فقه الحج (للصافي)، المجلد 1

اشارة

سرشناسه : صافي گلپايگاني، لطف الله، 1298 -

عنوان و نام پديدآور : فقه الحج: بحوث استدلاليه في الحج/ تاليف لطف الله الصافي الگلپايگاني.

مشخصات نشر : قم: دفتر آيت الله العظمي شيخ لطف الله صافي گلپايگاني، 1390.

مشخصات ظاهري : 4 ج.

شابك : 250000 ريال: دوره 978-600-5105-54-4 : ؛ ج.1 978-600-5105-50-6 : ؛ ج.2 978-600-5105-51-3 : ؛ ج.3 978-600-5105-52-0 : ؛ ج.4 978-600-5105-53-7

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 2 - 4 (چاپ اول: 1390)(فيپا).

موضوع : حج

موضوع : فقه جعفري -- رساله عمليه

رده بندي كنگره : BP188/8/ص16ف7 1390

رده بندي ديويي : 297/357

شماره كتابشناسي ملي : 2693685

الجزء الأول

اشارة

فقه الحج

تأليف

المرجع الديني آية اللّٰه العظمي

الشيخ لطف اللّٰه الصافي الگلپايگاني (مد ظله)

المجلد الأول

الطبعة الثانية

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 7

المقدمة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّٰه الذي اختبر الأولين إلي الآخرين بأحجار لا تضر و لا تنفع، و لا تبصر و لا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً، و ابتلاهم به ابتلاءً عظيماً، و امتحاناً شديداً، و اختباراً مبيناً، و تمحيصاً بليغاً، و جعله سبباً لرحمته، و وصلةً إلي جنته، و شعبهً من رضوانه.

و الصلاة و السلام علي أفضل من حج و اعتمر، نبي الرحمة، جمال هذا الكون، و صفوة الإنسان، و نفحة الديان، سيدنا أبي القاسم محمد خاتم النبيين، و علي آله الأولياء المرضيين المعصومين، لا سيما الإمام المبين، و الكهف الحصين، بقية اللّٰه في الأرضين، مولانا الإمام المهدي أرواح العالمين له الفداء، و اللعن علي أعدائهم و مخالفيهم أجمعين.

و بعد، فإن من أشرف ما يتقرب به العباد إلي اللّٰه تعالي و من أعظم شعائر اللّٰه جل و عز حج بيت اللّٰه الحرام، أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبٰارَكاً وَ هُديً لِلْعٰالَمِينَ، فيه آيات بينات، فقد أكرم اللّٰه تعالي عباده بأن أذن لهم بحجه و طوافه،

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 8

و الحضور في تلك المشاعر الشريفة، و المواقف الكريمة، ليرتفعوا من حضيض حظوظ النفوس الحيوانية و التعلقات المادية، إلي ذروة التشبه بالملائكة الروحانية، و يرتقوا من أدناس ما يمنعهم من العروج إلي المدارج العالية في الملكوت الأعلي، و ما يفتح علي قلوبهم أبواب المعارف الحقيقية، و الجلوس علي سرير العبودية الخالصة، و بساط التسليم المحض لأوامر اللّٰه تعالي، و نهيه الذي هو منتهي مراد الطالبين و السالكين.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة و

السلام:

«و فرض عليكم حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الأنعام، و يألهون إليه ولوه الحمام، و جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، و إذعانهم لعزته، و اختار من خلقه سماعاً أجابوا إليه دعوته، و صدقوا كلمته، و وقفوا مواقف أنبيائه، و تشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، و يتبادرون عنده موعد مغفرته، جعله سبحانه و تعالي للإسلام علماً، و للعائذين حرماً، فرض حجه، و أوجب حقه، و كتب عليكم وفادته، فقال سبحانه: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ». «1»

______________________________

(1)- نهج البلاغة: الخطبة الاولي.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 11

[البحث في وجوب الحج]

اشارة

البحث في وجوب الحج

[مسألة 1- وجوب الحج من ضروريات الدين]

مسألة 1- وجوب الحج من ضروريات الدين، و منكر وجوبه كمنكر وجوب الصلاة من الكافرين.

ثمّ إن معناه و إن كان في اللغة القصد لكنه في متفاهم المتشرعة اسم لمجموع المناسك التي يؤتي بها في المشاعر المخصوصة. و لا ريب أنه فرض علي كل من اجتمعت فيه الشرائط المعلومة التي يأتي بيانها من الرجال و النساء و الخناثي.

[مسألة 2- لا يجب الحج بأصل الشرع إلا مرة واحدة]

مسألة 2- لا يجب الحج بأصل الشرع إلا مرة واحدة إجماعاً من المسلمين، و للنصوص الكثيرة الدالة عليه.

مثل صحيح البرقي في المحاسن عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «ما كلف اللّٰه العباد إلا ما يطيقون، إنما كلفهم في اليوم و الليلة خمس صلوات- إلي أن قال: - و كلفهم حجة واحدة و هم يطيقون أكثر من ذلك». «1»

و رواية فضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال: «إنما امروا بحجة واحدة لا أكثر

______________________________

(1) وسائل الشيعة ب 3 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 2.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 12

من ذلك، لأن اللّٰه فرض الفرائض علي أدني القوة» و يستفاد من تعليل الإمام عليه السلام أن أصل الحكم- و هو وجوب الحج مرة واحدة لا أكثر- مفروغ عنه.

مضافاً إلي ما في روايات باب التسويف من قوله عليه السلام: «إن مات و قد ترك الحج فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام» «1» حيث قال عليه السلام: «شريعة»، لا «شرايع». «2»

و أما الآية «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» «3» فيمكن أن يقال: إنه لا دلالة لها علي وجوبه أكثر من مرة واحدة، كما لا تدل علي نفي وجوب التكرار أيضاً، إلا أنه يكفي في نفي وجوبه

الأصل، مضافاً إلي النصوص، و لكن يستظهر من الآية الكريمة بمناسبة الحكم و الموضوع، و أن وجوب الحج في كل سنة حرج علي المكلفين، سيما علي النائين، أن الواجب ليس إلا مرة واحدة.

فإن قلت: ما الفرق بين الحج و الصوم، و الأول فرض في ذي الحجة، و الثاني في شهر رمضان و لما ذا تستفيدون وجوب الصوم في كل سنة و في كل شهر رمضان من قوله تعالي: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ،

______________________________

(1)- وسائل الشيعة ب 6 من أبواب وجوب الحج.

(2)- لا دلالة في قوله عليه السلام: «فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام» علي ما نحن فيه، لأن المراد من الترك ترك طبيعة الحج و ماهيته و المرة و التكرار غير ملحوظ فيه أصلًا، و كما أن الصلاة برأسها شريعة من شرايع الإسلام فكذا الحج و الصوم و سائر العبادات كل منها برأسها شريعة من شرايع الإسلام. و الحج جزء من الشرائع و ليس بنفس الشرائع فلا يمكن أن يقول عليه السلام في كلامه: فقد ترك شرايع من شرايع الإسلام. مراده عليه السلام هنا: فقد ترك طبيعة و حقيقة و باباً من أبواب العبادات. و الحاصل: صيغة الإفراد هنا لا يدل علي المرة، بل علي الطبيعة و الماهية لا غير. إلا أن يقال: إن من أتي بالحج مرة واحدة لا يصدق عليه أنه ترك شريعة من شرايع الإسلام و هذا دليل علي وجوبه مرة واحدة بخلاف الصوم و الصلاة.

(3)- آل عمران/ 97.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 13

أَيّٰاماً مَعْدُودٰاتٍ» إلي قوله تعالي: «شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» «1» و لا تستفيدون وجوب الحج في كل سنة و كل ذي

حجة من قوله تعالي: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»؟

قلت أولًا: إنه يمكن الفرق بأن الصوم كان قبل الإسلام من العبادات التي كانوا متعبدين بها في كل سنة، فقوله تعالي: «كَمٰا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» إشارة إلي ذلك. و أما الحج الذي عبر عنه في الإسلام بحجة الإسلام فكانوا ملتزمين بإتيانه في طول العمر مرة واحدة، ففهموا من الآية تقريرهم علي هذا الالتزام.

و ثانياً: أنه فرق بين قول القائل: (كتب عليكم حج ذي الحجة) و بين قوله:

(كتب عليكم حج الكعبة و بيت اللّٰه الحرام)، ففي الأول يجب الحج في كل سنة في ذي الحجة، و في الثاني يكفي في الامتثال الإتيان بالحج مرة واحدة، و هكذا الصوم فإن قال: (صم صوم الوصال، أو صوم الصمت، أو صوم الإمساك من المفطرات المعلومة) يكفي في الامتثال صوم واحد، بخلاف ما إذا قال: (صم شهر رمضان) أو (صم يوم النصف من شعبان) فإن إطلاقه يشمل صوم كل شهر رمضان.

و علي الجملة: أنّ الكعبة و البيت مستمر الوجود فيكفي في امتثال حج البيت مرة واحدة، بخلاف الشهر الكذائي فإن وجوده يتعدد بالسنين و يتجدد. و مثل ذلك (زر الحسين عليه السلام) فإنه يمتثل بزيارة واحدة، بخلاف (زر الحسين عليه السلام في ليلة الجمعة) فإنه لا يسقط الأمر بزيارته في جمعة واحدة.

و بعبارة اخري: الأمر في مثل (حج في ذي الحجة) أو (صم شهر رمضان) ينحل إلي أوامر متعددة، بخلاف الأمر بحج البيت فإنه أمر واحد.

و كيف كان فلا ريب في عدم وجوب تكراره بأصل الشرع، و أما الروايات

______________________________

(1)- البقرة/ 183 إلي 185.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 14

التي ظاهرها وجوب الحج علي أهل في كل

عام- مثل صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسي عليه السلام قال: «إن اللّٰه فرض الحج علي أهل الجدة في كل عام، و ذلك قول اللّٰه عز و جل: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ» قال: قلت: فمن لم يحج منا فقد كفر؟ قال: لا و لكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر» «1» - فليس ظاهرها مراداً، و لعلها كانت محفوفة بالقرائن الحالية أو المقالية، و إن لم نعثر عليها، و فيها احتمالات:

منها: أن يكون المراد نفي ما يعملونه بالنسي ء، فقد قال اللّٰه تعالي: «إنما النسي ء زيادة في الكفر» «2» سواء كان نسيئاً في الحكم بإنساء حكم شهر و الإتيان به في آخر و لم يتعرضوا لحساب الأشهر و ترتيبها، أو كان نسيئاً في الموضوع بتبديل الشهور و تغيير بعضها مكان بعض.

و يستفاد النسي ء في الموضوع من خطبة الرسول صلي الله عليه و آله في حجة الوداع حيث قال:

«ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّٰه السماوات و الأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة و ذو الحجة و محرم و رجب» «3»

أو يكون المراد نفي كون فرض الحج بحساب السنوات الشمسية، فإنهم كانوا يعملون بالكبيسة فيزيدون علي كل سنة قمرية عشرة أيام، أو علي كل ثلاث سنوات شهراً واحداً لتتفق القمرية مع الشمسية. فالحديث تأكيد علي أن تشريع الحج يكون بحسب الأعوام القمرية.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة ب 2 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1.

(2)- التوبة/ 37.

(3)- بحار الأنوار: 15/ 252.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 15

و فيه: أن هذه الطائفة من الروايات لو كانت

صادرة في العصر الأول الذي كان الناس حديثي العهد بالإسلام فيمكن حملها علي ذلك، و أما بعد مضي أكثر من قرن علي ذلك فلا يفهم منها أنها لنفي ذلك.

و منها: بيان استحباب الحج علي أهل الجدة في كل عام كما عن الشيخ رحمه الله «1».

و فيه: أنّ هذا الحمل خلاف الظاهر، فإن استشهاد الإمام عليه السلام بقوله تعالي:

«وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» و قوله عليه السلام: «إن اللّٰه فرض الحج علي أهل الجدة» ظاهر في الوجوب.

و منها: حملها علي الوجوب في كل عام علي البدل، كما عن الشيخ رحمه الله «2»، و أنه إذا لم يأت به المكلف في العام الأول لا يسقط بالعصيان.

و قد يقال في تضعيف هذا الاحتمال: «إن الوجوب البدلي بهذا المعني من طبع كل واجب، فإن الواجب يجب الإتيان به متي أمكن و يجب تفريغ الذمة عنه، و لا يسقط الواجب بالعصيان» «3»

و منها: حملها علي الوجوب الكفائي، كما في الوسائل حيث جعل عنوان الباب: (باب أنه يجب الحج علي الناس في كل عام وجوباً كفائياً). «4»

و اورد عليه: بأن ظاهر الروايات وجوبه علي كل أحد لا علي طائفة دون اخري كما يقتضيه الواجب الكفائي «5»

______________________________

(1)- الاستبصار: 2/ 149.

(2)- الاستبصار: 2/ 149.

(3)- معتمد العروة: 1/ 15.

(4)- وسائل الشيعة ب 2 من أبواب وجوب الحج و شرائطه.

(5)- معتمد العروة: 1/ 15.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 16

و فيه: أن ذلك لا ينافي عينية الوجوب علي من لم يحج أصلًا. «1»

و منها: أن الحج واجب علي كل أهل الجدة في عام استطاعة الحج سواء في الصيف أو الشتاء، و لا يجوز تأخيره فراراً من الحر و البرد.

و منها: أنها من باب التقاء الجمع

بالجمع، كما في قوله تعالي: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» «2» فكما لا يجب علي كل أحد غير غسل وجهه للوضوء دون غسل وجوه الجميع كذلك لا يجب علي واحد من أهل الجدة في كل عام غير حجه الذي عليه و هو حجة الإسلام «3». إلي غير ذلك من الاحتمالات.

و كيف كان فالإجماع و السيرة بل الضرورة قائمة علي خلاف ظاهر هذه الروايات، فالأولي رد علمها إلي أهلها.

فما عن الصدوق رحمه الله في العلل «4» من وجوبه علي أهل الجدة في كل عام ضعيف بإعراض الأصحاب، و ما عرفت من الاحتمالات في مستند فتواه. و الصدوق رحمه الله نفسه لم يفتِ بذلك في سائر كتبه، مضافاً إلي ما في صحة نسبة هذا القول إليه من الترديد، و قد نسب العلامة في المنتهي هذا القول إلي البعض «5». و قال السيد رحمه الله في العروة: (علي فرض ثبوته شاذ مخالف للإجماع).

هذا، و لو قيل بعدم كفاية إعراض الأصحاب عن هذه الأحاديث لترك العمل بها، كما هو اختيار بعض الأعاظم من المعاصرين- و إن لم يقل به هنا- فنقول: لو

______________________________

(1)- و هذا خلاف ظاهر الرواية، فإن ظهوره في عينية الوجوب وحدها.

(2)- المائدة/ 6.

(3)- اعتمد علي هذا الحمل في جامع المدارك: 2/ 255.

(4)- قال بعد نقل صحيح علي بن جعفر: (جاء هذا الحديث هكذا: و الذي أعتمده و افتي به أن الحج علي أهل الجدة في كل عام فريضة). علل الشرائع: 2/ 405.

(5)- منتهي المطلب: 2/ 642 قال ما هذا لفظه: (و قد حكي عن بعض الناس أنه يقول: يجب في كل سنة مرة، و هذه حكاية لا تثبت و هي مخالفة للإجماع و السنة).

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 17

قطعنا النظر

عن ترجيح الطائفة الاولي لاعتضادها بالشهرة تقع المعارضة بينهما فيتساقطان، و نرجع إلي الأصل الذي يقضي بعدم وجوب أكثر من حجة واحدة.

[مسألة 3] فورية وجوب الحج

مسألة 3- وجوب الحج فوري، فلا يجوز تأخيره عن عام الاستطاعة.

و ذلك لأن رابطة العبودية و المولوية تقتضي قيام العبد بإطاعة أمر المولي بمجرد أمره و طلبه، فالقعود عن الامتثال مع إمكانه تهاون بأمر المولي.

نعم لو كان الواجب موقتاً في تشريع المولي بوقت خاص أو بمدة العمر بحيث كان التوقيت إذناً منه بالتأخير لجاز للمكلف ذلك إذا لم يكن فوت الواجب منه مظنوناً بحسب حاله، و الحج ليس من الواجبات الموقتة مثل الصلاة، و ليس وقوعه مشروطاً بوقت خاص و سنة خاصة، بل هو أداء في أي وقت أتي به، فلا يجوز تأخيره عن سنة الاستطاعة.

و قد علل بعض الأعاظم رحمه الله فورية الوجوب بحكم العقل باحتمال الفوت و عدم الوثوق بالبقاء «1»، و اعتمد علي هذا الوجه أيضاً بعض العامة.

و فيه: أن هذا الاحتمال غير معتني به عند العقلاء، يردون في امور كبيرة، و شئون جليلة، و مشاغل مهمة التي لا تتحصل فائدتها لهم إلا بعد مضي السنين و الأعوام، و الظاهر أنه لا خلاف في هذا الحكم بين الأصحاب.

قال المفيد قدس سره في المقنعة: (و فرضه عند آل محمد صلي الله عليه و آله علي الفور دون «2»

______________________________

(1)- راجع معتمد العروة: 1/ 16.

(2)- هذا مطابق لما في التهذيب، و في المقنعة المطبوعة (بالتراخي) و هو غلط. راجع تهذيب الأحكام: 5/ 17 و المقنعة/ 385.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 18

التراخي بظاهر القرآن و ما جاء عنهم عليهم السلام). ثمّ ذكر حديث زيد الشحام و ذريح المحاربي و لفظه في حديث زيد: «عن

أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له: التاجر يسوّف الحج؟ قال: إذا سوّفه و ليس له عزم ثمّ مات فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام».

و الرواية بهذه العبارة لا تفي بمراد المفيد قدس سره لمكان قوله: «ليس له عزم»

إلا أن لفظه في الكافي هكذا: «التاجر يسوف الحج؟ قال: ليس له عذر فإن مات فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام» «1» و الاعتماد علي نسخة الكافي.

و قال الشيخ قدس سره في النهاية: (و من حصلت معه الاستطاعة وجب عليه الحج علي الفور و البدار، فإن أخره و هو متمكن من تقديمه كان تاركاً فريضة من فرائض الإسلام) «2».

و صرح بذلك في الخلاف و استدل باقتضاء الأمر، و برواية ابن عباس عن النبي صلي الله عليه و آله و رواية عاصم بن ضمرة عن علي عليه السلام. «3»

و في المبسوط قال: (و وجوبهما- أي الحج و العمرة- علي الفور دون التراخي). «4»

و في الاقتصاد قال: (و عند تكامل شروط الوجوب يجب علي الفور و البدار دون التراخي، غير أنه متي أخره ثمّ فعله كان مؤدياً و إن فرط في التأخير). «5»

و بذلك نص السيد قدس سره في جمل العلم و العمل، و قال: (الحج علي الفور دون

______________________________

(1)- الكافي: 4/ 269.

(2)- النهاية/ 205.

(3)- الخلاف: 1/ 372.

(4)- المبسوط: 1/ 296.

(5)- الاقتصاد/ 297.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 19

التراخي لمن تكاملت شرائطه). «1»

و قال في الناصريات: (الذي يذهب إليه أصحابنا أن الأمر بالحج علي الفور). ثمّ استدل علي ذلك. «2»

و قال سلار رحمه الله في المراسم: (و الحج واجب علي الفور). «3»

و قال في السرائر: (و وجوبهما علي الفور دون التراخي بغير خلافٍ بين أصحابنا) «4»

و مع أن العلامة قدس

سره تختلف آراؤه في كتبه غالباً إلا أنه في هذه المسألة قال بوجوب الفور في جميع كتبه:

قال في التذكرة: (و وجوب الحج و العمرة علي الفور، لا يحل للمكلف بهما تأخيره عند علمائنا أجمع)، «5» و صرح بذلك في التبصرة «6» و القواعد «7» و الإرشاد «8» و التلخيص «9».

و قال المحقق قدس سره في الشرائع: (و يجب علي الفور)، «10» و نحوه كلامه في المختصر النافع. «11» إلي غير ذلك من أقوال غيرهم من الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم. و الظاهر

______________________________

(1)- رسائل الشريف المرتضي: 3/ 63.

(2)- الناصريات/ 244.

(3)- المراسم/ 104.

(4)- السرائر: 1/ 519.

(5)- تذكرة الفقهاء: 1/ 296.

(6)- تبصرة المتعلمين/ 87.

(7)- قواعد الأحكام 1/ 72.

(8)- إرشاد الأذهان: 1/ 308.

(9)- التلخيص/ سلسلة الينابيع: 30/ 327.

(10)- شرايع الإسلام 1/ 163.

(11)- المختصر النافع/ 75.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 20

تحقق إجماع فقهائنا علي الفتوي بفوريته.

و أما فقهاء العامة فقد اختلفوا في فوريته، قال في الروض النضير: (و اختلفوا هل وجوبه موسع أو مضيق؟ فذهب القاسم و أبو طالب، و الأوزاعي و الثوري، و محمد ابن الحسن، و الشافعي إلي أنه علي التراخي و السعة. و حجتهم أنه فرض بعد الهجرة سنة خمسٍ أو ستٍّ لخبر (الصحيحين): أن قوله تعالي: «وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّٰهِ» نزلت في وقعة الحديبية و هي سنة ست إجماعاً، و فيها قصة كعب بن عجرة المشهورة، و نزل بعدها: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، مؤكداً للوجوب. و في حديث ضمام في مسلم: و زعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلًا، قال: صدق. و قدوم ضمام سنة خمس، و قيل: سنة سبع، و قيل: سنة تسع. و قد

صرح أهل الحديث و التاريخ أنه صلي الله عليه و آله انصرف من مكة بعد فتحها في شوال و استخلف عليها عتاب بن اسيد، فحج بالناس بأمره صلي الله عليه و آله سنة ثمان، و كان مقيماً بالمدينة هو و أزواجه و عامة أصحابه، و كانوا موسرين بغنائم حنين المقسومة في ذي القعدة، و اعتمر حينئذ من الجعرانة، فلو كان علي الفور لم يرجع من مكة إلي المدينة بهم مع يسارهم و قرب زمن الحج، ثمّ غزا تبوك سنة تسع و انصرف عنها).

إلي أن قال: «و ذهب الناصر و المؤيد باللّٰه و مالك و أحمد بن حنبل و بعض أصحاب الشافعي و رواية عن أبي حنيفة إلي أنه يجب فوراً. و حكي في الانتصار عن زيد بن علي و الهادي و المزني و اختاره المقبلي في (المنار). و حجتهم ظواهر الأخبار الدالة علي التشديد في تركه). إلي أن قال: (و اعتذروا عن حجة الأولين بوجوه: منها أنه صلي الله عليه و آله كان مهتماً قبل حجة الوداع بإظهار دين اللّٰه و إعلاء كلمته فكان عذراً له و لأصحابه صلي الله عليه و آله عن المبادرة بفعله. و منها كراهية أن يشاركه في موسم الحج حج أهل الشرك) إلي أن قال: (و منها أن تأخير الحج إلي سنة عشر إنما كان

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 21

للنسي ء المذكور في كتاب اللّٰه فهو تأخير الأشهر إلي أصله). «1»

و قد نقل العلامة قدس سره في التذكرة عن بعض القائلين بعدم فورية وجوب الحج من العامة: (أنّ فريضة الحج نزل سنة ستٍّ من الهجرة، و قيل: سنة خمس و أخره النبي صلي الله عليه و آله من غير مانع، فإنه

خرج من مكة سنة سبع لقضاء العمرة و لم يحج، و فتح مكة سنة ثمان و بعث الحاج سنة تسع، و حج هو عليه السلام سنة عشر، و عاش بعدها ثمانين يوماً ثمّ قبض صلي الله عليه و آله).

ثمّ أجاب العلامة قدس سره بالمنع أولًا من تمكنه من الحج، فإنه عليه السلام أحرم بالعمرة عام الحديبية فأُحصر. و ثانياً بالمنع من تأخير النبي عليه السلام عن عام الوجوب، فإن الآية نزلت- و هي قوله تعالي: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» الآية- سنة عشر و رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله أتي بالحج من غير تأخير. «2»

و ثالثاً نقول: بأن القول بتأخير النبي صلي الله عليه و آله من غير مانع إنما يصح ممن كان عالماً بما يمكن أن يكون مانعاً من حجه بالفورية علي فرض التأخير عن عام نزول الآية، و قد سبق أيضاً بعض الوجوه لتأخيره في كلام الروض النضير. هذا بحسب الأقوال.

و أما بحسب الروايات و هي الأصل و العمدة فقد عقد في الوسائل باباً يكفي مما أخرجه فيه صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إذا قدر الرجل علي ما يحج به ثمّ دفع ذلك و ليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام». «3»

ثمّ إن بعض الأعلام- بعد أن حكي الاستدلال برواية زيد الشحام «قال:

______________________________

(1)- الروض النضير: 3/ 120.

(2)- تذكرة الفقهاء: 1/ 296.

(3)- وسائل الشيعة ب 6 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 3.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 22

قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: التاجر يسوف الحج، قال: ليس له عذر» و بصحيح الحلبي المتقدم آنفاً- قال: (و في

بعض الأخبار الدلالة علي أن من وجب عليه الحج ثمّ سوفه العام و العام الآخر ثمّ مات فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام، و أنه المراد بقوله تعالي: «وَ مَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْميٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْميٰ وَ أَضَلُّ سَبِيلًا».

ثمّ قال: (فإن كان إجماع و إلا فاستفادة الوجوب الفوري مما ذكر مشكلة، لأن الرواية الاولي يمكن حملها علي عدم المعذورية في ترك الراجح كما يقال للواجد للشرائط في أول وقت فضيلة الصلاة: لا عذر لك في التأخير، و أما الرواية الثانية فمحمولة بقرينة غيرها علي صورة الترك إلي وقوع الموت). «1»

أقول: أما حمل قوله عليه السلام: «ليس له عذر» الظاهر في عدم المعذورية في ترك الواجب علي عدم المعذورية في ترك الراجح فهو من حمل اللفظ علي خلاف ظاهره بغير وجه يستدعيه، و حمل قوله عليه السلام: «لا عذر لك في التأخير» علي خلاف ظاهره بقرينة المقام لا يوجه حمل مثله علي خلاف الظاهر في سائر المقامات، و إلا فيلزم حمل كل الألفاظ الظاهرة في معانيها الحقيقية علي المعاني المجازية بمجرد استعمالها في بعض المقامات بالقرائن الحالية أو المقالية.

و أما صحيح الحلبي فكأنه رحمه الله رأي أن الاستدلال به لفورية وجوب الحج يتوقف علي إطلاقه و شموله لصورة الترك و إن أتي به قبل الموت، فمنع هذا الإطلاق بقرينة غيره من الروايات، فخصه بصورة ترك الحج إلي وقوع الموت، فلا يدل علي حرمة التأخير و فورية وجوب الحج.

و فيه: أن الوجه في دلالة الصحيح و غيره من الروايات أنه لا وجه لعقاب من سوَّف الحج و أخره إلي أن مات إلّا حرمة تسويفه و فورية وجوب الإتيان به،

______________________________

(1)- جامع المدارك: 2/ 255

فقه الحج (للصافي)،

ج 1، ص: 23

و هذه الروايات قد دلت علي ذم من سوَّف الحج و مات علي ذلك، و أنه يحشر أعمي، و المسوَّف لا يستحق هذا العقاب إلا أن يكون الإتيان بالحج واجباً فورياً و تسويفه حراماً، و إلّا فلا وجه لهذا العقاب، و ليس هو إلّا كمن أخر الصلاة من أول وقتها فمات قبل خروج الوقت. «1»

[مسألة 4] تهيئة مقدمات الحج

مسألة 4- يجب بحكم العقل بعد حصول الاستطاعة الإقدام لتهيئة المقدمات التي يتوقف عليها إدراك الحج في سنة الاستطاعة بحيث لا يفوته الحج.

فلو انحصرت المقدمة في مورد تعين بلا شك، و لو وجد من مقدمة بعض أفرادها و علم عدم حصول غيره فلا ريب أنه يجب اختياره، بل إن احتمل حصوله بعد ذلك فلا يجوز العدول عما هو المعلوم وجوده إلي ما يحتمل حصوله بعد ذلك.

و إذا تعدَّد الأفراد كالرفقاء- مثلًا- فإن كانوا متفقين في زمان الخروج و كان الوثوق بالوصول و الإدراك بالجميع علي السواء يختار منها ما شاء، و إلّا فيختار منها ما يثق به بالوصول دون غيره.

و هل يجب أن يختار الأوثق منها في الوصول أو يكفي اختيار غيره من الأفراد التي يثق بها وثوقاً يعتمد عليه العقلاء؟

الظاهر أن العقلاء لا يلتزمون باختيار الأوثق إذا كان سائر الأفراد أيضاً مورداً للوثوق و الاطمينان، فيختارون في امورهم ما يثقون به مما يوافق سائر

______________________________

(1)- و توهم أنه يلزم علي ذلك كون العقوبة- أي الموت يهودياً أو نصرانياً- علي من أخر الحج و لم يأت بها فوراً و إن فعله قبل موته مندفع بالفرق بين مصحح العقوبة و موضوعها، كما لا يخفي.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 24

دواعيهم الكثيرة الراجحة بحسب العرف أو الشرع، فربما يتركون الأوثق و يأخذون

بما دونه حسب تلك الدواعي، مثلًا يركبون السيارة أو الطيارة الموثوق بها دون الأوثق منها، لكون الاولي أرخص قيمةً من الثانية.

و أما إذا اختلف زمان تلك الأفراد بالتقدم و التأخر فإن كانوا من حيث الوثوق بالوصول و الإدراك علي السواء فالمكلف يختار ما شاء.

و ما حكي عن الشهيد الثاني في الروضة من وجوب الخروج مع الأول و إن كان الثاني أوثق منه، لأن التأخير تفريط في أداء الواجب فوجب الخروج مع الأول،

ففيه: - مضافاً إلي أن الخروج مؤخراً لا يوجب تأخير الوصول و إدراك الحج مطلقاً، بل قد يمكن تقدم الورود و إدراك الحج لمن تأخر في الخروج، كما إذا ركب ما هو أسرع من غيره، كالطيارة في زماننا هذا بالنسبة إلي غيرها- منع كون ذلك تفريطاً، سيما إذا كان الثاني أوثق من الأول.

فما هو عليه عمل العرف و العقلاء ليس إلا الأخذ بما يثقون به، أما في الأخذ بالأوثق و المتقدم و المتأخر مما هو مورد الوثوق فيعملون علي طبق سائر دواعيهم الشخصية و غيرها. و ليس علينا في مقام امتثال الأوامر الشرعية أزيد من اتباع الطرق العقلائية التي لم يردع عنها الشارع المقدس، و لم يؤسس طريقة اخري. هذا بحسب وجوب تهيئة المقدمات.

و أما بحسب الحكم في استقرار الحج فإن سلك بعض هذه المسالك، و اختار بعض أفراد المقدمة و ترك البعض الآخر، و اتفق عدم إدراكه الحج بسبب التأخير أو التقديم، أو اختيار فرد مقارن لفرد آخر زماناً فهل يستقر عليه الحج بحيث لو سقط عن الاستطاعة وجب عليه الحج متسكّعاً، أم لا؟

لا ريب في أنه إذا أخذ بغير ما يثق به و اتفق عدم إدراكه الحج يستقر عليه

فقه الحج (للصافي)، ج 1،

ص: 25

الحج.

و أما إذا أخذ بأحد أفراد المقدمة التي كلها مورد للوثوق و إن كان بعضها أوثق، أو كان جميعها متوافقين في زمان الخروج و اتفق عدم الإدراك فالظاهر عدم استقرار الحج عليه، لأنه عمل بوظيفته الشرعية من غير تفريط و إهمال و إنما فاته الحج بسبب آخر لا يرتبط بإهماله. و إنما يستقر الحج علي من تنجز عليه التكليف و أهمل حتي فاته الحج.

و الظاهر أن الحكم كذلك إذا ترك في هذا الفرض الأخذ بالأوثق و أخذ بالموثوق به فإنه في هذه الصورة أيضاً لم يتسامح في امتثال أمر المولي، و أتي بما هو وظيفته بحسب سيرة العرف و العقلاء.

لا يقال: إنه صار مستطيعاً لتمكنه من الخروج و المسير مع الفرد الآخر الذي هو أوثق مما اختاره.

لأنا نقول: الملاك في استقرار الحج بالتفويت صدق عنوان الإهمال و التسامح و التفويت العمدي، و هو غير صادق في المقام، و إلّا فيلزم استقرار الحج عليه إن أخذ بالأوثق أو المساوي و اتفق عدم إدراكه الحج لكونه متمكناً من المسير مع غيره بالخروج معه، و هذا مما لا يقول به أحد.

و هكذا يجري الكلام فيما إذا أخذ بالفرد المتقدم الموثوق به و ترك المتأخر كذلك و اتفق عدم الوصول و الإدراك، أو ترك المتقدم و اختار المتأخر، ففي كل هذه الأمثلة لا يحكم باستقرار الحج. و اللّٰه تعالي هو العالم.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 29

شرائط وجوب حجّة الإسلام

[الأول: الكمال بالبلوغ و العقل:]

اشارة

الأول: الكمال بالبلوغ و العقل:

[مسألة 5- لا ريب في اعتبار البلوغ و العقل في الأحكام التكليفية الإلزامية]

مسألة 5- لا ريب في اعتبار البلوغ و العقل في الأحكام التكليفية الإلزامية، تحريمية كانت أو وجوبية، التي منها حجة الإسلام.

فلا تجب حجة الإسلام علي الصبي، سواء كان مميزاً أو لم يكن، و لا علي المجنون، سواء كان مطبقاً أو أدوارياً إذا كان تقصر نوبته عن أداء الواجب و ما في حكمه.

لكن ذلك لا يكفي في عدم مشروعية حجة الإسلام للصبي بناء علي مشروعية عباداته و صحتها، لأن عدم وجوب العبادة عليه لا ينافي صحتها و مشروعيتها.

و بعبارة اخري: لا يدل ذلك علي عدم كفاية حج الصبي المستطيع عن حجة الإسلام، التي هي واجبة علي المستطيع، المرفوع وجوبها عن الصبي، دون مشروعيتها و صحتها. فلا مانع من وقوع حجة الإسلام فيقع منه كذلك. كما أنه إذا أتي بالصلاة في أول وقتها ثمّ بلغ بعده أو بلغ في أثنائها يكتفي بها و لا يجب عليه إعادتها.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 30

و كذلك الوضوء و الغسل بل الاعتكاف فإنه إن شرع فيه الصبي و بلغ بعد إتمامه اليومين الأولين يجب عليه اليوم الثالث، كما لا يجوز له إبطال الصلاة بعد بلوغه في أثنائها.

غير أنه قد ادعي الإجماع علي عدم إجزاء حج الصبي المستطيع عن حجة الإسلام، و دلت روايات علي ذلك:

منها: ما رواه شيخنا الكليني قدس سره عن عدة من أصحابنا «1» عن سهل بن زياد «2» عن ابن محبوب «3» عن شهاب «4» عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث قال: «سألته عن ابن عشر سنين يحج؟ قال عليه السلام: عليه حجة الإسلام إذا احتلم، و كذلك الجارية عليها الحج إذا طمثت» «5».

و الظاهر بملاحظة جواب الإمام عليه السلام أن

السؤال عن الصبي الذي يحج هل

______________________________

(1)- مراده من (العدة): محمد بن الحسن الطائي الرازي، و محمد بن جعفر الأسدي نزيل الري أو محمد بن أبي عبد اللّه و محمد بن عقيل الكليني و علي بن محمد بن إبراهيم الكليني خال الكليني، و كلهم من الطبقة الثامنة.

(2)- سهل بن زياد من الطبقة السابعة. و ضعف سهل إن ثبت لا يضر باعتبار الحديث، لأن رواية عدة من أصحابنا عنه و اعتمادهم عليه يورث الاطمينان بصدور الحديث مضافاً إلي أنا نحتمل أن العدة أخذوا الحديث عن كتاب ابن محبوب الذي له كتب كثيرة بالوجادة و كانت نسبة الكتاب عندهم مشهورة معلومة لكنهم حيث كانوا يرجحون الرواية بالقراءة علي تلامذة صاحب الكتاب أو السماع منهم يأخذون ذلك منهم، و إن كان الراوي عنه ضعيفاً، و كان ذلك حفظاً علي السيرة المستمرة بين أهل الحديث، و علي عدم وقوع الاشتباه في الحديث، فلم يكتفوا بمجرد الوجادة.

(3)- الحسن بن محبوب من الطبقة السادسة و هو أشهر في الجلالة و الوثاقة من أن يحتاج إلي تعريفه.

(4)- الأقوي أنه شهاب بن عبد ربه الأسدي و هو الطبقة من الخامسة أو الرابعة.

(5)- وسائل الشيعة: ب 12 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 2.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 31

عليه حجة الإسلام إذا بلغ أم لا؟ و إن احتمل في المستند أن يكون السؤال عن وجوب الحج، لا عن الحج الواقع. «1»

و منها: ما رواه أيضاً عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن بن شمون «2» عن عبد اللّه بن عبد الرحمن الأصم «3» عن مسمع بن عبد الملك «4» عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث قال: «لو

أن غلاماً حج عشر حجج ثمّ احتلم كانت عليه فريضة الإسلام». «5» و دلالتها علي المطلوب أوضح من الاولي.

و أما سندهما

فقال بعض الأعاظم: (الروايتان ضعيفتان بسهل بن زياد). «6»

و فيه: أما الرواية الاولي فقد ظهر مما بيناه في الذيل أن الذي يظهر بالتدبر أنهم اعتمدوا علي رواية مثل سهل لكون الكتاب الذي اخرجت فيه الرواية معروفاً ثابتاً عندهم بالوجادة، و إلّا فكيف يمكن اعتماد هؤلاء الجهابذة في أكثر من ألفي حديث علي رواية رجل ضعيف؟ فالرواية معتبرة علي ذلك مورد للاعتماد.

و أما الرواية الثانية فهي- بعد ما عرفت في تضعيف سهل- ضعيفة بمحمد بن شمون و عبد اللّٰه بن عبد الرحمن.

و كيف كان فلو لم نعتمد علي إجماعهم في المسألة و علي هذين الخبرين يكفينا

______________________________

(1)- راجع مستند الشيعة: 2/ 154

(2)- كان من الطبقة السابعة ضعفوه و لكن لم يذكروا فيه غير رميه بالغلو و لعله لأمر يرونه غلواً.

(3)- من الطبقة السادسة و ضعفوه أيضاً.

(4)- مسمع بن أبي سيار، كردين بن عبد الملك، ثقة من الطبقة الخامسة.

(5)- وسائل الشيعة: ب 13 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 2.

(6)- معتمد العروة: 1/ 24.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 32

رواية الصدوق المعبر عنها بالحسنة لوقوع؛ إبراهيم بن هاشم «1» في إسناد الصدوق إلي صفوان: محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن صفوان «2» عن إسحاق بن عمار «3» قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن ابن عشر سنين يحج؟ قال عليه السلام: عليه حجة الإسلام إذا احتلم و كذلك الجارية عليها الحج إذا طمثت» «4»

و دلالته علي عدم الإجزاء عن حجة الإسلام كسابقيه.

و لا يخفي عليك أن الدلالة علي ذلك في الاولي و الثالثة بترك الاستفصال، و في

الثانية بالإطلاق، فإن الصبي تارة يحج و هو غير مستطيع كما هو الغالب، و اخري يحج و هو مستطيع. «5»

ثمّ إن هنا رواية اطلق فيها حجة الإسلام علي حج الصبي «6»، و هي رواية

______________________________

(1)- إبراهيم بن هاشم هو والد علي بن إبراهيم المفسر المشهور، و هو من الطبقة السابعة لم أقف لأحد من أصحابنا علي قول في القدح فيه، و لا علي تعديل بالتنصيص و يكفي في الوثوق اعتماد الأجلاء عليه، و إنه كان أول من نشر حديث الكوفيين بقم.

(2)- هو صفوان بن يحيي من أعاظم الطبقة السادسة.

(3)- إسحاق بن عمار من الطبقة الخامسة.

(4)- من لا يحضره الفقيه: 2/ 435.

(5)- و توهم انصراف الرواية عن الصبي المستطيع لندرة وجوده، و قد كان جواب الإمام عليه السلام عنه لا عن الصبي المستطيع فلا تدل الرواية علي عدم إجزائه عن حجة إسلامه إذا كان مستطيعاً، مندفع بما حقق في الاصول من أن الانصراف إذا كان غير ناشئ من اللفظ بل كان من سبب خارجي كندرة وجود بعض الأفراد لا يمنع من التمسك بأصالة الإطلاق.

(6)- و الظاهر أن سند الحديث علي ما في وسائل الشيعة ب 13 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1 اشتباه، و الصحيح (أبان عن الحكم). لا (أبان بن الحكم) و لذا لا يوجد ذلك في مشيخة الفقيه، و الظاهر أنه هو حكم بن الحكيم أبو خلاد الصيرفي الثقة من الطبقة الخامسة، كما أن الظاهر أن أبان إما أبان بن عثمان أو أبان الأحمر البجلي الذي أيضاً من الطبقة الخامسة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 33

شيخنا الصدوق قدس سره بإسناده عن أبان عن «1» الحكم، قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «الصبي

إذا حج به فقد قضي حجة الإسلام حتي يكبر» «2» فالظاهر منها أن حجة الإسلام من الصبي هي حجه الأول في حججه حتي يكبر و هي له بمنزلة حجة الإسلام، و سيأتي الكلام في هذه الرواية.

[مسألة 6] حكم حجّ الصبيّ المميّز:

مسألة 6- يستحب للصبي المميز أن يحج و إن لم يكن مجزيا عن حجة الإسلام.

للروايات الدالة علي عدم إجزاء حجه عن حجة الإسلام، فإن الكلام في إجزائه عنها أو عدم إجزائه إنما يجري بعد الفراغ عن صحته منه، و مع القول بالبطلان لا مجال للبحث عن إجزائه عن حجة الإسلام و عدمه.

مضافاً إلي ما سيأتي من الروايات الدالة علي كيفية الصبي.

و لكن قد وقع الكلام في أنه هل يعتبر في صحته إذن الولي أم لا؟ نسب إلي المشهور اعتباره و إن لم نتحققه.

و استدل لذلك بوجهين:

أحدهما: أن الحج من العبادات التوقيفية التي لا بد أن تتلقي من الشارع المقدس علي نحو يعلم منه الإتيان به، فإن الأصل عدم ورود أقل من ذلك من

______________________________

(1)- كما اطلق علي غير الحجة الواجبة مثل ما رواه معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل حج عن غيره يجزيه عن حجة الإسلام؟ قال: نعم» و رواية حكم بن حكيم قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: أيما عبد حج به مواليه فقد قضي حجة الإسلام».

(2)- من لا يحضره الفقيه: 2/ 435.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 34

الشارع.

و فيه: أنه يكفي في ذلك الإطلاقات الدالة علي استحبابه و رجحانه.

و لكن يمكن أن يقال: إن الدليل الدال علي استحبابه إن كان ما دل علي عدم إجزائه عن حجة الإسلام فليس له إطلاق يشمل فاقد الإذن، لأنه في مقام بيان أمر آخر و

هو عدم إجزاء حج الصبي عن حجة الإسلام، لا بيان استحباب الحج علي الصبي حتي يؤخذ بإطلاقه لنفي اعتبار إذن الولي.

و الظاهر أنه لا دليل غير ذلك الذي يدل بالإجمال علي استحباب حج الصبي ليستدل بإطلاقه فيما شك في اعتباره في صحة حج الصبي شطراً كان أو شرطاً.

نعم، إذا علم من الخارج كيفية الحج الذي كانوا يأتون به ينزل الاطلاقات عليه و يتمسك بها في نفي الزائد.

و لكن لا يعلم كيفية ما كانوا يأتون به في الخارج أولًا، و لا إطلاق لنا نتمسك به لنفي ذلك الزائد ثانياً.

و ثانيهما: أن بعض أحكام الحج متوقف علي تصرف الصبي في ماله الذي لا يجوز إلا بإذن الولي مثل الكفارات و الهدي.

و ردّ بأنه يمكن أن يقال في الكفارات بعدم وجوبها عليه، لأن عمد الصبي و خطأه واحد، و إتيانه ببعض المحرمات لا يوجب الكفارة.

بل يمكن أن يقال: إنه و إن جعل علي نفسه بإحرامه ترك المحرمات و الاجتناب عنها إلا أنه لا يحرم عليه شرعاً، و ليس محظوراً عليه، فلا كفارة عليه.

اللهم إلا أن يقال: إنه من الممكن أن لا يكون الإتيان بالمحرمات حراماً و منهياً عنه له، و لكن من حيث الحكم الوضعي كان ارتكابها سبباً لاشتغال ذمته بالكفارة.

هذا، مضافاً إلي أنه لو قلنا بثبوت الكفارة عليه فيمكن الاستيذان من الولي،

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 35

و إن امتنع تكون عليه يؤديها عند بلوغه.

إلا أن يقال: إن معني ذلك عدم ولاية الولي علي ما هو بمصلحته، و إلا فيقال مثل ذلك في سائر تصرفاته المالية و التزاماته، و إنها صحيحة لازمة ينفذها هو بنفسه بعد بلوغه.

و أما ثمن الهدي فإن أمكن الاستيذان من الولي يستأذن منه، و

إلا فهو كالعاجز، و قد أفاد بعض الأعلام- عليه الرحمة- في الجواب عن الوجه الثاني (أنه بعد ثبوت المشروعية من قبل الشارع، و صحة الحج و لو لم يأذن الولي لا بد للولي من صرف المال له لتتميم العمل، كما لو أتلف الصبي مال الغير). «1»

و هذا كلام وجيه، فإنه لو قلنا بدلالة المطلقات علي صحة حج الصبي مطلقاً لا بد للولي من صرف المال له، كما أفاد، فلا محل للوجه الثاني أصلًا فإنه مع الدليل علي صحة حجه لا مجال لهذا الاستدلال، و إن لم يدل فلا حاجة إلي هذا الوجه.

و يمكن أن يقال: إن تصرفات الصغير غير المالية في نفسه علي قسمين:

قسم لا فائدة و لا مصلحة في أن يكون في دائرة ولاية الولي مثل أكثر أفعاله العادية من الأكل و الشرب و غيرهما.

و قسم تقتضي مصلحته أن يكون في دائرة ولاية الولي، مثل انتخاب المسكن، و نوع اللباس، و نوع المعاشرة و السفر، فللولي النظر في ذلك كله، و منعه من أي نوع لا يري له ذلك. و الحج و العمرة و الإحرام لهما من هذا القسم، فمصلحة الصبي تقتضي أن لا يكون مستقلًا في أمثال هذه الأفعال، و أن يكون تحت نظر وليه، فليس له أن يسافر أو يحج إلا بإذنه.

و لو كان هناك إطلاق في مشروعية حجه و عمرته، لا بد و أن يقيد بذلك.

______________________________

(1)- راجع جامع المدارك: 2/ 258.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 36

فالأقوي ما نسب إلي المشهور من ثبوت ولاية الولي علي مثل هذه التصرفات المهمة التي فيها رعاية مصلحة الصبي، و تقتضي مصلحته جعل الولاية عليه لوليه.

و علي هذا حيث لا يكون اختيار هذه الأفعال بيد الصبي،

و لا استقلال له في إتيانه، لا تأتي منه عبادة، و محبوبا للّٰه تعالي إلا إذا كان بإذن الولي. و هذا بخلاف أعماله العادية مثل الصلوات اليومية و الطواف و الدعاء و غيرهما مما لا يري العرف أن يكون بإذن الولي، بل يري مصلحة الصبي أن يكون فيه حراً مستقلًا. و الولاية علي الصبي ليست من مخترعات الشارع و إن كان له دخل في تحديدها. و بهذا البيان يقال باعتبار إذن الولي في صحة اعتكافه.

و كيف كان فلو أتي بالحج أو العمرة بدون إذن الولي رجاءً لا بأس به، فإنه لو كان تصرفاً في ولاية الولي لا يحرم علي الصبي تكليفاً و إن جاز للولي منعه، و إن لم يكن كذلك فقد صدر من أهله. و اللّٰه العالم.

[مسألة 7] اعتبار إذن الأبوين في الحج:

مسألة 7- لا يعتبر في حج البالغ الواجب عليه إذن الأبوين.

و الحكم بذلك متسالم عليه بين الأصحاب، و ذلك لإطلاق الأدلة علي وجوب الحج علي المستطيع سواء أذن له الأبوين أم لم يأذنا.

استدل بعض الأعاظم قدس سره لذلك بعدم الدليل، و أن سلطنة الغير علي الشخص حتي الأبوين علي الولد خلاف الأصل، و نحتاج إلي الدليل و لا دليل «1».

و فيه: أنا تارة نشك في أنه هل للأبوين سلطنة علي منع الولد من إتيانه بالحج الواجب عليه، فيكفينا في نفي ذلك عدم الدليل و كون سلطنة الغير علي الشخص

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 28.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 37

حتي الأبوين علي الولد خلاف الأصل؟

و تارة نشك في أن ما هو الموضوع للوجوب في الحج الواجب هل اعتبر فيه إذنهما بحيث كان الواجب المناسك التي أذن الوالدان أو أمرا بإتيانها، فلا يتم حينئذ التمسك بعدم الدليل أو بعدم سلطنة

الغير علي الشخص لنفي اعتباره، لأن اعتبار ذلك في الحج الواجب و فيما هو الموضوع لوجوبه ليس منافياً لقاعدة السلطنة؟

و بعبارة اخري: إذن الوالدين محقق لما هو موضوع الحكم، و ليس في ذلك اعتبار سلطنة علي الشخص، و أن الحج واجب علي الولد و للوالدين أن يمنعاه منه، بل معناه أن الحج الواجب عليه هو ما كان مأذوناً فيه منهما، و هذا الشك يرتفع بإطلاق دليل وجوب الحج، فإنه يدل بإطلاقه علي وجوب الحج علي المستطيع سواء أذن له الأبوان أم لم يأذنا.

و كيف كان فالحكم معلوم لا اعتبار بإذن الوالدين في الحج الواجب، كما أنه لا يسقط وجوب الحج بنهيهما، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

و أما الحج المندوب الذي يأتي به البالغ، ففي المسالك: أن اعتبار إذن الأبوين فيه أقوي. «1»

و في القواعد: اعتبار إذن الأب «2».

و عن الشيخ و الشهيد- قدس سرهما- عدم اعتبار استيذانهما.

و قال في المدارك و الذخيرة بعدم وجود النص فيه «3».

______________________________

(1)- مسالك الأفهام: 1/ 68.

(2)- قواعد الأحكام: 1/ 72.

(3)- مدارك الأحكام: 7/ 24 قال ما هذا لفظه: (و لم أقف في هذه المسألة علي نص بالخصوص).

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 38

و عن الحدائق: أن النص موجود «1».

قال بعض أعاظم المعاصرين قدس سره: (اعتبار إذن الأبوين أو خصوص الأب خلاف قاعدة السلطنة علي النفس، المستفاد من قاعدة السلطنة علي المال بالفحوي). «2»

و فيه: ما قدمنا في الحج الواجب بطريق أولي، لأن اعتبار إذن الأبوين في الموضوع و نفس المندوب لا يخالف قاعدة السلطنة علي النفس خصوصاً في المستحب فإن المكلف فيه بالخيار. و علي هذا ففي المندوب أيضاً يمكن التمسك بعدم اعتبار إذن الوالدين بالإطلاقات الكثيرة الدالة علي

استحباب الحج مطلقاً.

غير أن هنا رواية رواها الصدوق في العلل عن أبيه «3» عن أحمد بن إدريس «4» عن محمد بن أحمد «5» عن أحمد بن هلال «6» عن مروك بن عبيد «7» عن

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة: 14/ 65.

(2)- مستمسك العروة: 10/ 17.

(3)- هو علي بن الحسين بن موسي بن بابويه شيخ القميين في عصره و متقدمهم. له كتب كثيرة و هو من الطبقة التاسعة.

(4)- كان ثقة فقيها من أصحابنا من الطبقة الثامنة.

(5)- محمد بن أحمد بن يحيي الأسدي الثقة من كبار الطبقة الثامنة.

(6)- أحمد بن هلال العبرتائي له كتاب اليوم و الليلة و كتاب النوادر، قد روي أكثر اصول أصحابنا و اعتمدوا علي رواياته، و الظاهر أنه لمكان روايته كتب شيوخه مما كان في يد الرواة عنه لا من جهة أنه المتفرد بالرواية. فهو مثلًا يروي كتاب ابن محبوب و نوادر ابن أبي عمير، و القوم كانوا يعرفون هذه الكتب و هو من الطبقة السابعة.

(7)- و في العلل المطبوعة (متروك) و الصحيح (مروك). قال الشيخ في الفهرست: (له كتاب رويناه بهذا الإسناد) و في الكشي ما يدل علي أنه ثقة شيخ صدوق. و طريق الشيخ إليه في الفهرست ضعيف، و في التهذيب صحيح و لعله من الطبقة السادسة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 39

نشيط بن صالح «1» عن هشام بن الحكم «2» عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله: من فقه الضيف أن لا يصوم تطوعاً إلا بإذن صاحبه، و من طاعة المرأة لزوجها أن لا تصوم إلا بإذنه و أمره، و من صلاح العبد و نصحه لمولاه أن لا يصوم تطوعاً إلا بإذن مواليه و أمرهم، و

من بر الولد أن لا يصوم تطوعاً و لا يحج و لا يصلي تطوعاً إلا بإذن أبويه و أمرهما، و إلا كان الضيف جاهلًا، و المرأة عاصية، و كان العبد فاسداً عاصياً غاشاً، و كان الولد عاقاً قاطعاً للرحم». «3»

و رواه في الفقيه مرسلًا «4» إلا أنه لم يذكر الحج و الصلاة، و قال: «و من برّ الولد بأبويه أن لا يصوم إلا بإذن أبويه و أمرهما». و رواه في الكافي و لم يذكر الحج و الصلاة أيضاً «5».

و الرواية ردت أولًا: بضعف سندها بأحمد بن هلال العبرتائي الراجع عن عقيدته المستقيمة إلي النصب. و أظن أن توثيق النجاشي له بقوله: صالح الرواية إنما كان بملاحظة رواياته حال الاستقامة، أو بملاحظة أن كلما رواه عنه أصحابنا رووه عنه في حال الاستقامة، أو بملاحظة أن ما رواه كان من الكتب و الاصول المعتمدة المعروفة، و إلا فكيف يمكن أن يقال في مثل هذا الناصب العنيد: إنه لا تنافي بين فساد العقيدة و الوثاقة. نعم، بعض مراتب فساد العقيدة الذي يقع فيه الشخص لشبهة حصلت له لا ينافي الوثاقة، و أما من صار فاسد العقيدة طغياناً و كفراً و لجاجاً ففساد عقيدته من أظهر دلائل عدم وثاقته.

______________________________

(1)- عجلي ثقة من الطبقة السادسة.

(2)- هشام بن الحكم بياع الكرابيس ثقة من الطبقة الخامسة و هو معروف مشهور جليل.

(3)- علل الشرائع/ 385. وسائل الشيعة: ب 10 من الصوم المحرم ح 2 و 3.

(4)- من لا يحضره الفقيه: 2/ 99 باب صوم الإذن و لم يذكر النشيط في مشيخة الفقيه.

(5)- الكافي: 4/ 151 باب من لا يجوز له صيام التطوع إلا بإذن غيره.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 40

و علي الجملة يمكن

أن يقال: إن المراد كونه صالح الرواية في خصوص ما رواه أصحابنا عنه في حال استقامته، لأنهم تركوه بعد انحرافه و ظهور فساد عقيدته، و لا منافاة بين كون شخص ثقةً في حالٍ و كونه متهماً بالكذب و عدم الوثاقة في حال آخر. و كيف كان ليست الرواية من حيث السند كسائر روايات الثقات.

و ثانياً: قد عرفت وقوع الاختلاف في متن الحديث بحسب الروايات، فالصدوق في الفقيه و الكليني في الكافي لم يذكرا الحج و الصلاة، فالاعتماد عليهما دون العلل لكونهما أضبط.

لا يقال: إنه إذا دار الأمر بين النقيصة و الزيادة فأصل عدم الزيادة مقدم علي أصل عدم النقيصة؛ لأن الغالب وقوع الخلل في النقل من ناحية الإسقاط لا الزيادة.

لأنه يقال: هذان الأصلان يعتمد عليهما إذا لم يتعارضا، و أما في مورد التعارض فلم يثبت تقديم أصالة عدم الزيادة علي أصالة عدم النقيصة بقول مطلق، بل بملاحظة الموارد، ففيما نحن فيه بعد عدم وجود الزيادة في الكافي و الفقيه لا يطمئن النفس بوقوع النقص فيهما و عدم وقوع الزيادة في العلل.

و ثالثاً: ظاهر الحديث يدل علي عدم صحة الصلاة تطوعاً إلا إذا وقعت بإذن الأبوين، و هذا لم ينقل من أحد الفتوي به. كما أن دلالته علي اعتبار أمر الوالدين في صحة الصلاة و الصوم و الحج غير معمول بها، فلا يعتبر أمرهما في صحة هذه الثلاثة قطعاً، غاية ما يمكن أن يقال- لو لم نقل بأن عدم أذيتهما شرط في صحة الثلاثة، أو أن أذيتهما مانع عن صحتها-: إن رضاهما معتبر في صحتها، و أين هذا من اعتبار أمرهما؟

و علي هذا تحمل الرواية علي بيان الآداب و المراسم الأخلاقية، و علي كل حال فطريق

الاحتياط تحصيل إذنهما، أو ترك الحج المندوب لو امتنعا من الإذن، أو الإتيان به رجاءً لو لم يوجب أذيتهما و ترك الشفقة بهما.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 41

و يؤيد كل ذلك أن الصدوق في كتاب العلل الذي تفرد فيه بهذه الزيادة لم يعمل بالرواية و أفتي صريحاً بخلاف ظاهرها، فقال: (قال محمد بن علي مؤلف هذا الكتاب رحمه اللّٰه: جاء هذا الخبر هكذا، و لكن ليس للوالدين علي الولد طاعة في ترك الحج تطوعاً أو فريضة، و لا في ترك الصلاة، و لا في ترك الصوم تطوعاً كان أو فريضة، و لا في شي ء من ترك الطاعات). «1»

[مسألة 8] إحرام الولي بالصبي غير المميِّز:
اشارة

مسألة 8- يستحب للولي أن يحرم بالصبي غير المميز.

لا ريب في أن مقتضي الأصل عدم مشروعية إحرام الولي بالصبي غير المميز، و عدم كون ذلك عبادة شرعية. كما أنه لا ريب في أنه لا يجوز للعباد عبادته تعالي إلا بصورة و كيفية عبَّدهم بها، و إن ثبت ذلك بعدم ردعهم عن بعض العبادات. و كل ما في الدين من البرامج العبادية و خضوع العبد و تذلّله للّٰه تعالي بأنواع الخضوع و التذلل إرشاد إلي ذلك الصراط المستقيم؛ ليثبت عباد اللّٰه علي طريق التوحيد، و لا يتخذون ما لم يأذن به اللّٰه ديناً و عبادة، و لا يطلبون التقرب إلي اللّٰه بما لا يقربهم منه، و لا يصلح للتقرب به، و لا يخترعون من عند أنفسهم ما لا يعلمون أنه مناسب لأدب العبودية عند حضرة المعبود جلّ اسمه، و لئلا يتكثر الطرق و يتفرق العباد، و يفترقون باختلاف السلق و الآراء و غيرها. و هذا أمر عظيم لو تمسك به المسلمون و أخذوا فيه بكتاب ربهم و سنة

نبيهم صلي الله عليه و آله و هداية عترته عليهم السلام لم يفترقوا بهذه الفرق، سيما في المسالك العبادية. و علي كل حال فالامور التي يتعبد بها العبد و يجعلها وسيلة للتقرب إلي اللّٰه تعالي يجب أن تكون مأخوذة من الشارع، و إثبات ذلك محتاج إلي

______________________________

(1)- علل الشرائع: 2/ 385.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 42

الدليل.

و بناء علي ذلك يحرم التعبد و التدين بما لم يرد عليه دليل من الشرع، لأنه تشريع و تدين بما لم يُدِن اللّٰه تعالي به عباده و لم يعلم صلاحه لعبادته.

لا يقال: إن ذلك يقتضي حرمة عبادة اللّٰه تعالي بما ثبت عدم وروده من الشرع، و أن اللّٰه تعالي لم يدن به عباده، لكن لا يقتضي حرمة عبادته و التدين بما لم يثبت وروده منه، فهو محكوم في الظاهر بالجواز كسائر الشبهات الموضوعية.

فإنه يقال: إن المحرم في هذه المسألة ليس خصوص التدين بما لم يدن اللّٰه به عباده، حتي يقال: إن كون عبادة خاصة كذلك غير معلومة، بل المحرم التدين و الالتزام الديني بما لم يعلم أن اللّٰه تعالي أدان و تعبد عباده به، و ما أنزل اللّٰه به من سلطان. فكما لا يجوز الإخبار بأن الحكم الكذائي الذي لم نجد له دليلًا من الكتاب و سنة المعصومين عليهم السلام حكم اللّٰه تعالي لا يجوز التعبد و التدين بما لم يعلم أن اللّٰه تعالي تعبدنا بإتيانه، فالقول و العمل في ذلك سواء.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أن من صغريات هذه المسألة استحباب إحرام الولي بالصبي غير المميز، فإن الأصل فيه علي ما ذكر عدم مشروعيته و الإتيان به تعبداً و متقرباً به إلي اللّٰه تعالي.

إلا أنه قد دل الدليل من الأحاديث المأثورة

عن النبي صلي الله عليه و آله و عن عترته الطيبة عليهم السلام الذين امرنا بالتمسك بهم علي مشروعيته و رجحان التعبد و التقرب به، و لم أجد في ذلك مخالفاً من أصحابنا الإمامية رضوان اللّٰه تعالي عليهم.

قال الشيخ قدس سره في الخلاف: (مسألة 129: يصح أن يحرم عن الصبي و يجنبه جميع ما يتجنبه المحرم، و كلما يلزم المحرم البالغ يلزم في إحرام الصبي مثله من الصيد و الطيب و اللباس و غير ذلك، و يصح منه الطهارة و الصلاة و الصيام و الحج. غير أن الطهارة و الصلاة و الصيام لا يصح منه حتي يعقل و يميز، و الحج يصح منه بإذن وليه

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 43

إذا كان مميزاً، و يصح له الحج بإحرام وليه عنه إن لم يكن مميزاً، و به قال الشافعي.

و قال أبو حنيفة: لا ينعقد له صلاة و لا صوم و لا حج فإن أذن له وليه فأحرم لم ينعقد إحرامه، و إنما يفعل ذلك ليمرن عليه، و يجنب ما يجتنب المحرم استحساناً، و إذا قتل صيداً فلا جزاء عليه. دليلنا إجماع الفرقة، و أيضاً ما روي أن امرأة رفعت إلي رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله صبياً من محفة فقالت: يا رسول اللّٰه أ لهذا حج؟ قال: نعم و لكِ أجر) «1».

قال العلامة قدس سره في التذكرة: (مسألة: الصبي إذا كان مراهقاً مميزاً يطيق علي الأفعال أذن له الولي فيها، فإذا أذن له فعل الحج بنفسه كالبالغ، و إن كان طفلًا لا يميز: فإن صح من الطفل من غير نيابة كالوقوف بعرفة و المبيت بمزدلفة أحضره الولي فيها، و إن لم يصح من الطفل إلا بنيابة

الولي عنه فهو كالإحرام يفعله الولي عنه. قال جابر: خرجنا مع رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله حجاجاً و معنا النساء و الصبيان فأحرمنا مع الصبيان و لبينا عن الصبيان و رمينا عنهم «2». و يجرد الصبي من ثيابه إذا قرب من الحرم، و روي علماؤنا: من فخ). «3»

ثمّ إنه يدل عليه من طرقنا طائفة من الروايات:

منها: ما أخرجه في الوسائل في ب 17 من أبواب أقسام الحج (باب كيفية حج الصبيان و الحج بهم و جملة من أحكامهم) و منها غيره.

فمن هذه الروايات: ما عن الكليني، عن أبي علي الأشعري «4» عن محمد بن

______________________________

(1)- راجع مسند أحمد: 1/ 219 عن ابن عباس و ص 244، 288، 243، 343 و صحيح مسلم و سنن أبي داود و سنن الترمذي و سنن النسائي و سنن ابن ماجة و موطأ مالك.

(2)- نحوه في سنن ابن ماجة: 2/ 244 باب الرمي عن الصبيان.

(3)- تذكرة الفقهاء: 1/ 298.

(4)- أحمد بن إدريس الأشعري القمي ثقة من صغار الطبقة الثامنة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 44

عبد الجبار «1» عن صفوان «2» عن عبد الرحمن بن الحجاج «3» عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث قال: «قلت له: إن معنا صبياً مولوداً فكيف نصنع به؟ فقال: مر امه تلقي حميدة فتسألها كيف تصنع بصبيانها، فأتتها فسألتها كيف تصنع؟ فقالت: إذا كان يوم التروية فأحرموا عنه و جردوه و غسلوه كما يجرد المحرم، وقفوا به المواقف، فإذا كان يوم النحر فارموا عنه، و احلقوا رأسه، ثمّ زوروا به البيت، و مري الجارية أن تطوف به (بالبيت و) «4» بين الصفا و المروة» «5»

و منها: بالإسناد عن صفوان عن إسحاق بن عمار «6»

قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن غلمان لنا دخلوا معنا مكة بعمرة، و خرجوا معنا إلي عرفات بغير إحرام، قال: قل لهم يغتسلون ثمّ يحرمون، و اذبحوا عنهم كما تذبحون عن أنفسكم». «7» «8»

______________________________

(1)- محمد بن عبد الجبار القمي ثقة من كبار الطبقة السابعة.

(2)- صفوان بن يحيي البجلي بياع السابري ثقة من أعاظم الطبقة السادسة.

(3)- البجلي الكوفي من الطبقة الخامسة.

(4)- كما في التهذيب.

(5)- وسائل الشيعة: ب 17 من أبواب أقسام الحج ح 1.

(6)- الصيرفي الكوفي شيخ من أصحابنا ثقة من الطبقة الخامسة.

(7)- وسائل الشيعة: ب 17 من أبواب أقسام الحج ح 2.

(8)- و لا يخفي ما في الاستدلال بهذه الرواية علي استحباب الصبي غير المميز. فمورد الرواية حج الصبي لا إحجاجه، لأن قوله: «غلمان»، «دخلوا»، «خرجوا» «يغتسلون»، «يحرمون» يناسب الأول لا الثاني، و إن كان لفظ «الغلام» قد يطلق علي المولود أيضا قال في مجمع البحرين في مادة (غلم): الغلام الابن الصغير … قال في المصباح: يطلق الغلام علي الرجل الكبير مجازاً باسم ما كان عليه كما يقال للصغير: شيخاً مجازاً باسم ما يؤول إليه، و عن الأزهري: و سمعت العرب يقولون للمولود حين يولد ذكراً: «غلام».

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 45

و منها: بإسناده عن علي بن مهزيار «1» عن محمد بن الفضيل «2» «سألت أبا جعفر الثاني عن الصبي متي يحرم به؟ قال: إذا أثغر». «3»

و الظاهر أنه لا فرق في استحباب إحجاج الصبي بين كونه مولوداً أو أثغر، لإطلاق بعض الأخبار، و لخصوص رواية عبد الرحمن بن الحجاج، إذاً فالرواية محمولة علي تأكد الاستحباب.

و منها: ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسي «4» عن الحسن بن علي بن

بنت إلياس «5» عن عبد اللّه بن سنان «6» عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سمعته يقول: مر رسول اللّٰه برويثة و هو حاج فقامت إليه امرأة و معها صبي لها فقالت: يا رسول اللّٰه أ يحج عن مثل هذا؟ قال: نعم و لك أجره». «7»

و الظاهر أن المشهور لم يفرقوا في هذا الحكم بين الصبي و الصبية و لا ينصون عليه.

إلا أن صاحب المستند قدس سره استشكل شمول الحكم للصبية «8» لاختصاص

______________________________

(1)- علي بن مهزيار الأهوازي جليل القدر، ثقة واسع الرواية، له ثلاث و ثلاثون كتاباً، من كبار الطبقة السابعة.

(2)- الأزدي الصيرفي، له كتاب، يرمي بالغلو و لم يذكر وجهه، و هو من الطبقة السادسة.

(3)- وسائل الشيعة: ب 17 من أبواب أقسام الحج ح 8 و ب 20 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 2.

(4)- أحمد بن محمد بن عيسي الأحوص الأشعري شيخ القميين و وجيههم غير مدافع و الرئيس و هو من الطبقة السابعة.

(5)- الحسن بن علي بن زياد الوشاء كوفي كان من وجوه هذه الطائفة من الطبقة السادسة.

(6)- كوفي جليل من أصحابنا، كان خادماً للمنصور و المهدي و الهادي و الرشيد ثقة من الطبقة الخامسة.

(7)- وسائل الشيعة: ب 20 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1.

(8)- قال النراقي قدس سره في مستند الشيعة: (قيل: ما وقفت عليها في المسألة من الروايات

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 46

النصوص بالصبي و أنّ إلحاقها به محتاج إلي الدليل.

و دعوي دلالة رواية إسحاق بن عمار و شهاب علي ذلك مردود، لأن الظاهر منهما عدم كفاية حج الصبي و الصبية إذا حجا بنفسهما عن حجة الإسلام، لا ما إذا أحج بهما الآخر، فإن عدم إجزائه

عن حجة الإسلام مفروغ عنه لا يسأل عن مثله.

نعم استدل بعض الأعاظم قدس سره بمعتبرة يونس بن يعقوب «1» عن أبيه «2» قال: «قلت لأبي عبد اللّه: إن معي صِبية صغاراً و أنا أخاف عليهم البرد فمن أين يحرمون؟ قال: ائت بهم العرج فليحرموا منها، فإنك إذا أتيت بهم العرج وقعت في تهامة، ثمّ قال: فإن خفت عليهم فائت بهم الجحفة». «3»

قال: (فإن الصبية و إن كانت جمعاً للصبي و جمع الصبيَّة الصبايا إلا أن المتفاهم العرفي من الصبية الصغار من الأولاد أعم من الذكر و الانثي، و بذلك يظهر دلالة غيرها من الروايات أيضاً). «4»

______________________________

فمختص بالصبي و لا ريب أن الصبية في معناه. أقول: لأحد مطالبته بدليل كونه في معناه، و ربما يستدل للصبية برواية شهاب (في حديث عن أبي عبد اللّه عليه السلام «قال: سألته عن ابن عشر سنين يحج؟ قال: عليه حجة الإسلام إذا احتلم و كذلك الجارية عليها الحج إذا طمثت» و موثقة إسحاق «قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن ابن عشر سنين يحج؟ قال: عليه حجة الإسلام إذا احتلم و كذلك الجارية إذا طمثت» المتقدمتين. و في دلالتهما نظر، لأنهما إنما هي إذا انضمت حج الصبية و ليس فيها ذلك، بل ليس فيها حج الصبي أيضاً، لجواز أن يكون السؤال عن وجوب الحج فأجاب بأنه بعد الاحتلام و الطمث لا أن يكون السؤال عن الحج الواقع حتي يمكن التمسك فيه بالتقرير، و قد يستدل أيضاً بموثقة يعقوب «إن معي صِبيةً صغاراً … الحديث» و لا يخفي أن الثابت من هذه الرواية بل الأولتين هو حج الصبية، و هو يثبت بالعمومات أيضاً لا الحج به).

(1)- ابن قيس البجلي له كتب،

منها كتاب الحج، ثقة من الطبقة الخامسة.

(2)- يعقوب بن قيس من الطبقة الخامسة.

(3)- وسائل الشيعة: ب 17 من أبواب أقسام الحج ح 7.

(4)- معتمد العروة: 1/ 32.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 47

و فيه أولًا، أن المذكور في هامش النسخة المخطوطة- كما صرح به في الطبعة الجديدة- «1» (صبياناً) بدل (صبية).

و ثانياً: يرد عليه ما ذكره في المستند من أن الموضوع في الرواية حج الصبية لا الحج بها.

و ثالثاً: لا يظهر بما ذكره دلالة غيرها من الروايات، فإن لفظ بعضها «صبياً مولوداً»، و لفظ بعضها «سألنا أبا عبد اللّه عليه السلام عن غلمان لنا»، و بعضها «انظروا من كان معكم من الصبيان»، و بعضها «حج الرجل بابنه»، و بعضها «من أين يجرد الصبيان؟»، و في بعضها «و الصبي يُعطي الحصي فيرمي»، و في بعضها «يصوم عن الصبي وليه»، و في بعضها «إنما كان أن تذبحوا عن الصبيان»، و في بعضها «و معنا صبيان»، و في بعضها «لا بأس بالقبة علي النساء و الصبيان و هم يحرمون»، و في بعضها «الصبيان يطاف بهم و يرمي عنهم». و الغرض من الإشارة إلي ذلك كله أنه لا يظهر برواية يونس بن يعقوب دلالة سائر الروايات.

نعم، يمكن أن يقال: إنه يستظهر من التعبير بالصبي و الصبيان أن مراد السائل و المجيب عليه السلام أعم من الصبي و الصبية و الصبيان و الصبايا، و إنما عبر عن الكل بالتعبير المذكور تغليباً للذكور علي الإناث، كما يري مثله في موارد اخري، و ترك استفصال الإمام عليه السلام في مثل هذا المورد حيث كان احتمال إرادة الأعم قريباً مؤيد لهذا الاستظهار.

و التمسك بقاعدة الاشتراك لا بأس به، و ما يقال من أنها مختصة

بالخطابات الموجهة إلي الذكور دون أوليائهم «2» مندفع: بأنه ليس الملاك في ذلك كون الخطاب

______________________________

(1)- راجع وسائل الشيعة: 11/ 289.

(2)- مستمسك العروة: 10/ 20.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 48

موجهاً إلي الذكر، بل الملاك كون موضوع الحكم هو الذكر حتي إن كان الحكم موجهاً إلي المرأة و كان موضوعه أيضاً المرأة يمكن أن يقال بقاعدة الاشتراك بشمول الحكم للرجل، كما إذا قيل لها: أحسني إلي امك. نعم، المكلف بهذه الأحكام الولي و هو أعم من الذكر و الانثي، و الظاهر أن موضوع هذه التكاليف أيضاً هو الأعم منهما.

الكلام في قاعدة الاشتراك:

تارةً يراد من قاعدة الاشتراك اشتراك الغائبين عن مجلس الخطاب، و غير المشافهين مع الحاضرين في مجلس الخطاب و المشافهين، و إن لم يكونوا موجودين في عصر الخطاب، و صاروا موجودين في الأزمنة المستقبلة في حجية الخطاب علي الجميع، و جواز احتجاج الكل به، و هذا هو الذي يبحث عنه في اصول الفقه في مبحث (الخطابات الشفاهية).

و اخري يراد من قاعدة الاشتراك اشتراك غير المعاصرين لعصر الوحي و الرسالة من الذين يأتون في الأعصار المستقبلة إلي يوم القيامة مع الموجودين في عصر الرسالة و تبليغ الأحكام. و القاعدة بهذا المعني أشبه بالمسائل الكلامية دون الفقهية و الفرعية، و مفادها من الضروريات و هو حلال محمد صلي الله عليه و آله حلال إلي يوم القيامة، و حرامه حرام إلي يوم القيامة، و بقاء الدين إلي آخر الدهر، و إن مرور الأزمنة و الأعصار لا تؤثر في تغيير الأحكام الشرعية بأقسامها من الأولية و الثانوية، و الظاهرية و الواقعية، فكلها ثابتة إلي يوم القيامة، و هذا معني خاتمية الدين المبين، و ختم الشرائع بشريعة سيد المرسلين صلي الله عليه و

آله.

و ثالثةً يراد منها اشتراك النساء مع الرجال في الخطابات الموجهة إلي

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 49

الذكور، مثل «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» * و «اعْبُدُوا اللّٰهَ» * و «اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّٰهِ» و «أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ» * و «آتُوا الزَّكٰاةَ» * و «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ» فإن مثل هذه الخطابات يشمل النساء كما يشمل الرجال.

و السر في ذلك: أن الإتيان بالصيغ المختصة بالذكور ليس لاختصاصهم بهذه التكاليف، و لا اختصاص هذه القوانين الكلية الجامعة بهم، بل لأجل التغليب، و أنهم إذا أرادوا خطاب الجميع كانوا يوجهونه بصيغة التذكير، و الشارع المقدس أيضاً في مقام بيان أحكامه الكلية و خطاباته الجامعة سلك مسلك العرف.

و لذا في الخطابات الموجهة إلي (الناس) التي تشمل بنفس الكلمة الجنسين الذكور و الإناث نري الإتيان بصيغ التذكير مثل «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اتَّقُوا» * و يا أيها الناس «إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَليٰ عَبْدِنٰا» و «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّٰهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً»، فلا يعد الإتيان بفعل الجمع المذكر قرينة علي إرادة الذكور من كلمة (الناس)، و مثله قوله تعالي: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» فلا يعد الإتيان بصيغة الماضي للمذكر (استطاع) قرينة علي إرادة الذكور من (الناس).

و بعبارة اخري: المفهوم العرفي من الأساليب المذكورة في الكلام هو الأعم من الرجال، و دلالتها علي خصوص الرجال يحتاج إلي القرينة، و لعل الاستقراء في الكتاب و السنة أيضاً يشهد بذلك.

هذا، مضافاً إلي أن المذكور في الدليل و إن كان رجلًا أو عبداً أو غيرهما إلا أنه يفهم في بعض الموارد بالقرينة المدلول الأعم، مثل «رجل شك بين الثلاث و الأربع» و «يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَليٰ

أَنْفُسِهِمْ».

نعم، الخطابات الموجهة إلي الذكور مثل (يا أيها الرجال افعلوا كذا) فهي

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 50

مثل الخطابات الموجهة إلي النساء لا تشمل الجنس الآخر.

و ربما يكون الخطاب عاماً موجهاً إلي الذكور و الإناث، و لكن موضوعه في لفظ الخطاب كان الذكور، فإذا كان مثل (حجوا أو ائتوني بأبنائكم أو ذكوركم) فهو لا يشمل البنات و الإناث قطعاً.

و تارة يقول: حجوا بصبيانكم أو بصبيتكم، فهل يدل علي العموم و شمول مفهومه للصبية و الصبايا؟

فلا يبعد دلالته علي الأعم و اشتراك الإناث مع الذكور في الموضوعية للحكم. كما إذا قال: (ائتوني بالذين معكم) فإنهم يأتوه بكل من معهم من الذكور و الإناث، مع أن كلمة (الذين) للمذكر. و لا يبعد أن يكون مفهوم ايتوني بصبيتكم أو صبيانكم أيضاً هكذا.

و بعبارة اخري نقول: إذا كان المراد الأعم من الإناث يكتفون باللفظ الدال علي الذكور بعلامة التذكير و ضميره، دون اللفظ الذي هو بنفسه دال علي الذكور (كالرجال) و (الأبناء).

و علي كل حال نقول: إنا نستظهر من التعبير بالصبي و الصبيان أن مراد السائل و المجيب عليه السلام أعم من الصبي و الصبية، و الصبيان و الصبايا، كما نستظهر من «الَّذِينَ آمَنُوا» * كون النساء كالرجال طرفاً للخطاب، و إنما عبر عن الكل بصيغة التذكير تغليباً للذكور علي الإناث، كما رأيته في مثل «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ» و في موارد كثيرة اخري، فكما أن المكلف بهذه الأحكام الولي الذي هو أعم من الذكر و الانثي موضوعها أيضاً يكون الأعم منهما.

و لا يبعد جريان السيرة علي ذلك و لذا لم يسأل أحد من الأئمة عليهم السلام عن ذلك.

و لعل فتوي المشهور باشتراك الصبية مع الصبي في ذلك، أو عدم

تنصيصهم علي

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 51

خلاف ذلك الظاهر في كونه ثابتاً عندهم، للاعتماد علي السيرة المعلومة. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 9] إحجاج الصبي غير المميز:
اشارة

مسألة 9- إحجاج الصبي غير المميز يكون بأمره إتيان أعمال الحج، من نية الإحرام و التلبية، و ترك ما يحرم علي المحرم، و الطوف و صلاة الطواف، و السعي و الحلق، و التقصير، و طواف النساء، فإن لم يتمكن من جميع ذلك أو من بعضه ينوب عنه فيما لا يتمكن.

يدل علي ذلك ما رواه الكليني عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد «1»، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر «2»، عن مثني الحناط «3»، عن زرارة «4» عن أحدهما عليهما السلام «5» قال: «إذا حج الرجل بابنه و هو صغير فإنه يأمره أن يلبي و يفرض الحج، فإن لم يحسن أن يلبي لبي (لبوا) عنه، و يطاف به، و يصلي عنه قلت: ليس لهم ما يذبحون؟ قال: يذبح عن الصغار، و يصوم الكبار، و يتقي عليهم ما يتقي المحرم من الثياب و الطيب، و إن قتل صيداً فعلي أبيه». «6»

و في قوله عليه السلام: «ليس لهم ما يذبحون؟» وجهان:

______________________________

(1)- الأقوي الاعتماد عليه، و قد عرفت وجهه بما لا مزيد عليه.

(2)- أبو علي المعروف بالبزنطي، كان عظيم المنزلة عند الإمامين الرضا و الجواد عليهما السلام و له كتب و روايات كثيرة في الاصول و الفروع، و هو من الطبقة السادسة.

(3)- مثنّي بن الوليد الحناط، كوفي ثقة من الطبقة الخامسة.

(4)- زرارة بن أعين و هو أشهر من أن يحتاج إلي تعريف، و هو من أصحاب الباقرين عليهما السلام و أكثر رواياته عنهما عليهما السلام من الطبقة الرابعة.

(5)- الإمام الباقر عليه السلام أو الصادق عليه

السلام.

(6)- الكافي: 4/ 303.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 52

الأول: ليس للأولياء ما يذبحون عن الصغار.

و الثاني: ليس للصغار ما يذبحون. و الثاني مطابق لأصالة عدم التقدير.

و أما وجه صوم الكبار و الذبح عن الصغار فيعلم مما ذكر في المرجحات من أن ما لا بدل له أهم مما له البدل و فيما نحن فيه الذبح عن الصغار لا بدل له، و أما عن الكبار فله البدل، و هو الصوم، كما قال اللّٰه تعالي: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ ثَلٰاثَةِ أَيّٰامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذٰا رَجَعْتُمْ». «1»

و يدل علي ذلك أيضاً رواية عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة عن أبي عبد اللّه عليه السلام في المسألة السابقة.

و هل يجب الوضوء عنه للطواف إذا لم يتمكن هو من الوضوء، أو وضوؤه صورة إن أمكن؟ يمكن أن يقال بعدم وجوب الوضوء عنه، و لا إيقاع صورة الوضوء به؛ و ذلك لأن الذي يجب علي الولي أن ينوب عنه أو يوقعه به- إن لم يتمكن هو بإتيانه و لو بصورته- هو أفعال الحج، و أما ما يعتبر في الأفعال مثل الطهارة في الطواف مما لا يتحصل لا بالنيابة منه و لا بإيقاع صورته كالطهارة فلا يجب ذلك، فالوضوء شرط للطائف لا للطواف، و هو لا يتحصل للصبي، و الولي الذي يطوف به ليس الطائف حتي يجب عليه، و مع ذلك كله لا ينبغي ترك الاحتياط بإيقاع الوضوء به و الوضوء عنه.

الإحرام بالصبي غير المميز للعمرة المفردة:

و هل يُستحبّ للولي أن يحرم بالصبي غير المميز للعمرة المفردة، أو أن ذلك مختص بالحج، غاية الأمر أن يقال باستحبابه لمطلق الحج و إن

______________________________

(1)- البقرة/ 196.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 53

كان حج التمتع، فيستحب أن يحرم به للعمرة المتمتع

بها إلي الحج؟

مقتضي الأصل الاقتصار علي إحرام الحج، و لكن يمكن أن يستفاد التعميم بالنسبة إلي العمرة المفردة من بعض الأدلة، و ذلك مثل رواية علي بن مهزيار، عن محمد بن الفضيل قال: «سألت أبا جعفر الثاني عليه السلام عن الصبي متي يحرم به؟ قال: إذا أثغر» «1» يستفاد من ترك استفصال الإمام عليه السلام عن نوع الإحرام استحباب الإحرام بالصبي، حتي بإحرام العمرة المفردة.

إلا أن يقال: موضوع السؤال هو سن الصبي للإحرام، و أما نوع الإحرام فليس في نظر السائل حتي يستفاد من ترك استفصال الإمام عليه السلام التعميم بالنسبة إلي العمرة المفردة.

و خبر أيوب أخي أديم «2» قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السلام من أين يجرد الصبيان؟ فقال: كان أبي يجردهم من فخ» «3» «4».

و يرد علي الاستدلال بهذه الرواية أيضاً ما ورد علي سابقته، إلا أنه لا بأس بإحرام الصبي بإحرام العمرة المفردة رجاءً.

[مسألة 10] المراد بولي الصبي

مسألة 10- هل المراد بالولي الذي يستحب له الإحرام بالصبي غير المميز هو خصوص الولي الشرعي، من الأب و الجد الأبي، و الوصي

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 17 من أبواب أقسام الحج ح 8.

(2)- أيوب بن الحرِّ، كأنه من الطبقة الخامسة.

(3)- قال في مجمع البحرين: (في الحديث: «تجرد الصبيان من فخ» هو بفتح أوله و تشديد ثانيه: بئر قريبة من مكة علي نحو فرسخ، و ذلك رخصة لمن حج علي طريق المدينة).

(4)- وسائل الشيعة: ب 17 من أبواب أقسام الحج ح 6.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 54

لأحدهما، و الحاكم و أمينه، و وكيل أحد من المذكورين، أو أعم منه و من كل من يتكفل أمره من امه و إخوته و أعمامه، بل و غيرهم من المؤمنين؟

ربما يستدل لعموم

الاستحباب بإطلاق صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «انظروا من كان معكم من الصبيان فقدموه إلي الجحفة أو إلي بطن مر، و يصنع بهم ما يصنع بالمحرم، و يطاف بهم و يرمي عنهم، و من لا يجد الهدي منهم فليصم عنه وليه». «1»

قيل: إن إطلاقه يشمل الصبيان، سواء كان معهم أولياؤهم أم لا.

و فيه: أن الظاهر من الولي في قوله عليه السلام: «و من لا يجد الهدي منهم فليصم عنه وليه» هو الولي الشرعي الذي أحرم به، و لا يجوز أن يكون الذي أحرم به غير الولي، و يكون بدل هديه علي وليه.

مضافاً إلي أن الصحيحة ليست من هذه الجهة في مقام البيان أصلًا.

و الذي ينبغي أن يقال- مضافاً إلي أن مقتضي الأصل عدم الاستحباب، و عدم مشروعية الإحرام و الإحجاج بالصبي غير المميز من غير الولي الشرعي، فلا يترتب علي فعله ما يترتب علي إحرام الولي به-: إن تصرفات غير الأولياء في الصبي غير المميز (كما أشرنا إليه) إذا لم تكن من التصرفات العادية التي لا يري العرف لكونها تحت ولاية أحدٍ فائدةً و مصلحةً، بل كانت من التصرفات التي يري لزوم كونها تحت ولاية وليه، لما في ذلك من مصلحة المولي عليه و لو في الجملة يجب أن يكون صادراً بإذن الولي، و بعيد من حكمة الشارع تجويز هذا العمل و الحكم باستحبابه مطلقاً، إذاً فلا يجوز لغير الولي أن يحرم بالصغير، و لا أثر لإحرامه.

فما أفاده بعض الأعاظم قدس سره من عدم اختصاص إحجاج الصبي بالولي

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 17 من أبواب أقسام الحج ح 3.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 55

الشرعي لعدم استلزامه للتصرف المالي حتي يحتاج

إلي الإذن من الولي «1» منظور فيه.

نعم، قد ورد في خصوص الام رواية عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سمعته يقول: مر رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله برويثة «2» و هو حاج، فقامت إليه امرأة و معها صبي لها، فقالت: يا رسول اللّٰه أ يحج عن مثل هذا؟ فقال: نعم و لك أجره». «3» و لا بأس بدلالته. «4»

[مسألة 11] استحباب الإحجاج و الإحرام بالصبي:

مسألة 11- استحباب الإحجاج بالصبي غير المميز و الإحرام به معناه الإتيان بجميع أفعال الحج، لا مجرد الإحرام به و تركه علي حاله.

فما هو المستحب هو جميع تلك الأفعال التي من جملتها الهدي علي الولي دون الصبي؛ لأن هذا هو القدر المتيقن من استحباب الإحجاج به.

مضافاً إلي أن كونه علي مال الصبي خلاف مصلحته الدنيوية التي يجب علي الولي رعايتها، و علي هذا لو لم يكن الولي قاصداً إعطاء الهدي من ماله لا يصح إحرامه بالصبي، مثل أن لا يكون قاصداً الطواف به، أو الرمي عنه، فمجرد الإحرام به ليس مستحباً. «5»

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 36.

(2)- موضع بين الحرمين كما في القاموس.

(3)- وسائل الشيعة: ب 20 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1.

(4)- و لكن الرواية ظاهرة في نيابة الام عن الصبي لا إحجاجها، و إن كان ما في الجواهر هكذا: «أ يحج بمثل هذا؟» بدل «أ يحج عن هذا؟» و الاعتماد علي الأصل.

(5)- إن قلت: ما تقول في استحباب إخراج الزكاة من مال الصبي نقول به في إحجاجه. قلت:

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 56

مضافاً إلي أنه يمكن أن يقال: إذا أحرم به يجب عليه إتمام الحج به، لقوله تعالي: «وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّٰهِ».

و علي كل

حال فالهدي علي الولي دون الصبي، فكما أن إحجاج البالغ معناه إعطاء الهدي عنه أيضاً كسائر المصارف، فمعني إحجاج الصبي أيضاً هو إعطاء المحج الهدي عنه، هذا هو المتبادر منه. «1»

هذا، مضافاً إلي دلالة بعض الروايات علي ذلك:

مثل صحيح زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال: «إذا حج الرجل بابنه و هو صغير فإنه يأمره أن يلبي و يفرض الحج، فإن لم يحسن أن يلبي لبوا عنه، و يطاف به و يصلي عنه، قلت: ليس لهم ما يذبحون؟ قال: يذبح عن الصغار و يصوم الكبار، و يتقي عليهم ما يتقي علي المحرم من الثياب و الطيب، و إن قتل صيداً فعلي أبيه». «2»

وجه الدلالة: أن قول السائل: «ليس لهم ما يذبحون؟» ظاهر في أنه ليس للذين يحجون به ما يذبحون، فقال عليه السلام: «يذبح عن الصغار و يصوم الكبار»، فكأن السائل كان يري أنه لا يجوز الذبح من مال الصغير فسأله عما إذا لم يكن للولي ما يذبح عنه.

فإن قلت: إن الغالب عدم تمكن الطفل من الهدي، و السؤال منصرف إلي هذه الصورة، فلا دلالة للحديث علي عدم كونه في مال الصبي إذا كان متمكناً.

______________________________

يمكن القول بالفرق بأن في الزكاة تكون عين المال الزكوي من أربابها فيستحب أداؤها علي الولي، و لو لم يؤدها يجب عليه بعد البلوغ، و تعلق الزكاة بمال الصبي لا يكون بتسبيب الولي بخلاف الهدي فإنه يكون بتسبيبه.

(1)- و توهم أن حج الصبي كسائر عباداته تمرينية، فالمستحب عليهم أعمال الحج بتمامها إلا ما لا يقدر عليه، و من جملتها الهدي مندفع بأن الكلام هنا في استحباب إحجاج الصبي غير المميز للولي لا للصبي الذي لا يتمشي منه قصد القربة، و هذا لا

ينافي وصول ثواب إلي الصبي أيضاً.

(2)- وسائل الشيعة: ب 7 من أبواب أقسام الحج ح 5.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 57

قلت: الذي يجب إقامة الدليل عليه كون الهدي في مال الصبي، لأن المتبادر من جواز إحجاجه للولي كون الهدي علي الولي، و ما يحتاج إلي الدليل جواز تصرف الولي في مال الصبي بأداء الهدي منه.

مضافاً إلي منع كون الحديث منصرفاً إلي صورة عدم تمكن الصغار من الهدي، بل إطلاق قوله: «ليس لهم ما يذبحون؟» يشمل صورة تمكن الصغار، و بترك استفصال الإمام يتم المطلوب، فلا أثر للانصراف.

و منها: رواية إسحاق بن عمار، فإن ظاهر قوله عليه السلام: «و اذبحوا عنهم كما تذبحون عن أنفسكم» أن الكبار الذين أمروا الصغار بالاغتسال و الإحرام يجب عليهم الذبح عن الصغار من أموالهم لا من أموال الصغار.

و منها: ما رواه الشيخ قدس سره بإسناده عن موسي بن القاسم، «1» عن أبان بن عثمان، «2» عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه، «3» عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «يصوم عن الصبي وليه إذا لم يجد له «4» هدياً و كان متمتعاً». «5»

و منها: ما رواه الصدوق- عليه الرحمة- بإسناده عن عبد الرحمن بن أعين «6» عن أبي جعفر عليه السلام قال: «الصبي يصوم عنه وليه إذا لم يجد هدياً». «7» و منها

______________________________

(1) موسي بن القاسم البجلي من كبار الطبقة السابعة، و شيوخه في الحديث أكثر من مائة و عشرين، منهم أبان بن عثمان، و في النسخة المطبوعة من التهذيب: (محمد بن القاسم هو و عمه و جده و أبوه من الثقات، و من يروي عن أبان هو موسي بن القاسم).

(2) أبان بن عثمان من الطبقة الخامسة، قيل: إن

العصابة أجمعوا علي تصحيح ما يصح عنه و إن قيل في مذهبه ما قيل.

(3) من الطبقة الخامسة، ثقة، روي عن أبي عبد الله عليه السلام سبعمائة مسألة.

(4) في النسخة المطبوعة لا توجد كلمة (له).

(5) وسائل الشيعة، ب 3 من أبواب الذبح ح 2.

(6) من الطبقة الخامسة، هو من بني أعين الذين قالوا: إنهم كانوا مستقيمين، له كتاب.

(7). وسائل الشيعة: ب 3 من أبواب الذبح ح 5.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 58

غيرها.

هذا، و لكن يمكن أن يقال بدلالة رواية معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: انظروا من كان معكم من الصبيان فقدموه إلي الجحفة أو إلي بطن مر، و يصنع بهم ما يصنع بالمحرم، و يطاف بهم و يرمي عنهم، و من لا يجد الهدي منهم فليصم عنه وليه»، علي كون الهدي في مال الصغير دون الولي. فهو معارض لما دل علي أنه علي الولي. و لذا عقد في الوسائل باباً بهذا العنوان في أبواب الذبح (باب أن الولي إذا حج بالصبي لزمه الذبح عنه إن لم يكن له هدي، و مع العجز الصوم عنه)، فكأنه أفتي بمضمونه، و جمع بين الروايات بحمل ما يدل علي أنه علي الولي علي صورة عدم كون الصبي موسراً.

و لكن يمكن الخدشة في دلالة قوله عليه السلام: «و من لا يجد الهدي منهم» أولًا بمناسبة الحكم و الموضوع أن المراد من عدم وجدان الصغير الذي لا مال له غالباً عدم وجدانه في مال الولي، و من لا يجد الهدي من الصغير هو الذي لا يجده وليه، كالصبي الذي لا يجد نفقته فإنه هو الذي لا يجد وليه نفقته.

و هذا نظير الصفة بحال متعلق الموصوف، فالصبي موسر

إذا كان وليه موسراً، و فقير و معسر إذا كان وليه معسراً و فقيراً، و إلا كان المناسب أن يقول: و من كان معسراً لا يتمكن من الهدي كان هديه علي الولي، و إن لم يكن الولي أيضاً موسراً يصوم عنه.

و بالجملة: حمل قوله عليه السلام: «و من لا يجد الهدي منهم» علي من لا يجد الهدي منهم وليه ليس ببعيد.

و ثانياً: يمكن أن يكون المراد من قوله عليه السلام: «و من لا يجد الهدي منهم» أن

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 59

من لا يجد من الأولياء الهدي من الصغار (لا من مال الصغار) فليصم عنه وليه.

و مما يدل أيضاً علي أن الهدي يكون علي الكبار ما رواه الكليني بإسناده عن إبراهيم بن مهزيار «1»، عن أخويه علي و داود «2»، عن حماد «3»، عن عبد الرحمن بن أعين «4» قال: «حججنا سنة و معنا صبيان، فعزت الأضاحي، فأصبنا شاة بعد شاة، فذبحنا لأنفسنا و تركنا صبياننا، فأتي بكير أبا عبد اللّٰه عليه السلام فسأله فقال:

إنما كان ينبغي أن تذبحوا عن الصبيان و تصوموا أنتم عن أنفسكم، فإذ لم تفعلوا فليصم عن كل صبي منكم وليه». «5»

فإنه يستفاد منه أن الهدي يكون علي الولي، و لو كان في مال الصبي و لم يجده هو كان المناسب أن يصوم عنه وليه، لا أن يتكفله من ماله.

[مسألة 12] كفارة صيد الصبي:
اشارة

مسألة 12- قد دلت صحيحة زرارة المتقدمة بقوله عليه السلام: «و إن قتل صيداً فعلي أبيه» علي كون كفارة صيد الصغير الذي حج به علي وليه.

و لا يقال: إن ظاهره كونه علي أبيه دون غيره من الأولياء.

فإنه يقال: الظاهر أنه لا خصوصية للأب، غير أنه متكفل لأمر الصغير و الحج به،

و لا فرق بينه و بين غيره ممن أحرم به و أمره بالإحرام.

______________________________

(1)- من صغار الطبقة السابعة، عده ابن طاوس في ربيع الشيعة من سفراء الصاحب عليه السلام.

(2)- هما من كبار الطبقة السابعة، علي بن مهزيار جليل القدر، و الظاهر أن داود أيضاً ثقة لرواية إبراهيم عنه.

(3)- هو حماد بن عيسي من الطبقة الخامسة و طال عمره و عاصر الطبقة السادسة.

(4)- من الطبقة الرابعة من أصحاب أبي عبد اللّٰه عليه السلام.

(5)- وسائل الشيعة: ب 3 من أبواب الذبح ح 3.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 60

و علي هذا لا اعتناء بقول من قال: إنه في مال الطفل، لأن الكفارة من قبيل الإتلاف و الضمانات، لأن ذلك من قبيل الاجتهاد في مقابل النص. مضافاً إلي أن كون الكفارة من قسم الإتلاف و الضمانات أول الكلام، بل وجوبها حكم تكليفي ثبت في مورده، و لا موجب لثبوته في مال الطفل.

نعم، ما اختاره ابن إدريس من عدم الكفارة لا علي الطفل و لا علي وليه متَّجِه، لو لا النص الصريح الدال علي كونها علي الولي، فعلي كل ذلك الصحيح ما ذهب إليه المشهور من كون كفارة الصيد علي وليه.

بقية الكفارات علي الولي، أو في مال الصبي؟

و أما سائر الكفارات مما لا نص علي كونها علي الولي و لا علي الصبي فهل هي علي الولي، أو في مال الصبي، أو ليس علي واحد منهما شي ء؟ لما رواه الشيخ الطوسي رحمه الله بإسناده عن محمد بن أبي عمير «1»، عن حماد بن عثمان «2»، عن محمد بن مسلم «3»، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «عمد الصبي و خطؤه واحد». «4»

و ما رواه بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار «5»، عن الحسن بن موسي

______________________________

(1)- من الطبقة

السادسة جليل القدر عظيم المنزلة عندنا و عند المخالفين، هو من أوثق الناس عند الخاصة و العامة و أنسكهم و أورعهم و أعبدهم، ذكره الجاحظ بهذه الصفة، و ذكر أنه واحد زمانه في الأشياء كلها.

(2)- من الطبقة الخامسة هو و أخوه عبد اللّٰه ثقتان.

(3)- من الطبقة الرابعة، أبو جعفر الطحان، فقيه ورع وجه أصحابنا بالكوفة ممن أجمعت العصابة علي تصديقهم.

(4)- وسائل الشيعة: باب 11 من أبواب العاقلة ح 2.

(5)- من الطبقة السابعة، مؤلف كتاب بصائر الدرجات، له كتب، ثقة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 61

الخشاب «1»، عن غياث بن كلوب «2»، عن إسحاق بن عمار «3»، عن جعفر، عن أبيه قال عليهما السلام: «إن علياً عليه السلام كان يقول: عمد الصبيان خطأ (يحمل علي العاقلة)». «4»

يعني كما أن الخطأ في موارده يحمل علي العاقلة كذلك عمد الصبيان مطلقاً، سواء كان في باب الديات و الجنايات، أو غيرها كالكفارات حكمه حكم الخطأ في باب الديات يحمل علي العاقلة.

فتنزيل عمل الصبيان علي الخطأ لا ينحصر علي مورد يكون علي تقدير صدوره عمداً علي الفاعل، و علي تقدير صدوره خطأ علي العاقلة حتي يقال: إن في باب الكفارات ليس كفارة ما ارتكبه المحرم خطأ علي العاقلة، بل ليس في خطئه كفارة.

و بعبارة اخري: الحديث نزل عمد الصبيان منزلة الخطأ الذي حمل علي العاقلة، يعني ما يجب علي البالغ إن صدر عن الصبي عمداً يحمل علي العاقلة، و حكمه حكم الخطأ الذي يرتكبه البالغ في باب الديات و يحمل علي العاقلة، و إن لم يكن لخطأ الصبي و لا البالغ في مورد عمد الصبي حكم أصلًا. فيكون الفرق بينهما: أن الكفارة التي لم تجعل علي الصبي و لا البالغ إذا

صدر المحظور منهما خطأ جعلت علي البالغ نفسه، و علي عاقلة الصبي إذا ارتكباه عمداً.

و هذا الاحتمال و إن كان بالنظر إلي ظاهر الحديث و لكنه مردود بعدم القول في

______________________________

(1)- من الطبقة السابعة، من وجوه أصحابنا، مشهور كثير العلم و الحديث.

(2)- كأنه من الطبقة السادسة، البجلي له كتاب، و ذكر الشيخ في العدة أنه من العامة، و لكنه عملت الطائفة بأخباره إذا لم يكن لها معارض عن طريق الحق.

(3)- شيخ من أصحابنا، و كان فطحياً ثقة، و أصله معتمد.

(4)- وسائل الشيعة: ب 11 من أبواب العاقلة ح 3. في النسخة المطبوعة بدل (جعفر) (أبي جعفر)، و الظاهر أن الأصح جعفر عليه السلام، لأن إسحاق لم يروِ عن أبي جعفر عليه السلام.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 62

الكفارات بأنها تحملها العاقلة، و عليه تختص الرواية بباب الديات و الجنايات.

و أما في مثل قوله في صحيحة محمد بن مسلم: «عمد الصبي و خطؤه واحد»، فلا يتم الحكم بوحدتهما إلا إذا كان لخطأ الصبي حكم، حتي يجوز الحكم باتحادهما في الحكم، فهو أيضاً لا يشمل إلا باب الجنايات و الديات.

و قال في الحدائق: (و المسألة لا تخلو من إشكال لعدم النص في المقام، فإنّا لم نقف في ذلك إلا علي صحيحة زرارة المتقدمة الدالة علي الصيد و أنه تجب كفارته علي الأب، و الاحتياط واضح). «1»

و عن الشيخ قدس سره تقوية عدم الكفارة لا علي الولي و لا علي الصبي، لقوله عليه السلام:

«عمد الصبي و خطؤه واحد» فإذا لم تتعلق الكفارة بارتكاب محظور علي البالغين لا تتعلق بغيرهم إذا ارتكبوه عمداً «2».

و فيه: أنّ هذا الحديث مربوط بباب الجنايات و الديات التي يكون الحكم فيها ثبوت الدية في صورة

الخطأ، و ليس المراد به وحدة عمد الصبي و خطؤه مطلقاً، و إلا يلزم منه عدم بطلان عباداته من الصلاة و الصيام بارتكابه عمداً ما لا يفسدها خطأً و سهواً، مثل الأكل و الشرب في الصوم.

