رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام المجلد 10

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام/ تاليف جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق (ع) ، 14ق. = 13 -

مشخصات ظاهري : 10ج.

يادداشت : عربي.

يادداشت : فهرست نويسي بر اساس جلد ششم: 1428ق. = 1386.

يادداشت : كتابنامه.

موضوع : اسلام -- بررسي و شناخت

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندي كنگره : BP11 /س2ر5 1300ي

رده بندي ديويي : 297

شماره كتابشناسي ملي : 1053076

ص :1

اشارة

ص:2

رسائل ومقالات

10

ص:3

ص:4

رسائل ومقالات

يشتمل هذا الجزء على مقالات في:

الكلام، العقائد، الفقه، وحوارات مع بعض الأعلام،

وفيها إرشادات ودعوة إلى التقريب بين المذاهب

تأليف

الفقيه المحقّق

آية اللّه جعفر السبحاني

الجزء العاشر

نشر

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:5

سبحانى تبريزى، جعفر، 1308 -

رسائل و مقالات: تبحث في مسائل كلامية، عقائدية، فقهية، وحوارات مع بعض الأعلام، وفيها إرشادات ودعوة إلى التقريب بين المذاهب / تأليف جعفر السبحاني. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام 1394.

ج. (10. VOL ) 5-575-357-964-978: ISBN

( VOL.SET ) 9-465-357-964-978: ISBN

فهرستنويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه به صورت زيرنويس.

1. شيعة -- عقائد -- مقاله ها و خطابه ها. 2. إسلام -- مسائل متفرقة. ألف. مؤسسه امام صادق عليه السلام.

ب. عنوان.

5 ر 2 س/ 211/5 / BP 297/4172

1394 اسم الكتاب:... رسائل و مقالات

المؤلّف:... العلّامة الفقيه جعفر السبحاني

الجزء:... العاشر

الطبعة:... الأُولى

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

القطع:... وزيري

التاريخ:... 1437 ه. ق

الكمية:... 1000 نسخة

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الصف والإخراج الفني:... مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام - السيد محسن البطاط

تسلسل النشر: 923 تسلسل الطبعة الأُولى: 451

توزيع

مكتبة التوحيد

ايران - قم؛ ساحة الشهداء

37745457؛ 09121519271

www.shia.ir , http://www.imamsadiq.org

ص:6

مقدّمة المؤلّف:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه بجميع محامده كلّها على جميع نعمه كلّها، وصلى اللّه على محمد وآله الميامين شجرة النبوّة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعدن العلم، وأهل بيت الوحي والرسالة.

أمّا بعد؛ فهذا هو الجزء العاشر من موسوعتنا المسمّاة ب «رسائل ومقالات» ويشتمل على ثلاثة فصول:

الفصل الأوّل: مقالات في الكلام والعقائد.

ويحتوي على أربع مقالات:

1. مع شيخ الأزهر في محاضراته الرمضانية: ناقشنا فيها ما أفاده سماحته في محاضراته مع تبيين نقاط الخلاف والوفاق بين الفريقين وكلّنا أمل أن يساهم الانفتاح على الطرف الآخر في حلّ الكثير من الإشكالات المثارة والشبهات المطروحة، وهذا أمر ممكن من خلال النقاش العلمي والبحث المنطقي بين العلماء والمفكّرين.

2. فتنة التكفير: وهي رسالة تسلّط الضوء على الحالة المأساوية الّتي يمرّ بها المسلمون وظهور طائفة ضالّة مضلّة ترتكب الجرائم الفظيعة باسم الدين والدين منهم براء.

3. آل البيت عليهم السلام وحقوقهم الشرعية.

ص:7

4. أسئلة وأجوبة عقائدية: وهي رسالة تحتوي على أسئلة حول التوحيد والتوسّل بالرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة المعصومين عليهم السلام في الحوائج الدنيوية أو الأُخروية، ويأتي بعدها بيان الصلة بين الحياة الدنيا وما بعد الموت (البرزخ) والأجوبة كلّها على ضوء الكتاب العزيز والسنّة النبوية.

الفصل الثاني: مقالات في الفقه والكلام. ويحتوي على أربع مقالات أيضاً، هي:

1. مواقيت الصلوات في الكتاب والسنّة.

2. الخمس فريضة شرعية.

3. رسالة حول توسعة المسعى .

4. فقه المزار في أحاديث الأئمة الأطهار عليهم السلام.

الفصل الثالث: رسائل وتقاريظ وبيانات.

وقد حرصنا في هذا الجزء على غرار الأجزاء السابقة التأكيد على الوحدة الإسلامية والدعوة إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية من خلال الحوار العلمي البنّاء وبعيداً عن التعصّب الأعمى البغيض، سائلين المولى القدير أن يقع موقع القبول والرضا.

والحمد للّه رب العالمين

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

الثالث من جمادى الآخرة يوم

وفاة السيدة فاطمة الزهراء سيدة نساء

العالمين عليها السلام 1437 ه

ص:8

الفصل الأوّل: مقالات في الكلام والعقائد

اشارة

1. مع شيخ الأزهر في محاضراته الرمضانية

2. فتنة التكفير

3. آل البيت عليهم السلام وحقوقهم الشرعية

4. أسئلة وأجوبة عقائدية

ص:9

ص:10

1 مع شيخ الأزهر في محاضراته الرمضانية

اشارة

حوار هادئ مع الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر حول محاضراته الرمضانية الّتي تناول فيها: عدالة الصحابة ومسألة الخلافة والإمامة والعصمة وأُمور أُخرى اختلف فيها الفريقان

ص:11

ص:12

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد للّه رب العالمين، الحمد للّه الّذي دعانا إلى الاعتصام بحبل الوحدة ونهانا عن التفرّق والتشرذم؛ والصلاة والسلام على نبيّ الرحمة وآله الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

أمّا بعد؛ يشهد العالم الإسلامي في كلّ يوم جرائم فظيعة وشلّالات دم وهَدماً للمنشآت وقتلاً للأبرياء إلى غير ذلك من الجرائم الّتي يهتز لها عرش الرحمن، ومن المؤسف جدّاً أنّ هذه الأعمال الوحشية تقع باسم الدين إلى حدّ أصبح ذبح الإنسان الّذي عرّفه سبحانه بقوله: (وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ) (1) أهون عندهم من ذبح الطير أو قتل الهوام.

وفي خضمّ هذه الأحداث المريرة قامت المرجعية الرشيدة في الحوزة العلمية في قم بعقد مؤتمر عالمي تحت عنوان «آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرفة والتكفيرية» إمتداداً للعشرات من المؤتمرات واللقاءات الّتي عقدت في الجمهورية الإسلامية لتعزيز الوحدة ورصّ الصفوف أمام الخطر المحدق بالعالم الإسلامي، شارك فيه بحمد اللّه أصحاب الفضيلة من كلتا الطائفتين، وقام العلماء بإرسال العديد من المقالات والّتي ألقيت في المؤتمر.

وكان للمؤتمر صوت مدوّي في الأوساط العلمية ووسائل الإعلام، وكان

ص:13


1- . الإسراء: 70.

الدكتور الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر أحد المدعوّين وإن لم يحضر، وكان المأمول من سماحته أن يقوم في محاضراته الّتي ألقاها عصر أيام شهر رمضان لعام 1436 ه بما يوافق أهداف المؤتمر، إلّاأنّه حفظه اللّه رغم دعوته إلى التقريب لكنّه في الوقت نفسه سلّط الضوء على أُمور لا تخدم التقريب بين الطائفتين.

ولأجل ذلك قمنا بتأليف هذه الرسالة الّتي سنناقش فيها ما أفاده الدكتور في تلك الحلقات ونبيّن مواضع الوفاق والخلاف، عسى أن تقع موقع القبول وتساهم في رفع الإشكالات المثارة.

جعفر السبحاني

قم المقدسة

10 شوال المكرّم 1436 ه

ص:14

الحلقة الأُولى: اليوم الأوّل من شهر رمضان 1436 ه

ركّز الدكتور أحمد الطيّب شيخ الأزهر (حفظه اللّه) في حديثه اليومي الّذي كان يُبث من الفضائية المصرية قبل الإفطار، على أمرين:

1. أنّه سوف يخصّص بعض حلقات هذا الشهر أو كلّها لموضوع في غاية الأهمية وهو منزلة الصحابة الكرام وبيان عقيدة أهل السنّة والجماعة فيهم - إلى أن قال: - ونحن لا نريد توسيع الخلافات أو إحداث فتنة فالأزهر على مدى تاريخه مركز لوحدة المسلمين بكلّ طوائفهم ومذاهبهم.

2. أشار إلى وجود محاولات لضرب استقرار مصر من خلال دعوة شبابها إلى ترك مذهب أهل السنّة الّذي تربّوا عليه إلى مذهب آخر (التشيّع) وإدخالهم من بوابة محبّة أهل البيت، الّذين نحبّهم - حسب قوله - أكثر ممّا يحبهم غيرنا.

***

أقول: كان المترقّب من شيخ الأزهر الّذي يدّعي أنّ الأزهر على مدى تاريخه مركز لوحدة المسلمين، أن يركّز في الحلقة الأُولى من محاضراته وفي اليوم الأوّل من شهر رمضان المبارك على الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب ويشير إلى أنّ القرآن يأمرنا بالتمسّك بحبل الوحدة ويقول:

(وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) (1)، لما لهذه القضية من أهمية أشارت إليها الآية المباركة من خلال طرحها لنكتة عجيبة حيث أمر سبحانه بالاعتصام بحبل اللّه مكان أن يقول واعتصموا بالإسلام، أو بالقرآن، أو ما شابههما، وإنّما عدل عن ذلك كلّه إلى الاعتصام بحبل اللّه مشيراً إلى أنّ الأُمّة المتفرّقة المتشرذمة

ص:15


1- . آل عمران: 103.

أشبه بمن تردّى في البئر فلا تكتب له النجاة إلّابالتمسّك بحبل قويّ يساعده في الخروج منه.

فعلى الأُمّة الإسلامية في هذه الأزمة الّتي تراق فيها دماء أبنائها كلّ يوم بأيدي سفلتهم أن يتمسّكوا بالمشتركات ويتركوا معالجة الخلافات إلى المحافل الدينية والمؤتمرات العلمية، فإنّ ما يجمعهم أكثر ممّا يفرّقهم.

ونحن إذا تأمّلنا في كتاب اللّه المجيد نرى أنّه سبحانه يجعل الخلاف بين الأُمة أحد مصاديق العذاب النازل من السماء أو من تحت الأرجل ويقول: (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) .(1)

وقال أمير البيان علي عليه السلام: «وَالْزَمُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمِ فَإِنَّ يَدَ اللّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ . وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ ! فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ ، كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ . أَلَا مَنْ دَعَا إِلَى هذَا الشِّعَارِ فَاقْتُلُوهُ ، وَلَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هذِهِ ».(2)

ومن هنا كان الأجدر بشيخ الأزهر الشريف التركيز على الوحدة الإسلامية ودعوة المسلمين إلى التمسّك بالمشتركات الكثيرة: وحدة الرب، وحدة الرسول، وحدة الكتاب، وحدة السنّة، وحدة الشريعة، وحدة القبلة، وحدة اللغة الدينية، وغير ذلك، بدلاً من الانطلاق من النقاط الخلافية والإشارة إلى الخلاف الموجود حول الصحابة بين الشيعة والسنّة أو انتشار التشيّع في مصر العزيزة!!

أمّا الوجه الأوّل فسيوافيك ما هو الحقّ في الموضوع.

وأمّا الثاني فقد أبدى انزعاجه بالنسبة إلى انتشار التشيع وكأنّ مارداً يجتاح أرض الكنانة، وهو انزعاج لا نرى من الناحية الموضوعية أيَّ مبرر له، ولا تشير

ص:16


1- . الأنعام: 65.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 127.

المعطيات الواقعية إلى صوابية هذا الإدّعاء.

وعلى فرض صحّته لماذا أهمل سماحته الحملات التنصيرية في مصر وغيرها من البلاد الإسلامية الّتي تؤمن بمرجعية الأزهر الشريف على أقل تقدير منذ سنين طوال الّتي تشقّ وحدة المسلمين ؟! ولماذا لم يشر إلى الوهابية الّتي هي بوابة للإرهاب، الّتي أخذت تهدّد وحدة المسلمين في أرض مصر وغيرها من خلال ما تبذله من المال في شراء الذمم والأقلام المأجورة والدعاية ووعّاظ السلاطين ؟!

هذا ما نقدّمه إلى شيخ الأزهر الشريف أحمد الطيّب (طيّب اللّه قلمه ولسانه) وبشكل موجز راجين من سماحته أن يرصد - ولو على نحو الفهرسة والاستعراض العام - الدور الكبير الّذي لعبه كبار أعلام الشيعة، والمؤلّفات القيّمة الّتي خطّتها أنامل مراجعهم ومفكّريهم في هذا المجال، مضافاً إلى الجهود الكبيرة الّتي بذلت في تأليف القلوب وتقريب النفوس من خلال المؤتمرات العالمية الّتي عقدت في طهران وقم والنجف. على أمل اللقاء معه في حديثه اليومي الثاني الّذي بُثّ يوم الجمعة ثاني شهر رمضان.

الحلقة الثانية: اليوم الثاني من شهر رمضان 1436 ه

اشارة

تحدّث شيخ الأزهر الشريف في ثاني حلقاته مساء اليوم الثاني من شهر رمضان المبارك عن تعريف الصحابي وقال: الصحابي هو مَن تحقّقت فيه ثلاثة أركان:

الأوّل: أن يكون قد لقي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وإن لم يره كما لو كان كفيفاً.

الثاني: أن يلقاه وهو مسلم، وبذلك فقد خرجت جماعة الكفّار

ص:17

والمشركين حتّى وإن أسلموا بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

الثالث: أن يموت على إسلامه.

فمن استوفى هذه الأركان الثلاثة فهو صحابي.

فخرج بالقيد الأوّل التابعي وما تلاه من الطبقات، وبالقيد الثالث عبداللّه بن جحش(1) فقد خرج إلى الحبشة وهناك ارتدّ عن الإسلام، كما يدخل بالثالث مَن لقي النبيّ وأسلم ثم ارتدّ ثم بعد ذلك عاد إلى الإسلام في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ثم مات على إسلامه نظير عبداللّه بن أبي سرح.

***

ما ركّز عليه الدكتور من طول الصحبة هو أحد القولين في تعريف الصحابي، وفيه قول آخر لا يرى لطول الصحبة تأثيراً في وصف الرجل بالصحابي، وإليك الاشارة إلى بعض القائلين به:

أحمد بن حنبل: أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: كلّ من صحبه شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه.

وقال البخاري: من صحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه.

وقال القاضي أبو بكر بن محمد بن الطيّب: لا خلاف بين أهل اللغة في أن الصحابي مشتق من الصحبة قليلاً كان أو كثيراً.

وقال صاحب الغوالي: لا يطلق اسم الصحبة إلّاعلى من صحبه، ثم يكفي في الاسم من حيث الوضع، الصحبة ولو ساعة، ولكن العرف يخصّصه بمن كثرت صحبته.(2)

ص:18


1- . الّذي تنصرّ في الحبشة هو عبيد اللّه بن جحش، وأمّا عبد اللّه فقد استشهد يوم أحد.
2- . أُسد الغابة: 1/11-12.

وسيأتي في الحلقة الثالثة بأن الأستاذ ذكر وجود قولين في تعريف الصحابي أحدهما لمدرسة المحدّثين والآخر لمدرسة علماء أُصول الفقه.

ثم إنّ التوسّع في مفهوم الصحابي حسب ما جاء في بعض هذه الآراء ممّا لا تساعد عليه اللغة ولا العرف العام، فإنّ صحابة الرجل عبارة عن جماعة تكون لهم خلطة ومعاشرة معه، مدّة مديدة، فلا تصدق على مَن ليس له إلّاالرؤية من بعيد، أو سماع كلام، أو التحدّث معه مدّة يسيرة أو الإقامة في المدينة زمناً قليلاً، ونحن نصافق الأُستاذ في المقام.

وبعد هذه الإطلالة السريعة في تعريف الصحابي نلفت نظر شيخ الأزهر إلى أمرين:

الأوّل: ادّعاء الإجماع على موضوع غير محدّد

عدّ الشيخ حفظه اللّه عدالة الصحابة من الخطوط الحمراء وقال: إنّه أمر متّفق عليه بين أهل السنّة، فنسأله كيف تكون عدالة الصحابة جزءاً من تلك الخطوط وأمراً ثابتاً عندهم مع اختلافهم في موضوعه اختلافاً واسعاً، فإنّ الاتّفاق على حكم رهن الاتّفاق على تعريف محدّد وجامع لمفهوم الصحابي، وقد عرفت آراءَهم المختلفة، حتّى أنّ الأُستاذ صرّح في الحلقة الثالثة بأنّ المحدّثين توسّعوا كثيراً في معنى الصحابي.

الثاني: التوسّع لحفظ كرامة بعض الصحابة

إنّ التوسّع في مفهوم الصحابي وشموله لمن رآه مرّة واحدة ثم ترك المدينة ولم يره بعد ذلك، إنّما جاء لغاية حفظ كرامة ثلّة من الصحابة، ويعلم ذلك بعد بيان مقدّمتين:

أ. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنّه كان يحدّث أن رسول

ص:19

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون (وفي رواية:

يحلؤون) عن الحوض، فأقول: يارب أصحابي، فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقهرى».(1)

ب. بعد رحيل النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ارتدّ كثير ممّن أسلم وآمن به في اليمامة وغيرها بقيادة مسيلمة الكذّاب وغيره، وهؤلاء المرتدّون كانوا قد شاهدوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وسمعوا حديثه، ثم تركوا المدينة فعُدّوا من الصحابة.

ولمّا كان الارتداد يحطّ من كرامة الصحابة، حاولوا إرجاع الروايات الدالة على الارتداد إلى الّذين لم يصحبوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلّازمناً قليلاً لا يعتدّ به، حتّى يصونوا بذلك كرامة الصحابة الآخرين.

ولكنّها محاولة غير ناجحة؛ لأنّ ما رواه البخاري ناظر - لمن تأمّل فيه - إلى مَن يعدّ من تلك الثلّة الجليلة، وذلك واضح لمن قرأ الروايات.

الحلقة الثالثة: اليوم الثالث من شهر رمضان 1436 ه

تحدّث الدكتور أحمد الطيّب شيخ الأزهر الشريف في محاضراته اليومية في الثالث من شهر رمضان المبارك عام 1436 ه عن الصحابة وعدالتهم، ويتلخّص ما أفاده في أُمور:

الأوّل: الإشارة إلى أنّ هناك مدرستين لتحديد لقاء الصحابي، وهما:

مدرسة المحدّثين، ومدرسة علماء أُصول الفقه.

ص:20


1- . صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب في الحوض، الحديث رقم 6586، ولاحظ سائر روايات ذلك الباب تحت الارقام 6576-6593.

فالمحدّثون توسّعوا كثيراً في معنى لقاء الصحابي بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم فقالوا: إنّ المراد باللقاء مجرّد اللقاء، ولو لم تطل المجالسة بأن كانت قصيرة، سواء روى عنه، أم لم يرو عنه، وسواء غزا معه أم لم يغز.

وأمّا الأُصوليون فقد احتاطوا كثيراً في تعريف الصحابي وقالوا: مَن طالت صحبته متتبعاً للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مدّة يثبت معها إطلاق «صاحب فلان فلاناً» بلا تحديد هذه المدّة. وقيل: ستة أشهر. وقيل: سنة، أو غزو.

الثاني: أنّ عدالة الصحابي لا تأتيه من كثرة عبادة ولا صوم ولا صلاة ولا حجّ ولا زكاة، وإنّما تأتي من اجتماعه بالنبي مع إسلامه إلى أن يموت.

الثالث: عدالة الصحابي بمعنى أنّه إذا روى حديثاً لا يبحث عنه فهو كما يقولون: «تجاوز القنطرة» وغيره لا يقبل حديثه إلّاإذا خضع للجرح والتعديل، إذ الصحابي عدل والعدل تقبل أخباره.

الرابع: إنّ أهل السنّة لا يثبتون العصمة إلّاللأنبياء، وأنّ الصحابة كلّهم عدول يجوز عليهم الخطأ.

هذه الأُمور الأربعة عصارة ما قاله في محاضرته الثالثة.

***

أقول: يلاحظ على الأمر الأوّل: بما عرفت من أنّ التوسّع في مفهوم الصحابة حتّى يشمل مَن رآه ساعة، كان لغاية خاصّة، وهي حفظ كرامة الصحابة المعروفين وذلك بإرجاع ما دلّ على ارتداد قسم منهم إلى غير المعروفين الّذين لم يصحبوا النبيّ إلّايوماً أو أقل. ولكن المحاولة غير تامّة لمن قرأ ما دل على ارتداد طائفة منهم بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

ص:21


1- . لاحظ: صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب في الحوض: الروايات برقم 6579، 6582، 6583، 6584، 6585، 6586، و 6587.

ويلاحظ على الأمر الثاني: أنّ ما أفاده من أنّ عدالة الصحابي وليد لقاء النبيّ فقط، أمر لا يقبله العقل الحصيف، إذ على هذا يصير اللقاء في تكوين الشخصية الإسلامية المثالية للصحابي كمادة كيمياوية تستعمل في تحويل عنصر كالنحاس - مثلاً - إلى عنصر آخر كالذهب حتّى تصنع صحبة الجيل الكبير الّذي يناهز مائة ألف، أُمّة عادلة مثالية تكون قدوة وأُسوة للأجيال المستقبلة.

وممّن التفت إلى هذا المعنى الإمام ابن الوزير (المتوفّى 842 ه) حث استثنى من الصحابة مَن ظهر منه فسق أو ظلم؛ لأنّه يرى أنّ هذا الظالم والفاسق يسيء إلى صحبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقال: استثني من الصحابة مَن ذكر بالفسق الصريح كالوليد بن عقبة - ولو كانت الصحبة تؤثر بطريقة إعجازية لما فسق الوليد - ويقول: ومن مهمات هذا الباب القول بعدالة الصحابة كلّهم في الظاهر، إلّامَن قام الدليل على أنّه فاسقُ تصريحٍ ، ولابدّ من هذا الاستثناء على جميع المذاهب، وأهل الحديث وإن أطلقوا القول بعدالة الصحابة كلّهم، فإنّهم يستثنون مَن هذه صفته، وإنّما لم يذكروه لندوره، فإنّهم قد بيّنوا ذلك في كتب معرفة الصحابة، وقد فعلوا مثل هذا في قولهم: إنّ المراسيل لا تقبل على الإطلاق من غير استثناء، مع أنّهم يقبلون مراسيل الصحابة.(1)

إنّ دعوة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم تكن دعوة إعجازية خارجة عن قوانين الطبيعة فالرسول صلى الله عليه و آله و سلم لم يقم بتربية الناس وتعليمهم إلّامستعيناً بالأساليب التربوية المتاحة والإمكانيات المتوفّرة، والدعوة القائمة على هذا الأساس تختلف آثارها على حسب استعدادها وقابلياتها.

فبالنظر إلى ما ذكرنا نخرج بالنتيجة التالية:

ص:22


1- . انظر: الصحبة والصحابة لحسن بن فرحان المالكي: 44، الطبعة الأُولى عام 1423 ه.

إنّ الأُصول التربوية تقضي بأنّ من الصحابة مَنْ يمكن أن يصل في قوة الإيمان ورسوخ العقيدة إلى درجات عالية، كما يمكن أن يصل بعضهم في الكمال والفضيلة إلى درجات متوسطة، ومن الممكن أن لا يتأثّر بعضهم بالصحبة وسائر العوامل المؤثّرة إلّاشيئاً طفيفاً لا يجعله في صفوف العدول وزمرة الصالحين.

وهذا ما يدفعنا إلى تصنيف الصحابة إلى أصناف كالتابعين، وإلّا فلازم ذلك كون مجرّد اللقاء سبباً جعل مائة ألف صحابي رجالاً مثاليين كأنّهم جنس من غير البشر، وأمّا الاستناد في ذلك إلى القرآن الكريم فسوف نفسّر الآيات بفضل اللّه تبارك وتعالى.

اعتقد أنّ المشكلة ليست في وثاقة الصحابي وقبول روايته كي يركّز الدكتور الطيّب عليها، وإنّما الكلام في السلوكيات المتضادّة مع الشريعة وعدم انسجامها مع القيم الإسلامية، فعلى سبيل المثال أين يضع الدكتور قضية مالك بن نويرة وقتله والاعتداء على زوجته ؟!(1) وأين يضع الموقف من أبي ذر(2) وعمّار(3) و...؟! وأين يضع تمكين الأمويين

ص:23


1- . تضافرت الروايات على أنّ خالد بن الوليد بعد ما قتل الصحابي مالك بن نويرة بعذر واهٍ وتزوج امرأته، فلمّا رجع إلى المدينة وانتشر خبره قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها ثم قال له: أرئاء قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته واللّه لأرجمنك بأحجارك. تاريخ الطبري: 3/279، حوادث سنة 11 ه.
2- . وقد سيّره عثمان إلى الربذة ومات هناك وحيداً. لاحظ: أنساب الأشراف: 5/52.
3- . لاحظ ما ذكره البلاذري في «الأنساب»: 6/161 ممّا جرى بينه وبين عمّار حيث أمر عمّاله بقوله: خذوه، فأُخذ ودخل عثمان ودعا به فضربه حتّى غشي عليه. ثم أُخرج فحمل حتّى أُتي به منزل أُم سلمة زوج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلم يصل الظهر والعصر والمغرب، فلما أفاق توضّأ وصلّى.

وإرجاع المطرودين كالحكم وابنه مروان ؟!(1)

وممّا ذكرنا يظهر الإشكال في الأمر الثالث أعني: أنّه يقبل حديث الصحابي ولا يخضع للجرح والتعديل، إذ معنى ذلك أنّ مجرد اللقاء ولو ساعة واحدة أو يوماً أو سمع حديثاً جعل مائة ألف ممّن لقي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم رجالاً مثاليين على وجه صاروا أصحاب ملكة تمنعهم من ارتكاب الكبائر أو الصغائر المسيئة أو المباحات المخلّة!! وأنّ للصحبة بعداً إعجازياً يؤثّر فيمن رآه تأثير المعاجز.

وهذا أمر غريب جداً.

ولهذا لم يعد أحد، الصحبة معجزة من معاجزه صلوات اللّه عليه، إذ لم تكن دعوته خارجة عن حدود القوانين الطبيعية.

ويلاحظ على الأمر الرابع: وهو إدّعاء أنّ العصمة عند أهل السنّة لا تثبت إلّا للنبي، أمر لا يصدقه القرآن الكريم، فهذا هو الذكر الحكيم يصف مريم عليها السلام بقوله: (وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ) (2)، فقوله سبحانه (وَ طَهَّرَكِ ) لا يريد تطهيرها من الدنس والقذارات وإنّما أراد تطهير روحها من الرذائل وتحليتها بالفضائل. والشاهد على ذلك أنّه كرر لفظة (اصْطَفاكِ ) وجعل قوله: (طَهَّرَكِ ) بينهما.

وأمّا تفسير التطهير بتبرئتها ممّا قذفتها به اليهود بإنطاق الطفل،(3) فبعيد عن مساق الآية؛ لأنّ الآية وردت قبل أن تحمل مريم حتّى تتّهم بما رمتها به اليهود، والشاهد على ذلك أنّ قصة حملها أتت بعد تلك الآية حيث جاء بعدها

ص:24


1- . الحكم بن عاص فقد غرّبه وولده، رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الطائف غير أن الخليفة عثمان ردّهم إلى المدينة فأنكر المسلمون عليه إدخاله إياهم المدينة. الأنساب: 3/27.
2- . آل عمران: 42.
3- . تفسير البيضاوي: 1/159.

قوله: (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) .

ومَن قرأ الآيات الّتي تعرّف مريم ومكانتها، يذعن بأنّها كانت معصومة منزّهة من كلّ ما يشين، يقول سبحانه: (وَ كَفَّلَها زَكَرِيّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (1). وهذه الكرامة يثبتها الذكر الحكيم لمريم قبل أن تحمل بالمسيح عليه السلام كما يشهد عليه سياق الآيات.

كما أنّ الذكر الحكيم يتحدّث عن عبد من عباد اللّه آتاه اللّه رحمة من عنده وعلّمه من لدنه علماً وصار معلّماً لموسى عليه السلام حيث قال له الكليم: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (2) ولم يكن ذلك الرجل المثالي نبيّاً، ومع ذلك صار معلّماً لنبيّ ، فهل يتصوّر أن يكون معلّم النبيّ إنساناً غير معصوم ربّما يخطأ وربّما يقترف المعاصي ثم يتوب ؟! وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ العصمة لا تساوق النبوّة، فكلّ نبي معصوم وليس كلّ معصوم نبي.

وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى كلام الرازي في تفسير قوله تعالى:

(أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (3) حيث قال: اعلم أنّ قوله: (وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) يدلّ عندنا على أنّ إجماع الأُمّة حجّة، والدليل على ذلك أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته.

ص:25


1- . آل عمران: 37.
2- . الكهف: 66.
3- . الأنبياء: 59.

إلى أن قال: فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كلّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لابدّ وأن يكون معصوماً... ثم أقرّ أنّ ذلك المعصوم هو أهل الحل والعقد.(1)

فكلام الرازي وهو من كبار علماء السنّة يخالف ادّعاء شيخ الأزهر بأنّ السنّة لا يثبتون العصمة إلّاللأنبياء.

نكتفي بهذه الأسطر الموجزة على أمل اللقاء في الحلقة القادمة.

الحلقة الرابعة: اليوم الرابع من شهر رمضان 1436 ه

أفاد الدكتور أحمد الطيّب شيخ الأزهر الشريف في محاضرته لهذا اليوم بما هذه خلاصته:

إنّ السنّة والشيعة مسلمون ومؤمنون، فنحن أُمّة واحدة، وأبناء دين واحد، وفي زورق واحد، وهذه قضية لا يجب أن نقترب منها، لكن نحن الآن نتحدث عن قضايا مذهبية داخل الإسلام.

فمن القضايا المذهبية الفارقة بين السنّة والشيعة هي قضية عدالة الصحابة، فأهل السنّة يعتقدون أنّ الصحابة عدول، والشيعة ياللأسف يفتحون باب النقد على صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على مصراعيه.

وأضاف: وأحياناً هذا النقد أدّى بالغلاة والمتطرّفين منهم إلى الجرأة على تكفير صحابة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وهذه من المصائب الكبرى الّتي حلّت بالمسلمين

ص:26


1- . لاحظ: تفسير الرازي: 10/144.

أن يعتقد مسلم أنّه يمكن أن يكفّر أصحاب النبيّ .

ثمّ ذكر أنّ إحدى الشيعيات قالت له: نحن نلعن الصحابة بعد كلّ صلاة، وهذا لا يصحّ أبداً.

ثم أشار إلى أنّ المبشرين بالتشيّع بين أهل السنّة يقولون: إنّ عمر - وحاشاه وهذا كذب - ضرب السيدة فاطمة عليها السلام.

واختتم كلامه بأنّ السنّة جميعاً على أنّ الصحابة عدول.

***

أقول: أشكر الإمام الأكبر لوجهين:

الأوّل: أنّه جعل الشيعة والسنة أُمّة واحدة وأبناء دين واحد وفي زورق واحد. وما قاله هو قضاء الكتاب والسنّة؛ فهذا ما يروى عن عمر بن الخطاب أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم دعا علي بن أبي طالب يوم خيبر وأعطاه الراية وقال: امش ولا تلتفت حتّى يفتح اللّه عليك، قال: فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ: يا رسول اللّه على ماذا أُقاتل الناس ؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم: «قاتلهم حتّى يشهدوا أنّ لا إله إلّااللّه وأنّ محمداً رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلّابحقها وحسابهم على اللّه».(1)

وفي حديث عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «أُمرت أن أُقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّابحقّ الإسلام وحسابهم على اللّه».(2)

فإذا كان هذا ملاك الإسلام فكلّ مَن شهد الشهادتين وآمن بيوم المعاد فهو

ص:27


1- . صحيح مسلم: 7/121، كتاب فضائل علي عليه السلام.
2- . صحيح البخاري: 26 برقم 25.

داخل تحت خيمة الإسلام من غير فرق بين مسلم ومسلم.

وعلى هذا فعدالة الصحابة ليست من صميم الدين الّذي يناط به الإيمان والإسلام، بل هي مسألة كلامية، وعلى حدّ تعبير الشيخ من القضايا المذهبية، فلماذا نكبّر هذا الاختلاف ؟ وهل هي إلّاكسائر المسائل الخلافية وما أكثرها بين المسلمين في الأُصول والفروع ؟ فاللازم على الأُستاذ الّذي رزق صدراً رحباً ألّا يوسّع هذه الفجوة.

وكان على شيخ الأزهر أن ينسب إلى الشيعة ما رووه عن إمامهم وإمام المسلمين عليّ عليه السلام فهو يصف أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم، فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ ! لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً، وَقَدْ بَاتُوا سُجَّداً وَقِيَاماً، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَخُدُودِهِمْ ، وَيَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ ! كَأَنَّ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ رُكَبَ الْمِعْزَى مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ ! إِذَا ذُكِرَ اللّهُ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ ، وَمَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيحِ الْعَاصِفِ ، خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ ، وَرَجَاءً لِلثَّوَابِ !».(1)

وله عليه السلام كلمة أُخرى في صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يقول فيها: «أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَبِلُوهُ ، وَقَرَؤُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ ، وَهِيجُوا إِلى الْجِهَادِ فَوَلِهُوا وَلَهَ اللِّقَاحِ إِلَى أَوْلَادِهَا، وَسَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا، وَأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً، وَصَفّاً صَفّاً. بَعْضٌ هَلَكَ ، وَبَعْضٌ نَجَا. لَايُبَشَّرُونَ بِالْأَحْيَاءِ ، وَلَا يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتى (القتلى)، مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ ، خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ ، صُفْرُ الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ، عَلَى وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ . أُولئِكَ

ص:28


1- . نهج البلاغة: الخطبة 97.

إِخْوَانِي الذَّاهِبُونَ . فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ ، وَ نَعَضَّ الْأَيْدِيَ عَلَى فِرَاقِهِمْ ».(1)

وهذا هو الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام يقول في دعائه: «اللهم وأصحاب محمد صلى الله عليه و آله و سلم خاصّة الّذين أحسنوا الصحبة والّذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته...».(2)

وعلى هذا فالقول بأنّ الشيعة ينكرون عدالة الصحابة جميعاً أمر غير صحيح يبطله ما روي عن الإمامين الهمامين، والشيعة تعتقد بأنّ الصحابة على طبقات ودرجات من الإيمان والتقوى والعدالة، فمنهم مَن يستدرّ به الغمام، ومنهم مَنْ لا يعتدّ بإيمانه وقوله وفعله، ومنهم مَن هو في رتبة متوسطة.

وأمّا ما ذكر من تجرؤ الغلاة والمتطرفين على صحابة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فيكفي في جوابه أنّ القائل به هم الغلاة، والغلاة عند الشيعة كفّار لا يحكم عليهم بالإسلام.

كيف يمكن القول بتكفير صحابة النبيّ وتفسيقهم وأنّ ثلّة جليلة من صحابة النبيّ هم روّاد التشيّع الّذين كانوا مع عليّ عليه السلام في عهد النبيّ تبعاً لوصاياه وبقوا على ما كانوا عليه بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم. وقد ذكرت كتب التاريخ أسماءهم نظراء: جندب ابن جنادة (أبو ذر الغفاري)، عمّار بن ياسر، سلمان الفارسي، المقداد بن عمرو بن ثعلبة الكندي، حذيفة بن اليمان صاحب سرّ النبيّ ، خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين، الخباب بن الأرت التميمي، سعد بن مالك، أبو سعيد الخدري، أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري، قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، أنس بن الحرث بن منبه أحد شهداء كربلاء، أبو أيوب

ص:29


1- . نهج البلاغة: الخطبة 117.
2- . الصحيفة السجادية: الدعاء الرابع.

الأنصاري، خالد بن زيد الّذي استضاف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عند دخوله المدينة و... وقد ذكرنا أسماءهم في كتابنا «عقيدة الإمامية في عدالة الصحابة» ص 144 فراجع.

ثمّ إنّ الواقع التاريخي يثبت أنّ جلّ الأصحاب بل كلّهم من المهاجرين والأنصار كانوا مع أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه الثلاثة، قال الزرقاني في نهج المسالك: أتى علي رضى الله عنه في أهل العراق في سبعين ألفاً، فيهم تسعون بدرياً، وسبعمائة من أهل بيعة الرضوان، وأربعمائة من سائر المهاجرين والأنصار، وخرج معاوية في أهل الشام في خمسة وثلاثين ألفاً ليس فيهم من الأنصار إلّا النعمان بن بشير ومسلمة بن مخُلد.(1)

وقال المسعودي في «مروج الذهب»: وكان ممّن شهد صفين مع علي من أصحاب بدر سبعة وثمانون رجلاً، منهم سبعة عشر من المهاجرين، وسبعون من الأنصار، وشهد معه من الأنصار ممّن بايع تحت الشجرة وهي بيعة الرضوان من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تسعمائة وكان جميع مَن شهد معه من الصحابة ألفين وثمانمائة.(2)

فهل من المعقول أن يقوم الشيعة مع هذا الدعم الكبير والمساندة القوية لسيد الأوصياء عليه السلام بتكفير الصحابة والنيل منهم ؟! ومن هنا نحن نطالب الشيخ الطيّب أن يأتي لنا بعبارة واحدة تثبت أنّ علماء الشيعة ورجالييهم ضعّفوا الصحابة وقالوا بكفرهم أو أسسوا قاعدة تشير إلى هذا المعنى.

ثمّ أنا أتعجّب من الدكتور كيف جعل قول واحدة من النساء الشيعيات حجّة على الكلّ ، والاعتماد على قولها، نظير احتجاج الشيعي في إتّهام أهل

ص:30


1- . راجع: النصائح الكافية للعلوي: 36.
2- . مروج الذهب: 2/352، تحقيق أسعد داغر، قم - دار الهجرة، 1409 ه.

السنّة بسبّ عليّ بأنّ ناصبية من النواصب تلعن عليّاً!!

وما ذكره الأُستاذ هنا ينافي ما ذكره في واحدة من حلقات بحثه: إنّي سمعت عدداً من الفضلاء من علماء الشيعة يتبرّأون من هذه الأقوال ولا يرضونها.

وأمّا ما أنكر على ما جرى على السيدة فاطمة عليها السلام فنحن لا نريد أن نخدش العواطف غير أنّ أمراً مسلّماً في التاريخ لا يمكن لأحد إنكاره ألا وهو كشف بيت فاطمة حيث نقله كثير من الأعلام في كتبهم.

هذا هو عبدالرحمن بن عوف يقول: دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الّذي توفّي فيه فسلّمت عليه، وقلت: ما أرى بك بأساً والحمد للّه، ولا تأس على الدنيا، فواللّه إن علمناك إلّاكنت صالحاً مصلحاً. فقال: إنّي لا آسى على شيء إلّاعلى ثلاث فعلتهم وودت أنّي لم أفعلهم، وثلاث لم أفعلهم وودت أنّي فعلتهم، وثلاث وددت أنّي سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنهم؛ فأمّا الّتي فعلتها وودت أنّي لم أفعلها فوددت أنّي لم أكن فعلت كذا وكذا. لخلّة ذكرها. قال: أبو عبيد لا أُريد ذكرها...(1)

إن صاحب كتاب الأموال وإن تستّر على ما تمنّاه الخليفة أن لا يفعله غير أنّ كثيراً من المحققّين ذكروه بنصّه، فهذا هو المبرّد في كامله يقول: فأمّا الثلاث الّتي فعلتها وودت أنّي لم أكن فعلتها، فوددت أنّي لم أكن كشفت عن بيت فاطمة وتركته ولو أُغلق على حرب.(2)

وهذا هو المسعودي يقول ناقلاً عن الخليفة: فأمّا الثلاث الّتي فعلتها وددت أنّي تركتها، وددت أنّي لم أكن فتشت بيت فاطمة.(3)

ص:31


1- . الأموال: 193-194، مكتبة الكليات الأزهرية؛ وفي لسان الميزان وغيره: «فعلتهن».
2- . الكامل في التاريخ للمبرد: 1/11.
3- . مروج الذهب: 2/301.

وبما أنّ نقل كلمات المحقّقين والمؤلّفين يُطيل بنا المقام نشير إلى بعض المصادر أدناه.(1) وعلى من أراد التحقيق في هذا الموضوع فليبحث في الموضوع فيتعرّف على مَن أصدر الأمر بالهجوم (أو الكشف) على بيت فاطمة عليها السلام ومن نفّذ هذا الأمر، وما هي تبعاته، وستتجلّى له الحقيقة بأجلى مظاهرها.

وهذا ما يذكره الشيعة استناداً إلى هذه المصادر.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ الشيعة تحترم الصحابة تبعاً لأئمتهم ولا يقولون بتكفيرهم، غير أنّهم يدّعون على أنّهم على مراتب من الإيمان.

ودرجات مختلفة من التقى والعدالة.

وأمّا ما نسب إلى الغلاة والمتطرّفين فالشيعة الإمامية براء منه، وأمّا حكاية الكشف عن بيت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، فهذا أمر نُقل بالتضافر، ومع ذلك ندعو إلى الوحدة مكان الفرقة قائلين: إنّ ما يجمعنا أكثر ممّا يفرّقنا.

إنّا لتجمعنا العقيدة أُمّة ويضمّنا دين الهدى أتباعاً

ويؤلّف الإسلام بين قلوبنا مهما ذهبنا في الهوى أشياعاً

ولو أنّ الأُستاذ لم ينبس ببنت شفة في أمر فاطمة عليه السلام لما أشرنا إليه في هذه المحاضرة، غير أنّا دفاعاً عن الحقّ والحقيقة لم نر بدّاً من التطرّق إليه.

ص:32


1- . الطبراني في المعجم الكبير: 1/62 برقم 43؛ ابن عبد ربه في العقد الفريد: 4/93؛ ابن عساكر في مختصر تاريخ دمشق: 13/122؛ ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: 2/46؛ الجويني في فرائد السمطين: 2/34؛ الذهبي في تاريخ الإسلام: 3/117؛ نور الدين الهيتمي في مجمع الزوائد: 5/102؛ ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان: 4/188؛ المتقي الهندي في كنز العمال: 5/631 برقم 14113؛ عبد الوهاب عبد المقصود في كتاب الإمام علي: 4/74.

الحلقة الخامسة: اليوم الخامس من شهر رمضان 1436 ه

قال الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف: إنّ الصحابي الّذي ثبتت صحبته لا يُسأل عن عدالته، ولا يحتاج لشهادة تزكية، لأنّ هذه الصحبة تعطيه هذه الشهادة بشكل تلقائي. ثم تابع حفظه اللّه في بيان معنى العدالة إلى أن انتهى بقوله: فإذا روى الصحابي حديثاً أو شهد في واقعة فإن روايته تقبل، وكذا شهادته، بدون أن أقول: مَن هو وما تاريخ حياته ؟ هذا هو معنى عدالة الصحابة وهذا ما تميّز به عن غيره، وأمّا غير الصحابي بدءاً من التابعي حينما يروي أو يشهد فلابدّ من شهادة بعدله قبل قبول شهادته أو روايته.

وانتهى في آخر كلامه بأنّ الصحابي الفقير الّذي ربّما لا يمتلك نعلاً يمشي به، ثم يجود بنفسه وبكل ما يملك وعنده استعداد ليراق دمه حفاظاً على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعلى الدين، يستحق أن تنزل فيه آيات القرآن الكريم لتقرّر عدالته.

***

أقول: ليس في كلامه حفظه اللّه شيءٌ جديدٌ وإنّما هو تكرار لما أفاده في المحاضرات السابقة ومع ذلك فنقدّم إلى سماحته الملاحظات التالية:

الأُولى: إنّ ما ذهب إليه الشيخ الطيب ادّعاء لابدّ من دعمه بالدليل والبرهان القاطع عقلاً أو نقلاً على مستوى الحديث والسنّة، هذا إذا لم نقل أنّ الدليل النقلي يعطي العكس من ذلك، كما سيأتي.

ثم مَن قال: إنّ الكلام في الصحابي الّذي وصفه الطيّب بتلك الصفات العالية، وهو الّذي يجود بنفسه وبكل ما يملك وعنده استعداد

ص:33

ليراق دمه حفاظاً على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وهل وجد الدكتور باحثاً منصفاً أو وجد أنصاف المتعلمين من الشيعة مَن تعرّض لمثل هكذا صحابي بسوء أو يشكّك فيه ؟!

وأين هذا ممّن شرب الخمر وقاء وهو في محراب صلاته وكان من قبلُ قد نزل فيه آية من الذكر الحكيم تؤكّد فسقه ؟!(1)

الثانية: أنّه يركّز على ملاك الصحبة وأنّ الّذي صيّر مائة ألف من الّذين كانوا غارقين في الوثنية والأخلاق الجاهلية - من وأد البنات إلى الإغارة - عدولاً، هو رؤية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ومصاحبته بشكل بين شروطه في المحاضرات المتقدمة، ومن هنا نقول:

إنّ صحبة الصحابة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم تكن أشدّ ولا أقوى ولا أطول من صحبة امرأة نوح وامرأة لوط، فقد صحبتا زوجيهما الكريمين، ولبثتا معهما ليلاً ونهاراً ولكن هذه الصحبة - للأسف - ما أغنت عنهما من اللّه شيئاً، قال سبحانه:

(ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ ) (2).

الثالثة: أنّ الكتاب العزيز يندّد ببعض نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لأجل كشف سرّه ويعاتبهنّ في ذلك ويقول: (وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ

ص:34


1- . لاحظ: الكامل في التاريخ: 2/246، حوادث سنة 30 ه؛ أسد الغابة: 5/452 برقم 5468؛ تاريخ الخلفاء: 144؛ الاستيعاب (القسم الرابع): 1556 برقم 2721؛ السيرة الحلبية: 2/284.
2- . التحريم: 10.

أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ * عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً) (1) فأي عتاب أشدّ من قوله سبحانه: (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) : أي مالت قلوبكما عن الحق، كما أنّ قوله: (وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ ) يعرب عن وجود أرضية فيهن للتظاهر ضد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وخلافه، وهو سبحانه أخبر عن إخفاق أُمنيتهن؛ لأنّ اللّه ناصر النبيّ وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة.

الرابعة: التدبّر في الآيات يبيّن لنا موقع المرأتين وأن اللّه سبحانه يخيّرهما بين أمرين:

1. التوبة والإنابة.

2. الحرب من اللّه وأنّ اللّه سبحانه سيكون ظهيراً للنبي ومعه الملائكة وصالح المؤمنين.

وهذا يدلّ على أنّ ما صدر عنهما كان ذنباً ومعصية، ولذلك استحقتا هذا النحو من التحذير، ولو كان أمراً هيّناً وعادّياً لما استحقّ هذا القدر من التهديد والتحذير.

إنّ القرآن قد أجمل ولم يبيّن، هل تابت المرأتان، أو لم تتوبا وبقيتا على ما كانتا عليه من إيذائه صلى الله عليه و آله و سلم ؟!

***

إنّ الدكتور أحمد الطيب - مدّ اللّه في عمره - أشار في تعريفه للعدالة إلى

ص:35


1- . التحريم: 3-5.

أنّ ملكة العدالة تمنع الشخص من الكبائر، فإنّه سوف يمتنع عن الكذب بالضرورة وحين يريد أن يكذب لا تطاوعه نفسه!!

أقول: ما ذكره صحيح ولكن فليتدبّر فيما رواه البخاري عن عائشة في هذا المورد في تفسير الآيات الثلاث المتقدّمة، قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فواطيت أنا وحفصة عن أيّتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير؟! إنّي أجد منك ريح مغافير، قال: «لا، ولكنّي كنت أشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش، فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً»(1).

أليست نسبة النبيّ إلى أكلّ المغافير، نسبة كاذبة، وأين الملكة هنا من تواطئهما على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والاتفاق على الكذب في قضية كان الحسد أو الغيرة هي المحرّك الأساسي فيها؟!

كلّ هذا يدلّ على أنّ القضية أي عدالة الصحابة أمر مقبول لكن لا بشكل قضية كلّية تشمل كلّ فرد فرد.

فإنّ السيدة عائشة محترمة عندنا لأنّها زوجة النبيّ ونقول في حقّها ما ذكره الإمام علي عليه السلام في وقعة الجمل: «وَأَمَّا فُلَانَةُ فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ (رائحة) النِّسَاءِ ، وَضِغْنٌ غَلَا فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَيْنِ ، وَلَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ ، لَمْ تَفْعَلْ . وَلَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الْأُولَى ، وَالْحِسَابُ عَلَى اللّهِ تَعَالى ».(2)

ومع ذلك فهذا لا يصدّنا عن دراسة ما قامت به في حرب الجمل من تجييش الجيوش إلى البصرة، وخالفت قوله تعالى: (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) .(3)

ص:36


1- . صحيح البخاري: 3/308، كتاب التفسير (65)، باب من سورة التحريم برقم 4912.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 156.
3- . الأحزاب: 33.

وقتل في هذه الحرب آلاف من أولادها.

ولم يذكر لنا الدكتور سبب غياب الملكة هذه والكذب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وإخباره بخلاف الواقع كما هو مسلّم في قضية الوليد بن عقبة وبني المصطلق الّتي نزل فيها قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) .(1) حينما افترى الوليد على بني المصطلق مالم يصدر عنهم وكادت أن تقع في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فتنة عظيمة لولا التدخل الرباني!!

نكتفي بهذا البحث الموجز على أمل اللقاء في محاضرة قادمة.

الحلقة السادسة: اليوم السادس من شهر رمضان 1436 ه

اشارة

قال الدكتور الشيخ أحمد الطيب في محاضرته: إنّ القاعدة العامّة لمذهب أهل السنّة والجماعة تقضي بأنّ جميع الصحابة عدول وثبتت لهم العدالة، وسبب هذا التميّز هو صحبتهم للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فالصحبة تقتضي هذه العدالة.

إنّ أهل الحديث يرون أنّ الصحبة تَثبت بمجرّد اللقاء بالنبيّ ، قصر اللقاء أم طال، والأُصوليّون اشترطوا طول الصحبة.

ثم قال: الفرق بين السنّة والشيعة في هذه النقطة، فالشيعة لا يرون هذا، أمّا أهل السنّة يعتقدون أنّ الصحابة جميعاً عدول، فالراوي غير الصحابي يجب البحث في تاريخه وحياته من خلال كتب الجرح والتعديل كي نصل في النهاية إلى أنّ هذا الراوي عدل تقبل روايته أو مجروح لا تقبل روايته.

ص:37


1- . الحجرات: 6.

أمّا إذا كان الراوي من الصحابة فتسلّم عدالته ولا يبحث في حياته ولا في تاريخه لأنّ مجرّد الصحبة يثبت عدالته.

***

أقول: إنّ شيخ الأزهر لم يأت في محاضرته في اليوم السادس من شهر رمضان بشيء جديد بل أكّد ما ذكره سابقاً، وكأنّه يعتقد بأنّ الصحبة أشبه بمادة كيمياوية حوّلت الصحابة من حالة سيئة إلى حالة حسنة، ومن فسق إلى عدالة، إلى غير ذلك ممّا يمكن أن يكون بياناً لمراده.

كما أنّه يصوّر أنّ الصحابي بمجرّد الصحبة يصير إنساناً عادلاً منزّهاً عن كلّ ذنب، ولكن مع الأسف أنّ الصحابي نفسه لا يرى لنفسه هذا المقام!!

الصحابة أبصر بحالهم من غيرهم

إنّ من سبر تاريخ الصحابة بعد رحيل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، يجد فيه صفحات مليئة بألوان الصراع والنزاع بينهم، حافلة بتبادل التّهم والشتائم، بل تجاوز الأمر بهم إلى التقاتل وسفك الدماء، فكم من بدريّ وأُحديّ انتُهكت حرمته، وصُبّ عليه العذاب صبّاً، أو أُريق دمه بيد صحابي آخر.

وهذا ممّا لا يختلف فيه اثنان، بيد أنّ الذي ينبغي التنبيه عليه، هو أنّ كلّاً من المتصارعين، كان يعتقد أنّ خصمه متنكّبٌ عن جادّة الصواب، وأنّه مستحقّ للعقاب أو القتل، وهذا الاعتقاد، حتّى وإن كان نابعاً عن اجتهاد، لكنّه يكشف عن أنّ كلّاً من الفئتين المختلفتين لم تكن تعتقد بعدالة الفئة الأُخرى.

فإذا كان الصحابي يعتقد أنّ خصمه مائل عن الحقّ ومجانب لشريعة اللّه ورسوله، وعلى أساس ذلك يبيح سلّ السيف عليه وقتله، فكيف يجوز لنا نحن أن نحكم بعدالتهم ونزاهتهم جميعاً، وأن نضفي عليهم ثوب القدسيّة على حدّ

ص:38

سواء؟! ونُبرّأهم من كلّ زيغ وانحراف ؟!

أو ليس الإنسان أعرف بحاله وأبصر بمكانته ؟!

أو ليست الصحابة أعرف منّا بنوازع أنفسهم، وبنفسيات أبناء جيلهم ؟!

هذا بالإضافة إلى ما دار بينهم من حوارات تكشف عن اعتقاد بعضهم في حقّ البعض الآخر، فالاتّهام بالكذب والنفاق والشتم والسب كان من أيسر الأُمور المتداولة بينهم، فهذا هو سعد ابن عبادة سيّد الخزرج، يخاطب سعد بن معاذ، وهو سيد الأوس وينسبه إلى الكذب كما حكاه البخاري في صحيحه عن عائشة أنّها قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج فقال لسعد [بن معاذ]: كذبت لعمر اللّه... فقام أُسيد بن حضير وهو ابن عم سعد [بن معاذ] فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر اللّه لنقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيّان حتّى همّوا أن يقتتلوا ورسول اللّه قائم على المنبر، فلم يزل رسول اللّه يخفِّضهم حتّى سكتوا وسكت.(1)

أفيمكن وصف الحيّين من أوّلهما إلى آخرهما بالعدالة والوثاقة وهما على هذا الحد من قلّة الأدب والعصبية وعدم ضبط النفس في مجلس رسول اللّه ؟! وتزداد الحيرة عندما تعلم أنّ السبب من وراء هذه القضية هو قول سعد بن معاذ الأنصاري سيد الأوس: يا رسول اللّه: أنا أعذرك منه - يعني: المنافق عبداللّه بن سلول - فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج وقد احتملته الحميّة دفاعاً عن ابن سلول المنافق ؟!!

وعليه فإنّ القداسة الّتي أحاطت الصحابة أمر طارئ صنعتها عوامل كثيرة منها سياسية، ومنها ما أشار إليه كبار رجال المدرسة السنيّة في الجرح والتعديل

ص:39


1- . صحيح البخاري: 3/245، كتاب التفسير، رقم الحديث 4750.

كالشيخ الذهبي في معرفة الرواة، حيث قال:

ولو فتحنا هذا الباب (الجرح والتعديل) على نفوسنا لدخل فيه عدّة من الصحابة والتابعين والأئمة، فبعض الصحابة كفّر بعضهم بعضاً بتأويل ما.(1)

وليست هذه القضية فريدة في بابها فلها نظائر وردت في الصحاح والمسانيد وفي غضون كتب التاريخ.

أو ليس من العجب العجاب، أنّ الصحابي يصف صحابياً آخر - في محضر النبيّ - بالكذب، والآخر يصف خصمه بالنفاق وكلا الرجلين من كبار الأنصار وسنامهم ؟! ولكنّ الّذين جاءوا بعدهم يصفونهم بالعدل والتقوى، والزهد والتجافي عن الدنيا، وهل سمعت ظئراً أرأف بالطفل من أُمّه ؟!

***

وعندما يقف الباحث السنّي على مصادر جمّة تكشف عن أفانين من اقتراف المعاصي وسفك الدماء الطاهرة، وهتك الحرمات، ويجابههم بهذه الحقائق، فلا يجد بدّاً من الالتجاء إلى ما يُروى عن عمر بن عبد العزيز وأحياناً عن الإمام أحمد بن حنبل من لزوم الإمساك عمّا شجر بين الصحابة من الاختلاف، وكثيراً ما يقولون حول الدماء التي أُريقت بيد الصحابة - حيث قتل بعضهم بعضاً -: تلك دماء طهّر اللّه منها أيدينا، فلا نلوّث بها ألسنتنا.

ويُستشفّ من هذا الكلام أنّ الدماء التي أُريقت في وقائع الجمل وصفين والنهروان، كانت قد سُفكت بغير حق، وهذا - وأيم الحق - عين النصب، وقضاء بالباطل، وإلّا فأي ضمير حرّ يحكم بأنّ قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، كان قتالاً بغير حقّ؟! وكلّنا يعلم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان على بيّنة من ربّه وبصيرة

ص:40


1- . معرفة الرواة: 45.

في دينه، يدور معه الحقّ حيثما دار، وهو الذي يقول: «واللّه لو أُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصيَ اللّهَ في نملةٍ أسلبُها جِلْبَ شعيرة ما فعلتُ ».(1)

ما هذا التجنّي أمام الحقائق الواضحة ؟!

أو ليس العزوف عن نقد الصحابة تبريراً للأخطاء، وهروباً من الواقع، وإيغالاً في التقديس ؟!

أو ليس تنزيه الصحابة جميعاً تنكّراً للطبيعة البشرية.

الحلقة السابعة: اليوم السابع من شهر رمضان 1436 ه

اشارة

واصل الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر في اليوم السابع من شهر رمضان حديثه عن عدالة الصحابة - أيضاً -، وقال: إنّ القول بها لم يكن من اختراع أهل السنّة والجماعة وإنّما أخذاً من نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة.

أمّا القرآن فيدلّ عليها قوله سبحانه: (وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (2).

وأكّد أنّ الصحابة اكتسبوا هذا الفضل والتعديل بتعديل اللّه تعالى لهم وثناؤه عليهم.

ص:41


1- . نهج البلاغة: الخطبة 224.
2- . التوبة: 100.

ثم استدلّ بالسنّة بما رواه أبو سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لا تسبّوا أصحابي، فوالّذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه. وغيرها من الروايات.

***

تفسير الآية

إنّ شيخ الأزهر اقتصر بنقل الآية ولم يشرح لنا كيفية دلالتها على عدالة أصحاب النبيّ من أوّلهم إلى آخرهم وربّما يبلغ عددهم مائة ألف مع أنّ الآية أخصّ ممّا يدّعيه الدكتور وذلك بالبيان التالي:

قوله سبحانه: (وَ السّابِقُونَ ...) تشير إلى الأصناف الثلاثة:

1. (السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ ) .

2. السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ (الْأَنْصارِ) .

3. (وَ الَّذِينَ - أي من أصحاب النبيّ - اِتَّبَعُوهُمْ - أي اتّبعوا السابقين في الهجرة والنصرة اتّباعاً - بِإِحْسانٍ ) .

ثم إنّه سبحانه ذكر السبق والأوّلية في الصنفين الأوّلين ولم يذكر متعلّقهما، غير أنّ وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً، يرفع الإجمال عن الآية وأنّ الملاك هو السبق في الهجرة والنصرة.

ولأجل إيضاح المراد يجب أن ندرس الفقرتين الأُوليين ثم نرجع إلى الثالثة فنقول: إنّ ثناء اللّه يختصّ بالسابقين في هذين المضمارين (الهجرة والنصرة) لا بكلّ مهاجر وأنصاريّ بشهادة وجود (مِنَ ) في قوله: (مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ) فمن وصف بأحد الأمرين: السبق في الهجرة أو السبق في النصرة فاللّه سبحانه يقول: (رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ) إنّما الكلام في

ص:42

مصاديق هاتين الطائفتين، ولا شكّ أنّ المراد هم السبّاقون الأوّلون في الهجرة إلى الحبشة أو إلى المدينة المنوّرة.

وأمّا السبّاقون الأوّلون في النصرة فهم الّذين بايعوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في البيعتين الأُولى والثانية، وقد كان عدد المبايعين من الأنصار في العقبة الأُولى اثني عشر رجلاً، وفي العقبة الثانية قرابة السبعين، فهؤلاء هم الّذين بايعوا للنصرة والدفاع عنه إذا نزل بأرضهم، فهؤلاء هم السبّاقون في النصرة.

وتخصيصهما بالذكر لأنّهم تحمّلوا أنواع العذاب فلم يروا منجاة لهم إلّا الهجرة إلى الحبشة أو إلى المدينة المنوّرة أو الّذين نصروا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وآووه وآووا المهاجرين في ديارهم زمن غربة الإسلام وكونه مهدّداً من قبل الأعداء، فلفظ السبّاقون من الطائفتين ينطبق على مَن هاجر قبل معركة بدر الّتي كانت مبدأ ظهور الإسلام وقوته، أو آمن بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وآواه وآوى المهاجرين من الأنصار.

فهذه الفقرة تحكي عن رضا اللّه عن تلك المجموعة وهم السبّاقون في الهجرة والنصرة قبل معركة بدر.

ويؤيّد ما ذكرناه أنّه سبحانه يذكرهم في سورة الأنفال ويقول: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (1). وبما أنّ سورة الأنفال نزلت عقب غزوة بدر فتكون دليلاً على أنّ المراد من الطائفتين هم الّذين وصفوا بالسبق والنصرة إلى حدّ النصف من السنة الثانية للهجرة.

إلى هنا تمّ الكلام في الفقرتين الأُوليين أمّا الفقرة الثالثة - أعني قوله:

ص:43


1- . الأنفال: 72.

(وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ) - فأُريد بهم الّذين اتّبعوا الصنفين السابقين في الهجرة والنصرة فالصنفان الأوّلان إمامان متبوعان والصنف الثالث هم الأتباع وهم الّذين هاجروا بعد عزّ الإسلام وظهور قوّته أو نصروه كذلك، ولأجل تأخّرهم في الهجرة والنصرة صاروا أتباعاً، فكل مَن هاجر بعد غزوة بدر أو آمن أو نصر بعدها قبل فتح مكة فهذا هو المراد من الصنف الثالث.

وعلى ضوء ما ذكرنا، يكون رضا اللّه متعلّقاً بهذه الأصناف الثلاثة فقط، فكيف يصحّ أن تكون الآية دليلاً على عدالة الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم حتّى الّذين اسلموا في العام التاسع من الهجرة وهو عام الوفود وفيه أسلم أغلب سكان الجزيرة العربية، فكيف تكون الآية دليلاً على عدالتهم ؟! وهذا ما قلناه من أنّ المدّعى عام والدليل خاص.

الرضا مقيّد لا مطلق

إنّ اللّه سبحانه قيّد تعلّق رضاه بالصنف الثالث بقوله: (اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ) :

أي اتّباعاً حسناً أو اتّباعاً في العمل الصالح، والقيد يكشف أنّ الصنف الثالث ينقسم إلى صنفين: مع الإحسان أو بدونه. فعلى هذا لو شكّ في واحد من مصاديق الصنف الثالث في وجود القيد فيه، فلا تكون الآية دليلاً على وجوده.

نظير ما إذا قال القائل: «أكرم العالم العادل»، وشكّ في وجود العدالة، لا يجوز التمسّك بالدليل على وجود القيد في المورد.

إلى هنا ظهر أنّ الآية أخصّ من المدّعى بوجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ الفقرة الأُولى (السبّاقون في الهجرة والنصرة) تختصّ بمَن وصفوا بالهجرة والنصرة قبل غزوة بدر.

الثاني: أنّ الفقرة الثانية تختصّ بمَن هاجر ونصر قبل غزوة بدر، ولا

ص:44

يشمل مَن آمن وهاجر ونصر بعدها.

الثالث: أنّ الرضا في الفقرة الثالثة مقيّد باتّباع بإحسان، فإذا شكّ في وجود القيد (وهو الإحسان) فلا تكون الآية دليلاً على وجود القيد.

وعلى هذا فقد كشفت الآية عن تعلّق الرضا بجماعة وفئة خاصة، وأين هذا من عامّة الصحابة الّذين يبلغ عددهم إلى مائة ألف. والمذكورة أسماؤهم منهم حوالي خمسة عشر ألف ؟!

***

وهنا نكتة أُخرى غفل عنها كلّ مَن استدلّ بالآية وهي أنّ إخباره سبحانه بتعلّق رضاه بهذه الأصناف الثلاثة محدّد بكونهم باقين على ماكانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح والعدالة، وإلّا فلو دلّ الدليل على خروج جمع قليل أو كثير عن هذه الضابطة فالآية ساكتة عن تلك الفئة؛ وذلك لأنّ الأُمور بخواتيمها.

فقد روى البخاري في صحيحه عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّ العبد ليعمل فيما يرى الناس عمل أهل الجنّة وأنّه لمن أهل النار، ويعمل فيما يرى الناس عمل أهل النار وهو من أهل الجنّة، وإنّما الأعمال بخواتيمها».(1)

وليست منزلة الصحابة من الأوّلين والآخرين أعلى وأنبل ممّا يتحدّث عنه الذكر الحكيم بقوله: (وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ ) .(2)

وعلى هذا فتعلّق الرضا بفئة أو شخص في فترة معيّنة لا يكون دليلاً على بقاء الرضا إلى نهاية عمرهم. فلو دلّ دليل على تنكّب هؤلاء عن الصراط

ص:45


1- . صحيح البخاري: 7/188، كتاب الرقاق، باب الأعمال بالخواتيم.
2- . الأعراف: 175.

المستقيم فهذا لا يكون مخالفاً للآية؛ لأنّ لكلّ ظرفاً وأمداً خاصّاً.

ثم إنّ الشيخ الطيب لم يبّين لنا الدليل على بقاء العدالة والوثاقة وعدم تزحزحها عنهم في الوقت الّذي وقعوا فيه في أُمور أخطر من الكذب في الحديث. وهذا ما اعترف به البراء بن عازب حيث روى البخاري في باب غزوة الحديبية عن العلاء بن المسيّب، عن أبيه، قال: لقيت البراء بن عازب فقلت له، طوبى لك صحبت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وبايعته تحت الشجرة!! فقال: يا ابن أخي: إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده!(1)

ولا ريب أنّ الرجل كان شاهداً على الواقع وكان على معرفة بأسباب نزول الآيات الكريمة. ولذلك لم يتمسّك بها ويراها مشروطة بعدم العدول والانحراف عن الطريق بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ومواصلة السير على نهجه صلى الله عليه و آله و سلم ولم يعتبر صرف الصحبة بل البيعة كافية.

وكيف يفسّر لنا الشيخ الطيب تعوّذ ابن أبي مليكة من الافتتان بعد نقل روايات الحوض، قال البخاري: فكان ابن أبي مليكة يقول: اللّهم إنّا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتتن عن ديننا!!.(2)

***

وأمّا الاستدلال بنهي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن سبّ أصحابه فيلاحظ عليه بأمرين:

الأوّل: أنّه لو صحّ الحديث سنداً فهو على خلاف المقصود أدلّ ، لأن النبيّ يخاطب الصحابة ويقول لهم: لا تسبّوا أصحابي، ومعنى ذلك، وجود السابّ في عصر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من الصحابة في حق بعضهم، ومن المعلوم أنّ السبّ فسوق،

ص:46


1- . صحيح البخاري: 5/66، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية.
2- . صحيح البخاري: 7/209، كتاب الرقاق، باب في الحوض.

وقد روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «قتال المؤمن كفر وسبابه فسوق»(1). وما ربّما يقال من أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يخاطب الأجيال الآتية لا الجيل المعاصر له، فهو كما ترى مخالف لصريح الرواية، حيث إنّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «لا تسبّوا» والمخاطبون هم الحاضرون في مجلس الخطاب، ولو كان المخاطبون هم المسلمون في الأجيال الآتية لغيّر كلامه وقال: سباب إصحابي حرام، كما قال: «سباب المؤمن فسوق».

وهذا المعنى عين ما فهمه ابن حجر حيث قال: المراد بقوله: (أصحابي) أصحاب مخصوصون وإلّا فالخطاب كان للصحابة.(2)

وعقب في نفس الموضع على القائلين بأنّ الخطاب لغير الصحابة وردّه باعتبار أنّ الخطاب كان بسبب حادثة سب خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف.(3)

أضف إلى ذلك أن السبّ حرام، ولكنّ ذكر سيرة حياتهم بإيجابيّاتها وسلبيّاتها لا يُعدّ انتقاصاً لهم، وبعبارة أُخرى: فالسبّ هو الشتم والنيل من كرامة الرجل وعرضه، ولا شكّ أنّ سبّ المؤمن فسوق، وأمّا نقد حياة الصحابة بذكر إيجابيّاتهم وسلبيّاتهم لا يُعدّ سبّاً وإنّما هو نقد لسيرتهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، بل يشهد الحديث الصحيح على أمر فوق الحوار وهو أنّ الصحابي كان يتعرّض للسب؛ ففي صحيح مسلم عن عامر بن سعد ابن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما منعك من أن تسبّ أبا التراب، فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلن أسبّه، لأن تكون لي واحدة

ص:47


1- . سنن ابن ماجة: 1/18 برقم 46؛ سنن الترمذي: 4/131 برقم 2771.
2- . فتح الباري: 7/34.
3- . فتح الباري: 7/34.

منهن أحبّ إليّ من حُمر النعم.

ثم أشار إلى فضائل ثلاثة للإمام علي عليه السلام وهي:

1. قوله صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ».

2. إعطاؤه الراية يوم خيبر وقوله: «لأعطينّ الراية رجلاً يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله».

3. لمّا نزلت الآية: (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ ) دعا رسول اللّه عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللهم هؤلاء أهلي.(1)

وحصيلة الكلام: أنّ القوم خلطوا بين السبّ والنقد، والشيعة برآء من السبّ ، فهم يرون أنّ السبّ فسق حسب قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهو عمل النوكى. أمّا النقد أي دراسة سلوك الصحابي خلال حياته من قوة وضعف، فهو سيرة القرآن الكريم حيث يذكر حسنات الصحابة وسيئاتهم، وصالح أعمالهم وطالحها، وقد تطرق القرآن الكريم إلى ذكر أعمالهم الإيجابية، كما وذكر السلبيّة منها، وهذا واضح لمن قرأ الآيات التالية:

البقرة: 187، آل عمران 144، 153، 161، الحجر: 6، الأحزاب: 22، الجمعة: 6.

ثم إنّ الشيخ الدكتور مدح الصحابة على وجه يظهر منه أنّ الزمان لا يمكنه أن يأتي بمثلهم إلى يوم القيامة.

غير أنّ كلامه هذا على خلاف ما ورد في القرآن الكريم في مواضع:

ص:48


1- . صحيح مسلم: 7/120.

الأوّل: تنبّأ القرآن الكريم بإمكان ارتداد الصحابة بعد رحيل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وذلك لمّا انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحد وقتل من قتل منهم.

يقول ابن كثير: نادى الشيطان على أنّ محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم قد قتل. فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد قتل وجوّزوا عليه ذلك، فحصل ضعف ووهن وتأخّر عن القتال، روى ابن نجيح عن أبيه أنّ رجلاً من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان أشعرت أنّ محمداً صلى الله عليه و آله و سلم قُتل ؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلّغ، فقاتلوا عن دينكم. فأنزل اللّه سبحانه قوله: (وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ ) (1).(2)

قال ابن قيّم الجوزية: كانت وقعة أُحد مقدّمة وإرهاصاً بين يدي محمد صلى الله عليه و آله و سلم، ونبّأهم ووبّخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول اللّه أو قتل.(3)

الموضع الثاني: أخبر القرآن الكريم عن أنّه إن ارتدّ من الصحابة أحدٌ أو صنف (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) (4).

وهذا يدلّ على أنّ المستقبل لم يكن عقيماً عن أن يأتي بمن هو أفضل من بعض الصحابة، واللّه سبحانه هو الفيّاض المطلق ليس لفيضه حدّ محدود.

ص:49


1- . آل عمران: 144.
2- . تفسير ابن كثير: 1/409.
3- . زاد المعاد: 253.
4- . المائدة: 54.

الموضع الثالث: قوله تعالى في سورة التوبة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) .(1)

قال ابن عاشور في تفسيره «التحرير والتنوير»:... وإن جرينا على ما عزاه ابن عطية إلى النقّاش: أنّ قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ ... اَلْأَرْضِ ) هي أوّل آية نزلت من سورة براءة كانت الآية عتاباً على تكاسل وتثاقل ظهرا على بعض الناس فكانت «إِذا» ظرفاً للمستقبل، على ما هو الغالب فيها، وكان قوله: (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) تحذيراً من ترك الخروج إلى غزوة تبوك.(2)

وقال ابن كثير في تفسيره: (وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ) : أي لنصرة نبيّه وإقامة دينه كما قال تعالى: (وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ) .(3)(وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) : أي ولا تضرّوا اللّه شيئاً بتولّيكم عن الجهاد ونكولكم وتثاقلكم عنه.(4)

ونختم الكلام هنا بكلمة نقلها الدكتور أحمد أمين في «ضحى الإسلام» من رسالة لبعض الزيدية، قال: «إنّا رأينا الصحابة أنفسهم ينقد بعضهم بعضاً، بل يلعن بعضهم بعضاً - ولو كانت الصحابة عند نفسها بالمنزلة الّتي لا يصحّ فيها نقد ولا لعن لعلمت ذلك من حال نفسها، لأنّهم أعرف بمحلّهم من عوامّ أهل دهرنا، وهذا طلحة والزبير وعائشة ومَن كان معهم وفي جانبهم، لم يروا أن يمسكوا عن علي، وهذا معاوية وعمرو بن العاص لم يقصرا دون ضربه وضرب

ص:50


1- . التوبة: 38-39.
2- . التحرير والتنوير: 10/94-95.
3- . محمد: 38.
4- . تفسير القرآن العظيم: 4/135-136.

أصحابه بالسيف، وكالذي روي عن عمر من أنّه طعن في رواية أبي هريرة وشتم خالد بن الوليد وحكم بفسقه، وخوّن عمرو بن العاص ومعاوية ونسبهما إلى سرقة مال الفيء واقتطاعه، وقلّ أن يكون في الصحابة من سلم من لسانه أو يده، إلى كثير من أمثال ذلك ممّا رواه التاريخ. وكان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك ويقولون في العصاة منهم هذا القول، وإنّما اتّخذهم العامّة أرباباً بعد ذلك. والصحابة قوم من الناس، لهم ماللناس وعليهم ما عليهم. من أساء ذممناه، ومن أحسن منهم حمدناه، وليس لهم على غيرهم كبير فضل إلّا بمشاهدة الرسول ومعاصرته لا غير، بل ربّما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم، لأنّهم شاهدوا الأعلام والمعجزات، فمعاصينا أخفّ لأنّنا أعذر».(1)

الحلقة الثامنة: اليوم الثامن من شهر رمضان 1436 ه

اشارة

قال الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف: إنّ العصمة هي عدم القدرة على الوقوع في الذنب، والمعصوم هو الّذي إذا أراد أن يقع في الذنب منعه اللّه تعالى عن الوقوع فيه.

أمّا العدالة فالملكة الراسخة في نفسه هي الّتي تمنع الشخص من الوقوع في الذنب، لكن في العصمة لا يقع المعصوم في الذنب لا لكونه لديه هذه الملكة فقط؛ بل اللّه سبحانه وتعالى تولّى حفظه من مواقعة الذنوب الظاهرة والباطنة.

ثم مثل بمثال سيدنا يوسف عليه السلام ممّا في قوله تعالى: (وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ

ص:51


1- . ضحى الإسلام: 3/75-76.

بِها) وقال: كان همّ يوسف همّ خطرات وحديث نفس (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) .(1)

واستطرد الدكتور في ذكر الفرق بين وقوع الذنب أحياناً من الصحابي وعدم وقوعه من جانب النبيّ المعصوم، وقال: إنّ الموانع الّتي تمنع الصحابي كوابح داخلية إنسانية بشرية، يمكن أن تتخلّف، لكن الكوابح الّتي في المعصوم كوابح إلهية تمنع المعصوم من الوقوع في الذنب مطلقاً.

وأكدّ الدكتور أنّه من هنا صحّ وقوع الصحابي في الذنب دون النبيّ .

ثم اختتم حديثه بأنّ الشيعة يمدّون العصمة إلى اثني عشر إماماً بدءاً من الإمام علي ومروراً بالإمامين الحسن والحسين ووصولاً إلى الإمام الثاني عشر الّذين يقولون أنّه في دور الغيبة، وهذا ما لا يقول به أهل السنّة والجماعة.

***

ولنا على كلامه حفظه اللّه ملاحظات:

الأُولى: تعريف العصمة

عرّف الدكتور العصمة بعدم القدرة على الوقوع في الذنب، وعلّله بوجود كوابح إلهية تمنع المعصوم من الوقوع في الذنب مطلقاً.

فنسأله: أنّ العصمة مفخرة يتحلّى بها الأنبياء والمعصومون، فلو كانوا معها غير قادرين على المعصية ومخالفة التكليف، فلا يُعدّ ذلك مفخرة لعدم قدرتهم على المعصية إذا أرادوها. ولذلك لو افتخر عنين بعدم اقتراف الفحشاء فلا يُعدّ ذلك فخراً له، إنّما الفخر ليوسف عليه السلام الّذي كان يتمتّع بالغريزة الكاملة ورغم كلّ ذلك فقد استعصم، وبذلك اعترفت امرأة العزيز وقالت: (وَ لَقَدْ

ص:52


1- . يوسف: 24.

راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) (1).

وبعبارة أُخرى: إذا كان الامتناع عن الذنب يتمّ برادع خارجي يوكّل بالإنسان ويمنعه عنه، فلا فضيلة في ذلك، إذ المسألة تشبه أن يقوم شخص بالسرقة ويمتنع آخر عنها؛ لأنّ معه دائماً شرطياً يتابعه. ففي هذه الحالة، الثاني سارق كالأوّل ولكن مع فارق فالأوّل يسرق، لا يحول دونه شرطي، والثاني سارق ولكن الشرطي يحول دون ممارسته للسرقة.(2)

وعلى ذلك فالتفريق بين المعصوم والعادل بالعجز عن المعصية في الأوّل والقدرة عليها عند الثاني، غير صحيح.

حقيقة العصمة

والصحيح أنّ العصمة هي نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي. حيث إنّ العلم القطعي بعواقب الأعمال الخطيرة، يخلق في نفس الإنسان وازعاً قوياً يصدُّه عن ارتكابها.

وأمثاله في الحياة كثيرة؛ فلو وقف أحدنا على أنّ في الإسلاك الكهربائية طاقة من شأنها أن تقتل مَن يمسّها من دون عائق، فإنّه يحجم من تلقاء نفسه عن مسّ تلك الأسلاك والإقتراب منها؛ ونظير ذلك، الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم، فإنّه إذا صادف ماءً اغتسل فيه مصاب بالجُذام أو البَرَص، أو إناءً شرب منه مصابٌ بالسِّلِّ ، لا يقدم على الإغتسال فيه أو شربه، مهما اشتدّت حاجته إليه، لعلمه بما يَجُرّ عليه الشرب والإغتسال بذاك الماء الموبوء، من الأمراض. وقس على ذلك سائر العواقب الخطيرة، وإن كانت من

ص:53


1- . يوسف: 32.
2- . الإمامة للشهيد المطّهري: 203.

قبيل السقوط في أعين الناس، وفقدان الكرامة وإراقة ماء الوجه بحيث لا ترغد الحياة معه.

فإذا كان العلم القطعي بالعواقب الدنيوية لبعض الأفعال يوجد تلك المصونية عن الإرتكاب، في نفس العالم، فكيف بالعلم القطعي بالعواقبِ الأُخرويِة للمعاصي ورذائل الأفعال، علماً لا يداخله ريبٌ ولا يعتريه شكٌ ، علماً تسقط دونه الحُجُب فيرى صاحبُه رَأي العينِ ، ويَلْمِسُ لَمسَ الحِسِّ ، تَبِعاتِ المعاصي ولوازِمَها وآثارَها في النشأة الأُخرى، ذَاك العلم الّذي قال تعالى فيه:

(كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) (1)، فمِثْلُ هذا العِلم يخلُق من صاحبه إنساناً مثالياً، لا يخالفَ قول ربه قيد أنملة، ولا يتعدّى الحدود الّتي رسمها له في حياته قدر شعرة، ولن تنتفي المعصية من حياته فحسب، بل إنّ مجرّد التفكير فيها، لن يجد سبيله إليه.

وما ذكرناه يفيد أنّ للعلم مرحلة قوية، راسخة، تُغَلِّب الإنسان على الشهوات وتَصُدُّه عن فعل المعاصي والآثام. ونجد هذا البيان في كلمات جمال الدين الفاضل مقداد بن عبد اللّه السُيوري الحلِّي في كتابه القيّم «اللّوامع الإلهية»، يقول: «العصمة ملكة نفسانية تمنع المتّصف بها من الفجور مع قدرته عليه.

وتتوقّف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات؛ لأنّ العفة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء وفي الطاعة من السعادة، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس، فتصير ملكة».(2)

وليس المُدَّعى أنّ كلّ علم بعواقب الأفعال يصد الإنسان عن ارتكابها،

ص:54


1- . التكاثر: 5 و 6.
2- . اللوامع الإلهية: 170.

وأنّ العلم بمجرّده يورث العصمة، فإنّ ذلك باطل بلا ريب، لأنّا نرى الكثيرين من ذوي العلوم بمَضرَاتِ المُخَدِّرات والمُسكرات والأعمال الشنيعة لا يتورّعون عن ارتكابها، استسهالاً للذم في مقابل قضاء وَطَرهم منها. فلو كان العلم بعواقب المعاصي من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك العادي، لتسرّب إليه التخلّف، لكنّ سنخ العلم الّذي يصيِّر الإنسان معصوماً، ليس من سنخ هذه العلوم والإدراكات المتعارفة، بل علمٌ خاصٌ فوقها، ربما يعبّر عنه بشهود العواقب وانكشافها كشفاً تامّاً لا يبقى معه ريب.

نعم كلّ ما ذكرناه يرجع إلى العصمة بأحد معانيها، وهو المصونية عن المعصيّة والتمرّد على أوامر المولى، وأمّا العصمة في مقام تلقّي الوحي أوّلاً، والتحفّظ عليها ثانياً، وإبلاغه إلى الناس ثالثاً، والعصمة عن الخطأ في الأُمور الفردية والاجتماعية فلابدّ لها من عامل آخر، نتعرض له في الأبحاث الآتية بإذن اللّه.

***

الثانية: قال الدكتور: من هنا صحّ وقوع الصحابي في الذنب.

أقول: إنّ الشيخ قد تفرّد في هذا الرأي حيث إنّه يصرّح بأنّه قد صدر من الصحابة الذنب الكبير، إلّاأنّ غيره من علماء السنّة يتعاملون مع الصحابة معاملة المعصوم حيث إنّهم يتحاشون عن نسبة الذنب إليهم، وكلّما يورد عليهم بصدور الذنب عن الصحابي، يقولون: إنّه اجتهد، والمجتهد مأجور فإن كان مصيباً فله أجران وإن كان مخطئاً فله أجر واحد؛ وبالتالي صار مقترف الذنب ذا أجر، وليس هذا إلّاالمغالاة في حقّ الصحابة!!

***

ص:55

الحلقة التاسعة: اليوم التاسع من شهر رمضان 1436 ه

اشارة

قال الدكتور أحمد الطيب: إنّ العدالة - عند أهل السنّة - هي ملكة بشرية تحول دون وقوع العدل في المعاصي، ولكن يجوز معها أن تتغلب النوازع ويقع في الذنب، أمّا العصمة فتعني استحالة الوقوع في الذنب بسبب حفظ اللّه (عزّوجلّ ) للرسل والأنبياء بواطنهم وظواهرهم من التلبّس بالمعاصي.

ثم إنّه حفظه اللّه استرسل في الكلام حول عصمة الأنبياء بوجه جيد لا خلاف فيه، ثم قال: بأنّ مفهوم العدالة عند أهل السنّة هي العدالة الّتي يجوز معها الوقوع في الخطأ، وهذا المفهوم ينطبق على الصحابة رضي اللّه عنهم، ولكن الشيعة لمّا توسعوا في مفهوم العصمة اضطروا لفتح باب الوحي للأئمة من بعد الأنبياء، ونحن نقول: إنّ العصمة للأنبياء فقط، والوحي قد انقطع بوفاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

***

أقول: وعلى كلامه حفظه اللّه ملاحظات:

الأُولى: أنّك قد عرفت أنّ العصمة لا تلازم استحالة الوقوع في الذنب، وإلّا لم تكن فخراً لواحد من الأنبياء، وقد مرّ تفصيله.

الثانية: أنّه تارة يقول: إنّ العدالة يجوز معها أن تتغّلب النوازع ويقع في الذنب.

ولكنّه مرّة أُخرى يقول: إنّ العدالة هي الّتي يجوز معها الوقوع في الخطأ.

ومن الواضح أنّ التعريف الثاني لا صلة له بالعدالة، ولا منافاة بين الخطأ

ص:56

والعدالة، بخلاف الذنب.

الثالثة: أنّ ما نسبه إلى الشيعة من أنّهم لمّا توسّعوا في مفهوم العصمة اضطروا لفتح باب الوحي للأئمة من بعد الأنبياء.

إنّ الأُمّة الإسلامية سنّة وشيعة قالوا بغلق باب الوحي بعد رحيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهذا هو إمام الأُمّة يقول عند تجهيز رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللّهِ ! لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ ».(1)

وعلى ذلك كيف يمكن للشيعة بأن يقولوا بأنّ الأئمة يوحى إليهم، غير أنّ الأُستاذ في قضائه هذا لم يفرّق بين الوحي والتحديث، فإنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام محدَّثون، لا موحى إليهم، وقد عقد البخاري باباً في التحديث، وسيوافيك ما أورده فيه، بعد تعريف المحدَّث.

فالمحدّث هو مَن تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ولا رؤية صورة، أو يُلهم ويُلقى في روعه شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره، أو غير ذلك من المعاني الّتي يمكن أن يراد منه، فوجود مَن هذا شأنه من رجالات هذه الأُمّة متّفق عليه بين فرق الإسلام، بيد أنّ الخلاف في تشخيصه، فالشيعة ترى أنّ عليّاً أمير المؤمنين وأولاده الأئمة عليهم السلام من المحدّثين، وأهل السنّة يرون أن منهم عمر بن الخطاب:

1. أخرج البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم لقد كان فيمَن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أُمّتي منهم أحدٌ فعمر.(2)

ص:57


1- . نهج البلاغة: الخطبة 235.
2- . صحيح البخاري: 4/200، باب مناقب عمر بن الخطاب، دار الفكر - 1401 ه.

2. أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

لقد كان فيما قبلكم من الأُمم محدَّثون فإن يكن في أُمّتي أحد فإنّه عمر.(1)

3. أخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد كان في الأُمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم.(2)

وقال ابن حجر أيضاً: قوله: «محدَّثون» بفتح الدال جمع محدّث واختلف في تأويله فقيل: ملهم، قاله الأكثر، قالوا: المحدَّث بالفتح هو الرجل الصادق الظن وهو من أُلقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى فيكون كالذي حدّثه غيره به، وبهذا جزم أبو أحمد العسكري، وقيل: مَن يجري الصواب على لسانه من غير قصد. وقيل: مكلّم أي تكلّمه الملائكة بغير نبوّة، وهذا ورد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً ولفظه: قيل: يا رسول اللّه وكيف يُحدّث ؟ قال: تتكلّم الملائكة على لسانه. وحكاه القابسي وآخرون. ويؤيده ما ثبت في الرواية المعلقة، ويحتمل ردّه إلى المعنى الأوّل أي تكلّمه في نفسه وإن لم ير مكلّماً في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام.(3)

ولأعلام القوم حول المحدَّث والروايات الواردة في حقّه كلمات وافية تعرب - بوضوح - عن وجود الفرق بين المحدَّث والنبي، وأنّه ليس كلّ مَن يُنكَت في أُذنه أو يُلقى في قلبه نبيّاً، واختلاف الشيعة مع السنّة إنّما هو في المصاديق فالشيعة - كما قلنا - يرون أن عليّاً أمير المؤمنين وأولاده الأئمة من

ص:58


1- . صحيح البخاري: 4/200، باب مناقب عمر بن الخطاب، دار الفكر - 1401 ه.
2- . صحيح مسلم بشرح النووي: 15، رقم الحديث 6154.
3- . فتح الباري: 7/50.

المحدَّثين وأهل السنّة يرون أنّ منهم عمر بن الخطاب.

***

ثم إنّ الدكتور أشار في محاضرته بأنّ هناك نوعاً آخر من العصمة عند أهل السنّة لابدّ من توضيحه بهذه المناسبة، وهو أنّ العصمة تكون لمجموع الأُمّة وليست لأفرادها، وهناك فرق بين المجموع وبين الأفراد، فلو أجمع علماء المسلمين على أمر وتلقّاه المسلمون بالقبول الحسن، فإنّ هذا الأمر يصير حقّاً، فإنّ الأُمّة معصومة في هذه الأحكام، وهي واجبة الاتّباع، بل هي حجج تشريعية بعد نصوص القرآن الكريم، والسنّة النبوية.

ثم قال: إنّ الشيعة يقولون إنّ إجماع الأُمّة لو كان بينهم الإمام المعصوم - بزعمهم - فإنّه يُعدّ هذا الإجماع معصوماً بعصمة الإمام.

وأمّا لو لم يكن بينهم إمام معصوم فإجماع الأُمّة حينئذٍ غير معصوم.

يلاحظ عليه: بأنّ من مراتب التوحيد، التوحيد في التشريع بأنّه لا مشرّع إلّا اللّه، وليس لأحد حقّ التشريع والتقنين: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ) (1).

وعلى هذا فمصدر التشريع هو الكتاب والسنّة فقط، وأمّا الاحتجاج بالعقل، فلأجل أنّ إدراكه كاشف عن الحكم الشرعي، فليس له حقّ التشريع، وإنّما يتمتّع بالكشف عمّا هو الحكم عند الشارع على وجه بيّنه الأُصوليون.

وأمّا إجماع الأُمّة فلم يدلّ دليل صحيح على أنّ إجماعهم على حكم إذا كان معه دليل ظنّي يرتفع الحكم مع الإجماع إلى حكم قطعي واقعي ويكون

ص:59


1- . يوسف: 40.

كسائر ما دلّ عليه الكتاب والسنّة. إذ معنى هذا أنّ الإجماع من مصادر التشريع، وقد عرفت أنّ مقتضى القول بالتوحيد في التشريع انحصار التشريع في الكتاب والسنّة.

وأمّا الشيعة فلا يرون الإجماع من أدوات التشريع، بل أنّه كاشف عن الحكم الشرعي فلو كان الإمام المعصوم بينهم فإجماعهم يكشف عن موافقة الإمام لهم، فيكون أيضاً كاشفاً عن الحكم الشرعي، وأمّا في غير هذه الصورة فالشيعة تقول بحجّية الإجماع بطرق مختلفة مذكورة في الكتب الأُصولية أوضحها أنّها تكشف عن وجود دليل شرعي بين المجمعين، وصل إليهم ولم يصل إلينا، وعلى ذلك يصير النزاع في حجّية الإجماع نزاعاً لفظياً لا ثمرة له فهو حجّة في كلتا الحالتين، سواء أكان الإجماع من أدوات التشريع كما هو رأي أهل السنّة، أو كاشفاً قطعياً عن الحكم الشرعي أو الدليل الشرعي.

ونحن نقترح على شيخ الأزهر بأن يسمح بدراسة الفقه الإمامي في الأزهر الشريف حتّى يتبيّن أنّ الفوارق أقل ممّا يُتصور، وأنّه ما من مسألة شرعية - إلّاما شذّ - لها موافق من فقهاء السنّة قديمهم أو حديثهم، ويكفي في ذلك مطالعة كتاب «الخلاف» للشيخ الطوسي رحمه الله، وقد سمعت بأُذني من الفقيه المعاصر الدكتور وهبة الزحيلي عندما حلّ علينا ضيفاً في قم المقدّسة قال: إنّي أشهد أنّ الاختلاف بين فقهاء السنّة أكثر من الاختلاف بين السنّة والشيعة، أنار اللّه برهانه.

ص:60

الحلقة العاشرة: اليوم العاشر من شهر رمضان 1436 ه

قال الدكتور أحمد الطيب في هذه المحاضرة بعد بيان الفرق بين العصمة في الأنبياء والعدالة في الصحابة ما هذا حاصله:

إنّ العدالة ليست عصمة إلهية، ولذا قد تضعف العدالة عند الصحابي وتتغلّب عليه نوازع النفس ويقع في الإثم وسرعان ما يتوب إلى اللّه، لكنّها حالات محدودة، فمن الصحابة مَن اقترف بعض الآثام، وكان يعترف بإثمه، ويذهب للنبي صلى الله عليه و آله و سلم يطلب منه أن يطهره بإقامة الحدّ، والتاريخ يقصّ علينا أنّ بعض الصحابة قد دخلوا فيما يُسمّى بالفتنة الكبرى وهو الاقتتال الّذي حدث فقتل سيدنا عثمان، وفي عهد سيدنا علي - رضي اللّه عنهما - مع أنّهم ما دخلوا فيه إلّامجتهدين ومتأوّلين، فكلّ كان يعتقد أنّه يقاتل في سبيل الحقّ ومن أجل مصلحة المسلمين، ومعلوم أنّ المجتهد إذا اصاب له أجران: أجر الاجتهاد وأجر إصابة الحقّ ، وأنّ المجتهد المخطئ له أجر واحد، وهو أجر الاجتهاد، وبالتالي فإنّ المسألة هنا لا تجرّم الصحابي الّذي ذهب وانضمّ للجيش المطالب بدم عثمان، ولا تجرّم الصحابي الّذي انظم لجيش علي.

***

أقول: نحن رضينا بقول الدكتور بأنّ الصحابة يصدر منهم الذنب الكبير، وقد ذكر مثالاً واحداً وهو الّذي جاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم طالباً منه أن يطهّره، بإقامة الحدّ، ولكن بيت القصيد الّذي تدور عليه رحى الاختلاف، هم الّذين حاربوا الخليفة الشرعي أعني الإمام عليّاً عليه السلام في الحروب الثلاثة: الجمل، وصفين،

ص:61

والنهروان، والأُستاذ - حفظه اللّه - جعلهم مجتهدين متأوّلين وأثبت لهم الأجر، ثم إنّه في ختام كلامه قال: وليس مَن شرب الخمر وادّعى الاجتهاد مجتهداً، لأنّه لا اجتهاد ولا تأويل مع النصوص الواضحة.

فنحن نقول: أي نصّ أوضح من قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لعلي وفاطمة والحسن والحسين: «أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم».(1)

وقوله: «يا علي ستقاتلك الفئة الباغية وأنت على الحقّ ، فمَن لم ينصرك يومئذٍ فليس منّي».(2)

وأي دليل أوضح من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعمّار: «تقتلك الفئة الباغية» وقال أيضاً: «ويح عمّار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار».(3) وقد قتله جيش معاوية الّذين سمّاهم رسول اللّه الفئة الباغية.

أو ليس عمل الفئة الباغية هذا، اجتهاداً في مقابل النصّ ، وأيُّ فرق بين تحليل الخمر مع ورود النصّ الروائي على حرمته ومحاربة الإمام الّذي نصّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على كون المحارب له باغياً، متجاوزاً عن ميزان الحقّ؟! أو يصحّ بعد ذلك تعديل هؤلاء والحكم بانّهم متأوّلون مثابون ؟!

وبعبارة أُخرى: إنّ طبيعة القضية وخطورة الموقف المترتّب على الحروب الثلاثة تقتضي أن يكون النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم قد حذّر الجميع منها، ورسم

ص:62


1- . مجمع الزوائد للهيثمي: 9/169؛ المعجم الأوسط للطبراني: 3/179؛ المستدرك على الصحيحين: 3/161، برقم 4714.
2- . تاريخ دمشق لابن عساكر: 12/370؛ برقم 1220؛ مجمع الجوامع للسيوطي: 6/155؛ كنز العمال: 11/613، برقم 32970.
3- . الإصابة لابن حجر: 2/512 برقم 5704؛ تهذيب التهذيب: 7/409، برقم 665؛ البداية والنهاية لابن كثير: 7/298، حوادث سنة 37 ه.

لهم الموقف المناسب الّذي عليهم اتّخاذه عند نشوبها؛ لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم حذّر ممّا هو أدنى منها خطورة، فكيف بقضية بحجم تلك الفتنة الّتي كادت أن تعصف بالعالم الإسلامي ؟! وهذا ما تؤيّده الروايات الّتي انتهت إلى كبار الصحابة، وهذه كلمات الصحابة مبثوثة في طيّات الكتب والمعاجم، وهي تعرب عن أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يحثّ أصحابه على نصرة أمير المؤمنين عليه السلام في تلك الحروب، ويدعوهم إلى القتال معه، ويأمر عيون أصحابه بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، ونشير هنا إلى نماذج من تلك الروايات الّتي تنتهي إلى كبار الصحابة كأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأبي أيوب الأنصاري، وابن مسعود، وأبي سعيد الخدري، وعمّار بن ياسر، وابن عباس، ممّا يكشف عن مدى اهتمامه بهذه القضية:

أخرج الحاكم في المستدرك(1) والذهبي في تلخيصه عن أبي أيوب الأنصاري: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر علي بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، ورواه أيضاً الكنجي(2).

وأخرج الحاكم أيضاً(3)، عن أبي أيوب قال: سمعت رسول اللّه يقول لعلي: تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

ولمّا عوتب أبو أيوب الأنصاري على مقاتلة المسلمين احتجّ بأنّه عهد من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، قال أبو صادق: قدم علينا أبو أيوب العراق فأهدت له الأزد جزراً، فبعثوها معي، فدخلت فسلمت عليه وقلت له: يا أبا أيوب قد كرّمك اللّه

ص:63


1- . المستدرك على الصحيحين: 3/139.
2- . لاحظ: كفاية الطالب: 70.
3- . المستدرك على الصحيحين: 3/140.

عزَّ وجلَّ بصحبة نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم ونزوله عليك، فمالي أراك تستقبل الناس بسيفك تقاتلهم ؟! هؤلاء مرّة وهؤلاء مرّة! قال: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عهد إلينا أن نقاتل مع علي الناكثين فقد قاتلناهم، وعهد إلينا أن نقاتل معه القاسطين، فهذا وجهنا إليهم - يعني: معاوية وأصحابه - وعهد إلينا أن نقاتل مع علي المارقين، ولم أرهم بعد.(1)

وروى علقمة والأسود عن أبي أيوب أنّه قال: إنّ الرائد لا يكذب أهله، وإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمرنا بقتال ثلاثة مع علي بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين.(2)

وقال عتاب بن ثعلبة: قال أبو أيوب الأنصاري في خلافة عمر بن الخطاب: أمرني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين مع عليّ .

ورواه عنه أصبغ بن نباتة غير أن فيه: أمرنا.(3)

وعن أبي سعيد الخدري، قال: أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، قلنا: يا رسول اللّه أمرتنا بقتال هؤلاء فمع مَن ؟ قال: «مع عليّ بن أبي طالب».(4)

ص:64


1- . شرح نهج البلاغة: 3/207.
2- . تاريخ ابن عساكر: 42/472، دار الفكر، بيروت - 1415 ه؛ تاريخ ابن كثير: 7/306(7/339 حوادث سنة 37 ه)؛ كنز العمال: 11/352 ح 31720. وراجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3/207، الخطبة 48.
3- . تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 42/472؛ ورواه الحاكم في المستدرك: 3/139-140 بلفظ قريب من هذا؛ وابن عبدالبرّ في الاستيعاب: 3/53 (القسم الثالث / 1117 برقم 1855).
4- . أخرجه: الحاكم في أربعينه كما ذكره السيوطي؛ والحافظ الكنجي في الكفاية: 72 (ص 173 الباب 38)؛ وابن كثير في تاريخه: 7/305(7/339 حوادث سنة 37 ه).

وعن أبي اليقظان عمّار بن ياسر، قال: أمرني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. أخرجه الطبراني، وفي لفظه الآخر من طريق آخر: أمرنا، أخرجه الطبراني وأبو يعلى، وعنهما الهيثمي.(1)

ومن كلام لعمّار بن ياسر خاطب به أبا موسى الأشعري، قال: أمّا إني أشهد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر عليّاً بقتال الناكثين، وسمّى لي فيهم من سمّى، وأمره بقتال القاسطين، وان شئت لأقيمنّ لك شهوداً يشهدون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما نهاك وحدك وحذرك من الدخول في الفتنة.(2)

والعجب أنّ الدكتور يساوي بين الجبهتين في أنّ كلاهما مجتهد!! وشتّان بين الشجرتين: شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، وما أبعد ما بين الشجرتين، شجرة مباركة زيتونة والشجرة الملعونة في القرآن بتأويل من النبيّ الأعظم، بلا اختلاف بين اثنين في أنّهم هم المراد من الشجرة الملعونة كما ذكر الطبري.(3)

نقل الأُستاذ محمد رشيد رضا في تفسيره: قال أحد كبار علماء الألمان في الاستانة لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء مكّة: إنّه ينبغي لنا أن نقيم تمثالاً من الذهب لمعاوية بن أبي سفيان في ميدان (كذا) من عاصمتنا (برلين)، قيل له:

لماذا؟ قال: لأنّه هو الّذي حوّل نظام الحكم الإسلامي من قاعدته الديمقراطية إلى عصبية الغلب، ولولا ذلك لعمّ الإسلام العالم كلّه، ولكنّا نحن الألمان وسائر شعوب أوربا عرباً مسلمين.(4)

ص:65


1- . مسند أبي يعلى: 3/194 ح 1623؛ مجمع الزوائد: 7/238.
2- . شرح نهج البلاغة: 14/15.
3- . لاحظ: تاريخ الطبري: 11/365.
4- . تفسير المنار: 11/260.

ومن الجدير بالذكر فإنّ الدكتور قد تطرّق في نهاية كلامه إلى ما ذكرته وكالة أنباء فارس، وأجاب هو عن ذلك. ونحن لا نتدخل في ذلك.

الحلقة الحادية عشرة: اليوم الحادي عشر من شهر رمضان 1436 ه

ركّز الدكتور أحمد الطيب في حديثه اليومي على عصمة الأُمّة وقال: إنّ تفخيم وتعظيم شأن الأُمّة على الرغم من عدم وجود دليل عقلي؛ ذاهب بنا إلى أنّ الأُمّة قد تجتمع على ضلال، وكثير من الأُمم اجتمعت على ضلالات كثيرة في التاريخ، وكان يمكن أن تجتمع الأُمة الإسلامية على ضلال عقلاً ولكن جاء الشرع ليستثني أُمّة المسلمين من الوقوع في الضلال، فعن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: إنّ اللّه لا يجمع أُمّتي على ضلالة ويد اللّه مع الجماعة، وعن أنس بن مالك أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يقول: إنّ اللّه قد أجار أُمتي أن تجتمع على ضلالة، فاجتماع الأُمّة على أمر يعني أنّها معصومة من الخطأ فيه.

***

أقول: إنّ مصادر التشريع منحصرة في: الكتاب والسنّة والعقل والإجماع، وأُريد من الإجماع اتّفاق المسلمين على أمر شرعي بحيث يُعد من الاتّفاقيات بين عامّة المسلمين، وأين هذا من خلافة الخلفاء الّتي أصفق عليها جمع من المسلمين مع مخالفة غيرهم، فعلى هذا فهي ليست من الأُمور الّتي أطبق عليها كُلُّ المسلمين، كيف وقد خالف فيها جمع من الصحابة وهم روّاد التشيّع وعلى رأسهم أهل البيت كافّة ؟!

فعلى سماحة الدكتور أن يقرأ تاريخ السقيفة وما جرى فيها من نزاع

ص:66

وتضارب في الآراء وشجار وعراك وسلّ السيوف، وقد خرج من تسنّم منصّة الخلافة برأي طائفة معيّنة من الأنصار وهم الأوس مع إنكار الخزرجيّين كلّهم.(1)

وأمّا الحديث الّذي استدلّ به الدكتور فهو ضعيف، وإليك بيانه على وجه الإجمال.

1. روى ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك يقول: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «إنّ أُمّتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم».(2)

وفي سنده أبو خلف الأعمى، قال الذهبي: يروي عن أنس، كذّبه ابن معين، وقال أبو حاتم: منكر الحديث.(3)

2. روى الترمذي عن ابن عمر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ اللّه لا يجمع أُمّتي، أو قال: أُمّة محمد، على ضلالة، ويد اللّه مع الجماعة ومن شذّ شذّ إلى النار».(4)

وفي سنده سليمان بن سفيان المدني، وقد عرّفه الذهبي قائلاً: قال ابن معين: ليس بشيء. وقال مرّة: ليس بثقة، وقال أبو حاتم والدارقطني: ضعيف وليس له في السنن والمسانيد غير حديثين.(5)

ص:67


1- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/443، وغيره من المصادر.
2- . سنن ابن ماجة: 2/1303، برقم 3950.
3- . ميزان الاعتدال: 4/521، برقم 10156.
4- . سنن الترمذي: 4/466، برقم 2167، كتاب الفتن.
5- . ميزان الاعتدال: 2/209، برقم 3469.

3. روى أبو داود عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ اللّه أجاركم من ثلاث خلال - إلى أن قال: - وأن لا تجتمعوا على ضلالة».(1)

وفي سنده محمد بن عوف الطائي ذكره الذهبي ووصفه بكونه مجهول الحال.(2)

4. روى أحمد في مسنده عن أبي ذر عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في حديث أنّه قال:

«اثنان خير من واحد - إلى أن قال: - إنّ اللّه عزوجل لم يجمع أُمّتي إلّاعلى هدى».(3)

وفي سنده ابن عياش الحميري قال عنه الذهبي: مجهول.(4)

5. روى الحاكم النيسابوري في مستدركه هذا الحديث بمسانيد تشتمل جميعها على المعتمر بن سليمان. ذكره الذهبي قال: معتمر بن سليمان البصري أحد الثقاة الأعلام. قال ابن خراش: صدوق يخطأ من حفظه وإذا حدّث من كتابه فهو ثقة.

قلت: هو ثقة مطلقاً. ونقل عن ابن معين: ليس بحجّة.(5)

وعلى كلّ تقدير فهذا الخبر على علّاته خبر واحد لا تثبت به القاعدة القطعية حتّى يحتج به في عامّة الأبواب، ولذلك يقول تاج الدين السبكي (المتوفّى 771 ه): أمّا الحديث فلا أشكّ أنّه اليوم غير متواتر، بل لم يصحّ منه طريق على السبيل الّذي يرتضيه جهابذة الحفاظ... إلى آخر ما قال.(6)

ص:68


1- . سنن أبي داود: 4/98، برقم 4253.
2- . ميزان الاعتدال: 2/676، برقم 8030.
3- . مسند أحمد: 5/145.
4- . ميزان الاعتدال: 4/594، برقم 10821.
5- . ميزان الاعتدال: 4/143، برقم 8648.
6- . رفع الحاجب عن ابن الحاجب، الورقة 176 ب، المخطوط في مكتبة الأزهر.

وبهذا يظهر بأنّه لا يمكن أن يحتج على صحّة خلافة الخلفاء بالإجماع وذلك من وجهين:

1. عدم وجود الإجماع لكثرة المخالفين.

2. أنّ الاستناد في حجّية مثل هذا الإجماع إلى الحديث المذكور، غير تام؛ لأنّه خبر واحد لا يحتجّ به في العقائد والمعارف. وفي مثل الخلافة الّتي تعد من مهام الأُمور. مضافاً إلى ما عرفت من عدم تحقق الاجماع.

وقد تخلّف عن البيعة كثير من الأنصار كالخزرجيين وآل هاشم وعلى رأسهم الإمام علي بن أبي طالب وجمع معه.(1)

الحلقة الثانية عشرة: اليوم الثاني عشر من شهر رمضان 1436 ه

قال الدكتور أحمد الطيب: إنّ عدالة الصحابة ليست محلّ نقاش بين السنّة وهي قضية مسلّمة، فبعد تعديل اللّه عزوجل إيّاهم وثنائه عليهم في نصوص واضحة من القرآن الكريم(2)، لا يصحّ أي تعديل بعد ذلك من أحد، ولا يجوز التطاول عليهم، ومَن يتطاول عليهم فإنّه يغامر بإيمانه والعياذ باللّه.

ثم قال في تصريحات صحفية له: ومن ثم لا يصحّ أن نبحث في أحوالهم

ص:69


1- . لاحظ: تاريخ الخلفاء الراشدين، لابن قتيبة: 12؛ صحيح البخاري: 5/83، كتاب المغازي، غزوة خيبر، دار الفكر - 1401 ه؛ والطبعة الجديدة، برقم 4241.
2- . يشير إلى قوله تعالى: (وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ). التوبة: 100.

