ولا یخفی أن هذا التقسیم فی الحقوق المجعولة بالإضافة إلی أن جملة منها یخالف الإسلام، کما یظهر ذلک لمن یراجع کتب الحقوق الموضوعة فی بلاد الإسلام، سواء من یدعی منهم أنه یطبق الإسلام أو من لا یدعی ذلک، إن هذه التقسیمات مما یخالف العقل، فأیة حاجة إلی هذه التقسیمات الکثیرة.

مثلاً أیة حاجة لأن یقسم الإنسان البیع إلی بیوع العقارات وإلی بیوع غیرها، ثم البیوع المرتبطة بغیرها تنقسم إلی بیوع حقیرة وبیوع کبیرة، إلی غیر ذلک مع وضوح أن التقسیم الفقهی الإسلامی للبیوع من شروط المتعاقدین وشروط العقد وشروط العوضین ساریة إلی کل أقسام العقود، وهی کافیة فی جعل البیوع مطابقة لإرادة العقلاء لو خلوا وإراداتهم الفطریة.

هذا بالإضافة إلی الشؤون الکثیرة التی ألحقها القوانین الحالیة للبیوع علی خلاف موازین العقل والفطرة، مثل عدم حق البیع للأجنبی باصطلاحهم، وتحدید قدر المبیع، مثلاً لا یصح بیع نصف الدار أو ما أشبه ذلک، ثم شؤون تسجیل البیع عند الدولة، إلی غیرها غیرها من القوانین الکثیرة الحافة بالأشیاء البسیطة الفطریة الطبیعیة من العقود والإیقاعات وغیرها.

ومن الواضح أن جماعة تحت حمایة الدولة بأی اسم کانوا باسم مجلس الأمة أو مجلس الوزراء أو مجلس قیادة الثورة أو غیرها یرون شأن أنفسهم وضع القوانین، کل یوم یسببون تضییقاً علی الناس علی طول الخط بدون مبرر.

وقد ذکرنا فی کتاب (المرض والعلاج) أن مرض المسلمین فی هذه القوانین وعلاجهم فی نبذها جملة وتفصیلاً، ورجوعهم إلی قوانین الإسلام المدونة فی الفقه منذ أربعة عشر قرناً، مما عاش المسلمون تحت ظلها فی غایة الحریة والاستقلال والرفاه.

((أعذار واهیة فی القوانین الوضعیة))

((أعذار واهیة فی القوانین الوضعیة))

إن المقننین الجدد غالباً یستدلون

ص:115

لقوانینهم بأن خللاً فلانیاً سبب جعل هذا القانون.

السؤال هو هل من الأفضل کبت ملایین الناس فی حریاتهم، أو تحمل ذلک الخلل الصغیر الذی زعم أولئک المقننون أنه سبب وضع القانون الفلانی الکابت للحریات، فاعتذارهم یشبه اعتذار الدولة حیث تمنع التجول مثلاً من الساعة الثامنة لیلاً بحجة أن سرقة أو عدة سرقات وقعت فی لیلة کذائیة، فالأخذ أمام السرقة والسراق بحاجة إلی منع تجول عام فی المدینة؟

أو کاعتذارها فی منع السفر بالسیارات مثلاً بأن بعض السیارات تصطدم بالبعض مما یسبب قتل الناس وجرحهم وتلف الأموال، فالأفضل السیر راجلاً أو بالخیل والبغال والحمیر، فکما لا یصح أمثال هذه الاعتذارات لا یصح اعتذار المقننین المتقدمین.

وربما اعتذر المقننون للقوانین المذکوره فی البلاد الإسلامیة بأن القوانین الإسلامیة الموضوعة إلی قبل قرن لا یکفی لحاجات العصر.

وهذا أیضاً غیر تام، فهل لزوم وضع عدة قوانین جدیدة مستقاة من الأدلة الأربعة حتی تکفی لحاجات العصر معناه تغییر کل القوانین حتی فی الجوانب الکثیرة التی لم تتغیر.

والحاصل إن الحقوق الموضوعة فی العصر الحاضر منحرفة ومنتفخة، واستبدال للذی هو أدنی بالذی هو خیر، وبعض المسلمین الذین لا اطلاع لهم ممن أخذوا بقوانین الغرب والشرق زعموا أن تلک القوانین مبانیها العقلیة أقوی وأحسن ولیس فیها اختلاف کما فی قوانین الإسلام حیث نری الاختلاف الکبیر بین الفقهاء.

وهذا أیضاً خلاف الواقع، فإن مبانی فقه الإسلام أقرب إلی العقل، ولذا قال الفقهاء إنها إمضائیات علی الأغلب، بالإضافة إلی أن الاختلاف بین علماء القانون فی الغرب أکثر بکثیر مع أن آراء هم لیست بهذا النضج الذی نراه فی آراء فقهاء الإسلام، مثلاً نری فی کتاب الوسیط فی شرح القانون المدنی فی حق الملکیة للسمهوری فی مجلده الثامن ما

ص:116

هذا نصه بالنسبة إلی ما عنوانه (الأساس القانونی الذی یقوم علیه الالتزام بالتعویض من الضرر غیر المألوف) ما لفظه:

(فی اختلاف الفقه فی فرنسا نلاحظ بادئ ذی بدء أن التقنین المدنی الفرنسی لا یشتمل علی نص یناظر المادة الفلانیة من القانون المصری، فهو إذاً لا یستطیع أن یجد سنداً تشریعیاً لمسؤولیة المالک عن مضار الجوار غیر المألوفة، أما فی مصر فالمادة الفلانیة سند تشریعی قائم لا یجوز الخلاف فیه، وکل ما یمکن أن تدور حوله المناقشة هو تأصیل هذا النص ورده إلی وجه معین من وجوه المسؤولیة، ولما کانت مسؤولیة المالک عن مضار الجوار غیر المألوفة فی فرنسا هی من عمل القضاء دون سند تشریعی تقوم علیه کما قدمنا، فقد اختلف الفقهاء الفرنسیون فی تحدید الأساس القانونی الذی تقوم علیه هذه المسؤولیة، وقد التزموا فی ذلک ما دام السند التشریعی معدوماً نطاق القواعد العامة، فمنهم من رد مسؤولیة المالک إلی التزام قانونی هو التزام الجوار، ومنهم من ردها إلی نظریة التعسف فی استعمال حق الملکیة، ومنهم من جعل المسؤولیة مبنیة علی نظریة تحمل التبعة، ومنهم من ذهب إلی أن الغلو فی استعمال المالک بحق ملکیته هو فی ذاته خطأ یستوجب التعویض، وهناک آراء أخری، ومن هذه الآراء ما یذهب إلیه فلان من أن مسؤولیة المالک تقوم علی نظریة الإثراء بلا سبب، فالمالک قد أثری علی حساب الجار والجار قد أصابه ضرر غیر مألوف فافتقر، فوجب علی المالک المثری أن یرد للجار المفتقر أقل القیمتین، المقدار الذی أثری به والمقدار الذی افتقر به الجار، وظاهر أنه إذا کان من المحقق أن الجار الذی أصابه ضرر غیر مألوف قد افتقر، فلیس من المحقق أن المالک الذی کان مصدر هذا الضرر قد أثری، ولیس من المحقق أیضاً حتی إذا کان المالک قد

ص:117

أثری أن افتقار الجار کان هو بالذات السبب فی هذا الإثراء. ومن الفقهاء من یذهب إلی أن المالک لا تتحقق مسؤولیته عن الضرر غیر المألوف إلاّ إذا تعدی مادیاً علی ملک الجار، فنشر مثلاً من مصنعه دخاناً جاوز ملکه واخترق ملک الجار أو بعث بروائح کریهة أو بأصوات مقلقة أو بأمواج الرادیو أو نحو ذلک، فیکون التعدی المادی علی ملک الجار هو أساس المسؤولیة. ومن هذه الآراء أیضاً أن مسؤولیة المالک مبنیة علی حالة الضرورة، فمضایقات الجوار ضرورة اجتماعیة لا بد من تحملها، ولکن تقدر الضرورة بقدرها، فإذا أوجبت الضرورة أن تحمل الجار الجوار دون تعویض إذا کان الضرر لا یجاوز الحد المألوف، فإنه إذا جاوز الحد غیر المألوف وجب التعویض عنه، فمسؤولیة المالک هنا ترجع إلی مجاوزة حد الضرر، إذ الضرورة إنما تقضی بتحمل الضرر المألوف، فإذا جاوز المالک هذا الحد وأصاب الجار بضرر غیر مألوف وجب علیه التعویض ولو لم یوجد خطأ فی جانبه، إذ مجاوزة حد الضرورة هی بعینها الذی یستوجب التعویض) انتهی.

إلی غیر ذلک من الأمثلة الکثیرة التی یجدها المتتبع فی أسباب القوانین ونصوص القوانین فی کل من الغرب والشرق، والعمدة أن غیر الواعین من المسلمین بله المربوطین بالغرب والشرق انبهروا بصناعة الغرب وتقدمه المادی، وزعموا أنهم متقدمون أیضاً فی القانون، فأخذوا منهم القوانین جملة وتفصیلاً وحتی بدون تمحیص أو مقارنة، فوقعوا فی المشکلة التی لا منجی منها إلاّ بالرجوع إلی القوانین الحقوقیة الإسلامیة، والله المستعان.

ص:118

((الحقوق الداخلیة))

اشارة

((الحقوق الداخلیة))

(مسألة) تقدم أن الحقوق إما داخلیة وإما داخلیة خارجیة.

فالحقوق الداخلیة عبارة عن الحقوق لداخل البلد، من غیر فرق بین حقوق الدولة أو الأمة أو المختلطة بینهما، وهذه الحقوق الداخلیة مربوطة بالأفراد الذین هم أتباع الدولة ولیسوا من أفراد الخارج الذین یسکنون هذه الدولة ممن یسمون بالأجانب، أما الأجانب فسیأتی الکلام فیهم.

((الأصل التساوی فی الحقوق))

((الأصل التساوی فی الحقوق))

والغالب تساوی الحقوق بین أفراد الأمة قانوناً، ولیس المراد تساوی الحقوق من جمیع النواحی بل من ناحیة التساوی بین المتساویین، مثلاً تختلف حقوق الأمومة والطفولة والعجزة والمرضی فی غالب البلاد عن حقوق غیرهم، کما یختلف فی الإسلام حقوق الرجل عن المرأة وهکذا.

والأصل فی التساوی والاختلاف أن المتساویین یتساویان حقوقاً، والمختلفین یختلفون حقوقاً، لکن الاختلاف دائماً أقل من التساوی، ففی الحقوق الأهلیة والمدنیة والقضائیة والجزائیة والحریات وغیرها الحقوق متساویات للکل، فکل من البیع والشراء والرهن والإجارة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والضمان والشرکة والإرث والمثول أمام القضاء والعقوبات والدیات والسفر والإقامة والترشیح والانتخاب والزراعة والتجارة والصناعة وحیازة المباحات والعمارة وإبداء الرأی وغیرها وغیرها، إلاّ ما خرج بسبب سفه أو فلس أو حجر أو ما أشبه ذلک، وقد قال سبحانه: ﴿إنا خلقناکم من ذکر وأنثی وجعلناکم شعوباً وقبائل لتعارفوا﴾((1))، الأصل التساوی إلاّ ما خرج، لا العکس، ولا أن المتساوی وغیر المتساوی متساویان کماً حتی یکون مائة حکم من مائتی حکم یتساوی الأفراد فیها ومائة أخری یختلفون فیها.

نعم فی الإسلام الأقلیات الذین هم عبارة عن غیر المسلمین لهم أحکام خاصة، کما أن فی البلاد الدیمقراطیة وغیرها أیضاً الأقلیات لها

ص:119


1- سورة الحجرات: 13

أحکام خاصة، فهناک أربعة أقسام من التمایز.

((موارد الاختلاف فی الحقوق))

((موارد الاختلاف فی الحقوق))

الأول: من المتخلفین، کالمجانین والمعوقین ومن أشبههم.

والثانی: الرجل والمرأة فی الجملة.

والثالث: الأجانب، سواء کان أجنبیاً دینیاً کبلاد الإسلام((1))، أو أجنبیاً عن الوطن کسائر البلاد.

والرابع: الذین سلبهم القانون بعض حقوقهم، کحق الترشیخ أو الانتخاب أو ما أشبه، أو الشهادة بسبب جنایة ارتکبوها کما هو موجود فی الإسلام وفی غیر الإسلام.

هذا هو الأصل فی کل من المستثنی منه والمستثنی، لکن لا یخفی أن المستثنی أیضاً لیس معناه عدم التساوی مطلقاً، بل عدم التساوی فیهم فی جملة من الأحکام، مثلاً المجنون یمارس کثیراً من الأحکام بولیه وإن لم یتمکن من الممارسة بنفسه، وکذلک الطفل، وقد ذکرنا فی بعض کتبنا السیاسیة أن الطفل أیضاً له حق الانتخاب لکن بسبب ولیه، لأن الوکیل ونحوه یتصرف فی شؤون الطفل أیضاً، ف؛ذا کان هناک ولی له أربعة أطفال کان له خمسة أصوات، صوت لنفسه وأربعة أصوات لأطفاله، أو للأیتام الذی هو وصی أو قیم علیهم أو ما أشبه ذلک.

((القانون فی الدول الاتحادیة))

((القانون فی الدول الاتحادیة))

ثم إن غلبة تساوی الأحکام فی الدولة الواحدة إنما هو فیما إذا لم یکن علی نحو الحکومة الاتحادیة، وإلا فلکل دولة فی ضمن المجموعة أحکام تختلف من دولة إلی دولة أخری بالنسبة إلی أمورهم الداخلیة، وإن کانت الأحکام بالنسبة إلی حکومة الاتحاد لکل الناس حکماً واحداً من غیر اختلاف، مثلاً أمریکا وروسیا والسویس حیث الدولة اتحادیة ترکت الشؤون الداخلیة لکل دولة علی عاتق نفس الحکومة التی یقولون إنها

ص:120


1- ففی بلاد الإسلام لیس المسلم أجنبیاً وإن کان من قطر آخر

ممثلة عن شعبها، ولذا یختلف حقوق دولة عن دولة فی جملة من الحقوق، وإن کانت الحقوق متساویة بالنسبة إلی دولة الاتحاد من جهة الجندیة والسیاسة الخارجیة والمالیة ونحوها.

وفی الإسلام دولة واحدة کما تقدم الإلماع إلیه، وأمة واحدة، والکل أخوة، ولهم حقوق متساویة، لکن یمکن اختلاف دولة عن دولة إذا فرض الاتحاد بین الأقطار الإسلامیة مرحلیاً، إذ من الممکن أن یکون شوری الفقهاء المرتبط بالقطر العراقی یری بعض المسائل الخاصة باعتبارات طارئة، فیما یری شوری الفقهاء فی القطر الإیرانی صورة أخری فی تطبیق الإسلام، والشوریان وإن کان یجمعها شوری فوق یحکم الأحکام الواحدة للدولة الاتحادیة، إلاّ أن الاختلاف مع المصلحة مرحلیاً ممکن، لکن من الواضح أن ذلک لا یمکن أن یکون أصلاً وإنما استثناء بعنوان ثانوی.

((الحقوق الخارجیة))

((الحقوق الخارجیة))

أما القسم الثانی من الحقوق، وهی الحقوق الخارجیة للدول، فتنقسم إلی قسمین:

1: الحقوق الخاصة.

2: والحقوق العامة، أی ما تکون بین الدول.

وهذا یبین وضع الدول بعضها مع بعض، والمؤسسات الدولیة التی لا تخص دولة عن دولة، ومنبع هذه الحقوق هو الاحترام المتبادل بین الدول مما أورث عقد المعاهدات، والضامن لإجراء هذه المعاهدات هو التحسین والتقبیح والضغوط، إذ إلی الآن لا ضمان لإجرائها غیر ذلک.

فإذا خالفت دولة الحقوق العامة، سواء أقر بها ثم خالفها کالدول التی هی أقرت قوانین حقوق الإنسان ثم تقتل الأفراد أو تسجنهم بلا موازین أو تعذبهم فی السجون أو تصادر أموالهم أو ما أشبه ذلک.

أو لم تقر الدولة بها، کعدم إقرار الحکومة السوفیتیة لحریات الأفراد وحق الملکیة الخاصة وما أشبه

ص:121

ذلک، وکعدم إقرار حکومة جنوب افریقیا العنصریة التساوی بین الناس بدون النظر إلی ألوانهم.

فإن فی مثل هذه الأحوال تضغط الحکومات علیهم بالإعلام والتشهیر والتقبیح، ثم بالحصر الاقتصادی وحضر السلاح، وأحیاناً قطع الروابط الدبلوماسیة عنهم، إلی غیر ذلک.

((نقض الحقوق والقوة الرادعة الدولیة))

((نقض الحقوق والقوة الرادعة الدولیة))

لکن من الواضح أن کل ذلک غیر مفید فائدة کلیة، ولذا نری العنصریة الشدیدة فی جنوب أفریقیا، کما نری نقص حقوق الإنسان فی کافة بلاد الشیوعیة، واللازم أن تشکل الأمم المتحدة قوة رادعة لمن ینقض الحقوق، بالإضافة إلی لزوم تهیئة قوة فی الرأی العام یوجب الضغط المتزاید علی الدولة المخالفة، فإن الرأی العام إذا تکون کان له من القوة علی النفوس ما للسیول والعواصف والبراکین من القوة علی المادیات.

والذی یقف دون تحقق مثل هذه العقوبة وهذه الضغوط الرادعة هی الدول الکبار التی لا تستعد لتلبیة نداء العقل والضمیر، مثلاً دول الغرب والشرق حیث لها منافع فی إسرائیل تقف دون الضغط علیها فی إرجاع فلسطین إلی أصحابها الشرعیین، وهکذا وهلم جراً.

وکما کانت الفوضی فی داخل الدول فی بعض الأزمنة کالقرون الوسطی فی العالم الغربی حتی تمکن عقلاؤهم من استتباب الأمن فیها، کذلک العالم یمر الآن بمرحلة طفولة بسبب أطماع الدول الکبار، حتی یتمکن العقلاء سواء فی داخل تلک البلاد أو خارجها من استتباب الأمن فی العالم.

واللازم أن تعلم الدول الکبار التی تمارس الضغوط لعدم استتباب الأمن فی العالم ووجود الفوضی فی الدول وبین الدول، أن الأمر سوف ینعکس علی أنفسهم، فإن طبیعة الاستبداد واحدة، فإذا أطلق سراحه استبد فی الیوم الأول علی أعدائه ثم یستبد علی

ص:122

أصدقائه، فإن عجلة الاستبداد إذا تحرکت سحقت العدو والصدیق، وکأنه بهذا المعنی ورد «من أعان ظالماً سلطه الله علیه»((1)).

ومن الواضح أنه لا فرق فی الاستبداد بین استبداد الفرد أو المجموعة، دولة کانت تلک المجموعة أو جماعة خاصة.

وعلی أی حال، فکما فی داخل الدولة تکون مؤسسات لحمایة الحقوق الداخلیة، کذلک الأمر بالنسبة إلی الحقوق الخارجیة العمومیة، مثل قوانین الأمم المتحدة التی هی عبارة عن الحقوق الأساسیة بین الدول، وکذلک الاتحادات العالمیة للبرید وللبنوک ولإدارة البحار والأنهر وسائر المیاه، والمحکمة الدولیة فی لاهای إلی غیرها.

لکن قد عرفت أنها بالإضافة إلی نقصها عن حمایة حقوق الأفراد، ولذا تقع کثیر من شعوب العالم فی أنیاب الدکتاتوریات، أنها قلیلة الجدوی، حیث الدول الکبار تقف دون أهداف هذه المؤسسات لمصالحها الخاصة، إلی غیر ذلک.

هذا کله فی الحقوق الدولیة العمومیة.

((أقسام الحقوق الدولیة الخاصة))

اشارة

((أقسام الحقوق الدولیة الخاصة))

أما الحقوق الدولیة الخصوصیة، فهی عبارة عن رابطة أفراد دولة بالنسبة إلی دولة أخری، مثل فرد عراقی بالنسبة إلی دولة فرنسا أو بالعکس أو ما أشبه ذلک.

وهذه تنقسم إلی أربعة أقسام:

الأول: الأمور الجزائیة.

والثانی: الأمور القضائیة.

والثالث: الأمور القانونیة فی غیرهما کالمعاملات ونحوها.

والرابع: الأمور العبادیة ونحوها.

((الأمور الجزائیة))

((الأمور الجزائیة))

أما فی الأول: أی الأمور الجزائیة، فمثل أن قتل فرد من دولة فرداً من دولة أخری، اللازم فیه تحکیم قانون الجزاء بین الدول فی هذا الشأن، وأنه ما هو جزاء القاتل، وکذلک إذا سرق ماله أو أحرق داره أو اغتصب فتاة من دولة أخری أو ما أشبه ذلک.

ص:123


1- الخرائج والجرائح: ج3 ص1058
((الأمور القضائیة))

((الأمور القضائیة))

وأما فی الثانی: أی الأمور القضائیة، فاللازم ملاحظة أن أیة محکمة لها صلاحیة القضاء فی الأمور الجزائیة أو صلاحیة القضاء فی التنازع بین البائع من دولة والمشتری من دولة أخری مثلاً، إلی غیر ذلک مما هو شأن القاضی.

فهل اللازم مراجعة قضاء دولة القاتل، أو دولة المقتول، أو الدولة التی وقع القتل فیها وإن کان القاتل والمقتول أجنبیین عن الدولة التی وقعت فیها الجریمة، وهکذا بالنسبة إلی دولة المدعی ودولة المدعی علیه، إلی غیر ذلک.

((الأمور المدنیة))

((الأمور المدنیة))

وأما الثالث: أی سائر الأمور کالبیع والنکاح والإرث وغیرها، مما قد یصطلح علیها الحقوق المدنیة، فهل اللازم فی الشروط والمزایا والخصوصیات الأخذ بقانون دولة الموجب أو دولة القابل.

وهکذا فی النکاح والطلاق هل اللازم مراجعة دولة الرجل أو دولة المرأة.

وفی الإرث هل اللازم مراجعة دولة المیت أو دولة الوارث، وإذا کان الورثة متعدداً وقیل بأن اللازم مراجعة دولة الورثة وکان کل وارث تابعاً لدولة، فهل یراجع فی إرث کل وارث دولته، أو یکفی مراجعة إحدی الدولتین.

وکذلک الکلام فیما إذا کان ملک المورث فی دولة ثالثة لا دولة المورث ولا دولة الوارث.

وهکذا یأتی الکلام فی أنه لو عاش إیرانی فی بریطانیا مثلاً فما هی القوانین المطبقة علیه، هل قوانین إیران أو قوانین بریطانیا، فی کل من الحقوق الجزائیة أو القضائیة أو غیرهما.

ومثل حال الفرد فی الأمور المذکورة حال المؤسسات، مثلاً شرکة مصریة فی أمریکا بالنسبة إلی الجزاء أو القضاء أو غیرهما.

((الأمور العبادیة))

((الأمور العبادیة))

أما الرابع: الأمور المرتبطة بالعبادة، مثل بناء کنیسة فی تونس أو بناء مسجد فی ألمانیا إلی غیر ذلک، وفی کل هذه الأمور إذا کانت هنالک قوانین

ص:124

للملل تکفل بیان هذه الأمور فهو، وإلاّ فالمرجع القرار بین الدولتین المرتبطتین بذلک الشأن أو الدول الثلاث.

((أمثلة فی اختلاف قانون الدول))

((أمثلة فی اختلاف قانون الدول))

کما مثلنا بالنسبة إلی وقوع القتل فی دولة ثالثة، أو وقوع الملک بین الوارث والمورث فی دولة ثالثة، مثلاً یقرر الدولتان أن شؤون البیع وسائر المعاملات مرتبطة بقانون دولة البائع أو الزوج أو المورث أو بالعکس، إلی غیرها من الأمثلة، أو أن الرجوع یکون إلی القاضی فی نفس البلد الذی وقعت فیه الجریمة أو المعاملة.

وإذا اشتری دانمارکی من نرویجی فی إیطالیا، أو جنی سویسری علی سویدی فی کوریا، فالمرجع فی التحقیق والجزاء فی أی دولة من الدول الثلاث مثلاً.

ثم یأتی الکلام فی أنه لو حاربت دولة دولاً متعددة اعتداءً وانهزمت المعتدیة، فاللازم أن یقرر الدول المعتدی علیها کیفیة محاکمة رؤوس الجناة ومجرمی الحرب، کما وقع مثل ذلک فی حرب ألمانیا لعدة دول.

کما أنه یأتی الکلام فی أنه إذا کان هنالک لجنة من العصاة عملوا تخریباً وإفساداً بالنسبة إلی أفراد، وکان الجناة من دول متعددة، وکذلک الضحایا من دول متعددة ماذا یکون الحکم.

ثم المسألة لیست مجرد مسألة الحقوق، أی حق ورثة المقتول علی القاتل، أو حق المعتدی علیه علی المعتدی أو ما أشبه ذلک، بل هناک حق سیادة الدولة التی وقع الاعتداء فیها، سواء کانت دولة أحد الطرفین أو الأطراف، أو دولة أخری، فیکون هناک حقان، حق الفرد المعتدی علیه، وحق الدولة المعتدی فیها.

ولعل مقتضی القواعد العامة للحقوق الفطریة أن یجعل الأمر مهایا، بأن تجعل الحقوق مرة لهذه الدولة ومرة لتلک الدولة فیما إذا کان طرف القضیة دولتین فقط، فالقضاء والجزاء وقوانین البیع ونحوه تارة لهذه الدولة وتارة لتلک، مثلاً فی سوریا ولبنان إذا قتل سوری لبنانیاً أو

ص:125

بالعکس فمرة تلجأ إلی قانون سوریا وأخری إلی قانون لبنان فی الجزاء.

کما أن المرجع القضائی فی التنازع بین البائع والمشتری تارة سوریا وأخری لبنان، وهکذا فی الزواج بین زوج من هذه الدولة وزوجة من دولة أخری یکون المرجع القیود والشروط تارة لبنانیاً وأخری سوریاً.

وإذا وقعت القضیة بین ثلاث دول، فالحق بین الفردین تابع لدولتیهما بالمهایاة کالسابق، أما بالنسبة إلی الدولة الثالثة فالقاضی إذا روجع إلیه اتبع قانون الدولتین، هذه الدولة تارة وتلک أخری، والجریمة إذا وقعت فی دولة ثالثة فاللازم علی دولة المجرم تحمل تبعیة انتهاک فرد منها حق دولة محترمة وقع فیها الانتهاک.

((من مصادیق القرعة))

((من مصادیق القرعة))

ثم إنه یصح للدولتین أو الدول الثلاث إذا لم یکن لهم قوانین بهذه الشؤون ولم یریدوا المهایاة التی ذکرناها، أن یقرروا بینهم القرعة، مثلاً إذا وقعت جریمة من إیطالی علی إسبانی هل یقضی فی هذا البلد أو ذاک، أو یؤخذ بقانون الجریمة فی هذا البلد أو ذاک، فالقرعة.

وهکذا إذا وقع عقد بین رجل من دولة وامرأة من دولة یقترع فی الأخذ بحقوق أیتهما فی إجراء مراسیم الزواج ومزایاه وخصوصیاته، وکذلک الأمر فی البیع والشراء والرهن والإجارة والمضاربة وغیرها.

من غیر فرق بین الشؤون الجزائیة أو القضائیة أو سائر الشؤون والتی یعبر عنها بالحقوق المدنیة، ومن غیر فرق بین أن تکون هناک دولتان أو ثلاث دول علی ما تقدمت الأمثلة فیها.

هذا فی غیر الدولة الإسلامیة، وإلاّ فشوری الفقهاء هو المرجع فی الأمر.

((إشکال عام علی القرعة))

((إشکال عام علی القرعة))

ثم هنا سؤال فی أصل القرعة فی أی مکان کان، وهو أنه لماذا العقلاء یلتجؤون إلی قانون غیر عاقل، فکما أنه لیس من الصحیح التجاء العقلاء إلی غیر العقلاء فأولی أن لا یلتجؤوا إلی قرعة جامدة غیر عاقلة،

ص:126

فإنا نری تقبیح العقل رجوع العالم إلی الإنسان الجاهل فکیف بمثل هذا الشیء.

والجواب: إنه لیس رجوعاً من العقلاء إلی غیر العقلاء، بل هو عبارة عن تبانی العقلاء لعدم إعطاء الامتیاز إلی هذا الطرف أو هذا الطرف اعتباطاً، حیث إن الرجوع إلی هذا الطرف أو هذا الطرف بدون امتیاز ترجیح من غیر مرجح، فالالتجاء إلی عمل عقلائی هو عبارة عن الفرار عن إعطاء الامتیاز من غیر مبرر، إلی طریقة لیس فیها إعطاء الامتیاز.

((المهایاة ومصادیقها))

((المهایاة ومصادیقها))

ثم المهایاة یمکن أن یحدد بالأفراد أو بالمال أو بالزمان أو بالوحدة العملیة.

مثلاً بالنسبة إلی الأفراد یقرر سوریا ولبنان أن زیداً اللبنانی إذا عامل مع عمرو السوری فاللازم أن یعامل خالد السوری مع بکر اللبنانی، هذا بالنسبة إلی الأفراد.

وأما بالنسبة إلی المال فهو مثل أنه یقرر أن لزوم أن تقع المعاملة بین سوری ولبنانی بما یعادل کل مرة من أمثال هذا أو بالعکس ألف لیرة، فإذا اشتری سوری من لبنانی بضاعة بألفی لیرة فی معاملة واحدة فاللازم اشتراء لبنانی من سوری فی عکسه ما قیمتة ألفا لیرة فی دفعة واحدة أو دفعات متعددة.

وأما بالنسبة إلی الزمان فمثل أنه إذا أقام بریطانی فی أمریکا عشر سنوات لزم العکس بأن یقیم أمریکی فی بریطانیا عشر سنوات، أو یقیم أمریکیان فی بریطانیا کل واحد منهم خمس سنوات، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

وأما بالنسبة إلی الوحدة العملیة فهو کأن تکون معاملة فی قبال معاملة، من غیر نظر إلی مبلغ المال.

والغرض مما ذکرناه فی هذا المبحث مجرد الإلماع لا التفصیل، وإلاّ فالتفصیل بحاجة إلی بحث طویل.

ص:127

((الحقوق بین المسلمین وغیرهم))

((الحقوق بین المسلمین وغیرهم))

أما الحقوق بین المسلمین وغیر المسلمین فیما إذا کانت هناک دولة إسلامیة صحیحة مجبورة علی أن تعاهد البلاد غیر الإسلامیة، فهو علی أقسام:

الأول: أن یکون قانونهم کقانوننا، ولا إشکال سواء فی الحقوق القضائیة أو الجزائیة أو ما یصطلح علیه بالمدنیة أو غیرها، وحتی فی بناء المسجد والکنیسة، بأن أردنا أن نبنی مسجداً فی بلادهم وهم اشترطوا بناء الکنیسة فی بلادنا، إن لم یکن ضرر علی المسلمین فی بناء الکنیسة، کما إذ اشترطوا فی بنائنا المسجد فی الأحیاء الإسلامیة فی بلادهم، وبناء الکنیسة فی الأحیاء المسیحیة فی بلادنا، وحتی لو لم نقل بالانصراف جازت المقابلة بالمثل إذا کان بناء المسجد أهم من حرمة بناء الکنیسة أو مساو له حیث لا تبقی الحرمة.

ومثل هذا الکلام یأتی فی تأسیس الأحزاب، بأن نکون حزباً إسلامیاً فی بلادهم فی قبال تکوینهم حزباً مسیحیاً فی بلادنا، وکذلک دور النشر ونصب الإذاعة والتلفزیون، وإخراج الجرائد والمجلات فی بلادنا مقابل عمل مثل ذلک لنا فی بلادهم، حیث یجب أن یوازن الأمرین فنأخذ بالأهم لمصلحة الإسلام والمسلمین، وتشخیصة بید شوری الفقهاء، وإن کانا متساویین شرعاً جاز کل من المقابلة بالمثل والترک، بخلاف ما إذا کان أحدهما أهم إلی حد المنع من النقیض حیث یقدم الأهم لزوماً.

الثانی: لم یکن قانونهم کقانوننا، ولکننا نتمکن من إنفاذ قانوننا فی بلادهم، مثل أب وابن مسلمان، الأب ساکن فی بلاد الإسلام والابن ساکن فی بلادهم، وقد قتل الأب الابن مما لا یقابل بالمثل فی الإسلام، وکان قانونهم قتل ورثة الابن للأب، لکن قوتنا تمنع من تنفیذهم قانونهم،

ص:128

ولا إشکال فی هذا الحال، لأن المنفذ قانون الإسلام لا قانون بلادهم، فلا بأس بتبادل الحقوق بهذا المعنی.

الثالث: أن لا نتمکن من تنفیذ قانوننا فی بلادهم، وقانون بلادهم مخالف للإسلام، مثلاً قانونهم إذا تزوج المسلم منهم وهم أهل کتاب فلهم أن یتزوجوا من المسلمین، فإنه یجب علی الدولة الإسلامیة المنع من التزویج منهم حتی لا نضطر إلی إعطائهم البنت المسلمة.

وکذلک إذا قالوا إذا تزوجتم فی بلدکم بالمسیحیة فی المسجد، نتزوج فی بلادنا فی الکنیسة إذا کان مثل ذلک التزوج حراماً للمسلم تکلیفاً أو وضعاً، أو إذا طلقتم فی بلدکم البنت التابعة لنا قانوناً نطلق فی بلادنا البنت التابعة لکم، وکان طلاقهم خلاف موازین الإسلام، إلی غیر ذلک.

ثم إذا اضطررنا إلی اتباع قانونهم فإذا کانت له آثار غیر مشروعة فاللازم ترتیب الأثر المشروع فقط، مثلاً لو اضطررنا إلی تصدیق نکاحهم ولیس بنکاح عندنا، أو طلاقهم ولیس بطلاق مشروع عندنا، أو ما أشبه ذلک، فاللازم أن لا نرتب أثر النکاح ولا أثر الطلاق إلی غیر ذلک.

بقی شیء، وهو أنه إذا کانت دولتان إسلامیتان إحداهما تلتزم بأحکام الإسلام، والأخری کدول المسلمین هذا الیوم یلتزمون بقوانین الشرق والغرب، فالمعاهدات بینهما بالنسبة إلی الحقوق یکون مثل المعاهدات بین الدولة الإسلامیة ودولة غیر إسلامیة علی ما تقدم الکلام فیه.

ص:129

((الحقوق المقارنة))

اشارة

((الحقوق المقارنة))

(مسألة): فی الحقوق المقارنة، حیث إن الدنیا أصبحت بواسطة وسائل الاتصال من المواصلات والأقمار ووسائل الإعلام وغیرها کالبلد الواحد، احتاج الأمر إلی معرفة کل بلد یرید التقدم بل البقاء علی موازینه وأسسه، أن یعرف أحوال البلاد الأخر فی کل شیء، وبالأخص فی الحقوق، فإن فائدة المعرفة:

((أخذنا بالأحسن))

((أخذنا بالأحسن))

أولاً: الأخذ بالأحسن، ونحن وإن لم یکن لنا وضع القوانین إلاّ أنه یکفی فی تطبیق الصغریات علی الکبریات اتباع الأفضل، کالأفضل فی مثل الکشف عن الجریمة والحیلولة دون وقوعها بواسطة الوسائل الحدیثة، وکذلک تنظیم شؤون المرور والشرطة والنجدة والمستشفیات والمعاهد والدوائر وغیرها وکیفیة صنع الأسلحة وما إلی ذلک.

أما بالنسبة إلی غیر الدولة الإسلامیة فإن الفائدة فی وضع أصل الحقوق، بالإضافة إلی تطبیقها أیضاً.

((أخذهم بالأحسن))

((أخذهم بالأحسن))

ثانیاً: أخذهم بالأحسن الذی عندنا، فإنه لا شک أن الحریات عندنا أحسن من الحریات عندهم کماً وکیفاً، والموازین الإنسانیة والأخلاق الفاضلة عندنا أحسن مما عندهم، وبساطة السلطة وقلة الموظفین والعدل والمساواة فی موضع المساواة عندنا أحسن مما عندهم، وعدم استعمار الدولة للشعوب عندنا ولیس عندهم، وتوزیع الثروة عندنا بحیث لا یبقی فقیر ولا غنی من الحرام عندنا ولیس عندهم.

((نموذج من أخطاء الغرب الاقتصادیة))

((نموذج من أخطاء الغرب الاقتصادیة))

ولا بأس أن نشیر هنا إلی کلمة موجزة حول هذا الأمر الأخیر، حیث إن کثیراً من عقلاء الغربیین هم أیضاً خلاف الاستعمار وتمرکز الثروة، بحیث یجعل من الأغنیاء أغنیاء متطرفین، ویجعل من کثیر من الناس فقراء لا یجدون حتی الأکل وسائر أولیات الحیاة، فهذا الإلماع یظهر أن حکوماتهم کیف جنوا علی البشریة

ص:130

لعلهم یرجعون عن السدور فی الظلام، کما یظهر للمسلمین ومن إلیهم من العالم الثالث کیف یجب تجنب هذه المشکلة.

ففی کتاب المدیونیة (للدکتور رزق الله هیلان): لقد بلغت المدیونیة بحسب تقریر أخیر أواسط 1986 ألف وتسعمائة وستة وثمانین لصندوق النقد الدولی ثمانیة وثلاثین ملیار دولار ونصف ملیار، وهذا الرقم یضع مصر فی المرتبة الرابعة أو الخامسة بین الدول الأکثر مدیونیة بعد البرازیل مائة ملیار ونیف، والمکسیک نحو مائة ملیار، والأرجنتین نحو اثنین وخمسین ملیاراً، وکوریا الجنوبیة نحو خمسة وأربعین ملیاراً.

یقول التقریر إن خدمة هذا الجبل من الدیون بلغت أربعة آلاف وثلثمائة ملایین دولار فی منتصف عام 1986، وتتکون الدیون کالتالی:

أربعة آلاف وثمانمائة ملیون قروض قصیرة الأجل، ثمانیة آلاف وستمائة ملیون تسهیلات موردین، عشرون ألف ملیون قروض ثنائیة بین الحکومة المصریة وحکومات أجنبیة، خمسة آلاف ملیون قروض متعددة الأطراف، منظمات دولیة والدیون العسکریة الأمریکیة أربعة آلاف وخمسائة ملیون دولار.

وینتقد التقریر بشدة سیاسیة الحکومة المصریة فی معاجلة الأمور وتأخرها عند تنفیذ إجراءات الصندوق مشیراً إلی أن مصر علی وشک أزمة مالیة طاحنة عواقبها وخیمة، وقال الکتاب نفسه بتاریخ  23 6 1986.

نشرت جریدة کویتیة تحقیقاً حول الأموال المصریة المهربة للخارج، جاء فیه ما یلی:

ذکر محمد حسنین هیکل أنه اطلع علی تقریر وضعته إحدی المؤسسات المالیة الأمریکیة یفید بأن حجم الودائع الخاصة للمصریین فی بنوک خارج مصر تقدر بخمسة وأربعین ملیار دولار، وقد أثار هذا التصریح نقاشاً حاداً فی مجلس الشعب المصری، قال علوی

ص:131

حافظ النائب الوفدی: إن مصر نهبت بواسطة مائتین وخمسین ألف ملیونیر، وأن هؤلاء یتهربون من الضرائب ولا یسهمون فی التنمیة، وأنهم هربوا إلی الخارج مائة وعشرین ملیار دولار بحسب أحد التقاریر المالیة الأجنبیة.

وصدّق (کمال حسن علی) رئیس الوزراء ووزیر الخارجیة سابقاً سنة ألف وتسعمائة وثمانین إلی ألف وتسعمائة وخمس وثمانین علی هذا الکلام قائلاً:

هنالک تقاریر تقول أن مدخرات المصریین فی الخارج تقدر بنحو مائة وعشرین ملیار دولار، وسأتواضع وأقول إنها ثمانون ملیار دولار، وأفاد (الدکتور إسماعیل عبد الله) وزیر التخطیط سابقاً: أن أموال المصریین التی أودعت فی الخارج عام ألف وتسعمائة وخمسة وسبعین وبعده السلطات المصریة کمعونات وهبات وجزء من تحولات العاملین فی الخارج خلال الفترة ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعین إلی ألف وتسعمائة وثمانیة وسبعین، وأکد (الدکتور الفونس عزیز) عضو معهد التخطیط القومی الرقم أربعین ملیاراً أیضاً، انتهی.

ولا یخفی أن أمثال هذه الأرقام المخیفة مذکورة فی غالب بلاد العالم الثالث.

((من أسباب سرقة الثروات فی بلادنا))

((من أسباب سرقة الثروات فی بلادنا))

والسبب لهذا أولاً: هو وقوف البلاد الکبار دون استثمار العالم الثالث موارده المادیة والمعنویة، حیث إنهم بسبب عملائهم یجعلون الأراضی یباساً، والبلاد خراباً، والأمیة متفشیة، والعقول المفکرة مجمدة أو هاربة.

ثانیاً: تفشی البطالة والکسل مما تصنعه البلاد الکبار فی بلاد العالم الثالث بألف وسیلة ووسیلة.

ثالثاً: إغراقهم هذه البلاد فی الحرب الأهلیة بما تأتی الحرب من

ص:132

الخراب والدمار والإفلاس، ففی وقت واحد منذ أکثر من عشر سنوات حرب فی لبنان، وحرب فی إیران والعراق، وحرب فی أفغان، وحرب فی فلسطین، وحرب فی أرتریا، وحرب فی بیلی ساربو، إلی غیر ذلک.

رابعاً: إغراق بلاد العالم الثالث بتضخم الجهاز الحکومی والجهاز الدبلوماسی من ناحیة الکم والکیف.

خامساً: استمرار إعطاء القروض بما فوائدها تزاد عاماً بعد عام.

سادساً: سحب أموال هذه البلاد کبلاد الخلیج وغیرها إلی بنوکهم ومعاملهم، حتی یستفیدوا هم من هذه الأموال ویبقی شعوب هذه البلاد محتاجة حتی إلی لقمة العیش.

ولو کانت هناک محکمة دولیة منصفة لحکمت بأن دول العالم الثالث المدیونة مئات الملیارات هی صاحبة الحق، وإنما تطلب هذه البلاد المتأخرة البلاد الصناعیة المتقدمة ألوف الملیارات لا أنها لیست مدیونة فحسب، فإن الاحتیال فی سلب الأموال وتهیئة الأجواء الإکراهیة والاضطراریة یجعل من المحتالین مجرمین ومدیونین لا من الذین جرفتهم الحیل ووقعوا فی الإکراه والاضطرار.

((الاطلاع علی سائر القوانین الحقوقیة))

((الاطلاع علی سائر القوانین الحقوقیة))

وعلی أی حال، فلنرجع إلی مطلب الکتاب، وهو لزوم الاطلاع علی القوانین الحقوقیة للآخرین، فقد ذکرنا أن للاطلاع فوائد.

أولاً: أخذنا بالأحسن مما عندهم تطبیقاً.

وثانیاً: أخذهم بالأحسن مما عندنا حکماً وموضوعاً.

وثالثاً: قد عرفت فی المسألة السابقة أن اللازم علی الدول التی بینها علاقات دبلوماسیة إعمال قواعد الدول الخارجیة، وذلک ما لا یمکن

ص:133

إلا بالاطلاع علی حقوقهم حتی یعرف قدر المنافاة بین حقوقنا وحقوقهم، وأی حق من حقوقهم لا ینافی الأخلاق والدین والعادات والتقالید عندنا، وأن أی حق من حقوقهم ینافی المذکورات، حتی لا یکون مانع عن إجراء الحق المسموح ویمتنع عن إجراء الحق الممنوع.

رابعاً: إن التجارة الخارجیة المتعارفة بین الدول بحاجة إلی معرفة التجار الذین هم طرف تلک التجارات، کیف یتمکنون من إبرام العقود والمعاملات معهم، حتی إذا وقعت مشکلة یتمکنون من التقاضی إلی محاکم الدولة لإنقاذ حقوقهم ورفع الغبن عن أنفسهم.

خامساً: لنعرف کیف نتمکن أن نستثمر أموالنا فی بلادهم، وکیف یتمکنون هم بالمقابل استثمار أموالهم فیما لا یکون ضاراً علینا فی بلادنا، فإن الجهل بالإضافة إلی عمالة حکام بلاد العالم الثالث لأولئک، أوجب عدم تکافؤ الفرص، فالأجانب رابحون استثمرنا فی بلادهم أو استثمروا هم فی بلادنا، ونحن دائماً خاسرون علی کلا التقدیرین.

((أنواع الحقوق فی البلاد))

اشارة

((أنواع الحقوق فی البلاد))

وعلی أی حال، فقد قسم جملة من علماء الحقوق، الذین قارنوا بین الحقوق فی مختلف البلاد، حقوق البلاد إلی خمسة أقسام، ذکروا أن بینها فروقاً جوهریة، نشأت من اختلاف المنابع لتلک الحقوق.

((1: الحقوق فی الإسلام))
اشارة

((1: الحقوق فی الإسلام))

1: الحقوق فی الإسلام، فإن هذه الحقوق موضوعاتها تؤخذ من العرف، وأحکامها تؤخذ من شریعة الإسلام.

أما الموضوعات فهی علی قسمین:

((الموضوعات العرضیة))

((الموضوعات العرضیة))

الأول: الموضوعات العرضیة، بأن یکون الإنسان مخیراً فی أن یدخل نفسه فی هذا الموضوع أو فی ذلک الموضوع، ولکل موضوع حق یخالف الحق فی الموضوع الآخر، مثلاً للإنسان أن یتزوج أو یطلق أو یبقی

ص:134

أعزب، فإذا تزوج فعلیه حقوق الزوجة، أو إذا تزوجت فعلیها حقوق الزوج، وإذا بقی أعزب أو طلق أو طلقت خلعاً مثلاً لم یکن الحق، أو یخرج عن الحق.

وکذلک یختار بین أن یعامل أو لا یعامل، فإذا لم یعامل لا حق له ولا علیه، أما إذا عامل بالبیع والشراء أو الرهن أو الإجارة أو المضاربة أو غیر ذلک کانت له حقوق وعلیه حقوق.

کما أن الأمر کذلک فی العبادات فالإنسان مخیر أن یسافر ویقصر ویفطر، أو یقیم فیتم ویصوم.

((الموضوعات الطولیة))

((الموضوعات الطولیة))

الثانی: الموضوعات الطولیة، وذلک حیث لا یجوز للإنسان أن یخرج نفسه عن الموضوع الأولی إلی الثانوی.

نعم إذا أخرج نفسه کان له حقوق وأحکام الموضوع الثانوی، کالاختیار والاضطرار، فإنه لا یجوز للإنسان مثلاً أن یضطر نفسه حتی یجوز له أحکام الأضطرار، مثل أنه یذهب إلی مسافة بعیدة عن البلد حیث لا ماء ولا کلاء فیضطر لحفظ نفسه عن الهلاک بشرب الخمر أو أکل المیتة، حیث له الحق حینئذ، فإنه وإن کان معاقباً إذا صنع الاضطرار اختیاراً، لکن الحکم التکلیفی بالجواز للشرب والأکل یترتب علیه، نعم إذا لم یکن اضطراره اختیاریاً لم یکن معاقباً.

هذا من ناحیة الموضوع.

((الحقوق من ناحیة الحکم))

((الحقوق من ناحیة الحکم))

أما من ناحیة الحکم، فالفقهاء یهتمون لأن یعرفوا کلام الشارع فی الحقوق، حیث إن الإسلام بین أن حق التشریع لله سبحانه وحده، قال تعالی ﴿إن الحکم إلاّ لله﴾((1))، إلی غیرها من الآیات والروایات بهذا الشأن.

والشارع بین کل الأحکام والحقوق إما بصفتها الخاصة الصریحة والظاهرة، أو بصیغتها العامة التی یمکن الرجوع إلیها عند عدم النص الخاص الظاهر، سواء بینها بالقواعد الفقهیة الکلیة مثل «الناس مسلطون علی أموالهم»((2))، أو بالأصول العملیة التی هی عبارة

ص:135


1- سورة الأنعام: 57، سورة یوسف: 40 و67،
2- غوالی اللئالی: ج1 ص222

عن الاستصحاب والبراءة والاحتیاط والتخییر علی ما ذکروها فی الکتب الأصولیة.

((الحقوق ومصادر الأحکام))

((الحقوق ومصادر الأحکام))

والمرجع فی الأحکام هو (الکتاب الحکیم)، والمعروف عندنا أنه لم ینقص منه شیء ولم یزد علیه شیء، ولم یتقدم ولم یتأخر منه شیء، فهو کما قرره الرسول (صلی الله علیه وآله) وقد جمعه هو بنفسه، أما التاریخ الذی یدل علی أنه جمع بعد الرسول (صلی الله علیه وآله) فهو تاریخ منظور فیه، کما ذکرنا تفصیله فی کتاب (الفقه حول القرآن الحکیم) وغیره((1)).

هذا بالنسبة إلی الکتاب.

و(السنة المطهرة) عبارة عن قول المعصومین الأربعة عشر (علیهم السلام) وفعلهم وتقریرهم، بل یتعدی ذلک إلی ما لو عرفنا أحکام وحقوق الأنبیاء السابقین (صلوات الله علیهم أجمعین) ولم ینسخ ذلک الحکم فی الإسلام مما یقتضی الاستصحاب بقاءه، هذا عند الشیعة.

أما عند السنة فهم یرون المصدر الکتاب الحکیم وقول الرسول (صلی الله علیه وآله) أو فعله أو تقریره، وکذلک سائر الأنبیاء (علیهم السلام)، نعم هم یضیفون علی ذلک قول الأصحاب باعتبار أنهم یروون عن الرسول (صلی الله علیه وآله) أنه قال: (أصحابی کالنجوم بأیهم اقتدیتم اهتدیتم)، وإن کان هذا الحدیث مناقش فیه عندنا مما لیس الکلام فی تفصیله الآن.

ثم کلا السنة والشیعة یعتمدان (الإجماع) و(العقل) أیضاً، وإن اختلف مدرک حجیة الإجماع عند الشیعة عن مدرک حجیته عند السنة.

أما العقل فالشیعة یرون حجیته إذا کان حکمه فی سلسلة العلل، بأن أدرک الحسن والقبح والمصلحة والمفسدة التی هی معیار جعل الأحکام علی رأی العدلیة من الشیعة والمعتزلة، والسنة غالباً یرون حجیته من أکثر من ذلک أی حتی من باب القیاس والاستحسان والمصالح المرسلة ونحوها، نعم الشیعة یقولون فیما إذا فهم الملاک المساوی أو الأولوی من النص حیث إنه وإن کان نوعاً من القیاس إلاّ

ص:136


1- انظر کتاب (متی جمع القرآن) للإمام الشیرازی رحمه الله

أنهم لا یسمونه بالقیاس، فإن المنصرف عند الشیعة من القیاس غیر ما علیه الملاک القطعی المساوی أو الأولوی.

((آیات الأحکام))

((آیات الأحکام))

ثم إن المشهور أن آیات الکتاب المتعرضة للأحکام والحقوق هی خمسمائة، وقد جمعها جملة من الفقهاء فی کتب خاصة من أهمهما: (کنز العرفان فی فقه القرآن) تألیف الفاضل المقداد، و(آیات الأحکام) للمقدس الأردبیلی، و(آیات الأحکام) للجزائری، لکن ناقشها جماعة من الفقهاء فی انحصار آیات الأحکام والحقوق فی الخمسمائة المذکورة.

وعلی أی حال، ربما أورد بعضهم أنه کیف تعرض الفقهاء لهذه الآیات الخمسمائة ولم یتعرضوا لسائر الآیات الکونیة والطبیعیة التی امتلأ القرآن الحکیم بها، وهی فوق آیات الأحکام فی العدد.

والجواب: إن شأن الفقیه لیس إلاّ الأحکام، کما هو شأن عالم الحقوق فی الغرب والشرق، ولا یطلب من علماء الحقوق التعرض للفیزیاء أو العلوم الطبیعیة أو ما أشبه ذلک، نعم کثرة کبیرة من علماء المسلمین تعرضوا لسائر الآیات الکونیة سواء فی تفاسیرهم أو کتبهم المتعرضة لتلک الشؤون، کالشیخین الطوسی ونصیر الدین، وابن سینا والعلامة الحلی والبهائی والمجلسی والرازی والزمخشری وغیرهم.

ثم إن الفقهاء بالنسبة إلی العقل قالوا: بأن الأدلة العقلیة قد تکون أدلة تعطی الحکم بدون ضمیمة الشرع، ویسمی هذا القسم بالمستقلات العقلیة، وقد تعطی الحکم بضمیمة الشرع، کوجوب المقدمة والمفهوم للموافق والمخالف ومباحث الضد وما أشبه ذلک، ویسمی ذلک بالاستلزامات العقلیة للأحکام الشرعیة.

ومن طالع کتاب الرسائل أو التقریرات للشیخ المرتضی، أو الکفایة للآخوند، أو القوانین والفصول أو هدایة المسترشدین أو تقریرات النائینی أو الأصفهانی أو العراقی فی الأصول (رحمهم الله) یری الشیء

ص:137

الکثیر من الأمور العقلیة التی لها مدخلیة فی الأحکام والحقوق.

((الجانب الثابت والمتطور فی الحقوق))

((الجانب الثابت والمتطور فی الحقوق))

ولا یخفی أن للحقوق فی الإسلام جانباً ثابتاً وجانباً متطوراً، فالجانب الثابت لا یمکن تغییره، أما الجانب المتطور فهو الذی یماشی کل عصر، وبذلک یکون الإسلام قد کفل لنفسه البقاء الأبدی، وعلی ذلک ورد «حلال محمد (صلی الله علیه وآله) حلال إلی یوم القیامة وحرامه حرام إلی یوم القیامة»((1)).

وقد مثلنا سابقاً للحقوق المتغیرة بقوانین النجدة والشرطة والجیش والمعاهد والمستشفیات والمطارات والمعامل والمواصلات والمرور والدوائر والإدارات وما أشبه مما تتغیر الموضوعات فیها فیتغیر الحکم تبعاً لتغیر الموضوع.

وعلی أی حال، فالحقوق فی الإسلام مصدرها تلک الأدلة الأربعة من الکتاب العزیز والسنة المطهرة وإجماع علماء المسلمین والعقل.

((2: الحقوق فی الغرب))

((2: الحقوق فی الغرب))

2: الحقوق فی انکلترا وأمریکا، وهذه القوانین الحقوقیة جاریة فی بریطانیا وفی أمریکا، وفی کندا باستثناء ولایة کبک، وإیرلندة الشمالیة واسترالیا وجزائر آنتیل البریطانیة، فإن هذه البلاد مجموعة لها حقوق علی طرز واحد، وإن کان بینها بعض الاختلافات الجزئیة.

والمبنی الحقوقی لهذه البلاد هو بعض دین المسیح (علیه السلام) والأمور الأخلاقیة والقواعد الأساسیة التاریخیة التی تحترم حریات الأفراد والعائلة والملکیة الخاصة، وکذلک القواعد المتوارثة عن الرومان والیونان القدیمة، وقد أضافوا علی ذلک کله فی المبانی الحقوقیة الاحتیاجات الاجتماعیة المعاصرة.

((3: الحقوق عند الشیوعیین))

((3: الحقوق عند الشیوعیین))

3: الحقوق عند الشیوعیین فی الاتحاد السوفیتی وأوروبا الشرقیة وکوبا وما أشبه.

ومنشأ هذه الحقوق کتب مارکس وإنجلز کالبیان الشیوعی ورأس المال وما أشبه، مخلوطاً بشیء من الحقوق عند الغربیین، وأساس الشیوعیة عبارة عن خمس لاءات، وهی عبارة عن (لا دین)، (لا

ص:138


1- انظر الکافی: ج1 ص58

أخلاق)، (لا عائلة)، (لا حریة)، (لا ملکیة فردیة).

وعلی هذا فالحقوق مبنیة علی دکتاتوریة طبقة العمال والفلاحین والوصول بالشعب إلی کامل الشیوعیة بتقسیم المال بین الناس، وکذلک حق کل الرجال فی کل النساء، وأن الدولة کل شیء، وإنما الفرد کآلة بسیطة فی معمل کبیر، والحکومة حزبیة بالحزب الواحد، والفصل بین القوی الثلاث التشریعیة والقضائیة أیضاً لا یکون إلاّ انتصاباً، ولا معارضة بل عدة أفراد دون الأصابع یوجهون الدولة والشعب فی کل الأمور الاقتصادیة والسیاسیة والاجتماعیة والقضائیة والإعلامیة وغیرها، هذا هو مبنی الحقوق عندهم.

لکن لا یخفی أنه حدثت تغییرات مهمة، سواء فی العالم الرأسمالی الغربی أو فی العالم الشیوعی الشرقی، فقد مالت الرأسمالیة إلی نوع من الاشتراکیة، کما مالت الشیوعیة إلی نوع من الرأسمالیة، کما یجدها الإنسان فی الکتب المفصلة المعنیة بهذا الشأن، فقد مالت البلاد الشیوعیة إلی إعطاء شیء من الملکیة الخاصة وإلی حمایة قلیلة من العائلة وإلی إعطاء حریات ضئیلة إلی الفرد، کما مالت البلاد الرأسمالیة إلی تأمیم بعض الصنائع الثقلیة وحمایة المستأجر من المؤجر، ووضعوا بعض القوانین المحددة لإطلاق المالک فی الزراعة، مما یعود شیء منه إلی الفلاح.

((4: الحقوق فی أوروبا الغربیة))

((4: الحقوق فی أوروبا الغربیة))

4: الحقوق فی أوروبا الغربیة، وهی عبارة عن تلک البلاد باستثناء بریطانیا والبلاد الشیوعیة، ومثل أوروبا الغربیة فی الحقوق أمریکا اللاتینیة.

ومبنی الحقوق فی هذه البلاد تشبه مبنی الحقوق فی بریطانیا وأمریکا، من بعض دین المسیح (علیه الإسلام) والأخلاقیات والتاریخ الرومانی والیونانی، والحریات الفردیة والانتخابات الحرة والتفکک بین

ص:139

القوی الثلاث، والاختلاف إنما هو من جهتین:

الأولی: من جهة أن مبنی الحقوق فی أوروبا وأمریکا اللاتینیة بالإضافة إلی الذی ذکرناه هی القوانین الموضوعة التی یتبعها القوة التشریعیة والقضائیة والتنفیذیة، بینما مبنی الحقوق فی أمریکا وبریطانیا القواعد التی حکم بها القضاء فی المحاکم، ولذا یقال إن الحقوق فی هذه البلاد عرفی، والمراد عرف المحاکم، فالأصول الحقوقیة فی بریطانیا وأمریکا لا تنشأ من القانون بل تنشأ من عرف المحاکم، فإذا أردنا أن نعرف الحقوق فی بریطانیا وأمریکا لا نحتاج إلی مراجعة القوانین، بل نحتاج إلی مراجعة کیفیة عمل القضاة فی المحاکم، فإن القضاة هم الذین یحکمون فی المعاملات والحقوق والحدود والجنایات والضرائب وغیرها وتتخذها الدولة مرجعاً فی أمورها، وإن شئت قلت: فی أروربا القضاء ناشئ من القانون، بینما فی أمریکا وبریطانیا القانون ناشئ من القضاء.

الجهة الثانیة: إن قواعد العدل والإنصاف، کما هم یرونهما هی تعین آراء القضاة والمحاکم، فلا قوانین مدونة فی بریطانیا مثلاً حتی یرجع إلیها القضاة، بل القضاة هم من المبانی السابقة یتخذون منهجاً فی الحیاة القانونیة، والدولة بکلها ترجع إلی ما رأته القضاة، وإن کان بین المحاکم تنسیق لا أن یکون الأمر فوضی حتی أن کل قاض یحکم حسب ما یراه من العدل والإنصاف. بینما البلاد الأوروبیة لیست کذلک.

ومن الواضح أنه سواء فی بلاد أوروبا أو بریطانیا أو أمریکا لیست قوانین کل البلاد بلون واحد، وإنما تلون کل من قانون هذا البلد أو هذا البلد بالألوان المحلیة وإن کان الجامع ما ذکرناه.

((5: الحقوق فی الهند وما أشبه))

((5: الحقوق فی الهند وما أشبه))

5: الحقوق فی الهند والصین والیابان والهند الصینیة وما أشبه ذلک، وقد کان مبنی الحقوق فی هذه البلاد قبل دخول الإسلام وقبل

ص:140

الامتزاج بالغربیین واستعمارهم لها الدین البوذی والکونفوشیوسی ونحوهما، بالإضافة إلی بعض الأخلاقیات، ثم بعد دخول الإسلام فی الهند واستیلائه علی الحکم ودخول الإسلام فی الصین وامتزاج المسلمین والبوذیین اتخذت البلاد شیئاً کبیراً من القوانین السابقة والإسلام، وبعد دخول الاستعمار فی هذه البلاد کما فی الهند والصین، أو المراودة بین الغربیین والیابانیین دخل شیء کبیر من قوانین الغرب فی هذه البلاد.

نعم أثر الحقوق الإسلامیة فی الیابان لیس مستقیماً، بل بواسطة الغرب حیث إن جملة من قوانین الإسلام دخلت بلاد الغرب، ولذا یسمی الغربیون المسلمین آباء العلم، ومن الغرب دخلت تلک القوانین الیابان، بینما فی الهند والصین دخول القوانین الإسلامیة فی البلاد مباشرة إما استیلاءً وإما امتزاجاً.

ص:141

((الدستور والقانون الأساسی))

اشارة

((الدستور والقانون الأساسی))

(مسألة): الدستور الأساسی الذی یضعه بعض الدول الإسلامیة لا أنه غیر ملزم فحسب، بل هو ضار وخلاف الإسلام والعقل.

أما أنه غیر ملزم، فإن الملزم علی المسلم هو کلام الفقهاء الذین هم مراجع تقلیدهم، حیث إن اللازم:

أولاً: طاعة الله سبحانه وتعالی.

و ثانیاً: طاعة الرسول (صلی الله علیه وآله) ثم الامام (علیه السلام) القائم مقامه.

وثالثاً: طاعة نوابهم، سواء نوابهم فی حال الحیاة والحضور، أو نوابهم فی حال الغیبة.

فإذا وضع جماعة قانوناً وإن کان أولئک الجماعة مجتهدین مراجع تقلید للناس، أو کان الوضع بإجازة المجتهد وتوجیهه فإن ذلک القانون إنما یلزم العمل به ما دام بقی أولئک المجتهدون علی شرائط التقلید، فإذا فقدوا شرائط التقلید وهم أحیاء أو ماتوا فإنه لا اعتبار لذلک القانون.

إن الرجل الغربی یتمکن من وضع القانون لأنه یری صحة وضع الأکثریة القانون، سواء فی الحکم أو فی التطبیق، وما دام الأکثریة علی ذلک فهو مستند إلی ما یراه لازماً، فإذا فقد القوانین الأکثریة سقطت عن الاعتبار عندهم.

أما الإسلام فإنه لا یری إلزاماً إلاّ فی قول المجتهد المرجع للإنسان، أو أکثریة آراء الفقهاء، لأن دلیل الشوری حاکم علی أدلة التقلید، وقد ألمعنا إلی ذلک فی کتاب (الشوری فی الإسلام) وغیره، فلماذا یتبع المسلم القانون الذی لیس له هذا المستند،

وأما أنه خلاف الإسلام، فلأن الإسلام لا یجوز إلزام أحد بشیء

ص:142

علی خلاف إرادته وحریته إلاّ إذا کان الإلزام من مرجع تقلیده فی الأحکام أو فی الموضوعات، فإذا رأی جماعة الإلزام وطبقوا الإلزام بسبب العقاب، کان ذلک خلاف الإسلام مرتین، مرة فی الإکراه، ومرة فی العقاب لمن خالف.

وأما أنه ضار، فلأن المسلمین لا یعتقدون بالقانون مهما کان واضعه، وبذلک یقع التدافع بین الحکومة المنفذة للقانون وبین الأمة الآبیة عن تحمل القانون، ومن الواضح کثرة المفاسد فی هذا التضارب مما رأینا آثاره البشعة من ملأ السجون والمعتقلات، والإضرابات والمظاهرات والمحاربة التی تحصل بین الدولة والأمة، مما یسبب ذهاب الأموال والأنفس وهتک الأعراض.

وأما أنه خلاف العقل، فلأن الأحکام لا تتغیر، وقد قال (صلی الله علیه وآله): «حلال محمد حلال إلی یوم القیامة وحرام محمد حرام إلی یوم القیامة»((1))، والمراد بالحلال الأحکام الثلاثة من المباح والمستحب والمکروه، حیث إن کلها حلال إما مطلقاً أو مع ترجیح الفعل ترجیحاً غیر مانع عن النقیض أو مع ترجیح الترک کذلک، والمراد بالحرام الحکمان الاقتضائیان الآخران مما یرجح فعله إلی حد المنع عن النقیض فترکه حرام، أو یرجح ترکه إلی حد المنع عن النقیض فهو بذاته حرام.

ولعل ذکر الحرام وعدم ذکر الواجب مکانه مع أن کلاً منهما اقتضائی یمکن ذکره مراداً به کلاهما، أن فی الواجب جلب المنفعة وفی الحرام دفع المفسدة، والعرف یرون دفع المفسدة أهم من جلب المنفعة، فالتعبیر تماش مع العرف، لا أنه بالدقة یختلف عن ذکر الواجب.

هذا بالنسبة إلی الأحکام، فإنها لا تختلف إلاّ فی حالات استثنائیة کالضرورة، وهی تقدر

ص:143


1- انظر الکافی: ج1 ص58

بقدرها.

وأما بالنسبة إلی التطبیقات فإنها تتغیر فی زمان عن زمان، ومکان عن مکان، وشروط عن شروط، ومن المعلوم أن القانون لا یمکن أن یضاد أحکام الله سبحانه، فاللازم أن یکون القانون فی التطبیقات، والتطبیق مختلف فی حال عن حال، فجعل التطبیق شیئاً جامداً دائماً خلاف موازین العقل، بل اللازم أن یتغیر التطبیق حسب الأزمنة والأمکنة المختلفة.

فهل من المعقول أن یوضع قانون قبل عشر سنوات ثم یلزم العمل به بعد عشر سنوات وقد تغیر الزمان والشرائط والخصوصیات والمزایا، وکذلک بالنسبة إلی الأمکنة المختلفة، وهل هذا إلاّ جمود وارتجاع.

إذاً فمن یعتقد بالإسلام حکماً لا یتمکن من وضع القانون خلاف الحکم، والتطبیق تابع لتطور الأزمنة فلا یعقل أن یجعل التطبیق لیعمل به مستمراً، وقد ذکرنا سابقاً أن بریطانیا لا قانون أساسی لها.

ومنه یعلم أن غیر المسلم لا یحتاج إلی الدستور الأساسی فکیف بالمسلم، نعم الطریقة الإسلامیة هی شوری الفقهاء، وهم یستنبطون الأحکام للمقلدین من الأدلة الأربعة المتقدمة، وهناک یکون مجلس شوری یطبقون تلک الأحکام المستنبطة إلی صغریات جزئیة هی واجبة العمل، لاستنادها إلی أولئک المراجع، ما دام أولئک المراجع لهم الصلاحیة، فإذا فقدوا الصلاحیة ولو بالموت وجاء مراجع آخرون ورأوا تطبیقات غیر تلک التطبیقات المتقدمة، سقطت قدسیة تلک التطبیقات، ولبست التطبیقات الجدیدة القدسیة التی بسببها تکون واجبة الاتباع.

وعلی هذا فلا واسطة بین الفقهاء والناس فی الأحکام، أما فی التطبیقات فالواسطة بین الفقهاء والناس هم أعضاء مجلس الأمة الذین یطبقون الکلیات علی الصغریات الخاصة المطابقة للإسلام من ناحیة وللعصر من ناحیة، ثم بعد ذلک یأتی دور القوانین التنفیذیة

ص:144

والقضائیة، حیث إنهما تنفیذان لتطبیقات مجلس الأمة.

مثلاً الفقیه یستنبط حرمة الإکراه فردیاً کان أو أجوائیاً، ومجلس الأمة یطبق هذا الحکم علی موضوع إکراه أصحاب المعامل العمال للعمل عندهم بأجر قلیل إکراهاً أجوائیاً، وذلک مثل أن یتحد أصحاب المعامل أن لا یتخذوا العامل بأکثر من دینار واحد، بینما أجرة العامل حسب الموازین دینار ونصف، فإن العامل وإن کان بکل رغبة یعقد الاتفاق مع أصحاب المعمل علی أجرة دینار إلاّ أنه فی جو إکراهی حیث لا یجد العمل، فإذا لم یرض بذلک یکون عاطلاً لا یتمکن من إدارة أمور نفسه وعائلته، وهذا الإکراه الأجوائی ناشئ من تحالف أصحاب المعامل لأجل سلب العمال حقوقهم الواقعیة، فمجلس الأمة یتدخل فی تطبیق ما استنبطه الفقهاء من حرمة الإکراه الأجوائی علی أولئک المالکین للمعامل، فیمنع القانون مثل هذا التحالف.

وبعد ذلک یأتی دور القوة المجریة لیضع اللوائح المنفذة لذلک المنع القانونی، مثل جعل شوری فی کل محل للإشراف علی سیر المعاقدات بین العمال وأصحاب المعامل. وبعد ذلک یأتی دور القضاء لیعاقب المخالف.

وکذلک یکون حال العکس، بأن یتحالف العمال لعدم العمل إلاّ بأجر أکثر من حقهم العادل، حیث تقف القوتان المجریة والقضائیة دون ذلک، لئلا تضر بلاد الإسلام من الإضراب ونحوه، وکذلک الحال إذا اتفق الخبازون مثلاً فی رفع سعر الخبز من أربعة فلوس وهو السعر الطبیعی للخبز فرضاً، إلی عشره فلوس وهو سعر إجحافی، فإنه إکراه أجوائی للأمة من اشتراء الأشیاء بالثمن الأغلی من ثمنها الواقعی، وحیث حرم الفقهاء الإکراه الأجوانی مثلاً وطبقته القوة المقننة علی الخبازین نفذ القوة المجریة ذلک بالوقوف دون فعل الخبازین هذا الأمر،

ص:145

وإذا خالف أحد أحیل إلی القضاء.

وعلی أی حال، فإن للفقهاء ومجلس الأمة ومن أشبه أن یسن الأنظمة التی تتخذ شبه قرار أو لائحة أو قانون حسب ما تقتضیه الحاجة تنفیذاً لنصوص وردت بضرورة تحقیق مقاصد عامة بسبب الأدلة المطلقة، مثل أدلة (لا ضرر) و(لا حرج) و(لا إکراه) وما أشبه ذلک.

ومن هذا القبیل قوانین تنظیم الشوری التی أمر الله تعالی بها، وقوانین تنظیم المرور فی الشوارع العامة والشوارع الخاصة الفرعیة، وقوانین الوقایة الصحیة، وقوانین الثقافة، وقوانین مقاومة الآفات الزراعیة، وتنظیم استعمال میاه الری، وقوانین تنظیم المهن المختلفة کالطب والهندسة والصیدلة، وتحدید الشروط التی یجب أن تتوفر فیمن یزاول هذه الأمور، وقوانین تنظیم الإدارات والمصالح وتحدید اختصاصاتها وسلطات کل منها، وقوانین تنظیم الجیش والشرطة والنجدة، وتحدید الشروط التی یجب توافرها فیمن یلتحق بها، وفی ضباطه وضباط صفه، وقوانین شروط بناء المساکن بما یحقق سلامتها وتوفر الشروط الصحیة فیها، حتی لا یتعرض الناس إلی الأمراض والأضرار، والقوانین المتعلقة بالشروط اللازم توفرها فی المصانع المختلفة، کل علی حسب طبیعة العمل فیها، وقوانین تنظیم المحال العامة، إلی غیر ذلک.

وبذلک یکون الجمع بین أدلة (الناس مسلطون) مثلاً، وأدلة (لا ضرر ولا حرج ولا عسر ولا إکراه).

ولذا یجب أن یلاحظ عدم اعتداء (الناس مسلطون) علی تلک القواعد، ولا اعتداء تلک علی (الناس مسلطون)، ویکون وراء الإجراء الفقیه الواجب اتباعه باعتباره نائب الإمام بقوله (علیه الصلاة والسلام): «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا»((1)) وغیره.

وبذلک یکسب القانون والإجراء والقضاء قدسیة شرعیة عند المسلمین، ما دام أولئک الفقهاء المراجع فی

ص:146


1- وسائل الشیعة: ج27 ص140 ب11 ح33424

الحیاة وتتوفر فیهم شروط المرجعیة واختیار الأمة لهم کما تقدم.

ولیس لأحد أن یزعم أن تشریعات تنظیم المرور وما أشبه فی هذه الحالة من تشریع الله تعالی عز وجل، وإنما هی من تطبیقنا نحن واجتهادنا فی تطبیق الکبریات الکلیة علی الصغریات الجزئیة فی الموضوعات تنفیذاً لمقصد عام أمرنا الله سبحانه به وبینه فی الکتاب والسنة بالاجتهادات الأولیة أو القوانین الثانویة.

((قوانین التطبیقات متغیرة))

((قوانین التطبیقات متغیرة))

وهذه أی قوانین التطبیقات، تتبدل وتتغیر حسب ما تقتضیه الحاجة، بتغیر وسائل المواصلات فی المرور مثلاً، أو بتغیر الاجتهادات کما تقدم مثاله، فی أن فی الزمان الثانی یبدل لزوم الوقوف عند احمرار الضوء إلی لزوم الوقوف عند اخضراره، أو لزوم السیر من الیسار بدل السیر عن الیمین.

وکذلک قوانین مجلس الشوری هل ینتخب کل مائة ألف نائباً، أو کل خمسین ألف، حتی یکون فی المجلس ضعف العدد السابق.

وبهذا تبین أن قوانین المجلس الذی هو قوانین تطبیقیة لآراء شوری الفقهاء، وکذلک القوانین التی تضعها القوتان الأخریان التابعة لقوانین المجلس، إنما تکون محترمة وواجبة التنفیذ إذا کانت مستندة إلی فقهاء أحیاء مراجع لتقلید الأمة، سواء أسندها أولئک الفقهاء الأحیاء ابتداءً أو استدامةً، وإلاّ فالناس إنما هم والقوانین الإسلامیة الأولیة.

مثلاً قوانین الجندیة لا احترام لها إذا لم تتوفر الشروط المذکورة فیها، وإنما الناس أمام واجب حفظ الوطن عن الأجنبی مما هو واجب إسلامی أولی، وکذلک قوانین المرور التی لا تستند إلی الفقهاء الأحیاء لا احترام لها، وإنما الناس أمام قانون لا ضرر وما أشبه، إذ وجود مثل تلک القوانین وعدمها سواء، بعد عدم استنادها إلی الفقهاء الأحیاء والمراجع، وبعد ما ذکرناه من المیزان فی احترام القوانین ووجوب اتباعها، فوجود مجلس الأعیان أو وجود

ص:147

مجلس (حفظة القانون) أو ما أشبه ذلک منوط بنظر الفقهاء الأحیاء المراجع، إن وافقوا علیهما لزم، وإلاّ فلا یلزم، کما أن قیودهما وشروطهما وسائر خصوصیاتهما منوطة بذلک.

ولا یخفی أنه لا یحق للفقهاء، کما أنهم أیضاً لا یعطون مثل هذا الحق لأنفسهم، فی تشریعات خلاف الإسلام، سواء کان خلاف الإسلام أولیاً أو ثانویاً، مثل ما نجده فی قوانین مجلس الأمة فی بعض البلاد الإسلامیة من أن نفوذ القانون إنما یکون بعد انتشارة فی الصحیفة الرسمیة أو أجهزة الإعلام بعد خسة عشر یوماً، سواء علم بذلک من خالف القانون أو لم یعلم.

مع وضوح أن مثل ذلک علی حسب القانون الشرعی الأول غیر صحیح، إذ قبح العقاب بدون وصول البیان من أولیات الشرع والعقل، فکیف یعاقب الریفی الذی لیس أهلاً للاطلاع علی القانون الجدید، أو کیف یعاقب الذین هم خارج بلاد الإسلام من الذین لا یطلعون علی مثل هذا القانون الجدید فی المدة المقررة.

وعلیه فاللازم فی المخالف أن یؤخذ بموازین الإسلام، من أنه إذا وصله القانون وخالف عوقب، وقوله مسموع مع الیمین فی أنه لم یصله القانون، وإذا لم یصله القانون فلا عقاب علیه فی غیر ما قرره الإسلام علی الجاهل من الضمانات ونحوها، فإن من یکسر إناء الغیر وإن لم یعرف قانون الإسلام فی الضمان، وإن کان عدم معرفته قصوراً لا تقصیراً، ضامن وهکذا، وهذا بحث طویل نکتفی منه بهذا القدر.

ومما تقدم ظهر أن کلاً ممن یقول بعدم جواز أی قانون ولو التطبیقی حتی إذا کان مستنداً إلی فقهاء الشریعة وأنه غیر لازم الاتباع، وممن یقول بأن لولی الأمر وضع القوانین مطلقاً، هما فی طرفی الإفراط والتفریط، فإن هناک بعض الناس

ص:148

یعتبرون المسلمین الذین اتبعوا أی قانون بشری من أی نوع کان ولو کان قانوناً تطبیقاً علی ما ذکرناه، أنهم علی خلاف الإسلام، وعلیه فالمسلمون المعاصرون المتبعون یعیشون فی جاهلیة وکفر عملی وعقائدهم باطلة لا تمت إلی العقیدة الإسلامیة بصلة.

((الفقهاء واستنباط التطبیقات))

((الفقهاء واستنباط التطبیقات))

وذلک لوضوح أن لفقهاء المسلمین العدول الذین هم خلفاء الرسول (صلی الله علیه وآله) وضع التنظیمات التی تنظم الجوانب السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة والتربویة والفکریة والإداریة من حیاة المسلمین وفق الشریعة الإسلامیة، بل ذلک من أهم الواجبات الشرعیة.

أولاً: لحفظ المال والدم والعرض، للمسلمین وغیر المسلمین الذین هم یعیشون فی بلاد الإسلام ممن احترمهم الإسلام.

وثانیاً: للسیر بالمسلمین إلی الأمام حتی لا یتسلط علیهم الأعداء، فإن قوله سبحانه: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخیل ترهبون به عدو الله وعدوکم﴾((1))، وبعض الآیات والروایات الأخر التی نحن لسنا بصددها الآن، بل ودلیل العقل أیضاً یشمل مثل ذلک صراحة أو ملاکاً، بل ذلک من لوازم قول علی (علیه الصلاة والسلام) فیما یرویه سلیم بن قیس الهلالی فی کتابه، إنه (علیه السلام) قال: «الواجب فی حکم الله وحکم الإسلام علی المسلمین بعد ما یموت إمامهم أو یقتل، ضالاً کان أو مهدیاً، أن لا یعملوا عملاً ولا یقدموا یداً ولا رجلاً قبل أن یختاروا لأنفسهم إماماً عفیفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة، یجبی فیئهم ویقیم حجهم وجمعهم ویجبی صدقاتهم»((2)) الخبر.

فإن من الواضح أن لازم اختیار الإمام هو إدارته لشؤونهم الدینیة والدنیویة علی الصلاح والحکمة،

ص:149


1- سورة الأنفال: 60
2- کتاب سلیم بن قیس: ص752. و مستدرک الوسائل: ج6 ص14 ب5 ح6309

وإلاّ فإذا لم یجب اتباعه فی تطبیقاته الإسلامیة علی الأمة فما فائدة اختیاره، فهو مثل أن یقول: اتخذوا فلاناً قاضیاً، حیث کان معناه اتباع آرائه القضائیة فی مختلف الشؤون.

وفی بعض الروایات: «إنی جعلته علیکم حاکماً»((1)).

وما ذکرناه من شوری الفقهاء لا یختلف فیه السنة والشیعة((2))، إذ کلاهما یرون العلماء خلفاء الرسول (صلی الله علیه وآله) حسب الحدیث المنقول عند کلیهما عنه (صلی الله علیه وآله)، ولذا قال أحد علماء مصر فی کتابه (دعاة لا قضاة): (اعتقاد عامة الناس أن لأولی الأمر حق إصدار القوانین ووضع التنظیمات التی تنظم الجوانب من حیاتهم السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة بناءً علی نصوص من القرآن الکریم والسنة الشریفة، اعتقاد لیس فیه أیضاً شبهة الکفر والشرک بل هو اعتقاد فی أصله حق) انتهی.

کما أن فی عکس من تقدم من یری إطلاق عنان القانون یضعه المقنن کیف شاء.

وحیث قد عرفت مبنی الحقوق فی قوانین الإسلام وأن المصدر الأساسی هو هذا: الکتاب والسنة والإجماع والعقل، ویأتی بعد ذلک الاستنباطات الشرعیة عند الفقهاء الذین هم مراجع الأمة، ثم بعد ذلک تطبیقات مجلس الشوری، وبعد ذلک یأتی دور اللوائح التی یقررها مجلس القضاء الذی هو أعلی هیئة للقضاء، فإن هذا المجلس یشرف علی القضاة وینسق بینهم، أو یقررها القوی التنفیذیة التی هی عبارة عن مجلس الوزراء إما مجموعاً أو بأکثریة الآراء، أو کل وزارة وزارة لشؤونها الخاصة.

((الأسلوب الغربی فی الدستور))

اشارة

((الأسلوب الغربی فی الدستور))

ولا بأس بالإلماع إلی الأسلوب الغربی فی الدستور، ننقله عن بعض القوامیس السیاسیة:

(فالدستور هو أهم وثیقة فی الحیاة السیاسیة للمجتمع وفی بنیان الدولة، وهو مجموع القواعد القانونیة التی تحدد نظام الحکم وشکل الحکم فی الدولة، ولکل دولة دستور، مکتوباً کان أم غیر

ص:150


1- الکافی: ج1 ص67
2- أی بحسب المبانی الفقهیة

مکتوب، کما هو الحال فی بریطانیا.

((الدساتیر المرنة والجامدة))

((الدساتیر المرنة والجامدة))

وتمتاز بعض الدساتیر بالمرونة، أی بجواز تعدیلها بقانون تصدره الهیئة التشریعیة أو الهئیة التنفیذیة فی الدولة، دون حاجة إل إجراءات معقدة وخاصة، بینما تتصف دساتیر أخری بالجمود، وتعدیلها یتطلب إجراءات معقدة مثل استفتاء الشعب أو إجماع مجلس النواب أو أغلبیة الثلثین أو الثلاثة الأرباع.

((الدستور ماهیته وتعدیله))

((الدستور ماهیته وتعدیله))

ویبین الدستور طبیعة النظام السیاسی وهیئات الدولة وسلطاتها ووظائفها وکیفیة انبثاقها وحرکیة تغیرها وعلاقاتها واختصاصاتها فیما بینها، ثم علاقاتها مع المواطنین وحقوق المواطنین وواجباتهم، وهو ضمانة بحریات الأفراد وحقوق الجماعات، ویفترض أن تقوم الهیئة القضائیة بحمایته من أی عبث من قبل الهیئات الأخری. ومن هنا کان استقلال القضاء فی الدولة أمراً حیویاً.

أما تعدیل الدستور فهو عبارة عن إدخال تغییرات علی نصوص المواد التی یتألف منها القانون الأساسی للبلاد والدولة، ولا یتعارض مبدأ التعدیل هذا مع قدسیة الدساتیر وتحریم المساس بها، لأن الشعب الذین هم الأمة هم مصدر السلطات فی معظم دساتیر العالم المکتوبة، ویحق له بالتالی إجراء تعدیلات تجیزها نصوص الدستور ذاته، وتتیح له مسایرة التطور الحیاتی المتصاعد، وتختلف الدساتیر من حیث درجة صعوبة وشدة الإجراءات التی تتبع تعدیلها إلی دساتیر مرنة ودساتیر جامدة.

1: فالأولی هی التی یمکن تعدیل نصوصها اللازمة بتعدیل تلک القوانین، والسلطة التشریعیة العادیة إلی البرلمان تملک بالنسبة لتعدیل الدساتیر المرنة صلاحیات واسعة، والدستور البریطانی کما ذکروا، مثال للدساتیر المرنة، حیث یملک البرلمان البریطانی أن یعدله مثل ما یعدل أی قانون عادی.

2: أما الدساتیر الجامدة فهی التی یتطلب تعدیلها إجراءات

ص:151

أصعب وأشد من إجراءات تعدیل القوانین العادیة، کاشتراط أن یتم ذلک بأغلبیة عددیة خاصة فی البرلمان، أو اجتماع مجلس البرلمان جمیعاً، أو بإجراء استفتاء شعبی.

فالجمود لیس معناه جمود مطلق للمبادئ، ولکن صعوبة التعدیل من حیث إجراءاته وهو جمود نسبی.

ولکن قد یکون هناک جمود مطلق، یعنی نص الدستور علی عدم إمکانیة تعدیله خلال فترة معینة من تاریخ صدوره، أو علی عدم تعدیل بعض أحکامه، مثل الشکل الجمهوری أو الملکی للحکم علی الإطلاق، وقد أثبت الواقع أن مجری الأحداث قد یکون أحیاناً أقوی من هذه النصوص التی تحرم التعدیل.

((الدستور الموقت))

((الدستور الموقت))

أما الدستور الموقت فهو الدستور الذی تعمل به فی ظل الدولة لفترة محددة علی سبیل التجربة والاختبار، أو الذی یوضع لمرحلة معینة من تاریخ الأمة إلی عمل إیجاد دستور دائم یعمل به، وغالباً ما صدرت الدساتیر الموقتة علی أثر الانقلابات السیاسیة والعسکریة، والتحولات الخطیرة فی أنظمة الدول، وذلک حتی یتسنی للسلطة الحاکمة وضع دستور دائم تقره المؤسسات المختصة الصالحة ویکون متناسباً مع آمال الأمة وأمانیها.

((دستوریة القوانین))

((دستوریة القوانین))

أما دستوریة القوانین، فمعنی ذلک قاعدة نظامیة یقصد بها ضرورة مطابقة القوانین التی تصدرها السلطة التشریعیة لنصوص الدستور المکتوب، نظراً لعلو القانون الدستور علی غیره من القوانین، وسموه علی کل السلطات فی الدولة، إذ إنه هو الذی یحدد شکل الدولة ویرسم قواعد الحکم فیها، وینظم السلطات العامة، ویضع الضمانات الأساسیة بحقوق الأفراد، فمن ثم إن أی قانون یصدر علی خلاف حکم هذا الدستور یعتبر تشریعاً غیر دستوری، ومن ثم یلزم علی القضاء الامتناع عن تطبیقه.

والحکم علی

ص:152

دستوریة القوانین یکون إما من حیث الشکل، أو من حیث الموضوع، ففی الحالة الأولی یعتبر القانون غیر دستوری إذا جاء غیر مستوف للإجراءات الشکلیة التی یحتمها الدستور، کأن یصدر القانون دون موافقة أحد المجلسین علیه، کأن یوافق أحد المجلسین علی صیغة مشروع تختلف فی مدلولها عن الصیغة التی أقرها المجلس الآخر، فمن ثم لیس للقاضی أن یطبق مثل هذا القانون.

أما المخالفة من حیث الموضوع فتعنی أن یکون حکم القانون مخالفاً لنفس الدستور أو حکم دستوری، کأن یصدر قانون یحد من إحدی الحریات التی کفلها الدستور.

((القضاء ودستوریة القانون))

((القضاء ودستوریة القانون))

وتختلف الآراء الفقهیة فی جواز رقابة القضاء علی دستوریة القوانین، فهناک من یقول بعدم رقابة القضاء لدستوریة القوانین، بمعنی أنه لا یجوز لسلطة المحاکم أن تتعرض لبحث دستوریة القانون من حیث الشکل والموضوع کلاهما ما دام قد صدر بتوقیع رئیس الدولة، إذ وظیفة القضاة قاصرة علی تطبیق القانون دون بحث دستوریته.

وهناک من یقول بالعکس، إذ أن من واجبات القاضی أن یبحث فی کل تعارض للقانون الواجب التطبیق لیستعد غیره، فهؤلاء یرون لزوم إبطال القانون لا أن یمتنع فقط عن تطبیقه.

وتختلف الدول فی أسلوب رقابة القضاء بدستوریة القوانین، فقد یکون ذلک أمام المحاکم العادیة، أو یکون أمام محکمة خاصة، أو أمام المحاکم العلیا، کمحکمة النقض أو القضاء الإداری، إلاّ أن معظم الدول الحدیثة قد أنشأت هیئة خاصة لبحث دستوریة القوانین، تعرف بالمحکمة الدستوریة أو مجلس الشوری.

أقول قد استدل من قال بعدم صلاحیة القضاء عن الإمتناع عن تطبیق الحکم علی طبق القانون العادی خلاف الدستور، بأن القانون العادی انبثق عن إرادة الأمة فلا یحق للقضاء خلاف إرادة الأمة بعدم

ص:153

العمل بالقانون العادی المخالف.

لکن هذا الإستدلال منقوض بأن الدستور أیضاً انبثق عن إرادة الأمة، حیث إن المجلس أو المجلسین هما قد انتخبتهم الأمة بلا واسطة کمجلس الشوری، أو بواسطة کمجلس الأعیان، بل انبثاق المجلسین عن إرادة الأمة أقوی من انبثاق هیئة القضاء، فاللازم عند التعارض العمل بالدستور لا بالقانون العادی.

کما استدلوا أیضاً بأن القاضی مأمور بإجراء القوانین المربوطة به فی شؤون القضاء، أما أن القانون حسن أو سیء فلیس من شأنه التدخل، وإلاّ لملک کل قاض تفنید القانون المکلف به إما بعدم إجراء القضاء إطلاقاً، أو بعدم إجرائه علی طبق ذلک القانون، وإنما یجریه حسب رأیه الخاص، وکلاهما خلاف النظام وواجب وضع العدالة فی موضعها.

ولو ملک القضاة إبطال قوانین الدستور أو القوانین التشریعیة أو ما أشبه، کان معنی ذلک عدم الاعتماد علی الدستور وعدم استقلال القوی التشریعیة عن القضائیة.

وأی فرق بین قولکم: لا یتدخل التشریع فی القضاء، وبین قولکم: یتدخل القضاء فی التشریع، فإذا کان یجوز التدخل یجوز من کلا الجانبین، وإذا لم یکن یجوز التدخل لم یکن یجوز من کلا الجانبین.

لکن فی هذا الاستدلال أیضاً ما فیه، فإن القاضی یقع أمام قانونین متناقضین، وقانون الدستور الأولی أقوی من قانون القضاء أو قانون التنفیذ أو قانون التشریع، فاللازم إما أن یحکم بالأقوی، أو یرجئ الأمر حتی یقضی هیئة رفیعة فی تقدیم أی القانونین.

وهذا الکلام أقرب إلی العقل کما لا یخفی.

((وجوب تساوی الناس أمام القضاء))

((وجوب تساوی الناس أمام القضاء))

بقی شیء نذکره فی باب القضاء، وإن کان ذلک جاریاً فی کل من القوی الثلاث، وهو أنه یجب أن یساوی القضاء بین الناس جمیعاً، إلاّ فیما استثناه الشارع، کالمرأة والرجل فی بعض الموارد

ص:154

کالإرث ونحوه، والمسلم والکافر وما أشبه ذلک.

وربما یضطر القانون الإسلامی إلی المساواة فی غیر المساوی، أو عدم المساواة فی المساوی، مثلاً إذا کان مصلحة واضطرار فی المعاهدة بین بلد الإسلام وغیرها، وکان أولئک لا یدخلون إلاّ بالتساوی فی الدماء دیةً أو قصاصاً مع أن الإسلام لا یری المساواة، فإنه یقبل الحاکم الإسلامی المساواة بالعنوان الثانوی لا بالعنوان الأولی.

کما أنه لو انعکس بأن کان مسلم عالم من أتباع تلک الدولة غیر الإسلامیة قتله مسلم أمی من أتباع الدولة الإسلامیة، وکانت تلک الدولة حسب المعاهدة بین دولة الإسلام وتلک الدولة تلزم علینا أن ندفع دیة القتیل أکثر من الدیة المقررة فی الشریعة، کما هو الحال الآن فی جملة من العالم المسمی بالحر، حیث یزنون الناس بمیزان الاقتصاد فمن کان اقتصاده رفیعاً، أو بمیزان الاجتماع فمن کانت له مکانة رفیعة فی الاجتماع، یأخذون دیته أکثر، وأحیاناً أضعاف أضعاف الدیة الشرعیة، فإن فی هذا المقام یعطی الحاکم الإسلامی تلک الدیة الرفیعة من بیت المال باستثناء قدر الدیة الشرعیة التی یعطیها القاتل أو عائلته، فیما إذا کان القتل خطأً أو شبه خطأ، أما إذا کان عمداً فهل یعطی الکل القاتل باعتبار أنه سبب ذلک، أو تعطی الفرق الدولة الإسلامیة باعتبار أن القاتل لا یلزمه الشرع فوق قدر ما قرره، احتمالان.

بل الاحتمالان یجریان أیضاً فی قتل الخطأ وإن کان لا یبعد الاحتمال الأول، فهو دیة شرعیة وفوق ذلک باعتبار الأضرار، ولا وجه لإخراجه من بیت المال.

کما أنه لو انعکس، بأن کانت تلک الدولة تأخذ أقل من الدیة الشرعیة فالتفاوت فی کیس القاتل، لا فی کیس الحاکم أو بیت المال فیما إذا کان إعطاء القاتل الأقل من باب قانون الإلزام، حیث کان المقتول کافراً لا مسلماً، وإلاّ فاللازم علی القاتل أن

ص:155

یعطی التفاوت أیضاً لورثة المقتول، إذ حکم الحاکم غیر الإسلامی لا یغیر من الحکم الشرعی الأولی الذی هو الدیة الکاملة للمسلم المقتول.

((من شروط قانون الإلزام))

((من شروط قانون الإلزام))

ولا یخفی أن قانون الإلزام إنما یجری فیما إذا لم یعارضه دلیل آخر، وإلاّ لم یجر، مثلاً یجری قانون الإلزام فی التعصیب، وفی اعطاء المجوسی إرثین، بل احتملنا فی (الفقه) جواز عقد المسلم للمجوسی علی بنته وأمه وأخته وسائر محارمه، وکذلک بالنسبة إلی الیهودی والنصرانی وغیرهما بالنسبة إلی محارمهما((1))، وکذلک یجوز للمسلم أخذ ثمن الخمر والخنزیر والمحرمات إذا باعوها هم وأعطونا الثمن هدیة أو لدین لنا علیهم أو لمعاملة أو ما أشبه ذلک.

أما إذا کان الإلزام مخالفاً لنص أو إجماع أو عقل أو ضرورة عند المتشرعة حسب المرکوز فی أذهانهم، فلا مسرح لقاعدة الالزام.

ثم إن الإلزام توسعة لنا لا تضییق علینا، بمعنی أننا لسنا مکلفین بتطبیق أحکام الإسلام علیهم، بل یجوز لنا أن نطبق أحکامهم علی أنفسهم، لا أننا مکلفون بتطبیق قاعدة الالزام، فلنا أن نطبق علینا أحکامنا أو أحکامهم حسب رغبتهم، وکأن نأخذ إرث العصبة أو لا نأخذ.

ومثال قضاء الضرورة بعدم الإلزام: أنه لو کان الکفار یرون جواز الزنا واللواط کما هو الحال فی بعض بلاد الغرب، فلا یحق للمسلم أن یفتح محل فساد بین الجنسین، أو بین أفراد جنس واحد بالشذوذ، ویکون واسطة تلک الأعمال الشائنة مجاناً أو بأجر، فإن ذلک من المنکرات عند المتشرعة، مما کونه منکراً من مرتکزات أذهانهم.

((روایات المساواة أمام القانون))

اشارة

((روایات المساواة أمام القانون))

وأخیراً ننقل بعض الروایات فی تطبیق النبی والوصی (صلوات الله علیهما) المساواة حتی علی أنفسهم.

((قصة سوادة))

((قصة سوادة))

فقد روی أن سوادة بن قیس قال للنبی (صلی الله علیه وآله) فی أیام مرضه بمحضر من الناس، حیث طلب النبی (صلی الله علیه وآله) من الناس أنه إذا کان لأحدهم علیه حق أن یقوم ویأخذ

ص:156


1- إن جاز عندهم ذلک، ویحتمل أن یکون المقصود بمحارمهما: ما یحرم علیهما من سائر المحرمات کالخنزیر وغیر المذکاة

بحقه، فقال سوادة: یا رسول الله إنک لما أقبلت من الطائف استقبلتک وأنت علی ناقتک العضباء وبیدک القضیب الممشوق، فرفعت القضیب وأنت ترید الراحلة فأصاب بطنی.

فقبل النبی (صلی الله علیه وآله) أن یقتص منه.

فقال سوادة: اکشف لی عن بطنک یا رسول الله، فکشف عن بطنه.

فقال سوادة: أتأذن لی أن أضع فمی علی بطنک، فأذن له، فقال: أعوذ بموضع القصاص من رسول الله (صلی الله علیه وآله) من النار یوم القیامة.

فقال (صلی الله علیه وآله): یا سوادة بن قیس أتعفو أم تقتص.

فقال: بل أعفو یا رسول الله.

فقال (صلی الله علیه وآله): اللهم اعف عن سوادة بن قیس کما عفا عن نبیک محمد (صلی الله علیه وآله)((1)).

ولا یخفی أنه لم یکن لسوادة حق القصاص وهو یعترف أن النبی (صلی الله علیه وآله) لم یتعمد ذلک، بل کان له حق الدیة علی فرض صدق سوادة، وإنی أشک فی صدقه أیضاً، فلعله اشتبه ضرب غیر الرسول له بضرب الرسول (صلی الله علیه وآله) حیث الازدحام فی الجیش وما أشبه، فإن النبی (صلی الله علیه وآله) لا یتعمد الضرب ولا یشتبه.

وعلی کل حال، فإن النبی (صلی الله علیه وآله) بقبوله القصاص أراد أن یعلم الأمة بتساوی الحاکم والمحکوم حتی فی مثل هذا الأمر، کی لا یقولوا إن النبی (صلی الله علیه وآله) ارتفع بنفسه عن المساواة، فلنا أن نرتفع عن المساواة عن الأمة فیما إذا کنا حکاماً.

((استعارة عقد من بیت المال))

((استعارة عقد من بیت المال))

وفی حدیث: إن إحدی بنات أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) استعارت من أمین بیت المال علی بن رافع عقد لؤلؤ کان فیه عاریة مضمونة، فقال له أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام): «أتخون المسلمین»، فقال أبو رافع: معاذ الله أن أخون المسلمین، فقال علی (علیه الصلاة والسلام): «فکیف أعرت بنت أمیر المؤمنین العقد الذی فی بیت مال المسلمین بغیر إذنی ورضاهم»، فقال أبو رافع: یا أمیر المؤمنین إنها

ص:157


1- راجع مستدرک الوسائل: ج18 ص287 ب20 ح22772

ابنتک وسألتنی أن أعیرها إیاه تتزین به، فأعرتها إیاه عاریة مضمونة مردودة، فضمنته فی مالی وعلی أن أرده سلیماً إلی موضعه، قال: «فرده من یومک وإیاک أن تعود لمثل هذا، فتنالک عقوبتی، ثم أولی لابنتی لو کانت أخذت العقد علی غیر عاریة مضمونة مردودة لکانت إذاً أول هاشمیة قطعت یدها فی سرقة».

قال: فبلغ مقالته ابنته، فقالت له: یا أمیر المؤمنین أنا ابنتک وبضعة منک ومن أحق بلبسه منی، فقال لها أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام): «یا بنت علی بن أبی طالب لا تذهبن بنفسک عن الحق، أکل نساء المهاجرین تتزین فی هذا العید بمثل هذا»، قال علی بن رافع فقبضته منها ورددته إلی موضعه((1)).

((النجاشی وإجراء الحد علیه))

((النجاشی وإجراء الحد علیه))

وفی روایة: النجاشی شرب الخمر فشهد جماعة عند علی (علیه الصلاة والسلام) أنه شرب الخمر، فأخذه علی (علیه السلام) فجلده، فغضب جماعة علی علی (علیه السلام) فی ذلک، منهم طارق بن عبد الله النهدی، فقال: یا أمیر المؤمنین ما کنا نری أن أهل المعصیة والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العقل ومعادن الفضل سیان فی الجزاء، حتی ما کان من صنیعک بأخی الحارث یعنی النجاشی، فأوغرت صدورنا وشتتت أمورنا وحملتنا علی الجادة التی کما نری أن سبیل من رکبها النار.

فقال علی (علیه الصلاة والسلام): «إنها لکبیرة إلاّ علی الخاشعین، یا أخا بنی نهد، هل هو إلاّ رجل من المسلمین انتهک حرمة من حرمة الله فأقمنا علیه حدها، زکاة له وتطهیراً، یا أخا بنی نهد إنه من أتی حداً فأقیم کان کفارته، یا أخا بنی نهد إن الله عزوجل یقول فی کتابه العظیم ﴿ولا یجرمنکم شنآن قوم علی أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوی﴾((2)).

((الیهودی وقصة الدرع))

((الیهودی وقصة الدرع))

وفی روایة: إن یهودیاً اختلس درعاً من بیت المال، فطلبها علی (علیه السلام) منه، فقال له: أترضی بحاکمک الذی حکمته

ص:158


1- انظر تهذیب الأحکام: ج10 ص151 ب10 ح37
2- سورة المائدة: 8

علینا، یعنی بذلک شریحاً، فقال علی (علیه الصلاة والسلام): «نعم»، فمضی علی (علیه السلام) فی حکومته مع ذلک الیهودی إلی شریح القاضی.

فقال علی (علیه السلام): یا یهودی الدرع درعی ولم أبع ولم أهب.

فقال الیهودی: الدرع لی وفی یدی.

فسأله شریح البینة، حیث إن الإمام (علیه السلام) کان خارجاً والیهودی کان داخلاً، والبینة علی الخارج علی المشهور.

فقال (علیه الصلاة والسلام) بعد أن طلب منه شریح البینة: هذا قنبر والحسین (علیه السلام) یشهدان لی بذلک.

فقال شریح: شهادة الابن لا تجوز لأبیه، وشهادة العبد لا تجوز لسیدة، وإنهما یجران إلیک.

فقال أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام): «یا شریح أخطأت من وجوه، أما واحدة فأنا إمامک تدین الله بطاعتی وتعلم أنی لا أقول باطلاً، فرددت قولی وأبطلت دعوای، ثم سألتنی البینة فشهد عبد وأحد سیدی شباب أهل الجنة فرددت شهادتهما، ثم ادعیت علیهما أنهما یجران إلی أنفسهما».

فلما رأی الیهودی ذلک أسلم، وقال: هذا أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) جاء إلی الحاکم، والحاکم حکم علیه.

ثم قال الیهودی للإمام (علیه السلام): الدرع درعک سقطت یوم صفین من جمل أورق فأخذتها.

إلی غیر ذلک مما لیس الکتاب محل تفصیل الکلام فیه.

((القانون وحقوق الأقلیات))

((القانون وحقوق الأقلیات))

ثم إن الأحکام الدستوریة التی توضع فی مجلس الأمة أو تضعها القوتان الأخریان علی ما فصلناه، لا حق فی جعلها مطردة حتی تشمل الأقلیات الدینیة، إلاّ فی الأمور التابعة للنظم ونحو ذلک.

فلا حق مثلاً لإحدی القوی الثلاث بسن قانون یحرم الخمر علیهم، أو العبادة فی الکنیسة له، أو الزواج بمن یحرم زواجه علینا ویحل فی دینهم، إلی غیر ذلک من الأحکام التی هم یختلفون عنا.

وقد ذکرنا فی (الفقه) أن مثل هذه الأمور الجاریة فی أهل الکتاب تجری بالنسبة إلی غیر أهل الکتاب أیضاً، وناقشنا المشهور فی تخیر غیر أهل الکتاب من

ص:159

الحاکم الإسلامی بین الإسلام أو السیف.

نعم جعل قوانین المرور والصحة والنجدة والمستشفیات والمعاهد والمطارات وسائر المواصلات بحیث یشمل الجمیع حق حتی وعلیهم، فلا یحق للذمی أن یقول لا یجری هذا القانون علی لأنه لیس فی دینی ذلک.

والحاصل: إن القوی الثلاث یجب علیهم اتباع فتاوی شوری الفقهاء إطاریاً، وإن کانوا هم یطبقون تلک الکلیات علی الصغریات حسب المصلحة، فالإطار من الفتاوی، والتطبیق من القوی الثلاث.

أما غیر المسلمین الذین یأتون إلی بلد الإسلام لأجل مهمة، کنصب معمل أو تجارة أو سیاحة أو نحو ذلک، فإنما یجری علیهم أحکام غیر المسلم مطلقاً، إلاّ فیما رأی الحاکم الإسلامی الصلاح فی التوسعة علیهم أو التضییق حسب القوانین الثانویة، فیجعل الحاکم الإسلامی ذلک معاهدة مع دولتهم.

ومنه یعلم حال المسلم من بلد لم یحکمها الإسلام، یأتی إلی بلد یطبق فیه الإسلام، حیث إن القاعدة الأولیة جریان أحکام الإسلام کافة علیه، لأنه أخ وله ما للمسلمین وعلیه ما علیهم، إلاّ بقدر العناوین الثانویة حسب المعاهدة بین الدولة التی تطبق الإسلام وبین البلد الذی لا یطبقه.

ص:160

((القوانین غیر الإسلامیة لا تلزم المسلم))

اشارة

((القوانین غیر الإسلامیة لا تلزم المسلم))

(مسألة) القوانین التی لا تنتهی إلی الشریعة الإسلامیة غیر ملزمة علی المسلم إطلاقاً، من غیر فوق بین الکبریات القانونیة أو الصغریات التی وضعتها القوی الثلاث لأجل نظم الحیاة، فإن التطبیقات الصغرویة لا تکون ملزمة أیضاً، إلاّ إذا أسندها شوری الفقهاء الذین هم مراجع تقلید الناس.

فإذا توفر فی القانون هذا الشرط فهو واجب الإتباع، وقد تقدم أنه إذا لم یتوفر هذا الشرط فالمسلم هو والأصول الإسلامیة، کما مثلنا بأن قانون المرور لا یلزم اتباعه فی غیر صورة الاستناد إلی شوری المراجع، إلاّ إذا انطبق علیه قانون «لا ضرر» فإنه واجب الاتباع حتی فی بلد الکفار، مما حرم الإسلام إضرارهم.

ثم وجوب الاتباع إنما هو فی العزیمة لا فی الرخصة، وأما فی الرخصة فأطراف القانون لهم الحق فی السیر داخل الإطار المقرر، مثلاً قانون إعطاء الخمس والزکاة والجزیة والخراج مما هی ضربیة إسلامیة قانون عزیمة، أما قانون عدم جواز تخلف الزوجین أو المتبایعین عن واجباتهما وشروطهما فهی قوانین رخصة علی الأغلب، إذ لا یحق للزوج عدم إعطاء حق الزوجة ولا یحق للزوجة عدم إعطاء حق الزوج إلاّ إذا تراضیا بعدم الإعطاء، کأن رضیت الزوجة بعدم إعطاء الزوج النفقة لها أو رضی الزوج بعدم تهیئة الزوجة له.

وکذلک إذا رضی البائع بتقسیط الثمن والحال أنهما عقدا نقداً، أو رضی المشتری بتأخیر تسلیم المبیع بینما لم تکن المعاملة مؤجلة.

((القانون والتخییر))

((القانون والتخییر))

وربما یستشکل بأن ما فائدة القانون فی الأمور التی بید الطرفین إبقاء العقد أو فسخه بالرضا، أو کان الاختیار بید الطرفین فی الرضا بإسقاط الحق، کما تقدم من مثال إسقاط کل من الزوجین حقه عن الآخر، فإن القانون یجب أن یکون أمراً أو نهیاً، وإلاّ فالتخییر لیس بقانون.

والجواب: الشریعة کاشفة

ص:161

عن المفسدة والمصلحة، فإذا لم یکن فی شیء مفسدة فهل یجعل القانون علی خلاف ذلک، وکذلک إذا لم یکن فی شیء مصلحة فإذا لم یرض الزوجان بإسقاط حقهما ففی إسقاط الآخر حقه مفسدة، أما إذا رضی من له الحق فیما له الرضا فی الإسقاط فلیس ذلک مفسدة.

وهکذا بالنسبة إلی سائر موارد الرضا فی العقود والإیقاعات، مثل إسقاط زوج المتعة حقه فیها، إلی غیر ذلک.

ولذا الذی ذکرناه من تبعیة الحقوق للمصالح والمفاسد، قال الشیخ نصیر الدین الطوسی (رحمه الله): (الواجبات الشرعیة ألطاف فی الواجبات العقلیة.

والقید بالشرعیة من باب أنها محل الکلام، وإلاّ فالعقلاء أیضاً یوجبون ما یدرکون مصلحته، نعم فرق بین الشرع والعقلاء، لأن الشرع لا یشتبه بینما العقلاء معرضون للاشتباه، کما أن ذکر الشیخ (الواجب) فقط من باب المثال، وإلاّ فکل الأحکام الشرعیة ألطاف فی الأحکام العقلیة، حتی الحرام والمستحب والمکروه والمباح.

((العزیمة والرخصة فی الحقوق))

((العزیمة والرخصة فی الحقوق))

ومما تقدم ظهر أنه لیست العزیمة والرخصة فی الحقوق والقوانین خاصاً بالشرائط والخصوصیات، بل جاریتان فی أصل انعقاد العقد وعدمه.

مثلاً قد یجب عقد حسب الشرط السابق، فالواجب علیه أو علیهما إجراؤه، ولیس کذلک الأمر فی العقود العادیة، وکذلک إذا وجب بالنذر أو العهد أو الیمین أو أمر الوالد أم ما أشبه ذلک.

وهذا ما عبر عنه بعض الفقهاء بأن العقد ینقسم إلی الأحکام الخمسة.

کما أن بعض الحقوق فریضة کحق الأبوة مما لیس قابلاً للإسقاط، وبعضها رخصة کفعلیة إعطاء النفقة لأولاده حیث إنهم یتمکنون من إسقاط هذا الحق من أبیهم.

((الحق والاستصحاب))

((الحق والاستصحاب))

ولو شک فی حق هل أنه عزیمة أو رخصة، فأصالة حاکمیة الإرادة أو بقاء الحریة محکمة، لکن ذلک إذا لم یکن الحق سابقاً ثم شککنا فی بقائة، فإنه یستصحب بعد تمامیة أرکان

ص:162

الاستصحاب، کما أن فی عکسه إذا لم یکن حق ثم شککنا فی وجوده فالأصل عدمه أیضاً.

فالأول: کما إذا شک فی سقوط حق الزوجیة فی النفقة، لاحتمال موت الزوج أو طلاقه أو ما أشبه ذلک.

والثانی: کما إذا شککنا فی حق التألیف.

((فروع فی الحقوق))

((الحق والاستصحاب))

ولو تعارض حقان فاللازم الجمع بینهما مهما أمکن، کما مثلنا سابقاً فی حق العلو والسفل فی العمارة.

ولو تزاحم حقان کحقی الغریق، قدم الأهم منهما إن کان بینهما أهم، وإلاّ تخیر المکلف بینهما.

ثم إن الحق إذا ثبت، سواء کان فریضة أو رخصة فیما لم یسقطها صاحبها مجاناً أو مصالحة أو بیعاً أو ما أشبه ذلک کل فی مورد صحة مثل ذلک، أی فیما کان بیع الحق أو مصالحته صحیحاً، لم یجز منعه، بل فی روایة عن الإمام الرضا (علیه الصلاة والسلام): «من الکبائر حبس الحقوق من غیر عسر»((1)).

فإذا منعه مانع فإن کان کحق السکنی فی الدار ففات کان له أخذ البدل، وإلاّ لم یکن له، کما إذا لم یصل رحمه مما کان حقه، فإنه لا یقابل بالمال.

ولو شک فی أنه هل یقابل بالمال فالمرجع الأصول، کما إذا لم یواقع زوجته فیما کانت المواقعة حقها الواجب، فهل لا یغفر الله له بالتوبة المجردة بل الغفران إذا أرضاها ولو بالمال، أو یغفر له بالتوبة، احتمالان، وإن کان لا یبعد الأول لأنه مقتضی کونه حقها وأنه بیدها، سواء فی الوقت أو فی خارج الوقت، مما یستفاد من إطلاق کونه حقاً أو ما أشبه من العبارات المؤدیة لهذا المعنی.

وکما فی الحق قد یکون فریضة وقد یکون رخصة، کذلک الحال فی عقد العقد أو إبطاله، مثلاً النکاح من جانب الزوج رخصة إبقاءً وإبطالاً، أما من جانب الزوجة فهو عزیمة، وفی مثال آخر انبطال العقد فی التلف قبل القبض

ص:163


1- انظر وسائل الشیعة: ج15 ص329 ب46 ح20660

عزیمة لکن الانبطال فیما إذا مات الزوج وقد زوجت الزوجة صغیرة فبالنسبة إلیها رخصة، هل ترضی بذلک العقد فترث، أو لا فلا ترث.

أما الرخصة والعزیمة فی عقد العقد، فالبیع مثلاً رخصة، أما عقد الخامسة أو فی حال العدة له أو لها فالعدم عزیمة، وهکذا.

((الجهل ورفع الحکم))

((الجهل ورفع الحکم))

ثم إن الجهل بالتکلیف قصوراً یرفع الحکم عقاباً وخطاباً، وإن أمکن أن لا یرفعه آثاراً، کما إذا کان علیه ضمان أو قضاء وإعادة، کما فی لیالی القسم للزوجة علی القول بوجوبه، فإن الزوج إذا کان جاهلاً بذلک فلم یقسم لها لزم علیه التدارک.

أما رفع الخطاب فلأنه لغو لا یصدر من الحکیم، وأما رفع العقاب فلأنه خلاف العقل أن یعاقب من لا یعلم بالحکم قصوراً، ولا یصدر ذلک من العقلاء.

أما إذ کان الجهل تقصیراً فهو یرفع الخطاب لما ذکرناه لا العقاب والآثار، أما بقاء الآثار فلما تقدم، وأما عدم رفعه للعقاب فلأن العقل یری حق المولی فی العقاب، ویقال له: «هلا تعلمت»((1)) کما فی الحدیث.

وعلی هذا فالعقاب ذو وجهین، والآثار مطلقاً تبقی، والخطاب مطلقاً غیر وارد.

لا یقال: فعلی هذا یلزم عدم خطاب الکفار أیضاً، لأنه لغو حیث لا إطاعة لهم.

لأنه یقال: اللغویة إنما هی فیما إذا لم یکن بید الإنسان العمل واللاعمل، کما فی صورة العصیان، فهما بید الإنسان ولذا یفرق العقلاء بین خطاب العاصی وخطاب الجاهل.

وبذلک تبین أن ما یعتاد فی القوانین فی کثیر من بلاد العالم الیوم من تحسین عقاب الجاهل القاصر التارک للقانون فعلیة عقابه غیر عقلی ولا عقلائی.

((ما یخالف العقل أو العقلاء))

((ما یخالف العقل أو العقلاء))

ولا یخفی أنه فرق بین الأمرین، فالتناقض خلاف العقل، أما عدم جعل النظم خلاف العقلاء لا خلاف العقل، فالأول یقال للمحالات بینما الثانی یقال لما یستقبحه العقلاء، ولازمه أن یکون ممکناً، وإلاّ فلا استقباح لغیر المقدور، فإن غیر المقدور لیس بمأتی

ص:164


1- انظر بحار الأنوار: ج1 ص177 ب1 ح58، وفیه: (ألا تعلمت)

به فی الخارج حتی یکون قبیحاً أو غیر قبیح، إذ القبیح وغیر القبیح صفة للموجود والمحال غیر موجود.

ثم إن الطریق لکونه جاهلاً أو عالماً، وفیما إذا کان جاهلاً بین أن یکون قاصراً أو مقصراً هو بنفسه، لأنه مقتضی أصالة صحة قول وعمل الإنسان، وأصالة الصحة قاعدة عقلائیة قررها الشریعة إلاّ إذا دل الدلیل من الخارج علی کذبه.

أما استدلال من قال بأنه لا یقبح عقاب الجاهل القاصر بالنسبة إلی القوانین، بأن فی ترکه خلاف النظم، فإذا خالف ثلاثة سائقی سیارات المرور فقال أحدهم تعمدت، وقال الآخر کنت جاهلاً قاصراً، وقال الثالث کنت جاهلاً مقصراً، لزم أن یحکم القانون علیهم بثلاثة أحکام، وذلک هدم للنظام.

وکذلک إذا فرض أن جاء الوباء فمنع القانون بیع اللبن، فجاء بثلاثة خالفوا القانون وباعوا اللبن، وقالوا بمثل تلک الأقوال، وهکذا فی جمیع موارد نقص القانون.

یرد علیه:

أولاً: بالنقض، بما إذا قتل اثنان نفرین أحدهما عمداً والآخر خطأً، وبما إذ عمل اثنان عملاً أحدهما بحسن النیة والآخر بسوء النیة، إلی غیر ذلک، فهل لا یختلف جرمهما فی القانون.

وثانیاً: بالحل، بأن القانون إذا کان خلاف سیرة العقلاء فأی قانون هذا، فالعرف والعادة والعقل من أهم مواد القانون ومنابعة شرعاً تطبیقاً، وعند غیر المتشرعة تشریعاً وتطبیقاً، مما قد تقدم الإلماع إلیه، بل من أهم ما یلزم مراعاة القانون له الفرق بین المفترق فإن ذلک یدل علی عدالة القضاء.

لا یقال: فما یؤمن القاضی أن یدعی کل واحد أنه جاهل قصوراً.

لأنه یقال:

ص:165

أولاً: یظهر کثیر من الحالات من القرائن وما أشبه.

وثانیاً: یضم الیمین إلی ادعائه کما فی المرافعات، والقول بأنه لا یکفی الیمین هنا منقوض بموارد المرافعات مع أن تمشی الیمین فیها متفق علیه.

وثالثاً: احترام الإنسان بعدم عقوبة المتعمد، مقدم علی عدم احترامه بعقوبة غیر المتعمد.

((من مصادیق العقوبات المرفوعة بالجهل))

اشارة

((من مصادیق العقوبات المرفوعة بالجهل))

ومن الواضح أن من العقوبة الغرامة والمنع عن حریة الإنسان، کما إذا جاء إلی البلد بدون إمضاء قرر فی القانون، فرد إلی بلده حتی یمضی سفره لموظف المرتبط بالإمضاء، سواء فی القوانین الوضعیة، أو فی القوانین الشرعیة إذا فرض أن مثل ذلک جاز بعنوان ثانوی، کما إذا وقع فی البلد الوباء فمنع الرئیس دخول بلده من ذلک البلد الموبوء إلاّ إذا ثبت عدم تلوث هذا المسافر بالمرض، وذلک بعلامة إمضاء الرئیس فإنه یمتحن عند دخوله إذا لم یکن له إمضاء الرئیس إلی غیر ذلک.

أما مثل السجن والضرب وما أشبه فإنها من أظهر مصادیق العقوبات.

وکما أن فاعل المحذور یقسم إلی ثلاثة أقسام: عالم وجاهل قاصر ومقصر، کذلک تارک الواجب کنفقة زوجته وما أشبه، نعم لا إشکال فی أن تارک الواجب لا یترتب علیه الأمر المترتب علی الواجب، من باب أنه إذا لم تکن العلة لم یکن المعلول تلقائیاً، لا للاستناد إلی عدم العلة، إذ قد تقدم أن الأعدام لا تعلل ولا یعلل بها، بل من جهة بقاء العلة المقابلة الموجبة لبقاء معلولها، فمن لم یشرب الدواء یبقی مریضاً من جهة بقاء سبب المرض، لا من جهة عدم شربه الدواء، ومن لم یدرس سواء عالماً عامداً أو جاهلاً قاصراً أو مقصراً أو اضطراراً أو إکراهاً فردیاً أو إکراهاً اجوائیاً کما إذا کانت فرص التعلیم غیر کافیة للجمیع، فشمل التعلیم غیره من جهة عدم تهیئة

ص:166

الدولة عمداً، أو لعدم قدرتها فی فرص التعلیم إلاّ لنصف الطلاب أو ما أشبه ذلک، غیر صالح للطب والهندسة والوظائف المحتاجة إلی العلم.

((الحقوق وتحمل الخسارة))

((الحقوق وتحمل الخسارة))

ثم مقتضی القاعدة أن ذهاب فرصة التعلیم مثلاً لو کان عن إکراه، کان المکره یتحمل العقاب، لکن هل یتحمل أیضاً الخسارة، احتمالان، المشهور لا یقولون بذلک فی مثل المسألة، وهو الحابس ظلماً مما سبب خسارة المحبوس کسبه، لکنا استظهرنا فی کتاب الغصب تحمله لصدق «لا ضرر»، وذلک الدلیل یأتی هنا أیضاً وإن لم أر من تعرض لهذا الفرع، بینما تعرضوا لفرع حبس غیر المجرم وأن الحابس یضمن خسارته أم لا.

وإنما نقول بذلک لأن ظاهر لا ضرر شامل للإیجاب والسلب، فکل حکم إیجابی یحمل الضرر مرفوع، وکذلک کل حکم سلبی یتضمن الضرر مرفوع، وفی الأول لا حکم مثل أنه لا وضوء ضرریاً، وفی الثانی لا عدم، ومعنی عدم العدم أن الحکم الایجابی موضوع.

وکذلک الحال فی الجزء والشرط وغیرهما من الأحکام الوضعیة، إذ إطلاق لا ضرر بسبب حذف متعلقه یفید العموم، کما ذکروا ذلک فی علم البلاغة.

لکن الحکم بذلک مشکل جداً، حیث إنه یلزم منه أن یکون کل محتمل عقلائی إذا أخذ أمامه موجباً للضمان، کما إذا لم یترک رئیس المدرسة الطالب عناداً أن یدخل المدرسة، بما إذا دخلها ودرس خمس سنوات مثلاً خرج طبیباً یتمکن من استفادة مائة دینار کل یوم، وهکذا إذا لم یترکه یسیح فی الأرض ویتاجر وما أشبه، وأصدقاؤه الذین ساحوا ربحوا کثیراً، فهل یقال: إن تلک الأرباح علی المانع، وکذلک إذا لم یترکه یتزوج فإنه إذا تزوج أولد أولاداً یکونون تجاراً، فکانوا یقاسمون أباهم نصف أرباحهم، کما فعله أولاد أصدقائه الذین تزوجوا، وغیر ذلک.

ومن الممکن الفرق بین ما یعد ضرراً عرفاً، وما

ص:167

لا یعد، حیث لا یضمن ما لا یعد، ویضمن ما یعد.

وعلی أی حال، فالمسألة بحاجة إلی التتبع والتأمل.