و أما رواية إسحاق بن عمار: «عمد الصبيان خطأ يحمل علي (تحمله) العاقلة» فإنا و إن تكلفنا شمول دلالتها للكفارات أيضاً إلا أنه يؤدي إلي ما لم يفتِ به أحد، و هو كون كفارة عمد الصبي علي عاقلته، فالروايتان أجنبيتان عن هذا البحث.

إذاً نبقي نحن و ما نقول به في حكم الكفارة، فإن قلنا بأنه حكم تكليفي

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة: 14/ 71.

(2)- المبسوط: 1/ 329.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 63

صرف ليس علي الصبي شي ء لرفع قلم التكليف عنه، و لا علي الولي لعدم وجوب منعه من ارتكاب المحظورات بعد ما لم يكن هو مكلفاً بتركه، و علي فرض وجوب منعه عنه علي الولي فالكفارة لم تشرّع علي ترك منعه.

اللهم إلا أن يقال بمناسبة الحكم و الموضوع: إن معني إحرامه بالطفل التزام الولي بحفظه من ارتكاب المحظورات، و لازم ذلك كون الكفارة علي الولي إن ترك ذلك عمداً، فتأمّل.

و إن قلنا: إنه حكم وضعي باشتغال ذمة المحرم بارتكابه المحرمات عمداً و إنه دين عليه، فالظاهر أنه يكون في مال الطفل، فالولي يؤديه من ماله.

و لكن يمكن أن يقال: علي هذا أيضاً إن إحرام الولي بالطفل يقتضي أن يجتنب به عن المحظورات، و مقتضي ذلك كون الكفارة عليه دون الصبي إن ترك منعه عنها.

بل يمكن أن يقال: إن القدر المتيقن من مشروعية استحباب الإحرام بغير المميز هو ما إذا ضمن الولي الكفارة منه و جعلها علي عهدته إن صدر من الصبي ما يقتضي

ذلك.

فعلي هذا لا يبعد القول بكون كفارة ما يرتكبه غير المميز علي الولي مطلقاً أو إن ترك منعه عن المحرمات، و لا بأس بتأييد ذلك بحكم الإمام عليه السلام صريحاً في الصيد بأن الكفارة علي أبيه بإلغاء الخصوصية، و دعوي وحدة ملاك كون الكفارة علي أبيه في الصيد و غيره فتأمل.

ثمّ إن هنا رواية رواها في قرب الإسناد الشيخ الجليل المحدث عبد اللّه بن جعفر الحميري أبو العباس القمي، من كبار الطبقة الثامنة، عن عبد اللّه بن الحسن العلوي، عن جده علي بن جعفر، عن أخيه موسي بن جعفر عليهم السلام (قال): «و سألته عن الصبيان هل عليهم إحرام، و هل يتقون ما يتقي الرجال؟ قال: يحرمون، و ينهون

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 64

عن الشي ء يصنعونه مما لا يصلح للمحرم أن يصنعه، و ليس عليهم فيه شي ء». «1»

و دلالتها علي عدم الكفارة علي الصبيان إذا ارتكبوا ما يحرم علي المحرم ظاهرة لا مجال لإنكارها، كما أن دلالتها علي عدم شي ء علي الأولياء أيضاً لا بأس بها، لأنه لو كانت الكفارة عليهم كان المناسب التصريح به لا السكوت عنه، إذاً فلا شي ء علي الصبي و لا علي الولي بارتكاب الصبي المحظورات إلا في الصيد الذي يخصص بدليل كونه علي أبيه هذا الحديث، و لكن القول بذلك إذا كان وقوع المحظور من الصبي بفعل الولي و إيقاعه به مشكل، فالأحوط في هذه الصورة أداء الكفارة علي الولي.

هذا كله في حكم الصبي غير المميز، و أما المميز فلا ريب في عدم كون كفارته علي الولي، و كونها علي نفسه يدور مدار القول بكون حكم الكفارة وضعياً

______________________________

(1)- قرب الإسناد/ 105، وسائل الشيعة: ب 18 من أبواب المواقيت ح 2.

و الحديث من حيث السند معتبر لا تدخل الخدشة فيه، لأن عبد اللّٰه بن الحسن بن علي و إن لم يذكر في كتب الرجال مما كان عندنا إلا أنه مذكور هو و أولاده و بيته في كتب أنساب العلويين، و عبد اللّٰه بن جعفر الذي عرفت جلالة قدره يروي الحديث عن جده علي بن جعفر بواسطته، و اعتمد عليه، و من المعلوم أنه كان معروفاً عنده بحسبه و نسبه و اعتمد عليه برواية أكثر من خمسمائة سؤالٍ مهمٍّ في الفروع الفقهية من أبواب كثيرة، و الظاهر أنها كتاب مسائل علي بن جعفر عن أخيه عليهم السلام، و مثل الحميري يعرف هذا الكتاب، فلا يضر باعتبار الحديث و اعتبار هذا القسم من قرب الإسناد عدم ذكر عبد اللّه بن الحسن في كتب الرجال، فالكتاب معتمد عليه، و الحديث معتبر لا ريب فيه و يؤيده نقل المجلسي و الشيخ الحر. مضافاً إلي وجود كتاب علي بن جعفر عند الحميري و إسناده إلي عبد اللّه بن الحسن العلوي يكون من باب حفظ السيرة المستمرة عند المحدثين كما عرفت. و لا يخفي عليك ما في الوسائل: فأولًا جعل رواية علي بن جعفر ذيل رقم 1 و جعل روايته بسند الحميري تحت رقم 2 مع أن المناسب جعل رواية الشيخ عن علي بن جعفر التي هي غير رواية أيوب عن أبي عبد اللّه عليه السلام تحت رقم 2 ثمّ الإشارة بأنه رواها الحميري. و ثانياً قال: و زاد، فكأنه توهم ما ذكره من الزيادة جزءاً من رواية قرب الإسناد في ميقات الفخ و الحال أنه سؤال آخر كسائر مسائل الكتاب و لم يكن هنا محل ذكره. و اللّٰه هو العاصم.

(المؤلف).

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 65

و ديناً علي المحرم، و إلا علي القول بالتكليف حيث لا تكليف عليه لا شي ء عليه أيضاً، و لا يترك الاحتياط بأدائه بعد التكليف و البلوغ. و اللّٰه العالم.

[مسألة 13] إجزاء حج الصبي لو بلغ و أدرك المشعر

مسألة 13- قد استثني «1» المشهور من عدم إجزاء حج الصبي عن حجة الإسلام ما لو بلغ و أدرك المشعر فإنه يجزيه عن حجة الإسلام.

قال الشيخ في الخلاف: «مسألة 226: إحرام الصبي عندنا جائز صحيح، و إحرام العبد صحيح بلا خلاف» إلي أن قال: «و إن كملا قبل الوقوف تغير إحرام كل واحد منهما بالفرض، و أجزأه عن حجة الإسلام، و به قال الشافي، و قال أبو حنيفة: الصبي يحتاج إلي تجديد إحرام، لأن إحرامه لا يصح عنده، و العبد يمضي علي إحرامه تطوعاً و لا ينقلب فرضاً، و قال مالك: الصبي و العبد معاً يمضيان في الحج و يكون تطوعاً. دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم، فإنهم لا يختلفون في هذه المسألة، و هي منصوصة لهم، و قد ذكرناها و نصوصها في الكتاب المقدم ذكره». «2»

و قال في المبسوط: «فإن بلغ الصبي أو اعتق العبد أو رجع إليه العقل قبل أن يفوته المشعر الحرام فوقف بها و أتي بباقي المناسك فإنه يجزيه عن حجة الإسلام». «3»

و قال العلامة في التذكرة: «و إن بلغ الصبي أو اعتق العبد قبل الوقوف بالمشعر

______________________________

(1)- التعبير بالاستثناء صحيح بناءً علي المشهور، و سيأتي ما بنينا عليه من أن صحة حجة إسلام الصبي إذا بلغ قبل المشعر مطابق للأصل، و عدم صحتها إذا بلغ بعد الموقفين يحتاج إلي الدليل.

(2)- الخلاف: 1/ 424

(3)- المبسوط: 1/ 297.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 66

فوقف به أو بعرفة معتقاً و فعل باقي

الأركان أجزأ عن حجة الإسلام، و كذا لو بلغ أو اعتق و هو واقف، عند علمائنا أجمع». «1»

و قال في التبصرة: «فلو حج الصبي لم يجزه إلا إذا أدرك أحد الموقفين بالغاً». «2»

و قال في الإرشاد: «و لو حجا (الصبي و المجنون) ندباً ثمّ كملا قبل المشعر أجزأ». «3»

و قال في التلخيص: «و لو زال عذر الصبي و المجنون و العبد أجزأهم إن أدركوا أحد الموقفين» «4».

و قال في القواعد: «و لو أدركا المشعر كاملين أجزأهما». «5»

و قال الشهيد في الدروس: «و لو بلغ قبل أحد الموقفين صح حجه». «6»

و قال ابن حمزة في الوسيلة: «فإن بلغ قبل الوقوف بالموقفين أو بأحدهما أجزأ حجه عن حجة الإسلام» «7»، و هو ظاهر الصهرشتي في الإصباح.

و قال المحقق في الشرائع: «لو دخل الصبي المميز أو المجنون في الحج ندباً ثمّ كمل كل واحد منهما و أدرك المشعر أجزأ عن حجة الإسلام علي تردد». «8»

______________________________

(1)- تذكرة الفقهاء: 1/ 299.

(2)- تبصرة المتعلمين/ 86.

(3)- إرشاد الأذهان: 1/ 310.

(4)- التلخيص: من سلسلة الينابيع: 30/ 328.

(5)- قواعد الأحكام: 1/ 74.

(6)- الدروس الشرعية: 1/ 306.

(7)- الوسيلة/ 195.

(8)- شرايع الإسلام: 1/ 164 و لعل منشأ تردده وجود النص في العبد و عدم وجوده في الصبي.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 67

و قال الهذلي في الجامع: «فإن اعتق الرقيق و بلغ الصبي بعد إحرامهما و قبل الوقوف بأحد الموقفين أجزأهما، و الأولي أن لا يجزئ عن الصبي». «1»

و قال في الحدائق: «و إن كان قبل الوقوف بالمشعر فالمشهور أنه يدرك الحج بذلك، و يجزئه عن حجة الإسلام، ذكره الشيخ و أكثر الأصحاب، و نقل فيه العلامة في التذكرة الإجماع». «2»

هذا بحسب الأقوال و نقل الإجماع، و

لا يخفي عليك أن رد تحقق الإجماع في المسألة لا يتم بما ذكره بعض الأعاظم «3» من ترديد البعض في المسألة، كالمحقق في المعتبر و الشرائع، و العلامة في المنتهي، فإن ترددهم كان بعد عصر مثل الشيخ المدعي للإجماع.

نعم، لا بأس في المناقشة في حجية هذا الإجماع علي فرض التحقق، لأنه ليس كاشفاً عن رأي المعصوم، و لا عن وجود النص المعتبر في المسألة غير ما في أيدينا مما سنشير إليه إن شاء اللّٰه تعالي.

و أما بحسب الأدلة فأولًا: يمكن أن يقال- بناءً علي القول بصحة عبادات الصبي المميز-: إنه يصح منه حجة الإسلام و يجزي عنه إذا كان مستطيعاً، سواء بلغ في الأثناء أو لم يبلغ.

نعم لو حج و بلغ بعد الفراغ عنه نقول بعدم إجزائه عن حجة الإسلام بالدليل، و هو مثل رواية إسحاق بن عمار المتقدمة قال «سألت أبا الحسن عليه السلام عن ابن عشر سنين يحج؟ قال: عليه حجة الإسلام إذا احتلم و كذلك الجارية عليها الحج إذا طمثت».

______________________________

(1)- الجامع للشرائع/ 211.

(2)- الحدائق الناضرة: 14/ 60

(3)- راجع معتمد العروة: 1/ 43.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 68

فعلي هذا، قول المشهور بإجزائه إذا بلغ و أدرك أحد الموقفين مطابق للقاعدة، لا يحتاج إلي إقامة الدليل.

نعم يورد علي هذا البيان بلزوم القول معه بإجزاء حجه و إن بلغ بعد الموقفين، و لكن يمكن أن يجاب عنه بأن ذلك في العبد بدلالة النص و في الصبي بالإجماع فإنه لم ينقل عن أحد القول بالإجزاء في هذه الصورة.

فإن قلت: فما تصنع بإطلاق الروايات مثل صحيحة إسحاق بن عمار، حيث استدل بإطلاقها بعض الأعاظم فقال: «إن صدرها و إن كان وارداً بالنسبة إلي الصبي و هو ابن

عشر سنين، و تصوير البلوغ بالاحتلام في أثناء الحج في حقه بعيد جداً، و لكن ذيلها وارد في الجارية و إن عليها الحج إذا طمثت، و تصوير حدوث الطمث من الجارية أثناء الحج أمر ممكن، و بالجملة مقتضي إطلاق الصحيحة عدم الفرق في عدم الإجزاء بين حدوث الطمث بعد تمام الأعمال و بين حدوثه في أثناء الحج». «1»

قلت: لا إطلاق لهذه الرواية بعد ما كان مورد صدره المشتمل علي سؤال إسحاق و جواب الإمام عليه السلام مقصوراً علي حكم حج الصبي بعد تمام الأعمال، لعدم تصوير غير ذلك في حج ابن عشر سنين. فيحمل قوله عليه السلام: «و كذلك الجارية» علي ما هو موضوع سؤال السائل في الصدر، و هو حكم حج الصبي بعد إتمام الأعمال، فلا يصح أن نجعل ذيل الذي بيانه متفرع علي الصدر علي الأعم بعد ما كان المراد من الصدر الأخص، و هو خصوص الحج الواقع من الصبي فتدبر.

و ثانياً استدل علي ذلك بوجوه:

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 46.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 69

أحدها بالنصوص الواردة في العبد، مثل رواية معاوية بن عمار «1» قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: مملوك اعتق يوم عرفة؟ قال: إذا أدرك أحد الموقفين فقد أدرك الحج». «2» باستظهار عدم خصوصية للعبد من النصوص و أن المناط الشروع حال عدم استكمال شرائط الوجوب و استكمالها قبل المشعر.

و فيه: منع استظهار ذلك، لأن إلغاء الخصوصية محتاج إلي القطع بعدم دخالتها في الحكم، مثل رجل شك بين الثلاث و الأربع فإنه يلغي خصوصية الرجولية للقطع بعدم دخلها في الحكم، و أنا لنا ذلك فيما نحن فيه، مع أنه لو قلنا بإلغاء الخصوصية يلزم أن نقول به فيمن حج

متسكعاً ثمّ استطاع قبل المشعر مع أنهم لا يقولون به.

و ثانيها: ما ورد في أن من لم يحرم من مكة أحرم من حيث أمكنه قبل المشعر، مثل رواية الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيي، «3» عن محمد بن أحمد

______________________________

(1)- معاوية بن عمار من الطبقة الخامسة، كان وجهاً من أصحابنا، متقدماً كثير الشأن عظيم المحل، ثقة، و كان أبوه عمار ثقة في العامة، و له كتب عن ابن أبي عمير و محمد بن سكين و صفوان بن يحيي، و طريق الصدوق إليه صحيح و من كتبه كتاب الحج. و أما والده عمار بن معاوية الدهني، قال في تهذيب التهذيب: يقال ابن أبي معاوية و يقال ابن صالح، و يقال ابن حبان أبو معاوية البجلي الكوفي، و روي عن أبي الطفيل و أبي سلمة بن عبد الرحمن و … و أبي جعفر الباقر عليه السلام و عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر و طائفة، و عنه ابنه معاوية، و شعبة و سفيان و إسرائيل و جابر الجعفي و عبيدة بن حميد و شريك و آخرون. قال أحمد و ابن معين و النسائي: ثقة، و قال ابن المديني: عن سفيان قطع بشر بن مروان عرقوبيه في التشيع، و ذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة ثلاث و ثلاثين و مائة.

(2)- وسائل الشيعة: ب 17 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 2. و لا يخفي عليك أن الباب المذكور و إن كان متضمناً لخمسة أحاديث إلا أن الظاهر رجوعها إلي ثلاثة، بل عدم إثبات أزيد من اثنين به.

(3)- لعله هو من كبار الطبقة الثامنة، جليل القدر كثير الرواية.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 70

العلوي،

«1» عن العمر كي بن علي الخراساني، «2» عن علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن رجل نسي الإحرام بالحج فذكر و هو بعرفات ما حاله؟ قال عليه السلام:

يقول: اللهم علي كتابك و سنة نبيك صلي الله عليه و آله فقدتم إحرامه، فإن جهل أن يحرم يوم التروية بالحج حتي رجع إلي بلده إن كان قد قضي مناسكه كلها فقد تم حجه». «3»

و لكن لا ارتباط لهذه الرواية بما نحن فيه لأنها تدل علي من قصد الحج و ذهب إلي عرفات لكن نسي الإحرام و ذكر و هو بعرفات يتداركه بهذا الدعاء، و أين ذلك ممن لم يكن بالغاً و أحرم للحج و بلغ في عرفات؟ و إلا فيجب أن نقول:

بأنه إذا بلغ بعد قضاء مناسكه يجزيه عن حجة الإسلام.

و من الروايات رواية إسحاق بن عمار المتقدمة، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن غلمان لنا دخلوا معنا مكة بعمرة و خرجوا معنا إلي عرفات بغير إحرام؟ قال عليه السلام: قل لهم يغتسلون ثمّ يحرمون، و اذبحوا عنهم كما تذبحون عن أنفسكم». «4»

بدعوي إلغاء خصوصية ترك الإحرام في الحكم و شموله لكل من أدرك عرفات، سواء أدركها بدون الإحرام أو أدركها مع الإحرام و بلغ فيها.

و فيه: أن موضوع الحكم في الرواية الحكم بصحة الحج و كفاية الإحرام من عرفات لمن لم يحرم من مكة جهلًا أو نسياناً، و لا ارتباط لها بإجزاء حج من أحرم من مكة و وقع حجه صحيحاً غير أنه بلغ قبل المشعر عن حجة الإسلام.

______________________________

(1)- من الطبقة السابعة.

(2)- كأنه من الطبقة السابعة أو من السادسة، لأن علي بن جعفر من الخامسة، شيخ من أصحابنا، ثقة له

كتاب الملاحم.

(3)- وسائل الشيعة: ب 14 من أبواب المواقيت ح 8.

(4)- وسائل الشيعة: ب 17 من أبواب أقسام الحج ح 2.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 71

ثالثها: الأخبار التي دلت علي أن من أدرك المشعر فقد أدرك الحج. «1»

بتقريب: أن ما هو المعتبر في الحج إدراك المشعر، فإذا أدركه بالغاً يكفي في وقوع حجه حجة الإسلام، و لا يضر إتيانه بالأعمال السابقة في حال عدم البلوغ.

و فيه: أن مفادها الحكم بصحة حج من أدرك المشعر و المفروض هنا صحة حج البالغ و مشروعيته و إتيانه بما قبل المشعر، و ما دل علي صحة الحج بإدراك المشعر لا يدل علي وقوع حج الصبي حجة الإسلام بالوقوف في المشعر بالغاً.

ثمّ إن هنا مسائل:

الاولي: أنه بعد الفراغ من إجزاء حج الصبي عن حجة الإسلام إذا بلغ و أدرك أحد الموقفين فهل يجب تجديد النية لقلب الحج إلي حجة الإسلام أو ينقلب قهراً إليها؟ مقتضي ما حققناه- من أن الأصل وقوع ما يأتي به المميز حجة الإسلام و أن عدم إجزائه عنها إذا لم يدرك أحد الموقفين بالغاً قد ثبت بالإجماع- لا قلب هنا حتي يقال باحتياج ذلك إلي النية أو حصوله قهراً.

الثانية: هل يعتبر في الإجزاء كونه مستطيعاً من حين دخوله في الإحرام أو يكفي استطاعته من المشعر و من حين البلوغ؟ الظاهر اعتبار الاستطاعة في الإجزاء من أول الأمر لاختلاف حقيقتهما.

الثالثة: هل يكفي في الإجزاء إدراك أحد الموقفين من غير فرق بين عرفات و المشعر؟ الظاهر أنه لا فرق في ذلك في الإجزاء. نعم لو أدرك الوقوف بعرفات و لم يدرك وقت المشعر الاختياري و لا الاضطراري فالمسألة تدخل تحت مسألة من أدرك وقت عرفات و لم يدرك

المشعر أصلًا.

الرابعة: هل الحكم بالإجزاء مختص بحج القران و الإفراد أو هو أعم منهما

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 22 من أبواب الوقوف بالمشعر.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 72

و التمتع؟ مقتضي ما قلنا في أصل المسألة من تحقق الإجماع علي عدم الإجزاء إذا لم يدرك أحد الموقفين بالغاً هو الأعم.

و بعبارة اخري: البحث هنا يجري في أن الإجماع القائم علي عدم الإجزاء إذا لم يدرك أحد الموقفين هل هو مطلق يشمل الحج بأنواعه الثلاثة أو مختص ببعض أنواعه؟ الظاهر أنه مطلق، و أما إجزاء حج من أدرك أحد الموقفين بالغاً فهو في الأنواع الثلاثة مطلق و علي وزان واحد.

[مسألة 14] إذا بلغ الصبي بعد الإحرام و صار مستطيعاً

مسألة 14- قد تعرض بعض الأعاظم قدس سره في ضمن مسائل هذا الباب بمسألة ما لو بلغ بعد الإحرام و قبل الشروع في الأعمال و أنه هل يتم ذلك ندباً، أو حين البلوغ ينقلب إلي حجة الإسلام فيعدل إليها، أو يستأنف و يحرم ثانياً من الميقات؟

و قال: «و إنما تعرضوا لحدوث الاستطاعة بعد الإحرام مع أن المسألتين من باب واحد» و قال: «و كيف كان فالاكتفاء بالإحرام الأول بدعوي انقلاب حجه إلي حجة الإسلام لا دليل عليه، و أما إتمامه ندباً فلا وجه له، إلا ما قيل من أن المحرم ليس له أن يحرم ثانياً، و هذا واضح الدفع فإن الإحرام الأول ينكشف فساده بالبلوغ المتأخر و الاستطاعة الطارئة، و لذا لو علم حال الإحرام بأنه يبلغ بعد يومين مثلًا أو يستطيع بعدهما ليس له أن يحرم و هو صبي، فلا بد من إعادة الإحرام و يرجع إلي الميقات و يحرم إحرام حجة الإسلام، و هكذا لو دخل في أفعال العمرة و أتمها ثمّ بلغ فإنه يجب عليه

الرجوع إلي الميقات و إتيان العمرة ثانياً إذا وسع الوقت، فإن البلوغ أو الاستطاعة يكشف عن بطلان ما أتي به من الإحرام أو

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 73

العمرة، فيشمله عمومات وجوب الحج من الآية و الرواية». «1»

أقول: هذا علي مبني من يقول بعدم إجزاء حج المميز عن حجة الإسلام و إن بلغ و أدرك أحد الموقفين، أما بناءً علي مبني المشهور الذي أيدناه بما قررناه فالملاك في الإجزاء هو إدراك أحد الموقفين، سواء بلغ بعد الإحرام و قبل الشروع بالأعمال أو بعد الشروع بها، و سواء أمكن له تجديد الإحرام أم لم يمكن له ذلك، و أما بناءً علي عدم الإجزاء مطلقاً فإذا بلغ في الموقف و أمكن له الرجوع إلي مكة للإحرام يجب عليه ذلك.

نعم، في الاستطاعة نقول: إن أحرم ثمّ حصل له الاستطاعة يجب عليه تجديد الإحرام؛ لأن إحرام غير المستطيع كحجه حقيقته غير إحرام المستطيع، و حيث إنه يكشف استطاعته عن عدم كونه مأموراً بالإحرام في الحال الذي يستطيع بعده و يجب عليه حجة الإسلام لحصول الاستطاعة يجب عليه الإحرام لحجة الإسلام.

و هكذا إذا حصل له الاستطاعة في الأثناء أو بعد العمرة و أمكن له تجديد الإحرام أو إتيان العمرة ثانياً، و إلا فيجب عليه الإفراد. و إذا كان جاهلًا بصيرورته مستطيعاً قبل الذهاب إلي عرفات فأحرم و ذهب إلي عرفات و لم يمكن له الرجوع إلي مكة للإحرام فالظاهر أنه كالناسي يحرم من هناك، و لعله يأتي لذلك مزيد بحث إنشاء اللّٰه تعالي. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 15] إذا حج ندباً باعتقاد أنه غير بالغ و غير مستطيع فبان الخلاف

مسألة 15- إذا حج البالغ أو المستطيع باعتقاد أنه غير بالغ أو غير مستطيع ندباً و بنية الندب فبان بعد الحج كونه بالغاً أو

مستطيعاً فهل

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 48.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 74

يجزي عن حجة الإسلام أولا؟ وجهان.

يمكن أن يقال: إن حجة الإسلام في الشرع هي الحجة التي تقع من البالغ المستطيع الصرورة و هي متميزة عن غيرها بنفسها، سواء قصد هذا العنوان أم لم يقصده، و سواء كان الذي يأتي بها عالماً باستطاعته أو بلوغه أو جاهلًا بهما، بل و إن قصد الحج الندبي، فإنه لا يخرجها عن حقيقتها إذا كان ذلك جهلًا أو نسياناً، كما لا يخرج قصد الإنسان نسياناً فعله الخاص من الأكل و الشرب و الجلوس فعلًا آخر إلي ما قصده.

إن قلت: نعم حجة الإسلام هي المناسك التي يأتي بها المستطيع و لكن مثل الصلاة يحتاج وقوعها عبادة إلي قصد القربة و امتثال أمرها الخاص، و الحال أنه لم يقصد بإتيانها امتثال أمر المولي بها.

قلت: يكفي في قصد القربة كون الداعي للعبد المطيع نفس أمر المولي دون خصوصية كون أمره المتعلق بما يأتي به أمراً وجوبياً أو ندبياً أو كان هو مخاطباً لأمره لأنه المستطيع أو غير المستطيع فهو و إن يقصد الأمر الندبي إلا أن داعيه إلي الفعل هو ذات الأمر لا بقيد ندبيته، كمن قصد صوم آخر يوم من شعبان و لا يثبت عنده الهلال ثمّ علم بعد ذلك برؤيته فإنه يكون له صوم شهر رمضان، فلا يخرج قصده صوم شعبان كون اليوم من شهر رمضان، و لا يضر قصده أمر صوم شعبان وقوع صوم شهر رمضان قربة إلي اللّٰه تعالي و امتثالًا لأمره.

نعم، لو كان عالماً بكونه من شهر رمضان و قصد شعبان لا يكون ممتثلًا بصوم شهر رمضان. و فيما نحن فيه أيضاً إذا قصد الأمر الندبي مع علمه

بالاستطاعة و أن عليه الحج الواجب لا يكفي في قصد القربة لعدم كون داعيه إلي الفعل ذات الأمر.

هذا إذا قصد الأمر الندبي بالفعل الذي تعلق به الأمر الوجوبي جهلًا أو

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 75

نسياناً.

نعم إذا قصد الأمر الوجوبي بدلًا عن الأمر الندبي يمكن أن يقال بعدم الاكتفاء به في حصول القربة بإتيان ما تعلق به الأمر الندبي كما لا يخفي.

[الثاني من شرائط وجوب حجة الإسلام الحرية]

الثاني من شرائط وجوب حجة الإسلام الحرية:

فلا تجب علي المملوك و إن أذن له مولاه و حصلت له الاستطاعة المالية إما بالملك بناءً علي القول بملكه، أو بذل له مولاه أو غيره الزاد و الراحلة، و هذا مما لا خلاف فيه، بل ادعي عليه الإجماع منا و من غيرنا. «1»

و يدل عليه ما رواه الشيخ بالسند الصحيح بإسناده عن موسي بن القاسم «2»، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسي بن جعفر عليهم السلام قال: «المملوك إذا حج ثمّ اعتق فإن عليه إعادة الحج». «3»

و يدل عليه من هذا الباب (الباب 16 من أبواب وجوب الحج من الوسائل) ح 1 و 4 و هما حديث واحد، و ح 2 و 10 و المحتمل اتحاده مع الحديث 3 و الحديث 95 و هما أيضاً واحد (و الظاهر وحدتهما مع ح 2 من ب 13) و ح 6 و 8.

نعم في الباب حديث واحد صحيح ظاهره إجزاء حج العبد عن حجة الإسلام و هو الحديث السابع الذي رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيي، «4» عن السندي بن محمد، «5» عن أبان «6» عن حكم بن حكيم الصيرفي، «7»

______________________________

(1) جواهر الكلام: 17/ 241.

(2) إسناد الشيخ إلي موسي بن القاسم صحيح، و هو من كبار

الطبقة السابعة، ثقة جليل، واضح الحديث، حسن الطريقة، له ثلاثون كتابا. و أما علي بن جعفر عليهما السلام فهو من الطبقة الخامسة.

(3) وسائل الشيعة ب 16 من أبواب وجوب الحج ح 3.

(4) الأشعري القمي أبو جعفر جليل القدر كثير الرواية ثقة في الحديث، له كتاب نوادر الحكمة و هو كتاب حسن كبير يعرفه القميون بدبة شبيب، و هو من الطبقة السابعة.

(5)- أخو علي و اسمه أبان يكني أبا بشر، و هو ابن اخت صفوان بن يحيي، كان ثقةً وجهاً في أصحابنا الكوفيين، كأنه من الطبقة السابعة.

(6)- هو أبان بن عثمان الأحمر من الطبقة الخامسة، كان من الناووسية، و قيل: هو ممن أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصح عنه، و قيل: صار من الإمامية، و اختص بالإمام الصادق عليه السلام.

(7)- أخو خلّاد الصيرفي، ثقة له كتاب، من الطبقة الخامسة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 76

قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: أيما عبد حج به مواليه فقد قضي حجة الإسلام».

و لكن الظاهر أنه و الحديث الثاني واحد، و هو ما رواه الصدوق بإسناده عن أبان بن الحكم «1» قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: الصبي إذا حُجّ به فقد قضي حجة الإسلام حتي يكبر، و العبد إذا حُجّ به فقد قضي حجة الإسلام حتي يعتق». «2» سقط منه قوله (حتي يعتق) كما أنه قد وقع التحريف في سند الحديث الثاني، فبدلت بعد أبان كلمة (عن) بابن، و الظاهر وحدتهما مع ح 1 من ب 13، و لو أغمضنا عن ذلك، فلا بد من طرحه لشذوذه و مخالفته لغيره من الأحاديث الكثيرة، أو حمل حجة الإسلام فيه علي حجة الإسلام خصوص العبد.

و مما دل علي

الحكم صحيحة شهاب عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في رجل أعتق عشية عرفة عبداً له؟ فقال: يجزي عن العبد حجة الإسلام، و يكتب للسيد أجران ثواب العتق و ثواب الحج». «3»

و صحيحة معاوية بن عمار، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: مملوك اعتق يوم عرفة؟ قال: إذا أدرك أحد الموقفين فقد أدرك الحج». «4» و زاد في المعتبر «فإن

______________________________

(1)- الظاهر أن الصحيح: أبان عن الحكم.

(2)- وسائل الشيعة: ب 16 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 2.

(3)- وسائل الشيعة: ب 17 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1 و الظاهر اتحاده مع الحديث 4.

(4)- وسائل الشيعة: ب 17 من أبواب وجوب الحج ح 2 و الظاهر اتحاده مع الحديث 3 و 5.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 77

فاته الموقفان فقد فاته الحج و يتم حجه و يستأنف حجة الإسلام فيما بعد». «1»

و مما يدل أيضاً علي اشتراط الحرية في وجوب حجة الإسلام: طائفة من الروايات المخرجة في الباب 15 من أبواب وجوب الحج في الوسائل:

منها: ما رواه الصدوق بإسناده (الصحيح) عن الحسن بن محبوب «2» عن الفضل ابن يونس «3» قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام فقلت: يكون عندي الجواري و أنا بمكة، فآمرهن أن يعقدن بالحج يوم التروية، فاخرج بهن فيشهدن المناسك أو اخلفهن بمكة؟ فقال: إن خرجت بهن فهو أفضل، و إن خلّفتهن عند ثقة فلا بأس، فليس علي المملوك حج و لا عمرة حتي يعتق». «4»

و الظاهر أنها و الحديث الثاني منه- الذي رواه الكليني عن محمد بن يحيي العطار «5» عن أحمد بن محمد، «6» و عن عدة من أصحابنا «7» عن سهل بن زياد، جميعاً عن ابن محبوب

عن الفضل بن يونس، عن أبي الحسن موسي عليه السلام قال: «ليس علي المملوك حج و لا عمرة حتي يعتق» و رواه الشيخ بإسناده عن الكليني- واحد.

و منها الحديث الرابع، غير أن في الحديث الثالث من هذا الباب الذي رواه الشيخ عن العباس «8» عن سعد بن سعد، «9» عن محمد بن القاسم، عن فضيل بن

______________________________

(1) وسائل الشيعة: باب 17 من أبواب وجوب الحج ح 5 راجع المعتبر: 2/ 750.

(2) من من السادسة.

(3) الكاتب البغدادي ثقة واقفي! له كتاب هو من من الطبقة الخامسة.

(4) وسائل الشيعة: باب 15 من أبواب وجوب الحج ح 1.

(5) القمي شيخ من أصحابنا في زمانه، ثقة عين من الطبقة الثامنة.

(6) شيخ القميين من الطبقة السابعة.

(7) و هم علي بن محمد بن علان، و محمد بن أبي عبد الله، و محمد بن الحسن، و محمد بن عقيل الكليني

(8) من الطبقة السابعة.

(9) الأشعري القمي، ثقة، و له كتاب، من الطبقة السادسة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 78

يسار «1» عن يونس بن يعقوب «2» قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إن معنا مماليك لنا قد تمتعوا، علينا أن نذبح عنهم؟ قال: فقال: المملوك لا حج له و لا عمرة و لا شي ء.» «3» و هو يدل علي عدم صحة حجه و عمرته مطلقاً.

و في الحديث الخامس عن الحسن بن محبوب عن رجل عن عبد اللّه بن سليمان «4» «قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام و سألته امرأة فقالت: إن ابنتي توفيت و لم يكن بها بأس فأحج عنها؟ قال: نعم، قالت إنها كانت مملوكة؟ فقال: لا، عليك بالدعاء فإنه يدخل عليها كما يدخل البيت الهدية» «5». فإنه أيضاً يدل علي عدم صحة

الحج عن المملوك مطلقاً و إن لم يكن حجة الإسلام.

و الحج في الروايتين محمول علي إرادة الحج من حجة الإسلام و في خصوص الرابعة علي إرادة العمرة الواجبة من العمرة علي ما إذا حجوا بغير إذن مواليهم.

و لعله الظاهر من سؤال الراوي حيث قال: «إن معنا مماليك لنا قد تمتعوا، علينا أن نذبح عنهم؟ قال: فقال: المملوك لا حج له و لا عمرة و لا شي ء».

و أما الحديث الثاني فمع ضعف سنده أيضاً محمول علي حجة الإسلام،

و كيف كان فلا إشكال في أن المملوك لو حج بإذن مولاه صح بلا إشكال، و إن كان لا يجزئه عن حجة الإسلام، و ما يدل بظاهره علي عدم صحة الحج مطلقا معرض عنه، لم يعمل به الأصحاب مضافاً إلي معارضتها بما يدل علي صحة الحج

______________________________

(1)- النهدي الكوفي البصري، ثقة، كان أبو عبد اللّه عليه السلام إذا نظر إلي الفضيل بن يسار مقبلًا قال: «بشّر المخبتين». قد أجمعت العصابة علي تصديقه و الإقرار له بالفقه، هو من الطبقة الرابعة.

(2)- البجلي الدهني الكوفي، له كتب، ثقة، هو من الطبقة الخامسة.

(3)- تهذيب الأحكام: 5/ 482، ح 361.

(4)- من الرابعة أو الخامسة.

(5)- وسائل الشيعة: ب 25 من أبواب النيابة في الحج ح 8.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 79

منه بإذن مولاه، و اللّٰه هو العالم.

[الشرط الثالث من شرائط وجوب الحج: الاستطاعة من حيث المال و صحة البدن و تخلية السرب]

اشارة

الشرط الثالث من شرائط وجوب الحج:

الاستطاعة من حيث المال و صحة البدن و تخلية السرب

لا ريب في اشتراط وجوبه بها، بل لا خلاف فيها، و إليك كلمات أعاظم فقهائنا فيها:

قال المفيد في المقنعة: «و فرضه علي كل حر بالغ مستطيع إليه السبيل، و الاستطاعة عند آل محمد صلي الله عليه و آله في الحج بعد كمال العقل و

سلامة الجسم … و التخلية من الموانع بالإلجاء و الاضطرار، و حصول ما يلجأ إليه في سد الخلة، من صناعة يعود إليها في اكتسابه، أو ما ينوب عنها من متاع أو عقار أو مال، ثمّ وجود الراحلة بعد ذلك و الزاد» «1».

و قال السيد قدس سره في الناصريات: «الاستطاعة هي الزاد و صحة البدن عندنا إن الاستطاعة التي يجب معها الحج صحة البدن و ارتفاع الموانع و الزاد و الراحلة …

و قال الشافعي مثل قولنا بعينه، و اعتبر صحة الجسم و التمكن من الثبوت علي الراحلة و الزاد، و نفقة طريقه إلي حجه ذاهبا و جائياً إن كان السفر من بلده، و نفقة عياله مدة غيبته». ثمّ حكي رواية ذلك عن جماعة من الصحابة و التابعين، و أبي حنيفة و أحمد و إسحاق، و حكي عن مالك أن الراحلة لا يعتبر في وجوب الحج- إلي أن قال-: «دليلنا علي صحة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المتكرر ذكره أنه لا خلاف في أن من حاله ما ذكرنا أن الحج يلزمه، فمن ادعي أن صحيح الجسم إذا خلا من سائر الشرائط التي ذكرناها يلزمه الحج فقد ادعي وجوب حكم شرعي في الذمة و عليه

______________________________

(1)- المقنعة/ 384.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 80

الدليل، لأن الأصل براءة الذمة، و أيضاً قوله تعالي: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» و الاستطاعة في عرف الشرع و أهل اللغة أيضاً عبارة عن تسهيل الأمر و ارتفاع المشقة فيه، و ليست بعبارة عن مجرد القدرة، أ لا تري أنهم يقولون: ما أستطيع النظر إلي فلان إذا كان يبغضه و يمقته، و يثقل عليه النظر إليه، و إن كانت معه قدرة

علي ذلك. و كذلك ما يقولون: لا أستطيع شرب هذا الدواء، يريدون أنني أنفر منه، و يثقل علي النظر إليه، و إن كانت معه قدرة علي ذلك و قال اللّٰه تعالي: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» *. و إنما أراد هذا المعني لا محالة، فإذا تقرر ما ذكرناه، كان صحيح الجسم الذي يشق عليه المشي الطويل إلي الحج لم يكن مستطيعاً له في العرف الذي ذكرناه، و كذلك من وجد الراحلة و لم يجد نفقة لطريقه و لا لعياله يشق عليه السفر و يضعف و تنفر نفسه لا يسمي مستطيعاً، فوجب أن تكون الاستطاعة ما ذكرناه لارتفاع المشاق و التكلف معه. و مما يدل علي بطلان مذهب مالك أيضاً، ما روي من أن النبي صلي الله عليه و آله سئل عن قوله تعالي: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ» الآية، فقيل له: يا رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله ما الاستطاعة؟ فقال: الزاد و الراحلة من استطاع إليه سبيلًا، فقيل له: يا رسول اللّٰه ما الاستطاعة؟ فقال: الزاد و الراحلة). «1»

و صرح بذلك أيضاً في جمل العلم و العمل، «2» و كذا أبو الصلاح في الكافي. «3»

و قال الشيخ في النهاية: «الاستطاعة هي الزاد و الراحلة و الرجوع إلي كفاية، و تخلية السرب من جميع الموانع» «4» إلخ و صرح بذلك أيضاً في الجمل

______________________________

(1)- الناصريات: 243.

(2)- رسائل الشريف المرتضي: 3/ 62.

(3)- الكافي/ 192.

(4)- النهاية/ 203.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 81

و العقود «1» و الاقتصاد، «2» و الخلاف «3» و المبسوط، «4» و العلامة في كتبه و المحقق و الشهيدان و غيرهم.

المراد من الاستطاعة
اشارة

إذا عرفت ذلك فنقول: المراد من الاستطاعة المذكورة في الآية الشريفة للحج و لكل فعل

من الأفعال هل هو كون الفعل متأتياً من الشخص عرفاً و بالسهولة العرفية و كان السبيل إليه مستطاعاً عرفاً بحيث يتأتي منه بدون المشقة سواء سمي ذلك بالاستطاعة اللغوية أو العرفية؟ أو المراد منه القدرة علي الفعل و وجود السبيل إليه عند العقل، بأن كان ممكن التحقق في الخارج عنده و مقدوراً عليه؟ حتي يكون الاستطاعة مستعملة في القدرة العقلية، و معني أعم من معناها اللغوي و العرفي، أو الاستطاعة هنا اصطلاح شرعي عرفنا الشارع به في الروايات المفسرة لمعني الاستطاعة و السبيل؟

الظاهر عدم كون المراد من الاستطاعة القدرة العقلية، لاشتراط جميع التكاليف بها عقلًا، و كلام الشارع أولًا و بالذات لا يحمل علي بيان المدركات العقلية التي يستقل العقل بالحكم بها إلا علي سبيل الإخبار، و ظاهر كلامه فيما يرجع إلي التكليف هو الإنشاء و بيان مراداته الخاصة، مضافاً إلي مخالفة ذلك للمعني اللغوي.

و الدليل علي عدم ظهور الآية الشريفة في ذلك أن الخاصة و العامة رووا بطرقهم أنه لما نزلت هذه الآية سألوا رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله عن معني الاستطاعة و السبيل،

______________________________

(1)- الجمل و العقود: سلسلة الينابيع: 7/ 225.

(2)- الاقتصاد/ 297.

(3)- الخلاف: 1/ 147.

(4)- المبسوط: 1/ 296.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 82

و لو كانت معناها القدرة العقلية المشروط عليها التكاليف أو كانت ظاهرة فيها لما سألوا عنها.

فما عن بعض الأعاظم من أن الآية لو لا ما فسرت به ظاهرة في الاستطاعة العقلية و إرشاد إلي حكم العقل «1» بعيد من ظاهرها.

و هكذا ليس المراد من الاستطاعة معني شرعياً بحتاً و اختراعاً جديداً منه.

لأن كون الشخص ذا زاد و راحلة و صحيح الجسم، مخلي السرب هو الاستطاعة و السبيل المستطاع إلي

الحج عرفاً، و دون ذلك ليس منه عرفا كمن لم يكن له الزاد و الراحلة، أو لم يكن مخلي السرب.

نعم لو كان دون ذلك أيضاً من مصاديق السبيل المستطاع، و الشخص الواجد له مستطيعاً، يتم القول بتصرف الشارع في المعني و استعماله لفظ الاستطاعة في أحد مصاديقه.

هذا مضافاً إلي أن الأصل عدم نقل اللفظ عن معناه اللغوي إلي غيره، فالأقوي كما حققه مثل السيد المرتضي قدس سره الذي اعترف أعلام الأدب العربي بتحذقه و إمامته و إمامة أخيه في هذا الفن، هو الاستطاعة اللغوية العرفية التي لا يكون بها في العمل عند العرف للنوع مشقة و حرج زائد علي ما يقتضيه طبع التكليف و الفعل.

إلا أنه حيث ربما يقع الترديد و الشك في تشخيص بعض مصاديقه العرفية سألوا النبي و الأئمة- صلوات اللّٰه عليهم أجمعين- عن المعيار و الميزان الواضح لتشخيص ذلك و ليكون مرجعاً لهم في موارد الشك، و إلا لو لا هذه الأسئلة عنهم عليهم السلام لاكتفينا بالقدر المسلم و المتيقن من الاستطاعة، و هو ما جاء في الروايات.

أما في سائر الموارد حيث يكون الشك في التكليف نأخذ بالبراءة هذا كله بحسب

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 76.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 83

الأقوال، و تفسير الآية الكريمة،

و أما بحسب الروايات الواردة في ذلك تفسيراً للآية الشريفة، فمنها ما رواه الكليني عن علي «1» عن أبيه، «2» عن ابن أبي عمير، «3» عن محمد بن يحيي الخثعمي، «4» قال «سأل حفص الكناسي «5» أبا عبد اللّه عليه السلام و أنا عنده عن قول اللّٰه عز و جل «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» ما يعني بذلك؟ قال:

من كان صحيحاً في بدنه، مخلي

سربه، له زاد و راحلة فهو ممن يستطيع الحج، أو قال: ممن كان له مال، فقال له حفص الكناسي: فإذا كان صحيحاً في بدنه مخلّي في سربه، له زاد و راحلة و لم يحج فهو ممن يستطيع الحج؟ قال: نعم» «6».

و منها ما رواه الصدوق قدس سره في كتاب التوحيد عن أبيه، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن الحكم «7» عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قوله عز و جل: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» ما يعني بذلك؟ قال عليه السلام: «من كان صحيحاً في بدنه، مخلي سربه، له زاد و راحلة». «8»

______________________________

(1)- ابن إبراهيم بن هاشم المفسر و المحدث الشهير من صغار الطبقة الثامنة.

(2)- إبراهيم بن هاشم من الطبقة السابعة، له أكثر من مائة من الشيوخ، و هو أول من نشر حديث الكوفيين بقم، أدرك مولانا الجواد عليه السلام.

(3)- من الطبقة السادسة، بغدادي، من أوثق الناس عند الخاصة و العامة، له مصنفات كثيرة.

(4)- من الطبقة الخامسة أو السادسة عامي ثقة.

(5)- ابن عيسي الكناسي من الطبقة الرابعة أو الخامسة.

(6)- وسائل الشيعة: ب 8 من أبواب وجوب الحج ح 4.

(7)- الشهير البغدادي، الثقة في الروايات، حسن التحقيق بهذا الأمر، روي عن الصادق و الكاظم عليهما السلام، له مدائح جليلة … من الطبقة الخامسة.

(8)- وسائل الشيعة: باب 8 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 7.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 84

و منها ما رواه الكليني قدس سره عن محمد بن أبي عبد اللّه، عن موسي بن عمران، عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

«سأله رجل من أهل القدر فقال: يا ابن رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله أخبرني عن قول اللّٰه عز و جل: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» أ ليس قد جعل اللّٰه لهم الاستطاعة؟

فقال عليه السلام: ويحك! إنما يعني بالاستطاعة الزاد و الراحلة، ليس استطاعة البدن، فقال الرجل: أ فليس إذا كان الزاد و الراحلة فهو مستطيع للحج؟ فقال: ويحك ليس كما تظن قد تري الرجل عنده المال الكثير أكثر من الزاد و الراحلة فهو لا يحج حتي يأذن اللّٰه تعالي في ذلك». «1»

و هذا الخبر كسابقيه ظاهر، بل صريح في أن الاستطاعة المعتبرة إنما تكون بوجود الزاد و الراحلة، فلا تجب حجة الإسلام بمجرد القدرة علي المشي.

و إن نوقش في سنده من جهة وقوع موسي بن عمران النخعي الذي هو من الطبقة السابعة أو الثامنة، لأن علماء الرجال لم يذكروه لا بمدح و لا قدح، و كونه من رجال كامل الزيارات لا يكفي في توثيقه، و إن بني علي ذلك بعض الأعاظم إلا أنه بنفسه أيضاً رجع عن هذا البناء علي ما حكي عنه.

و لكن لا خدش في سائر رجال السند، فإن محمد بن أبي عبد اللّه علي ما حققه استاذنا الأعظم قدس سره هو محمد بن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد بن عون الأسدي أبو الحسين الكوفي، شيخ الكليني، و هو من طبقة الثامنة، و من الأعاظم، و كذا حسين بن يزيد النوفلي (شيخ موسي بن عمران) الذي هو من طبقة السادسة، و شيخه السكوني هو إسماعيل بن أبي زياد السكوني من الخامسة الثقة أيضاً. «2»

______________________________

(1)- وسائل الشيعة ب 8 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح

5، الكافي: 4/ 268.

(2)- إن قلت: يمكن الخدشة في السند بشهادة النجاشي بأنه يروي عن الضعفاء.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 85

و عندي: أن العمل برواية رجل لم يرد ذمه من أحد من الرجاليين، بعد ما كان الراوي عنه مثل محمد بن أبي عبد اللّه الذي هو من الأكابر و من شيوخ الكليني، و بعد ما اعتمد علي روايته الكليني فأخرجها في كتابه يكفي في الاعتماد عليها، خصوصاً بعد ما كان متنها و مضمونها موافقاً للصحيحتين (صحيحة الخثعمي و صحيحة هشام).

و كيف كان فيستفاد من هذه الأحاديث عدم الاكتفاء بمجرد القدرة، و أن المعتبر في الاستطاعة الزاد و الراحلة التي يعبر عنها بالاستطاعة الشرعية، سواء كان الشخص محتاجاً إلي الراحلة لعدم قدرته علي المشي، أو كونه مشقة عليه، أو منافياً لشرفه، أو لا يحتاج إليها، و الظاهر أن هذا هو قول القدماء و جماعة من المتأخرين.

و هذه جملة من الروايات الدالة علي اعتبار التمكن من الزاد و الراحلة في الاستطاعة المشروط عليها وجوب الحج.

و لكن هنا روايات استدل بها علي عدم اعتبار الراحلة فيها، و هي علي أقسام: قسم منها الروايات التي ينتهي سندها إلي أبي بصير، مثل الرواية الثانية من الباب الحادي عشر من أبواب وجوب الحج من الوسائل، عن الشيخ قدس سره في التهذيبين، الحسين بن سعيد، «1» عن القاسم بن محمد، «2» عن علي، «3» عن أبي

______________________________

قلت: بعد التتبع يظهر عدم تمامية القول بأن جميع شيوخه من الضعفاء فإن (يروي عن الضعاف) فيه احتمالان: 1- الضعف في شيخه بلا واسطة. 2- مجرد الضعف في سنده. و الثاني لا يضر، و الأول لا يتم صغروياً.

و أما كتاب (الرد علي الاستطاعة) كان للرد علي التفويض

لا إثبات الجبر.

(1)- كوفي أهوازي، قمي جليل القدر، صاحب المصنفات، من كبار الطبقة السابعة.

(2)- كوفي بغدادي، واقفي، من الطبقة الخامسة أو السادسة.

(3)- ابن أبي حمزة البطائني الكوفي الواقفي المذموم، من الطبقة الخامسة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 86

بصير «1» قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؟» قال: يخرج و يمشي إن لم يكن عنده ما يركب، قلت: لا يقدر علي المشي؟ قال: يمشي و يركب، قلت: لا يقدر علي ذلك أعني المشي؟ قال: يخدم القوم و يخرج معهم».

و روي في الفقيه نحوه عن علي، عن أبي بصير فهما رواية واحدة، و ما في تفسير العياشي «2» عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام (أبي جعفر عليه السلام) قال: «قلت له: رجل عرض عليه الحج فاستحيي أن يقبله أ هو ممن يستطيع الحج؟ قال: نعم، مُره فلا يستحيي، و لو علي حمار أبتر، و إن كان يستطيع أن يمشي بعضاً و يركب بعضاً فليفعل». «3»

و احتمال كون هذا الحديث و حديث الفقيه و التهذيبين واحداً ليس ببعيد، لو لا

______________________________

(1)- ليث بن البختري من أوتاد الأرض من الطبقة الخامسة.

(2)- أبو النضر محمد بن مسعود بن محمد بن عياش السلمي السمرقندي، من الطبقة التاسعة، ثقة، صدوق، عين من عيون هذه الطائفة، كان أول أمره عامي المذهب، و سمع حديث العامة فأكثر، ثمّ تبصر و عاد إلينا، أنفق علي العلم و الحديث تركة أبيه سائرها و كانت ثلاثمائة ألف دينار، و كان داره كالمسجد بين ناسخ أو مقابل أوقار. و قال ابن النديم: إنه من فقهاء الشيعة، أوحد دهره و زمانه في غزارة العلم، و لكتبه بنواحي خراسان

شأن من الشأن، و هو المؤلف لما يزيد علي مائتي كتاب، منها التفسير المعروف بتفسير العياشي الموجود المطبوع نصفه الأول إلي آخر سورة الكهف، محذوف الأسانيد.

قال المجلسي قدس سره: رأيت منه نسختين قديمتين، لكن بعض الناسخين حذف أسانيده للاختصار، و ذكر في أوله عذراً هو أشنع من جريمته.

(3)- تفسير العياشي: 1/ 192 الرقم 114 وسائل الشيعة ب 10 من أبواب وجوب الحج ح 9.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 87

أن في النسخة المطبوعة من المصدر ذكر بدل (أبي عبد اللّه) (أبي جعفر) عليهما السلام «1».

و أما الروايات الواردة في المحاسن و الفقيه و التوحيد عن أبي بصير فيأتي الكلام فيها، و أنها في مسألة اخري إنشاء اللّٰه تعالي.

و أما الثلاثة الاولي فمضافاً إلي ضعف سند ما في الفقيه و التهذيبين بعلي بن أبي حمزة البطائني فلم يفت أحد بهما لأنهما دلتا علي أن من لا يقدر علي المشي يخدم القوم و يخرج معهم.

و رواية العياشي أيضاً مضافاً إلي ضعفها، موضوعها هو من عرض عليه الحج و استحيي، و يمكن حملها علي من عرض عليه الحج و لم يقبل ففات عنه الحج، فقال عليه السلام: (مُره … ) كما أنه يمكن حملها علي أنه يجب عليه القبول و ترك الاستحياء و لو كان علي حمار أبتر، إذا كان من حيث القوة البدنية بحيث يستطيع أن يمشي بعضا و يركب بعضاً، و عليه تدخل الرواية في روايات المسألة الاخري التي وردت فيها روايات المحاسن و الفقيه و التوحيد عن أبي بصير.

و قسم منها ما لا يأبي من استظهار معني آخر لها غير ما ادعي لها من الظهور في كفاية القدرة علي المشي في الاستطاعة، و ذلك مثل ما

رواه الشيخ بإسناده عن موسي بن القاسم بن معاوية بن وهب، عن صفوان بن يحيي عن العلاء بن رزين، «2» عن محمد بن مسلم «3» قال: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: قوله تعالي: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، قال: يكون له ما يحج به، قلت:

فإن عرض عليه الحج فاستحيي؟ قال: هو ممن يستطيع (الحج) و لم يستحي و لو علي

______________________________

(1)- راجع وسائل الشيعة: 11/ 42.

(2)- ثقة جليل القدر، له كتاب، من الطبقة الخامسة.

(3)- وجه أصحابنا بالكوفة، فقيه ورع، من الطبقة الرابعة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 88

حمار أجدع أبتر، قال: فإن كان يستطيع أن يمشي بعضاً أو يركب بعضاً فليفعل». «1»

و سنده في التهذيبين موسي بن القاسم عن معاوية بن وهب عن صفوان «2»، و الظاهر أن الصحيح هو نسخة الوسائل، لأن معاوية بن وهب من ثقات الخامسة، و صفوان بن يحيي من ثقات الطبقة السادسة و لا يروي من هو في الطبقة المتقدمة (معاوية بن وهب) عمن هو في الطبقة المتأخرة عنه (صفوان بن يحيي).

و أما رواية موسي بن القاسم الذي هو من كبار السابعة و ثقاتهم عن صفوان بن يحيي الذي هو من السادسة فهي علي القاعدة.

و أما دلالته فيمكن أن يكون قوله: (فإن كان يستطيع أن … ) بياناً لتكليف من عرض عليه الحج و استحيي و ترك القبول، فإنه يجب عليه أن يحج متسكعا و لو بالمشي بعضاً و الركوب بعضاً.

و مثله ما رواه الكليني قدس سره عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، «3» عن الحلبي «4» عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّٰه عز و جل:

«وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» قال: ما السبيل؟ قال: أن يكون له ما يحج به. قلت: من عرض عليه ما يحج به فاستحيي من ذلك أ هو ممن يستطيع إليه سبيلًا؟ قال: نعم، ما شأنه يستحيي؟ و لو يحج علي حمار أجدع أبتر فإن كان يطيق أن يمشي بعضاً و يركب بعضاً فليحج». «5» و هذا الحديث فيما

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 10 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1.

(2)- راجع تهذيب الأحكام: 5/ 32.

(3)- من ثقات الطبقة الخامسة.

(4)- الظاهر أنه عبيد اللّٰه بن علي الحلبي من كبار الطبقة الخامسة و ثقاتهم، و بيته من بيوت الشيعة المعروفة.

(5)- وسائل الشيعة ب 10 من أبواب وجوب الحج ح 5.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 89

استظهرناه من سابقه أظهر منه كما لا يخفي «1».

و أما ما رواه الشيخ في التهذيب قال: الحسين بن سعيد «2»، عن فضالة بن أيوب «3»، عن معاوية بن عمار «4»، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال اللّٰه عز و جل: وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» قال: هذه لمن كان عنده مال و صحة، و إن كان سوفه للتجارة فلا يسعه، فإن مات علي ذلك فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام إذا هو يجد ما يحج به، و إن كان دعاه قوم أن يُحجوه فاستحيي فلم يفعل فإنه لا يسعه إلا الخروج و لو علي حمار أجدع أبتر، و عن قول اللّٰه عز و جل:

«وَ مَنْ كَفَرَ» قال: يعني من ترك» «5».

فقد وقع مورداً للتقطيع في الوسائل:

فأورد صدره في الباب 6 الحديث 1 إلي قوله: «إذا هو يجد ما يحجّ به»، و

أخرج ثانياً صدره و ذيله في الباب 7 من أبواب وجوب الحج الحديث 2 قال:

قال اللّٰه تعالي: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»: قال: هذه لمن كان عنده مال- إلي أن قال: - «و عن قول اللّٰه عز و جل: «وَ مَنْ كَفَرَ» يعني: من ترك».

و أخرج ثالثاً وسطه في الباب 10 من أبواب وجوب الحج علي من بذل له

______________________________

(1)- معني الإطاقة هنا و في حديث معاوية بن عمار «أنّ حجة الإسلام واجبة علي من أطاق المشي من المسلمين» مغاير لما في الآية الكريمة «وَ عَلَي الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ» بل يكون بمعني القدرة و الاستطاعة ليس معناه إعمال الوسع مع المشقة، فلا وجه للأظهرية.

(2)- ثقة جليل من صغار الطبقة السادسة.

(3) «- الأزدي ثقة في حديثه، مستقيم في دينه، ممن أجمع أصحابنا علي تصحيح ما يصح عنه و هو … من الطبقة السادسة.

(4)- وجه من أصحابنا، مقدم كبير الشأن عظيم المحل، ثقة من الطبقة الخامسة.

(5)- تهذيب الأحكام: 5/ 18 ب 2 ح 52.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 90

زادٌ و راحلة و لو حماراً … الحديث 3، قال: «فإن كان دعاه قومٌ أن يحجوه فاستحيي فلم يفعل فإنه لا يسعه إلا أن يخرج و لو علي حمار أجدع أبتر». و هذا و إن لا يدل علي ما عنون الباب له إلا أنه يدل علي ما نحن بصدده، و هو أن الرواية شاهدة لما استظهرنا من هذه الروايات، و للجمع بينها و بين الطائفة الاولي، و ذلك لأن الإمام عليه السلام حكم علي من سوف الحج بأنّه إن مات علي ذلك فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام، و حكم علي من دعاه قومٌ أن

يُحجوه فاستحيي فلم يفعل أنه: لا يسعه إلا الخروج و لو علي حمار أجدع أبتر.

ثمّ إنه لا يخفي عليك أن صاحب الوسائل أخرج تمام هذه الرواية مع زياداتٍ عن تفسير العياشي، عن إبراهيم بن علي «1»، عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني «2»، عن الحسن بن محبوب «3»، عن معاوية بن عمار، و فيه أيضاً «فاستحيي فلم يفعل فإنه لا يسعه إلا أن يخرج و لو علي حمار أجدع أبتر». «4»

هذا، فقد ظهر من ذلك كله أن هذه الروايات قد وردت في حكم من ترك الحج اختياراً و حياءً بعد ما بذل له ما يحج به و استقر عليه الحج.

و إن بذل له ما يحج به في حال صحة البدن و تخلية السرب و لم يقبل ففات منه الحج فإن في هذه الصورة أيضاً يستقر عليه الحج، و يكون كمن أسقط نفسه عن الاستطاعة المالية، و حاله ذلك.

______________________________

(1)- الكوفي راو مصنف، زاهد عالم، فطن، بسمرقند، و كان نصر بن أحمد صاحب خراسان يكرمه و من بعده من الملوك، من الطبقة الثامنة بملاحظة المروي عنه.

(2)- ابن علي بن الحسن بن زيد بن الإمام السبط الأكبر عليه السلام، كان عابداً ورعاً مرضياً، من الطبقة السابعة، يظهر جلالة أمره و كمال عقيدته من حديث عرض دينه علي الإمام الهادي عليه السلام و عليه.

(3)- السراد أو الزراد، جليل القدر من الطبقة السادسة.

(4)- وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 11.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 91

و قد ظهر لك بذلك أنه لا فرق في الحكم بوجوب المشي إذا بذل له ما يحج به بين سنة البذل و ما بعدها، فلا وجه لقول بعض الأعاظم: (فالحكم

المذكور في النص حكم بعد الاستقرار لا حكم السنة الاولي)، لإمكان استقرار الحج في السنة الاولي كما ذكرناه «1».

و أما قوله رحمة اللّٰه عليه: (و لا يخفي أن القائل بعدم اعتبار الراحلة في الاستطاعة و بالاكتفاء بالتمكن من المشي لا يلتزم بمدلول هاتين الصحيحتين لأنه حرجي قطعاً و هو منفي في الشريعة المقدسة). «2»

ففيه أولًا: منع كون ذلك حرجياً مطلقاً.

و ثانياً: بعد ما تعلق التكليف بأمر حرجي لا ينفي بالحرج لأن ما هو المنفي بالحرج؛ التكليف الذي ليس حرجياً بذاته دون ما إذا كان التكليف متعلقاً بأمر حرجي مثل ما نحن فيه.

مضافاً إلي أنه ورد في الحج الذي ليس خالياً عن الحرج في الجملة. ففي مثل هذا التكليف إذا دل الدليل في بعض مصاديقه الحرجية بوجوبه لا ينفي بالحرج.

نعم، الحرج الزائد علي طبع الموضوع يكون منفياً بلا حرج لا محالة. و اللّٰه هو العالم.

بقي الكلام في صحيحة معاوية بن عمار التي رواها الصدوق في الفقيه «3»

______________________________

(1)- و السيد الخوئي قدس سره لم يقيد استقرار الحج بمضي سنة. قال المقرر في شرح المناسك: (فإن المستفاد من النصوص أنّ مورد الأسئلة رفض الحج بعد البذل فحينئذٍ يستقر الحج في ذمته، و لا بد من الخروج عن عهدته و لو متسكعا). راجع كتاب الحج: 3/ 42 و 74.

(2)- معتمد العروة: 1/ 81.

(3)- طريق الصدوق إلي معاوية بن عمار عن أبيه (من الطبقة التاسعة) و محمد بن الحسن عن سعد بن عبد اللّه الحميري (من الطبقة الثامنة) جميعاً عن يعقوب بن يزيد (من الطبقة السابعة) الثقة

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 92

و الشيخ «1» عليهما الرحمة في التهذيبين، و اللفظ للتهذيبين قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل

عليه دين أ عليه أن يحج؟ قال: نعم، إن حجة الإسلام واجبة علي من أطاق المشي من المسلمين، و لقد كان أكثر من حج مع النبي صلي الله عليه و آله مشاة، و لقد مرَّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله بكراع الغميم «2» فشكوا إليه الجهد و العناء، فقال: شدّوا أزركم و استبطنوا ففعلوا ذلك فذهب عنهم» «3». و في الفقيه قال: «فشكوا إليه الجهد و الطاقة و الإعياء». «4».

و الكلام فيها: أن القائل بكفاية القدرة علي المشي إما أن يقول بكفايتها مطلقاً و لو كانت بتحمل المشقة و العناء فالرواية تدل عليه، لأن معني قوله عليه السلام: «واجبة علي من أطاق المشي» إن كان من يقدر علي المشي بصرف الطاقة و تحمل المشقة و الصعوبة فالرواية نص في وجوبها علي من لا يقدر علي المشي إلا بذلك،

______________________________

الصدوق من كتاب المنتصر عن صفوان بن يحيي (من أعاظم الطبقة السادسة) و محمد بن أبي عمير (من الطبقة السادسة) جميعاً عن معاوية بن عمار (من الخامسة).

(1)- طريق الشيخ إلي معاوية بن عمار: الحسين بن سعيد (من كبار الطبقة السابعة) عن فضالة بن أيوب (من الطبقة السادسة) عن معاوية بن عمار و إلي الحسين بن سعيد في التهذيب عن الشيخ المفيد (من الطبقة الحادية عشرة) و الحسين بن عبيد اللّٰه (من الطبقة الحادية عشر) و أحمد بن عبدون (من الطبقة العاشرة و عمّر حتي شارك الحادية عشرة) كلهم عن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد (لعله من العاشرة) عن أبيه (من التاسعة) و طريقه الاخري عن أبي الحسين ابن أبي جيد القمي (من العاشرة و عمّر حتي عاصر الحادية عشرة) عن ابن الوليد عن الحسين

الحسن بن أبان (من الطبقة الثامنة).

(2)- و في مجمع البحرين: (و كراع الغميم- بالغين المعجمة وزان كريم- وادٍ بينه و بين المدينة نحو من مائة و سبعين ميلًا، و بينه و بين مكة نحو ثلاثين ميلًا، و من عسفان إليه ثلاثة أميال).

(3)- تهذيب الأحكام: 5/ 441، الاستبصار: 2/ 141، وسائل الشيعة: أبواب وجوب الحج ب 11 من ح 3.

(4)- من لا يحضره الفقيه: 2/ 259.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 93

و تدل علي وجوبه إذا تمكن من المشي من غير كلفة و إعياء بالأولوية القطعية، و هذا كما قيل في تفسير قوله تعالي: «وَ عَلَي الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعٰامُ مِسْكِينٍ» يعني، يقدرون عليه بالتكلف و المشقة كالشيخ و الشيخة.

و يمكن أن يؤيد ذلك- أي كون الحديث ظاهراً في كفاية التمكن من المشي بالمشقة و العناء- استشهاد الإمام عليه السلام بمُشاةٍ شكوا إلي رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله الجهد و العناء.

إلا أن الظاهر أنه لم يقل أحد بكفاية هذا المقدار من القدرة في حصول الاستطاعة المشروط وجوب حجة الإسلام بها، حتي بالنسبة إلي القريب فضلًا عن البعيد، فلا بد علي هذا من رفع اليد عن هذا الظاهر.

و إما أن يقول: معني قوله عليه السلام: «واجبة علي من أطاق المشي» واجبة علي من يقدر علي المشي حتي يشمل القادر علي المشي بدون التكلف و القادر عليه بالتكلف، فيقيد إطلاقه باليقين بعدم وجوبه إذا كان المشي بالتكلف و العناء.

ففيه: أن ذلك ينافي استشهاد الإمام عليه السلام بمشاة شكوا إلي رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله الجهد و العناء، فاستظهار كفاية القدرة علي المشي الذي لا كلفة و لا عناء فيه من الصحيحة في غاية الإشكال، بل

يحكم عليها بالإجمال، أو تُحمل علي بعض المحامل، مثل أن حجة الإسلام واجبة علي من يتكلف المشي و يمشي بالمشقة في منزله إذا كان له الراحلة فمثل هذا الضعف البدني لا يمنع عن حجة الإسلام لعدم دخل ذلك في الاستطاعة التي فسرت بالزاد و الراحلة، و القدرة علي المشي و عدمه سيان في حصولها إذ هو متمكن من الركوب علي الراحلة.

و أما بيان حال المشاة الذين كانوا مع رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله فلعله لم يكن للاستشهاد علي هذا المعني بل لدفع أن يتوهم أحد أن المشي بالمشقة مانع عن صحة وقوع الحج مطلقاً و لو بالراحلة، حتي يكون مرجوحاً بالزاد لأنه لا ينفك عن الجهد و العناء غالباً كالذين كانوا مع رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 94

تذنيبان
الأول: لا يخفي عليك أن صدر صحيحة معاوية بن عمار لا يوافق واحداً من آراء الفقهاء

في مسألة ما إذا كان عنده ما يكفيه للحج و كان عليه دين.

فإنهم بين من يقول بأن الدين مطلقاً و بجميع أقسامه مانع عن وجوب الحج، و هذه الصحيحة تدل علي عدم منعه عنه، و بين من يقول: إن المانع من وجوب الحج هو الدين الحال المطالب به دون غيره، و هذا أيضاً مخالف لإطلاق الصحيحة.

و بين من يقول بالتخيير في بعض الصور و تقديم الحج في بعضها الآخر لوقوع التزاحم بين الأمرين إذا كان الدين حالًا مطالباً به، أما إذا كان مؤجلًا فلا تزاحم في البين فيقدم الحج، و هذا أيضاً لا يستفاد من الصحيحة. و بين من يقول بتعين سقوط الحج و تقديم أداء الدين للتزاحم و هذا أيضاً كسابقه.

و بين من يقول: إن الحج يسقط إذا كان أداء الدين واجباً عليه بالفعل أو كان مؤجلًا لا

يثق بالأداء في المستقبل.

و علي جميع الأقوال التي لعله يكون أكثر مما ذكرناه لا يستقيم الاستدلال لواحد منها بالصحيحة كما استدل به السيد الخوئي قدس سره فإن الصحيحة إنما يكون في مقام بيان أن الدين مطلقاً ليس مانعاً من حصول الاستطاعة، لأنها تحصل بالتمكن من المشي، فليس حصول الاستطاعة متوقفاً علي وجود الراحلة حتي يقال بعدم حصولها مع الدين، أو يقال بتزاحم الأمرين كما اختاره (رحمه اللّٰه).

إذاً فوجه الارتباط بين الجواب و هذا التعليل هو ما يستفاد من ظاهر الحديث، و هو بيان العلة لعدم منع ذلك من الحج و هي حصول الاستطاعة بالمشي دون المال مطلقاً، فإنها تحصل لمن لا يجد ما يحج به بالتمكن من المشي.

بل يمكن أن يقال: إن إطلاق السؤال و الجواب مشعر بعدم دخل الراحلة

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 95

أو ما يجدها به في الاستطاعة، و إنها تحصل منحصرةً بالتمكن من المشي، و ذلك لأن الإمام عليه السلام لم يُجب عما إذا كان عليه دين و لم يقدر علي المشي، فإن التعليل يشمل هذه الصورة لو كان حصول الاستطاعة منحصراً بالقدرة علي المشي.

هذا، و لكن يمكن أن يقال: إن مورد سؤال السائل هو خصوص صورة القدرة علي المشي.

الثاني: قد ظهر مما بيناه عدم كفاية الأخبار المستدل بها لإثبات حصول الاستطاعة بالمشي؛

لعدم دلالة لها يصح الاحتجاج بها لإثبات الحكم الشرعي، و لو أغمضنا عن ذلك و قلنا بتعارضهما فيمكن الجمع بينهما بالإطلاق و التقييد، فإن مقتضي الصناعة تقييد إطلاق مفهوم كلٍّ من الطائفتين بمنطوق الاخري، فإنه لا تعارض بين منطوقيهما، فمنطوق الطائفة الاولي حصول الاستطاعة لمن كان له زاد و راحلة، و منطوق الثانية حصولها لمن يقدر علي المشي، فمقتضاها حصول الاستطاعة بكلٍّ منهما، إلا أن مفهوم مثل قوله عليه السلام: «من كان

صحيحاً في بدنه مخلّي سربه له زاد و راحلة فهو ممن يستطيع الحج» أن من لم يكن له ذلك فهو غير مستطيع، سواء كان قادراً علي المشي أو عاجزاً عنه، فيقيد ذلك بمنطوق مثل قوله عليه السلام: «إن حجة الإسلام واجبة علي من أطاق المشي من المسلمين». كما يقيد إطلاق مفهوم هذه الجملة- و هو عدم وجوبها علي من لا يطيق المشي سواء كان له زاد و راحلة أم كان فاقداً لها- بمنطوق ما دل علي وجوب حجة الإسلام علي من كان له زاد و راحلة، فيتحصل من تقييد المفهومين بالمنطوقين وجوب الحج علي كل واجدٍ للزاد و الراحلة و إن لم يقدر علي المشي، و كل قادر علي المشي و إن لم يكن واجداً للراحلة، إذاً فلا يجب الحج علي من كان عاجزاً عن المشي و فاقداً للراحلة،

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 96

دون غيره. «1»

و هذا مقتضي صناعة حمل المطلق علي المقيد، و بعده لا يبقي مجال لحمل هذه الأخبار علي التقية، لأنه إنما يصح إذا لم يمكن الجمع بين الدليلين بالجمع العرفي، فلا بد إلا العمل بهذا الجمع أو تركه لإعراض المشهور عنها. و هذا المفيد في المقنعة، و السيد في جمل العلم و العمل، و أبو الصلاح في الكافي، و ابن زهرة في الغنية، و الشيخ في النهاية و الجمل و العقود و المبسوط و الخلاف و الاقتصاد، و ابن حمزة في الوسيلة، و الصهرشتي في الإصباح، و ابن إدريس في السرائر، و أبو الحسن علي بن الفضل في إشارة السبق، و الهذلي في الجامع، و ابن فهد، و المحقق، و العلّامة، و الشهيد و غيرهم كلهم قد صرّحوا باشتراط الزاد و

الراحلة في الاستطاعة، بل يمكن دعوي استقرار السيرة علي ذلك، و علي عدم وجوب الحج بمجرد القدرة علي المشي.

إذاً فالاعتماد علي هذه الأخبار الدالة علي كفاية القدرة علي المشي، و تقييد الأخبار الدالة علي اعتبار الراحلة بها، مع إعراض هؤلاء الأعاظم (رضوان اللّٰه تعالي عليهم) عنها و عدم معلومية عمل أحد بها مع وضوح إمكان الجمع بين الطائفتين بالإطلاق و التقييد في غاية الإشكال، و لا يوافق سيرة العرف و العقلاء، فالعمل علي المختار المشهور و هو اشتراط وجوب حجة الإسلام بالراحلة. و اللّٰه

______________________________

(1)- التعارض إنما يكون بين منطوق الثانية و مفهوم الاولي، و أما التعارض بين منطوق الاولي و مفهوم الثانية فهو فرع وجود مفهوم للثانية، و هو متوقف علي استفادة انحصار العلية في الشرط. و الظاهر أن هذه الصحيحة و غيرها المتعرضة للقدرة علي المشي في صدد بيان أقل ما به يتحقق الاستطاعة، فليست المسألة من صغريات تعدد الشرط و اتحاد الجزاء لعدم مفهوم المخالفة للثانية بل لها مفهوم الموافقة لأنه إذا كان من أطاق المشي مستطيعاً فصاحب الراحلة مستطيع بالأولوية فانحصر التعارض بين منطوق الثانية و مفهوم الاولي (المؤلف).

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 97

تعالي هو العالم.

[مسألة 16] هل تعتبر الراحلة في الاستطاعة للقريب أيضاً؟

مسألة 16- هل اعتبار الزاد و الراحلة في الاستطاعة في حق من يفتقر إليهما لبعد المسافة دون القريب الذي يمكنه المشي بدون المشقة أو من غير مشقة يعتد بها، أو أن اعتبارهما مطلق في حق القريب و البعيد وجهان.

حكي الأول في الجواهر عن غير واحد، بل قال: (لا أجد فيه خلافاً، بل في المدارك نسبه إلي الأصحاب؛ مشعراً بدعوي الإجماع عليه- إلي أن قال: - لكن في كشف اللثام: يقوي عندي اعتبارها أيضاً للمكي للمضي إلي

عرفات و أدني الحِلّ و العود). «1»

و الذي يظهر لنا بعد الفحص في كلمات الفقهاء- رضوان اللّٰه عليهم- أن ظاهرها بيان الاستطاعة للنائي دون المكي و القريب.

قال المفيد في المقنعة: (و الاستطاعة عند آل محمد صلي الله عليه و آله … و حصول ما يلجأ إليه في سد الخلة من صناعة يعود إليها في اكتسابه أو ما ينوب عنها من متاع أو عقار أو مال، ثمّ وجود الراحلة بعد ذلك و الزاد). «2»

و يستفاد ذلك من السيد في جمل العلم و العمل «3» و في الناصريات «4»، و قال أبو الصلاح في الكافي: (و العود إلي كفاية من صناعة أو تجارة أو غير ذلك). «5»

______________________________

(1)- جواهر الكلام: 17/ 252.

(2)- المقنعة/ 384.

(3)- رسائل الشريف المرتضي: 3/ 62.

(4)- الناصريات/ 207.

(5)- الكافي/ 192.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 98

و قال الشيخ في النهاية: (و الرجوع إلي كفاية)، و في الجمل و العقود:

(.. و الرجوع إلي كفاية إما من المال أو الصناعة أو الحرفة) «1»، و نحوه قال في الاقتصاد «2» و في المبسوط «3».

و قال أبو المكارم ابن زهرة في الغنية: (و الاستطاعة يكون … و وجود الزاد و الراحلة و الكفاية له و لمن يعول، و العود إلي كفاية من صناعة أو غيرها بدليل الإجماع) «4».

و قال نظام الدين أبو الحسن سلمان بن الحسن الصهرشتي في إصباح الشيعة:

(و العود إلي كفاية من صناعة أو غيرها) «5».

هذا و قد صرح بذلك غيرهم مثل الحلي في السرائر «6» و أبي الحسن علي بن أبي الفضل الحلبي في إشارة السبق «7»، و المحقق في الشرائع «8» و الشهيد في الدروس. «9»

الذي ينبغي أن يقال: إنّ دلالة الآية بالمنطوق علي وجوب الحج

علي مثل المكي حتي بعموم قوله تعالي: «النّٰاسِ» قابلة للمنع، لإمكان دعوي صحة استظهار أن الآية تكون في مقام إيجاب الحج علي النائين و من بعد منزله عن مكة،

______________________________

(1)- النهاية/ 203، الرسائل العشر/ 223.

(2)- الاقتصاد/ 297.

(3)- المبسوط: 1/ 296.

(4)- غنية النزوع/ 573.

(5)- إصباح الشيعة/ سلسلة الينابيع: 8/ 458.

(6)- السرائر: 1/ 507.

(7)- إشارة السبق: 1/ 162.

(8)- شرايع الإسلام: 1/ 167.

(9)- الدروس الشرعية: 1/ 312.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 99

و ذلك لمكان قوله تعالي: «مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» و لا يقال ذلك للمكي و من هو بمنزلته ممن هو حاضر عند البيت.

و الدليل علي ذلك أيضاً تفسير الاستطاعة بتخلية السرب و صحة البدن و وجود الزاد و الراحلة، فإن هذا مناسب لاستطاعة النائي، و إلا فلا يسأل المكي الذي هو غالباً في الذهاب و الإياب إلي عرفات بدون المشقة عن معني الاستطاعة، فالمراد من الناس: الذين يصح الإخبار عنهم بحج البيت و قصد الكعبة، و هم غير المكيين و من هو بمنزلتهم.

إن قلت: إذاً فما الدليل علي وجوب الحج علي القريب و المكي؟

قلت: الأولوية القطعية و إجماع المسلمين، و علي هذا فالأقوي وجوب الحج علي المكي و القريب من مكة الذي لا يشق عليه المشي و إن لم تكن له الراحلة. هذا، و لا يخفي أنه لو قيل بدلالة الآية علي وجوب الحج علي القريب و البعيد فلا بد من القول بإطلاق اعتبار وجود الزاد و الراحلة و شموله للقريب و المكي كالبعيد. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 17] تحقق الاستطاعة بالزاد و الراحلة عيناً و قيمة

مسألة 17- الأقوي أنه يكفي في حصول الاستطاعة وجود ما يتمكن به من تحصيل الزاد و الراحلة، فلا يلزم أن يكونا حاصلين عنده بعينهما، بل يكفي أن يكون عنده ما

يتمكن من تحصيلهما و لو في أثناء السفر و قطع المسافة.

و ذلك أولًا: للروايات الدالة علي عدم الفرق بين وجودهما عيناً و وجود ما يتمكن به من تحصيلهما.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 100

فقد روي الكليني قدس سره، عن محمد بن يحيي «1»، عن أحمد بن محمد «2»، عن محمد بن إسماعيل «3»، عن محمد بن الفضيل «4»، عن أبي الصباح الكناني «5»، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قلت له: أ رأيت الرجل التاجر ذي المال حين يسوِّف الحج كل عام و ليس يشغله عنه إلا التجارة أو الدين؟ فقال: لا عذر له يسوف الحج، إن مات و قد ترك الحج فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام».

و رواه عن علي بن إبراهيم «6» عن أبيه «7» عن ابن أبي عمير «8» عن حماد «9» عن الحلبي «10» عن أبي عبد اللّه عليه السلام مثله. «11»

و عن حميد بن زياد «12» عن الحسن بن محمد بن سماعة «13» عن أحمد بن الحسن الميثمي «14» عن أبان بن عثمان «15» عن أبي بصير «16» قال: «سمعت أبا

______________________________

(1) من الطبقة الثامنة، شيخ أصحابنا ثقة.

(2) من الطبقة السابعة، شيخ القميين.

(3) من الطبقة السابعة أو السادسة ثقة.

(4) من الطبقة السادسة، رمي بالضعف و غيره.

(5) كأنه من الطبقة الرابعة، اسمه ابراهيم بن نعيم، روي مرسلا أن الصادق عليه السلام قال له: «أنت ميزان لا عين فيه».

(6) من صغار الطبقة الثامنة، صاحب التفسير.

(7) من الطبقة السابعة، أول من نشر حديث الكوفيين بقم.

(8) من الطبقة السادسة، مشهور.

(9) من الطبقة الخامسة، ممن أجمعت العصابة …

(10) عبيد الله بن علي الحلبي، من كبار الخامسة و الثقات.

(11) وسائل الشيعة، ب 6 من أبواب وجوب الحج

و شرائطه ح 4.

(12) من الطبقة الثامنة، عالم جليل القدر.

(13) واقفي، من الطبقة السابعة ثقة.

(14) من الطبقة السادسة، صحيح الحديث سليم.

(15) من الطبقة الخامسة، ممن أجمعت العصابة …

(16)- من الطبقة الرابعة، ليث المرادي من أوتاد الأرض.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 101

عبد اللّه عليه السلام يقول: من مات و هو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال اللّٰه عز و جل:

«وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ أَعْميٰ … » الحديث «1».

و عن الصدوق بإسناده عن محمد بن الفضيل قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن قول اللّٰه عز و جل: «وَ مَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْميٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْميٰ وَ أَضَلُّ سَبِيلًا»، فقال: نزلت فيمن سوف الحج حجة الإسلام و عنده ما يحج به … » الحديث. «2»

و في تفسير العياشي عن كليب «3» عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سأله أبو بصير و أنا أسمع فقال له: رجل له مائة ألف فقال: العام أحج، العام أحج، فأدركه الموت و لم يحج حج الإسلام، فقال عليه السلام: يا أبا بصير، أما سمعت قول اللّٰه: «وَ مَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْميٰ» الآية؟ أعمي عن فريضةٍ من فرائض اللّٰه». «4»

و مثل هذه الأحاديث غيرها، مثل صحيحتي معاوية بن عمار و صحيحة الحلبي المتقدمتين و ما أخرجه في الوسائل في الباب الثامن.

و لا ريب في دلالة هذه الروايات علي أن الاستطاعة أعم من وجود عين الزاد و الراحلة أو ما به يتمكن من تحصيلهما، كما لا فرق في ذلك بين إمكان تحصيلهما من ابتداء إنشاء السفر أو في أثنائه.

و ثانياً: للقطع بكفاية وجود ما به يتمكن من تحصيلهما و عدم الفرق بينه و بين وجود عينهما عنده، إذ لا

يمكن أن يقال بوجوبه علي من لم يكن عنده إلا الراحلة و الزاد المتعارف، و سقوطه عن الذي هو صاحب الثروة العظيمة و المكنة الكبيرة

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب وجوب الحج ح 7 و.

(2)- وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب وجوب الحج ح 8.

(3)- الصيداوي أو الأسدي، من البقطة الخامسة، له كتاب.

(4)- وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب وجوب الحج ح 12.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 102

و ليس عنده الراحلة، فهذا مما لا إشكال فيه، و لذا قال بعضهم: ينبغي عدّه من الضروريات.

[مسألة 18] المراد بالزاد

مسألة 18- المراد بالزاد مطلق ما يحتاج إليه الشخص من المأكول و المشروب و الملبوس و ما هو محتاج إليه في السفر و ما يتوقف عليه حمل ما يحتاج إليه.

كل ذلك بحسب حاله و زمانه من القوة و الضعف و الحر و البرد و غيره، و ذلك يختلف باختلاف الأشخاص في هذه الجهات، و يكفي وجدانه في المنازل التي ينزل فيها، و لا يجب أن يكون واجداً له في بلده، و بالعكس يكفي في صدق وجدان الزاد وجدانه في بلده و إن كان فاقداً له في المنازل التي يحتاج إليه فيها، و لا فرق بين الطعام و الماء في صدق الوجدان و وجوب حملهما إذا فقدا في أثناء الطريق و كان واجداً لهما في بلده.

و الفرق بين الطعام و الماء بعدم صدق الوجدان و سقوط الوجوب إذا توقف المسير علي حمل الماء، لأن الزاد المذكور في النصوص معناه ما يتخذ من الطعام للسفر، و في لسان العرب: (طعام السفر و الحضر) و في المفردات للراغب: (المدخر الزائد علي ما يحتاج إليه في الوقت) «1» لا وجه يعتد به له، فإنه

لا ريب أن المراد من الزاد في المقام ليس خصوص الطعام، بل يشمل كل ما يلزم أن يدخره المسافر

______________________________

(1)- قال ما هذا لفظه: (الزاد المدخر الزائد علي ما يحتاج إليه في الوقت و التزود أخذ الزاد قال: و تزودوا فإن خير الزاد التقوي و المزود ما يجعل فيه الزاد من الطعام و المزادة ما يجعل فيه من الزاد من الماء).

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 103

لسفره مما يحتاج إليه طعاماً، كان أو لباساً أو شراباً.

و خصوصية الطعام- لأنه في الأكثر لا يوجد في الطريق، دون الماء فإنه كثيراً ما يوجد في الطريق- لا توجب الفرق بين الطعام و الشراب، و صدق وجدانه للطعام إذا كان واجداً له في بلده و عدم صدقه إذا لم يكن واجداً للشراب في المنازل و واجداً له في بلده، فالزاد و لو كان معناه الطعام فقد اريد منه ما هو أعم من كل ما يحتاج إليه المسافر في سفره.

و هكذا لا يصح الفرق بين الطعام و الماء في وجوب حملهما بعدم جريان العادة علي حمل الماء لنفسه و لراحلته فلا يكون واجداً له إذا لم يكن واجداً في المنازل دون الطعام، أو بوجود المشقة العظيمة في ذلك، فإن عدم جريان العادة علي حمل الماء كان لوجوده في المنازل علي حسب العادة، و مع فقدانه فيحمله المسافر كما يحمل طعامه و سائر ما يحتاج إليه في السفر، فلا يكون بذلك هو فاقد الماء.

و أما وجود المشقة العظيمة فهو غير مطّرد بالنسبة إلي جميع الأشخاص، بل يمكن منعها لإمكان حمل الماء علي الروايا، و في عصرنا علي السيارات. نعم، يجب عليه ذلك إذا كان موسراً و كان عنده مال يتمكن به من حمل

الماء، و إلا لا يجب عليه لفقد شرط الوجوب أي الاستطاعة، و كيف كان فالأمر واضح و الفرق ممنوع.

ثمّ إنه قال في المدارك: (المعتبر في القوت و المشروب تمكنه من تحصيلهما إما بالشراء في المنازل أو بالقدرة علي حملهما من بلده أو غيره) «1».

و قال العلامة في التذكرة: (و إن كان يجد الزاد في كل منزل لم يلزمه حمله، و إن لم يجد كذلك لزمه حمله، و أما الماء و علف البهائم فإن كان يوجد في المنزل التي ينزلها علي حسب العادة فلا كلام، و إن لم يوجد لم يلزمه حمله، و لا من أقرب البلدان إلي

______________________________

(1)- مدارك الأحكام: 7/ 39.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 104

مكة كأطراف الشام و نحوها؛ لما فيه من عظم المشقة و عدم جريان العادة به، و لا يتمكن من حمل الماء لدوابّه في جميع الطريق، و الطعام بخلاف ذلك). «1»

و قال في المنتهي: (الزاد الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه من مأكول و مشروب و كسوة، فإن كان يجد الزاد في كل منزل لم يلزمه حمله، و إن لم يجده كذلك لزمه حمله، و أما الماء و علف البهائم فإن كان يوجد في المنازل التي ينزلها علي حسب العادة لم يجب حملهما، و إلّا وجب مع المكنة، و مع عدمها يسقط الفرض). «2»

و قال في موضع آخر: (و أما الماء فإن كان موجوداً في المواضع التي جرت العادة بكونه فيها كعبد و علبية و غيرهما وجب الحج مع باقي الشرائط، و إن كان لا يوجد في مواضعه لم يجب الحج و إن وجد في البلدان التي يوجد فيها الزاد، و الفرق بينهما قلة الحاجة في الزاد و كثرتها

في الماء، و حصول المشقة بحمل الماء دون الزاد) «3».

و ظاهر هذه الكلمات أن وجوب الحمل يدور مدار عدم المشقة التي كانت بالنسبة إلي الماء و علف البهائم في تلك الأزمنة، و لذا أفتي بعدم الوجوب فيهما، بخلاف الطعام.

و قال الشيخ قدس سره في المبسوط: (أما الزاد إن وجده في أقرب البلدان إلي البر فهو واجد، و كذلك إن لم يجده إلا في بلده فيجب عليه حمله معه ما يكفيه لطول طريقه إذا كان معه ما يحمل عليه، و أما الماء فإن كان يجده في كل منزل أو في كل منزلين فهو واجد، و إن لم يجده إلا في أقرب البلدان إلي البر أو في بلده فهو غير

______________________________

(1)- تذكرة الفقهاء: 1/ 301.

(2)- منتهي المطلب: 2/ 653.

(3)- منتهي المطلب: 2/ 654.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 105

واجد، و المعتبر في جميع ذلك العادة، فما جرت العادة بحمل مثله وجب حمله، و ما لم تجرِ سقط وجوب حمله، و أما علف البهائم و مشروبها فهو كما للرجل سواء إلي أن قال-: هذا كله إذا كانت المسافة بعيدة) «1».

و ظاهر كلامه أن وجوب الحمل يدور مدار جريان العادة بالحمل، فلا يكون هو مستطيعاً بحسب العادة إذا لم تجر العادة بحمله.

و لكن الظاهر أنه إذا كان عنده ما يحمل عليه فعلًا أو قوةً فهو مستطيع يجب عليه حمله، كما في مثل زماننا، فإنه يمكن حمل الماء و الطعام و الزيت و غيرها بسهولةٍ و من غير مشقّة.

فتحصل من ذلك أنه لو أمكن له حمل كل ذلك بالسيارة أو الطائرة يجب عليه، و عدم وجدانه في الطريق و إن كان علي خلاف العادة لا يوجب سقوطه من الاستطاعة. و اللّٰه العالم.

[مسألة 19] المراد بالراحلة

مسألة 19- المراد بالراحلة: راحلة كل أحد بحسب حاله من القوة و الضعف.

و في مثل عصرنا مطلق ما يركبه عليه المسافرون من القطار و السيارة الطائرة و السفينة. ثمّ إذا لم يكن قادراً علي ركوب بعضها يشترط في استطاعته حصول غيره، و هل يختلف الحكم فيها من حيث الشرف و الضعة؟ فإذا كان أحد من حيث الشرف و العنوان أن يكون سفره بالطيارة أو الطائرة الكذائية و لا يجدها إما لعدم تمكنه المالي أو لعدم وجود ما يناسبه من الطائرة فهل يسقط عنه الحج لعدم

______________________________

(1)- المبسوط: 1/ 300.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 106

قدرته علي ما يحج به الذي هو شرط للاستطاعة، أو يجب عليه حجة الإسلام لحصول الراحلة التي هي شرط في الاستطاعة؟

يمكن أن يقال: إنه يستفاد من الأخبار تفسير الاستطاعة بالسعة المالية و اليسار التي تختلف بحسب شئون الأشخاص، مثل ما رواه في المحاسن: عن أبيه، عن عباس بن عامر «1» عن محمد بن يحيي الخثعمي «2» عن عبد الرحيم القصير «3» عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سأله حفص الأعور «4» و أنا أسمع عن قول اللّٰه عز و جل: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ … » قال: ذلك القوة من المال و اليسار، قال: فإن كانوا موسرين فهم ممن يستطيع؟ قال عليه السلام: نعم» «5».

و خبر أبي بصير المتقدم ذكره، قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: من مات و هو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال اللّٰه عز و جل: «وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ أَعْميٰ» «6»

و هذه الأخبار تدل علي وجوب الحج علي من له المال و اليسار، فمن ليس له يسارٌ يتمكن به من راحلة يتعارف

لمثله ركوبها ليس موسراً فهو غير مستطيع.

بل يمكن أن يقال بدلالة ما دل بالإطلاق أو العموم علي كفاية حصول الاستطاعة بمطلق الراحلة علي حصول الراحلة المناسبة له بحسب حاله، فإن هذا هو الذي يستفاد منه بحسب مناسبة الحكم و الموضوع، و هذا ليس تمسكاً بالحرج

______________________________

(1)- الشيخ الصدوق الثقة، كثير الحديث، من الطبقة السابعة.

(2)- من الطبقة الخامسة أو السادسة ثقة.

(3)- كأنه من الطبقة الخامسة.

(4)- من الطبقة الرابعة أو الخامسة.

(5)- وسائل الشيعة ب 9 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 3.

(6)- وسائل الشيعة ب 6 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 7.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 107

و أن وجوب ركوب الراحلة التي لا تليق به يكون حرجياً فهو منفي بقاعدة نفي الحرج، بل هذا مقتضي دلالة الدليل الذي دل علي تفسير الاستطاعة بالمال و اليسار بل و الراحلة.

و أما ما أفاده بعض الأعاظم من أن الحج الذي افترضه اللّٰه علي العباد و جعله مما بني عليه الإسلام المسمّي بحج الإسلام في الروايات مشروط بعدم العسر بمقتضي قاعدة نفي الحرج، فما يصدر منه حال العسر و الحرج ليس بحجة الإسلام «1».

ففيه: أن ما ينفي بالحرج هو وجوب حجة الإسلام، و لا يثبت به اشتراطه بعدم العسر و الحرج، كما لا ينفي به ما اعتبر فيها، و لذا لو حج متسكِّعاً بالراحلة التي لا تليق به يجزيه عن حجة الإسلام. و بالجملة: فقاعدة نفي الحرج لا تشرح معني حجة الإسلام و ما به يحصل الاستطاعة، فوجوب حجة الإسلام إما مشروط باليسار بدلالة الأخبار فلا حاجة إلي قاعدة نفي الحرج لنفي وجوبها عن غير الموسرين، و إما ليس مشروطاً باليسار فقاعدة نفي الحرج لا ترفع إلا وجوبها دون

صحتها و وقوعها حجة الإسلام.

ثمّ إن هنا رواية تدل بظاهرها علي وجوب الحج و إن كان علي حمار أجدع مقطوع الذنب، و هي ما رواه الصدوق- عليه الرحمة- في الفقيه عن هشام بن سالم «2» عن أبي بصير قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: من عرض عليه الحج و لو علي حمار أجدع مقطوع الذنب فأبي فهو مستطيع للحج». «3»

و رواه في التوحيد: عن أبيه، عن سعد، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 89.

(2)- من متكلمي أصحابنا، من الطبقة الخامسة ثقة، و إسناد الفقيه إليه صحيح.

(3)- وسائل الشيعة ب 10 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 7.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 108

البرقي، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم مثله.

و الظاهر أن هذه الرواية و رواية المحاسن عن علي بن الحكم «1» عن هشام بن سالم عن أبي بصير واحدة، إلا أن لفظها هكذا: قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل كان له مال فذهب، ثمّ عرض عليه الحج فاستحيي؟ فقال: من عرض عليه الحج فاستحيي و لو علي حمار أجدع مقطوع الذنب فهو ممن يستطيع الحج» «2».

و موردهما و إن كان البذل إلا أنه من المعلوم أنه لا خصوصية له، و إطلاقه يشمل إذا كان الركوب علي حمار أجدع مقطوع الذنب خلاف شرف المبذول له.

و فيه أولًا: أن هذا الحديث معارض لكل ما دل علي أن القدرة المشروط عليها الحج التي يعبر عنها بالاستطاعة أو الاستطاعة الشرعية أوسع من القدرة المشروط عليها عقلًا مطلق التكاليف، فهي قدرة خاصة لا يقع المكلف باعتبارها في تعلق الوجوب بالحج في الحرج و المشقة الزائدة عما يقتضيه طبع

التكليف، فروعي في ذلك يسر الشريعة السمحة السهلة، و لا أظنّ أنّ أحداً يلتزم باعتبار مثل ذلك «3» (أي كفاية وجدان حمار أجدع أبتر) في الاستطاعة إلي الحج؛ لأن ذلك يرجع إلي اشتراط وجوب الحج بأمرٍ زائدٍ علي ما يقتضيه طبع سائر التكاليف، فإن المكلف إما أن يكون قادراً علي المشي فكون وجوب الحج عليه مشروطاً أن يكون له حمار أجدع، و الحال أن المشي عليه أهون من الركوب عليه و لا أقلَّ من أن لا يكون … لا يكون مهانته أكثر منه، مما لا نفهم له معني محصلًا و لا توسعة فيه علي المكلف. و إما أن يكون عاجزاً عن المشي فوجوبه عليه إن كان له حمار أجدع

______________________________

(1)- من تلامذة ابن أبي عمير، من الطبقة السادسة.

(2)- وسائل الشيعة: ب- 10 من أبواب وجوب الحج ح 7.

(3)- خلافاً لكشف اللثام: 1/ 289.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 109

يكون مؤكداً لوجوبه، إذاً فأين الاستطاعة الشرعية؟ و أين ما هو المغروس في جميع أذهان المتشرعة من أن الحج مشروط بالاستطاعة؟ و ما معني عقد الباب في مثل الوسائل بعنوان باب وجوب الحج علي كل مكلف مستطيع، و باب وجوب الحج مع الاستطاعة؟ إذاً فظاهر الحديث لا يوافق تلك الأخبار الكثيرة و الاتفاق علي اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة.

و ثانياً: أنه لا شك في أن الركوب علي حمار أجدع حرجي علي ذوي الشرف و المنزلة الاجتماعية، فإطلاق دليله يقيد بأدلة نفي الحرج الحاكمة عليه.

إن قلت: لا منصب و لا شرف أعلي من شرف النبوة و الإمامة، و كان النبي و الأئمة- عليهم صلوات اللّٰه- ركبوا الحمير و الزوامل و حجوا عليها، و أي منقصة في الركوب علي الحمار و الزاملة

بعد ذلك؟ و الحرج الذي يحصل للشخص من ذلك ناشئ من نقص الأخلاق و حب العلو، قال اللّٰه تعالي: «تِلْكَ الدّٰارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لٰا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ» «1» و النبي و الأئمة عليهم السلام كان من دعوتهم و تربيتهم للناس إبطال هذه العادات و وضع أغلالها التي كانت علي الناس، فمثل هذا الحرج المذموم كالحرج الناشئ من الحسد لا يكون نافياً للحكم، و لا مراداً من مثل قوله تعالي: «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «2»، و «يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» «3» و لذلك كان رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله ربما يركب الحمار العاري، و هو صلي الله عليه و آله الذي قال اللّٰه تعالي في خلقه مخاطباً إياه: «وَ إِنَّكَ لَعَليٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ» «4».

قلت: ربما يقع الإنسان في الضيق و الحرج لنقص التربية و سوء الأخلاق من

______________________________

(1)- القصص/ 83.

(2)- الحج/ 78.

(3)- البقرة/ 185.

(4)- القلم/ 4.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 110

الكبر و حب الجاه و الترفع علي عباد اللّٰه، كما قد يقع في الحرج لو جلس في مجلسٍ دون ما يريده، و يري الركوب علي الحمار دون شأنه لثروته و جاهه و منصبه، و هو مستصغر لغيره من المؤمنين الذين ليس لهم ذلك، فالحرج الحاصل من هذه الحالة الغير متواضعة ليس رافعاً للحكم، كالحرج الحاصل لهؤلاء من الجلوس مع الفقراء و الضعفاء و العمال و غيرهم، فلا بد له من الجهاد مع النفس لترك هذه الحالة السيئة، و تأديب نفسه بالتأسي بالرسول الأعظم صلي الله عليه و آله الذي كان يجلس جلسة العبد، و يأكل أكلة العبد، و لم يقبل ما عرضه عليه بعض الأغنياء

و أهل الجاه و الاستعلاء أن يختصهم بمجالس لا يدخل فيها الضعفاء و الفقراء و أهل الصفة.

و تارةً يقع الإنسان في الحرج لوقوعه معرض استصغار الغير و استحقاره عزته الإيمانية و كرامته الإنسانية، و لا شك أنه لا ينبغي للمؤمن قبول الاستذلال، فالعزة للّٰه و لرسوله و للمؤمنين، و لذا لا يقبل الهدية من غيره إذا كان فيه مظنة الاستحقار، و لا يسأل عن غيره لئلا يتحمل ذلة السؤال، و كذلك لا يجب عليه القبول إذا بذل له الحمار الأبتر استحقاراً به إذا كان قبول هذا الاستحقار حرجاً عليه، كما إذا فضل عليه غيره لأن له كذا و كذا من المال، مع أنه مفضل عليه بالعلم و السوابق الإسلامية و كما إذا صار ذلك سبباً لنظر الناس إليه بعين الحقارة فالحرج من هذه الجهات يكون رافعاً للتكليف.

و الحاصل: إذا كان الحرج حاصلًا من وقوعه في معرض توهين عزته الإيمانية و كرامته الإنسانية أو سبباً لاستحقار الناس شخصيته التي لا تقصر عن شخصية غيره من الناس الذين جعل اللّٰه أكرمهم عنده أتقاهم أو سبباً لاستحقار منصبه إذا كان من المناصب الإسلامية التي يجب حفظ عزتها و اعتبارها يكون رافعاً لوجوب الحج فهذا هو الملاك في الحرج الرافع للتكليف هنا. و اللّٰه تعالي هو العالم.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 111

[مسألة 20] من كان متمكناً من اكتساب المال في الطريق

مسألة 20- إذا لم يكن عنده بالفعل ما يحج به من الزاد و الراحلة أو المال الذي يتمكن به من تحصيلهما بالشراء أو الاستيجار و لكن كان كسوباً متمكناً من اكتساب المال في الطريق كما هو حاله في وطنه و منزله فهل يجب عليه الحج لحصول الاستطاعة له بذلك، أم لا يجب، للزوم كونه موجوداً بالفعل عنده

لصدق الاستطاعة؟

و الظاهر اختصاص بحثهم في ذلك بما إذا كان متمكناً من تحصيل الزاد بالاكتساب في الطريق دون الراحلة، فقد ادعي الإجماع و دلالة الأحاديث علي وجودها، أو وجود ما به يتمكن من تحصيلها بالفعل لا بالقوة و في الأثناء، إلا أن ذلك محل النظر، فإن الإجماع غير محقق، و علي تقدير تحققه في مسألتنا هذه غير حجة، و الأحاديث إن دلّت علي وجود الراحلة بالفعل فتدلّ علي لزوم وجود الزاد أيضاً كذلك، فالبحث ينبغي أن يكون أعمّ لمن كان له الزاد بالقوة أو الراحلة كذلك.