بنيّة معرفة هل الصحابي عدل أم لا؟ لأنّ القرآن الكريم أعطاهم شهادة تزكية، ومَن يتشكّك في هذا فهو متشكّك في هذه الشهادة الإلهية، ولذا لا يوجد في أي مصدر من مصادر علم الجرح والتعديل عند أهل السنّة اسم صحابي واحد، فهذا لم يحدث في كتب أهل السنّة، لعلمهم أنّهم معدّلون من فوق سبع سماوات.

***

أقول: لم أجد في كلام شيخ الأزهر أمراً جديداً حتّى نتأمّل به. وقد مرّ في الحلقة السابعة أنّ الآية لا تدلّ إلّاعلى رضا اللّه سبحانه عن جمع من الصحابة لا عن الكلّ من أوّلهم إلى آخرهم.

أضف إلى ذلك: أنّ كلّ تعديل وتحسين رهن بقاء المعدّل على الحالة السابقة إلى يوم وفاته، وقد مرّ نصّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بأنّ الأُمور بخواتيمها، وعلى هذا فلا يمكن الاستدلال بالآية المذكورة على عدالة الصحابة إذا دلّ الدليل على صدور الذنب منهم، خصوصاً إذا كان الصحابي محارباً للإمام المنصوص على إمامته، أو من اتّفق المهاجرون والأنصار على بيعته، كما هو الحال في الإمام علي عليه السلام فهو إمّا إمام منصوص عليه - كما عليه الإمامية - أو أنّه قد بايعه المهاجرون والأنصار ولم يتخلّف عن بيعته إلّامَن لم يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد.

ثم إنّ الدكتور لا يفرّق بين السبّ ودراسة حياة الصحابي، أمّا العمل الأوّل فقد مرّ أنّه عمل النوكى ، والشيعة الإمامية برآء لا يسبّون أحداً، فكيف الصحابي ؟! وأمّا الثاني فلا صلّة له بالسبّ ، وهذا هو الّذي ربّما يتصوّر أنّه سبّ للصحابي.

ص:70

فهذه السيدة عائشة أُمّ المؤمنين فهي وإن كان لها كرامتها الأُولى حسب ما قاله الإمام علي عليه السلام، ولكنّ ذلك لا يصدّنا عن تقييم ودراسة ما قامت به من أعمال حيث خرجت على إمام زمانها، على رأس جيش يقوده طلحة والزبير اللّذان كانا يحرّضان الناس ضد عثمان بن عفّان، ولكنّهما انقلبا على عقبيهما فصارا يطالبان بدمه الّذي أُريق بسببهما!!

وقد استعانا في تحريض الناس على الخروج على الإمام علي عليه السلام بزوج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الّتي أُمرت بأن تقرّ في بيتها بنصّ القرآن الكريم.

روى الطبري: أنّ عائشة لمّا انتهت إلى (سَرِف) راجعة في طريقها إلى مكّة لقيها عبد بن أُمّ كلاب وهو عبد بن أبي سلمة - ينسب إلى أُمّه - فقالت له:

مَهيم ؟ قال: قتلوا عثمان وبقوا (فمكثوا) ثمانياً، قالت: ثمّ صنعوا ماذا؟ قال: أخذها أهل المدينة بالاجتماع فجازت بهم الأُمور إلى خير مجاز، اجتمعوا على عليّ بن أبي طالب، فقالت: واللّه ليت إن هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك.

ردّوني ردّوني، فانصرفت إلى مكّة وهي تقول: قُتل واللّه عثمان مظلوماً، واللّه لأطلبن بدمه، فقال لها ابن أُم كلاب: ولِمَ؟ فواللّه إنّ أوّل من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر.

قالت: إنّهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل. فقال لها ابن أُمّ كلاب:

فمنك البداء ومنك الغير ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام وقلت لنا إنّه قد كفر

فهبنا أطعناك في قتله وقاتله عندنا مَن أمر

فانصرفت إلى مكّة فنزلت على باب المسجد فقصدت للحجر فسترت،

ص:71

واجتمع إليها الناس.(1)

هذا هو عملنا في دراسة حياة الصحابي والصحابية، ولا نتجاوزه بشيء، فإذا كان هذا سبّاً لهم، فأوّل من سبّ هم أصحاب السير والتاريخ الّذين جمعوا حياة الصحابة في موسوعاتهم التاريخية وغيرها.

وبذلك يظهر أنّ التشكيك في عدالة الصحابي ليس تشكيكاً في الشهادة الإلهية فهي حقّ في موضعها ومحلّها، كما أنّ الدراسة أيضاً حقّ في محلّها.

وكلّ ما يُسمّيه نظراء شيخ الأزهر سبّاً فهو من مقولة دراسة حياتهم وأعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر، من دون النيل من كرامتهم أو أعراضهم، وما شابه ذلك.

وهناك كلمة قيّمة للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء قدس سره قال: لعلّ قائلاً يقول: إنّ سبب العداء بين الطائفتين أنّ الشيعة ترى جواز المسّ من كرامة الخلفاء أو الطعن فيهم، وقد يتجاوز البعض إلى السبّ والقدح ممّا يسيء الفريق الآخر طبعاً ويهيج عواطفهم. فيشتدّ العداء والخصومة بينهم.

والجواب: أنّ هذا لو تبصّرنا قليلاً ورجعنا إلى حكم العقل بل والشرع أيضاً لم نجده مقتضياً للعداء أيضاً.

أمّا (أوّلاً) فليس هذا من رأي جميع الشيعة وإنّما هو رأي فردي من بعضهم، وربّما لا يوافق عليه الأكثر. كيف وفي أخبار أئمة الشيعة النهي عن ذلك، فلا يصحّ معاداة الشيعة أجمع لإساءة بعض المتطرّفين منهم.

ص:72


1- . تاريخ الطبري: 3/476، أحداث سنة 36 ه؛ ولاحظ: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3/206-207.

(وثانياً): أنّ هذا على فرضه لا يكون موجباً للكفر والخروج عن الإسلام.

بل أقصى ما هناك أن يكون معصية، وما أكثر العصاة في الطائفتين. ومعصية المسلم لا تستوجب قطع رابطة الأُخوة الإسلامية معه قطعاً.

(وثالثاً): قد لا يدخل هذا في المعصية أيضاً ولا يوجب فسقاً إذا كان ناشئاً عن اجتهاد واعتقاد، وإن كان خطأ، فإنّ من المُتَسالمَ عليه عند الجميع في باب الاجتهاد أنّ للمخطئ أجراً وللمصيب أجرين. وقد صحّح علماء السنّة الحروب الّتي وقعت بين الصحابة في الصدر الأوّل كحرب الجمل وصفين وغيرهما، بأنّ طلحة والزبير ومعاوية اجتهدوا وهم وإن أخطأوا في اجتهادهم، ولكن لا يقدح ذلك في عدالتهم وعظيم مكانتهم. وإذا كان الاجتهاد يبرر ولا يستنكر قتلَ آلاف النفوس من المسلمين وإراقة دمائهم، فبالأولى أن يبرر ولا يستنكر معه - أي مع الاجتهاد - تجاوز بعض المتطرفين على تلك المقامات المحترمة.

والغرض من كلّ هذا أننّا مهما تعمقّنا في البحث ومشينا على ضوء الأدلّة، عقلية أو شرعية، وتجرّدنا من الهوى والهوس والعصبيات، فلا نجد أي سبب مبرّر للعداء والتضارب بين طوائف المسلمين مهما اتّسعت شقّة الخلاف بينهم في كثير من المسائل.(1)

ص:73


1- . مجلة رسالة الإسلام، العدد الثالث من السنة الثانية: 270.

الحلقة الثالثة عشرة: اليوم الثالث عشر من شهر رمضان 1436 ه

قال الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف: إنّ هدفنا هو البحث عن وحدة الأُمة الإسلامية لا فرقتها، فالأزهر لم يكن في يوم من الأيام مؤسسة فتنة أو فرقة بين المسلمين، فهو الّذي نادى في القرن الماضي بالتفاهم بين السنّة والشيعة، وهو حريص على هذه الوحدة، لأنّ ما أصابنا وما نكتوي بناره الآن، ما جاء إلّامن هذه الفرقة بين أصحاب المذهبين، فليكن هذا معلوماً للجميع.

***

أقول: التقريب بين المذاهب الإسلامية أُمنية تمنّاها رجال التقريب في أوائل القرن الرابع عشر، وهم كانوا من العلماء المخلصين المتحمّسين للإصلاح (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً * وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ ) (1).

ولتحقيق هذه الأُمنية قاموا بإصدار مجلة إسلامية عالمية باسم «رسالة الإسلام»(2).

إنّ هذه المجلة بأُسلوبها المركّز وحيادها التام واحترامها المتقابل وابتعادها عن كافّة الميول والاتجاهات السياسية، لم تثمر إلّاالخير والنصيحة للمسلمين ونالت ثقة علماء المذاهب.

إنّ هؤلاء الّذين رفعوا راية التقريب انتقلوا إلى رحمة اللّه سبحانه، فمن الشيعة أصحاب السماحة من العلماء الاعلام أمثال:

1. الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء.

ص:74


1- . الكهف: 13-14.
2- . صدر العدد الأوّل بتاريخ ربيع الأوّل 1368 ه.

2. السيد هبة الدين الشهرستاني.

3. السيد عبدالحسين شرف الدين العاملي.

4. الشيخ محمد جواد مغنية.

والمراجع العظام نظراء:

1. آية اللّه البروجردي.

2. آية اللّه السيد صدر الدين الصدر.

3. آية اللّه السيد محمد تقي الخوانساري.

ومن علماء أهل السنّة شيخا الأزهر الكبيران:

1. الشيخ عبدالمجيد سليم.

2. الشيخ محمود شلتوت.

وجمع من علماء الأزهر أمثال: الشيخ محمود أبو زهرة، والشيخ محمد محمد المدني (رئيس تحرير المجلة)، والأُستاذ الكبير عبد العزيز عيسى أمين (مدير إدارة المجلة) وآخرون غيرهم.

ومن الكتّاب يومذاك السادة: أحمد أمين، وعباس محمود العقّاد، ومحمد فريد وجدي، وأمثالهم.

وهذه النخبة الفاضلة قلّما يتّفق أن يأتي الزمان بأمثالهم، وقد حملوا هموم المسلمين، ووقفوا على مواضع الخطر الّذي يهدّد الأُمة الإسلامية فوضعوا العلاج له، فياليت أن يقوم الخلف من بعدهم بالاقتداء بهم والتمسّك بالمشتركات الكثيرة وإيكال المسائل الخلافية إلى المعاهد والمراكز العلمية دون نشرها على رؤوس الملأ.

وإليك كلام أحد أعلام التقريب، قال: نعم ربّما يتصوّر أنّ التقريب بين المذاهب أمر ممتنع لوجود الفرق الجوهري بين الشيعة والسنّة، فالشيعة ترى أنّ الإمامة أصل من أُصول الدين وهي رديفة التوحيد والنبوّة، وأنّها منوطة بالنصّ

ص:75

من اللّه ورسوله، وليس للأُمّة فيها من الرأي والاختيار شيء، كما لا اختيار لهم في النبوّة، بخلاف إخواننا من أهل السنّة، فهم متّفقون على عدم كونها من أُصول الدين، ومختلفون بين قائل بوجوب نصب الإمام على الرعية بالإجماع ونحوه، وبين قائل بأنّها قضية سياسية ليست من الدين في شيء لا من أُصوله ولا من فروعه، ولكن مع هذا التباعد الشاسع بين الفريقين في هذه القضية، هل تجد الشيعة تقول إنّ مَن لا يقول بالإمامة غير مسلم (كلّا ومعاذ اللّه) أو تجد السنّة تقول إنّ القائل بالإمامة خارج عن الإسلام - لا وكلّا - إذن فالقول بالإمامة وعدمه لاعلاقة له بالجامعة الإسلامية وأحكامها من حرمة دم المسلم وعرضه وماله، ووجوب إخوّته، وحفظ حرمته، وعدم جواز غيبته، إلى كثير من أمثال ذلك من حقوق المسلم على أخيه.

ثم إنّ غرض مَن دعا إلى التقريب ليس إزالة الخلاف بين المذاهب الإسلامية وجعلها مذهباً واحداً سنّياً فقط أو شيعياً أو وهابياً، كيف واختلاف الرأي والخلاف في الجملة طبيعة ارتكازية في البشر؛ بل أقصى الغرض هو إزالة أن يكون هذا الخلاف سبباً للعداء والبغضاء، الغرض تبديل التباعد والتضارب بالإخاء والتقارب، فإنّ المسلمين جميعاً مهما اختلفوا في أشياء من الأُصول والفروع فإنّهم قد اتّفقوا على مضمون الأحاديث المقطوع عندهم بصحّتها من أنّ من شهد الشهادتين واتّخذ الإسلام ديناً له، فقد حرم دمه وماله وعرضه، والمسلم أخو المسلم، وأنّ مَن صلى إلى قبلتنا وأكلّ من ذبيحتنا ولم يتديّن بغير ديننا فهو منّا، له ما لنا وعليه ما علينا.(1)

ص:76


1- . لاحظ مقالة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء المنشورة في العدد الثالث من السنة الثانية من مجلة رسالة الإسلام، الصادرة عن دار التقريب بين المذاهب.

الحلقة الرابعة عشرة: اليوم الرابع عشر من شهر رمضان 1436 ه

استدلّ الدكتور أحمد الطيّب على محبّة الصحابة ووجوب الإحسان لهم بقوله عزَّ وجلَّ : (وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .(1)

وقال: هذه الآية دليل على وجوب الإحسان والاستغفار للصحابة، لأنّ المولى سبحانه جعل لمن يأتي بعدهم حظّاً في الفيء ما أقاموا على محبّتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأنّ مَن سبّهم أو واحداً منهم أو اعتقد فيهم شرّاً، لا حقّ له في الفيء.

قال مالك: مَن كان يبغض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه و آله و سلم أو كان في قلبه عليهم غلّ ، فليس له حقّ من فيء المسلمين، ثم قرأ: (وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) وبهذه الآية يستدلّ على أنّ الأجيال الّتي تأتي بعد المهاجرين والأنصار مأمورة بالإحسان والاستغفار للصحابة من الفريقين، وهذا يقتضي حرمة سبّهم ولعنهم والإساءة إليهم.

***

أقول: إنّ اللّه سبحانه قسّم المسلمين في سورة الحشر من الآية الثامنة إلى العاشرة، إلى أصناف ثلاثة:

1. ما أشار إليه بقوله: (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ ) .(2)

ص:77


1- . الحشر: 10.
2- . الحشر: 8.

2. ما أشار إليه بقوله: (وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1).

3. ما جاء في الآية التالية:

أ. (وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ) .

أي أنّهم يَدْعونَ ويستغفرون لأنفسهم ولمَن سبقهم بالإيمان.

ب. (وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا) فهم يسألون اللّه تعالى أن يزيل الغلّ والحقد والعداء من قلوبهم، إذ لا يجتمع الإيمان مع وجود الغلّ في قلب مؤمن على المؤمن الآخر؛ لأنّ الحقد على المؤمن حقد على النفس، والمؤمنون كالجسد الواحد.

ج. (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) : أي يسألونه سبحانه بما أنّه رؤوف رحيم أن ينزّه قلوبهم من الغلّ والنفاق.

وهذه الدعوات الثلاث تختلف مضموناً، فهم في الدعاء الأوّل يسعون في إصلاح أنفسهم ويطلبون العفو والرحمة من اللّه بتلك الغاية، وفي الدعاء الثاني يطلبون العفو والمغفرة لمَن سبقهم بالإيمان، وفي الثالث يركّزون على تصفية نفوسهم من الرذائل والضغائن لمَن سبقهم بالإيمان.

وفي هذه الأدعية مقابس نور لعامّة المسلمين، ولكلّ الأجيال ينبغي أن يستضيئوا بها في سلوكهم وتعاملهم مع إخوانهم بالصفاء والأُخوّة.

ثم إنّ قوله تعالى: (وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا

ص:78


1- . الحشر: 9.

وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ) دعاء لعامّة المؤمنين في الأجيال السابقة ولا يختصّ بالصحابة دون غيرهم، فاللّه تعالى يعلّم المسلمين في كلّ جيل أن يدعون للسابقين عن هذا الجيل.

وكأنّ الدكتور تصوّر أنّ هذه الفقرة ناظرة للتابعين في مصطلح أهل الحديث وهم الّذين لم يروا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ولكن رأوا من رآه، فعندئذٍ جاء الحثّ لهم على الدعاء للصحابة، غير أنّ قوله تعالى: (وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) يأمر المسلمين بلسان الإخبار بالدعاء إلى كافّة المسلمين ممّن غبر من دون اختصاص بالصحابة.

ولو فرضنا دلالة الآية على خصوص الدعاء للصحابة، لكنّها لا تدلّ على عدالتهم وأنّ سلوك الجميع كان سلوكاً صحيحاً لا غبار عليه؛ بل تدلّ على انهم أهل لطلب المغفرة لهم واين هذا من القول بالعدالة.

فخرجنا بالنتائج التالية:

الأُولى: أنّ الآية لا تختصّ بالصحابة، بل مفادها هو دعاء كلّ جيل لعامّة السابقين.

الثانية: أنّ طلب المغفرة للسابقين أو خصوص الصحابة لا يدلّ على كونهم أهل صلاح وفلاح، غاية الأمر يدلّ على أنّهم أهل لغفران الرب عزّ وجلّ .

بقي الكلام في الفقرة الثانية: أعني قوله: (وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا) فهذا أيضاً دعاء عام لا يختصّ بجيل دون جيل، فالاستدلال بالآية في مورد الصحابة غفلة عن مفادها.

وختاماً نقول: إنّ هنا أُموراً:

ص:79

1. سبّ الصحابي وشتمه والنيل من كرامته وكرامة أولاده وأزواجه.

2. حمل الحقد والعداء لواحد من الصحابة بما أنّه صحابي فإنّهما متناقضان.

3. دراسة أحوال الصحابة من الإيجابيات والسلبيات.

فالمسلمون عامّة والإمامية خاصّة لا يحومون حول الأمر الأوّل والثاني، ويرونهما عمل النوكى والسفهاء، وأمّا الأمر الثالث فهو سيرة المحقّقين الواعين الّذين يدرسون حياة السابقين على ضوء الكتاب والسنّة والعقل.

يضاف إلى ذلك كلّه: أنّ آيات سورة الحشر حصرت الحديث في المهاجرين الّذين أُخرجوا من ديارهم...، والأنصار الّذين تبوَّءوا الدار والإيمان ومن جاء بعدهم، فلا دلالة لإدراج مسلمة عام الفتح وما بعده تحت الآية المباركة.

الحلقة الخامسة عشرة: اليوم الخامس عشر من شهر رمضان 1436 ه

ذكر الدكتور الطيّب أنّ الشيعة يسيئون لزوج النبيّ عائشة أُم المؤمنين وأبيها الخليفة أبي بكر، ويعدّ سبّهما سبّاً وتطاولاً على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

***

أقول: إنّ الدكتور شيخ الأزهر استنكر على الشيعة لأنّهم يسيئون لزوج النبيّ عائشة أُم المؤمنين وأبيها. ونحن نقول:

إنّ السيدة عائشة من زوجات النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأُمّهات المؤمنين، ولم يشكّ

ص:80

أحدٌ من المسلمين في براءتها من الإفك(1) الّذي صنعته يد النفاق، ونشره عميد المنافقين وأذنابه «عبداللّه بن أُبّي بن سلول» في عصر النبيّ وحدّث عنه القرآن في آيات، يقول عزّوجلّ : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (2) ثم قال سبحانه: (وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ ) (3)ولمعرفة تفاصيل هذه الفرية وتفسير الآيات النازلة حولها نرجع القارئ إلى تفسيرها في «مجمع البيان» للطبرسي.(4) ولكن هذا لا يصدنا عن دراسة حياتها بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خصوصاً في فتنة الجمل.

هذا وأمّا والدها فنحن لا ننكر أنّه صاحب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في الغار وأنّه من المهاجرين السابقين ولكنّ الاعتراف بهذا لا يمنعنا من دراسة حياته وخلافته ومواقفه، وانّه كيف تمّت البيعة له، وكيف دامت، فكلّ ذلك على عاتق التاريخ.

فإنّ إيقاف البحث حول الصحابة يورث حرمان الآخرين عمّا وقع في عصرهم من الحوادث الحلوة والمرّة.

ونحن إذا تأملنا في أُمّهات مصادر الحديث والتاريخ الّتي ألّفها كبار الأعلام من أهل السنّة نراهم لا يرون ضيراً في رصد الواقع ونقل الأحداث الّتي بدأنا نتحاشى عن التعرّض لها اليوم، فقد أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس قال: كنت أُقرئ رجالاً من المهاجرين منهم: عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا

ص:81


1- . أجمعت الروايات من طرق السنّة أنّ عائشة هي محور قصّة الأفك، غير أنّ رواياتنا الشيعية تذكرأنّ محور هذه القصّة هي مارية القبطية، ونحن بكلمة واضحة نقول: إنّ نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم منزّهات مبرّآت من هذه التهم، سواء كانت عائشة أو غيرها.
2- . النور: 11.
3- . النور: 16.
4- . لاحظ: مجمع البيان: 4/130، طبعة صيدا، لبنان.

في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجّة حجّها، إذ رجع إليّ عبدالرحمن فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلانٍ؟ يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فواللّه ما كانت بيعة أبي بكر إلّافلتة فتمّت..

وبعد أن ذكر البخاري بقية الرواية قال: ولما رجع الخليفة إلى المدينة خطب الناس فممّا جاء في خطبته: ثم إنّه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول: واللّه لو مات عمر بايعت فلاناً فلا يغترّن امرؤ أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت، ألّا وإنها كانت كذلك ولكنّ اللّه وقى شرّها.(1)

فهذا البخاري ومن قبله ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف لم يعتبروا قول القائل ولا قول الخليفة سبّاً لأبي بكر وإساءة له بل هو ذكر لحادثة تاريخية.

وهكذا ابن الأثير قال في النهاية: أراد بالفلتة الفجأة، ومثل هذه البيعة جديرة بأن تكون مهيّجة للشر والفتنة، فعَصَم اللّه من ذلك ووقوا.

ثم قال: والفلتة كلّ شيء فُعل من غير رويّة، وإنّما بودر بها خوف انتشار الأمر. وقيل: أراد بالفلتة الخلسة. أي إنّ الإمامة يوم السقيفة مالت إلى توليها الانفس، ولذلك كثر فيها التشاجر فما قُلدّها أبو بكر إلّاانتزاعاً من الأيدي واختلاساً.(2)

هذا كلام ابن الأثير وهو واضح في الإشارة إلى الشجار ورغبة كلّ فريق

ص:82


1- . صحيح البخاري: 1712، الحديث رقم 6830، باب رجم الحبلى من الزنا، من كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة.
2- . النهاية في غريب الحديث والأثر: 3/467.

من المجتمعين في السقيفة بتولّي الخلافة والإمامة، ولم يرَ ابن الأثير في عرضه للخبر أنّه في معرض سب المجتمعين في السقيفة بقدر ما هو عرض لواقعة تاريخية!!

الحلقة السادسة عشرة: اليوم السادس عشر من شهر رمضان 1436 ه

رفض شيخ الأزهر أحمد الطيب يوم الجمعة 16 شهر رمضان تسمية الشيعة بالرافضة. وأنّ قلّة متعصّبة من أهل السنّة يكفّرون الشيعة، وتسمّيهم بالرافضة، ويقول: كيف يكون هناك تلاق والسنّة يسمعون هذه الإساءات من كثير من المنتسبين إلى الشيعة.

ثم قال: إنّنا نجد بعض السلبيات عند قلّة متعصّبة من أهل السنّة جعلت الشيعة يشعرون بالتوتر، مثل تكفير البعض للشيعة، والإصرار على تسميتهم «بالرافضة» مؤكداً أنّ هذا لا ينبغي.

***

أقول: إنّ تسمية الشيعة بالرافضة جهل بمعناها، فإنّ الرافضة كلمة سياسية تطلق على كلّ جماعة لم تقبل الحكومة القائمة سواء أكانت حقّاً أم باطلاً. هذا هو معاوية بن أبي سفيان يصف شيعة عثمان - الّذين لم يخضعوا لحكومة علي بن أبي طالب عليه السلام وسلطته - بالرافضة ويكتب في كتابه إلى عمرو بن العاص وهو في البيع(1) في فلسطين أمّا بعد: فإنّه كان من أمر عليّ وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة، وقدم علينا جرير

ص:83


1- . كذا في الأصل.

بن عبداللّه في بيعة علي، وقد حبست نفسي عليك حتّى تأتيني، أقبل أُذاكرك أمراً.(1)

ترى أنّ معاوية يصف من جاء مع مروان بن الحكم بالرافضة، وهؤلاء كانوا أعداء عليّ ومخالفيه، وما هذا إلّالأنّ هؤلاء الجماعة كانوا غير خاضعين للحكومة القائمة آنذاك، وبما ذكرنا يظهر أنّ كلّ مَن رفض الحكومة الحاضرة فهو رافضي، سواء أكان سنّياً أو شيعياً أو مادّياً.

وبذلك يعلم أنّ ما نقله ابن منظور في معجمه عن الأصمعي غير صحيح، حيث قال: كانوا قد بايعوا زيد بن علي ثم قالوا له: ابرأ من الشيخين نقاتل معك، فأبى فقال: كانا وزيري جدّي فلا أبرأ منهما، فرفضوه وارفضوا عنه، فسُمّوا رافضة.(2)

إذا عرفت ذلك نرجع إلى تقييم ما ذكره الدكتور فلا شكّ أنّ ما أفاده في هذه الحلقة من أروع كلامه وأنفع محاضراته وأطيب ما صدر منه في هذه الحلقات، فإنّ التقريب لا يتحقّق إلّابالالتزام بالأدب الإسلامي الّذي أشار إليه سبحانه بقوله: (وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ ) (3).

ونحن نرحّب بكلّ دعوة تقرّب المسلمين وتوحّدهم وتجعلهم يداً واحدة وصفّاً واحداً أمام الصهاينة والمستكبرين الّذين يفرّقون المسلمين للتسلّط عليهم وشعارهم: «فرّق تَسُد»، ونحن نتبرأ من بعض الفضائيات الّتي تنال من وحدة المسلمين وتضرّ بها ببيانات بعيدة عن الأدب الإسلامي ومنطقه.

ص:84


1- . وقعة صفين: 29.
2- . لسان العرب: 7/157، مادة «رفض».
3- . الأنعام: 108.

الحلقة الثامنة عشرة:اليوم الثامن عشر من شهر رمضان 1436 ه

(1)

قال الدكتور أحمد الطيب: إنّ مسألة الإمامة ليست من أُصول الاعتقاد ولا متعلّقة بالإيمان أو بالكفر عند أهل السنّة؛ لأنّ الإيمان يُبنى على الاعتقاد، حيث إنّه عمل قلبي، وليس من أعمال الجوارح. في المقابل فإنّ الشيعة يقولون: إنّ الإمامة أصل من أُصول الدين فمن لا يؤمن بالإمامة لا يكتمل إيمانه وليس شيعياً، وأُصول الدين عند الشيعة هي: التوحيد، والعدل، والنبوّة، والإمامة، والإيمان بالمعاد بالبعث أي الحياة بعد الممات والجنة والنار. والسنّة والشيعة متّفقون في كلّ هذه الأُصول ما عدا أصل الإمامة، فالشيعة يعتقدون أنّها من أُصول الدين، فكما يجب على المسلم أن يعتقد بالنبوة، فيجب عليه أيضاً بالإمامة.

***

أقول: ما ذكره الدكتور في بيان النظريتين لا غبار عليه، ولتبيين موضع الإمامة عند أهل السنّة نذكر ما ذكره التفتازاني في شرح المقاصد حتّى يعلم أنّها فرع من فروع الدين عندهم يقول: لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق لرجوعها إلى القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات، وهي أُمور كلّية تتعلّق بها مصالح دينية أو دنيوية، لا ينتظم الأمر إلّابحصولها ويقصد بتحصيلها في الجملة من غير أن يقصد أُصولها من كلّ أحد ولا خفاء في ذلك أنّها من الأحكام العملية دون الاعتقادية.(2)

ص:85


1- . لم نعثر على محاضرة الدكتور أحمد الطيب في اليوم السابع عشر من شهر رمضان.
2- . شرح المقاصد: 5/232.

ويقول السيد الشريف في شرح المواقف: الإمامة ليست من أُصول الديانات والعقائد بل هي عندنا من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين، إذ نصب الإمام عندنا واجب على الأُمة سمعاً، وإنّما ذكرناه في علم الكلام تأسّياً بمن قبلنا إذ جرت العادة من المتكلمين بذكرها في أواخر كتبهم للفائدة المذكورة في صدر الكتاب.(1)

أقول: إذا كانت مسألة الإمامة من الأحكام الفرعية الّتي ربّما يكثر فيها الخلاف، فلا عتب على مَن لم يعتقد بخلافة الخلفاء استناداً إلى دليل مقنع عنده كما هو الحال في عامّة الأحكام الفرعية.

وأنت إذا لاحظت كتاب «المغني» لابن قدامة من القدماء، أو قرأت كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة» للجزيري، قلّما تجد مسألة كلّية مصونة من الاختلاف، فكما يكون المخالف فيها معذوراً فليكن المخالف في خلافة الخلفاء كذلك.

وبما ذكرنا يظهر أنّ الاختلاف في عدالة الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم ليست مسألة أُصولية عقديّة وإنّما هي أمر تاريخي يمكن أن يقع مورد الخلاف والخصام، فالموافق والمخالف كلّهم يتظلّلون تحت خيمة الإسلام لكنّهم يختلفون في أُمور تاريخية لكلّ دليله ومدركه، وللمحقّق سعد الدين التفتازاني كلام في المقام نذكره بنصّه.

يقول: إنّ ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ، والمذكور على ألسنة الثقاة، يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحق، وبلغ حد الظلم والفسق. وكان الباعث له الحقد

ص:86


1- . شرح المواقف: 8/344.

والعناد، والحسد واللداد، وطلب الملك والرئاسة، والميل إلى اللّذات والشهوات، إذ ليس كلّ صحابي معصوماً، ولا كلّ من لقي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالخير موسوماً.

إلّا أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسيق صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حقّ كبار الصحابة، [لا] سيما المهاجرين منهم والأنصار، والمبشرين بالثواب في دار القرار.

وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء، ويبكي له من في الأرض والسماء، وتنهدّ منه الجبال، وتنشق الصخور، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور ومر الدهور، فلعنة اللّه على من باشر، أو رضي، أو سعى، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.(1)

نعم أنّ نظرية الإمامة عند الشيعة الإمامية مبنية على أنّها منصب إلهي لا اجتماعي وقد بيّنت دلائلها ومصادرها في الكتب الكلامية. وبما أنّ الغرض هو الإيجاز في المقام وتحليل كلمات الدكتور أحمد الطيب فلنكتف بما ذكرنا، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الموسوعات الكلامية لعلماء الإسلام.(2)

وفي الختام لابدّ من الإيعاز إلى أمر وهو أنّ أُصول الدين عند الإمامية تنحصر في ثلاثة: التوحيد، والنبوّة، والمعاد، فمن اعتقد بها فهو مسلم، يحرم دمه وماله إلّابسبب شرعي؛ وأمّا الاعتقاد بالعدل والإمامة فهو من أُصول المذهب

ص:87


1- . شرح المقاصد: 5/310-311.
2- . انظر: بحوث في الملل والنحل: 1/456؛ ومحاضرات في الإلهيات: 325-336.

بمعنى أنّه لا يوصف الرجل بالشيعي إلّاإذا اعتقد بهما وأن اللّه عادل لا يجور عقلاً، وأنّ القيادة الشرعية بعد رحيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فوضت بتخصيص من النبيّ إلى علي وأوصيائه. ومن لم يعتقد بهما لا يوصف بكونه شيعيّاً، ولكنّه مسلم تجري عليه كلّ أحكام الإسلام. والتفصيل في محلّه.

الحلقة التاسعة عشرة اليوم التاسع عشر من شهر رمضان 1436 ه

اشارة

قال الدكتور أحمد الطيب: اجتماع السقيفة نموذج مبكر لديمقراطية المسلمين.

وقال: إنّ الإمامة مفهوم إلهي عند الشيعة بينما هو عند السنّة مفهوم خاضع للأحكام البشرية، لأنّ أهل السنّة يرون أن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم ينصّ على أحد من بعده وترك المسلمين أحراراً فيمن يختارون، مثل ما حدث في اجتماع الصحابة في السقيفة واختاروا أبا بكر خليفة للمسلمين بطريقة ديمقراطية، وهذا الأمر بالعكس عند الشيعة الّذين يقولون: إنّ النبيّ حدّد إماماً من بعده وهو الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأنّ المسألة لا تخضع لاختيار الأُمة ولا لاختيار المسلمين.

ثم أفاض الكلام في أنّ الخليفة عند أهل السنّة ليس معصوماً لكنّه معصوم عند الشيعة.

ثم قال: إنّ الإمامة عند الشيعة أصل من أُصول الدين، وليست أمراً متروكاً لتقدير الناس أو اختيارهم، ومن لا يعتقد بذلك فلا يكون شيعياً، بل لا يكون مسلماً عندهم. أمّا الخلافة عند أهل السنّة فليست من أُصول الدين، وإنّما هي من المسائل العملية، إذ لمّا كانت هناك أحكام تتطلّب خليفة أو حاكماً قلنا

ص:88

بوجوب اختيار الأُمّة لخليفة يقيم لها الأحكام ويحفظ عليها شريعة الإسلام.

***

أكّد الدكتور على أنّ انتخاب الخليفة الأوّل في سقيفة بني ساعدة يمثل ممارسة ديمقراطية في ذلك العهد، وها نحن نذكر مجريات الأُمور في السقيفة حتّى يُعلم أنّه هل كان الانتخاب انتخاباً صحيحاً وعقلائياً وحسب اصطلاح الدكتور ديمقراطياً، أو كان فلتة من الفلتات ؟! ولا يعلم تحديد أحد الوجهين بدون سرد القصة كما وردت في المصادر، بدون تغيير، ثم القضاء عليها وتحليل الأحداث كما ورد ذكرها.

1. توفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأبو بكر في السنح، وعمر حاضر، فقام وقال: إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللّه توفّي، وأنّ رسول اللّه واللّه ما مات ولكن ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران. واللّه ليرجعن رسول اللّه فليقطعنّ أيدي رجالٍ وأرجلهم يزعمون أنّ رسول اللّه مات.(1)

2. وأقبل أبو بكر حتّى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر وعمر يكلم الناس حتّى دخل على رسول اللّه ورسول اللّه مسجّى في ناحية البيت فأقبل حتّى كشف عن وجهه ثم أقبل عليه فقبّله ثم ردّ الثوب على وجهه فقال:

على رسلك يا عمر، فقال: أيّها الناس أنّه مَن كان يعبد محمّداً فإنّ محمداً قد مات ومن كان يعبد اللّه فإن اللّه حيٌّ لا يموت ثم تلا هذه الآية: (وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ ) (2). عندئذٍ قال

ص:89


1- . تاريخ الطبري: 3/200، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت، دار التراث، الطبعة الثانية - 1967 م.
2- . آل عمران: 144.

عمر: «... وعرفت أنّ رسول اللّه قد مات»(1).

3. لمّا قبض رسول اللّه انحاز هذا الحيّ من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة وأبو بكر وعمر حول بيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يفكّران في تجهيز النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كسائر المهاجرين، إذ جاء رجلان من الأنصار (وهما: عويم بن ساعدة ومعن بن عُدي)(2) فقالا: إنّ هذا الحيّ من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم. ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في بيته لم يفرغ من أمره قد أَغلق دونه الباب أهله.

قال عمر: فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار حتّى ننظر ما هم عليه.(3)

4. فدخلا ومعهما أبو عبيدة السقيفة وسعد بن عبادة وهو يخطب ويقول:

يا معشر الأنصار لكم سابقة وفضيلة ليست لأحد من العرب، إنّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم فما آمن به إلّاالقليل، ما كانوا يقدرون على منعه ولا على إعزاز دينه ولاعلى دفع ضيم، حتّى (إذا) أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة ورزقكم الإيمان به وبرسوله والمنع له ولأصحابه والإعزاز له ولدينه والجهاد لأعدائه فكنتم أشدّ الناس على عدوّه حتّى استقامت العرب لأمر اللّه طوعاً وكرهاً وأعطى البعيد المقادة صاغراً فدانت لرسوله بأسيافكم العرب، وتوفّاه اللّه وهو عنكم راضٍ قرير العين، استبدّوا بهذا الأمر دون الناس، فإنّه لكم دونهم.

ص:90


1- . تاريخ الطبري: 2/232-233.
2- . تاريخ الطبري: 2/235.
3- . السيرة النبوية: 2/656.

فأجابوه بأجمعهم: أن قد وفّقت وأصبت الرأي ونحن نولّيك هذا الأمر فإنّك مقنع ورضاً للمؤمنين.(1)

5. ثم خطب أبو بكر وقال: أنتم يا معشر الأنصار مَن لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم في الإسلام رضيكم اللّه أنصاراً لدينه ورسوله وجعل إليكم هجرته، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأُمراء وأنتم الوزراء لا تفاوتون بمشورة ولا تقضى دونكم الأُمور.(2)

6. ثم أضاف: إنّ هذا الأمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس، وإن تطاولت إليه الأوس لم تقصر عنه الخزرج (وقد كانت بين الحيين قتلى لا تنسى وجراح لا تداوى)، فإن نعق منكم ناعق فقد جلس بين لحيي أسد يضغمه (يقضمه) المهاجري ويجرحه الأنصاري.(3)

7. فقام حباب بن المنذر بين الجموع فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإنّ الناس في ظلّكم ولن يجترئ على خلافكم ولا يصدروا إلّا عن رأيكم، أنتم أهل العزّ وأُولو العدد والمنعة وذوو البأس، وإنّما ينظر الناس ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم، وإن أبى هؤلاء إلّاما سمعتم، فمنّا أمير ومنهم أمير. ثم قال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجّب، أنا أبو شبل في عرينة الأسد، واللّه لئن شئتم لنعيدنها جذعة.(4)

8. فقام عمر وقال: هيهات لا يجتمع اثنان في (قرن) واللّه لا ترضى العرب

ص:91


1- . الكامل في التاريخ: 2/328؛ تاريخ الطبري: 2/241-242.
2- . تاريخ الطبري: 2/242؛ الكامل في التاريخ: 2/329.
3- . البيان والتبيين: 4/10، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
4- . الكامل في التاريخ: 2/329.

أن تؤمّركم ونبينا من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولّي أمرها مَنْ كانت النبوّة فيهم، ولنا بذلك الحجّة الظاهرة، مَن ينازعنا سلطان محمّد ونحن أولياؤه وعشيرته. فأجاب عمر عن تهديد حباب: إذاً ليقتلك اللّه، فقال: بل إيّاك يقتل.(1)

9. لمّا تمّ الجدال بين الطائفتين، وهيمن السكوت لم يفضه إلّابشير بن سعد الخزرجي الّذي هو ابن عم سعد بن عبادة، حينما شعر بأنّ الأنصار يميلون إلى سعد بن عبادة، وكان يكنّ له العداء والحقد ولا يرضى بإمارته قال: يا معشر الأنصار إنّ محمداً من قريش وقومه أحق به وأولى، وأيم اللّه لا يراني اللّه أُنازعهم في هذا الأمر أبداً، فاتّقوا اللّه ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.

10. ففي هذه الحالة استغلّ أبو بكر الفرصة فقال: هذا عمر وهذا أبو عبيدة فأيّهما شئتم فبايعوا. فقالا: لا واللّه لا نتولّى هذا الأمر عليك أبسط يدك نبايعك.

فلمّا ذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد فبايعه فناداه الحباب ابن المنذر:

أنفِسَت على ابن عمّك الإمارة.

11. ولمّا رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تدعو إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض، وفيهم أسيد بن حضير، وكان أحد النقباء: واللّه لئن وليتها الخزرج عليكم مرّة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً، فقوموا فبايعوا أبا بكر.

فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمره.(2)

ص:92


1- . الكامل في التاريخ: 2/330؛ تاريخ الطبري: 2/243.
2- . تاريخ الطبري: 2/243.

12. فأقبل الناس (الأوس) من كلّ جانب يبايعون أبا بكر وكادوا يطئون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحاب سعد: اتّقوا سعداً لا تطئوه. فقال عمر:

اقتلوه قتله اللّه. ثم قام على رأسه: فقال: لقد هممت أن أطأك حتّى تُندر عضدك، فأخذ سعد بلحية عمر، فقال: واللّه لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة، فقال أبو بكر: مهلاً يا عمر! الرفق، هاهنا أبلغ. فأعرض عنه عمر. وقال سعد: أما واللّه لو أنّ بي قوّة مّا، أقوى على النهوض، لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيراً يجحرك وأصحابك، أما واللّه إذاً لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع. احملوني من هذا المكان، فحملوه وأدخلوه في داره وترك أيّاماً ثم بُعث إليه أن أقبل، فقال: وأيم اللّه لو أنّ الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتّى أُعرض على ربيّ ، وأعلم ما حسابي، فقال عمر: لا تدعوه حتّى يبايع، فقال له بشير بن سعد: إنّه قد لجّ وأبى وليس بمبايعكم حتّى يقتل وليس بمقتول حتّى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فتركوه.(1)

13. وجاءت قبيلة أسلم فبايعت، فقوي أبو بكر بهم.(2)

قال الزهري: بقي علي وبنو هاشم والزبير ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر حتّى ماتت فاطمة رضي اللّه عنها.(3)

هذه صورة مصغرّة ملخّصة من أحداث السقيفة نقلتها من مصادرها بلا تصرّف.

فلنرجع إلى كلام الدكتور هل كانت هذه البيعة بيعة ديمقراطية أو فلتة ؟! فلنرجع إلى ما حررنا.

ص:93


1- . تاريخ الطبري: 2/244.
2- . الكامل في التاريخ: 2/331.
3- . الكامل في التاريخ: 2/331.
تحليل أحداث السقيفة

1. كيف جهل عمر بهذا الأمر الواضح والحال أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مسجّى في بيته ؟! وكيف يصفه بأنّه غاب كغيبة موسى عليه السلام وسيرجع ؟! وأعجب من ذلك أنّه رجع فوراً عند سماع الآية الّتي تلاها أبو بكر، أعني قوله تعالى: (أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (1)؟! والّذي أظنّ كما تدلّ عليه قرائن الحادثة أنّه أراد بطرح هذه الفكرة أن يصرف القوم عمّا هم فيه - أعني: مَن ينوب مناب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم - ويحوّل تفكيرهم إلى ناحية أُخرى حتّى لا يحدثوا بيعة واحد من الناس قبل وصول صاحبه، وليس هناك مَن تحوم حوله الأفكار إلّاعليّاً للنصّ عليه كما نعتقد، أو لأنّه أولى الناس، حتّى كان عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكّون أنّ عليّاً هو صاحب الأمر بعد رسول اللّه.(2)

2. إذا كان انتخاب الخليفة عن طريق المشورة باجتماع أهل الحلّ والعقد فهذا الشرط لم يكن متوفراً في سقيفة بني ساعدة، فلو أرادوا الانتخاب الصحيح للخليفة كان عليهم أن يخبروا عامّة المهاجرين وعلى رأسهم بنو هاشم بما يجري في سقيفة بني ساعدة حتّى يجتمع الجميع ويتشاوروا بضع أيام لانتخاب ما هو الأصلح، مع أنا نرى أنّ الشيخين لم يخبرا أحداً من المهاجرين إلّا أبا عبيدة، أو شخصاً رابعاً، وهذا يدلّ على أنّ موقفهم هذا كان انتهازاً للفرصة، إذ لو كان بنو هاشم وعلى رأسهم علي بن أبي طالب، في مجلس المشاورة لما تمّ هذا الأمر وبهذه السرعة في يوم واحد أو ساعة أو ساعتين لأبي بكر!!

3. إنّ للخليفة في الشريعة الإسلامية شروطاً ومؤهّلات، فكان اللازم على القوم أن يبحثوا عن وجود هذه الملاكات في أيّ شخص من المهاجرين

ص:94


1- . آل عمران: 144.
2- . لاحظ: شرح النهج لابن أبي الحديد: 6/21؛ السقيفة: 85-86.

والأنصار حتّى ينتخبوا الأعلم بكتاب اللّه وسنّة رسوله، والأقوى في إدارة الأُمور، إلى غير ذلك من الشروط.

ولكنّا نرى أنّ المجتمعين عدلوا عن هذه المعايير إلى معايير جاهلية وقبيلية، فالأنصار اعتمدوا على أنّهم نصروا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وآووا المهاجرين وجاهدوا المشركين، والشيخان وأبو عبيدة اعتمدوا على كون النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم منهم، وكلا المعيارين لا يلازم كون الخليفة منهم، فنصرتهم للدين لا تدلّ على أنّ مرشّحهم واجد للمؤهلات، كما أنّ كون النبيّ من عشيرتهم لا يلازم ذلك.

4. إنّ الحيّين الأوس والخزرج كانا متنافسين ومتخاصمين منذ أمد بعيد، وكان يوم بُعاث أشدّ الأيام بينهم في القتال، والنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم جعلهما إخوة وأمرهم بتناسي ما سبق؛ ويا للأسف، ترى أنّ الخليفة يشير إلى تلك المنافسات الشيطانية ويقول: إنّ هذا الأمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس، وإن تطاولت إليه الأوس لم تقصر عنه الخزرج، (وقد كانت بين الحيّين قتلى لا تنسى وجراح لا تُداوى)، فإن نعق منكم ناعق فقد جلس بين لحيي أسد يضغمه (يقضمه) المهاجري ويجرحه الأنصاري.(1)

فهو بكلامه هذا أحيا ما كان قد خفي من الخلافات والنزعات الجاهلية، فكلامه هذا صار سبباً لانفضاض الوحدة بين الأنصار.

مع أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم جعل الحيين إخوة وأمرهم بتناسي ما كانوا عليه من الخلافات، ورغم ذلك كانت جذور التنافس والتنافر بين الحيّين موجودة ويشهد على ذلك ما رواه البخاري عن عائشة في أمر الإفك حيث يقول: قام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من يومه فاستعذر من عبداللّه بن أُبي وهو على المنبر فقال: يا

ص:95


1- . البيان والتبيين: 4/10.

معشر المسلمين مَن يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، واللّه ما علمت على أهلي إلّاخيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّاخيراً وما يدخل على أهلي إلّامعي. قالت: فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل، فقال: أنا يا رسول اللّه أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة، فقال لسعد: كذبت لعمر اللّه لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقتل، فقام أُسيد بن حضير وهو ابن عمّ سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر اللّه لنقتلنّه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان الأوس والخزرج حتّى همّوا أن يقتتلوا، ورسول اللّه قائم على المنبر، فلم يزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخفضّهم حتّى سكتوا وسكت.(1)

5. نرى أنّ أبا بكر يقدّم الرجلين للبيعة ويقول لكلّ من عمر وأبي عبيدة:

ابسط يدك لأُبايعك، وهما يردّان عليه الأمر قائلين بأنّك الأولى!!

كلّ ذلك يدلّ على وجود اتّفاق بين الثلاثة حتّى يتمّ الأمر إلى أبي بكر.

6. أو ما كان اللازم للخليفة أن يبحث عن الأصلح داخل السقيفة وخارجها ويرشّحه للخلافة، مكان ترشيحه هذين الرجلين.

7. أنّ بيعة الأوس لم تكن مبنية على أنّ أبا بكر كان يتحلّى بالمؤهّلات الّتي تصلح لأن يكون هو الخليفة، وإنّما بايعوه لأجل أن لا يكون للحيّ المنافس لهم، مزيّة عليهم.

8. أنّ مجلس المشاورة يسوده الهدوء واستماع منطق المخالف، ثم أخذ الرأي بأمانة خاصّة، ولا نرى هذا الشرط موجوداً بأقل وجه في مجلس السقيفة،

ص:96


1- . صحيح البخاري: 1015، برقم 4141، باب حديث الإفك.

بل كان أشبه بمجلس المهاترة حيث إنّ سعد بن عبادة يأخذ بلحية عمر ويقول ما يقول، ويجيبه عمر بما مرّ عليك، إلى أن انتهى إلى وطء سعد بن عبادة، ذلك الرجل الهرم الّذي خدم الإسلام من حين آمن!!

9. كيف يصف الدكتور هذا الانتخاب انتخاباً ديمقراطياً مع أنّ رفيق الخليفة في شبابه وهرمه يصف الانتخاب بأنّه فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها؟! فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس عن عمر أنّه قال: ثم إنّه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول: واللّه لو مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترنّ امرؤٌ أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت، ألا وإنّها قد كانت كذلك، ولكنّ اللّه وقى شرّها...(1)

وقد صدق قوله: «كانت بيعة أبي بكر فلتة» إذ تمّ الانتخاب بسرعة خاطفة لم تبق مجال للمفكّر حتّى يفكّر بالموضوع، ولا للمعارض أن يقيم حجّة، فكانت مفاجأة في مفاجأة مع أنّ العاطفة العدائية عند الأوس المهيّجة من أبي بكر كان لها الأثر الفعّال في انتخاب الخليفة، فلا يمكن لباحث أن يتّخذ هذا النوع من الانتخاب إسوة للأجيال الآتية فالحادثة من مبدئها إلى منتهاها كانت على غفلة من علي عليه السلام ومن بني هاشم إلى آخر لحظة منها، وأهمل شأنهم كأنّهم لم يكونوا من المسلمين، أو لم يكونوا من الحاضرين في المدينة إلّابعد أن تمّ كلّ شيء.(2)

فهل كان من مانع شرعي أو عقلي أو عرفي يمنع من تأجيل عقد البيعة إلى فراغهم من تجهيز رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ؟! ولو بأن يوكل حفظ الأمن إلى القيادة العسكرية مؤقتاً حتّى يستتب أمر الخلافة ؟ أليس هذا المقدار من التريّث كان

ص:97


1- . لاحظ: صحيح البخاري: 1712 برقم 6830، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.
2- . السقيفة: 108.

أرفق بهؤلاء المفجوعين ؟! وهم وديعة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لديهم، وبقيته فيهم.

وأمّا ما جرى بعد انتخاب الخليفة على أهل بيت النبوّة وأخي رسول اللّه عليّ عليه السلام وبضعة الرسول فلنجعجع القلم عن ذكر الحوادث المريرة، ويكفي في مرارتها قول شاعر النيل حافظ إبراهيم في القصيدة العمرية:

وقولة لعليّ قالها عمر أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرّقت دارك لا أبقي عليك بها إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص بقائلها أمام فارس عدنان وحاميها

فالبيعة الّتي تطالب بالتهديد والوعيد بإحراق البيت ومن فيه، هل تعدّ بيعة شرعية إسلامية ؟! فلو كانت هذه البيعة بيعة إسلامية فعلى الإسلام السلام!! وأي ديمقراطية هذه الّتي تهدّد المعارضين بالقتل والنفي وحرق البيوت على أصحابها؟!

10. ونختم جوابنا بكلام الإمام علي عليه السلام لمّا انتهت إليه أنباء السقيفة بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، قال عليه السلام: ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت: منّا أمير ومنكم أمير، قال عليه السلام: «فَهَلَّا احْتَجَجْتُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم وَصَّى بِأَنْ يُحْسَنَ إِلى مُحْسِنِهِمْ ، وَيُتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ؟ قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم ؟، فقال عليه السلام:

لَوْ كَانَتِ الْإِمَامَةُ (الأمارة) فِيهِمْ لَمْ تَكُنْ الْوَصِيَّةُ بِهِمْ . ثم قال عليه السلام: فَمَاذَا قَالَتْ قُرَيْشٌ؟ قَالُوا: احتجّت بأَنها شجرة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، فقال عليه السلام: احْتَجُّوا بِالشَّجَرَةِ ، وَأَضَاعُوا الَّثمَرَةَ ».(1)

وللإمام علي عليه السلام كلام آخر في ذلك، قال عليه السلام: «وَاعَجَبَاهُ ! أَتَكُونُ الْخِلَافَةُ

ص:98


1- . نهج البلاغة: الخطبة 67.

بِالصَّحَابَةِ وَلا تَكُونُ بِالصَّحابَةِ وَالْقَرَابَةِ؟ وروي له شعر في هذا المعنى:

فَإِنْ كُنْتَ بِالشُّورَى مَلَكْتَ أُمُورَهُمْ فَكَيْفَ بِهذا وَ الْمُشِيرُونَ غُيَّبُ؟

وَإِنْ كُنْتُ بِالْقُربَى حَجَجْتَ خَصِيمَهُمْ فَغَيْرُكَ أَوْلَى بِالنَّبِيِّ وَ أَقْرَبُ (1)

وممّا ذكرنا يمكن للقارئ النابه أن يستنتج أنّ عمل القوم في انتخاب الخليفة لم يكن مستنداً إلى قاعدة إسلامية ولم يكن إلّاقراراً خاطفاً تحكمت فيه العواطف في المبدأ والمنتهى وكانت المعايير الّتي اعتمدت في إنتخاب الخليفة معايير جاهلية، وبذلك تمثّل قوله سبحانه: (وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ ) .(2)

الحلقة العشرون: اليوم العشرون من شهر رمضان 1436 ه

اشارة

ذكر الدكتور أحمد الطيّب في حديثه اليومي الّذي يُبث من الفضائية المصرية قبل الإفطار.

1. أنّ من الفوارق الواضحة بين السنة والشيعة أنّ الأئمة الاثني عشر عند السنّة بشر يصيبون ويخطأون بينما هم معصومون عند الشيعة.

2. أنّ الأئمة عند الشيعة أفضل من الأنبياء والرسل عدا النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم، وهذا مخالف لعقيدة أهل السنّة الّذين يعتقدون أنّ الأنبياء والمرسلين

ص:99


1- . نهج البلاغة: قصار الحكم برقم 190.
2- . آل عمران: 144.

معصومون ومفضّلون على باقي البشر، لأنّه يوحى إليهم من اللّه.

***

ركّز شيخ الأزهر في هذه الحلقة على أمرين: الأوّل: عصمة الأئمة الاثني عشر، والثاني: كون الأئمة أفضل من الأنبياء والمرسلين.

أمّا الأمر الأوّل: فيكفي في ثبوته ما ثبت من أحاديث صحيحة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومنها:

1. حديث الثقلين

قال النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم: «أيّها الناس كأنّي دعيت فأجبت، إنّي قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه تعالى، وعترتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»، وقد ثبت تواتر هذا الحديث في مصادر الفريقين.(1)

إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قد حكى في حديث الثقلين عن وجود التلازم بين عترته وأهل بيته وبين الكتاب العزيز، وأوصى المسلمين بالتمسّك بهما معاً مصطحبين، ليتجنّبوا الوقوع في الضلالة، وأشار صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» إلى أنّهما بمنزلة الخليفتين التوأمين عنه صلى الله عليه و آله و سلم، وهذا يقتضي أن يكون أهل البيت عليهم السلام مقارنين للكتاب في الوجود والحجّة. وإلّا يلزم وجود أحد المتلازمين (الكتاب) دون الآخر.

وبعبارة أُخرى: إنّ ذلك يدلّ على أنّه لابدّ في كلّ عصر، من حجّة معصوم مأمون يُقطع بصحّة قوله.

ص:100


1- . المستدرك على الصحيحين: 3/109، أخرجه الحاكم عن زيد بن أرقم.

وممّا يؤيد ما ذكرنا أنّه ورد في ذيل بعض الصور أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد ما ذكر أنّه مخلّف كتاب ربه وعترته أهل بيته، قد أخذ بيد عليٍّ عليه السلام ورفعها وقال: «هذا عليٌّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض»(1)، وعصمة القرآن أمرٌ مسلمٌ لا يُشكّ به ؟! فلابدّ أن لا يشكّ في عصمة مَن لا يفارقه.

2. حديث السفينة

تضافرت الروايات عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه شبّه أهل بيته بسفينة نوح، وقال: «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح مَن ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق».(2)

وفي لفظ آخر: «إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق، وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله غُفر له».(3)

يقول السيد شرف الدين العاملي: وأنت تعلم أنّ المراد بتشبيههم عليهم السلام بسفينة نوح، أنّ مَن لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأُصوله عن أئمتهم الميامين، نجا من عذاب النار، ومَن تخلّف عنهم كان كمن آوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله، غير أنّ ذاك غرق في الماء، وهذا في الحميم والعياذ باللّه.

ص:101


1- . الصواعق المحرقة: 124، المطبعة المحمدية بمصر.
2- . المستدرك على الصحيحين: 343/2، و 151/3.
3- . مجمع الزوائد للهيتمي: 168/9. ولاحظ: المعجم الكبير للطبراني: 46/3؛ كنز العمّال: 435/2 و ج 98/12.

والوجه في تشبيههم عليهم السلام بباب حطّة هو أنّ الله تعالى جعل ذلك الباب مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله والخضوع لحكمه، ولهذا كان سبباً للمغفرة.

وقد جعل انقياد هذه الأُمّة لأهل بيت نبيّها والاتّباع لأئمتهم مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه، وبهذا كان سبباً للمغفرة. هذا وجه الشبه.

وقد ذكر ابن حجر(1) في كلامه - بعد أن أورد هذه الأحاديث وغيرها من أمثالها -: ووجه تشبيههم بالسفينة أنّ مَن أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرّفهم، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومَن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيان... إلى أن قال: وباب حطّة - يعني: ووجه تشبيههم بباب حطّة - أنّ اللّه تعالى جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحا أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة، وجعل لهذه الأُمّة مودّة أهل البيت سبباً لها.(2)

وأمّا الأمر الثاني أعني أفضلية الأئمة على الأنبياء غير النبيّ الخاتم: فظاهر الكتاب أنّ عليّاً عليه السلام أفضل من سائر الأنبياء لأنّه عدّ فيه نفس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في آية المباهلة النازلة في مباهلة النبيّ مع نصارى نجران قال سبحانه: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (3).

وقد تضافرت النصوص على أنّ المراد بقوله تعالى: (وَ أَنْفُسَنا) هو عليّ بن أبي طالب، وأنّ المراد من قوله تعالى: (أَبْناءَنا) : الحسن والحسين، والمراد

ص:102


1- . الصواعق المحرقة: 151، المطبعة المحمدية بمصر.
2- . المراجعات: 77-78، المراجعة 8.
3- . آل عمران: 61.

من قوله تعالى: (وَ نِساءَنا) : فاطمة عليها السلام.(1)

فإذا كان عليّ عليه السلام نفس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهو أفضل من سائر الأنبياء فليكن عليّ أيضاً كذلك، ومع ذلك فليس في المسألة قول موحّد للشيعة؛ بل هي مسألة كلامية.

فهذا هو الشيخ المفيد يقول: قد قطع قوم من أهل الإمامة بفضل الأئمة من آل محمد على سائر من تقدّم من الرسل والأنبياء سوى نبينا محمد صلى الله عليه و آله و سلم، وأوجب فريق منهم لهم الفضل على جميع الأنبياء سوى أُولي العزم منهم عليهم السلام، وأبى القولين فريق منهم آخر وقطعوا بفضل الأنبياء كلّهم على سائر الأئمة عليهم السلام، وهذا باب ليس للعقول في إيجابه والمنع منه مجال، ولا على أحد الأقوال فيه إجماع، وقد جاءت الآثار عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في أمير المؤمنين عليه السلام وذريته من الأئمة، والأخبار عن الأئمة الصادقين أيضاً من بعد، وفي القرآن مواضع تقوّي العزم على ما قاله الفريق الأوّل في هذا المعنى، وأنا ناظر فيه وباللّه اعتصم من الضلال.(2)

ترى أنّ الشيخ المفيد شيخ الشيعة لم يتّخذ موقفاً موحّداً.

وهناك نص آخر للعلّامة السيد هبة الدين الشهرستاني وقد سأله سائل بقوله: هل الأئمة أفضل من الأنبياء أو الأمر بالعكس ؟ فأجاب رحمه الله عنه بهذا النص:

أمّا بالقياس إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فالجميع دونه في جميع الفضائل وإنّما فضائلهم رشحات من فضله، وعلومهم مقتسبة من علمه، وشرفهم فرع شرفه. وأمّا بالقياس إلى سائر الأنبياء السالفين فلا يبعد أن تكون جملة من هؤلاء أفضل

ص:103


1- . لاحظ: التفاسير الروائية كالطبري والدر المنثور، ومن التفاسير العلمية: الكشّاف وتفسير الرازي.
2- . أوائل المقالات: 42-43.

وأشرف من جملة من أُولئك، لأنّ في هؤلاء مَن هو أعلم وأشرف وأكثر جهاداً في سبيل اللّه وأصبر وأعظم نفعاً للبشر علمياً وأدبياً وأخلاقياً واجتماعياً، فلا يبقى ما يقف عثرة في سبيل التفضيل سوى ميزة النبوة. وقد قرّرت في محلّه أنّ الخلافة لأفضل الأنبياء قد تعتبر أعظم درجة من بعض الأنبياء.

وبعبارة أُخرى: لم يثبت أنّ الخلافة الإلهية عن أعظم الأنبياء أقلّ درجة من كلّ نبي.(1)

هذان النصّان أحدهما من شيخ الشيعة القدامى، والآخر من بعض فطاحلهم المتأخّرين يعربان عن أنّ المسألة ليست مورد اتّفاق للشيعة حتّى تُعدّ ممّا يميّز به الشيعة عن غيرهم، والعجب أنّ الدكتور يطرح هذه المسألة ونظائرها لتمييز إحدى الطائفتين عن الأُخرى!!

ومن أراد التفصيل في هذه المسألة فليرجع إلى: متشابه القرآن للشيخ الجليل محمد بن شهرآشوب السروي (488-588 ه) وأصل الشيعة وأُصولها للعلّامة الشهير الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء (1294-1373 ه).(2)

ص:104


1- . أوائل المقالات: 43، الهامش.
2- . لاحظ: متشابه القرآن: 44-45؛ أصل الشيعة وأُصولها: 64، طبعة النجف الأشرف.

الحلقة الحادية والعشرون: اليوم الحادي والعشرون من شهر رمضان 1436 ه

قال الدكتور أحمد الطيب: من مسائل الخلاف بين السنّة والشيعة مسألة عقد الإمامة، أي بم تنعقد الإمامة ؟! فعند أهل السنّة طريقان تنعقد بهما الإمامة لا ثالث لهما؛ إمّا باستخلاف الخليفة، كاختيار أبي بكر لعمر ليخلفه في الحكم؛ وإمّا ببيعة فريق من العلماء وأهل الحل والعقد؛ لاختيار شخص معيّن، فإذاً يصبح شرعاً هو الخليفة أو هو الحاكم، وهذا يشبه الوضع الحالي تقريباً لكنه وضع مصغّر.

وأضاف أيضاً: إنّ الخلافة الراشدة أو خلافة النبوّة هي الّتي قامت عقب وفاة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وهي الدولة الّتي تعتمد الشورى في نظامها، وقد توالى على حكم الدولة الإسلامية أربعة خلفاء من كبار الصحابة، وجميعهم من العشرة المبشّرين بالجنّة، وهم: أبو بكر الصدّيق، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وهذا وفق معتقد أهل السنّة.

وذكر أيضاً أنّ حديث «الخلافة في أُمّتي ثلاثون سنّة» معجزة للنبيّ حيث كانت خلافة الخلفاء الأربعة ثلاثين سنة.

***

أقول: ركّز الدكتور شيخ الأزهر في هذه المحاضرة على أمرين:

الأوّل: استخلاف الخليفة إمّا باختيار الخليفة السابق أو باختيار أهل الحلّ والعقد.

الثاني: أنّ الخلافة بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لأربعة من كبار الصحابة، وأنّ حديث «الخلافة في أُمّتي ثلاثون سنة» معجزة للنبيّ .

ص:105

أمّا الأمر الأوّل: فقد نصّ عليه الماوردي قال: الإمامة تنعقد من وجهين:

أحدهما: باختيار أهل الحلّ والعقد، والثاني: بعهد الإمام من قبل.(1)

أقول: لو كان أمر الإمامة منوطاً بانتخاب أهل الحلّ والعقد لما أهمل الرسول التصريح به والإرشاد إليه، كيف وأمر الإمامة أعظم الأُمور في حياة الأُمّة حيث يقود الإمام الأُمة الإسلامية بعد رحيل النبيّ ، وكيف سكت عن ذلك مع أنّه صلى الله عليه و آله و سلم ذكر مندوبات الوضوء وآداب المائدة وغيرها من المستحبّات ودقائق الأُمور، ومع ذلك لم يصرّح بذلك الأمر المهم والخطير الّذي يتوقّف عليه مصير الأُمّة ومستقبلها؟!

أضف إلى ذلك: أنّ أهل الحلّ والعقد تعبير غامض، فمَن هم أهل الحلّ والعقد؟

وماذا يحلّون ؟! وماذا يعقدون ؟!

يقول الشيخ عبدالكريم الخطيب: هم أهل أصحاب الفقه والرأي الّذين يرجع إليهم الناس فيما ينوبونهم في أُمور؟ وهل هناك درجة معيّنة من الفقه والعلم إذا بلغها الإنسان صار من أهل الحلّ والعقد؟ وما هي تلك الدرجة ؟ وبأيّ ميزان توزن ؟ ومَن إليه يرجع الأمر في تقديرها؟ إنّ كلمة أهل العقد والحلّ لأغمض غموضاً من (الأفراد المسؤولون).(2)

إنّ التعبير بأهل الحلّ والعقد عبارة أُخرى عن كون أساس الحكم ومنشئه هو الشورى حتّى يتشاور أعضاء الشورى في أمر الخلافة، فلو كانت صيغة الحكومة بعد النبيّ هي الشورى كان على النبيّ توعية الأُمّة وتطبيقها في حياته، إذ ليس أمر الحكومة أمراً صغيراً؛ بل هو أمر خطير خصوصاً في المجتمعات العشائرية الّتي يتنافس فيها شيخ العشيرة مع شيخ العشيرة الأُخرى.

ص:106


1- . الأحكام السلطانية: 6-7.
2- . الخلافة والإمامة: 271.

وفي المقام تحقيق للعلّامة الشهيد محمد باقر الصدر نأتي بإجماله:

لو كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد اتّخذ من مستقبل الدعوة بعده موقفاً إيجابياً يستهدف وضع نظام الشورى موضع التطبيق بعد وفاته مباشرة وإسناد زعامة الدعوة إلى القيادة الّتي تنبثق عن هذا النظام، لكان من أبده الأشياء الّتي يتطلّبها هذا الموقف الإيجابي أن يقوم الرسول القائد بعملية توعية للأُمّة والدعاة على نظام الشورى وحدوده وتفاصيله وإعطائه طابعاً دينياً مقدّساً وإعداد المجتمع الإسلامي إعداداً فكرياً وروحياً لتقبّل هذا النظام، وهو مجتمع نشأ من مجموعة من العشائر لم تكن قد عاشت قبل الإسلام وضعاً سياسياً على أساس الشورى وإنّما كانت تعيش في الغالب وضع زعامات قبلية وعشائرية تتحكّم فيها القوة والثروة وعامل الوراثة إلى حدّ كبير.

ونستطيع بسهولة أن ندرك أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يمارس عملية التوعية على نظام الشورى وتفاصيله التشريعية أو مفاهيمه الفكرية؛ لأنّ هذه العملية لو كانت قد أُنجزت لكان من الطبيعي أن تنعكس وتتجسّد في الأحاديث المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وفي ذهنية الأُمّة، أو على أقلّ تقدير في ذهنية الجيل الطليعي منها الّذي يضم المهاجرين والأنصار بوصفه هو المكلّف بتطبيق نظام الشورى، مع أنّنا لا نجد في الأحاديث المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أي صورة تشريعية محدّدة لنظام الشورى. وأمّا ذهنية الأُمّة أو ذهنية الجيل الطليعي منها فلا نجد فيها أي ملامح أو انعكاسات محدّدة لتوعية من ذلك القبيل.(1)

ولأجل غموض نظرية الشورى برمّتها وعدم ورود نصّ واضح وصريح حولها يقول الدكتور طه حسين: ولو قد كان للمسلمين هذا النظام المكتوب

ص:107


1- . تاريخ الإمامية للدكتور عبداللّه فياض قسم المقدّمة.

(يعني نظام الشورى) لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك، وما يدّعون دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف.(1)

أقول: إنّ في كون الشورى أساساً للحكم غموضاً آخر غيرما ذكر، لم يرد في الشرع حلّه، وذلك:

أوّلاً: مَن هم الذين يجب أن يشاركوا في (الشورى) المذكورة ؟ هل هم العلماء وحدهم، أو السياسيّون وحدهم، أو كلاهما معاً؟

ثانياً: مَن هم الذين يختارون أهل الشورى ؟

ثالثاً: لو اختلف أهل الشورى في شخص فبأي شيء يكون الترجيح، هل يكون بملاك الكمّ ، أم بملاك الكيف ؟

إنّ جميع هذه الأُمور تتّصل بجوهر مسألة (الشورى)، فكيف يجوز ترك بيانها، وتوضيحها؟ وكيف سكت الإسلام عنها إن كان قد جعل (الشورى) طريقاً إلى تعيين الحاكم ؟!

ثم إنّ الماوردي نفسه بعد تعرضه لبيان الوجهين في انعقاد الإمامة، تعرّض للاضطراب الّذي أصاب مفكري المدرسة السنية في هذا المجال حيث قال:

فأما انعقادها باختيار أهل الحلّ والعقد، فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى:

فقالت طائفة: لا تنعقد إلّابجمهور أهل العقد والحلّ من كلّ بلد ليكون الرضاء به عامّاً والتسليم لإمامته اجماعياً.

ورده آخرون بأنّه مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من

ص:108


1- . الخلافة والإمامة: 272.

حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.

وقالت طائفة أُخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين:

أحدهما: أن بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها، وهم: عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن حضير وبشر بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة.

والثاني: أن عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهما برضا الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة.

وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكما وشاهدين كما يصحّ عقد النكاح بولي وشاهدين.

وقالت طائفة أُخرى: تنعقد بواحد، لأن العباس قال لعلي أُمدد يدك أبايعك فيقول الناس: عم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان، ولأنّه حكم وحكم واحد نافذ.(1)

ولم يغفل ابن حزم عن نقطة فساد هذه الآراء، في مطاوي حديثه عنها حيث إنّ البعض منها يعد تكليفا بما لا يطاق مضافاً إلى ضياع أُمور المسلمين قبل أن يجمع جزء من مائة جزء من فضلاء أهل هذه البلاد، مع أنّه لو كان ممكنا لما لزم لأنّه دعوى بلا برهان. وأما قول من قال أن عقد الإمامة لا يصحّ إلّابعقد أهل حضرة الإمام وأهل الموضع الّذي فيه قرار الأئمة، فإن أهل الشام كانوا قد دعوا ذلك لأنفسهم حتّى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبدالملك واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام.

وهو قول فاسد لا حجة لأهله وكلّ قول في الدين عري عن ذلك من

ص:109


1- . الاحكام السلطانية للماوردي: 6-7.

القرآن أو من سنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أو من إجماع الأُمة المتيقن فهو باطل بيقين، قال اللّه تعالى: (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (1) فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس صادقاً فيه، فسقط هذا القول أيضاً.(2)

يضاف إلى ذلك: أنّ الدكتور الطيب اكتفى بذكر وجهين لتعيين الخليفة المتمثلين باختيار أهل الحلّ والعقد وتعيين الخليفة السابق، وأهمل الوجه الثالث المتمثل بالقهر والاستيلاء أو الغلبة بالسيف، قال الإمام أحمد: ومن غلبهم بالسيف حتّى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما، براً كان أو فاجراً. وعند وجود إمام مستقر ثم يخرج عليه آخر طلبا للملك، فقد قال الإمام أحمد: الإمامة لمن غلب، واحتجّ لذلك بأن ابن عمر صلّى بأهل المدينة في زمن الحرّة وقال: نحن مع من غلب.(3) والأمر مطرد، فلو ثبتت الإمامة لواحد بالقهر والاستيلاء، فيجئ آخر ويقهره ويستولي على الأمر، ينعزل الأوّل ويصير الإمام هو الثاني.(4)

وهو كسابقه لا يستند إلى مرتكز شرعي وإنّما هو تبرير لواقع فرضته السياسة أو موقف اتخذه البعض كأبن عمر.

هذا كلّه حول كون الشورى أساس الحكم، وأمّا انعقاد الإمامة بعهد الإمام من قبل فليس له أي دليل سوى عمل الخلفاء حيث تمّت خلافة عمر بن الخطاب بتعيين أبي بكر، وهكذا كان الأمر في الخلافة الأموية والعباسية، فلو كانت صيغة الحكومة الإسلامية بعهد الخليفة من قبل، فمرجع هذا إلى الاستبداد الّذي يخالف روح الإسلام، وعلى هذا الأساس غير المشروع دالت الخلافة بين الأمويين والعباسيين من والد إلى ولد دون أن تتوفّر فيهم المؤهّلات اللازمة

ص:110


1- . البقرة: 111.
2- . الفصل: 4/168.
3- . الأحكام السلطانية، للفرّاء: 20 و 22 و 23.
4- . مآثر الانافة: 1/71.

للولاية والقدرة على الإدارة والسياسة الناجحة والإحاطة بأُصول الإسلام وأحكامه.

وحصيلة الكلام: أنّ شيخ الأزهر ومن سبقه من علماء أهل السنّة اتّخذوا الأمر الواقع بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم دليلاً على المشروعية دون أن يقيموا على صحة الأمر الواقع دليلاً من الكتاب أو من السنّة النبوية الشريفة.

ثم إنّ القوم أعرضوا عمّا ورد عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في أمر الوصاية والخلافة من غير فرق بين ما أدلى به بوصاية الإمام في صدر البعثة، وما أوصى به في أواخر عمره.

أمّا في صدر البعثة فلمّا نزل قوله: (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (1) دعا النبيّ أقرباءه فقال لهم: يا بني عبد المطلب إنّي واللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم».

قال علي عليه السلام: «فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلتُ وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً: أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثمّ قال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا».

قال: «فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع».(2)

وأمّا في أُخريات عمره فيكفي في ذلك ما بلّغ عن اللّه سبحانه في أمر

ص:111


1- . الشعراء: 214.
2- . تاريخ الطبري: 2/216؛ نقض العثمانيّة كما في شرح نهج البلاغة: 3/263، شرح الشفاء للقاضي عياض: 3/37، تفسير الخازن: 390؛ مسند أحمد: 1/159؛ ولاحظ: حياة محمّد لهيكل: 104.

الخلافة يوم الغدير وبما أنّ الحديث معروف بأسانيده فقد اقتصرنا بما مرّ عليك، وسيوافيك بعض تفاصيله في الحلقات التالية.

***

ذكر الدكتور أحمد الطيب حفظه اللّه: أنّ قول رسول اللّه من أنّ الخلافة في أُمّتي ثلاثون سنة هي معجزة للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حيث كانت خلافة الخلفاء الأربعة ثلاثين سنة.

أقول: اعتمد الدكتور في كلامه هذا على ما رواه الترمذي في سننه عن أحمد بن منيع، عن سريح بن النعمان، عن حشرج بن نباتة، عن سعيد بن جمهان قال: حدّثني سفينة (مولى رسول اللّه) قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: الخلافة في أُمّتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك.(1)

وأقول: إنّ الحديث لا يحتجّ به سنداً ولا دلالة، أمّا السند ففيه حشرج بن نباتة، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال مرّة: ليس بالقوّي، وأخرج له الترمذي حديثاً واحداً، ثم قال: ولحشرج غير ما ذكرت، وأحاديثه حسان وأفراد وغرائب. وقال: الساجي: ضعيف.

وقال ابن حبّان: كان قليل الحديث، منكر الرواية، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد.(2)

وفي سندها أيضاً سعيد بن جمهان البصري (المتوفّى 136 ه)، قال أبو حاتم: لا يحتج به، وقوم يضعفونه، ليس له عند الترمذي غيره.(3)

ص:112


1- . سنن الترمذي: 3/341، باب ما جاء في الخلافة.
2- . تهذيب التهذيب: 2/325.
3- . راجع: تهذيب الكمال: 10/376.

هذا عن السند وأمّا دلالة الحديث، فإنّ ظاهر الحديث أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان واقفاً على أنّ الخلافة ستدوم ثلاثين سنة، فلو صرّح النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بمدة خلافتهم، فلماذا لم يصرّح بأسمائهم وأعيانهم، فهل كان التصريح بمدة الخلافة أولى من التصريح بأعيانهم ؟!

أضف إلى ذلك: أنّ مضمون الحديث يضاد تماماً مع ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم متضافراً بدوام الخلافة عنه صلى الله عليه و آله و سلم باثني عشر رجلاً، فقد عقد الشيخان (البخاري ومسلم) باباً لهذه الرواية وذكراها بأسانيد مختلفة، نذكر شيئاً طفيفاً منها:

أ. روى البخاري عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يقول:

«يكون اثنا عشر أميراً» فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال: كلّهم من قريش.(1)

ب. روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:

«لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي:

ما قال ؟ قال: قال: كلّهم من قريش».(2)

3. وروى مسلم عن جابر بن سمرة قال: انطلقت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومعي أبي فسمعته يقول: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة، فقال كلمة صمّنيها الناس. فقلت لأبي: ما قال ؟ قال: قال: كلّهم من قريش».(3)

ص:113


1- . صحيح البخاري: 9/81، باب الاستخلاف، ورواه ناقصاً كما يظهر ممّا نقله مسلم وغيره، ورواه أحمد في مسنده: 5/90 و 92 و 95 و 108.
2- . صحيح مسلم: 6/3، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش.
3- . صحيح مسلم: 6/3، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش. وروى نحوه: أحمد في مسنده: 5/98، وفيه: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً يُنصرون على ما ناواهم».

4. أحمد بن حنبل بسنده إلى مسروق قال: كنّا جلوساً عند عبداللّه بن مسعود فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كم يملك هذهِ الأُمة من خليفة ؟

فقال ابن مسعود: نعم، سألنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: «اثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل».(1)

وروى أحمد في مسنده حديث: «الاثني عشر خليفة» عن جابر بن سمرة من أربع وثلاثين طريقاً.(2)

5. روى الحاكم في «المستدرك» بسنده عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يزال أمر أُمّتي صالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة... كلهم من قريش».(3)

كلّ ذلك يدلّ على أن الخلافة تدوم أكثر من ثلاثين سنة، وبما أن القسم الثاني من الروايات متضافرة فيؤخذ بها ويترك غيرها. أعني ما يدلّ على أن مدّتها، ثلاثون سنة.

ص:114


1- . مسند أحمد: 1/398، طبعة بيروت.
2- . انظر: التشيع، لعبداللّه الغريفي: 150 نقلاً عن المسند: 5/90، طبعة بيروت.
3- . المستدرك على الصحيحين: 3/618، طبعة بيروت.

الحلقة الثالثة والعشرون: اليوم الثالث والعشرون من شهر رمضان 1436 ه

الحلقة الثالثة والعشرون: اليوم الثالث والعشرون من شهر رمضان 1436 ه(1)

قال الدكتور أحمد الطيب: لا عصمة لأيّ إمام أو خليفة من بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بداية من أبي بكر الصديق حتّى تقوم الساعة، وهذا ما أكّده سيدنا أبو بكر في خطبة التنصيب، قال: أيّها الناس! إني قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوّموني. وهو يعترف بأنّ الخليفة يُخطئ أو يجانبه الصواب ؟ وقوله: (قوّموني) يعني تعيدونني وترجعونني إلى الصواب، وبالتالي فليس لأي أحد عصمة بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

ثم تابع الدكتور مسألة عدم وجود نص على إمامة سيدنا علي عليه السلام وقال: إنّ الأحاديث الّتي وردت في الثناء على الخلفاء ومنهم سيدنا عليّ ، ليس فيها لا من قريب ولا من بعيد ما يشير إلى إمامة سيدنا علي عليه السلام بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم. ولو كان الأمر كما ذهب الشيعة لنصّ على ذلك صراحة بأن يقول: أيّها المسلمون عليٌّ هو الإمام من بعدي، وتحسم المسألة، لكن نحن أمام نصّ خفيّ - كما قال الشريف المرتضى ؛ وهو من أعمدة علماء الشيعة - يحتمل أن يكون دالّاً ويحتمل أن يكون غير دال.

***

أقول: ما اعتمد عليه الدكتور فيما أُثر عن أبي بكر، فقد روي على وجهين:

الأوّل: أمّا بعد أيّها الناس فإنّي قد ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني.(2)

الثاني: قوله: اعلموا أيّها الناس أنّي لم أجعل لهذا المكان أن أكون خيركم

ص:115


1- . لم نعثر على محاضرة الدكتور في اليوم الثاني والعشرين.
2- . الصواعق المحرقة لابن حجر: 11.

ولوددت أنّ بعضكم كفانيه ولئن أخذتموني بما كان اللّه يقيم به رسوله من الوحي ما كان ذلك عندي وما أنا إلّاكأحدكم، فإذا رأيتموني قد استقمت فاتّبعوني وإن زغت فقوّموني، واعلموا أنّ لي شيطاناً يعتريني...(1)

أمّا الأوّل فيلاحظ عليه: أنّه إذا كان بين الصحابة مَن هو خير منه وأعلم بالأُصول والفروع والتنزيل والتأويل، فلماذا لم يشر إليه يوم السقيفة حتّى يختاره الناس ويبايعه هو؟! أليس هذا بخساً لحقّ الأُمّة أن يتسنّم الفاضل مع وجود الأفضل ؟! أو المفضول مع وجود الفاضل.

وأمّا الثاني: فالاعتراف به عجيب وخطير جداً، فإنّ تدخل الشيطان في أفكاره في موضع بيان الأحكام والقضاء أمر غير مغتفر، فليس لمثل هذا أن يترشّح للزعامة!!

ثم إنّ الغاية من تنصيب الرجل للزعامة هو تدبير الأُمّة على ضوء الكتاب والسنّة، وهو رهن أن يكون الخليفة عارفاً بما تحتاج إليه الأُمّة في الإدارة والسياسة، قال علي عليه السلام: «أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهذَا الْأَمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ ، وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللّهِ فِيهِ . فَإِنْ شَغَبَ شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ ، فَإِنْ أَبَى قُوتِلَ ».(2)

وقال الإمام الحسين بن علي عليه السلام: «واللّه ما الإمام إلّاالقائم بالقسط، الحاكم بالكتاب، الحابس نفسه على ذات اللّه».(3)

وظاهر كلام الخليفة أنّه يحتاج في أمر القيادة إلى أفراد آخرين، وعندئذٍ تكون النتيجة: أنّه كان يفقد مقوّماتها ومؤهلّاتها.

ثم إنّ الدكتور أنكر وجود النصّ على إمامة عليّ عليه السلام ونقل عن السيد

ص:116


1- . تاريخ الخلفاء لابن قتيبة: 1/16.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 172.
3- . روضة الواعظين: 206.

المرتضى أنّه قال: يحتمل أن يكون النص دالّاً ويحتمل أن يكون غير دال.

وأقول: الدكتور اعتمد في نقله هذا على ما كتبه أحمد الكاتب في المقام، ولم ينقله بوجه صحيح، وإليك كلامه الّذي أشار إليه الكاتب قال: الّذي نذهب إليه أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نصّ على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة بعده، ودلّ على وجوب فرض طاعته ولزومها لكلّ مكلّف. وينقسم النص عندنا في الأصل إلى قسمين:

أحدهما يرجع إلى الفعل ويدخل فيه القول، والآخر إلى القول دون الفعل.

إلى أن قال رحمه الله: قد دللنا على ثبوت النصّ بولاية أمير المؤمنين عليه السلام بأخبار مجمع على صحّتها، متّفق عليها، وإن كان الاختلاف واقعاً في تأويلها، وبيّنا أنها تفيد النصّ عليه عليه السلام بغير احتمال ولا إشكال كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» و «من كنت مولاه فعليّ مولاه» إلى غير ذلك ممّا دللنا، على أنّ القرآن يشهد به كقوله تعالى: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) (1)، فلابدّ من أن نطرح كلّ خبرٍ نافِ ما دلّت عليه هذه الأدلة القاطعة إن كان غير محتمل للتأويل، ونحمله بالتأويل على ما يوافقها ويطابقها إذا ساغ ذلك فيه.(2)

ترى أنّه رحمه الله عدّ حديث الغدير من الأحاديث الّتي تفيد النص عليه عليه السلام بلا احتمال ولا إشكال، وأنّ دلالتها قاطعة توجب طرح كلّ خبر ينافيها.

والنقل إن عَدِم الأما نة كان عنوانَ الخسار

وقد بحث هذا الموضوع المحقّق الأُستاذ حيدر محمد علي البغدادي الطحّان في كتابه «واحة اليقين»، وكشف الهفوات الّتي وقع فيها أحمد الكاتب في كتابه المذكور.(3)

ص:117


1- . المائدة: 55.
2- . الشافي في الإمامة: 3/99، مؤسسة إسماعيليان، قم - 1410 ه.
3- . لاحظ: واحة اليقين: 418-420، طبع في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام.

ثم إنّ الدكتور قال: لو كان الأمر كما ذهب إليه الشيعة لنصّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على إمامة علي بصراحة، بأن يقول: أيّها الناس عليّ هو الإمام من بعدي.

أقول: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كرّر ذلك القول أكثر من مرّة خلال سنيّ حياته، ومنها:

1. ما تقدّم نقله من حديث بدء الدعوة، وقد مرّ نصّه.

2. إنّ حديث الولاية يعني قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حقّ علي عليه السلام: «علي منّي وأنا من علي، وهو وليّكم من بعدي» من الأحاديث المتضافرة الّذي أخرجه غير واحد من أئمّة الصحاح والسنن وحفّاظ الحديث، وقد نقله جمّ غفير من كبار أئمّة الحديث في كتبهم، ربما يبلغ عددهم حسب ما استخرجه المحقّق المتتبع السيد حامد حسين اللكهنوي (المتوفّى 1306 ه) في كتابه «عبقات الأنوار» إلى 65، وعلى رأسهم:

1. سليمان بن داود الطيالسي (المتوفّى 204 ه).

2. أبو بكر عبد اللّه بن محمد بن أبي شيبة (المتوفّى 239 ه).

3. أحمد بن حنبل (المتوفّى 241 ه).

4. محمد بن عيسى الترمذي (المتوفّى 279 ه).

5. أحمد بن شعيب النسائي (المتوفّى 303 ه).

إلى غير ذلك من أئمّة الحفّاظ والمحدّثين(1)، وإليك نصّ الحديث:

1. أخرج النسائي في سننه قائلاً: حدّثنا واصل بن عبد الأعلى، عن ابن فضيل، عن الأعرج، عن عبد اللّه بن بريدة، عن أبيه، قال: بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى اليمن مع خالد بن الوليد وبعث عليّاً على جيش آخر، وقال: إن التقيتما فعليٌّ

ص:118


1- . لاحظ: نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار: 15/51-54.

على الناس، وإن تفرّقتما فكلّ واحدٍ منكما على جنده، فلقينا بني زبيد من أهل اليمن، وظفر المسلمون على المشركين، فقاتلنا المقاتلة وسبينا الذرية، فاصطفى عليٌّ جاريةً لنفسه من السبي، فكتب بذلك خالد بن الوليد إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأمرني أن أنال منه. قال: فدفعت الكتاب إليه ونلت من عليّ ، فتغيّر وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقلت: هذا مكان العائذ، بعثتني مع رجلٍ وألزمتني بطاعته فبلّغت ما أُرسلت به. فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لي: «لا تقعنَّ يا بريدة في عليّ ، فإنّ عليّاً منّي وأنا منه وهو وليّكم بعدي».(1)

2. وأخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس، عن بريدة، قال: غزوت مع عليّ اليمن فرأيت منه جفوة، فلمّا قدمتُ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذكرت عليّاً فتنقصته فرأيت وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتغيّر، فقال: «يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»، قلت: بلى يا رسول اللّه، قال: «مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه».(2)

وما جاء في الحديث الّذي أخرجه النسائي من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليّ منّي وأنا من علي وهو وليكم بعدي» لا ينافي المنقول في مسند أحمد ولعلّ الرسول جمع بين الكلمتين، أو أنّ الراوي نقل بالمعنى فقال: مَن كنت مولاه فهذا علي مولاه.

وعلى كلّ حال فالحديث كان مذيّلاً بما يدلّ على ولايته بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

ويؤيد ذلك أنّ الإمام أحمد أخرج الحديث عن عمران بن حصين بالشكل التالي:

ص:119


1- . خصائص علي بن أبي طالب: 75.
2- . مسند أحمد: 5/347.

3. قال: بعث رسول اللّه سرية وأمّر عليهم علي بن أبي طالب رضى الله عنه فتعاقد أربعة من أصحاب محمد أن يذكروا أمره لرسول اللّه، قال عمران: وكنّا إذا قدمنا من سفرنا بدأنا برسول اللّه، فسلّمنا عليه، قال: فدخلوا عليه، فقام رجل منهم، فقال يا رسول اللّه: إنّ عليّاً فعل كذا وكذا، فأعرض عنه.

ثمّ نقل قيام الثلاثة الباقين وتكرارهم ذلك القول وإعراض الرسول عنهم، حتّى انتهى إلى قوله: فأقبل رسول اللّه على الرابع وقد تغيّر وجهه، فقال: «دعوا عليّاً، إنّ عليّاً مني وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي».(1)

4. وأخرج الترمذي عن عمران بن حصين ونقل الحديث مثل ما نقل أحمد بن حنبل إلى أن قال: فقام الرابع، فقال مثل ما قالوا، فأقبل إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - والغضب يُعرف في وجهه - فقال: «ما تريدون من عليّ ! ما تريدون من عليّ ! ما تريدون من عليّ ! إنّ عليّاً مني وأنا منه وهو ولي كلّ مؤمن بعدي».(2)

ترى أنّ الرواية تنصّ على الولاية الدالّة على أنّه الإمام بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

أضف إلى هذا: أنّ حديث الغدير نصّ على ولاية علي عليه السلام، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذكر في خطبته التوحيد والرسالة والمعاد، فقال: «ألستم تشهدون أن لا إله إلّااللّه وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله وأنّ الجنة حق وأنّ النار حق وتؤمنون بالكتاب كلّه ؟» قالوا: بلى، قال: «فإنّي أن قد صدقتم وصدقتموني، إلّا وأنّي فرطكم وأنّكم تبعي توشكون أن تردوا عليّ الحوض، فأسألكم حين تلقوني عن ثقلي، كيف خلفتموني فيهما»؟ قالوا: ما ندري ما الثقلان ؟ قال: الأكبر منهما كتاب اللّه تعالى.. والأصغر منهما عترتي... ثم أخذ بيد علي فرفعها ثم قال:

ص:120


1- . مسند أحمد: 4/438.
2- . سنن الترمذي: 5/632.

«من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه. من كنت وليّه فهذا وليّه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» قالها ثلاثاً.

ثم توّج رسول اللّه عليّاً بعمامته أمام الجموع الحاشدة من المؤمنين بيده الشريفة، فسدل طرفها على منكبه وأمر المهاجرين والأنصار أن يسلّموا على عليّ بأمر المؤمنين.

هذه خلاصة ما جرى في الغدير وقد حضر خطبته جموع كثيرة من عشرات الآلاف، في أرض غدير خم القريبة من الجحفة.

حديث الغدير رواه قرابة 119 صحابياً، ومن التابعين ما يقارب 90 تابعياً، ومن العلماء السنّة عبر القرون ما يناهز 360 عالماً، وبما أنّ هذه الرسالة تضيق عن ذكر جميع المصادر فعلى الدكتور الرجوع إلى موسوعة الغدير للعلّامة الحجّة عبدالحسين الأميني النجفي فقد جمع رواة الحديث من الصحابة والتابعين ومَن نقله من الحفاظ في كتابه وهو من حسنات الدهر.

5. روى الحاكم في «المستدرك» بالإسناد إلى عبداللّه بن أسعد بن زرارة، عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «أوحي إليّ في عليّ ثلاث: إنّه سيّد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين» قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.(1) وروى مثله الطبراني في المعجم الصغير عن حكيم الجهني(2) وابن الأثير في أُسد الغابة(3) والمغازلي الشافعي في المناقب.(4)

وليس يصحّ في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهار إلى دليل

ص:121


1- . المستدرك على الصحيحين: 3/137-138، طبعة بيروت.
2- . المعجم الصغير: 2/360، طبعة بيروت.
3- . أُسد الغابة: 1/84، طبعة بيروت.
4- . مناقب المغازلي: 83، طبعة بيروت.

الحلقة الرابعة والعشرون: اليوم الرابع والعشرون من شهر رمضان 1436 ه

اشارة

قال فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر: إنّ قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه» لا يصحّ أن يكون نصّاً صريحاً يلزم المسلم بأن عليّاً هو الإمام بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لأنّ الجميع فهم تقديراً خاصّاً لسيدنا عليّ .

وتابع فضيلته في حديثه اليومي قال: إنّ لازم قول الشيعة الإمامية إنّ الصحابة خانوا عهد اللّه وعهد رسوله ورضوا أن يغتصب الخلافة من سيدنا علي، وهذا كلام غير معقول، إذ كيف يوصف الصحابة الكرام بالخيانة ونقض العهد.

ثم إنّ الصحابة هم الّذين حملوا إلينا القرآن الكريم وبلّغوا لنا هذا الدين الحنيف فلو كانت الصحابة خونة كيف أخذ الشيعة كالسنّة القرآن وفهموه من الصحابة.

***

ركّز الدكتور في محاضرته هذه على أُمور:

الأوّل: قصور دلالة حديث الغدير على كون عليّ إماماً.

الثاني: لو كان عليٌّ هو الإمام المنصوص فمعنى ذلك خيانة الصحابة لعليّ .

الثالث: لو كانت الصحابة بهذا الوصف فكيف أخذ الشيعة القرآن من جماعة لهم هذا الوصف. ولنأخذ كلّ واحد بالتحليل.

أمّا الأمر الأوّل: فقد أجبنا عنه في الحلقة السابقة وقلنا: إنّ خطبة الحديث أفضل دليل على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بصدد بيان أصل من أُصول الإسلام حيث أخذ

ص:122

الشهادة على الأُصول الثلاثة من الحاضرين، ثم رفع يد عليٍّ وقال ما قال، فلو كانت الغاية بيان فضيلة من فضائل الإمام لما احتاج إلى ذكر الأُصول الثلاثة، على أنّ في خطبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قوله: «ألست أولى بكم من أنفسكم ؟» قالوا: بلى، ثم قال: «مَن كنت مولاه فهذا علي مولاه» وما يدلّ على أنّ النبيّ بصدد تنزيل عليّ منزلة نفسه في الأولوية على أنفس الآخرين، والأولى على الأنفس والأموال، يلازم كون الموصوف زعيماً إلهيّاً، فأي تنصيص أظهر من ذلك ؟!

على أنّ الحاضرين فهموا من الحديث تفويض قيادة المجتمع إلى عليّ عليه السلام، فهذان هما الشيخان لما أمر الرسول المسلمين بالتسليم على عليّ بإمرة المؤمنين قدما يسلّمان عليه بإمرة المؤمنين ويهنّئانه حتّى قال عمر: بخٍ بخٍ لك يا عليّ فقد أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. أو بالفاظ تقارب هذا المعنى.(1)

ومن الحاضرين في واقعة الغدير حسّان بن ثابت شاعر عصر الرسالة فقد صاغ حديث الغدير في قالب الشعر وقال:

يناديهم يوم الغدير نبيُّهم بخمّ وأسمع بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكم ونبيكم فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبينا ولم تلق منّا في الولايةِ عاصيا

فقال له قُمْ يا عليُّ فإنّني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليُّهُ فكونوا له أتباع صدق مواليا

ص:123


1- . لاحظ: تفسير الرازي: 12/49؛ المصنّف لابن أبي شيبة: 12/78 برقم 12167؛ مسند أحمد: 5/355 برقم 18011؛ المعيار والموازنة للإسكافي: 212، إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة والّتي ذكرها العلّامة الأميني في موسوعة الغدير: 1/510-527، طبعة مركز الغدير للدراسات - قم المقدّسة.

هناك دعا اللهم وال وليّهُ وكن للّذي عادا عليّاً معادياً(1)

وهناك قرائن كثيرة في متن الحديث ربّما تناهز العشرة قد أسهب الكلام فيها الباحث الكبير العلّامة الأميني في موسوعته وأثبت أنّ المراد هو الولاية الإلهية لعلي عليه السلام. فلو أراد الدكتور الإلمام بهذه القرائن فليرجع إلى الجزء الأوّل من كتاب الغدير. هذا كلّه حول الأمر الأول.

وأمّا الأمر الثاني: وهو اتّهام الشيعة بالقول بخيانة الصحابة فإنّ هذه الكلمة من الدكتور غريبة جدّاً، وذلك:

أوّلاً: أنّ جمّاً غفيراً من الصحابة بقوا على ما كانوا عليه في عهد الرسالة فأكّدوا على إمامة عليّ وأنّه الإمام المنصوص، وهم روّاد الشيعة ويبلغ عددهم مائتين أو أزيد، ولا يساعد المقام على ذكر أسمائهم، وقد تحملّ عبء هذا العمل الشيخ الدكتور أحمد الوائلي في كتابه «هويّة التشيع» فعلى الدكتور أحمد الطيّب الرجوع إلى هذا الكتاب ليعرف أنّ قسماً من الصحابة لم يتّفقوا مع الآخرين. وقد سبقه في هذا الموضوع العلّامة السيد علي خان المدني (المتوفّى 1120 ه) في كتابه: «الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الإمامية»، وتلاه غير واحد من المحقّقين.

وأمّا عدول غيرهم عن إمامة الإمام عليّ إلى الآخرين فإنّما كان من باب التأويل والاجتهاد حيث إنّ كثيراً من الصحابة يقدّمون المصلحة المزعومة على النصّ الصريح، وليس هذا المورد أوّل قارورة كسرت في الإسلام، فكم لكبار الصحابة من مواقف عدلوا فيها عن النص الصريح إلى الاجتهاد. وها نحن نذكر منها شيئاً قليلاً:

ص:124


1- . الغدير: 2/65، نقله عن اثني عشر مصدراً من أعلام السنّة وستاً وعشرين مصدراً من أعلام الشيعة.
1. رزية يوم الخميس

أخرج البخاري عن ابن عباس وقال: لمّا اشتدّ بالنبيّ وجعه قال: إئتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده. قال عمر: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم غلبه الوجع وعندنا كتاب اللّه حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال: قوموا عنيّ ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللّه وبين كتابه.(1)

ترى أنّ الصحابة الّذين حضروا عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يومذاك رفضوا الانصياع لأمر النبيّ وهو حيّ يرزق، متمسّكين بعذر يخجل القلم من ذكره، فكيف بأوامره ونصوصه بعد رحيله عنهم ؟!

2. الاعتراض على صلح الحديبية

لمّا تمّ الصلح بين النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ورؤساء الشرك عملاً بما توحيه المصلحة وثب عمر بن الخطاب وقد أدركته الحميّة، فأتى أبا بكر وقد استشاط غضباً وغيظاً، فقال: يا أبا بكر أليس هو برسول اللّه ؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى، قال: أليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى ، قال: فعلى م نُعطي الدنية من ديننا؟ فقال له أبو بكر: أيها الرجل إنّه رسول اللّه وليس يعصي ربّه.(2)

3. الأمر بالإحلال

لمّا تمّ صلح الحديبية بين المسلمين والمشركين واتّفقا على رجوع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من مكانه هذا إلى المدينة ومجيئه في العام القادم في نفس الوقت إلى العمرة، وكان بين المسلمين من ساق بدنة، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا» قال: فواللّه ما قام منهم رجل حتّى قال ذلك ثلاث مرّات،

ص:125


1- . صحيح البخاري: برقم 114، وأخرجه أيضاً في أبواب أُخرى، فلاحظ.
2- . صحيح البخاري: برقم 2732؛ صحيح مسلم: 5/175، بتفاوت في المخاطب.

فلمّا لم يقم منهم أحد، دخل على أُمّ سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أُمّ سلمة: يا نبيّ اللّه أتحب ذلك ؟ أُخرج ثم لا تُكلِّم أحداً منهم كلمة حتّى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلّم أحداً منهم حتّى فعل ذلك:

نحر بدنة ودعا حالقه فحلقه، فلمّا رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتّى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً.(1)

هذا الحديث وما قبله يدلّ على أنّ ما اشتهر بين الناس من أنّ الصحابة كانوا أطوع للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من مطاوعة الظل لصاحبه ممّا لا أساس له، بل يوافقونه تارة فيما لم يخالف هواهم.

وأمّا اجتهاد القوم وتأويلهم للنصوص بعد رحيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فحدّث عنه ولا حرج، ولا يسعنا المقام الإشارة إلى قليل منه فضلاً عن الكثير، وإنّما نقتصر بذكر موردين من ذلك حتّى يعلم موقف كبار الصحابة من النصوص النبوية.

4. سرية أُسامة

إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر أصحابه بالتهيّؤ لسرية أمّر عليها أُسامة بن زيد، وكان ذلك لأربع ليال بقين من صفر سنة 11 للهجرة، فلمّا كان من الغد دعا أُسامة فقال له: سر إلى موضع قتل أبيك، فقد وليتك هذا الجيش، فلمّا كان يوم الثامن والعشرون من صفر بدأ به مرض الموت، فحمّ وصدع، فلمّا أصبح يوم التاسع والعشرون ووجدهم متثاقلين، خرج إليهم فحضّهم على السير وعقد اللواء لأُسامة بيده الشريفة تحريكاً لحميّتهم وإرهافاً لعزيمتهم، ثم تثاقلوا، فلم يبرحوا مع ما سمعوه من النصوص الصريحة في وجوب إسراعهم، وطعن قوم في تأمير أُسامة، ولمّا بلغ كلامهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم صعد المنبر وقال: «أيّها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة، ولئن طعنتم في تأميري أُسامة، لقد طعنتم

ص:126


1- . صحيح البخاري: برقم 2732، كتاب الشروط.

في تأميري أباه من قبله، وأيم اللّه إن كان لخليقاً بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق بها» فجعل يقول: «جهّزوا جيش أُسامة، أنفذوا جيش أُسامة، أرسلوا بعث أُسامة»، يكرّر ذلك وهم مُثّاقلون.

وفي نهاية الأمر خرج أُسامة في ثلاثة آلاف مقاتل وتخلّف عنه جماعة ممّن عبّأهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في جيشه، ولم يطيعوا أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حتّى لقي ربه، وما هذا إلّالأنّهم تشبّثوا بأعذار واهية من أنّ إشفاقهم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهو طريح فراش الموت، هو الّذي ثبّطهم عن السير، مع أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: «جهّزوا جيش أُسامة، لعن اللّه مَن تخلّف عنه».(1)

5. إسقاط سهم المؤلّفة قلوبهم

جعل سبحانه المؤلّفة قلوبهم أحد المصارف للزكاة وقال: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) (2) لكن لمّا ولي أبو بكر جاء المؤلّفة قلوبهم لاستيفاء سهمهم هذا، جرياً على عادتهم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فكتب أبو بكر لهم بذلك، فذهبوا بكتابه إلى عمر ليأخذوا خطه عليه فمزّقه وقال: لا حاجة لنا بكم فقد أعز اللّه تعالى الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتّم على الإسلام وإلّا فبيننا وبينكم السيف، فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟ بذلت لنا الخط ومزقّه عمر، فقال: هو إن شاء اللّه ووافقه.(3)

ولسنا بصدد استقصاء مخالفة القوم لنصوص النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وتعليماته، فإنّ

ص:127


1- . تاريخ الطبري: الجزء الأوّل أحداث سنة 11 ه، السيرة الحلبية: 3/209؛ السيرة الدحلانية في هامش السيرة: 2/240؛ طبقات ابن سعد: 2/189-192؛ الملل والنحل للشهرستاني: 1/23.
2- . التوبة: 60.
3- . لاحظ: روح المعاني للآلوسي: 10/122، تفسير سورة التوبة، وذكره القدوري في كتابه الجوهرة النيّرة في الفقه الحنفي: 1/164.

المخالفات ربّما تربو على نيّف وسبعين مورداً استقصاها بعض الأعلام.(1)

بقي الكلام في بيان ما هي المصلحة المزعومة الّتي سببت العدول ؟

إنّ في غضون التاريخ شواهد واضحة على سبب عدولهم عن زعامة الإمام عليه السلام.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي: قال عمر: يابن عباس أما واللّه إنّ صاحبك هذا أولى الناس بالأمر بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلّاأنّا خفناه على اثنين - إلى أن قال ابن عباس -: فقلت: وما هي يا أمير المؤمنين ؟ قال: خفناه على حداثة سنّه، وحبّه بني عبدالمطلب. وفي موضع آخر قال: كرهناه على حداثة السنّ ، وحبّه بني عبدالمطلب.(2)

ونقل ابن أبي الحديد عن أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب «تاريخ بغداد» في كتابه مُسنداً، حيث قال: روى ابن عباس رضى الله عنه، قال: دخلتُ على عُمَر في أوّل خلافته، وقد أُلقي له صاعٌ من تمر على خَصَفة، فدعاني إلى الأكل فأكلت تمرة واحدة، وأقبل يأكل حتّى أتى عليهن ثم شرب من جَرّ كان عنده، واستلقى على مِرفقةٍ له، وطفق يحمد اللّه، يكرّر ذلك.

ثم قال: من أين جئت يا عبداللّه ؟ قلتُ : من المسجد، قال: كيف خلّفت ابن عمك ؟ فظننته يعني عبداللّه بن جعفر، قلتُ : خلّفتُه يلعب مع أترابه، قال: لم

ص:128


1- . لاحظ كتاب النص والاجتهاد للسيد الإمام عبد الحسين شرف الدين وهو كتاب ممتع مليء بالأحداث الّتي قُدّم فيها الاجتهاد الخاطئ - لا الصحيح فإنّه تبع النص - على النص النبوي الجلي، وعلى ضوء ذلك لا يكون ترك العمل بحديث الغدير من أكثرية الصحابة دليلاً على عدم تمامية دلالته.
2- . شرح نهج البلاغة: 6/51.

أعنِ ذلك، إنّما عنيتُ عظيمَكم أهلَ البيت، قلتُ : خلّفته يمتح بالغَرْب(1) على نخيلات من فلان، وهو يقرأ القرآن.

قال: يا عبداللّه، عليك دماء البُدن إن كتمتنيها! هل بقيَ في نفسه شيء من أمر الخلافة ؟ قلت: نعم، قال: أيزعم أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نصّ عليه ؟ قلت: نعم، وأزيدك، سألت أبي عمّا يدّعيه، فقال: صدق.

فقال عمر: لقد كان من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أمره ذَرْوٌ(2) من قول لا يثبتُ حُجّة، ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربَع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه، فمنعتُ من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام، لا ورب هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبداً! ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّي علمت ما في نفسه، فأمسك، وأبى اللّه إلّاإمضاء ما حتم.(3)

ونقل ابن أبي الحديد في مكان آخر نظرية الخليفة في مسألة اجتماع النبوّة والخلافة في بيت واحد، فخاطب ابن عباس بقوله: يابن عباس، أتدري ما منع الناس منكم ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: لكنّي أدري، قال: ما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال: كرهتْ قريش أن تجتمع لكم النبوّة والخلافة، فيجخِفوا جخفاً، فنظرتْ قريش لنفسها فاختارت، ووفقت فأصابت.(4)

هذه النصوص تعرب عن وجه عدول الصحابة عن النصّ على الولاية لعليّ .

إنّ هذا التعبير يعرب عن أنّ الخليفة لا يرى صحّة اجتماع النبوّة والخلافة

ص:129


1- . الغَرْب: الدلو.
2- . ذرو: طرف.
3- . شرح نهج البلاغة: 12/20-21، ولاحظ أيضاً ص 53.
4- . شرح نهج البلاغة: 12/53. فيجخفوا: يتكبّروا، وفي بعض المصادر (فتجحفوا الناس جحفاً).

في بيت واحد، وفي مقابل هذا الرأي يحكي الذكر الحكيم عن اجتماع النبوّة والإمامة في آل إبراهيم، يقول سبحانه: (أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (1)، فالملك العظيم هو الإمامة والخلافة الراشدة الّتي أعطاها اللّه سبحانه لآل إبراهيم مع ما آتاهم من النبوّة وخصّهم بالوصاية.

ما ذكرناه غيض من فيض وقليل من كثير ممّا يدلّ على أنّ إعراض القوم عن حديث الغدير وما يشابهه الدالّ على الولاية الكبرى والزعامة العظمى لعليّ عليه السلام، كان نابعاً عن اجتهادات وتأويلات ولمصالح متوهّمة، وإلّا لم يكن أي شكّ ولا ريب في قلوب الحاضرين في يوم الغدير من أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم جعله إماماً للناس وزعيماً بعده.

بقي هنا أمران:

الأوّل: أنّ الدكتور أحمد الطيب زعم أنّ حديث الغدير تقدير خاص لسيدنا علي عليه السلام.