((الحقوق وضمان البرید))

((الحقوق وضمان البرید))

وأشکل منه ضمان البریدی الذی کان یخبر بالبرقیات أولاً تجاراً آخرین، ثم التجار الذین وجهت البرقیات إلیهم لتصل البرقیات إلی أصحابها، وقد ارتفع السوق أو انخفض لاشتراء التجار غیر الموجهة إلیهم البضائع بمجرد علمهم بالارتفاع، أو لبیع أولئک التجار بضائعهم بمجرد علمهم بالانخفاض قبل أن تصل البرقیات إلی أصحابها، وهم تضرروا بسبب سبق غیرهم تضرراً کبیراً.

نعم لا شک أن عمل البریدی یعد خیانة یستحق العقاب، أما ضمانه فمشکل جداً.

ثم الاشتباه قد یکون فی الموضوع، وقد یکون فی الحکم، والأصل فی الاشتباه ما ذکرناه فی الأقسام الثلاثة: العمد والجهل القصوری والجهل التقصیری.

((الحقوق وموارد الإکراه والاضطرار))

((الحقوق وموارد الإکراه والاضطرار))

وقد علم مما تقدم حال أمثال الاشتباه من الإکراه والاضطرار والنسیان والسهو فی کل المسائل، ولذلک أمثلة کثیرة کالجهل بالموضوع أو بالحکم، فی النکاح أو الطلاق، مثلاً زعم أنه یصح زواجها فتزوج منها فعلیه المهر إذا دخل بها.

وقد ذکرنا فی کتاب النکاح أن من المحتمل أن علیه شیء أیضاً إذا لامسها وعاشرها معاشرة الأزواج وإن لم یدخل بها، خصوصاً فی مثل العنین وإن لم یکن ذکرها الفقهاء.

وعلی کل حال، بینما الزنا لا مهر له، لکن ذلک فیما إذا جهل أما إذا علم أحدهما فالحکم من طرفه زناً، فإذا علم الرجل فقط کان علیه المهر، وإذا علمت المرأة فقط فلا مهر لها لأنه (لا مهر لبغی)، والأولاد مع جهلهما أولاد شبهة کالحلال فی کل الجهات، ومع جهل أحدهما وعلم الآخر أولاد زناً بالنسبة إلی العالم، وأولاد حلال بالنسبة إلی الجاهل، فیختلفون فی الإرث وغیره مما یختلف فیه أولاد الزنا وأولاد الحلال.

وفی العکس بأن ترکها بعد الزواج بزعم خروجها عن الزوجیة لرضاع توهم

ص:168

أنه محرم، أو کلام منها أو منه سبب توهم الآخر أو توهم کلیهما أنه ردة، والردة فاسخة، أو ما أشبه ذلک کطلاق أجراه فزعم أنها خرجت عن حبالته بینما کان الطلاق باطلاً لعدم توفر الشروط، إلی أشباه ذلک فهی باقیة علی الزوجیة، ولها کل الأحکام.

مثلاً إذا قاربها بزعم أنه زناً لا یحد، وإنما یکون تجر، له حکم التجری المذکور فی الأصول والفقه.

وإذا تزوج بأختها أو الخامسة أو تزوج إنسان بها بعد عدتها بزعم أنها خرجت عن الزوجیة، فإن النکاح الثانی باطل، إلی غیر ذلک من الأمثلة الکثیرة فی بابی النکاح والطلاق، وقد ذکرنا بعضها فی کتابها.

وکل ذلک قد یکون من باب الجهل بالموضوع کأن لا یعلم أنها أخته من الرضاعة، أو بالحکم کأن لا یعلم أن تزویج الأخت الرضاعیة فی الحکم کتزویج الأخت النسبیة.

وهکذا الحال فی الجهل بالمعاملات، کما إذا زعم صحة المعاملة أو بطلانها والحال أن الواقع بالعکس، وکان الجهل من جهة الموضوع فزعم أنه دواء أو خمر بینما کان فی الأول خمراً وفی الثانی دواءً، أو من جهة الجهل بالحکم کأن زعم أن بیع النجاسة حلال أو أن بیع القرد حرام، أو أن هذه نجاسة أو لیست بنجاسة.

والمراد بالحلیة والحرمة فی المقام الحلیة والحرمة الوضعیة، وإن ذکرنا فی کتاب البیع أنه ربما یکون حراماً تکلیفاً أیضاً فی مختلف المعاملات، کمن یبیع الخمر فإن عمله هذا حرام، وکمن یتزوج بأمه بعقد النکاح بدون الدخول، فإن نفس العقد علی الأم حرام، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

ومن أمثلة المقام ما لو زعم أنه مدیون فأعطاه دینه فتصرف فیه، فإن المعطی یسترد ماله، أو زعم أنه لیس بمدیون فلم یعطه فظهرت المدیونیة، فإنه یأخذ من المدیون إذا کان حیاً، وإذا مات أخذه من ترکته، نعم إذا کان غرور فی البین فالمغرور یرجع إلی من غر، مثلاً زعم زید أن

ص:169

الدجاع لنفسه فأعطاه هدیة لجاره وأکله الجار، ثم ظهر أن الدجاج لم یکن لزید، فإن مالک الدجاج یرجع إلی أی منهما شاء، لقاعدة التلف، وإن کان لو رجع إلی الواهب لم یرجع إلی الموهوب له، لأنه غره، وإن رجع إلی الموهوب له حق للموهوب له أن یرجع إلی الواهب لقاعدة الغرور لهبته له.

بل ذکر بعض الفقهاء أنه لو وهب زید دجاج عمرو لنفس عمرو، وقد زعم أنه لزید الواهب وأکله الموهوب له الذی هو المالک الحقیقی کان الواهب ضامناً، حیث إن الآکل مغرور لزعمه بأن الدجاج له بعنوان الهبة لا بعنوان أنه مال نفسه.

ومنه یعلم مثل ذلک کما إذ أوصی المیت بنصف ماله وزعم الوارث أن الموصی به بقدر الثلث فصرفه فی الخیرات، فإنه ذهب من کیسه التفاوت بین الثلث والنصف وهو السدس، نعم إذا کانت عین ماله موجودة یستردها بشرطه إن لم یکن الآخذ قد عمل فی قبال ذلک، کما إذ صلی باستیجار فإنه لا یحق له فی هذه الصورة الاسترداد. أما إذا کان الإعطاء من قبیل الهبة بأن کان المال موجوداً عند الفقیر المعطی له، فللوارث الرجوع إلیه فی استرداده منه، لأنه بالهبة لم یصر ماله، إذ الوارث إنما أعطاه المال هبة بزعم أنه مال المورث لا مال نفسه، فالعقود تتبع القصود یقتضی بطلان هذه الهبة.

نعم لو کان الواهب وهب المال مطلقاً، أی سواء کان مال نفسه أو مال المورث، لکنه زعم أنه مال المورث وأن الفقیر له الحق فی المال، ولا حق للوارث فی الاسترجاع إذا کان من موارد الهبة اللازمة.

((الحقوق والنسیان))

((الحقوق والنسیان))

ثم النسیان لا شک أنه عذر عقلائی قرره الشرع أیضاً فی عدم العقاب، لا فی عدم الضمانات.

لکن الکلام فی أنه هل هو عذر مطلقاً لإطلاق دلیل الرفع، أو فیما إذا لم یکن النسیان عن تقصیر، کما لو کان سجل الموضوع فی مذکرته مثلاً لم ینسه، خلاف بین الفقهاء من

ص:170

جهة هل أن رفع النسیان فی الدلیل منصرف إلی ما لیس بالاختیار، أو أعم منه فلا انصراف، خصوصاً وکثیر من النسیانات تکون عن تقصیر بعدم اهتمام الناس بالموضوع. وعدم تنبیه الشارع علی الاستثناء دلیل الإطلاق.

((الحقوق والإکراه والإلجاء))

((الحقوق والإکراه والإلجاء))

أما الإکراه والاضطرار والإلجاء ففیها مسائل کثیرة مما هی خارجة عن طوق هذا الکتاب، نعم نشیر إلی بعضها إلماعاً:

فلو أکرهه المکره علی هتک عرض أو سلب مال أو تلفه أو إراقه دم، فإن کان المکره بالفتح لم یجز له ذلک فلا شک فی ضمانه، بالإضافة إلی الحکم التکلیفی، کما إذا قال له: إذا لم تزن بهذه المرأة أخذت منک دیناراً أو صفعتک، فزنا بها فإنه ضامن للمهر.

وکذا إذا قال له: إذا لم تلق هذا المتاع فی البحر أو لم تحرق هذا المتاع صفعتک، أو أخذت منک دیناراً، أو قال له: إذا لم تقتل زیداً أخذت أو صفعت فقتل، فإن علیه الدیة، بل إذا کان عالماً عامداً کان علیه القصاص أیضاً فی موارد القصاص.

وإن جاز له ذلک، کما إذا قال إذا لم تلق متاع زید فی البحر أو لم تزن بهذه المرأة قتلتک، فهل المهر والضمان علیه أو علی المکره، لا یبعد کونه علی المکره، لأن معنی رفع الاکراه ذلک.

وکذلک إذا قال: إذا لم تقطع ید زید قتلتک، حیث الدیة علی المکره بالکسر.

أما إذا قال: إذا لم تقتله أقتلک أو أقطع یدک، فلا حق له فی القتل، ویکون علیه الدیة أو القصاص، بالإضافة إلی کون فعله حراماً، لأنه لا تقیة فی القتل، کما ورد فی الروایات.

نعم قد یکون فی القتل أیضاً التقیة، کما إذا قال له: إذا لم تقتل زیداً قتلت کل من فی المدینة بإلقاء قنبلة مثلاً، وذلک من باب الأهم والمهم.

وباب الإلجاء أولی من باب الإکراه فیما ذکرناه.

أما باب الاضطرار فهو مرفوع إلاّ فی القدر الذی استثنی، لکنه لا یرفع الضمان أحیاناً ویرفعه أحیاناً، کما إذا طلب الماء ممن عنده الماء فاشترط علیه فی إعطائه الزنا

ص:171

بامرأة غیر فاحشة، وکان الرجل مضطراً إلی شرب الماء وإلا لمات، فزنی معها، فإن المهر علی المضطر بصیغة الفاعل علی ما ذکرناه.

أما إذا کان الاضطرار من عند نفسه، فالمهر علی نفسه.

وهذه مباحث طویلة خارجة عن طوق هذا الکتاب، أردنا الإلماع إلیها فقط، وجملة من المسائل التی ذکرناها محل شبهة وبحث.

ص:172

((الحقوق وقابلیة النسخ))

((إبطال مفعول القانون من الآن))

((الحقوق وقابلیة النسخ))

(مسألة): القانون سواء کان صغرویاً کما نراه بأنه تطبیق للکلیات الإسلامیة علی الصغریات الخارجیة، أو کبرویاً أیضاً کما یراه غیر الملتزمین بالشریعة الإسلامیة، قابل للنسخ.

والنسخ علی ثلاثة أقسام:

((إبطال مفعول القانون من الآن))

الأول: أن یبطل مفعول القانون من الآن بسبب قانون آخر، سواء کان بنسخ القانون السابق بلفظ صریح أو بأمر ضمنی، کوضع قانون ینافی القانون السابق.

فالقانون السابق یبطل کل آثاره وتبعاته من هذا الیوم، سواء کانت آثاراً سابقة أو آثاراً لهذا الیوم الذی یبطل القانون فیه.

((إبطال مفعول القانون بأثر رجعی))

((إبطال مفعول القانون بأثر رجعی))

الثانی: أن یبطل مفعول القانون بأثر رجعی إلی السابق، مما یسمی بالکشف فی الاصطلاح الفقهی، فإذا کان للسابق أثر باق بطل من الآن، کأن القانون السابق لم یوضع أصلاً، وهذا الثانی قد یکون بالنسبة إلی کل الآثار، وقد یکون بالنسبة إلی بعض الآثار.

من غیر فرق بین أن یبطل مفعول القانون السابق من أول وضعه، أو من زمان سابق علی النسخ، مثلاً القانون السابق وضع قبل سنة فقد یقول القانون الجدید بنسخه من حین وضعه، وقد یقول بنسخه من قبل ستة أشهر.

وإذا کان للقانون السابق أثران مثلاً، الأول الغرامة، والثانی الحبس للمخالف، فقد یقول القانون الجدید رفعتهما من حین الوضع حتی یکون القانون کلا وضع، فلا أثر له فی أیة من الجهتین، أو یقول القانون الجدید رفعتها من قبل ستة أشهر حتی صار کلا قانون من قبل ستة أشهر، وقد یقول رفعت الحبس لا الغرامة أو بالعکس، فالأقسام أربعة.

ص:173

((إبطال مفعول القانون بعد مدة))

((إبطال مفعول القانون بعد مدة))

الثالث: أن یبطل بعد مدة، مثلاً یقول القانون السابق سار المفعول من السابق إلی الآن وإلی بعد سنة، وإنما القانون الجدید یبطل القانون السابق من بعد سنة.

والإبطال بعد سنة قد یکون بکل آثاره، وقد یکون ببعض آثاره.

ولا یستشکل فی الثانی والثالث أنه کیف یتقدم المعلول علی العلة، أو کیف یتأخر المعلول عن العلة، إذ الأمور الاعتباریة معناها اعتبار العقلاء، فإذا صح الاعتبار فلا حالة انتظاریة، ولیست کالأمور الحقیقیة أو الانتزاعیة فإن النار لا یمکن أن تؤثر فیما قبل وجودها، کما لا یمکن أن تؤثر فیما بعد وجودها، مثلاً تؤثر نار فی إحراق البارحة أو فی إحراق غد، وکذلک بالنسبة إلی الأمور الانتزاعیة کزوجیة الأربعة لا یمکن تقدیم المعلول والمنتزع ولا تأخیرهما، کأن تکون زوجیة الأربعة قبل وجود الأربعة أو بعد وجودها.

((أقسام إبطال القانون))

((أقسام إبطال القانون))

ثم الإبطال، سواء کان باسم الفسخ أو باسم النسخ أو باسم الترک حتی یبطل أو باسم الإبطال، علی أربعة أقسام:

الأول: أن یکون القانونان القدیم والجدید متباینین.

الثانی: أن یکونا علی نحو العموم المطلق، لکن العام قبل الخاص، بأن یکون القانون السابق عاماً والقانون اللاحق خاصاً.

 الثالث: عکسه، بأن یکون الخاص قبل العام.

الرابع: أن یکون بینهما عموم من وجه.

فالأول: مثل أن یکون القانون السابق الوقوف عند احمرار الضوء، والقانون الثانی الوقوف عند اخضراره.

والثانی: أن یکون القانون الأول الوقوف عند إحمرار الضوء،

ص:174

والقانون الثانی عدم الوقوف عند احمرار الضوء لسیارات الأسعاف مثلاً.

والثالث: عکس الثانی، فقال أولاً لا تقف سیارات الاسعاف عند احمرار الضوء، وقال ثانیاً تقف کل سیارة عند احمرار الضوء، وقد علمنا من الخارج أن المقنن یرید بقاء سیارات الاسعاف علی حالها الأولیة، إذ ربما یکون العام المتأخر نسخاً للخاص المتقدم، وربما یکون العام المتأخر مخصصاً بالفتح بالخاص المتقدم، وفی المقام بحث أصولی طویل ذکرناه هناک، فلا داعی إلی تکراره.

والرابع: کما إذا قال أولاً وسائل النقلیة الحدیثة تقف عند احمرار الضوء، وقال ثانیاً کل مستعجل لحالة مرضیة أو حرق أو غرق أو حرب أو ما أشبه ذلک لا تقف، حیث بین الأمرین عموم من وجه، فالوسائل النقلیة بدون هذه الحالات تقف، وهذه الحالات بدون وسائل النقلیة الحدیثة کراکب الخیل والبغال والحمیر لا تقف، أما إذا کانت هذه الحالات فی الوسائل النقلیة الحدیثة فهما موضع تصادم القانونین، فإذا أحرز من الخارج أهمیة لأحدهما قدم الأهم، وإلاّ یکون مجری القانون مخیراً إذ لا ترجیح، والتأخر الزمانی لیس من المرجحات کما قرر فی (الأصول).

ص:175

((دور العرف فی القانون))

اشارة

((دور العرف فی القانون))

(مسألة) العرف یطلق فی ثلاثة مواضع:

((العرف وتحدید الموضوعات))

الأول: العرف فی تحدید الموضوعات، مثلاً قال الشارع الوطن کذا((1))، أو الغناء کذا، أو آلة اللهو کذا، أو آنیة الذهب کذا، فإنه یرجع فی تحدید هذه الموضوعات إلی العرف.

فهل الوطن یحتاج إلی قصد الإقامة الدائمة أو یکفی فیه قصد إقامة خمس سنوات مثلاً، وهل الغناء یلزم أن یکون مطرباً أو أعم منه فیما کان له ترجیع، وهل آلة اللهو یشمل بعض الآلات الحدیثة أو خاصة بمثل القانون والزمار وما أشبههما، وهل الآنیة تشمل المصفاة أو لا تشمل إلاّ غیر المثقوب.

وکذلک إذا قال الشارع: فی کل أربعین شاة شاة، فهل یصدق الشاة فیما إذا نُصفت أربعون شاة نصفاً طرف الرأس ونصفاً طرف الذیل مع أربعین من السخولة بعکس ذلک، لأجل تحسین السلالات، کما وقع ذلک حدیثاً، فهل هی شیاه أو سخولة أو حیوان جدید فلا زکاة، وأظهر من ذلک لو فرض هذا الترتیب مع أربعین غزالاً فرضاً.

((العرف وتحدید المفاهیم))

((العرف وتحدید المفاهیم))

الثانی: فی المفاهیم فی باب الأحکام، مثلاً لو قال: «لا رضاع بعد فطام»((2)) فهل لا رضاع یفید الحکم الوضعی أو التکلیفی أو کلیهما، وکذلک فی مثل ﴿أحل الله البیع﴾((3))، فهل هو حلال وضعی أو حلال تکلیفی أو حلال من کلتا الجهتین، إلی غیر ذلک من الأمثلة الکثیرة.

ولا شک أن العرف هو المرجع فیهما بدلیل سیرة العقلاء وطریقتهم، والشارع لم یحدث طریقة جدیدة، بل هو سیرة المتشرعة أیضاً، فتفید رأی الشارع بالاستصحاب، ولا یحتاج إلی الاستصحاب القهقری حتی یقال بأنه لیس بحجة، بل هو من قبیل استصحاب مفاهیم الألفاظ کالأمر والنهی علی ما ذکره الأصولیون، من زمان الشارع إلی زماننا بأصالة عدم النقل

ص:176


1- أی کذا حکمه
2- الکافی: ج5 ص443
3- سورة البقرة: 275

بالإضافة إلی ﴿ما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه﴾((1))، و«إنا معاشر الأنبیاء أمرنا أن نکلم الناس علی قدر عقولهم»((2)) إلی غیر ذلک.

((العادات العرفیة))

((العادات العرفیة))

الثالث: ما یعتاده العرف، سواء العرف العام أو العرف الخاص.

مثل تعارف إهداء فراش العروس لیلة الزفاف إلی أهل البنت لوجود آثار الدم فیه دلیلاً علی بکارتها، أو کجعل مجلسین أحدهما للعقد والحلویات والآخر للعرس والإطعام فی باب الزواج، أو کتقدیم آباء البنت ملابس أول مولود لبنتهم، إلی غیر ذلک کأمثلة للعرف العام.

ومثل ما یعتاده التجار فی أمورهم التجاریة، کعدم التجاوز عن أقوالهم إطلاقاً وإن لم یبرموا عقداً، ومثل أنه لا یحق لتاجر أن یربح علی حساب خسارة التجار الآخرین أو ما أشبه ذلک، ومثل ما یعتاده أهل المنبر من أنه لا یحق لأحدهم أن یأخذ مکان المنبری الآخر إذا لم یبطل المنبری الآخر منبره لوجه من الوجوه، وغیر ذلک من أمثلة العرف الخاص.

وهذا العرف لا ملزم له شرعاً، وإن کان من الآداب التی ینبغی رعایتها، بل لا یبعد أن یکون مشمولاً لقوله (علیه السلام): «رحم الله من جب الغیبة عن نفسه»، وقوله (علیه السلام): «أحب لغیرک ما تحب لنفسک»((3))، وقوله (علیه السلام): «بنی إذا کنت فی بلدة فعاشر بآداب أربابها»((4))، إلی غیر ذلک.

أما غیر الملتزمین بالشرع فیجعلون هذا القسم الثالث من العرف إذا کان إلزامیاً منهم مصدراً للقانون، ویستدلون لذلک بأن القانون لحفظ الاجتماع، وحفظه لا یمکن إلاّ باحترام أمثال هذه الأعراف، ویقولون إنه إذا لم یجد القاضی حکماً فی فصل النزاع فعلیه أن یراجع العرف فی استفادة روح القانون منه، فیحکم علی طبق العرف، ولذا یجعلون أرکان العرف اثنین:

ص:177


1- سورة إبراهیم: 4
2- مستدرک الوسائل: ج11 ص208 ب8 ح12759
3- مستدرک الوسائل: ج11 ص311 ب35 ح13126
4- انظر بحار الأنوار: ج44 ص266 ب31

((أرکان العرف))

((أرکان العرف))

الأول: الرکن المادی، وهو وجود العرف، فإن أرید الحکم علی العامة لزم وجود العرف العام، وإن أرید الحکم علی الخاصة کالتجار مثلاً لزم وجود العرف الخاص، فإذا تنازع تاجران حکم علیهما بعرف التجار، وإذا تنازع جاران حکم علیهما بالعرف العام، وهکذا فی سائر الأعراف الخاصة.

الثانی: الرکن المعنوی، وهو أن یکون العرف الذی یعتاد ذلک یراه ملزماً، إذ قد یعتد العرف شیئاً بدون رؤیته ملزماً بل یرونه من المستحسنات، وقد یرون شیئاً لازماً حتی أن من لم یلتزم به یرونه تارک واجب وأنه خارج عن موازین الإنسانیة.

وبعد تمامیة هذین الأمرین یکون مصدراً من مصادر القانون لدی غیر الملتزمین بالشریعة، ویکون مرجعاً من مراجع القضاة فیما لم یکن قانون.

((بین العرف والعادة))

((بین العرف والعادة))

وقد سبق الإلماع إلی أن العرف والعادة بینهما عموم من وجه، فما نقل من جماعة سابقین جدیداً واستحسنه هذا العرف المنقول إلیه لیس بعادة وإن صار عرفاً، وما کان عادة سیئة کشرب الدخان عادة ولیس بعرف اصطلاحاً، ویجتمعان فی الأمثلة المتقدمة.

ثم ما ذکرناه من الأمرین الأولین للعرف إن کان واضحاً فهو، وإن کان دائراً بین المتباینین فالجمع فی مورد الاحتیاط، والتخییر فی غیر مورد الاحتیاط، إن لم یکن هنا أهم وإلاّ قدم الأهم منهما، وإن کان دائراً بین الأقل والأکثر فالمرجع البراءة عن الأکثر ولزوم الأقل کما قرر فی الأصول.

((إذا سقط العرف))

((إذا سقط العرف))

ثم إذا سقط العرف عن العموم فی العرف العام، أو عن الخصوص فی العرف الخاص، أو سقطت رؤیة العرف کونه ملزماً سقط مصدریته للقانون أو مرجعیته فی القضاء إذا لم یکن قانون.

والسقوط یمکن أن یکون لعدة عوامل، مثلاً فی أیام لم تکن أنابیت الماء کان العرف علی عدم حفر

ص:178

بئر فی الدار یضر ماء الجار، لکن لما جاءت الأنابیت ارتفع الاحتیاج إلی البئر، فلا عرف الآن فی ذلک، فکل جار هو وما یختاره، لأن الأمر صار من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

هذا تمام الکلام فی باب العرف بالنسبة إلی الأمور العامة، أما العرف بالنسبة إلی الأمور الخاصة کما إذا عقد اثنان عقداً ولم یکونا ملتفتین إلی بعض اللوازم لکن العرف یری أنه لازم، فالظاهر لزوم ذلک الشیء، لأن الإرتکاز کان منصباً علی العرف فهو یدخل الأمر فی (عقودکم) لکن لا لفظاً أو قصداً لفرض فقدهما، بل ارتکازاً.

ولذا ذکر الفقهاء أن الوقوف منصبة علیها وإن لم یکن قصد الواقف ذلک، کما لو وقف لإنارة الضرائح المقدسة فی وقت لم یکن من الکهرباء أثر، بل إذا قیل لإنسان ذلک کان یعده نوعاً من المحال، أو نذر أن یسیّر إنساناً إلی الحج، أو جعل ثلثه کذلک إلی غیرها من أشباهها، وکان النذر والوصیة فی وقت کان یعد السفر بالطائرة من المحالات، فإنه یصح للوصی والوارث إذا جاءت الطائرة التسییر إلی الحج بها، إذ العرف یرون ارتکازایة وسیلة الإنارة أو السفر وإن کان فی ذهن الناذر والواقف ومن أشبه تلک الوسائل البدائیة، إلاّ أن ارتکازهم أیة وسیلة یوجب صب النذر والوصیة والوقف علی الأعم.

وهکذا حال ما إذا وقف بستاناً لإطعام الفقراء فی وقت کان الإطعام لمائة إنسان بدینار، مما لم یدر بخلد الواقف احتیاج مائة إلی مائة دینار للتضخم، فإنه إذا تضخم شمل الوقف ذلک، للارتکاز المذکور، إلی غیرها من الأمثلة الکثیرة.

فإن العرف المعین للمصرف لیس حجة بما هو عرف، بل لأنه الکاشف عن ذهنیة الواقف والناذر والموصی ونحوهم مما یوجب انصباب العقد والإیقاع علیه، فیکون (نذورکم) و(عقودکم) و(أوقافکم) وما أشبه مما یستفاد من ﴿یوفون بالنذر﴾((1))، أو

ص:179


1- سورة الإنسان: 7

﴿أوفوا بالعقود﴾((1))، أو «الوقوف علی حسب ما یوقفها أهلها»((2)) إلی غیر ذلک.

وحیث لم یکن العرف عندنا حجة إلاّ فی الموارد المذکورة علی التفصیل المتقدم، فإذا جری عرف الدول علی شیء فاللازم علینا اتباع الدلیل، وافق العرف أو خالفه.

مثلاً العرف یرون مدیونیة الدولة المعتدیة بالنسبة إلی الأعراض والأموال والدماء التی أریقت بسبب هذه المعتدیة من جانب المعتدی علیها، وإن تبدلت الدولة المعتدیة إطلاقاً ولم یبق منهم أحد، کما قررت الدول غرامة ألمانیا لقتل الیهود مع أن حکومة بعد الحرب لم تکن ترتبط بحکومة هتلر المعتدیة إطلاقاً.

وکما تقرر الدول نفس ذلک بالنسبة إلی دولتین حاربت إحداهما الأخری اعتداءً، ثم سقطت الدولة المعتدیة، بل ولو بقیت مع أن الدولة المعتدیة لا حق لها فی أموال الأمة، وهی هی فکیف بما إذا تبدلت إلی دولة أخری.

أما عندنا فقد ینطبق علی الدولة المتعدیة قانون الإلزام، لأن الدولة المتعدیة ملتزمة بدفع الغرامة فلنا أن نأخذها منها، أو قانون المقابلة بالمثل حیث اتفقنا نحن وتلک الدولة فی الأمم المتحدة بهذه المقابلة، وکان ذلک جائزاً لنا من باب قانون الأهم والمهم أو ما أشبه مما تقدم الإلماع إلیه من تصدیق قانون الأمم المتحدة للدولة الإسلامیة الصحیحة، أو قانون رعایة حاکم الشرع لمصالح المسلمین والذمیین الذین هم تحت نفوذه، حیث إن معنی (جعله حاکماً) ذلک، فإذا تحقق الموضوع تحقق الحکم، أو قانون «لا یطل دم امرئ مسلم»((3))، فاذا لم یطل دمه لم یطل عرضه وماله بالملاک.

فإذا زنت الدولة المعتدیة بنساء المسلمین أخذ الحاکم مهور تلک النساء من المعتدین، وهل تأخذ بدل هتک أعراض الأولاد باللواط بهم((4)) محتمل من باب المقابلة بالمثل إذا رأی العرف أن الغرامة مقابلة بالمثل، فلماذا یذهب عرضهم هدراً، بل قد

ص:180


1- سورة المائدة: 1
2- تهذیب الأحکام: ج9 ص129 ب3 ح2
3- من لا یحضره الفقیه: ج4 ص100
4- أی هتک العدو عرض الأولاد حیث لاط بهم، فهل تؤخذ منهم الغرامة والبدل، ف_ (باللواط) متعلق ب_ (هتک) لغة

احتملنا فی (الفقه) ذلک، ففی اللاطی العادی إذا تمکن الحاکم الشرعی أو نائبه منه((1))، ومجرد قتل اللاطی لا یکون بدلاً عن هتک عرض الولد، کما أن مجرد قتل أو ضرب الزانی لا یکفی عن مهر المزنی بها إکراهاً أو نحو الإکراه کالإلجاء وفی حالة النوم والإنماء وما أشبه.

لکنی لم أجد أحداً ذکره، بل ظاهرهم العدم حیث ذکروا الأحکام بدون الإلماع إلی ذلک، بل لم یلمع إلی مثل هذا الحکم، نعم روایات المقابلة وآیات ﴿فمن اعتدی علیکم فاعتدوا علیه بمثل ما اعتدی علیکم﴾((2))، ﴿وجزاء سیئة سیئة﴾((3))، ﴿والحرمات قصاص﴾((4)) وما أشبه، تشمل ذلک بعد رؤیة العرف أن الغرامة مقابلة بالمثل، والهیئة التی هی الدولة واحدة بنظرهم، فإن دولة ألمانیا مثلاً دولة واحدة أرضاً وشعباً وثروةً واعتباراً، ولا یهم بعد ذلک تبدل الجمهوریین إلی الملکیین أو بالعکس، أو تبدل الهتلریین إلی غیرهم بعد الحرب.

وهذا کما یری الناس وحدة المرجعیة، فإذا مات المرجع وکان مدیوناً من جهة الإعطاء للطلاب وما إلی ذلک من المصارف الإسلامیة، قام المرجع الثانی بعده بتسدید دیونه.

وعلی هذا فإذا أخرجت حکومة البعث جملة من المسلمین من العراق وصادرت أموالهم المنقولة وغیر المنقولة وهتکت أعراضهم وقتلت جملة منهم، حق لهم مطالبة من یأتی بعد البعث بالأضرار.

ولا یقال: إن المال مال الأمة، فکیف تعطی الحکومة الجدیدة أموال الأمة غرامة لأضرار الحکومة السابقة، نعم بالنسبة إلی الأموال الباقیة أعیانها من الواضح لزوم ردها إلی أصحابها الشرعیین أو ورثتهم حسب موازین الأرث، داراً أو عقاراً أو فرشاً أو ما أشبه ذلک، أو یقال بانطباق قانون مجهول المالک علی المقام، حیث إن أموال الدولة مجهولة المالک فیما یفرض أن الدولة الحدیثة غیر شرعیة، فیأخذ المتضررون

ص:181


1- أی من أخذ البدل والغرامة
2- سورة البقرة: 194
3- سورة الشوری: 40
4- سورة البقرة: 194

الأموال من الدولة بإجازة الحاکم الشرعی.

لکن یبقی الکلام حول أنه إذا أخذت مثلاً الیهود غیر الحربیین من دولة ألمانیا الأضرار وأعطوها لأصحابها، أی ورثة أولئک الیهود المقتولین، أو لأنفسهم فیما إذا سلبت أموالهم أو هتک أعراضهم أو ما أشبه ذلک بسبب النازیین فبها، وإلاّ فلیس غیرهم أصحاب استحقاق إلاّ من باب (فمن اعتدی) أو ما أشبه إذا فرض عرفیة المقابلة.

ومثالنا بالیهود والنازیین من باب الإلماع، وإلا فیهود إسرائیل معتدون مثل النازیین إذا لم یکونوا أکثر اعتداءً، فالمثال وإن قرب من جهة یبعد من جهة.

وربما یقال بأن الأمر من باب قانون الملاک المستفاد من إعطاء النبی (صلی الله علیه وآله) دیة أولئک الذین قتلهم خالد بن الولید، فإن الرسول (صلی الله وعلیه وآله) أعطی من بیت المال لأناس جنی علیهم خالد، فلم یخرج من کیس خالد الغرامة وإنما من کیس المسلمین.

لکن الملاک محل نظر، إذ خالد کان من قواد جیش الرسول (صلی الله علیه وآله)، ومن المعلوم أن ما یفعله مجموعة من الجیش یکون علی الجمیع، ففرق بین الحکومتین وبین حکومة واحدة جنی بعض أفرادها حیث المکلف الحکومة بما یعمله أفرادها.

ویمکن أن یقال إنه من باب قانون (کما حکم به العقل حکم به الشرع) من جهة أنه داخل فی سلسلة العلل من الحسن والقبح، فإذا حکم العقل بذلک ولم یکن من الشرع ما ینافیه حکم به الشرع.

هذا کله بالنسبة إلی الشیعة، أما عند السنة فیمکن أن یکون الأمر داخلاً تحت قانون المصالح المرسلة أو بعض الأقیسة والاستحسانات، وإن لم أجد طرح هذه المسألة فی کتبهم.

وعلی أی حال المراد الإلماع إلی أنه لا یمکن إسناد الأمر إلی العرف، لأنه کما عرفت لیس بحجة إلاّ فی الموارد الثلاثة الموضوع والحکم والارتکاز، بل الثالث

ص:182

راجع إلی الأولین أیضاً، لأنه ارتکاز فی الموضوع أو ارتکاز فی الحکم.

((إذا اختلف العرف))

((إذا اختلف العرف))

ثم العرف الذین ذکرنا أنهم هم المرجع فی حدود الموضوعات والأحکام والارتکازات، إذا اختلفوا کان معنی ذلک عدم وجود العرف، فالمرجع الأصول العملیة.

نعم إذا کان هناک عرف فی زمان الرسول والإمام (صلوات الله علیهما) وعرف آخر فی زماننا فالمعیار عرفهم لا عرفنا، لأنهم المخاطبون ففهمهم هو الحجة.

ولو شککنا فی تبدل العرف فأصالة عدم التغییر یعطی بقاء نفس ذلک العرف.

هذا من حدود الموضوع والحکم.

((عرف المتشرعة))

((عرف المتشرعة))

ولو لم یکن عرف عام فی شیء، بل کان عرف المتشرعة مما یعبر عنه بالمرکوز فی أذهانهم، أخذ به أیضاً من باب أصالة عدم النقل، حیث إن الارتکاز لو تبدل سجل التاریخ وقت تبدله، فعدم تفصیل التاریخ یعطی بقاء نفس الارتکاز، کما ذکروا ذلک فی معنی الأمر والنهی وغیرهما.

ویمکن أن یمثل للارتکاز فی غیر الموضوع کما تقدم، بارتکاز أذهان المتشرعة بعدم جواز فتح المسلم مبغی أو ملاطاً بین الکفار الذین یجوزون هم الزنا واللواط، فقاعدة الإلزام لا تشمل مثل ذلک، لأنه المرکوز فی أذهان المتشرعة وإن لم یسبق له ذکر فی کتب الفقه فی عداد المحرمات، فإنه بمجرد أن یسمع المسلم بذلک یراه منکراً، بل من أشد المنکرات والله العالم.

ثم المراد بالعرف العام فی الاصطلاح العالمی أن العرف یضع قوانین معینة ویبلورها فی إعطاء الصلاحیة للحکام لیجسدوها فی القوانین الخارجیة، أما سبب وضع العرف للقوانین الخاصة فللوصول إلی الحاجات الجسدیة والروحیة، إذ الإنسان بحاجة إلی الأمن ولقمة العیش

ص:183

والمسکن والزوج وما أشبه، فإذا لم یکن بین الاجتماع أمور متفق علیها المعظم لا یمکن حصول الفرد علی هذه الأمور، ومنهما یرجح العرف البدائل بعضها علی بعض یقرّر أحد تلک البدائل فی کل مورد کمورد الأمن ومورد الولادة ومورد الزواج ومورد الطلاق ومورد التجمع ومورد الموت ومورد الأفراح والأتراح ومورد الکوارث ومورد الجنایات إلی غیرها من الموارد.

مثلاً إذا رأی العرف النساء أکثر من الرجال یضع عادةً بتعدد الأزواج، وإذا ساء سلوک الرجال مع الزوجات المتعددات یضع العرف عادة لتقبیح تعدد الزوجات، فراراً من ابتلائهن بسوء أخلاقهن، وهذا لا ینافی الشرعیة فی التعدد، إذ ذلک لیس من الواجبات.

وکذلک إذا رأی العرف حکومة الملک أفضل فی إدارة شؤونها اختاروا ملکاً، وإذا رأوا سوء معاملة الملک اختاروا تبدیل الرئیس فی صورة الدیمقراطیة فلا ملوکیة، إلی غیرها من الأمور التی یستحسنها أو یستقبحها العرف حسب حاجاته من غیر فرق بین کیفیة المسکن والملبس والمرکب والزراعة والصناعة والتجارة وغیرها، لأن الکیفیة أیضاً بنظر العرف.

هذا بالنسبة إلی الأمور المادیة أما غیر المادیة فالإنسان بطبیعته یحب ملئ فراغاته النفسیة یجعل الآداب والرسوم، وهذا لیس من باب التحسین والتقبیح وإن کانا یصادفانه أحیاناً، ولیس من باب الاحتیاج وإن کان یصادفه کذلک، بل من باب أنه مقصد الإنسان أیضاً أن یملأ فراغاته بجعل الآداب والرسوم.

والفرق بینهما أن الأدب فیه معنی الاحترام، بینما الرسم خال عن هذا المعنی وإنما یتضمن معنی الاستمرار فی شیء، مثلاً احترام الآباء أدب، أما الخروج فی الیوم الفلانی إلی الصحراء لزرع الشجر فهو رسم.

هذا بالنسبة إلی وضع القوانین، وأما بالنسبة إلی تبلور العرف فقد ذکر علماء

ص:184

الطبیعة فی القدیم أن العناصر الأربعة لها هیأوا واحدة، ولذا تتبدل بعضها إلی بعض، کالهواء ماءً، والماء هواءً وهکذا.

وعلماء السیاسیة والاجتماع ذکروا مثل هذا الشیء فی القدرة، وقالوا إن القدرة کذلک تتبدل صورها وإن کان جوهرها شیئاً واحداً، فالمال والسلاح والعلم والسلطة ونحوها کالجمال وغیره صور متعددة بجوهر واحد یسمی بالقدرة، فالمال یمکن أن یتبدل سلاحاً أو علماً أو سلطةً، کما أن کلاً من الثلاثة أیضاً ممکن التبدیل إلی غیرها، والعرف له هذا المثال أیضاً حیث بعد إعطائهم الصلاحیة إلی أیة رئاسة کوکلاء المجلس أو نحوهم یبدلون أولئک العرف إلی قوانین، مثل قانون إنصاف المظلوم والتساوی أمام القانون وغیر ذلک، فإن هذه القوانین هی العرف المتبلور فی صورة القانون.

((مرجعیة العرف))

((مرجعیة العرف))

ثم إن العرف مرجع فی الأمور الدینیة، وفی القوانین الموضوعة من غیر المتدینین، فقد یکون مرجعاً صریحاً، وقد یکون مرجعاً ضمنیاً، ونذکر أمثلة لذلک کنماذج، وإلاّ فالأمثلة کثیرة جداً، کما یجدها من راجع فقه الإسلام وقوانین البلاد العلمانیة.

1: فالإنسان لا یجوز أن یضر جاره إلاّ فی حدود العرف، مثل أن الجار الذی له إطعام أو مجلس وعظ أو عرس أو عزاء لا بد وأن یزعج جیرانه بالأصوات والمجیء والرواح وما أشبه ذلک، وکذلک یزعج جیرانه بالنسبة إلی أصوات الدیکة والنعاج والأوز وما أشبه بما یتعارف، وکذلک الإزعاج بسبب الدخان من مداخن الحمامات البیتیة وروائح الثوم ونحو ذلک.

2: وإذا بیع بیت أو حمام أو بستان أو دکان أو ما أشبه دخل فی البیع ما کان العرف یرون أنه من لوازمه وتوابعه.

ص:185

3: ولو نذر إطعام الطعام أو ما أشبه ذلک من الإکساء والإسکان، فاللازم مراجعة العرف فی صدق المذکورات، وهکذا حال الوقف والشرط وغیرهما.

4: وإذا أوصی بتجهیزه بعد الموت وما یتبع ذلک، فاللازم مراجعة الوصی للعرف فی شؤون المیت من الغسل والکفن والدفن والإطعام وجعل الفاتحة وغیرها.

5: وفی القرآن الحکیم: ﴿فإمساک بمعروف أو تسریح بإحسان﴾((1))، فالأول ذکر العرف فیه صریحاً، والثانی ضمناً حیث إن الإحسان عرفی أیضاً.

وقد ذکرنا فی بعض الکتب المعنیة بهذا الشأن: أن الإحسان واجب فی الجملة أیضاً، قال سبحانه: ﴿إن الله یأمر بالعدل والإحسان﴾((2))، وهو واجب بقرینة الأمر والسیاق، ومن الأحکام الاقتضائیة کالواجب والحرام فالعدل وإیتاء ذی القربی واجبان، والنهی یفید التحریم کما أن الفحشاء والمنکر والبغی محرمات.

وقال سبحانه: ﴿وأمر بالعرف﴾((3)).

وفی آیة أخری: ﴿أحسن کما أحسن الله إلیک﴾((4)).

وقال سبحانه: ﴿إن الله مع الذین اتقوا والذین هم محسنون﴾((5)).

وجلب رضاه سبحانه وتعالی ومعیته بهذا المعنی بقرینة سیاق (اتقوا) واجب.

کما أن فی الإلماع إلی العرف الضمنی قال سبحانه: ﴿یحکم به ذوا عدل منکم﴾((6)) فالعرف هو الذی یعین المماثلة.

6: وقد أکثر الفقهاء من قولهم (العرفیة)، ف_ (السرعة العرفیة) فی الأمور الفوریة و(القیمة العرفیة) فی العوضین و(الأجرة العرفیة) و(المثل العرفی) وما أشبه ذلک، کما قالوا (المعاشرة بالحسنی العرفیة)

ص:186


1- سورة البقرة: 229
2- سورة النحل: 90
3- سورة الأعراف: 199
4- سورة القصص: 77
5- سورة النحل: 128
6- سورة المائدة: 95

فی الإمساک بالمعروف، فاللازم أن یکون للزوج معاشرة عرفیة إلی غیر ذلک مما هو کثیر.

((المفهوم العرفی للأخلاق))

((المفهوم العرفی للأخلاق))

والمراد المعاشرة فی الأخلاق الزوجیة حسب العرف من السلام والصباح والبشر والائتلاف والخدمة وما أشبه، لا الأخلاق العلمیة الذی عرفها بعضهم بأنه:

(علم فلسفی یتناول مسألة السلوکیة الواجبة للإنسان عن طریق تحدید مفاهیم الخیر والشروط والالتزام والواجب والصدق والحقیقة لاستنباط القیام والمفاهیم الخیرة بحد ذاتها عند بعض المفکرین، أو بما یعود إلی نشاط قوانین السلوکیة البشریة التی تعزز الاتجاه نحو الخیر وتغنی الحیاة الإنسانیة عند البعض الآخر، قال: ویتصل هذا العلم بمباحث أخری مثل مبحث القیام وبحث المعرفة، وهناک اختلافات فی النظرة بعلم الإخلاق ککل، علاوة علی التیارات المختلفة والمتناقضة فی المسار الفکری.

فقد انصب تفکیر الفلاسفة القدماء علی اعتبار المعرفة والأخلاق المفتاح للمجتمع الفاضل، بینما فسر اللاهوتیون الأخلاق علی أساس مثالی وسماوی ما ورائی، أما أعلام التفکیر العقلانی فقد طرحوا المشکلات علی أساس جدید ساعد الاشتراکیین الخیالیین علی استهداف العدالة والسعادة، وذهب المادیون إلی التفتیش عن أسباب دنیویة وأرضیة محضة للأخلاق، فی حین رأی منظرو الاشتراکیة الأخلاقیة ضرورة الربط بین المادیة الجدلیة وبین الفلسفة الأخلاقیة التی نادت بالتضامن واعتبرت الإنسان غایة لا مجرد واسطة.

ومهما یکن من خلاف بین مختلف النزاعات العقلانیة والنفعیة والاشتراکیة فقد رکزت جمیعاً علی علاقة الأخلاق بالنظام الاقتصادی والاجتماعی، وعلی أهمیة دراسة مفاهیم الأخلاق بالنظام الاقتصادی والاجتماعی وعلی أهمیة دراسة مفاهیم الفلسفة والأخلاق فی الدفاع عن الحقائق بما یؤمن ارتقاء أحوال المجتمع وتحقیق سعادة البشر عموماً) انتهی.

((تطور العرف))

((تطور العرف))

ثم حیث إن السیاسیة

ص:187

والاجتماع والاقتصاد متطور فی کثیر من الأحیان، فالعرف یتطور حسب ذلک أیضاً، فمثلاً فی زمان الملوکیة المطلقة لا انتخابات، وتبعاً لذلک لا توجد المؤسسات الدستوریة حتی یوجد عرف تابع لها، أما إذا تحولت الدولة إلی الدیقراطیة وجدت تلک المؤسسات وتبعاً لها یوجد أعراف جدیدة کعلاقات التجمع الثقافی بدل التجمع العشائری، حیث إن الحزب الذی هو من مبانی المؤسسات الدستوریة یتکون من التجمعات الثقافیة، وبذلک یزول عرف العشائر ویوجد عرف الأحزاب.

وبالنسبة إلی تطور الاجتماع: فالمواصلات الحدیثة التی تتخذ مکان المواصلات القدیمة توجد أعرافاً جدیدة حسب شأنها، بینما تختفی أعراف الأسفار القدیمة، کعرف مراعاة الرتبة فی السیارات، فالسیارة المتقدمة فی الوصول إلی المدینة یلزم أن تتقدم فی حمل المسافرین، کما أن النظام یلزم مراعاته عند الرکوب فی المواقف المزدحمة، إلی غیر ذلک.

وهکذا الشأن بالنسبة إلی الاقتصاد: فالعرف متطور حسب تطوره، مثلاً تطور الحیاة أکثر لکثرة أسباب التجمل وما إلی ذلک یوجب تزاحم الکسبة علی الدکاکین فی المحلات المزدحمة بالمشترین، وهذا التزاحم یوجب ارتفاع إیجار الدکاکین بقانون العرض والطلب، وحیث لا یملک کل مستأجر قدر الإیجار المرتفع یبدل ذلک إلی شبه رهان یحفظ رأس المال للمستأجر مع انتفاع الموجر بفوائده المضاربیة عند المتشرعة، أو فوائده الربویة عند غیرهم، ومن ذلک ینشأ عرف (الخلو) فیعطی الموجر مثلاً ألف دینار خلواً، ولکل شهر عشرة دنانیر إیجاراً، فألفه محفوظ بینما استفاد الموجر من أرباح الألف.

ولا یخفی أن مشروعیة الخلو تتوقف علی کون آخذها هو المالک ونحوه کمتولی الوقف، أو أن المستأجر شرط علی الموجر حقه فی ذلک، وإلاّ فالناس

ص:188

مسلطون علی أموالهم یقف دون إرادة المستأجر الخلو وبدونها لا یخرج من الدکان.

وحال غیر الدکان حال الدکان فی هذه المسألة، منشئاً وشرعاً.

لا یقال: فما هی الحکمة فی إعطاء المستأجر الخلو مع أنه یتمکن أن یتاجر بها ویدفع الإیجار أکثر.

لأنه یقال: لا وقت للمستأجر، وکثیراً ما لا خبرة له فی الاتجار بالخلو، وبإعطائها إلی الموجر یتخلص هو عن هذه المشکلة.

وعلی أی حال، فهذه الأعراف الجدیدة توجب قوانین جدیدة إما من جهة التطبیق کما عند المتشرعة، أو من جهة الکبری أیضاً کما عند غیرهم.

((أعراف جدیدة))

((أعراف جدیدة))

وهکذا تتولد الأعراف الجدیدة، من العمارات الجدیدة ذات الطوابق، ومن الزراعة الجدیدة الترکتوریة وغیرهما.

ثم إن بعض الحقوقیین مثل للأعراف الجدیدة التی نشأت من تطور الاجتماع عرف احتیاج الزوجین قبل العقد إلی الوصفة الطبیة بعدم الابتلاء بالأمراض المسریة، فإن هذا العرف نشأ من کثرة هذه الأمراض بسبب تطور الآلة والسرعة وتجمل الحیاة وتعقدها، وسبب هذا العرف وضع قانون لذلک فی کثیر من البلاد.

لکن لا یخفی أن هذا القانون فی بلاد الإسلام التی تعمل بموازین الإسلام لا وجه له إطلاقاً، بل حتی فی البلاد التی لا تعمل بموازین الإسلام أیضاً لا وجه لهذا القانون، والاشکال المذکور غیر وارد:

أما حلاً: فلأن الأمراض المسریة قلیلة جداً مما یجعل الضرر غیر عقلائی، مثل عدم عقلائیة الخوف من السفر بالسیارة والطائرة لأجل احتمال التصادم والسقوط، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

وأما نقصاً: فلأنه لو صح الاحتیاج إلی ملاحظة الطبیب عند الزواج لاحتمال السرایة، لاحتاج الأمر إلی ملاحظة الطبیب لکل داخل فی المقاهی والمطاعم والفنادق والشراکة بین اثنین والضیافة ومحلات السباحة، بل کل عائلة عائلة ولو کل شهر مرة

ص:189

یفحصهم الطبیب واحداً واحداً مثلاً، إذ المقاهی والمطاعم والفنادق حیث الاشتراک فی ظروف الأکل والشرب ومحلات النوم ممکن السرایة، وکذلک یأتی هذا الکلام فی الشریکین حیث یریدان تجدید الشرکة بینهما لاحتمال سرایة المرض من هذا الشریک إلی شریکه إذا کان أحدهما مریضاً، ویأتی ذلک بین الضیف والمضیف ورکاب السیارات وما أشبه ومن أشبه، فعلی القانون أن یعلن أن کل ضیافة وشراکة بحاجة قبلاً إلی فحص الطبیب لکل من المضیف والضیف والشریک والشریک، سواء فی الضیافات العمومیة أو الخصوصیة، وکذلک الحال فی الذین یریدون السباحة فی الأحواض المشترکة أو یریدون رکوب السیارات ونحوها.

وهکذا من المحتمل فی العائلة أن ابتلی أحدهم مثلاً بالسل أو الجذام أو الملاریا وما أشبه من الأمراض المعدیة، فاللازم فحص الطبیب لهم فیما لا یقل من کل شهر مرة مثلاً، وهکذا حال من یدخل بلداً أو یخرج من بلد، إذ من المحتمل أن یکون مریضاً یدخل المرض إلی البلد المسافر إلیه، وهکذا فی کل محل تجمع کالمدارس والنوادی والمساجد والکنائس وما أشبه ذلک.

وبالأولی احتاج الفحص أصحاب المیت ومرتادی المستشفیات والمصحات، حیث من المحتمل أن یکون المیت مبتلی بالأمراض المعدیة فلمس أهله له أوجب السرایة، وهکذا زوار المرضی فی المستشفیات وما أشبه ذلک.

وعلی أی حال فلیس من العرف الذی نحن بصدده ما ذکر من فحص الزوجین، ولذا فالقانون الذی یوضع تبعاً لهذا العرف أو یوضع لدرء الخطر وإن لم یکن عرف، منظور فیه.

((فروع))

اشارة

((فروع))

وهنا فروع لا بأس بالإلماع إلیها وإن کان موضعها (الفقه) لا المدخل إلی الحقوق الذی نحن بصدده فی هذا الکتاب، لکن المناسبة الحقوقیة وهل أن مثل ذلک حق أم لا، أوجب ذکرها

ص:190

مع المناسبة لما طرح من العرف:

((المرض المعدی ومسألة الضمان))

((المرض المعدی ومسألة الضمان))

الأول: هل أن من سبّب أمراض الناس بسبب العدوی بالأمراض المسریة یضمن المال بقدر الحق العرفی مطلقاً، أی ولو کان عن جهل، أو لا یضمن مطلقاً، أو یفصل بین العامد فیضمن بین غیره فلا یضمن، احتمالات.

الأول: إنه ضامن فیجب تدارک ضرره.

والثانی: عدم ذلک إطلاقاً، لعدم ذکره فی کتب الفقه ولو کان واجباً لبان.

والثالث: إنه مع العمد یضمن لأنه سبب ذلک لا مع غیره.

لکن الظاهر الأول صناعة، فإن عدم الذکر لا یدل علی العدم بعد إطلاق أدلة السبب، کما أن الضمان لا یحتاج إلی العمد، ولذا من کسر إناء الغیر فی النوم، أو سبب سقوطه بمد رجله إلیه مما أوجب کسر عظامه مثلاً أو موته کان ضامناً.

وقد ورد أن الظئر لو انقلبت علی الطفل فی النوم ومات الطفل کانت الظئر ضامنة، إلی غیر ذلک مما ذکر فی کتاب الدیات والغصب وغیرهما.

وإذا قیل بالضمان فهل المال بقدر علاج نفسه أو یضاف إلیه تعطله عن العمل وقد کان یربح بواسطة عمله فی الشخص العامل، مقتضی الصناعة الثانی، لأنه ضرره بعدم العمل أیضاً، کما ذکرنا مثل ذلک فی کتاب الغصب لمن حبس حراً أو وقف دون عمله.

ویأتی مثل هذا الکلام فیمن کسر رجل غیره مثلاً، فهل علیه الدیة فقط، أو بإضافة التفاوت بین المال الذی یتطلبه العلاج بالإضافة إلی الدیة، مثلاً الدیة مائة والعلاج بمائة وخمسین، أو بإضافة تعطله عن العمل أیضاً بسبب کسر

ص:191

رجله، مقتضی الصناعة الثالث للجمع بین دلیل الدیة ودلیل «لا ضرر» الشامل لکلا الأخیرین، أی ضرر التفاوت وضرر قدر التعطل، لکن الفتوی بذلک بحاجة إلی تأمّل أکثر وتتبع أوسع، لم أر من الفقهاء من تعرض لبعض ذلک.

((تمریض الجنین))

((تمریض الجنین))

الفرع الثانی: هل من سبب مرض جنینه أو جنینها فی حال الحمل، لشرب الخمر مثلاً أو غیر ذلک من المضار، أماً کانت أو أباً أو کلیهما، أو سبب فقد الجنین لقوة من قواه، کالبصر أو السمع أو العقل، یضمن أو لا، احتمالان، من عدم ذکرهم له فالأصل عدم الضمان، ومن إطلاق الأدلة.

لکن قد عرفت أن عدم الذکر مع الإطلاق غیر ضار، نعم ربما یقال إنه نشأ بدون تلک القوة لا أن الأبوین أفقداها، والأدلة تدل علی الضمان فی الثانی دون الأول، لکن:

أولاً: کثیراً ما ینشأ الجنین مع تلک القوة لکنهما یسببان فقدها، فحالهما حال من رفس بطن الأم فأفقد الجنین عضواً أو قوة، فلا یمکن إطلاق القول بعدم الضمان.

وثانیاً: إن مثل ذلک ضرر أیضاً، وإن کان بسبب الحیلولة دون تکون تلک القوة، ولذا العرف یقولون: الأب أو الأم سبب هذا الفقد.

لکن فی شمول إطلاقات الأدلة کروایات الدیات ونحوها لأمثال هذا الضرر تأمل، نعم ینبغی إخراج صورة عن الضمان لو قلنا بالضمان وهو فیما إذا کانت الأم مثلاً محتاجة إلی تصویرها بالأشعة لمرض، والأشعة توجب ذلک کما یذکرها الأطباء، وهکذا فیما إذا احتاجت الأم إلی شرب دواء أو حقن إبرة أو ما أشبه من العلاجات مما یسبب التشویة فی الجنین.

((تکوین الولد مع العلم بالمرض))

((تکوین الولد مع العلم بالمرض))

ویتفرع علی

ص:192

هذا الفرع: إنه هل یجوز لمثل الأب المریض أو الأم المریضة تکوین ولد ثبت فی الطب أنه یفقد قوة من قواه کبصره أو سمعه إلی آخر عمره، وخصوصاً إذا کان یفقد عقله أو یکون شللاً أو کقطعة لحم أو ما أشبه ذلک، أو أن الأم تعلم بأنها حال الحمل بحاجة إلی دواء مضطرة إلیه یسبب تشوه الجنین.

لا یبعد القول بعدم الجواز تکلیفاً، لأنه من الضرر أیضاً.

وعلی ما ذکرناه من احتمال الضمان، فإذا ثبت أن تکلم الأبوین فی حال الجماع أو مقاربتهما فی وقت ورد فی الروایات خوف جنون الولد أو ما أشبه ذلک سبّب النقص أو التشویه، فهل یضمنان نقص الولد.

ربما یقال: لا للسیرة القطعیة بعد حمل تلک الروایات علی الکراهة، لکن فیه: إن عدم الضمان فی صورة عدم القطع المذکور وما فی الروایات من باب المقتضی، ولا یعلم هل أن ذلک السبب أو غیره، أما إذا علم بالسببیة فمقتضی الصناعة الضمان بعد عموم «لا ضرر»، وعدم الفرق فی ذلک بین العمد وغیر العمد کما تقدم.

أما القبح والوصمة العرفیة بل الشرعیة والمحدودیة الشرعیة لا توجب الضمان، کما إذا أکلت ما یوجب قبح الولد أو عدم جماله، أو حملت من الزنا عالماً عامداً حیث یوصم الولد شرعاً وعرفاً بأنه ولد زنا، أو أرضعت معه بنتاً سبب المحرمیة مما لا یتمکن الولد من التزویج بتلک البنت، فإن کل ذلک لا یوجب الضمان علی الأم.

وکذلک إذا حدث ما یشبه ذلک الشیء من الأب، إذ أن هذه الأمور لا تعد أضراراً عرفیة حتی یشملها دلیل «لا ضرر» مع أن الضرر موضوع عرفی، فاللازم الأخذ منه.

((تعارض القانون وروحه والعرف))

((تعارض القانون وروحه والعرف))

بقی شیء:

وهو أنه إذا تعارض القانون وروح القانون، أو تعارض العرف والقانون، أو تعارض العرف وروح القانون، فما هو العلاج.

والجواب: أما فی الأول أی تعارض القانون وروح القانون، مثل أن الدخول بالبنت دون

ص:193

إکمال التاسعة ممنوع حیث هذا هو القانون، لکن روح القانون یقول بجواز ذلک فی غیر بالغین زوجهما أبوهما مثلاً وکلاهما شبق ولا تضر البنت بالدخول، فهل یقدم القانون بالمنع أو روحه بالجواز، إذ روح القانون أن المنع من جهة صدمة البنت ولیست هنا صدمة إطلاقاً.

أو إذا کان القانون الوقوف عند احمرار الضوء وروح القانون یقول بأن ذلک من جهة خوف الاصطدام، بحیث لا خوف إطلاقاً کما فی إبان منع التجول.

((الأجیر فی الإخبار وقانون الضرر))

((الأجیر فی الإخبار وقانون الضرر))

الفرع الثالث: لو أعطی إنسان أجرة لأحد کی یوصل الخبر إلی وکیله لبیع بضاعته، حیث علم الموجر أن البضاعة فی حال التنزل فلم یفعل الأجیر ما استؤجر له حتی نزلت البضاعة، فهل هو ضامن للتفاوت، لأنه سبب الضرر عرفاً، لا یبعد ذلک، وقد یقال بأن الأصل براءته، لکن دلیل لا ضرر مقدم علیه.

ومثله لو أعطاه النقد الآئل إلی السقوط فلم یصرفه حتی سقط، أو اعطاه الثلج فلم یوصله حتی صار ماءً، أو الفاکهة حتی فسدت، أو کان مأجوراً لسدّ الحنفیة فلم یفعل حتی سبب کثرة الماء فساد البضاعة أو انهدام الدار، أو لم یسدّ الکهرباء فصرف ما فی قباله الثمن أو سبب إحراق الدار أو البضاعة، أو لم یسدّ أمام النهر فأفسد الزرع وما أشبه ذلک من الأمثلة الکثیرة، وقد ذکرنا جملة منها فی کتاب الغصب.

فإذا کان أحدهما أظهر لدی العرف قدم الأظهر، وإلاّ لا یبعد تقدیم روح القانون، لأنه علة، والعلة تعمم وتخصص فی کل من الموضوع والحکم، فإذا قال: لا تأکل الرمان لأنه حامض، صار عموم فی الموضوع بأن کل حامض یجتنب، وخصوص بأن الرمان الحلو یؤکل، کما صار عموم وخصوص فی الحکم بالتعمیم فی ماء الرمان شرباً مع أنه لیس بأکل،

ص:194

والحکم کان عدم الأکل، والتخصیص بأن الأکل مع ضمیمة ترفع مضرة الحموضة لا بأس به.

من غیر فرق بین مفهوم الموافقة أو المخالفة، والعلة المنصوصة أو المستنبطة استنباطاً عرفیاً.

ولهذا لم نستبعد فی الفقه جواز وطی البنت دون البلوغ إذا لم یکن ضرر إطلاقاً بکون الزوج أیضاً مثلها، أو کان الزوج صغیر الموضع، أو هی کبیر الموضع، أو سلک طریقها مثلاً ولو حراماً حتی لا ضرر إطلاقاً فی الحال الحاضر، وإن کانت المسألة بعد محل تأمل.

وربما یتمسک فی ذلک بالانصراف، لکن بعض العلماء یقدمون نفس القانون علی روحه فیما إذا لم یکن أظهر فی البین، وحجتهم أنه لا یمکن الخروج عن القانون إلاّ بالقطع، ولا قطع مع الاحتمال.

((تخالف الإشارة والوصف))

((تخالف الإشارة والوصف))

ومن هذا الباب تخالف الإشارة والوصف، کما إذا أشار الأب إلی بنته فاطمة، وقال: زوجتک زینباً، أو الإشارة والأمر کما إذا أشار الأب إلی من فی الباب بعدم الدخول وقال بلفظه: ادخل، أو بالعکس فی الإشارة والنهی بأن قال: لا تدخل، وأشار إلیه بالدخول، أو اختلف الوصف والأمر أو النهی، کما إذا قال مشیراً إلی زید: ادخل أو لا تدخل، یا عادل أو یا فاسق، وزید یعلم أنه لیس بعادل أو لیس بفاسق.

فإنه إذا کان أحدهما أظهر قدم، وإن تساویا فی الظهور لزم التماس دلیل آخر، فإن کان فهو وإلاّ فالمحکم الأصول، حیث لا تتوفر الأدلة الاجتهادیة.

هذا فی باب تعارض القانون جسماً أو روحاً، وإن کان التدافع بین القانونین جسماً أو روحاً بأن تضارب قانونان جسماً أو روحاً فإن کان من التزاحم کالغریقین قدم الأهم إن کان فی البین أهم، وإلاّ کان التخییر، وإن کان التعارض بینهما بسبب عدم الملاک فی أحدهما ما یسمی بالتعارض کان المرجع المرجحات فی باب التعارض، وإن فقدت المرجحات کان التخییر.

ص:195

((التعارض بین العرف والقانون))

((التعارض بین العرف والقانون))

ثم إن کان التعارض بین العرف والقانون، والفرق بینه وبین التعارض بین القانون وروح القانون أن القانون قد لا یکون مستقی من العرف، فالإنسان لم یعلم هل أن المقنن أراد الروح أو الجسد، وقد یکون مستقی من العرف ثم تغیر العرف مثلاً فلا یعلم هل یعمل بالقانون أو بالعرف الجدید، فالتعارض بین العرف والقانون.

فلعلماء الحقوق فیه أقوال ثلاثة: تقدیم هذا، أو ذلک، أو التخییر.

وهذا عند المتشرعة إنما یصح فی التطبیقات، وعند غیرهم حتی فی التشریع کما سبق الألماع إلی مثل ذلک.

((عرفان فی بلد واحد))

((عرفان فی بلد واحد))

وإذا کان فی البلد عرفان کل یفهم الموضوع أو حدود الحکم علی کیفیة وصار بینهما تنازع، فالمرجع القاضی الذی یحکم بینهما باجتهاده سواء وافق أحدهما أو خالف کلیهما، وذلک لأن القاضی هو الفاصل حتی فی مجتهدین تنازعا فی قدر المرکوز فی أذهانهما فی الأمور الخارجیة.

مثل ما إذا کان عرف یری أن مثل المروحة السقفیة المنصوبة والشموع المعلقة کلها داخلة فی مرکوز أذهان البائعین، بینما العرف الآخر یری عدم دخولها، فإن کان المتنازعان من عرف واحد ثبت علیهما حکم عرفهما، وإن کانا من عرفین فالمرجع الأصل.

نعم إذا کان عرف المشتری الدخول وعرف البائع العدم فالعقد مفقود الشرط، إذ المشتری اشتری بشرط الدخول والبائع باع مطلقاً فللمشتری الخیار، أو أن العقد مفقود الجزء لأن البائع باع جزءاً لا جزءاً آخر والمشتری اشتری کلا الجزءین فهو من خیار تبعض الصفقة، وإن کان علی نحو القید بطل العقد، لأن المقید عدم عند عدم قیده، فالأقسام ثلاثة.

وإن کان المتبایعان من لا یدخل فی أحد العرفین، فالمرجع المرکوز فی أذهانهما، فإذا اختلفا فی المرکوز کان کما إذا کانا من

ص:196

عرفین، وإن قال لا مرکوز فالمرجع الأصل.

((التعارض بین العرف العام والخاص))

((التعارض بین العرف العام والخاص))

ومنه یعلم حال ما إذا کان هناک عرفان عرف خاص وعرف عام، فإن کان المتنازعان من أحدهما فهو، وإن کانا من عرفین أحدهما خاص والآخر عام، فالأمر کالاختلاف فی الأعراف.

ومن هنا قالوا بأن راویین إذا کانا من عرفین وسألا الإمام (علیه السلام) حمل جواب الإمام بالنسبة إلی کل علی عرفه، مثلاً سأل کوفی عن أرطال الکر فقال الإمام: کذا، وسأل مدنی عن أرطال الکر فقال الإمام کذا، حمل الرطل فی کل جواب علی عرف السائل، وإن أمکن جمعهما فهو، کألف ومائة رطل بالعراقی وستمائة رطل بالمدنی، وإلاّ حمل الأزید علی الأفضل علی قاعدة الجمع بین الأقل والأکثر.

ولو کان هناک عرفان طولاً أو عرضاً ولم نعلم هل أن المقنن الذی قال بالرطل من هذا العرف أو ذاک فی العرضی، أو کان فی هذا الزمان أو ذاک فی الطولی، فإن کان بین العرفین تباین کان التخییر مع عدم إمکان الجمع، أو الاحتیاط مع إمکانه فی غیر المالیات، وفی المالیات المحکم قاعدة العدل، مثلاً قال علیک بدنة، والبدنة فی عرف البعیر وفی عرف البقرة، ولم نعلم هل أن الآمر من هذا العرف أو ذاک العرف، أو فی هذا الزمان أو فی ذلک الزمان، فإن الواجب علی المأمور نصف هذه، لأنه من الأمور المالیة، وإن کان بین العرفین عموم مطلق فالزائد علی الخاص یأتی فیه البراءة، وإن کان بینهما عموم من وجه فحال مورد التوارد حال التباین.

ص:197

((المستحدثات والقوانین الجدیدة))

اشارة

((المستحدثات والقوانین الجدیدة))

(مسألة) من الواضح أن المقننین سواء کان مقنناً تشریعیاً کما فی المقننین العلمانیین، أو تأطیریاً کما فی الإسلامیین، لم یضعوا کل القوانین التی تحتاج إلیها الأمة، فإن الأحداث المتجددة بالنسبة إلی الإسلامیین بحاجة إلی استنباطات جدیدة لتطبیقات الکلیات الإسلامیة علی الصغریات الجزئیة، ولذا احتاج الأمر إلی تکمیل القوانین یوماً بعد یوم بالنسبة إلی العلمانیین، وإلی تطبیقات جدیدة بالنسبة إلی الإسلامیین.

والفقهاء هم المبطقون والمستنبطون، کما أن القضاة الذین هم مجتهدون کذلک، وهکذا یقال فی العلمانیین بالنسبة إلی قضاتهم وشراح قوانینهم.

ولا شک بالنسبة إلی الإسلامیین فی حجیة نظر الفقهاء الذین یجمعون شرائط التقلید، کقاطعیة أنظار القضاء بالنسبة إلی المترافعین ومن إلیهم، کما أن القاضی العلمانی کذلک عندهم.

أما مفسرو القانون عندهم والمستنبطون غیر جامعی الشرائط عندنا فلیس لآرائهم وزن فی القطع، وإنما لإمکان المراجعة والاطلاع، کوزن آراء مراجع التقلید والقضاء الأموات بالنسبة إلینا، حیث إنها مساعدة للمقننین والمؤطرین والقضاة، فالمراجعون یراجعون آراءهم لأجل الاستفادة العلمیة.

وربما یصطلح علی رأی المراجع بالفتوی، وعلی رأی غیرهم من المستنبطین بالنظریات الفقهیة.

((إذا قضت المحکمة بالحکم))

((إذا قضت المحکمة بالحکم))

فإذا قضت المحکمة بشیء یرجع إلی تفسیر القانون أو استمده من العرف ونحوه فهو لازم الاتباع بالنسبة إلی الطرفین المترافعین، وبالنسبة إلی غیرهما کالأطراف الخارجة وکالآتین بعد ذلک، کما أنه حجة بالنسبة إلی لوزام القضاء، مثلاً لو قضی القاضی بین رجل وامرأة اختلفا فی أنها زوجان أم لا، بأنهما زوجان فإنه یترتب علی ذلک أحکام ثلاثة:

ص:198

الأول: لزوم ترتیب کل منهما الأثر علی الزوجیة.

الثانی: إن امرأة خارجیة لا تتمکن أن تتزوج بهذا الزوج والحال أنها خامسة بالنسبة إلیه أو أخت زوجته، وإن کان الرجل قبل فصل النزاع بسبب القاضی کان یدعی أن المدعیة علیه لیست زوجته، وهکذا المرأة طرف النزاع بعد حکم القاضی بأنها زوجة الرجل لا تتمکن من الزواج برجل آخر.

الثالث: إن أولادهما یعدون أولاد الحلال فی الإرث وسائر الشؤون، فلا یقال: إن الرجل المدعی عدم الزوجیة کان الأمر بالنسبة الیه زنا فلا إرث، نعم قد ذکرنا فی کتاب القضاء أن أحدهما لو علم بطلان ما ذکره القاضی إما لأنه لا یراه قاضیاً شرعیاً لعلمه بعدم عدالته أو فقاهته أو ما أشبه ذلک، أو علمه بأن حکمه خلاف الواقع، فاللازم علیه ترتیب أثر الباطل مهما أمکن، کما أن حال الثالث إذا علم ببطلان الحکم کذلک، لأن العلم لا یقف أمامه شیء، إلاّ إذا غیر الشارع الحکم کما ورد بأن الیمین تذهب بالحقوق.

((القضاة والقوة التنفیذیة))

((القضاة والقوة التنفیذیة))

ثم القضاة حالهم حال القوة التنفیذیة أمام ثلاثة أشیاء:

الأول: اتباع القوانین بدون زیادة ونقیصة، بالنسبة إلی القوانین الجوهریة.

الثانی: الاختیار فی إطار القانون فی الحکم بأحد صغریاته، إذا کان إطار القانون فضفاضاً یمکن الاختیار فیه.

الثالث: الاختیار فی الأسلوب القضائی، ویعبر عنه بالطریقة القضائیة.

مثلاً القانون یقول بحریة الزارع فی الزراعة، فإذا جاءه شریکان

ص:199

فی المرزعة یتنازعان، فالقاضی یجب أن یحکم بحریتهما وهذا هو الأمر الأول.

ثم لما کانت الحریة فضفاضة فللقاضی أن یجعل الأمر بین المتنازعین بأن یزرع أحدهما شتاءً والآخر صفیاً أو أحدهما الطرف الأیمن والآخر الطرف الأیسر من غیر فرق بین جعل الشتاء أو طرف الیمین لزید أو لعمرو، لأن القاضی حر فی القرار فی إطار القانون، وهذا هو الأمر الثانی.

ثم للقاضی فی الأمر الثالث أن یبلغهما ذلک بواسطة مکتوب أو رسول أو جریدة رسمیة أو ما أشبه ذلک.

وفی هذین الأمرین الأخیرین لا یلزم اتباع القضاة لرأی القضاة السابقین، ولا یلزم توحیدهم فی الرأی فی القضاة العرضیین، مثلاً القاضی السابق قال بزراعة زید یمیناً أو شتاءً، والقاضی الثانی فی مرافعة أخری بین المتنازعین یقول بزراعة عمرو یمیناً أو شتاءً فی سنة أخری تنازعا فیه ورجعا إلی قاض ثان، کما أن قاض فی عرض هذا القاضی فی نزاع بین زید وعمرو آخرین یحکم بعکس القاضی الذی کان فی عرضه، أو یقول أحدهما یزرع خریفاً والآخر ربیعاً، أو أن أحدهما یزرع أمام المزرعة والآخر خلفها لا یمینها وشمالها، کما یبلغ المتنازعین بکیفیة أخری غیر کیفیة القاضی الذی قبله أو فی عرضه.

((کلام الإمام فی ذم اختلاف الآراء))

((کلام الإمام فی ذم اختلاف الآراء))

وما تعرض له الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی ذم القضاة إنما کان بالنسبة إلی الأمر الأول، حیث إن کل واحد من القضاة الذین کانوا فی الکوفة والبصرة ومصر والیمن والحجاز وفارس وما أشبه مثلاً کان یحکم حسب القیاس والاستحسان أو المصالح المرسلة، ومن الواضح وقوع الاختلاف فی الجوهر فإذا اجتمعوا مثلاً أیام الحج کان الرئیس یصوب آراءهم جمیعاً، مثلاً کان أحدهم حکم بأن للجد الربع، والآخر حکم بأنه الخمس، والثالث حکم بأنه الثلث، ومن الواضح أن ذلک مخالف لوحدة الأحکام

ص:200

الجوهریة فکیف یصوب الرئیس الکل من القضاة فی قضایاهم فی موضوع واحد. أما إذا کان یصوب أحدهم ویخطئ الآخرین ولو کان التصویب والتخطئة حسب اجتهاده، لم یکن بذلک بأس، کما هو کذلک بالنسبة إلی آراء الفقهاء المختلفین فی الجوهر، مع اعتراف کلهم أو المرجع الأعلی بالنسبة إلیهم إذا کانوا قضاة تحت یده بأن أحد الآراء مطابق للواقع، أما الآراء الأخریات فهی مخالفة للواقع لکن إذا اجتهدوا اجتهاداً صحیحاً حسب الموازین فللمخطئ أجر وللمصیب أجران، کما ورد فی مرسلة.

وهنا ننقل کلام أمیر المؤمنین علی (علیه الصلاة والسلام) لیظهر أنه یذمهم فی التصویب لا فی أصل الاختلاف، قال (علیه الصلاة والسلام): «ترد علی أحدهم القضیة فی حکم من الأحکام فیحکم فیها برأیه، ثم ترد تلک القضیة بعینها علی غیره فیحکم فیها بخلاف قوله، ثم یجتمع القضاة بذلک وعند الإمام الذی استقضاهم فیصوب آراءهم جمیعاً، إلههم واحد ونبیهم واحد وکتابهم واحد، أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه، أم أنزل الله سبحانه دیناً ناقصاً فاستعان بهم علی إتمامه، أم کانوا شرکاء له فلهم أن یقولوا وعلیه أن یرضی، أم أنزل الله سبحانه دیناً تاماً فقصر الرسول (صلی الله علیه وآله) عن تبلیغه وأدائه، والله سبحانه یقول: ﴿ما فرطنا فی الکتاب من شیء﴾((1))، وفیه تبیان لکل شیء، وذکر أن الکتاب یصدق بعضه بعضاً، وأنه لا اختلاف فیه، وقال سبحانه: ﴿ولو کان من عند غیر الله لوجدوا فیه اختلافاً کثیراً﴾((2))، و«إن القرآن ظاهره أنیق، وباطنه عمیق، لا تفنی عجائبه، ولا تنقضی غرائبه، ولا تکشف الظلمات إلاّ به»((3)).

ص:201


1- سورة الأنعام: 38
2- سورة النساء: 82
3- بحار الأنوار: ج2 ص284 ب34 ح1 عن نهج البلاغة

((إشکالات فی معرفة الصغریات))

اشارة

((إشکالات فی معرفة الصغریات))

(مسألة): لو کان فی القانون التأطیری عندنا، والتشریعی عند العلمانیین، خلل بالنقص أو السکوت أو الإجمال أو التناقض، فاللازم سد الخلل بالاجتهادات الفقهیة عندنا، وبروح القانون وما أشبه عندهم، ولا تتمکن القوة القضائیة أو التنفیذیة من سد ذلک بنفسهما بتقنینهما، إذ لیس التقنین من صلاحیاتهم.

((النقص القانونی))

((النقص القانونی))

فالأول: وهو النقص، کما إذا ذکر القانون بعض الصغریات ولم یذکر بعض الصغریات الأخر، کما لو قال القانون: إن الاضرار التی تتوجه من المالک أو نحوه إلی الناس بسبب أمواله غیر المنقولة أو دوابه فهو ضامن له، کما إذا انهدم حائطه علی إنسان، أو انکسر أنبوب مائه مما سبب ضرر الجیران، أو صالت دابته فقتلت أو جرحت إنساناً، إلی غیر ذلک.

فإن هذا القانون ناقص لا یشمل أمواله المنقولة، کما لو وقعت أخشابه الموضوعة علی السطح فی الشارع فجرحت أو قتلت إنساناً أو حیواناً أو أتلفت مالاً، فهل یضمن أو لا، وکذلک إذا اتخذ بعض السراق شجرة داره مخبئاً فسرق دار الجیران بحیث لو لم تکن الشجرة لم تسرق دار الجار، أو أعطی سیارته لإنسان لا یعرف السیاقة فقتل هذا الإنسان شخصاً، أو أطارت الریح زنابیره للعسل فلسعت الجیران أو المارة، إلی غیر ذلک، وإنما یسمی هذا نقصاً لأن بعض شبه هذا القانون ذکر وبعضه الآخر لم یذکر.

((السکوت القانونی))

((السکوت القانونی))

والثانی: وهو السکوت، وذلک ینطبق عندنا فی التطبیق لا فی التشریع، إذ ما من شیء إلاّ وبینه الإسلام إما بالخصوص وإما بالعموم بالأدلة الاجتهادیة أو الأصول العملیة، وقد قال سبحانه: ﴿الیوم أکملت لکم دینکم﴾((1)) فإن الخلافة للرسول (صلی الله علیه وآله) إکمال الدین، لأن

ص:202


1- سورة المائدة: 3

الخلیفة (علیه السلام) یبین کل ما یحتاج إلیه الأمة، إلی غیر ذلک من النصوص الدالة علی التکمیل.

لا یقال: فکیف ورد «وسکت عن أشیاء»((1)) بالنسبة إلی الله سبحانه وتعالی.

لأنه یقال: یراد بالسکوت إما فی أصول الدین، وإما فی الفروع بأنه لم یبین لها حکماً خاصاً، فاللازم عدم جعل الحکم لتلک الموضوعات بالقیاس ونحوه، وإنما یلزم أن یجری فیها الأصول العملیة.

نعم بالنسبة إلی العلمانیین هناک ألوف القوانین غیر المدونة، والتی هی بحاجة إلی التدوین، کما أن ذلک یمکن بالنسبة إلینا فی التطبیق أی القوة التأطیریة لم تحدد الصغری، والمرجع هنا هی القوة التأطیریة والتی تسمی بالتشریعیة عند العلمانیین أو مراجعة نفس شوری الفقهاء.

((الإجمال القانونی))

((الإجمال القانونی))

والثالث: وهو الإجمال، فذلک مما یمکن عندنا فی الصغریات فقط، وعند العلمانیین حتی فی الکبریات.

والمرجع عندنا هو المرجع الذی ذکرناه فی الثانی، کما أن إجمال النص یرجع فیه إلی الفقیه فإن تمکن من تحصیل القرائن علی الحکم فی هذا الجانب أو ذاک الجانب کما فی اللفظ المشترک مثلاً فهو، وإلاّ فالمرجع الأصول العملیة.

أما المرجع عند العلمانیین فهو من له التقنین.

ومثال الصغری عندنا: ما إذا علمنا بأن الرکن فی النکاح الزوجان والرکن فی البیع العوضان، فإذا شک فی مورد بأن المقصود فی العقد بالإضافة إلی العوضین المتبایعین أیضاً أم لا، فالأصل عدم ذلک القصد، لأنه زائد علی أصل العقد، أما إذا اضطررنا إلی العلم الإجمالی مما لا مجال للأصل، کما إذا باع زید داره لعمرو ودکانه لخالد وعلمنا بأن أحد العقدین کان المقصود فیه المتبایعین أیضاً علی نحو القید أو الشرط، مما یسبب بطلان العقد بدون القید ویکون الاختیار بید الشارط مع الشرط، فهنا الأمر مجمل ویلزم الرجوع فیه إلی القواعد العامة فی تشخیص العقد

ص:203


1- من لا یحضره الفقیه: ج4 ص75 ح5149

المقصود فیه الطرفان أیضاً عن العقد الذی لم یکن فیه ذلک.

وکذلک إذا کان هناک بیع واختلف الطرفان فأحدهما ادعی أن المقصود کان الطرف الآخر بذاته، والطرف الآخر ادعی بأنه لم یکن هذا المقصود فی البین، وهکذا الحال فی سائر المعاملات کالصلح والرهن والإجارة والمضاربة والمزارعة والمساقاة وغیرها.

بل یأتی مثل هذا المبحث فی الإیقاع أیضاً کما إذا وصی أن یذهب فلان للحج من قبله بعد موته، ومات فلان أو خرج عن التکلیف أو عصی فیما وجب علیه تنفیذ الوصیة، فإذا کان الأمر علی نحو التقیید سقطت الوصیة، لأنه لم یرد ذهاب غیره، فإذا تعذر ذلک الغیر تعذرت الوصیة مما أوجب سقوطها، وإذا کان علی نحو الأفضلیة أو من باب المثال أو لم یکن بید المیت ذلک کما إذا أوصی أن یصلی علیه فلان بصورة خاصة بمعنی أنه لا یرید صلاة غیره إطلاقاً، بقیت الوصیة علی حالها، ویلزم أخذ غیره للحج.

أما فی المثال الأخیر فلا وصیة، وإنما الأمر الشرعی یوجب صلاة غیره، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

((التدافع القانونی))

((التدافع القانونی))

أما الرابع: وهو التدافع بین القانونین، فإن کان التدافع علی نحو التزاحم لوجود الملاک فی کلیهما کالغریقین فاللازم تقدیم الأهم، إن کان بینهما أهم إلی حد المنع من النقیض، وإن لم یکن أهم إطلاقاً أو کان الأهم بقدر الأفضلیة لا بقدر المنع من النقیض فالتخییر.

ولا یخفی أنه إذا کان بین القانونین وارد أو حاکم قدم الوارد علی المورود والحاکم علی المحکوم، ولیس ذلک من محل الکلام إطلاقاً، فالوارد ما یرفع موضوع المورود، مثل رفع خبر الثقة موضوع دلیل البراءة الذی هو (العقاب بلا بیان)، والحاکم هو ما یوسع أو یضیع الموضوع أو المحمول بالنسبة إلی الدلیل المحکوم، فأقسامه أربعة:

فإذا قال: أکرم العلماء، فقد یقول: زید العالم لیس عندی بعالم، فی التضییق.

ص:204

أو یقول: عمرو الجاهل هو عندی عالم، فی التوسعة.

أو یقول: لیست الضیافة من الإکرام، فی التضییق بالنسبة إلی الحکم.

أو یقول: عدم وجودک عند مجیء العالم عندی إکرام له، فی التوسعة.

هذا فیما کان التدافع من قبیل التزاحم.

أما إذا کان من قبیل التعارض، مثل اشتباه الحجة باللاحجة فی الخبرین، فالمرجع هو من له صلاحیة وضع القانون تأطیریاً عندنا، وتشریعیاً عند العلمانیین، حتی یتمکن ذلک المرجع من تقدیم أحد القانونین علی الآخر، فیبطل القانون الآخر ویثبت القانون الذی قدمه، ویرتفع بذلک موضوع التعارض.

وقد ذکر الأصولیون أن میزان الشبهات الحکمیة هی فقدان النص أو إجماله أو تعارضه، وتسمی هذه الشبهة بالشبهة الصدقیة أیضاً، کما أن میزان الشبهات الموضوعیة والمسماة بالشبهات المصداقیة أیضاً ما یحتاج إلی استطراق باب العرف ولا شأن للشارع فی ذلک، إلاّ إذا کان للشارع تصرف فی الموضوعات، وربما ألحق الموضوعات المستنبطة بالشبهات الحکمیة من جهة الملاک، لکنا ناقشنا وجود مثل ذلک إطلاقاً فی مورده، والله العالم.

((شبهات مصداقیة))

((شبهات مصداقیة))

ثم إنه کثیراً ما لا یکون فقدان نص أو إجماله أو تعارضه، بل النص موجود وواضح لکن انطباقه علی بعض الصغریات بحاجة إلی الاستنباط، مما هو شأن الفقیه أو شأن القوة المؤطرة أو القوة القضائیة بشرط بلوغهما درجة الاجتهاد، فإن الألفاظ وإن کانت واضحة عرفاً، لکنها کثیراً ما یشتبه فی بعض مصادیقها.

مثلاً (الماء) مفهوم واضح، ومع ذلک قد یشتبه فی المیاه الزاجیة والکبریتیة بأنها هل هی ماء أم لا، مما حتی العرف شاک فیه، فیلزم العمل فیه حسب الأصول الجاریة فیها.

ومثلاً فی دلیل «لا ضرر» مفهوم واضح، لکنه هل یشمل الأعدام الضرریة، لا بمعنی

ص:205

أن العدم سبب الضرر، إذ قد عرفت سابقاً أن الأعدام لیست بشیء حتی تأخذ معلولاً أو تکون معلولاً، بل بمعنی أن العلة عملت عملها فی حالة عدم المانع، کإحراق النار للحطب فی حال عدم الرطوبة، فإذا أسند الإحراق إلی عدم الرطوبة کان مجازاً، فإن العلة الحقیقیة النار الواجدة للشرائط والفاقدة للموانع، فإن فی تأثیر العلة یلزم وجود الشرط وفقد المانع فی کل من العلة والمعلول، مثلاً انکسار الإناء بواسطة العود یشترط بأن یکون العود قویاً وأن لا یکون ملفوناً بخرقة، کما یشترط فی الإناء أن یکون رخواً بحیث یکون قابلاً للإنکسار بالعود لا کالحدید، وأن لا یکون ملفوناً بخرقة، فإذا فقد أحد الشرطین أو وجد أحد المانعین لم ینکسر.

وعلی أی حال، فمثلاً لدلیل «لا ضرر» مفهوم واضح، ویستفاد من هذه القاعدة _ والتی هی روایة فی نفس الوقت _ کثیر من الحقوق، لکنه کثیراً ما یشتبه فی بعض مصادیقه من جهة هل أن عدم النفع ضرر، أو من جهة هل أن فلاناً سبب لأنه لا یتحقق وجوب الغرامة إلاّ بعد تحقق موضوع الضرر، وبعد تحقق استناد الضرر إلی فلان الذی نرید أن نغرمه.

((أمثلة لموارد الشبهة))

((أمثلة لموارد الشبهة))

ولنمثل بجملة من موارد الاشتباه وأن کان بعض الأمثلة أخفی من بعض:

مثلاً إنسان ضیف جماعة وذبح شاة مما سبب أن یغرم فی الضیافة مثلاً مائة دینار، ثم إن الجماعة لم یحضروا، وسبّب ذلک عفونة الطعام وعدم الانتفاع به، ولم یکن هناک مشتر للطعام، فهل هؤلاء الجماعة ضامنون لهذه المائة دینار.

وکذلک إنسان وعد إنساناً بأن یسافر معه بالطائرة، فاستأجر ذلک الإنسان المضیف مکاناً فی الطائرة بقیمة غالبة مثلاً لهذا الإنسان الذی أعطاه الکلام، ثم لم یأت ذلک الإنسان مما سبب غرامة المضیف، وما کان یتمکن من ملئ فراغ الطائرة بإنسان یعطیه أجرته.

أو أن إنساناً وعد أن یأتی

ص:206

بالمصباح إلی الدار هذا الإنسان حتی لا یأتی السارق، وبعد ذلک لم یأت بالمصباح ولم یکن صاحب البیت قادراً بعد ذلک من الإتیان بمصباح، لأن الوقت قد فات، ولیس هناک فی السوق نفط یتمکن أن یشتریه لمصباح نفسه، فاعتماده علیه سبب مجیء السارق وسرقة أمواله.

فهل الواعد یتحمل هذا الضرر، لأنه عرفاً یقال: إن عدم الضیف وعدم مجیء الشخص إلی الطائرة وعدم مجیء الشخص بالمصباح هو الذی سبب هذه الأضرار.

أو أنه راجع طبیباً والطبیب وعده بالمجیء فاعتمد علیه ولم یرجع إلی طبیب آخر، فلم یات الطبیب مما سبب موت المریض أو عماه أو ما أشبه ذلک.

وأوضح منه أنه أخذ فی العملیة ثم لم یتم العملیة لکونه متبرعاً فی العملیة، لا بأجرة حتی یقال إنه من خلاف مقتضی العقد، ومات المریض بسبب عدم إجراء تمام العملیة أو عمی أو نقص عضو منه أو قوة من قواه.

ومن فئة أخری من الأمثلة: أنه ادعی علیه إنسان بزعم أن له الحق أو کان ظالماً، لعدم الفرق فی الضمان بین العمد وعدم العمد، فسبب أن یذهب کل یوم هذا الشخص المدعی علیه إلی المحکمة مما کلفه أجرة السیارة ونحوها، وبعد ذلک تبین بطلان الدعوی، فهل المدعی یکون ضامناً لهذه الخسارات، لأنه سبب ضرر هذا الإنسان، أو أن المحکمة الظالمة أخذت من المدعی علیه رسوم المحکمة، وذلک بسبب الادعاء علیه، فإن لم یدع علیه ذلک المدعی لم یکن خاسراً لهذه المبالغ التی أعطاها للمحکمة، فهل المدعی ضامن لمثل هذا الشیء.

أو أنه أخبر مثلاً الظالم بأن فلاناً فی هذا المکان مما أنه لو ظفر به الظالم ظلمه، فاضطر إلی الهروب بأجرة، فهل هذه الأجرة تقع علی المخبر الذی سبب هروبه بسبب إخبارة للظالم، فإن الخسارة قد تکون مادیة وقد تکون معنویة، وکلاهما قد یکون

ص:207

من جهة عدم النفع، وقد یکون من جهة الضرر.

فالخسارة المعنویة من جهة عدم النفع مثلاً فیما إذا حال دون تعلمه ولم یصبح عالماً، مما سبب له خسارة مادیة أیضاً حیث إنه لو صار طبیباً ربح کل یوم مائة دینار، بینما الآن صار حمالاً لا یربح أکثر من دینار، فهل المانع یضمن التفاوت بین الدینار والمائة دینار.

والخسارة المعنویة من جهة الضرر ما لو أعطاه دواءً سبب نسیانه الکثیر، مما لا یراجعه بعد إنسان للطبابة عنده، فسبب خسارته کل یوم تسعة وتسعین دیناراً.

والخسارة المادیة من جهة عدم النفع کما إذا حال دون ذهابة إلی مکسبه فلم یربح بهذا السبب.

والخسارة المادیة من جهة الضرر کما إذا کسر إناءه.

والأمثلة لما ذکرناه کثیرة جداً، کما إذا حال دون سفاد دابته حتی تنتج، أو دون تأبیر شجره حتی یثمر، أو دون سقی بستانه فهلکت الأشجار، أو دون ترمیم داره فانهدمت، إلی غیرها، وقد ذکرنا جملة من هذه الأمثلة فی کتابی الغصب والصلح.

والقاعدة أن کل مورد رأی العرف أنه ضرر مستند إلیه غرم الضار، وکل مورد رأی العرف أنه لیس بضرر أو لیس مستنداً إلیه لم یغرم، وکل مورد شک العرف فالأصل عدم الضمان لأصالة البراءة، وکل مورد اختلف العرف إلی قسمین یؤخذ بقاعدة العدل جمعاً بین العرفین.

((آراء سائر العلماء الفضلاء))

((آراء سائر العلماء الفضلاء))

بقی شیء:

وهو أن آراء العلماء الذین لیسوا هم بمراجع التقلید ولا فی السلطات الثلاث التأطیریة والقضائیة والتنفیذیة، فیما إذا کان إعمال تلک السلطات بعنوان القانون، وإلاّ کانوا هم أیضاً من العلماء أصحاب الرأی الذین نحن الآن بصدد آرائهم، فإن آراء أمثال هؤلاء العلماء لا تفید الحقوق مستقیماً، وإنما تفید أموراً أخر مرتبطة بالحقوق.

الأول: تعریف وتحدید الموضوعات، کتعریف العقد والإیقاع

ص:208

وسائر موضوعات الأحکام.

الثانی: تحدید مفاهیم الأحکام والأمور المرتبطة بها، کالأهم والمهم والتعارض والتزاحم وما أشبه ذلک.

الثالث: تتمیم القوانین الناقصة واستنباطها من الأدلة، لتسهیل الأمر علی السلطات الثلاث، سواء ذکر بعض القانون ولم یذکر بعضه، أو لم یذکر القانون أصلاً، لأن القضیة حادثة تحتاج إلی استنباط القانون.

الرابع: تعدیل القانون المحتاج إلی التعدیل، فإن ما یقع فی الخارج من السلطات الثلاث کثیراً ما یکون غیر موافق للقواعد الشرعیة عندنا، أو للقوانین الموضوعة مرجعاً عند العلمانیین، أو یکون تطبیق الصغری علی قاعدة کلیة قابلة للانطباق علی عدة صغریات، وکانت هناک صغری أفضل من هذه الصغری المطبقة، فآراء هؤلاء العلماء المذکورین تکون مرشدة لخطأ التطبیق فی السلطات الثلاث، أو هادیة للصغری الأفضل من الصغری المطبقة أو لصغریات أخر فلا ینحصر الأمر فی صغری واحدة.

الخامس: تفصیل القوانین وإیضاح مجملها، وکیفیة الجمع بین المتعارضین أو المتزاحمین منها، و رد مطلقها إلی مقیدها وعامها إلی خاصها، والتنسیق بینها.

وعلیه فآراء العلماء مما یساعد الحقوق للظهور فی العالم الخارجی، لا إنها حقوق بنفسها.

ص:209

((المراجع الفقهاء ومرجعیة القانون))

اشارة

((المراجع الفقهاء ومرجعیة القانون))

(مسألة) قد تقدم أن المصدر الأخیر فی القوانین الإسلامیة((1)) هو مرجع التقلید الجامع للشرائط، والسلطات الثلاث کلها مستندة إلیه.

فإن کان المرجع واحداً بأن لم یکن غیره مرجعاً للأمة فهو وحده، وإلاّ فشوری المراجع.

ومن الواضح أن المرجع دائماً متغیر لموت أحدهم وقیام آخر مکانة، ولذا فالسلطة المستندة إلیه متغیرة أیضاً، ومعنی التغیر أن القوانین تنظم فی کل عصر حسب الاستناد إلی الأدلة الأربعة حکماً، وإلی متطلبات العصر الذی تغیر اقتصادیاً وسیاسیاً واجتماعیاً وثقافیاً وتربویاً تطبیقاً.

وعلیه فالقوانین لها جانب ثابت وهی الأحکام المستنبطة من الأدلة الأربعة، وجانب متغیر وهو التطبیقات فی کل عصر، مثلاً: «الناس مسلطون علی أموالهم وأنفسهم» وهی القاعدة الفقهیة المشهورة التی نصفها الأول نص((2))، ونصفها الثانی مستفاد من قوله سبحانه: ﴿النبی أولی بالمؤمنین من أنفسهم﴾((3))، بل وقوله تعالی: ﴿وأولوا الأرحام بعضهم أولی ببعض فی کتاب الله﴾((4))، حیث إن الآیة الأولی تثبت الولایة لأنفسهم علی أنفسهم إلا أن النبی (صلی الله علیه وآله) أولی، والآیة الثانیة ولایة الإنسان علی نفسه بطریق أولی.

فهذه القاعدة بالنظر إلی ذاتها ثابتة غیر قابلة للتطویر، لکن بالنظر إلی أسباب بقاء هذه القاعدة من ناحیة، وصغریات الولایة من ناحیة ثانیة متطورة.

((قاعدة السلطنة وثباتها فی ذاتها))

أما الأول: فإن کل شیء یوجب بقاء حریات الإنسان علی نفسه وماله حسب مقتضی الزمان صحیح، وإن تغیرت الصور والأوعیة، مثلاً الفصل بین السلطات الثلاث فی هذه الأزمنة المتأخرة وعاء لحفظ الحریات، وذلک لأن ترکیز السلطة فی هیئة واحدة قریب جداً إلی إساءة استعمال هذه السلطة، وإلی التوجه الاستبدادی من أصحاب السلطات، کما رأینا ذلک

ص:210


1- أی فی تطبیق الکبریات علی الصغریات واستنباط الأحکام فی عصر الغیبة
2- غوالی اللئالی: ج1 ص222
3- سورة الأحزاب: 6
4- سورة الأنفال: 75، وسورة الأحزاب: 6

فی بنی أمیة وبنی العباس والعثمانیین ومن إلیهم.

نعم المعصوم (علیه السلام) لا یستبد، وذلک لحفظ الله سبحانه وتعالی له، قال سبحانه: ﴿إلا من ارتضی من رسول فإنه یسلک من بین یدیه ومن خلفه رصداً﴾((1))، لکن فی غیر المعصوم السلطة المستبدة تودی بحریات الإنسان وبأمواله وبدمائه وبأعراضه.

فالقصد من توزیع الاختصاصات تحاشی الوقوع فی السلطویة والدکتاتوریة عن طریق إضعاف سلطتهم بمنع حصریة القدرة وتقسیمها علی عدة هیئات، حتی تکون کل هیئة فی قبال هیئة، ولا تتخل الهیئة التأطیریة فی القضائیة.

((التعددیة ضمان عدم الاستبداد))

((التعددیة ضمان عدم الاستبداد))

هذا ولذا ذکرنا فی غیر واحد من کتبنا السیاسیة ونحوها وجوب تعدد الأحزاب، حتی تکون الأحزاب خارج السلطة مراقبة للسلطة، فلا تتمکن السلطة من التصرف الاستبدادی فی شؤون المجتمع، فهذا الإضعاف للسلطة فی العصر الحدیث الوسیلة الوحیدة لصیانة الحریات الفردیة، إذ أن إطلاق السلطة والحریة أمران متناقضان، فإذا أطلق السلطة ذهبت الحریة وسقطت عملیاً (الناس مسلطون علی أموالهم وأنفسهم) ولم تسلم حقوق الناس من تعسف الحکام المستبدین، وذلک بضمان الفصل بین الاختصاصات المختلفة من تأطیریة وإجرائیة وقضائیة، وأن یکون لکل منها هیئة ممیزة، فبالاعتماد علی التوزیع والتعدد المذکورین یتمکن کل فرد من أفراد المجتمع أن یجد فرصة للتخلص من حکم المستبد، وأن یشرع ببناء حیاة متوازنة محققة، نظراً للتنافس الذی یسود بین السلطات الثلاث فی الدولة من ناحیة، وبین الأحزاب المتعددة الحرة من ناحیة ثانیة.

ومن الواضح أن التعدد العملی بسبب المؤسسات الدستوریة وفصل السلطات وحریات الأفراد وإعطاء حقوقهم یجد من سیادة السلطة السیاسیة فی الدولة، بإقامة حقل مفرز للفرد، فلحمایة

ص:211


1- سورة الجن: 27

الفرد ضد تسلط وهیمنة السلطة تهتم السلطات الاستشاریة بإضعاف سلطة الأکثریة بعد إضعاف أصل التجمع علی الباطل بسبب الأقلیة والأکثریة.

ولذا ذکرت القوانین الحدیثة أن هناک فی المجتمع مناطق ممنوعة لصالح الفرد، یحرم التدخل فیها من قبل الهیئات الحکومیة، وتلک المناطق هی مناطق حقوق الفرد والمواطن وحریاته الأساسیة بالنسبة إلی أمواله ونفسه وعرضه التی لا یحق لأی هیئة أکثریة حاکمة أن تنتقص منها وتخالف احترامها.

فالحکومة لا تستطیع الإلغاء أو القضاء علی الحیاة الخاصة للفرد، وبالتالی فإن الأفراد یجدون فی الحصانة المذکورة وسیلة للتعبیر عن أنفسهم، ویکون ذلک _ أی الفصل بین السلطات والأحزاب الحرة المستندة إلی المؤسسات الدستوریة _ خیر حافظ لتلک الحریات.

((قاعدة السلطنة وتغیر مصادیقها))

((قاعدة السلطنة وتغیر مصادیقها))

وأما الثانی: فإن التسلط علی النفس والمال فی غیر المحرم یعطی للإنسان أن یستعمل ماله ونفسه فی کل التطورات الحدیثة، فکل الأجهزة الحدیثة من المواصلات والإعلام ووسائل البیت الآلیة والمطابع وغیرها جائز.

کما أن کل تصرف فی النفس بالتقویة والعلاج والریاضة بالوسائل الحدیثة وغیرها جائز أیضاً.

وهکذا کل ما یوجب راحة الإنسان وعدم ضرره وتنظیم معاشه وحفظه ووقایته ضد الجهل والأمراض والفوضی والأعداء الداخلیین والخارجیین جائز أیضاً.

وقد تقدم أن لا قانون أساسی بالمفهوم الحدیث کالدیمقراطیة فی الإسلام، بل المرجع هو شوری الفقهاء، وبعده القوی الثلاث.

وعلی هذا فلا یقال: لم تکن القوی الثلاث بهذه الکیفیة فی زمن الرسول (صلی الله علیه وآله) ولا غیره، فمن أین ذلک.

إذ الجواب نقضاً: بأنه لم تکن المدارس العلمیة والکتب المطبوعة والحسینیات والأضرحة وروابط العلم وغیرها بهذه الکیفیات فی زمنه

ص:212

(صلی الله علیه وآله) ولا فی زمن من بعده.

وحلاً: بأن قاعدة (کل شیء لک حلال) وما أشبه من نصوص الکتاب والسنة یجعل المسلم فی حریة تامة فی غیر المحرم، بالإضافة إلی ما عرفت من أنها مقدمة الواجب من جهة حفظها الحریات النفسیة والمالیة.

((تفسیر القانون وأبعاده))

((تفسیر القانون وأبعاده))

وبهذا تبین أن الفصل الطویل الذی ذکره العلمانیون حول الاحتیاج إلی تفسیر القانون وأنه من المفسر وکیف یفسر وما أشبه ذلک لا احتیاج إلیه فی القانون الإسلامی إطلاقاً.

ویأتی الکلام فی أنه کیف یفسر الفقیه الأدلة الأربعة تفسیراً یطابق الیوم، وهکذا للقوی التأطیریة والتنفیذیة والقضائیة بالنسبة إلی تطبیق الکبریات الفقهیة علی الجزئیات الخارجیة.

والجواب: إن الفقیه بضمیمة المکتب التاریخی مع متطلبات العصر الاقتصادیة والسیاسیة والاجتماعیة وغیرها یستنبط الأحکام الکلیة، مثلاً بید الفقیه أن التجارة والکفالة والحوالة والمضاربة والقرض والودیعة والعاریة ونحوها حلال شرعاً بفروعها الجزئیة الموجودة فی الکتب الفقهیة، هذا بالنسبة إلی المکتب التاریخی بأدلتها الأربعة.

أما بالنسبة إلی التطور العصری فی الاقتصاد، مثلاً یری الفقیه أن البنوک تعمل هذه الأعمال مع عدم التورع عن المحرمات، کبیع الکالی بالکالی والربا والاحتکار والإجحاف وما أشبه، فالبنوک فی العصر الحاضر تبیع بمجرد القول بدون نقدیة المعاملة، بل کان من البضاعة والعوض نسیئتان، کما أنها تعطی الربا وتأخذ الربا، وتحتکر ما یحتاج إلیه الناس احتکاراً فی تجارات البنک، مما یسبب الضرر لهم، وهو منفی بدلیل «لا ضرر».

کما أنه یجحف فی معاملاته، مثلاً یأتی بالمعمل ویشغله ثم یعطی حق العمل أقل، أو یبنی مستشفی ویأخذ من المرضی أکثر، أو یعطی المال للطلاب لتکمیل

ص:213

دراساتهم الجامعیة وما أشبهها فی قبال استخدامهم بعد تخرجهم خمس سنوات مثلاً فی مقابل المال الذی أخذوه من البنک، ویعطی أحدهم مثلاً کل شهر مائة دینار بینما حقه العادل فی کل شهر خمسمائة دینار، وفی کل ذلک یجحف البنک حیث إنه یشتری المعمل مثلاً بألف دینار ویضع رأس مال فیه ألف دینار ویستعمل العمال بأجواء إکراهیة بأقل من قدر حقهم، بینما یجب أن یقسم الناتج إلی العمل ورأس المال والعمال مثلاً حسب التقسیم العرفی.

وهکذا یفعل بالنسبة إلی المرضی فی المستشفیات، فیأخذ مثلاً من المریض خمسین دیناراً بینما حقه الواقعی عشرون دیناراً. وکذلک عدم الإجحاف یقتضی استخدام الخریجین سنة لا خمس سنوات، وإعطاءهم کل شهر خمسمائة دینار لا مائة دینار.

فإذا رأی الفقیه کل ذلک جعل القانون المصرفی بدون بیع الکالی بالکالی وبدون الربا والاحتکار والإجحاف، فالبیع المذکور فی البنک الإسلامی ملغی، والربا أخذاً وعطاءاً ممنوعان، نعم یجوز أن یأخذ البنک من المقرض بقدر مصارف دفتره وقلمه وإجارة دکانه وصناعه، بحیث یکون إذا وضع فی البنک أول السنة ملیوناً من الدنانیر، یکون فی آخر السنة رأس ماله أیضاً ملیوناً من الدنانیر، فلا یأخذ الأکثر ولا یعطی الأکثر، علی حسب قوله سبحانه: ﴿لا تَظلمون ولا تُظلمون﴾((1)).

کما لا یأخذ القرض بالربا، بل یأخذ عملاً مضاربیاً، الأرباح والأضرار بین صاحب البنک والمال حسب الموازین المضاربیة، وکذلک لا یحتکر احتکاراً یضر بالناس فی تجاراته، کما أنه یأخذ بالنسبة إلی المعمل والمستشفی بقدر حقه العادل، وکذلک یأخذ من الطلاب الذین زودهم بالمال عند الدراسة فیما کانوا فقراء فأخذوا من البنک المال إلی حین تخرجهم، یأخذ منهم بقدر حقه لا أکثر.

وبهذا یجمع الفقیه بین الأحکام

ص:214


1- سورة البقرة: 279

الشرعیة التی لا تتغیر، فإن «حلال محمد حلال إلی یوم القیامة، وحرامه حرام إلی یوم القیامة»((1))، وبین الموضوعات المتطورة فی کل زمان ومکان.

وهکذا حال القوی الثلاث بالنسبة إلی اجتهاداتهم الشخصیة فی تطبیقاتهم الخارجیة، فإن القوی الثلاث کما تقدم لیس لهم إلاّ التطبیق، حتی بالنسبة إلی المجلس لیس له التشریع علی ما عرفت سابقاً، فإن التشریع لله وحده، وإنما یعملون حسب اجتهاداتهم الشخصیة فیما إذا کانوا جامعین لهذه الشرائط، ومن المفروض أن یکونوا جامعین للشرائط فی الدولة الإسلامیة، فإن الدولة الإسلامیة باستشاریتها تجمع حول نفسها الطاقات الخلاقة والکفاءات الممتازة، لا کالدکتاتوریین الذین یجمعون الأمّعات حول أنفسهم للتصفیق لهم.

ثم کما یأتی عمل الفقیه فی الاقتصاد بما ذکرناه فی مثال البنک وأن کانت الأمثلة کثیرة، کذلک یأتی عمله فی سائر الشؤون الاقتصادیة والاجتماعیة والسیاسیة والتربویة والعسکریة وغیرها.

قال علی (علیه الصلاة والسلام) کما فی (نهج البلاغة) مخاطباً لبعض عماله:

«استعمل العدل، واحذر العسف والحیف، فإن العسف یعود بالجلاء، والحیف یدعو إلی السیف»((2)).

و(العسف) الشدة فی غیر الحق، فلا یتشدد الحاکم فی غیر حق، و(الجلاء) التفرق وترک الأوطان، فإن من یرون الشدة یذهبون عن بلادهم، و(الحیف) المیل إلی الظلم، وظلم الحاکم وعماله هو أول العوامل لثورة الناس وقیامهم فی قبال الحکومة، فبهذا المیزان یطبق الفقیه الأحکام الشرعیة علی الصغریات الخارجیة.

ص:215


1- راجع الکافی: ج1 ص58
2- نهج البلاغة: قصار الحکم 476

((خصوصیات القوانین العامة))

اشارة

((خصوصیات القوانین العامة))

(مسألة) القوانین العامة لها خصوصیات من حیث الأفراد والمکان والزمان.

فمن حیث الأفراد تکون القوانین العامة فی الدولة الإسلامیة علی قسمین:

((قوانین النظام والشمول الأفرادی))

((قوانین النظام والشمول الأفرادی))

الأول: القوانین المرتبطة بالنظام، وهذا ینطبق علی الجمیع من غیر استثناء، فإن أیة دولة لا ترضی إلاّ قبول أفراده عامة النظام، وإن أمکن بعض الاستثناءات، کما نشاهد أن قواعد المرور لا تطبق بعضها علی سیارات الإسعاف وسیارات الإطفائیة وما أشبه ذلک.

فلا فرق فی الدولة الإسلامیة فی لزوم الالتزام بالنظام بین المسلم والکافر بطوائفهما المختلفة، ولا بین أهل البلد وغیر أهل البلد، فالمرور والشرطة والنجدة، وقوانین المطارات والقطارات وسائر المواصلات، والمعاهد العلمیة والمکتبات والمطابع والمستشفیات والمستوصفات، وحق الناس فی الشکایة إلی القضاة فی الأخذ بحقوقهم، وحق الحیاة الحرة الکریمة، وحفظ المال والعرض والدم، إلی غیرها کلها للجمیع.

((قوانین الأحکام وقانون الإلزام))

((قوانین الأحکام وقانون الإلزام))

والثانی: القوانین المرتبطة بالأحکام، حیث هناک قوانین بصورة عامة وقوانین بصورة خاصة.

فالقسم الأول: هو قانون المسلمین من الطهارة إلی الدیات، وهم کلهم فی هذا شرع سواء، نعم هناک فرق بین الشیعة والسنة فی جملة من الأحکام التی لم تثبت فی نص القرآن وکلام الرسول (صلی الله وعلیه وآله) المقطوع به، من الاختلافات المذهبیة أو الاجتهادیة، وفی هذا کل علی مذهبه واجتهاده.

فإذا کانت الدولة الإسلامیة واحدة تضم السنة والشیعة، کما ذکرنا تفصیلة فی کتاب (کیف نجمع شمل المسلمین) فالمرجع الأعلی للدولة شوری الفقهاء من الجانبین، فالأغلبیة من کلیهما ینفذ حکمه فی کل المسلمین، مثلاً فی المجلس الأعلی سبعة من

ص:216

الشیعة وسبعة من السنة، فإذا کان أربعة من هؤلاء وأربعة من هؤلاء حکموا حکماً فهو المنفذ علی الجمیع، أما إذا کانت الأغلبیة من إحدی الطائفتین فالحکم نافذ علی طائفته لا علی کل المسلمین، مثلاً قال أربعة من السنة وثلاثة من الشیعة شیئاً، فإن الحکم لیس نافذاً إلاّ علی السنة لتحصیل الأکثریة بالنسبة إلیهم، وکذلک العکس. وحینئذ لا ینفذ الحکم العام کالحرب مثلاً، إذ لا یمکن حرب نصف الأمة وسلم نصف الأمة.

وإذا کانت دولة إسلامیة صغیرة فإذا کان الرئیس شوری الشیعة فالسنة یجب أن یکونوا بأمن وسلام ویعملون حسب مذهبهم واجتهادهم، وإذا کان الرئیس شوری السنة فالشیعة یجب أن یکونوا بأمن وسلام ویعلمون حسب مذهبهم واجتهادهم، وإذا کان الأمر بین سنی وشیعی یختلفان نظراً، کتنازع فی النکاح أو الطلاق أو البیع أو ما أشبه وقع بین زوجین أو متبایعین أو نحو البیع، وکان أحد الجانبین سنیاً والآخر شیعیاً، فإن کان إجماع فی الحکم بین السنة والشیعة ورضیا کلاً بهذا القاضی أو ذاک فهو، من جهة فصل القضاء لا من جهة المذهبیة، وإلاّ فاللازم تشکیل مجلس قضاء من القاضی السنی والقاضی الشیعی للفصل فی الأمر، ویجب تنفیذ حکم القاضی الجامع للشرائط فقط.

وإذا کانت دولة سنیة یجب أن یکون قضاة شیعة، کما أنه إذا کانت دولة شیعیة یجب أن یکون قضاة سنة، لیعیش کل جانب فی أمن وسلام یتمکن من السیر بأموره حسب مذهبه واجتهاده.

وکما یلزم التقسیم فی القضاة کذلک یلزم التقسیم فی سائر الموظفین، کالمحافظین ومن إلیهم کل بقدر جماعته.

هذا بالنسبة إلی القانون العام.

((قانون الأقلیات غیر الإسلامیة))

((قانون الأقلیات غیر الإسلامیة))

أما الثانی وهو بالنسبة إلی القانون الخاص، فذلک عبارة عن قوانین خاصة بالنسبة إلی غیر المسلمین الذین یقطنون بلاد الإسلام، سواء کانوا

ص:217

أهل کتاب أو غیر أهل کتاب، وقد ذکرنا فی بعض مباحث (الفقه) أن المستنبط من الأدلة أن غیر أهل الکتاب أیضاً یخیرون بین الإسلام والحرب والجزیة، ومن الطبیعی أن غیر أهل الکتاب أیضاً یدفعون الجزئیة.

وحینئذ فکل غیر المسلمین الساکنین فی بلد الإسلام، لهم کرامتهم وحریتهم وحقهم فی العمل بمذهبهم، إلاّ فیما یرتبط بالنظام العام، مثلاً الکافر لا حق فی إظهار المنکرات أو الإفطار علناً فی شهر رمضان أو ما أشبه ذلک، أما سائر الشؤون فهم ومذاهبهم.

وإذا وقع نزاع بین الکفار فلهم الحق فی أن یراجعوا إلی قاضیهم، وأن یراجعوا إلی قاضی المسلمین، وإذا راجعوا قاضی المسلمین فله الحق فی أن یطبق علیهم حکم الإسلام أو أن یطبق علیهم أحکام أنفسهم، کما ذکرنا وجه ذلک وتفصیله فی الفقه.

وإذا کان النزاع بین المسلم والکافر کمتبایعین، أو مسلم تزوج بکتابیة أو ما أشبه ذلک، فالمرجع قاضی المسلمین، ویجب علیه أن یراعی العدل والإحسان فی قضائه، قال سبحانه: ﴿ولا یجرمنکم شنئآن قوم علی أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوی﴾((1)).

((بین الحکومة الإسلامیة والعلمانیة))

((بین الحکومة الإسلامیة والعلمانیة))

وربما یستشکل بأنه ألیس من الأفضل الحکومة العلمانیة من جهة القانون، حیث إن قانونهم واحد للجمیع، من غیر فرق بین الدین والمذهب واللون واللغة.

والجواب: إن الفارق بین العلمانیة والدینیة لیس فی اللون واللغة، لأن کلیهما یعتقدان بعدم الفرق فی اللون واللغة، أما بالنسبة إلی الدین والمذهب:

أولاً: الحکومة العلمانیة لا فرق عندها من جهة الوطن، والحکومة الإسلامیة لا فرق عندها من جهة الدین، مع أن المنطق مع الثانی لا مع الأول، إذ الوطن أمر مادی، والأمر المادی لا یجمع الکل، بینما الدین أمر معنوی والأمر المعنوی یجمع الکل، إذ لا تنازع فی المعنی فإن ساحته

ص:218


1- سورة المائدة: 8

واسعة، بینما تنازع فی المادة لأن ساحتها ضیقة، لوضوح محدودیة المادة، وعدم محدودیة المعنی.

مثلاً: إذا قامت الدولة الإسلامیة فی العراق قال القانون: إن کل المسلمین سواء، کانوا عرباً أو عجماً أو کرداً أو ترکماناً أو هندیاً أو باکستانیاً أو إندنوسیاً أو خلیجیاً أو مصریاً أو سوریاً أو غیرهم، وهذا یوجب التوسعة فی الأخوة والعمل والحرکة والتجارة وغیرها.

أما إذا کانت دولة العراق علمانیة، فإنها تحصر النطاق فی عراقی الجنسیة المرتبطة بهذه الأرض، مع العلم أنه لا انسجام بین المسلم والکافر، کما أنه یوجب التضییق فیما ذکرناه من الأخوة الإسلامیة.

وهل الدول العلمانیة فی العالم حتی الشیوعیین تمکنت من جعل الانسجام بین أبناء الوطن الواحد.

وثانیاً: الفرق بین المسلم وغیر المسلم واقعی فی الدولة الإسلامیة، بینما الفرق بین الوطنی وغیر الوطنی خیالی فی الدول العلمانیة، فإن التنسیق بین العقیدة والعمل یجعل الإنسان موحد الإتجاه، بخلاف الفصل بین العقیدة والعمل حیث یجعل الإنسان مذبذباً منفصم الشخصیة، وأیهما خیر هذا أو هذا.

إن الفوارق النابعة من الفطرة والعقیدة هی الفوارق الواقعیة، لا الفوارق النابعة من التراب والماء.

هذا بعض الکلام فی القوانین من حیث الأفراد.

((القانون الإسلامی وشمولیة المکان))

((القانون الإسلامی وشمولیة المکان))

أما القوانین من حیث المکان، فلا اشکال فی أن قوانین بلاد الإسلام جاریة علی کل المسلمین، سواء کانوا فی الداخل أو فی الخارج، أی إن المسلم ملتزم بالعمل بقوانین الإسلام سواء کان داخل الدولة الإسلامیة أو خارجها، فإن قوانین الإسلام لا تخص مکاناً دون مکان، کما لا تخص زماناً دون زمان.

نعم القوانین المرتبطة بالنظم کالمرور والمستشفیات والمطارات والمعاهد خاصة بالداخل، حیث إنها فی الخارج من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فإذا عینت وزارة المواصلات فی الدولة

ص:219

الإسلامیة مثلاً لزوم السیر من الطرف الأیمن، أو لزوم إعطاء من یرتاد المستشفی بقدر نصف مصرفه لإدارة المستشفی حیث النصف الآخر تعطیه الدولة، أو أن التعلیم مجانی للجمیع، إلی غیر ذلک، فمن لا یعیش فی بلد الإسلام بل یعیش فی بلد غیر المسلمین حیث السیر من الطرف الآخر، أو لزوم إعطاء کل مصارف المستشفی، أو أن التعلیم بالأجرة، فإنه لیس علیه تطبیق نظم البلاد الإسلام علی نفسه فی ذلک البلد.

وعلیه فإذا طبق ذلک البلد أحکامه علیه لم یکن علیه شیء فی قبول تلک الأحکام، نعم قبول أحکام منعها الإسلام لا یصح إلاّ فی مورد الضرورة أو مورد قانون الإلزام، مثلاً لو أرید إعطاء الإرث من الکافر القریب له أو الجار له بما لیس فی الإسلام، أو أراد أخذ زوجة المطلقة بدون الشرائط، إلی غیر ذلک جاز، لأنه من قانون الإلزام.

نعم ما یخالف قانون الإسلام ولیس من قانون الإلزام، لا یصح إلاّ عند الضرورة، والضرورات تقدر بقدرها، مثلاً إذا جاز عندهم الشذوذ الجنسی، أو جاز عندهم أخذ الأخ أخته لأنهم من المجوس أو شبه المجوس، أو جاز عندهم بیع الخمر أو فتح المبغی، لا یجوز للمسلم کل ذلک، لأنها لیست من قانون الإلزام نصاً أو إجماعاً.

وهل من قانون الإلزام أنه لو عمل معه الشذوذ الجنسی إکراهاً کان له أخذ البدل، کما هو قانون بعض البلاد غیر المسلمة، من جهة أنه إلزام بما یلتزمون، أو من جهة احتمال جواز ذلک حتی بالنسبة إلی بلد الإسلام، حیث إن الحاکم له الحق فی أخذه من مال الفاعل لإعطائه للمفعول، حیث ورد فی الحدیث: «من کسر مؤمناً فعلیه جبره»((1))، کما فی روایة ذلک الذی سبب خروج مسلم جدید عن الإسلام بتکلیفه العمل والعبادة لیل نهار، فإن التعلیل عام، بالإضافة إلی أنه قد یعد حقاً عرفیاً وحقوق المسلمین تحفظ،

ص:220


1- الکافی: ج2 ص44

کما دل علیه النص والإجماع، بضمیمة أن هذا جبر عرفی وحق عرفی.

فی مقابل احتمال العدم، إذ لیس ذلک من الجبر عرفاً، ولا من الحق، ولم یرد فی نص أو دلیل جواز أکل هذا المال، فیکون من أکل المال بالباطل، مع أنه لم یرد فی شیء من الروایات أو نحوها أن المفعول له هذا الحق.

احتمالان، وإن کان لا یبعد الأول، لأنه من صغریات قانون الإلزام.

وعلی کل، فمحل المسألة الفقه وإنما أردنا الإلماع إلی مورد الخروج عن مورد العموم.

((شوری المرجعیة واختلاف الآراء))

((شوری المرجعیة واختلاف الآراء))

بقی شیء، وهو أنه إذا کان هناک مجتهدون فی رأس الدولة الإسلامیة علی نحو شوری المرجعیة فما هی قوانین الدولة فی مورد اختلاف اجتهاداتهم.

والجواب: قوانین الدولة حسب رأی الأکثریة، مثلاً إذا کان هناک نزاع بین زوجین أو شریکین أو متبایعین وراجعا المحکمة فالأکثر من الفقهاء أعضاء الشوری إذا کانوا یعطون الحق للزوجة أو الزوج أو هذا الشریک أو ذلک أو البائع أو المشتری فانه هو قانون البلاد، ولیس هذا بأصعب من حق القاضی یخالف رأیهما، کما ألمعنا إلی ذلک سابقاً فی هذا الکتاب وفصلنا البحث فیه فی کتاب القضاء.