قال العلامة في التذكرة: (لو لم يجد الزاد و وجد الراحلة و كان كسوباً يكتسب ما يكفيه، و قد عزل نفقة أهله مدة ذهابه و عوده، فإن كان السفر طويلًا لم يلزمه الحج؛ لما في الجمع بين السفر و الكسب من المشقة العظيمة، و لأنه قد ينقطع عن الكسب لعارض فيؤدي إلي هلاك نفسه. و إن كان السفر قصيراً: فإن كان تكسبه في كل يوم بقدر كفاية ذلك اليوم من غير فضل لم يلزمه الحج؛ لأنه قد ينقطع عن كسبه في أيام الحج فيتضرر، و إن كان كسبه في كل يوم يكفيه لأيامٍ لم يلزمه الحج أيضاً للمشقة، و لأنه غير واجدٍ لشرط الحج، و هو أحد وجهي الشافعية،

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 112

و الثاني الوجوب و به قال المالك مطلقاً). «1»

و قال في المستند: (و لو لم يجد الزاد و لكن كان كسوباً يتمكن من الاكتساب في الطريق لكل يوم بقدر ما يكفيه و ظن إمكانه بجريان العادة عليه من غير مشقة وجب الحج لصدق الاستطاعة، و عن التذكرة سقوطه إن كان السفر طويلًا؛ لما في الجمع بين الكسب

و السفر من المشقة، و لإمكان انقطاعه من الكسب، و هو منازعة لفظية، لأن المفروض إمكان الجمع و جريان العادة لعدم الانقطاع، و إلا فالزاد أيضاً قد يُسرق). «2»

اعلم: أن الذي يقتضيه التحقيق: أن الكلام في هذه المسألة يقع في من لا يجد الزاد بالفعل، و لكن يكون كسوباً يكتسب ما يكفيه لقضاء العادة و الضرورة علي تحصيل الزاد المحتاج إليه، سواء كان في السفر أو الحضر.

و بعبارةٍ اخري: من يكتسب الزاد بما يعود إليه من شغله اليومي لإعاشته الشخصية اليومية بحيث لا يتمكن من ترك هذا الاكتساب عادة لاضطراره إليه، من غير فرقٍ في ذلك بين أن يكون مسافراً أو حاضراً في منزله فهل يجب عليه الحج لأنه يكتسب ما يكفيه لا محالة، كان في الطريق أو في المنزل، فهو و إن لم يكن واجداً للزاد بالفعل إلا أنه يكون عالماً بحصوله بالاكتساب الضروري الذي يتحمله بحسب العادة و الاضطرار المعاشي فهل هو كمن يكون واجداً للزاد بالفعل حتي يكون مستطيعاً للحج؟

ظاهر عبارة العلامة التردد في ذلك، فإنه تارةً يتمسك بنفي الوجوب بحصول المشقة العظيمة في الجمع بين السفر و الكسب، و هذا يقتضي كونه بمنزلة الواجد للزاد،

______________________________

(1)- تذكرة الفقهاء: 1/ 302.

(2)- مستند الشيعة: 2/ 156.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 113

غير أن الوجوب مرفوع عنه بالحرج و المشقة: و تارة يستدل علي عدم الوجوب بإمكان انقطاعه عن التكسب فيؤدي إلي هلاك نفسه أو انقطاعه عن كسبه في أيام الحج، و هذا يقتضي عدم كونه بمنزلة واجد الزاد فلا يجب عليه الحج، و إن كان في استدلاله علي عدم كونه بمنزلة الواجد بالفعل بإمكان انقطاعه عن الكسب نظر، كما أفاده النراقي؛ لأنّ المفروض إمكان الجمع

و جريان العادة بعدم الانقطاع، و إلّا فالزاد أيضاً قد يسرق.

و يمكن أن يقال: إن الزاد المذكور في أخبار تفسير الاستطاعة هو الزاد الزائد علي ما يكتسبه الشخص بالاضطرار و الضرورة لإعاشته، فإنه ليس محتاجاً إليه في الحج، بل محتاج إليه لضروريات حياته و يكتسبه لا محالة، فإذا كان يكتسبه بحسب شغله في السفر كالحضر و لا يحتاج الشخص للسفر للحج إلي أزيد منه فهو غير محتاج إلي الزاد للحج، و إنما يجب عليه السفر فقط، و هذا الذي رفع وجوبه العلامة بالمشقة.

و الحاصل: أن قوله عليه السلام: «له زاد و راحلة» منصرف عن مثل هذا الشخص الذي يحتاج إليه بالضرورة و يكتسبه علي كل حالٍ بحسب العادة.

ثمّ لا يخفي عليك الفرق بين قول العلامة: «و كان كسوباً يكتسب ما يكفيه» و بين قول الفاضل: (و كان كسوباً يتمكن من الاكتساب في الطريق)، فإن الأول معناه هو ما بيناه و أنه يكتسب ما يكفيه لا محالة، و الثاني معناه يتمكن من اكتساب زاد الحج بالكسب و إن كان زائداً علي ما هو مضطر إلي اكتسابه، و لذا كأنه دفع في ذيل كلامه إيراد من يورد عليه بأنه علي هذا إذا كان متمكناً من الاكتساب في الطريق فليكن الأمر في الراحلة أيضاً كذلك بقوله: «و أما الراحلة فعلي اشتراطها و توقف الاستطاعة عليها الإجماع … » «1»

و لا يخفي عليك أنه علي ما بيناه من مراد العلامة يختص البحث بما إذا كان

______________________________

(1)- مستند الشيعة: 2/ 162.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 114

كسوباً يكتسب ما يكفيه من الزاد دون الراحلة، فإنه لا يأتي فيها هذا البحث لعدم قضاء الحاجة و الضرورة و الاضطرار إلي اكتسابها مطلقاً.

هذا و بعد

ذلك كلِّه و شرح ما أفاده العلامة قدس سره بما لعله لا مزيد عليه نقول: إنّ الظاهر من قوله عليه السلام: «هذا لمن كان عنده مال» أن لوجدان الزاد و الراحلة أو المال بالفعل- سواء كان الشخص مكتسباً للزاد بالضرورة و الاضطرار، أو كان الزاد المحتاج إليه للحج زائداً علي ذلك- دخل في وجوب الحج و حصول الاستطاعة.

فمن يتشرف بتشريف أداء الحج ينبغي له أن يكون فارغ البال من جهة المأكل و الملبس و المشرب و سائر ما يحتاج إليه فلا وجه لرفع اليد عن ظاهر هذه الأدلة و القول بكفاية اكتساب الزاد في الطريق؛ لأنه محتاج إليه بالضرورة لا يمكن له عادة تركه. «1»

اللهم إلا أن يقال بعدم الفرق بين الحالتين، و إلغاء خصوصية وجدانه بالفعل، و كونه معلوم الحصول لاضطرار الشخص إلي اكتسابه، إلّا أنّ هذا محتاج إلي العلم بالغيب و بكل ما له دخل في الأحكام الشرعية. و اللّٰه العالم.

[مسألة 21] مبدأ الاستطاعة

مسألة 21- الأقوي أن المعتبر في الاستطاعة استطاعته من مكانٍ هو فيه، لا من بلده الذي يسكن فيه، و ذلك لصدق الاستطاعة.

و قد استدل له بصحيحة معاوية بن عمار التي رواها الصدوق في الفقيه، قال:

______________________________

(1)- و كأنّ العلامة قدس سره أيضاً ارتضي في آخر كلامه ذلك حيث قال: (لأنه غير واجد لشرط الحج) و ليس هو إلّا وجود الزاد بالفعل، سواء كان معلوم الحصول بالاكتساب الضروري أم لا (المؤلف).

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 115

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يمر مجتازاً يريد اليمن أو غيرهما من البلدان و طريقه بمكة فيدرك الناس و هم يخرجون إلي الحج فيخرج معهم إلي المشاهد، أ يجزيه ذلك عن حجة الإسلام؟ قال عليه السلام: نعم»

«1».

و لا بأس بدلالته علي ذلك- و إن قال بعض أعاظم العصر قدس سره: إن الظاهر منه كون جهة السؤال عدم قصد الحج من البلد لا عدم تحقق الاستطاعة منه «2» - لإطلاق المجتاز المذكور و شموله لمن لم يكن من بلده مستطيعاً، و قد ترك الاستفصال من ذلك الإمام عليه السلام فأجاب بقوله عليه السلام: «نعم» بالإجزاء، و هو يشمل كلًّا من المستطيع من بلده و غيره، و كيف كان فيكفي في الكفاية صدق الاستطاعة.

و لو أحرم متسكِّعاً فاستطاع و أمكن له الرجوع إلي الميقات هل يجب عليه الرجوع و الإحرام لحجة الإسلام، أو يبني علي إحرامه الندبي؟ فيه وجهان:

من جهةٍ: أنه أحرم لغير حج الإسلام صحيحاً فوجوب حج الإسلام و إحرامه عليه يتوقف علي بطلان إحرامه، أو إبطاله، أو العدول به، و كلّها لا دليل عليه و خلاف الأصل، و العدول في بعض الموارد كالعدول عن عمرة التمتع إلي حج الإفراد لضيق الوقت أو عذر آخر إنما ثبت بالدليل و لا يشمل المقام.

و من جهةٍ: أن شمول أدلة وجوب حجة الإسلام لمثل المقام يكشف عن بطلان إحرامه الأول و أنه ليس مأموراً به بالأمر الندبي، فهو في الواقع كان مأموراً بحجة الإسلام و يجب عليه الرجوع إلي الميقات و تجديد الإحرام لحجة الإسلام.

و الأقوي هو الوجه الثاني.

______________________________

(1)- من لا يحضره الفقيه: 2/ 264.

(2)- مستمسك العروة: 10/ 78.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 116

[مسألة 22] تحصيل الراحلة

مسألة 22- لا ريب في أنه إذا لم تكن الراحلة التي يكفيها خاصة موجودةً عنده يجب عليه تحصيلها بالشراء أو الاستيجار.

و أما إذا لم يكن عنده إلا ما هو معد لركوب أكثر من واحد، أو لا يمكن الشراء أو الاستيجار إلا

ما يكون كذلك كأكثر السيارات و الطائرات، فإذا لم يكن من يشاركه في الشراء أو الاستيجار، و لم يتمكن هو بنفسه أيضاً من الشراء أو الاستيجار فالحج ساقط عنه لعدم الاستطاعة، و أما إذا تمكن من الشراء أو استيجار تمام الطائرة أو القطار الحديدية فهل يجب عليه ذلك، أم لا؟

الظاهر الوجوب، لصدق الاستطاعة، سواء كانت هذه الوسائط النقلية موجودة عنده كمالك السفينة و مالك السيارة و الطائرة أو كان عنده من المال ما يتمكن به من شرائها أو استيجارها.

لا يقال: إنّ تحمل مصارف السفر بالقطار أو السفينة أو الطائرة إذا كانت هذا الوسائط ملكاً له، و كذا تحمل الاجرة الكثيرة ضرر عليه و هو مرفوع بحديث «لا ضرر».

فإنه يقال: إنما يرفع الحكم بحديث «لا ضرر» إذا لم يكن أصل التكليف بطبعه ضررياً، و أما إذا كان التكليف ضررياً فحديث «لا ضرر» لا يجري فيه؛ لأن جريانه مشروط بعدم كون الحكم من الأحكام الضررية، بل يجري في الأحكام التي لها فردان: فرد ضرري و فرد غير ضرري، فكما لا يرفع الحرج و الضرر حكم الجهاد الحرجي و الضرري كذلك لا يرفع بالضرر أيضاً حكم الحج الضرري.

إن قلت: الحج و إن كان ضررياً لكن الذي يجب تحمله من الضرر ما يقتضيه

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 117

طبع الحج مما يحتاج إليه المسافر من الزاد و الراحلة بحسب العادة، و الزائد علي ذلك مرفوع بلا ضرر.

و بعبارة اخري: للحج الضرري فردان: فرد فيه من الضرر ما يقتضيه طبع الإتيان بالحج، و فرد فيه من الضرر أكثر من ذلك، و ما يجب الإتيان به و ما لا يشمله حديث «لا ضرر» هو الفرد الأول، و أما الفرد الثاني فوجوبه بالضرر

الزائد مرفوع بالحديث.

و بعبارةٍ اخري: الحديث يرفع وجوب الفرد الذي فيه من الضرر ما لا يقتضيه طبع موضوع الحكم، سواء لا يقتضيه أصلًا أو يقتضيه بحسب طبعه، فوجوب الفرد الذي فيه من الضرر ما ليس في غيره مرفوع.

قلت: هذا الفرد ضرري، كما أن الفرد الآخر أيضاً ضرري، و كون ضرر أحد الفردين أكثر من الآخر لا يوجب شمول الحديث له و حكومته عليه بعد ما لم يشمل الفرد الذي ضرره أقلّ، فلا فرق بين عدم جريان الحديث في التكاليف الضررية بين أفراد المكلف به الضررية، و إن كان ضرر بعض الأفراد أكثر من البعض الذي تعذر.

و الحاصل: أنه إذا تعذر الفرد الضرري الذي ضرره أقل من غيره لا يرفع وجوب الإتيان بغيره الذي أكثر ضرراً منه:

و القول بأنه كما إذا كان للتكليف فردان: فرد غير ضرريٍّ و فرد ضرريّ يرفع الضرري بالحديث كذلك إذا كان للتكليف الضرري فردان: فرد فيه الضرر الذي يقتضيه بالطبع لأنه لا يمكن الإتيان به إلا بتحمله، و فرد آخر الضرر فيه أكثر من ذلك فهو أيضاً مرفوع به مدفوع بالفرق الواضح بينهما، فإنّ مورد الأول التكليف الذي لا يقتضيه بطبعه الضرر علي المكلف، و دليل نفي الضرر حاكم عليه دون الآخر.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 118

و بعبارةٍ اخري: أنّ دليل وجوب الحج علي المستطيع متضمن لصرف المال مطلقاً، و هو أخص من دليل نفي الضرر، و حكومة أدلة نفي الضرر علي سائر الأدلة مختصّة بالأدلة التي لها فردان دون ما ليس له فرد غير ضرري، فلا نظر لهذه الأدلة

إليه. هذا، مضافاً إلي أنه لأحد منع شمول قاعدة نفي الضرر للواجبات العبادية لعدم صدق الضرر بعد ما كان بإزائه من العوض

الاخروي بأضعاف كثيرة، فاستيجار السيارة بمال كثير لا يكون ضرراً عند العقلاء و من آمن بالثواب، و ربما يؤيَّد ذلك بصحيحة صفوان، قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل احتاج إلي الوضوء للصلاة و هو لا يقدر علي الماء فوجد بقدر ما يتوضأ به بمائة درهمٍ أو بألف درهمٍ و هو واجد لها يشتري و يتوضّأ، أو يتيمّم؟ قال: لا، بل يشتري، قد أصابني مثل ذلك فاشتريت و توضأت و ما يسرني (و ما يشتري) بذلك مال كثير». «1» و خبر الحسين ابن أبي طلحة نحوه. «2»

فتحصل من جميع ما ذكر وجوب شراء السيارة أو الطائرة أو استيجارها إذا كان متمكناً من ذلك كسائر المستطيعين. و اللّٰه تعالي هو العالم.

[مسألة 23] هل يسقط الحج عند غلاء الأسعار؟

مسألة 23- الظاهر أن غلاء أسعار ما يحتاج إليه في سفر الحج في سنته الحالية لا يوجب سقوط الحج عنه، لصدق الاستطاعة معه.

و في الجواهر: (أنّ هذا هو المشهور شهرةً عظيمة س سيما بين المتأخرين، فلا

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 26 من أبواب التيمم ح 1.

(2)- المصدر السابق: ح 2.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 119

يجوز له التأخر عن سنته هذه). «1»

و الإشكال برفع الوجوب بالضرر قد تقدم ما فيه في المسألة السابقة، و أن أدلة التكاليف الضررية أخص من حديث «لا ضرر»، سواء كان الضرر الكامن فيها متعارفاً أو أكثر من المتعارف، بل نقول: إن حديث لا ضرر منصرف عن التكاليف الضررية فلا يشملها حتي نحتاج إلي ملاحظة النسبة بينه و بين التكاليف الضررية.

هذا، مضافاً إلي أنه يمكن أن يقال: إن شراء الأجناس بالأسعار الغالية ليس ضررياً، فإنّ ما يقع في يده بالشراء مقابل لِمَا أدّاه من القيمة السوقية عند العرف، فليس شراء الخبز- مثلًا-

بقيمته السوقية الغالية ضرراً علي المشتري.

نعم، لو توقف الشراء علي بذل أزيد من ثمن المثل و القيمة المتعارفة أو علي بيع أمواله بأقلَّ من ثمن المثل يكون ضررياً، كما أن الحكم بلزوم بيع المال بأقل من ثمن المثل في المعاملات الغبنية ضرر علي البائع فيرفع بقاعدة نفي الضرر.

لكن قياس المقام بالتمسك بقاعدة نفي الضرر في خيار الغبن مع الفارق، لأن التكليف هنا بطبعه يكون ضررياً، فلا يرفع بلا ضرر وجوب الحج المتوقف علي شراء الزاد بأزيد من قيمته أو بيع المال بأقل من ذلك.

اللهم إلّا إذا آلَ الأمر في هذه الموارد المذكورة في هذه المسألة و المسألة السابقة إلي عدم صدق الاستطاعة، أو كان تحمل الضرر من جهة كونه فاحشاً جداً حرجاً عليه فيرفع الحكم بلا حرج. و اللّٰه تعالي هو العالم.

______________________________

(1)- جواهر الكلام: 17/ 257.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 120

[مسألة 24] نفقة الإياب

مسألة 24- لا ريب في أنه يكفي في وجوب الحج و حصول الاستطاعة وجود نفقة الذهاب إلي مكة المكرمة إذا لم يرد العود منها و أراد السكني فيها.

بل إذا كان العود منها إلي محل سكناه و وطنه و السكني في مكة سيان، لعدم وجود أيِّ علاقةٍ له بوطنه فيعيش في مكة كما يعيش في بلده الذي كان ساكناً فيه، من غير أن يكون ذلك حرجاً عليه.

و أما إذا كان له السكني في مكة حرجياً لا بد له من العود إما إلي وطنه أو إلي مكان آخر، فإن أراد العود إلي وطنه يشترط في حصول الاستطاعة له وجود نفقة الإياب أيضاً.

و هل يكون ذلك لعدم حصول الاستطاعة بدونه لأنّ الظاهر من الزاد و الراحلة ما يقدر به من الذهاب و الإياب، فمن كان متمكناً من

الراحلة للذهاب دون الإياب ليس مستطيعاً و إن كان قادراً علي المشي في العود، أو لأنّ السكني في مكة أو غير بلده يكون حرجياً له فيكون وجوب الحج و الذهاب و الحال هكذا مرفوعاً بالحرج؟

ظاهر الأدلة هو الوجه الأول، فلا تصل النوبة إلي الاستدلال بنفي الحرج، و في هذه الصورة التي يكون له السكني في مكة حرجياً إن أراد الرجوع إلي غير بلده الذي كان ساكناً فيه و كان نفقة الذهاب إليه أقل من نفقة الإياب إلي وطنه لا يلزم أن يكون له نفقة الإياب إلي وطنه، بل يكفيه نفقة الرجوع إلي هذا البلد الثاني. و إن كانت نفقة الذهاب إليه أكثر من نفقة الإياب إلي وطنه فإن كانت إرادته الذهاب إليه حسب ميله الشخصي فيكفي في وجوب الحج وجود نفقة العود إلي وطنه، و أما لو

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 121

صار بالذهاب إلي مكة ملجأ إلي الذهاب إليه و لم يكن ذلك حرجاً له فاللازم وجود نفقة الذهاب إلي مكة و إلي البلد المذكور، و لا عبرة بأبعدية ذلك البلد من مكة و أقربيته إليه، كما لا يخفي. و اللّٰه العالم.

[مسألة 25] تحصيل الزاد ببيع ما يحتاج إليه

مسألة 25- لا يجب بيع ما يحتاج إليه من ضروريات معاشه و معاش عياله لتحصيل الزاد و الراحلة بحيث يقع ببيعه و صرفه في ذلك في العسر و الحرج.

فلا يجب عليه بيع دار سكناه و الأثاث و الثياب و الفرش و الأواني، و السيارة اللائقة بحاله للركوب، و آلات الصنائع المحتاج إليها، و رأس ماله للتجارة المتقوّم بها أمر معاشه و معاش عياله، و غير ذلك مما يقع ببيعه في الحال و الاستقبال في الحرج، و من ذلك الكتب المحتاج إليها، سواء كانت

دينية أو غير دينية، كالكتب الطبية للطبيب، و كذا حُليّ المرأة إذا كان ترك التزيّن بها حرجياً لها.

هذا، مضافاً إلي ما يستفاد من بعض الروايات من تفسير السبيل المذكور في الآية الشريفة بالسعة في المال و اليسار، مثل ما رواه الكليني بإسناده عن عدة من أصحابنا «1» عن أحمد بن محمد «2» عن ابن محبوب عن خالد بن جرير «3» عن أبي

______________________________

(1) إن كان المروي عنه هو أحمد بن محمد بن عيسي فالعدة الذين يروون عنه خمسة رجال، و هم محمد بن يحيي، و أحمد بن إدريس، و علي بن إبراهيم، و داود بن كورة، و علي بن موسي الكميداني، و إن كان أحمد بن محمد بن خالد البرقي فالعدة أربعة رجال، و هم: علي بن إبراهيم بن هاشم، و علي بن محمد بن عبد الله، و يقال لعبد الله: بندار بن بنت البرقي، و أحمد بن عبد الله بن أحمد البرقي ابن ابنه، و علي بن الحسين السعدآبادي المؤدب، تلميذه الذي تخرج عليه في الأدب.

(2) من السابعة.

(3)- هو ابن جرير بن يزيد بن جرير بن عبد اللّه البجلي، من الطبقة الخامسة أو السادسة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 122

الربيع الشامي «1» قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن قول اللّٰه عز و جل: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»؟ فقال: ما يقول الناس؟ قال: فقلت له:

الزاد و الراحلة، قال: فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: قد سئل أبو جعفر عليه السلام عن هذا فقال:

هلك الناس إذاً لئن كان من كان له زاد و راحلة قدر ما يقوت عياله و يستغني به عن الناس ينطلق إليهم (إليه) فيسألهم (فيسلبهم) إياه لقد

هلكوا إذاً، فقيل له: فما السبيل؟ قال: فقال: السعة في المال إذا كان يحج ببعض و يبقي بعضاً لقوت عياله، أ ليس قد فرض اللّٰه الزكاة فلم يجعلها إلا علي من يملك مائتي درهم». «2»

و ما رواه البرقي عن عبد الرحيم القصير في الرواية التي تقدم ذكرها قال عليه السلام في تفسير الآية الشريفة: «ذلك القوة في المال و اليسار».

و مقتضاهما عدم صدق الاستطاعة علي من يقع في الحرج ببيع ماله؛ لأنها مفسّرة فيهما بالسعة و اليسار.

و ممّا يدلّ أيضاً علي اعتبار الرجوع إلي الكفاية في الاستطاعة: ما رواه الصدوق في الخصال بإسناده عن الأعمش «3» عن جعفر بن محمد عليه السلام في حديث شرايع الدين قال: «و حج البيت واجب (علي من) استطاع إليه سبيلًا، و هو الزاد

______________________________

(1)- من الرابعة.

(2)- وسائل الشيعة: ب 9 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1 و 2 إلا أنهما حديث واحد كما هو الظاهر.

(3)- هو سليمان بن مهران، من الطبقة الرابعة، و سند الصدوق إلي أعمش هكذا: أحمد بن محمد بن هيثم العجلي، و أحمد بن الحسن القطان، و محمد بن أحمد السناني، و الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتِّب، و عبد اللّٰه بن محمد الصائغ، و علي بن عبد اللّه الوراق رضي اللّٰه عنهم، قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيي بن زكريا القطان، حدثنا بكر بن عبد اللّه بن حبيب، قال: حدثنا تميم بن بهلول، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 123

و الراحلة و مع صحة البدن، و أن يكون للإنسان ما يخلفه علي عياله و ما يرجع إليه من حجه».

و الظاهر أن من يبيع الضروريات المذكورة لا يكون

له ما يرجع إليه من حجه. و أما الرواية الخامسة من هذا الباب عن مجمع البيان فالظاهر أنها ليست رواية مستقلة، بل هي نقل مضمون سائر الروايات. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 26] بيع دار مملوكة إذا كان بيده دار موقوفة

مسألة 26- إذا كان له دار مملوكة و كان بيده دار موقوفة تكفيه سكناه و سكني عياله الظاهر أنه يجب عليه بيع المملوكة لصرف ثمنه في الحج لصدق، الاستطاعة حينئذٍ إذا كان ثمنها وافياً لمصارف الحج أو متمِّماً لمصارفه.

نعم، إذا كان السكني في الدار الموقوفة منافياً لشأنه و كان ذلك حرجاً عليه لا يجب بيع المملوكة، و هكذا الحكم في سائر ما يحتاج إليه من الكتب و غيرها.

هذا إذا كانت الدار الموقوفة بيده، و أما إذا لم تكن فعلًا بيده و كان الوقف عاماً فإما أن يكون السكني فيها غير موقوفة بإذن أحد و يتمكن من السكني فيها بدون السؤال و تحصيل الإذن من أحد من غير تحمل مهانة و حرج فالظاهر حصول الاستطاعة له، فمثلًا ينتقل إلي المدرسة من داره.

و أما إذا كان للوقف قيّم و كان السكني فيه محتاجاً إلي السؤال و تحصيل الإذن من قيِّمه فالظاهر عدم وجوب الاستيذان منه؛ لأنه من تحصيل الاستطاعة كما، إذا علم أن شخصاً يبذل له ما يحج به إن سأله ذلك فإنه لا يجب عليه السؤال، بخلاف ما إذا بذل له ابتداءً من غير السؤال.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 124

[مسألة 27] لو أمكنه الاعتياض عمّا يملكه

مسألة 27- قال في الجواهر: (و الأقوي وجوب البيع (يعني وجوب بيع دار السكني و أمتعة منزله و غيرها من ضروريات معاشه) لو غلت و أمكن بيعها و شراء ما يليق به من ذلك بأقل من ثمنها، كما صرح به في التذكرة و الدروس و المسالك و غيرها، لما عرفت من أن الوجه في استثنائها الحرج و نحوه ممّا لا يأتي في الفرض، لا النص المخصوص كي يتمسك بإطلاقه). «1»

و ما ذكره هو الوجه في ذلك،

و منه يظهر وجه المناقشة فيما قيل من عدم وجوب الاستبدال إذا كانت لائقة بحاله، لحصول الاستطاعة، و انحصار الدليل لاستثنائها بالحرج دون النص الذي يمكن التمسك بإطلاقه.

كما يظهر المناقشة أيضاً في كونه كالكفارة التي لا يجب بيع خادمه المملوك بمن كان قيمته أقل من غير حرج عليه، فإن العتق له فيها بدل، بخلاف المقام.

نعم، في كفارة الجمع إن قلنا بعدم وجوب الاستبدال يمكن أن يقال بعدم الفرق بين المقامين، إلا أنه يمكن القول بوجوبه هناك أيضاً إن تعين العتق.

و أما التمسك بأصالة عدم وجوب الاعتياض و وجود الحرج ففيه ما لا يخفي.

و أما التفصيل بين كون الزيادة قليلةً جداً بحيث لا يعتني بها- كما في العروة- فلا أري له وجهاً؛ لأنه لا فرق بين الزيادة القليلة و الكثيرة إذا أمكن أن يحج بكل منهما، و إن لم يمكن بالقليلة فهي خارجة عن محل الكلام. و اللّٰه تعالي هو العالم.

______________________________

(1)- جواهر الكلام: 17/ 254.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 125

[مسألة 28] من كان له ثمن المستثنيات

مسألة 28- إذا لم يكن عند الشخص أعيان المستثنيات المذكورة لكن كان له أثمانها فهل يستثني له أو يجب عليه الحج؟

مقتضي ما استظهرناه من الأدلة من التوسعة في أمر الاستطاعة و اعتبار السعة في المال و اليسار في حصولها، عدم حصولها إذا لم يكن له ما يزيد علي ضروريات معاشه التي يقع فيها بالحرج و المشقة ببيعها لتحصيل نفقة الحج من الزاد و الراحلة؛ لعدم كونه ذا سعةٍ و يسارٍ عرفاً، فمن ليس له إلا دار سكناه و أثاث بيته لا يعدّ عند العرف من أهل السعة و اليسار.

و الظاهر أنه لا فرق في ذلك بين أعيان هذه الضروريات و بين أثمانها، فمن لم يكن عنده

إلا ما يكفي شراء ضروريات بيته و معيشته ليس أيضاً من ذوي اليسار و السعة المالية، و لا يمكن له صرف هذه الأثمان في غيرها إلا بتحمل الضيق و العسر و الحرج، و لذا إن حج بصرفها في نفقته لا يجزيه عن حجة الإسلام، كما أنه إن لم يصرف هذه الأثمان في ضرورياته و ادخرها لا نقول بوجوب حجة الإسلام عليه، فهو ليس مستطيعاً و لم يجب عليه الحج؛ لعدم حصول الاستطاعة التي هي شرط للوجوب بما عنده.

و علي هذا لا تصل النوبة إلي التمسك بقاعدة نفي الحرج لرفع وجوب صرف أعيان هذه الضروريات أو أثمانها في الحج، لأن ذلك فرع وجود إطلاقٍ لدليل الوجوب يشمل صرفها في نفقة الحج.

هذا بحسب ما بنينا عليه في المسألة، أما بناءً علي ما بني عليه جماعة من الأعاظم من شمول أدلة الاستطاعة من كان عنده أعيان الضروريات المذكورة فلا بد من التمسك بقاعدة نفي الحرج لنفي وجوب بيعها لنفقة الحج؛ لوقوعه ببيعها في

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 126

العسر و الحرج.

و الظاهر أنه لا فرق بين أعيان الضروريات و أثمانها في الاستثناء، فلا يجب- كما عن الدروس «1» و المسالك «2» و غيرهما- صرفها فيها، و عن المدارك «3» أنه استجوده إذا دعت الضرورة إليه، إذاً لا فرق بين الصورتين لحصول الحرج و العسر بصرف الأثمان في نفقة الحج، كما يحصل ببيع الأعيان، فوجوب صرف كلٍّ منهما مرفوع بالحرج.

ثمّ علي هذا المبني هل يسقط الحج برفع وجوبه بالحرج إن تحمل المشقة و الحرج و ادّخر أثمان هذه المستثنيات؟ فيه وجهان:

من أنّ الحرج إنما يحصل بترك صرف الأثمان في هذه الضروريات، سواء حصل بادخارها أو بصرفها في الحج فهو مقدم

عليه و حاصل لا محالة، و إن لم يصرفها في الحج فلا يكون الحرج الحاصل له بنفقتها في الحج رافعاً لوجوبه، لأنه لو لم ينفقها في الحج يدخرها و يتحمل الحرج فالحرج حاصل علي كلتا الصورتين.

هذا، مضافاً إلي أن الحرج مستند إلي ترك صرف الأثمان في الضروريات، و هو يحصل بادخار الأثمان أو إنفاقها في الحج، و فرق ظاهر بين من ترك صرف الأثمان في المستثنيات بصرفها في الحج و بين من صرفها في الحج و تُرِكَ به صرفها في المستثنيات، فإنه في الأول المقصود بصرفها في الحج ترك صرفها في المستثنيات، و في الثاني المقصود صرفها في الحج الذي يترك به صرفها في المستثنيات دون أن يكون مقصوداً بالأصالة، و الحرج الحاصل من الأول غير مستند إلي الحكم

______________________________

(1)- الدروس الشرعية: 1/ 311.

(2)- مسالك الأفهام: 1/ 69.

(3)- مدارك الأحكام: 7/ 38.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 127

الشرعي و موضوعه، بل هو مستند إلي ما هو الجامع الذي يحصل بالادخار و بالصرف في الحج و هو ترك الصرف في المستثنيات الذي هو المقصود و يكون حرجياً دون الثاني، فإن الحرج حاصل من مقصوده، و هو صرف الأثمان في الحج.

نعم، الحكم بوجوب الحج في الصورة الاولي هو الحكم باختيار الصرف في الحج لحصول ما هو مقصوده، يعني ترك الصرف في المستثنيات دون الادخار.

و كيف كان فالحرج الحاصل من ترك صرف الأثمان ليس مستنداً إلي الحكم الشرعي؛ لأنه لم يتعلق به الحكم الشرعي، بل مستند إلي إقدام المكلف و عزمه بترك صرف الأثمان في الضروريات، فتأمّل.

و من أنّ عزم المكلف علي ترك صرف الأثمان في المستثنيات لم يكن لإرادته نفس الترك و تعلق قصده ابتداءً به، بل لادّخارها، و

لتكون الأثمان باقية عنده، فمتعلق إرادته هو ادخار الأثمان، فالحرج المتحمل منه يكون للادخار المذكور لا مطلقاً، و عليه يكون الحرج الحاصل بصرفها في الحج غير ما أقدم عليه و هو الحرج الحاصل من ادخارها و حفظ الأثمان باقية عنده، فعلي هذا يرتفع الحكم بوجوب الحج و صرف الأثمان فيه بقاعدة الحرج و إن تحمل الحرج و ادخر نقوده.

و علي هذا يمكن أن يقال: إنه إما لا يتمكن من صرف نقوده في ضرورياته لأمر من الامور كمنع مانع منه أو عدم وجودها بالفعل، مع أنه في الحال واقع في حرج عدمها بالضرورة، فلا ريب في أنه يجب عليه صرفها في الحج لعدم وقوعه به في حرج غير ما هو واقع فيه و الذي لا يستند إلي وجوب الحج عليه.

و إما يكون عازماً علي عدم صرف ما عنده من النقود في ضرورياته و تحمل حرجه لادخارها مع تمكنه من صرفها فيها، فهو يتحمل الحرج لتكون النقود باقية عنده، فإن لم يصرفها فيها و ادخرها يكون الحرج مستنداً إلي نفسها، و لكن لا يمنع

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 128

ذلك من كون حكم الشارع بصرفها في الحج حرجياً لوقوعه فيه به، و استناد الحرج الذي يقع فيه بصرف النقود في الحج إلي حكم الشارع فهو مرفوع عنه، فما يتحمل من الحرج لادخار النقود غير ما يقع فيه منه بصرفها في الحج.

و إما يكون عازماً علي عدم صرفها في ضرورياته. و بعبارةٍ اخري: كان عازماً علي عدم تحصيل هذه الضروريات، سواء كان ذلك بادخار النقود أو صرفها في غير الضروريات، فهو إن لم يصرفها في الحج لا يصرفها في ضرورياته علي كل حال، ففي هذه الصورة يمكن أن يقال

بوجوب الحج عليه؛ لعدم استناد الحرج الواقع فيه بحكم الشارع لإقدامه بنفسه عليه.

اللهم إلا أن يقال بأن إقدام المكلف بالأمر الحرجي لا يخرج الأمر به عن كونه أمراً بالأمر الحرجي، كما لا يخرج الإقدام في الصوم الحرجي بالإمساك عن كون الحكم بوجوبه حرجياً و أمراً بالفعل الحرجي، و لكن سيأتي الجواب عن ذلك إن شاء اللّٰه تعالي.

و بالجملة: فلا يمنع تحمله الحرج لإرادة ادخاره النقود من كون الحكم بوجوب الحج حرجياً و مرفوعاً بقاعدة الحرج، بخلاف ما إذا أراد عدم تحصيل الضروريات بأن يعيش بدونها عيشاً حرجياً ضنكاً مطلقاً، فإنه يمكن أن يقال في هذه الصورة بعدم رفع الوجوب بالقاعدة لأنه أقدم عليه، سواء كان صرف النقود في الحج واجباً عليه أم لا يجب.

[مسألة 29] إذا كان عنده مال لا يفي إلا بأحد الأمرين: الحج و النكاح

مسألة 29- إذا لم يكن له إلا قدر ما يحج به فنازعته نفسه إلي النكاح فهل يجوز صرفه فيه، أو يجب صرفه في الحج مطلقاً، سواء كان ترك

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 129

النكاح حرجاً عليه، أم لا، أو يجوز صرفه في النكاح إذا كان تركه حرجاً عليه فيرتفع وجوب الحج بالحرج الرافع للأحكام؟

قال الشيخ قدس سره في الخلاف: (إذا وجد الراحلة و لزمه فرض الحج و لا زوجة له بدأ بالحج دون النكاح، سواء خشي العنت أو لم يخش، و قال الأوزاعي: إن خشي العنت فالنكاح أولي، و إن لم يخف العنت فالحج أولي. و قال أصحاب الشافعي:

ليس لنا فيه نص، غير أن الذي قاله الأوزاعي قريب. دليلنا: قوله تعالي: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ … » و هذا قد استطاع، فمن أجاز تقديم النكاح عليه فعليه الدلالة؛ علي أن الحج فرض عند وجود الزاد و الراحلة و حصول كمال الاستطاعة بلا

خلاف، و هو علي الفور عندنا علي ما سنبينه، و النكاح مسنون عند الأكثر فلا يجوز له العدول من الفرض إلي النفل إلا بدليل) «1» و قال في المبسوط أيضاً نحوه مختصراً. «2»

و قال في التذكرة: (لو احتاج إلي النكاح و خاف علي نفسه العنت قدَّم الحج، لأنه واجب و النكاح تطوع و يلزمه الصبر، و قال بعض العامة: يقدَّم النكاح؛ لأنه واجب عليه و لا غني به عنه، فهو كنفقته، و نمنع الوجوب، و لو لم يخف العنت قدم الحج إجماعاً) «3». و في محكيِّ تحريره: (أما لو حصلت المشقة العظيمة فالوجه عندي تقديم النكاح). «4»

و قال في الشرائع: (و لو كان معه قدر ما يحج به فنازعته نفسه إلي النكاح لم يجز صرفه في النكاح و إن شق تركه، و كان عليه الحج). «5»

______________________________

(1)- الخلاف: 1/ 372.

(2)- المبسوط: 1/ 298.

(3)- تذكرة الفقهاء: 1/ 302.

(4)- تحرير الأحكام: 1/ 91.

(5)- شرائع الإسلام: 1/ 165.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 130

و قال الشهيد في الدروس: (لو لم يجد هذه المستثنيات و ملك ما لا يستطيع به صرف فيها و لا يجب الحج إذا لم يتسع المال. أما النكاح تزويجاً أو تسرياً فالحج مقدم عليه، و إن شق تركه إلا مع الضرورة الشديدة). «1»

و قال سيد المدارك: (و لو حصل له من ترك النكاح ضرر شديد لا يتحمل مثله في العادة أو خشي منه حدوث مرض أو الوقوع في الزنا قدم النكاح، كما صرح به العلامة في المنتهيٰ). «2»

و قال في الحدائق: (و لم أقف في المسألة علي خبر بالخصوص). «3»

أقول: لم أجد في كلام مَن تقدم علي الشيخ رحمه الله ذكراً لهذه المسألة، و الجمع بين كلمات

من تعرض لها و تحصيل مراداتهم لا يخلو من الإشكال- و إن تكلفه بعض أعاظم العصر «4» - فإنهم بين من قدم الحج مصرحاً بعدم الفرق بين خشيته العنت و عدمها أو حصلت له المشقة بترك النكاح، و بين من قيد ذلك بعدم الضرورة الشديدة و المشقة العظيمة، و منهم من قيده بحصول الضرر الشديد، أو خوف حدوث المرض، أو الوقوع في الزنا.

و يختلف استدلالهم علي ذلك أيضاً، فيظهر من بعضهم أن تقديم الحج علي النكاح لتقديم الواجب علي المسنون مع أن النكاح أيضاً قد يجب، و يظهر من بعضهم الاستدلال علي ذلك بحصول الاستطاعة، و كأنّ بعضهم تمسك بقاعدة نفي الضرر، و بعضهم بنفي الحرج لرفع وجوبه إذا حصل الضرر و المشقة بترك النكاح، و لعله لا يظهر دليل لاستثناء من استثني من وجوب الحج خوف الوقوع في الزنا

______________________________

(1)- الدروس الشرعية: 1/ 311.

(2)- مدارك الأحكام: 7/ 44.

(3)- الحدائق الناضرة: 14/ 108.

(4)- مستمسك العروة: 10/ 88.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 131

بترك النكاح، اللهمّ إلّا أن يكون دليله عدم حصول الاستطاعة، ثمّ إرجاع كلمات بعضهم إلي بعضٍ إن أمكن لا يتمّ في الجميع.

و أما دليل ما اختاره العامة فيظهر من كلماتهم، و لعلّ المتّجه منها علي رأي من يقول بحصول الاستطاعة بالمقدار المذكور هو ما اختاره الأوزاعي و قربه الشافعي لو حمل الأولوية المذكورة في كلامه علي التعيين و الوجوب، و العنت علي القدر الحرجي منه.

و كيف كان فبناءً علي حصول الاستطاعة بما يكفي الحج أو النكاح لا بد علي مختار جماعة من أعاظم المتأخرين الاستثناء من وجوب الحج إذا كان ترك النكاح حرجياً أو ضررياً، و إلّا فيقدم الحج علي النكاح إجماعاً كما ادعاه العلامة

رحمه الله إلّا أننا لم نتحققه.

و يمكن أن يقال: إنّه لا ريب في اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة، و إنها ليست عقلية أو عرفية، بل هي استطاعة خاصة شرعية اشترط وجوب الحج بها:

إما لتعظيم أمر الحج، أو للتوسعة علي المكلفين، أو غير ذلك مما لا نعلمه، فلا بد في معرفة المراد منها الرجوع إلي الشارع المقدس، و لا ريب أن إطلاق مثل قوله عليه السلام:

«له زاد و راحلة» مقيد بامور اخري.

مضافاً إلي أن تفسير الاستطاعة بخصوص ذلك لا يزيد علي ما يستفاد من لفظها، فإن امتثال مثل هذا التكليف الذي يتوقف في الأكثر علي طيِّ المسافات البعيدة و السفر من البلاد النائية يحتاج إلي الزاد و الراحلة بحسب النوع فليس، اعتبار ذلك و اشتراط وجوب الحج به أمراً زائداً بزيادةٍ يعتني بها علي ما اشترط به سائر التكاليف.

و من جانب آخر فسِّرت الاستطاعة في الروايات بالسعة في المال و اليسار، و هي أعم من ذلك، و تقييد السعة في المال بالزاد و الراحلة أيضاً خلاف الظاهر؛

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 132

لعدم صدق اليسار عند العرف علي من لا يجد غيرهما، فإذا قلنا بأن السعة في المال لا تصدق علي من ليس عنده إلا المسكن الذي يسكن فيه و خادمه و ما يحتاج إليه في ضروريات معاشه أو أثمانها لا تصدق أيضاً علي من لا يجد أكثر من نفقة الزواج، و الحال أن الاحتياج إليه لا يقلّ من الاحتياج إلي بعض المستثنيات لو لم يكن أكثر.

إذاً يصير مفهوم الاستطاعة مجملًا لا إطلاق له، كما أن الأمر كذلك في السعة في المال و اليسار فإنه يختلف بنظر العرف فلا بد من الأخذ بالقدر المتيقن، و هو ما إذا

كان له ما يكفيه للحج زائداً علي ذلك، و نجري البراءة عن التكليف إذا لم يكن له هذه السعة المالية.

و مع ذلك حيث لم يذهب إلي هذا من تعرض من الفقهاء للمسألة، و اختار كلهم تقديم الحج علي النكاح إذا لم يكن تركه حرجياً بل مطلقاً فلا يجوز ترك الاحتياط إذا لم يكن ترك النكاح حرجياً فيأتي بالحج مقدماً له علي النكاح، ثمّ يأتي به بعد ذلك إن حصل له من المال ما يكفيه للحج بعد النكاح، أو يعمل علي صورةٍ يحصل له اليقين بوقوع حجه حجة الإسلام. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 30] من كان له دين و يستطيع لو اقتضاه

مسألة 30- إذا لم يكن عنده ما يحج به و لكن كان له علي شخص دين يكفيه مئونة حجه، أو بضم ما عنده من المال و كان الدين حالًّا و المديون باذلًا فالظاهر حصول الاستطاعة له بذلك، فيجب عليه اقتضاء الدين و الحج.

لعدم الفرق في صدق الاستطاعة بين أن يكون عنده نفس الأعيان الخارجية التي يحتاج إليها لأداء الحج أو قيمتها، كما لا فرق في ذلك بين أن يكون مالكاً لها في

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 133

وعاء الخارج أو في ذمة الأشخاص أو عند البنك، مثل أن تكون له في ذمة شخص سيارة أو طائرة يمكن له الحج بها.

[مسألة 31] إذا كان له دين حالّ و امتنع المديون الموسر من أدائه

مسألة 31- إذا كان الدين حالًّا و المديون موسراً ممتنعاً من أدائه فهل يجب علي الدائن إجباره علي الأداء بالرجوع إلي الحاكم الشرعي- سواء كان منكراً أو مماطلًا- و الفرض أنه يكفيه لأداء الحج، أم لا؟

الظاهر وجوب ذلك، لصدق الاستطاعة و أن له المال و تمكنه من التصرف فيه و صرفه في الحج بالرجوع إلي من يجبره علي الأداء، و لا فرق في ذلك بين الدين و بين ما كان ماله عنده أمانة، أو وقع في يده بسبب من الأسباب فإن عليه أن يستردّه و لو بالرجوع إلي الحاكم، و ليس ذلك من تحصيل الاستطاعة، فهو كمن يعلم أن له جوهرة نفيسة غالية مدفونة في مكان معلوم، أو مذخورة في الصندوق و لكن استخراجها متوقف علي تحصيل المعول و حفر الأرض أو تحصيل المفتاح و فتح الصندوق، فمثله مستطيع عند العرف له المال و اليسار، نعم إذا كانت تلك الجوهرة مشكوكة الوجود أو غير معلومة الحصول عند العرف فالظاهر أن الفحص عنها و طلبها من تحصيل

الاستطاعة فلا يجب.

[مسألة 32] إذا كان ماله ديناً مؤجّلًا و المديون يبذله مع الاستدعاء أو بدونه

مسألة 32- إذا لم يكن الدين معجّلًا و كان مؤجّلًا لكن يبذله المديون ابتداءً أو إن استدعي ذلك منه فهل يجب ذلك عليه؟

يمكن أن يقال: إن المسألة تطرح في صورتين:

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 134

إحداهما: أن يكون المديون باذلًا للدين ابتداءً كأن جاء به إياه، فقال فيه في الجواهر: (و لو كان مؤجلًا و بذله المديون قبل الأجل ففي كشف اللثام: وجب الأخذ، لأنه بثبوته في الذمة و بذل المديون له بمنزلة المأخوذ، و صدق الاستطاعة و وجدان الزاد و الراحلة عرفاً بذلك، و فيه: أنّه يمكن منع ذلك كله، نعم لو أخذ صار به مستطيعاً قطعاً). «1»

أقول: هذا من غريب الكلام؛ لأنّ بذل الدين لا يقل من البذل المجاني للحج، سيما إذا كان الدين قرضاً و قلنا بوجوب قبوله علي الدائن إذا أداه المديون قبل حلول الأجل، فالظاهر أنه لا إشكال في حصول الاستطاعة بذلك.

و ثانيهما: أن يكون بذلُه الدينَ باستدعاء الدائن، فهل تحصل الاستطاعة له فيجب عليه استدعاؤه، أم لا فهو من قبيل تحصيل الاستطاعة؟

بعض الأعاظم اختار وجوب المطالبة و الاستدعاء، لصدق الاستطاعة، و أن له ما يحج به بالفعل، و هو متمكن من صرفه فيه و لو بالمطالبة. «2»

و اختار سيد الأعاظم البروجردي قدس سره عدم وجوب الاستدعاء، و كأنه حمل كلام صاحب الجواهر قدس سره علي هذه الصورة دون الصورة الاولي أو الأعم منها و من الثانية. و كيف كان فقال- رضوان اللّٰه تعالي عليه- في توجيه ما اختاره صاحب الجواهر بناءً علي ما استظهره من كلامه و هو المنع من صدق الاستطاعة و وجدان الزاد و الراحلة إذا كان المديون باذلًا باستدعاء الدائن: (لأنه و إن كان

مالكاً للدين فعلًا لكنَّ استحقاق الغريم تأخير أدائه مانع من حصول الاستطاعة و هو غير واجب).

______________________________

(1)- جواهر الكلام: 17/ 258.

(2)- معتمد العروة: 1/ 110.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 135

و هذا هو الأقوي، و فرق ظاهر بين ما إذا كان الدين حالًّا و كان للدائن استحقاق المطالبة به فإنه يتحقق به الاستطاعة و ما إذا كان الدين مؤجلًا لا يستحق الدائن مطالبته من المديون و كان المديون مستحقاً لتأخير أدائه 7 كالمالك الذي له بذل ماله و يبذل ماله للحج إن استدعي منه، فالاستدعاء من الغريم ترك حقه و بذل الدين مثل الاستدعاء من المالك بذل ماله تحصيل للاستطاعة، و هو غير واجب.

و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 33] إذا كان المديون معسراً أو مماطلًا

مسألة 33- في صورة إعسار المديون أو مماطلته إذا لم يمكن إجباره أو إنكاره و لم يتمكن الدائن من إثبات ماله عليه.

ظاهر جماعةٍ عدم وجوب الحج عليه؛ لعدم حصول الاستطاعة، و اختار التفصيل بعض الأعاظم: بين ما إذا أمكن له بيع الدين نقداً بأقل منه فيجب عليه لحصول الاستطاعة، و أن عنده ما يحج به كما إذا كان له أعيان من الأموال يمكن له بيعها بأقل من قيمتها، و بين ما إذا لم يكن له ذلك فلا يجب الحج عليه لعدم حصول الاستطاعة. «1»

و مقتضي ذلك أنه إذا كان له علي أحد ديناً مؤجلًا يمكن له اقتضاؤه بإسقاط مقدارٍ منه كان مستطيعاً.

و يمكن الفرق بين هذه الموارد و بين ما إذا كان المال عنده و ما يحج به حاصل له و يمكن له التصرف فيه، و أما في الدين فحصوله له متوقف علي بيعه بأقل من قيمته فهو عند العرف ليس واجداً ما يحج به

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 111.

فقه الحج

(للصافي)، ج 1، ص: 136

و لكن مع ذلك الفرق بين المقامين مشكل، فالأحوط له بيع الدين أو إسقاط مقدارٍ منه و صرفه في الحج.

[مسألة 34] هل يفرق في الدين بين جائز المطالبة و غيره؟

مسألة 34- هل فيما ذكرناه في المسائل السابقة فرق بين الدين الذي

حصل في ذمة شخصٍ بالسلف أو النسيئة أو بالجناية أو الإجارة المؤجلة من الديون التي لا يجوز للدائن مطالبة المديون قبل حلول الأجل فصار معجلًا و حالًّا و بين الدين الذي حصل له في ذمة الغير بإقراضه ذلك و قلنا بأن القرض و إن كان من العقود اللازمة إلا أنه للمقرض عدم إنظار المقترض، فله مطالبته في القرض المؤجل قبل حلول الأجل فيجب عليه اقتضاء الدين مطلقاً، أم لا؟

الظاهر عدم الفرق؛ لأنه مالك لما يحج به في هذه الصورة قبل حلول الأجل، كما يكون مالكاً له في الصورة الاولي عند حلول الأجل. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 35] إذا كان ما يستطيع به مختلفاً فيه بينه و بين غيره

مسألة 35- إذا كان مال بينه و بين غيره يري كل واحد منهما كونه له من جهة اختلاف رأيهم في الحكم.

فإن كان المال تحت يده و يكفيه للحج فهو مستطيع به لأن له التصرف في ماله بما يشاء، و إن كان عند غيره كما إذا كانت تركة الميت تحت يد ورثته غير زوجته و هي تري أنها ترث الثمن من جميع تركة زوجها حتي الدور و المساكن و أراضيها لأنها ذات الولد من الميت، و الزوجة المحرومة من مطلق الأراضي أو خصوص أراضي الدور هي غير ذات الولد من الميت، و الحال أن ذلك لو كان تحت يدها

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 137

يكفيها للحج و أما سائر الورثة فرأيهم بالاجتهاد أو التقليد حرمانها من مطلق الأراضي أو خصوص أراضي الدور و المساكن و الباقي و إن حصل في يدها ما لا يكفيها للحج فهل يجب علي هذه المرأة بما تري لنفسها من الميراث الحج لأنها مستطيعة و لها

المال فيجب عليها- مقدمةً لصرفه في الحج- الرجوع إلي الحاكم الشرعي لانتزاعه من يد سائر الورثة، أو يكون ذلك من تحصيل الاستطاعة فلا يجب عليها الحج؟

و مثله ما إذا كان الدائن يري اجتهاداً أو تقليداً في القرض جواز مطالبة القرض من المقترِض قبل حلول الأجل، و المقترض لا يري ذلك، فيري أن له حق تأخير الدائن إلي حلول الأجل لذلك و يمتنع من الأداء، فهل في هذه الصورة يجب عليه الرجوع أيضاً إلي الحاكم لأنه مستطيع و ذو مال وجب عليه الحج كما كان يجب عليه الرجوع إلي الحاكم إذا كان الدين حالًّا و كان المديون الموسر مماطلًا أو منكراً، أم لا يجب؟ و بالجملة: فهل فرق في وجوب الرجوع بين الاختلاف في الموضوع و الحكم؟

يمكن أن يقال في وجه الفرق بين المقامين بأن الرجوع إلي الحاكم في الاختلاف في الموضوع يكون مقدمةً لصرف ما حصل به الاستطاعة في الحج، لا لتحصيل الاستطاعة، بخلاف ما إذا كان الاختلاف في الحكم فإنه من قبيل تحصيل الاستطاعة و بأن من كان له علي أحد أو عنده مال يكفيه للحج و هو يمتنع من أدائه بالمماطلة أو الإنكار و أمكن له إجبار من عنده الحق بالأداء بالرفع إلي الحاكم مستطيع للحج فهو يعلم أن القاضي يقضي بينه و بين خصمه بقواعد القضاء و الاعتماد علي البينات و الايمان و يحكم له دون خصمه لما عنده مما يثبت دعواه شرعاً، و مثل هذا الشخص مستطيع بما له من المال، كمن كان عنده مال مذخور في الأرض و يعلم أنه بالرجوع إلي صانع المعول يحصل له ما يحفر به الأرض و يستخرج ماله المذخور

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 138

فيها مستطيع

يجب عليه الرجوع إلي الصانع لتوقف صرفه في الحج علي تحصيل المعول.

و أما في مسألة الاختلاف في الحكم و الشبهة الحكمية فلا يحصل الاستطاعة المالية بمجرد اعتقاده كون المال الذي بيد غيره ملكاً له، قبال اعتقاد من بيده المال أنه له لتوقف الاستطاعة علي كون المال بحيث يتمكن من صرفه في الحج و هو في الاختلاف في الموضوع كان حاصلًا لتمكنه من إثبات ماله عند الحاكم و رفع الأمر إليه.

و هذا بخلاف الشبهة الحكمية فإنه ليس لذلك الذي يري المال الذي بيد غيره مالَه ما يثبت به دعواه، بل ليس عليه ذلك و لا دخل له فيه، و لا يطلب منه و لا من خصمه البينة و لا اليمين، فلا يعلم أن ما يقضي به الحاكم معتمداً علي رأيه الاجتهادي في المسألة يكون له أو عليه، فالذي يرفع أمره إلي الحاكم في الاختلاف في الحكم لا يكون رفعه ذلك مقدمة لصرف المال الذي اختلفا في حكمه في الحج، فلا يكون رفعه الأمر اليه إلا تحصيل الاستطاعة بل هو فعل ما فيه رجاء تحصيل الاستطاعة، فعلي كل ذلك لا يجب في الشبهة الحكمية الرجوع إلي الحاكم لعدم تحقق الاستطاعة. نعم، إن رجع إلي الحاكم و اتفق أنه حكم له تحصل له الاستطاعة فيجب عليه الحج.

و مثل ذلك في الشبهة الموضوعية ما إذا لم يكن للمدعي ما يثبت به دعواه عند الحاكم فهو مثل من كان له مال مذخور في الأرض و لا يجد ما يستخرجه به منها فلا يكون مستطيعاً.

و خلاصة الكلام: أن في كل مورد كان علي المدعي إثبات دعواه و كان معه ما يثبت به دعواه عند الحاكم تحصل له الاستطاعة بالمال، و في

كل مورد لا دخل للمدعي في إثبات دعواه و لا يجد ما يثبت به دعواه لا يحصل له الاستطاعة، و الأول يتحقق في الشبهة الموضوعية، و الثاني في الشبهة الحكمية و الموضوعية إذا لم يجد

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 139

ذلك. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 36] الاقتراض للحج

مسألة 36- لا ريب في أنه لا يجب الاقتراض للحج إذا لم يكن له مال و إن كان عالماً بقدرته علي وفائه بعد الحج بسهولة.

لأنه ليس له ما يحج به، و الاستقراض تحصيل للاستطاعة و هو غير واجب، لأنها شرط للوجوب لا للواجب.

ثمّ إنه لو استقرض و كان قادراً علي أدائه عند أجله من غير أن يكون ذلك حرجاً عليه يجب عليه الحج؛ لصدق كونه ذا مال و يسار و استطاعة.

نعم، بناءً علي جواز مطالبة الدائن طلبه من المديون قبل حلول الأجل و عدم الاطمينان بعدم مطالبته يشترط في حصول الاستطاعة أن يكون قادراً علي أدائه في أيِّ زمانٍ طالب المقرِض منه الأداء.

و ربما يتوهم دلالة ما رواه الشيخ عن الحسين بن السعيد عن محمد بن أبي عمير عن عقبة «1» قال: «جاءني سدير الصيرفي فقال: إن أبا عبد اللّه عليه السلام يقرأ عليك

______________________________

(1)- في كتب الرجال ذكر أكثر من عشرين رجلًا اسمهم عقبة بأسماء آبائهم، و عقبة هذا لم يذكر اسم أبيه فالظاهر أنه مجهول، إلا أنه يعتمد عليه برواية محمد بن أبي عمير عنه و الرواية عنه، أيضاً تزيد علي عشرين، و لذلك فالرواية معتبرة. و أما سدير الصيرفي فهو ابن حكيم، روي الكشي رواية معتبرة تدل علي علو رتبته. ثمّ إن في الوسائل ذكر (عقبة) بدل (جفينة) و في الذيل ذكر أن في المخطوطة (حقبة) و في هامشه

عن نسخة جفير، إلا أن الصحيح هو (عقبة)، كما جاء في طبقات السيد البروجردي قدس سره، و جفير ابن الحكم العبدي، و جفير ابن صالح مذكوران في كتب الرجال، و أما (جفينة) و (حقبة) فلم أجدهما فيما راجعت إليه من كتب الرجال. و لا يخفي عليك أن نفس الرواية أيضاً تدل علي كون الرجل مورداً لعناية الإمام عليه السلام.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 140

السلام ما لك لا تحج؟ استقرض و حج» «1» علي وجوب الاستقراض في الحج.

و لكنه محمول إما علي الحج التطوّعي بقرينة أن ظاهره مخالف لظاهر الكتاب الدال علي اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة و لظاهر الروايات المتواترة، أو علي أن الإمام عليه السلام يعلم من حاله أن له ما يؤدي دينه به، فالمراد به ما نذكره بعد ذلك، أو علي أن الحج كان مستقراً عليه، مضافاً إلي أنه قضية في واقعة لا يمكن استفادة الإطلاق منها. «2»

هذا، و لو كان عنده مال لا يمكن الحج به فعلًا و لكن يمكن له الاقتراض و أداء قرضه بعد ذلك فهل يجب حينئذ عليه الاستقراض، أم لا؟

قال في التذكرة: (لا يجب الاقتراض للحج إلا أن يحتاج إليه و يكون له مال بقدره يفضل عن الزاد و الراحلة و مئونة عياله ذهاباً و عوداً، فلو لم يكن له مال أو كان له ما يقصر عن ذلك لم يجب عليه الحج، لأصالة البراءة، و لأن تحصيل شرط الوجوب ليس واجباً). «3»

و قال في المدارك: (و لا تجب عليه الاستدانة، و يحتمل قوياً إذا كان بحيث يمكنه الاقتضاء بعد الحج، كما إذا كان عنده مال لا يمكنه الحج به). «4»

و قال في الدروس: (و تجب الاستدانة عيناً إذا تعذر

بيع ماله و كان وافياً بالقضاء، و تخييراً إذا أمكن الحج بماله). «5»

أقول: البحث هنا يكون فيما إذا كان له مال يحصل به الاستطاعة إن أمكن

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام: 5/ 441، الاستبصار: 2/ 329.

(2)- و يمكن أن يكون «مالك لا تحج؟ استقرض و حج» من كلام سدير الراوي.

(3)- تذكرة الفقهاء: 1/ 302.

(4)- مدارك الأحكام: 7/ 42.

(5)- الدروس الشرعية: 1/ 311.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 141

صرفه في الحج بعينه أو بتبديله بغيره و لكن تعذر ذلك له، لا ما إذا لا يمكن صرف عينه و أمكن تبديله بما يمكن صرفه في الحج، فإن هذا- أي إمكان صرف عينه- غير معتبرٍ في الاستطاعة إجماعاً.

أما إذا لم يمكن صرفه مطلقاً لا بعينه و لا بعوضه بالفعل في سبيل الحج و لكن يمكن له الاستقراض و صرفه في الحج ثمّ وفاؤه بعد ذلك به، ففي هذه الصورة أفتي الشهيد قدس سره بوجوب الاستدانة بالوجوب العيني قبال ما إذا أمكن الحج بما هو عنده و بالاستدانة، و قواه في المدارك، و استظهر وجوبه في العروة؛ لصدق الاستطاعة مع الوثوق بإمكان وفاء الدين به، و خالفه جمع من المحشِّين عليه.

و الأقوي عندي أيضاً عدم حصول الاستطاعة بذلك، سيّما بعد كونها مفسرةً في الأحاديث بأن يكون له زاد و راحلة، و له المال، أو إذا قدر علي ما يحج به- الذي هو ظاهر في القدرة الفعلية- أو كان عنده ما يحج به أو وجد ما يحج به، فإذا لم يمكن له الحج بما عنده من المال لا بعينه و لا باستبداله لا يكون مستطيعاً.

ثمّ إنه ربما يتوهم دلالة طائفةٍ من الأحاديث علي وجوب الاستقراض للحج و حصول الاستطاعة بإمكان ذلك إذا كان عنده

مال لا يمكن الحج به فعلًا و لكن يمكن أداء قرضه به بعد الحج:

منها: ما رواه الكليني قدس سره عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد اللّه «1»، عن محمد بن علي «2»، عن محمد بن الفضيل «3»، عن موسي بن بكر «4»، عن أبي الحسن

______________________________

(1)- من الطبقة السابعة.

(2)- محمد بن علي بن إبراهيم، وكيل الناحية، هو و ابنه القاسم و أبوه علي وجده من الطبقة السابعة.

(3)- من أصحاب الرضا عليه السلام مرمي بالغلو، من الطبقة السادسة.

(4)- من الطبقة الخامسة، واقفي.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 142

الأول عليه السلام قال: «قلت له: هل يستقرض الرجل و يحج إذا كان خلف ظهره ما يؤدّيٰ عنه إذا حدث به حدث؟ قال: نعم» «1».

و منها: ما رواه عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسي «2»، عن البرقي «3»، عن جعفر بن بشير «4»، عن موسي بن بكر الواسطي قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يستقرض و يحج؟ فقال: إن كان خلف ظهره مال إن حدث به حدث أُدّي عنه فلا بأس» «5».

و يحتمل كون هاتين الروايتين روايةً واحدةً رواها الكليني تارةً عن البرقي بلا واسطة، و تارةً بواسطة أحمد بن محمد بن عيسي، و إنما رواها موسي بن بكر مرةً بالنقل بالمعني و مرةً باللفظ أو بالمعني و المضمون أيضاً، و ثقة الإسلام أفرد كلًّا منهما بالرواية لاختلاف لفظهما، و إنّ ما هو الوجه لعدم البأس يستفاد من إحداهما من كلام الإمام عليه السلام، و في الاخري من كلام الراوي بمعونة جواب الإمام عليه السلام.

و منها: ما رواه عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسي، عن علي بن الحكم

«6»، عن عبد الملك بن عتبة «7» قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل عليه دين يستقرض و يحج؟ قال: إن كان له وجه في مال فلا بأس» «8».

و أما وجه دلالة هذه الأحاديث علي وجوب الاستقراض فهو: أن قول

______________________________

(1)- الكافي: 4/ 278 ب الرجل يستدين و يحج ح 2.

(2)- من الطبقة السابعة.

(3)- هو أحمد بن أبي عبد اللّه.

(4)- من الطبقة السادسة من زهاد أصحابنا و عبادهم و نساكهم ثقة.

(5)- الكافي الباب المذكور ح 6.

(6)- ثقة جليل من الطبقة السادسة.

(7)- الهاشمي ملحق بالحسن من الطبقة الخامسة.

(8)- الكافي الباب المذكور ح 3.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 143

السائل: «يستقرض و يحج» مطلق يشمل حجة الإسلام و الحج التطوعي، و بترك استفصال الإمام عليه السلام يستفاد الإطلاق من الجواب.

و فيه أولًا: أنه لا دلالة لهذه الأخبار علي وجوب الاستقراض للحج و حصول الاستطاعة بإمكان الاستقراض إن كان له وجه في مال، بل غاية ما يستفاد منها جواز تحصيل الاستطاعة بالقرض، و لا ريب أن بعد حصولها يجب الحج.

و ثانياً: أن إطلاق قوله عليه السلام: «إن كان خلف ظهره مال إن حدث به حدث ادِّي عنه» يشمل ما إذا لم يكن عنده إلا مستثنيات الدين فإن دين الميت يؤدّي منها، و من كان حاله هكذا ليس بمستطيع قطعاً، فالحديث ظاهر في حج التطوع لا حجة الإسلام.

و أما ضعف بعض رجال أسنادها فلا يضر بالاعتماد عليها بعد وجود بعض ما يشهد لذلك فيها، و كون الثالثة حسنة، و رواية جماعة من الأجلّاء عن موسي بن بكر و اعتمادهم عليه، مثل أحمد بن محمد بن أبي نصر، و جعفر بن بشير، و الحسن بن علي الوشاء، و صفوان بن يحيي،

و العلاء بن رزين، و علي بن إبراهيم بن هاشم، و علي بن الحكم، و ابن أبي عمير، و غيرهم.

[مسألة 37] فيما إذا اشتبه ما يتمكّن به الحج بمال غيره

مسألة 37- إذا اشتبه مال يكفيه للحج بمال غيره: فتارةً تكون الشبهة في الموضوع، كما إذا علم أن المال الباقي من المالين الذين ضاع أحدهما إما يكون له أو لزيدٍ فالظاهر أنه لا يصدق عليه الاستطاعة.

لأنه فرع أن يكون له مال يحج به غير ممنوع من التصرف فيه، و مع اشتباهه

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 144

بمال الغير تنتفي الاستطاعة المذكورة؛ لزوال إمكان التصرف فيه إما لضياعه فهو كالسالبة بانتفاء الموضوع، و إما لاشتباهه بغيره فلا يمكن معه استصحاب وجوب الحج أو بقاء الاستطاعة لليقين بزوال الاستطاعة، فإنها دائرة مدار بقاء إمكان التصرف في المال و صرفه في الحج، و باشتباهه بمال الغير يزول هذا الإمكان و يكشف عن عدم حصول الاستطاعة له من الأول، كما إذا كان له مال ثمّ فُقد وضاع فإنه يكشف عن عدم الاستطاعة.

اللهم إلا أن يقال بحصول الشركة و المالكية القهرية فيدور وجوب الحج مدار حصول الاستطاعة بما يملكه بهذه الملكية القهرية، أو بغيرها من الوجوه المحتملة في المسألة، و الكلام فيها في محله.

و تارةً يكون الشك في الحكم، كما إذا حصل له بالمعاملة المعاطاتية مال يكفيه للحج و لكن رجع البائع إلي المبيع قبل قبضه الثمن و قبل تصرف المشتري في المبيع، إلا أنه لجهله بالحكم و أن المعاطاة هل هي لازمة كالعقود اللفظية أو أنها جائزة حتي يجوز لكلٍّ من المتبايعين الرجوع إلي ماله، شاك في استطاعته فالواجب عليه السؤال؟ و ليس مثل ذلك من تحصيل الاستطاعة، فإنها إما حاصلة لها في الواقع أو غير حاصلة، فإذا كانت حاصلة

يكون تركه للحج مستنداً إلي جهله بالحكم الشرعي الذي قصر في تعلمه فلا يكون معذوراً في ترك الحج، فشكه في الاستطاعة من جهة الجهل بالحكم الشرعي مثل من كان شاكاً في أن الاستطاعة تحصل بوجود الزاد و الراحلة أو اعتبر فيها أمر زائد علي ذلك، و ترك السؤال عن الحكم الشرعي و ترك الحج بعذر الشك في حصول الاستطاعة فهو غير معذور قطعاً.

نعم، بعد السؤال إذا علم أن الحكم في المعاطاة الجواز و كان الحال بحيث لو رجع إلي ماله يحصل له الاستطاعة، كما إذا غلت قيمة المبيع بعد البيع و قبل التصرف فالظاهر عدم وجوب رجوعه إلي المبيع؛ لأن ذلك تحصيل للاستطاعة. و اللّٰه تعالي

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 145

شأنه هو العالم.

[مسألة 38] إذا كان له ما يحج به و عليه دين بقدره فأيهما يقدم؟
اشارة

مسألة 38- إذا كان له ما يحج به و كان عليه دين و لا يفي ما عنده من المال إلا لأداء الدين أو الحج ففي المسألة وجوه بل أقوال:

الأول: تقديم الدين علي الحج مطلقاً، سواء كان الدين حالًّا مطالباً به أو غير مطالب به، أو كان مؤجلًا سواء كان واثقاً بقدرته علي الأداء بعد صرفه في الحج أم لا، حكي ذلك عن جماعة كالمحقق و العلامة و الشهيد رضوان اللّٰه تعالي عليهم.

قال المحقق في الشرائع: (و لو كان له مال و عليه دين بقدره لم يجب إلا أن يفضل عن دينه ما يقوم بالحج) «1».

و قال العلامة في الإرشاد: (و المديون لا يجب عليه شي ء إلا أن يفضل عنه دينه قدر الاستطاعة) «2»، و قال نحوه في التلخيص و غيرهما «3».

و قال الشهيد في الدروس: (و المديون ممنوع إلا أن يستطيع بعد قضائه مؤجلًا كان أو حالًّا) «4».

و يستدل لهذا القول بروايات

دلت علي أن الموضوع في وجوب الحج هو الموسر، فمن كان مديوناً ليس له إلا قدر ما يكفي أحدهما (الدين أو الحج) ليس بموسر.

______________________________

(1)- شرائع الإسلام: 1/ 165.

(2)- إرشاد الأذهان: 1/ 310.

(3)- التلخيص: من سلسلة الينابيع 30/ 327.

(4)- الدروس الشرعية: 1/ 311.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 146

ففي الصحيح عن أبي بصير قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: من مات و هو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال اللّٰه عز و جل: «وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ أَعْميٰ».

الحديث «1».

و بما دل علي تفسير الاستطاعة باليسار، مثل ما رواه في المحاسن بإسناده، عن عبد الرحيم القصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سأله حفص الأعور و أنا أسمع عن قول اللّٰه عز و جل: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» قال: ذلك القوة في المال و اليسار، قال: فإن كانوا موسرين فهم ممن يستطيع؟ قال: نعم».

الحديث «2».

و فيه (أي في تقديم الدين علي الحج مطلقاً لعدم صدق الموسر وذي اليسر و اليسار علي المدين): منع كون كل من كان مديوناً غير موسر، فمن كان متمكناً من أداء دينه المؤجل عند حلول الأجل بالسهولة موسر عرفاً.

نعم، في حصول الاستطاعة للمديون الذي أنظره الدائن مع تمكنه من الأداء بعد ذلك إشكال، من جهة أنه و إن صار متمكناً عرفاً من الحج بإنظار الدائن إلّا أنّه لا يحصل بذلك اليسار و الاستطاعة الشرعية مع كون الدين عليه بالفعل، فكأنه حج بمال الناس الذي كان مأذوناً بالتصرف فيه بالضمان.

و من جهة أنه لا فرق عند العرف بين الدين المؤجل و الحالّ الذي أنظره الدائن إذا كان متمكناً من الأداء بعد ذلك فهو مستطيع للحج.

و

مع الشك في حصول الاستطاعة فالشك يكون في التكليف، و مقتضي الأصل البراءة منه.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة باب 6 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 7.

(2)- وسائل الشيعة باب 9 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 3.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 147

ثمّ إنه يستفاد من حاشية سيد الأعاظم السيد البروجردي قدس سره علي العروة في وجه تقديم الدين علي الحج: أن أداء الدين مع قطع النظر عن وجوبه مما يحتاج إليه الناس في معيشتهم، فمن لا يقدر مع الحج علي أدائه سواء كان الدين مؤجلًا أو معجلًا غير مستطيع للحج و إن لم يصرف ما عنده في أداء دينه، كمن كان محتاجاً إلي نفقة عياله و لم ينفق ما عنده فيها، و أما إن كان قادراً علي أدائه مع الحج فهو مستطيع، سواء كان الدين معجلًا أو مؤجلًا، فعلي هذا في الدين المؤجل إذا كان عند الأجل متمكناً من الأداء يكون بما عنده فعلًا مستطيعاً للحج، و لعله كان الأمر كذلك إذا أنظر الدائن و هو متمكن من أدائه بعد الحج لعدم الاحتياج إليه.

و لكن ينبغي أن يعدِّ ذلك القول بالتفصيل في تقديم الدين بين ما إذا كان أداؤه محتاجاً إليه فلا يجب الحج معه، و بين ما إذا لم يكن محتاجاً إليه بالفعل و قادراً عليه بعد ذلك فهذا قول مستقل فليكن القول الثاني، كما أن القول بكون المديون موسراً إذا كان متمكناً من أداء دينه عند حلول الأجل مع الإشكال في كونه كذلك إن أنظره الدائن قول آخر نجعله القول أو الوجه الثالث في المسألة.

و يقرب من هذين القولين قول سيد المدارك، و هو أيضاً تقديم الدين علي الحج إذا كان مؤجلًا

أو غير مطالب به و لكن لا يجد الوفاء به عند الأجل أو بعد الحج، و أما إذا كان مؤجلًا أو معجلًا غير مطالب به غير أنه يجد الوفاء به كذلك فهو مستطيع يجب عليه الحج، و هذه عبارته في شرح كلام المحقق: (و لو كان له مال و عليه دين بقدره لم يجب إلخ … ) قال: (إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في الدين بين أن يكون حالًّا أو مؤجلًا، و بهذا التعميم صرح في المنتهي، و استدل عليه بعدم تحقق الاستطاعة مع الحلول و توجه الضرر مع التأجيل فيسقط الحج)، ثمّ قال: (و لمانع أن يمنع توجه الضرر في بعض الموارد، كما إذا كان الدين مؤجلًا أو حالًّا لكنه غير مطالب به و كان للمديون وجه للوفاء بعد الحج، و متي انتفي الضرر و حصل

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 148

التمكن من الحج تحققت الاستطاعة المقتضية للوجوب. و قد روي الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل عليه دين أ عليه أن يحج؟

قال: «نعم، إنّ حجة الإسلام واجبة علي من أطاق المشي من المسلمين). «1» و كأنه حمل الصحيح علي المورد الذي ذكره في كلامه.

و استشكل عليه: بأنّه إذاً ينبغي له أن يقول بعدم وجوب الحج و عدم صدق الاستطاعة إذا كان الدين حالًّا و لم يأذن الدائن بالتأخير و إن لم يطالب المديون؛ لأن العبرة بوجوب أداء الدين و هو حاصل عند حلول الأجل «2»، و هذا ليس كثير فرقٍ في ذلك، و لعله يلتزم به. و لا يخفي أنه لا يرد هذا الإشكال علي الوجهين السابقين.

و كيف كان فهذه الوجوه كلها تفصيل في

المسألة و لا فرق بينها، غير أنّ علي الوجه الأول الذي ذكرناه استشكالًا علي القول بوجوب تقديم الدين مطلقاً قلنا:

إن في حصول الاستطاعة له للمدين بإنظار الدائن إشكال.

تذنيبان:
الأول: لا يخفي أن بعض الأعاظم [رحمه اللّٰه] استظهر من كلام صاحب المدارك [رحمه اللّٰه] اختيار عدم وجوب أداء الدين،

و وجوب الحج إذا كان مؤجلًا مطلقاً، سواء كان للمديون وجه للوفاء عند الأجل أم لا، و وجوب الحج أيضاً إذا كان الدين حالًّا لكنه غير مطالب به و إن لم يكن للمديون وجه للوفاء بعد الحج، فقال: (و منهم من ذهب كالسيد في المدارك إلي أن المانع من وجوب الحج هو الدين

______________________________

(1)- مدارك الأحكام: 7/ 43.

(2)- معتمد العروة: 1/ 116.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 149

الحالّ المطالب به، و أما غير الحالّ أو غير المطالَب به فغير مانع لتحقق الاستطاعة المقتضية للوجوب). ثمّ أورد عليه: بأنه لو تم هذا التفصيل فلا بد من التعميم للحال الذي لم يأذن له الدائن بالتأخير و إن لم يكن مطالباً. «1»

و لكن الدقّة في عبارة السيد صاحب المدارك تقتضي ما استظهرناه منها؛ و ذلك لأن المنتهيٰ إنما يستدل علي مانعية الدين عن وجوب الحج مع الحلول بعدم الاستطاعة، و استدل عليه بتوجه الضرر مع التأجيل، كأنه رأي أن مع التأجيل يمكن عدم تمكنه من الأداء عند حلول الأجل، و لذا أورد عليه المدارك بنفي الضرر في المؤجل إذا كان للمديون وجه للوفاء بعد الحج.

و علي هذا فما هو مختار المدارك أن المانع من وجوب الحج هو الدين الحالّ المطالب به و المؤجل الذي لا يكون للمديون وجه للوفاء به و غير المطالب به كذلك، و أما القول باختصاص مانعيته بالدين الحالّ المطالب به دون الدين المؤجل الذي لا وجه له للوفاء و غير المطالب به كذلك فلا يستند إليه، و لعلّه

لا يوجد قائل به.

الثاني: اعلم أن صاحب الحدائق أورد علي المدارك

حيث حمل كلام العلامة في المنتهي: (و لو كان له مال و عليه دين بقدره لم يجب عليه الحج، سواء كان الدين حالًّا أو مؤجلًا؛ لأنه غير مستطيع مع الحلول، و الضرر متوجّه عليه مع التأجيل فسقط فرض الحج) علي الإطلاق، و أن كون الدين مانعاً من وجوب الحج، أعم من كون المديون بالدين الحالّ أو المؤجل واجداً وجهاً للوفاء و عدمه-: بأنّ مراد العلامة قدس سره ليس هذا الإطلاق، بل فرضه كون الدين مانعاً من وجوب الحج، سواء كان مؤجلًا أو حالًّا إذا لم يتمكن المديون من الوفاء بعد الحج لا مطلقاً و إن تمكن منه، حتي يقال: إن مختاره كون الدين مانعاً و لو كان في صورة الحلول و عدم

______________________________

(1)- المصدر نفسه.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 150

المطالبة أو التأجيل و له وجه للوفاء بعد الحج. «1»

فعلي هذا الاستظهار يوافق مختار العلامة مختار غيره من المفصِّلين في المسألة، و لا أستبعد أن يكون ذلك مراده في غير المنتهي من كتبه كالإرشاد و التلخيص و غيرهما، و مراد غيره كالمحقق في الشرائع و الشهيد في الدروس رحمة اللّٰه عليهم.

فلا إطلاق قوي لكلامهم يشمل صورة منع الدين من الحج إذا كان المديون متمكناً بحسب حاله من الوفاء، و عليه يسقط هذا القول و يبقي مختار المفصلين.

و يؤيد هذا التفصيل: ما رواه الكليني رحمه الله بإسناده، عن علي بن الحكم، عن عبد الملك بن عتبة قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل عليه دين يستقرض و يحج؟ قال: «إن كان له وجه في ماله فلا بأس». «2»

الوجه الثالث: تقديم الحج علي الدين مطلقاً.

لا يخفي عليك أنَّا لم نعثر علي قائلٍ لهذا القول

إلّا ما حكي عن المستند «3» من حكايته عن المحقق الأردبيلي، و أنه الظاهر من مذهب القدماء حيث لم يتعرضوا لاشتراط الخلوّ عن الدين.

و لكن الظاهر من كلامه أن ما حكاه من القدماء و المحقق الأردبيلي هو خصوص ما إذا كان الدين مؤجلًا بأجلٍ يسع الحج، و لا أقلّ من أن كلامه غير ظاهرٍ في تقديم الحج بقولٍ مطلق.

و أما حكاية ذلك عن المحقق الأردبيلي و إن لم نتحققها من النراقي «4» يردها كلام المحقق المذكور في مجمع الفائدة، فإنه صريح في عدم وجوب الحج، بل عدم

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة: 14/ 90.

(2)- الكافي: 4/ 279.

(3)- راجع مستند الشيعة: 2/ 159.

(4)- مجمع الفائدة و البرهان: 6/ 73.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 151

جوازه مع الطلب.

و قال: (أما إذا أذن الديّان خصوصاً مع القدرة علي تحصيله فيمكن جواز الحج- إلي أن قال: - أو يمكن الوجوب أيضاً لتحقق الاستطاعة المستلزمة له و الدين غير مانع؛ لأنه يجوز صرفه في غيره فيمكن فيه بالطريق الأولي خصوصاً مع كثرة الأجل).

و أما استظهار ذلك من مذهب القدماء حيث لم يتعرضوا لاشتراط الخلوّ عن الدين ففيه: أنه يمكن أن يكون عدم تعرضهم لوضوح المسألة عندهم، فإنّ كون وجوب الحج مشروطاً بالاستطاعة و عدم حصولها في بعض صور المسألة، مثل ما إذا كان حالًّا مطالباً به و حصولها في البعض الآخر مثل المؤجل الذي يجد الوفاء كان واضحاً عندهم و لا حاجة إلي تعرض موارده و جزئياته، سيما في الكتب التي كانوا ملتزمين فيها بتعرض ما في الروايات بلفظها.

و كيف كان فيمكن أن يقال بدلالة بعض الروايات علي هذا القول أو الوجه:

منها: صحيحة معاوية بن وهب، عن غير واحد، قال: «قلت لأبي عبد اللّه

عليه السلام:

يكون عليِّ الدين فتقع في يدي الدراهم، فإن وزعتها بينهم لم يبق شي ء، فأحج بها، أو اوزعها بين الغرّام؟ فقال عليه السلام: تحج بها، و ادع اللّٰه أن يقضي عنك دينك» «1».

و مثله أو عينه ما رواه الصدوق، عن ابن محبوب، عن أبان، عن الحسن بن زياد العطار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: يكون عليَّ الدين فيقع في يدي الدراهم فإن وزعتها بينهم لم يقع شيئاً، أ فأحج أو اوزعها بين الغرماء؟ فقال: حج بها و ادع اللّٰه أن يقضي عنك دينك إن شاء اللّٰه تعالي». «2»

______________________________

(1)- وسائل الشيعة ب 50 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 10.

(2)- من لا يحضره الفقيه: 2/ 268 ب 156 ح 6.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 152

و في الاستدلال بهما أولًا: أن الدين إذا كان حالًّا مطالباً به مانعاً عن حصول الاستطاعة بالإجماع و لم يقل أحد بتقديم الحج عليه فالسؤال إما يكون من الحج الاستحبابي و فرض رضا الديّان، و إما من الدين المؤجل أو الحالّ المأذون للمديون في تأخيره.

و ثانياً: أن عبارة السؤال محتمل لمعنيين: يمكن أن يكون سؤال السائل عن الحكم الكلي و كلامه جارٍ علي سبيل المثال حتي يكون مثل قوله: «الرجل يكون عليه الدين» فترك استفصال الإمام عليه السلام عن أفراد الحج الذي يشمل إطلاق كلام السائل و بيان الحكم يدل علي إطلاق الحكم.

و يحتمل أن يكون سؤال السائل عن حكم واقعته الشخصية و أجابه الإمام عليه السلام فيها بما يعرف من حالها، فلا يمكن الاستدلال بالحديث إلا بما هو القدر المتيقن منه.

و منها: ما رواه الشيخ بإسناده، عن الحسين بن السعيد «1»، عن القاسم بن محمد «2»، عن أبان

«3»، عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه «4» قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: الحج واجب علي الرجل و إن كان عليه دين» «5».

و فيه أيضاً: أنّ الأخذ بإطلاقها و إن كان الدين حالًّا مطالباً به ينافي اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة التي لا تصدق إذا كان المال لا يفي إلا بأحدهما و كان الدين حالًّا مطالباً به، فهو محمول علي ما إذا كان الدين مؤجلًا أو غير مطالب به

______________________________

(1)- من الطبقة السابعة ثقة.

(2)- من الطبقة السادسة ضعيف.

(3)- من الطبقة الخامسة، أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصح عنه.

(4)- من الطبقة الخامسة، ثقة.

(5)- وسائل الشيعة ب 50 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 4.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 153

و كان المدين بحسب حاله قادراً علي أدائه بعد ذلك. و اللّٰه العالم.

الوجه الخامس: ما اختاره صاحب المستند رحمه الله.

قال: (المديون الذي له مال يسع أحد الأمرين من الحج و الدين داخل في الخطابين: خطاب الحج و خطاب أداء الدين، و إذ لا مرجّح في البين فيكون مخيراً بين الأمرين. فالوجه أن يقال: إن مع التعجيل أو عدم سعة الأجل هو مخير بين الحج و وفاء الدين، سواء علمت المطالبة أم لا. نعم، لو علم برضا الدائن بالتأخير فلا يكون مأموراً بالوفاء، فيبقي خطاب الحج خالياً عن المعارض فيكون واجباً، و أما إذا كان مؤجلًا بأجل يسع الحج و العود سواء ظن له طريقاً للوفاء بعد العود أم لا فلم أعثر للقدماء علي قول في المسألة- إلي أن قال: - و علي هذا فإن كان الدين معجلًا يجب قضاؤه و لا يجب الحج، و ليس من المتنازع فيه، و إن كان مؤجلًا فلوجود ما يقضي به

الدين عادةً بعد حلول الأجل يجب عليه إجماعاً و لا نزاع فيه أيضاً). «1»

أقول: صدر كلامه يدل علي التخيير بين أداء الدين و الحج؛ للتزاحم إذا كان الدين معجلًا أو مؤجلًا مع عدم سعة الأجل و وجوب الحج إذا كان مؤجلًا، و ربما يستفاد من ذيل كلامه تقديم الدين علي الحج للمزاحمة و أهمية الدين إذا كان معجلًا، بلا تنازعٍ فيه، و وجوب الحج إذا كان الدين مؤجلًا.

و استشكل عليه بعض الأعاظم: بأنّ الأمر كذلك، أي يقع التزاحم إذا كان المديون غير واثق بأداء الدين، بعد أعمال الحج، فإنه يجب عليه حفظ القدرة لأداء الدين، فليس له تفويت المال بحيث لا يتمكن من الأداء. «2»

و فيه: أنّ هذا ليس بإشكال كثير، فإنه يقول به أو يمنع وجوب حفظ القدرة

______________________________

(1)- مستند الشيعة: 2/ 159.

(2)- معتمد العروة: 1/ 117.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 154

فعلًا لأداء الدين المؤجل.

فلا فرق معتدّ به بين قول هذا المستشكل و ما اختاره الفاضل النراقي، و إن كان ظاهر كلامه أنه وجه جديد، و قال رداً علي الماتن: (إن الاستطاعة فسرت في النصوص بالتمكن من الزاد و الراحلة و تخلية السرب، و هي قدرة خاصة و المفروض في المقام تحققها حتي في صورة الدين الحالّ المطالب به، فإن الدين بنفسه لا يكون مانعاً من تحقق الاستطاعة المفسرة في الروايات، بل لأن الإطلاقات الدالة علي وجوب الحج تشمل المقام، فيقع التزاحم بين وجوب الحج و وجوب أداء الدين، لأن المفروض أنه لا يمكن الجمع بين امتثال الحكمين فلا بد من التخيير أو الترجيح، و لكن المتعين سقوط الحج و تقديم أداء الدين، و لا مجال للتخيير فيما إذا كان الدين حالًّا مطالباً به أو

مؤجلًا مع عدم الوثوق بالأداء بعد الحج؛ و ذلك للجزم بأهمية الدين فإن الخروج عن عهدة حقوق الناس أهم من حق اللّٰه تعالي، بل لو كان محتمل الأهمية تتقدم). «1»

و في كل هذا الوجه ما أشرنا إليه كراراً بأن المديون بالدين الحالّ الذي يجب أداؤه مضافاً إلي وجوبه الشرعي يعد من ضروريات معاشه ليس مستطيعاً، و من كان حاله هكذا لا يعد مستطيعاً و واجد السبيل إلي الحج.

و الأخبار المفسرة للآية لا تضيق مفادها بحيث لو كنّا و الآية كنّا نقول بعدم حصول الاستطاعة للمديون، فلو اعتذر هو بأنّي لا أستطيع الحج يقبل منه العرف و لا يقول له: أنت تستطيع، و بحسب الروايات نقول: إنه يكفيه مجرد المال و مجرد الزاد و الراحلة.

و لا يخفي أن علي القول بترجيح الدين عند التزاحم كما قال الفاضل النراقي:

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 117.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 155

إنه غير متنازع فيه لا يتفاوت الحكمين بحسب المبنيين إلا في صورة ترك المديون أداء الدين عصياناً و إتيانه بالحج، فإنه علي القول بالتزاحم و الترتب يقال بوقوع حجه حجة الإسلام دون القول الآخر، فإنه ليس مستطيعاً للحج فلا يقع حجه حجة الإسلام. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 39] في تقديم الدين أو الحج المستقر إذا كانا عليه و لا يفي المال إلا بأحدهما

مسألة 39- إذا وجد مالًا لا يفي إلا بأداء دينه أو حجة الإسلام بعد ما استقرت عليه سابقاً و كان الدين حالًّا مطالباً به فالحكم وجوب أداء الدين و الحج متسكِّعاً، و إن لم يتمكن من الحج إلا بصرف المال الموجود فهل الحكم التخيير لوقوع التزاحم بين وجوب الحج و وجوب أداء الدين و حيث لا يمكن له الجمع بين امتثال الحكمين، و لا مرجح في البين فلا بد من التخيير، أو الحكم

هو تقديم أداء الدين لأهميته أو لكونه محتمل الأهمية دون الحج، أو الحكم عكس ذلك فيقدم الحج كذلك؟ وجوه:

أمّا التخيير فالحكم به يدور مدار عدم ترجيح أحدهما علي الآخر.

و أما الحكم بتقديم الدين فربما يتمسك له بما رواه ثقة الإسلام في الكافي:

عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن هارون بن الجهم «1»، عن المفضل بن صالح «2»، عن سعد بن طريف «3»، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

______________________________

(1)- كأنه من الطبقة الخامسة، كوفي ثقة، له كتاب.

(2)- الأسدي من الطبقة الخامسة، ضعيف.

(3)- هو من كبار الطبقة الرابعة، قال النجاشي: (هو صحيح الحديث).

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 156

«الظلم ثلاثة: ظلم يغفره اللّٰه، و ظلم لا يغفره اللّٰه، و ظلم لا يدعه اللّٰه. فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك، و أما الظلم الذي يغفره فظلم الرجل نفسه فيما بينه و بين اللّٰه، و أما الظلم الذي لا يدعه فالمداينة بين العباد» «1» و في نهج البلاغة نحوه «2».

فإنه يستفاد من هذا الحديث أهمية حق الناس فإنه من الظلم الذي لا يدعه اللّٰه، بخلاف حق اللّٰه فإنه مغفور له.

و فيه: أنه لا يستفاد من الحديث كون حق الناس بالذات أهم من حق اللّٰه تعالي بحيث لو زاحمه حق اللّٰه كان الواجب تقديمه علي حق اللّٰه، فترك أداء الدين ليس أشد من الزنا، و إن كان الأول من الذنوب التي لا يدعها اللّٰه و الثاني من الذنوب التي يغفرها اللّٰه.

و يمكن أن يوجه أهمية أداء الدين: بأن في أدائه حفظ حيثيتين: حيثية حق اللّٰه تعالي، و حيثية حق الناس، و أما الحج فهو ذو حيثية واحدة و هي حق اللّٰه، فيجب تقديم أداء الدين

حفظاً للحيثيتين و المصلحتين.

و لكنّ فيه: أن هذا أشبه بالاستحسان، فإن المراد من دين اللّٰه هو الامور العبادية المأمور بها التي تمام قوامها ارتباط العبد باللّٰه تعالي و أداء العبودية إليه مثل الصلاة و الحج و الصوم، و من حق الناس ما هو مرتبط بالناس مما أمر اللّٰه تعالي برعايته و أدائه، و إثبات تقدم أحدهما علي الآخر يحتاج إلي دليل قوي شرعي.

و أما دعوي الجزم بأهمية الدين كما ادعاه بعض الأعاظم فإن الخروج عن عهدة حقوق الناس أهم من حق اللّٰه تعالي «3»، فلا يخفي ما فيها.

و أما الوجه في تقديم الحج علي الدين فربما يتمسك له بما في التذكرة من

______________________________

(1)- الكافي: 2/ 330.

(2)- نهج البلاغة: الخطبة 176.

(3)- معتمد العروة: 1/ 118.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 157

طرق العامة: «إن امرأةً من خثعم قالت: يا رسول اللّٰه، إن فريضة اللّٰه في الحج علي عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستمسك علي الراحلة فهل تري أن أحج عنه؟ فقال: نعم، فقالت: أ ينفعه ذلك؟ فقال: أ فرأيت لو كان علي أبيك دين فقضيتيه أ كان ينفعه؟ فقالت: نعم، فقال: فدين اللّٰه أحق أن يقضي» «1».

وجه الاستدلال به: أن أحقية دين اللّٰه بالقضاء لا تكون إلا لكونه أهم من دين الناس، فإذا دار الأمر بينهما يرجح ما هو الأهم منهما و هو دين اللّٰه تعالي (الحج).

و في هذا الاستدلال أن الرواية و إن رواها في دعائم الإسلام عن مولانا الصادق عليه السلام إلا أنها ضعيفة السند لإرسالها، قال: «روينا عن جعفر بن محمد عليهما السلام أن رجلًا أتاه فقال: إن أبي شيخ كبير لم يحج فأُجهز رجلًا يحج عنه؟ فقال: نعم، إنّ امرأةً من خثعم

سألت رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله أن تحج عن أبيها لأنه شيخ كبير؟ فقال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله: نعم، فافعلي إنه لو كان علي أبيك دين تقضينه عنه أجزأه ذلك». «2» مضافاً إلي أنه ليس فيها قوله: فدين اللّٰه أحق أن يقضي.

و روي نحوه في المستدرك عن تفسير أبي الفتوح قدس سره و في آخره «فدين اللّٰه أحق» «3».

و أما ما رواه- العلامة رضوان اللّٰه عليه- عن العامة فلم أجد فيما روي قصة

______________________________

(1)- التذكرة: كتاب الحج البحث الرابع في المئونة م 3. و قال الشيخ في الخلاف في كتاب الصوم المسألة 65: (و روي سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جاء رجل إلي النبي صلي الله عليه و آله و سلم فقال: يا رسول اللّٰه إن امي ماتت و عليها صوم شهر أ فأقضيه عنها، قال: لو كان علي امك دين أ كنت قاضيه عنها؟ قال: نعم، قال: فدين اللّٰه أحق أن يقضي، و هذا الحديث في الصحيح و هو نص».

(2)- مستدرك الوسائل: 8/ 26 ب 18 ح 1.

(3)- المصدر السابق: ح 3.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 158

الامرأة الخثعمية مما عندنا من جوامعهم و صحاحهم قوله: «فدين اللّٰه أحق أن يقضي».

فهذا أحمد روي الحديث في مسنده تارةً في ج 1 ص 212 بسنده عن الفضل بن عباس قال: «أتت امرأة من خثعم فقالت: يا رسول اللّٰه، إن أبي أدركته فريضة اللّٰه عز و جل في الحج و هو شيخ كبير لا يستطيع أن يثبت علي دابته قال: فحجي عن أبيك».

و تارةً بلفظ آخر في ص 346 و في ص 359 مع زيادة في أوله، و في آخره:

(و ذلك في

حجة الوداع)، و روي في ص 212: أنّ رجلًا سأل النبي صلي الله عليه و آله، و ليس فيه «فدين اللّٰه أحق أن يقضي». و هذا مسلم رواه في صحيحه مثل ما رواه أحمد في المسند ص 359، و بسند آخر عن سليمان بن يسار عن ابن عباس عن الفضل (ص 101 ج 4) ليس فيها هذه الكلمة.

و كذا البخاري و أبو داود و النسائي و مالك و ابن الأثير في اسد الغابة و غيرهم و ليس فيها تلك الكلمة.

نعم، توجد هذه الجملة «فدين اللّٰه أحق بالقضاء» «فدين اللّٰه أحق أن يقضي» فيمن مات و عليه صوم شهر في صحيح مسلم و البخاري و غيرهما.

و علي ذلك فلم نعلم أن العلامة قدس سره عن أي مصدر من العامة أخذ هذا الحديث بلفظٍ رواه في التذكرة.

نعم، العبارة جاءت في حديث ابن عباس الذي رواه البخاري و النسائي في المرأة من جهينة التي «سألت النبي صلي الله عليه و آله أن امها نذرت أن تحج فلم تحج حتي ماتت؟

اقضوا اللّٰه فاللّٰه أحق بالوفاء».

و كيف كان فهذه الأحاديث كلها إما من المراسيل، أو هي ضعيفة الأسانيد لا يعتمد عليها، مضافاً إلي أنه يمكن الخدشة في دلالة قوله: «دين اللّٰه أحق أن يقضي»

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 159

علي أهمية أداء الحج، فإن ما يستفاد من هذه الكلمة أن قضاء دين اللّٰه لمن يقضي دين الناس أولي بالمراعاة، فكأنها تقول: يا من تهتم بدين الناس لا تترك الاهتمام بدين اللّٰه، فإذا أنت تعظم حق الناس عليك فاللّٰه أحق بتعظيم حقه، و أين هذا من أهمية حق اللّٰه عند الشارع علي حق الناس إذا دار الأمر بينهما؟ و بعبارة اخري، المعني:

إذا أنت تؤدي دين الناس للناس فالله أحق بالأداء و القضاء له. و أما إذا دار الأمر بين امتثال حكم اللّٰه بوجوب أداء الدين أو أداء الحج فإثبات تقديم أحدهما بأهميته علي الآخر محتاج إلي دليل غير هذا.

و يدل علي تقديم الحج علي الدين: ما رواه الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن محبوب، عن ابن رئاب «1»، عن بريد العجلي «2» قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل خرج حاجّاً و معه جمل له و نفقة و زاد فمات في الطريق؟ قال: إن كان صرورة ثمّ مات في الحرم فقد أجزأ عنه حجة الإسلام، و إن كان مات و هو صرورة قبل أن يحرم جعل جمله و زاده و نفقته و ما معه في حجة الإسلام، فإن فضل من ذلك شي ء فهو للورثة إن لم يكن عليه دين».

و إطلاقه يشمل صرورة لم يستقر عليه الحج، و أنه يجب الاستنابة من جمله مطلقاً و إن كان عليه دين، كما يشمل من استقر عليه الحج، فيستفاد منه أنه يصرف ماله في الحج بعد موته قبل أداء دينه، و هذا يدل علي تقديم الحج علي الدين.

لا يقال: هذا هو حكم تعلق الحج بالتركة بعد الموت، و كلامنا في تقديم الحج علي الدين قبل الموت «3».

______________________________

(1)- علي بن رئاب من الخامسة، الكوفي، له أصل كبير، ثقة جليل القدر.

(2)- ابن معاوية العجلي وجه من وجوه أصحابنا ثقة فقيه له محل عند الأئمة عليهم السلام و هو ممن أجمعت العصابة علي تصديقهم و انقادوا لهم بالفقه، و هو من الرابعة.

(3)- راجع معتمد العروة: 1/ 119.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 160

فإنه يقال: لو لم يكن الحج أهم

من الدين لا يقدم عليه بعد الموت، و لا خصوصية في ذلك لبعد الموت. نعم، لو كان هنا دليل علي تقديم الدين قبل الموت لو لم نقل بتعارضهما عند العرف يرفع اليد عن ظهور صحيحة بريد في كون الحكم بصرف المال في الحج لتقديم الحج علي الدين، و نحمله علي التعبد و اختصاص الحكم بما بعد الموت، و لكن بعده لم يكن لنا دليل ظاهر علي تقديم الدين علي الحج قبل الموت، فلا نرفع اليد عن هذا الظهور و نقول بتقديم الحج علي الدين مطلقاً.

و يمكن أن يقال: إن كان الدين مقدماً علي الحج فليس ذلك لخصوصية الحكم المتعلق بأداء الدين، بل إنما يكون لخصوصية في الدين و إن لم يجعل المال ممنوعاً من التصرف فيه قبل أداء الدين مثل التركة، فيجب أن يكون الدين مقدماً علي الحج بعد الموت أيضاً، و لكن يستكشف من حكم الشارع بتقديم الحج علي الدين تقديمه عليه قبل الموت، فافهم و تأمل.

[مسألة 40] لو حصل الدين قبل حصول ما يستطيع به أو بعده

مسألة 40- لا فرق في كون الدين مانعاً من وجوب الحج بين ما إذا حصل المال بقدر الاستطاعة بعد حصول الدين، أو قبل حصول الدين بأن حصل له مال بقدر الاستطاعة ثمّ صار مديوناً بأحد الأسباب القهرية كإتلافه مال الصغير من غير عمد.

و ذلك لعدم تأثير سبق الدين علي حصول المال في مانعيته عن الحج، فلو حصل الدين بعد حصول المال يستكشف بها عدم الاستطاعة، و لا فرق في ذلك بين القول بعدم صدق الاستطاعة مع الدين و القول بالتزاحم، فإنّ علي القول به أيضاً يقع التزاحم بعد حصول أي منهما مع بقاء الآخر الذي حصل قبله.

و إذا حصل الدين بالإتلاف العمدي يستقر الحج عليه؛ لأنه تفويت

عمدي

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 161

للاستطاعة كما إذا أتلف المال الذي عنده.

نعم، من جهة التكليف العقلي يقع التزاحم بين أداء الدين و الحج علي كلا المبنيين مثل المسألة السابقة، بخلاف ما إذا كان ذلك بالإتلاف الخطئيّ فإنه لا يوجب استقرار الحج.

[مسألة 41] لو لم يف المال بالجمع بين أداء الخمس أو الزكاة و أداء الحج

مسألة 41- إذا كان بذمته زكاة أو خمس و كان ما عنده من المال لا يفي بأن يجمع بين أدائهما و أداء الحج فالظاهر عدم الفرق بينهما و بين المسائل السابقة بجميع فروعها.

لأنه لا فرق في وجوب أداء الدين بين كون من له الدين فرداً خارجياً أو جهة من الجهات (شخصاً حقيقياً أو شخصيةً حقوقيةً)، كما إذا كان في ذمته اجرة الموقوفة، فمن كان حاله ذلك لا يصدق عليه عنوان المستطيع، و علي قول من يراه مستطيعاً يقع التزاحم بين الحكمين علي ما مر.

نعم، لو كان عين المال الذي فيه الخمس أو الزكاة عنده لا يجب عليه الحج؛ لعدم حصول الاستطاعة بما لأهل الخمس أو أرباب الزكاة لاشتراط الاستطاعة بأن يكون له المال، و ما لأهل الخمس و الزكاة ليس له، كما إذا كان عنده أموال غيرهم من الناس.

و إذا كان الحج مستقراً عليه و كان عنده عين المال الذي فيه الخمس أو الزكاة لا يجوز صرفها في الحج ايضاً قبل أداء الخمس و الزكاة.