يلاحظ عليه: أنّه لو كان مفاد حديث الغدير فضيلة خاصّة لعليّ ، لما كانت ضرورة لجمع الناس العائدين من الحجّ حيث إنّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا وصل غدير خم من الجحفة الّتي تتشعب فيها طرق المدنيين والشاميين والعراقيين، أمر الناس بالترجل عن رواحلهم وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة فأمر رسول اللّه برجوع مَن تقدم منهم وبحبس مَن تأخّر عنهم في ذلك المكان، وكان يوماً هاجراً، إذ يضع الرجل بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الرمضاء، وظلّل لرسول اللّه بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فلمّا انصرف صلى الله عليه و آله و سلم من صلاته قام خطيباً وسط القوم على أقتاب الابل وأسمع

ص:130


1- . النساء: 54.

الجميع، رافعاً عقيرته، وقال:... الحمد للّه... إلى آخر الخطبة).

إنّ ذكر فضيلة خاصّة بعلي لا يحتاج إلى هذه المقدّمات الكثيرة والتمهيدات والاستعدادات المتعدّدة المحرجة!!

ونحن نرجو من الدكتور حفظه اللّه أن يراجع شأن نزول قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) (1) فقد نصّ غير واحد من اعلام السنّة على نزول هذه الآية في حادثة الغدير، والقرائن الموجودة في الآية تؤيد ذلك حيث إن مورد التبليغ، بلغ من الأهمية حدّاً قيل في حقه (وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) ، فما هو هذا الأمر الّذي لو لم يؤده لم يؤد الرسالة الإلهية بشكل كامل ؟ مع أنّه صلى الله عليه و آله و سلم صرف 23 سنة من عمره الشريف في تبليغ رسالة ربّه، أضف إلى ذلك قوله تعالى: (وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ...) فهذه الفقرة تكشف عن حساسية المهمة، بحيث تحيطها الاخطار والردود المعاكسة من قبل المنافقين ومن في قلوبهم مرض.

هذا الأمران يؤيدان نزول الآية في قضية سياسية مهمة يُعد عدم تبليغها عدم تبليغ الرسالة، وأن في تبليغها خوفاً على النفس والنفيس، وليس لها مصداق إلّا التصريح بالزعامة العامّة لرجل من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

وممّا يؤيد أن تصريح النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يوم الغدير ليس فضيلة خاصّة، الروايات الّتي رواها كبار علماء السنة، منهم:

1. ابن عساكر في ترجمة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام فقد روى بإسناده عن أبي هريرة قال: مَن صام ثمانية عشر من ذي الحجّة كتب له صيام ستين

ص:131


1- . المائدة: 67. وقد روى نزول الآية في واقعة الغدير جمٌّ غفير يناهز الثلاثين بين محدّث ومفسّر، ومؤرّخ ومحقّق. لاحظ: الغدير: 1/424-438.

شهراً، وهو يوم غدير خمّ لمّا أخذ النبيّ بيد علي فقال: الست ولي المؤمنين ؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه»، فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم، فأنزل اللّه الآية.(1)

2. الحاكم الحسكاني الحنفي فقد روى بإسناده عن أبي سعيد الخدري، قال: إنّ رسول اللّه لمّا نزلت هذه الآية قال: «اللّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي وولاية علي، اللّهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وأنصر من نصره، وأخذل من خذله».(2)

الثاني: قال الدكتور الطيب: إنّ الشيعة قالوا إنّ الصحابة خانوا عهد اللّه وعهد رسوله.. إلى أن قال: فلو كانت الصحابة خونة كيف أخذ الشيعة كالسنة، القرآن وفهموه من الصحابة ؟

أقول: نحن لا نصفهم بما ذكر كما مرّ؛ بل نقول إنّ القرآن الكريم كتاب اللّه الّذي ضمن سبحانه من أن لا يتسرّب إليه التحريف ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقال سبحانه: (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ) (3) وعندئذٍ لا يتمكّن أي ابن أُنثى من أن يُدخل على القرآن الكريم نقيصة ولا يزيد فيه زيادة، من غير فرق بين الصحابي وغيره.

ص:132


1- . تاريخ دمشق: 42/233.
2- . شواهد التنزيل: 1/201، برقم 211.
3- . القيامة: 17.

الحلقة الخامسة والعشرون: اليوم الخامس والعشرون من شهر رمضان 1436 ه

قال الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر:

1. إنّي لا أُريد أن أُحدث فرقة أو فتنة بين السنّة والشيعة فما حملني على هذا البرنامج إلّالنتفاهم بهدوء لنزع أسباب الفرقة وتفتيت المؤامرات الشيطانية الكبرى العالمية لضرب أُمّة الإسلام بإرشاد الأُمّة لما فيه الخير في الدنيا والآخرة.

2. إنّ عليّاً بايع أبا بكر وعمر وعثمان، ولو كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نصّ على إمامته لما رضي ببيعتهم ولقاتلهم كما حدث بينه وبين معاوية بعد 25 سنة.

3. إنّ الإمامة الّتي تلي شؤون الحكم والمنصوص عليها من قبل اللّه تعالى غير معقولة، وللأسف الشديد هذه النظرية هي الّتي تبعث الآن ليقتل السنّي الشيعي ويقتل الشيعي السنّي.

4. إنّ الشيعة الأوائل الّذين كانوا حول عليٍّ لم يعرفوا إمامة الإمام وزعامته بعد النبيّ وإنّما ظهرت هذه النظرية في القرن الثاني الهجري.

***

ما ذكرناه خلاصة ما أكّد عليه شيخ الأزهر في حديثه اليومي الّذي يقدّم في الشهر المبارك من على الفضائية المصرية، ونحن نرجع ونحلّل كلّ واحد من الأُمور الأربعة الّتي أكد عليها.

أقول: أمّا الأمر الأوّل: فقد ذكر فضيلة الشيخ أنّ الهدف هو نزع فتيل الفتنة والفرقة وإرشاد الأُمّة إلى التفاهم بهدوء، ونحن نرحب بهذا الهدف السامي الّذي فيه تقوية الإسلام وعلو شأنه، لكن كان يجب على الشيخ قبل إلقاء المحاضرة أن يجمع علماء الإسلام من السنّة والشيعة حول طاولة مستديرة لمناقشة هذه

ص:133

الأُمور بشكل علمي بعيداً عن الضجيج الإعلامي، غير أنّه عدل عن هذا الطريق الصحيح بإلقاء محاضرات على الهواء يبيّن فيها الفوارق الموجودة بين الطائفتين ويؤيّد إحداهما ويردّ على الأُخرى، وهذا العمل لا ينتج إلّااستنزاف القوى وتشتّت الصف الإسلامي، وهو خلاف ما يتبّناه.

وأما الأمر الثاني: وهو بأنّ عليّاً بايع الخلفاء الثلاثة، فلم يرد في التاريخ إلّا بيعة علي لأبي بكر بعد ستة أشهر عقب وفاة بنت المصطفى فاطمة الزهراء عليها السلام.

فقد جاء في صحيح البخاري... فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدتْ فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت.

وعاشت بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ستة أشهر. فلمّا توفيّت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر وصلّى عليها، وكان لعليّ من الناس وجهٌ حياةَ فاطمة، فلمّا توفّيت استنكر عليٌّ وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر.(1)

فلو كانت بيعة أبي بكر بيعة صحيحة لا فلتة،(2) فلماذا لم تبايع بنت المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم وهي سيدة نساء العالمين إلى أن توفيت وهي واجدة على أبي بكر؟! أو ما سمعت قول أبيها صلى الله عليه و آله و سلم: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».(3)

أفيمكن أن نرمي بنت النبيّ الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم بما ورد في هذا الحديث الصحيح ؟!

ص:134


1- . صحيح البخاري: 1036، برقم 4241.
2- . كما وصفها عمر حيث قال:... ثم إنّه بلغني أن قائلاً منكم يقول: واللّه لو مات عمر بايعت فلاناً فلايغترن امرؤ أن يقول إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت، ألا وإنّها قد كانت كذلك ولكن اللّه وقى شرّها.. (صحيح البخاري: 1713 برقم 6830، باب رجم الحبلى من الزنا).
3- . صحيح مسلم: 56/22؛ السنن الكبرى: 8/156.

ونسأل أيضاً لماذا تأخر عليّ عليه السلام عن بيعة أبي بكر مدة 6 أشهر؟!

نعم أنّ عليّاً لمّا شاهد إقصاءه عن منصة الخلافة، ترك الأمر إليهم لمصلحة أشار إليها في بعض خطبه وقال: «فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ .

فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دِينِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ ...».(1)

وأمّا الأمر الثالث: فقد أفاد الدكتور بأنّ الإمامة المنصوصة عليها من قبل اللّه غير معقولة وتثير النزاع بين السنّة والشيعة.

أقول: ياللأسف يذكر الدكتور أنّ كون الإمامة أمراً منصوصاً من اللّه سبحانه، أمراً غير معقول مع أنّ النبيّ الأكرم ينصّ على صحّة الإمامة بهذا المعنى، وذلك لمّا عرض الرسول صلى الله عليه و آله و سلم نفسه على بني عامر الّذين جاءوا إلى مكّة في موسم الحج ودعاهم إلى الإسلام قال له كبيرهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك اللّه على مَن خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء».(2)

وهذا هو الشيخ الرئيس ابن سينا يقول: «والاستخلاف بالنصّ أصوب، فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف».(3)

ثم العجب من أنّه جعل وجود القتال بين الطائفتين من آثار القول بالنصّ في مورد الحكم مع أنّه لا صلة بين الأمرين، فإذا كانت الخلافة من الأحكام الفرعية وكان الاختلاف فيها أمراً شائعاً فما هو السبب لأن يقتل السنّي الشيعي ؟!

ص:135


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل برقم 62.
2- . السيرة النبوية لابن هشام: 424/2-425.
3- . الشفاء: 452، قسم الإلهيات المقالة العاشرة من الفصل الخامس، طبعة مصر.

إن القتال من آثار تعظيم الخلاف ورفع مستواه إلى حدّ الإيمان والكفر من قبل المتشددين.

إنّ الدماء الطاهرة الّتي تراق كلّ يوم في بلاد الرافدين واليمن الفيحاء كلّها من آثار فتاوى التكفير الّتي يقوم بها مَن لا علم له بالكتاب والسنّة ولا تقوى حتّى تصدّه عن هذا العمل الشنيع.

قال السيد الأمين: وقتل السلطان سليم العثماني من الشيعة في الأناضول أربعين ألفاً وقيل سبعين ألفاً لم يكن لهم ذنب سوى أنّهم شيعة.(1)

وفي «الفصول المهمّة» أنّ الشيخ نوح الحنفي أفتى بكفر الشيعة ووجوب قتلهم، فقتل من جرّاء هذه الفتوى عشرات الألوف من شيعة حلب، وقتل العثمانيون الشهيد الثاني المشهور بفضله وورعه؛ وفعل الجزّار والي عكّا بجبل عامل فعل الحجّاج في العراق، وقد نهب الجزار أموال العامليين وأحرق مكتباتهم، وكان في مكتبة آل خاتون خمسة آلاف مجلد، وبقيت أفران عكّا توقد أُسبوعاً كاملاً من كتب العامليين، ولم يسلم من ظلم الجزّار إلّامَن استطاع الفرار.(2)

ومن هنا نطالب الدكتور الطيب برصد الواقع التاريخي للمسلمين لنرى ما هي الأسباب الحقيقية للصراع الّذي نشب في العالم الإسلامي، فعلى سبيل المثال أنّ معركة الجمل وصفّين لم يكن للإمامة بما هي أمامة دور فيها، بل حدثت بسبب تمرّد البعض على الخليفة الشرعي تحت ذريعة المطالبة بدم الخليفة المقتول، وأمّا النهروان فقد انطلق الخوارج فيها من فكرة الكفر باللّه بسبب تحكيم الرجال في أمر الدين كما يزعمون. وهكذا تواصل الصراع ووقع

ص:136


1- . أعيان الشيعة: 1/30، طبعة دار التعارف بيروت.
2- . لاحظ: الشيعة والحاكمون للشيخ مغنية: 194-195.

الاختلاف الكبير بين المسلمين في العصر الأُموي والعصر العباسي بعد هارون الرشيد بين الإخوة الأمين والمأمون ولم يكن للإمامة المنصوصة فيه أثر و...

ثم كيف أهمل الدكتور ظاهرة التكفير والصراع بين المعتزلة والأشاعرة؛ فهذا الإمام أحمد - إن صدقت الحنابلة في النقل عنه - قال: مَن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومَن زعم أنّ القرآن كلام اللّه ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأوّل، ومَن زعم أنّ الفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام اللّه فهو جهمي، ومَن لم يكفّر هؤلاء القوم فهو مثلهم.(1) وهل للنصّ على الإمام مكان في كلامه ؟!

وهذا كتاب «السنّة» لعبداللّه بن أحمد بن حنبل لم يسلم منه فريق، فقد جاء فيه: مثل المرجئة مثل الصابئين (الحديث 436) والمرجئة كاليهود (الحديث 563) وأنّه لم أر قوماً أوسخ وسخاً ولا أقذر ولا أطفس من الرافضة (الحديث 322)، وليس قوم أشدّ بغضاً للإسلام من الجهمية والقدرية، (الحديث رقم 9) وأنّ الجهمية كفّار والقدرية كفّار (الحديث رقم 8 و 672).(2)

فهل في هذا الصراع مكان للإمامة ؟!

وما هو دور النصّ على الإمامة في قضية التجسيم الّتي اتّهم بها الأشاعرة حشوية الحنابلة، وقضية التعطيل الّتي اتّهم بها الحنابلة الأشاعرة و... وقد سالت من جرّاء ذلك دماء غزيرة. بل بلغ التعصّب بين بعض أتباع المذاهب الأربعة حدّ التكفير، فهذا محمد بن موسى الحنفي قاضي دمشق (المتوفّى 506 ه) يقول: لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الشافعية الجزية ؟ وسئل أحد متعصّبي الشافعية عن طعام وقعت فيه قطرة نبيذ فقال: يرمى لكلب أو حنفي ؟!(3)

ص:137


1- . طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى: 1/29.
2- . لاحظ: السُّنّة لعبد اللّه بن أحمد. طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 ه.
3- . الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، لأسد حيدر: 1/190.

إلى غير ذلك من عوامل الاختلاف الّتي ليس للإمامة فيها نصيب قطّعاً.

وأمّا الأمر الرابع: فيقول الدكتور: إنّ الشيعة الأوائل لم يعرفوا إمامة الإمام بالمعنى الّذي ظهر في القرن الثاني.

أقول: إنّ الشيعة هم المسلمون من المهاجرين والأنصار ومَن تبعهم بإحسان في الأجيال اللاحقة، من الذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في أمر القيادة، ولم يغيِّروه، ولم يتعدّوا عنه إلى غيره، ولم يأخذوا بالمصالح المزعومة في مقابل النصوص، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1) ففزعوا في الأُصول والفروع إلى عليّ وعترته الطاهرة عليهم السلام، وانحازوا عن الطائفة الأُخرى مِنَ الذين لم يتعبّدوا بنصوص الخلافة والولاية وزعامة العترة، حيث تركوا النصوص، وأخذوا بالمصالح. والشيعة بهذا المعنى كانوا متواجدين في عصر الرسول وبعد رحيله، وليس للشيعة تاريخ سوى تاريخ الإسلام ولم تكن وليد الجدالات السياسية ولا الكلامية، بل الإسلام والتشيّع كعملة واحدة يمثل الإسلام وجهها الأوّل والتشيّع الوجه الثاني منها.

إنّ الآثار المرويّة في حقّ شيعة الإمام عن لسان النبيّ الأكرم - والذين هم بالتالي شيعة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله - ترفع اللثام عن وجه الحقيقة، وتعرب عن التفاف قسم من المهاجرين والأنصار حول الوصيّ ، فكانوا معروفين بشيعة عليّ في عصر الرسالة، وأنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وصفهم في كلماته بأنّهم هم الفائزون، وإن كنت في شكّ من هذا فسنتلو عليك بعض ما ورد من النصوص في المقام:

1. أخرج ابن مردويه عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول اللّه مَن أكرم الخلق على اللّه ؟ قال: «يا عائشة أما تقرئين: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ

ص:138


1- . الحجرات: 1.

أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ».(1)

2. أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه قال: كنّا عند النبيّ صلى الله عليه و آله فأقبل عليّ ، فقال النبيّ : «والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة»، ونزلت: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) فكان أصحاب النبيّ إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خير البريّة.(2)

3. أخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً: «عليّ خير البريّة».2

4. وأخرج ابن عدي عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله لعليّ : «هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين».3

5. أخرج ابن مردويه عن عليّ قال: قال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «ألم تسمع قول اللّه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) أنت وشيعتك، موعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين».4

6. روى ابن حجر في صواعقه عن أُمّ سلمة قالت: كانت ليلتي، وكان النبيّ صلى الله عليه و آله عندي فأتته فاطمة فتبعها عليّ - رضي اللّه عنهما - فقال النبيّ : «يا عليّ أنت وأصحابك في الجنّة، أنت وشيعتك في الجنّة».(3)

7. روى ابن الأثير في نهايته: قال النبيّ مخاطباً عليّاً: «يا عليّ ، إنّك ستقدم على اللّه أنت وشيعتك راضين مرضيّين، ويقدم عليه عدوُّك غضاباً مقمحين» ثمّ جمع يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح. قال ابن الأثير: الإقماح:

ص:139


1- . الدر المنثور: 6/589، والآية هي السابعة من سورة البيّنة.
2- (2و3و4) . الدر المنثور: 6/589.
3- . الصواعق المحرقة: 161.

رفع الرأس وغض البصر.(1)

8. روى الزمخشري في ربيعه: أنّ رسول اللّه قال: «يا عليّ ، إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة اللّه تعالى، وأخذت أنت بحجزتي، وأخذ ولدك بحجزتك، وأخذ شيعة ولدك بحجزهم، فترى أين يؤمر بنا؟».(2) والحجزة كناية عن مقام من المقامات.

9. روى أحمد في المناقب: أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لعليّ : «أما ترضى أنّك معي في الجنّة، والحسن والحسين وذرّيتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرّيتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا».(3)

10. روى الطبراني: أنّه صلى الله عليه و آله قال لعليّ : «أوّل أربعة يدخلون الجنّة: أنا وأنت والحسن والحسين، وذرّيتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرّياتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا».4

11. أخرج الديلمي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «يا عليّ ، إنّ اللّه قد غفر لك ولذرّيّتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك، فأبشر فإنّك الأنزع البطين».5

12. أخرج الديلمي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال لعليّ : «أنت وشيعتك تردون الحوض رواء مرويّين، مبيضّة وجوهكم، وإنّ عدوّك يردون على الحوض ظماء مقمحين».6

13. روى المغازلي بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه:

«يدخلون من أُمّتي الجنّة سبعون ألفاً لا حساب عليهم - ثمّ التفت إلى عليّ فقال: - هم شيعتك وأنت إمامهم».(4)

ص:140


1- . النهاية: 4/106. ورواه ابن حجر في الصواعق: 154.
2- . ربيع الأبرار: 1/808.
3- (3و4و5و6) . الصواعق المحرقة: 161.
4- . مناقب المغازلي: 293.

14. روى ابن حجر: أنّه مرّ عليّ على جمعٍ فأسرعوا إليه قياماً، فقال:

«مَن القوم ؟» فقالوا: من شيعتك يا أمير المؤمنين، فقال لهم خيراً، ثمّ قال: «يا هؤلاء مالي لا أرى فيكم سمة شيعتنا وحلية أحبَّتنا؟» فأمسكوا حياءً ، فقال له من معه: نسألك بالذي أكرمكم أهل البيت وخصّكم وحباكم، لما أنبأتنا بصفة شيعتكم فقال: «شيعتنا هم العارفون باللّه، العاملون بأمر اللّه».(1)

15. روى الصدوق (306-381 ه): أنّ ابن عباس قال: سمعت رسول اللّه يقول: «إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما أعدّ اللّه تبارك وتعالى لشيعة عليّ من الثواب والزلفى والكرامة...».(2)

وهذه النصوص المتضافرة الغنيّة عن ملاحظة أسنادها، تعرب عن كون عليّ عليه السلام متميّزاً بين أصحاب النبيّ بأنّ له شيعة وأتباعاً، ولهم مواصفات وسمات كانوا مشهورين بها، في حياة النبيّ وبعدها، وكان صلى الله عليه و آله يشيد بهم ويبشّر بفوزهم، وهم - بلا ريب - ليسوا بخارجين قيد أُنملة عن الخط النبوي المبارك للفكر الإسلامي العظيم، وهذا الأمر يؤكّد على حقيقة التشيّع ومبدئه الذي لا يفترق عن نشوء الدين واستقراره.

ص:141


1- . الصواعق المحرقة: 154.
2- . علل الشرائع: 156.

الحلقة السادسة والعشرون: اليوم السادس والعشرون من شهر رمضان 1436 ه

أكّد الدكتور أحمد الطيب في هذه الحلقة على الأُمور التالية:

1. أنّ الجيل الأوّل من الشيعة لم يكن يعرف نظرية الإمامة الإلهية بدليل أنّ سيدنا عمر استعمل بعض الولاة من أنصار سيدنا عليّ عليه السلام منهم سلمان الفارسي، ومالك بن الأشتر، وحجر بن عدي، فظهر أنّ نظرية الإمامة لم تكن موجودة في ذلك العصر.

2. أشار إلى كتابين: أحدهما لأحمد الكاتب باسم «السنّة والشيعة وحدة الدين خلاف السياسة والتاريخ» وثانيهما للسيد علي الأمين باسم «السنة والشيعة أُمّة واحدة». وقرّر الأوّل أنّ الأوائل الّذين كانوا حول عليّ كان لهم موقف إيجابي خالص من الخلفاء الثلاثة، ولمّا انتهى القرن الهجري الأوّل وتعرّض الشيعة إلى ضغوط سياسية شديدة على أيدي الأمويين، حتّى نشأت لدى فريق صغير - كردّ فعل على هذه الضغوط الصعبة - نظرية الإمامة الإلهية.

3. ختم فضيلته حديث هذا اليوم بأنّنا (في حاجة) بحاجة إلى مثل هذا الصوت المعتدل الّذي يمكن أن يساهم في مسيرة التفاهم بين أهل السنة والشيعة على أُسس واضحة.

***

أقول: أمّا الأمر الأوّل وهو أنّ الجيل الأوّل من الشيعة لا يعرفون نظرية الإمامة الإلهية، بشهادة استعمال عمر لأنصار سيدنا علي عليه السلام كولاة في بعض البلدان، فما استشهد به خالٍ عن الدلالة على ما يرتئيه، فإنّ موقف هؤلاء لا يشذّ عن موقف الإمام علي عليه السلام الّذي نصر الإسلام والمسلمين في زمان الخلفاء؛ لأنّ

ص:142

ظاهرة الارتداد كادت تقضي على الإسلام كما قال: «حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دِينِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ ».(1)

فمنذ أُقصي علي عليه السلام عن ولايته الحقّة رأى أنّ رفع صوت الخلاف والقيام بمن معه من الأنصار، يسبّب محق الإسلام، خصوصاً وأنّ المنافقين بعد في المدينة منتشرون يتحيّنون الفرص للانقضاض على الإسلام.

فردّة العرب من جانب وكيد المنافقين من جانب آخر، ألجأ الإمام عليّاً عليه السلام إلى المماشاة وتبعه أنصاره.

ولذلك قال الإمام علي عليه السلام: «وَوَاللّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً »(2).

واقتدت به شيعته فتعاملوا مع الخلفاء إذا اقتضت المصلحة.

وأمّا ما ذكر من أنّ الجيل الأوّل من الشيعة لم يكونوا يعرفون نظام الإمامة، فقد عرفت خلافه في الحلقة السابقة، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو الّذي بذر بذرة التشيّع وربّى جمعاً يوصفون بأنّهم من شيعة علي عليه السلام في عصر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم والمجال لا يساعد على أن نذكر أسماء هؤلاء الّذين تفانوا في ولاية الإمام عليه السلام ولا يعرفون قائداً إلّاإيّاه، وكفاك هنا ما ذكره «كرد علي» في كتابه: «خطط الشام» قال: عُرِف جماعة من كبار الصحابة بموالاة عليّ في عصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مثل سلمان الفارسي القائل: بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين والائتمام بعليّ بن أبي طالب والموالاة له.

ص:143


1- . نهج البلاغة: قسم الرسائل برقم 62.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 74.

ومثل أبي سعيد الخدري الّذي يقول: أُمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة، ولمّا سئل عن الأربع، قال: الصلاة، والزكاة، وصوم شهر رمضان، والحجّ .

قيل: فما الواحدة الّتي تركوها؟

قال: ولاية عليّ بن أبي طالب.

قيل له: وإنّها لمفروضة معهنّ؟

قال: نعم هي مفروضة معهنّ .

ومثل أبي ذر الغفاري، وعمّار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت، وأبي أيّوب الأنصاري، وخالد ابن سعيد، وقيس بن سعد بن عبادة.(1)

ثم إنّ الشيعة في أوائل القرن الأوّل لو كانوا لا يختلفون عن إخوانهم السنّة في الأُصول والفروع ويعتقدون بخلافة الخلفاء بدءاً من أبي بكر وانتهاء بعلي، فما هو السبب في الضغط عليهم إذ لم يكن أي فارق بينهم وبين بقية المسلمين حتّى يلتجئوا إلى القول بنظرية الإمامة لعلي وأولاده في القرن الثاني، ومجرّد حبهم لعلي وأولاده لا يكون مبرراً للضغط، لاشتراك عامّة المسلمين في حب أهل البيت عليهم السلام.

نعم نسي أحمد الكاتب أو تناسى أو غفل عن سبب الضغط، فإنّهم كانوا يهتفون بولاية عليّ بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ويرون أنّ خلافة الآخرين خلافة غير صحيحة، وبالتالي خلافة مَن جاء بعد علي كمعاوية وأولاده فصار كلّ ذلك سبباً للضغط، فلم يكن تفاني هؤلاء في حب أهل البيت عليهم السلام أو اتّخاذهم أُسوة وقدوة

ص:144


1- . خطط الشام: 5/251.

في الحياة إلّالنصوص صحيحة عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم دون أن يكون ردّ فعل للضغوط.

وأمّا ما أشار إليه الدكتور من الصوت المعتدل، فهو ليس بمعتدل، بل معنى ذلك ذوبان الشيعة في السنّة، وهذا مستحيل، كما أنّ ذوبان السنّة في الشيعة كذلك مستحيل. والصوت المعتدل هو الأخذ بالمشتركات المتوفرة بين الطائفتين وإرجاع البحوث الكلامية إلى المعاهد العلمية بين العلماء.

والغريب أنّ الدكتور قال بضرورة الصوت المعتدل لأحمد الكاتب والسيد الأمين موحياً للمشاهد بأنّها حالة طارئة على الوسط الشيعي، وأنّ السائد في المدرسة الشيعية هو التطرّف والغلو، متجاهلاً ذلك الصوت الوحدوي والّذي ضرب أروع الأمثلة في الاعتدال على مرّ التاريخ، فهاهم رجال الشيعة ومرجعياتهم تتصدّى للثورة ضد الحاكم الإنجليزي في ثورة العشرين(1) ثمّ قدّموا الحكم لإخوانهم السنّة على طبق من ذهب، ومن قبل ذلك وقفوا إلى جانب الحاكم العثماني السنّي رغم أنّه بخل عليهم بالسلاح والعتاد ولم يدعمهم بشيء، بل تآمر بعض قادته عليهم. وعندما اشتدّت الحملة الأمريكية على نظام صدام رفضت الجمهورية الإسلامية في إيران السماحَ للمحتَّل الأمريكي من الاستفادة من مجالها الجوي والبري والبحري رغم الجرائم الّتي اقترفها صدام بحق الشعب الإيراني، وعندما غزا صدام الكويت السنيّة وقفت الجمهورية الإسلامية في إيران إلى جانب الإخوة الكويتيين وهي تعلم أنّهم ساندوا النظام البعثي ووفّروا له كلّ ما يريد في حربه القذرة.

وبعد أن سقط نظام صدام عام 2003 م فتح الشيعة قلوبهم قبل بيوتهم لأخوتهم وطالبوا بفتح صفحة جديدة إلّاأنّ الردّ كان قاسياً فكان نصيبهم آلاف

ص:145


1- . ثورة العشرين الّتي حدثت إبّان الاحتلال البريطاني للعراق في عام 1920 م.

المفخّخات الّتي كان نصيب الشيعة ومناطقهم منها أكثر من 95%، وفي مقدّمتها هدم ضريح الإمامين العسكريين عليهما السلام وحادث جسر الأئمة في بغداد الّذي راح ضحيته أكثر من 1500 شهيد، ورغم كلّ ذلك صرّحت المرجعية الشيعية المتمثّلة بالسيد السيستاني حفظه اللّه بأنّه لا تقولوا إخواننا أهل السنّة بل قولوا أنفسنا أهل السنّة ؟!!

هذا ولا ننسى دور المدرسة القميّة ومراجعها العظام بتحريم الإساءة إلى رموز أهل السنّة والوقوف إلى جانب أفغانستان وحماس السنيتين وتحمّل المسؤولية الكبيرة في دعمها بالمال والسلاح و المواقف السياسية.

نعم، يا سماحة الدكتور أنّ الشيعة وقفوا وسيقفون إلى جانب إخوتهم أهل السنّة لأنّ ذلك أدب ورثوه من أئمة الهدى عليهم السلام.

وأتمنّى من الدكتور الطيب أن يرصد العلاقة الحميمة الّتي تسود الشارع الإيراني سنّة وشيعة ليدرك بما لا ريب فيه مدى الأُخوّة بين الطائفتين وكيف يعيش المسلم السنّي إلى جانب أخيه الشيعي رغم محاولات بعض دول الجوار تعكير الصفو من خلال تحريكها لبعض المغفلين والانتهازيين.

وأمّا تقييم الكتابين اللّذين أشار إليهما الدكتور فيحتاج إلى تأليف رسالة مستقلة، فقد قام أحمد الكاتب بتحريفات كثيرة في عشرات الروايات تأييداً لأفكاره، وكفانا في ذلك ما ألفه الأُستاذ حيدر محمد علي البغدادي الطحّان في كتابه «واحة اليقين».

وأمّا الكتاب الآخر فسيوافيك الكلام فيما نقله عنه في الحلقة التالية.

ص:146

الحلقة السابعة والعشرون: اليوم السابع والعشرون من شهر رمضان 1436 ه

تابع شيخ الأزهر في حديثه اليومي الّذي يبث من الفضائية المصرية قبيل الإفطار، وقال: الجديد الّذي يمكن أن يقرأ من كتاب السيد علي الأمين، أنّه يفرق بين الإمامة الدينية وبين الإمامة السياسية، فالإمامة الدينية تعني الرجل العالم التقي الّذي يُهتدى به ويلجأ إليه في أُمور الدين وفي مدلهمات الأُمور، ويقصد بكلامه هداية الناس، وأمّا الإمامة السياسية تعني الرجل الّذي يتولى الحكم وإدارة شؤون المجتمع وتطبيق الشريعة والحدود وإنصاف المظلوم، فهو معنيّ بالأُمور الدنيوية الحياتية والحياة المدنية، وبالتالي هناك إمام للحياة الدينية وإمام للحياة المدنية، والفرق بينهما كبير.

وأضاف شيخ الأزهر: ويرى السيد علي الأمين أنّه حدث خلط عند كثير من الشيعة بين مسألة الإمامة الدينية ومسألة الإمامة السياسية.

***

أقول: إنّا لم نعثر على كتاب السيد علي الأمين وإنّما أقضي على نظريته حسب ما نقله الدكتور الطيّب، فإنّها ليست شيئاً جديداً، وإنّما هي نظرية غربية ألا وهي تفكيك الدين عن السياسة، متأثّراً بالمقولة المشهورة: «دع ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه».

كيف يمكن القول بالتفكيك مع أنّ القرآن الكريم يجمع لآل إبراهيم عليه السلام بين المقامين ويقول: (أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (1) فإيتاء الكتاب والحكمة

ص:147


1- . النساء: 54.

علامة النبوّة وإيتاء الملك العظيم هو الحكم والسيادة.

ولقد تأثّر المؤلّف في نظريته هذه بما أُثر عن عمر بن الخطاب حيث قال لابن عباس: يابن عباس أتدري ما منع الناس منكم ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين.

قال: لكنّي أدري. قال: ما هو يا أمير المؤمنين ؟

قال: كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة، فيجخفوا جخفاً، فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت.(1)

روي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام في قوله تعالى: (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (2) قال: «جعل منهم الرسل والأنبياء والأئمة، فكيف يُقرّون في آل إبراهيم وينكرونه في آل محمد صلى الله عليه و آله و سلم» قال: قلت:

(وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) قال: «الملك العظيم أن جعل فيهم أئمة، من أطاعهم أطاع اللّه، ومن عصاهم عصى اللّه، فهو الملك العظيم».(3)

إنّ الإمامة بمعنى الحياة الدينية، لم تكن مختصّة بالإمام، بل كان بين الصحابة الكرام من يصلح لأن يكون قدوة، ممّن بلغوا في الإيمان والتقوى مرحلة سامية، فلماذا تعلّقت الشيعة بعلي عليه السلام نافين غيره من التسلّق إلى هذا المقام الشامخ ؟ وهذا يكشف عن أنّ إمامته كانت أمراً لا يتقمّصه إلّاهو وليست هي إلّاالرئاسة العامّة في الدين والدنيا.

ثم نقل الدكتور أنّ السيد علي الأمين استدلّ على نظريته بكلام الإمام علي عليه السلام عندما جاء الناس لمبايعته بعد مقتل عثمان بن عفّان حيث قال: «دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان» وقال بعد نقل كلامه عليه السلام:

يعني اتركوني وانتخبوا غيري، فالخير أن أكون فيكم ناصحاً آمراً بالمعروف

ص:148


1- . شرح نهج البلاغة: 14/53.
2- . النساء: 54.
3- . الكافي: 1/160.

وناهياً عن المنكر من أن أكون لكم أميراً أتولّى الإمامة والسياسة.

وهذا ما سنناقشه في الحلقة القادمة بتوفيق من اللّه تعالى.

الحلقة الثامنة والعشرون: اليوم الثامن والعشرون من شهر رمضان 1436 ه

قال الدكتور الطيب: إنّ قول الإمام علي عليه السلام: «دعوني والتمسوا غيري...

وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم وأنا لكم وزيراً خير لكم منّي أميراً» يدلّ على أنّه رضى الله عنه لم يطلب الإمامة السياسية أبداً ولم تكن في ذهنه بل كان ينفر منه (كذا - منها) وهذا كان بعد مقتل عثمان حيث كانت الساحة خالية أمامه ليتولّى إمامة المسلمين. ومعنى كلامه: اتركوني وابحثوا عن غيري.

***

أقول: إنّ للإمام علي عليه السلام كلمات في هذا المضمون، فقد قال لابن عباس مشيراً إلى نعله: ما قيمة هذا النعل ؟ فقال له: لا قيمة لها. قال عليه السلام: «واللّه لهي أحب إليّ من إمرتكم».(1)

لكن الاستدلال بهذه الكلمات نابع عن عدم الوقوف على زمان صدور هذه الأقوال، وأنّه في أي موقف رفض بيعة القوم وقال: «دعوني والتمسوا غيري»، وأي خلافة رفضها وقال في حقّها ما قال.

إنّ الذين أرادوه للبيعة هم الذين بايعوا الخلفاء السابقين، وكان عثمان منهم، وقد استأثر بأموال المسلمين، فلمّا قُتِل قالوا لعليّ : نبايعك على أن تَسير

ص:149


1- . نهج البلاغة: الخطبة 33.

فينا بسيرة الرسول، فاستعفاهم وسألهم أن يطلبوا غيره، ثم ذكر عدم قبوله في ذيل كلامه وهو «إنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإنّ الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكرت»(1) مشيراً إلى أنّ الشبهة قد استولت على العقول والقلوب، وجهل أكثر الناس محجّة الحق، ففي مثل هذه الظروف فإنّي لا أقدر أن أسير فيكم بسيرة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في أصحابه مستقلّاً بالتدبير، لفساد أحوالكم، وتعذّر صلاحكم.

وقد صدق الخُبْر الخَبَر، فلمّا قام الإمام عليه السلام بالأمر وقسّم الأموال بينهم بالعدل، نكثت طائفة، ومرقت أُخرى، وقسط آخرون.(2)

فالذي رفضه الإمام هو الخلافة الّتي يتقمّصها الإمام عن طريق البيعة، وأمّا الخلافة الالهية الّتي ألبسها اللّه سبحانه إيّاه يوم الغدير وغيره فلم تكن مطروحة لدى المبايعين والإمام، حتّى يستقيلها أو يقبلها.

وأمّا الخلافة الّتي ينحلها الناس عن طريق البيعة، فالإمام وغيره أمامها سواء، وفي حقّها قال: «دعوني والتمسوا غيري». وأمّا الخلافة الإلهية الّتي تدّعيها الشيعة بفضل النصوص الكثيرة فهي غنية عن البيعة، غير خاضعة لإقبال الناس وإدبارهم. وليس الناس أمامها سواء، بل تختصّ بمن خصّه سبحانه بها، وليس لمن خصَّه بها حق رفضها ولا استقالتها. والإمامة بهذا المعنى لم تكن مطروحة حين الحوار حتّى يرفضها الإمام.

وليس هذا أوّل كلام للإمام وآخره حول رفضه بيعة القوم وإن أصرّوا عليه وتداكّوا عليه تداكّ الإبل على حياضها يوم وِرْدها، يقول:

«وَبَسَطْتُمْ يَدِي فَكَفَفْتُهَا، وَمَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا، ثُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ تَدَاكَّ

ص:150


1- . نهج البلاغة: الخطبة 92.
2- . لاحظ: نهج البلاغة: الخطبة 3.

الْإِبِلِ الْهِيمِ عَلَى حِيَاضِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، حَتَّى انْقَطَعَتِ النَّعْلُ ، وَسَقَطَ الرِّدَاءُ ، وَوُطِئَ الضَّعِيفُ ، وَبَلَغَ مِنْ سُرُورِ النَّاسِ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّايَ أَنِ ابْتَهَجَ بِهَا الصَّغِيرُ، وَهَدَجَ إِلَيْهَا الْكَبِيرُ، وَتَحَامَلَ نَحْوَهَا الْعَلِيلُ ، وَحَسَرَتْ إِلَيْهَا الْكِعَابُ »(1).(2)

أقول: إنّ الذين جاءوا لمبايعة عليّ من الصحابة والتابعين، إنّما حاولوا أن يبايعوه كما بايعوا الخلفاء الماضين، فالخليفة في هذا المقام يستمدّ شرعية خلافته من بيعة الناس، وهي التي وقف منها الإمام موقفاً رافضاً لعدم رغبته فيها، وعلماً منه بأنّ المبايعين لا يطيقون عدله وقضاءه.

وأين ذلك من الإمامة الإلهية الثابتة له بتنصيص النبي صلى الله عليه و آله و سلم في غير واحد من المواقف ؟! فإنّ المبايعين في تلك الظروف العصيبة لم يكن لهم همّ سوى تنصيب الخليفة من دون نظر إلى الإمامة المنصوصة لعلي عليه السلام، حتّى يستقيلها الإمام أو يقبلها.

وفي الختام نودّ الإشارة إلى نكتة، وهي أنّ البيعة الّتي تمّت لعلي عليه السلام على النحو الّذي وصفها الإمام عليه السلام كانت ظاهرة استثنائية لم يكن لها مثيل في من سبقه من الخلفاء، ومع ذلك نرى أنّه لمّا استتب الأمر للإمام عليه السلام ظهرت بوادر

ص:151


1- . نهج البلاغة: الخطبة 229.
2- . قال ابن أبي الحديد في شرح مفردات الخطبة: التداك: الازدحام الشديد، والإبل الهيم: العطاش. وهدج اليها الكبير: مشى مشياً ضعيفاً مرتعشاً، والمضارع يهدج، بالكسر. وتحامل نحوها العليل: تكلّف المشي على مشقّة. وحسرت إليها الكعاب: كشفت عن وجهها حرصاً على حضور البيعة، والكعاب: الجارية الّتي نهد ثديها، كعُب تكعُب (بالضم). قوله: «حتّى انقطع النعل وسقط الرداء» شبيه بقوله في الخطبة الشقشقية: «حتّى لقد وطئ الحسنان وشُقَّ عِطفاي». لاحظ: شرح نهج البلاغة: 13/3-4.

التمرّد والعصيان عليه، والتي شغلت باله عليه السلام منذ تولِّيه منصب الخلافة وحتّى استشهاده عليه السلام.

ثم إنّ الإمام في نهاية الأمر يبيّن وجه قبوله لبيعة هؤلاء (مع عدم رغبته في الخلافة) في خطبة أُخرى، حيث يقول:

أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ ، لَوْلَا حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ، وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ ، لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ!».(1)

الحلقة التاسعة والعشرون: اليوم التاسع والعشرون من شهر رمضان 1436 ه

أكّد الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر في هذه الحلقة الّتي هي خاتمة المطاف، على أنّ الأزهر من أحرص المؤسسات الدينية على وحدة الأُمّة الإسلامية وقال: إنّ حديثنا خلال شهر رمضان المبارك لم نكن نقصد به إحداث فرقة أو إثارة ضغائن بين السنّة والشيعة.

وتابع سماحته قائلاً بأنّ الأزهر لا يحجر على الرأي أبداً؛ لأنّ اللّه عزّ وجلّ قال: (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (2) ولكنّا نقول: تعالوا نلتقي على أُصول واضحة تمنع وقوع الفتن، تعالوا لإيقاف شلّالات الدم الّتي تجري بين المسلمين.

وأضاف فضيلته: بأنّ مصر بلد سنّي ولا نريد أن يتحوّل شعبه المسلم إلى

ص:152


1- . نهج البلاغة: الخطبة 3.
2- . الكهف: 29.

طائفتين تقتتل من أجل الطائفية، وإنّ مصر ليس فيها شيعة ولذلك يراد الآن إحداث فتنة فيها من خلال إيجاد قاعدة شبابية تتمذهب بالمذهب الشيعي. ثم عزّز كلامه بتنبؤات بيرنارد لويس حول الشرق الأوسط يقول فيها: «عاجلاً وليس آجلاً سيعاود النمط التاريخي في المنطقة - يقصد الخلاف بين السنّة والشيعة - ظهوره إلى العلن فتركيا إسلامية وإيران إسلامية ستتنافسان على الزعامة وستكون المنافسة كما كانت عليه منذ عدّة قرون بين المذهبين السنّي والشيعة».

وفي ختام كلامه طالب فضيلته علماء الشيعة الاجتماع بالأزهر لإصدار فتاوى من المراجع الشيعية ومن أهل السنة تحرّم على الشيعي أن يقتل السنّي وتحرم على السنّي أن يقتل الشيعي.

***

أقول: التقريب بين الطوائف الإسلامية من الأماني العزيزة الّتي يتمنّاها كلّ مسلم واعٍ بصير، خصوصاً في الأوضاع الراهنة، والأجواء السائدة على المسلمين، والظروف المحيطة بهم في شتى النواحي والأقطار، ولا يشكّ في ضرورته إلّااثنان: جاهل مغفل، وجاحد معاند ماكر. إذ لا يمرّ على المسلمين يوم إلّاوفيه مجازر رهيبة، وحروب دامية طاحنة، فرضتها عليهم القوى الكافرة، الّتي تخاف من سيادة الإسلام في ربوع العالم، وانتشاره فيها، فعادت تؤجّج نار الحرب بين آونة وأُخرى، فتضرب المسلم بالمسلم تارة، وبالكافر أُخرى فتحقّق أُمنيتها الكبرى.

فعلى هذا فهو رأي متفّق عليه بيننا وبين الدكتور أحمد الطيب حفظه اللّه، والشاهد على ذلك أنّ علماء الشيعة قد اتّفقوا مع شيخ الأزهر في وقته الشيخ محمود شلتوت في تأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، وقد تبادلت

ص:153

الرسائل بين مشايخ الأزهر ومراجع الشيعة كآية اللّه البروجردي وغيره. فعلى هذا فهذه النقطة أمر يعرفه مَن له إلمام بالأوضاع المريرة في حياتنا الإسلامية.

نعم إنّ الدكتور شيخ الأزهر ينزعج من وجود التبشير الشيعي داخل مصر وأنّه بلد سنّي لا شيعي لكن نسأل الأُستاذ لماذا لا ينزعج من التبشير المسيحي في مصر والّذي يمتدّ تاريخه لعشرات السنين حتّى أنّ القبطيّين لهم دور في التبشير؟! كما إنّي لا أظن وجود تبشير شيعي بمعنى تحويل السنّي إلى شيعي بينما يريد إزالة العقبات وإزاحة الموانع بين الطائفتين وأنّ بينهما مشتركات كثيرة. ومن عجائب الكلام أنّ الدكتور يقول إنّ السنّة يمثّلون 90% من المسلمين في العالم، ولكنّه تصوّر غير تام، فإنّ الشيعة يمثّلون ربع المسلمين لو لم يكن أكثر، ثم إنّ بينهم علماء وحكماء، كتّاب وخطباء، ومثقّفين وأساتذة من طبقات مختلفة، وهم أحرار لا يمكن للمرجعية أن تكمّم أفواههم عن التكلّم بما يعتقدون ونشر ما يريدون خصوصاً إذا كان لرفع سوء الظن بين الطائفتين.

كما أنّ علماء الأزهر وأهل السنّة لا يستطيعون السيطرة على جميع علمائهم ومثقّفيهم وتكميم أفواههم. نعم نحن نجانب ونخالف كلّ تبشير من أي طائفة تريد إشعال نار الفتنة بين الطائفتين.

فنحن نرى ما يمضي من يوم إلّاوينتشر كتاب أو رسالة أو مقال من أهل السنّة في تكفير الشيعة وتحريض الشباب على إراقة دمائهم، وليس هذا ببعيد ممّن يقرأ شيئاً ممّا يجري في أفغانستان وباكستان والعراق وسورية واليمن وغيرها من البلدان.

ثم إنّ ما نقله عن بيرنارد لويس ووصفه بالتنبّؤات غير صحيح جدّاً، فإنّه مخطّط لهم وليس تنبّؤاً، إذ ليس هناك أي تنافس بين إيران وتركيا على الزعامة، وما ذكره ليس إلّامؤامرة تدبّرها الدول الاستكبارية لضرب الدولتين باسم التنبّؤ.

ص:154

وأقول بصراحة: إنّ الحرب في العراق وسورية واليمن حرب سياسية وليست حرباً طائفية فإنّ يد الدول الكبرى وراء هذه الحروب، فهذه الدول بإشعال فتيل الحرب في تلك المناطق تنتفع كثيراً حيث تتم الحرب بإضعاف المسلمين أوّلاً، وتهديم منشآتهم الاقتصادية ثانياً، وبيع الاسلحة عليهم ثالثاً، ودفع الخطر عن إسرائيل وجعلها أكثر أمناً رابعاً، إلى غير ذلك من الآثار المشؤومة.

والعجب أنّ الأزهر الشريف سكت عن شلّالات الدماء الّتي تجري في اليمن الجريح الّتي تُدّمر كلّ يوم وليلة بأعذار واهية.

وهذا آخر مقالي وكلامي إلى سماحة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر حفظه اللّه عسى أن يقوم بما تبنّاه من اجتماع رؤساء الطائفتين ودراسة الموضوع، أي وحدة المسلمين ونجاتهم ممّا يحيط بهم من مؤامرات عسى أن يصل الجميع إلى أُمنياتهم.

ونحن على إيمان ويقين بأنّه لو كان الاجتماع للّه وبنية خالصة فاللّه سبحانه يسدّد خطاهم ويوفّقهم لما فيه الصلاح والسداد.

يقول تبارك وتعالى: (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما) (1).

***

تمّت الرسالة مساء يوم الخميس الثاني

عشر من شهر ذي القعدة الحرام 1436 ه

في مدينة قم المقدّسة عش آل محمد

صلوات اللّه عليهم أجمعين.

جعفر السبحاني

ص:155


1- . النساء: 35.

ص:156

2 فتنة التكفير جذورها وآثارها في المجتمع

اشارة

ص:157

ص:158

إدانة القرآن الكريم لظاهرة التكفير

قال اللّه تعالى:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .

(النساء: 94)

ص:159

ادانة ظاهرة التكفير على لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

روى البخاري عن أبي ذرّ أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلاّ ارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك».

(صحيح البخاري، برقم 6045).

وروى الترمذي أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:

«لاعن المؤمن كقاتله، ومَن قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله».

(سنن الترمذي: 4/132).

ص:160

كلمات مضيئة حول ظاهرة التكفير ونتائجها

1. التكفير نابع عن طغيان العاطفة الكاذبة على العقل ومنهج الاستدلال

2. التكفير يهدف إلى تمزيق الأُمّة الإسلامية وإضعاف المسلمين

3. التكفير يورث الفوضى ويُعدم الأمن الذي هو من أهم الحاجات الفطرية

4. ظاهرة التكفير تنمو في بيئة الجهل وسوء الفهم لأحكام الشريعة المقدسة

5. التكفير من أخطر الأُمور على الإسلام في طريق تشويه صورته ظلماً وعدواناً

ص:161

ص:162

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه لقد جاءت رسل ربّنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون، والصلاة والسلام على نبيّ الرحمة وإمام الهدى محمد المصطفى وعلى آله الطيّبين الطاهرين الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرّهم تطهيراً.

أمّا بعد:

فقد ظهرت في عصرنا هذا، ظاهرة التكفير وتبنَّتها جماعة احتكروا الإيمان لأنفسهم وسلبوه عن غيرهم، فقاموا بقتل الأنفس ونهب الأموال بحجّة أنّ غيرهم كفّار يجب قتالهم وسبي ذراريهم والإغارة على ممتلكاتهم وأموالهم!!

وممّا يؤسف له أنّ هؤلاء يدّعون أنّهم يحكمون باسم الإسلام وباسم نبيّ الرحمة الذي قال: «إنّ الرفق لا يكون في شيء إلّازانه، ولا يُنزع من شيء إلّا شانه»(1)، فها هم يقتلون الأبرياء والعُزّل من الناس أطفالاً وشيوخاً ونساءً ويقومون بجرائمهم وهم يكبّرون ويصلّون على النبي صلى الله عليه و آله و سلم الذي يصفه سبحانه بقوله: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (2)، ويدّعون رفع لواء الجهاد في سبيل نصرة الدين ومواجهة أعدائه، وهم يعيشون في الأرض فساداً، ويحرقون الحرث والنسل، ويدّمرون المنشآت الاقتصادية، بل يخرّبون كلّ شيء؟!

يقومون بهذه الجرائم الفظيعة التي يهتزّ لها عرش الرحمن باسم الدين،

ص:163


1- . صحيح مسلم: 22/8، كتاب البر والصلة والآداب.
2- . آل عمران: 159.

والأنكى من ذلك أنّهم لا يعيرون أهمية الضحايا الأبرياء ولا يقدّرون لها قيمة، وأصبح ذبح الإنسان الذي عرّفه سبحانه بقوله: (وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ) (1) أهون عندهم من ذبح الطير أو قتل الهوام!!

إنّ القائمين بهذه الأعمال بين جاهل بقواعد الدين وأحكامه متحمّس في طريقه؛ أو عالم بالموضوع وحكمه لكنّه ينفذ خطط الكافرين الذين يكنّون الحِقْد والعِداء لنبي الإسلام ورسالته منذ قرون، فتراهم في كلّ عصر يأتون بخطّة جديدة. والذي يتولى كبر هذا الأمر الفظيع هو قائد الوهابية المتشددة محمد بن عبد الوهاب الذي ظهر في القرن الثاني عشر الهجري مدّعياً الدفاع عن التوحيد فكفّر عامّة المسلمين إلّامَن تابعه في أفكاره.

وقد اعتبر ابن عبد الوهاب عامّة المسلمين كفّاراً ومشركين ومرتدّين كأهل الجاهلية الأُولى أو أضلّ منهم وقال: فإذا عرفت أنّ هذا الذي يُسمّيه المشركون في زماننا «الاعتقاد» هو الشرك الذي نزل فيه القرآن، وقاتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الناس عليه، فاعلم أنّ شرك الأوّلين أخفّ من شرك أهل زماننا وذلك:

إنّ الأوّلين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع اللّه إلّا في الرخاء، وأمّا في الشدّة فيخلصون للّه الدعاء، فيدلّ عليه قوله سبحانه: (وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّ إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) (2) وبذلك تبيّن الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأوّلين.(3)

واستنتج من عبارته هذه أنّ مشركي أهل زمانه يدعون غير اللّه في الشدّة والرخاء، فكانوا أكثر شركاً.

وهذه العبارات تدلّ على أنّ جماهير المسلمين - عنده - مشركون شركاً أشدّ من شرك أبي جهل وأبي لهب!!

ص:164


1- . الإسراء: 70.
2- . الإسراء: 67.
3- . كتاب كشف الشبهات: 11.

وأراد من الشرك الذي اتّهم به عامّة المسلمين عبر قرون ما يقومون به من زيارة قبور الأنبياء والأولياء الصالحين والتوسّل بهم مضافاً إلى إعمار قبورهم وأضرحتهم، فهذا هو الذي أسماه ابن عبد الوهاب بالشرك الأكبر، وبذلك صار المسلمون بعد رحيل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى عصر محمد بن عبد الوهاب مشركين وأضلّ من مشركي عصر الجاهلية.

هذا ما يذكره ابن غنّام معاصره ومؤرّخ حياته وحروبه مع المسلمين.

ولمحمد بن عبد الوهاب كلمة أُخرى قال: اتّبع هؤلاء سنن من قبلهم وسلكوا سبيلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حذو القذّة بالقذّة، وغلب الشرك على أكثر النفوس لغلبة الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنّة بدعة والبدعة سنّة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر واشتدّ البأس وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.(1)

والعجب أنّ الشيخ يزعم أنّه من أتباع أحمد بن تيمية!! وحاشا أن يكون ابن تيمية بهذا التشدّد فإنّه ذكر للتكفير شروطاً وموانع سيوافيك بيانها في محلّها. نعم عبّر عمّا يسمّيه محمد بن عبد الوهاب شركاً بالبدعة.

إنّ التسرّع والغلو في التكفير يمزّق المجتمع المسلم، ويغذّي الفرقة والشحناء بين المسلمين بل ربّما يؤدّي إلى إهدار المسلمين دماء بعضهم بعضاً، وهذا على جانب النقيض من قوله سبحانه: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) .(2)

إنّ أقلّ ضرر أُصيب به الإسلام هو أنّ بدعة التكفير على النحو الذي تبثّه الفضائيات صارت حائلاً بين الغربيّين وبين اعتناقهم الإسلام.

ص:165


1- . الدرر السنية في الأجوبة النجدية: 197/1 و 295.
2- . آل عمران: 103.

يا ليت هؤلاء يفهمون أو يعقلون ما عليه علماء الإسلام عامّة حيث قالوا:

الخطأ في ترك تكفير ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم امرئ مسلم.(1)

إنّ الآثار السلبية المترتّبة على التكفير خطيرة جداً ويكفي في خطورته:

إنّه يزيل عصمة النفس والنفيس، فالنفوس تُقتل والأعراض تهتك والأموال تُسلب.

إنّه ينشر الفوضى في المجتمع الإسلامي ويجعله شيعاً والذي يعدّه سبحانه من ألوان العذاب ويقول: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) (2).

ويا ليت هؤلاء يكتفون بالتكفير فإنّ خطره قليل، وهؤلاء هم اليهود والنصارى محكومون بالكفر ولكنّهم يعيشون في الأوساط الإسلامية بعيدين عن الخطر والقتل والنهب. غير أنّ هؤلاء يتّهمون مَن يقول لا إله إلّااللّه محمّداً رسول اللّه ويصلّي إلى الكعبة ويصوم شهر رمضان، بالشرك الذي نتيجته هو الحكم بهدر دمه، واستحلال نهب ماله وهتك حرمة نسائه وأولاده، ولذلك نرى أنّ القائلين بالتكفير بهذا المعنى يمارسون أبشع جرائم العصر الحديث ولا يستثنون أحداً، بل العدو الصهيوني الغاصب عندهم أكثر احتراماً من الشعوب الإسلامية بكافّة مذاهبها وطوائفها!!

ولأجل هذا قمنا بدراسة حقيقة الإيمان والكفر على ضوء الكتاب والسنّة حتى يقف الباحث الواعي على أنّ عمل هؤلاء المنحرفين يخالف حكم القرآن والسنّة.

وتحقيق الحال يتم ضمّن فصول:

ص:166


1- . الاقتصاد في الاعتقاد للإمام الغزالي: 143، مطبعة صبيح في القاهرة.
2- . الأنعام: 65.

الفصل الأوّل: الكفر والإيمان في اللغة ومصطلح المتكلّمين

الكفر والإيمان لغةً

يظهر من أئمّة اللغة أنّ للكفر أصلاً ومعنى واحداً. يقول ابن فارس: له أصل واحد وهو الستر والتغطية، والكفر ضد الإيمان لأنّه يغطّي الحق.(1)

وقال الجوهري: كلّ شيء غطّى شيئاً فقد كفره، ومنه سُمّي الكافر لأنّه يغطي نعم اللّه.(2)

وقال الراغب: الكفر في اللغة ستر الشيء، ويوصف الليل بالكافر لأنّه يستر الأشخاص، والزارع لأنّه يستر البذر في الأرض، يقول تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ ) (3).(4)

ويمكن أن يقال إنّ للكفر أصلاً آخر وهو الجحد والإنكار وهو غير الستر والتغطية، قال سبحانه: (وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ النّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) .(5)

فمعنى قوله: (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ) : أي ينكر بعضكم بعضاً.

ص:167


1- . مقاييس اللغة: 191/5.
2- . صحاح اللغة للجوهري: 808/2، مادة «كفر».
3- . الحديد: 20.
4- . مفردات الراغب: 433، مادة «كفر».
5- . العنكبوت: 25.

هذا كلّه حول الكفر، وأمّا الإيمان فالثلاثي المجرّد مثل قوله: «أمن»، «يأمن» فيراد به السكينة والطمأنينة كقوله تعالى: (وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي) (1).

وأمّا الثلاثي المزيد فيه فإن كان مقروناً بلفظة «من» فهو أيضاً بنفس ذلك المعنى، مثل قوله: (وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) (2)؛ وإن كان مقروناً باللام أو الباء فهو بمعنى التصديق، يقول سبحانه: (وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) (3): أي بمصدّق لنا، ويقول سبحانه:

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ ) (4): أي صدّق الرسول.

الإيمان والكفر في مصطلح المتكلّمين
اشارة

اتّفق المتكلّمون على أنّ الإيمان بمعنى التصديق ولكن اختلفوا في أنّه بأي جارحة يتحقّق التصديق ؟ فهناك أقوال:

1. التصديق اللساني

ذهب ابن كرّام السجستاني (المتوفّى: 255 ه) إلى أنّه يكفي في تحقّق الإيمان التصديق باللسان وإن لم يصدّق قلباً، قائلاً: بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يقبل إيمان من قال: لا إله إلّااللّه محمداً رسول اللّه.(5)

يلاحظ عليه: أنّ كلامه هذا لا يخلو من إبهام، فلو قال: إنّ من صدّق باللسان فهو مؤمن وإن لم نعلم وفاق لسانه مع قلبه فهو أمر مقبول، إذ لا طريق لنا إلى الغيب والباطن. وأمّا لو قال بكفاية التصديق اللساني وإن علم الخلاف فهو

ص:168


1- . النور: 55.
2- . قريش: 4.
3- . يوسف: 17.
4- . البقرة: 285.
5- . نقله ابن حزم في الفِصَل: 190/3.

محجوج بالقرآن الكريم، يقول سبحانه: (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) (1).

2. التصديق القلبي

ذهب جهم بن صفوان (المتوفّى: 127 ه) إلى كفاية التصديق القلبي وإن كان منكراً لساناً، واستدلّ على ذلك بإيمان عمّار الذي أنكر رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بلسانه ولمّا جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم باكياً قال له: «فإن عادوا فعُد»، وهذا يدلّ على أنّ الإنكار باللسان لا يضر إذا كان القلب مطمئناً بالإيمان، قال تعالى: (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (2).

يلاحظ عليه: بأنّ الكلام في معنى الإيمان في غير حالة الاضطرار والتقيّة، وما أُشير إليه من إيمان عمّار مع الإنكار في اللّسان فهو داخل في حالة الاضطرار وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه».

أضف إلى ذلك: أنّه سبحانه يكفّر قوم فرعون ويقول: (وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) (3). فقد أذعنوا بصحّة رسالة موسى قلباً، ولكن جحدوها لساناً، فوصفوا بالكفر.

3. التصديق لساناً وقلباً مع الاجتناب عن الكبائر

ذهبت الخوارج إلى أنّ الاجتناب عن الكبائر من مقوّمات الإيمان، فلو آمن وصدّق بلسانه وقلبه ولكن كذّب أو اغتاب سيخرج من خيمة الإيمان ويدخل حظيرة الكفر.(4)

ص:169


1- . البقرة: 8.
2- . النحل: 106. لاحظ: الفصل: 190/3.
3- . النمل: 14.
4- . لاحظ: الاباضية في موكب التاريخ: 89-92.

وقد استدلّ هؤلاء بآيات أجبنا عنها في كتابنا «بحوث في الملل والنحل»، وأوضح دليل على أنّ العمل بالفرائض والاجتناب عن المحرّمات ليس من مقوّمات الإيمان، قوله سبحانه: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (1) ترى أنّه سبحانه عطف العمل بالصالحات على الإيمان في هذه الآية وفي آيات كثيرة، وهذا يدلّ على أنّ العمل بالفرائض واجتناب الكبائر ليسا من مقومات الإيمان وإن كان لهما مدخلية تامّة في نجاة الإنسان يوم القيامة.

4. المنزلة بين المنزلتين

ذهبت المعتزلة إلى أنّ المؤمن باللسان والقلب إذا ترك فريضة أو ارتكب حراماً يخرج من خيمة الإيمان ولا يدخل في حظيرة الكفر بل يكون في منزلة بين المنزلتين، أي بين الإيمان والكفر، فلا هو مؤمن ولا كافر. وقد اشتهرت المعتزلة بهذا الرأي،(2) وهو مردود بقوله سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .(3)

والآية بصدد الحصر، وقد بسطنا الكلام في نقد هذه النظرية في كتابنا «بحوث في الملل والنحل».

5. نظرية جمهور العلماء

الإيمان عبارة عن التصديق باللسان والإذعان بالجنان، وهذا هو الذي عليه جمهور المسلمين فلو أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقبل إيمان من صدّق باللسان فلأجل أنّه كان طريقاً إلى تصديقه بالجنان.

ص:170


1- . العصر: 3.
2- . شرح الأُصول الخمسة: 697.
3- . التغابن: 2.

وها نحن نذكر شيئاً من عبارات القوم سنّة وشيعة، حتى يُعلم أنّ المتكلّمين من الفريقين على هذه النظرية.

قال عضد الدين الإيجي: الإيمان: التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، فتفصيلاً فيما علم تفصيلاً، وإجمالاً فيما عُلم إجمالاً.(1)

وقال التفتازاني: الإيمان: اسم للتصديق عند الأكثرين، أي تصديق النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيما علم مجيئه به بالضرورة.(2)

وقال الشريف المرتضى (المتوفّى 436 ه): إنّ الإيمان عبارة عن التصديق القلبي ولا اعتبار بما يجري على اللسان، فمن كان عارفاً باللّه تعالى وبكلّ ما أوجب معرفته، مقرّاً بذلك ومصدّقاً فهو مؤمن.(3)

وقال ابن ميثم: إنّ الإيمان عبارة عن التصديق اللبّي باللّه تعالى، وبما جاء به رسوله من قول أو فعل، والقول اللساني سبب ظهوره، وسائر الطاعات ثمرات مؤكّدة له.(4)

ثمّ إنّ هنا سؤالين لابدّ من الإجابة عنهما:

1. اتّهام نظرية المشهور بالإرجاء.

2. تعامل النبي مع المنافقين.

أمّا السؤال الأوّل، فربّما يقال: أي فرق بين نظرية الجمهور حيث اكتفوا بالتصديقين من دون إدخال العمل بالفرائض في صميم الإيمان، وما عليه المرجئة الذين اشتهروا بقولهم: «لا تضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة»؟

ص:171


1- . شرح المواقف: 323/8، قسم المتن.
2- . شرح المقاصد: 176/5.
3- . الذخيرة في علم الكلام: 536-537.
4- . قواعد المرام: 170.

أقول: بين النظريتين بعد المشرقين، وذلك لأنّ القول بأنّ الإيمان هو التصديقان، لا يُدخل القائل في عداد المرجئة إذا كان مهتمّاً بالعمل، لأنّ جمهور العلماء يرون النجاة والسعادة فيه، وأنّه لولاه لكان خاسراً غير رابح، أمّا المرجئة فهم الذين يهتمّون بالعقيدة ولا يهتمّون بالعمل ولا يعدّونه عنصراً مؤثّراً في الحياة الأُخروية ويعيشون على أساس العفو والرجاء، فهم يهتمّون بالرغبة ولا يهتمّون بالرهبة، واللّه سبحانه يقول: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (1) فكلام الجمهور على طرف النقيض ممّا هم عليه، خصوصاً على ما نقله شارح المقاصد من المرجئة بأنّهم ينفون العقاب على الكبائر إذا كان المرتكب مؤمناً على مذهبهم.(2)

وقد شعر أئمة أهل البيت عليهم السلام بخطورة الموقف، وعلموا بأنّ إشاعة هذه الفكرة عند المسلمين عامّة، والشيعة خاصّة، سترجعهم إلى الجاهلية، فقاموا بتحذير المجتمع الإسلامي من خطر المرجئة فقالوا: «بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة».(3)

كيف يمكن القول بأنّ التصديقين سبب النجاة يوم القيامة، واللّه سبحانه يقول: (فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ) .(4)

ص:172


1- . العصر: 2-3.
2- . لاحظ شرح المقاصد للتفتازاني: 229/2 و 238.
3- . الكافي: 47/6، الحديث 5.
4- . البلد: 11-17.

وأمّا السؤال الثاني فالإجابة عنه كالتالي:

لا شكّ أنّ المنافقين كانوا كفّاراً، ومَن قرأ سورة البراءة يقف على ذلك، يقول سبحانه: (وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَ هُمْ كارِهُونَ ) (1)، ولكنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم - لمصلحة ملزمة - كان يتعامل معهم معاملة المسلم، لأنّ كثيراً منهم كانوا ذا قرابة وصلة نسبية أو سببية مع المؤمنين، فطرد هؤلاء يومذاك يسبب فوضى في المجتمع الإسلامي ويشتّت كلمتهم ويفرّقهم، فلم يكن بد يوم ذاك من التعامل معهم معاملة المسلم، ولذلك جاء الوحي بنفي الإيمان عنهم، قال سبحانه: (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ) (2)

ص:173


1- . التوبة: 54.
2- . المنافقون: 1.

الفصل الثاني: ما يجب التصديق به

اشارة

إذا كان الإيمان بمعنى التصديق، فهو من الأُمور الإضافية القائمة بين المصدِّق والمصدَّق به، فالمصدِّق هو المؤمن، وأمّا المصدَّق به الذي يُناط به الإيمان وجوداً وعدماً، فهو كالتالي:

1. التوحيد في الذات

ويراد به توحيده سبحانه وتنزيهه عن المثل وعن التركيب، فاللّه سبحانه واحد لا مثيل ولا نظير له، موجود بسيط لا جزء ولا تركيب في ذاته، وسورة الإخلاص تتكفّل ببيان ذينك التوحيدين:

أمّا الأوّل فيبيّنه قوله تعالى: (وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) .

وأمّا الثاني - أي بسيط لا جزء له - فيكفي فيه قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ) .

2. التوحيد في الخالقية

ويراد به أنّه لا خالق في صحيفة الوجود على وجه الاستقلال إلّااللّه سبحانه، وقد تضافر التنصيص عليه في الذكر الحكيم، قال سبحانه: (قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ) (1).

قلنا: إنّ الخالقية على وجه الاستقلال منحصرة باللّه سبحانه، خرجت الخالقية على وجه التبعية وبإقدار من اللّه سبحانه كما هو الحال في خلق الإنسان

ص:174


1- . الرعد: 16.

ما بدا له من الصنائع، ويكفي في ذلك أنّه سبحانه ينسب خلق الطير إلى نبيّه المسيح عليه السلام ويقول: (وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) .(1)

3. التوحيد في الربوبية

بما أنّ الربّ بمعنى الصاحب، فيقال: ربّ الدار، وربّ البستان، أو ربّ الفرس، فيكون المراد به مَن يدبّر ويدير حاجات المربوب، فصاحب الدار يحمي الدار من الخراب، كما أنّ ربّ البستان يدبّر أمره بالسقي والحراسة ونحو ذلك، فعلى هذا فاللّه سبحانه هو خالق السماوات والأرض وما فيهما وهو المدبّر بعد الخلقة لا غيره. فإيجادها مظهر للخالقية، وتدبيرها عبر الزمان هو مظهر ربوبيته، ولذلك نرى أنّه سبحانه بعد ما يذكر خلق السماوات والأرض، يصف نفسه بالتدبير، قال: (اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) .(2) إلى غير ذلك من الآيات التي تنصّ على حصر تدبير الكون باللّه.

ثمّ إنّ مشركي عصر الرسالة كانوا موحّدين في الخالقية دون الربوبية فزعموا أنّ تدبير العالم والإنسان موكول إلى الآلهة المكذوبة من الملائكة والجن والأصنام والأوثان، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: (وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (3)، وقوله تعالى: (وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ) (4) فكانوا يرون العزّ في الحياة والنصرة في الحرب بيد الآلهة، وبذلك

ص:175


1- . المائدة: 110.
2- . الرعد: 2.
3- . مريم: 81.
4- . يس: 74.

يُعلم أنّ ما ذهب إليه محمد بن عبد الوهاب من أنّ مشركي عصر الرسالة كانوا موحّدين في الربوبية والمدبّرية، أمر لا يصدقه الكتاب الكريم ولا التاريخ الذي يصف عادات الجاهلية.

قال ابن هشام: حدّثني بعض أهل العلم أنّ عمرو بن لحيّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أُموره، فلمّا قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق - و هم ولد عِملاق. ويقال: عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح - رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا؛ فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنماً، فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدوه ؟ فأعطوه صنماً يقال له: هبل، فقدم به مكّة، فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه.(1)

والذي يدلّ بوضوح على كونهم مشركين في الربوبية بمعنى التدبير أنّ مشركي قريش حملوا «العزى» معهم في خروجهم لغزوة أُحد، وكان شعارهم في تضعيف معنويات المسلمين قولهم:

نحن لنا العُزّى ولا عُزّى لكم

ولمّا سمع النبي صلى الله عليه و آله و سلم شعارهم هذا أمر المسلمين أن يردّوا عليهم بقولهم:

اللّه مولانا ولا مولى لكم

ثم كيف يمكن لباحث أن ينكر وجود الشرك في الربوبية بين الأُمم السابقة وهذا هو نبي اللّه إبراهيم الخليل عليه السلام كان يحتجّ على عبدة الأجرام السماوية ويركّز على لفظ الرب يقول سبحانه: (فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا

ص:176


1- . السيرة النبوية: 77/1.

رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ * فَلَمّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) (1)، كلّ ذلك يكشف أنّ عبدة الأصنام في عصر إبراهيم عليه السلام كانوا مشركين في الربوبية ويرون أنّ تدبير العالم أو تدبير حياة الإنسان بيد الأجرام السماوية أو الأجسام الأرضية.

بل يظهر من قوله سبحانه: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (2) أنّ دائرة الشرك في الربوبية أوسع، بل تشتمل ما إذا دفع الإنسان زمام التشريع والتقنين إلى يد الأحبار والرهبان، فهذا أيضاً شرك في الربوبية فاللّه سبحانه له الحقّ في التشريع وحده دون غيره.

روى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك، قال:

فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً) (3) حتى فرغ منها، فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرّمون ما أحلّ اللّه فتحرّمونه، ويحلّون ما أحلّ اللّه فتستحلّونه ؟ قال: فقلت:

بلى، قال: فتلك عبادتهم.(4)

إنّ القرآن الكريم يركّز على التوحيد في الربوبية أكثر ممّا يركّز على التوحيد في الخالقية، فكأنّ الأمر الثاني كان مسلّماً بين مشركي عصر الرسالة، دون الأوّل؛ ولذلك ترى أنّه سبحانه يقيم عليه البرهان العقلي الذي يعرفه العقل الحصيف ويقول: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ

ص:177


1- . الأنعام: 76-77.
2- . التوبة: 30.
3- . التوبة: 31.
4- . مجمع البيان: 46/5.

عَمّا يَصِفُونَ ) (1)، ويقول في آية أُخرى: (وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ ) (2) فإنّ تقرير البرهان في هاتين الآيتين مبني على وحدة التدبير وتعدّده.

وإن شئت قلت: وحدة المدبّر وتعدّده. فلو لم يكن الشرك في التدبير متفشّياً في القوم لما ركّز القرآن الكريم على ذلك. وأمّا تقرير البرهان في كلتا الآيتين على وجه التفصيل فموكول إلى محلّه.

إنّ اللّه سبحانه يردّ على المشركين بأنّ عليهم ابتغاء الرزق من اللّه سبحانه ويقول: (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (3)، فلو لم يكن القوم معتقدين بأنّ الرزق بيد آلهتهم لما صحّ للوحي الإلهي أن يردّ عليهم بأنّ الرزق بيد اللّه.

كما أنّه سبحانه يردّ على المشركين بأنّ كاشف الضر أو مرسل الرحمة هو اللّه سبحانه ويقول: (قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) .(4)

إلى غير ذلك من الآيات التي تردّ على المشركين بأنّ الهداية والضلالة ومغفرة الذنوب والرزق وكشف الضرّ كلّها بيد اللّه فهي أفضل دليل على تسرّب الشرك في هذه المواضيع بين الوثنيّين؛ ويؤيّد ذلك ما رواه الطبري في تفسير قوله تعالى: (وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ...) عن قتادة أنّه قال: «بعث رسول

ص:178


1- . الأنبياء: 22.
2- . المؤمنون: 91.
3- . العنكبوت: 17.
4- . الزمر: 38.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خالد بن الوليد إلى شعب بسقام، ليكسر العزى ، فقال سادنها، وهو قيمها: يا خالد أنا أحذركها إنّ لها شدّة لا يقوم لها شيء، فمشى إليها خالد بالفأس فهشم أنفها».(1) إلى غير ذلك من الدلائل التي تدلّ بوضوح على أنّ مشركي عصر الرسالة كانوا مشركين في الربوبية.

وممّا يجب التنبيه عليه: خطأ الوهابية في التعبير عن التوحيد في الخالقية، بالتوحيد في الربوبية، وبذلك خلطوا بين التوحيدين. وفسّروا «الرب» بغير معناه اللغوي.

4. التوحيد في العبادة
اشارة

العبادة عبارة عن الخضوع بالجوارح أمام من بيده مصير العابد في الحياة على جميع الأصعدة، اعتقاداً صحيحاً أو باطلاً، فقد بعث الأنبياء كلّهم لأجل نشر هذا الأصل وأنّه لا معبود إلّاإيّاه، قال سبحانه: (وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّهُ ) (2).

وجه الحصر أنّه سبحانه هو المؤثّر الواحد في الكون خلقة وتدبيراً، فكان هو اللائق بالعبادة، وأمّا المنحرفون عن أصحاب رسالات السماء فبما أنّهم وزعوا أمر التدبير على آلهتهم المكذوبة، لا يرون حصر العبادة باللّه سبحانه، بل كانوا يعبدون غيره لكي يتقرّبوا بعبادتهم إلى اللّه سبحانه.

إجابة عن سؤال

بقي هنا سؤال وهو أنّه لم يرد في سيرة النبيّ أخذ الاعتراف بهذه المراتب الأربع من التوحيد، وكان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقبل إيمان من يعترف بكلمتين: لا إله إلّا

ص:179


1- . تفسير الطبري: 9/24.
2- . النحل: 36.

اللّه، محمّد رسول اللّه، حتّى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر عليّاً بقتال الخيبريّين إلى أن يعترفوا بهاتين الكلمتين؛ فقد روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنّه قال: ما أحببت الأمارة إلّايومئذٍ، قال: فتساورتُ لها رجاء أن أُدعى إليها، قال: فَدَعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّ بن أبي طالب فأعطاه إيّاها، وقال: «إمش ولا تلتفت حتى يفتح اللّه عليك» فسار (عليٌّ ) شيئاً ثم وقف ولم يلتفت وصرخ: يا رسول اللّه على ماذا أُقاتل الناس ؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك فقد مُنِعوا منك دماؤهم وأموالُهم إلّابحقّها وحسابهم على اللّه»(1)؟!

الجواب: لا شكّ أنّ السؤال جدير بالدراسة، فإنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم يعترف بإيمان مَن ينطق بالشهادتين، لكن الحقّ أنّ لفظ الإله - كما حقّق في محلّه - ليس بمعنى المعبود، بل هو ولفظ الجلالة سيّان في المعنى لكن الثاني علم والآخر اسم جنس، فإذا أطلق الإله كان يتبادر منه معنى إجمالي تفصيله كونه خالق السماوات والأرض ومدبّرهما وخالق الإنسان ومدبّره، فإذا قيل «لا إله إلّااللّه» تكون نتيجة نفي الأُلوهية عن غيره سبحانه وإثباتها للّه هي كونه سبحانه متوحّداً في الخلق والربوبية وكون العبادة منحصرة به.

روى المفسّرون(2) أنّ أشراف قريش وهم خمسة وعشرون، منهم: الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم، وأبو جهل، وأُبيّ وأُمية ابنا خلف، وعتيبة وشيبة ابنا ربيعة، والنضر بن الحارث، أتوا أبا طالب وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فإنّه سفّه أحلامنا، وشتم آلهتنا، فدعا أبو طالب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يابن أخي، هؤلاء قومك يسألونك، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «ماذا يسألونني ؟» قالوا: دعنا وآلهتنا ندعك وإلهك، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «أتعطوني كلمة واحدة

ص:180


1- . صحيح مسلم: 17/7، باب فضائل عليّ عليه السلام.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 378/8.

تملكون بها العرب والعجم ؟» فقال أبو جهل: للّه أبوك، نعطيك ذلك عشر أمثالها، فقال: «قولوا: لا إله إلّااللّه»، فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً. فنزل قوله تعالى: (أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ ) (1). فإنّ نفورهم من كلمة لا إله إلّااللّه يدلّ على علمهم بأنّ مَن ينطق بها يتجرّد عن كلّ ما يعتقد به من أنّ العزّة والانتصار والأمطار بيد الآلهة، وأنّه لا يُعبد إلّااللّه سبحانه، فلذلك كان الاعتراف بالكلمتين اعترافاً إجمالياً على ما ذكرنا من مراتب التوحيد.

5. رسالة النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم

كان شعار الإسلام وشعار مَن يدخل تحت خيمته هو الاعتراف بتوحيده سبحانه ورسالة نبيّه محمد صلى الله عليه و آله و سلم، وقد مرّ في رواية صحيح البخاري أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر عليّاً بالقتال إلى أن يعترفوا بأمرين ثانيهما رسالة النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم.

ويشهد على ذلك - مضافاً إلى ما مرّ - قوله سبحانه حيث يصف المؤمنين بقوله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2)كيف لا يكون التصديق به جزءاً من الإيمان مع أنّ رسالات السماء قبل ظهور النبي صلى الله عليه و آله و سلم بشرّت بظهوره ونبوّته وخصاله على نحو كان أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) .(3)

ص:181


1- . سورة ص: 5.
2- . الأعراف: 157.
3- . البقرة: 146.
6. إنّ القرآن وحيٌ مُنزل

إنّ نواة النزاع بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومشركي قريش كانت تتمثّل في كون القرآن وحياً منزلاً من اللّه على رسوله، فقد كانوا منكرين لذلك أشدّ الإنكار وينسبونه إلى السحر تارة، والكهانة أُخرى، أو أخذه من أهل الكتاب ثالثة.

وبهذا يتّضح أنّ الإقرار والإيمان بأنّ القرآن وحي من اللّه هو من صميم الإيمان، ويكفي في ذلك قوله سبحانه: (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (1).

كيف لا يكون من صميم الإيمان والقرآن هو المعجزة الكبرى للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم والبرهان الخالد على رسالته عبر الزمان، إلى قيام القيامة، يقول سبحانه: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) .(2)

وبما أنّ الموضوع من الواضحات لا نطيل الكلام فيه.

7. الإيمان بالمعاد

الإيمان بالمعاد وأنّه سبحانه يحيي الناس بعد مماتهم يوم القيامة ويحاسبهم ويجزيهم حسب أعمالهم من صميم الإيمان، ولذلك كثيراً ما يجمع القرآن الكريم الإيمان بهما معاً، ويقول: (مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ) (3).

هذه هي العناصر التي تحقّق الإيمان وتخرج الإنسان من دائرة الكفر، إلى

ص:182


1- . البقرة: 285.
2- . الإسراء: 88.
3- . البقرة: 62.

فسحة الإيمان، وكلّ من حاز هذه الأُمور يحرم دمه وماله وعرضه وتحلّ ذبيحته وتحرم غيبته إلى غير ذلك من الحقوق التي تكفل ببيانها الكتاب العزيز والسنّة الشريفة.

ونحن نريد بالإيمان في هذا المقال هذا المعنى أي مَن يحرم دمه وماله، وتحلّ ذبيحته، وتحرم غيبته والافتراء عليه. وأمّا كونه محكوماً بالنجاة يوم القيامة فهو أمر آخر لأنّه مشروط بشروط خاصّة أهمها الإتيان بالفرائض والاجتناب عن المحرّمات، والاعتقاد بخلفاء اللّه سبحانه في أرضه، إلى غير ذلك ممّا هو مذكور في كتب العقائد.

***

حكم إنكار الضروريات

لا شكّ أنّ قسماً من الأحكام الشرعية يُعدّ من الضروريات كوجوب الصلاة والزكاة وحجّ بيت اللّه الحرام، إلى غير ذلك من الأحكام التي يعرفها كلّ مسلم على وجه الإجمال، فقد ذكر الفقهاء أنّ إنكار الحكم الضروري يُسبّب خروج الإنسان عن خيمة الإيمان والإسلام، لأنّ إنكار حكم الضروري يلازم إنكار رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فهو بنفسه وإن لم يكن سبباً للخروج والارتداد، لكنّه بما أنّه يلازم إنكار رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم يكون سبباً للكفر.

إنّما الكلام في ظرف الملازمة فهل الميزان هو وجود الملازمة بين الإنكارين في نظر المنكر، أو وجود الملازمة في نظر المسلمين ؟

المحقّقون على الأوّل فلو كان المنكر يعيش بين المسلمين فترة طويلة ووقف على وضوح هذه الأحكام ومع ذلك أنكر واحداً منها عناداً ولجاجاً، فيحكم بكفره وخروجه، لأنّ مثل هذا الإنكار يلازم إنكار رسالة الرسول ونبوّته.

وأمّا إذا لم تكن الملازمة إلّاعند المسلمين لا عند المنكر، كما إذا كان جديد

ص:183

الإسلام أو نزيلاً في البوادي، فإنكار مثل هذا لا يسبب الكفر إذ ليس عنده تلك الملازمة.

قال المحقّق الأردبيلي: الظاهر أنّ المراد بالضروري الذي يكفّر منكره، هوالذي ثبت عنده يقيناً كونه من الدين.(1)

وقال الفاضل الاصفهاني في حدّه للمرتد: وكلّ مَن أنكر ضروريّاً من ضروريّات الدين مع علمه بأنّه من ضروريّاته.(2)

وقال الفاضل النراقي: وإنكار الضروري إنّما يوجبه [الكفر] لو وصل عند المنكر حدّ الضرورة.(3)

وقال صاحب الجواهر: فالحاصل أنّه متى كان الحكم المنكَر في حدّ ذاته ضرورياً من ضروريات الدين ثبت الكفر بإنكاره ممّن اطّلع على ضروريته عند أهل الدين.(4)

وقال السيد اليزدي: والمراد بالكافر مَن كان منكراً للأُلوهية... أو ضرورياً من ضروريات الدين مع الالتفات إلى كونه ضرورياً.(5)

***

ص:184


1- . مجمع الفائدة والبرهان: 199/3.
2- . كشف اللثام: 402/1.
3- . مستند الشيعة: 207/1.
4- . جواهر الكلام: 49/6.
5- . العروة الوثقى: 143/1-144.

الفصل الثالث: شروط التكفير وموانعه

اشارة

قد وقفت في الفصل الثاني على العناصر المقوّمة للإيمان وأنّها لا تتجاوز عن سبعة، فبقي الكلام في الأُمور التي تسبّب الارتداد والخروج عن خيمة الإسلام، فيقع الكلام تارة في التكفير المطلق، وأُخرى في تكفير الفرد المعيّن، وبين التكفيرين بون شاسع، كما سيظهر.

التكفير المطلق

وهو عبارة عن تكفير مَن ينكر أحد هذه الأُصول السبعة من دون أن يشير إلى تكفير فرد معيّن، كما يقول الفقهاء في كتبهم الفقهية: منكر التوحيد مرتد كافر، أو منكر الحكم الضروري كذلك، فهذا النوع من التكفير أمر سهل بالنسبة إلى التكفير المعين حيث لا يشير إلى ارتداد فرد خاص وإنّما يطرح حكماً كليّاً ناظراً لإنكار أحدٍ من الأشخاص.

تكفير الفرد المعيّن

ويراد به الإشارة إلى خروج فرد معيّن كزيد عن خيمة الإسلام وأنّه غير محقون الدم والمال إلى غير ذلك من الأحكام، فهذا النوع من التكفير من أصعب الأُمور وأشقّها، إذ لا يصار إليه إلّابعد اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع، فإنّ للتكفير شروطاً وموانعاً، فلو فقد أحد الشروط أو وجد أحد الموانع كان التكفير أمراً حراماً، وربّما يسبب كفر المكفّر كما سيوافيك. ولذلك يحرم التسرّع في التكفير من دون دراسة وجود الشروط وعدم الموانع، وإليك بيان الشروط والموانع.

ص:185

الشرط الأوّل: إقامة الحجّة على المنكر

إنّه سبحانه عادل لا يحتجّ على الإنسان إلّابعد بيان تكليفه، يقول سبحانه: (وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (1) فإنّ بعث الرسول كناية عن قيام الحجّة على الإنسان سواء أكان ببعث الرسول أم بالنقل عنه، ولذلك اتّفق العلماء على أنّه «ليس لأحد أن يكفّر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجّة وتتبيّن له المحجّة، ومَن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشكّ ، بل لا يزول إلّابعد إقامة الحجّة وإزالة الشبهة».(2) ولذلك قلنا: إنّ منكر الضروري إذا كان جديد الإسلام أو من أهل البادية البعيدة لا يحكم عليه بالكفر؛ لأنّ المفروض أنّه لم تتمّ عليه الحجّة، لحداثة دخوله في الإسلام أو بُعد محلّه عن العلم والعلماء. روى النسائي أنّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: ما شاء اللّه وشئت.

قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «أجعلتني نداً للّه، فقل: ما شاء اللّه ثم شئت».(3)

الشرط الثاني: كونه قاصداً للمعنى المخرج

إذا كان تعبير الرجل ذا احتمالات ووجوه، فهي بين صحيح وباطل فلا يحكم عليه بالكفر بعبارة ذات وجوه. وسيوافيك أنّ القول بوحدة الوجود، ذو وجوه واحتمالات فلا يحكم على القائل الناطق به بالكفر إلّاإذا أراد منه عينية الوجود الإمكاني مع وجود الواجب.

وبذلك يعلم أنّ كثيراً من العبارات المنقولة عن الصوفية التي لا تنسجم مع أُصول الإسلام المذكورة سابقاً، هي من شطحاتهم التي ينطقون بها في الأحوال غير العادية في مجالس الذكر التي يعقدونها في محافلهم؛ وأمّا إذا

ص:186


1- . الإسراء: 15.
2- . مجموع الفتاوى لابن تيمية: 466/12.
3- . السنن الصغرى للنسائي: 307/7.

تجرّدوا عن هذه الحالة ورجعوا إلى حالتهم العادية فلا ينطقون بشيء من هذه العبارات.

ومَن نطق بمثل ذلك لا يحلّ تكفيره، إذ هو ليس قاصداً للمعنى الكفري في حالة يؤخذ فيها أقاريره.

إلى هنا تمّ ذكر ما هو الشرط للحكم بالخروج عن الإيمان وبقي هنا بيان بعض الموانع:

موانع التكفير
اشارة

إنّ للتكفير شروطاً وموانع نذكر منها ما يلي:

الأول: كونه مختاراً في البيان والعمل

إذا كان الإنسان مكرهاً على الكفر، كما هو الحال في قضية عمّار (رضي اللّه عنه)، فلا يحلّ تكفيره، قال سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (1). وقد روى المفسّرون أنّ الآية نزلت في جماعة أُكرهوا، وهم عمّار وياسر أبوه وأُمّه سميّة، وصهيب وبلال وخبّاب عذّبوا، وقتل أبو عمّار وأُمّه، فأعطاهم عمّار بلسانه ممّا أرادوا منه، ثم أُخبر بذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال قوم: كفر عمّار، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «كلّا إنّ عمّاراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» وجاء عمّار إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يبكي فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «ما وراءك». قال: شرٌّ يا رسول اللّه، ما تُركت حتى نِلتُ منك، وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت».(2)

ص:187


1- . النحل: 106.
2- . لاحظ: مجمع البيان: 233/6. وغيره من التفاسير.
الثاني: الإنكار عن شبهة خارجة عن الاختيار

ربّما يتّفق لبعض الناس إنكار حكم ضروري لشبهة طرأت على ذهنه بسبب مخالطته للكفّار ومجالسته للمنكرين، فنحن نعيش الآن في عصر تطوّر الاتّصالات، وفضائيات الأعداء تبثّ كلّ يوم وليلة عشرات الشُّبَه من على شاشات التلفزيون، ولم تزل وسائل الإعلام في الخارج والداخل تتولّى بذر الشُّبَه في الأُصول والمعارف، فالشاب غير العارف بالمبادئ والبراهين ربّما يتأثّر بعض التأثّر ببعض هذه المقالات والخطابات فربّما ينطق بشيء ممّا يلقى إليه دون عناد وعداء، فإذا أُحضر إلى المحاكم فعلى الحاكم أن يزيل شبهته ويحيله إلى أُستاذ يعرف الداء والدواء حتى يزيل ما طرأ على ذهنه من جانب الأعداء.

نعم لو استمر على الإنكار بعد أن تقام عليه الحجّة فيحكم عليه بالكفر آنذاك.

الثالث: عدم احتمال التأويل

ربّما يكون تعبير الإنسان عن موضوع ديني على وجه يقبل التأويل والحمل على الوجه الصحيح؛ مثلاً: إنّ القائل بوحدة الوجود والموجود (الذي يعبّر عمّا تبنّاه بقوله: الحمد للّه الذي خلق الأشياء وهو عينها)، ربّما يقصد من عبارته هذه شدّة تعلّق الممكنات بالواجب لذاته، تعلّق المعنى الحرفي بالاسمي على نحو لو انقطعت الصلة بين الواجب والممكن لعمّ العدم صفحة الوجود الإمكاني، فكأنّه صار الوجود والموجود شيئاً واحداً لانغماس نور الممكنات في نور الواجب. وهذا النوع من الاحتمال في حق القائل يصدُّنا عن التسرّع في تكفيره.

ونظير ذلك لو قال فقيه بعدم جواز دفع الزكاة إلى المؤلّفة قلوبهم وإن ورد النصّ به، قال سبحانه: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها

ص:188

وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ...) (1) وعمل به النبي صلى الله عليه و آله و سلم؛ وذلك لأنّ الآية وعَمَلَ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان في زمان ضعف الإسلام ووجود المسلمين والحاجة إلى تأليف قلوب هذه الطائفة، وأمّا الآن فقد قويّت شوكة الإسلام وظهرت قوّته فلا ملاك لتأليف القلوب.

وعلى ضوء ذلك فكلّ ما كانت المسألة قابلة للتأويل يمكن قبول قول المؤوّل، ثمّ هدايته إلى الحقّ المقبول.

نعم المسائل التي صارت من الوضوح كالشمس في رائعة النهار فالتأويل فيها باطل مرفوض يضرب به عرض الجدار، كما هو الحال في المسائل التالية:

1. قتل مالك بن نويرة وتبريره بالتأويل

اتّفق المؤرّخون على أنّ خالد بن الوليد قتل مالك بن نويرة ثم نزى على امرأته، فلمّا انتشر الخبر في المدينة وأنّ الرجل ارتكب جريمة شنيعة يستحقّ عليها القتل، أصرّ عمر على أبي بكر على إجراء الحدّ، ووصفه بقوله: عدو اللّه عدى على امرئ مسلم فقتله ثم نزى على امرأته، ولما ورد خالد المدينة كلّمه عمر بقوله: قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على امرأته، واللّه لأرجمنّك بأحجارك؛ ومع ذلك فقد اعتذر أبو بكر عن إجراء الحدّ، وقال: يا عمر تأوّل فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد فإنّي لا أشيم(2) سيفاً سلّه اللّه على الكافرين.(3)

ولو صحّ تبرير هذه الجريمة بهذا النوع من التأويل لما استقرّ حجر على حجر، ولعمّت الفوضى المجتمع كلّه. فإنّ التأويل إنّما يقبل في مسائل ساد عليها

ص:189


1- . التوبة: 60.
2- . أي لا أُغمد.
3- . تاريخ الطبري: 279/3، حوادث السنة 11 ه.

الخفاء، وأمّا قتل الأنفس وهتك الأعراض وسلب الأموال، فهو في منأى عن التأويل.

2. قتل الهرمزان وإمساك الخليفة عن إجراء القصاص

لمّا قُتل عمر ولم يظفر عبيد اللّه بن عمر بقاتل أبيه، قتل الهرمزان وبنت أبي لؤلؤة الصغيرة، ولمّا أكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عن القصاص، صعد المنبر وقال: قد كان من قضاء اللّه أنّ عبيد اللّه بن عمر أصاب الهرمزان وكان الهرمزان من المسلمين ولا وارث له إلّاالمسلمون عامّة وأنا إمامكم وقد عفوت أفتعفون ؟ قالوا: نعم. فقال عليّ عليه السلام: «أقِدِ الفاسق فإنّه أتى عظيماً، قتل مسلماً بلا ذنب». وقال لعبيد اللّه: «يا فاسق لئن ظفرت بك يوماً لأقتلنّك بالهرمزان».(1)

وبهذا التأويل الباطل يبرّر عمل معاوية حيث رفض خلافة عليّ عليه السلام الذي بايعه المهاجرون والأنصار ولم يتخلّف عن بيعته إلّانفر يسير، ومع ذلك نرى أنّه جهّز جيشاً جراراً في وجه علي عليه السلام وقتل في معركة صفين حوالي 70 ألف مسلم من الطرفين، وفيهم الصحابة العدول وقد شهد بعضهم بدراً وأُحداً. وهذا النوع من التأويل مرفوض في منطق الشريعة والعدل، ولو فتح هذا الباب بوجه المجرمين لاستحلّوا حرمات اللّه وهتكوها بذريعة التأويل.

ص:190


1- . تاريخ الطبري: 240/4، حوادث سنة 23 ه.

الفصل الرابع: جذور التكفير في العصور الأُولى

اشارة

قد ظهرت بادرة التكفير في عصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بصورة بسيطة، وقد واجهها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بشدّة، ونذكر فيما يلي بعض النماذج:

بادرة التكفير في عصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم
1. أُسامة بن زيد يقتل مسلماً

روى المفسّرون في أسباب نزول قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) (1)؛ قيل: نزلت في أُسامة بن زيد وأصحابه، بعثهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في سرية فلقوا رجلاً قد انحاز بغنم له إلى جبل، وكان قد أسلم، فقال لهم: السلام عليكم، لا إله إلّااللّه محمّد رسول اللّه، فبدر إليه أُسامة فقتله واستاقوا غنمه؛ عن السدّي.(2)

وروى السيوطي في تفسير الآية، قال: بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سرية عليها أُسامة بن زيد إلى بني ضمرة، فلقوا رجلاً منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنم له وجمل أحمر، فلمّا رآهم آوى إلى كهف جبل واتّبعه أُسامة، فلمّا بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه ثم أقبل إليهم، فقال: السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، فشدّ عليه أُسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته، وكان النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذا بعث أُسامة أحب أن يُثنى عليه خير ويسأل عنه أصحابه، فلمّا رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدّثون النبي صلى الله عليه و آله و سلم ويقولون: يا رسول اللّه

ص:191


1- . النساء: 94.
2- . مجمع البيان: 190/3.

لو رأيت أُسامة ولقيه رجل فقال الرجل: لا إله إلّااللّه محمّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فشدّ عليه فقتله، وهو معرض عنهم، فلمّا أكثروا عليه رفع رأسه إلى أُسامة فقال: كيف أنت ولا إله إلّااللّه، فقال: يا رسول اللّه إنّما قالها متعوذاً تعوّذ بها. فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه...، فأنزل اللّه خبر هذا.(1)

وقد روى البغوي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم أذاناً فلا تقتلوا أحداً.(2)

2. الوليد بن عقبة وتكفير بني المصطلق

روى المفسّرون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقونه فرحاً به، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية، فظن أنّهم همّوا بقتله، فرجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: إنّهم مَنَعُوا صدقاتهم، وكان الأمر بخلافه، فغضب النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهمّ أن يغزوهم، فنزل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (3).(4)

3. اعتراض ذي الخويصرة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم

روى عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: حضرت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين كلّمه التميمي يوم حنين حيث قال: يا محمد قد رأيتُ ما صنعت في هذا اليوم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أجل، فكيف رأيت ؟ فقال: لم أرك عدلت، قال: فغضب النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال: «ويحك! إذا لم يكن العدل عندي، فعند من يكون!»، فقال

ص:192


1- . تفسير الدر المنثور: 635/2.
2- . تفسير البغوي: 467/1.
3- . الحجرات: 6.
4- . مجمع البيان: 241/9-242.

عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه، ألا أقتله ؟ فقال: «لا، دعه فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة».(1)

إلى هنا تمّ ما يشير إلى ظهور بادرة التكفير أو الاعتراض الملازم له في أوائل عصر الرسالة، وقد ظهرت في زمن الخلافة حوادث أُخرى نذكر منها ما يلي:

ظاهرة التكفير في زمن الخلفاء
1. تكفير مالك بن نويرة بتأويل باطل

وقد مرّ عليك تفصيل قصّته.

2. تكفير عائشة عثمان

أخرج البلاذري في «الأنساب» لمّا غضب عثمان على عمّار على النحو المذكور في التاريخ، وبلغ عائشة ما صنع بعمّار فغضبت وأخرجت شعراً من شعر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وثوباً من ثيابه ونعلاً من نعاله، ثم قالت: ما أسرع ما تركتم سنّة نبيّكم وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد! فغضب عثمان غضباً شديداً حتى ما درى ما يقول.(2)

وفي كتاب لأمير المؤمنين عليه السلام كتبه - لمّا قارب البصرة - إلى طلحة والزبير وعائشة وممّا جاء فيه خطاباً لها قوله: «وأنتِ يا عائشة خرجت من بيتك عاصية للّه ولرسوله تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً... إلى أن قال: ثم إنّك طلبت على زعمك دم عثمان، وما أنت وذاك، عثمان رجل من بني أُمية وأنت من تيم، ثم بالأمس تقولين في ملأ من أصحاب رسول اللّه: اقتلوا نعثلاً قتله اللّه فقد كفر، ثم تطلبين اليوم بدمه، فاتقي اللّه وارجعي إلى بيتك واسبلي عليك سترك».(3)

ص:193


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 496/2.
2- . أنساب الأشراف للبلاذري: 161/6.
3- . تذكرة الخواص: 69.

نعم لم تكن الإدانة بالتكفير من خصائصها فقط، بل مَن اجتمع من الصحابة وغيرهم على قتله كانوا يكفّرونه، ومن أراد التفصيل فعليه الرجوع إلى المصادر التاريخية.

3. الخوارج والتكفير

إنّ الخوارج الذين ظهروا في عصر علي عليه السلام هم الذين كانوا يكفّرون عثمان بسبب أعماله الخارجة عن الكتاب والسنّة، ولمّا بويع عليّ بالخلافة التحقوا به عليه السلام كسائر المسلمين غير أنّهم خرجوا عليه في مسألة التحكيم.

وأمّا ما هي قضية التحكيم فتوضيحها:

إنّه لمّا ظهرت آثار انتصار جيش علي عليه السلام وكان مالك الأشتر قائد الجيش بمقربة من خيام معاوية، فلجأ معاوية بإشارة من عمرو بن العاص إلى مكيدة أثّرت في جيش عليّ . وأمّا ما هي المكيدة ؟ فهي أنّهم ربطوا المصاحف على أطراف رماحهم وكان بينهم خمسمائة مصحف ونادوا: اللّه اللّه في نسائكم، وبناتكم، هذا كتاب اللّه بيننا وبينكم، إنّك أنت الحكيم الحقّ المبين. وعندئذٍ اختلف أصحاب علي في الرأي فطائفة قالت بالقتال، وطائفة مالت إلى المحاكمة إلى الكتاب وأنّه لا يحلّ لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب. وقد أثّرت تلك المكيدة في همم كثير من جيش عليّ ولم يقفوا على أنّها مؤامرة ابن النابغة وقد تعلّم منه ابن أبي سفيان، وإنّها كلمة حقّ يراد بها باطل وأنّ الغاية القصوى منها إيجاد الشقاق والنفاق في جيش عليّ عليه السلام، فلمّا رأى عليه السلام تلك المكيدة وتأثيرها في السذّج من جيشه قام خطيباً وقال: «أيّها الناس أنا أحقّ مَن أجاب إلى كتاب اللّه ولكن هؤلاء ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن». وقد كان لخطاب علي أثر في قسم كبير من جيشه، ولكنّه فوجئ بمجيء زهاء عشرين ألفاً مقنّعين بالحديد شاكي سيوفهم وقد اسودّت جبهاهم من السجود ويتقدّمهم

ص:194

عصابة من القرّاء - الذين صاروا خوارج من بعد - فنادوه باسمه لا بأمرة المؤمنين وقالوا: يا علي أجب القوم إلى كتاب اللّه، إذا دعيت وإلّا قتلناك كما قتلنا ابن عفّان، فواللّه لنفعلنّها إن لم تجبهم.

وبعد محادثات كثيرة بين علي وبينهم لم يجد الإمام بدّاً من قبول التحكيم، وصارت النتيجة أن بعث عليّ قرّاء أهل العراق وبعث معاوية قرّاء أهل الشام حتى ينظروا ويحكموا ويحيوا ما أحياه القرآن وأن يميتوا ما أماته القرآن.

ولمّا تمّت الاتّفاقية بين الطرفين جاء الذين حملوا عليّاً على الرضا بالتحكيم، زاعمين أنّ التحكيم على خلاف القرآن الكريم، حيث يقول سبحانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ ) * فحاولوا أن يفرضوا على عليّ نقض الميثاق ورفض كتاب الصلح، وقالوا: إنّ التحكيم كان منّا زلة حين رضينا بالحكمين فرجعنا وتُبْنا، فارجع أنت يا عليّ كما رجعنا وتب إلى اللّه كما تبنا وإلّا برأنا منك، فقال علي: «ويحكم، أبعد الرضا (والميثاق) والعهد نرجع ؟ أو ليس اللّه تعالى قال: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1)، وقال: (وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ) (2)» فأبى عليّ أن يرجع، وأبت الخوارج إلّاتضليل التحكيم والطعن فيه، وبرئت من عليّ عليه السلام، وبرئ منهم.(3)

وصار هذا مبدأ تكفيرهم عليّاً وأصحابه ودامت بينهم مشاجرات وانتهت إلى حرب دامية قضى عليّ عليه السلام على أكثرهم ولم يبق منهم إلّاعدد يسير تفرّقوا في البلاد.

ص:195


1- . المائدة: 1.
2- . النحل: 91.
3- . وقعة صفين: 589-590.

الفصل الخامس: إدانة تكفير أهل القبلة على لسان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والعلماء

لمّا كان التكفير من أخطر الأُمور على الإسلام في طريق تشويه صورته ظلماً وعدواناً، ومورثاً للفوضى ومعدماً للأمن الذي هو من أهمّ الحاجات الفطرية، وهادفاً إلى تمزيق الأُمّة الإسلامية وإضعاف المسلمين، ونابعاً عن طغيان العاطفة الكاذبة على العقل والاستدلال، صار نبي العظمة ومظهر الرحمة صلى الله عليه و آله و سلم يدين تكفير المسلم، وها نحن نذكر شيئاً ممّا رواه المحدّثون في المجامع الحديثية:

1. «بني الإسلام على خصال: شهادة أن لا إله إلّااللّه، وأنّ محمّداً رسول اللّه، والإقرار بما جاء من عند اللّه، والجهاد ماض منذ بعث رسله إلى آخر عصابة تكون من المسلمين... فلا تكفّروهم بذنب ولا تشهدوا عليهم بشرك».(1)

2. روى البخاري بسنده عن أبي ذر أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلّاارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك».(2)

قال ابن دقيق العيد في شرح هذا الحديث:

وهذا وعيد عظيم لمن كفّر أحداً من المسلمين وليس هو كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها كثير من المتكلّمين ومن المنسوبين إلى السنّة وأهل الحديث لمّا اختلفوا في العقائد فغلطوا على مخالفيهم وحكموا بكفرهم.(3)

ص:196


1- . كنز العمال: 29/1، برقم 30، طبعة مؤسسة الرسالة.
2- . صحيح البخاري برقم 6045.
3- . لاحظ: إحكام الأحكام: 76/4.

3. «إذا كفّر الرجل أخاه، فقد باء بها أحدهما».(1)

4. «أيّما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلّا رجعت عليه».(2)

5. «ليس على العبد نذر فيما لا يملك، ولاعن المؤمن كقاتله، ومَن قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله».(3)

وقد ورد في هذا الصدد الكثير من الروايات عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم اكتفينا بهذا المقدار لأجل الاختصار، ومَن أراد المزيد فليرجع إلى المصادر الحديثية المذكورة وغيرها.

وقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم الكثير من علماء الإسلام في كتبهم العقائدية وغيرها، فحذّروا عن تكفير أهل القبلة بأشدّ التحذير نذكر منهم ما يلي:

1. قال ابن حزم عندما تكلّم فيمن يُكفّر ولا يكفّر: وذهبت طائفة إلى أنّه لا يُكفّر ولا يفسَّق مسلم بقول قال في اعتقاد، أو فتيا، وإنّ كلّ من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنّه الحق فإنّه مأجور على كلّ حال إن أصاب فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد.

ثم قال: وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي، وهو قول كلّ من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة (رضي اللّه عنهم) لا نعلم منه خلافاً في ذلك أصلاً.(4)

ص:197


1- . صحيح مسلم: 56/1، كتاب الإيمان، باب من قال لأخيه المسلم: يا كافر، طبعة دار الفكر.
2- . صحيح مسلم: 57/1، كتاب الإيمان، باب من قال لأخيه المسلم: يا كافر؛ مسند أحمد: 18/2 و 60 و 112.
3- . سنن الترمذي: 132/4، كتاب الإيمان، طبع دار الفكر، بيروت.
4- . الفصل لابن حزم: 247/3.

2. كان أحمد بن زاهر السرخسي الأشعريّ يقول: لمّا حضرت الشيخ أبا الحسن الأشعريّ الوفاة بداري في بغداد أمرني بجمع أصحابه فجمعتهم له، فقال: اشهدوا على أنّني لا أُكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب، لأنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمّهم.(1)

3. قال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي: إنّ الإقدام على تكفير المؤمنين عسر جدّاً، وكلّ من كان في قلبه إيمان، يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبدع مع قولهم لا إله إلّااللّه، محمّد رسول اللّه، فإنّ التكفير أمر هائل عظيم الخطر (إلى آخر كلامه وقد أطال في تعظيم التكفير وتعظيم خطره).(2)

4. قال القاضي الإيجي: جمهور المتكلّمين والفقهاء على أنّه لا يكفّر أحد من أهل القبلة. واستدلّ على مختاره بقوله: إنّ المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من كون اللّه تعالى عالماً بعلم أو موجداً لفعل العبد، أو غير متحيّز ولا في جهة ونحوها لم يبحث النبي عن اعتقاد من حكم بإسلامه فيها ولا الصحابة ولا التابعون، فعلم أنّ الخطأ فيها ليس قادحاً في حقيقة الإسلام.(3)

5. قال التفتازاني: إنّ مخالف الحقّ من أهل القبلة ليس بكافر ما لم يخالف ما هو من ضروريات الدين كحدوث العالم وحشر الأجساد، واستدلّ بقوله: إنّ النبي ومن بعده لم يكونوا يفتشون عن العقائد وينبهون على ما هو الحق.(4)

6. قال ابن عابدين: نعم يقع في كلام أهل المذهب تكفير كثير، لكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون، بل من غيرهم ولا عبرة بغير الفقهاء، والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا.(5)

ص:198


1- . اليواقيت والجواهر للشعراني: 58.
2- . اليواقيت والجواهر: 58.
3- . المواقف للإيجي: 392-393.
4- . شرح المقاصد: 227/5-228.
5- . رد المحتار لابن عابدين: 237/4.