وحیث انتهینا من القوانین من حیث الأفراد والمکان، نأتی إلی القوانین من حیث الزمان:

((القانون الإسلامی ومسألة الزمان))

وهو الأمر الثالث الذی أشرنا إلیه فی أول المسألة، فنقول القوانین من حیث الزمان فیه ثلاثة مباحث:

((الزمان فی الکبریات والصغریات))

((الزمان فی الکبریات والصغریات))

الأول: إن القوانین إذا کانت کبریات کلیة فهی واجب العمل، سواء کانت ثورة إسلامیة أم لا، مثل قوانین البیع والشراء، والنکاح والطلاق، والإرث والدیات وغیرها، وإذا کانت صغریات تطبیقیة مثل

ص:221

القوانین التی تضعها وزارة المواصلات ونحوها لأجل حفظ النظم وما أشبه، بحیث لولا الوضع لم یکن معداً من قوانین الإسلام، کان کل امرئ وحریته فی غیر جهة الضرر، إذ جهة الضرر من الکبریات الکلیة أیضاً، والکبری الکلیة لا فرق فیها بین الأدلة الاجتهادیة الأولیة أو الثانویة أو الأصول العملیة.

فإن مثل هذا القانون الصغروی الموضوع إنما یکون واجب العمل من وقت تعیین الدولة مع علم الفرد بالقانون، مثلاً إذا وضع قانون المرور أول شوال ونحن الآن فی شهر رمضان، فإنه لا یجب التنفیذ، إذ لم توجب الدولة ذلک، وإنما أول وقت وجوب تنفیذه هو الوقت الذی تحدده الدولة، کما أنه آخر وقت القانون هو الوقت الذی تحدده الدولة فی القوانین المحدودة، مثلاً جعلت الدولة قانون منع التجول لکون الزمان زمان الحرب لمدة بقاء الحرب، فإذا انتهت الحرب انتهی القانون.

وقد ذکرنا سابقاً وجه لزوم علم الشخص بالقانون حتی یکون مشمولاً لوجوبه، ف_ «رفع ما لا یعلمون»((1))، یرفع وجوب القانون عمن لم یعرف وجوبه، بمعنی أنه معذور فی ذلک.

((تغیر القانون بتغییر من الواضع))

((تغیر القانون بتغییر من الواضع))

الثانی: إن القانون ینتهی أمده إذا تغیرت إرادة الدولة، مثلاً کانت الدولة تری وجوب السیر من الیمین، أو الوقوف عند احمرار الضوء، ثم جاءت دورة ثانیة أو تغیر رأی الدولة فغیرت القانون من السیر إلی جانب الیمین إلی السیر إلی جانب الیسار، أو الوقوف عند احمرار الضوء إلی الوقوف عند اخضراره، فإنه یجب السیر بعد صدور هذا القانون من جانب الیسار والوقوف عند اخضرار الضوء.

((القانون والأثر الرجعی))

((القانون والأثر الرجعی))

الثالث: إن القانون هل یمکن أن ینظر إلی السابق علی وضعه بأثر رجعی أم لا، تابع بقدر وضع القانون، فإن إمکانه غیر خفی بما

ص:222


1- انظر وسائل الشیعة: ج15 ص369 ب56 ح20769

تقدمت الإشارة إلیه من أنه اعتبار، والاعتبار خفیف المؤونة.

مثلاً قالت الدولة بأن کل مرتاد المستشفی یجب علیه إعطاء درهم لذلک، وقالت إن هذا القانون جار من الیوم أو من الغد، فإنه یجب إعطاء الدراهم من الیوم أو من الغد حسب القرر، أما إذا قالت الدولة من ارتاد المستشقی أمس یجب علیه إعطاء الدرهم هذا الیوم، فإن الدولة إذا کانت دولة شرعیة واجبة الإطاعة کان علی المرتادین بالأمس إعطاء ذلک الدرهم فی هذا الیوم، فأثر القانون رجعی.

هذا بالنسبة إلی الآثار الإیجابیة، وبالأولی بالنسبة إلی الآثار السلبیة، کما إذا جعل القانون بإعطاء المستشفی کل یوم درهماً وقد ارتاد أسبوعاً، وبعد أسبوع جاء القانون الجدید بإسقاط ذلک بأثر رجعی، فإنه یسقط الدرهم من ذمة المرتاد.

والحاصل: إن القانون ینفذ من حین وضعه واعتباره إلاّ إذا وضع علی نحو الأثر الرجعی، حیث إن القانون اعتباری والاعتبار یمکن وضعه من حینه أو من قبله أو من بعده.

ولا إشکال فیما إذا کان الاعتبار فی الوسط فی الأمر التدریجی أیضاً، لأنه تابع لکیفیة قرار المقنن وهل أن القانون فی الوقائع الجدیدة یشمل حتی الوقائع القدیمة من الحال، حتی یکون الأمر التدریجی ما مضی منه حسب القانون السابق وما یأتی حسب القانون الجدید، أو یعفی بالنسبة إلی الأمور السابقة من القانون، إطلاقاً حتی بالنسبة إلی الأمور الجدیدة من الأمر التدریجی، فهو کالسائر من النجف إلی سامراء وقد کان القانون السابق أن یقف عند احمرار الضوء، ولما وصل إلی کربلاء تبدل القانون إلی وجوب الوقوف عند اخضراره، فالسائق هل یقف فیما بقی من الطریق بین کربلاء وسامراء عند الاحمرار أو عند الاخضرار، وهذا تابع لإرادة المقنن، فقد یقول من کان فی وسط سیره یجب علیه تنفیذ القانون القدیم،

ص:223

وقد یقول بل ینفذ القانون الجدید.

ولهذا أمثلة کثیرة فی الفقه، وهی مورد اختلاف الفقهاء أنه عند تبدل رأی المرجع أو عند موت المرجع والرجوع إلی مرجع آخر هل یکون المتبع بالنسبة إلی القضایا السابقة التدریجیة آراء المرجع السابق، أو الرأی الأول للمرجع، أو آراء المرجع اللاحق، أو الرأی الثانی للمرجع.

مثلاً إذا کان رأی المرجع السابق أن العقد الفارسی کاف، وأن الرضاع المحرم إنما یکون بخمس عشرة رضعة، وقد اتخذ هذا زوجة بعقد فارسی أو أخته الرضاعیة بعشر رضعات، وکذلک کان رأیه أن فی الذبح یکفی فی حلیة المذبوح فری الحلقوم فقط، ورأیه أن الکر سبعة وعشرون شبراً، أو ستة وثلاثون شبراً، إلی غیرها، ثم تبدل رأیه أو مات وجاء من رأیه أن العقد الفارسی باطل، وأن الرضاع المحرم عشر رضعات، وأن فی الذبح لا یکفی فی الحلیة إلاّ فری الأوداج الأربعة، وأن الکر ثلاثة وأربعون شبراً مثلاً، فإنه لا شک فی وجوب تطبیق الرأی الجدید فی القضایا المستقبلیة، أما هل یطبق الرأی الجدید فی القضایا الماضیة حتی یبطل نکاحهما ویلزم العقد من جدید، أو یبطل نکاحهما إطلاقاً فیما إذا کان الزوج مثلاً فاعلاً فی حال صغره بأخ الزوجة حیث اختلاف الآراء فی أنه هل تحرم، أو التحریم خاص بما إذا کان الفاعل بالغاً، أو حتی تحرم الذبیحة السابقة التی فری حلقها فقط، أو هل ینجس کل ما طهره بالماء السابق حیث لاقی النجاسة ذلک الماء، فاللازم علیه أن یتوضأ ویغتسل لصلاة آتیة، إلی غیر ذلک.

وقد اخترنا نحن فی (الفقه) رأی من قال ببقاء الأمور السبابقة علی حالها، وإنما الواجب تطبیق الأعمال الآتیة علی الرأی الجدید، وقد استدللنا لذلک بما عن صاحب الفصول من أن (الواقعة

ص:224

الواحدة لا تتحمل اجتهادین) علی تفصیل ذکرناه هناک مما لا داعی إلی تکراره.

((الأثر الرجعی فی الروایات))

((الأثر الرجعی فی الروایات))

وقد ورد فی جملة من الروایات الأثر الرجعی فی رضا المولی فی تزویج الجاریة ورضاه فی طیب اللبن:

فعن محمد بن قیس، عن أبی جعفر (علیه السلام)، قال: «قضی علی (علیه السلام) فی ولیدة باعها ابن سیدها وأبوه غائب، فاشتراها رجل فولدت منه غلاماً، ثم قدم سیدها الأول فخاصم سیدها الأخیر فقال: هذه ولیدتی باعها ابنی بغیر إذنی، فقال: خذ ولیدتک وابنها، فناشده المشتری فقال خذ ابنه یعنی الذی باع الولیدة حتی ینفذ لک ما باعک، فلما أخذ البیّع الأبن قال أبوه: أرسل ابنی، فقال: لا أرسل ابنک حتی ترسل ابنی، فلما رأی ذلک سید الولیدة الأول أجاز بیع ابنه»((1)).

وعن محمد بن مسلم، عن أبی جعفر (علیه السلام) قال: «لبن الیهودیة والنصرانیة والمجوسیة أحب إلی من ولد الزنا، وکان لا یری بأساً بولد الزنا إذا جعل مولی الجاریة الذی فجر بالمرأة فی حل»((2)).

وعن أبی عبد الله (علیه السلام)، فی المرأة یکون لها الخادم قد فجرت یحتاج إلی لبنها، قال: «مرها فلتحللها یطیب اللبن»((3)).

وعن إسحاق بن عمار، قال سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن غلام لی وثب علی جاریة لی فأحبلها فولدت، واحتجنا إلی لبنها فإن أحللت لها ما صنعا أیطیب لبنها، قال: «نعم»((4)).

وتفصیل هذه الروایات ذکرناها فی الفقه فی باب الفضولی وباب الرضاع، ولذا لا حاجة إلی التکرار.

وحیث قد عرفت أن الاعتبار بید المعتبر فی جعل الأثر الرجعی له، فقد یطلق المقنن الأثر الرجعی وقد یقید، کما أن ذلک أیضاً کذلک بالنسبة إلی ما ورد فی الشریعة مما قد یطلق الأثر الرجعی، کما فی البیع الفضولی بالنسبة إلی إجازة المالک، وقد یقید کما فیما إذا أجاز طرفا النکاح الذی أجراه الفضول بعد جریان العقد فیما إذا کانت المرأة خلیة فی

ص:225


1- الکافی: ج5 ص211 ح12
2- الکافی: ج6 ص43 ح5
3- وسائل الشیعة: ج21 ص139 ب39 ح26732
4- الکافی: ج6 ص43 ح6

حال العقد، لا ما إذا کانت مزوجة ولا فیما إذا کان الزوج حال العقد متزوجاً بخمس أو بالأخت أو ما أشبه ذلک.

وقد لا تصح إجازة المتقدم مطلقاً، کما فی الطلاق حیث إذا طلق الفضول زوجة زید فأجاز لم یصح الطلاق، وکذا إذا نذر من قبل زید ثم أجاز زید النذر، فإن هذا الاختلاف حسب الأدلة.

وکما هذا جار بالنسبة إلی الأحکام الشرعیة کذلک جار أیضاً فی کیفیة القوانین التطبیقیة الموضوعة من قبل القوی الثلاث، فقد یجعلون الأثر رجعیاً مطلقاً، وقد یجعلون الأثر رجیعاً مقیداً، وقد لا یجعلون أثراً بالنسبة الی الزمان السابق مطلقاً.

کما أنه بالنسبة إلی الأمر التدریجی والذی توسط القانون فی وسطه قد یجعلون الأثر للقانون السابق مطلقاً، أو للقانون اللاحق مطلقاً حتی بالنسبة إلی الزمان السابق، وقد یجعلون الأثر للقانون الثانی من حینه، فالقانون الأول نافذ المفعول إلی حین القانون الثانی، فإن الاعتبار خفیف المؤونة کما عرفت، ولیس ذلک بمعنی جواز التناقض فیه، فإنه محال مطلقاً، فلا یمکن اعتبار متناقض أو انتزاع متناقض کما هو واضح.

ص:226

((الحقوق فردیة واجتماعیة))

اشارة

((الحقوق فردیة واجتماعیة))

(مسألة): الحقوق فردیة واجتماعیة، والحقوق الاجتماعیة بحاجة إلی الاجتماع، فإنه بدون الاجتماع من السالبة بانتفاء الموضوع، أما الحقوق الفردیة فهی إما حقوق فردیة علی الأفراد فهذا أیضاً بحاجة إلی الاجتماع، أما ما لیست علی الأفراد فهی لیست بحاجة إلی الاجتماع.

فحقوق الإنسان علی نفسه، وفی الحدیث: «إن لبدنک علیک حقاً»((1))، وفی حدیث آخر: «إن هذا الدین رفیق فأوغل فیه برفق»((2)).

کما أن حق الحیوان علی الإنسان لا یحتاج إلی الاجتماع، هذا علی نحو الإطلاق.

أما من یعتقد بالله والیوم الآخر فهناک حق الله علیه أیضاً، بل وإن لم یعتقد بالیوم الآخر فإن حق المنعم وإن لم یکن له ثواب وعقاب واجب عقلاً، ولذا یثنی الإنسان علی من أنعم علیه، وإن لم یثن کان ناکراً للجمیل عند الوجدان ویکون مسؤولاً أمام العقل.

وعلی أی حال، فقول بعضهم إن الحق لا یکون إلاّ فی الاجتماع محل نظر.

کما أن من قال من علماء الأخلاق: بأن الأخلاق لا تکون إلاّ فی الاجتماع، مستدلاً بأن الصدق والأمانة والتواضع والتعاون ما أشبه لا یکون إلاّ عند الاجتماع، کلام ضعیف، ودلیله أخص من مدعاه، إذ هذه الأمور بحاجة إلی الاجتماع لا أن کل الأخلاقیات کذلک، فإن ﴿ولا تمش فی الأرض مرحاً﴾((3))، والنشاط وروح الرجاء ونظافة الجسد والمکان وما أشبه أخلاق فاضلة، وأضدادها أخلاق رذیلة، وإن عاش الإنسان فی جزیرة منقطعة.

((الحق وتقسیماته المختلفة))

((الحق وتقسیماته المختلفة))

ثم الحق علی نوعین، حق مطلق یمتد بامتداد الإنسان، وحق موقت حسب القانون أو حسب عمل الإنسان أو حسب حاجة الإنسان، فحق تقدم هذه السیارة علی تلک، أو تقدم المتقدم فی الصف أو فی المکان من باب «من سبق إلی ما لم یسبقه إلیه مسلم»((4)) أو ما أشبه، حقوق قانونیة حسب العمل.

أما الحقوق حسب

ص:227


1- انظر بحار الأنوار: ج67 ص128 ب51 وفیه: (إن لجسدک علیک حقا)
2- انظر الکافی: ج2 ص87 ح6 وفیه: (إن هذا الدین متین...)
3- سورة الإسراء: 37، وسورة لقمان: 18
4- مستدرک الوسائل: ج17 ص111 ب1 ح20905

الحاجة کما إذا اضطر الإنسان فإنه لیس حسب العمل إذ لا عمل له.

وقد یکون الحق بید الإنسان فیمکن أن یدخل نفسه فی موضوع یوقع الحق علیه أو له، کما إذا تزوج حیث صار الحق وله وعلیه، فإذا طلق خرج عن موضوع الحق.

وقد لا یکون بیده، کحق الأبوین علی الإنسان حیث إنه لم یکن باختیاره المجیء إلی الدنیا، بل فرض الحق علیه فرضاً.

والحق المربوط بالاجتماع قد یکون حق فرد علی فرد، کالزوجین والوالدین والولد، وقد یکون حق الفرد علی الاجتماع بدون المقابلة، کحق المریض الذی لا یتمکن من أیة خدمة علی الاجتماع.

لا یقال: إن فی بعض شرائع الغاب لا حق لبعض المرضی، حیث للاجتماع أن یمتنع عن إعطائه أی شیء حتی یموت فیما لا نفع فیه إطلاقاً، کالأولاد الذین یولدون کقطعة لحم حیث بقاؤهم لا یکون إلاّ وبالاً علی الاجتماع، بل وعلی أنفسهم أیضاً.

لأنه یقال: هؤلاء حقهم علی الاجتماع هو احترام الإنسان بما هو إنسان، وإلاّ لجاز قتل المجانین الذین لا رجاء فی برئهم، وقتل المرضی الذین لا رجاء فی صحتهم، وقتل الشیبة الطاعنین فی السن الذین لا ینفعون بشیء إطلاقاً. ولذا فاللازم احترامهم بما هم إنسان.

نعم ذکر بعضهم الحق فی إراحة القسم الأول برصاصة الرحمة، إذا لم یصدق علیهم الإنسان، حیث إن الإنسان محترم دون غیره. لکن الکلام فی الموضوع وهو هل أن هناک ما لا یصدق علیه الإنسان من هذا النوع إذا ولد من الإنسان، والحکم بأنه هل یجوز قتله أیضاً حتی إذا لم یصدق علیه الإنسان.

وحیث إن البحث خارج عما نحن فیه لا نسهب الکلام فیه.

وقد یکون حق الاجتماع علی الفرد کحق المنتخبین علی المنتخب، وقد یکون حق الاجتماع علی الاجتماع کحق الدولة علی الدولة.

((ما هو الحق وما هی حقیقته))

((ما هو الحق وما هی حقیقته))

ثم إن جملة من علماء الحقوق اختلفوا فی الحق أنه

ص:228

ما هو وما جوهره وحقیقته، فقال بعضهم: إنه سلطة تتبع الإرادة یصدقها الأنظمة الحقوقیة، فعلی هذا هی تابعة للإرادة، فإذا أراد الإنسان کان له الحق فی مورد التصدیق، وإذا لم یرد لم یکن له حق.

وهذا التعریف یرد علیه.

أولاً: إن الحق أمر واقعی ولیس مربوطاً بالإرادة وعدم الإرادة.

وثانیاً: إنه ینتقض بحق الصغیر حتی الجنین والمجنون ومن أشبه، مع أنهم لیست لهم الإرادة.

وثالثاً: إن التعریف دوری کما هو شأن کل تعریف أخذ المعرف بالفتح فی المعرف بالکسر.

((الحق وتعاریف أخر))

((الحق وتعاریف أخر))

وعرفه آخر: بأنه المنفعة التی یحمیها القانون.

ویرد علیه بالإضافة إلی ما تقدم من الدور، وإلی أن الحق یشمل المنفعة والانتفاع وملک أن یملک، بل ونفس الملک، أنه من تعریف الملزوم باللازم، أو العلة بالمعلول، فإن الحق یوجب النفع لا أن الحق نفع.

وعرفه ثالث: بالجمع بین الأمرین.

ویرد علیه بعض ما ورد علیهما.

وعرفه رابع: بأنه مبعث السلطة، سواء تمکن المتسلط من الممارسة بنفسه أو ولیه، کما فی الصغیر والمجنون.

لکن هذا أیضاً لا یصدق علی حق الإنسان علی الله، کما ورد فی الدعاء (وبحقهم علیک) ((1)).

کما لا یصدق علی حق الحیوان، ولا علی حق الشجر والبناء، حیث ذکروا أن حقها الحفظ والرعایة عن الأذیة فی الحیوان، وعن الیبس والجفاف والتلف فی الشجر، والعمارة.

وقد عرفه النائینی (رحمه الله) وجماعة بأنه مرتبة ضعیفة من الملک، ویمیزه عن الحکم أنه قابل للإسقاط بخلاف الحکم.

وهذا محل تأمل فی کلا جزئیه، حیث إن کلاً من الحق والحکم فی مقابل الملک، والملک حقیقة کاملة فی نفسه لا أن بعضه

ص:229


1- تهذیب الأحکام: ج3 ص113

أضعف من بعض، فهل یقال إن النملة حیوان ضعیف فی مرتبة الحیوانیة قبال الفیل.

ثم إن حق الأبوة وحق البنوة وما أشبههما حقوق، کما أن الحقوق کحق التحجیر وحق النکاح والطلاق أحکام، وحیث ذکرنا بعض تفصیل ذلک فی کتاب المکاسب والإرث لا داعی إلی تفصیل الکلام فیه.

فهو من حق بمعنی ثبت، أی شیء ثابت لشیء ومبعث آثار، سواء کانت تکلیفیة تلک الآثار أو وضعیة.

((الشخصیة الحقوقیة وآثارها))

((الشخصیة الحقوقیة وآثارها))

والظاهر أن الشخصیة الحقوقیة غیر المرتبطة بالأفراد من الأمور الجدیدة منها أیضاً، لکونها مبعث أحکام حسب المقرر عند العرف، وحال هذا حال الحقوق المستحدثة، کحق التألیف وحق الاختراع وحق تجمیع أجزاء دواء ینفع المرضی، إلی غیر ذلک من الحقوق الحدیثة.

إذ بمجرد صیرورة شیء حقاً عرفیاً یشمله الأدلة، لتحقق الموضوع، فإنه لا یلزم وجود الموضوع فی زمان الشارع، فهل یلزم وجود البطاطا أو البرتقال أو الشای أو البندورة فی زمان الشارع حتی یحل، بل بمجرد حصوله ولو بترکیب أو ما أشبه یکون حلالاً بدلیل ﴿أحل لکم ما فی الأرض﴾((1))، إلی غیر ذلک.

کما ذکرنا مثله فی العقود الجدیدة، حیث یلزم الوفاء بها من جهة صیرورتها صغری لکبری ﴿أوفوا بالعقود﴾((2)).

والشخصیة الحقوقیة قد تکون لمشترکین وقد تکون لمؤسسة، فمثلاً المعمل الفلانی له شخصیة حقوقیة، إلی غیر ذلک.

((الحق عند المتشرعة))

((الحق عند المتشرعة))

ثم إن الحق عند المتشرعة خاص بما قرره الشارع إنشاءً أو إمضاءً، وذلک یشمل ما إذا تجدد حق لم یبطله الشارع حیث یدخل فی موضوع إن (حقوق المسلمین لا تبطل)((3)) ونحوه من الروایات الکلیة المطلقة الشاملة لکل حق کان أو یکون، نعم الحق الذی قرره الشارع لا یبطل بترک الناس له، فلو ترک الناس حق الأبوة أو حق الزوجیة أو ما أشبه ذلک لا یبطل بذلک الشرع الذی قرره الشارع،

ص:230


1- سورة البقرة: 29
2- سورة المائدة: 1
3- انظر الکافی: ج7 ص198

أما الحق المستحدث باعتبار جعل الناس له حقاً، کحق التألیف مثلاً مما دخل فی موضوع الحق بجعل الناس له، إذا أبطله الناس خرج عن الموضوعیة، فلا یترتب علیه بعد ذلک أحکام الحقوق.

((حقوق جذورها فی الإسلام))

اشارة

((حقوق جذورها فی الإسلام))

ثم لا بأس بالإلماع إلی بعض الحقوق العامة التی تقولبت بالقوالب الحدیثة بعد القرون الوسطی فی الغرب، وإن کان الإسلام قد نادی بالصحیح منها منذ ظهوره، بل جذورها توجد فی الأدیان السابقة، کما أشار إلیها القرآن الحکیم، وکما یجدها الإنسان فی الکتب التاریخیة التی تحکی أحوال الأنبیاء (علیهم السلام) قبل الإسلام أیضاً، ننقلها حسب ما ذکره بعض القوامیس السیاسیة، وإن کان فی التعبیر بعض التسامح:

((وثیقة الحقوق العالمیة))

((وثیقة الحقوق العالمیة))

الأول: إعلان الحقوق، وهی وثیقة سیاسیة تنص علی حقوق الأفراد وحریاتهم، وتلتزم الدول باحترامها، وتعبر لذلک قیداً علی نشاطها.

ومن ذلک إعلان وثیقة الحقوق الصادرة فی انجلترا، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر فی فرنسا عقیب الثورة المشهورة عندهم، وتطلق مثل هذه العبارة فی الولایات المتحدة علی التعدیلات العشرة الأولی علی الدستور الاتحادی التی تمت الموافقة علیها قبل قرنین تقریباً، إذ تضمنت عدداً من الحقوق والحریات العامة، أهمها حریة العقیدة والتعبیر والاجتماع وحریة المساکن، وبعض ضمانات التحقیق والمحاکمات الجنائیة.

((حقوق الإنسان))

((حقوق الإنسان))

الثانی: إعلان حقوق الإنسان، وهو التصریح عن الحقوق الأساسیة للإنسان والحریات والتأمینات الأساسیة علی اختلاف أنواعها ومیادینها التی یجب أن یتمتع بها.

وقد صدر الإعلان الأول لحقوق الإنسان

ص:231

والمواطن قبل قرنین من الزمان عن الجمعیة الوطنیة الفرنسیة إبان الثورة الفرنسیة التی اعترفت فیه بصورة إیجابیة بالمساواة بین جمیع المواطنین، وبحقوق الإنسان وبحریاته الأساسیة، وبأن الشعب مصدر لجمیع السلطات، وبأن القانون مظهر لإرادة الأمة.

وقد أصبحت حقوق الإنسان فی الوقت الحاضر راسخة فی ضمیر الأمم الغربیة والشرقیة، بینما کانت الفوضی تسودهما، بخلاف الأمة الإسلامیة التی عرفت الحقوق منذ بزوغ شمس الإسلام.

وفی الوقت الحاضر اعتادت الدول إلی تدوین الحقوق ووضعها فی حمایة القانون الدولی، بالإضافة إلی القانون الدستوری الخاص بکل دول.

وهکذا نص میثاق عصبة الأمم التی نشأت فی جنیف قبل ما یقارب ستین سنة علی أحکام مختلفة تتعلق بحقوق الإنسان وواجبات الدول نحوها، وقد جاء میثاق الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمیة الثانیة یفتتح أحکامه بالتصریح الرسمی عن إیمانه الراسخ بحقوق الإنسان الأساسیة، إلی أن تبلورت هذه الحقوق فی شرعة خاصة بها أعلنتها الأمم المتحدة قبل أربعین سنة، وهی الوثیقة العالمیة لحقوق الإنسان، التی یمکن اعتبارها الاساس الأحدث لنظریة حقوق الإنسان فی الوقت الحاضر بالنسبة إلی الغربیین والشرقیین، إذ أنها تضم فی مواردها الثلاثین المبادئ الجوهریة التی أجمعت الدول الأعضاء فی منظمة الأمم المتحدة علی إقرارها والعمل بموجبها فی تشریعاتها الداخلیة وفی سیاستها مع شعوبها وسائر شعوب الأرض.

وقد اشتملت هذه الشریعة علی المبادئ الأساسیة لحقوق الإنسان فی کل مکان، والتی أصبحت فی الدول المعاصرة جزءاً جوهریاً من الفلسفة الاجتماعیة والمعنویة التی تعتمدها فی أساس حیاتها کقاعدة لسیادتها وحکمها، مع فارق أن الدول

ص:232

الدیمقراطیة تعمل بها غالباً((1))، بینما الدول الدکتاتوریة المستبدة ذات الأحزاب الواحدة کالعالم الشرقی والعالم الثالث إنما تتبجح بأنها تتبناها من دون تطبیق لها إطلاقاً.

هذا مع العلم بأنه کان قد صدر قبل هذا الإعلان التاریخی وبعده شرعات أخری خاصة بمنظمات إقلیمیة معینة.

وما من دستور حدیث فی الدول الاستبدادیة أو الدول الدیمقراطیة فی مستهله بیان بتعداد هذه الحقوق حرصاً علی تأمین حقوق الأفراد وحریاتهم، سواء عملت الدولة بها کما فی الدول الدیمقراطیة علی الأغلب، أو لم تعمل کما فی الدول الدکتاتوریة.

((حقوق المواطن))

((حقوق المواطن))

الثالث: إعلان حقوق الإنسان والمواطن، وهی وثیقة تحتوی علی مبادئ الثورة الفرنسیة المعروفة، أکدت علی حقوق الإنسان الثابتة وأصبحت فیما بعد جزءاً من الدستور، وقد أوحت إلی العدید من الإصلاحیین خارج فرنسا أیضاً والذین کانوا یرون فی مساوئ الملکیة والأروستقراطیة حواجز فی طریق صعود الطبقات الوسطی.

((حق الاقتراع))

((حق الاقتراع))

الرابع: حق الاقتراع، وهو عبارة عن حق المشارکة فی تقریر أمر التشکلات السیاسیة المعروضة علی الناخبین فیما إذا لم یکن هنالک أکثریة وأقلیة حسب النصاب المقرر قانوناً.

ولما کان حق الاقتراح یمنح للمواطنین الذین یملکون صفات معینة یحددها القانون فإنه لیس حقاً وراثیاً تلقائیاً، فإن بعض الحقوق تورث وبعض الحقوق لا تورث، وبعضها مختلف فیها، وبعضها مشکل حکمه یرجع فیه إلی الأصول، کما ذکرنا ذلک فی کتاب الإرث.

((حق تقریر المصیر))

((حق تقریر المصیر))

الخامس: حق تقریر المصیر، وهو مبدأ سیاسی قانونی دولی یعبر

ص:233


1- بنسبة أو أخری

عنه بحق کل أمة فی بناء دولة خاصة بها، وهو الحق الطبیعی للشعب فی اختیار مستقبلة السیاسی وتقریر نوع السلطة أو شکل الدولة التی یرید أن یخضع لها، وذلک عن طریق الاستفتاء الحر، ودون تدخل خارجی وتحت إشراف قوة محایدة هی فی معظم الأحیان الأمم المتحدة.

وقد أشیر إلیها أول ما أشیر _ کما ذکره بعض السیاسیین _ إبان الثورة الفرنسیة، وذلک ضد الامبراطوریات الأوروبیة التی کانت تشن حملة ضاریة للقضاء علی کل نظام لا یوافق رأیهم، وهکذا فقد أعلن زعماء الثورة الفرنسیة استعدادهم لمساندة الشعوب الراغبة فی ممارسة حقها فی تقریر مصیرها، وقد ارتبط هذا الحق طیلة القرن التاسع عشر المسیحی وحتی مطلع القرن العشرین بمسألة القومیات فی أوروبا بشکل عام، وفی الأمبراطوریة النمساویة المجریة بشکل خاص، وکانت هناک عدة جوانب مثیرة للجدل والأهواء فی هذه المسألة، نظراً لما کانت تطرحه من مشکلات الانفصال إلاّ أنها کانت تتلخص آنذاک فی نقطتین.

النقطة الأولی: مشکلة الأمم غیر التاریخیة، أی التی لم یکن لها دولة عبر تاریخها، التی بدأت تطالب بدولة مستقلة أو مرتبطة فدرالیاً بدولة أخری.

الثانیة: مشکلات الأقلیات وطموحها هی الأخری نحو تشکیل دولة خاصة بها بتأیید من دولة أخری أو نحو الانفصال والانضمام إلی دولة أخری ترتبط وإیاها بروابط قومیة أو دینیة أو لغویة أو عرقیة.

وقد صممت هذه المسألة الحیاة السیاسیة فی أوروبا وقادت إلی حربین عالمیتین، وذلک قبل أن تعمل الولایات المتحدة الأمریکیة إلی إعلان حق کل شعب بأن یقرر مصیره بنفسه ومبنی دولته الخاصة به، وکانت مبادئ

ص:234

الأربعة عشر أول وثیقة عالمیة رسمیة أظهرت الشرعیة علی مفهوم حق تقریر المصیر، وتدفع الشعوب المغلوبة علی أمرها إلی المطالبة به، وذلک علی الرغم من أن الولایات المتحدة الأمریکیة کانت من أوائل الدول الحدیثة التی رفضت هذا الحق لشعوبها وذلک عندما أعلنت ثلاث عشرة ولایة أمریکیة جنوبیة استقلالها عن الشمال الصناعی، فقضت علی هذا الاستقلال الذی أسمته انفصالاً بقوة الحدید والنار بعد حرب أهلیة مدمرة.

والمبادئ الأربعة عشر التی استقبلتها شعوب الامبراطوریات المنهارة بأمل وحماس، قد اصطدمت بالواقعیة السیاسیة الباردة وبصعوبة إرضاء کل القومیات والأقلیات وما یتضمنه ذلک من إعادة رسم خریطة العالم السیاسیة، وهکذا فقد استعیض عن حق تقریر المصیر بنظام الوصایة والانتداب، کما أن عصبة الأمم عمدت إلی العبث بهذا الحق بطریقة خطرة کانت من جملة الأسباب التی قادت إلی نشوب الحرب العالمیة الثانیة.

ولعل منظمة الأمم المتحدة قد اتعظت من التجارب السابقة فوازنت بین حق تقریر المصیر بالشعوب الواقعة تحت الاستعمار أو الحمایة أو الانتداب، وفی النهایة فإن مبدأ تقریر المصیر أصبحت فی الممارسة السیاسیة الدولیة المعاصرة مرادفاً لحقوق الشعوب المستعمرة فی الاستقلال، شرط أن یکون هذا الاستعمار واضحاً، وشرط أن لا یعرض هذا المبدأ وحدة الدول السیاسیة القائمة للخطر.

((مواثیق الحقوق وتلاعب المستعمرین))

((مواثیق الحقوق وتلاعب المستعمرین))

ولکن من الواضح أن أمثال هذه الحقوق أداة تلاعب بید المستعمرین، وإلا لم تضح الجزائز بملیون ونصف من تسعة ملایین لأجل خلاصها من الاستعمار الفرنسی، ولم یضح شعب فلسطین عشرات الألوف من القتلی منذ أربعین سنة

ص:235

ضحایا استعمار برطانیا واستعمار أمریکا فی سبیل استراجاعها بلادها وإلی الیوم، ولم یضح شعب أفغان بملیون ونصف من القتلی وخمسة ملایین ونصف من المطاردین وهم ثلث البلاد قبال الاستعمار الروسی، إلی أمثلة کثیرة أخری.

((حق الدفاع))

((حق الدفاع))

السادس: حق الدفاع المشروع عن النفس والبلد، وهو حق من الحقوق المشروعة سواء بالنسبة إلی الفرد أو الدولة، وهو یجیز استخدام القوة لدفع الاعتداء الواقع علیه أو علیها، وبالقدر الذی یحقق هذا الهدف ولا یتعداه.

وهذا الحق تجیزه الشرائع السماویة، کما تجیزه عن النفس عادة فی مجال حقوق الأفراد فی القوانین والمحاکم الداخلیة، وفی مجال الدول عند ما تطرح قضایا الحرب.

وتحدید مشروعیتها من عدمه بأن تکون الحرب مشروعة _ حسب ما قالوا _ برأی فقهاء القانون الدولی، عند ما تکون دفعاً لاعتداء واقع بالفعل.

وهذا هو الدفاع عن النفس، وقد قرره الإسلام والأدیان السماویة، فانه شریعة الله سبحانه وتعالی المطابقة للعقول، لکن بعض من یسمون بفقهاء القانون الدولی فی العصر الحدیث لم یقیدوا الحرب المشروعة بحق الدفاع عن النفس أو حمایة الحقوق، فذهب إلی أن الحرب تکون مشروعة متی دعت إلیها مصلحة الدولة، وأن للحرب دائماً ما یبررها إذا کانت أصلح وسیلة لتحقیق الأهداف، وأنه لا تقید الدولة بالالتجاء إلی الحرب أی اعتبار سوی مصالحها الخاصة.

ویجیز میثاق الأمم المتحدة للدول استعمال هذا الحق ولکن یشترط أن یکون استخدام القوة محدوداً سواء زمنیاً أو فی مدی اتساع العملیات العسکریة، کما یشترط إعلام مجلس الأمن الذی یکون علیه التدخل فی أسرع وقت

ص:236

ممکن لإنهائها.

والقرآن الحکیم شرع الحرب فی موردین فقط، وکلاهما دفاع، فقال سبحانه: ﴿وما لکم لا تقاتلون فی سبیل الله والمستضعفین﴾((1)) علی ما ذکرنا تفصیله فی کتاب الجهاد وغیره.

((حق الرد))

((حق الرد))

السابع: حق الرد، ویستخدم فی القانون الدولی للدلالة علی حق الدولة فی اللجوء إلی إجراءات ضارة ولکنها جائزة ضد دولة أخری لدفع ضرر وقع أو قد یقع علیها، نتیجة لإجراءات معادیة اتخذتها الدولة الأخیرة.

ویشبه هذا الحق الثار أو الانتقام الذی کانوا یستعملونه فی الزمان القدیم، وذلک إنما یکون بعد سلسلة أفعال غیر جائزة تقدم علیها دولة أخری ضد هذه الدولة صاحبة الحق.

((حق المواطنة))

((حق المواطنة))

الثامن: الحقوق المدنیة، وهی عبارة عن مجموعة الحقوق التی یمتلکها الفرد بصفته مواطناً، والتی یقر بها القانون وتلتزم بها الدولة، کالحق فی الحیاة والحریة والکرامة وفی المساواة مع الآخرین وفی تکافؤ الفرص، وغیر ذلک من الحقوق الذی نص علیها الإعلان العالمی لحقوق الإنسان.

وقد ذکرنا فی کتاب (الفقه الإدارة) بعض الانتقادات علی ذلک الإعلان، وأن الأمر بالنسبة إلی الموازین العقلیة لا یطابق تمام المطابقة مع ذلک.

وعلی کل، فتبین دساتیر الدول وقوانینها طبیعة هذه الحقوق وحدودها وکیفیة صیانتها بسبب الهیئة القضائیة، وبشکل عام فإن مفهوم الحقوق المدنیة مرتبطة بفکرة الحقوق والقانون الطبیعی ومفهوم الحقوق الأساسیة للإنسان، وقد تعزز بقیام الحرکات التحرریة والتقدمیة فی العصر الحدیث.

((حق المرور البحری))

((حق المرور البحری))

التاسع: حق المرور البحری، وهو عبارة عن حق السفن البحریة

ص:237


1- سورة النساء: 75

التجاریة، بل والحربیة أحیاناً فی زمان جواز الحرب عند الأمم المتحدة، بالمرور فی المضائق الدولیة، شریطة التزام هذه السفن بالحفاظ علی سلامة وأمن الدولة التی تمر ضمن شواطئها وإطاعة قوانینها.

ولکن هنالک حدود معینة لدی التزام تلک السفن بالقوانین المحلیة.

وفی الإسلام هذا الحق موجود لکل غیر معتد، فإن الإنسان حر له الحق فی السیر فی البر والجو والبحر طولاً وعرضاً وارتفاعاً، کما تفعله الطائرة عند صعودها، والغواصة عند هبوطها.

((حق السحب))

((حق السحب))

العاشر: حقوق السحب الخاصة، وهی وسیلة دفع أقره صندوق النقد الدولی، ویستعمل لتسدید المدفوعات بین بنوک الإصدار، ونظراً للتفاوت الذی قد یحصل بین فترة وأخری فی سعر بعض العملات، فإن حقوق السحب الخاصة تتأثر سلباً وإیجاباً بهذا التفاوت، لکن علی أساس مجموع العملات وعلاقتها فیما بینها ولیس علی أساس عملة واحدة کالدولار مثلاً.

أما اتباع حقوق السحب الخاصة فی تحدید أسعار سلع معینة کالنفط مثلاً یقلل من التقلبات، وبالتالی یقلل من الخسائر التی قد تحصل، ومن المفضل تطبیق هذه الطریقة خاصة وأن التسعیر حالیاً یعتمد علی بعض العملات الأجنبیة.

ولا یخفی أن هذه الحقوق بقیت حبراً علی ورق حیث تلعب بها الدول الکبار حسب مصالحها الخاصة.

ص:238

((حق وحکم ودین))

اشارة

((حق وحکم ودین))

(مسألة): هناک حق وحکم ودین وتکلیف:

فالحق هو الصفة الاعتباریة الثابتة علی موصوف خاص، فقد یکون ذلک الموصوف حقیقیاً کحق زید، وقد یکون اعتباریاً أیضاً کحق الجماعة بما هم جماعة، حیث إن الجماعة بما هم ذلک لا وجود حقیقیة لهم ولا وجود انتزاعیة کزوجیة الأربعة، بل لهم وجود اعتباری قام الحق الذی هو اعتبار أیضاً بهذا الاعتبار.

وأثر الحق صحة الانتقال بلا بدل أو ببدل کهبته أو بیعه وما أشبه مما جری الاعتبار العقلائی فی مبادلته، کحق القسم فی الزوجة مع زوجة أخری، حیث یصح البیع والصلح والهبة بینما لا یحق لها رهنه کأن یرهن حقها فی القسم مع زوجة أخری فی قبال أخذها دیناراً منها، فإذا وفت المقترضة وردت الدینار فهو، وإلاّ فللزوجة المرتهنة أن تبیع ذلک الحق لزوجة ثالثة مثلاً فی قبال قدر قیمة هذا الحق، فإن زاد عن الدینار ردت الزائد إلی المقترضة، وإن نقص أخذت التفاوت منها.

کما أن أثر الحق صحة الإعراض عنه وإسقاطه، وأنه إذا مات ذو الحق ورثه الوارث، فهذه الأمور الثلاثة من آثار الحق إذا کان حقاً مطلقاً.

وإذا کان حقاً فی بعض الجهات، مثلاً جعله اعتباراً قابلاً للنقل لا للإرث وهکذا، اتبع قدر الاعتبار، فإن الحق مقولة اعتباریة فی محاذاة المقولة الحقیقیة، کما أن الأمر کذلک فی کثیر من المقولات الحقیقیة والاعتباریة مما یظهر حال المقولة الاعتباریة من المقولة الحقیقیة، فکیف ما تکون الحقیقیة تکون الاعتباریة إلاّ ما خرج، أی لم یعتبر عند العقلاء.

مثلاً الکتاب وهو مقولة حقیقیة قابلة للنقل والانتقال والإرث والإسقاط بأن یعرض عنه مالکه، کذلک الحق.

((الحکم وحقیقته))

((الحکم وحقیقته))

وإذا لم یتمکن ذو الحق من هذه الثلاثة کحق الأبوة مثلاً حیث لا یقبل إسقاطاً ولا انتقالاً ولا توارثاً فهو حکم فی الاصطلاح.

وإذا قبل الاعتبار البعض من الثلاثة

ص:239

دون بعض فهو باعتبار القابل حق، وباعتبار غیر القابل حکم، مثلاً حق الشفعة غیر قابل للنقل لکنه قابل للإرث فهو حکم من جهة النقل وحق من جهة الإرث.

هذا بعض الکلام فی الحق، والکلام من جهة الأصل والمفهوم.

((الحق والبحث المصداقی))

((الحق والبحث المصداقی))

أما من جهة المصداق، فإذا قال الشارع: الشیء الفلانی حق، ولم تکن قرائن مخصصة، فهو قابل للصفات الثلاث، لأنه معنی کونه حقاً لفلان، کما أن القابلیة للثلاثة معنی کونه ملکاً لفلان فی المقولة الحقیقیة، وإلاّ لزم التخصیص فی الحکم کما یلزم التخصیص فی الحق إذا لم یرد الملکیة المطلقة أو الحقیة المطلقة.

ومثل تصریح الشارع بأنه حق بدون تقیید، ما إذا کانت هناک قرائن علی الحقیة بدون تقیید أو تخصیص، وإن لم یکن تصریح ولا قرائن اقتصر علی مقدار الدلیل، لأن الأصل نفی ما سواه.

ومن هنا قال النائینی وغیره: إن الأصل استصحاب عدم الانتقال والإسقاط والتبدیل فی مورد الشک، فإن کلامهم هنا لا ما إذا کان حق بقول مطلق یظهر من النص ونحوه.

((بین الحق والواجب وسائر الأحکام))

((بین الحق والواجب وسائر الأحکام))

ثم المشهور أن الحق فی قبال الواجب، لکن الظاهر أن الحق قد یکون فی قبال الحق، وقد یکون فی قبال الواجب، وقد لا یکون فی قباله شیء، فإن المتبایعین کل واحد منهما له حق علی الآخر، فالحقان متقابلان، ومن یعطی دیناراً لأجل کنس إنسان الشارع الذی لا یرتبط به یقع الحق فی قبال الواجب وإن صح أن یعبر عنه أیضاً بأن الحق فی قبال الحق، أما من یولد غیر قادر علی العمل ولا مال له فحقه علی الولی بدون حق للولی علیه ولا واجب علیه، وکذلک حال المریض الذی لا شیء له حتی یکون حقاً، ولا قدرة له حتی یکون واجباً علیه.

وحیث قد عرفت أن الحق صفة ثبوتیة اعتباریة فالواجب والمستحب یتعلقان بالحق، لأنهما حکم لا بد لهما من موضوع، أما الأحکام الثلاثة

ص:240

الأخر من الحرام والمکروه والمباح فلا تتعلق بالحق، لاستلزام ذلک التناقض بین الأصل والفرع، إذ التناقض قد یکون بین شیئین فی عرض واحد کالوجود والعدم فإنهما بالنسبة إلی المهیة فی عرض واحد.

لا یقال: العدم لیس شیئاً حتی یوصف بالعرضیة والطولیة.

لأنه یقال: لا یرید خارجیة العدم، بل حاله حال ما یقال من أنه تناقض بین الوجود والعدم، حیث إن صفة التناقضیة أیضاً لا یمکن أن تکون خارجیة، لأن العدم الذی لیس بخارجی لا یمکن وصفه بشیء خارجی، وإنما المراد بصفة التناقضیة أنه صفة علی موصوف مرکزه الذهن، لکن الذهن مرآة للخارج، أی إن الذهن یتصور أنهما فی الخارج لا یجتمعان. فالعرضیة والطولیة أیضاً بین الوجود والعدم أو بین آثار الوجود والعدم أو العکس محلها الذهن مرآة للخارج.

وعلی أی، فکما أن العدم فی عرض الوجود لا یجتمع مع الوجود لا یجتمع مع آثار الوجود، فإن الأثر والعدم وإن لم یکونا فی عرض واحد، لتقدم رتبة العدم علی رتبة آثار الوجود، إلاّ أن المحذور فی التناقض مع حفظ الوحدات الثمان آت فی العدم أیضاً المتقدم والأثر المتأخر.

فکما أنه لا یمکن أن تجتمع الشمس مع عدمها، کذلک لا یمکن أن یجتمع أثر الشمس من الحرارة والنور مع عدم الشمس، إذ معنی وجود اللازم وجود الملزوم، وإلاّ لبطل الملازمة، ومعنی وجود الملزوم حصول التناقض بینه وبین عدمه.

وغنی عن القول إن العدم عدمان، عدم اللازم وعدم الملزوم، فعدم الملزوم ووجود الملزوم متناقضان فی المرتبة، وکذلک عدم اللازم ووجود اللازم متناقضان فی المرتبة، أما عدم الملزوم ووجود اللازم أو العکس فتناقض فی غیر المرتبة.

وإذا ثبت ذلک ثبت استحالة الأحکام الثلاثة مع الحق، فلا یکون حق حرام أو مکروه أو مباح، لأن

ص:241

الحق لازمه التنفیذ المانع من النقیض، فکیف یجتمع هذا اللازم مع ضرورة عدم التنفیذ فی الحرام، أو أفضلیة عدم التنفیذ فی المکروه، أو تساوی بین التنفیذ وعدم التنفیذ فی المباح.

نعم إذا قیل حق مکروه، فاللازم إما اختلاف المتعلق وإما أن یکون الجمع بینهما کالجمع بین الواجب والمکروه، کالصلاة فی الحمام.

وحیث إن البحث خارج عن موضوع الکتاب اکتفینا بالإلماع إلیه.

ومما تقدم ظهر أنه لو قلنا بأنه حق مستحب کبعض حقوق الزوجین بعضها علی الآخر، نکون قد تتازلنا عن معنی الحق لا عن معنی المستحب، إذ الحق بمعناه الأول لا یجتمع مع المستحب أیضاً، إذ الحق معناه صفة اعتباریة والصفة ثابتة ولا معنی لاستحبابها، وإنما المراد أن هذه الصفة الثابتة للمکلف الخیار فی الإتیان بلوازمها أو عدم الإتیان مع أفضلیة الإتیان.

((بین السبب والحق والأثر))

((بین السبب والحق والأثر))

ثم هناک سبب وحق وأثر، ولکل اسم، مثلاً البیع سبب، والملک حق، والتصرف أثر الملک.

ویسمی الحق بالأسامی الثلاثة، بالاعتبارات الثلاثة، فیقال مشتر بالاعتبار الأول، ومالک بالاعتبار الثانی، ومتصرف بالاعتبار الثالث، وهکذا حال ناکح وزوج وواطی إلی غیر ذلک.

ثم إذا لزم إعطاء شیء أو عمل فی قبال الحق علی من علیه الحق، عبر عنه أیضاً بالمدیون والملتزم والمتعهد، فمن باع داره ولم یسلمها یقال له إنه مدیون للمشتری ومتعهد بدفع الدار إلیه وملتزم به، کما أنه إذا استأجره لخطابة أو لکتابة أو صلاة قضاء أو ما أشبه یعبر بهذه التعابیر أیضاً، فمدیون لأنه فی ذمته، وملتزم لأنه ألزم نفسه بذلک، أو ألزمه من له الإلزام مثل إلزام الله سبحانه، أو إلزام السید لعبده، أو الزوج لزوجته فیما له حق علیها فیقال لها أنت ملتزمة بالتمکین للزوج، بینما یمکن أن لا تکون الزوجة التزمت لذلک، لأن أباها عقدها وهی صغیرة،

ص:242

وأن السید حللها لشخص بالنسبة إلی الأمة، ویقال له متعهد لأنه فی عهدته.

ولعل الفرق بین الذمة والعهدة أن الأول باعتبار استقرار الشیء علی الإنسان، کالنظر إلی الظرف والمظروف فقط، بینما الثانی یضاف علیهما أنه تعهد بذلک، فهناک ثلاثة أشیاء ظرف ومظروف وإشارة إلی وضع الظرف فی المظروف.

والتکلیف یقال بالنسبة إلی ما علی الإنسان أن یفعله أو یترکه، وهو من الکلفة بمعنی المشقة، سواء فی کل الأحکام الأربعة فإن المستحب والمکروه أیضاً تکلیف لکن هذا بدون المنع من النقیض، أما المباح فتسمیته تکلیفاً من باب السیاق، مثل تسمیة المنطقیین القضیة السالبة حملیة أیضاً، مع أنه لا حمل، لوضوح الفرق بین المعدولة والسالبة المحصلة.

وربما یقال: إن المباح أیضاً تکلیف، لما ورد من «إن الله یحب أن یؤخذ برخصه کما یحب أن یؤخذ بعزائمه»((1))، حیث فرق بین الحریة فی الأخذ وعدم الأخذ قبل التشریع، فلا حب هناک ولا محبوبیة لشیء وجوداً وعدماً، وبین الحریة بعد التشریع حیث أضیفت صفة المحبوبیة علی الشیء الذی کان حراً فیه، فبعد التشریع یأخذ أو یترک إطلاقاً عن التشریع الذی هو تکلیف، بینما کان سابقاً علی التشریع یأخذ أو یترک من باب الانطلاق الطبیعی.

ثم إنه ربما یقال إنک مکلف أو ملتزم، ولا یقال إنک مدیون، مثلاً الإنسان علیه أن یحترم حقوق الآخرین فی دمائهم وأموالهم وأعراضهم فیقال: إن الناس مکلفون باحترام دم زید وماله وعرضه، بأن لا یراق الأول ولا ینهب الثانی ولا یهتک الثالث، کما یقال إنهم ملتزمون بذلک، ولا یقال إنهم مدیونون.

((الجمع بین الحق والتکلیف))

((الجمع بین الحق والتکلیف))

ثم الظاهر إنه یمکن جمع الحق والتکلیف، وإن أشکل فیه الشیخ والنائینی وغیرهما، وتبعهم علی ذلک جمع من علماء الحقوق، بتقریب أن

ص:243


1- وسائل الشیعة: ج1 ص107 ب25 ح263

الحق للإنسان والتکلیف علیه، وهما متقابلان.

لکن حیث إن الإنسان له اعتباران، فباعتبار یحق وباعتبار مکلف، ولا مانع من ذلک، ولذا ورد «إن لبدنک علیک حقاً»((1))، فالراحة والأکل وما أشبه حق البدن، والمکلف بتنفیذ ذلک الحق هو الإنسان نفسه.

وفی روایة أخری: یسأل یوم القیامة عن الإنسان عن (شبابه فیم أبلاه وعن عمره فیم أفناه)((2)) إلی غیر ذلک.

وهذا من جهة أنه من المقولات الاعتباریة الموازیة للمقولات الحقیقیة، وفی المقولات الحقیقیة یمکن الاتحاد باعتبارین، ففی المقولات الاعتباریة أیضاً یمکن ذلک بهما، کالإنسان المریض یطیب نفسه فهو طبیب ومریض، والإنسان الذی یقتل نفسه قاتل ومقتول، وکذلک الضارب نفسه، إلی غیر ذلک. فأی مانع فی أن یکون مکلفاً وذا حق فی حال واحد.

وأما ما ذکره الأعلام المتقدمون، من الاستدلال بأنه لا یمکن انتقال حق المدیون إلی نفسه، حتی یکون طالباً ومطلوباً، ودائناً ومدیناً، فإن أرید عدم الاعتبار العقلائی فهو تام.

وإن أرید عدم الإمکان کعدم إمکان جمع اعتبارین متقابلین، إذ المحالات فی الحقائق کالضدین والنقیضین وما أشبه آتیة فی الأمور الانتزاعیة والاعتباریة، فلا یمکن أن یکون شیء واحد ثلاثة وأربعة، کما لا یمکن اعتبار شیء ملکاً تاماً لإنسان وملکاً تاماً لآخر وهکذا.

ففیه: إنه لا وجه لعدم إمکان الاعتبارین، ولو فرض أن المعتبر اعتبر الحق کالشیء الخارجی الذی للإنسان لکنه شیء ذمی وله آثار لم یکن بذلک بأس، فإذا کان بعض غیر المسلمین أو غیر المؤمنین اعتبروا ذلک حتی یکون طلبه من نفسه کطلبه من زید، یصح لنا بدلیل الإلزام جعل ذلک الطلب من نفسه کجعلنا ذلک الطلب من غیره.

ثم إن من جمع الحق والتکلیف: الحضانة بالنسبة إلی الأبوین، علی التفصیل المذکور فی (الفقه)،

ص:244


1- راجع مجموعة ورام: ج1 ص2 وفیه: (إن لجسدک...)
2- انظر تحف العقول: ص56

وقد ذکرنا هناک أنه إذا لم یکن الأب فالأم تقوم مقامه فی الوجوب علیه، لآیة أولی الأرحام وغیرها، فإنه حق لهما فی وقت هو تکلیف علیهما أیضاً.

وکذلک مسائل الولایة علی الوقوف أو علی الأمة ونحو ذلک، والوصایة وغیرهما، کحق الزوجین فی المقاربة، فإنه حق وتکلیف، مثلاً المرأة مکلفة بالتمکین کما أنه حق لها.

وإمکان المناقشة فی بعض الأمثلة لا ینافی ما نرید إثباته من الصغری الجزئیة،

((المؤسسات الحقوقیة))

((المؤسسات الحقوقیة))

بقی شیء: وهو أن الحق قد یکون فردیاً کما عرفت، وقد تجتمع جملة من الحقوق المنسقة بینها فیما لها هدف واحد، ویسمی حینئذ بالمؤسسة الحقوقیة، مثل العائلة، فإنها مؤسسة حقوقیة بوجود حقوق الزوجین علی الآخر، وحقوق الأولاد علیهما، وحقوقهما علی الأولاد، فهذه المؤسسة الحقوقیة وجدت بهدف الترابط بین جملة من أفراد المجتمع وتربیة الأولاد والتقدم بالمجتمع إلی الأمام، لأن المجتمع متکون من کثیر من اللبنات، واللبنات قد تکون مؤسسات وقد تکون أفراداً، واللبنات المؤسسیة بعد اللبنات الأفرادیة.

وهکذا حال المؤسسة الاقتصادیة الاشتراکیة حیث یجتمع فردان أو أکثر للأمور الاقتصادیة علی نحو المضاربة أو الشرکة مثلاً، فهی مؤسسة اقتصادیة فیها حقوق متعددة متناسقة لأجل تقویة الاقتصاد.

وهکذا الحال فی المؤسسة الثقافیة أو العسکریة أو السیاسیة أو غیرها، فإن کل مؤسسة عبارة عن جملة من الحقوق التی بینها تنسیق خاص، والهدف منها أمر خاص.

((أرکان المؤسسة الحقوقیة))

((أرکان المؤسسة الحقوقیة))

وعلی هذا فالمؤسسة الحقوقیة تتوقف علی رکنین:

الأول: جملة من الحقوق المتشابکة المتناسقة المرتبطة ببعد خاص.

والثانی: کون الهدف منها بعد خاص من أبعاد الحیاة، فإن اجتمع

ص:245

رجل وامرأة ورضیا بالزوجیة علی المراسیم الخاصة کان ذلک هدفاً إلی مئات الحقوق، مع أن الغالب عدم اطلاعهما علی أکثرها، حیث إن المشرع جعل تلک الحقوق بعد التوافق علی الزوجیة والعقد، کأحکام النفقة والمهر والمقاربة والمعاشرة والأولاد والطلاق والخلع والمباراة والظهار والإیلاء وغیرها، وکذلک إذا عقد اثنان عقد المضاربة، إلی غیر ذلک.

وعلیه فإذا عرف الإنسان أن الشخص فی أیة مؤسسة حقوقیة، عرف وضع الشخص والحقوق التی له أو علیه.

ثم إنه قد یوسع فی أمر المؤسسة الحقوقیة، فتشمل الواجب والحرام والعقاب والضمان وما أشبه، مثلاً المؤسسة الجاسوسیة یعبر عنها بالمؤسسة الحقوقیة، فهناک جواسیس من قبل الدولة الإسلامیة الصحیحة علی الأعداء أو علی الموظفین وکلاهما جائز فی الشریعة الإسلامیة بالمعنی الأعم الشامل للواجب، فقد جعل النبی (صلی الله علیه وآله) جواسیس فی عدة قضایا، إذ روی أنه بعث عبد الله بن أبی حدرد الأسلمی یوم حنین، وأمره أن یدخل فی العدو حتی یعلم علمه ثم یأتیه به ففعل.

وبعث بسبس بن عمر الجهنی وعدی بن الرعباء قبل غزوة بدر یتجسسان أخبار أبی سفیان وهو فی تجارة قریش عائداً من الشام.

وبلغه (صلی الله وعلیه وآله) أن زعیم بنی الحیان من هذیل یجمع له الناس لیغزوه بهم بعد أحُد، فبعث النبی (صلی الله وعلیه وآله) جاسوساً مسلماً اسمه عبد الله بن أنیس لیقف علی جلیة أمره.

وأرسل (صلی الله وعلیه وآله) حذیفة بن الیمان یوم الخندق قائلاً له: ادخل فی القوم فانظر ماذا یفعلون ولا تحدثن شیئاً حتی تأتینا، فی قصص طویلة مذکورة فی التواریخ.

وکذلک جعل علی (علیه الصلاة والسلام) الجاسوس علی موظفی الدولة، وهکذا جعل الحسین (علیه الصلاة والسلام) بعض

ص:246

ذویة عیناً علی والی المدینة عند خروجه منها إلی کربلاء.

فهذه جواسیس یصح شرعاً ویجب الأمر عیناً أو کفایةً.

((حرمة التجسس علی الناس))

((حرمة التجسس علی الناس))

أما التجسس علی المسلمین من غیر الصنفین فهو محرم، مشمول لقوله تعالی: ﴿ولا تجسسوا﴾((1)).

وهناک روایات أخری تدل علی التحریم أیضاً.

کما أن عقوبة جاسوس الکفار علی المسلمین القتل إن رآه ولی الأمر صلاحاً، کما ورد عن سلامة بن الأکوع قال: غزونا مع رسول الله (صلی الله وعلیه وآله) هوازن فبینما نحن نتضحی (أی نأکل الضحی) إذ جاء رجل علی جمل أحمر فأناخه، إلی أن قال: ثم تقدم یتغدی مع القوم وجعل ینظر وفینا ضعفة، أی حالة ضعف وهزال ورقة فی الظهر وبعضنا مشاة، إذ خرج یشتد فأتی جمله فقعد علیه فأناره فاشتد به الجمل، فقال النبی (صلی الله وعلیه وآله) اطلبوه فاقتلوه.

قال سلمة: وخرجت أشتد، إلی أن قال: حتی أخذت بخطام الجمل فأنخته فلما وضع رکبته فی الأرض اخترطت سیفی فضربت رأس الرجل فسقط، ثم جئت بالجمل أقوده علیه رحله وسلاحه.

نعم لولی الأمر أن یعفو، کما روی عن الإمام أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) قال: بعثنی رسول الله (صلی الله علیه وآله) أنا والزبیر والمقداد بن الأسود، قال: انطلقوا حتی تأتوا روضة خاخ (مکان) فإن بها امرأة راکبة ومعها کتاب فخذوه منها، فأتینا به رسول الله (صلی الله وعلیه وآله) فإذا به: من حاطب بن أبی بلتعة إلی جماعة من المشرکین من أهل مکة، یخبرهم ببعض أمر الرسول (صلی الله وعلیه وآله)، فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله): یا حاطب ما هذا، قال: یا رسول الله ولا تعجل علی، ذکر عذراً، فقال عمر: یا رسول الله دعنی أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه شهد بدراً وما یدریک لعل الله أن یکون اطلع علی أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لکم، فإن الرسول (صلی الله علیه

ص:247


1- سورة الحجرات: 12

وآله) أراد صرف عمر من قتل حاطب بإبداء عذر له، مما یدل علی أن قتله جائز فی نفسه.

نعم إذا أسلم الجاسوس فالإسلام یجب ما قبله، فقد روی عن رسول الله (صلی الله وعلیه وآله) عن فرات بن حیان، وقد کان جاسوس الکفار أن النبی (صلی الله علیه وآله) أمر بقتله وکان عیناً لأبی سفیان وحلیفاً لرجل من الأنصار، فمر بحلقة من الأنصار فقال: إنی مسلم، فقال رجل من الأنصار: یا رسول الله إنه یقول إنه مسلم، فقال رسول الله (صلی الله وعلیه وآله): إن منکم رجالاً نکلهم إلی إیمانهم فرات بن حیان.

إلی غیرها من الروایات التی لسنا نحن بصدد تفصیلها الآن، کما أنه ورد أن الإمام الحسن (علیه السلام) قتل جاسوس معاویة.

وإذا سبب الجاسوس المحرم عمله خسارة بالمباشرة کان ضامناً، لقاعدة (من أتلف) وشبهه، کما أن الأمر کذلک بالنسبة إلی الجاسوس المحلل فعله، حیث إن حلیة الفعل لیس معناها عدم الضمان، بل اللازم الضمان جمعاً بین الأمرین، کأکل المخمصة، إلاّ إذا کان التلف من الکفار فالمحارب لا احترام لماله وعرضه ودمه فی غیر المحرم شرعاً، فإنه لا یجوز تعذیب الکافر أو المثلة به أو عمل المحرم فی عرضه، إلی غیر ذلک مما لسنا نحن بصدده الآن.

وإنما کلامنا فی المؤسسة الحقوقیة التی لا تخص أمثال ما ذکرناه فی السابق، بل تشمل الأحکام التکلیفیة والوضعیة الإیجابیة والسلبیة، فتعبیرهم بالمؤسسة الحقوقیة لا یوهم منه أن المراد الحقوق فقط بمعناها الأخص، بل الأمر شامل للحقوق بالمعنی الأعم من التکلیف والوضع، والإیجاب والسلب.

ولا یخفی أن المؤسسة الحقوقیة لیست خاصة بحقوق الأفراد، أی لیست هناک حقوق أفراد اجتمعت فقط بل المؤسسات الحقوقیة تشمل حقوق المؤسسة بما هی مؤسسة أیضاً، کما تقدم الألماع إلیه، وذلک ورد فی الکتاب، کقوله

ص:248

سبحانه: ﴿ویتبع غیر سبیل المؤمنین﴾((1))، والسنة کقوله (علیه السلام): «خذ بما اشتهر بین أصحابک»((2))، فهو غیر حق مؤمن ومؤمن، ورأی فقیه وفقیه، وإنما للاجتماع والکثرة مدخلیة فی الحق، کما أنه یمکن جعل الحاکم الإسلامی ذلک الحق أیضاً حسب الصلاح.

ص:249


1- سورة النساء: 115
2- مستدرک الوسائل: ج17 ص303 ب9 ح21413

((الحق المالی وغیر المالی))

اشارة

((الحق المالی وغیر المالی))

(مسألة): الحق علی ثلاثة أقسام:

إما مالی بحت کحق الشفعة.

وإما غیر مالی بحت کحق الإمام فی المسجد الذی یدوام فی الصلاة فیه، وحق المدرس فی المدرس الموقوف الذی یداوم الدارسة فیه وما أشبه، وقد یصطلح علی ذلک بحق الانتفاع، والمشهور أنه لا یقابل بالمال، لکننا ناقشنا فی ذلک فی کتاب (إحیاء الموات) وأنه یصح تبدیله بالمال أیضاً. وحق الانتفاع غیر حق المنفعة، فحق المنفعة ملک بینما حق الانتفاع حق، فالإنسان الذی استأجر داراً منفعة الدار للمستأجر، بخلاف من یتقدم فی المسجد للصلاة علی غیره حیث یکون هناک حق السبق بدلیل «من سبق إلی ما لم یسبق إلیه مسلم»((1)).

والقسم الثالث ما له جانبان، المالی وغیر المالی، کحق الزوجیة وما أشبه، حیث إن مثل هذا الحق یسبب المال وهو النفقة، کما یسبب الاستفراش وغیره.

((أقسام الحق المالی))

((أقسام الحق المالی))

والحق المالی علی قسمین: ابتدائی، أی إنه ابتداءً یقابل بالمال کحق البائع علی المشتری وبالعکس، سواء کان المال نقداً أو عروضاً وما أشبه ذلک، وطریقی أی إنه یمکن تبدیله بالمال، کحق المرتهن فی الشیء حیث یمکن تبدیله بالمال إذا لم یف الراهن بدینه.

وبتقسیم آخر الحق ینقسم إلی قسمین:

أحدهما: ما لا یمکن تبدیله إطلاقاً، کحق الزوجیة والأبوة وتولی الوقف وما أشبه ذلک.

والثانی: ما یمکن تبدیله، کحق القسم فی الزوجیة.

ثم إن الشیء القابل للمبادلة بالمال إما عین أو منفعة أو انتفاع أو عمل أو ملک أن یملک.

فالأول: کالدار المملوکة.

ص:250


1- انظر مستدرک الوسائل: ج17 ص111 ب1 ح20905

والثانی: کمنفعة الدار المستأجرة.

والثالث: کالانتفاع بغرفة المدرسة.

والرابع: کعمل النجار والحداد والبناء وغیرهم.

الخامس: کحق الصیاد فی الصید، فإنه یملک أن یملک، فیجوز لصیاد آخر أن یعطیه مالاً لأن لا یصید، بأن یرفع یده عن الصید.

أما مثل حق التألیف ونحوه فهو داخل فی المنفعة، ویمکن أن یعد قسماً سادساً.

ومنه ظهر أنه یمکن إعطاء المال فی قبال شیء إیجابی، کما یمکن إعطاء المال فی قبال شیء سلبی، فالنجار یعطی المال فی قبال نجارته، أما الصیاد یعطی المال فی قبال عدم صیده، والمراد استمراره علی الحالة التی هو فیها، لا أن العدم یقابل بالمال، کما قد سبق الإلماع إلیه.

((فروع فی الحق المالی))

((فروع فی الحق المالی))

ثم إذا کان حق له جانبان مالی وغیر مالی، ففوض فی مقابل المال أو غیر المال صاحب الحق حقه المالی إلی إنسان آخر، لیس معنی ذلک أنه سقط حقه بالمرة، وإنما یبقی حقه غیر المالی لنفسه، مثلاً حق التألیف له جانبان، حق مالی وحق أخلاقی، فإذا فوض المؤلف حق تألیفه إلی غیره فی مقابل المال أو الهبة أو ما أشبه، بقی لنفسه حقه الأخلاقی، مثلاً له الحق فی أن یقف دون من یرید تحریف تألیفه أو تقلیده أو زیادته أو نقیصته أو ما أشبه ذلک.

ثم الحق المالی قد یکون مادیاً، وقد یکون معنویاً، مثلاً (شرح اللمعة) یساوی دیناراً، وهذا حق مالی، أما إذا کان ممضی بإمضاء الشیخ المرتضی (رحمه الله) یساوی مائة دینار، وهذا التفاوت إنما هو لمکان الذکری وهو غیر مالی، أو یقال إنه معنوی، وکذلک حال سائر الذکریات ذات الأثمان المرتفعة، ولذا رد الإمام السجاد (علیه الصلاة والسلام) یزید حیث أراد تعویضه مما فقدوه فی کربلاء بالدرهم

ص:251

والدینار، فقال (علیه السلام) إنه یرید نفس تلک الآثار، وکذلک بیع برد رسول الله (صلی الله علیه وآله)، وقباء الإمام الرضا (علیه السلام) بأضعاف قیمهما، إلی غیر ذلک.

وإنما یصر الإنسان علی الذکری ویحترمه لأن فی الإنسان جهة مادیة تملأها المادة، وجهة معنویة لا تملأها إلاّ المعنویات، نعم قد یبدل الإنسان المادة إلی المعنی، کما یعطی مائة دینار ویشتری إمضاء الشیخ، وقد ینعکس بأن یعطی إمضاء الشیخ ویأخذ مائة دینار.

((أبعاد الحق المالی))

((أبعاد الحق المالی))

ثم إن الحق المالی قد یکون له بعد واحد من المالیة، وقد یکون له بعد بعد بعد، مثلاً الدینار الملکی یعادل مائة قرص من الخبز فی قوته الشرائیة، فإذا تبدلت الملکیة إلی الجمهوریة سقط الدینار الملکی عن التعامل فی بعده الأول وجاء بعده الثانی لأنه یکون حینئذ من الآثار، فربما یساوی دیناراً أیضاً وربما أقل وربما أکثر.

وهناک بعض الحقوق المتعلقة بالأعیان، لکن العین لا تقابل بالمال، وإنما الحق نفسه یقابل بالمال، کما إذا انکسرت زجاجة زید فإن تلک المکسورات لا تقابل بالمال، لکنها تبقی فی حق اختصاص مالک الزجاج، فلیس لأحد أن یتصرف فیها ما دام المالک لم یعرض عنها، فإذا أراد التصرف لصاحب المال أن یقول لا أتنازل عن حقی إلاّ بکذا من المال.

وهکذا إذا ماتت شاة زید، فإن الشاة لا تقابل بالمال لکن قد یریدها زید للتسمید أو لإطعام الجوارح أو ما أشبه ذلک، فلیس لأحد سلبها منه رغماً علیه، لبقاء حق الاختصاص حتی مع قطع النظر عن المحللات فی المیتة.

وهکذا الخل إذا صار خمراً ولا یمکن إعادتها خلاً، فإن له فیها حق الاختصاص، لأنها نافعة فی قتل دیدان المراحیض وبعوضها، والأدلة المانعة عن بیع الخمر منصرفة عن بیع الحق لتلک المنفعة المباحة.

((الحق العلمی والشخصی))

((الحق العلمی والشخصی))

ثم إن بعضهم قسم الحق إلی حق علمی وحق شخصی، والحق العلمی سلطة قانونیة

ص:252

مباشرة علی الشیء محل الحق، ومن ثم یقتصر صاحب الحق بالشیء اتصالاً مباشراً دون وسیط.

أمّا الحق الشخصی فعلاقة تقوم بین دائن ومدین، قد یکون محلها شیئاً ولکن الدائن لا یتصل بالشیء اتصالاً مباشراً، وإنما یتصل به بواسطة المدین، وهذا یجعل الحق العلمی بخلاف الحق الشخصی یترکز فی الشیء وینصب علیه انصباباً مباشراً.

ثم قال: الشیء فی نظر القانون هو ما یصلح أن یکون محلاً للحقوق المالیة، فشرط الشیء إذاً أن یکون غیر خارج عن التعامل، أی قابلاً للتعامل فیه، فکل شیء غیر خارج عن التعامل بطبیعته أو بحکم القانون یصح أن یکون محلاً للحقوق المالیة، والأشیاء التی تخرج عن التعامل بطبیعتها هی التی لا یستطیع أن یستأثر بحیازتها.

وأما الخارج بحکم القانون فهی التی لا یجیز القانون أن تکون محلاً للحقوق المالیة، ویمکن اعتبار قابلیة الشیء التعامل فیه شرطاً فی الشیء کما اعتبرناها هنا.

وهذا ما یبدو أن التقنین المدنی ذهب إلیه، کما یمکن اعتبار قابلیة الشیء للتعامل فیه أساساً لتقدیم الأشیاء إلی أشیاء قابلاً للتعامل فیها وأشیاء غیر قابل للتعامل فیها، فتکون الأشیاء غیر القابلة للتعامل فیها أشیاء فی نظر القانون کسائر الأشیاء، ولکن لا یجوز أن یترتب علیها حقوق مالیة.

والمهم أن نحدد الأشیاء غیر القابل للتعامل فیها، وهذه قسمان:

القسم الأول: أشیاء تخرج عن التعامل بطبیعتها، کالتی یمکن أن ینتفع بها کل الناس بغیر أن یحول انتفاع بعضهم دون انتفاع البعض الآخر، کالهواء والماء الجاری وأشعة الشمس وما أشبه ذلک، فلا یستطیع أحد أن یستأثر بحیازتها، وأحیاناً ینظم القانون الاستفادة من بعض هذا الأشیاء حتی لا یضر بعض الناس بعضاً فی الاستفادة.

والقسم الثانی: أشیاء تخرج عن التعامل بحکم القانون، وهی التی ینص

ص:253

القانون علی عدم جواز التعامل فیها بوجه عام، کالحشیش والأفیون، والأشیاء التی تدخل فی ضمن الأموال العامة.

ولا یغیر من هذا الوصف إجازة نوع معین من التعامل فی هذه الأشیاء، کبیع الحشیش والأفیون لأغراض طبیة، وإعطاء رخص لاستعمال بعض الأموال العامة.

أما إذا کان الشیء یمکن التعامل فیه ولکن لا مالک له فهو مال مباح، کالطیر فی الهواء والسمک فی البحر ویملکه من یستولی علیه ویستطیع أن یتعامل فیه، وقد یصبح التعامل ممکناً فی هذه الأشیاء من بعض النواحی فأشعة الشمس یحصرها المصور الفتوغرافی، والهواء یستعمله الکیمیائی فی أغراضه، والبحر یؤخذ من مائه ما یصلح أن یکون محلاً للامتلاک، فعند ذلک تصبح أشعة الشمس والهواء والبحر قابلاً للتعامل فیها من هذه النواحی الخاصة.

((من مصادیق الحقوق المالیة))

((من مصادیق الحقوق المالیة))

والحقوق المالیة التی یکون الشیء محلاً لها کثیرة التنوع، ومنها الحقوق العلمیة الأصلیة، کحق الملکیة وحق الانتفاع وحق الاتفاق، ومنها حقوق العلمیة التبعیة کحق الرهن وحق الامتیاز، ومنها الحقوق الشخصیة کحق المشتری فی تسلم المبیع وفی انتقال ملکیته إلیه، وحق المستأجر فی تسلیم العین الموجرة وفی تمکینه من الانتفاع بها، وحق المؤجر فی استردادها، وحق المقرض فی استرداد مبلغ القرض.

ومنها الحقوق التی تقع علی شیء غیر مادی، کحقوق المؤلف فیما یسمی بالملکیة الأدبیة والفنیة، والحقوق التی تسمی بالملکیة الصناعیة وبالملکیة التجاریة.

وظاهر مما تقدم أن الأشیاء تنقسم انقساماً مبدئیاً إلی: أشیاء مادیة وأشیاء غیر مادیة، والأصل فی الأشیاء أن تکون مادیة، أی أن یکون لها حیز مادی محسوس، کالأرض والمبانی والمرکبات والمواشی والمحصولات والمأکولات والمشروبات.

ولم یکن القانون یعرف سابقاً غیر الأشیاء المادیة ولکن تقدم

ص:254

الفکر البشری مع اختراع الطباعة وازدهارها والتجارة والصناعة أخذ ینشأ بالتدریج أشیاء غیر مادیة، أی أشیاء غیر ذات حیز محسوس، یعنی إنتاج العقل البشری من تألیف أدبی وفنی، ومن مخترعات ومبتکرات فی الصناعة والتجارة.

وتمییزنا بین الشیء من جهة وبین ما یرد علیه من حقوق من جهة أخری هو عین التمییز بین الشیء والمال، والشیء غیر المال هو الحق المالی الذی یبدو علی الشیء، والشیء هو محل هذا الحق، انتهی.

ولا یخفی ما فی هذه التقسیمات والاعتبارات من البدائیة، مما تظهر لمن راجع کتب الفقهاء، ککتب المحقق والعلامة والشهیدین وصاحبی الجواهر والمستند وغیرها مما لا داعی إلی تفصیل الکلام فیه.

((تعدد أرکان الحق))

((تعدد أرکان الحق))

ثم إن الحق قد یتقوم برکنین فقط، کما إذا ملک زید داراً، فالرکنان هما ذو الحق ومتعلق الحق، أما نفس الحق وهو إضافة حقیقیة بین الطرفین فهو أمر معنوی، وإنما قلنا حقیقیة لأن للحق مکانة فی عالم خاص به، وإلاّ لم یعقل الربط بین الإنسان والدار.

کما أنه قد یتقوم بثلاثة أرکان، کما إذا طلب زید من عمرو مالاً لجنایة أو ضمان أو نذر أو ما أشبه، فالأرکان زید وعمرو، وذلک الکلی فی الذمة أو الجزئی الخارجی، کما إذا نذر أن یعطیه هذا الدینار.

وقد یتقوم بأربعة أرکان، کما إذا باع داره من عمرو، فالحق متقوم بالمتبایعین والعوضین.

وإنما لم نذکر الحق المتقوم بواحد باعتبارین، کما إذا طلب الإنسان من نفسه، لأنه قد تقدم عدم اعتبار العقلاء له، وإن کان ممکناً، نعم قد سبق أنه تام فی غیر المال، ولذا ورد (إن لبدنک علیک حقاً)((1)).

وکل من الإنسان أو الشیء قد یکون جزئیاً، وقد یکون کلیاً، کما فی الوقف والنذر والوصیة وما أشبه، إذاً قد یملک زید هذه الدار، وقد یطلب من عمرو کلی الدینار، وقد یوقف بستانه لأن یکون ثمره للفقیر فهو کلی.

وأحیاناً لا

ص:255


1- انظر بحار الأنوار: ج67 ص128 ب51 ح14. وفیه (إن لجسدک...)

خارجیة له الآن أصلاً، وکذلک حال النذر، فالأقسام أربعة:

إذ کل من الإنسان والشیء إما کلی وإما جزئی خارجی، کما أن الکلی قد یکون واسعاً وقد یکون ضیقاً، فالأول کدینار، والثانی کدینار طبع سنة فلان، وهکذا الحال فی الإنسان فقد یوقف للطلاب وقد یوقف للطلاب الفقراء، کما أن الجزئی قد یکون مطلقاً مثل النذر لزید، وقد یکون مقیداً کزید إذا اشتغل بالدرس.

((اختلاف حق العین وحق الدین))

((اختلاف حق العین وحق الدین))

ثم إذا کان متعلقاً بالعین یختلف عما إذا کان الحق متعلقاً بالذمة بأن کان دیناً:

أولاً: بأن الحق العینی یمکن أن یتقوم باثنین فقط، کالمالک والمملوک، بینما الحق الدینی لا یمکن إلاّ أن یتقوم بثلاثة: المالک والمدیون والدین، لأن الدین یحتاج إلی الحیز، وحیزه لا یمکن أن یکون الخارج، بخلاف العین فإنها وإن احتاجت إلی الحیز لکن الحیز فیها لا یرتبط بالإنسان فقط بل بالکون، والکون لیس کالإنسان فی کونه طرفاً فی التعامل.

وبذلک ظهر أنه لا ینخرم بالفرق المذکور ما تقدم من أن المقولات الاعتباریة إنما هی بموازاة المقولات الحقیقیة، بفارق أن الثانی عینی والأول اعتباری، وسبب هذا الفرق عدم إمکان اختلاف بین الظرف والمظروف، بل تلزم المجانسة بینهما، فالعین بحاجة إلی ظرف عین، والاعتبار بحاجة إلی ظرف اعتبار.

وثانیاً: إن الحق العینی یجب أن یکون فی الخارج، أما الدینی فهو قد یکون فی الذمة کما إذا استأجر البناء لبناء داره، وقد یکون سلباً کعدم اصطیاد الصیاد فی قبال شیء، أو إذا أعطی الرجل لزوجته مالاً فی قبال أن لا تطلب حقها فی المنام والمباشرة وما أشبه، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

ص:256

وثالثاً: الحق العینی ممکن الاستناد إلی کل إنسان، بینما الدینی مربوط بالمدیون فقط، فالدائن إنما یتمکن من طلبه من المدیون دون غیره.

ورابعاً: إن الحق العینی إذا رآه صاحبه فی أی مکان یتمکن من أخذه، بینما لیس الدین کذلک، بل له مکان خاص هو الذمة، ولیس للمالک إلاّ مراجعته، وحتی إذا مات المدیون تعلق المال بعین الترکة لا بذمة شخص آخر.

وخامساً: إذا وجد بائع العین أو ما أشبه ماله عند المشتری المفلس مثلاً أخذه، ولا حق لسائر الغرماء فیه، بینما الدین یشترک مع الجمیع بالنسبة.

وسادساً: الحق العینی لا یقبل الانطباق علی کثیرین، بینما الدینی لأنه کلی قابل الانطباق.

إلی غیر ذلک من الفوارق التی یجدها المتتبع فی کتابی المتاجر والدین.

ثم الحق الدینی لما کان کلیاً من جهة المال أو العمل کان قابل الانطباق علی أموال متعددة، بخلاف ما إذا کان الحق عین الدینار، فإن تلک العین بشخصها مورد الحق، حتی لا یحق لإنسان تبدیلها ولو إلی عین أخری أفضل من تلک العین، مثلاً الدینار أکثر مرغوبیة من نصفی دینار، فلا یحق لإنسان أجنبی أن یأخذ نصفی الدینار ویضع مکانهما دیناراً، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

أما إذا کان الحق دیناراً فی ذمته، فإنه قابل الانطباق علی أی دینار شاءه المدیون لا الدائن، ونحوه الجانی والمجنی علیه فی الدیة، إلی غیر ذلک.

وهکذا بالنسبة إلی العمل، فإذا کان استأجره لخیاطة ثوبه، فإن الخیاطة کلی ینطبق علی أی فرد من أفراد الخیاطة،

ص:257

نعم فی مثال الدینار ونحوه قد یکون الدین عاماً، وقد یکون أخص من ذلک الأعم، فإنه إذا کان الدین الدینار بما هو دینار أی بخصوصیة الاجتماع، لم یصح له أن یعطیه نصفی دینار أو أربعة أرباعه أو ما أشبه ذلک، فهو وإن کان کلیاً من حیث الدینار إلاّ أنه خاص من جهة الجمع فی ورقة واحدة.

بخلاف ما إذا کان مثلاً ناذراً دیناراً، أو وقع البیع نسیئة أو نقداً علی الدینار حتی بدون هذا القید. وکذلک حال الخمس والزکاة وما أشبه، إلی غیر ذلک من الأمثلة، إذ هنا جنس وجنس الجنس، ونوع وصنف وصنف الصنف.

ولو شک فی الخصوصیة فالأصل عدم لزومها، هذا من ناحیة الدین.

أما من ناحیة المدین فقد یکون له خصوصیة تجعله شخصیاً، وقد لا تکون له هذه الخصوصیة، مثلاً من یستأجر جراحاً لعملیة جراحیة الغالب أن العمل الکلی علی عاتق نفس هذا الشخص، فالمدین شخص والدین کلی، أما من یستأجر إنساناً لکنس الشارع فإنه حیث لا یقید فی العقد الشخصیة لیست قیداً ارتکازیاً، فإن العامل یکون کلیاً فلا یلزم أن یکون الطرف المدیون هو القائم بالعمل.

ولذا اشتهر بین الفقهاء أن فی مثل النکاح المقصود الشخص ذاته، بینما فی مثل البیع لیس المقصود ذلک غالباً، فلا یصح أن تنکح المرأة نفسها لزید ثم یقوم عمرو مقامه فی کونه زوج المرأة، بینما إذا باع البقال اللبن لزید لا یهم الأمر أن یکون البائع المالک أو وکیله أو ولیه، کما لا یهم أن یکون المشتری زیداً لنفسه أو لموکله أو للمولی علیه من قبله، إلاّ إذا کان هناک تقیید صریح أو مرتکز، فإنه یصح بهذا القید أو الشرط، کما إذا باع داره الثانیة الملاصقة لداره الأولی الساکن هو فیها لزید، ویهمه أن یکون زید هو نفسه ساکناً فیها، لأنه لا یرید جاراً آخر، فإنه لا یصح کونه وکیلاً أو ولیاً لغیره، فإذا کان علی نحو

ص:258

التقیید یبطل بتخلف القید، وإذا کان علی نحو الشرط یختار من تخلف علیه الشرط فی رفع الید عن شرطه أو الالتزام بشرطه، مما یصح له إبطال البیع.

وهل یصح أن یأخذ فی مقابل الشرط مالاً حتی یرفع یده عنه أو حقاً أو ما أشبه ذلک، لم نستبعده فی الفقه.

((من تقسیمات الحق))

((من تقسیمات الحق))

ثم إنه قد تقدم تقسم الحق بالمعنی الأعم إلی عین ودین وحق بالمعنی الأخص.

والثالث یشمل المنفعة والانتفاع وملک أن یملک وما یسمی حقاً خاصاً، وذلک کحق التحجیر علی رأی الفقهاء، وإن استشکلنا فی أنه ملک لا حق، لکنه مناقشة صغرویة.

وحق التألیف والاختراع وترکیب أجزاء الدواء وما أشبه من الحقوق الجدیدة داخلة فی هذا القسم، فکلما تحقق الموضوع تحقق الحکم، وکلما انتفی ینتفی.

((الحقوق العرفیة وعدم الإجحاف))

((الحقوق العرفیة وعدم الإجحاف))

لکن لا یبعد أن لا یحق لأمثال هؤلاء أن یجعلوا حقوقهم سبب الإجحاف علی الناس، فقد ذکرنا فی الفقه أن الإجحاف محرم ومعاقب علیه، ولیس بحکم وضعی أیضاً، أی لا یملکه ذو الحق.

مثلاً ألف تألیفاً یحتاج إلیه الناس، أو اخترع دواءً أو کشف الکهرباء، والعرف یقولون إن حقه فی ذلک مائة دینار، ویرید أن یأخذ مائتی دینار، فهو کما إذا أراد مالک الطعام فی المخمصة بیعه بأکثر من قیمته العرفیة، حیث یؤخذ منه ولو بدون رضاه ویعطی له قیمته السوقیة، کما ذکروا فی أکل المخمصة. أو أراد الطبیب الإجحاف فإنه یجبر علی الطبابة إذا لم یکن هناک طبیب آخر، ویعطی الأجر المتعارف. أما إذا کان الطعام عند غیره ویأخذ القیمة العادلة، أو کان هناک طبیب آخر ویأخذ الأجر العادل، فلا یحق مثل ذلک.

((اجتماع العین والحق))

((اجتماع العین والحق))

ثم إنه ربما یجتمع العین والحق فی شیء واحد، کما إذا ملک مصراعی الباب حیث کل مصراع بدینار لکن إذا اجتمعا کانت القیمة ثلاثة دنانیر، فإن الدینار الثالث إنما هو فی قبال حقه فی الاجتماع، لا أن کل مصراع دینار ونصف، وعلی هذا فإذا أتلف إنسان مصراعاً فعلی المتلف أن یعطیه دینارین، دیناراً لأنه أفقده العین، ودیناراً لأنه أفقده حقه،

ص:259

فی الاجتماع، وکذلک بالنسبة إلی فردی الحذاء ونحو ذلک.

نعم إذا کان الاجتماع محرماً شرعاً فالمتلف إنما یضمن العین لا الاجتماع، وإن کان غیر المتشرعة یبذلون المال بإزاء کلیهما، المادة والصورة، مثلاً الصلیب والصنم وآلة اللهو والقمار ذواتها التی هی خشب أو ما أشبه مثلاً تساوی دیناراً، بینما فی صورها تساوی دینارین، فإن المتلف للصورة وحدها لا یضمن، کما أن متلف الجمیع لا یضمن إلاّ قدر الذات لا الصورة، إلاّ إذا لم یکن له حق التلف، کما فی صلیب النصاری حیث قانون الإلزام، إذ لا یحق لنا التعرض لهم إذا لم یکن من شرائط الذمة عدمه.

وکذلک حال ما إذا أراق خمراً أو قتل خنزیراً لهم فإنه یضمن، بینما إذا أراق الخمر أو قتل الخنزیر الذی هو للمسلمین لا یضمن، إذ لیس لهما مالیة عند المسلمین، بینما لهما مالیة عند النصاری، نعم قد تقدم الإلماع إلی عدم بعد مالیة الخمر التی هیأها لدیدان مراحیضه ونحوها، والخنزیر الذی هیأه لإطعام کلابه وهکذا، لانصراف الأدلة عن مثل ذلک.

وهل یکون المال بإزاء العین أو الحق، کحق الاختصاص فی مکسرات الزجاج کما تقدم مثاله، احتمالان.

((حق الشرکة وأقسامه))

((حق الشرکة وأقسامه))

هذا کما أن من أقسام الحق حق الشرکة بأقسامها الکثیرة، مما ألمعنا إلی بعضها فی کتاب الشرکة، والتی منها أن یکون من أحدهم البذر ومن الآخر الماء ومن الثالث الأرض ومن الرابع العوامل ومن الخامس العمل، ثم یکون الحاصل بینهم حسب رؤیة العرف قدر حقوقهم بالعدل.

وکذلک إذا کان من أحدهم الدکان ومن الآخر العمل ومن الثالث رأس المال ومن الرابع الدعایة.

أو من أحدهم ماکنة الماء ومن الثانی الأنابیب ومن

ص:260

الثالث العمل، أو یشترکون فی شرکات مساهمة علی اختلاف أنواعها، کما ذکرناها فی کتاب الإدارة.

والمیزان: إن کل مورد لم ینص الشارع علی بطلانه نصاً خاصاً أو عاماً، ف_ ﴿أوفوا بالعقود﴾((1)) بعد العقلائیة شاملة له، وإن لم یکن فی زمان الشارع.

کما أن فی الدین یمکن نقله من إنسان إلی إنسان آخر، سواء فی طرف الدائن أو فی طرف المدین، مثلاً یطلب زید من عمرو دیناراً، لکن زیداً ینقل طلبه من عمرو إلی بکر بالرضا، فیکون بکر هو المطالب، أو ینقل عمرو مدیونیته من زید إلی خالد، فیکون الخالد مطالباً، أو ینقل کلاهما إلی کلیهما، فالأطراف أربعة، بینما الأطراف قبلاً کانوا ثلاثة، وقبله کانوا اثنین، فإذا تحقق ذلک فی عقد شمله ﴿أوفوا﴾((2)).

لکن من الواضح اشتراط الشرائط العامة فی ذلک، مثل عدم الغرر، والبلوغ والعقل وما أشبه، کما یشترط القابلیة کما إذا طلبت الزوجة حق القسم من الزوج تنقله إلی زوجه أخری حیث القابلیة لا الأجنبیة.

وفی جملة من هذه الموارد الحق والمال متداخلان، بل قد ذکرنا فی المکاسب صحة أن یکون أطراف التعاقد أربعة، فیعطی زید کتابه لعمرو فی قبال أن یصبغ ولد عمرو دار أخی زید، فإذا اتفقوا أو قالوا تعاقدنا علی ذلک لم یکن به بأس.

نعم لا یجوز نقل الوارث قبل موت المورث حصته من الإرث إلی إنسان لقاء مال أو نحوه، کما یفعله بعض الشباب غیر المتشرعین فی هذا الزمان.

ص:261


1- سورة المائدة: 1
2- سورة المائدة: 1

((إطلاقات الملکیة))

اشارة

((إطلاقات الملکیة))

(مسألة): الملکیة لها إطلاقات ثلاث:

الأول: اللکیة بالمعنی الشخصی، مثل ملک زید لداره، أو لطلبه من عمرو، أو حقه فی التحجیر، إلی غیر ذلک.

الثانی: الروح العام بعد خروج الدیون، فلا یهم التغییر فی الجزئیات، ففی أول هذه السنة ملکیة زید ألف دینار وذلک هو الروح العام فی کتبه وملابسه ونقوده خارجاً عنه مطلوبیته لمحمد وعلی والحسن مثلاً، وفی السنة الآتیة تبقی ملکیة نفس الألف لکن ذلک روح فی الفراش والدواب وغیرهما مما لم تکن فی السنة السابقة، کما أن مطلوبیته تغیرت من أولئک إلی باقر وصادق وکاظم مثلاً.

الثالث: الروح العالم بدون خروج الدین.

ومن الممکن فی قسم رابع أن یکون إنسان لا یملک شیئاً إطلاقاً حتی لباسه لکونه عاریة.

والمتلفات الحقیقیة والحکمیة مثل ما إذا وقع إناؤه فی البحر أو سرقه سارق أو وقعت أرضه فی الشارع بحکم الجائر مما لا یمکن استرجاعها ولا بدلها لا یعد من الملکیة، کما أنه إذا أعرض عن شیء حقیقة إعراضاً أخرجه عن ملکه واقعاً لا یعد ذلک من ممتلکاته أیضاً، وذلک مثل ما إذا ألقی متاعه فی الشارع.

وإنما قیدنا بالخروج حقیقة لأنه مجرد الإعراض حیلة لا یخرج الأمر عن الملک، کما إذا أعرض عن دنانیره بإلقائه فی مکان لا یمر علیه أحد للتخلص من الخمس أو الحج أو ما أشبه ذلک، فإنه لا یوجب رفع التکلیف عنه، فإن أدلة الإعراض لا تشمل مثل ذلک.

((فروع فی المالیة بالفعل وبالقوة))

((فروع فی المالیة بالفعل وبالقوة))

ثم المالیة الشاملیة للدائنیة والمدینیة والأعیان والحقوق هی المیزان فی الخمس والتحجیر والفقر والاستطاعة والوثاقة وما أشبه ذلک، فإن العرف یحسبون کل ما یملک فعلاً، لا قوةً بعیدة ولا قوة قریبة فی بعض المذکورات، فلا یشمل

ص:262

الأمر مثل ملک أن یملک کما تقدم فی مثال الصیاد، وإن کان قد یحسب مثل ذلک من جهة الثقة، حیث إن العامل وأن لم یکن له مال بالفعل إلاّ أن ماله بالقوة الذی یأتیه بسبب عمله کالخیاطة والصید أو ما أشبههما یوجب ثقة الناس به.

والمراد بالقوة هی القربیة من الفعل، والتی تظهر إلی الوجود تدریجاً، وإنما قلنا القربیة لأن الخیاط الذی لیس هناک له مستأجر، والصیاد الذی لیس قربه بحر کلاهما لهما القابلیة والقوة لکن لا القریبة، ولذا لا یعتمدان عند العرف فی الثقة.

ولذا الذی ذکرناه من اعتماد العرف فی القوة القربیة نجد بعض الدول فی الحال الحاضر رصیده الذی یطبع فی قباله الأوراق النقدیة أیادی عماله، فقد قرر العرف العالمی أن عمالها کل سنة مثلاً یعملون بمقدار ملیار من الدنانیر، ولذا أجازوا لها أن تطبع ملیاراً من الدنانیر فإن الورق الذی لیس خلفه رصید لا یساوی شیئاً، فلیس له القوة الشرائیة.

وعلی أی حال، فما لیس له الآن لیس فیه خمس، کما أنه یحجر إذا لم یوف کل ممتلکانه من الأعیان والدیون والحقوق بقدر دیونه، وهو إذا لم یکن کل ممتلکانه بقدر ضروریات سنته فقیر یعطی من الزکاة قدر التفاوت بین ما عنده وبین ما یحتاج إلیه، ولا یکون مستطیعاً إذا لم یکن کل ذلک یفی بالحج وبسد حاجاته عند رجوعه بحیث لا یحتاج إلی التکفف کما ذکرناه فی کتاب الحج.

وإذا کان له من الأعیان والحقوق والمطالبات شیء لا یفی بقدر ما یرید القرض لا یعطی بذلک القدر، وکذلک حال الحوالة بدون رصید له فی ،البنک نعم کثیراً ما تدخل شخصیته الإنسان فی الاعتماد علیه، فمن یقدر من القرض أو ما أشبه لمکانته السیاسیة أو الاجتماعیة أو أمواله بالقوة کالصیاد والصانع یعتمد علیه بقدر إمکانیته بالقوة.

وکل ما ذکرناه فی کلا الأمرین مرتبط بالروح لا

ص:263

بالجسم، فلا یهم فی الخمس أعیان النقد أو السکر والشای والأرز والدار وما أشبه، بل الروح العام، فإن تبدل کل ذلک بأعیان أخر أو صارت دیوناً حیث باعها نسیئة أو حقوقاً کما إذا اشتری بها ما جعله للعلائم حول الأرض التی احتجرها بدون التملک لها علی قول المشهور، لم یف فی المالیة.

نعم إذا تبدلت إلی وجاهة لا یعد مالاً حتی یکون علیه الخمس والاستطاعة وما أشبه، کما إذا صرفها لانتخابه فانتخبه الناس نائباً أو عضواً فی المجلس البلدی أو رئیساً لشرکة أو صاحب امتیاز مجلة أو نحو ذلک، ومثله ما إذا صرفها فی تحصیل العلم حتی صار طبیباً أو مهندساً یقدر من الاستحواذ علی أموال المراجعین.

کما أن مقدار تحرک ماله أیضاً من القوة لا من الفعل، إذ المال بسبب سرعة المداولة تکون قیمته أکثر، وکلما کانت السرعة أکثر کان أثمن، فالدینار الذی یدور فی کل یوم عشر مرات قیمته ضعف الدینار الذی یدور فی کل یوم خمس مرات، کما ذکرنا تفصیل ذلک فی بعض الکتب الاقتصادیة.

((الملکیة والتعامل علیها))

اشارة

((الملکیة والتعامل علیها))

ثم الظاهر أن الملکیة بما هی هی قابلة لکل أنواع المعاملة والإیقاع، کالبیع والرهن وبدل الإجارة والمضاربة والشرکة والمهر وعوض الخلع وغیرها بالشروط العامة، کعدم الغرر ولا بیع الکالی بالکالی ولا الربوی، والاتصاف بالعقلائیة، إلی غیرها بعد شمول إطلاقات الأدلة وأن الشارع لم یمنع عنه.

کما أنه یصح للمالک هبتها وصلحها ونحو ذلک، وهل یصح الوقف، احتمالان، من العقلائیة کأن یوقفها لمسجد أو للفقراء أو لأهل العلم، ومن عدم التعارف، وعلیه فإذا وقف الروح العام جاز التبدیل وإنما لم یجز الإفناء، فیتاجر فی الروح ولو تبدلت الأجسام، ویکون الأرباح للجهة، ولا غرابة فی القول بالصحة فالفقهاء یقولون یصحة وقف المشاع للإطلاقات وإن لم یکن له دلیل

ص:264

خاص، وصاحب العروة یقول بصحة وقف الأرض المستأجرة والحال أنه لیس له دلیل خاص.

ثم إذا باع الروح العام أو وهب أو رهن فکون التصرف له بالتبدیل تابع لقدر العقد ولو ارتکازاً، فقد یستثنی التصرف فی الجسم فله ذلک، وقد لا یستثنی فلا حق له فی مثل ذلک التصرف، نعم إذا لم یستثن فالمنصرف المرکوز الذی یصب علیه العقد عدم التصرف.

وإذا أوصی بالروح العام لا أن یجعل داره الخاصة مثلاً ثلثاً صحّ، کما ذکرناه فی کتاب الوصیة، وإن مات وکان علیه دین بقدر ثلث أمواله فالظاهر أنه یخرج عن الجمیع بالنسبة من غیر فرق بین الحبوة والأرض والعمارة والنقولات، فلا حق للولد الأکبر أن یقول أعطوه من غیر الحبوة حتی تبقی حبوتی سالمة.

کما لا حق للورثة أن یجعلوا کل ذلک فی المنقول حتی تبقی الأرض وحدها لهم فلا ترث الزوجة، أو یکون حقها أقل فوق النسبة، وهکذا لا حق للزوجة أن تجعل کل ذلک فی الأرض حتی یبقی ربعها أو ثمنها سالماً لها، نعم یحق للموصی جعل ثلثه فی أیها شاء فی غیر ما ذکر لإطلاق أدلته، بل وللملاک فی اشتراء الأحیاء الکفن والخیوط وما أشبه، وکما أن المیت یتمکن من جعل الثلث مثلاً ثلثه ألف دینار وداره تساوی أربعمائة فیقول هذه الدار وستمائة من الروح العام اجعلوه ثلثاً لی، وکذلک یصح أن یقول اجعلوا داری هذه وقفاً أو اجعلوا بقدر مائة دینار وقفاً.

وإذا قال: اجعلوا بقدر ثلثی بعد موتی بستة أشهر وقفاً أو لفلان أو ما أشبه ذلک، یصح للورثة التصرف بالتبدیل والتغییر فی کل المال، حیث إن هدفه الروح العام لا الشخصیة، بخلاف البیع للروح العام کما تقدم، حیث قلنا بانصراف ذلک عن التصرف فی الشخصیة.

ص:265

وهنا أمور:

((الملکیة حالة واحدة))

((الملکیة حالة واحدة))

الأول: إن الملکیة لا تکون إلاّ واحدة، فلیس للإنسان إلاّ حالة ملکیة واحدة فإن المفهوم البسیط لا یتعدد((1))، مثاله مثال الطبیب والمهندس والعالم والمؤلف والخطیب وما أشبه، فالطبیب له طبیبیة واحدة، والخطیب له حالة خطابیة واحدة، وهکذا، کما أن الشجاع والکریم کذلک، نعم المتعلق متعدد کما أن متعلق الملکیة واحد أحیاناً ومتعدد أحیاناً.

((لا اعتبار بملکیة غیر الإنسان))

((لا اعتبار بملکیة غیر الإنسان))

الثانی: غیر الإنسان لا اعتبار بملکیته، جماداً أو نباتاً أو حیواناً، والظاهر أن ذلک لیس علی سبیل الاستحالة العقلیة بل لعدم الاعتبار لها فی شریعة الإسلام.

ولذا یصح فی الشریعة الوصیة والوقف والنذر ونحوها للمسجد والمدرسة والبستان الموقوفة والحیوان، مع أن الوصیة والملک مساقهما واحد، أما عند غیر المتشرعة ففی بعض القوانین الحالیة صحة التملک والتملیک للحیوان وغیره.

((بین الإنسان والملکیة))

((بین الإنسان والملکیة))

الثالث: تقدم فرض الإنسان بدون ملکیة إطلاقاً، أما فرض الملکیة بدون الإنسان فغیر ممکن، إذ هناک إنسان وعین مثلاً وربط بینهما، فإذا لم یکن ربط لم تکن ملکیة، وإن کانت ذات المال موجودة.

وقد تصور بعض الحقوقیین إمکان الملکیة بدون الملک کإمکان ذات المالک بدون الملکیة، ومثلوا لذلک بالوقف علی الجهة، حیث ملک ولا ملک.

وفیه: إن المالک عام وهم الفقراء مثلاً، أما الوقف للمساجد فلیس بملک، بل هو مثل الإعراض المقید، کما إذا ألقی متاعه فی الشارع معرضاً عنه وقال لکل واحد أن یأخذه إلاّ عدوی.

((الإنسان والمالکیة))

((الإنسان والمالکیة))

الرابع: الشخص بالملک بدون خروجه عنه بأحد المخرجات

ص:266


1- نعم ربما تکون مصادیق الملکیة مختلفة، أما أصل الملکیة فهی واحدة

کالبیع والإعراض وما أشبه له، صفة المالکیة، فإذا مات خرج عن تلک الصفة.

والمراد بالإعراض أعم من الانعراض، فإذا طار طیره إلی الفضاء أو ذهب سمکه إلی الماء أو غزاله إلی الصحراء بما رجع إلی أصله خرج عن ملکه، وصار الانعراض القهری، کما ذکرناه فی (إحیاء الموات) وکتاب (الصید)، وهکذا إذا وقعت أرضه فی الشارع أو غمرها ماء البحر لا فی المد والجزر، أو وقع إناءه فی البحر، إلی غیر ذلک.

((الملکیة والحیازة))

((الملکیة والحیازة))

الخامس: أصل الملکیة الحیازة، وهل کما یمکن الإعراض والانعراض یمکن التملک والملکیة بدون القصد، الظاهر ذلک، لأنهما متقابلان، فکلما صح أحد الطرفین صح الطرف الآخر، والاعتبار موجود فی الجملة، کما فی الإرث فإن الوارث یملک وإن لم یقصد، بل قصد عدم الملک، فإنه بقصده عدم الملک لا الإعراض لا یخرج الموروث عن ملکه، نعم إذا أعرض علی ما ذکرناه فی بعض مباحث (الفقه) خرج عن ملکه.

أما فی مثل الوصیة والنذر له وما أشبه فقد ذکرنا فی (الفقه) أنه مختار فی القبول والعدم، إذ دخول شیء فی ملک الإنسان بدون قصده کخروجه عن ملکه بدون قصده، خلاف (تسلط الناس علی أموالهم) فی الأمر الثانی، و(علی أنفسهم) فی الأمر الأول، وکذلک جعل شیء علیه إیجاباً أو سلباً فإنه خلاف سلطنته علی نفسه، کما إذا جعله متولیاً أو وصیاً أو قیماً أو ناظراً ولم یرض بذلک، وقد تعرضنا لهذه المسألة فی کتاب الوصیة وغیره.

وعلیه فإذا جاء نهره بالسمک إلیه أو الهواء بالصید أو نزلت الأمطار فی داره أو ما أشبه ذلک لم یملکه بدون القصد، فالماء والصید ونحوهما علی إباحتها الأصلیة کما ذکرناه فی کتاب (إحیاء الموات).

ص:267

((العین والدین والحق))

اشارة

((العین والدین والحق))

(مسألة) عین ودین وحق، وکل واحد إما منقول أو غیر منقول.

فغیر المنقول ما یسبب نقله خراباً لنفسه أو لمکانه کالدار، حیث إن نقل الجدران ونحوه یسبب خراباً لنفسه، وبذلک یظهر أن الدور المتنقلة علی العجلات أو الدور الجاهزة لیست من غیر المنقول، بل کانت من المنقول، والقدور المثبتة حیث یسبب نقلها خراباً لمحلها یعد من غیر المنقول أیضاً. والمنقول ما لیس کذلک.

فالعین قد تکون داراً، وقد تکون أثاثاً، والدین قد یکون علی إنسان، وقد یکون علی معمل مما له شخصیة حقوقیة.

والحق المنقول کما إذا کان مع إنسان حیث إنه تابع فیکون حاله حال متبوعة فی النقل وعدمه.

والحق غیر المنقول کحق تحجیر الأرض فإنه غیر منقول تبعاً لذات الأرض.

وبعض الحقوقیین قالوا: بأن فائدة التقسیم تظهر فی الدعاوی، حیث إن الدعوی إذا کانت فی الحق والعین والدین غیر المنقول کان اللازم مراجعة محکمة فی محل غیر المنقول، أما إذا کانت علی المنقول کانت الدعوی فی محل المنقول.

لکن هذه الفائدة غیر ظاهرة، إذ أی فرق عقلی أو عقلائی بینهما، بالإضافة إلی إطلاق الأدلة الشرعیة، ولذا لم یقسم الفقهاء ذلک لمثل هذه الفائدة، فالدعوی سواء کانت لدین علی زید أو علی أرضه التی فی بغداد مثلاً، تصح مراجعة قاضی النجف وقاضی کربلاء وقاضی بغداد فیها.

نعم ذکرنا فی کتاب المکاسب حال النفقة التی تصرف لجلب المدعی علیه من بغداد إلی النجف، أو إذا کانت الدعوی علی سیارة وهی فی بغداد نفقة جلبها إلی کربلاء محل الدعوی مثلاً علی من تکون، وهذا أمر آخر غیر صحة أصل الدعوی فی أی مکان، نعم یجب أن تکون متعارفاً لانصباب الأدلة علی المتعارف، فلا یصح ذهاب المدعی إلی قاضی مکة المکرمة لدعوی بینه وبین المنکر فی بغداد، إلاّ

ص:268

اذا کان هناک محذور شرعی أو عقلی أو عقلائی، وقد تقدم بیان الفرق بین العقلی والعقلائی.

نعم تظهر الفائدة بالنسبة إلی المنقول وغیر المنقول فیما إذا باع أو رهن أو وهب أو ما أشبه، أو نذر أمواله المنقولة أو أمواله غیر المنقولة فی التبعیة وغیر التبعیة فی الجملة، کما أن الحق الذی لا ینفک عن ذی الحق إذا بیع أحدهما أو ما أشبه البیع کان الآخر تابعاً له، أما إذا باع حقه فی التحجیر انتقلت إلی المشتری، کما إذا باع داره المرهونة انتقل حق الرهن إلی المشتری إلی غیر ذلک.

ثم إذا نذر أن یکون جمیع أمواله وحقوقه المنقولة لفلان، أو أوصی بذلک، أو رأینا فی ورقة أنه باع حقوقه وأمواله المنقولة، فالتقسیم بین المنقول وغیر المنقول نافع فی هذه الأمثلة، وإنما لم نقل أنه باع أمواله وحقوقه المنقولة لأن مثل هذا البیع بدون التحدید غرری فلا یصح، بخلاف ما إذا وجدنا ذلک فی ورقة البائع بعد موته أو جنونه أو ما أشبه ذلک، حیث کان أصل حمل فعله علی الصحیح أنهما حین البیع کانا یعلمان بذلک، وإنما نحن نجهل الأمر، ولا یضر جهلنا بصحة البیع.

نعم یمکن مثل ذلک فیما إذا علم بأنه حال البیع کان عالماً وإنما نسی الآن، أو وقع الصلح علی ذلک وقلنا یغتفر فی الصلح ما لا یغتفر فی غیره من الغرر، وإن کان الصلح أیضاً یجیء فیه نوع من الغرر، کما أشرنا إلی ذلک فی کتاب الصلح، أو مثلاً وهب أمواله المنقولة أو أوصی بأن المنقولة بید زید وغیرها بید عمرو، أو وکله فی أمواله المنقولة فقط، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

((لا أصل بین المنقول وغیره))

اشارة

((لا أصل بین المنقول وغیره))

ثم لو شک فی حق أنه منقول أو غیر منقول، فلا أصل یعین أحدهما، لأنهما ضدان ولا حالة سابقة فی أحدهما حتی یستصحب، مثلاً إذا شککنا فی البیوت الجاهزة أو البیوت التی تبنی من الأخشاب فی ساحات البحر مما یصعب جداً نقلها أو ما أشبه ذلک هل

ص:269

أنها من المنقول أو غیره، مقتضی القاعدة العمل بالأصل الحکمی بعد أن فقدنا الأصل الموضوعی.

لا یقال: إن الأخشاب مثلاً کانت منقولة فیستصحب النقل.

لأنه یقال: لا استصحاب مع الشک فی بقاء الموضوع.

أما أمثال حق التألیف وحق الاختراع وحق ترکیب دواء أو غذاء أو ما أشبه فلا ینبغی الإشکال فی کونها من الأموال المنقولة، مما عرفت من میزان المنقولة وغیر المنقولة.

ومما تقدم من المیزان ظهر أن بعض الأشیاء منقولة فی حال دون حال، کالأشجار فإنها فی حال الثبات غیر منقولة وفی حال القطع أو القلع منقولة، کما أنها إذا کانت منقولة ثم أثبتت صارت من غیر المنقول، وهکذا ألواح البیوت الجاهزة قبل الترکیب من المنقول.

أما مثل الثمار قبل القطف فهل هی من المنقولة أو لا، احتمالان، مع أنها بعد القطف من المنقولات.

وکذلک حال میاه العیون والأنهر والآبار والمستنقعات وما أشبه قبل إخراجها، أما بعد إخراجها فهی من المنقولات قطعاً.

وهکذا إذا صبت المیاه فی الآبار والأنهر وما أشبه رجعت إلی غیر المنقول فرضاً، وهکذا حال التراب والحصی وما أشبه قبل الأخذ من الأرض، أما إذا أخذت فهی من المنقول قطعاً.

وفی بعض الأخبار إشارة إلی المنقول وغیر المنقول فی باب الإرث، فقد روی محمد بن سنان: إن الرضا (علیه السلام) کتب إلیه فی ما کتب من جواب مسائله: «علة المرأة أنها لا ترث من العقار شیئاً إلاّ قیمة الطوب والنقض، لأن العقار لا یمکن تغییره وقلبه، والمرأة قد یجوز أن ینقطع ما بینها وبینه من العصمة، ویجوز تغییرها وتبدیلها، ولیس الولد والوالد کذلک، لأنه لا یمکن التفصی منهما والمرأة یمکن الاستبدال بها، فما یجوز أن یجیء ویذهب کان میراثه فیما یجوز تبدیله وتغییر شبهه، وکان الثابت المقیم علی حاله من کان مثله فی الثبات والقیام»((1)).

وقد ذکرنا بعض

ص:270


1- انظر عیون أخبار الرضا علیه السلام: ج2 ص98

الکلام فی ذلک فی کتاب الإرث مما لا داعی إلی تکراره.

ثم المدن السابحة فی الفضاء مما قررت بعض الدول صنعها، هل بیوتها من المنقولة أو غیر المنقولة.

الأول: باعتبار کل المدینة حیث إنها تدور حول الأرض.

والثانی: باعتبار أن البیت فی المدینة غیر منقولة.

احتمالان وإن کان إلحاقه بالمنقولة أقرب إلی ذهن العرف، نعم العلل فی الروایات المانعة عن إرث الزوجة للرباع والأرض وما أشبه شاملة للبیوت هناک، بل لعلها تشمل البیوت الثابتة علی العجلات أو الکائنة فی البحار بسبب الأخشاب، ومحل المسألة کتاب الإرث، والله سبحانه العالم، وهو المستعان.

ثم هنا أمران مربوطان بالحقوق:

((حق الکسب))

((حق الکسب))

الأول: حق الکسب أو فتح المطبعة أو المجلة والجریدة أو ما أشبه ذلک إذا أصدرته جهة معینة.

والظاهر أنه یصح بالنسبة إلی الأمور الأهلیة، مثلاً إنسان بنی قیصریة وفیها دکاکین ولا یؤجر دکاناً منها إلاّ لمن عنده وثیقة من الجماعة الفلانیة مثلاً، فإن مقتضی (الناس مسلطون علی أموالهم) أن له هذا الحق، فإذا حصل إنسان علی تلک الوثیقة جاز له بیعها لأنها ذات مالیة عرفیة فیما إذا کانت کذلک.

أما الدولة فإذا کانت هی المصدرة للوثیقة، فإذا کانت شرعیة وعملت التحدید حسب الصلاح، مثلاً جعل ألف دکان فی البلد ولا تعطی الدکاکین إلاّ حسب الاقتراع، والقرعة خرجت لزید مما الوثیقة لها مالیة عرفیة، فله الحق فی البیع إذا لم تکن شرط الدولة بقاء الدکان لصاحب الوثیقة، أما فی الدولة غیر الشرعیة فالظاهر صحة بیع وشراء الوثیقة، لأنه عبارة أخری عن أن صاحب

ص:271

الوثیقة یأخذ من الطرف مالاً لیدفع الظالم عن طریقه فی فتح الدکان أو المطبعة أو المجلة أو غیر ذلک، مما لولا الظالم لکان العمل حراً ولم یحتج إلی إعطاء المال.

وکذلک حال سائر الوثائق غیر المشروعة، کاشتراء وثیقة السفر ونصب المطبعة وإخراج الجریدة أو المجلة وما أشبه، وهذه الوثیقة تعد مالاً عرفاً، ولذا یعامل معها معاملة المال النقد فی استطاعة الحج ووجوب الخمس وغیرهما. والظاهر أن الزوجة فی الإرث لها حصة منها، کما لها حصة من السرقفلیة وما أشبه، لإطلاق أدلة الإرث بعد کون الخارج غیر أمثال هذه.

((المال المشترک بین المنقول وغیره))

((المال المشترک بین المنقول وغیره))

الثانی: المال المشترک الذی بعضه منقول وبعضه غیر منقول، ولکل شریک بقدر حصته فیهما، مثلاً إذا کانوا شرکاء فی الثلث والثلثین وهناک ثلاثة دکاکین متساویة وثلاثون طناً من السکر، کان منقول صاحب الثلث عشرة أطنان، وغیر منقوله دکان واحد، والبقیة لصاحب الثلثین.

فلیس فی المقام شیء جدید بالنسبة إلی المنقول وغیر المنقول، فکل یعامل حسب کلیه الداخل فیه، لأنه من الصغریات الداخلة فی کلی المنقول أو غیر المنقول، نعم إذا کان للاجتماع مدخلیة فی زیادة القیمة کما تقدم من مثال مصراعی الباب، فالزیادة التابعة للمنقول فی حکم المنقول والتابعة لغیر المنقول فی حکم غیر منقول.

ومن أمثلته ما إذا کان المصراعان أحدهما ثابتاً والآخر غیر ثابت.

ولا فرق فی أسباب الشرکة کونه بالعقد أو بالامتزاج أو بالاشتراء أو نحو الاشتراء من سائر المعاملات.

ص:272

((من أقسام الحق))

اشارة

((من أقسام الحق))

(مسألة) الحق باعتبار القیود والشروط والخصوصیات ینقسم إلی تقسیمات.

((الحق المنجز والمعلق))

((الحق المنجز والمعلق))

الأول: تقسیمه إلی المنجز والمعلق.

والمنجز: هو الذی لا یناط وجوده بشیء آخر، کمن یهب شیئاً لآخر بدون شرط.

والمعلق: هو الذی تکون الهبة بشرط، مثل ما إذا قیل: وهبت لک هذا الشیء بشرط مجیء زید أو شفاء ولدی أو ما أشبه ذلک، فإن فیه قبل المجیء قابلیة قربیة من ملکیة المتهب.

والظاهر أنه فرق بین القید والشرط، فمن دون القید لا تتحقق الهبة أصلاً، أما من دون الشرط فإن شاء رفع یده وإن شاء أخذ به.

ولا یقال: إنه قبل تحقق الشرط والقید لا شیء إطلاقاً، إذ لا یمکن العلة بدون المعلول، وکذلک العکس.

لأنه یقال: الاعتبار کما تقدم خفیف المؤونة، وأی فرق بین نذره علی کذا إن جاء ولده وبین هذا، إذ المحال لا یختلف أفراده، نعم فی متن الواقع إن کان یحصل الشرط والقید کان الأمر واقعاً الآن، قصد من الآن أو من حین وقوع الشرط والقید إن قصده کذلک.

وقد یأتی فی المقام ما ذکروه من الفرق بینهما فی الواجب المعلق والمشروط فی الأصول.

((الحق الحال والمؤجل))

((الحق الحال والمؤجل))

الثانی: باعتبار الزمان، لأنه ینقسم الحق إلی الحال والمؤجل، والأول کبیع الحال، والثانی کبیع النسیئة أو السلم.

وعلی هذا فمن الممکن الحال فیهما أو فی أحدهما أو المؤجل فی کلیهما، فی غیر ما دل دلیل علی البطلان کبیع الکالی بالکالی، ولذا مقتضی القاعدة الصحة فی سائر المعاملات، کالرهن والمضاربة والإجارة وغیرها، نعم الدلیل فی النکاح علی عدم صحة التأجیل إطلاقاً، سواء بالنسبة إلی الرجل أو المرأة، کأن یعقدا بحیث

ص:273

یصبح الرجل زوجاً من الآن والمرأة زوجة من غد أو بالعکس، أو یصبحان من الغد زوجین، وفی الإیقاعات علی المشهور لا یصح المؤجل ولا المعلق.

والفرق بین المؤجل والمعلق أن الأول کامل لکن لم یأت زمانه، فإذا جاء زمانه تحقق تلقائیاً، والثانی غیر کامل إلاّ بالتقید أو الشرط.

نعم ذکر بعض الفقهاء أنه إذا زوجها فضولة لم یتمکن هو أن یتزوج أختها أو بالخامسة قبل قبولها أو ردها بخلافها، فإنها تتمکن أن تتزوج من الحال مثلاً، فإذا تزوجت سقط موضوع القبول والرد.

((الحق المکانی الخاص والعام))

((الحق المکانی الخاص والعام))

الثالث: باعتبار المکان، قد یکون الحق خاصاً بمکان خاص کما إذا شرط التسلیم فی النجف مثلاً، وقد یکون عاماً والمراد بالعام ما لم یکن ارتکاز، وإلاّ فهو من الخاص.

ولو اختلفا فی أنه کان خاصاً أو عاماً فمدعی الخصوصیة یحتاج إلی الدلیل، لأن الأصل الطبیعة فما زاد علیها بحاجة إلی دلیل خارجی، ولو اختلفا فی أن المکان کان کربلاء أو الکاظمیة مثلاً، فکلاهما مدع إذ لا جامع.

((الحق الدائم والمؤقت))

((الحق الدائم والمؤقت))

الرابع: ینقسم الحق إلی دائم وموقت. فالأول هو الذی لیس محدوداً بزمان کالبیع والهبة والنکاح الدائم وما أشبه. والثانی ما کان محدوداً کالإجارة والرهن إلی غیر ذلک.

والموقت قد یکون لوقت زمان مثل إلی شهر رمضان، أو مکان مثل ما إذا استأجر الدابة إلی بغداد حیث تنتهی الإجارة بالوصول إلیها، أو شی ثالث مثل إلی مجیء زید.

کما أنه قد یکون الحق فی الأول أو فی الأخیر أو فی الوسط أو فی الطرفین، مثلاً یبیح له من غد إلی آخر الأسبوع أن یسکن أو یلبس ملابسه أو یتصرف فی دکانه، أو من الآن إلی غد، أو أول الأسبوع وآخره لا وسطه، أو بالعکس.

وکذلک حال الأمکنة، کأن یؤجره من النجف إلی سامراء، أو من کربلاء إلیها، إلی آخر الأمثلة.

ص:274

((الحق المستقر والمتزلزل))

((الحق المستقر والمتزلزل))

الخامس: ینقسم الحق إلی مستقر ومتزلزل، والأول ما لا یمکن إبطاله، فالأول کالبیع المطلق بشرط عدم خیار المجلس، والثانی بدون هذا الشرط، وأما فی المجلس فالبیع متزلزل.

ومن یتمکن من الإبطال إما هما أو أحدهما أو ثالث، أو هما مع ثالث، أو أحدهما مع ثالث، کما إذا شرط خیار الأب مثلاً.

ثم قد یکون التزلزل تلقائیاً، کجملة من الخیارات التی جعلها الشارع، وقد یکون بشرط الخیار، فالهبة فی غیر الموارد اللازمة تزلزلها تلقائی، أما الصلح بشرط الخیار فتزلزله بالشرط.