و التعبير بتقديم الزكاة أو الخمس علي الحج في هذا الفرض و سابقه يكون بالمسامحة، بل التعبير بتقديم الدين علي الحج بناءً علي كون الدين مانعاً من حصول الاستطاعة أيضاً من المسامحة في التعبير، و إنما يكون هذا التعبير علي الحقيقة بناءً

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 162

علي حصول الاستطاعة بالمال و عدم كون الدين مانعاً و في صورة استقرار الحج

سابقاً كما مر تفصيله.

[مسألة 42] فيما اذا لم يكن الدين مانعاً

مسألة 42- قد ظهر مما مر أن الدين إذا كان مؤجلًا و كان المديون واثقاً بقدرته علي أدائه عند حلول الأجل لا يمنع من حصول الاستطاعة.

بل و إن كان غير واثق بذلك، إلا أن يكون غير قادرٍ علي الأداء عند حلول الأجل عرفاً، فهل يمنع الدين من الاستطاعة إذا كان الدين مؤجلًا بأجلٍ طويلٍ كخمسين سنة؟

الظاهر عدم كونه مانعاً منها، و كذا إذا كان الدين من الديون التي لا يطالبه الدائن بها بحسب العرف و العادة، أو يكون المتعارف فيه ابراء المديون، فإنّ في كلّ هذه الصور لا يكون الدين مانعاً من حصول الاستطاعة، كما لا يكون مانعاً من صرف المال في غير الحج، و إن لم يكن من ضروريات معاشه فلا يأخذ عليه أحد بصرف ماله في غير الدين.

[مسألة 43] الشكّ في كفاية المال للحجّ

مسألة 43- إذا شك في أن ما عنده من المال المعلوم مقداره يكفي للحج أم لا، أم شك في أن ما عنده من المال بلغ مبلغاً معيناً يكفي للحج أم لا فهل يجب عليه الفحص؟

مقتضي ما بنوا عليه من عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية عدم وجوب الفحص و إجراء الأصل.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 163

و ربما يستشكل في ذلك: تارةً بأنّ عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية ما ثبت منهم البناء عليه هو ما إذا لم يتوقف امتثال التكليف غالباً علي الفحص، كما إذا كان موضوع التكليف معيناً بالعدد مما لا يحصل العلم به إلا بالفحص عنه، و الاستطاعة في الحج و النصاب في الزكاة و الخمس و الربح فيه من هذه المقولة، و في مثلها ترك الفحص موجب للوقوع في مخالفة التكاليف الكثيرة، و تشريع الحكم بهذه الخصوصية التي لا تعرف غالباً إلا

بالحساب مع عدم إيجاب الحساب بعيد جداً و يكون نقضاً لغرض الشارع. فمن الممكن دعوي الملازمة بين إيجاب الزكاة بالنصاب أو الحج عند ما بلغ المال قدر ما يكفيه لأداء الحج و إيجاب الفحص.

و فيه أولًا: النقض بموارد الشك في الطهارة و النجاسة، فإن العمل بإطلاق دليل الطهارة لا ينفكّ عن الوقوع في خلاف الواقع.

اللهمّ إلّا أن يقال في باب الطهارة و النجاسة: لا نسلِّم كون إجراء الاصول مثل أصالة الطهارة سبباً للعلم بالمخالفة؛ لإمكان أن يكون ما يجب الاجتناب عنه و المحكوم بالنجاسة- مثلًا- هو الشي ء المعلوم بوليته، أو كونه ميتة، و معه لا يحصل العلم بالمخالفة أصلًا.

و ثانياً: بالمنع عن العلم بوقوع الشخص بعدم الفحص في المخالفات الكثيرة.

نعم، يعلم إجمالًا بوقوع بعض الناس في المخالفة إلا أنه لا أثر عملياً له، و مثل هذا العلم حاصل بالنسبة إلي جميع الاصول بل و الأمارات.

و اخري بأنه يمكن أن يقال: إنّ الفحص بهذا المقدار لا يعد من الفحص المتعارف، و هو مثل المراجعة إلي الدفتر، أو رفع الرأس و النظر إلي الافق، أو فتح العين و النظر إلي الماء المشكوك كونه خمراً.

و اجيب عنه: بأن الحكم بالبراءة لا يدور مدار الفحص، بل يدور مدار

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 164

صدق العالم و الجاهل و لا واسطة بينهما، فإن كان الشخص عالماً لا يجري في حقه الأصل، و إن كان جاهلًا يجري في حقه، و في المقام هو جاهل بوصول ماله إلي حد الاستطاعة فتشمله البراءة، و لا يجب عليه الفحص حتي بالرجوع إلي الدفتر، و النظر إلي الفجر؛ لإطلاق أدلة الاصول «1».

و فيه: أن الكلام في صدق الجاهل علي من إن رفع رأسه أو فتح عينيه

يري الفجر و ما في الظرف هو الكلام في صدق الفحص و عدمه، فلا يصدق عنوان الجاهل علي من كان حاله ذلك، كما لا يصدق الفحص علي نظره إلي ما في الظرف.

و بالجملة: الفرق بين الفحص بعدم صدقه علي مثل فتح العين و الجاهل بصدقه عليه مشكل جداً.

نعم، في الفحص الذي لا يحصل إلا بمئونةٍ زائدةٍ و لو كانت يسيرةً لا يجب الفحص.

ثمّ إنه ربما يستدل بخبر يزيد الصائغ الذي رواه الكليني: عن محمد بن يحيي «2»، عن محمد الحسين «3»، عن محمد بن عبد اللّه بن هلال «4»، عن العلاء بن رزين «5»، عن زيد الصائغ «6» قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إني كنت في قرية من

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 126.

(2)- أبو جعفر العطار القمي، شيخ أصحابنا في زمانه، ثقة كثير الحديث من الطبقة الثامنة.

(3)- محمد بن الحسين ابن أبي الخطاب الهمداني الكوفي، جليل، من أصحابنا، عظيم القدر و كثير الرواية، ثقة عين، حسن التصانيف، مسكون إلي روايته، له تصانيف، من الطبقة السابعة.

(4)- كأنه من كبار الطبقة السادسة أو من السابعة.

(5)- روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام، تفقه علي محمد بن مسلم، ثقة جليل القدر، وجه وجيه، له كتب، من الطبقة الخامسة.

(6)- كأنه من الطبقة الخامسة و يزيد الصائغ نسب بالاشتهار بالكذب.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 165

قري خراسان يقال لها بخاري- إلي أن قال: - فإن كنت لا أعلم ما فيها (يعني الدراهم) من الفضة الخالصة إلا أني أعلم أن فيها ما تجب فيه الزكاة؟ قال:

فاسبكها حتي تخلص الفضة و يحترق الخبيث ثمّ تزكي ما خلص من الفضة لسنة واحدة». «1»

و هذا الخبر بظاهره يدل علي وجوب تصفية الدراهم المغشوشة مع

الشك في مقدارها، و مورده و إن كان صورة الشك في قدر الواجب مع العلم بوجود النصاب لكن يمكن استفادة الحكم منه في غير هذه الصورة، كما إذا كان وجود أصل النصاب مشكوكاً؛ لأنه لا فرق بين الشك في وجود الزائد علي النصاب و في وجود أصل النصاب في وجوب التصفية لتعيين ما عليه، كما أنه يمكن دعوي عدم الفرق بين الزكاة و الخمس في الحج.

و ردّ ذلك أولًا: بضعف الخبر بزيد أو يزيد الصائغ و محمد بن عبد اللّه بن هلال «2».

و فيه: أن الخبر ضعفه منجبر بالعمل، مضافاً إلي أن من رجاله محمد بن الحسين ابن أبي الخطاب الذي وصف بأنه حسن التصانيف مسكون إلي روايته، و من كان شأنه هكذا لا يرد حديثه لضعف بعض مشايخه.

و ثانياً: بعدم جواز التعدي من مورده و هو الزكاة إلي الخمس فضلًا عن الحج.

و في هذا الرد أيضا نقول: أما بالنسبة إلي سائر الموارد فإنّ الحكم في الزكاة علي طبق القاعدة و عدم الفحص يكون علي خلاف القاعدة بالإجماع، فبعد ما ثبت

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: باب 7 من أبواب زكاة النقدين ح 1.

(2)- راجع معتمد العروة: 1/ 128.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 166

بالرواية في الزكاة وجوب الفحص و خروجه عن الإجماع نقول بخروج مثله أيضاً عنه و نأخذ بالقدر المتيقن منه و هو ما كان في غير هذه الموارد التي تحتاج معرفة الموضوع فيها غالباً إلي الفحص، و العقلاء أيضاً استقرت سيرتهم علي ذلك.

[مسألة 44] الرجوع إلي الكفاية

مسألة 44- إذا كان عنده ما يكفيه للذهاب إلي الحج و الإياب منه و لم يكن له لنفقة بعد العود إلا مال غائب لو بقي إلي بعد العود يكفيه غير أنه لا يعلم

بقاءه أو عدم بقائه إلي ذلك الزمان.

الظاهر أنه ينبغي تحرير المسألة بصورتين:

إحداهما: أن يكون له مال غائب لو حضره بعد العود يكفيه مئونته بعده فهو راجع إليه بالكفاية.

و ثانيتهما: أن يكون له مال لو بقي إلي بعد عوده يكفيه لمئونته و الرجوع إلي الكفاية، و لكن لا يعلم بقاءه و يحتمل تلفه.

أما الصورة الاولي فحصول الاستطاعة يدور مدار الوثوق بحضوره بعد العود، و إلا فالشك في حضوره شك في الاستطاعة فلا يجب عليه الحج، هذا حتي و لو علم ببقائه لا يكفي في حصول الاستطاعة فضلًا عن أن نتمسك باستصحاب بقاء المال الغائب في الزمان المستقبل إذا شككنا في ذلك؛ لعدم إثبات حضوره باستصحاب بقائه حتي علي القول بالأصل المثبت، مضافاً إلي أن حضوره بعد العود خلاف الاستصحاب، إذاً فالمدار في صدق الاستطاعة هو الوثوق بحضوره عند العود.

و أما الصورة الثانية فالظاهر أن العرف في محاوراتهم و امورهم و معاملاتهم

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 167

بانون علي البقاء، فيقدمون علي أعمال خطيرة و معاملات جليلة بهذا البناء، إلا إذا كان هناك قرينة أو أمارة علي الخلاف.

و إذا منعنا عن ذلك و قلنا: إن بناءهم علي البقاء يدور مدار الظن و الوثوق بالبقاء، فهل إذا كان البقاء مشكوكاً فيه جائز الطرفين يجوز التمسك باستصحاب بقاء المال إلي بعد العود بناءً علي صحة إجراء الاستصحاب لإثبات البقاء في الزمان المستقبل، كما إذا شك في بقاء الدم إلي ثلاثة أيام بناءً علي اعتبار التوالي الثلاثة للحكم بكون الدم حيضاً.

و استشكل في جريان هذا الاستصحاب في المقام: بأنه لا بد من مجري الاستصحاب أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لذي حكم شرعي، و استصحاب بقاء المال إلي زمان العود لا

يثبت حكماً شرعياً، لأن بقاء المال ليس من الأحكام الشرعية و لا يثبت موضوعاً ذا حكم شرعي، فإن ما هو الموضوع للحكم الشرعي هو الرجوع إلي الكفاية، و استصحاب بقاء هذا المال إلي زمان العود لا يثبت الرجوع إلي الكفاية إلا علي القول بالأصل المثبت «1».

و فيه: أنّ الرجوع إلي الكفاية خارجيته و تحققه في الخارج يكون بوجود المال الذي يكفيه، و وجوده خارجاً موضوع لحكم الشارع بالوجوب، و باستصحاب بقاء هذا المال ثبت الحكم الشرعي المترتب عليه.

و بعبارةٍ اخري نقول: للرجوع بالكفاية مصاديق و صغريات كثيرة فإذا حصل أحد مصاديقه يتحقق الاستطاعة المشروط عليها وجوب الحج، فإذا شك بقاؤه يستصحب بقاؤه.

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 129.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 168

[مسألة 45] هل يجب حفظ الاستطاعة الحاصلة قبل أوان الحج؟

مسألة 45- إذا حصل له مال يكفيه للحج فإن حصل له في أشهر الحج عند التمكن من المسير أو خروج الرفقة فلا ريب في وجوب الحج به و عدم جواز التصرف فيه بما يخرجه من الاستطاعة، و أما إن حصل له في أشهر الحج قبل التمكن من المسير أو قبل خروج الرفقة أو حصل له قبل أشهر الحج مع التمكن من المسير أو الخروج مع الرفقة عند أوانه فهل يجب عليه أيضاً حفظ الاستطاعة مطلقاً، أو يجوز التصرف فيه بما يخرجه من الاستطاعة فيما إذا حصل قبل أشهر الحج دون ما إذا حصل في أشهر الحج قبل التمكن من المسير، أو يجوز مطلقاً؟ في المسألة وجوه و أقوال.

و هنا وجه آخر، و هو القول بعدم جواز تعجيز نفسه إن حصل له الاستطاعة المالية و تمكن من المسير حتي في السنة الثانية.

و إليك كلمات بعضهم:

قال العلامة في التذكرة: (لو كان له مال (متاع) فباعه نسية

عند قرب وقت الخروج إلي أجل يتأخر عنه سقط الفور في تلك السنة عنه لأن المال إنما يعتبر وقت خروج الناس، و قد يتوسل المحتال بهذا إلي دفع الحج) «1».

و قال في المنتهي: (لو كان له مال فباعه قبل وقت الحج مؤجلًا إلي بعد فواته سقط الحج؛ لأنه غير مستطيع، و هذه حيلة يتصور ثبوتها في إسقاط فرض الحج علي الموسر، و كذا لو كان له مال فوهبه قبل الوقت أو أنفقه فلما جاء وقت الخروج كان

______________________________

(1)- تذكرة الفقهاء: 1/ 302.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 169

فقيراً لم يجب عليه و جري مجري من أتلف ماله قبل حلول الأجل) «1».

و في الدروس قال الشهيد: (و لا ينفع الفرار بهبة المال أو إتلافه أو بيعه مؤجلًا إذا كان عند سير الوفد) «2».

و في مجمع البرهان في شرح قول ماتنه: و لا يجوز صرف المال في النكاح و إن شق قال: (و اعلم أن الظاهر أن المراد بذلك وجوب الحج و تقديمه علي النكاح و عدم استثناء مئونته من الاستطاعة، و كون ذلك في زمان وجوبه و خروج القافلة و تهيؤ أسبابه، و إن كان قبله يجوز) «3».

و قال السيد في المدارك: (و لا يخفي أن تحريم صرف المال في النكاح إنما يتحقق مع توجه الخطاب بالحج و توقفه علي المال، فلو صرفه فيه قبل سفر الوفد (الذي يجب الخروج معه) أو أمكنه الحج بدونه انتفي التحريم) «4».

و قال في الجواهر: (و لا يخفي أن تحريم صرف المال في النكاح إنما يتحقق مع توجه الخطاب بالحج و توقفه علي المال، فلو صرف فيه قبل سفر الوفد الذي يجب الخروج معه أو أمكنه الحج بدونه انتفي التحريم قطعاً) «5».

و

نحوه حكي عن كشف اللثام «6» و الذخيرة «7».

و ظاهر كلماتهم- قدس اللّٰه أسرارهم- جواز تعجيز النفس عن الحج

______________________________

(1)- منتهي المطلب: 2/ 653.

(2)- الدروس الشرعية: 1/ 312.

(3)- مجمع الفائدة و البرهان: 6/ 74.

(4)- مدارك الأحكام: 7/ 45.

(5)- جواهر الكلام: 17/ 261.

(6)- راجع كشف اللثام: 1/ 290.

(7)- راجع ذخيرة المعاد/ 560.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 170

و التصرف في المال بما يخرجه عن الاستطاعة قبل سير الرفقة و الوفد.

و يمكن أن يقال: الذي يستفاد من كلام هذه الأجلة- رضوان اللّٰه عليهم- أن الاستطاعة المشروط عليها وجوب الحج تتحقق بحصول المال إذا كان وقت ذهاب الناس إلي الحج الذي يعبر عنه بالتمكن من المسير أو خروج الرفقة، سواء كان وقت الذهاب قبل أشهر الحج أو بعده، فإذا لم يكن المال عنده وقت الذهاب لا يجب عليه الحج، و لا يجب عليه حفظ المال إلي وقت الذهاب إن حصل له قبله لعدم وجوب الحج عليه قبل ذلك، فكأنهم يقولون: إن «مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» ظاهر في أوان الحج و وقت الذهاب و التمكن الفعلي من المسير، لا من يستطيع إليه بالتمكن منه في سنة من السنين.

و بعبارةٍ اخري: لا يصدق كونه واجداً للسبيل إليه إن حصل له المال قبل أوان الحج أو التمكن من المسير، فكما لا يكون مستطيعاً للحج إذا كان متمكناً من المسير في السنوات الآتية و لا يجب عليه حفظ المال لا يجب عليه الحج إذا كان متمكناً من المسير بعد ذلك و في أوان الحج، و إلا فيجب أن نقول بحفظ المال إذا كان متمكناً من المسير بعد عشر سنين مثلًا.

هذا، مضافاً إلي أنه يمكن أن نقول: إنّ المستفاد من الأدلة ليس أزيد من تنجز

الوجوب عند التمكن من المسير أو خروج الرفقة و إن كان ذلك قبل أشهر الحج، إذ من المعلوم أن ذلك يختلف بحسب الأمكنة و قرب المسافة و بعدها، فمن كان بعيداً من مكة المكرمة بحيث لا يصل إليها إلا إذا خرج إليها قبل أشهر الحج بشهور بل بسنين فالمدار في جواز التصرف في المال بما يخرجه عن الاستطاعة و عدمه هو وقوعه قبل ذلك الأوان أو بعده.

و بعبارةٍ اخري: تنجز وجوب الحج عليه و عدم جواز تفويت الاستطاعة

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 171

يكون عند أوان الخروج و حلول الزمان الذي بحسب العرف يلزم السفر و الخروج إلي مكة فيه لمن أراد الحج، و أما قبل ذلك حيث لم يتنجز الوجوب فلا بأس بالتصرف في المال، و ذلك لأن القدر المتيقن من تنجز الوجوب و حصوله قبل زمان الواجب هو هذا، و قبل ذلك يكون من الشك في التكليف، و المرجع البراءة.

و ربما يظهر من بعض الأعاظم: أن الاستطاعة متي حصلت بالمال و صحة البدن و تخلية السرب يجب الحج، و لا يجوز له تعجيز نفسه عنه، سواء كان ذلك قبل أشهر الحج أو فيها، و سواء كان التمكن من المسير أو خروج الرفقة عند ذلك أو بعده، فالحج واجب عليه و إن حصل التمكن من المسير بعد حصول المال له.

و بعبارةٍ اخري يقول: الاستطاعة المشروط عليها وجوب الحج هي حصول المال عنده في أي زمان اتفق مع إمكان المسير إليه و إن اتفق بعد سنة أو سنتين «1».

و فيه: لازم ذلك أن نقول بوجوب الحج بحصول المال و إن لم يتمكن من المسير في سنة حصوله و تمكن في غيرها من السنين و لا أظن

أحداً يلتزم به.

و فرق ظاهر بين تمكنه من المسير و عدم تمكنه من أداء الحج في سنته لبعد المسافة و لتوقفه علي الخروج إليه من سنته و بين من لا يتمكن من المسير إليه في سنته و يتمكن منه بعدها، فإن في الأول يصح الخطاب بوجوب الحج فيجب عليه المسير لكونه شرطاً للواجب، دون الثاني فإن إيجاب الحج بمجرد حصول المال معناه عدم دخل تخلية السرب في الاستطاعة التي ظاهر دخلها فيها لسنته هذه.

و مما ذكر يظهر أن من لم يتمكن من أداء الحج في سنة الاستطاعة لعدم تمكنه من المسير فيها إلي الحج لا يستقر عليه الحج و إن كان متمكناً منه في السنوات المستقبلة، و لهذا نقول بعدم وجوب الحج علي من حصل له الاستطاعة المالية إذا لم

______________________________

(1)- راجع معتمد العروة: 1/ 131.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 172

تسمح له الحكومة بالمسير في عام الاستطاعة فلا يجب عليه تحصيل الإذن منها للسنوات المستقبلة؛ لعدم تنجز وجوب الحج عليه و إن بقيت استطاعته المالية في الأعوام التالية و الحال هذه.

و لا يقاس هذا بمن لا يحصل له الوصول إلي مكة في عام الاستطاعة لبعد المسافة لحصول الاستطاعة السربية له و تمكنه من المسير إليه في أوانه دون من لم تسمح الحكومة له للمسير إلي الحج.

اللهم إلا أن يقال بأنه يكفي في تنجز وجوب الحج الاستطاعة المالية و التمكن من المسير في عامٍ ما طول العمر، فيجب علي من يعلم بذلك في عام من الأعوام حفظ المال، و إن فرّط في ذلك استقر عليه الحج، و هذا مما لم يقل به أحد.

نعم، إن ثبت اسمه في سِجِلّ الحكومة و بقي استطاعته المالية إلي السنة التي تسمح

له الحكومة الحج فيها يتنجز عليه الوجوب في تلك السنة. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 46- لا يخفي أنه لا يتفاوت الحكم في ما إذا كان للشخص مال حاضر يكفيه للصرف في الحج إما بعينه أو بدله]

مسألة 46- لا يخفي أنه لا يتفاوت الحكم في ما إذا كان للشخص مال حاضر يكفيه للصرف في الحج إما بعينه أو بدله فقصر في حفظه أو تبديله حتي ضاع و تلف فإنه يستقر عليه الحج.

أو كان له مال غائب يمكنه صرفه في الحج بعينه بإحضاره عنده أو بتبديله بمالٍ آخر، عروضاً كان أو نقداً و لكن قصّر في ذلك حتي تلف أو زال تمكنه من التصرف فيه، بخلاف ما إذا لم يكن متمكناً من التصرف فيه و صرفه في الحج، سواء كان غائباً أو حاضراً فلا تحصل له الاستطاعة بمجرد ذلك، فالمسألة بكلتا صورتيها سواء كان المال حاضراً أو غائباً واضحة الحكم، و لا تحتاج إلي عقد مسألة مختصة بصورة كون المال غائباً.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 173

[مسألة 47] إذا كان جاهلًا بوجود الاستطاعة و تذكّر بعد الموسم و تلف المال

مسألة 47- من كان واجداً للاستطاعة المالية و لكنه كان جاهلًا بها جهلًا عذرياً، أو كان غافلًا عن وجوب الحج عليه و تذكر بعد مضيّ الموسم و تلف المال فهل الوجه استقرار الحج عليه و وجوبه في السنة الآتية؟

و كذا إذا تذكر بعد تلف المال و أمكنه أداء الحج متسكّعاً في هذه السنة فهل الحج مستقر عليه أم لا؟

هذا إذا كان واجداً لسائر الشرائط حين وجود المال.

و الفرق بين الفرض الأول و الثاني: أن في الأول لا فرق في أن يكون تلف المال بعد الموسم بإتلافه أو تلف بأسباب غير اختيارية، و في الثاني لا بد و أن يكون بإتلافه، فإنّ تلف المال بسبب غير اختياري يكشف عن عدم الاستطاعة.

و علي كلّ حال اختار السيد رحمه الله في العروة استقرار وجوب الحج عليه، و لعل الوجه عنده إطلاق أدلة وجوب الحج علي واجد المال و الزاد

و الراحلة.

و حكي عن المحقق القمي رحمه الله في أجوبة مسائله عدم الوجوب، لأنه لجهله لم يصر مورداً لوجوب الحج عليه، و بعد النقل و التذكر ليس عنده ما يكفيه فلم يستقر عليه.

و لعل وجهه عنده بما في بعض النصوص مما ربما يدل علي كون وجود العذر نافياً للاستطاعة و عدم كون تارك الحج للعذر تاركاً للواجب.

و ذلك مثل ما رواه الشيخ: بإسناده عن موسي بن القاسم، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا قدر الرجل علي ما يحج به ثمّ دفع ذلك و ليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام … »

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 174

الحديث «1».

و فيه: أنّ الظاهر منه المستطيع الذي يدفع الحج مع الالتفات بالاستطاعة لا لعذر يعذره اللّٰه به، لا من تركه لعدم الالتفات به للجهل أو الغفلة، و سائر الروايات في هذا الباب أيضاً موردها الذي يدفع الحج و المسوف الملتفت إلي استطاعته.

نعم، لو كان هنا ما يكون بلسان من فاته الحج لعذر، لا من ترك الحج يتم الاستدلال به.

و هنا قول ثالث، و هو التفصيل بين الجهل البسيط و الجهل المركب و بين كون الغفلة عن وجوب الحج مستندة إلي تقصير منه كترك التعلم، أو غير مستندة إليه لكثرة المشاغل و الابتلاءات، فيستقر عليه الحج في الجهل البسيط و في الغفلة المستندة إلي التقصير دون ما إذا كان ذلك للجهل المركب أو الغفلة غير المستندة إلي التقصير.

قال: (فإن كانت الغفلة غير مستندة إلي التقصير فلا يجب عليه الحج واقعاً، لأن حديث الرفع في حقه رفع واقعي، و قد ذكرنا في محله أن حديث الرفع

بالنسبة إلي غير ما لا يعلمون رفع واقعي، و في الحقيقة تخصيص في الأدلة الأولية، و الحكم غير ثابت في حقه واقعاً- إلي أن قال-: و إن كان الجهل جهلًا بسيطاً فالظاهر استقرار وجوب الحج عليه، لأن الحكم بعدم الوجوب في ظرف الجهل حكم ظاهري لا ينافي وجوب الحج و استقراره عليه واقعاً، فإذا انكشف و تبين الخلاف يجب عليه إتيان الحج لاستقراره عليه- إلي أن قال: - و أما في مورد الجهل المركب فلا يتوجه إليه التكليف واقعاً؛ لعدم تمكنه من الامتثال و لو علي نحو الاحتياط) «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ب 6 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 3.

(2)- معتمد العروة: 1/ 135.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 175

و يمكن أن يؤيد ما اختاره صاحب العروة: بأن اعتبار وجوب الحج علي المكلفين ليس من اعتبار التكليف و الالتزام عليه، بل الحج اعتبر كونه ديناً علي المكلف إذا صار مستطيعاً، فكما أن الدين لا يسقط عن المديون بجهله به فمثلًا لا يسقط الزكاة أو الخمس بجهل المكلف به إذا أتلفه لا يسقط الحج عن المستطيع بجهله أو غفلته عن الاستطاعة أو وجوب الحج عليه. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 48] إذا حج ندباً فبان كونه مستطيعاً

مسألة 48- إذا اعتقد أنه غير مستطيع و حج ندباً ثمّ ظهر أنه كان مستطيعاً فهل يكفيه عن حجّة الإسلام، أم يقع مندوباً؟

قال السيد في العروة: (إن قصد امتثال الأمر المتعلق به فعلًا و تخيل أنه الأمر الندبي أجزأه عن حجة الإسلام؛ لأنه حينئذ من باب الاشتباه في التطبيق، و إن قصد الأمر الندبي علي وجه التقييد لم يجز عنها و إن كان حجه صحيحاً).

و اختار بعض الأعاظم الإجزاء مطلقاً؛ لأن المقام ليس مما يقبل التقييد، لأن

التقييد إنما يتصور في الامور الكلية التي لها سعة و قابلية للتقسيم إلي الأنواع و الأصناف، كالصلاة حيث إن لها أنواعاً و أصنافاً كصلاة الفجر و نافلتها، نظير ذلك ما ذكروه من التفصيل في باب الائتمام إلي زيد فبان أنه عمرو لأن الائتمام قد تعلق بهذا الشخص المعين، و هذا غير قابل للتقسيم و لا سعة فيه حتي يتصور فيه التقييد و التضييق، و في الحج أيضاً الأمر به المتوجه إليه في هذه السنة أمر شخصي ثابت في ذمته و ليس هو إلا حجة الإسلام، و هو يقع كذلك و إن كان من يأتي به جاهلًا به فلا يعتبر في وقوعه حجة الإسلام قصد هذا العنوان، غاية ما في هذا الباب أنه تخيل جواز الترك و عدم الوجوب و هو لا يضر بصحة العمل و وقوعه علي ما يقع عليه،

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 176

كما لو فرضنا أنه صام في شهر رمضان ندباً بنية القربة و كان جاهلًا بوجوب الصوم فيه إذاً فلا يغير نية التقييد، و لا تمنع المناسك من وقوعها علي ما تقع عليه فليس ذلك باختيار المكلف، كما لا يغير أكل التفاح بنية أكل الرمان عما هو عليه «1».

و لكن يمكن أن يقال: إن الأمر يكون علي ما ذكر إذا كان العمل مثل الأكل و الشرب غير عبادي لا يعتبر فيه قصد القربة، أما إذا كان عبادياً فتقييد الإتيان به امتثالًا لغير أمره و إن لا يغيره عما يقع عليه من كونه صالحاً لانطباق عنوان حجة الإسلام عليه دون الحج المندوب، و لا يغير الأمر الخارجي المتعلق به إلي الأمر الندبي إلا أنه ملازم لعدم قصد امتثال الأمر الواقعي و عدم انطباق

حجة الإسلام التي صحتها مشروطة بقصد القربة علي تلك المناسك المأتي بها.

نعم، لا يقع ما أتي به بهذه النية مندوباً و مستحباً أيضاً و صحيحاً كما زعمه السيد رحمه الله، لعدم إمكان وقوعه ندباً، و عدم كونه مأموراً به كذلك فالأمر يدور بين وقوع المناسك حجة الإسلام أو بطلانها و عدم صحتها.

و الذي نقوله إتماماً للمطلب: إن المستطيع المعتقد أنه غير مستطيع إن أتي بالحج بقصد الندب و كون تركه مرخصاً فيه لا يمنع ذلك وقوع ما أتي به حجة الإسلام، كما لا يكون ذلك سبباً لكون ما أتي به غيرها، فما هو حج الإسلام الذي ليس إلا حصول المناسك من الصرورة المستطاع قد أتي به المكلف بداعي الأمر و قصد التقرب به، و لا يضر بقصد قربته اعتقاده أن الأمر المتعلق بأداء المناسك يكون ندبياً؛ لأنه لا يجعل أمره الوجوبي ندبياً.

و بالجملة: فالباعث نحو إتيان المناسك هو الأمر المتعلق به و كونها حجة الإسلام ليس منوطاً بالإتيان به بقصد الأمر الوجوبي، كما لا يمنع اعتقاده كون الأمر

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 137.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 177

ندبياً من كونه حج الإسلام، و هذا كمن لم يثبت عنده هلال شهر رمضان فصام بنية شعبان.

نعم، يمكن تحقق الترديد في حصول الامتثال إذا أتي به بقصد الأمر الوجوبي ثمّ علم أنه كان مأموراً به بالأمر الندبي، كمن نذر صوم الخامس عشر من شعبان و صام اليوم الرابع عشر باعتقاد أنه الخامس عشر؛ و ذلك لأن الإتيان بصوم الرابع عشر كان باعتقاد كونه صوم الخامس عشر فلعله إن كان عالماً به لا يصومه، و هذا بخلاف العكس فإن من يصوم الخامس عشر باعتقاد أنه الرابع عشر يصومه إن علم

أنه الخامس عشر بالطريق الأولي. و بالجملة فالأمر المتعلق بالصرورة المستطيع أمر بحجة الإسلام، سواء كان المستطيع عالماً باستطاعته أو جاهلًا بها، و لا وجه لوقوعه ندباً أصلًا، كما لا وجه لعدم وقوعه حجة الإسلام إلا إذا كان الشخص بانياً علي عدم إتيان حجة الإسلام و بني علي غيرها بدعةً و تشريعاً. و اللّٰه العالم.

ثمّ إنّه لو علم بالاستطاعة و وجوب الحج و لكن تخيل عدم فوريته و أتي به بقصد الندب فالظاهر أنه- كما ذكر في العروة- يرجع إلي التقييد، فلا يكون له القصد المطلق بامتثال الأمر بإتيان المناسك، بل مقيد بكونه ندباً، فانبعاثه نحو إتيان المناسك يكون مقيداً بتوهم الأمر الندبي، لا مجرد الأمر بها، فلا يكون ممتثلًا للأمر الوجوبي و وقوعه ندباً محل الإشكال كوقوعه وجوباً.

و أما ما يظهر من بعض الأعاظم من تصور الأمرين هنا: أحدهما وجوبي و الآخر ندبي في طول الأول لا في عرضه؛ لجواز الأمر بالضدين إذا كان علي نحو الترتب لأن الأمر الثاني مترتب علي عدم الإتيان بالأول و لو كان من عصيان، قال: (و قد ذكرنا في محله أن كل مورد أمكن جريان الترتب فيه يحكم بوقوعه؛ لأن إمكانه مساوق لوقوعه، فما حج به صحيح في نفسه إلا أنه لا يجزي عن حجة الإسلام؛ لأن الأمر الفعلي لم يقصد، و إنما قصد الأمر الندبي المترتب علي مخالفة الأمر

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 178

الفعلي، و لا يقاس هذا الفرض بالفرضين السابقين لوحدة الأمر فيها، بخلاف المقام الذي تعدد الأمر فيه علي نحو الترتب). «1»

ففيه: أنّ تصور الأمرين: أحدهما وجوبي و الآخر ندبي لا مانع منه و لكن أعم من الوقوع، فتعلق الأمر الندبي بالصرورة المستطيع عند عصيان

الأمر الوجوبي أول الكلام.

نعم، إذا كان هناك أمران: أحدهما وجوبي و الآخر ندبي في طول الأول لا مانع من صحة الإتيان به، و لكن هذا محتاج إلي الإثبات، و القول بأن كل مورد أمكن جريان الترتب فيه يحكم بوقوعه نقول به كما في التكليف بالأهم و المهم، حيث إن التكليف بالمهم ثابت و يكون الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان الأهم، و أين ذلك فيما إذا لم يثبت لنا غير أمر واحد؟ و اللّٰه تعالي هو العالم.

[مسألة 49] حصول الاستطاعة بالملكية المتزلزلة، و عدمه

مسألة 49- هل تحصل الاستطاعة المالية بالملكية المتزلزلة كما إذا اشتري مالًا بالبيع المشروط فيه للبائع الفسخ إذا رد الثمن و كان المبيع وافياً لأداء الحج دون الثمن، أو صالحه شخص ما يكفيه للحج بشرط الخيار إلي مدة معينة، و كذا في الهبة لغير ذي رحم لو وهبه و أقبضه فإن للواهب الرجوع ما دامت العين موجودة عند المتهب؟ في المسألة وجهان:

يمكن أن يقال: إن ما هو الملاك في حصول الاستطاعة بحسب الأدلة أن يجد المال و يكون عنده ما يحج به، و هو معني حاصل له صادق عليه، و إن علم بالزوال فيجب عليه الحج. نعم، إن علم برجوع الواهب أو فسخ المالك و وقوعه في الحرج

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 139.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 179

لأداء بدله له لا يجب عليه للحرج.

و فيه: أنه يمكن منع صدق الاستطاعة بوجود مال يعلم برجوع مالكه إليه، فلا حاجة إلي التمسك بالحرج، بل يمكن دعوي ذلك و إن لم يكن عالماً بفسخ المالك.

قال سيدنا الأعظم قدس سره: (بل و مع الوثوق بذلك (أي بعدم الفسخ) أيضاً فإن استحقاق البائع محل العقد و استرداد العين أو قيمتها مانع من تحقق الاستطاعة).

و الظاهر أنه

لا فرق في ذلك بين الهبة و غيرها، فإنه و إن كان للمتهب التصرف في الموهوب و منع المالك من الرجوع إلا أن الظاهر أنه من تحصيل الاستطاعة، لا الاستطاعة، و مع ذلك لا ينبغي ترك الاحتياط.

[مسألة 50] بقاء المال الي تمام الأعمال
اشارة

مسألة 50- الظاهر أنه لا يكفي في الاستطاعة المالية و إجزاء حجه عن حجة الإسلام وجود الزاد و الراحلة و ما يحج به عنده في ابتداء الشروع في الحج، بل حصولها و إجزاء حجه عنها مشروط ببقاء المال عنده و إمكان صرفه إلي تمام الأعمال.

نعم، لا يجب العلم ببقائه كذلك، بل يكفي الوثوق و الاعتماد علي البقاء كما هو عليه بناء العرف في أعمالهم و معاملاتهم و إن كانوا شاكّين في ذلك.

مضافاً إلي جريان استصحاب البقاء علي القول بجريانه في الامور المستقبلة، و علي هذا فتلف المال و ما يحج به في الأثناء يكشف عن عدم استطاعته و عدم إجزاء حجه عن حجة الإسلام.

و هل يقع حجه مندوباً فيجب عليه إتمامه لوجوب إتمام الحج و العمرة، أم يكشف تلف المال عن بطلان إحرامه لأنه قصد به الإحرام الواجب عليه لحجة

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 180

الإسلام و أما الإحرام المندوب للحج المندوب فلم يقصده، فما قصده لم يقع و ما وقع لم يقصد؟

هذا، و لو أتلف المال و الزاد و الراحلة عمداً يستقر عليه الحج فيجب عليه الإتمام و لو متسكعاً و يجزيه عن حجة الإسلام.

و أما لو حصل له دين قهراً فيمنع عن الاستطاعة إذا كان حالًّا مطالباً به، أو غير واثق بالأداء عند المطالبة، أو الأجل علي تفصيلٍ مرّ ذكره.

تنبيه تفسيري

قال في المسالك: «وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّٰهِ»: ائتوا بهما تامّين بمناسكهما و حدودهما مستجمعي الشرائط لوجه اللّٰه، و بهذا التفسير وردت الروايات عن أئمة الهدي عليهم السلام- إلي قوله: - و يؤيد ذلك قراءة «و أقيموا الحجَّ و العمرةَ»، و مقتضي ذلك وجوبهما علي المكلف المستطيع ابتداءً بحسب أصل الشرع، و علي

هذا علماؤنا أجمع، و في أخبارهم دلالة علي ذلك، و وافقهم علي ذلك الشافعي في الجديد) «1».

و مراده من الروايات: مثل ما رواه الكليني: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة قال: «كتبت إلي أبي عبد اللّه عليه السلام بمسائل بعضها مع ابن بكير و بعضها مع أبي العباس، فجاء الجواب بإملائه: سألت عن قول اللّٰه عز و جل «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» يعني به الحج و العمرة جميعاً لأنهما مفروضان، و سألته عن قول اللّٰه عز و جل: «وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّٰهِ» قال: يعني بتمامهما أداءهما و اتقاء ما يتقي المحرم فيهما» الحديث. «2»

______________________________

(1)- مسالك الأفهام إلي آيات الأحكام: 2/ 134.

(2)- الكافي: 4/ 262.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 181

و في تفسير العياشي: عن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قوله: «وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّٰهِ» قال: «إتمامهما إذا أداهما، يتقي ما يتقي المحرم فيهما» «1».

و ما قاله صاحب المسالك هو الصحيح في تفسير الآية لدلالة الروايات، و بعدها حمل الآية علي معنيً آخر يكون من التفسير بالرأي، و يدل علي ذلك دلالة قوله تعالي: «فَأَتَمَّهُنَّ» و دلالة «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيٰامَ إِلَي اللَّيْلِ» علي الأداء و الإتيان، فمعني «فَأَتَمَّهُنَّ» أداهن، و معني «ثُمَّ أَتِمُّوا» أي ائتوا بالصيام، كما صرح القرطبي و غيره «2».

و أما القول بكون المراد من الإتمام فيهما أن يبلغ آخر أعمالهما بعد الدخول فيهما فمردود:

أولًا: لِمَا أشرنا إليه من الروايات.

و ثانياً: لاستدلالهم عليهم السلام بوجوب العمرة بالآية ابتداءً، و لو كان المراد إتمامهما بعد الدخول فيهما لا تدل علي وجوبهما فإن الإتمام بهذا المعني

أعم من الوجوب.

و ثالثاً: هذا المعني لا يستقيم مع قوله: «لِلّٰهِ»، فإنه لا وجه لاختصاص الإتيان للّٰه بما يأتي منهما بعد الدخول فيهما، بل يجب الإتيان بهما كذلك من أول الشروع فيهما.

و الحاصل: أنه لا دلالة للآية علي وجوب الإتيان بما بقي من الأجزاء بعنوان الإتمام، و إن كان ذلك- أي الإتيان بكل جزء منهما- واجباً بوجوب أصل الحج و العمرة بأجزائهما في الحج الواجب و العمرة الواجبة الجامعَين لشرائط الوجوب.

______________________________

(1)- تفسير العياشي: 1/ 87.

(2)- الجامع لأحكام القرآن: 2/ 365.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 182

[مسألة 51] لو تلف مئونة عوده بعد الأعمال

مسألة 51- إذا تلف بعد الأعمال مئونة عوده إلي وطنه كما إذا تلفت راحلته فالظاهر أنه أيضاً يكشف عن عدم الاستطاعة.

لأن ظاهر «من له الزاد و الراحلة» هو من له زاد الذهاب و الإياب و راحلته كذلك، فإذا تلف يكشف عن عدم استطاعته و عدم إجزائه عن حجة الإسلام.

و ربما يقال: بأن ما به يتحقق الاستطاعة هو أن يكون واجداً لما يحج به و لزادٍ و راحلةٍ يبلغاه إلي الحج و هو يتحقق بوجدانه ذلك للذهاب، و أما مئونة الإياب فإنما تلزم إذا كان المقام له في مكة المكرمة حرجياً، فلا يجب الحج علي من لم يكن له مئونة الذهاب؛ لقاعدة نفي الحرج، أما إذا أتي بالحج بناءً علي بقاء وجود مئونة الذهاب إلي العود إلي وطنه و ظهر بعد إتمام الأعمال خلافه فلا مجال للتمسك بقاعدة نفي الحرج؛ لأنها امتنانية، و لا امتنان في نفي الوجوب بعد الإتيان بالأعمال، بل يكون خلاف الامتنان. «1»

و فيه: أن عدم كون المقام في مكة حرجياً لا يوجب عدم دخل وجود مئونة إيابه في حصول الاستطاعة، فلا يقال لمن كان في وطنه لا

يتمكن من السفر إلي مكان آخر إلا بالإياب إليه: إنه متمكن من هذا السفر إذا لم يتمكن من الرجوع إلي مكانه، و الغالب في الناس في أسفارهم ملاحظة نفقة الذهاب و الإياب، فالاستطاعة إلي السفر إلي مكان إنما تتحقق للشخص إذا كان متمكناً من العود، لا تغيير محل إقامته و وطنه، و لو سلَّمنا صدق الاستطاعة للسفر إلي مكة إذا كان المقام بها و الرجوع إلي وطنه علي السواء بحاله لكن لا يوجب صدق الاستطاعة لمن يلزم

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 141.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 183

عليه الرجوع عادةً إلي وطنه، و لا يأبي أن يكون صدق الاستطاعة متوقفاً عليه لكون الإقامة في غير بلده حرجياً.

و بالجملة: فالمستفاد من الأدلة هو وجود ما يسافر به إلي الحج ذهاباً و عوداً زاداً و راحلةً، فكما لا يجب الحج علي المتمكن من المشي و إن لم يكن له المشي حرجياً في الذهاب إلي الحج لا يجب عليه إذا كان متمكناً من الركوب و الراحلة في الذهاب دون الإياب.

و قد استشهد لتأييد إجزاء حج من تلف مئونة عوده عن حجة الإسلام بما دل علي إجزاء حج من مات بعد الإحرام و دخول الحرم عن حجة الإسلام: مثل صحيح ضريس الذي رواه الكليني: عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد «1»، عن ابن محبوب «2»، عن ابن رئاب «3»، عن ضريس «4»، عن أبي جعفر عليهما السلام قال: «في رجل خرج حاجّاً حجة الإسلام فمات في الطريق؟ فقال عليه السلام: إن مات في الحرم فقد أجزأت عنه حجة الإسلام، و إن مات دون الحرم فليقضِ عنه وليه حجة الإسلام». «5»

و الظاهر من الحديث بقرينة جواب الإمام عليه السلام أن

موضوع الحكم هو من استقر عليه الحج؛ لأن الإجزاء عن حجة الإسلام إنما يكون لمن كانت عليه و ليس هو إلا من استقر عليه الحج، و لأن الأمر بالقضاء إن مات دون الحرم سواء كان ذلك

______________________________

(1)- هو أحمد بن محمد بن عيسي من الطبقة السابعة، شيخ القميين و فقيههم و وجههم، وعدته: محمد بن يحيي، و أحمد بن إدريس، و علي بن إبراهيم، و داود بن كورة، و علي بن موسي الكميداني.

(2)- الحسن بن محبوب السراد من الطبقة السادسة، ثقة جليل القدر.

(3)- علي بن رئاب من الطبقة الخامسة، ثقة جليل القدر، له كتب و أصل كبير.

(4)- ضريس الكناسي ابن عبد الملك الشيباني، خير فاضل ثقة، صهر حمران بن أعين من بنته، هو من الطبقة الرابعة.

(5)- وسائل الشيعة: ب 26 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 184

قبل الميقات و الإحرام أو بعده يدل علي استقرار الحج عليه، فإن الموت دون الحرم إذا لم يستقر عليه الحج يكشف عن عدم وجوب الحج عليه، و علي هذا الاحتمال لا وجه للاستشهاد به لمن لم يستقر عليه الحج بعد و فقد مئونة رجوعه و زال استطاعته.

مضافاً إلي أنه لو قلنا بإجزاء الحج عمّن لم يستقر عليه الحج بهذا الحديث إذا زالت استطاعته بعد الأعمال يجب أن نقول به أيضاً إذا زالت استطاعته بعد دخول الحرم و في الأثناء، كما يجب أن نقول به إذا زالت استطاعته قبل دخول الحرم، بل و قبل الإحرام.

ثمّ إنّ هنا احتمالًا آخر، و هو: أن يكون ما هو الموضوع في الحديث من لم يستقر عليه الحج و حج في سنة استطاعته، إلّا أنه لا يوجه إلا بالتكلف، و

حمل الحديث علي غير ظاهره بأن يقال: إن المراد من قوله عليه السلام: «إن مات في الحرم فقد أجزأت عنه حجة الإسلام» أنه كتب له ثواب حجة الإسلام علي نيته، أو لا يجب أن يقضي عنه، و يحمل قوله: «و إن مات دون الحرم فليقض عنه وليه حجة الإسلام» علي الاستحباب، أو علي أن علي المستطيع بالاستطاعة المالية السربية الحج ديناً، فيجب قضاءً عنه من ماله إن مات دون الحرم.

و علي كل حالٍ لو قلنا بدلالة الحديث علي إجزاء حج من لم يستقر عليه الحج عن حجة الإسلام و أمكن لنا تصحيح ذلك لا يمكن أن يقال بأولوية من فقد مئونة إيابه بعد تمام الأعمال بالإجزاء عن حجة الإسلام عمن مات قبل تمام الأعمال، لأنهما ليسا من باب واحد، فلا يمكن التمسك بالأولوية أو عدم الفرق بين الموردين، فإن من مات لا يتمكن من الحج دون من فقد مئونته.

مضافاً إلي أن هذه الأولوية أو التساوي توجد فيمن فقدها في الأثناء فيلزم علي القول بهذه الأولوية إجزاء عمله عن حجة الإسلام.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 185

و بالجملة: لم نتحقق وجهاً صحيحاً للاستدلال بهذه الصحيحة عليٰ اجزاء من فقد مئونته عن حجة الإسلام.

و مثل هذه الصحيحة في ضعف الاستدلال بها للإجزاء عن حجة الإسلام في مسألتنا صحيح بريد العجلي الذي رواه الشيخ بالإسناد، عن ابن رئاب، عن بريد العجلي «1» قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل خرج حاجّاً و معه جمل له و نفقة و زاد فمات في الطريق؟ قال عليه السلام: إن كان صرورة ثمّ مات في الحرم فقد أجزأ عنه حجة الإسلام، و إن كان مات و هو صرورة قبل أن يحرم جعل

جمله و زاده و نفقته و ما معه في حجة الإسلام، فإن فضل من ذلك شي ء فهو للورثة إن لم يكن عليه دين» الحديث «2».

فإن المراد منها من استقر عليه الحج، سواء قلنا بأن قوله عليه السلام: «قبل أن يحرم» معناه قبل أن ينشئ الإحرام، أو أنه يكون من باب أنجد و أيمن إذا دخل في النجد و اليمن كما احتمله صاحب المستند «3». و الفرق بينهما: أن علي الأول لم يبين في الجواب حكم من أحرم و مات قبل الدخول في الحرم، و أما علي الثاني و إن كان خلاف الظاهر يكون الجواب تامّاً يشمل جميع فروع المسألة، و أنه إن مات الذي استقر عليه الحج في الحرم أجزأه عن حجة الإسلام، و إن مات قبل الدخول في الحرم يقضي عنه.

و كيف كان فاحتمال كون المراد من الصرورة من لم يستقر عليه الحج و الحكم بإجزائه عن حجة الإسلام التي لم يستقر عليه، ثمّ دعوي أولوية ما نحن فيه بذلك

______________________________

(1)- بريد بن معاوية العجلي من الطبقة الرابعة، وجه من وجوه أصحابنا، ثقة فقيه له محل عند الأئمة عليهم السلام.

(2)- وسائل الشيعة: ب 26 من أبواب وجوب الحج ح 2.

(3)- مستند الشيعة: 2/ 166.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 186

الحكم ضعيف جداً أصلًا و فرعاً.

ثمّ إن بعضهم- رضوان اللّٰه تعالي عليهم- تمسك بالقطع بالإجزاء إذا زالت الاستطاعة بعد الفراغ من أعمال الحج:

قال السيد في المدارك: (فوات الاستطاعة بعد الفراغ من أفعال الحج لم يؤثر في سقوطه قطعاً، و إلا لوجب إعادة الحج مع تلف المال في الرجوع، أو حصول المرض الذي يشق معه السفر، و هو معلوم البطلان). «1»

و قال في الجواهر: (قد يمنع معلومية بطلانه

بناءً علي اعتبار الاستطاعة ذهاباً و إياباً في الوجوب). «2»

مضافاً إلي أن لنا السؤال من السيد عن الفرق بينه و بين الأثناء و قبل الفراغ إذا تم أعماله و لا يحتاج في إتمامه إلي المال؟

و مضافاً إلي أن علي ما اختاره من الإجزاء يكون إجزاء ما أتي به من الأعمال عن حجة الإسلام من إجزاء غير الواجب بل غير المنوي، أو مجرد الأعمال عن الواجب لأنه نوي ما لم يكن عليه و هو حجة الإسلام و لم ينو غيره حتي يكون هو مجزياً عن حجة الإسلام، فإجزاء ما أتي به من حجة الإسلام محتاج إلي الدليل، فكما يكون فقدان مئونة الإياب في الأثناء كاشفاً عن عدم الاستطاعة و عدم إجزاء ما أتي به من حجة الإسلام فليكن فقدانه بعد الأعمال أيضاً كذلك و لا فرق بينهما، و ادعاء القطع بالإجزاء في الثاني دون الأول مجازفة.

هذا، و قد حكي عن العلامة قدس سره كشف زوال استطاعة العود بعد الأعمال عن عدم الوجوب، فقال علي ما حكي عنه: (إنّ من تلف ماله قبل عود الحاج و قبل

______________________________

(1)- مدارك الأحكام: 7/ 68.

(2)- جواهر الكلام: 17/ 301.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 187

مضي إمكان عودهم لم يستقر الحج في ذمته؛ لأن نفقة الرجوع لا بد منها في الشرائط). «1»

و مع ذلك يمكن أن يوجه ما ادعاه السيد في المدارك بكون الإجزاء في هذه الصورة مرتكزاً في الأذهان، و لذا لم يرد خبر في السؤال من ذلك عن الأئمة عليهم السلام مع كثرة الابتلاء به، فلعلهم لا يحتملون أن من قصد مكة من شقته البعيدة و تحمل مشاق السفر و نفقة الذهاب لأداء حج الإسلام و حج الواجد للشرائط ثمّ فقد

نفقة عوده إلي وطنه أنه لم يحج حجة الإسلام و يجب عليه إعادة حجه ثانياً إن حصلت الاستطاعة.

إن قلت: فما الفرق بين العالم بذهاب نفقة عوده قبل الحج فإنه لا يجب عليه حج الإسلام لعدم حصول الاستطاعة له و لا يجزيه عنها إن تكلف الذهاب إليه و بين من ذهب إليه معتمداً علي بقائها ثمّ اتفق زوالها؟

قلت: الفرق وجوب الحج علي الثاني اعتماداً علي بقاء الاستطاعة و عدم وجوبه علي الأول.

فتحصّل من ذلك: وقوع ما أتي به حجة الإسلام و عدم وجوب الإعادة عليه إذا حصلت له الاستطاعة.

و مع ذلك لا ينبغي ترك الاحتياط بالإعادة، فإن عدم التعرض للمسألة فيما بأيدينا من الأحاديث لا يدل علي العدم، فلعلّهم سألوهم عليهم السلام عن ذلك و اخفي علينا السؤال و الجواب، مضافاً إلي أن كثرة الابتلاء جارية في تلف المال في الأثناء فما

______________________________

(1)- هكذا في الجواهر: 17/ 300، و لكن قال في التذكرة: 1/ 311: (و لو ذهب ماله بعد رجوع الحاج أو مضيّ إمكان الحج؛ استقر الرجوع لأن نفقة الرجوع لا بد منها في الشرائط)، اللهم إلا أن يكون مراد الجواهر الاستدلال بمفهومه.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 188

الفارق بين الموردين؟

و يمكن تصحيح الحكم بالإجزاء، و تقريبه بأن نقول: الاستطاعة العرفية المشروط عليها وجوب الحج تحصل بوجود المال الوافي عنده للحج و لمئونة أهله و لمئونة عوده إلي وطنه و رجوعه إليه بالكفاية بالفعل بشرط أن يكون عرفاً صالحاً للبقاء عنده إلي تمام الأعمال، و ما يجب بقاؤه إلي تمام الأعمال المحتاج أداؤها إلي المال هو هذه الصلاحية، فانتفاؤها بعد الأعمال غير مخلّ بالاستطاعة المذكورة التي حصلت له و أتي بالأعمال مقرونة بها، و أما بقاء هذا

المال عنده إلي أن يرجع إلي وطنه و بعد ذلك فليس له دخل في حصول الاستطاعة.

نعم، لو علم عروض ذلك بعد تمام الأعمال أو لا يكون ماله وافياً بكل هذه الجهات لا يكون مستطيعاً، و علي هذا استقرّت سيرة العرف و العقلاء في امورهم التجارية.

و يمكن أن يقرر ذلك بوجهٍ آخر، و هو أن نقول: إن الاستطاعة عند العرف هي وجدان المال الذي يفي بأداء الحج و الذهاب إليه و عدم الحاجة الفعلية إلي صرفه أو حفظه لصرفه في ضروريات معاشه من العود إلي وطنه أو إدارة امور معيشته، فمن أتي بالحج و حاله هكذا أتي به و هو مستطيع؛ لأنه غير محتاجٍ إليه بالفعل لصرفه في مورد آخر، و من كان عالماً بتلفه بعد الفراغ من الأعمال يكون محتاجاً إلي حفظه لصرفه في هذه الموارد فلا يكون مستطيعاً عند العرف، و أما من صرفه في الحج بعد ما لم يكن محتاجاً إليه لمئونة عوده لا يخلّ حدوث الاحتياج بمئونة العود بعد ذلك باستطاعته الحاصلة عند أداء الأعمال.

و بعبارةٍ اخري نقول: الاستطاعة هي وجود ما يحج به عنده و عدم الحاجة العرفية الفعلية إلي حفظه لحاجةٍ اخري من مئونة العود إلي الوطن أو مئونة الأهل أو معاشه الضروري التي قد تحدث بعد فراغ الأعمال، فمثل هذا الشخص عند العرف

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 189

مستطيع قادر علي العمل يجب عليه الإتيان بالحج، و لا يكون وقوعه حجة الإسلام مشروطاً ببقاء مئونة عوده إلي وصوله إلي وطنه.

و يمكن أن يقرر ذلك بتقريب آخر، و هو أن نقول: إنّ الاستطاعة المعتبرة المشروط عليها وجوب الحج هي وجدان نفقة الذهاب إلي الحج و العود إلي الوطن و الرجوع إلي

الكفاية و بقاؤه إلي تمام الأعمال ممّا يحتاج أداؤه إلي المال و احتمال بقائه بعد ذلك، و هذا يكفي في حصول الاستطاعة عند العرف.

و بالجملة: فبهذه التقريبات التي المتقاربة في المضمون يمكن الذبّ عن إشكال منافاة القول بدخل وجود مئونة العود في الاستطاعة و القول بوقوع الحج حجة الإسلام بعد الفراغ من الأعمال و تلف مئونة العود.

ثمّ إنّ الكلام في فقد ما يرجع به إلي الكفاية إذا فقد في أثناء الأعمال أو بعد الفراغ منها هو الكلام في فقد نفقة الإياب في الأثناء أو بعد تمام الأعمال، و أما بعد العود فالقول بالإجزاء أقوي من القول به في صورة فقده بعد الأعمال أو قبل الوصول إلي وطنه.

و الذي يقوي حسب كل ما ذكرناه في المسألة هو الإجزاء مطلقاً، إلا في أثناء الأعمال التي يحتاج فعلها إلي المال. و اللّٰه تعالي هو العالم بالأحكام و الأحوال.

[مسألة 52] عدم اعتبار الملكية في الزاد و الراحلة

مسألة 52- هل يعتبر في حصول الاستطاعة ملكية الزاد و الراحلة، أو يكفي في حصولها الإباحة المالكية اللازمة أو الأعم منها و الجائزة أو الأعم من المالكية و الشرعية؟

ظاهر بعض أعاظم العصر اعتبار الملكية في حصولها؛ لِمَا ورد في تفسيرها من

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 190

قوله عليه السلام في حديث محمد بن مسلم: «يكون له ما يحج به» «1»، و كذا في حديث العلاء بن رزين «2»، و من قوله عليه السلام في حسنة الحلبي: «أن يكون له ما يحج به» «3»، و قوله عليه السلام في خبر الكناسي: «له زاد و راحلة» «4» و في خبر هشام بن الحكم «5»، و في خبر عبد الرحمن بن سيابة «6» ممّا ظاهره الملك و إن كان ظاهر غيره من الروايات مثل

صحيح الحلبي: «إذا قدر الرجل علي ما يحج به» «7»، و صحيح معاوية بن عمار: «هذه لمن كان عنده مال أو يجد ما يحج به» «8»، و خبر محمد بن الفضيل: «و عنده ما يحج به»، و علي بن حمزة «9»: «من قدر علي ما يحج به» «10» كونه أعم من الملك، فقال: (الجمع بينه و بين غيره يقتضي تقييده بالملك و عدم الاجتزاء بمجرد الإباحة) «11».

و رُدَّ بأنّ المطلق إنما يحمل علي المقيد إذا تحقق التنافي بينهما مثل «أعتق رقبة» و «أعتق رقبة مؤمنة» عند إحراز وحدة المطلوب، و هذا بخلاف ما إذا لم يكن منافاة بينهما مثل الحكم بنجاسة الخمر و نجاسة المسكر، و في المقام أيضاً لا منافاة بين

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 8 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1.

(2)- وسائل الشيعة: ب 8 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 2.

(3)- الوسائل: ب 8 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 3.

(4)- وسائل الشيعة: ب 8 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 4.

(5)- وسائل الشيعة: ب 8 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 7.

(6)- وسائل الشيعة: ب 8 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 10.

(7)- وسائل الشيعة: ب 8 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 3.

(8)- وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1 و 11.

(9)- وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 8.

(10)- وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 9.

(11)- مستمسك العروة: 10/ 116.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 191

حصول الاستطاعة بالملكية و بين حصولها في غير مورد الملكية كالإباحة «1».

و فيه: أن

في المقام ظاهر قوله: «بأن يكون له زاد و راحلة» و سائر التعاريف القريبة منه هو حصر حصولها به و هو ينافي ما يدل علي الأعم من الملكية و الإباحة فمقتضي الجمع بينهما تقييد الثاني بالأول.

اللهمّ إلا أن يقال: إنّ ظهور الثاني في الأعم أقوي و أظهر من ظهور الأول في الحصر.

و أما التفصيل بين الإباحة اللازمة- كما مثّل لها في العروة بأن شرط أحد المتعاملين علي الآخر (في ضمن عقد لازم) أن يكون له التصرف في ماله بما يعادل مائة ليرةٍ مثلًا- و الإباحة الجائزة فالظاهر أنه لا فرق بينهما في حصول الاستطاعة.

نعم، الظاهر عدم حصول الاستطاعة بالإباحة الشرعية كالمباحات الأصلية و شبهها كالأنفال التي هي ملك للإمام عليه السلام؛ لعدم صيرورة المباح له مالكاً لها بمجرد إباحة صيد الأسماك و الأنفال له، و عدم صدق كونه واجداً لها إلا بعد صيد الأسماك و حيازة المباحات و الاستيلاء عليها، و هذه الأعمال تكون من تحصيل الاستطاعة.

و بعبارةٍ اخري: إباحة الصيد و إباحة حيازة الحطب لا يجعل المباح له واجداً للسمك و الحطب، كما لا يخفي.

[مسألة 53] تحقّق الاستطاعة بالوصية التمليكية

مسألة 53- لو أوصي لشخص بمالٍ يكفيه للحج و مات الموصي فهل يتحقق بذلك للموصيٰ له الاستطاعة، أم لا؟ وجهان:

أما علي القول بأن الوصية التمليكية إيقاع لا يحتاج وقوعها إلي القبول من

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 143.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 192

الموصي له و إن كان له ردّها لأن التمليك القهري مخالف لسلطنته، و هذا يقتضي سلطنته علي الرد فيجب عليه الحج، و إن اختار الرد يجب عليه الحج متسكعاً.

و أما القول بعدم جواز الرد فإن كان المراد منه الجواز الوضعي فهو باطل قطعاً، و إن كان المراد الجواز التكليفي

ففي حرمته إشكال؛ لأنه من إزالة الاستطاعة و تفويتها و حرمتها إذا كان متمكناً من أداء الحج متسكعاً محل إشكال، فمن باع دابته أو ذبحها و هو قادر علي المشي فهو مخيَّر بين إزالة استطاعته به و الحج ماشياً أو الحج راكباً عليها، كمن كان معه راحلته و اختار المشي. نعم، إذا انتهي ذلك إلي عدم تمكنه من الحج لا يجوز ذلك.

و أما علي القول بأن تحقق ملكية الموصي به للموصي له يحتاج إلي قبوله- علي ما قويناه في باب الوصية فيكون علي هذا الوصية التمليكية كالهبة- لا يجب عليه القبول و لا يحصل له الاستطاعة قبله فهو، قبل القبول غير واجد للزاد و الراحلة، و بعد القبول و إن صار واجداً و يجب عليه الحج إلّا أنّه لا يجب عليه القبول لأنه تحصيل للاستطاعة.

هذا، و لكنّ الظاهر من السيد صاحب العروة كفاية هذه الوصية لحصول الاستطاعة علي المبنيين، و لعلّ الوجه عنده علي المعني الثاني عدم الفرق بينه و بين الإباحة و البذل.

إلا أنه يمكن أن يقال: إنّ البذل يكون بالمال لخصوص الحج، و هذا أعم منه و إن كان بعد القبول تحصل له الاستطاعة و الوصية تكون مثل الإباحة علي المبني الأول، و أما علي الثاني فلا تحصل الاستطاعة إلا بالقبول، و هو محصّل للاستطاعة دون الإباحة فإنها لا تحتاج إلي قبول المباح له.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 193

[مسألة 55] لو نذر قبل أوان الحج كون مالٍ به يصير مستطيعاً صدقةً.

مسألة 54- إذا نذر قبل أوان الحج كون مالٍ معيّنٍ صدقةً للّٰه تعالي مطلقةً، أو لصرفه في يوم عرفة علي نحو نذر النتيجة.

فإن كان النذر نذراً تبرعياً لا يجب عليه الحج عند أوان الحج و إن بقي عنده هذا المال إلي هذا الزمان لخروجه

عن ملكيته و صيرورته صدقة بمجرد النذر فلا تحصل به له الاستطاعة المالية، و يكون من قبيل تعجيز نفسه و إزالة الاستطاعة المالية قبل تنجز وجوب الحج الذي مر الكلام فيه.

و إن كان نذره ذلك معلقاً علي أمرٍ فإن حصل المعلق عليه أيضاً قبل أوان الحج و تنجز الوجوب فالحكم فيه حكم الصورة السابقة، و إن حصل المعلق عليه عند الاستطاعة أو بعدها فحكمه يعلم مما يأتي إن شاء اللّٰه تعالي في المسألة اللاحقة، فإن صيرورته صدقةً تتوقف علي رجحانه و عدم استلزامه ترك الحج الواجب، و وجوب الحج أيضاً متوقف علي عدم منع النذر من استطاعته. هذا في نذر النتيجة.

و أما في نذر الفعل كأن نذر تبرعاً أو معلقاً أن يتصدق بألف تومانٍ و حصل المعلق عليه قبل تنجز وجوب الحج فلا ريب أنه يجب عليه التصدق به إن كان عنده، و إن لم يحصل له المال أو لم يحصل المعلق عليه إلا عند زمان تنجز الوجوب بالاستطاعة و الفرض أنه لا يفي إلا لأحدهما، و هذا الفرض أيضاً داخل في المسألة الآتية يعلم حكمه منها؛ لأنّ وجوب الوفاء بالنذر مشروط بعدم وجوب الحج و وجوب الحج أيضاً متوقف علي عدم انعقاد النذر و وجوب الوفاء به و مثله نذر التصدق بمال في يوم عرفة مع حصول الاستطاعة للحج به فهذه الفروع يعلم حكمه إن شاء اللّٰه مما سيبين في المسألة الآتية.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 194

[مسألة 55] لو حصلت الاستطاعة بعد نذر عملٍ راجحٍ لو حصلت الاستطاعة بعد ما نذر عملًا راجحاً و لا يمكن الجمع بينهما
اشارة

مسألة 55- إذا نذر عملًا راجحاً لا يمكن الجمع بينه و بين الحج ثمّ حصل له بعد النذر الاستطاعة، مثل أن نذر زيارة مولانا سيد الشهداء- روحي لتراب مقدم زواره الفداء- في كربلاء في كل يوم عرفة

أو في يوم عرفة سنته ثمّ حصل بعده الاستطاعة للحج،

فهل يجب عليه الحج لأن صحة النذر مشروطة بكون المنذور راجحاً قابلًا لأن يكون للّٰه تعالي، و أما إذا لم يكن كذلك و لو باستلزام الإتيان به ترك الواجب فلا ينعقد.

أو يجب الوفاء بالنذر لأن وجوب الحج مشروط بالاستطاعة و التمكن، فكما يمنع المانع العقلي من حصول الاستطاعة يمنع منها المانع الشرعي و هو وجوب الوفاء بالنذر.

أو يقع التدافع بينهما لأن وجوب الوفاء بالنذر مانع من تحقق موضوع وجوب الحج و هو الاستطاعة، و وجوب الحج مانع من تحقق موضوع وجوب الوفاء بالنذر و هو كون المنذور راجحاً صالحاً لأن يكون للّٰه تعالي، فكل منهما رافع لموضوع الآخر، فلا يمكن الحكم بوجوب واحد منهما، و حينئذ إن ثبت قيام الإجماع علي عدم سقوط كليهما فلا بد من علاج هذا التدافع و الحكم بوجوب أحدهما بالخصوص إن أمكن إقامة الدليل عليه، و إلا فالحكم هو التخيير إن لم يكن أحدهما أهم من الآخر؟

و الذي ينبغي أن يقال: إننا تارة نبحث في المسألة بناءً علي القول

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 195

بالاستطاعة الشرعية، و اخري علي القول بأن الاستطاعة هي القدرة العرفية علي الحج سواء زاحمه واجب آخر أم لا.

و الذي نقول به و يقتضيه ظاهر الأدلة هو الثاني، و عليه لا يكون وجوب الحج مشروطاً بعدم المانع الشرعي، فلا يضر في حصول الاستطاعة و تنجز التكليف بالحج كون المستطيع مكلفاً بواجب آخر، و هذا بخلاف النذر فإن صحته و وجوب الوفاء به مشروطة برجحان المنذور، و مع كونه مستلزماً لترك الواجب لا يكون راجحاً.

لا يقال: إن المنذور أيضاً بتعلق الأمر بالوفاء بالنذر يكون واجباً.

فإنه يقال: إن ما هو

المعتبر في رجحان متعلق النذر رجحانه بصرف النظر عن تعلق الأمر النذري به، و مع كونه بنفسه مانعاً من الإتيان بالحج يكون مرجوحاً لا يتعلق الأمر به و لا ينعقد عليه النذر، مضافاً إلي أن ذلك يجعلهما (الحج و النذر) كالمتزاحمين، و لا ريب في أن الحج بملاحظة ما ورد في تركه من التهديد أهم من النذر.

فإن قلت: إن الاستطاعة المشروط بها وجوب الحج أيضاً يلزم أن يكون حاصلًا بقطع النظر عن الأمر بالحج و هي لا تتحقق مع استلزامه ترك الوفاء بالنذر.

قلت: إن هذا الإشكال يرد علي القول باشتراط وجوب الحج بالاستطاعة الشرعية و أن المانع الشرعي كالمانع العقلي، و أما إن قلنا بعدم اعتبار ذلك و أن ما هو المشروط به وجوب الحج هو الاستطاعة العرفية، و كون المكلف واجداً عرفاً لما يتوقف عليه المسير إلي الحج فالوجوب عليه يتنجز بكونه متمكناً من المسير عرفاً فلا يمنع من وجوبه الواجبات الابتدائية فضلًا عن الإمضائية.

هذا، و قد ظهر بذلك كله عدم انعقاد النذر إذا كان الإتيان بمتعلقه مانعاً من أداء الحج.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 196

و أما الكلام في المسألة علي القول بالاستطاعة الشرعية و وقوع التدافع بين الحكمين (وجوب الحج و وجوب الوفاء بالنذر) لكون الأخذ بأحدهما رافعاً لموضوع الآخر فهل يقدم النذر، أو الحج؟

قال في المستند: (الرابعة: إذا نذر الحج فإما أن ينوي حجة الإسلام أو غيرها أو يطلق فلا ينوي شيئاً منهما- إلي أن قال: - فإن كانت الحجة المنذورة التي غير حجة الإسلام مقيدةً بسنة الاستطاعة ففي تقديم المنذورة أو الفريضة وجهان، أجودهما الأول، وفاقاً للمختلف و المسالك و المدارك و غيرها، لعدم تحقق الاستطاعة؛ لأن المانع الشرعي كالمانع العقلي،

و علي هذا يعتبر في وجوب حجة الإسلام بقاء الاستطاعة إلي السنة الثانية). «1»

و مراده: أنه كما في العلل العقلية يؤثر السابق و يذهب بموضوع اللاحق فلا محل لتأثير اللاحق بعد تحقق السابق و تأثيره في وجود معلوله، في العلل الشرعية أيضاً الأمر كذلك فلا يقع التدافع بينهما حتي يكون اللاحق رافعاً لموضوع السابق، و إن كان احتماله في نفسه في العلل الشرعية معقولًا لكن العرف لا يعتني به و يعمل معه معاملته مع المانع العقلي.

و فيه أولًا: أن قياس العلل الشرعية علي العلل العقلية قياس مع الفارق؛ لإمكان تخلف العلل الشرعية عن هذه القاعدة فإنها تدور مدار اعتبار المعتبر، و يمكن أن يعتبرها بعكس ذلك.

و ثانياً: أن تحقق النذر الذي هو العلة الاولي يكون متفرعاً علي كون المنذور راجحاً و صالحاً لأن يكون للّٰه، و هو متوقف علي عدم كونه ملازماً لترك حجة الإسلام أو واجب آخر، و إلّا فالنذر بصيغته ليس علةً لوجوب الوفاء به.

______________________________

(1)- مستند الشيعة: 2/ 167.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 197

و بعبارةٍ اخري: علّيته لوجوب الوفاء و وجوب الكون في مشهد مولانا سيد الشهداء- عليه آلاف التحية و الثناء- متوقفة علي عدم وجوب الحج، و عدم وجوب الحج متوقف علي علية النذر للوجوب، و هذا دور، و ذلك بخلاف العلل العقلية فإن علية العلة الاولي ليست متوقفة علي عدم علية اللاحق، بل معه لا يبقي مجال لتأثير اللاحق و إن كانت علية الثاني مشروطة بعدم حصول السابق قبله.

و بعبارةٍ ثالثة: تأثير ما هو السابق في العلل العقلية غير متوقف علي عدم اللاحق فيؤثر و يوجد العلة، و لا محلَّ لتأثير اللاحق، بخلاف المقام فإن شرط علّية النذر عدم كون المنذور

مانعاً من حجة الإسلام، و هو متوقف علي عدم وجوب الحج، و عدم وجوب الحج متوقف علي صحة النذر.

و يمكن أن يقال في الذبِّ عن هذا الإشكال: إنّ الواجب الذي يمنع من وجوب الحج و حصول الاستطاعة له هو الواجب الأصلي، لا ما يجب علي المكلف التزامه به علي نفسه و وجوبه بإمضاء الشارع، فالقدرة الشرعية المأخوذة في وجوب الحج تكون بالنسبة إلي الواجبات الابتدائية فيقدم غير الحج عليه و لا يحصل معه الاستطاعة، فلا يجب الحج؛ لعدم تحقق موضوعه و هو الاستطاعة الشرعية الفارغة من مزاحمة واجبٍ آخر لها، و أما الواجبات الإمضائية مثل النذر فوجوب الوفاء به إنما يكون في مورد كان قابلًا للإمضاء و تشمله أدلة الوفاء بالنذر، و ذلك بأن يكون قابلًا ليتحقق للّٰه تعالي، و في المقام لا قابلية للمنذور لكونه كذلك حتي يكون مورداً للإمضاء، لاستلزامه بنفسه (و لو لا النذر) ترك الواجب و هو الحج.

و مما يؤكد ذلك: أنه لو صح مثل هذا النذر يتمكن المكلف به الاحتيال لسقوط الحج و دفع وجوبه بنذر الصلاة النافلة في يوم عرفة في مسجد محلته في مدة عمره.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 198

هذا، و لا يخفي أنه ربما يتمسك لأخذ القدرة الشرعية في موضوع وجوب الحج بصحيح الحلبي الذي رواه الشيخ: عن موسي بن القاسم، عن ابن أبي عمير، عن حماد عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا قدر الرجل علي ما يحج به ثمّ رفع ذلك و ليس له شغل يعذره اللّٰه فيه فقد ترك شريعةً من شرايع الإسلام» «1»؛ لأن الظاهر منه رفع وجوب الحج لمطلق العذر، و الوفاء بالنذر عذر كسائر الأعذار.

و فيه: أن الاستدلال

به من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، فإن الصحيح لم يبين ما هو العذر، فلعله كان ناظراً إلي مثل الحرج و الضرر و المرض، و أما كون الوفاء بالنذر عذراً فلم يثبت من الشرع، كما لم يثبت كون أداء سائر الواجبات عذراً لترك الحج، بل يقع التزاحم بينهما و بين وجوب الحج و يقدم ما هو الأهم.

مضافاً إلي أن كلامنا في المسألة في تحقق النذر و وقوعه صحيحاً، و أنه لا يقع كذلك إذا كان متعلقه مرجوحاً، فالوفاء بالنذر قبال أمر الحج ليس كسائر الواجبات التي يقع التزاحم بينها و بين الحج، بل وجوبه يكون مشروطاً بعدم وجوب الحج، و وجوب الحج كما ذكر مشروط بعدم وجوب النذر، فهما متدافعان لا متزاحمان، فتدبر. و اللّٰه تعالي عالم بأحكامه.

فروع:

ثمّ إنّ هنا بعض الفروع الذي تعرض له في العروة في طيِّ المسألة.

منها: (لو نذر إن جاء مسافره أن يعطي الفقير كذا مقداراً فحصل له ما يكفيه لأحدهما بعد حصول المعلق عليه) فاختار فيه عدم وجوب الحج، و ظاهره

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 3.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 199

حصوله له بعد حصول المعلق عليه في أوان الحج.

و الظاهر أنه لا فرق بين هذا الفرع و بين زيارة سيد الشهداء- عليه سلام اللّٰه- يوم عرفة و حصول الاستطاعة له، فإنه علي القول بعدم اعتبار الاستطاعة الشرعية يجب عليه الحج و ينحلّ النذر لعدم رجحان المنذور، و علي القول باعتبارها أيضاً قلنا: إنّ أدلة وجوب الوفاء بالنذر لا تشمل مورداً يلزم منه ترك الواجب لو لا النذر.

نعم، هنا يشتغل ذمة الناذر بكلي المنذور الذي له أفراد متعددة لا بأمر شخصي، إلا

أن وجوب الوفاء بالنذر لا يشمل هذا الفرد الخاص الذي يستلزم الإتيان به ترك ما هو واجب لو لا النذر، فعليه يصرف ذلك المال في الحج و يبقي الوفاء بالنذر في ذمته.

و منها: إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يصرف مقدار مائة ليرةٍ- مثلًا- في الزيارة و التعزية أو نحو ذلك فإنه أيضاً علي ما اختاره مانع من تعلق وجوب الحج به.

و الكلام فيه هو الكلام في الفرع السابق، فإنه إذا حصل ذلك عنده في أوان الحج لا يشمل أدلة النذر هذا الفرد من أفراد المنذور الذي يستلزم اختياره ترك ما يكون واجباً لو لا النذر. نعم، إذا حصل له قبل أوان الحج يجب عليه صرفه في الزيارة و التعزية.

و منها: ما إذا كان عليه واجب مطلق فوري قبل حصول الاستطاعة و لم يمكن الجمع بينه و بين الحج، ثمّ حصلت الاستطاعة فاختار أيضاً تقديم هذا الواجب علي الحج و إن لم يكن ذلك الواجب أهم؛ لأن العذر الشرعي كالعقلي في المنع من الوجوب، و أما لو حصلت الاستطاعة أولًا ثمّ حصل واجب فوري لا يمكن الجمع بينه و بين الحج يكون من باب المزاحمة فيقدم الأهم منهما، فلو كان مثل إنقاذ الغريق

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 200

قدم علي الحج.

أقول: كل ما اختاره في هذا الفرع مبني علي الاستطاعة الشرعية و أن المانع الشرعي كالمانع العقلي، إلّا أنّنا لم نفهم الفرق بين ما إذا حصلت الاستطاعة بعد ما كان عليه واجب مطلق فوري و بعد حصول الاستطاعة أولًا، ثمّ حصول واجب كذلك؛ لأنه إن كان واجب آخر مانعاً من حصول الاستطاعة فلما ذا لا يمنع بعدها؟

فإن الاستطاعة شرط للوجوب حدوثاً و بقاءً، و إن كان

لا يمنع ففي الصورتين تكون المسألة من باب التزاحم، فلا فرق بين حصول العذر الشرعي قبل الاستطاعة أو بعدها.

و علي أيِّ حالٍ فعلي ما اخترناه المسألة من باب التزاحم، فيقدّم الأهمّ منهما في الصورتين.

[مسألة 56] الاستطاعة البذلية
اشارة

مسألة 56- إذا لم يكن للشخص ما يحج به و لكن عرض عليه الحج فقيل له: «حج و عليَّ نفقتك و نفقة عيالك» أو قيل له: «حج بهذا المال» و كان المال كافياً له للحج ذهاباً و إياباً و لنفقة عياله فالكلام في المسألة يقع ضمن امور:

الأول: الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في حصول الاستطاعة و وجوب الحج بالبذل.

قال الشيخ رحمه الله في الخلاف: (إذا بذل له الاستطاعة لزمه فرض الحج.

و للشافعي فيه وجهان: أحدهما مثل ما قلناه، و الثاني و هو الذي يختارونه أنه لا يلزمه. دليلنا: إجماع الفرقة، و الأخبار الواردة في هذا المعني، و أيضاً قوله تعالي:

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 201

«مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، و هذا قد استطاع) «1»

و قال العلامة قدس سره في التذكرة: (لو لم يكن له زاد و راحلة أو كان له و لا مئونة له لسفره أو لعياله فبذل له باذل الزاد و الراحلة و مئونته ذاهباً و عائداً و مئونة عياله مدة غيبته وجب عليه الحج عند علمائنا) «2».

الثاني: يستدل علي هذا الحكم الذي ادعي عليه الإجماع قبله:

أوّلًا بالكتاب: بقوله تعالي: «مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»؛ لصدق الاستطاعة علي بذل ما يحج به، و شمول إطلاقها للاستطاعة البذلية.

لا يقال: إن الاستطاعة قد فسرت في الروايات بأنها ليست مطلقها، و أنها هي ملكية الزاد و الراحلة، و ذلك مثل قوله عليه السلام: «له ما يحج به»، أو «له زاد و راحلة».

فإنه يقال: إنّ هنا رواياتٍ اخري تدل بالإطلاق علي كونها أعم من ذلك، مثل ما في صحيح الحلبي: «إذا قدر الرجل علي ما يحج به» و صحيح معاوية: «إذا هو يجد ما يحج به» و هي تشمل صورة بذل الزاد و الراحلة.

فإن قلت: إن مقتضي صناعة الإطلاق و التقييد و حمل المطلق علي المقيد حمل الطائفة الثانية علي الاولي.

قلت: قد مضي الكلام في ذلك، و قلنا: إنّ الحمل المذكور إنما يكون في مورد التنافي بين المطلق و المقيد، مثل «أعتق رقبة» و «أعتق رقبةً مؤمنة» مع العلم بوحدة المطلوب، و أما في مسألتنا فلا تنافي بين الطائفتين.

اللهمّ إلّا أن يقال باستفادة الحصر من الطائفة

الاولي.

______________________________

(1)- الخلاف: 1/ 373.

(2)- تذكرة الفقهاء: 1/ 302.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 202

و لكن يمكن دعوي أظهرية الطائفة الثانية في الإطلاق من الاولي في الحصر، فيؤخذ بالأظهر و يترك الظاهر.

مضافاً إلي أن دلالة الاولي علي الملكية من غير قرينة ممنوعة، غاية الأمر تدل علي الاختصاص و هو أعم من الملكية.

و لو فرضنا وقوع التعارض في الروايات المفسرة فالمرجع هو إطلاق الآية، فعلي هذا تكفي في حصول الاستطاعة بالبذل الآية الشريفة.

و ثانياً بالروايات:

منها: ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد: عن أبيه و محمد بن موسي بن المتوكل، عن سعد بن عبد اللّه و عبد اللّٰه بن جعفر جميعاً، عن أحمد ابن محمد بن عيسي، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قول اللّٰه عز و جل: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» قال: يكون له ما يحج به، قلت: فمن عرض عليه فاستحيي؟ قال: هو ممن يستطيع». «1»

و منها: ما رواه الشيخ بإسناده، عن موسي بن القاسم بن معاوية بن وهب، عن صفوان، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، قال: «قلت لأبي جعفر عليه السلام:

قوله تعالي: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» قال: يكون له ما يحج به، قلت: فإن عرض عليه الحج فاستحيي؟ قال: هو ممن يستطيع و لم يستحي و لو علي حمار أجدع أبتر، قال: فإن كان يستطيع أن يمشي بعضاً و يركب بعضاً فليفعل) «2».

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 8 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 2.

(2)- تهذيب الاحكام: 5/ 3 و 4، وسائل الشيعة: ب 8 من أبواب وجوب الحج ح 1.

إلا

أن في سند التهذيب الذي بأيدينا: موسي بن

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 203

و ظاهر قوله: «فاستحيي» أنه استحيي فلم يقبل البذل، و يشهد له صحيح معاوية بن عمار حيث قال عليه السلام: «فاستحيا و لم يفعل».

الثالث: هل يتحقق البذل للحج بعرض المال علي المبذول له و إباحة تصرفه فيه

إما مطلقاً أو بصورةٍ يكون البذل واجباً علي الباذل بنذر أو عهد أو يمين و نحو ذلك، أو لا يتحقق إلا بتمليكه للمبذول له، أو هو أعم من عرض المال و التمليك، سواء كان البذل واجباً علي الباذل أم لا؟ وجوه أو أقوال.

اختار صاحب العروة و جماعة من المحشِّين حصول البذل بكلٍّ من الإباحة و التمليك، و إليك جملةً من عبائر الأصحاب:

قال الشيخ في النهاية: (فإن لم يكن له ولد و عرض عليه بعض إخوانه ما يحتاج إليه من مئونة الطريق وجب عليه أيضاً الحج و من ليس له مال و حج به بعض إخوانه فقد أجزأه عن حجة الإسلام). «1»

و قال في المبسوط: (و إذا بذل له الاستطاعة قدر ما يكفيه ذاهباً و جائياً و يخلِّف لمن وجب عليه نفقته لزمه فرض الحج لأنه مستطيع) «2». و ظاهره تحقق البذل بعرض المال و إباحة التصرف.

و قال المحقق في المعتبر: (لو بذل له الركوب و الزاد وجب عليه الحج مع استكماله بقية الشروط لتحقق الاستطاعة، و كذا لو حج به بعض إخوانه- إلي أن

______________________________

القاسم، عن معاوية، و في الوسائل موسي بن القاسم بن معاوية، و الصحيح هو ما في الوسائل أولًا؛ لأن رواية موسي- و هو من السابعة- عن جده- و هو من الخامسة- بعيد. قال سيدنا الأستاذ: (كأنها مرسلة)، و في محل آخر (مرسلة)، و إن قال السيد الخوئي: (إنه قد يروي عن جده).

و ثانياً معاوية بن وهب

من الخامسة، و هو شيخ صفوان الذي هو من السادسة، فكيف يروي صفوان عنه؟

(1)- النهاية: 204.

(2)- المبسوط: 1/ 298.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 204

قال: - و لو بذل له هبة لم يجب القبول؛ لأنه تحصيل لشرط الوجوب و هو غير لازم) «1».

و مثله قال في الشرائع «2»، و ظاهره أيضاً تحقق البذل بالإباحة و بالضيافة و عدم تحققه بالتمليك.

و قال العلامة في التحرير في مسائل الاستطاعة: (ج: لو بذل له زاد و راحلة و نفقة له و لعياله وجب عليه الحج مع استكمال الشرائط الباقية، و كذا لو حج به بعض إخوانه … أما لو وهب له مال فإنه لا يجب عليه القبول)، «3» و ظاهره أيضاً مثل ما سبق.

و مثله قال ابن فهد في المحرر: (و لو بذل له الزاد و الراحلة فقد استطاع … و لو وهب مالًا لم يجب القبول) «4».

و قال الحلّي في السرائر: (بشرط أن يملكه ما يبذل له و يعرض عليه لا وعداً بالقول دون الفعال) «5».

و قال الشهيد في الدروس: (و يكفي البذل في الوجوب مع التمليك أو الوثوق به، و هل يستقر الوجوب بمجرد البذل من غير قبول؟ إشكال، من ظاهر النقل، و عدم وجوب تحصيل الشرط) «6».

أقول: أما من اختار تحققه بعرض المال و إباحة التصرف مطلقاً فيدل عليه

______________________________

(1)- المعتبر: 2/ 752.

(2)- شرايع الإسلام: 1/ 165.

(3)- تحرير الأحكام: 1/ 91.

(4)- المحرر: سلسلة الينابيع: 30/ 508.

(5)- السرائر: 1/ 517.

(6)- الدروس الشرعية: 1/ 310.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 205

ظاهر صحيح محمد بن مسلم و علاء بن رزين عن الصادقين عليهما السلام: «و إن لم يكن البذل علي الباذل واجباً» «1». بل و يدل عليه الآية لصدق الاستطاعة به.

و

من اختار تحققه بعرض المال و التمليك يقول: إن عرض الحج صادق علي كلتي الصورتين، فكما أن إباحة التصرف في المال بذل له فتمليكه المال أيضاً بذل له و عرض عليه.

و فيه: إن كان الدليل لحصول الاستطاعة بالبذل الآية فلا تشمل صورة التمليك؛ لأن حصول الاستطاعة به محتاج إلي التملك و القبول كالهبة.

و إذا كان الدليل إطلاق الرواية مثل قوله: «هو ممن يستطيع» ففيه: أن تصحيح شمول الاستطاعة مجرد التمليك الذي لا تتحقق الاستطاعة به إلا بعد القبول، و حصول الملك محتاج إلي تنزيل التمليك منزلتها موضوعاً أو حكماً قبل هذا الاستعمال حتي يشمل اللفظ بإطلاقه الاستطاعة العرفية و الاستطاعة التنزيلية، و لا يصحّ استعمال اللفظ في الأعمّ منهما قبل هذا التنزيل إلا بإطلاق اللفظ بقصد التنزيل و إرادة هذا المعني الأعم، و هو استعمال اللفظ في المعنيين، و يرجع إلي لحاظ الموضوع و الحكم بلحاظ واحد.

و أما القول بتحقق البذل بخصوص صورة التمليك فإما أن يقول القائل به بعدم الاحتياج إلي القبول و التملك فما الفرق بينه و بين صورة الإباحة حتي نقول باختصاصه بصورة التمليك؟

مضافاً إلي أن مثل قوله عليه السلام في صحيحة معاوية بن عمار: «و إن دعاه قوم أن يحجوه فاستحيي فلم يفعل فإنه لا يسعه إلا الخروج علي حمار أجدع أبتر» «2»

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 10 من أبواب وجوب الحج ح 1.

(2)- المصدر السابق: ح 3.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 206

و قوله عليه السلام في صحيح محمد بن مسلم: «فمن عرض عليه الحج فاستحيي؟ قال: هو ممن يستطيع» «1» أظهر شمولًا لصورة الإباحة و العرض المجرد عن التمليك، فإن الظاهر منه دعوة الباذل المبذول له منه أن يكون ضيفاً له

و التزامه بأداء مصارف الحج.

و إما أن يقول باحتياجه إلي القبول، فعليه يجب أن يقول بحصول الاستطاعة بالهبة المطلقة أيضاً، فلو لم يقبل و ترك الحج يستقر عليه و يجب فعله متسكعاً.

و بالجملة: فالذي يظهر من بعض عبائر الأصحاب و الروايات أن البذل يتحقق بالإباحة، و حيث هو من الإيقاعات لا يحتاج إلي القبول، و يصير المبذول له بها مستطيعاً دون التمليك فإنه محتاج إلي القبول و هو تحصيل الاستطاعة لا عينها.

و مع ذلك فما يظهر من العروة و محشِّيها هو حصول البذل بالتمليك فلا بد لهم- مع اختيارهم عدم حصول الاستطاعة بمجرد الهبة و عدم وجوب قبولها- القول بالتعبد و التنزيل هنا؛ للفرق بين التمليك للحج و التمليك المطلق و هو بلا دليل. و اللّٰه تعالي شأنه هو العالم بجهات أحكامه.

الرابع: الظاهر أنه لا فرق في هذا الحكم بين كون الباذل موثوقاً به أو لا،

كما لا يعتبر في المال الوثوق بالبقاء؛ لعدم الفرق بين البابين، فمن كان شاكاً في تلف ماله أو رجوع الباذل من بذله لا يسقط عنه الواجب.

نعم، لو كان معتقداً عدم البقاء، أو عدم استمرار الباذل علي البذل، أو كان واثقاً به لا يجب الحج و يكون وعد الباذل له مجرد الكلام.

الخامس: قد ذكرنا فيما أسلفناه: أن وجود نفقة العود معتبر في حصول الاستطاعة،

و الظاهر أن الأمر في المقام أيضاً كذلك، فلا يصدق الاستطاعة و لا عرض الحج إلا بعرض نفقة الذهاب و الإياب.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 10 من أبواب وجوب الحج ح 1.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 207

نعم، إذا قلنا بأن وجود نفقة العود لا يعتبر في الاستطاعة إلا إذا استلزم العود الحرج فيدور الأمر مدار الحرج علي ما أسلفناه في البحث عن ذلك.

السادس: لا يعتبر في حصول الاستطاعة بالبذل وجود نفقة العيال عنده،

فمن لا يجد نفقة عياله و عرض عليه الحج يستطيع به.

نعم، إذا كان كسوباً قادراً علي نفقة عياله بالكسب و كان الحج مستلزماً لترك الكسب و عدم تمكنه من الإنفاق فالظاهر أنه لا يحصل ببذل مجرد نفقة الذهاب و الإياب الاستطاعة، و لا يصدق علي مجرد ذلك عرض الحج.

السابع: الظاهر أنه لا فرق بين الأحكام المذكورة بين ما إذا عرض عليه تمام نفقة الحج أو كان عنده بعضها

و عرض عليه ما يتمها، أما إذا كان الملاك في وجوب الحج بالبذل حصول الاستطاعة فلا ريب أنها كما تتحصّل ببذل تمامها تتحصّل ببذل متمّمها، و أما إذا كان الحكم بالوجوب بالتعبد- كما لا بد من القول به علي بعض الأقوال- فالقول بكفاية المتمّم محتاج إلي إلغاء الخصوصية، و دعوي القطع بعدم الفرق بين بذل تمام النفقة و بين متممها، و هو لا يخلو من إشكال.

[مسألة 57] منع الدين من وجوب الحج البذلي

مسألة 57- هل يمنع الدين من وجوب الحج بالبذل، أم لا؟

فإن كان المبذول له معسراً لا يتمكن من أدائه بالكسب فيجب الحج عليه بالبذل، سواء كان ذلك من صغريات حصول الاستطاعة أم لا، و أما إذا كان متمكناً من أدائه بالكسب فعلي ما اخترناه من مانعية الدين الحالِّ المطالب به من حصول الاستطاعة لا تتحقق الاستطاعة بالبذل.

نعم، إن قلنا بأن وجوب الحج بالبذل يكون من باب التعبد لا دخول المبذول

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 208

له في عنوان المستطيع تدخل المسألة في باب التزاحم، و قد قلنا: إنّ أداء الدين الحالِّ مقدَّم علي أداء الحج.

[مسألة 58] الرجوع إلي الكفاية في الحج البذلي

مسألة 58- هل يشترط في وجوب الحج بالبذل أو الاستطاعة البذلية الرجوع إلي كفاية؟

قال في المستند: (لا يشترط في المبذول له الرجوع إلي كفاية؛ لأن الظاهر المتبادر من أخبار اشتراطه إنما هو فيما إذا أنفق الحج من كفايته لا مثل ذلك، مع أن الشهرة الجابرة غير متحققة في المورد، و مع ذلك تعارضها إطلاقات وجوب الحج بالبذل و هي أقوي و أكثر، فيرجع إلي عمومات وجوب الحج و الاستطاعة العرفية). «1»

و مراده: أن الدليل علي الرجوع إلي الكفاية إن كان الأخبار مثل رواية أبي الربيع الشامي التي رواها الكليني: عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد «2»، عن ابن محبوب «3»، عن خالد بن جرير «4»، عن أبي الربيع الشامي «5» قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن قول اللّٰه عز و جل: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»؟ فقال: ما يقول الناس؟ قال: فقلت له: الزاد و الراحلة، قال: فقال أبو

______________________________

(1)- مستند الشيعة: 2/ 160.

(2)- أحمد بن محمد بن عيسي، من الطبقة السابعة، وعدته:

محمد بن يحيي، و أحمد بن إدريس، و علي بن إبراهيم، و داود بن كورة، و علي بن موسي الكميداني.

(3)- الحسن بن محبوب من السادسة.

(4)- من الطبقة الخامسة أو السادسة، خالد بن جرير بن عبد اللّه البجلي، ممدوح بالصلاح.

(5)- من الطبقة الرابعة، اسمه خليد بن أوفيٰ، و يقال له: خالد.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 209

عبد اللّه عليه السلام: قد سئل أبو جعفر عليه السلام عن هذا فقال: هلك الناس إذاً، لئن كان من كان له زاد و راحلة قدر ما يقوت عياله و يستغني به عن الناس ينطلق إليهم فيسلبهم إياه لقد هلكوا إذاً، فقيل له: فما السبيل؟ قال: فقال: السعة في المال إذا كان يحج ببعض و يبقي بعضاً لقوت عياله، أ ليس قد فرض اللّٰه الزكاة فلم يجعلها إلا علي من يملك مائتي درهم؟» «1».

فهي فيما إذا أنفق الحج من كفايته دون ما إذا لم يكن كذلك و كان الحج بإنفاق غيره.

مضافاً إلي أن الرواية حيث تكون ضعيفة السند و إن كانت منجبرة بعمل الأصحاب بها إلا أن الشهرة المنجبرة بها لم تتحقق في مثل هذا المورد.

و لو سلِّم دلالتها للمورد فهي معارضة بإطلاقات وجوب الحج بالبذل التي هي أقوي و أكثر، فيرجع إلي عمومات وجوب الحج و الاستطاعة العرفية.

أقول: أما ما أفاده من أن المتبادر من أخبار الاشتراط إنما هو فيما إذا أنفق الحج من كفايته فصحيح في محله، و أما ضعف السند و جبر ضعفه بعمل المشهور بها و قصر عملهم في غير المورد.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: 11 ب 9 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1، راجع أيضاً الكافي: 4/ 267، من لا يحضره الفقيه: 2/ 139، الاستبصار: 2/ 139.

مرآة العقول: 17/ 147. و قال في المقنعة: (و روي أبو الربيع الشامي عن الصادق عليه السلام قال: سئل عن قوله عز و جل: «مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» قال: ما يقول فيها هؤلاء؟ فقيل له: يقولون: الزاد و الراحلة، فقال عليه السلام: فقد قيل ذلك لأبي جعفر عليهما السلام فقال: هلك الناس إذا كان من له زاد و راحلة لا يملك غيرهما أو مقدار ذلك مما يقوت به عياله و يستغني به عن الناس فقد وجب عليه أن يحج بذلك ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفه، لقد هلك إذاً، فقيل له: فما السبيل عندك؟ قال: السعة في المال، و هو أن يكون معه ما يحج ببعضه و يبقي بعض لقوت نفسه و عياله، ثمّ قال: أ ليس قد فرض اللّٰه الزكاة فلم يجعلها إلا علي من يملك مائتي درهم؟).

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 210

ففيه: يمكن أن يقال أولًا: إن ضعف السند يدفع برواية الحسن بن محبوب الذي أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصح عنه.

و ثانياً: الظاهر أن المشهور في فتواهم اعتمدوا علي هذه الرواية، و هو شاهد علي ثبوت صدورها لديهم، و أما معارضة أخبار البذل معها فهي متوقفة علي كون وجوب الحج بالبذل من باب التعبد، و إلّا إن كان من باب حصول الاستطاعة المشروط بها الحج به يكون وزانه وزان الاستطاعة الغير بذلية لا يعارض أخبار الاشتراط، فالعمدة في ذلك هو أن اعتبار الرجوع بالكفاية إنما يكون فيما إذا أنفق الحج من كفايته، و في البذل لا ينفق منها فلا يشترط في وجوب الحج به الرجوع إلي الكفاية.

هذا، علي أن نقول بأن الرجوع إلي الكفاية معتبر في حصول الاستطاعة، و لو قلنا بأن اعتباره

من باب الحرج أيضاً فالحج البذلي غير مستلزم للحرج؛ لأنه لا يوجب فقد الرجوع إلي الكفاية لمن كان فاقدها.

نعم إذا كان الشخص كسوباً في مدة الحج بما يكفيه لبعد الحج و كان زمان كسبه زمان الحج و لا يقدر عليه في أثناء الحج يرفع عنه وجوب الحج بالحرج، فتأمّل.

[مسألة 59] إذا وهبه أحد ما يكفيه للحج

مسألة 59- إذا وهبه ما يكفيه لأن يحج به فهل يجب عليه القبول لصدق عرض الحج عليه، أم لا يجب لأنه من تحصيل الاستطاعة؟

يمكن أن نقول: إن وجوب الحج بعرضه علي المكلف إن كان لصدق حصول الاستطاعة به فيمكن منع حصولها بهبته ذلك لاحتياجه إلي القبول و هو تحصيل

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 211

للاستطاعة، فأيّ فرقٍ بين هبة ما يكفي للحج من غير تعيين مصرفه و بين هبته بشرط صرفه في الحج؟

نعم، إذا وهبه ما يكفيه للحج دون نفقة عياله و ما يرجع إليه لا يصير مستطيعاً به، و لو قبل الهبة فإنه محتاج إلي إنفاقه في نفقاته.

و أما إذا وهبه ما يكفيه للحج و لجميع نفقاته ذاهباً و جائياً و بعد ذلك فما الفرق بينه و بين البذل حتي يقال بصدق الاستطاعة في الثاني دون الأول.

و أما إن قلنا بكون وجوب الحج بالعرض في عرض وجوبه بالاستطاعة يمكن أن يقال بصدق العرض علي الهبة بشرط الحج، إلّا أنّ ذلك خلاف الظاهر، و ما يستفاد من الآية من حصر وجوب الحج بالاستطاعة.

و أولي بالإشكال ما إذا وهبه و خيّره بين أن يحج به، أوْ لا، فإنه أيّ فرقٍ بينه و بين ما إذا وهبه و لم يذكر الحج لا تعييناً و لا تخييراً؟ فإن في هذه الصورة أيضاً هو مخير بين صرفه في الحج و غيره،

و مع ذلك فالاحتياط حسن في كل حال.

[مسألة 60] الوقف للحج أو الوصية أو النذر له

مسألة- 60 لو وقف شخص لمن يحج، أو أوصي، أو نذر كذلك فإما أن يكون الوقف لإباحة التصرف فيه للحج أو الوصية أيضاً كذلك أو نذر ليبيح التصرف في ماله للحج فبذل ذلك له متولي الوقف أو الوصي أو الناذر فالظاهر أنه من عرض الحج يصير به مستطيعاً.

و كذا إن كان الوقف أو الوصية أو النذر للعموم كأن تكون السيارة وقفاً علي الناس للحج أو الوصية أو النذر كالخانات و المدارس التي يسكنها المسافرون و الطلاب من غير حاجة إلي إذن أحد فالظاهر حصول الاستطاعة به، و لا فرق بينه

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 212

و بين العرض من العارض الشخصي للشخص المعين، و يجي ء في الصورتين ما ذكرنا في المسائل السابقة من أنه لو لم يكن له بالفعل ما ينفق به علي عياله أو يرجع إليه بالكفاية و لكن يمكن له بترك الحج تحصيل ذلك بالكسب لا يجب عليه الحج و لا يحصل به الاستطاعة.

و إما أن يكون الوقف أو الوصية أو النذر علي أن يكون المال ملكاً له، فالظاهر أنه حيث يحتاج إلي القبول لا يحصل به الاستطاعة بدونه، و لا يجب عليه القبول لأنه تحصيل للاستطاعة، إلّا أن نقول بعدم اعتبار القبول في حصول الملكية في الوصية التمليكية و إن كان للموصي له رد الوصية.

و أولي بعدم حصول الاستطاعة و عدم وجوب القبول إن أوصي أو نذر أن يعطيه مالًا للحج بنحو نذر الفعل ففي هذه الصورة إن قلنا بأن وجوب الحج بالعرض يكون لحصول الاستطاعة به لا لكونه شرطاً مستقلًا آخر لوجوب الحج في عرض الاستطاعة لا يجب القبول لأنه تحصيل للاستطاعة.

[مسألة 61] لو حصل له من الخمس أو الزكاة ما يكفي و شرط عليه المعطي أن يحج به

مسألة 61- لو أعطاه ما يكفيه للحج خمساً أو زكاةً

و شرط عليه أن يحج به فهل يصح هذا الشرط فلا يجوز له إلا صرفه في الحج و إن كان محتاجاً إلي صرفه في نفقة عياله، أو لا يصح فلا أثر له و إن قبله المستحق فيعمل فيه ما يعمل في غيره من أمواله، فإن كان وافياً بزاده و راحلته و نفقة عياله و رجوعه إلي ما به الكفاية يجب عليه الحج لحصول الاستطاعة له،

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 213

و إلا لا يجب؟

و الذي يمكن أن يقال: إنّه لا ولاية علي حق السادة أو الفقراء لمن كان عليه بشرط ذلك عليهم و سلب ولايتهم عنه، فجواز كل شرط بالنسبة إليه متفرع علي الولاية عليه، فكما أنه ليس للوصي و لا لناظر الوقف و لا للناذر جعل شرط زائداً علي ما هو المقرر في الوقف و النذر و الوصية، و كما ليس للمديون أن يشترط علي الدائن صرف الدين في مورد خاص و لا يتجاوز كل ذلك و إن قبله الدائن و المنذور و الموقوف عليهم عن الوعد و الشرط الابتدائي الذي لا يجب الوفاء به، ليس لمن عليه الخمس أو الزكاة أيضاً ذلك.