الفصل السادس: الذرائع الباطلة لتكفير المسلمين

اشارة

إنّ ظاهرة التكفير لا تستهدف طائفة دون أُخرى، بل هي تشمل كافّة المسلمين بعامّة طوائفهم من شيعة وسنّة، من أشعري ومعتزلي، إلى غير ذلك من الفرق الإسلامية.

نعم لهم ذرائع خاصّة لتكفير الشيعة فلذلك يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: تبيين الأسباب التي يكفّرون بها عامّة المسلمين.

الثاني: الذرائع الوهمية لتكفير الشيعة خاصّة.

ونخصّ هذا الفصل بالأوّل.

الذرائع التي يكفّر بها عامّة المسلمين

إنّ الأُمور التي يكفّرون بها المسلمين قاطبة فهي عبارة عن المسائل التالية:

***

الأُولى: الاعتقاد بقدرة غيبيّة في الأنبياء والأولياء وأنّهم يسمعون كلام المتوسّل.

وبما أنّ الاعتقاد بسماع كلام المتوسّل يلازم وجود قدرة غيبيّة في الأولياء، رتبوا على ذلك حرمة الأُمور التالية وأنّها من مظاهر الشرك:

أ. طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه و آله و سلم كقولنا: اشفع لنا عند اللّه.

ص:199

ب. التوسّل بهم في قضاء الحاجات.

ج. الاستغاثة بهم في الشدائد والمصائب.

فالجميع من مظاهر الشرك لأنّها مبنيّة على أنّ الموتى يسمعون كلام الأحياء وأنّ الصلة موجودة بينهما، وهي تلازم الاعتقاد بوجود قدرة غيبية في النبي وغيره.

الثانية: الصلاة عند قبور الأنبياء والأولياء.

الثالثة: حفظ آثار الأنبياء والسلف الصالح من قبورهم وبيوتهم وما يمت إليهم بصلة.

الرابعة: النذر للنبي والإمام.

الخامسة: التبرّك بآثار الأنبياء.

هذه هي أُمّهات المسائل التي جُعلت ذريعة لتكفير المسلمين، وهناك مسائل جزئية أُخرى يُعلم حالها ممّا سندرسه حول هذه المسائل.

وبما أنّا أشبعنا الكلام حول هذه الذرائع في غير واحد من مؤلّفاتنا، وكانت الإحالة لا تخلو من مشقّة على القرّاء، ندرس هذه المسائل على وجه الإجمال، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المصادر التي سنشير إليها في ختام البحث.

ص:200

المسألة الأُولى: الاعتقاد بقدرة غيبية في الأولياء
اشارة

وطلب الشفاعة والاستغاثة والتوسّل بهم

اتّفق المسلمون على أنّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم وغيره من الأنبياء يشفعون في حقّ المذنبين يوم القيامة، وهذا لا كلام فيه بيننا وبين الوهابيّين، إلّاأنّهم يحرّمون الاستشفاع بأولياء اللّه في الدنيا، وربّما يعدّونه شركاً، ولهم في ذلك دلائل واهية أهمها أنّ طلب الشفاعة من نبي أو إمام يرقد تحت التراب أو يعيش في بلدة أُخرى ومكان آخر، أو كان غائباً عن الأبصار، هو شرك باللّه تعالى؛ لأنّ الطالب يعتقد بأنّ ذلك النبي أو الإمام يستطيع أن يُهيّئ الماء، خارج القوانين والأسباب الطبيعية، أي بالقدرة الغيبية، وهذا اعتقاد بإلوهيّة ذلك المدعو: النبي أو الإمام.

وقد صرّح بهذا الرأي الكاتب الهندي «أبو الأعلى المودودي» حيث قال:

إنّ التصوّر الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرّع إليه - هو لا جرم - تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة.(1)

الجواب أوّلاً: أنّ الشيخ المودودي لم يفرّق بين القدرة الغيبية المستقلة القائمة بنفس القادر، وبين القدرة التي يكتسبها الإنسان في ظل الطاعة ويستخدمها بإذن من اللّه تعالى.

فالقدرة الغيبية بالمعنى الأوّل تختصّ باللّه سبحانه، وأمّا بالمعنى الثاني فالاعتقاد بها ليس بالشرك بل هو نفس التوحيد، لأنّه سبحانه قادر على كلّ شيء، فأي مانع أن يمنح قدرة غيبية لنبيّه إعجازاً أو كرامة أو لغاية أُخرى، بأن يغيث المستغيث في أرض جرداء.

ص:201


1- . المصطلحات الأربعة: 18.

وما ذكرنا هو الأساس في كثير من المسائل التي يتخبّط فيها الوهابيّون فهم لا يفرّقون بين المستقل والمأذون.

وما ذكره في ثنايا كلامه من أنّه لو طلب الإنسان العطشان في الصحراء ماءً من خادمه، فإنّ طلبه هذا ليس طلباً لخرق القوانين الطبيعية فهو جائز وليس شركاً، فلابدّ فيه من القول بالتفصيل المذكور.

فلو اعتقد الرجل العطشان بأنّ الخادم يقوم بسقيه بقدرة مستقلة قائمة بنفسه فهو شرك قطعاً، وأمّا لو اعتقد بأنّه يقوم بهذا العمل بإذن من اللّه سبحانه وإقدار منه فهو نفس التوحيد.

وبما ذكرنا ظهر أنّ الفارق بين التوحيد والشرك هو كون الفاعل مستقلاً في عمله أو كونه مأذوناً من غير فرق بين الأُمور العادية والغيبية.

وثانياً: أنّ الذكر الحكيم ينسب أُموراً غيبية نابعة عن قدرة فوق الطبيعية لأُناس، نظير:

1. القدرة الغيبية للنبي يوسف عليه السلام

قال يوسف لإخوته (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) (1)، (فَلَمّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) .(2)

إنّ ظاهر الآيتين يدلّ على أنّ النبيّ يعقوب عليه السلام استعاد بصره الكامل بالقدرة الغيبية التي استخدمها يوسف عليه السلام من أجل ذلك، ومن الواضح أنّ استعادة يعقوب بصره لم تكن من اللّه بصورة مستقلّة مجردة عن الاستعاثة به سبحانه، بل تحققّت بإذنه سبحانه، بواسطة النبيّ يوسف عليه السلام.

إنّ إرادة النبيّ يوسف عليه السلام كانت هي السبب في عودة بصر أبيه كاملاً، ولولا

ص:202


1- . يوسف: 91.
2- . يوسف: 95.

ذلك لما أمر إخوانه بأن يذهبوا بقميصه ويلقوه على وجه أبيه، بل كان يكفي أن يدعو اللّه تعالى لأن يعيد بصره.

إنّ هذا التصرّف الغيبيّ صدر من أحد أولياء اللّه - يوسف - من غير المجرى الطبيعي لكن بإذنه سبحانه، ولا يقدر على هذا التصرّف إلّامن منحه اللّه السلطة الغيبية. ولم يقم بهذا العمل إعجازاً وإثباتاً لنبوته بل تفضّلاً منه لأبيه وتكريماً له.

2. القدرة الغيبية للنبي سليمان عليه السلام

إنّ نبي اللّه سليمان عليه السلام كان يتمتّع بقدرات غيبية متعدّدة، وقد عبّر عن تلك المواهب والمنح الإلهية العظيمة بقوله: (وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ ) (1) وقد جاء تفصيل الحديث عن تلك المواهب والقدرات الإلهية الممنوحة له في السور التالية:

سورة النمل من الآية 16 إلى الآية 44.

سورة سبأ، الآية 12.

سورة الأنبياء، الآية 81.

سورة ص من الآية 36 إلى 40.

ونحن لا نشير إلى جميع القدرات الغيبية التي منحت له كرامة لا إعجازاً، بل نشير إلى مورد واحد، ليُعلم أنّ الاعتماد على تلك القدرة لا ينافي التوحيد.

يحدّثنا القرآن الكريم أنّ النبي سليمان عليه السلام طلب من الحاضرين عنده أن يحضر أحدهم عرش بلقيس، بقدرة غيبية وخارقة للطبيعة، فسألهم بقوله: (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) (2)؟ وعندئذٍ أُجيب بجوابين: أحدهما

ص:203


1- . النمل: 16.
2- . النمل: 38.

ما اقترحه عفريت من الجن، والآخر ما أشار إليه مَن عنده علم من الكتاب.

أمّا الأوّل فأجاب: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) (1).

فأخبر أنّه يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين قبل أن ينفضّ مجلس سليمان، ومعنى ذلك أنّه يأتي به ضمن ساعة أو ساعتين.

وأمّا الثاني فأجاب بقوله: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) ، ولم يرتدّ طرف سليمان عليه السلام إلّاوقد رأى حضور العرش لديه كما يقول: (فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) ،(2) فلو صحّ ما ذكره المودودي من أنّ طلب الأعمال الخارقة التي لا يقوم بها إلّااللّه شرك، لزم - نعوذ باللّه - القول بشرك سليمان عليه السلام، واللّه سبحانه يقول: (وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) (3)

ص:204


1- . النمل: 39.
2- . النمل: 38-40.
3- . البقرة: 102.
التوسّل بالأنبياء والأولياء بالصور الثلاث

ومن فروع هذه المسألة، مسألة التوسّل بالأنبياء والأولياء، فالوهابيّون يرون أنّ التوسّل على أقسام ستة: ثلاثة منها جائزة بلا إشكال، والثلاثة الأخيرة إمّا محرمة أو موجبة للشرك.

أمّا الثلاثة الأُولى: فالتوسّل بأسماء اللّه أوّلاً، أو التوسّل بالأعمال الصالحة التي قام بها المتوسّل طول عمره، أو التوسّل بدعاء المؤمن الحي.

وأمّا الثلاثة الممنوعة:

1. التوسّل بدعاء الميّت من غير فرق بين النبي وغيره.

2. التوسّل بمنزلة النبي وجاهه عند اللّه.

3. التوسّل بذات النبي ونفسه المقدّسة.

وبما أنّهم يمنعون الأخير أشد المنع فنحن ندرسه حتى يتبيّن به حكم الأوّلين.

روى الحاكم في مستدركه عن عثمان بن حنيف أنّه قال: إنّ رجلاً ضريراً أتى إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: ادعُ اللّه أن يُعافيني. فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إن شئت دعوت، وإن شئت صَبَرت وهو خير؟».

قال: فادعه، فأمره صلى الله عليه و آله و سلم أن يتوضّأ ويحسن وضوءه ويصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتقضى ، اللّهمّ شفّعه فيّ ».

قال ابن حنيف: فواللّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضرٌّ.(1)

ص:205


1- . سنن ابن ماجة: 441/1، برقم 1385؛ مسند أحمد: 138/4، عن مسند عثمان بن حنيف؛ المستدرك للحاكم: 313/1؛ الجامع الصغير للسيوطي: 59؛ تلخيص المستدرك للذهبي المطبوع في هامش المستدرك؛ التاج الجامع: 286/1.
كلام حول سند الحديث

لا شكّ أنّ الحديث صحيح بلا كلام لم يخدش أحد في سنده، كيف وقد رواه الحاكم في مستدركه وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، كما أقرّ الذهبي بصحّته في تلخيصه للمستدرك المطبوع في هامشه، مضافاً إلى أنّ كثيراً من الأعلام قد رووا هذا الحديث، منهم:

1. ابن ماجة في سننه برقم 1385 وقال: هذا حديث صحيح.

2. أحمد في مسنده: 138/4.

3. السيوطي في الجامع الصغير: 59، إلى غير ذلك من الاعلام.

أمّا دلالته على جواز التوسّل بنفس النبي صلى الله عليه و آله و سلم العزيزة المكرمة فمن جهات نشير إليها:

قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك»، فقد توسّل بذات النبي صلى الله عليه و آله و سلم مرّتين؛ لأنّ قوله: «بنبيّك» متعلّق بفعلين أي:

1. «أسألك بنبيّك».

2. «أتوجّه إليك بنبيّك».

3. «محمد».

4. «نبيّ الرحمة».

5. «يا محمد».

6. «أتوجّه بك إلى ربّي».

وأنت إذا قدّمت هذا الحديث إلى مَن يحسن اللغة العربية ويتمتّع بصفاء فكر بعيد عن مجادلات الوهابيّين وشبهاتهم ثم سألته: بماذا أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم ذلك الأعمى عندما علّمه ذلك الدعاء؟ لأجابك أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم علّمه دعاءً تضمّن

ص:206

التوسّل إلى اللّه بنبيّه: نبيّ الرحمة الذي اسمه محمد، فجعل ذاته المقدّسة ذريعة ووسيلة لقبول دعائه.

ثمّ إنّ الوهابيّين لما وقفوا أمام هذا الحديث الذي يهدم ما اختلقوا من الأوهام، التجأوا إلى تأويل الحديث وهو تقدير «الدعاء» في المواضع الستة.

وعلى هذا يكون معنى الحديث حسب زعمهم:

1. أسألك بدعاء نبيّك.

2. أتوجّه إليك بدعاء نبيّك.

3. بدعاء محمد.

4. بدعاء نبيّ الرحمة.

5. بدعاء محمد.

6. أتوجّه بدعائك إلى ربّي.

وإنّا نسأل مشايخ الوهابيّين: هل يجوز لنا أن نتصرّف بالحديث بهذا الشكل من التصرّف الذي يردّه كلّ عارف باللغة العربية أو كلّ عارف بالأحاديث الإسلامية.

وهؤلاء مكان أن يدرسوا القرآن والحديث ثم يعكسوا عقائدهم عليهما، عكسوا الأمر فحاولوا تطبيق القرآن والحديث على عقائدهم.

توسّل عمر بن الخطاب بعمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

وأحب أن أذكر هنا نكتة يظهر منها بطلان ما يذكره كثير منهم، وهي: ما رواه البخاري في صحيحه، قال: إنّ عمر بن الخطاب كان إذا قُحِطُوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: اللّهمّ [إنّا] كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا، قال: فيُسقون.(1)

ص:207


1- . صحيح البخاري: 32/2، باب صلاة الاستسقاء.

لا شكّ أنّ هذا الحديث من أوضح الدلائل على جواز التوسّل بالذات حيث قدّم الخليفة عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وسيلة وذريعة بينه وبين اللّه، حتى روى غير واحد كيفية توسّل عمر بالعباس وأنّه قال: «اللّهمّ إنّا نستسقيك بعمّ نبيّك ونستشفع إليك بشيبته» فسقوا.

وفي ذلك يقول: العباس بن عتبة بن أبي لهب:

بعمّي سقى اللّه الحجاز وأهله عشية يستسقي بشيبته عمر(1)

ثمّ إنّ الوهابيين مكان أن يأخذوا الحديث مقياساً لتصحيح التوسّل بدأوا النقاش وقالوا: لو كان التوسل بالذات أمراً جائزاً لما عدل عمر بن الخطاب عن التوسّل بالنبي إلى التوسّل بالعباس، ولما ترك الأفضل بالرجوع إلى الفاضل.

وقد غاب عنهم أمران:

1. أنّ الخليفة ما اختار العباس بن عبد المطلب مع وجود الأفضل منه بين صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم كعثمان وغيره، إلّالأنّ العباس كان من أرحام النبي صلى الله عليه و آله و سلم فكان التوسّل به في الواقع توسّلاً بنفس النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ولذلك يقول: «وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا» ولولا ذلك لما اختار العباس في مقام التوسّل مع وجود الأفضل منه.

2. إنّما اختار العباس دون النبي فلأجل أنّ العباس كان يشاركهم في المصير وفي السعة والضيق دون النبي صلى الله عليه و آله و سلم الذي انتقل إلى جوار ربّه، فوسط بينه وبين اللّه إنساناً طاهراً مشاركاً لهم في الضرّاء والسرّاء، ولذلك عدل عن التوسّل بالنبي مباشرة إلى عمّه المتواجد بينهم.

ويؤيّد ذلك أنّ المسلمين أُمروا في صلاة الاستسقاء بصحبة الشيوخ والأطفال إلى الصحراء، معربين بعملهم هذا أنّ المستسقين وإن لم يكونوا أهلاً

ص:208


1- . وفاء الوفا: 375/3، نقلاً عن مصباح الظلام.

للسقي ولكن هؤلاء الأبرياء أهل لأن تشملهم رحمة اللّه تعالى.

قال الإمام الشافعي: وأُحبّ أن يخرج الصبيان ويتنظّفوا للاستسقاء وكبار النساء ومن لا هيبة منهن ولا أُحب خروج ذات الهيبة.(1)

شبهة كون النبيّ ميّتاً

يقولون: انّ أنبياء اللّه والنبي الخاتم ميّتون والميّت لا يقدر على شيء، فلو صحّ ما ذُكر من الاعتقاد بالقدرة الغيبية أو جواز التوسّل فإنّما يصحّ إذا كان المتوسّل به حيّاً لا ميتاً؟!

وهذا من أغرب الشبه وأتفهها، وذلك للأسباب التالية:

1. إذ لو كان ميّتاً فما معنى قول المسلمين جميعاً في صلاتهم: «السلام عليك أيّها النبي ورحمة اللّه وبركاته».

2. ولو كان ميّتاً فما معنى قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ للّه ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أُمّتي السلام».(2)

3. لو كان ميّتاً فما معنى كون النبي من شهداء الأعمال يوم القيامة، فهل يمكن أن يكون الميّت شاهداً على الأعمال وقد قال سبحانه: (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (3).

4. أفيمكن أن يكون الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون ولكن نبي الشهداء غير حيّ لا يدرك شيئاً ولا يعرف ؟!

ثمّ إنّ المراد من كون النبيّ حيّاً هو الحياة البرزخية، فالنبيّ انتقل بموته

ص:209


1- . كتاب الأُمّ : 23/1.
2- . المصنّف: 399/2، باب ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم.
3- . النساء: 41.

من حياة إلى حياة أُخرى.

إلى هنا تبيّن حال طلب الشفاعة والاستغاثة والتوسّل بالنبي والأولياء والأُمور التي زعموا أنّها شرك لاستلزامها الاعتقاد بوجود قدرة غيبية فيهم، وإليك الكلام في سائر المسائل الّتي يكفّرون بها عامة المسلمين.

***

المسألة الثانية: الصلاة عند قبور الأنبياء والأولياء
اشارة

إنّ الصلاة عند قبور الأولياء ليس إلّالأجل التبرّك بالمكان الذي دفنت فيه تلك الذوات الطاهرة المقدّسة أو مسّت أجسادهم الطاهرة وبذلك صارت مباركة، وهذا هو أحد الأُمور الواضحة في الشريعة المقدّسة، بشرط أن يتجرّد الإنسان عمّا اتّخذ هؤلاء من الضوابط والقواعد للتوحيد والشرك، وإليك بعض ما ورد:

1. الصلاة في مقام إبراهيم عليه السلام

أمر سبحانه المسلمين بالصلاة في المقام الذي قام به النبي إبراهيم عليه السلام وقال: (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (1) فما هو الوجه في أمر المسلمين بالصلاة في موضع إبراهيم ؟ ما هذا إلّاللتبرّك به، فقد مسّ جسده الطاهر هذا المقام وصار مباركاً عبر القرون إلى يوم القيامة.

ص:210


1- . البقرة: 125.
2. إقامة الصلاة على قبور أصحاب الكهف

إنّ أصحاب الكهف بعد أن انكشف خبرهم اختلف الناس في كيفية احترامهم وتكريمهم وانقسموا إلى صنفين:

1. صنف قالوا: (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) .(1)

وهذا التعبير أي (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) يكشف عن أنّ القائلين به لم يكونوا من الموحّدين، حيث حقّروا أُمورهم بقولهم: (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) : أي ربنا أعلم بأحوالهم من خير وشرّ وصلاح وفساد.

2. صنف آخر دعوا إلى بناء مسجد على الكهف كي يكون مركزاً لعبادة اللّه بجوار قبور الذين رفضوا عبادة غير اللّه وخرجوا من ديارهم، هاربين من الكفر ولاجئين إلى توحيد اللّه وطاعته، وقد حكى عنهم الذكر الحكيم بقوله: (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) فالضمير في قوله سبحانه: (غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ ) يرجع إلى أصحاب الكهف، أي وقفوا على مكانتهم وكشفوا الستر عن حقيقة أمرهم، فقالوا: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) وقد اتّفق أعاظم المفسّرين على أنّ القائلين بذلك هم الموحّدون، قال الطبري: فقال المشركون:

نبني عليهم بنياناً فإنّهم أبناء آبائنا، وقال المسلمون: بل نحن أحقّ بهم هم منّا نبني عليهم مسجداً نصلّي فيه ونعبد اللّه فيه.(2)

وقال الرازي: وقال آخرون: بل الأولى أن يبنى على باب الكهف مسجد، وهذا القول يدلّ على أنّ أُولئك الأقوام كانوا عارفين باللّه معترفين بالعبادة والصلاة.(3)

ص:211


1- . الكهف: 21.
2- . تفسير الطبري: 149/15.
3- . تفسير الرازي: 105/21.

وقال الزمخشري: (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ ) من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم (لَنَتَّخِذَنَّ ) على باب الكهف (مَسْجِداً) يصلّي فيه المسلمون ويتبرّكون بمكانهم.(1)

وقال النيسابوري: (الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ ) المسلمون وملكهم المسلم؛ لأنّهم بنوا عليهم مسجداً يصلّي فيه المسلمون، ويتبرّكون بمكانهم، وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم حفظاً لتربتهم بها، وضنّاً بها.(2)

إلى غير ذلك من الكلمات في تفاسير الأعاظم، والّتي يتراءى منها أنّ بناء المسجد كان على باب الكهف أو عند الكهف، على خلاف ظاهر الآية، فإنّ ظاهرها يدلّ على أنّ المقترح هو بناء المسجد على قبورهم.

كيفية الاستدلال

الاستدلال بالآية ليس مبنيّاً على استصحاب حكم شرع مَن قبلنا، بل مبني على أمر آخر وهو أنّا نرى أنّ القرآن الكريم يذكر اقتراح الطائفتين بلا نقد ولا ردّ، ومن البعيد جدّاً أن يذكر اللّه تعالى كلاماً للمشركين ويمرّ عليه بلا نقد إجمالي ولا تفصيلي، أو يذكر اقتراحاً للموحّدين وكان أمراً محرّماً في شرعنا من دون إيعاز إلى ردّه.

إنّ هذا النوع من النقل تقرير من القرآن على صحّة اقتراح أُولئك المؤمنين، ويدلّ على أنّ سيرة المؤمنين الموحّدين في العالم كلّه كانت جارية على هذا الأمر، وكان يُعتبر عندهم نوعاً من الاحترام لصاحب القبر وتبرّكاً به.

ص:212


1- . تفسير الكشّاف: 334/2.
2- . تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان المطبوع بهامش تفسير الطبري: 119/15.
دليل المخالف

تمسّك الوهابيون على حرمة الصلاة عند قبور الأولياء بالروايات التالية:

روى البخاري: «لعن اللّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجداً».

قالت عائشة: لولا ذلك لابرزوا قبره، غير أنّي أخشى أن يتّخذ مسجداً.(1)

وروى مسلم عنه صلى الله عليه و آله و سلم: «ألا ومن كان قبلكم كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد، إنّي أنهاكم عن ذلك».(2)

وروى أيضاً أنّ أُمّ حبيبة وأُمّ سلمة ذكرتا كنيسة رأينها في الحبشة، فيها تصاوير لرسول اللّه. فقال رسول اللّه: إنّ أُولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجداً وصوّروا فيه تلك الصور، أُولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة.(3)

أقول: إنّ مضمون الحديثين الأوّلين مهما صحّ سندهما لا يخلو من شذوذ، إذ من المعلوم من حياة اليهود أنّهم كانوا يقتلون أنبياءهم عبر القرون، كما يحكي ذلك قوله سبحانه: (سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ) (4)، وقوله تعالى: (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (5) إنّ تأكيد القرآن على عملهم الفظيع يدلّ على أنّ قتل الأنبياء كان عندهم سيرة مستمرة تتحقّق في زمن بعد زمن، فالقوم الذين هذا شأنهم وتكريمهم لأنبيائهم هل يتّخذون قبور أوليائهم وصالحيهم، مساجد يصلّون في جوارهم.

ص:213


1- . صحيح البخاري: 111/2، كتاب الجنائز.
2- . صحيح مسلم: 68/2، كتاب المساجد.
3- . صحيح مسلم: 66/2، كتاب المساجد.
4- . آل عمران: 181.
5- . آل عمران: 183.

أضف إلى ذلك: ما في الرواية الثالثة من أنّ المرأتين ذكرتا كنيسة رأينها في الحبشة فيها تصاوير لرسول اللّه، ومعنى ذلك: أنّ صيت رسالة الرسول في أوائل البعثة وصل إلى الحبشة وصوّروا تصوير رسول اللّه في كنيستهم. والظاهر أيضاً من لفظة رسول اللّه النبي الخاتم لا المسيح.

نعم رواه النسائي والبيهقي والعيني مجرداً عن عبارة (رسول اللّه).

وعلى كلّ تقدير فالاستدلال بما ذكر من الروايات على موضوع اشتهر خلافه بين المسلمين أمر بعيد.

إيضاح مفاد الروايات

هذا وعلى فرض الصحّة يجب التحقيق والتأمّل فيما تهدف إليه تلك النصوص.

أقول: إنّ هنا قرائن تشهد على أنّ اليهود والنصارى كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم قبلة لهم تصرفهم عن التوجّه إلى القبلة الواجبة، بل ربّما يعبدون أنبيائهم بجوار قبورهم بدل أن يعبدوا اللّه الواحد القهّار، أو كانوا يجعلون أنبياءهم شركاء مع اللّه سبحانه في العبادة، والشاهد على هذا المعنى الأُمور التالية:

1. إنّ الهدف من وضع صور الصالحين في حديث أُمّ حبيبة وأمّ سلمة بجوار قبورهم إنّما كان لأجل السجود عليها وعلى القبر بحيث يكون القبر والصورة قبلة لهم، أو كانتا كالصنم المنصوب يعبدان ويسجد لهما.

إنّ هذا الاحتمال - اللائح من هذا الحديث - ينطبق مع ما عليه المسيحيّون من عبادة المسيح ووضع التصاوير والتماثيل المجسّمة له وللسيّدة مريم عليها السلام، ومع هذا المعنى فلا يمكن الاستدلال بهذه الأحاديث على حرمة بناء المسجد على قبور الصالحين أو بجوارها من دون أن يكون في ذلك أيّ شيء يوحي بالعبودية، كما عليه المسيحيّون.

ص:214

2. إنّ أحمد بن حنبل يروي في مسنده - كما يروي مالك في الموطأ - تتمة لهذا الحديث وهي: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال - بعد النهي عن اتّخاذ القبور مساجد -: «اللهمّ لا تجعل قبري وثناً يُعبد».(1)

فالحديث يدلّ على أنّ اليهود والنصارى كانوا يتّخذون القبر والصورة التي عليه إمّا قبلة يتوجّهون إليها، أو صنماً يعبدونه من دون اللّه سبحانه.

3. إنّ التأمّل في حديث عائشة - أعني قولها: لولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنّي أخشى أن يتّخذ مسجداً - يدلّ على ما ذكرنا، وذلك لأنّ المسلمين بعد رحيل رسول اللّه، وضعوا جداراً بين قبره وبين المسجد، وعندئذٍ نسأل أنّ إقامة الجدار حول القبر من أي شيء يمنع، ومن المعلوم أنّه يمنع من أمرين تاليين:

أ. أن يتّخذ قبره وثناً يعبد.

ب. أن يتّخذ قبلة يتوجّه إليها.

وأمّا الصلاة بجوار القبر إلى القبلة (الكعبة) تقرّباً إلى اللّه تعالى فلا يمنع من ذلك، بشهادة أنّ المسلمين منذ أربعة عشر قرناً يصلّون بجوار قبر رسول اللّه، في حين أنّهم يعبدون اللّه ويتوجّهون إلى الكعبة، فوجود الحاجز لم يمنعهم من هذا كلّه.

والذي يؤيّد ذلك أنّ شرّاح الحديث فهموا ما ذكرنا، يقول القسطلاني في كتاب «إرشاد الساري»: إنّما صوّروا أوائلهم الصّور ليستأنسوا بها ويتذكّروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم ويعبدوا اللّه عند قبورهم، ثمّ خلفهم قوم جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أنّ أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها، فحذَّر النبي عن مثل ذلك.

ص:215


1- . مسند أحمد: 248/3.

إلى أن يقول: قال البيضاوي: لمّا كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجّهون في الصلاة نحوها واتّخذوها أوثاناً، مُنع المسلمون في مثل ذلك، فأمّا مَن اتّخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرّك بالقرب منه - لا للتعظيم ولا للتوجّه إليه - فلا يدخل في الوعيد المذكور.(1)

ويقول النووي في شرح صحيح مسلم: قال العلماء إنّما نهى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن اتّخاذ قبره وقبر غيره مسجداً، خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربّما أدّى ذلك إلى الكفر، كما جرى لكثير من الأُمم الخالية، ولمّا احتاجت الصحابة والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين كثر المسلمون وامتدّت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أُمّهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة، مدفن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصاحبيه بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد فيصلّي إليه العوام... ولهذا قالت عائشة في الحديث:

ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنّه خُشي أن يُتّخذ مسجداً.(2)

مع هذه القرائن ومع ما فهمه شرّاح الحديث لا يمكن الاستدلال به على منع الصلاة عند قبور الصالحين.

وفي ختام المطاف نذكر أمرين:

1. إنّ النبي نهى عن بناء المساجد، ولكن لا دليل على أنّ النهي تحريمي، بل يحتمل أن يكون نهياً تنزيهيّاً وهذا بالضبط ما استنبطه البخاري في صحيحه

ص:216


1- . إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: 437/2، باب بناء المساجد على القبور. واختار هذا المعنى ابن حجر - في فتح الباري: 208/3 - حيث قال: إنّ النهي إنّما هو عمّا يؤدي بالقبر إلى ما عليه أهل الكتاب، أمّا غير ذلك فلا إشكال فيه.
2- . شرح صحيح مسلم للنووي: 13/5-14.

حيث ذكر هذه الأحاديث تحت عنوان: باب ما يُكره من اتّخاذ المساجد على القبور.(1)

ويشهد لهذا الحمل ما رواه النسائي من أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعن زائرات القبور، والمتّخذين عليها المساجد والسُرج.(2)

ومن المعلوم أنّ زيارة القبر للمرأة مكروه لا حرام، كيف وقد كانت فاطمة سيدة نساء العالمين تزور قبر عمّها حمزة في كلّ أُسبوع(3)، وقد زارت السيدة عائشة قبر أخيها عندما وردت مكة المكرمة.(4)

ومن حسن الحظ أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام فسّروا الرواية، وهذا هو أبو جعفر الباقر عليه السلام لمّا سأله زرارة بقوله: قلت له: الصلاة بين القبور؟ أجاب بقوله:

«صل في خلالها ولا تتّخذ شيئاً منها قبلة، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن ذلك، وقال: لا تتّخذوا قبري قبلة ولا مسجداً فإنّ اللّه تعالى لعن الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد».(5)

ص:217


1- . لاحظ: صحيح البخاري: 111/2، كتاب المساجد.
2- . سنن النسائي: 77/4.
3- . لاحظ: مستدرك الحاكم: 377/1؛ سنن البيهقي: 78/4.
4- . لاحظ: سنن الترمذي: 371/3، باب ما جاء الرخصة في زيارة القبور، برقم 1055.
5- . علل الشرائع: 359/2.
المسألة الثالثة: حفظ آثار الأنبياء والسلف الصالح من قبورهم وبيوتهم وما يمتّ إليهم بصلة
اشارة

ونحن في الوقت الذي نلقي فيه هذه المحاضرات نسمع أخباراً مؤسفة عن تفجير وهدم قبور الأنبياء كيونس عليه السلام في الموصل وغيره من قبور الأنبياء والأولياء، على يد عصابة شاذّة تربّت على يد مبلّغين تأثّروا بالفكر الوهابي، ونحن ندرس هذه المسألة الهامّة لنزيل الشبه عن فكر المسلمين عسى أن يبلغ ما نقوله إلى أفكار هؤلاء فيتوبوا إلى اللّه من أعمالهم الخاطئة.

فنقول: إنّ رسالة الإسلام رسالة خالدة أبدية وسوف يبقى الإسلام ديناً للبشرية جمعاء، إلى يوم القيامة ولابدّ للأجيال القادمة على طول الزمن أن تعترف بأصالتها وتؤمن بقداستها، ولأجل تحقيق هذا الهدف يجب أن نحافظ دائماً على آثار صاحب الرسالة المحمدية كي نكون قد خطونا خطوة في سبيل استمرارية هذا الدين وبقائه على مدى العصور القادمة، حتى لا يشكّك أحد في وجود نبي الإسلام كما شكّكوا في وجود النبي عيسى المسيح عليه السلام.

إنّ الشاب الغربي لم يعثر على شيء ملموس يؤدّي به إلى الاطمئنان بأصالة شخصية عيسى عليه السلام والركون إلى أنّها واقعة حقيقية لا يمكن التردّد فيها.

ولذلك تلقّى كثير منهم مسألة شخصية المسيح، أُسطورة تاريخية أشبه بقصة مجنون العامري وليلاه. ومن هنا ينبغي علينا نحن المسلمين أن نأخذ العبر والدروس من التاريخ المسيحي، وأن نسعى بكلّ ما أُويتنا من قوّة وجهد في سبيل صيانة الآثار الإسلامية عامّة، وآثار الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم خاصّة مهما كانت صغيرة، وذلك لأنّها تمثّل الشاهد الحيّ على أصالتنا وأحقيّة دعوتنا، وأن نتجنّب

ص:218

عن تدميرها بمعول محاربة الشرك الذي اتّخذه البعض - وللأسف الشديد - ذريعة للقضاء على هذا التاريخ الأثري الملموس والمعلَم الإسلامي المهم، كي لا يصيب أجيالنا القادمة ما أصاب الشباب الغربي من داء الترديد والشكّ في شخصية السيد المسيح عليه السلام. ولتوضيح هذه المسألة بكافّة جوانبها نبحث الأُمور التالية:

الأوّل: مكانة بيوت الأنبياء في القرآن الكريم

لقد أولى القرآن الكريم عناية خاصّة ببيوت الأنبياء والأولياء، وليس هذا الاهتمام إلّالأجل أنّ هذه البيوت تبرّكت بأُناس يسبّحون للّه سبحانه في الغدو والآصال، قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) (1).

لقد تحدّثت الآية المباركة عن تلك البيوت بلحن يشعر بالتعظيم والتكريم وأشارت إلى سمات الرجال الإلهيّين الذين يسكنونها بأنّ دأبهم التسبيح والتمجيد والتهليل والتكبير، والمراد من البيوت في الآية هو بيوت الأنبياء.

روى الحافظ جلال الدين السيوطي قال: أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قرأ هذه الآية: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل، قال: أيّ بيوت هذه يا رسول اللّه ؟ قال: «بيوت الأنبياء» فقام إليه أبو بكر، وقال: يا رسول اللّه، وهذا البيت منها؟ - مشيراً إلى بيت عليّ وفاطمة عليهما السلام - فقال رسول اللّه: «نعم ومن أفاضلها».(2)

وعلى هذا فالمراد من البيوت هو بيوت الأنبياء وبيوت النبيّ الأكرم وبيت

ص:219


1- . النور: 36.
2- . الدر المنثور: 203/6.

عليّ وما ضاهاها، فهذه البيوت لها شأنها الخاص لأنّها تخصّ رجالاً يسبّحون اللّه ليلاً ونهاراً غدواً وآصالاً يعيش فيها رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وقلوبهم مليئة بالخوف من يوم تتقلّب فيه القلوب والأبصار.

وقد ثبت في التاريخ أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم دفن في نفس البيت الذي قبض فيه، كما أنّ الإمامين العسكريين عليهما السلام دفنا في البيت الذي قبضا فيه وكان بيتهما معبداً لهما. وقد روى أحمد أنّ عبد اللّه بن سعد سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: أيّما أفضل الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال: «فقد ترى ما أقرب بيتي من المسجد ولئن أُصلّي في بيتي أحب إليّ من أن أُصلي في المسجد إلّاأن تكون صلاة مكتوبة».(1) وقد عقد مسلم في صحيحه باباً لاستحباب إقامة النافلة في البيت وروى فيه روايات.(2)

فعلى ضوء هذه الآية يجب رفع البيوت التي كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعترته الطاهرة دفنوا فيها، وهم كانوا يتلون فيها ليلاً ونهاراً آيات اللّه ويسبّحونه.

بقي الكلام: فيمَ هو المراد من الرفع ؟

لقد ذكر المفسّرون للرفع معنيين تاليين:

الأوّل: المراد من الرفع هو البناء بشهادة قوله تعالى: (أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها * رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها) .(3)

الثاني: المراد تعظيمها والرفع من مقدارها، قال الزمخشري: ترفعها إمّا بناؤها فأمر اللّه أن تبنى ، وإمّا تعظيمها، والرفع من قدرها.(4)

ص:220


1- . مسند أحمد: 349/4.
2- . صحيح مسلم: 187/2-188، باب استحباب صلاة النافلة في البيت.
3- . النازعات: 27-28.
4- . تفسير الكشّاف: 390/2، بتصرّف يسير، تفسير القرطبي: 226/2.

أقول: لا يخفى أنّ المراد من رفع البيوت ليس إنشاؤها؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ الآية المباركة تتحدّث عن بيوت مبنيّة، وعلى كلّ تقدير فهذه البيوت يجب إعمارها وصيانتها من الاندثار، على التفسير الأوّل، وذلك إكراماً منه سبحانه لأصحابها، أو صيانتها ممّا لا يلائم قداستها على التفسير الثاني، وعلى هذا فهدم هذه البيوت يضاد ترفيعها بناءً وقداسة، وإذا ثبت الحكم في هذه البيوت التي تضمّنت الأجساد المقدّسة يثبت الحكم في سائر المراقد بعدم القول بالفصل بينهما.

***

الثاني: صيانة الآثار ومودّة القربى

دلّت الآيات والروايات على لزوم مودّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته الطاهرين، قال سبحانه: (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) .(1)

تشير الآية إلى معيار دقيق وهو أنّ المؤمن الحقيقي الذي عجن الإيمان بدمه ولحمه وجميع مشاعره، هو الذي يقدّم حُبّه للّه ولرسوله والجهاد في سبيله على جميع العلاقات والروابط التي تحيط به من الأهل والأرحام والأموال والعقارات، والتجارة والمعاملات.

وفي آية أُخرى تعدّ المودّة في القربى كأجر للرسالة قال تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) .(2)

ص:221


1- . التوبة: 24.
2- . الشورى: 23.

ومن المعلوم أنّ حبّ اللّه ونبيّه وعترته يتجلّى بوجهين:

1. أن يعتمد في منهج حياته، السيرَ وفقاً لأوامره سبحانه ونواهيه ولذلك يقول: الحب هو الانقياد والاتّباع للمحبوب، وقد استشهد الإمام الصادق عليه السلام لهذا النوع من الود بالبيتين التاليين:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته إنّ المحبّ لمن أحب مطيع

2. نشر تعاليمهم وخطبهم وأحاديثهم وصيانة آثارهم ومعالمهم والاهتمام بمشاهدهم بحيث تكون رمزاً ومعلّماً إسلامياً بارزاً، ولا يشكّ ذو مسكة أنّ بناء القباب على تلك القبور التي ضمّت جسد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وعترته الطاهرة يُعد مظهراً لإظهار الودّ والحب.

***

الثالث: صيانة الآثار تعظيم للشعائر

دلّ قوله سبحانه: (ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (1)والآية من مصاديق الحذف والإيصال أي: ومن يعظم شعائر دين اللّه. فالآية بصفة كلّية تدلّ على تعظيم ما يمت إلى دين اللّه بصلة.

ثمّ إنّه سبحانه يذكر مصداقاً لتعظيم شعائر دين اللّه ويقول: (وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) (2)، فإذا كانت البُدن التي صارت معلمة للذبح في مكة أو نواحيها، من شعائر اللّه، فالأنبياء والأولياء والذين جاهدوا لأجل رفع كلمة اللّه بنفسهم ونفيسهم، أولى أن يكونوا من علائم دين

ص:222


1- . الحج: 32.
2- . الحج: 36.

اللّه، ومن المعلوم أنّ حفظ آثارهم وقبورهم وما يمتّ إليهم بصلة، تعظيم لشعائر دين اللّه.

***

الرابع: القرآن الكريم وحفظ الآثار

دلّ القرآن الكريم على أنّ الأُمم السالفة كانت تحتفظ بآثار أنبيائها وتحافظ عليها وتصونها وتتبرّك بها، وكانت تحملها معها في الحروب، ليتسنّى لها من خلال التبرّك بها التغلّب والانتصار على عدوهم.

ومن النماذج التي ذكرها القرآن الكريم في هذا المجال صندوق بني إسرائيل الذي كانت فيه مواريث آل موسى وآل هارون، قال تعالى: (وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .(1)

ولا ريب أنّ هذا الصندوق كان عظيم البركة بشهادة أنّ الملائكة هي التي تحمله، وإنّ فيه سكينة من اللّه لبني إسرائيل، فلو كان حفظ الآثار وصيانتها بصورة عامّة وحفظ هذا الصندوق الأثري بصورة خاصّة غير لائق وغير جدير بالاهتمام، فلماذا يتحدّث عنه القرآن الكريم بهذا اللحن من الخطاب الإيجابي الذي يظهر منه تأييد الفكرة واستحسانها؟! ولماذا تتصدّى الملائكة على عظمتها وقداستها لحمله ؟! ولماذا تكون عملية استرجاعه من أيدي العمالقة آية على حقّانية قائد الجيش في وقته ؟!

***

ص:223


1- . البقرة: 248.
دليل المخالف

احتجّ المخالف على تهديم القباب والبيوت التي تحتضن الأجساد الطاهرة بحديث أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي، الذي رواه مسلم في صحيحه، قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن لا تدع تمثالاً إلّاطمسته ولا قبراً مشرفاً إلّاسوّيته.(1)

أقول: لا يمكن الاحتجاج بهذا الحديث لا سنداً ولا دلالة.

أمّا سنداً فيكفي أنّ أبا وائل كان من المنحرفين عن الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام وممّن نصب له العداء والبغضاء.(2)

فكيف يعتمد عليه، وقد قال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يحبك إلّامؤمن ولا يبغضك إلّامنافق».(3) وروى قريباً منه الترمذي في سننه.(4) وأمّا أبو الهياج فليس له حديث في الصحاح والسنن إلّاهذا الحديث فكيف يعتمد على قول رجل ليس له إلّارواية واحدة، أفيمكن الاعتماد عليه في تهديم الآثار الإسلامية التي اهتمّ ببقائها المسلمون كافّة، عبر قرون.

وأمّا دلالة الحديث فهي كسنده، وذلك لأنّ الوارد في الحديث: «ولا قبراً مشرفاً إلّاسوّيته» ففقه الحديث يتوقّف على تفسير ذينك اللفظين:

1. مشرفاً. 2. سوّيته.

أمّا الأوّل: فهو مردّد بين كونه بمعنى العالي، ومطلق الارتفاع. أو المرتفع على شكل سنام البعير، وهذا هو المراد كما سيوافيك.

ص:224


1- . صحيح مسلم: 61/3، كتاب الجنائز.
2- . شرح نهج البلاغة: 99/9.
3- . مجمع الزوائد: 133/9.
4- . سنن الترمذي: 301/2.

وأمّا الثاني فإنّ فعل التسوية إذا كان ذا مفعول واحد يكون وصفاً لنفس الشيء، يقول تعالى: (وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها) (1) وإذا كانت ذا مفعولين فالمفعول الثاني يتعدّى بالباء، نظير قوله سبحانه: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) (2) يراد بها مساواة الشيء مع الشيء الآخر في المقدار؛ والآية من القسم الأوّل فيتعيّن أن تكون التسوية وصفاً لنفس القبر بنفسه لا بالقياس إلى شيء آخر مثل الأرض، فيكون المراد جعل سطحه مستوياً ومسطحاً على خلاف القبور التي تبنى على شكل ظهر السمكة وسنام البعير، فيكون الحديث دليلاً على لزوم تسوية القبر وتسطيحه، وأين هذا من تهديم القبر وجعله مساوياً للأرض.

وممّا يدلّ على ما ذكرنا من المعنى أنّ مسلماً أورد الحديث وحديثاً آخر تحت عنوان (باب الأمر بتسوية القبر)(3)، ولو كان المراد هدم القبر يجب أن يقول: تسوية القبر بالأرض.

ثمّ إنّا نغض النظر عن كلّ ما ذكرنا، فالحديث على فرض الدلالة ناظر إلى القبر لا إلى القباب والأبنية فوق القبر، فبأي دليل تهدم هذه الآثار التي تعد كالمظلّة لمن يريد زيارة القبور وقراءة القرآن.

***

ص:225


1- . الشمس: 7.
2- . الشعراء: 98.
3- . صحيح مسلم: 61/3، كتاب الجنائز.
المسألة الرابعة: النذر للنبي والإمام

النذر عبارة عن إلزام الإنسان نفسه بأداء شيء معيّن إذا تحقّق هدفه وقضيت حاجته، ويقول: للّه عليّ أن أعطي مبلغاً معيّناً للفقراء إذا قضيت حاجتي، وقد مدح اللّه سبحانه عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام بقوله:

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) .(1)

فالنذر سنّة معروفة بين كافّة المسلمين، بل في العالم كلّه، وقد تعارف النذر للّه وإهداء ثوابه لأحد أولياءاللّه وعباده الصالحين، ولم يشكّ فيه أحد حتى جاء ابن تيمية فزعم حرمة ذلك وشنّ الهجوم على المسلمين وقال: مَن نذر شيئاً للنبي صلى الله عليه و آله و سلم أو غيره من الأنبياء والأولياء من أهل القبور، أو ذبح له ذبيحة، كان كالمشركين الذين يذبحون لأوثانهم وينذرون لها، فهو عابدٌ لغير اللّه، فيكون بذلك كافراً.(2)

والرجل نظر إلى ظاهر أعمال الناذرين ولم يقف على نيّاتهم فهم ينذرون للّه سبحانه ويقصدون إهداء ثوابه للنبي وغيره، فكلّ مَن ينذر لأحد من أولياء اللّه إنّما يقصد في قلبه النذر للّه وإهداء الثواب لذلك الولي الصالح ليس إلّا.

ومَن استخبر حال مَن يفعل ذلك من المسلمين، وجدهم لا يقصدون بذبائحهم ونذورهم للأموات - من الأنبياء والأولياء - إلّاالصدقة عنهم وجعل ثوابها إليهم، وقد علموا أنّ إجماع أهل السُّنّة منعقد على أنّ صدقة الأحياء نافعة للأموات، والصلة إليهم، والأحاديث في ذلك صحيحة مشهورة.

ص:226


1- . الإنسان: 7.
2- . فرقان القرآن للعزّامي: 133، نقلاً عن ابن تيمية.

ومنها: ما صحّ عن سعد أنّه سأل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يا نبي اللّه إنّ أُمّي افتلتت(1) وأعلم أنّها لو عاشت لتصدّقت، أفإن تصدَّقتُ عنها أينفعها ذلك ؟

قال صلى الله عليه و آله و سلم: نعم.

فسأل النبيّ : أي الصدقة أنفع يا رسول اللّه ؟

قال: الماء.

فحفر بئراً وقال: هذه لأُمّ سعد.(2)

لقد أخطأ محمّد بن عبد الوهّاب فادّعى أنّ المسلم إذا قال: هذه الصدقة للنبيّ أو للوليّ ، فاللّام فيها هي اللام الموجودة في قولنا: «نذرتُ للّه» ولكن اشتبه عليه الأمر فإنّما يُراد منها الغاية، فالعمل للّه، فلو قال: للنبيّ ، يريد بها الجهة التي يُصرف فيها الصدقة من مصالح النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في حياته ومماته.

وفي هذا الصّدد يقول العزامي - بعد ذكر قصة سعد -:

«اللام في «هذه لأُمّ سعد» هي اللام الداخلة على الجهة الّتي وُجّهت إليها الصدقة، لا على المعبود المتقرّب إليه، وهي كذلك في كلام المسلمين، فهم سعديُّون لا وثنيّون!

وهي كاللام في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ) لا كاللام في قوله سبحانه: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً...) (3) أو في قول القائل: صلّيتُ للّه ونَذَرْتُ للّه، فإذا ذَبح للنبيّ أو الوليّ أو نَذَر الشيء له فهو لا يقصد إلّاأن يتصدّق بذلك عنه، ويجعل ثوابه إليه، فيكون من هدايا الأحياء للأموات

ص:227


1- . أي ماتت.
2- . فرقان القرآن: 133.
3- . آل عمران: 35.

المشروعة المثاب على إهدائها، والمسألة مبسوطة في كتب الفقه وفي كتب الردّ على الرجل ومن شايعه».(1)

وهكذا ظهر لك - أيّها القارئ - جواز النذر للأنبياء والأولياء، من دون أن يكون فيه شائبة شرك، فيُثاب به الناذر إن كان للّه وذبح المنذور باسم اللّه، فقول القائل: «ذبحتُ للنبيّ » لا يريد أنّه ذبحه للنبي صلى الله عليه و آله و سلم بل يريد أنّ الثواب له، كقول القائل: ذَبحتُ للضيف، بمعنى أنّ النفع والفائدة له، فهو السبب في حصول الذبح.

***

المسألة الخامسة: التبرّك بآثار الأنبياء

قد تعلّقت المشيئة الإلهية على إفاضة نعمه ومواهبه من خلال الأسباب، فتارة يكون السبب سبباً طبيعياً كالشمس والقمر والماء والنار، وأُخرى سبباً غير طبيعي كما هو الحال في عمل الأنبياء؛ مثلاً كان المسيح يبرئ الأكمه والأبرص، فالمبرئ في الحقيقة هو اللّه سبحانه ولكن عن مجرى خاص وهو نبيّه. ولذا كان الصحابة يتبرّكون بالنبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم، ومن صور هذا التبرّك، أنّهم كانوا يأتونه بأطفالهم فيحنّكهم بالتمر، أو أن يمسح على رؤوسهم ويبارك لهم، كما أنّ صحابته كانوا يتبرّكون بماء وضوئه.(2)

ص:228


1- . فرقان القرآن: 133.
2- . الإصابة: 1/6-7، الاستيعاب (في حاشية الإصابة): 3/361، وج 539/1-540، رقم الترجمة 2856؛ كنز العمال: 493/10؛ سيرة زيني دحلان: 246/2؛ صحيح مسلم: 1943/3.

هذا في حياته وأمّا بعد وفاته صلى الله عليه و آله و سلم فقد كان الصحابة يتبرّكون بقبره، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

أ. روى الحاكم في المستدرك عن داود بن صالح، قال:

«أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته، ثمّ قال: هل تدري ما تصنع ؟ فقال: نعم.

فأقبل عليه فإذا هو أبو أيّوب الأنصاري، فقال: إنّما جئت رسول اللّه ولم آت الحجر، سمعت رسول اللّه يقول: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن إبكوا على الدين إذا وليه غيرُ أهله»(1).

إنّ هذه الظاهرة التي نقلها الحاكم في «المستدرك» تحكي أنّ سيرة صحابة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كانت قائمة على التبرّك بقبره الشريف بوضع الخد عليه، كما تحكي في الوقت نفسه عن عداء مروان وغيره من رجال البيت الأُموي وخصومتهم للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم حتى بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى.

ب. أقام الصحابي الكبير ومؤذّن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بلال الحبشي في الشام في عهد عمر بن الخطاب، فرأى في منامه النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهو يقول له:

«ما هذه الجفوة يا بلال ؟ أما آن لك أن تزورني يا بلال ؟».

فانتبه حزيناً وجلاً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين عليهما السلام، فجعل يضمّهما ويقبلهما...».(2)

ج. انّ فاطمة الزهراء عليها السلام سيدة نساء العالمين بنت رسول اللّه، حضرت عند قبر أبيها صلى الله عليه و آله و سلم وأخذت قبضة من تراب القبر تشمّه وتبكي، وهي تقول:

ص:229


1- . مستدرك الحاكم: 560/4، برقم 8571.
2- . أُسد الغابة: 28/1.

ماذا على من شمّ تربة أحمد ألّا يشم مدى الزمان غواليا

صبّت عليّ مصائب لو أنّها صُبّت على الأيام صِرن لياليا(1)

ومن الواضح إنّ هذا التصرّف من السيدة الزهراء عليها السلام يدلّ على جواز التبرّك بقبر رسول اللّه و تربته الطاهرة.

نكتفي هنا بذكر هذه المجموعة القليلة جداً من بين الكثير من الوقائع التي تحكي عن اتّفاق الصحابة على التبرّك بآثار النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، ومَن تتبّع كتب السير والحديث والتاريخ والصحاح والمسانيد يرى أنّ مسألة التبرّك بالنبي والصالحين قد بلغت حدّ التواتر بحيث يستحيل عند العقل أن تكون موضوعة ومجعولة.

نتيجة البحث

إنّ دراسة التاريخ الإسلامي وسيرة المسلمين في صدر الإسلام تكشف وبوضوح أنّ التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه و آله و سلم وبكلّ ما يرتبط به صلى الله عليه و آله و سلم كقبره، وتربته، وعصاه، وملابسه، والصلاة في الأماكن التي صلّى فيها صلى الله عليه و آله و سلم، أو مشى فيها، وكلّ ذلك كان يمثّل في الواقع ثقافة إسلامية رائجة في ذلك الوقت، وكانوا يرومون من ورائه أحد أمرين:

1. التبرّك بالآثار تيمّناً بها لغاية استنزال الفيض الإلهي من خلال ذلك الطريق، كما حدث ليعقوب عليه السلام عن طريق قميص ولده يوسف عليه السلام.

2. الدافع والباعث لهم هو حبّهم ومودتهم للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، إذ يحثّانهم لتكريم كلّ ما ينتسب إليه صلى الله عليه و آله و سلم من درع، أو سيف، أو ملابس، أو قدح قد شرب بها، أو بئر، أو عصاً كان قد استعملها، أو خاتم، أو...، فكلّ تلك الآثار

ص:230


1- . وفاء الوفا: 1405/4؛ المواهب اللدنية: 563/4.

كانت مورد اهتمام أصحابه وأنصاره صلى الله عليه و آله و سلم، بل كان الخلفاء يتوارثون ختمه وخاتمه صلى الله عليه و آله و سلم.

إلى هنا تمّت دراسة الذرائع الباطلة التي يكفّر على أساسها المسلمون من وجهة نظر اتباع ابن عبد الوهاب، وبقي هنا بعض الذرائع الوهمية كتكريم مواليد أولياء اللّه ووفياتهم، أو الحلف على اللّه بحق الأولياء، أو البكاء على الميّت، فإنّ الجميع من الأُمور الواضحة وإن وقعت ذريعة لهؤلاء، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا «الوهابية في الميزان».

ص:231

الفصل السابع: الذرائع التي يكفّر بها الشيعة

اشارة

قد عرفت أنّ القوم يكفّرون عامّة المسلمين بالأُمور التي ذكرناها، وأشباهها، وهناك أُمور يكفّرون بها الشيعة الإمامية شيعة أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم خاصّة، فقسم منها أُمور مكذوبة وافتراءات واضحة منها:

1. تأليه الشيعة لعلي وأولاده وأنّهم يعبدونهم ويعتقدون بإلوهيّتهم.

2. إنكار ختم النبوة برحيل سيدنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم وأنّ الوحي لم يزل ينزل على علي وأولاده عليهم السلام.

3. أنّ النبوة كانت لعلي ولكن جبريل خان الأمانة وأعطاها لمحمد صلى الله عليه و آله و سلم، حتى أنّ بعضهم أفرغ ذلك في قالب الشعر وقال:

ويحمل قلبهم بغضاً شنيعاً لخير الخلق ليس له دفاع

يقولون الأمين جنى بوحي وخان وما لهم عن ذا ارتداع(1)

4. بغض أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم وسبّهم ولعنهم وأنّهم أعداء الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم.

5. تحريف القرآن الكريم وأنّه حُذف منه أكثر ممّا هو الموجود. إلى غير ذلك من المفتريات التي ليس لها حدّ في حقّ الشيعة. ومَن قرأ شيئاً من كتب الشيعة أو عاش بين ظهرانيهم يقف على أنّ الجميع فرية وكأنّهم أُمروا بالكذب مكان الصدق.

ص:232


1- . البيتان من قصيدة للشيخ عبد الظاهر إمام المسجد الحرام وخطيبه (المتوفّى 1370 ه.).

نعم للشيعة مسائل كلامية يختلفون فيها مع بعض الفرق، نشير إلى بعضها:

1. القول بالبداء

إنّ البداء حقيقة قرآنية تضافرت الآيات عليها وحقيقتها أنّه ليس للإنسان تقدير واحد لا يتغيّر، بل يمكن أن يبدّل مصيره بعمل صالح أو طالح.

ويدلّ على ذلك قوله سبحانه: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (1)، ويقول سبحانه: (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (2)

روى القرطبي في تفسير قوله سبحانه: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ ) أنّ عمر بن الخطاب كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فأمتني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أُمّ الكتاب».(3)

فعلى هذا فالبداء بهذا المعنى عقيدة إسلامية عامّة.

لكن يقع الكلام: لماذا عُبّر عنه بالبداء، فيقال: بدا للّه، حيث إنّ معناه: ظهر للّه ما خفي عليه.

ومن المعلوم أنّه سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، والجواب عن ذلك بوجهين:

الأوّل: أنّ هذا التعبير اقتباس من كلام النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم حيث روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّ ثلاثة في

ص:233


1- . الرعد: 39.
2- . الأعراف: 96.
3- . تفسير القرطبي: 330/9، تفسير سورة الرعد.

بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا للّه أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص... إلى آخر ما ذكره».(1)

الثاني: انّ هذا التعبير من باب المشاكلة نظير قوله سبحانه: (وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) (2)، وقوله سبحانه: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَ أَكِيدُ كَيْداً) (3)، وقوله سبحانه: (نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (4)، وهذا من مظاهر البلاغة فإنّ الإنسان إذا ظهر ما خفي عليه يعبّر عنه بالبداء ويقول: بدا لي، كذلك فاللّه سبحانه يعبّر عمّا ظهر للناس بعد ما خفي عنهم بالبداء ويقال: بدا للّه، وكأنّه ينطق بلسان المخاطب. ومن مظاهر البداء في الكتاب العزيز فداء إسماعيل بعد أمر خليله إبراهيم عليه السلام بذبحه حيث ابتلاه اللّه وخرج من الابتلاء ناجحاً مرفوع الرأس ونسخ ما أمر به بالفداء.

هذا ولعلمائنا الأبرار رسائل في البداء تعرب عن أنّ النزاع بينهم وبين غيرهم لفظي بحت، وليس حقيقياً.

2. الإيمان بخلافة الخلفاء

هل الإيمان بخلافة الخلفاء من الأُصول، حتى يُكفَّر مَن يرفض خلافتهم من الرسول أو هو من الفروع الّتي لا يضر الاختلاف فيها كما هو الحقّ؟ ويشهد لِما قلناه كلمات أئمة أهل السنّة:

قال التفتازاني: لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق، لرجوعها إلى أنّ القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من

ص:234


1- . صحيح البخاري: 405/2-406، كتاب أحاديث الأنبياء، الباب 53، برقم 2464.
2- . آل عمران: 54، والأنفال: 30.
3- . الطارق: 15 و 16.
4- . التوبة: 67.

فروض الكفايات، وهي أُمور كلّية تتعلّق بها مصالح دينية أو دنيوية، لا ينتظم الأمر إلّابحصولها فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة من غير أن يقصد حصولها من كلّ أحد، ولا خفاء في أنّ ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية(1).

وقال الإيجي: المرصد الرابع: في الإمامة ومباحثها عندنا من الفروع وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسيّاً بمن قبلنا(2).

وقال الجرجاني: الإمامة ليست من أصول الديانات والعقائد، بل هي عندنا من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين، إذ نصب الإمام عندنا واجب على الأمة سمعا(3).

فإذا كانت الإمامة من الفروع فما أكثر الاختلاف في الفروع فكيف يكون الاختلاف موجباً للكفر؟!

3. علم الأئمة عليهم السلام بالغيب

لاشكّ أنّ العلم بالغيب علماً ذاتياً غير مكتسب وغير محدّد بحدٍّ، يختصّ باللّه سبحانه، ولكن لا مانع من أن يُعلِّم سبحانه شيئاً من الغيب لبعض أوليائه فيخبر عن الملاحم لأجل كونهم محدَّثين، والمحدَّث يسمع صوت الملك ولا يراه، وهو ليس أمراً بدعيّاً في مجال العقيدة، فقد رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء...»(4).

ص:235


1- . شرح المقاصد: 5/232.
2- . المواقف: 395.
3- . شرح المواقف: 8/344.
4- . صحيح البخاري: 2/194، باب مناقب المهاجرين وفضلهم.

وقد تضافرت الروايات عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حقّ المحدّثين، فأئمة أهل البيت عليهم السلام عند الشيعة من المحدَّثين، فأي إشكال في ذلك ؟! وهل هو يوجب مشاركتهم اللّه في علم الغيب ؟! وأين العلم بالغيب مكتسباً من اللّه محدوداً بحدّ خاص، من علمه الواسع غير المكتسب ولا المحدود؟!

4. التقيّة من المسلم

وممّا يخطِّئون به الشيعة هو تقيّتهم من المخالف المسلم، بناءً على اختصاص التقية بالكافر مع أنّه أمر صرّح بجوازه غير واحد من أئمة السنّة.

قال الرازي في تفسير قوله سبحانه: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (1): ظاهر الآية على أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين، إلّاأنّ مذهب الشافعي أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقيّة محاماة عن النفس.(2)

وقال ابن الوزير اليمانيّ (3) في كتابه «إيثار الحقّ على الخلق» ما هذا نصّه:

وزاد الحقّ غموضاً وخفاءً أمران: أحدهما: خوف العارفين - مع قلّتهم - من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقيّة عند ذلك بنصّ القرآن، وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ ، ولا برح المحقّ عدوّاً لأكثر الخلق، وقد صحّ عن أبي هريرة أنّه قال، في ذلك العصر الأوّل: حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس، وأمّا

ص:236


1- . آل عمران: 28.
2- . مفاتيح الغيب: 8/13.
3- . أبو عبداللّه بن إبراهيم بن علي بن المرتضى الحسني (المتوفّى 840 ه). أثنى عليه الشوكاني، ونعته بالمجتهد المطلق، ثم قال: وكلامه لا يشبه كلام أهل عصره وكلام من بعده، بل هو من نمط كلام ابن حزم وابن تيميّة. البدر الطالع: 2/316 برقم 561.

الآخر فلو أبثّه لقطع هذا البلعوم.(1)

قلت: إنّ هذا ليس أمراً مبتدعاً، فقد عمل به أربعة وعشرون محدِّثاً في مقابل السلطان الجائر المسلم، أعني: المأمون، وقد نقل تفصيل القصة الطبري في تاريخه، قال: جاءت رسالة المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم فأحضر لفيفاً من المحدِّثين والذين يربو عددهم على ستة وعشرين محدّثاً فقرأ عليهم رسالة المأمون مرّتين حتّى فهموها، ثم سأل كلّ واحد منهم عن رأيه في خلق القرآن، وقد كانت عقيدة المحدّثين بأنّ القرآن غير مخلوق أو غير حادث، فلمّا شعروا بالخطر وقرئت عليهم رسالة المأمون ثانياً وأمره بالتضييق عليهم وأن توثق أيديهم ويرسلوا إليه، أجاب القوم الممتنعون كلّهم وقالوا بخلق القرآن إلّاأربعة منهم: أحمد بن حنبل، وسجّادة، والقواريري، ومحمد بن نوح؛ فلمّا كان من الغد أظهر سجّادة الموافقة وقال بأنّ القرآن مخلوق وخلّي سبيله، ثم تبعه بعد غد القواريري وقال بأن القرآن مخلوق، فخلّي سبيله، وبقي أحمد بن حنبل ومحمّد بن نوح، وللقصة تكملة ذكرناها بتفاصيلها في كتابنا «بحوث في الملل والنحل»، فلاحظ.(2)

***

5. تكفير الصحابة

(سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ ) (3) إنّ تكفير الصحابة من الافتراءات الّتي تشهد الضرورة ببطلانها، كيف ؟ وثمّة طائفة من الصحابة هم من روّاد التشيّع، ثم كيف ؟ وهذا إمامهم (الّذي يقتدون به ويقتفون أثره)، بل إمام المسلمين عامّة،

ص:237


1- . إيثار الحقّ على الخلق: 141-142، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1407 ه.
2- . بحوث في الملل والنحل: 3/605-614.
3- . النور: 16.

أعني: علي بن أبي طالب عليه السلام يقول في حق الصحابة: «أَيْنَ إِخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ ، وَ مَضَوْا عَلَى الْحَقِّ؟ أَيْنَ عَمَّارٌ؟ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وَأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ ، وَأُبْرِدَ بِرُؤُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ !

أَوِّهِ عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ . دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ »(1).

ويقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام في حقّهم: «اللهمّ وأصحابُ محمّد خاصّةً ، الذين أحَسنوا الصحبة، والذين أبلَوُ البلاءَ الحسَن في نصرهِ ، وكانَفُوه، وأسرعوا إلى وِفادتهِ ، وسابقوا إلى دعوتهِ ... فلا تنسَ لَهُمُ اللهمّ ما تركوا لك وفيك، وأَرضِهِم من رضوانك...»(2)

ثم إنّ لعضد الدين الإيجي في «المواقف» وشارحه السيد الجرجاني في شرحها كلاماً في عدم جواز تكفير الشيعة بمعتقداتهم نأتي بنصّهما متناً وشرحاً، فقد ذكرا الوجوه وردّها:

الأوّل: أنّ القدح في أكابر الصحابة الذين شهد لهم القرآن والأحاديث الصحيحة بالتزكية والإيمان (تكذيب) للقرآن و (للرسول حيث أثنى عليهم وعظّمهم) فيكون كفرا.

قلنا: لا ثناء عليهم خاصة، أي لا ثناء في القرآن على واحد من الصحابة بخصوصه، وهؤلاء قد اعتقدوا أنّ مَن قدحوا فيه ليس داخلاً في الثناء العام الوارد فيه وإليه أشار المصنّف بقوله: «ولاهم داخلون فيه عندهم» فلا يكون

ص:238


1- . نهج البلاغة: الخطبة 182.
2- . الصحيفة السجادية الكاملة: الدعاء الرابع (في الصلاة على أتباع الرُّسل ومصدّقيهم).

قدحهم تكذيباً للقرآن، وأمّا الأحاديث الواردة في تزكية بعض معيّن من الصحابة والشهادة لهم بالجنّة فمن قبيل الآحاد، فلا يكفَّر المسلم بإنكارها أو تقول ذلك، «الثناء عليهم»، وتلك الشهادة لهم مقيّدان، بشرط سلامة العاقبة ولم توجد عندهم، فلا يلزم تكذيبهم للرسول.

الثاني: الإجماع منعقد من الأُمّة، «على تكفير من كفّر عظماء الصحابة»، وكلّ واحد من الفريقين يكفّر بعض هؤلاء العظماء فيكون كافراً.

«قلنا: هؤلاء»، أي من كفّر جماعة مخصوصة من الصحابة، لا يسلّمون كونهم من أكابر الصحابة وعظمائهم، فلا يلزم كفره.

الثالث: قوله عليه السلام: «مَن قال لأخيه المسلم يا كافر، فقد باء به - أي بالكفر - أحدهما».

قلنا: المراد مع اعتقاد أنّه مسلم، فإنّ مَن ظن بمسلم أنّه يهودي أو نصراني فقال له: ياكافر، لم يكن ذلك كفراً بالإجماع(1).

هذا كلامهما ونحن نقول ليس هنا مَن يكفّر الصحابة بل الموجود هو دراسة حياة الصحابة بعد رحلة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وهو أمر درج عليه السلف من أصحاب السيرة والتاريخ والرجال كدراسة حال التابعين لهم، وأخذ الدين عنهم لا يصدّنا عن تلك الدراسة العلمية بل يدفعنا إلى أخذها من أُناس صادقين عادلين، فمَن زعم أنّ دراسة حياة الصحابي يورث الضعف في الدين أو يوجب الخلل في الإسلام فقد أتى بكلام غير مقبول ولا معقول، وهؤلاء هم علماء الرجال قد ألّفوا موسوعات في أحوال رجال الحديث مبتدئين من التابعين، ونحن نعطف الصحابة على التابعين أيضاً، ونكيل لكلّ من قال الحق وعمل به، المدح العظيم والثناء الجميل.

ص:239


1- . شرح المواقف: 344/8، طبعة مصر.
نتيجة الدراسة

هذا هو حدّ الإيمان والكفر وحدّ الشرك والبدعة قد وقفت عليها عن كثب، وأنّ فِرَق الإسلام عامّة (غير الغلاة والنواصب) كلّهم داخلون في حظيرة الإسلام، فيجب أن تُحقَن دماؤهم وتُصان أموالهم وأعراضهم وكل ما يمتّ إليهم بصلة، وأنّ مَن يقوم بتكفير أُمّة أو أُمم من المسلمين فإنّما يصدر عن عصبية وعناد، أو عن غرض خبيث يخدم به قوى الكفر والاستبداد والاستكبار.

واللّه سبحانه هو الهادي إلى الطريق الحقّ .

هذا هو الداء وأمّا الدواء
اشارة

لا أظن أنّ ذا مسكة يرضى بما تمارسه الزمرة الداعشية من فتك وقتل وهدم وتخريب وأسر وزواج جهادي وبالتالي استئصال المسلمين الموحّدين تحت غطاء الشرك، غير أنّ هذا الداء أخذ يتفّشى في البلاد الإسلامية خصوصاً بين الشباب المتحمّسين الذين تنبض قلوبهم للجهاد من أجل نحر التوحيد.

فلابدّ من قلع هذه الفكرة الشيطانية التي اكتست ثوب التوحيد من خلال الخطوات التالية:

1. نقد الأفكار الخاطئة التي تُشمّ منها رائحة تكفير الفرق الإسلامية

نذكر هنا أسماء بعض من اتّخذ هذا المنهج:

إنّ ابن تيمية لمّا كان مجسّماً في الواقع ومتظاهراً على الخلاف ولكنّه مصرّحاً بوجود الجهة للّه سبحانه وأنّه مستو على عرشه، يقول في نفي نظر جمهرة المسلمين في أنّه سبحانه ليس بجسم وليس في جهة ولا يشار إليه يقول: وأمّا إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون داخل العالم ولا

ص:240

خارجه، فهذا ممّا يعلم العقل استحالته، وبطلانه.(1)

ترى أنّه يستهدف بكلامه هذا، كافّة المسلمين المنزّهين للّه سبحانه، ويتّهمهم بالارتداد، فما ظنّك بمن يتّخذ ابن تيمية شيخاً للإسلام ويصدر عنه فيما يقضي ويبرم!!

وليس هذا كلامه الوحيد، بل له كلمات كثيرة يكفّر تلويحاً أو تصريحاً مَن يخالف فكرته، فيقول: فمَن قال أنا شافعي الشرع، أشعري الاعتقاد، قلنا له: هذا من الأضداد لا بل من الارتداد.(2)

أنا لا أدري أية ملازمة بين تقليد الشافعي في الفقه والرجوع في العقائد إلى الشيخ الأشعري الذي كان هو شافعياً في الفقه، فعلى ضوء هذه الفتوى فثلث أهل السنّة أو الأكثر مرتدّون، يحلّ دمهم وأموالهم وتفارق زوجاتهم عنهم.

وأمّا محمد بن عبد الوهاب فحدّث عنه ولا حرج، فهو يقول في الرسالة الرابعة المعنونة أربع قواعد الدين تميّز بين المؤمنين والمشركين: القاعدة الرابعة: أنّ مشركي زماننا أعظم شركاً من الأوّلين، لأنّ الأولين كانوا يخلصون للّه في الشدّة ويشركون في الرخاء، ومشركو زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدّة.

والدليل قوله تعالى: (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (3).(4)

هذا نموذج من كلماته وإلّا فهو في مواضع كثيرة من كتاب «كشف

ص:241


1- . منهاج السنة النبوية لابن تيمية: 334/2.
2- . مجموع الفتاوى لابن تيمية: 106/4.
3- . العنكبوت: 65-66.
4- . لاحظ: كشف الشبهات في التوحيد: 40، المطبعة السلفية: 1390 ه. وقد مرّ النصّ بكامله في صدر الرسالة فراجع.

الشبهات» يكفّر عامّة المسلمين، منها قوله: فإذا تحقّقت أنّهم مقرّون بهذا - يقصد بأنّ اللّه هو الخالق الرازق - وأنّه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعا إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وعرفت أنّ التوحيد الذي جحدوه هو (توحيد العبادة)، الذي يسمّيه المشركون في زماننا الاعتقاد.(1)

وتعليقاً على هذه الفقرة يقول الشيخ حسن بن فرحان المالكي: سامح اللّه الشيخ محمداً، ففي هذا النص تكفير صريح لعلماء المسلمين في زمانه أو كثير منهم، فإن كان يقصد كلّ الذين يطلقون كلمة (الاعتقاد) على كتب العقيدة، فقد كفّر كلّ العلماء في زمانه، وإن كان يقصد الاعتقاد الخاص (اعتقاد الصوفية) فقد كفّر بعض العلماء دون نظر لتأويلهم فالتأويل مانع كبير من موانع التكفير، فإن كان قصده الأوّل فهذا من التكفير الخفيّ الذي لا يدركه كلّ قارئ، إذ يصبح مقصود الشيخ بالمشركين في زمانه هم الذين لهم كتب يسمّونها (الاعتقاد) وهذه ليست في أُمّة سوى أُمّة المسلمين.(2)

2. تطهير البرامج الدراسية في بعض الدول

إنّ وزارات التربية والتعليم في بعض الدول قد أدخلت في برامجها الدراسية الفكر الوهابي في تكفير المسلمين، وتدرّس هذه الأفكار لطلاب المدارس بمراحلها المختلفة، ونحن نذكر أُنموذجاً من منهج التربية الإسلامية للصف العاشر في دولة الكويت، فقد جاء فيه تحت عنوان «نواقض التوحيد»:

الشرك نوعان:

أ. الشرك الأكبر: وهو صرف شيء من أنواع العبادة لغير اللّه سبحانه

ص:242


1- . كشف الشبهات في التوحيد: 413.
2- . داعية وليس نبياً، تأليف: حسن بن فرحان المالكي: 43.

وتعالى كالدعاء لغير اللّه عزّ وجلّ ، أو التقرب بالذبائح والنذور لغير اللّه عزّ وجلّ من القبور والجن والشياطين، والخوف من الموتى أو غيرهم أن يضرّوه أو يمرضوه وعبادة غير اللّه كالذين عبدوا العجل والكواكب والأحجار والأصنام، قال تعالى: (وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّهِ ) .(1)

ثمّ إنّه يضع جدولاً يفرق فيه بين حكم الشرك الأكبر والشرك الأصغر، فيذكر أنّه من حيث العقيدة الشرك الأكبر يخرج من ملّة الإسلام، ومن حيث العقوبة فعقوبة الشرك الأكبر هي إباحة دم المشرك وماله وخلوده في النار.(2)

وهنا أُمور أُخرى في علاج هذه المشكلة نذكرها باختصار:

إظهار الموقف الشرعي الواضح والصريح بإدانة التكفير لأحد من أهل القبلة على أساس الاختلافات المذهبية والعقدية المعروفة في الأُمّة. وتحريم وتجريم ممارسات العنف والإرهاب.

تحذير أبناء الأُمّة وتوعيتهم عبر مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، ومنابر الخطاب الديني، من شر وخطر هذه الاتّجاهات التكفيريّة، فهي أعظم منكر يجب النهي عنه والوقوف أمامه في هذا العصر.

نشر ثقافة الإسلام، وتعاليمه السامية، في التآخي والرحمة والمحبة والتسامح، بين المسلمين، بل بين أبناء البشرية جمعاء، فالناس صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق؛ كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام.

الجدّية في الحوار والتقارب والتواصل بين قادة المذاهب الإسلامية،

ص:243


1- . يونس: 18.
2- . لاحظ: التربية الإسلامية للصف العاشر في دولة الكويت: ص 22-23، و 44-45، الطبعة الثانية، 1423 ه، نقلاً عن كتاب: تطهير المناهج من التكفير للشيخ عبد اللّه دشتي: 10.

وزعامات الأُمّة، ومؤسسات المجتمع المدني.

استمرار بذل الجهود وتضافر القوى لمواجهة تيارات التكفير عبر انعقاد المؤتمرات، والنشاط العلمي والإعلامي، وتشكيل لجان المتابعة للقرارات والمقترحات.

ص:244

الملاحق

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الملحق 1
اشارة

الملحق 1 جذور ظاهرة التكفير ودوافع عقد المؤتمر(1)

الإيمان والكفر مفهومان متضايفان، فعندما نذكر أحدهما يتداعى الثاني إلى ذهننا، ويطلق على هذه الحالة في الفلسفة «التضايف».

إنّ مصطلح «الإيمان» يعني التصديق والاعتقاد، ولفظ «الكفر» يقصد به الستر وأحياناً يفيد الإنكار، وبحسب ما اصطلح عليه المتكلّمون فإنّ المقصود بالإيمان هو التصديق بنبوة النبيّ وبرسالته. أمّا «الكفر» فيراد به تجاهل دعوة هذا النبيّ وتكذيبه.

ولا شكّ في أنّ دعوة معلّمي السماء تشي أنّه في كلّ عصر بُعث فيه الأنبياء وجاءُوا بالأدلّة والبراهين الّتي تؤكّد على صدق دعوتهم، انشطرت مجتمعاتهم إلى فئتين: فئة آمنت بالدعوة، وأُخرى كفرت بها؛ فالذي آمن بالدعوة وصدّقها يسمى «مؤمناً»، والّذي قلب ظهر المجن لها وكذّب بها يقال له «كافراً».

ومن المعلوم أنّ منهج جميع الأنبياء في الدعوة إلى الأُصول واحد، ولا يوجد أي اختلاف بينهم، ففي جميع الدعوات كان أفراد الفئة المؤمنة إنّما

ص:245


1- . عقدت الحوزة العلمية في قم المقدّسة المؤتمر العالمي حول «آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرّفة والتكفيرية» في شهر ذي الحجة الحرام 1435 ه، وقد شاركنا في جلسة افتتاح أعمال المؤتمر بهذه الكلمة.

يؤمنون باللّه الخالق المدبّر والحكيم الّذي لا معبود سواه، ويصدّقون رسالة نبيّ عصرهم بكلّ جوارحهم.

وحين قضت إرادة اللّه تعالى ببعث النبيّ الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم كانت علامة إيمان الناس بالدعوة النطق بعبارتين تفصحان عن الإيمان الّذي في مكنونهم، أعني:

كلّ من كان ينطق بالشهادتين «لا إله إلّااللّه محمّد رسول اللّه»، أفراداً أو جماعات، كان يدخل في حظيرة الإسلام، وينفصل عن دائرة الكفر.

من جهة أُخرى، فإنّ الإقرار بكلمة الإخلاص - الّتي تنطوي على سلب الإلوهية من كلّ موجود إلّااللّه - تتضمّن الإقرار بثلاثة أنواع للتوحيد: 1. توحيد الخالقية، 2. توحيد التدبير، 3. توحيد العبادة. لأنّ هذه الأنواع الثلاثة هي من خصوصيات إله العالمين لا خلائقه.

ناهيك عن أنّ الأساس الّذي تقوم عليه أيّ دعوة إلهية هو الإيمان بالآخرة، طبعاً الإقرار بالحياة الأُخروية، كما أنّ التوحيد والرسالة، يعدّ من العناصر الإيجابية في الإيمان الّذي يستكنه أعماق كلمة الإخلاص.

لو رجعنا إلى السيرة النبوية المعطّرة سوف نطالع صفحة باسم «عام الوفود» وهو العام الّذي تقاطرت فيه الوفود على المدينة المنورّة من كل حدب وصوب، زرافات ووحداناً، لتبايع الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، ولتستظل بخيمة الإسلام من خلال النطق بالعبارتين المذكورتين اللّتين تختزلان الإيمان الحقيقي. وفي هذا الشأن نزلت سورة النصر المباركة لتصدح بالآيات الكريمة:

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ * وَ رَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْواجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوّاباً) .

إذن مفتاح دخول هذه الأفواج في الإسلام كان النطق بالشهادتين فحسب، ولم تكن ثمّة مسائل كلامية أو فقهية تشترط قبول إسلامهم. مثلاً، لم يكن هؤلاء

ص:246

يُساءَلوا عن مكان اللّه أو رؤيته في يوم البعث أو خلق القرآن وقدمه، وغير ذلك من الأسئلة، وإنّما إيمانهم الكلّي برسالة خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله و سلم كان يغنيهم عن كلّ هذه المسائل. كما لم يُساءَلوا عن مسألة جواز التوسّل بالأنبياء والأولياء أو الصلاة إلى جانب القبور أو زيارة قبور الأولياء.

في العصر الراهن، ثمّة فرقة متطرّفة وجاهلة بأُصول الشريعة المحمّدية وقواعدها، صارت تحتكر الإسلام والإيمان، فتعتبر فئة قليلة هي المؤمنة وسائر المسلمين كفّاراً ومهدوري الدم. وتعود جذور هذا النمط من التكفير إلى عصر ابن تيمية (المتوفّى 728 ه) والوهابيّين المتطرّفين من بعده، بل أنّ الوهابيين ذهبوا في تطرّفهم إلى مديات أبعد، ذلك أنّ ابن تيمية كان في أغلب الأحيان يستخدم كلمة البدعة، بينما الفرقة الوهابية استعاضت عنها بكلمة الكفر، فأصبح معيار التكفير عندها هو مخالفة أفكارها في المسائل المذكورة آنفاً.

وتعارض هذه الفرقة بشدّة بناء أضرحة الأنبياء وأولياء اللّه وتعتبر ذلك من مظاهر عبادة الأوثان!! بينما شهد الإسلام عبر تاريخه الطويل بناء أضرحة الأنبياء والمحافظة عليها في فلسطين والأردن والشام والعراق، وكان المسلمون يأتون إلى زيارتها أفواجاً أفواجاً، ولم يخرج علينا أحد ليصف هذا العمل بأنّه مخالف للتوحيد.

وحتّى عندما فتح الخليفة عمر بن الخطاب بيت المقدس لم يأمر أبداً بهدم تلك المزارات والمقامات المقدّسة، وإنّما واصل نهج الماضين في المحافظة عليها وتزيينها.

وطيلة الفترة الّتي تلت رحلة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كان جميع الموحّدين يتوسّلون بمقام النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم ليشفع لهم في قضاء حوائجهم، غير أنّ هذه الفرقة تساوي بين هذا التوسّل وبين توسّل المشركين بالأصنام، في حين أنّ

ص:247

جوهر كلّ منهما متمايز عن الآخر والمسافة بينهما كالمسافة بين الأرض والسماء.

التكفير العنيف

كان التكفير عند أسلاف هذه الفرقة بالقلم واللسان، لكنّه أخذ طابعاً عنيفاً في عهد الوهابيّين المتطرّفين، حيث كان أتباعهم يغيرون على القرى والقصبات والقرى المحيطة بمنطقة «نجد» وينهبون ما أمكنهم، وبذلك أصبحت لديهم قوّة مالية كبيرة.

وللاطّلاع على الجرائم الّتي ارتكبها مؤسّسو هذه الفرقة ومن جاء بعدهم ننصح بمراجعة مصدرين معتبرين في تاريخ الوهابية هما: «تاريخ ابن غنّام» و «تاريخ ابن بشر». وقد صدرا منذ فترة وأصبحا موضع اهتمام العلماء والمفكّرين.

وأخيراً، لا نريد الإطالة في هذا المقام، لذا، سوف نختم كلمتنا بهذا البيت من الشعر الفارسي:

شرح اين هجران و اين خون جگر اين زمان بگذار تا وقت دگر

(دع سرد قصة هذا الهجران واترك مصائب هذا الزمان لوقت آخر)

يشار إلى أنّه بعد احتلال أفغانستان من قبل الجيش الأحمر السوفيتي اتُّخذ قرار بتوظيف الروح الجهادية للشباب المسلم في المنطقة لدحر قوى الكفر وطرد الأعداء من الأراضي الإسلامية، فكان قراراً رائعاً وفيه مرضاة اللّه، بيد أنّ عدم وجود عالم ورع وقيادة واعية بأُصول الجهاد في أوساط هؤلاء الجهاديّين لتقودهم وفق النهج السليم، سبّب انحراف هؤلاء المقاتلين باتّجاه آخر، فتأثّر بعضهم بالأفكار الوهابية وراحوا يكفّرون جميع المسلمين.

ص:248

ولسوء الطالع، انطلقت هذه الحملة أوّلاً ضدّ دول المقاومة والممانعة الصامدة بوجه الصهاينة، وبدلاً من تحرير القدس، راح هؤلاء يدمّرون البنى التحتية في سورية والعراق. وقد بلغ عنفهم وإرهابهم ضدّ الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة والأبرياء مبلغاً شاهت معه صورة الإسلام في العالم، ولم يعد في الغرب من يتعاطف مع هذا الدين. فأين الأعمال المروّعة لهذه الجماعات من كلمات الوحي الإلهي حيث يقول الباري عزّ وجلّ : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) .(1)

ويقول النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في حديث شريف: «إنّ الرفقَ لا يكونُ في شيء إلّا زانه، ولا يُنزَعُ مِن شيء إلّاشانه».

في ظل هذه الظروف المفجعة، قرّرت المرجعية الرشيدة في الحوزة العلمية بقم عقد مؤتمر عالمي تحت عنوان: «آراء علماء الإسلام في التيارات المتطّرفة والتكفيرية» وذلك لتسليط الضوء على هذه الفرقة وما يترتّب على أعمالها من نتائج وعواقب وخيمة، وفي هذا الإطار تمّ توجيه نداء إلى العلماء والباحثين في العالم الإسلامي من أجل سبر جذور التكفير وتعرية جوهره الشرير، والسبل الكفيلة بالخلاص من هذا الوضع. وقد لاقى النداء استجابة طيّبة من لدن العلماء انعكس في إرسال العديد من الآثار إلى الأمانة العامة للمؤتمر، وكانت مضامين معظمها على درجة عالية من الجودة والقيمة، وبناءً عليه قرّرت الأمانة المذكورة أن تأخذ على عاتقها طبع ونشر هذه الآثار ووضعها في متناول أصحاب الرأي وضيوف المؤتمر الأعزّاء من داخل البلاد وخارجها، لتكون خطوة على طريق الحؤول دون استفحال خطر هذه الغدة السرطانية المدمّرة وانتشار هذا الفايروس المرعب.

ص:249


1- . آل عمران: 159.

في الختام، لا يسعني إلّاأن أُثني على الجهود المضنية لأعضاء الأمانة العامّة المحترمين الّذين واصلوا الليل بالنهار، وأقدّر عالياً ما بذلوه خلال الفترة الماضية، كما وأشكر جميع الّذين ساهموا في خلق هذه الأجواء الروحانية والعلمية.

جعفر السبحاني

قم المقدّسة - الحوزة العلمية

ص:250

الملحق 2
اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف أنبيائه ورسله محمّد وآله الطاهرين.

نرحّب بالإخوة العلماء والمفكّرين حضّار هذا المؤتمر المبارك الّذين شعروا بخطورة الموقف فلبّوا الدعوة وأتحفونا بأبحاثهم وأفكارهم القيّمة، شكر اللّه مساعيهم.

كيف نواجه ظاهرة التكفير؟

كيف نواجه ظاهرة التكفير؟(1)

إنّ هذه الكلمات الطيّبة الّتي سمعناها بارتياح غامر، من الأساتذة والعلماء بلغات مختلفة كلّها تُعرب عن أنّ الأعزّاء يستنكرون التكفير بكافة صوره، ويعتقدون بأنّه يضادّ تعاليم الإسلام ومبادئه، ويقف بوجه فتاوى فقهاء الإسلام الرافضين لتكفير أهل القبلة إلّاإذا ثبت كفر واحد منهم لدى المحكمة الشرعية العارفة بملاكات الكفر والإيمان.

لاشكّ أنّ لهذه المؤتمرات دوراً فعالاً في إبطال عقيدة التكفيريين، كما أنّ لفتاوى علماء الإسلام آثاراً مطلوبة في هذا الطريق، لاسيّما إذا أجمعوا على ذلك، إلّاأنّه من الواضح لا يمكن الاكتفاء بذلك بل الواجب هو وضع خطط وبرامج عملية لاستئصال هذه الظاهرة.

وبناء على ذلك نوصي بما يلي:

أوّلاً: توعية وتثقيف أبناء الأُمة الإسلامية عبر مناهج التعليم ووسائل

ص:251


1- . أُلقيت هذه الكلمة في اختتام أعمال المؤتمر العالمي حول: «آراء علماء الإسلام في التيارات المتطرّفة والتكفيرية».

الإعلام ومنابر الخطاب الديني بخطورة هذه الاتّجاهات التكفيرية، وأنّها أعظم منكر يجب النهي عنه والوقوف أمامه في هذا العصر. فلو كان ثَمّة منكر في المجتمع يجب إنكاره والتنديدُ به، فتكفير أهل القبلة الّذين يصلّون ويصومون ويؤتون الزكاة ويحجّون أكبر منكر يتصوّر في العالم، حيث إنّ المسلم يقتل أخاه المسلم ويحقّق بذلك أهداف قوى الشرّ والطغيان الّتي تتربّص بأُمتنا الدوائر، وفي مقدّمتها الكيان الصهيوني.

ثانياً: نشر ثقافة الإسلام وتعاليمه الّتي تدعو إلى التآخي والمحبّة والتسامح بين المسلمين، بل بين أبناء البشرية جميعاً، فالناس كما قال الإمام علي عليه السلام:

«صنفان إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»، ولكلّ حقّ على الإنسان المسلم، ولكن فتنة التكفير وما رافقها من عمليات إجرامية بشعة نفّذها الإرهابيون قد شوّهت - مع الأسف الشديد - وجه الإسلام الحنيف لغير المسلمين بل حتّى في أذهان الضعفاء من المسلمين، فكأنّ الإسلام دين دموي قد جُرّد من الرحمة والرأفة، وكأنّه ليس قوله سبحانه: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) * ما يبدأ به المسلم أعماله وأقواله.

ثالثاً: بذل الجهود لأجل تعميق الحوار والتقارب والتواصل بين قادة المذاهب وزعامات الأُمة الإسلامية والحوزات العلمية والجامعات الإسلامية ومراكز الدراسات العليا، فإنّ ما يجمعهم أكثر ممّا يفرقهم كما قال شاعر النيل:

إنّا لتجمعنا العقيدة أُمّة ويضمّنا دين الهدى اتباعا

ويؤلّف الإسلام بين قلوبنا مهما ذهبنا في الهوى أشياعا

رابعاً: أنّ هذا المؤتمر مفيد جداً حيث ضمّ عدداً كبيراً من علماء الإسلام ومفكّريهم، وقد أوضحوا الحال وبيّنوا خطورة الموقف، وسوف يحملون لبلادهم أفكار هذا المؤتمر، ومع ذلك فهذا المؤتمر غير كافٍ وحده، في تحقيق

ص:252

أهدافه، ولذا نقترح أن يستمر هذا النوع من الاجتماعات حيناً بعد حين بعيداً عن النوازع الشخصية والميول الجانبية، بل نقترح فوق ذلك تشكيل هيئة علمية تتابع هذا الموضوع بين فترة وفترة، وتكون حلقة اتّصال بين المحقّقين والمفكّرين والقادة الإسلاميّين.

ومن المعلوم أنّ هذه الهيئة يجب أن تزوَّد بوسائل إعلام متطوّرة لكي تبيّن موقف الإسلام الصحيح إلى الشباب المسلم المتحمّس في كلّ مكان من العالم. ومن واجبات هذه الهيئة الإجابة عن شبهات التكفيريّين الّتي ينشرونها في مجلاتهم ومواقعهم وقنواتهم الفضائية، حتّى يتبين الحقّ لمن يريد الحقّ ، ويرجع المغرَّر به.

خامساً: لا شكّ أنّ بين المسلمين فوارق في مسائل عقدية وفقهية، ولكلٍّ دليله على ما يعتقد أو يفتي به، ولكن الواجب عند التعرّف على مذهب ما، هو الرجوع إلى مصادره الأصلية المؤلَّفة بأقلام علمائه، وعدم الاتّكال على كلّ كتاب أُلِّف باسم المذهب، فإنّ الاعتماد على نقل الآخرين هو من الأسباب الرئيسية للابتعاد والافتراق، ونحن لا نريد أن نأتي بمثال أو نذكر مورداً، ولكنّي أعتقد أنّ الكثير من الفروق الموجودة في الأذهان أو في صفحات الكتب، تنشأ من التساهل في التعرّف على حقيقة المذهب.

ومن عجائب الزمان (وما عشت أراك الدهر عجباً) هو أن نسمع بين فترة وأُخرى أنّ بعض وزراء الدول الغربية يستنكرون الإرهاب وعمل التكفيريّين، ويصفون عملهم هذا بأنّه بعيد عن روح الإسلام في الوقت الّذي يسكت بعض مَن يُترقَّب منه القيام بهذا!!

سادساً: تطهير مناهج التعليم من بذور التكفير، حيث إنّ المناهج الدراسية لها تأثير خاص في نمو هذه الفكرة في أذهان الناشئة، وممّا يُؤسف له أنّ مناهج التعليم في عدد من الدول الإسلامية يتّجه نحو بذر هذا الانحراف في أذهان الطلاب.

ص:253

فما دام يُتلى في المعاهد والمدارس الدينية قول القائل: إنّ شرك الأوّلين أخف من شرك أهل زماننا.(1) فالإرهاب يبقى سائداً ما دامت الدراسة مبنية على هذه الآراء.

بل أقول: إنّ الإرهاب يبقى سائداً ما دامت المناهج الدراسية تؤكّد - مثلاً - على أنّ التوسّل بالأنبياء والأولياء هو الشرك الأكبر،(2) أو ما دمنا نرى أنّ وزارات الإعلام تُجيز نشر الكتب الّتي تروّج للأفكار المتشدّدة الّتي تُذكي نار الخلاف، وتدعو إلى التفرقة الطائفية.

سابعاً: أنّ جذور ظاهرة التكفير تعود غالباً إلى الفهم الخاطئ عن مفهوم الإيمان والكفر أو التوحيد والشرك والبدعة، فنقترح تشكيل مؤتمر حول هذه المفاهيم تحديداً وتبييناً.

والّذي يضفي الضرورة على ذلك أنّ كثيراً من قادة هذه العصابة يطبّقون كثيراً من الآيات النازلة بحقّ المشركين على أهل القبلة، بينما هم لا يفرّقون بين البدعة اللغوية والبدعة الشرعية.

هذه أُطروحتنا لحضّار هذا المؤتمر حفظهم اللّه ووفقهم لكلّ خير وصلاح، عسى أن تكون مورد القبول والرضا.

واللّه من وراء القصد

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:254


1- . كشف الشبهات: 11.
2- . التربية الإسلامية للصف التاسع في دولة الكويت: 22-23، الطبعة 2، 1423 ه. وهذا النص جاءتحت عنوان: معنى العبادة ومن يستحقّها.

3 آل البيت عليهم السلام وحقوقهم الشرعية

اشارة

ص:255

ص:256

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الخاتم، وعلى أهل بيته الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

أمّا بعد: فقد وقع في يدي كتاب «آل البيت عليهم السلام وحقوقهم الشرعية» تأليف الشيخ صالح بن عبداللّه الدرويش القاضي بالمحكمة العامة بالقطيف، نشرته دار ابن الجوزي، فطالعته ووقفت على ما فيه، فوجدته قد جارى فيه ما كتبه ابن تيمية من قبل في كتابه الّذي أسماه «حقوق أهل البيت» مع فارق بين الكتابين يتمثّل في تفسير «أهل البيت».

وقد تعرّفت على المؤلِّف من قبلُ من خلال رسائله إليَّ ، والمكاتبات الّتي دارت بيننا وبينه.(1)

وبالرغم من أنّ المؤلّف قد راعى أدب الكتابة ونزاهة القلم عمّا يشينه، إلّا أنّه لم يعط الموضوع حقّه في ما كتب، ولعلّ عذره في ذلك، ممارسته لمهمة القضاء الّتي تأخذ منه وقتاً كثيراً، وتعيقه عن الرجوع إلى المصادر والكتب الّتي تعالج الموضوع الّذي يمارس الكتابة فيه، ولذلك أخذت على عاتقي أن أكتب بعض التعاليق على الفصول التي رَتّب كتابه المذكور عليها، سالكاً طريق

ص:257


1- . نشر قسم من هذه المراسلات في الجزء الثالث والرابع والخامس والسادس من هذه الموسوعة.

الإيجاز، مشيراً إلى ما هو المهمّ من كلماته، راجياً من اللّه سبحانه أنّ يهدينا إلى سواء السبيل، وينقذنا من التعصّب لغير الحق، إنّه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

جعفر السبحاني

7 ربيع الأوّل 1428 ه

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:258

الفصل الأوّل في تفسير «أهل البيت»

اشارة

نقل المؤلّف في تحديد معنى آل البيت أقوالاً على النحو التالي:

الأوّل: هم الذين حرمت عليهم الصدقة، وبه قال الجمهور.

الثاني: هم ذريّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأزواجه خاصّة، وهو مختار ابن العربي.

الثالث: أتباع النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى يوم القيامة، واختاره الإمام النووي من الشافعية والمرداوي من الحنابلة.

الرابع: هم الاتقياء من أُمّته صلى الله عليه و آله و سلم.

وبعد أن استعرض الآراء أشار إلى المختار لديه قائلاً: والراجح من هذه الأقوال هو القول الأوّل - قول الجمهور - وبناءً عليه طرح هذا السؤال: مَنْ هم الذين حُرِّمت عليهم الصدقة ؟

الجواب: هم بنو هاشم وبنو المطلب، هذا هو الراجح؛ لقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد»(1)، ومن العلماء مَنْ قصر التحريمَ على بني هاشم فقط دون بني المطلب.(2)

مَنْ حُرّمت عليهم الصدقة ؟

لايهمنا تحديد مَنْ حُرّمت عليهم الصدقة، وهل هم بنو هاشم فقط، أو هم وبنو المطلب ؟

ص:259


1- . صحيح البخاري: 4/155، باب المناقب.
2- . آل البيت وحقوقهم الشرعية: 8.

وقد جنح الشيخ إلى التعميم، ولكنّه لو درس أدلّة المسألة بعمق ودون تقليد، لاختار المعنى الأوّل، وذلك لأنّ دليل حرمة الصدقة هو الحديثان:

1. قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «يا بني هاشم إنّ اللّه حرّم عليكم غُسالة أوساخهم وعوّضكم عنها بخمس الخمس».

2. قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ هذه الصدقات إنّما هي أوساخ الناس، وإنّها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد».

وكلا الحديثين قاصران عن إثبات التعميم.

أمّا الأوّل: فالموضوع فيه هو بنو هاشم، وهم ولد أبي طالب: عقيل وجعفر وعلي، وولد العباس بن عبدالمطلب، وولد أبي لهب، وولد الحارث بن عبدالمطلب فقط، إذ لا عقب لهاشم إلّامن هؤلاء، وعلى هذا فلا تحرم الصّدقة على ولد المطلب ونوفل وعبد شمس بن عبد مناف.

وأمّا الثاني: فالموضوع أضيق وهو آل محمد، وقد رواه مسلم في صحيحه.(1)

وذلك لأنّ المراد من «آل محمد» مَنْ ينتمي إلى النبي بالنسب، ومن المعلوم أنّ بني هاشم أقرب إلى النبي من بني المطلب؛ لأَنَّ النبي ينتمي في عمود النسب إلى هاشم لا إلى المطلب، فهو محمد بن عبداللّه بن عبدالمطلب بن هاشم، والمطلب كان أخا هاشم، فهو عمّ جدّ النبي، أي عبدالمطلب.

وأمّا ما استدلّ به على سعة الموضوع وشموله لأبناء المطلب بما روي من أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» فهو قاصر الدلالة على ما يتبنّاه، لأنّ المؤلّف نقل الحديث مبتوراً وهو بالنحو التالي: «إنا وبنو المطلب لم

ص:260


1- . صحيح مسلم بشرح النووي: 7/177.

نفترق في جاهلية ولا في إسلام، وإنّما نحن وهم شيء واحد».(1) وفي رواية:

«إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه».(2)

فحينئذ يقع الكلام في ما هو المراد من التوحيد بين القبيلتين ؟

فهل المراد هو الوحدة النسبية ؟ أو المراد التكاتف والوحدة في الكلمة في عصري الجاهلية والإسلام ؟ أو المراد به اشتراكهما في أخذ الخمس أو حرمة الصدقة ؟ ومع هذه الاحتمالات المتعدّدة كيف يمكن الاحتجاج بهذا الحديث على حرمة الصدقة عليهم ؟

ومن الواضح: أنّ توسيع مفهوم آل البيت بهذا النحو هو خفض لمقامهم بإدخال كثير من الناس الذين لم يسجّل التاريخ لهم طهارة نفسانية ولا مواقف محمودة تحت هذا المفهوم السامي.

هذا ما يرجع إلى موضوع تحريم الصدقة، وقد عرفت أنّ الحق هو خلاف ما اختاره المؤلّف.

تفسير آل البيت بمَن تحرم عليه الصدقة

ثم إنّ الشيخ لم يذكر على تفسير آل البيت بمَن تحرم عليهم الصدقة دليلاً، ولا ملازمة بين كون عامّة بني هاشم أو بني المطلب أيضاً ممّن تحرم عليهم الصدقة وكونهم هم المقصودين من آل البيت في قوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (3) فكان عليه أن يدلّل على وحدة المفهومين مصداقاً وتطبيقاً؛ حتّى يتّضح أنّ مَنْ تحرم عليهم الصدقة

ص:261


1- . سنن أبي داود: 2/26، باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذوي القربى.
2- . صحيح البخاري: 4/155، باب المناقب.
3- . الأحزاب: 33.

هم أهل البيت، وأنّ أهل البيت هم الذين تحرم عليهم الصدقة.

فأيُّ دليل له على تساويهما مصداقاً وتطبيقاً؟

بل يمكن أن يقال: إنّ بين المفهومين - خصوصاً عند أهل السنّة - عموماً وخصوصاً من وجه، فيجتمعان في مورد ويفترقان في موردين.

أ. فأولاده ذكوراً وإناثاً من أهل بيته وتحرم عليهم الصدقة.

ب. نساؤه ممّن لا تحرم عليهن الصدقة - على المشهور بين أهل السنّة - ولكنّهنّ من مصاديق أهل البيت في العرف واللغة.

ج: من كان يسكن في بيته صلى الله عليه و آله و سلم ويتولّى خدمته يُعدّ من أهل البيت ولا تحرم عليه الصدقة.

أهل البيت في حديث زيد بن أرقم

مَن فسّر أهل البيت بمن تحرم عليهم الصدقة يعتمد على حديث زيد بن أرقم الذي رواه مسلم في صحيحه: أنّه قام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوماً فينا خطيباً بماء يُدعى خُمّاً بين مكة والمدينة، فحمد اللّه وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: «أمّا بعد: ألا أيّها الناس، إنّما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأُجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين:

أوّلهما: كتاب اللّه فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللّه، واستمسكوا به».

فحثّ على كتاب اللّه ورغّب فيه.

ثم قال: «وأهل بيتي، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي».

فقال له حصين: ومَن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟

قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.

ص:262

قال: ومن هم ؟ قال: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: كلّ هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال: نعم.(1)

وفي حديث قال صلى الله عليه و آله و سلم: «ألا وإنّي تارك فيكم ثقلين: أحدهما: كتاب اللّه عزوجل، وهو حبل اللّه، مَن اتّبعه كان على الهدى، ومَنْ تركه كان على ضلالة»، وفيه فقلنا: من أهل بيته ؟ نساؤه ؟ قال: لا وأيم اللّه، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة.(2)

أقول: لاشكّ في صحّة هذا الحديث، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الحديث يرويه الإمام مسلم ومنزلته لا تخفى على أحد، ومع ذلك نلفت نظر القارئ إلى أُمور:

1. انّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: إنّي تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب اللّه.

والسياق يقتضي أن يقول صلى الله عليه و آله و سلم وثانيهما.

وكأنّه قد سقط من الحديث سهواً أو عمداً، ومكانه في الحديث هو قوله:

ثم قال وأهل بيتي، أي وثانيهما أهل بيتي.

2. ما هو الداعي لنزول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في ماء يُدعى «خُمّاً» بين مكة والمدينة في رجوعه من حجّة الوداع ؟ ولماذا خصّ هذا الموضع لإلقاء هذه الخطبة ؟ أو ليس هذا الموضع مفترق طرق الحجيج حيث تتشعّب فيه طرق المدنيين والمصريين والعراقيّين ؟ فقد حاول النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يُسمع كلامه عامّة مَنْ حج معه، لما في كلامه من أمر مهم به هداية الأُمّة وكمالها، كما أنّ في الإعراض عنه ضلالها.

ص:263


1- . صحيح مسلم: 7/122.
2- . صحيح مسلم: 7/123.

3. قرن في الحديث أهل بيته بكتاب اللّه تعالى وأوصى المسلمين بهم ثلاث مرات حيث قال: «أُذكّركم اللّه بأهل بيتي».

فهل كان كلامه صلى الله عليه و آله و سلم في الثقل الآخر منحصراً بالوصاية بما ذُكر، أو أنّه تكلّم بكلام آخر لم يذكر في الحديث لعلّة من العلل ؟! لأنّ مقتضى كون أهل بيته عدلاً لكتاب اللّه والثقل الآخر أن يذكر في شأنهم شيئاً يصحّح قرنهم بكتاب اللّه، وإلّا فسيكون كلامه بعيداً عن البلاغة حيث يجعل أهل بيته عدلاً لكتاب اللّه ولا يذكر في شأنهم إلّاأمراً بسيطاً.

ولئن فات مسلم أن يذكر الحديث بتمامه، فلم يفت غيره أن يذكركلام الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك المشهد العظيم.

فهذا هو الإمام أحمد أخرج في مسنده عن عطية العوفي قال: سألت زيد بن أرقم فقلت له: إن ختناً لي حدّثني عنك بحديث في شأن علي يوم غدير خمّ ، فأنّي أُحب أن أسمعه منك ؟ فقال: إنّكم معشر أهل العراق فيكم ما فيكم، فقلت له: ليس عليك مني بأس، فقال: نعم، كنّا بالجحفة فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلينا ظهراً وهو آخذٌ بعضد عليّ ، فقال: «يا أيها الناس ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟» قالوا: بلى، قال: «فمن كنت مولاه فعليّ مولاه». قال:

فقلت له: هل قال: اللهم والِ مَنْ والاه، وعادِ من عاداه ؟ قال: إنّما أُخبرك كما سمعت.

وفي موضع آخر من المسند عن سفيان، عن أبي عوانة، عن المغيرة، عن أبي عبيد، عن ميمون أبي عبداللّه قال: قال زيد بن أرقم وأنا أسمع: نزلنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بوادٍ يقال له: وادي خُم، فأمر بالصلاة، فصلاها بهجير، قال:

فخطبنا وظُلّل لرسول اللّه بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فقال: «ألستم تشهدون أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه ؟» قالوا: بلى . قال: «فمن كنت مولاه فإنّ

ص:264

عليّاً مولاه، اللّهم عاد من عاداه، ووال من والاه».(1)

4. إنّ تفسير أهل البيت بمَن تحرم عليهم الصدقة، إنّما هو رأي رآه الصحابي زيد بن أرقم، ولم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم كما هو صريح الحديث، ومن المعلوم: أنّ نقل الصحابي حجّة في ما أسنده إلى النبي، وأمّا رأيه ونظريته، فلا يؤخذ بها إلّاإذا دعمها الدليل، وسيوافيك أنّ مفهوم أهلِ البيت في الآية الكريمة لا صلة له بهذا التفسير ولا بغيره، فانتظر.

ص:265


1- . مسند أحمد: 4/368 و 372، ورواه النسائي في الخصائص: 16.