ثم الشرط قد یکون علی نحو الفعل، مثل إذا أردت فسخت، وقد یکون علی نحو شرط النتیجة مثل إذ جاء زید انفسخ، لکن فی الثانی یجب أن یکون الأمر قابلاً، فإذا باعه بشرط زوجیة بنته للبائع إذا جاءت، أو انطلاق زوجته بالطلاق بدون أن یطلقها إذا سلم المبیع أو ما أشبه ذلک لم یصح.

وإذا شک فی أن شرط النتیجة صحیح أم لا فالمرجع العقلاء، فإن رأوه صح لأن الشارع لم یحدث طریقاً جدیداً، ولذا اشتهر بینهم من أن غالب المعاملات إمضائیات، وإلاّ لم یصح، وقد ذکرنا فی (الفقه) أن من یرید خیرات بعده صح أن یهب کل أمواله لزید بشرط أنه متی أراد رجع فی الکل أو فی البعض المعین أو غیر المعین.

((الحق وأطرافه))

((الحق وأطرافه))

السادس: قد یتعدد أطراف الحق وقد یتحد، فالأقسام أربعة، فإذا ضمن اثنان دین إنسان حیث ینتقل الدین من ذمة المضون عنه إلی ذمة الضامن کما هو المشهور عند الشیعة، لا ضم ذمة إلی ذمة کما هو المشهور عند السنة، تتعدد أطراف من علیه الحق.

لکنا ذکرنا فی (الفقه) عدم استبعاد صحة ما ذکروه أیضاً إذا قصداه، حیث إنه معاملة عقلائیة أیضاً فیشمله ﴿أوفوا بالعقود﴾((1)) ونحوه، وإذا لم یقصدا خلاف الانتقال فهو من

ص:275


1- سورة المائدة: 1

الانتقال، إذ مرکوزهما المشهور عند الشیعة، کما أن فی ضمان السنة بالعکس، وإن قصدا الضم أو کان مرکوزهما ذلک کما فی السنة فهما وما قصدا.

((فروع الحق متعدد الأطراف))

((فروع الحق متعدد الأطراف))

وعلی أی حال، ففی متعدد الأطراف سواء فی کلا الجانبین أو فی جانب واحد قد یکون علی نحو التساوی وقد یکون علی نحو الاختلاف، فالولدان لهما حق متساو فی إرث الوالد مثلاً، والولد والبنت حقهما مختلف.

کما أن تعدد الأطراف قد یکون بالاشتراک متساویاً أو مختلفاً، وقد یکون بالانفراد کما إذا ضمنه نفران بحیث یتمکن أن یرجع إلی کل واحد منهما فی کل المال علی سبیل البدل.

والقسم الثالث أن یکون الضمان بحیث یختار المضمون له، فإن أراد أن یرجع إلیهما بالتساوی أو الاختلاف فهو ما أراد وإن أراد أن یرجع إلی أحدهما رجع إلی أحدهما، کل ذلک للعقلائیة بعد إطلاق أدلته کما عرفت.

ثم إن التعدد قد یکون علی نحو العرض أو علی نحو الطول، کأنه یضمن زید دین عمر ویضمن خالد زیداً، أو علی نحو العرض زماناً خاصاً والطول زماناً آخر، مثل هما ضامنان فی شهر رمضان عرضاً، وفی شهر شوال طولاً، وکذلک بالنسبة إلی المکان، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

ثم الضمان ونحوه إن اطلق کان مقتضی الأصل التساوی والعرضی من غیر فرق بین الأزمنة والأمکنة.

((الحق الاختیاری وغیره))

((الحق الاختیاری وغیره))

السابع: قد یأتی الحق من غیر اختیار الشخص کما فی حق البنوة والإرث، وقد یأتی باختیاره کحق التحجیر والزوجیة.

ثم قد یکون إسقاطه باختیاره کالأخیرین، وقد لا یکون کالأولین.

((حق الإنسان وغیره))

((حق الإنسان وغیره))

الثامن: قد یکون الحق للإنسان وقد یکون لغیره کالجماد والنبات والحیوان، وحق غیر الإنسان قد یکون إلجائیاً وقد یکون وضعیاً کحق المؤسسة وما أشبه، حیث تقدم أنه اعتبار فإذا أعطی الاعتبار

ص:276

العقلائی شخصیة حقوقیة لصندوق أو مؤسسة أو ما أشبه ثبت الحق له.

ثم حق الإنسان قد یکون للفرد، وقد یکون للمجموع بما هو مجموع، کهیئة الوزراء وسائر الهیئات التی یکون له حق للاعتبار الوضعی.

ثم إن الحق قد یعطی للمجموع بشرط جمیع الأفراد، کما فی بعض مجالس الدول بالنسبة إلی بعض الأمور، أو للأکثریة مع اختلاف أنحاء الأکثریة الثلثین أو ثلاثة أرباع، أو غیر ذلک حسب إعطاء من لهم الحقوق إلی وکلائهم الذین هم أفراد الحکومة.

ص:277

((الحق الإرادی وغیر الإرادی))

اشارة

((الحق الإرادی وغیر الإرادی))

(مسألة): الحق المتعلق بالأفراد فی مقابل الحق المتعلق بالدولة، ینقسم إلی إرادی وغیر إرادی.

فقد یأتی الحق من أمر إرادی مثل المعاملات المحتاجة إلی الطرفین، کالبیع والرهن والإجارة ونحوها، والإیقاعات المحتاجة إلی طرف واحد کالإبراء والطلاق.

لکن ذکرنا فی (الفقه) الإشکال فیما إذا أبرأ بدون رضایة الطرف الآخر، لأنه تصرف فی حقه، فیمنعه (الناس مسلطون)، کما أشکلنا فی صحة جعل إنسان إنساناً آخر وصیاً أو متولیاً للوقف أو قیماً أو ناظراً بدون إرادته، نعم فی الوصی یستثنی الابن والأب علی تفصیل ذکرناه فی کتاب الوصیة.

وهکذا من أسباب الحق الإرادی حیازة المباحات والأخذ بالشفعة والفسخ فیما له الفسخ، کما أن من الحق الآتی من الأمور الإرادیة الغصب والإتلاف، کما إذا رمی حجراً إلی زجاج الغیر عالماً عامداً فکسره، والتسبیب کما إذا أعطی بندقیة بید مجنون فقتل شخصاً، والاستیفاء کما إذا أکل مال الغیر.

أما الحق غیر الإرادی فمثل الإرث حیث إن الحق ینتقل إلی الوراث، وهذا استثناء کاستثناء الخمس والزکاة والفدیة من ﴿وأن لیس للإنسان إلاّ ما سعی﴾((1))، کذلک حال وجوب إطعام الجائع وما أشبه وإن لم یکن له مال.

فإن الأول لوحظ فی قبال حمایة الدولة بخدمتها لمعطی تلک الضرائب، والثانی لوحظ من جهة التکافل الاجتماعی، وکذلک حال الإرث مع أن الوارث لم یسع، کما ذکرنا تفصیله فی کتاب الاقتصاد.

وبعض الکلام فی الأمور المذکورة وتوابعها نذکره بإیجاز مما یرتبط بالحق بما هو حق، سواء کان حقاً للنفع أو للضرر، أی للإنسان أو علی الإنسان.

وعلی أی فالعقد عبارة عن توافق الطرفین إرادیاً، سواء کان کل طرف واحداً أو متعدداً إبرام أمر، وقد ذکرنا فی کتاب المکاسب أن تسمیه تعهداً فیه نوع من العنایة، فلیس العقد ما

ص:278


1- سورة النجم: 39

یحصل بإرادة طرف واحد، کما لا یحصل بطرف واحد نقض إبرام فی غیر الخیار، کما إذا توافق العاقدان نقض عهدهما فإنه اصطلاحاً إقالة لا عقد، کما أنه حقیقة کذلک، لأن العقد أمر اعتباری مواز للمقولة الحقیقیة التی هی مثل عقد الحبل، فحل عقد الحبل لا یسمی عقداً، وهنا کذلک، والعقد یشمل البیع والشراء والرهن والإجارة والمزارعة والمضاربة والمساقاة والشرکة والنکاح ونحوها.

ثم إذا اجتمعت إرادتان فی مثل البیع لعدة أشیاء، قد یکون العقد عقداً واحداً، وقد یکون متعدداً فی صورة واحد، لأنه حسب الإرادة، مثلاً إذا باع زید عدة کتب فی عقد واحد فقد یقصد أن لکل کتاب عقداً، ومن الطبیعی أن یکون الثمن حینئذ بالنسبة، فهناک عقود لا یرتبط بعضها ببعض فی الخیارات ولا یکون من تبعض الصفقة وما أشبه ذلک، وقد یقصد أن المجموع متعلق عقد واحد فالخیار واحد وتبعض الصفقة آت فیه وهکذا.

نعم لا یصح مثل ذلک فی النکاح، حتی إذا زوج امرأتین لرجل واحد فی عقد واحد فإنه زواجان لا زواج واحد، حتی إذا قصدا وحدة الزواج بطل، إذ کل امرأة لا یمکن أن تکون نصف زوجة.

وقد یکون التعدد فی جانب البائع وجانب المشتری، مثلاً باع اثنان دارهما لاثنین.

ولو لم یعلم أنهما قصدا عقداً واحداً أو متعدداً فالأصل الوحدة، لأصالة عدم الزیادة عن واحد، کما أنا ذکرنا فی (الفقه) أنه لا یحتاج العقد إلی سابق تاریخ، فالعقود الجدیدة مشمولة ل_ ﴿أوفوا بالعقود﴾((1))، ویجب الوفاء بها بعد أن لم یمنعها الشارع.

فکل عقد قام به الطرفان وکان منبعثاً عن الإرادة والرضا لم یمنع عنه الشارع صحیح، ولا یشترط بعد ذلک خصوصیة ولا زمان ولا مکان. نعم هناک شروط فی المتعاقدین، کالبلوغ والعقد، وفی العوضین یأتی الکلام فیه.

ثم إنا قد ذکرنا فی (الفقه) عدم اشتراط ألفاظ

ص:279


1- سورة المائدة: 1

خاصة، بل عدم اشتراط أصل اللفظ فی غیر النکاح والطلاق، حیث المعاطاة نافذة فی العقود والإیقاعات فیما عداهما.

ولذی الخیار فسخ العقد، کما أن من یعلم بطلان العقد لیس علیه احترام العقد، وهکذا لیس للمسلم احترام عقد الکافر الحربی، کذلک إذا کان أحد الطرفین مسلماً والآخر حربیاً فلیس علی المسلم احترام مثل ذلک العقد المبرم بینه وبین الکافر الحربی، سواء أبرماه فی حال کونه کافراً حربیاً أو أبرماه فی حال کونه معاهداً ثم صار کافراً حربیاً، علی تفصیل مذکور فی المعاهدات بین المسلمین والکفار فی کتاب الجهاد.

ولا حق لأحد فی تحمیل عقد علی الآخر، وکل هذه الأمور التی ذکرناها إنما هو تابع لحاکمیة الإرادة واحترامها عند العقلاء وفی الشریعة الإسلامیة بصورة خاصة، مع أنا أوجزنا الکلام فی کل من المستثنی والمستثنی منه حیث إن المقصود الإلماع إلی أصل الحقوق لا الخصوصیات الفقهیة.

((شرائط العقد والإیقاع))

((شرائط العقد والإیقاع))

 ثم إن الشرائط الواجب مراعاتها فی العقد والإیقاع عبارة عن أمور:

الأمر الأول: قصد الطرفین ورضاهما، وفی الایقاع قصد الموقع ورضاه، ولا فرق فی ذلک بین الأصیل والوکیل والولی، فوکیل المتبایعین وولیهما کنفس المتبایعین فی لزوم مراعاة هذا الشرط.

الأمر الثانی: أهلیتهما وأهلیة وکیلهما أو ولیهما، أو أهلیة أحدهما وأهلیة وکیل أو ولی الطرف الآخر، فإذا کان الطرفان صغیرین أو مجنونین مثلاً صح قصد الولی ورضاه، وإذا کان الطرفان فی حال سکر أو جنون أو ما أشبه صح بیع وکیلهما.

ص:280

الأمر الثالث: کون متعلق العقد أو الإیقاع قابلاً لوقوعهما علیه.

الأمر الرابع: مشروعیة المعاملة.

فإذا فقد أحد هذه الأمور بطلت المعاملة رأساً، أو کانت فضولیة تحتاج إلی الإجازة.

والعقد الباطل أحیاناً لا یترتب علیه أثر أصلاً، وأحیاناً یترتب علیه الأثر لکن لا الأثر العقدی، مثلاً إذا تزوج امرأة بزعم صحة الزواج ودخل بها فإنه یترتب علیه الأثر فی المهر ونحوه، لا الأثر العقدی الذی هو عقد صحیح، ولا أثر الزنا، فهو متوسط بین الأمرین، فإن المهر واجب ویکون مهر لمثل لا المسمی، أو أقل الأمرین منهما لأن المسمی إذا کان أقل فقد رضیت المرأة بذلک، وإن کان المثل أقل فحیث یبطل المسمی ببطلان العقد، والبضع له مهر فاللازم کونه مهر المثل، علی تفصیل ذکرناه فی (الفقه)، هذا موجز الکلام فی الشرائط.

أما التفصیل فی الجملة، فنقول فی الأمر الأول: إن القصد والرضا والمظهر الخاص کما فی النکاح والطلاق أو العام کما فی سائر العقود أرکان فی صحة العقد، فالإنسان أولاً یرضی بشیء بعد تصوره والتصدیق بفائدته، إما رضی مطلقاً أو رضی بعد التعادل والتراجیح کما فی بیع المضطر فإنه یرضی لا لفائدة مطلقة ما فی البیوع العادیة بل لأنه یوازن بین بیع داره لأجل علاج ولده مثلاً أو عدم بیعها مما یسبب موت ولده أو عماه أو ما أشبه ذلک، لعدم إمکان العلاج بدون البیع، ولذا یرضی بالبیع لأن فقده الدار أولی عنده من فقده الولد أو عماه.

لا یقال: فکیف رفع الحکم عن المضطر.

لأنه یقال: ذلک فیما إذا کان الرفع امتناناً، لأن الحدیث وارد فی مقام الامتنان، والرفع فی مثل هذا البیع الاضطراری خلاف الإمتنان، لأنه

ص:281

إذا بطل عقده کان معناه عدم تمکنه من معاجلة ولده، فمثل هذا الاضطرار لیس بمرفوع، نعم أکل المیتة اضطراراً والزنا اضطراراً  _ کما فی تلک المرأة التی زنت فی زمان الخلیفة الثانی اضطراراً فرفع عنها علی (علیه الصلاة والسلام) الحد _ والإفطار اضطراراً، والصلاة بلا وضوء وما أشبه ذلک یوجب بعض الأحکام، کنجاسة الفم، والغسل بالنسبة إلی الزنا، وقضاء الصلاة والصوم علی قول غیر واحد من الفقهاء.

ثم بعد الرضا یحصل القصد إلی الفعل، والمراد بالفعل أعم من الإبقاء أو التغییر بالنسبة إلی مطلق الأمور لا العقد والإیقاع فقط، لأنهما فعلان تغییریان لا ترکان، فإن الإرادة إنما تتعلق بطرفی القدرة، قدرة الإبقاء وقدرة التغییر، وإلا لم تکن قدرة، وإذا لم تکن القدرة لم یکن القصد وإن کان الرضا، فما لا یقدر علیه الإنسان قد یرضی به وقد لا یرضی به، لکن القصد إنما یکون فی متعلق القدرة.

نعم فی الفضولی القصد فی الإبقاء لأنه لم ینشأ العقد مالکه بل یرضی ویقصد بقاءه مع المجیء بمظهر لذلک الرضا والقصد، وبعد هذین الأمرین الرضا والقصد یأتی دور الإظهار، سواء الإظهار الخاص باللفظ کما فی النکاح والطلاق، أو مطلقاً کما فی مطلق العقود والإیقاعات مما یسمی بالمعاطاة، والنکاح والطلاق إنما أخرجهما الشارع وإلاّ لم یکن مانع عند العقلاء بأن یکونا کسائر المعاملات، مثلاً فی الإبراء إذا أشار برأسه کفی، وکذلک فی الوصیة ونحوهما.

ولا یخفی أن الإرادة واسطة بین الأولین أی الرضا والقصد، وبین الثالث أی الإظهار، فإذا کانت الثلاثة ولم تکن إرادة إما للاشتباه والإکراه لم تنفع تلک الأمور الثلاثة.

والاشتباه یمکن أن یکون فی نوع العقد، کما إذا قال المالک بعت، فزعم الطرف أنه قال آجرت، فقال قبلت، فإنه لا یقع بیع

ص:282

ولا إجارة، ویمکن أن یکون فی شخصیة الطرف حیث یشترط، مثلاً زعمت المرأة أن طرفها هو ابن عمها فقالت: أنکحتک نفسی، وقال الرجل: قبلت، فإن النکاح باطل فیما لم یکن ابن عمها.

وکذلک حال ما إذا کان فی البیع أو الإجارة أو ما أشبه یقصدان طرفاً خاصاً، کما إذا أراد بیع داره لعالم بصورة خاصة فزعم أن طرفه ذلک العالم فباع لا علی نحو تخلف الداعی، فانه یبطل البیع حینئذ، حیث کان الطرف مخصوصاً فی قصده، وقد کان فی الواقع من کان طرف غیر ذلک المقصود.

أما فی مثل غالب البیوع فلا یهم عندهما کان البائع أو المشتری أی شخص، فإن زعمه أصیلاً وکان وکیلاً أو بالعکس صح البیع، لأن المبادلة بین العوضین ولا خصوصیة للطرفین فی نظرهما.

ویمکن أن یقال بصحة النکاح إذا کان الأمر کالبیع، بأن أراد الرجل تزویج امرأة مهما کانت، لکنها زعم أنها فاطمة علی نحو الداعی فظهرت أنها زینب، حیث لا خصوصیة عنده لکونها فاطمة أو زینباً، وکذلک فی عکس ذلک بالنسبة إلی إرادة المرأة من جهة الرجل.

أما الاکراه فهو تحمیل شیء علی الطرف بدون إرادته، وإنما یعمله خوفاً فلا إرادة حرة له فی عمله، وهذا أیضاً مبطل العقد، بمعنی أنه یقع فضولاً، فإذا رضی بعد ذلک عن کل قلبه صح العقد.

وحیث قد ذکرنا فی (الفقه) تفصیل الإکراه فلا داعی إلی تکراره، نعم إذا کان هناک إکراه لکن الإکراه لم یؤثر فی إرادة العاقد أو الموقع إطلاقاً، وإنما انطلق فی عمله عن مجرد رضاه وإن رافق ذلک إکراه المکره له أیضاً، صح العقد والإیقاع لأنهما لم یستند إلی الإکراه، کمن یرید بیع داره ویوافق ذلک إکراه المکره له أیضاً بدون أن یکون البیع مستنداً إلی کلا الأمرین، بل إلی مجرد الرضا.

وهکذا حال الاضطرار، حیث فعلت الزنا لمجرد شهوتها من غیر استناد فی الزنا إلی الاضطرار إطلاقاً، فإنها تحدّ حد الزانیة.

ص:283

((المعاملات وأهل الطرفین))

اشارة

((المعاملات وأهل الطرفین))

(مسألة): یشترط فی نفوذ المعاملة أهلیة الطرفین، وذلک بأن یکونا بالغین عاقلین غیر سفیهین سفهاً أموالیاً، وإنما قیدناه بذلک لأن الظاهر أنه إذا کان سفیهاً أعمالیاً بدون أن یکون مجنوناً، بأن کان غیر متعارف فی أعماله مما یسمی فی العرف بالبسیط، کمن یضحک غالباً خلاف شأنه، أو یلبس ملابس خلاف شأنه أو ما أشبه ذلک لم یضر، لإطلاق الأدلة الشاملة له بدون مخرج.

والسفیه غیر الأموالی یعبر عنه أحیاناً بکونه معتوهاً، فإذا کان سفیهاً أموالیاً أو مجنوناً سواء کان أطباقیاً أو أدواریاً بالنسبة إلی حالة دور الجنون أو حالة دور السفه فی السفیه الأدواری لم یصح.

ولو شک فی أنه فی أی الحالین کان حین البیع لم یصح أیضاً، للزوم إحراز الشرط فی صحة المعاملة.

أما معاملات الممیز فهل تبطل کما هو المشهور، أو یکره کما اختاره الشرائع وبعض آخر، لا یبعد الثانی لما ذکرناه فی الفقه، ولو شک فی أنه وصل إلی حد البلوغ أو التمییز فالأصل العدم.

والبلوغ فی الولد بإحدی العلائم الثلاث: الإنبات أو المنی أو تمام الخامسة عشرة والدخول فی السادسة عشرة، والمیزان السنین القمریة لا الشمسیة، کما ذکرنا ذلک أیضاً فی (الفقه) مفصلاً.

أما بالنسبة إلی البنت فالبلوغ من تمام التاسعة والدخول فی العاشرة، فیصح معاملاتها إذا کانت رشیدة وواجدة لسائر الشرائط.

ولا یخفی أنه یصح معاملات الولی والقیم والوصی وما أشبه بالنسبة إلی المجنون والصغیر، بینما بالنسبة إلی المحجور لا یصح مطلقاً.

وکیف کان، لا یقال: کیف البلوغ فی البنت متقدم.

لأنه یقال: لأن الشارع لأحظ تمتعها بالحیاة أکثر، فالمرأة بعد الأربعین غالباً تتکسر لظرافتها، بینما لیس الأمر کذلک فی الولد، کما أنها بعد الخمسین غالباً لا تلد، بینما لیس الولد کذلک، ثم التمتع

ص:284

بها کلما کانت أقرب إلی الصغر، کان ألذ بالنسبة إلیها وإلی الزوج.

هذا بالنسبة إلی تصرفاتهما فی أموالهما وسائر المعاملات کالولایة والوصایة والقیمومة وما أشبه.

أما إجراؤهما العقد وکالة بعد التمییز قبل البلوغ فلا ینبغی الإشکال فیه، لعدم دلیل علی عدم الأهلیة بعد شمول الأدلة له، وإن کان بعض تأمل فی ذلک، لقوله (علیه الصلاة والسلام): (لا یجوز أمر الغلام)، وما أشبه مما فصلنا الکلام فیه فی کتاب الحجر.

وفی الأدیان والمذاهب التی تری غیر ما ذکرنا فی البلوغ، أو سائر الأمور یطبق علیهم أحکام أنفسهم بدلیل الإلزام.

والسکران والسکری وشارب المرقد ومن صار مبهوتاً لحادث وما أشبه ذلک فی حکم النائم، نعم وردت روایة فی السکری، لکنها محل کلام العلماء، کما فصلناه فی کتاب النکاح.

ومن الواضح أنه لا یلزم هذا الشرط فی الوکیل، کما لا یلزم بالسنبة إلی نوم الموکل، فلو کان الموکل نائماً أو سکراناً أو شارب مرقد أو ما أشبه ذلک صح للوکیل إجراء العقد.

هذا بالنسبة إلی أهلیة الطرفین.

وتصح بعض المعاملات من قبل المجنون فی بعض الأمور دون بعض، مثلاً المشهور لا یقولون بجواز بیع الأب وشرائه عنه إلی غیر ذلک مما فصل فی الفقه.

هذا بعض الکلام بالنسبة إلی أطراف العقود والإیقاع.

((شروط موضوع المعاملة))

((شروط موضوع المعاملة))

أما بالنسبة إلی موضوع المعاملة فیشترطه فیه:

أولاً: وجود الشخص فی المعاملات الشخصیة، وذلک بالدلیل وإن کان ذلک ممکن الاعتبار عقلاً بل وعقلائیاً أحیاناً، فلا یصح أن یبیع ما سینعقد فی بطن شاته، أو ما ستبیض دجاجته، أو ما ستثمر أرضه هذه، أو الماء الذی سیمطر فی داره إلی غیر ذلک، لأنها بیوع شخصیة، وموضوعها غیر موجود.

ص:285

وثانیاً: أن یکون عنده، لقوله (صلی الله علیه وآله): «لا تبع ما لیس عندک»((1))، کما إذا باع دار زید ثم اشتراها منه ویرید تسلیمها إلی المشتری باعتبار أنه باعها له قبل ذلک، نعم إذا کان بموازینه یکون فضولیاً له موازینه.

وثالثاً: أن یکون قابلاً للنقل والانتقال، فلا یصح بیع الوقف ونحوه إلاّ فی الموارد المستثناة فی الفقه.

ورابعاً: أن لا یکون مما لم یجعل الشارع له مالیة، کالخمر والخنزیر، وقد أشرنا فی (الفقه) بجواز بیع مثل بیض الغنم والسمک الحرام للمستحل، لقاعدة الالزام، بخلاف مثل الخمر حیث النص الخاص علی المنع، کما تقدم الإلماع إلی أنهما مختصان بمالکهما فیما إذا أراد استعمالهما فی غیر الجهة المحرمة.

وخامساً: أن یکون معلوماً بما لا یوجب الغرر، لأن النبی (صلی الله علیه وآله) نهی عن الغرر((2))، نعم یختلف الغرر فی البیع عن الغرر فی الصلح، لأنه یغتفر فی الثانی ما لا یغتفر فی الأول، کما ذکرناه فی کتاب الصلح.

وسادساً: أن لا یکون المبیع أو الثمن مردداً، وکذلک فی سائر المعاملات، کما إذا باعه هذا أو هذا، فإنه لا دلیل علی مشروعیته، لانصراف الأدلة عن مثله، وإن کان لا محذور فیه عقلاً أو عقلائیاً، نعم لا اشکال فی معاملة المشاع والکلی فی المعین والکلی المطلق.

وکذلک بالنسبة إلی سائر المعاملات کأن یصالحه هذه الدار أو هذه، أو یزوجه هذه الفتاه أو تلک، أو یطلق هذه أو هذه إلی غیر ذلک.

ص:286


1- فقه القرآن: ج2 ص58
2- انظر دعائم الإسلام: ج2 ص21

وسابعاً: أن یکون مقدور التسلیم أو التسلم، فما غصبه الغاصب مما لا یتمکن أیهما من إرجاعه ولو بالواسطة والرشوة وما أشبه، غیر صحیح المعاملة، لانصراف الأدلة عن مثله.

وثامناً: أن یکون ملکاً لصاحب الحق أو لمن هو یمثله ولایة أو وکالة أو وصایة أو نحوها، فمعاملة الفضول غیر نافذة وإن کانت صحیحة إذا ألحقها الرضا، علی تفصیل ذکرناه فی (الفقه).

وتاسعاً: أن لا یکون مثل بیع أم الولد أو هبة القرآن للکافر، علی تفصیل ذکر فی کتاب المکاسب ومثل ذلک بیع الحر والسلاح لأعداء الدین.

ثم بعد الأمور المتقدمة یأتی دور المشروعیة للمعاملة، بأن یکون الغرض منه عقلائیاً ومشروعاً، والمراد المشروع بشریعة الإسلام عند المسلم، فإذا لم تکن المعاملة کذلک کانت باطلة، کما إذا استأجر الدکان لجعله مخمراً أو مقمراً، أو الدار لجعلها مبغیً أو ملهیً، وهکذا حال ما إذا لم یکن عقلائیاً وإن لم یکن محرماً فی نفسه، کبیع مثقال من أجنحة البعوض بدون غرض عقلائی لا لمثل الدواء ونحوه.

ثم فی باب النکاح تفاصیل مذکورة فی کتابه مما لا داعی إلی تکراره.

ص:287

((أصالة اللزوم فی العقود))

اشارة

((أصالة اللزوم فی العقود))

(مسألة): إذا عقد الطرفان أصالة أو وکالة أو ما أشبه أو بالاختلاف لزمت المعاملة، قال سبحانه: ﴿أوفوا بالعقود﴾((1))، وهو تکلیفی ووضعی معاً، کما فصلناه فی (الفقه).

ولا یحق لأحدهما عدم الإلتزام به، کما لا یحق للثالث ذلک، لما تقدم من لزوم احترام الناس للمعاملات المشروعة، نعم یصح الإقالة برضا الطرفین، وفی الحدیث: «من أقال نادماً أقاله الله عثرته یوم القیامة»((2)).

کما أن المعاملة غیر لازمة إذا کان لأحدهما أو لکلیهما أو لثالث خیار الفسخ، وقد أنهی (شرح اللمعة) الخیارات إلی أربعة عشر بالنسبة إلی البیع، وهی عبارة عن خیار المجلس والحیوان والشرط والتأخیر وما یفسد لیومه والرؤیة والغبن والعیب والتدلیس والاشتراط والشرکة وتعذر التسلیم وتبعض الصفقة والتفلیس، وإن ناقش الشیخ فی (المکاسب) فی بعضها.

وحیث قد عرفت إطلاق الآیة فی اللزوم، کما ورد أیضاً ذلک فی الروایات، فعدم لزوم معاملة خلاف الأصل بحاجة إلی الدلیل.

وإذا کانت المعاملة جائزة لخیار الفسخ، فقبل إبطالها أو أحدهما المعاملة تکون باقیة، کما أن بعد الإبطال بالفسخ تکون المعاملة کأن لم تکن، نعم قد تبقی بعض الآثار، والنکاح مثل سائر المعاملات فی خیار الفسخ کما ذکرناه فی کتابه فی الجملة، کما أن المتعة إبطالها من قبل الزوج، کما یمکن إبطالها من قبل الزوجة فی بعض الخیارات، نعم الإقالة لا تبطل الدائم وإنما یبطلها الفسخ فی مورده، والطلاق والإرتداد یبطلان النکاح أیضاً مما ذکرنا تفصیله هناک.

وإذا تخلف أحدهما عن تنفیذ المعاملة فی المعاملات اللازمة راجع طرفه المحکمة، وکل خسارة سببها التخلف تکون علیه بدلیل «لا ضرر» حسب موازینه.

وهل یتحمل المتخلف بإعطاء النقد أرباح النقد المضاربیة، لا یبعد ذلک صناعة، حیث سبب ضرر صاحبه عرفاً، لکن

ص:288


1- سورة المائدة: 1
2- راجع نهج الحق: ص488

المسألة من قبیل حبس الحر، المشهور لا یقولون به حیث یرون أنه عدم الربح لا الضرر، والمتدارک الضرر لا عدم الربح، فهو مثل ترک مال أو عرض أو دم حتی یسرق أو یهتک أو یراق، کما إذا لم یداو الجریح المریض أو لم ینقذ الحریق والغریق والمهدوم علیه والمشرف علی السقوط من علو، أو المهاجم من قبل حیوان أو لص، حتی ماتوا أو فقدوا أعضاءهم أو قواهم، أو لم ینقذ المرأة المهاجمة من قبل الأوباش حتی هتک عرضها، أو لم یأخذ بید مرید حرق الدار والدکان وما أشبه حتی أحرقها، أو لم یطفئ الکهرباء أو ما أشبه ذلک.

نعم إن عد هو السبب ضمن، کما إذا حفر بئراً فی موضع غیر ملکه فتردی فیها أعمی أو من کان یمشی فی الظلام أو ما أشبه ذلک، أو دعا إنساناً فعقره کلبه، أو قتلته دابته الصائلة، أو أخذ بید إنسان فلم یقدر علی غلق باب قفصه أو اصطبله أو ربط غزاله، أو شق قربة سمنه وعسله، أو إنقاذ ولده من الحیة المهاجمة، مما سبب قتلاً أو نقص عضو أو قوة أو طیران الطیر أو فرار الدابة أو ذوبان ما فی القربة بسبب الشمس وإراقته إلی غیر ذلک. والمسألة مفصلة فی کتب الغصب والصلح والدیات والقصاص وغیرها.

((أطراف الاستفادة من العقد))

((أطراف الاستفادة من العقد))

بقی شیء: وهو أنه قد تقدم أن العقد والإیقاع الطرفان یستفیدان منه مباشرة کالبائع والمشتری والمضارب والعامل والشریکین والزوجین والمبرِئ والمبرَئ وما أشبه، کما أنه یلزم علی سائر الناس احترام هذا العقد، والکلام هنا أنه یستفید أو یتضرر من العقد والإیقاع أحیاناً ثالث، کالوکیل لهما أو الولی أو الوصی أو القیم أو الوارث أو الشفیع.

وهکذا یستفید المحرمیة الثالث من عقد النکاح، کأب الزوج وابنه وأم الزوجة وبنتها، کما أنه یتضرر بعدم جواز نکاح هذه الأطراف الأربعة أیضاً، إلی غیر ذلک من أطراف الزوجین، وهکذا حال

ص:289

الرضاع وحال أثر التأمین بالنسبة إلی الوارث، حیث إنه المستفید إلی کثیر من أمثال ذلک.

ثم إنه لا یلزم أن یعرف الإنسان الآثار المترتبة علی عقده أو إیقاعه، فإذا أراد وقصد ورضی وعقد، أو أوقع ترتب کل ما الشارع رتب علیه، مثلاً لا یلزم أن یعرف الإنسان فی النکاح أن الأب والولد للزوج یحرمان علی الزوجة، والأم والبنت للزوجة تحرمان علی الزوج، ولا فی البیع أن فی المجلس له خیار الفسخ، ولا فی الطلاق الخلعی أنه لا یتمکن من الرجوع إلاّ بعد رجوع الزوجة فی المهر، إلی غیر ذلک.

((العقود والأحکام الوضعیة والتکلیفیة))

((العقود والأحکام الوضعیة والتکلیفیة))

کما أن بعض العقود بنفسها حرام، کعقد الأم والبنت، بالإضافة إلی الحکم الوضعی بالبطلان، وبعضها لا ینعقد فقط أی له الحکم الوضعی بدون الحکم التکلیفی، کبیع الکالی بالکالی، والأثر فی العقد الفاسد أو الصحیح هو الواقع، وأحیاناً یؤثر الزعم أیضاً کما إذا زعم صحة عقد الرضیعة أو أخ المفعول حیث ینقلب المهر إلی المثل، بینما إذا کان عالماً بالبطلان لم یکن له مهر.

ص:290

((بین العقد والإیقاع))

اشارة

((بین العقد والإیقاع))

(مسألة) الإیقاع إیجاد من طرف واحد، کما أن العقد إیقاع من طرفین یرتبط أحدهما بالآخر ربطاً عقدیاً، فالإیقاعان المترابطان بالشرط ونحوه لا یکون عقداً، فإن إنشاء أمر أو فسخه نوع من الإیجاد فی العالم المرتبط به، وله آثار عقلائیة قررها الشارع فی عالم الاعتبار والانتزاع والخارج، کما أن الآخرین أیضاً لهما آثار فی العوالم الثلاثة.

فإذا قال: ائتنی بأربع تفاحات کان لهذا الأمر أثر فی العالم الخارجی، حیث ینقل التفاحات من مکانها إلی مکان آخر، وفی عالم الانتزاع حیث یتحقق فی الخارج الزوجیة فی المکان المجبی إلیه، بالإضافة إلی اعتبار الآمر آمراً والمقول له مأموراً، وهکذا کل العوالم الثلاثة یؤثر بعضها فی بعض، بالإضافة إلی التأثیر فی أنفسها.

فاعتبار من بیده الاعتبار فی الإیقاع کما فی العقد إذا صادف محلاً قابلاً یؤثر فی الحقوق العینیة والدَینیة إیجاباً وسلباً، کالإباحة والإبراء والإعراض والطلاق والإجازة فی المعاملات الفضولیة، إلی غیر ذلک.

کما أن الحیازة وهو عمل إیقاعی أیضاً إذا صادفت الإرادة یکون کذلک، فقد ذکرنا سابقاً أنه لا یملک الإنسان بدون قصد التملک.

((العقد والأمور الأربعة))

((العقد والأمور الأربعة))

ثم هناک أربعة أمور: الرضا الباطنی، والعقد القلبی، واللفظ وما أشبه بدون الإعلام، والإعلام، ولکل موضعه.

مثلاً الرضا بالعصیان فی أصول الدین مورد المؤاخذة شرعاً، کما ورد فی أن بعض الأقوام هلکوا بسبب رضاهم بفعل العصاة، کما فی عاقر الناقة، وفی زیارة الإمام الحسین (علیه الصلاة والسلام) اللعن لمن سمع بقتله فرضی به.

والعقد القلبی له مدخلیة فی الإیمان، فمن یظهر الإسلام لکن عقد قلبه علی الکفر یعد منافقاً.

أما اللفظ وحده فقد لا یکون مؤثراً، وقد یکون مؤثراً، فإذا اغتاب وحده فی غرفة مجردة أو تشبب أو اتهم أو ما أشبه لم یکن محرماً، لأن الأدلة لا

ص:291

تشمل مثل ذلک، فقد أخذ فی مفاهیم هذه الألفاظ أن یکون بین اثنین أو أکثر، فالأمر بحاجة إلی الإعلام.

وأما إذا قال فی غرفة وهو وحده مجرداً عن سامع: فسخت بالنسبة إلی بیع له حق الفسخ فیه، أو بالنسبة إلی نکاح له حق الفسخ فیه، فالظاهر وقوع الفسخ، لصدق أنه فسخ، فلا یکفی فیه العقد القلبی بالفسخ، لعدم الصدق. کما لا یلزم الإعلام.

وکذلک لا یکفی فی العقد عدم تلفظهما، بل عقدا قلباً وکل یعلم ما فعله الآخر من عقده القلبی، وهل الإبراء وحده بدون الإعلام مسقط للدین، ظاهر العناوین والنائینی والحکیم (رحمهم الله تعالی) الاحتیاج إلی الإعلام، لأن الأمر مربوط بالغیر فبدون الإعلام لا أثر له، وقال بعضهم بالأثر، ولو شک فالأصل عدم الأثر.

أما من قال بالأثر فقد استدل بأن العقد إنما یحتاج إلی الإعلام من جهة ارتباطه بنفرین، والإیقاع لیس کذلک، فیکفی الواحد فیه.

لکن فیه: إن الأمر والنهی أیضاً إیقاع، فلماذا تقولون بالاحتیاج إلی الإعلام، فإن غیر المحتاج إلی الإعلام ما لا یرتبط بالغیر إطلاقاً کالحیازة بالقصد، أما ما یرتبط بالغیر فاللازم الإعلام فتأمّل.

هذا بعض الکلام فی مقام الثبوت، وتفصیله فی (الفقه).

أما مقام الإثبات فالاحتیاج إلی الإعلام غیر خفی، وإلاّ فلا إثبات.

((المقصود بالإعلام فی العقود))

((المقصود بالإعلام فی العقود))

والإعلام المقصود هنا أعم من اللفظ، والظاهر أن هبة مدة المتعة أیضاً لا یحتاج إلی کون الهبة عندها، بل لو وهب لفظاً وحده عن جد حرمت علیه، سواء علمت بذلک أو لا.

أما الوکالة وهبة الأموال وما أشبه فاحتیاجها إلی اللفظ أو نحوه، والإعلام من جهة أنها عقود کما قرر فی الفقه، وقد ذکرنا فی کتاب الوکالة أنه لو عزل الموکل الوکیل بدون إعلامه لم یؤثر ذلک فی عزله، فإذا عمل الوکیل بعد العزل والحال أنه لا یعلم به کان عمله ممضی، ولو طلق زوجته بالشروط ولم یعلمها صارت

ص:292

مطلقة، فله حق أخذ الأخت أو الخامسة أو ما أشبه، کما أنها لو عقدت نفسها فی هذه الأثناء بدون علم هذا الطلاق یکون العقد صحیحاً، وإن کانت متجریة، وهکذا لو فسخ وفسخت المرأة فیما له الفسخ بطل النکاح.

وعلی أی، فإذا لم یکن دلیل عام أو دلیل خاص علی أحد الطرفین وشک فی الأمر فالمرجع الأصول العملیة.

هذا بعض الکلام فی العقد والإیقاع، نعم الرضا الباطنی یؤثر فی حلیة التصرف، حیث قال (علیه الصلاة والسلام): «إلاّ بطیب نفسه»((1))، کما ورد الدلیل فی أن (سکوت البکر رضاها) ، وهذا استثناء عن احتیاج العقد إلی الإنشاء بالإضافة إلی الرضا، لوضوح أن العقد لا یتحقق بدون الإنشاء.

ص:293


1- غوالی اللئالی: ج1 ص222

((أسباب الضمان))

اشارة

((أسباب الضمان))

(مسألة): أسباب الضمان خمسة، سواء فی الضمان القهری أو الاختیاری، وهی الغصب والإتلاف والتسبیب والاستیفاء والاستیلاء.

((الغصب والضمان))

فالأول: وهو الغصب یتحقق بالاستیلاء العدوانی علی حق الغیر، ملکاً کان أو غیر ملک، کحق تحجیره عند المشهور الذی لا یعدونه ملکاً، أو الزوجة استولت علی الزوج فی لیلة قسم زوجة أخری، أو استولی طالب علی غرفة المدرسة التی کانت سکنی لطالب آخر، أو استولی إنسان علی مکان آخر فی المسجد أو فی السوق أو فی العتبة المقدسة أو ما أشبه ذلک.

ولا یحتاج الأمر إلی الملکیة، فإذا انکسرت زجاجات الغیر وأراد المالک لها، لا یحق للکاسر الغاصب أو غیره الاستیلاء علیها، وقد تقدم مثال الاستیلاء علی خمر الغیر حیث یریدها لقتل دواب مرحاضه، أو استولی علی خنزیر الغیر حیث یریده لإدارة ناعوره أو ما أشبه ذلک، أما إذ کان الخمر والخنزیر لمسیحی فقانون الإلزام یقول بلزوم أن یعطی بدلهما له.

ولا حاجة فی الغصب إلی الاستیلاء، بل بین الغصب والاستیلاء عموم من وجه:

فقد یکون غصباً حراماً ومضموناً بلا استیلاء کما إذا قال الظالم للمالک: لا حق لک فی دخول دارک أو بستانک أو الاستفادة من حمارک أو ما أشبه ذلک.

وقد یکون استیلاء محرم بلا ضمان، کما إذا استولی الظالم علی القریة أو الدار وجعلها تحت إشرافه بدون إخراج أهله عنها، وإنما اتخذهم خولاً له، فإنه لا یضمن الدار لأنه لم یستول علیها استیلاءً ضمانیاً وإن فعل حراماً.

وقد تجتمعان، کما إذا سکن دار غیره ظلماً أو أسکنها خدمه، إلی غیر ذلک.

ولو اغتصب الفتاة ضمن مهرها بالإضافة إلی الحرمة، وهل یضمن شیئاً إن لم یدخل بها وإنما عاشرها معاشرة الأزواج بالملامسة

ص:294

والقبلة وما أشبه، خصوصاً إذا کان عنیناً أو مجبوباً لا یقدر علی ذلک، ولو قدر دخل بها، لم یذکره الفقهاء لکن لا یبعد الضمان بما یقدره العرف، وقد تقدم مثال اغتصاب الولد بالوطی، وکذلک إذا اغتصبه ولا یقدر علی الوطی وإنما عاشره معاشرة محرمة بالملامسة والقبلة وما أشبه، خصوصاً إذا أجبر المغصوب بالإدخال فی الغاصب أو جبرت المرأة المغصوب بالإدخال فیها، وقد احتملنا هناک فی الفقه الضمان وإن لم یذکر الفقهاء هذا الفرع قدر تتبعی.

کما تقدم مثال حبس الحر عن عمله، أما استخدامه ولو فی غیر مورد النفع، کما إذا أشغله بالتوافه مثل صب الماء من هذا الجانب من البحر إلی ذلک الجانب، أو نقل الحجر من هنا إلی هناک تافهاً بدون غرض، وإنما لأجل تعذیبه کما یفعله الجبارون، فلا إشکال فی ضمانه.

ثم لو کان عین المال عند الغاصب لزم إرجاعها إلیه مع أجرته، فیلزم أن یرد الدار مع أجرة سنة کانت عنده، سواء استفاد منها أو أبقاها فارغة، وهل الحکم کذلک فی مثل المدرسة والحسینیة والمسجد کما إذا اتخذها دوراً أو منع المصلین والطلاب والزائرین من الاستفادة منها، لا یستبعد الضمان لأنه فوت منافعها أو استفادها، فعلی الید یشمله.

ولا إشکال فی رد العین فیما إذا بقیت، أما إذا لم تبق بفعل سماوی أو بفعل نفسه أو بفعل ثالث کما إذا جعل الحنطة خبزاً، أو فصل الباب إلی الأخشاب، أو الأخشاب جعلها باباً، أو تعفن التمر عنده اختیاراً أو بتلف سماوی أو ما أشبه ذلک، فإن أرادها صاحبها فلا إشکال مع إعطائه التفاوت الذی یسمی بالأرش، وللغاصب ظاهراً أخذ التفاوت إذا جعل الخشب باباً مثلاً، حیث إن له سعیه وإن کان غاصباً، لإمکان الجمع بین الأمرین علی إشکال، وکذلک إذا أسمن الشاة بعلفه لها، إلی غیر ذلک من الأمثلة، وقد ذکرنا بعض ذلک

ص:295

فی کتابَی الغصب والبیع.

أما إذا لم یرد المالک التمر المتعفن مثلاً أو الخبز، إذ ما یفعل بهما وإن کانت لهما قیمة من الجملة حیث إن الخبز یبقی عنده حتی ییبس ولا یشتریه مشتر منه، أو لا یتمکن هو من بیعه، وما یفعل بالتمر المتعفن وضیوفه لا یأکلون مثله، أو هو لا یرید تقدیمه لهم، إلی أمثال ذلک، فقد ذکرنا فی کتاب الغصب عدم استبعاد أن علی الغاصب المثل أو القیمة.

((فروع فی الغصب))

((فروع فی الغصب))

ولو تعدد الغصاب عرضاً، فعلی کل بالنسبة، ولو تعددوا طولاً اختار المالک فی الرجوع إلی أیهم، وقرار المنافع علی کل من استفاد منها أو أتلفها، کالدار المغصوبة فی کل سنة بید شخص.

ثم الإنسان یضمن ما غصب عیناً ومنفعةً، سواء کان الغصب اختیاریاً أو اضطراریاً، کما لو اضطر إلی غصب حطب الناس لوقایة نفسه من البرد، فإن الاضطرار یرفع الحکم التکلیفی أی الحرمة، لا الوضعی أی الضمان، کما ذکروا مثل ذلک فی أکل المخمصة، فإنه مقتضی الجمع بین الحقین.

وهکذا إذا غصب جاهلاً بزعم أنه مال نفسه أو أنه هدیة، أو نسیاناً للحکم أو الموضوع، وهکذا حال ما غصب وهو غیر بالغ أو مجنون، إذ الحکم الوضعی کالنجاسة والطهارة ونحوهما یبقی حتی بدون الشرائط العامة للتکلیف، فإذا لوث الطفل أو المجنون أو النائم أو شارب المرقد أو السکران أو ما أشبه یده أو ثیابه بالنجس تنجس، کما إذا وضع یده فی الماء الجاری مثلاً فإنها تطهر بشروط التطهر.

ولو أکرهه مکره علی الغصب فهل قرار الضمان علیه، أو علی المکره، أو الضمان علی المکره ابتداءً ولا ضمان علیه، احتمالات.

وکذا لو أکرهه مکره علی اغتصاب امرأة فأدخل بها فهل المهر علیه أو علی المکره أو علیهما والقرار علی المکره، وکذلک إذا أکرهه علی جرح بالنسبة إلی الدیة، نعم قد ذکرنا فی (الفقه) أنه لا تقیة فی الدماء، فلا یجوز له أن

ص:296

یقتل إنساناً لفراره من القتل فیما إذا قال له المکره: إما أن تقتل زیداً وإما أن أقتلک، إلاّ إذا کان هناک أهم ومهم، کما إذا کان الظالم بحیث إذا لم یقتل هذا المکره (بالفتح) فرداً قتل الظالم ألف فرد.

((الإتلاف والضمان))

((الإتلاف والضمان))

أما الثانی: وهو الإتلاف فیوجب الضمان أیضاً، فمن أتلف مال الغیر غیر المال المباح، کما لو أتلف الوقت ونحوه، فهو له ضامن، سواء أتلفه عمداً أو سهواً أو جهلاً أو اضطراراً أو نسیاناً أو غیر ذلک، نعم یأتی فی الإکراه الکلام السابق.

والإتلاف فی حال عدم الشعور أیضاً حکمه حکم الإتلاف فی العمد من جهة الضمان، فلو رمی حجراً فکسر إناء إنسان آخر ضمنه، وکذلک لو ضرب رجله وهو نائم علی کوز الغیر فانکسر، وکذلک حال ما إذا سبب عیباً أو نقصاً أو شبههما، کما لو سبب کسر رجل دابة وإن التحمت بعد ذلک، أو قطع رجلها أو سبب لها مرضاً، فإن علیه الأرش.

وهل یضمن لو سبب النقص زیادة القیمة، أو عدم تفاوت القیمتین، کما إذا سبب الإخصاء زیادة القیمة، أو لم یکن تفاوت بین المخصی وغیر المخصی فی القیمة، لا یبعد کون الحکم حینئذ تکلیفیاً محضاً.

وکذلک حال ما إذا سبب نقص عضو الإنسان أو فقده لقوة من قواه، کما إذا قلع عینه أو أعماه، أو سبب نقصاً بالزیادة کما لو أشربه دواءً أکبر یده أو رجله فإنه نقص أیضاً، أو سبب مرضه أو عیبه کما إذا صار مریضاً بالحمی الدائمة، أو صارت عینه عمشاء مثلاً، وهکذا إذا سبب کثرة نومه أو طول نومه أسبوعاً أو ما أشبه ذلک.

وما یضمن هنا هو المقدر شرعاً إن کان تقدیر، وإلاّ فالمحکم العرف، وهم یمیزون الدیة من کون قیمة الإنسان مثلاً ألف دینار، فنسبة هذا المرض أو العرض إلی

ص:297

القیمة ما هی، وبتلک النسبة یحکمون بقدر الدیة، وقولهم ینزل منزلة العبد محل نظر، کما ذکرنا تفصیله فی (الفقه).

ثم لو کان لشیء مقدار شرعاً ولکن کانت نفقة العلاج أکثر، وکان العلاج یسبب عدم کسبه، فهل یضمن الجارح ونحوه المقدر فقط أو الآخرین أیضاً، مثلاً لو کان الرجل یکتسب کل یوم دیناراً لقوت عائلته، فسبب له مرضاً لا یتمکن من الکسب مما خسر ثلاثین دیناراً قرضاً لقوت عائلته، بالإضافة إلی أنه صرف لشفائه ألف دینار مع أن الدیة المقدرة شرعاً خمسمائة دینار، فهل یضمن الخمسمائة والألف والثلاثین، احتمالات.

لا یقال: لا وجه لضمان الثلاثین، لأن ما یأخذه من المال یکون کفاءً لذلک.

لأنه یقال: المال أخذه وأعطاه للطبیب، فمن أین یعطی الثلاثین للبقال والعطار والخباز ومن أشبه ممن اقترض هو أو عائلته منهم.

وعلی کل حال، فالاحتمالات ثلاثة:

الأول: الدیة فقط، لأنه الدیة المقررة شرعاً ولا دلیل علی الأکثر.

والثانی: خسارته لمرضه أیضاً، لأنه تضرر بالنسبة إلی الخمسمائة الثانیة، فیشمله دلیل «لا ضرر».

الثالث: ما اقترضه أیضاً، لأنه سبب له قرضاً ثلاثین، فیشمله دلیل «لا ضرر» أیضاً.

وقد ذکرنا فی کتب الأصول والفقه کما ألمعنا سابقاً إلیه هنا، أن لا ضرر یشمل الإیجابی والسلبی، فکلما کان ضرراً سواء تضرر الإنسان من عدمه أو من وجوده فالشارع رفعه، ولم أجد الفقهاء تعرضوا لما ذکرناه من الاحتمالین الثانی والثالث إطلاقاً، بل إطلاقهم کإطلاق الروایات للدیة المقدرة شرعاً فقط، لکن یمکن ادعاء انصراف کلامهم إلی

ص:298

غیر الصورة التی ذکرناها، فالجمع بین دلیل الدیة ودلیل «لا ضرر» یقتضی تحمل الضامن کلاً من الثلاثة.

((فروع فی الإتلاف))

((فروع فی الإتلاف))

ثم إذا حکم الشارع بالإتلاف فالظاهر عدم الضمان، کما إذا کانت السفینة مشرفة علی الغرق فألقی مال الناس فی البحر لتخف السفینة حتی لا یغرق الناس لانصراف أدلة «من أتلف» عن مثله، بل یشمله أدلة ﴿ما علی المحسنین من سبیل﴾، وکذلک إذا ألقی بعض الناس فی البحر، فإنه یجب علی ربان السفینة حفظ الکل باستثناء واحد مثلاً، ولیس ذلک الواحد هو نفس الربان لأنه إذا ألقی بنفسه فی البحر غرق الکل، مما اضطر إلی إلقاء بعض الرکاب.

نعم لو دار الأمر بین الأقل والأکثر فألقی الأکثر قیمة ضمن التفاوت، کما إذا کان هناک احتیاج إلی إلقاء مائة کیلو من الناس وهی موجودة فی ضمن إنسانین سمان، وثلاثة أفراد ضعاف، فإن الواجب إلقاء نفرین، فإذا ألقی ثلاثة فعل حراماً وضمن دیة إنسان واحد یقسمها بین ورثة الثلاثة، لعدم تعیین أحدهم أو الترجیح بالنسبة إلی الدیة.

وکذلک إذا کان الأمر دائراً بین إلقاء مائة کیلو من السکر قیمته مائة دینار أو إلقاء مائة کیلو من الملح قیمته خمسون دیناراً، قدم الثانی فإذا ألقی الأول ضمن خمسین دیناراً.

ثم الإتلاف قد یکون إتلاف عین وقد یکون إتلاف قیمة، فالأول کما إذا صرف ثلجه وشرب به الماء، والثانی کما إذا حفظه حتی صار لا یساوی شیئاً لمجیء الشتاء، ففی کلا الحالین یضمن القیمة ولا یفید رد الثلج إلیه، لأنه رده إلیه بدون قیمة، وکذلک حال ما إذا حفظ مال غیره حتی تنزلت قیمته السوقیة، کما إذا کانت المدفئة فی الشتاء بمائة فحفظها غصباً إلی الصیف فصارت أربعین، فإنه یضمن التفاوت بین القیمتین، أی الستون فی المثال.

وإذا صدق الإتلاف لا یهم بقاء العین وعدم بقاء العین، کما إذا ألقی آنیة

ص:299

غیره فی البحر، فإن الآنیة محفوظة لکن الواجب علی الملقی إعطاء القیمة أو بدل الحیلولة، علی ما فصلوه فی کتاب المکاسب.

والزعم وعدم الزعم لا مدخلیة له فی الضمان، فلو زعمها زوجة له فوطأها وجب علیه إعطاؤها المهر، وکذلک لو زعم أنها دجاجته فأکلها أو أهداها.

وکذلک حال ما إذا زعم أنه أمره بجرحه بالحجامة ونحو ذلک، أو حلق رأسه فإن الدیة واجبة علیه.

ولو کان جداره مائلاً إلی الشارع فأراد بناءه حیث إن سقوطه یوجب ضمانه، أو أراد ربط کلبه حتی لا یعقر أحداً، أو طم البئر التی حفرها حیث اشتبه فی حفر البئر فی الشارع، وفی هذا الأثناء ساقه الظالم إلی السجن مما لم یتمکن من الإصلاح، فسقط الحائط علی إنسان فقتله أو جرحه أو عقر الکلب أو وقع أعمی أو رجل فی الظلام فی البئر، لم یستبعد أن یکون الضمان علی الظالم، لأن العرف یرون أنه السبب لا مالک الحائط ونحوه.

وکذلک حال ما إذا أغلطه إنسان فأهدی إلیه غیر زوجته مکان زوجته فی لیلة الزفاف، فإن المهر علی المغلط، فعن جمیل بن صالح، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: فی أختین أهدیتا لأخوین فأدخلت امرأة هذا علی هذا، قال: «لکل واحدة منهما الصداق للغشیان، وإن کان ولیهما تعمد ذلک أغرم الصداق، ولا یقرب واحد منهما امرأته حتی تنقضی العدة، وإذا انقضت العدة صارت کل امرأة منها إلی زوجها الأول بالنکاح الأول»، قیل له: فإن ماتتا قبل انقضاء العدة، قال: یرجع الزوجان بنصف الصداق علی ورثتهما فیرثانهما الرجلان، قیل: فإن مات الزوجان فی العدة، قال: «ترثانهما ولهما نصف المهر وعلیهما العدة بعد ما تفرغان من العدة الأولی تعتدان عدة المتوفی عنها زوجها»((1)).

وتفصیل الکلام فی ذلک فی کتاب النکاح باب المهور وغیره.

ص:300


1- الکافی: ج5 ص407 ح11

((التسبیب والضمان))

((التسبیب والضمان))

أما الثالث: وهو التسبیب، فالمراد به أن یسبب إنسان تلف إنسان آخر أو مال غیره، وهو غیر الإتلاف الذی هو عبارة عن تلف الإنسان لمال غیره بدون تسبیب ثالث.

فإذا کان السبب أقوی من المباشر کان علی السبب، وإذا کان المباشر أقوی من السبب کان علی المباشر، فإذا أعطی زید السیف بید غیره فقتل إنساناً وکان القاتل عاقلاً کان هو الضامن لا من سلمه السیف، وکذا إذا سلم إناء زید إلی عمرو فکسره عمرو، أما إذا کان الکاسر أو القاتل مجنوناً أو ما أشبه فالمسلّم هو الضامن.

ومن التسبیب ما لو حفر بئراً فی الشارع فسقط فیها غیره، أو بنی بناءً رخواً فسقط وقتل إنساناً أو کسر زجاجاً أو ما أشبه ذلک، وهکذا إذا أطلق دابته الصائلة أو کلبه العقور أو رفع سد الماء مما سبب غرق إنسان غافل أو مالاً عند مد البحر أو جریان النهر أو مجیء السیل، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

وربما یکون الأمر مشتبهاً عند العرف هل هذا أقوی أو هذا أقوی أو هما متساویان، فعلی الحاکم الشرعی جعل الحق علی کل من المباشر والسبب بالتساوی أو بالاختلاف إذا رأی الحاکم اختلافهما فی نسبة الأمر الیهما عرفاً، کما إذا أعطی مفتاح سیارته لإنسان جاهل بالسیاقة فسبب السائق الاصطدام مما أودی بالناس والأموال، فکل من السبب والمباشر ضامن بالنسبة لعدم رؤیة العرف رؤیة واضحة أن أیهما أقوی.

ولا فرق بین تضرر السبب والمباشر وعدمه، کما إذا مات فی السیارة نفس مالک السیارة المسلّم لها بید السائق الجاهل ومات سائقها أیضاً، فإن الدیة لغیرهما تؤخذ من ترکتهما، وکذا لو مدّ أسلاک الکهرباء مدّاً ضعیفاً مما یری العرف أنه السبب فی إحراق الدار بسبب الکهرباء الشائط، فإنه من التسبیب الأقوی.

وعلی ما ذکرناه فلا فرق فی التسبیب الموجب للضمان بین أن یکون

ص:301

إنسان واسطة بین السبب والفعل أو لم یکن إنسان واسطة، بل کان حیوان أو جماد کمثل الماء والکهرباء وما أشبه.

((الاستیجار والضمان))

((الاستیجار والضمان))

أما الرابع: وهو الاستیجار، فهو أیضاً یوجب الضمان بشرط أن یکون العمل مما له مقابل عرفاً، إلاّ إذا قال صاحب العمل إنه لا یعمله إلاّ بأجر وکان المستوفی هو الطالب للعمل، لا أن صاحب العمل عمله بزعم أخذه الأجرة، من غیر فرق بین الطلب اللسانی أو التطلب القرائنی.

مثلاً حلاق یحلق علی دکة من دکات الصحن الشریف فیأتیه إنسان ویجلس فی صف من یطلبون الحلاقة ویرفع عمته من علی رأسه، فإنه تطلب للحلاقة، کما أنه إذا قال له: احلق رأسی کان طلباً لفظیاً.

أما مثل من یقول لآخر: انظر هل جرحی برئ أم لا، فالنظر لا یستحق الأجرة، لأن مثل هذا العمل مما لیس له أجرة عرفاً، إلاّ إذا قال الناظر: إنی لا أنظر إلاّ بأجر.

نعم إذا قصد الحلاق التبرع فبعد العمل لا یحق له أخذ الأجرة.

والزعم وعدم الزعم لا ینفع فی الضمان وعدمه، فلو رأی إنساناً یعطی الماء فی الصحن فزعم أنه سبیل فأخذ منه الماء والحال أنه کان یبیع الماء کان ضامناً لما استوفاه من مائه، ومثله من زعم أن المطعم مضیف فأکل الطعام فیه، وقد تقدم أنه لو زعم أنها زوجته فوطأها کان علیه المهر.

ولو أغراه إنسان ثالث بالاستیفاء، فقال له تفضل وکل معی، فزعم أنه مضیف، أو أن المغری یرید إعطاء ثمنه لم یکن علی المغری شیء، بل علی الآکل إلاّ أن یکون السبب أقوی من المباشر فکلاهما ضامن، وقرار الضمان علی المغری، کما تقدم فی مثال من أغراه بتقدیم غیر زوجته إلیه فی لیلة الزواج بأنه زوجته.

ولو ضیفه الغاصب فی داره وأطعمه دجاجة نفسه، کان المضیف ضامناً، لأنه أقوی عرفاً من الآکل لدجاجة

ص:302

نفسه، من غیر فرق بین أن یکون المضیف عامداً أنه دجاج الضیف أو مشتبهاً بزعمه أنه دجاج نفسه، أو دجاج مباح جاءه من السماء.

ولو أعطاه شیئاً بعنوان الهدیة، ثم قال: إنه بیع لیس بهدیة، فإن کانت العین موجودة حق له فی الاسترجاع، وإلاّ لم یکن علی الآکل شیء، لأن المغرور یرجع إلی من غر.

((الاستیلاء والضمان))

((الاستیلاء والضمان))

أما الخامس: الذی عبرنا عنه بالاستیلاء، وعبر عنه بعضهم بالاستفادة من غیر سبب، فهو أیضاً موجب للضمان.

مثلاً إنسان زعم بأن البقال یطلب منه دیناراً فأعطاه للبقال وقال إنه طلبک، ویعلم البقال أنه لا یطلبه، فإنه إذا أتلف الدینار کان علی البقال رده، وإن کان موجوداً رد عینه.

وکذلک حال ما إذا زعم إنسان أنه وصی أو ولی أو وکیل أو ما أشبه، فأدار الأموال لقاء أجر کالتصرف فی الدار أو أکل ثمن البستان أو ما أشبه فإنه یکون ضامناً، وکذلک إذا زعم أن البستان وقف للفقراء فأکل من ثمره وهو فقیر فإنه یضمن، کما إذا أکل ثمنه بزعم أنه فقیر ولم یکن فقیراً فی الواقع کان ضامناً أیضاً فی البستان.

نعم الموقوف لو کان مأموراً شرعاً بإدارة أموال الأیتام لأنه من العدول حیث لا حاکم شرعی ووصلت النوبة إلی العدول لکنه زعم الوصایة وأخذ بقدر حقه فی الإدارة لم یکن ضامناً، إذ عدم معرفة سبب حقه لا یوجب إسقاط حقه إذا کان له الحق من جهة أخری، فإن الإنسان الذی له حق الأکل مثلاً لا فرق فیه بین أن یکون مالکاً أو موقوفاً علیه مباحاً له من قبل المالک أو ما أشبه ذلک وإن زعم أن له الأکل من جهة أخری غیر الجهة الواقعیة.

کما أن الأمر کذلک فی المقاربة للمرأة، فزعم أنها زوجته دائمة بینما کانت متعة أو محللة أو هو سیدها، إلی غیر ذلک من الأمثلة حیث لا مهر علیه

ص:303

بسبب هذا الوطی.

ثم إن الاستیفاء إذا کان بحق لم یکن علیه ضمان، ومن أمثلته ما إذا قتل زید عمرواً بزعم أنه قاتل ولده ولم یکن کذلک وإنما کان قاتل أبیه، بل لو قتله بزعم أنه سارق عمداً عصیاناً وکان فی الواقع قاتل أبیه فإن فی الواقع قصاص وإن کان فعله تجریاً.

ویؤیده ما ورد فی قصة موسی (علیه السلام) مع ذلک الإنسان الذی قتل إنساناً بزعم أنه سرق ماله بینما کان القاتل طالباً عن المقتول بثأر أبیه، وهکذا حال ما إذا سرق مالاً زعم أنه مال زید والحال أنه کان مال نفسه فإنه لا یوجب حداً ولا ضماناً، وإنما هو تجر.

أو وطأ من زعم أنها زوجة زید والحال أنها کانت فی الواقع زوجة نفسه، نعم إذا کانت موطوءة لزید بحیث لها عدة حرم علی الزوج وطیها إلی تمام العدة حرمة تکلیفیة، لا أنه موجب للمهر.

وهذه الفروع المذکورة فی هذه المسألة قد ذکرناها غالباً فی کتاب الغصب والصلح والنکاح والدیات والقصاص وغیرها بأدلتها، وإنما کان القصد هنا الإلماع للجهة الحقوقیة التی فیها مما یناسب هذا الکتاب، والله سبحانه العالم.

ص:304

((موجبات إثبات الحق وإسقاطه))

اشارة

((موجبات إثبات الحق وإسقاطه))

(مسألة) الحق قد یثبت للإنسان وقد یسقط عنه، وموجب إثبات الحقوق اثنان: العمل وغیر العمل، والعمل قد یکون عمل الإنسان نفسه وقد یکون عمل غیره، والحق الثابت قد یکون حقاً مادیاً وقد یکون حقاً معنویاً، فالأقسام هی:

((ما یوجب الحق المادی))

((ما یوجب الحق المادی))

الأول: عمل الإنسان الموجب للحق المادی، وهی صورتان:

الأولی: العمل الفردی الموجب لحقه، وهی کالحیازة للمباحات، وطلاق زوجته حیث إنه عمل فردی یوجب تملکه نصف المهر إذا طلقها قبل الدخول.

الثانیة: العمل غیر الفردی کالمعاملات، مثلاً البیع الموجب حق الإنسان فی مال الطرف الآخر، والإجارة الموجبة لحق الموجر فی الأجرة وحق المستأجر فی الدار، والهبة الموجبة لحق المتهب فی الشیء الموهوب.

وعلی هذا فالثانیة قد تکون حقاً فی قبال حق کالبیع ونحوه، وقد تکون حقاً لیس فی إزائه شیء کحق المتهب وکحق المباح له فی المباح من قبل إنسان کنثر الأعراس وما أشبه.

((ما یوجب الحق المعنوی))

((ما یوجب الحق المعنوی))

الثانی: عمل الإنسان الموجب لحق معنوی، کحق التألیف للمؤلف، فإن له حق أن یزید أو أن ینقص أو أن یغیر أو أن یمحو ما ألفه، فهو حق معنوی خاص بالمؤلف، حتی أن ورثته لا یحق لهم مثل ذلک.

((الحق والإنسان الآخر))

((الحق والإنسان الآخر))

الثالث: عمل إنسان آخر موجب لحق إنسان، وهو صورتان:

الأولی: عمل فردی، مثل الجنایة فإذا جنی علی إنسان فالجانی عمله فردی، وهو یوجب حق الإنسان المجنی علیه مادیاً فی الدیة ومعنویاً فی القصاص.

ص:305

الثانیة: عمل غیر فردی، مثل بیع الشفیع الموجب لحق الشریک الآخر بدون أن کان الشریک الآخر عمل شیئاً.

((الحق من غیر العمل))

((الحق من غیر العمل))

الرابع: غیر العمل، کموت المورث فإنه یوجب انتقال حقوقه المادیة والمعنویة إلی الوارث، والموت لیس عمل إنسان إطلاقاً، بل بالنسبة إلی الله هو سلب العمل علی المشهور، لأنه إذا لم یفض مات الإنسان، کما إذا لم یفض التیار الکهربائی انطفأ المصباح.

وعلی هذا فالموت عدم لا وجود ضد، نعم قال بعضهم بأن الموت وجود مضاد للحیاة، مستدلاً بقوله سبحانه: ﴿خلق الموت والحیاة﴾((1))، وبما ورد من أن الموت یؤتی بشکل شاة فتذبح بین الجنة والنار.

وهذا الکلام غیر مربوط بهذا الباب ولذا نترکه لمحله.

هذا إلماع إلی الحق الثابت للإنسان بأقسامه.

((الحق الثابت وأقسامه))

((الحق الثابت وأقسامه))

أما الحق الثابت علی الإنسان فهو علی تلک الأقسام السابقة أیضاً.

فالأول: عمل نفس الإنسان الفردی، وله صورتان الحق المادی والحق المعنوی، فإذا جنی إنسان علی شخص ثبت حق القصاص وهو معنوی، وحق الدیة وهو مادی علی الجانی.

الثانی: عمل الإنسان غیر الفردی، فإذا تزوج الرجل بامرأة وجب علیه للمرأة الحق المادی بالنفقة، والحق المعنوی بالقسم، وإذا وهب وجب علی الواهب حق الموهوب له فیما إذا کان من أقسام الهبة الواجبة، علی ما فصل فی کتاب الهبة من أنها قد تکون لازمة، وقد تکون بید الإنسان فی إبقائها أو فسخها وتسمی بالهبة الجائزة.

والثالث: عمل إنسان آخر یوجب حقاً علی الإنسان، کوصیة الأب حیث توجب حقاً علی الولد علی ما اخترناه، خلافاً للمشهور حیث قالوا

ص:306


1- سورة الملک: 2

بأن کل وصیة توجب إلزام الوصی بما أوصی الموصی فی غیر ما استثنوه، لکنا ذکرنا فی (الفقه) أن ذلک خلاف (تسلط الإنسان علی ماله ونفسه) وخصصنا الأمر بالوالد والولد لبعض النصوص الخاصة.

کما أنا ذکرنا هناک أن النذر والتولیة للوقف وما أشبه أیضاً لا یوجب حقاً علی الإنسان، فإن شاء قبل وإن شاء رد.

هذا مثال الحق المعنوی، أما الحق المادی فهو فیما إذا أولد الإنسان ولداً حیث إن الولد تجب علیه نفقة الأبوین بسبب عمل غیره، فإن الإیلاد عمل الأبوین اللذین یولدان هذا الولد.

الرابع: غیر العمل الموجب للحق علی الإنسان معنویاً، کموت الوالد فی ثبوت صلاته علی الولد، أو مادیاً کموت الزوجة الموجب لثبوت کفنها علی الزوج، علی ما ذکرناه فی بحث الأموات، فإن الموت لیس بعمل إنسان أو لیس بعمل إطلاقاً، فمع ذلک یوجب شیئاً علی الآخر.

لا یقال: العدم لا یؤثر ولا یتاثر.

لأنه یقال: اعتبار الشارع أو العقلاء سبب الأثر لا العدم.

لا یقال: اعتبار الشارع أو العقلاء إنما کان سببه الموت، إذ لو لم یکن موت لم یعتبرا ما اعتبراه.

لأنه یقال: مصلحة ستر المیت أوجبت هذا الاعتبار، والمصلحة أمر إیجابی لا سلبی.

لا یقال: المصلحة مسببة عن الموت إذ لولا الموت لم تکن مصلحة.

لأنه یقال: المصلحة فی هذا الزمان، فإن من المصالح دائمة ومن المصالح موقتة بوقت خاص، لا أن المصلحة مسببة عن الموت، وهذا کانطفاء التیار الکهربائی لیلاً حیث یوجب اشعال الشمعة، فإن الإشعال مستند حقیقة إلی إرادة الإنسان النور، لا أن الانطفاء سبب ذلک، هذا وأما من یری أن الموت إیجابی لا عدم فهو فی ندحة عن هذه الإشکالات.

ثم إنه قد تقدمت الإشارة إلی أن الأصل عدم حق الإنسان بدون عمله، وعدم حق علی إنسان بدون إرادته بمقتضی

ص:307

﴿أن لیس للإنسان إلاّ ما سعی﴾((1)) وأن (الناس مسلطون علی أموالهم وأنفسهم)، فکل خارج عن ذلک یجب أن یکون بدلیل خاص.

((الحقوق العینیة وغیرها))

((الحقوق العینیة وغیرها))

ثم الحقوق غیر المعنویة قد تکون عینیاً وقد تکون غیر عینی، فمن بدل بضاعته بالنقد فالحقوق هنا عینی، أما من آجر داره بدینار فالمنفعة المستفادة من الجلوس فی الدار أو ما أشبه لیست عینیة، کما أن من جنی علی غیره الحق الذی علیه دینی، أی إنه یطلب منه فی قبال الجنایة مالاً.

لا یقال: الجنایة إن کانت عمداً فعلیه القصاص، وإلاّ فلیس علیه شیء، لأن الدیة علی العاقلة.

لأنه یقال:

أولاً: الجنایة علی العظم ونحوه لا قصاص فیه، بل الدیة علی الجانی.

وثانیاً: لیس کلامنا فی خصوص الجانی، بل فی الأعم منه وممن یقوم مقامه من العاقلة وبیت المال وما أشبه.

وثالثاً: ذکرنا فی (الفقه) أنه إذا لم تکن عاقلة ولا بیت مال وما أشبه، فاللازم أن یعطی الجانی بنفسه الدیة فی الخطأ وشبه الخطأ، وذلک لقاعدة (من أتلف) ونحوه خرج منها صورة وجود العاقلة ونحوها، فغیر هذه الصورة باقیة تحت الأدلة العامة.

ورابعاً: لنفرض المصالحة فی العمد علی الدیة، أو لم یکن إحضار الجانی والقصاص منه فإنه یؤخذ من ماله تقاصاً، جمعاً بین الحقین، إلی غیر ذلک.

وبهذا تبین أن الحقوق فی هذا التقسیم علی ثلاثة أقسام:

1: الحقوق العینیة.

ص:308


1- سورة النجم: 39

2: والحقوق الدینیة.

3: والحقوق التی هی غیرهما، وقد یعبر عن هذا القسم الثالث بالحقوق المعنویة.

ص:309

((انتقال الحق وإنقاله))

اشارة

((انتقال الحق وإنقاله))

(مسألة) انتقال الحق یمکن أن یکون بإرادة الإنسان أو بدون إرادته، وکل واحد منهما قد یکون فی حال حیاته وقد یکون فی حال مماته، فالأقسام أربعة.

الأول: أن یکون الانتقال بإرادة الإنسان فی حال حیاته، سواء احتاج إلی طرفین کالبیع والإجارة والهبة وغیرها، أو لم یحتج وإنما یکفی فی الانتقال طرف واحد، کالطلاق قبل الدخول حیث ینتقل الحق علی نصف المهر من الزوجة إلی الرجل.

الثانی: ما کان بإرادة الإنسان بعد مماته، کالوصیة التملیکیة.

الثالث: ما لم یکن بإرادة الإنسان فی حالة حیاته، کالحقوق المتعلقة بأعیان مال الإنسان، کالخمس والزکاة، قال سبحانه ﴿فأن لله خمسه﴾((1))، الظاهر فی أن خمس العین واجب الدفع، ینتقل إلی صاحب الخمس فیکون صاحب الخمس شریکاً فی الخمس مع صاحب المال، وقال سبحانه فی باب الزکاة: ﴿خذ من أموالهم صدقة﴾((2))، الظاهر فی أن الزکاة فی العین فیکون شاة من أربعین شاة لمصرف الزکاة، وقد ذکرنا تفصیل الکلام فی ذلک فی بابهما من (الفقه).

الرابع: ما لم یکن بإرادة الإنسان حال مماته، کالإرث حیث یرث الوارث من دون إرادة المورث، بل لو أراد حرمان وارثه لم تنفع إرادته ولا وصیته بذلک، فإن للإنسان أن یوصی بثلث ماله أکثر.

((فروع فی انتقال الحق))

((فروع فی انتقال الحق))

ثم قد ینتقل الحق عیناً کالبیع، أو دیناً کالضمان، أو منفعةً کالإجارة، أو انتفاعاً کمن ینقل حقه من غرفة المدرسة إلی إنسان آخر منطبق علیه السکنی فی تلک المدرسة، أو ملک أن یملک کما ینتقل الصیاد حقه فی أن یصید إلی غیره، مجاناً أو بإزاء

ص:310


1- سورة الأنفال: 41
2- سورة التوبة: 103

مال، أو تنقل الزوجة قبل وقت القسم حقها إلی زوجة أخری، کما تقدم الإلماع الیهما.

ثم قد لا ینتقل الحق بسبب مانع، کالقاتل لا یرث، أو لا ینتقل کل الحق بل بعضه کالإجارة والبیع بشرط عدم الانتفاع مدة سنة، ففی الإجارة لا تنتقل العین، وفی البیع المذکور لا تنتقل المنفعة.

والحقوق التبعیة قد تقبل الانتقال کما عرفت فی الإجارة، وقد لا تقبل وحدها، کحق الارتفاق مثل حق العبور وأخذ الماء وفتح الکوة فی الحائط وما أشبه ذلک، حیث إن هذا الحق إنما یقبل الانتقال تبعاً للأصل لا بدونه.

کما أن بعض الحقوق لا یقبل الانتقال إلی الوارث، مثل حق الطبیب فی عمل جراحی بعد المعاملة مع المریض، وبعضه قابل للانتقال إلی الوارث کحق الشفعة.

ثم إن انتقال الحق قد یکون لکل الحقوق وقد یکون لبعضها، فإن الإنسان إذا وهب کل أمواله وحقوقه القابلة للانتقال _ غیر مثل حق القسم ونحوه مما لا یقبل الانتقال _ انتقلت کل أمواله وحقوقه إلی الموهوب له، سواء فعل ذلک حال حیاته أو وصی بذلک بعد موته، لکن بعد الموت مشروط بإجازة الوارث، إذ الإنسان لا حق له فی الأکثر من الثلث بعد الموت إلاّ بإجازة الوارث.

هذا نقل کل الحق، وأما نقل بعضه فکما إذا وهب نصف ماله فی حال حیاته، أو وصی بثلث ماله بعد مماته.

ثم الحق المنتقل قد یکون أصلیاً کما عرفت، وقد یکون تابعاً مثل إنسان مالک ضارب مع عامل بأن یکون الثلث من الأرباح لصاحب المال والثلثان للعامل، فإنه إذا وهب ماله إلی إنسان آخر أو باعه أو ما أشبه انتقل حقه فی الثلث إلی الموهوب له، وکذلک إذا کان للإنسان حق العبور من دار الجار حیث لم یکن له معبر آخر فإنه إذا باع داره انتقل حق العبور تبعاً إلی المشتری، وکذلک فی حریم البئر ونحوها إذا باع البئر، أو مات المالک فورثها

ص:311

الوارث.

ثم انتقال الحق کما یفقده المنتقل عنه یجده المنتقل إلیه، فاذا کان معبر إنسان من دار جاره فإنه إذا باع داره صاحب الحق ینتقل حق العبور من البائع إلی المشتری، فلا حق لصاحب الدار التی معبر جاره منها أن یقف دون عبور المشتری، وکذلک إذا کان مسیل ماء الجار من سطح أو ساحة دار أو سرداب جاره فمات مالک الدار صاحب الحق أو مات الجار الذی الحق علیه، فالوارث لکل منهما یقوم مقام مورثه من کون الحق له فی المسیل أو علیه.

ثم الحق المنتقل من المنتقل عنه إلی المنتقل الیه یبقی بقدر لا أکثر ولا أقل، وإن اختلف المنتقل إلیه کثرة أو قلة، مثلاً قریة أطرافها مرتع یسع ألف شاة وفی القریة مائة دار بحیث یکون لکل دار حق عشر شیاه فی المرتع، وکان یکفی دار زید عشر شیاه لأن أصحاب الدار عشرة مثلاً لکل شاة، فإذا باع المالک داره لعشرین إنسان لا یکفیهم إلاّ عشرون شاة، لا یحق للمشتری أن یوسع فی مرعی شیاهه بحجة أنهم یحتاجون إلی مرعی أوسع من مرعی البائع، کما أنه إذا باع المالک داره لخمسة أفراد لا یحق لأهل القریة منعهم من رعی أکثر من خمس شیاه بحجة أنهم لا یحتاجون إلاّ إلی خمس شیاه، بل یبقی حق المشتری کحق البائع بدون زیادة أو نقیصة، وهکذا حال ما إذا توسعت العائلة من عشرة إلی عشرین، أو تقلصت من عشرة إلی خمسة.

وکما أن الحق یبقی بقدره ولا یتعداه إلی غیره من حیث الکم کما عرفت، کذلک یکون الحق بقدره من حیث الکیف، فإذا کان للجار علی جاره حق المسیل إبان جریان سیول الأمطار فی الربیع، لا یحق لصاحب الحق أن یقول: إنی أجری الماء من الأنابیب فی هذا المسیل إذا لم یأت فی سنة السیل لقلة الأمطار.

وهکذا حال الجهة، مثلاً یرید صاحب الحق أن یجری سیله من

ص:312

الشرق إلی الغرب، بینما کان حقه سابقاً فی إجراء سیله من الجنوب إلی الشمال.

فلا فرق فی ذلک بین الکم والکیف والجهة، بل وسائر الخصوصیات.

ص:313

((زوال الحق وأسبابه))

اشارة

((زوال الحق وأسبابه))

(مسألة) زوال الحق قد یکون بفعل الإنسان، وقد یکون بفعل غیره، وقد یکون بدون إرادة إنسان أصلاً.

ثم إذا زال الحق قد یکون بذهاب الموضوع وقد یکون مع بقاء الموضوع، وزوال الحق مع بقاء الموضوع قد یکون من جهة سقوط الحق أصلاً وقد یکون من جهة انتقال الحق، فللمسألة صور.

الأولی: أن یکون زوال الحق بفعل الإنسان نفسه، کما إذا باع داره لآخر.

الثانیة: أن یکون الزوال بفعل الغیر، کما إذا أرضعت الأم ولد بنتها فإن حق الزوج یسقط عن زوجته لانبطال الزوجیة بذلک، لأنه لا ینکح أبو المرتضع من أولاد صاحب اللبن.

وقد ذکرنا فی (الفقه) مسألة أنه إذا کان الرضاع بغیر رضا الزوج هل تکون أم الزوجة ضامنة لتفویتها الزوجة عن حبالة الزوج أم لا، واستظهرنا الضمان بدلیل «لا ضرر»، لکن مقتضی القاعدة أن یکون الضمان بقدر مهر المثل لا المسمی فی الدائم، وبقدر التفویت للمهر تقسیطاً علی المدة فی المتعة، مثلاً تمتع بها خمس سنوات بخمسین دیناراً وأم الزوجة فوتت علی الزوج بسبب الرضاع ثلاث سنوات فإنها تضمن ثلاثین دیناراً.

لا یقال: إذا فوتت أم الزوجة الدائمة یکون علیها مهر المثل فلماذا لا یکون علی القاتل مهر المثل.

لأنه یقال: علیه الدیة ویستفید منها الزوج فلیس له شیئان، والتفصیل فی (الفقه).

الثالثة: زوال الحق بدون إرادة أحد، مثل احتراق السلعة بسبب صاعقة أو ذهاب السیل بها أو ما أشبه ذلک، وکذلک حال ما إذا بقیت

ص:314

العین وذهبت المنفعة، کما إذا کانت له أرض وسط قریة قیمتها مائة دینار فأذهب السیل أو الزلزال بالقریة حیث بقیت الأرض ولکن بدون أن تسوی شیئاً، إلی ما أشبه ذلک.

الرابعة: سقوط أصل الحق کإبراء الدائن المدین حیث یسقط أصل الحق، وکأعراض الإنسان عن ماله بإلقائه فی الشارع حیث لیس علی المال حق أحد.

الخامسة: انتقال الحق، کما إذا وهب سلعته لإنسان حیث إن الحق ینتقل إلی المتهب من الواهب.

((الإبراء والإعراض))

((الإبراء والإعراض))

ومما تقدم ظهر أن الاصطلاح فی إسقاط الدین الأبراء، وفی إسقاط العین الإعراض.

ثم قد یکون الأمر إعراضاً، وقد یکون انعراضاً کما إذا سقط متاعه فی البحر أو طار طائره فی الهواء أو ذهب سمکه فی الماء أو هرب غزاله فی الصحراء، إلی غیر ذلک.

ثم إنا قد أشرنا سابقاً أن بعض الحقوق غیر قابل للإسقاط، ویدخل مثل ذلک اصطلاحاً فی (الحکم) مثل حق الأبوة وحق البنوة وحق الأخوة وما أشبه من الحقوق المرتبطة بالأرحام، وکذلک حال حق الزوجیة، فإذا تظافر الزوجان علی إسقاط حق الزوجیة بدون الأسباب الشرعیة من الطلاق والفسخ مثلاً لم یسقط حق الزوجیة بینهما حتی یجوز للزوج اختیار أختها أو الخامسة أو للزوجة اختیار زوج جدید.

وکذلک حال المتولی للوقف بعد قبوله، حیث إنه لا یتمکن من إسقاطه، نعم یمکن التوکیل فیه ویکون الوکیل قائماً مقامه، لا أن الموکل انتهی حقه وابتدأ حق جدید علی الوکیل.

ولو أعرض الإنسان عن حقه فی المنفعة کما فی الإجارة، أو فی الانتفاع کما فی حقه فی المسجد أو غرفة المدرسة أو مکان بیعه فی الشارع، أو فی الرهن کما إذا قال المرتهن للراهن لا أرید الوثیقة فخذ دارک مثلاً، فإن کل ذلک

ص:315

یوجب سقوط هذه الحقوق، نعم له أن یرجع إلی حقه فی مثل الإعراض عن مکانه فی المسجد إذا لم یأخذه إنسان آخر، کما أن له الرجوع إلی ملکه الذی ألقاه فی الشارع، فما یتجدد حق جدید لا أنه هو الحق السابق.

وإذا أرجع حق الرهن إلی مالک الدار أو حق المنفعة فی الدار الموجرة فلیس له الرجوع، إذ الأصل العدم بعد أن فوض الحق إلی صاحب الدار الذی هو الموجر أو الراهن، فهما مثل إبرائه لمدینه حیث لا حق له فی الرجوع إلی الدین.

وهل الأمر کذلک إذا فوضت الزوجة حقها فی القسم حتی لا تتمکن من الرجوع، أو فوضت حقها فی الاستفراش، أو فوض الزوج حقه إلی الزوجة فیهما فیما إذا لم یکن بعد فوات الوقت، أما بعد فوات الوقت فلا إشکال فی عدم الحق فی الرجوع، احتمالان.

ولو شک فی الرجوع فالأصل العدم، إلاّ إذا قیل بأنه من باب الشک فی المقتضی علی مطلب مفصل ذکروه فی الأصول، نعم إذا باعت الزوجة حقها لزوجة أخری برضا الزوج فلا إشکال فی عدم حق البائعة فی الرجوع لدلیل ﴿أوفوا بالعقود﴾، وکذلک حال ما إذا اشتری الزوج حقها فی القسم أو فی الاستفراش من الزوجة، فإنه لا یحق للزوجة البائعة الرجوع، نعم تصح الإقالة فی الموارد المذکورة لإطلاق أدلتها الشاملة لما نحن فیه.

ثم إنه لا إشکال فی أنه لا یصح إسقاط حق الإرث قبل موت المورث، کما لا یصح للمورث إثبات حق الإرث لغیر الوارث، وکذلک بالنسبة إلی الحبوة للولد الأکبر.

نعم بعد الموت یصح للوارث الإعراض عن ماله فیکون مباحاً هو لمن أخذه، کما إذا أعرض عن سائر أمواله حبوة أو غیر حبوة، کما أن المورث له أن یجعل بعض ماله لغیر الوارث، أو یزید فی الوارث عن إرثه إلی قدر

ص:316

الثلث، أو الأکثر من الثلث بإجازة الورثة، لا أنه یصبح وارثاً أو یکون له الأکثر بالإرث، بل یکون له هذا الحق من باب الوصیة.

((لا اعتبار بالحکومة وقوانینها))

((لا اعتبار بالحکومة وقوانینها))

ثم إنه لا اعتبار بالقوانین الحکومیة فی الإعراض أو الإبراء، فإذا کان الملک أو الدین ثابتاً فی وثیقة عند الدولة وأعرض المالک وأبرأ سقط حقه، ولا حاجة إلی الذهاب إلی الدولة وإعلامها، کما أن سائر المعاملات إثباتاً أو نفیاً فی باب الفسخ والإقالة لا تحتاج إلی إعلام الحکومة والتثبیت عندها، بل تقع بأسبابها الشرعیة المذکورة فی کتب (الفقه).

وکذلک حال الإثبات والنفی فیما لا تراه الحکومة، أو تراها مثلاً غالب الحکومات التی تسمی بالإسلامیة التابعة للغرب والشرق، تری البلوغ فی السن الثامنة عشرة أو غیرها مما یری البلوغ الإسلام قبل ذلک، فإن تزوج الزوجان قبل السن القانونی علی السن الشرعی الصحیح صح النکاح وإن رأت الحکومة بطلانه، وکذلک حال الطلاق والفسخ وغیر ذلک، فإذا رأی الشرع صحة الطلاق افترق الزوجان وإن لم تر الحکومة حسب قوانینها الافتراق.

وحیث إن المکلف به هو الشریعة فکل قانون یخالفها علی المسلم أن یضرب به عرض الحائط مهما وجد السبیل إلی ذلک، سواء منع الشارع عن ذلک القانون أو لم یمنع بل أعطی الاختیار بید الإنسان.

مثال الأول: ما إذا نکحا ولم یر القانون النکاح، فالواجب علی الزوجین معاشرة الأزواج، وإذا طلق فالواجب علیهما بعد العدة أو إذا لم تکن عدة عدم معاشرة الأزواج، وإن رأی القانون عدم الزوجیة أو عدم الافتراق، فإن ترتیب الأثر هنا علی القانون من أشد المحرمات، لأن معنی ذلک أن تتزوج المرأة وأن یأخذ الرجل الأخت أو الخامسة إلی غیر ذلک، وأن یعاشر بعد الطلاق فیما أبینت منه معاشرة الأزواج.

ومثال الثانی: ما إذا أعرض ولم تر الحکومة الإعراض،

ص:317

فإن له الحق فی الرجوع وعدم الرجوع فیما إذا لم یتملکه الآخر، فإنه إن عمل بالقانون فی الرجوع لم یکن فاعلاً للحرام فی نفسه، وإن کان الاعتماد علی القانون محرماً بما هو اعتماد علی القانون، فإنه من التعاون علی الأثم والعدوان، والرکون إلی الذین ظلموا، وقد قال الإمام (علیه الصلاة والسلام) فی کبری کلیة تشمل ما نحن فیه انطباقاً أو ملاکاً: «فان فی ذلک هدم الإسلام کله»((1)).

وهذا ما نشاهده فی زماننا حیث حکومات بلاد الإسلام وکلهم تابعون للشرق والغرب سببوا هدم الإسلام کله، وتسلیط الأجانب علی بلاد الإسلام نفساً ومالاً وعرضاً.

وعلی أی حال فحق الارتفاق والانتفاع فی بعض الموارد غیر قابل للإسقاط، وإن کان فی بعضه الآخر قابل له، مثلاً للإنسان المرور فی الشارع وبیع متاعه فی الشارع حیث لا یزاحم المارة، والجلوس فی المسجد والصحن والحضرة الشریفة، وفتح شباک من بیته علی الشارع، ونصب مبردة أو مروحة أو براد، أو فتح مطبعة أو إخراج مجلة أو طبع کتاب، أو الاستفادة من میاه البحر أو النهر أو حفر بئر فی ملکه، أو التمشی أو النظر أو الاستنشاق من الهواء، أو المطالعة فی الضیاء أو اصطیاد المباحات أو غیرها من ألوف الحقوق المشابهة، فإنه لو نوی الإعراض وقاله أیضاً لم یسقط أی حق من تلک الحقوق، ولیس إذا رجع حقاً جدیداً، بخلاف ما إذا ألقی متاعه فی الشارع ثم رجع إلیه ولم یتملکه غیره فإنه بالإعراض سقط عن کونه حقاً له، وبالرجوع صار له حق جدید.

وفائدته أنه لو أعرض إعراضاً مسقطاً للشیء عن أمواله، بأن ألقاه فی الشارع فجاء وقت الحج ووقت الخمس وهو لا یملک مالاً لم یجب علیه أیهما، فإذا رجع إلیه بعد انقضاء وقتهما کان بمنزلة المال الجدید.

وقد تقدم أن الإعراض الصوری لا ینفع فی

ص:318


1- انظر الکافی: ج1 ص54 ح3 وفیه: (من أتی ذا بدعة فعظمه فإنما یسعی فی هدم الإسلام)

إسقاط الخمس والزکاة والحج وما أشبه.

((العصیان وسقوط الحق))

((العصیان وسقوط الحق))

ثم إن بعض الحقوق یسقطها العصیان، کما ذکروا فی نفقة الأقارب إذا لم ینفق علیهم حتی مضی الوقت، لکنا ذکرنا الإشکال فی ذلک، وأنه یکون دیناً علی المنفق کنفقة الزوجة، لوحدة الدلیل فیهما، نعم حق استفراش الزوجة قسمها إذا لم یؤدهما الزوج حتی ماتت أو طلقت أو فسخ نکاحها یسقط، لانتفاء الموضوع، ولکن من المحتمل أن یبدل الحق إلی المال، فإن «لا یتوی»((1)) بمعونة الفهم العرفی یقتضی ذلک، فإذا ماتت صار ما بإزائه إرثاً، لکنی لم آجد من تعرض لهذه المسألة.

ویؤید حقها فی ذلک جواز بیع قسمها، وکذلک العکس بأن امتنعت المرأة من بذل نفسها للزوج بالهجر له أو ما أشبه، فإنه لا دلیل علی أن الزوج یبقی حقه، بل ما ورد فی مسألة النشوز مع السکوت عن حقه فی تبدیله بالمال یؤید عدم حقه المالی.

((عدم الاستفادة من الحق))

((عدم الاستفادة من الحق))

وکذلک قد یسقط الحق إذا لم یستفد الإنسان منه، کالصیاد لم یستفد من البحر أو الهواء أو الماء أو الصحراء بأن لم یصد فإنه یسقط حقه وإنما صیده المستقبلی حق جدید، لا أنه قضاء حقه الفائت، وهکذا حق الزوج فی الاستفراش إذا لم یستفد هو منه سقط، إلی غیر ذلک من سائر الحقوق فی المباحات، وهکذا الأمر فی حقه من الانتفاع من الدار المؤجرة أو سائر المؤجرات.

((الوفاء وإسقاط الحق))

((الوفاء وإسقاط الحق))

کما أن من مسقطات الحق الوفاء فیما إذا أدی دینه، سواء کان أداء الذات أو التبدیل، کما إذا کان یطلبه دیناراً فبدله فی ذمته إلی کتاب یطلبه منه، فإن الدینار یسقط من ذمة المدین ویثبت فی ذمته الکتاب.

((تبدل العنوان وإسقاط الحق))

((تبدل العنوان وإسقاط الحق))

ومن المسقطات أیضاً تبدل عنوان الشخص، فإن الفقیر المستحق من الخمس أو الزکاة إذا صار غنیاً، أو صارت المرأة الفقیرة زوجاً لمن یتفق علیها أو ما أشبه ذلک، فإن حقهم من بیت المال یسقط.

((فروع فی زوال الحق))

((فروع فی زوال الحق))

وقد یزول الحق فی الجملة لا مطلقاً، مثل حق الإنسان فی

ص:319


1- انظر مستدرک الوسائل: ج17 ص446 ب46 ح21826 وفیه: (لئلا یتوی حق امرئ مسلم)

الإناء إذ کسر، وفی الورق إذا احترق، فإنه یتبدل إلی حق الاختصاص علی المکسورات والمحروقات، إذ لا مالیة لهما، وکذلک إذا تبدل خله خمراً فإن اختصاصه باق کما ذکرنا فی المثال السابق حیث یرید بها قتل دود کنیفه.

وحق الانتفاع ما دام العمر کما فی العمری یزول بموت الإنسان، کما أن حق سکنی الطلبة والزائر فی المدرسة والحسینیة المعدة للزوار یزول بخروج الطالب عن الدراسة إلی الکسب مثلاً، وبخروج الزائر من کونه زائراً عرفیاً إلی کونه مقیماً فی البلد وهکذا.

وقد تقدم أنه إذا أذهب السیل أو الزلزال أو البرکان أو غلبة البحر علی القریة فتلفت ذهب حق المالکین وإن بقیت الأرض بلا قیمة عند العرف، وهکذا حال ما إذا استولی الکفار علی بلد الإسلام حیث لا قیمة للمحلات المحتلة عرفاً، فإنه لا یصح أن یبیع إنسان کانت له دار فی تل أبیب المحتلة بعد استیلاء الیهود علیها، لأنه لا ید لأحدهما علیه مما هو خارج عن عنوان الملک عند العرف، بل إذا باع أو اشتری أو استأجر أو آجر أو ما أشبه ذلک عد عمله سفهائیاً، وهکذا حال الأرض التی جعلها الغاصب جزءاً من الشارع أو من الحدیقة العامة أو ما أشبه ذلک، کما أن الوقف ونحوه أیضاً یسقط عن الوقفیة والثلثیة وما أشبه بهذه الأمور، وقد ألمعنا إلی ذلک فی باب المساجد.

کما أن حق المستأجر فی المعامل وما أشبه یسقط عن الأجیر إذا لم یتمکن الأجیر من العمل بسبب الإضراب العمالی العام، فإن القدرة شرط فی التکلیف بالوفاء بالعقد، أما إضراب العمال بأنفسهم فإن ذلک جائز إذا ارتبطوا بالإجارة فی أجواء إکراهیة جبراً علی العمل أو بأجرة أقل من حقهم، وکذلک بالنسبة إلی الفلاحین، وذلک لأنه من طلب الحق والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، نعم إذا لم یکن کل ذلک لم یکن لهم حق فی الإضراب.

 

ص:320

ثم فی کل مورد اجتمعت المالکیة والمدیونیة سقط الحق أیضاً بقدره، کما إذا کان المورث یطلب من الوارث فمات المورث فإن الوارث حیث یرث منه یسقط حق المورث إذا کان الحقان له وعلیه متوافقین کماً وکیفاً، لأن الصور أربع:

1: المتوافقان کماً وکیفاً، کدینار یطلبه المورث وهو یرث دیناراً.

2: والمختلفان کماً وکیفاً، کما إذا کان یطلبه المورث شاة وخلف معزین وقیمتهما مختلفة.

3: والمتفاوت کماً، کدینار ودینارین.

4: وکیفاً، ککتاب لمعة وقوانین ویتساویان فی القیمة فرضاً.

ففی الصورة الأولی: یکون تهاتراً قهریاً، لأن الإنسان علی المشهور بین المتأخرین لا یمکن أن یطلب من نفسه.

وفی الصورة الثانیة: یکون الوارث مالکاً لحصته من الإرث عما فی ذمته فتسقط وتبقی ذمته مشغولة لسائر الورثة ببقیة ما فی ذمته، مثلاً یطلبه المورث شاةً وللمورث معزان غیر هذه الشاة وله ولدان، فالنصف من الشاة للوراث المدیون ویسقط من ذمته، والنصف الآخر فی ذمته لأخیه، کما أنه یرث من المعزین الخارجیین نصفاً.

أما الدینار والدیناران فالتهاتر فی دینار منهما ویأخذ الوارث نصف دینار.

وفی الصورة الأخیرة فالوارث یعطی نصف اللمعة ویأخذ نصف القوانین.

((فروع فی التهاتر))

((فروع فی التهاتر))

وفی فروع التهاتر واللاتهاتر صور متعددة:

الأولی: مثلاً کان یطلبه ألف دینار من أمهات العشرة ومطلوب له ألف دینار من أمهات الدینار الواحد.

الثانیة: یطلبه دیناراً ملکیاً ومطلوب له دیناراً جمهوریاً، وهما وإن تساویا قیمة إلاّ أن قیمة الجمهوری قیمة شرائیة وقیمة الملکی قیمة أثریة.

الثالثة: یطلبه منفعة الدار لجهة إیجارها منه، وهو مطلوب له دیناراً.

ص:321

الرابعة: یطلبه حق التحجیر، حیث أتلف علیه تحجیره فجاء إنسان ورأی أرضاً بائرة فعمرها، ومطلوب له منفعة دار إیجاراً، أو حق القسم مثلاً فی الزوجتین، أو حق الانتفاع أو حق الارتفاع، أو یطلبه عیناً أو دیناً.

الخامسة: المطلوب والمطلوب منه کلاهما قیمی أو کلاهما مثلی أو بالاختلاف.

السادسة: إذا کان للإنسان حق الارتفاق فی دار جاره، فملک صاحب الحق دار الجار فإن حق الارتفاع یسقط تلقائیاً.

السابعة: ینتقل حق الانتفاع إلی مالک العین، مثلاً استأجر من أبیه داره فمات الأب، فإن حق الانتفاع یسقط تلقائیاً لأنه ملک الدار بالإرث، نعم إذا کان الوارث متعدداً یلزم أن یحتسب ترکة الأب مستثنی منه منفعة الدار، لأنها ملک هذا الوراث، فإذا کان للأب داران متساویتان وکانتا مثلیتین فرضاً، لهذا الولد دار ولذلک الولد دار فیما إذا کان الوراث ولدین فقط، بل لکلیهما دار ولکل منهما بعض منفعة الدار الأخری التی لیست فی إیجار الولد.

الثامنة: لو غصبت إحدی الزوجتین لیلة زوجة أخری، وغصبت الزوجة الثانیة لیلة الزوجة الأولی تهاتر الحقان، نعم إذا غصبت أحدیهما کل اللیلة والأخری ثلث اللیلة مثلاً کان التهاتر بقدر الثلث فقط إلی غیر ذلک من أنواع النسب.

التاسعة: إذا قتل زید ولد عمرو خطأً، وقتل عمرو ولد زید خطأً، تهاتر الدیة علی العاقلتین، فلا یطلب أحد الأولیاء من عاقلة الثانی شیئاً.

ص:322

العاشرة: إذا قذف هذا ذاک وذاک هذا، سقط حقهما فی طلب حد القذف من المحاکم. إلی غیر ذلک من الصور.

((الزمان وسقوط الحق))

((الزمان وسقوط الحق))

وأخیراً فإنه لیس مرور الزمان من أسباب سقوط الحق وإن قرره بعض القوانین فی الحال الحاضر، نعم إذا حصل إعراض أو انعراض سقط الحق وإن لم یمر الزمان الذی حدده تلک القوانین، وقد قال (صلی الله وعلیه وآله): «علی الید ما أخذت حتی تؤدیه»((1))، وکلمة حتی لإفادة أن غیر الأداء لا یوجب السقوط، وهو ینفی أن یکون الزمان من المسقطات، والله العالم المستعان.

ص:323


1- مستدرک الوسائل: ج17 ص88 ب1 ح20819

((حدود الحق))

اشارة

((حدود الحق))

(مسألة) فی حدود الحق، الحقوق الممنوحة للإنسان حسب قوله (صلی الله وعلیه وآله): «الناس مسلطون علی أموالهم»((1)) بضمیمة (أنفسهم) المستفاد من ﴿النبی أولی بالمؤمنین﴾((2))، ومن آیة (أولی الأرحام)((3)) وغیرهما، وحسب قوله سبحانه: ﴿ویضع عنهم أمرهم والأغلال التی کانت علیهم﴾((4)) مما یدل علی الحریات العامة، وقوله تعالی ﴿سخّر لکم﴾((5))، وقوله سبحانه: ﴿وأن لیس للإنسان إلاّ ما سعی﴾((6))، وقوله تعالی: ﴿کل امرئ بما کسب رهین﴾((7))، وحسب الأدلة الواردة فی الروایات والإجماع ودلیل العقل هی حقوق مقیدة بقیود:

((عدم کون الحق ضاراً بنفسه))

((عدم کون الحق ضاراً بنفسه))

الأول: أن لا یکون ضاراً بنفس صاحب الحق ضرراً بلیغاً، فلا یحق للإنسان قتل نفسه أو إسقاط قوة من قواه کأن یعمی عینه أو عضواً من أعضائه کأن یقطع إصبعه، إلی غیر ذلک، کما لا یحق له أن یمرض نفسه مرضاً بالغاً.

نعم الضرر غیر البلیغ جائز إذا کان یمشی فی الشمس وإن صدعه رأسه، أو یمشی حافیاً وإن جرحت رجله، أو أن یأکل إلی حد أن یثقل بطنه إلی غیر ذلک، ولذا لا یراه عرف المتشرعة فاعلاً للحرام، وقد ذکرنا تفصیل ذلک فی (الفقه).

((عدم کونه مفسدة))

((عدم کونه مفسدة))

الثانی: أن لا یکون مفسدة علی ما ربطه الشارع به کعائلته ومن أشبههم کالأیتام الذین هو ولی علیهم، وکذلک بالنسبة إلی القیم والوصی والناظر ومن أشبه.

وأن یکون بالنسبة إلی زوجته من المعاشرة بالمعروف، قال سبحانه: ﴿ولا تقربوا مال الیتیم إلاّ بالتی هی أحسن﴾((8))، وقال تعالی: ﴿فإمساک بمعروف أو تسریح بإحسان﴾((9)) إلی غیرهما، فلا یحق للأب ترک ولده حتی یفسد.

نعم اختلف الفقهاء فی أن الواجب هل هو مراعاة المصلحة، أو المحرم المفسدة فلا یجوز له عمل أو ترک یوجب الفساد، لا أنه

ص:324


1- غوالی اللئالی: ج1 ص222
2- سورة الأحزاب: 6
3- انظر سورة الأنفال: 75
4- الأعراف: 157
5- سورة الحج: 65
6- سورة النجم: 39
7- سورة الطور: 21
8- سورة الأنعام: 152، وسورة الإسراء: 34
9- سورة البقرة: 229

یجب علیه مراعاة الصلاح بالنسبة إلی أولاده الذین هو ولی علیهم شرعاً، إذ لیس الصلاح والفساد من الضدین اللذین لا ثالث لهما، بل هناک شق ثالث هو ما لیس بصلاح ولا فساد، وقد ذکرنا تفصیل ذلک فی مسألة عقد الصغار من کتاب النکاح.

((عدم کون الحق ضاراً بغیره))

((عدم کون الحق ضاراً بغیره))

الثالث: أن لا یکون إضراراً للآخرین ولا تصرفاً فی حدود شؤونهم وحقوقهم، فإن من یضرب علی الحدید ضربات مزعجة لجیرانه، أو یسقی حدیقته بحیث یضر الجیران، إلی غیر ذلک لا حق له فی ذلک، کما أن من یبنی فوق داره طابقاً ویجعل حائط غرفة الدار مشبکاً بحیث یشرف علی بیت الجیران لا یحق له ذلک، فإنه وإن لم یکن ضاراً ضرراً اصطلاحیا إلاّ أنه تصرف فی شؤون الجیران وحقوقهم، ولذا فهو ممنوع عن ذلک، ولا حق له فی التصرف فی داره بمثل هذا التصرف.

کما أنه لا یحق له أن یمر بالشارع مما لا اضطرار فیه ویدفع الآخرین بجسمه وإن لم یتضرروا بذلک، وهکذا من یربط دابته فی الشارع فتروث وتبول بما توسخ الشارع وتبعث علی الذباب والروائح الکریهة لا یحق له ذلک، لأنه إما أضرار بالآخرین أو تصرف فی حدودهم وشؤونهم إذا لم یرضوا بذلک.

((عدم کون الحق خلاف المصلحة العامة))

((عدم کون الحق خلاف المصلحة العامة))

الرابع: أن لا یکون خلاف المصلحة العامة، کأن لا توقف سیارته عند احمرار الضوء، أو لا یمشی حسب المقرر فی الشوارع من الیمین إلی السیار أو بالعکس، أو أن یبیع للناس اللبن الملوث الموجب للأمراض وإن علم المشترون بذلک ورضوا به، مما یعد من الأفساد فی الأرض، قال سبحانه: ﴿ولا تفسدوا فی الأرض بعد إصلاحها﴾((1))، إلی ما أشبه ذلک مما تراه الحکومة الشرعیة خلاف المصلحة العامة، أو یکون الأمر واقعاً کذلک،

ص:325


1- سورة الأعراف: 56 و85

حتی فی الحکومة غیر الشرعیة مما یراه الفقهاء العدول ونحوهم من المفسدات وخلاف المصالح العامة، علی ما تقدم الإلماع بعض تفصیل فیه.

((عدم کون الحق من المحرمات))

((عدم کون الحق من المحرمات))

الخامس: أن لا یکون محرماً شرعاً ولو لم یکن کل تلک الأربعة المتقدمة، کأن یتلف نقوده بإلقائها فی البحر أو بحرقها، أو یصنع تمره خمراً، أو یترک طعامه حتی یفسد حیث یکون من التبذیر والإسراف، أو یستمنی بنفسه، أو یفعلان المنکر، إلی غیر ذلک.

وبذلک تبین أن العمل إما مشروع أو غیر مشروع، وکل واحد منهما إما بقصد الإضرار أو لا بقصده.

فالأول: وهو المشروع بدون قصد الإضرار جائز.

والثانی: وهو المشروع بقصد الإضرار أیضاً جائز لکنه خلاف المروءة والإنصاف وحسن الطویة، وإن حرم هذا النوع من العمل المشروع بعض القوانین العالمیة، کمن یزین دکانه بقصد إضرار الدکاکین الأخر حیث یجلب دکانه بعد التزیین المشترین فیخف المشترون علی سائر الدکاکین، أو یقوی تدریسه بقصد إضرار سائر المدرسین، إذ یلتف الطلاب حوله دونهم، أو أن بنتاً ترید الزواج من زید ولم تکن بعد خطبة حتی یکون الدخول فی خطبة الغیر، فیظهر هذا الرجل السیء النیة نفسه حسب واقعه المالی أو الجاهی أو العلمی بحیث یجلب نظر تلک الفتاة إلی نفسه، وتنصرف عن ذلک الرجل، ولا یفعل هذا ما یفعله إلاّ بقصد الإضرار بذلک الرجل، سواء تزوجها هذا الرجل المضار أو لم یتزوجها، وإنما قصده صرفها عن ذلک فقط حتی تفکر فی أنها یلزم أن تتزوج من غیره.

الثالث: العمل غیر المشروع بدون قصد الإضرار، کما إذا أسرف فی الماء بقصد تبرید الجو، أو یسرق بقصد إعانة الفقراء أو غیر ذلک.

ص:326

الرابع: العمل غیر المشروع بقصد الإضرار، کما إذا أسرف فی صرف الماء بقصد إضرار صاحب الماء أو ما أشبه.

وهذان الأخیران محرمان من جهة العمل، وإن کان الرابع أسوأهما لأنه مقترن بسوء النیة، وقد قال سبحانه: ﴿آثم قلبه﴾((1))، وقال: ﴿إن السمع والبصر والفؤاد کل أولئک کان عنه مسؤولاً﴾((2)) وقال: ﴿نار الله الموقدة التی تطلع علی الأفئدة﴾((3))، وقال: ﴿إلا أن تقطع قلوبهم﴾((4)) إلی غیر ذلک.

((النیة وأقسام العمل))

((النیة وأقسام العمل))

فإن النیة قد تجعل العمل حسناً، وقد تزیده حسناً، وقد تجعل العمل سیئاً، وقد تزیده سوءاً.

مثال الأولین: القیام، فإنه بذاته لیس بحسن ولا قبیح، فإذا قام لأجل إکرام عالم صار القیام حسناً، وإذا أعطی للفقیر المال بقصد القربة کان أحسن مما إذا أعطاه لا بهذا القصد.

ومثال الأخیرین: القیام بقصد الإهانة لأنه یعد استهزاءً عرفاً للعالم، ومنع مال الناس بقصد إذلالهم، فإن منع مال الناس عنهم سیء فإذا أضاف إلی ذلک قصد الإذلال کان أسوأ.

وقد قال (صلی الله وعلیه وآله): «إنما الأعمال بالنیات ولکل امریء ما نوی»((5))، وقال: «نیة المؤمن خیر من عمله، ونیة الکافر شر من عمله»((6)).

وقبل ذلک قال القرآن الحکیم: ﴿إلاّ من أتی الله بقلب سلیم﴾((7))، وقال: ﴿إلاّ من أکره وقلبه مطمئن بالإیمان﴾((8))، فإن من یلفظ الکفر وقلبه موافق للفظه وإن کان إکراه أیضاً، أو کان لفظه لأمرین الإکراه ولأنه قاصد الکفر حتی إذا لم یکن إکراه بأن صارا سببین متکاسرین لمسبب واحد، آثم ومعاقب علیه أیضاً.

((ما یوافق القانون أو یخالفه))

اشارة

((ما یوافق القانون أو یخالفه))

ومما تقدم تبین الحکم فی الأعمال الأربعة، أی الموافق للقانون والمخالف له، وکل منهما ضار أو غیر ضار.

فالأول: وهو العمل الموافق للقانون مع الإضرار، وفرق هذا التقسیم مع التقسیم السابق أن التقسیم السابق کان من جهة العمل

ص:327


1- سورة البقرة: 283
2- سورة الإسراء: 36
3- سورة الهمزة: 6 _ 7
4- سورة التوبة: 110
5- تهذیب الأحکام: ج4 ص186
6- الکافی: ج2 ص84 ح2
7- سورة الشعراء: 89
8- سورة النحل: 106

والقصد، وهذا التقسیم من جهة العمل وخارجیة الإضرار وعدم خارجیته، کما إذا عصی المحلل فی طلاق زوجته مما سبب ضرراً علی الزوجین وحتی ضرراً بالغاً وإلی حد أن ماتا کمداً وأسفاً، فإن العمل حلال موافق للقانون وإن کان ضاراً خارجیاً بل وإلی هذا الحد من الضرر.

وقد ظهر بذلک حال الأمور الثلاثة الباقیة من الأمور الأربعة.

لا یقال: کیف العمل یکون وفق القانون ومشروعاً ومع ذلک مضر، مع العلم أن «لا ضرر» یدفع الأعمال المضرة.

لأنه یقال: «لا ضرر» معارض بهدم القانون، ورعایة وحدة القانون أهم، وهذا غیر أن الأدلة الثانویة مقدمة علی الأدلة الأولیة، والحاصل أنه تبین مما ذکرناه أمور:

((الشارع وضبط الأعمال))

((الشارع وضبط الأعمال))

الأول: أن الشارع یضبط الأعمال لا القلوب، بالنسبة إلی الأمور غیر المرتبطة بالقلوب کأصول الدین والأخلاقیات المؤثرة فی خبث النفس والسریرة أو حسنهما، لأن الأعمال هی المیزان التی بید القانون، والاطلاع علیها ممکن، أما الاطلاع علی القلوب فإنه مرتبط بعلام الغیوب سبحانه وتعالی.

((رعایة القانون العام))

((رعایة القانون العام))

الثانی: رعایة القانون العام، کقانون المرور أهم من رعایة عدم تضرر هذا الإنسان الذی یتضرر بسبب رعایة قانون الضوء الأحمر، إذ «لا ضرر» هذا معارض بلا ضرر أهم، وهو الضرر المتوجه إلی الناس من انهدام القانون، بأن یقول کل إنسان إنی أتضرر من الوقوف أمام المصباح الأحمر، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

((دفع ضرر الغیر))

((دفع ضرر الغیر))

الثالث: إن الإنسان لیس علیه أن یدفع الضرر المتوجه إلی الغیر، فیما إذا عمل الإنسان حسب حریته غیر المعتدیة إلی الغیر، فإذا أراد رجل

ص:328

الزواج من هذه البنت وکان یتشوق إلی ذلک، وإذا لم تقبل البنت مات کمداً، لا یلزم علی البنت الزواج به، وکذلک العکس.

وهکذا إذا أراد الطالب أن یدرس عند هذا المدرس، أو أراد البقال أن لا یفتح بقال آخر دکاناً فی هذا المحل، أو أرادت الزوجة أن لا یطلقها الزوج، أو أن یطلق الزوج الضرة، أو أراد الجار أن لا یصبح فلان جاره أو أن یصبح فلان جاره، إلی غیر ذلک.

ولو کان الشوق من هؤلاء إلی حد أنه إذا لم یفعل الإنسان مقصدهم ماتوا کمداً أو حنوا أو ما أشبه ذلک، لا یجب علی الإنسان استجابة طلبات أولئک، خصوصاً إذا توقف الطلب علی طلاق زوجته مثلاً.

ثم فی غیر الموارد المستثناة من الحق التی ذکرناها _ بل فی الحقیقة المستثنیات من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فإنه لا حق فی تلک الموارد، مثل أن یقول أکرم العلماء، فزید لا یکرم لأنه لیس بعالم لا أنه لا یکرم لجهة أخری مع کونه عالماً _ لصاحب الحق حقه بدون أن یمنع عنه مانع، وإن عمل فی حقه خلاف المصلحة أو خلاف الأصلح.

مثلاً مصلحته تقتضی أن یسکن فی المصیف حیث إنه أقرب إلی صحته، أو یزوج بنته فی الثالثة عشرة، أو ولده فی السادسة عشرة، أو یغسل نفسه کل یوم مرة لشدة الحر، أو یؤجر الزائد من طبقات داره علی حاجته، أو یشتری مثل البصل والبطاطا وما أشبه فی أوقاتها لکل السنة، حیث یکون الثمن أرخص له، أو یساهم فی المشاریع الخیریة حتی لا یقال له إنه بخیل، أو یبیع بضاعته إبان رواجه لا أنه یترکه إلی الکساد، أو ما أشبه ذلک من ألوف الأمور، فإنه إذا لم یفعل المصلحة أو الأصلح فله الحق فیما یعمله أو یترکه.

لا یقال: کیف والشارع الحکیم یجب أن یأمر بالمصلحة وینهی عن المفسدة.

لأنه یقال: إعطاء الحریة فی غیر موارد اللزوم أهم من الکبت والإلزام، نعم بالنسبة

ص:329

إلی المولی علیهم یلزم مراعاة المصلحة أو عدم المفسدة کما تقدم الإلماع إلی الاختلاف فی ذلک.

أما بالنسبة إلی الوکیل فیفعل بقدر الوکالة سعةً وضیقاً، وبالنسبة إلی الوصی أو القیم أو الناظر أو متولی الوقف فهو محدود بقدر الجعل، إذ قد یوصیه بما فیه التوسعة أو بما فیه التضییق، إلی غیر ذلک.

نعم إذا لم تکن قرینة علی أی الطرفین فالارتکاز علی المصلحة العرفیة لا الدقیة.

وإذا عمل أحد هؤلاء ما ظهر بعداً عدم الصلاح، فإن کان عدم الصلاح حدث فیما بعد فلا إشکال فی صحة العمل، مثلاً کان الصلاح بیع بضاعة الأیتام فی شهر رمضان فباعها، وفی شهر شوال ارتفع السوق فجأة بما إذا کان یعلم بذلک کان علیه الحفظ، فإن المعاملة صحیحة، فإن الإنسان لیس بمأمور خلاف النطاق العرفی، وکذلک فی المتولی والوصی ومن أشبههم.

أما إذا کان عالماً بذلک فالمعاملة یجب تدارکها إما بالفسخ أو بالتدارک من نفسه أو ما أشبه، إذ المتولی علی الأیتام مثلاً مأمور بأن یعطی بدل دارهم التی تساوی ألفاً ألف دینار، سواء باعها بألف أو بتسعمائة وهو یعطی المائة من کیسه، أو یبیع دارین لهم تساویان بألفین، إحداهما بخمسمائة والأخری بألف وخمسمائة، إلی غیر ذلک.

نعم إذا عمل حسب ما یراه العرف، ثم ظهر أنه کان خلاف المصلحة کما فی المثال السابق، ویتمکن من التدارک بأن کان له الفسخ أو أن المشتری أو البائع مثلاً یستعد للإقالة أو ما أشبه وجب التدارک، أما إذا باع حسب زعمه ثم ظهر له أن البیع کان خلاف الصلاح فی وقت البیع بأن غش أو غبن أو بیع الشیء المعیوب أو ما أشبه ذلک فاللازم علیه الفسخ، وإن لم یتمکن فإن قصر کان علیه التدارک، وإن لم یکن مقصراً بل قاصراً فهل علیه التدارک من جهة أن الضمان لا یرتبط بالتقسیط لأنه حکم وضعی، أو لا،

ص:330

لأن معنی جعله ولیاً أو وصیاً أو متولیاً ذلک، لتعارف القصور فی ضمن المعاملات، بالإضافة إلی ﴿ما علی المحسنین من سبیل﴾((1))، لا یبعد الثانی.

((الحق المطلق والنسبی))

((الحق المطلق والنسبی))

ثم حیث قد عرفت أن الحق فیه مستثنیات من السالبة لانتفاء الموضوع لا بانتفاء المحمول، فقول جماعة من الحقوقیین: إن الحق لیس مطلقاً بل نسبیاً، هو کلام أقرب إلی المجاز من الواقع والحقیقة.

ثم إنه قد تقدم استثناء ما إذا کان الحق خلاف المصلحة العامة، وأن للدولة الشرعیة أن یقدم المصلحة علی الحق، کما إذا کانت دار إنسان فی مکان تقتضی المصلحة العامة فتح الشارع فیه مما تتهدم دار هذا الإنسان بسبب فتحه، فللدولة حینئذ الفتح، لکن حیث إنه تصرف فی أموال الناس یجب أن یقدر بقدره، فإذا أمکن لتوسعة الطریق علی الناس الأخذ من الیمین أو الیسار أو فتح الشارع فی هذا المکان أو الأقرب إلی الصحن أو الأبعد، فاللازم ملاحظة الأقل ضرراً.

فإذا کانت الدور فی الیمین مائة وفی الیسار تسعین قدم الیسار، لأنه أقل تصرفاً فی أموال الناس، إذ فی الیمین یذهب حق مائة بینما فی الیسار حق تسعین، کما تقدم مثل ذلک فی إلقاء نفرین فی البحر أو ثلاثة أنفار، لکن فرق بین المسألتین فإنه لو تعین مثلاً إلقاء مائة طن من البضاعة فی البحر لیسلم أهل السفینة من الغرق، وکان هناک إنسان واحد یملک مائة طن وإنسانان یملک کل واحد منهما خمسین طناً، فهل یقدم الأول لأنه تصرف فی حق إنسان واحد، أو یتخیر لأنه علی أی حال یلزم إلقاء مائة طن، فأی فرق بین تعدد المالکین أو وحدته، احتمالان، لکن الأقرب إلی الفهم العرفی الأول، وذلک فیما إذا لم یمکن إجراء قاعدة العدل بأن یلقی فی البحر بالنسبة، أی من کل بنسبة ما یملکه، وإلاّ لم یبعد جریان قاعدة العدل.

أما إذا کان الأمر دائراً فی الطول لا فی العرض کما

ص:331


1- سورة التوبة: 91

إذا دار الأمر بین أن یلقی الأطنان المذکورة الآن قبل الوصول إلی دوار البحر، أو بعد الوصول إلیه حیث الخطر، وعلی أی التقدیرین یرتفع الخطر بإلقاء المائة هنا أو هناک، ففی مثله بین الفقهاء خلاف، فمنهم من قال بتقدیم المؤخر لأنه لا اضطرار فی المقدم، ومنهم من قال بالتساوی لأن العرف یرون عدم الفرق.