هذا، مضافاً إلي ما يمكن أن يقال: إن الدفع الخارجي التكويني لهذه الأموال إلي أصحابها لا يقبل التعليق كسائر الامور التكوينية الخارجية مثل الأكل و الشرب، فلا يمكن أن يكون الأكل الخارجي معلقاً علي أمر؛ لأن تعليقه علي أمر ربما يحصل، و ربما لا يحصل، مثل صرف المال في الحج ينافي وجوده الخارجي؛ لعدم إمكان وجود المعلق قبل المعلق عليه، فتعليق الدفع الخارجي بشرط صرف المال في الحج أمر لا نتعقل معناه فإن الدفع حاصل، حصل الشرط أم لم يحصل.

اعلم: أن الشرط الذي

يجب الوفاء به هو الشرط المعامليّ المرتبط بالمعاملة ارتباطاً لا يتحقق مفاد المعاملة و ما يترتب عليها من الأثر إلّا بالالتزام به أو العمل به، كالبيع و النكاح و الملكية و الزوجية فإنها لا تتحقق إلا بالالتزام بالشرط و ما علقت به فلا يمكن أن تتحقق بدونه.

و أما الامور الخارجية التكوينية فلا تقبل مثل هذا التعليق و الارتباط بشي ء آخر، و لا يكون جعل الارتباط بين الشرط و المشروط فيه إلا مجرد الوعد بتقارن فعلٍ عند فعل آخر، و هذا ليس مشمولًا لأدلة الوفاء بالشرط، ففي ما نحن فيه تعليق

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 214

إعطاء الزكاة بمعناه المصدري الذي هو فعل الدافع علي صرفها في الحج لا يرتبط تحقق الدفع خارجاً بصرفها في الحج، فيمكن تحققه في الخارج معه و بدونه.

و بعبارةٍ اخري: أمر الدفع وجوداً و عدماً موكول إلي الدافع و ليس لالتزام المدفوع إليه بصرفها في الحج دخل في تحققه، فلا دخل لالتزامه في حصوله فهو يكون مجرد التزام مقارن له، لا فرق بينه و بين الشروط الابتدائية، و لا يرتبط بقوله:

دفعتها لك لتحج به أحدهما بالآخر، فلا يلتزم علي الدافع دفعه، و لا علي المدفوع إليه صرفه في الحج.

و هذا معني ما قلنا: إن الأكل و الشرب و الأفعال التكوينية و رفع هذه الأموال إلي أصحابها بما أنه من الأفعال الواقعية لا يقبل التعليق و لا يرتبط وجوداً و عدماً بالشرط بأمر آخر.

فإن قلت: إن الدفع معلق علي التزام المشروط عليه بالعمل بالشرط.

قلت: لا يرتبط بهذا الالتزام المعلق به بالمعلق عليه واقعاً و وجوداً و عدماً، فلا يتجاوز ما حصل بين الدافع و المدفوع إليه من مواعدة بينهما.

فإن قلت: يمكن أن يكون

الشرط من قبيل القيد للمدفوع إليه بأن يدفعه له مقيداً بكونه يحج بهذا المال، فجواز تصرفه فيه يدور مدار الحج به.

قلت: إن المستحق و هو الشخص الخارجي لا يتعدد بكونه- مثلًا- لابساً قميصاً أبيض أو يحج بهذا المال، فهو هذا الشخص الذي دفع له المال سواء كان بحال كذائي أو بصفة كذائية أو غيرها. و بالجملة: فالمال مدفوع للمستحق و كونه بصفة كذائية يكون من دواعي الإعطاء به، كما أن الائتمام يتحقق بالإمام الحاضر و كونه زيداً أو عَمراً يكون داعياً للائتمام به فالايتمام يتحقق به و قيد كونه كذا يكون لغواً.

نعم، إن قصد الائتمام بزيد و كان الإمام عَمراً لا يتحقق الائتمام، و هكذا فيما نحن فيه فإنه يدفع الزكاة إلي المستحق و لا يقيد بكونه يحج به لعدم دخله في

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 215

الاستحقاق، كما أن الائتمام بالإمام الحاضر لا يقيد بكونه زيداً لعدم دخله في صدق الائتمام بالإمام الحاضر.

[مسألة 62] لو يعطي من سهم في سبيل اللّٰه ليحج به

مسألة 62- إذا أعطي الفقير أو الغني من سهم في سبيل اللّٰه ليحج به و كان في ذلك مصلحة عامة للإسلام و المسلمين أو لم يكن، و قلنا بكفاية كون الفعل في ذاته محبوباً مرغوباً إليه في الشرع فهل يحصل له الاستطاعة بمجرد ذلك، أو محتاج إلي القبول؟

الظاهر أنه إذا كان بنحو الإذن في التصرف و إباحته يجب عليه الحج لحصول الاستطاعة به و عدم الاحتياج إلي القبول.

و أما إذا كان ذلك بنحو الإعطاء و التمليك فيمكن القول بعدم وجوب القبول، لأنه تحصيل للاستطاعة فلا يجب عليه الحج، و في هذه الصورة أيضاً إن قبل الإعطاء يصير مستطيعاً و يكون حجه مجزياً عن حجة الإسلام.

و القول بعدم إجزائه عن حجة الإسلام لعدم

صدق عرض الحج عليه؛ لأنّ الظاهر من عرض الحج هو عرضه لأن يحج لنفسه بحيث يضاف إليه، و هنا يضاف إلي من عرض عليه الحج كحج الأجير و النائب.

ساقط جداً، فإنه أولًا أن هنا أيضاً الحج يضاف إلي نفسه و هو ينوي الحج لنفسه، دون النائب و الأجير فإنهما ينويانه للغير، و إلا فيقال: في سائر صور البذل أيضاً يضاف الحج إلي الباذل دون المبذول له.

مضافاً إلي أن الملاك في العرض هو حصول الاستطاعة للحج، و هنا أيضاً تحصل الاستطاعة، و لا فرق بين الصور أصلًا.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 216

[مسألة 63] كفاية الحج البذلي عن حجة الإسلام

مسألة 63- هل الحج البذلي يجزي عن حجة الإسلام، أو يجب علي المبذول له حجة الإسلام إن صار موسراً و حصل له الاستطاعة بعد ذلك؟

اعلم: أنه قد ادّعي الشهرة العظيمة علي إجزاء الحج البذلي عن حجة الإسلام، خلافاً للشيخ في الاستبصار (في الباب 83) قال: (باب المعسر يحج به بعض إخوانه ثمّ أيسر هل تجب عليه إعادة الحج، أم لا؟

1- محمد بن يعقوب «1»، عن حميد بن زياد «2»، عن ابن سماعة «3»، عن عدة من أصحابنا «4»، عن أبان ابن عثمان «5»، عن الفضل بن عبد الملك «6»، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل لم يكن له مال فحج به اناس من أصحابه أ قَضيٰ حجة الإسلام؟ قال: نعم، و إن أيسر بعد ذلك فعليه أن يحج، قلت: هل تكون حجته تلك تامة أو ناقصة إذا لم يكن حج من ماله؟ قال: نعم، قضي عنه حجة الإسلام و تكون تامة و ليست ناقصة، فإن أيسر فليحج».

2- فأما ما رواه الحسين بن سعيد «7»، عن فضالة بن أيوب «8»، عن معاوية

بن

______________________________

(1) محمد بن يعقوب الكليني قدس سره.

(2) من الطبقة الثامنة، كوفي، عالم جليل القدر، واسع العلم كثير التصانيف، روي الأصول أكثرها، له كتب كثيرة، مات سنة 313.

(3) الحسن بن محمد بن سماعة، من السابعة، من شيوخ الواقفية، كثير الحديث، ثقة.

(4) لم نعرف العدة منهم، و في ترتيب أسانيد الكافي غير واحد من أصحابنا.

(5) الأحمر، من الخامسة، من الناووسية، قيل في حقه: إن العصابة أجمعت علي تصحيح ما يصح عنه.

(6) هو أبو العباس البقباق، من الخامسة، ثقة له كتاب.

(7) من السابعة، ابن حماد الأهوازي، مولي علي بن الحسين عليه السلام، جليل القدر، صاحب

(8)- الأزدي، من السادسة، ثقة في حديثه مستقيم في دينه.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 217

عمار «1»، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل لم يكن له مال فحج به رجل من إخوانه أ يجزيه ذلك عنه من حجة الإسلام أو هي ناقصة؟ قال: بل هي حجة تامة».

فلا ينافي الخبر الأول الذي قلنا: إنه يعيد الحج إذا أيسر؛ لأنه إنما أخبر أن حجته تامة، و ذلك لا خلاف فيه أنها تامة يستحق بفعله الثواب، و أما قوله في الخبر الأول: «و يكون قد قضي حجة الإسلام» المعني فيه الحجة التي ندب إليها في حال إعساره فإن ذلك يعبر عنها بأنها حجة الإسلام من حيث كانت أول الحجة و ليس في الخبر أنه إذا أيسر لم يلزمه الحج بل فيه تصريح أنه إذا أيسر فليحج و ذلك مطابق للأصول الصحيحة التي تدل عليها الدلائل و الأخبار). «2»

و لكنه في التهذيب قال في رواية الفضل: (محمول علي سبيل الاستحباب، يدل علي ذلك الخبر الأول (يعني خبر معاوية بن عمار)، و قوله عليه السلام في هذا الخبر

أيضاً: «قد قضي حجة الإسلام و تكون تامة و ليست بنا قصة» يدل علي ما ذكرناه، و ما اتبع من قوله عليه السلام: «و إن أيسر فليحج» المراد به ما ذكرناه من الاستحباب؛ لأنه إذا قضي حجة الإسلام فليس بعد ذلك إلا الندب و الاستحباب). «3»

ثمّ إنّ هنا خبرين آخرين:

أحدهما: يدل أيضاً علي وجوب الحج إذا أيسر، و هو ما رواه الكليني رحمه الله:

عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد و سهل بن زياد جميعاً، عن أحمد بن محمد

______________________________

المصنفات، روي عن الرضا و الجواد و الهادي عليهم السلام أصله كوفي و انتقل مع أخيه الحسن إلي الأهواز، ثمّ تحول إلي قم فنزل علي الحسن بن أبان، توفي في قم.

(1)- البجلي، من الخامسة، كبير الشأن، عظيم المحل، ثقة، و أبوه ثقة في العامة وجهاً.

(2)- الاستبصار: 2/ 143، وسائل الشيعة: ب 10 من أبواب وجوب الحج ح 6 و 2.

(3)- تهذيب الأحكام: 5/ 7.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 218

بن أبي نصر، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لو أن رجلًا معسراً أحَجَّه رجل كانت له حجة، فإن أيسر بعد ذلك كان عليه الحج، و كذلك الناصب إذا عرف فعليه الحج و إن كان قد حج» «1».

و ثانيهما: ما ربما يستدل أو يستشهد به علي عدم وجوب الحج ثانياً، و هو ما رواه الصدوق رحمه الله: عن جميل بن دراج «2»، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجل، ليس له مال حج عن رجل أو أحجه غيره ثمّ أصاب مالًا هل عليه الحج؟ فقال: يجزي عنهما» «3».

إلا أن ظهوره في ذلك محل إشكال لمكان قوله عليه السلام:

«يجزي عنهما» و تردد المراد منه بين معانٍ متعددة:

أحدها: كون المراد من الضمير في «عنهما» المنوب عنه و الذي أحج به، إلّا أنّ عليه قد أجيب عما لم يسأل عنه السائل و هو إجزاء الحج عن المنوب عنه.

و ثانيهما: أن يكون المراد من الضمير حجَّ كلِّ واحدٍ منهما، يعني يجزي حج النائب و حج المحج به عن نفسه، و فيه يأتي ما في الاحتمال الأول.

و ثالثها: أن يكون المراد من الضمير: المنوب عنه و النائب، و أنه يجزي عنهما، و يكون مثل ما رواه معاوية بن عمار عمن حج عن غيره «أ يجزيه ذلك عن حجة الإسلام؟ قال: نعم».

و رابعها: أن يكون المراد المنوب عنه و النائب يكون الإجزاء حقيقة بالنسبة إلي المنوب عنه و مجازاً بالنسبة إلي النائب.

و خامسها: أن يكون المراد من قوله: «أحجه غيره» أحجه عن الرجل

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 21 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 5.

(2)- من الطبقة الخامسة، من الأكابر و الأعاظم.

(3)- وسائل الشيعة: ب 21 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 6.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 219

غيره، و يكون المراد من الضمير: الرجلين المنوب عنهما، فالمعني يجزي عنهما و لا يجزي عن نفسه.

و سادسها: أن يكون قوله: «يجزي عنهما» علي سبيل الاستفهام الإنكاري.

و سابعها: ما احتمله بعض الأعلام من عود الضمير إلي ما أتي به من الحج يجزي و يكون صحيحاً و يجزي أيضاً عن الحج إذا استطاع و أيسر، أي لا يجب عليه الحج ثانياً إذا أيسر، و هذا الاحتمال غريب جداً.

و ثامنها: أيضاً ما في كلامه من عود الضمير إلي النائب و المبذول له فيدل علي إجزاء حج النائب عن نفسه و المبذول له،

قال: (لكن في مورد النائب نلتزم بالحج عليه إذا أيسر لأجل دليلٍ آخر دالٍّ علي عدم سقوطه عنه). «1»

و الحق أن الاعتماد علي واحد من هذه الاحتمالات و دعوي ظهور الرواية في بعضها ليس من الاعتماد علي ظهور الألفاظ في معانيها بشي ء، فنبقي نحن و رواية البقباق و أبي بصير من جانب، و صحيح معاوية بن عمار من جانب آخر.

أما رواية البقباق فدلالتها غير معمول بها؛ لأنها تدل علي قضاء حجة الإسلام تامة و غير ناقصة و وجوب حج آخر عليه، و لم يقل بذلك أحد، فإذاً يتجه ما حمله الشيخ عليه من أنه إذا لم تكن عليه حجة الإسلام و كانت تامة غير ناقصة فليس بعد ذلك إلا الندب و الاستحباب.

و أما خبر أبي بصير فيجوز حمله أيضاً علي الاستحباب، مضافاً إلي ما في ذيله من وجوب الحج علي الناصب بعد ما عرف الحق فإنه أيضاً محمول علي الاستحباب بناءً علي كون المراد من الناصب مطلق المخالف و إن لم يكن مبغضاً لهم عليهم السلام لعدم وجوب إعادة حجة الإسلام عليه.

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 176.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 220

فعلي كل ذلك المتجه هو الأخذ بصحيحة معاوية بن عمار الصريحة في إجزاء حجه عن حجة الإسلام، الموافقة لما هو المجمع عليه من عدم وجوب غير حجة الإسلام، و المؤيدة برواياتٍ من باب البذل دالّةٍ علي كون حج المبذول له حجة الإسلام.

و أيضاً يدل علي ذلك صحيح هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «ما كلّف اللّٰه العباد إلّا ما يطيقون، و إنما كلّفهم في اليوم و الليلة خمس صلوات- إلي أن قال و كلفهم حجةً واحدةً و هم يطيقون أكثر من

ذلك» «1».

و في خبر الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال: «إنما امروا بحجةٍ واحدةٍ لا أكثر من ذلك» «2».

ثمّ إنه لا يخفي عليك أن مرادهم من الشهرة العظيمة أو عدم الخلاف بين الأصحاب في كفاية الحج البذلي عن حجة الإسلام إن كان الشهرة بين القدماء فلم نعثر علي مصرح بذلك غير الشيخ قدس سره في التهذيب «3»، و في النهاية حيث قال في الأخير: (و من ليس معه مال و حج به بعض إخوانه فقد أجزأه ذلك عن حجة الإسلام و إن أيسر بعد ذلك، إلا أنه يستحب له أن يحج بعد يساره فإنه أفضل) «4».

و غير الحلي فإنه أفتي بذلك في السرائر «5»، و ابن البراج فإنه قال في المهذب: (و من لا يكون متمكناً من الاستطاعة و مكّنه بعض إخوانه من ذلك وجب عليه

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 3 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1.

(2)- المصدر السابق: ح 2.

(3)- تهذيب الأحكام: 5/ 7.

(4)- النهاية: 204.

(5)- السرائر: 1/ 515.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 221

الحج، فإن أيسر بعد ذلك كان عليه إعادة الحج استحباباً) «1».

نعم، تحقق الشهرة عليه من عصر المحقق إلي زماننا هذا، و أما دعوي عدم الخلاف في المسألة فينبغي أن يكون المراد به عدم الخلاف بين من تعرض لها إلّا الشيخ في الاستبصار كما تقدم.

و الحاصل: أن الاعتماد علي الشهرة و عدم الخلاف ليس في محله. نعم، يمكن تأييد عدم الخلاف في المسألة بين القدماء بعدم ذكرهم في كتبهم هذا الفرع، مع أنهم كانوا ملتزمين بالفتوي علي طبق الروايات. و اللّٰه تعالي عالم بأحكامه.

[مسألة 64] الرجوع عن البذل في الحج
اشارة

مسألة 64- هل يجوز للباذل الرجوع عن بذله، أم لا؟

الكلام في المسألة يقع في جهات:
الجهة الاولي: فيما إذا رجع عنه قبل أن يحرم المبذول له،

و الظاهر أنه يجوز له ذلك، لقاعدة السلطنة، و لأن مجرد البذل و إباحة التصرف للمبذول له لا يوجب عدم جواز الرجوع إليه.

نعم، إن كان ذلك بالهبة و التمليك و قلنا بحصول العرض و وجوب القبول إذا كانت بشرط صرف المال الموهوب في الحج فالمسألة تدخل في مسائل الهبة، فإن رجع الباذل قبل القبول أو بعده و قبل القبض أو بعد القبض و كان المال موجوداً و كانت الهبة لغير ذي رحمٍ فالرجوع جائز، و إلا إذا كان الرجوع بعد القبض و تصرف المتهب في المال أو قبل التصرف و كان المتهب ذي رحمٍ لا يجوز الرجوع.

و هذه الفروع تجري كلها في الجهة الثانية إن قلنا فيها بجواز الرجوع إلي البذل

______________________________

(1)- المهذب: 1/ 268.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 222

و كان البذل بالهبة.

الجهة الثانية: فيما إذا رجع عن بذله بعد دخول المبذول له في الإحرام،

قال السيد قدس سره في العروة: (و في جواز رجوعه بعده وجهان).

و الذي ينبغي أن يقال: إن مقتضي قاعدة السلطنة جواز الرجوع إليه؛ لأنّ المال لم يخرج عن ملكه بالإباحة و الإذن في التصرف، و جواز تصرف المبذول له يدور مدار بقاء الإذن و عدم رجوع المالك عن إذنه كسائر الموارد.

و لو كان البذل بالهبة فحكمه ما ذكرناه في الجهة الاولي. و بالجملة: لا وجه لالتزام الاذن و المبيح بالبقاء علي إذنه و إباحته و منعه من إعمال سلطنته في ماله، فعلي هذا عدم جواز الرجوع محتاج إلي الدليل.

و الذي يمكن أن يقال أو قيل في وجه عدم الجواز امور:

الأول: أنّه لا يجوز الرجوع لوجوب إتمام الحج علي المبذول له، و معه لا يجوز للباذل الرجوع إلي بذله؛ لأنه موجب لتفويت تمكن المبذول له و عدم قدرته من إتمام العمل الواجب عليه بتسبيب

الباذل، كما ليس لمن أذن لغيره في الصلاة في ملكه أن يرجع عنه بعد شروع المأذون له في الصلاة؛ لاستلزامه فعل الحرام و هو قطع الصلاة.

و فيه أولًا: أنّا نمنع أن يكون الأمر في المقيس عليه كذلك؛ لأن ما هو الحرام قطع الصلاة اختياراً، و هذا غير انقطاعه برجوع الآذن من إذنه و حصول غصبية المكان.

و بعبارةٍ اخري: دليل حرمة قطع الصلاة و إبطالها الإجماع، و القدر المتيقن منه الإبطال و القطع الاختياري، و بطلانها و انقطاعها ببعض الأسباب خارج عن ذلك، بل لا يمكن أن يشمله الإجماع، بل و لا قوله تعالي: «لٰا تُبْطِلُوا أَعْمٰالَكُمْ» «1» إن قلنا

______________________________

(1)- محمد/ 33.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 223

بأن المراد منه قطع الأعمال و إبطالها بالاختيار فإن الانبطال غير الإبطال و خارج عن موضوع الإجماع و الدليل.

و ثانياً: أنّ قياس البذل و الحج بالإذن للصلاة في الملك مع الفارق؛ لأن المصلِّي برفع الإذن لا يتمكن من إتمام صلاته في المكان المأذون فيه، سواء بنينا في مبحث اجتماع الأمر و النهي علي الامتناع أو علي الجواز علي ما ذكرناه في تقريراتنا لأبحاث سيدنا الاستاذ الأعظم قدس سره الاصولية، و أما في الحج فالمبذول له متمكن من الإتمام متسكعاً و بالاستدانة أو غير ذلك.

و ثالثاً: نمنع وجوب إتمام العمل، لأنّ وجوبه مشروط حدوثاً و بقاءً بالاستطاعة، فلا وجوب مع زوال الاستطاعة، فلا يجب عليه الإتمام بل يجوز له رفع اليد عن الإحرام و الرجوع عن الحج، كما إذا سرق مال الاستطاعة.

الأمر الثاني: كما أن إذن المالك للشروع في الصلاة إذن للإتمام؛ لأن الإذن في الدخول في الصلاة الصحيحة مستلزم للإذن بإتمامها في ملك المالك؛ لأن الإذن في الشي ء إذن في

لوازمه كذلك بذل الباذل المال للشروع في الحج بذل للمبذول له و إذن له لإتمامه.

و فيه: أن البحث ليس في أن إذن المالك في الدخول في الصلاة في ملكه هل هو إذن لإتمامه فيه: حتي نحتاج إلي إثباته بأن الإذن في الشي ء إذن في لوازمه.

بل البحث في أن المالك بعد إذنه، بالدخول في الصلاة و إتمامها في ملكه هل يجوز له الرجوع من إذنه أم لا؟ فلا ارتباط لما نحن فيه بقاعدة الإذن في الشي ء إذن في لوازمه؛ لأن البحث عن القاعدة بحث في استلزام الإذن في الشي ء الإذن في لوازمه و تحقق الإذن في اللازم بتحقق الإذن في الملزوم.

و هنا بحث في جواز العدول عن الإذن سواء كان الإذن، في الشي ء أو في لوازمه، و سواء ثبت الإذن بالقاعدة المذكورة أو بدليل آخر.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 224

و هذا مثل رجوع المالك عن إذنه في البناء في ملكه فإنه عين الإذن في بقائه أو مستلزم له، إلا أنه له أن يرجع عن إذنه و يزيل البناء لقاعدة السلطنة، إلا إذا كان موجباً للضرر فالمرجع هو قاعدة الضرر الحاكمة علي قاعدة السلطنة.

و هل يجب علي المأذون إخلاء الارض لو طلب ذلك منه المالك؟ الظاهر عدم الوجوب؛ لأن إشغال الأرض كان بإذن المالك، و هذا مثل أن يأذن المالك غيره بنقل ماله إلي مكان آخر للانتفاع منه و رجوعه منه فإنه لا يجب للمأذون نقله إلي مكانه الأول.

الأمر الثالث: كما أنه ليس للمالك الذي أذن غيره في رهن ملكه أن يرجع عنه و لا أثر لرجوعه في فك الرهن كذلك لا أثر لرجوع المالك عن إذنه و بذله في الصلاة و الحج بعد الشروع في الصلاة

و بعد الإحرام.

و فيه: أنه فرق بينهما: فإن الرهن سواء كان العين ملكاً للراهن أو رهنها بإذن مالكه يوجب حقاً للمرتهن متعلقاً بالعين لا يؤثر رجوع الراهن أو المالك في إزالة ذلك الحق و سلطنة المرتهن عليه، بخلاف الإذن في التصرف و الإباحة فإنه لا يفيد حقاً للمأذون له علي المأذون فيه.

و وجه ذلك كما صرح به بعض أعاظم العصر: كون عقد الرهن المأذون فيه من المالك من الامور الغير قارّة التي تحدث و تنعدم فإذا حدث بإذن من له الإذن يحدث أثره و هو صيرورة العين رهناً لمال المرتهن، و هي توجد في عالم الاعتبار غير منوطة بالإذن، و المأذون فيه و هو العقد حدث و انعدم لا يقبل الانعدام برجوع المالك عن إذنه، بخلاف الرجوع إلي البذل فإن الرجوع فيه موجود يدوم بدوام الإذن و بقائه كحدوثه محتاج إلي بقاء الإذن. «1»

______________________________

(1)- راجع مستمسك العروة: 10/ 141.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 225

و بعبارةٍ اخري: ما هو الموضوع للإذن تارةً يكون أمراً حادثاً لا بقاء له و لا استمرار مثل العقد حتي يكون في البقاء محتاجاً إلي الإذن و ينعدم برجوع الآذن عن إذنه، و تارةً يكون أمراً صالحاً للبقاء و الاستمرار كالمال المبذول إباحة و التصرف في المكان، و مثله إذا كان موضوعاً للإذن يكون محتاجاً إليه في الحدوث و البقاء و قابلًا لرجوع المالك عن إذنه فيه، و عقد الرهن يكون من قبيل الأول لا محل لرجوع المالك فيه عن إذنه، و البذل و إباحة التصرف من الثاني يحتاج بقاؤه إلي بقاء إذن الباذل.

لا يقال: إنّ المأذون فيه في الرهن ليس العقد الصادر من الراهن و المرتهن فإن وجوده لا يحتاج إلي

إذن المالك، بل المأذون فيه يكون ما هو المسبب من عقد الرهن، أي صيرورة المال رهناً عند المرتهن و له البقاء في عالم الاعتبار، و هو يدور مدار بقاء إذن المالك.

فإنه يقال: إنّ صيرورة المال رهناً لا يتحقق إلّا بأن لا يكون للمالك الرجوع عن إذنه و لا يقبل الانعدام برجوعه، بخلاف ما نحن فيه فإن إباحة التصرف و الإذن فيه لا تتوقف علي أن لا يكون للمالك الرجوع عن إذنه تكليفاً أو وضعاً.

الأمر الرابع: التمسك بقاعدة الغرور، إلّا أنّ التمسّك بها لعدم جواز الرجوع إلي البذل ليس في محله، نعم للتمسك بها لضمان الباذل ما أنفق المبذول له لإتمام الحج إذا قلنا بإتمامه أو ما أنفقه قبل رجوعه عن البذل في ذهابه أو ما يلزم عليه من نفقة عوده وجه يأتي بيانه.

و قد ظهر بذلك كله عدم وجود ما يمنع من جواز رجوع الباذل إلي بذله بعد الإحرام.

الجهة الثالثة: بناءً علي جواز رجوع الباذل إلي بذله، هل يضمن للمبذول له مصاريف عوده إلي وطنه،

أو مصاريف إتمام حجه إن قلنا بوجوب إتمامه

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 226

بالشروع لإطلاق مثل قوله تعالي: «وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّٰهِ»؟ إن قلنا: إن المراد منه الأمر بإتمام الحج و العمرة لا أداؤهما بآدابهما و أجزائهما تامّاً لقاعدة الغرور و النبوي المرسل: «المغرور يرجع علي من غره» المنقول في بعض الكتب مثل الجواهر في كتاب الغصب، و حكي عن المحقق الثاني في حاشية الإرشاد و عن ابن الأثير في النهاية و إن لم نجده فيه، كما لم نجده في ما عندنا من المعاجم و فهارس كتب حديث الخاصة و العامة، و لعله كان من العمومات الملتقطة و قد التقط من طائفة من الروايات في موارد خاصة.

و كيف كان لا ريب في حجية القاعدة في

الجملة، و الظاهر أنه إذا كان الحال بحيث يعتمد العرف علي وعد الباذل و يصدق اغتراره بإباحته و إذنه إن رجع عنه يكون هو ضامناً لما يقع فيه المبذول له من الضرر و يصدق علي المتضرر عنوان المغرور.

و لكن مع ذلك في النفس شي ء من ذلك، لأنّ الظاهر من «غرّه» و «الغارّ» و «المغرور» هو ما إذا كان الغار عالماً بالضرر و العيب و دلّس علي المغرور و أخفاه عنه أو سكت، أو و إن لم يكن عالماً به كان المورد ضررياً حين إقدام الغار و المغرور.

و أما إذا لم يكن كذلك مثل الإذن في التصرف و إباحته ثمّ رجع الآذن بعد ذلك فليس من هذه الأمثلة بشي ء، و لا تشمله قاعدة الغرور، اللهم إلا أن يدّعي بناء العرف و العقلاء في مثل ذلك علي ضمان الآذن للمأذون له، و حيث لم يردع الشارع منه فهو المتبع.

فإن قلت: فلما ذا لم نَدّعِ بناء العقلاء علي عدم جواز الرجوع عن الإذن في مثل ذلك؟

قلت: هذا الارتكاز العقلائي إنما يكون لعدم قبولهم وقوع المبذول له في الضرر، و أما عدم جواز رجوع الباذل في ماله فلا بناء لهم عليه لكونه ناقضاً

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 227

لسلطنته علي ماله، فعلي هذا كله الأقوي هو وجوب تدارك ضرر المبذول له علي الباذل الراجع عن إذنه.

بيان في قاعدة الغرور

اعلم: أن الغرور هو انخداع الشخص عن آخر بترغيبه ذلك الشخص إلي فعل يترتب عليه الضرر. و التغرير هو ترغيب الغير إلي الفعل المذكور، و القدر المتيقن منه الذي تشمله القاعدة هو صورة علم المرغِّب بالحال و جهل المنخدع بذلك.

و أما صدق الغرور و التغرير علي صورة جهلهما بذلك فالإشكال فيه ينشأ من عدم

صدق عنوان التغرير و الخدع و الغار علي فعل المرغب الجاهل و علي نفسه سيما إذا كان مشتهياً و مريداً لإيصال النفع إلي الآخر.

و اجيب عنه: بأنّ صدق عناوين الأفعال عليها إذا لم تكن قصدية لا يتوقف علي قصدها، فإذا ضرب أو أكل أو مشي أو تكلم يصدق علي فعله عنوان الضرب و الأكل و المشي و التكلم و إن لم يقصدها و صدرت منه غافلًا و ناسياً، و لذا قالوا: إن الطبيب ضامن و إن كان حاذقاً، فإذا كان الحال علي نحو يعتمد في العرف علي ترغيب الشخص مثل الطبيب يكون المرغب هو دافع الفاعل إلي الضرر و موقعه فيه و إن كان جاهلًا بترتب الضرر علي الفعل، فعلي هذا يكون مثله داخلًا في عنوان الغار و يصدق علي ترغيبه التغرير.

هذا بحسب الموضوع، فالمرغب الجاهل بالضرر غار، كما أن العالم به غار، إلّا أن كون الأول ضامناً للمغرور كالثاني يدور مدار شمول ما يدل علي القاعدة له، و ذلك يختلف باختلاف المباني و ما يستند إليه للقاعدة.

فإن كان الدليل لإثبات الحكم و ضمان الغار ما عبر عنه بعضهم بالنبوي و هو

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 228

«أنّ «المغرور يرجع علي من غره» فهو يشمل صورة جهل الغار كما يشمل صورة علمه به إلّا أنّه راجعنا ما عندنا من المعاجم و فهارس كتب حديث العامة و الخاصة فلم نجده في واحد منها.

نعم، في مورد من الجواهر «1» ذكره بقوله: بل لعل قوله عليه السلام: «المغرور يرجع علي من غره» ظاهر في ذلك، و لا يستفاد من كلامه أنه من النبويات أو غيرها، و حكي عن ابن الأثير في النهاية و لم نجده فيه، كما حكي عن

المحقق الثاني في حاشية الإرشاد و لعله كان من العمومات الملتقطة من الروايات.

و إن كان المدرك لها الإجماع فهو علي تقدير حجيته و كونه إجماعاً تعبدياً لا يحتج به إلا فيما هو القدر المتيقن منه و هو صورة علم الغار.

و إن كان الدليل هو الأخبار فهي ظاهرة فيما إذا كان الغار عالماً بالضرر، مثل ما ورد في باب تدليس المرأة و رجوع المحكوم عليه إلي شاهد الزور.

و إن كان المدرك أن الغار أتلف علي المغرور ما خسر و تضرر، و أنه هو السبب لوقوع المغرور في الضرر لكونه أقوي من المباشر فعليه و إن كان خرج القاعدة عن كونها قاعدة مستقلة و تدخل في قاعدة «من أتلف» تشمل الغار الجاهل بوقوع الضرر علي المغرور إذا كان هو عند العرف أقوي من المباشر مثل الطبيب و المريض.

و إن كان الدليل علي القاعدة سيرة العقلاء و استقرارها علي تضمين الغار إذا تضرر بفعله المغرور الجاهل فالظاهر أنه لا فرق في ذلك عندهم بين الغار العالم و الجاهل، و لذا يرجعون إلي من بايع مالا اشتراه من غير مالكه و إن كان جاهلًا بالحال، و علي هذا فالأقوي بحسب النظر ضمان الغار سواء كان عالماً بالضرر أو

______________________________

(1)- جواهر الكلام: 37/ 145.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 229

جاهلًا به إذا كان المغرور جاهلًا.

و أما الكلام في المقام و أنه هل يكون رجوع الباذل عن إذنه تحت هذه القاعدة و يكون هو كالغار أم لا؟ من جهة أن ترغيب الغير إلي فعل يترتب عليه الغرر يكون تغريراً إذا كان الفعل ملازماً لذلك ضررياً علي الفاعل فيرجع المغرور إلي الغار إن كان جاهلًا بالحال.

و أما الترغيب و الإذن إلي فعل لا يلازمه

يترتب الضرر عليه، بل يكون بحيث قد يترتب عليه الضرر و قد لا يترتب ليس من التغرير إليه بشي ء، مضافاً إلي أن الإذن في التصرف و إباحته ليس الترغيب إليه.

و الحاصل: أنّ الباذل لا يضمن ما يتضرر المبذول له من رجوعه إلي بذله، فهل تري أنه إذا بذل له الراحلة فتلفت بعد الإحرام و وقع هو فيه في مئونة العود أو إتمام الحج يجب علي الباذل تدارك ضرره؟ فما الفرق بين هذه الصورة و بين ما إذا احتاج هو بنفسه إلي بذله و رجع عن إذنه؟ و بالجملة: فلم يقع هنا تدليس و إخفاء أمر عليه أو السكوت عنه. هذا، و لكن ادعي بعض الأعاظم استقرار سيرة العقلاء علي الرجوع إلي الباذل و ضمانه ضرر المبذول له. «1»

هذا، و يمكن أن يتمسك لإثبات الضمان علي الباذل بقاعدة التسبيب و كون السبب أقوي من المباشر؛ و ذلك لأن الذي يعرض الحج علي المعروض عليه يوقعه في محذور وجوب الحج و ينجز عليه وجوبه فلا بد له إلا الحج، فلو رجع عما بذله يكون هو السبب لما يرد عليه من الضرر، و لا ريب أنه في الفرض أقوي من المباشر لأنه لا بد له إلا الأخذ بإذن الباذل و إباحته، و ليس له مع الحكم الشرعي اختيار في ترك الأخذ بالبذل، فلو وقع في خسارة و ضرر يكون الضامن له الباذل فهو أوقعه

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 179

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 230

في الضرر و يجب عليه تداركه، و علي هذا كله فالأقوي وجوب تدارك ضرر المبذول له علي الباذل الراجع عن إذنه. و اللّٰه تعالي شأنه هو العالم.

[مسألة 65] إذا كان البذل عن غير واحد

مسألة 65- لا ريب في أنه لا فرق في

وجوب الحج بالبذل و حصول الاستطاعة به بين ما إذا كان الباذل واحداً أو أكثر و لا بين كون البذل ملكاً لواحد أو أكثر إذا كان جميع المالكين باذلين له لصدق العرض و حصول الاستطاعة.

و أما إذا بذل الحج لأكثر، من واحد فتارةً يبذله لأحد اثنين أو أكثر كما عنون به المسألة في العروة، و تارةً يعرض لاثنين بإباحة التصرف لهما في ماله أو سيارته.

فالبحث يقع علي صورتين:

أما الصورة الاولي و هي أن يبذل حجة واحدة لأحد اثنين أو ثلاثة …

فقد اختلفت فيها الأنظار:

فاختار السيد في العروة و بعض المحشِّين- عليهم الرحمة- وجوب الحج كفايةً، فلو تركه الجميع استقر عليهم. و اختار بعضهم لغوية هذا البذل. كما منع الوجوب سيدنا الاستاذ الأعظم البروجردي قدس سره. و تأمل البعض في الوجوب. و أفتي سيدنا الاستاذ الفقيه الكُلپايكاني رحمه الله بوجوب الحج علي كل واحد منهم مع القطع بإعراض غيره من المعروض عليهم و عدم مزاحمتهم له لكنه حينئذ يتعين عليه.

و قال الفقيه الكبير السيد الحكيم أعلي اللّٰه مقامه: (المستفاد من النصوص أن

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 231

الاستطاعة نوعان ملكية و بذلية و كلتاهما في المقام غير حاصلة الي آخره «1»).

و الظاهر أن من اختار الوجوب عليهم كفايةً أراد من الوجوب الكفائي هنا، و وجهه: أن الاستطاعة تتحصل لكل واحد منهم بترك الآخرين، فإن تركه الجميع استقر علي الجميع الحج، و إن أتي به واحد منهم يسقط عن الجميع. و قريب من ذلك أو عينه ما اختاره السيد الكُلپايكاني قدس سره.

و علي هذا فيمكن أن يقال: إنه و إن لم يصدق علي مثل هذا البذل العرض المذكور في الأخبار إلا أنه في حصول الاستطاعة به لا فرق

بينه و بين عرض الحج لشخص معين إذا لم يأخذ به واحد منهم.

و أما وجه قول من منع الوجوب: أن ما في الأخبار و به يتحقق الاستطاعة و العرض هو عرض الحج و البذل لشخص معين، و أما البذل لأحد اثنين لا يكون منه و لا تحصل به الاستطاعة، و حصول الاستطاعة لكل واحد منهم إذا تركه الآخرون أمر آخر ليس من عرض الحج الذي يجب بمجرده الحج، إذ لم يمكن لكل واحد منهما الحج به، و الواحد المردد بينهما لا وجود له في الخارج، و كما لا يحصل العرض بذلك لا تحصل الاستطاعة به، فعلي هذا منعهم عن الوجوب في محله لاشتراط الوجوب بالاستطاعة المالية أو البذلية، و كلتاهما- كما أفاد في المستمسك- غير حاصلة، فلا يقاس المقام بالتيمم فإن القدرة علي الماء حصلت لكل واحد منهم إذا لم يزاحمه الآخرون، نعم إن تسابقوا و سبق واحد منهم بطل تيمّمه دون غيره.

لكن فيه: أنّ هذا صحيح لو لوحظت المسألة علي النحو الذي عنونت في العروة، و أما إن قلنا بحصول الاستطاعة للجميع إذا كان كلهم تاركين للأخذ بالبذل فقياسها بباب التيمم في محله نعم، فرق بين ما نحن فيه و بين باب التيمم بأنّ في المقام

______________________________

(1)- مستمسك العروة: 10/ 146.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 232

لا يجب التسابق و السبق إلي أخذ البذل بالتسابق و الغلبة علي الآخرين؛ لأن الاستطاعة مشروطة بترك الآخرين، و أما في باب التيمم يجب السبق إلي أخذ الماء إن كان متمكناً منه بالغلبة و التسابق.

هذا، و قد صار بعض الأعاظم قدس سره بصدد تصحيح كفاية هذا البذل لوجوب الحج فقال: «إن البذل للجامع بما هو جامع و إن كان لا

معني له لعدم إمكان تصرف الجامع في المال و إنما التصرف يتحقق بالنسبة إلي الشخص إلا أن البذل في المقام يرجع في الحقيقة إلي البذل إلي كل شخص منهما أو منهم غاية الأمر مشروط بعدم أخذ الآخر لعدم الترجيح في الفردين المتساويين» «1» إلي آخر كلامه.

و فيه: أنّا لم نفهم معنيً محصلًا لهذا البذل و الإذن في التصرف و العرض بأن يقول: مباح لك التصرف فيه، و إن لم تتصرف فيه فصاحبك مباح له التصرف فيه أيضاً.

و بعبارةٍ اخري: يكون جواز تصرف أحدهما فيه مشروطاً بعدم التصرف الجائز من الآخر فيه، و جواز تصرف الآخر مشروط بعدم التصرف الجائز من الآخر، و هذا شبيه بالدور إن لم يكن عينه، فتأمَّل.

و علي هذا فالأقوي هو ما اختاره السيد من الوجوب الكفائي بالمعني الذي فصّلناه، لا من جهة صدق العرض عليه، بل من جهة حصول الاستطاعة كما مَرّ.

و أما الصورة الثانية فإباحة التصرف لكل واحد منهما أو منهم و إن كان يتحقّق بها بذل المال للحج و إباحة التصرف للجميع إلا أنها أيضاً ليست من العرض الذي يجب الحج به، لأن تصرف كل واحد من الأفراد منوط بترك الآخرين.

نعم، تتحقق الاستطاعة لكل واحد منهم إذا تركه الآخرون فإن أتي به واحد

______________________________

(1)- راجع معتمد العروة: 1/ 181.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 233

منهم يسقط عن الآخرين، و إلا فيستقر علي الجميع.

[مسألة 66] إذا بذل لأحد اثنين أو أكثر
اشارة

مسألة 66- قال في العروة: (إذا بذل لأحد اثنين أو ثلاثة فالظاهر الوجوب عليهم كفاية فلو ترك الجميع استقر عليهم الحج فيجب علي الكل لصدق الاستطاعة بالنسبة إلي الكل نظير ما إذا وجد المتيممون ماءً يكفي لواحد منهم فإن تيمم الجميع يبطل).

أقول: يمكن تحرير المسألة بأن نقول: إن

كان المراد من البذل لأحد اثنين أن يبيح لهما أو يأذن لهما التصرف في البذل و إنما عبر بذلك لعدم كفاية البذل إلا لحج واحد فهذا معقول يتحقق لهما ذلك، إلا أن حصول الاستطاعة يتحقق لمن يتمكن من التصرف فيه قبل الآخر، فإن هو ترك التصرف حتي أخذ به الآخر يستقربه الحج و يجزي عن الآخر الذي حج به، و إن كان نسبتهما إليه علي السواء.

فيمكن أن يقال: إن حصول الاستطاعة لكلٍّ منهما مشروط بترك الآخر، فإن تركه أحدهما للآخر يحصل له الاستطاعة دونه، و إن تركه كل واحد منهما فالحج يستقر علي كليهما لحصول الاستطاعة لكل واحد منهما، و عدم إمكان إتيان كل واحد منهما بالحج بذلك البذل لا ينافي حصول الاستطاعة لهما في صورة ترك كلٍّ منهما له.

نعم، لا يتم البذل إذا كان بالهبة لهما للحج و إن قلنا بوجوب قبولها و تحقق الاستطاعة بها لرجوعه هنا إلي الهبة لغير المعيَّن؛ لأن الهبة لهما لا تكفي لإحجاج كلٍّ منهما، و غير المعيَّن منهما لا وجود له في الخارج، و علي هذا يمكن أن يحمل فتوي من أفتي بوجوب الحج عليهما كفايةً علي هذا المعني.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 234

و إن كان مراده البذل لأحد منهما أو منهم مبهماً و لا علي المتعين فالظاهر أنه لا يجب به علي واحد منهما الحج؛ لعدم حصول الاستطاعة له بذلك، فلا يترتب عليه أثر، سواء كان المراد من البذل الإذن في التصرف و الإباحة أو الهبة، فكما أنه لو وهب أحداً من اثنين مالًا ليحج به لا يتحقق الهبة بذلك و إن قبلاها جميعاً؛ للزوم كون المتهب معيَّناً في الخارج موجوداً في تحقق الهبة، و الواحد من

الاثنين لا تعين له و لا وجود له في الخارج، كذلك لا يتحقق البذل بالإذن و إباحة التصرف لواحد من الاثنين مبهماً.

و لعلّه إلي هذا نظر من ذهب إلي لغوية هذا البذل و عدم ترتب أثر عليه و منع وجوب الحج به، و من قال: إنه ليس من الاستطاعة المالية أو البذلية.

و أما تنظير المسألة بباب التيمم فيتم علي تحرير المسألة بالصورة الاولي. نعم، فرق بين ما نحن فيه و بين باب التيمم، فإن في المقام لا يجب التسابق و السبق إلي أخذ البذل بالغلبة علي الآخر؛ لأن الاستطاعة مشروطة بترك الآخر، و أما في باب التيمم يجب السبق إلي أخذ الماء إن كان متمكناً منه بالتسابق.

و أما علي تحرير المسألة بالصورة الثانية فلا وجه لتنظيرها بمسألة التيمم، كما لا يخفي.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم قدس سره أفاد في المقام: (أن البذل للجامع بما هو جامع و إن كان لا معني له لعدم إمكان تصرف الجامع في المال و لكنّ البذل في المقام في الحقيقة يرجع إلي البذل إلي كل شخص منهم، غاية الأمر مشروط بعدم أخذ الآخر، فمعني البذل إليهم تخييراً أن من أخذ المال منكم يجب عليه الحج و لا يجب علي الآخر، و أما إذا لم يأخذه واحد منهم فالشرط حاصل في كل منهم فيستقر عليهم الحج) «1».

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 181.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 235

و فيه: أنّا لم نتحصّل معنيً لتعليق البذل لكل واحد منهم بعدم أخذ الآخرين المال المبذول؛ لأن ترك الآخرين أخذ المال المبذول لهم متوقف علي صيرورته مبذولًا للجميع، لا لكونه لكل واحد منهم مشروطاً بترك الآخرين.

و أيضاً يمكن أن يقال: إن هذا من أخذ ما هو المتأخر

عن الشي ء في الشي ء؛ لأن ترك البذل من الآخر رتبة متأخرة عن البذل فكيف يجعل تركه شرطاً لتحقق البذل الذي حصل للجميع ببذل واحد؟

لا يقال: إنّ البذل لكل واحد منهم ليس مشروطاً بأخذه أو تركه به حتي يستلزم ما ذكر.

فإنه يقال: نعم، و لكنّ البذل للجميع كالبذل لواحدٍ و إنشاءٍ واحدٍ بلفظٍ واحدٍ، و في مثله و إن قلنا بانحلاله له بالبذل لكل واحد منهم إلّا أنّ جعله مشروطاً لكل واحد منهم بترك الآخرين الأخذ به لا يستقيم في كلام واحد و إنشاء واحد، فتأمل، و الأمر بعد ما حققناه في تحرير المسألة سهل لا غبار عليه. و اللّٰه هو العالم.

فروع:
الأول: لو كان المكلف مالكاً لما يفي بالحج الاضطراري و لا يفي بالاختياري،

مثل أن كان مالكاً لنفقة الذهاب و الإياب و نفقته و نفقة عائلته و الرجوع إلي الكفاية و لكن لا يفي ما عنده بثمن الهدي الذي بدله لمن لا يجد الصيام فهل تحصل له الاستطاعة بذلك و يجب عليه الحج و يجزيه عن حجة الإسلام، أم لا؟

مقتضي الأصل في صورة الشك عدم الوجوب، كما أنه لو حج و حصل له الاستطاعة للحج الاختياري الأصل أيضاً عدم الوجوب. لكن يمكن أن يقال: إنه كما يكون واجد ثمن الهدي مستطيعاً للحج يكون فاقده الواجد لسائر النفقات أيضاً مستطيعاً له. كما أن من لم يكن قادراً علي كل ماله بدل في الحج يكون مستطيعاً له

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 236

و يجب عليه حجة الإسلام.

و علي هذا يكفي لبذل الحج بذل ما يفي بنفقاته غير ثمن الهدي فيتحقق البذل بدونه، و لو بذله يجوز له الرجوع إليه و لا يضمنه.

و يمكن أن يقال: إنّ الاستطاعة المالية للحج المشروط بها وجوبه هي الاستطاعة للحج الاختياري، و هي لا تتحصل

إلا بكونه واجداً لجميع نفقاته التي منها ثمن الهدي، و لا يقاس ذلك بغيره مما له البدل فلا تتحقق الاستطاعة البذلية إذا لم يكن ثمن الهدي مبذولًا به.

فإن قلت: فعلي هذا يسقط عن الاستطاعة إن فقد ثمن الهدي في أثناء الحج فلا يكون حجه مجزياً عن حجة الإسلام.

قلت: نعم، هذا علي طبق القاعدة، و لكن يدل علي إجزائه عن حجة الإسلام و وقوعه كذلك قوله تعالي: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ ثَلٰاثَةِ أَيّٰامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذٰا رَجَعْتُمْ» فإنه يدل علي انتقال الوظيفة إلي الصيام إذا لم يجد الهدي في الأثناء.

و لعلّ هذا هو الأظهر، و يدل عليه بعض ما في الروايات من قولهم عليهم السلام:

«يجد ما يحج به» من التعبيرات الدالة علي اعتبار ما يفي بجميع مصارف الحج التي منها ثمن الهدي في حصول الاستطاعة.

الثاني: لو بذل لمن عنده بعض نفقات الحج ما يتم به استطاعته،

كما لو بذل لمن كان واجداً لثمن الهدي سائر نفقاته أو بالعكس يجب عليه الحج، فإنه لا فرق في وجوب الحج بالاستطاعة المالية و البذلية بين حصولها بهما مستقلة أو ملفقة منهما.

الثالث: لو وجب البذل عليه بالنذر و شبهه يجب عليه بذل ثمن الهدي أيضاً،

سواء كان المبذول له واجداً له أم لا.

الرابع: يجوز للباذل الرجوع إلي ثمن الهدي

كما مر جوازه في سائر نفقات الحج، و هل يضمن به للمبذول له شيئاً و يشتغل ذمته له؟ الظاهر عدم كون شي ء عليه

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 237

له؛ لأن المبذول له بعد رجوع الباذل إلي ثمن الهدي ينتقل وظيفته إلي الصيام فلا يتضرر بذلك حتي يكون عليه تداركه.

الخامس: لو أتي المبذول له عمداً بما هو المحظور علي المحرم مما يوجب الكفارة

فلا شك في أنها ليست علي الباذل؛ لعدم استلزام بذله بذل ذلك.

و أما لو صدر منه بعض المحظورات خطأً فإن كان مما ليس في ارتكابه خطأً كفارة فلا كلام فيه كأكثر المحظورات.

و إن كان مما لا فرق في تعلق الكفارة به بين ارتكابه عمداً أو خطأً مثل الصيد فيمكن أن يقال: إنه علي الباذل؛ لأنه هو الذي أوقعه في هذا الخطأ، أو كفارته ببذله الحج له و إيجابه عليه و سبب اختياره في تركه، و لذا يضمنه ما وقع فيه من الضرر، سواء رجع عن إذنه في الأثناء أم لم يرجع، و من جملة ذلك كفارة الخطأ، فوقوعه في ارتكاب الصيد خطأً كان بتسبيب الباذل و مستنداً إليه، و هو أقوي من المباشر في ذلك، فيضمن ما تعلق به من الكفارة لو لم نقل: إنّها من أول الأمر تتعلق بالباذل.

و يمكن أن يقال: إنها ليست علي الباذل كصورة العمد، و ليس ضمانه من البذل بشي ء، و الباذل إنما يبذل نفقات الحج و أداء الكفارة، بل ترك ما يوجبها ليست من أجزاء الحج و لا يتوقف وقوع الحج بأدائها و لا حصول الاستطاعة بتمكنه له، فهي علي المبذول له إن كان متمكناً من أدائها يؤديها، و إلّا فليس عليه شي ء.

[مسألة 67] نوع الحج الواجب بالبذل

مسألة 67- لا يجب بالبذل علي المبذول له إلا الحج الذي يجب عليه علي تقدير حصول الاستطاعة المالية له.

فلو بذل للآفاقي الذي يجب عليه حج التمتع حج القران أو الإفراد أو العمرة المفردة لا يجب عليه واحد منها، و كذا إن بذل للمكي لحج التمتع لا يجب عليه، نعم إن

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 238

بذل له ما يكفيه للحج بأنواعه و أطلق يستطيع به و يجب

عليه حجه الذي هو وظيفته.

[مسألة 68] البذل لمن استقر عليه الحج

مسألة 68- لو استقر عليه الحج و وجب عليه الإتيان به و لو متسكعاً لا يجب عليه قبول البذل لو كان قادراً علي أدائه بالتكلف و التسكع.

و ذلك لأن وجوبه بعد استقراره عليه ليس مشروطاً بقدرة خاصة مثل أن يكون له زاد و راحلة، بل يكفي في وجوبه القدرة العقلية، و هي حاصلة إذا كان قادراً علي أدائه متسكعاً.

نعم، لو كان عاجزاً عنه يجب عليه القبول، لا لأن ما دل علي وجوب الحج بالبذل يشمله فإنه يدل علي وجوب الحج ببذلٍ خاصٍّ تحصل به الاستطاعة الخاصة المشروط بها وجوب الحج، بل لأن المعتبر في وجوب الحج علي من استقر عليه ليس إلا القدرة العقلية، و هي تحصل له ببذل ما يجعله قادراً عقلًا علي أداء الحج و إن كان أقل من البذل المعتبر في الاستطاعة البذلية، فلو كان ذلك الشخص- مثلًا عاجزاً عن المشي و لكن يقدر علي أداء الحج بالمشي و الركوب و بذل له الركوب بمقدار يتمكن به من الحج ماشياً و راكباً يجب عليه القبول، و كذا لو أمكن له تحصيل القدرة العقلية بالكسب و بقبول الهبة و لو كانت مطلقة و بغير ذلك يجب عليه.

و بالجملة: فالاستطاعة الخاصة التي يعبَّر عنها بالاستطاعة الشرعية إنما تعتبر في حجة الإسلام لمن لم يستقر عليه الحج، أما في غيرها من الحجج الواجبة فلا يعتبر فيها إلا القدرة العقلية، و لذا لا فرق فيما ذكر بين الحج المستقر عليه و بين الحج المنذور و الواجب بالعهد و اليمين و غيرها. نعم، في الحج المنذور و ما يشابهه لو كان النذر مشروطاً بحصول الاستطاعة المشروط بها حجة الإسلام لا يجب الوفاء

بالنذر إلا

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 239

بعد حصولها له.

[مسألة 69] إذا بذل و خيره بين الحج و زيارة الحسين عليه السلام

مسألة 69- قال في العروة: (إذا قال له: بذلت لك هذا المال مخيراً بين أن تحج به أو تزور الحسين عليه السلام وجب عليه الحج).

أقول: قد أحال بعض المحشِّين من الأعاظم البحث في هذه المسألة بما أفاده في المسألة السابعة و الثلاثين، فقال: (تقدم الكلام في ذلك في المسألة السابعة و الثلاثين فلا نعيد) «1»، و مراده ما ذكره فيما إذا وهبه ما يكفيه للحج و خيره بين أن يحج به أوْ لا، قال: (و أما القول بوجوب القبول علي تقدير الهبة مع التخيير بين الحج و غيره فهو مبني علي دعوي صدق الاستطاعة حينئذٍ، فإن عرض شي ء آخر لا يضر بصدق عرض الحج لأن عرض الحج؛ غير مشروط بعدم عرض غيره، إذ لا معني لعرض الحج إلا بذل مال يفي للحج، و التعيين لا خصوصية له. و لكن الظاهر عدم صحة ذلك، فإن التخيير يرجع إلي أن بذله للحج مشروط بعدم صرفه المبذول في جهة اخري أو الإبقاء عنده، و لا يجب علي المبذول له تحصيل الشرط. و إن شئت قلت: إن موضوع الوجوب هو البذل للحج و الهبة مع التخيير المزبور بذل للجامع بين الحج و غيره، و البذل للجامع لا يكون بذلًا للحج بشخصه، و إلّا، وجب القبول في الهبة المطلقة أيضاً فإنها لا تنفك عن التخيير في صرف الموهوب في الحج أو غيره) «2».

أقول: أما في المسألة المحال عليها ففيما أفاده فيها: أن عدم صدق عرض الحج

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 187.

(2)- المصدر السابق: 168.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 240

المذكور في الروايات علي الهبة و البذل المذكور ليس لأنه ليس بذلًا للحج بشخصه،

و إنما هو بذل للجامع بين الحج و غيره، بل لأنه ليس هبة و لا بذلًا لأمرٍ ما، لا الحج و لا الجامع بينه و بين غيره، بل هي هبة مطلقة، أو إباحة التصرف في المال تحصل بها ملكية المتهب للموهوب، و إباحة التصرف للمباح له لا يفيد قيداً و لا شرطاً بحيث لو لم يكن القيد و الشرط لا يوجد المقيد و المشروط به، فلا غاية و لا شرط للهبة و الإذن و الإباحة إلا ما يفيد نفس الهبة و الإباحة، بخلاف ما إذا وهبه أو أباحه له لأمر خاص كالحج أو لأمرين مثل الحج و الزيارة فعلي هذا حصول الاستطاعة بذلك البذل سواء تحقق بالهبة أو بإباحة التصرف مشروط بشروط تحصل بها الاستطاعة المالية دون البذلية، و ليس بذلًا للحج لما ذكرناه، لا لما أفاده أعلي اللّٰه مقامه.

و أما في مسألتنا هذه فمعني التخيير في صرف المال المبذول أو الموهوب في الحج أو زيارة مولانا سيد الشهداء- روحي لتراب روضته الفداء- اشتراط عدم صرفه في غيرهما فمباح له صرفه في أي منهما، و به يحصل للمبذول له استطاعة ليست من الاستطاعة البذلية المصطلحة، إلا أنها شبيهة بها، فهي استطاعة مالية لا يعتبر فيها وجود نفقة العيال و ما يرجع به إلي الكفاية علي ما فصلناه في الاستطاعة البذلية.

[مسألة 70] البذل للملِّي المستطيع

مسألة 70- لا ريب في أن البذل للملِّي المستطيع الذي لم يحج حجة الإسلام لا يترتب عليه أثر إلّا جواز تصرف المبذول له في المال المبذول به، فإن رجع الباذل إلي بذله لا يترتب عليه أثر من ضمان الباذل.

نعم، إن بذل لمن حج حجة الإسلام سواء كان ملياً أو فقيراً للإتيان بالحج

فقه الحج (للصافي)، ج 1،

ص: 241

المندوب و رجع إليه بعد الإحرام فهل يضمن الضرر الوارد علي المبذول له؟

الظاهر عدم ثبوته عليه حتي علي قاعدة الغرور، و القول بشمولها لإذن الجاهل بترتب الضرر؛ لأنه أعم من أن يكون المأذون فيه ضررياً عند الإذن أو لم يكن كذلك و حصل بعد ذلك، و ما نحن فيه من القسم الذي ليس ضررياً عند البذل، و التمسك بالتسبيب هنا لا يثبت الضمان؛ لعدم حصوله من الباذل بعد ما كان المبذول له بالخيار في الأخذ بالبذل لعدم وجوب الأخذ بالبذل عليه، فلا يقاس المستطيع بالاستطاعة البذلية الذي يجب عليه الحج بالبذل، فليس هنا إلّا الوعد، اللهمّ إلّا أن يكون الوعد و الإذن مقروناً بما يفيد الاطمينان بعدم رجوعه إلي البذل حتي يقال بتحقق السيرة العقلائية علي ضمان الباذل في مثل ذلك.

[مسألة 71] رجوع الباذل عن بذله في أثناء الحج

مسألة 71- لو رجع الباذل عن بذله في الأثناء فإن رجع قبل أن يحرم المبذول له فوجوب الحج علي المبذول له موقوف علي كونه بالفعل مستطيعاً، سواء كان له المال من أول الأمر أو تجدد له بالفعل.

و إذا لم يكن مستطيعاً لا يجب عليه الحج، و ليس علي الباذل ضمان من ذلك إلّا ضمان مصارف عوده إلي بلده إن بذل له الحج منه و هو خرج مريداً للحج منه.

و إن رجع بعد إحرام المبذول له فإن كان متمكناً في مكانه من إتمام الحج و الإتيان بما بقي منه لأجل مال كان له في ذلك المكان فرجوع الباذل فيما بذله لا يكشف عن عدم استطاعة المبذول له؛ لحصولها بما صرفه من البذل إلي مكان الرجوع عنه و بما عنده من المال إلي تمام الأعمال، و إن كان جاهلًا به عند الإحرام فلا يكون الباذل

الراجع ضامناً له لما يصرفه لإتمام الأعمال.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 242

و أما إن تجدد له حصول المال في هذا المكان أو بذل له للإتمام شخص آخر فهل يجب عليه الإتمام و يجزيه ذلك عن حجة الإسلام؟ يمكن أن يقال بالإجزاء في هذه الصورة أيضاً؛ لأنه في علم اللّٰه تعالي كان مستطيعاً للحج، و هو كمن أحرم لحج الإسلام بظن وجود مالٍ له في مكان خاصٍّ ثمّ تبين عدم وجوده و لكن ظهر له وجود مال آخر له في مكان آخر فلا يبطل إحرامه، و لا يكشف ذلك عن عدم استطاعته لكونه في الواقع مستطيعاً.

و الحاصل: أنّ الاستطاعة التدريجية كافية لوجوب الحج و إن اشتبه الأمر علي المستطيع و ظنها استطاعةً فعلية.

[مسألة 72] إذا بذل له و خيّره بين الحج و عدمه

مسألة 72- إذا بذل له مالًا و خيره بين أن يحج أولا، فإما أن يكون ذلك بهبته إياه لأن يحج به أوْ لا بناءً علي القول بتحقق عرض الحج بهبة ما يكفيه للحج به. فهذا يتصور علي وجهين:

لأنه إمّا يبذله و يهبه له و يخيره بين أن يحج به أو يفعل فيه ما يشاء من صرفه فيما يريد أو إبقائه عنده، فالظاهر أنه لا فرق بينه و بين الهبة المطلقة، فلا يحصل له به الاستطاعة، و لا يجب عليه القبول لأنه تحصيل الاستطاعة، فالهبة بهذه الكيفية لا شي ء فيها أزيد من الهبة المطلقة، و لا خصوصية لها إلا ذكر إمكان صرفه في الحج كإمكانه في سائر الموارد أمر حاصل في الهبة المطلقة أيضاً، و مثل هذا ليس من عرض الحج شي ء.

و إمّا يبذله و يخيره بين جعله نفقةً للحج أو جعله في سائر نفقاته بحيث لا يكون له إمساكه و إبقاؤه عنده، ففي

هذه الصورة ربما يقال بصدق العرض و البذل و وجوب

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 243

القبول و الحج به؛ لأن صدق عرض الحج عليه ليس مشروطاً بعدم عرضه لأمر آخر.

و فيه: منع صدق العرض و البذل إذا لم يكن مختصاً بالحج، فلا يصدق عرض الحج عليه، و لا تحصل الاستطاعة و إن قبل الهبة إلّا إذا لم يكن محتاجاً إلي صرفه في نفقاته. هذا، مضافاً إلي أن هذا التمليك و الهبة بذل و تمليك لأجل الجامع بين الحج و غيره، و هو ليس بذلًا للحج فلا يجب علي المتهب القبول و إن قلنا بوجوبه في الهبة للحج الشخصي.

و يجري الكلام علي مثل هذا فيما إذا وهبه للحج أو لزيارة مولانا سيد الشهداء- أرواحنا لتراب روضته الفداء- لأنه أيضاً ليس بذلًا وهبة تعييناً لخصوص الحج، بل بذل للجامع بين الحج و الزيارة لا للحج بشخصه للزيارة، بشخصها، و ما يجب به القبول هو العرض و البذل للحج بشخصه.

نعم، في الصورة الاولي و إن قبل الهبة لا يجب عليه الحج، و في الثانية إذا قبل يجب عليه لحصول الاستطاعة به، اللهمّ إلّا أن يقال: إنّه حيث ينتهي مثل هذه الهبة إلي وجوب صرف الموهوب في الحج بعد القبول تحصل الاستطاعة بها و يجب قبولها لأنه بمنزلة البذل للحج، و إما أن يكون بذله المال بالتخيير المذكور علي وجه الإذن في التصرف و إباحته علي المبذول له.

فإن كان ذلك بالتخيير له التصرف فيه للحج و لما يشاء من غيره فلا يجب به الحج؛ لعدم حصول الاستطاعة به إذا كان هو محتاجاً إلي التصرف في المبذول لنفقاته اللازمة كالاستطاعة الملكية.

نعم، تحصل له الاستطاعة إن كان واجداً لتلك النفقات، فوجوب الحج

عليه بهذه الاستطاعة الإذنية يكون شبيهاً بوجوبه بالاستطاعة الملكية يعتبر فيها كونه واجداً لسائر نفقاته، و مع عدم كونه واجداً لها لا يجب عليه، بخلاف ما نعبر عنه

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 244

بالاستطاعة البذلية فإنه يجب عليه الحج مطلقاً و إن لم يكن واجداً لهذه النفقات.

و إن كان الإذن في التصرف مقصوراً بالتصرف في المال للحج أو الزيارة فهو و إن كان الإذن للتصرف الجامع بين الحج و الزيارة و ليس عرضاً للحج بخصوصه إلّا أنه يجب به الحج علي وزان الحج البذلي، و إن لم يكن واجداً للنفقات التي لا تحصل له الاستطاعة المالية مع كونه فاقداً لها.

هذا، و قد ظهر من ذلك الفرق بين ما إذا كان عرض الحج و بذل نفقته بالهبة أو بالإذن في التصرف، و الفرق بين الإذن في التصرف للحج و لغيره من التصرفات و بين قصر الإذن بخصوص الحج و الزيارة، فتأمّل. و اللّٰه تعالي هو العالم بأحكامه.

[مسألة 73] إذا تبيَّن كون المبذول به مغصوباً

مسألة 73- إذا تبيَّن بعد الحج أنّ المال المبذول به كان مغصوباً فهل صحة حجه و استحقاقه الثواب و خروجه عن الإحرام بأداء المناسك يدور مدار إجزائه عن حجة الإسلام، أم لا فيكون حجه محكوماً بالصحة مطلقاً و إن لم يكن مجزياً عن حجة الإسلام؟

ادّعيٰ البعض عدم الإشكال في صحته و خروجه عن الإحرام بأداء المناسك، و قال بوجوب الهدي عليه ثانياً مع بقاء الوقت، و يظهر ثمرة الخلاف في ذلك بوجوب الهدي عليه ثانياً مع بقاء الوقت علي القول بالصحة مطلقاً و إن لم نقل بكونه مجزياً عن حجة الإسلام؛ و عدم وجوبه عليه علي القول بعدم الإجزاء و عدم صحة الحج.

و يمكن أن يقال بعدم صحته إذا لم

يقع حجة الإسلام لأن ما نواه و هو حجة الإسلام لم يقع، و ما وقع لم ينوهِ، فالحكم بالصحة و وجوب هديٍ آخر عليه مع بقاء الوقت مشكل و إن كان أحوط.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 245

و في كفايته عن حجة الإسلام وجهان، بل قولان، فاختار صاحب العروة و جمع من محشّيها عدم الكفاية. و نفي البعد عنها السيد الشيرازي قدس سره منهم. كما اختار السيد الكُلپايكاني قدس سره الكفاية فقال: (الأقوي الكفاية). و قال بعضهم: (إن القول بعدم إجزائه عن حجة الإسلام غير سديد).

أقول: أما وجه القول بعدم الإجزاء هو أن ظاهر ما يدل علي اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة أو البذل هو الاستطاعة الواقعية، و كونه واقعاً ذا مال و راحلة و واجداً لما يحج به، و في البذل البذل بماله الواقعي، و كشف الخلاف عن جميع ذلك يكشف عن عدم حصول الاستطاعة و عدم تحقق البذل الواقعي.

و فيه: أن هذه العبارات متنزّلة علي معانيها العرفية، فمن كان واجداً ظاهراً للمال جائزاً تصرفه فيه يكون مستطيعاً للحج عند العرف و يجب عليه الحج بما هو محسوب عند العرف بالاستطاعة و البذل، و كشف كون المال للغير لا يكون كاشفاً عن عدم حصول هذه الاستطاعة العرفية.

و أما وجه كفايته عن حجة الإسلام فهو أنه يكفي لتحقق البذل و تحقق الاستطاعة جواز التصرف في المال اعتماداً علي الحكم الظاهري الحاصل من أمارية اليد، سواء انكشف بعد الأعمال عدم كون المال له أو لم ينكشف فلا ملازمة بين انكشاف ذلك و انكشاف عدم الاستطاعة، فهو كان مستطيعاً عند العرف مباحاً له التصرف في المال لم يكن مانع له من صرفه في الحج، و بعد صرفه في الحج

و وقوع الحج به لا ينقلب عما وقع عليه، و لا ينفي انكشاف كونه مال الغير الاستطاعة التي حصلت له عند العرف و البذل الذي حصل له، فحصول الاستطاعة للحج غير مشروط بكون المال ملكاً للمستطيع أو للباذل، بل هي إنما تحصل بجواز التصرف في المال و صرفه في الحج.

و بالجملة: إذا لم يكن حكم حرمة التصرف في مال الغير منجزاً و كان محكوماً

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 246

بجواز التصرف فيه فالواجد له مستطيع عرفاً، و القاعدة علي هذا يقتضي كفاية حجه عن حجة الإسلام، بل وقوعه حجة الإسلام.

ثمّ إنّه علي القول بعدم كفاية الحج المذكور عن حجة الإسلام فهل يمكن القول بكفايته لو قال: «حجّ و عليَّ نفقتك» ثمّ بذل له مالًا، فبان كونه مغصوباً فيقال بالإجزاء و الكفاية، و ذلك للفرق بين البذل الشخصي و بين البذل الكلي، ففي الأول لا يستطيع بالبذل لأنه ملك الغير، فلو حج به ليس حجه عن استطاعة، و أما في الصورة الثانية يستطيع المبذول له بعرض المبذول الكلي، و إنما يعينه الباذل في المال المغصوب جهلًا بالموضوع، فحاله يكون كحال من استطاع بالاستطاعة المالية و صرف جاهلًا بل و عامداً المال المغصوب في الحج فلا شك في أن حجه يجزي عن حجة الإسلام؟

نعم، لو كان الباذل هنا عالماً بالغصبية و أعطي المعروض له الحج المال المغصوب يكشف ذلك عن عدم كونه باذلًا، و أما إذا عرض الحج بهذا القول و الوعد و بعد ذلك أعطي المال المغصوب جاهلًا بغصبيته فليس هو إلّا مثل المستطيع الذي صرف نفقة حجه من المال المغصوب جاهلًا به فحكمهما واحد.

و الدليل علي تحقق البذل بذلك: أولًا أنّ البذل و عرض الحج أعم

من تسليم المال المبذول به إلي المبذول له فإنه يتحقق بدعائه لأن يكون ضيفاً عليه.

و ثانياً: لأنّه ليس له بعد وعد العارض الباذل و قول: «حجّ و عليَّ نفقتك» تعجيز نفسه عن الحج، فلا يجوز له أن يؤاجر نفسه للسفر إلي مقصدٍ آخر أو عملٍ لا يجتمع مع الحج، و إلّا فيستقر عليه الحج.

و الحاصل: أنه لا يتوقف صدق الاستطاعة علي عرض الحج بالبذل الخارجي، فيجب عليه تهيئة مقدمات الحج التي لا تحتاج إلي صرف المال، فإن تهاون في ذلك حتي خرج وقته و كان هو باذلًا يستقر عليه الحج.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 247

نعم، إذا كان الباذل غير موثوق به لا يعتد بكلامه يمكن أن يقال بعدم تحقق البذل بمجرد وعده، أما إذا كان موثوقاً به جاداً في قوله فالبذل يتحقق بوعده و يجب علي المبذول له الحج، و دفع المال المبذول به بخصوص دفع هذا أو هذا دفع لأحد أفراد ما حصل به الاستطاعة و المال الكلي الذي يكفي للحج، و لا يكشف دفعه المال المغصوب جاهلًا به عن كونه راجعاً عن وعده، كما لا يكون كاشفاً عن عدم استطاعته.

و بذلك كله يمكن ردّ ما أفاده غير واحد من الأعلام من أن البذل الموجب للاستطاعة لا يتحقق إلا بالبذل و الإعطاء الخارجي، فما دام لم يتحقق ذلك لم يتحقق الاستطاعة.

و الجواب: أنّ الحاكم في ذلك العرف، و هو حاكم بكون العرض بالمال الكلي عرضاً و بذلًا للحج موجباً للاستطاعة و وجوب الحج.

ثمّ إنّ هنا قد وقع البحث في ضمان هذا المال الذي أتلفه المبذول له، فلا ريب أنه يجوز للمالك الرجوع إلي الباذل و المبذول له؛ لقاعدة اليد، و لخصوص من أتلف للرجوع

إلي المبذول له، و أما رجوع المبذول له إلي الباذل إن رجع المالك إليه فهو لقاعدة التسبيب، و كون السبب أقوي من المباشر، فإنّ الباذل ببذله اضطرّ المبذول له إلي تفويت مال الغير ببذله له فهو ضامن له، كما لا يخفي.

[مسألة 74] إيجار النفس للخدمة في طريق الحج

مسألة 74- قال في العروة: (لو آجر نفسه للخدمة في طريق الحج بأُجرة يصير بها مستطيعاً وجب عليه الحج، و لا ينافيه وجوب قطع الطريق عليه للغير؛ لأن الواجب عليه في حج نفسه أفعال الحج، و قطع الطريق

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 248

مقدمة توصلية بأيّ وجهٍ أتي بها كفي الي آخره).

أقول: حيث إن الإشكال في حصول الاستطاعة بها و إجزاء حجه عن حجة الإسلام و عدم حصولها نشأ من دخول السير في الحج و كونه جزءاً من أفعاله، فإذا كان السير واجباً بالإجارة لا يصح وقوعه في أفعال حجة الإسلام، فلا بأس بصرف عنان الكلام إلي البحث عن دخول السير في الحج و عدمه، و أنّ السير هل هو جزء من المناسك و أعمال الحج التي يجب الإتيان بها بقصد العبادة و التقرب، أو هو خارج عنه و إنما هو مقدمة له؟

فنقول: لا ينبغي الريب في أن السير من المنزل و الوطن إلي الميقات ليس من أعمال الحج، مندوباً كان أم واجباً، فإذا حصل الشخص في الميقات بأي صورة و كيفية يقع منه الحج بالإحرام من الميقات تامّاً مجزياً عن حجة الإسلام، و إمكان التعبد بالسير و بالمشي- كما دل عليه الروايات- لا ينافي عدم دخوله في الحج؛ و ذلك لجواز الإتيان بمقدمة الواجب التعبدي بقصد القربة، كما يدل عليه قوله تعالي:

«ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لٰا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لٰا نَصَبٌ وَ لٰا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ

اللّٰهِ وَ لٰا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّٰارَ وَ لٰا يَنٰالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلّٰا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صٰالِحٌ» «1».

إلّا أنّه يقع الكلام في السير من الميقات إلي البيت، و أنه هل هو داخل في الحج أو خارج عنه؟

فعلي الأول إن وقع ذلك منه غافلًا أو نائماً أو بقصد غير البيت- زاد اللّٰه تعالي في شرفه- كزيارة الأحبة و الأرحام لا يصح منه و لا يجزي عنه و إن أتي بالمناسك كلها و علي الثاني- حيث إنّ ما هو تمام الموضوع في الخروج عن التكليف و صحة الحج سواء كان واجباً أم مندوباً ليس إلّا أداء المناسك- فإن أحرم أحد في الميقات

______________________________

(1)- التوبة/ 120.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 249

و نام هناك لأن يشرع في السير بعد نومه أو بعد يوم فجاء أحد فحمله علي سيارته و ذهب به حتي البيت يكفيه ذلك، و لا يجب عليه الرجوع إلي مكانه ليسير هو بنفسه و بقصد القربة، في المسألة وجهان بل قولان: الأول خروج السير عن أعمال الحج، و الثاني عدم خروجه.

وجه القول الأول: أنّ السفر و السير إلي البيت ليس من أفعال الحج و داخلًا فيه، بل هو من مقدماته التي لا يتوقف حصولها علي قصد التقرب، بل يمكن حصول ذيها بدونها، كأن اختطفه أحد أو أنامه و ذهب به إلي الميقات، و هذا ما يفهمه العرف من قوله تعالي: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» بمناسبة الحكم و الموضوع، فلا موضوعية لحج البيت و ما وجب إلا غيرياً و لأداء المناسك فكأنه قال: «علي الناس حج البيت لأداء الحج» و حذف غاية وجوب قصد البيت و السير إليه؛ لوضوح ذلك لأنه يُسار إليه لأداء المناسك

و الحج، و إنما أوجب السير لتوقف الوصول إلي البيت و أداء المناسك عادةً و غالباً عليه لا من جهة دخل السير في تحقق الحج و حصول الواجب.

و ربما يستدل علي ذلك بروايات لا ظهور لها في ذلك، مثل صحيح معاوية بن عمار الذي رواه الصدوق قدس سره بإسناده عنه قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يمر مجتازاً يريد اليمن أو غيرها من البلدان و طريقه بمكة فيدرك الناس و هم يخرجون إلي الحج فيخرج معهم إلي المشاهد أ يجزيه ذلك عن حجة الإسلام؟ قال: نعم» «1».

إلّا أنّ الاستدلال به لما نحن فيه ليس في محله، فإن سؤال السائل راجع إلي أنه هل يعتبر في وقوع الحج حجة الإسلام أن يكون الشخص من بلده قاصداً للحج، و إذا لم يكن قاصداً من بلده هل يجزيه ذلك عنها؟ فأجاب عليه السلام بقوله: «نعم».

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: 11 ب 22 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 2.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 250

و صحيحه الآخر الذي رواه الكليني- رضوان اللّٰه تعالي عليه- عن محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن معاوية بن عمار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يخرج في تجارة إلي مكة أو يكون له إبل فيكريها، حجته ناقصة أم تامة؟ قال: بل حجّته تامة «1»».

و مقتضاه تمامية حج من خرج في تجارة إلي مكة أو لكونه صاحب الإبل يكريها يلزم عليه أن يخرج معها، سواء كان سيره من الميقات إلي مكة للحج و قصد به القربة أو للتجارة و كراء الإبل، فلا دخل لكيفية وقوع سيره في الحج و لأصل سيره فيه

و تمامية حجه، إلّا أنّ الإنصاف أنه لا ظهور له معتدّ به في ذلك؛ لاحتمال كون السؤال فيه من خروجه إلي مكة لا من سيره بعد الإحرام و حال كونه حاجّاً.

و برواية الفضل بن عبد الملك- التي عرفت حالها فيما مضي و تعبير البعض عنها بالإرسال لمكان العدة المجهولة فيها- قال: «و سئل- يعني أبا عبد اللّه عليه السلام- عن الرجل يكون له الإبل يكريها فيصيب عليها و يحج و هو كراء تغني عنه حجته، أو يكون يحمل التجارة إلي مكة فيحج فيصيب المال في تجارته أو يضع تكون حجته تامة أو ناقصة، أو لا تكون حتي يذهب به إلي الحج و لا ينوي غيره، أو يكون ينويهما جميعاً أ يقضي ذلك حجته؟ قال: نعم حجته تامة» «2».

و الظاهر أن السؤال فيها أيضاً راجع إلي اعتبار الخروج من منزله للحج في الحج و عدمه، فلا ارتباط لها بسيره و هو حاج محرم.

فالعمدة في الوجه لعدم دخول السير في الحج هو عدم فهم العرف ذلك من الأدلة، بل ما يفهمه منها هو عدم دخل ذلك في الحج. هذا في وجه القول الأول.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 22 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 4.

(2)- وسائل الشيعة: ب 22 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 5.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 251

أما وجه القول الثاني فهو: أنّ المستفاد من ظاهر الآية الكريمة وجوب السفر إلي البيت، فإن المراد من حجه هو الذهاب إليه و السعي نحوه، فهو واجب نفسي كسائر أفعال الحج، و ظاهره و إن كان يقتضي كون وجوب سير كل أحد من مكانه في أوان الحج داخلًا في أفعال الحج إلّا أنّه خرج منه بالاتّفاق

و الإجماع سير ما قبل الميقات، و لأن دخوله فيه قبل الميقات و وجوب الإحرام مستلزم لدخل ما ليس من الحج؛ في الحج لأنه لا ريب في أن الدخول في الحج إنما يتحقق بالإحرام.

و أما ما اختاره بعض أعاظم العصر من تعيين مبدأ السير من الميقات من باب القدر المتيقن لإجمال الدليل «1»، ففيه: أن الظاهر من الدليل هو كون مبدأ سير كل أحد في أوان الحج و عند تنجز وجوبه بحسب حاله من مكانه الذي هو فيه فيلزم عليه الخروج إلي الحج منه.

و ربما يرد دلالة الآية علي وجوب السعي نفسياً بتنظيرها بآية التيمم قوله تعالي: «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» * «2» لأنه لا ريب في عدم وجوب السعي إلي التراب وجوباً نفسياً.

و اجيب عنه: بأن كون الوجوب فيه غيرياً و إرشادياً معلوم من القرينة، ضرورة أن التطهير يحصل بالتراب لا بالسعي إليه، و أين ذلك مما نحن فيه؟ فإن السير و السعي إلي بيوت ذوي المقام و الشرف و الشأن من مظاهر التعظيم و التجليل لهم فضلًا إذا كان البيت بيت اللّٰه الذي يتقرب إلي اللّٰه بالسعي إليه ماشياً، فعلي هذا يجب أن يكون السفر من الميقات إلي مكة علي وجه التقرب و التعبد.

و مع ذلك كله و إن كان الأدب و كمال الخضوع للرب و توقير بيته- زيد في

______________________________

(1)- مستمسك العروة: 10/ 153.

(2)- النساء/ 43، المائدة/ 6.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 252

شرفه- يقتضي ذلك إلّا أن الالتزام بوجوب ذلك و دخول السير في أعمال الحج مشكل، كأنّه خلاف ما هو المرتكز في الأذهان، و لأنه يلزم أن نقول: إنّه إذا نسي و غفل عما هو فيه و مشي مقداراً من الطريق لا بقصد

التقرب يجب عليه الرجوع إلي مكانه لتجديد السير، و الالتزام بمثل ذلك مشكل جداً.

فالأقوي هو عدم دخول السير و السعي و المشي في أفعال الحج غير المشي في حال الطواف و السعي. و اللّٰه هو العالم بأحكامه.

ثمّ إنّه بعد ما ظهر أن الأقوي خروج السير إلي مكة عن أفعال الحج و إن كان بعد

الإحرام و الميقات فاعلم أن غير المستطيع إن آجر نفسه للخدمة في الطريق أو لنفس طي الطريق بأُجرة يصير بها مستطيعاً يجب عليه الحج، و لا يمنع من حصول الاستطاعة بها كون السير واجباً علي الأجير بنفسه أو مقدمة للخدمة في الطريق لخروج السير عن المناسك و إن كان مقدمة لأداء المناسك أيضاً فلا يخرجه عن مقدميته لأداء المناسك الإتيان به لنفسه أو لغيره مثل الخدمة في الطريق؛ لأن المقصود من المقدمة التمكن من ذيها سواء حصلت بقصدها له أو لغيره، فالسير مقدمة للتمكن من الخدمة و من أداء المناسك و من غيرهما من الأفعال، سواء قصد به التمكن من جميع هذه الامور أو بعضها أولم يقصد شيئا منها، فلا فرق في ذلك بين كون الإجارة للخدمة في الطريق أو لنفس السير وطي الطريق كما مر. هذا إذا لم يكن مستطيعاً و آجر نفسه للخدمة في الطريق أو طيّ الطريق.

و أما إذا كان مستطيعاً للحج فهل يجوز له إجارة نفسه للخدمة في الطريق أو لطيّ الطريق، أم لا؟ الظاهر أنه لا مانع منها أيضاً علي ما اخترناه من خروج السير عن المناسك، و لزوم السير عليه غيرياً لا يمنع من تعلق الإجارة به.

فإن قلت: يعتبر في صحة الإجارة قدرة الأجير علي متعلقها، و هي متقومة

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 253

بالطرفين بأن يكون

الأجير قادراً علي الفعل و الترك، فالمستطيع الواجب عليه المشي و السير لا يقدر علي تركه شرعاً، فكما أن التحريم الشرعي للفعل المقدور عليه عقلًا مانع من صحة الإجارة للحرام كذلك الإيجاب الشرعي مانع من تعلق الإجارة بالواجب، فالأول سالب لقدرته علي الفعل، و الثاني سالب لقدرته علي الترك، فلا يكون ترك الواجب مقدوراً عليه، كما لا يكون فعل الحرام مقدوراً عليه، فإذا لم يكن الأجير قادراً فيما نحن فيه علي ترك متعلق الإجارة تكون الإجارة باطلة.

قلت: لا يعتبر في صحة الإجارة أمر أزيد من القدرة علي التسليم، و هي في الإجارة للفعل المحرم مفقودة لعجزه عن التسليم شرعاً، و في الإجارة للفعل الواجب موجودة لقدرته علي التسليم شرعاً و عقلًا أمّا عقلًا فواضح، و أما شرعاً فإنّ تأكيد الشرع و أمره بالتسليم لا يوجب العجز عن التسليم، و هذا كالشرط في ضمن العقد أو النذر أو العهد أو اليمين إذا تعلق بالواجب مع اعتبار القدرة في متعلقاتها.

[مسألة 75] هل يجب قبول الإجارة لتحصيل الاستطاعة، أم لا؟

مسألة 75- قال في التذكرة: (لو طلب من فاقد الاستطاعة إيجار نفسه للمساعدة في السفر بما تحصل به الاستطاعة لم يجب القبول؛ لأنّ تحصيل شرط الوجوب ليس بواجب. نعم، لو آجر نفسه بمالٍ تحصل به الاستطاعة أو ببعضه إذا كان مالكاً للباقي وجب عليه الحج) «1».

و قال في المستند: (و هل يجب إجابة المستأجر و قبول الإجارة قبله القبول (كذا) أم لا؟ المصرح في كلام الأكثر الثاني؛ لأنه مقدمة الواجب المشروط و تحصيلها

______________________________

(1)- تذكرة الفقهاء: 1/ 302.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 254

غير واجب، و الحق الأول إذا كان ما استؤجر له مما لا يشق عليه، و يتمشي منه، لصدق الاستطاعة، و لأنه نوع كسب في الطريق، و

قد مر وجوبه في مثله، و ليس القبول مقدمة للواجب المشروط، بل للمطلق؛ لأن مع الفرض تحصل الاستطاعة العرفية فيصير الحج واجباً عليه، و إن توقف إيقاعه علي القبول كاشتراط عين الزاد و الراحلة. و التحقيق: أنّ هذه ليست تحصيل الاستطاعة؛ لأنه بعد تمكنه مما استؤجر له يكون له منفعة بدنية مملوكة حاصلة له قابلة لإيقاع الحج به فيكون مستطيعاً. لا يقال: فعلي هذا يجب تحصيل مئونة الحج علي كل من قدر علي الاكتساب و تحصيل الاستطاعة فيكون الحج واجباً مطلقاً. لأنا نقول: إن كان اقتداره بحيث يصدق معه الاستطاعة العرفية فليسلم الوجوب، و لا يصدق وجوب تحصيل الاستطاعة، و لا ضير فيه، و إلّا فلا دليل علي وجوب الاكتساب؛ لأن ما نقول بوجوبه هو ما اجتمع مع صدق الاستطاعة العرفية) «1».

و يستفاد من تمام كلامه اختلافه مع المشهور في بيان معني الاستطاعة المالية، و أنها حاصلة إذا كان له الاقتدار و التمكن بالسهولة علي تحصيل الزاد و الراحلة و لو ببيع أمواله أو إجارتها أو إجارة نفسه، فالتاجر الذي تحصل له الفائدة بحضوره المعتاد و المتعارف في السوق مستطيع يستقر عليه الحج إن جلس في بيته و ترك ما كان مستمراً عليه ملتزماً له بحسب العادة.

و مثله من كان شغله شراء الأمتعة و بيعها نقداً و نسيئةً و أمكن له أن يشتري متاعاً بألف نسيئةٍ و يبيعه بألفين فهو مقدم علي ذلك عادة و تركه خلاف العرف و العادة، فإن كان مثل هذا البيع و الشراء وافياً لمصارف الحج يعد في العرف مستطيعاً بنفس حصول إمكان ذلك له يجب عليه، كما يجب بيع ماله المملوك لصرفه في الحج.

______________________________

(1)- مستند الشيعة: 2/ 161.

فقه الحج (للصافي)،

ج 1، ص: 255

و أيضاً ما الفرق بين وجوب إجارة مالِه و عبده و دابته و بين وجوب إجارة نفسه؟ فإن كان في الأول مستطيعاً فليكن في الثاني أيضاً كذلك، و كيف لا يكون من كان له حرفة و صنعة يملك ببذلها بالسهولة أضعاف ما يفي للحج مستطيعاً عند العرف؟ فالأقوي القول بالتفصيل و إحالة الأمر في حصول الاستطاعة إلي العرف.

و يمكن أن يقال: إن الاستطاعة المشروط بها وجوب الحج ليست عرفيةً و لا عقلية، بل هي استطاعة خاصة مستفادة من الأدلة، و هي أن يكون الشخص واجداً لما يحج به عيناً كالزاد و الراحلة، أو بدلًا كأن كان له من النقود ما يمكن له شراء الزاد و الراحلة به، أو من العروض ما يمكن له مبادلته بعين الزاد و الراحلة، أو بنقد يشتريهما به. فإن كنا نحن و الآية الكريمة فيجوز لنا أن نحملها علي الاستطاعة العرفية، و لكن بعد ما فسرت الآية- من الذين لهم عليهم السلام دون غيرهم كان من كان- بمن كان له زاد و راحلة، أو من كان له مال، أو ما يحج به، أو القدرة في المال، أو اليسار في، المال أو عرض المال له فالاستطاعة المالية و البذلية لا تشتمل علي من لم يكن عنده المال بالفعل و إن كان قادراً علي تحصيله بالكسب و الصنعة و إجارة نفسه للخدمة.

و أمّا ما قيل من أن منافع الأبدان كمنافع الأعيان فكما يكون الشخص مالكاً لمنافع عقاراته و سياراته و غيرها يكون مالكاً لمنافع بدنه فيؤجره و يتصرف فيه كما يؤجر داره و يتصرف فيها، فكما إذا كان له مال لا يمكن له تبديل عينه ببيعه بما يفي للحج، و لكن

يمكن إجارته بما يفيه يكون مستطيعاً يجب عليه الحج و يجب عليه إجارة ذلك المال كذلك يجب عليه إجارة نفسه لسلطانه عليها كسلطانه علي

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 256

إجارة ماله. «1»

فيمكن أن يجاب عنه: بأنّ سلطان الشخص علي نفسه و كونها تحت اختياره لا يعني به مالكيته لها كمالكيته لداره و دابته، و ليس ملكيتها له ملكية اعتبارية تتبعها ملكية منافعها، كذلك فليس له بيعها كما يكون له بيع داره و دابته، فهذه الملكية و السلطنة ليست كملكية الدار و الدابة، و ليس صاحبها مالكاً و واجداً لشي ء خارجي عند العرف كواجد المال الذي يفي بالحج.

و الحاصل: أن قياس منافع الأبدان بمنافع الأموال المملوكة و ترتيب حكم الثانية علي الاولي قياس مع الفارق، و إلا فلا ينحصر حصول الاستطاعة بأن يستأجره أحد للخدمة، بل هي تحصل للقادر علي الخدمة مطلقا، و يجب عليه عرض نفسه للإجارة علي الأشخاص، كما يجب عليه عرض ماله للبيع لتحصيل ما ينفقه في الحج.

و علي كل ذلك فالأقوي ما هو مختار المشهور، و إن لا ينبغي ترك الاحتياط في بعض موارده، كما إذا كان الشخص شغله خدمة المسافرين في الأسفار فطلب منه الخدمة في سفر الحج فإنه لا ينبغي له رده، و قبول ذلك من الآخرين للسفر إلي صقع آخر سيما إذا كان ما يعطي للخدمة في طريق الحج أكثر و كانت الخدمة عليه أسهل.

[مسألة 76] إيجار النفس للنيابة عن الغير في الحج بأُجرة تفي للحج،

مسألة 76- يجوز لغير المستطيع إيجار نفسه للنيابة عن الغير بأُجرة تفي للحج غير أنه لا يصير بها مستطيعاً لحجة الإسلام.

و ذلك لعدم إمكان حصول الاستطاعة بها؛ لأنها متوقفة علي صحة الإجارة،

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 196.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 257

و صحة الإجارة متوقفة علي

عدم وجوب الحج عليه، و هو متوقف علي عدم حصول الاستطاعة، فحصول الاستطاعة متوقف علي عدمه، و هو محال.

نعم، لو كانت الإجارة مطلقةً غير مقيدةٍ بهذه السنة تحصل له الاستطاعة، و لا يجوز له تأخير الحج، و أما حكم العام القابل في الصورة التي يجب عليها الحج النيابي فظاهر؛ لأنه يدور مدار بقاء الاستطاعة أو تجددها له.

[مسألة 77] من حج متسكِّعاً

مسألة 77- لا ريب في عدم إجزاء حج المتسكِّع عن حجة إسلامه.

لأنّ إجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلي دليل و هو مفقود، مضافاً إلي أن الادلة الدالة علي وجوب الحج بالاستطاعة المالية أو البذلية تدل بإطلاقها علي وجوب حجة الإسلام عند حصولها، سواء حج متسكعاً أم لا.

و الظاهر أنهم لم يختلفوا في عدم إجزاء حج النائب أيضاً عن حجة اسلام نفسه، إلّا أن الأخبار قد اختلفت بظاهرها في ذلك، فإنها علي طائفتين:

الاولي: ما دلت علي عدم الإجزاء الذي هو مقتضي القاعدة أيضاً:

فمنها: ما رواه الشيخ: بإسناده، عن موسي بن القاسم «1»، عن محمد بن سهل «2»، عن آدم بن علي «3»، عن أبي الحسن عليه السلام قال: «من حج عن إنسان و لم يكن له مال يحج به أجزأت عنه حتي يرزقه اللّٰه ما يحج به و يجب عليه الحج» «4». و ظاهره عدم الإجزاء و وجوب الحج عند الاستطاعة.

______________________________

(1)- من كبار الطبقة السابعة.

(2)- ابن اليسع الأشعري، من السادسة أو السابعة.

(3)- من السادسة، لم يذكر فيه مدح و لا ذم.

(4)- وسائل الشيعة: ب 21 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 258

و منها: ما رواه الكليني: عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد و سهل بن زياد جميعاً، عن

أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لو أن رجلًا معسراً أحجّه رجل كانت له حجة، فإن أيسر بعد ذلك كان عليه الحج» «1». بناءً علي أنّ المراد من الإحجاج فيه النيابة لا البذل، و هو خلاف الظاهر.

فالعمدة في ذلك هو خبر آدم بن علي، و سنده مطعون فيه بآدم بن علي فإنه مجهول، و بمحمد بن سهل لأنه لم يوثق و لم يرد فيه مدح، و إن ذكره البهبهاني قدس سره بالوثاقة و ورود المدح فيه لعدم إثبات ذلك.

و فيه: أن ضعف سنده منجبر بعمل الأصحاب، مضافاً إلي أن محمد بن سهل هذا هو محمد بن سهل بن اليسع بن عبد اللّه بن سعد الأشعري القمي، أبوه ممدوح بأنه ثقة ثقة، و هو من أصحاب الإمامين الكاظم و الرضا عليهما السلام، بل له الرواية عن أبي عبد اللّه عليه السلام، و محمد بن سهل هذا ابنه من أصحاب الرضا عليه السلام، و له مسائل عنه، و له كتاب، و هو من رواة النصّ علي أبي جعفر عليه السلام، و في شيوخه طائفة من الأعاظم، كأبيه، و إبراهيم بن أبي البلاد الثقة من أصحاب الأئمة: الصادق و الكاظم و الرضا عليهم السلام، و له أصل يرويه عنه محمد بن سهل هذا و من شيوخه زكريا بن آدم بن عبد اللّه بن سعد الأشعري القمي الموصوف بجلالة القدر و عظم المنزلة، و هو ابن عم سهل والد محمد، و من شيوخه عبد اللّه بن بكير الذي هو ممن أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصح عنه، و من شيوخه الحسن بن سري من

شيوخ الحسن بن محبوب و غيرهم، و من تلامذته و ممّن أخذ الحديث منه أحمد بن محمد بن عيسي شيخ القميين و وجههم، و … و محمد بن علي بن المحبوب أيضاً شيخ القميين، و … و موسي بن القاسم البجلي الثقة من أصحاب الرضا عليه السلام و غيرهم، و كل ذلك مدح له و الوجه لصحة الاعتماد

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 21 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 5.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 259

علي حديثه، فلا ينبغي رد حديث مثله أو التردد في اعتباره.

نعم، يبقي في السند آدم بن علي، و يكفي في جواز الاعتماد عليه رواية محمد بن سهل عنه، و رواية موسي بن القاسم عن محمد روايته الظاهرة في أنهما كانا يعرفانه فاعتمدا علي روايته، مضافاً إلي أنّ ضعف السند به منجبر بعمل الأصحاب.

هذا بعض الكلام في الطائفة الاولي.

و أما الطائفة الثانية أي ما ورد في إجزاء الحج النيابي عن حجة الإسلام:

فمنها: صحيحتا معاوية بن عمار، إحداهما عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «حج الصرورة يجزي عنه و عمن حج عنه» «1».

و ثانيتهما: أيضاً عنه عليه السلام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل حج عن غيره يجزيه ذلك عن حجة الإسلام؟ قال: نعم» «2».

و منها: صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجل ليس له مال حج عن رجل، أو أحجه غيره ثمّ أصاب مالًا هل عليه الحج؟ فقال: يجزي عنهما جميعاً» «3».

و منها: ما رواه الشيخ في التهذيب قال: روي أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة الحافظ «4»، قال: حدثني القاسم بن محمد بن الحسين الجعفي «5»، قال: حدثنا

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب

21 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 2.

(2)- وسائل الشيعة: ب 21 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 4.

(3)- وسائل الشيعة: ب 21 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 6.

(4)- أبو العباس، جليل القدر، عظيم المنزلة، أمره في الثقة و الجلالة و عظم الحفظ أكثر من أن يذكر، حكي عنه أنه قال: أحفظُ مائة و عشرين ألف حديث بأسانيدها و اذاكر بثلاثمائة ألف حديث، و هو زيدي جارودي، و هو من شيوخ الكليني، و من الثامنة.

(5)- من السابعة، لم يذكر ترجمته في جامع الرواة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 260

عبد اللّه بن جبلة «1»، قال: حدثنا عمرو بن إلياس «2»، قال: «حج بي أبي و أنا صرورة و ماتت امي و هي صرورة، فقلت لأبي: إني أجعل حجتي عن امي، قال: كيف تكون هذا و أنت صرورة و امك صرورة؟ قال: فدخل أبي علي أبي عبد اللّه عليه السلام و أنا معه فقال: أصلحك اللّٰه، إني حججت بابني هذا و هو صرورة و ماتت امه و هي صرورة فزعم أنه يجعل حجته عن امّه فقال: أحسن، هي عن امه فضل و هي له حجة» «3».

أقول: الذي ينبغي أن يقال في هذه الروايات: منع صراحتها علي الإجزاء و إن صرح بعض الأعلام «4» بصراحة صحيحتي عمار علي الإجزاء، و إليك تفصيل ذلك:

أما صحيحة عمار الاولي فيمكن أن يكون المراد منها: أن الصرورة إذا حج عن نفسه يجزيه، و إذا حج عن غيره أيضاً يجزي عن ذلك الغير، و كأنّ هذا لدفع كراهة نيابة الصرورة، أو عدم إجزاء حجه عن المنوب عنه، أو يكون أنه يكتب له و يثاب عليه، أو يجزي عن الحج المندوب

الثابت عليه إذا تركه و أتي به للغير، لا أنه يجزي عن حجه الواجب الثابت عليه إذا تركه و أتي به للغير، و ظاهر الإجزاء هو الإجزاء عما ثبت عليه لا ما يثبت عليه في المستقبل، و لذا يحمل علي المندوب.

و أما صحيحته الثانية فلا دافع؛ لاحتمال أن يكون المراد من الضمير في «يجزي عنه» الغير المذكور قبله و راجعاً إليه مضافاً، إلي أنه لو أخذنا باحتمال دلالتها علي إجزائه عن حجة إسلام النائب يلزم أن نقول به و لو كان عليه حجة الإسلام بالفعل و لم يقل به أحد.

______________________________

(1)- من السادسة، ثقة.

(2)- من الخامسة، روي عن الصادقين عليهما السلام، له كتاب.

(3)- تهذيب الأحكام: 5/ 8 ح 21.

(4)- راجع معتمد العروة: 1/ 199.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 261

و علي هذا لا يقال: إنّ مقتضي الجمع بينهما و بين خبر آدم بن علي حمل خبر آدم علي الاستحباب و حمل الصحيحتين علي الإجزاء؛ لمنع صراحتهما بما ذكر.

و أما خبر جميل فاشتماله علي اضطراب متنه يمنع عن الاحتجاج به، فإن السؤال راجع إلي إجزاء حج الرجل عن الآخر عن حج نفسه، و هو- أي السائل- يعلم إجزاءه عن الآخر، و إلي كفاية حج من أحجه غيره ليحج لنفسه من الحج ثانياً، و بعد حصول الاستطاعة فهل قوله: «يجزي عنهما جميعاً» يكون جواباً عن كلا الشقين، أي إجزاء حج من حج عن غيره عن حج نفسه، و حج من أحجه غيره لنفسه عن الحج ثانياً؟ فقوله: «يجزي عنهما جميعاً» لا يكون جواباً عن كليهما، و إن كان جواباً عن أحد الشقين يبقي الجواب عن الآخر بحاله، لأنه إن كان جواباً عن حج من حج لغيره يبقي الشق الآخر

و هو السؤال عن الإحجاج بلا جواب، و لو كان الجواب بدل قوله: «يجزي عنهما جميعاً» «لا» أو «ليس عليه الحج» كان تامّاً و عن تمام السؤال.

و علي كلّ حالٍ فالظاهر أن الراوي نقل السؤال و الجواب بالنقل بالمضمون و أجمل في نقل السؤال، و لعله لم ينقل أيضاً كلام الإمام عليه السلام بلفظه فصار الحديث مضطرب المتن.

و أما حديث عمرو بن إلياس فمضافاً إلي ضعف سنده فلا يدل علي إجزائه عن حجة الإسلام، مضافاً إلي أنه معارض بصحيح ابن مهزيار «1» و مكاتبة بكر بن صالح «2» و مكاتبة إبراهيم بن عقبة «3».

هذا، و قد ظهر من جميع ما ذكر عدم وجود حديث ظاهر الدلالة علي

______________________________

(1)- من الطبقة السابعة، لم يذكر ترجمته في جامع الرواة.

(2)- من السادسة، ثقة.

(3)- من الخامسة، روي عن الصادقين عليهما السلام، له كتاب.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 262

الإجزاء دلالةً يخرج بها عن القاعدة و إطلاق ما دل علي وجوب حجة الإسلام لنفسه علي المستطيع، فضلًا عن أن يكون صريحاً في ذلك، فالحكم ما عليه المشهور أو المجمع عليه أخذاً بالإطلاق المذكور و بخبر آدم بن علي. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 78] اعتبار مئونة العيال في الاستطاعة

مسألة 78- يعتبر في حصول الاستطاعة المشروط بها وجوب الحج أن يكون واجداً لما يمون به عياله حتي يرجع، و إلّا لا يصدق الاستطاعة، سواء كان المعتبر الاستطاعة العرفية، أو الاستطاعة الشرعية الخاصة المستفادة من الأحاديث المفسرة للآية الكريمة.

أمّا بحسب العرف فإنه لا يعدّ عند العرف من كان فاقداً لنفقة عياله و واجداً لمال يفي للسفر و للحج مستطيعاً له و للسفر.