الفصل الثاني مفهوم «آل البيت» عند الشيعة الاثني عشرية

اشارة

عقد الشيخ الدرويش هذا الفصل لبيان مفهوم آل البيت عند الشيعة الاثني عشرية، وقال فيه ما هذه خلاصته:

«جمهور الشيعة يرون أنّ المراد بأهل البيت هم أصحاب الكساء الخمسة، وأنّهم هم الذين نزلت فيهم آية التطهير، وهم: محمد صلى الله عليه و آله و سلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين، وربّما أدخلوا فيهم بقية الأئمة الاثني عشر، فقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة قالت: «خرج النبي صلى الله عليه و آله و سلم غداة وعليه مَرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .(1)

ثم قال: وهم يرون عدم دخول أُمّهات المؤمنين في مسمّى آل البيت، ونحن نقول: لماذا لا تدخل زوجات الرسول فيه ؟ فإنّ نص الآية وسياقها يدلّ لأوّل وهلة [على] أنّ المراد بأهل البيت أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّ ما قبل آية التطهير وما بعدها خطاب لهن.

ص:266


1- . صحيح مسلم: 1061، الحديث 2424، باب فضائل أهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، دار ابن حزم، بيروت - 1423 ه.

وكذلك تزعم الاثنا عشرية أنّ خطاب التذكير في قوله تعالى: (عَنْكُمُ ) و (يُطَهِّرَكُمْ ) يمنع من دخول أُمّهات المؤمنين في جملة أهل البيت، وهذا مردود، وذلك لأنّه إذا اجتمع المذكر والمؤنث في جملة، غُلّب المذكر.

ثم قال: (ما الدليل على) حصر آل الرسول في علي والحسن والحسين وفي تسعة من أبناء الحسين فقط؟ فهل هؤلاء فقط هم آل بيت الرسول ؟!

سبحان اللّه أين أعمام رسول اللّه كحمزة بن عبدالمطلب والعباس بن عبدالمطلب، وأبي سفيان بن الحارث ؟! أين بقية ذرية الحسين كزيد بن علي بن الحسين ؟ أين ذرية الحسن؛ وبأي دليل أخرجوهم من آل البيت ؟.(1)

***

دليل الحصر عند الشيعة
اشارة

لقد ذكرنا في مقدمة هذه الرسالة أنّ الشيخ الدرويش لم يعط الموضوع حقّه من الدراسة والتتبّع، ومن ثَمَّ لم يرجع في تبيين دليل الشيعة على الحصر إلى المصادر الّتي تطرقت إلى تفسير الآية بشكل واضح، كمجمع البيان للشيخ الطبرسي والميزان للعلّامة الطباطبائي إلى غير ذلك من المصادر الّتي تبنت تفسير الآية بوجه واضح، ولذلك نلفت نظر الشيخ إلى دليل الشيعة على الحصر حتّى يلاحظه بدقّة.

أوّلاً: اللام في أهل البيت للعهد

يقول سبحانه: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) فعندئذ يطرح هذا السؤال: ما هو المراد من اللام ؟ هناك احتمالات ثلاثة:

ص:267


1- . آل البيت وحقوقهم الشرعية: 9-14.

أ. اللام للجنس كما في قوله سبحانه: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (1).

وهذا الاحتمال قطعي الانتفاء في قوله: (أَهْلَ الْبَيْتِ ) على وجه لا يحتاج إلى بيان.

ب. الاستغراق، وهذا كالاحتمال السابق.

إذاً ليست الآية بصدد بيان جميع البيوت في العالم.

فتعيّن الثالث، فلابدّ أن تكون اللام مشيرة إلى بيت واحد معهود بين المتكلّم والمخاطب، وعندئذ يجب تحديد هذا البيت الواحد المعهود.

فهل هو بيوت أزواجه، أو هو بيت فاطمة ؟

لا سبيل إلى الأوّل، لأنّه لم يكن لنسائه بيت واحد، بل كانت كل واحدة تسكن في بيت، ولو أُريد واحد من بيوتهنّ لاختصت الآية بواحدة منهن، وهذا ما اتفقت الأُمّة على خلافه.

وأوضح دليل على نفي هذا الاحتمال أنّه سبحانه عندما يذكرهنَّ ، يجمع البيت ويقول: (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) (2)، فتعيّن أنّ المراد بالآية بيت فاطمة وزوجها والحسن والحسين، فتكون الآية ناظرة إلى ذلك البيت.

ولو أُريد بيت النبي فهو أيضاً غير صحيح، إذ لم يكن للنبي بيت واحد، بل كان بيته بيوت أزواجه.

وحصيلة الكلام: أنّ الآية تتكلّم عن بيت واحد معهود، فما هذا البيت الواحد المعهود؟ هل المراد بيت أزواجه، أو بيت فاطمة ؟

ص:268


1- . العصر: 2.
2- . الأحزاب: 33.

أمّا الأوّل: فغير صحيح، إذ لم يكن هناك بيت واحد، بل بيوت متعدّدة بحكم نصّ الآية.

وأمّا الثاني: فهو المتعيّن، فقد كان لفاطمة عليها السلام بيت واحد تسكنه بنت النبي - أفضل نساء العالمين بحكم صحيح السنّة - وولداها وزوجها.

وليس هناك بيت ثالث حتّى تكون اللام مشيرةً إليه.

ثانياً: تذكير الضمائر

إنّ تذكير الضمائر في الآية دليل واضح على عدم نزول الآية في أزواج النبي ونسائه، وإلّا كان مقتضى السياق أن يؤنث الضمير ويقال: (ليذهب عنكن الرجس ويطهركن تطهيراً)، وذلك بشهادة أنّه سبحانه خاطب في نفس الآيات نساء النبي بصيغة ضمير التأنيث.

ففي الآية الأُولى يخاطبهن بهذه الخطابات:

1. «لستن». 2. «اتقيتن». 3. «فلا تخضعن». 4. «وقلن».

وفي الآية الثانية يخاطبهن بما يلي:

1. «قرن». 2. «بيوتكن». 3. «لا تبرجن». 4. «أقمن». 5. «آتين». 6. «أطعن».

وفي الآية الثالثة يخاطبهن بقوله:

1. «واذكرن». 2. «بيوتكن».

وفي الوقت نفسه يتّخذ في ثنايا الآية الثانية، موقفاً خاصّاً في الخطاب ويقول:

1. «عنكم». 2. «يطهركم».

فماوجه هذا العدول إذا كان المراد نساء النبي ؟

أو ليس هذا دليلاً على أنّ المراد غيرهن.

ص:269

وأمّا ما اعتذر به الشيخ عن إبدال الضمير المؤنث بالمذكر وقال: «لأنّه إذا اجتمع المذكّر والمؤنث في جملة غُلّب المذكّر».

فهو من أعجب الأعذار! لأنّ الشيخ في هذا المقام بصدد بيان اختصاص الآية بنساء النبي بشهادة أنّه قال: «فإنّ نص الآية وسياقها يدلّ ولأوّل وهلة [على] أنّ المراد بأهل البيت أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم أُمهات المؤمنين...» فإذا كانت الآية نصاً - حسب تعبيره - في ما يرتئيه، فليس هناك أيُّ مذكر حتّى يغلّب على المؤنث بل الجميع أُناث.

وأعجب من ذلك ما ذكره في الهامش من أنّه: «إذا صحّ دخول فاطمة عليها السلام وهي مؤنث في الآية، فلم لا يصح في غيرها» وذلك لما بيّنّا من أنّ المراد بالبيت هو بيت فاطمة عليها السلام، فصحّ فيه التغليب لأنّ المذكر أكثر من المؤنث، وأمّا على هذا الرأي الّذي عدّه الشيخ نصَّ الآية وسياقها، فليس هناك أي مذكّر يغلب على المؤنث.

سؤال وإجابة

يمكن للشيخ أن يتخلّص من هذا المأزق بأنّ المراد من الضميرين المذكّرين مطلق من حرمت عليهم الصدقة الّذي اختاره في الفصل الأوّل خلافاً لما في هذا الفصل.

وقد سبق أنّ المذكّر والمؤنث إذا اجتمعا في جملة غُلّب المذكر.

والإجابة عن هذا السؤال واضحة، إذ يجب على الشيخ أن يلتزم بتفكيك الضمائر في الآيات فيخصّ الضميرين (عَنْكُمُ ) و (يُطَهِّرَكُمْ ) بمن تحرم عليه الصدقة، وسائر الضمائر الّتي تناهز اثني عشر ضميراً بنساء النبي وزوجاته اللاتي لا تحرم عليهنّ الصدقة، لأنهنّ لسن هاشميات ولا مطّلبيات.

وقد حاول القرطبي التفصّي عن الإشكال فقال: إنّ تذكير الضمير يحتمل

ص:270

لأن يكون خرج مخرج «الأهل» كما يقول لصاحبه: كيف أهلك، أي امرأتك ونساؤك ؟ فيقول: هم بخير، قال اللّه تعالى: (أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (1).(2)

ولكن المحاولة فاشلة، فإنّ ما ذكره من المثال على فرض سماعه من العرب إنّما إذا تقدم «الأهل» وتأخّر الضمير، دون العكس كما في الآية، فإنّ أحد الضميرين مقدّم على الأهل في الآية، قال سبحانه: (عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .

ثالثاً: ممارسة الحصر في فعل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم

وقد تكرر في كلام الشيخ في ذلك الفصل أنّه لا دليل على حصر الآية في فاطمة وبعلها وبنيها، ولكنّه لو أمعن النظر في ما ذكرنا من الوجهين وما مارسه النبي صلى الله عليه و آله و سلم طيلة حياته، إذ طبق الآية على المذكورين غير مرّة، لوقف على أنّ القول بالحصر هو عين الصواب لا بعيداً عن الصواب، وها نحن نذكر شيئاً من ممارسة النبي لتطبيق الآية:

1. ما نقله المؤلّف عن صحيح مسلم عن عائشة خرج النبي صلى الله عليه و آله و سلم غداة وعليه مَرْط مُرحّل من شعر أسود، فأدخل الحسن والحسين وفاطمة وعلياً تحته ثم قال: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ، فماذا كان النبي يقصد بذلك العمل ؟ فلو كان المراد كل من يحرم عليهم الصدقة أو نساءه وزوجاته، فما هو الوجه لإدخالهم تحت الكساء، فإنّ عمله هذا نوع تحديد لمفهوم الآية، حتّى يسد الطريق أمام كلّ مَن يريد تفسير الآية بغير هؤلاء الأربعة أو جعل شركاء آخرين لهم في المراد.

ص:271


1- . هود: 73.
2- . جامع الأحكام: 14/182.
2. تلاوة الآية على باب بيت فاطمة عليها السلام

حفلت كتب التفاسير لأهل السنّة عند تفسير آية التطهير بذكر روايات عديدة تشير إلى أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يتلو هذه الآية على باب بيت فاطمة عندما كان يمر عليها، وهي كثيرة نذكر هنا القليل منها:

1. عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة فيقول: الصلاة أهل البيت: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .

2. وعن أبي الحمراء قال: رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، قال: رأيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة فقال: الصلاة الصلاة: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .

3. وعن أبي سعيد الخدري قال: لمّا دخل علي رضى الله عنه بفاطمة عليها السلام جاء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أربعين صباحاً إلى بابها يقول: «السلام عليكم أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته، الصلاة رحمكم اللّه (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ، أنا حرب لمن حاربتم، أنا سلم لمن سالمتم».(1)

والروايات الواردة في تفسير الآية بفاطمة عليها السلام ومن يسكن بيتها تناهز 35 رواية تنتهي أسانيدها إلى أقطاب الحديث من الصحابة وهم:

1. أبو سعيد الخدري.

2. أنس بن مالك.

3. ابن عباس.

ص:272


1- . لاحظ للوقوف على مصادر هذه الروايات: تفسير الطبري: 22/5-7، وتفسير الدر المنثور للسيوطي: 5/198-199.

4. أبو هريرة الدوسي.

5. سعد بن أبي وقاص.

6. واثلة بن الأسقع.

7. أبو الحمراء، أعني: هلال بن الحارث.

8. أُمّهات المؤمنين: عائشة وأُم سلمة.

أفيصح بعد هذا لمناقش أن يشك في صحّة نزولها في حق العترة الطاهرة ؟

وليس الطبري ولا السيوطي متفردين في نقل تلك المأثورات، بل سبقهما أصحاب الصحاح والمسانيد، فنقلوا نزول الآية في حقّهم صريحاً أو كناية، منها:

1. ما نقله الترمذي عن أُم سلمة رضي اللّه عنها، قالت: إنّ هذه الآية نزلت في بيتي (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قالت:

وأنا جالسة عند الباب فقلت: يا رسول اللّه ألست من أهل البيت ؟ فقال: «إنّك إلى خير، أنت من أزواج رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم»، قالت: وفي البيت رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وعلي وفاطمة وحسن وحسين، فجلّلهم بكسائه وقال: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً».(1)

وفي رواية أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم جلّل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة ثم قال: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي وحامَّتي أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»، قالت أُم سلمة: وأنا معهم يا رسول اللّه ؟ قال: «إنّك إلى خير».(2)

هذا، وقد تركنا نقل ما وقفنا عليه من النصوص الصريحة في نزول الآية

ص:273


1- . سنن الترمذي: 5/30 برقم 3258، تفسير سورة الأحزاب باختلاف.
2- . سنن الترمذي: 5/360 برقم 3963، باب ما جاء في فضل فاطمة عليها السلام.

واختصاصها بأصحاب الكساء روماً للاختصار، فعلى الشيخ ومَن على منهجه أن يرجع إلى المصادر الحديثية المتوفّرة بين يديه.(1)

وإذا كان الوحي هو الّذي خصّص الآية ببيت خاص،(2) فما معنى تباكي الشيخ على أعمام الرسول وأبناء أعمامه أو بقية ذرية الحسن والحسين، بقوله:

أين أعمام الرسول، وأبناء أعمامه إلى آخر ما ذكره ؟! أليس هذا إطاحة بالوحي وتقدّماً على اللّه ورسوله ؟! وقد قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ ) (3).

2. ما رواه مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص في حديث لمّا نزل قوله سبحانه: (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ ...) .(4)

دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: «اللّهم هؤلاء أهلي».(5)

ولا أظن أنّ الشيخ الدرويش يناقش في صحّة هذين الحديثين اللّذيْن رواهما مسلم في صحيحه.

ص:274


1- . للوقوف على تلك المأثورات انظر: جامع الأُصول لابن الأثير: 10/100-103 وغيره من الجوامع الحديثية.
2- . ذلك البيت الّذي يتمتع بجلال وكرامة والّذي عرّفه النبي بأنّه من أفاضل البيوت الّتي أمر الناس برفعها، أخرج السيوطي في الدر المنثور عن أنس بن مالك وبريدة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قرأ قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل وقال: أيّ بيوت هذه يا رسول اللّه ؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «بيوت الأنبياء». فقام إليه أبو بكر وقال: يا رسول اللّه، وهذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت علي وفاطمة عليهما السلام. فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «نعم من أفاضلها». تفسير الدر المنثور: 5/50.
3- . الحجرات: 1.
4- . آل عمران: 61.
5- . صحيح مسلم: 1054، الحديث 2404، باب فضائل علي عليه السلام.

الفصل الثالث فضائل آل البيت عند أهل السنّة

اشارة

عقد الشيخ الدرويش فصلاً تحت هذا العنوان وذكر فضائلهم في القرآن وعدّ منها:

1. آية التطهير.

2. آية المباهلة.

3. حديث الغدير.

4. حديث الاصطفاء، يعني ما رواه مسلم في صحيحه عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول اللّه يقول: «إنّ اللّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».

5. حديث الصلاة الإبراهيمية.

روى أحمد في مسنده عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه كان يقول:

«اللّهم صل على محمد وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد».

ثم نقل عن ابن القيّم أنّه قال حول الحديث: جمع بين الأزواج والذرية والأهل، وإنّما نصّ عليهم بتعيينهم، ليبيّن أنّهم حقيقون بالدخول في الآل وأنّهم ليسوا بخارجين منها، بل هم أحقّ من دخل فيه، وهذا كنظائره من عطف الخاص على العام.

ص:275

وأمّا ما ورد عن الصحابة (رض) في حقّ آل البيت فأكثر من أن يُحصر فمن ذلك، قال أبو بكر: ارقبوا محمداً في أهل بيته.

وقال لعلي: والّذي نفسي بيده لقرابة رسول اللّه أحبّ إلي أن أصل قرابتي؛ وبعد أن ذكر بعض الأحاديث والآثار في فضائل آل البيت قال: وطلباً للاختصار لم نتوسع في ذكر ما ورد عن علماء السنة وأئمتهم في الثناء على آل البيت وهي كثيرة جدّاً لو جمعت لامتلأت بها مجلدات.(1)

تحليل ومناقشة

لا شك أنّ ما ذكره من فضائل أهل البيت صحيح لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، غير أنّا نسأل المؤلّف أن يجيب عن هذا السؤال:

ما هو المبرِّر والداعي لذكر هذه الفضائل في الذكر الحكيم والسنّة النبوية ؟

فهل أنّ الغرض من ذلك فقط هو دعوة المسلمين إلى تكريمهم حتّى يحتلّوا مكانة مرموقة في المجتمع الإسلامي.

أم أنّ هناك أمراً آخر وراء ذلك أيضاً؟

إذ لو كان الغرض مجرد الدعوة إلى التكريم وإظهار الحب لكفى في ذلك الآية الكريمة: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (2).

ولما كانت هناك حاجة إلى إشراكهم في المباهلة، أو التعريف بعلي في غدير خمّ في ذلك المحتشد العظيم في الجو اللاهب حيث لا يظلهم فيه إلّا الشمس قائلاً: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه».

كلّ ذلك يبعثنا لئن نتحسّس الدافع الحقيقي الّذي صار سبباً لئن يهتم

ص:276


1- . آل البيت وحقوقهم الشرعية: 15-21.
2- . الشورى: 23.

الوحي الإلهي ببيان مكانتهم ومقاماتهم في شتّى المواقف والحالات، وما ذلك الهدف إلّادعوة الناس إلى مرجعية أهل البيت في ما يهمّ المسلمين في دينهم ودنياهم، وقد صرّح بذلك في حديث الثقلين الّذي قد رواه أعلام أهل السنّة، ونقتصر على ذكر القليل من الكثير:

1. حديث الثقلين

1. أخرج الترمذي من حديث جابر وزيد بن أرقم قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي» وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما».(1)

2. أخرج أحمد بطريق صحيح من حديث زيد بن ثابت قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض (أو بين السماء إلى الأرض)، وعترتي أهل بيتي وانّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».(2)

3. أخرج الحاكم في الجزء الثالث من المستدرك قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وأهل بيتي، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».(3)

قال: هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

وأقرّ الذهبي في تلخيص المستدرك بصحّته على شرط الشيخين في هامش الكتاب.

ص:277


1- . صحيح الترمذي: 5/328-329 برقم 3874 و 3876.
2- . مسند أحمد: 5/182 و 189.
3- . المستدرك على الصحيحين: 3/148.

وللحديث طرق ومصادر كثيرة لا يسع المقام لنقلها، ومن أراد فليرجع إلى ما أُلّف حول الحديث من موسوعات وكتب ورسائل.

وهناك كلمة قيّمة لابن حجر؛ إذ بعدما نقل حديث الثقلين قال ما هذا لفظه:

ثم اعلم أنّ لحديث التمسّك بهما طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً،... إلى أن قال: وفي بعض تلك الطرق: أنّه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة، وفي أُخرى: أنّه قاله بالمدينة في مرضه، وقد امتلأت الحجرة بأصحابه. وفي أُخرى: أنّه قال ذلك بغدير خم، وفي أُخرى: أنّه قال ذلك لمّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف كما مرّ (قال): ولا تنافي، إذ لا مانع من أنّه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة... إلى آخر كلامه.(1)

2. حديث السفينة

وليس حديث الثقلين فريداً في الإشارة إلى أنّ أهل بيته صلى الله عليه و آله و سلم هم المعنيّون بوجوب الرجوع إليهم في أُمور الدين والدنيا، بل تتلوه أحاديث أُخرى نذكر حديثاً واحداً منها وهو حديث السفينة المعروف.

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ألا إنّ مثَلَ أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه مَن ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق».(2) وللحديث طرق ومصادر أُخرى، صفحنا عن ذكرها للاختصار.

كلّ ذلك يدلّ على أنّ الغرض الأهم والمقصد الأسنى من الإشارة إلى

ص:278


1- . الصواعق المحرقة: 148 ط. المحمدية وص 89 ط. الميمنية بمصر.
2- . المستدرك على الصحيحين: 3/151.

فضائلهم ومناقبهم الّتي ذكر الشيخ المؤلف قسماً منها وترك القسم الآخر، هو بيان أنّهم هم المفزع والمرجع في مهام الأُمور ممّا يمت إلى العقيدة والشريعة وإدارة الأُمور وتدبيرها.

فعندئذ نسأل المؤلّف - أعني: فضيلة الشيخ صالح الدرويش - هل أنّه رجع إليهم في جانبي العقيدة والشريعة ؟! أو هل أنّ أساتذته ومشايخه قد رجعوا إليهم في الأُصول والفقه ؟!

أم أنّهم أعرضوا عن العترة الطاهرة في هذين المجالين وأناخوا ركائبهم على أبواب غيرهم.

وأمّا ما ذكره في معرض كلامه عن الحديث المروي في مسند أحمد عن رجل من أصحاب النبي عنه صلى الله عليه و آله و سلم: «اللّهم صل على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته» حيث قال: إنّه من قبيل عطف الخاص على العام. فإنّه أمر غير صحيح على مختاره في تفسير أهل البيت، لأنّه فسّر أهل البيت بمن تحرم عليهم الصدقة، ومن المعلوم: أنّ أزواج النبي لا تحرم عليهنّ الصدقة؛ لأنهنّ لسن هاشميات ولا مطّلبيّات،(1) ولو صحّ الحديث فهو في مورد الأزواج من عطف المغاير على المغاير، وسوف نعطي الموضوع حقّه في فصل خاص عند ذكر الصلوات على النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:279


1- . إلّازينب بنت جحش، ابنة عمته صلى الله عليه و آله و سلم.

الفصل الرابع عقيدة أهل السنّة والجماعة في آل البيت عليهم السلام

اشارة

عقد الشيخ الدرويش هذا الفصل لبيان عقيدة أهل السنّة في آل البيت عليهم السلام، وكان اللائق به أن يلتزم بتوضيح ما يحكي عنه العنوان ولا يخرج عنه، في ثنايا البحث إلّاأنّنا وجدناه - عفا اللّه عنّا وعنه - قد اتخذ العنوان غطاءً للرد على ما حسبه عقيدة للشيعة في آل البيت عليهم السلام، فخلط الغث بالسمين والزائف بالصحيح، ونحن نذكر خلاصة ما ذكره في ذلك الفصل ضمن نقاط:

الأُولى: قال: يتّهم الاثنا عشرية أهل السنّة بأنّهم يبغضون آل البيت، لذا يسمّونهم بالنواصب والخوارج، ولكنّ الحق أنّ مذهب أهل السنّة مذهب مستقل ومذهب النواصب والخوارج مذهب آخر.

فأهل السنّة وسط في حب آل البيت بين المذاهب.(1)

يلاحظ على ما ذكر:

إنّ الشيعة تُميِّزُ أهل السنّة عن الخوارج والنواصب في كتب العقيدة والشريعة، ومَن كان له أدنى إلمام بكتبهم يعرف أنّ لكلّ من هؤلاء تعريفاً في كتبهم وأحكاماً خاصّة، فكان على الشيخ أن يذكر مصدراً من كتب الشيعة بأنّهم يتّهمون أهل السنّة عامّة بكونهم من النواصب والخوارج.

ص:280


1- . آل البيت وحقوقهم الشرعية: 21.

وكيف يمكن للشيعة أن يَعدّوا أهل السنّة من النواصب والخوارج ؟! وهم تبعاً لفقهائهم يكفّرون طوائف ثلاثة، وهي: الغلاة، والخوارج، والنواصب فقط، ولا يكفّرون أحداً من أهل السنّة.(1)

كيف يتّهمون أهل السنّة وهم يترنّمون بأبيات الإمام الشافعي في حق آل البيت، إذ يقول:

يا أهل بيت رسول اللّه حبكمُ فرض من اللّه في القرآن أنزلهُ

كفاكم من عظيم الفخر انّكمُ من لم يصلِّ عليكم لا صلاة لهُ

وقال أيضاً:

يا راكباً قفْ بالمحصَّب من منى واهتف بقاعد خِيفها والناهضِ

سَحَراً إذا فاض الحجيج إلى منىً فيضاً كملتطم الفرات الفائضِ

إن كان رفضاً حبّ آل محمدٍ فليشهدِ الثقلانِ أنّي رافضي

ومن أشعاره أيضاً:

إذا في مجلسٍ ذكروا علياً وسبطيه وفاطمة الزكيّة

يقال تجاوزوا يا قوم هذا فهذا من حديث الرافضيّة

برئتُ إلى المهيمن من أُناسٍ يرون الرفض حبَّ الفاطمية

والمسألة غنية عن البيان لا تحتاج إلى نقل كلمات فقهائنا في حق أهل

ص:281


1- . العروة الوثقى، للسيد كاظم اليزدي: 24، طبعة دار الكتب الإسلامية؛ تحرير الوسيلة، للإمام الخميني: 1/118.

السنّة، بل يكفينا أن نشير إلى أنّ جميع فقهاء الشيعة يعتمدون في ذكر فضائل الأئمة ومناقبهم على المصادر الحديثية الّتي كتبها العلماء الأعلام من أهل السنّة.

فهل راجعت يا سماحة الشيخ ماكتبه أقطاب أهل الحديث من أهل السنّة في مناقب أئمة أهل البيت، نظراء:

1. الإمام أحمد بن حنبل (المتوفّى 241 ه) مؤلّف كتاب فضائل علي الّذي طبع ضمن كتاب «فضائل الصحابة».

2. الحافظ أبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي (المتوفّى 303 ه) مؤلف كتاب «خصائص الإمام أمير المؤمنين عليه السلام» المطبوع في مصر وغيرها.

3. الحافظ الخطيب أبي الحسن علي بن محمد الشهير بابن المغازلي (المتوفّى 483 ه) مؤلّف كتاب «مناقب الإمام علي بن أبي طالب».

4. أحمد بن محمد المكّي المعروف بالخوارزمّي (المتوفّى 568 ه) مؤلف «المناقب». وقد قمنا بطبع هذا الكتاب مقدّمين له مقدّمة بقلمنا باسم:

«علي إمام المتقين».

5. الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن محمد الجزري الشافعي (المتوفّى 833 ه) مؤلف كتاب: «أسنى المطالب في مناقب سيدنا علي بن أبي طالب».

إلى غير ذلك من كتب ورسائل ألّفها إخواننا أهل السنّة، فكيف يمكن لنا أن نتّهمهم بالنصب والخروج ؟!

وقد قمنا تبعاً لأسلافنا بإلقاء محاضرات في الفرق الإسلامية وطبعت في عدة أجزاء(1) فخصصنا الجزء الأوّل لبيان عقيدة أهل الحديث، والثاني لبيان

ص:282


1- . انظر: موسوعة بحوث في الملل والنحل، في ثمانية أجزاء، طبع مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام - للمؤلف.

عقيدة الأشاعرة، والثالث لبيان عقيدة المعتزلة، والرابع لبيان عقيدة الوهابية، والخامس لبيان عقيدة الخوارج والاباضية، والسادس لبيان عقيدة الشيعة الإمامية، والسابع لبيان عقيدة الزيدية، والثامن لبيان عقيدة الإسماعيلية.

ويحق لنا أن نعاتبه بأنّ بعض مشايخ أهل السنّة هم الذين يتّهمون الشيعة بالكفر، وهذا هو مسلسل التكفير الّذي يصدره مشايخ الوهابية حيناً بعد حين ويرأسهم عبداللّه بن عبدالرحمن بن جبرين (عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية) مرة بعد أُخرى، والّذي يقول في أحد بياناته المؤرخ 22/2/1412 ه: إنّ الرافضة غالباً مشركون حيث يدعون علي بن أبي طالب دائماً في الشدة والرخاء، حتّى في عرفات والطواف والسعي، ويدعون أبناءه وأئمتهم كما سمعناهم مراراً، وهذا شرك أكبر، وردّة عن الإسلام يستحقون القتل عليها، كما أنّهم يغالون في وصف علي رضى الله عنه ويصفونه بأوصاف لا تصلح إلّاللّه، كما سمعناهم في عرفات، وهم بذلك مرتدون.

ولم يكتف هذا المفرّق بذلك، بل له جواب مشابه عن سؤال آخر أدلى به بتاريخ 23/8/1421 ه في مسجد الراجحي في إحدى حلقات درسه ولم يأت فيه بشيء جديد.

ولم تتوقّف بياناته المغرضة حتّى أنّه أصدر في هذه الأيام(1) بياناً يدعو فيه إلى تكفير الشيعة وجواز قتلهم، وقد صدّر بيانه في وقت كانت الحرب ضارية بين مجاهدي شيعة لبنان والعدو الصهيوني، وقد بلغت الجرأة بابن جبرين ومن لفّ لفَّه إلى حدّ حرّم هو وأمثاله حتّى الدعاء لأجل طلب النصر للشيعة في حربهم على الاسرائيليين.

أفبعد هذه الوثائق الصارخة يصحّ للشيخ الدرويش أن يعتب على الشيعة

ص:283


1- . تاريخ إصدار البيان كان في 2/1/1428 ه.

ويقول: إنّهم يتّهمون السنّة بأنّهم خوارج ونواصب ؟!

وحاشاه أن يكون مصداق هذا المثل: رمتني بدائها وانسلت.

وقد صار عمل ابن جبرين ذريعة لعدّة ممّن لا يخافون اللّه، فأصدروا بياناً يكفّرون فيه الشيعة، ويدعون إلى نصرة الإرهابيّين الذين يقتلون المسلمين في العراق وغيره بلا رحمة.

الثانية: قال: والاثنا عشرية يغالون في حب آل البيت، ومنهم من يطوف على قبورهم ويدعوهم بكشف الضر وجلب النفع، ومنهم من يزعم أنّهم يعلمون الغيب، وأمّا أهل السنّة فهم لا يغلون(1)، ولا يطوفون حول قبورهم، لأنّ اللّه أمر بالطواف حول الكعبة فقط، ولأنّ الطواف عبادة والعبادة لا تكون إلّاللّه، وكذلك لا يدّعون فيهم أنّهم يعلمون الغيب، لأنّ اللّه يقول: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) (2).

ثم إنّ المؤلّف استدلّ على عدم علمهم بالغيب بخروج الإمام الحسين عليه السلام مع أولاده الصغار من مكة متوجهاً إلى كربلاء وقال: وهل يصحّ الخروج بالأولاد الصغار إلى مصارعهم وقد قال تعالى: (وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ ) (3)؟ فكيف يخرج الحسين رضى الله عنه بأولاده الصغار وهو يعلم قتلهم ؟! بل هذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو أفضل خلق اللّه وأكرمهم عليه يقول كما أمره ربه: (وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ ) (4).

هذه النقطة هي الّتي أشرنا إليها من قبل وقلنا: إنّ المؤلّف قد خرج فيها

ص:284


1- . كذا في المصدر والصحيح «يغالون».
2- . النمل: 65.
3- . الإسراء: 31.
4- . الأعراف: 188.

عن العنوان الّذي اختاره لهذا الفصل، وصار يتّهم الشيعة ويردّ عليهم ونسب إليهم الأُمور التالية:

1. أنّهم يطوفون على قبور الأئمة.

2. يدعونهم لكشف الضر.

3. منهم من يزعم أنّهم يعلمون الغيب.

4. كيف خرج الحسين وهويعلم قتله وقتل أولاده الصغار؟

وإليك دراسة ما ذكر.

أمّا الأمر الأوّل: فهو أمر لامسحة عليه من الحق ولا لمسة له من الصدق، وكان على الشيخ أن يذكر مصدراً لذلك، وشهيدي اللّه إنّي لم أر في كتاب ولا رسالة ولا في كتيب منسوب إلى أحد الشيعة أن يذكر فيه استحباب الطواف على القبور، وقد تواترت الروايات على زيارة القبور، بالأخّص زيارة قبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته عليهم السلام، وأمّا الطواف فلم يذكره أحد، ولو صدر شيء يشبه الطواف من شخص، فيجب أن يُرشد إلى الحق، لا أن يتّخذ دليلاً ضد الشيعة جميعهم.

وأمّا الأمر الثاني: أعني به دعاء الأئمة لكشف الضر وقضاء الحوائج، فهو أيضاً نسبة مفتعلة تضاد عقائد الشيعة، فإنّ التوحيد في الربوبية(1) من مراتب التوحيد، وأنّه لا يقضي الحوائج ويكشف الكرب سوى اللّه سبحانه، كما أنّه لا خالق غيره.

وهؤلاء هم الشيعة يقرأون لقضاء حوائجهم هذه الآية: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ ) ثم إنّهم بعد ذلك يذكرون حوائجهم.

ص:285


1- . التوحيد في الربوبيّة غير التوحيد في الخالقية، وقد خلط غير واحد من طلاب منهج محمد بن عبدالوهاب بينهما. لاحظ: مفاهيم القرآن: 1/380.

وهاهم أيضاً يقرأون صباح كلّ جمعة الدعاء التالي: «اللهم أنتَ كشّافُ الكُرَبِ والبلْوى، وإليك أسْتَعدي فعندك العَدْوى، وأنتَ ربُّ الآخرةِ والدنيا، فأغثِ يا غياثَ المستغيثين عُبيدَك المبتلى ».

وكذا نجد في الدعاء الّذي علمه الإمام علي عليه السلام لحواريّه كميل بن زياد والشيعة يدعون بهذا الدعاء الّذي يتضمن قوله عليه السلام: «اللّهم إنّي أسألك برحمتك الّتي وسعت كلّ شيء... إلى أن يقول: يا غياثُ المُستغيثين يا غايةَ آمالِ العارفِين يا حبيبَ قلوب الصادقين»، إلى غير ذلك من الأدعية الّتي يردّدها الشيعة كلّ يوم وليلة، ولا يرون رباً ولا كاشفاً للكرب ولا قاضياً للحوائج سوى اللّه سبحانه، ولسان حالهم هو الآية الكريمة: (يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ وَ اللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) .

نعم التوسّل بالنبي والأئمة غير دعائهم لكشف الضر وجلب النفع، ومعنى التوسّل هو: طلب الدعاء منهم، لأنّهم ممّن تُستجاب دعوتُهم، وليس طلبُ الدعاء منهم بعد رحلتهم إلّاكطلب الدعاء منهم حال حياتهم، فلو كان الأوّل شركاً كان الثاني أيضاً مِثلَه، وكون المدعو حيّاً أو ميتاً لا يؤثر في حقيقة الدعاء، وإنّما يؤثر في كون الدعاء نافعاً أو غير نافع.

وقد جرت سيرة الصحابة على طلب الدعاء من النبي بعد رحيله كما هو الحال في حال حياته، وها نحن نذكر أُنموذجاً لذلك.

روى الطبراني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف: أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: إئت الميضأة فتوضّأ ثم ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثم قل: اللّهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه و آله و سلم نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك

ص:286

إلى ربّي فتقضي لي حاجتي، فتذكر حاجتك ورح حتّى أروح معك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفان رضى الله عنه فجاء البوّاب حتّى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان رضى الله عنه فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: حاجتك ؟ فذكر حاجته، فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرتُ حاجتك حتّى كان الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها، ثم إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك اللّه خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتّى كلمته فيّ ، فقال عثمان بن حنيف: واللّه ما كلّمتُه، ولكنّي شهدت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد أتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

فتصبّر، فقال: يا رسول اللّه ليس لي قائد، فقد شق عليّ ، فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «إئت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات».

قال ابن حنيف: فواللّه ما تفرّقنا وما طال بنا الحديث حتّى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ قط.(1)

إنّ هذه الرواية ونظائرها تكشف عن أنّ الصحابة كانوا يدعون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويتوسّلون به حتّى بعد وفاته صلى الله عليه و آله و سلم من دون أن يعتبروا ذلك محرّماً، بل ولا مكروهاً.

هذا هو الإمام شمس الدين أبو الفرج عبدالرحمن بن قدامة المقدسي (المتوفّى 682 ه) الحنبلي مؤلف الشرح الكبير على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ينقل عند الكلام في استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم: عن العتبي أنّه قال:

كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول اللّه، سمعت اللّه يقول: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ

ص:287


1- . الحافظ الطبراني: المعجم الكبير: 9/16 و 17. واسناد الحديث متوفرة لاحظ: سنن ابن ماجة: 1/441، برقم 1385؛ مسند أحمد: 4/138؛ والمستدرك: 1/313 وغيرها.

لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً) (1) وقد جئتك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن البان والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم انصرف الأعرابي، فحملتني عيني، فرأيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال ياعتبي:

«إلحق الأعرابي فبشّره أنّ اللّه قد غفر له».(2)

لاشك أنّ دعاء النبي أو أحد الأئمة من أهل بيته ونداءه والتوسّل به باعتقاد أنّه إله أو ربّ أو مستقلّ في التأثير أو مالك للشفاعة والمغفرة شرك وكفر، ولكنّه لا يقوم به أيّ مسلم في أقطار الأرض، بل ولا يخطر ببال أحد وهو يقرأ آيات الكتاب العزيز آناء الليل وأطراف النهار، ويتلو قوله سبحانه: (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ ) (3)؟

(أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ تَعالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) .(4).

(قُلْ أَ غَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا) (5).

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلاّ ما شاءَ اللّهُ ) .(6)

إنّ المسلمين لا يعتقدون في النبي وأهل بيته المطهرين: (فاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام) إلّاكونهم عباداً صالحين مقرَّبين عند اللّه مستجابة

ص:288


1- . النساء: 64.
2- . الشرح الكبير: 3/494. وليس المقدسي فريداً في نقله، بل يوجد مصادر أُخرى يستطيع عليها المتتبّع الرجوع إليها.
3- . فاطر: 3.
4- . النمل: 63.
5- . الأنعام: 164.
6- . يونس: 49.

دعوتُهم، ولا يعتقدون بغير ذلك من ربوبية أو إلوهية أو مالكية للشفاعة والمغفرة أبداً.

ولكنّ القوم الذين عمدوا إلى تكفير الشيعة وغيرهم من المسلمين لم يفرّقوا بين الدعاءين والنداءين، فرموهما بسهم واحد.

الثالثة: نسب الشيخ إلى الشيعة أنّهم يعتقدون بأنّ أئمتهم يعلمون الغيب واللّه سبحانه يقول: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) (1).

يلاحظ على ما ذكر: أنّ العلم بالغيب يراد به أحد معنيين:

أ. العلم الذاتي الّذي ينبع من ذات العالم غير المكتسب من آخر، وهذا هو ما يختصّ باللّه الواحد الأحد، وإليه تشير الآية المباركة الّتي استدلّ بها الشيخ الدرويش.

ب. الإخبار بالغيب بتعليم من اللّه العزيز أحداً من عباده الصالحين في مورد واحد أو في موارد كثيرة أو قليلة، فعلم الغيب بهذا المعنى يزخر به الكتاب والسنّة.

فهذه سورة يوسف عليه السلام تخبرنا بأنّ يعقوب وابنه يوسف عليهما السلام قد أخبرا عن حوادث غيبية مستقبلية كثيرة، منها:

1. لمّا أخبر يوسف والده بأنّه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين له، قال يعقوب عليه السلام: (يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) (2)، وبذلك أخبر ضمناً عن مستقبله المشرق الّذي لو عرف به إخوته لثارت عليه حفائظهم.

2. لمّا أخبر صاحبا يوسف في السجن يوسفَ برؤياهما قال عليه السلام: (وَ أَمَّا

ص:289


1- . النمل: 65.
2- . يوسف: 5.

اَلْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ ) .(1)

3. لمّا فصلت العير قال أبوهم «يعقوب»: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) .(2)

وهذا هو النبي عيسى عليه السلام يقول لقومه في معرض بيان معاجزه وبيّناته:

(وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) (3).

أليست كلّ هذه إخبارات بالغيب، ومغيبات أنبأ بها الرسل ؟ وإذا هي ثبتت لنبيّ ، جاز نسبتها إلى العترة الطاهرة؛ لما لهم من المنزلة والمكانة العليا، وهل عليٍّ عليه السلام أقلّ شأناً من هارون عليه السلام وقد قال النبي بشأنه:

«ياعلى أمّا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي ؟(4) الّذي يعني: أنّه له ما للرسول إلّاأنّه ليس نبياً، لختم النبوة برسول اللّه محمد صلى الله عليه و آله و سلم.

كيف لا، وعلي عليه السلام وارث علم رسول اللّه بإجماع الأُمة الإسلامية، وهل عليٌّ عليه السلام أقل من كعب الأحبار الّذي أخبر الخليفة الثاني بأنّه سيموت بعد ثلاثة أيام وتحقّقت هذه النبوءة فعلاً.(5)

وكان على الشيخ الدرويش دراسة ما أخرجه قومه في أئمتهم من العلم بالغيب، ففي مسند أحمد: أنّ عمر بن الخطاب أخبر بموته بسبب رؤيا رآها وكان بين رؤياه وبين يوم مصرعه أُسبوع واحد.(6)

ولماذا غفل عن مسألة «المحدَّث» بين الأُمة الإسلامية، الّذي لا يرى الملك ولكن يسمع كلامه فيخبر عن ملاحم ومغيبات بإذن اللّه، وانّ عمر بن

ص:290


1- . يوسف: 41.
2- . يوسف: 94.
3- . آل عمران: 49.
4- . جامع الأُصول: 8/650.
5- . الرياض النضرة: 2/75.
6- . مسند أحمد: 1/48 و 51.

الخطاب أحد هؤلاء المحدَّثين.

وإن كان في شكّ منه، فليقرأ الصحيحين.(1)

الاستدلال بخروج الإمام الحسين عليه السلام

استدلّ الشيخ المؤلّف على عدم علم الإمام بالغيب حتّى بالمعنى الّذي بيّناه بخروج الإمام الحسين بأولاده الصغار إلى العراق، فقال: كيف يخرج الحسين عليه السلام بأولاده الصغار وهو يعلم قتلهم... الخ.

يلاحظ عليه:

1. ما ذكره الشيخ ليس أمراً جديداً، وإنّما طرحه المخالفون قبل أكثر من ألف عام، وقام علماء الشيعة آنذاك بتوضيح جوابهم على ذلك، وهو: أنّ علم الإمام بشهادته وشهادة أبنائه لا يمنعه من الخروج على الظالمين والوقوف بوجه طغاة عصره، إذ لم ينهض ريحانة المصطفى إلّابواجبه الديني حيث أحس بالخطر المحدق بالإسلام والمسلمين المتمثّل بحكومة يزيد والّذي يصفه الإمام لأبيه معاوية بقوله: تُريد أن توهم الناس في يزيد؟! كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّاكان ممّا احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبّق لاترابهن، والقينات ذوات المعازف وضرب الملاهي، تجده باصراً، ودع عنك ما تُحاول، فما أغناك أن تلقى اللّه من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه.(2)

كيف يسكت ويُسلم أزمّة الأُمور لمن يطالب بثارات من قتل في بدر

ص:291


1- . راجع: صحيح البخاري: 2/460، باب مناقب عمر بن الخطاب، برقم 3689؛ صحيح مسلم: 1194 برقم 6098، تحقيق صدقي جميل العطار.
2- . الإمامة والسياسة: 1/153.

وأُحد، فلمّا بلغ مناه جاهر بكفره وأظهر شركه بالشعر الّذي تغنى به:

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

قد قتلنا القرم من ساداتهم وعدلناه ببدرٍ فاعتدل

لأهلّوا واستهلوا فرحاً ثمّ قالوا: يا يزيد لا تُشل

لست من خندفَ إن لم انتقم من بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولاوحي نزل(1)

فقد عرف سيد العظمة وريحانة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أنّ من واجبه إنهاض المسلمين ضد الحكومة الأُموية وإيقاظ ضمائرهم لمقابلة الخطر، وذلك الأمر لا يتحقق إلّابخروجه واستشهاده في ذلك الطريق حتّى تتحرك الدماء في عروق الأُمة الإسلامية، وقد تحققت أُمنيّته حيث توالت النهضات واحدة بعد الأُخرى حتّى انقلعت الشجرة الخبيثة من أُصولها.

وقد قام غير واحد من المحقّقين بتحقيق أهداف ثورة الإمام الحسين عليه السلام وانّه خاض هذه المعركة مع علمه بأنّه سيقتل، إذ لم تكن غايته من الثورة هي مجرد السيطرة على مقاليد الخلافة، حتّى يعوقه العلم بالشهادة عن خوض هذه المعركة، بل كان غرضه من هذه التضحيات إعلام الأُمّة بفضاضة الأُمويين وقسوة سياستهم وابتعادهم عن الدين وتوغّلهم في الجاهلية، وأنّهم هم الذين لا يوقرون كبيراً ولا يرحمون صغيراً، فلذلك قدّم إلى ساحة التضحية أغصان الرسالة وأوراد النبوة وأنوار الخلافة، حتّى يعرف الملأ بما يكنّه يزيد من حقد على الإسلام وعلى نبيه ونواميسه وطقوسه، وهذا شيء يعرفه كلّ من درس نهضة الإمام الحسين عليه السلام، وإليك بعض الكلمات من محقّقي التاريخ في العصر الحاضر.

ص:292


1- . الأبيات لابن الزبعرى . وقد تمثل بها يزيد.

أشار الشيخ شمس الدين في كتابه «ثورة الحسين عليه السلام» إلى فلسفة قيام الإمام الحسين عليه السلام بهذه الثورة العظيمة وبتلك التضحيات الجسام، قائلاً: والّذي أعتقده هو أنّ وضع المجتمع الإسلامي إذ ذاك كان يتطلّب القيام بعمل انتحاريّ فاجع يُلهب الروح النضالية في هذا المجتمع، ويتضمّن أسمى مراتب التضحية ونكران الذات في سبيل المبدأ، لكي يكون مناراً لجميع الثائرين حين تلوح لهم وعورة الطريق، وتضمحل عندهم احتمالات الفوز، وترجح عندهم إمارات الفشل والخذلان.

لقد كان قادة المجتمع وعامة أفراده إذ ذاك يقعدون عن أيّ عمل إيجابي لتطوير واقعهم السيء بمجرد أن يلوح لهم ما قد يعانون في سبيل ذلك من عذاب، وما قد يضطرون إلى بذله من تضحيات، وكانوا يقعدون عن القيام بأي عمل إيجابي بمجرد أن تحقّق لهم السلطة الحاكمة بعض المنافع القريبة.(1)

وقال عبداللّه العلايلي في كتابه «تاريخ الحسين نقد وتحليل» قال في فصل خاص سمّاه «مصرع في سبيل الواجب»: وازن الحسين عليه السلام بين الرغبة في البقاء، وبين الواجب، فرأى طريق الواجب أفسح الطريقين وأرضاهما عند اللّه والناس.

ثم يقول: سار بقلّته المؤمنة وثبت في معركة الحق والباطل، وجعل بين ناظريه برهان ربّه: (وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ ) والفتنة في الآية ليست بمعنى الاختلاف والتنازع، بل بمعنى شيوع الفساد والفسوق، فخروج الحسين عليه السلام ليس فتنة - كما اتّهموا - بل لمكافحة الفتنة، فأيّة محاولة وثورة على الفساد في سبيل أن يكون الدين كلّه للّه، نحن مأمورون بها، فالحسين بخروجه لم يجاوز برهان ربّه.

ص:293


1- . ثورة الإمام الحسين عليه السلام: 158-159.

إلى أن يقول: علّمنا الحسين عليه السلام كيف نعتنق المبادئ وكيف نحرسها.

وعلّمنا كيف نقدّس العقيدة، وكيف ندافع عنها.

وعلّمنا كيف نموت، كما علّمنا كيف نحيا كراماً بها.

ورسم طريق الخلود الأبدي من طريقها.

فسلام عليه يوم يموت ويوم يبعث حياً.(1)

وقال عباس محمود العقاد: وصل الحد في عهد يزيد إلى حدّ لا يعالج بغير الاستشهاد وما نحا منحاه، وهذا هو الاستشهاد ومنحاه، وهو بالبداهة الّتي لا تحتاج إلى مقابلة طويلة منحى غير منحى الحساب والجمع والطرح في دفاتر التجار.

ومع هذا يدع المؤرخ طريق الشهادة تمضي إلى نهاية مطافها، ثم يتناول دفتر التجار كما يشاء، فإنّه لواجد في نهاية المطاف أنّ دفتر التجار لن يكتب الربح آخراً إلّافي صفحة الشهداء.

فالدعاة المستشهدون يخسرون حياتهم وحياة ذويهم، ولكنّهم يرسلون دعوتهم من بعدهم ناجحة متفاقمة فتطفو في نهاية مطافها بكلّ شيء حتّى المظاهر العرضية والمنافع الأرضية.(2)

وقال الدكتور السيد الجميلي: إنّني أرى أنّ الحسين انتصر على المدى البعيد، فهو وإن لم يظفر بمراده في معركة حربية ومواجهة عسكرية، إلّاأنّ نيله الشهادة في حدّ ذاته كان انتصاراً له، ثم إنّه زرع بذور الحسيكة والحقد والسخيمة في قلوب الناس جميعاً نحو بني أُمية، ولا يخامرني شك في أنّ

ص:294


1- . تاريخ الحسين نقد وتحليل: 347-349. المطبوع ضمن كتاب الإمام الحسين الّذي يشتمل على ثلاث رسائل للمؤلّف نفسه، دار مكتبة التربية، بيروت - 1972 م.
2- . أبو الشهداء الحسين بن علي: 193.

الحسين انتصر على المدى البعيد وكان استشهاده سبباً مباشراً في زلزلة عروش دولة الأُمويين، مع انصباب جام اللعنات والسخطات عليهم من جراء هذه الجريمة البشعة.(1)

هذا وكم لمحقّقي التاريخ من السنّة و الشيعة، بل من غيرهم من أعلام الكتّاب من غير المسلمين كلمات زاهية حول صلابة الحسين وتضحياته، لا يسعنا نقلها فمن أراد فليرجع إلى محالّها.

وأمّا مرافقة صبيانه وعياله ونسائه له، فكان ذلك يصب في ذات الهدف؛ حيث إنّ استشهاده وحده في طف كربلاء ربّما لا يصل خبره إلى أسماع كافة أبناء الأُمّة الإسلامية، بل أنّ هذا العمل العسكري بحاجة إلى دعم إعلامي لبيان حقيقته وكشف أهدافه، ولا يتحقّق ذلك إلّامن خلال مرافقة أُسرته له، ولذلك نرى الأثر الكبير الّذي خلّفته خطب عقيلة بني هاشم زينب الكبرى في الكوفة والشام، وكذلك ما سببته خطب ولده الإمام زين العابدين عليه السلام.

فكم كان لهذه الكلمات والخطب من تأثير في نفوس العراقيين والشاميين، الأمر الذي دعا يزيد أن يلقي اللائمة على عبيد اللّه بن زياد بعد أن شعر بخطورة الموقف على نفسه.

ولأجل أن نعزز ما قلناه، نذكر نتفاً من خطب السيدة زينب بنت علي عليهما السلام.

قالت: يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون ؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنّما مثلكم كمثل الّتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم.

إلى أن قالت: ويلكم ياأهل الكوفة، أتدرون أيّ كبدٍ لرسول اللّه فريتم ؟!

ص:295


1- . مقدمة استشهاد الحسين للطبري: 23 (تحقيق السيد الجميلي).

وأيّ كريمة له أبرزتم ؟! وأيّ دمٍ له سفكتم ؟! وأيّ حرمة له انتهكتم ؟! لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء....

قال الراوي: فواللّه لقد رأيتُ الناس يومئذ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم.(1)

وليست هذه الخطبة هي الوحيدة لبطلة كربلاء، بل لها خطب أُخر نذكر منها ما ألقته في مجلس يزيد عندما تمثّل بأبيات ابن الزبعرى شاعر قريش في الجاهلية الّذي كان شديداً على المسلمين، ولمّا فتحت مكة هرب إلى نجران ومات هناك، وقد سَبق منّا نقل أشعاره، فلمّا سمعت زينب هذه الأشعار الّتي تعرب عن كفر يزيد قامت وقالت:

الحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على محمّد وآله أجمعين، صدق اللّه كذلك يقول: (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) (2)، أظننتَ يا يزيد - حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تُساق الإماء - أنّ بنا على اللّه هواناً، وبك عليه كرامة!! وأنّ ذلك لعظيم خطرك عنده!! فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك، جَذِلاً مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأُمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول اللّه عزّوجلّ : (وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) (3).

أمِنَ العدل يابن الطلقاء تخديرك إماءك ونساءك وسوقك بنات رسول اللّه

ص:296


1- . اللهوف (الملهوف) على قتلى الطفوف: 192-193.
2- . الروم: 10.
3- . آل عمران: 178.

سبايا؟!، قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوههنّ ، تحدو بهن الأعداء من بلدٍ إلى بلدٍ، ويستشرفهن أهل المنازل والمناهل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدنيّ والشريف، ليس معهنّ من رجالهن وليّ ، ولا من حماتهنّ حميّ .(1)

وقد اكتفينا في المقام بهذا المقدار، ولم نذكر ما قام به بقية أفراد عائلة الحسين خلال الطريق وفي الكوفة والشام من خطب بليغة ومواقف صلبة وعمليات بطولية، أتمّوا بها رسالة أبي الشهداء الحسين بن علي عليهما السلام موضحين للعالم حقيقة الثورة وأهدافها السامية وشموخ رجالاتها وخطر الإنجرار مع المؤامرات الأموية والانصياع للخط الجاهلي الّذي تزيّى بزي الدين، ليضرب الدين بالصميم وليعيدها جاهلية تحكمها شريعة أبي سفيان وهند.

ص:297


1- . اللهوف (الملهوف) على قتلى الطفوف: 215-216.

الفصل الخامس حقوق آل البيت عليهم السلام

اشارة

عقد المؤلّف هذا الفصل لبيان حقوق آل البيت عليهم السلام وذكر منها الحقوق التالية:

1. حق الموالاة والمحبة.

2. حق الدفاع والذبّ عنهم.

3. حق تبرئة ساحتهم ممّا ينسب إليهم كذباً وزوراً.

4. مشروعية الصلاة عليهم.

5. حقّهم من الخمس.

6. اليقين الجازم بأنّ نسب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وذريته هو أشرف الأنساب.

7. تحريم الزكاة والصدقة عليهم.

ذكر المؤلّف هذه الحقوق وبدلاً من أن يخوض في تفسيرها على وجه يليق بها ويشرحها معتمداً على الكتاب والسنّة، اتّخذها ذريعة للرد على - ما زعمه - عقيدة للشيعة حول آل البيت عليهم السلام، فكأنّ هذا الفصل صنو الفصل السابق، حيث إنّ العنوان لا يحكي عمّا يحتويه الفصل، ولذلك نعطف عنان الكلام إلى ما حسبه عقيدة للشيعة ثم نرد عليه.

1. رمي الشيعة بالغلو

إنّ اتّهام الشيعة الإمامية وعلمائهم بالغلو هو بيت القصيد في هذا الفصل

قال: إنّ الدفاع عنهم يشمل الرد على من غلا فيهم وأنزلهم فوق منزلتهم،

ص:298

فإنّ ذلك يؤذيهم، وقد ألّف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه الكبير «منهاج السنة» في الرد على مَنْ غلا فيهم.

ثم نقل رواية عن رجال الكشي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام حيث قال: إنّ اليهود أحبّوا عزيراً حتّى قالوا فيه ما قالوا فلا عزير منهم ولا هم من عزير، إلى أن قال: إنّ قوماً من شيعتنا سيحبونا حتّى يقولوا فينا ما قالت اليهود في عزير وما قالت النصارى في عيسى بن مريم فلا هم منّا ولا نحن منهم.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الحديث الّذي ذكره راجع إلى الغلاة المتسمّين بالتشيّع الذين هم ليسوا من الشيعة ولا الشيعة منهم. وأنّ روايات أئمة أهل البيت في ردّ الغلاة وطردهم كثيرة يقف عليها من له إلمام بكتب الحديث عند الشيعة، فلو صحّ الحديث فإنّما المقصود به هم الذين ألّهوا علياً وبعض أولاده، وأين هم من الشيعة الذين لا يعتقدون في نبي الإسلام وخلفائه من أهل بيته إلّاأنّهم عباد صالحون معصومون بنص الكتاب العزيز، تستجاب دعوتهم فلا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئاً إلّاما شاء اللّه وأقدرهم عليه ؟

وهذه الرواية ونظائرها يُراد بها الفرقة الخطابية الذين لعنهم الإمام الصادق عليه السلام، والفرقة المغيرية أتباع المغيرة بن سعيد العجلي وأضرابهم الذين أكل عليهم الدهر وشرب فانقرضوا، ولو بقي منهم مَنْ يُعدُّ من الغلاة فالشيعة الإمامية منه برآء.

وقد ألّف غير واحد من أعلام الشيعة ردوداً على الغلاة وكفّروهم وحكموا بنجاستهم، وهذا هو العلّامة المجلسي عقد في موسوعته الحديثية فصلاً حول الغلاة والرد عليهم.(2)

ص:299


1- . آل البيت وحقوقهم الشرعية: 32.
2- . بحار الأنوار: 25/260.

كما أنّنا اقتفينا أثر العلّامة المجلسي فعقدنا فصلاً حول الغلاة والرد عليهم في كتابنا «كليات في علم الرجال»(1).

ثم إنّ الشيخ الدرويش نقل عن العلّامة المامقاني الكلمة التالية:

(إن القدماء - يعني من الشيعة - كان يعدّون ما نعده اليوم من ضروريات مذهب الشيعة غلوّاً وارتفاعاً، وكانوا يرمون بذلك أوثق الرجال كما لا يخفى على من أحاط خبراً بكلماتهم).(2)

وقد استغلّ المؤلّف هذه الكلمة لرمي شيعة اليوم بالغلو، مع أنّ كلمة المامقاني تتعلّق بمسألة نفي السهو عن النبي والأئمة عليهم السلام، فقد كان كثيرٌ من القدماء يجوّزون السهو على النبي والأئمة، ولكن الثابت عن المتأخّرين أنّهم لم يجوّزوا وقوعه منهم، لأنّه يورث الشك والترديد في ما يصدر عنهم في مجالي العقيدة والشريعة.

وهذه المسألة ونظيرها كصدور الكرامات وعدمه مسائل كلامية لم تزل تختلف فيها الأنظار بين بعض القدماء والمتأخّرين، فليس نفي السهو عنهم إذا ساعده الدليل موجباً للغلو، كما أنّ اثبات الكرامات لهم لا يُعدّ غلواً، وهاهي مريم العذراء ليست بنبيّة ولا وصيّة، ولكن أثبت سبحانه لها كرامات تبهر العقول لا تؤتى إلّالنبي أو وصي، ومع ذلك لا يعدّ القول بها ونسبتها إليها غلواً.

2. مشروعية الصلاة عليهم

ذكر الشيخ تحت هذا العنوان الكلام التالي:

تشرع الصلاة عليهم وذلك عقب الأذان، وفي التشهد آخر الصلاة، وعند الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقد جاء في هذا عدة نصوص، كقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ

ص:300


1- . كليات في علم الرجال: 428-434.
2- . تنقيح المقال: 3/23.

وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً) (1)، كما جاء في الحديث لمّا سئل النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن كيفية الصلاة عليه في الصلاة، قال:

«قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتم» فالصلاة على آله من تمام الصلاة عليه وتوابعها؛ لأنّ ذلك ممّا تقرُّ به عينه ويزيده اللّه به شرفاً وعلواً.(2)

ولمّا كان هذا الحديث ردّاً عنيفاً لما تداول بين أهل السنّة عبر قرون من حذف الآل عند الصلاة على النبي وعطف الأصحاب على الآل عند ضمهم إلى اسمه صلى الله عليه و آله و سلم حاول الشيخ الدرويش أن يجيب عن هذا الإشكال، فقال:

أمّا حذف الآل فالأمر في ذلك واسع؛ فقد أمر اللّه في القرآن بالصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولم يذكر الآل كما قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً) فلم يذكر الآل.

وأمّا ضم الصحابة إليهم، فإن اللّه أمر نبيّه بالصلاة على أصحابه، وقال:

(وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (3)، ونحن مأمورون بالاقتداء به، فذكرهم في الصلاة مع النبي فيه سعة وهو من الاقتداء بالنبي.(4)

يلاحظ على الجواب الأوّل:

انّ ما استدلّ به موهون جدّاً، فمعنى ذلك هو الاكتفاء بالقرآن ورفض السنّة، وما هذا إلّاقول من رفع شعار «حسبنا كتاب اللّه» الّذي لا يطابق ذات الكتاب ولا السنّة النبوية ولا إجماع المسلمين، كيف وقد قال سبحانه: (وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ،(5) إلى غير ذلك من الآيات الّتي

ص:301


1- . الأحزاب: 56.
2- . آل البيت وحقوقهم الشرعية: 33.
3- . التوبة: 103.
4- . آل البيت وحقوقهم الشرعية: 35.
5- . الحشر: 7.

تعرّف النبي بأنّه قدوة وأُسوة، قال سبحانه: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً) (1).

وقد ملأ الخافقين قول شيوخهم: الحب هو الاتّباع لا الابتداع، فما هو الوجه لمخالفة النبي، مع أنّه بصدد بيان كيفية الصلاة عليهم، وهل انّ حذف الآل فيه إقرار لعين الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ؟ وكيف جاز حذف ما تقرّ به عينه ويزيده اللّه به شرفاً وعلواً؟! كما تفضّل به الشيخ الدرويش نفسه، وأين أدب التعامل الّذي أُمرنا بالالتزام به أمام أعظم شخصية عرفها تاريخ الإنسانية ؟! أهكذا يتعامل مع رسول أعطى للإنسانية كلّ شيء ولم يطلب منها أجراً إلّاالمودة في القربى ؟! فلماذا تعامل القربى بهذهِ الطريقة ؟!

وأمّا جوابه الثاني فهو أعجب من الأوّل فإنّه سبحانه لم يأمر بالصلاة على الصحابة، بل أمر بالصلاة على كلّ من يؤدّي الصدقات والزكوات، وقد ذكر الشيخ الآية مبتورة، حيث يقول سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

وقال: (أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ ) ،(2) فالآية وما بعدها ناظرتان للصلاة على مَنْ يؤدّي زكاة ماله، من غير فرق بين الصحابي وغيره، ولذلك أفتى الفقهاء باستحباب الصلاة على المؤدّين للزكاة حين أدائها، وأي صلة له بالصلاة على الصحابي!! فالآية إنّما نزلت لأجل تثبيت حكم شرعي، من عصر النبي إلى يوم القيامة، فالاستدلال بها على جواز الصلاة على الصحابة أمر عجيب نابع عن موقف مسبق، فلم يجد دليلاً على الطريقة الرائجة في خطبهم وكتبهم،

ص:302


1- . الأحزاب: 21.
2- . التوبة: 104.

فصار يتمسك بالحشيش والطحلب.

ثم إنّه كان من اللازم على الشيخ الدرويش التتبّع في الروايات الّتي ورد فيها الأمر بالصلاة على الآل، وانّ الصلاة على النبي وحده مجردة عن الصلاة على الآل تُعدّ صلاةً بتراء نهى عنها النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وبودي أن أذكر ما نقله ابن حجر في هذا المقام، فإنّه بعدما ذكر الآية الشريفة وروى جملة من الأخبار الصحيحة الواردة فيها، قال: إن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قرن الصلاة على آله بالصلاة عليه، لمّا سئل عن كيفية الصلاة والسلام عليه، قال: وهذا دليل ظاهر على أنّ الأمر بالصلاة على أهل بيته، وبقية آله مراد من هذه الآية، وإلّا لم يسألوا عن الصلاة على أهل بيته وآله عقب نزولها، ولم يجابوا بما ذكر، فلمّا أُجيبوا به دلّ على أنّ الصلاة عليهم من جملة المأمور به، وانّه صلى الله عليه و آله و سلم أقامهم في ذلك مقام نفسه، لأنّ القصد من الصلاة عليه مزيد تعظيمه، ومنه تعظيمهم، ومن ثمّ لمّا أدخل مَن مرّ في الكساء، قال: «اللّهمّ إنَّهم منّي وأنا منهم، فاجعل صلاتك ورحمتك ومغفرتك ورضوانك عليّ وعليهم»، وقضية استجابة هذا الدعاء: انّ اللّه صلّى عليهم معه، فحينئذٍ طلب من المؤمنين صلاتهم عليهم معه.

ويروى : لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء، فقالوا: و ما الصلاة البتراء؟ قال:

تقولون: اللّهمّ صلّ على محمّد و تمسكون، بل قولوا: اللّهم صلّ على محمّد وعلى آل محمد. ثمّ نقل عن الإمام الشافعي قوله:

يا أهل بيت رسول اللّه حبكمُ فرض من اللّه في القرآن أنزلهُ

كفاكم من عظيم القدر إنّكمُ من لم يصلِّ عليكم لا صلاة لهُ

فقال: فيحتمل لا صلاة له صحيحة، فيكون موافقاً لقوله بوجوب الصلاة على الآل، ويحتمل لا صلاة كاملة، فيوافق أظهر قوليه.(1)

ص:303


1- . الصواعق المحرقة: 146، ط عام 1385 ه.
3. حقّهم في الخمس

ذكر الشيخ أنّ من حقوق آل البيت عند السنّة حقّهم من الخمس، أي:

خمس الغنيمة والفيء، لقوله تعالى: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ ) .

وأمّا الفيء فقوله تعالى: (ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ ) ، ففي الخمس لهم سهم خاصٌ بذوي القربى وهو ثابت لهم بعد وفاة رسول اللّه، وهو قول جمهور العلماء وهو الصحيح.

ثم إنّه في الهامش فسّر الغنيمة بقوله: «ما غنمه المسلمون من الكفّار من أموال سواء بحرب أو بدونه، ولا يدخل فيه ما اكتسبه المسلمون من غير هذا الطريق».(1)

يلاحظ عليه: نحن لا نحوم حول هذا الموضوع، وأنّ الخلافة الراشدة هل أعطتهم خمس الخمس (حسب تعبيرهم) أو حرمتهم منه، فإنّ ذلك على ذمة التاريخ، ولو أردنا أن نخوض فيه لطال بنا الكلام، وكفانا في ذلك ما دبجته يراعة الفقيه الكبير السيد عبدالحسين شرف الدين في كتابه «النص والاجتهاد» فقد أثبت فيه بالوثائق التاريخية حرمان آل البيت من الخمس المشروع لهم بنفس الآية.(2)

ويكفي في ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه، قال: أرسلت فاطمة عليها السلام تسأله (أبو بكر) ميراثها من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً،

ص:304


1- . آل البيت وحقوقهم الشرعية: 35-36.
2- . النص والاجتهاد: 50.

فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت، وعاشت بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ستة أشهر، فلمّا توفيت دفنها زوجها علي عليه السلام ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها.(1)

وإنّما نعطف القلم إلى تفسير الغنيمة بما غنمه المسلمون فقط، وهو يريد بذلك ردّاً على الشيعة؛ فإنهم عمّموا الخمس على كلّ ما يغنمه المسلم حتّى أرباح المكاسب والفوائد الّتي يكتسبها خلال سنة، فنقول:

إنّ تفسير الغنيمة الواردة في قوله: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ) بخصوص ما يفوز به الإنسان في الحرب، أمر لا توافقه اللغة ولا السنّة النبوية، فإنّهما يثبتان بوضوح أنّ الغنيمة عبارة عن كلّ ما يفوز به الإنسان، سواء أكان بطريق الحرب أم بطريق الكسب وغيره (دون النهب والغارة) وقد ألّفنا في ذلك رسالة أوردناها ضمن كتابنا «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف»(2).

ونقتصر هنا بإيراد بعض ما ذكرنا فيها بشكل موجز؛ حتّى يتبيّن أنّ مصطلح القرآن بل السنّة النبوية غير مصطلح الفقهاء.

قال الخليل: الغُنم الفوز بالشيء من غير مشقة، والاغتنام انتهاز الغنم.(3)

قال الأزهري: قال الليث: الغنم الفوز بالشيء، والاغتنام انتهاز الغنم.(4)

قال الراغب: الغَنْم: معروف، والغُنْم: إصابته والظفر به، ثم استعمل في كلّ مظفور به من جهة العدا وغيرهم، قال تعالى: (فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ ) ، (فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) ، والمغنم ما يغنم، وجمعه مغانم، قال تعالى: (فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ ) .(5)

ص:305


1- . صحيح البخاري: 3/36، باب غزوة خيبر.
2- . انظر: الانصاف: 2/6-36، طبعة مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام.
3- . العين: مادة «غنم».
4- . تهذيب اللغة: مادة «غنم».
5- . المفردات: مادة «غنم».

قال ابن فارس: غنم أصل صحيح واحد يدلّ على إفادة شيء لم يملك من قبل، ثم يختصّ بما أُخذ من المشركين.1

قال ابن منظور: الغنم: الفوز بالشيء من غير مشقّة.2

قال ابن الأثير: في الحديث «الرهن لمن رهنه، له غنمه وعليه غرمه» وغنمه زيادته ونماؤه وفاضل قيمته.3

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي تعرب عن أنّ المعنى الأصلي للفظ (الغنيمة) أعم ممّا يؤخذ في الحرب وغيره، وانّه لم يوضع لما يفوز به الإنسان في خصوص الحروب، بل أوسع من ذلك، وإن كان غلب استعمالها في العصور المتأخّرة بعد نزول القرآن في ما يظفر به في ساحة الحرب.

إنّ القرآن استعمل لفظة المغنم في ما يفوز به الإنسان عن غير طريق القتال، فنراه يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ ) (1).

والمراد بالمغانم هو الأُجور الأُخروية مقابل عرض الحياة الدنيا.

وقد تقدّم ذلك في كلام الراغب أيضاً.

فإذا كانت اللفظة عامة، فليس لنا إلّاحملها في الآية على المعنى اللغوي لا على المصطلح المتأخّر عن نزول الآية.

وفي الأحاديث النبوية شهادة على ما ذكرنا:

1. روى ابن ماجة في سننه أنّه جاء عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قوله: «اللّهم

ص:306


1- . النساء: 94.

اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً».(1) وهنا نرى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد استعمل هذا اللفظ في مورد الزكاة.

2. وجاء في مسند أحمد عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قوله: «غنيمة مجالس الذكر، الجنّة»(2).

4. وفي وصف شهر رمضان عنه صلى الله عليه و آله و سلم: «غنم للمؤمن»(3).

5. وجاء في نهاية ابن الأثير: «الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة»، قال: سمّاه غنيمة؛ لما فيه من الأجر والثواب.(4)

فقد بان ممّا نقلناه من كلمات أئمة اللغة وموارد استعمال تلك المادة في الكتاب والسنّة الشريفة، انّ العرب تستعملها في كلّ مورد يفوز به الإنسان من أموال الأعداء وغيرهم. وإنّما صارت حقيقة متشرعية في الأعصار المتأخّرة في خصوص ما يفوز به الإنسان في ساحة الحرب، ونزلت الآية في أوّل حرب خاضها المسلمون تحت لواء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم يكن الاستعمال إلّاتطبيقاً للمعنى الكلّي على مورد خاص، ولكن المورد غير مخصِّص إذا كان مفهوم اللفظ عامّاً يشمله وغيره.

الخمس في أرباح المكاسب

ثم إنّ السنّة النبوية تدلّ على وجوب الخمس في أرباح المكاسب، حسب ما رواه الشيخان من أنّه قدم وفد عبد القيس على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالوا:

إنّ بيننا وبينك المشركين، وإنّا لا نصل إليك إلّافي شهر الحرام، فمرنا بأمر فصل

ص:307


1- . سنن ابن ماجة، كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة، الحديث 1797.
2- . مسند أحمد: 2/330 و 374 و 524.
3- . مسند أحمد: 2/177.
4- . النهاية: مادة «غنم».

إن عملنا به دخلنا الجنة ؟» فمما أمرهم به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - بعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة - قوله: «وتؤتوا الخمس من المغنم»(1).

ولا يشك أحد أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يطلب من بني عبد القيس دفع خمس غنائم الحرب، كيف! وهم كانوا ضعفاء لا يستطيعون الخروج من حيهم في غير الأشهر الحرم خوفاً من المشركين، فكيف تحصل لهم الغنيمة بهذا المعنى، فليس المراد إلّاما يفوزون به من الأرباح وما يفوزون به من غير طريق الحرب.

هذا غيض من فيض فمن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف».

مصرف الخمس
اشارة

ثم إنّ الشيخ الدرويش ذكر آراء الإمامية في مصرف الخمس واختار أحد الأقوال، وهو سقوط إخراجه في غيبة الإمام وقال:

القول الوحيد المستند إلى الأخبار الواردة عن الأئمة من بين الأقوال الّتي استعرضها الشيخ المفيد هو القول الأوّل الّذي يسقط إخراج الخمس.(2)

يلاحظ عليه:

1. أنّ ما طرحه الشيخ هنا مسألة فقهية لا صلة لها بحقوق آل البيت، ومع ذلك فهو لم يعط الموضوع حقه حتّى في نقل الأقوال، وذلك لأنّ مَن قال بسقوط الخمس إنّما يريد سقوط حقوق الثلاثة الأُولى، لا سقوط حقوق الأصناف الثلاثة الأُخرى، توضيح ذلك: أنّ الخمس يقسّم على ستة أسهم: ثلاثة

ص:308


1- . صحيح البخاري: 4/250، باب (واللّه خلقكم وما تعملون) من كتاب التوحيد؛ صحيح مسلم: 1/36، باب الأمر بالإيمان.
2- . آل البيت وحقوقهم الشرعية: 37-38.

أسداس للّه وللرسول ولذوي القربى ، والثلاثة الأُخرى لليتامى والمساكين وابن السبيل من السادة، ومن قال بالسقوط، فإنّما قال بسقوط الأسداس الثلاثة الأُولى لا الثلاثة الأُخرى.(1)

2. أنّ ما ذكره من القول الأوّل قول جنح إليه بعض الفقهاء القدامى وليس من هذا القول في هذا الوقت عين ولا أثر، بل قام الإجماع على خلافه، والقول الّذي اتّفقت عليه كلمة فقهائنا هو أنّ النصف من الخمس الّذي للإمام عليه السلام في زمان الغيبة يتولّى أمره المجتهد الجامع للشرائط، فلابدّ من إيصاله إليه أو دفعه إلى المستحقين بإذنه، وأمّا النصف الآخر - الّذي هو للأصناف الثلاثة - فيجوز للمالك دفعه إليهم بنفسه، لكن الأحوط فيه أيضاً الدفع إلى المجتهد أو بإذنه، لأنّه أعرف بمواقعه والمرجّحات الّتي ينبغي ملاحظتها.(2)

ويدلّ على هذا القول (تولّي المجتهد الجامع للشرائط له): إنّ الخمس ليس ملكاً شخصياً للإمام، بل ملك له بما أنّه قائم بأمر الإمامة والزعامة، فيكون في الحقيقة ملكاً لمنصب الإمامة الّذي يرجع إلى تدبير المجتمع وهدايته نحو الكمال، وهو في عصر الغيبة يتمثّل بالمرجع المجتهد الجامع للشرائط.

ويدلّ على ذلك صحيح أبي علي بن راشد قال: قلت لأبي الحسن الثالث عليه السلام: إنّا نؤتى بالشيء فيقال: هذا كان لأبي جعفر عليه السلام عندنا فكيف نصنع ؟

فقال: «ما كان لأبي عليه السلام بسبب الإمامة فهو لي، وما كان غير ذلك فهوميراث على كتاب اللّه وسنة نبيّه»(3).

فإذا كان الخمس راجعاً إلى مقام الإمامة، وليس منصبها أمراً قابلاً للتعطيل،

ص:309


1- . الحدائق الناضرة: 12/448.
2- . العروة الوثقى: 447، الفصل الثاني من كتاب الخمس، المسألة 7.
3- . الوسائل: 6، الباب 20 من أبواب الأنفال، الحديث 6.

فالشاغل لمنصبه في عصر الغيبة، إنّما هو الفقيه العارف بالكتاب والسنّة، فكيف يكون نائباً عنه في شؤون الإمامة ولا يكون نائباً عنه في المال الخاص به ؟

وأمّا الروايات الّتي استند إليها الشيخ صالح والّتي تشير إلى سقوط الخمس، فليس لها إطلاق لكي تشمل كلّ مورد يجب فيه الخمس، بل لها مورد خاص وهو الغنائم الّتي كانت الجيوش الإسلامية تجلبها من الغزوات والحروب من دون أن تقوم الحكومة الأُموية والعباسية بإخراج الخمس منها ودفعه إلى أصحابه، فكان ذلك سبباً لاختلاط الحلال بالحرام، وموجباً للحرج بين المؤمنين الذين يتعاملون بها بيعاً وشراءً وهبةً وغير ذلك، ففي ذلك الموقف العصيب أحل أئمة أهل البيت عليهم السلام خمس هذه الأموال المجلوبة من بلاد المشركين، وأين ذلك من تحليل أرباح المكاسب الّتي هي أطيب الأموال ؟

والحق أنّ الشيخ صالح تطّلع إلى موضوع أرفع وأعلى منه، ولم يقرأ تلك الروايات، إنّما أشار إليها إشارة مقتضبة.

بقي هنا شيء وهو: أنّ الشيخ الدرويش أشار إلى سبعة من حقوق آل البيت، ولكنّه غفل عن الحقوق الأُخرى الثابتة لهم، وهي:

1. رفع بيوتهم

قال سبحانه: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) .(1)

ومن المعلوم: أنّ البيوت غير المساجد، فمَن فسّرها بالمساجد خالف اللغة ومصطلح القرآن والسنّة، فالكعبة بيت وليست مسجداً، والمسجد الحرام مسجد وليس بيتاً، وقد أمر اللّه سبحانه برفع تلك البيوت ومنها بيوت آل البيت.

ص:310


1- . النور: 36.

روى الحافظ السيوطي عن أنس بن مالك وبريدة: أنّ رسول اللّه قرأ قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل وقال: أي بيوت هذه يا رسول اللّه ؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم: بيوت الأنبياء.

فقام إليه أبو بكر فقال يا رسول اللّه: وهذا البيت منها؟ (وأشار إلى بيت علي وفاطمة) فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: نعم، من أفاضلها.(1)

وممّا يؤسف له أنّا لا نرى الآن أثراً لبيت من بيوت النبي وآله في مدينة الرسول ولا في مكة المكرمة، حيث إنّها بدل أن ترفع، هُدّمت تحت غطاء التوحيد، أو توسيع الحرمين الشريفين، وإنّما نشكو حزننا إلى اللّه القوي العزيز.

2. المرجعية السياسية والعلمية

إنّ حديث الثقلين المتواتر أثبت بوضوح مرجعية أئمة أهل البيت في ما يحتاج إليه المسلمون، وقد صار آل البيت بموجبه قرناء الكتاب وأعداله.

ومَن تدبّر في حديث الغدير وخطبة النبي صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك المشهد الكبير، حيث صرح بولاية علي عليه السلام بعد أخذ الشهادة من المسلمين بالتوحيد والرسالة، وأخبر عن رحيله، يقف على أنّ ولاية الإمام علي عليه السلام هي أصل من أُصول الإسلام في جنب التوحيد والرسالة، ولكن القوم سلبوا ذلك الحق منهم إثر السقيفة وما جرى فيها:

أرى فيئهم في غيرهم متقسماً وأيديهم من فيئهم صفرات

ونشير إلى أنّ هذا الحق الّذي غفل الشيخ عن ذكره هو أُمّ الحقوق السابقة وأصلها وجذرها، وفي المثل السائر: (كلّ الصيد في جوف الفرى)، ومن المعلوم: أنّه لو اعترف به الشيخ، لناقض ما هو عليه من العقيدة والشريعة.

ص:311


1- . الدر المنثور: 5/50.

الفصل السادس بشرية آل البيت عليهم السلام

اشارة

عقد الشيخ الدرويش هذا الفصل تحت هذا العنوان، وبعد أن أفاض الكلام في غلو اليهود في عزير والنصارى في المسيح، جعل كلّ ذلك مقدمة لقوله التالي:

والعجب كلّ العجب ممّن غلا في الأئمة والأولياء، واختلق الأساطير والأوهام ليسطرها في كتبه، معارضاً بها كلام اللّه سبحانه وتعالى، بحجّة أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قدير، فجعلوا الأئمة فوق منزلة الأنبياء والرسل عليهم السلام.(1)

ثم قال تحت عنوان تنبيه: جرت مناقشات وحوارات مع بعض المنتسبين إلى الحوزة - طلاباً وأساتذة - فكانوا يحتجون بأن اللّه عزوجل أطلع أئمتهم على بعض علمه، أو أعطاهم قدرة، ونحو ذلك، كما يحتجون برفع عيسى عليه السلام على غيبة الإمام المنتظر عليه السلام.(2)

ويلاحظ على ما ذكر:

أوّلاً: أنّ العنوان يدلّ على مدى سوء فهم المؤلف للشيعة تاريخاً وعقائد وفقهاً و...، إذ جعل عنوان هذا الفصل «بشرية آل البيت عليهم السلام» مشيراً إلى أنّ الشيعة يعتبرونهم فوق البشر، فنسأله هل وجد شيعياً واحداً صرّح بأنّ آل البيت هم ليسوا ببشر، مع العلم أنّه يمارس القضاء في منطقة شيعية (أعني: القطيف) وفيها يوجد علماء أفذاذ وأساتذة في الفقه والأُصول من الشيعة، فهل سمع ذلك من أحد منهم ؟!

ص:312


1- . آل البيت وحقوقهم الشرعية: 45.
2- . نفس المصدر: 46.

ما هذه القسوة يا شيخ بالنسبة إلى الشيعة ؟ وأنت بحمد اللّه من دعاة الوحدة ؟ وها هي كتب الشيعة منتشرة في العالم، وعقائدهم تدرّس في الكليات والجامعات، وقد ملأ أسماع الخافقين قول الإمام الرضا عليه السلام في دعائه رداً على الغلاة الخارجين عن الإسلام:

«اللّهم إنّي بريء من الحول والقوّة ولا حول ولا قوّة إلّابك، اللّهم إنّي أعوذ بك وأبرأ إليك من الذين ادّعوا لنا ما ليس لنا بحقّ ، اللّهم إنّي أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا، اللّهم لك الخلق ومنك الرزق وإيّاك نعبد وإيّاك نستعين، اللّهم أنت خالقنا وخالق آبائنا الأوّلين وآبائنا الآخرين، اللّهم لا تليق الربوبيّة إلّابك ولا تصلح الإلهية إلّالك، فالعن النصارى الذين صغّروا عظمتك، والعن المضاهئين لقولهم من بريّتك.

اللّهم إنّا عبيدك وأبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، اللّهم من زعم أنّا أرباب فنحن منه براء، ومن زعم أنّ إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن براء منه كبراءة عيسى بن مريم عليهما السلام من النصارى، اللّهم انّا لم ندعهم إلى ما يزعمون، فلا تؤاخذنا بما يقولون، واغفر لنا ما يدّعون، ولا تدع على الأرض منهم ديّاراً، إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلّافاجراً كفّاراً»(1).

وكأنّ الشيخ يريد دراسة عقيدة الغلاة، ولكنّه مع ذلك يخاطب الشيعة الإمامية بكلماته.

وثانياً: أنّ ما نسبهُ إلى الشيعة من أنّهم غلوا في أئمتهم ونسبوا إليهم الأساطير، فالكاتب ومَن على نحلته أولى بهذه، فهذه كتبهم الحديثية والتاريخية مليئة بالمغالاة، ولذلك قام غير واحد من علماء السنّة بوضع كتب حول

ص:313


1- . بحار الأنوار: 25/343، باب نفي الغلوّ في النبيّ والأئمة عليهم السلام.

الموضوعات الّتي هي أشبه بالأوهام والأساطير، منها:

1. «الموضوعات» لأبي الفرج عبدالرحمن الجوزي (510-597 ه)، وهو في ثلاثة أجزاء.

2. «اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة»، لجلال الدين السيوطي (848-911 ه).

3. «تمييز الطيّب من الخبيث ممّا يدور على ألسنة الناس من الحديث» لعبد الرحمن الشيباني (866-944 ه).

4. «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة» لناصر الدين الألباني في خمسة أجزاء.

إلى غير ذلك من الكتب الّتي أشارت إلى جانب خاص من الموضوعات، وما أُبرّئ كتب الشيعة من وجود الموضوعات فيها، ولذلك أقدم غير واحد من المحقّقين(1) على وضع كتب في هذا المضمار حتّى أنّ العلّامة المجلسي شرح كتاب «الكافي» وأسمى شرحه له ب: «مرآة العقول» وقد صنف أحاديث الكافي إلى: صحيح وموثق وحسن وضعيف.

وليس من نيّتنا شقّ العصا وتفريق الكلمة وتمزيق الوحدة، وإلّا فكتب حديث السنّة خصوصاً في ما يرجع إلى فضائل الصحابة مليئة بالأساطير والموضوعات، نظير:

1. ما صبّ اللّه في صدري شيئاً إلّاوصبّه في صدر أبي بكر.

2. كان النبي إذا اشتاق إلى الجنّة قبّل شيبة أبي بكر.

ص:314


1- . من الكتب التي ألّفها علماؤنا لأجل تمحيص ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام نذكر: أ. الأخبار الدخيلة، تأليف المحقّق محمد تقي التستري (1320-1415 ه). ب. الموضوعات في الآثار والأخبار، تأليف المحقّق هاشم معروف الحسني.

3. أنا وأبو بكر كفرسي رهان.

4. ان اللّه لمّا اختار الأرواح اختار روح أبي بكر.(1)

وإليك شهادة أُخرى وهي: أنّ السيوطي قد ذكر ثلاثين حديثاً من أشهر فضائل أبي بكر ممّا اتّخذه المؤلّفون في القرون الأخيرة من المتسالم عليه وأرسلوه إرسال المسلَّم بلا أي سند.(2)

فعلى الكاتب المحقّق أن يكون عدلاً في قضائه ويحاسب الجميع بحساب واحد.

وأمّا ما نسبه إلى الشيعة من أنّهم جعلوا الأئمة فوق منزلة الأنبياء والرسل، فليس صحيحاً على إطلاقه، وإنّما فضّلوهم على غير أُولي العزم من الرسل، وقد أوضحنا الحال في ذلك في كتابنا «دليل المرشدين إلى الحق المبين» فليرجع إليه من أراد المزيد.

وهل يحق لمن تدبّر في حياة الإمام علي عليه السلام وجهاده في سبيل اللّه، وبذل نفسه ونفيسه، وما أُوتي من علم وحكمة، هل يحق له أن يضعه في مرتبة هي دون مرتبة غير أُولي العزم من الأنبياء، كيف وقد وصفه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في حديث الطير المتضافر بأنّه أحب خلق اللّه إليه سبحانه.

وثالثاً: أنّ ما حكاه عن بعض المنتسبين إلى الحوزة، من أنّهم احتجّوا برفع عيسى على غيبة الإمام المنتظر عليه السلام فهو لم يقف على مراد القائل، فإنّه أمر معروف بين الشيعة، وهو أنّ المخالف يستبعد غيبة الولي عن الناس، فحاول من

ص:315


1- . سفر السعادة: 2/211 وانظر كذلك: أسنى المطالب: 1/207؛ كشف الخفاء: 2/565؛ المنار المنيف في الصحيح والضعيف: 1/115؛ المغني عن الحفظ والكتاب: 1/147؛ الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة: 1/476.
2- . اللآلي المصنوعة: 1/286-302.

يعتقد ذلك أن يثبت أنّه ليس بأمر محال، لأنّ القرآن يشهد على غيبة بعض الأنبياء والرسل نظير:

1. غيبة موسى عن قومه في الميقات أربعين ليلة، قال سبحانه: (وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) (1).

2. غيبة يونس عن قومه، قال تعالى: (وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) .(2)

وقال تعالى: (وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ * وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) (3).

3. رفع المسيح وغيبته عن الناس؛ قال تعالى: (وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (4).

إلى غير ذلك من الموارد الّتي ذكرت ثبوت الغيبة لأحدٍ من أولياء اللّه، فالغرض من ذكر غيبة هؤلاء هو تقريب المطلب، وتوضيح المدّعى، ورفع الاستبعاد عن غيبة ولي اللّه سبحانه عن أنظار الناس، ومع ذلك فهو له وظائف يقوم بها في زمان الغيبة، ونظيره ما حكاه اللّه سبحانه لنا عن وليٍ كان يعيش بين الناس، ولكنّهم لم يكونوا يعرفونه حتّى كليم اللّه موسى عليه السلام، وكان هذا الولي

ص:316


1- . الأعراف: 142.
2- . الأنبياء: 87-88.
3- . الصافات: 139-146.
4- . النساء: 157-158.

يتصرف بالأموال والأنفس دون أن يعلم به أحد.(1)

كلمة أخيرة للشيخ

يقول الشيخ الدرويش قبل أن يورد خلاصة لكتابه:

أين الأدلّة على أنّ الأئمة يعلمون الغيب ؟

وأين الأدلّة على أنّ الأئمة والأولياء يتصرّفون بالكون ؟

وأين الأدلّة على أنّ هؤلاء بأعيانهم دون غيرهم يملكون الشفاعة ؟ فأين شفاعة الشهداء؟

ثم يقول: وأين الأدلّة على أنّ هؤلاء يحيون الموتى ؟

وأين الأدلّة... وأين الأدلّة.. فإنّ المسائل الّتي غلا فيها هؤلاء كثيرة، فأين الأدلّة عليها؟

ثم يقول: وإذا قيل: توجد روايات تدلّ على ذلك، قلنا: هاتوا تلك الروايات وأثبتوا صحّتها إن كنتم صادقين.(2)

وها نحن ندرس هذه الأُمور الّتي استبعدها الشيخ بقوله: أين... أين ؟

أمّا الأمر الأوّل: أعني كونهم عالمين بالغيب، فأقول: ليس هناك أي مانع من أن يعلّم اللّهُ سبحانه أحداً ممّن خلق علم ما كان وما سيكون، قال اللّه سبحانه:

(وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) .(3)

ومع ذلك، لا منافاة بين هذا التعليم وبين اختصاص علم الغيب باللّه، وشتان بين علم محدود مكتسب من اللّه سبحانه، وبين علم ذاتي مطلق غير محدود، فالعلم بالمعنى الثاني مختص باللّه سبحانه دون المعنى الأوّل، فإنّه من

ص:317


1- . لاحظ سورة الكهف: 60-82.
2- . آل البيت وحقوقهم الشرعية: 47-48.
3- . الأنعام: 75.

شؤون المخلوق، فالعلم بالغيب عن طريق التعليم أمر جائز وواقع.

وبما أنّ نسبة علم الغيب إلى غيره سبحانه ربّما توهم العلم الذاتي، والعلم المطلق، والعلم غير المكيّف بكيف، نرى أنّ بعض أئمة أهل البيت يتبرأون من ذلك.

ونورد على ذلك نموذجين من أقوال أئمتنا عليهم السلام:

1. لما فتح جيش الإمام علي عليه السلام البصرة بعد حرب الجمل، جلس عليه السلام على منبر الخطابة وأخبر عن بعض الملاحم كغرق البصرة وغيره، فقال له بعض أصحابه: قد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ؟ فضحك الإمام عليه السلام وقال للرجل وكان كلبياً: «يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب، وإنّما هو تعلم من ذي علم»(1).

2. وهذا هو الإمام أبو الحسن موسى الكاظم عليه السلام لمّا سأله يحيى بن عبداللّه بن الحسن بقوله: جُعلت فداك أنّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب ؟ فقال عليه السلام:

سبحان اللّه ضع يدك على رأسي فواللّه ما بقيت شعرةٌ فيه ولا في جسدي إلّا قامت، ثمّ قال: لا واللّه ما هي إلّاوراثة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم».(2)

وأمّا الأمر الثاني: أعني: أنّ أئمة أهل البيت يتصرّفون بالكون، فنقول: إنّ التصرف بالكون على وجهين:

تارة بالإعجاز وهو من خصائص الأنبياء، لأنّ المعجزة عبارة عن عمل خارق للعادة لمدّعي النبوة، وعلى هذا فالتصرف بالكون على هذا المعنى خارج عن الموضوع.

ص:318


1- . نهج البلاغة: الخطبة 128.
2- . أمالي الشيخ المفيد: المجلس الثالث (ضمن مصنفات الشيخ المفيد: 13/23، الحديث 5) طبع المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد.

وتارة ما يصدر عن الأولياء على وجه الكرامات، وهذا ليس ببعيد عن عباد اللّه الصالحين، وتجد له نظيراً في قصة النبي سليمان عليه السلام، يقول سبحانه:

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) (1)، ولم يكن هذا الّذي عنده علم من الكتاب ولا العفريت من الجن نبياً ولا ولياً.

والحق: أنّ الكاتب ومن على منهجه غير عارفين بمقامات الأنبياء والأولياء، فإنهم يتصوّرون أنّ التصرف في الكون بإذن اللّه سبحانه أمر لا ينسجم مع القول بالتوحيد بالخالقية والربوبية، ولولا الخوف من إطالة الكلام لبسطت الكلام في مقاماتهم بنقل الآيات والروايات.

وأمّا الأمر الثالث: أعني قوله: إنّ أئمة أهل البيت دون غيرهم يملكون الشفاعة.

فهذا كلام غير صحيح ونسبة مفتراة، فإنّ أحداً من الناس من غير فرق بين النبي صلى الله عليه و آله و سلم وغيره لا يملك الشفاعة، قال سبحانه: (قُلْ لِلّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (2)، وقد تضافرت الأدلّة من الكتاب والسنّة على أنّ شفاعة أحدٍ من الناس منوطة بإذنه سبحانه، قال عزوجل: (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ) (3).

ولو حاول الشيخ أن يقف على موقف القرآن والسنّة، وموقف أهل البيت من الشفاعة، فليرجع إلى موسوعتنا «مفاهيم القرآن»(4).

وأمّا الأمر الرابع: أعني إحياء الموتى، فلو كان من باب الإعجاز، فهو من

ص:319


1- . النمل: 40.
2- . الزمر: 44.
3- . طه: 109.
4- . مفاهيم القرآن: 4/177.

خصائص الأنبياء، لأنّ المعجزة لا يقوم بها إلّاالنبي الموحى إليه، وأمّا أئمة أهل البيت عليهم السلام فليسوا بأنبياء، وبالتالي ليسوا أصحاب معاجز بالمعنى المصطلح.

وأمّا إذا كان من باب الكرامة، فهو ليس بأمر ممتنع، إذ في وسع المولى أن يعطي القدرة لأحد من عباده لإحياء الموتى، فلو تواترت الروايات وتضافرت الأحاديث على صدوره من أحد الأئمة فيقبل، وأمّا إذا ورد عن طريق الآحاد، فهو لا يفيد يقيناً، بل يترك على حاله.

وعلى كلّ تقدير، فليس القول بإحياء الموتى من عقائد الشيعة ولا ضرورياتها.

ومن المعلوم: أنّ المحيي هو اللّه سبحانه، وإنّما يجري فيضه عن طريق الأسباب، فلا بدعة في أن يُجري فيضه عن طريق عباد اللّه الصالحين، كما جرى فيضه عن طريق آخر، وهو ما حكاه سبحانه في سورة البقرة إذ قال: (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (1)، فقد أجرى اللّه سبحانه فيضه على يد البعض من بني إسرائيل الذين ذبحوا البقرة، وضربوا جسد المقتول ببعض البقرة، فقام المقتول حيّاً وشهد على قاتله.

وهنا نكات:

1. قد فرغنا عمّا وعدنا القارئ به في أوّل الرسالة من تحليل كلام الشيخ، تحليلاً هادئاً مقروناً بالدليل والبرهان، على وجه لو تأمّله الشيخ وأضرابه ربّما يؤدّي إلى تبدّل موقفهم بالنسبة إلى عقائد الشيعة.

وقد دعا المؤلّف - عفا اللّه عنّا وعنه - الشيعة إلى المناظرة وقال:

وإذا قيل: توجد روايات تدلّ على تلك (الكرامات) قلنا: هاتوا تلك

ص:320


1- . البقرة: 73.

الروايات وأثبتوا صحّتها إن كنتم صادقين.

أقول: ونعم ما فعل؛ إذ هذه أُمنيتنا منذ سنين، فنحن مستعدون لإراءة البراهين على عقائدنا في جو هادئ يشارك فيه العلماء والمحدّثون ليعرضوا آراءهم، وليتعرّفوا على عقائد الشيعة في ما يتفقون ويختلفون فيه معهم.

2. نسب الشيخ المؤلف إلى الشيعة الإمامية تهمة عدم الاهتمام بالتصحيح والتضعيف في ما يروونه عن أئمة أهل البيت عليهم السلام إلّاأنّ هذه النسبة - كسائر النسب - في غير محلّها.

أمّا الروايات الفقهية، فقد أشبعها الفقهاء الشيعة بحثاً وتدقيقاً منذ عشرة قرون، فميّزوا الصحيح عن السقيم، والمقبول عن المرفوض، يقف عليه كلّ من له إلمام بالكتب الفقهية.

وأمّا ما يرجع إلى العقائد، فما يذكره الكليني في ذلك الباب، فقد أخذ العلامة المجلسي جميع ما يرويه بالتصحيح والتضعيف وكتابه المعروف ب «مرآة العقول» أصدق شاهد على ذلك.

هذا وقد قام المرجع الديني الكبير آية اللّه الخوئي قدس سره بتأليف موسوعة كبيرة تشتمل على 23 جزءاً حول رجال الشيعة وأسماها ب «معجم رجال الحديث» وهي عمل ضخم قام به مجموعة من فضلاء حوزة النجف الأشرف ومن تلاميذ المؤلف تحت إشرافه، فياليت الشيخ يطّلع عليها.

3. انّ الرواية حتّى لو كانت صحيحة، لا تكون مصدراً للعقيدة، وإنّما تؤخذ العقائد من الكتاب المجيد والسنّة النبوية المتواترة وأحاديث أئمة أهل البيت بشرط التواتر، وأمّا آحاد الروايات، فهي ليست مصدراً للعقيدة، وإن جاءت في الكافي وغيره، إذ ليس عند الشيعة الإمامية كتاب (صحيح) سوى القرآن المجيد، وما عداه خاضع للنقاش كما هو معلوم.

ص:321

4. أنّ هناك أمراً مهماً نلفت نظر الإخوة إليه، وهو: أنّ العقائد الشيعية كمنظومة متسلسلة، لا يمكن الأخذ بواحدة منها مع غض النظر عن الأُصول الأُخرى، وذلك نظير الحج، فإنّ أعمال الحج من بدء الإحرام إلى الخروج منه عمل عبادي مركب من أجزاء، فالقضاء الحاسم فيه رهن دراسة العمل من أُصوله إلى فروعه ومن أوّله إلى آخره، فعند ذلك يتجلّى أنّ الحج من أظهر مظاهر الخشوع والخضوع للّه سبحانه، ومن أبرز مصاديق الخروج من عبودية النفس والوفود على اللّه سبحانه وترك زخارف الدنيا وراءه والاكتفاء منها بثوبين أبيضين، فياله من منظر رائع.

وأمّا إذا اقتصرنا على دراسة جزء واحد من هذا العمل المركب، فربّما يصبح أقرب شيء إلى أعمال الوثنيين، حيث إنّ الإنسان الموحّد مع ادّعاء التوحيد يدور حول الأحجار والتراب كطواف المشركين حول آلهتهم الحجرية أو الخشبية، وقس على ذلك سائر أجزاء الحج.

وهكذا عقائد الشيعة، فهي منظومة منسجمة لا يصح دراستها إلّا كمجموعة واحدة، أصلها ثابت في الكتاب والسنّة وفروعها متشعّبة في العقول الحصيفة، فمَن لم يعرف حقيقة الإمامة والولاية الّتي حازها الإمام علي عليه السلام وأولاده من بعده، فربّما لا يهضم فكره أنّهم ذوو كرامات يعجز عنها الآخرون.

وأخيراً نلفت نظر الشيخ إلى أمر مهم، وهو: أنّ الكتابة حول الشيعة كانت قليلة جدّاً قبل الثورة الإسلامية في إيران، ولم تكن تتجاوز مفرداتها عدد أصابع اليدين، ولكن بعد أن انتصرت الثورة الإسلامية توسّعت الكتابة عن عقائد الشيعة، واهتمّ بها الكثير من المؤلّفين، وأصبحت موضوعاً للعديد من الاطروحات العلمية في الجامعات، وبالأخص في المملكة العربية السعودية، وكأنّه ليس للمسلمين أي مشكلة سوى الشيعة، أو أي موضوع يُهتم به سوى

ص:322

عقائد الشيعة، فهل يتّفق الشيخ معنا على أنّ خلف الكواليس شيئاً ما؟ وأنّ هناك أيادي غير مرئية تدفع بالمؤلفين إلى تناول هذا الموضوع، حتّى يتمزق جسد الأُمة الإسلامية وتذهب جهود المصلحين والدعاة إلى الوحدة والتقريب سدى، وأن يفترق المسلمون ولا يتّحدوا حتّى آخر زمانهم ؟!

أوليس الواجب على أمثال الشيخ - الّذي يُعدّ من دعاة الوحدة والتقريب - أن يترك هذه المساجلات والمناظرات ويشتغل بالأهم فالأهم، وأن يضع البنان على النقاط المشتركة بدل مواضع الخلاف.

وفي الختام نقدّم لكم كتابنا المعنون ب «العقيدة الإسلامية» المنتشر في البلاد العربية والذي نعتبره نموذجاً كاملاً لعرض العقائد الشيعية الّتي تتجلى فيها النقاط المشتركة بين المسلمين.

وإلى هنا نجعجع بالقلم عن الإفاضة، فقد بلغنا نهاية المطاف من تحليل الرسالة.

نرجو اللّه سبحانه أن يؤلّف بين قلوب المسلمين، ويوحّد صفوفهم، ويجمع شملهم، ويجعلهم كتلة واحدة في وجه الأعداء الغاشمين.

ويرزقنا وجميع المؤلّفين الإخلاص فيما نكتب ونؤلّف.

والحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

14 ربيع الأوّل 1428 ه

ص:323

ص:324

4 أسئلة وأجوبة عقائدية

اشارة

ص:325

ص:326

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخ العزيز، الدكتور عبدالعزيز حسن حفظه اللّه ورعاه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا في أتمّ الصحّة والعافية

وصلتني رسالتكم الموقّرة وقد تضمّنت عدة أسئلة مطروحة عند الأُخوة في إحدى مواقع الاتّصال «الوتسآب» وهي:

الأوّل: هل يصحّ الطلب من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام فيما يتعلّق بالشفاء والرزق كأن يقول الشخص: يا رسول اللّه اشفني وارزقني ؟

الثاني: هل هناك تواصل بين العالَمين الدنيا والبرزخ ؟

الثالث: هل يعلم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته ما نطلبه منهم.

الرابع: أنّ قول المسيح (فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ) هل هو دليل على عدم التواصل بين العالَمين فإنّ المسيح لم يعلم بما اتّخذه قومه مع أُمّه إلهين إلّايوم القيامة ؟

أشكركم وأشكر الإخوان المتواجدين في موقع الاتّصال من الأكاديميّين والشيوخ المتخصّصين في الأُمور الشرعية، وأُقدّم إليكم أجوبة الأسئلة في مقاطع خاصّة.

***

ص:327

السؤال الأوّل: هل يجوز طلب الشفاء والرزق من الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة عليهم السلام ؟

1. التوحيد في الربوبية

لاشكّ أنّ التوحيد في الربوبية من مراتب التوحيد، وهو وراء التوحيد في الخالقية؛ فإنّ الثاني عبارة عن خلق العالم وإيجاده وإنّه الموجد والصانع فقط، وأمّا التوحيد في الربوبية فهو عبارة عن إدارة الكون بعد خلقه، وأنّه المدبر دون غيره، فهو إذاً خالق من وجه وربّ من وجه آخر. وقد كان التوحيد في الخالقية موضع إجماع واتّفاق بين الوثنيّين ومشركي عهد الرسالة، ويشهد على ذلك قوله سبحانه: (وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (1) بخلاف التوحيد في الربوبية فقد كانوا يعتقدون بأنّ اللّه فوّض تدبير أُمور الكون إلى خيار خلقه واعتزل هو عن أمر التدبير!!

هذه المخلوقات المفوّض إليها أمر التدبير، كانت في نظر معتقدي هذه النظرية عبارة عن: «الملائكة» و «الجن» و «الكواكب» و «الأرواح المقدّسة» و...

الّتي كان كلّ واحد منها مدبِّراً لجانب من جوانب الكون - على حدّ زعمهم -!!

وقد كان أمر الربوبية موضعَ نضال الأنبياء مع المشركين في أكثر القرون، فلذلك نرى أنّ النبيّ إبراهيم عليه السلام يناضل مشركي عصره فيه ويقول: (فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) (2) إلى آخر الآيات. ولا يقول هذا خالقي.

وقد دخلت الوثنية في مكّة بصورة الشرك في الربوبية، عندما جاء عمرو بن لُحَيّ بصنم كبير من الشام باسم «هبل» ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة فكانوا يستمطرون ويستنصرون بها.(3)

ص:328


1- . لقمان: 25.
2- . الأنعام: 76.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/79.

إنّ القرآن لا يعترف بمدبّر سوى اللّه سبحانه ويقول: (اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) .(1) وفي آية أُخرى يقول: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) .(2) والإنسان لا يدخل في مخيّم التوحيد إلّاإذا اعترف به في كلتا المرحلتين: الخالقية والربوبية.

***

2. التوحيد في الربوبية غير تعطيل الأسباب

إنّ التوحيد في الربوبية لا يعني «تعطيل فاعلية الأسباب والعلل بإذن اللّه سبحانه ومشيئته وإحلال اللّه تعالى محلّ العلل الطبيعية وغيرها»، كما عليه أهل الحديث ومعظم الأشاعرة، بل معناه أنّه لا يوجد في الكون مدبّر مستقل سواه، وإنّ تأثير سائر العلل إنّما هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه ومشيئته، والاعتراف بمثل هذه المدبّرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في اللّه سبحانه، كيف ؟! وأنّه سبحانه يصرّح بالمدبّرات ويقول: (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (3)، ويقول تعالى: (وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) (4)، ويصرّح بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها ويقول: (وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ) (5) فالباء في قوله: (بِهِ ) للسببية ويقول تعالى عند الاستدلال

ص:329


1- . الرعد: 2.
2- . الأعراف: 54.
3- . النازعات: 5.
4- . الأنعام: 61.
5- . البقرة: 22.

على التوحيد في التدبير: (وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) .(1) والآية صريحة في تأثير الماء في نموّ الأشجار والزروع وكأنّه سبحانه يقول: الماء واحد، والتراب واحد فما هو السبب لتنوّع الزروع والفواكه ؟!

وفي الآيات الواردة حول الطقس والأنواء الجوية دلالات واضحة على أنّ اللّه تعالى خالق ومدبّر على الأصالة ولكن جرت سنّته تعالى على إفاضة الفيض عن طريق أسبابه فجعل لكلّ شيء سبباً، فكلّ من هذه الأسباب مؤثّر بالتبع، وكأنّ الجميع من جنود اللّه يعملون ما أمرهم اللّه سبحانه به (وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ) .(2)

3. فعل واحد ينسب إلى الرب والمربوب

قد اتّضح بما ذكرنا: أنّ التوحيد في الربوبية ليس بمعنى «إلغاء الأسباب عن السببية بالتبعية والاعتراف بعلّة واحدة تقوم مقام العلل الطبيعية»، بل بمعنى:

أنّ الخالق والمدبّر على وجه الاستقلال غير المعتمد على غيره، هو اللّه سبحانه ولكن تعلّقت مشيئته على إجراء فيضه عن طرق الأسباب، فهي تعمل في ظل إرادته ومشيئته، ولو انقطعت الصلة بينها وبينه لانعدمت العلل والأسباب والمعاليل والمسبّبات. ولم يُر من الوجود أثر.

والّذي يشهد على ما ذكرنا من السببية الظّلية، أنّه سبحانه ينسب فعلاً واحداً من أفعاله إلى ذاته وفي الوقت نفسه ينسبه إلى غيره، وإليك نماذج من ذلك:

1. يعدّ القرآن - في بعض آياته - قبض الأرواح فعلاً للّه تعالى، ويصرّح

ص:330


1- . الرعد: 4.
2- . المدّثر: 31.

بأنّ اللّه هو الّذي يتوفّى الأنفس حين موتها إذ يقول: (اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) .(1)

بينما ينسبه في آية أُخرى إلى غيره ويقول: (حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) .(2)

2. يأمر القرآن - في سورة الحمد - بالاستعانة باللّه وحده إذ يقول: (إِيّاكَ نَسْتَعِينُ ) (3) ونجده في آية أُخرى يأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة إذ يقول:

(وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ) .(4) وما هذا إلّاأنّ إعانة الرب تأتي عن طريق أسبابها وهي الصبر والصلاة.