وقد مثلوا لذلک بما إذا قال له الطبیب: لابد أن تفطر فی شهر رمضان خمسة عشر یوماً وهو مخیر فی أن یصوم أول الشهر أو آخره أو وسطه، أو متقطعاً کیوم نعم ویوم لا، ولا شک أن الاحتیاط العمل بالاضطرار فی وقته إلاّ أن الظاهر من فهم العرف عدم الفرق.

هذا بعض الکلام فیما إذا أمکن إجراء قاعدة العدل کما ذکرناه فی المثال، أما إذا لم یمکن ولم یکن هناک ترجیح کمثال مائة وتسعین داراً، فالظاهر أن الحاکم مخیر فی فتح الشارع هنا أو هناک، إذ لا وجه للتعیین، ولا للقرعة لأنه لیس من المشکل عرفاً.

وعلی أی حال، فإذا فتح الحاکم الشارع وأراد أصحاب الدور أنقاضهم وجب إعطاؤها لهم، لأن الضرورة تقدر بقدرها، نعم الظاهر أنه لا حق لهم فی الجمع بین العوض والمعوض کما ذکرناه فی کتاب المکاسب وغیره، کما أنه یلزم علی بیت المال إعطاؤهم أثمان دورهم أو أثمان الأوقاف التی هدمت فی الشارع من المساجد والمدارس والحسینیات وما أشبه لتبنی أشباهها فی أماکن أخر.

ولو أراد أصحاب الدور أو المتولون ومن أشبههم تبدیل دورهم ومساجدهم ونحوها بدور للدولة، فهل لهم الحق أو لیس لهم الحق إلاّ فی إعطاء الثمن، ظاهر ما ذکره الفقهاء فی الغصب ونحوه من المثلی والقیمی عدم حقهم إلاّ فی الثمن، لکنا احتملنا فی (المکاسب) حقهم فیما یقال له عرفاً إنه مثل وأن لم یکن مثلاً اصطلاحیا، نعم لا شک فی أن إرضاءهم بما یرون أفضل.

ص:332

((الضرر وما یترتب علیه))

((الضرر وما یترتب علیه))

بقی شیء، وهو أنه إذا تضرر فإن کان الضرر موجهاً إلیه من إنسان شمله دلیل لا ضرر، ووجب علی الضار التدارک، أما إذا توجه إلیه الضرر باختیار نفسه لزعم زعمه، فإنه لا شیء علی من سبب الضرر، کما إذا قال له تنح فإنی أرید رمی الغزال، فلم یتنح فسبب رمی هذا الرامی جرحاً فی بدنه مثلاً، فإن الرامی لا یضمن إذ لم یتعمد الرمی کما ذکروه فی باب الدیات والقصاص.

وکذلک حال ما إذا علم بأن القائل له عدم العمل بقوله، ومع ذلک فعل فعله، کما إذا قال المشتری للبائع: ائت بالبضاعة من بلدک إلی بلدنا فإنی أرید اشتراء مثل هذه البضاعة، فجاء بها مما أوجب مصرفاً علیه فلم یشتره، أو اشتراه وفسخ فیما کان له الفسخ، أو ضیفه ثم لم یأت الضیف بما أوجب ضرره بمصارف الضیافة، أو طلق الزوج بعد الدخول بما تضررت البنت لأن بکرها تمهر بمائة بینما ثیبها تمهر بعشرین، وقد کان مهرها الذی أمهرها ثلاثین، إلی غیر ذلک، فإن عمل الإنسان مع علمه باختیار المشتری أو الضیف أو الزوج هو الذی سبب ضرره، فحق هؤلاء فی عمل أنفسهم أن یعملوا أو لا یعملوا لا یرفع بدلیل «لا ضرر».

کما أنه إذا جاء التاجر بالبضاعة فی السوق بما أوجب کساد بضائع سائر التجار وضررهم، فإن التاجر الآتی بالبضاعة لیس ضامناً، نعم الحکومة حیث إنها مأمورة بحفظ أموال الناس والعمل بصلاحهم لا یحق لها ذلک، فلا یبعد ضمانها إن تضرر التجار بإیرادها البضائع.

یقول ابن خلدون فی مقدمته: إن تصدی السلطان للتجارة والفلاحة غلط عظیم وإدخال الضرر علی الرعایا من وجوه متعددة، منها أن له القدرة والمال الکثیر فیجعل السوق تحت قبضته واختیاره، فلا یحصل أحد من التجار علی غرضه فی شیء من حاجاته، فیدخل علی المفلس من

ص:333

ذلک غم ونکد، ویدخل به علی الرعایا من العنت والمضایقة وفساد الأرباح وما یقبض أموالهم عن السعی ویؤدی إلی فساد الجبایة، فإنه إذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة وقعد التجار عن التجارة ذهبت الجبایة جملة، أو دخلها النقص المتفاحش، وإذاً یخسر السلطان، بینما یحصل له من الجبایة نفع کبیر، ونسبة هذه الأرباح إلی الجبایة أقل من القلیل، ثم فیه التعرض لأهل عمرانه، واختلال الدولة لفسادهم ونقصه، فإن الرعایا إذا قعدوا عن تثمیر أموالهم بالفلاحة والتجارة نقصت وتلاشت بالنفقات وکان فیها إتلاف أحوالهم.

ولو علمت الدولة أن خطابها بکذا أو عملها بکذا یوجب خسارة الناس، وکان مضطراً إلی ذلک الخطاب أو ذلک العمل، فإن أمکن عدم توجیه الخسارة إلی الناس وجب علیها ذلک، وإذا أمکن ولم یعتن فالخسارة علیها، لأنه لا حق لها فی التصرف فی أموال الناس، فإذا سبب ضررهم شمله دلیل «لا ضرر»، وإن لم یمکنها لم یستبعد وجوب التدارک أیضاً، لأنه جمع بین الحقین، فیکون تکلیفاً یجوز لها الخطاب أو العمل ووضعاً علیها التدارک.

مثلاً الدولة فی حالة حرب مع الکفار، وعند التجار کمیة کبیرة من النقود، بحیث لو وقع الصلح انتصفت قیمة تلک النقود ونزلت البضاعة عن قیمتها، فإذا صلحت الدولة اضطراراً أو اختیاراً وانتصفت تلک النقود أو نقصت القیمة کان علیها دفع الضرر، مع فارق أن الاضطراری لا یوجب فعلها الحرام بخلاف الاختیاری، وإذ أمکنت الدولة إعلام التجار قبل خطاب الصلح بأنها ترید الصلح، تمکن التجار من بیع نقودهم إلی الأجانب مثلاً بما لا یخسرون، أو تبدیلها بالبضائع حتی لا یوجب الخطاب أو العمل ضررهم، وجب ذلک الإعلام.

لا یقال: إذا فعلت الدولة الحرام سقطت

ص:334

عن الحکومیة.

لأنه یقال: یمکن أن یکون الخطاب من باب الاشتباه، وقد ورد أن خطأ القضاة من بیت المال.

((أمران مضران))

((أمران مضران))

ثم لا یخفی أن فی المقام أمرین اصطلاحاً کل واحد منهما مضر عرفاً.

أحدهما: سوء الاستفادة من الحق.

والثانی: التقلب فی الحق.

أما الأول: فإذا کان سوء الاستفادة حقاً له لم یکن علیه شیء، لا تکلیفاً ولا وضعاً، وإن تضرر الطرف بهذه الاستفادة من الحق، کما إذا رفع الجار داره بما سبب قلة الضیاء والهواء لدار جاره، فإنه قد استفاد من ملکه ولیس للجار منعه، وإن قورن عمل الجار بسوء النیة بأن أراد بعمله ذلک ضرر جاره فإنه سیء النیة لا أنه فعل حراماً، وعمله خلاف الأخلاق لا أنه ضامن.

وهکذا إذا خطب فتاة وهو لا یرید تزویجها وإنما علم بأن فلاناً یرید التزویج بها فیعمل الخطبة هو لأجل حرمانه أو حرمانها، وبعد انصراف مرید الزواج إلی زوجة أخری یترک خطبته بما یسبب بقاء البنت فی البیت أو حرمان الرجل عن هذه الفتاة.

لکن ربما یحتمل حرمة مثل هذه الأعمال لأنه إیذاء، وإیذاء الناس محرم، کما ربما یحتمل ضمان من منع ضیاء دار الجار حتی إذا کان بناؤه الطابق الفوقانی لأجل حاجته، لأنه لیس من حقه إضرار الجار، أو من جهة التجری حیث النیة السیئة، وتفصیل ذلک فی کتاب إحیاء الموات والأصول.

أما إذا نقلت الدولة السکة الحدیدیة من هذا الجانب من المدینة إلی الجانب الآخر لمصلحة فلا شک فی عدم ضمانها تنزل دور الطرف المنقول منه، کما لا حرمة قطعاً لعمل الحکومة.

وعلی هذا فسوء الاستفادة قد یکون بدون الحق، وقد یکون بالحق، ولا یمکن أن یقال بالحلیة والحرمة مطلقاً، ولا بالضمان أو عدم الضمان مطلقاً.

أما الثانی: فالتقلب فی الحق، فهو مثل

ص:335

أن یکون المیت أوصی عند امرأة بإعطاء فلان أو المسجد الفلانی لعمارته أربعة دنانیر، وکانت المرأة لهذه الوصیة شاهدة، فإنها إذا صدقت نفذ ربع الوصیة، علی ما قرر فی الشریعة من أن شهادة امرأة واحدة تسبب نفوذ ربع الوصیة، وشهادة الاثنتین تسبب نفوذ النصف، وشهادة الثلاث تسبب نفوذ الثلاثة الأرباع، وشهادة الأربع تسبب نفوذ الکل.

أما إذا کذبت هذه المرأة الواحدة الشاهدة بأن الوصیة ستة عشر نفذ کل الوصیة، فإذا کذبت کان من التقلب فی الحق، لکن هل هذا الکذب حرام أو لیس بحرام، احتمالان، من أنه کذب فی الإصلاح وقد أوجب الله الکذب فی الإصلاح، کما وردت الروایة، ومن أن الکذب حرام إلاّ ما خرج قطعاً، ولم یعلم أنه من الخارج قطعاً.

ومثله ما إذا علم زید بأن عمرواً یصدق فی کلامه، وقال عمرو: إنه یطلب بکراً دیناراً، فإذا لم یکن الشهود أعطی الحاکم الحق مع المنکر الحالف، فزید یستند إلی علمه بأنه لا یکذب، فیشهد له بأنه أخذ المنکر الدینار من عمرو، فهو من التقلب فی الحق، فهل هو حرام أم لا، الاحتمالان السابقان.

وفی هذا الفرع روایة خاصة ذکرناها فی (الفقه).

ومن أمثلة التقلب الجائز بل الواجب أحیاناً ما إذا کانت الدولة تأخذ ضریبة علی الإرث، فیشهد الشاهد بأنه لم یترک إلاّ مائة دینار، فیما ترک ألفاً لیقلل من الضریبة، أو یقول الشاهد: إنه اشتری الدار بمائة، بینما اشتراه بمائتین، حیث إن الجائر یأخذ ضریبة من القیمة، فکلما ارتفعت القیمة کانت الضریبة أکثر.

ثم من سوء الاستفادة من الحق الذی لیس بحرام ولا یوجب الضمان وإن کان مکروهاً، إذا کان بقصد الفرار ما إذا فعل ما أوجب عدم استطاعته، بأن وهب بعض ماله الموجب لعدم استطاعته بعد ذلک إلی إنسان فیما کانت الهبة من شأنه، أو أعطی الزائد عن عامه

ص:336

السابق مما إن بقی أوجب الخمس لبناء مسجد أو نحوه، أو بدل بعض النصاب فی أثناء الحول.

إلی غیر ذلک من الأمثلة، وقد سمیت هذه الأمور فی الشریعة الإسلامیة بالحیل بمعناها اللغوی لا بمعناها العرفی. وذکرنا تفصیل ذلک فی بعض مباحث (الفقه).

وبذلک یعرف الفرق بین التقلب المحرم وبین ما یخرج نفسه من موضوع إلی موضوع آخر فیما له ذلک، لأن الموضوعین عرضیان، لا من قبیل الاختیار والاضطرار الطولیین، فهو من إعمال الحق لا من سوء الاستفادة عن الحق. ولا بأس بذلک لا ضماناً ولا حرمة ولا کراهة، نعم إذا ورد فی الشریعة تحریم شیء خاص فهو کما ورد، مثلاً النجش وهو تزیید إنسان السلعة لیرغبها إلی غیره مع أنه لا یرید الاشتراء علی بعض التفاسیر ولا تحریمه، وقد ذکرنا تفضیل الکلام فی ذلک موضوعاً وحکماً فی المکاسب.

ص:337

((الحق وضمان الإجراء))

اشارة

((الحق وضمان الإجراء))

(مسألة) الحق إذا لم تکن ضمانة لإجرائه کان علی الأغلب حبراً علی ورق، ولا ینفع إذا کان القلب مع الحق التوجیة مع غیره، کما قال ذلک الشخص للإمام الحسین (علیه السلام): (القلوب معک والسیوف علیک).

وقد ذکر فی الأمر الثانی نصف الموضوع، أما النصف الآخر فهو (والأموال) عطفاً علی (السیوف)، فإن المال له نصف القسط فی إحقاق الحق أو ترویج الباطل، ولذا تقدم الرسول (صلی الله وعلیه وآله) بثلاثة أرکان: أخلاقیاته الرفیعة (صلی الله علیه وآله)، ومال خدیجة (علیها السلام) لتزوید المستضعفین والمطاردین ومن إلیهم، وبمنعة أبی طالب (علیه السلام) ثم سیف علی بن أبی طالب (علیه السلام)، حیث کانا یدافعان عن الرسول (صلی الله علیه وآله) والإسلام.

هذا مال فی جهة الحق، ومال آخر فی جهة الباطل، فقد قال ابن زیاد لأهل الکوفة لما أراد أن یسیرهم إلی قتال الحسین (علیه الصلاة والسلام): (وهذا یزید قد زاد فی عطائکم مائة مائة).

فکان علی ذلک الشخص أن یقول للإمام (علیه السلام): (قلوبهم معک وسیوفهم وأموالهم علیک)، فإن الإنسان یحدوه إلی أعماله إلاّ نادراً کالتنزه وما أشبه الخوف والرغبة، ولذا کان الرسول (صلی الله علیه وآله) بشیراً ونذیراً، وقبل ذلک خلق الله الجنة والنار تشویقاً إلی الثواب وتخویفاً من العقاب.

ومن المعلوم أن بین المال والسیف عموماً من وجه، فمال بلا سیف، وسیف کالعشیرة بلا مال، وأحیاناً یجتمعان کما فی الدولة.

((ضمانات إجراء القانون))

اشارة

((ضمانات إجراء القانون))

وعلی کل حال، فالحقوق یلزم أن یکون لها ضمانة الإجراء، وقد کان ضمانة الأجراء للحقوق فی المجتمع الإسلامی أمور:

الأول: الخوف من الله سبحانه وعقابه، ورجاء ثوابه.

الثانی: نظافة النفوس بالأخلاق الفاضلة الإنسانیة والتی غرسها

ص:338

الإسلام فی نفوس المسلمین.

الثالث: الحریات التی وفرها الإسلام للإنسان، حیث مع الحریة لا ضغوط، وحیث لا ضغوط لا مانع للإنسان من الاستقامة، مثلاً التاجر المضغوط علیه بالضرائب المرهقة والقیود والشروط الکثیرة حول تجارته من قبل الدولة لا یستعد بعد ذلک لإعطاء الخمس والزکاة، بخلاف من لا ضریبة علیه ویتمکن أن یتاجر فی جو حر أخذاً وعطاءً وبیعاً وشراءً.

الرابع: تماسک المجتمع الإسلامی بالدعوة إلی الخیر والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وأنه کان کلهم راعیاً وکل راع مسؤول عن رعیته، کما أشیر إلیه فی الحدیث، والمجتمع المتماسک أکثر قدرة لتنفیذ الحقوق من المجتمع غیر المتماسک حیث لا رقابة اجتماعیة.

الخامس: قلة الحاجات، فإن من کثرت حاجاته لابد وأن یمد یده إلی المال الحرام ویهدر الحقوق، کما أن من وقف الاجتماع أمامه فلم یتمکن من الزواج انحرف إلی الفساد وهکذا، وقد کان ذلک من أسباب إجراء الحقوق علی موازینها فی المجتمع الإسلامی.

السادس: بساطة المحاکم من کل النواحی، کناحیة الوصول إلی الحاکم بسهولة، حیث کان الحاکم غالباً یجلس فی المسجد، کرسول الله (صلی الله علیه وآله) ومن جاء بعده إلی أیام متأخرة من الإسلام، وناحیة عدم رسوم للمحکمة، وناحیة عدم محامین یلوون الأمور حسب أخذهم الأجرة للحق کان أو للباطل، وناحیة سرعة الحکم بعد الأدلة الواضحة البسیطة کالشاهدین والیمین، إلی غیر ذلک مما لا یکن یتمکن الباطل من النفوذ فی المجتمع لخوف الحق الآخذ فی کل الجوانب

ص:339

والأقطار، هکذا کان حال المجتمع الإسلامی فی ضمان إجراء الحقوق وعدم التعدی عنها إلاّ نادراً.

أما فی الحال الحاضر فإن ضمان إجراء الحقوق أمور:

((لا لانتهاک الحقوق))
اشارة

((لا لانتهاک الحقوق))

الأول: الوقوف دون انتهاک الحق، وفی المثل: (قیراط من الحمیة خیر من قنطار من العلاج)، فإنه إذا خاف الحاکم من الفوضی کما فی اشتداد أیام الحروب وأیام الزلازل والسیول والبراکین وما أشبه ذلک کان له الحق فی منع التجول فی أوقات محدودة، والضرورات تقدر بقدرها، وذلک لعدم انتشار السلاح والسراق وتعدی الأمراض الناشئة من إلقاء العدو الغازات المعدیة إلی غیر ذلک.

لکن لا یخفی أنه لیس معنی ذلک سلب حریات الناس والوقوف دون الاستفادة من الحقوق الطبیعیة والفطریة التی منحها الله سبحانه وتعالی للإنسان وبینها الإسلام.

إن بعض الحقوقیین یوسعون دائرة هذا الأمر بحجة أن المحاکم لا تتمکن من فصل القضایا الکثیرة التی تنشأ من الحریة، ولذا فمن الأفضل عندهم أن تقلص الدولة حریات الناس مهما أمکن، وذلک بجعل الجنسیات والجوازات والهویات وبطاقات العمل وأمثال هذه الأمور التی تقید الإنسان، کما أنهم یقننون احتیاج التجارة إلی الإجازة، والسفر إلی الإجازة، والزراعة إلی الإجازة، والإقامة إلی الإجازة، والعمارة إلی الإجازة، والترمیم إلی الإجازة، وبناء المسجد إلی الإجازة، وبناء الحسینیة إلی الإجازة، وفتح المکتبة إلی الإجازة، وإخراج الجریدة إلی الإجازة، وإخراج المجلة إلی الإجازة، والزواج إلی الإِجازة، والطلاق إلی الإجازة، وفتح الدکان إلی الإجازة، وتأسیس المستشفی إلی الإجازة، وتأسیس المستوصف إلی الإجازة، وتأسیس دار الولادة إلی الإجازة، وتأسیس دار العجزة إلی الإجازة،

ص:340

واشتراء السیارة إلی الإجازة، واشتراء الدار إلی الإجازة، وفتح المعهد إلی الإجازة، وحصول الولد إلی الإجازة، إلی غیرها وغیرها مما هو کثیر، ذکرنا جملة منها فی کتاب (الصیاغة) وکتاب (نریدها حکومة إسلامیة).

وفی هذا الصدد فالدولة تمنع عشرات الحریات، والإجازات لیست لکل من یراجع، بل الإجازة خاصة لأن یکون مرید تلک الأمور ممن ینطبق علیه عشرات القوانین مما یحیی القومیات الضیقة واللغویات المتشتتة والعنصریات المتباغضة والجغرافیات المخترعة واللونیات المتباعدة وما أشبه، فأنت إیرانی لا تعطی فی العراق الجنسیة، وأنت عراقی لا تعطی فی إیران اجازة اشتراء الدار، وأنت باکستانی لا تعطی فیهما إجازة التزویج، وأنت مصری لا تعطی فی کل الثلاثة إجازة فتح المحل وهکذا، وأنت أسود فکذا، أو أنت لغتک عربیة فکذا، وأنت من قوم فلان فکذا، مما جعل الإنسان فی التقید والتکبل فصار حاله أسوأ من الخنافس والخفافیش بله الطیور والأسماک والغزلان ونحوها، فإن کل تلک تعمل حسب حریتها الممنوحة لها، أما أنت الإنسان فحولک نسج حدیدی من القوانین الکابتة والأنظمة الخانقة، وأیة مخالفة لهذه القوانین إذا حصلت منک فبانتظارک السجن والتعذیب والمصادرة، وأحیاناً القتل والتشهیر.

وإذا بقیت هذه القوانین فإنها تأخذ فی التضییق والتضییق، کما هی عادة جماعة یجلسون فی مکان باسم مجلس الأمة أو مجلس الأعیان أو مجلس الوزراء أو مجلس قیادة الثورة ویعتمدون علی السلاح ویضعون کل یوم قوانین جدیدة لکبت الإنسان وتفکیک بعضهم عن بعض ومزاحمته فی کل أعماله، ولیس ببعید أن أتی یوم یفصلون هؤلاء کل محلة عن محلة، وکل مدینة عن مدینة، ویحتاج الإنسان فیه إلی أن یکون خروجه صباحاً عن داره ورجوعه لیلاً

ص:341

إلی داره بحاجة إلی تحصیل رخصة من البلدیة أو من الحزب أو مجالس المحلات أو ما أشبه ذلک، وتعمم الدولة منع التجول فی کل لیلة من الغروب إلی الساعة الثامنة صباحاً، وأن کل إنسان یجب علیه إعلام الدولة کل أسبوع بما أکل وما عمل وکم مرة استحم، إلی غیر ذلک.

ألسنا نحن الآن فی منتصف الطریق إلی کل هذه الأمور، نعم والحجة التی یسندها السلاح والمال والسجن والإعلام وأعمدة المشانق موجودة، فمنع التجول فی اللیل خوفاً من وقع حادث قتل فی هدوء اللیل، والاحتیاج إلی الإجازة الصباحیة لأجل اطلاع الدولة عن حوادث قتل أو سرقة أو اغتصاب فی الدور والفنادق ونحوهما فی اللیلة الماضیة، وفصل المدن والمحلات لأجل أن لا ینتقل المجرمون من مکان إلی مکان ویهربون من قبضة العدالة، إلی غیر ذلک مما لیس هذا الکتاب بصدد تفصیله، وإنما کان القصد الإلماع إلی أن اعتذار بعض الحقوقیین من هذه القوانین الکابتة واحتجاجهم بأمثال هذه الحجج التی ذکرناها لأجل جعلها وتطلبهم المزید من جعل أمثالها وإلقائهم التبعة علی الناس وجنایاتهم الکثیرة تارة، وعلی القضاء وعدم تمکنه من فصل القضایا والمنازعات تارة، وعلیه فمن الأفضل الوقوف دون الحریات لأن لا تقع الجرائم، لیس إلاّ من عدم العمل بنداء العقل وقوانین الفطرة التی بینها الإسلام وطبقها المسلمون قروناً کثیرة.

ومن المعلوم أن الحکام فی بلاد الإسلام کانوا علی الأغلب أناساً غیر صالحین، إلاّ أن ذلک لم یکن یعنی کبت حریات المسلمین وتأخیرهم إلی الخلف، کما هو المشاهد فی العصور الحاضرة.

ولیس ما ذکرناه خاصاً ببلاد الإسلام فی الحال الحاضر بل کل العالم یحترق فی هذا الأتون، نعم نصیب بلاد الإسلام أکثر من البلاد التی تسمی بالدیمقراطیة

ص:342

أما بلاد الشیوعیة فلا أثر للحریة فیها إطلاقاً، وکأنه شیء تاریخی مذکور فی القاموس فقط.

((الحریات فی التاریخ الإسلامی))

((الحریات فی التاریخ الإسلامی))

ولا أدل علی کثرة حریات الناس فی الزمن الإسلامی من بساطة القضاة تلک البساطة التی قل نظیرها، فقد کان قاضی الکوفة وهی مدینة وسیعة، ذکر بعضهم أن نفوسها کانت ستة ملایین، وأن سعتها من مسجد الکوفة _ وهو علی الأغلب کان فی وسط المدینة _ إلی جانب کربلاء کانت خمسة فراسخ کما ذکره بعض المؤرخین مما یخمن أن سعة البلد کانت ثلاثة أضعاف القدر، کان القاضی شخصاً واحداً هو شریح من زمن الخلیفة الثانی إلی ستة خلفاء آخرین، وکان یجلس فی المسجد لیقضی بین الناس، فلم یکن هناک حاکم صلح وحاکم بداءة وحاکم جزاء وحاکم اسیناف وحاکم تمییز وحاکم کذا.

وقد رأیت أنا قبل نصف قرن أن حاکماً واحداً کان یحکم مدینة کربلاء وحوالیها البالغة نفوسها زهاء مائة ألف، وهو المرحوم السید عبد الحسین الحجة، وکانت له رسالة عملیة ویلقی دروس خارج الأصول والفقه علی طلابه الکثیرین فی الصحن الحسینی، ویصلی الجماعة مغرباً، ویقضی حوائج الناس ویکون کأحدهم فی زیاراته الناس وحضوره الاجتماعات وغیرها، وکان هو مع أعداد قلیلة من المعاونین لا یتجاوزون أصابع الیدین یقوم بأکثر مهمات الناس من البیع والشراء والرهن والإجارة والمضاربة والزارعة والمساقاة والأوقاف والأیتام والقصر وتقسیم المواریث والوصایا والنکاح والطلاق وفصل الخصومات وغیرها، وقد ألمعت إلی ذلک فی کتاب (بقایا حضارة الإسلام کما رأیت).

فإذا أراد الناس التخلص من هذه القیود والأغلال الکابتة فاللازم علیهم التخلص من هذه القوانین الکثیرة المنافیة للحریات، وحیث إن اللازم أن لا یحدث الفوضی فی الفترة

ص:343

الانتفالیة من القوانین الکابتة إلی القوانین الصحیحة البسیطة، فمن الممکن تشکیل مجلس من عقلاء الأمة ومثقفیها الدینیین والزمنیین لإلغاء القوانین تدریجیاً، حتی لا یبقی إلاّ المحرمات الشرعیة فقط، وهی قلیلة جداً، وإلاّ القوانین التنظیمیة الضروریة التی لا یستقیم الاجتماع بدونها مما هی صغریات لکبریات الأدلة الشرعیة الأولیة أو الثانویة، کأنظمة المرور ونحوها، فیوماً یلغون قوانین الحدود، ویوماً قوانین الضرائب، ویوماً قوانین المکوس والجمارک، ویوماً قوانین التجارة الداخلیة، ویوماً قوانین التجارة الخارجیة، ویوماً قوانین الجناسی والهویات والکارتات والجوازات وما أشبه، ویوماً قوانین العمارة، ویوماً قوانین الزراعة، ویوماً قوانین الصناعة، ویوماً قوانین السفر، ویوماً قوانین الأحوال الشخصیة، ویوماً قوانین التفرقات العنصریة واللونیة والإقلیمیة والجغرافیة إلی غیرها وغیرها.

هذا لیس بالنسبة إلی المسلمین فحسب، بل وحتی بالنسبة إلی غیر المسلمین، وإذا حدث هذا الشیء فسیری الإنسان أنه ولادة جدیدة فی هذا الکوکب، وأنه حر ومنطلق، یذهب کیف یشاء ویعمل کیف یشاء ویقول کیف یشاء فی إطار الشریعة الإسلامیة، والله المستعان.

نعم لیس من القوانین الکابتة القوانین الموضوعة لمعاقبة السارق والزانی واللاطی والمغتصب والقاتل والناهب والغاش والمختلس والمحتکر ومن یؤذی جاره أو زوجته أو سائر الناس، ومن یخالف قوانین المرور التی جعلت بقدر الضرورة انطلاقاً من دلیل «لا ضرر»، ومن یقف دون تسلط الناس علی أموالهم وأنفسهم وأعمالهم ونحوها، فإن أمثال هذه القوانین الموضوعة لردع المجرمین عقلیة فطریة شرعیة.

((مما یضمن إجراء الحقوق))

((مما یضمن إجراء الحقوق))

الثانی: من الأمور الضامنة لإجراء الحقوق هو البطلان وعدم

ص:344

النفوذ والفسخ وما أشبه، وهذه إنما تضمن الإجراء فیما إذا کانت الحق نتیجة عقد أو إیقاع.

فالأول: وهو البطلان عبارة عن أن القانون لا یعترف بعقد أو إیقاع لا یجتمع فیه الشرائط المقررة کالبلوغ والعقل والرشد والمصلحة فی أموال الصغار والأوقاف وتزویجهم وما أشبه ذلک، فإذا عقد ولی الیتیم عقداً فیه مفسدة فی مال الصغیر، أو عقده عقد نکاح به مفسدة رأی القانون بطلانه، وکذا إذا فعل مثل ذلک الوصی والقیم ومتولی الوقف ونحوهم، وبوسیلة رؤیة القانون بطلان مثل هذا العقد أو الإیقاع کالطلاق غیر المتوفر للشروط یحفظ القانون حتی الزوجین والأیتام والصغار والموقوف علیهم والمولی علیهم کالمجانین ونحوهم.

والثانی: هو عدم النفوذ فی مثل العقد الفضولی، فالعقد الفضولی لیس بنافذ ما لم یجزه من له الإجازة فی وقت لم یفت وقت الإجازة، وبهذا السبب یحفظ القانون حق المالک ومن إلیه کالموقوف علیهم، فإذا باع إنسان مال غیره بدون إجازته أو أکرهه علی البیع أو أنکح الفتاة بدون رخصتها أو بدون رخصة أبیها أیضاً فی البکر، أو أوصی بأکثر من ثلثه أو أوصی وصیة عهدیة بدون موافقة الوصی أو نذر له أو نحو ذلک، فإذا أجاز من له الإجازة کالمالک فی الفضولی، والبنت وأبیها فی النکاح، والموقوف علیهم وولی القصر فی التصرف فی أموال الوقف وأموال القصر، والوارث فی الوصیة بأکثر من الثلث، والوصی فی الوصیة العهدیة، نفذت المعاملة وإلاّ بطلت.

والنفوذ علی نحو النقل أو الکشف الحقیقی أو الحکمی فیه تفصیل مذکور فی المکاسب.

وعلی کل فقانون عدم النفوذ یحفظ حقوق الناس وأموالهم وأعراضهم، ومثل هذا البحث جار فی کل

ص:345

المعاملات بل وغیرها، مثلاً أعطی القاتل آبالاً لمن یتصدی لأمر المقتول فضولة، فإن رضی الأولیاء بالآبال فهو، وإلا فهم لهم الحق فی طلب الدنانیر أو القصاص فتأمل، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

ویلزم أن تکون الإجازة فی وقت إمکانها، مثلاً إذا زوج الفضول رجلاً أو امرأةً، ثم بعد فوات الأوان بتزوج الرجل أخت المرأة أو تزوج المرأة من زوج أجاز عقد الفضول لم یکن الوقت صالحاً للإجازة، ولذا یبطل عقد الفضول.

والثالث: ما إذا کان العقد قابلاً للفسخ بالخیار، فإنه إذا أخذ ذو الخیار بخیاره بطل العقد، وبذلک یحفظ حق من لم یکن العقد فی صالحه أو موافقاً لنظره، وکذلک الحال فیما إذا کان أصل العقد عقداً جائزاً ففسخ أحد الطرفین، أو کان عقداً لازماً ففسخاه بالإقالة، فإن مثل هذه الأمور من ضمانات إجراء الحقوق.

من غیر فرق بین الخیارات الموضوعة قانوناً ابتداءً کخیار الغبن والعیب والتدلیس وما أشبه، أو الموضوعة قانوناً ثانیاً تبعاً لجعل الطرفین کخیار الشرط، وهکذا حال الفسخ للخیار فی عقد النکاح من جهة العیب ونحوه، والخیار الذی یتجدد بواسطة رجوع المرأة فی البذل فی طلاق الخلع.

والرابع: عمل یوجب الحق الشأنی، سواء کان اختیاریاً کالطلاق قبل الدخول الموجب لرجوع نصف المهر للزوج، أو عدم مجیء المتعة اختیاراً بعض المدة الموجب لرجوع نسبة من المهر إلی الزوج، أو غیر اختیاری کما إذا رضع الطفل الرضعة المکملة من أم الزوجة وهی فی حالة النوم أو السکر أو ما أشبه ذلک حیث یبطل نکاحها من زوجها، فإن الطلاق والرضاع وعدم مجیء الزوجة سواء کان اختیاریین أو اضطراریین یضمن إجراء الحق علی معنی ما تقدم.

ص:346

((إجراء الحق بالجبر المباشر))

((إجراء الحق بالجبر المباشر))

الثالث: من ضمانات إجراء الحقوق إجراء مفاد الحق بالإجبار مستقیماً، مثل أخذ الشرطة الزوج أو الزوجة أو الأولاد الصغار لجبرهم علی الذهاب إلی بیت الزوجة بالنسبة إلی الزوج حیث لها حق القسم، أو إلی بیت الزوج حیث للزوج الحق علی الزوجة، أو إلی بیت الأب حیث هو الولی.

وکذلک إجبار الموجر بإعطاء الدار التی آجرها إلی ید المستأجر، أو إجبار الراهن بإعطاء العین إلی ید المرتهن، وکذلک أخذ الحاکم من مال المدیون لإعطائه للدائن فی غیر مستثنیات الدین، وهکذا یحکم الحاکم بقلع الشجرة الضارة کما فی قصة سمرة، وأخذ النفقة من مال الزوج کما فی قصة هند وأبی سفیان، أو هدم البنایة الضارة کالمشرفة علی الانهدام الذی یوجه الخطر علی أهل البیت أو المارة أو ما أشبه، وهکذا إخراج الزوج المطلق من بیته الزوجة إذا کانت العدة بائنة أو انقضت عدة الرجعیة أو لا عدة لها، إلی کثیر من أمثالها فی العقود والإیقاعات والدیات والقصاص.

((إجراء الحق بالجبر غیر المباشر))
اشارة

((إجراء الحق بالجبر غیر المباشر))

الرابع: إجراء مفاد الحق بغیر طریق مستقیم، مثل من عمل ما أوجب حداً أو قصاصاً ثم هرب إلی المسجد الحرام، حیث یضیق علیه بالمطعم والمشرب والکلام والمعاشرة حتی یخرج، ویجری علیه الحق، فإنه لا یجری علیه الحق فی ذلک المکان، وإنما یضغط علیه بطور غیر مستقیم حتی یرضخ للحق، وقد فعل مثله رسول الله (صلی الله وعلیه وآله) مع الثلاثة الذین خلفوا، فإنه بقدر ما کان تأدیباً کان لإرجاع المجرم إلی خط الطاعة.

ومن الأمور التی هی سبب إجراء الحق بطور غیر مستقیم توقیف المدیون، کالمطلوب الذی یأبی عن أداء الحق مع قدرته، قال (صلی الله علیه وآله):

ص:347

«لیّ الواجد یحل عقوبته وعرضه»((1)).

وکذلک إذا خاف الحاکم فرار المدیون ولا یستعد إعطاء کفیل أو ضامن، وهکذا من لا یعطی نفقة واجبی النفقة وهو قادر ولا یمکن التقاص منه، حیث یسجنه الحاکم حتی یعطی نفقة أبیه أو أمه مثلاً، أو ینفق علی زوجته الواجیة النفقة، أو یطلقها علی سبیل التخییر بمقتضی ﴿إمساک بمعروف أو تسریح بإحسان﴾((2))، وکذلک المولی الذی لا یستعد لإجراء التکلیف.

((موارد السجن فی الإسلام))

((موارد السجن فی الإسلام))

ولا بأس هنا بالإلماع إلی موارد التوقیف والسجن فی الشریعة الإسلامیة فی الجملة، والتفصیل فی الکتب المعنیة بهذه الشؤون، بذکر الروایات فی ذلک تباعاً بدون الاستظهار والأمور المرتبطة بالاستنباط، ولا الفروع والخصوصیات، وإذا وفقنا الله سبحانه فی المستقبل نکتب مجلداً حول هذه الشؤون.

1: فالسجن یکون فی التهمة التی لها أهمیة کبیرة.

فعن السکونی، عن أبی عبد الله (علیه السلام)، قال: «إن النبی (صلی الله علیه وآله) کان یحبس فی تهمة الدم ستة أیام، فإن جاء أولیاء المقتول بثبت وإلاّ خلی سبیله»((3)).

وإنما یستفاد لزوم کبر التهمة مما رواه الدعائم، عن علی (علیه الصلاة والسلام) إنه قال: «لا حبس فی تهمة إلاّ فی دم»((4)).

والحبس بعد معرفة الحق ظلم، بالإضافة إلی ما رواه (الغارت) عنه (علیه الصلاة والسلام) أنه قال: «إنی لا آخذ علی التهمة، ولا أعاقب علی الظن، ولا أقاتل إلاّ من خالفنی وناصبنی وأظهر لی العداوة»((5)).

وفی روایة أخری رواها (الغارات) عن علی (علیه الصلاة والسلام) بعدم ا اعترض علیه عبد الله بن قعین بعدم استیثاقه أنه قال: فقلت: یا أمیر المؤمنین فلم لا تأخذه الآن فتستوثق منه، فقال (علیه السلام) «إنا لو فعلنا هذا لکل من نتهمه من الناس فقد ملأنا السجون منهم، ولا أرانی یسعنی الوثوب علی الناس والحبس لهم وعقوبتهم حتی یظهروا لنا الخلاف»((6)).

ص:348


1- غوالی اللئالی: ج4 ص72
2- سورة البقرة: 229
3- تهذیب الأحکام: ج10 ص174 ب12 ح23
4- مستدرک الوسائل: ج17 ص403 ب24 ح21672
5- الغارات: ج1 ص251
6- الغارات: ج1 ص223

2 _ 4: وکذلک یحبس الغاصب لمال الغیر، وآکل مال الیتیم ظلماً، والخائن فی الأمانة.

فعن زرارة، عن أبی جعفر (علیه السلام) قال: «کان علی (علیه السلام) لا یحبس فی الدین إلاّ ثلاثة، الغاصب، ومن أکل مال الیتیم ظلماً، ومن اؤتمن علی أمانة فذهب بها، وإن وجد له شیئاً باعه، غائباً کان أو شاهداً»((1)).

5: کما یحبس المدیون المماطل ونحوه، لما روی متواتراً عن رسول الله (صلی الله علیه وآله) فی کتب العامة والخاصة أنه قال: «لی الواجد یحل عرضه وعقوبته»((2))، فإن العقوبة شاملة للسجن أیضاً.

ویؤیده ما رواه عمار، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: «کان أمیر المؤمنین (علیه السلام) یحبس الرجل إذا التوی علی غرمائه، ثم یأمر فیقسم ماله بینهم بالحصص، فإن أبی باعه فیقسم، یعنی ماله»((3))، إلی غیر ذلک.

6 _ 8: وکذلک یحبس الفساق من العلماء، والجهال من الأطباء، والمفالیس من الأکریاء، وهو جمع کری، ویستعمل بمعنی المکاری والمکتری أیضاً، ولعله مستعمل فیها معاً.

فقد روی أحمد بن أبی عبد الله البرقی، عن أبیه، عن علی (علیه الصلاة والسلام) قال: «یجب علی الإمام أن یحبس الفساق من العلماء، والجهال من الأطباء، والمفالیس من الأکریاء»((4)).

نعم لا حبس علی معسر وإن کان القانون العام فی البلاد الإسلامیة وغیر الإسلامیة الآن الحبس، فقد روی عن علی (علیه الصلاة والسلام) أنه قال: «لا حبس علی معسر»((5))، قال الله عزوجل: ﴿وإن کان ذو عسرة فنظرة إلی میسرة﴾((6)). فالمعسر إذا أثبت عدمه لم یکن علیه حبس، کذا رواه فی المستدرک.

9: وکذلک یحبس من لم ینفق علی زوجته بغیر إعسار، ففی الجعفریات، عن علی (علیه الصلاة والسلام) قال: «یجبر الرجل علی النفقة علی امرأته فإن لم یفعل حبس»((7)).

وفی روایة السکونی، عن جعفر، عن أبیه، عن علی (علیهم السلام): «إن امرأة استعدت علی زوجها أنه لا ینفق علیها وکان زوجها معسراً، فأبی أن یحبسه، وقال: إن مع العسر یسراً»((8)).

10: وکذلک یحبس

ص:349


1- وسائل الشیعة: ج27 ص248 ب11 ح33694
2- انظر وسائل الشیعة: ج18 ص333 ب8 ح23792 وفیه: (لی الواجد بالدین...)
3- الکافی: ج5 ص102 ح1
4- من لا یحضره الفقیه: ج3 ص31 ح3266
5- دعائم الإسلام: ج2 ص71 ف17 ح197
6- سورة البقرة: 280
7- مستدرک الوسائل: ج15 ص157 ب48 ح17845
8- تهذیب الأحکام: ج6 ص299 ب92 ح44

الکفیل حتی یحضر المکفول، أو الشیء الذی علیه، فعن عمار، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: «أتی أمیر المؤمنین (علیه السلام) برجل قد تکفل بنفس رجل فحبسه، وقال: اطلب صاحبک».

11: وهکذا یحبس المختلس والطرار والنباش، فعن أبی عبد الله (علیه السلام): «إن أمیر المؤمنین (علیه السلام) أتی برجل اختلس درة من أذُن جاریة، فقال: «هذه الدغارة المعلنة، فضربه وحبسه»((1)).

وعن الصادق (علیه الصلاة والسلام) إنه قال: «لا یقطع الطرار وهو الذی یقطع النفقة من کم الرجل أو ثوبه، ولا المختلس، ولا الذی یختطف الشیء، ولکن یضربان ضرباً شدیداً ویحبسان»((2)).

وفی روایة أخری عن الصادق (علیه الصلاة والسلام): «لا تقطع ید النباش إلاّ أن یؤخذ وقد نبش مراراً، ویعاقب فی کل مرة عقوبة موجعة وینکل به ویحبس»((3)).

12: وکذلک یسجن شاهد الزور، فقد روی عن جعفر، عن أبیه (علیهما السلام): «إن علیاً (علیه السلام) کان إذا أخذ شاهد زور فإن کان غریباً بعث به إلی حیه، وإن کان سوقیاً بعث به إلی سوقه، فطیف به ثم یحبسه أیاماً ثم یخلی سبیله»((4)).

13: وهکذا أمین السوق إذا خان، فعن دعائم الإسلام، عن علی (علیه السلام) إنه استدرک علی ابن هرمة خیانة وکان علی سوق الأهواز، فکتب إلی رفاعة: «إذا قرأت کتابی فنح ابن هرمة عن السوق وأوقفه للناس واسجنه وناد علیه» الحدیث((5)).

14: کما یسجن أن یلقن المجرم بما یضر المسلمین، فعن الدعائم، عن علی (علیه الصلاة والسلام) إنه قال: «فإن صح عندک أن أحداً لقنه ما یضر به مسلماً فاضربه بالدرة فاحبسه حتی یتوب»((6)).

15: ویسجن القاتل عمداً إذا لم یقتص منه، فعن الفضیل بن یسار قال: قلت لأبی جعفر (علیه السلام): عشرة قتلوا رجلاً، قال: «إن شاء أولیاؤه قتلوهم جمیعاً وغرموا تسع دیات،

ص:350


1- الکافی: ج7 ص226 ح7
2- مستدرک الوسائل: ج18 ص132 ب13 ح22288
3- مستدرک الوسائل: ج18 ص136 ب18 ذیل ح22308
4- تهذیب الأحکام: ج6 ص280 ب91 ح175
5- دعائم الإسلام: ج2 ص532 ح1892، ومستدرک الوسائل: ج17 ص379 ب12 ح21633
6- دعائم الإسلام: ج2 ص532 ح1892

وإن شاؤوا تخیروا رجلاً فقتلوه وأدی التسعة الباقون إلی أهل المقتول الأخیر عشر الدیة کل رجل منهم» قال: «ثم الولی بعد یلی أدبهم وحبسهم»((1)).

16: کما یحبس الأساری فی الجملة، ففی إرشاد المفید فی قصة أساری بنی النجار((2)).

17: وهکذا یحبس من وثب علی امرأة فحلق رأسها، ففی خبر عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبی عبد الله (علیه السلام): جعلت فداک ما علی رجل وثب علی امرأة فحلق رأسها، قال: «یضرب ضرباً وجیعاً ویحبس فی سجن المسلمین حتی یستبرأ شعرها»((3)) الحدیث.

18: وتحبس المرأة المرتبطة بالإنسان إذا کانت تزنی، لفهم الملاک من صحیح عبد الله بن سنان، عن أبی عبد الله (علیه السلام)، قال: «جاء رجل إلی رسول الله (صلی الله علیه وآله) فقال: إن أمی لا تدفع ید لامس، فقال (صلی الله علیه وآله) فاحبسها، قال: قد فعلت، قال: فامنع من یدخل علیها، قال: قد فعلت، قال: لا تبرها بشیء أفضل من أن تمنعها من محارم الله عزوجل»((4)).

19: وکذلک یسجن السکاری المتباعجون بالسکاکین، فعن السکونی، عن أبی عبد الله (علیه السلام)، قال: «کان قوم یشربون فیسکرون فیباعجون بسکاکین کانت معهم، فرفعوا إلی أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) فسجنهم»((5)) الحدیث.

20: وکذلک من عذب عبده حتی مات، فعن مسمع بن عبد الملک، عن أبی عبد الله (علیه السلام): «إن أمیر المؤمنین (علیه السلام) رفع إلیه رجل عذب عبده حتی مات، فضربه مائة نکالاً وحبسه سنة وأغرمه قیمة العبد، فتصدق بها عنه»((6)).

21: ویحبس المرتد، فعن عبد الله بن سنان، عن أبیه، عن أبی جعفر (علیه السلام) قال: «إن عبد الله بن سبأ کان یدعی النبوة وکان یزعم أن أمیر المؤمنین (علیه السلام) هو الله، تعالی عن ذلک، فبلغ أمیر المؤمنین (علیه السلام) فدعاه

ص:351


1-
2-
3-
4-
5-
6-

فسأله فأقر وقال: نعم أنت هو، وقد کان ألقی فی روعی أنک أنت الله وأنا نبی، فقال له أمیر المؤمنین (علیه السلام): ویلک قد سخر منک الشیطان فارجع عن هذا ثکلتک أمک وتب، فأبی فحبسه» الحدیث.

22: وفی فقه الرضا (علیه السلام): الحبس للقواد، حیث قال (علیه السلام): «وإن قامت بینة علی قواد جلد خمساً وسبعین، ونفی عن المصر الذی هو فیه، وروی أن النفی هو الحبس سنة، أو یتوب»((1)).

23: والمولی إذا أبی أن یطلق بعد المدة ولم یفئ، فإنه یحبسه الإمام، فقد روی حماد بن عثمان، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: «فی المولی إذا أبی أن یطلق قال کان أمیر المؤمنین (علیه السلام) یجعل له حظیرة من قصب ویجعله فیها»((2)) الحدیث.

24: وأخیراً من علیه حق من حقوق الناس أو حقوق الله سبحانه وتعالی وهو قادر علی أدائه ولم یؤده، فانه یحبس لاستیفائه، ویشمل ذلک ما تقدم وغیره، ففی بعض الروایات عن علی (علیه السلام): «إنه کان یحبس فی النفقة وفی الدین وفی القصاص وفی الحدود وفی جمیع الحقوق، وکان یقید الدعار بقیود لها أقفال ویکل بهم من یحلها لهم فی أوقات الصلاة من أحد الجانبین»((3))، والدعار علی وزن کفار بالضم جمع داعر هم أهل الفساد، وربما یطلق بالنسبة إلی الزانی والزانیة.

وحیث إنا نکن فی صدد الاستنباط بل فی صدد الإلماع لم نذکر خصوصیات وأحکام وفروع هذه الموارد، مع أن بعض الأحادیث ضعیفة السند مما یحتاج الأمر إلی الفحص والبحث وغیر ذلک.

((السجن المؤبد))

((السجن المؤبد))

ثم هناک أشخاص یخلدون فی السجن إلی الموت، إلاّ أن یری الحاکم الشرعی الصلاح فی العفو عنهم، ونذکرهم أیضاً تباعاً حسب النصوص الواردة فی المقام، مثل:

1: المحارب المحکوم بالنفی، ففی مسند زید،

ص:352


1-
2-
3-

عن أبیه، عن جده، عن علی، (علیهم السلام) قال: «إذا قطع الطریق اللصوص وأشهروا السلاح ولم یأخذوا مالاً ولم یقتلوا مسلماً ثم أخذوا حبسوا حتی یموتوا، وذلک نفیهم من الأرض»((1)).

2: والمنجم المصر علی بقائه فی التنجیم بدون أن یکون ذلک من التنجیم الحلال، لأنا ذکرنا فی باب التنجیم أن قسماً منه کفر، وقسماً منه معصیة، وقسماً منه حلال، وأحیاناً یکون مستحباً، ففی روایة: «إن علیاً (علیه الصلاة والسلام) أتاه مسافر بن عفیف الأزدی، فقال: یا أمیر المؤمنین لا تسر فی هذه الساعة، إلی أن قال (علیه السلام): لئن بلغنی أنک تنظر فی النجوم لأخلدنک فی الحبس ما دام لی سلطان، فوالله ما کان محمد منجماً ولا کاهناً»((2)).

3: ومخلص القاتل من أیدی الأولیاء، فقد روی الفقیه عن أبی عبد الله (علیه السلام)، قال: سألته عن رجل قتل رجلاً عمداً فرفع إلی الوالی فدفعه الوالی إلی أولیاء المقتول لیقتلوه، فوثب علیه قوم فخلصوا القاتل من أیدی الأولیاء، قال: «أری أن یحبس الذین خلصوا القاتل من أیدی الأولیاء أبداً حتی یأتوا بالقاتل»، قیل: فإن مات القاتل وهم فی السجن، قال: «إن مات فعلیهم الدیة یؤدونها جمیعاً إلی أولیاء المقتول»((3)).

4 _ 6: وکذلک یخلد فی السجن الذی یمثل، والمرأة المرتدة، والسارق بعد قطع الید والرجل علی تفصیل مذکور فی کتب الفقه، فقد روی عن حماد، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: «لا یخلد فی السجن إلاّ ثلاثة، الذی یمثل، والمرأة ترتد عن الإسلام، والسارق بعد قطع الید والرجل».

7: ومن زنا بمحارمه فضرب لیقتل فلم یقتل، فعن علی بن الحسین (علیهما الصلاة والسلام)، فی الرجل یقع علی أخته قال: «یضرب ضربة بالسیف بلغت منه ما بلغت، فإن عاش خلد فی السجن حتی یموت»((4)).

8: ومن أمر رجلاً حراً بقتل رجل، فعن زرارة، عن أبی جعفر (علیه السلام)، فی رجل أمر رجلاً بقتل رجل فقتله،

ص:353


1-
2-
3-
4-

فقال: «یقتل به الذی قتله ویحبس الآمر بقتله فی الحبس حتی یموت»((1)).

9: وکذلک العبد القاتل بأمر سیده، فعن السکونی، عن أبی عبد الله (علیه السلام)، قال: قال أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی رجل أمر عبده أن یقتل رجلاً فقتله، فقال أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام): «وهل عبد الرجل إلاّ کسوطه أو کسیفه یقتل السید ویستودع العبد السجن»((2)).

وفی روایة أخری: «إنه یستودع العبد فی السجن حتی یموت»((3)).

10: وکذلک یخلد فی السجن من أمسک رجلاً لیقتله غیره، فعن الحلبی، عن أبی عبد الله (علیه السلام)، قال: قضی علی (علیه السلام) فی رجلین أمسک أحدهما وقتل الآخر، قال: «یقتل القاتل ویحبس الآخر حتی یموت غماً کما حبسه حتی مات غماً»((4)).

وقد رأیت أن کل المذکورین فی هذه الروایات إنما یسجنون لارتکابهم جنایة عقلیة، والعقلاء لا یأبون من سجنهم، بل المتهم أیضاً یسجن لا لارتکابه جنایة وإنما للاحتیاط، وذلک أیضاً ما یراه العقلاء، والقوانین الحاضرة أیضاً تسجن کل هؤلاء باستثناء المرأة المرتدة، فالسجن لها سیاسی((5)) لا جنائی، وذلک لفلسفة ذکرناها فی بعض کتبنا الإسلامیة.

((المحاکم وإجراء الحقوق))

((المحاکم وإجراء الحقوق))

الخامس: من ضمان إجراء الحقوق إجبار المحکمة بإعطاء من منع الحق أو أخر الحق بالوفاء بشرطه فی إعطاء مال قرره الطرفان، مثلاً باع داره وصار الشرط ضمن البیع أن أی طرف تأخر فی تسلیم ما لدیه کان لکل یوم علیه للطرف الآخر دینار، وکذلک إذا لم یعط النفقة لزوجته کان علیه النفقة ضعفاً، وهکذا فإذا أخر طرف التسلیم أو الزوج إعطاء النفقة أجبرهم الحاکم علی الوفاء بالشرط، وإذا لم یستعد للوفاء کان المشروط له ذلک المال یتمکن من التقاص.

((تحمیل الخسائر))

((تحمیل الخسائر))

السادس: لو سبب التأخیر فی الحق خسارة علی صاحب الحق،

ص:354


1-
2-
3-
4-
5- لیس المراد السجن السیاسی المصطلح الذی هو عبارة عن سجن من یخالف الحکومة، فإنه لا سجن سیاسی فی الإسلام

کان من ضمان الإجراء تحمیل الخسارة علی من أخر الحق أو فوته، مثلاً قرر التاجر مع السائق أن یوصل البضاعة إلی کربلاء أیام عرفة حیث تروج البضاعة من جهة الزیارة، وقرر صاحب الأغنام مع الراعی إیصال أغنامه إلی منی یوم العید ولم یفیا بالعهد مما سبب خسارة البضاعة أو الأغنام مائة دینار، فإن دلیل «لا ضرر» یشمل المقام، فعلی السائق والراعی تدارک الضرر.

وکذلک إذا اشتری منه قدراً من الثلج لیسلمه إلیه فی أیام الصیف، فلم یسلمه إلی أن جاء الخریف، فإن البائع مسؤول لتسلیم أصل النقد ولتسلیم الخسارة أی الربح الذی فوته بسبب عدم التسلیم، لأن المشتری یطلب منه طناً من الثلج فی أیام الصیف وقیمتها کذا، إلی غیرها من الأمثلة.

((الغرامات المالیة وأدلتها))

((الغرامات المالیة وأدلتها))

ثم هل من ضمانات الإجراء الغرامة المالیة، کأن یقول الحاکم من خالف قوانین المرور فعلیه کذا من الدنانیر، لا یبعد ذلک، ویستدل له:

أولاً: بالملاک بعد وجود أصل الغرامة فی جملة من المخالفات الشرعیة، بضمیمة فهم العرف عدم الخصوصیة، ککفارة وطی الحائض، والمظاهر والمؤلی، وکفارات الحج، ومهر المکرهة علی الزنا، وما ورد من أن من قتل قتیلاً فله سلبه، وکفارة حنث النذر والعهد والیمین، وکفارات القتل.

وهذه أحیاناً تعطی لنفس الطرف کالمهر، وأحیاناً للفقراء کإطعام ستین مسکیناً أو عشرة أو کسوتهم أو ما أشبه ذلک، وأحیاناً لفائدة إنسان کعتق العبد، وأحیاناً لبیت المال، کما هو الظاهر من الکتاب الذی ذکر فی (نهج البلاغة) إلی المنذر بن الجارود العبدی حیث کتب إلیه (علیه السلام): «أما بعد فإن صلاح أبیک غرنی»((1)) إلی آخره، فأقبل الرجل إلی الإمام فعزله وأغرمه ثلاثین ألفاً، کما فی تاریخ الیعقوبی.

وهناک روایة أخری تأتی تدل

ص:355


1- نهج البلاغة: الکتاب 71

علی أن الغرامة تعطی لبیت المال.

وثانیاً: بقانون الأهم والمهم، فإنه إذا کان فی قطر کالعراق یخالف السواق المرور فی کل یوم ما لا یقل من عشرة آلاف مرة، فهل یمکن سجن عشرة آلاف إنسان فی کل یوم أو تعزیزهم، وکم یحتاج هذان الأمران من أمور السجن ومن ضیاع العیال ومن أفراد التعزیر، وهل تتحمل کل ذلک الدولة الإسلامیة، أما إذا بدل إلی الغرامة المالیة کان ذلک أقرب إلی قدرة الدولة وأبعد من الإثارة وأحفظ للسمعة، حتی لا یظهر الإسلام بالمظهر البشع الجلاد، وقد رفع الرسول (صلی الله علیه وآله) وعلی (علیه السلام) یدهما عن جملة من الأحکام لهذا قانون، فالسلب لذلک والإیجاب أی التغریم لعدم الفوضی والضرر بذهاب الأنفس وتلف الأموال إلی غیر ذلک مما ینتجه عدم خوف السواق من مخالفة المرور.

وهذا الکلام یأتی فی سائر المخالفات غیر مخالفة المرور أیضاً.

 وثالثاً: ما ورد من تغریم النبی (صلی الله علیه وآله) شخصاً مرتین، فقد روی السکونی، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: «قضی النبی (صلی الله علیه وآله) فیمن سرق الثمار فی کمه فما أکل منه فلا شیء علیه وما حمل فیعزر ویغرم قیمته مرتین»((1)).

أقول: عدم البأس بما أکل لأنه من حق المارة، ویؤیده ما رواه العامة عن النبی (صلی الله علیه وآله) حیث قال: من أکل بفمه ولم یتخذ خبنة فلیس علیه شیء، ومن وجد قد احتمل ففیه ثمنه مرتین وضرب نکال.

والخبن بالضم: معطف الإزار وطرف الثوب، أی لم یتخذ شیئاً منه فی طرف أزاره أو ثوبه.

وروایة أخری للعامة، عنه (صلی الله علیه وآله)

ص:356


1-

أیضاً فی مثل ذلک قال: «من أصاب بغیه من ذی حاجة غیر متخذ خبنة فلا شیء علیه، ومن خرج بشیء منه فعلیه غرامة مثلیه والعقوبة، ومن سرق منه شیئاً بعد أن یؤویه الجرین فبلغ ثمن المجن فعلیه القطع، ومن سرق دون ذلک فعلیه غرامة مثلیه والعقوبة».

والمراد بثمن المجن ربع دینار، کما فی بعض التواریخ وغیرها، والجرین موضع تجفیف التمر.

ورابعاً: ما ورد من تغریم من عذب عبده، وما ورد من عتق العبد وهو نوع من التغریم أیضاً للسید الذی نکل بعبده، ففی خبر مسمع بن عبد الملک، عن أبی عبد الله (علیه السلام): «إن أمیر المؤمنین (علیه السلام) رفع إلیه رجل عذب عبده حتی مات، فضربه مائة نکالاً وحبسه سنة وأغرمه قیمة العبد فتصدق بها عنه»((1)).

وفی روایة أخری عن الصادق (علیه السلام): «فی رجل قتل مملوکه أنه یضرب ضرباً وجیعاً وتؤخذ منه قیمته لبیت المال»((2)).

وفی روایة یونس عنهم (علیهم السلام)، قال: سأل عن رجل قتل مملوکه، قال: «إن کان غیر معروف بالقتل ضرب ضرباً شدیداً، وأخذ منه العبد ویدفع إلی بیت مال المسلمین»((3)).

وعن أبی بصیر، عن أبی جعفر (علیه السلام)، قال: «قضی أمیر المؤمنین (علیه السلام) فیمن نکل بمملوکه أنه حر لا سبیل علیه سائبة یذهب فیتولی إلی من أحب، فإذا ضمن حدثه فهو یرثه»((4)).

وعن الصدوق: «روی فی امرأة قطعت یدی ولیدتها أنها حرة لا سبیل لمولاتها علیها»((5)). وذلک بضمیمة فهم الملاک.

وخامساً: الأولویة من النفس، فإن مقتضی سلطنة الناس علی أموالهم وأنفسهم أن النیل من المال أهون من النیل من النفس، لأن المال تابع للنفس لا العکس، ومن الواضح أهمیة النفس علی المال فإذا جاز

ص:357


1-
2-
3-
4-
5-

للحاکم النیل من النفس بالسیاط جاز النیل من المال بالتغریم بطریق أولی.

وسادساً: الروایات المقررة دیة علی الجراحات والضرب ونحوها، فإنها نوع من التغریم، بضمیمة الملاک.

وسابعاً: إن العقلاء إذا کانوا یغرمون فی المخالفات کما جرت بذلک سیرتهم من قبل الإسلام إلی الیوم، فما بدله الإسلام بشیء آخر یقال بذلک الشیء، وما لم یبدله یقال ببقائه من باب الإمضاء، بضمیمة قوله (علیه السلام): «إنی قد جعلته علیکم حاکماً»((1))، حیث إن الموضوع یؤخذ من العرف، فما یفعله الحکام الزمنیون یفعله الحاکم الشرعی بشرط أن لا یکون الإسلام نص علی خلافه.

لا یقال: نص الإسلام علی الخلاف فی (الناس مسلطون) بضمیمة (قاعدة التعزیر).

لأنه یقال: قد عرفت المحذور فی الجلد، فیکون دلیل الحکومة حاکماً علی دلیل السلطة.

وثامناً: إنه لو توقف اجتثاث جذور المنکرات أو التقلیل منها علی ذلک شمله أدلة النهی عن المنکر، والتوقف علی ذلک إنما یکون بعد وجود المحذور فی جلد ألوف الناس کل یوم.

وتاسعاً: ما ورد من تغییر شکل المحرم بکسره کالصلیب وآنیة الذهب والفضة والتمثال وآلة اللهو، فإنه تغریم للصورة التی لها أثمان کما لا یخفی.

وعاشراً: إنه لو وکلت الأمة الفقیة أو نواب المجلس أو ما أشبه فی إدارة شؤونهم، وکان من إدارة الشؤون تصریحاً أو ارتکازاً التغریم فقد

ص:358


1-

تنازلت الأمة عن تسلطها علی أموالها بقدر الصلاح.

هذا ولکن المسألة بعد بحاجة إلی مزید من التتبع والتأمل، خصوصاً وجملة من المذکورات غیر صالحة الاستناد أو مناقش فیها.

السابع: من ضمانات الإجراء: الحدود والقصاص والدیات، علی التفصیل الذی ذکرناه فی کتبها فی الفقه.

((لا للتعذیب))

((لا للتعذیب))

تتمة لیس من ضمانات الإجراء التعذیب إطلاقاً، وإن کان متداولاً قبل الإسلام، وفی غیر المسلمین إلی الیوم حتی أن الدول التی تسمی بالدیمقراطیة تمارس أبشع أنواع التعذیب.

أولاً: من ناحیة صنعهم الأسلحة الکیمیاویة والجرثومیة وتصدیرهم أدوات التعذیب إلی البلاد المتخلفة، إلی غیر ذلک.

وثانیاً: بواسطة عملائهم فی البلاد المتخلفة التی منها کافة الدول الإسلامیة فی العصر الحاضر، أما العالم الشیوعی فحدث عن أسالیب تعذیبها ولا حرج منذ بزوع حکومتهم إلی الیوم، وما التعذیبات التی مارسوها فی أفغانستان وغیرها مما ذکرنا جملة منها فی کتاب (الممارسة) إلاّ قطرة فی بحر تعذیباتهم الکثیرة والبشعة.

وعلی أی حال، فالتعذیب فی الإسلام محرم، والإقرار تحت طاولة التعذیب باطل.

ففی الوسائل، عن أبی البختری، عن أبی عبد الله (علیه السلام): إن أمیر المؤمنین (علیه السلام) قال: «من أقر عند تجلید أو تخویف أو حبس أو تهدید فلا حد علیه»((1)).

وعن إسحاق بن عمار، عن جعفر بن محمد، عن أبیه (علیهما السلام)، إن علیاً (علیه السلام) کان یقول: «لا قطع علی أحد یخوف من ضرب ولا قید ولا سجن ولا تعنیف، وإن لم یعترف سقط عنه لمکان التخویف»((2))، والمراد إنه إن لم یعترف بإرادته

ص:359


1-
2-

واختیاره بدون إکراه ولا إجبار فاعترافه الإکراهی لا یوجب الحد، والحد ساقط عنه.

وعن سلیمان بن خالد، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل سرق سرقة فکابر عنها فضرب فجاء بها بعینها هل یجب علیه القطع، قال: «نعم، ولکن لو اعترف ولم یجئ بالسرقة لم تقطع یده لأنه اعترف علی عذاب»((1)).

وفی الجعفریات، بسنده عن جعفر بن ،محمد عن أبیه، عن جده (علیهم السلام)، إنه سئل عن الرجل یقر علی نفسه بقتل أو حد، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): «لا یجوز علی رجل قود ولا حد بإقرار بتخویف ولا حبس ولا بضرب ولا بقید»((2)).

عن دعائم الإسلام، عن علی (علیه السلام): «من أقر بحد علی تخویف أو حبس أو ضرب لم یجب ذلک علیه ولا یحد»((3)).

وعنه (علیه الصلاة والسلام) أیضاً، إنه أتی برجل اتهم بسرقة أظنه خاف علیه أن یکون إذا سأله تهیب لسؤاله، فأقر بما لم یفعل، فقال له علی (علیه الصلاة والسلام): أسرقت قل لا إن شئت، فقال: لا، ولم تکن علیه بینة فخلی سبیله»((4)).

وفی مسند زید بن علی، قال حدثنی زید بن علی، عن أبیه، عن جده، عن علی (علیهم السلام) قال: «لما کان فی ولایة عمر أتی بامرأة حامل فسألها عمر فاعترفت بالفجور، فأمر بها عمر أن ترجم، فلقیها علی بن أبی طالب (علیهما السلام) فقال: ما بال هذه، قالوا: أمر بها عمر أن ترجم، فردها علی (علیه السلام) فقال: أمرت بها أن ترجم، فقال: نعم اعترفت عندی بالفجور، فقال علی (علیه السلام): هذا سلطانک علیها فما سلطانک علی ما فی بطنها، قال: ما علمت أنها حبلی، قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): إن لم تعلم تستبرئ رحمها، ثم قال (علیه السلام): فلعلک انتهرتها أو أخفتها، قال: قد کان ذلک، فقال: أو ما سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله) یقول: لا حد علی معترف بعد بلاء، إنه من قیدت وحبست أو

ص:360


1-
2-
3-
4-

تهددت فلا إقرار له، قال: فخلی عمر سبیلها، ثم قال: عجزت النساء أن تلد مثل علی بن أبی طالب لولا علی لهلک عمر»((1)).

وبذلک یظهر کذب ما نسبه الطبری وابن هشام فی حدیث مجعول إلی رسول الله (صلی الله علیه وآله) من أنه أمر بتعذیب یهودی فعذبه الزبیر بقدح زند فی صدره، فإن هذا الحدیث مع أنه لا سند له یعتمد علیه وأن مثل هذا الحدیث منبوذ بنفسه، لأن القصة مربوطة بالیهود ومن المعلوم أنهم لم یألوا یکذبون علی رسول الله (صلی الله علیه وآله) والمسلمین للحط من شأنهم وجلب العطف إلی أنفسهم، وبذلک سمیت أمثال هذه الأحادیث بالإسرائیلیات، وأنه لم یعهد من سیرة رسول الله (صلی الله علیه وآله) مثل ذلک أبداً، یکذبه الأحادیث السابقة، بل ویکذبه أیضاً ما رواه البحار، عن العلل، عن أبی جعفر (علیه السلام) قال: «إن أول ما استحل الأمراء العذاب لکذبة کذبها أنس بن مالک علی رسول الله (صلی الله علیه وآله) أنه سمر ید رجل إلی الحائط، ومن ثم استحل الأمراء العذاب»((2)).

وقد کان خلفاء أمیة وعباس وعثمان یعذبون الناس بأقسام من العذاب، کما نذکر جملة منها فی تتمة هذا الفصل.

أولاً: للانتقام من أعدائهم وشفاء حقدهم.

وثانیاً: لأجل تحصیل القدرة بأخذ أموال الناس وإرهابهم وحفظ سلطتهم.

ولعل السر فی جعل هذین الحدیثین أیضاً ونسبتهما إلی رسول الله (صلی الله علیه وآله) هم أولئک الخلفاء تبریراً لأعمالهم، فإن جعل الحدیث کان عندهم لمقاصدهم السیاسیة أسهل من شرب الماء.

((شبهات وأجوبة))

((شبهات وأجوبة))

وقد استدل بعض المنحرفین لوجود التعذیب فی الإسلام بوجود القربان فی الأدیان، وبوجود العذاب فی الآخرة، وبالحدود والقصاص فی الإسلام.

ص:361


1-
2-

((القربنة))

((القربنة))

والجواب: إنه لم یکن القربان البشری فی الأدیان الإلهیة إطلاقاً، نعم کانت فی الوثنیة، وقد أراد إبراهیم (علیه الصلاة والسلام) أبو الأنبیاء نسخ هذه العادة المشینة، وکان النسخ بأمر إلهی فی صورة قصصیة توجب إقناع الإنسان بأن الله سبحانه بدل قربنة الإنسان إلی قربنة الحیوان، أما قربنة الحیوان فهی لأجل الطعام، کما قال سبحانه: ﴿فإذا وجبت جنوبها فکلوا منها وأطعموا القانع والمعتر﴾((1))، وفی آیة أخری: ﴿وأطعموا البائس الفقیر﴾((2))، وقد کانت القربنة فی الحج والأضحیة لأجل ذلک.

فعن سیف التمار، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): إن سعید بن عبد الملک قدم حاجاً فلقی أبی فقال: إنی سقت هدیاً فکیف أصنع، فقال له أبی: أطعم أهلک ثلثاً وأطعم القانع والمعتر ثلثاً وأطعم المساکین ثلثاً، فقلت: المساکین هم السؤال، فقال: نعم، وقال: القانع الذی یقنع بما یلقی إلیه من البضعة فما فوقها، والمعتر ینبغی له أکثر من ذلک هو أغنی من القانع یعتریک فلا یسألک»((3)).

إلی غیر ذلک من الروایات الکثیرة الواردة فی هذا الباب، ابتداءً من رسول الله (صلی الله علیه وآله) إلی سائر الأئمة الطاهرین (علیهم الصلاة والسلام).

أما ما یشاهد فی هذه الأیام من عدم الإطعام فی منی فللتخلف السعودی المرتبط بالبلاد الغربیة، وهو تخلف متعمد مربوط بالکافرین بإظهار بلاد السلام بلاداً متخلفة فی کل شیء، والتی منها هذا المنسک، ولذا وردت فی الروایات أکل الحاج وإطعامه، ومن الواضح أن العملیة أثبت فی النفس من الأمر والنهی، وفی قصة إبراهیم (علیه الصلاة والسلام) إظهار:

أولاً: لإطاعة الأولاد للآباء إطاعة مطلقة، وبذلک تتقوی الصلة

ص:362


1-
2-
3-

العائلیة مما أراد مارکس ومن أشبهه إذابتها کما فی البیان الشیوعی وغیره.

وثانیاً: إطاعة الإنسان لله سبحانه إطاعة مطلقة حتی تستقیم حیاة الإنسان، فإن القوانین الحکومیة لا تکفی لإیجاد وعی فی نفس الإنسان مما أراد مارکس ومن أشبه أیضاً إزالتها.

وثالثاً: ما تقدم من إرادة نسخ العادة الوثنیة بصورة عملیة تکون أثبت فی النفس.

((نزول العذاب الإلهی))

((نزول العذاب الإلهی))

وقد أشکل بعض المنحرفین علی عذاب الاستیصال الوارد فی القرآن الحکیم نقلاً عن جملة من الأنبیاء السابقین ولم یکن ذلک إلاّ تطبیقاً لقانون الأهم والمهم العقلائیة، کما هی العادة فی الحروب بل فی العملیات الجراحیة أیضاً، إن الطبیب الرؤوف إذا أراد عملیة السرطان المهلک لا بد وأن یقطع معه أشیاء من اللحم الصالح، ویریق معه شیئاً من الدماء النظیفة، ویخدر کل جسم المریض قبلاً، والتخدیر بنفسه غیر صحیح وإنما یصح لأنه تقدیم للأهم علی المهم.

وهکذا کانت حال الحروب من القدیم إلی الیوم، فإذا تسلط جماعة من الظالمین _ ویستمر التاریخ بین ظالم ومظلوم _ ألم یکن من الأفضل عند کافة العقلاء استئصال الظالم، ولو استأصل بسببه بعض من لا ظلم لهم، بل هم أیضاً ضحایا الظلم، وذلک لإنقاد الباقین من الظلم، حتی لا یستمر التاریخ الظالم.

هذا علی فرض أن عذاب الاستئصال شمل غیر الظالم أیضاً، بینما الظاهر أنه لم یشمل إلاّ الظالمین، ففی زمن نوح (علیه السلام) لم یکن البشر إلاّ فی قطعة خاصة من المعمورة، وهم الذین أغرقوا، وقد أشار نوح (علیه السلام) إلی ذلک حیث قال: ﴿ولا یلدوا إلاّ فاجراً کفاراً﴾((1))، فهم کافرون بالله وفی نفس الوقت فجار یفسدون فی الأرض، ومن الواضح أن الفساد کان أیضاً شأن النساء، فهن کن أیضاً علی مسلک رجالهن وکن یساحقن، کما فی

ص:363


1- سورة نوح: 27

قصة لوط (علیه الصلاة والسلام) ولم یکن لهم أطفال کما وردت فی الروایات أنها عقمت أرحام النساء قبل العذاب بمدة، فکان من العدل إهلاک الجناة حتی یظهر الجیل الطاهر فی المستقبل ویعید الحیاة إلی مجراها الصحیح.

((العقاب فی الآخرة))

((العقاب فی الآخرة))

أما العقاب فی الآخرة فلا شک أنه موجود، لأن الصادق أخبر بوقوعه، فلابد وأن یکون کما قاله ابن سینا، لکن لا إشکال فی انه بقدر الجریمة، قال سبحانه: ﴿جزاءاً وفاقاً﴾((1))، وقال: ﴿من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسیئة فلا یجزی إلاّ مثلها﴾((2)).

أما أنه کیف یکون الجزاء بالمثل، فذلک خارج عن فهم الإنسان فی الدنیا، ولذا ورد أن الإنسان یری هناک ما لا عین رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علی قلب بشر((3))، وذلک واضح من جهة أن الآخرة لها حالات غیر حالات الدنیا إطلاقاً، فکما أن الطفل الذی یدرس بالابتدائیة لا یفهم دروس الجامعة إطلاقاً، کذلک الإنسان فی الدنیا حاله حال الطفل بالنسبة إلی الآخرة.

ولذا لا یفهم من النصوص القرآنیة وغیرها إلاّ أصل اللذة فی النعیم، والإیلام فی الجحیم، أما الخصوصیات فموکولة فهمها إلی هناک، فهو مثل أن یقال للطفل إن لذة الجنس کطعم السکر، أو إن ألم سقوط المکانة الاجتماعیة کوخز الإبرة، وحیث رأی المارکسیون علی عادة الیهود أن الأخلاق فی الأمم تنافی قصدهم فی السیطرة علی العالم، ضربوا الأخلاق حتی لا یکون أخلاق إطلاقاً، وتمسکوا باللاءات الخمس (لا دین) و(لا أخلاق) و(لا عائلة) و(لا دولة) و(لا ملکیة فردیة)، والکل ینصب فی نفس المنحی حتی (لا دولة) وذلک لضعضعة أرکان الدولة حتی یسیطروا هم علی الناس، کما

ص:364


1-
2-
3-

وجدناهم فی العصر الحاضر فی العراق وفی أفغان وفی غیرهما من بعض بلاد إفریقیا حیث عملوا بهذه اللاءات مقدمة لسیطرتهم، ویحدثنا تاریخهم عن فعلهم ذلک فی البلاد التی استعمروها من البلاد الإسلامیة، الإیرانیة وغیرها، وهؤلاء هم الذین وصموا الإسلام بما ذکرناه من التعذیب.

ولذا نری أحدهم ینعی علی علی أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) قوله: (عجبت ممن یتکبر وقد خرج من مخرج البول مرتین) قائلاً إنه غیر صحیح، لأنه إشعار بحقارة الإنسان.

والجواب: نعم إنه یشعر الإنسان بحقارته الواقعیة حتی لا یتکبر ولا یظلم، فهل هذا أفضل أو أن یشعر الإنسان بنخوته وکبریائه ویقول لا أخلاق، وهو خلاف الواقع فی نفس الوقت حتی یظلم ویظلم ویظلم، فیستحوذ علی البنات علی حساب العوائل، وعلی الأموال علی حساب العامل والفلاح والکسبة وغیرهم، وعلی العقائد علی حساب المبادئ السلیمة.

والطریف فی الأمر أن الشیوعیین أتباع مارکس یکفر بعضهم بعضاً، ویقتل بعضهم بعضاً، ویغتصب بعضهم نساء بعض، ویعذب بعضهم بعضاً، وینهب بعضهم بعضاً، وکل طائفة تدعی الأخلاقیة المارکسیة، وأن الطائفة الثانیة مارقة عن النهج المارکسی، وذلک تناقض قولهم (لا أخلاق)، وکلما ادعی أحدهم مارکسیة أکثر یکون ظلمه وعسفه وإراقته للدماء وفساده فی الأرض أکثر، کما شاهدنا ذلک فی تاریخ لینین وستالین وخروشوف وماو ومن أشبههم.

وبالعکس نجد عند الإلهیین حتی الظالمین منهم أنهم کلما کان بعدهم عن الإسلام أکثر یکون لهوهم وقضایا جنسهم وشذوذهم وظلمهم للناس أکثر، کیزید ومروان وهارون والمتوکل والمعتضد.

((الحدود والعقوبات الإسلامیة))

((الحدود والعقوبات الإسلامیة))

أما الحدود فی الإسلام فهی أرحم وأرحم من المسیحیة الغربیة من القدیم إلی الیوم، والمارکسیة

ص:365

الشرقیة منذ ظهورها إلی الیوم، باستثناء المسیح (علیه الصلاة والسلام) والمؤمنون الحقیقیون به. والتاریخ الغابر والحاضر أکبر شاهد علی ذلک مما لا داعی إلی إطالة الکلام فیه.

هذا بالإضافة إلی أن الحدود للتخویف أقرب منه إلی التطبیق، ولذا زوج علی (علیه الصلاة والسلام) المرأة المومسة، وعفا عن السارق واللاطی حیث وجد سبیلاً إلی ذلک.

وقد ألمعنا فی کتاب (الممارسة) أن إجراء الحد علی السارق یحتاج إلی خمسة وأربعین شرطاً، وإجراء الحد علی الزانی ونحوه یشابه ذلک إن لم یکن أصعب منه.

ولذا وردت الروایات المتواترة فی کتب العامة والخاصة عن رسول الله (صلی الله علیه وآله) فی النهی عن المثلة، والمراد بالمثلة تعذیب الحی وتشویهه، وکذلک بالنسبة إلی المیت، وقصة حمزة ونزول آیة ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خیر للصابرین﴾((1)) مشهورة، وقد روی عن رسول الله (صلی الله علیه وآله) أن الراوی قال: (ما قام فینا رسول الله (صلی الله علیه وآله) خطیباً إلاّ أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة)((2)).

وفی روایة أخری: «نهی رسول الله (صلی الله علیه وآله) عن النهبة والمثلة»((3))، والنهبة بضم النون بمعنی أخذ أموال الناس من دون محور شرعی.

وفی روایة أخری: «نهانا رسول الله (صلی الله علیه وآله) عن المثلة»((4)).

ورووا أیضاً عنه (صلی الله علیه وآله) بأنه مر هشام بن حکیم علی أناس من الأنباط بالشام قد أقیموا فی الشمس، فقال: ما شأنهم، قالوا: حبسوا فی الجزیة، فقال هشام: أشهد لقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله) یقول: «إن الله یعذب الذین یعذبون الناس فی الدنیا»، ودخل علی حاکم فلسطین فحدثه بالحدیث فأمر بهم فخلوا((5)).

وفی جملة من الروایات: «لا تغلوا ولا تمثلوا»((6)).

وفی بعضها: «لا تغدروا ولا تمثلوا»((7)).

وفی التاریخ: إن

ص:366


1-
2-
3-
4-
5-
6-
7-

الرسول (صلی الله علیه وآله) قال بالنسبة إلی (هبّار): «لا یعذب بالنار إلاّ الله»((1))، وقد کان هبار من سفلة قریش وقد طارد ابنة رسول الله (صلی الله علیه وآله) زینب حین هاجرت من مکة لتلتحق بوالدها وضرب هودجها فسقطت من بعیرها وکانت حاملاً فأجهضت وسبب نفس ذلک موتها بعد مدة، فأهدر رسول الله (صلی الله علیه وآله) دمه ولو کان متعلقاً بأستار الکعبة، ثم نسخ أمره وعفا عنه((2)).

وفی روایة الیعقوبی: تأکید النهی عن التعذیب لأی سبب کان.

وفی (نهج البلاغة) النهی عن المثلة((3)).

وفی جملة من الروایات: إنه (صلی الله علیه وآله) قال: «ألا أخبرکم بشرار الناس، ثم قال: من أکل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده»((4)).

وفی روایة أخرجه بعض العامة أنه جاء رجل إلی النبی (صلی الله علیه وآله) صارخاً، فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله): ما لک، قال: سیدی رآنی أقبل جاریة له فجب مذاکیری، فقال النبی (صلی الله علیه وآله): علی بالرجل، فطلب فلم یقدر علیه، فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله) للعبد اذهب فأنت حر. والمذاکیر هی الأعضاء التناسلیة.

وفی روایة أخری لهم، قال: کنا نبیع البر فی دار سوید بن مقرن فخرجت جاریة وقالت لرجل منا کلمة، فلطمها، فغضب سوید وقال: لطمت وجهها لقد رأیتنی سابع سبعة من إخوانی مع رسول الله (صلی الله علیه وآله) ما لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا فأمرنا رسول الله (صلی الله علیه وآله) فأعتقناها.

و(خادم) یطلق علی الرجل والمرأة، فالخادم کانت امرأة فی هذا الحدیث.

وفی حدیث: «من لطم مملوکه فکفارته أن یعتقه»((5)).

وفی حدیث: «من ضرب عبده فی غیر حد حتی یسیل دمه فکفارته عتقه»((6)).

وفی حدیث سعید بن جبیر: خرجت مع ابن عمر فی طریق المدینة فإذا غلمة یرمون

ص:367


1-
2-
3-
4-
5-
6-

دجاجة، فقال ابن عمر: من فعل هذا، فتفرقوا، فقال: إن رسول الله (صلی الله علیه وآله) لعن من مثل((1)).

وفی حدیث آخر: سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله) نهی عن قتل الصبر فو الذی نفسی بیده لو کانت دجاجة ما صبرتها((2)).

والمراد بقتل الصبر هو القتل البطیء بوسائل التعذیب ونحوه.

وفی روایة: إن النبی (صلی الله علیه وآله) نهی أن تصبر البهائم((3)).

وفی روایة: نهی (صلی الله علیه وآله) عن المجثمة، أی المصبورة((4)).

إلی غیرها من الروایات الکثیرة التی یجدها من شاء فی کتب العامة والخاصة، خصوصاً فی کتابی (الجهاد) و(الصید والذباحة).

((حکام ظلمة))

((حکام ظلمة))

وننهی هذا الفصل ببیان بعض التعذیبات التی کان یرتکبها من سموا أنفسهم بالخلفاء والأمراء الذین قفزوا علی المسلمین بقوة السلاح والنار بدون أیة مشروعیة وانتخابات حرة، مما لم یسبب عدم انتشار الإسلام وعدم تقدمه فحسب، بل سبب تقلصه مما نری آثاره جلیاً فی الحال الحاضر، حیث إن الضعف الذی أصاب الإسلام من جراء أولئک الخلفاء وأمرائهم انتهی إلی الحالة المؤلمة التی نشاهدها عند المسلمین من الانحطاط والتأخر والتفرق وغلبة الأعداء علیهم، کالأعمال خلاف الصحیة التی یمارسها الشباب عند شبابهم اعتماداً علی قوی بنیتهم فتری آثارها فی حال شیخوختهم من الضعف والوهن والمرض وغیرها.

فقد کان القتل والسجن ومصادرة الأموال واغتصاب النساء والتعذیب للاعتراف أو للجبابة أو للعقوبة من أسهل الأمور عند هؤلاء الحکام، فمعاویة ووالیه زیاد بن أبیه ویزید ووالیه ابن زیاد کان عندهم القتل الکیفی والتعذیب مثل شرب الماء، فکانوا یقتلون الناس علی الظنة والتهمة، وقتل البریء لإخافة المذنب.

وقد منع ابن زیاد التجول فی البصرة لیلاً، فجیء إلیه

ص:368


1-
2-
3-
4-

بفلاح خرج لیلاً للبحث عن بقرته الضائعة، ولم یکن سمع بقرار منع التجول فی اللیل، فقتله بعد تصدیقه أنه لم یکن یعرف ذلک الحکم، ولکن قال: لأن لا یتجرأ الناس بمخالفة الأمر.

وکذلک فعل ابن زیاد فی الکوفة عندما سیر الناس إلی قتال الحسین (علیه الصلاة والسلام) فجاء إنسان من الخارج ولم یکن سمع بذلک، فجیء إلی ابن زیاد به فأمر بقتله، قال: إنی أعلم أنک صادق فی عدم علمک بأمری وأنک غریب لکنی أقتلک لأن لا یتجرأ غیرک.

کما أن قتل النساء وهو غیر مألوف فی الإسلام، کان یمارسها هؤلاء، فإن وکیل زیاد علی البصرة وهو سمرة بن جندب صاحب (قصة الشجرة) أعدم ثمانیة آلاف من أهلها، تطبیقاً لمبدأ القتل علی التهمة.

وقد أمر زیاد بقطع لسان رشید الهجری وصلبه، لأنه تکلم بما لا یرضیه.

والحجاج الذی حکم الکوفة عن الأمویین کان نسخة أخری عن زیاد ابن زیاد، وقد أنشأ سجن (الدیماس) المشهور وکان بلا سقف، وقدر عدد من کان فیه عند وفاته بعشرات الآلاف من الرجال والنساء، وکان التعذیب یطبق علی الأسری والمعتقلین حسب کیف الحجاج، کما أن القتل الکیفی کان شائعاً فی مجلسه کل یوم تقریباً، فیأمر بالنطع فیفرش ویقطع رأس الضحیة بالسیف، کما أنه کان الحجاج یصلب بعد القتل الأشخاص الذین لهم وزن خاص فی حرکة المعارضة أو ما أشبه ذلک. وکان من ضحایا هذا الإجراء میثم التمار مع جماعة آخرین من أصحاب أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام).

کما أن هشام بن عبد الملک فی الشام وولاته علی الأقالیم کانوا یقتلون أیضاً الناس الأبریاء بغیر جرم، بل بمجرد أنهم کانوا یخالفون نظر الخلیفة أو والیه، وکذلک کانوا یقطعون أیدی الناس وأرجلهم، وقد قتل ذیلان بن مسلم الدمشقی بتهمة القول بالقدر،

ص:369

کما أنه بنفس التهمة قتل خالد القسری عامله علی العراق الجعدة بن درهم، وکان خالد القسری قبل ذلک والیاً علی الحجاز وأصدر عند ذلک تحذیراً لمن یتکلم حول الخلیفة أن یصلبه فی الحرم، أی فی داخل المکان المقدس لدی المسلمین کافة. ومن الواضح أن الشریعة الإسلامیة حرمت حتی قتل الصید أو أذاه فی هذا المکان.

وطبق شقیقه أسد حاکم خراسان طریقة قطع الأیدی والأرجل والصلب علی أتباع الحارث بن سریج.

وفی أیام هشام کان أیضاً بعض الناس یحرقون حرقاً وهم أحیاء، کالمغیرة بن سعید العجلی الذی ظهر خارج الکوفة فی أیام ولایة خالد القسری.

کما أن أبا مسلم الخراسانی الذی مهد الدولة للعباسیین وکان من عملائهم قتل حسب روایة الطبری فی المشرق ستمائة ألف، بین رجل وامرأة وغلام، وقد کان وصیته إلی عماله: أن اجعلوا أصواتکم السیف، وسجنکم القبر.

کما أن أحدهم کتب إلی عامله أن یقتل أی غلام بلغ خمسة أشبار إذا شک فی ولائه.

وقد قتل المنصور بعض العلویین بدفنهم أحیاءً، کما أنه قد تطور القتل لدی هؤلاء بالتقطیع فی أوصال الضحیة، فبعد أن کانت الأیدی والأرجل تقطع تقطع دفعة واحدة صارت تقطع إلی عدة أوصال ویضم إلیها أجزاء أخری من الجسم، وقد أبلغها هارون العباسی إلی أربع عشرة قطعة مع تطویر فی الوسیلة تضمنت استعمال مدیة غیر حادة بدلاً من السیف.

وکانوا یضربون الناس ویحلقون الشعور لأجل أخذ الأموال منهم، فقد أصبح التعذیب قاعدة متبعة فی الجبایة لدی هؤلاء.

وقد خطب أبو حمزة الخارجی قائلاً مشیراً إلی الخلیفة الأموی: إنه لبس بردتین قد حیکتا له وقومتا علی أهلها بألف دینار قد أخذت تلک الدنانیر من غیر حلها وصرفت فی غیر وجهها، بعد أن

ص:370

ضربت فیها الأبشار وحلقت فیها الأشعار، والأبشار جمع بشرة.

ولما رأی الفضیل بن عیاض المحدث المشهور لدی العامة أناساً یعذبون فی الخراج فی عهد هارون استنکره بالاستناد إلی حدیث نبوی فی النهی عن التعذیب، وتذکر الروایة أن هارون لما بلغه ذلک أمر برفع العذاب عن الناس، والمراد بالناس الذین کانوا یعطون الأموال لا مطلق الناس، إذ تعذیب مطلق الناس بقی إلی آخر عهد العباسیین.

وقد کان الإمام موسی بن جعفر (علیه الصلاة والسلام) معذباً فی سجن هارون، وأخیراً قتله بالسم فی قصة مشهورة.

وقد کانوا یقیمون الهارب عن الجیش فی حالة مرثیة فی مکان عام للتشهیر به.

وکان مصعب بن الزبیر فی العراق أضاف إلی ذلک نزع العمامة وحلق الرأس واللحیة.

وفی ولایة بشر بن مروان شقیق ابن عبد الملک للعراق فرض التعذیب الجسدی، فکان الهارب یرفع عن القاع ویسمر فی یدیه مسماران فی حائط ویترک لشأنه، فربما بقی معلقاً حتی یموت، وربما خرق المسمار کفه فسقط وسلم من الموت، کما أنهم کانوا یسملون العیون، وقد طال ذلک جملة من الخلفاء حیث إنهم کانوا یأخذون الخلیفة ویسملون عینیه ویترکونه فی الشارع، وقد قال أحد الشعراء فی خوفه من التعذیب بالمسمار هذین البیتین:

لولا مخافة بشر أو عقوبته    وأن ینوط فی کفی مسمار

إذاً لعطلت ثغری ثم زرتکم     إن المحب لمن یهواه زوار

بشر: هو الوالی من قبل هؤلاء.

کما أنهم کانوا یحملون الرأس من بلد إلی بلد تمثیلاً بالمیت، وإرهاباً لأهالی لبلاد، ویقال: إن أول رأس حمل فی الإسلام هو رأس عمرو بن

ص:371

الحمق، أحد أتباع الإمام أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) وقد قتله زیاد بن أبیه وحمل رأسه إلی معاویة مع غیره من رؤوس أصحاب علی (علیه الصلاة والسلام) الذین قتلهم صبراً.

ومن الحوادث المشهورة المفجعة فی هذا الباب حمل عمر بن سعد وأتباعه رؤوس الحسین (علیه الصلاة والسلام) وأهل بیته وأصحابه بعد قتلهم إلی الکوفة، ومن الکوفة إلی الشام إلی یزید، وقد أهان ابن زیاد رأس الحسین (علیه الصلاة والسلام) بضربه بالقضیب، وکذلک فعل نفس ذلک یزید متمثلاً:

لیت أشیاخی ببدر شهدوا   جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا واستهلوا فرحاً    ثم قالوا یا یزید لا تشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم    وعدلناه ببدر فاعتدل

وقطع رأس زید (علیه السلام) وصلب جسده ثم إنزاله عن المصلبة بعد سنوات وحرق جسده مشهور.

وقد بقی هذه العادة السیئة فی أیام العباسیین أیضاً، وقصة حمل رأس شهداء فخ إلی الخلیفة العباسی، ورأس الأمین من بغداد إلی المأمون فی خراسان، ونصب الرأس علی باب القصر، وأمر الناس بلعنه والبصاق فی وجهه، فی التواریخ مذکورة، ومن یفعل مثل ذلک بأخیه ماذا یفعل بسائر الناس.

وقد جعل أحدهم حدیقة فی قصره لزرع الرؤوس المقطعة، کما أن أحدهم جعل خزانة فی بیته للاحتفاظ بالرؤوس المقطوعة والأیدی والأرجل، وکانوا یضربون الناس بالید صفعاً علی القفا والوجنتین، کما کانوا یضربون بالهراوة علی الکتفین والظهر والأرادف، أما المقرعة فقد کانت للرؤوس، ومن الواضح أنه کان أشد إیلاماً من الید والهراوة.

أما الضرب بالسوط للناس جلداً بدون أی وجه

ص:372

شرعی فقد کان سائداً وعملاً یومیاً لکل الخلفاء وأمرائهم، وینفذ فی المضروب واقفاً أو مبطوحاً، وقد یقمطر ویضرب وهو ما اختاره وإلی المدینة فی جلد مالک بن أنس مؤسس المذهب المالکی، وکان قد أفتی بعدم شرعیة البیعة للمنصور لأنها أخذت بالإکراه، فأمر الوالی بتأدیبه، وتم ذلک برفعه من یدیه ورجلیه بعد أن قلبوه علی وجهه وأخذوا بجلده علی الظهر.

وکذلک جلد أبو حنیفة مؤسس المذهب الحنفی.

کما جلد جملة من أولاد الإمام الحسن (علیه الصلاة والسلام) وأحفاده فی قضایا مشهورة.

وإذا کانوا یفعلون مثل هذا بسادات المسلمین وعلمائهم وفقهائهم، من غیر فرق بین أن یکون مذهبه شیعیاً أو سنیاً، فما بالک بسائر الناس الذین لا وزن لهم.

وفی روایة لابن أثیر إن قائداً من الخوارج یدعی محمد بن عبادة أسر فی أیام المعتضد بالله، فسلخ جلده کما تسلخ الشاة.

کما نقل أیضاً حادثاً آخر کان ضحیته أحمد بن عبد الملک بن عیاش، وکان السلاجقة قد حاصروا القلعة التی کانت فیها الضحیة بقیادة السلطان محمد بن ملک شاه ثم افتتحوها وأسروا صاحبها ابن عیاش. یقول ابن الأثیر: فسلخ جلده حتی مات، ثم حشیت جلده تبناً.

ومن الواضح أنه کان غرضهم من حشو الجلد بالتبن عرضه علی الناس بعد ذلک للتشهیر والتخویف وبیان أنه قد تخلصوا من هذا العدو، بزعم السلطان الذی یعد کل عدو له عدواً للأمة.

ومن الواضح أن السلخ من أبشع أنواع التعذیب، وقد استعمل الأمویون الحرق بالنار والإنسان فی حال الحیاة.

کما أن العباسیین أیضاً قد اقتفوا أثرهم، فقد قتلوا الکاتب المشهور عبد الله بن المقفع حرقاً بالنار، بأن قطعوه قطعة قطعة وهو حی، وکانوا یلقون کل قطعة فی تنور مسجر بالنار، وطوره العباسیون فی وقت لاحق

ص:373

إلی شوی الضحایا فوق نار هادئة، وهو ما فعله المعتمد بحق محمد بن الحسن المعروف بشمیلة، وکان المعتمد قد أعطاه الأمان ثم لم یف بوعده، فأمر بنار فأوقدت ثم شده علی خشبة من خشب الخیم وأدیر علی النار کما یدار الشواء حتی تقطع جلده وشوی لحمه، وبعد ذلک ضربوا عنقه.

کما أنهم کانوا یجمعون أحیاناً بین أصناف من التعذیب، فالمعتضد عذب ابن أبی الفوارس بأنواع من العذاب، فقلعت أضراسه أولاً، ثم خلعت إحدی یدیه بشدها إلی بکرة متحرکة وعلقت بالأخری جندلة وترک علی حاله تلک من نصف النهار إلی المغرب، ثم قطعت یداه ورجلاه فی الصباح، وقطع رأسه وصلب فی الجانب الشرقی من بغداد، وحملت جثته بعد أیام إلی محلة تدعی الیاسریة، کانت تعلق فیها جثث المخالفین للدولة.

کما أن الحسین بن زکرویه جثی به مع جماعة من أصحابه إلی بغداد بقصد تعذیبهم وقتلهم، فبنیت دکة فی مکان عال ونودی علی الناس لحضور حفلة القتل، وبدؤوا یقتادون الأسری واحداً واحداً، فکان الرجل یؤخذ ویبطح فتقطع یمنی یدیه ویعلق بها لیراها الناس ثم ترمی، ثم تقطع رجله الیسری ویعلق بها لنفس الغرض وترمی، ثم یسری یدیه ویمنی رجلیه ثم یقطع رأسه ویرمی به مع جثته إلی أسفل تلک الدکة.

وقدم الحسین بن زکرویه فضرب مائة سوط وقطعت یداه ورجلاه وکوی ،بالنار فأخذ خشب فأضرمت فیه نار ووضع فی خواصره وبطنه، ثم ضربوا عنقه ورفع رأسه علی خشبة.

وابتکر الزیات وزیر الواثق تنوراً کان فی داخله مسامیر حادة، وفی وسطه خشبة معترضة یجلس علیها المعذب، وقد عذب فیه نفس ابن الزیات بعد عزله فی زمن المتوکل، وقد وصف المؤرخون تعذیبه بأنه حبس أولاً ثم منع من النوم، فوکل به سجان نخسه بمسلة کلما

ص:374

أراد أن یغفو ثم ترک بعد ذلک حتی نام وانتبه، ثم أعید إلی المساهرة ونقل بعدها إلی التنور حیث مکث زماناً کلما أراد أن یغفو سقط علی مسمار فانتبه فکان یضطر إلی البقاء فوق الخشبة المعترضة مقاوما للنوم حیث إن هذا التنور فکره صانعه الذی وقع فیه بأن یکون المعذب یجد أمامه أحد خیارین إما النوم علی المسامیر أو السهر طیلة إقامته فی التنور، لکن الإنسان لا یتمکن أن یقاوم السهر فیقع علی تلک المسامیر فتخرج أعضاؤه، وأخیراً مات هناک فی أبشع حالة.

وإبراهیم الإمام زعیم الدعوة العباسیة قتل علی ید مروان بن محمد آخر خلفاء الأمویین بهذه الکیفیة، حیث وضع رأسه فی جراب ملیء بالنورة وشد علیه بإحکام وقد ترک علی هذه الحالة إلی أن مات مختنقاً.

وکان من أقسام تعذیبهم النفخ فی البطن بسبب المنفاخ.

وذکروا فی أحوال عبد الملک بن مروان أنه خطب ابنة التابعی سعید بن المسیب، وکانت مشهورة بجمالها لأبنه الولید، فرفض سعید لورعه ومعارضته لسیاسة الأمویین، فأمر عبد الملک بتأدیبه فضرب مائة سوط فی یوم بارد، وألبس جبة صوف، ثم صبت علیه جرة ماء بارد.

وقد ارتکب عمر بن عبد العزیز إجراءاً مماثلاً بحق خبیب بن عبد الله بن الزبیر حین کان والیاً علی المدینة، وکان خالد القسری والیاً من قبل هشام بن عبد الملک، ثم غضب علیه فأمر بقتله، فوضع عود غلیظ علی قدمیه وقام علیها عدد من الجلادین فکسرت قدماه، ثم وضع العود علی ساقیه فکسرتا بنفس الطریقة، ثم نقل إلی فخذیه ومنهما إلی حقویه، وانتهی العود إلی صدره فکسر.

وکان بعضهم یقرض لحوم الضحایا بالمقاریض قطعة قطعة حتی یموت.

ذکروا فی أحوال المعتضد أنه کان شدید الرغبة فی أن یمثل بمن یقتله، وذکروا من وسائل قتله بالتعذیب والتمثیل أنه

ص:375

إذا غضب علی القائد النبیل أو الذی یختصه من غلمانه أمر أن تحفر له حفیرة ثم یدلی رأسه فیها ویطرح التراب علیه ویبقی نصفه الأسفل ظاهراً فوق التراب، ثم یداس التراب بالأرجل حتی تخرج روحه من دبره بعد أن قد سدت کل المنافذ التی یمکن أن تخرج بواسطتها روحه.

وکان أیضاً یقتل بکیفیة أخری، وهو یأخذ الرجل فیکتف ویؤخذ القطن فیحشی فی أذنیه وخیشومه وفمه ثم توضع منافخ فی دبره حتی ینتفخ ویتضخم جسده ثم یسد الدبر بشیء من القطن وبعدها یفصد من العرقین فوق حاجبیه حتی تخرج الروح من ذلک الموضع وهو یلاقی أشد آلام العذاب.

وأمر هشام بإحضار رجل کان یسمی بعمارة الکلبی فقلعوا أظفار یدیه وأضراسه، وکان یقول بعد ذلک وهو یندب نفسه حیث ما کان یلاقی الآلام الشدیدة من جراء ذلک العذاب، هذا الشعر:

عذبونی بعذاب قلعوا جوهر رأسی

ثم زادونی عذاباً نزعوا منی طساسی

بالمدی حزز لحمی وبأطراف المواسی

و(الطساس) الأظافر فی لغة الیمن.

وقد أمر الحجاج بتعذیب الفیروز بن حصین، فعری من ملابسه ولفوه بقصب مشقوق ثم أخذوا یجرون القصب فوق جسده قصبة قصبة، وبعد ذلک لزیادة إیلامه کانوا یذرون الملح ویصبون الخل علی الجروح التی تسببها القصب، وبعد ذلک قطعوا رأسه.

وکان من جملة تعذیبهم أیضاً اغتصاب النساء وقتلهن کما فعلوا بنساء أهل المدینة فی زمان یزید، وکما فعل العباسیون بنساء الأمویین بعد التغلب علیهم.

کما أن من أقسام تعذیبهم کان حلق الرأس واللحی

ص:376

ثم ترکیب المعذّب علی حمار والطواف به فی المدینة ومعه أشخاص ینادون بجریمته، کما أن عبید الله بن زیاد أرکب یزید بن مفرغ الحمیری علی دابة، وأمر بسقیه مادة مسهلة، فکان راکباً علی ذلک الدابة بالقسر مشدوداً رجلاه ویسلح علی نفسه أثناء الطواف زیادة فی التنکیل به.

وهارون والمهدی العباسی أبوه کانا أخصائیین فی قتل الناس والتمثیل بهم وتعذیبهم، فقد بنوا أعمدة فی بغداد وحوالی بغداد وکانوا یجعلون فیها السادة العلویین، کما أن هارون قتل فی لیلة واحدة ستین علویاً ورمی بجثثهم فی البئر.

والمهدی قتل بیده صالح بن عبد القدوس الشاعر المشهور، فشطره نصفین بضربة علی هامته، وعلق جثته بنصفیها فی إحدی ساحات بغداد، وقد کان شاخ وأدرکه العمی.

کما أعدم بشار بن برد جلداً وقد نیف علی السبعین.

وحین أراد هارون قتل بشیر بن اللیث استدعی جزاراً وأمر أن لا یشحذ مدیته، ثم أحضروا الضحیة فأخذ الجزار یقطع أوصاله بمدیته الکلیلة حتی فصله أربع عشرة قطعة.

وکان المأمون أیضاً من بنی العباس الذین کانوا یتهمون بالدماء، وقصة قتله لأخیه الأمین وللإمام الرضا (علیه الصلاة والسلام) ولرئیس وزرائه ولغیرهم مشهورة.

کما أنهم إمعاناً فی القسوة کانوا أحیاناً یهدون الرؤوس إلی النساء، فقد حبس معاویة بن أبی سفیان آمنة بنت الشرید زوجة عمرو بن الحمق الخزاعی فی السجن بالشام وألقی رأس زوجها فی حجرها بعد قتله.

ویقول المسعودی إنه مات فی حبس الحجاج خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة، منهن ستة عشر ألف امرأة مجردة، وکان یحبس النساء والرجال فی موضع واحد.

وحبس یوسف بن عمرو الثقفی خالد بن عبد الله مع بناته ونسائه وجواریه فی سجن واحد ثم أمر بتعذیبهم.

وفی سجون یزید بن معاویة کانوا یضربون السجین

ص:377

وأحیاناً تشتری عینه أو ما أشبه، کما فعلوا بالمختار بن أبی عبیدة الذی حبسه عبید الله بن زیاد.

وکان محمد بن هشام والی هشام بن عبد الملک یسجن ویقید ویضرب ضرباً مبرحاً حتی یموت السجین.

والحجاج کان یحبس الرجال والنساء فی موضع واحد ولم یکن للحبس ستر یستر الناس من الشمس فی الصیف ولا من المطر والبرد فی الشتاء.

وکان له غیر ذلک من العذاب، ورکب یوماً یرید الجمعة فسمع ضجة، فقال: ما هذا، فقیل له: المحبوسون یضجون ویشکون مما هم فیه من البلاء، فالتفت إلی ناحیتهم وقال (اخسئوا فیها ولا تکلمون)، وکان سجنه حائطاً محوطاً لا سقف له فإذا أوی المسجونون إلی الجدران یستظلون بها من حر الشمس رمتهم الحرس بالحجارة، وکان یطعمهم خبز الشعیر مخلوطاً بالملح والرماد، وکان لا یلبث الرجل فی سجنه یسیراً حتی یتغیر وجهه، حتی أن غلاماً حبس فیه فجاءت إلیه أمه بعد أیام تتعرف خبره، فلما تقدم إلیها أنکرته وقالت: لیس هذا إبنی هذا بعض الزنج، فقال: لا والله یا أماه أنت فلانة بنت فلانة وأبی فلان، فلما عرفته شهقت شهقة کانت فیها نفسها.

وکانوا أحیاناً یعذبون بقلع عینی السجین وصب الرصاص فی مکانها إیغالاً فی التعذیب.

وکانت السجون فی کثیر من الأحیان غایة فی الوساخة والسوء، فمن السجون الخاصة الحجر المظلمة التی سجن فیها أبو الحسن بن أبی طاهر مع أبیه، ومنها ما هو شبیه بالقبر مملوء بالبق والأفاعی والحشرات، کالمکان الذی سجن فیه إبراهیم الموصلی من قبل المهدی العباسی، ومنها الطوامیر التی لا یعرف فیها اللیل من النهار کالمکان الذی حبس فیه الإمام موسی بن جعفر (علیهما السلام) عند السندی بن شاهک من قبل هارون العباسی، وکالتی سجن فیها جماعة من أولاد الإمام الحسن (علیه

ص:378

الصلاة والسلام) وکلما مات منهم ترکوه حتی تتعفن جثته، ثم أمروا بهدم السقف علیهم جمیعاً.

وأحیاناً کان العباسیون یسجنون فی الکنیف، کما سجن سلیمان بن وهب من قبل إسحاق بن إبراهیم وأغلق علیه خمسة أبواب حتی لا یعرف اللیل من النهار، وکما سجن محسن بن أبی الحسن الفرات فی کنیف داخل الحجرة ودلی رأسه فی البئر بعد أن قید، وألبس جبة صوف غمست بالنفط.

ویظهر من کتاب أبی یوسف إلی هارون العباسی أن هذا الأسلوب الذی نهاه عنه کان متبعاً عندهم، فقد قال له: (وأغنهم عن الخروج فی السلاسل یتصدق علیهم الناس، فإن هذا عظیم أن یکون قوم مسلمین قد أذنبوا أو أخطئوا أو قضی الله علیهم ما هم فیه، فحبسوا یخرجون فی السلاسل یتصدق الناس علیهم، وما أظن أهل الشرک یفعلون هذا بأساری المسلمین الذین فی أیدیهم، فکیف ینبغی أن یفعل هذا بأهل الإسلام، وإنما صاروا إلی الخروج فی السلاسل یتصدقون لما هم فیه من جهد الجوع، فربما أصابوا ما یأکلون وربما لم یصیبوا).

وقد أخذ إسحاق بن إبراهیم بن وهب فقید بقید ثقیل، وألبسه جبة صوف وأقام کذلک نحو عشرین یوماً لا یفتح علیه الباب إلاّ مرة واحدة فی کل یوم ولیلة یدفع له فیها خبز شعیر وماء حار.

وحبس یعقوب بن داود من قبل المهدی العباسی فی بئر وکان یدلی إلیه فی کل یوم برغیف من الخبز وکوز ماء.

وقید جعفر البرمکی قبل قتله بقید ثقیل ثم قتل بعد ذلک.

وقید محمد بن عبد الملک بقید ثقیل ولم یأکل طول حبسه إلاّ رغیفاً واحداً، وکان یعطی کل یوم العنبة والعنبین إلی أن قتلوه فی التنور الحدیدی ذی المسامیر کما تقدم.

وحبسه إیتاخ ووضع فی عنقه ثمانین رطلاً من الحدید، وخصص له فی کل یوم رغیفاً من الخبز وکوز من الماء.

وحبس بختشوع

ص:379

الطبیب بالمطبق، وضرب مائة وخمسین مقرعة، وأثقل بالحدید.

وحبس محمد بن القاسم العلوی فی سجن بستان موسی وأکب علی وجهه فی أسفل بیت منه فأصابه من الجهد لضیقه وظلمته ورطوبته ما کاد یتلفه.

ولما سجن المعتز العباسی بعد خلعه دفع إلی من یعذبه ومنع من الطعام والشراب ثلاثة أیام، فطلب حسوة من ماء البئر فمنع منها، ثم جصصوا سرداباً بالجص السخین وأدخلوه به وأغلقوه علیه فأصبح میتاً.

إلی غیر ذلک من القصص الکثیرة المشابهة التی إذا أراد شخص ذکرها احتاجت إلی عدة مجلدات.

((الشرع ورفع العقوبات أو تخفیفها))

((الشرع ورفع العقوبات أو تخفیفها))

وفی آخر هذا الفصل نذکر أن الدین یرفع العقوبة أو یخففها، لشرائط زمانیة أو مکانیة أو شخصیة، مزیداً فی احترام الإنسان، نعم أحیاناً یشدد أیضاً مثلاً ذنب العالم أشد من ذنب الجاهل، وقتل أشهر الحرم أشد من القتل فی غیرها، وهتک حرمة الحرم بالصید مثلاً أشد من قتل المحرم الصید فی غیره.

ولذا عفا موسی (علیه السلام) عن قتل السامری لأنه کان کریماً، وأکرم رسول الله (صلی الله علیه وآله) بنت حاتم لمکانة أبیها، وقال (صلی الله علیه وآله): «أکرموا عزیز قوم ذل»((1))، کما أن الرسول (صلی الله علیه وآله) لم یقتل من الثلاثة الذین استحقوا القتل أحدهم لصفات حسنة کانت فیه کما هو مذکور فی التاریخ.

وبعد ما نقض المشرکون معاهدة الحدیبیة رأی الرسول (صلی الله علیه وآله) أن یفتح مکة لکن بأقل قدر من إراقة الدماء، وقال: اللهم خذ العیون والأخبار عن قریش حتی نبغتها فی بلادها، ولما أجمع رسول الله (صلی الله علیه وآله) المسیر إلی مکة کتب حاطب بن أبی بلتعة کتاباً إلی قریش یخبرهم بالذی أجمع علیه رسول الله (صلی الله علیه وآله) ثم أعطاه امرأة وجعل لها

ص:380


1-

جعلاً علی أن تبلغه قریشاً وجعلته فی رأسها ثم فتلت علیه قرونها وخرجت به، وأتی رسول الله (صلی الله علیه وآله) الخبر من السماء، فبعث علی بن أبی طالب (علیه السلام) والزبیر بن العوام، فقال: أدرکا المرأة، فخرجا حتی أدرکاها فاستنزلاها فالتمسا فی رحلها فلم یجدا شیئاً، فقال لها علی بن أبی طالب: إنی أحلف بالله ما کذب رسول الله (صلی الله علیه وآله) ولا کذبنا، ولتخرجن الکتاب أو لنکشفنک، فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الکتاب فدفعته إلیه، فأتی به رسول الله (صلی الله علیه وآله) فدعا رسول الله (صلی الله علیه وآله) حاطباً فقال: یا حاطب ما حملک علی هذا، فقال: یا رسول الله أما والله إنی لمؤمن بالله ورسوله، ما غیرت ولا بدلت، ولکنی کنت امرءاً لیس لی فی القوم من أصل ولا عشیرة، وکان لی بین أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم علیه، قال عمر بن الخطاب: یا رسول الله دعنی أضرب عنقه فإن الرجل قد نافق، فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله): وما لک یا عمر، لعل الله قد اطلع إلی أصحاب بدر، فأنزل الله تعالی فی حاطب: ﴿یا أیها الذین آمنوا لا تتخذوا عدوی وعدوکم أولیاء تلقون إلیهم بالمودة﴾((1))، کذا رواه علی بن إبراهیم فی تفسیره، والطبرسی فی مجمع البیان، وابن هشام فی سیرته، وغیرهم من المفسرین وأهل التواریخ.

وحیث قد عرفت ضمانات الإجراء بالنسبة إلی الحقوق.

((مع الشک فی الحق))

((مع الشک فی الحق))

یبقی الکلام فی أن تلکم الضمانات علی تقدیر العلم بالموضوع، ولو شک فی الحق فإن کان استصحاب بالوجود أو العدم فهو، وإلاّ فالأصل عدم الحق، مثلاً إذا شک فی ضمان المتلف بقیمته المستقبلیة مستقبلاً قریباً، فإنه إذا

ص:381


1-

أتلف الإنسان زرعاً صرف علیه صاحبه مائة فإذا بقی إلی ثلاثة أشهر کان الحاصل ألفاً، فهل یضمن المائة لأنه ما أتلفه، أو الألف لأنه تضرر بهذا المقدار لفوات وقت الزرع، فیبقی هو وعائلته مجبورین فی الاقتراض لکل السنة التی کان مصرفهم فیها ألفاً فرضاً.

وقصة موسی بن جعفر (علیهما السلام) مع ذلک العمری، لا یکون دلیلاً علی أحد الجانبین، بل کان هو أمراً أخلاقیاً کما هو واضح.

وکذلک إذا أتلف فروخه التی تکون بعد أشهر دجاجات کباراً، أو خرفانه التی تکون بعد أشهر نعاجاً، أو أسماکه الصغار، أو فسائله التی تعطی الثمار بعد سنة مثلاً، إلی غیر ذلک.

فالضمان بدلیل «لا ضرر» بضمیمة دلیل (من أتلف) وعدمه لأنه لم یتضرر حالاً، إنما أتلف مقدار المائة فی المثال.

أما المستقبل البعید فلا یسمی ضرراً عرفاً، ولذا فلیس الحق ذلک، کما لو أتلف حیوانه التی یعطی النتاج بعد سنوات، فلا یحسب العرف الشاة الواحدة مائة شاة باعتبار أنها ببقائها وبقاء أولادها تکون بذلک العدد بعد خمسین سنة.

وروایة مرتین المتقدمة عن رسول الله (صلی الله علیه وآله) محتمل الدلالة، مع أن المجلسی (رحمه الله) قال: إنها بظاهرها لم یعمل بها أحد.

وکما إذا أتلف مائة دینار فی أول الشهر فیما کان یرید اشتراء سیارة بها، وبعد أسبوع مثلاً تنزلت قیمة السیارة إلی خمسین، أو ارتفعت إلی مائتین، بسبب صلح وقع بین المتحاربین الجارین، فتنزلت القیم، أو حرب وقعت بینهما فارتفعت، فهل اللازم إعطاء ما أتلف بدون زیادة أو نقیصة، أو اللازم ملاحظتهما فی الإعطاء، فیعطی تارة خمسین، وتارة مائتین.

وکذلک إذا کان التنزل والتضخم بسبب اختلاف الزمان، کالصیف والشتاء، حیث غصب مدفأته مثلاً شتاءاً وردها صیفاً، أو غصب ثلجه صیفاً وردها خریفاً.

وهکذا بالنسبة إلی اختلاف المکان مثلاً سرق

ص:382

منه فی بغداد وسلمه فی طهران حیث التنزل.

وکما إذا أکرهه مکره بالزنا بامرأة، فهل المکره یتحمل المهر أو الفاعل، أو الجأهما إلی الزنا، وکما تقدم فی أنه هل للمفعول حق علی الفاعل إکراهاً أو لا، وهل للمرأة التی عوشرت معاشرة الأزواج بدون عقد لها جبراً شیء علی المعاشر التی استباح جسمها أم لا، وخصوصاً إذا کان الرجل لا یقدر علی الدخول لجب أو عنن أو ما أشبه.

وکما إذا فوت علی إنسان زوجته بالرضاع الموجب لتحریمها علیه، لأنه من (نکاح أب المرتضع فی أولاد صاحب اللبن) مثلاً، أو بتحریضها علی الارتداد، أو بقتلها مثلاً حیث لا تفی دیتها بمهرها، مثلاً ما یحصل الزوج من الدیة مائة وخمسة وعشرین الربع، بینما مهرها الذی فوته علیها مائتان مثلاً.

أو بإلقائها فی سجن الأبد للظالم حیث یضطر إلی الزواج من جدید لفقده الوصول إلی زوجته فی السجن.

وکما إذا أراد بناء حائط داره أو حفظ کلبه أو وضع الحائط علی البئر مما إذا لم یفعل سبب قتل إنسان أو جرحه، فسجنه الظالم قبل ذلک بما لم یقدر علی ما أراد وانهدم الحائط علی إنسان أو عقره الکلب أو وقع الأعمی فی البئر، فهل الضمان علی الظالم أو المالک.

وکما إذا أراد إنسان أن یشتری داراً بألف فاقترضه المقترض إلی ستة أشهر حیث یبقی المقرض بدون دار، لکن بشرط إعطائه بقدر قیمة الدار عند الدفع، فصارت قیمتها ألفین، أو اشترط المقترض حیث خاف المقرض من اللصوص إعطاءه قیمة الدار بعد ذلک، فصارت القیمة خمسمائة بعد ما کانت ألفاً، فهل یصح مثل ذلک أم لا.

وکما إذا لم یعلم بالإعسار حتی تصح لها الشکایة إلی الدولة بجبره علی إعطاء دینه، أو لا تصح، وذلک کما إذا فتح جماعة مصرفاً یستدین منه ألوف الناس، وکل یوم یأتی إنسان یدعی إعساره، فأمر أولئک الجماعة دائر

ص:383

بین أن لا یفتحوا المصرف ویحرموا الألوف وخصوصاً المضطرین من الدین، وبین أن لا یشتکوا فتؤکل أموالهم، وبین أن یحققوا هم عن المعسر والموسر الحقیقیین حتی یشتکوا علی الموسر دون المعسر وذلک غیر ممکن لهم، وبین أن یشتکوا علی الکل إذا تخلفوا وذلک ما لا یجوز بالنسبة إلی المعسر، فهل الأهم فتح البنک مع وجود هذا الاشکال، أو عدم فتحه وترک المضطرین فی اضطرارهم.

وکما إذا سببت الدولة ضرر الناس بالتنزل أو التضخم، فهل تضمن بعد وضوح عدم ضمان التاجر، کما إذا کانت السلعة فی السوق بألف فألقی التاجر فی السوق البضاعة مما سبب التنزل، فتضرر أولئک الکسبة بذلک، مما لم یکن من الأجواء الإکراهیة التی ذکرنا فی الکتب الاقتصادیة عدم جوازه.

أما فی الدولة فحیث إنها یلزم علیها رعایة المصالح، فهل لها ذلک، أو أن الدولة کانت تعرف وقوع حرب قریب أو صلح کذلک مما یؤثر علی التجار فی تحطم قیم بضائعهم، فلم تخبرهم بذلک حتی وقع الأمر وتحطمت القیم، إلی غیر ذلک من الأمثلة الکثیرة.

ولا یخفی أن فی هذه الأمثلة الأصول العملیة واضحة، وإنما الکلام فی الأدلة الاجتهادیة، وقد کان القصد مجرد المثال لا أنها من المعضلات التی لا یمکن حلها بالأدلة الاجتهادیة أیضاً.

وربما یتعدی الأمر إلی نوع آخر من الحقوق، مثلاً لو قطعت یده أو رجله فی حرب تحت رایة الرسول أو الإمام (علیهما السلام) فهل من حقها عدم الغسل لأنه شهید، أو الغسل لأن الشهید لا یشمله، أو یفرق بین استشهاد صاحبه بعد ذلک کما فی ید جعفر والعباس (علیهما السلام) فلا غسل، لا ما إذا بقی نفس المقطوع منه حیاً بعد ذلک.

ومثله فی الکلام إذا أمر من یراد حده أو قصاصه بالغسل فاغتسل فقطعت یده قبل قتله بعد أن اغتسل، ثم هرب مثلاً بما لم یقتل أو قتل

ص:384

بعد ذلک.

وفی مثال الأرض لو کانت زوجة الکافر أخته من الرضاعة ثم أسلما فهل یبقیان زوجین أو ینفسخ نکاحهما.

الأول: لقاعدة الجب.

والثانی: لإطلاق الأدلة.

ومثله ما إذا أسلم الزوج وبقیت الزوجة کافرة، فهل یشمله قاعدة الإلزام، أو لا یشمله، کما ذکرنا مثله بالنسبة إلی الأخت المجوسیة لأخ مسلم حیث لا یشمل الزواج قاعدة الإلزام قطعاً.

ومن هذا القبیل ولد الزنا فی الکافر الذی یری إباحة ذلک أو لم یر إباحته لو أسلم، فهل حکمه عدم قبول شهادته وعدم تقلیده وعدم إمامته وعدم جعله قاضیاً علی القاعدة العامة، أو یکون کغیره من باب قاعدة الجب.

إلی غیر ذلک من الأمثلة المشکلة فی الجملة فی باب الحقوق بالنسبة إلی الأموال والأعراض والأنفس، بل والأمور الدینیة أیضاً کما فی الأمثلة الأخیرة.

ص:385

((حق إقامة الدعوی))

اشارة

((حق إقامة الدعوی))

(مسألة): إقامة الدعوی من حق کل طرف من المدعی والمنکر أو من المتنازعین، فقد یطلب الدعوی المدعی کما هو الغالب، وقد یطلبها المنکر تخلصاً من مشکلة الدعوی، مثلاً زید یدعی علی عمرو أن الدار التی سکنها له، فعمرو یطلب من الحاکم النظر فی دعواه لیتخلص من ادعاء زید علیه مما أشکل الأمر علیه اجتماعیاً أو غیر اجتماعی.