و أمّا بحسب الأحاديث فإنها دلت علي اعتبار كون الشخص ذا يسر و يسار و ذا مال، و من

كان فاقداً لما يموّن به عياله ليس موسراً و لا ذا مال، و ما يدل علي كونه واجداً للزاد و الراحلة يستفاد منه أن يكون الشخص من جهة الملاءة بحيث كان له زائداً علي ضروريات معاشه مصارف الحج من الزاد و الراحلة.

هذا، مضافاً إلي دلالة خبر أبي الربيع الشامي علي ذلك، و إليك لفظه من الكافي الشريف: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن خالد بن جرير، عن أبي الربيع الشامي قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن قول اللّٰه عز و جل:

«مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» فقال: ما يقول الناس؟ قال: فقيل له: الزاد و الراحلة قال: فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: قد سئل أبو جعفر عليه السلام عن هذا فقال: هلك الناس إذاً، لئن كان من كان له زاد و راحلة قدر ما يقوت عياله و يستغني به عن الناس ينطلق

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 263

إليه فيسلبهم إياه لقد هلكوا، فقيل له: فما السبيل؟ قال: فقال: السعة في المال إذا كان يحج ببعض و يبقي بعضاً يقوت به عياله، أ ليس قد فرض اللّٰه الزكاة فلم يجعلها إلا علي من يملك مأتي درهم؟». «1»

و رواه الشيخ في التهذيب «2» و فيه «ينطلق إليهم»، و في الاستبصار «3» «ينطلق إليه» و الصدوق في الفقيه «4» و لفظه «ينطلق إليه».

و في المقنعة «5» بعد قوله: «و يستغني به عن الناس»، «يجب عليه أن يحج بذلك ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفه لقد هلك إذاً» و أيضاً: «يقوت به نفسه و عياله».

ثمّ إن الظاهر أنه لا فرق في دخالة ذلك في حصول الاستطاعة بين من يجب نفقته و غيره ممن يكون نفقته

عليه عرفاً، فالمدار علي العيال العرفي.

[مسألة 79] اعتبار الرجوع إلي الكفاية في حصول الاستطاعة

مسألة 79- هل يكون الرجوع إلي الكفاية من صنعة أو زراعة أو تجارة معتبراً في حصول الاستطاعة، أم لا؟

الظاهر أنه إذا كان بصرفه ما عنده في الحج يرجع و ليس له ما يمون به نفسه و عياله يكون حاله حال من كان فاقداً لمئونة عياله مدة ذهابه و إيابه ليس ذا يسر و يسار و السعة في المال، فلا يكون من كان مثلًا ذا ضيعة يصرف غلته في نفقة أهله

______________________________

(1)- الكافي: 4/ 265.

(2)- تهذيب الأحكام: 5/ 5.

(3)- الاستبصار: 2/ 137.

(4)- من لا يحضره الفقيه: 2/ 256.

(5)- المقنعة: 385.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 264

و عياله لا يجد مالًا غيرها مستطيعاً للحج ببيع هذه الضيعة، و ليست هي إلا مثل دار سكناه.

و يدل علي ذلك مضافاً إلي ما ذكر: رواية أبي الربيع الشامي بإلغاء الخصوصية و الدلالة المفهومية، بل و بالدلالة المنطوقية علي رواية المقنعة: «يجب عليه أن يحج بذلك ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفه لقد هلك إذاً» فإن هذه الزيادة تدل علي اعتبار الرجوع بالكفاية حتي لا يرجع و يسأل الناس.

و خبر الأعمش المروي عن الخصال الذي رواه الصدوق عن أربعة من مشايخه في الحديث و ترضي عليهم بالسند المتصل إلي الأعمش (سليمان بن مهران) و هو حديث شرايع الدين الطويل، قال الصادق عليه السلام فيه: «و حج البيت واجب علي من استطاع إليه سبيلًا، و هو الزاد و الراحلة مع صحة البدن، و أن يكون للإنسان ما يخلفه علي عياله و ما يرجع إليه بعد حجه».

و لا يضر بالاعتماد عليه شمول سنده علي ما قاله البعض علي عدة من المجاهيل، و قد اعتمد الصدوق قدس سره عليهم في روايات

متعددة في الفقيه و الخصال و الأمالي.

و قد استند بعض الأعلام لعدم وجوب الحج إذا صار سبباً لعدم الرجوع إلي الكفاية إلي قاعدة «نفي الحرج» لزعمه حصول الاستطاعة لمن لم يرجع إلي الكفاية. «1»

و فيه: ما سمعت من نفي حصول الاستطاعة بدون الرجوع إلي الكفاية، مضافاً إلي أن لازم هذا نفي الوجوب، فيلزم إن تحمل المكلف الحرج و أتي بالحج أن يكون مجزياً عن حجة إسلامه، و لا أري أنه يلتزم بذلك. و اللّٰه هو العالم.

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 203.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 265

[مسألة 80] هل تتحقق الاستطاعة بأخذ الحقوق الشرعية؟

مسألة 80- إذا كان الشخص ممن يعيش بالوجوه المنطبقة عليه كالأخماس و الزكوات و الصدقات و عوائد الأوقاف و الوصايا فهل يجب عليه الحج إذا حصل له مئونة الذهاب و الإياب و نفقة العيال؟

الظاهر حصول الاستطاعة لمن كان معنوناً ببعض العناوين المأخوذة في مصارف الأوقاف و الوصايا مما لا يعتبر في استحقاقه له الفقر، مثل الوقف علي الأولاد، أو سكان المدرسة، أو مؤذن المسجد، و نحو ذلك فإنه يرجع إلي الكفاية مثل من كان له ضيعة أو حرفة.

و أما إذا كان المعتبر لمن يأخذها الفقر و الحاجة كالأخماس و الزكوات فهل يجب عليه الحج بحصول نفقة الذهاب و العود و نفقة العيال عنده لأنه يستمر إعاشته بما كان يعيش به و لو بالاستعطاء و السؤال؟ وجهان، بل قولان.

و الظاهر أن المسألة تبني علي المختار في وجه اعتبار الرجوع إلي الكفاية، فإن كان وجهه عدم حصول الاستطاعة به فيقال بعدم حصولها له، و إن كان وجهه وقوع الشخص في الحرج و نفي وجوب الحاصل بالاستطاعة بقاعدة نفي الحرج فيمكن أن يقال: إنه يدور مدار وقوعه في الحرج، فمن لم يقع فيه

بواسطة اعتياده بصرف الزكوات و أخذ الصدقات و أخذ الأخماس يجب عليه الحج، فيلاحظ في نفي الوجوب و عدمه حصول الحرج و عدمه، و يختلف ذلك بحسب الأشخاص.

[مسألة 81] هل يجوز للوالد أن يأخذ ما يحج به من مال ولده؟

مسألة 81- لا إشكال في أنه لا يجب علي الوالد بذل ما يحج به لولده كما لا يجب علي الولد أيضاً أن يبذل ذلك لوالده و لا يجوز له أن يأخذه

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 266

من مال والده.

كل ذلك للأصل، و في خصوص الأخير للنصوص الخاصة مثل صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «في كتاب علي عليه السلام: إنّ الولد لا يأخذ من مال والده شيئاً إلّا بإذنه». «1»

و صحيحة سعيد بن يسار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «و ليس للولد أن يأخذ من مال والده إلا بإذنه» «2»، فلا إشكال في هذا الحكم. إنما الكلام في حكم أخذ الوالد من مال ولده، و الكلام فيه يقع في مقامين:

الأول: في جواز تصرفه في غير مورد الحج و غير نفقته الواجبة عليه، فاعلم أنه قد ادعي الاتفاق من الجميع علي عدم الجواز.

و في الحدائق (إنّ ظاهر كلمات الأصحاب الاتفاق علي عدم القول بها). «3»

فعلي هذا الروايات الدالة علي جوازه لا يحتج بها فإنها مضافاً إلي معارضة ما دل علي المنع لها معرَض عنها لم يعمل بها الأصحاب.

فعمدة الكلام تجري في المقام الثاني، و هو أخذ الوالد من مال ولده ليحج به، و فيه قولان:

القول الأول: ما اختاره الشيخ قدس سره في النهاية و الخلاف و التهذيب و المبسوط، و القاضي في المهذَّب، و هو الجواز، بل الوجوب.

قال في النهاية: (و من لم يملك الاستطاعة و كان له ولد له مال وجب عليه

أن

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 78 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1.

(2)- وسائل الشيعة: ب 36 من أبواب وجوب الحج ح 1. و سعيد بن يسار ثقة، له كتاب، من الطبقة الخامسة.

(3)- الحدائق الناضرة: 14/ 112.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 267

يأخذ من مال ابنه قدر ما يحج به علي الاقتصاد و يحج). «1»

و قال في الخلاف: (إذا كان لولده مال روي أصحابنا أنه يجب عليه الحج و يأخذ منه قدر كفايته و يحج به، و ليس للابن الامتناع منه، و خالف جميع الفقهاء في ذلك، دليلنا: الأخبار المروية في هذا المعني من جهة الخاصة قد ذكرناها في الكتاب الكبير، و ليس فيها ما يخالفها تدل علي إجماعهم علي ذلك. و أيضاً قوله عليه السلام: «أنت و مالك لأبيك»، فحكم له أن ملك الابن مال الأب و إذا كان له فقد وجد الاستطاعة و وجب عليه الحج). «2»

و قال في التهذيب: (فإن كان الرجل لا مال له و لولده مال فإنه يأخذ من مال ولده ما يحج به من غير إسراف و تقتير، يدل علي ذلك ما رواه موسي بن القاسم)، «3» ثمّ ذكر الحديث، و يأتي تمامه إن شاء اللّٰه.

و قال في المبسوط: (و قد روي أصحابنا أنه إذا كان له ولد له مال وجب عليه أن يأخذ من ماله ما يحج به و يجب عليه إعطاؤه). «4»

و قال القاضي ابن البراج في المهذب: (و من لم يقدر علي الزاد و الراحلة و كان له ولد له مال جاز أن يأخذ من ماله مقدار ما يحج به علي الاقتصاد) «5».

و قال المفيد في المقنعة- علي ما حكي عنه في الحدائق إلا أنا لم نجده

في كتاب حجه-: (و إن كان الرجل لا مال له و لولده مال فإنه يأخذ من مال ولده ما يحج به

______________________________

(1)- النهاية: 204.

(2)- الخلاف: 1/ 373.

(3)- تهذيب الأحكام: 5/ 15.

(4)- المبسوط: 1/ 299.

(5)- المهذب: 1/ 267.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 268

من غير إسراف و تقتير). «1»

القول الثاني: ما لعلّه هو المشهور بين المتأخرين، و هو عدم جواز أخذ الوالد من مال الولد.

أقول: وجه القول بالجواز: صحيح سعيد بن يسار الذي رواه في التهذيب، عن موسي بن القاسم، عن صفوان، عن سعيد بن يسار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يحج من مال ابنه و هو صغير؟ قال: نعم، يحج منه حجة الإسلام، قلت: و ينفق منه؟ قال: نعم، ثمّ قال: إنّ مال الولد لوالده، إنّ رجلًا اختصم هو و والده إلي النبي صلي الله عليه و آله فقضي أن المال و الولد للوالد».

و قد روي عن أحمد بن محمد بن عيسي، عن علي بن حكم، عن عمرو بن حفص، عن سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السلام مثله. «2»

و هذا الحديث رُدَّ أولًا: بأنه أخص من مدعي القائل بالجواز؛ لأن مورده الولد الصغير.

و يردّ ذلك ما في ذيل الرواية من الاستدلال بقول النبي صلي الله عليه و آله، غير أنه يُردّ أيضاً برواية الحسين بن أبي العلاء قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما يحل للرجل من مال ولده؟ قال: قوته بغير سرف إذا اضطر إليه، قال: فقلت له: فقول رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله للرجل الذي أتاه فقدم أباه فقال له: أنت و مالك لأبيك؟ فقال: إنما جاء بأبيه إلي النبي صلي الله عليه و آله فقال:

يا رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله هذا أبي و قد ظلمني ميراثي من امّي فأخبره الأب أنه قد أنفقه عليه و علي نفسه، فقال: أنت و مالك لأبيك و لم يكن عند الرجل شي ء، أو كان رسول الله صلي الله عليه و آله يحبس الأب للابن». «3»

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة: 14/ 109.

(2)- تهذيب الأحكام: 5/ 15.

(3) وسائل الشيعة: ب 78 من أبواب ما يكتسب به ح 7.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 269

قال في الحدائق: (و هذا الخبر و إن كان سنده ضعيفاً في الكتابين المذكورين (الكافي و الفقيه) إلا أن الصدوق رواه أيضاً في كتاب معاني الأخبار عن أبيه، عن أحمد بن إدريس «1» قال: حدثنا محمد بن أحمد عن محمد بن عيسي عن علي بن الحكم عن الحسين ابن أبي العلاء و هو ظاهر الصحة إلي الحسين و حسن به). «2»

و ثانياً: بحمله علي أخذه من مال ابنه قرضاً و استدانةً كما في الدروس.

و ثالثاً: بأن هذا الحديث من جملة الروايات الدالة علي جواز أخذ الوالد من مال الولد المعارضة بالروايات الدالة علي عدم الجواز و الطائفة الاولي معرض عنها.

و قال في الحدائق: (اتّفاق الطائفة المحقة قديماً و حديثاً علي عدم العمل بأخبار جواز الأخذ، مضافاً إلي مخالفتها لمقتضي القواعد الشرعية) «3»

و اشتمال هذا الخبر بالحج ليس لخصوصية الحج، بل ذكر الحج فيه تمثيلًا، كخبر الجارية، و خبر العتق ذكر هذا أيضاً في الحدائق.

و أما وجه القول بعدم الجواز فيكفي فيه إطلاق ما يدل من الكتاب و السنّة علي حرمة مال الغير إلا بطيب نفسه، و بالتجارة عن تراضٍ، مضافاً إلي الإطلاقات الدالة علي حرمة أخذ الوالد من مال ولده.

فإن قلت: إذا كان

الخبر واجداً لشرائط الاعتبار فسقوطه عن الحجية بالإعراض كلًّا أم بعضاً يدور مدار ذلك، فإن كان بكل مضمونه معرضاً عنه فهو، و إلّا فحجيته بالنسبة إلي المضمون الذي لم يثبت الإعراض عنه باقية علي حالها.

و إن شئت قلت: إن ما ثبت من عدم عمل القوم بالطائفة المجوزة هو في غير

______________________________

(1)- من صغار الطبقة الثامنة، ثقة فقيه، كثير الحديث.

(2)- الحدائق الناضرة: 14/ 113.

(3)- الحدائق الناضرة: 14/ 115.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 270

حج الوالد من مال الولد و إنفاقه منه في معيشته علي وجه الاقتصاد، و علي هذا فيقيد إطلاق الأدلة المانعة بذلك.

و بالجملة: أن كان رفع اليد عن الأخبار المجوزة لأجل الإعراض عنها فنقول: لم يثبت إعراضهم بقول مطلق، بل الثابت خلافه.

قلت: نعم، الأمر كما ذكر لو لم تكن إلا الطائفة المجوزة، أما مع وقوع التعارض بينها و بين الطائفة المانعة فلم يعلم أن عدم العمل بالطائفة المجوزة كان لإعراضهم عنها، بل ربما كان ذلك من أجل تعارضهما و تساقطهما عن الحجية به، أو لترجيح الطائفة المانعة علي الاخري لكونها موافقةً للكتاب و السنّة، و لكون الطائفة المجوزة موافقةً للتقية و علي هذا تسقط المجوزة بتمامها عن الحجية. و اللّٰه العالم.

[مسألة 82] إذا حج المستطيع بغير ماله أو متسكعاً

مسألة 82- لا يجب علي المستطيع أن يحج من ماله، فلو حج ببذل الغير و بنفقته أو متسكعاً يجزيه، بل لو غصب مال الغير و أنفقه في سبيل الحج أو غصب عين ما يحتاج إليه من الزاد و الراحلة لا يضر ذلك بصحة حجه إذا لم يكن عين ثوب طوافه و سعيه و هديه مغصوباً و إن كان ثمنها مغصوباً و لكن اشتراها بالذمة و بالثمن الكلي، فلا يصحّ إذا كان عين ثوبه في الطواف

و السعي مغصوباً أو اشتراها بعين الثمن المغصوب، سواء قلنا في مسألة اجتماع الأمر و النهي بالامتناع أو بالجواز.

أما علي القول بالامتناع و ترجيح جانب النهي فلا ريب في بطلان الطواف و السعي و الحج، و علي القول بالجواز أيضاً الحكم هو بطلانها؛ لعدم صلاحية ما يكون ملازماً لما يبعد عن المولي للتقرب به إليه.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 271

و يمكن أن نقول في خصوص الساتر في الطواف- بناءً علي اعتبار الستر فيه كالصلاة بل و في لباسه بناء علي اعتباره في الطواف-: إنّ ما هو المأمور به في الطواف لا يمكن أن يكون بالمحرَّم، فلا يكون مصداقاً للواجب، فهو خارج عن كونه مأموراً به و عن محلّ النزاع في مبحث اجتماع الأمر و النهي، و أما اللباس غير الساتر- علي القول باعتبار خصوص الساتر في الطواف- و لباس الساعي و ساتره فهما واردان في المبحث المذكور، فنبحث فيه أن مثل الطواف المأمور به أو السعي مع اللباس المغصوب هل يتّحد مع الغصب، أو يسري النهي عنه إلي الطواف و السعي المأمور بهما، أم لا؟

نعم، يدخل تمام المسألة في النزاع إن قيل بعدم اعتبار الساتر في الطواف مطلقاً، أو كفاية ستر العورة بمثل اليد أو الحشيش أو غيرهما.

و أما لباس الإحرام فالظاهر أن غصبيته لا تمنع من تحقق الإحرام فيه فلا يضر بصحة الإحرام، كما يأتي- إن شاء اللّٰه تعالي- في المسائل الآتية، كما لا يضر بصحة الحج، إلا أنه حيث يكون واجباً من واجبات الحج يجب الإتيان به بالثوب المباح.

اللهمّ إلّا أن يمنع ذلك أيضاً، غير أن ستر العورة حيث يكون واجباً علي الرجال، بل و ستر سائر البدن إذا كان في معرض نظر

الناظر المحترم و حيث لا يجوز لهم المخيط وقع العادة علي لبس ثوبي الإحرام. و سيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء اللّٰه تعالي.

[مسألة 83] الاستطاعة البدنية
اشارة

مسألة 83- لا ريب و لا خلاف في الجملة في اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة البدنية، فالمريض الذي لا يقدر علي الركوب علي المركب

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 272

المحتاج إليه للسير إلي الحج لا يجب عليه الحج بالمباشرة.

غير أنه وقع الكلام بينهم في أن عدم الوجوب عليه هل هو أعم من المباشرة و التسبيب، أو أنّه مختصّ بصورة المباشرة؟ أما إذا أمكن له التسبيب بالاستنابة يجب عليه أن يستنيب.

نعم، لو كان له الاستطاعة المالية بما يكفي للحج بمباشرته و لا يكفي للاستنابة فلا كلام في سقوطه عنه مطلقاً.

و أما وجوبه علي العاجز من المباشرة إذا حصلت له الاستطاعة المالية للاستنابة دون المباشرة فلعلّ حكمه يظهر ممّا نذكره في المباحث الآتية.

ثمّ إنّ مقتضي الأصل في المسألة عدم وجوب الاستنابة علي العاجز من المباشرة كسائر التكاليف، و علي هذا لا حاجة إلي إقامة الدليل علي عدم الوجوب إن لم يتم الاستدلال للوجوب بما استدل له.

و حيث إنّ للمسألة ربطاً تامّاً بمسألة وجوب الاستنابة علي من استقر عليه الحج ثمّ عجز عن إتيانه بالمباشرة ربما يقال بأنّ الأولي تقديم البحث عن هذه المسألة، ثمّ البحث عن مسألتنا هذه إن انتهينا في تلك المسألة إلي وجوب الاستنابة، و إلّا فلا يبقي مجال للبحث عن وجوبها في مسألتنا هذه لأن القول بعدمه فيها أولي.

و لكن يجري في تقديم البحث عن مسألتنا هذه علي الاخري أيضاً أن البحث إن انتهي فيها إلي وجوب الاستنابة لا يبقي مجال للبحث عنه في تلك المسألة؛ لأولوية القول به فيها عن مسألتنا.

مضافاً

إلي أن القول بعدم الوجوب في المسألتين موافق للأصل، و إنما نفحص فيهما عن الدليل علي الوجوب، فإن وصلنا إليه في مسألتنا يكفينا في المسألة الاخري، بخلاف إن وجدناه في تلك المسألة فإنه لا يغنينا عن الفحص عن الدليل

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 273

علي الوجوب في مسألتنا، و علي كلِّ حالٍ فكلامنا يقع في مقامين:

المقام الأول: في من حصل له الاستطاعة المالية الوافية للحج بالمباشرة و الاستنابة و عجز عن الحج في سنة الاستطاعة، و الكلام فيه يقع في موضعين:

الأول: في أقوال الأصحاب رضوان اللّٰه تعالي عليهم:

فنقول: حكي في الجواهر القول بالوجوب: عن الإسكافي و الشيخ و أبي الصلاح و ابن البراج، و الحسن في ظاهره، و الفاضل في التحرير و الميل إليه في منتهاه، و ظاهر المحقق في الشرائع، و الإجماع من الخلاف «1».

و إليك عبائر بعضهم: قال أبو الصلاح في الكافي: (و من تعلق عليه التمكن بالسعة في المال و منعه مانع فليخرج عنه نائباً يدفع إليه من ماله ما يكفيه لنفسه و أهله). «2»

و قال الشيخ في النهاية: (فإن حصلت الاستطاعة و منعه من الخروج مانع من سلطانٍ أو عدوٍّ أو مرضٍ و لم يتمكن من الخروج بنفسه كان عليه أن يُخرِج رجلًا يحج عنهُ فإذا زالت عنه بعد ذلك الموانع كان عليه إعادة الحج … و إن لم تزل الموانع عنه و أدركه الموت كان ذلك مجزئاً عنه). «3»

و قال في الخلاف: (مسألة: الذي لا يستطيع الحج بنفسه و أيس من ذلك إما بأن لا يقدر علي الكون علي الراحلة، أو يكون به سبب لا يرجي زواله و هو العضب و الضعف الشديد من الكبر، أو ضعف الخلقة بأن يكون ضعيف

الخلقة في بدنه لا يقدر أن يثبت علي مركب يلزمه فرض الحج في ماله بأن يكتري من يحج عنه، فإن فعل ذلك سقط الفرض، و به قال في الصحابة علي عليه السلام- إلي أن قال: - دليلنا: إجماع

______________________________

(1)- جواهر الكلام: 17/ 281.

(2)- الكافي للحلبي: 219.

(3)- النهاية: 203.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 274

الفرقة، و طريقة الاحتياط). «1»

و قال في المبسوط: (المعضوب الذي لا يقدر أن يستمسك علي الراحلة من كبر أو ضعف إلّا بمشقة عظيمة و له مال لزمه أن يحج عنه غيره). «2»

و قال ابن البراج في المهذّب: (إذا وجب الحج علي المكلف و منعه من الخروج لأدائه مانع من سلطانٍ أو مرض أو عدوٍّ- علي وجهٍ لا يمكنه معه الخروج لذلك بنفسه كان عليه إخراج نائبٍ عنه). «3»

و قال المحقق في الشرائع: (و لو منعه عدو أو كان معضوباً لا يستمسك علي الراحلة أو عدم المرافق مع اضطراره إليه سقط الفرض، و هل يجب الاستنابة مع المانع من مرضٍ أو عدوٍّ؟ قيل: نعم، و هو المروي، و قيل: لا). «4»

و قال الشهيد في الدروس: (و سادسها: الصحة من المرض و العضب، و هو شرط في الوجوب البدني لا المالي، فلو لم يتضرر بالركوب وجب). «5»

و قال في اللمعة: (و في استنابة الممنوع بكبرٍ أو مرضٍ أو عدوٍّ قولان، المروي عن عليٍّ عليه السلام ذلك). «6»

القول الثاني: عدم وجوب الاستنابة: و هو علي ما في الجواهر «7» مختار ابني إدريس و سعيد، و المفيد في ظاهره، و الفاضل في القواعد، و المختلف و غيرهم. و إليك أيضاً بعض كلمات هؤلاء رضوان اللّٰه تعالي عليهم:

______________________________

(1)- الخلاف: 10/ 372.

(2)- المبسوط: 1/ 299.

(3)- المهذب: 1/ 268.

(4)- شرايع الإسلام:

1/ 165.

(5)- الدروس الشرعية: 1/ 313.

(6)- اللمعة/ 53.

(7)- جواهر الكلام: 17/ 284.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 275

قال في السرائر- بعد نقل وجوب الاستنابة عن الشيخ-: (هذا غير واضح؛ لأنه إذا منع فما حصلت له الاستطاعة التي هي القدرة علي الحج، و لا يجب عليه أن يخرج رجلًا يحج عنه، لأنه غير مكلف بالحج حينئذ بغير خلاف، و إنما هذا خبر أورده إيراداً لا اعتقاداً). «1»

و قال العلامة في القواعد: (فلا يجب علي المريض المتضرر بالركوب و السفر، و لو لم يتضرر وجب، و هل علي المتضرر الاستنابة؟ الأقرب العدم). «2»

و قال في الإرشاد: (لا يجب علي الممنوع لمرضٍ أو عدوٍّ الاستنابة علي رأي). «3»

القول الثالث: الاستحباب: قال الهذلي في الجامع: (و من كان مريضاً أو منعه ذو سلطان أو عدوّ من الحج استحب له أن يحج عنه غيره، فإذا زال المانع وجب عليه بنفسه). «4»

و قد ظهر أن المسألة من حيث الأقوال مختلف فيها لم يقم علي واحدٍ منها إجماع و اتفاق، و إن كان لا يبعد صحة دعوي الشهرة بين المتقدمين علي الوجوب.

و يحتمل أن يكون القول الثالث في خصوص العذر المرجوّ الزوال دون غيره، فتكون المسألة علي قولين.

الموضع الثاني: فيما استدل به أو يمكن الاستدلال به علي وجوب الاستنابة من الكتاب و السنة.

أمّا الكتاب فيستدل به أنّ الحج المجعول علي الناس أعم مما يقع بالمباشرة أو

______________________________

(1)- السرائر: 1/ 516.

(2)- قواعد الأحكام: 1/ 75.

(3)- إرشاد الأذهان: 1/ 311.

(4)- الجامع للشرائع/ 173.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 276

التسبيب، فيجب علي كل مكلف مستطيع أن يأتي بهذه المناسك بالمباشرة إن كان قادراً بنفسه، و إن كان عاجزاً عنه فبالتسبيب، و ليس معني ذلك التخيير بين المباشرة و

التسبيب، كالإنفاق علي الفقراء، و إشباع الجائع، و إكساء العاري يكون المكلف في فعل هذه الأفعال مخيراً بين الإتيان به بالمباشرة أو التسبيب، بل معناه وجوبه علي القادر بالمباشرة، و علي العاجز بالاستنابة كالقادر علي الطواف و صلاته و العاجز عنهما، و هذا القيد إنما جاء من قبل نفس الحج النيابي حيث لم يشرع للقادر عليه بالمباشرة، بخلاف إطعام المسكين فيحتمل أن يكون معني «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»: أن الحج علي عهدتهم، فعلي القادر عليه بالمباشرة الحج بنفسه، و علي العاجز عنه القادر عليه بالتسبيب الحج بالتسبيب، فالمراد بالناس أعم من القادرين علي الحج بأنفسهم و من القادرين عليه بالاستنابة، فليس المراد بالناس هنا من هذه الجهة طائفة خاصة دون غيرهم بعد ما ثبت بالأدلة إمكان الإتيان بالحج بالاستنابة.

لا يقال: هذا خلاف الظاهر، فإن القدرة علي الفعل بالمباشرة شرط لتعلق التكليف به. و بعبارةٍ اخري: الظاهر أن الفعل المباشري متعلق للتكليف دون الأعم منه و من التسبيبي.

فإنّه يقال: هذا إذا لم يعلم جواز تحقق الفعل بالاستنابة، و لا شك في أن المكلف إذا كان عاجزاً عن المباشرة يجوز له الاستنابة و حج البيت بها، إذاً فيجب عليه حج البيت كما يجب علي القادر، و لتكن الروايات أيضاً كالشرح و التفسير للآية.

قد فسرت الاستطاعة في الروايات تفسيراً للآية الكريمة تارةً بأن يكون له مال أو زاد و راحلة أو ما يحج به، و اخري بأن يكون صحيحاً في بدنه مخلي سربه له زاد و راحلة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 277

فيمكن أن يقال في مقام التوفيق بين الطائفتين بقرينة أخبار جواز الحج النيابي: إنّ المشروط بوجوده وجوب الحج بحيث لا يتخلف وجوبه نيابياً أو مباشرة

عنه هو الاستطاعة بالمال، و أما صحة البدن و تخلية السرب فهما معتبران في القدرة العقلية للحج المباشري الذي هو فرض الواجد لهما.

و عن تفسير غرائب القرآن: (إن الاستطاعة نوعان: استطاعة مباشرته بنفسه، و استطاعة الاستنابة). «1»

و ما ذكرناه يمكن استفادته من كلام العلامة قدس سره في التذكرة، فإنه أجاب عمّن يقول بعدم وجوب الاستنابة بعدم حصول الاستطاعة للمنوب عنه بأنّا نمنع عدم الاستطاعة؛ لأنّ الصادق عليه السلام فسّرها بالزاد و الراحلة. «2»

فهذا الذي قلناه يستفاد من ملاحظة الروايات و التأمل فيها و التوفيق بينها، إذاً لا وجه لردّ احتمال أن يكون المراد من حج البيت: الأعم من المباشري منه و النيابي.

هذا، مضافاً إلي أن ما يحتاج إلي التفسير بل إلي التنبيه إليه في الآية هو الاستطاعة المالية الشرعية، و إلا فاشتراط الحج و غيره بالقدرة البدنية و تخلية الطريق داخل في القدرة العقلية، و الإشارة إليهما في الروايات أيضاً لا تكون تفسيراً للاستطاعة المذكورة في الآية، بل بيِّن إيضاحاً، فعلي هذا يجب علي العاجز المستطيع الاستنابة.

و في الختام ننقل ما في مجمع البحرين في هذا الموضوع، قال: (قوله تعالي:

«وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» أي من قدر علي ذلك. قيل:

______________________________

(1)- غرائب القرآن للنيشابوري القمي: 1/ 345 قال ما هذا لفظه: (و الاستطاعة نوعان: استطاعة مباشرته بنفسه، و استطاعة تحصيله بغيره).

(2)- تذكرة الفقهاء: 1/ 303.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 278

إنها شاملة للمستطيع بنفسه و غيره، فيدخل المعضوب الواجد من يحج عنه وجه التناول، علي ما قيل، مع أن قيام فعل الغير مقام فعل الشخص مجاز مبنيّ علي إعراب الآية و فيه ثلاثة أوجه: أحدها إضافة «حج» الذي هو مصدر إلي المفعول

«من» هو الفاعل، و تقديره: أن يحج المستطيع البيت. و الثاني كذلك، إلا أنّ «من» شرطية جزاؤها محذوف، التقدير: من استطاع إليه سبيلًا فليفعل. الثالث بدل بعض من كل. و التقدير: علي المستطيع من الناس حج البيت، فعلي الأول يكون الحمل علي الأمرين جمعاً بين الحقيقة و المجاز. و علي الثاني و الثالث لا يكون جمعاً بينهما).

و هذا غير ما قلناه، فإنّا نحمل الآية علي الوجه الثالث، و نقول: إن حج البيت مباشري و استنابي، و الأول يتأتّي من الصحيح القادر، و الاستنابي من العاجز، فالصحيح القادر علي المباشرة يجب عليه الحج بنفسه، و المستطيع العاجز يجب عليه الاستنابة. و ينبغي أن يحمل الروايات علي هذا المعني حتي يرتفع كل تهافتٍ ظاهريٍّ بينها. و اللّٰه أعلم.

و مع ذلك نقول: اللّٰه و حججه عليهم السلام هم العالمون بأحكامه تعالي و تفسير كتابه، و نعوذ باللّٰه من أن نفسّر القرآن بالرأي و الاجتهاد و نقول فيه ما ليس ظاهراً فيه أو لا يدل عليه تفسيرهم، إذاً فلم نقل ما قلناه إلّا علي سبيل الاحتمال و جواز كون روايات الباب تفسيراً للكتاب، فلنرجع إلي الروايات:

فمنها: صحيح الحلبي الذي رواه الكليني: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن: أبي عمير عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام و لفظه: قال: «إن كان رجل موسر حال بينه و بين الحج مرض أو أمر يعذره اللّٰه- عز و جل- فيه فإن عليه أن يحج عنه صرورة لا مال له» «1». و رواه الصدوق (بإسناده الصحيح عن طريقين

______________________________

(1)- الكافي: 4/ 273 ح 5، من لا يحضره الفقيه: 2/ 260 ح 148.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 279

عن الحلبي و

لفظه: «إن كان موسراً حال بينه».

و رواه الشيخ في التهذيب

بإسناده الصحيح إلي موسي بن القاسم «1» عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا قدر الرجل علي ما يحج به ثمّ رفع ذلك و ليس له شغل يعذره اللّٰه فيه فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام فإن كان موسراً و حال بينه و بين الحج مرض أو حصر أو أمر يعذره اللّٰه فيه فإن عليه أن يحج عنه من ماله صرورة لا مال له» إلي آخر الحديث. «2»

و الحديث حسنة بسند الكليني و صحيح بسند الصدوق و الشيخ، و إطلاقه يشمل ما استقر عليه الحج و من حصلت له الاستطاعة في سنته إن لم نقل بأنه ظاهر فيه، و اشتماله علي ما لم يعملوا بظاهره- و هو وجوب استنابة الصرورة، بل ادعي الإجماع علي كفاية استنابة غيره- لا يضر بأصل وجوب الإحجاج و الاستنابة.

مضافاً إلي أنه قابل للحمل علي أن المراد منه أن النائب يجب أن لا يكون مستطيعاً و لا تكون ذمته مشغولة بحج نفسه، أو يحمل علي أفضل الأفراد، و إلا فنأخذ به؛ لأن عدم إفتائهم بذلك يمكن أن يكون لكونه عندهم ظاهراً فيما ذكرنا.

هذا، و لكن التأمل في لفظ رواية الشيخ في التهذيب يوجب ظهور الرواية في من استقر، فلا يبقي مجال للاستدلال بصحيح الحلبي علي ما نحن فيه.

تنبيه:

(1) تستفاد من بحثنا هذا نتائج مهمة تفيد الباحث و الذي في صدد الاستنباط، و لعله لا يستغني عنها في كثير من المباحث:

______________________________

(1)- ابن معاوية بن وهب من أصحاب الرضا عليه السلام ثقة ثقة، له ثلاثون كتاباً. و هو من الطبقة السابعة.

(2)- تهذيب الأحكام: / 403

ح 51.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 280

1- اللازم علي الفقيه أن لا يكتفي بالمراجعة إلي كتاب واحد من الجوامع الأولية الأربعة دون سائرها إذا احتمل رواية الحديث في غيرها، فلعل للرواية لفظ غير لفظ هذا الكتاب يوضّح معني الحديث و يوجب قلب استظهارنا من لفظه في كتابنا المشار إليه.

و الدليل علي هذه الحاجة و عدم تمامية الاستنباط بقصر المراجعة إلي جامع واحد هو هذا الصحيح، فقد رواه في الكافي كحديث مستقل، مع أنّا وجدناه في التهذيب قطعةً مما رواه الحلبي أسقط عنه صدره و ذيله.

هذا، و الصدوق أيضاً لم يذكر منه غير هذه القطعة، إلّا أنّ الناقد البصير يفهم من لفظه أن الحديث ليس بتمامه ما أخرجه.

و قد ظهر في ضمن البحث اختلاف ما يستفاد مما رواه الكليني و الصدوق- قدس سرهما- مع ما يستفاد مما رواه الشيخ.

2- ينبغي أن لا يغترّ الباحث الفقيه بعدم التقطيع بمجرد كون صورة الحديث تامّةً من دون تقطيع، فهذه رواية الكافي لا يظهر منها أي تقطيع مع أن الظاهر أنها قطعة من رواية الشيخ في التهذيب، فمع احتمال التقطيع يجب الفحص و لا يجوز التسرع إلي الفتوي.

3- لا ينبغي الاعتماد علي قولهم: «مثله» أو «نحوه» لأنه ربما يدخل في ذلك الاجتهاد من صاحب الكتاب كما نري في هذا الحديث في الوسائل، و إن كان ظاهر قولهم: «مثله» كون الحديث بتمامه و بألفاظه عين الحديث السابق.

4- لا ينبغي الاتّكال علي عناوين أبواب مثل الوسائل فإنها حصيلة ما استفاده صاحبه من الأحاديث بضمها إلي بعض، و غير ذلك من الوجوه.

و أما خبر علي بن أبي حمزة الذي رواه الكليني عن محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد،

عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة قال: «

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 281

سألته عن رجل مسلم حال بينه و بين الحج مرض أو أمر يعذره اللّٰه فيه فقال: عليه أن يُحجَّ عنه من ماله صرورة لا مال له» «1»، فهو مضمر، مضافاً إلي ضعفه بابن أبي حمزة و القاسم بن محمد.

و ربما يقال بأن ظاهر الخبرين هو وجوب الإحجاج لا الاستنابة، فهما بظاهرهما معرض عنهما.

و لكن يردّ ذلك: بأن ظاهر هذا التعبير في مثل المقام بمناسبة الحكم و الموضوع هو الاستنابة و نيابة الغير عنه، و كون حجه بدلًا عن حجه و قائماً مقامه، و قوله:

«فعليه أن يحج» مثل قوله في الخبر الآتي: «فليجهز».

و من الروايات: ما رواه الكليني: عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد «2»، عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب «3» عن القاسم بن بريد «4» عن محمد بن مسلم «5» عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كان علي عليه السلام يقول: لو أن رجلًا أراد الحج فعرض له مرض أو خالطه سقم فلم يستطع الخروج فليجهز رجلًا من ماله ثمّ ليبعثه مكانه». «6»

و ظاهره حجة الإسلام فيدل علي الوجوب؛ لأن جواز الاستنابة و التجهيز

______________________________

(1)- الكافي 4/ 273 ح 3.

(2)- المرويّ عنه إن كان أحمد بن محمد بن عيسي فعدّته خمسة، و هم: محمد بن يحيي، و أحمد بن إدريس، و علي بن إبراهيم، و داود بن كورة، و علي بن موسي الكميداني. و إن كان أحمد بن محمد بن خالد فهم أربعة: علي ابن إبراهيم، و علي بن محمد بن عبد اللّه بن بندار ابن بنت البرقي، و أحمد بن عبد اللّه ابن ابنه، و

علي بن الحسين السعدآبادي.

(3)- من السادسة و ممن أجمع أصحابنا علي تصحيح ما يصح عنهم …

(4)- ابن معاوية من الخامسة ثقة له كتاب.

(5)- محمد بن مسلم من الرابعة أمره أجل من أن يذكر.

(6)- الكافي: 4/ 273 ح 4.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 282

للحج- سواء كان الشخص مريضاً أو صحيحاً- أمر مفروغ عنه و ما هو محتاج إلي البيان تكليف من أراد حجة الإسلام فعرض له المانع.

و بالجملة: فالظاهر أن الحديث الشريف وارد في بيان حكم المستطيع العاجز عن حجة الإسلام بالمرض.

و منها: ما رواه الكليني: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد اللّه بن المغيرة، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إن أمير المؤمنين- صلوات اللّٰه عليه- أمر شيخاً كبيراً لم يحج قط و لم يطق الحج لكبره أن يجهز رجلًا يحج عنه» «1». و رواهما الشيخ و الصدوق.

و مثله صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إن علياً عليه السلام رأي شيخاً لم يحج قط و لم يطق الحج من كبره فأمره أن يجهز رجلًا فيحج عنه». «2»

فالظاهر أن موردهما هو من استقر عليه الحج، أو أنهما في قضية واقعة لا نعلم أن الشيخ المذكور في الروايتين قد استقر عليه الحج قبل عجزه عنه، أو حصلت الاستطاعة المالية بعد عجزه.

اللّهم إلّا أن يقال: إن الإمام عليه السلام في حكايته تلك القضية حيث لم يذكر حال الشيخ من حيث استقرار الحج عليه و عدمه يستفاد منه الإطلاق، و أن ما هو الموضوع لوجوب الحج هو أعم ممن استقر عليه و من عجز عنه في سنة استطاعته.

و لكن يمكن أن يقال: إن هذا يتم لو

بقيت الحكاية بدون هذا الإطلاق بلا فائدة و لا يكون الإمام عليه السلام في مقام بيان حكم من استقر عليه الحج، و أما إذا احتملنا كونه في مقام بيان خصوص هذا الحكم يسقط التمسك بالإطلاق.

______________________________

(1)- الكافي: 4/ 273 ح 2.

(2)- تهذيب الأحكام: 5/ 14 ح 38.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 283

إذاً نبقي نحن و خبر علي بن أبي حمزة و صحيح محمد بن مسلم، و الأول ضعيف بسنده، و الثاني فدلالته موقوفة علي كون المراد من الحج فيه حجة الإسلام و هو ما قربنا و لا يبعد البناء عليه. فعلي ذلك كله يجب الاستنابة علي العاجز في سنة حصول الاستطاعة المالية له.

فإن قلت: إطلاق هذه الرواية و شمولها لمن لم يستقر عليه الحج معارض بإطلاق ما ورد في تفسير الاستطاعة «من كان صحيحاً في بدنه مخلي سربه له زاد و راحلة و هو ممن يستطيع الحج» فإنه يدل بمفهومه علي أن من لا يكون كذلك ليس بمستطيع، مضافاً إلي دلالة سياقه فإنه كما لا يكون من ليس له الزاد و الراحلة مستطيعاً كذلك من لم يكن صحيحاً في بدنه أيضاً لا يكون مستطيعاً.

قلت أولًا: لا يقاس عدم الزاد و الراحلة بعدم صحة البدن و عدم تخلية السرب، فإن مع عدم وجود الزاد و الراحلة و وجودهما لا يتمكن الشخص من الحج لا مباشرةً و لا استنابةً، و مع عدمهما و وجود الزاد و الراحلة يكون متمكناً من الاستنابة، فلا دلالة للسياق علي عدم كون غير الصحيح مطلقاً غير مستطيع للحج.

و ثانياً: أن ظهور المنطوق في الإطلاق أقوي من ظهور المفهوم، فيقيد إطلاق مفهوم قوله: «من كان صحيحاً في بدنه» بالنسبة إلي من يستطيع الحج بالاستنابة

و هو أولي من حمل صحيح محمد بن مسلم علي من استقر عليه الحج و تقييد إطلاقه بالنسبة إلي من لم يستقر عليه بإطلاق مفهوم من كان صحيحاً في بدنه، الشامل للقادر علي الاستنابة و العاجز عنها.

و بالجملة: رفع اليد عن المفهوم بإطلاق المنطوق مقبول عند العرف بكونه من مصاديق حمل الظاهر علي الأظهر.

هذا تمام الكلام في وجوب استنابة الحج علي المستطيع العاجز عن المباشرة الذي لم يستقر عليه الحج، و قد ظهر به أن الأظهر هو الوجوب. و اللّٰه تعالي هو العالم.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 284

المقام الثاني: في من استقر عليه الحج ثمّ عجز عنه بعد ذلك.

اعلم: أن وجوب استنابة الحج في هذه الصورة أولي من الصورة الاولي، و بعد إثبات وجوبها فيها لا نحتاج إلي إقامة الدليل لإثبات وجوبها في هذه الصورة، و مع ذلك نقول: لو لم نذهب إلي وجوب الاستنابة علي المستطيع الذي عجز عن الحج في سنة استطاعته، فمقتضيٰ صحيح الحلبي الذي مر الكلام فيه، و صحيح معاوية بن عمار، و صحيح عبد اللّه بن سنان، و إطلاق صحيح محمد بن مسلم هو وجوب الاستنابة عليه.

هذا، مضافاً إلي أنه لم يعلم من أحد خلاف في ذلك، بل حكي المستند عن المسالك و الروضة و المفاتيح و شرحه و شرح الشرائع للشيخ علي و غيرها الإجماع عليه «1».

ثمّ إنّ هنا روايتين حاكيتين عن حكم أمير المؤمنين عليه السلام قيل بأنه يظهر منهما استحباب الاستنابة و كون المستطيع المستقر عليه الحج مختاراً فيها، لتعليقها علي المشيئة.

إحداهما: ما رواه الشيخ في التهذيب بسنده، عن سلمة أبي حفص، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ رجلًا أتي علياً عليه السلام و

لم يحج قطّ فقال: إني كنت كثير المال و فرطت في الحج حتي كبر سني قال: فتستطيع الحج؟ قال: لا، فقال له علي عليه السلام: إن شئت فجهز رجلًا ثمّ ابعثه يحج عنك». «2»

ثانيتهما: ما رواه الكليني بسنده، عن عبد اللّه بن ميمون القداح، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ علياً- صلوات اللّٰه عليه- قال لرجلٍ كبيرٍ لم يحج قط: إن شئت

______________________________

(1)- مستند الشيعة: 1/ 166.

(2)- تهذيب الأحكام: 5/ 360 ح 1599.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 285

أن تجهز رجلًا ثمّ ابعثه أن يحج عنك». «1»

و الجواب عنهما: أنّ هذا غير ظاهر في نفي الوجوب؛ لاحتمال عدم إرادة مفهوم الشرط، و احتمال أن يراد: إن شئت أن تأتي بالحج الواجب، أو إن شئت فراغ ذمتك.

هذا، مضافاً إلي ضعف سند الخبرين، أما الرواية الاولي فضعفه بسلمة أبي حفص حيث لم يذكر تعريفه في كتب الرجال. و أما الرواية الثانية فضعفه بسهل بن زياد علي ما قاله بعض، و إن قوينا جواز الاعتماد عليه في السابق. و قيل: بجعفر بن محمد الأشعري، لأنه لم يعلم أنه هو جعفر بن محمد بن عبيد اللّٰه الذي هو من رجال كامل الزيارة أو غيره، و لكنه كان هو أو غيره لم يذكر بمدح و لا قدح، و الظاهر كما أثبته سيدنا الاستاذ- أعلي اللّٰه مقامه- أنهما واحد.

و ينبغي التنبيه علي فروع:
الفرع الأول: لا ريب في أنه لا يجوز الاستنابة إذا تيقن بزوال العذر و إمكان الإتيان به بالمباشرة،

و الظاهر أن هذا مورد الاتفاق و الإجماع. و أما إذا لم يعلم ذلك فإما أن يعلم عدم زوال العذر فلا ريب في وجوب الاستنابة و عدم جواز التأخير، و في حكمه اليأس من زواله.

و هل يجب عليه إذا لم ييأس من الزوال و احتمله احتمالًا عقلائياً، أم لا؟ قيل:

إنّ المشهور اختاروا عدم

الوجوب. بل قيل: ربما ادعي الإجماع عليه.

و ربما يوجه الوجوب بظاهر بعض الروايات مثل صحيح الحلبي: «و إن كان موسراً و حال بينه و بين الحج مرض أو حصر أو أمر يعذره اللّٰه تعالي فيه فإن عليه أن يحج عنه من ماله صرورة لا مال له»، و مضمر ابن أبي حمزة: «حال بينه

______________________________

(1)- الكافي: 4/ 272 ح 1.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 286

و بين الحج»، و صحيح ابن مسلم: «لو أن رجلًا أراد الحج فعرض له مرض أو خالطه سقم فلم يستطع الخروج فليجهز رجلًا من ماله ثمّ ليبعثه مكانه».

و يمكن أن يجاب عنه: أما عن الصحيح و المضمر بأنهما يدلان علي حيلولة العذر بينه و بين طبيعة الحج فمن، حال بينه و بين حج سنته لا يقال: حال بينه و بين الحج بقول مطلق، و الظاهر أن هذا هو المتبادر إلي الذهن في مثل هذه الأحكام، فمثل قولنا: العاجز عن القيام يصلي قاعداً، أو من حال بينه و بين القيام في الصلاة العجز عن القيام فالمتبادر منه العجز في تمام الوقت عن جميع أفراد الصلاة قائماً.

و أما صحيح ابن مسلم فقد أجاب عنه بعض الأعاظم بأنه أجنبي عن المقام؛ لأن مورده الحج التطوعي الإرادي فلا يشمل ما لو وجب عليه الحج و لكن لا يتمكن من إتيانه مباشرة «1».

و فيه: أن الظاهر منه كما قلنا هو الحج الواجب، و أما بيان جواز الاستنابة ممن أراد الحج التطوعي بالمباشرة و لم يتمكن منه فهو أمر معلوم بين المسلمين لا يدور جوازه مدار إرادة الحج بالمباشرة و العجز عنها، و لا يحتاج بيانه إلي مثل هذا التعبير المفهوم منه مشروطية صحة الاستنابة بعروض المرض و السقم

المانع عن الحج. إلّا أنّ المستفاد من قوله عليه السلام: «و لم يستطع الخروج» هو مطلق الخروج.

و علي هذا كله فما يدل عليه هذه الروايات هو وجوب الاستنابة في صورة العجز المطلق عن الحج و عن الخروج إليه، فيجب الاستنابة في صورة العلم بعدم التمكن من المباشرة أو اليأس منها، نعم لا بأس به رجاءً و إن لم ييأس من زوال العذر.

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 246.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 287

الفرع الثاني: إذا حصل له اليأس من زوال العذر أو قام طريق إلي عدم زواله

كاستصحاب بقاء العذر، أو إخبار الطبيب فاستناب و بعد إتمام العمل ارتفع العذر فهل يجزيه ذلك عن حجة الإسلام، أو يجب عليه الحج مباشرة؟

قال في العروة: (المشهور أنه يجب عليه مباشرةً و إن كان بعد إتيان النائب، بل ربما يدعي عدم الخلاف فيه، لكن الأقوي عدم الوجوب؛ لأن ظاهر الأخبار أن حج النائب هو الذي كان واجباً علي المنوب عنه فإذا أتي به فقد حصل ما كان واجباً عليه، و لا دليل علي وجوبه مرةً اخري، بل لو قلنا باستحباب الاستنابة، فالظاهر كفاية فعل النائب بعد كون الاستنابة فيما كان عليه، و معه لا وجه لدعوي أن المستحب لا يجزي عن الواجب، إذ ذلك فيما إذا لم يكن المستحب نفس ما كان واجباً و المفروض في المقام أنه هو. بل يمكن أن يقال: إنه إذا ارتفع العذر في أثناء عمل النائب بعد الإحرام يجب عليه الإتمام و يكفي عن المنوب عنه. بل يحتمل ذلك و إن كان في أثناء الطريق قبل الدخول في الإحرام).

أقول: المكلف بإتيان الحج المباشري هو المستطيع المتمكن من إتيانه مباشرة، و المكلف بإتيان الحج بالتسبيب و بالاستنابة هو المستطيع العاجز عن المباشرة واقعاً، فإذا استناب من ليس عاجزاً واقعاً و

يكون متمكناً منه فانكشف الخلاف لا يجزيه حج النائب و يجب عليه الإتيان بالحج. و الأخبار إنما تدل علي أن حج النائب حج المنوب عنه إذا كان المنوب عنه عاجزاً عنه واقعاً بقول مطلق.

فالحق ما عليه المشهور. بل عن المستند: (من غير خلاف صريح منهم أجده، بل قيل: كاد أن يكون إجماعاً، و عن التذكرة أنه لا خلاف فيه بين علمائنا». «1»

هذا فيما إذا زال العذر بعد العمل و أما إذا زال عذر المنوب عنه في أثناء عمل

______________________________

(1)- مستند الشيعة: 2/ 164.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 288

النائب فعدم إجزائه عن حج المنوب عنه أولي من الفرع السابق، كما لا يخفي.

الفرع الثالث: في الصورتين المذكورتين اللتين يزول العذر فيها بعد العمل أو في الأثناء هل يكشف ذلك عن بطلان العمل و انفساخ الإجارة،

لتعلق الإجارة بعمل الحي الذي يطيق الحج و لا تقبل النيابة، كما اختاره بعض الأكابر و ادعي قطع الأصحاب به، و علي هذا يستحق النائب علي المستنيب أقل الأمرين من اجرة مثل عمله و اجرة المسمّي، و لا يجب في فرض زوال العذر في الأثناء إتمام العمل للخروج عن الإحرام؛ لأن إحرامه وقع باطلًا فله أن ينصرف من مكانه.

و في الدروس: (فالأقرب الإتمام) «1» و في المدارك احتمل الإتمام و التحلل أي بعمرة مفردة. «2»

أو نقول: بأنّ العمل لم يقع باطلًا، و الإجارة لا تنفسخ حتي و لو لم يشرع في العمل؛ و ذلك لأن النائب إنما يقبل النيابة عن المنوب عنه غير مقيد بكونها النيابة عنه لحجة الإسلام حتي يقال: إنها لا تجوز عن الحي، بل هو يستأجر و يستنيب لإتيان الحج بالنيابة عن المنوب عنه فإن كان ما في ذمته حجة الإسلام يقع حجة الإسلام، و إلّا فيقع مندوباً بالنيابة عنه فلا تنفسخ الإجارة علي كل حال حتي و إن زال العذر قبل

الشروع في العمل؟

نعم، إن كان وقوع المناسك حجة الإسلام مشروطاً بنيته ذلك تنفسخ الإجارة و يكون الحكم كما ذكرناه.

أما إذا اخترنا أن في وقوع الحج حجة الإسلام لا يعتبر أمر إلّا وقوعه من المستطيع و عدم قصده نية آخر، و وقوعه مندوباً أيضاً إذا صدر من غير المستطيع

______________________________

(1)- الدروس الشرعية: 1/ 313.

(2)- مدارك الأحكام: 7/ 58.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 289

لا يحتاج إلي أزيد من قصد القربة فعلي هذا استنابة الغير لأداء الحج نيابةً عن المنوب عنه يصح، و يجب علي النائب إتمامه و علي المنوب عنه اجرة المسمي فلا تنفسخ الإجارة و إن لم يشرع الأجير بعد في العمل، لأنه استنيب للحج النيابي الذي أتي أو يأتي هو به.

الفرع الرابع: الظاهر اختصاص الدليل علي وجوب الاستنابة بالعذر الطارئ،

فمن كان معذوراً خلقة إذا حصلت له استطاعة الاستنابة لا يجب عليه، فلا وجه للقول بوجوبه و إن كان الاحتياط لا ينبغي تركه.

الفرع الخامس: إذا لم يتمكن المعذور من الاستنابة

لفقد النائب، أو لعدم رضاه إلّا بمالٍ كثيرٍ لا يقدر عليه المستنيب، أو كان أداؤه إجحافاً و حرجاً عليه أو ضرراً أكثر مما يقتضيه طبع الاستنابة فهل يجب عليه الاستنابة بعد ذلك إذا وجد النائب و لو زالت استطاعته؟ و كذلك هل يجب الاستنابة من ماله إن مات في سنته هذه أو قبل وجود النائب، أم لا يجب مطلقاً سواء استقر عليه الحج أم لم يستقر، أو يجب عليه إذا كان الحج مستقراً عليه؟

أما إذا لم يجد النائب في سنة استطاعته فمات بعد ذلك أو زالت استطاعته قبل وجود النائب فلا يجب الاستنابة من ماله بعد موته، كما لا يجب عليه ذلك بعد سقوطه من الاستطاعة؛ لأنه لا وجه لوجوب الاستنابة عليه في صورة عدم الاستقرار، كما لا يجب عليه الحج المباشري إن زالت استطاعته قبل التمكن من الحج، و لا يجب الاستنابة له إن مات في سنة استطاعته.

الفرع السادس: إذا استناب مع رجاء الزوال ثمّ حصل اليأس منه بعد عمل النائب فهل يكتفي بذلك، أم يجب عليه إعادة الاستنابة؟

يمكن أن يقال: إن ما هو المعتبر في وجوب الاستنابة هو حيلولة المرض بينه و بين الحج واقعاً، و اليأس من زوال المرض طريق إليه لا دخل له فيما هو الموضوع

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 290

لوجوب الاستنابة، و مقتضي ذلك إجزاء عمل النائب عن المنوب عنه لتحقق ما هو موضوع الواجب و وجوبه واقعاً، و تحقق الواجب و إن لم يعلم المكلف بتحققه واقعاً و أتي به برجاء تحققه.

فما عن المدارك من القول بعدم الإجزاء لعدم وجود اليأس حين الاستنابة «1» إنما يتم لو كان ما هو الموضوع للوجوب اليأس من زوال العذر حتي لا يكون الوجوب إذا لم يكن اليأس، و قد عرفت عدم دخل اليأس في وجوب الاستنابة، كما لم يذكر في الروايات أيضاً.

الفرع السابع: إذا كان المريض العاجز عن المباشرة فاقداً لمالٍ يحتاج إليه في الذهاب إلي الحج

و لكن كان واجداً لما يكفي للاستنابة فهل يجب عليه الاستنابة، أم لا؟

الظاهر أن الاستطاعة المالية المعتبرة في وجوب الحج هي الاستطاعة للحج المباشري، و وجوب الاستنابة حكم المستطيع العاجز عن الحج بالمباشرة لا المريض الغير مستطيع، فلا يجب عليه الاستنابة و إن كان متمكناً منها، كما أنه يسقط عنه الحج إذا كان ماله وافياً للحج المباشري دون النيابي، و هذا ممّا يستفاد من الأدلة بمناسبة الحكم و الموضوع، و لذا إن كان إطلاق يشمله بظاهره يكون منصرفاً عنه.

الفرع الثامن: هل الحكم الجاري في حجة الإسلام في مسألتنا يجري في سائر أقسام الحج الواجب كالحج الواجب بالإفساد أو النذر، أم لا؟

أما الحج الواجب بالإفساد فإن كان هو الحج الواجب بالأصل فلا شك في أن حكمه وجوب الاستنابة إذا عجز عن المباشرة. و أما إذا كان عقوبة علي ما ارتكبه

______________________________

(1)- مدارك الأحكام: 7/ 57: (و لو حصل له اليأس بعد الاستنابة وجب عليه الإعادة؛ لأن ما فعله أوّلًا لم يكن واجباً فلا يجزي عن الواجب).

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 291

من المحظورات فالظاهر أنه لا يشمله هذا الحكم، فلا يجب عليه الاستنابة إذا كان عاجزاً عن الحج بالمباشرة.

نعم، إذا تمكن بعد ذلك يجب عليه، و مثل قوله عليه السلام: «عليه الحج من قابل»، لا يدل علي أكثر من وجوب الإتيان به فوراً.

و هكذا النذر إن كان موقتاً بسنة معينة و عجز عنه بالمرض فإن مقتضي القاعدة بطلانه، لعدم القدرة علي الإتيان بالمنذور، و لا وجه لوجوب الاستنابة.

و هكذا إذا كان غير موقّت و عجز عنه و يئس عن زوال عذره، فإنه إذا عجز عنه قبل وقتٍ يفي بإتيانه يكشف أيضاً عن بطلانه، و إذا عجز عنه بعد ذلك و تنجز عليه النذر بتركه عصياناً أو اختياراً حتي عجز عنه فالظاهر أيضاً عدم وجوب الاستنابة، و هذا حكم النذر

سواء كان متعلقاً بالحج أو غيره.

نعم، في الصوم إذا نذر مثلًا صوم يوم الخميس فصادف يوم العيد أو السفر، الحكم هو القضاء للنص، و هو أيضاً لا يرتبط بالاستنابة. و اللّٰه هو العالم.

الفرع التاسع: الظاهر كفاية الاستنابة من الميقات؛

لإطلاق الروايات مثل قوله عليه السلام في صحيح الحلبي: «فإنّ عليه أن يحج من ماله صرورة لا مال له «1»». و الإحجاج كما يصدق إذا كان من البلد يصدق إذا كان من الميقات. و قوله عليه السلام في صحيح ابن سنان و معاوية بن عمار: «أن يجهز رجلًا يحج عنه» «2» أيضاً صادق علي التجهيز من البلد و من الميقات.

و أما قوله عليه السلام في صحيح ابن مسلم: «فليجهز رجلًا من ماله ثمّ ليبعثه

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 24 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 2.

(2)- المصدر السابق: ح 1.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 292

مكانه» «1»، فلا دلالة فيه علي لزوم كون البعث و الإرسال من بلد خاص، فهو أيضاً مطلق في ذلك.

الفرع العاشر: قال السيد رحمه الله في العروة: (و الظاهر كفاية حج المتبرع عنه في صورة وجوب الاستنابة

- إلي أن قال (: - الأحوط عدم كفاية التبرع عنه لذلك أيضاً). يشير إلي أن القدر المتيقن من أخبار الاستنابة عدم كفاية حج المتبرع عنه.

أقول: إن كان المراد من التبرع إتيان النائب العمل مجّاناً بإذن المنوب و باستنابته فلا ريب في كفايته، و إن كان المراد التبرع بالعمل من دون أن يأمره من عليه الاستنابة ففيه وجهان، و الأقوي عدم الإجزاء.

[مسألة 84] الاستطاعة الزمانية

مسألة 84- قال في العروة: (و يشترط أيضاً الاستطاعة الزمانية، فلو كان الوقت ضيقاً لا يمكنه الوصول إلي الحج أو أمكن لكن بمشقة شديدة لم يجب، و حينئذٍ فإن بقيت الاستطاعة إلي العام القابل وجب، و إلّا فلا).

أقول: إن كان المراد بالاستطاعة الزمانية استطاعة أزيد مما يتوقف عليه الحج، بأن يكون بحيث لا يقع من جهة الزمان في الحرج و المشقة فاعتبارها في الاستطاعة المشروطة عليها وجوب الحج وجيه مقبول، و ذلك لما قلنا و كررنا التصريح به: إن الاستطاعة المشروط عليها وجوب الحج ليست الاستطاعة اللغوية و العقلية التي هي شرط عام لجميع التكاليف، بل هي نحو من الاستطاعة العرفية التي يكون المكلف عند العرف غير مستطيع لإتيان العمل، كأن يقع في الحرج و المشقة

______________________________

(1)- المصدر السابق: ح 5.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 293

الشديدة.

و أما إذا كان الوقت ضيقاً بحيث لا يمكنه الوصول عادة أو عقلًا إلي الحج فوجوب الحج و إن كان مشروطاً بعدم مثل هذا الضيق إلا أنه من الشرائط العامة للتكاليف لا تندرج تحت الاستطاعة العرفية المأخوذة في لسان الدليل و الاستطاعة العرفية و الشرعية ما يدور مدار وجودها وجوب الحج علي القادر علي الحج بالقدرة العقلية. فذكر مثل هذه الاستطاعة هنا لا ينبغي إلا استطراداً، و لا حاجة

إلي نسبته إلي علمائنا علي ما حكي من التذكرة، و لا بالإجماع كما حكي عن كشف اللثام.

نعم، نسبته إليهم باشتراط الاستطاعة الزمانية لنفي حصولها إذا وقع في الحرج و الضيق الشديد في محله.

ثمّ إنه لا يخفي عليك أنه قد عنون العلامة هذا الفرع في مسألة مستقلة، و قال في ضمنه: (فلو حصلت الشرائط و قد ضاق الوقت بحيث لو شرع في السير لم يصل إلي مكة لم يجب الحج في ذلك العام عند علمائنا، و به قال أبو حنيفة و الشافعي و أحمد في إحدي الروايتين؛ لأنّ اللّٰه إنما فرض الحج علي المستطيع و هذا غير مستطيع، و لأن هذا يتعذر معه فعل الحج فكان شرطاً كالزاد و الراحلة. و قال أحمد- في الرواية الثانية-: إنه ليس شرطاً في الوجوب و إنما هو شرط للزوم الحج، لأنه فسر الاستطاعة بالزاد و الراحلة، و هو ضعيف). «1»

و في كلامه الشريف مواقع للتأمل و النظر، غير أن الظاهر أنه عنون الفرع للإشارة إلي خلاف أحمد فيه.

ثمّ إنه هل يجب عليه حفظ الاستطاعة إلي العام القابل؟ فيه تردد، و إن قلنا

______________________________

(1)- تذكرة الفقهاء: 1/ 306

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 294

بوجوب حفظ الاستطاعة المالية في سنتها إلي أوان الحج إذا كانت مقرونة بالاستطاعة البدنية و السربية، و الأقوي عدم الوجوب.

[مسألة 85] الاستطاعة السربية

مسألة 85- من جملة ما قالوا باشتراط وجوب الحج عليه الاستطاعة السربية، فلا يجب الحج إذا كان في الطريق مانع من الوصول إلي الميقات أو إلي تمام الأعمال، سواء كان الطريق منحصراً بواحدٍ أو كان أكثر و كان جميعه كذلك.

أقول: الظاهر أن هذا أيضاً داخل في ما هو شرط لعامة التكاليف و هو القدرة العقلية.

نعم، إذا كان المانع بحيث

لا يمكن معه الوصول إلّا بتحمل الحرج و المشقة الشديدة يمكن أن يقال: إنّ انتفاءه شرط لحصول الاستطاعة المعتبرة في وجوب الحج.

لا يقال: إن الاستطاعة المعتبرة في لسان الدليل فسِّرت بالزاد و الراحلة و كون الشخص ذا مال، لا ما هو الأعم منه و من انتفاء الحرج، و إنما ينفي الوجوب بالحرج بالتمسك بالقاعدة.

فإنه يقال: الظاهر أن مورد السؤال و الجواب عن الاستطاعة في الأخبار هو الاستطاعة المالية، فليس المراد في تفسير الآية قصر اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة المالية، بل الآية ظاهرة في مضمونها و هو الاستطاعة العرفية التي يكون معها الفعل مستطاعاً عند العرف، و من ذلك- أي الاستطاعة المشروط عليها وجوب الحج و تحقق السبيل إليه- كون الطريق مأموناً عليه من جهة النفس

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 295

و العرض و المال.

[مسألة 86] إذا مات الحاج في الطريق
اشارة

مسألة- 86 من خرج حاجّاً فمات في الطريق فإما أن يموت قبل الوصول إلي الميقات، و إما أن يموت بعد وصوله إلي الميقات و عبوره منه ناسياً، فيموت قبل دخوله في الحرم أو بعده، و إما أن يحرم من الميقات فيموت قبل دخول الحرم أو بعده، و في جميع هذه الصور إما يكون الحج مستقراً عليه، أو يكون ذلك في سنة استطاعته. ثمّ إما يكون الحج لنفسه، أو يكون نائباً عن غيره.

و قبل بيان حكم هذه الصور ينبغي أولًا بيان ما هو مقتضي الأصل عند الشك، ثمّ ملاحظة روايات الباب و مقدار دلالتها علي حكم هذه الصور.

فنقول: أما مقتضي الأصل فيما إذا كان الحج مستقراً عليه أو كان نائباً عن غيره فهو عدم إجزاء ذلك عن الحج المستقر عليه، و لا عن حج المنوب عنه، فيجب أن يقضي عن المستقر عليه من

ماله و يجدد الاستنابة عن المنوب عنه إن كان الحج واجباً عليه.

و إذا كان الحج لم يستقر عليه و كان سنة استطاعته فمقتضي الأصل عدم وجوب القضاء عنه، لكشفه عن عدم قدرته و عدم كون الحج واجباً عليه.

و أما الروايات الشريفة:
اشارة

فمنها: صحيح ضريس الذي رواه الكليني- رحمه اللّٰه تعالي- عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن ضريس، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «في رجل خرج حاجّاً حجة الإسلام فمات في الطريق؟ فقال: إن

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 296

مات في الحرم فقد أجزأت عنه حجة الإسلام، و إن (كان) مات دون الحرم فليقضِ عنه وليه حجة الإسلام». «1» و رواه أيضاً في الفقيه عنه. «2»

أقول: ظاهر هذا الحديث بقرينة قوله عليه السلام: «فليقض عنه وليه حجة الإسلام» كون مورد السؤال من استقر عليه الحج. و أما قوله عليه السلام: «إن مات في الحرم» و إن كان يشمل بإطلاقه من دخل في الحرم بدون الإحرام ناسياً له، إلّا أنّ الظاهر من عبارة السؤال و الجواب أن موردهما من أحرم و مات في الطريق، و لذا قوله عليه السلام:

«إن مات دون الحرم» أيضاً ظاهر في من مات دون الحرم بعد الميقات و الإحرام منه.

اللهمّ إلّا أن يقال بإطلاق السؤال و الجواب، لأن الخروج حاجّاً أعم من أن يكون أحرم من الميقات أو ما دونه أو نسي الإحرام، فما يستفاد من هذا الصحيح أن من استقر عليه الحج إن أحرم أو نسي الإحرام و خرج حاجّاً فمات في الحرم يجزيه عن حجة الإسلام، و من مات دون الحرم فلا يجزيه، و إطلاقه يشمل أن من مات بين الإحرامين إن مات في الحرم

يجزيه عن حجة الإسلام.

و أما القول بدلالة الصحيح علي وجوب القضاء عنه إن مات دون الحرم مطلقاً و إن كان خرج من سنة استطاعته في غاية الإشكال. و يبعده لزوم الفرق بينه و بين من مات في بيته فإنه لا يقضي عنه بالاتفاق.

اللهمّ إلا أن يقال: لا بأس بذلك؛ لاحتمال أن يكون الحكم بالقضاء عنه إن مات في الطريق مبنياً علي تحصيل نيته.

و بالجملة، فبمثل هذا الفرق لا يجوز رفع اليد عن ظاهر الدليل.

و منها: ما أخرجه أيضاً الكليني (: عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد

______________________________

(1)- الكافي: 4/ 276 ح 10.

(2)- من لا يحضره الفقيه: 2/ 269 ح 1314.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 297

و سهل بن زياد، عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«إذا احصر الرجل بعث بهديه، فإذا أفاق و وجد من نفسه خفة فليمضِ … قلت:

فإن مات و هو محرم قبل أن ينتهي إلي مكة؟ قال: يحج عنه إن كانت حجة الإسلام و يعتمر إنما هو شي ء عليه». «1»

و ظاهر هذا الحديث عدم الإجزاء قبل أن ينتهي إلي مكة و إن كان قد دخل في الحرم، فيقع التعارض بينه و بين صحيح ضريس، فإن مقتضاه إجزاء حجه إن مات في الحرم و لو لم يصل إلي مكة.

و اختار بعض الأعاظم تقديم سائر الروايات عليه لكونها أقوي منه، لأن دلالتها بالمنطوق و دلالة خبر زرارة يكون بالمفهوم، و لا ريب أن دلالة المنطوق أقوي. «2»

و فيه: أنّ دلالة صحيح زرارة علي عدم الإجزاء قبل أن ينتهي إلي مكة سواء دخل في الحرم أم لم يدخل أيضاً يكون بالمنطوق كدلالة صحيح ضريس، فيتعارضان في الداخل في

الحرم و لم يدخل مكة، فإن مقتضي صحيح ضريس إجزاؤه عن حجة الإسلام، و مقتضي صحيح زرارة عدم إجزائه فيتساقطان بالتعارض؛ حيث لا ترجيح لأحدهما علي الآخر، إلّا إعراض المشهور عن ظاهر صحيح زرارة.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ المراد بمكة ما يعم نفس البلد و الحرم الذي يكون قريباً منه أو يحسب منه، كما يقال: قم و يراد منه البلد و رساتيقه و مزارعه و قراه التي

______________________________

(1)- الكافي: 4/ 370 ح 4، تهذيب الأحكام: 5/ 422 ح 1466، و لفظه: «إن كانت حجة الإسلام يحج عنه و يعتمر فإنما هو شي ء عليه».

(2)- معتمد العروة: 1/ 255.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 298

تحف به، و بناءً عليه فمدلول الروايتين واحد، لدلالة صحيح زرارة علي هذا علي وجوب الحج عنه إن مات قبل أن ينتهي إلي الحرم (مكة)، و هذا ما يدل عليه ذيل صحيح ضريس: «إن مات دون الحرم».

و منها: مرسلة المفيد- رحمه اللّٰه تعالي- و هي ما رواه في المقنعة علي ما أخرج عنه في الوسائل و الحدائق قال: «قال الصادق عليه السلام: من خرج حاجّاً فمات في الطريق فإنه إن كان مات في الحرم فقد سقطت عنه الحجة، فإن مات قبل دخول الحرم لم يسقط عنه الحج و ليقض عنه وليه». «1»

و هي أيضاً تدل علي الإجزاء إن كان مات في الحرم، و علي عدمه إن كان مات قبل الدخول فيه «2».

و منها: ما رواه في الكافي في الصحيح: عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن بريد العجلي قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل خرج حاجّاً و معه جمل له و نفقة و زاد فمات في الطريق؟ قال:

إن كان صرورةً ثمّ مات في الحرم فقد أجزأ عنه حجة الإسلام، و إن كان مات و هو صرورة قبل أن يحرم جعل جمله و زاده و نفقته و ما معه في حجة الإسلام، فإن فضل من ذلك شي ء فهو للورثة» الحديث. «3»

و رواه الشيخ في التهذيب «4» مع تقديم و تأخير في بعض الكلمات، و رواه

______________________________

(1)- المقنعة: / 445.

(2)- وسائل الشيعة: ب 26 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 4، الحدائق الناضرة: 14/ 150.

(3)- الكافي: 4/ 276 ح 11.

(4)- تهذيب الأحكام: 5/ 407 ح 1416.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 299

الصدوق في الفقيه «1»، و إطلاق السؤال فيه يشمل من استقر الحج عليه و من لم يستقر عليه و كان سنة استطاعته، إلّا أن يقال بقرينة الجواب و ترك الاستفصال: إنّ السؤال أيضاً كان عمّن استقر عليه الحج، فلا وجه لاستنابة الحج عمن مات قبل الإحرام فتأمل.

و هذا الحديث مفاد صدره مفاد حديث ضريس. نعم، قوله: «قبل أن يحرم» يدل بمفهومه علي أنه إن مات بعد الإحرام و قبل الدخول في الحرم يجزيه، فيقع التعارض بين مفهوم الشق الأول من الجواب: «إن كان صرورة ثمّ مات في الحرم» و بين شقه الثاني: «إن كان مات و هو صرورة قبل أن يحرم» في من أحرم و مات قبل الدخول في الحرم.

و احتمل في المستند دفعاً لهذا التعارض أن يكون معني قوله: «قبل أن يحرم» قبل أن يدخل الحرم من باب أيمن و أنجد لمن دخل اليمن و النجد «2»، و هو خلاف الظاهر لا يعتمد عليه.

و قد أنكر بعض الأعاظم دلالة الصحيح بمفهومه علي الإجزاء، فقال: (إن صحيح بريد لا يدل بمفهومه علي الإجزاء إن

مات بعد الإحرام و قبل الدخول في الحرم، و إنما يدل علي أنه لو مات قبل الإحرام جعل جمله و زاده و نفقته في حجة الإسلام، و أما إذا مات بعد الإحرام فهذا الحكم و هو جعل جمله و زاده و نفقته في حجة الإسلام مرتفع. و بعبارةٍ اخري: يدل الصحيح علي أنه لو مات في الطريق قبل الإحرام يصرف أمواله التي معه في حجة الإسلام، و أما لو مات بعد الإحرام فلا دلالة له علي الإجزاء، و إن لم يكن له مال و لا جمل و لا نفقة و إنما غايته أن الحكم

______________________________

(1)- من لا يحضره الفقيه: 2/ 440.

(2)- مستند الشيعة: 2/ 166.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 300

بصرف الأموال في حجة الإسلام مرفوع. و أما الإجزاء بعد الإحرام أو عدمه فهو ساكت عنه فلم ينعقد له إطلاق من هذه الناحية، فلا بد من الرجوع إلي ما يقتضيه القاعدة و الأدلة الأولية، و هو إخراج حجه من صلب ماله و من أمواله الاخر غير ما أخذ معه في الطريق). «1»

و فيه: أنه كيف لا يستفاد حكم ما لو مات بعد الإحرام و قبل الدخول في الحرم و يحكم بسكوت الحديث عن الإجزاء، و أن غاية ما يستفاد منه أن الحكم بصرف الأموال مرفوع؟ فإنه إما أن يكون ارتفاع الحكم بصرف الأموال لإجزاء إحرامه عن الحج و هو عين تعارضه مع الصدر. و إما أن يقال بعدم إجزائه و مع ذلك يقال بارتفاع الحكم المذكور، و هذا أمر لا يقبله الوجدان؛ لأولوية هذه الصورة لصرف المال فيه من صورة موته قبل الإحرام.

و بالجملة: فرفع التعارض بين الصدر و الذيل مشكل، و الظاهر أن بعض رواة الحديث

لم يضبطه و لم يحفظه حق الضبط و الحفظ، و علي هذا يسقط الاحتجاج به علي الإجزاء لو مات بعد الإحرام و قبل دخول الحرم.

و أما دلالة الصدر علي الإجزاء بعد دخول الحرم فهو باقٍ علي حاله. نعم، لا يستفاد منه عدم الإجزاء لو مات قبل الحرم، غير أنه يكفينا في ذلك الأصل لو كنا و هذا الحديث. و اللّٰه تعالي هو الهادي إلي الصواب و ما فيه الرشاد و السداد.

ثمّ إنه قد ظهر مما ذكر حكم فروع:
الأول: ما إذا مات بعد الإحرام في الحرم،

و لا ريب في إجزائه.

الثاني: ما إذا مات بعد الإحرام خارج الحرم قبل الدخول فيه.

و هذا لا يجزي و حكي أن عليه المشهور، بل لم يعرف الخلاف فيه إلا من الشيخ في الخلاف

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 256.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 301

و ابن إدريس.

الثالث: ما إذا مات بين الإحرامين،

و الظاهر فيه أيضاً الإجزاء.

الرابع: ما إذا مات بعد الإحرام و الدخول في الحرم، خارج الحرم

كما لو خرج من إحرامه للعمرة المتمتع بها ثمّ خرج من الحرم و مات في خارجه، و في إجزائه إشكال.

إلا أن يقال: إنه ليس للموت في الحرم دخل في الإجزاء و التعبير بأنه «إن مات في الحرم» يكون باعتبار مدخلية الدخول فيه في الإجزاء، و إلّا هل تري من نفسك أنه إن دخل في الحرم و رجع لأمر إلي خارجه فمات فيه لا يجزيه؟ و علي هذا فمن خرج حاجّاً و دخل في الحرم يجزيه عن حجة الإسلام، سواء مات في الحرم أو في خارجه.

و يؤيد ذلك قوله في صحيح زرارة: «فإن مات و هو محرم قبل أن ينتهي إلي مكة» و قوله في مرسلة المفيد: «فإن مات قبل دخول الحرم لم يسقط عنه الحج» فإنه يستفاد من الأول أن للانتهاء إلي مكة دخل في سقوط الحج عنه. و من مفهوم الثاني أن الموت بعد دخول الحرم موضوع للحكم بالإجزاء سواء مات فيه أو في غيره.

الخامس: ما إذا نسي الإحرام للحج فمات بعد الدخول في الحرم

فالظاهر أنه لا يجزي عنه، و ذلك لظهور قوله: «خرج حاجّاً» في من تلبس بالحج، و هو لا يتحقق إلّا بدخوله في أفعال الحج التي أولها الإحرام من الميقات، و كون المراد منه الخروج مريداً للحج و قاصداً له حتي يشمل من نسي الإحرام من الميقات و من خرج قاصداً للحج من منزله و مات في الطريق قبل الوصول إلي الميقات خلاف الظاهر، و حمل اللفظ الظاهر في معناه الحقيقي علي المعني المجازي بلا قرينةٍ خلاف الظاهر لا يجوز.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 302

السادس: لا فرق بين حج التمتع و القران و الإفراد

في الحكم المذكور.

السابع: يكفي في الإجزاء عن حج التمتع الموت بعد دخول الحرم

في عمرته.

الثامن: في إجزاء الموت أثناء حج القران و الإفراد عن عمرتهما و بالعكس إشكال؛

لأنّ كلًا منهما و عمرتهما واجبان مستقلان. نعم إذا مات أثناء العمرة الواجبة الظاهر إجزاؤه عنها.

التاسع: لا يجري هذا الحكم في الحج الواجب بالعرض

مثل النذر و الإفساد، و في العمرة المندوبة و الواجبة بالعرض لاختصاص الحكم حسب النصوص بحجة الإسلام. نعم، لو قلنا في الحج الواجب بالإفساد أنه حجة الإسلام يجري الحكم فيه.

و سيأتي- إن شاء اللّٰه تعالي- حكم الحج النيابي علي جميع أقسامه.

العاشر: هل الحكم المذكور مختص بمن استقر عليه الحج، أو هو أعم منه

و ممن لم يستقر عليه؟ قولان:

من أن الموت يكشف عن عدم الاستطاعة و عدم وجوبه عليه فلا موجب للقضاء، و يستكشف من حكم الإمام عليه السلام بالقضاء كون مورد السؤال من استقر عليه الحج، أو يحمل قوله عليه السلام: «فليقض عنه وليه» علي مجرد الرجحان الجامع بين الوجوب و الاستحباب، و الالتزام بوجوب القضاء عمن استقر عليه يكون بدليل آخر.

و من أن قوله: «خرج حاجّاً» مطلق ليس دلالته علي من استقر عليه الحج أظهر ممن لم يستقر عليه لو لم يكن هذا أظهر منه. فلا وجه لرفع اليد عن هذا الإطلاق المعتبر بترك استفصال الإمام عليه السلام بعد كون الحكم تعبدياً، و بعد دلالة النص علي وجوب القضاء يكون القول بعدم وجوبه لما ذكر من قبيل الاجتهاد قبال النص.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 303

لا يقال: هذا فيما إذا اختل الاستطاعة ببعض العوارض غير الموت.

فإنه يقال: إن دل الدليل عليه نقول به، و إنما نحن أصحاب النص لا نتعدّي عنه.

[مسألة 87] إذا استلزم الذهاب إلي الحج تلف مالٍ معتدٍّ به

مسألة 87- الظاهر أنه لا يجب الحج إذا استلزم الذهاب إليه تلف مالٍ معتدٍّ به منه في بلده أو غيره.

و ذلك أما علي البناء بأن المراد من الاستطاعة المشروط عليها وجوب الحج هي الاستطاعة العرفية كما مضي منا كراراً و قلنا: إنها أوسع من الاستطاعة العقلية و مما عبر عنه بالاستطاعة الشرعية- أي تخلية السرب و صحة البدن و وجود الزاد و الراحلة- فلعدم حصول الاستطاعة في هذا الحال، فإن من كان ذهابه إلي السفر حجّاً كان أو غيره مستلزماً لتلف رأس ماله لا يعدّ عند العرف متمكناً من السفر و واجداً للسبيل إليه.

و يدل أو يشير إلي ذلك أي اعتبار مثل هذه الأعذار في الاستطاعة

العرفية ما يدل علي جواز ترك الحج بالعذر العرفي و الشرعي مثل صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا قدر الرجل علي ما يحج به ثمّ دفع ذلك و ليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام». «1» و معني ذلك ليس سقوط وجوب الحج بالعذر، بل معناه عدم وجوب الحج لعدم الاستطاعة المشروط عليها وجوبه.

و أما علي البناء علي أن المراد من الاستطاعة هي الاستطاعة المقصورة علي

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 6 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 3.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 304

صحة البدن و تخلية السرب و وجود الزاد و الراحلة فرفع الوجوب في جميع الموارد التي أفتوا برفعه مع حصولها لا بد أن يكون بإعمال قاعدة الحرج، أو الضرر، أو الأخذ بالأهم إذا زاحم الحج واجب آخر. و في ما نحن فيه يكون المرجع قاعدة نفي الضرر.

لا يقال: إن هذه القاعدة إنما تجري و يعمل بها في التكاليف التي ليست بطبعها ضررية، فلا يجري في مثل الحج المبنيّ علي الضرر.

فإنه يقال: هذا صحيح بالنسبة إلي الضرر الذي يقتضيه طبع العمل، أما الضرر الزائد عليه فيرفع التكليف به.

ثمّ إنه علي المبني الأول إذا استلزم الحج ترك واجب، سواء كان فورياً أو غير فوري، أو سابقاً علي حصول الاستطاعة المالية أو لاحقاً بها يمنع من حصول الاستطاعة.

نعم، لو لم يكن الواجب فورياً و لم يستلزم الحج تركه بعد الحج لا يمنع من حصول الاستطاعة، و إذا كان الحج مستلزماً لترك الواجب و كان المكلف جاهلًا بذلك و علم بعد أداء الحج استلزامه لذلك فالظاهر أنه يجزيه عن حجة الإسلام لأنّ المانع الشرعي الذي يمنع من حصول الاستطاعة هو

المانع المنجّز المعلوم الذي يجب علي المكلف ترتيب الأثر عليه و الإتيان به أو تركه دون ما لم يكن كذلك. و كيف كان فالمسألة لا ترد في باب التزاحم و ملاحظة الأهم.

و أما علي المبني الثاني فيقع التزاحم بين وجوب الحج و ما يزاحمه من التكليف الوجوبي أو التحريمي المنجّز، فلا بد من ملاحظة مرجّحات باب التزاحم.

و علي أي حالٍ ليس من ذلك لو توقف إتيان الحج علي الركوب علي الدابة الغصبية لعدم حصول الاستطاعة معه علي المبنيين، بل و كذا المشي في الأرض

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 305

المغصوبة، كما لا يخفي.

[مسألة 88] إذا ظهر عدم وجود ما تتوقف عليه الاستطاعة بعد الحج

مسألة 88- إذا اعتقد وجود ما يتوقف عليه حصول الاستطاعة و حج و ظهر فقد جميعه أو بعضه.

فما يكون دخيلًا في حصول الاستطاعة- علي كلا المبنيين الاستطاعة العرفية و الاستطاعة الشرعية- فلا شك في أنه لا يكون مأموراً به و منطبقاً علي عنوان حجة الإسلام فلا يجزي عنها.

و ما يكون وجوده رافعاً لوجوب الحج كالحرج و الضرر و اعتقد عدمه و حج ثمّ بان خلافه الظاهر أنه يجزي عن حجة الإسلام؛ لأنّ نفي الحرج و الضرر مبنيان علي الامتنان، فلا بد في الحكم بالإجزاء و عدم الإجزاء ملاحظة المبنيين، فمن يري الاستطاعة، الاستطاعة الشرعية ففي فقد مثل الزاد و الراحلة يحكم بعدم الإجزاء، و في فقد عدم الحرج و الضرر يحكم بالإجزاء.

و لا فرق في ذلك بين كون اعتقاده بوجود الاستطاعة و شرائط الوجوب مبنياً علي اليقين أو الظن المعتبر الشرعي، غير أنه علي الثاني يكون مأموراً بالحج بالأمر الظاهري الشرعي، و في الأول بالأمر العقلي، فلا يقع منه في الصورتين إلا الانقياد و إجزاء الأمر الظاهري الشرعي عن الأمر الواقعي علي القول

به، إنما يكون في أجزاء المكلف به و شرائطه، لا فيما يتحقق به الوجوب و أصل التكليف، لأن كشف الخلاف فيه يكشف عن عدم التكليف و الأمر.

و أما علي ما بنينا عليه من الاستطاعة العرفية فالأمر واضح؛ لأن الضرر مانع عن حصول الاستطاعة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 306

[مسألة 89] إذا زعم فقدان ما يعتبر في الاستطاعة

مسألة 89- إذا اعتقد فقد بعض ما يعتبر في الاستطاعة مع وجوده في الواقع، فإن أتي بالحج بقصد ما عليه من حجة الإسلام، أو الحج الندبي، أو برجاء حجة الإسلام بل و بقصد الحج الندبي، فالظاهر وقوعه حجة الإسلام، و إن ترك الحج به حتي مضي آخر أزمنة الإتيان بواجبات الحج أو أركانه و زال استطاعته بعد ذلك فهل يستقر عليه الحج بذلك، أم لا؟

لا ريب في أن ترك الحج عصياناً و إهمالًا من غير عذر إلي أن ينتهي زمان الإتيان بتمام أعماله أو أركانه أو زمان الرجوع إلي وطنه جامعاً لشرائط الاستطاعة موجب لاستقرار الحج عليه و إن زال استطاعته قهراً بعد ذلك. و هل تركه بدون ذلك باعتقاد فقد ما هو شرط لوجوبه كلًا أم بعضاً موجب لاستقرار الحج عليه، فيجب عليه الحج متسكعاً إن زال استطاعته قبل كشف فساد اعتقاده أو قبل زمان يمكن له الحج مستطيعاً أم لا؟

حكي عن المحقق القمّي قدس سره في جامع الشتات عدم وجوب الحج، سواء اعتقد عدم كونه مستطيعاً، أو غفل عن ذلك، أو كان غافلًا عن وجوب الحج حتي زالت استطاعته. ظاهر عبارة المحقق في الشرائع أيضاً ذلك؛ لأنه قيد استقرار الحج عليه بالإهمال، قال: (و يستقر الحج في الذمة إذا استكملت الشرائط فأهمل)، «1» و هذا ظاهر الجواهر. «2».

و ذهب السيد قدس سره في العروة و

أكثر المحشِّين لها إلي استقرار وجوب الحج عليه

______________________________

(1)- شرائع الإسلام: 1/ 166.

(2)- جواهر الكلام: 17/ 298.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 307

بحصول الاستطاعة الواقعية و إن اعتقد خلافها و ترك الحج.

و الذي يمكن أن يكون وجهاً لعدم الاستقرار بغير الإهمال مضافاً إلي الأصل امور:

الأول: كما عليه بعض الأعاظم: أن موضوع وجوب الحج هو المستطيع، و شرط وجوبه هو الاستطاعة، فمتي تحقق عنوان الاستطاعة صار الحكم بوجوب الحج فعلياً، و إذا زالت الاستطاعة و ارتفع الموضوع يرتفع الحكم بارتفاع موضوعه حتي بالإتلاف و العصيان، نظير القصر في الصلاة الذي موضوعه المسافر فإذا زال هذا العنوان زال الحكم.

و بالجملة: الأدلة إنما تدل علي وجوب الحج ما دام المكلف مستطيعاً، فإذا انتفي هذا العنوان انتفي الوجوب، سواء زال بالاختيار و العصيان أو قهراً و من غير اختيار، و عليه ينبغي أن نقول بعدم الوجوب و لو كان زوال الاستطاعة بفعل المكلف عصياناً، إلا أننا نقول به في صورة زوال الاستطاعة بعد عصيان المكلف و تركه الحج مع تنجزه عليه بدلالة الأخبار كروايات التسويف. «1»

و فيه: أنه لو تم هذا الوجه يلزم أن نقول به في صورة ترك الحج إذا كان جاهلًا بالاستطاعة و دل الدليل مثل البينة علي عدمها، أو قام الدليل علي عدم الوجوب، فيلزم منه قصر الحكم بالاستقرار علي صورة الترك عصياناً و تسويفاً، و لا أظن أن يلتزم القائل بذلك، و لذا قال بالتفصيل بين الجهل البسيط و الجهل المركب كما يأتي كلامه. هذا أولًا.

و ثانياً: فرق بين قولنا: «يقصر الصلاة في السفر» أو «المسافر يقصر صلاته» فإنه يستفاد منه أن تكليفه في السفر تقصير ما يتمه في الحضر و بين قوله تعالي: «وَ لِلّٰهِ عَلَي

النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، فإنه يستفاد منه أن

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 218.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 308

الاستطاعة للحج شرط لوجوب طبيعة الحج، سواء تحققت في ضمن فردها الخاص الواقع في زمان الاستطاعة أو ما يقع بعد هذا الزمان.

و بعبارةٍ اخري: الاستطاعة شرط لحدوث الوجوب دون بقائه، و هذا مثل أن يقال: «من سافر يجب عليه التصدق» أو «من أفطر في شهر رمضان يجب عليه الكفارة» فإنه لا يستفاد منهما خصوصية وقوع التصدق أو الكفارة في السفر أو في شهر رمضان،، فعلي هذا ترك الفرد الذي يقع في زمان الاستطاعة عمداً و عصياناً أو جهلًا و عذراً لا يوجب سقوط وجوب الطبيعة لإمكان الإتيان بسائر أفراده، و هذا هو الدليل علي استقرار الحج عليه إذا سوَّف و تركه في حال الاستطاعة لا أخبار التسويف، فعلي هذا إذا كان المكلف في حال الاستطاعة جاهلًا بها بالجهل البسيط أو المركب ثمّ حصل له العلم بها يجب عليه الحج و إن كان بعد زوال الاستطاعة.

الأمر الثاني: أنه إنما يستقر الحج عليه إذا تركه لا عن عذر، و أما إذا كان تركه لعذر فلا موجب له، و الاعتقاد بالخلاف من أحسن الأعذار.

و فيه: أنه إن استفدنا من الدليل أن الحج الواقع في حال الاستطاعة هو المشروط وجوبه بالاستطاعة فلا وجه لاستقراره عليه إن تركه إلي بعد حال الاستطاعة، و إن كان غير مقيد بذلك فهو يستقر عليه و إن تركه في حال الاستطاعة عن عذرٍ و اعتقادٍ بالخلاف.

الامر الثالث: و هو الوجه للتفصيل الذي اختاره بعض الأعاظم، و هو الفرق بين الجهل البسيط و المركب، قال: (فإن كان الجهل جهلًا بسيطاً و كان شاكاً فالظاهر استقرار وجوب

الحج عليه، لما حقق في محله من أن رفع الحكم في مورده حكم ظاهري لا ينافي وجوب الحج و استقراره عليه واقعاً، إذ العلم بالاستطاعة لم يؤخذ في موضوع وجوب الحكم، و لا مانع من توجه التكليف إليه لتمكنه من الإتيان به علي سبيل الاحتياط.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 309

و بعبارةٍ اخري: في مورد الجهل البسيط الذي كان يتردد و يشك في أنه كان مستطيعاً أم لا إذا كان اعتماده علي أصل شرعي يعذره عن ترك الواقع ما دام جاهلًا به إذا انكشف الخلاف و بانَ أنه مستطيع تنجز عليه التكليف الواقعي كسائر موارد انكشاف الخلاف في الأحكام الظاهرية، بخلاف ما لو كان جاهلًا بالجهل المركب و كان معتقداً بالخلاف فإن التكليف الواقعي غير متوجه إليه؛ لعدم تمكنه من الامتثال حتي علي نحو الاحتياط، فإنه من كان قاطعاً بالعدم لا يمكن توجه التكليف إليه لعدم القدرة علي الامتثال- إلي أن قال: - ففي هذه الصورة فالحق مع المحقق القمي … و كذلك الحال في الغفلة). «1»

و فيه: أنه ان كان الحج المشروط وجوبه بالاستطاعة هو الحج الواقع في حال الاستطاعة فلا فرق في عدم استقراره عليه بتركه في حال الاستطاعة بين تركه بالجهل البسيط أو المركب أو عصياناً أو غفلة، و إن كان ما هو المشروط وجوبه بالاستطاعة طبيعة الحج، فلا فرق بين أن يكون سبب تركه في حال الاستطاعة الجهل المركب أو البسيط أو الغفلة أو العصيان.

و قد ظهر لك من ذلك كله عدم قيام واحد من هذه الامور لنفي استقرار الحج علي من تركه في حال الاستطاعة بمطلق العذر أو بالجهل المركب، فلا شي ء هنا إلا الأصل و البراءة التكليف لو لم يكن

ما يدل علي الاستقرار في البين.

و أما وجه الاستقرار عليه لو تركه في حال الاستطاعة مطلقاً و في جميع الصور فيمكن تقريبه بوجوه:

الأول: ما ظهر ممّا أوردناه علي الوجوه التي ذكرناها وجهاً للقول الأول و هو: أنّ ما يستفاد من قوله تعالي و سائر الأدلة أن الحج يجب بالاستطاعة الكافية لأدائه، فحصول هذه الاستطاعة موجب لوجوب الحج حدوثاً، و أما بقاؤه فليس

______________________________

(1)- المعتمد في شرح المناسك، كتاب الحج: 3/ 72.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 310

مشروطاً ببقاء الاستطاعة كما أوضحنا لك.

و بعبارةٍ اخري: الاستطاعة شرط لوجوب طبيعة الحج دون ما يقع في حال الاستطاعة و علي هذا فإن تركه جهلًا أو غفلةً أو نسياناً في حال الاستطاعة يأتي به بعده، فضلًا عن أن تركه عصياناً و إهمالًا، فلا حاجة إلي أخبار التسويف للاستدلال علي الاستقرار في صورة الترك عن عذر لأنها لا تدلّ علي أكثر من فورية وجوب الحج و عدم جواز التأخير، و أنه إن مات علي ذلك ترك شريعةً من شرايع الإسلام.

الثاني: أن اعتبار الحج علي المكلفين ليس كاعتبار سائر التكاليف العبادية مثل الصوم و الصلاة، و إنما اعتبر كالزكاة و الخمس ديناً علي المكلف و لذا يجب أداؤه و قضاؤه عنه، و في مثله لا يضر جهل المكلف به فهو دين عليه علم به أم لم يعلم به

نعم، لا يجب أداؤه عليه ما دام جاهلًا به، أما بعد العلم يجب أن يؤديه و إن تركه حتي مات يقضي عنه، فالاستطاعة الواقعية سبب لاشتغال ذمة المكلف بالحج، فتفويت الاستطاعة عمداً أو جهلًا و تركه كذلك لا يوجب براءة ذمته.

الثالث: إطلاق بعض الروايات مثل صحيح محمد بن مسلم، و هو ما رواه الشيخ: عن موسي

بن القاسم، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن محمد بن مسلم، قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل مات و لم يحج حجة الإسلام يحج عنه؟ قال عليه السلام: نعم».

و رواه أيضاً، عن أحمد، عن الحسين، عن النضر، عن عاصم، عن محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل مات و لم يحج حجة الإسلام و لم يوص بها أ تقضي عنه؟ قال عليه السلام: نعم» «1». و الظاهر أنهما رواية واحدة.

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام: 5/ 492 ح 415.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 311

تقريب الاستدلال بهما: أن إطلاق السؤال فيهما يشمل من لم يأتِ بحجة الإسلام عصياناً إلي أن مات مع بقاء استطاعته، أو بعد زوال استطاعته، أو تركه في حال الاستطاعة و عدم تنجز التكليف عليه نسياناً أو جهلًا بالحكم أو الموضوع جهلًا بسيطاً أو مركباً. و المراد من قوله: «يحج عنه» أو «تقضي عنه» هو السؤال عن وجوب القضاء عنه، و لا يشمل من لم يأتِ به، لعدم حصول الاستطاعة عليه.

و بعبارةٍ اخري: السؤال يكون عن المستطيع الذي لم يحج حجة الإسلام دون من لم يحصل له الاستطاعة أصلًا.

فإن قلت: الظاهر من السؤال و الجواب أنّ مورد السؤال هو القضاء عمن ترك حجة الإسلام الواجب عليه، فالاستدلال علي وجوب قضائها علي من لم يثبت وجوبها عليه يكون من قبيل التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية.

و بعبارةٍ اخري: صدق كونه تاركاً لحجة الإسلام و لم يحجَّها يدور مدار تنجز وجوبها عليه، و أما بدون ذلك فتركه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع و الرواية لا تشمله.

قلت: يكفي في صدق الترك أنّه لو علم بالاستطاعة و بالوجوب تجب عليه حجة الإسلام

و لو كان آتياً بها رجاءً كان آتياً بحجة الإسلام، و إلّا يلزم قصر دلالة الحديث علي خصوص صورة العصيان، مع أن الظاهر منه شموله لصورة تركه عذراً.

[مسألة 90] من حج بغير استطاعة

مسألة 90- إذا حج مع عدم الاستطاعة المالية قال في العروة: (فالظاهر مسلّمية عدم الإجزاء، و لا دليل عليه إلا الإجماع، و إلّا فالظاهر أنّ حجة الإسلام هو الحج، الأول و إذا أتي به كفي و لو كان ندباً، كما إذا أتي

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 312

الصبي صلاة الظهر مستحباً بناءً علي شرعية عباداته فبلغ في أثناء الوقت فإن الأقوي عدم وجوب إعادتها، و دعوي أن المستحب لا يجزي عن الواجب ممنوعة بعد اتحاد ماهية الوجوب و المستحب. نعم، لو ثبت تعدد ماهية حج المتسكع و المستطيع تم ما ذكر، لا لعدم إجزاء المستحب عن الواجب، بل لتعدد الماهية).

أقول أولًا إنّ مطلوبية الحج تكون بنحو مطلق الوجود فجميع أفراده مطلوب علي حدة، فلا يجزي فرد منه عن الآخر، فإذا استطاع الشخص يجب عليه غير ما أتي به قبل الاستطاعة، فلا يسقط هذا الفرد بإتيانه بالفرد الأول، كما لا يسقط به و بالفرد الأول مطلوبية غيرهما من أفراده.

نعم، ما يجب بالاستطاعة يكون مطلوبيته المؤكدة علي نحو صرف الوجود يسقط بالإتيان بأول الأفراد بعد حصول الاستطاعة وجوب غيره من الأفراد.

و لا يقاس المقام بالصلاة التي أتي بها الصبي حيث إنه يجزيه إن بلغ في الوقت فإن المطلوب فيها طبيعة الصلاة في الوقت علي نحو صرف الوجود، فالإتيان بها في ضمن فرد ما يجزيه و يسقط به الطلب و لا يمكن الإتيان به ثانياً.

و ثانياً: نقول بتعدد ماهية الحج المستحب و الحج الواجب، فإن متعلق الطلب و الأمر في الأول

مطلق الوجود، و في الحج الواجب صرف الوجود، و لا يمكن أن يكون طبيعة واحدة مطلوبة بنحو صرف الوجود و مطلق الوجود، فيكشف من تعدد متعلق الطلب تعدد ماهية المطلوب، و هذا بخلاف الصلاة في الوقت فإنها متعلقة للطلب علي نحو صرف الوجود.

ثمّ إنّه ربما توهم دلالة بعض الروايات علي عدم الإجزاء مثل رواية أبي بصير التي رواها المحمدون الثلاثة- رضوان اللّٰه تعالي عليهم- في الكتب الأربعة،

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 313

و إليك سندها و لفظها برواية الكليني قدس سره: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد و سهل بن زياد جميعا، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لو أنّ رجلًا معسراً أحجّه رجل كانت له حجة، فإن أيسر بعد كان عليه الحج» الحديث. «1»

قال المحقق في المعتبر في مسائل الشرط الرابع و الخامس من شرائط حجة الإسلام: (و لو حج ماشياً لم يجزه عن حجة الإسلام، قال الباقون: يجزيه. لنا: أن الوجوب لم يتحقق، لأنه مشروط بالاستطاعة، فمع عدمها يكون مؤدياً ما لم يجب عليه، فلا يجزيه عما يجب فيما بعد. و تنبه علي ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السلام، منها:

رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لو أن رجلا معسراً أحجه رجل كانت له حجة. فإن أيسر بعد كان عليه الحج». «2»

[مسألة 91] من حج مع المرض، أو مع عدم أمن الطريق

مسألة 91- لا ريب في عدم وجوب الحج مع عدم أمن الطريق، أو مع المرض و عدم صحة البدن، أو مع الضرر، أو الحرج و إن كانت تلك الامور مقترنةً بما هو قبل الميقات فضلًا عما إذا كانت مقترنةً بما بعد

الميقات و الأعمال و المناسك.

و لو حج مقترناً بهذه الامور فإن كانت المقدمات قبل الميقات مقترنة بها دون الأعمال فلا ريب في إجزاء حجه عن حجة الإسلام، لأنه بعد وصوله إلي الميقات يكون مستطيعاً للحج، فلا وجه لعدم وجوب الحج عليه بعد وصوله إلي الميقات، و لا

______________________________

(1)- الكافي: 4/ 273 ح 1.

(2)- المعتبر: 2/ 752.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 314

عدم إجزاء حجه عن حجة الإسلام.

و أما إذا كانت الأعمال مثل الطواف و السعي و الوقوفين مقترنةً بالضرر أو الحرج أو عدم صحة البدن أو عدم أمن الطريق فهل الحكم هو الإجزاء مطلقا، أو عدم الإجزاء، أو التفصيل بالإجزاء في بعض هذه الامور و عدمه في البعض الآخر؟

وجوه.