3. إنّ اللّه تعالى هو الرازق الوحيد حيث يقول: (إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (5) بينما نجد أنّه يأمر المتمكّنين وذوي الطول بأن يرزقوا من يلوذ بهم من الضعفاء إذ يقول: (وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ ) .(6)

4. إنّ اللّه هو الكاتب لأعمال عباده إذ يقول: (وَ اللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ) (7) وفي الوقت نفسه يعتبر القرآن الملائكة كتبة أعمال العباد، إذ يقول: (وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) .(8)

وكم لما ذكر من نظائر في الكتاب العزيز. وليس بين النسبتين أيّ تناف لاختلافهما في الأصالة والتبعية.

وبما ذكرنا يظهر الجواب عن السؤال الأوّل وهو أنّه لاشكّ أنّ الشفاء بيد اللّه سبحانه كما قال النبيّ إبراهيم عليه السلام: (وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) ،(9) كما أنّه

ص:331


1- . الزمر: 42.
2- . الأنعام: 61.
3- . الحمد: 5.
4- . البقرة: 45.
5- . الذاريات: 58.
6- . النساء: 5.
7- . النساء: 81.
8- . الزخر: 80.
9- . الشعراء: 80.

الرزّاق دون غيره وقد مرّ قوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (1) ولكن ربّما تجري مشيئته على إجراء هذا الفيض عن طريق الأنبياء والأئمة فلا يكون طلبه من غيره مخالفاً للتوحيد في الربوبية. إذ لا يريد الطالب إلّاأن يجري اللّه فيضه عن طريق نبيّه.

كيف وأنّه سبحانه يصرّح بأنّه الشافي ومع الوصف يقول ما ينتجه النحل (فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ ) ،(2) وفي القرآن شفاء كما يقول: (وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ ) .(3) واللّه سبحانه هو الشافي عن هذا الطريق.

نعم إنّما المهم هووجود الدليل على أنّه سبحانه تعلّقت مشيئته بإجراء الشفاء والرزق أحياناً عن طريق أوليائه. وليس هذا أمراً بعيداً، كيف وقد تواتر في غزوة خيبر أنّ علياً كان غائباً مريضاً فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ائتوني بعليّ » إنّ هذه العبارة تكشف عن أنّ ما أصاب علياً عليه السلام من الرمد كان من الشدّة بحيث سلبه القدرة على المشي، وعاقه عن الحركة. فأمرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يده الشريفة على عيني علي عليه السلام ودعا له بخير، فعوفي من ساعته، واستعادت عيناه عليه السلام سلامتها أفضل ممّا كانت بحيث لم يرمد عليه السلام حتّى آخر حياته بفضل تلك المسحة النبوية المباركة.(4)

وقد تواترت صدور معاجز وكرامات عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام واحتفلت به الكتب كلّ ذلك يدلّ على أنّه سبحانه قد تعلّقت مشيئته في موارد خاصّة على جريان الفيض عن طريق دعائهم وسؤالهم وهذا النوع من التصرّف عبارة عن الولاية التكوينية بإذن اللّه سبحانه، ومن أنكر المعاجز

ص:332


1- . الذاريات: 58.
2- . النحل: 69.
3- . الإسراء: 82.
4- . لاحظ: تاريخ الطبري: 2/3.

والكرامات فقد أنكر أمراً ضرورياً في تاريخ الأنبياء والأولياء.

وهذا هو عفريت من الجن يستطيع أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن قبل أن يقوم سليمان من مكانه واستطاع مَن كان عنده علم من الكتاب أن يأتي به قبل أن يرتد طرفه.(1) فالنبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم وخلفاؤه المطهرون أعلى وأنبل من هذين الرجلين.

وما ذكرناه لا صلة له بتفويض إدارة العالم إلى الأنبياء والأولياء وإنّما يهدف إلى أنّه سبحانه أقدرهم على المعاجز والكرامات في موارد خاصّة، وعند السؤال والتوسّل بهم. ولكن الأفضل أن يقول: اللّهم اشفني بحقّ نبيك وارزقني زيارة نبيك بحقّ أوليائك ليصدّ بذلك شغب الشاغبين الّذين عمشت أعينهم عن رؤية مقامات العارفين باللّه القائمين بأمر اللّه.

إلى هنا تمّ ما يمكن أن يقال عن السؤال الأوّل.

***

السؤال الثاني: وجود الصلة بين العالَمين الدنيوي والأُخروي

اشارة

لقد سلّطت آيات الذكر الحكيم الضوءَ على هذه المسألة وأزاحت الستار عنها:

1. يقول سبحانه عن عتوّ قوم ثمود وهلاكهم: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) (2).

فالآية تدلّ على هلاكهم واستئصالهم. وبعد أن تمّ هلاكهم أخذ النبيّ صالح عليه السلام بخطابهم وهم أجساد بلا روح كما يقول سبحانه: (فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَ قالَ

ص:333


1- . راجع النمل: 39-40.
2- . الأعراف: 78.

يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصِحِينَ ) .(1)

ترى أنّ النبيّ صالح عليه السلام يتكلّم مع قومه بعد هلاكهم ويخاطبهم ويتكلّم مع أرواحهم في البرزخ، فلو لم يكن هناك صلة لكان كلامه لغواً، والأنبياء منزّهون عنه.

2. وترى نظير ذلك في قصّة شعيب حيث تكلّم مع قومه بعد هلاكهم وقال: (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ ) .(2)

3. إنّه سبحانه أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أن يسأل المرسلين السابقين وقال: (وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) .(3) مع أنّ النبيّ في الحياة الدنيوية والمسؤولون في الحياة البرزخية ومع ذلك أُمر النبيّ بسؤالهم، وتفسير الآية بسؤال علمائهم تصرّف في الآية وتأويل بلا دليل.

النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يكلّم أهل القليب

حينما وضعت معركة بدر الكبرى أوزارها وانهزم المشركون مخلّفين وراءهم سبعين قتيلاً من صناديدهم وساداتهم ومثلهم من الأسرى، أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإلقاء القتلى في القليب، ثمّ وقف صلى الله عليه و آله و سلم يخاطب القتلى واحداً واحداً ويقول:

«يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، و يا أُميّة بن خلف، و يا أبا جهل - وهكذا عدّد مَن كان منهم في القليب - هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّاً؟».

ص:334


1- . الأعراف: 79.
2- . الأعراف: 93.
3- . الزخرف: 45.

فقال له بعض أصحابه: يا رسول اللّه أتنادي قوماً موتى؟!

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني».

وقال ابن هشام: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أضاف بعد هذه المقالة وقال: «يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيّكم، كذبتموني وصدّقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس».

ثمّ قال: «هل وجدتم ما وعدكم ربّي حقّاً».(1)

الشعر يضفي على القضية طابعاً خالداً

تعد قصة حديث الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم مع قتلى معركة بدر من المسلّمات الحديثية والتاريخية، حيث رواها المؤرّخون والمحدّثون من العامّة والخاصّة.

وقد أدلى الشعراء بدلوهم في هذه الواقعة حيث سجّلتها الدواوين الشعرية.

وكان في طليعة الشعراء الشاعر حسان بن ثابت شاعر عصر الرسالة، إذ أنشد قصيدة بائية رائعة سجّل فيها أحداث تلك الواقعة، ومن حسن الحظّ أنّ ديوان حسان بن ثابت مطبوع وهذه القصيدة موجودة فيه، وديوانه من الدواوين التي استطاعت أن تفلت من يد العابثين بالتراث حسب ميولهم، وتبقى حيّة ماثلة أمام الجميع، نقتطف من تلك القصيدة بعض الأبيات والتي جاء فيها:

يناديهم رسول اللّه لمّا قذفناهم كباكب(2) في القليب

ألم تجدوا كلامي كان حقاً؟! وأمر اللّه يأخذ بالقلوب

ص:335


1- . السيرة النبوية: 649/1؛ السيرة الحلبية: 179/2 و 180؛ صحيح البخاري: كتاب المغازي رقم 3976 وغيره.
2- . الكباكب: الجماعات.

فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا صدقت وكنت ذا رأي مصيب(1)

لا توجد عبارة أشدّ صراحة ممّا قاله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المقام حيث قال: «ما أنتم بأسمع منهم» وهل ثمة بيان أكثر إيضاحاً وأشدّ تقريراً لهذه الحقيقة من مخاطبته صلى الله عليه و آله و سلم لواحد واحد من أهل القليب، ومناداتهم بأسمائهم وتكليمهم كما لو كانوا على قيد الحياة ؟!

***

السؤال الثالث: هل النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام يسمعون كلامنا أو لا؟

اشارة

الجواب، أنّ الفرق بين السؤالين قليل جداً ويمكن الإجابة عنه بما مرّ في ثاني السؤالين أيضاً، ومع ذلك نقول:

ترشدنا أُمور إلى أنّ الأنبياء والأولياء بل غيرهم يسمعون كلامنا، وإليك ما يدلّ عليه:

1. أمير المؤمنين عليه السلام يخاطب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم حين غسله

إنّ مَن يطالع كتاب «نهج البلاغة» لسيد الفصاحة وإمام البيان علي بن أبي طالب عليه السلام يجد فيه أنّه عليه السلام حينما كان يتولّى غسل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خاطبه بقوله عليه السلام: «بأبي أنت وأُمّي يا رسول اللّه! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء، خَصّصت حتى صرت مُسلياً عمّن سواك، وعمّمَت حتى صار الناسُ فيك سواء. ولولا أنّك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشؤون، ولكان الداءُ مماطلاً، والكمدُ محالفاً، وقلّا لك! ولكنّه ما لا يملك ردُّه، ولا يُستطاع دفعه! بأبي أنت وأُمّي! اذكرنا عند ربّك،

ص:336


1- . ديوان حسان: 13-14.

واجعلنا من بالك».(1) ولو لم يكونوا واقفين على ما يجري بيننا، فما هو الوجه لهذا النوع من المحاورة ؟!

وأيّ عبارة أبلغ وأصرح وأدلّ على المطلوب من قوله عليه السلام:

«اذكرنا عند ربّك، واجعلنا من بالك».

2. أبو بكر يخاطب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بعد موته

قال ابن هشام في سيرته: وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر - خبر وفاة الرسول - حتّى دخل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مسجّى في ناحية البيت عليه بُرد حبر، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثمّ قال:

بأبي أنت وأُمّي أمّا الموتة التي كتب اللّه عليك فقد ذقتها ثمّ لن تصيبك بعدها موتة أبداً.(2)

فعلى هذا فالأنبياء والأولياء أحياء عند ربّهم يرزقون.

فإذا ثبت وجود الصلة بين الحياتين كما مرّ في جواب السؤال الثاني فلا مانع من أن يسمع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كلامنا ويستجيب دعوتنا إذا كان لصالحنا.

3. التسليم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في كلّ صلاة

إنّ المسلمين عامّة يسلّمون على النبيّ في تشهّدهم ويقولون: السلام عليك يا أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته، فلو لم يكن سماع فما هو الوجه لهذا النوع من التسليم ؟!

ص:337


1- . نهج البلاغة: الخطبة 235، ط صبحي الصالح.
2- . سيرة ابن هشام: 656/2.
4. النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من شهداء الأعمال

إنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من شهداء الأعمال في الحياة الدنيوية والبرزخية يقول سبحانه: (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (1) فالآية تدلّ على أنّ لكل أُمّة شهيداً على أعمالهم الظاهرية والباطنية وهم أنبياؤهم والنبيّ شهيد على الشهود، أفيمكن أن يكون الأولياء وعلى رأسهم النبيّ الأكرم شاهدين على أعمال الأُمة دون أن يكونوا واقفين على ما يجري بين الأُمّة ؟! فالآية تثبت علماً واسعاً لشهود الأعمال، حتّى الأعمال الباطنية؛ كما أنّ المسيح من شهداء الأعمال على أُمّته يقول سبحانه: (وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (2).

***

السؤال الرابع: شبهة عدم اطّلاع المسيح عليه السلام على ما يجري على أُمّته

لو كانت هناك صلة بين المسيح عليه السلام وما يجري بين أُمّته فما معنى قوله:

(فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ) .(3)

وكأنّه يدلّ على عدم اطّلاعه ؟

أقول: يأتي الجواب ضمن أُمور:

1. التوفّي ليس بمعنى الإماتة، وقد اشتبه مَن فسّره بها بشهادة أنّه سبحانه يقسّمه بين الإماتة وغيرها ويقول: (اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ

ص:338


1- . النساء: 41.
2- . النساء: 159.
3- . المائدة: 117.

مُسَمًّى) (1) فقوله: (وَ الَّتِي) عطف على قوله: (الْأَنْفُسَ ) وتقدير الآية، يتوفّى الأنفس...

ويتوفّى التي لم تمت في منامها، فلو كان التوفّي بمعنى الإماتة يلزم التناقض في الآية.

2. إنّ ظرف المحاورة هو يوم القيامة كما عليه المفسّرون والتعبير بصيغة الماضي في قوله: (وَ إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ) باعتبار كونه محقّق الوقوع. كما هو شأن القرآن في نظائره.

3. إنّ قول المسيح (فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي) يشير إلى فترتين:

الأُولى: فترة حياته عليه السلام بين القوم.

الثانية: بعد ما رفعه اللّه.

أمّا الفترة الأُولى فأجاب عنها بقوله: أنت تعلم أنّي لم أقل لهم أن يتّخذوني وأُمّي إلهين (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ ) فقد علمته.

وأمّا الثانية: فلم أكن حاضراً بينهم حتّى أقول لهم هذا الأمر المنكر.

وبذلك أثبت براءته ممّا رمي به من قبل النصارى من أنّه أمر بعبادته وعبادة أُمّه.

إذا ظهر ذلك فليس في الآية إشارة ولا تلويح إلى أنّه غير واقف على ما يجري بين النصارى بعد رفعه حتّى يستدلّ بعدم اطّلاعه وانقطاعه عن الناس، وإنّما الغاية هو إبراء نفسه عن الاتّهام، وهو حاصل بالأمرين المذكورين، فما دام فيهم لم يقل واللّه شاهد على ذلك وبعد رفعه لم يكن متواجداً بينهم حتّى يشافههم ويكلّمهم بالأمر المنكر.

ص:339


1- . الزمر: 42.

وفي الختام أدعو لكم بالخير والعافية وللأخوان بالتوفيق. وللجميع فائق التقدير والاحترام.

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

26 - صفر المظفر - 1436 ه

ص:340

الفصل الثاني: مقالات في الفقه والأحكام

اشارة

1. مواقيت الصلوات في الكتاب والسنّة

2. الخمس فريضة شرعية

3. رسالة حول توسعة المسعى

4. فقه المزار في أحاديث الأئمة الأطهار عليهم السلام

ص:341

ص:342

1 مواقيت الصلوات فى الكتاب والسنّة

اشارة

ص:343

ص:344

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية من الأماني العزيزة الّتي يتمّناها كلّ مسلمٍ واعٍ بصير، خصوصاً في الأوضاع الراهنة الّتي تحالفت فيها قوى الكفر والشرك على محاربة الإسلام والمسلمين ونهب ثرواتهم وسلب حرياتهم إلى غير ذلك من الأعمال الإجراميّة الّتي تحول مشيئتهُ سبحانه بينهم وبين تحقيق مآربهم الخبيثة، حيث وعد في كتابه إعلاء كلمته وقال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (1).

نعم، قضت مشيئتهُ سبحانه بإعلاء كلمته وغلبة دينهِ على غيره، ولكنّ قضاءه هذا ليس مطلقاً بل مشروطاً، ومن أهم شروطه صنع أجواء مناسبة له بين المسلمين، وذلك بنبذ التفرّق والتشرذم، والتمسّك بحبل اللّه المتين ليصبحوا أخواناً يدعم بعضهم بعضاً، كما وصفهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادّهم، وتعاطفهم كَمثَل الجسد إذا اشتكى عضواً، تداعى له سائر جسده بالسَّهَر والحُمّى »(2). وعندئذٍ يتحقّق ما وعده سبحانه في الذكر الحكيم.

لقد قام رجال الإصلاح وزعماء التقريب في القرن الماضي بتأسيس دار ومركز باسم دار التقريب بين المذاهب الإسلامية ليحقّقوا عملياً فكرة التقريب بين الطوائف، ويقرّبوا الخُطى بينهم، وقد نجحوا في مسعاهم هذا نجاحاً باهراً، لولا أنّ السياسة الوقتية حالت بين الدار واستمرار حياتها.

إنّ هؤلاء المخلصين ساهموا في رسم خطوط عريضة مشتركة بين

ص:345


1- . الصف: 9.
2- . صحيح البخاري: 4/89(6011)، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1419 ه.

المذاهب في مجالي العقيدة والشريعة لغاية التمسّك بها ونشرها من على منابر الجمعة والجماعات، والصحف والمجلات، ووسائل الإعلام، حتّى يُصبح المسلمون - في ظل التمسّك بالمشتركات - إخواناً متحابّين متعاونين، وأمّا المسائل الخلافية، فَدَعَوْا إلى بحثها ومناقشتها على ضوء الكتاب والسنّة، في المؤسسات والمحافل العلمية. والخلاف والجدال مهما طال بين العلماء المنصفين، فإنّه لا يُفسد لهم في الودّ أمراً، وهم كما يصفهم شاعر الإهرام:

وكذلك العلماء في أخلاقهم يتباعدون ويلتقون سراعا

وهذا هو المراد من فكرة التقريب.

والعجب من قومٍ - وما عشت أراك الدهر عجباً - يتظاهرون بأنّهم من أنصار فكرة التقريب ومن رجال الإصلاح، ولكن ليس لهم غاية سوى الانتصار لمذهب، وإلغاء مذهب آخر، وتذويب طائفة في طائفة أُخرى، وهم يحسبون أنّهم يستطيعون - بهذه المصيدة - أن يقنصوا السُّذّج من الشيعة لغاية فصلهم عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، أحد الثقلين اللّذين أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالتمسّك بهما، وقال «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتابَ اللّه وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» وهو حديث متواتر رواه الفريقان.

لقد أمضى هؤلاء سنوات متمادية في مواجهة المذهب الشيعي، والتصدّي له، تارة بأدلّة واهية، وحجج سقيمة، وأُخرى بغير أدلّة ولا براهين، وإنّما بمحاولات التشويه والطعن والنبز، ولمّا بان عجزهم وخسرانهم في كلا الأُسلوبين، وتجلّت لرواد الحقيقة أصالة هذا الفكر السامي وعظمته، لجأوا إلى هذه المسرحية المفضوحة، الّتي يتقمّصون فيها ثوب الإنسان الخيّر المصلح، الّذي يهمّه أمر الأُمّة الإسلامية ووحدتها وعزّتها، غافلين عن أنّ :

ثوب الرياء يشفّ عمّا تحته فإذا التحفْتَ به فإنّك عارِ

ص:346

ويأتي ضمن أدوار هذه المسرحية، النشاط الّذي يمارسه القائمون على (مبرّة الآل والأصحاب) في دولة الكويت، إذ اتخذّوا من شعارهم الخلّاب (طرح تراث الآل والأصحاب، وإظهار العلاقة الحميمة بينهم) غطاءً لتمرير مشروعهم الطائفي المقيت، من خلال تجنيد بعض أنصاف المثقفين، للكتابة في موضوعات، لا يحسنون الكتابة فيها، ولا يمتلكون الأدوات العلمية لبحثها وتناولها، وهذا أمر طبيعي، لأن غرض (المبرّة) هو التشويش والتلبيس والخداع، وليس تحرّي الحقّ ، والكشف عن الحقائق.

ومن هنا جاءت منشوراتهم وإصدراتهم على النقيض من مغزى الشعار الّذي يرفعونه، والدليل هو اقتصارها على الدفاع عن عقائد ومتبنّيات فئة متطرّفة، شذّت عن مذاهب السنّة (أعني فئة الوهابيين)، والطعن على الشيعة في أفكارهم وأحكامهم، والقدح في رواتهم ورواياتهم.

ولو كانت نيّات أصحاب (المبرّة) سليمة وصادقة، لصانوا أنفسهم من (معرّة) الذمّ والتقبيح والاتّهام، ولعكفوا على البحث عن المشتركات بين مذاهب المسلمين وإذاعتها، واهتمّوا بالأولويّات الّتي تخدم مصالح الأُمّة وقضاياها المصيرية، بدلاً من إثارة المسائل الجزئية وبأُسلوب غير علمي وغير موضوعي، كما فعل الدكتور طه حامد الدليميّ ، الّذي تناول مسألة مواقيت الصلاة في كتيّب، سمّاه «نحو وحدة إسلامية حقيقية: مواقيت الصلاة نموذجاً» وحاول فيه أن يثبت أنّ مواقيت الصلاة عند الآل والأصحاب واحدة وهي خمسة أوقات متفرقة، ومن صلّى في غيرها - كما إذا جمع بين الصلاتين - فقد صلّى في غير وقتها.

وما قاله المؤلّف: «مواقيت الصلاة عن الآل والأصحاب واحدة» كلام تام لا ريب فيه، ولكن ما رتّب عليه من أنّها خمسة أوقات متفرّقة عندهما لا يصحّ

ص:347

بتاتاً، ويشهد على عدم صحته روايات متضافرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم والآل على أنّ الجمع بين الصلاتين كالتفريق في إفراغ الذمة، وأنّ الجمع بين الصلاتين كالتفريق بينهما سيّان في الإجزاء وامتثال أمر اللّه سبحانه، وأنّ من فرّق فقد أخذ بالأفضل، وأنّ من جمع فقد أخذ بالرخصة، وأنّ اللّه سبحانه يحب أن يُؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه(1)، فليس للمفرّق التنديد بمن جمع، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد جمع بين الصلاتين في أوقات كثيرة من غير عذرٍ، ليوسّع الأمر على أُمّته ويخرجهم من الحرج، كما ليس للجامع التعرّض للمفرِّق، لأنّه أخذ بالأفضل: (وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى ) (2).

ثم إنّ مؤلّف الرسالة - سامحه اللّه - نقل عن أهل البيت ما يدلّ على التفريق بين الصلاتين ولكنّه أغفل نقل أكثر ما روي عنهم من جواز الجمع في حال السعة وعدم العذر متضافراً بل متواتراً، وانّ المسلمين على الخيار بين التفريق والجمع، كما هو الحال في كل واجب تخييري.

وكما هو أغفل نقل أكثر ما روي عن الآل في الجمع، فقد أغفل أيضاً ذكر ما استفاض من الأصحاب عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في جمعه بين الصلاتين من غير سفر ولا مطر ولا مرض ولا وحل، وإنّما ليوسع الأمر على أُمّته. تشهد لذلك صحاحهم وسننهم ومسانيدهم كما سيوافيك.

وقد نشأ صاحب الكتيّب على مذهب تقام فيه الصلاة في مواقيت خمسة وتربّى على ذلك، ولمّا رأى أنّ الجمع بين الصلاتين يخالف سلوكه وسلوك قومه زعم أنّ الصلاة في مواقيت ثلاثة، إتيان بها في غير أوقاتها، فرائدُه في

ص:348


1- . مجمع الزوائد للهيثمي: 3/163؛ كنز العمال: 3/34 برقم 5341 وص 669 برقم 8412؛ الوسائل: 1، الباب 25 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 1، إلى غير ذلك من المصادر.
2- . النساء: 95.

موقفه هذا هو الرأي المسبق الّذي استقاه من أهل مذهبه، ثم أخذ يتطلّب له الأدّلة، فهو بدل أن يستعرض الأدلة ثم يسترشد بها في تعيين الرأي الصائب، عكس الأمر، وإلّا فلو درس الروايات من غير رأي مسبق، طالباً الحقيقة، متجرّداً عن الهوى ، لوقف على أنّ الصادع بالحق خيّر الأُمّة بين الطريقين، ولكلٍّ فضل ومزيّة لا توجد في غيره.

***

يُشار إلى أنّني ألّفت في سالف الزمان رسالة حول الجمع بين الصلاتين، وبحثت الموضوع على ضوء الكتاب والسنّة، ولمّا وقف عليها بعض المحقّقين من إخواننا السنّة، كتب إليّ أنّ الرسالة مكتوبة بحبر الإنصاف، وبذلك سعيت في تقريب الخطى بين المسلمين وأثبتّ أنّ عمل الجمع مقبول عنده سبحانه، وفي هذه الرسالة كفاية لمن أراد الحق وترك العصبية.

غير أنّي نزلت عند رغبة بعض الفضلاء الشيعة في الكويت حيث طلبوا مني نقد الكتيّب المذكور نقداً موضوعياً، حتّى تتبين مواضع زلّات الكاتب وأخطائه فيه، فقمت بتأليف هذه الرسالة راجياً منه سبحانه أن يهدي الجميع إلى الحق، ويحفظهم من العثرة في القول والعمل، إنّه خير مجيب.

ويأتي تحقيق الموضوع وكشف الحقيقة ضمن فصول:

ص:349

1 مكانة الصلاة في الكتاب والسنّة

إنّ الصلاة من أفضل الأعمال وأحبّها إلى اللّه سبحانه وتعالى، وقد أوصى بها أنبياؤه وأولياؤه، فهذا هو إبراهيم الخليل عليه السلام يذكرها في دعائه ويقول (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) ويقول في دعاء آخر (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ ) (2) والمتبادر من الآية الأُولى أنّ الإسكان عند بيت اللّه في ذلك المكان المُقفِر المُمْحِل كان لغاية إقامة الصلاة.

وهذا هو إسماعيل النبي عليه السلام يصفه سبحانه بقوله: (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (3) والآية تدلّ على أنّ إقامة الصلاة كانت من وصايا الأنبياء الذين استجابوا لوصية ربّهم بها، وامتثلوا أمره. وفي هذا الإطار يأتي خطاب المسيح بن مريم عليه السلام لقومه: (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) .(4)

وقد استجاب سبحانه دعاء نبيّه زكريا حينما كان عليه السلام يصلّي في المحراب، يقول سبحانه: (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ * فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً

ص:350


1- . إبراهيم: 37.
2- . إبراهيم: 40.
3- . مريم: 54-55.
4- . مريم: 30-31.

بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ ) (1).

ثم إنّه سبحانه كتب الفلاح والنجاة للمصلين المحافظين عليها، بقوله عزّ من قائل: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (2)، وقوله تعالى:

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ ) (3) كما كتب الخسران على من استخفّ بها أوصلّى على وجه الرياء والسمعة، قال تعالى:

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) (4) إلى غير ذلك من الآيات الّتي تبيّن مكانة الصلاة وعظمتها في الشرائع السماوية عامّة والشريعة الإسلامية خاصّة، وكفى في ذلك أنّ كلمة الصلاة بمفردها - مع قطع النظر عن باقي المشتقات - جاءت في القرآن الكريم (67) مرة، وهذا يكشف عن اهتمام الذكر الحكيم بهذه الفريضة الإلهية وعنايته البالغة بها.

وأمّا مكانة الصلاة في السنّة، فحدِّث عنها ولا حرج، ولا يسعنا هنا نقل معشار ما ورد عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعترته الطاهرة عليهم السلام حول تلك الفريضة الكبيرة، فلنشر إلى نزر يسير منها:

1. أخرج البخاري عن ابن عباس، قال: قدم وفد عبدالقيس على رسول اللّه، فقالوا: إنّ بيننا وبينك المشركين من مُضَر، وإنّا لا نصلُ إليك إلَّافي أشهر حُرُم، فمُرْنا بجُمَل من الأمر، إن عملنا به دخلنا الجنة وندعوا إليها مَن وراءنا.

قال صلى الله عليه و آله و سلم: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان باللّه، وهل تدرون ما الإيمان باللّه ؟ شهادة أن لا إله إلّااللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتعطوا من المغنم الخمس»(5).

ص:351


1- . آل عمران: 38-39.
2- . المؤمنون: 1-2.
3- . البقرة: 238.
4- . الماعون: 4-5.
5- . صحيح البخاري: 4/492-493(7556)؛ صحيح مسلم: 1/35 و 36، باب الأمر بالإيمان؛ سنن النسائي: 2/333؛ مسند أحمد: 3/318.

إن مجيء الأمر بإقامة الصلاة في كلامه صلى الله عليه و آله و سلم بعد توحيده سبحانه يُشعر أنّها أفضل عمل جارحي بعد التوحيد، وقد تضافر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأئمة أهل البيت أنّ الصلاة أحب الأعمال وأفضلها، وأنّها عمود الدين.

2. روى الصدوق بسنده عن عبداللّه بن مسعود قال: سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أي الأعمال أحب إلى اللّه عزوجل ؟ قال: «الصلاة لوقتها».(1)

3. روى الشيخ الطوسي بسنده عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ عمود الدين الصلاة، وهي أوّل ما يُنظَر فيه من عمل ابن آدم فإنْ صحّت نُظِر في عمله، وإن لم تصحّ لم يُنظَر في بقية عمله».(2)

4. من كلام لأمير المؤمنين صلى الله عليه و آله و سلم كان يوصي به أصحابه: «تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلَاةِ ، وَحَافِظُوا عَلَيْهَا، وَاسْتَكْثِرُوا مِنْهَا، وَتَقَرَّبُوا بِهَا. فَإِنَّهَا (كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) .(3) أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِينَ سُئِلُوا: (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟ قالُوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) (4). وَإِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ ، وَتُطْلِقُهَا إِطْلَاقَ الرِّبَقِ ، وَشَبَّهَهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم بِالْحَمَّةِ تَكُونُ عَلَى بَابِ الرَّجُلِ ، فَهُوَ يَغْتَسِلُمِنْهَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ ، فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَنِ ».(5)

5. روى البرقي في المحاسن عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «الصلاة عمود الدين».(6)

ص:352


1- . الخصال: 163.
2- . التهذيب: 2/267.
3- . النساء: 103.
4- . المدّثر: 42.
5- . نهج البلاغة: 316، الخطبة 199 (ضبط الدكتور صبحي الصالح). و (الرِّبَق): حَبل فيه عدة عُرى كلِّ منها رِبْقة. و (الحَمّة): كل عين ينبع منها الماء الحار، ويُستشفى بها من العلل.
6- . المحاسن: 1/44.

6. روى الشيخ الطوسي عن أبي بصير، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كل يوم منه خمس مرات، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟ قلنا: لا، قال: فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري، كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب».(1)

2 الصلاة فريضة موقوتة تجب المحافظة على أوقاتها

الصلاة فريضة موقوتة بيّن الذكر الحكيم وقتها، وتعرّضت السنّة لشرحها، قال سبحانه: (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (2) أي فرضاً موقوتاً منجَّماً يُؤدّونها في أنجمها، وبمعنى آخر: هي عليهم فرض في وقت وجوب أدائها(3).

وأمّا ما ورد في السنّة في هذا المجال فكثير، منه:

1. روى الصدوق بسنده عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام قال:

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا ينال شفاعتي غداً من أخّر الصلاة المفروضة بعد وقتها».(4)

ص:353


1- . الوسائل: 4، باب 2 من أبواب وجوب الصلوات الخمس، الحديث 3.
2- . النساء: 103.
3- . التبيان في تفسير القرآن: 3/312-313.
4- . أمالي الصدوق: 326، الحديث 15.

2. روى الصدوق عن الإمام الرضا، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن ما حافظ على مواقيت الصلوات الخمس، فإذا ضيّعهن اجترأ عليه فأدخله في العظائم».(1)

3. روى أبان بن تغلب، قال: صلّيت خلف أبي عبداللّه عليه السلام بالمزدلفة، فلمّا انصرف التفتَ إليّ ، فقال: «يا أبان، الصلوات الخمس المفروضات، مَن أقام حدودهنّ ، وحافظ على مواقيتهنّ لقي اللّه يوم القيامة وله عنده عهد يدخله به الجنّة، ومن لم يقم حدودهن، ولم يحافظ على مواقيتهنّ ، لقي اللّه ولا عهد له، إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له».(2)

4. روى الصدوق عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة، كيف محافظتهم عليها؟ وعند أسرارهم، كيف حفظهم لها عن عدونا؟ وإلى أموالهم: كيف مواساتهم لإخوانهم فيها».(3)

إلى غير ذلك من الروايات الحاثّة على المحافظة على الصلاة في أوقاتها، وأنّ من صلّى صلاة الفريضة لوقتها فليس هو من الغافلين، وأمّا من استهان بأوقاتها، فهو من الذين ذمّهم سبحانه بقوله: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) .(4)

فيجب على المسلم التعرّف على أوقات الصلاة: أوقات الفضيلة، وأوقات الإجزاء حتّى يكون من الذاكرين. وهذا ما نتناوله في الفصل التالي:

ص:354


1- . الوسائل: 4، الباب 1 من أبواب المواقيت، الحديث 13.
2- . الوسائل: 2، الباب 1 من أبواب المواقيت، الحديث 1.
3- . الوسائل: 4، الباب 1 من أبواب المواقيت، الحديث 16.
4- . لاحظ: الوسائل: 4، الباب 1 من أبواب المواقيت، الحديث 19.

3 مواقيت الصلوات في الذكر الحكيم

اشارة

قد تضمّن الذكر الحكيم مواقيت الصلاة في غير واحدة من الآيات، وفسّرتها السنّة النبوية وأحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام فلندرس الآيات، ثم نأتي بما في السنّة بإذن اللّه سبحانه.

الآية الأُولى:

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (1).

إنّ الآية تضمّنت بيان أوقات الصلوات الخمس، وإليك تفسيرها على ضوء توضيح مفرداتها.

1. اللام في «دلوك الشمس» إما:

«لام تعليل» أي بسبب «زوال الشمس» أو بمعنى «عند» نظير قول القائل:

كتبتهُ لخمس خلون من شهر كذا أي عند الخمس، والثاني هو الأظهر.

2. الدلوك: بمعنى زوال الشمس عن كبد السماء، وهو قول الأكثر، وشذّ من فسّره بغروب الشمس. حكى القرطبي عن ابن عطية: الدلوك هو الميل - في اللغة - فأوّل الدلوك هو الزوال، وآخره هو الغروب، ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمّى دلوكاً لأنّها في حالة ميل.(2)

ص:355


1- . الإسراء: 78.
2- . الجامع لأحكام القرآن: 10/304، دار الفكر.

وقال الشيخ ابن عاشور: الدلوك بمعنى زوال الشمس عن وسط قوس فرضي في طريق مسيرها اليومي، وبمعنى ميل الشمس عن مقدار ثلاثة أرباع القوس.(1)

وعلى ما ذكره العلمان يصدق الدلوك ما دامت الشمس مائلةً عن وسط السماء إلى جانب الغرب، فالجميع دلوك، ولا يختص الميل بأوّل الزوال.

3. الغسق: اختلفت كلمة اللغويين والمفسّرين في تفسير الغَسَق على أقوال:

أ. ظلمة أوّل الليل، قاله في القاموس، وهو أحد القولين في اللسان، ونقل الشيخ الطوسي في التبيان عن ابن عباس وقتادة أنّهما قالا: هو بدءُ الليل.(2)

ب. الظلمة، ذكره قولاً واحداً في مقاييس اللغة (مادة غسق)، وفي اللسان جعله أحد القولين، وحكى الشيخ الطوسي في التبيان عن الجُبّائي أنّ غسق الليل ظلمته، وهو خيرة صاحب التفسير الكاشف.(3)

والفرق بين المعنين واضح، فإنّ بدء الليل لايلازم الظلمة الكاملة الّتي يشير إليها المعنى الثاني.

ج. الظلمة الشديدة الّتي تمتد إلى نصف الليل وهو خيرة الأزهري، قال:

غسق الليل تراكم الظلمة واشتدادها(4). وفي المفردات غسق الليل: شدة ظلمته(5) وهو المروي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وهو خيرة بعض المفسّرين.

روى ابن إدريس عن كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن

ص:356


1- . التحرير والتنوير: 14/144، نشر مؤسسة التاريخ.
2- . التبيان: 6/509.
3- . التفسير الكاشف: 5/73.
4- . مفاتيح الغيب: 21/27.
5- . مفردات الراغب: 360، مادة «غسق».

المفضل عن محمد الحلبي عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام في قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال:

دلوك الشمس زوالها، وغسق الليل: انتصافه، وقرآن الفجر: ركعتا الفجر».(1)

روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

سألته عما فرض اللّه من الصلاة فقال: خمس صلوات في الليل والنهار، فقلت هل سماهنّ اللّه وبيّنهنّ في كتابه ؟ فقال: نعم، قال اللّه عزوجل لنبيه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) ودلوكها زوالها، ففي ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربعة صلوات سمّاهن وبيّنهنّ ووقّتهنّ ، وغسق الليل انتصافه، وقال: ( وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (2).

4. قُرْآنَ الْفَجْرِ: أُريد به صلاة الفجر فإنّها تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار. هذا ما يرجع إلى بيان مفردات الآية وتوضيحها.

إذا عرفت مفاد المفردات فاعلم أن في الآية دلالة على امتداد وقت الصلوات الأربع من الزوال إلى الغسق، فتكون أوقاتها موسّعة لأن اللام في قوله (لِدُلُوكِ ) بمعنى «عند» و (إِلى ) في قوله: (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) «للانتهاء» فيكون معنى الآية: إنّ وقت الصلوات ممتدٌ من الزوال إلى ذهاب الشفق أو إلى نصف الليل على الخلاف في معنى الغسق، وقد عرفت ما عليه أئمة أهل البيت عليهم السلام في معناه، فتكون النتيجة أن إتيان الصلوات الأربع أداءٌ بين الحدّين، وأن كل جزء منه صالح له.

وبعبارة أُخرى: إن الزمان المحدّد بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت للصلوات الأربع، فله أن يصلي الظهر في أية ساعة من ساعات الحد المذكور،

ص:357


1- . الوسائل: 4، الباب 10 من أبواب المواقيت، الحديث 10.
2- . تهذيب الأحكام: 2/24، الباب 12، الحديث 23.

كما له أن يأتي بالعصر كذلك هذا هو ظاهر الآية، وهو حجة للفقيه ما لم يدل دليل على التضييق، فعندئذٍ تُرفع اليد بمقدار الدليل، وفي غيره يكون الظاهر حجة ومرجعاً.

الآية الثانية:

(وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ ) (1).

الزلف: جمع زُلفى كالظُلَم جمع ظلمة (والزلفة) من أزلفه: إذا قرّبه، و (طَرَفَيِ النَّهارِ) عبارة عن الغدوة والعشية، والمراد من الطرف الأوّل الصبح، ومن الطرف الثاني دلوك الشمس إلى آخر النهار، وهو إشارة إلى وقتي الظهر والعصر.

والزلف من الليل الساعات الأُولى منه، سمِّيت بذلك لقربها من النهار، والمراد بها هنا المغرب والعشاء.

وهذه الآية - كالآية السابقة - تتضمن بيان أوقات الصلوات الخمس: أما الفجر والظهر والعصر، فلقوله «طرفي النهار» وأما المغرب والعشاء فلقوله (زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) .

فعلى ما ذكرنا يكون قوله: (وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) عطفاً على قوله «طرفي النهار» أي أقم الصلاة «طرفي النهار، وأقم الصلاة زلفاً من الليل».

والآية - كسابقتها - تدل على سعة الوقت، وأن طرفي النهار وقت للصلوات الثلاث، فالطرف الأوّل لصلاة الصبح، والطرف الثاني لصلاتي الظهر والعصر، وأمّا الساعات الأُولى من الليل، فهي وقت العشاءين. وهذا الظهور

ص:358


1- . هود: 114.

حجة ما لم يدل دليل على التحديد.

***

الآية الثالثة:

(فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ * وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ ) (1).

والمعنى: تنزيهاً للّه تعالى عمّا لا يليق به ولا يجوز عليه من صفات نقص أو ما ينافي عظمته، في الإصباح والإمساء والإظهار وفي العشيّ ، وأن ما في السموات والأرض من خلق وأمر، يستدعي بحسنه حمداً وثناءً للّه سبحانه.

وقد ذهب جملة من المفسرين إلى أنّه سبحانه أشار في هاتين الآيتين إلى الصلوات الخمس، وفي الوقت نفسه ذهب آخرون إلى أنّها راجعة إلى مطلق التحميد والتسبيح.

قال أُستاذنا السيد محمد حسين الطباطبائي: يظهر أن المراد بالتسبيح والتحميد معناهما المطلق دون الصلوات اليومية المفروضة، كما يقول به أكثر القائلين بكون القول مقدّراً، والمعنى: (قولوا: سبحان اللّه، وقولوا: الحمد للّه)، فالتسبيح والتحميد في الآيتين إنشاء تنزيه وثناء منه تعالى لا من غيره، حتّى يكون المعنى : (قولوا: سبحان اللّه، وقولوا: الحمد للّه)، فقد تكرر في كلامه تعالى تسبيحه وتحميده لنفسه، كقوله: (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ ) (2)، وقوله:

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ) (3).(4)

وعلى فرض صحة ما ذهب إليه جملة من المفسّرين من أنّ الآيتين

ص:359


1- . الروم: 17-18.
2- . الصافات: 180.
3- . الفرقان: 1.
4- . انظر: الميزان في تفسير القرآن: 16/160-161.

تشيران إلى الصلوات الخمس، فنقول: إن لهم في تفسير مفرداتها أقوالاً، نذكر منها أوضحها:

1. (حِينَ تُمْسُونَ ) أي حين تدخلون في وقت المساء، وهو ما بعد الظهر إلى المغرب(1) فيكون إشارة إلى صلاة العصر.

2. (حِينَ تُصْبِحُونَ ) إشارة إلى صلاة الفجر.

3. (حِينَ تُظْهِرُونَ ) في حين تدخلون في وقت الظهيرة، وقد يكون إشارة إلى صلاة الظهر.

4. (عَشِيًّا) أي وفي العشيّ ، وإنّما عدل من الفعل إلى الاسم لأنّه لم يُبنَ منه فعل من باب الإفعال بخلاف المساء والصباح والظهيرة حيث بني منها الإمساء والإصباح والإظهار بمعنى الدخول في المساء والصباح والظهيرة. والعشيّ : آخر النهار، وقيل: من صلاة المغرب إلى العتمة، وأنشد ابن الأعرابي:

هيفاء عجزاء خريد بالعشيّ تضحك عن ذي أُشُر عذبٍ نقيّ

والمراد بالعشيّ هنا الليل. قال ابن منظور: فإمّا أن يكون سمّى الليل عشيّاً لمكان العشاء الّذي هو الظلمة، وإما أن يكون وضع العشيّ موضع الليل لقُربه منه، من حيث كان العشيّ آخر النهار، وآخر النهار متصل بالليل.(2)

ومن هنا نقول إن الآية تشير إلى صلاتي المغرب والعشاء، لا إلى صلاة العصر، كما ذهب بعضهم، لأنّها لا تناسب وقت العشيّ الّذي مرّ بيانه.

وظاهر الآية حجةٌ لمن يجعل الوجوب بأوّل الوقت لتقييد الوجوب بالحينية المختصة بحال الدخول في المساء والصباح والظهيرة.

ولكن يمكن أن يقال إن الآية إشارة إلى أوّل الوقت ودخوله لا لتقييده

ص:360


1- . لسان العرب: 15/281، مادة «مسا».
2- . لسان العرب: 15/60-61، مادة «عشا».

بأوّل الوقت. وسيوافيك التوضيح عند الفراغ من دراسة الآيات.

يُشار إلى أن ظاهر الآية، هو تفريق الصلوات في الأوقات الثلاثة، كما أن ظاهر آية الدلوك، وآية طرفي النهار، الإتيان بها في تمام أجزاء الوقت، والتوفيق بينهما بحمل الأوليين على أوقات الإجزاء، والأخيرة على وقت الفضيلة، كل ذلك بفضل الروايات المتواترة كما ستوافيك.

الآية الرابعة:

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) (1).

ومعنى الآية: فاصبر على ما يقولون من أنك ساحر أو شاعر فإنّه لا يضرّك، وأقبِلْ على ما ينفعك فعله وهو ذكر اللّه، و «الباء» في ب «بحمد ربّك» للملابسة، أي سبِّح حامداً ربّك، في فترات من الليل والنهار.

وما ذُكر في الآية من التسبيح مطلق لا دلالة فيها من جهة اللفظ على أن المراد به الصلوات الخمس،(2) ولكن بعض المفسرين ذهب إليه، وعلى فرض صحة ذلك، نقول: إنّ هذه الآية على خلاف الآيات السابقة تتضمن آخر أوقات بعض الصلوات الخمس، وإليك البيان:

1. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ : إشارة إلى نهاية وقت صلاة الفجر.

2. وَ قَبْلَ غُرُوبِها : إشارة إلى نهاية وقت صلاتي الظهر والعصر، لكونهما في النصف الأخير من النهار، كما أن الفجر في النصف الأوّل.(3)

ص:361


1- . طه: 130.
2- . انظر: الميزان في تفسير القرآن: 14/235.
3- . قال ابن عاشور التونسيّ : إن الأوقات المذكورة في هذه الآية، هي أوقات الصلوات، ثم قال وهو يعدّدها: ووقتان قبل غروبها وهما الظهر والعصر، وقيل: المراد صلاة العصر. التحرير والتنوير: 16/204.

3. وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ : إشارة إلى العشاءين، وآناء الليل: ساعاته، «ومن» في قوله «مِنْ آناءِ اللَّيْلِ » للابتداء، وفيه تنبيه على أن ابتداء وقت العشاءين من أوّل الليل، وقدّم الظرف (آناء الليل) على الفعل (فسبح) للاهتمام بفعلها ليلاً، لعدم شغل النفس حينئذٍ، بخلاف ما سبق حيث قدّم الفعل فيه على الزمان.

4. وَ أَطْرافَ النَّهارِ : فسّره بعضهم بصلاتي المغرب والفجر، والتكرار لأجل الاختصاص مثل قوله: (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى ) (1) وهو غير جيد لأن طرفي الشيء من نفس الشيء لا خارج عنه، وصلاة المغرب تقع في الليل، فكيف تكون في النهار؟

وعن قتادة أنّه إشارة إلى صلاة الظهر(2)، وقد ذكروا في معنى كونها في أطراف النهار مع أنها في منتصفه (بعد الزوال) توجيهاً، وصفه السيد الطباطبائي بأنّه متعسف وبعيد عن الفهم، وأنّ الذوق السليم يأبى أن يسمّي وسط النهار أطراف النهار بفروض واعتبارات وهمية، فراجع تفسيره.(3)

والظاهر أن أطراف النهار كناية عن ذكر اللّه في كل آنٍ وحال، كقوله تعالى:

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ ) (4). ويمكن أن يُقال: إنّ المراد بأطراف النهار أوّله وآخره بالنظر إلى كونهما وقتين ذوَي سعة، لكل منهما أجزاء، كل جزء منها طرف بالنسبة إلى وسط النهار.(5)

وفي الآية نص صريح على سعة وقت الصبح إلى طلوع الشمس، والظهرين إلى غروبها، لأنّه سبحانه ذكر أواخر أوقاتها، وعلى هذا فوقت صلاة

ص:362


1- . البقرة: 238.
2- . التبيان في تفسير القرآن: 7/222.
3- . الميزان في تفسير القرآن: 14/235-236.
4- . آل عمران: 191.
5- . انظر: الميزان في تفسير القرآن: 14/236.

الصبح يمتد إلى طلوع الشمس، ووقت الظهرين يمتد إلى غروبها، كما أن وقت العشاءين باق مادام يصدق آناء الليل وساعاته.

فظاهر الآية يدلّ على سعة الوقت في هذه الصلوات وهو حجّة للفقيه ما لم يدل دليل على التضييق والتحديد في السنّة المطهرة وأحاديث العترة عليهم السلام.

الآية الخامسة:

(وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ * وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ) (1).

ومعنى الآية: سبّح حامداً ربّك قبل الطلوع وقبل الغروب ولو حُمل التسبيح على ظاهره تُحمل الآية على استحبابه في هذه الفترات، ولو حُمل على الصلاة فالصلاة قبل طلوع الشمس: الفجر، وقبل الغروب: الظهر والعصر، والمراد بقوله: (وَ مِنَ اللَّيْلِ ) العشاءان. وفي الآية دلالة واضحة على سعة أوقات الصلوات.

أمّا قوله تعالى : (وَ أَدْبارَ السُّجُودِ) فيُراد به الركعتان بعد المغرب، وقد روي ذلك عن عليّ عليه السلام، والحسن عليه السلام، وابن عباس، ومجاهد، وإبراهيم النخعيّ ، وغيرهم.(2)

حصيلة البحث حول الآيات

النظر الصائب في استنباط الحكم الشرعي عن الأدلة الشرعية هو النظرة الفاحصة إلى القرآن الكريم والإمعان في مفاد الآيات الّتي نزلت حول الموضوع، وهذا لا يعني الاقتصار على الكتاب والاستغناء عن السنّة المبيِّنة لمجمَلات

ص:363


1- . ق: 39-40.
2- . انظر: تفسير الطبري: 13/219-222؛ والتبيان في تفسير القرآن: 9/374-375.

الكتاب، المقيِّدة لإطلاقاته، والمخصِّصة لعموماته، فإن هذا هو مسلك من قال:

«حسبنا كتاب اللّه» كيف ؟ واللّه سبحانه يقول: (وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (1).

وقال عز من قائل: (وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (2) فالسنّة المطهرة مبينة لما ورد في الذكر الحكيم على النحو المذكور، ومع ذلك كله فظاهر القرآن من إطلاق أو عموم حجة على الفقيه، ما لم يكن في السنّة شيء يحدده ويضيقه.

وعلى أساس ذلك، فقد عرفت أن قوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (3) يدل بظاهره على أنّ الوقت المحدد بالدلوك إلى الغسق، هو وقت للصلوات الواجبة فيه، فكل جزءٍ منه صالح لصلاتي الظهر والعصر، فللمصلي أن يفرّق بينهما، كما أن له أن يجمع بينهما، لصدق إقامة الصلاة بين الدلوك والغسق على الجمع والتفريق، فلا ترفع اليد عن هذا الظهور إلّا بمقدار ما دل على التحديد والتضييق، كما سيوافيك.

كما أنّ الآية الثانية أعني قوله تعالى: (وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) (4) يدل على أن طرفي النهار وقت لكل من صلوات الفجر والظهر والعصر، وعلى هذا فكل جزء من الطرف الثاني للنهار وقت للظهرين، فمن فرق أو جمع في النهار (بعد الزوال) تقع صلاته صحيحة، وهذا الظهور حجة ما لم يدل دليل على الخلاف.

ص:364


1- . الحشر: 7.
2- . النحل: 44.
3- . الإسراء: 78.
4- . هود: 114.

والآية الثالثة هو قوله تعالى: (فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ * وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ ) (1).

وقد مر أن المراد بقوله: (حِينَ تُمْسُونَ ) هو الدخول في المساء أي وقت صلاة العصر وقوله: (حِينَ تُظْهِرُونَ ) هو الدخول في الظهر، فعلى هذا فالآية تدل على التفريق أي الإتيان بالصلاة الأُولى في الظهر، والأُخرى في العصر، ودلالة الآية على التفريق حجة ما لم يكن هناك دليل على الترخيص.

وأما الآية الرابعة والخامسة فقد مرّ أن الآيتين في مقام بيان آخر الوقت.

ويتلخص ممّا ذكرنا أن في الآيتين الأوليين دلالة على الجمع بين الصلاتين أو الصلوات، وفي الآية الثالثة - بناءً على تفسيرها بالصلوات - دلالة على التفريق، وقد مرّ التوفيق بين الآيات، بقي الكلام فيما ورد في السنة النبوية أو ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.

4 أوقات الفضيلة للصلوات الخمس

اشارة

قد ورد في السنّة المطهرة وأحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام مواقيت خاصة لكل من الصلوات الخمس، وهذا ممّا لا ريب فيه، وإنّما الكلام في كونها أوقات للفضيلة، بحيث يجوز العدول عن وقت إلى وقت آخر، أو تحديد للجواز، بمعنى عدم جواز إقامتها في غير ذلك الوقت، فلنذكر هنا ما ورد من هذه الروايات. ثم نقوم بإيضاحها في الفصل التالي:

ص:365


1- . الروم: 17-18.

أخرج مسلم، عن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أن رجلاً سأله عن وقت الصلاة، فقال له: «صلّ معنا هذين» يعني اليومين فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذّن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر.(1)

وأخرج أيضاً عن عبداللّه بن عمرو بن العاص أنّه قال: سُئل رسول اللّه عن وقت الصلوات، فقال: وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأوّل، ووقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس عن بطن السماء ما لم يحضر العصر، ووقت صلاة العصر ما لم تصفرّ الشمس، ويسقط قرنها الأوّل، ووقت صلاة المغرب إذا غابت الشمس ما لم يسقط الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل.(2)

ما جاء في هذه الروايات ونظائرها حق لا ريب فيه، ولا ينكره فقيه إمامي، وقد تضافر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ما يقرب من مضامين هاتين الروايتين، فقد حدّدوا أوّل وقت فريضة الظهر وأوّل وقت فريضة العصر، تارة بصيرورة الظل قامة وقامتين، وأُخرى بصيرورته ذراعاً وذراعين، وثالثة بصيرورته قدماً وقدمين، ومرجع الجميع واحد كما سيوافيك عن قريب، ونذكر لكل عنوان من العناوين الثلاثة روايتين، فإنّ نقل الكل لا يناسب وضع الرسالة.

القامة والقامتان:

1. روى الشيخ في التهذيب عن محمد بن حكيم قال: سمعت العبد الصالح (موسى بن جعفر عليه السلام) ان أوّل وقت الظهر زوال الشمس، وآخر وقتها

ص:366


1- . صحيح مسلم: باب أوقات الصلوات الخمس، الحديث 1277.
2- . صحيح مسلم: باب أوقات الصلوات الخمس، الحديث 1275.

قامة من الزوال، وأوّل وقت العصر قامة، وآخر وقتها قامتان. قلت: في الشتاء والصيف سواء؟ قال: نعم.(1)

2. روى الشيخ الطوسي عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألت عن وقت الظهر والعصر فقال: وقت الظهر إذا زاغت الشمس إلى أن يذهب الظل قامة، ووقت العصر قامة ونصف إلى قامتين.(2)

الذراع والذراعان

1. روى الكليني بسنده عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام - في حديث - قال:

كان حائط مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل أن يظلل قامة، وكان إذا كان الفيء ذراعاً وهو قدر مربض عنز صلّى الظهر، فإذا كان ضعف ذلك صلى العصر.(3)

2. روى الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا كان فيء الجدار ذراعاً صلى الظهر، وإذا كان ذراعين صلى العصر.(4)

***

القدم والقدمان

1. روى ذريح المحاربي عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام قال: سأل أبا عبداللّه أُناس وأنا حاضر - إلى أن قال: - فقال بعض القوم - إنّا نصلّي الأُولى إذا كانت على قدمين، والعصر على أربع أقدام فقال: أبو عبداللّه عليه السلام: النصف من ذلك أَحبّ إليّ .(5)

ص:367


1- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب المواقيت، الحديث 29. وسيوافيك معنى القامة عن قريب.
2- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب المواقيت، الحديث 9.
3- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب المواقيت، الحديث 7.
4- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب المواقيت، الحديث 10.
5- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب المواقيت، الحديث 22.

2. روى الشيخ الطوسي عن محمد بن الفرج قال: كتبت أسأل عن أوقات الصلاة، فأجاب: إذا زالت الشمس فصلّ سُبحتك، وأُحبّ أن يكون فراغك من الفريضة والشمس على قدمين، ثم صلّ سُبحتك، وأُحبّ أن يكون فراغك من العصر والشمس على أربعة أقدام، فإنْ عجّل بك أمر فابدأ بالفريضتين، واقضِ بعدهما النوافل، فإذا طلع الفجر فصلّ الفريضة، ثم اقضِ بعد ما شئت.(1)

ومعنى قوله: «أُحبّ أن يكون فراغك من الفريضة، والشمس على قدمين» ان لا يؤخر عنهما لفوات وقت الفضيلة عندئذٍ.

هذه عناوين ثلاثة لدخول وقت الظهر والعصر، وربّما يتبادر إلى الذهن وجود التنافي بينها، إذ كيف يمكن أن يكون الظل على قامة وفي الوقت نفسه على قدم وذراع ؟

ويرتفع التوهم بالقول: إنّ تحديدها بالقامة لا يُراد منه قامة الشخص، وإنّما المراد ظل القامة عند الزوال، وهو يختلف بحسب الزمان والمكان فيزيد وينقص، وإنّما تطلق عليه القامة في زمان يكون مقداره ذراعاً، فإذا زاد الفيء بعد الزوال ذراعاً حتّى صار مساوياً للظل فهو أوّل وقت فضيلة الظهر، وإذا زاد ذراعين فهو أوّل وقت فضيلة العصر.

فخرجنا بالنتيجة التالية: إن ما ورد في السنة المطهرة المروية عن طريق أهل السنة، قريب ممّا روي عن أهل البيت عليهم السلام في أوقات الظهرين، والاختلاف الجزئي في الزيادة والنقصان لا يضرّ.

ولو كان المروي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم والعترة نفس ما تقدم كان التفريق أمراً إلزامياً، والجمع بدعة غير مجزئ، لاستلزامه وقوع إحدى الصلاتين في غير وقتها.

ص:368


1- . الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب المواقيت، الحديث 31.

غير أن هناك روايات متواترة تدل على أن التحديد المذكور في الظهرين والعشاءين، تحديد لوقت الفضيلة دون وقت الإجزاء، وأنّ بين الزوال والعصر وقت مشترك للظهرين يجزئ الصلاة فيه مطلقاً مختاراً كان أو مضطراً، سوى أربع ركعات من الزوال وأربع ركعات قبل الغروب، إذ هما وقت اختصاصي لكل من الظهر والعصر.

وهذا هو الّذي أغفله الكاتب، مقتصراً على ذكر الروايات الّتي تؤيد مدّعاه من أن لكلِّ صلاة وقتاً، وأنّ الصلاة في غير ذلك الوقت لا تُجزئ، فوقت صلاة الظهر كون الظل مثلاً، والعصر مثلين، وهذا تعتيم على الحقيقة وكتمان لها، وهو مصداق واضح لقوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ ) (1).

إن تحقيق الحق وإماطة اللثام عن وجه الحقيقة يقتضي الإشارة إلى صور الجمع بين الصلاتين، فإن للجمع صوراً مختلفة اتفقت كلمة الجمهور في قسم منها، واختلفت في قسم آخر، ولكن الضالّة المنشودة في المقام، هي دراسة الجمع بين الصلاتين في الحضر جمعاً حقيقياً بلاعذر ولا حرج شخصي، وقد شرّعه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بفعله وعمله، كتعبيرٍ عن سماحة الشريعة ومرونتها وتجاوبها مع متطلّبات العصور واختلاف الظروف، وهذا هو رمز الخاتمية وشارتها، فلندرس أقسام الجمع في الفصل التالي:

ص:369


1- . البقرة: 159.

5 الجمع بين الصلاتين في عرفة والمزدلفة والسفر

اشارة

اعلم أن للجمع صوراً مختلفة اتّفقت كلمة الفقهاء في بعضها، واختلفت في البعض الآخر، وإليك صورها:

1. جمع الحاج بين الصلاتين في عرفة، والمزدلفة، فيصلي العصر في وقت الظهر في عرفة، ويصلي المغرب في وقت العشاء بالمزدلفة.

2. الجمع بين الصلاتين في السفر، تارة يقدم العصر أو العشاء، وأُخرى يؤخّرهما.

3. الجمع بين الصلاتين لأجل الأعذار كالمطر والبرد والوحل وغير ذلك.

والجمع في هذه الصور جمع حقيقي لا صوري، ولا يتفوّه به من له إلمام بالفقه وتاريخه.

4. الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً بلا عذر وهذا هو بيت القصيد في رسالة الكاتب ورسالتنا هذه، فالإمامية تبعاً للذكر الحكيم والسنّة النبوية المتضافرة بل المتواترة وتبعاً لما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، على الجواز، ووافقهم لفيف من فقهاء أهل السنة، وإن كان المشهور عندهم عدم الجواز، وإليك دراسة الصور.

1. الجمع بين الصلاتين في عرفة والمزدلفة

اتّفق الفقهاء على جواز الجمع بين الصلاتين في المزدلفة وعرفة، بل

ص:370

اتّفقوا على رجحان الجمع من غير اختلاف بينهم، قال القرطبي: اجمعوا على الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة أيضاً في وقت العشاء سنّة أيضاً، وإنّما اختلفوا في الجمع في غير هذين المكانين.(1)

ولم يكن الجمع فيه جمعاً صورياً بل جمعاً حقيقياً أي يصلي العصر في وقت الظهر بعرفة، كما يصلي المغرب في وقت العشاء بالمزدلفة، ولم يقل أحدٌ ان الجمع صوري، بل ربّما لا يتمكن من الجمع الصوري، كما في الصلاة بالمزدلفة، فإن الخروج من عرفة والنزول بالمزدلفة يستغرق وقت المغرب، فيزول الشفق، ويدخل وقت العشاء، كما هو المجرب لكل من حجّ البيت. وبما أن المسألة مورد اتّفاق نقتصر على ما ذكرنا.

2. الجمع بين الصلاتين في السفر

ذهب معظم الفقهاء (غير الحسن البصريّ وإبراهيم النخعي، وأبي حنيفة، وصاحبيه) إلى جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، فيجوز عند الجمهور - غير هؤلاء - الجمع بين الظهر والعصر تقديماً في وقت الأُولى ، وتأخيراً في وقت الثانية، وبين المغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً أيضاً، ويسمى الجمع في وقت الصلاة الأُولى جمع التقديم، والجمع في وقت الصلاة الثانية جمع التأخير، ولا يكون الجمع صورياً بل حقيقياً، إما باقامة العصر بوقت الظهر أو بالعكس.

ويشهد على الجمع الحقيقي روايات عديدة نقتصر على نقل روايتين منها:

أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس رضى الله عنه حديثه عن صلاة رسول

ص:371


1- . بداية المجتهد: 1/170.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في السفر، قال: كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، فاذا لم تزغ له في منزله، سار حتّى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء، وإذا لم تَحِن في منزله ركب حتّى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما.(1)

قال الشوكاني بعد نقل هذه الرواية عن مسند أحمد: رواه الشافعي في مسنده بنحوه وقال فيه: وإذا سار قبل أن تزول الشمس أخّر الظهر، حتّى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر.(2)

وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي بإسنادهم عن مُعاذ بن جبل: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر حتى يجمَعَها إلى العصر فيصلّيهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلّى الظهر والعصر جميعاً ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتّى يصلّيها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاها مع المغرب.(3)

والروايتان واضحتا الدلالة على أن الجمع بين الصلاتين تقديماً أو تأخيراً كان جمعاً حقيقياً، لا صورياً كما يُزعم بأن يؤخّر الظهر إلى آخر وقت فيصلّيها، ثم يقدّم العصر إلى أوّل وقتها فيصلّيها، أو يؤخّر المغرب إلى آخر وقتها، ويعجّل العشاء في أوّل وقتها، والمتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع، هو الجمع في وقت إحدى الصلاتين، ويدلّ عليه صراحة القول الآنف الذكر: (أخّر الظهر حتّى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر).

والحقيقة أنّ القول بأن الجمع كان صورياً، قول متعسّف، بل هو محاولة

ص:372


1- . مسند أحمد: 1/367-368.
2- . نيل الأوطار: 3/213.
3- . مسند أحمد: 5/241؛ وسنن أبي داود (1220)؛ وسنن الترمذي (553).

بائسة لليّ النصوص الواضحة في هذا الباب، وإخضاعها للرأي المذهبي.

وبما أن المسألة خارجة عن موضوع الرسالة، ففيما ذكرناه كفاية لمن ينشد الحقّ .

3. الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل العذر

المشهور عند الجمهور هو جواز الجمع بين المغرب والعشاء لعذر، خلافاً للحنفية حيث لم يجوزوا الجمع مطلقاً إلّافي الحج، وأصل الحكم مورد اتّفاق، وإنّما الاختلاف في الأُمور الجانبية، وبما أن المسألة خارجة عن موضوع البحث، فلا نطيل الكلام فيها.

6 الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً

اشارة

قد عرفت حكم الجمع في الصور الثلاث المتقدمة، وإن كان الجميع خارجاً عن هدف الرسالة، إنّما المهم دراسة حكم الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً بلا عذر ولا علّة، والغاية من تشريع الجمع - بعد الثبوت - هو تسهيل الأمر على الأُمّة، بمعنى أن المصلحة النوعية سبّبت تشريع الجمع بين الصلاتين لعامة الأفراد، وإن لم يكن حرجيّاً بالنسبة إلى بعضهم.

ونحن نورد ما روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في هذا الفصل، وما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في فصل آخر. وإليك ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في هذا المجال ضمن أصناف:

ص:373

1. ما دلّ على الجمع معلّلاً بعدم إحراج الأُمة، أو للتوسعة عليها

1. روى مسلم عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:

صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر. قال أبو الزبير: فسألت سعيداً: لِمَ فعل ذلك ؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يُحرج أحداً من أُمته.(1)

2. روى مسلم عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جمع رسول اللّه بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر، قال: قلت لابن عباس: لِمَ فعل ذلك ؟ قال: كي لا يُحرج أمّته.

وفي حديث أبي معاوية: قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك ؟ قال: أراد أن لا يُحرج أُمته.(2)

3. أخرج الترمذي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قال: فقيل لابن عباس: ما أراد بذلك ؟ قال: أراد أن لا يُحرج أُمته.(3)

قال الترمذي بعد نقل الحديث: حديث ابن عباس قد روي عنه من غير وجه، رواه جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعبداللّه بن شقيق العقيلي.

4. أخرج النسائي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يصلّي بالمدينة يجمع بين الصلاتين بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر. قيل له: لِمَ؟ قال: لئلّا يكون على أُمته حَرَج.(4)

ص:374


1- . صحيح مسلم: 324، برقم 1513، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، تحقيق صدقي جميل العطار.
2- . صحيح مسلم: 324 برقم 1515، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، تحقيق صدقي جميل العطار.
3- . سنن الترمذي: 1/354، باب ما جاء في الجمع في الحضر، برقم 187.
4- . سنن النسائي: 1/290، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.

5. أخرج أحمد عن قتادة قال: سمعت جابر بن زيد، عن ابن عباس قال:

جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، في غير خوف ولامطر. قيل لابن عباس: وما أراد إلى ذلك قال: أراد أن لا يحرج أُمته.(1)

6. أخرج عبدالرزاق في مصنّفه، عن ابن عباس قال: جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين الظهر والعصر بالمدينة، في غير سفر ولا خوف. قال: قلت لابن عباس: ولم تراه فعل ذلك ؟ قال: أراد أن لايحرج أحداً من أُمّته.(2)

7. أخرج عبد الرزاق عن عمرو بن شعيب، عن عبداللّه بن عمر قال: جمع لنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مقيماً غير مسافر بين الظهر والعصر. فقال رجل لابن عمر: لِمَ ترى النبي فعل ذلك ؟ قال: لأنْ لا يحرج أُمّته إن جمع رجلٌ .(3)

8. أخرج عبدالرزاق عن صالح مولى التوأمة أنّه سمع ابن عباس يقول:

جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، من غير سفر ولا مطر. قال: قلت لابن عباس: لِمَ تراه فعل ذلك ؟ قال: أراه للتوسعة على أُمّته.(4)

9. أخرج الطبراني في الأوسط والكبير بسنده عن عبداللّه بن مسعود قال:

جمع رسول اللّه - يعني بالمدينة - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقيل له في ذلك، فقال: صنعتُ ذلك لئلّا تُحرجَ أُمتي.(5)

10. أخرج الطحاوي بسنده عن جابر بن عبداللّه قال: جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين الظهر العصر، والمغرب والعشاء في المدينة للرخص، من غير خوف ولا علّة.(6)

ص:375


1- . مسند أحمد: 1/223.
2- . المصنّف: 2/555-556، الحديث 4434.
3- . المصنّف: 2/556، الحديث 4437.
4- . المصنّف: 2/555، الحديث 4434.
5- . المعجم الكبير: 10/269، الحديث 10525.
6- . معاني الآثار: 2/161.

11. أخرج أحمد عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في غير مطرٍ ولا سفر.

قالوا: يا ابن عباس، ما أراد بذلك ؟ قال: التوسّع على أُمّته.(1)

وهذه الروايات تتضمن بيان فلسفة تشريع الجمع، ذلك أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم جسد بعمله هذا إحدى الخصائص العامة الّتي اتّسمت بها الشريعة الإسلامية، وهي المرونة والسعة، الّتي تتجلّى في قوله سبحانه في كتابه المجيد:

(وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2)، وقوله سبحانه: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (3) فحياة الإنسان لا تجري على نمط واحد، وليست هي ثابتة، بل تتغير وتتطور، وظروف الحياة وملابساتها تختلف زماناً ومكاناً، والشريعة تواكب ذلك التغير والتطور، وتنسجم مع واقع الحياة وظروفها، من خلال شمولية تعاليمها وأحكامها، ومرونتها، ويأتي قيام النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالجمع بين الصلوات من غير عذر، كتعبير عملي عن يُسر الشريعة ومرونتها، واستجابتها لمختلف الظروف، حيث شرِّع التفريق لئلا يُحرم المصلّي من فضل الصلاة وثوابها، والجمع لئلا يلحقه إثم ومغبة تركها.

إن إلقاء نظرة على واقع الحياة اليوم وتعقيداتها، وما يعانيه العمال والموظفون من مصاعب في أماكن عملهم، وضيق الوقت الّذي يُمنح لهم للاستراحة، وقصر أوقات الصلوات (في بعض البلدان أو في بعض أيام السنة) إذا أديت متفرقة، كلّ ذلك وغيره يكشف لنا عن عظمة تشريع الجمع بين الصلاتين، أو التفريق بينهما، وإعطاء الرخصة للمصلّي في اختيار أحدهما.

ص:376


1- . مسند أحمد: 1/346.
2- . الحج: 78.
3- . البقرة: 185.
2. ما دلّ على الجمع، من غير ذكر السّبب

1. أخرج مسلم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، في غير خوف ولا سفر.(1)

2. أخرج مسلم عن جابر بن زيد، عن ابن عباس: أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صلّى بالمدينة سبعاً وثمانياً الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.(2)

وقوله: الظهر والعصر لفٌّ ونشرٌ غير مرتّب، والمرتب منه ثمانياً وسبعاً، فالثمانية للظهرين، والسبع للعشاءين، والمقصود أنّه جمع بين الصلاتين، وإلّا فيكون الكلام من قبيل توضيح الواضحات، إذ يعلم كل مسلم أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يصلي سبعاً وثمانياً وركعتين، ويفسره الحديث التالي:

3. أخرج البخاري عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: صلّى النبي صلى الله عليه و آله و سلم سبعاً جميعاً وثمانياً جميعاً.(3)

4. قال البخاري: قال ابن عمر وأبو أيوب وابن عباس رضي اللّه عنهم، صلّى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم المغرب والعشاء.(4)

5. أخرج مالك، عن سعيد بن جبير، عن عبداللّه بن عباس أنّه قال: صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً معاً، في غير خوف ولا سفر.(5)

ص:377


1- . شرح صحيح مسلم للنووي: 5/312-318.
2- . شرح صحيح مسلم للنووي: 5/213-218.
3- . صحيح البخاري: 1/113، باب وقت المغرب من كتاب الصلاة.
4- . صحيح البخاري: 1/118، باب ذكر العشاء والعتمة.
5- . موطأ مالك: 1/144، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر، الحديث 4.

6. أخرج أبو داود، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمدينة ثمانياً وسبعاً: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. قال أبو داود:

رواه صالح مولى التوأمة عن ابن عباس قال: في غير مطر.(1)

7. أخرج النسائي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، من غير خوف ولا سفر.(2)

8. أخرج النسائي عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس قال: صلّيت وراء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثمانياً جميعاً، وسبعاً جميعاً.(3)

9. أخرج النسائي عن جابر بن زيد، عن ابن عباس أنّه صلّى بالبصرة الأُولى والعصر ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء، فعل ذلك من شغل، وزعم ابن عباس أنّه صلّى مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمدينة، الأُولى والعصر ثمان سجدات ليس بينهما شيء.(4)

ثم إنّ قوله من شغلٍ يدلّ على أنّ الشغل كان لابن عباس دون المصلّين الحاضرين في المسجد، ومن المعلوم أنّ وجود الشغل يسمح للإمام أن يجمع لا للمصلّين، فلولا أنّ الجمع كان أمراً شرعياً لجمع ابن عباس وحده، وعيّن إماماً للمصلين للتفريق.

ثم إنّ الجمع لأجل الشغل يدلّ أنّه لم يكن التفريق عزيمة، وإلّا لما سقط

ص:378


1- . سنن أبي داود: 2/6، الحديث 1214.
2- . سنن النسائي: 1/290، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
3- . سنن النسائي: 1/290، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
4- . سنن النسائي: 1/286، باب الوقت الّذي يجمع فيه المقيم، والمراد من ثمان سجدات ثمان ركعات.

وجوبه بوجود الشغل، اللهم إلّاأن يكون الشغل أمراً مهماً كصيانة الدماء والأعراض.

10. أخرج الحافظ أبو نعيم الأصفهاني عن جابر بن زيد أنّ ابن عباس جمع بين الظهر والعصر، وزعم أنّه صلّى مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمدينة الظهر والعصر.(1)

11. أخرج أبو نعيم عن عمرو بن دينار قال: سمعت أبا الشعثاء يقول: قال ابن عباس رضى الله عنه: صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثماني ركعات جميعاً وسبع ركعات جميعاً، من غير مرض ولا علّة.(2)

12. اخرج البزار في مسنده عن أبي هريرة قال: جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين الصلاتين في المدينة من غير خوف.(3)

13. أخرج أحمد عن طاووس، عن ابن عباس: أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في السَّفَر والحَضَر.(4)

14. أخرج أحمد عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة مقيماً غير مسافر سبعاً وثمانياً.(5)

3. ابن عباس يجمع بين الصلاتين، اقتداءً بسنّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

قد تعرّفت على الروايات الّتي تحدثت عن قيام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالجمع بين الصلوات، وهناك روايات تحكي أنّ ابن عباس كان يلقي ذات مساء

ص:379


1- . حلية الأولياء: 3/90، باب جابر بن زيد.
2- . حلية الأولياء: 3/90، باب جابر بن زيد.
3- . مسند البزاز: 283، الحديث 421.
4- . مسند أحمد: 1/360.
5- . مسند أحمد: 1/221.

محاضرة حتّى مضى شيء من وقت المغرب فاعترض عليه بعض الحاضرين، فقال مندّداً به: أتعلمني بالسنّة لا أُمّ لك ؟ رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وإليك ما روي في هذا المقام.

أ. أخرج مسلم عن عبداللّه بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنّة لا أُمّ لك ؟ ثم قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبداللّه بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته، فصدّق مقالته.(1)

ب. وأخرج أيضاً بسند آخر عن عبداللّه بن شقيق العقيلي، قال: قال رجل لابن عباس: الصلاة، فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت، ثم قال: لا أُمّ لك أتعلمنا بالصلاة وكنّا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(2)

ج. أخرج أحمد عن عبداللّه بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم وعلق الناس ينادونه الصلاة وفي القوم رجل من بني تميم فجعل يقول: الصلاة الصلاة، قال: فغضب، قال:

أتعلمني بالسنّة شهدت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبداللّه: فوجدت في نفسي من ذلك شيئاً فلقيت أبا هريرة فسألته، فوافقه.(3)

ص:380


1- . شرح صحيح مسلم للنووي: 5/213-218.
2- . شرح صحيح مسلم للنووي: 5/213-218.
3- . مسند أحمد: 1/251.

هذه الروايات الّتي نقلناها من الصحاح والسنن والمسانيد أحاديث اعتنى بنقلها حفّاظ المحدّثين وأكابرهم، ولا يمكن لأحد أن ينكرها أو يرفضها. وقد ناهز عددها، ثمانياً وعشرين رواية.

***

7 تأويل النصوص لنصرة المذهب

اشارة

إن الروايات المتقدمة تدل بوضوح على أن الجمع أحد الخيارين الواجبين، وأن صاحب الشريعة رخّص في الجمع، ولم يوجب التفريق.

ولما كانت الروايات مخالفة للمذهب المشهور بين فقهاء الجمهور حاول بعضهم أن يؤوّل الروايات بما لا ينسجم مع النصوص، وكان الأَولى بهم أن يأخذوا بها ويتركوا ما ورثوه من لزوم التفريق. وها نحن نأتي بتأويلاتهم، حتّى يقف القارئ على مدى تعصب القوم بالنسبة إلى المذهب والتساهل بما ورد في السنّة.

التأويل الأوّل: الجمع لأجل وجود المطر

1. أخرج البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم صلّى بالمدينة سبعاً وثمانياً: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. فقال أيوب: لعلّه في ليلة مطيرة قال:

عسى.(1)

2. أخرج أبو داود عن عبداللّه بن عباس قال: صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الظهر

ص:381


1- . صحيح البخاري: 1/110، باب تأخير الظهر إلى العصر من كتاب الصلاة، الحديث 543.

والعصر جميعاً والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر.

قال مالك: أرى ذلك كان في مطر.(1)

أقول: إن السبب لحمل الروايات على صورة وجود المطر، هو وجود الرأي المسبق في المسألة، وإلّا فروايات الباب صريحة في أنّ هذا الجمع كان بلا عذر، ولو رجعت إلى الروايات الّتي نقلناها في الأصناف الثلاثة، لأذعنت أنّ الجمع لم يكن لعذر، بل كان لغاية رفع الحرج عن الأُمّة، والتوسعة عليها.

وقد جاء في روايات الصنّف الأوّل أن الجمع كان في غير خوف ولا مطر، وعُلِّل ذلك بأنّه كان لأجل رفع الحرج عن الأُمّة،(2) فكيف يمكن أن يؤوَّل في هاتين الروايتين بوجود المطر؟

ولذلك قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: منهم من تأوله على أنّه جمع، بعذر المطر، وهذا مشهور عن جماعة من كبار المتقدمين. ثم رد عليه بأنّه ضعيف بالرواية الأُخرى من غير خوف ولا مطر.(3)

أقول: جاء قوله ولا مطر في موضعين(4) ومعه كيف يُحمل على الليلة المطيرة ؟

وممّا يثير العجب، ويدعو إلى الاستهجان، أنّ ذيل الرواية الأُولى (رواية البخاري عن ابن عباس) قد حُرِّف في كتيّب الدكتور طه الدليمي إلى الشكل التالي: (فقيل: لعلّه في ليلة مطيرة ؟ قال ابن عباس: عسى )(5)!!

ص:382


1- . موطأ مالك: 1/44، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر، الحديث 4.
2- . لاحظ ما ورد في الصنف الأوّل.
3- . شرح صحيح مسلم للنووي: 5/225.
4- . لاحظ ما ورد في الصنف الأوّل برقم 4 و 5.
5- . نحو وحدة إسلامية حقيقية «مواقيت الصلاة» نموذجاً: 88.

وأنت ترى أن الوارد فيها (فقال أيوب: لعلّه في ليلة مطيرة ؟ قال: عسى ).

وليس في الذيل «قال ابن عباس» خبر ولا أثر.

والقائل هو أيوب السَّختياني، والمقول له - كما يقول ابن حجر(1) - هو أبو الشعثاء، ويؤكده أن أيوب لم يدرك ابن عباس، لأن مولده كان في سنة وفاة ابن عباس، أي في سنة (68 ه)، فكيف يطرح عليه هذا التساؤل: (لعله في ليلة مطيرة ؟).

وهكذا يتبيّن أن تأويل حديث ابن عباس (الصريح في الجمع من غير علّة) بسقوط المطر، إنّما صدر عن أيوب احتمالاً، وأيّده فيه أبو الشعثاء.

وسيوافيك في التأويل الثاني أن أبا الشعثاء وافق عمرو بن دينار في ظنّه أن الجمع كان بمعنى تأخير الظهر وتعجيل العصر، وتأخير المغرب وتعجيل العشاء، فلا علاقة لابن عباس إذاً بهذه الاحتمالات والظنون، وهو بعلمه وفقهه أجلّ من أنْ تدور هذه الاوهام في خلَده، ولكنّ مقلّدة المذاهب لا تهمّهم الحقائق مهما بدت ساطعة، بقدر ما يهمّهم نصرة مذاهبهم، وإنْ سلكوا أوعر الطرق.

وأما الرواية الثانية: فالمؤوِّل هو مالك الّذي توفّي سنة (179 ه) فكيف يمكن له أن يفسر كلام ابن عباس مع وجود البون الشاسع بينه وبين الراوي.

ولعمر القارئ إن هذا التأويل أبرد من الثلج، فإن الوارد في الصنف الأوّل من الروايات الّتي ذكرناها ينادي بصوت عالٍ : إن السبب الوحيد للجمع هو عدم إحراج الأُمّة، وقد جاوز عدد الروايات فيه العشر، ومعه كيف يمكن حمل الروايات على وجود العذر وهو المطر.

ص:383


1- . فتح الباري: 2/23.
التأويل الثاني: الجمع كان صورياً
اشارة

ربّما تُحمَل الروايات على أن الجمع كان صورياً، ولم يكن حقيقياً بمعنى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم أخّر الظهر إلى حد بقي من وقتها مقدار أربع ركعات فصلّى الظهر ودخل وقت العصر فصلّى العصر فكان جمعاً بين الصلاتين، ويستدلون على ذلك بالروايات التالية.

1. أخرج مسلم عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: صلّيت مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، قلت: يا أبا الشعثاء، أظنه أخّر الظهر وعجّل العصر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء، قال: وأنا أظن ذاك.(1)

2. أخرج أحمد عن سفيان، قال عمرو: وأخبرني جابر بن زيد أنّه سمع ابن عباس يقول: صليت مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، قلت له:

ياأبا الشعثاء أظنه أخّر الظهر وعجّل العصر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء. قال:

وأنا أظن ذلك.(2)

3. أخرج عبدالرزاق عن عمرو بن دينار أن أبا الشعثاء أخبره أن ابن عباس أخبره، قال: صلّيت وراء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً بالمدينة.

قال ابن جريج، فقلت لأبي الشعثاء: إني لأظن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أخّر من الظهر قليلاً وقدّم من العصر قليلاً. قال أبو الشعثاء: وأنا أظن ذلك.(3)

إن المؤوِّل في الروايتين الأوليين هو عمرو بن دينار وجابر بن زيد المكنّى بأبي الشعثاء، وفي الثالثة، ابن جريج وأبو الشعثاء، ولا يُعتدّ بظنهم إذ لم يستندوا إلى دليل يُركن إليه، وإنّما ظنّوا أن الجمع كذلك، ومثل هذا الظن لا يُغني من الحق شيئاً.

ص:384


1- . صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر (1519).
2- . مسند أحمد: 1/221.
3- . المصنّف: 2/556، الحديث 4436.

قال محيي الدين النووي الشافعي: ومنهم من تأوّله على تأخير الأولى إلى آخر وقتها فصلّاها فيه، فلما فرغ منها دخلت الثانية، فصلّاها فصارت صلاته صورة جمع.

ثم ردّه وقال: وهذا أيضاً ضعيف أو باطل، لأنّه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، وفعل ابن عباس الّذي ذكرناه حين خطب واستدلاله بالحديث لتصويب فعله، وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره، صريح في ردّ هذا التأويل.(1)

وكان على النووي أن يردّ عليه بما ذكرناه، وهو أن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم جمع بين الصلاتين بغية رفع الحرج عن الأُمّة، والجمع بالنحو المذكور أكثر حرجاً من التفريق.

قال ابن قدامة: إن الجمع رخصة، فلوكان على ما ذكروه لكان أشدّ ضيقاً وأعظم حرجاً من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأنّ الإتيان بكل صلاة في وقتها أوسع من مراعاة طرفي الوقتين، بحيث لا يبقى من وقت الأُولى إلّاقدر فعلها.(2)

مفهوم الجمع في عامة الموارد واحد

وممّا يدل على أن الجمع حقيقي هو أن المتبادر من الجمع في عامة المواضع (الجمع في عرفة والمزدلفة، والجمع في السفر، والجمع في الحضر لعذر) واحد فإنّه في هذه المواضع عبارة عن الإتيان بالصلاتين في وقت واحد.

فالجمع في عرفة بمعنى الإتيان بهما بعد الزوال، وفي المزدلفة الإتيان بالمغرب والعشاء بعد ذهاب الشفق، وهكذا الجمع في السفر، فكيف يُحمل الجمع في

ص:385


1- . شرح صحيح مسلم: 5/225.
2- . المغني: 2/114.

هذه الموارد على الجمع الحقيقي دون ما نحن بصدده ؟

قال الحافظ أبو سليمان الخطّابي: ظاهر اسم «الجمع» عرفاً لا يقع على من أخّر الظهر حتّى صلّاها في آخر وقتها وعجّل العصر فصلّاها في أوّل وقتها، لأن هذا قد صلّى كل صلاة منهما في وقتها الخاص بها.

قال: وإنّما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معاً في وقت أحدهما، ألا ترى أنّ الجمع بعرفة بينهما، ومزدلفة كذلك.(1)

***

مع الشوكاني في قوله: إن الجمع كان صورياً

تبنّى الشوكاني ما قيل من أن الجمع حصل بطريقة الجمع الصوري، وأيده بوجوه ثلاثة:

1. ما أخرجه مالك في الموطّأ والبخاري وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود، قال: ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صلّى صلاة لغير ميقاتها إلّاصلاتين جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة وصلّى الفجر يومئذ قبل ميقاتها.

قال الشوكاني: نفى ابن مسعود مطلق الجمع وحصره في جمع المزدلفة، وصلاة الفجر قبل ميقاتها مع أنّه ممن روى حديث الجمع بالمدينة كما تقدم، فهو يدل على أن الجمع الواقع بالمدينة جمع صوري، ولو كان جمعاً حقيقياً لتعارضت روايتاه، والجمع ما أمكن المسير إليه هو الواجب.(2)

يلاحظ عليه:

أوّلاً: إن ما ذكره من أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم «جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة

ص:386


1- . معالم السنن: 2/52، ح 1163؛ عون المعبود: 1/468.
2- . نيل الاوطار من أحاديث سيد الأخيار: 3/217.

وصلّى الفجر يومئذ قبل ميقاتها» دليل على وحدة مفهوم الجمع في المزدلفة وغيرها الّذي ورد في هذه الروايات، فكيف يصح لابن مسعود ومن تبعه أن يفسر الجمع في المزدلفة بالمعنى الحقيقي وفي غيره بالصوري ؟

وثانياً: إنّه لا يمكن الركون إلى هذه الرواية لانّها حصرت جمع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالمزدلفة وصلاة الصبح، مع أنّه صلى الله عليه و آله و سلم جمع بعرفة باتفاق الفقهاء والرواة.

وثالثاً: إن ابن مسعود نفسه روى جمع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بين الصلاتين في المدينة وقال: جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقيل له في ذلك، فقال: صنعت ذلك لئلّا تحرج أُمّتي.(1)

وقد عرفت أن الجمع الصوري أشد حرجاً من الجمع الحقيقي، فإن معرفة أواخر الأوقات وأوائلها على وجه الضبط كان مشكلاً في الأعصار السابقة، فلا محيص من تفسير الجمع بالجمع الحقيقي، وهذا دليل على أن رواية الحصر في المزدلفة لا يصحّ الاحتجاج بها.

2. ما أخرحه ابن جرير عن ابن عمر قال خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فكان يؤخر الظهر ويعجِّل العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب ويعجِّل العشاء فيجمع بينهما. وهذا هو الجمع الصوري.(2)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أورد المتقي الهندي هذه الرواية في كتابه «كنز العمال»، وفيها: (خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم...)(3)، وليس (خرج علينا...)، وهذا يعني أنّه كان في سفر، والجمع في السفر كان جمعاً حقيقياً بشهادة ما رواه النسائي في سننه قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر

ص:387


1- . لاحظ الحديث رقم 9 من الصنف الأوّل.
2- . نيل الأوطار: 3/217.
3- . كنز العمال: 8/250 برقم 22786.

الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل ان يرتحل صلّى الظهر ثم ركب.(1)

ثانياً: إنّ ما قام به النبي صلى الله عليه و آله و سلم من الجمع بين الصلاتين، يمكن أن يكون جمعاً حقيقياً، كما يمكن أن يكون جمعاً صورياً، والراوي (ابن عمر) لم يذكر لفظ النبي صلى الله عليه و آله و سلم وإنّما أوّل فعله، وهذا يعني أنّه قاله انطلاقاً من فهمه، والشاهد على ذلك أن هذا التأويل صدر ظناً عن عمرو بن دينار، ووافقه عليه أبو الشعثاء، كما في الرواية التالية:

أخرج مسلم في صحيحه، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: صلّيت مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخّر الظهر وعجّل العصر وأخّر المغرب وعجّل العشاء. قال: وأنا أظن ذاك.(2)

ومن هنا قال الشيخ الألباني عن الحديث الّذي أخرجه النسائي عن ابن عباس، قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالمدينة ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، أخّر الظهر وعجّلَ العصر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء)، قال عنه: صحيح دون قوله (أخّر الظهر... الخ) فإنّه مُدْرَج.(3)

ثالثاً: في سند الرواية (رواية ابن جرير)، أبو قيس(4)، وهو (عبدالرحمن

ص:388


1- . سنن النسائي: 1/284، باب الوقت الّذي يجمع فيه المسافر بين الظهر والعصر ولاحظ أيضاً صحيح مسلم: 2/151، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة؛ وسنن ابن داود: 2/8، كتاب الصلاة الباب الجمع بين الصلاتين؛ ومسند أحمد: 5/241 إلى غير ذلك من الروايات الدالة على أنّ الجمع في السفر كان جمعاً حقيقياً.
2- . صحيح مسلم: 2/152؛ ولاحظ: مسند أحمد: 1/223.
3- . نحو وحدة إسلامية حقيقية «مواقيت الصلاة» نموذجاً: 89.
4- . كنز العمال: 8/250، برقم 22786.

بن ثَرْوان الأوديّ )، وقد تكلّم فيه غير واحد، وإنْ وثّقه ابن مَعين وغيره.

قال عبداللّه بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عنه، فقال: هو كذا وكذا - وحرّك يده، وهو يخالف في أحاديث.

وعن أحمد: لا يُحتجّ به.

وقال أبو حاتم: ليّن الحديث.(1)

3. ما أخرجه النسائي عن ابن عباس قال صلّيت مع النبي الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً، «أخّر الظهر وعجّل العصر وأخر المغرب وعجّل العشاء».

يلاحظ عليه: أن التفسير أعني قوله «أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء» ليس من حديث ابن عباس، بل هو من كلام عمرو بن دينار، ولذا وصفه الألباني بأنّه مُدَرج، كما تقدّم.

وحاصل الكلام: أنّ القوم لما اعتادوا على التوقيت والتفريق بين الصلوات زعموا أن التوقيت فرض لا يترك، ولمّا وقفوا على هذه الروايات الهائلة أخذ كل مهرباً، فتارة حملوا الروايات على وجود المطر كما مرّ، وأُخرى على أن الجمع كان صورياً كما عليه عمرو بن دينار، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، وابن جريج، ولما صار التفريق عادة راسخة، صار الخلاف عندهم أمراً غريباً، ولذلك وقع في نفس عبداللّه بن شقيق نوع شك واستبعاد من قول ابن عباس بالبصرة (رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء)، ولم تسكن نفسه إلّا بعد ما سأل أبا هريرة عن ذلك فصدّق ابن عباس.(2)

ص:389


1- . ميزان الاعتدال: 553/2 برقم 4832.
2- . مسند أحمد: 1/251.
التأويل الثالث: الجمع لأجل الغيم

أوّل بعضهم روايات الجمع بأنّه كان في غيم، فصلّى الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن وقت العصر دخل فصلّاها.

وهذا الاحتمال من الوهن بمكان، وكفى في وهنه ما ذكره النووي حيث قال: إنّه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر ولكن لا احتمال فيه في المغرب والعشاء، مع أن الجمع لم يكن مختصاً بالظهرين، بل جمع بين المغرب والعشاء حتّى ان ابن عباس أخّر المغرب إلى وقت العشاء.(1)

أضف إلى ذلك أنّه لو كان الجمع لأجل ذلك، لصرّح به، أفيُحتمل أن حبر الأُمة غفل عن هذا القيد، أو ذكره ولم ينقل عنه ؟ وهكذا غيره نظراء أبي هريرة، وعبداللّه بن عمر، وعبداللّه بن مسعود.

التأويل الرابع: الجمع كان لمرض

وقد أوّل الروايات المذكورة بعض من لا يروقه الجمع بين الصلاتين، وقال بأنّ الروايات محمولة على الجمع بعذر المرض أو نحوه، نقله النووي عن أحمد بن حنبل والقاضي حسين من الشافعية واختاره الخطّابي والمتولّي والروياني من الشافعية. واختاره النووي، وقال: وهو المختار في تأويله لظاهر الحديث ولفعل ابن عباس وموافقة أبي هريرة، ولأنّ المشقة فيه أشدّ من المطر.(2)

أقول: هذا التأويل كسائر التأويلات في الوهن والسقوط، ويردّه فعل ابن عباس، حيث جمع بين المغرب والعشاء ولم يكن هناك مرض ولا مريض، بل كان يخطب الناس وطال كلامه حتى مضى وقت فضيلة المغرب، فصلّى

ص:390


1- . شرح صحيح مسلم: 5/225.
2- . شرح صحيح مسلم: 226/5.

المغرب مع العشاء في وقت واحد.

على أنّه لو كان التأخير للمرض، لجاز لخصوص المريض لا لمن لم يكن مريضاً مع أنّ النبي جمع بين الصلاتين مع عامة أصحابه، واحتمال أنّ المرض عمّ الجميع بعيد غاية البعد.(1)

وإلى هذا المعنى ذهب الحافظ ابن حجر العسقلاني، فقال: لو كان جمعه صلى الله عليه و آله و سلم بين الصلاتين لعارض المرض لما صلّى معه إلاّ من به نحو ذلك العذر، والظاهر أنّه صلّى بأصحابه، وقد صرّح بذلك ابن عباس في روايته.(2)

وهذا هو الخطّابي يحكي في معالمه عن ابن المنذر(3) أنّه قال: ولا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار، لأنّ ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه وهو قوله: «أراد أن لا تحرج أُمّتُه» وحكي عن ابن سيرين أنّه كان لا يرى بأساً أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء ما لم يتّخذه عادة.(4)

وقال محقّق كتاب سنن الترمذي، تعليقاً على كلام الخطابي: وهذا هو الصحيح الذي يؤخذ من الحديث، وأمّا التأوّل بالمرض أو العذر أو غيره فإنّه تكلّف لا دليل عليه، وفي الأخذ بهذا رفع كثير من الحرج عن أُناس قد تضطرهم أعمالهم أو ظروف قاهرة إلى الجمع بين الصلاتين ويتأثّمون من ذلك ويتحرّجون، وفي هذا ترفيه لهم وإعانة على الطاعة ما لم يتّخذه عادة، كما قال ابن سيرين.(5)

ص:391


1- . لاحظ: نيل الأوطار للشوكاني: 216/3.
2- . فتح الباري: 24/2.
3- . محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، نزيل مكة (المتوفّى 318 ه): فقيه مجتهد، حافظ. له كتب، منها: المبسوط في الفقه، والإشراف على مذاهب أهل العلم، واختلاف العلماء. طبقات الفقهاء للشيرازي: 108؛ وسير أعلام النبلاء: 14/490 برقم 275.
4- . معالم السنن: 265/1.
5- . سنن الترمذي: 358/1، قسم التعليقة بقلم أحمد محمد شاكر.

وما ذكره وان كان حقاً ولكن في كلامه تضييق أيضاً لما وسّعه النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فحصر الجمع بمن له حاجة ليس له ما يبرّره مع ورود الأخبار بأنّ النبي (بإذن من اللّه تعالى ) وسّع على وجه الإطلاق سواء أكانت هناك علة أم لا.

نعم لا شكّ أنّ التوقيت أفضل، ومن أتى بكلّ صلاة في وقتها (وقت الفضيلة) أفضل من إتيانها في الوقت المشترك، ومع ذلك فمجال الإتيان بها في الشريعة أوسع.

التأويل الخامس: كان الجمع لأحد الأعذار المبهمة

لما كان تعيين العذر المسوِّغ للجمع، أمراً مشكلاً سلك بعضهم مسلك الإبهام والإجمال، وذهب إلى أنّ الجمع كان لأحد الأعذار المسوِّغة، من دون تعيين.

وممّن عرّج على هذا الاحتمال مفتي السعودية السابق عبد العزيز بن باز في تعليقة مختصرة له على «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» فهو لمّا ضعّف مختار ابن حجر في تفسير الجمع (الجمع الصوري) بقوله هذا الجمع ضعيف، قال:

الصواب حمل الحديث المذكور على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم جمع بين الصلوات المذكورة لمشقّة عارضة ذلك اليوم من مرض غالب أو برد شديد أو وحل ونحو ذلك، ويدلّ على ذلك قول ابن عباس، لمّا سئل عن علّة هذا الجمع، قال:

لئلاّ يحرج أُمّته ثمّ استحسن هذا الجمع وقال: وهو جواب عظيم سديد شاف.(1)

يلاحظ عليه: أنّ هذا الجمع كالجمع الذي ضعّفه في الضعف والوهن

ص:392


1- . فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 24/2، بتعاليق عبد العزيز بن باز.

سواء، وذلك لأنّه يخالف رواية ابن عباس وعمله، فإنّه جمع بين الصلاتين في البصرة من دون أن يكون هناك مرض غالب أو برد شديد أو وحل.

أضف إلى ذلك إطلاق التعليل، أعني: رفع الحرج عن الأُمّة، فإنّ الحرج لا يختصّ بصور الأعذار، بل يعمّ إلزام الناس بالتفريق بين الصلوات على وجه الإيجاب عبر الحياة.

ولابن الصدّيق في تأليفه المنيف المسمّى ب «إزالة الحظر عمّن جمع بين الصلاتين في الحضر» كلام قيّم، لابأس بإيراده هنا:

قال: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم صرّح بأنّه فعل ذلك ليرفع الحرج عن أُمّته وبيّن لهم جواز الجمع إذا احتاجوا إليه، فحمله على المطر بعد هذا التصريح من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والصحابة الذين رووه، تعسف ظاهر، بل تكذيب للرواة ومعارضة للّه والرسول، لأنّه لو فعل ذلك للمطر لما صرّح النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بخلافه، ولما عدل الرواة عن التعليل به، إلى التعليل بنفي الحرج، كما رووا عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه كان يأمر المنادي أن ينادي في الليلة المطيرة: «ألا صلّوا في الرحال» ولم يذكروا ذلك في الجمع فكيف وقد صرّحوا بنفي المطر؟!

وأضاف أيضاً وقال: إنّ ابن عباس الراوي لهذا الحديث أخّر الصلاة وجمع لأجل انشغاله بالخطبة، ثمّ احتجّ بجمع النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولا يجوز أن يحتجّ بجمع النبي صلى الله عليه و آله و سلم للمطر - و هو عذر بيّن ظاهر - على الجمع لمجرّد الخطبة أو الدرس الذي في إمكانه أن يقطعه للصلاة ثمّ يعود إليه أو ينتهي منه عند وقت الصلاة، ولا يلحقه فيه ضرر ولا مشقة، كما يلحق الإنسان في الخروج في حالة المطر والوحل.(1)

حصيلة الكلام: انّ هذا التشريع من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بأمر من اللّه سبحانه

ص:393


1- . إزالة الحظر عمّن جمع بين الصلاتين في الحضر: 116-120.

أضفى على الشريعة مرونة قابلة للتطبيق على مرّ العصور وفي كافة صُعُد الحياة مهما تطورت.

إنّ من يحسّ بواقع الحياة المتطورة العصر الحاضر وتعقيداتها، يقف على أنّ التفريق بين الصلاتين - خصوصاً الظهر والعصر - أمر شاق على العمال والموظفين بنحو قد ينتهي بهم، إمّا إلى تحمل المشقة الكبيرة، أو إلى ترك الصلاة من رأس، وربما ينجرّ الأمر إلى الإعراض عن الفريضة.

ومن هنا ينبغي لفقهاء السنّة الواعين أن يأخذوا بنظر الاعتبار السماحة التي نادى بها الإسلام، في اجتهاداتهم، والسعة التي جاءت بها الأخبار في حساباتهم، وأن يعلنوا للملأ بصراحة أنّ الجمع بين الظهرين والعشاءين أمر مرخّص فيه موافق للشريعة، وإن كان التوقيت أفضل، فمن فرّق فله فضل التوقيت، ومن جمع فقد أدّى الفريضة.

إن هذه الروايات الّتي قارب عددها الثلاثين، تدلّ على أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم قام بأمر من صاحب الشريعة بالجمع بين الصلاتين لأجل رفع الحرج عن المسلمين والتوسعة عليهم، وأنّهم على خيار بين التفريق والجمع، وليس الثاني أداءً للصلاة في غير وقتها بل في غير وقت الفضيلة، وقد عرفت أن هذا المذهب يؤيده الذكر الحكيم، كما في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) . وقوله: (وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) (1).

فاللازم العمل بالكتاب والسنّة المطهرة، مكان الجمود والتعصب للمذاهب الفقهية.

ص:394


1- . هود: 114.

8 الجمع بين الصلاتين في أحاديث أهل البيت عليهم السلام

إن كاتب الرسالة زعم أنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام قالوا بعزيمة التفريق وحرمة الجمع إلّافي موارد خاصّة، واستشهد بالروايات المروية عنهم لبيان وقت الفضيلة، وأغفل ما دل على الترخيص اختياراً وبلا عذر، ولأجل ذلك نأتي بما عليه الإمامية في وقت الصلوات، مع ذكر روايات أئمة أهل البيت صلى الله عليه و آله و سلم في مجال الجمع.

أقول: اتّفقت الإمامية على الجواز، وإنْ كان التفريق أفضل.

وليس معنى الجمع بين الصلاتين في مذهب الإمامية الإتيان بإحدى الصلاتين في غير وقتها الشرعي، بل المراد الإتيان بها في وقت الإجزاء، ولكن في غير وقت الفضيلة، وإليك التفصيل:

قالت الإمامية: إنّه إذا زالت الشمس دخل الوقتان - أي وقت الظهر والعصر - إلّاأنّ صلاة الظهر يُؤتى بها قبل العصر، وعلى ذلك فالوقت بين الظهر والغروب وقت مشترك بين الصلاتين، غير أنّه يختص مقدار أربع ركعات من الزوال بالظهر، ومقدار أربع ركعات قبل الغروب بالعصر، وما بينهما وقت مشترك، فلو صلّى الظهر والعصر في أي وقت (من الزوال إلى الغروب) فقد أتى بهما في وقتهما، وذلك لأنّ الوقت مشترك بينهما، غير أنّه يختص بالظهر مقدار أربع ركعات من أوّل الوقت ولا تصحّ فيه صلاة العصر، ويختص بالعصر مقدار أربع ركعات من آخر الوقت ولا يصحّ الإتيان بصلاة الظهر فيه.

ص:395

هذا هو واقع المذهب، فالجامع بين الصلاتين في غير الوقت المختص به آت بالفريضة في وقتها فصلاته أداء لا قضاءً .

ومع ذلك فلكلّ من الصلاتين - وراء وقت الإجزاء - وقت فضيلة.

فوقت فضيلة الظهر يبدأ من أول الزوال إلى أن يبلغ ظل الشاخص الحادث بعد الانعدام أو بعد الانتهاء مثله، ووقت فضيلة العصر من المثل إلى المثلين عند المشهور.

وبذلك يعلم وقت صلاتي المغرب والعشاء، فإذا غربت الشمس دخل الوقتان إلى نصف الليل، وتختص صلاة المغرب بأوّله بمقدار أدائها، وصلاة العشاء بآخره كذلك، وما بينهما وقت مشترك، ومع ذلك فلكلّ من الصلاتين وقتَ فضيلة، فوقت فضيلة صلاة المغرب من المغرب إلى ذهاب الشفق وهي الحمرة المغربية، ووقت فضيلة العشاء من ذهاب الشفق إلى ثلث الليل.(1)

وأكثر من يستغرب جمع الشيعة الإمامية بين الصلاتين لأجل أنّه يتصور انّ الجامع يصلّي إحدى الصلاتين في غير وقتها، ولكنّه عزب عن باله أنّه يأتي بالصلاة في غير وقت الفضيلة، ولكنّه يأتي بها في وقت الإجزاء، ولا غرو أن يكون للصلاة أوقاتاً ثلاثة.

أ. وقت الاختصاص كما في أربع ركعات من أوّل الوقت وآخره، أو ثلاث ركعات بعد المغرب وأربع ركعات قبل نصف الليل.

ب. وقت الفضيلة، وقد عرفت تفصيله في الظهرين والعشاءين.

ج. وقت الإجزاء، وهو مطلق ما بين الحدّين إلاّ ما يختصّ بإحدى الصلاتين، فيكون وقت الإجزاء أعمّ من وقت الفضيلة وخارجه.

ص:396


1- . لاحظ: العروة الوثقى: 171، فصل في أوقات اليومية.

وقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت أنّه إذا زالت الشمس دخل الوقتان إلّاأنّ هذه قبل هذه.

وبما أن كاتب الرسالة أغفل أكثر ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً، كما أغفل بيان نظرية المذهب في الجمع بين الصلاتين، وأنّه ليس بمعنى إقامة إحدى الصلاتين في وقت الأُخرى، بل جمع بينهما في وقت الإجزاء، وأن دلوك الشمس إلى غروبها وقت للصلاتين كما هو الظاهر من آية الدلوك (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) فلذلك نذكر ما هو مذهب أئمة البيت عليهم السلام في ذلك عبر الروايات، حتّى يتبين أن الكاتب ينتقي من الأحاديث ما ينفعه بظاهره، ويترك ما يضره بصريحه.

1. محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:

إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر والعصر، فإذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب والعشاء الآخرة.(1)

2. عن القاسم بن عروة، عن عبيد بن زرارة، قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن وقت الظهر والعصر، فقال: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعاً، إلّا ان هذه قبل هذه، ثم أنت في وقت منهما جميعاً حتّى تغيب الشمس.(2)

3. عن معاوية بن عمّار، عن الصباح بن سيّابة، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين.(3)

4. عن منصور بن يونس، عن العبد الصالح عليه السلام قال: سمعته يقول: إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين.(4)

ص:397


1- . الوسائل: 4، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 1.
2- . الوسائل: 4، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 5.
3- . الوسائل: 4، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 8.
4- . الوسائل: 4، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 10.

5. عن إسماعيل بن مهران قال: كتبت إلى الرضا عليه السلام: ذكر أصحابنا أنّه إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر وإذا غربت دخل وقت المغرب والعشاء الآخرة، إلّاأن هذه قبل هذه في السفر والحضر، وإنّ وقت المغرب إلى ربع الليل. فكتب: كذلك الوقت، غير أن وقت المغرب ضيّق.(1)

6. عن مالك الجهني قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن وقت الظهر، فقال: إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين.(2)

7. عن عبداللّه بن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: صلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالناس الظهر والعصر حين زالت الشمس في جماعة من غير علّة.(3)

8. عن عبيد بن زرارة عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: إذا غربت الشمس دخل وقت الصلاتين إلى نصف الليل، إلّاان هذه قبل هذه، وإذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين إلّاان هذه قبل هذه.(4)

9. عن سفيان بن السمط، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين.(5)

10. عن داود بن فرقد عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، فإذا مضى ذلك، فقد دخل وقت الظّهر والعصر حتّى يبقى من الشّمس مقدار ما يصلّي (المصلي) أربع ركعات، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت

ص:398


1- . الوسائل: 4، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 20.
2- . الوسائل: 4، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 11.
3- . الوسائل: 4، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 5.
4- . جامع أحاديث الشيعة: 4/131، الباب 3 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 11.
5- . الوسائل: 4، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 9.

الظّهر وبقي وقت العصر حتّى تغيب الشّمس.(1)

هذه عشرة كاملة تدل بوضوح على أن بين الحدّين - الدلوك والغروب - وقت للصلاتين إلّاما استثني مقدار أربع ركعات من أوّل الوقت وآخره، كما أن بين الغروب وانتصاف الليل (الغسق) وقت للصلاتين إلّاما استثني، كما في الظهرين، فبأي دليل ترك أصحاب (المبرّة) أحاديث آل البيت وراءهم ظهريّاً، واقتصروا على ما دل على أفضلية التفريق مستنتجين منها، العزيمة، والتعّين ؟ أليس عملهم هذا يجسد قول القائلين: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) (2)؟

إنّ من الأسباب الدافعة إلى صلاحية الإسلام للبقاء والخلود، مرونة أحكامه الّتي تمكّنه من أن يواكب جميع الأزمنة والحضارات.