أما المتنازعان، فکما إذا ادعی کل واحد منهما تولیة دار موقوفة بید الحاکم، فإنه وإن کان الطریق الطبیعی فی الحقوق أن یتنازل من لیس له الحق لمن له الحق، لکن ذلک فی جملة من الأحیان غیر عملی، من جهة أن أحد الطرفین مبطل، والمبطل یرید الاستحواذ علی حق الناس، فیدعی هو أو طرفه المظلوم أو ثالث یرید منع المنکر، فإن الثالث أیضاً یتمکن من ذلک کما لعله سیأتی الکلام فیه.

أو من جهة التباس الحق، فکل یزعم أن الحق له اشتباهاً فی الموضوع أو فی الحکم، أو لاختلاف فی الدین أو المذهب أو التقلید.

أو من جهة عدم علمهما بما هو الحق لا أن الحق مزعوم أنه له أو لغیره.

أو من جهة إرادة التفکک مثلاً، وکل راضخ للحق لکن لا یعلم ماذا حقه بدون تنازع، کالشریکین یریدان التفکک، أو الورثة یریدون تقسیم الإرث أو ما أشبه ذلک.

والحاکم منصوب لأجل القیام بهذا الدور، ویستمد صلاحیته من القانون منهجاً، ومن إسناد القوة له متکئاً، إذ فصل المنازعات وما أشبه بحاجة إلی المنهج فی أنه کیف یفصل النزاع، وأن أی شیء لهذا الطرف وأی شیء لذاک الطرف، کما أنه محتاج إلی قدرة التنفیذ غالباً، فربما یکون قدرة التنفیذ السلاح کما عند الحکومات، وربما تکون خوف الله سبحانه کما فی المتدینین، وربما یکون إنصاف أطراف النزاع حیث یریدون وضع الحق فی نصابه بلا خوف من جهة السلاح وحتی بلا

ص:386

خوف من الله سبحانه وتعالی، لأنهم فرضاً لا یعتقدون به.

ثم المنهج ربما یکون دیناً، أو قانوناً موضوعاً بسبب العقلاء أو بسبب مجلس الأمة، أو غیر ذلک.

ومن الواضح أن النظام الاجتماعی والعقلائی یقتضی أن لا یکون کل إنسان قاضی نفسه وطرفه، إذ بذلک لا تحل المشکلة، بل غالباً تزداد المشکلة، حیث یتوسل القوی منهما إلی قدرة السلاح أو العشیرة أو المال أو ما أشبه ذلک لجلب النفع إلی نفسه ودفع الضرر عنها، وذلک الفوضی بعینه، فلابد وأن یکون المرجع المحکمة، والمرجوع إلیه الحاکم.

((الشخص الواحد وطرفا النزاع))

((الشخص الواحد وطرفا النزاع))

ولا یحتاج الأمر إلی تعدد طرفی النزاع، بل یمکن أن یکون واحداً لکنه متعدد الجهة، کولی الوقف لا یعلم کم حق تولیته فیرجع إلی الحاکم ویعین ذلک، أو الوارث الوحید للمیت لا یعلم کم حقه وکم حق میته الذی أوصاه، أو ولی الیتیم الذی اختلط عنده حقه مع حق المولی علیه.

کما أن شخصاً قد یراجع المحکمة لأجل إیقاف إنسان یضر نفسه لتدخل الحاکم فی رفع الضرر، کما تدخل أخو علاء فی أمر أخیه الذی کان یضر نفسه إلی الإمام أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) فی قصة مذکورة فی (نهج البلاغة) وغیره.

((فروع فی الحق والحکم))

((فروع فی الحق والحکم))

ثم قد یکون حکم الحاکم لأمر خاص، کفصل النزاع بین نفرین أو قبیلتین أو دولتین، وقد یکون للأمر عام، کحکم الهلال فی أشهر رمضان وشوال وذی الحجة لأجل الصیام والإفطار والحج.

ثم إن بین الحق وبین الرجوع إلی المحکمة عموماً من وجه:

فهناک حق لا یتمکن الإنسان من الرجوع إلی المحکمة فیه، کما إذا تنازعا علی حب حنطة، وسیأتی بعض الکلام فی ذلک.

وهناک رجوع إلی المحکمة بدون الحق، کما فی المبطل الذی یراجعها، سواء علم هو بنفسه أنه مبطل أو شک أو جهل

ص:387

مرکباً بأن زعم أنه محق، فلیست الدعوی عبارة عن (الحق المتطور بالظهور من القوة إلی الفعلیة) کما قال بعض الحقوقیین.

وعلی أی فالغالب أن الحق مرتبط بالدعوی ارتباطاً قریباً.

((شروط إقامة الدعوی))

((وجود النفع فی تبین الحق))

((شروط إقامة الدعوی))

لکن یشترط فی إقامة الدعوی أمور:

((وجود النفع فی تبین الحق))

الأول: وجود نفع فی تبین الحق لأحد الطرفین أو الثالث، فإذا لم یکن لتبین الحق أیة فائدة لأحد لا یسمع الحاکم إلی الدعوی، کما أنه إذا ادعی عند الحاکم أنه حجّر المکان الفلانی من صحراء قفر لا یستفید هو ولا غیره منها، وأن فلاناً أزال آثار ذلک الحجر، أو أن مالاً طرح فی البحر لأجل تخفیف السفینة هل کان له أو لغیره، ولا فائدة مادیة أو معنویة فی ظهور أی الأمرین، أو أن فلاناً المیتة هل کانت زوجة له أو لغیره بینما تبین أحد الأمرین لا فائدة له إطلاقاً، إلی غیرها من الأمثلة.

وکذلک حال ما إذا ادعی علی غیره مالاً وله ثبت صحیح بذلک إذا راجع الجهة التنفیذیة أخذت المال من ید المدعی علیه وسلمته إلیه من دون احتیاج إلی الدعوی، فإنه لا فائدة فی مراجعة الحاکم إطلاقاً، إذ حقه یمکن تحصیله بالإجراء بدون تجشم الحاکم بالنظر فی الدعوی.

((عقلائیة الدعوی))

((عقلائیة الدعوی))

الثانی: أن یکون عقلائیاً المراجعة فیها، فإذا راجع المحکمة لادعائه حبة حنطة علی المنکر، أو مکسرات کوزه التی له حق الاختصاص فیها بدون أثر عقلائی لذلک، لم یستمع الحاکم إلی دعواه، وإن کان هناک نفع للمدعی لأنه یرید الافتخار بأنه کان صاحب کوز فی یوم من الأیام، أو أنه یرید اللعب بالمکسرات، إلی ما أشبه ذلک.

((أهلیة الدعوی))

((أهلیة الدعوی))

الثالث: أهلیة الدعوی للمدعی والمدعی علیه، فدعوی مجنون فاقد الشعور الکامل، أو صغیر غیر ذی فائدة فی دعواه، أو مفلس لا مال له

ص:388

فی الأمور المالیة أو سفیه أو ما أشبه ذلک لا تسمع.

نعم لیس الأمر علی إطلاقه وإن اطلقه بعض، فإذا راجع المحکمة مجنون له شیء من الشعور بأن فلاناً سلبه ماله، أو راجعه الصغیر بأن فلاناً عمل به سوءاً أو یرید به سوءاً، کان ذلک الطرف صغیراً مثله أو کبیراً، أو أنه کان بیده شیء لأهله فسلبه السارق الفلانی أو ما أشبه ذلک، لا وجه لعدم سماع دعواه، لإطلاق الأدلة بغض النظر عن العقلائیة.

ومن ذلک ما إذا هدم الزلزال المدینة وجاء صغیر إلی الحاکم یدعی أن أهله ماتوا جمیعاً، وأن فلاناً الظالم استولی علی أموالهم، فإن الحاکم یحقق فی الأمر ویسمع الدعوی، إلی غیر ذلک من الأمثلة الکثیرة.

وهکذا الحال إذا ادعی کبیر علی صغیر أنه أحرق أثاثه أو سرق ماله أو ما أشبه، فالصور الأربع من ادعاء صغیرین أو کبیرین أو کبیر علی صغیر أو صغیر علی کبیر إذا کانت عقلائیة، لها سماع من الحاکم.

وفی قصة علی (علیه الصلاة والسلام) إلماع إلی ذلک، فقد روی السکونی، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: «رفع إلی أمیر المؤمنین (علیه السلام) ستة غلمان کانوا فی الفرات فغرق واحد منهم، فشهد منهم ثلاثة علی اثنین أنهما غرقاه، وشهد اثنان علی الثلاثة أنهم غرقوه، فقضی علی (علیه الصلاة والسلام) بالدیة أخماساً، ثلاثه أخماس علی الاثنین، وخمسین علی الثلاثة»((1))، وقد ذکرنا هذه المسألة مفصلاً فی کتاب الدیات.

((ارتباط المدعی بالدعوی))

((ارتباط المدعی بالدعوی))

الرابع: أن یکون المدعی مرتبطاً بالدعوی بجهة من الجهات، کما إذا سلب ماله أو هتک عرضه أو أریق دمه أو أهینت کرامته، أو یکون من کان کذلک مرتبطاً به، کوالده وزوجته والمولی علیه عنده وما أشبه، فإذا ادعی زید أن عمرواً سلب مال بکر، وکلاهما لا یرتبطان به ولیس من جهة الأمر بالمعروف أو النهی عن المنکر أو ما أشبه، لا یسمع الحاکم

ص:389


1-

دعواه.

ومن الجهة المرتبطة به ما لو ادعی أن فلاناً غصب المسجد الفلانی، وذلک لأنه یقصد إنقاذ المسجد من ید الغاصب أو نحو ذلک.

ولا یلزم أن یکون الطرف بنفسه صالحاً للطرفیة، بل ولو بولیه بالفعل أو بالقوة، کما إذا مات جاره فاشتکی عند الحاکم علی کلبه أنه یعقر أولاده، وورثة الجار لیست إلاّ طفلاً غیر ممیز، فإذا کان له ولی فهو، وإلاّ کان هذا شکایة علی ولیه بالقوة، أی الذی یعینه الحاکم الشرعی ولیاً، لأن الحاکم ولی القصر کما هو ولی الغیب فی مثل ما إذا سافر الجار صاحب الکلب ولا أحد فی الدار وإنما بقی کلبه سائباً یتعرض لأولاد جیرانه، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

((صحة الاستیناف وعدم تعدد المحاکم))

((صحة الاستیناف وعدم تعدد المحاکم))

ثم إن تعدد المحاکم الذی هو من التواءات الغرب کمحکمة الصلح والبدایة والجزاء وما أشبه غیر محتاج إلیه عقلاً وشرعاً، نعم ذکرنا فی کتاب القضاء صحة الاستئناف والتمییز عقلاً، وقد دل الدلیل علیه شرعاً فی قصة رسول الله (صلی الله علیه وآله) وتحاکمه مع الأعرابی ثلاث مرات إلی ثلاثة أشخاص، فیما هناک داع إلی التکرار.

((استعانة الحاکم بأصحاب الاختصاص))

((استعانة الحاکم بأصحاب الاختصاص))

نعم لا إشکال فی أن تعقید الحیاة فی الحال الحاضر یوجب جمع الحاکم حول نفسه جماعة من الاختصاصیین حتی ینقحوا الموضوع له، فیقول الحاکم بعد ذلک کلمته فی کل موضوع موضوع من جهة الحکم، مثلاً بعض المسائل اقتصادیة وبعضها سیاسیة وبعضها اجتماعیة وفی کل من هذه الأمور تعقیدات لا یستغنی الحاکم غالباً عمن یساعده فی تحقیق الموضوع، مثلاً أعطی إنسان فی العراق مائة دینار لآخر أمانة لیوصلها إلیه فی الحجاز، فاختلفا حیث إن الأمین أراد أن یعطیه خمسین دیناراً فی الحجاز بحجة تفاوت التضخم وأن کل دینار فی العراق یعادل نصف دینار فی الحجاز، وصاحب المال یرید نفس المائة، أو بالعکس صاحب المال یرید مائتین

ص:390

حیث دینار العراق یعادل دینارین فی الحجاز من جهة التضخم فی الحجاز، والأمین یرید إعطاءه نفس المائة التی استأمنه علیها، ولنفرض أن الدولتین إسلامیتان حیث لا یجوز تضریر هذه الدولة ولا هذه الدولة، فإن الرجل الاقتصادی هو الذی یعرف موازین العملة الصعبة وما أشبه. والغالب أن القاضی إنما صرف وقته فی خصوصیات القضاء لا فی خصوصیات الاقتصاد، فیحتاج إلی من یعینه فی کشف الموضوع.

وفی الأمور السیاسیة وقع نزاع بین نفرین فی انتخابات مجلس الأمة، أو انتخابات إدارة شرکة أو اتحاد الطلبة أو النقابة أو ما أشبه ذلک، هل وقع التزویر فی الانتخابات أم لا، فإذا لم یکن القاضی عارفاً بخصوصیات السیاسة هل یتمکن من البت فی الأمر بدون المستشار السیاسی.

وفی الأمور الاجتماعیة لا یعلم القاضی بأنه هل هناک اضطرار إلی سکنی المستأجرین فی دور المؤجرین بدون رضاهم، للاضطرار العام المبیح لذلک، حیث إن الأمر یحتاج إلی إحصائیات بالنسبة إلی أعداد الدور وأعداد المستأجرین ومن أشبه، فإذا لم یعرف القاضی هذه الأمور الخارجیة لم یتمکن من الفصل بین الموجر والمستأجر فصلاً عادلاً.

أو مثل أنه هل استخدم الموجر الأجیر فی جو إکراهی حتی یحق للأجیر مطالبة الزیادة وإلاّ نقض العقد، أم لا، فإن أمثال ذلک بحاجة إلی المستشار الاجتماعی، إلی غیر ذلک من الأمثلة الکثیرة التی حدثت من جهة تعقیدات الحیاة الحاضرة.

((شوری القضاة))

((شوری القضاة))

ثم لم نستبعد فی (الفقه) صحة قضاة متعددین یحکمون بأکثریة الآراء فی القضیة الواحدة، خصوصاً فی الأمور المهمة، ویؤیده التعدد فی مقبولة محمد بن حنظلة، بل ویؤیده قوله سبحانه: ﴿فابعثوا حکماً من أهله وحکماً من أهلها﴾((1)).

أما مسألة المحامین فقد ذکرنا فی کتاب القضاء صحته فی الجملة لا بهذه الکیفیة

ص:391


1-

الطویلة العریضة التی توقع الدعاوی فی حلقات تلتهم المال والوقت، وکثیراً ما فی المنعطفات والملتویات یسحق الحق ویطلع الباطل رأسه، ولذا فی جملة من العالم الثالث بما فیه البلاد الإسلامیة یلتجئ من ذهب حقه إلی الشرطة بإنقاذ حقه دون المحکمة، والشرطة إنما تنتهی إلی النتائج بسبب الضرب والتعذیب دون الأسالیب القضائیة، مع العلم أن الضرب والتعذیب وما أشبه لکشف الحق لا یجوز شرعاً کما تقدم الإلماع إلیه.

((بین الشرطة والمحکمة))

((بین الشرطة والمحکمة))

وهنا سؤال یفرض نفسه، لماذا الأمر هکذا حتی یفر صاحب الحق من المحکمة إلی البولیس؟

والجواب: إن السبب هو التواءات المحاکم، ومن المعلوم أن الشرطة لیست لها مثل هذه الالتواءات، مثلاً إنسان رأی سارقاً سرق ماله فإذا راجع المحکمة وطلب الحاکم منه الشهود لم یتوفر لدیه ذلک، بینما یستعد السارق أن یحلف أنه لم یسرق بل أحیاناً ینقلب السارق مدعیاً حیث یدعی علی المدعی بدعوی الشرف، وأنه هو الذی بدعواه علیه أذهب ماء وجهه، أما إذا تدخل الشرطة فی الأمر ضرب السارق وعذبه بما یعترف بالسرقة.

لا یقال: فکیف نری أن جملة من بلاد الغرب لا یحتاجون نسبیاً الی اللجوء إلی الشرطة والعنف، وإنما یفصلون قضایاهم فی المحاکم.

لأنه یقال: المحاکم عندنا کسائر شؤوننا متخلفة بسبب الحکام المستبدین، ومن المعلوم الفرق بین القاضی المتخلف والمحامی المتخلف وبین القاضی والمحامی غیر المتخلفین، فالقاضی المتخلف لا یعرف کیفیة استخراج الحق بدون اللجوء إلی العنف والتعذیب، بل بتکرر الأسئلة مما یضطر المجرم من الاعتراف لا شعوریاً، کما اعترف المدیون عند أحد القضاة بعد أن قال له القاضی: کیف تنکر وقد شهد بذلک ابن أخت خالتک، وکان یرید القاضی نفس المدیون، فإن الإنسان هو ابن أخت

ص:392

خالته، کما أنه ابن أخ عمه، وهکذا استخرج الإمام أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) کذب المدعی علی رسول الله (صلی الله علیه وآله) أنه ائتمن عنده أمانة، بعد أن هاجر الرسول (صلی الله علیه وآله)، بسبب تفریق الشهود حیث اعترف المدعی کذباً علی الرسول (صلی الله علیه وآله) بأنه أرشی لهذه الدعوة الکاذبة.

کما أن المحامی المتخلّف یهمه المال، فیدافع عن کل قضیة وإن علم بالوجدان بطلانها، بینما المحامی غیر المتخلف له شرف الدفاع عن الحق فقط لا عن الباطل.

وتخلف القضاة والمحامین فی بلادنا ناشئ عن تخلف الأمة بأسرها، حیث إن المجتمع المتخلف قاضیه لا یدرس حتی یکون ماهراً، وطبیبه لا یهتم حتی یعطی الوصفة الصحیحة، ومهندسه لا یهتم حتی یصلح البناء، کما أن عامله لا یتقن العمل، إلی غیر ذلک.

ومن الطبیعی أن لیس المراد الکل، بل کثیر منهم هکذا، وإلاّ فهناک أفراد کثیرون مستثنون من هذا التخلف.

وحیث یری ذو الحق أنه لا یحصل علی حقه إلاّ بسبب البولیس یلتجئ إلیه، لأنه یراه أقصر الطرق وأقلها مصرفاً فی المال والوقت لتحصیل حقه، لکن نفس هذا الأمر یزید الأمة تخلفاً، ویتفشی العنف والتخلف فی الأمة بأمثال هذه الأمور أکثر فأکثر، أما تلک البلاد الغربیة التی ذکره السائل فالأمة فیها لیست متخلفة بهذا النوع من التخلف، ولذا نراهم تقدموا علی المسلمین وغیر المسلمین من العالم الثالث ذلک التقدم الهائل فی الصناعة والنظام والتدقیق وغیر ذلک، وإن کانوا متخلفین من نواحی أخر.

((بین الحق وموازین الدعوی))

((بین الحق وموازین الدعوی))

ثم إنه اختلف الحقوقیون بأنه هل یلزم علی القاضی طلب الحق، أو طلب موازین الدعوی، فبعضهم ذهب إلی الأول بحجة أن الحق هو المطلوب من القضاء کلیة، فاللازم علی کل قاض قاض فی کل دعوی دعوی أن یطلب

ص:393

الحق مهما وجد إلی ذلک سبیلاً، فإن وجده وتمکن من الحکم به حکم به وإن خالف حکمه موازین الدعوی، وإن تردد فی الحق أو وجده ولم یتمکن من الحکم به ترکه، ولذا ورد فی الشریعة رجل قضی بالحق وهو یعلم، وورد فی الشاهد أنه (صلی الله علیه وآله) قال له مشیراً إلی الشمس: «علی مثل هذه فاشهد»((1)).

وهذا الرأی هو الموافق للعقل والشریعة.

وهناک رأی آخر عند بعض الحقوقیین الغربیین بأن اللازم أن یحکم القاضی حسب الموازین القانونیة، وافق الحق أو خالفه، علم بذلک أو لم یعلم به، وذلک لأنه إذا کان مقصده الحق وخالف القانون کان ذلک فوضی فی المحاکم، وذلک لأن کل قاض حینئذ یقضی بما شاء، وضره أقرب من نفعه.

لکن هذه الحجة ضعیفة، إذ المفروض لزوم أن یکون القاضی عادلاً فلا یقضی القاضی بما یشاء، فدلیل الفریق الثانی ضعیف لا یصح الاعتماد علیه، وبعض الحکام یتهربون من مثل هذه الدعوی التی یتعارض فیها الحق والقانون بإحالة الدعوی إلی قاض آخر.

بل إنا ذکرنا فی (الفقه) أن الإنسان الذی یری أنه إذا قال الکبری الکلیة یطبقها الجاهل أو العامد أو المتردد علی صغری غیر صحیحة، لا یجوز له أن یقول تلک الکبری، مثلاً یأتیه من یرید الزواج بأخته من الرضاعة فیسأله هل أن دعوی الأم فی الرضاع حجة أم لا، والمسؤول یعلم بأنه إذا قال لیست بحجة أخذ السائل أخته من الرضاعة، لأنه یعلم أن من یرید الزواج بها أخته من الرضاعة، فإنه لا یصح له أن یفتی بالکلی ویقول نعم لا حجة فی قول الأم وحدها، لأن نتیجة هذه الفتیا إیقاع الرجل والمرأة فی الزنا، سواء علماهما بأنه زنا لکنهما لا یهتمان بالأمر، أو جهلاً، أو تردداً، أو اختلفا فی العلم والجهل والتردد، وکذلک حال

ص:394


1-

ما إذا سأله إذا شهد شاهدان بالملک کان الملک للمشهود له أم لا، وهو یعلم أن الشاهدین اشتبها، وقوله یوجب سلب مال الناس وإعطاءه إلی الغاصب الذی قام الشاهدان علی أن المتنازع فیه ملکه، إلی غیر ذلک من موارد الأموال والدماء والأعراض وسائر الحقوق، ولذا جرت عادة جملة من الفقهاء فی أمثال هذه الموارد التی یسألون عنها بعدم الجواب عن المسألة، وإنما یحیلون السائل إلی الرسائل العملیة أو ما أشبه ذلک.

 

ص:395

((أحوال المدعی علیه))

اشارة

((أحوال المدعی علیه))

(مسألة) المدعی علیه أمام الدعوی له أحوال:

الأول: أن یقول: لا صلاحیة للمحکمة فی محاکمتی.

الثانی: أن یقول: إنی لست مطلوباً، فی مثل دعوی الطلب.

الثالث: أن یقول: کنت مطلوباً لکنی دفعت طلبی.

الرابع: أن یقول: لا أعلم هل أنی مطلوب أم لا.

الخامس: أن یقول: إنی مطلوب ومعترف بالدعوی.

إلی أمثال هذه الأمور فی سائر الدعوی.

فإذا قال: لا صلاحیة للمحکمة، فعلی المحکمة الإثبات لصلاحیتها، إذ الأصل عدم الصلاحیة إلاّ إذا حصل الخلاف، وإذا قال: لست مطلوباً، فعلی المدعی إثبات الطلب، وإذا قال: کنت مطلوباً ودفعت، فعلی المنکر إثبات الدفع، وإذا قال: لا أعلم، فإذا جاء المدعی بالبینة فهو وإلاّ حلف المنکر علی عدم العلم، وإذا اعترف بالمطلوبیة فعلیه الأداء.

ومن هذه الأحوال یظهر حال ما إذا اعترف ببعض ولم یعترف ببعض.

ومنه یعلم حال ما إذا قالت المرأة المدعی علیها أنها زوجة: إنی لست مزوجة، أو کنت مزوجة وطلقنی هذا، أو فسخ نکاحی، أو ما أشبه ذلک، أو لا أعلم هل أنی متزوجة أم لا، أو إنی متزوجة بغیره، أو نعم إنی زوجته، أو قال المدعی علیه بالقتل: إنی لست قاتلاً، أو نعم قتلت، أو لا أعلم، أو إنی مشترک فی القتل لا أنی وحدی قتلت.

((مما یلزم علی القاضی))

((مما یلزم علی القاضی))

ثم علی القاضی أن یکون حیاداً بین الجانبین، وأن یکون عالماً بالحکم الذی یرید أن یحکم به، وإلاّ فهو من أهل النار ففی حدیث عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «القضاة أربعة، ثلاثة فی النار وواحد فی الجنة، رجل قضی بجور وهو یعلم فهو فی النار، ورجل قضی بجور وهو لا یعلم فهو فی النار، ورجل قضی بالحق وهو لا یعلم فهو فی النار، ورجل قضی بالحق وهو یعلم فهو

ص:396

فی الجنة»((1)).

ثم المتنازعان فی مرافعتهما مجبوران فی الرجوع إلی الحاکم الشرعی فیما إذا لم یعلما بالحق، فیما لیس لهما التنازل، مثلاً اختلفا فی امرأة أنها لأیهما ولا یعلمان بالحق ولیس لهما أن یتنازلا هذا لذاک أو بالعکس.

أما إذا علما بالحق فتنازل من لیس له الحق إلی من له الحق فی مثل العرض((2))، أو تنازل من له الحق إلی من لیس لها لحق فی مثل المال عن کل رضاه، جاز عدم مراجعة الحاکم.

((أمور فی الدعوی))

((أمور فی الدعوی))

ثم إن هنا أموراً:

الأول: لا إلزام علی المتنازعین فی الرجوع إلی المحاکم الشرعیة فیما لا یکون الأمر غامضاً، وکان علی طریق الحق((3))، لإمکان أن یتنازل کل طرف عما له، وکذلک فی النزاع بین الزوجین یمکن للزوج الطلاق حتی یتخلص من تبعة الحکم، أما إذا لم یرد الطلاق وکان الزوج یقول إنها زوجته، والزوجة تقول لیست بزوجة له، أو بالعکس، فإنه لا یمکن التراضی بینهما أو الرجوع إلی غیر المؤهل لیقول هی زوجة أو لیست بزوجة، لإمکان کون الواقع خلاف حکمه، فمعنی قوله إنها زوجة وطی المرأة المحرمة، ومعنی قوله إنها لیست بزوجة أخذ الرجل الأخت أو الخامسة أو تزوجها هی والحال أنها زوجة فی الواقع مثلاً.

أما ما کان علی طریق الحکم، کما إذا کانت موقوفة بید زید لا یعلم هل أنها للفقراء أو للمساجد، وکل طرف من الفقراء ومن متولی المساجد یدعیه، فإنه لا یمکن التحکیم عند غیر الأهل، لأن الموضوع علی سبیل الحکم ولا یمکن لأی طرف التنازل، لا من طرف الفقراء التنازل لأجل المساجد لأنهم مأمورون بإعاشة عائلتهم وذلک واجب علیهم، والمفروض أنه لیس لهم مورد غیر ذلک، فإذا تنازلوا إلی المساجد کان معنی ذلک إبقاءهم عائلتهم الواجبی النفقة فی حال جوع وعری، وکذلک لا یمکن العکس بتنزل متولی المساجد إلی الفقراء.

ص:397


1-
2- العرض هنا بمعنی الکرامة، کما لو أهانه أو سبه، ولیس فی مثل الزوجة
3- الحق هنا فی قبال الحکم

وکیف کان، فإذا لم یکن إلزام فی الرجوع إلی المحاکم یتمکن المتنازعان من نصب إنسان للرجوع إلیه، فإذا تراضیا به فهو، وأن لا إلزام لهما فی العمل بقوله، بل لهما أو لأحدهما الرجوع إلی المحکمة الشرعیة ونقض ما حکمه ذلک الشخص المتراضی علیه.

الثانی: یمکن جعل الحکَم قبل النزاع حتی إذا لم یکن الحکم إنساناً، کما إذا تصافقا علی الرجوع إلی القرعة فی عقد المضاربة أو الشرکة أو ما أشبه إذا وقع النزاع بینهما، وهکذا یمکن تصافقهما بعد النزاع فی الرجوع إلی کبیر العشیرة أو القرعة، وإذا کان من باب الشرط فی ضمن العقد لزم الوفاء به.

الثالث: الحاکم المنتخب لا یلزم علیه أن یراعی قوانین المحاکم فی حکمه من طلب الشهود أو القسم أو ما أشبه، بل له الحکم حسب ما یراه، ولکن اللازم علیه عدم الخروج عما یراه من العدل والحق، فإنه مفوض فی ذلک لا فی غیره.

ولا یخفی أن ما ذکرناه هنا غیر ما ذکرناه فی کتاب القضاء من قاضی التحکیم، فإن بینهما عموماً من وجه، وعلی کل فلا نکرر الکلام فی قاضی التحکیم لأن موضعه هناک.

الرابع: إذا لم تکن الدولة الإسلامیة الصحیحة قائمة، فللمتنازعین الرجوع إلی أی فقیه عادل جامع للشرائط فی فصل خصومتهما، أو إذا لم یکن خصومة فالرجوع إلیه فی حل المشکلة، مثل إفراز الشرکة أو الإرث أو ما أشبه ذلک، ولا یحق لفقیه آخر جامع للشرائط الاعتراض علی حکم هذا الفقیه المرجوع إلیه لأنه من مصادیق «فإذا حکم بحکمنا»((1)) فی غیر موضع یقطع بأن هذا الفقیه أخطأ، وهو شیء نادر جداً.

أما إذا کانت الدولة الإسلامیة الصحیحة قائمة فهو، وإن کان الحق للمتخاصمین الرجوع إلی أی فقیه

ص:398


1-

جامع للشرائط، لکن یحتمل کون ذلک مقیداً بما إذا لم یکن یعارضه القاضی الشرعی المنصوب من قبل رئاسة الدولة کشوری المراجع مثلاً، فهو کما إذا بعث الإمام أمیر المؤمنین (علیه االصلاة والسلام) مالکاً الأشتر لحکم مصر، فإنه إذا کان هناک فقیه غیر منصوب من قبل مالک الأشتر، حیث إن ذلک یوجب الفوضی فی القضاء، فتأمل.

وکذا إذا رجع أحدهما إلی القاضی المنصوب والآخر الی الفقیه غیر المنصوب، فإن الفقیه لا یحق له الحکم فی هذا الموضع، وإنما یجب علی ذلک الذی راجعه أن یراجع القاضی المنصوب شرعاً، فتأمل.

ص:399

((الحکم والقرار والمطاولات والمقدمات))

((اتباع الحکم))

((الحکم والقرار والمطاولات والمقدمات))

(مسألة): هناک حکم وقرار ومطاولات ومقدمات.

((اتباع الحکم))

فالحکم هو الذی یعین النتیجة بالنسبة إلی ماهیة الدعوی ویجب اتباعه، بمعنی عدم جواز نقضه لا بمعنی عدم جواز الخروج الموضوعی عنه، فإذا حکم الحاکم بأن الدار لزید، أو أن الزوجة له، أو أنه یطلب الدیة، حق له أن یتنازل عن الدار لطرفه، أو یطلق زوجته لیتزوجها الطرف، أو یسقط الدیة، أو ما أشبه ذلک.

وعلی أی، فالحکم هو القاطع للنزاع کلاً أو بعضاً، فإذا تنازعا فی دار فقد یقول الحاکم: إنها لزید، وقد یقول: إن نصفها لزید، أو لا شیء منها له، وإذا تنازع الزوجان فی طلقات ثلاث فقد یقول: إنها مطلقة ثلاثاً، وقد یقول: لیست مطلقة إطلاقاً، وقد یقول: إنها مطلقة طلقة واحدة، هذا بالنسبة إلی الحکم.

((القرار النافذ))

((القرار النافذ))

أما القرار فهو کما إذا قرر الحاکم أن الدعوی لیست صالحة للنظر، فإنه قرار ولیس بحکم، إلی غیره مما یشبه ذلک.

((مطاولات قضائیة))

((مطاولات قضائیة))

والمطاولات عبارة عن الأسئلة والأجویة التی تقع بین الحاکم والمتخاصمین، أو بین الحاکم والمحامین، وکالسؤال عن الزمان والمکان والشهود والخصوصیات والمزایا والشرائط وما أشبه ذلک.

((مقدمات للقضاء))

((مقدمات للقضاء))

والمقدمات عبارة عن مثل الرجوع إلی أهل الخبرة فی الموضوعات، وجمع المعلومات من الخارج حول القضیة.

وعلی هذا فکل ما لا یرتبط بقطع ماهیة الدعوی بإیجاب أو سلب لیس من قبیل الحکم فی الشیء.

((الفرق بین الحکم والفتوی))

((الفرق بین الحکم والفتوی))

والفرق بین الحکم والفتوی أن الحکم إنشاء والفتوی إخبار عن المستفاد من الأدلة الأربعة، فإذا أفتی الحاکم بدون الإنشاء لم یکن حکماً، والإنشاء عبارة عن الإیجاد فی عالم الاعتبار، لکن حیث یکون له هذا الإیجاد، فإذا اشتبه وحکم بما لیس واقعاً من حقه کأن حکم بأن دار زید لعمرو، لم یکن الحکم لازم الاتباع، وإذا حکم علی المرأة بأنها

ص:400

زوجة لزید وهی تعلم أنها لیست بزوجة له، لأن الرجل تزوج بأختها قبل ذلک وهی بعد فی حبالته لم یطلقها ولم یفسخ نکاحهما شیء مثلاً، حرم علیها ترتیب آثار الزوجیة علی نفسها، بل اللازم أن تهرب مهما أمکن من المباشرة، سواء دخولاً أو ملامسة مما لا یحق لغیر الزوجین، کما أن لها الحق فی التقاص من ماله بعنوان المهر، حیث إن وطیها الإکراهی أو الإلجائی لیس من مصادیق (لا مهر لبغی)، وإذا مات لم یحق لها الإرث، کما أنها حیث تکره بالمواقعة لا یحق لها التزویج برجل، فإن الوطی المحترم سواء من قبلهما کشبهتهما، أو من قبل أحدهما کوطیه لها إلجاءً أو إکراهاً أو فی نوم أو ما أشبه، لها عدة علی ما ذکرنا تفصیله فی کتاب النکاح، والولد حلال من طرفها، حرام من طرفه فیما کان الرجل یعلم بحرمتها علیه، وإنما یبقیها من باب عدم المبالاة، إلی غیرها من الأحکام.

((الحکم القاطع والابتدائی))

((الحکم القاطع والابتدائی))

ثم إن الحکم من الحاکم قد یکون قاطعاً للنزاع، وقد یکون ابتداءً.

فالأول: کالأحکام فی فصل القضایا التنازعیة وما أشبه.

والثانی: کالحکم بطلاق زوجة الغائب، ونصب المتولی علی الأوقاف التی لا متولی لها، والقیم علی الأیتام، وکحجر السفیه، إلی غیرها.

فإن الحکم فی القسم الأول مبین للحق، وفی القسم الثانی موجد للحق، ولا یراد بالمبین للحق الإخبار بل هو إنشاء من هذا القبیل، وتقسیم الحاکم المال المشترک بین الشرکاء وتقسیم الإرث بین الورثة من القسم الأول، أما الحکم بالحدود والسجون والتعزیرات والغرامات وما أشبه علی ما تقدم فی بحث الغرامة، فالغالب أنها من القسم الثانی.

((آثار الحکم))

((اعتبار الحکم))

((آثار الحکم))

ثم إذا قضت المحکمة بشیء کانت له آثار ثلاثة:

((اعتبار الحکم))

الأول: اعتبار القضیة المحکوم بها، ولا یجوز لأحد نقضها إلاّ

ص:401

التمییز أو الاستیناف علی ما ألمعنا إلیه سابقاً.

وعلیه فلا یحق لا لأطراف النزاع ولا لغیرهم عدم الانصیاع إلی ذلک الحکم، کما یحتمل أنه لا یحق لمحکمة أخری فی عرض هذه المحکمة الاستماع الی القضیة من جدید، لما دل علی أنه إذا حکم بحکمهم (علیهم السلام) فالواجب اتباعه، فتأمل.

مثلاً زوجان تنازعا فی أنهما زوجان أم لا، فحکم الحاکم بالزوجیة بینهما، فإنه لا یحق للزوج أن یتزوج بأخت الزوجة، کما لا یحق لأختها التزوج بهذا الزوج، ولا للأجنبی التزوج بهذه الزوجة، وأولادهما یرثان، وأم الزوجة مَحرمة ومُحرمة علی الزوج، إلی غیر ذلک.

((النظر المجدد فی الحکم))

((النظر المجدد فی الحکم))

لکن الکلام فی أنه هل یحق لنفس الحاکم النظر فی نفس الحکم ثانیاً، وهل یحق لحاکم یأتی من بعد هذا الحاکم النظر فی هذا الحکم، لا یبعد صحة کلیهما إذا حصل الشک، مثلاً نفس الحاکم الذی حکم بأن الملک لزید، أو الزوجة لعمرو، أو أن بکراً قاتل خالد، إذا شک فی موازین حکمه هذا، مثل ما إذا شک فی أن الشاهد حین حکم کان عادلاً أو أنه حکم بقرائن شک فی صلاحیتها للقرائنیة، أو أن المعترف لعله اعترف تحت وضعة إرهاب أو ما أشبه ذلک، لم یستبعد حقه فی إعادة النظر فی الحکم.

فإذا تبین له الخطأ حکم طبق ما یراه ثانیاً، وإذا ظهر خطأه فخطأ الحکام فی بیت المال، إذا أوجب ذلک ضماناً، ولم یکن الضمان علی الشاهد، کالشاهد الذی رجع عن شهادته بعد قطع الید أو بعد القتل أو ما أشبه ذلک.

ویؤید ما ذکرناه بعض أبواب کتاب الشهادات فیما إذا رجع الشاهد.

أما الحاکم الآتی بعد حکم الحاکم الأول، فإذا ظهر له خطأ الحاکم الأول نقض الحکم، ولذا قال الفقهاء بأن الحاکم الجدید یتصفح أحوال المساجین، فمن ظهر له أنه ظلم فی الحکم أطلق سراحه.

وعلی هذا فإذا لم یکن شک من نفس الحاکم، ولا حاکم

ص:402

جدید فالحکم یبقی کما کان، وهو ملزم للکل.

((إنهاء أو انتهاء الحکم الموقت))

((إنهاء أو انتهاء الحکم الموقت))

الثانی: إنه إذا کان الحکم موقتاً بوقت خاص انتهی بانتهاء ذلک الوقت، وإذا کان موقتاً بدون توقیت خاص فللحاکم إلغاء الحکم فی أی وقت شاء، مثلاً قال: یسجن المحکوم عشرة أیام، فإنه یلغی السجن تلقائیاً إذا انتهت الأیام العشرة، وکذلک إذا حکم علی أن الضارب یطیب المضروب وینفق علیه إلی حین إبلاله، فإنه إذا أبل انتهی الحکم تلقائیاً، أما إذا حکم بأنه یبقی فی السجن حتی لا یهرب، فی المدیون ونحوه ولم یقیده بزمان أو حادث، فإن له أن یلغیه فی أی وقت شاء.

((تنفیذ الحکم))

((تنفیذ الحکم))

الثالث: یلزم علی القوة التنفیذیة تنفیذ الحکم، فلو لم تنفذ حق للقضاء إدانتها، مثلاً حکم بأن الدار التی سکن فیها زید هی لعمرو، فیجب إفراغها فوراً وتسلیمها إلی مالکها، فإن الشرطة إذا لم ینفذوا ذلک حق للحاکم عقابهم، لأنه عصیان والمعصیة فیها التعزیر کما عرفت سابقاً.

والظاهر أنه لیس الضمان علی القوة التنفیذیة المتخلفة، إذ الضرر توجه من الغاصب إلی المغصوب منه، فالمباشر أقوی من السبب.

ولا فرق فی لزوم تنفیذ القوة التنفیذیة بین کون الحکم من باب المقدمة، مثل السجن حتی لا یهرب الکفیل، أو حکماً نهائیاً مثل الحکم بالتخلیة للدار من الغاصب، نعم إذا علمت الشرطة اشتباه الحاکم علماً وجدانیاً یشکل إلزامهم بتنفیذ الحکم، وأنهم إذا لم ینقذوا استحقوا العقوبة، إذ النهی عن اتباع غیر العلم شامل له، إلی غیر ذلک من الأدلة العامة.

((إذا اختلفت الدعوی))

((إذا اختلفت الدعوی))

ثم إن الحاکم إنما لا ینظر إلی الدعوی مرة ثانیة فیما إذا کانت الدعوی الثانیة من جهة الأشخاص والمهیة عین الدعوی الأولی، مثلاً تنازع الزوجان فی الزوجیة فحکم الحاکم بها ثم تنازعا عند الحاکم فی نفس الزوجیة أیضاً، أما إذا

ص:403

اشتکت أخت الزوجة علی الزوج بأنها زوجة الرجل قبل أن یتزوج بأختها، فإن الحاکم ینظر فی القضیة، حیث إن الشاکیة إنسانة جدیدة.

هذا بالنسبة إلی الاختلاف فی الأشخاص، أما فی الدعوی فإذا ادعی زید علی عمرو أن الدار الفلانیة استأجرها من عمرو، وبعد انتهاء هذه الدعوی ادعی ثانیاً علی عمرو بأنها اشتراها من عمرو، فإن الحاکم ینظر فی الدعوی الثانیة، حیث إن مهیة الدعوی الجدیدة غیر مهیة الدعوی السابقة.

ومن اختلاف المهیة ما إذا کان بین الأشخاص فی الدعویین، أو بین مهیة الدعویین عموم من وجه، مثلاً ادعی زید وعمرو علی بکر وخالد بأن ما فی أیدیهما لهما، ثم ادعی زید فقط أو هما علی عمرو فقط بمثل هذه الدعوی، وکذلک حال ما إذا ادعی زید علی هند أنه تمتع بها فی شهر شعبان إلی آخر رمضان، وفی الدعوی الثانیة ادعی أنه تمتع بها من أول رمضان إلی آخر شوال.

بل الاختلاف أیضاً یمکن فی العموم المطلق، کما إذا ادعی علیه أولاً أن نصف داره له، ثم ادعی ثانیاً أن کل داره له، أو ادعی أولاً علی زید بأنه قتل ولده، ثم ادعی علی زید عمرو أنهما قتلا ولده معاً، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

وکثیراً ما یمکن مثل ذلک حیث تظهر الأدلة الجدیدة، ومن هذا القبیل أن مصراعی الباب مثلاً ثلاثة دنانیر والمصراع الواحد دینار واحد، فادعی زید علی عمرو أنه أتلف مصراعاً واحداً حیث تلف مصراعاً آخر قبل تلف عمرو للمصراع الواحد فأخذ دیناراً، ثم ادعی أن عمرواً أتلف المصراع قبل تلف المصراع الثانی، حیث إنه یطلب منه دیناراً آخر بإتلاف الهیئة الاجتماعیة بسبب إتلافه المصراع الأول.

کما أنه من هذا القبیل أیضاً وإن کان بصورة أخری ما إذا ادعی أنه یطلب منه شاةً ثم ادعی أنه یطلب منه قیمة الشاة لا الشاة نفسها، مثلاً کانت عنده ورقة

ص:404

بإمضاء المدعی علیه محی بعض خطها أنه مدیون له شاة، ثم تمکن من قراءة الممحو حیث کان الممحو لفظ (القیمة)، فکانت مضافة إلی الشاة، ولم یتمکن من قراءة لفظ القیمة أولاً، أو بالعکس بأن ادعی أنه یطلبه دیناراً ثم راجع مرة ثانیة وادعی أنه کان یطلبه شاةً قیمتها دیناراً لا عین الدینار إلی غیر ذلک من الأمثلة الکثیرة.

کما أنه لیس من اتحاد الدعوی ما لو ادعی وکیل زید أن عمرواً غصب دار زید، ثم ادعی أنه بنفسه یطلب الدار من عمرو، فالشخص وإن کان واحداً لکن بعنوان وکالته یجعله إنساناً آخر من جهة عنوان أصالته.

وعلی أی، فاختلاف الموضوع أو المحمول أو الأشخاص أو الأسباب کلها توجب اختلاف الدعوی.

کما أن من اختلاف الدعوی لو ادعی زید أن الدار إرث له، فإذا رد ادعی أنها نحلة، کما فی ادعاء الزهراء (علیها الصلاة والسلام) حول فدک، إلی ما أشبه ذلک.

ص:405

((الحق وإثباتاته))

اشارة

((الحق وإثباتاته))

(مسألة): الحق إذا لم یکن معترفاً به من طرف النزاع احتاج إلی الإثبات، ولذا فمن الضروری أن یحفظ الإنسان بإثباتاته ولا یعمل حسب حسن النیة وأصالة صحة العمل فی الناس فی معاملاته وسائر شؤونه، کالبیوع والدیون والشرکات والمضاربات والأحوال الشخصیة وغیرها، فإنه کثیراً ما تتولد النزاعات من حسن الظن بالطرف وعند المشکلة یظهر الإنکار مما لو کان هناک قیراط من الوقایة لم تحتج إلی هذا القنطار من العلاج، وربما حتی القنطار من العلاج لا ینفع، ولذا قال الله سبحانه: ﴿یا أیها الذین آمنوا إذا تداینتم بدین إلی أجل مسمی فاکتبوه﴾((1)) الآیة.

وقد نظم ذلک الشاعر بقوله:

أنلنی بالذی استقرضت صکا

واشهد معشراً قد شاهدوه

فإن الله خلاق البرایا

عنت لجلال هیبته الوجوه

یقول إذا تداینتم بدین

إلی أجل مسمی فاکتبوه

وحال هذا الإتقان فی التوقی من المشکلة حال الاستشارة فی التوقی من المشکلة، فإن الإنسان فی کثیر من الأحیان یرید سبق الزمن وإبداء الشطارة فلا یستشیر، بزعم أن المستشارین یقفون دون ما یراه، فیرتطم فی أوحال المشاکل سواء فی الزواج أو الطلاق أو الشراکة أو فتح المؤسسة أو الأمور السیاسیة أو الاجتماعیة أو الاقتصادیة أو غیرها.

وعلی أی فربما یصبح الطالب مطلوباً بسبب عدم الثبت، لا أنه یذهب ماله عند المنکر فحسب وإنما ینقلب الأمر علیه حیث تضع المحکمة خسارات علیه، والدلیل فی المحاکم قد یکون علی المدعی وقد یکون علی المنکر، فإن من یدعی طلباً له علی زید یطلب الحاکم منه الشهود أو الثبت بکتابة الطرف أو نحو ذلک، فإذا أتی بالدلیل کلف الحاکم المنکر الجواب،

ص:406


1- سورة البقرة: 282

فإذا قال: نعم إنه کان یطلب منی لکنی أعطیته مثلاً أو تهاتر مع طلبی منه، قال له الحاکم: أثبت، حیث انقلب المدعی علیه مدعیاً.

ولا یخفی أن الدلیل لا یخص لإثبات الدعوی أو للدفاع، بل یشمل الدلیل ما إذا احتاج الإنسان إلی جهة من المعاملات وما أشبه، فإذا أراد أن یبیع داراً سأله المشتری عن الدلیل بأن الدار له، وإذا أرادت التی فارقت زوجها أو فارق زوجته الرابعة أو ما أشبه تزویجاً جدیداً سألوها عن ثبت الطلاق، وکذلک سألوه عن إثباب أنه طلق الرابعة، أو الأخت فیما إذا أراد أخذ أختها.

هذا وإن کان قول الإنسان حجة لما هو ذو الید فیه، سواء یداً علی نفسه أو علی ممتلکاته وعلی سائر حقوقه، إلاّ أن الروابط الاجتماعیة کثیراً ما تلجئ الإنسان إلی الدلیل، کما ذکروا فی مسألة أصالة الصحة فی قول وعمل المسلم، بل غیر المسلم أیضاً، کما ألمعنا إلیه فی بعض مباحث (الفقه).

وهکذا إثبات الملک لنفسه أو إثبات أنه ولده أو إثبات أنه وارث فلان، إلی غیر ذلک.

وأولی بالاحتیاج إلی الإثبات إذا أراد فعل محظور أولاً وبالذات، لأنه من موارد الاستثناء، کمن یفطر أمام الناس أو یرید بیع الوقف أو یرید أکل شیء أو شرب شیء محرم، لأنه مسافر أو هو من موارد بیع الوقف أو مریض إلی غیر ذلک.

هذا کله بالنسبة إلی الإثبات فی قسمی الدلیل، وربما یطلق الدلیل علی ما یکون إنشاء الحق متوقفاً علیه کما فی الشهود فی الطلاق، فإن الطلاق حق لکن إنشاءه بحاجة إلی الدلیل وهو حضور الشاهدین، وهذا توسع فی لفظ الدلیل، وإلاّ فالدلیل کما هو ظاهر من لفظه للإشارة إلی شیء کائن أو یکون من قبیل الإخبار لا إلی ما یکون بسبب الإنشاء.

وعلی أی حال، الإثبات قد یکون علی من طلب من المحکمة إجراء

ص:407

شیء فی نفعه، ویسمی هذا الشخص فی الاصطلاح (المدعی) من غیر فرق بین أن یکون دعواه فی الأموال أو الأولاد أو الأعراض أو الجنایات أو سائر الحقوق بالمعنی الأخص أو غیرها، کأن یقول: الدار التی سکن فیها زید لی، أو إنی أطلب منه کذا، أو إن هذا ولدی، أو هذه زوجتی، أو فلاناً جرحنی، أو تعدی علی زوجتی، أو قتل ولدی، أو لی حق التولیة أو الوصایة أو الولایة أو الإمارة أو القضاء أو القیمومة أو غیرها.

((بین المدعی والمنکر))

((بین المدعی والمنکر))

لکن الاحتیاج أو الإثبات لیس دائماً خاصاً بمن یراجع المحکمة ابتداءً، بل فی کثیر من الأحیان یحتاج من طلبته المحکمة ثانیاً أیضاً إلی الإثبات، کما تقدم فی مثال انقلاب المنکر مدعیاً، فما ورد من أن (البینة علی المدعی والیمین علی من أنکر) وإن کانت قاعدة تامة فی نفسها إلاّ أن اللازم معرفة المدعی والمنکر حتی لا یختلط الأمر.

وهذا وإن کان فی الغالب واضحاً إلاّ أنه فی کثیر من الأحیان یقع فی الأمر غموض یحتاج إلی الحل لتمییز المنکر من المدعی، وربما یکون هناک دعویان لا أنه هناک مدع ومنکر، کما إذا کان نفران خارجین عن دار وکل یدعی أن الدار کلها له، أو أحدهما یدعی أن الدار کلها له والآخر یدعی أن نصف الدار له، إلی غیر ذلک مما یصطلح علیه الفقهاء بأنه من مورد التحالف.

وهل یکون الظاهر فی طرف المنکر حتی یکون المدعی خلاف الظاهر بحاجة إلی الإثبات، أو أن الظاهر لا شأن له فی الأمر، قولان، لکن لا دلیل علی أن المدعی خلاف الظاهر هو المدعی فی الموازین القضائیة، بل المیزان الأصل، والمراد بالظاهر أن العرف لتکرر قصة ما یرون أن الأمر الطبیعی مع المتکرر له لا مع مخالفه، وإن کان الأصل علی خلاف ذلک المسیر الطبیعی، مثلاً إنسان له کلب مسیب یؤذی المارة، ولا یبالی کلما قیل له بحفظه، فجاء إنسان وادعی أن الکلب

ص:408

عقره وأنکر صاحب الکلب فمن یقول بالحکم للظاهر یقول علی صاحب الکلب إثبات العدم، ومن یقول بالحکم بالأصل یقول علی مدعی العقر الإثبات.

وکذلک إذا جاء زوجان تشتکی الزوجة عدم نفقة الزوج لها مدة عشر سنوات من حین زواجهما إلی الحال، والحال أنهما کانا یعیشان بوئام وسلام، أو ادعت أنها لم یدخل بها فی حال عیشهما کل هذه المدة، فالظاهر مع الزوج القائل بالنفقة والدخول، والأصل مع الزوجة، لأن المتعارف الذی جرت علیه سیرة الأزواج أنهما إذا کانا موافقین مدة مدیدة أن الزوج یدخل بها وینفق علیها، وإلاّ تنازعا فی أوائل الأمر، أما الأصل فلأن کلا الأمرین من النفقة والدخول حادثان والأصل عدم الحادث حتی یثبت.

وفی عکسه ادعی الزوج عدم الدخول بعد أن دار الأمر بینهما تلک السنوات بوئام، وذلک لأنه یرید إعطاء نصف المهر لدی الطلاق، والزوجة تدعی الدخول، فالأصل مع الزوج والظاهر مع الزوجة.

وهکذا حال التصرف فی ملک سنوات وهو یقول فی المجالس إنه ملکه، ثم یأتی صدیقه الذی کان یسمع منه هذا الکلام مکرراً فی المجالس ولا یعترض علیه، مدعیاً أن الدار له، فالمتصرف معه الظاهر، بینما الأصل ضده.

وقد یتطابق الأصل والظاهر فی صدیقین منذ سنوات وقد قتل والد أحدهما قبل سنوات، فیأتی ولی المقتول مدعیاً أن صدیقه قتل والده، وأنه ما کان یقول شیئاً بملاحظة عرفیة والآن یرید حقه منه، والمدعی علیه منکر، فالظاهر مع المدعی علیه إذ لو کان هو القاتل جرت العادة مطالبة ولی المقتول منه لا أن یترک الادعاء سنوات کثیرة، وهنا الأصل والظاهر متطابقان، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

((قرائن الدعوی))

((قرائن الدعوی))

ثم إن القاضی قد یعتمد فی الدعاوی علی القرائن الکاشفة مثل البینة والاعتراف والخط وما أشبه مما هی

ص:409

کواشف عرفاً عن الواقع، وقد یعتمد علی الأصول المقررة عقلاً وشرعاً مما لا کشف لها، وإنما وضعها العقلاء وأمضاها الشرع للرجوع إلیها حین لا قرائن کاشفة، کأصل البراءة والاستصحاب، فإن من یدعی علی غیره مالاً البراءة تقول بأنه لیس بمدیون، ومن یدعی أن أباه طلق زوجته حال حیاته فبعد أن مات الأب لا ترث الزوجة الاستصحاب یقول بأنه لم یطلق وأنه حادث، فأصالة بقاء السابق علی ما کان خلاف ادعاء الولد.

والبراءة والاستصحاب قد یتوافقان، کما إذا کان الاستصحاب یقتضی عدم شغل الذمة، وقد یتخالفان کما إذا کان مدیوناً ویدعی إعطاء دینه فالبراءة تقول بأنه بریء والاستصحاب یقول بأنه مدیون، لکن الاستصحاب مقدم علی البراءة، فاللازم علی مدعی إعطاء الدین إقامة الدلیل، ووجه تقدم الاستصحاب علی البراءة مذکور فی الأصول.

ص:410

((موضوع القضاء وحکمه))

اشارة

((موضوع القضاء وحکمه))

(مسألة): فی کل قضاء موضوع وحکم، والموضوع أولاً وبالذات علی المتخاصمین، والحکم علی القاضی، لکن ربما یجهل المتخاصمان الموضوع المرتب علیه الحکم فیساعدهما القاضی فی تشخیص الموضوع، کما ربما لا یعلم القاضی الحکم فیساعده المتخاصمان، إذ لا یلزم أن یکونا جاهلین، فربما یکونان من الأفاضل.

ففی مثال الأول: امرأة اشتکت علی زوجها أنه لا ینام معها کل لیلة، ولا یباشرها کل أسبوع مرة، ولا ینفق علیها، ولا یترکها تذهب کل یوم إلی دور جیرانها، فإن موضوع الشکایة خلیط بینما له حکم وما لیس له حکم، أی ما من حقه وما من حقها، حیث إنه لا حق لها إلاّ فی ثالث شکایاتها، وإنما الحاکم یساعدها بأن حقها فی کل أربع لیال لیلة، وفی الوقاع ما تعارف علیه الناس من أوقات خاصة حسب المعاشرة بالمعروف، أو فی کل أربعة أشهر مرة حسب المشهور، وأن الخروج لا یلزم علی الزوج الإجازة فیه إلاّ بقدر ما یصدق علیه الإمساک بالمعروف، إلی غیر ذلک من الأمثلة.

وفی مثال الثانی: هناک ألف إنسان یعیشون هم وعوائلهم من بیع الفواکه، یشترون کل منّ بدرهم ویبیعونها بدرهم ونصف، وهناک تاجر یأتی بالفواکه الرخیصة من البلاد البعیدة حیث یشتری هناک کل منّ بنصف درهم ویبیعه بدرهم، وبذلک یتضرر الألف العائلة المذکورة لا بعدم الربح فقط لإمرار معاشهم بل ببقاء فواکههم حتی تخیس، فهل للحاکم المنع من ذلک لدلیل «لا ضرر» أو غیره، أو لا لدلیل السلطنة بالنسبة إلی التاجر.

ومثال آخر: الخبز قیمته لکل رغیف درهم، وفی البلد مائة خباز یتواطؤون بینهم أن یبیعوا کل رغیف بدرهمین، فهل للحاکم منعهم لدلیل الإجحاف، أو لا لدلیل السلطنة، فإنه کثیراً ما غیر القاضی المتمرس فی الفقه لا یعرف

ص:411

الحکم وأنه هذا أو هذا، فالمتنازعان یساعدانه فی فهم الحکم.

ولا یخفی أن قصة الإمام (علیه الصلاة والسلام) مع الرجل الذی أعطاه المال للمضاربة وذهب إلی مصر مع جماعة وتواطؤوا علی السوق السوداء((1)) لا یکون دلیلاً علی المقام.

ولا یخفی أنه لیس من قبیل المثالین المذکورین مثال ثالث فی المقام أیضاً، وهو أن أهل البلد یستأجرون الدور کل شهر بدینار، فاتفق سیل أو حرب أو برکان أو زلزال أو ما أشبه ونزح إلی البلد من جرائها ألوف العوائل مما غلت الدور بسبب القیمة السوقیة حسب مسألة العرض والطلب، کل شهر لکل دار عشرون دیناراً، والساکنون لا یملکون هذا القدر لأنهم فقراء، وأصحاب الدور أیضاً فقراء یحتاجون إلی مزید من الإیجار لإدارة أمورهم المعاشیة، کما لا یتمکن الساکنون من الخروج بعوائلهم عن البیوت والسکنی فی الأرصفة والشوارع والحدائق العامة وما أشبه، فهل دلیل السلطنة یعطی للملاک إخراجهم، أو دلیل «لا ضرر» یعطی للمستأجرین عدم الخروج، وعلی التقدیر الثانی فهل هم مکلفون بکل الثمن أی العشرون لکل شهر، ما تمکنوا دفعوا وما لم یتمکنوا کان فی ذمتهم، أو هم مکلفون بالأجرة السابقة:

الأول: من باب الجمع بین الحقین.

والثانی: من باب الإجحاف عرفاً.

إلی غیرها من الأمثلة، ولذا تعارف فی بعض القوانین جعل النزاع مراحل متعددة، مرحلة لأجل تنقیح الموضوع، ومرحلة لأجل تنقیح الحکم، ومرحلة لأجل الحکم.

ولا یخفی أنه لا فرق فی ما ذکرناه من تشخیص الموضوع والحکم بین قوانین الإسلام وبین قوانین غیر الإسلام، حیث یأتی الطرفان إلی القاضی الإسلامی، سواء کانا غیر مسلمین أو أحدهما غیر مسلم، فإذا عرف الحاکم حکم غیر المسلمین

ص:412


1- إشارة إلی قصة الإمام الصادق علیه السلام مع مصادف، انظر الکافی: ج5 ص161 باب الحلف فی الشراء والبیع ح1

فهو، وإلاّ استعان بالمتنازعین إذا عرفاه، أو الخبراء فی حکمهم إذا أراد أن یحکم علی طبق رأیهم، فإنه قد تقدم فی بعض المباحث أن الحاکم الإسلامی إذا راجعه غیر المسلمین له الحق فی أن یحکم طبق مذهبهم أو طبق مذهبه.

بقی أمران:

((القاضی والأمور الحسبیة))

((القاضی والأمور الحسبیة))

الأول: القاضی کما له شأن فی فصل المنازعات ووضع الأمور فی نصابها فی غیر المنازعات _ إذ قد یکون تنازع بین الزوج والزوجة فی الأمور الزوجیة، وقد لا یکون بینهما تنازع وإنما لا یعلمان قدر الحق وکل واحد منهما راضخ للحق، مثلاً لا یعلمان هل أن للزوجة أن تطلب حق الحضانة من الزوج أو لا، بعد علمهما بأن لها طلب أجرة الرضاع، إلی غیر ذلک من الأمثلة _

کذلک له شأن فی الأمور الحسبیة، أی ما یؤتی به قربة إلی الله تعالی، لأن فاعل هذه الأمور یأتی بفعله احتساباً أی تقرباً إلیه سبحانه، سواء کان فی طرفه إنسان أیضاً مثل أمور القصر والغیب کالمجانین والأطفال والذین انقطع بهم الأمور أو سجنوا ولا یمکن الوصول إلیهم، وکذلک مثل أمور الحجر وحق الورثة وتقسیم حق الشرکاء وما أشبه، أو لم یکن کإدارة أمور المساجد والأوقاف العامة التی لا متولی لها وما أشبه هذه الأمور.

فإنه کما فی فصل المنازعات یلزم علیه أن یحکم بعد معرفة الموضوع والحکم، فیحقق عن الموضوع کاملاً ویحقق عن حکم هذا الموضوع کاملاً ثم یحکم، کذلک فی الأمور الحسبیة علیه أن یعرف أن هذا مثلاً سفیه أموالی حتی یحجر علیه، أو هذا سفیه أعمالی حتی یجعل له ولیاً، ویعرف قدر الحجر وخصوصیاته.

وکذلک بالنسبة إلی سائر الموضوعات والأحکام المرتبطة بأمور الحسبة.

وفی بعض الأحکام یقع الشک فی أمثال

ص:413

هذه الأمور، مثلاً لا شک أن شارب الخمر عن علم وعمد فی الموضوع یجلد ثمانین جلدة، لکن هل ذلک عام یشمل فیما إذا شرب ألف إنسان خمراً فی جو غیر إسلامی ثم حکم الإسلام البلاد، فهل أولئک یجلدون کذلک، أو الحکم خاص بالجو الإسلامی، وإن کان للمرتکب فی جو غیر إسلامی التأدیب أیضاً، کما ألمعنا إلیه فیما سبق، أو بعد وجود الجو الإسلامی هل الحکم خاص بفرد أو أفراد، أو الأمر شامل للکثرة أیضاً، مثلاً ألف إنسان فی قصة نادرة جاءوا إلی الحاکم الشرعی واعترف کل واحد منهم أربع مرات بالزنا، بحصول تیار انحرافی فی المجتمع أورث ذلک، فهل یحد الحاکم الحد المقرر علی کل أولئک، أو أن الدلیل لا یشمل مثل هذه الکثرة کما قال السید الحکیم فی مسألة نجاسة المضاف بأنها لا تشمل مثل ألف کر، خلافاً للسید الطباطبائی فی العروة الوثقی، وقد ذکرنا مثل مقالة الحکیم فی مسألة الارتداد الجماهیری.

ویؤید عدم جریان الأحکام إذا لم یکن الخلاف فی فرد أو ما أشبه، عدم تعرض رسول الله (صلی الله علیه وآله) للذین هربوا من الحرب، وعدم تعرض علی (علیه الصلاة والسلام) لأهل الجمل والنهروان وصفین بعد ظفره علیهم، وکذلک عدم تعرضه لمن أضربوا أو تظاهروا ضده فی قصة عزل شریح، وفی قصة طلبهم إعادة صلاة التراویح، إلی غیر ذلک.

((لا فرق بین مسلم ومسلم))

((لا فرق بین مسلم ومسلم))

الثانی: لا یحق لقاض مسلم أن یفرق بین المسلمین بحدود جغرافیة أو لغویة أو عرقیة أو ما أشبه ذلک، فانهم سواسیة _ إلاّ فیما استثنی _ من أول کتاب التقلید إلی آخر کتاب الدیات، کما سبق الإلماع إلیه.

فالعراقی والإیرانی والهندی والباکستانی والإندنوسی وغیرهم کلهم سواسیة فی کل الأحکام، وتفرقات الاستعمار بینهم لا یجوز للمسلم

ص:414

الأخذ بها، فمن یخاف الله والیوم الآخر اللازم علیه أن یجعلهم متساوین کأسنان المشط، کما قال رسول الله (صلی الله علیه وآله)((1))، وقال الله سبحانه قبل ذلک: ﴿إنا خلقناکم من ذکر وأنثی وجعلناکم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أکرمکم عند الله أتقاکم﴾((2)).

((من خطط الاستعمار))

((من خطط الاستعمار))

ولا یخفی أن المستعمرین الذین جزؤوا بلاد الإسلام للسیطرة علیها، أوغلوا فی جعل الحراسة بإبقاء التفرقة، ابتداءً من أعماق النفوس وانتهاءً إلی صغریات العادات والتقالید، مثلاً:

أولاً: أحیوا اللغات المحلیة.

وثانیاً: جعلوا النقود مختلفة، فنقد البلد الفلانی الدینار، والبلد الفلانی الریال، والبلد الفلانی التومان، والبلد الفلانی الروبیة، وهکذا.

وثالثاً: إحیاء الأدیان السابقة فی کل قطر قطر، کالمجوسیة والیهودیة والنصرانیة والهندوکیة وما أشبه.

ورابعاً: اختراع الأدیان ،الجدیدة فلکل بلد اخترعوا دیناً جدیداً، کالقادیانیة فی باکستان، والبابیة فی إیران، والوهابیة فی الحجاز، وما أشبه.

وخامساً: صنع القومیات المفرقة، کالقومیة الطورانیة والفارسیة والکردیة والعربیة.

وسادساً: جعل الحدود الجغرافیة بین البلاد.

وسابعاً: اختلاف الجوازات والجنسیات والهویات والبطاقات والتی ربطوا المسلمین بها.

وثامناً: جعل الأحکام المختلفة، فلأهل البلد حکم وللأجانب

ص:415


1- مستدرک الوسائل: ج8 ص327 ب10 ح9568
2- سورة الحجرات: 13

باصطلاحهم حکم آخر، مثلاً الإیرانی فی العراق معفی عن الجندیة، وفی المقابل لا یحق له اشتراء الأرض والانتخاب، وبالعکس العراقی فی إیران، وهکذا بالنسبة إلیهما فی مصر، وبالنسبة إلی الثلاثة فی إندنوسیا، وبالنسبة إلی الأربعة فی بنغلادش، إلی غیر ذلک.

وتاسعاً: تصبیغ أجهزة الدولة بالصبغة التجزیئیة، کالجیش والعلم والطیران ومجلس الأمة وما أشبه ذلک.

وعاشراً: جعل أعیاد مختلفة لکل بلد بلد هی أعیاد مهمة عندهم، أما الأعیاد الإسلامیة فلا أهمیة لها، وإن أخذوها اخذوها خارجاً عن نطاق الدولة علی الأغلب.

والحادی عشر: وربما تفننوا فی تصنیع التقالید والعادات، فالأکل وکیفیة الزراعة واللباس والدار وغیرها فی هذا القطر یختلف عن کل ذلک فی قطر آخر، حتی یکونوا متمیزین حتی فی هذه الخصوصیات.

والثانی عشر: قطع اقتصادیات البلاد الإسلامیة بعضها عن بعض، مما سبب ارتفاع المعیشة فی بعض البلاد وانخفاضها فی بعض، فالذین هم فی بلاد مرتفع المعیشة یحفظون التجزئة لأن لا یفتقروا، مع العلم أن کل الاقتصادیات فی البلاد الإسلامیة إذا أخرجت عن نیر الاستعمار ارتفع دخل الفرد ارتفاعاً کبیراً، لا أنه انخفض البعض علی حساب البعض الآخر.

والبحث فی هذا الأمر طویل محله الکتب الخاصة المعنیة بکیفیة جمع کلمة المسلمین فی دولة واحدة تحت لواء الأخوة الإسلامیة، وإنما أردنا الإلماع إلی ذلک، والله المستعان.

ص:416

((دلائل إثبات الدعاوی))

اشارة

((دلائل إثبات الدعاوی))

(مسألة): دلائل الإثبات سواء فی الدعاوی أو فی الأمور الحسبیة أمور:

الأول: الإقرار.

الثانی: البینة.

الثالث: الإسناد.

الرابع: القسم.

الخامس: القرائن.

ومن المعلوم أن تفصیل الکلام فی کل ذلک موکول إلی (الفقه)، وإنما یراد هنا الإلماع إلی بعض ذلک کما ذکرها الحقوقیون فی الکتب بهذا الشأن:

((الإقرار وشروطه))

((الإقرار وشروطه))

أمّا الأول: وهو الإقرار فیشترط فیه أمور:

1: أن یکون إقراراً بحق للغیر بما یضر نفسه، کما إذا أقر بأن زیداً یطلبه دیناراً.

ومن المعلوم أن الاعتراف بالحق لا یسمی فی کل الموارد إقراراً، فإن من یشهد عند الحاکم بدین زید علی عمرو أو ما أشبه هو إقرار بالحق لکنه یسمی شهادة لا إقراراً.

ولا یخفی أن الإقرار بالنفع للنفس غالباً یضر النفس أیضاً، کما أن الإقرار بالضرر علی النفس ینفع النفس أیضاً، فإذا أقر علی صغیر بأنه ولده یکون هذا الإقرار فی ضرر نفسه، حیث تجب حضانته والنفقة علیه وما أشبه ذلک، لکنه فی نفعه أیضاً حیث المحرمیة والإرث ونحوهما، وإقراره بأنه مدیون لزید دینار فی ضرره للزوم دفعه إلیه، وفی نفعه حیث بالدفع یکون فقیراً یتمکن أن یأخذ من بیت المال، ولا حج علیه إذا کان مستطیعاً به ولا خمس علیه، وحیث إنه یصبح بذلک ذا عسر یکون علی غرمائه الآخرین أن ینظروا إلی میسرته،

ص:417

إلی غیر ذلک.

کما أنه فی العکس حیث الإقرار فی نفعه یکون فی ضرره أیضاً، کما إذا قال: إن هذه الدار لی بالتنازع مع غیره، فإنه فی ضرره إذ الحاکم یطلب منه بسبب هذا الإقرار أن لا یطلب من بیت المال السکنی، ولا حق له فی سکنی غرف خاصة بغیر ذوی المسکن، إلی غیر ذلک.

وعلیه فکون الإقرار علیه أو له یلاحظ فیه مصب الإقرار لا مآله.

2: أن یکون بالقصد لا هزلاً أو غلطاً أو ما أشبه ذلک، لأن ذلک لا یسمی إقراراً علی النفس.

3: أن یکون اختیاراً لا إکراهاً أو اضطراراً.

4: الإقرار لا ینفذ علی الغیر، کما إذا قال: أنا زوجها، أو قالت: أنا زوجته، أو هذه الدار لزید، أو یطلبنی مائة حیث ینکر الطرف ما یرتبط به، ولو کان الإقرار فی نفع المقر له بضرر المقر.

5: أهلیة المقر والمقر له والمقر به، ففی المقر یلزم أن یکون بالغاً عاقلاً مالکاً لما أقر به، ولذا قالوا: (من ملک شیئاً ملک الإقرار به)، فالمرأة إذا قالت: لی زوج سمع منها، أما إذا تزوجت وبعد ذلک قالت: کان لی زوج تزوجت علیه لم یسمع منها، لأنها قبل الزواج تملک نفسها لا بعد الزواج، وهکذا.

أما اشتراط العقل فهو واضح، لأن المجنون رفع القلم عنه شرعاً وعقلاً.

وأما اشتراط البلوغ ففی إطلاقه نظر، إذ لا وجه لعدم سماع الإقرار من غیر البالغ العاقل الممیز فیما یری العقلاء قبوله منه، کما تقدم الإلماع إلیه.

ویلزم أن لا یکون المقر مفلساً أو سفیهاً وإلاّ فیحث لا یملک المال لا یملک الإقرار به، نعم فیما له الإقرار کما إذا قال علی صیام کذا أو ما أشبه ذلک، یقبل منه، فإذا قال قبل موته بأن علیه صیاماً وصلاةً وجب

ص:418

علی ولده الأکبر أن یقضیهما عنه، وکذلک إذا أقر بعین أو دین لاحق علی الحجر، فإنه لا إشکال فی عدم اشتراک المقر له مع الغرماء فی المقر به، کما إذا أقر بأنه اقترض دیناراً بعد الحجر، أو قال: إن هذا العین أخذها من ید زید بعد الحجر، فإن ثبت للحاکم ذلک ردها الحاکم إلی صاحب العین، وإن لم یثبت لم یقبل الحاکم قوله بأنه أخذها بعد الحجر، فحیث إنه ذو ید علیه ولم یثبت أنها جاءت بعد الحجر کانت کسائر أمواله.

وعلی کل، ففی إقرار المفلس تفصیل، لا أنه یقبل مطلقاً، أو لا یقبل مطلقاً.

وفی المقر له یلزم أن یکون صالحاً، فلا یصح الإقرار بالقرآن الکریم للکافر، أو إقرار الکافر بالخمر والخنزیر للمسلم.

وفی المقر به یلزم صلاحیته، فإذا أقر بأن ما لا مالیة عقلائیة له ولا اختصاص لفلان لم ینفذ الإقرار.

ولو أقر بشیء یمکن صحة إقراره به فالظاهر القبول، کما إذا کانا کافرین ثم أسلما فقال: إن له علی دینار ثمن رطل خمراً وأرطال من لحم الخنزیر أو ما أشبه ذلک، حیث یمکن أن یکون الثمن علیه حال کفره، فإن الدیون لا تسقط بالإسلام، فلا یشمل هذه (الجب) علی تفصیل ذکرناه فی (الفقه).

((فروع فی الإقرار))

((فروع فی الإقرار))

ثم الإقرار إذا صدر من طرف المدعی انتهی النزاع، کما إذا اشتکی زید علی عمرو بأنه یطلبه مالاً، أو أن الدار التی هو فیها له، أو أن زوجته اغتصاب منه، فقال المدعی علیه: إنی أقر بکل ذلک.

نعم فی مسألة الزوجة تفصیل ذکرناه فی بابه، من أنها قد تصدّق، وقد تکذّب، وقد تسکت، وقد تدعی عدم العلم.

ولا یخفی أنه لو ثبت عند القاضی کذب المقر إما لعدم الصلاحیة الذاتیة للإقرار عقلاً، أو ظهور کذبه بالقرائن مع الصلاحیة الذاتیة، أو عدم الصلاحیة شرعاً، سقط إقراره کما ادعی إنسان عمره خمس عشره سنة بأن فلاناً الذی لا یمکن تولده منه ابنه، أو أقر بشیء نعلم أنه کاذب فیه، أو أقر

ص:419

بأن الأختین زوجتاه، أو ما أشبه ذلک من المحذور العقلی فی الأول والشرعی فی الثالث والعلم بکذبه فی الثانی.

ولذا ذکرنا فی کتاب الغصب أنه لو قال: إن هذه الدار لزید، ثم قال بل لعمرو، أعطیت الدار لزید ولا یعطی لعمرو شیء، إذ إقراره الثانی فی ملک الغیر، فلا یملک شیئاً حتی یملک الإقرار به، فما عن المشهور من أنه تعطی الدار للأول وثمنها للثانی محل تأمل.

ومثله لو قال الرجل: زینب زوجتی، ثم قال: وأختها أیضاً زوجتی، لم یخسر للثانیة المهر، لأنه لا یملک زواج الأختین، نعم إن ثبت دخوله بها خسر المهر للدخول إذا لم تکن بغیة.

ثم الإقرار یصح من کل من المالک، ومن یقوم مقامه کالوکیل والوصی، ومن بیده الأمر کمتولی الوقف ونحوه، لأن کل ذلک مشمول للأدلة العامة.

ثم إنه لو أقر وبعد الإقرار أنکر، فقد ینکر أنه أقر، وقد یذکر لإقراره وجهاً ممکناً، کالمواطاة أو خوف الظالم، وقد یشهد شاهدان بأنه أقر، وقد یشهدان بأنهم رأوا القبض، ففی الأول إذا سمع الحاکم إقراره لم یقبل إنکاره، وکذا إذا ادعی المقر له ذلک ولم یکن له شاهد لکنه أحلفه فلم یحلف، وفی الثانی یصح حلف الطرف إذا لم یشهد علی وجه إقراره الأول شاهدان، ولذا قال فی الشرائع: إذا شهد بالبیع وقبض الثمن ثم أنکر بعد وادعی أنه أشهد تبعاً للعادة ولم یقبض، قیل: لا تقبل دعواه لأنه مکذب لإقراره، وقیل: تقبل لأنه ادعی ما هو معتاد، وهو أشبه إذ لیس هو مکذباً لإقراره، بل مدعیاً شیئاً آخر، فیکون علی المشتری الیمین، ولیس کذلک لو شهد الشاهدان بإیقاع البیع ثم شاهدا القبض فإنه لا یقبل إنکاره ولا یتوجه الیمین، وفی المسألة تفصیل موکول إلی محله.

والحاصل: إنه لا یمکن القول بأنه لا یقبل مطلقاً، کما لا یمکن القول بأنه یقبل مطلقاً، بل یلزم التفصیل.

ولو قبل المقر بعض الادعاء دون

ص:420

بعض فإذا کان الأمر قابلاً للتجزئة فلکل حکمه، کما إذا قال: إنی أطلب منک دینارین، فقال: بل تطلب دیناراً، فإنه إقرار بدینار فیجب علیه إعطاؤه حسب إقراره، وإنکار لدینار ثان یجب علی المدعی البینة، وإلاّ فعلی المنکر الحلف.

أما إذا لم یکن الأمر یقبل التجزئة، کما إذا قال تزوجتها دواماً، فقالت بل متعة، أو بالعکس، أو قال أعطیته قرضاً، فقال بل هدیة، أو ما أشبه ذلک، لم یکن من قبول طرف المدعی وإقراره، بل اللازم إجراء موازین الدعوی علی تفصیل ذکرناه فی کتاب الإقرار وغیره.

ومن التجزئة یعلم حال ما لو أقر اثنان لواحد أو لاثنین أو أقر واحد لاثنین، وإذا کان المتعلق متعدداً فقال: هذه الأربع زوجاتی، فقلن نعم، صبح إقرارهن، وبالعکس لو قال جماعة: إن کل واحد منهم یطلبه دیناراً، فقال فی جواب الحاکم نعم.

ولا یلزم اللفظ فی الإقرار، فلو کتب أن زیداً یطلبه دیناراً کان إقراراً، کما أنه لو أشار برأسه بنعم عند قول القائل: هل یطلبک زید دیناراً، کان إقراراً بالدینار.

نعم یشکل مثل ذلک فی الإقرار بالحد، کما لو سأله هل زنیت، فأشار برأسه بالإیجاب أربع مرات، أو کتب أربع مرات إنه زنی، لم یجر علیه الحد للشک فی شمول الأدلة له، بضمیمة ما ورد من (درء الحدود بالشبهات).

((الإقرار الإکراهی))

((الإقرار الإکراهی))

ثم إنا ذکرنا أن الإِقرار الإکراهی لا یثبت حقاً، وله صورتان:

الأولی: أن یکرهه المکره بأن یقر بأن التاجر الفلانی یطلبه ألف دینار، وهذه هی الصورة الواضحة المذکورة فی الکتب.

الثانیة: أن لا یکون الإکراه فی الإقرار وإنما من قبل الإقرار، کما إذا أقر الکاسب بأن التاجر الفلانی یطلبه ألف دینار وهو یطلبه ظاهراً، إلاّ أن الطلب حصل بالإکراه، مثلاً بسبب التلاعب، فمثل هذا الإقرار أیضاً

ص:421

لا أثر له، والتلاعب بأموال الأفراد أو بالأسواق علی کلا شکلیه محرم، ولا یثبت حقاً لأنه من الإضرار والإجحاف، سواء کان فی نطاق تاجر أو نطاق دولة ضد دولة، مثلاً بلاد الغرب تبیع سیارته التی تساوی ألف دینار بخمسة آلاف دینار، فمعنی ذلک أنه نهب من أموال العراق مثلاً أربعة آلاف دینار لکل سیارة، ثم یشتری فرش العراق التی تساوی خمسة آلاف دینار بألف دینار، ومعنی ذلک أنه نهب من أموال العراق مرة ثانیة أربعة آلاف دینار، وکلا الأمرین إجحاف وضرر.

فلا یقال: (الناس مسلطون) شامل للغرب البائع والمشتری.

فإن الإجحاف استثناء عن دلیل السلطنة، مثل استثناء الغبن وما أشبه. هذا بالإضافة إلی أنه من الإکراه الأجوائی، ودلیل الإکراه یرفعه، حیث اضطرار العراق إلی السیارة وإلی بیع منتوجاته فی جو إکراهی، کما ذکرنا فی مثل تواطؤ الخبازین فی بیع کل خبز بعشرة دراهم بینما یساوی خمسة دراهم، وتواطؤ أصحاب المعامل فی استخدام العمال کل یوم بدینار بینما أجرتهم العادلة کل یوم دیناران مثلاً.

وما ذکرناه فی الدولة یأتی فی التاجر أیضاً، فلنفرض أن هناک کاسباً له ألف مثقال من الذهب یساوی ألف دینار هو قیمة دار یرید اشتراءها لسکنی عائلته، فیأتی تاجر کبیر ویجد فی السوق کمیة کبیرة من الذهب فیسبب تنزل قیمة الذهب إلی الربع، فیضطر الکاسب إلی بیع ذهبه بمائتین وخمسین دیناراً، مما یسبب عجزه من اشتراه الدار الذی أراد سکناه بتلک الذهبات، فیحتاج إلی اقتراض سبعمائة وخمسین دیناراً، ثم یأتی نفس ذلک التاجر الکبیر مع تجار آخرین یملکون الدور فیبیع داره لهذا الکاسب بألف ومائتین وخمسین دیناراً، بینما الدار لا تساوی إلاّ بألف، فالکاسب یعطی ما عنده من الذهب ویصبح مطلوباً للتاجر ألف دینار، ومعنی ذلک أن التاجر

ص:422

المتلاعب سرق فی عملین أقدم الکاسب علیهما برضاه الإکراهی کل أموال ذلک الکاسب، لأنه صار مدیوناً ألف دینار، بما إذا لم یکن التلاعب فی وقت البیع والاشتراء لم یکن مدیوناً ولا دیناراً.

((التعلیق فی الإقرار))

((التعلیق فی الإقرار))

بقی شیء: وهو أنهم ذکروا أن التعلیق لا یصح فی الإقرار، فلا یصح مثل: إن جاء زید فأنا مقر بأنی مطلوب لعمرو ألفاً، أو مثل إن طلعت الشمس فأنا مقر بکذا.

ویمکن أن یستدل لهم بأن الخارج لا یحتمل الوجود والعدم مردداً، لأن ما فی الخارج إما وجود أو لیس بوجود أی لا شیء فی الخارج، والتعلیق معناه التردد فی مقام الخارج مع وضوح أن فی الخارج لا یعقل وجود شیء لا وجود ولا عدم، وإلا لارتفع النقیضان، وذلک بدیهی الاستحالة.

نعم فی مقام العلم واسطة، فإن الإنسان إما أن یعلم وجود زید أو یعلم عدم وجوده أو یتردد فی أنه موجود أو لا، وعدم العلم إما بالشک وإما بالظن والوهم.

لکن یمکن أن یقال: إن الأمر بالنسبة إلی الماضی لا یمکن التعلیق فیه، وکذلک بالنسبة إلی الحال، فالحرارة المرتبطة بالنار فی الماضی والحال إما واقعان أو غیر واقعین، فإذا قال: إن کان جاء نبی الإسلام (صلی الله علیه وآله) فقد لطف الله بالناس، فإنه فی مقام علم الشخص محتمل، أما فی مقام الخارج إما أنه جاء (صلی الله علیه وآله) فکلاهما صار، وإما أنه لم یأت فرضاً وکلاهما لم یصر، والتعلیق فی مقام الخارج لا یعقل لما عرفت من أنه لا یعقل التردد بأن یکون شیء لا وجود ولا لا وجود.

((صور تعلیق فی المستقبل))

((صور تعلیق فی المستقبل))

أما بالنسبة إلی المستقبل فالصور العقلیة أربع:

الأولی: أن یکون المعلق والمعلق علیه إخباراً.

الثانیة: أن یکونا إنشاءً.

ص:423

الثالثة: أن یکون الأول إنشاءً، والثانی إخباراً.

الرابعة: عکس الثالثة.

ففی الأول یقول: إن طلعت الشمس غداً أضاء النهار.

وفی الثانیة یقول: اضرب عمرواً أو أکرم خالداً. و(أکرم) بصیغة الأمر.

وفی الثالثة یقول: إن جاء زید، وفی الرابعة یقول: یجیء زید إن أضرب عمرواً، و(اضرب) بصیغة الأمر.

وفی الأولی والثالثة یمکن التعلیق، أما فی الثانیة والرابعة فلا یمکن، وسبب عدم الإمکان لأن إن الشرطیة لا تصح مع الأمر، لأن إن تردد والأمر إیجاد، وهما متنافیان، فهو مثل أن یقول: إذا جاء زید هل قام عمرو، فیعلق السؤال علی أمر فی المستقبل کمجیء زید.

هذا ولکن یمکن أن یصح التعلیق فی الإقرار، مثلاً یقول زید: إنی أطلب عمرواً شاة، فیقول عمرو: نعم یطلبنی إن شافی الله ولدی، حیث إنه نذر إن شافی الله ولده أعطی زیداً شاةً، وهذا یعد إقراراً علی تقدیر دون تقدیر، فمثله مثل النذر حیث یقول: إن شافی الله ولدی علیّ صیام شهر رجب أو ما أشبه ذلک، وقد ألمعنا إلی بعض هذا المبحث فی کتاب الطلاق، وعلی هذا فإذا کان التعلیق فی الإقرار من هذا القبیل کان صحیحاً، وإلاّ فلا.

((البینة وشروطها))

((البینة وشروطها))

قد تقدم أن الثانی من دلائل إثبات الحقوق: الشهادة، وهی معتبرة مطلقاً إذا کانت بموازینها، أی کان الشهود عن حس، سواء کانت الشهادة عن رؤیة أو باللمس أو بسائر الحواس، کما إذا سمع الشاهد صوت زید یقول لعمرو إنه یطلبه کذا، أو استشم رائحة الحموضة من اللبن الذی أعطاه فیما یرید الشهادة بأنه أعطاه لبناً فاسداً، أو أن الحریر الذی أعطاه کان خشن الملمس حین اشتری منه اللین الملمس، أو ذاق طعم الخل فکان تافهاً لا حامضاً مما هو شرط الصحة، إلی غیر ذلک.

ویشترط فی

ص:424

الشاهد التعدد والعدالة، وربما احتمل کفایة الوثاقة لاعتماد العقلاء علی الثقة فی کل أمورهم، ولقوله (علیه الصلاة والسلام): «والأشیاء کلها علی ذلک حتی تستبین أو تقوم به البینة»((1))، فالاستبانة تحصل بالثقة.

وحیث ذکرنا مباحث الشهادة فی کتاب مستقل نلمع إلی الأمر فی هذا المقام إلماعاً فنقول:

((شروط قبول الشهادة))

((شروط قبول الشهادة))

یشترط فی قبول الشهادة أمور:

الأول: البلوغ الشرعی، علی ما تقدم میزانه.

والثانی: العقل الکامل، ولو فی دور التعقل فی المجنون الأدواری.

وإنما قلنا (الکامل) لیدخل الرشد وعدم السفاهة، لبناء العقلاء علی عدم الاعتناء بشهادة السفهاء، وکذا من یغلب سهوه علی ذکره، إلاّ إذا اطمأن القاضی بعدم غفلته ونسیانه فی حال الشهادة.

وإنما نقول بالاستثناء لانصراف الأدلة من مثل هؤلاء، کانصراف الأدلة من غیر أهل الخبرة فیما یحتاج إلی الخبرویة، مثلاً یشهد الشهود وهم لا یعرفون الطب والأدویة بأن الطبیب أعطاه دواءً قاتلاً، أو أن فلاناً فقیه ولیس لهما اطلاع عن الفقه وموازینه.

الثالث: الإسلام، فإنه لا یصح شهادة غیر المسلم علی المسلم، ویصح شهادة المسلم علی غیر المسلم، فقد قال الصادق (علیه الصلاة والسلام) فی صحیح عبیدة: «تجوز شهادة المسلمین علی جمیع أهل الملل، ولا تجوز شهادة أهل الذمة علی المسلمین»((2)).

أما شهادة بعضهم علی بعض فلا إشکال فیه أخذاً بالتزامهم لما لزموه.

وفی موثقة سماعة، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن شهادة أهل الملة، قال: فقال: «لا تجوز إلاّ علی أهل ملتهم»((3)).

ص:425


1- انظر الکافی: ج5 ص313 ح4 وفیه: (حتی یستبین لک غیر ذلک)
2- الکافی: ج7 ص398 ح1
3- تهذیب الأحکام: ج6 ص252 ب91 ح57

الرابع: الإیمان علی المشهور، وذهب بعض إلی عدم اشتراطه، وثالث إلی التفصیل فقال: إن کان غیر المؤمن مقصراً فیما اختاره من المذهب فلا إشکال فی أنه فاسق أشد الفسق، فلا یکون خیراً مرضیاً وعادلاً کی تقبل شهادته، وأما إذا کان قاصراً فمقتضی إطلاق عدة من الروایات قبول شهادته.

هذا فیما إذا کان المشهود علیه مؤمناً، أما إذا کان غیر مؤمن من سائر المسلمین فشهادة بعضهم علی بعض مقبولة، وتفصیل الکلام فی محله.

الخامس: العدالة، کما عرفت بعض الکلام فیه.

السادس: طهارة المولد، وقد دل علی هذا الشرط جملة من الروایات، ولذا اشترطها المشهور، فلا تقبل شهادة ولد الزنا، سواء کان الزنا من الطرفین أو من طرف المرأة أو من طرف الرجل لإمکان ذلک، فإذا جبر الرجل المرأة أو واقعها فی حال النوم أو السکر مثلاً فالولد من طرفها ولد حلال ومن طرفه ولد زنا، وکذلک العکس.

وفائدة هذا التفریق یظهر فی الإرث ونحوه.

ولا منافاة بین أن لا یکون مقصراً هو ومع ذلک لا تقبل شهادته، حیث إن الشارع أراد إحاطة الزنا بجملة من الاحتیاطات للتنفیر من ذلک العمل، کالمرض المعدی یحتاط حوله احتیاطات کثیرة حتی لا یسری، مع کون المریض فی الغالب غیر مقصر.

ثم شهادة النساء تعتبر فی بعض الأمور، ولا تعتبر فی بعض الأمور، کما أن فی بعض المواضع یحتاج الأمر إلی شهود أکثر من الاثنین، کالزنا واللواط.

((تحمل الشهادة وأداؤها))

((تحمل الشهادة وأداؤها))

ویجب تحمل الشهادة أشهده المشهود له أو المشهود علیه، کما یجب أداؤها، ففی صحیح هشام عن الصادق (علیه السلام) فی قول الله عزوجل: ﴿ولا یأب الشهداء إذا ما دعوا﴾((1))، قال: «قبل الشهادة»، وقوله: ﴿ومن یکتمها فإنه آثم قلبه﴾((2))، قال: «بعد

ص:426


1- سورة البقرة: 282
2- سورة البقرة: 283

الشهادة»((1)).

لکن الظاهر أن الوجوب کفائی لا عینی.

کما أن المنصرف من الأدلة کون الشهادة فی الأمور المهمة، أما الأمور الجزئیة کطلب زید من عمرو فلساً، فمنصرف عن الأدلة.

نعم إنما یجب الشهادة تحملاً وأداءً فیما إذا کان الشاهد جامعاً للشرائط المتقدمة، أما غیر الجامع فلا دلیل علیه، ودلیل الاقتضاء بالجمع بین الأدلة یقتضی هذا الاستثناء.

((فروع فی الشهادة))

((فروع فی الشهادة))

ولا یجوز الشهادة فیما إذا سبب ضرراً علی المشهود علیه کحبسه، وهذا هو المشهور بین الفقهاء، ففی صحیح محمد بن القاسم، عن أبی الحسن (علیه السلام) قال: سألته عن رجل من موالیه علیه دین لرجل مخالف یرید أن یعسره ویحبسه وقد علم الله أنه لیس عنده ولا یقدر علیه ولیس لغریمه بینة، هل یجوز له أن یحلف له لیدفعه عن نفسه، حتی ییسر الله له، وإن کان علیه الشهود من موالیک قد عرفوا أنه لا یقدر هل یجوز أن یشهدوا علیه، قال: «لا یجوز أن یشهدوا علیه، ولا ینوی ظلمه»((2)).

وقد ألمعنا إلی مثل هذه المسألة فیما سبق فی أن هل یجوز قول الإنسان کلیاً بما یطبق علی الصغری المنحرفة أم لا.

ثم المشهور شهرة عظیمة عدم قبول شهادة الفرع إلاّ عند تعذر حضور شاهد الأصل، واستدل له بالإجماع المدعی وبعض الروایات، لکن بعض الفقهاء ککشف اللثام وغیره ذهبوا إلی إطلاق جواز القبول، لأن الإجماع منقول، وروایة محمد بن مسلم الدالة علی ذلک ضعیفة.

ثم إنه حیث یعتبر الشاهدان أو الأربعة الشهود فمقتضی الانصراف من اعتبار التعدد لزوم توارد شهادة الکل علی شیء واحد، فلا تقبل الشهادة مع الاختلاف زماناً أو مکاناً أو شرائط، کما إذا شهد أحدهما بالبیع أو الغصب والآخر بالإقرار بالبیع أو بالغصب، أو شهد أحدهما بالشیء فی الصباح

ص:427


1- من لا یحضره الفقیه: ج3 ص57
2- الکافی: ج7 ص388 ح2

والآخر فی المساء، أو شهد أحدهما بالشیء فی بغداد والآخر فی البصرة، أو شهد أحدهما بسرقة دینار والآخر بسرقة درهم، أو شهد بعضهم بالزنا فی حال لبس المرأة اللباس الأحمر، والآخر فی حال لبسها اللباس الأبیض، إلی غیر ذلک.

وکذا یشترط فی قبول الشهادة مطابقتها للدعوی، فإن خالفت الشهادة للدعوی کلاً أو بعضاً فتنفیذ الشهادة إنما یکون من باب إطلاق قبول البینة، لا من باب أن البینة مطابقة للدعوی، فإذا ادعی علیه داراً وشهد الشاهدان بأنه یطلبه دکاناً، فإن رد المشهود له شهادتهم فیها وإلاّ کانت الشهادة دالة علی طلبه منه دکاناً، أما دعواه الطلب للدار فهی ملغیة.

وللشاهد فی غیر مقام التدلیس والکذب بإضاعة الحق ونحو ذلک تصحیح الشهادة علی وجه تکون مثمرة عند الحاکم، فیشهد شاهد الغصب علی الملک فقط من دون ذکر السبب، وکذا شاهدا البیع والهبة اللازمة إلی غیر ذلک.

وتحرم شهادة الزور، فإنها کذب وافتراء وإضرار وإغراء، وفی جملة من الروایات التحریم الأکید، حتی أن الصادق (علیه الصلاة والسلام) قال فی صحیح هشام: «شاهد الزور لا تزول قدماه حتی تجب له النار»((1)).

ومنه یظهر حرمة الشهادة مع الشک والظن لاحتمال الکذب، ولا أصل یقتضی نفیه، بل الأصل عدم موافقة الکلام للواقع، وفی بعض الروایات عنه (صلی الله علیه وآله) مشیراً إلی الشمس: «علی مثل هذه فاشهد أو دع»((2)).

وهناک بحث طویل فی رجوع الشاهد عن شهادته، وفروع المسائل المتقدمة مذکورة فی کتاب الشهادات، وإنما أردنا فی هذا المقام الإلماع إلی الشهادة فی الجملة.

((الکتابة وشروطها))

((الکتابة وشروطها))

أما الثالث: من وسائل الإثبات فهی الکتابة فی الجملة، والکتابة أولاً وبالذات لا دلیل علیها فی الاستناد إلیها، ولذا اشتهر بین الفقهاء أنه

ص:428


1- الکافی: ج7 ص383 ح2
2- وسائل الشیعة: ج27 ص342 ب20 ح33883

لا اعتبار بالکتابة، لکن إذا کان دلیل علی أنها صادرة ممن له الحق بالجد، سواء کانت کتابة نفسه أو کتابة غیره بإملائه أو تصدیقه کانت حجة، إذ هی بمنزلة الإقرار، وقد قال سبحانه: ﴿یا أیها الذین آمنوا إذا تداینتم بدین إلی أجل مسمی فاکتبوه﴾((1)) فإنه لولا الحجیة فیما استثنیناه لم یکن وجه للکتابة.

کما أنه (صلی الله علیه وآله) قال: «لأکتب لکم کتاباً»((2))، إلی غیرها من الروایات.

وعلی هذا فالإمضاء بما هو إمضاء لا اعتبار به، وإنما اعتباره من جهة أنها بدون الإمضاء محتمل لعدم کونها من الکاتب أو عدم کونها بقصد الجد، أما ختم رسول الله (صلی الله علیه وآله) علی کتبه المرسلة إلی الملوک والرؤساء، فلأنه لم یکن تلک الکتب بخطه الشریف، وإلاّ فلو علم الإنسان بأن الخط خط فلان وأنه کتبه بقصد الجد، أو بخط غیره مع تصدیقه له لم یحتج إلی الإمضاء.

ولذا قال الفقهاء بأن القاضی یکتب ما حکم به، فإنه لولا الحجیة لم یکن وجه لذلک.

ومما تقدم ظهر أن الکتابات فوق الفرش للصلاة ونحوها، وفی ظهر الکتب بأن الکتاب وقف أو ملک لفلان أو ما أشبه ذلک، وکذلک الأختام بدون القرائن الخارجیة لا دلیل فی الاعتماد علیها، ولو رأینا خط الشخص أو إمضاءه الذی لا نشک بأنهما له فالأصل صدورهما بقصد الجد، کما فی ألفاظه للأصل العقلائی الجاری فی اللفظ، فإنه جار فیه أیضاً.

لکن هل اعتبار ذلک مطلقاً أو بالقدر المتعارف، فإذا رأینا مثلاً خط زید بأن عمرواً یطلبه دیناراً وکان التاریخ قبل خمسین سنة مما لا یعتاد بقاء الدین فی مثل هذه المدة الطویلة، فهل هو معتبر أم لا، احتمالان، من الاستصحاب، ومن أن العرف والعادة مما یسمی بالظاهر، علی التفصیل الذی ذکرناه فیما تقدم، قاضیان بالأداء، لکن فی مثل الوصایا والأوقاف والأثلاث وما أشبه

ص:429


1- سورة البقرة: 282
2- بحار الأنوار: ج22 ص468 ب1

مما یعتاد البقاء سنوات طویلة لا ظهور عرفاً علی الخلاف، فالاستصحاب محکم.

ثم فی الأوراق التی تطبع من أصول خطیة مثلاً اللازم الدقة فیها أکثر، حیث إمکان التزویر بتجمیع الخط من کتابة إنسان، خصوصاً إذا کانت الصورة عن غیر خطه ولکن بختمه، حیث یمکن جمع ختمه من مکان آخر مع تلک الصورة ثم أخذ الصورة منهما مما یظهر أنهما أخذا من ورقة واحدة والحال أنهما أخذا من ورقتین.

ولا فرق بین مختلف الأوراق فیما ذکرناه، ففرق بعض القوانین بین الأسناد الرسمیة وغیر الرسمیة لا دلیل شرعی أو عقلی علیه.

وحال ألواح المقابر مما یتخذ دلیلاً علی أن هذه المقبرة لفلان أو لغیره حال سائر الکتابات.

أما دفاتر التجار مما یعتمد علیها القانون کثیراً فی المنازعات بین التجار فإنها لا تزید عن سائر الخطوط والکتابات، وربما یستدل علی حجیتها بأنها من باب الظهور بالمعنی الذی تقدم، وبأصالة الصحة فی کتابته، لأن الأصل صحة عمل الإنسان لساناً وقلماً، کصحة سائر أعماله، وبالاطمینان الحاصل من دفتر التاجر، وبالسیرة المستمرة بین التجار، لکن ما عدا الاطمئنان لا حجیة فیه، والاطمئنان حجة من باب أنه علم لا أنه دفتر تاجر، فکلما حصل الاطمئنان یکون الأمر مستنداً إلیه.

((الصوت والصورة))

((الصوت والصورة))

أما الصوت فی المسجلة فالکلام فیها کالکلام فی الکتابة، لإمکان التجمیع، کما أن الصور التلفزیونیة لا حجیة فیها لإمکان التجمیع أیضاً، وهکذا حال الصور الفتوغرافیة.

کما أنه یأتی فی هذه إمکان الإکراه ونحوه، بالإضافة إلی أنه یأتی فیها أیضاً احتمال التزویر، بأن یسجل صوت یشبه صوت المنسوب إلیه، أو تکون الصورة تمثیلیة لا واقعیة.

((البصمات))

((البصمات))

وبصمات الأصابع حالها حال المذکورات، وفی کل ذلک إذا حصل الاطمئنان فهو المعتمد، وإلاّ فلیس دلیل شرعی أو عقلی علی

ص:430

الحجیة فیها.

((قضاة متعددون))

((قضاة متعددون))

ومما یدل علی صحة القضاة المتعددین، آیات وروایات:

ففی الآیة الکریمة: ﴿فابعثوا حکماً من أهله وحکماً من أهلها﴾((1)).

وفی حسنة داود بن الحصین، بطریق الشیخ، عن الصادق (علیه السلام)، فی رجلین اتفقا علی عدلین جعلاهما بینهما فی حکم وقع بینهما خلاف فرضیا بالعدلین واختلاف العدلان بینهما عن قول أیهما یمضی الحکم، قال: «ینظر إلی أفقههما وأعلمهما بأحادیثنا وأورعهما فینفذ حکمه ولا یلتفت الآخر»((2)).

کما أن هناک روایة أخری مفصلة هی مقبولة عمر بن حنظلة((3)) المشهورة فی کتب الفقه والحدیث.

وعلی هذا، فلا بأس بکون القضاة متعددین بل هو أولی من القضاء الفردی مما یستفاد منه الملاک، فإن صدر الحکم بالاتفاق منهم ولو بتوسط واحد منهم بالوکالة عن الآخر فهو، وإن صدر بالأکثریة فإن سکت الأقلیة عن الرأی نفذ الحکم أیضاً، وإن حکمت الأقلیة بخلاف الأکثریة فإن لم یکن بینهم أعلم أو أورع أو ما أشبه فحکم الأکثریة هو المنفذ لدلیل الشوری الوارد فی الکتاب والسنة، وإن کان بینهما أعلم فإن کان فی الأکثریة فلا إشکال فی التقدیم أیضاً، وإذا کان فی جانب الأقلیة ففی المسألة احتمالان.

((الأیمان ومواردها))

((الأیمان ومواردها))

الرابع: من الأمور التی یستند إلیها فی القضاء الحلف، ومن المعلوم أن الحلف بالنسبة إلی المسلم إنما یکون بالله سبحانه، وفی غیر المسلم بما یعرفه مقدساً.

وللحلف موارد وإن کان بعضها للتأکید.

الأول: فی مقام الدعوی، فإنه علی المنکر کما فی الحدیث: «إنما أقضی بینکم بالبینات والأیمان»((4))، إذا لم یکن للمدعی البینة، أو یحلف المدعی إذا رد المنکر علیه الیمین.

ص:431


1- سورة النساء: 35
2- تهذیب الأحکام: ج6 ص301 ب92 ح 50
3- الکافی: ج1 ص67 ح10
4- الکافی: ج7 ص414 ح1

الثانی: فی مقام إرادة إثبات أن ما یقوله حق، کما یتعارف فی المحاکم ونحوها حیث یحلف الشخص أن کل ما یقوله حق ثم یبدأ بالکلام.

الثالث: فی مقام الوفاء، کما یتعارف حلف نواب المجلس ورؤساء القوی الثلاث علی أنهم یعملون بالدستور وبصالح الأمة.

الرابع: الحلف لأجل عمل أو ترک، کأن یحلف أن یفعل کذا أو یترک کذا.

والحلف الذی هو مورد الکلام فی الاستناد هو الحلف فی الدعاوی، قد ذکرنا تفصیل الحلف ومعناه فی کتابی الأیمان والقضاء.

ثم حیث إن کل قوم یرون شیئاً مقدساً حتی الشیوعیین الذین یعتقدون بمارکس ولینین، حیث أدخل کل القوانین الحلف فی ضمن دساتیرها.

ولا یقال: إنه لا فائدة للحلف إلاّ للمتقین، فلا یمکن إدخاله فی مناهج القوانین القضائیة وغیرها، وإلاّ فأی مانع من أن یحلف کذباً کما یقول کذباً.

فإنه یقال: ذلک منقوض بالشهادة، فأیة فائدة فیها فإن غیر المتقی أیضاً یشهد کذباً.

وإظهار الفرق بینهما بأنه یمکن إظهار کذب الشاهد بالأسئلة المکررة، منقوض بأنه یمکن إظهار کذب المنکر بالأسئلة المکررة أیضاً.

والحاصل أن الحلف والشاهد بمنزلة واحدة، فإما أن یقبلا معاً أو یرفضا معاً.

وإذا حصل الحلف بموازینه انتهت الدعوی، نعم إذا ظهر کذب الحالف کان حاله حال ظهور کذب الشاهد، وقد ذکرنا فی بابه أنه إذا کان أهل دین لا یخاف من الحلف بمقدساته ویخاف من الحلف بغیرها حلفه القاضی بذلک، لأن المقصود من الحلف الردع، ولا یحصل الردع إلاّ بما یخاف منه لا بمقدساته حسب الفرض، فالحلف بمقدساته غیر منتج.

وفی روایة السکونی، عن أبی عبد الله (علیه السلام): «إن أمیر المؤمنین (علیه السلام)

ص:432

استحلف یهودیاً بالتوراة التی أنزلت علی موسی»((1)).

وعن محمد بن مسلم، عن أحدهما (علیهما السلام)، قال: سألته عن الأحکام، فقال: «فی کل دین ما یستحلفون به»((2)).

وعن محمد بن قیس، قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): «قضی علی (علیه السلام) فیمن استحلف أهل الکتاب بیمین صبر أن یستحلفه بکتابه وملته»((3)).

وعن محمد بن مسلم، قال: سألته عن الأحکام، فقال: «تجوز علی کل دین بما یستحلفون»((4)).

قال: «وقضی أمیر المؤمنین (علیه السلام) فیمن استحلف رجلاً من هل الکتاب بیمین صبر أن یستحلفه بکتابه وملته»((5)).

((الأمارات وأقسامها))

((الأمارات وأقسامها))

الخامس: من أسباب إثبات الدعوی الأمارة، وهی لیست توجب العلم لکن کثرة کونها طریقاً إلی الواقع فی قضایا متعددة ومتکثرة أوجبت جعل العقلاء لها من دلائل الإثبات، وهی علی قسمین:

الأول: الأمارات الشرعیة التی قبلها الشارع دلیلاً، مثل کون شیء فی ید إنسان وتحت استیلائه، ویحتمل کونه برهن أو إجارة أو مضاربة أو ودیعة أو عاریة أو وقف أو ما أشبه، ثم لما فقد المالک أو الواقف أو المتولی أو شبه الفقد ادعاه المستولی، إلاّ أن العقلاء لا یعتنون بهذه الاحتمالات، لکثرة کون الشیء المستولی علیه مالاً للمستولی.

والأمارة تعین المدعی من المنکر، فالمستولی هو المنکر، والذی یرید سلب استیلائه لیکون تحت استیلاء نفسه أو نحو ذلک کما فی ادعاء أنه وقف عام متولیه الحاکم هو المدعی.

وحیث إن التصرف لیس له لسان یقول إنه ملک للمستولی بخلاف مثل الشهود والسند الممضی بإمضائه المعتبر عند العقلاء تکون قرینة الأمارة أضعف من مرتبتهما، ولذا إذا تعارضتا قدمتا علی الأمارة، وإن کان الکل محتمل عدم مطابقته الواقع، بل إنها ظنیات عند العقلاء.

ولا یلزم أن یأتی ساکن الدار

ص:433


1- تهذیب الأحکام: ج8 ص279 ب4 ح11
2- تهذیب الأحکام: ج8 ص279 ب4 ح9
3- الاستبصار: ج4 ص40 ب22 ح7
4- من لا یحضره الفقیه: ج3 ص375 ح4319
5- تهذیب الأحکام: ج8 ص279 ب4 ح10

مثلاً إلی المحکمة، بل ربما یأخذ الاستیلاء نفس المحکمة أمارة، کما إذا کانت دار سکن إنسان فیها ثم توفی وخلف صغاراً أو مجانین، أو انقطع بسبب سیل أو زلزال أو ما أشبه فجاء إنسان یدعی أن الدار له، فإن المحکمة تتخذ من سکناه أمارة بکونها ملکاً له سابقاً، ولورثته حالاً فعلی المدعی الإثبات.

ومن الأمارات أیضاً الفراش، علی ما قاله الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله): «الولد للفراش وللعاهر الحجر»((1)).

وهو قاعدة عقلائیة علی الأغلب قررها الإسلام، وإنما قلنا (غالباً) لأنه ربما لا تکون أمارة عقلائیة، کما إذا کان مع المرأة الزوج والصدیق کما یتعارف فی بعض البلاد الغربیة، أو کانت مسلمة غیر مبالیة فجاءت بولد یحتمل أن یکون لهذا أو لهذا، فإن الفراش جعل أمارة کونه للزوج لا للصدیق، مع أن ملک هذا الفراش لیس أمارة عقلائیة.

نعم فی غیر المسلم یلزم بما التزم، سواء کان التزامه بالقرعة، أو بأغلبیة المعاشرة من هذا أو هذا، أو بالقیافة، أو بغیر ذلک.

ومثل تطابق الطرفین علی الزوجیة أو القرابة أو المعاملة، ومثل الدعوی بلا معارض، إلی غیر ذلک من الأمارات الشرعیة المذکورة فی کتاب القضاء.

الثانی: الأمارات القضائیة، بمعنی أن الشارع لم یجعل شیئاً أمارة، وإنما الحاکم بالقرائن المفیدة لاطمئنان یقضی بأحد طرفی القضیة، فیما لم یکن هناک من هذا الجانب وذاک الجانب معاً، کمثل الشواهد التی کان علی (علیه الصلاة والسلام) یتوسل بها إلی الواقع، فی جملة من القضایا المنقولة عنه، وقد نقلناها فی أخیر کتاب القضاء.

ومثل تصویر محل المجرم بعد إقراره، ومثل تصویر محل الجرم بعد وقوعه بساعات قلیلة بسبب آلات خاصة.

ومثل قلنسوة علامة الکذب، والکلاب البولیسیة، وخطوط الأصابع

ص:434


1- الکافی: ج5 ص491 ح2

التی تبقی آثارها علی الأشیاء، ومثل آثار القدم، ووجود منی الرجل فی محل الولد أو المرأة حیث ادعیا الاغتصاب والإکراه.

وهکذا حال قول الخبیر فی الجراحات وفی الصدمات، وفی اصطدامات السیارات، وقول المولد بأنها قد أجهضت حیث تری آثار الحمل المجهض فی ما ادعت أن الأجهاض صار بفعل فلان مثلاً، والحاکم لا یدری أنها هل أجهضت أم أن أصل الدعوی مکذوبة، أو قولها بأنها بکر أو ثیب، إلی غیر ذلک من الأمارات الطبیعیة أو الحدیثة بواسطة الاختراعات الجدیدة، أو الأمارات التی یراها الخبراء الفاحصون للمحل، وبعض هذه الأمارات داخلة فی الأمارات الشرعیة من القسم الأول.

ثم إن الأمارة الشرعیة والقضائیة إذا تعارضتا قدمت الشرعیة، إلاّ إذا کان القاضی یری عدم توفر شروط الشرعیة فیقدم القضائیة حسب الاطمئنان.

ص:435

((من أسباب هدر حقوق الناس))

اشارة

((من أسباب هدر حقوق الناس))

(مسألة): نذکر فی هذه المسألة بعض ما یهدر حقوق الناس، مما کثرت فی هذا الزمان، وذلک خلاف الشرع والعقل، وإنما ذکرناه هنا من جهة ارتباطه بالحقوق سلباً.

((الدوائر الحکومیة))

فمما یهدر الحقوق هی الإدارات الحکومیة، فیجب أن تقف الأمة دون تکونها ونموها.

والمراد الإدارات التی توجب الروتین واللف والدوران واللعب بالأوراق، لا أصل الإدارات الضروریة، فإن القوانین الزائدة علی القدر الضروری أوجبت التضخم فی الإدارات وجعلت کل شیء من أمور الحیاة والممات فی حلقة مفرغة من الأخذ والعطاء والدوران وإحراق الأوقات والأموال وغیرهما فی مختلف الإدارات حتی إدارات الموت، فالتجهیز الطبیعی الذی کان فی السابق لا یکون له أکثر من الذهاب بالجنازة إلی المغتسل، ثم إلی المقبرة ودفنها بعد إجراء المراسیم علیها، بینما نری الیوم أن الأمر یحتاج إلی عشرات الروتینیات، بالإضافة إلی الضریبة الباهظة التی تأخذها الدولة للأرض وغیر الأرض.

((الروتین وأسبابه))

((الروتین وأسبابه))

وعلة الروتین الجهل والغرور والفخفخة، وهذا لیس فی العالم الثالث فسحب، وإن کان ذلک فی أوجه فی هذا العالم، بل فی العالم الدیمقراطی أیضاً، فقسم من تضخم الإدارات وکثرة الموظفین نشأ من جهل الحکام وحتی إذا کانوا باسم مجلس الأمة وانتخبهم الناس انتخاباً حراً، فإنه مثلاً کان بناء الدار سابقاً بدون أی تشریف کما یذکره من یذکر الأمور قبل نصف قرن، فالمرید للبناء داراً أو دکاناً أو حماماً أو ما أشبه ذلک أو تعمیرها لم یکن علیه إلاّ أن یری المعمار صباحاً بعد صلاة الفجر أو قبلها ویطلب منه بناء دار بهذه المواصفات، وما علیه بعد ذلک إلاّ أن یعطی المال کل أسبوع مرة لذلک المعمار، وهکذا فی الترمیم حیث کان کل شیء حراً سواء الهندسة

ص:436

أو أجهزة البناء أو العمال أو غیرهم.

أما الیوم فتشریفات کثیرة، وأحیاناً تستوعب سنوات تحف ببناء دار وغیر الدار من المبانی، بالإضافة إلی الاحتیاج إلی ثبتها فی الإدارة بتشریفات کثیرة، بینما سابقاً کان الثبت عبارة عن الحضور عند عالم المحل وهو یکتب ورقة صغیرة أحیاناً لم تکن تجاوز الکف بملکیة الدار لفلان ویمضیها العالم وصاحب الدار وشاهدان، وینتهی کل شیء ولم یستوعب من الوقت إلاّ عشر دقائق أو ما أشبه، ومن المال إلاّ ثمن الورق.

أما الحکام الجهلة بموازین الحیاة وإن کان خریجاً من أعلی المعاهد، فیرون اللف والدوران حتی ینتهی إلی هذه الأمور المؤلمة التی نراها أمام أعیننا فی کل العالم، فحال هؤلاء الحکام حال من یمشی فی الظلام فإنه یلف ویدور نحو الهدف، وأحیاناً یصل بعد طول طریق وتعب، وأحیاناً لا یصل.

والغرور ثانی الأثافی حیث إن الحاکم یرید إثبات شخصیته بتکبیل الناس وتقییدهم، وهو یری نفسه فوق الآخرین وأن نظامه فوق الأنظمة، وأن کل أموره بدقة وبهذه الأمور یکون مثلاً للشعر المعروف:

یا ذا الذی تدعی فی العلم جمهرة       حفظت شیئاً وغابت عنک أشیاء

والفخفخة فوق الغرور، فإن الغرور عبارة عن صفة فی داخل الإنسان یسبب له أن لا یعلم، وهو لا یعلم أنه لا یعلم، بینما الفخفخة فی داخل الإنسان الذی یعلم أنه یفعل باطلاً ومنحرفاً وإنما حب الظهور والاستعلاء یوجب له أن ینتحل الکبر والعظمة.

ونتیجة الروتین هو هدر الأموال والأوقات والکرامات وغیر ذلک، بالإضافة إلی إیجاد التوتر فی المجتمع والحیلولة دون تقدمه إلی الأمام، إذ المال والوقت الذین یجب أن یصرفا فی التقدم یصرفان فی الجمود والتخلف، فالروتین یحول دون

ص:437

الحریات والعمل من منطلقها.

أما العلاج للروتین حیث یراد إلغاؤه فهو بالاستشاریة فی الحکومة أولاً، والعلم بأسباب الحیاة وتحری الواقع والحقیقة ونبذ الأنانیة والفخفخة ثانیاً.

وبعد هذه المقدمات الأمر بحاجة إلی التدرج، بأن تشکل فی کل فئة من فئات الدولة کالقوی الثلاث ونحوها جمعیة متصفة بالصفات الحمیدة، فتلغی الدوائر دائرة دائرة، والقوانین قانوناً قانوناً، ولا یبقی منهما إلاّ بقدر أقصی الضرورة، حتی تعود إلی الناس حریاتهم وإلی الأمة عزتها وکرامتها.

هذا کله بالنسبة إلی هدر الحقوق بسبب القوانین والدوائر الحکومیة.

وهناک نوع آخر من هدر الحقوق بین الناس أنفسهم، فإن حق السبق فی الصفوف یهدر غالباً، وقد ورد أن «من سبق إلی ما لم یسبقه إلیه مسلم فهو أحق به»((1))، بالإضافة إلی رؤیة العرف کونه حقاً فیشمله إطلاق أدلة «لا یبطل حق المسلم»((2)).

ثم إن الصف قد لا یکون طرفه إنساناً، کالمتواردین علی المشرعة وما أشبه، وهنا لا حق لتقدم اللاحق علی السابق إلاّ إذا کان لمحذور أهم أو مساو، بحیث یکون اللاحق أهم کما إذا مات اللاحق عطشاً إذا وقف فی الصف، أو کانت الأهمیة فیهما متساویة، فلهذا حق السبق وللّاحق حق یساوی حق السبق، فیتزاحمان ویکون الأمر مخیراً.

وقد یکون طرفه إنساناً، سواء کان الإنسان المباشر کالبقال والخباز وما أشبه، أو الإنسان غیر المباشر کمن وضع حنفیة الماء للشرب، أو فتحة البنک لإلقاء المال فیها أو أخذه منها.

وفیما کان الإنسان طرفاً یکون الأمر علی قسمین:

الأول: أن یکون موظفاً من قبل الدولة الصحیحة المشترطة بمراعاة حق السبق، کما ذکروا بالنسبة إلی القاضی فی کتاب القضاء، وهنا

ص:438


1- مستدرک الوسائل: ج17 ص111 ب1 ح20905
2- الکافی: ج7 ص302 ح3

یلزم مراعاة حق السابق إلاّ بالاستثناء الذی ذکرناه.

الثانی: أن لا یکون کذلک، وهنا الاختیار بید الطرف أی الخباز ونحوه، إذ لا دلیل علی وجوب إعطائه السابق قبل اللاحق، بل دلیل السلطنة علی المال والنفس محکمة، إلاّ إذا کانت هناک أهمیة مثل موت اللاحق جوعاً مثلاً، أو موته عند الطبیب فی الصف من جهة نزف الدم ونحوه، حیث إن دلیل الأهمیة حاکمة علی دلیل السلطنة.

وقد ذکروا وجوب تقدیم المیت الذی یخشی فساده فیما کان مؤخراً علی المیت المتقدم الذی لا یخشی ذلک فیه.

نعم لا اشکال فی استحباب مراعاة الشخص السابق إلاّ إذا أسقط بنفسه حقه، والاستحباب إنما هو للأصل، ولما روی عن رسول الله (صلی الله علیه وآله) فی هذا الباب، حیث راجعه اثنان فأعطی الحق للسابق منهما، فإن مراعاة السابق منهما فی غیر الواجب إذا لم یکن محذور، حق أخلاقی بلا إشکال، کما إذا کان اللاحق مریضاً أو ضعیفاً أو امرأةً أو طفلاً أو شیخاً کبیراً أو إنساناً محترماً لعلم أو تقوی أو ما أشبه ذلک.

وقد اعتاد القانون فی الآونة الأخیرة فی صفوف السیارات فی تقاطع الشوارع إعطاء حق المرور فی الطرف الأکثر سیارة فی قبال الطرف الأقل سیارة، وإن کان الأقل سابقاً زمانیاً، فهل ذلک من الحق، أو أن الحق للسابق القلیل؟

استدل للثانی بمن سبق، وللأول بأمور مثل «لا ضرر» فإن مائة سیارة فی قبال خمس سیارات یتضررون فی أوقاتهم وأموالهم حیث لا یصح إطفاء السیارة فیصرف وقود أکثر، وبأنه مقتضی نظم عموم الأمور حیث إن النظم یلاحظ الأهم، وقد قال (علیه الصلاة والسلام): «ونظم أمرکم»((1))، وأنه إذا قدم السابق الأقل تغلق الطرق الفرعیة فی طرف الصف الأطول علی السیارات التی ترید الخروج من الطریق

ص:439


1- نهج البلاغة: الکتاب 47

الفرعی وذلک بأخذ الطریق أمامهم وهو غیر جائز بنفسه.

ولا یبعد کفایة هذه الأدلة فی تقدیم الصف الأطول من باب «لا ضرر» العام، لا «لا ضرر» الخاص، حتی یقال إنه شخص، وربما لا یکون «لا ضرر» شخصی فهو مثل أمر الحاکم بصب کل لبن حیث جاء الوباء مع أنه یعلم أن بعض الألبان لم یصب بالوباء، علی ما ذکرناه فی بعض الکتب الفقهیة.

أما اعتیاده عند صف الخبازین فی تقدیم من یرید خبزاً واحداً أو اثنین علی الصف، للتقلیل من الکثرة علی الخباز مما یثیر الاستفزاز ویضیق علی المارة ویوجب التنازع، فإن کثرة الأفراد أقرب إلی التنازع من قلتهم، فهو راجع إلی نفس الخباز فی غیر الموظف، وکیفیة التوظیف فی الموظف علی ما ذکرناه سابقاً، نعم یجب علی الدولة الشرعیة توظیف الموظف والشرط علیه بأن یلتزم بقانون (فی شیء).

بقی شیء:

وهو أن السیارات المتدرجة فی الوصول إلی الموقف لا حق لها عرفاً فی أخذ اللاحقة المسافر قبل السابقة، لکن ذلک مستحب حسب السبق الذی ذکرناه، لأن المسافرین لهم الحق فی أیة سیارة یرکبون، کما أن السائق له الحق فی إرکابهم، إلاّ إذا کانوا موظفین علی ما تقدم، أو اشترط صاحب الموقف علیهم ذلک، فیکون الأمر واجباً من جهة الشرط.

ثم إنه لو خالف اللاحق فی مورد الوجوب فالظاهر أنه خلاف التکلیف فقط لا الوضع، وفی مورد الشرط فی الموقف وما أشبه من العقد وغیره فی الموظف ونحوه، لصاحب الشرط إبطال العقد من جهة خیار تخلف الشرط.