و الذي ينبغي أن يقال: إنّه إذا حج مع عدم كون نفسه في حال الإتيان بالأعمال مأموناً من الخطر و الضرر فالحكم فيه عدم إجزاء حجه عن حجة الإسلام، بل الظاهر بطلان عمله، هذا في الضرر البدني.

و أما في الضرر المالي فإن قلنا بأن وجوده مانع من الاستطاعة و أنّ من يتضرر بسفر سواء كان الحج أو غيره لا يكون عند العرف مستطيعاً له فإن تحمَّل الضرر و حج لا يجزيه عن حجة الإسلام، و إن قلنا بنفي وجوب الحج بعد حصول الاستطاعة بقاعدة لا ضرر فحيث إنها امتنانية يكون معناها ترخيص المكلف للترك، فإن حج و تحمل الضرر يجزيه عن حجة الإسلام.

اللهمّ إلّا أن يقال بوجوب الأخذ بالترخيصات الشرعية مثل قوله تعالي:

«فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ» «1» فلا يجوز الإتمام، و لكن ذلك علي النحو الكلي لم يثبت، بل الثابت خلافه، و لذا يجوز الاحتياط في مثل البراءة الشرعية.

و يمكن أن يقال: إن الضرر إذا كان

لازماً للحج مثل كونه مستلزماً لتلف ماله فالحكم ما ذكر علي المبنيين، أما إذا كان تخلية السرب متوقفة علي ضرر مثل أن يكون الطريق من جانب الظالم مسدوداً و لا يسمح لأحد العبور منه إلا بدفع المال

______________________________

(1)- النساء: 101.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 315

الكثير له فيمكن أن يقال بعدم حصول الاستطاعة؛ لعدم تخلية السرب علي المبنيين و دفع المال إليه تحصيل للاستطاعة. و المسألة بعد محل إشكال.

و أما إذا حج مع عدم صحة البدن فالظاهر أن حجه ليس مصداقاً للواجب، فيجب عليه الحج إذا صح بدنه مع استكماله لسائر الشرائط.

هذا، و قد ظهر مما ذكر حكم الحرج، و أنه علي البناء علي منعه من الاستطاعة لا يجزيه عن حجة الإسلام، و علي البناء علي أنه رافع لوجوب الحج يجزيه إن تحمل الحرج و أتي بالحج. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 92] إذا ترك الحج خوفاً من اللصّ فبان الخلاف بعد زوال الاستطاعة

مسألة 92 إذا خاف من وجود اللص في الطريق علي نفسه أو علي ماله خوفاً يعتني به العرف و العقلاء و ترك الحج و بعد زوال استطاعته بان عدم وجود اللص فهل هذا ليس من عدم تخلية السرب، فإذا بانَ خلافه يجب عليه الحج، أو أن الخوف من وجود اللص مانع من حصول الاستطاعة فلا يكون الخائف من اللص مستطيعاً للحج، و لا يجوز عند العرف سير الطريق المخوف و إن ظهر بعد ذلك خلافه، فلا يستقر عليه بذلك الحج لعدم الاستطاعة، لأن ما هو المانع من صدق الاستطاعة هو الخوف العقلائي من اللص، لا وجود اللص واقعاً؟

و الأقوي أن الخوف مانع من حصول الاستطاعة، و القول بأن الخوف طريق عقلائي إلي وجود اللص لم نفهم معناه، فإن الخوف العقلائي و إن كان يحصل من الطريق

العقلائي إلّا أنّه بنفسه و واقعه مانع من حصول الاستطاعة، و ليس من قبيل قيام الطريق علي مانعٍ في الطريق مما يوجب الخوف من سلوكه.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 316

[مسألة 93] إتيان الحج مع استلزامه ترك واجب أو ارتكاب حرام

مسألة 93- إذا حج مع استلزامه لترك واجب أو ارتكاب حرام فهل يجزيه عن حجة الإسلام، أم لا؟

لا ريب في أنه إذا كان هذا الاستلزام في خصوص ذهابه إلي الميقات دون ما بعده فحجه يقع حجة الإسلام، و أما إذا استلزم المناسك و الأعمال ترك الواجب أو فعل الحرام فعلي القول باعتبار الاستطاعة الشرعية في وجوب الحج بمعني عدم مزاحمته لواجبٍ آخر و أن المانع الشرعي كالمانع العقلي أو العرفي فلا يجزي عن حجة الإسلام؛ لعدم تحقق الاستطاعة المشروط عليها وجوب الحج.

و علي القول بأن الاستطاعة المذكورة ليست إلّا ما فسِّرت في الروايات بتخلية السرب و صحة البدن و الزاد و الراحلة، فالقول بعدم الإجزاء وجيه إن كان الواجب الذي استلزم الحج تركه أهم من الحج و لم نقل بالترتب و لا بكفاية وجود الملاك، و هكذا علي القول بالاستطاعة العرفية الإجزاء و عدمه يدور مدار أهمية الحج، أو القول بالترتب، أو كفاية وجود الملاك.

فإن قلت: قد قلتم في الحرج و الضرر: إنّهما مانعان من حصول الاستطاعة العرفية فليكن ترك الواجب أو فعل المعصية مثلهما.

قلت: الظاهر أن المانع من الاستطاعة العرفية هو ما يكون بنظر العرف مانعاً من الاستطاعة للحج.

و بعبارةٍ اخري: ما يكون من الموانع العرفية و ترك الواجب أو فعل المعصية ليسا منه إلّا علي القول بالاستطاعة الشرعية الذي لا دليل عليه. و اللّٰه هو العالم.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 317

[مسألة 94] وجوب الحجِّ علي الكافر المستطيع
اشارة

مسألة 94- قال في العروة: (الكافر يجب عليه الحج إذا استطاع؛ لأنه مكلف بالفروع لشمول الخطابات له أيضاً، و لكن لا يصحّ منه ما دام كافراً كسائر العبادات و إن كان معتقداً بوجوبه و آتياً به علي وجهه مع قصد القربة لأن

الإسلام شرط في الصحة.

أقول: تفصيل الكلام في هذه المسألة يقع في جهات:

الجهة الاولي و في تكليف الكفار بالفروع إمّا مطلقاً، أو في خصوص الحج

، أما بالنسبة إلي الحج فيدل عليه قوله تعالي: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» فإنه يشمل المسلم و الكافر علي السواء.

و أما في سائر التكاليف فيدل عليه مثل قوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّٰهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» «1»، و لا ريب أن من جملة ما ارسل به رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله الأحكام و الفروع، فالناس كلهم مكلفون بها. و مثل قوله تعالي: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّٰهِ الْإِسْلٰامُ» «2»، و الإسلام اسم لجميع ما انزل علي النبي صلي الله عليه و آله اصولًا و فروعاً.

و خصوص جملة من الآيات مثل قوله تعالي: «وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لٰا يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ» «3»، و قوله تعالي: «قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ» «4» و غيرها من الآيات و الروايات و ادُّعي الإجماع علي ذلك.

و لكن بعض الأعلام أفاد بأن (محل الكلام في تكليف الكفار بالفروع إنما

______________________________

(1)- الأعراف: 158.

(2)- آل عمران: 19.

(3)- فصِّلت: 6 و 7.

(4)- المدَّثّر: 44.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 318

يكون في الأحكام المختصة بالإسلام، و أمّا المستقلات العقلية التي يشترك فيها جميع أرباب الشرائع كحرمة القتل و قبح الظلم و أكل مال الناس عدواناً فلا إشكال، كما لا كلام في تكليفهم بها، و أما في الأحكام المختصة فما هو الصحيح عدم تكليف الكفار بها).

و استشهد بما ورد من أن «الناس يؤمرون بالإسلام ثمّ بالولاية»، فإن ظاهر العطف ب (ثمّ) هو عدم تعلق الأمر بالولاية إلا بعد الإسلام، فإذا كان هو الحال في الولاية و هي من أعظم الواجبات و أهم الفروع، بل إنّه لا يقبل عمل

بدونها كما ورد في غير واحد من النصوص فما ظنّك بما عداها من سائر الواجبات كالصلاة و الصيام و نحوهما. «1»

أقول: أما في المستقلات العقلية فشأن العقل ليس إلّا إدراك حسن بعض الأفعال و قبح بعضها و حسن مدح فاعل الأول و ذم تارك الثاني، لا تكليف له و لا أمر و لا نهي مولوياً له، فلا شأن له إلّا درك الحسن و القبح الذي يترتب عليه الميل و الرغبة إلي فعل الحسن و ترك القبيح، و هذا غير التكليف المولوي الصادر من الشارع المقدس الذي يستحق المكلف بامتثاله الثواب و بمخالفته العقاب.

و لعلّ هذا مرادهم من أن الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية، غير أن الوجوب الشرعي غير الوجوب العقلي لترتب الثواب علي موافقة الأول و العقاب علي مخالفته دون الثاني، و المبحوث عنه في مسألة تكليف الكفار بالفروع هذا الوجوب الشرعي، و لا فرق في ذلك بين الأحكام المختصة بالإسلام و غيرها.

و أما ما ذكر وروده من أن الناس يؤمرون بالإسلام ثمّ بالولاية فلم نجده فيما راجعنا إليه بالعجالة، و لو كان فليس معناه أن من لم يؤمن بالإسلام ليس مكلفاً

______________________________

(1)- مستند العروة، كتاب الصلاة: 5/ 111.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 319

بالإيمان بالولاية، بل معناه أن الدعوة إلي الولاية في طول الدعوة بالنبوة و أن الإيمان بالرسالة يكون قبل الإيمان بالولاية كما أن الإيمان بالالوهية يكون قبل الإيمان بالرسالة لأنه لا يعقل الإيمان بالنبوة بدون الإيمان بالألوهيّة، و لكن ليس معني ذلك أن من لم يؤمن بالالوهية ليس مكلفاً بالنبوة و من لم يؤمن بهما ليس مكلفاً بالولاية فالناس كلهم مكلفون بالإيمان بهذه الثلاثة، غير أن الإيمان بالالوهية واجب نفسي بنفسه و غيري

لتوقف الإيمان بالنبوة و الولاية عليه، و هكذا الإيمان بالنبوة نفسي و غيري لتوقف الإيمان بالولاية عليه. و بالجملة ليس معني ذلك أن التكليف بالولاية لا يتعلق بالمكلف إلا بعد الإيمان و الاعتقاد بالنبوة.

نعم، تحقق الإيمان بالولاية خارجاً موقوف علي تحقق الإيمان بالرسالة كالظهر و العصر فإنّ ترتب العصر علي الظهر لا يمنع من التكليف بهما، و لا يمنع من التكليف بالعصر قبل الإتيان بالظهر.

و هنا رواية ربما تدلّ علي ذلك، و هي ما رواه شيخنا الكليني- رحمه اللّٰه- في الصحيح: عن محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم عن زرارة، قال: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة علي جميع الخلق؟ فقال: إنّ اللّٰه عزّ و جلّ بعث محمداً صلي الله عليه و آله إلي الناس أجمعين رسولًا و حجةً للّٰه علي جميع خلقه في أرضه، فمن آمن باللّٰه و بمحمدٍ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و اتّبعه و صدّقه فإنّ معرفة الإمام منا واجبة عليه، و من لم يؤمن باللّٰه و برسوله و لم يتبعه و لم يصدقه و يعرف حقهما فكيف يجب عليه معرفة الإمام و هو لا يؤمن باللّٰه و رسوله و يعرف حقهما؟ قال: قلت: فما تقول فيمن يؤمن باللّٰه و رسوله و يصدق رسوله في جميع ما أنزل اللّٰه يجب علي اولئك حق معرفتكم؟ قال عليه السلام: نعم، هؤلاء يعرفون فلاناً و فلاناً؟ قلت: بلي، قال: أ تري أن اللّٰه هو الذي أوقع في قلوبهم معرفة هؤلاء؟ و اللّٰه ما أوقع ذلك في قلوبهم إلا الشيطان، لا و اللّٰه ما ألهم المؤمنين

فقه الحج (للصافي)، ج 1،

ص: 320

حقنا إلّا اللّٰه عز و جل». «1»

يمكن أن يقال بدلالته علي عدم وجوب معرفة الإمام عليه السلام علي من لم يؤمن باللّٰه و رسوله، فيكون سائر الأحكام مثله.

و لكن لأحدٍ أن يقول: إنّ المستفاد من الحديث سؤالًا و جواباً و صدراً و ذيلًا عدم وجوب معرفة الإمام عليه السلام بالانفراد و استقلاله عنهما، أو عدم تحققه كذلك، فيكون معناه أن معرفة الإمام عليه السلام لوحظ فيها معرفة النبي صلي الله عليه و آله فكيف يمكن إيجاب معرفته بدون معرفة النبيّ صلي الله عليه و آله، و ليس معناه أن معرفة الإمام عليه السلام الذي لا تتحقق إلّا بمعرفة النبي صلي الله عليه و آله و معرفة اللّٰه تعالي لا يمكن إيجابها قبل معرفتهما و علي من لم يؤمن بهما.

قال العلّامة المجلسي قدس سره: (قوله عليه السلام: «فكيف تجب عليه معرفة الإمام» أي علي الانفراد، بل يجب عليه أن يؤمن باللّٰه و رسوله أولًا، ثمّ بالإمام، و الغرض أن معرفتهما أوجب عليه، بل لا سبيل له إلي معرفته إلّا بمعرفتهما، فلا ينافي أن يعاقب بتركها أيضاً إذا ترك الجميع). «2»

و الحاصل: أنه لا ظهور معتدّ به للرواية علي عدم كون الكفار مكلفين بمعرفة الإمام عليه السلام بالمعني الذي ذكر، فيسقط الاستدلال به علي عدم كون الكفار مكلفين بالفروع.

مضافاً إلي ما يعارض هذا الاستدلال من الروايات، و سيما الآيات الدالة علي المؤاخذة بالفروع و هي لا تصح من غير تكليفٍ بهما.

الجهة الثانية: علي القول بكون الكفار مكلفين بالفروع لا ريب في سقوط التكليف عنهم في صورة موافقتهم للأحكام بترك المحرمات و فعل الواجبات التوصلية،

______________________________

(1)- الكافي: 1/ 180، ح 3.

(2)- مرآة العقول: 2/ 302.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 321

لكن لا يوجب ذلك تقرّبهم إلي اللّٰه و استحقاقهم للثواب، فإنهما مشروطان بالإسلام، و لمانعية الكفر من تقرب صاحبه إلي اللّٰه،

فلا يؤثّر عملهم في تقربهم و إن أتوا به بقصد التقرب لقبحه الفاعلي.

و أما في العبادات فإتيانهم بها لا يوجب تقرّبهم؛ لعدم صحتها منهم لاشتراطها بالإسلام، فلا يسقط بالعصيان بها تكليفهم، فهم معاقبون علي تركها و إن أتَوا بها في حال الكفر؛ لأنها بدون الإيمان لا يؤتي بها علي وجه الصحيح، بخلاف غير العبادات حيث إن الإتيان به مسقط للتكليف و مانع من استحقاق اللوم و العقاب.

الجهة الثالثة: بعد ما ظهر عموم التكاليف الشرعية و شمولها للكفار أيضاً فهل جميعهم معاقبون علي ترك امتثالها

و لو كانوا في كفرهم معذورين لقصورهم و عدم التفاتهم أو لجهلهم المركب إذا لم يكن بتقصيرهم في مقدماته، أو أن المعاقب عليها يكون خصوص الكفار الجاحدين الذين ذمّهم اللّٰه تعالي بقوله جلّ شأنه:

«وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ» «1»، و من ترك الفحص و بقي في الجهل البسيط أو حصل له الجهل المركب بتقصيره في مقدماته و تعلمه ما ينتهي إلي الضلال و الإلحاد؟

الظاهر أن المستحق للعقاب هو الثاني؛ لتنجز التكليف عليه، و لعلّ أن يكون في حكم الأول من لم تستقر له العقيدة الإسلامية لقصوره.

إلّا أنّ السيد الخوانساري نفي البعد عن القول بلزوم الأعمال عليه رجا قال:

«أمّا الوجوب عليه فادعي عليه الإجماع، و أدلة الفروع تشمله، و أما عدم الصحة فلكون الإسلام شرطاً في الصحة، و يشكل الأمر بالنسبة إلي العاجز كمن لم يسلم

______________________________

(1)- النمل/ 14.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 322

لقصوره من دون تقصير منه، فمثل هذا كيف يكون مكلفاً بالعبادات مثل الصلاة و الصوم و الحج مع عدم تمكنه من الإتيان بها صحيحة؟ و مجرد الإقرار باللسان و إن كان مقدوراً لكنّه لا يكفي في صحة العبادات؛ لاشتراط الإيمان الغير المتحقق هنا بدون الاعتقاد و إن قلنا بكفاية مجرد الإقرار باللسان في الإسلام، و لا

يبعد أن يقال بلزوم الأعمال عليه رجاءً و إن لم يترتب عليه ثواب، نظير وجوب الخمس علي الذمّي إذا اشتري أرضاً من مسلم) «1».

الجهة الرابعة: إذا مات الكافر في حال الاستطاعة أو بعد انقضائها فهل يجب القضاء عنه تبرعاً أو من ماله؟

قال السيد- رحمة اللّٰه تعالي عليه- في العروة: (لو مات لا يقضي عنه؛ لعدم كونه أهلًا للإكرام و الإبراء).

قال بعض الأعاظم: (لو مات كافراً لا يقضي عنه و لا يخرج من تركته؛ لعدم وجوب الحج عليه مباشرةً لأن الإسلام شرط في الصحة، و لا نيابة؛ لعدم الدليل علي ذلك). «2»

أقول: أما كون الإسلام شرطاً في الصحة لا يلزم منه عدم وجوب الحج عليه مباشرةً كالطهارة المشروط عليها صحة الصلاة، فيجب تحصيل الإسلام كما يجب تحصيل الطهارة. فلا ينافي ذلك وجوب الحج عليه مباشرة و نيابة. و لو قال: لعدم كونه مكلفاً بالحج كان أبعد من الإشكال علي ما اختاره من عدم كون الكفار مكلفين بالفروع.

و أما عدم كونه أهلًا للإكرام و الإبراء فيمكن أن يوجه الاستدلال به إذا كان متبرعاً به، لقوله تعالي: «لٰا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوٰادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّٰهَ

______________________________

(1)- جامع المدارك: 2/ 278.

(2)- معتمد العروة: 1/ 265.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 323

وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كٰانُوا آبٰاءَهُمْ» «1»، و هذا من أظهر آثار الموادة، و أما القضاء عنه من ماله فيمكن أن يقال: إنه من قبيل أداء ما عليه من الديون المالية المتعلقة بمال المديون، و إلّا يلزم، كما أفاده السيد الخوانساري قدس سره من عدم صحة التخميس عنه.

اللهمّ إلّا أن يقال في خصوص المشركين بدلالة الآية الكريمة: «مٰا كٰانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كٰانُوا أُولِي قُرْبيٰ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ الْجَحِيمِ» «2»، فإذا لم يكن لهم

أن يستغفروا لهم كيف يجوز النيابة عنهم أو الاستنابة لهم للحج؟

و أما في غير المشركين فلعدم إثبات مشروعية القضاء عن غير المسلم، و ما يدل علي مشروعيته يختص بالمؤمن المتوقع منه الحج، إلّا أن ذلك لا ينفي جوازه برجاء إبراء ذمته و تخفيف عذابه.

نعم، ورد في الناصب عدم جواز النيابة عنه إلّا إذا كان أباً للنائب، و الفرق بين التخميس و الحج: أن الخمس يؤخذ من الكتابي و يجبر علي أدائه، و أما الحج فلا يجبر عليه و يترك بحاله.

الجهة الخامسة: الظاهر أنه لا ريب في أن الكافر إذا استطاع و لم يسلم حتي زالت استطاعته ثمّ أسلم لا يجب عليه الحج متسكعاً،

كما أنه لا ريب في أن الكافر الذي لم يسلم و فات منه الصلاة و الصيام في الوقت ثمّ أسلم بعده لا يجب عليه القضاء.

إلّا أنّ الكلام في أن عدم وجوب الحج عليه و عدم وجوب قضاء الصلاة و الصوم هل يكون لعدم تكليفه بالحج بعد زوال الاستطاعة و عدم تكليفه بقضاء

______________________________

(1)- المجادلة/ 22.

(2)- التوبة: 113.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 324

الصلاة و الصوم بعد الوقت، فلا يكون معاقباً بترك الحج و الصلاة لو لم يتنجز عليه التكليف في الوقت و في حال الاستطاعة إن مات كافراً، أو أن الكفار مكلفون بذلك كله كسائر الفروع و إن لم يتنجز عليهم التكليف في حال الاستطاعة و في الوقت، غير أن بالإسلام يسقط عنهم وجوبها بقاعدة الجبّ المسلّمة، سواء كان دليلها الخبر العامي المشهور الذي قيل بأنه المنجبر بعمل الأصحاب، أو السيرة المستمرة عليها من عصر النبي صلي الله عليه و آله و بعده إلي هذا الزمان؟

ظاهر القائلين بقاعدة اشتراك الكفار مع غيرهم في التكليف بالفروع أنهم مكلفون بالحج و قضاء الصوم و الصلاة، و يجب عنهم ذلك بالإسلام، فإن ماتوا علي الكفر فهم معاقبون علي ترك الحج

و الصلاة و إن لم يتنجزا عليه في حال الاستطاعة و في الوقت.

إلّا أنّه قد اورد عليهم: بأنّه لا يعقل وجوب القضاء و الحج علي الكافر مع البناء علي سقوطه بالإسلام، فإن الإتيان بهما صحيحاً و امتثال التكليف بهما مشروط بالإسلام و به يسقط عنهم التكليف.

و بعبارةٍ اخري: لا يتمكن من الامتثال إلّا بالإسلام، و به يسقط موضوع الامتثال، لأنه إذا أسلم يسقط به الوجوب.

و بعبارةٍ ثالثة: في حال الكفر لا يصح منه، و إن أسلم يسقط عنه التكليف، و لذا حكي عن صاحب المدارك قدس سره: أنه اختار عدم تكليفهم بالقضاء حال الكفر و إن كانوا مكلفين بغيره من التكاليف.

و قد تُفُصِّيَ عن هذا الإشكال: بأن تكليف الكافر بالحج بعد زوال الاستطاعة يمكن تصوره بنحو الوجوب المعلق، بأن نقول بوجوب الحج عليه في حال الاستطاعة مستطيعاً، و إن تركه فمتسكّعاً فهو في حال الاستطاعة مأمور به في هذا الحال و في ما بعده إن تركه، فإن هو ترك الإسلام في حال الاستطاعة فوَّت علي

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 325

نفسه بتركه الإسلام الحج في الحالتين حال الاستطاعة و حال عدمها. و هكذا يقال بالنسبة إلي الصلاة في الوقت فإنه مأمور بالصلاة فيه أداءً، و إن تركه فبقضائها بعده، فهو مكلف بقضاء الصلاة إن ترك أداءه في الوقت، و حيث إنّ القضاء بعد الوقت مقدور له بإسلامه في الوقت لا مانع من إيجابه عليه في الوقت.

و اورد علي هذا الجواب: بأنّ الوجوب المعلق و إن كان ممكناً في نفسه لكنّ ثبوته يحتاج إلي دليل، و لا دليل في المقام، بل الدليل علي عدمه، لأنّ القضاء موضوعه الفوت و ما لم يتحقق الفوت لم يؤمر بالقضاء. «1»

و

فيه: أنّ هذا يتمّ في قضاء الصلاة و الصوم الذي يحتاج الأمر بهما إلي تحقق موضوعه و هو الفوت، أما في الحج فهو أداء سواء وقع في حال الاستطاعة أو بعدها، و عليه فالكافر كالمسلم مأمور بالحج في حال الاستطاعة و بعدها، غير أنه يجب عليه الإسلام ليتمكن من الإتيان به، فهو مأمور بالحج بعد الاستطاعة كما كان مأموراً به في حال الاستطاعة، غير أنه إذا لم يسلم في حال الاستطاعة و إن لم يتمكن من الحج بعدها إن أسلم فلا يصح عقابه بتركه الحج في هذا الحال إن مات كافراً، إلّا أنه يصح عقوبته بتركه الحج في حال الاستطاعة.

نعم، إن لم يتنجز عليه الحج في حال الاستطاعة لا يتنجز عليه بعدها، و لا يصح عقوبته و إن مات كافراً.

و الذي ينبغي أن يقال: إنّ الوجوب المعلق و إن كان ممكناً في نفسه إلّا أنّه إذا كان مشروطاً بترك الصلاة و فوتها في الوقت أو ترك الحج في حال الاستطاعة كيف يمكن تصوير الوجوب المعلق- بالنسبة إلي القضاء- في الوقت و الحج في حال الاستطاعة فيمكن وجوب الصلاة بعد الوقت في الوقت بأن يكون الوجوب فعلياً

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 267 راجع أيضاً كتاب الزكاة من المستند: 1/ 128.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 326

و الواجب استقبالياً، كما يمكن وجوب الصلاة بشرط مضي الوقت بأن يكون كليهما استقبالياً.

و بعبارةٍ اخري: ترك الصلاة في الوقت و ترك الحج في حال الاستطاعة لا يمكن أن يكون من شرائط الواجب، فلا بد أن يكون من شرائط الوجوب. و مع ذلك لا يمكن تصوير الوجوب المعلق في الوقت قبل تحقق الترك فيه و في حال الاستطاعة قبل تحقق الترك فيها.

ثمّ إنّه

قد أجاب الشيخ المؤسِّس المحقّق الحائري قدس سره في كتاب الصلاة «1» - الذي سمعت من سيدنا الاستاذ الأعظم رضوان اللّٰه عليه (إنّه قلَّ فيما رأيت مثله قليل اللفظ و كثير المعني)-: بأن الكافر مكلف بإتيان الصلاة أداءً إن دخل الوقت، و بإتيانها خارج الوقت قضاءً إن تركها في الوقت، و التكليف الأول بدخول الوقت يصير مطلقاً، و الثاني المشروط بتركها في الوقت يصير مطلقاً بتركها، إلّا أنه غير متمكن منه لتركه الإسلام في الوقت، و حيث إنّ تركه مستند إلي ترك غير ما علق عليه الطلب لا عدم ما هو شرطه يصح المؤاخذة علي تركه.

لا يقال: إنه علي هذا يصح المؤاخذة علي تركه و لو أسلم خارج الوقت.

فإنه يقال: إنه مكلف بالصلاة في الوقت، و بقضائها إن تركها في الوقت و ترك الإسلام في خارج الوقت، إلّا أنّ تركها في خارج الوقت مستند إلي تركه الإسلام في الوقت، فهو إن مات تاركاً للإسلام يعاقب بتركه قضاء الصلاة في خارج الوقت الذي هو مستند إلي تركه الإسلام في الوقت.

و أما إسلامه إن كان يتحقق في خارج الوقت فهو بدل عن الصلاة في الوقت الذي ترتب علي تركها وجوب القضاء خارج الوقت، فلا يجوز أن يكون مؤاخذاً

______________________________

(1)- كتاب الصلاة/ 557.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 327

بترك القضاء و هو أسلم بعد الوقت و آتياً بما هو بدل عن الصلاة في الوقت التي كان تركها شرطاً لوجوب القضاء خارج الوقت، فتدبّر جيّداً.

هذا بالنسبة إلي قضاء الصلاة، أما بالنسبة إلي الحج- الذي هو مأمور به بعد الاستطاعة بالأمر الأول و أداءً له لا قضاءً- يبقي الإشكال علي حاله؛ لأنه لا يعقل تكليفه بالحج الذي شرط صحته الإسلام الذي إن

تحقق يسقط التكليف به.

نعم، إن كان مأموراً بالحج في حال الاستطاعة و به مشروطاً بتركه في حال الاستطاعة يأتي ما ذكر في دفع الإشكال، لأن تركه الحج بعد الاستطاعة يكون مستنداً إلي بترك الإسلام في حال الاستطاعة، فيصح مؤاخذته عليه، لأن تركه مستند إلي غير ما هو شرط للتكليف و هو الترك في حال الاستطاعة، بل مستند إلي تركه الإسلام في حال الاستطاعة.

[مسألة 95] الكافر إذا أسلم بعد الميقات

مسألة 95- لو أسلم الكافر بعد المرور علي الميقات يجب عليه العود إليه و الإحرام منه، سواء كان أحرم منه أو لم يحرم منه، و لو لم يتمكن من العود إليه فهل يحرم من موضعه، أو يسقط عنه الحج في سنته، فإن بقي علي الاستطاعة إلي السنة المستقبلة يأتي به، و إلّا فلا شي ء عليه؟

ظاهر الفتاوي أنه يحرم من موضعه، و عن المدارك: أنه علّله بأن ذلك حكم الناسي و الجاهل، و المسلم في المقام أعذر منهما، فإذا كان حكم الإحرام من الميقات مرفوعاً عنهما للنسيان و الجهل فالذي أسلم أولي بذلك «1».

______________________________

(1)- مدارك الأحكام: 7/ 69. قال ما هذا لفظه: (فلأنّ من هذا شأنه أعذر من الناسي و الجاهل و أنسب بالتخفيف مع ثبوت ذلك بالنسبة إليهما).

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 328

مضافاً إلي أنه يمكن أن يقال: إنّه يجب بالإسلام عنه أصل الحج، فحكم الإحرام من الميقات أولي بذلك. إلّا أن ذلك يتمّ لو قلنا بعدم جبِّ أصل وجوب الحج في هذه السنة عنه بالإسلام و وجوبه عليه في القابل، و إن لم تبقَ استطاعته فلا شي ء عليه أصلًا، إذاً فمقتضي القاعدة براءة ذمته عن الحج.

اللهمّ إلّا أن يقال بإلحاقه بالجاهل و الناسي إذا لم يكن مقصِّراً في تركه الإسلام، و

لا يبعد التفصيل بين أن يكون أمامه ميقات آخر فيكفيه الإحرام منه و بين أن لا يكون كذلك فليس عليه الحج في سنته. و لعلّه يجي ء بعض الكلام بعون اللّٰه و توفيقه في أحكام المواقيت.

[مسألة 96] فيمن ارتد بعد الحج ثمّ تاب

مسألة 96- قال في الجواهر: (و لو حج المسلم ثمّ ارتد بعده ثمّ تاب لم يعد علي الأصح، للأصل بعد تحقق الامتثال، و عدم وجوب حج الإسلام في العمر إلّا مرة و قد حصلت، خلافاً للمحكي عن الشيخ بناءً منه علي أن الارتداد يكشف عن عدم الإسلام في السابق، لأن اللّٰه لا يضل قوماً بعد إذ هداهم. و فيه: أنه مخالف للوجدان و لظواهر الكتاب و السنة، و آية الإحباط إنما تدل علي عدم قبول عمل الكافر حال كفره، لا ما عمل سابقاً حال إسلامه، و مع التسليم فهو مشروط بالموافاة علي الكفر، كما هو مقتضي الجمع بينها و بين الآية الاخري الدالة علي ذلك. هذا كله، مضافاً إلي قول الإمام أبي جعفر- عليه سلام اللّٰه- في خبر زرارة: «من كان مؤمناً فحج ثمّ أصابته فتنة فكفر ثمّ تاب يحسب له كل عمل صالح عمله و لا يبطل

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 329

منه شي ء»، و نحوه غيره) «1».

أقول: أما الاستدلال المحكيّ عن الشيخ قدس سره ب «إنّ اللّٰه لا يضلّ قوماً بعد إذ هداهم» فالمراد منه الاستدلال بقوله تعالي: «وَ مٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدٰاهُمْ حَتّٰي يُبَيِّنَ لَهُمْ مٰا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ» «2».

و فيه: أنّه لا دلالة للآية الكريمة علي عدم وقوع الكفر و الارتداد بعد الإيمان، بل قوله تعالي: «حَتّٰي يُبَيِّنَ لَهُمْ مٰا يَتَّقُونَ» يدل علي وقوع ذلك، فيمكن أن يكون المراد من

إضلاله قوماً خذلانهم و تركهم علي ما هو عليه، فهذا لا يقع منه بعد إذ هداهم بالهداية التكوينية بعقولهم و فطرتهم حتي يبين لهم ما يتقون بوسيلة الأنبياء عليهم السلام، فلا يتركهم علي حالهم، بل يهديهم بإنزال كتبه و إرسال رسله إليهم.

و أما آية الإحباط فهي مثل قوله تعالي: «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمٰانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخٰاسِرِينَ». «3» و قوله تعالي: «وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ». «4»

و لكن الظاهر منهما و غيرهما حبس ثواب الأعمال و آثاره الحسنة عنهم ما داموا باقين علي الكفر و الشرك. و يدل عليه قوله تعالي: «وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كٰافِرٌ فَأُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ». «5»

و أما خبر زرارة فهو ما رواه الشيخ بإسناده: عن الحسين بن علي، عن علي

______________________________

(1)- جواهر الكلام: 17/ 303.

(2)- التوبة: 115.

(3)- المائدة: 5.

(4)- الأنعام: 88.

(5)- البقرة: 217.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 330

بن الحكم، عن موسي بن بكر، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من كان مؤمناً فحج و عمل في إيمانه ثمّ أصابته في إيمانه فتنة فكفر ثمّ تاب و آمن قال: يحسب له كل عمل صالح عمله في إيمانه و لا يبطل منه شي ء» «1».

و تعبير الجواهر عنه بالخبر «2»، و هكذا السيد في العروة مشعر بالضعف، و قيل في وجه ذلك: إنّ طريق الشيخ إلي الحسين بن علي غير مذكور في الفهرست و لا في المشيخة.

و لكن حكي السيد الخوئي قدس سره عن رجال الشيخ، أنه ذكره فيمن لم يروِ عنهم عليهم السلام، و قال: (الحسين بن علي بن سفيان البزوفري خاصّي، يكنّيٰ أبا عبد

اللّه، له كتب، روي عنه التلعكبري، و أخبرنا عنه جماعة، منهم محمد بن نعمان، و الطريق إلي كتبه صحيح، فالرواية صحيحة). «3»

أقول: قد أشرنا مسبقاً إلي أن رواية الشيخ من مثل البزوفري رواية كُتُبِه التي كانت في يد أهل الحديث عنه بواسطة الرواة كان جرياً علي ما هو المتعارف بينهم. فمثل هذه الأحاديث إن رواها مثل الشيخ عن أصحاب الكتب يدل علي وجودها في كتبهم المعلومة نسبتها إليهم فلا ينبغي أن يعد مثلها من المراسيل، و من هذه الأحاديث روايات كثيرة في النصوص علي الأئمة الاثني عشر و مولانا صاحب الأمر- صلوات اللّٰه عليهم- كلها مأخوذ من كتب أرباب الاصول.

و كيف كان فهذه الرواية تدل علي عدم بطلان الصادر من المؤمن إن أصابته فتنة فكفر ثمّ تاب.

بل يمكن أن يقال: إنّه لا يحكم ببطلانه و إن لم يتب من الكفر، لا بمعني تأثيره في تقرّبه إلي اللّٰه تعالي، فإنه منعه كفره من ذلك، بل بمعني أنه لا يعاقب بترك ما أتي به،

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 30 من أبواب مقدمة العبادات ح 1.

(2)- جواهر الكلام: 17/ 303.

(3)- معتمد العروة: 1/ 268.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 331

إلّا أن يقال بكون عدم الموت علي الكفر من شرائط صحة العبادة علي نحو الشرط المتأخر.

و لو ارتدّ ثمّ استطاع في حال ردّته يجب عليه حجة الإسلام، و لا يجري فيه ما ذكرنا في الكافر الأصلي، فيجب عليه الإسلام و لا يجب عنه بالإسلام ما وجب عليه في حال ردّته و قبلها، حتي علي قول من لا يري الكفار مكلفين بالفروع، فإن ذلك إن قيل به مختص بالكافر الأصلي دون المرتد، سواء كان ملياً أو فطرياً.

نعم، في المرتد الفطريِّ تترتب الأحكام

الثلاثة عليه، و هي: تقسيم أمواله بين ورثته، و قتله، و بينونة زوجته منه، نعم، لا يجزي عنه الحج و الإحرام في حال ردته، فإن حج أو أحرم في تلك الحال يجب عليه إعادته لعدم صحته من الكافر.

و لو أحرم مسلماً ثمّ ارتد ثمّ أسلم لا يجب عليه تجديد إحرامه علي الأصح، كمن ارتد في أثناء الغسل أو الوضوء، فليس الفصل مضرٍّ المضر بالموالاة فيهما مانعاً من الوضوء و الغسل، فلا يخرج المحرم بالارتداد من الإحرام، فحرام عليه ما يحرم علي المحرم، و يجب عليه الكفارة فيما فيه الكفارة.

[مسألة 97] إذا حج المخالف ثمّ استبصر

مسألة 97- إذا حج المخالف ثمّ استبصر فهل يجب عليه الإعادة و إن لم يُخِلَّ بشي ء، أو لا تجب إلّا أن يخلَّ بركنٍ من أركان الحج؟

فعن ابن الجنيد و ابن البراج الحكم بوجوب الإعادة، قال ابن البراج في المهذَّب: (و إذا كان الإنسان مخالفاً للحق و أتي بجميع أركان الحج لم تُجزِهِ هذه الحجة عن حجة الإسلام، و عليه الإعادة لذلك إذا صار من أهل الحق، و قد ذكر أنها مجزئة

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 332

له). «1» و المشهور الذي لم يعرف الخلاف فيه عن غيرهما عدم الوجوب إلّا في صورة الإخلال بركنٍ من أركانه).

قال الشيخ في النهاية: (و من حج و هو مخالف لم يعرف الحق علي الوجه الذي يجب عليه الحج و لم يُخِلَّ بشي ءٍ من أركانه فقد أجزأه عن حجة الإسلام، و يستحب له إعادة الحج بعد استبصاره، و إن كان قد أخلَّ بشي ءٍ من أركان الحج لم يجزئه ذلك عن حجة الإسلام و كان عليه قضاؤها فيما بعد). «2»

و قال في الشرائع: (و المخالف إذا استبصر لا يعيد الحج إلّا أن يُخِلَّ

بركنٍ منه). «3»

و قال في المختصر النافع: (المخالف إذا لم يُخِلَّ بركنٍ لم يعد لو استبصر، و إن أخلَّ أعاد). «4»

و قال العلّامة في القواعد: (المخالف لا يعيد حجه بعد استبصاره واجباً إلّا أن يخل بركن، بل يستحب). «5»

قال في الحدائق: (و الروايات بذلك- يعني القول المشهور- متظافرة، منها:

صحيحة بريد بن معاوية العجلي، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل حج و هو لا يعرف هذا الأمر، ثمّ مَنَّ اللّٰه تعالي عليه بمعرفته و الدينونة به عليه حجة الإسلام أو قد قضي فريضته؟ فقال: قد قضي فريضته، و لو حج لكان أحبَّ إلي، قال: و سألته

______________________________

(1)- المهذب: 1/ 268.

(2)- النهاية: 205.

(3)- شرايع الإسلام: 1/ 165.

(4)- المختصر النافع: 77.

(5)- قواعد الأحكام: 1/ 76.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 333

عن رجل حج و هو في بعض هذه الأصناف من أهل القبلة ناصب متدين ثمّ من اللّٰه عليه فعرف هذا الأمر يقضي حجة الإسلام؟ فقال عليه السلام: يقضي أحب إلي، و قال: كل عمل عمله و هو في حال نصبه و ضلالته ثمّ منّ اللّٰه عليه و عرَّفه الولاية فإنه يؤجر عليه، إلّا الزكاة فإنه يعيدها، لأنه وضعه في غير مواضعها، لأنها لأهل الولاية، و أما الصلاة و الحج و الصيام فليس عليه قضاء». و صحيحة الفضلاء: زرارة، و بكير و الفضيل، و محمد بن مسلم، و بريد، أو حسنتهم علي المشهور، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام أنهما قالا: «في الرجل يكون في بعض هذه الأهواء الحرورية و المرجئة و العثمانية و القدرية ثمّ يتوب و يعرف هذا الأمر و يحسن رأيه أ يعيد كل صلاة صلاها أو صوم صامه أو زكاة أو

حج، أو ليس عليه إعادة شي ء من ذلك؟

قال: ليس عليه إعادة شي ء من ذلك غير الزكاة لا بد أن يؤديها … الحديث».

و صحيحة ابن اذينة أو حسنته: «كتب إليَّ أبو عبد اللّه عليه السلام: إنّ كل عمل عمله الناصب في حال ضلاله أو حال نصبه ثمّ مَنَّ اللّٰه عليه و عرَّفه هذا الأمر فإنه يؤجر عليه و يكتب له إلّا الزكاة … الحديث». «1»

و أما مستند ابن الجنيد و ابن البراج يمكن أن يكون الأخبار الدالة علي بطلان عبادة المخالف. و ما رواه الشيخ: عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لو أن رجلًا معسراً أحجه رجل كانت له حجة، فإن أيسر بعد ذلك كان عليه الحج، و كذلك الناصب إذا عرف فعليه الحج و إن كان قد حج». «2»

و رواية علي بن مهزيار قال: كتب إبراهيم بن محمد بن عمران الهمداني إلي أبي جعفر عليه السلام: «إني حججت و أنا مخالف و كنت صرورة فدخلت متمتعاً بالعمرة إلي الحج؟ قال: و كتب إليه: أعد حجك». «3»

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة: 14/ 159.

(2)- وسائل الشيعة: 11 ب 21 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 5.

(3)- وسائل الشيعة: ب 31 من أبواب مقدمة العبادات ح 3 و ب 23 من أبواب وجوب الحج

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 334

و اجيب عن هذا: أما عن الأخبار الدالة علي بطلان عبادة المخالف بأنه لا منافاة بينها و بين هذه الأخبار التي قد دلت علي تفضّل اللّٰه تعالي عليه بقبول ذلك لدخوله في الإيمان، و عن الروايتين بالجمع بينهما و بين سائر الروايات بحملهما علي الاستحباب، و يشهد لذلك الجمع قوله عليه السلام في عدة من هذه الروايات:

«يحج أحب إليَّ و الحج أحبّ إليَّ، و لو حج لكان أحب إليَّ».

ثمّ إن بعد ذلك يقع الكلام في تعيين ما هو موضوع الحكم بالإجزاء. فنقول:

لا ريب أنه لا يصح أن يقال: إن المستفاد من الروايات اختصاص الحكم بالإجزاء إذا كان صحيحاً عندنا- بدعوي أن النظر فيها إلي تصحيح عمله الصادر منه قبل استبصاره من جهة فقدان الولاية فيجزيه بعد قبولها، و أما إذا كان فاسداً من جهات اخري فلا يشمله و لا يدل علي عدم وجوب إعادته- لأن ذلك موجب لحمل هذه الروايات الكثيرة علي الفرد النادر، بل علي ما لا يتفق أصلًا لعدم صحة حجهم، لا أقلَّ من جهة فساد وضوئهم.

اللهمّ إلّا أن يقال بإتيانه علي طبق مذهب الحق معتقداً جواز العمل به، كما بني عليه بعض أكابرهم، و لعله كان مبني لبعض متقدميهم أيضاً.

كما لا ريب أنه لا يستفاد منها عدم وجوب الإتيان بالحج و غيره من العبادات إن لم يأتِ بها أصلًا، أو أتي به فاسداً عمداً.

إذاً فالظاهر من النصوص بيان حكم كل مورد يوجب تحويل عقيدته إلي العقيدة الحقة تدارك ما أتي به و إعادته فحكم بالإجزاء إلّا في مورد الزكاة.

و لكن ربما يسأل عن وجه اشتراط الإجزاء في كلماتهم بعدم الإخلال بشي ء من الأركان، فإن حاصله هو إجزاء عمل المستبصر الذي أتي بالحج في مذهبه

______________________________

ح 6.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 335

السابق بقصد الإتيان بالوظيفة، فمثله إن لم يقع في ترك الركن و ما يبطل الحج بتركه الغير العمدي في مذهبنا كإدراك الموقفين يجزيه ذلك عن إعادة الحج، فإنّ ذلك تقييد إطلاق ما يدل علي الإجزاء من غير دليل.

مضافاً إلي أنه يلزم منه الفرق بين الصلاة و الحج في الحكم،

فإنّ في الصلاة الحكم هو الإجزاء مطلقاً و إن ترك الجزء الركني منها، و هو خلاف الظاهر.

إلا أنه يمكن أن يقال: إنّ ما يستفاد من بعض الكلمات أن ما هو الركن في الحج عندنا ركن عندهم، و عليه يصح هذا الشرط؛ لأن الظاهر من الروايات إجزاء ما عمله المستبصر قبل استبصاره عن الإعادة و القضاء إن صار استبصاره سبباً لوقوعه في كلفة الإعادة فلا يجب عليه الإعادة، أما فيما هو ركن بحسب المذهبَين يجب عليه الإعادة، لأنه يلزم عليه تدارك ما فات منه استبصر أم لم يستبصر.

نعم، إن كان فيما هو عندنا من الأركان ما ليس عندهم منها لا يستقيم اشتراط الإجزاء بعدم الإخلال بالأركان.

و بالجملة: فالقدر المتيقن مما هو الموضوع للحكم بالإجزاء ما يقع المستبصر باستبصاره في كلفة الإعادة، لا ما يلزم عليه و إن بقي علي مذهبه. و اللّٰه تعالي هو العالم.

[مسألة 98] إذن الزوج للزوجة المستطيعة

مسألة 98- الظاهر عدم الخلاف بينهم في أن الزوجة المستطيعة تجب عليها حجة الإسلام و لا يشترط في وجوبها عليها إذن الزوج.

و ذلك لعدم وجوب إطاعة الزوج عليها إذا كانت معصية للخالق، فليس وجوب واحد من الواجبات المجعولة علي المكلفين بالجعل الإلهي الأولي مشروطاً

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 336

بإذن المخلوق و «لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق» بترك هذه الواجبات، فأدلة هذه الواجبات بعمومها تشمل الجميع: الولد و الوالد و الزوج و الزوجة.

نعم، فيما هي تجعل علي نفسها بالنذر و العهد و اليمين و الإجارة و غيرها لا يجوز جعله مطلقاً أو في خصوص ما كان منافياً لحق الزوج عليها.

لا يقال: إن علي القول بمنع الواجب الشرعي من حصول الاستطاعة و إنه كالمانع العرفي و العقلي لا تحصل لها الاستطاعة بدون

إذن زوجها، و هذا بخلاف سائر الواجبات، مثل الصوم و الصلاة فإن وجوبها عليها ليس مشروطاً بالاستطاعة الشرعية أو العرفية، فيتحقق فيها بتركها إطاعةً للزوج معصية الخالق، أما في الحج فحيث إنه مأخوذ في دليله اشتراط وجوبه بالاستطاعة التي لا تتحقق إلّا بعدم المانع الشرعي و العقلي لا موضوع لمعصية الخالق فيه.

فإنه يقال: إن هذا الإشكال إنما يرد علي القول بالاستطاعة الشرعية بمعني كون وجوب الحج مشروطاً بعدم واجب عليه مطلقاً، و نحن إنما قلنا بالاستطاعة العرفية المتحققة للزوجة و إن لم يأذن لها زوجها فلا يرد هذا الإشكال علي هذا القول، و لا علي قول من يقول بالاستطاعة الشرعية المفسرة في الأحاديث بتخلية السرب و صحة البدن و وجود الزاد و الراحلة.

و كيف كان فالعمدة في المسألة الأحاديث المعتبرة.

فمنها: ما رواه الشيخ: عن موسي بن القاسم، عن عبد الرحمن «1»، عن علاء، عن محمد (يعني ابن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن امرأة لم تحج و لها زوج و أبي أن يأذن لها في الحج، فغاب زوجها فهل لها أن تحج؟ قال عليه السلام: لا

______________________________

(1)- ابن أبي من السادسة نجران ثقة ثقة، له كتب كثيرة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 337

طاعة له عليها في حجة الإسلام». «1»

و منها: ما رواه عن محمد بن الحسين، عن علي بن النعمان، عن معاوية بن وهب، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: امرأة لها زوج فأبي أن يأذن لها في الحج و لم تحج حجة الإسلام فغاب عنها زوجها و قد نهاها أن تحج؟ فقال: لا طاعة له عليها في حجة الإسلام و لا كرامة، لتحج إن شاءت». «2»

و منها: ما رواه الصدوق بإسناده عن

أبان، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن امرأة لها زوج و هي صرورة و لا يأذن لها في الحج؟ قال: تحج و إن لم يأذن لها». «3» و غيرها من سائر الأحاديث.

فعلي هذا لا شبهة في هذا الحكم سواء استقر الحج عليها أو كانت أول سنة استطاعتها.

هذا بالنسبة إلي حجة الإسلام، و هل يجوز له أن يمنعها من الخروج مع الرفقة الاولي؟ يمكن أن يقال بعدم جواز ذلك له، لدلالة هذه الأخبار علي أن لها أن تحج مطلقاً، فلها السفر إليه و إن اختارت الخروج مع الرفقة الاولي. و يمكن أن يقال: إن الجمع بين الحقَّين يقتضي جواز منعها، مضافاً إلي أن الأحاديث ليست إلا في مقام بيان عدم جواز إطاعته في ترك حجة الإسلام.

ثمّ إنّ الظاهر كون المطلّقة الرجعية كالزوجة في عدم اشتراط إذن الزوج لها في حجة الإسلام فتجب عليها و إن نهاها عنها زوجها، و ارسل هذا الحكم علي ما في المستمسك إرسال المسلَّمات.

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام: 5/ 400 ح 37.

(2)- تهذيب الأحكام: 5/ 474 ح 317.

(3)- من لا يحضره الفقيه: 2/ 268 ح 1305.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 338

و يدل عليه ما رواه الشيخ بإسناده، عن أحمد بن محمد بن عيسي، عن أبي عبد اللّه البرقي، عمن ذكره، عن منصور بن حازم «1» قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن المطلقة تحج في عدتها؟ قال: إن كانت صرورة حجت في عدتها، و إن كانت قد حجت فلا تحج حتي تقضي عدتها». «2»

و التعبير عنه بالصحيح عن البعض و نسبة روايته إلي الفقيه وهم، و الخبر كما تري مرسل و لم يروِه الصدوق في الفقيه، و إنما رواه

الشيخ في التهذيب و الاستبصار مرسلًا.

و يدل عليه بالإطلاق أو بحمله علي خصوص من لم تحج حجة الإسلام و هي مستطيعة ما رواه الصدوق: بإسناده، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: «المطلقة تحج في عدتها». «3»

و لكن هنا رواية رواها الشيخ بإسناده عن موسي بن القاسم، عن صفوان عن معاوية بن عمار فيها: و قال (يعني أبا عبد اللّٰه عليه السلام): «لا تحج المطلقة في عدتها» «4» لكنها محمولة علي الحج المندوب من غير إذن الزوج.

فإن قلت: خبر منصور بن حازم لا يحتج به لإرساله، فنبقي نحن و صحيح محمد ابن مسلم و صحيح معاوية بن عمار، و هما بظاهرهما متعارضان، و لكن صحيح معاوية ابن عمار موافق لإطلاق الآية المباركة: «لٰا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لٰا يَخْرُجْنَ» «5».

قلت: إنا نعلم أن كليهما غير مرادين بظاهرهما، أما «المطلقة تحج في عدتها»

______________________________

(1)- من الخامسة من أجلة أصحابنا.

(2)- تهذيب الأحكام: 5/ 402 ح 45.

(3)- من لا يحضره الفقيه: 2/ 269 ح 1311.

(4)- تهذيب الأحكام: 5/ 401.

(5)- الطلاق/ 1.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 339

فظاهرها أنها تحج حتي بغير إذن زوجها، و لا ريب في أنه ليس لها الحج المندوب بغير إذن زوجها فدلالته نص في الحج الواجب. و أما «لا تحج المطلقة في عدتها» فظاهرها أنها لا تحج في عدتها و لو بإذن زوجها و هو بظاهره غير معمول به، فيكون ظاهراً في عدم جواز حجها بغير إذن زوجها و يكون نصاً في الحج المندوب و ظاهراً في الحج الواجب، فنترك ظاهر «لا تحج» في الحج الواجب بنص «تحج في عدتها».

و بعبارةٍ اخري: نجمع بينهما بالأخذ بما هو كل منهما نص فيه و

نترك ظاهر كل منهما بنص الآخر، و هذا جمع مقبول لدي العرف.

هذا، و لا يجوز للزوجة الحج المندوب بدون إذن زوجها، و هكذا المعتدة بالعدة الرجعية علي إشكال في جوازه لها إن أذن لها.

و أما المعتدة عدة الوفاة فيجوز لها الحج، واجباً كان أو مندوباً، و يدل علي ذلك الموثق الذي رواه الشيخ بإسناده، عن موسي بن القاسم، عن أبي الفضل الثقفي «1»، عن داود بن حصين «2»، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سألته عن المتوفّي عنها زوجها؟ قال: تحج و إن كانت في عدتها».

و الموثّق الآخر بإسناده، عن موسي بن القاسم، عن عبد اللّه بن بكير «3»، عن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن المرأة التي يتوفي عنها زوجها أ تحج؟ فقال عليه السلام:

نعم» «4»

و أما المعتدة عدة بائنة فهي في حكم الأجنبية تحج متي شاءت، قال في الحدائق: (و لم أقف علي رواية في ذلك، إلّا أنّ الظاهر أنه لا إشكال في الحكم

______________________________

(1)- العباس بن عامر الصدوق الثقة، من الطبقة السادسة.

(2)- واقفي، ثقة من الخامسة.

(3)- فطحي، إلّا أنه ثقة، من الخامسة.

(4)- وسائل الشيعة: ب 61 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 2.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 340

المذكور؛ لانقطاع سلطنته عليها، و انقطاع العصمة بينهما، و صيرورته أجنبياً منها فيكون كسائر الأجانب) «1».

[مسألة 99] أذن الزوج للزوجة في الحجّ الواهب بالنذر

مسألة 99 ألحَقَ في العروة بحجة الإسلام في عدم اشتراط إذن الزوج للزوجة الحج الواجب بالنذر و نحوه إذا كان مضيقاً، فيشترط إذنه في الموسّع قبل تضيّقه.

أقول: هذا يكون إذا نذرت الحج بإذن الزوج فهو حينئذٍ يكون كحجة الإسلام لا يشترط فيه إذن الزوج، إلّا إذا كان موسعاً فيشترط فيه إذنه قبل ضيق الوقت، فالحكم

فيه حكم الصلاة في أول الوقت أو وسطه فإن للزوج منعها منه إذا زاحم حقه دون آخر الوقت.

نعم، الفرق بين مثل الصلاة و الحج: أنّ الصلاة لا تشترط بإذن الزوج، فإن أتت بها و زوجها غائب عنها أو لم يمنعها تصح منها و إن كان له منعها عنها حتي عن إتمامها، و في الحج يشترط فيه إذن الزوج، لأنه لا يجوز لها الخروج من بيتها إلّا بإذن زوجها.

فقد روي الكليني رحمهم الله في الصحيح: عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية «2»، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «جاءت امرأة إلي النبي صلي الله عليه و آله فقالت: يا رسول اللّٰه، ما حق الزوج علي المرأة؟ فقال:

(لها) أن تطيعه و لا تعصيه، و لا تصدّق من بيته إلّا بإذنه، و لا تصوم تطوّعاً إلّا بإذنه،

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة: 14/ 147.

(2)- من الثقات و من الطبقة الخامسة، له كتاب.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 341

و لا تمنعه نفسها و إن كان علي ظهر قتب، و لا تخرج من بيتها إلّا بإذنه، و إن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء و ملائكة الأرض و ملائكة الغضب و ملائكة الرحمة حتي ترجع إلي بيتها، فقالت: يا رسول اللّٰه، من أعظم الناس حقاً علي الرجل؟ قال:

والده، فقالت: يا رسول اللّٰه، من أعظم الناس حقاً علي المرأة؟ قال: زوجها، قالت:

فما لي عليه من الحق مثل ماله عليّ؟ قال: لا، و لا من كل مائة واحدة، قال: فقالت:

و الذي بعثك بالحق نبياً لا يملك رقبتي رجل أبداً». «1»

و ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه قال: «سألته عن المرأة

أ لها أن تخرج بغير إذن زوجها؟ قال عليه السلام: لا» الحديث. «2»

و في خبر عمرو بن جبير العرزمي عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله:

« … و لا تخرج من بيتها إلا بإذنه (بغير إذنه)». «3»

و في حديث المناهي: «نهي رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله أن تخرج المرأة من بيتها بغير إذن زوجها، فإن خرجت لعنها كل ملك في السماء و كل شي ء تمرّ عليه من الجن و الإنس حتي ترجع إلي بيتها». «4»

فعلي هذه الأحاديث الشريفة لا يجوز لها الخروج من بيتها للحج الواجب بغير إذن زوجها إلّا إذا تضيق وقته، و أما في سعة الوقت فيشترط إذنه فيه.

هذا كلّه إذا نذرت بإذنه، أما إن نذرت بغير إذنه فلا ينعقد نذرها، بل إن نذرت قبل أن تزوج فإن لم يأذن لها الزوج يكشف ذلك عن عدم انعقاد نذرها، لأن صحته مشروطة بكون الفعل المنذور راجحاً حين العمل.

______________________________

(1)- الكافي: 5/ 506 ح 1.

(2)- وسائل الشيعة: ب 79 من أبواب مقدمات النكاح ح 5.

(3)- وسائل الشيعة: ب 79 من أبواب مقدمات النكاح ح 1.

(4)- من لا يحضره الفقيه: 4/ 3 ح 1.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 342

و هل يجب عليها الاستئذان منه؟ الظاهر عدم الوجوب؛ لأنّ الحج مستلزم لخروجها عن بيتها و هو محرَّم عليها في حالها الذي هي عليه و هو حال عدم إذنه لها، و الاستئذان منه تحصيل لما هو شرط للوجوب و لانعقاد النذر.

اللهمّ إلّا أن يقال: كما أن الناذر إذا نذر- مثلًا- الحج مع زيدٍ يجب عليه إحجاجه إن أمكن و الحج معه فكذلك المرأة إن نذرت الحج في كلَّ سنةٍ و

كان مقدوراً لها بالاستئذان من الزوج و لو بإرضائه بإعطائه مالًا كثيراً يجب عليها ذلك.

[مسألة 100] هل تتوقّف استطاعة المرأة للحج علي وجود مَحرَمٍ معها؟

مسألة 100- هل حصول الاستطاعة إلي الحج للمرأة يتوقف علي وجود المحرم لها، فمن لم يكن لها محرم ليست بمستطيعة عرفاً، سيما إذا كانت شابة و كانت المسافة بعيدة؟

الظاهر عدم توقفها عليه بقول مطلق، بل يختلف بحسب الأشخاص و الأحوال و الأزمنة، فتوقف استطاعة كل امرأة علي وجود المحرم و عدمه يختلف عند العرف حسب هذه الجهات، فإذا كانت ممن لا تحتاج إلي المحرم يجب عليها الحج بدونه و إن كان ذلك لوجود بعض الثقات أو جمعٍ من النساء معها في السفر، أو كانت بنفسها غير محتاجة إليه، و إذا كانت ممن تحتاج إليه يكون ذلك لها بمنزلة الزاد و الراحلة، فإن كانت واجدة له مجاناً أو متمكنةً من أداء نفقته يجب عليها الحج، و إلّا لا يجب لعدم الاستطاعة.

و هذا- مضافاً إلي كونه علي حسب القاعدة- مستفاد من الروايات:

مثل ما رواه الصدوق- رحمه اللّٰه تعالي- بإسناده الصحيح إلي البزنطي عن

صفوان الجمال قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: قد عرفتني بعملي، تأتيني المرأة

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 343

أعرفها بإسلامها و حبها إياكم، و ولايتها لكم ليس لها محرم، قال: إذا جاءت المرأة المسلمة فاحملها، فإن المؤمن محرم المؤمنة، ثمّ تلا هذه الآية: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ». «1»

و ما رواه الكليني رحمهم الله عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد «2» عن هشام بن سالم «3» عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في المرأة تريد الحج ليس معها محرم هل يصلح لها الحج؟ فقال

عليه السلام:

نعم، إذا كانت مأمونة». «4»

و ما رواه الشيخ رحمهم الله في الصحيح: بإسناده عن صفوان، عن معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن المرأة تحج إلي مكة بغير ولي؟ فقال عليه السلام: لا بأس، تخرج مع قومٍ ثقات». «5»

و ما رواه أيضاً بإسناده، عن صفوان عن معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المرأة تحج بغير ولي؟ قال: لا بأس، و إن كان لها زوج أو أخ أو ابن أخٍ فأبوا أن يحجوا بها و ليس لهم سعة فلا ينبغي لها أن تقعد، و لا ينبغي لهم أن يمنعوها … » حديث «6». و غيرها من الأخبار فراجع.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 58 من أبواب وجوب الحج ح 1.

(2)- كوفي ثقة صحيح الحديث من السادسة.

(3)- صحيح الولاية معروف العقيدة من الخامسة.

(4)- وسائل الشيعة: باب 58 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 2.

(5)- وسائل الشيعة: ب 58 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 3.

(6)- وسائل الشيعة: ب 58 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 4، و لفظ التهذيب: «فلا ينبغي لها أن تقعد عن الحج، و ليس لهم أن يمنعوها» و لفظه في الكافي: 4/ 282: «سألته عن المرأة تخرج مع غير ولي؟ قال: لا بأس فإن كان لها زوج أو ابن (أو) أخ قادرين علي أن يخرجا معها و ليس لها سعة فلا ينبغي لها أن تقعد، و لا ينبغي لهم أن يمنعوها».

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 344

و لا فرق في ذلك بين كونها ذات بعل أولا، نعم إذا لم تكن بذات بعل و لم تكن لها محرم أو كان ممتنعاً من مصاحبتها أو

لم يكن متمكنة من أداء نفقته و كانت محتاجة إلي المحرم هل يجب عليها التزويج تحصيلًا للمحرم؟ الظاهر عدم الوجوب لكون ذلك من تحصيل الاستطاعة، كما أنه لا يجب عليها التزويج بصداق تستطيع معه، و قياس ذلك بوجوب استصحاب المحرم إذا كان لها كأنه مع الفارق لأنه حاصل لها و هذا تحتاج إلي تحصيله.

[مسألة 101] إذا ادّعي الزوج وجود خوفٍ علي الزوجة و أنكرت هي

مسألة 101 قال الشهيد- رفعت درجته-: (فلو ادّعي الزوج الخوف و أنكرت عمل بشاهد الحال أو بالبينة، فإن انتفيا قدم قولها، و الأقرب أنه لا يمين عليها، و لو زعم الزوج أنها غير مأمونةٍ علي نفسها و صدّقته فالظاهر الاحتياج إلي المحرم، لأن في رواية أبي بصير و عبد الرحمن: تحج بغير محرم إذا كانت مأمونة، و إن كذّبته و أقام بينةً بذلك أو شهدت به القرائن فكذلك، و إلّا فالقول قولها، و هل يملك الزوج محقاً منعها باطناً؟

نظر). «1»

أقول: يقع الكلام حول ما ذكره في موارد:

الأول: أن يدّعي الزوج خوفه عليها دون أن يدّعي خوفها علي نفسها، و لا ريب أنه لا يسمع دعواه، لأنه لا يترتب عليه- علي فرض إثباته- أثر، كما لا يترتب أثر علي خوف غيره من الأب و الأخ و الابن عليها أيضاً، نعم، له أن يصاحبها إن شاء.

______________________________

(1)- الدروس الشرعية: 1/ 315.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 345

الثاني: أن يدعي الزوج خوفها علي نفسها مع ادّعائها الأمن و عدم الخوف، فالزوج يدعي عليها ما تنكره.

و فيه يمكن أن يقال: إن المانع من حصول الاستطاعة إن كان هو الخوف النوعي فيمكن أن يقع النزاع فيه بين الزوجين بإنكاره من الزوجة و ادعائه من الزوج، فعلي الزوج إثباته، و إلّا فالزوجة و تكليفها، لأنها تري عدم ذلك، و

ليس للزوج تحليفها إلّا أن يدعي عليها أنها تري ذلك، أي الخوف النوعي.

و أما إن كان الملاك في حصول الاستطاعة عدم الخوف الشخصي فإثباته حيث إنه من الكيفيات النفسانية و لا يعلم إلّا من قبلها مشكل. نعم، له أن يحلِّفها علي عدم خوفها إن كان مدّعياً كذبها.

الثالث: ظاهر كلام الشهيد- أعلي اللّٰه درجته- التأمل في جواز منع الزوج (إذا يري نفسه محقاً) الزوجة عن الحج باطناً بعد رفع الأمر إلي الحاكم و حكم الحاكم للزوجة بحلفها علي الزوج. فالمبحوث عنه في المسألة: أن الزوج إذا ادّعي خوف المرأة علي نفسها و كذبها في دعوي كونها آمنةً، و أحلفها لمَّا لم يتمكن من إثبات دعواه بالبينة فهل يجوز له بعد ذلك حيث يري نفسه محقاً الأخذ بحقه باطناً فيمنعها باطناً من الخروج إلي الحج، أم لا؟.

يمكن أن يكون وجه التأمل في جواز المنع أن جواز أخذ المحق بحقه باطناً إنما يكون إذا حكم الحاكم بالبينة أو بعلمه، لا بحلف المدعي أو المدعي عليه، و في المقام بعد ما لم يقم الزوج المدعي البينة و أحلف الزوجة لا يجوز له منعها باطناً، كما هو الحال في سائر موارد حكم الحاكم باليمين.

هذا، مضافاً إلي أن الحكم بجواز أخذ المحق حقه باطناً في مورد الحكم بالبينة إنما يكون إذا أمكن للمحق أن يأخذ حقه عيناً أو مقاصّةً باطناً و من غير أن يلتفت به من عليه الحق فلا يرد به حكم الحاكم خارجاً و ظاهراً، أما في مسألتنا هذه فمنع

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 346

الزوجة عن الحج و حبسها عنه لا يمكن تحققه بغير التفاتٍ منها، فيتحقق به رد حكم الحاكم.

اللهمّ إلّا أن يكون المراد من منعها منعها ببعض

التمهيدات، مثل أن يعمل ما لا تتمكن به من السفر حتي تسقط من الاستطاعة، و الظاهر أن ذلك يجوز له و لغيره، و هذا غير ما نبحث عنه في هذه المسألة.

[مسألة 102] إذا حجَّت المرأة مع عدم الأمن

مسألة- 102 إذا حجت المرأة بلا مَحرم مع عدم الأمن: فإن كان ذلك في الطريق إلي الميقات فلا ريب في صحة حجها بعد الوصول إلي الميقات و أمن الطريق فيما بعد الميقات، لأنها إما كانت متمكنة من استصحاب المحرم و حجت بدونها فهي كانت مستطيعة للحج باقية عليها بعد الوصول إلي الميقات و إن عصت بالخروج بلا محرم، و إن لم تكن متمكنة منها فهي كانت قبل وصولها إلي الميقات غير مستطيعة، و لكن بعد وصولها إليه و زوال خوفها و استغنائها عن المحرم تصير مستطيعة.

و إن كان عدم الأمن لها من الميقات فالظاهر فساد حجها؛ لحرمة أعمالها من الوقوف في عرفات و المشعر و غيره، فإن كانت متمكنة من استصحاب المحرم و لم تفعل أ تستقرّ عليها الحج، و يجب عليها أن تحجَّ في القابل و لو متسكعة، و إن لم تكن متمكنة من استصحاب المحرم فوجوب الحج عليها في السنة الآتية يدور مدار استطاعتها له.

هذا إذا كان الخطر و عدم الأمن موجوداً في الواقع، و أما إذا ظهر بعد ذلك عدم الخوف و فرض تمشّي قصد القربة فيمكن أن يقال: إن المشروط عليه في

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 347

وجوب الحج هو الاستطاعة الواقعية التي تحصل بعدم وجود الخطر في الواقع، و إن شئت قلت: بوجود الأمن الواقعي و الخوف يكون طريق إلي وجود الخطر أو عدم وجود الأمن، فإذا حجت و الحال هذا حجت مستطيعةً و مع الأمن الواقعي «1».

و استشهد لذلك

بقوله عليه السلام في صحيح معاوية بن عمار المتقدم: «عن المرأة تحج إلي مكة بغير وليّ؟ فقال: لا بأس تخرج مع قوم ثقات»، حيث يستفاد منه أنها إذا خرجت مع قوم ثقات لا خطر لها، و كونهم ثقات طريق إلي عدم الخطر، و ليس كونهم كذلك موضوعاً للحكم.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ الخوف من عدم أمن الطريق إذا كان عقلائياً مانع من حصول الاستطاعة عرفاً، فإن العرف لا يري من يخاف من الخطر في الطريق مستطيعاً واقعاً، و إن لم يكن في الطريق خطر واقعاً يذم سالك هذا الطريق، و ليس ذلك مثل من لا يري نفسه مستطيعاً مالًا أو طريقاً و حج ثمّ انكشف استطاعة. و أما قوله عليه السلام: «لا بأس تخرج مع قوم ثقات» فإشارة إلي أنها لا تخاف إذا خرجت مع

قوم ثقات. هذا. و أمّا توهّم صحة حجها في هذا الفرض بالترتب حيث إن المقام وارد في باب التزاحم، و لا بد من إعمال قواعد بابه و تقديم الأهم- و هو في المقام عدم الخروج- علي المهِمّ إلّا أن في فرض العصيان و إتيان الحج يحكم بصحته بناء علي الترتب.

ففيه: أنّ الاستطاعة علي ما قلناه لا تتحقق مع عدم أمن الطريق، فما هو موضوع لحرمة الخروج مشروط علي عدمه تحقق الاستطاعة و وجوب الحج.

و التزاحم يقع بين فعلين كواجبين أو واجب و حرام، فبعد ملاحظة الأهم منهما يجري الترتب في صورة عصيان الأهم منهما أو بنسيانه و إتيان المهم، و في المقام

______________________________

(1)- كما قال في معتمد العروة: 1/ 268.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 348

ما يأتي به المكلف مصداق للحرام، فلا يمكن أن يكون مصداقاً للواجب حتي يأتي به بالأمر الترتّبي.

إلا

أن يقال تتميماً للترتب: لو حجت بدون المحرم مع إمكان استصحابه فمع أمن الطريق يمكن صحة حجها بالأمر الترتبي.

[مسألة 103] البحث في الحج المستقر

مسألة 103- قال في العروة: (إذا استقر عليه الحج بأن استكملت الشرائط و أهمل حتي زالت أو زال بعضها صار ديناً عليه و وجب الإتيان به بأيِّ وجهٍ تمكن، و إن مات فيجب أن يقضي عنه إن كانت له تركة، و يصحّ التبرّع عنه).

أقول: الظاهر أن مراده من استكمال الشرائط حصول الاستطاعة الفعلية له، و المراد من زوالها زوال تمام ماله دخل في حصولها، و من زوال بعضها بعض ذلك كتخلية السرب أو ذهاب المال.

و أما صيرورته ديناً عليه يجب الإتيان به بأي وجه تمكن فالدليل عليه ما قدمناه من دلالة الآية الكريمة علي وجوب الحج لحصول الاستطاعة له إلي تمام المناسك، فلا يستفاد منه اعتبار حال الاستطاعة في وقوع الحج، و علي هذا إن أتي به في حال الاستطاعة فهو، و إلّا فيجب أن يأتي به بعده.

و تدل علي ذلك مضافاً إلي الإجماع الروايات، فلا يقاس المستطيع بالمسافر و الحاضر ليرتفع الوجوب بزوال موضوعه، لأن السفر مأخوذ في موضوع حكم القصر، فلا يحتمل من مثل «المسافر يجب عليه القصر و الحاضر يجب عليه الإتمام» إلا تنويع التكليف بحسب الحالين.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 349

مضافاً إلي أنه يمكن أن يقال بوجوب القصر علي المسافر بالسفر فلا يسقط عنه صلاته إن لم يأت بها في السفر. نعم، بالنسبة إلي حاله الحضري لا يجب عليه القصر؛ لأنه موضوع لوجوب الإتمام.

و كيف كان فوجوب الحج عليه مورد الاتفاق و الإجماع، و الظاهر من قوله:

(بأيّ وجه تمكن) ليس مراده و إن صار حرجياً عليه، بل المراد أنه يجب عليه و

لو ماشياً و فاقداً للاستطاعة المشروط عليها أصل وجوب الحج.

و أما وجوب القضاء عنه إن كانت له تركة فثابت بالنصوص المعتبرة، كما أنه يكفي التبرع عنه؛ لعدم الدليل علي دخل الاستئجار في فراغة ذمته، بل إنما يلتزم لتفريغ ذمته، فإن حصل بالتبرع فقد برئت ذمته.

ثمّ إنّ الأقوي استقرار الحج عليه إذا بقيت استطاعته المالية و السربية و البدنية إلي زمانٍ يمكن له العود إلي وطنه. (نعم، في مثل بقاء العقل و الحياة يكفي بقاؤهما إلي زمانٍ يمكن فيه الإتيان بجميع أفعاله مستجمعاً لجميع الشرائط، و هو إلي اليوم الثاني عشر من ذي الحجة) و ذلك لأنه لو لم يكن مستطيعاً للذهاب إلي الحج و العود إلي وطنه لم يجب عليه الحج، فمن كان عالماً بأن استطاعته تختلّ بعد الإتيان بأركان الحج أو بعد تمام الأعمال و لا يتمكن من العود لا يجب عليه الحج، فليكن الجاهل بذلك أيضاً كذلك.

غاية الأمر أن يقال في خصوص من ترك الذهاب إلي الحج و مات في زمان يكفي لذهابه و دخوله في الحرم محرماً: إنه يستقر به الحج عليه فيقضي عنه من تركته، إلّا أنه يلزم من ذلك أن نقول بوجوب الذهاب إلي الحج إن علم موته بعد الإحرام و دخول الحرم، و قد نفي البعد عن وجوبه في هذه الصورة و عن استقراره عليه في الصورة السابقة سيد الأعاظم السيد البروجردي قدس سره.

ثمّ إنّه قد ذهب بعضهم إلي أن الحج يستقر عليه إذا بقيت استطاعته إلي حين

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 350

خروج الرفقة، فلو أهمل و ترك الخروج معهم يستقر عليه الحج و إن زالت استطاعته بعد ذلك.

و فساد هذا القول غنيّ عن البيان، فإن الحكم بوجوب الخروج

مع الرفقة حكم ظاهري يكشف بزوال الاستطاعة خلافه، و لذا لا يجب عليه الخروج إذا علم زوالها قبل خروج الرفقة و لم يخرج معهم ففات منه إدراك الحج.

و حكي عن البعض استقراره عليه إذا بقيت استطاعته إلي زمانٍ يمكن فيه الإتيان بالأركان جامعاً للشرائط.

و فيه: أنّ الاستطاعة المشروط عليها وجوب الحج معتبرة في جميع أفعال الحج و مناسكه حتي بعد الأعمال، فمثل وجود الزاد و الراحلة و تخلية السرب معتبر في إيابه كما هو معتبر في ذهابه.

و القول الآخر في المسألة ما نسب إلي المشهور، قال في الجواهر: (فالمشهور نقلًا و تحصيلًا تحققه بمضي زمان يمكن فيه الإتيان بجميع أفعال الحج مختاراً مستجمعاً للشرائط علي حسب ما مر في استقرار وجوب الصلاة، من غير فرقٍ بين الأركان و غيرها). «1»

و عن المدارك «2» و الذخيرة «3» و المستند «4» نسبة هذا القول إلي الأكثر، و ظاهر هذا القول عدم اعتبار بقاء نفقة العود و الرجوع إلي الكفاية. و استدل له بعدم الدليل علي اعتبار بقائها بعد تمامية الحج حتي يكون فقدهما بعد زمان الإتيان بالأعمال كاشفاً عن عدم وجوب الحج.

______________________________

(1)- جواهر الكلام: 17/ 298.

(2)- مدارك الأحكام: 7/ 67.

(3)- ذخيرة المعاد/ 563.

(4)- مستند الشيعة: 2/ 166.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 351

و فيه: أن الظاهر أن هذا رجوع عن اشتراط نفقة العود في حصول الاستطاعة فإن معناه اعتبار وجود نفقة العود في حال الأعمال لا بعده و للعود و هو معلوم الفساد، فالأمر يدور بين البناء علي عدم اعتبار نفقة الإياب في الاستطاعة فيجب الحج من أول الأمر بدونها و البناء علي اعتبارها في الاستطاعة، فلا بد من القول بعدم إجزائه عن حجة الإسلام و إن فقدها

بعد الأعمال.

ثمّ إنّه قال في العروة: (هذا إذا لم يكن فقد الشرائط مستنداً إلي ترك المشي و إلا استقر عليه، كما إذا علم أنه لو مشي إلي الحج لم يمت أو لم يقتل أو لم يسرق ماله مثلًا فإنه حينئذ يستقر عليه الوجوب، لأنه بمنزلة تفويت الشرط علي نفسه، و أما لو شك في أن الفقد مستند إلي ترك المشي أولًا فالظاهر عدم الاستقرار للشك في تحقق الوجوب و عدمه واقعاً).

أقول: إذا حصلت له الاستطاعة و شك في بقائها سواء خرج إلي الحج أو ترك يجب عليه الخروج إليه، و ذلك لاستقرار سيرة العقلاء و بنائهم علي بقاء سلامته، مضافاً إلي استصحاب بقائها، فلو ترك المشي و اتفق زوال الاستطاعة به لا يكون معذوراً في ترك الحج، و يشمله أخبار التسويف.

و كذا لو علم أنه إن ترك المشي يفقد الاستطاعة و شك في بقائها لو خرج يجب عليه الخروج، و لو ترك يستقر عليه الحج، و ذلك أيضاً لأصالة السلامة أو لاستصحاب بقاء الصحة. و إذا علم أنه يفقد الاستطاعة في أحد الحالين: إما في صورة خروجه إلي الحج، و إما في صورة تركه و لا يعلم الحال الذي يفقد فيه استطاعته فالظاهر أنه لا يعتني فيه بمثل أصالة السلامة.

نعم يمكن البناء علي استصحاب السلامة و الاستطاعة في صورة المشي، و لا يعارضه استصحابه في صورة الترك لعدم ترتب أثر عليه.

هذا كله في تكليفه قبل فقد الاستطاعة، و أما بعده فالظاهر أن فقدها في

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 352

صورة ترك الخروج إلي الحج لا يكشف عن عدم كونه مستطيعاً له إن خرج، فلعلّه لا يفقدها في هذه الصورة، فحاله يكون كمن علم بفقد الاستطاعة إن

ترك المشي و شك في بقائها إن خرج.

ثمّ إنه تعرَّض السيد قدس سره لفرعٍ آخر، و هو ما لو كان واجداً للشرائط حين المسير فسار ثمّ زال بعض الشرائط في الأثناء و أتم الحج علي ذلك الحال، قال: كفي حجه من حجة الإسلام إذا لم يكن المفقود مثل العقل، بل كان هو الاستطاعة البدنية أو المالية أو السربية و نحوها علي الأقوي.

و فيه: أن القول بذلك محل إيراد و إشكال، سيّما في فقد ما يكون وجوده معتبراً في الاستطاعة كصحة البدن و تخلية السرب و الزاد و الراحلة و غيرها مما قلنا إنه معتبر في حصولها مثل نفقة العود، فإن زوال مثل هذه الشرائط في الأثناء يكشف عن عدم الاستطاعة، و فيما إذا كان وجوب الحج مزاحماً بواجب آخر كان أهم من الحج فتحقق ذلك في الأثناء فهو يكشف عن عدم فعلية وجوب الحج من الأول، و عدم وجوب إتمامه إلّا بالأمر الترتبي و في ما هو مانع من الوجوب من جهة الحرج، فحدوث الحرج في أثناء العمل رافع لوجوب إتمامه و كاشف عن عدم وجوبه من الأول.

نعم، إذا كان الحج حرجياً و لم يلتفت إليه و أتي به و زال الحرج في الأثناء يتم حجه، لأن رفع الحرج امتناني لا يشمل رفع الحكم بعد العمل.

هذا حكم المسألة فيما إذا زال بعض الشرائط في الأثناء، و أما إذا زالت الاستطاعة بعد الأعمال و قبل العود إلي الوطن فالمسألة لا تخلو من إشكال، من جهة أن الحكم بعدم الإجزاء و وجوب حجة الإسلام ثانياً كأنه مخالف للارتكاز و لسماحة الشريعة السهلة السمحة.

و يمكن أن يوجَّه الإجزاء: بأنّ المعتبر في وقوع الحج حجة الإسلام أن تقع

فقه الحج

(للصافي)، ج 1، ص: 353

المناسك في حال وجود الاستطاعة التي منها القدرة علي العود إلي الوطن، من صحة البدن، و تخلية السرب، و وجود المال و لو بالحكم الظاهري.

و بعبارةٍ اخري: نقول- في الاستطاعة المعتبرة في وجوب الحج بالنسبة إلي مئونة العود و الرجوع إلي الكفاية- بالاستطاعة الظاهرية المحرزة حال الإتيان بالمناسك، فلا يضرّ كشف خلافها بعد الإتيان بالمناسك، و هذا هو المناسب للحكم و الموضوع، و هكذا نقول بالنسبة إليها في حال الإتيان بالمناسك.

فنقول: إنه يجب أن يكون في حال الإتيان بكلٍّ منها محرزاً لبقاء استطاعته إلي العود إلي وطنه، فإذا زالت استطاعته في الأثناء يكشف عن عدم إجزائه عن حجة الإسلام، لا لعدم وقوع ما وقع في حال عدم الشرطُ بل لعدم إمكان وقوع ما بقي بالشرط، فلا يجزي الجميع عن حجة الاسلام، و هذا وجه، بخلاف ما يختل من شرائط الاستطاعة بعد الأعمال فإنه نرجع في وجوب الحج ثانياً إذا حصلت الاستطاعة من جديد بالبراءة، فالإجزاء إذا زال بعض الشرائط في الأثناء بحيث يقع بعضه الآخر فاقداً للاستطاعة الظاهر أنه لا وجه له، و الوجه في المسألة التفصيل بين الأثناء و بعد العمل.

و لكن يمكن الإشكال و الإيراد فيما ذكر بمنافاة القول بالإجزاء إذا زالت الاستطاعة بعد العمل و قبل العود إلي وطنه مع الالتزام بعدم وجوب الحج إن لم يخرج و زالت استطاعته للعود بعد اليوم الثاني عشر، و يدفع ذلك بالفرق بين الصورتين ففي: الصورة التي أتي بالأعمال ثمّ زالت استطاعته للعود عمل بالحكم الظاهري، و مقتضاه كون عمله مجزياً عن الواقع لا أن يكون مراعيً بظهور الحال إلي أن يعود، فإنّ مقتضي الجمع بين هذا الحكم و ما يدل علي

اعتبار الاستطاعة في وجوب حجة الإسلام و وقوعها هو أن ما أتي به بالحكم الظاهري فرد لحجة الإسلام، نظير من أتي بالصلاة بغير السورة عملًا بالحكم الظاهري فإنها تجزيه بعد

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 354

كشف الخلاف، أما إذا لم يعمل بالحكم الظاهري فهو و تكليفه يجب عليه الصلاة مع السورة.

و في المقام أيضاً إن لم يخرج و زال استطاعته للعود بعد اليوم الثاني عشر و إن لم يستقر عليه الحج إلّا أنه إن صار مستطيعاً يجب عليه أن يحج، بخلاف صورة إتيانه بالحج و زوال استطاعته للعود بعد الأعمال فإنه علي هذا إن صار مستطيعاً بعد ذلك لا يجب عليه الحج، فتأمّل و تدبّر. و اللّٰه تعالي هو العالم.

[مسألة 104] لا فرق في استقرار الحج بين أقسامه

مسألة 104- الظاهر أنه لا فرق بين أقسام الحج من التمتع و القران و الإفراد في استقراره علي المستطيع إذا أهمل و ترك الحج حتي زالت استطاعته، فيجب عليه الإتيان به بأيّ وجهٍ تمكن، و كذا في وجوب القضاء من تركته إذا لم يأتِ به حتي مات؛ و ذلك لشمول الأدلة لها علي السواء.

و هل الحكم في من استطاع للحج فقط كالذي وظيفته حج الإفراد أو القران و في من استطاع للعمرة فقط أي عمرة القران و الإفراد، بل العمرة الواجبة علي النائي إذا استطاع لها و لم يستطع للحج التمتع علي القول بوجوبها كذلك فتستقر علي هؤلاء الحج أو العمرة إن استطاعوا لخصوص الحج أو للعمرة؟

الظاهر أن حكمهم و حكم من استطاع للنسكين سواء، فكما لا فرق في حصول الاستطاعة لواحد من النسكين أو لهما في الوجوب فيجب عليه ما استطاع له إذا استطاع لواحد منهما و يجب عليه النسكان إذا استطاع لهما يستقر عليه

النسكان أيضاً كذلك، فمن أتي بأحدهما و ترك الآخر و هو مستطيع لهما حتي زالت استطاعته يستقر عليه ما تركه.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 355

و أما ما قيل من أن نفس الروايات الدالة علي استقرار حجة الإسلام تشمل العمرة المفردة لحج القران و الإفراد، «1» فإن اريد أن منها يستفاد عدم كفاية الإتيان بالحج لمن استقر عليه القران أو الإفراد بل تستقر عليه عمرتها أيضاً لاستطاعته لهما فهو صحيح، و إن اريد منه أن الاستطاعة لأحدهما (الحج أو العمرة) و تركه حتي زالت الاستطاعة له موجب لاستقراره عليه فهو أول الكلام.

نعم، علي البناء علي كفاية حصول الاستطاعة الباقية إلي تمام العمل في الوجوب يستقر عليه ما استطاع له، و بالجملة: العرف لا يفرِّق في هذه الأحكام بين الموارد المذكورة.

و استدل علي وجوب قضاء العمرة كالحج بصحيح زرارة الذي تقدم الكلام فيه مفصلًا، و فيه: «قلت: إن مات و هو محرم قبل أن ينتهي إلي مكة، قال: يحج عنه إن كان حجة الإسلام و يعتمر، إنما هو شي ء عليه».

[مسألة 105] الحجّ المستقرّ عن الميت من أصل تركته

مسألة 105- قال المحقق: (إذا استقر الحج في ذمته ثمّ مات قضي عنه من أصل تركته). «2»

و قال في الجواهر: (كسائر الديون لا من الثلث، بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه أيضاً، خلافاً لأبي حنيفة و الشعبي و مالك و النخعي). «3»

و قال الشيخ في الخلاف: (من استقر عليه وجوب الحج فلم يفعل و مات

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 259.

(2)- شرايع الإسلام: 1/ 165.

(3)- جواهر الكلام: 17/ 314.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 356

وجب أن يحج عنه من صلب ماله، مثل الدين و لم يسقط بوفاته، هذا إذا أخلف مالًا، فإن لم يخلف مالًا كان وليّه

بالخيار في القضاء عنه، و به قال الشافعي و عطاء و طاووس. و قال أبو حنيفة و مالك: يسقط بوفاته، بمعني أنه لا يفعل عنه بعد وفاته و حسابه علي اللّٰه حين يلقاه، و الحج في ذمته، و إن كان أوصي حُجَّ عنه من ثلثه و يكون تطوعاً لا يسقط الفرض به عنه، و هكذا يقول في الزكوات و الكفارات و جزاء الصيد كلها تسقط بوفاته و لا تفعل عنه بوجه، دليلنا: إجماع الفرقة، و الأخبار التي ذكرنا في الكتاب الكبير، و يدل عليه خبر الخثعمية أيضاً). «1»

أقول: من الروايات: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديثٍ قال عليه السلام:

«يقضي عن الرجل حجة الإسلام من جميع ماله». «2»

و صحيح محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل مات و لم يحج حجة الإسلام يحج عنه؟ قال: نعم». «3»

و صحيحته الاخري: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل مات و لم يحج حجة الإسلام و لم يوصِ بها أ يقضي عنه؟ قال: نعم». «4»

و الظاهر أنهما رواية واحدة- و إن اشتمل الأخيرة علي جملة «و لم يوصِ بها» رواهما النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن محمد بن مسلم.

و منها: موثقة سماعة بن مهران قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يموت و لم يحج حجة الإسلام و لم يوصِ بها و هو موسر؟ فقال: يحج عنه من صلب ماله لا

______________________________

(1)- الخلاف: 1/ 374.

(2)- وسائل الشيعة: ب 28 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 3.

(3)- المصدر السابق: ح 2.

(4)- المصدر السابق: ح 5.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 357

يجوز غير ذلك». «1»

و منها: صحيح معاوية بن عمار،

قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يموت و لم يحج حجة الإسلام و ترك مالًا؟ قال: عليه أن يحج عنه من ماله رجلًا صرورة لا مال له». «2» و غيرها من الأخبار فراجع الوسائل.

و ما هو ظاهر أو صريح في الوجوب هو صحيح الحلبي و موثقة سماعة و صحيح معاوية بن عمار، و أما غيرها فيمكن الخدشة في دلالته بأن المراد منه بيان المشروعية، إلا أنه يكفي في الحكم الثلاثة المذكورة.

و لا يعارض هذه الأحاديث صحيح معاوية بن عمار الآخر عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجل توفي و أوصي أن يحج عنه، قال: إن كان صرورة فمن جميع المال، إنّه بمنزلة الدين الواجب، و إن كان قد حج فمن ثلثه، و من مات و لم يحج حجة الإسلام و لم يترك إلا قدر نفقة الحمولة و له ورثة فهم أحق بما ترك، فإن شاءوا أكلوا، و إن شاءوا حجوا عنه». «3»

لعدم دلالته علي عدم وجوب القضاء مطلقاً، بل يدل علي عدم الوجوب إذا لم يترك مالًا يكفي للحج بتمام نفقاته، أو يكون إشارة إلي عدم حصول الاستطاعة له و إنه كان فقيراً لم يترك من المال إلا قدر نفقة الحمولة.

و لا فرق في هذا الحكم بين كون ما عليه حج التمتع أو القران أو الإفراد أو عمرتها.

و هكذا يخرج الحج من أصل التركة إن أوصي به و لم يقيده بالثلث، لصحيح

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 28 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 4.

(2)- تهذيب الأحكام: 5/ 15 ح 42.

(3)- الكافي: 4/ 305 ح 1.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 358

معاوية بن عمار و إطلاق صحيح الحلبي المتقدمين.

إلّا أنّه قلنا بظهور الوصية

بالحج في الحج البلدي يؤخذ ما زاد علي الحج الميقاتي من الثلث، و إن قيده بالثلث يجب إخراجه من الثلث، إلا إذا لم يفِ الثلث بالحج الميقاتي فإنه يكون كما إذا لم يوص به يخرج كله من التركة.

و إن أوصي معه بامورٍ اخر أيضاً و لا يفي الثلث للجميع يقدَّم الحج علي غيره إن كان مستحباً، و ذلك لروايات اخرجت في الوسائل (بعضها في كتاب الحج ب 3 من أبواب وجوبه و شرائطه و بعضها في كتاب الوصايا ب 65) معلّلًا فيها بأن الحج فريضة.

منها: ما رواه المشايخ الثلاثة بإسنادهم، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار قال: «أوصت إليَّ امرأة من أهل بيتي بمالها (بثلث مالها) و أمرت أن يعتق عنها و يحج و يتصدق فلم يبلغ ذلك، فسألت أبا حنيفة فقال: يجعل ذلك أثلاثاً: ثلثاً في الحج و ثلثاً في العتق و ثلثاً في الصدقة، فدخلت علي أبي عبد اللّه عليه السلام، فقلت له: إن امرأة من أهلي (أهل بيتي) ماتت و أوصت إلي بثلث مالها و أمرت أن يعتق عنها و يحج عنها و يتصدق، فنظرت فيه فلم يبلغ، فقال عليه السلام: ابدأ بالحج فإنه فريضة من فرائض اللّٰه عز و جل، و اجعل ما بقي طائفة في العتق و طائفة في الصدقة، فأخبرت أبا حنيفة بقول أبي عبد اللّه عليه السلام فرجع عن قوله و قال بقول أبي عبد اللّه عليه السلام». «1»

و رواه أيضاً موسي بن القاسم، عن زكريا المؤمن، عن معاوية بن عمار قال:

«قال: إنّ امرأة هلكت فأوصت بثلثها: يتصدق به عنها، و يحج عنها، و يعتق عنها، فلم يسع المال ذلك، فسألت أبا حنيفة و سفيان الثوري

فقال كلّ واحدٍ منهما: انظر إلي رجل قد حج فقطع به فيقوي، و رجل قد سعي في فكاك رقبته فيبقي عليه شي ء فيعتق و يتصدق بالبقية، فأعجبني هذا القول، و قلت للقوم يعني أهل المرأة: إني قد

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: 19 ب 65 من أبواب الوصايا ح 1.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 359

سألت لكم، فتريدون أن أسأل لكم من هو أوثق من هؤلاء؟ قالوا: نعم، فسألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن ذلك فقال: ابدأ بالحج فإن الحج فريضة، فما بقي فضعه في النوافل، قال: فأتيت أبا حنيفة فقلت: إني قد سألت فلاناً فقال لي كذا و كذا؟ قال: فقال:

هذا و اللّٰه الحق، و أخذ به و ألقي هذه المسألة علي أصحابه، و قعدت لحاجة لي بعد انصرافه فسمعتهم يتطارحونها، فقال بعضهم بقول أبي حنيفة الأول، فخطّأه من كان سمع هذا و قال: سمعت هذا من أبي حنيفة منذ عشرين سنة». «1»

و ما ورد في هذه الأحاديث هو مقتضي القاعدة؛ لأن توزيع الثلث بالسوية علي الموارد إذا كان بعضها واجباً و بعضها مستحباً، بل إذا كان الجميع واجباً إنما يكون فيما إذا كان كل مورد منها غير مرتبط الأجزاء، و أما إذا كان أحدها من المركبات الارتباطية دون غيره كالحج و العمرة فإن الإحرام المجرد عن سائر الأفعال أو الطواف كذلك لا يكون حجّاً حتي يوزَّع الثلث عليه و علي غيره، إذاً فلا بد من تقديم الحج علي غيره من المستحبات لأنه فريضة، و هو ما صدر عن الإمام العالم بالأحكام عليه الصلاة و السلام-.

و بعد هذه الروايات التي صدرت علي طبق القاعدة لا وجه للتكلم في القاعدة و القول بأن مقتضاها هو التوزيع بالسوية حسب

موارد الوصية، كما أفتي به أبو حنيفة و سفيان الثوري قولًا لم يقل به أبو حنيفة بعد ما أخبره عمار بما قاله الإمام عليه السلام، بل قال: هذا هو الحق و أخذ به.

و الوجه فيه: أن مقتضي القاعدة و إن كان هو توزيع الثلث علي الثلاثة:

الصدقة و الحج و العتق إلّا أن معني عدم بلوغه: عدم إمكان الحج و العتق و الصدقة عنها، و ذلك ليس إلّا لوجود الحج فيها، فإن كان بدله الصلاة أو الصوم يمكن التوزيع

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام: 5/ 407 ح 1417.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 360

فيجعل شي ء منه في الصوم و شي ء منه في الصدقة و شي ء منه في العتق و لو بالاشتراك مع الغير، أما في الحج فعلي التوزيع لا يفي ثلث الثلث به، و لا يجوز المشاركة في الحج الواجب مع الغير، إذاً فيقع المزاحمة بين الواجب و المستحب، و لا ريب في أن الواجب يقدم عليه، فالرواية في موردها ليست علي خلاف القاعدة، بل صدرت علي طبق القاعدة.

لا يقال: لم لا يوزع علي الثلاثة و يكمل ما يصيب الحج من الأصل؟

فإنه يقال: إن معني ذلك الخروج عن الوصية؛ لأن الموصي أراد أن يكون الحج أيضاً داخلًا في ثلثه و مأخوذاً منه و يصرف ما بقي منه في سائر الموارد.

و بعبارةٍ و اخري: أوصي بأن يؤخذ من ثلثه ما يزيد علي ما يعادل نفقة الحج، فمثلًا: إذا كان المال ثلاثين و كان نفقة الحج ستةً 630 فوصيته تكون في 430، و هذا بخلاف ما إذا أخذنا الستة من المجموع ثمّ أخذنا الثلث من الباقي فإنه يكون 830، فإذا كان الثلث عشرةً و كانت نفقة الحج خمسة عشر فعلي مقتضي التوزيع

يجب أن يجعل لكلٍّ من العتق و الصدقة و الحج العشرة، و هي لا تفي بالحج، و تكميلها من الزائد علي الثلث مخالف للوصية، فلا بد من ترجيح بعض الموارد علي البعض، و ليس هو إلا الحج؛ لأنه فريضة، و ليس هذا مثل صورة عدم وفاء الثلث بالحج فإنه يجب عليه تكميله، لأن إنفاذ الوصية فيه و ترك الحج بتكميله مخالف لحكم الشارع.

و بالجملة: الوصية بالحج و غيره من الثلث الوصية بالحج و غيره علي الترتيب الواقعي الذي بحسبه يكون الواجب مقدماً علي المستحب.

[مسألة 106] هل تخرج نفقة الحج النذري من أصل التركة؟

مسألة 106- هل الحج الواجب بالنذر مثل حجة الإسلام في الأحكام المذكورة، فيجب إخراجه من التركة من أصلها أو من الثلث و إن

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 361

لم يوص بها الناذر، و إن أوصي به فهل يقدم علي سائر الموارد إن كانت مستحبة و لم يفِ الثلث للجميع، أو يوزع عليها بالسوية؟

فنقول: إذا مات الناذر بعد التمكن من أداء الحج و لم يوصِ به فظاهر أكثر الأصحاب وجوب القضاء عنه من أصل تركته، و ذهب جمع من الأصحاب علي ما في الجواهر «1» إلي وجوب قضاء الحج المنذور من الثلث، و القول الثالث عدم وجوب القضاء.

أما وجه القول الثالث: الأصل، و افتقار وجوب القضاء إلي أمر جديد، و لعدم كونه واجباً مالياً، فإنه عبارة عن أداء المناسك، و ليس بذل المال داخلًا في ماهيته و لا من ضرورياته.

و فيه: أما الأصل فإنه حجة علي عدم الوجوب ظاهراً حيث لا حجة عليه، و افتقار القضاء إلي أمر جديد فيما لم يثبت علي ذمة المكلف ديناً عليه و كونه واجباً مالياً ليس معناه أن أداءه متوقف علي صرف المال حتي يقال: إنه يوجد

في غيره من الواجبات أيضاً ما يتوقف أداؤه علي ذلك و لا يجب قضاؤه عن الميت، بل معناه أن النذر اعتبر كالحج ديناً علي الناذر للّٰه تعالي، كما يستفاد ذلك من قوله تعالي:

«وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» و من قول الناذر: «للّٰه عليّ كذا».

و وجه القول الثاني: مفهوم صحيحة ضريس: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل عليه حجة الإسلام نذر نذراً في شكر ليحجنّ به رجلًا إلي مكة، فمات الذي نذر قبل أن يحج حجة الإسلام و من قبل أن يفي بنذره الذي نذر؟ قال عليه السلام: إن ترك مالًا يحج عنه حجة الإسلام من جميع المال و اخرج من ثلثه ما يحج به رجلًا لنذره و قد وفي بالنذر، و إن لم يكن ترك مالًا إلّا بقدر ما يحج به حجة الإسلام حج عنه بما

______________________________

(1)- جواهر الكلام: 17/ 408.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 362

ترك و يحج عنه وليه حجة النذر، إنما هو مثل دين عليه». «1»

و صحيحة ابن أبي يعفور: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل نذر للّٰه إن عافي اللّٰه ابنه من وجعه ليحجّنّه إلي بيت اللّٰه الحرام فعافي اللّٰه الابن و مات الأب؟ فقال: الحجة علي الأب يؤديها عنه بعض ولده، قلت: هي واجبة علي ابنه الذي نذر فيه؟ قال:

هي واجبة علي الأب من ثلثه أو يتطوع ابنه فيحج عن أبيه». «2»

قال في كشف اللثام: (فإنّ إحجاج الغير ليس إلا بذل المال لحجه فهو دين مالي محض بلا شبهة فإذا لم يجب إلا من الثلث فحج نفسه أولي) «3».

و فيه: ما قيل من أنه لم يفتِ به أحد في موردهما، بل أخرجوه من الأصل؛ لما دل علي وجوب الحق

المالي من الأصل، و نزَّلوا الصحيحين تارةً علي وقوع النذر في مرض الموت، و اخري علي وقوعه بغير صيغته و علي غير ذلك «4».

هذا، مضافاً إلي أن الروايتين موردهما الإحجاج، و أولوية حج نفسه منه غير معلوم، و كذا عدم وجود خصوصية في الإحجاج غير ظاهر.

و أما وجه القول الأول فهو في خصوص الحج إنّ الخطاب به سواء كان متعلقاً بحجة الإسلام أو الواجب بالنذر خطاب ديني، لا من جهة أن الحج يحتاج إلي المال الذي لا يخرج من أصل التركة، بل يخرج من الثلث إن أوصي الذي عليه به، بل لأن التكليف بعبادة الحج سواء كان بالأمر النذري أو الأمر الأصلي اعتبر ديناً علي المكلف، فالنذر إنما يتعلق به علي كونه ديناً للّٰه تعالي علي العبد، فإذا لم يؤده هو بنفسه يخرج من تركته، فقول المولي: «فِ بنذرك» في مورد الحج مثل قوله: «فِ

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 29 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1.

(2)- وسائل الشيعة: ب 29 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 3.

(3)- كشف اللثام: 1/ 296.)

(4)- كما في مستند الشيعة: 2/ 167.)

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 363

بعقد الإجارة»، و «أدِّ الأجير أجره.

و قوله عليه السلام: «إنما هو مثل دين عليه» إشارة إلي ذلك، بل كما في الجواهر إيجاب المال في الصحيحين (صحيح ضريس و ابن أبي يعفور) في نذر الإحجاج أيضاً من ذلك «1».

و ربما يستشهد علي ذلك بما في الصحيح عن مسمع بن عبد الملك: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: كانت لي جارية حبلي فنذرت للّٰه تعالي إن هي ولدت غلاماً أن احجه أو أحج عنه فقال: إنّ رجلًا نذر للّٰه في ابن له إن هو

أدرك أن يحجه أو يحج عنه فمات الأب و أدرك الغلام بعد، فأتي رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله له فسأله عن ذلك فأمر رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله أن يحج عنه مما ترك أبوه». «2»

و لكن الاستدلال به يتم علي إلغاء خصوصية الإحجاج، و علي كون الترديد في قوله: «أن يحجه أو يحج عنه» من الناذر لا من الراوي، و إلّا فعلي ما احتمله صاحب الحدائق قدس سره في صحيح ابن أبي يعفور و ضريس يمكن أن يكون المراد مباشرة الناذر ذلك بنفسه فيمضي به إلي الحج حتي يوصله إلي المناسك.

قال في الحدائق: (يحتمل أن يكون المراد إنما هو أن يمضي بذلك الرجل حتي يوصله المناسك و يأتي بجميع أفعال الحج و هو قائم بمئونته، بل هذا هو الظاهر من اللفظ، إذ المتبادر من مادة الإفعال هو المباشرة لا السببية، فإذا قلت: أخرجته أو أدخلته يعني تولّيت إدخاله و إخراجه و باشرت ذلك لا بمعني أمرت بذلك من يفعل به، و حينئذٍ فتكون هذه الأخبار باعتبار الاحتمال الذي استظهرناه دالةً علي وجوب قضاء حجة النذر في الجملة). «3»

______________________________

(1)- جواهر الكلام: 17/ 342.)

(2)- وسائل الشيعة: ب 16 من أبواب العتق ح 1.

(3)- الحدائق الناضرة: 14/ 205.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 364

[مسألة 107] إذا قصرت التركة عن أداء الدين و قضاء حجة الإسلام

مسألة 107- إذا كان علي من مات و عليه حجة الإسلام دين أو خمس أو زكاة و قصرت التركة فإن كان المال الذي تعلق به الزكاة أو الخمس موجوداً قدم لتعلقهما بالعين، فلا يجوز صرفه في غيرهما؛ لأنه تضييع حق أربابهما. و أما إن كانا متعلقين بالذمة فهل يوزع التركة علي الحج و غيره، أو يقدم الحج علي غيره، أو يقدم

الديون علي الحج مطلقاً، أو خصوص الديون الشخصية؟

في المسألة وجوه، و لا يخفي عليك أنّ محلّ البحث في المسألة هو ما إذا كان علي من مات و عليه حجة الإسلام دين أو زكاة أو خمس، لا من مات و عليه دين و خمس و زكاة كما هو ظاهر من عبارة العروة: (و لو كان عليه دين أو خمس أو زكاة و قصرت التركة)، فلا وجه لإدخال البحث عن تلك المسألة في هذه المسألة و الاستدال بموثقة علي بن رئاب هنا كما فعله البعض. «1»

فعلي كلَّ حالٍ ففي المسألة وجوه أو أقوال:

الأول: توزيع التركة علي الحج و غيره بالنسبة، كما في غرماء المفلَّس، كما في الشرائع و غيره.