ومن العوامل الموجبة لمرونة هذا الدين وانطباقه على جميع الحضارات الإنسانية، وجود القوانين الخاصة الّتي لها دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامّة تشريعاته، وقد تمثّلت تلك القوانين بنفي الحرج والضرر، قال سبحانه: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (3)، وقال سبحانه: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (4).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «لا ضرر ولا ضرار».(5)

وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرهوا عبادة اللّه إلى عباد اللّه...».(6)

ص:399


1- . جامع أحاديث الشيعة: 4/133، الباب 3 من أبواب مواقيت الصلاة، الحديث 19.
2- . النساء: 150.
3- . الحج: 78.
4- . البقرة: 185.
5- . مسند أحمد: 5/326.
6- . الكافي: 2/86، باب الاقتصاد في العبادة؛ مسند أحمد: 3/199؛ سنن البيهقي: 3/18 و 19؛ كنز العمال: 3/40 برقم 5378.

وقال صلى الله عليه و آله و سلم في حديث لعثمان بن مظعون: «يا عثمان لم يرسلني اللّه تعالى بالرهبانية ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة...».(1)

فهذه الآيات والروايات تعرب عن أنّ الإسلام دين الوسط بين التحجّر والجمود، والانحلال ورفض القيود، ولذلك نرى أنّ كثيراً من الأحكام إنّما تجري على المكلّفين بشرط أن لا يكون ضررياً أو حرجياً أو غير ذلك.

هذا من جانب، ومن جانب آخر أنّه سبحانه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه يحب أن يؤخذ برخصه، وقد عرفت أنّ الصادع بالحق جمع بين الصلاتين في الحضر من دون سفر ولا علّة بل لتسهيل الأمر على الأُمّة، وقد تضافر ذلك بل تواتر عنه ضمن ما يقارب ثلاثين رواية كما مرّ، فالإعراض عن الشريعة السهلة السمحاء وعدم الاعتداد بما ورد من الترخيص ينافي روح التسليم لما قضى اللّه ورسوله به، يقول سبحانه: (وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (2)وقال عز من قائل: (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (3).

كل ذلك ينبغي أن يبعث فقهاء الجمهور على أن يدرسوا مسألة الجمع بين الصلاتين من دون رأي مسبق ومن دون تقليد لأئمة الفقه، بل في جو هادئ مجرد عن التعصّب والتقليد. لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً. خصوصاً أن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الّذي قام بتحديد مواقيت الصلوات الخمس، هو نفسه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي

ص:400


1- . الكافي: 5/494 ح 1، باب كراهية الرهبانية؛؛ تفسير الرازي: 32/47؛ شرح نهج البلاغة: 15/144.
2- . الاحزاب: 36.
3- . النساء: 65.

جمع بين الصلاتين لرفع الحرج عن أُمّته، ولم يترك ذلك للأجيال الآتية حتّى يقوم الفقهاء بتحديدها في ضوء ما دل على عدم الحرج في الدين.

وهناك أمر مهم نعطف نظر الفقهاء إليه، وهو أنّ إيقاع الصلاة في المواقيت الخمسة وإن كان مقروناً بالفضيلة إلّاأنّ الإصرار عليها في عامة الظروف صار سبباً لترك الصلاة من قبل كثير من العمال والموظفين والشباب الجامعيين خصوصاً في أوربا وأمريكا وغيرها من بلاد الغرب، لأنّ ظروف الحياة وكيفية العمل والاشتغال لا تسمح لهم بأداء الصلاة في أوقات مختلفة، كل ذلك من نتائج الإصرار على حفظ مواقيت الصلوات الخمس وعدم المبالاة بالرخص الواردة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حياته في غير واحد من الموارد. وعلى ذلك فإن مغبَّة ترك الصلاة من قبل هؤلاء ستقع على عاتق هؤلاء المصرّين على أنّ لكل صلاة وقتاً خاصاً لا غير.

***

ص:401

خاتمة تساؤلات وأجوبتها

إنّ في الكتيّب أُموراً تحتاج إلى إيضاح:

1. يقول مؤلف الكتيّب نشأت في بيئة يرفع الأذان من بعض مآذنها ثلاث مرات، ومن البعض الآخر خمس، وتولدت في نفسي تساؤلات - إلى أنّ قال: إنّ الاقتصار على ثلاثة أوقات أقل ما فيه أنْ يَدع المسلم في شك من صحة أداء أعظم أعمال الدين مهما كانت درجة هذا الشك، أما تفريق الصلوات على أوقاتها فإنّه يقطع هذا الشك، ويبعث في النفس الطمأنينة والارتياح.(1)

الجواب: إنّ من أقفل باب الاجتهاد على نفسه ولم يدرس ما ورد في الكتاب والسنّة حول أوقات الصلاة، ربّما يعرض له الشك فعليه أنّ يحتاط بالتفريق، لأنّ وظيفة الجاهل عند الشك في المكلَّف به هو الاحتياط، والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.

وأما من فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، وأمعن النظر في الكتاب والسنّة وامتثل قول اللّه سبحانه: (أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (2) وضمّ ما فهمه من الكتاب، إلى ما ورد في السنّة المطهرة، وما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، أعدال الكتاب وقرنائه في حديث الثقلين، فيلزم عليه العمل بما صدع به الحق في الكتاب والسنّة وقد عرفت دلالتهما على سعة الوقت وعدم ضيقه، وأن بين الدلوك والمغرب وقت للصلاتين، كما أن طرفي النهار أوقات للصلاة، ودلت السنّة المحمدية على أنّه جمع بين الصلاتين بلا عذر ولا علّة لئلّا

ص:402


1- . نحو وحدة إسلامية حقيقية «مواقيت الصلاة» نموذجاً: 12.
2- . محمد: 24.

يحرج أُمّته، فالجامع إذاً بين الصلاتين على بينة من ربه بفضل كتابه وسنة نبيه.

ثم إن التفريق إذا كان موافقاً للاحتياط، فإنّه مخالف له من جانب آخر، وذلك أن إلزام الناس بالتفريق صار سبباً - كما قلنا - لترك الصلاة في كثير من البلدان بين الشباب والعمال الموظفين حيث لا تسمح لهم الظروف بالتفريق، ووِزر هؤلاء في ترك عمود الدين على ذمة هؤلاء المفتين المنغلقين على أنفسهم.

***

2. لو سألت أي عالم عن جمع الصلوات وتفريقها: أيهما أفضل: الجمع، أم الإفراد، لأجاب: إن الإفراد أفضل فلماذا نترك الأفضل ؟

الجواب: لاشك أن الإفراد أفضل، وليس ثمّة ما يمنع من الإفراد، ولكن الإصرار على التفريق، والقول بأن من جمع بين الصلاتين كمن ترك الصلاتين، بدعة وضلالة، لأنّه إفتاء على خلاف الكتاب وعلى خلاف ما تضافر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بأنّه إذا زالت الشمس دخل الوقتان إلّاأن هذه قبل هذه.

فأي العملين أقرب إلى الضلال: عملُ من جمع بين الصلاتين ركوناً إلى الكتاب والسنّة، أم من ترك هداية الكتاب والسنّة في مورد الجمع، وأفتى ببطلان الصلاة عند الجمع ؟ فما لكم كيف تحكمون ؟

3. لا بأس بالجمع بين الصلاتين في السفر والمطر والبرد الشديد أو في القتال ففي مثل هذه الحالات الاستثنائية ومنها الحرج وأسبابه كثيرة، فإذا زالت هذه الأسباب، وانتهت الحالة الاستثنائية نرجع إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في الحالات الاعتيادية.(1)

الجواب: إن الكاتب لم يُمعن في الروايات الواردة عن الرسول

ص:403


1- . نحو وحدة إسلامية حقيقية «مواقيت الصلاة» نموذجاً: 67.

الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم في سبب الجمع حيث يدّعي أن الجمع كان أمراً استثنائياً وأن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم جمع عند وجود الحرج، فعلينا أيضاً ان نجمع عنده ونفرق عند عدمه، وغفل عن أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم جمع عندما لم يكن شيء من أسباب الحرج لا المطر ولا الوحل ولا الخوف ولا القتال ولا السفر وإنّما جمع عند الراحة، وما هذا إلّاليُفهم الأُمة أن التفريق ليس عزيمة بل هو رخصة، فلذلك ترك التفريق مع عدم الحرج لإفهام هذا التشريع.

فعلى ضوء ما ذكرنا لم يكن الجمع حالة استثنائية في الشريعة الإسلامية بل كان تشريعاً إلى جنب تشريع آخر (أي التفريق) فمن أراد الأفضل فليفرّق ومن أراد غيره فليجمع.

هذه جملة من التساؤلات الّتي طرحها المؤلف وغيره.

ثم إن الكاتب ضمّ إلى الكتيّب فصلاً نسبه إلى أحد الشيعة المقيمين في حي الوحدة بمحافظة القادسية، ووصف ذلك الفصل بأنّه قيم يزيد القارئ نوراً على نور، وها نحن نذكر شيئاً ممّا ورد في الفصل حتّى نقف على قيمته:

1. إن الرجل ذكر الروايات الواردة في الجمع بين الصلاتين لعذر وترك كثيراً ممّا ورد عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته عليهم السلام حول الجمع بين الصلاتين لا لعذر، وليس هذا طريق التحقيق وتحرّي الحقيقة.

2. إنّه تصوّر أن الدليل الوحيد على الجمع بين الصلاتين، هو حديث ابن عباس ولذا حاول الإجابة عنه، ثم خرج بالنتيجة التالية: إن الجمع في حديث ابن عباس حصل بطريقة تسمى في الفقه ب (الجمع الصوري). وهو أن يؤخر الظهر إلى آخر وقتها فيصلّيها، ثم يقدّم العصر إلى أوّل وقتها فيصلّيها بعد أن صلّى الظهر مباشرة.(1)

ص:404


1- . نحو وحدة إسلامية حقيقية «مواقيت الصلاة» نموذجاً: 89.

ثم قال: إنّ هذا الجمع الصوري قد فعله النبي صلى الله عليه و آله و سلم كي لا يُحرج أُمّته أي أراد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أن يعلِّم الأُمّة أنّه عند وجود حرج ما من أي نوع كان هذا الحرج [سفر، مطر أو أي حرج آخر قد يحدث بتطور الحياة وتغير الزمان والمكان] فيجوز الجمع في مثل هذا الظرف.(1)

يلاحظ عليه بوجهين:

1. إن الجمع الصوري بين الصلاتين لم يكن رهن دليل خاص من قول النبي أو فعله، حتّى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم لو لم يفعل لكفت أدلة التوقيت في جواز هذا الجمع، وذلك لأنها حددت وقت الظهر إلى صيرورة الظل مثله، ووقت العصر إلى صيرورته مثليه، فللمصلي أن يتمسك بإطلاق الدليل، ويصلي الظهر في آخر وقت الظهر، والعصر في أوّله، فإذا كانت أدلة التوقيت ترخّص لنا هذا النوع من الجمع، فما هي الحاجة إلى جمع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بين الصلوات، وعناية الحفاظ الأثبات بنقل ذلك.

إنّ عمل الرسول يشهد أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان بصدد بيان حكم جديد غير مفهوم من أدلّة التوقيت، وليس هو إلّاالجمع الحقيقي لا الصوري أي الجمع في الوقت لا الجمع عملاً.

2. ماذا يريد بقوله «إذا مرّ فرد من الأُمّة بظرف يُحرجه فيجوز له أن يجمع الصلاة جمعاً صورياً» أليس هو إحراجاً فوق إحراج التفريق، لما مرّ من أن معرفة آخر الوقت وأوله، أمر أصعب من التفريق.

وختاماً نقول: إن القارئ النابه يجد أن الاتجاه العام لكتيّب الدكتور طه الدليمي، يغلب عليه جانب الانتقاء والاحتمال، والتعسّف في فهم معاني الأخبار، الّذي أدى في بعض الأحيان إلى تحريف بعض ألفاظها، كما في حديث

ص:405


1- . نحو وحدة إسلامية حقيقية «مواقيت الصلاة» نموذجاً: 91.

ابن عباس، المارّ الذكر، الّذي أخرجه البخاري.(1)

كما يجد فيه القارئ محاولات للتمويه على القرّاء، منها: إيراد الأخبار السقيمة، وغضّ الطرف عمّا قاله نقّاد السنّة في أسانيدها.

وممّا يوجب الاستغراب أنّه يورد مثل هذه الأخبار الّتي تؤيد أنّ الجمع الّذي فعله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان جمعاً صورياً، من أجل أن يصل إلى ختام يقيني في المسألة، حسب تعبيره(2)!!!

وهاك الأخبار الثلاثة الّتي جعلها ختاماً يقينياً في المسألة، مع بيان قيمتها عند نقّاد الحديث:

- أخرج النسائي في الكبرى عن عبداللّه بن عباس رضى الله عنه قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالمدينة ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، أخّر الظهر وعجل العصر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء).

- عن ابن عباس رضى الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: (من جمع بين صلاتين من غير عذر، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الكبائر).

- عن عائشة رضي اللّه عنها قال: ما صلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الصلاة لوقتها الآخر مرتين حتّى قبضه اللّه عزّوجل.(3)

أقول: أما الخبر الأوّل، فقد مضى قول الشيخ الألباني فيه: صحيح دون قوله (أخّر الظهر... الخ) فإنّه مُدرَج، كما مرّ عليك.

وأنت تعلم أن الغاية من إيراد هذا الخبر، هو القول المذكور، فإذا تبيّن أنّه

ص:406


1- . لاحظ: الفصل 7 (تأويل النصوص لنصرة المذهب) من هذه الرسالة.
2- . نحو وحدة إسلامية حقيقية «مواقيت الصلاة» نموذجاً: 89.
3- . نحو وحدة إسلامية حقيقية «مواقيت الصلاة» نموذجاً: 92.

مُدرَج وأنّه من كلام بعض الرواة، ولم يصدر عن ابن عباس، انتقضت الغاية من إيراده.

وإذا نظرنا إلى الخبر الثاني، فسنجد في إسناده (حنش)، فما هو حال هذا الراوي عند نقّاد الحديث ؟

قال الترمذي الّذي أخرج هذا الخبر: وحنش هذا هو: (أبو علي الرحبي)، وهو: (حسين بن قيس)، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعّفه أحمد وغيره.(1)

وعن أحمد بن حنبل: ليس حديثه بشيء، لا أروي عنه شيئاً.

وعن يحيى بن مَعين: ضعيف. وفي رواية أُخرى عنه: ليس بشيء.

وقال أبو زرعة: ضعيف.

وقال البخاري: أحاديثه منكرة جداً، ولا يكتب حديثه.

وقال النّسائي: متروك الحديث.(2)

وأما الخبر الثالث، فقال عنه الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وليس إسناده بمتصل.(3)

وفي سنده إسحاق بن عمر. قال ابن أبي حاتم: مجهول(4).

وقال الذهبي: تركه الدارقطني(5).

وإذا كان طريق الوصول إلى الختام اليقينيّ ، هو هذه الأخبار السقيمة، الّتي

ص:407


1- . سنن الترمذي: 73 برقم 188، تخريج وترقيم وضبط صدقي جميل العطّار.
2- . انظر: تهذيب الكمال: 6/465 برقم 1330.
3- . سنن الترمذي: 68 برقم 174.
4- . تهذيب الكمال: 2/461 برقم 373.
5- . ميزان الاعتدال: 1/195 برقم 775.

يهدف الكاتب من ورائها إقناع القارئ بموضوعه، فما ظنّك بما جاء قبل الختام من كلام مزخرف، واحتمالات بعيدة، وتحريفات مقصودة أو غير مقصودة ؟!

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اللّهِ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (1).

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ظهيرة يوم الحادي عشر من شهر

ذي الحجة الحرام 1430 ه. ق

ص:408


1- . يوسف: 108.

2 الخمس فريضة شرعية

اشارة

دراسة تحليلية لحكم الخمس في الكتاب

العزيز والسنة المطّهرة

ص:409

قال اللّه تعالى:

(وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ)

الانفال: 41.

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )

الروم: 38.

ص:410

مقدّمة المؤلّف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

شكّل الدور التاريخي المؤثّر لعلماء الإسلام في حياة الأُمّة، تحدّياً سافراً للأعداء الطامعين بها، والمتربّصين بها الدوائر.. فلقد أثبتت الأحداثُ الجمّة التي مرّت على العالم الإسلاميّ ، أنّ القيادة العلمائيّة، هي الأجدر بتحمّل مسؤولية الحفاظ على المبادئ والقيم التي آمنت بها الأُمّة، والدفاع عن كيانها، وصَوْن كرامتها وعزّتها.

إنّ ما قام به العلماء من دور فاعل في مقارعة الاستعمار الغربيّ بشتى وجوهه، وفي مواجهة قوى الإلحاد والطغيان والاستبداد، أمر لا يمكن أن يُنكره أحد يحترم الحقيقة، كيف ؟ وهذه صفحات التاريخ المعاصر، قد سَطّرت بأحرفٍ من نور مواقفَهم الجريئة والحكيمة في التصدي للمشروع الاستعماري البغيض، وقُدراتِهم الجبارة في تعبئة الجماهير باتجاه هذا الهدف المقدّس، وسعيَهم الدائبَ لفضح مؤامراتهم ومخطّطاتهم الشيطانية الرامية إلى خداع الأُمة عن دينها ومبادئها وتطلّعاتها وآمالها، وإلى تحطيم مقوّمات وحدتها وقوّتها ومنَعَتها.

ولم يكتفِ العلماء بذلك، بل قادوا جموعَ الثائرين، وانضمّوا إلى صفوف

ص:411

المقاتلين في ساحات الجهاد، للذَّود عن الدين والشرف والوطن، وتحرير البلاد وتطهيرها من دَنَسهم.

وبرز هذا الدور بشكل أكبر في أواخر القرن الهجري الماضي، ومطلع هذا القرن عندما هلَّ هلالُ الفتح والنصر على العالم الإسلاميّ ، بتأسيس دولة إسلامية، تهدف إلى تحكيم القرآن المجيد والسنّة الشريفة، وإحلال الأحكام الشرعية محلّ القوانين الوضعية الغربية، وذلك بفضل ثورة، قادها علماء الإسلام ومراجع الدين، وبمساندة قطاعات الشعب المختلفة، التي التفّت حولهم، من أجل تطبيق الشريعة في كافة نواحي الحياة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وغيرها.

وقد أوجد هذا الحدثُ الفذُّ هزَّةً عنيفةً في العالم، وأحدثَ زلزالاً كبيراً في المنطقة (على حدّ وصف رئيس الوزراء الصهيوني آنذاك)، أرعب المستكبرين وصنائعَهم، من الكيان الصهيوني، والأنظمة الجائرة الحاكمة في بعض البلدان الإسلامية، لِما تحملُه هذه الثورة من مشروع تغييريّ شامل، يحقِّق طموح الناس للعيش في أفياء حياة حرّة كريمة طيّبة، بعدما ذاقُوا مرارةَ الحرمان، وذُلَّ الهوان في ظلٍّ من يحموم الأنظمة التابعة للشرق أو للغرب.

ولمّا أحسّ الأعداءُ وأذنابُهم، بأنّ أَثَر هذه الثورة المباركة قد امتدّ إلى سائر الشعوب الإسلامية، بل إلى الشعوب المستضعَفة، وأن الصحوة الإسلامية أخذت تتوسّع، والوعيَ الدينيّ والسياسيّ بدأ ينمو في أوساط الأُمة، جنّ جنونُهم، وانهمكوا في وضع الخطط والبرامج لإيقاف هذا الزحف الميمون، أو للحدّ من تقدّمه، وذلك بإشعال نار الفتن الداخلية، والحصار الاقتصادي، والغزو الفكري والثقافي، ودفع بعض الحمقى وأعوانهم ممّن تتحكّم بهم العُقد الطائفية، والروح الفرعونية إلى معاداة الثورة ومحاربتها إعلامياً وسياسياً، وشنّ

ص:412

الحرب العسكرية ضدها.

ولمّا لم تأتِ هذه الأساليب أُكُلَها كما يشتهون ضمّوا إليها أسلوباً آخر، لعلّهم يتوصّلون به إلى تحقيق مآربهم الشريرة، وقد تمثّل هذا الأُسلوب في توجيه ضرباتٍ للمرجعية الدينية، والكيان الحوزوي، باعتبارهما قمّة الهرم في التحرك الجماهيري الواعي والمتّزن، والعملِ على فكّ الارتباط والالتحام بين المرجعية الدينية وبين القاعدة الشعبية العريضة التي تؤمن بقيادتها، وتستجيب لتوجيهاتها وإرشاداتها.

وسعياً وراء تحقيق هذا الغرض، كرّس الأعداء، وأصحاب المطامع والأهواء، ومن خسرت صفقتهم في سوق العقل والدليل والبرهان، كرّسوا جهودهم لتشويه صورة المرجعية الرشيدة، وإثارة الشبهات حولها، وتوجيه سهام الانتقادات إليها، ومحاولة تجفيف منابعها المالية التي تستعين بها على إقامة أمر الدين، وتعزيز الوجود الإسلامي، وإنعاش حياة المسلمين المحرومين.

إنّ المرء لَيعجب من كثرة الكتابات التي تطرحها المطابع كل أسبوع، وبمختلف اللغات، وتُنشر على نطاق واسع، ولا غاية لها سوى تهميش وإلغاء دور المرجعية الدينية وكيانها المتمثل في العلماء المخلصين، وعزل الجماهير عنها، ليسهل لهم فيما بعدُ تمريرُ سياساتهم التي تضادّ مصالح الأُمّة، وتنفيذُ مآربهم في السيطرة على ثرواتها، والتحكّم بمقدّراتها.

ومن نماذج هذه الإصدارات كتاب نشر تحت عنوان: «الخمس بين الفريضة الشرعية والضريبة المالية»، تأليف سليمان بن صالح الخراشي. وكان هذا الكتاب قد نُشر - من قَبل - على موقع (فيصل نور) الالكتروني، كما تم تلخيصه وطبعه باسم «الخمس جزية العصر»، وزُعم أن مؤلفه شخص يُدعى :

السيد علاء عباس الموسوي.

ص:413

والكتاب يدل على أن المؤلف ليس فقيها حتّى في مذهبه الحنبلي ولا عارفاً بالفقه الشيعي، والشاهد عليه وجود التناقض في عباراته، فتارة ينكر وجوب الخمس في غير الغنائم، وأُخرى يُقرّ به ولكن يُنكر وجود الدليل على دفعه إلى الفقهاء، وثالثة يُصرّ على أن أئمة أهل البيت عليهم السلام قد أحلّوه في زمان الغيبة، إلى غير ذلك من المشاغبات العديدة في كلامه.

وقد كشف المؤلف حسب زعمه في الفصل الأوّل عن ثمان حقائق، اعتبرها خطيرة ومفيدة، ويبدو أن أكثر ما أقلق المؤلف هو دفع الخمس إلى الفقهاء، وإلّا فلا نراه يُبالي فيما إذا دُفع الخمس إلى السادة وسائر المستحقين، مباشرة وهذا يشير إلى ان الهدف هو تضعيف المرجعيّة، التي هي سند النهضة الإسلامية وعمادها الرصين.

وبما أنّ القارئ الكريم سيقف على زيف هذه الحقائق - التي هي أشبه بالاوهام - لذا نترك البحث فيها، وندخل في صلب الموضوع على النحو التالي:

1. الخمس في كتاب اللّه وسنة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام.

2. تفسير ما دلّ على حلّية الخمس في موارد أو فترة خاصّة.

3. جهاز الوكالة في عصر الحضور.

4. فريضة الخمس وتولّي الفقهاء.

5. تشريح الكتاب وما فيه من خزايا وخطايا.

6. خاتمة: الأسئلة التي طرحها الكاتب، واجوبتها.

نسأل اللّه سبحانه أن يوفقنا لما فيه رضاه، وأن يجمع شمل المسلمين، ويقطع ألسنة المفرِّقين الذين لا همّ لهم سوى إثارة الفتن والأحقاد بين أبناء الجسد الإسلامي الواحد، لكي يُرضوا أسيادهم وأولياء نعمتهم.

ص:414

الفصل الأوّل الخمس في الكتاب والسنة

اشارة

سوف نتطرق في هذا الفصل إلى ما جاء في الكتاب والسنة، ممّا يدلّ على وجوب الخمس في كل ما يغنمه الإنسان ويفوز به.

الخمس في الكتاب العزيز
اشارة

الأصل في ضريبة الخمس هو قوله سبحانه: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) (1).

لا شك في أنّ الآية نزلت في مورد خاص، أعني يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان وهو غزوة «بدر» الكبرى، لكن الكلام في أنّ قوله (ما غَنِمْتُمْ ) هل هو عام لكل ما يفوز به الانسان في حياته، أو خاص بما يظفر به في الحرب من السلب والنهب ؟

وعلى فرض كونه عامّاً، فهل المورد مخصّص أو لا؟

فيقع الكلام في مقامين:

الأوّل: الغنيمة مطلق ما يفوز به الانسان:

أمّا الأوّل فالظاهر من أئمّة اللغة أنّه في الأصل أعمّ ممّا يظفر به الانسان في ساحات الحرب، بل هو لغة لكلّ ما يفوز به الانسان وإليك بعض كلماتهم:

ص:415


1- . الأنفال: 41.

1 - قال الأزهري: «قال الليث: الغنم: الفوز بالشيء، والاغتنام انتهاز الغنم».(1)

2 - قال الراغب: الغنم معروف... والغُنْم: إصابته والظفر به، ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العِدَى وغيرهم قال: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ) (فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) والمغنم: ما يُغنم وجمعه مغانم، قال: (فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ ) .(2)

3 - قال ابن فارس: «غنم» أصل صحيح واحد يدلّ على إفادة شيء لم يُملك من قبل، ثمّ يختص بما أُخذ من المشركين(3).

4 - قال ابن منظور: «الغُنْم» الفوز بالشيء من غير مشقّة.(4)

5 - قال ابن الأثير: في الحديث: «الرهن لمن رهنه، له غُنمه وعليه غُرمه، غنمه: زيادته ونماؤه وفاضل قيمته»(5).

6 - قال الفيروز آبادي: «الغنم» الفوز بالشيء لا بمشقّة، وأغنمه كذا تغنيماً نفله إيّاه، واغتنمه وتغنّمه، عدّه غنيمة(6).

وهذه النصوص تعرب عن أنّ المادّة لم توضع لما يفوز به الانسان في الحروب، بل معناها أوسع من ذلك، وإن كانت لا تستعمل في العصور المتأخّرة عن نزول القرآن إلّافي ما يظفر به في ساحة الحرب.

ولأجل ذلك نجد أنّ المادة استعملت في مطلق ما يفوز به الانسان في الذكر الحكيم والسنّة النبويّة.

ص:416


1- . لاحظ: تهذيب اللغة: مادة «غنم».
2- . لاحظ: المفردات: مادة «غنم».
3- . لاحظ: مقاييس اللغة: مادة «غنم».
4- . لاحظ: لسان العرب: مادة «غنم».
5- . لاحظ: نهاية اللغة: مادة «غنم».
6- . لاحظ: قاموس اللغة: مادة «غنم».

لقد استعمل القرآن لفظة «المغنم» فيما يفوز به الانسان، وإن لم يكن عن طريق القتال، بل كان عن طريق العمل العادي الدنيوي، أو ما يناله من نعيم في الآخرة إذ يقول سبحانه:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ ) (1).

والمراد بالمغانم الكثيرة: هو أجر الآخرة، بدليل مقابلته لعرض الحياة الدنيا، فيدلّ على أنّ لفظ المغنم لا يختصّ بالأُمور والأشياء التي يحصل عليها الانسان في هذه الدنيا وفي ساحات الحرب فقط، بل هو عام لكلّ مكسب وفائدة.

ثمّ إنّه قد وردت هذه اللفظة في الأحاديث وأُريد بها مطلق الفائدة الحاصلة للمرء.

روى ابن ماجة في سننه: أنّه جاء عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «اللّهمّ اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً»(2).

وفي مسند أحمد عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «غنيمة مجالس الذكر الجنّة»(3).

وفي وصف شهر رمضان عنه صلى الله عليه و آله و سلم: «غنم للمؤمن».(4)

وفي نهاية ابن الأثير: الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة، سمّاه غنيمة لما فيه من الأجر والثواب(5).

ص:417


1- . النساء: 94.
2- . سنن ابن ماجة: كتاب الزكاة، باب ما يقال عند اخراج الزكاة، الحديث 1797.
3- . مسند أحمد: 2/330 و 374 و 524.
4- . مسند أحمد: 177.
5- . النهاية في غريب الحديث والأثر: مادة «غنم».

فقد بان ممّا نقلناه من كلمات أئمّة اللغة وموارد استعمال تلك المادة في الكتاب والسنّة، أنّ العرب تستعملها في كل مورد يفوز به الانسان، من جهة العدى وغيرهم، وإنّما صار حقيقة متشرعة في خصوص ما يفوز به الانسان في ساحة الحرب في الأعصار المتأخّرة، وبعد نزول الآية في أوّل حرب خاضها المسلمون تحت لواء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولم يكن الاستعمال إلّاتطبيقاً للمعنى الكلّي على مورد خاص.

الثاني: المورد لا يخصّص:

إذا كان مفهوم اللفظ عامّاً يشمل كافّة ما يفوز به الانسان، فلا يكون وروده في مورد خاص، مخصّصاً لمفهومه ومضيقاً لعمومه. وإذا وقفنا على أنّ التشريع الإسلامي فرض الخمس في الركاز والكنز والسيوب أوّلاً، وأرباح المكاسب ثانياً، فيكون ذلك التشريع مؤكّداً لإطلاق الآية، ولا يكون وروده في الغنائم الحربية رافعاً له.

استدلال الفقهاء بالآية في غير مورد الغنيمة

ما يدل على أن الغنيمة في الآية بمعنى مطلق ما يفوز به الإنسان وإن لم يكن عن طريق الحرب، هو استدلال الفقهاء على وجوب الخمس في المعادن.

قالت الحنفية والمالكية بوجوب الخمس على ما يُستخرج من المعادن.

قال الفقيه المعاصر وهبة الزحيلي: المعدن والرِّكاز أو الكنز بمعنى واحد وهو كل مال مدفون تحت الأرض، إلّاأن المعدن هو ما خلقه اللّه تعالى في الأرض يوم خلق الأرض، والركاز أو الكنز هو المال المدفون بفعل الناس الكفار.

ثم ذكر أن المعادن ثلاثة أنواع، وذكر من النوع الأوّل ما هو جامد يذوب

ص:418

وينطبع بالنار كالنقدين والحديد والنحاس والرصاص ويلحق به الزئبق.

وقال: ولا يجب الخمس إلّافي هذا النوع سواء وجد في أرض خراجية أو عُشرية، ويصرف الخمس مصارف خمس الغنيمة، ودليلهم الكتاب والسنة الصحيحة والقياس، أما الكتاب فقوله تعالى: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ ) (1)، ويُعدّ المعدن غنيمة.(2)

وغير خفيّ على النابه أن عدّ المعدن غنيمة لا يصح إلّاإذا فُسّرت بكل ما يفوز به الإنسان، وإلّا فلو خُصّت بما يفوز به الإنسان عن طريق الحرب، فليس المعدن من أقسامه.

نعم لو كانت المعادن في أراضي الكفار واستولى المسلمون عليها عن طريق الحرب، ربّما يمكن عدّ المعادن من الغنائم، ولكن ليس كل معدن كذلك، فإن كثيراً منها في البلاد الإسلامية التي حكمها الإسلام منذ أربعة عشر قرناً، ولا يُعدُّ استخراجه بعد هذه الحقبة من الزمن استيلاءً على مال الكفار.

ونقل ابن الأثير عن مالك في وجه الخمس في الركاز: إنّه إنّما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية ما لم يُطلب بمال ولم يتكلف فيه نفقة، ولا كبير عمل ولا مؤونة، فأما ما طُلب بمال وتُكلف فيه عمل كبير، فأُصيب مرة وأُخطئ مرة فليس بركاز.(3)

وكأن ابن الأثير يُريد إدخال الركاز الّذي ورد فيه الخمس تحت عنوان الغنيمة إذا لم تتكلف فيه نفقة ولا كثير عمل ولا مؤونة، وهذا لا يصح إلّابتفسير الغنيمة بمطلق ما يفوز به الإنسان بسهولة.

ويؤيد ما ذكرنا ما رواه الصدوق عن الصادق عليه السلام عن آبائه في وصية

ص:419


1- . الانفال: 41.
2- . الفقه الإسلامي وأدلته: 2/776.
3- . جامع الأُصول من أحاديث الرسول: 4/620.

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام قال: «إن عبدالمطلب سنّ في الجاهلية خمس سنن أجراها اللّه له في الإسلام.. إلى أن قال صلى الله عليه و آله و سلم: «ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدق به، فأنزل اللّه: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ ) (1).

ويؤيده عموم المعنى، التعبير عما يجب فيه الخمس بلفظة (مِنْ شَيْ ءٍ ) التي هي كالصريحة في أن متعلقه كل شيء.

ولعلّ ما ذكرنا حول الآية من القرائن والشواهد يكفي في الاستدلال به على وجوب الخمس في مطلق ما يفوز به الإنسان، فلنرجع إلى السنة الشريفة.

الخمس في السنة النبويّة
اشارة

تضافرت الروايات عن النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم على وجوب الخمس في الركاز والكنز والسيوب. وإليك النصوص أوّلاً ثم تبيين ألفاظها ثانياً:

روى لفيف من الصحابة كابن عباس، وأبي هريرة، وجابر، وعُبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، وجوب الخمس في الركاز والكنز والسيوب، وإليك قسماً ممّا روي في هذا المجال:

1 - في مسند أحمد وسنن ابن ماجة واللفظ للأوّل: عن ابن عباس قال:

قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الركاز، الخمس(2).

2 - وفي صحيحي مسلم والبخاري واللفظ للأوّل: عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«العجماء جُرْحُها جُبار(3)، والمعدن جبار، وفي الرِّكاز الخمس»، وفي

ص:420


1- . الوسائل: 6، الباب 5 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.
2- . مسند أحمد: 1/314؛ سنن ابن ماجة: 2/839، طبعة 1373 ه.
3- . جُبار: هَدَر.

بعض الروايات عند أحمد: البهيمة عقلها جبار(1).

قال القاضي أبو يوسف: كان أهل الجاهلية إذا عطبَ الرجل في قَليبٍ (2)جعلوا القليب عَقَله، وإذا قتلته دابة جعلوها عقله، وإذا قتله معدن جعلوه عقله، فسأل سائل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن ذلك فقال: «العجماء جُبار، والمعدن جُبار، والبئر جُبار، وفي الركاز الخمس» فقيل له: ما الركاز يا رسول اللّه ؟ فقال: «الذهب والفضة الذي خلقه اللّه في الأرض يوم خلقت»(3).

3 - وفي مسند أحمد: عن الشعبي عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: «السائمة جبار، والجُبّ جبار، والمعدن جبار، وفي ركاز الخمس» قال الشعبي: الركاز: الكنز العادي(4).

4 - وفيه أيضاً: عن عبادة بن الصامت، قال:

من قضاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ المعدن جبار، والبئر جبار، والعجماء جرحها جبار، والعجماء: البهيمة من الأنعام وغيرها، والجُبار هو الهَدَر الذي لا يُغرم، وقضى في الركاز الخمس(5).

5 - وفيه: عن أنس بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إلى خيبر فدخل صاحب لنا إلى خربة يقضي حاجته، فتناول لبنة ليستطيب بها فانهارت عليه تبرا، فأخذها فأتى بها النبى صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره بذلك، قال: «زنها» فوزنها فإدا مائتا درهم فقال النبي: «هذا ركاز وفيه الخمس»(6).

ص:421


1- . صحيح مسلم: 127/5، باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار، من كتاب الحدود؛ وصحيح البخاري: 1/182، باب في الركاز الخمس.
2- . القَلِيب: البئر.
3- . الخراج: 22.
4- . مسند أحمد: 335/3.
5- . مسند أحمد: 326/5.
6- . مسند أحمد: 128/3.

6 - وفيه: أنّ رجلاً من مزينة سأل رسول اللّه مسائل جاء فيها: فالكنز نجده في الخرب وفي الآرام ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «فيه، وفي الركاز الخمس».(1)

7. وقال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين الفرّاء الحنبليّ : فأما الرِّكاز، فهو كلّ مال وُجد مدفوناً من ضرب الجاهلية، وفي موات، أو طريق سابل، يكون لواجده وعليه الخُمُس.(2)

8 - وفي النهاية ولسان العرب وتاج العروس في مادة «سَيْب» واللفظ للأوّل: وفي كتابه - أي كتاب رسول اللّه - لوائل بن حجر: «وفي السُّيوب الخمس». السُّيوب: الركاز.

قالوا:

«السُّيوب: عروق من الذهب والفضة تَسيب في المعدن، أي تتكوّن فيه وتظهر» والسُّيوب: جمع سَيْب، يريد به - أي يريد النبي بالسيب - المال المدفون في الجاهلية، أو المعدن لأنّه من فضل اللّه تعالى وعطائه لمن أصابه»(3).

تفسير ألفاظ الأحاديث:

العجماء: الدابة المنفلتة من صاحبها، فما أصابت في انفلاتها فلا غرم على صاحبها، والمعدن جبار يعني: إذا احتفر الرجل معدناً فوقع فيه انسان فلا غُرم عليه، وكذلك البئر إذا احتفرها الرجل للسبيل فوقع فيها إنسان فلا غرم على صاحبها، وفي الركاز الخمس، والركاز: ما وُجد من دفن أهل الجاهلية، فمن وجد ركازاً أدّى منه الخمس إلى السلطان وما بقي له.(4)

والآرام: الأعلام وهي حجارة تُجمع وتُنصب في المفازة يُهتدى بها،

ص:422


1- . مسند أحمد: 186/2.
2- . الأحكام السلطانية: 143.
3- . النهاية لابن الأثير: مادة «سيب».
4- . سنن الترمذي: 6/145، باب ما جاء في العجماء.

واحدها إرَم كعنب. وكان من عادة الجاهلية أنّهم إذا وجدوا شيئاً في طريقهم لا يمكنهم استصحابه، تركوا عليه حجارة يعرفونه بها حتى إذا عادوا أخذوه(1).

وفي لسان العرب وغيره من معاجم اللغة،: ركَزَه يركُزُه رَكزاً: إذا دفنه.

والركاز: قطع ذهب وفضة تخرج من الأرض أو المعدن، واحده الركزة كأنّه ركز في الأرض.

وفي نهاية اللغة: والركزة: القطعة من جواهر الأرض المركوزة فيها وجمع الركزة الركاز.

إنّ هذه الروايات تعرب عن كون وجوب الخمس في الكنز والمعادن، ضريبة غير الزكاة، وقد استند إليها أُستاذ الفقهاء أبو يوسف في كتابه «الخراج».

وإليك نصّه:

كلام أبي يوسف في المعدن والركاز:

قال أبو يوسف: في كل ما أُصيب من المعادن من قليل أو كثير، الخمس، ولو أنّ رجلاً أصاب في معدن أقل من وزن مائتي درهم فضّة أو أقل من وزن عشرين مثقالاً ذهباً فإنّ فيه الخمس، وليس هذا على موضع الزكاة إنّما هو على موضع الغنائم(2)، وليس في تراب ذلك شيء إنّما الخمس في الذهب الخالص والفضة الخالصة والحديد والنحاس والرصاص، ولا يحسب لمن استخرج ذلك من نفقته عليه شيء، وقد تكون النفقة تستغرق ذلك كلّه فلا يجب إذاً فيه خمس عليه، وفيه الخمس حين يفرغ من تصفيته قليلاً كان أو كثيراً، ولا يحسب له من

ص:423


1- . النهاية لابن الأثير: مادة «ارم».
2- . ترى أنّ أبا يوسف يعد الخمس الوارد في هذا الموضع من مصاديق الغنيمة الواردة في آية الخمس وهو شاهد على كونها عامة مفهوماً.

نفقته شيء من ذلك وما استخرج من المعادن سوى ذلك من الحجارة - مثل الياقوت والفيروزج والكحل والزئبق والكبريت والمغرّة - فلا خمس في(1)شيء من ذلك، إنّما ذلك كلّه بمنزلة الطين والتراب.

قال: ولو أنّ الذي أصاب شيئاً من الذهب أو الفضة أو الحديد أو الرصاص أو النحاس، كان عليه دَين فادح لم يُبطل ذلك الخمس عنه، ألا ترى لو أنّ جنداً من الأجناد أصابوا غنيمة من أهل الحرب خُمِّسَت ولم ينظر أعليهم دين أم لا، ولو كان عليهم دين لم يمنع ذلك من الخمس.

قال: وأمّا الركاز فهو الذهب والفضة الذي خلقه اللّه عزّ وجلّ في الأرض يوم خلقت، فيه أيضاً الخمس، فمن أصاب كنزاً عاديّاً في غير ملك أحد - فيه ذهب أو فضة أو جوهر أو ثياب - فإنّ في ذلك الخمس وأربعة أخماسه للذي أصابه وهو بمنزلة الغنيمة يغنمها القوم فتخمَّس وما بقي فلهم.

قال: ولو أنّ حربياً وجد في دار الإسلام ركازاً و كان قد دخل بأمان، نزع ذلك كلّه منه ولا يكون له منه شيء، وإن كان ذمّياً أُخذ منه الخمس كما يؤخذ من المسلم، وسلِّم له أربعة أخماسه. وكذلك المكاتب يجد ركازاً في دار الإسلام فهو له بعد الخمس...(2).

خمس أرباح المكاسب في الحديث النبوي:

يظهر من غير واحد من الروايات أنّ النبيّ الأكرم أمر بإخراج الخمس من مطلق ما يغنمه الانسان من أرباح المكاسب وغيرها. وإليك بعض ما ورد في المقام:

ص:424


1- . هذا رأي أبي يوسف، وإطلاق الآية يخالفه مضافاً إلى مخالفته لروايات أئمّة أهل البيت، فإنّهاتفرض الخمس في الجميع.
2- . الخراج: 22.

1 - لمّا وفد عبد القيس لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالوا: «إنّ بيننا وبينك المشركين وإنّا لا نصل إليك إلّافي الأشهر الحرم فمُرنا بجُمل الأمر، إن عَمِلنا به دخلنا الجنة وندعوا إليه مَن وراءنا» فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان باللّه، وهل تدرون ما الإيمان، شهادة أن لا إله إلّااللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتعطوا الخمس من المغنم»(1).

ومن المعلوم أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يطلب من بني عبد القيس أن يدفعوا غنائم الحرب، كيف ؟ وهم لا يستطيعون الخروج من حيّهم في غير الأشهر الحرم، خوفاً من المشركين. فيكون قد قصد المغنم بمعناه الحقيقي في لغة العرب وهو ما يفوزون به فعليهم أن يعطوا خمس ما يربحون.

وهناك كتب ومواثيق، كتبها النبيّ وفرض فيها الخمس على أصحابها، وستتبيّن لك - بعد الفراغ من نقلها - دلالتُها على الخمس في الأرباح، وإن لم تكن غنيمة مأخوذة من الكفّار في الحرب، فانتظر.

2 - كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم... هذا... عهد من النبي رسول اللّه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى اللّه في أمره كلّه، وأن يأخذ من المغانم خمس اللّه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عُشر ما سقى البعل وسقت السماء، ونصف العُشر ممّا سقى الغرب»(2).

والبعل ما سُقِيَ بعروقه، والغرب: الدلو العظيمة.

ص:425


1- . صحيح البخاري: 4/250، باب «واللّه خلقكم وما تعملون» من كتاب التوحيد، وج 1/13 و 19، وج 3/53؛ وصحيح مسلم: 35/1-36، باب الأمر بالإيمان؛ سنن النسائي: 333/1؛ مسند أحمد: 318/1؛ الأموال: 12 وغيرها.
2- . لاحظ: فتوح البلدان للبلاذري: 1/81، باب اليمن؛ السيرة النبوية لابن هشام: 4/265؛ تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك: 1/157.

3 - كتب إلى شرحبيل بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال قيل(1) ذي رعين، ومعافر وهمدان:

«أمّا بعد، فقد رجع رسولكم وأُعطيتم من المغانم خمس اللّه»(2).

4 - كتب إلى سعد هُذيم من قضاعة، وإلى جذام كتاباً واحداً يعلّمهم فرائض الصدقة، ويأمرهم أن يدفعوا الصدقة والخمس إلى رسوليه: أُبيّ وعنبسة أو من أرسلاه».(3)

5 - كتب للفُجَيع ومن تبعه:

«من محمد النبيّ للفجيع، ومن تبعه... وأسلمَ ، وأقام الصلاةَ وآتى الزكاة، وأطاع اللّه ورسوله، وأعطى من المغانم خمس اللّه...»(4).

6 - كتب لجنادة الأزدي وقومه ومن تبعه:

«ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا اللّه ورسوله وأعطوا من المغانم خمس اللّه، وسهم النبي، وفارقوا المشركين، فإنّ لهم ذمّة اللّه وذمّة محمد بن عبد اللّه»(5).

7 - كتب لجهينة بن زيد فيما كتب:

«إنّ لكم بطون الأرض وسهولها وتلاع الأودية وظهورها، على أن ترعوا نباتها وتشربوا ماءها، على أن تؤدّوا الخمس»(6).

ص:426


1- . قيل، جمعه اقيال، قال في لسان العرب: القيل: الملك من ملوك حِمْير... ومنه الحديث: «إلى قيل ذي رُعين» أي ملكها وهي قيلة من اليمن تنسب إلى ذي رعين.
2- . الوثائق السياسية: 227، برقم 110، طبعة بيروت.
3- . الطبقات الكبرى لابن سعد: 270/1.
4- . الطبقات الكبرى: 1/304-305.
5- . الطبقات الكبرى: 270.
6- . الوثائق السياسية: 265، برقم 157.

8 - كتب لملوك حمير فيما كتب:

«وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من المغانم: خمس اللّه، وسهم النبي وصفيّه، وما كتب اللّه على المؤمنين من الصدقة».(1)

9 - كتب لبني ثعلبة بن عامر:

«من أسلم منهم، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، وأعطى خمس المغنم، وسهم النبي والصفي».(2)

10 - كتب إلى بعض أفخاذ جهينة:

«من أسلم منهم، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، وأطاع اللّه ورسوله، وأعطى من الغنائم الخمس»(3).

إيضاح الاستدلال بهذه المكاتيب:

يتبيّن - بجلاء - من هذه الرسائل أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن يطلب منهم أن يدفعوا خمس غنائم الحرب التي اشتركوا فيها، بل كان يطلب ما استحقّ في أموالهم من خمس وصدقة.

ثم إنّه كان يطلب منهم الخمس دون أن يشترط - في ذلك - خوض الحرب واكتساب الغنائم.

هذا مضافاً إلى أنّ الحاكم الإسلامي أو نائبه، هما اللّذان يليان بعد الفتح قبض جميع غنائم الحرب وتقسيمها بعد استخراج الخمس منها، ولا يَملِك أحد من الغزاة شيئاً من ذلك سوى ما يسلبه من القتيل، وإلّا كان سارقاً مغلّاً.

ص:427


1- . فتوح البلدان: 1/82؛ السيرة النبوية لابن هشام: 4/258.
2- . الإصابة: 2/189؛ أُسد الغابة: 34/3.
3- . الطبقات الكبرى لابن سعد: 271/1.

فإذا كان إعلان الحرب وإخراج خمس الغنائم على عهد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من شؤون النبي صلى الله عليه و آله و سلم فماذا يعني طلبه الخمس من الناس وتأكيده في كتاب بعد كتاب، وفي عهد بعد عهد؟

فيتبيّن أنّ ما كان يطلبه لم يكن مرتبطاً بغنائم الحرب. هذا مضافاً إلى أنّه لا يمكن أن يقال: إنّ المراد بالغنيمة في هذه الرسائل هو ما كان يحصل الناس عليه في الجاهلية عن طريق النهب، كيف وقد نهى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن النهب بشدّة، ففي كتاب الفتن باب النهي عن النُّهبة عنه صلى الله عليه و آله و سلم:

«من انتهب نهبة فليس منّا»(1)، وقال: «إنّ النهبة لا تَحِلّ »(2)، وفي صحيح البخاري ومسند أحمد عن عبادة بن الصامت: بايعنا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على أن لا ننهب(3).

وفي سنن أبي داود، باب النهي عن النهبى، عن رجل من الأنصار قال:

خرجنا مع رسول اللّه، فأصاب الناسَ حاجة شديدة وجهدٌ، وأصابوا غنماً فانتهبوها، فإنّ قدورنا لتغلي، إذ جاء رسول اللّه يمشي متّكئاً على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه، ثمّ جعل يُرمِّل اللحم بالتراب ثمّ قال: «إنّ النهبة ليست بأحلَّ من الميتة»(4).

وعن عبد اللّه بن زيد: نهى النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن النهبى والمثلة(5).

إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في كتاب الجهاد.

ص:428


1- . سنن ابن ماجة: 1298، كتاب الفتن، برقم 3937.
2- . سنن ابن ماجة: 1298، كتاب الفتن، برقم 3937 و 3938.
3- . صحيح البخاري: 2/48، باب النهب بغير إذن صاحبه.
4- . سنن أبو داود: 12/2.
5- . رواه البخاري في الصيد، راجع: التاج: 4/334.

وقد كانت النهيبة والنهبى عند العرب تساوق الغنيمة والمغنم - في مصطلح يومنا هذا - الذي يستعمل في أخذ مال العدو.

فإذا لم يكن النهب مسموحاً به في الدين، وإذا لم تكن الحروب التي يقوم بها أحد بغير إذن النبي صلى الله عليه و آله و سلم جائزة، لم تكن الغنيمة في هذه الوثائق تعني دائماً ما يؤخذ في القتال، بل كان معنى الغنيمة الواردة فيها، هو ما يفوز به الناس من غير طريق القتال بل من طريق الكسب وما شابهه، ولا محيص حينئذ من أن يقال: إنّ المراد بالخمس الذي كان يطلبه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو خمس أرباح الكسب والفوائد الحاصلة للإنسان من غير طريق القتال، أو النهب الممنوع في الدين.

وعلى الجملة: أنّ الغنائم المطلوب في هذه الرسائل النبويّة أداء خُمُسها، إمّا أن يراد بها ما يستولي عليه أحد عن طريق النهب والإغارة، أو ما يستولي عليه عن طريق محاربة بصورة الجهاد، أو ما يستولي عليه عن طريق الكسب والكد.

والأوّل ممنوع، بنصّ الأحاديث السابقة فلا معنى أن يطلب النبي صلى الله عليه و آله و سلم خمس النهيبة.

والثاني يكون أمر الغنائم فيه بيد النبي صلى الله عليه و آله و سلم مباشرة، فهو الذي يأخذ كل الغنائم ويضرب لكلّ من الفارس والراجل ما له من الأسهم، بعد أن يستخرج الخمس بنفسه من تلك الغنائم، فلا معنى لأن يطلبه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من الغزاة، فيكون الثالث هو المتعيّن.

الخمس في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام
اشارة

قد وردت في وجوب الخمس روايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في غير مورد الغنيمة المأخوذة من الكفار في الحرب نشير إلى عناوينها وشيء من أدلتها:

ص:429

1. المعادن

يجب الخمس في المعادن، روى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر [الباقر] عليه السلام قال: سألته عن معادن الذهب والفضة والصفر والحديد والرصاص ؟

فقال: «عليها الخمس جميعاً»(1).

2. الكنز

وممّا يجب فيه الخمس الكنز الّذي يُعثر عليه، روى الحلبي أنّه سأل أبا عبداللّه [الصادق] عليه السلام عن الكنز، كم فيه ؟ فقال: «الخمس»...(2)

3. ما يخرج من البحر بالغوص

وممايجب فيه الخمس ما يخرج من البحر بالغوص فيما لو كان ذا قيمة نفيسة، روى الحلبي قال: سألت أبا عبداللّه [الصادق] عليه السلام عن العنبر وغوص اللؤلؤ؟ فقال: «عليه الخمس».(3)

4. أرض الذمي إذا اشتراها من مسلم

وممّا يجب فيه الخمس الأرض التي يشتريها الذمي من المسلم، روى أبو عبيدة الحذّاء قال: سمعت أبا جعفر [الباقر] عليه السلام يقول: «أيّما ذمّي اشترى من مسلم أرضاً، فإن عليه الخمس»(4).

ص:430


1- . الوسائل: 6، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
2- . الوسائل: 6، الباب 5 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
3- . الوسائل: 6، الباب 7 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
4- . الوسائل: 6، الباب 9 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
5. الحلال المختلط بالحرام

إذا اختلط الحلال بالحرام على وجه لا يُعرف مقدار الحرام كما لا يُعرف صاحبه، فلابد في تطهيره من دفع خُمُسه، روى الحسن بن زياد عن أبي عبداللّه [الصادق] عليه السلام قال: «إن رجلاً أتى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي أصبت مالاً لا أعرف حلاله من حرامه، فقال له: أخرج الخمس من ذلك المال، فإن اللّه عزّوجل قد رضي من المال بالخمس، واجتنب ما كان صاحبه يُعْلَم».(1)

6. أرباح التجارات والصناعات والزراعات

ممّا يجب فيه الخمس ما زاد من أرباح التجارات والصناعات والزراعات بعد إخراج مؤونة السنة منها، وهذا هو المسمّى بأرباح المكاسب، وقد وردت الإشارة إليه في تعاليم الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم التي أوصى بها الوافدين عليه من قبيلة عبد القيس.

وإليك ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في هذا الصدد:

الخمس في كلام الإمام الصادق عليه السلام

1. روى أبو بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: كتبت إليه في الرجل يهدي إليه مولاه والمنقطع إليه هدية تبلغ ألفي درهم أو أقلّ أو أكثر، هل عليه فيها الخمس ؟ فكتب عليه السلام: «الخمس في ذلك»، وعن الرجل يكون في داره البستان فيه الفاكهة يأكله العيال إنّما يبيع منه الشيء بمائة درهم أو خمسين درهماً، هل عليه الخمس ؟ فكتب: «أمّا ما أكل فلا، وأما البيع فنعم، هوكسائر الضياع»(2).

ص:431


1- . الوسائل: 6، الباب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
2- . الوسائل: 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 10.
الخمس في كلام الإمام الكاظم عليه السلام

2. روى سماعة، قال سألت أبا الحسن عليه السلام عن الخمس قال: «في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير»(1).

3. روى حماد بن عيسى عن رجل (من بعض أصحابنا) عن العبد الصالح عليه السلام قال: الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم، والغوص، ومن الكنوز، ومن المعادن، ومن الملاحة.(2)

وما يعود إلى الإنسان من الملاحة فهو من أرباح المكاسب، ذكره الإمام بالخصوص لنكتة، هي كونه محلّ ابتلاء السائل أو شيئاً مغفولاً عنه عنده.

4. روى عمران بن موسى عن موسى بن جعفر عليه السلام قال: قرأت عليه آية الخمس فقال: «ما كان للّه فهو لرسوله، وما كان لرسوله فهو لنا»، ثم قال: «واللّه لقد يسّر اللّه على المؤمنين أرزاقهم بخمسة دراهم، جعلوا لربهم واحداً وأكلوا أربعة أحلاء، ثمّ قال: هذا من حديثنا صعب مستصعب لا يعمل به ولا يصبر عليه إلّا ممتحن قلبه للإيمان».(3)

فإن قوله: «أرزاقهم» يشير إلى مطلق ما يفوز به الإنسان ويستفيده من عمله.

الخمس في كلام الإمام الرضا عليه السلام

5. روى الصدوق باسناده عن إبراهيم بن محمد الهمداني، أنّ في توقيعات الرضا عليه السلام إليه: «أن الخمس بعد المؤونة»(4).

ص:432


1- . الوسائل: 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6.
2- . الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 8.
3- . الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6.
4- . الوسائل: 6، الباب 12 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.

والحديث ناظر إلى الأرباح التي يكسبها الإنسان من عمله، وأن الخمس يتعلق بما زاد على المؤونة أي مؤونة الكسب أو مؤونة الإنسان، ولا يمكن حمل الرواية على الغنائم الحربية لأنها من وظيفة الحاكم المسلم، والخطاب هنا لواحد من عامة الناس.

6. جاء في فقه الرضا قوله عليه السلام: كل ما أفاده الناس فهو غنيمة، لا فرق بين الكنوز والمعادن والغوص ومال الفيء الّذي لم يختلف فيه وهو ما ادّعي فيه الرخصة، وهو ربح التجارة، وغلَّة الضيعة وسائر الفوائد من المكاسب والصناعات، والمواريث وغيرها، لأن الجميع غنيمة وفائدة ومن رزق اللّه عزوجل، فإنّه روي أن الخمس على الخياط من ابرته، والصانع من صناعته، فعلى كل من غنم من الوجوه مالاً فعليه الخمس(1).

7. كتب رجل من تجّار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه السلام يسأله الإذن في الخمس فكتب إليه: «إن الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالاتنا وعلى أموالنا، وما نبذله ونشتري من أعرافنا ممن نخاف سطوته، فلا تَزوُوه عنا، ولا تُحْرِموا انفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه، فإنّ إخراجه مفتاح رزقكم، وتمحيص ذنوبكم، وماتمهدون لانفسكم ليوم فاقتكم».(2)

8. عن محمد بن زيد قال: قدم قوم من خراسان على أبي الحسن الرضا عليه السلام فسألوه أن يجعلهم في حلّ من الخمس، فقال: «ما أمحل هذا؟ تمحضونا المودّة بألسنتكم، وتزوون عنا حقّاًجعله اللّه لنا وجعلنا له، لا نجعل، لا نجعل، لا نجعل لأحد منكم في حلّ »(3).

ص:433


1- . فقه الرضا عليه السلام: 40؛ مستدرك الوسائل: 7/284، باب وجوب الخمس فيما يفضل عن مؤونة السنة.
2- . الوسائل: 6 الباب 3 من أبواب الانفال، الحديث 2.
3- . الوسائل: 6، الباب 3 من أبواب الانفال، الحديث 3.
الخمس في كلام الإمام الجواد عليه السلام

9. كتب محمد بن الحسن الأشعري إلى الإمام الجواد عليه السلام وسأله عن الخمس، وقال: أخبرني عن الخمس أعلى جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب وعلى الصناع، وكيف ذلك ؟ فكتب الإمام عليه السلام بخطه:

«الخمس بعد المؤونة»(1).

ولعل القرائن كانت تشهد بأن السائل يسأل عن كيفية تعلق الخمس، فهل هو على جميع ما يستفيد أو عليه بعد إخراج المؤونة، فكتب الإمام عليه السلام:

«الخمس بعد المؤونة».

وكانت إمامة الإمام الجواد عليه السلام من سنة 203-220 ه، وهذا يدل على أن الحكم بلغ من الوضوح إلى درجة تعلق فيها السؤال بالكيفية لا بالأصل.

10. كتب الإمام الجواد عليه السلام في رسالة لعلي بن مهزيار عام 220 ه، قال:

«فأمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام، قال اللّه تعالى: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) (2)، «والغنائم والفوائد يرحمك اللّه فهي الغنيمة يغنمها المرء والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الّذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن».(3)

ص:434


1- . الوسائل: 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.
2- . الانفال: 41.
3- . الوسائل: 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.
الخمس في كلام الإمام الهادي عليه السلام

11. روى علي بن محمد بن شجاع النيسابوريّ ، قال سألت أبا الحسن الثالث عليه السلام عن رجل أصاب من ضيعته من الحنطة مائة كرّ ما يُزكّى ، فأخذ منه العشر عشرة أكرار وذهب منه بسبب عمارة الضيعة ثلاثون كرّاً وبقي في يده ستون كرّاً(1)، ما الّذي يجب لك من ذلك ؟ وهل يجب لأصحابه من ذلك عليه شيء؟

فوقّع عليه السلام: «لي منه الخمس ممّا يفضل من مؤونته»(2).

وكلام الإمام يرجع إلى عصر إمامته (من عام 221-254 ه).

12. روى علي بن مهزيار، قال: قال لي أبوعلي بن راشد قلت له عليه السلام:

أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك، فقال لي بعضهم: وأيّ شيء حقّه ؟ فلم أدر ما اجيبه ؟ فقال: يجب عليهم الخمس، فقلت: ففي أي شيء؟ فقال: في أمتعتهم وصنائعهم، قلت: والتاجر عليه والصانع بيده ؟ فقال: إذا أمكنهم بعد مؤونتهم.(3)

هذه اثنا عشر حديثاً اقتصرنا بها تيمُّنا بهذا العدد المبارك وهي تدل بوضوح على لزوم الخمس في الفوائد والأرباح وكل ما يستفيده الإنسان.

ومن هنا يقف القارئ على كذب ما ذكره مؤلف الكتاب، حيث قال في الحقيقة الثالثة من حقائقه الثمان التي ادعى كشفها: «إن هذه النصوص تجعل حكم أداء الخمس للإمام نفسه وفي حال حضوره، الاستحباب أو التخيير بين الأداء وتركه، وليس الوجوب».(4)

ص:435


1- . الكر يساوي 384 كيلو غرام.
2- . الوسائل: 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.
3- . الوسائل: 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.
4- . الخمس جزية العصر: 9.

وكأن كاتب هذه الشبهات لم يقرأ هذه الأحاديث أو تجاهلها عمداً، أفيمكن تفسير قول الإمام الرضا عليه السلام بالاستحباب عندما سأله بعض الشيعة أن يجعلهم في حلّ من الخمس فأجابهم: ما أمحل هذا؟ تمحضونا المودّة بألسنتكم، وتزوون عنا حقّاً جعله اللّه لنا وجعلنا له، لا نجعل، لا نجعل، لا نجعل لأحد منكم في حلّ »(1).

وأما ما تشبث به في عدم وجوب الخمس بما دلّ على تحليله للشيعة، فسيأتي تفسير هذه الروايات في الفصل التالي فانتظر.

ص:436


1- . مرّ برقم 8.

الفصل الثاني ما هو المقصود من تحليل الخمس في بعض الروايات

اشارة

قد مرّ أن الخمس فريضة شرعية، دلّ عليها الكتاب والسنة النبوية والأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. وهذا الحكم الشرعي، لم يُنسخ أبداً بل بقي على ما كان عليه في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وليس لأحد بعد رحلته صلى الله عليه و آله و سلم نسخ حكم شرعي أتى به.

وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تُفسَّر الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، والدالّة على تحليل الخمس لشيعتهم ؟

والجواب: إن تحليله كان في ظرف خاص، ولمصلحة مؤقتة اقتضت تجميد العمل به، ولم يكن تصرّفاً في الحكم الشرعيّ ؛ بل هو باقٍ على ما كان عليه، ولن يتغيّر أبداً.

وتكمن هذه المصلحة في دفع الأخطار الناجمة عن تطبيق هذا الحكم الشرعيّ في بعض الأوقات، فلقد تعرّض الأئمة عليهم السلام وشيعتهم في بعض الفترات الزمنية لمضايقات جمّة، ولفنون الظلم والاضطهاد على أيدي حكّام الجور، الذين كانوا يبثّون العيون والجواسيس، لمراقبة تحركّاتهم واتصالاتهم ونشاطاتهم.

ولاشكّ في أن الحاكم المستبدّ، يجد في إيصال الأموال إلى الإمام المعصوم مصدر خطر كبير عليه وعلى نظامه، فبالإضافة إلى دور المال في

ص:437

تعزيز القاعدة الشعبية للإمام، فإنّه يرى فيه تعبيراً عن عدم الاعتراف بشرعيّة حكمه.

ومن هنا لم يجد الأئمة عليهم السلام بُدّاً من تقديم الأهمّ على المهمّ ، فأجازوا لشيعتهم إبقاء الخُمس في أيديهم، لما يترتّب على دفعه إليهم عليهم السلام من مخاطر وأضرار تلحق بهم جميعاً.

هذا هو السبب المهمّ ، وثَمّة أسباب أُخرى للتحليل، تتضح عند دراسة الروايات الدالة على التحليل.

ثم إنّ الروايات الحاكية عن التحليل على أقسام خمسة، هي:

القسم الأوّل: تحليل خمس الغنائم

كان المسلمون خلال حياة الأئمة عليهم السلام يخوضون حروباً لنشر الإسلام في كافة أرجاء العالم، وكانوا يرجعون بغنائم كثيرة (من إماء ومتاع وأموال)، وكانت تباع في الاسواق فتتداولها الأيدي بالبيع والشراء، وكان الشيعة - وهم جزء من هذا المجتمع - يشترون الأمتعة والإماء.

ومن المعلوم أن خمس الغنائم الّذي أوجبه اللّه وجعله من حق اللّه ورسوله كان لا يُخرج من هذه الغنائم، ولا يُدفع للإمام، والتكليف بالخمس لم يكن متوجهاً للشيعة أوّلاً وبالذات، بل يتعلّق بأموال وقعت في أيدي الشيعة، فأوجد هذا الأمر مشكلة لهم. ولأجل رفع هذه المشكلة، أحلّ الأئمةُ لهم خمسَ الغنائم التي تقع بأيديهم، وأكثر ما يدل على التحليل راجع إلى هذا القسم، وسنذكر بعض ما ورد فيه:

1. روى الفضلاء - أبو بصير وزُرارة ومحمد بن مسلم، كلهم - عن أبي جعفر [الباقر] عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: «هلك الناس

ص:438

في بطونهم وفروجهم لأنهم لم يؤدّوا إلينا حقنا، ألا وإن شيعتنا من ذلك وآباءهم في حلّ ».(1)

إن قوله عليه السلام: «فروجهم» راجع إلى الإماء فيكون قرينة على أن المراد من بطونهم هو ما يتملكوه من غنائم الحرب.

2. روى ضريس الكناسي، قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام: «أتدري من أين دخل على الناس الزنا»؟ فقلت: لا أدري، فقال: «من قبَل خمسنا أهل البيت عليهم السلام، إلّا لشيعتنا الأطيبين فإنهم محلَّل لهم ولميلادهم».(2)

إن العبارات التالية:

1. «دخل على الناس الزنا».

2. «لشيعتنا الأطيبين».

3. «ولميلادهم».

أفضل دليل على أن مورد التحليل هو الإماء التي يتداولها الناس بالبيع والشراء، وهي من الغنائم الحربية.

3. روى محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام [يعني الباقر أو الصادق] قال:

«إن أشد ما فيه الناس يوم القيامة أن يقوم صاحب الخمس فيقول: يا رب خمسي، وقد طيَّبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم ولتزكوا أولادهم».(3)

فإن قوله: «لتطيب ولادتهم» أصدق شاهد على أن التحليل يتعلق بالسراري التي يشتريها الشيعة، وهي من الغنائم الحربية.

ص:439


1- . الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الانفال، الحديث 1.
2- . الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الانفال، الحديث 3.
3- . الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الانفال، الحديث 5.

فلنقتصر على هذا، ولنذكر شيئاً من الروايات التي تشير إلى تحليل هذا النوع:

ففي رواية الحارث بن المغيرة: «فلم أحللنا إذن لشيعتنا إلّالتطيب ولادتهم»(1).

وفي حديث فضيل: «إنا أحللنا أُمهات شيعتنا لآبائهم ليطيبوا»(2).

وفي رواية زرارة: «حللهم من الخمس لتطيب ولادتهم».(3)

وفي رواية إسحاق بن يعقوب: «لتطيب ولادتهم ولا تخبث».(4)

وفي رواية الإمام العسكري عليه السلام: «لتطيب مواليدهم ولا يكون أولادهم أولاد حرام».(5)

فالناظر إلى هذه الروايات يذعن بأن مصب التحليل فيها راجع لما يقع في أيدي الناس من المناكح التي لم تُخمَّس، واشتراها الشيعة واستولدوها.

يقول الشهيد الثاني: المراد بالمناكح السَّراري المغنومة من أهل الحرب في حالة الغَيبة، فإنّه يباح لنا شراؤها ووطؤها وإنْ كانت بأجمعها للإمام على القول بأنها من الأنفال، إذ كل جهاد مع العدو لم يكن بأذن الإمام، فالغنائم كلها للإمام عليه السلام على ما مرّ، أو بعضها - الخمس - على القول الآخر.(6)

ص:440


1- . الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الانفال، الحديث 9.
2- . الوسائل: 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 10.
3- . الوسائل: 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 15.
4- . الوسائل: 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 16.
5- . الوسائل: 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 20.
6- . مسالك الأفهام: 1/575 أو 475.
القسم الثاني: التحليل لمن ضاق عليه معاشه

يظهر من بعض الروايات أن التحليل كان لطائفة خاصة من الناس الذين ضاق عليهم العيش، ويدل على ذلك:

1. ما رواه الصدوق في الفقيه عن يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبداللّه عليه السلام فدخل عليه رجل من القمّاطين فقال: جُعلت فداك، يقع في أيدينا الأرباح والأموال وتجارات تعلم أن حقك فيها ثابت وإنا عن ذلك مقصِّرون، فقال أبو عبداللّه عليه السلام: «ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم»(1).

فظاهر الحديث أن ملاك التحليل، هو عسر السائل وكثرة ورود الظلم على الشيعة من جانب المخالفين، فاقتضت المصلحة رد الخمس إليهم أو تحليله لهم، ويشهد على ذلك قوله: «ما أنصفناكم إن كلفناكم». ويمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى القسم الثالث الآتي، إذ ربّما تقع الأموال غير المخمّسة في أيدي الشيعة عن طريق البيع والشراء، فتكليف الشيعة بإخراج خُمُسها كان إحراجاً لهم.

2. ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن مهزيار قال قرأت في كتاب لأبي جعفر عليه السلام من رجل يسأله أن يجعله في حلّ من مأكله ومشربه من الخمس، فكتب بخطه: «من أعوزه شيء من حقي فهوفي حِلّ ».(2)

القسم الثالث: تحليل ما ينتقل إلى الشيعة من غير المخمّس

يظهر من روايات أُخرى أن ملاك التحليل أن أكثر الناس كانوا غير معتقدين بوجوب التخميس في الأرباح والمكاسب، فربما تقع أموالهم عن طريق البيع والشراء بيد الشيعة، وفيها حقهم عليهم السلام، وهذا هو الّذي اباحه الأئمة

ص:441


1- . الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الانفال، الحديث 6.
2- . الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الانفال، الحديث 2.

للشيعة رفعاً للحرج والضرر، ويدل على ذلك ما رواه أبو سلمة سالم بن مُكرم - وهو أبو خديجة - عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: قال رجل وأنا حاضر: حلّل لي الفروج ؟ ففزع أبو عبداللّه عليه السلام، فقال له الرجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق إنّما يسألك خادماً يشتريها، اوامرأة يتزوّجها، اوميراثاً يصيبه، أو تجارة أو شيئاً أعطيه، فقال: «هذا لشيعتنا حلال، الشاهد منهم والغائب، الميّت منهم والحيّ ، وما يولد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال، أما واللّه لا يحل إلّالمن أحللنا له، ولا واللّه ما أعطينا أحداً ذمّة، (وما عندنا لأحد عهد) ولا لأحد عندنا ميثاق».(1)

فالرواية مشتملة على موضوعين:

1. ما يقع في أيدي الشيعة من الغنائم، وهو قوله: «إنّما يسألك خادماً يشتريها أو امرأة يتزوجها».

2. ما يقع في أيدي الشيعة من الأموال غير المخمسة وهو قوله: «أو ميراثاً يصيبه أو تجارة أو شيئاً أعطيه».

نعم يقع الكلام، هل التحليل يختص بأموال غير المعتقدين بالخمس، أو يعم الشيعة المعتقدين به ولكن يبيعون الأموال بلا تخميس ؟

القدر المتيقن هو الأوّل وهو مصب الروايات، بقرينة التركيز على لفظ الشيعة.

القسم الرابع: التحليل لمرحلة زمنية خاصّة

تدل بعض الروايات على أن التحليل كان في فترة زمنية معيّنة، كان إيصال الأموال فيها إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام أمراً مشكلاً وحرجياً ربّما يستعقب ما لا تحمد عقباه.

ص:442


1- . الوسائل: 6 الباب 4 من أبواب الانفال، الحديث 4.

ومن قرأ حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام وتضييق الحكام الأمويين على الإمامين الباقر والصادق، وإحراج العباسيين للإمام الصادق والكاظم، يقف على أن التضييق قد بلغ ذروته في بعض الفترات. وكانت السياسة العامة للأمويين وفترة من حكم العباسيين، هي إشخاص الإمام ومساءلته، أو إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن، ثم استحدث المأمون سياسة جديدة (سار عليها الحكام من بعده)، تقوم على نقل الإمام إلى عاصمة المُلك، وإخضاعه للمراقبة الشديدة، وقد عانى من هذه السياسة: الإمام الرضا عليه السلام والجواد والهادي والعسكري عليهم السلام.

ولا شك في أن الاتصال بالإمام عليه السلام في مثل هذا الظرف القاسي، ونقل الأموال إليه يورث الحرج والخطر عليه وعلى شيعته.

ويدل على هذا الخطر المحدق بالشيعة ما رواه الشيخ الطوسي في فصلٍ عقده لذكر الممدوحين من وكلاء الأئمة عليهم السلام، قال: ومنهم المعلّى بن خُنيس، وكان من قوّام أبي عبداللّه عليه السلام، وإنّما قتله داود بن علي بسببه وكان محموداً عنده (الإمام) ومضى على منهاجه، ولما قُتل عظمُ ذلك على أبي عبداللّه عليه السلام واشتد عليه، وقال له: «يادواد على ما قتلت مولاي وقيّمي في مالي وعيالي ؟ واللّه إنّه لا وجه عند اللّه منك».(1)

ويدلّ عليه أيضاً، ما ورد في قصة محمد بن أبي عمير (وكان من خلص أصحاب الإمامين الكاظم والرضا عليهما السلام) فقد حُبس في أيّام الرشيد ليدلّ على مواضع الشيعة وأصحاب موسى بن جعفر عليه السلام.

وروي بأنّه: ضُرب أسواطاً بلغت منه، فكاد أن يُقرّ لعظيم الألم، فسمع محمد بن يونس بن عبدالرحمن، وهو يقول: اتق اللّه يا محمد بن أبي عمير، فصبر، ففرج اللّه.(2)

ص:443


1- . الغيبة للطوسي: 347.
2- . رجال النجاشي: 2/204، برقم 888.

ويشهد على ما ذكرنا ما رواه حكيم مؤذن بني عبس عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: قلت له: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ ) (1) قال: هي واللّه الإفادة يوماً بيوم إلّاأنّ أبي جعل شيعتنا من ذلك في حلّ ليزكوا.(2)

فإن قوله عليه السلام: «إلّا أن أبي جعل شيعتنا من ذلك في حلّ »، يدل على أن الحلّ كان راجعاً إلى فترة خاصة، وأما الإمام الصادق عليه السلام نفسه فقد سكت عن ذلك مشعراً بأن الحكم باق على فعليته، ولعله كان راجعاً إلى الفترة التي حصل فيها بعض الانفراج السياسي، بسبب سقوط الدولة الأموية على ايدي العباسيين وما نشب خلال ذلك من صراع بينهما.

والنماذج التي حوتها كتب التاريخ كثيرة.

وبما أن الظروف المختلفة التي أدت إلى تحليل الخمس للشيعة تارة، وأخذه تارة أُخرى، صارت سبباً للإبهام، قام الإمام الجواد عليه السلام برفع الشبهة، وذلك ببيان قاطع، إذ كتب إلى بعض أصحابه، قائلاً: «إن الّذي أوجبتُ في سنتي هذه، وهذه سنة عشرين ومائتين، فقط لمعنى من المعاني، أكره تفسير المعنى كلّه خوفاً من الانتشار، وسأفسّر لك بعضه إن شاءللّه، إنّ مواليّ - أسأل اللّه صلاحهم - أو بعضهم قصّروا فيما يجب عليهم، فعلمت ذلك فأحببت أن أطهِّرهم وأُزكيهم بما فعلت في عامي هذا من أمر الخمس»، إلى أن قال: «فأما الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام قال اللّه تعالى: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ...) والغنائم والفوائد - يرحمك اللّه - فهي الغنيمة يغنمها المرء والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان إلى الإنسان التي لها خطر، والميراث الّذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن...»، إلى آخر ما ذكره.(3)

ص:444


1- . الانفال: 41.
2- . الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الانفال، الحديث 8.
3- . الوسائل: 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.

وهذه الروايات التي يفسر بعضها بعضاً، تدلّ على أن مسألة الخمس صارت تثير المشاكل في حين دون حين، ولذلك رخّص الأئمة عليهم السلام في تركه، ولما كثر السؤال عنه في عصر الإمام الجواد عليه السلام كتب هذه الرسالة وأعلن وجوب دفع الخمس في الموارد التي ذكرها.

القسم الخامس: تحليل الأنفال

إن الغنائم الحربية هي من نصيب المجاهدين، بعد إعطاء خمسها لأصحابه، وأما الأنفال اعني كل أرض ملكت بغير قتال، وكل موات، ورؤوس الجبال، وبطون الاودية، والآجام والغابات، وميراث من لا وارث له، وكافة ما يغنمه المقاتلون بغير إذن الإمام، وكافة المياه العامة والأحراش الطبيعية والمراتع التي ليست حريماً لأحد، وقطائع الملوك وصفاياهم غير المغصوبة، فالكل للّه ورسوله وبعده للإمام، وقد مرّ معنى كون الأنفال للرسول والإمام فلا يجوز التصرف فيها إلّاباذن.

هذا من جانب ومن جانب آخر، فإن بعض هذه الأُمور تقع في متناول الشيعة، وهذا ما أحلّه الأئمة عليهم السلام لهم خصوصاً ما يرجع إلى الأرض، ويدل عليه ما رواه أبو سيّار مِسْمَع بن عبدالملك، قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: إنّي كنت وليت الغوص فأصبت أربعمائة ألف درهم، وقد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم، وكرهت أن أحبسها عنك وأعرض لها، وهي حقك الّذي جعل اللّه تعالى لك في أموالنا، فقال: «ومالنا من الأرض وما أخرج اللّه منها إلّاالخمس ؟ يا أبا سيّار، الأرض كلها لنا، فما أخرج اللّه منها من شيء فهو لنا» قال: قلت له: أنا أحمل إليك المال كلّه ؟ فقال لي: يا أبا سيّار، قد طيبناه لك وحللناك منه، فضمّ إليك مالك، وكلّ ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون، ومحلل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيدي سواهم، فإن كسبهم

ص:445

من الأرض حرام عليهم حتّى يقوم قائمنا، فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم منها صغرة».(1)

لقد ظهر من هذا البحث الضافي أنّ روايات التحليل - التي قد وقعت ذريعة بأيدي بعض المناوئين لأئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، لاسيّما المرجعية الدينية التي تتولى قيادة الشيعة في حياتهم الفردية والاجتماعية - لا صلة لها بما يرتأيه البعض من تحليل الخمس في عامة الموارد وفي جميع الأزمنة، بل هي تدور حول الموضوعات التالية:

1. خمس الغنائم في الحروب التي خاضتها الدولتان (الأموية والعباسية).

2. خمس مال من ضاق عليه معاشه.

3. خمس الأموال غير المخمسة المنتقلة إلى الشيعة.

4. تحليل الخمس في فترة خاصة، كان إيصاله إلى الأئمة عليهم السلام يشكّل خطراً عليهم.

5. تحليل الأنفال التي ترجع إلى اللّه ورسوله والإمام من بعده فأذنوا فيها للشيعة، خصوصاً ما يتعلّق بالأراضي الموات منها.

الخمس بدل الزكاة لبني هاشم

لقد حرّم اللّه سبحانه الزكاة على فقراء بني هاشم وجعل مكانها الخمس على ذلك اتفقت كلمة الفقهاء، من غير فرق بين الشيعة والسنة.

قال الإمام الكاظم عليه السلام: «إنّما جعل اللّه هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم عوضاً لهم من صدقات الناس، تنزيهاً من اللّه لهم لقرابتهم برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكرامة من اللّه لهم عن أوساخ الناس، فجعل لهم

ص:446


1- . الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 12.

خاصة من عنده ما يغنيهم به عن أن يصيرهم في موضع الذل والمسكنة، ولا بأس بصدقات بعضهم على بعض، وهؤلاء الذين جعل اللّه لهم الخمس هم قرابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم الذين ذكرهم اللّه فقال: (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (1) وهم بنو عبدالمطلب أنفسهم الذكر منهم والأُنثى»(2).

فإذا كانت حياة فقرائهم معتمدة على الخمس، فكيف يمكن لأئمة أهل البيت عليهم السلام تحليله في عامة الازمنة إلى قيام القائم، إذ أن لازم ذلك إما أن يموتوا جوعاً أو أن يعتمدوا على الزكاة المحرَّمة عليهم.

إذا عرفت ذلك فهلم معي نسأل مؤلف كتاب «الخمس جزية العصر» حيث يقول في الحقيقة الثانية التي يدعي اكتشافها - وكأنّه اكتشف كنزاً -: إن كثيراً من النصوص الواردة عن الأئمة تسقط الخمس عن الشيعة وتبيحه لهم خصوصاً في زمن الغيبة إلى حين ظهور المهدي المنتظر عليه السلام.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه لو صحّ ما زعم من دلالة النصوص، فهي ناظرة إلى عصر الظهور لا إلى عصر الغيبة لأنها مروية عن الإمام الباقر والصادق والكاظم عليهم السلام فكيف تكون ناظرة إلى عصر الغيبة.

ثانياً: قد عرفت أن مفاد النصوص لا يمت إلى ما يرتأيه بعضم بصلة، فأين الروايات التي تُدّعى دلالتها على تحليل الخمس بأنواعه (الغنائم، الكنز، الغوص، المعادن، الحلال المختلط بالحرام، الأرض التي يشتريها الذمي من المسلم، خمس الارباح والفوائد)، مطلقاً في جميع الأزمنة والفترات إلى يومنا هذا، فمن ادّعى ذلك ونسبه إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام، فهو إما جاهل أو متجاهل.

ص:447


1- . الشعراء: 214.
2- . الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 8.

الفصل الثالث جهاز الوكالة في عصر الحضور

اشارة

انتهجت السلطتان: الأموية والعباسية في معظم فترات حكمهما، سياسة القمع والبطش، ومصادرة الحريات، لاسيما تجاه أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، الذين كان يصعب عليهم الاتصال بأئمتهم عليهم السلام، لِما يسبّبه لهم من مشاكل ومخاطر في حياتهم، قد تُفضي بهم أحياناً إلى الهلاك.

ولأجل التخفيف من وطأة هذه المخاطر، وتيسير حاجات الشيعة، تمّ إنشاء جهاز الوكالة، الّذي يضمّ مجموعة من الوكلاء، يتمّ توزيعهم على مختلف المناطق، ليقوموا بمهمة تعليم الأحكام، وتسلّم أموال الفرائض المالية، وغير ذلك من الأعمال.

وكان الأصل المهم في الوكالة، كون الرجل ثقة عادلاً تسكن إليه النفوس، وقد حفل تاريخ الأئمة عليهم السلام بذكر وكلائهم في أعصارهم، حتّى أن بعض هؤلاء الوكلاء قد استشهدوا بسبب وكالتهم للأئمة عليهم السلام. وها نحن نذكر أسماء عدد ممن كانوا مرجعاً لتعليم الاحكام، وأخذ الفرائض المالية:

1. المُعَلّى بن خُنَيس

كان المعلّى بن خنيس أحد وكلاء الإمام الصادق عليه السلام في أخذ الحقوق الشرعية، ولما وقف على ذلك داود بن علي (والي المدينة من قبل العباسيين)، أمر بقتله. روى الكشِّي عن ابن أبي نجران عن حماد الناب عن المسمعي، قال:

لما أخذ داود بن علي المعلى بن خنيس حبسه وأراد قتله، فقال له المعلى بن

ص:448

خنيس: أخرجني إلى الناس فإن لي دَيناً كثيراً ومالاً حتّى أشهد بذلك، فأخرجه إلى السوق، فلما اجتمع الناس، قال: يا أيها الناس أنا معلى بن خنيس فمن عرفني فقد عرفني، اشهدوا أن ما تركت من مال من عين أو دين أو أمة أو عبد أو دار أو قليل أو كثير، فهو لجعفر بن محمد عليه السلام. قال: فشدَّ عليه صاحب شرطة داود فقتله. قال: فلما بلغ ذلك أبا عبداللّه عليه السلام خرج يجرّ ذيله حتّى دخل على داود بن علي، وإسماعيل ابنه خلفه، فقال: يا داود قتلت مولائي وأخذت مالي.

فقال: ما أنا قتلته ولا أخذت مالك. فقال: واللّه لأدعونّ اللّه على من قتل مولائي وأخذ مالي.(1)

وروى المجلسي: لما ولي داود المدينة من قابل أحضر المعلى وسأله عن الشيعة، فقال: ما أعرفُهم. فقال: اكتبهم لي، وإلّا ضربت عنقك. فقال: أبالقتل تهددّني، واللّه لو كانت تحت أقدامي ما رفعتها عنهم. فأمر بضرب عنقه وصلبه.

فلما دخل عليه الصادق عليه السلام قال: ياداود قتلت مولاي ووكيلي وما كفاك القتل حتّى صلبته.(2)

2. حُمران بن أعيَن

ينتمي حمران (أخو زرارة بن أعين) إلى بيت عريق في العلم، والموالاة لأهل البيت عليهم السلام، وكان من أصحاب الباقر والصادق عليهما السلام.

جاء في رسالة أبي غالب الزراري التي ألّفها في أحوال آل أعين: أن حمران بن أعين لقي سيدنا سيد العابدين علي بن الحسين عليهما السلام، وكان من أكبر مشايخ الشيعة المفضلين الذين لا يُشكّ فيهم، وكان أحد حملة القرآن، ومَن يُعدّ ويذكر اسمه في القراءات، وروي أنّه قرأ على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام.(3)

ص:449


1- . رجال الكشي: 323، برقم 241.
2- . بحار الأنوار: 181/47؛ الغيبة للشيخ الطوسي: 347، برقم 300.
3- . رسالة أبي غالب الزراري: 129-130. وانظر: غاية النهاية في طبقات القرّاء: 1/261، برقم 1189.

وكان مع ذلك عالماً بالنحو واللغة، وقد ذكر الكشي في رجاله روايات عديدة في مدحه.(1)

وعدّه الشيخ الطوسيّ من وكلاء الأئمة المحمودين.(2)

وهذا يدل على أن جهاز الوكالة كان موجوداً في عصر الباقر عليه السلام أيضاً، بل ربّما يستفاد من بعض الروايات وجوده في حياة الإمام الحسن السِّبط عليه السلام.

روى الإربلي في كشف الغمة: أن رجلاً جاء إلى الحسن عليه السلام وسأله حاجة... إلى أن قال: فدعا الحسن عليه السلام بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتّى استقصاها، قال: هات الفاضل من الثلاثمائة ألف درهم.(3)

3. نصر بن قابوس اللخمي

ذكره الشيخ الطوسي في وكلاء الإمام الصادق عليه السلام وقال: روي أنّه كان وكيلاً لأبي عبداللّه عليه السلام عشرين سنة ولم يُعلَم أنّه وكيل، وكان خيّراً فاضلاً.(4)

4. عبدالرحمن بن الحجّاج

قال الشيخ الطوسي: هو أحد الفقهاء في عصر الإمام الصادق عليه السلام أخذ عنه الفقه، وكان وكيلاً له ومات في عصر الإمام الرضا عليه السلام على ولايته.(5)

5. المُفضَّل بن عمر الجُعفي

كان المفضل بن عمر من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام وقد أملى عليه الإمام رسالة التوحيد في مجالس. روى الشيخ الطوسي عن هشام بن الأحمر قال:

ص:450


1- . رجال الطوسي: 181 (في الهامش).
2- . الغيبة للطوسي: 346.
3- . بحار الأنوار: 43/347.
4- . الغيبة للطوسي: 347، برقم 302؛ بحار الأنوار: 47/343.
5- . الغيبة للطوسي: 347، برقم 302؛ بحار الأنوار: 47/343.

حملت إلى أبي إبراهيم عليه السلام إلى المدينة أموالاً، فقال: رُدّها فادفعها إلى المفضّل بن عمر، فرددتها إلى الجعفي فحططتها على باب المفضل.(1)

وروى أيضاً عن موسى بن بكر قال: كنت في خدمة أبي الحسن عليه السلام فلم أكن أرى شيئاً يصل إليه إلّامن ناحية المفضّل، ولربّما رأيت الرجل يجيء بالشيء فلا يقبله منه ويقول: أوصله إلى المفضل.(2)

6. عبداللّه بن جندب البجلي

قال الشيخ الطوسي: ومنهم (يعني الوكلاء) عبداللّه بن جندب البجلي، وكان وكيلاً لأبي إبراهيم وأبي الحسن الرضا عليهما السلام وكان عابداً رفيع المنزلة لديهما على ما روي في الأخبار.(3)

7. محمد بن سنان

ذكره الشيخ الطوسي ضمن وكلاء الأئمة عليهم السلام وقال: روي عن علي بن الحسين بن داود، قال: سمعت أبا جعفر الثاني عليه السلام يذكر محمد بن سنان بخير ويقول: «رضي اللّه عنه برضائي عنه فما خالفني وما خالف أبي قط».(4)

8. علي بن مهزيار

كان علي بن مهزيار من وكلاء الإمام الجواد عليه السلام ويدل على مكانته ومنزلته ما مرّ من الروايات حيث كاتب الإمام وكاتبه هو.

ذكره الشيخ الطوسي ضمن وكلاء الإمام أبي جعفر الثاني.(5)

ص:451


1- . الغيبة للطوسي: 347، برقم 298.
2- . الغيبة للطوسي: 347، برقم 299؛ بحار الأنوار: 342/47.
3- . الغيبة للطوسي: 348، برقم 302؛ بحار الأنوار: 49/274.
4- . الغيبة للطوسي: 348، برقم 304؛ بحار الأنوار: 49/275.
5- . الغيبة للطوسي: 349، برقم 306؛ بحار الأنوار: 50/105.
9. أيوب بن نوح بن درّاج

روى الشيخ في غَيبته عن عمرو بن سعيد المدائني، قال: كنت عند أبي الحسن العسكري عليه السلام بصريا(1) إذ دخل عليه أيوب بن نوح ووقف قُدّامه، فأمره بشيء ثم انصرف.(2)

10. علي بن جعفر الهمّاني

قال الشيخ الطوسي في الفصل الّذي عقده لبيان وكلاء الأئمة عليهم السلام: كان فاضلاً مرضياً من وكلاء أبي الحسن وأبي محمد عليهما السلام. ثم نقل أنّه حج أبو طاهر من بلال فنظر إلى علي بن جعفر وهو ينفق النفقات العظيمة، فلما انصرف كتب بذلك إلى أبي محمد عليه السلام فوقّع في رقعته:

قد كنا أمرنا بمائة ألف دينار، ثمّ أمرنا له بمثلها فأبى قبوله (قبولها) إبقاءً علينا، ما للناس والدخول في أمرنا فيما لم ندخلهم فيه، قال: ودخل على أبي الحسن العسكري عليه السلام فأمر له بثلاثين ألف دينار.(3)

11. أبو علي الحسن بن راشد

ذكره الشيخ الطوسي ضمن وكلاء الأئمة، وروى عن محمد بن عيسى أن الإمام العسكري عليه السلام كتب إلى الموالي ببغداد والمدائن والسواد وما يليها: قد أقمت أبا علي بن راشد مقام علي بن الحسين بن عبد ربه ومَن قبله من وكلائي، وقد أوجبت في طاعته طاعتي، وفي عصيانه الخروج إلى عصياني.(4)

روي عن أبي عليّ بن راشد أنّه قال: قلت لأبي الحسن الثالث عليه السلام: إنّما

ص:452


1- . قرية أسسها موسى بن جعفر عليه السلام ثلاثة أميال من المدينة (مناقب ابن شهرآشوب: 4/382).
2- . غيبة الطوسي: 349، برقم 307.
3- . الغيبة للطوسي: 350، برقم 308؛ بحار الأنوار: 220/50.
4- . الغيبة للطوسي: 350، برقم 309؛ بحار الأنوار: 50/220.

نؤتى بالشيء فيقال: هذا كان لأبي جعفر عليه السلام عندنا فكيف نصنع ؟ فقال: ما كان لأبي عليه السلام بسبب الإمامة فهو لي، وماكان غير ذلك فهو ميراث على كتاب اللّه وسنة نبيه.(1)

12. صالح بن محمد بن سهل الهمداني

روى الشيخ الطوسي عن علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام إذ دخل عليه صالح بن محمد ابن سهل الهمداني - وكان يتولى له - فقال له: جعلت فداك اجعلني من عشرة آلاف درهم في حلّ فإنّي أنفقتها، فقال له أبو جعفر عليه السلام: أنت في حِلّ .(2)

13. علي بن أبي حمزة البطائني
14. زياد بن مروان القندي
15. عثمان بن عيسى الرواسي

نقل الشيخ الطوسي عن محمد بن إسماعيل وعلي بن محمد الحسنيين:

كلهم كانوا وكلاء لأبي الحسن موسى عليه السلام وكان عندهم أموال جزيلة، فلما مضى أبوالحسن موسى عليه السلام وقفوا طمعاً في الأموال، ودفعوا إمامة الرضا عليه السلام وجحدوه.(3)

16. عثمان بن سعيد العمري

روى الشيخ الطوسي بسنده عن محمد بن إسماعيل وعلي بن عبداللّه الحسنيين قالا: دخلنا على أبي محمد الحسن عليه السلام بسر من رأى وبين يديه

ص:453


1- . الوسائل: 6، الباب 2 من أبواب الانفال، الحديث 6.
2- . الغيبة للطوسي: 351، برقم 311.
3- . الغيبة للطوسي: 352، برقم 311.

جماعة من أوليائه وشيعته حتّى دخل عليه بدر خادمه، فقال: يا مولاي بالباب قوم شعثٌ غُبْر، فقال لهم: هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن (في حديث طويل يسوقانه) إلى أن ينتهي إلى أن قال الحسن عليه السلام لبدر: فامض فائتنا بعثمان بن سعيد العمريّ فما لبثنا إلّايسيراً حتّى دخل عثمان، فقال له سيّدنا أبو محمد عليه السلام:

امض يا عثمان، فإنك الوكيل والثقة المأمون على مال اللّه، واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال.

ثم ساق الحديث إلى أن قالا: ثم قلنا بأجمعنا: ياسيّدنا، واللّه إنّ عثمان لمن خيار شيعتك، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك، وإنّه وكيلك وثقتك على مال اللّه تعالى. قال: نعم، واشهدوا أن عثمان بن سعيد العمري وكيلي، وأن ابنه محمداً وكيل ابني مهدّيكم.(1)

17. أبو جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري

روى الشيخ الطوسي عن أبي نصر هبة اللّه قال: وجدت بخط أبي غالب الزراري (رحمه اللّه وغفر له) ان أبا جعفر محمد بن عثمان العمري رحمه الله مات في آخر جمادي الأُولى سنة خمس وثلاثمائة... إلى أن قال: إنّه كان يتولى هذا الأمر نحواً من خمسين سنة، يحمل الناس إليه أموالهم ويُخرج لهم التوقيعات بالخط الّذي كان يخرج في حياة الحسن عليه السلام إليهم بالمهمات في أمر الدين والدنيا.(2)

18. الحسين بن روح النوبختي

روى الشيخ الطوسي بسنده عن أبي عبداللّه جعفر بن محمد المدائني المعروف بابن قزدا، قال: كان من رسمي إذا حملت المال الّذي في يدي إلى

ص:454


1- . الغيبة للطوسي: 355-356، برقم 317؛ بحار الأنوار: 51/345.
2- . الغيبة للطوسي: 366، برقم 334.

الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري قدس سره أن أقول له ما لم يكن أحد يستقبله بمثله: هذا المال ومبلغه كذا وكذا للإمام عليه السلام، فيقول لي: نعم دعه فأراجعه، فأقول له: تقول لي: إنّه للإمام ؟ فيقول: نعم للإمام عليه السلام فيقبضه.

فصرت إليه آخر عهدي به قدس سره ومعي أربعمائة دينار، فقلت له على رسمي، فقال لي: امض بها إلى الحسين بن روح، فتوقفت فقلت: تقبضها أنت مني على الرّسم ؟ فردّ علي كالمنكر لقولي وقال: قم عافاك اللّه فادفعها إلى الحسين بن روح. إلى أن قال: فعدت إلى أبي القاسم بن روح وهو في دار ضيّقة فعرّفته ما جرى فسرّ به وشكر اللّه عزوجل ودفعت إليه الدنانير، وما زلت أحمل إليه ما يحصل في يدي بعد ذلك (من الدنانير).(1)

إن هؤلاء كانوا وكلاء أئمة أهل البيت عليهم السلام وقد حفظ التاريخ أسماء وأحوال قليل منهم، فإن طبيعة الحال تقتضي أن يكون جهاز الوكالة أوسع من ذلك، وقد عرفت وجوده من عصر الإمام الحسن المجتبى إلى نهاية الغيبة الصغرى، فهل يجتمع ذلك مع تحليل الفريضة المالية المسماة ب «الخمس» في عامة الظروف والاحوال ؟

ص:455


1- . الغيبة للطوسي: 367-368، برقم 335؛ بحار الأنوار: 51/352.

الفصل الرابع فريضة الخمس وتولّي الفقيه

اشارة

قد تبين من الفصل السابق وجوب الخمس في الأنواع السبعة، وأن شيعة أهل البيت عليهم السلام كانوا يدفعون تلك الفريضة إلى أئمتهم أو إلى وكلائهم عبر قرون، إنّما الكلام في وجوب دفعه إلى المرجع الديني في عصر الغيبة، وهذا هوالّذي أقلق الكاتب، وجعله محور البحث في كتيِّبه. ومن المعلوم أن وراء تلك الكلمة سياسة مُغرضة، ترمي إلى تضعيف المرجعية ومن ثم تضعيف الشيعة، لأن القائم بأُمور الدين والدنيا في عصر الغيبة هم الفقهاء الذين هم أُمناء الأمة وزعماء الدين، والزعامة تتوقف على إمكانات مالية تُيسِّر إنجاز مسؤولياتها حيال الفرد والمجتمع.

وبما ان هذا الأمر صار هو الهدف الأصلي للكاتب وأسياده، فهو يركّز عليه أكثر من كل شيء، ويثير الشكوك حوله، ويقول بانّه لا دليل على وجوب إعطاء الخمس للفقيه، وليس المهم عنده إخراج الخمس أو عدم اخراجه، بل ما يهمّه هو عدم وجوب إعطائه للفقيه.

وبما أن المؤلف بعيد عن دراسة الفقه الإمامي، فلذا زعم أن المسألة تفقد الدليل. وإليك - عزيزي القارئ - البيان:

يقسم الخمس إلى ستة أسهم:

سهم للّه سبحانه، وسهم للنبي صلى الله عليه و آله و سلم، وسهم للإمام عليه السلام، فما كان للّه وللرسول فهو للإمام الحيّ .

وثلاثة أسهم أُخرى هي للأيتام والمساكين وأبناء السبيل، من الهاشميين.

ص:456

وقد اختلفت كلمات الفقهاء في النصف الأخير أعني ما يصرف في مورد الأيتام والمساكين وابن السبيل، بعد اتفاقهم على وجوب صرف سهامهم عليهم في عصر الغيبة، فقال بعضهم بأنّه يجوز للمالك دفعها إليهم بنفسه.

غير أن قسماً من الفقهاء قالوا بأن الأحوط فيه أيضاً الدفع إلى المجتهد أو بإذنه، لأنّه أعرف بمواقعه والمرجِّحات التي ينبغي ملاحظتها. وسيوافيك أنّ مقتضى الأدلّة تولّي نائب الإمام ذلك، فانتظر.

هذا كله في النصف الثاني، وأما النصف الأوّل فالمشهور هو دفعه إلى المرجع الديني، وهذا هو الّذي أثار حفيظة الكاتب، وأصر مؤكِدّاً أنّه لا دليل على دفعه إلى الفقيه.

وأكثر ما عنده من الدليل أن الشيخ المفيد وتلميذه الشيخ الطوسي لم يذكرا ذلك، ولو كان دفعُ هذه الأسهم الثلاثة إلى الفقيه أمراً لازماً لنبّها عليه.

يلاحظ عليه: أوّلاً: بأنّه كيف جعل قول الشيخين دليلاً على المدّعى ولم يعتد بفتوى الآخرين الذين جاءوا بعدهما وأقاموا صرح الفقه وأكملوه. وما هذا إلّا لأن ما استنتجه من قول العلمين موافق لرأيه وفكره، ولذلك اهتم برأيهما ولم يعتد بالآخرين.

ثانياً: ان استنتاجه من كلام العلمين غير صحيح جدّاً، حيث مرّ على كلامهما مروراً عابراً، أو اعتمد في ذلك على نقل الآخرين.

فأما الشيخ المفيد، فقد اختار في نصيب الإمام الإيصاء إلى من يثق به إلى أن يظهر الإمام، ولم يقل بصرفه في مورد. وإليك نص عبارته: وبعضهم يرى عزله لصاحب الأمر عليه السلام، فإن خشي إدراك المنيّة قبل ظهوره، وصّى به إلى من يثق به في عقله وديانته، ليسلِّمه إلى الإمام عليه السلام إن أدرك قيامه، وإلّا وصّى به إلى من يقوم مقامه في الثقة والديانة. ثم على هذا الشرط إلى أن يظهر إمام الزمان عليه السلام.

ص:457

و قال: هذا القول عندي أوضح من جميع ما تقدم. إلى أن قال: فوجب حفظه عليه إلى وقت إيابه، أو التمكن من إيصاله إليه.(1)

ترى أن الشيخ المفيد أفتى بالحفظ لا بالصرف، ومع هذا لا يبقى موضوع للدفع إلى الفقيه أو إلى غيره، حتّى يتخذ عدم ذكره دليلاً على عدم لزومه.

أفيصحّ بعد هذا عدّ الشيخ المفيد ممن لا يعتبر لزوم الإعطاء للفقيه ؟

وبعبارة أُخرى: إن كلامنا على القول بعدم سقوط سهم الإمام ولزوم صرفه، فعلى هذا الأصل يقع الكلام في لزوم الدفع إلى الفقيه وعدمه، وأما إذا كان القائل قد اختار لزوم الحفظ فلا يبقى موضوع للبحث والاستناد إلى كلامه.

ومنه يظهر مقصود الشيخ الطوسي حيث إنّه اختار أحد الأمرين، الدفع أو الوصاية حيث قال: ولو أن إنساناً استعمل الاحتياط، وعمل على أحد الأقوال المتقدم ذكرها من الدفن أو الوصاة، لم يكن مأثوماً.(2)

ترى أن الشيخ اختار مذهب أُستاذه بوجه أوسع، حيث ضمّ الدفن إلى الوصاية، ومعه لا يبقى موضوع للبحث عن وجوب دفعه إلى الفقيه، أو تولي صاحب المال تقسيمه بنفسه.

وأنت ترى التمويه وإسدال الستر على الحقائق لإثبات مطلبه، حيث استدل بكلام العلَمين على ضد المشهور عند الإمامية، مع أن كلامهما خارج عن موضوع البحث.

إذا عرفت ذلك، نقول: إن فطاحل الشيعة وفقهاءهم الذين يرون صرف الخمس في محاله من غير فرق بين سهم السادة وسهم الإمام، يُصرّون على وجوب دفعه إلى الفقيه، خصوصاً فيما يرجع إلى سهم الإمام، وإن كان الأمر في

ص:458


1- . المقنعة: 286.
2- . النهاية: 201.

سهم السادة أسهل في نظر بعضهم، وها نحن نذكر بعض مَنْ وقفنا عليه فإن الاستقصاء يورث الملل:

1. قال أبو الصلاح (374-447 ه) يجب حمل الزكاة والخمس إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبله تعالى أو إلى من ينصبه لقبض ذلك من شيعته ليضعه في مواضعه فإنْ تعذّر الأمران فإلى الفقيه المأمون(1).

2. يقول ابن حمزة (المتوفّى حوالي 550 ه): الرابع: أن يكون إلى الإمام ان كان حاضراً، وإلى من وجب عليه الخمس إن كان الإمام غائباً وعرف صاحبه المستحق وأحسن القسمة (فبها) وإن دفع إلى بعض الفقهاء الديانين ليتولى القسمة كان أفضل، وإن لم يحسن القسمة وجب عليه أن يدفع إلى من يحسن القسمة من أهل العلم بالفقه.(2)

ولعل كلامه ظاهر في مجموع السهام لا في خصوص نصيب الإمام.

3. وقال المحقّق الحلّي (602-676 ه) في الشرائع: يجب أن يتولى صرف حصة الإمام - في الأصناف الموجودين - مَنْ إليه الحكم بحق النيابة، كما يتولّى أداء ما يجب على الغائب(3).

4. وقال العلّامة الحلّي (648-726 ه) في القواعد: ومع حضوره عليه السلام يجب دفع الخمس إليه، ومع الغيبة يتخيّر المكلّف بين الحفظ بالوصية إلى أن يسلّم إليه، وبين صرف النصف إلى أربابه وحفظ الباقي، وبين قسمة حقّه على الأصناف، وإنّما يتولّى قسمة حقه عليه السلام الحاكم.(4)

5. وقال في التحرير: الثامن: يجب أن يتولى صرف حصة الإمام في

ص:459


1- . الكافي: 172. ونقله الشهيد عنه في البيان: 200.
2- . الوسيلة: 137.
3- . شرائع الإسلام: 1/138.
4- . قواعد الاحكام: 1/365.

الأصناف الموجودين مَن إليه الحكم بحق النيابة، كما يتولّى أداء ما يجب على الغائب.(1)

فالمحقّق والعلّامة قائلان بوجوب صرف سهم السادة في أنفسهم، وصرف سهم الإمام في تلك الأصناف أيضاً، إلّاأن المتولّي في الصرف هو من إليه الحكم» وفسر «من له الحكم» في المختلف بالفقيه المأمون الجامع لشرائط الفتوى والحكم، فإنْ تولّى ذلك غيره كان ضامناً.(2)

6. وقال الشهيد الأوّل، محمد بن مكّي العامليّ (734-786 ه) في الدروس: والأقرب صرف نصيب الأصناف عليهم والتخيير في نصيب الإمام بين الدفن والايصاء، وصلة الأصناف مع الإعواز بإذن نائب الغيبة، وهو الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى.(3)

إن الشهيد وسّع الأمر في نصيب الإمام، وضمّ إلى الدفن والإيصاء، الصرف في الأصناف الثلاثة مع إعوازهم، وجعل المتولي هو الفقيه.

7. وقال ابن فهد الحليّ (المتوفّى 841 ه): وفي حال الغيبة يصرف النصف إلى مستحقه ويصرف مستحقه عليه السلام إلى الأصناف مع قصور كفايتهم ويتولّى ذلك الفقيه.(4)

8. وقال المحقّق الثاني، عبدالعالي الكركيّ (المتوفّى 940 ه): «وإنّما يتولّى قسمة حقّه عليه السلام الحاكم.(5)

9. وقال الشهيد الثاني، زين الدين بن علي العاملي (المتوفّى 966 ه):

وليس له - صاحب المال - أن يتولّى إخراجه بنفسه إلى الاصناف مطلقاً، ولا لغير

ص:460


1- . تحرير الاحكام: 1/445.
2- . المختلف: 3/354-355.
3- . الدروس: 1/206.
4- . الرسائل العشر: 184.
5- . جامع المقاصد: 3/56.

الحاكم الشرعي، فإن تولاه غيره ضمن.(1)

10. وقال العلّامة المجلسي (المتوفّى 1110 ه) في زاد المعاد: وأكثر العلماء قد صرّحوا بأنّ صاحب الخمس لو تولّى دفع حصّة الإمام عليه السلام لم تبرأ ذمّته، بل يجب عليه دفعها إلى العالم المحدث العادل، وظنيّ أنّ هذا الحكم جار في جميع الخمس.(2)

11. وقال المحقّق أحمد النراقي (المتوفّى 1245 ه): لا تشترط مباشرة النائب العام - وهو الفقيه العدل - ولا إذنه في تقسيم نصف الأصناف على الحق للأصل خلافاً لبعضهم فاشترط ونسبه بعض الأجلة إلى المشهور.

وهل تشترط مباشرته (الفقيه) في تقسيم نصيب الإمام كما هو صريح جماعة، أم لا؟ والحق هو الأوّل، إذ قد عرفت أن المناط في الحكم بالتقسيم هو الإذن المعلوم بشاهد الحال، وثبوته عند من يجوّز التقسيم، إجماعيّ ولغيره غير معلوم، لاسيّما مع اشتهار عدم جواز توليّ الغير، بل الإجماع على عدم جواز تولية التصرف في المال الغائب، الّذي هذا أيضاً منه، خصوصاً مع وجود النائب العام، الّذي هو أعرف بأحكام التقسيم وأبصر بمواقعه.(3)

12. وقال السيد محمد كاظم الطباطبائي (المتوفّى 1337 ه) في العروة:

الأحوط الدفع إلى المجتهد أو بإذنه؛ لأنّه اعرف بمواقعه والمرجِّحات التي ينبغي ملاحظتها.(4)

إلى غير ذلك من الكلمات الدالة على لزوم دفع نصيب الإمام، أو كله إلى

ص:461


1- . الروضة البهية: 2/79.
2- . الحدائق الناضرة: 12/468؛ جواهر الكلام: 16/178.
3- . مستند الشيعة: 10/136.
4- . العروة الوثقى: 447، الفصل الثاني من كتاب الخمس، المسألة 7.