والظاهر أن اللاحق له حق فی اشتراء حق السابق لإطلاق الأدلة، إلاّ إذا کان هناک محذور کاشتراط صاحب الموقف أو الدولة الصحیحة مراعاة حق السبق علی کل حال، کما أن الظاهر أن من یأخذ مکاناً له الحق فی أن یذهب ثم یرجع کما هو المتعارف، فهو کمن یعلّم مکانه فی السوق

ص:440

والمسجد علی التفصیل المذکور فی إحیاء الموات إذا لم یکن من أعطی حق السبق کصاحب الموقف لا یقبل بذلک.

((إنقاذ الأمة الإسلامیة وحقوقها))

((إنقاذ الأمة الإسلامیة وحقوقها))

ولا بأس أن نتکلم فی أخیر هذا المبحث حول کیفیة إنقاذ حقوق ألف وخمسمائة ملیون مسلم وقعوا ضحیة المشکلات التی لا تعد، بسبب عدم توفر الأسباب الکفیلة لحیاة حرة کریمة لهم، وذلک یمکن بإذن الله سبحانه وتعالی بعدة أسباب، لعل من أهمها إیجاد وکالة إسلامیة فی إحدی البلاد شبه الحرة تکون لها فروع فی بلاد أخری تعنی هذه الوکالة بالأمور التالیة:

الأول: المورد المالی بالأوقاف وما أشبه، لتمشیة أمور هذه الوکالة بکافة موظفیها وفروعها والملتفین حولها، مع وضوح أن الوکالة یلزم علیها أن یکون لها أشخاص یملؤهم الحماس والتعقل والهدوء واللاعنف وسعة الصدر وبعد النظر، وأن یکونوا متقین وذوی أخلاق حسنة، هاجسهم جمع الکلمة والهدف، وهم مرتبطون بالمرجعیة کل المرجعیة لا مرجعاً واحداً، کما یلزم أن یکونوا بعیدی النظر وصبورین فی تنظیم الأمور مرحلة مرحلة، فلیس أفرادها موظفین بما لهذه الکلمة من معنی، لوضوح الفرق بین الموظف وبین الممتلئ حماساً لقضیة ما.

الثانی: إخراج جرائد ومجلات بالمستوی الإسلامی حسب منطق العصر باللغات المختلفة، بعیدة عن کل الإدارات القومیة واللغویة والعرقیة والجغرافیة وما إلی ذلک، حتی تکون هذه الجرائد والمجلات والنشرات وما أشبه مورد استفادة الجمیع حتی غیر المسلمین، فلا تکون بحیث تستفز مشاعرهم، حتی مشاعر المتسلطین علی رقاب المسلمین من الشرقیین والغربیین، قال سبحانه: ﴿ولا تسبوا الذین یدعون من دون الله

ص:441

فیسبوا الله عدواً بغیر علم﴾((1))، وقال علی (علیه الصلاة والسلام): «إنی أکره لکم أن تکونوا سبابین»((2)).

الثالث: الارتباط بکل الجرائد والمجلات الإسلامیة فی الحال الحاضر، والتعاون بینها وبین مجلات وجرائد الوکالة، وکذلک الارتباط بکل دور النشر والمکتبات والمؤسسات الثقافیة، وهکذا الارتباط بالإذاعات والتلفزیونات والجرائد والمجلات غیر الإسلامیة للاستفادة منها بالقدر الممکن.

الرابع: إیجاد مراکز للدراسات حول العالم الإسلامی، من دراسات اقتصادیة أو سیاسیة أو اجتماعیة أو عسکریة أو تربویة أو غیرها، لمعرفة العالم الإسلامی ککل، ومن دراسات حول مختلف أبعاد العالم الغربی والشرقی تهیأ بسبب هذه الدراسات موسوعات فی کل الأبعاد المعنیة، وهکذا تهیأ دراسات حول مختلف کتب التراث المنتشرة فی کل العالم، وجمع ما أمکن من أصولها أو صورها فی مکتبة إسلامیة عامة.

الخامس: تهیئة کتب عقائدیة وسیاسیة واقتصادیة واجتماعیة وغیرها لتکون مرشدة للأفکار والمذاهب والتیارات والاتجاهات الإسلامیة فی کل العالم، لیستفید منها المسلم وغیر المسلم، ونشر تلک الکتب فی سطح العالم بمختلف اللغات ومتفاوت المستویات.

السادس: إیجاد مرکز معلومات کمبیوتریة حول العالم الإسلامی بشخصیاته العلمیة والمالیة والدینیة وغیرها، وأحزابه ومنظماته ودور نشره وثقافاته ووسائل إعلامه وسائر الشؤون الجغرافیة والاقتصادیة وما إلی ذلک المرتبطة به.

ص:442


1- سورة الأنعام: 108
2- نهج البلاغة: الخطب 206

السابع: الاهتمام للتنسیق بین مختلف النشاطات الإسلامیة، من نشاطات مرجعیة تنظیمیة والمفکرین والمؤلفین ودور النشر، وکذلک التنسیق بین الجهات العامة فی الساحة وبین أصحاب الأموال حتی یساعد کل طرف الطرف الآخر فی بعده الذی یسیر هو فیه.

الثامن: جمع العقول المفکرة المنتشرة فی کل العالم والتنسیق بینها وربطها بالأماکن التی تنفع بسببها بلاد الإسلام والهدف الإسلامی کما تنفعهم بالذات أیضاً، فإن فی العالم عقولاً إسلامیة منتشرة فی شرق الأرض وغربها لکنها تعیش کل واحدة منفردة عن الأخری مما یضر ذلک بنفسها وبغیرها وبالهدف بصورة عامة.

التاسع: استنهاض المسلمین الذین هم فی البلاد غیر الإسلامیة وجمع کلمتهم وتشکیل الأحزاب الصحیحة والمنظمات والجمعیات فیهم وترفیعهم إلی المستوی الحضاری العالمی المطلوب من أمثالهم فی العصر الحاضر.

العاشر: تعریف الأحزاب والمنظمات والجمعیات ووسائل الإعلام والمفکرین غیر الإسلامیین بمآسی المسلمین وهدفهم من النهوض فإن غیر المسلمین فیهم أفراد کثیرون یحبون الإنسان بما هو إنسان ویحنون للمظلوم بما هو مظلوم ویستعدون للأخذ بأیدیهم حتی یرفعوا ظلامتهم، کما کان الأمر کذلک من القدیم، قال الله سبحانه: ﴿ولتجدن أقربهم مودة للذین آمنوا الذین قالوا إنا نصاری ذلک بأن منهم قسیسین ورهباناً وأنهم لا یستکبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلی الرسول تری أعینهم تفیض من الدمع مما عرفوا من الحق یقولون ربنا آمنا فاکتبنا مع الشاهدین﴾((1)).

ص:443


1- سورة المائدة: 82 _ 83

الحادی عشر: جمع المعلومات حول زیادات کل بلد من بلاد الإسلام ونواقصه، مثلاً مکان له مثقفون بکثرة ومکان فیه نقص من جهة المثقفین، وکذلک بالنسبة إلی الموارد الاقتصادیة وغیرها، ومساعدة البلاد التی فیها النقص لتکمیل نواقصه من البلاد التی فیها الزیادة، ومن الممکن مقدمة لقیام الدولة الواحدة الإسلامیة أن تهیأ بین البلاد الإسلامیة الأخوة الإسلامیة حتی تکون الأقطار الإسلامیة حالها حال المدن المتعددة فی قطر واحد.

الثانی عشر: وأخیراً إیجاد بعض النماذج العلمیة والعملیة من الإسلام تصلح أن تکون مثلاً للحکم الإسلامی الصحیح، سواء فی إراءه قوانین الإسلام علمیاً أو فی إراءة المجتمع الإسلامی عملیاً، وبذلک یمحو عن الأذهان الصورة المشوهة التی یجدونها فی الحال الحاضر عن القوانین الإسلامیة من ناحیة، ومن الحکومة الإسلامیة من ناحیة أخری.

وبذلک تقریب للمثقفین من المسلمین ومن غیر المسلمین إلی الإسلام مقدمة لقیام الدولة الإسلامیة الواحدة ذات القوانین الإسلامیة المذکورة فی الکتاب والسنة.

ولا یخفی أنا فی هذا الکتاب لم نرد بیان الآراء الشخصیة بقدر ما أردنا إبداء الملامح للحقوق والکلیات التی هی مطرح النظر، وذکر الجزئیات أحیاناً من باب المثال أو ما أشبه، وإلاّ فاللازم فی الحکومة الإسلامیة والحقوق العامة والخاصة ملاحظة آراء شوری الفقهاء المستعینین بأهل الخبرة الزمنیة من المهندسین والحقوقیین والأطباء ومن لهم صلاحیة التقنین والاقتصادیین والسیاسیین والاجتماعیین ومن إلیهم فعلیهم تشخیص الموضوعات وبیان الصلاحیات، وعلی الفقهاء النظر فی

ص:444

أحکام تلک الموضوعات، وبذلک یمکن اکتمال القوانین والحقوق الدینیة الدنیویة الصالحة للتطبیق، واستشارات الرسول (صلی الله علیه وآله) وعلی (علیه السلام) دلیل علی ذلک، ویؤیده ما قاله (علیه الصلاة والسلام) کما فی (نهج البلاغة) فی کتاب له إلی معاویة من باب إلزام الخصم: «إنه بایعنی القوم الذین بایعوا أبا بکر وعمر وعثمان علی ما بایعوهم علیه فلم یکن للشاهد أن یختار ولا للغائب أن یرد، وإنما الشوری للمهاجرین والأنصار، فإن اجتمعوا علی رجل وسموه إماماً کان ذلک لله رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلی ما خرج منه، فإن أبی قاتلوه علی اتباعه غیر سبیل المؤمنین وولاه الله ما تولی»((1)).

ص:445


1- نهج البلاغة: الکتاب 6 ومن کتاب له علیه السلام إلی معاویة

((الناس وانتخاب الحکومة))

((لا للحکومات الدینیة الاستبدادیة))

((الناس وانتخاب الحکومة))

(مسألة): نذکر فی هذه المسألة حقوق الناس فی انتخاب الحکومة لأنفسهم فی الإطار الذی یرتضیه الله سبحانه.

((لا للحکومات الدینیة الاستبدادیة))

ولیس المراد الحکومة الدینیة بالمعنی القرن الوسطائی فی الحکومات المسیحیة، ولا بمعنی الخلافة الأمویة والعباسیة والعثمانیة، فإن تلک الحکومات أضافت علی الاستبداد الدنیوی الاستبداد الدینی، بمعنی أن کل ما کانوا یفعلونه من هتک الأعراض وسلب الأموال وإراقة الدماء وتعذیب الناس وسجنهم إلی غیر ذلک کانوا یقولون إنه إرادة الله سبحانه، حالهم حال الجاهلیین الذین کانوا ینسبون أعمالهم الشائنة إلی الله تعالی، کما ذکره القرآن الحکیم بقوله: ﴿وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا علیها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا یأمر بالفحشاء أتقولون علی الله ما لا تعلمون * قل أمر ربی بالقسط وأقیموا وجوهکم عند کل مسجد وادعوه مخلصین له الدین کما بدأکم تعودون﴾((1)).

بل بمعنی أن یکون الحاکم فی عصر الغیبة متصفاً بالشروط المقررة فی الإسلام من العلم والعدالة وغیرهما، وأن یکون أتی إلی الحکم باختیار الناس، وتبقی فی الحکم باختیار الناس، وأن یکون شوری بین الفقهاء، وأن یعمل طبق أوامر الشریعة إلی غیر ذلک مما فصلناه فی الکتب المعنیة بهذا الشأن.

وأهم ما یبنی علیه الحکومة الإسلامیة الحریات الکثیرة المتواجدة فی الإسلام وتساوی الناس، والمراد بالحریات ما یؤطر بإطار الشریعة بدون التعدی علی حریات الآخرین، کما أن المراد بالتساوی أن کل الناس ینالون ما یشاؤون من القدرة والمال والعلم وغیر ذلک من سائر مزایا الحیاة فی إطار الشریعة، أی لا یکون کسبه من المال الحرام أو صرفه فی المال الحرام، أو أن یکون قد عمل الغش والاحتکار وفتح المواخیر والربا وما أشبه ذلک، ولا تکون قدرته حاصلة بالاستبداد

ص:446


1- سورة الأعراف: 28 _ 29

والسلاح والقفز علی الحکم، ولا بقاؤه بسبب ذلک، ولا علمه علماً یحرف الناس عن الطریق السوی، ولا یکون علمه فی ضرره ولا ضرر غیره من الناس، إلی غیر ذلک من الشروط المقررة فی الإسلام فی الکتب المعنیة بهذه الشؤون، وقد جمعها الله سبحانه وتعالی بقوله: ﴿وأن لیس للإنسان إلاّ ما سعی﴾((1))، فسعی نفسه لنفسه ولیس سعیه للآخرین ولا سعی الآخرین له.

وما ذکرناه یصلح أن یکون إطاراً بتعریف الحکومة الاستشاریة الدینیة.

((لماذا الحکومة الاستشاریة))

((لماذا الحکومة الاستشاریة))

ثم یأتی دور فلسفة الحکومة الاستشاریة وأنها لماذا؟

والجواب: إن الحکومة الاستشاریة تأتی لفلسفة أن فی ظل هذه الحکومة یعطی کل إنسان حقه، ویتقدم المجتمع إلی الأمام، بالإضافة إلی أنها الصیغة المستفادة من الإسلام، وفی مثل الإطار الذی ذکرناه یبطل دعوی الحکومة الإسلامیة للحکومات الاستبدادیة ولو کانت بصبغة الدین.

کما أن بأصل الاستشاریة _ التی هی تعبیر آخر عن الدیمقراطیة الغربیة لکنها مع ملاحظة شروط الله سبحانه وتعالی _ تبطل کل الحکومات التی تعمل باسم الشعب مما لم تأت إلی الحکم باختیار الناس فی الأجواء الحرة، أو جاءت فی الأجواء الحرة ثم بقیت بدون إرادة الناس.

وإلاّ فمجرد ادعاء أن الحکومة فی صالح الناس وأنها ترید سعادتهم وخیرهم وما أشبه ذلک من الألفاظ لا تجعل جوهر الحکومة کذلک، وإلاّ فأبشع الحکومات کحکومة لینین وماو وهتلر وموسیلینی وناصر وصدام ومن إلیهم یدعون أنهم کذلک، مع العلم أن الحکومات التی حکمت باسم الدین ممن ألمعنا إلیهم أو باسم الشعب کهؤلاء کانوا لا یترکون جریمة لا ضد الأقلیات فحسب، بل ضد کافة الشعب إلاّ ارتکبوها، ما ملئوا صفحات التاریخ بشاعة وإثماً، من غیر فرق بین من اضطهدوا شعبهم أو سائر الشعوب، کحکومة بریطانیاً فی الصین

ص:447


1- سورة النجم: 39

والهند، وحکومة أمریکا فی فیتنام وإیران، وحکومة الاتحاد السوفیتی فی الجمهوریات الإسلامیة وأفغانستان، وحکومة فرنسا فی الجزائر وجاد، إلی غیرهم فی غیرهم.

والجامع بین کل هذه الحکومات الاستبدادیة، دینیة سمیت أو غیر دینیة، أن الوصول إلی الحکم والعمل فی أمور الناس لم یکونا بإرادة الناس واختیارهم ومصلحتهم.

وبالعکس فی الحکومات الاستشاریة یأتی الحاکم إلی الحکم باختیار الناس، ویعمل لمصلحة الناس، المصلحة التی هم یقولون إنها مصلحة لا المصلحة التی الحاکم یقول إنها مصلحة.

ویضاف فی الدینیة الاسشاریة أن یکون فی إطار الدین أیضاً، فالجوهر فی الحکومة الدینیة والحکومة الدیمقراطیة هو اختیار الناس أولاً وأخیراً، بالإضافة إلی التی ذکرناها فی الحکومة الدینیة من شروط الله سبحانه وتعالی، وکون القانون حسب شریعته تعالی، والتی تجعلها أقرب إلی الإنسانیة والعقل والمنطق من الدیمقراطیة الغربیة.

لکن غیر ذلک لیس دیمقراطیاً ولا دینیاً، نعم الحکومة المنحرفة المصبوغة بالصبغة الدینیة أسوأ الحکومتین، إذ الاستبدادیة غیر الدینیة تقتل وتنهب وتهتک تحت عنوان واحد هو مصلحة الوطن، بینما الدینیة المنحرفة تفعل کل ذلک تحت عنوانین عنوان الوطن وعنوان أن الله أمره بهذا، ولهذا مآسی الحکومة الدینیة الاستبدادیة أکثر من مآسی الاستبدادیة الدنیویة فقط.

وإذ قد عرفت فی الأمرین السابقین لزوم أن تکون الحکومة بصلاح الناس، وأن الصلاح هو الذی یراه الناس صلاحاً فی الإطار الإسلامی لا ما تراه الحکومة أو یراه الناس صلاحاً بالنسبة إلی الحکومات الدیمقراطیة، وأن کل حکومة لیست کذلک فهی حکومة استبدادیة، نقول:

((ضرورة تغییر الحکام))

((ضرورة تغییر الحکام))

إن من مختصات الحکومة الاستشاریة دینیة کانت أو غیر دینیة، تغییر الحکومة فی کل

ص:448

فترة یراها الناس للتغییر صلاحاً، فإن هذا النوع من التغییر المقترن بالانتخابات الحرة للنواب یسبب:

أولاً: إن النائب لا یتمکن من تجاهل آراء الناس ویمشی فی غیر الطریق الذی یریده الناس.

وثانیاً: الناس لا یریدون دائماً نوعاً خاصاً من الوکلاء، بل ینتخبون الأصلح فالأصلح، وبذلک یتقدم الاجتماع إلی الأمام.

هذا هو التغییر الذی یطرأ فی الحکومات الاستشاریة علی کلا قسمیها، وبالعکس التغییر فی سائر الحکومات یکون:

أولاً: مع الاضطراب وإراقة الدماء والخراب، بینما رأینا کیف أن التغییر فی الاستشاریة یکون مع الهدوء والنظم.

وثانیاً: المنابع المادیة والمعنویة تتلف فی التغییر الاستبدادی، بینما تلک المنابع تصرف فی التقدم والصلاح والوصول إلی الهدف المنشود من السعة والرفاه والأمن والاقتصاد فی الحکومة الاستشاریة.

وثالثاً: تقترن طبیعة الانقلاب الاستبدادی بالإفراط والتفریط، ولذا قالوا (الثورة کالهرة تأکل أبناءها) وبذلک تنعقد نطفة انقلاب آخر فی التغییر الاستبدادی، بینما لیس الأمر کذلک فی الاستشاری، ولذا یکون التغییر الاستبدادی من السیئ إلی الأسوأ، بینما فی الاستشاری یکون من الأحسن إلی الأحسن.

((الاستشاریة ورأی الأکثریة))

((الاستشاریة ورأی الأکثریة))

ثم إن الاسشاریة فی الحکم معناها الأخذ برأی الأکثریة، وإلاّ فلا معنی للاستشاریة، فإذا أعطی الناس الرأی فی جو من الحریة وکانت هناک أکثریة وأقلیة کما هی طبیعیة فی کل استشاریة حرة

ص:449

لاختلاف آراء الناس واتجاهاتهم ومصالحهم، فلا یزعم زاعم أن رأی الأکثریة دائماً یوافق الصواب، ورأی الأقلیة یوافق الخطأ، بل حیث لم یکن علاج أفضل من هذا اتخذ العقلاء هذه الطریقة للوصول إلی الأهداف، بالإضافة إلی أن ترجیح رأی الأقلیة فیه نفس التساؤل، مضافاً إلی أنه مرجوح عند العقلاء، وأهل الحل والعقد الذی أشارت إلیه الأدلة ینحون هذا المنحی أیضاً.

وقد ذکرنا مسألة الشوری فی بعض کتبنا الفقهیة وغیرها، ولذا فلیس للإنسان أن یتصور أن من ینهزم فی الانتخابات رأیه غیر صحیح، وأن من فاز رأیه هو الصحیح، بل معنی ذلک أن آراء أولئک الأقلیة لم تقبل فی المجتمع، ولعلها تقبل فی انتخابات مقبلة، کما کثیراً ما نری هذا الأمر.

ومن المعلوم أن الأقلیة فی الحکومات الاستبدادیة لهم وضع سیء، إذ المستبد وجهازه یرون أن الأقلیة لا حق لهم فی الحیاة الحرة الکریمة، بله الحیاة إطلاقاً.

بینما نری فی الحکومات الاستشاریة عکس ذلک، فالفوز فی الانتخابات للأکثریة لیس معناه الاستبداد بل معناه أن فی الأکثریة الرأی الاستشاری لا الأقلیة، مع أن الأقلیة أیضاً حاضرون فی کل الأصعدة التقنینیة والقضائیة والتنفیذیة إلی غیرها حسب کفاءاتهم، کما أنهم متواجدون فی کل الدوائر ولهم دورهم فی تغییر تلک القوی.

أولاً: بالاقتراحات الجدیدة.

وثانیاً: بالنقد البناء لمناهج الدولة، مما یجعل الدولة دائماً فی حالة حذر من الانسیاق نحو العمل الإفراطی أو التفریطی.

وثالثاً: جعل الدولة فی حالة تنافس دائمة مما یوجب رشد الدولة

ص:450

والأمة والأقلیة علی طول الخط.

((المؤسسات الدستوریة  لحفظ الحریات))

((المؤسسات الدستوریة  لحفظ الحریات))

لکن اللازم وجود مؤسسات دستوریة حتی تحفظ الحریات، وإلاّ لوقعت الأمة ضحیة الاستبداد بسبب الحزب الحاکم وإن کان الشروع فی الحکم استشاریاً، کما رأینا مثل ذلک فی بعض البلاد التی ابتدأت دیمقراطیة استشاریة ثم تحولت إلی أبشع أنحاء الدکتاتوریة.

ومن الواضح أن نقد الأقلیة للدولة لیست منحصرة فی الأمور السیاسیة، بل تتعدی إلی الأمور الإداریة وغیرها، وبذلک یسلم الناس من طغیان الدولة علیهم، لأن الحزب الحاکم یخاف من الأقلیة وإن لم یخف من أفراد الشعب، فیضطر إلی مداراة الناس وقضاء حوائجهم وعدم التعدی علیهم.

ثم غالباً حزب الأکثریة لا تبین البرامج الدقیقة لأهدافه خوفاً من انفضاض الناس من حوله، فإنه لو بین خصوصیات الاقتصاد أو الزراعة أو التجارة أو الاصلاحات التی یزمع تنفیذها لدی وصوله إلی الحکم انفض الناس من حوله، لأن الإصلاح غالباً یعارضه جماعة من المنتفعین الذین یضرهم الإصلاح، وعدم بیان الخصوصیات یجعل الحکم رجراجاً قابلاً للزیادة والنقیصة، وفی ذلک ضرر الناس، هذا بالإضافة إلی أن الحزب الحاکم یعد الناس قبل وصوله إلی الحکم مواعید إصلاحیة ثم إذا وصل إلی الحکم نسیها، لما فی الاصلاح من المشاکل دائماً، وحزب الأقلیة یقف من حزب الأکثریة بالمرصاد لکلتا الجهتین فیطالبه.

أولاً: ببیان برامجه بیاناً دقیقاً لا فضفاضاً، الهدف منه خداع الناس للوصول إلی الحکم وجعلهم سلماً للارتفاع علی أعناقهم.

ثانیاً: بتطبیق برنامجه الذی وعده عند وصوله إلی الحکم، ولا یدعه یهرب من مواعیده حیث یکون فی الهروب ضرر الناس، وبذلک یکون أقوال

ص:451

الحزب الحاکم دقیقاً مضبوطاً، وذلک یوجب اطمئنان الناس بالحکومة، ودقة الحکومة فی مواعیدها وتطبیقاتها، وبهذین یکون تماسک الاجتماع أحسن وسیرهم إلی الأهداف أمتن.

ثم کلما کان التدافع بین الأقلیة والأکثریة أکثر یکون إلقاء الضوء علی مختلف جوانب الحیاة لإنارة الأمة أبین، فیری الناس المشاکل وحلولها والبدائل المتعددة التی تساهم فی تقدیم الحیاة إلی الأمام أحسن وأسرع، وکلما کان الحزب أحسن قانوناً وهدفاً وأنضج أفراداً وشخصیات، یکون فرص نجاحه فی الانتخابات أکثر، فإن الناس ینظرون إلی شیئین.

الأول: القانون بما هو قانون.

الثانی: إلی من یرید الوصول إلی الحکم بتطبیق هذا القانون.

((لماذا فشلت الأحزاب))

((لماذا فشلت الأحزاب))

والأحزاب سواء الإسلامیة منها أو غیر الإسلامیة إنما فشلوا فی العالم الثالث، سواء من وصل منهم إلی الحکم أو لم یصل، بسبب نقص هاتین الجهتین، نقص أحدهما أن الناس یریدون أن یعرفوا من الحزب ما هو منهجه فی مختلف أبعاد الاقتصاد الزراعی والصناعی والتجاری وغیرها، وما هو مناهجه فی الحریات والاجتماعیات وفی الثقافة وفی التربیة وفی السیاسة وفی کیفیة معالجة الجریمة والمجرم إلی غیرها وغیرها، والأحزاب غالباً لیس لهم مثل هذا البرنامج وإن أروا برنامجاً فهو فضفاض لا یکفی لإقناع الناس.

وبعد ذلک یأتی دور عمل أفراد الحزب مع الاجتماع قبل وصولهم إلی الحکم وبعد وصولهم، فهل یعقل أن یقبل المسلمون بعد تجارب القومیة والشیوعیة والبعثیة بهذه المبادئ بعد ما رأوا فیها الدمار والهلاک بما لم یکن لها مثیل فی تاریخ المسلمین حتی فی أظلم عصورهم، کعصر الحجاج وهارون والمأمون وابن زیاد وعبد الملک والمتوکل ومن

ص:452

إلیهم.

وعلی أی، فمن حق الأمة علی الحکام الاستشاریة بالمعنی الذی ألمعنا إلیه، وکل حکومة لم یطبقها فهی مرشحة للزوال السریع، کما أن کل حزب لم یکن له برامج واضحة أو لم یکن له أفراد ناضجین یکون مؤهلاً لعدم الوصول إلی الحکم.

ص:453

((لماذا العقوبات))

اشارة

((لماذا العقوبات))

(مسألة): کما أن لکل من المریض والمجنون حقاً علی المجتمع فی شفائهما وإن کانا بأنفسهما أساءا إلی أنفسهما، فأکلا مثلاً غیر الصحیح مما سبب مرضه أو جنونه، کذلک للمجرم حق علی الاجتماع أن یصلحه، وعلی هذا یحب أن توضع العقوبة لأمرین یرتبط احدهما بالآخر.

الأول: حفظ الاجتماع عن تکرار الجریمة.

والثانی: إصلاح المجرم مهما أمکن.

وحیث لیس للمسلم وضع الأحکام بل اللازم علیه اتباع الأحکام الواردة فی الشریعة، فلیس المراد من الوضع إلاّ ما للحاکم من الدائرة التی یتمکن من أن یدور فیها، مثلاً التعزیر بید الحاکم، والعقوبات التی توضع لخرق القوانین الثانویة کقوانین المرور التی وضعت من انطباق «لا ضرر» ونحوه بید الحاکم، والعقوبات الذی توضع لمعاقبة الموظف المخالف لموازین الوظیفة بید الحاکم، مثلاً یمکن أن تعقد الدولة مع الموظف عقداً لاستخدامه سنة کل یوم ثمان ساعات، ویضع أیضاً شرطاً للعقد أن المخالف عالماً عامداً علیه الغرامة باقتطاع راتبه من یوم إلی أسبوع أو سجنه کذلک.

فإن العقوبات الشرعیة علی قسمین:

1: قسم معین من قبل الشرع ویسمی بالحد، وقد ذکرنا فی الکتب الفقهیة أن الإمام له حق العفو عن مثل هذا القسم مطلقاً مع الصلاح وکونه الأهم.

2: وقسم غیر معین ویسمی بالتعزیر، وهی واردة فی کل معصیة یری الإمام الصلاح فی عقوبة المجرم به، وهی بین ما لم یذکر فی جنسها حد أصلاً کقبلة المرأة الأجنبیة، والتطفیف فی المکیال، وبین ما لم یکن بالعنوان الأولی معصیة وإنما هو بالعنوان الثانوی، کما ذکرنا من مثال مخالف المرور والموظف الذی شرط علیه، وبین ما ذکر فی جنسها لکن لا فی هذا النوع کالسرقة من غیر حرز.

ص:454

((قلة الجرائم))

((قلة الجرائم))

ثم إنا قد ألمعنا سابقاً إلی أن الجرائم فی الإسلام أقل من الجرائم القانونیة بنسبة واحد فی المائة مما قررها قوانین الغرب الدیمقراطی، أو أقل من هذه النسبة، وذلک بنسبة کثرة الحریات فی الإسلام إلی الحریات فی القوانین الدیمقراطیة، کما ألمعنا إلی ذلک فی کتاب (الصیاغة) وکتاب (نریدها حکومة إسلامیة).

هذا بالإضافة إلی أن الجرائم الإسلامیة إنما تکون جرائم فی الجو الإسلامی بمعنی أن الجو إذا کان إسلامیاً کان حد السرقة کذا وحد الزنا کذا، کما ألمعنا إلیه فی کتاب (الممارسة)، فإنه کیف یمکن أن یقال للسارق لا تسرق وهو جائع ولا یتمکن من تحصیل لقمة العیش، وکیف یمکن أن یقال للزانی لا تزن وهو لا یملک أن یتزوج إطلاقاً ویؤذیه قضایا جنسه بما یسلب طاقته، وقد قال سبحانه: ﴿لا یکلف الله نفساً إلاّ وسعها﴾((1))، وقال: ﴿لا یکلف الله نفساً إلاّ ما آتاها﴾((2))، وقال: ﴿ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به﴾((3)). ولیس المراد ما لا طاقة إطلاقاً، فهل من المعقول أن الله کلف سائر الأمم بما لا طاقة لهم، أو أن یطلب الإنسان من الله أن لا یحمله ما لا طاقة له به فهو مثل أن یقول الإنسان لله سبحانه وتعالی: ربنا لا تحملنا الطیران إلی السماء بدون الوسائل، وربنا لا تحملنا جمع المتناقضین والمتضادین، ألیس التکلیف بذلک محالاً لا یأتی من عاقل فکیف من الله سبحانه وتعالی العلیم الحکیم الرؤوف الرحیم.

وقد قال رسول الله (صلی الله علیه وآله) فی حدیث الرفع: (ما لا یطیقون)((4))، فهل رفع ما لا یطیقون خاص بهذه الأمة، وعلیه فالمراد ما هو فی آخر الطاقة کما قال سبحانه: ﴿وعلی الذین یطیقونه﴾((5))، أی آخر طاقتهم علی بعض التفاسیر کما أن «ما لا یعلمون» لا یمکن أن یکون خاصاً بهذه الأمة، إلاّ إذا أرید به فی قبال الاحتیاط، وإلاّ فقد قال

ص:455


1- سورة البقرة: 286
2- سورة الطلاق: 7
3- سورة البقرة: 286
4- الکافی: ج2 ص463 ح2
5- سورة البقرة: 184

سبحانه: ﴿ما کنا معذبین حتی نبعث رسولاً﴾((1))، إلی غیر ذلک من الکلام فی حدیث الرفع مما لیس المکان موضع الإسهاب فیه.

((الجرائم فی أجواء غیر إسلامیة))

((الجرائم فی أجواء غیر إسلامیة))

أما الجرائم فی الجو غیر الإسلامی، فمنها ما لا حد ولا تعزیر له إطلاقاً، کما ورد فی أکل المخمصة، وکما ورد فی المرأة المضطرة إلی الزنا.

ومنها ما له شیء من التعزیر، لأن الشخص تمکن من أخذ نفسه لکنه أتی بالجریمة، أو کان یتمکن من الجریمة الأخف لکنه ذهب إلی الجریمة الأبشع. وحیث لیس الکلام موضع هذا البحث نترکه لمجاله.

فإن الدولة إذا وفرت الحریات الإسلامیة، کحریة الزراعة والصناعة والتجارة والاکتساب والثقافة وحیازة المباحات من الأرض وغیرها، حتی تمکن کل إنسان من تحصیل لقمة العیش، والسکن فی مسکن یقیه الحر والبرد، واللباس والتزویج، وما یعالج به نفسه حال مرضه، وینفق منه علی عیاله، وکان هناک بیت مال ینفق علی العاجز، ولم تکن الأجواء فاسدة بالنساء المغریات وحانات الخمور والتلفزیونات التی تری النساء العواری والرقص والغناء المهیج والمدارس والمسابح المختلطة، ولم تکن أجواء إکراهیة للعمال والفلاحین بأن یعملوا لیل نهار ثم یأخذوا من الأجور دون حقهم، علی ما ذکرنا تفصیله فی کتاب (الاقتصاد)، فی مثل هذا الجو الإیجابی من ناحیة، والسلبی من ناحیة أخری، یقول الشرع إذا زنا فهو مجرم، وإذا سرق فهو مجرم، وإذا شذ جنساً فهو مجرم، وإذا شرب الخمر فهو مجرم، وإذا قامر فهو مجرم، لهم تلک الحدود والتعزیرات المقررة شرعاً.

أما إذا أباح القانون الخمور والفجور وفتح المواخیر والحانات ومراکز الشذوذ الجنسی، وبثت وسائل الإعلام من الرادیو والتلفزیون والسینماءات والنوادی

ص:456


1- سورة الإسراء: 15

والجرائد والمجلات والفیدیوات کل عمل مشین، فهل یکفی لدی العقلاء أن تقول إذا ارتکب الشاب أو الشابة عملاً غیر إنسانی إنه مجرم علیه کذا من الحد والتعزیر.

أو الأجواء کانت غیر حرة من جهة الکسب والعمل وحیازة المباحات وما أشبه، والقانون آخذ بأکظام الناس حتی تفشت فیهم البطالة، ولم یجدوا لقمة العیش، ثم المرأة تبیع نفسها أو الولد یبیع نفسه لأجل الأکل وسد الجوع، أو یسرق لنفسه وعائلته هل یمکن أن یقول الشرع إن علیه حد کذا.

هذا ما دل علی خلافه الکتاب والسنة والإجماع والعقل، ألم یقل سبحانه: ﴿إلا ما اضطررتم﴾((1))، وألم یقل رسول الله (صلی الله علیه وآله): «رفع عن أمتی تسع»((2))، وألیس الإجماع یوافقهما، وألیس العقل یدل علی لزوم إنسانیة التکالیف.

وقد قال سبحانه بالإضافة إلی الکبریات المذکورة فی کبری کلیة أوسع: ﴿یرید الله بکم الیسر﴾((3))، ویقول الإمام (علیه الصلاة والسلام): «فإن شیعتنا لفی أوسع مما بین ذه وذه» مشیراً إلی السماء والأرض((4)).

والتناقض الذی وقع فیه بعض الحکام مما أظهر الإسلام بمظهر الجلاد البشع، وأوجب تنفیر الناس عن الإسلام إنه فی أجواء غیر صالحة فی قوانین کابتة غیر إسلامیة عمل بتطبیق الحدود الشرعیة بدون توفر الشرائط المذکورة فی (الفقه)، وأخطأت مرة ثالثة فی إضافة حدود وتعزیرات وسجون وغرامات وتعذیبات داخل السجون وخارجها اخترعها بنفسه مما لیس لها فی أی من الأدلة الأربعة إشارة أو ذکر، بل الأدلة الأربعة کلها علی خلافها.

وعلی أی حال، فاللازم بالنسبة إلی أحکام الجریمة ملاحظة أمور:

((الجریمة وصحة الدولة وفسادها))

((الجریمة وصحة الدولة وفسادها))

الأول: صحة الدولة، فالدولة الفاسدة تغری الناس إلی الجرائم،

ص:457


1- سورة الأنعام: 119
2- انظر وسائل الشیعة: ج15 ص369 ب56 ح20769.  وبحار الأنوار: ج74 ص155 ب7 ح123
3- سورة البقرة: 185
4- تأویل الآیات الظاهرة: ص176

ولذا قالوا: (الناس علی دین ملوکها)، وصدّق الإمام الرضا (علیه الصلاة والسلام) ذلک السارق الذی أراد المأمون قطع یده((1)).

وذکر الفقهاء أن شرط رئاسة الدولة مرجعیته للتقلید، لأن المرجع هو النائب للإمام (علیه السلام)، وذکرنا لزوم (شوری الفقهاء) فی المراجع إذا کانوا متعددین، کما هو الغالب.

وشرائط مرجع التقلید هی العقل والبلوغ والإسلام والذکورة والعدالة والإیمان والاجتهاد والضبط، بأن لا یکون کثیر النسیان، والحریة وطهارة المولد، وأضاف بعضهم سلامة الحواس من سمع وبصر ونطق، علی تفصیل ذکرناه فی کتاب التقلید.

وقد قال سبحانه: ﴿یا أیها الذین آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، کبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون﴾((2))، فهل یعقل أن یفوض الله سبحانه وتعالی إجراء الحدود إلی الدولة الظالمة، وقد قال سبحانه: ﴿لا ینال عهدی الظالمین﴾((3))، وورد فی الحدیث: «لعن الله الآمرین بالمعروف التارکین له، والناهین عن المنکر العاملین به»((4))، وقد رأی شخص خلیفة یقطع ید سارق فقال: الله أکبر سارق العلانیة یقطع سارق السر.

((الجریمة وظروفها))

((الجریمة وظروفها))

الثانی: ظروف المجرم والجریمة، فعمل الجریمة بما هو عمل لا یکون له عقاب حتی ینضم إلیه ظروف الجریمة، إذ شروط المجرم حتی یکون عمله جرماً مستحقاً للعقاب أن یکون بالغاً عاقلاً شاعراً مختاراً عالماً، ولم یکن مضطراً، ولم یکن من باب مزاحمة الأهم والمهم، أو المتزاحمین حیث یتخیر الأمر.

فغیر البالغ، والمجنون، وغیر الشاعر کالنائم والسکران وشارب المرقد، والمکرَه، والجاهل قصوراً وأحیاناً حتی تقصیراً، والمضطر لا عقاب علیهم، علی تفصیل مذکور فی (الفقه).

نعم هناک بعض الاستثناءات، مثلاً غیر البالغ الممیز یؤدب فی بعض الجرائم.

وهکذا إذا کان هناک أهم ومهم، فلا جریمة کما إذا کانت الأمواج تغرق السفینة إذا لم نخفف علیها بإلقاء

ص:458


1- انظر مستدرک الوسائل: ج18 ص32 ب28 ح21935
2- سورة الصف: 2 _ 3
3- سورة البقرة: 124
4- وسائل الشیعة: ج16 ص151 ب10 ح21216

بعض الأمتعة أو الأفراد فی البحر، کما فی قصة یونس (علیه الصلاة والسلام)، أو أردنا خرق السفینة حتی لا یغصبها الغاصب، إلی ما أشبه ذلک.

وإلی ما ذکرناه یشیر بعض المدارس الحدیثة من ملاحظة الشخصیة مع ملاحظة الجریمة، لا الشخصیة فحسب ولا الجریمة فحسب، وإنما هما معاً، ولذا قرروا جعل اضبارتین لکل جریمة.

وکما قرروا تعاون القاضی مع الطبیب النفسی والعالم الاجتماعی والمؤسسات الخیریة لأجل قلع الجریمة، فإن اللازم رفع الجریمة لا معاداة المجرم، فإذا زنی ولم یکن له زوجة لعدم قدرته، تعاون القاضی مع مؤسسة الزواج لتزویجه، وإذا کان سارق ولم یکن له شغل مما اضطر إلی السرقة تعاون مع مؤسسة التشغیل لإعطائه شغلاً یلیق به، إلی غیر ذلک، وقد ورد فی الشریعة تلمیحات کثیرة إلی هذا الشرط مما یستحق أن یؤلف بعض الباحثین حوله کتاباً مستقلاً، وإلیک الإلماع إلی بعضها، مثلاً:

((نماذج مما یلزم ملاحظتها))

((نماذج مما یلزم ملاحظتها))

أولاً: ورد فی التاریخ أن الرسول (صلی الله علیه وآله) عفا عن حاطب، وقال لمن طلب عقابه: لعل الله نظر إلی أهل بدر فقال قد غفرت لکم((1))، فالسابقة الحسنة یرفع العقاب أو یخففه.

الثانی: الظروف السیئة للمجرم ما یسوقه إلی الجریمة، کظروف الکوفة قبل مجیء علی (علیه الصلاة والسلام) إلیها، ولذا عفا عن سارق، وزوج زانیة بدون عقابها، وعفا عن لائط، حیث عملوا فی ظروف فوضی.

الثالث: إذا ارتکب الإنسان اللمم وقد اجتنب الکبائر، کما فی الآیة الکریمة((2)).

الرابع: ظروف الأهم والمهم، ولذا عفا الرسول (صلی الله علیه

ص:459


1- بحار الأنوار: ج21 ص92 ب26
2- انظر سورة النجم: الآیة 32

وآله) عن الهاربین عن الحرب، مع أنها معصیة کبیرة بنص القرآن الحکیم((1)) فلم یعزرهم.

الخامس: الصباوة، ولذا ورد «عمد الصبی خطأ»((2)).

السادس: المریض، فإن حد المریض أقل کما ورد فی تفسیر قوله سبحانه: ﴿وخذ بیدک ضغثاً﴾((3))، وذکرنا تفصیله فی کتاب الحدود.

السابع: المرأة، ولذا قال علی (علیه الصلاة والسلام) فی البصرة بعدم التعرض للنساء وإن سببن أمراءکم وشتمن أعراضکم((4)).

الثامن: حد الوالد، حیث لا اقتصاص له عن الولد، ولا یحبس فی دین ولده، کما ورد فی شکایة ولد عن والده إلی الرسول (صلی الله علیه وآله)، وقال الإمام (علیه الصلاة والسلام) للسائل الذی اعترض علی ذلک: أتری رسول الله (صلی الله علیه وآله) کان یحبس الوالد فی دین ولده.

التاسع: حد العبد والأمة، فإنه أخف من حد الحر، کما فی الکتاب والسنة، فإنه لا یزاد علی واجبه أمام المولی الحد الکامل علیه فی الجریمة، فقد قال سبحانه: ﴿ومن لم یستطع منکم طولاً أن ینکح المحصنات المؤمنات فمما ملکت أیمانکم من فتیاتکم المؤمنات والله أعلم بأیمانکم بعضکم من بعض فأنکحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غیر مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتین بفاحشة فعلیهن نصف ما علی المحصنات من العذاب ذلک لمن خشی العنت منکم وأن تصبروا خیر لکم والله غفور رحیم﴾((5)).

العاشر: المرة الأولی أخف من الثانیة ونحوها، کما فی الصید فی الحج، قال سبحانه: ﴿یا أیها الذین آمنوا لا تقتلوا الصید وأنتم حرم ومن

ص:460


1- سورة الأنفال: 16
2- وسائل الشیعة: ج29 ص88 ب34، وراجع الوسائل ج29 ص400 ب11 ح35859
3- سورة ص: 44
4- انظر الکافی: ج5 ص39. وبحار الأنوار: ج32 ص212 ب3
5- سورة النساء: 25

قتله منکم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم یحکم به ذوا عدل منکم هدیاً بالغ الکعبة أو کفارة طعام مساکین أو عدل ذلک صیاماً لیذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فینتقم الله منه والله عزیز ذو انتقام﴾((1))، وکما قال الإمام الجواد (علیه الصلاة والسلام) فی مجلس الخلیفة فی مسألة الصید فی الحج((2)).

الحادی عشر: شدة العقاب تکون فی الظروف الحسنة دون السیئة، ولذا یفرق بین الزانی المحصن وغیر المحصن فی العقاب.

الثانی عشر: الظروف الاضطراریة، ولذا رفع علی (علیه الصلاة والسلام) عقاب الزانیة المضطرة فی زناها.

الثالث عشر: ظروف الاشتباه، کالزانی اشتباهاً یزعم أنها زوجته، حیث لا عقاب علیه کما فی قصة الأختین اللتین أهدیتا إلی غیر زوجهما، وقصة الرجل الذی زنا بأخت الزوجة زاعماً أنها زوجته.

الرابع عشر: التخفیف علی المرأة، ولذا لا تقتل فی الارتداد، والفرق بین هذا وما سبق أن السابق کان فی التعزیر وهذا فی الحد.

الخامس عشر: عدم إجراء الحد فی أماکن خاصة کأرض العدو والحرم، حیث أجرم المجرم وهرب إلی الحرم، کما ورد بذلک روایات.

السادس عشر: عدم إجراء الحد فی زمان خاص، کالسرقة فی عام المجاعة.

السابع عشر: عدم إجراء الحد مع الشبهة، فقد قال (صلی الله علیه وآله): «ادرءوا الحدود بالشبهات»((3))، وذلک یشمل القاضی والشاهد والمرتکب.

ص:461


1- سورة المائدة: 95
2- الصراط المستقیم: ج2 ص175
3- من لا یحضره الفقیه: ج4 ص74 ح5146

الثامن عشر: عدم إجراء الحدود فی شدة الحر والبرد.

التاسع عشر: «الإسلام یجب ما قبله»((1))، فلا إجراء للحد لمن أجرم ثم أسلم.

العشرون: (الإیمان یجب ما قبله) کما ذکرناه فی الکتب الفقهیة، علی ما ورد من أن المخالف إذا استبصر کان کذا.

الواحد والعشرون: قیام الدولة الإسلامیة یجب عما قبله، کما ورد فی حدیث الإمام الرضا (علیه الصلاة والسلام).

الثانی والعشرون: إذا فعل حسنة تدرأ السیئة، علی ما ذکره بعض الفقهاء، فقد روی عن الصادق (علیه الصلاة والسلام) قال: «أتی أمیر المؤمنین (علیه السلام) برجل وجد فی خربة وبیده سکین ملطخ وإذا رجل مذبوح یتشحط فی دمه، فقال له أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام): ما تقول، قال: أنا قتلته، قال: اذهبوا به فأقیدوه به، فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرع، إلی أن قال: فقال: أنا قتلته، فقال أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام): للأول ما حملک علی إقرارک علی نفسک، فقال: وما کنت أستطیع أن أقول وقد شهد علی أمثال هؤلاء الرجال وأخذونی وبیدی سکین ملطخ والرجل یتشحط فی دمه وأنا قائم علیه خفت الضرب فأقررت، وأنا رجل کنت ذبحت بجنب هذه الخربة شاة وأخذنی البول فدخلت الخربة فرأیت الرجل متشحطاً فی دمه فقمت متعجباً فدخل علی فأخذونی.

فقال أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام): خذوا هذین فأذهبوا بهما إلی الحسن (علیه السلام) وقالوا له: ما الحکم فیهما، فذهبوا إلی الحسن (علیه السلام) وقصوا علیه قصتهما. فقال الحسن (علیه السلام): قولوا لأمیر المؤمنین (علیه السلام): إن

ص:462


1- مستدرک الوسائل: ج7 ص448 ب15 ح8625

کان هذا ذبح ذاک فقد أحیی هذا، وقد قال الله عزوجل: ﴿ومن أحیاها فکأنما أحیی الناس جمیعاً﴾((1))، یخلی عنهما ویخرج دیة المذبوح من بیت المال»((2)).

إلی غیر ذلک مما یجده المتتبع فی ثنایا الفقه والحدیث والتاریخ.

((المعیار فی الجریمة الشرع))

((المعیار فی الجریمة الشرع))

وبعد الثانی وهو (ظروف المجرم والجریمة) یصل الأمر إلی الشیء الثالث، وهو أن یکون ما ارتکبه جریمة فی الشریعة الإسلامیة، فإنه کما سبق الألماع إلیه، أکثر ما یسمیه القانون جریمة لا یراها الإسلام جریمة.

ونظرة فاحصة إلی المحاکم والسجون فی البلاد الدیمقراطیة تظهر هذه الحقیقة، فإن عشرات الألوف من الناس الذین یحاکمون فی المحاکم ویذهب بهم إلی السجن لا محکمة علیهم ولا سجن فی منطق الإسلام، وإذا قام فی یوم من الأیام حکومة الإسلام لم یکن من کل تلک المحاکم ولا کل تلک السجون والسجناء عین ولا أثر.

ولنذکر مائة مادة مما یخالف القانون ویستحق المحاکمة والسجن بینما الإسلام یری کل ذلک مباحاً، ومن الحق الطبیعی للإنسان بما هو إنسان وإن کان غیر مسلم، هذا بالنسبة إلی البلاد التی تسمی حرة ودیمقراطیة، أما فی العالم الثالث بما فیه البلاد الإسلامیة والعالم الشیوعی فالأمر أدهی وأمر.

وهذه الأمور التی نذکرها هی حرة فی الإسلام، مقیدة فی القانون بما إذا خالف الإنسان القانون فیها استحق المحاکمة والعقاب سجناً أو تعزیماً، وهی عبارة عن:

الحریة فی البیع والشراء والرهن والإجارة والضمان، واختراع أی عقد جدید لم یمنع عنه الشارع، والکفالة والصلح والتأمین والشرکة والمضاربة والمزارعة والمساقاة وحیازة الأرض وحیازة سائر المباحات، والودیعة والعاریة والإجارة والوکالة والوقف والصدقة والعطیة والهبة والسکنی والعمری والرقبی، والسبق والرمایة والوصیة، والنکاح والطلاق والخلع

ص:463


1- سورة المائدة: 32
2- ان ظر الکافی: ج7 ص289 ح2

والرضاع، والسفر والإقامة، وفتح المحل والإقرار والجعالة والطباعة وقدر المهر وسائر خصوصیات النکاح، وامتهان أیة مهنة شاءها الإنسان، والثقافة والعهد والیمین والنذر، وتناول الأطعمة المحللة وإحیاء الموات والأخذ بالشفعة، والإرث حسب المقرر فی الإسلام حیث قال الرسول (صلی الله علیه وآله): «من ترک ضیاعاً فعلی ضیاعه، ومن ترک مالاً فلورثته»((1)).

والمراجعة إلی أی قاض شرعی، والشهادة والاستشهاد، واختیار الدیات أو القصاص أو العفو، والزراعة والصناعة والعمارة، وکون الإنسان حراً بدون جنسیة وهویة وبطاقة وما أشبه، وإصدار الجریدة وإصدار المجلة وامتلاک محطة الإذاعة وامتلاک محطة التلفزیون، والعمل وإبداء الرأی والتجمع وتکوین النقابة وإنشاء الجمعیة وإنشاء المنظمة وإنشاء الحزب والانتخاب والإمارة والولایة والسفارة، وانتخاب أی وظیفة من وظائف الدولة، والحریة بعدم رقابة الحکومة علی الناس بأجهزة الإنصات والتلفون وما أشبه، وإنجاب أی عدد من الأولاد، وعدد الزوجات إلی أربع فی الدوام، وأکثر فی الانقطاع، وکیفیة الأکل والشرب واللباس والذهاب والرجوع من البیت وإلی البیت ومن المحل وإلی المحل، وبناء المساجد وبناء المدارس وبناء الحسینیات وبناء المستشفیات وبناء المستوصفات وبناء دور النشر وبناء دور الثقافة وبناء الخانات والفنادق وبناء دور الولادة وبناء دور العجزة، وفتح البنوک، والدخول فی أیة جمعیة شاء من الجمعیات الصحیحة، والخروج من أیة مؤسسة أو وظیفة أو جمعیة شاء من الجمعیات الصحیحة، وانتقاء أی نوع من أنواع السیارات وسائر المواصلات، وکیفیة المعاملة والقرض والاقتراض وإعطاء التولیة وغیره لأی أحد، والحریة فی جعل الاسم لأی شخص أو لأی محل مرتبط به، فلا یرتبط جعل الاسم

ص:464


1- تهذیب الأحکام: ج6 ص211 ب84 ح11

بإجازة الدولة، وفتح حقول الدواجن، والرجوع فی التقلید إلی أی مرجع شاء، وانتخاب أی خطیب أراد، والحریة فی العقد ونحوه عند أی عالم فی قبال عدم الحریة فی ذلک بالنسبة إلی غالب الدول حیث یقیدون الإنسان بتسجیل عقده ونحوه عند دائرة خاصة.

إلی غیرها من الحریات الکثیرة، مما ألمعنا إلی بعض تفاصیلها فی کتاب (الصیاغة).

((المرأة وما یصلحها))

((المرأة وما یصلحها))

ثم إن الشارع لم یجعل الحق للمرأة فی رئاسة الدولة أو القضاء أو مرجعیة التقلید، أما فی الأخرین فلأن القاضی یلزم أن لا یکون عاطفیاً والمرأة عاطفیة، ومرجع التقلید من أبرز صفاته القضاء فحیث لا یمکن القضاء لا یمکن مرجعیتها للتقلید، بالإضافة إلی أن نفس المرجع ولو بدون القضاء لا یلائم کونه عاطفیاً، لأنه مرجع للناس.

وأما فی الأول فلأن الوصول إلی رئاسة الدولة أی الإمارة تلازم حریات للمرأة توجب فسادها والمشاکل الکثیرة لها، فإذا قورنت هذه المصلحة أی أمارتها بما یلازمها من الفساد کان قانون الأهم والمهم العقلائی یوجب عدم إعطاء أفراد قلیلة من النساء للإمارة فی سبیل عدم فساد أفراد کثیرة منهن، مثلاً رئیسة دولة بریطانیا تصل إلی الحکم فی بریطانیا لکن ذلک علی ضرر المرأة مادیاً ومعنویاً بصورة عامة، فإن وصولها إلی الحکم إنما یکون فی جو حریة عامة للمرأة والحریة العامة طرف منها إهانة للمرأة بفتح المواخیر أولاً.

وإهانتها ببقائهن عوانس فی البیوت، حیث إن الحریة الجنسیة توجب الأمرین ثانیاً.

وإباحة الرجل بإباحة الشذوذ الجنسی إذ لما أبیحت المرأة وتمکن کل رجل من کل امرأة یریدها، غالباً یقل رغبة الرجل عن النساء لکثرتهن فیفکر فی الشذوذ ویعمل به ثالثاً.

وإهانة للمرأة بجعلها وسیلة لإعلان البضائع وما أشبه رابعاً.

وإهانة للمرأة بإدخالها فی أعمال صعبة لا تتحمل جسمها ولا یلیق

ص:465

بشأنها وأنوثتها خامساً.

وإهانة لها بجعل أجورها أقل حیث عملها لا یکون کعمل الرجل سادساً.

وإهانة الإنسان بصورة عامة بإسقاط للأجنة حیث إن إباحة الجنس توجب ذلک سابعاً.

وإهانة للإنسان بتفکک العائلة، إذ لا داعی للشاب والشابة فی تحمل مسؤولیة العائلة بعد توفر اللذة فی کل مکان.

أما فی سائر الأعمال والحقوق فالمرأة قد تساوی الرجل، وقد تقدم علی الرجل، وقد یتقدم الرجل علیها حسب المصلحة، مثلاً فی باب الإرث قد یزید إرث المرأة وقد یزید إرث الرجل وقد یتساویان، کما ذکرناه فی کتاب الإرث.

وکذلک فی باب النکاح لها المهر ولیس للرجل، وهی تتمکن أن تشترط أن بیدها الطلاق وکالةً عن الرجل، ولیس علیها جهاد ولا صلاة الجمعة، ونفقتها واجبة علی الأب والزوج والولد، إلی غیر ذلک مما لسنا بصدد تفصیله الآن.

وهذه الموارد المائة التی قرر الإسلام حریتها فی الإطار الإسلامی، وقرر القانون تقییدها إذا خالفها الإنسان کان نصیبه المحاکمة والسجن، فإذا ضربت هذه المائة التقییدات فی أقسام مخالفات الأفراد لها، ونعد منها عشرة فقط، صارت المخالفات التی تحاکم الإنسان وتسجنه ألفاً.

وهی مخالفة القانون عن جهل، أو نسیان، أو غره إنسان بتزویر الإجازة، أو رأی أنه غیر لازم شرعاً، أو لم تمهله الفرصة للاستجازة، أو تکاسل، أو لم یمکنه، أو الدولة لم تسمح له، أو أخطأ فی عدم أخذ الإجازة، أو اضطر کما إذا أرید قتله أو أخذ ماله فهرب إلی بلد آخر.

فهذه ألف نوع وألف قسم من عدم أخذ الإجازة، فإذا فرض وهو فرض واقع خارجاً أن کل مخالفة عملها عشرة أفراد کان عشرة آلاف إنسان یساقون إلی المحاکم ثم إلی السجون، أو یؤخذ منهم الغرامات، مع ما یصادف ذلک من هدر الأوقات والأموال والکرامات وتضخم الإدارات

ص:466

والموظفین وما تهدره تلک الإدارات وأولئک الموظفون من أموال الأمة.

((من حقوق السجین))

((من حقوق السجین))

وحیث إن السجین إنسان له کرامته وحریته المقررة من قبل الله سبحانه له، فاللازم الاقتصار فی السجن المشروع علی أقل قدر ممکن من الضیق، مما یصدق علیه مسمی السجن، فإن الضرورات تقدر بقدرها.

وسواء کان السجن شرعیاً کما تقدم الإلماع إلی أن الشرع یسجن بعض الناس وإن کانت بالنسبة إلی السجون الوضعیة أقل من الواحد فی الألف، أو غیر شرعی کما هو المتعارف فی عالم الیوم، فاللازم علی الدولة مراعاة السجین مراعاةً تناسب کرامته، فإن هناک فی سجون الیوم غیر الشرعیة محرمین، محرم أصل السجن ومحرم کیفیته، فإذا فعلت الدولة الحرام الأول فلا تفعل الحرام الثانی.

وعلی أی حال، فاللازم مراعاة السجین کأنه منطلق فی الخارج، باستثناء أصل السجن، وذلک إنما یکون بالأمور التالیة التی اقتبسنا بعضها من النظام العالمی للسجون مصداقاً، وإن کان کلی (الناس مسلطون علی أموالهم وأنفسهم) یشملها.

الأول: اختیار السجین فی إجراء جمیع المعاملات، من البیع والشراء والرهن والإجارة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والحوالة وحتی الکفالة فی الصورة الممکنة وغیرها، سواء فی داخل السجن أو خارجه، بواسطة التلفون أو الوکیل أو ما أشبه.

الثانی: ممارسة عقد النکاح أو الطلاق بأقسامه، لنفسه أو غیره ممن کان وکیلاً عنه أو ولیاً علیه، سواء بالنسبة إلی السجناء أو الخارجین عن السجن، ویصح کونه شاهد الطلاق، أو النکاح المستحب الإشهاد فیه، وکذلک بالنسبة إلی کونه وصیاً أو موصیاً أو متولیاً لوقف أو ما أشبه ذلک.

ص:467

الثالث: کونه شاهداً تحملاً أو أداءً، سواء للداخلین فی السجن أو الخارجین عنه، إذ من الممکن تحمل الشهادة بواسطة التلفون، نعم استشکلنا فی (الفقه) فی تحمل شهادة الطلاق بالنسبة إلی ما إذا کان الشهود فی غیر محل المطلق بسبب التلفونات المتعددة الخطوط.

الرابع: ممارسة الخطابة والتعلیم والکتابة للجرائد والمجلات، وإلقاء الخطب والتمثیلیات، لمن فی داخل السجن أو لمن فی خارجه، بواسطة الرادیو أو التلفزیون أو ما إلی ذلک.

الخامس: ممارسة المهن، کالتجارة والحدادة والنقش وصنع المصنوعات وغیرها، وکذلک لا یمنع عن مطالعة الکتب والتألیف ونحو ذلک.

السادس: لزوم وجود محل للتمشی والریاضیة فی السجن.

السابع: السماح له بجعل محله مرکزاً لتعلیق اللوحات وصنع سائر الزخرفات وجعل المزهریات والنافورة فیه، وکذلک محلاً للحیوانات الألیفة وغیر الألیفة مما تحفظ فی الأقفاص کالهرة والدجاجة والأوزة وطیور الحب والبلابل، بل وحتی مثل الفهد وما أشبه ذلک.

الثامن: أن یسمح للسجین بزیارة عائلته له فی أی وقت شاءوا، وکذلک بالنسبة إلی المرأة زیارة زوجها لها کما یسمح للسجین ببقاء عائلته معه، وقد ورد أن علیاً (علیه الصلاة والسلام) أجاز لعائلة السجین أن یکونوا معه، ففی الجعفریات بسنده إلی جعفر بن محمد، عن أبیه، عن جده، عن علی (علیهم الصلاة والسلام): «إن امرأة استعدت علیاً (علیه السلام) علی زوجها، فأمر علی (علیه السلام) بحبسه، وذلک الزوج لا ینفق

ص:468

علیها إضراراً بها، فقال الزوج: احبسها معی، فقال علی (علیه الصلاة والسلام): لک ذلک انطلقی معه»((1)).

التاسع: فصل السجناء بعضهم من بعض، من الرجال والنساء، والصبیان فیما إذا کان خوف الفتنة أو المشکلة، وکذلک فصل الخطرین منهم من غیرهم، بل وفصل المؤذی للسجناء بسبب جنون أو نحوه، أما إذا لم یکن محذور کما إذا شاءت العائلة أن تکون مع ولی أمرها فلا بأس بسجنهم جمیعاً فی مکان واحد وإن کان فیهم أنواع مختلفة.

العاشر: یلزم توفیر الشروط الصحیة للسجناء، من حیث السعة والهواء والإضاءة والتدفئة والتهویة والأدوات الصحیة لقضاء حاجة السجناء، مع لیاقتها ونظافتها وتهیئة حمامات کافیة یراعی فیها الفصول السنویة، فیتوفر فیها الماء الحار والماء البارد، ویکون الذهاب إلی الحمام حسب رأی السجین، واللازم صیانة هذه الأماکن ونظافتها.

الحادی عشر: تزوید السجین بالمأکل والمشرب والملبس بما یناسبه ویناسب الفصول کالصیف والشتاء ونحوهما، وکذلک تزویده بالطبیب والدواء قدر احتیاجه إلیه، کل ذلک فی سعة ورفاه.

نعم ورد فی الشریعة التضییق علی بعض السجناء، وذلک لرجاء أن الضیق یؤدی إلی الانقلاع کما هو الغالب فیخرج من السجن بانقلاعه.

ویدل علی المستثنی منه بالإضافة إلی القواعد العامة، ما ورد عن جعفر، عن أبیه (علیهما السلام): إن علی بن أبی طالب (صلوات الله علیه) لما قتله ابن ملجم قال: «احبسوا هذا الأسیر وأطعموه وأحسنوا إساره، فإن عشت فأنا أولی بما صنع بی، إن شئت استقدت وإن شئت عفوت وإن شئت صالحت، وإن متّ فذلک إلیکم، فإن

ص:469


1- مستدرک الوسائل: ج13 ص432 ب6 ح15821

بدا لکم أن تقتلوه فلا تمثلوا به»((1)).

لکن لا یخفی أن الإمام (علیه الصلاة والسلام) أحب أن یعفوا أولیاؤه عن ابن ملجم، کما فی کلام له فی نهج البلاغة، وفیه: «أنا بالأمس صاحبکم، والیوم عبرة لکم، وغداً مفارقکم، إن أبق فأنا ولی دمی، وإن أفن فالفناء میعادی، وإن أعف فالعفو لی قربة وهو لکم حسنة فاعفوا ﴿ألا تحبون أن یغفر الله لکم﴾((2))»((3))، إلی آخر کلامه.

وأما المستثنی فهو المولی إذا أبی أن یفیء أو یطلق، ففی خبر غیاث بن إبراهیم، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: «کان أمیر المؤمنین (علیه السلام) إذا أبی المؤلی أن یطلق جعل له حظیرة من قصب وأعطاه ربع قوته حتی یطلق»((4)). ومن المعلوم أن هذا التشدید إنما هو من جهة أنه یطلق أو یرجع فیخرج من السجن.

وفی روایة أخری: «إنه إن فاء وهو أن یرجع إلی الجماع، وإلاّ حبس فی حظیرة من قصب، وشدد علیه فی المأکل والمشرب حتی یطلّق»((5)).

الثانی عشر: یسمح لتلامیذه إذا کان مدرساً ولرواد منبره إذا کان خطیباً فی الحضور عنده لإلقاء الدرس علیهم أو إلقاء المواعظ، وکذلک یسمح لمن یباحثون معه بارتیاد السجن أوقات المباحثة بشرط عدم إیذاء الآخرین.

الثالث عشر: إذا کان السجین فی حالة انحراف نفسی لزم السماح له بالطبیب النفسی، وکذا إذا لم یکن یشعر هو بذلک أحضرت له إدارة السجن الطبیب النفسی، وإذا احتاج إلی النقل إلی المستشفی للعلاج نقل إلیه، وإذا کان امرأة ولها ولادة ولم یکن یتیسر فی السجن نقلت إلی دار الولادة.

الرابع عشر: یلزم أن یکون فی سجون النساء أماکن خاصة

ص:470


1- وسائل الشیعة: ج29 ص127 ب62 ح35314
2- سورة النور: 22
3- نهج البلاغة: الرسائل 23
4- الکافی: ج6 ص133 ح13
5- من لا یحضره الفقیه: ج3 ص524 ذیل ح4824

لرعایتهن وعلاجهن قبل وأثناء وبعد الولادة، ویسمح للأمهات الارتباط بأطفالهن، وتهیأ أماکن خاصة للحضانة کما إذا کانت فی خارج السجن.

الخامس عشر: یلزم أن یکون هناک مفتش عن أحوال السجناء وأنه هل تطبق القوانین المرتبطة برعایة السجین فی کل النواحی المذکورة أم لا، واللازم أن لا یکون المفتش من نفس خط إدارة السجن لإمکان تواطئهم علی السجین، بل اللازم أن یکون من خط آخر کحزب آخر أو ما أشبه ذلک، وإذا رأی المفتش النقص ورأی أن إدارة السجن لا تهتم بالتکمیل لما یقوله المفتش من النواقص رفع المفتش الأمر إلی ما فوق لإصلاح تلک النواقص.

السادس عشر: لا یحق لإدارة السجن تأدیب السجناء، بل اللازم عند إساءتهم مراجعة الشرطة، فیفرض أن السجین إنسان حر فی خارج السجن فکیف کان یعامل إذا کان هناک، یعامل کذلک داخل السجن، ولا حق لإدارة السجن إعطاء الصلاحیة لبعض السجناء فی تأدیب سجناء آخرین، نعم لا بأس بتدریس بعض السجناء لبعضهم، أو عقدهم حلقات دینیة، أو سیاسیة أو اجتماعیة أو اقتصادیة أو غیرها، یدیرها بعض السجناء الآخرین.

السابع عشر: إذا فعل السجین ما یخالف القانون الشرعی أجریت علیه العقوبات ونحوها، کما یجری عند الشرطة والمحاکم فی خارج السجن، وإذا أراد السجین أخذ محامی الدفاع کان له ذلک، ولو احتاج إلی مترجم کان له ذلک، ثم إذا کان له مال صرف من مال نفسه وإلاّ فالصرف من مال السجن.

ص:471

الثامن عشر: یمنع منعاً باتاً العقوبات اللا إنسانیة والقاسیة لإدارة السجن بالنسبة إلی السجناء لو کانت الحجة التأدیب، فلا یجوز وضع السجین فی زنزانة منفردة، ولا فی مکان مظلم، ولا ملئ الزنزانة بالماء، ولا ربطه بالحائط، أو ما أشبه ذلک من وسائل التعذیب، کما یمنع وسائل الإکراه فی السلاسل والأغلال والتثقیل بالحدید.

التاسع عشر: یعطی کل سجین تعلیمات السجن کتابة لمن یعرف القراءة، وبواسطة الأشرطة الصوتیة لمن لا یعرف الکتابة.

العشرون: یلزم تهیئة الفرص أمام کل سجین بتقدیم التماساته وشکاواه فی کل یوم أراد ذلک إلی مدیر السجن أو إلی المفتش أو إلی غیرهما ممن یهتم بالأمر، کما أنه یجب إخبار المسجونین بجواز الاتصال بأسرهم وأصدقائهم بمراسلة أو زیارة أو نحو ذلک، وإذا جاء إنسان إلی السجین فلا یحق لإدارة السجن الإنصات إلیهما أو جعل حاجز من زجاج أو ما أشبه فاصلاً بینهما، من غیر فرق بین أن یکون المسجون من أهل البلد أو من غیر أهل البلد، کما أنه إذا أراد الاتصال بمحام أو جمعیة خیریة أو هیئة أو ما أشبه یجب تلبیة طلبه، نعم إذا کان المسجون خطراً حسب حکم الحاکم الشرعی کتابة کان لإدارة السجن تحدیده فی الاتصالات بالقدر الذی قرره الحاکم فی کتابة رسمیة.

الواحد والعشرون: یسمح للمسجونین بالاطلاع علی الأنباء بوسائل الاطلاع کالصحف والإذاعة والتلفزیون والنشرات والفیدیوات وما أشبه، کما أنه یلزم إیجاد مکتبة حافلة لجمیع المساجین سواء الرجال أو النساء أو الأطفال، مزودة بکل الکتب التی یحتاجها المساجین، ولو احتاج

ص:472

المسجون إلی کتاب آخر لیس فی المکتبة یلزم علی إدارة السجن تحصیل الکتاب له، سواء بماله إن کان له مال، أو بمال إدارة السجن.

کما یلزم السماح لکل مسجون بممارسة أموره الدینیة من صلاة وصیام وحیازة للقرآن الکریم والکتب الدینیة ککتب الأدعیة وما أشبه، کما أنه إذا أراد المسجون ممثلاً دینیاً یلزم تزویده به، ویسمح للمسجونین بالقیام بصلاة الجماعة سواء أمّ بعضهم بعضاً أو جاء الإمام من الخارج، وفی أیام شهر رمضان یحضر لهم الطعام فطوراً وسحوراً بالنسبة إلی الصائمین، وفی أیام الحج یلزم السماح للمستطیع بالحج مع أخذ کفالة أو ما أشبه لرجوعه إلی السجن، کما یلزم السماح له بوفاء نذره من زیارة بعض المراقد المقدسة مع أخذ الکفیل أو ما أشبه ذلک، وکذلک إذا کان نذره الاعتکاف، وإذا أراد مکاناً انفرادیاً لنفسه لمطالعة أو حفظ أو عبادة أو ما أشبه وجب توفیره له، وغیر المسلم إذا کان له شعائر خاصة یلزم المسلم له بإداء شعائره أیضاً.

الثانی والعشرون: یمسح للسجین حضور الأعیاد الدینیة وسائر المراسیم المهمة کیوم وفاة الرسول (صلی الله علیه وآله) وسائر المعصومین (علیهم الصلاة والسلام)، کما یسمح له بحضور زیارة مرضاه، وتشییع جنائزهم، وحضور أعراسهم، ونحو ذلک مع الکفیل أو نحوه.

فعن الجعفریات، بسنده إلی جعفر بن محمد، عن أبیه (علیهما السلام): «إن علیاً (علیه السلام) کان یخرج أهل السجون من الحبس فی دین أو تهمة إلی الجمعة فیشهدونها ویضمنهم الأولیاء حتی یردونهم»((1)).

وعن ابن سنان، عن أبی عبد الله (علیه السلام) إنه قال: «علی الإمام أن یخرج المحبوسین فی الدین یوم الجمعة إلی الجمعة، ویوم العید إلی العید، فیرسل معهم، فإذا قضوا الصلاة والعید

ص:473


1- مستدرک الوسائل: ج6 ص27 ب17 ح6353

ردهم إلی السجن»((1))، إلی غیرهما من الروایات.

الثالث والعشرون: للسجین أن یطلب نقل سجنه من مکان إلی مکان آخر، إذا لم یکن محذور للحاکم فی ذلک، مثلاً کان سجیناً فی بغداد فیطلب نقله إلی البصرة أو بالعکس، فإن کلی السجن من حق الحاکم لا بخصوصیاته، بل احتملنا فی (الفقه) صحة السجون الأقساطیة، والسجون فی بیت أو نحوه إذا أراد السجین ذلک ولو دار نفسه إذا لم یکن له تکلیف زائد علی الدولة، أو کان السجین بنفسه یتحمل التکالیف الزائدة، أو یستعد السجین أن یربط بسلسلة طویلة ونحوها وتربط السلسلة بالحائط ونحوه مما لا یمکن هروبه، أو أنه یعطی الکلام أن لا یهرب والحاکم یعلم أن کلامه صحیح، إلی غیر ذلک.

الرابع والعشرون: یلزم حفظ ما هو ملک السجین من نقوده وملابسه وساعته والأشیاء الثمینة وإثباتها بقائمة یوقع علیها توقیعاً رسمیاً ویرجعها له عند الخروج واستلام وصل منه.

کما أنه لیس من حق إدارة السجن الضغط علی السجین بأن یلبس ملابس خاصة وإنما هو حسب اختیاره، أما ما یرسل له من الخارج فهو علی الأصل من الإباحة إلاّ إذا کان محذور فی ذلک، کما أنه إذا کانت هناک مواد مخدرة أو أدویة مضرة فلإدارة السجن المنع عنها، إلاّ إذا کان من الضروریات للسجین حسب رأی الطبیب الأخصائی.

الخامس والعشرون: یلزم إخبار أسرة السجین بحبسه ابتداءً، کما أنه یلزم إخبارهم بمرض السجین أو موته أو نقله إلی سجن آخر أو ما أشبه ذلک، کما یلزم إخبار السجین نفسه بموت أحد أقربائه أو مرضه،

ص:474


1- من لا یحضره الفقیه: ج3 ص31 ح3265

وقد تقدم أنه یلزم الأذن للسجین بزیارة المریض وتشییع القریب، إلی غیر ذلک مما تقدم.

وإذا أرید نقله إلی مکان آخر یجب أن یکون النقل بواسطة مریحة، والمصارف علی نفسه إن أراد هو النقل وکان قادراً علی المصارف، وإلاّ فعلی إدارة السجن.

السادس والعشرون: یلزم أن یکون موظفو السجن علی مستوی ثقافی وذهنی لائق، ولهم أبدان صحیحة، وأن یجتازوا تدریبا عاماً وتخصصاً قبل توظیفهم، وأن یحفظوا علی هذا المستوی ویعملوا الرفعة أثناء الخدمة، وأن یمرنوا حتی یکونوا قدوة حسنة للمسجونین فی سلوکهم، وأن یکونوا ذوی کفاءة وإنسانیة وأخلاق.

کما أنه یلزم توعیة السجانین والرأی العام بمهمة السجون، وتستخدم الوسائل المناسبة لذلک، ویجب أن یکون موظفو السجون متفرغین وأن یتمتعوا بحقوق موظف الدولة المدنیین، وتکون رواتبهم کافیة نظراً لعملهم الشاق، بل فوق الکفایة حتی یسبب ذلک الرفاه لهم مما ینعکس إلی أخلاقهم، کما یلزم أن یعطوا مکافئات نقدیة وغیر نقدیة علی حسن خدمتهم، کما أن من تلک المکافئات السماح لهم بالغیاب وما أشبه بما لا یسمح لسائر الموظفین، فإن عملهم الشاق یقتضی کل ذلک.

ویلزم أن یضم إلی مدیر السجن وسائر الموظفین أخصائیین بعلم النفس وعلم الاجتماع وبالصناعة وبالأمراض العقلیة والأطباء وما أشبه، وذلک بصورة مستمرة حتی یمکن تربیة السجین وتعلیمه والارتفاع بمستواه مما یجعله فی المستقبل عضواً صالحاً فی الاجتماع، واللازم أن یکون هناک طبیب واحد علی صورة الخفر دائماً مع المساجین للطوارئ المحتملة.

السابع والعشرون: یلزم أن یکون مدیر وموظف السجن للرجال

ص:475

رجالاً، وللنساء نساءاً، فلا یجوز استخدام موظفات لإدارة سجون الرجال، ولا موظفین لإدارة سجون النساء، کما یلزم أن یکون الرجال متزوجین والنساء متزوجات، وإذا أراد کل واحد منهم الکون مع عائلته فی مکان من نفس ردهات السجن الخارجیة یلزم توفیر ذلک لهم، وفی سجن الأحداث لا یختلط البنون والبنات، فإن ذلک ینتهی إلی المفسدة، بل اللازم أن یکون للبنین سجن خاص وللبنات سجن خاص.

الثامن والعشرون: لو جن السجین یجب نقله للعلاج، فإن لم یمکن علاجه نقل إلی دار المجانین، کما أنه إذا خیف علیه من الجنون أو الأمراض المستعصیة یجب إعفاؤه من السجن.

التاسع والعشرون: یمنع کافة الموظفین المتواجدین فی المؤسسات السجنیة من استعمال القوة إلاّ فی حالة الدفاع عن النفس، أو محاولة هرب السجین، أو محاولته أذیة الغیر، وإذا اضطروا لاستعمال القوة فبالقدر الضروری، مع تبلیغ الحادث لمدیر المؤسسة فوراً، کما یلزم تدریب موظف السجن تدریباً بدنیاً خاصاً لمقاومة المسجونین المعتدین، ولا یجوز للموظف حمل السلاح أبداً إلاّ بإجازة خطیة خاصة بشرط أن یکون أیضاً مدرباً علی استعماله، وضابطاً للنفس مما یؤمن من استعماله اعتباطاً.

الثلاثون: یلزم أن تکون بنایة السجن الداخلیة بنایة محکمة غیر قابلة للتخریب، ولا یتمکن بعض السجناء من تخریب البنایة من الداخل، کما یلزم أن لا یکون داخل السجن آلات یمکن التخریب بها، أو یمکن تجریح بعضهم بعضا، أو تجریح بعضهم لنفسه، أو شنق نفسه بسبب حبل أو ما أشبه.

ویلزم علی إدارة السجن ومن فوقهم باعتبار السجین جزءاً من

ص:476

المجتمع ولیس بمنبوذ منه، معالجة السجین بالمعالجات التربویة والأخلاقیة وفقاً للعلاج الفردی والاجتماعی لکل سجین سجین.

ویجب تجنید المجتمع لتأهیل السجین اجتماعیاً بعد خروجه، وأن یعهد لباحثین اجتماعیین بمهمة المحافظة علی صلات السجین بأسرته أو بالهیئات التی تعمل علی إفادته باتخاذ الخطوات لحمایة حقوق السجین المدنیة وحقوقه فی الضمان الاجتماعی فی حدود الشریعة المقدسة، کما أنه من المحبذ أن یکون هناک جماعات معترف بها من قبل الدولة لمتابعة حقوق السجناء وزیارتهم والترفیه عنهم وإصلاحهم لینتقلوا إلی المجتمع وهم أفراد صالحون منه.

وبذلک یظهر أن واجب القاضی الذی یحکم بالسجن لا ینتهی بالحکم، بل یجب علیه متابعة السجناء بسبب معاونیه وبسبب هیئات حکومیة لتأهیل المسجون اجتماعیاً ممن یکونون مرافقین له بین فترة وأخری، بدون تحامل علیه أو إعادة تفکیره بذنبه، وإنما لتنظیف نفسه وتزکیة روحه، ویخلق فی السجناء الرغبة فی أن یعیشوا فی ظل القانون ویحولوا أنفسهم وأن ینمی فیهم الشعور المسؤولیة واحترام النفس والمجتمع.

الثانی والثلاثون: یلزم إعداد إدارة السجون السجین للعمل وفق استعداده الجسمی والعقلی، وتوفیر العمل الکافی له مما یستوعب نشاطه، ویکون العمل مما یساعده لنفسه ولعائلته فی کسب أرزاقهم بطرق شریفة، ویوفر لهم التدریب المهنی للقابلین خصوصاً صغار السن علی أن یختاروا هم نوع العمل، لا أن یکون الأمر بالإکراه، ویکون العمل علی عمل مثله فی الخارج حتی یعد المسجون إعداداً مُرضیاً للحیاة الطبیعیة.

ومن اللازم تقدیم مصلحة المسجونین علی ربح المؤسسة من صناعة ما، کما یلزم إعداد

ص:477

الدراسة بالنسبة إلی الدارسین والأمیین والصغار وما أشبه حتی لا تضیع أوقاتهم بدون دراسة لمن یرغب فیها.

الثالث والثلاثون: یلزم تحدید ساعات العمل للعمال یومیاً وأسبوعیاً وشهریاً بنفس قانون العرف المحلی للعمال غیر المسجونین، وتخصیص یوم للراحة أسبوعیاً ووقت کاف لأوجه النشاط الأخری التی یزاولها السجناء، کما یجب أن یعطوا فرصة الأعیاد وهم داخل السجون حتی یعدوا أنفسهم، فهم جزء من المجتمع فی أفراحهم وأتراحهم.

الرابع والثلاثون: إذا عمل السجین أعمالاً یدویة أو علمیة کأن یکون مدرساً أو ما أشبه یکافأ مکافئة عادلة وفق النظام فی الخارج، ویسمح له بإنفاق شیء من مکسبه علی حاجاته غیر الممنوعة، وإرسال جزء لعائلته، وتحتفظ المؤسسة بجزء من مکاسبه له((1)) یتسلمه عند الخروج، سواء عند نفسه أو عند مصرف من المصارف.

الخامس والثلاثون: یلزم علی إدارة السجن والهیئات المرتبطة بالسجین کالقاضی وغیره، التفکیر بمستقبل السجین والعنایة بذلک منذ بدء سجنه، ویلزم علیهم تشجیع السجین حتی یکون علی اتصال بالهیئات المفیدة له ولأسرته وبتأهیله اجتماعیاً.

السادس والثلاثون: یمنع سجن المجنون الأطباقی بکل أقسامه حتی المعتوه وما أشبه، أما المجنون أدواراً فإنه یجوز سجنه فی حال دور إفاقته، کما یمنع سجن من ارتکب الجریمة وهو مرفوع عنه التکلیف کالمکره والمضطر والملجأ ونحوهم.

ص:478


1- حفظ المؤسسة بجزء من راتبه مشروط برضا السجین

السابع والثلاثون: إذا مات السجین بسبب انهدام السجن علیه أو بسبب طغیان الماء أو الکهرباء أو بسبب سیل أو زلزال أو برکان أو ما أشبه ذلک مما کانت إدارة السجن علی ظن بوقوعها أو ما أشبه، کانت دیته علی إدارة السجن، کما أن الأمر کذلک فیما إذا نقص عضو منه أو ذهبت قوة من قواه کأن عمی مثلاً.

أما الموت الطبیعی فلیس علی إدارة السجن شیء.

ولا یخفی أن تحمل الإدارة دیة من ذکرناه إنما هو فیما ینطبق علی الموازین المذکورة، قال الشیخ فی الخلاف: (إذا أخذ صغیراً فحبسه ظلماً فوقع علیه حائط أو قتله سبع أو لسعته حیة أو عقرب فمات کان علیه ضمانه، وبه قال أبو حنیفة، وقال الشافعی: لا ضمان علیه، دلیلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، وأیضاً طریق الاحتیاط تقتضیه، وأما إذا مات حتف أنفه فلا ضمان علیه بلا خلاف)((1)).

وقال العلامة فی القواعد: (لو حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة لا یحتمل مثله البقاء فیها فمات، أو أعقبه مرضا مات به، أو ضعف قوة حتی تلف بسببه فهو عمد، ویختلف ذلک باختلاف الناس وقواهم واختلاف الأحوال والأزمان، فالریان فی البرد یصبر ما لا یصبر العطشان فی الحر، وبارد المزاج یصبر علی الجوع أکثر من حاره. ولو حبس الجائع حتی مات جوعاً فإن علم جوعه لزمه القصاص، کما لو ضرب مریضاً ضرباً یقتل المریض دون الصحیح، وإن جهله ففی القصاص إشکال، فإن نفیناه ففی إیجاب کل الدیة أو نصفها إحالة للهلاک علی الجوعین إشکال) ((2)).

الثامن والثلاثون: الجرائم التی یرتکبها السمجونون داخل السجون لها عقاب سائر الناس، فالقوانین بالنسبة إلیهم وإلی غیرهم واحدة.

ص:479


1- الخلاف: ج5 ص161
2- قواع د الأحکام فی معرفة الحلال والحرام: ج3 ص584

التاسع والثلاثون: کل أقسام السجن علی وتیرة واحدة من الأحکام التی ذکرناها، فإن السجن فی الإسلام علی ثلاثة أقسام:

الأول: السجن الاحتیاطی، وهو یتخذ من قبل الحاکم حول المتهم حتی یظهر براءته أو تجریمه، کما ورد من أن رسول الله (صلی الله علیه وآله) کان یسجن فی تهمة الدم ستة أیام((1))، وورد أن علیاً (علیه الصلاة والسلام) حبس متهماً بالقتل حتی نظر فی أمر المتهمین معه((2))، ولا یخص هذا الشیء الاتهام فی القتل، بل یسری فی غیره حسب الملاک، فقد روی أن علیاً (علیه الصلاة والسلام) قضی فی الدین أن یحبس صاحبه فإن تبین إفلاسه والحاجة یخلی سبیله حتی یستفید مالاً((3)).

الثانی: الحبس الحقوقی، وهو الحبس من أجل ذهابه بحقوق الناس، وهو قسم من الجریمة أیضاً، فقد روی أن أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) کان یحبس ثلاثة، رجلاً أکل مال الیتیم، أو غصبه، أو أؤتمن علی أمانة فذهب بها((4)).

الثالث: السجن الجنائی، وهو السجن الذی یسجن به الجناة، وقد ذکرناه جملة من أمثلته فی کتاب الحدود، مثل ما روی أن علیاً (علیه الصلاة والسلام) قضی فی أربعة تباعجوا بالسکاکین وهم سکاری فسجنهم حتی یفیقوا، فمات منهم اثنان وبقی اثنان، فقضی بالدیة علی الأربعة وأخذ جراحة الباقین من دیة المقتولین((5)).

وإنما قلنا بأن السجن لکل هؤلاء علی قرار واحد، لأن الأدلة العامة تجری فی کل أقسام هؤلاء المساجین.

((من آداب القاضی الجدید))

((من آداب القاضی الجدید))

وفی خاتمة هذا المبحث نذکر أنه من آداب القاضی الجدید أن ینظر فی حال المسجونین بأمر القاضی السابق، وذلک لأن لا یبقی فی السجن شخص

ص:480


1- وسائل الشیعة: ج29 ص160 ب12 ح35378
2- انظر من لا یحضره الفقیه: ج3 ص28 ح3258
3- راجع تهذیب الأحکام: ج6 ص299 ب92 ح43
4- انظر الکافی: ج7 ص263 باب النوادر ح21
5- راجع بحار الأنوار: ج40 ص264 ب97 ح33 عن الإرشاد

بریء أو من انتهی سجنه، ففی المبسوط قال: (إذا جلس القاضی للقضاء فأول شیء ینظر فیه حال المسجونین فی سجن معزول، لأن السجن عذاب فیخلصهم منه، ولأنه قد یکون منهم من تم علیه الحبس بغیر حق)((1)).

وفی شرائع الإسلام: (ثم یسأل عن أهل السجون ویثبت أسماءهم وینادی فی البلد بذلک لیحضر الخصوم ویجعل لذلک وقتاً، فإذا اجتمعوا أخرج اسم واحد واحد ویسأله عن موجب حبسه، وعرض قوله علی خصمه فإن ثبت لحبسه موجب أعاده، وإلاّ أشاع حاله بحیث إن لم یظهر له خصم أطلقه، وکذا لو أحضر محبوساً فقال لا خصم لی، فإنه ینادی فی البلد فإن لم یظهر له خصم أطلقه وقیل یحلفه مع ذلک)((2)).

وکذا ذکر غیرهما من الفقهاء، وهکذا الأمر عند علماء السنة فقد قال أبو إسحاق الشیرازی وهو من أعاظم فقهاء السنة: (ویستحب أن یبدأ القاضی فی نظرة المسجونین لأن الحبس عقوبة عذاب وربما کان فیهم من تجب تخلیته).

ص:481


1- راجع المبسوط فی فقه الإمامیة: ج8 ص91 کتاب آداب القاضی، وفیه: (فإذا جلس للقضاء فأول شی ء ینظر فیه حال المحبسین فی حبس المعزول لأن الحبس عذاب فیخلصهم منه، و لأنه قد یکون منهم من تمّ علیه الحبس بغیر حق)
2- شرائع الإسلام: ج4 ص65

((الحق اعتبار عقلائی))

اشارة

((الحق اعتبار عقلائی))

(مسألة): الحق اعتبار یعتبره العقلاء، سواء علی العین أو علی غیر العین، کما تقدم الألماع إلیه.

مثل حق الملکیة وحق استعماله وحق استغلاله وحق التصرف فیه، وحق القسم للزوجة وحق القصاص وحق التقاص إلی غیرها مما هو کثیر، وذکرنا بعضها فی تتمة کتاب الإرث.

فقد یکون لإنسان التصرف فی الدار بالسکنی ونحوه، وقد یکون له إیجارها واستغلالها، وقد یکون له حق الاستعمال بأن یکون له حق أن یرهنها فقط فلا یتمکن من التصرف فیها بالسکنی ونحوه ولا استغلالها بأخذ غلتها وفائدتها، وقد یکون له حق أصل الملک فقط لکون الملک محجوراً، والأقسام کثیرة لا نرید التفصیل فیها.

وإنما القصد أنه حسب العرف وقد یؤیده الشرع وقد لا یؤیده، کما قد یجعل الشرع حقاً دون العرف، فبینهما عموم من وجه، وقد أحدث العرف فی الآونة الأخیرة بعض الحقوق مما لم یکن فی السابق، وحیث إن الشرع قال: (لا یبطل الحق) ولا حاجة إلی تحقق الموضوع فی زمان الشارع، بل کلما وجد الموضوع وجد الحکم، فمقتضی القاعدة أن اللازم مراعاة مثل هذا الحق، ونحن نذکر فی هذه المسألة بعض الحقوق الحدیثة إجمالاً، لأن الکلام لیس فی المباحث الاجتهادیة حتی نفصل، کما أن الإلماع هو لأجل التمرین لا لأجل أن مثل ذلک من صمیم الکتاب الذی وضع مدخلاً للحقوق:

((حق التألیف))

((حق التألیف))

فمنها: حق التألیف، فإنه لما ظهرت المطابع وانتشرت الکتب صار موضع النفع والضرر ، وکذلک غیر الکتب مما نتکلم حول بعضه، فحدث هذا الحق عرفاً.

وکیف کان فالحق الأدبی مقابل الحق العینی، کالتألیف للإنسان، وله أن یبیعه وإذا باعه لا حق له فی التغییر والإتلاف إلاّ بالإقالة والاستقالة، بینما قبل ذلک له الحق، أما بدون البیع فله ذلک دون ورثته، فإنه حق خاص به.

کما یرد علی هذا

ص:482

الحق الصلح والهبة معوضة وغیر معوضة، ویأتی فیه خیار الغبن والعیب والرؤیة وبعض الخیارات الأخر، ویکون إرثاً ترث حتی الزوجة منه حسب موازین الإرث، ویکون منه الثلث والوصیة.

وللمؤلف أن یسقط حقه کما له أن یبع بأن یسقطه بالنسبة، سواء لدار نشر خاص أو شخص خاص أو مطلقاً، وأن یوقفه وأن یجعله ثلثاً، وهل حقه مؤبد أو حسب رؤیة العرف، الظاهر الثانی، فهو کالملک کما یری العرف أن ملکیة دار زید لا تکون مستوعبة للاطباق فوقها إلی السماء، أو تحتها إلی تخوم الأرض، وإنما هی محدودة بحدود عرفیة، کما ذکرناه فی (إحیاء الموات) کذلک فی المقام.

وهل یحق له الاحتکار، الظاهر العدم، لإطلاق أدلة الضرر، فإنه وإن لم یکن من الاحتکار الخاص لکنه من الاحتکار العام، کما ذکرناه فی (الفقه).

وعلیه فله أن یبیعه بأکثر من قیمته فی غیر مورد الاحتکار لا فی مورده، حاله حال الخبز لمالکه أن یبیعه بالأکثر إلاّ فی مورد الضرر والضرورة کأکل المخمصة.

وهل له منعه بعد انتشاره، مثلاً الشیخ المرتضی (رحمه الله) نشر الرسائل ثم یرید منع النشر بعد ذلک، یأتی فیه نفس الکلام فی الاحتکار.

((حقوق أخری))

((حقوق أخری))

ومن قبیل حق التألیف حق الترجمة وحق الاقتباس وحق ترجمة الترجمة، کأن یترجم الکفایة إلی الفارسیة ومنها إلی الأردیة، وحق النشر، مثلاً نشر دار نشر الذریعة للسید المرتضی (رحمه الله) فی حلة قشیبة خاصة مما یعد من نتاج فکره وعمله، فله حق أن یمنع الآخرین من طبعه بهذه الحلة.

ولو ألف جماعة مؤلفاً واحداً إما ممتزجاً کما فی التآلیف التی یشترک فیها جماعة، أو ممیزاً کأن جمعوا مقالات أنفسهم فی کتاب، کان للجمیع حق واحد بالتساوی أو الاختلاف، فإذا کان لکل ربعه وباعوه بأربعة دنانیر کان لکل دینار، وإذا کان لأحدهم الثلث وللآخر السدس وللثالث النصف وباعوه بستة کان

ص:483

للأول دیناران وللثانی دینار وللثالث ثلاثة دنانیر.

ولو احتاج الناس إلی المؤلف لدین أو دنیا ومنع صاحبه، أجبره الحاکم، أو یکون کأکل المخمصة بدون حاجة إلی اجبار الحاکم.

وإذا لم یجعل المؤلف لنفسه الحق ومات لم یکن للوارث ذلک إذا کان الحق جعلیاً، أما إذا کان تلقائیاً یکون حاله کحال من لم یمنع الناس من أخذ الماء من ساقیته ثم یموت حیث یرثها الورثة، والظاهر الثانی لأنه مقتضی کونه حقاً إلاّ إذا أسقطه.

وإذا عمل مجنون عملاً فنیاً أو صغیر فالحق لهما یتولی أمرهما ولیهما.

ومثل هذا الحق لیس بخاص للتألیف بل یشمل حق مؤلف المصناف والمؤلفات، والفرق بینهما أن التألیف کجمع الأحادیث، والتصنیف هو الأمور العقلیة التی یذکرها مصنفها أو ما أشبه.

وعلی أی حال، فمثل التألیف بالکتابة تألیف الصوت أو الرسم أو التصویر أو الحرکة، والمراد بالحرکة المصنفات التی تؤدی بحرکات أو خطوات کالتمثیل والألعاب وتکون معدة مادیاً للإخراج.

ولو أسقط حقه أولاً ثم أراد الرجوع فیه، فالظاهر أنه لم یکن له ذلک، کما إذا اعرض عن أثاثه وألقاها فی الشارع ثم یرید الرجوع فیها بعد أن أخذها الناس، إلاّ إذا کان الرجوع قبل نشره من قبل الناس، فهو کما إذا رجع إلی أثاثه قبل أخذ الناس لها، أو أرجعوا الحق إلیه کما إذا أرجعوا الأثاث المأخوذة إلیه، فإنه کما ذکرناه مکرراً المقولات الاعتباریة إنما هی بإزاء المقولات الحقیقیة.

ویصح جعل الحق لنفسه فی أوقات خاصة کالشتاء، فللناس الاستفادة من نشر کتابه مثلاً صیفاً لا شتاءً، وهو بمعنی إعراضه عن حقه فی أوقات خاصة لا مطلقاً، فهو کما إذا أباح الاستفادة من داره فی أیام الزیارة لا مطلقاً.

((حق التسمیة))

((حق التسمیة))

ولو جعل اسماً خاصاً لکتابه أو مؤسسة أو جریدة أو ما أشبه، فإذا صار عرفاً حقه لم یحق لغیره التسمیة به فیما

ص:484

یکون معرضاً لضرب صاحب الاسم بسبب الاشتباه، مثلاً أخرج مجلة علمیة صارت معروفة ویتهافت الناس علیها وسماها (العلوم الکونیة) مثلاً، فإذا أخرج آخر مجلة بهذا الاسم صار سبباً لاشتباه وإضلال الناس باشترائهم تلک المجلة بدل هذه، ویتضرر صاحب المجلة الأولیة ببقاء نسخها عنده، فإنه یعد حینئذ حقاً عرفاً فلا یصح لغیره التسمیة بهذا الاسم، بخلاف ما لم یکن الأمر کذلک حیث یحق للغیر، لإطلاق سلطنة الناس، فإن الاعتبار من فروع النفس أو المال، ولذا یحق للإنسان أن یسمی نفسه بما شاء أو یسمی مؤسساته کذلک، فلا یقال إنه لیس بمال ولا نفس فمن أین الناس مسلطون علیه.

بل یشمله أیضاً (من سبق) ونحوه.

ومنه یعلم أنه فی محل المنع لو زاحمه اللاحق کان للسابق حق التعویض بسبب الضرر الذی لحقه بسبب ترویج بضاعته بالاسم السابق، فهو من مبدأ المزاحمة غیر المشروعة، فإن هذا وإن لم یکن وارداً فی نص أو إجماع إلاّ أن إطلاقات الأدلة التی ذکرناها کمن سبق وغیره یشمله.

وذلک فی قبال مبدأ المزاحمة المشروعة، کما إذا لم یکن الأمر بهذه المثابة.

وإذا ترک تلک الجریدة أو المجلة مثلاً حتی نسی الناس اسمها مما لم یکن بنظر العرف تسمیة جریدة أو مجلة جدیدة بالاسم السابق تصرفاً فی حق الأول، لم یکن بالنسبة إلی الثانی بأس.

ولا فرق فی عدم جواز التسمیة فی صورة قیام الجریدة أو المجلة، بین بقاء مؤسسها أو موته وإدارة ورثتها أو المشتری لها شؤون الجریدة أو المجلة، لبقاء الحق ما دام الشیء قائماً، فیحق لصاحب الحق بیعه أو إجارته مدة أو رهنه أو وقفه أو الصلح علیه أو هبته أو جعله ثلثاً أو ما أشبه.

((فروع))

((فروع))

ولو أراد إنسان الجمع من مصنفاف عدة مصنفین لزم استجازتهم أو استجازة ورثتهم أو من اشتری منهم، إلی غیر

ص:485

ذلک.

ثم المشتری لحق التألیف ونحوه قد یشتری بدون شرطه فله أن یبیعه أو ینقله إلی غیره، وقد یشتری بشرط بقائه عنده فلا یصح له بیعه، کما أنه قد یشتری قدر بقاء البائع أو المشتری فبعد موتهما ینتقل الحق إلی ورثة البائع.

ولو أرادت الحکومة غلق الجریدة أو المجلة أو منع الکتاب أو ما أشبه فهو خلاف حریة الناس، إلاّ إذا اقتضت المصلحة اللازمة ذلک، وحینئذ فعلی الحکومة التعویض، حاله حال أکل المخمصة، لأنه من الجمع بین الحقین.

وهل یجوز لمن یرد التألیف أن یجمع مثلاً خطب علی (علیه السلام) من (نهج البلاغة) علی غیر أسلوبه، مثلاً یجمعها علی الأسلوب الموضوعی، وفرضاً السید الرضی (رحمه الله) حاضر لا یرضی بذلک، لا یبعد المنع لأن الرضی جمعها فله حق اختصاصه، وصرف الجمع علی أسلوب آخر سرقة منه، وکذلک حال من یجمع الشرائع للمحقق مثلاً علی أسلوب آخر، إلی غیر ذلک

ولا یخفی أنه لا یجوز جمع القرآن الکریم علی غیر هذا الأسلوب بتقدیم وتأخیر سوره، ولا بجمع آیاته کذلک، مثلاً بجمع آیات موسی (علیه الصلاة والسلام) تباعاً، أو آیات الصلاة والزکاة کذلک فی تنسیق واحد، لکن ذلک إذا کان تحت عنوان أنه القرآن، لا ما إذا کان تحت عنوان جمع آیات موسی (علیه السلام) مثلاً.

ومن السرقة المحرمة أن یطبع الإنسان الکتاب باسمه لا باسم مؤلفه، أو یطبع دیوان الشاعر باسمه لا باسم الشاعر، أو باسم إنسان ثالث، بل وکذلک إذا قرأ الشعر فوق المنبر باعتبار أنه له لا للشاعر، إلی غیر ذلک.

ولو جعل أشعار السعدی فی بستانه أو المتنبی فی دیوانه قصصاً، أو جعل قصص کلیلة ودمنة أشعاراً، والمفروض أن صاحبها حی لا یرضی بذلک، فالظاهر عدم جوازه، نعم إذا کانت القصص موجودة فی غیر هذا الکتاب الناثر أو الشاعر جاز لأنه لم یتعد

ص:486

بحق أحد.

ومنه یعلم حال ما إذا جعل کتاباً علمیاً قصصاً، أو قصصاً کتاباً علمیاً، والمعیار أن یری العرف أنه تعد بحق المؤلف أو الشاعر فلا یجوز، أو لیس تعدیاً فیجوز.

فالقراءة بطور خطیب خاص إذا رأی العرف أنه تقلیده احتاج إلی إجازته، وکذلک إذا قرأ منابره التی ألقاها فی الأشرطة أو سجلها من تحت المنبر، وهکذا حال ما إذا جعل أشرطته فی الرادیو أو التلفزیون أو الفیدیو، ومثلها ما إذا کان یأخذ من الرادیو ویسجلها فی الأشرطة بدون رضا الخطیب، ولو رد الکتاب غیر الأدبی فی حلة أدبیة فهو من حق المؤلف الأول ویحتاج إلی إجازته، وهکذا إذا جعل الکتاب العامی أدبیاً، أو الأدبی عامیاً، أو یجعل الشعر القریض عامیاً أو ،بالعکس نعم إذا لم یکن ابتکار من الشاعر والناثر وإنما هو أخذ من الأمثلة والحکم وما أشبه لم یکن تعدیاً لحقه، مثلاً جعل شعر:

کل ابن انثی وإن طالت سلامته

یوماً علی آلة حدباء محمول

بهذا المعنی فی قالب آخر.

ومن التعدی بحق الآخرین تغییر بعض ألفاظ الشعر أو النثر، مثلاً یجعل:

قال محمد هو ابن مالک

أحمد ربی الله خیر مالک

هکذا:

قال محمد هو ابن العلم

أحمد ربی الله خیر منعم

وإذا شک العرف فی أنه حق أم لا، فالأصل العدم، فإنه ما لم یثبت الموضوع لم یثبت الحکم.

ثم إذا أعاد المؤلف أشعار المصنف السابق، ولکن بعد إضافة إلیه من شرح أو تعلیق أو تعریف أو بعد تحویره وتعدیله عن

ص:487

طریق المراجعة والتنقیح أو بعد تحقیق دقیق ومقارنة ما بین مختلف مخطوطاته، وهذا ما یعرف بنشر المخطوطات القدیمة فإنه یجب علی المصنف اللاحق أن یستأذن مؤلف المصنف السابق أو ورثته قبل نشره الکتاب، مشروحاً أو معلقاً علیه أو معرفاً أو معدلاً بعد المراجعة والتنقیح.

أما إذا کان فی صدد رد الکتاب السابق فیما یستحق الرد فلیس من حق المؤلف السابق أن یمنعه عن ذلک.

وإذا عمد مؤلف المصنف اللاحق لا لأجل إظهار المصنف السابق کما هو ولو بعد الإضافة أو التنقیح أو التحقیق بل للاقتباس منه عن طریق التلخیص أو عن طریق التحویل من لون من ألوان الآداب أو العلوم أو الفنون إلی لون آخر، فإنه یجب علی المصنف اللاحق أن یستأذن المصنف السابق أو خلفاءه أیضاً قبل نشر التلخیص أو التحویل، إلی غیر ذلک.

وطبع الشخص لمصنفات القدماء الذی لم یکن لها ذو حق لا بأس به، أما أخذ الثانی أسلوبه فلا یحق إلاّ إذا بذل الشخص الثانی جهداً جدیداً فی جمع هذه المصنفات التی ترجع إلی عهد واحد بعضها مع بعض، لیدل بذلک علی ممیزات ذلک العهد، أو وضع المصنفات التی وضعها مؤلف واحد مرتبة بحسب أدوار تاریخ هذا المؤلف، لیدل بذلک علی ما وقع من تطور فی أسلوب هذا المؤلف أو فی تفکیره أو ما أشبه ذلک، فإنه یوجب حق الاختصاص، وکذلک إذا طبعها فی حلة خاصة علی ما تقدمت الإشارة إلیه.

ومثل ذلک ما إذا جمع الشخص القوانین والقرارات واللوائح الصادرة من دولة ما مرتبة بحسب موضوعاتها، أو رتبها ترتیباً أبجدیاً بحیث یتیسر الباحث أن یجد الموضوع الذی یریده من طریق الترتیب الأبجدی، أو أن یجد القوانین وغیرها من

ص:488

مراسیم وقرارات ولوائح مدونة تحت هذا الموضوع أو ذاک، إلی غیر ذلک مما یشبه الابتکار فی الجمع.

وهکذا حال من یجمع مختارات من الشعر والنثر وغیرها من المجموعات مما کانت منقولة عن مصنفات سابقة فی الشعر والنثر وغیرهما من فنون الأدب، أو من مصنفات علمیة فیما إذا أضفی علیها ابتکاراً جدیداً، فلابد للمؤلف الذی جمع هذه المختارات من أن یأذن لغیره فی الاقتفاء لهذا الابتکار.

((فنون الرسم والتصویر والتجسیم))

((فنون الرسم والتصویر والتجسیم))

ومثل الکتب المصنفة الداخلة فی فنون الرسم والتصویر بالخطوط أو الألوان أو الحفر أو النحت أو العمارة مما یرتبط بالرسم أو التصویر بمختلف أنواعه، وکذلک حال النقاش والمزخرف والرسام إذا کان فی رسمه ابتکار یکون له حق علی رسمه، فلا یصح لأحد أن ینقل رسمه دون إذنه، کما لا یحق لأحد أن یحول رسمه إلی لون آخر من ألوان الفنون الجمیلة کالتصویر والنحت.

وکذلک المصور إذا کانت لوحاته تنطوی علی ابتکار یکون له حق المؤلف علیها، وکذلک الحکم فیما یتعلق بالحفار علی ما یحفره، والنقاش علی ما ینقشه، والمزخرف علی ما یزخرفه، والنحات علی ما یصنعه من تماثیل، والمهندس المعماری علی ما یضعه من تصمیمات معماریة، وهکذا حال المصنفات المجسمة المتعلقة بالجغرافیا أو العلوم، والمصنفات التی تؤدی بحرکات أو خطوات وتکون معددة للإخراج المادی کالألعاب الفنیة، ونحوه المصنفات المتعلقة بالفنون التطبیقیة مثل أعمال الخزف والأوانی المزخرفة والأدوات المنقوشة والزجاج الملون، وما إلی ذلک من مختلف الفنون الجمیلة، مطبقة تطبیقاً عملیاً فی شیء مجسم کآنیة وحلیة وأطباق وزجاج وأجسام نوریة بأسلوب خاص وأجسام الحیوانات والأشجار

ص:489

ونحوها مما تصنع من النفخات فی کتاب ونحوه، وینفخ فیها فتکون مجسمة ثم تفرغ من الهواء فتکون، سواء کانت ذات صوت أیضاً أم لا((1)).

((فروع فی الحقوق المستحدثة))

((فروع فی الحقوق المستحدثة))

وکذلک حال الصناعات، کالطیارات والسیارات والقطارات التی تصنع لعابة للأطفال وکان فیها ابتکار.

ولو صنع من القاموس تقلیباً بواسطة الحروف الأوائل، أو من المنجد عکسه کان من الابتکار أیضاً، فإذا کان المؤلف موجوداً احتفظ لنفسه بحق التألیف، وکذلک بالنسبة إلی الورثة لم یجز عمل ذلک فی کتابه إلاّ بإذنه، نعم یجوز کل تلک الأمور بالنسبة إلی الکافر المحارب حیث هو مهدور المال.

ثم المصور الفوترغرافی إذا کان فیه نوع من الابتکار احتاج إلی الإذن، لأنه کیفیة خاصة من اختیار المنظر والجانب الذی یصور منه والتحضیر للعمل وما یتلو ذلک من إعداد للصورة والتهذیب الذی یجری فیها، ومن ثم یحمل المصور الفوتوغرافی دائماً طابعاً شخصیاً لصانعه.

ولو ابتکر للعمارة کیفیة خاصة تسبب دخول الشمس فی کل غرفها کما فی العمارات الحدیثة، أو ما ینقل عن البهائی (رحمه الله) من جعل حرم علی (علیه السلام) بحیث تشرق الشمس علی الضریح أولاً ثم علی القبة ثانیاً، أو أن أول الظهر یأخذ نور الشمس الأیوانات التی فی جانب الشرق تمام السنة، کان ذلک أیضاً من الابتکار المحفوظ للمبتکر.

وکذلک حال البیوت الجاهزة أصلاً أو فرعاً بأن أمکن تبدلها کما فی لعبة القصور.

وکذا حال التمثیلیات التی مثلها مبتکر فلا یجوز إعادتها إلاّ بإذنه.

ولو اتفق أن اثنین عملا مجسمة أو نحتاً أو صورة أو ما أشبه ذلک مما کان فیه الحق لجهة الابتکار من باب توارد الخاطر، فهما شریکان، لما ذکروه فی باب توارد العلل، حیث لا یمکن حقان وإلاّ سقط

ص:490


1- إذا قیل بحلیة ذلک، وأن المحرم ما یصنع للعبادة

حق أحدهما بإعطاء الآخر حق النشر أو بیعه أو ما أشبه ذلک، ولا وجه لکون الحق لأحدهما، ولا لعدم الحق إطلاقاً، ولا لاشتراکهما بالتفاوت، فاللازم الاشتراک بالنسبة.

((من صور النزاع))

((من صور النزاع))

ولو تنازع اثنان کل یدعی أنه المبتکر قبل الآخر وأنه أخذه منه، فإن کان لأحدهما البینة دون الآخر أو حلف دون الآخر کان الحق له، وإلاّ فهما شریکان أیضاً، فیما لکل منهما البینة، أو کل منهما یحلف، أو کلاهما لا یحلف ولا بینة له، والظاهر أنه لا مجال للقرعة، لأنه من الحقوق المالیة، وقد ذکرنا فی (الفقه) أنه مورد قاعدة العدل وهی ترفع الإشکال فلا موضوع للقرعة.

وتنفیذ الاشتراک یمکن بالمهایاة، فلهذا أسبوع ولهذا أسبوع مثلاً، أو باعطاء الإجازة مشترکاً، أو هذا یعطی لزید وذاک لعمرو، إلی غیر ذلک بشرط تساوی النتیجة، لا أن یعطی هذا لمن یطبع منه مائة ألف وذلک لمن یطبع منه عشرة آلاف، حیث یوجب عدم تساوی الحق.

نعم إذا باعاه معاً لإنسان ثالث، أو أحدهما صالح والآخر باع أو ما أشبه ذلک، اجتمع الحق عند واحد، وکأنه هو المبتکر.

((فروع أخری))

((فروع أخری))

والتوارث یکون بقدر الحقوق، فللولد ضعف الأنثی، وللزوجة الربع أو الثمن وهکذا.

وإذا کانت دولة إسلامیة صحیحة ولها نقد ذهبی أو فضی وللنقش قیمته، لم یجز محاکاته لأنه من الحق عرفاً.

ولو أن فناناً رسم صورة عن الطبیعة آلیاً أو قلمیاً فلا یحق لغیره أخذ صورة منه، نعم یحق لغیره رسم مثل تلک الصورة من الطبیعة.

ولو أن شخصاً اخترع عمارة فنیة وما أشبه ثم منع الناس من أخذ صورتها إلاّ بإذنه، کان له ذلک لأنه من شؤون ابتکاره، وکما لا یجوز محاکاة صورة المبتکر کذلک یجب استئذانه فی تحویل مصنفه من لون من ألوان الفن إلی لون آخر>

ومن ثم یجب

ص:491

استئذان المهندس المعماری الذی شید بناءً بتصمیم من وضعه فی نقل صورة مطابقة للأصل لهذا البناء علی أغطیة الستائر ونحوه.

ومنه یعلم لزوم استئذان صاحب الصورة فی نقل صورة مطابقة لصورته علی سجاد تنقش فیه الصورة بالید أو علی مجموعة من الصینی أو من سائر الأدوات المنزلیة أو نحوها.

ثم إنه لا فرق بین أن یذکر المؤلف علی المؤلَّف اسمه الصریح أو المستعار، أو لم یذکر اسماً أصلاً، أو ما یدل علی أن فلاناً المصنف بالرمز أو العلامة، فإذا ذکر الاسم علی الکتاب فهو المؤلف، وعلی من یدعی خلاف ذلک وأن المؤلف غیره أن یأتی بالدلیل، کما ذکرناه فی باب الظاهر الذی یراه العرف من جهة التکرار، کمن یده علی شیء أو یتصرف فیه أو صاحب الفراش، وفی روایة رفاعة: (وعلیک بالظاهر).

ولو شک فی أن الاسم له، کما إذا کان الاسم مشترکاً أو لم نعرف اسمه أصلاً، أو هل هذه العلامة له فعلیه الإثبات.

ثم إنه لا یتمکن المؤلف أن ینزل للغیر عن صفته کمؤلف، وکذلک غیر التألیف من سائر الأشیاء التی ذکرناها فإنه هو المؤلف قطعاً لأنه نتاج فکره، کالأب لا یستطیع أن ینزل عن أبوته.

وما یستطیع المؤلف أن ینزل عنه للغیر لیس هو صفة المؤلف ولا الحق الأدبی الملتصق بهذه الصفة، ولکن حق الاستغلال المالی الذی یثبت له باعتباره مؤلفاً ونحوه.

((الشخص الحقیقی والمعنوی))

((الشخص الحقیقی والمعنوی))

ثم إن المؤلف بما هو مؤلف لا یمکن إلاّ أن یکون شخصاً خارجیاً، نعم یمکن تدخل الجهات المعنویة فی الأمر، والشخص المعنوی غیر قادر علی التفکیر والکتابة، والذین یفکرون هم أفراد خارجیون فیجب أن یکونوا هم المؤلفین ولیس الشخص المعنوی، ومع ذلک فإن حق المؤلف یمکن أن یکون للشخص المعنوی، إذ من الممکن أن یکلف الشخص المعنوی المؤلف بوضع مصنف إما بتکلیف خاص بموجب عقد

ص:492

مقاولة أو بتکلیف الشخص المعنوی أن یکون المؤلف فی خدمة رب العمل علی وضع المصنفات والمؤلفات بموجب عقد عمل ویبقی للمؤلف صفته هذه لا تنقل منه إلی رب العمل، کما یبقی له حقه الأدبی علی مصنفه، إذ إن هذا الحق لصیق بشخصه کما عرفت.

والشخص المعنوی یفرض فیما إذا أن شخصاً معنویاً قاول أحد المؤلفین علی أن یقوم هذا بوضع مصنف معین، ککتاب فی التاریخ أو فی الفقه أو فی الطبیعة أو عمل تمثال أو کتابة مسرحیة أو ما أشبه، ففی هذا الفرض یحدد عقد المقاولة حقوق کل من الطرفین المؤلف ورب العمل، ویستوی فی ذلک أن یکون رب العمل شخصاً طبیعیاً أو شخصاً معنویاً.

والشخص المعنوی قد یکون شخصاً معنویاً عاماً، کالدولة ممثلة فی إحدی وزاراتها مثلاً، أو شخصاً معنویاً خاصاً کجمعیة الکتّاب والمؤلفین أو ما أشبه ذلک فالأقسام أربعة:

أی أن المکلف قد یکون شخصاً خارجیاً کزید، وقد یکون شخصاً معنویاً کالدولة، والمکلف قد یکون شخصاً خارجیاً خاصاً کعمرو، وقد یکون شخصاً معنویاً کوزارة التربیة مثلاً، أو ما أشبه.

ثم قد یقتصر المؤلف علی أن ینزل لرب العمل بموجب عقد المقاولة عن حق الاستغلال المادی لمدة معینة کعشر سنوات أو خمس سنوات أو ما أشبه، وقد لا ینزل المؤلف عن حقه المالی إلاّ بالنسبة إلی طبعة واحدة أو عدد معین من الطبعات أو عن عدد معین من النسخ مع الاحتفاظ بحقه فی طبع نسخ أخری، أو ینزل عن حقه بالنسبة إلی المطبعة الفلانیة أو دار النشر الفلانی أو فی البلد الفلانی أو ما أشبه ذلک.

ثم الکتاب بالنسبة إلی الشخص المادی أو المعنوی قد یکون خطاباً خاصاً، وقد یکون کلیاً، مثلاً إن شخصاً صناعته التألیف استخدمه رب العمل الواحد أو المعنوی

ص:493

کالدولة بموجب عقد عمل فظل فی خدمته یضع المصنفات التی یوصی بها رب العمل فی مقابل أجر یحدد طبقاً للطرق التی یحدد بها الأجر فی عقد العمل، مثل ذلک عقود العمل التی تبرمها الصحف والمجلات مع محرریها علی أن یقوم هؤلاء بتحریر الصحیفة أو المجلة فی نظیر أجر شهری أو فی نظیر أجر عن کل مقال یحرره المؤلف، من غیر فرق بین أن تکون الدولة أو شخص خاص هو رب العمل ویکون هو الذی یکون له حق الاستغلال المالی للمصنف، وکذلک بالنسبة إلی العامل یمکن أن یکون فرداً أو جماعةً مما سمیناه بالشخصیة المعنویة.

ثم قد یحتفظ المؤلف بحقه فی جمع مصنفاته التی نشرها باسمه رب العمل ویکون له فی هذه الحالة حق استغلال هذا المصنف مالیاً، ویتحدد بوجه عام حقوق المصنف المالی علی مصنفاته بحسب ما ورد من الشرط فی حق العمل، وقد یجعل کل الحق لرب العمل فلا حق للمؤلف إطلاقاً.

ثم قد یوفق المؤلف أو ما أشبه من الصانع ونحوه فی أثناء خدمته لرب العمل إلی وضع مصنف لم یتعاقد علیه بالذات مع رب العمل، فیستبقی المؤلف فی هذه الحالة علی هذا المصنف الحق الأدبی والحق المالی جمیعاً، ویکون له وحده حق استغلال هذا المصنف أو النزول عن استغلال له لمن یشاء، وذلک ما لم یرد شرط فی عقد العمل یقضی بغیره.

وإذا وفق العامل إلی اختراع جدید فی أثناء خدمة رب العمل فلا یکون لرب العمل أی حق فی ذلک الاختراع، ولو کان العامل قد استنبطه بمناسبة ما قام به من أعمال فی خدمة رب العمل، نعم ما یستنبطه العامل من اختراعات فی أثناء عمله یکون من حق رب العمل إذا کانت طبیعة الأعمال التی تعهد بها العامل تقتضی منه إفراع جهده فی الابتداع مما یکون ابتداعه مضیاً للعقد، أو إذا کان رب العمل قد اشتراط فی العقد صراحة بأن

ص:494

یکون له الحق فی ما یهتدی إلیه من المخترعات.

وهناک مصنفات یقوم بها موظفو الدولة بحکم وظائفهم، کمشروعات القوانین والقرارات واللوائح، وکالأحکام القضائیة وکالتقاریر الاقتصادیة والمالیة والعلمیة والتعلیمیة والاحصاءات، إلی غیر ذلک من الوثائق الرسمیة أو غیر الرسمیة، العلنیة أو السریة، فهذه کلها تقع فی مال الدولة الشرعیة المعنویة کالشخصیة الخارجیة فی الأحکام، وکذلک حال الجمعیات الخاصة، فلا فرق فی کل هذه الأمور بین أن تکون جمعیة خاصة أو عامة أو فرداً خارجیاً.

ثم قد یستر المؤلف اسمه ویفوض إلی الناشر مباشرة حقوقه، وقد لا یفوض إلیه ویمکن إظهار ذلک، والمفوض إلیه یحق له کتابة اسم المؤلف علی ظهر الکتاب أو صفحته الداخلیة أو نشره فی وسائل الإعلام، کما قد یفوض إلی غیر الناشر کجمعیة أو فرد.

((إذا اشترک جماعة فی التألیف))

((إذا اشترک جماعة فی التألیف))

وإذا اشترک جماعة فی تألیف أو نحوه فقد یکونون بالتساوی، وقد یکونون بالاختلاف، والاختلاف إما ممیز أو غیر ممیز، أما إذا کانوا بالتساوی فحقهم فی التساوی فإذا باعوا الحق أو صالحوا أو ما أشبه کان لهم حصص بالتساوی، وإذا باعوه بالاختلاف کأن باع أحدهم حصته بمائة والآخر بثمانین حق لهم ذلک کما فی سائر المشاعات، لکن فی الاختلاف یجب أن یکون باتفاقهم، وإذا أراد أحدهم البیع دون الآخر وأمکن فهو، وإلاّ فهو کالمشترک الذی لا یمکن تقسیمه حیث یجبر الحاکم أحدهم حسب نظره إلی هذا الجانب الإیجابی أو ذلک الجانب السلبی، ولا شفعة فی المقام، لأنها خاصة کما ذکرناه فی کتابها ولیس منها حق التألیف ونحوه.

وإذا کانوا بالاختلاف مشترکین، کما إذا کان لأحدهم الثلث وللآخر الثلثان، جاز البیع بنفس الاختلاف أو بالتساوی أو باختلاف

ص:495

معاکس، مثلاً لصاحب الثلث ثلثا الثمن ولصاحب الثلثین ثلثه، إلی غیرها من النسب التی توافقوا علیها.

والظاهر أن رأی صاحب الأکثر لا یقدم علی صاحب الأقل فی صورة التدافع، بل الحکم للحاکم الشرعی، إذ (الناس مسلطون) لا یکون أقوی فی أحدهما، کما إذا کان لإنسان دینار ولآخر دیناران، فهل شمول (الناس مسلطون) للثانی أقوی من شموله للأول، فتأمل.

نعم فی الاختلاف الممیز الممکن تفصیله بأن کتب أحدهم ثلث الجغرافیا المرتبط بآسیا والآخر ثلثیه المرتبط بإفریقیا، فلکل حقه وفصله عن صاحبه، أما فی غیر الممیز فإن عرف زیادة أحدهم کانت له بقدر الزیادة، وإلاّ بأن لم تکن زیادة أو لم تعرف أنها لأیهم فمقتضی القاعدة التساوی، أما فی عدم معرفة الزیادة فواضح، وأما فی معرفة الزیادة المجهولة أنها لأیهم فلأن قاعدة العدل تقتضی ذلک.

مثلاً إذا علمنا أن زیداً یملک من هذه الثلاثة الدنانیر دیناراً أو دینارین، وکذلک بالنسبة إلی عامل شرکة أو ما أشبه، فلکل دینار قطعاً، والدینار المجهول یقسم بینهما بالتساوی، ولا مجال للقرعة لأنها لا تجری فی المالیات کما عرفت، وإنما المجال لقاعدة العدل.

ثم إذا کان أحدهم یملک الأکثر کماً والآخر کیفاً، فلکل بقدره، حاله مثل من حفر أول البئر ذراعاً حیث السهولة والثانی وسطها نصف الذراع حیث الصعوبة، کما إذا کتب أحدهم المکان الصعب من محاسبات الإرث فی الفقه، والآخر المکان السهل منه کالبیع، إلی غیرها من الأمثلة.