و فيه: أن التوزيع إنما يتصور إذا لم يكن فيما بين الموارد ما كان أجزاؤه ارتباطياً كالحج، و أما إذا يوجد فيها ما كان كذلك فتوزيعه بالسوية يمنع من صرفه فيما كان هكذا أي ارتباطياً، و القول بسقوطه و صرف التركة في غيره عدول عن التوزيع و تقديم جانب ما لم يكن ارتباطياً علي ما كان كذلك بالتزاحم؛ لأن الأمر

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 300.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 365

يدور بين أن نصرف التركة في الحج و ما زاد عليه في غيره أو في غيره، و نترك الحج، و علي هذا يعامل بينهما معاملة المتزاحمين و يقدم الأهم منهما إن كان في البين، و إلّا فنقول بالتخيير.

الثاني: تقديم الحج علي الدين سواء كان الزكاة أو غيره، و ذلك لصحيح معاوية ابن عمار الذي رواه شيخنا الكليني قدس سره، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار قال: «قلت له: رجل يموت و عليه خمسمائة

درهمٍ من الزكاة و عليه حجة الإسلام و ترك ثلاثمائة درهمٍ و أوصي بحجة الإسلام و أن يقضي عنه دين الزكاة؟ قال: يحج عنه من أقرب ما يكون و تخرج البقية في الزكاة». «1»

و نحوه خبره أو صحيحه الآخر الذي رواه الشيخ قدس سره بإسناده عن علي بن الحسن ابن فضال، عن محمد بن عبد اللّه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في رجل مات و ترك ثلاثمائة درهمٍ و عليه من الزكاة سبعمائة درهم و أوصي أن يحج عنه؟ قال: يحج عنه من أقرب المواضع و يجعل ما بقي في الزكاة». «2»

و استشكل في الاستدلال بهما: أولًا بقصور سند الثاني، و ثانياً باختصاصهما بالزكاة، و ثالثاً بإمكان كون ما ذكره عليه السلام مقتضي التوزيع، و رابعاً بكونهما في مورد الوصية بالحج، و خامساً بإعراض الأصحاب عنهما كما في الجواهر. «3»

و أجاب بعض الأعلام عن قصور سند الثاني بأنّه أيضاً صحيح السند؛ لأن منشأ الضعف إمّا من جهة محمد بن عبد اللّه بن زرارة الذي روي عنه ابن فضال،

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: 9 ب 21 من أبواب المستحقين للزكاة ح 2.

(2)- وسائل الشيعة: ب 42 من أبواب أحكام الوصايا ح 1.

(3)- جواهر الكلام: 17/ 315.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 366

و يروي هو عن ابن أبي عمير، و هو ممن لم يوثق. و إمّا من جهة طريق الشيخ إلي ابن فضال لضعفه بابن الزبير القرشي، و لكن لا يضر ضعف طريق الشيخ إلي ابن فضال بعد ما كان طريق النجاشي إليه صحيحاً، و الكتاب واحد مع ما فصّلنا الكلام فيه في محله.

و أمّا محمد بن عبد اللّه بن زرارة

فقد نقل النجاشي في ترجمة الحسن بن علي بن فضال عن علي بن الريان في قصة عدول الحسن بن فضال إلي الحق: أن محمد بن عبد اللّه بن زرارة عندي أصدق لهجةً من أحمد بن الحسن بن علي بن فضال، فإنه رجل فاضل دين، مضافاً إلي أنه من رجال كامل الزيارات «1».

أقول: أما علي بن الريان فهو ابن الصلت الأشعري القمي الثقة، وكيل الإمام أبي الحسن الثالث عليه السلام، له مع أخيه محمد كتاب مشترك بينهما، و هو من الطبقة السابعة.

و أما أحمد بن الحسن بن علي بن فضال فهو ابن محمد بن فضال كان فطحياً، إلّا أنه ثقة، و مات سنة ستين و مائتين، و هو من الطبقة السابعة، فإذا كان محمد بن عبد اللّه بن زرارة أصدق لهجةً منه فهو أوثق منه.

و أما ضعف طريق الشيخ إلي ابن فضال بابن الزبير فقد قلنا مراراً: إن ضعف مثل هذه الطرق إلي كتابٍ لا يضر بالاعتماد علي الحديث، و لا يعتمد بضعفه، فإنهم كانوا يأخذون الكتب المعلوم انتسابها إلي مؤلفيها من الشيوخ بالسماع منهم و القراءة عليهم أو بالمناولة، و لا يكتفون بمجرد الوجادة في كتبهم، و إلّا كان وجود الرواية في الكتاب و رواية صاحب الكتاب ما فيه عن مشايخه معلوماً عند هم مفروغاً عنه، و لذا لا حاجة إلي الاستناد بصحة طريق النجاشي إلي ابن فضال

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 203.)

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 367

لإثبات اعتبار طريق الشيخ إليه بحجة أن الكتاب واحد.

هذا، و لا يخفي عليك أنهم لم يشيروا إلي ضعف الحديث الأول أيضاً بإضماره، فإنه لم يذكر فيه المروي عنه الحديث، فلعلّه كان شخصاً آخر غير الإمام من أصحابه عليه السلام.

إلّا

أنّ هذا الاحتمال أيضاً مردود أوّلًا بقرينة الخبر الثاني الذي هو بالظن القويّ متحد مع الأوّل.

و ثانياً: بأن مثل معاوية بن عمار لا يأخذ إلّا من الإمام، و مثل ابن أبي عمير أيضاً لا يأخذ منه إلّا ما كان عن الإمام، فالظاهر أن معاوية بن عمار أخرج الحديث في كتبه في طيِّ ما سأله عن أبي عبد اللّه عليه السلام ثمّ روي عنه ابن أبي عمير الراوي لكتبه هذه القطعة من سؤالاته، و كيف كان فالأمر واضح لا ريب في أن الحديث مروي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

هذا كلّه في الجواب عن الخدشة في سندهما، أما الإيراد باختصاصهما بتقديم الحج علي خصوص الزكاة دون غيرها من الديون كالخمس و الدين الشخصي ففيه:

أن الظاهر أن ما كان سبباً للسؤال عن المسألة عدم وفاء التركة بالحج و غيره، و عدم إمكان التوزيع عليهما؛ لوجود الحج فيهما الذي لا يمكن ورود النقص عليه، بخلاف الزكاة و الخمس و الدين.

و أما كون ذلك- أي الحكم بالحج- من أقرب ما يكون مقتضي التوزيع فهو خلاف ظاهر السؤال و الجواب، فليس مورد السؤال قضية خارجية وقعت لشخص خاص، و إلّا فكان الجواب أنه يصرف نصف ما تركه في الحج و نصفه الآخر أو البقية في الزكاة. و بالجملة مصبّ السؤال هو عدم وفاء التركة بالحج و غيره، كما هو الظاهر من ألفاظ الحديث.

و أما الإشكال الرابع فجوابه: أنّ السؤال- كما قلنا- تمامه يرجع إلي عدم

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 368

وفاء التركة بحج الإسلام و غيره، و لا فرق في ذلك بين الوصية بهما و عدمها.

و أما إعراض الأصحاب كما في الجواهر «1» ففيه: أنه لم يثبت إعراضهم عنهما.

و علي هذا

فهذا القول هو الظاهر من الدليل، و معه لا وجه للقول بتقديم الدين لتقديم حق الناس علي حق اللّٰه، مضافاً إلي عدم ثبوت ذلك لو لم نقل بثبوت خلافه و هو تقديم حق اللّٰه لكونه- كما في خبر الخثعمية- «أحق أن يقضي».

و مما يمكن أن يكون مؤيداً لذلك بل يدل عليه صحيح بريد العجلي المتقدم، ففيه: «و إن كان مات و هو صرورة قبل أن يحرم جعل جمله و زاده و نفقته و ما معه في حجة الإسلام، فإن فضل من ذلك شي ء فهو للورثة إن لم يكن عليه دين». «2»

هذا، و إن وفت التركة بالحج فقط أو العمرة فقط ففي حج القران و الإفراد قيل بالتخيير بين صرفها في الحج أو العمرة، و جعل بعضهم الاحتياط في صرفها في الحج، و لا يجوز ترك هذا الاحتياط، بل قال سيدنا الاستاذ قدس سره: (لا يخلو من قوة).

و أما في حج التمتع فمقتضي الأصل السقوط و صرفها في الدين، إلا أنه قال سيدنا الاستاذ قدس سره: محل إشكال، و ترجيح الحج لا يخلو من وجه.

و لعل كان وجه نظره الشريف ما رواه المشايخ الثلاثة بإسنادهم، عن محمد بن أبي عمير، عن زيد النرسي، عن علي بن زيد (مزيد- فرقد) صاحب السابري قال:

«أوصي إليّ رجل بتركته فأمرني أن أحج بها عنه، فنظرت في ذلك فإذا هي شي ء يسير لا يكفي للحج، فسألت أبا حنيفة و فقهاء أهل الكوفة فقالوا: تصدق بها عنه- إلي أن قال: - فلقيت جعفر بن محمد عليهما السلام في الحجر فقلت له: رجل مات و أوصي إليَّ بتركته أن أحج بها عنه فنظرت في ذلك فلم يكف للحج، فسألت- من عندنا من

______________________________

(1)- جواهر

الكلام: 17/ 315.

(2)- وسائل الشيعة: ب 26 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 369

الفقهاء فقالوا: تصدق بها، فقال: ما صنعت؟ قلت: تصدقت بها، قال: ضمنت-، إلّا أن لا يكون يبلغ ما يحج به من مكة، فإن كان لا يبلغ ما يحج به من مكة فليس عليك ضمان، و إن كان يبلغ ما يحج به من مكة فأنت ضامن». «1»

و ضعف سنده بزيد النرسي صاحب الأصل و الكتاب، أو علي بن فرقد لا يعتني به بعد ما كان الراوي عنهما مثل ابن أبي عمير المعروف عند العامة و الخاصة بجلالة القدر في العلم و الزهد و الورع، صاحب المصنفات الكثيرة و كتاب النوادر الكبير، و الذي روي عنه أحد تلاميذه أحمد بن محمد بن عيسي: كتب مائة رجل من رجال أبي عبد اللّه عليه السلام، و هو ممن أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصح عنه.

إلا أنه نظر في دلالته بعض أعاظم العصر بأن (ظاهره أنه أوصي أن يحج الوصي بنفسه، فالحج الموصي به بلدي بمباشرة الوصي، و الإمام عليه السلام أمره بالحج الميقاتي في قبال البلدي، لا الحج الذي يكون إحرامه من مكة في مقابل العمرة التي يكون إحرامها من الميقات) «2»، و الظاهر أنه لا بأس بما أفاد، و اللّٰه هو العالم بالمراد.

[مسألة 108] التصرف في التركة قبل الاستئجار للحج

مسألة 108- لا إشكال في أنه لا يجوز للورثة التصرف في التركة قبل استئجار الحج إذا كانت التركة لا تكون أزيد مما يلزم أن يصرف في الحج.

من غير فرقٍ بين أن نقول في ما إذا كان دين الميت مستغرقاً لتركته بعدم انتقاله إلي الورثة، كما هو مختار جماعة علي ما حكي عنهم كالحلّي و المحقّق و

العلّامة في بعض كتبه و غيرهم.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 37 في أحكام الوصايا ح 2.

(2)- راجع مستمسك العروة: 10/ 250.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 370

و الذي هو ظاهر الآيات الشريفة: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا أَوْ دَيْنٍ»، «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ»، «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ، مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا أَوْ دَيْنٍ» الترتيب.

مضافاً إلي بعض النصوص، منها: ما رواه المشايخ الثلاثة بإسنادهم، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي «1»، عن السكوني «2»، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «أول شي ء يبدأ به من المال الكفن، ثمّ الدين، ثمّ الوصية، ثمّ الميراث» «3»

و ما رواه أيضاً: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، و عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد جميعاً، عن ابن أبي نجران «4»، عن عاصم بن حميد «5»، عن محمد بن قيس «6»، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ الدين قبل الوصية، ثمّ الوصية علي إثر الدين، ثمّ الميراث بعد الوصية، فإن أول (أولي) القضاء كتاب اللّٰه». «7»

و ما رواه الشيخ بإسناده، عن علي بن الحسن «8»، عن عمر و ابن عثمان «9»،

______________________________

(1)- الحسين بن يزيد بن محمد بن عبد الملك، من الطبقة السابعة، كان شاعراً أديباً، و سكن الري و مات بها، قال قوم من القميين: (إنه غلا في آخر عمره)، و ما رأينا له رواية تدل علي هذا، (راجع جامع الرواة).

(2)- إسماعيل بن أبي زياد الشعيري، له كتاب عن النوفلي، كان عامياً، من الطبقة الخامسة.

(3)- وسائل الشيعة: ب 28 من أبواب الوصايا ح 1.

(4)- عبد الرحمن، كوفي ثقة ثقة، من الطبقة السادسة.

(5)- الحناط الكوفي، ثقة

عين صدوق، له كتاب، من الطبقة الخامسة.

(6)- الظاهر أنه محمد بن قيس البجلي، أبو عبد اللّه الكوفي الثقة، صاحب الكتاب، من الطبقة الرابعة.

(7)- وسائل الشيعة: ب 28 من أبواب الوصايا ح 2.

(8)- علي بن الحسن بن فضال، فقيه أصحابنا بالكوفة و وجههم، كان فطحياً، من السابعة.

(9)- الثقفي الكوفي الثقة، من الطبقة السادسة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 371

عن الحسن بن محبوب، عن عباد بن صهيب «1»، عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في رجل فرط في إخراج زكاته في حياته فلما حضرته الوفاة حسب جميع ما فرط فيه مما لزمه من الزكاة، ثمّ أوصي أن يخرج ذلك فيدفع إلي من يجب له؟ قال: فقال: جائز يخرج ذلك من جميع المال، إنما هو بمنزلة الدين لو كان عليه ليس للورثة بشي ء حتي يؤدي ما أوصي به من الزكاة، قيل له: فإن كان أوصي بحجة الإسلام؟ قال: جائز يحج عنه من جميع المال». «2»

فإن ظاهر الجميع الترتيب، فلا يتعلق الميراث بما يتعلق به الدين أو الوصية، كما لا يتعلق الوصية بما تعلق به الدين، فتصرّف الورثة في التركة تصرّف في مال الغير، سواء قلنا بأنها تنتقل إلي الديان أو قلنا بأنها باقية في ملك الميت.

و بين أن نقول بانتقال التركة إلي الورثة، فحيث إن حق الديان يتعلق بالتركة لا يجوز للوارث التصرف فيه بما ينتفي به موضوع حقهم كإتلافها، و أما في التصرفات الناقلة مثل البيع فالجواز و عدمه يدور مدار كون تعلق حق الديان كتعلق حق الرهانة الذي يكون التصرف في المال موجباً لانتفائه لتعلقه بالمال بما أنه ملك للراهن، و التصرف الناقل موجب لانتفاء هذا القيد، فعلي هذا لا يجوز التصرف الناقل أو كونه متعلقاً بالمال

مطلقاً، نظير حق الجناية القائم بالعبد الجاني فإنه لا يبطل بحصوله في ملك غير مالكه. هذا، و ظاهر الأدلة تأخر تعلق الميراث بالتركة عن الدين و الوصية.

و علي القول الثاني أيضاً الظاهر أن تعلقه يكون كتعلق حق الرهانة بالمال فلا يجوز التصرفات الناقلة في المال، و لو شككنا في أن تعلق حق الديان يكون مثل تعلق حق الرهان أو حق الجناية فمقتضي الأصل عدم جواز التصرف الناقل.

______________________________

(1)- بصري ما زني عامي، من الخامسة.

(2)- وسائل الشيعة: ب 2 من أبواب الوصايا ح 1.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 372

و أما التصرفات المتعارفة مثل السكونة في البيت و غيرها مما لا يمنع من حق الديان فالظاهر جوازها؛ و ذلك لاستقرار السيرة علي ذلك.

هذا كلّه إذا كانت نفقة الحج مستغرقة للتركة، و أما إذا كانت التركة تزيد عليها فالظاهر أنه يجوز التصرف فيها في مقدار الزائد علي الدين و مصارف الحج، سواء قلنا بعدم انتقال مقدار الدين أو نفقة الحج من التركة إلي الوارث، أو بانتقال جميعها إليه. فالمسألة تكون نظير بيع صاع من الصبرة فإن المشتري يملك كلياً معيناً منها و يجوز للبائع التصرف فيها بالمقدار الذي يملكه و تطبيق الكلي علي أي فرد من أفرادها الخارجية.

و يشهد لذلك ما رواه المشايخ الثلاثة و اللفظ للكليني: «محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر بإسنادٍ له أنه سأل عن رجل يموت و يترك عيالًا و عليه دين أ ينفق عليهم من ماله؟ قال عليه السلام: إن استيقن أن الدين الذي عليه يحيط بجميع المال فلا ينفق عليهم و إن لم يستيقن فلينفق عليهم، من وسط المال». «1»

و موثق عبد الرحمن بن الحجاج الذي رواه الكليني:

عن حميد بن زياد، عن ابن سماعة، عن الحسين بن هاشم و محمد بن زياد جميعاً، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي الحسن عليه السلام مثله، إلّا أنّه قال: «إن كان يستيقن أن الذي ترك يحيط بجميع دينه فلا ينفق عليهم، و إن لم يستيقن فلينفق عليهم من وسط المال». «2»

فرع:

(1) لا يخفي أن المنع من التصرف الناقل علي القول بانتقال التركة إلي الوارث إنما يكون إذا لم يرد الوارث بتصرفه أداء الدين أو العمل بالوصية، بل علي القول بعدم

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 29 من أبواب الوصايا ح 1، الكافي: 7/ 53.

(2)- وسائل الشيعة: ب 29 من أبواب الوصايا ح 2.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 373

انتقاله إلي الوارث و بقائه في ملك الميت، فالظاهر أيضاً أن المتكفل لصرف المال في الحج إن لم يكن للميت وصي هو وارثه فهو وليه في ذلك.

نعم، بالنسبة إلي الديان علي القول بانتقاله من الميت إلي الغرماء يشكل الأمر في بيع الوارث و لو لأداء دينه و إن كان له أن يؤدي ديون الميت من مال آخر ليتملك به المال، و علي هذا فإمّا يتكفل ذلك الوارث بإذن الغرماء أو يتكفّلونه هم بأنفسهم، أو يتكفله الحاكم في بعض الموارد. و تمام الكلام في محله.

[مسألة 109] إذا أقرّ بعض الورثة بوجوب الحجّ علي مورثهم

مسألة 109- قال- رحمة اللّٰه عليه- في العروة: (إذا أقرّ بعض الورثة بوجوب الحج علي المورث و أنكره الآخرون لم يجب عليه إلّا دفع ما يخصّ حصته بعد التوزيع، و إن لم يف ذلك بالحج لا يجب عليه تتميمه من حصته. كما إذا أقر بدين و أنكره غيره من الورثة فإنه لا يجب عليه دفع الأزيد. فمسألة الإقرار بالحج أو الدين مع إنكار الآخرين نظير

مسألة الإقرار بالنسب، حيث إنه إذا أقر أحد الأخوين بأخٍ آخر و أنكره الآخر لا يجب عليه إلا دفع الزائد عن حصته فيكفي دفع ثلث ما في يده، و لا ينزل إقراره علي الإشاعة علي خلاف القاعدة للنص).

أقول: حيث إنه مثل مسألة الحج في المقام بمسألة الدين و قال: (مسألة الإقرار بالحج أو الدين مع إنكار الآخرين نظير مسألة الإقرار بالنسب) ينبغي إجراء الكلام في هذه المسائل فنقول: أما مسألة الإقرار بالنسب فهي كما لو أقر أحد الأخوين بأخٍ آخر و أنكره الآخر فهل مقتضي القاعدة اشتراك المقرّ و المقِّر له فيما بيد المقرّ علي السواء، فيرجعان في الباقي من سهمهما من التركة إلي الأخ الآخر، أو

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 374

يعطي المقر المقر له ثلث ما عنده و يرجع المقر له إلي الأخ الآخر في بقية ميراثه و هي ثلث ما عنده؟ وجهان:

أما الأول فلأن ذلك مقتضي اشتراك الورثة في التركة و وقوع يد الأخ الآخر علي نصيب الأخوين؛ لأنه لا يعين قصد المقر أن ما تحت يده له كونه له حتي يعطي المقر له ثلث ما عنده، فما في يد المقر من المال يكون بينه و بين المقر له علي السواء.

و أما الثاني فهو: أن مفاد إقرار أحد الأخوين بأخٍ آخر أن ما بيده و بيد الأخ الآخر ثلثه من نفسه و ثلثه من المقر له و ثلثه من الأخ الآخر، فما بيد الآخر ثلثه من المقرّ له لا محالة، كما أن له مما بيد المقر أيضاً ثلثه، و لا يمكن أن يكون له ثلثان من خصوص ما بيد المقر، و علي هذا يكون للمقر ثلثان مما في يده ثلث من نفسه و

ثلث من أخيه الذي أخذه بالتراضي بينهما.

و فيه: أن هذا التراضي لا يتم إلّا إذا وقع بين الثلاثة، فلا يكون للأخوين لكلٍّ منهما ثلثان مما في يدهما إلا برضا المقر له أن يكون ثلثاه بين ما بيد هذا و هذا، و حيث إنّ المقر اعترف له بأنه أخ لهما فلا يتم ذلك إلا برضاه و إلّا فمقتضي الإشاعة كون ما بيد المقر بينه و بين المقرّ له علي السواء.

ثمّ إن هنا رواية رواها الشيخ و الصدوق و الحميري بإسنادهم، عن أبي البختري وهب بن وهب، عن جعفر بن محمد عن، أبيه عليهما السلام قال: «قضي علي عليه السلام في رجل مات و ترك ورثة فأقر أحد الورثة بدين علي أبيه أنه يلزم (يلزمه) ذلك في حصته بقدر ما ورث، و لا يكون ذلك في ماله كله، و إن أقر اثنان من الورثة و كانا عدلين اجبر ذلك علي الورثة، و إن لم يكونا عدلين الزما في حصتهما بقدر ما ورثا،

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 375

و كذلك إن أقر بعض الورثة بأخٍ أو اخت إنما يلزمه في حصته». «1»

و الرواية ضعيفة جداً بأبي البختري، بل بأبي عبد اللّه المشترك بين أبي عبد اللّه الرازي الجاموراني أحمد بن أبي عبد اللّه، و أبي عبد اللّه السياري أحمد بن محمد بن سيار، و هما من الضعفاء، و متنها يمكن أن يكون المراد منه أن إقراره يلزمه في حصته، و إلزامه به يمكن أن يكون علي الوجه الأول أو علي الوجه الثاني، فإذا اقتضت القاعدة إلزامه علي الوجه الأول تحمل الرواية عليه. نعم، في الدين كلام يأتي إن شاء اللّٰه تعالي.

هذا كلّه في الإقرار بالنسب، و أما الإقرار بالدين

فإذا أقر بعض الورثة بدين علي الميت فإن كان الدين مستوعباً للتركة فلا ريب في أنه يجب عليه دفع تمام حصته إلي الدائن، و إن لم يكن مستوعباً فهل يوزّع الدين علي الورثة حسب ما يرثونه من الميت، فإن كان المقر ورث منه الثلث يلزمه ثلث الدين و الباقي يكون علي غيره منهم، أو يلزمه تمام الدين إن كانت حصته تفي تمامه، و إلّا فعلي قدر ما تفيه؟

الأوفق بالقاعدة هو الثاني؛ و ذلك لأنّ الدين متعلق بالتركة بنحو الكلي في المعين، فإذا لم يبقَ من التركة بواسطة غصب الغاصب أو التلف العادي إلا ما ينطبق علي الدين يجب أداؤه به، و علي التنازل من ذلك لا يجوز لمن عنده هذه البقية التصرف فيها.

لا يقال: إن الحكم في الكلي في المعين جواز التصرف في بعض الكل ما دام فيه ما يكون فرداً للكلي، و في صورة غصب الغاصب أو إنكار سائر الورثة ما ينطبق

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 26 من أبواب الوصايا ح 5.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 376

علي الكلي من مال الميت يكون باقياً علي حاله عند سائر الورثة، فلا مانع من تصرف المقر فيما بيده.

لأنه يقال: إن ذلك إنما يكون إذا كان عنده أكثر من فرد واحد، أو كان من كان عنده البقية قاصداً للأداء.

و بالجملة: هذا مقتضي القاعدة و تعلق الدين بتركة الميت بنحو الكلي في المعين، و إذا كان بنحو الإشاعة يكون المال مشتركاً بين المقر و المقر له، كما هو الحال في صورة الإقرار بالنسب.

و أما لزوم ذلك فيما بيد المقر بحسب حصته من التركة فقط فما يتصور في الوجه فيه: أن ذلك مقتضي قاعدة العدل و الإنصاف، فإن المقر لم يتصرف

في التركة إلّا بقدر حصته و إجباره علي أداء ما للمقر له عند سائر الورثة خلاف الإنصاف و حيف علي المقر عند العرف، و بذلك يمكن أن يوجه القول الثاني في الإقرار بالنسب أيضاً.

و يقرب ما استظهروه مما رواه الصدوق، عن أبيه و محمد بن الحسن الصفار، عن سعد بن عبد اللّه و الحميري جميعاً، عن أيوب بن نوح و إبراهيم بن هاشم و يعقوب بن يزيد و محمد بن عبد الجبار جميعاً، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن أبي حمزة و حسين بن عثمان، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في رجل مات فأقر بعض ورثته لرجل بدين فقال عليه السلام: يلزمه ذلك في حصته». رواه الكليني و الشيخ أيضاً. «1»

و الاحتمال الآخر في الحديث: أنه يلزمه تمام الدين في حصته، و لذا حمله الشيخ علي أنه يلزم بقدر ما يصيب حصته لما يأتي و أراد به خبر أبي البختري المتقدم.

و علي هذا كله يخرج الحكم بذلك من الاستبعاد، و كونه علي خلاف القاعدة لما ذكرنا، و لرواية أبي البختري التي اعتمد عليها الأصحاب (الصدوق و الشيخ

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 26 من أبواب الوصايا ح 3.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 377

و الحميري) بإخراجه.

ثمّ إن بعد ذلك يستقيم الفتوي في مسألة إقرار بعض الورثة بوجوب الحج علي المورث بأنه لا يجب علي المقر إلّا دفع ما يخص حصته بعد التوزيع. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 110] إذا لم تفِ التركة بالحج فهل تنتقل إلي الوارث؟

مسألة 110- هل يمنع الحج من انتقال التركة إلي الوارث إذا لم تكن وافية به كما يمنع منه إذا كانت كذلك؟

قال في العروة: (الظاهر كونها للورثة و لا يجب صرفها في وجوه البر).

و قال في المستمسك:

(لأن المانع عن الميراث هو وجوب الحج، فإذا فرض عدم الوجوب لعدم كفاية المال لم يكن مانعاً عن الميراث). «1»

و فيه: أن ذلك يتم لو كان الأصل في تركة الميت كونها ميراثاً إما بإمضاء الشارع و لو بعدم ردعه عما استقر عليه سيرة العرف و العادة، أو بدلالة عمومٍ أو إطلاقٍ من الأدلة، إلا أن بناء العرف و إن كان علي كونها ميراثاً في الجملة لكنّ أن الشارع لم يمض ذلك في كلها، بل استثني منها ما إذا كان للميت دين أو وصية، و كذلك عمومات الإرث أيضاً مخصصة بالمخصص المتصل بها لا يشمل ما إذا كان للميت دين أو وصية لا تفي التركة به.

و يمكن أن يدّعيٰ أن التركة لا تنتقل إلي الوارث ما دام بقاء الدين علي ذمته أو لم يعمل بوصيته، فعلي هذا لا دليل علي انتقال التركة إلي الميت، فيجب إبقاؤها علي حالها لعلها تفي به فيما بعد أو صرفها فيما ينفع الميت. و نحوه قال بعض الأعاظم علي ما

______________________________

(1) مستمسك العروة: 10/ 256.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 378

في تقريرات بحثه قال: (لأن المانع عن الانتقال إلي الوارث هو الحج، و المفروض عدم إمكان الحج به فلا مانع و ينتقل ما ترك إلي الوارث حسب الإطلاقات، و لا يقاس الحج بالدين، لأنه انحلالي غير ارتباطي، بخلاف الحج فإنه واجب ارتباطي لا يمكن فيه التبعيض، و لا دليل علي وجوب التصدق بالمال المتروك إذا لم يفِ المال للحج) «1»

و فيه: أما التفصيل الذي ذكره بين الحج و الدين فهو معلوم، و أما ارتفاع المانع عن الانتقال إلي الوارث بعدم إمكان الحج فهو غير معلوم، لجواز أن يكون المانع منه كون الحج علي

ذمته، و لذا يجب إبقاء المال أو صرفه في وجوه البر.

و الحاصل: أن القول بانتقال التركة إلي الورثة في هذه الصورة يحتاج إلي دليل من عموم أو إطلاق، فإن كان فهو و إلّا فالأحوط التصدق بها عن الميت بإذن الورثة.

هذا، و في العروة: (لكنّ الأحوط التصدق عنه؛ للخبر عن الصادق عليه السلام) ثمّ ذكر لفظ الخبر مختصراً، و هو ما رواه المشايخ الثلاثة عن ابن أبي عمير. ففي الكافي:

علي بن إبراهيم، عن أبيه، و حميد بن زياد «2»، عن عبيد اللّٰه بن أحمد «3» جميعاً، عن ابن أبي عمير عن زيد النرسي «4» عن علي بن فرقد (زيد، مزيد في التهذيب و الفقيه) صاحب السابري «5» قال: «أوصي إليَّ رجل بتركته و أمرني أن أحج بها عنه، فنظرت في ذلك فإذا بشي ء يسير لا يكفي للحج، فسألت أبا حنيفة و فقهاء أهل

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 314.

(2)- من الثامنة عالم جليل القدر واسع العلم كثير التصانيف ثقة.

(3)- من السابعة عبد اللّه شيخ الصدوق ثقة.

(4)- من الخامسة، له كتاب يرويه جماعة.

(5)- من الخامسة.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 379

الكوفة فقالوا: تصدق بها عنه، فلما حججت لقيت عبد اللّه بن الحسن في الطواف فسألته و قلت له: إن رجلًا من مواليكم من أهل الكوفة مات و أوصي بتركته إليَّ و أمرني أن أحج بها عنه، فنظرت في ذلك فلم يكف للحج، فسألت مَن قبلنا من الفقهاء فقالوا: تصدق بها، فتصدقت بها فما تقول؟ فقال لي: هذا جعفر بن محمد عليهما السلام في الحجر فائته و سله، قال: فدخلت الحجر فإذا أبو عبد اللّه عليه السلام تحت الميزاب مقبل بوجهه علي البيت يدعو، ثمّ التفت إلي فرآني فقال: ما حاجتك؟

قلت: جعلت فداك، إني رجل من أهل الكوفة من مواليكم قال: فدع ذا عنك، حاجتك؟ قلت: رجل مات و أوصي بتركته أن أحج بها عنه فنظرت في ذلك فلم يكف للحج، فسألت من عندنا من الفقهاء فقالوا: تصدق بها، فقال عليه السلام: ما صنعت؟ قلت: تصدقت بها، فقال: ضمنتَ، إلّا أن يكون لا يبلغ أن يحج به من مكة، فإن كان لا يبلغ أن يحج به من مكة فليس عليك ضمان، و إن كان يبلغ به من مكة فأنت ضامن» «1»

و بيان الاستناد إليه للاحتياط المذكور، بل للقول بوجوب صرفها في التصدق عن الميت أنّ ما هو المانع من انتقال التركة إلي الورثة هو الدين أو الوصية المالية، سواء كانت التركة وافية بأداء الدين أو الوصية أو لم تكن، و هذا ما يستفاد من الحديث، فإنه يستفاد من تصديق الإمام عليه السلام عمله و عدم ضمانه بصرفه في التصدق عنه إن لم يبلغ أن يحج بها من مكة أن المال لا ينتقل إلي الورثة بمجرد وصيته في ماله سواء أمكن العمل به أوْ لا، فلا فرق في ذلك بين الحج الذي هو من الديون و الوصية، و ليس هذا الحكم إلّا لأن المستفاد من أدلة المواريث هو مانعية وجود الدين علي الميت و الوصية منه في ماله بقول مطلق من انتقاله إلي الوارث، و هذا ليس ببعيد.

و يحتمل أن يكون هو الوجه لحكم الإمام عليه السلام، فعلي هذا يتجه القول بلزوم

______________________________

(1)- الكافي: 7/ 21 ح 1.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 380

الاحتياط بصرفها في الصدقة إن لم نقل بأنه الأقوي.

نعم، يبقي الإيراد بالاستناد بالخبر لضعف سنده بعلي بن فرقد بناءً علي عدم الاعتماد بما بنوا عليه

من تصحيح ما يصح عن أصحاب الإجماع الذين منهم ابن أبي عمير، و أما بناءً علي الاعتماد عليه سيما إذا لم يكن من يروي عنه مجروحاً و كان متنه قوياً فيعتمد عليه.

[مسألة 111] التبرع بالحج عن الميت

مسألة 111- لا ريب في صحة التبرع بالحج عن الميت إن مات و لم يكن له مال و كان عليه حجة الإسلام.

و ذلك لدلالة النصوص علي ذلك: مثل صحيح معاوية بن عمار الذي رواه الشيخ: بإسناده، عن موسي بن القاسم، عن صفوان، عن معاوية بن عمار قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل مات و لم يكن له مال و لم يحج حجة الإسلام فحج (فأحج) عنه بعض إخوانه هل يجزي ذلك عنه أو هل هي ناقصة؟ قال عليه السلام: بل هي حجة تامة». «1»

علي أن يكون المراد من قوله: «و لم يكن له مال» حين الموت لا قبله، فإنه إذا لم يكن له مال لا حين الموت و لا قبله لا يكون حجة الإسلام عليه، و السؤال عن الإجزاء و أنها هل هي ناقصة أو تامة؟ يناسب حجة الإسلام، و لو أغمضنا عن ذلك فإطلاقه يدل علي جواز التبرع بحجة الإسلام.

و مثله غيره مما أخرجه في الوسائل في ب 31 من أبواب وجوب الحج و شرائطه مما يدل علي جواز التبرع عنه و إن كان له مال، و ذلك مثل رواية عامر بن

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 31 من أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 1 و 2.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 381

عميرة (عمار بن عمير) قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: بلغني عنك أنك قلت: لو أن رجلًا مات و لم يحج حجة الإسلام فحج عنه بعض أهله أجزأ ذلك

عنه؟ فقال: نعم، و اشهد بها علي أبي أنه حدثني أن رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله أتاه رجل فقال: يا رسول اللّٰه، صلي الله عليه و آله إن أبي مات و لم يحج فقال له رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله: حج عنه فإن ذلك يجزي عنه».

و صحيح محمد بن مسلم «عن رجل مات و لم يحج حجة الإسلام يحج عنه؟ قال عليه السلام:

نعم» و غيرهما.

نعم، في رواية سماعة بن مهران قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يموت و لم يحج حجة الإسلام و لم يوص بها و هو موسر قال: يحج عنه من صلب ماله لا يجوز غير ذلك» «1». أي غير الحج من صلب ماله فيدل علي عدم جواز التبرع عنه إذا كان موسراً، إلّا أن يكون ذلك إشارةً إلي أنه لا يجوز غير الحج عنه، يعني تركه و صرف ماله في سائر صنوف البر.

و الظاهر أن المسألة اتفاقية، و إنما يقع البحث في أنه إذا استأجر الولي أحداً ثمّ تبرع متبرع قبل أن يأتي الأجير بالحج، و ذلك يحصل بشروع المتبرع في الحج قبل شروع الأجير، فالظاهر أنه يكشف عن بطلان الإجارة، فليس علي المستأجر الاجرة، و إن أخذها الأجير يستردّ منه المستأجر، سواء كان هو الوارث أم غيره، و سواء أوصي الميت باستئجار شخصٍ معيَّنٍ أم لم يوصِ بذلك، ففي جميع الصور لا يستحق الأجير الاجرة.

و هل يجب صرف اجرة مثله في وجوه البر، أم لا؟ الظاهر عدم الوجوب، و لا تقاس المسألة بالمسألة السابقة، لأداء الحج في مسألتنا هذه دون السابقة، لعدم أدائه و بقاء الحج في ذمة الميت.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 28 من

أبواب وجوب الحج و شرائطه ح 4.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 382

و اختار البعض وجوب صرفه في البر؛ لأن المستفاد من الوصية تعدد المطلوب، كما إذا أوصي بصرف ثلثه في مسجد أو حسينية و لم يوجد فيهما محل لصرفه فإنه يصرف في مسجد آخر أو حسينية اخري.

و فيه: أن تعدد المطلوب يفهم من القرائن الحالية كما في المثال المذكور، فإنه لو تعذر صرف الموصي به في مثله يصرف في غيره كبناء القنطرة أو المستشفي، و أما إذا أوصي بأداء واجب عنه و زال موضوعه مثل أداء الحج الواجب عليه و برئت ذمته بتبرع متبرع منه فلا قرينة علي تعدد المطلوب فيه.

و من الفروع التي يأتي البحث عنها في هذه المسألة: أنه إذا استؤجر أحد من البلد بوصية الميت أو بتبرع الورثة علي القول بكفاية استئجار الحج الميقاتي فذهب الأجير إلي أن وصل إلي الميقات، لكن تبرع عن الميت بالحج شخص آخر فالظاهر أنه مستحق لُاجرة ذهابه من بلد الميت إلي الميقات اجرة المثل. و اللّٰه تعالي هو العالم.

[مسألة 112] كفاية التبرع عن الميت من الميقات

مسألة 112- هل يكفي التبرع عن الميت من الميقات فيجزي عن حجة الإسلام التي عليه؟

الظاهر كفاية ذلك و إجزاؤه عنه، و يترتب علي ذلك كفاية الاستئجار من الميقات من تركته، فإن الذي عليه إن كان مجرد الحج يكفيه الميقاتي في الصورتين، و إن كان خصوص البلدي منه لا يجزيه إلا البلدي سواء كان بالتبرع أو الاستئجار، فلا تأتي الأقوال الثلاثة المذكورة في العروة في هذه الصورة إلا القول الأول و هو كفاية الاستئجار من أقرب المواقيت إلي مكة إن أمكن، و إلا فمن الأقرب

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 383

فالأقرب. «1»

بل يمكن أن يقال بكفاية التبرع و الاستئجار

من دون الميقات إذا كان النائب منزله دون الميقات، فإن ميقاته هو دويرة أهله، و إن تيسر استنابة النائب الذي كان مقامه أقرب إلي الميقات و أبعد من مكة، بل و إن تيسّرت الاستنابة من الميقات، إذاً فلا وجه للقول الثاني و هو الاستئجار من البلد، و القول الثالث و هو التفصيل بين سعة المال فيجب من البلد و عدمها فمن الميقات.

هذا إذا لم يوصِ من عليه الحج، فإن هو أوصي بذلك فإن كان هناك انصراف إلي البلد لا بد و أن يؤخذ به، و إلّا فالحكم كما ذكر في صورة عدم الوصية، و لا فرق في صورة عدم الانصراف إلي البلد بينما إذا كان المال وافياً للبلدي أو لا يكفي إلا للميقاتي.

نعم، في صورة الانصراف إليه لا يكفي إلا البلدي إذا كان المال وافياً له، و إلّا فمن الأقرب إلي الميقات من البلد ثمّ الأقرب فالأقرب. هذا بحسب القاعدة.

و أما بحسب الروايات: فمنها: ما رواه الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن زكريا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل مات و أوصي بحجة أ يجوز أن يحج عنه من غير البلد الذي مات فيه؟ قال: أما ما كان دون الميقات فلا بأس». «2»

______________________________

(1)- و القولان الآخران: أحدهما وجوب الحج من البلد، و ثانيهما الوجوب من البلد مع سعة المال، و إلا فمن الأقرب إليه فالأقرب، و احتمل هنا قول رابع عبر عنه بالقول الثالث في العروة، مع أنه في كلامه أيضاً القول الرابع و هو الوجوب من البلد مع سعة المال، و إلا فمن الميقات، و إن أمكن من الأقرب

إلي البلد فالأقرب.

(2)- وسائل الشيعة: ب 2 من أبواب النيابة ح 4.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 384

و الظاهر أن السؤال فيه واقع عمن مات في غير بلده، فإن اللفظ يدل علي حصر ارتباطه بالبلد بوقوع وصيته و موته فيه و لو كان البلد بلد إقامته أيضاً يذكره السائل، فأجاب الإمام عليه السلام عنه: أما ما كان دون الميقات فلا بأس، و ذلك لعدم انصراف الوصية في مثل هذا البلد بالحج منه و لا من بلده حتي و إن وقع موته في بلده، فهذا الحديث يدل علي كفاية الحج من الميقات إذا لم يكن هناك انصراف، و يدل علي أن الحكم هو كفاية الحج الميقاتي إذا لم تكن الوصية منصرفة إلي البلدي، و علي هذا فالقاعدة التي ذكرناها تنطبق عليه، و إن شئت قلت: الحديث يرشد إلي هذه القاعدة.

و أما الخدشة فيه بضعف السند بسهل ففيه: أن ذلك لا يضر بصحة الاعتماد عليه بعد ما كان الراوي عنه العدة من مشايخ الكليني، و هم: علي بن محمد بن إبراهيم الكليني (علان الرازي) خال شيخنا الكليني صاحب كتاب أخبار القائم عليه السلام، و محمد ابن جعفر الأسدي الرازي أحد أبواب الإمام- أرواحنا فداه- و لعله متحد هو مع محمد بن أبي عبد اللّه، و محمد بن عقيل الكليني، و محمد بن الحسن الطائي الرازي، و بعد ما كان الرجل يروي عن جمع من الشيوخ تزيد عدتهم عن مائةٍ و عشرين رجلًا و بعد ما كان هو واقعاً في أسناد تزيد علي ألفين و ثلاثمائةٍ من الأحاديث المخرجة في الكتب الأربعة في الفروع و الاصول، و علي كلٍّ فالرواية موافقة للقاعدة.

و لا يخفي أن الإشكال في دلالة هذه

الرواية بعدم ظهورها في حجة الإسلام ليس في محله؛ لإطلاقها أولًا، و ثانياً: لأن الحكم في الحج المندوب ليس حكماً تعبدياً محضاً، بل منشؤه عدم وجهٍ لعدم كفاية الحج من غير البلد الذي مات فيه.

و منها: صحيح علي بن رئاب، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام: رجل أوصي أن يحج عنه حجة الإسلام و لم يبلغ جميع ما ترك إلا خمسين درهماً؟ قال عليه السلام: يحج

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 385

عنه من بعض المواقيت التي وقتها رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله من قرب». «1»

و مورده هو ما إذا لم يبلغ ما تركه للحج البلدي، نعم ليس خالياً من الإشعار، علي أنه لو كان وافياً بالحج البلدي يجب الحج منه، و عليه تكون موافقةً للقاعدة، و أن الحج الموصي به منصرف إلي البلدي، و إن لم تف التركة به فمن الأقرب إلي البلد ثمّ الأقرب إليه.

و نحوه صحيح علي بن رئاب و خبر أبي سعيد، عمن سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل أوصي بعشرين درهماً في حجةٍ قال: «يحج بها (عنه) رجل من موضع بلغه». «2»

و نحوه رواية أبي بصير و خبري عمر بن يزيد «3»، لكن خبري عمر بن يزيد واحد كما هو الواضح، و علي كلٍّ دلالة هذه الطائفة علي حكم حجة الإسلام بالإطلاق.

و منها: خبر البزنطي أو صحيحه، عن محمد بن عبد اللّه، عن مولانا الرضا عليه السلام قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الرجل يموت فيوصي بالحج من أين يحج عنه؟ قال عليه السلام: علي قدر ماله، إن وسعه ماله فمن منزله، و إن لم يسعه ماله فمن الكوفة، فإن لم يسعه من الكوفة فمن

المدينة». «4»

و الظاهر أن دلالته أيضاً لا تختلف عن دلالة الأخبار السابقة، فإنه ظاهر في السؤال عن الذي يوصي و يموت في منزله، و حيث إن وصيته منصرفة إلي الحج

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 2 من أبواب النيابة ح 6، 7، 8.

(2)- وسائل الشيعة: ب 2 من أبواب النيابة ح 1.

(3)- وسائل الشيعة: ب 2 من أبواب النيابة ح 6، 7، 8.

(4)- وسائل الشيعة: ب 2 من أبواب النيابة ح 5.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 386

البلدي أرشده الإمام عليه السلام إلي أنه يحج عنه علي قدر ماله.

و لا تعارض بينه و بين خبر زكريا بن آدم و إن ذهب إليه بعض الأعاظم «1»، فإن الظاهر من صحيح البزنطي السؤال عمن مات و أوصي في منزله، و في خبر زكريا بن آدم السؤال يكون عمن مات في غير بلده و أوصي بالحج، و في مثله لا تنصرف الوصية بالحج من منزله (الحج البلدي) فيجوز الحج عنه من دون الميقات، اللهم إلا أن يكون هنا انصراف إلي غيره، فالروايات كلها صادرة علي حسب ما تقتضيه الوصية.

و أما الإشكال في صحيح البزنطي: تارة أيضاً في السند، و اخري في الدلالة، فقد استشكله بعض الأعاظم، أما في السند فضعفه بمحمد بن عبد اللّه الأشعري القمي الذي لم يمدح بمدح في كتب الرجال.

و فيه: ما مرّ منّا مراراً أنّ هذا التضعيف يعتد به إذا لم يكن الراوي عن الرجل ممن أجمع أصحابنا علي تصحيح ما يصح عنه، أو نبني علي خلاف هذا البناء و الإجماع، و لكن بعد البناء علي ذلك كما كان هو ديدنهم في الفقه لا نرفع اليد عنه، سيما إذا لم يكن من يروي عنه بعض هؤلاء مجروحاً

في كتب الرجال.

فغاية ما يمكن أن نقول مماشاةً مع هذا العَلَم المعاصر: ترك الأخذ بهذا البناء إذا كان ذم من يروي عنه أصحاب الإجماع و قدحه مصرحاً به، دون ما إذا كان مدحه غير مذكور في لسانهم، فيكفي في الاعتماد علي الحديث هذا البناء عن مشايخنا السالفين رضوان اللّٰه تعالي عليهم أجمعين.

مضافاً إلي أن محمد بن عبد اللّه الأشعري القمي أو ابن عبيد اللّٰه- كما حققه سيدنا الاستاذ أعلي اللّٰه مقامه- و هو من الطبقة السادسة و ابنه جعفر بن محمد الأشعري أيضاً من المشايخ، و البزنطي الذي هو أيضاً من السادسة و هو و محمد بن

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 322.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 387

عبيد اللّٰه من أصحاب الرضا عليه السلام يعرفه بصحابته له فاعتمد علي روايته و يكفي ذلك في الاعتماد علي الحديث.

و أما إشكاله في دلالته فقال: (اشتمل الخبر علي أمر لم يقل به أحد، إذ لو كانت العبرة بصرف المال في المقدمات فلا بد من ملاحظة البلاد الأقرب فالأقرب، لا الطفرة من بلد الموصي- الظاهر أنه (خراسان) بقرينة روايته عن الرضا عليه السلام- إلي الكوفة و منها إلي المدينة، بل اللازم بناءً علي ملاحظة الأقرب فالأقرب من البلاد ملاحظة البلاد الواقعة في الطريق، كنيسابور و سبزوار و طهران، و هكذا لا أنه يحج عنه من الكوفة و إن لم يسعه فمن المدينة مع تحقق مسافة بعيدة بين ذلك، و بالجملة: هذا النحو من ملاحظة البلاد لا قائل به أصلًا، و لا يساعده الاعتبار). «1»

أقول: هذا منه قدس سره غريب، فإن الظاهر من الكلام في هذه المسألة أن ذكر الكوفة و المدينة في مثل هذه يكون من باب المثال، فهو يأتي بالحج

علي قدر ماله إن وفي به من خراسان و من طهران فمن طهران و من الكوفة فمن الكوفة و من المدينة فمن المدينة، و لا يلزم ذكر جميع المنازل بين الكوفة مثلًا و المدينة، كما لا يلزم أن يكون من المدينة إن أمكن الذهاب إلي مكة مثلًا من جدة أو جحفة، لا موضوعية للكوفة و لا المدينة و لا خراسان و لا طهران في هذا الحكم، و هذا في الوضوح بمكان.

و قد تلخص مما ذكرناه علي طوله: أن في صورة الوصية بالحج إن كان هناك ما تنصرف الوصية إليه كما إذا مات و أوصي به في بلده و منزله، فإنها تنصرف إلي الحج من منزله، فيجب الإتيان بالحج البلدي إن كان المال وافياً له، و إلّا فمن الأقرب إلي البلد ثمّ الأقرب، و إن لم تكن منصرفة إلي كيفية خاصة يكفي حتي الميقاتي و ما دون الميقات، كما إذا أوصي به في أثناء أسفاره فمات.

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 321

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 388

ثمّ إنه لا يخفي عليك أنه لو أوصي بحجة الإسلام من البلد و إن كان استفادة الوصية بها كذلك من انصرافها إلي الحج البلدي يؤخذ الزائد علي الاجرة الميقاتية من الثلث.

[مسألة 113- في كل مورد قلنا بكفاية استئجار حجة الإسلام من الميقات إن لم يمكن إلا من البلد وجب الاستئجار منه]

مسألة 113- في كل مورد قلنا بكفاية استئجار حجة الإسلام من الميقات إن لم يمكن إلا من البلد وجب الاستئجار منه و يخرج جميع ما يلزم صرفه فيه من أصل التركة، و ذلك لإطلاق ما يدل علي الحج من ماله إذا مات و عليه حجة الإسلام.

[مسألة 114- فعلينا في جميع الموارد متابعة ما يستفاد من الوصية عند العرف]

مسألة 114- بعد ما استظهرنا من الروايات أن الحكم بكفاية الحج من غير البلد الذي مات فيه الموصي و عدم كفايته من غير البلد الذي هو منزله و مات فيه يكون علي طبق القواعد العرفية و الاعتماد علي القرائن و الاستظهار من لفظ الموصي و ليس الحكم بوجوب الحج البلدي تعبداً من الشارع و إن لم تكن وصيته منصرفة إليه، بل و إن علمنا بإطلاقه واقعاً، فعلينا في جميع الموارد متابعة ما يستفاد من الوصية عند العرف، و إلّا فالأصل براءة الذمة عن التكليف و هو وجوب الاستئجار من البلد.

و أما من حيث الحكم الوضعي فقد قلنا: إنّ النيابة عن الميت تجزي عنه من الميقات و إن أوصي هو بالاستنابة له من البلد، فوجوب العمل بالوصية أمر و الحكم بالإجزاء و انتفاء موضوع العمل بالوصية أمر آخر، و لكن مع ذلك لا يبعد دعوي انصراف الوصية الصادرة في منزله إلي البلدي لو لم تكن هناك قرينة علي خلافه.

و علي هذا لا حاجة إلي البحث عن المراد من البلد في الروايات و أنه هل هو البلد الذي مات فيه- كما قيل و ادعي إشعار حديث زكريا بن آدم به و إن قلنا: إنه

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 389

لا دلالة له إلا علي كفاية الحج من أيّ مكان عمن أوصي في غير منزله و مات فيه دون من أوصي في منزله

و مات فيه- أو هو البلد الذي هو محل إقامته، كما يدل عليه صحيح البزنطي أو يقال غير ذلك مما قيل في المسألة من التخيير بين البلدان التي كان فيها بعد الاستطاعة؟ و الأقوي ما عرفت. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 115- بناء علي عدم وجوب حجة الإسلام عن الميت من البلد إن تعين بلدة غير بلده كالنجف أو كربلا، تعين ذلك البلد]

مسألة 115- بناء علي عدم وجوب حجة الإسلام عن الميت من البلد إن تعين بلدة غير بلده كالنجف أو كربلا، تعين ذلك البلد، و أما إن قلنا بوجوب حجة الإسلام عنه من البلد فوصيته غير نافذة، لأنها علي خلاف المشروع، فلا بد من العمل بالوظيفة و هي الحج عنه من بلده. و لكن مع ذلك في الصورة الاولي هل يمكن أن يقال بعدم التعين إذا كان البلدي أفضل من غيره و تبرع الوارث به؟

[مسأله 116- في كل مورد تكفي الحجة الميقاتية لا يلزم أن يكون من خصوص الميقات أو الأقرب إليه فالأقرب]

مسأله 116- في كل مورد تكفي الحجة الميقاتية لا يلزم أن يكون من خصوص الميقات أو الأقرب إليه فالأقرب.

فيكفي من كل بلد كان قبل الميقات و هذا واضح، غير أن اجرة الزائد علي الميقات إذا أمكن الاستئجار منه لا يخرج من الأصل أو الثلث إذا لم يوص بالاستئجار من ذلك البلد.

نعم، للوصي إن أوصي الميت بثلث ماله للصرف في وجوه البر أن يصرفه في الحج من أيّ بلد شاء إذا كان فيه جهة فضل أو مزيد ثواب. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 117- قد مر حكم ما إذا مات و كان عليه الحج و دين الناس أو الخمس أو الزكاة]

مسألة 117- قد مر حكم ما إذا مات و كان عليه الحج و دين الناس أو الخمس أو الزكاة و أنه إن وفت التركة بالجميع فهو، و إلّا فيقدم الحج علي

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 390

سائر الديون، للروايات.

و أما التوزيع عليهما بالنسبة فلم نتصوره بعد ما كان الحج واجباً ارتباطياً لا يمكن استئجاره بالتوزيع المذكور، فمثلًا إذا كان مديوناً بألف دينار و كانت تركته ألف دينار و اجرة الحج أيضاً ألف دينار فبتوزيع التركة بينهما و دفع نصفها للحج و نصفها للدين لا يفي ما للحج اجرة الحج، و هذا بخلاف ما إذا كان مديوناً لشخصين أو كان عليه دين الناس أو الخمس أو الزكاة فإنه يمكن توزيع التركة علي الجميع.

[مسألة 118- قلنا: إن الظاهر أنه يجزي عما علي الميت إن تبرع بالحج عنه من كان ميقاته دويرة أهله]

مسألة 118- قلنا: إن الظاهر أنه يجزي عما علي الميت إن تبرع بالحج عنه من كان ميقاته دويرة أهله.

فلا يلزم أن يذهب إلي أحد المواقيت الخمسة، فهو يهل بالحج عنه من مكانه، و لازم ذلك جواز استئجاره أيضاً و إن أمكن استئجاره أو استئجار غيره من بعض المواقيت.

و أما استئجاره غيره ممن كان عليه الإحرام من الميقات و اضطر إلي الإحرام من غيره كمكة أو أدني الحل فيجزي عن الميت في صورة عدم وجود شخص آخر.

و هل يجزي عنه إذا تبرع هو عنه بالحج أو أتي به بالإجارة مع وجود شخص آخر؟ فيه وجهان، و لا يبعد كفايته، كما إذا استأجر من وظيفته التيمم أو أتي به من وظيفته التيمم تبرعاً، و بالجملة: فالحج من الميقات الاضطراري أحد أفراد الحج و مصاديقه، كما يجزي من الشخص عن نفسه يجزيه تبرعاً عن غيره، و مع ذلك الاحتياط لا ينبغي تركه.

[مسألة 119- لا فرق في حكم كفاية الميقاتية عمن عليه الحج بين ما إذا كان المنوب عنه حيّاً أو ميتاً.]

مسألة 119- لا فرق في حكم كفاية الميقاتية عمن عليه الحج بين ما

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 391

إذا كان المنوب عنه حيّاً أو ميتاً.

فيجوز الاستيجار للحي المعذور بعذرٍ لا يرجيٰ زواله من الميقات أو دويرة أهله، بل أو الميقات الاضطراري، و لا يلزم استئجاره من بلد النائب و إن كان أحوط، بل لا يترك الاحتياط بالاستيجار من خصوص الميقات دون دويرة الأهل و سيما دون الميقات الاضطراري.

[مسألة 120] هل تجب المبادرة إلي استئجار الحج للميت؟

مسألة 120- هل تجب المبادرة إلي استئجار الحج للميت كأداء دينه في أول أزمنة إمكان أدائه؟

الظاهر وجوب ذلك، سواء كان تركه واقعاً بتسويفه أوْ لا عن التقصير و التسويف، و ذلك لأن المال بيد الوارث أمانة شرعية، و حبسه عنده من غير مجوز و ترك الاستئجار و التسامح فيه خيانة في الأمانة عند العرف، و لذا لو قصر و ترك الاستئجار و تلفت التركة عنده يكون ضامناً يجب عليه الاستئجار من ماله خروجاً عما في عهدته، و هذا المعني ربما يكون أظهر إذا كان الميت مقصراً في ترك الحج، لأن رفع العقاب عنه يدور مدار أداء الحج عنه، فالذي ماله بيده يجب عليه بمقتضي الأمانة المبادرة إلي الاستئجار عنه، و علي هذا لا يجوز التأخير إلي السنة القادمة و إن علم بإمكان ذلك لرعاية مصلحة الوارث و إن كان صغيراً، حتي إذا كان الميت معذوراً في ترك الحج و لا يمكن الحج من الميقات إلا بأزيد من الاجرة المتعارفة في حين أنه يمكن بها في السنة القادمة.

لا يقال: إنه تارةً يؤخر الاستئجار لإبقاء التركة في يد الوارث حتي يستوفي منافعها إلي السنة القادمة، ففي هذه الصورة لا يجوز له التأخير، و ليس للورثة

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 392

التصرف

في التركة قبل استئجار الحج، و هل لهم ذلك بعد تحقق التأخير إلي زمان إمكان الاستئجار في السنة الآتية إذا كانوا بانين علي الاستئجار؟ الظاهر أنه يجوز لهم ذلك إذا لم يكونوا سبباً للتأخير كما إذا أخر الوصي ذلك، و إلا ففي جواز التصرف إشكال، يحتمل أن يقال بالرجوع إلي الحاكم و المصالحة معه علي نحو ينتفع منه الميت. و تارةً يؤخره؛ لأن الاستئجار في السنة الحالية لا يمكن إلا بأزيد من اجرة المثل المتعارفة دون السنة القادمة، فيؤخر ذلك لدفع الضرر عن الوارث، ففي مثله يجوز التأخير دفعا للضرر عنه.

فإنه يقال: إن في الصورة الثانية أيضاً لا ضرر علي الوارث، فإنه لم ينتقل إليه المال قبل استيجار الحج و تفريغ ذمة الميت حتي كان ذلك ضررا عليه، كما إذا كان الدين الذي علي الميت مالًا مثليا و لا يمكن تحصيله فوراً إلا بشرائه بأزيد من ثمن المثل. و بالجملة فالحج و الدين يتعلقان بتركة الميت بموته يجب أداؤها في أول أزمنة الإمكان غير مشروط بشي ء، بخلاف حق الوارث فإنه يتعلق بالتركة بشرط أداء الدين و الوصية.

[مسألة 121] ضمان الوصي أو الورثة إذا تلفت التركة بإهمالهم

مسألة 121- في صورة إهمال الوصي أو الورثة الاستئجار إذا تلفت التركة ضمن، كصورة كون الدين علي الميت و تلفت التركة بإهمال الوصي أو الوارث.

أما إذا أهمل حتي نقصت قيمتها إلي أن لا تفي بالحج، فإن كان ذلك بسبب حدوث عيب أو زوال صفة من صفاتها فيضمن و يجب عليه تداركه بأداء تفاوت قيمة المعيب مع الصحيح. و إذا كان النقص الحادث نقصاً في قيمته السوقية فالظاهر

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 393

أنه لا ضمان عليه، لأن ما وقع تحت يده و هو العين و الصفة باقٍ علي حاله

عيناً و صفة و هو يؤديها، و أما القيمة السوقية فلم تقع تحت اليد حتي يجب عليه أداؤها، و هذا كما هو الحال في سائر الموارد، فمن غصب داراً، أو دكاناً أو سيارةً و نقصت قيمتها عنده لا يجب عليه أداؤها.

و هنا مسألة ترتبط بمسألتنا هذه، و هي: أنه إذا كانت تركة الميت من الأثمان المتعارفة التي تكون ماليتها يكون باعتبار من له اعتبار ذلك كالحكومة و المؤسسات كالبنوك إذا نقص اعتبارها المالي- مثلًا كان الدينار العراقي عند موت من عليه الحج يباع بألف ريالٍ عربي يفي بنفقة الحج و لكن نقصت ماليتها بهذا الاعتبار فلا يشتري إلا بمائة ريال عربي لا يفي بنفقة الحج- فهل ذلك يوجب ضمان الوارث أو الوصي للحج عن الميت إن تسامح في الاستئجار و أخّره مثلًا إلي سنة اخري، أو ليس عليه شي ء؟

و الذي يمكن أن يقال: إنه إما أن يكون عدم وفاء الأثمان لنفقة الحج بعد ما كان كذلك في السنة الاولي من جهة كثرة تعدد الأفراد الذين يعرضون أنفسهم للحج الإجاري و قلة المستأجرين و صيرورة الأمر في السنة الثانية بالعكس، فقل الأجير و كثر المستأجر، ففي هذه الصورة إذا لم يف المال الموصي به أو مال الميت للحج في السنة الثانية لا ضمان علي الوصي أو الوارث، فلم ينقص من المال شي ء حتي يقال بضمان الوصي أو الوارث.

نعم، إذا آل الحال إلي صيرورة المال تالفاً عند العرف، كالثلج الذي كان علي المديون في الصيف فأخر أداءه إلي الشتاء يكون ضامناً لقيمته للدائن لإضراره به.

و بالجملة: فقدرة الثمن لشراء الأمتعة و ضعفه إذا كان بعلل خارجية لكثرة المتاع و وفرته أو قلته لا يوجب ضماناً و تدارك

ما يدخل بذلك علي الدائن بعد ما كان المال باقياً علي حاله. و إما إذا كان للثمن باعتبار ما يفرضه العرف وجهاً له

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 394

صفة خاصة و قيمة و اعتبار خاص، مثلًا يشتري به طن من الحنطة ثمّ صار بسبب ضعف الوجه المذكور و طروء بعض الحالات عليه بحيث لا يمكن الشراء به إلّا عشراً من مثلًا أو أقلّ من ذلك، أو يصير هذه الكيفية فيه أقوي فيشتري به طنان أو أكثر، أو الجهات الاخري مثل ذلك تتصاعد ماليته أو تتنازل ففي هذه الصورة أيضاً لا يتفاوت الحكم، إلا إذا كان من عليه الحق مقصّراً في أداء ما عليه فيجب عليه تدارك ضرر صاحب الحق.

لا يقال: إذا كان المال بعينه باقياً لا يوجب تأخير أدائه إلا تفويت منفعة لصاحبه كما هو الحال في غيره من الأمتعة.

فإنه يقال: هذا إذا كان المال من الأمتعة و ما يستفاد منه بعينه أو منافعه، أما إذا كان المال لا يقصد منه إلا بما لَه من المالية و لا ينتفع منه إلا بما لَه من القيمة ففي مثله حبسه عن صاحبه إن تنزلت قيمته يعد عند العرف ضرراً عليه، فيجب تداركه، فالتجار الذين كان عندهم ملايين من الملايين من العُملة الكويتية وقعوا- بعد الهجوم العراقي علي الكويت و سقوط العملة الكويتية عن قيمتها- في الضرر.

و بالجملة: فيمكن أن يقال: إن مثل ذلك يوجب الضمان. و اللّٰه تعالي هو العالم.

[مسألة 122 إذا كان له وطنان الظاهر وجوب اختيار الأقرب إلي مكة]

مسألة 122- قال في العروة: (علي القول بوجوب البلدية و كون المراد بالبلد الوطن إذا كان له وطنان الظاهر وجوب اختيار الأقرب إلي مكة، إلا مع رضا الورثة بالاستئجار من الأبعد، نعم مع عدم تفاوت الاجرة الحكم التخيير).

و

قال في المستمسك: (المراد من الأقرب الأقل قيمة كما يظهر ذلك من ملاحظة مجموع العبارة، و حينئذ يكون قرينة علي المراد من عبارة المشهور المتقدمة

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 395

في صدر المسألة الثامنة و الثمانين). «1»

أقول: المراد معلوم، فإنه إذا كان له وطنان يكفي اختيار ما هو الأقرب إلي مكة أي الأقل قيمة، فلا يجب عليه اختيار الأبعد و الأكثر قيمة، و إن كان يجوز ذلك إذا كان المستأجر هو الوارث أو كان ذلك برضا الورثة إن لم يكن كلهم أو بعضهم صغيراً أو أوصي الميت بصرف ثلثه في الحج فإنه يجوز، بل ربما يجب علي الوصي أن يصرفه في الأبعد، فظهر من ذلك أن الحكم بوجوب اختيار الأقرب في صورة الوصية علي إطلاقه كأنه ليس في محله، للفرق بين ما إذا أوصي بحجة عنه أو أوصي مثلًا بصرف ثلثه في الحج عنه. فتدبّر.

[مسألة 123- بناءً علي وجوب الاستئجار من البلد الظاهر- كما في العروة- أنه لا فرق بين حجة الإسلام و الحج الواجب بالنذر]

مسألة 123- بناءً علي وجوب الاستئجار من البلد الظاهر- كما في العروة- أنه لا فرق بين حجة الإسلام و الحج الواجب بالنذر إذا لم يقيده الناذر بالبلد و لا بالميقات فيجب حينئذٍ الحج من البلد.

بل يمكن أن يقال- علي ما اختاره ابن إدريس-: لو كان النذر مقيداً بالميقات يجب الاستئجار له من البلد؛ و ذلك لأنه استدل علي وجوب الحج من البلد بأنه (كان تجب عليه نفقة الطريق من بلده، فلما مات سقط الحج عن بدنه و بقي في ماله

تبعة ما كان يجب عليه لو كان حيّاً من مئونة الطريق من بلده «2»). و علي هذا الاستدلال- و إن كان لا يخفي ما فيه- لا فرق بين الحج الواجب بالنذر المطلق أو المقيد بالبلد.

______________________________

(1)- مستمسك العروة: 10/ 272.

(2)- السرائر: 1/ 516.

فقه

الحج (للصافي)، ج 1، ص: 396

[مسألة 124] إذا اختلف تقليد الميت و الوارث أو الوصي

مسألة 124- في صورة اختلاف تقليد الميت و الوارث أو الوصي في وجوب أصل الحج علي الميت أو وجوب البلدي منه أو غير ذلك فهل المدار علي تقليد الميت أو الوارث و الوصي؟

فالكلام يقع في مقامين:

الأول: في اختلاف الميت و الوارث إذا لم يوصِ بالحج، فإن كان اختلافهما في أصل الوجوب: فإما أن يري الوارث وجوبه علي الميت فيجب عليه حسب رأيه استئجار الحج عنه؛ لأنه علي رأيه يري عدم انتقال تركة الميت إليه و وجوب استئجار الحج عنه عليه.

و إما لا يري وجوبه علي الميت و كان رأي الميت وجوبه عليه، كما إذا كان الميت لا يري الرجوع إلي الكفاية معتبراً في الاستطاعة و الوارث يراه معتبراً فلا يجب عليه استئجار الحج عنه، و يجوز له التصرف في تركة الميت و البناء علي انتقالها إليه.

نعم، لا يجوز لغيره الذي رأيه رأي الميت ترتيب أثر انتقال التركة إلي الوارث.

و أما إن كان اختلافهما في وجوب الحج من البلد فالظاهر أن حكمه لا يختلف عن حكم الاختلاف في أصل وجوب الحج. فظهر من ذلك كله أن المدار علي تقليد الوارث. هذا إذا كان الوارث واحداً أو كان رأي الورثة واحداً.

و أما إذا كان الورثة مختلفين في الرأي فقال في العروة: (يعمل كلّ علي تقليده، فمن يعتقد البلدية يؤخذ من حصته بمقدارها بالنسبة، فيستأجر مع الوفاء

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 397

بالبلدية بالأقرب فالأقرب إلي البلد، و يحتمل الرجوع إلي الحاكم ليرفع النزاع فيحكم بمقتضي مذهبه، نظير ما إذا اختلف الولد الأكبر مع الورثة في الحبوة).

أقول: الاحتمال الأول مبني علي ثبوت الحج في التركة علي سبيل الإشاعة، فإن عليه يعمل كل واحد من

الورثة علي طبق وظيفته فيؤخذ من حصته و يصرف المأخوذ في شئون الميت، أما وفاء ما عليه بحسب حصته بالبلدية فلا يتصور، بل وفاؤه بالميقاتي أيضاً علي القول بأن الواجب الاستئجار من الميقات لا يتصور.

نعم، يمكن ذلك بالنسبة إلي تمام حصته بأن يكون الحج متعلقاً بالمال علي سبيل الكلي في المعين و لكنّ أصل هذا الاحتمال ضعيف، لأن لازمه انتقال بقية التركة إلي الوارث بموت المورث قبل أداء الحج و الدين و الوصية، و جواز تصرف الوارث في التركة في الجملة إذا كان بمقدار الحج باقيا منها.

و أما الاحتمال الثاني فوجهه: أن التركة حيث لا تنتقل إلي الوارث إلا بعد أداء الدين و العمل بالوصية فلا يجوز للوارث التصرف المالكي فيها قبل ذلك، و حيث إن بعض الورثة يمتنع من ذلك فله أن يرجع في ذلك إلي الحاكم، سواء قلنا بأن الإحجاج وظيفة الوارث، أو قلنا بأنه يرجع في أمره إلي الحاكم ليتداخل فيه من باب الحسبة.

و كيف كان فإنْ حكم الحاكم له يستأجر الحج من صلب مال الميت، و إنْ حكم عليه فهل يجوز له التصرف في حصته قبل أداء الحج؟ القول بالجواز في غاية الإشكال.

المقام الثاني: في اختلاف الوارث و الميت في الرأي إذا أوصي الميت بالحج، و اختلاف الوصي و الميت، و اختلاف الوارث مع الوصي إذا كان رأي الوصي موافقاً لرأي الميت.

فنقول: لا ريب أنه في جميع الصور يجب إنفاذ الوصية إذا لم تزد علي الثلث، و

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 398

لا يؤثر فيه مخالفة رأي الوارث أو الوصي أو كليهما مع الموصي، و أما إذا زاد علي الثلث: فإن خالف رأي الوصي رأي الميت، كما إذا كان رأي الميت عدم

اعتبار الرجوع إلي الكفاية أو وجوب الحج من البلد و كان رأي الوصي اعتبار الرجوع إلي الكفاية و كفاية الحج الميقاتي إلا أن رأي الورثة موافق لرأي الميت فلا ريب أنه يجب إنفاذ الوصية بتمامها؛ لعدم مانع من إنفاذه بعد كون الورثة باذلين لتمام نفقتها.

و إذا كان الورثة أيضاً مخالفين للميت في الرأي فلا يجب علي الوصي إلا إنفاذها بقدر الثلث إذا لم يكن الوارث باذلًا لما زاد علي الثلث، و لا يجب عليه إقامة الدعوي علي الورثة من جانب الميت، كما أن الأمر كذلك إذا لم يعين الموصي الوصي، فالوارث يعمل فيما زاد علي الثلث حسب رأيه.

و إذا كان الوصي يري العمل بتمام الوصية من الأصل كالموصي و الوارث لا يري ذلك فالظاهر أنه يجب عليه رفع الأمر إلي الحاكم لأخذ الزائد علي الثلث من الوارث.

[مسألة 125 الأحوط بل الأقوي في صورة وجود أكثر من واحد ممن يعرض نفسه للنيابة عن الميت استئجار من هو أقل اجرة من غيره مع الوثوق بصحة عمله]

مسألة 125- الأحوط بل الأقوي في صورة وجود أكثر من واحد ممن يعرض نفسه للنيابة عن الميت استئجار من هو أقل اجرة من غيره مع الوثوق بصحة عمله إذا كان المستأجر الوصي و لم يرض الورثة باستئجار غيره، أو كان بعضهم قاصراً، سواء قلنا بوجوب استئجار البلدي أو الميقاتي.

نعم لو كان في استئجار من هو أقل قيمة هتك لحرمة الميت عند العرف تنصرف الوصية إلي غيره ممن لا يوجب استئجاره ذلك، بل يمكن أن يقال في صورة عدم الوصية أيضاً: يجب اختيار من لم يكن استنابته عن الميت هتكاً له

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 399

بدعوي انصراف الأدلة إليه و لو كان أكثر قيمة من غيره.

[مسألة 126- إذا علم بتحقق الاستطاعة المالية للميت و شك في تحقق الاستطاعة الطريقية و لم يكن هنا أمارة أو أصل يؤخذ بها]

مسألة 126- إذا علم بتحقق الاستطاعة المالية للميت و شك في تحقق الاستطاعة الطريقية و لم يكن هنا أمارة أو أصل يؤخذ بها لا يجب القضاء عنه؛ لبراءته و براءة الولي عنه بمقتضي الأصل.

[مسألة 127] إذا علم استقرار الحج علي الميت و جهل أداؤه له

مسألة 127- إذا علم استقرار الحج علي الميت و لم يعلم أنه أتي به أم لا فالظاهر وجوب القضاء عنه؛ لاقتضاء الأصل بقاءه في ذمته، و احتمال عدم وجوبه عملًا بظاهر حال المسلم ضعيف.

لأن ذلك الاحتمال يعتد به إذا صدر من المسلم فعل أو قول أو تحقق منه حال يخبر عن أمر، كما إذا صلّي فظاهر فعله يخبر عن طهارته و إحراز ما هو شرط للصلاة، أو قال كلاما فيحمل علي معناه الصحيح لا الفاسد، أو ترك أمراً مثل الصلاة في وقته فيحمل علي عدم تركه عمداً. أما إذا شك في فعل مثل الصلاة أنه أتي بها أم لا فظاهر حاله لا يقتضي إتيانها لإمكان نسيانها لها، نعم ظاهر حاله أنه لم يتركها عمداً.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الظاهر من حال كل أحدٍ عليه أن يأتي بفعل إتيانه به، و حيث إن الواجب إتيان الحج فوراً فظاهر الحال يقتضي إتيانه و البناء علي إتيانه، و هذا هو قاعدة المقتضي و المانع التي لم تثبت حجيته، لأنها ليست من مصاديق الاستصحاب الثابت حجيته، لأن اليقين في قاعدة المقتضي و المانع متعلق بشي ء هو المقتضي، و الشك متعلق بشي ء آخر هو المانع، و في الاستصحاب يلزم أن يكون

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 400

الشك متعلقاً بعين ما تعلق به اليقين، كما إذا علمنا بطهارة شي ء بصب الماء عليه و عدم وجود مانع من وصول الماء إليه ثمّ شككنا في بقاء طهارته فإنه يجري فيه

استصحاب الطهارة، فالشك في مثله قد تعلق بعين ما تعلق به اليقين و هو طهارة ذلك الشي ء، و أما في قاعدة المقتضي و المانع كما إذا صببنا الماء علي شي ء لغسل الخبث منه الذي لا يحصل إلا بالعلم بعدم وجود المانع و شككنا في وجوده و عدمه فعدم ترتيب آثار الغسل ليس من نقض اليقين بالشك لعدم حصول اليقين بالغسل.

لا يقال: في موارد قاعدة المقتضي و المانع نتمسك باستصحاب عدم المانع، فبإحراز صب الماء بالوجدان و عدم المانع بالأصل نحكم بالغسل و حصول الطهارة.

فإنه يقال: إن الأثر الشرعي يترتب علي حصول الغسل و لا يمكن إثباته بعدم المانع إلا علي القول بالأصل المثبت.

ثمّ إنّه ربما يستدل لإثبات هذه القاعدة بالسيرة العقلائية و استقرار بناء العقلاء علي الحكم بوجود المقتضي بعد العلم بوجود المقتضي مع الشك في وجود المانع.

و فيه: أنه لم تثبت هذه السيرة من العقلاء، بل نري منهم خلاف ذلك، فلو رمي أحد سهماً إلي شخص إن أصابه يقتله و شك في إصابته و عدمها لمانع لا يحكمون بوقوع القتل و القصاص علي الرامي.

و الحاصل: أن التمسك بظاهر الحال هنا لعدم وجوب قضاء الحج عن الميت لا يفيد، سواء فسرنا ظاهر الحال بما ذكر أو بقاعدة المقتضي و المانع، فعلي الأول ما نحن فيه ليس من صغريات ظاهر الحال المعتبر، و علي الثاني الاستدلال ممنوع من جهة عدم صحة كبري الدليل. فتأمّل جيّداً.

نعم، ربما يقال: إن في باب قضاء الواجبات العبادية عن الميت- كما قالوا به في باب قضاء الصلوات- موضوع الحكم بوجوب القضاء هو فوت الصلاة، و أصالة

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 401

عدم إتيانه بالصلاة لا يثبت به فوت الصلاة إلا علي القول

بالأصل المثبت، و هكذا نجري الكلام في الحج و نقول: إن قضاء الحج عن الميت يدور مدار فوت الحج عنه، و أصالة عدم إتيانه بالحج لا يثبت ذلك.

و فيه: أن الحج كالدين من الواجبات المالية التي إذا علم الوارث اشتغال ذمة مورثه به يجب عليه أداؤه، كما كان يجب علي المورث أداؤه فكما أنه لا يفوت من المورث و هو أداء في أيِّ زمانٍ أدّاه و لا يفوت بتأخيره من سنته إلي السنوات المستقبلة لا يفوت منه بموته، و ذمته مشغولة به حتي يؤدي من تركته أو يتبرع به متبرع بنيابته.

و بعبارةٍ اخري: في باب الصلاة حيث إنها موقّتة بوقتٍ خاصٍّ يصدق الفوت بتركه في الوقت فيحتاج وجوبه إلي أمر جديد، و أما في الديون التي منها الحج و في كل واجب غير موقت لا يصدق الفوت، لأنه في كل زمان أدي يقع أداءً للمأمور به فالأمر بالحج لا يسقط بالتأخير و لا يفوت عن المكلف.

و بعبارةٍ ثالثةٍ: في باب الصلاة وجوب القضاء يدور مدار العلم بفوت الصلاة عن الميت و وجوب القضاء عليه، فإن علمنا بوجوب القضاء عليه و اشتغال ذمته بالقضاء نستصحب اشتغال ذمته و نحكم بوجوب القضاء عنه. و وجوب الصلاة في الوقت كان موقتاً به، بخلاف الحج فإن وجوبه علي المكلف ليس موقتاً، بل هو أداء في كل حال، و الحج كقضاء الصلاة الثابت علي الميت لا يسقط بموته و يستصحب اشتغال ذمته به.

فإن قلت: مقتضي بعض النصوص في باب الدين علي الميت عدم إثباته باستصحاب عدم الإتيان إلا إذا ضم إليه اليمين، فما دل علي اليمين في باب الدين يكون مخصِّصا للاستصحاب، و حاصل ذلك عدم حجية الاستصحاب في باب

الدين و الحج من الديون.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 402

أقول: أخرج الكليني: عن محمد بن يحيي، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن عيسي بن عبيد، عن ياسين الضرير، عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: «قلت للشيخ عليه السلام: خبِّرني عن الرجل يدّعي قِبَل الرجل الحق- إلي أن قال: - و إن كان المطلوب بالحق قد مات فاقيمت عليه البينة فعلي المدعي اليمين باللّٰه الذي لا إله إلا هو لقد مات فلان و إن حقه لعليه، فإن حلف و إلا فلا حق له، لأنا لا ندري لعله قد أوفاه ببينة لا نعلم موضعها، أو غير بينة قبل الموت فمن ثمّ صارت عليه اليمين مع البينة، فإن ادعي بلا بينة فلا حق له، لأن المدعَي عليه ليس بحي، و لو كان حيّاً لُالزم اليمين أو الحق أو يرد اليمين عليه فمن ثمّ لم يثبت الحق». «1»

و هذا الحديث يدل علي أن بقاء حق المدعي علي الميت بعد إثبات كونه عليه لا يثبت بالاستصحاب، بل لا بد من اليمين.

إلّا أنه يمكن أن يقال: إنّ هذا يكون في موارد يمكن عدم اطلاع الوارث حسب المتعارف بوفاء من عليه الحق كالديون المالية، لا فيما إذا كان عدم علم الوارث بالوفاء خلاف المتعارف كالحج، ففي مثل الديون المتعارفة يمكن أن يقال بعدم الاكتفاء بالاستصحاب و إن علم الوارث سبق اشتغال ذمة المورث به، و يمكن أن يدعي أن هذا، الحكم مختص بباب الدين و القضاء فلا يرتبط بالوارث المطلع عن حال مورثه.

هذا مضافاً إلي احتمال الإرسال في هذا الخبر لبعد رواية ياسين الضرير الذي كأنه كان من الطبقة السادسة عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه و هو

من الرابعة، و مضافاً إلي ما قيل بضعف السند أيضاً من جهة ياسين الضرير لأنه لم يوثق.

و هنا مكاتبة للصفار محمد بن الحسن القمي الملقب بممولة صاحب المسائل و الكتب إلي مولانا أبي محمد العسكري- عليه الصلاة و السلام- فيها: و كتب: «أو

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 4 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 403

- تقبل شهادة الوصي علي الميت مع شاهدٍ آخر عدل؟ فوقَّع: نعم، من بعد يمين». «1» قال بعض الأعلام: (إنها مخصصة لحجية البينة، كما ورد التخصيص عليها في مورد ثبوت الزنا فإنه لا يثبت إلا بضم عدلين آخرين، فالحلف في المقام جزء المثبت للدين فلا تخصيص علي الاستصحاب). «2»

بل يمكن أن يقال: إن فيها إشعاراً باعتبار الاستصحاب فإن مقتضاها قبول البينة مع اليمين و إن شك في أن الميت أدي ما ثبت عليه بالبينة و اليمين.

و أما ما أفاده قدس سره من أنه يظهر من الصدوق أن الراوي هو الصفار و المكاتب شخص آخر فلا يظهر منه، و إليك لفظ الكافي (علي ما في الوسائل): «كتب محمد بن الحسن- يعني الصفار- إلي أبي محمد عليه السلام» «3» و هذا لفظ الفقيه: «كتب محمد بن الحسن الصفار- رضي اللّٰه عنه- إلي أبي محمد عليه السلام». «4»

ثمّ إنه لا يخفي عليك أن الكلام يجري علي ما ذكرناه إذا علم أنه قد تعلّق بالميت خمس أو زكاة أو قضاء صلوات أو صيام و لم يعلم أنه أدّاها أم لا.

[مسألة 128- براءة ذمة الميت عن الحج و الوارث من الاستئجار تتوقف علي أداء الحج]

مسألة 128- براءة ذمة الميت عن الحج و الوارث من الاستئجار تتوقف علي أداء الحج، فلو علم الوارث أن الأجير لم يؤدِّهِ وجب الاستئجار ثانياً إذا بقي من التركة ما يفي به.

نعم،

إن أمكن استرداد الاجرة من الأجير يجب استردادها إذا لم يفِ ما بقي منها للحج. و هكذا الحكم في الوصي الذي أوصي إليه باستئجار حجة الإسلام، و أما

______________________________

(1)- الوسائل: ب 28 من أبواب الشهادات ح 1.

(2)- معتمد العروة: 1/ 339.

(3)- وسائل الشيعة: ب 28 من أبواب الشهادات ح 1.

(4)- من لا يحضره الفقيه: 3/ 73.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 404

الحج المستحبي فالظاهر أنه يجب الاستئجار ثانياً ما دام بقي من الثلث ما يفي به، و إلّا فالأمر موكول إلي الورثة. و اللّٰه هو العالم.

[مسألة 129- في صورة كفاية الميقاتية إذا استأجر غفلة أو جهلًا بالحكم البلدية]

مسألة 129- في صورة كفاية الميقاتية إذا استأجر غفلة أو جهلًا بالحكم البلدية فالإجارة بالنسبة إلي الزائد علي الميقاتية تكون فضولية، فإن أمضاها الوارث فهو، و إلا فإن علم الأجير بذلك قبل الحج فهو بالخيار، إن شاء يأتي بالميقاتية بأُجرتها من الاجرة المسماة، و إن شاء يفسخ العقد من الأصل، و إن علم بعد ذلك فالوصي ضامن للزائد علي الميقاتي.

هذا إذا استأجر الوصي الأجير بعين التركة، و أما إذا استأجره علي ذمته بداعي أخذ الاجرة من الورثة فالإجارة صحيحة و ليس له مطالبة أزيد من الميقاتية من الورثة، و هو ضامن للزائد، سواء علم بالحال بعد إتيان الأجير بالحج أو قبله.

[مسألة 130] هل يجوز لمن استقر عليه الحج أن يحج عن الغير؟
اشارة

مسألة 130- من استقر عليه الحج و تمكن من أدائه يجب عليه أن يحج عن نفسه و لا يجوز له تأخيره، و إن أخّره و أتي بالحج عن الغير إجارةً أو تبرعاً منه أو تطوعاً من نفسه فهل يجزي ذلك عن الغير و يقع صحيحاً نيابةً أو تطوّعاً، أم لا؟ فالكلام في المسألة يقع في فروع:

[الفرع] الأول: ما إذا كان عالماً بوجوب الحج علي نفسه و فوريته و مع ذلك أتي بالحج النيابي أو المستحبي

ففي هذه الصورة لا ريب أنه يكون عاصياً بترك الحج الواجب علي نفسه فيعاقب بتركه ذلك، لكن لا بفعله الحج النيابي أو المستحبي فهو لا

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 405

يعاقب عليه.

نعم، يأتي الكلام في وقوع ما أتي به صحيحاً أم لا؟ فالمنسوب إلي المشهور البطلان. و عن صاحب الجواهر: عدم الخلاف في بطلان الحج النيابي. كما حكي عن بعضهم التفصيل: فاختار البطلان في الحج النيابي و الصحة في الحج التطوعي عن نفسه. و عن الشيخ في الخلاف الصحة مطلقاً و إن كان عاصياً بتركه حجة الإسلام.

دليل من اختار الفساد، أولًا: أن الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده، و النهي يدل علي الفساد و هذا مبني علي مقدمتين: إحداهما: إثبات مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الضد الآخر. و ثانيتهما: إثبات الوجوب الشرعي للمقدمة.

و فيه: منع كون ترك أحد الضدين مقدمةً لوجود الضد الآخر حتي يكون الأمر به مقتضياً للنهي عن الآخر، ففي باب الضد ليس إلا استحالة اجتماعهما في الوجود، لا مقدمية عدم أحدهما لوجود الآخر، و مضافاً إلي منع الوجوب الشرعي للمقدمة علي فرض كون ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر.

نعم، عن شيخنا البهائي- رحمة اللّٰه عليه- أن الأمر بالشي ء و إن لم يقتضِ النهي عن ضده و لكن يقتضي عدم الأمر بضده لعدم إمكان الأمر بالضدين، و ذلك

يكفي في فساد الحج النيابي أو التطوعي لعدم الأمر به.

و اجيب عنه: بأنه يكفي في وقوع الحج النيابي صحيحاً و كذا التطوعي محبوبيتهما بنفسهما.

و قيل في جواب ذلك: إن المحبوبية تعرف من جانب تعلق الأمر فإذا فقد الأمر من أين يعرف المحبوبية؟

إن قلت: إنا نعرف المحبوبية الذاتية من الأوامر المتعلقة بالحج فإنه لم يؤمر به إلا من جهة المحبوبية الذاتية.

قلت: إن الفعل لو خلّي و طبعه محبوب بذاته إذا لا يقارن لمبغوض المولي، أما

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 406

إذا كان مقروناً بأمرٍ هو مبغوض لا يكون محبوباً، و لا معني لمحبوبيته بذاته المقرونة بالأمر المبغوض.

نعم، ينفع ذلك في مثل ما إذا رخص المولي عبده في ترك ما هو ضرر علي ماله أو عسر فيه و هو أتي به لمحبوبيته الذاتية.

و بعد ذلك اجيب عن الإشكال علي القول بالترتب، و أن عدم إمكان الأمر بالضدين إنما يكون محالًا إذا كانا عرضيين، و أما الأمر بالضد طولياً و علي سبيل الترتب في ظرف تحقق العصيان بالضد المأمور به أوّلًا ممكن، فيصح الإتيان بالحج

النيابي و الاستحبابي. و ثانياً: أن الزمان لمن لم يأت بحج نفسه و هو مستطيع له غير قابل لإتيان حج آخر فيه، نظير شهر رمضان الذي اختص بصوم نفس هذا الشهر فلا يصح صوم غيره فيه.

و فيه: أن غاية ما يمكن أنّ يقال: إن المستطيع إذا حج و إن لم ينوِ خصوص حجة الإسلام في هذا الزمان يقع عنه حجة الإسلام، و أما أنه إن نوي خصوص غيره من النيابي أو الاستحبابي فلا دليل علي عدم جواز وقوعه فيه.

نعم، تصور تعلق الأمر الاستحبابي بالحج في زمان تعلق الأمر الوجوبي به مشكل، و ذلك لما بيّناه

سابقاً من أن المناسك إذا صدرت عن المستطيع الذي نوي الحج بها تقع حجة الإسلام لا محالة فنية الاستحباب إذا كان جاهلًا بالموضوع أو الحكم لا يضر بوقوعها حجة الإسلام، و إذا كان عالماً بها يوجب البطلان لا محالة، لعدم استحبابها، فنيته تشريع محرم لا يصحّ التقرب بها.

ثمّ إنّه قد حكي بعض الأعاظم عن المحقق النائيني قدس سره: (أن الترتب لا يجري في الحج؛ لأن الترتب إنما يجري في الواجبين المقيّدين بالقدرة العقلية، و أما إذا كان أحد الواجبين مقيداً بالقدرة الشرعية فلا يجري فيه الترتب، لأنه في فرض العصيان لا يبقي موضوع للواجب المقيد بالقدرة الشرعية، و لا أمر له أصلًا، كما هو

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 407

الحال في الوضوء فإنه مقيد بالقدرة الشرعية بالتمكن من استعمال الماء شرعاً، فلو وجب صرف الماء في واجب آخر أهم و عصاه و توضأ به لا يحكم بصحة وضوئه بالأمر الترتبي، لأنه في فرض العصيان لا موضوع لوجوب الوضوء أصلًا، و العصيان لا يحقق موضوع الوضوء. و هكذا الحج فإنه المأخوذ فيه القدرة الشرعية، بمعني أنه اخذ في موضوعه عدم عصيان واجب آخر أهم، فإذا عصي لا يتحقق موضوع الحج أصلًا) «1».

و اورد عليه: بأن (فيه أولًا: أن القدرة الشرعية غير مأخوذة في الحج، و إنما المأخوذ فيه امور خاصة مذكورة في النصوص من الزاد و الراحلة و خلو السرب و صحة البدن، و لذا ذكرنا أنه لو زاحم الحج واجباً أهم و تركه و أتي بالحج كان الحج صحيحاً، و لا فرق بين الحج و سائر الواجبات المقيدة بالقدرة العقلية. و ثانياً: لو سلَّمنا أخذ القدرة الشرعية في الحج فإنما هي مأخوذة في حج الإسلام لا

في سائر أقسام الحج من التطوعي و النيابي و النذري، فلا مانع من جريان الأمر الترتبي في الحج التطوعي أو النيابي و الحكم بصحته). «2»

أقول: يمكن أن يقال: إن الكلام هنا ليس في الواجبين اللذين أحدهما يكون مشروطا بعدم عصيان الآخر أو يكون كل واحد منهما مطلقاً غير مشروط بذلك، بل الكلام في صحة الحج المستحبي سواء كان عن نفسه أو عن غيره إذا كان عليه حج الإسلام. فالإشكال غير وارد علي ما نحن فيه من الأصل. و هكذا إذا كان الحج واجباً عليه بالنذر فيمكن تصحيح الحج المستحبي معه بالأمر الترتبي.

و ثالثاً: صحيح سعد بن أبي خلف (من الخامسة) قال: «سألت أبا الحسن

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 348.

(2)- معتمد العروة: 1/ 349.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 408

موسي عليه السلام عن الرجل الصرورة يحج عن الميت؟ قال: نعم إذا لم يجد الصرورة ما يحج به عن نفسه، فإن كان له ما يحج به عن نفسه فليس يجزي عنه حتي يحج من ماله، و هي تجزي عن الميت إن كان للصرورة مال و إن لم يكن له مال». «1»

تقريب الاستدلال به: أن الضمير في قوله عليه السلام: «فليس يجزي عنه» راجع إلي المنوب عنه.

و مثله صحيح سعيد الأعرج (ابن عبد الرحمن من الخامسة) أنه «سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن الصرورة أ يحج عن الميت؟ فقال: نعم إذا لم يجد الصرورة ما يحج به، فإن كان له مال فليس له ذلك حتي يحج من ماله، و هو يجزي عن الميت كان له مال أو لم يكن له مال». «2»

و محلّ الاستدلال به: قوله عليه السلام: «فإن كان له مال فليس له ذلك» يعني لا يصح منه،

و في الاستدلال بهما أنهما علي الصحة و إجزائه عن المنوب عنه أولي. أما الصحيح الأول فقوله عليه السلام: «هي تجزي عن الميت إن كان للصرورة مال و إن لم يكن له مال» صريح في الإجزاء عن الميت مطلقاً، فلا بد أن يكون الضمير في «فليس يجزي عنه» راجعاً إلي نفسه. و أصرح منه الصحيح الثاني «فإن كان له مال» يدل علي الحكم التكليفي الوجوبي، أي يجب عليه أن يحج عن نفسه، و قوله: «هو يجزي عن الميت» يدل علي الإجزاء عنه مطلقاً. فالروايتان تدلّان علي أن الصرورة إن كان له مال إن حج عن الميت لا يجزي عن نفسه و يجزي عن الميت و إن كان يجب عليه أن يأتي به عن نفسه.

هذا، و قد تحصّل من ذلك إجزاء الحج النيابي عن المنوب عنه و إن كان النائب

______________________________

(1)- وسائل الشيعة: ب 5 من أبواب النيابة ح 1 و 3.

(2)- وسائل الشيعة: ب 5 من أبواب النيابة ح 1 و 3.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 409

صرورة مستطيعاً له لم يحج لنفسه بعد، و أما الحج الاستحبابي فإن كان عن نفسه و كان هو جاهلًا بالحكم أو الموضوع يجزي عن حجة الإسلام، و إن كان عالماً بهما فلا نتصور الاستحباب بالنسبة إليه إلا علي وجه التشريع المحرم، و أما الحج النيابي الاستحبابي عن الغير فالكلام فيه هو الكلام عن الحج الوجوبي عن الغير.

و أما الاستدلال لفساد غير حجة الإسلام بالآية المباركة: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» لظهورها في الملك و أن الحج مملوك للّٰه تعالي، فلا يجوز التصرف فيه إلا علي نحو يكون مأذوناً فيه من قبل اللّٰه تعالي، فحجه عن غيره أو تطوعاً تصرف

في ملكه تعالي بغير إذنه فيكون باطلًا.

ففيه: أن المراد من الآية: أن اللّٰه مالك لحجة الإسلام في ذمة العبد، كما إذا كان الشخص مالكاً لخياطة ثوب في ذمة الآخر أو مالكاً لصلاة في ذمته، فكما أنه لا يمنع من فعلها لغيره لا يمنع ملكية الحج للّٰه تعالي عن فعله لغيره.

اللهمّ إلّا أن يقال: إن الآية تدل علي ملكية طبيعة الحج للّٰه تعالي و أنها له، فلا يجوز فعله إلا بإذنه تعالي، و لكنّ هذا مخالف لظاهرها فإنها تدل علي أن للّٰه علي ذمم الناس حج البيت لا أن الحج ملك للّٰه تعالي.

الفرع الثاني: علي القول بصحة الحج عن الغير في صورة التمكن من حجة الإسلام و العلم بفورية وجوبها هل تصحّ إجارة نفسه لها، أم لا تصحّ؟

قال في العروة: (الظاهر بطلانها؛ و ذلك لعدم قدرته شرعاً علي العمل المستأجر عليه، لأن المفروض وجوبه عن نفسه فوراً، و كونه صحيحاً علي تقدير المخالفة لا ينفع في صحة الإجارة، خصوصاً علي القول بأن الأمر بالشي ء نهي عن ضده، لأن اللّٰه إذا حرَّم شيئا حرَّم ثمنه».

و أورد عليه بعض الأعاظم: (بأن القدرة التكوينية حاصلة وجداناً، و النهي الشرعي لا ينفي القدرة التكوينية، و أما القدرة الشرعية فيكفي حصولها

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 410

بالأمر الطولي الترتبي و لو لم يكن مقدوراً أصلًا لما تعلق به الأمر، فالعمل بنفسه ليس بمنهي عنه، و إنما وجب تركه مقدمةً لواجبٍ أهم). «1»

و فيه: يكفي في عدم قدرته علي العمل و بطلان الإجارة ذلك.

نعم، الإيراد علي الوجه الثاني- بأن النهي علي تقدير كون الأمر بالشي ء النهي عن ضده- وارد، لأن النهي عنه نهي تبعي غيري لا يدل علي الفساد، فلا يشمله قوله عليه السلام: «إن اللّٰه إذا حرَّم شيئاً حرّم ثمنه». «2»

و أما ضعف سند الحديث فمعارض بقوة متنه و مضمونه، و للبحث عنه مجال آخر.

ثمّ إنه

قد ذكر لبيان وجه فساد الإجارة تقريب آخر، و هو: (أن الإجارة في المقام إما تتعلق بالحج مطلقاً، أو تتعلق به علي فرض العصيان للحج الواجب علي نفسه. أما الأول فغير قابل الإمضاء؛ لأن المفروض أن الأمر بالحج عن نفسه غير ساقط، و التكليف به باقٍ علي حاله فكيف يأمره بإتيان الحج المستأجر عليه؟ و كيف تنفذ الإجارة في عرض ذلك الواجب الأهم الذي لم يسقط الأمر به؟ و الحكم بنفوذ الإجارة و صحتها يستلزم الأمر بالضدين في عرض واحد. و أما الثاني و هو تعلق الإجارة علي نحو التقييد بفرض العصيان فأمر ممكن في نفسه و لكن يبطل العقد من جهة التعليق. و الحاصل: الإنشاء المطلق غير قابل للإمضاء، و ما هو قابل له و هو الإنشاء في فرض العصيان غير صحيح لأنه من التعليق الباطل). «3»

و فيه: يمكن أن يقال: إنّ في الفرض الثاني يمكن اعتبار العصيان مفروض الوجود و إنشاء الإجارة غير معلق بالعصيان، فمن يؤجر نفسه للحج يؤجرها منجزاً

______________________________

(1)- معتمد العروة: 1/ 352.

(2)- بحار الأنوار: 103/ 55.

(3)- معتمد العروة: 1/ 354.

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 411

لبنائه علي عصيان الأمر الراجع إلي حج نفسه فلا تعليق في الإنشاء أصلًا. و الوجه الأسدّ لفساد الإجارة عدم قدرة المؤجر علي العمل شرعاً.

قد أورد السيد صاحب العروة قدس سره هنا علي نفسه بقوله: (فإن قلت: ما الفرق بين المقام و بين المخالفة للشرط في ضمن العقد مع قولكم بالصحة هناك، كما إذا باعه عبداً و شرط عليه أن يعتقه فباعه، حيث تقولون بصحة البيع و يكون للبائع خيار تخلف الشرط؟ قلت: الفرق أن في ذلك المقام المعاملة علي تقدير صحتها مفوتة لوجوب العمل بالشرط، فلا

يكون العتق واجباً بعد البيع لعدم كونه مملوكاً له، بخلاف المقام حيث إنه لو قلنا بصحة الإجارة لا يسقط وجوب الحج عن نفسه فوراً، فيلزم اجتماع أمرين متنافيين فعلًا فلا يمكن أن تكون الإجارة صحيحة).

و غرضه من الإيراد، أنّه ما يمنعكم من القول بصحة الإجارة و أن يكون للمستأجر الخيار أو أخذ اجرة المثل إذا تخلّف الأجير عن العمل، مع أنكم تقولون بصحة بيع العبد المشروط علي البائع عتقه، و أنه للبائع الأول الخيار، فكما أن البائع المشروط عليه العتق لا يتمكن من العتق بعد البيع المؤجر الذي يؤجر نفسه للحج لا يتمكن شرعاً من العمل بعد الإجارة، و مع ذلك تقولون بصحة البيع فلم لا تقولون بصحة الإجارة هنا؟

و غرضه من الجواب: أن في صورة البيع لا يتمكن البائع من العتق، فبيعه مفوِّت لوجوب العمل بالشرط فلا يجب العتق بعد البيع، و في المقام مع صحة الإجارة لا يسقط وجوب الحج عن نفسه و يلزم اجتماع أمرين متنافيين.

و بعبارةٍ اخري: الأمر بالعتق في صورة البيع يسقط به، و في صورة الإجارة لا يسقط الأمر بالحج عن نفسه فهو باقٍ علي حاله يلزم من الحكم بصحة الإجارة الأمر بالمتنافيين.

الفرع الثالث: الظاهر جواز استئجار غير المتمكن من أداء الحج عن نفسه

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 412

و إن استقر عليه من السابق، كما إذا لم يجد ما يفي بالحج و لو متسكعاً؛ و ذلك لسقوط الأمر بالحج عن نفسه بعدم قدرته عليه فلا مانع من إجارته للحج و أن يؤجر نفسه له.

الفرع الرابع: قال السيد: (و إن تمكن بعد الإجارة عن الحج عن نفسه لا تبطل إجارته)

و حكي عن الدروس أنه قال: (و لا يقدح في صحتها تجدد القدرة).

و هذا غير ظاهر، لاستكشاف تجدد القدرة عن عدم القدرة علي الحج الإجاري من أول الأمر، اللهمّ إلا أن يكون تجدد القدرة بأُجرة الحج و أيضاً العبرة بمشروعية العمل في الإجارة مشروعيته حين العمل لا حال الإجارة، و بعد كونه حين العمل قادراً علي أدائه لنفسه لا يشرع الإتيان به عن غيره.

الفرع الخامس: الظاهر صحة الإجارة إذا كان الأجير و المستأجر جاهلين بالاستطاعة،

أو بفورية الوجوب و لم يتذكّرا إلي أن فات محل استدراك الأجير الحج عن نفسه، و أما إن علما قبل ذلك فيكشف عن بطلان الإجارة. و هل إذا كان الأجير جاهلًا و المستأجر عالماً بالحال تصح الإجارة و تبرأ ذمة المنوب عنه، أم لا؟ الظاهر صحتها و براءة ذمته، سواء كان جهل الأجير مركباً أم بسيطاً و لكنه كان معذوراً فيه.

الفرع السادس: علي القول بصحة الحج النيابي و لو بالأمر الترتبي لا إشكال في عدم إجزائه عن نفسه؛

لأنهما واجبان مستقلّان لا يكتفي بأحدهما عن الآخر، و كذا علي القول بفساد الحج النيابي في المسألة فإنه لم ينوه لنفسه، و لا وجه لوقوعه عن نفسه بعد ما نواه عن غيره.

الفرع السابع: هل يجزي الحج التطوعي عن حجة الإسلام، أم لا؟

نسب إلي الشيخ أنه يقع عن حجة الإسلام، و الأقوي فيه التفصيل: فمن لم يعلم بوجوب الحج عليه نوي التطوع فالظاهر إجزاؤه عن حج الإسلام، و من كان عالماً بوجوب الحج و عدم جواز التطوع فالحكم فيه البطلان. بل إن كان عالماً بوجوب الحج

فقه الحج (للصافي)، ج 1، ص: 413

و بفوريته و تخيل جواز التطوع فأتي به بقصد الأمر الاستحبابي فالظاهر فيه أيضاً البطلان؛ لعدم وجود الأمر الاستحبابي، فما نواه لم يكن و ما كان لم ينوه.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.