ولو اختلفوا فی أن أیهما له الأکثر کماً أو کیفاً، فإن کان مدع ومنکر جرت موازین البینة والیمین، وإلاّ کانا مدعیین ولهما التحالف والتنصیف.

ثم إنه لا یلزم فی الاشتراک الفعلیة، بل کون الفکرة منهما والإشراف علیهما کاف، مثلاً جاء المعماران المخططان لبنایة لعمال وأعطوا

ص:496

لهم الخریطة وأشرفوا علی البناء حتی کملت البنایة، فإنهما مشترکان وإن لم یباشرا عمل البناء.

ولو ادعی أحدهم الاشتراک والآخر الاستقلال، کان حاله کدرهمی الودعی مما فصلناه فی بابه.

ثم إنه إذا اشترکا بالتساوی أو بغیر التساوی فلکل منهما بقدر حقه من النصف أو غیره.

أما من حیث استعمال حقوق المؤلف الأدبیة والمالیة فهذا یترک لهما معاً بالاتفاق فیما بینهما، فیتعاقدان معاً مع الناشر مثلاً ویتصرفان معاً فی حقوق الاستغلال المالیة للمصنف المشترک، ویأذنان معاً لمن یشاءان فی ترجمة المصنف أو تحویله أو التعلیق علیه وما إلی ذلک.

وکذلک یتفقان معاً فی استعمال الحقوق الأدبیة، فیختاران معاً الوقت الذی ینشر فیه المصنف، ویتفقان معاً علی نسبته إلیهما، وعلی تصحیحه أو تعدیله إذا کان هناک مقتض لذلک.

ولو اختلفا ولا یمکن الجمع بینهما فی مثل المصنف غیر الممیز، فالحاکم هو الذی یحکم حسب رؤیته المصلحة.

ثم إذا تعذر الاتفاق، کان لأی منهما أن یرفع دعوی أمام المحکمة، ویطلب من المحکمة البت فی النزاع بینهما فی أی شأن من الشؤون المذکورة.

((حق دفع الاعتداء))

((حق دفع الاعتداء))

وهناک حق من الحقوق الأدبیة للمؤلف، وهو حق دفع الاعتداء علی المصنف، ویملکه کل منهما علی انفراده، فیتمکن أن یدافع عن حق نفسه کما أنه یتمکن أن یدافع عن حقهما معاً، کالأرض المشترکة بینهما إذا اعتدی علیها حیث إن کل شریک له أن یدافع عن کل الأرض وأن یدافع عن الحصة التی له فی الأرض مشاعاً.

((الشرکاء فی الحق))

((الشرکاء فی الحق))

ثم لا حق لأحد الشریکین أن ینفرد وحده باستعمال أی حق من الحقوق المالیة أو الأدبیة، إلاّ إذا کان معه تفویض من الشریک الآخر، فإن المفروض أن نصیب کل منهما یتعذر فصله عن نصیب الآخر، فلا یتسنی لصاحبه أن ینفرد باستغلاله.

ولو تمکنا من الفرز، بأن قبل کل واحد منهما أن یکون له مجلد

ص:497

من المجلدین وإن کانا مشترکین فی کلا المجلدین، فیختص کل واحد بالمجلد الذی صار له بعد التفاوض علی الانفصال، کالأرض المشاعة التی یتفاوضان فیها علی أن یکون لهذا الیمین وللآخر الیسار أو ما أشبه ذلک.

ولکل من الشریکین إجراء المعاملات الممکنة علی حصة نفسه إذا لم یتضرر بذلک شریکه، من النذر والوقف والثلث والوصیة والبیع والهبة وغیرها، کالأرض المشترکة فی کل ذلک، کما أن لکل منهما الخیار إذا تصرف فی حقه بما کان له الخیار، وحال بیعهما معاً بصیغة واحدة حال بیعین فی بیع، لا حال بیع واحد، لأنهما ممکنان فی البیع دون مثل النکاح والطلاق، إذ لا یمکن الوحدة فی زوجتین وإن کانتا لرجل واحد، فکیف ما إذا کانتا لرجلین.

ولو أنشأ أحدهما المطالب والآخر صبها فی قالب العربیة أو القالب الشعری مثلاً فهما شرکان، ولکل منهما قدر حصته عرفاً، کما إذا أعطی أحدهما مواد البناء والآخر صنعها داراً، ولا یبعد جواز بیع کل منهما حصته الممیزة کأن یبیع صاحب الفکر الفکر دون الهیئة کما یبیع مواد البناء دون الهیئة، وکذلک فی عکسه یبیع الهیئة دون المواد للبناء أو الفکرة.

وإذا سرق أحدهما من الآخر فهل ذلک یوجب حقاً علی السارق من المسروق منه، لا یبعد ذلک إذا رآه العرف سرقة، لا مثل ما إذا قال الشاعر، قالوا: اقترح شیئاً نوجد لک طبخه. قال: اطبخوا لی جبة وقمیصاً.

وقال الآخر قبله أو بعده، قالوا: انتخب زوجة ننکحها أبداً، فقلت: بطیخة فی وسط سکین.

فإن أحدهما سرق المعنی من الآخر، وإن کان أحدهما خیاطاً والآخر

ص:498

نکاحاً، ومعنی الشعر الثانی من باب القلب، مثل عرضت الناقة علی الحوض.

((الحقوق الإعلامیة والإنتاجیة))

((الحقوق الإعلامیة والإنتاجیة))

والحقوق التی ذکرناها فی التألیف یأتی جملة منها فی مثل برامج الرادیو والتلفزیون والسینما، فإن الأفراد یعتبرون شرکاء فی تألیف المصنف السینمائی، أو المصنف المعد للإذاعة اللاسلکیة أو التلفزیونیة.

فأولاً: یشترک فی الأمور المذکورة صاحب الفکرة المکتوبة للبرنامج الإذاعی أو التلفزیونی أو ما أشبه.

وثانیاً: من قام بتحویر المصنف الأدبی الموجود بشکل یجعله ملائماً للفن السینمائی ونحوه.

وثالثاً: مؤلف الحوار.

ورابعاً: واضح الکیفیة الصوتیة.

وخامساً: المخرج إذا بسط رقابة فعلیة وقام بعمل إیجابی من الناحیة الفکریة لتحقیق المصنف السینمائی.

وإذا کان المصنف السینمائی أو المعد للإذاعة اللاسلکیة والتلفزیونیة مبسطاً أو مستخرجاً لمصنف آخر سابق علیه یعتبر مؤلف هذا المصنف السابق مشترکاً فی المصنف الجدید، کما أنه یعتبر منتجاً للمصنف السینمائی أو الإذاعی أو التلفزیونی أو ما أشبه الشخص الذی یتولی تحقیق الشریط، أو یتحمل مسؤولیة هذا التحقیق ویضع فی متناول مؤلفی المصنف السینمائی أو الإذاعی أو التلفزیونی الوسائل المادیة والمالیة الکفیلة بإنتاج المصنف وتحقیق إخراجه.

ویعتبر المنتج دائماً ناشر المصنف السینمائی، وتکون له کافة حقوق الناشر علی الشریط وعلی نشره، ویکون المنتج طول مدة استغلال الشریط المتفق

ص:499

علیها نائباً عن مؤلفی المصنف السینمائی وعن خلفهم فی الإرث، مثلاً فی الاتفاق علی عرض الشریط واستغلاله دون الإخلال بحقوق مؤلفی المصنفات الأدبیة أو الصوتیة المقتبسة.

کل ذلک ما لم یتفق علی خلافه، کسائر الحقوق الطبیعیة حیث إنها لمن له الحق إلاّ إذا اتفق علی خلافها.

ویضاف علی أولئک فی کون الحق له أیضاً الممثلون، فإنه لا شک فی أن الممثلین یقومون بدور هام فی إخراج المصنف فهم شرکاء فیه، فإنه لولاهم لم یکن یوجد الفلم السینمائی.

ثم کل واحد من هؤلاء له الحق فی أن یبیع عمله أو یصالح أو یهب أو ما أشبه ذلک، کما تقدم الإلماع إلی مثل ذلک.

وإذا امتنع أحد المشترکین فی تألیف مصنف سینمائی أو مصنف معد للإذاعة أو التلفزیون عن القیام بإتمام ما یخصه من العمل، فلا یترتب علی ذلک منع باقی المشترکین من استعمال الجزء الذی أنجزه، وذلک مع عدم الإخلال بما للممتنع من حقوق مترتبة علی اشتراکه فی التألیف.

ولا فرق فی کل ذلک بین الهیئات الرسمیة والأفراد والشرکات وما أشبه، فقول بعض الحقوقیین: (بأن للهیئات الرسمیة المنوط بها الإذاعة اللاسلکیة الحق فی إذاعة المصنفات التی تعرض أو توقع فی المسارح أو فی أی مکان عام آخر، وعلی مدیری هذه الأمکنة تمکین هذه الهیئات من ترتیب الوسائل الفنیة اللازمة لهذه الإذاعة ونحوها) غیر ظاهر الوجه.

أما ذکر الاسم وعدم ذکر الاسم فهو مربوط بکیفیة التعامل، إذ قد یعطی مصنفه للإذاعة بشرط عدم ذکر اسمه أو بشرط ذکر اسمه، أو غفلا عن الأمرین.

وما تقدم من الحقوق یأتی شبهها فی حق صاحب الصورة، فإنه لا یحق لمن قام بعمل صورة أن یعرض أو ینشر أو یوزع أصل الصورة أو نسخاً منها دون إذن الأشخاص الذین قام بتصویرهم ما لم یتفق علی غیر ذلک، أما من حصل علی نسخة من المؤلف أو ما أشبه من الصورة سواء حصل

ص:500

علیها من المؤلف أو من الناشر بمقابل أو بغیر مقابل من الطرق الشرعیة بدون أن ینتقل إلیه حق النشر لا یجوز له استعمال هذه النسخة إلاّ لمنفعته الشخصیة ولمنفعة من یلوذ به من ذویه ممن الإذن یشمله ولو بصورة الارتکاز، فله أن یقرأ نسخة الکتاب التی اشتراها وأن یشاهد الفلم الذی استأجره وأن یسمع الشریط الذی حصل علیه، وله أن یعبر الکتاب أو الفلم أو الشریط لعبض أصدقائه، کما له أن یبیع نفس النسخة، فیکون للمشتری نفس الحقوق التی للبائع، ولکن لیس له أن یباشر علی النسخة حقوق المؤلف أو الناشر لأن هذه الحقوق لم تنتقل إلیه کما سبق الإلماع إلی ذلک.

ولا یخفی أن الفروع المرتبطة بهذه الأمور کثیرة جداً، وحیث إن الکتاب لم یوضع للتفصیل وإنما أردنا الإلماع إلی بعض الحقوق الحدیثة لتوضیح بعض صغریات الحقوق العامة فی الزمان الحدیث نکتفی منها بهذا القدر، والله المستعان.

ص:501

((مخالفة القوانین الوضعیة للإسلام))

اشارة

((مخالفة القوانین الوضعیة للإسلام))

(مسألة): حیث إن القوانین الوضعیة فی کثیر من بنودها مخالفة للإسلام فاللازم علی المسلم أمور:

الأول: عدم الاعتناء بتلک القوانین المخالفة للإسلام مهما وجد إلی ذلک السبیل، وذلک ککل القوانین المفرقة بین المسلمین، وکل القوانین الکابتة لحریات المسملین، وکل القوانین التی تجعل الضرائب التی لم تکن فی الإسلام، وکل القوانین المرتبطة بالحدود الجغرافیة وما یتبعها من العشور والمکوس والکمارک، وکثیر من القوانین القضائیة، إلی غیرها.

الثانی: عدم العمل بآثار تلک القوانین مهما وجد السبیل إلی ذلک، مثلاً المحکمة طلقت الزوجة بدون شاهدین عادلین، أو بدون سائر الشرائط، أو أعطت الأرض للزوجة فی باب الإرث، أو نفت الولد عن الوالد الذی رأی علیه آثار الضعف والکبر بمجرد هذه الحجة، علی خلاف قوانین «الولد للفراش»((1))، أو أعطی الربا علی المال، أو قرر أن لصاحب المال الذی أنکره المنکر بعد ثبوت أن المال للمدعی لکل سنة ربح اثنا عشر مثلاً، إلی غیر ذلک مما کلها موجودة فی قوانین جملة من بلاد الإسلام، فإن اللازم عدم العمل بآثار هذه القوانین.

فالمرأة زوجة بعدُ یلزم علی الزوجین ترتیب کل آثار الزوجیة، وکذلک یلزم علی سائر الناس ترتیب آثار زوجتیهما فلا یحق لامرأة جدیدة أن تکون زوجة خامسة لهذا الزوج الذی طلقت زوجته، ولا لأخت زوجته التزویج به، ولا یحق للرجل أن یأخذهما، وعلی سائر الوراث أخذ الأرض من الزوجة، کما أن علیها أن ترد الأرض علیهم، والولد للفراش کسائر الأولاد، والربا لا یکون من مال الآخذ بل من مال المعطی فیجب رده علیه، وله حق التقاص عن أموال آخذه إن لم یرده علیه، ولیس لکل سنة ربح کذا، إلی غیر ذلک.

کما أن

ص:502


1- الکافی: ج5 ص491 ح2

الدولة إذا رخصت قوانین الاشتراکیة ولو باسم آخر یلزم علی الناس عدم الاعتناء بها، وهکذا فی سائر الأمور.

الثالث: تطبیق القوانین الإسلامیة، فیجوز أن یحج کل إنسان مستطیع، أو غیر مستطیع حجاً ندباً مهما أمکن وإن خالفت قوانین الدولة التی یعیش تحتها، وقوانین دولة الحرمین التی وضعت للمنع عن حریة الحج، تطبیقاً لقانون (غلادستون) المعروف، وکذلک حال الأعتاب المقدسة فی الحجاز والعراق وإیران والقدس، فإن ذلک فی ضمن حریة السفر والإقامة فی أرض الله سبحانه مطلقاً، قال سبحانه: ﴿فامشوا فی مناکبها وکلوا من رزقه﴾((1)).

والولد إذا بلغ البلوغ الإسلامی کما سبق الإلماع إلیه، حق له الزواج من البنت إذا بلغت البلوغ الإسلامی رشیدة، وإن جعل القانون للزواج غیر ذلک، کما هو کذلک فی کل بلاد الإسلام حتی البلاد التی تدعی أنها تحکم بالإسلام، والأب والجد لهما الحق فی زواج ولدهما الصغیر ذکراً أو أنثی فی غیر صورة مفسدة، ویجوز للرجل أن یتزوج بالأربع وإن خالفه القانون، ویطلق حسب قانون الإسلام لا قانون الغرب السائد فیها، ویتعامل المتعاملان بدون أسناد رسمی ولا إعطاء ضرائب مخترعة، ویراجع المترافعان ومن إلیهم کالذین یریدون تقسیم الشرکة أو الإرث القاضی الذی یتوفر فیه شروط الإسلام.

وهکذا حال طبع الکتب وإخراج المجلات ونصب المعامل وفتح المؤسسات وتشکیل الأحزاب الإسلامیة الصحیحة _ لا بالمفهوم الغربی _ المنتهیة إلی المرجعیة والمنظمات والجمعیات وغیر ذلک بدون الاحتیاج إلی مراجعة الدولة، بل یجب عدم مراجعتها مهما أمکن، لأن المراجعة نقض لقوانین الإسلام وهدم لحریات المسلمین وتسلیط للغرب والشرق علی بلاد الإسلام.

ولو وفق الله بعض

ص:503


1- سورة الملک: 15

العلماء أن یکتبوا کتاباً یبینون فیه الفرق بین قوانین الإسلام وقوانین الغرب والشرق السائدة فی کافة بلاد الإسلام، لرأی الناس الفرق الشاسع بین ألوف القوانین من الجانبین، کما یرون أن قوانین الإسلام أقرب إلی العقل والمنطق من تلک القوانین، وهو سبحانه المستعان.

((إلغاء القوانین غیر الإسلامیة))

((إلغاء القوانین غیر الإسلامیة))

وعلی أی، فاللازم فی بلاد الإسلام إلغاء القوانین غیر الإسلامیة إلغاءً مطلقاً، سواء فی الأمور السیاسیة أو الاقتصادیة أو الاجتماعیة أو غیرها، فإنه حتی بقاء بعض القوانین یجعل من البلاد بلاداً متأخرة کما نشاهد، وکل ما عدا ذلک لا یزید البلاد إلاّ تأخراً والأمر إلاّ إعضالاً، وذلک لأن المسلمین یعرفون قوانین الإسلام جیداً، وهی موجودة فی الکتب الفقهیة وغیرها، والخطباء والمؤلفون یذکرونها فوق منابرهم وفی تألیفاتهم.

 وحیث یری الناس أن الحاکم یضع قانوناً غیر قانون الإسلام یتجافون عن ذلک الحاکم ولا یتعاونون معه ویتهربون عن قوانینه، مما یوقع البعد بین الدولة والأمة، وحیث یکون البعد یأخذ کل طرف فی هدم الطرف الآخر، فلا یبقی مجال للعمل والتقدم والتعاون، ویستمر هذا الأمر إلی حین سقوط الحاکم، إذ الأمة بحر کبیر لا یمکن خداعه أو إسقاطه، وإنما الجهاز الحاکم الذی هو شیء صغیر فی هذا البحر إذا عارضتها الأمة سقطت، وهذا هو سر توالی سقوط حکام بلاد الإسلام واحداً تلو الآخر، سواء من جاء منهم باسم الإسلام أو باسم آخر کالقومیة والبعثیة والشیوعیة والدیمقراطیة علی الأسلوب الغربی.

ومن الواضح أن اسم الإسلام کاسم العسل الذی لا یعطی الحلاوة، لا یعطی غرض الأمة حتی تستقر الحکومة المخالفة، مثلاً الأمة تری أن لا ضرائب فی الإسلام ولا عشور ولا حدود ولا جناسی ولا بطاقات للعمل وهکذا، فهل یمکن خداعها بالإتیان بهذه الأشیاء باسم

ص:504

الإسلام أو باسم التقدمیة أو باسم الحضارة أو ما أشبه ذلک.

ولا یزعم أن الریفی والعامی المدنی یمکن خداعه، فإن الخطباء ومن إلیهم بینوا قوانین الإسلام لهم، ولذا إذا سألت من ریفی بعید عن المدینة عن أصول قوانین الإسلام لبین لک ذلک، ولو فرض إمکان خداع البعض فی بعض الوقت فهل یمکن خداع الکل فی کل الوقت.

ثم إن بعض الحکام یخدعون أنفسهم، کما قال سبحانه: ﴿یخادعون الله وهو خادعهم﴾((1))، بتطبیق بعض الأحکام الذی لا یرتبط بسیادة المستعمرین إبقاءً علی أسیادهم، وترک بعض مما یضر المستعمرین وکراسیهم، مع وضوح أن القوانین لا یمکن أن تأخذ سطحین، کالماء الذی یتطلب تساوی السطوح فإذا أمکن فی الماء اختلاف سطوحه أمکن فی القوانین ذلک، فإن الاجتماع مثله مثل الماء کما قاله علماء الاجتماع، وکما نشاهده بالفعل، فإنه لا یمکن اختلاف سطوح الاقتصاد إذ التضخم فی شیء یلازم التضخم فی کل شیء، والتنزل فی شیء یلازم التنزل فی کل شیء، کما ذکرناه تفصیله فی فقه الاقتصاد.

وکذلک لا یمکن اختلاف سطح الاقتصاد والسیاسة، ولا یمکن اختلاف سطحهما مع سطح الاجتماع وهکذا، مثلاً الحریات الاقتصادیة تلازم الحریات السیاسیة، إذ الاقتصاد کما هو معلوم یوجه السیاسة فلا یمکن أن یکون الاقتصاد حراً والسیاسة مکبلة، وکذلک العکس، والحریات السیاسیة تلازم الحریات الاقتصادیة فإن السیاسة الحرة لابد أن تفسح المجال للاقتصاد فیکون حراً أیضاً، وکذلک حال العکس، فالاقتصاد المکبل بالشیوعیة والاشتراکیة والإسلامیة المزیفة یکبل السیاسة حیث لا مال حتی یمکن إنزال الدکتاتور من برجه العاجی، وکذلک العکس فالسیاسة الدکتاتوریة حیث یخاف من المال یکبّل الاقتصاد.

وهذا هو سر ما نری

ص:505


1- سورة النساء: 142

من شدة العداء بین الدکتاتوریین والتجار، ولا نقصد الرأسمالیین علی الأسلوب الغربی، بل نقصد الرأسمالیة علی الأسلوب الإسلامی، حیث قال سبحانه: ﴿لکم رؤوس أموالکم﴾((1)). وقد فصلنا ذلک فی کتبنا الاقتصادیة.

وشدة العداء إنما تقع بینهما حیث إن الدکتاتور یرید سلب أموالهم بمختلف الأسامی حتی یبقی علی عرشه ولا یزاحمونه فی سفکه الدماء ونهبه الأموال وهتکه الأعراض وخنقه الحریات، کل ذلک لملئ حسن غروره وکبریائه والإبقاء علی عرشه وملئ جیبه.

ومثل الکلام فی السیاسة والاقتصاد قالوا فی الاجتماع، فالاجتماع المنفتح لا یدع الدکتاتور ولا الاقتصاد المکبل فی أغلاله، والعکس صحیح أیضاً.

ومن ذلک یظهر أن خلاص الأمة من التخلف یتوقف علی سیادة قوانین الإسلام المشهورة بین المسلمین منذ عهد النبوة (صلی الله علیه وآله) والمودوعة فی بطون کتب الفقهاء من قبل ألف سنة إلی الیوم، إنه قد جرب الأمة کل المبادئ المستوردة والإسلام الصوری فلم یزدها الأمر إلاّ إعضالاً، ولم یبق أمامه إلاّ الإسلام الصحیح لینقذه بإذن الله تعالی.

((تناقض الحکام مع الأمة))

((تناقض الحکام مع الأمة))

وقد ظهر مما تقدم أن بین الحکام وبین الأمة نوعین من التناقض:

الأول: التناقض فی الحکومات التی تسمی نفسها باسم الإسلام وتضع فی دساتیرها بعض مبادئ إسلامیة.

الثانی: التناقض فی الحکومات التی تسمی نفسها بأسامی أخر وتضع دساتیرها خلاف دساتیر الإسلام إطلاقاً.

وذلک لأن الإسلام کسائر المبادئ لها کلیات معروفة فی الکتاب والسنة والإجماع والعقل، وقد

ص:506


1- سورة البقرة: 279

استفادها الفقهاء وأودعوها فی کتبهم، ولهذه الکلیات فروع تطبق علیها تلک الکلیات من باب تطبیق الصغریات بالکبریات، کما أن لتلک الفروع تنفیذاً بسبب القوة الإجرائیة فإذا لم یطابق دستور الدولة مع دستور الإسلام فی الکلیات کان التناقض الذی ذکرناه ثانیاً، مثلاً دستور الإسلام یقول بتساوی المسلمین، ودستور الدولة یقول بتفوق العرب أو العجم أو العراقیین، وإذا قال دستور الدولة بالإسلام لکن الفروع لم یکن علی طبق تلک الأصول، مثلاً قال دستور الدولة بتساوی المسلمین لکن قوانین الجنسیة واشتراء الأرض والکسب قال باختصاص الأمر بالإیرانیین مثلاً، کان التناقض الذی ذکرناه أولاً.

وإذا فرض أن الکلیات والفروع وضعت علی طبق الإسلام لکن التنفیذ لم یکن علی حسب التنفیذ الإسلامی، کما إذا قال الدستور بتساوی المسلمین والقانون وضع علی طبق ذلک فی الجزئیات والفروع لکن الجهاز الحکومی کان یطبق حسب الأوامر السریة خلاف ذلک، کان تناقضاً من قسم ثالث وإن کان هو من التناقض التابع للقسم الأول.

فقد اصطلح علماء الحقوق علی تسمیة القواعد العامة باسم الدستور، سواء کان دستوراً مکتوباً کما فی کثیر من البلاد، أو دستوراً غیر مکتوب کما فی بریطانیا، کما أنهم یسمون هذا الدستور بالقانون الأساسی.

أما الأحکام التفصیلیة التی توضع لتنظیم تلک الحقوق والواجبات المتضمنة فی الدستور والذی سمیناه بالفروع مثل تنظیم الأسرة وملکیة الأراضی وسیاسة الأجور والتعلیم ولوائح الإدارة وأحکام العقوبات وأحکام القضاء والأحوال الشخصیة وغیر ذلک، فإنه یطلق علی کل هذه الأحکام التفصیلیة اسم القوانین، وبما أن القوانین هی تنفیذ أحکام الدستور فلا بد أن تکون ناتجة عنه، وصغریات

ص:507

لتلک الکبریات، ولا یجوز وجود شیء منها یناقض أو یخالف أحکام الدستور ومبادءه، وإلاّ اعتبرت هذه القوانین الفرعیة غیر دستوریة وباطلة، ویکون من قبیل جعل مصداق الإنسان حجراً أو مصداق الشجر حیواناً، إلی غیر ذلک من الأمثلة، للمخالفة بین الکبریات الکلیة والصغریات الجزئیة.

ومن هنا یجب أن تکون القوانین الإسلامیة ناتجة عن الدستور الإسلامی المذکور فی بطون الکتب الفقهیة، والمستقی من الأدلة الأربعة، والقوانین تفرع لتنفیذ وحمایة مبادئ ثابتة مذکورة فی الأدلة الأربعة.

کما أن القوانین الشیوعیة تکون نتیجة طبیعیة للدستور الشیوعی، وقد سنت لتنفیذ وحمایة مبادئه. وهکذا بالنسبة إلی القوانین الدیمقراطیة التابعة للدستور والمتفرعة عنه، فإذا کان الأمر کذلک کان تنسیقاً بین الدستور والقانون والتنفیذ، وإلاّ فلا، ولذا لا یتصور الولایات المتحدة تتبنی قوانین شیوعیة لتنفیذ وحمایة دستورها الدیمقراطی، أو تتبنی قوانین إسلامیة مثلاً لذلک الهدف، وکذلک لا یمکن أن تتصور أن یتبنی الاتحاد السوفیتی قوانین إسلامیة لتنفیذ وحمایة دستوره الشیوعی.

وإذا کان الأمر صادقاً بالنسبة إلی الغرب والشرق، کذلک هو صادق بالنسبة إلی الإسلام، فلا یمکن أن یتصور أن الدولة الإسلامیة یجوز أن تتبنی قوانین شیوعیة لتنفیذ وحمایة دستورها الإسلامی، أو تتبنی قوانین دیمقراطیة لتطبیق دساتیر الإسلام المستفادة من الأدلة الأربعة، فالدستور علی ما ذکرناه هو الأصل، وهو النظام الأساسی سواء کان مکتوباً أو غیر مکتوب، وهو الذی یحدد شکل الدولة والمجتمع ومختلف فروعه، وهو الذی یعین الحقوق ویحدد الواجبات ویرسم شکل الدولة رسماً هندسیاً ویعین صفتها ویوضح سلطاتها.

أما القوانین التفصیلیة فهی فروع لتطبیق تلک الدساتیر الکلیة لأجل السیاسة

ص:508

والاجتماع والقضاء، لذلک کان حتماً أن تکون القوانین من جنس الدستور وناتجة عنه وفروعاً له وصغریات لتلک الکبریات الکلیة، وإلاّ وقع التناقض والفوضی فی علاقات الدولة والمجتمع.

هذا بالإضافة إلی أنه لو کان الدستور إسلامیاً لکن الفروع أو التنفیذ غیر إسلامی اتهم نفس الإسلام بالعجز وانتهاء المدة وعدم الصلاحیة للتطبیق فی العصر الحاضر، کما یشاهد هذا الاتهام فی الزمان الحاضر.

والأمثلة لذلک کثیرة جداً، فمن المعلوم مثلاً أن الأحکام الشرعیة شرعت لتطبق علی الجمیع حکاماً ومحکومین دون أی تمییز، ف_ «کلکم من آدم وآدم من تراب»((1)) و﴿إن أکرمکم عند الله أتقاکم﴾((2))، ولکن الدستور الذی یکون فی البلاد یسمح بإعطاء شاغلی المناصب الدستوریة کأعضاء رئاسة الدولة والوزراء والحکام وأعضاء مجلس الأمة ومجلس الأعیان مثلاً حصانة دستوریة تحمیهم عن طائلة القانون، فلا یکونون هم کبقیة الناس بل یعاملون معاملة خاصة. وهذا یظهر القوانین الشرعیة أمام هذه الحصانة بالمحاباة والتحیز وعدم تطبیق ﴿إن أکرمکم عند الله أتقاکم﴾((3)).

لا یقال: فإذا لم یکونوا هؤلاء ذوی حصانة خافوا من التکلم والعمل، والخائف لا یتمکن من قول الحق والعمل به.

لأنه یقال: هذا ناشئ عن نظام منحرف آخر، وهو کم الأفواه وجعل الأغلال علی الأیدی والأرجل، ففی العالم غیر الإسلامی حیث تلک القیود استثنوا أجهزة الدولة کما فی العالم الدیمقراطی، أما فی العالم الإسلامی لا قیود حتی یحتاج الأمر إلی الاستثناء، فالمسلمون کلهم أحرار فی ضمن النطاق الإسلامی فیما یقولون أو یعملون، وتحمل أقوالهم وأفعالهم علی الصحیح، ولا محاسبة ولا عقاب إلاّ علی المجرم بعد أن ثبتت جریمته.

وقد ألمعنا سابقاً إلی أن الجریمة فی القانون الإسلامی قلیلة

ص:509


1- بحار الأنوار: ج67 ص287 ب56 ح10
2- سورة الحجرات: 13
3- سورة الحجرات: 13

جداً وجداً حتی إذا قلنا إن الجریمة فی منطق الإسلام جزء من مائة جزء من الجریمة فی العالم الدیمقراطی لم نکن بعیداً عن الصواب، کما یجده المرید فی کتاب (الصیاغة) و(نریدها حکومة إسلامیة) وغیرهما ذلک بعض الأمثلة بهذا الصدد.

فإن دستور الدولة یقول الإسلام هو مصدر التشریع، والحریات الثابتة فی الإسلام یجب توفرها، ثم تأتی الدولة لتضع نهجاً رأسمالیاً فی قانون الاقتصاد أو منهجاً اشتراکیاً، وکلاهما مخالف للإسلام ومولد للمشاکل، إذ الأول یوجب الطبقیة الحادة، والثانی یوجب حصر التجارة الخارجیة والداخلیة فی الدولة وتأمیم منابع الثروة إلی غیر ذلک، وبذلک یکون کل الناس فی ضیق من الاقتصاد، وحیث إن الطبقة الفقیرة فی القانون الأول یکونون مجبورین للجرائم من السرقة لإمرار معاشهم، والشذوذ والأعمال المنافیة للعفة لعدم تمکنهم من الزواج وما أشبه ذلک، والتجار یختلسون ویرشون ویهربون ونحوها لأجل إدارة تجارتهم وتأخذهم الدولة تعاقبهم بالسجن والتغریم وأحیاناً الإعدام، وما أشبه ذلک، وبهذا یظهر الإسلام بالمظهر الضعیف غیر اللائق ومتناقضاً، مما یؤدی إلی الاساءة إلی الشریعة وتشویهها، وینتج من ذلک الشعور بالإحباط بین الناس والنفور من القوانین الإسلامیة، حتی یصل الأمر إلی المطالبة بإقصاء القوانین الشرعیة أو السکوت عمن یعمل لاقصائها، وهذا هو ما تسعی له القیادات السیاسیة المرتبطة ببلاد الغرب والشرق فی بلاد الإسلام، سواء منها ما کانت باسم الإسلام، أو غیر إسلامیة صریحاً، أما فی بلد یحکم باسم الإسلام فیقول الناس هذا هو الإسلام، فهل هذا خیر أو النهج الدیمقراطی الغربی مثلاً أو الشیوعی الشرقی، فإذا حکم البلد باسم الإسلام أسقطوا الإسلام عن البلد، وإذا کان حکم البلد غیر الإسلام

ص:510

بین الناس الرعب والهلع من حکم الإسلام حتی لا یأتی الإسلام إلی الحکم إطلاقاً.

انتهی ما أردنا إیراده فی هذا الکتاب، ونلحقه برسالة الحقوق للإمام السجاد (علیه الصلاة والسلام).

رسالته (علیه السلام) المعروفة برسالة الحقوق

فقد رواه ابن شعبة مرسلاً، والطبرسی فی مکارم الأخلاق، عن إسماعیل بن فضل، عن ثابت بن دینار الثمالی، عن سید العابدین علی بن الحسین (علیهما السلام)، واللفظ للأول: قال (علیه السلام):

اعْلَمْ رَحِمَکَ اللَّهُ أَنَّ لِلَّهِ عَلَیْکَ حُقُوقاً مُحِیطَةً بِکَ، فِی کُلِّ حَرَکَةٍ تَحَرَّکْتَهَا، أَوْ سَکَنَةٍ سَکَنْتَهَا، أَوْ مَنْزِلَةٍ نَزَلْتَهَا، أَوْ جَارِحَةٍ قَلَبْتَهَا، أَوْ آلَةٍ تَصَرَّفْتَ بِهَا بَعْضُهَا أَکْبَرُ مِنْ بَعْضٍ.

وَأَکْبَرُ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَیْکَ مَا أَوْجَبَهُ لِنَفْسِهِ تَبَارَکَ وَتَعَالَی مِنْ حَقِّهِ الَّذِی هُوَ أَصْلُ الْحُقُوقِ وَمِنْهُ تَفَرَّعَ، ثُمَّ مَا أَوْجَبَهُ عَلَیْکَ لِنَفْسِکَ مِنْ قَرْنِکَ إِلَی قَدَمِکَ عَلَی اخْتِلَافِ جَوَارِحِکَ، فَجَعَلَ لِبَصَرِکَ عَلَیْکَ حَقّاً، وَلِسَمْعِکَ عَلَیْکَ حَقّاً، وَلِلِسَانِکَ عَلَیْکَ حَقّاً، وَلِیَدِکَ عَلَیْکَ حَقّاً، وَلِرِجْلِکَ عَلَیْکَ حَقّاً، وَلِبَطْنِکَ عَلَیْکَ حَقّاً، وَلِفَرْجِکَ عَلَیْکَ حَقّاً، فَهَذِهِ الْجَوَارِحُ السَّبْعُ الَّتِی بِهَا تَکُونُ الْأَفْعَالُ.

ثُمَّ جَعَلَ عَزَّ وَجَلَّ لِأَفْعَالِکَ حُقُوقاً، فَجَعَلَ لِصَلَاتِکَ عَلَیْکَ حَقّاً، وَلِصَوْمِکَ عَلَیْکَ حَقّاً، وَلِصَدَقَتِکَ عَلَیْکَ حَقّاً، وَلِهَدْیِکَ عَلَیْکَ حَقّاً، وَلِأَفْعَالِکَ عَلَیْکَ حَقّاً، ثُمَّ تَخْرُجُ الْحُقُوقُ مِنْکَ إِلَی غَیْرِکَ مِنْ ذَوِی الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَیْکَ.

وَأَوْجَبُهَا عَلَیْکَ حَقّاً أَئِمَّتُکَ، ثُمَّ حُقُوقُ رَعِیَّتِکَ، ثُمَّ حُقُوقُ رَحِمِکَ، فَهَذِهِ حُقُوقٌ یَتَشَعَّبُ مِنْهَا حُقُوقٌ.

فَحُقُوقُ أَئِمَّتِکَ ثَلَاثَةٌ، أَوْجَبُهَا عَلَیْکَ حَقُّ سَائِسِکَ بِالسُّلْطَانِ، ثُمَّ حَقُّ سَائِسِکَ بِالْعِلْمِ، ثُمَّ حَقُّ سَائِسِکَ بِالْمِلْکِ، وَکُلُّ سَائِسٍ إِمَامٌ((1)).

ص:511


1- السائس: القائم بأمر والمدبر له

وَحُقُوقُ رَعِیَّتِکَ ثَلَاثَةٌ، أَوْجَبُهَا عَلَیْکَ حَقُّ رَعِیَّتِکَ بِالسُّلْطَانِ، ثُمَّ حَقُّ رَعِیَّتِکَ بِالْعِلْمِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ رَعِیَّةُ الْعَالِمِ، وَحَقُّ رَعِیَّتِکَ بِالْمِلْکِ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَمَا مَلَکْتَ مِنَ الْأَیْمَانِ.

وَحُقُوقُ رَحِمِکَ کَثِیرَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِقَدْرِ اتِّصَالِ الرَّحِمِ فِی الْقَرَابَةِ، فَأَوْجَبُهَا عَلَیْکَ حَقُّ أُمِّکَ، ثُمَّ حَقُّ أَبِیکَ، ثُمَّ حَقُّ وُلْدِکَ، ثُمَّ حَقُّ أَخِیکَ، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، وَالْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، ثُمَّ حَقُّ مَوْلَاکَ الْمُنْعِمِ عَلَیْکَ، ثُمَّ حَقُّ مَوْلَاکَ الْجَارِی نِعْمَتُهُ عَلَیْکَ، ثُمَّ حَقُّ ذِی الْمَعْرُوفِ لَدَیْکَ، ثُمَّ حَقُّ مُؤَذِّنِکَ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ حَقُّ إِمَامِکَ فِی صَلَاتِکَ، ثُمَّ حَقُّ جَلِیسِکَ، ثُمَّ حَقُّ جَارِکَ، ثُمَّ حَقُّ صَاحِبِکَ، ثُمَّ حَقُّ شَرِیکِکَ، ثُمَّ حَقُّ مَالِکَ، ثُمَّ حَقُّ غَرِیمِکَ الَّذِی تُطَالِبُهُ، ثُمَّ حَقُّ غَرِیمِکَ الَّذِی یُطَالِبُکَ، ثُمَّ حَقُّ خَلِیطِکَ، ثُمَّ حَقُّ خَصْمِکَ الْمُدَّعِی عَلَیْکَ، ثُمَّ حَقُّ خَصْمِکَ الَّذِی تَدَّعِی عَلَیْهِ، ثُمَّ حَقُّ مُسْتَشِیرِکَ، ثُمَّ حَقُّ الْمُشِیرِ عَلَیْکَ، ثُمَّ حَقُّ مُسْتَنْصِحِکَ، ثُمَّ حَقُّ النَّاصِحِ لَکَ، ثُمَّ حَقُّ مَنْ هُوَ أَکْبَرُ مِنْکَ، ثُمَّ حَقُّ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْکَ، ثُمَّ حَقُّ سَائِلِکَ، ثُمَّ حَقُّ مَنْ سَأَلْتَهُ، ثُمَّ حَقُّ مَنْ جَرَی لَکَ عَلَی یَدَیْهِ مَسَاءَةٌ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ مَسَرَّةٌ بِذَلِکَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ عَنْ تَعَمُّدٍ مِنْهُ أَوْ غَیْرِ تَعَمُّدٍ مِنْهُ، ثُمَّ حَقُّ أَهْلِ مِلَّتِکَ عَامَّةً، ثُمَّ حَقُّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، ثُمَّ الْحُقُوقُ الْحَادِثَةُ بِقَدْرِ عِلَلِ الْأَحْوَالِ وَتَصَرُّفِ الْأَسْبَابِ، فَطُوبَی لِمَنْ أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَی قَضَاءِ مَا أَوْجَبَ عَلَیْهِ مِنْ حُقُوقِهِ، وَوَفَّقَهُ وَسَدَّدَهُ.

1: فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ الْأَکْبَرُ: فَأَنَّکَ تَعْبُدُهُ لَا تُشْرِکُ بِهِ شَیْئاً، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِکَ بِإِخْلَاصٍ جَعَلَ لَکَ عَلَی نَفْسِهِ أَنْ یَکْفِیَکَ أَمْرَ الدُّنْیَا وَالْآخِرَةِ، وَیَحْفَظَ لَکَ مَا تُحِبُّ مِنْهَا.

ص:512

2: وَأَمَّا حَقُّ نَفْسِکَ عَلَیْکَ فَأَنْ تَسْتَوْفِیَهَا فِی طَاعَةِ اللَّهِ، فَتُؤَدِّیَ إِلَی لِسَانِکَ حَقَّهُ، وَإِلَی سَمْعِکَ حَقَّهُ، وَإِلَی بَصَرِکَ حَقَّهُ، وَإِلَی یَدِکَ حَقَّهَا، وَإِلَی رِجْلِکَ حَقَّهَا، وَإِلَی بَطْنِکَ حَقَّهُ، وَإِلَی فَرْجِکَ حَقَّهُ، وَتَسْتَعِینَ بِاللَّهِ عَلَی ذَلِکَ>

3: وَأَمَّا حَقُّ اللِّسَانِ فَإِکْرَامُهُ عَنِ الْخَنَی، وَتَعْوِیدُهُ الْخَیْرَ، وَحَمْلُهُ عَلَی الْأَدَبِ، وَإِجْمَامُهُ إِلَّا لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ، وَالْمَنْفَعَةِ لِلدِّینِ وَالدُّنْیَا، وَإِعْفَاؤُهُ عَنِ الْفُضُولِ الشَّنِعَةِ الْقَلِیلَةِ الْفَائِدَةِ الَّتِی لَا یُؤْمَنُ ضَرَرُهَا مَعَ قِلَّةِ عَائِدَتِهَا، وَیُعَدُّ شَاهِدُ الْعَقْلِ وَالدَّلِیلُ عَلَیْهِ وَتَزَیُّنُ الْعَاقِلِ بِعَقْلِهِ وَحُسْنُ سِیرَتِهِ فِی لِسَانِهِ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِیِّ الْعَظِیمِ.

4: وَأَمَّا حَقُّ السَّمْعِ فَتَنْزِیهُهُ عَنْ أَنْ تَجْعَلَهُ طَرِیقاً إِلَی قَلْبِکَ إِلَّا لِفَوْهَةٍ کَرِیمَةٍ تُحْدِثُ فِی قَلْبِکَ خَیْراً، أَوْ تَکْسِبُکَ خُلُقاً کَرِیماً، فَإِنَّهُ بَابُ الْکَلَامِ إِلَی الْقَلْبِ یُؤَدِّی إِلَیْهِ ضُرُوبُ الْمَعَانِی عَلَی مَا فِیهَا مِنْ خَیْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

5: وَأَمَّا حَقُّ بَصَرِکَ فَغَضُّهُ عَمَّا لَا یَحِلُّ لَکَ، وَتَرْکُ ابْتِذَالِهِ إِلَّا لِمَوْضِعِ عِبْرَةٍ تَسْتَقْبِلُ بِهَا بَصَراً أَوْ تَسْتَفِیدُ بِهَا عِلْماً، فَإِنَّ الْبَصَرَ بَابُ الِاعْتِبَارِ.

6: وَأَمَّا حَقُّ رِجْلَیْکَ فَأَنْ لَا تَمْشِیَ بِهِمَا إِلَی مَا لَا یَحِلُّ لَکَ، وَلَا تَجْعَلَهَا مَطِیَّتَکَ فِی الطَّرِیقِ الْمُسْتَخِفَّةِ بِأَهْلِهَا فِیهَا، فَإِنَّهَا حَامِلَتُکَ وَسَالِکَةٌ بِکَ مَسْلَکَ الدِّینِ وَالسَّبْقِ لَکَ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

7: وَأَمَّا حَقُّ یَدِکَ فَأَنْ لَا تَبْسُطَهَا إِلَی مَا لَا یَحِلُّ لَکَ، فَتَنَالَ بِمَا تَبْسُطُهَا إِلَیْهِ مِنَ اللَّهِ الْعُقُوبَةَ فِی الْآجِلِ، وَمِنَ النَّاسِ بِلِسَانِ اللَّائِمَةِ فِی الْعَاجِلِ، وَلَا تَقْبِضَهَا مِمَّا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَیْهَا، وَلَکِنْ تُوَقِّرُهَا بِقْبِضِهَا عَنْ

ص:513

کَثِیرٍ مِمَّا لَا یَحِلُّ لَهَا، وَبَسُطِهَا بِکَثِیرٍ مِمَّا لَیْسَ عَلَیْهَا، فَإِذَا هِیَ قَدْ عَقَلَتْ وَشَرَفَتْ فِی الْعَاجِلِ وَجَبَ لَهَا حُسْنُ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ فِی الْآجِلِ.

8: وَأَمَّا حَقُّ بَطْنِکَ فَأَنْ لَا تَجْعَلَهُ وِعَاءً لِقَلِیلٍ مِنَ الْحَرَامِ وَلَا لِکَثِیرٍ، وَأَنْ تَقْتَصِدَ لَهُ فِی الْحَلَالِ، وَلَا تُخْرِجَهُ مِنْ حَدِّ التَّقْوِیَةِ إِلَی حَدِّ التَّهْوِینِ وَذَهَابِ الْمُرُوَّةِ، فَإِنَّ الشِّبَعَ الْمُنْتَهِیَ بِصَاحِبِهِ إِلَی التُّخَمِ مَکْسَلَةٌ وَمَثْبَطَةٌ وَمَقْطَعَةٌ عَنْ کُلِّ بِرٍّ وَکَرَمٍ، وَإِنَّ الرَّأْیَ الْمُنْتَهِیَ بِصَاحِبِهِ إِلَی السُّکْرِ مَسْخَفَةٌ وَمَجْهَلَةٌ وَمَذْهَبَةٌ لِلْمُرُوَّةِ.

9: وَأَمَّا حَقُّ فَرْجِکَ فَحِفْظُهُ مِمَّا لَا یَحِلُّ لَکَ وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَیْهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْوَنِ الْأَعْوَانِ، وَضَبْطُهُ إِذَا هَمَّ بِالْجُوعِ وَالظَّمَإِ وَکَثْرَةِ ذِکْرِ الْمَوْتِ وَالتَّهَدُّدِ لِنَفْسِکَ بِاللَّهِ وَالتَّخْوِیفِ لَهَا بِهِ وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّأْیِیدُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ.

((حقوق الأفعال))

ثُمَّ حُقُوقُ الْأَفْعَالِ:

10: فَأَمَّا حَقُّ الصَّلَاةِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا وِفَادَةٌ إِلَی اللَّهِ، وَأَنَّکَ قَائِمٌ بِهَا بَیْنَ یَدَیِ اللَّهِ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِکَ کُنْتَ خَلِیقاً أَنْ تَقُومَ فِیهَا مَقَامَ الذَّلِیلِ الرَّاغِبِ الرَّاهِبِ، الْخَائِفِ الرَّاجِی، الْمِسْکِینِ الْمُتَضَرِّعِ، الْمُعَظِّمِ مَنْ قَامَ بَیْنَ یَدَیْهِ بِالسُّکُونِ وَالْإِطْرَاقِ وَخُشُوعِ الْأَطْرَافِ وَلِینِ الْجَنَاحِ، وَحُسْنِ الْمُنَاجَاةِ لَهُ فِی نَفْسِهِ، وَالطَّلَبِ إِلَیْهِ فِی فَکَاکِ رَقَبَتِکَ الَّتِی أَحَاطَتْ بِهَا خَطِیئَتُکَ وَاسْتَهْلَکَتْهَا ذُنُوبُکَ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

11: وَأَمَّا حَقُّ الصَّوْمِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ حِجَابٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ عَلَی لِسَانِکَ وَسَمْعِکَ وَبَصَرِکَ وَفَرْجِکَ وَبَطْنِکَ لِیَسْتُرَکَ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَهَکَذَا جَاءَ فِی الْحَدِیثِ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ» فَإِنْ سَکَنَتْ أَطْرَافُکَ فِی حَجَبَتِهَا رَجَوْتَ أَنْ تَکُونَ مَحْجُوباً، وَإِنْ أَنْتَ تَرَکْتَهَا تَضْطَرِبُ فِی حِجَابِهَا

ص:514

وَتَرْفَعُ جَنَبَاتِ الْحِجَابِ فَتَطَّلِعُ إِلَی مَا لَیْسَ لَهَا بِالنَّظْرَةِ الدَّاعِیَةِ لِلشَّهْوَةِ وَالْقُوَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَدِّ التَّقِیَّةِ لِلَّهِ، لَمْ یُؤْمَنْ أَنْ تَخْرِقَ الْحِجَابَ وَتَخْرُجَ مِنْهُ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

12: وَأَمَّا حَقُّ الصَّدَقَةِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا ذُخْرُکَ عِنْدَ رَبِّکَ، وَوَدِیعَتُکَ الَّتِی لَا تَحْتَاجُ إِلَی الْإِشْهَادِ((1))، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِکَ کُنْتَ بِمَا اسْتَوْدَعْتَهُ سِرّاً أَوْثَقَ بِمَا اسْتَوْدَعْتَهُ عَلَانِیَةً، وَکُنْتَ جَدِیراً أَنْ تَکُونَ أَسْرَرْتَ إِلَیْهِ أَمْراً أَعْلَنْتَهُ، وَکَانَ الْأَمْرُ بَیْنَکَ وَبَیْنَهُ فِیهَا سِرّاً عَلَی کُلِّ حَالٍ، وَلَمْ یَسْتَظْهِرْ عَلَیْهِ فِیمَا اسْتَوْدَعْتَهُ مِنْهَا إِشْهَادَ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ عَلَیْهِ بِهَا، کَأَنَّهَا أَوْثَقُ فِی نَفْسِکَ وَکَأَنَّکَ لَا تَثِقُ بِهِ فِی تَأْدِیَةِ وَدِیعَتِکَ إِلَیْکَ، ثُمَّ لَمْ تَمْتَنَّ بِهَا عَلَی أَحَدٍ، لِأَنَّهَا لَکَ فَإِذَا امْتَنَنْتَ بِهَا لَمْ تَأْمَنْ أَنْ تَکُونَ بِهَا مِثْلَ تَهْجِینِ حَالِکَ مِنْهَا إِلَی مَنْ مَنَنْتَ بِهَا عَلَیْهِ، لِأَنَّ فِی ذَلِکَ دَلِیلًا عَلَی أَنَّکَ لَمْ تُرِدْ نَفْسَکَ بِهَا، وَلَوْ أَرَدْتَ نَفْسَکَ بِهَا لَمْ تَمْتَنَّ بِهَا عَلَی أَحَدٍ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

13: وَأَمَّا حَقُّ الْهَدْیِ فَأَنْ تُخْلِصَ بِهَا الْإِرَادَةَ إِلَی رَبِّکَ، وَالتَّعَرُّضَ لِرَحْمَتِهِ وَقَبُولِهِ، وَلَا تُرِیدَ عُیُونَ النَّاظِرِینَ دُونَهُ، فَإِذَا کُنْتَ کَذَلِکَ لَمْ تَکُنْ مُتَکَلِّفاً وَلَا مُتَصَنِّعاً، وَکُنْتَ إِنَّمَا تَقْصِدُ إِلَی اللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ یُرَادُ بِالْیَسِیرِ وَلَا یُرَادُ بِالْعَسِیرِ، کَمَا أَرَادَ بِخَلْقِهِ التَّیْسِیرَ، وَلَمْ یُرِدْ بِهِمُ التَّعْسِیرَ، وَکَذَلِکَ التَّذَلُّلُ أَوْلَی بِکَ مِنَ التَّدَهْقُنِ، لِأَنَّ الْکُلْفَةَ وَالْمَئُونَةَ فِی الْمُتَدَهْقِنِینَ، فَأَمَّا التَّذَلُّلُ وَالتَّمَسْکُنُ فَلَا کُلْفَةَ فِیهِمَا وَلَا مَئُونَةَ عَلَیْهِمَا، لِأَنَّهُمَا الْخِلْقَةُ وَهُمَا مَوْجُودَانِ فِی الطَّبِیعَةِ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

ص:515


1- لا یحتاج یوم القیامة إلی الإشهاد، لما ورد فی الخبر من أن الصدقة أول ما تقع فی ید الله تعالی قبل أن تقع فی ید السائل.  ان ظر الکافی: ج4 ص3 باب فضل الصدقة ح5. وفیه: (وَلَیْسَ شَیْ ءٌ أَثْقَلَ عَلَی الشَّیْطَانِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَی الْمُؤْمِنِ، وَهِیَ تَقَعُ فِی یَدِ الرَّبِّ تَبَارَکَ وَتَعَالَی قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِی یَدِ الْعَبْد)

((حقوق الأئمة))

((حقوق الأئمة))

ثُمَّ حُقُوقُ الْأَئِمَّةِ:

14: فَأَمَّا حَقُّ سَائِسِکَ بِالسُّلْطَانِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّکَ جُعِلْتَ لَهُ فِتْنَةً، وَأَنَّهُ مُبْتَلًی فِیکَ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ عَلَیْکَ مِنَ السُّلْطَانِ، وَأَنْ تُخْلِصَ لَهُ فِی النَّصِیحَةِ، وَأَنْ لَا تُمَاحِکَهُ((1)) وَقَدْ بُسِطَتْ یَدُهُ عَلَیْکَ فَتَکُونَ سَبَبَ هَلَاکِ نَفْسِکَ وَهَلَاکِهِ، وَتَذَلَّلْ وَتَلَطَّفْ لِإِعْطَائِهِ مِنَ الرِّضَی مَا یَکُفُّهُ عَنْکَ، وَلَا یُضِرُّ بِدِینِکَ وَتَسْتَعِینُ عَلَیْهِ فِی ذَلِکَ بِاللَّهِ، وَلَا تُعَازِّهِ((2)) وَلَا تُعَانِدْهُ فَإِنَّکَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِکَ عَقَقْتَهُ وَعَقَقْتَ نَفْسَکَ فَعَرَّضْتَهَا لِمَکْرُوهِهِ وَعَرَّضْتَهُ لِلْهَلَکَةِ فِیکَ، وَکُنْتَ خَلِیقاً أَنْ تَکُونَ مُعِیناً لَهُ عَلَی نَفْسِکَ وَشَرِیکاً لَهُ فِیمَا أَتَی إِلَیْکَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

15: وَأَمَّا حَقُّ سَائِسِکَ بِالْعِلْمِ فَالتَّعْظِیمُ لَهُ، وَالتَّوْقِیرُ لِمَجْلِسِهِ، وَحُسْنُ الِاسْتِمَاعِ إِلَیْهِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَیْهِ، وَالْمَعُونَةُ لَهُ عَلَی نَفْسِکَ فِیمَا لَا غِنَی بِکَ عَنْهُ مِنَ الْعِلْمِ، بِأَنْ تُفَرِّغَ لَهُ عَقْلَکَ وَتُحَضِّرَهُ فَهْمَکَ وَتُذَکِّیَ لَهُ قَلْبَکَ وَتُجَلِّیَ لَهُ بَصَرَکَ، بِتَرْکِ اللَّذَّاتِ وَنَقْضِ الشَّهَوَاتِ، وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّکَ فِیمَا أَلْقَی رَسُولُهُ إِلَی مَنْ لَقِیَکَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ فَلَزِمَکَ حُسْنُ التَّأْدِیَةِ عَنْهُ إِلَیْهِمْ، وَلَا تَخُنْهُ فِی تَأْدِیَةِ رِسَالَتِهِ وَالْقِیَامِ بِهَا عَنْهُ إِذَا تَقَلَّدْتَهَا، وَلَا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

16: وَأَمَّا حَقُّ سَائِسِکَ بِالْمِلْکِ فَنَحْوٌ مِنْ سَائِسِکَ بِالسُّلْطَانِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا یَمْلِکُ مَا لَا یَمْلِکُهُ ذَاکَ، تَلْزَمُکَ طَاعَتُهُ فِیمَا دَقَّ وَجَلَّ مِنْکَ، إِلَّا أَنْ تُخْرِجَکَ مِنْ وُجُوبِ حَقِّ اللَّهِ فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ یَحُولُ بَیْنَکَ وَ بَیْنَ حَقِّهِ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ

ص:516


1- لا تماحکه: لا تخاصمه ولا تنازعه
2- لا تعازه: لا تعارضه فی العزة

فَإِذَا قَضَیْتَهُ رَجَعْتَ إِلَی حَقِّهِ((1)) فَتَشَاغَلْتَ بِهِ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

((حقوق الرعیة))

((حقوق الرعیة))

ثُمَّ حُقُوقُ الرَّعِیَّةِ:

17: فَأَمَّا حُقُوقُ رَعِیَّتِکَ بِالسُّلْطَانِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّکَ إِنَّمَا اسْتَرْعَیْتَهُمْ بِفَضْلِ قُوَّتِکَ عَلَیْهِمْ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَحَلَّهُمْ مَحَلَّ الرَّعِیَّةِ لَکَ ضَعْفُهُمْ وَذُلُّهُمْ، فَمَا أَوْلَی مَنْ کَفَاکَهُ ضَعْفُهُ وَذُلُّهُ حَتَّی صَیَّرَهُ لَکَ رَعِیَّةً وَصَیَّرَ حُکْمَکَ عَلَیْهِ نَافِذاً، لَا یَمْتَنِعُ مِنْکَ بِعِزَّةٍ وَلَا قُوَّةٍ، وَلَا یَسْتَنْصِرُ فِیمَا تَعَاظَمَهُ مِنْکَ إِلَّا بِاللَّهِ بِالرَّحْمَةِ وَالْحِیَاطَةِ((2)) وَالْأَنَاةِ((3))، وَمَا أَوْلَاکَ إِذَا عَرَفْتَ مَا أَعْطَاکَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِ هَذِهِ الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ الَّتِی قَهَرْتَ بِهَا أَنْ تَکُونَ لِلَّهِ شَاکِراً، وَمَنْ شَکَرَ اللَّهَ أَعْطَاهُ فِیمَا أَنْعَمَ عَلَیْهِ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

18: وَأَمَّا حَقُّ رَعِیَّتِکَ بِالْعِلْمِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَکَ لَهُمْ قَیِّماً فِیمَا آتَاکَ مِنَ الْعِلْمِ، وَوَلَّاکَ مِنْ خِزَانَةِ الْحِکْمَةِ، فَإِنْ أَحْسَنْتَ فِیمَا وَلَّاکَ اللَّهُ مِنْ ذَلِکَ وَقُمْتَ بِهِ لَهُمْ مَقَامَ الْخَازِنِ الشَّفِیقِ النَّاصِحِ لِمَوْلَاهُ فِی عَبِیدِهِ الصَّابِرِ الْمُحْتَسِبِ الَّذِی إِذَا رَأَی ذَا حَاجَةٍ أَخْرَجَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِی فِی یَدَیْهِ رَاشِداً وَکُنْتَ لِذَلِکَ آمِلًا مُعْتَقِداً((4))، وَإِلَّا کُنْتَ لَهُ خَائِناً وَلِخَلْقِهِ ظَالِماً وَلِسَلَبِهِ وَغَیْرِهِ مُتَعَرِّضاً.

19: وَأَمَّا حَقُّ رَعِیَّتِکَ بِمِلْکِ النِّکَاحِ، فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا سَکَناً وَمُسْتَرَاحاً وَأُنْساً وَوَاقِیَةً، وَکَذَلِکَ کُلُّ أَحَدٍ مِنْکُمَا یَجِبُ أَنْ یَحْمَدَ اللَّهَ عَلَی صَاحِبِهِ، وَیَعْلَمَ أَنَّ ذَلِکَ نِعْمَةٌ مِنْهُ عَلَیْهِ، وَوَجَبَ أَنْ یُحْسِنَ صُحْبَةَ

ص:517


1- أی إذا قیت حق الله فارجع إلی أداء حق مالکک
2- الحیاطة: الحفاظة والحمایة والصیانة
3- الأناة کقناة: الوقار والحلم وأصله الانتظار
4- الأمل: خادم الرجل وعونه الذی یأمله

نِعْمَةِ اللَّهِ وَیُکْرِمَهَا وَیَرْفُقَ بِهَا، وَإِنْ کَانَ حَقُّکَ عَلَیْهَا أَغْلَظَ وَطَاعَتُکَ لَهَا أَلْزَمَ فِیمَا أَحْبَبْتَ وَکَرِهْتَ مَا لَمْ تَکُنْ مَعْصِیَةً، فَإِنَّ لَهَا حَقَّ الرَّحْمَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ وَمَوْضِعَ السُّکُونِ إِلَیْهَا قَضَاءَ اللَّذَّةِ الَّتِی لَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا وَذَلِکَ عَظِیمٌ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

20: وَأَمَّا حَقُّ رَعِیَّتِکَ بِمِلْکِ الْیَمِینِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ خَلْقُ رَبِّکَ وَلَحْمُکَ وَدَمُکَ، وَأَنَّکَ تَمْلِکُهُ لَا أَنْتَ صَنَعْتَهُ دُونَ اللَّهِ، وَلَا خَلَقْتَ لَهُ سَمْعاً وَلَا بَصَراً وَلَا أَجْرَیْتَ لَهُ رِزْقاً، وَلَکِنَّ اللَّهَ کَفَاکَ ذَلِکَ بِمَنْ سَخَّرَهُ لَکَ وَائْتَمَنَکَ عَلَیْهِ وَاسْتَوْدَعَکَ إِیَّاهُ لِتَحْفَظَهُ فِیهِ، وَتَسِیرَ فِیهِ بِسِیرَتِهِ، فَتُطْعِمَهُ مِمَّا تَأْکُلُ، وَتُلْبِسَهُ مِمَّا تَلْبَسُ، وَلَا تُکَلِّفَهُ مَا لَا یُطِیقُ، فَإِنْ کَرِهْتَهُ خَرَجْتَ إِلَی اللَّهِ مِنْهُ وَاسْتَبْدَلْتَ بِهِ، وَلَمْ تُعَذِّبْ خَلْقَ اللَّهِ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

((حق الرحم))

((حق الرحم))

21: وَأَمَّا حَقُّ الرَّحِمِ، فَحَقُّ أُمِّکَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا حَمَلَتْکَ حَیْثُ لَا یَحْمِلُ أَحَدٌ أَحَداً، وَأَطْعَمَتْکَ مِنْ ثَمَرَةِ قَلْبِهَا مَا لَا یُطْعِمُ أَحَدٌ أَحَداً، وَأَنَّهَا وَقَتْکَ بِسَمْعِهَا وَبَصَرِهَا وَیَدِهَا وَرِجْلِهَا وَشَعْرِهَا وَبَشَرِهَا وَجَمِیعِ جَوَارِحِهَا، مُسْتَبْشِرَةً بِذَلِکَ فَرِحَةً مُؤَمِّلَةً مُحْتَمِلَةً لِمَا فِیهِ مَکْرُوهُهَا وَأَلَمُهَا وَثِقْلُهَا وَغَمُّهَا، حَتَّی دَفَعَتْهَا عَنْکَ یَدُ الْقُدْرَةِ وَأَخْرَجَتْکَ إِلَی الْأَرْضِ، فَرَضِیَتْ أَنْ تَشْبَعَ وَتَجُوعَ هِیَ، وَتَکْسُوَکَ وَتَعْرَی، وَتُرْوِیَکَ وَتَظْمَأَ، وَتُظِلَّکَ وَتَضْحَی، وَتُنَعِّمَکَ بِبُؤْسِهَا وَتُلَذِّذَکَ بِالنَّوْمِ بِأَرَقِهَا، وَکَانَ بَطْنُهَا لَکَ وِعَاءً، وَحِجْرُهَا لَکَ حِوَاءً، وَثَدْیُهَا لَکَ سِقَاءً، وَنَفْسُهَا لَکَ وِقَاءً، تُبَاشِرُ حَرَّ الدُّنْیَا وَبَرْدَهَا لَکَ وَدُونَکَ فَتَشْکُرُهَا عَلَی قَدْرِ ذَلِکَ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَیْهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِیقِهِ.

22: وَأَمَّا حَقُّ أَبِیکَ فَتَعْلَمُ أَنَّهُ أَصْلُکَ وَأَنَّکَ فَرْعُهُ، وَأَنَّکَ لَوْلَاهُ لَمْ

ص:518

تَکُنْ، فَمَهْمَا رَأَیْتَ فِی نَفْسِکَ مِمَّا یُعْجِبُکَ فَاعْلَمْ أَنَّ أَبَاکَ أَصْلُ النِّعْمَةِ عَلَیْکَ فِیهِ، وَاحْمَدِ اللَّهَ وَاشْکُرْهُ عَلَی قَدْرِ ذَلِکَ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

23: وَأَمَّا حَقُّ وَلَدِکَ فَتَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْکَ وَمُضَافٌ إِلَیْکَ فِی عَاجِلِ الدُّنْیَا بِخَیْرِهِ وَشَرِّهِ، وَأَنَّکَ مَسْؤُولٌ عَمَّا وُلِّیتَهُ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ وَالدَّلَالَةِ عَلَی رَبِّهِ وَالْمَعُونَةِ لَهُ عَلَی طَاعَتِهِ فِیکَ وَفِی نَفْسِهِ، فَمُثَابٌ عَلَی ذَلِکَ وَمُعَاقَبٌ، فَاعْمَلْ فِی أَمْرِهِ عَمَلَ الْمُتَزَیِّنِ بِحُسْنِ أَثَرِهِ عَلَیْهِ فِی عَاجِلِ الدُّنْیَا، الْمُعَذِّرِ إِلَی رَبِّهِ فِیمَا بَیْنَکَ وَبَیْنَهُ بِحُسْنِ الْقِیَامِ عَلَیْهِ، وَالْأَخْذِ لَهُ مِنْهُ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

24: وَأَمَّا حَقُّ أَخِیکَ فَتَعْلَمُ أَنَّهُ یَدُکَ الَّتِی تَبْسُطُهَا، وَظَهْرُکَ الَّذِی تَلْتَجِی إِلَیْهِ، وَعِزُّکَ الَّذِی تَعْتَمِدُ عَلَیْهِ، وَقُوَّتُکَ الَّتِی تَصُولُ بِهَا، فَلَا تَتَّخِذْهُ سِلَاحاً عَلَی مَعْصِیَةِ اللَّهِ، وَلَا عُدَّةً لِلظُّلْمِ بِخَلْقِ اللَّهِ، وَلَا تَدَعْ نُصْرَتَهُ عَلَی نَفْسِهِ وَمَعُونَتَهُ عَلَی عَدُوِّهِ وَ الْحَوْلَ بَیْنَهُ وَبَیْنَ شَیَاطِینِهِ وَتَأْدِیَةَ النَّصِیحَةِ إِلَیْهِ وَالْإِقْبَالَ عَلَیْهِ فِی اللَّهِ، فَإِنِ انْقَادَ لِرَبِّهِ وَأَحْسَنَ الْإِجَابَةَ لَهُ، وَإِلَّا فَلْیَکُنِ اللَّهُ آثَرَ عِنْدَکَ وَأَکْرَمَ عَلَیْکَ مِنْهُ.

25: وَأَمَّا حَقُّ الْمُنْعِمِ عَلَیْکَ بِالْوَلَاءِ((1)) فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ أَنْفَقَ فِیکَ مَالَهُ، وَأَخْرَجَکَ مِنْ ذُلِّ الرِّقِّ وَوَحْشَتِهِ إِلَی عِزِّ الْحُرِّیَّةِ وَأُنْسِهَا، وَأَطْلَقَکَ مِنْ أَسْرِ الْمَلَکَةِ، وَفَکَّ عَنْکَ حَلَقَ الْعُبُودِیَّةِ، وَأَوْجَدَکَ رَائِحَةَ الْعِزِّ، وَأَخْرَجَکَ مِنْ سِجْنِ الْقَهْرِ، وَدَفَعَ عَنْکَ الْعُسْرَ، وَبَسَطَ لَکَ لِسَانَ الْإِنْصَافِ، وَأَبَاحَکَ الدُّنْیَا کُلَّهَا، فَمَلَّکَکَ نَفْسَکَ، وَحَلَّ أَسْرَکَ، وَفَرَّغَکَ لِعِبَادَةِ رَبِّکَ، وَاحْتَمَلَ بِذَلِکَ التَّقْصِیرَ فِی مَالِهِ فَتَعْلَمَ أَنَّهُ أَوْلَی الْخَلْقِ بِکَ بَعْدَ أُولِی رَحِمِکَ فِی

ص:519


1- الولاء بالفتح: النصرة، والملک: المحبة والصداقة والقرابة

حَیَاتِکَ وَمَوْتِکَ، وَأَحَقُّ الْخَلْقِ بِنَصْرِکَ وَمَعُونَتِکَ وَمُکَانَفَتِکَ فِی ذَاتِ اللَّهِ((1))، فَلَا تُؤْثِرْ عَلَیْهِ نَفْسَکَ مَا احْتَاجَ إِلَیْکَ أَبَداً.

26: وَأَمَّا حَقُّ مَوْلَاکَ الْجَارِیَةِ عَلَیْهِ نِعْمَتُکَ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَکَ حَامِیَةً عَلَیْهِ وَوَاقِیَةً، وَنَاصِراً وَمَعْقِلًا، وَجَعَلَهُ لَکَ وَسِیلَةً وَسَبَباً بَیْنَکَ وَبَیْنَهُ، فَبِالْحَرِیِّ أَنْ یَحْجُبَکَ عَنِ النَّارِ، فَیَکُونَ فِی ذَلِکَ ثَوَابُکَ مِنْهُ فِی الْآجِلِ، وَیَحْکُمَ لَکَ بِمِیرَاثِهِ فِی الْعَاجِلِ إِذَا لَمْ یَکُنْ لَهُ رَحِمٌ، مُکَافَاةً لِمَا أَنْفَقْتَهُ مِنْ مَالِکَ عَلَیْهِ، وَقُمْتَ بِهِ مِنْ حَقِّهِ بَعْدَ إِنْفَاقِ مَالِکَ، فَإِنْ لَمْ تَخَفْهُ خِیفَ عَلَیْکَ أَنْ لَا یُطَیِّبَ لَکَ مِیرَاثَهُ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

27: وَأَمَّا حَقُّ ذِی الْمَعْرُوفِ عَلَیْکَ فَأَنْ تَشْکُرَهُ وَتَذْکُرَ مَعْرُوفَهُ، وَتَنْشُرَ بِهِ الْقَالَةَ الْحَسَنَةَ، وَتُخْلِصَ لَهُ الدُّعَاءَ فِیمَا بَیْنَکَ وَبَیْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّکَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِکَ کُنْتَ قَدْ شَکَرْتَهُ سِرّاً وَعَلَانِیَةً، ثُمَّ إِنْ أَمْکَنَکَ مُکَافَاتُهُ بِالْفِعْلِ کَافَأْتَهُ، وَإِلَّا کُنْتَ مَرْصَداً لَهُ مُوَطِّناً نَفْسَکَ عَلَیْهَا((2)).

28: وَأَمَّا حَقُّ الْمُؤَذِّنِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ مُذَکِّرُکَ بِرَبِّکَ، وَدَاعِیکَ إِلَی حَظِّکَ، وَأَفْضَلُ أَعْوَانِکَ عَلَی قَضَاءِ الْفَرِیضَةِ الَّتِی افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَیْکَ، فَتَشْکُرَهُ عَلَی ذَلِکَ شُکْرَکَ لِلْمُحْسِنِ إِلَیْکَ، وَإِنْ کُنْتَ فِی بَیْتِکَ مُتَّهَماً لِذَلِکَ لَمْ تَکُنْ لِلَّهِ فِی أَمْرِهِ مُتَّهَماً، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَیْکَ لَا شَکَّ فِیهَا، فَأَحْسِنْ صُحْبَةَ نِعْمَةِ اللَّهِ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَیْهَا عَلَی کُلِّ حَالٍ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

29: وَأَمَّا حَقُّ إِمَامِکَ فِی صَلَاتِکَ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ تَقَلَّدَ السِّفَارَةَ

ص:520


1- المکانفة: المعاونة
2- الضمیر فی (علیها) یرجع إلی المکافأة، أی ترصد وتراقب وتهیء نفسک علی المکافأة فی وقتها

فِیمَا بَیْنَکَ وَبَیْنَ اللَّهِ وَالْوِفَادَةَ إِلَی رَبِّکَ، وَتَکَلَّمَ عَنْکَ وَلَمْ تَتَکَلَّمْ عَنْهُ، وَدَعَا لَکَ وَلَمْ تَدْعُ لَهُ، وَطَلَبَ فِیکَ وَلَمْ تَطْلُبْ فِیهِ، وَکَفَاکَ هَمَّ الْمُقَامِ بَیْنَ یَدَیِ اللَّهِ وَالْمَسْأَلَةِ لَهُ فِیکَ وَلَمْ تَکْفِهِ ذَلِکَ، فَإِنْ کَانَ فِی شَیْ ءٍ مِنْ ذَلِکَ تَقْصِیرٌ کَانَ بِهِ دُونَکَ، وَإِنْ کَانَ آثِماً لَمْ تَکُنْ شَرِیکَهُ فِیهِ وَلَمْ یَکُنْ لَکَ عَلَیْهِ فَضْلٌ، فَوَقَی نَفْسَکَ بِنَفْسِهِ، وَوَقَی صَلَاتَکَ بِصَلَاتِهِ، فَتَشْکُرُ لَهُ عَلَی ذَلِکَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

30: وَأَمَّا حَقُّ الْجَلِیسِ فَأَنْ تُلِینَ لَهُ کَنَفَکَ((1))، وَتُطِیبَ لَهُ جَانِبَکَ، وَتُنْصِفَهُ فِی مُجَارَاةِ اللَّفْظِ، وَلَا تُغْرِقَ فِی نَزْعِ اللَّحْظِ إِذَا لَحَظْتَ، وَتَقْصِدَ فِی اللَّفْظِ إِلَی إِفْهَامِهِ إِذَا لَفَظْتَ، وَإِنْ کُنْتَ الْجَلِیسَ إِلَیْهِ کُنْتَ فِی الْقِیَامِ عَنْهُ بِالْخِیَارِ، وَإِنْ کَانَ الْجَالِسَ إِلَیْکَ کَانَ بِالْخِیَارِ، وَلَا تَقُومَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

31: وَأَمَّا حَقُّ الْجَارِ فَحِفْظُهُ غَائِباً، وَکَرَامَتُهُ شَاهِداً، وَنُصْرَتُهُ وَمَعُونَتُهُ فِی الْحَالَیْنِ جَمِیعاً((2))، لَا تَتَبَّعْ لَهُ عَوْرَةً، وَلَا تَبْحَثْ لَهُ عَنْ سَوْأَةٍ لِتَعْرِفَهَا، فَإِنْ عَرَفْتَهَا مِنْهُ مِنْ غَیْرِ إِرَادَةٍ مِنْکَ وَلَا تَکَلُّفٍ کُنْتَ لِمَا عَلِمْتَ حِصْناً حَصِیناً، وَسِتْراً سَتِیراً، لَوْ بَحَثَتِ الْأَسِنَّةُ عَنْهُ ضَمِیراً لَمْ تَتَّصِلْ إِلَیْهِ لِانْطِوَائِهِ عَلَیْهِ، لَا تَسْتَمِعْ عَلَیْهِ مِنْ حَیْثُ لَا یَعْلَمُ، لَا تُسْلِمْهُ عِنْدَ شَدِیدَةٍ، وَلَا تَحْسُدْهُ عِنْدَ نِعْمَةٍ، تُقِیلُهُ عَثْرَتَهُ، وَتَغْفِرُ زَلَّتَهُ، وَلَا تَذْخَرْ حِلْمَکَ عَنْهُ إِذَا جَهِلَ عَلَیْکَ، وَلَا تَخْرُجْ أَنْ تَکُونَ سِلْماً لَهُ تَرُدُّ عَنْهُ لِسَانَ الشَّتِیمَةِ وَتُبْطِلُ فِیهِ کَیْدَ حَامِلِ النَّصِیحَةِ، وَتُعَاشِرُهُ مُعَاشَرَةً کَرِیمَةً، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

ص:521


1- الکنف: الجانب والظل
2- المراد بالحالین: الشهود والغیاب

32: وَأَمَّا حَقُّ الصَّاحِبِ فَأَنْ تَصْحَبَهُ بِالْفَضْلِ مَا وَجَدْتَ إِلَیْهِ سَبِیلًا، وَإِلَّا فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْإِنْصَافِ، وَأَنْ تُکْرِمَهُ کَمَا یُکْرِمُکَ، وَتَحْفَظَهُ کَمَا یَحْفَظُکَ، وَلَا یَسْبِقَکَ فِیمَا بَیْنَکَ وَبَیْنَهُ إِلَی مَکْرُمَةٍ، فَإِنْ سَبَقَکَ کَافَأْتَهُ، وَلَا تُقَصِّرْ بِهِ عَمَّا یَسْتَحِقُّ مِنَ الْمَوَدَّةِ، تُلْزِمْ نَفْسَکَ نَصِیحَتَهُ وَحِیَاطَتَهُ وَمُعَاضَدَتَهُ عَلَی طَاعَةِ رَبِّهِ، وَمَعُونَتَهُ عَلَی نَفْسِهِ فِیمَا یَهُمُّ بِهِ مِنْ مَعْصِیَةِ رَبِّهِ، ثُمَّ تَکُونُ عَلَیْهِ رَحْمَةً وَلَا تَکُونُ عَلَیْهِ عَذَاباً، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

33: وَأَمَّا حَقُّ الشَّرِیکِ فَإِنْ غَابَ کَفَیْتَهُ، وَإِنْ حَضَرَ سَاوَیْتَهُ، لَا تَعْزِمْ عَلَی حُکْمِکَ دُونَ حُکْمِهِ، وَلَا تَعْمَلْ بِرَأْیِکَ دُونَ مُنَاظَرَتِهِ، تَحْفَظُ عَلَیْهِ مَالَهُ، وَتَنْفِی عَنْهُ خِیَانَتَهُ فِیمَا عَزَّ أَوْ هَانَ، فَإِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ یَدَ اللَّهِ عَلَی الشَّرِیکَیْنِ مَا لَمْ یَتَخَاوَنَا، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

34: وَأَمَّا حَقُّ الْمَالِ فَأَنْ لَا تَأْخُذَهُ إِلَّا مِنْ حِلِّهِ، وَلَا تُنْفِقَهُ إِلَّا فِی حِلِّهِ، وَلَا تُحَرِّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلَا تَصْرِفَهُ عَنْ حَقَائِقِهِ، وَلَا تَجْعَلَهُ إِذَا کَانَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَیْهِ، وَسَبَباً إِلَی اللَّهِ، وَلَا تُؤْثِرَ بِهِ عَلَی نَفْسِکَ مَنْ لَعَلَّهُ لَا یَحْمَدُکَ، وَبِالْحَرِیِّ أَنْ لَا یُحْسِنَ خِلَافَتَکَ فِی تَرِکَتِکَ، وَلَا یَعْمَلَ فِیهِ بِطَاعَةِ رَبِّکَ، فَتَکُونَ مُعِیناً لَهُ عَلَی ذَلِکَ، أَوْ بِمَا أَحْدَثَ فِی مَالِکَ أَحْسَنَ نَظَراً لِنَفْسِهِ فَیَعْمَلُ بِطَاعَةِ رَبِّهِ فَیَذْهَبُ بِالْغَنِیمَةِ وَتَبُوءُ بِالْإِثْمِ وَالْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ مَعَ التَّبِعَةِ((1))، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

35: وَ أَمَّا حَقُّ الْغَرِیمِ الطَّالِبِ لَکَ((2))، فَإِنْ کُنْتَ مُوسِراً أَوْفَیْتَهُ،

ص:522


1- التبعة: ما یترتب علی الفعل من الشر، وقد یستعمل فی الخیر
2- الغریم: الدائن، ویطلق أیضاً علی المدیون، وفی بعض النسخ: (الغریم المطالب لک)

وَکَفَیْتَهُ وَأَغْنَیْتَهُ، وَلَمْ تَرُدَّهُ وَتَمْطُلْهُ((1))، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) قَالَ: «مَطْلُ الْغَنِیِّ ظُلْمٌ»، وَإِنْ کُنْتَ مُعْسِراً أَرْضَیْتَهُ بِحُسْنِ الْقَوْلِ، وَطَلَبْتَ إِلَیْهِ طَلَباً جَمِیلًا، وَرَدَدْتَهُ عَنْ نَفْسِکَ رَدّاً لَطِیفاً، وَلَمْ تَجْمَعْ عَلَیْهِ ذَهَابَ مَالِهِ وَسُوءَ مُعَامَلَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِکَ لُؤْمٌ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

36: وَأَمَّا حَقُّ الْخَلِیطِ((2)) فَأَنْ لَا تَغُرَّهُ وَلَا تَغُشَّهُ وَلَا تَکْذِبَهُ، وَلَا تُغْفِلَهُ وَلَا تَخْدَعَهُ، وَلَا تَعْمَلَ فِی انْتِقَاضِهِ عَمَلَ الْعَدُوِّ الَّذِی لَا یَبْقَی عَلَی صَاحِبِهِ، وَإِنِ اطْمَأَنَّ إِلَیْکَ اسْتَقْصَیْتَ لَهُ عَلَی نَفْسِکَ، وَعَلِمْتَ أَنَّ غَبْنَ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

37: وَأَمَّا حَقُّ الْخَصْمِ الْمُدَّعِی عَلَیْکَ، فَإِنْ کَانَ مَا یَدَّعِی عَلَیْکَ حَقّاً لَمْ تَنْفَسِخْ فِی حُجَّتِهِ، وَلَمْ تَعْمَلْ فِی إِبْطَالِ دَعْوَتِهِ، وَکُنْتَ خَصْمَ نَفْسِکَ لَهُ وَالْحَاکِمَ عَلَیْهَا، وَالشَّاهِدَ لَهُ بِحَقِّهِ دُونَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَإِنْ کَانَ مَا یَدَّعِیهِ بَاطِلًا رَفَقْتَ بِهِ وَرَوَّعْتَهُ وَنَاشَدْتَهُ بِدِینِهِ((3))، وَکَسَرْتَ حِدَّتَهُ عَنْکَ بِذِکْرِ اللَّهِ، وَأَلْقَیْتَ حَشْوَ الْکَلَامِ وَلَفْظَةَ السُّوءِ الَّذِی لَا یَرُدُّ عَنْکَ عَادِیَةَ عَدُوِّکَ((4))، بَلْ تَبُوءُ بِإِثْمِهِ، وَبِهِ یَشْحَذُ عَلَیْکَ سَیْفَ عَدَاوَتِهِ، لِأَنَّ لَفْظَةَ السُّوءِ تَبْعَثُ الشَّرَّ، وَالْخَیْرُ مَقْمَعَةٌ لِلشَّرِّ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

38: وَأَمَّا حَقُّ الْخَصْمِ الْمُدَّعَی عَلَیْهِ فَإِنْ کَانَ مَا تَدَّعِیهِ حَقّاً أَجْمَلْتَ

ص:523


1- المطل: التسویف والتعلل فی أداء الحق وتأخیره عن وقته
2- الخلیط: المخالط کالندیم والشریک والجلیس ونحوها
3- روعه: أفزعه، و(ناشدته بدینه): حلفته وطلبته به
4- اللغط: الکلام فیه جلبة واختلاط ولا یتبین، (وعادیة عدوک) أی حدته وغبه، وعادیة السم: ضرره، (ویشحذ علیک): أی یغضب، وأصله من شحذ السکین ونحوه: أحدّه

فِی مُقَاوَلَتِهِ بِمَخْرَجِ الدَّعْوَی((1))، فَإِنَّ لِلدَّعْوَی غِلْظَةً فِی سَمْعِ الْمُدَّعَی عَلَیْهِ، وَقَصَدْتَ قَصْدَ حُجَّتِکَ بِالرِّفْقِ، وَأَمْهَلِ الْمُهْلَةِ، وَأَبْیَنِ الْبَیَانِ، وَأَلْطَفِ اللُّطْفِ، وَلَمْ تَتَشَاغَلْ عَنْ حُجَّتِکَ بِمُنَازَعَتِهِ بِالْقِیلِ وَالْقَالِ فَتَذْهَبَ عَنْکَ حُجَّتُکَ، وَلَا یَکُونَ لَکَ فِی ذَلِکَ دَرَکٌ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

39: وَأَمَّا حَقُّ الْمُسْتَشِیرِ فَإِنْ حَضَرَکَ لَهُ وَجْهُ رَأْیٍ جَهَدْتَ لَهُ فِی النَّصِیحَةِ، وَأَشَرْتَ عَلَیْهِ بِمَا تَعْلَمُ، أَنَّکَ لَوْ کُنْتَ مَکَانَهُ عَمِلْتَ بِهِ، وَذَلِکَ لِیَکُنْ مِنْکَ فِی رَحْمَةٍ وَلِینٍ، فَإِنَّ اللِّینَ یُونِسُ الْوَحْشَةَ، وَإِنَّ الْغِلَظَ یُوحِشُ مِنْ مَوْضِعِ الْأُنْسِ، وَإِنْ لَمْ یَحْضُرْکَ لَهُ رَأْیٌ وَعَرَفْتَ لَهُ مَنْ تَثِقُ بِرَأْیِهِ وَتَرْضَی بِهِ لِنَفْسِکَ دَلَلْتَهُ عَلَیْهِ وَأَرْشَدْتَهُ إِلَیْهِ، فَکُنْتَ لَمْ تَأْلُهُ خَیْراً((2))، وَلَمْ تَدَّخِرْهُ نُصْحاً، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

40: وَأَمَّا حَقُّ الْمُشِیرِ عَلَیْکَ فَلَا تَتَّهِمْهُ فِیمَا یُوَافِقُکَ عَلَیْهِ مِنْ رَأْیِهِ إِذَا أَشَارَ عَلَیْکَ، فَإِنَّمَا هِیَ الْآرَاءُ وَتَصَرُّفُ النَّاسِ فِیهَا وَاخْتِلَافُهُمْ، فَکُنْ عَلَیْهِ فِی رَأْیِهِ بِالْخِیَارِ إِذَا اتَّهَمْتَ رَأْیَهُ، فَأَمَّا تُهَمَتُهُ فَلَا تَجُوزُ لَکَ إِذَا کَانَ عِنْدَکَ مِمَّنْ یَسْتَحِقُّ الْمُشَاوَرَةَ، وَلَا تَدَعْ شُکْرَهُ عَلَی مَا بَدَا لَکَ مِنْ إِشْخَاصِ رَأْیِهِ، وَحُسْنِ وَجْهِ مَشُورَتِهِ، فَإِذَا وَافَقَکَ حَمِدْتَ اللَّهَ وَقَبِلْتَ ذَلِکَ مِنْ أَخِیکَ بِالشُّکْرِ وَالْإِرْصَادِ بِالْمُکَافَاةِ فِی مِثْلِهَا إِنْ فَزَعَ إِلَیْکَ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

41: وَأَمَّا حَقُّ الْمُسْتَنْصِحِ فَإِنَّ حَقَّهُ أَنْ تُؤَدِّیَ إِلَیْهِ النَّصِیحَةَ عَلَی الْحَقِّ الَّذِی تَرَی لَهُ أَنْ یَحْمِلَ، وَیَخْرُجَ الْمَخْرَجَ الَّذِی یَلِینُ عَلَی مَسَامِعِهِ، وَتُکَلِّمَهُ مِنَ الْکَلَامِ بِمَا یُطِیقُهُ عَقْلُهُ، فَإِنَّ لِکُلِّ عَقْلٍ طَبَقَةً مِنَ الْکَلَامِ

ص:524


1- المقاولة: المجادلة والمباحثة
2- لم تأله: لم تقصره، من ألی یألو

یَعْرِفُهُ وَیُجِیبُهُ، وَلْیَکُنْ مَذْهَبُکَ الرَّحْمَةَ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

42: وَأَمَّا حَقُّ النَّاصِحِ فَأَنْ تُلِینَ لَهُ جَنَاحَکَ، ثُمَّ تَشْرَئِبَّ لَهُ قَلْبَکَ((1))، وَتَفْتَحَ لَهُ سَمْعَکَ حَتَّی تَفْهَمَ عَنْهُ نَصِیحَتَهُ، ثُمَّ تَنْظُرَ فِیهَا فَإِنْ کَانَ وُفِّقَ فِیهَا لِلصَّوَابِ حَمِدْتَ اللَّهَ عَلَی ذَلِکَ، وَقَبِلْتَ مِنْهُ وَعَرَفْتَ لَهُ نَصِیحَتَهُ، وَإِنْ لَمْ یَکُنْ وُفِّقَ لَهَا فِیهَا رَحِمْتَهُ وَلَمْ تَتَّهِمْهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ یَأْلُکَ نُصْحاً إِلَّا أَنَّهُ أَخْطَأَ، إِلَّا أَنْ یَکُونَ عِنْدَکَ مُسْتَحِقّاً لِلتُّهَمَةِ فَلَا تَعْنِی بِشَیْ ءٍ مِنْ أَمْرِهِ عَلَی کُلِّ حَالٍ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

43: وَأَمَّا حَقُّ الْکَبِیرِ فَإِنَّ حَقَّهُ تَوْقِیرُ سِنِّهِ، وَإِجْلَالُ إِسْلَامِهِ إِذَا کَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ فِی الْإِسْلَامِ بِتَقْدِیمِهِ فِیهِ، وَتَرْکُ مُقَابَلَتِهِ عِنْدَ الْخِصَامِ، لَا تَسْبِقُهُ إِلَی طَرِیقٍ، وَلَا تَؤُمُّهُ فِی طَرِیقٍ، وَلَا تَسْتَجْهِلُهُ، وَإِنْ جَهِلَ عَلَیْکَ تَحَمَّلْتَ وَأَکْرَمْتَهُ بِحَقِّ إِسْلَامِهِ مَعَ سِنِّهِ، فَإِنَّمَا حَقُّ السِّنِّ بِقَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

44: وَأَمَّا حَقُّ الصَّغِیرِ فَرَحْمَتُهُ وَتَثْقِیفُهُ وَتَعْلِیمُهُ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ وَالسَّتْرُ عَلَیْهِ وَالرِّفْقُ بِهِ وَالْمَعُونَةُ لَهُ، وَالسَّتْرُ عَلَی جَرَائِرِ حَدَاثَتِهِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلتَّوْبَةِ، وَالْمُدَارَاةُ لَهُ، وَتَرْکُ مُمَاحَکَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِکَ أَدْنَی لِرُشْدِهِ.

45: وَأَمَّا حَقُّ السَّائِلِ فَإِعْطَاؤُهُ إِذَا تَهَیَّأَتْ صَدَقَةٌ، وَ قَدَرْتَ عَلَی سَدِّ حَاجَتِهِ، وَالدُّعَاءُ لَهُ فِیمَا نَزَلَ بِهِ، وَالْمُعَاوَنَةُ لَهُ عَلَی طَلِبَتِهِ، وَإِنْ شَکَکْتَ فِی صِدْقِهِ وَسَبَقَتْ إِلَیْهِ التُّهَمَةُ لَهُ لَمْ تَعْزِمْ عَلَی ذَلِکَ، وَلَمْ تَأْمَنْ أَنْ یَکُونَ مِنْ کَیْدِ الشَّیْطَانِ، أَرَادَ أَنْ یَصُدَّکَ عَنْ حَظِّکَ، وَیَحُولَ بَیْنَکَ وَبَیْنَ التَّقَرُّبِ إِلَی رَبِّکَ، وَتَرَکْتَهُ بِسَتْرِهِ، وَرَدَدْتَهُ رَدّاً جَمِیلًا، وَإِنْ غَلَبَتْ نَفْسُکَ فِی أَمْرِهِ

ص:525


1- اشرأب للشیء: مد عنقه لینظره، والمراد أن تسقی قلبک من نصحه

وَأَعْطَیْتَهُ عَلَی مَا عَرَضَ فِی نَفْسِکَ مِنْهُ، فَإِنَّ ذلِکَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.

46: وَأَمَّا حَقُّ الْمَسْئُولِ إِنْ أَعْطَی فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا أَعْطَی بِالشُّکْرِ لَهُ، وَالْمَعْرِفَةِ لِفَضْلِهِ، وَاطْلُبْ وَجْهَ الْعُذْرِ فِی مَنْعِهِ، وَأَحْسِنْ بِهِ الظَّنَّ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ مَنَعَ مَالَهُ مُنِعَ، وَأَنْ لَیْسَ التَّثْرِیبُ فِی مَالِهِ((1))، وَإِنْ کَانَ ظَالِماً فَإِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ کَفَّارٌ.

47: وَأَمَّا حَقُّ مَنْ سَرَّکَ اللَّهُ بِهِ وَعَلَی یَدَیْهِ فَإِنْ کَانَ تَعَمَّدَهَا لَکَ حَمِدْتَ اللَّهَ أَوَّلًا، ثُمَّ شَکَرْتَهُ عَلَی ذَلِکَ بِقَدْرِهِ فِی مَوْضِعِ الْجَزَاءِ، وَکَافَأْتَهُ عَلَی فَضْلِ الِابْتِدَاءِ، وَأَرْصَدْتَ لَهُ الْمُکَافَاةَ، وَإِنْ لَمْ یَکُنْ تَعَمَّدَهَا حَمِدْتَ اللَّهَ وَشَکَرْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ مِنْهُ تَوَحَّدَکَ بِهَا وَأَحْبَبْتَ هَذَا إِذْ کَانَ سَبَباً مِنْ أَسْبَابِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَیْکَ، وَتَرْجُو لَهُ بَعْدَ ذَلِکَ خَیْراً، فَإِنَّ أَسْبَابَ النِّعَمِ بَرَکَةٌ حَیْثُ مَا کَانَتْ وَإِنْ کَانَ لَمْ یَتَعَمَّدْ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

48: وَأَمَّا حَقُّ مَنْ سَاءَکَ الْقَضَاءُ عَلَی یَدَیْهِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَإِنْ کَانَ تَعَمَّدَهَا کَانَ الْعَفْوُ أَوْلَی بِکَ لِمَا فِیهِ لَهُ مِنَ الْقَمْعِ وَحُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ کَبِیرِ أَمْثَالِهِ مِنَ الْخُلُقِ، فَإِنَّ اللَّهَ یَقُولُ: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِکَ ما عَلَیْهِمْ مِنْ سَبِیلٍ﴾ إِلَی قَوْلِهِ: ﴿لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾((2))، وَقَالَ عَزَّ وَ جَلَّ: ﴿وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَیْرٌ لِلصَّابِرِینَ﴾((3)).

هَذَا فِی الْعَمْدِ، فَإِنْ لَمْ یَکُنْ عَمْداً لَمْ تَظْلِمْهُ بِتَعَمُّدِ الِانْتِصَارِ مِنْهُ، فَتَکُونَ قَدْ کَافَأْتَهُ فِی تَعَمُّدٍ عَلَی خَطَأ، وَرَفَقْتَ بِهِ وَرَدَدْتَهُ بِأَلْطَفِ مَا تَقْدِرُ عَلَیْهِ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

ص:526


1- التثریب: التوبیخ والملامة
2- سورة الشوری: 41
3- سورة النحل: 126

49: وَأَمَّا حَقُّ أَهْلِ بَیْتِکَ عَامَّةً فَإِضْمَارُ السَّلَامَةِ، وَنَشْرُ جَنَاحِ الرَّحْمَةِ، وَالرِّفْقُ بِمُسِیئِهِمْ، وَتَأَلُّفُهُمْ، وَاسْتِصْلَاحُهُمْ، وَشُکْرُ مُحْسِنِهِمْ إِلَی نَفْسِهِ وَإِلَیْکَ، فَإِنَّ إِحْسَانَهُ إِلَی نَفْسِهِ إِحْسَانُهُ إِلَیْکَ، إِذَا کَفَّ عَنْکَ أَذَاهُ وَکَفَاکَ مَئُونَتَهُ وَحَبَسَ عَنْکَ نَفْسَهُ، فَعُمَّهُمْ جَمِیعاً بِدَعْوَتِکَ، وَانْصُرْهُمْ جَمِیعاً بِنُصْرَتِکَ، وَأَنْزِلْهُمْ جَمِیعاً مِنْکَ مَنَازِلَهُمْ، کَبِیرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ، وَصَغِیرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، وَأَوْسَطَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ، فَمَنْ أَتَاکَ تَعَاهَدْتَهُ بِلُطْفٍ وَرَحْمَةٍ، وَصِلْ أَخَاکَ بِمَا یَجِبُ لِلْأَخِ عَلَی أَخِیهِ.

50: وَأَمَّا حَقُّ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَالْحُکْمُ فِیهِمْ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا قَبِلَ اللَّهُ، وَتَفِیَ بِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ ذِمَّتِهِ وَعَهْدِهِ، وَتُکَلِّمَهُمْ إِلَیْهِ فِیمَا طُلِبُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأُجْبِرُوا عَلَیْهِ، وَتَحْکُمَ فِیهِمْ بِمَا حَکَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَی نَفْسِکَ فِیمَا جَرَی بَیْنَکَ وَبَیْنَهُمْ مِنْ مُعَامَلَةٍ، وَلْیَکُنْ بَیْنَکَ وَبَیْنَ ظُلْمِهِمْ مِنْ رِعَایَةِ ذِمَّةِ اللَّهِ وَالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ وَعَهْدِ رَسُولِهِ (صلی الله علیه وآله) حَائِلٌ، فَإِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَداً کُنْتُ خَصْمَهُ» فَاتَّقِ اللَّهَ، وَلَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

فَهَذِهِ خَمْسُونَ حَقّاً مُحِیطَةً بِکَ، لَا تَخْرُجْ مِنْهَا فِی حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، یَجِبُ عَلَیْکَ رِعَایَتُهَا وَالْعَمَلُ فِی تَأْدِیَتِهَا، وَالِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَی ذَلِکَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ»((1)).

* * *

انتهی فی ثالث محرم الحرام من سنة ألف وأربعمائة وتسعة من الهجرة النبویة، علی مهاجرها آلاف الصلاة والتحیة.

سبحان ربک رب العزة عما یصفون، وسلام علی المرسلین، والحمد لله رب العالمین، وصلی الله علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.

قم المقدسة

محمد بن المهدی الحسینی الشیرازی

ص:527


1- تحف العقول: ص271، بحار الأنوار: ج71 ص21

المحتویات

المحتویات

تمهید 5 [1]

مقدمة 7 [2]

جذور الحقوق. 8 [3]

لماذا وضع الحقوق. 9 [4]

موضوع علم الحقوق. 9 [5]

تعریف الحق. 10 [6]

فائدة الحق. 10 [7]

مسائل علم الحقوق. 10 [8]

ما یبتنی علیه الحقوق. 10 [9]

روح القانون. 12 [10]

القانون التخییری. 12 [11]

إذا اختلفا فی الحق. 13 [12]

الحقوق الفطریة 15 [13]

الحقوق الوضعیة 15 [14]

التطابق بین الحقوق الفطریة والإلهیة 15 [15]

ما المراد بالفطرة 17 [16]

الفطرة والحریات الفردیة 20 [17]

فتح باب الاجتهاد 21 [18]

الشریعة أوسع من الفطرة 22 [19]

إشکال اختلاف الفطرة عند الناس.. 24 [20]

هل یلزم اتباع قوانین الدولة 27 [21]

القانون الشرعی. 27 [22]

أقسام الاضطرار. 27 [23]

قوانین الدولة المشروعة 28 [24]

قوانین الدولة غیر المشروعة 28 [25]

قانون الأهم والمهم 29 [26]

وضع القانون أم اتباع العرف.. 30 [27]

ص:528

الصور الست للقانون مع العرف والعادة 30 [1]

لماذا شوری الفقهاء. 31 [2]

بین التشریع والتطبیق. 31 [3]

الهدف من القانون. 33 [4]

أصالة الفرد أم المجتمع. 35 [5]

القول الأول وأدلته 35 [6]

القول الثانی وأدلته 36 [7]

أصالة الفرد وشروطها 38 [8]

إشکال وجواب.. 39 [9]

میزات الحق. 41 [10]

الحقوق إلزامیات.. 41 [11]

بین الحق والحکم 41 [12]

الدول وضمان إجراء الحقوق. 42 [13]

نقص القانون الدولی. 42 [14]

الدول ومقومات ضمان الحقوق. 43 [15]

القانون والوضع الکلی. 45 [16]

الحقوق وتنظیم شؤون المجتمع. 47 [17]

بین الدین والحقوق. 48 [18]

هل یتطور القانون. 48 [19]

الحق بالمعنی الفلسفی. 48 [20]

أنواع الحقوق. 49 [21]

بین الحق والأخلاق. 49 [22]

من فروق الحق والأخلاق. 50 [23]

بین الحق والعدالة 51 [24]

العدالة بین تنقیح الکبری وتشخیص الصغری. 52 [25]

صغریات لا خلاف فیها 53 [26]

صغریات فیها خلاف.. 53 [27]

وجوه الاختلاف وأسبابه 53 [28]

العدالة السیاسیة وغیرها 54 [29]

العموم من وجه بین العدل والحق. 54 [30]

الحکم حق إلهی إنسانی. 55 [31]

نظریة الحکم عند الغرب فی القرون الوسطی. 55 [32]

نظریتان غربیتان سابقتان. 56 [33]

ص:529

الحاکم الإسلامی والتقید بالنصوص... 58 [1]

کفایة الاحتمال فی بعض العناوین الثانویة 59 [2]

أقسام الحق. 60 [3]

الحق الطبیعی. 60 [4]

الحق الوضعی. 60 [5]

الفارق بین الحق الطبیعی والوضعی. 60 [6]

الحقوق العامة والخاصة 62 [7]

حق الکرامة الإنسانیة 62 [8]

تقسیم آخر للحق. 63 [9]

تقسیمات فرعیة للحقوق. 63 [10]

الحقوق العامة 63 [11]

حق الحریة فی الإسلام 64 [12]

الحقوق الخاصة 64 [13]

حقوق فردیة طولیة 65 [14]

التصادم بین الحقوق. 65 [15]

الحقوق الطبیعیة وأقسامها 65 [16]

علم الحقوق وفنها 67 [17]

قصة الحجة الشفتی. 69 [18]

ارتباط الحقوق بعلوم مختلفة 71 [19]

الحقوق وعلم الفقه 71 [20]

هل الأمور الفردیة تسمی حقوقا 71 [21]

الحقوق وعلم الاجتماع. 72 [22]

الحقوق وعلم الاقتصاد 74 [23]

الحقوق وعلم السیاسة 76 [24]

الحقوق والعلوم الریاضیة والطبیعیة 78 [25]

الوطن الإسلامی وحرمة الحدود المصطنعة 79 [26]

نماذج مستحدثة 79 [27]

القانون وعدم الشمول والدوام 80 [28]

القانون الصریح والمستنبط. 81 [29]

جعل القانون وملاحظة العدالة والاجتماع. 82 [30]

الشخصیة المبدعة 82 [31]

التجارب وعلم الحقوق. 83 [32]

وضوح القانون. 84 [33]

ص:530

مقبولیة القانون عند مختلف الأطراف.. 84 [1]

کیفیة تطبیق القانون 84 [2]

فهم القانون. 85 [3]

القضاء والأشباه والنظائر الخارجیة 85 [4]

تطبیق القانون علی العرف.. 86 [5]

معرفة الدعوی وخصوصیاتها 87 [6]

مع کاتب القانون. 87 [7]

مقومات تطبیق القانون. 89 [8]

حقوق الدولة والأفراد 95 [9]

حقوق الدولة العامة 95 [10]

الاستفادة من الأجهزة الحدیثة 96 [11]

فروق بین الحقوق العامة والخاصة 98 [12]

الثمرة العملیة بین الحقین. 99 [13]

بین الفرد والمؤسسة ولماذا القصد 100 [14]

الاختلاف فی الحق العام والخاص... 100 [15]

ضمان العقود بین الدولة والأفراد 101 [16]

لزوم تدارک الضرر. 102 [17]

الحقوق الداخلیة والخارجیة 103 [18]

تقسیمات الحقوق. 105 [19]

الأصل حریة الإنسان. 105 [20]

قانون الجنسیة مثالاً. 105 [21]

لا لکثرة التشقیقات القانونیة وتقسیماتها 112 [22]

تقسیمات الحقوق المدنیة وغیرها 114 [23]

کثرة التقسیمات الحقوقیة مخالفة للشرع والعقل. 115 [24]

أعذار واهیة فی القوانین الوضعیة 115 [25]

الحقوق الداخلیة 119 [26]

الأصل التساوی فی الحقوق. 119 [27]

موارد الاختلاف فی الحقوق. 120 [28]

القانون فی الدول الاتحادیة 120 [29]

الحقوق الخارجیة 121 [30]

نقض الحقوق والقوة الرادعة الدولیة 122 [31]

أقسام الحقوق الدولیة الخاصة 123 [32]

الأمور الجزائیة 123 [33]

ص:531

الأمور القضائیة 124 [1]

الأمور المدنیة 124 [2]

الأمور العبادیة 124 [3]

أمثلة فی اختلاف قانون الدول. 125 [4]

من مصادیق القرعة 126 [5]

إشکال عام علی القرعة 126 [6]

المهایاة ومصادیقها 127 [7]

الحقوق بین المسلمین وغیرهم 128 [8]

الحقوق المقارنة 130 [9]

نموذج من أخطاء الغرب الاقتصادیة 130 [10]

من أسباب سرقة الثروات فی بلادنا 132 [11]

الاطلاع علی سائر القوانین الحقوقیة 133 [12]

أنواع الحقوق فی البلاد 134 [13]

1: الحقوق فی الإسلام 134 [14]

الموضوعات العرضیة 134 [15]

الموضوعات الطولیة 135 [16]

الحقوق من ناحیة الحکم 135 [17]

الحقوق ومصادر الأحکام 136 [18]

آیات الأحکام 137 [19]

الجانب الثابت والمتطور فی الحقوق. 138 [20]

2: الحقوق فی الغرب.. 138 [21]

3: الحقوق عند الشیوعیین. 138 [22]

4: الحقوق فی أوروبا الغربیة 139 [23]

5: الحقوق فی الهند وما أشبه 140 [24]

الدستور والقانون الأساسی. 142 [25]

قوانین التطبیقات متغیرة 147 [26]

الفقهاء واستنباط التطبیقات.. 149 [27]

الأسلوب الغربی فی الدستور. 150 [28]

الدساتیر المرنة والجامدة 151 [29]

الدستور ماهیته وتعدیله 151 [30]

الدستور الموقت.. 152 [31]

دستوریة القوانین. 152 [32]

القضاء ودستوریة القانون. 153 [33]

ص:532

وجوب تساوی الناس أمام القضاء. 154 [1]

من شروط قانون الإلزام 156 [2]

روایات المساواة أمام القانون. 156 [3]

قصة سوادة 156 [4]

استعارة عقد من بیت المال. 157 [5]

النجاشی وإجراء الحد علیه 158 [6]

الیهودی وقصة الدرع. 158 [7]

القانون وحقوق الأقلیات.. 159 [8]

القوانین غیر الإسلامیة لا تلزم المسلم 161 [9]

القانون والتخییر. 161 [10]

العزیمة والرخصة فی الحقوق. 162 [11]

الحق والاستصحاب.. 162 [12]

فروع فی الحقوق. 163 [13]

الجهل ورفع الحکم 164 [14]

ما یخالف العقل أو العقلاء. 164 [15]

من مصادیق العقوبات المرفوعة بالجهل. 166 [16]

الحقوق وتحمل الخسارة 167 [17]

الحقوق وضمان البرید 168 [18]

الحقوق وموارد الإکراه والاضطرار. 168 [19]

الحقوق والنسیان. 170 [20]

الحقوق والإکراه والإلجاء. 171 [21]

الحقوق وقابلیة النسخ. 173 [22]

إبطال مفعول القانون من الآن. 173 [23]

إبطال مفعول القانون بأثر رجعی. 173 [24]

إبطال مفعول القانون بعد مدة 174 [25]

أقسام إبطال القانون. 174 [26]

دور العرف فی القانون. 176 [27]

العرف وتحدید الموضوعات.. 176 [28]

العرف وتحدید المفاهیم 176 [29]

العادات العرفیة 177 [30]

أرکان العرف.. 178 [31]

بین العرف والعادة 178 [32]

إذا سقط العرف.. 178 [33]

ص:533

إذا اختلف العرف.. 183 [1]

عرف المتشرعة 183 [2]

مرجعیة العرف.. 185 [3]

المفهوم العرفی للأخلاق. 187 [4]

تطور العرف.. 187 [5]

أعراف جدیدة 189 [6]

فروع. 190 [7]

المرض المعدی ومسألة الضمان. 191 [8]

تمریض الجنین. 192 [9]

تکوین الولد مع العلم بالمرض... 192 [10]

تعارض القانون وروحه والعرف.. 193 [11]

الأجیر فی الإخبار وقانون الضرر. 194 [12]

تخالف الإشارة والوصف.. 195 [13]

التعارض بین العرف والقانون. 196 [14]

عرفان فی بلد واحد 196 [15]

التعارض بین العرف العام والخاص... 197 [16]

المستحدثات والقوانین الجدیدة 198 [17]

إذا قضت المحکمة بالحکم 198 [18]

القضاة والقوة التنفیذیة 199 [19]

کلام الإمام فی ذم اختلاف الآراء. 200 [20]

إشکالات فی معرفة الصغریات.. 202 [21]

النقص القانونی. 202 [22]

السکوت القانونی. 202 [23]

الإجمال القانونی. 203 [24]

التدافع القانونی. 204 [25]

شبهات مصداقیة 205 [26]

أمثلة لموارد الشبهة 206 [27]

آراء سائر العلماء الفضلاء. 208 [28]

المراجع الفقهاء ومرجعیة القانون. 210 [29]

قاعدة السلطنة وثباتها فی ذاتها 210 [30]

التعددیة ضمان عدم الاستبداد 211 [31]

قاعدة السلطنة وتغیر مصادیقها 212 [32]

تفسیر القانون وأبعاده 213 [33]

ص:534

خصوصیات القوانین العامة 216 [1]

قوانین النظام والشمول الأفرادی. 216 [2]

قوانین الأحکام وقانون الإلزام 216 [3]

قانون الأقلیات غیر الإسلامیة 217 [4]

بین الحکومة الإسلامیة والعلمانیة 218 [5]

القانون الإسلامی وشمولیة المکان. 219 [6]

شوری المرجعیة واختلاف الآراء. 221 [7]

القانون الإسلامی ومسألة الزمان. 221 [8]

الزمان فی الکبریات والصغریات.. 221 [9]

تغیر القانون بتغییر من الواضع. 222 [10]

القانون والأثر الرجعی. 222 [11]

الأثر الرجعی فی الروایات.. 225 [12]

الحقوق فردیة واجتماعیة 227 [13]

الحق وتقسیماته المختلفة 227 [14]

ما هو الحق وما هی حقیقته 228 [15]

الحق وتعاریف أخر. 229 [16]

الشخصیة الحقوقیة وآثارها 230 [17]

الحق عند المتشرعة 230 [18]

حقوق جذورها فی الإسلام 231 [19]

وثیقة الحقوق العالمیة 231 [20]

حقوق الإنسان. 231 [21]

حقوق المواطن. 233 [22]

حق الاقتراع. 233 [23]

حق تقریر المصیر. 233 [24]

مواثیق الحقوق وتلاعب المستعمرین. 235 [25]

حق الدفاع. 236 [26]

حق الرد 237 [27]

حق المواطنة 237 [28]

حق المرور البحری. 237 [29]

حق السحب.. 238 [30]

حق وحکم ودین. 239 [31]

الحکم وحقیقته 239 [32]

الحق والبحث المصداقی. 240 [33]

ص:535

بین الحق والواجب وسائر الأحکام 240 [1]

بین السبب والحق والأثر. 242 [2]

الجمع بین الحق والتکلیف.. 243 [3]

المؤسسات الحقوقیة 245 [4]

أرکان المؤسسة الحقوقیة 245 [5]

حرمة التجسس علی الناس.. 247 [6]

الحق المالی وغیر المالی. 250 [7]

أقسام الحق المالی. 250 [8]

فروع فی الحق المالی. 251 [9]

أبعاد الحق المالی. 252 [10]

الحق العلمی والشخصی. 252 [11]

من مصادیق الحقوق المالیة 254 [12]

تعدد أرکان الحق. 255 [13]

اختلاف حق العین وحق الدین. 256 [14]

من تقسیمات الحق. 259 [15]

الحقوق العرفیة وعدم الإجحاف.. 259 [16]

اجتماع العین والحق. 259 [17]

حق الشرکة وأقسامه 260 [18]

إطلاقات الملکیة 262 [19]

فروع فی المالیة بالفعل وبالقوة 262 [20]

الملکیة والتعامل علیها 264 [21]

الملکیة حالة واحدة 266 [22]

لا اعتبار بملکیة غیر الإنسان. 266 [23]

بین الإنسان والملکیة 266 [24]

الإنسان والمالکیة 266 [25]

الملکیة والحیازة 267 [26]

العین والدین والحق. 268 [27]

لا أصل بین المنقول وغیره 269 [28]

حق الکسب.. 271 [29]

المال المشترک بین المنقول وغیره 272 [30]

من أقسام الحق. 273 [31]

الحق المنجز والمعلق. 273 [32]

الحق الحال والمؤجل. 273 [33]

ص:536

الحق المکانی الخاص والعام 274 [1]

الحق الدائم والمؤقت.. 274 [2]

الحق المستقر والمتزلزل. 275 [3]

الحق وأطرافه 275 [4]

فروع الحق متعدد الأطراف.. 276 [5]

الحق الاختیاری وغیره 276 [6]

حق الإنسان وغیره 276 [7]

الحق الإرادی وغیر الإرادی. 278 [8]

شرائط العقد والإیقاع. 280 [9]

المعاملات وأهل الطرفین. 284 [10]

شروط موضوع المعاملة 285 [11]

أصالة اللزوم فی العقود 288 [12]

أطراف الاستفادة من العقد 289 [13]

العقود والأحکام الوضعیة والتکلیفیة 290 [14]

بین العقد والإیقاع. 291 [15]

العقد والأمور الأربعة 291 [16]

المقصود بالإعلام فی العقود 292 [17]

أسباب الضمان. 294 [18]

الغصب والضمان. 294 [19]

فروع فی الغصب.. 296 [20]

الإتلاف والضمان. 297 [21]

فروع فی الإتلاف.. 299 [22]

التسبیب والضمان. 301 [23]

الاستیجار والضمان. 302 [24]

الاستیلاء والضمان. 303 [25]

موجبات إثبات الحق وإسقاطه 305 [26]

ما یوجب الحق المادی. 305 [27]

ما یوجب الحق المعنوی. 305 [28]

الحق والإنسان الآخر. 305 [29]

الحق من غیر العمل. 306 [30]

الحق الثابت وأقسامه 306 [31]

الحقوق العینیة وغیرها 308 [32]

انتقال الحق وإنقاله 310 [33]

ص:537

فروع فی انتقال الحق. 310 [1]

زوال الحق وأسبابه 314 [2]

الإبراء والإعراض... 315 [3]

لا اعتبار بالحکومة وقوانینها 317 [4]

العصیان وسقوط الحق. 319 [5]

عدم الاستفادة من الحق. 319 [6]

الوفاء وإسقاط الحق. 319 [7]

تبدل العنوان وإسقاط الحق. 319 [8]

فروع فی زوال الحق. 319 [9]

فروع فی التهاتر. 321 [10]

الزمان وسقوط الحق. 323 [11]

حدود الحق. 324 [12]

عدم کون الحق ضاراً بنفسه 324 [13]

عدم کونه مفسدة 324 [14]

عدم کون الحق ضاراً بغیره 325 [15]

عدم کون الحق خلاف المصلحة العامة 325 [16]

عدم کون الحق من المحرمات.. 326 [17]

النیة وأقسام العمل. 327 [18]

ما یوافق القانون أو یخالفه 327 [19]

الشارع وضبط الأعمال. 328 [20]

رعایة القانون العام 328 [21]

دفع ضرر الغیر. 328 [22]

الحق المطلق والنسبی. 331 [23]

الضرر وما یترتب علیه 333 [24]

أمران مضران. 335 [25]

الحق وضمان الإجراء. 338 [26]

ضمانات إجراء القانون. 338 [27]

لا لانتهاک الحقوق. 340 [28]

الحریات فی التاریخ الإسلامی. 343 [29]

مما یضمن إجراء الحقوق. 344 [30]

إجراء الحق بالجبر المباشر. 347 [31]

إجراء الحق بالجبر غیر المباشر. 347 [32]

موارد السجن فی الإسلام 348 [33]

ص:538

السجن المؤبد 352 [1]

المحاکم وإجراء الحقوق. 354 [2]

تحمیل الخسائر. 354 [3]

الغرامات المالیة وأدلتها 355 [4]

لا للتعذیب.. 359 [5]

شبهات وأجوبة 361 [6]

القربنة 362 [7]

نزول العذاب الإلهی. 363 [8]

العقاب فی الآخرة 364 [9]

الحدود والعقوبات الإسلامیة 365 [10]

حکام ظلمة 368 [11]

الشرع ورفع العقوبات أو تخفیفها 380 [12]

مع الشک فی الحق. 381 [13]

حق إقامة الدعوی. 386 [14]

الشخص الواحد وطرفا النزاع. 387 [15]

فروع فی الحق والحکم 387 [16]

شروط إقامة الدعوی. 388 [17]

وجود النفع فی تبین الحق. 388 [18]

عقلائیة الدعوی. 388 [19]

أهلیة الدعوی. 388 [20]

ارتباط المدعی بالدعوی. 389 [21]

صحة الاستیناف وعدم تعدد المحاکم 390 [22]

استعانة الحاکم بأصحاب الاختصاص... 390 [23]

شوری القضاة 391 [24]

بین الشرطة والمحکمة 392 [25]

بین الحق وموازین الدعوی. 393 [26]

أحوال المدعی علیه 396 [27]

مما یلزم علی القاضی. 396 [28]

أمور فی الدعوی. 397 [29]

الحکم والقرار والمطاولات والمقدمات.. 400 [30]

اتباع الحکم 400 [31]

القرار النافذ 400 [32]

مطاولات قضائیة 400 [33]

ص:539

مقدمات للقضاء. 400 [1]

الفرق بین الحکم والفتوی. 400 [2]

الحکم القاطع والابتدائی. 401 [3]

آثار الحکم 401 [4]

اعتبار الحکم 401 [5]

النظر المجدد فی الحکم 402 [6]

إنهاء أو انتهاء الحکم الموقت.. 403 [7]

تنفیذ الحکم 403 [8]

إذا اختلفت الدعوی. 403 [9]

الحق وإثباتاته 406 [10]

بین المدعی والمنکر. 408 [11]

قرائن الدعوی. 409 [12]

موضوع القضاء وحکمه 411 [13]

القاضی والأمور الحسبیة 413 [14]

لا فرق بین مسلم ومسلم 414 [15]

من خطط الاستعمار. 415 [16]

دلائل إثبات الدعاوی. 417 [17]

الإقرار وشروطه 417 [18]

فروع فی الإقرار. 419 [19]

الإقرار الإکراهی. 421 [20]

التعلیق فی الإقرار. 423 [21]

صور تعلیق فی المستقبل. 423 [22]

البینة وشروطها 424 [23]

شروط قبول الشهادة 425 [24]

تحمل الشهادة وأداؤها 426 [25]

فروع فی الشهادة 427 [26]

الکتابة وشروطها 428 [27]

الصوت والصورة 430 [28]

البصمات.. 430 [29]

قضاة متعددون. 431 [30]

الأیمان ومواردها 431 [31]

الأمارات وأقسامها 433 [32]

من أسباب هدر حقوق الناس.. 436 [33]

ص:540

الدوائر الحکومیة 436 [1]

الروتین وأسبابه 436 [2]

إنقاذ الأمة الإسلامیة وحقوقها 441 [3]

الناس وانتخاب الحکومة 446 [4]

لا للحکومات الدینیة الاستبدادیة 446 [5]

لماذا الحکومة الاستشاریة 447 [6]

ضرورة تغییر الحکام 448 [7]

الاستشاریة ورأی الأکثریة 449 [8]

المؤسسات الدستوریة  لحفظ الحریات.. 451 [9]

لماذا فشلت الأحزاب.. 452 [10]

لماذا العقوبات.. 454 [11]

قلة الجرائم 455 [12]

الجرائم فی أجواء غیر إسلامیة 456 [13]

الجریمة وصحة الدولة وفسادها 457 [14]

الجریمة وظروفها 458 [15]

نماذج مما یلزم ملاحظتها 459 [16]

المعیار فی الجریمة الشرع. 463 [17]

المرأة وما یصلحها 465 [18]

من حقوق السجین. 467 [19]

من آداب القاضی الجدید 480 [20]

الحق اعتبار عقلائی. 482 [21]

حق التألیف.. 482 [22]

حقوق أخری. 483 [23]

حق التسمیة 484 [24]

فنون الرسم والتصویر والتجسیم 489 [25]

فروع فی الحقوق المستحدثة 490 [26]

من صور النزاع. 491 [27]

الشخص الحقیقی والمعنوی. 492 [28]

إذا اشترک جماعة فی التألیف.. 495 [29]

حق دفع الاعتداء. 497 [30]

الشرکاء فی الحق. 497 [31]

الحقوق الإعلامیة والإنتاجیة 499 [32]

مخالفة القوانین الوضعیة للإسلام 502 [33]

ص:541

الدوائر الحکومیة 436 [424]

الروتین وأسبابه 436 [425]

إنقاذ الأمة الإسلامیة وحقوقها 441 [426]

الناس وانتخاب الحکومة 446 [427]

لا للحکومات الدینیة الاستبدادیة 446 [428]

لماذا الحکومة الاستشاریة 447 [429]

ضرورة تغییر الحکام 448 [430]

الاستشاریة ورأی الأکثریة 449 [431]

المؤسسات الدستوریة  لحفظ الحریات.. 451 [432]

لماذا فشلت الأحزاب.. 452 [433]

لماذا العقوبات.. 454 [434]

قلة الجرائم 455 [435]

الجرائم فی أجواء غیر إسلامیة 456 [436]

الجریمة وصحة الدولة وفسادها 457 [437]

الجریمة وظروفها 458 [438]

نماذج مما یلزم ملاحظتها 459 [439]

المعیار فی الجریمة الشرع. 463 [440]

المرأة وما یصلحها 465 [441]

من حقوق السجین. 467 [442]

من آداب القاضی الجدید 480 [443]

الحق اعتبار عقلائی. 482 [444]

حق التألیف.. 482 [445]

حقوق أخری. 483 [446]

حق التسمیة 484 [447]

فنون الرسم والتصویر والتجسیم 489 [448]

فروع فی الحقوق المستحدثة 490 [449]

من صور النزاع. 491 [450]

الشخص الحقیقی والمعنوی. 492 [451]

إذا اشترک جماعة فی التألیف.. 495 [452]

حق دفع الاعتداء. 497 [453]

الشرکاء فی الحق. 497 [454]

الحقوق الإعلامیة والإنتاجیة 499 [455]

مخالفة القوانین الوضعیة للإسلام 502 [456]

ص:542

إلغاء القوانین غیر الإسلامیة 504 [457]

تناقض الحکام مع الأمة 506 [458]

رسالته (علیه السلام) المعروفة برسالة الحقوق. 511 [459]

حقوق الأفعال. 514 [460]

حقوق الأئمة 516 [461]

حقوق الرعیة 517 [462]

حق الرحم 518 [463]

المحتویات.. 528 [464]

ص :543

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.