الحاكم، والمهم هو بيان الدليل عليه.

بيان ما يدل على تولّي الفقيه

1. إن الخمس في عامة الأنواع ليس ملكاً شخصياً للرسول أو الإمام، وإنّما هو ملك للمنصب الّذي يتقلده الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والإمام عليه السلام من بعده، وبعبارة أُخرى هو ملك لمقام الإمامة والزعامة، التي يتقلدها الأئمة واحداً بعد الآخر، ويدل على ذلك صحيح أبي علي بن راشد، قال: قلت لأبي الحسن الثالث عليه السلام:

إنا نؤتى بالشيء فيقال هذا كان لأبي جعفر عليه السلام عندنا فكيف نصنع ؟ فقال: «ما كان لأبي عليه السلام بسبب الإمامة فهو لي، وما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب اللّه وسنّة نبيّه»(1).

فإذا كان الخمس راجعاً لمقام الإمامة، وهو أمر غير قابل للتعطيل، فإن من يقوم مقام الإمامة ويشغل هذا المنصب - يكون نائباً عنه في شؤون الإمامة كافة، ومنها ما يتعلق بالخمس. وليس إلّاالفقيه العارف بالكتاب والسنة.

انّ تعطيل ما يرجع إلى شؤون الإمامة يؤدي إلى محق الدين وذهاب الشريعة، فإنّ الإمام وإن غاب لكن وظائف الإمامة ليست منقطعة عن الأُمّة، ففرض التعليم، ونشر الدين، ومكافحة البدع، وإرشاد الناشئة إلى الحق المبين، وصيانتهم من تأثير التيارات الإلحادية والفلسفات المادية، كلّ ذلك من وظائف الإمامة المستمرة والّتي قوامها بذل المال في سبيل تحقق هذه الأهداف.

إن الأموال في عصر الحضور كانت تجلب إلى الأئمة عليهم السلام، بما أنّهم كانوا هم القائمين بوظائف الإمامة في عصرهم، فمقتضى نيابة الفقهاء كونه كذلك في غيبتهم، واحتمال اختصاص ذلك بعصر الحضور ينافي القول

ص:462


1- . الوسائل: 6، الباب 2 من أبواب الأنفال، الحديث 6.

باستمرار وظائف الإمامة وإن انقطعت.

2. إن تولّي أرباب الأموال تقسيم الخمس بأنفسهم يستلزم الهرج، من دون أن يصرف المال في مواقعه الصحيحة والتي تصب في صالح وظائف الإمامة.

3. إن الإمام الصادق عليه السلام جعل الفقيه العارف بأحكام اللّه الناظر في الحلال والحرام حاكماً على الشيعة، وقال: «ينظران [إلى] من كان منكم ممّن روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا ردَّ، والرادّ علينا رادٌّ على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه».(1)

لقد نصب الإمام الصادق عليه السلام، الفقيه حاكماً، نظير الحكام المنصوبين من جانب الخلفاء، ومن الواضح أن الفرائض المالية كالزكاة والخمس والخراج كانت بيد حكامهم، فكل شيء كان أمره بيد الحاكم في الخلافة العباسية، فهو بيد الفقيه لتنزيله منزلة الحاكم عندهم، فيدل الحديث بمقتضى عموم التنزيل ان الفرائض المالية بيد الفقهاء الأمناء على الدين والدنيا.

4. نفترض أنّه ليس هناك دليل على دفع الخمس أو نصفه إلى الفقيه القائم بأُمور المجتمع، وعلى ذلك فيدور الأمر بين صرف كل شخص سهم الإمام وسهم السادة في مصارفهما، وبين دفعه إلى المجتهد القائم بأُمور المجتمع ليصرفه في مظانه.

فأيهما أقرب إلى الصواب ؟

5. ان صرف الفرائض المالية يُتصوّر على وجوه ثلاثة:

ص:463


1- . أُصول الكافي: 1/121، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.

أ. دفعها إلى الملوك والأمراء ليصرفوها كما شاءوا.

ب. صرفها من قبل المكلّف نفسه في الموارد المذكورة.

ج. دفعها إلى الفقيه التقي، الّذي تقلد زعامة الأُمّة وتدبير أُمورها.

فأي هذه الوجوه يقبله العقل الحصيف.

يقول المحقّق أحمد النراقي: لاشكّ أن مع وجود أمين الشخص وخليفته وحجّته والحاكم من جانبه ووارثه، الأعلم بمصالح أمواله، والأبصر بمواقع صرفه، الأبعد عن الأغراض، الأعدل في التقسيم ولو ظناً، لا يعلم الإذن - إذن الإمام الغائب - في تصرف الغيرومباشرته، فلا يكون جائزاً.

نعم لو تعذر الوصول إلى الفقيه جاز تولي المالك، كما استظهره بعض المتأخرين، وزاد: أو تعسّر.(1)

6. أنّ كل من يقول بجواز صرف الفريضة المالية في مظانها مباشرة، من دون أن يكون هناك جهاز عام ينجز هذا الأمر، قد نظر إلى الإسلام نظرة قاصرة، فإن الإسلام دين عالمي، وما هوكذلك فلابد أن يكون متكامل الأركان، ومن أركانه المهمة وجود القدرة المالية لدى الحاكم، ليستطيع من خلالها القيام بمسؤولياته الهامة تجاه المجتمع الإسلامي، وليس هو عند الشيعة سوى الفقيه.

إن المسؤولية ليست منحصرة في دفع عيلة الفقير والمسكين وابن السبيل من الهاشميين، حتّى يقوم كل بواجبه بل المسؤولية الكبرى هي الالتفات إلى كافة الجوانب المتعلقة بتقدم المجتمع ورفاهه، فالمجتمعات تحتاج إلى جامعات ومدارس ومراكز أبحاث ومستشفيات ومصانع ومؤسّسات إدارية وخَدَمية، وغير ذلك، وتحقيق هذه الأُمور رهن توفر إمكانات مادية كبيرة، ومنها

ص:464


1- . مستند الشيعة: 10/136.

نصيب الخمس الراجع إلى منصب الإمامة.

7. الأمر دائر بين التعيين والتخيير، فإما أن يكون الدفع إلى الفقيه أمراً متعيِّناً أو يكون صاحب المال مخيّراً بين دفعه إليه وبين صرفه بنفسه في الموارد المذكورة، وفي مثله يحكم العقل بالأول، لأن فيه الامتثال القطعي بخلاف الثاني فالامتثال فيه محتمل، فإذا دار الأمر بين الامتثالين، فالقطعي هو المتعيّن.

وبذلك تظهر ضآلة ما ذكره مؤلف الكتيب إذ يقول: إن دفع الخمس إلى الإمام أمر مستحب، فكيف ارتقت درجة أدائه إلى الفقيه فصار الدفع إلى الفقيه أمراً واجباً، فكيف تغير الحكم وارتفع من درجة الاستحباب إلى الوجوب ؟(1)

أقول: ان دفع الخمس إلى الإمام كان أمراً واجباً وبقي على وجوبه إلى زماننا هذا ولم يتبدل إلى الاستحباب، وأما كون الدفع إلى الفقيه واجباً فإنّماهو مقتضى كونه نائباً عنه، فمقتضى المنطق ان يكون حكم الدفع إليهما على نحو سواء، فلو كان الدفع إلى الفقيه أمراً مستحباً لانتقض المنطق.

بانت الحقيقة بأجلى صورها

لقد ظهر ممّا ذكرنا أن الخمس فريضة مالية يتولاها الإمام في حياته، ونائبه في غيبته، وقد ثبتت نيابة الفقيه عن الإمام في غيبته في ما يرجع إلى وظائف الإمامة، فإن الإمامة وإن انقطعت ولكن الوظائف بعده مستمرة، فالقائم بها هو الفقيه.

فكما أنهم عليهم السلام يتولَّونه في حال حضورهم، فإن نوّابهم من الفقهاء يتولّونه عند الغيبة.

وأما ما نقل عن القدماء من الدفن أو الايصاء إلى من يثق به، فإن كل ذلك

ص:465


1- . الخمس جزية العصر: 10.

كان مبنياً على أن الإمام الغائب عليه السلام سيظهر قريباً، فلذلك أفتوا بهذين الأمرين، ولو كانوا واقفين على أنّه ستطول غيبته لما أفتوا بذلك.

وبذلك يُعلم أن فتوى كل من المفيد والطوسي بالوصاية أو الدفن كانت مبنية على تلك الفكرة، ولذلك توقفا عن صرف نصيب الإمام، ولو كانا شاهدين لما نشاهد، لما أفتيا بذلك.

وأما إفتاء كثير من العلماء بتولّي صاحب المال تقسيم نصيب السادة عليهم، فذلك مبنيّ على زعم أنّه فريضة فردية، وليس راجعاً إلى منصب الإمامة، وأمّا على ما ذكرنا فلا فرق بين نصيب السادة ونصيب الإمام حسب رواية أبي علي بن راشد(1) في أن المتولي هو الإمام أو من يقوم مقامه.

وإذا كان المؤلف يعتمد على قول الشيخ الطوسي، فلينظر إلى قوله فيمن يقول بالتحليل، حيث قال قدس سره: وأما التصرف فيه على ما تضمنه القول الأوّل (الترخيص لشيعتهم التصرف في حقوقهم ممّا تعلق بالأخماس وغيرها) فهو ضدّ الاحتياط، والأولى اجتنابه حسب ما قدمناه.(2)

ص:466


1- . لاحظ: الوسائل: 6، الباب 2 من أبواب الأنفال، الحديث 6.
2- . النهاية: 201.

الفصل الخامس دراسة نقدية للكتاب

اشارة

إن كتاب «الخمس جزية العصر»، قد نُشر لغايات سياسية لا علمية، إذ لم يكن الكاتب مؤهّلاً للخوض في هذه المسائل، وإنّما جمعه من كتابين لشخصين خرجا عن المنهج السليم في البحث العلمي:

أحدهما: «الشيعة والتصحيح» لموسى الموسوي(1).

الثاني: «تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه» لأحمد الكاتب.

وقد اعتمد على ذينك الكتابين في تأليف هذه الرسالة اعتماداً كاملاً، كما اعتمد على قضائهما في مورد الخمس ومصارفه وأدلته.

ولعلّ المؤلف لا يعرف بُعد هذين الكاتبين عن الموضوعية والحياد في البحث العلميّ ، ولايعرف نَزَعاتهما، ولا منزلتهما عند الشيعة.

وسنخصّص هذا الفصل لتشريح الكتاب وبيان خصوصياته، حتّى تقف عزيزي القارئ - على أخطائه وأوهامه، ومواطن ضعفه، وتهافُت أفكاره، بعون اللّه تعالى، ويقع ذلك ضمن أُمور:

***

ص:467


1- . ولا ندري من أين استعار صاحب الكتاب لقب الدكتوراه للمؤلف ووصفه به عند ذكر المصادر.
الأوّل: افتراؤه على السيد محمد الصدر

ذكر المؤلف أنّ السيد الشهيد محمد الصدر قدس سره قد ذكر صدر الحديثين ولم يذكر ذيلهما، وقد اتهمه بأنّه بتر الحديثين لأجل أن الصدر ينفعه دون الذيل.

أقول: ما ذكره سوء ظن بعالم كبير، وقف نفسه لإصلاح الأُمّة حتّى استشهد في سبيل ذلك، لأن تقطيع الحديث أمر رائج بين الفقهاء حيث إنّه يأتي بما له صلة بمقصوده.

ثم إنّه اتهمه بتهمة أشنع، وهي اختراع روايتين وليس منهما أثر في المصادر الروائية القديمة الأربعة.(1)

أقول: فمن جانب يتهم السيد الشهيد باختراع الحديث ومن جانب يقول:

«لم أجد...»، كأن عدم وجدانه دليل على العدم!! ثم إنّ المصادر غير منحصرة بالقديمة فقط. وإليك نص الروايتين مع الإشارة إلى مصادرهما:

1. «من أكل من مالنا شيئاً فإنّما يأكل في بطنه ناراً وسيصلى سعيراً».(2)

2. «لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين على كل من أكل من مالنا درهماً حراماً».(3)

«ما هكذا تورد ياسعد الابل».

***

ص:468


1- . الخمس جزية العصر: 41.
2- . الوسائل: 6، الباب 3 من أبواب الأنفال، الحديث 7. وراجع: كمال الدين للصدوق: 522؛ الاحتجاج للطبرسي: 479.
3- . الوسائل: 6، الباب 3 من أبواب الأنفال، الحديث 8. وراجع: كمال الدين: 522 برقم 51؛ الاحتجاج: 480.
الثاني: تحريفه لكلام الشيخ الطوسي

ربّما يظنّ القارئ أن ما نسبه إلى الشهيد الصدر كان هفوة أو زلّة قلم، ولم يكن عن قصد وعنادٍ، ولكنه عندما يصل إلى ما نسبه إلى الشيخ الطوسي من الرأي الساقط ثمّ يقارنه بفتوى السيد الخوئي ويحكم بأن بين الرأيين بوناً شاسعاً واختلافاً غير قابل للجمع، ولكنه عندما يصل إلى ذلك يذعن بأن الأول كالثاني نابع عن الجهل بالواقع أو سوء الفهم. وإليك البيان.

لقد نسب إلى الشيخ الطوسي الرأي التالي:

يقسِّم الطوسي الخمس قسمين:

قسم مصدره مكاسب وأرباح التجارات والمساكن والمناكح، يختار هو إباحته وإسقاطه.

والقسم الآخر هو الّذي يرد ممّا تبقّى من أنواع المال والكنوز وغيرها كما يعبّر الطوسي، وهذا يرجّح قسمته أيضاً نصفين، والنصف الّذي هو حق الإمام لا يجيز التصرف به لأيّ كان، بل إما يدفن أو يوصى به والنصف الآخر هو لبني هاشم: أيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم، مرجعه إلى المالك مع ترجيح قسمته عليهم من قبله».

أقول: إنّه ارتكب في كلامه خطأين:

الأوّل: إن الشيخ أفتى بحلِّيّة التصرف في المناكح والمتاجر والمساكن فقط، ومراده من المناكح الإماء والسراري التي يغنمها الغزاة، كما أن مراده من المتاجر الأموال والأمتعة التي يستولي عليها المجاهدون ثم تتداول في أيدي الناس ومنهم الشيعة، ولا يريد بها أرباح المكاسب. ومراده من المساكن الأنفال، كالمملوكة بغير قتال وغيرها.

والّذي يدلّ على ذلك أنّه ذكر إباحة الخمس في الأُمور الثلاثة في ذيل

ص:469

القتال والجهاد، وقال: فإذا قاتل قوم أهل حرب من غير أمر الإمام فغنموا كانت غنيمتهم للإمام خاصّة دون غيره، وليس لأحد أن يتصرّف في ما يستحقّه الإمام من الأنفال والأخماس إلّابإذنه، فمن تصرَّف في شيء من ذلك، كان عاصياً...

إلى أن قال: هذا في حال ظهور الإمام، وأما في حال الغيبة فقد رخّصوا لشيعتم التصرُّف في حقوقهم ممّا يتعلق بالأخماس وغيرها فيما لابد لهم منه من المناكح والمتاجر والمساكن، فأمّا ما عدا ذلك فلا يجوز له التصرف فيه على حالٍ .(1)

فنلفت نظر القارئ إلى الأُمور التالية:

1. إن مصبّ البحث في كلامه الغنائم الحربية، فلو كان هناك استثناء وإباحة فإنما يرجع إليها أو إلى ما يناسبها كالأنفال في المساكن.

2. إن الشيخ الطوسي وصف المستثنى من الخمس - أعني المناكح والمتاجر والمساكن - بقوله: «ممّا لابد لهم منه»، وهو أقوى قرينة على ما ذكرنا، حيث إن الشيعة كان يعيشون مع إخوانهم السنة جنباً إلى جنب، فلم يكن لهم بدّ من شراء الإماء أو الأمتعة المغنومة، غير المخمّسة، فأين هذا من إباحة أرباح المكاسب والمتاجر التي يمارسها الشيعة أنفسهم ؟

وبما أن الكاتب كان جاهلاً بالمصطلح، وضع مكان «المتاجر» في عبارة الشيخ لفظة «مكاسب وأرباح التجارات». وقد فسر غير واحد من فقهاء الشيعة المصطلحات الثلاثة في كتبهم:

يقول المحقّق الحلّي: ثبتت إباحة المناكح والمساكن والمتاجر في حال الغيبة.

ويقول الشهيد الثاني: المراد بالمناكح السراري المغنومة من أهل الحرب

ص:470


1- . النهاية: 200.

في حال الغيبة، فإنّه يباح لنا شراؤها وإن كانت بأجمعها للإمام، أو بعضها على القول الآخر.

والمراد بالمساكن، ما يتخذه منه في الاراضي المختصة به عليه السلام كالمملوكة بغير قتال ورؤوس الجبال.

والمراد ب «المتاجر» ما يشترى من الغنائم المأخوذة في الحرب حالة الغيبة أو ما يشترى ممن لا يعتقد الخمس.(1)

وممّا يدل على ذلك هو أن الشيخ بعد مافرغ من حليّة الموضوعات الثلاثة بدأ الكلام في غيرها، وقال: «وما يستحقونه من الأخماس، في الكنوز وغيرها في حال الغيبة، فقد اختلف قول أصحابنا فيه».

ومراده «من غيرها» هو ما ذكره في أوّل الفصل الّذي عقده باسم «باب الخمس والغنائم» وقال: الخمس واجب في جميع ما يغنمه الإنسان، ثم عدّ منها:

1. الغنائم أي كل ما يؤخذ بالسيف من أهل الحرب.

2. أرباح التجارات والزراعات.

3. الكنوز المُدَّخرة.

4. الذميّ إذا اشترى من المسلم أرضاً.

إلى غير ذلك ممّا ورد في كلامه.(2)

الثاني: ما قاله من أنّه لم يورد ذكر الفقيه في كل تفاصيل الفتوى أبداً، بل صرح الشيخ الطوسي ان المتولّي لذلك ليس بظاهر.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أن قول الشيخ الطوسي: «إن المتولي لذلك ليس

ص:471


1- . مسالك الأفهام: 1/475-476.
2- . النهاية: 196-198.

بظاهر» راجع إلى النصف الآخر الّذي هو لبني هاشم فقط، ويشهد على ذلك قوله: «لأن هذه الثلاثة أقسام مستحقها ظاهر، وإن كان المتولّي لتفريق ذلك فيهم ليس بظاهر». فتوسيع كلامه إلى مطلق النصفين خطأ ظاهر.

وثانياً: أنّه لم يذكر الفقيه في النصف الأوّل، لأجل انّه اختار فيه الدفن أو الإيداع، ومعه لايبقى موضوع لذكر الفقيه، فإن تولّي الفقيه مبني على القول بصرفه في مظانه، وأما على القول بعدم الصرف، فلايكون وجه لذكر الفقيه وعدمه.

وبذلك يظهر أن ما صوّره من الجدول وقارن فيه بين فتوى الشيخ الطوسي وبين فتوى السيد الخوئي، مستنتجاً مخالفتهما، مبنيٌّ على استنتاجاته الخاطئة من كلام الطوسي، وبذلك ذهبت جهوده في الجدول سدىً ، ولا حاجة للتفصيل.

وأمّا قوله في آخر الجدول: «لاحظ أنّ فتوى الخوئي مخالفة جملة وتفصيلاً لفتوى الشيخ الطوسي» فليس بشيء، والمخالفة الجزئية بين الفقهاء أمر رائج.

***

الثالث: «حقائق ثمانية» أو انطباعات خاطئة ؟!
اشارة

قدّم الكاتب في ديباجة كتابه أُموراً ثمانية زعم أنّه اكتشفها بعد ما كانت خافية عن أنظار العالمين، وكأنّه يتبجّح بذلك، وها نحن نذكر خلاصة تلك الحقائق!!! حتّى يثمنها القارئ:

1. أنّ أداء خمس المكاسب إلى الفقيه لا يستند إلى أي دليل ولا أصل له بتاتاً في أي مصدر من المصادر الحديثية الشيعية المعتمدة.

ص:472

2. أنّ كثيراً من النصوص الواردة عن الأئمة تُسقط الخمس عن الشيعة وتبيحه لهم، خصوصاً في زمن الغيبة.

3. أنّ هذه النصوص تجعل حكم أداء الخمس للإمام نفسه في حال حضوره الاستحباب أو التخيير بين الأداء وتركه، وليس الوجوب.

4. أنّ أحداً من علماء المذهب الأقدمين لم يذكر قط مسألة إعطاء الخمس للفقهاء.

5. أنّ حكم أداء الخمس إلى الإمام في كثير من الروايات المعتبرة الاستحباب، وصار أداؤه إلى الفقيه واجباً.

6. أنّ الخمس في أصل تكوينه يقسم إلى قسمين: النصف الأوّل حق اللّه تعالى ورسوله وذي القربى، وامّا النصف الآخر، فهو لليتامى والمساكين وابن السبيل، إلّاأن الواقع المشاهد أن الفقيه يأخذ الخمس كلّه.

7. أنّ نصف الخمس لفقراء بني هاشم لا للأغنياء، فما يفعله هؤلاء (الأغنياء) من أخذ الأموال باسم الخمس باطل.

8. أنّ إخراج الخمس وإعطاؤه للفقهاء لا يستند إلى أي نص.

فلندرس تلك الحقائق الهامة التي أخذ الكاتب يركز عليها ويناور بها وهي في الحقيقة أمّا ادعاءات متكررة أو متناقضة أو انطباعات خاطئة.

أمّا الأوّل: أعني التكرار، فالحقيقة الأُولى، والثامنة، وهكذا الرابعة، كلّها في الواقع ادعاء واحد، وهو عدم الدليل على إعطاء الخمس للفقيه، غاية الأمر يدّعي في الأُولى والثامنة عدم الدليل في الكتاب والسنة، وفي الرابعة عدم الفتوى بين الأقدمين، ومرجع الجميع واحد.

أمّا الثاني: أعني التناقض فيدّعي في الحقيقة الثانية سقوط الخمس عن الشيعة، ولكنه في الحقيقة السادسة يسلّم بوجوب الخمس، وأنه يقسم قسمين:

ص:473

الصنف الأوّل ورسوله وذي القربى، والنصف الآخر لبني هاشم: أيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم، ولكنه يعترض على أداءه للفقيه، الّذي يأخذ - في زعمه - الكل دون مراعاة هذه القسمة. وهذا هو نفس التناقض.

وأمّا الثالث: أعني انطباعاته الخاطئة، فنذكرها واحداً بعد الآخر:

1. عدم الدليل على إعطاء الخمس للفقيه

إن الرسالة تهدف إلى التشكيك في صلاحية الفقيه لأخذ الخمس، وهو قلِق من هذا الموضوع، ونحن نلفت نظره إلى الفصل الثاني، حيث ذكرنا دلائل وجوب إعطائه للفقيه تحت عنوان «بيان ما يدلّ على تولّي الفقيه».

2. خلوّ القرآن والسنة عن ذكر الخمس

يذكر هو في الحقيقة الثانية سقوط الخمس عن الشيعة، ولكن في ثنايا الكتاب ينكر وجوب الخمس في الشريعة الإسلامية المقدسة ويقول: لقد خلا القرآن الكريم وخلت سنة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وسيرته وكذلك سيرة الخلفاء الراشدين وغيرهم من حكام المسلمين من ذكر «الخمس» ولم نجد في تاريخ الإسلام ولا غيره ضريبة كانت تفرض على أموال الناس وتجاراتهم بهذا القدر.(1)

كبرت كلمة تخرج من افواههم، وكأنه لم يقرع سمعه قوله سبحانه:

(وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ ...) (2).

أو لم يقرأ شيئاً من أحاديث الرسول حيث قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الركاز الخمس.(3)

ص:474


1- . الخمس جزية العصر: 81.
2- . الانفال: 41.
3- . مسند أحمد: 1/314؛ سنن ابن ماجة: 20/839، طبعة 1373 ه.

وقوله صلى الله عليه و آله و سلم (لما وفد إليه عبدالقيس وقالوا: إن بيننا وبينك المشركين وإنا لا نصل إليك إلّافي الأشهر الحرم فمرنا بجمل الأمر): آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع. ثم ذكر الأربع بقوله: شهادة أن لا إله إلّااللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتعطوا الخمس من المغنم. وقلنا في محله إن المراد مطلق ما يفوز به الإنسان.

أليس من الصلافة، قوله: لقد خلا القرآن الكريم وخلت سنة النبي وسيرته وكذلك سيرة الخلفاء الراشدين وغيرهم من حكّام المسلمين من ذكر الخمس.(1)

3. ارتقاء الحكم من الاستحباب إلى الوجوب

يذكر في الحقيقة الخامسة أن أداء الخمس في كثير من الروايات المعتبرة إلى الإمام نفسه مستحب، ولكنه ارتقت درجة أدائه إلى الفقيه فصار واجباً!!

يلاحظ عليه: بأن ما ذكره كلام شعري يستحسنه ذوقه وشعوره، فإن حكم الخمس لم يزل واجباً ولم يتبدل حكمه إلى الآن وبقي اداؤه إلى الفقيه على الحكم السابق، وأمّا الترخيص للشيعة فقد عرفت أنّه بين ما لا يمتّ إلى الخمس المصطلح (ارباح المكاسب) بصلة، أو ما يرجع إليه ولكنه أُحلّ لهم بسبب الظروف القاسية، التي كان إيصاله فيها إلى الإمام ينجم عنه مخاطر ومشاكل كبيرة للشيعة وللأئمة أنفسهم.

4. أخذ الفقيه الخمس كلّه

يقول: إن الخمس يقسم إلى: نصفين نصف للإمام ونصف للسادة، إلّاان الفقيه يأخذ الخمس كله من دون مراعاة هذه القسمة(2).

ص:475


1- . الخمس جزية العصر: 81.
2- . الخمس جزية العصر: 11.

لا ادري أين شاهد ذلك مع أن عامة الرسائل العملية والكتب الاستدلالية تصرح بأن الخمس يقسم إلى نصفين على النحو المذكور حتّى أن كثيراً من الفقهاء، قالوا بوجوب صرف نصيب الإمام في حاجات بني هاشم: أيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم، وقد عرفت أن المحقّق الحلّي وغيره، تبنّوا هذا. ولو أخذه الفقيه كله، فإنّما يأخذه ليصرفه في مصارفه كالإمام المعصوم نفسه، لكونه زعيم الشيعة.

5. أخذ اغنياء بني هاشم الخمس

ادّعى في الحقيقة السابقة أن الاغنياء من بني هاشم يأخذون الأموال باسم الخمس بحجة النسب. وهو يدعي أن هذه الحقيقة مجهولة من قبل عامة من يقول بدفع الخمس، إذ يدفعون الخمس لكل من يدّعي النسبة.(1)

أقول: إن أهل البيت أدرى بما فيه، وفي المثل السائر «أهل مكّة أدرى بشعابها» فإن المؤمنين يمسكون عن دفع المال إلّابعد إحراز الفقر والحاجة، ولو أقدم بعضهم على دفع الخمس بلا تحقيق، فلا يكون ذلك دليلاً على العموم، على أن ذلك اجنبي عن البحث العلمي، ولعلّ الكاتب لا يعرف منهج البحث العلمي.

6. لم يذكر أحد المتقدمين تولّي الفقيه

قال في الحقيقة الرابعة: ان أحداً من علماء المذهب الأقدمين، لم يذكر قط مسألة إعطاء الخمس للفقهاء بل لم يخطر لهم على بال.

كيف يقول ذلك مع ان الشيخ أبا الصلاح الحلبي (374-447 ه) يقول في الكافي: يجب على من تعيّن عليه فرض زكاة أو فطرة أو خمس أو أنفال ان

ص:476


1- . الخمس جزية العصر: 11.

يُخرج ما وجب عليه من ذلك إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبله سبحانه (الإمام المنصوب) أو إلى من يُنصِّبه لقبض ذلك من شيعته ليضعه مواضعه (النواب الخاصة)، فإنْ تندر الأمران فإلى الفقيه المأمون، فإن تعذّر تولّى ذلك نفسه.(1)

والشيخ الحلبي أقدم من الطوسي ولادة ووفاة، وقد ذكره الطوسي في رجاله فلاحظ.

الرابع: مصدر شرعية الخمس

يستمد الخمس شرعيته من الكتاب والسنة حسب ما عرفته في الفصل الأوّل، وأن جميع الفقهاء يستدلون على وجوب الخمس بما ورد في الكتاب والسنة النبوية وأحاديث العترة الطاهرة، غير أن الكاتب نسب إلى بعض علماء الشيعة أنّه يدافع عن أخذ الخمس بأنها تصرف على المدارس الدينية والحوزات العلمية والشؤون المذهبية الأُخرى»(2).

أقول: إن المؤلف كالغريق يتشبث بكل طحلب، ولم يجد مصدراً صالحاً سوى ما أشار إليه في الهامش، ومؤلِّفٍ لم يُعتمد عليه، وهو معروف لدى الأوساط التي يعيش فيها بأنّه لا يتمتع بمؤهّلات كريمة تجعله صالحاً لأن يكون مصدراً في القضايا العلمية الإسلامية، والعاقل تكفيه الإشارة.

وياليته اشار إلى فقيه اعتمد في ايجاب الخمس على شرعية المصرف، ومن ذكرها فإنّما ذكرها كمصرفٍ للخمس، دون أن تكون شرعية المصرف دليلاً على وجوب الخمس. ثم إن الخمس راجع إلى مقام الإمامة، ومن شؤون الإمامة

ص:477


1- . الكافي: 173.
2- . الخمس جزية العصر: 42، نقله عن كتاب «الشيعة والتصحيح» لموسى الموسوي.

قيادة المجتمع روحياً ودينياً، وهي رهن إعداد الدعاة والمبلغين لنشر الإسلام في العالم، وبذلك يظهر أن إطنابه في هذا الموضوع فضول من الكلام، لا يليق أن يُنقض ويردّ.

***

الخامس: مهمّات الشرع رهن الدليل القاطع

عقد الكاتب فصلاً لغاية إثبات أن مهمّات الشرع رهن أدلّة واضحة قطعية الدلالة، غير قابلة للردّ أو التأويل كالصلاة والزكاة وبرّ الوالدين وحرمة الربا وحرمة الزنا حتّى يكون الطريق مسدوداً أمام الراغبين في التفلّت من التكاليف الشرعيّة، ولكن خمس المكاسب لم تثبت بمثل هذه الأدلّة أي النصوص القرآنية، والأدلّة القاطعة، ثمّ بدأ بتفسير آية الخمس وأن موردها الغنائم المأخوذة من الكفّار المحاربين.

أقول: إن الكاتب يُركِّز على خمس المكاسب دون سائر أنواع الخمس كالمعدن والكنز والغوص والمال الحلال المختلط بالحرام والأرض التي اشتراها الذمي من المسلم إلى غير ذلك، لأن موارده قليلة لا تنتفع به المرجعية الدينية في أداء وظائفها الملقاة على عاتقها، وإنّما تنتفع بأرباح المكاسب، فلذلك يصرّ على عدم الدليل على لزوم الخمس فيها.

ولكنه نسي أنّه قد سلّم في بعض الحقائق الثمانية بلزوم الخمس، وإنّما انكر وجوب دفعه إلى الفقيه، وعلى كل تقدير، فمن قرأ الآية برأي مسبق، يخصّها بالغنائم المأخوذة من الكفار، وأما من قرأها مجرَّداً عن ذلك، ومن دون أن يتأثر بالمناقشات المذهبية، فسيجد دلالتها على لزوم الخمس في كل ما يفوز به الإنسان أمراً واضحاً بشهادة أنّه سبحانه يقول: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ...) فلفظة الشيء نكرة تشمل كل ما يغنم، وقد أثبت العلماء في محلّه أن

ص:478

المورد لا يخصّص إذا كانت القاعدة كلية، ولذلك اعتمد على الآية فقهاء الأحناف في ثبوت الخمس في المعادن.(1)

ونظراً لعزوفه عن سائر المصادر، فإنّه لم يقف على مصادر الخمس في السنة النبوية، وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في الفصل الأوّل، كما أنّه أسدل الستار على أحاديث العترة الطاهرة الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه وأحد الثقلين الذين بهما تناط سعادة الإنسان في الدارين، وقد ذكرنا اثني عشر حديثاً تدلّ بوضوح على وجوب الخمس في الأرباح والمكاسب.

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) (2)

***

السادس: تكرّر ذكر الزكاة دون الخمس

اعتمد الكاتب على نفي وجوب الخمس إلى تكرّر ذكر الزكاة في عشرات الآيات، بينما لم يرد لخمس المكاسب ذكر في القرآن الكريم.

أقول: جاءت كلمة الزكاة (32) مرّة في القرآن الكريم، (11) مرّة منها في السور المكية، والباقي في السور المدنية، والجميع يدعو إلى تزكية المال وليس جميع هذه الآيات تشير إلى الزكاة المصطلحة في الكتب الفقهية، وذلك لأن الزكاة بالمعنى الخاص فرضت في المدينة في السنة الثانية للهجرة الشريفة، فلايمكن أن يكون الجميع ناظراً لما لم يُشرَّع ولم تُبيّن كيفيّته، بل وجبت صدقة الفطرة قبل وجوب الزكاة بالمعنى الخاص.

يقول ابن حجر: وثبت عند أحمد وابن خزيمة أيضاً والنسائي وابن ماجة

ص:479


1- . الفقه الإسلامي وأدلّته للدكتور وهبة الزحيلي: 2/776.
2- . الاعراف: 185.

والحاكم في حديث قيس بن سعد بن عبادة. قال: أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ثم نزلت فريضة الزكاة فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله.

وقال: اسناده صحيح رجاله رجال الصحيح. ثم قال: وهودالّ على أن فرض صدقة الفطر، كان قبل فرض الزكاة، فيقتضي وقوعها بعد فرض رمضان.(1)

وعلى هذا فقد وجب صوم شهر رمضان فوجبت صدقة الفطر ثم وجبت الزكاة بالمعنى الخاصّ ، كل ذلك يلزمنا بأن كثيراً من موارد استعمال الزكاة القرآن المجيد يراد بها تزكية المال، وهو بالمعنى الجامع يشمل فريضة الخمس، وصدقة الفطر، والزكاة، بل يشمل سائر ما يجب على المسلم من الفرائض المالية حتّى الكفّارات. نعم الآيات تدلّ على التزكية بالمعنى الجامع، وأمّا الخصوصيات فإنّما وردت في السنة النبوية شيئاً فشيئاً.

وممّا يدلّ على أن الزكاة في الذكر الحكيم يراد بها مطلق تطهير المال، لا الزكاة بالمعنى الخاص ورود وجوبها في الشرائع السابقة، كما ينقل سبحانه عن لسان عيسى أنّه قال: (وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (2).

كما ينقل عن لسان إسماعيل قوله: (وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) .(3)

ونحن نسأل الكاتب هل الآيات الواردة في السور المكية وقبل وجوب فريضة الزكاة تهدف إلى المعنى العام، فيدخل الخمس في ضمنه ؟ أو أنها تهدف إلى الزكاة بالمعنى الخاص قبل إيجابها، وهو ممّا لا يتفوّه به فقيه.

على أن دراسة الآيات التالية تدلّ على أن الشريعة المقدّسة تأمر بإنفاق ما

ص:480


1- . فتح الباري: 3/266، ط. دار المعرفة.
2- . مريم: 31.
3- . مريم: 55.

زاد، قال تعالى : (وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ ) (1)، وقال سبحانه: (خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ ...) .(2)

نقل الطبري في تفسير قوله: (خُذِ الْعَفْوَ) أي خذ العفو من أموال الناس وهو الفضل، وأمر بذلك قبل نزول الزكاة.(3)

سُئل عبداللّه بن عمر عن تفسير قوله تعالى : (فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) (4): أهي الزكاة ؟ فقال: إن عليك حقوقاً سوى ذلك، ونقل عن الشعبي أنّه قال: إن في المال حقّاً سوى الزكاة، وعن الأعمش عن إبراهيم قال:

في المال حقّ سوى الزكاة.(5)

وعلى ضوء ما ذكرنا، فلفظة الخمس وإن لم ترد في القرآن الكريم إلّامرة واحدة إلّاأن المضمون بشكل عام قد ورد في غير واحدة من الآيات المكية وحتّى المدنية.

وأخيراً نقول إن من يدرس الموضوع على ضوء عقائده المسبقة لا يستطيع أن ينظر بواقعية وموضوعية للأدلّة التي ذكرناها.

وأما من يدرس الموضوع بعيداً عن العصبية المذهبية والطائفية، فيكفيه قليل ممّا ذكرنا من الأدلّة على وجوب الخمس في الأرباح.

***

ص:481


1- . البقرة: 219.
2- . الاعراف: 199.
3- . جامع البيان (تفسير الطبري): 9/205، برقم 12065، طبعة دار الفكر، 1415 ه.
4- . المعارج: 24-25.
5- . جامع البيان (تفسير الطبري): 29/99، برقم 27079 و 27080.
السابع: المقارنة بين الزكاة وخمس المكاسب
اشارة

يقول: إن اللّه عزّوجلّ يفرض على اغنيائنا ربع العشر من اموالهم أي من كل اربعين واحداً ومن كل مأة، اثنين ونصف إذا بلغت النصاب وهو ما يعادل عشرين مثقالاً من الذهب مرّة واحدة في العام... وفي الوقت نفسه يوجب على عباده في الأرباح والفوائد الخمس وهو يزيد على فريضة الزكاة بكثير.. فلو بلغ رأس ماله عشرين ديناراً يجب عليه دفع أربعة دنانير لأجل الخمس ونصف دينار لأجل الزكاة، فكيف فرض الأقل (الزكاة) بالأدلّة القاطعة ولم يفرض الأكثر (الخمس) بهذه الطريقة بل ولا يذكره ولو مرة واحدة مع أنّه اضخم منها واكبر اضعافاً مضاعفة ؟!»(1).

يلاحظ عليه: أنّه وإن ذكر الأقل - حسب فرضه - غير مرّة، ولكنه ذُكر الأكثر أيضاً بمثله، لما عرفت من انّ الآيات الدالة على تزكية الأموال آيات عامّة تشمل كل فريضة مالية ولا تختص بالزكاة بالمعنى الخاص على أن السنة النبوية وأحاديث العترة الطاهرة فرضت ذلك بالأدلة القاطعة.

هلمّ معي نستعرض الخلط الّذي وقع فيه، حيث تصور أن فريضة الزكاة في الدينار أقل من فريضة الخمس، لأن الفريضة هناك وهنا ولكنه غفل عن أمرين:

الأوّل: أن زكاة النقدين تُخرج قبل إخراج المؤونة السنويّة، بخلاف الخمس الّذي يتعلّق بما فضل عن المؤونة، وقد تضافر عنهم قولهم: الخمس بعد المؤونة.

فإخراج الأقل حسب فرضه واجب على من ملك النصاب سواء كان فقيراً أو غنياً. دائناً أو غير دائن، مالكاً لمؤونة سنته أو لا، بخلاف الخمس فإنّه يُخرج

ص:482


1- . الخمس جزية العصر: 54.

إذا لم يكن فقيراً، مالكاً لمؤونة سنة، غير دائن.

الثاني: ان الزكاة تتعلّق بالنقدين في كل عام مالم ينزل عن النصاب فلو ملك أربعين ديناراً فيجب عليه في كلّ سنة اعطاء من باب الزكاة حتّى ينزل عن النصاب ويصير 19 ديناراً، بخلاف الخمس فلو دفع ثمانية دنانير مرّة واحدة في العمر صار المال مُخمَّساً والمُخمَّس لا يُخمّس، فعندئذ تنعكس الأقلية والأكثرية، وترتفع فريضة الزكاة على فريضة الخمس. كل ذلك بشرط أن يكون المال جامعاً لشرائط وجوب الخمس بأن زاد على مؤونة سنة ولم يكن دائنا في نفس السنة إلى غير ذلك من الشروط.

تمثيل باطل للمقارنة!!

إن الكاتب حاول أن يكبّر فريضة الخمس ويصغر فريضة الزكاة في الكمية في الفقه الشيعي، فافترض مثالاً، وقال:

لو افترضنا أن رجلاً يمتلك بيتاً وبستاناً وسيارة ومالاً على شكل نقد، فما مقدار الزكاة الواجبة عليه، وما مورد الخمس ؟

ثم قال: الزكاة

البيت: لا زكاة عليه.

السيارة: كذلك لا زكاة عليها.

البستان: لا زكاة إلّاعلى ثماره عند جنيها إذا بلغت النصاب.

النقود: إذا لم تكن بالغة النصاب فلا زكاة عليها، والنصاب ما يعادل عشرين مثقال ذهب.

فلو أن رجلاً ملك هذه الأموال وبلغت نقوده مليون دينار، وحال عليه الحول، فيجب عليه خمسة وعشرون الف دينار هذا هو حال الزكاة في فقه الإمامية.

ص:483

أمّا الخمس، لو فرضنا أن قيمة كل من البيت والبستان والسيارة ثلاثة ملايين وكان عند هذا الرجل قيمة النصاب مليون دينار، فيكون المجموع عشرة ملايين دينار. خمسها في الفقه الشيعي يساوي مليونين أي ما يعادل الزكاة الواجبة عليه ثمانين مرّة. هذا كلامه.

ونقول: طوبى لك يا فقيه الأُمة وفقيه الإسلام وفقيه المذاهب الإسلامية! ما هذه العبقرية في الحساب ؟! وما انت وفقه الإمامية ؟ عجباً إنّه ينقض ويبرم، وهو لا يعرف أبجدية فقه الطائفة!!

وذلك: ان البيت لا خمس عليه، لأنّه من المؤونة.

والسيارة: كذلك لا خمس عليها لأنها من المؤونة أيضاً.

أما البستان، فلا خمس على رقبته إذا كان من محاويج الرجل ولا على ثماره إذا كانت كذلك، إلّاإذا فضلت عن مؤونة سنته ومؤونة عياله.

فلم يبق إلّانقوده التي فرضها مليون دينار.

فالخمس وإن كان يزيد على الزكاة في الظاهر، لكنه لا يزيد عليها في الواقع، إنْ لم يكن الأمر على العكس لما عرفت من أن الخمس يجب مرة واحدة في العمر، والزكاة في كل سنة حتّى ينزل المال عن النصاب.

فالخمس في مليون دينار يكون مئتي الف دينار بشروطه، ولكن الزكاة - لأجل أنّه يجب عليه كل سنة إعطاء من النقد الموجود حتّى لا يبقى منه إلّا 19 ديناراً - تبلغ إلى 981,000 دينار على مرّ السنين، وعند ذلك تنعكس القضية.

أضف إلى ذلك أن ما ذكره إطاحة بالوحي فإن المسلم من يسلّم الأمر إلى اللّه سبحانه، ولرسوله. يقول عزّ اسمه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ

ص:484

اَللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إلّا وان الإسلام هو التسليم»، فأنّى لعقولنا ادراك الملاكات الشرعية والمصالح والمفاسد، حتّى نمشي على ضوئها، ويصبح الخمس فريضة باهظة والزكاة فريضة عادلة في مقياسنا نحن ؟!

قد تعرفت على مواقع خطئه في المقارنة بين الزكاة والخمس ومع ذلك، ولأجل المقارنة بين الزكاة والخمس في الفقه الشيعي رسم الكاتب جدولاً على حسب الاخطاء الماضية وها نحن نأتي بجدوله الخاطئ ثم نردفه بالجدول الصحيح حتّى تتميز مواضع خطئه. وإليك جدول الكاتب:

ص:485


1- . الحجرات: 1.

ص:486

وإليك مواضع الخطأ في الجدول المذكور، الّذي لا يعكس الرأي الشيعي في بابي الزكاة والخمس.

أخطاؤه حول «الزكاة» في الفقه الشيعي

1. يشترط لها حوَلان الحول.

ما ذكره صحيح في زكاة الأنعام والنقدين، وأما المستخرج من الأرض كالمعادن والكنز والغلات، فلا يشترط فيها حولان الحول.

3. قال: على الاغنياء فقط.

أقول: على الاغنياء والفقراء. فمن تعلقت به الزكاة خصوصاً فيما لا يشترط فيه حَوَلان الحول يجب عليه اخراجها، وإن كان فقيراً في آخر السنة، ويعيش - عند الفقر - على حساب بيت المال.

4. قال: لاحق فيها إلّالمحتاج.

أقول: لا حق فيها لمحتاج إلّافي المؤلفة قلوبهم فلا يشترط فيهم الفقر، لأن الغاية من إعطائهم، هي تأليف قلوبه، ودَرْء شرّهم عن المسلمين.

5. قال: مهملة لا يهتمّ بها، مع أن اللّه أكد عليها كل هذا التأكيد.

أقول: مهتمٌّ بها عبر الأعصار، ومانسبه إلى الإمامية افتراء عليهم، فإن الفقهاء يذكرون الزكاة إلى جانب الخمس، ولا تجد كتاباً فقهياً يُذكر فيه الخمس دون الزكاة.

وأما العناية الخارجية، فإن الناس يُسلِّمون أطيب أموالهم إلى الفقهاء من دون أن يكون هناك جهاز إدراي أو ضغط خارجي يجبر الناس على دفع الفرائض المالية.

ونحن لا ننسى أنّه كان في بعض البلاد جهاز خاص لجمع الزكوات

ص:487

وإيصالها إلى أهلها، وفي هذا الإطار قام الشيخ علي أكبر الاردبيلي(1) (الحاكم الإسلامي في تلك المحافظة) بتأسيس جهاز لجمع الزكوات، تأديةً لواجبه الشرعي.

أخطاؤه حول «الخمس» في الفقه الشيعي

1. قال: لا نصاب إلّافي الكنز والمعدن.

أقول: هذا غير صحيح لوجود النصاب في الغوص أيضاً.

2. قال: في جميع الأصناف حتّى الهدايا والمسكن والأثاث.

هذا غير صحيح لعدم تعلق الخمس بالمسكن والاثاث لأن الجميع من المؤونة، والخمس بعد المؤونة. وأما الهدايا فإنّما يجب فيها الخمس عند البعض إذا كانت خطرة.

3. قال: على مكاسب الأغنياء والفقراء.

أقول: هذا من زلأته إذ لم يقل أحد بتعلق الخمس بالفقير، وإنّما يجب الخمس على من يملك مؤونة سنته.

4. قال: يعطى لصنف واحد وهم الفقراء أو السادة.

أقول: هذا خطأ واضح لأن الخمس يصنف إلى صنفين، والفقيه يؤمِّن عَيلة السادات، وربّما يصل إليهم أكثر ممّا يصل إلى الصنف الآخر.

5. قال: يعطى للفقيه أو السيد بغض النظر عن كونه محتاجاً أو لا.

أقول: هذه زلة واضحة، فأما الفقيه فيعطى له بما أنّه زعيم الشيعة وإليه يرجع المحتاجون من عامة الناس، وأما السيد فإنّما يعطى له إذا كان محتاجاً.

ص:488


1- . توفي قدس سره عام 1346 ه، اقرأ ترجمته في موسوعة «طبقات الفقهاء»: 14/1/462.

6. قال: لم يرد ذكره ابداً في القرآن الكريم، اللهم إلّاخمس الغنائم.

أقول: هذا خطأ، لِما قلنا من عدم اقتصار الخُمس الوارد في الآية الكريمة على الغنائم، ولوروده بمحتواه لا بلفظه في الآيات الدالة على لزوم تزكية الأموال.

7. قال: يؤكد عليه تأكيداً بالغاً مع ان اللّه أهمله ولم يذكره.

أقول: الصحيح أن يقول: مع أن اللّه تعالى قد ذكره في كتابه وأكدت عليه أحاديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام.

هذه هي أخطاؤه في الجدول الّذي رسمه لبيان موقف الفقه الشيعي من الزكاة والخمس، وقد عرفت أنّه أخطأ في كلا الموردين.

ولإيقاف القارئ على ما هو الصحيح عند الشيعة فلينظر إلى الجدول التالي:

ص:489

ص:490

وأنت أيها القارئ الكريم إذا قارنت هذا الجدول الّذي عليه فقه الشيعة مع ما رسمه الكاتب ترى فرقاً شاسعاً بينهما، وبذلك يتبين ان أكثر انطباعاته عن الروايات وأقوال العلماء، مبنيٌّ على رأي مسبق يحفزه إلى تفسير الآيات والروايات بما يعتقده ويهتمّ به.

الأمر الثامن: الخمس سياسة يوسفية لا فرعونية!

إن آخر ما كان في كنانة الكاتب من السهام المسمومة، تشبيه الخمس بالسياسة الفرعونية، قال: جاء في الكتاب المقدس، فاشترى يوسف جميع أراضي المصرييّن لفرعون، لأن المصريين باعوا كل واحد منهم حقله لأن المجاعة اشتدت عليهم فصارت الأرض لفرعون. وأما الشعب فاستعبده من أقصى حدود مصر إلى أقصاها.

وقال يوسف للشعب: إني اشتريتكم اليوم أنتم وأراضيكم لفرعون فخذوا لكم بذراً تزرعونه في الأرض، فإذا خرجت الغلال تعطون منها الخمس لفرعون والأربعة أخماس تكون لكم بذراً للحقول، وطعاماً لكم، ولأهل منازلكم، وطعاماً لعيالكم.

قالوا: قد أحييتنا، فلْتَنَل حُظَوة في عيني سيدنا ونكون عبيداً لفرعون، فجعل يوسف ذلك فريضة على أرض مصر إلى هذا اليوم.(1)

ص:491


1- . الكتاب المقدس، سِفر التكوين الفصل 47، الآيات 20-26.

هذا نص التوراة في سفر التكوين ثم إن المؤلف بعد ذكر هذا النص - مع وجود الاختلاف بين الموجود في التوراة وما نقله - رتّب عليه قوله: إن فرعون على طاغوتيته - واستكباره - لم يستحل أخذ الخمس من مكاسب شعبه إلّابعد أن اشتراهم واشترى أراضيهم فصاروا عبيداً له وصارت أراضيهم ملكاً له، فحينما أخذ الخمس عاملهم معاملة السيد مع عبيده. وكأن الخمس في شريعة فرعون لا يؤديه إلّاالعبد المملوك تجاه السيد المالك.

فهل شريعة فرعون أرحم وأرقى نظرة إلى الإنسان من شريعة محمد صلى الله عليه و آله و سلم السماوية التي حرّرت البشرية من قيود العبودية.(1)

أقول: أوّلاً: لو صحّ ما جاء في التوراة وصحّ الاستناد إليه في القضاء، فإنّ الإشكال يعود على فقهاء السنَّة، لإيجابهم الخمس في المعدن والكنز.

روى أبو هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «وفي الركاز الخمس»(2) والركاز يشمل الكنز والمعدن - على قول - فهل تعاملت الشريعة المحمدية مع أصحاب المعادن والكنوز معاملة السيد والعبد، مع ان تلك الشريعة قد حررت البشرية من الظلم وقيود العبودية ؟

ثانياً: إن السياسة التي ذكرتها التوراة تنسبها إلى يوسف لا إلى فرعون، وإن القائم بذلك هو يوسف النبي المعصوم عليه السلام الّذي اشترى رضا اللّه تبارك وتعالى بالزَّجّ في السجن بضع سنين، فهل يعمل النبي - في نظر الكاتب - لصالح الطاغية أو لصالح الشعب ؟

والكاتب لم يمعن النظر في هذه السياسة اليوسفية التي تحدّثت عنها التوراة، فإنّه عليه السلام لم يتمكّن من توزيع ما عنده من الغلات على الناس مجاناً وبلا

ص:492


1- . الخمس جزية العصر: 83.
2- . أخرجه البخاري، فتح الباري: 3/364. ط. السلفية.

مقابل، ولذا قام بتوزيعها مقابل النقود، وبعد أن نفدت النقود التجأ إلى توزيعها مقابل أراضيهم، ثم بعد ان نفدت قام ببيعها عليهم مقابل استعبادهم.

لقد اتبع عليه السلام هذه السياسة حتّى ينجي الشعب من المجاعة التي عمّت أراضي مصر، وقد استطاع بهذه السياسة إرجاع أراضيهم إليهم وتمليكها لهم مع الاحتفاظ بأربعة أخماس غلّاتها، في مقابل إعطاء الخمس لخزانة فرعون، وكانت هذه سياسة إلهية لكي يصبحوا مالكين لأراضيهم وتعود سيادتهم عليها.

وبهذا يظهر أن أداء الخمس ليس علامة لكون المعطي عبداً والآخذ سيداً، وإنّما وضعت هذه الضريبة في هذه الظروف القاسية، إذ لم يمكن هناك حَلٌّ للمشكلة إلّاباتباع هذه الطريقة التي ابتكرها يوسف عليه السلام.

فالكاتب بدل أن ينسب هذه السياسة إلى يوسف، قد نسبها إلى فرعون حتّى يصوِّر في ذهن القارئ أن الخمس ضريبة فرعونية ظالمة.

ص:493

الخاتمة أسئلة وأجوبة

عقد المؤلف فصلاً خاصاً أسماه: «خمس المكاسب بين النظرية والتطبيق» وطرح فيه أسئلة. وإليك دراسة ما يستحق منها الذكر:

1. قال: إن الاعتقاد بأن الخمس من حق ذرية أهل البيت عليهم السلام وأقارب النبي صلى الله عليه و آله و سلم يوجب على من يستلم هذه الأموال أن يقوم بعمل إحصائية في كل حي من الأحياء ممن يسكنه ممن ينتسب إلى أهل البيت عليهم السلام، لا سيما الفقراء منهم من أجل تقسيم الخمس عليهم، وليس ذلك بمستحيل(1).

أقول: ما اقترحه من القيام بعمل إحصائي كان أمراً رائجاً في القرون الإسلامية الأُولى، وكان للطالبيين نقابة خاصة، وقد تولّى الشريف الرضي (359 - 406 ه) مثلاً النقابة لمدة تزيد على العشرين سنة، ثم تولّاها أخوه المرتضى (355-436 ه) واستمرت النقابة إلى عصر السيد ابن طاووس (المتوفّى 664 ه)، ولما سقطت الخلافة العباسية على يد هولاكو، وجاء دور الملوك انخفض دور النقابة بشكل واضح، وعلى الرغم من ذلك ففي كل بلد من بلدان الشيعة يوجد علماء يرجع إليهم السادة الفقراء في أخذ حقوقهم ونصيبهم من الخمس.

والعجب ان الكاتب يصف الخمس بأنّه سياسة فرعونية ثم يأتي هنا بوضع برنامج لتوزيعه على مستحقيه، فهل هناك أكثر شناعة من هذا التناقض.

2. قال: الواقع المشاهد أن كل مجتهد يحق له استلام الخمس دون النظر

ص:494


1- . الخمس جزية العصر: 86.

إلى كونه ينتمي إلى بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم أم لا، بل دون النظر حتّى في كونه عربياً أم اعجمياً، مع أن نص الآية يذكر قيد «ذي القربى» لا «ذي الفتوى» فبأي حق يكون له نصيب فيه ؟

أقول: ما ذكره يعرب عن عدم إلمامه بالفقه الشيعي، لما ذكرنا من أن الخمس يقسم إلى قسمين: الأوّل منه يُصرف في فقراء آل البيت ومساكينهم وأبناء سبيلهم.

والقسم الثاني - الّذي هو للّه وللرسول صلى الله عليه و آله و سلم ولذوي القربى - يُسلَّم إلى الإمام في عصر الحضور، وإلى نائبه في عصر الغيبة، وبذلك يظهر لك ضعف منطقه - حيث يقول:

من دون النظر في كونه عربياً أم أعجمياً، وكأن العربية شرط للنيابة، والأعجمية مانعة عنها.

وافحش من ذلك قوله: أن نص الآية يذكر قيد ذي القربى لا ذي الفتوى.

نعم انّه سبحانه يقول الأوّل دون الثاني ولكن غيبة ذي القربى سببت لان يقوم مقامه ذو الفتوى وهو المجتهد الجامع للشرائط.

3. قال: هل كان الفقهاء في زمان الخليفة الراشد علي عليه السلام في المناطق البعيدة كالحجاز ومصر وخراسان يأخذون خمس مكاسب الناس في تلك الامصار باعتبارهم نواباً للإمام.

أقول: قد عرفت أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد ركز على دفع الخمس من المغنم والغنيمة، وقد تبيّن أن المراد ليس الغنائم المأخوذة من الكفار.

وأما عدم أخذ الخمس في عصر الخليفة الراشد عليه السلام إذا صحّ ، وأيّده الدليل التاريخي - مع أن الكاتب لم يذكر دليله - فلعل ذلك لأجل أن الخلفاء قبله قد أسقطوا سهم اللّه ورسوله وسهم ذي القربى من خمس الغنائم، وبذلك خالفوا

ص:495

الكتاب العزيز، أفيمكن بعد ذلك إلزام الناس بدفع الخمس من أرباح المكاسب وغيرها؟

ولكنك عرفت وجود جهاز مالي لأئمة أهل البيت عليهم السلام يستلمون الخمس من الناس.

4. قال: ولنا سؤال آخر: إذا كان المقلد يعطي (خمسه) إلى الفقيه، فلمن يعطي الفقيه (خمسه)، إذا لم يكن من ذرية (أهل البيت)؟ أو كان أعجمياً ليس بعربي ؟!

أقول: يجب علينا أن نمر على هذا السؤال وعلى ما يتبعه من أسئلة تنبع عن حقده على العلماء، وبالأخص إذا كانوا غير عرب.

فما ذكره عصبية جاهلية لا تمتّ للإسلام بصلة، وأنا أضمنّ بوقتي وبأوراقي من أن أقوم بالاجابة على هذه الأسئلة، الّتي منها افتراءات على الفقهاء والعلماء، واللّه سبحانه يؤاخذه بها ويحاسبه عليها.

وها نحن نجعجع بالقلم عن الإفاضة في مناقشة هذا الكتاب.

والحمد للّه ربّ العالمين وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

جعفر السبحاني

قم/ مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

20 شهر رمضان المبارك 1429 ه

ص:496

3 رسالة حول توسعة المسعى

اشارة

دراسة فقهية، تاريخية، وبيئية تبحث عن مشروعية أعمال التوسعة الجارية في الوقت الحاضر للمسعى

ص:497

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلت الأخبار بأنّ الحكومة السعودية بصدد توسعة المسعى من الجانب الشرقي فقمنا بتأليف هذه الرسالة لبيان حكم هذه المسألة، فنقول: قال اللّه سبحانه:

(إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ )

(البقرة: 158).

ص:498

رسالة حول توسعة المسعى

السعي أحد أركان العمرة والحج، فعلى المعتمر أو الحاج إذا فرغا من الطواف إتيان المسعى والسعي فيه على سبعة أشواط مبتدئاً من الصفا ومختتماً بالمروة.

إنّ الصفا والمروة جبلان معروفان؛ فالصفا جزء من جبل أبي قبيس، والمروة جزء من جبل قعيقعان.(1)

وقد خصّ اللّه سبحانه المبدأ والمنتهى بعلامتين طبيعيتين غير متغيّرتين عبر العصور والقرون، لكي لا يطرأ التغيير على تلك الفريضة، من جهة المبدأ والمنتهى.

ذكر القاضي محمد بن أحمد بن علي الحسني الفاسي نزيل مكة (المتوفّى 832 ه) أنّ طول المسعى (أربعمائة وخمسة أمتار) وعرضه (في بعض المواضع عشرة أمتار وفي البعض الآخر اثنا عشر متراً).(2) هذا ما ذكره الفاسي حسب ما نقله عنه رفعت باشا في كتابه «مرآة الحرمين» و الّذي زار مكة بين عام 1318-1321 ه مرة بعد أُخرى. وأمّا في الوقت الحاضر فإنّ عرضه يبلغ 20 متراً ويبلغ طوله من الداخل 394/5 متراً، وأمّا ارتفاع الطبقة الأُولى فهو 12 متراً والطبقة الثانية 9 أمتار، ولعلّ الاختلاف في العرض نشأ بسبب إزالة المحلات والبيوت الّتي كانت موجودة على الجانب الشرقي للمسعى، والّتي كنت قد

ص:499


1- . تهذيب النووي على ما نقله في الجواهر: 421/19.
2- . مرآة الحرمين لإبراهيم رفعت باشا: 321/1. نقلاً عن شفاء الغرام للفاسي، وهذا التقدير هو ما ذكره الفاسي مقيساً بالذراع ثم حوّل إلى الأمتار باعتبار طول الذراع 49 سنتيمتراً.

شاهدتها مقفلة أيام موسم الحجّ عند تشرّفنا بزيارة بيت اللّه الحرام عام 1375 ه.

لا شكّ أنّه لم يطرأ على المسعى أيّ تطور في جانب الطول، لما عرفت من أنّ الجبلين الشامخين ثابتين في مكانهما، إنّما الكلام في جانب العرض فهل المسعى في عصر الرسول كان محدوداً بهذا العرض المعيّن، أو كان أوسع من الموجود حالياً؟

وهذا ما يطلب لنفسه التتبع الواسع وجمع القرائن على دعم أحد الاحتمالين، خصوصاً أنّ الحجّاج في كثرة وازدياد. فتسهيل الأمر من جانب وبيان الحكم الشرعي من جانب آخر يستدعيان البحث والتتبّع والتحقيق في ذلك.

فلنذكر ما وقفنا عليه من خصوصيات المسعى في العصور السابقة، فهذا هو أبو الوليد محمد بن عبداللّه بن أحمد الأزرقي (المتوفّى بعد عام 223 ه) يشرح لنا كيفية المسعى في ذلك العصر:

1. ذُرع ما بين الركن الأسود إلى الصفا فصار 262 ذراعاً و 18 اصبعاً.

2. ذُرع ما بين المقام إلى باب المسجد الّذي يخرج منه إلى الصفا فكان 164/5 ذراعاً.

3. وذُرع ما بين باب المسجد الّذي يخرج منه إلى الصفا إلى وسط الصفا، فكان 112/5 ذراعاً.

4. وذُرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى المروة فكان 500/5 ذراعاً.

5. وذُرع ما بين الصفا والمروة فكان 766/5 ذراعاً.

6. وذُرع ما بين العلم الّذي على باب المسجد إلى العلم الّذي بحذائه على

ص:500

باب دار العباس بن عبد المطلب وبينهما عرض المسعى فكان 35/5 ذراعاً.(1)

وفي حاشية البجيرمي ما يقرب ممّا ذكره الأزرقي فقد جاء فيه: وقدر المسافة بين الصفا والمروة بذراع الآدميّ 777 ذراعاً، وكان عرض المسعى 35 ذراعاً، فأدخلوا بعضه في المسجد.(2) وهذان القولان لا يختلفان إلاّ في نصف الذراع في طول المسعى وعرضه كما هو واضح.

ويظهر من كلمات المؤرّخين أنّه حصل التغيير في أيام المهدي العباسي عام 160 ه، فقد قال القطبي: أمّا المكان الّذي يُسعى فيه الآن فلا يتحقّق أنّه بعض من المسعى الّذي سعى فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أو غيره، وقد حوّل عن محلّه كما ذكره الثقات.(3)

وقال صاحب الجواهر: حكى جماعة من المؤرّخين حصول التغيير في المسعى في أيام المهدي العباسي وأيام الجراكسة على وجه يقتضي دخول المسعى في المسجد الحرام، وانّ هذا الموجود الآن مسعى مستجدّ، ومن هنا أشكل الحال على بعض الناس باعتبار عدم إجزاء السعي في غير الوادي الذي سعى فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، كما أنّه أُشكل عليه إلحاق أحكام المسجد لما دخل منه فيه.

ولكن العمل المستمر من سائر الناس في جميع هذه الأعصار يقتضي خلافه، ويمكن أن يكون المسعى عريضاً قد أدخلوا بعضه وأبقوا بعضه كما أشار إليه في «الدروس».(4)

ص:501


1- . أخبار مكة: 119/2.
2- . حاشية البجيرمي: 127/2.
3- . تاريخ القطبي: 99.
4- . الجواهر: 422/19.

وحاصل هذه الكلمات: أنّ التضييق قد حصل في جهة المسجد لا في الجهة الأُخرى بمعنى أنّ الساعي إذا وقف على الصفا متجهاً إلى المروة فإنّ المسجد الحرام يقع على يساره، وأمّا الجانب الشرقي فعلى يمينه، فالتغيير الّذي طرأ فإنّما طرأ على جانبه الأيسر فدخل جزء من المسعى في المسجد، وأمّا الجانب الآخر فلم يُعلم حدوث أي تغيير فيه.

وبذلك يعلم مفاد ما رواه الشيخ عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام حيث قال: «ثم انحدر ماشياً وعليك السكينة والوقار حتّى تأتي المنارة، وهي طرف المسعى، فاسع ملء فروجك، وقل: بسم اللّه واللّه أكبر، وصلّى اللّه على محمد وآله» وقل: «اللّهم اغفر وارحم واعف عمّا تعلم إنّك أنت الأعز الأكرم» حتّى تبلغ المنارة الأُخرى، قال: وكان المسعى أوسع ممّا هو اليوم، ولكن الناس ضيّقوه.(1)

وقد نقله العلاّمة في «التذكرة»(2)، وفي «المنتهى»(3)، والبحراني(4)، وصاحب الرياض(5). إلاّ أنّهم لم يعلّقوا على الحديث بشيء إلاّ البحراني الّذي قال: إنّ المفهوم من الأخبار أنّ الأمر أوسع من ذلك، فإنّ السعي على الإبل الّذي دلت عليه الأخبار، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يسعى على ناقته لا يتّفق فيه هذا التضييق، من جعل عقبه يلصقه بالصفا في الابتداء وأصابعه يلصقها بالصفا موضع العقب بعد العود، فضلاً عن ركوب الدرج، بل يكفي فيه الأمر العرفي، فإنّه يصدق

ص:502


1- . الوسائل: 9، الباب 6 من أبواب السعي، الحديث 1.
2- . تذكرة الفقهاء: 8/135.
3- . منتهى المطلب: 411/10.
4- . الحدائق الناضرة: 271/16.
5- . رياض المسائل: 94/7.

بالقرب من الصفا والمروة.(1)

وبما أنّ الإمام الصادق عليه السلام قد عاصر الدولتين وتوفّي (عام 148 ه)، أي في عصر المنصور قبل أن يتسنم المهدي ملك بني العباس، وكان التغيير قد حصل أيضاً قبل عام 160 ه، فهذا يعرب عن أنّ الناس قد بنوا أبنية طول المسعى الملاصق بالمسجد فضيّقوا المسعى، كما أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام. وقام المهدي العباسي بتهديم البيوت وجعل أرضها جزء من المسجد الحرام.

ويظهر من الأزرقي أنّ المساحة بين المسجد والمسعى قد بنيت فيها دور لبعض المكيّين.

قال: وللعباس بن عبد المطلب أيضاً الدار الّتي بين الصفا والمروة الّتي بيد ولد موسى بن عيسى الّتي إلى جنب الدار الّتي بيد جعفر بن سليمان ودار العباس هي الدار المنقوشة الّتي عندها العلم الّذي يسعى منه من جاء من المروة إلى الصفا...، ثمّ إنّه يقول: ولهم أيضاً دار أُم هاني بنت أبي طالب الّتي كانت عند الحنّاطين عند المنارة فدخلت في المسجد الحرام حين وسعه المهدي في الهدم الآخر سنة سبع وستين ومائة.(2)

وهذا يدلّ على أنّ التوسعة الّتي حصلت في عهد المهدي كانت من جانب المسجد وأنّه هدم البيوت الّتي كانت مبنية على أرض المسعى.

***

وقد بلغتنا الأخبار بأنّ السعوديين بصدد توسعة المسعى بإحداث مسيرين متحاذيين ذهاباً وإياباً، ويظهر ممّا نشره المشرفون على التوسعة أنّها مبنية على أن يكون القديم للآت من المروة إلى الصفا ويكون الجديد للنازل من

ص:503


1- . الحدائق الناضرة: 265/16. ولاحظ رياض المسائل: 94/7.
2- . أخبار مكة: 233/2-234، ولاحظ بقية الصفحات.

الصفا ذاهباً إلى المروة. وتقع التوسعة في الجانب الشرقي للمسعى لا في جانب المسجد.

وشكل الجبلين الموجود حاليّاً ربما يلازم كون المسعى الجديد خارجاً عن التحديد بما بين الصفا والمروة.

ومع ذلك كلّه فهناك قرائن تدلّ على أنّ المسعى كان أوسع حتّى من الجانب الآخر الّذي يقابل المسجد. وهذه القرائن عبارة عن:

1. أنّ الصفا جزء من جبل أبي قبيس كما أنّ المروة جزء من جبل قعيقعان، فمن البعيد أن يكون طول الجبل و امتداده حوالي 20 متراً من غير فرق بين الصفا والمروة، وهذا يدلّ على أنّ الامتداد الحالي ليس هو كما في السابق لحصول الحفريات على جانبيه.

2. توجد حالياً بقايا من جبل المروة خارج المسعى في الجانب الشرقي، وهذا يدلّ على امتداده سابقاً ولكنّه حفر لإيجاد الطريق.

3. يظهر من الحاكم في ترجمة الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي قوله: إنّ دار الأرقم - و هي الدار الّتي كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يدعو الناس فيها إلى الإسلام وأسلم فيها قوم كثير - أنّ داره كانت على الصفا وتصدّق بها الأرقم على ولده، فقرئت نسخة صدقة الأرقم بداره: «بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما قضى الأرقم في ربعه ما حاز الصفا أنّها صدقة بمكانها من الحرم لاتباع ولا تورث».

إلى أن قال الحاكم: فلم تزل هذه الدار صدقة قائمة، فيها ولده يسكنون ويؤجرون ويأخذون عليها حتّى كان زمن أبي جعفر. قال محمد بن عمر:

فاخبرني أبي، عن يحيى بن عمران بن عثمان ابن الأرقم قال: إنّي لأعلم اليوم الّذي وقع في نفس أبي جعفر أنّه يسعى بين الصفا والمروة في حجّة حجّها ونحن على ظهر الدار فيمر تحتنا، لو شئت أن آخذ قلنسوته لأخذتها، وانّه لينظر

ص:504

إلينا من حين يهبط الوادي حتّى يصعد إلى الصفا.(1)

وهذه الوثيقة التاريخية تدفعنا إلى القول: إنّ المسعى من جانب الشرقي كان أوسع ممّا عليه الآن.

يحتفظ المشرفون على التوسعة الجديدة بصورة فتوغرافية قديمة لمنطقة الصفا والّتي تظهر - كما يقولون - أنّ هناك امتداداً شرقياً لجبل الصفا كان موجوداً قبل أعمال الهدم وأثناء عملية الإزالة وبعد الإزالة.

4. أنّ دار الأرقم صارت في السنوات السالفة مكاناً لما يسمّى «دارالحديث المكّي» ولو بذلت جهود لسؤال المسنّين والمعمرين الذين شاهدوا دار الحديث قبل التوسعة وحدّدوا مقدار الفاصلة بينه و بين المسعى الحالي لكان ذلك دليلاً للموضوع.

هذا وقد نشر المشرفون على التوسعة مخططاً أوضحوا فيه أنّ دار الأرقم بن أبي الارقم «دار الحديث» كما ورد في المصادر التاريخية كانت تقع في المسعى وهي الآن تبعد عن المسعى الحالي مقدار 21/18 متراً. وبما أنّ مشروع التوسعة الجديد يمتد إلى شرق المسعى مسافة 20 متراً فيكون هذا الامتداد واقعاً ضمن المسعى الواقعي.(2)

وهذا الّذي يعاني منه العلماء والمحقّقون اليوم هو أحد النتائج السلبية الّتي سببها هدم الآثار التاريخية المتعلّقة بعصر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وصدر الإسلام والّذي تعرض له الكثير من المعالم الإسلامية في مكة والمدينة المنورة.

ولو كانت التوسعة مقرونة بحفظ معالم الإسلام وآثاره لما ضاع علينا معرفة حدود المشاعر الإسلامية.

ص:505


1- . المستدرك على الصحيحين: 3/502-503.
2- . لاحظ الخارطة في نهاية الرسالة.

5. نقل الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان شهادة عدة من المعمّرين والمسنّين المطّلعين على وضع الصفا والمروة ننقل هنا بعض تلك الشهادات:

قرر فوزان بن سلطان بن راجح العبدلي الشريف، وهو من مواليد عام 1349 ه، أمام المحكمة العامة المنعقدة لدراسة وضع جبلي الصفا والمروة قائلاً: إنّني أذكر أنّ جبل المروة يمتد شمالاً متصلاً بجبل قعيقعان وأمّا من الجهة الشرقية فلا أتذكر وأمّا موضوع الصفا فإنّني أتوقف.

كما حضر الدكتور عويد بن عياد بن عايد الكحيلي المطرفي وهو من مواليد عام 1353 ه، وقرر قائلاً: إنّ جبل المروة كان يمتد شرقاً من موقعه الحالي بما لا يقل عن ثمانية وثلاثين متراً، وأمّا الصفا فإنّه يمتد شرقاً بأكثر من ذلك بكثير.

كما حضر فضيلة كبير سدنة البيت الشيخ عبد العزيز بن عبد اللّه بن عبد القادر شيبي وهو من مواليد عام 1349 ه، فقرر قائلاً: إنّ جبل المروة يمتد شرقاً وغرباً وشمالاً ولا أتذكر تحديد ذلك بالمتر، وأمّا الصفا فإنّه يمتد شرقاً بمسافة طويلة حتى يقرب من القشاشية بما لا يزيد عن خمسين متراً.

كما حضر حسني بن صالح بن محمد سابق وهو من مواليد عام 1357 ه، وقرر قائلاً: إنّ جبل المروة يمتد غرباً ويمتد شرقاً بما لا يقل عن اثنين وثلاثين متراً. وكنا نشاهد البيوت على الجبل ولما أزيلت البيوت ظهر الجبل وتم تكسيره في المشروع، وأمّا جبل الصفا فإنّه يمتد من جهة الشرق بأكثر من خمسة وثلاثين أو أربعين متراً.

كما حضر مدير جامعه الملك عبد العزيز السابق معالي الأُستاذ الدكتور محمد بن عمر بن عبد اللّه زبير وهو من مواليد عام 1351 ه، وقرر قائلاً:

إنّ المروة لا علم لي بها وأمّا الصفا فالذي كنت أشاهده أنّ الذي يسعى كان

ص:506

ينزل من الصفا ويدخل في برحة عن يمينه، وهذه البرحة يعتبرونها من شارع القشاشية ثم يعود إلى امتداد المسعى بما يدلّ على أنّ المسعى في تلك الأماكن أوسع.

كما حضر الدكتور درويش بن صديق بن درويش وهو من مواليد عام 1357 ه، فقرر قائلاً إنّ بيتنا سابقاً كان في الجهة الشرقية من نهاية السعي في المروة وكان يقع على الصخور المرتفعة التي هي جزء من جبل المروة، وقد أزيل جزء كبير من هذا الجبل بما في ذلك المنطقة التي كان عليها بيتنا وذلك أثناء التوسعة التي تمت في عام 1375 ه، وهذا يعني امتداد جبل المروة شرقاً في حدود من خمسة وثلاثين إلى أربعين متراً شرق المسعى الحالي، وأمّا الصفا فإنّها كانت منطقة جبلية امتداداً متصلاً بجبل أبي قبيس ويعتبر جزءاً منه وكنت أصعد من منطقة السعي في الصفا إلى منطقة أجياد خلف الجبل.

كما حضر محمد بن حسين بن محمد سعيد وهو من مواليد عام 1361 ه، وقرر قائلاً إنّ جبل المروة كان يمتد من الجهة الشرقية والظاهر أنّه يمتد إلى المدعى، وأمّا جبل الصفا فإنّه يمتد شرقاً أيضاً أكثر من امتداد جبل المروة. فأمرت بتنظيم صك بذلك وباللّه التوفيق وصلّى اللّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. حرر في 1427/12/24 ه.(1)

6. ما ذكرنا من الدراسة يؤيد امتداد جبل الصفا حوالي 20 متراً إلى الشرق، إنّما الكلام في امتداد جبل المروة بهذا المقدار ولم نقف على ما يؤيد امتداد جبل المروة هذا المقدار، حتّى أنّ الباحثين في السعودية صرّحوا بذلك وقالوا:

لم يوضح المسح التاريخي للصور الامتداد الشرقي لجبل المروة وإن اثبتت أحاديث كبار السن والمعمرين من سكان المنطقة وجود امتداد شرقي لسفح

ص:507


1- . توسعة المسعى عزيمة لا رخصة للدكتور عبدالوهاب إبراهيم: 55-57.

جبل المروة يقدر بحوالي 40 متراً بنيت عليه البيوت إلى شارع «المَدعى» الموجود جزء منه حالياً.

ولكن الذي يهوّن الخطب هو وجود الارتفاع الطبيعي المحسوس في الجانب الشرقي بامتداد شعيرة المروة قبل التوسعة الجديدة (عام 1428 ه) بحيث يؤيد نظرية كون المروة وسيعة من الجانب الشرقي.

7. بالاعتماد على المسح الجيولوجي لمنطقة جبل المروة ثبت أنّ امتداد الجبل يستمر إلى مسافة 31 متراً، وهذا ما أشار إليه المشرفون في تقريرهم حيث قالوا: إنّ هناك ردميات من البطحاء تظهر في القطاعات المرفقة. كما نجد امتداد الجبل السطحي الموضح في الخريطة الجيولوجية المرفقة يقارب (31 متراً) شرقاً، وهو ما تم تأكيد وجوده من نتائج الحفر.

8. أكدت الدراسات التاريخية والجغرافية والجيولوجية الّتي قامت بها اللجان المشرفة على توسعة المسعى أنّ هناك امتداداً سطحياً لجبل المروة بما لا يقل يقيناً عن 25 متراً من الناحية الشرقية، وهذا ما ثبت بعد دراسة عينات الصخور الّتي أخذت من الناحية الشرقية لجبل المروة والّتي ظهرت مشابهتها لصخور المروة.

وقال الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان - أحد علماء مكة المكرمة الذي تلقينا أكثر معلومات هذا البحث عن طريقه - في رسالته إليّ : والذي عاصرته من هذا المشعر بعد التوسعة السعودية للمسعى والحرم الشريف وقبل ذلك، أنّ الصفا امتداد لجبل أبي قبيس من الناحية الشمالية الشرقية، وكان هذا الامتداد ظاهراً متصلاً، تعاقب عليه التطور لتخطيط مكة المكرمة فقد كان الجبل الذي يمتد منه الصفا ظاهراً، وطريقاً مرتفعاً تمر منه السيارات، هو الطريق

ص:508

الوحيد في تلك الجهة الذي يربط شمال مكة بجنوبها، ومشعر الصفا في جزء منخفض منه.

ثمّ قال: وأُلفت نظر سماحتكم إلى الصورة رقم 193، ص 344 من الجزء الخامس من كتاب «التاريخ القويم» وعسى أن يكون ضمن مكتبة الحوزة العامرة لمشاهدة واقع هذا الامتداد قبل الإحداثات الأخيرة.

أمّا المروة فكما جاء في «التاريخ القويم»: (353/5):

«المروة في الشمال الشرقي للمسجد الحرام وهي منتهى السعي من أصل جبل قعيقعان...».

وقد ظهرت في الكتاب الآنف الذكر صورة المؤلفرحمه اللّه في المروة عند هدمها وهي بالفعل امتداد للجبل المذكور. ولعل سماحتكم شاهد جزءاً ممّا تبقى من الجبلين في الصفا والمروة، فكلاهما امتداد للجبل حذاءه.

هذه معلومات ووثائق حول الموضوع أضعها في متناول المحقّقين حتّى تكون نواة للبحث والدراسة الموسّعة.

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:509

ص:510

4 فقه المزار في أحاديث الأئمة الأطهار عليهم السلام

اشارة

ص:511

ص:512

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً وجعلهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم أعدال الكتاب وقرنّاؤه، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً»، فأُنيط بهما سعادة المسلمين وهدايتهم في الدنيا والآخرة.

أمّا بعد:

فقد وقفت على كُتيّب باسم: «فقه المزار عند الأئمة عليهم السلام»، قد تقنّع مؤلّفه باسم مستعار هو «عبدالهادي الحسيني»، كما تقنّع ناشروه باسم كاذب وقالوا:

نشر مركز إحياء تراث آل البيت، فلا المؤلف شيعي يوالي أهل البيت، ولا الناشر يسعى لإحياء تراثهم عليهم السلام، وإنّما قام بإصدار هذا الكتيب مجموعة من الحاقدين الذين خلت قلوبهم عن المودة لأهل القربى لو لم نقل امتلأت بالنصب البغيض لهم.

وقد حاول الكاتب عرض أفكار الوهابية ودعمها بروايات أهل البيت عليهم السلام دون أن يعرف أهل البيت عليهم السلام وآراءهم وأخبارهم وما تَعنيه رواياتهم، فقد نظر إلى الروايات نظرة سطحية برأي مسبق فخرج بنتائج لا تعدو ما قاله محمد بن عبدالوهاب ومِنْ قبله ابن تيمية.

ص:513

ثم إنّ علماء المسلمين من لدن ظهور الضلال في أوائل القرن الثامن ردّوا على تلك الأفكار الساقطة التي لا تهدف إلّاإلى الحط من مقامات الأنبياء والأولياء أوّلاً، وهدم كل أثر ديني بقي من عصر الرسالة إلى يومنا هذا تحت شعار التوحيد ثانياً.

ولذلك قمنا بنقد هذه الرسالة نقداً موضوعياً بنّاءً نهدف من ورائه بيان الحقيقة وإتمام الحجة على الكاتب ومن على رأيه.

وستكون دراستنا للموضوع ضمن الفصول التالية:

1. زيارة القبور وآثارها البنّاءة في الكتاب والسنّة.

2. صيانة مراقد الأنبياء والأئمة.

3. حجج المؤلف وذرائعه.

4. بناء المساجد جنب المشاهد.

5. البكاء على الميّت وإقامة العزاء عليه.

6. خاتمة المطاف: تضخيم بعض الممارسات.

وسوف نركز في هذه الفصول - غالباً - على ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام - حتّى يتبيّن أنّ الأخبار الواردة عنهم تضاد تماماً مع ما عليه الوهابية في كافة المجالات.

قال اللّه تعالى: (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اللّهِ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .(1)

واللّه من وراء القصد

ص:514


1- . يوسف: 108.

الفصل الأوّل زيارة القبور وآثارها البنّاءة في الكتاب والسنة

اشارة

الزيارة - لغة - بمعنى القصد، فقد جاء في «المصباح المنير»: زاره، يزوره، زيارة، وزوراً: قصده، فهو زائر.(1) والمزار يكون مصدراً، أو موضع الزيارة، والزيارة في العرف قصد المزور إكراماً له واستئناساً به.

وربّما تطلق الزيارة في ألسن العامة على ما يقرأه الزائر أو يتكلم به مادحاً المزور وواصفاً له ومسلِّماً عليه، إلى غير ذلك من الكلمات والجمل الواردة في زيارة الأولياء وغيرهم.

إنّ صلة الإنسان بآبائه وأجداده وأرحامه وأصدقائه في حياتهم أمر واضح، وعندما يفترق عنهم مدة معينة يجد في نفسه شوقاً لزيارتهم والحضور عندهم والاستئناس بهم، ولذلك أمرنا اللّه سبحانه بصلة الأرحام وحرّم قطع الرحم، وكأنّه بإيجابه هذه الصلة أكد ما عليه الإنسان صاحب الفطرة السليمة.

ثم إذا مات هؤلاء ودفنوا في مقابرهم لا يرضى الإنسان أن تنقطع صلته بهم ويجد في نفسه دافعاً إلى زيارة قبورهم، ولذا تراه يقوم بتعميرها وصيانتها حفاظاً عليها من الاندراس، كل ذلك نابع عن فطرة خلق الإنسان عليها.

فلو دل دليل على كراهة تجديد القبر، فلأجل عنوان ثانويّ وهو طروء

ص:515


1- . المصباح المنير: 315، مادة «زور».

الضيق على الناس في الأراضي التي تخصص لدفن الأموات.

ومن الواضح أنّ الدين الإسلامي لا يتعارض مع مقتضيات الفطرة، بل أنّه يضع أحكامه وفقها، ولذا أمر بالعدل والإحسان ونهى عن خلافهما، وهكذا سائر الأحكام الأساسية الواردة في الكتاب والسنة، والتي لا تتغير بمرور الزمان وتبقى سائدة ما دام للإنسان وجود على الأرض وشريعة الإسلام حاكمة، قال سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

الآثار الإيجابية للزيارة

حينما يطل الإنسان بنظره على وادي الصمت (المقابر) يرى عن كثب وادياً يضم أجساد الفقراء والأغنياء والصغار والكبار جنباً إلى جنب، يراهم قد باتوا في سبات عميق وصمت مخيف، قد سلبت عنهم قُدَراتهم وأموالهم، وما سخروه من الخدم، ولم يأخذوا معهم إلّاالكفن.

وهذه النظرة تدهش الإنسان وتدفعه إلى التفكير في مستقبله ومصيره وربّما يحدّث نفسه بأنّ حياة هذه عاقبتها، وأياماً هذه نهايتها لا تستحق الحرص على جمعه للأموال، والاستيلاء على المناصب والمقامات، خصوصاً فيما لو كان الزائر موحدّاً مصدِّقاً بالمعاد، وأنّه سوف يحاسب بعد موته على أعماله وأفعاله وما اكتنز من الكنوز واقتنى من الأموال وتقلّد من مناصب، فهل كان ذلك عن طريق مشروع دون أن يكون فيه هضم للحقوق وتجاوز على الأعراض والنفوس.

ص:516


1- . الروم: 30.

هذا هو الأثر التربوي لزيارة القبور على الإطلاق سواء أكان القبر للأنبياء والأولياء أم للأرحام والأصدقاء، أم لم يكن واحداً منهم، وإلى هذا الأثر التربوي يشير الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في الحديث المروي عنه: «زوروا القبور فإنّها تُذكّركم الآخرة».(1)

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه و آله و سلم: «نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنّ لكم فيها عبرة».(2)

وقد استفاد أهل البيت عليهم السلام من التذكير بالقبور وما يؤول إليه أصحابها، في الوعظ والتربية حتى مع طواغيت عصرهم وهم في قمة حالات الزهو والبطر والتمادي، وهذا ما نلاحظه جليّاً في الأبيات التي أنشدها الإمام الهادي عليه السلام للمتوكل العباسي، وهو من أعتى طواغيت بني العباس وأشدّهم حقداً على أئمة أهل البيت عليهم السلام.

روى المسعودي بأنّه سُعيّ إلى المتوكل بالإمام علي الهادي عليه السلام وقيل له: إنّ في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته، فوجّه إليه ليلاً من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممّن في داره، فوجد في بيت وحده مغلّق عليه وعليه مدرعة من شعر، ولا بساط في البيت إلّاالرمل والحصى، وعلى رأسه ملحفة من الصوف، متوجّهاً إلى ربّه يترنّم بآيات من القرآن، في الوعد والوعيد، فأُخذ على ما وجد عليه وحمل إلى المتوكّل في جوف اللّيل، فَمَثُل بين يديه والمتوكّل يشرب وفي يده كأس، فلمّا رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل فيه، ولا حالة يتعلّل عليه بها، فناوله المتوكّل الكأس الّذي في يده، فقال عليه السلام له: «ما خامر لحمي ودمي قطّ فاعفني منه» فأعفاه، وقال: أنشدني شعراً استحسنه، فقال عليه السلام: «إنّي لقليل الرواية

ص:517


1- . سنن ابن ماجة: 1/500، الحديث 1569.
2- . كنز العمال: 647/15، الحديث 42558.

للأشعار» فقال: لابدّ أن تنشدني فأنشده عليه السلام:

باتُوا على قُلَلِ الأجبال تَحْرِسُهُمْ غُلْبُ الرجالِ فَما أغنتهم الْقُلَلُ

وَاسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ عن مَعاقِلِهم فأُودِعُوا حُفَراً يا بِئسَ ما نَزَلُوا

ناداهُمُ صارِخٌ مِنْ بَعدِ ما قُبرُوا أيْنَ الأسرّةُ والتيجان والحُلَلُ

أين الوجوه الّتي كانت مُنَعَّمَةً مِنْ دُونِها تُضْرَبُ الأستارُ والكِللُ

فأفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ حينَ ساءَلَهُمْ تِلْكَ الْوُجُوهُ عَلَيْها الدُّودُ يقْتَتِلُ

قَدْ طالَ ما أكَلُوا دَهراً وما شَرِبُوا فأصبَحُوا بعدَ طولِ الأكلِ قَد أُكِلُوا

وَطالَ ما عَمّرُوا دُوراً لِتُحْصِنَهُمْ فَفارَقُوا الدُّورَ والأهليَن وانتقَلُوا

وَطالَ ما كَنزُوا الأموالَ وادَّخَرَوا فخلَّفُوها على الأعداء وارْتَحَلُوا

أضْحَتْ مَنازلُهُمْ قَفْراً مُعَطَّلَةً وساكِنُوها إلى الأجداثِ قَدْ رَحَلُوا(1)

زيارة مراقد العلماء والشهداء

ما ذكرناه من الأثر التربويّ هو نتيجة لزيارة قبور عامة الناس، حيث إنّها تورث العبرة، وتذكّر بالآخرة، وتحطُّ من الأطماع، وتقلّل من تعلّق الإنسان بالدنيا وما فيها.

وأمّا زيارة مراقد العلماء فلها وراء ذلك شأن آخر، حيث إنّها تهدف إلى تكريم العلم وتعظيمه، وبالتالي تحث الجيل الناشئ لتحصيل العلم، حيث يرى بأُمِّ عينيه تكريم العلماء أحياءً وأمواتاً.

كما أنّ لزيارة مراقد الشهداء - الذين ذبّوا بدمائهم عن دينهم وشريعتهم المقدسة - أثراً آخر وراء العبرة والاعتبار، وذلك لأنّ الحضور عند مراقدهم بمنزلة عقد ميثاق وتعهّد من الحاضرين في مواصلة الخط الّذي ساروا عليه،

ص:518


1- . مروج الذهب: 4/11.

وهو خط الانتصار الحقيقي والسبيل الإلهي لتحقيق الأهداف السامية.

قال سيد قطب في تفسيره لقوله تعالى: (إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : والناس يقصرون معنى النصر على صورة معيّنة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صور النصر شتى. وقد يتلبّس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة... إبراهيم عليه السلام وهو يُلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها، أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة ؟

ما من شك - في منطق العقيدة - أنّه كان في قمة النصر وهو يُلقى في النار، كما أنّه انتصر مرة أُخرى وهو ينجو من النار.

هذه صورة وتلك صورة. وهما في الظاهر بعيد من بعيد، فأمّا في الحقيقة فهما قريب من قريب!.(1)

ولإيضاح الحال نأتي بمثال: أنّ الفقهاء أفتوا باستحباب استلام الحجر الأسود عند الطواف، وعندئذ يسأل الزائر عن سرّ هذا العمل، وما هي الفائدة من وضع اليد على الحجر واستلامه ؟ إلّاأنّه لو تأمّل في تاريخ بناء البيت الحرام يجد أنّ إبراهيم الخليل عليه السلام قد تولى إعادة بناء بيت الحرام بعد طوفان نوح عليه السلام، وبأمر من اللّه عز وجل وضع الحجر الأسود - الذي كان جزءاً من جبل أبي قبيس - داخل حائطه.

ثمّ إنّ وضع اليد على الحجر هو نوع من أنواع التعاهد مع بطل التوحيد عليه السلام ونبي الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم في أن يحارب كل نوع من أنواع الشرك والوثنية، وأن لا ينحرف عن التوحيد في جميع مراحل حياته.

ولذا فإنّ الهدف من استلامنا الحجر الأسود هو أن نبايع اللّه والأنبياء على

ص:519


1- . في ظلال القرآن: 189/7، تفسير الآية 51 من سورة غافر.

الثبات على التوحيد، وقد ورد أنّ ذلك من مستحبات الطواف، كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «ضع يدك على الحجر وقل: «أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة».(1)

«يقول ابن عباس رحمه الله: واستلامه اليوم بيعة لمن لم يدرك بيعة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم».(2)

ومنه نستنتج أنّ استلام الحجر تجسيد عملي لمعاهدة قلبية مركزها روح الإنسان وداخله، وفي الحقيقة أنّ زائر بيت اللّه الحرام بهذا العمل يعكس عملياً تلك المعاهدة القلبية بشكل ملموس محسوس.

وما ذكرناه من حكمة لهذا العمل هي ذات السبب للحضور عند مراقد شهداء بدر وأُحد وكربلاء، وغيرها، فإنّ الزائر بحضوره لديهم وبوضع يده على مراقدهم، كأنّه يعقد ميثاقاً مع أرواحهم في مواصلة الأهداف التي لأجلها ضحّوا بدمائهم، وقتلوا في سبيلها، فإنّ زيارة قبور الشهداء تكريم وتعظيم لهم ونوع تعهد في مواصلة أهدافهم.

كما أنّ من الجدير ذكره أنّ كثيراً من السلفيين ربّما يعتذرون عن استلام الحجر بما أُثر عن الخليفة الثاني من أنّ تقبيله له لأجل أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قبّله، ولولا تقبيله لما فعل، ولكنّه غفل عن سرّ تقبيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وقد أُشير إليه في الحديث التالي:

روى عبدالرحمن بن كثير الهاشمي، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «مرّ عمر بن الخطاب على الحجر الأسود فقال: واللّه يا حجر إنّا لنعلم أنّك حجر لا تضر ولا تنفع، إلّاأنّا رأينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحبّك فنحن نحبّك. فقال أمير المؤمنين عليه السلام:

ص:520


1- . الوسائل: 10، الباب 13 من أبواب الطواف، الحديث 17.
2- . علل الشرائع: 427، الحديث 10.

كيف يابن الخطاب، فواللّه ليبعثنه اللّه يوم القيامة وله لسان وشفتان، فيشهد لمن وافاه، وهو يمين اللّه عزوجل في أرضه يبايع بها خلقه. فقال عمر: لا أبقانا اللّه في بلد لا يكون فيه علي بن أبي طالب».(1)

زيارة قبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في الروايات الشريفة

تضافرت الروايات من الفريقين - على استحباب زيارة قبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وانّها من متمّمات الحج، وإليك طائفة منها:

1. عن عبداللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «من زار قبري وجبت له شفاعتي».(2)

2. وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «من جاءني زائراً (لا تحمله) حاجة إلّازيارتي كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».(3)

3. وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي، كان كمن زارني في حياتي»(4).

هذا ما تيسّر ذكره مما ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأمّا ما ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام فهو كثير نختصر منه ما يلي:

4. عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: «أتمّوا برسول اللّه حجّكم، إذا خرجتم إلى بيت اللّه، فإنّ تركه جفاءٌ وبذلك أمرتم، وأتمّوا بالقبور التي ألزمكم اللّه زيارتها وحقّها».(5)

5. روى عبدالرحمن بن أبي نجران قال سألت أبا جعفر عليه السلام عمن زار قبر

ص:521


1- . علل الشرائع: 426، الحديث 8؛ الوسائل: 10، الباب 12 من أبواب الطواف، الحديث 13.
2- . شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 81.
3- . شفاء السقام: 83.
4- . شفاء السقام: 89.
5- . الخصال للشيخ الصدوق: 406/2.

النبي صلى الله عليه و آله و سلم متعمداً؟ قال: «يدخله اللّه الجنة إن شاء اللّه»(1).

وقوله: «متعمداً» أي يكون مجيئه لمحض الزيارة لا لشيء آخر تكون الزيارة مقصودة بالتبع.

6. روى ابن قولويه بسنده عن أبي حجر الأسلمي قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «من أتى مكة حاجّاً ولم يزرني بالمدينة جفوته يوم القيامة، ومن زارني زائراً وجبت له شفاعتي».(2)

ومراده من الجفاء هو عدم الشفاعة.

وقد أورد ابن قولويه في هذا الباب أزيد من عشرين حديثاً في استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

وما هذا إلّالأنّ الحضور لدى قبره الشريف نوع تقدير وعرفان لجميل ما بذله في سبيل هداية الأجيال وما تحمّل في سبيل ذلك من الجهود المضنية.

7. إنّ للإمام الرضا عليه السلام كلمة قيّمة في زيارة مراقد القادة المعصومين كالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام حيث قال: «إنّ لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم».(3)

هذا وكأنّ الزائر في حرم النبي صلى الله عليه و آله و سلم يخاطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: لو إنّ الأنصار بايعوك في العقبة الثانية لأن يذبّوا عنك كما يذبّون عن أنفسهم وأولادهم، أو أنّ المهاجرين والأنصار بايعوك تحت الشجرة للذب عن رسالتك، فها أنا أُبايعك في حرمك للذب عن المثل العليا في رسالتك السماوية المقدّسة بما أُوتيتُ من حول وقوة من اللّه سبحانه ناشراً ألوية التوحيد في ربوع العالم، محطّماً أوتاد الشرك وأصنامه.

ص:522


1- . كامل الزيارات: 43، الباب 2، الحديث 3.
2- . كامل الزيارات: 44، الباب 2، الحديث 9.
3- . الوسائل: 10، الباب 44 من أبواب المزار، الحديث 2.

فلو كان السياح يجوبون الأرض لزيارة المواقع التاريخية والمناظر الطبيعية الجميلة، فها أنا قطعت الفيافي لزيارة مرقدك، فإن لم أتمكّن من تقبيل يدك فأنا أُقبل تربة القبر الّذي ضم جسدك الشريف.

رأي ابن القيّم في زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم

قد عدّ الشيخ ابن القيم (المتوفّى 751 ه) زيارة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنها من أفضل الأعمال كما جاء في قصيدته المشهورة بالنونية:

فإذا أتينا المسجد النبوي صلْ - لينا التحية أولاً ثنتان

بتمام أركان لها وخشوعها وحضور قلب فعل ذي الإحسان

ثم انثنينا للزيارة نقصد الْ - قبر الشريف ولو على الأجفان

فنقوم دون القبر وقفة خاضع متذلل في السرِّ والإعلان

فكأنه في القبر حيٌّ ناطق فالواقفون نواكس الأذقان

ملكتهم تلك المهابة فاعترت تلك القوائم كثرة الرجفان

وتفجرت تلك العيون بمائها ولطالما غاضت على الأزمان

وأتى المسلّم بالسلام بهيبة ووقار ذي علم وذي إيمان

لم يرفع الأصوات حول ضريحه كلا ولم يسجد على الأذقان

كلا ولم يُر طائفاً بالقبر أس - بوعاً كأن القبر بيت ثان

ثم انثنى بدعائه متوجها للّه نحو البيت ذي الأركان

هذي زيارة من غدا مُتمسكاً بشريعة الإسلام والإيمان

من أفضل الأعمال هاتيك الزيا رة وهي يوم الحشر في الميزان(1)

ص:523


1- . الزيارة النبوية، لمحمد بن علوي المالكي: 95-96.
طلب الاستغفار من النبي صلى الله عليه و آله و سلم

إنّ الذكر الحكيم يحث المسلمين أو طائفة منهم على الحضور عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ليستغفر لهم بعد استغفارهم، قال سبحانه: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً) (1).

ويقول سبحانه في موضع آخر: (وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) .(2)

والآية وإن وردت والنبي على قيد الحياة إلّاأنّ المورد لايخصّص، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم حي يرزق؛ وكيف لا يكون حياً وهو يرد سلام مَن صلّى عليه ؟! وكيف لا يكون حياً وهو نبي الشهداء، وهؤلاء أحياء عند ربهم يرزقون ؟! فمن زار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وطلب منه الاستغفار سوف يكون قد عمل بالآية الشريفة.

وقد فهم ألباب الأُمّة وعقلاؤها أنّ الآية لا تشير إلى مدة حياته، بل تعم الدنيا إلى آخرها، لذلك كتبت هذه الآية فوق قبره الشريف لكي لا يغفل الزائرون عن هذه النعمة العظيمة.

ثم إنّ العلّامة السبكي نقل في «شفاء السقام»(3) فتاوى فقهاء المذاهب، وإنّ الجميع متّفقون على استحباب زيارته صلى الله عليه و آله و سلم.

ونقل أيضاً عن فقيه الحنابلة ابن قدامة المقدسي(4) أنّه قال به، وكذلك نصّ عليه المالكية أيضاً؛ كما وذكر قول أبي الخطّاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلواذانيّ الحنبلي في كتاب «الهداية» في آخر باب صفة الحجّ : وإذا فرغ من الحجّ استحبّ له زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:524


1- . النساء: 64.
2- . المنافقون: 5.
3- . شفاء السقام: 157-163.
4- . المغني: 3/558.

وقال أبوعبداللّه محمّد بن عبداللّه بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن إدريس السامريّ في كتاب «المستوعب»: باب زيارة قبر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وإذا قدم مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم استحبّ له أن يغتسل لدخولها، ثمّ يأتي مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ويقدّم رجله اليمنى في الدخول، ثمّ يأتي حائط القبر، فيقف ناحية، ويجعل القبر تلقاء وجهه، والقبلة خلف ظهره، والمنبر عن يساره... وذكر كيفيّة السلام والدعاء إلى آخره.

ومنه: اللّهم إنّك قلت في كتابك لنبيّك صلى الله عليه و آله و سلم: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ ...) (1)، وإنّي قد أتيت نبيّك مستغفراً، فأسألك أن توجب لي المغفرة، كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللّهم إنّي أتوجّه إليك بنبيّك صلى الله عليه و آله و سلم... وذكر دعاء طويلاً.

ثمّ قال: وإذا أراد الخروج عاد إلى قبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فودّع.

انظر عزيزي القارئ إلى هذا المصنّف وهو من الحنابلة - ومؤلف كتاب «فقه المزار» متمذهب بمذهبهم -، كيف نصّ على التوجّه إلى اللّه تعالى بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم!(2)

اهتمام العلماء بزيارة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم

اتّفق فقهاء الفريقين على استحباب زيارة قبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فقد جاء في كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة»: زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أفضل المندوبات، وردت فيها أحاديث.(3)

وقد اعتنى العلماء - قديمهم ومتأخرهم - عناية عظيمة بزيارة قبر النبي

ص:525


1- . النساء: 64.
2- . شفاء السقام في زيارة خير الانام: 158.
3- . الفقه على المذاهب الأربعة: 590/1.

الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فألفوا في ذلك كتباً كثيرة في بيان فضل الزيارة وآدابها ومناسكها، وثواب شد الرحال إلى زيارة قبره الشريف صلى الله عليه و آله و سلم وبيان الآثار الاجتماعية لهذه العبادة الشريفة، وإليك عناوين عدد مما ألفه اخواننا علماء أهل السنة:

1. الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للعلّامة القاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي الاندلسي (المتوفّى: 544 ه).

2. شفاء السقام في زيارة خير الأنام، للإمام العلّامة تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي (المتوفّى: 756 ه).

3. إتحاف الزائر وإطراف المقيم السائر في زيارة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، للإمام العالم أبي اليمن عبد الصمد ابن الشيخ الأجل أبي الحسن عبد الوهاب بن الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة اللّه القرشي الدمشقي المعروف بابن عساكر (المتوفّى: 571 ه).

4. رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة، للمحدث الشيخ محمود سعيد ممدوح.

5. الجوهر المنظم في زيارة القبر النبوي الشريف المكرّم، للمحدث الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي (المتوفى: 973 ه).

6. تحفة الزوار إلى قبر النبي المختار، لابن حجر الهيتمي.

7. الدرة الثمينة فيما لزائر النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة، للعلامة الشيخ أحمد بن محمد بن عبد الغني المدني الدجاني الأنصاري القشاشي (المتوفّى 1071 ه).

8. نفحات الرضا والقبول في فضائل المدينة وزيارة سيدنا الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، للمحدث المؤرخ الشيخ أحمد بن محمد الحضراوي المكي (المتوفّى 1327 ه).

ص:526

9. الذخائر القدسية في زيارة خير البرية، للعلامة الشيخ عبد الحميد بن محمد علي قدس المكي (المتوفّى 1335 ه).

10. التوسل والزيارة، للشيخ محمد الفقي.

11. مشارق الأنوار في زيارة النبي المختار صلى الله عليه و آله و سلم، للإمام المحدث الشيخ حسن العدوي المالكي.

12. الزيارة النبوية بين الشرعية والبدعية، للسيد محمد بن علوي المالكي الحسني.

زيارة القبور في السنة النبوية

اتّفق أهل السيرة على أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كان يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجّلون، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون، اللّهم اغفر لأهل بقيع الغرقد».(1)

ولم يقتصر صلى الله عليه و آله و سلم بل علّم كيفية الزيارة لزوجته، روى مسلم في صحيحه عن عائشة في حديث طويل قالت: قلت كيف أقول لهم يارسول اللّه ؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ورحم اللّه المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون».(2)

ومع ذلك نرى أنّ الحكومة السعودية قد أقفلت باب البقيع بوجه النساء، فمنعت دخولهن إليه، مع أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أدخل زوجته البقيع وعلّمها صيغة الزيارة.

وقد جاء في الآثار أنّ بنت المصطفى التي هي أفضل نساء العالمين

ص:527


1- . صحيح مسلم: 3/63؛ سنن النسائي: 4/94.
2- . صحيح مسلم: 3/64، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها.

تذهب إلى زيارة القبور، كما تذهب إلى زيارة قبر عمها حمزة وتصلّي عنده في حياة أبيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

هذه هي سيرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهذا سلوك بنته، فما هذا التناقض بينها وبين عمل الوهّابية ؟!

هذا وقد زارت عائشة قبر أخيها عبدالرحمن وكان قد مات بالحُبشي - والحبشي على اثني عشر ميلاً من مكة، هكذا في كتاب ابن أبي شيبة عن ابن جريج - فحُمِل حتّى دفن بمكة، فقدمت عائشة من المدينة، فأتت قبره فوقفت عليه، فتمثلت بهذين البيتين:

وكنا كندماني جذيمة حقبة من السهر حتّى قيل: لن يتصدّعا

فلّما تفرقنا كأنّي ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

أما واللّه لو شهدتك ما زرتك، ولو شهدتك ما دفنتك إلّافي مكانك الّذي متّ فيه(2).

وحصيلة الكلام: أنّ استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر اتفق عليه قاطبة الفقهاء.

حتّى أنّ مفتي الديار السعودية السابق عبدالعزيز بن باز أفتى باستحبابها ونشرت جريدة «الجزيرة» فتواه في عددها 6826، وبتاريخ 24 / ذي العقدة الحرام / عام 1411 ه.

وقد ذكر العلّامة السبكي ماروي في المقام من الأحاديث فانهاها إلى

ص:528


1- . المستدرك على الصحيحين للحاكم: 377/1.
2- . شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 194، ناقلاً عن المصنف لابن أبي شيبة: 3/224، كتاب الجنائز، الحديث 8.

خمسة عشر حديثاً وتكلم في أسنادها،(1) كما نقل نصوص كبار علماء المسلمين على استحباب زيارة قبر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، وقد بيّن أنّ الاستحباب أمر مجمع عليه بين المسلمين.

كما أنّ العلّامة الراحل الشيخ الأميني رحمه الله قد نقل ما دل على استحباب زيارة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وذكر ما يتجاوز الأربعين قولاً من أقوال علماء السنّة التي فات السبكي الوقوف عليها.(2)

***

حديث لا تشدّ الرّحال

ربما يمكن أنّ يقال: إنّ زيارة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر مستحب في نفسه، إلّاأنّ السفر لتلك الغاية غير جائز لما رواه مسلم في صحيحه:

إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «لا تشدّ الرّحال إلّاإلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى».(3)

إلّا أنّ الإمعان في الحديث يعرب عن أنّ الكلام مشتمل على المستثنى دون المستثنى عنه، ويسمّى هذا الاستثناء في اصطلاح اللغويين بالاستثناء المفرغ، فلابد من تعيين المستثنى منه ثم دراسة الحديث. وهناك احتمالات ثلاثة:

إنّ المقدّر هو المكان أو القبر، أو المسجد.

فعلى الأوّل يكون المقصود: لا تشد الرحال إلى مكان من الأمكنة إلّاإلى ثلاثة مساجد.

ص:529


1- . لاحظ: شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 65-115.
2- . لاحظ: الغدير: 109/5-125.
3- . صحيح مسلم: 4/126، باب شدّ الرحال.

وعلى الثاني يكون المقصود: لا تشد الرحال إلى قبر من القبور إلّاإلى ثلاثة مساجد.

وعلى الثالث يكون المقصود: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلّا إلى ثلاثة مساجد.

أمّا الأوّل فهو باطل شرعاً وعرفاً لبديهة جواز السفر للتجارة والزيارة والدراسة والسياحة إلى غير ذلك من الغايات المباحة شرعاً.

أمّا الثاني فهو يجعل المستثنى منقطعاً لعدم دخول المستثنى في المستثنى منه، إذ يصبح الكلام ركيكاً جدّاً، والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أفصح العرب، فكيف يتكلّم بما يُعد عيباً عند الفصحاء والأُدباء؟!

إذن يتعين الثالث وهو: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلّاإلى ثلاثة مساجد.

لعدم وجود المزية في غير هذه المساجد الثلاثة، فيصبح شد الرحال أمراً لغواً.

فالمسجد الجامع في البصرة من حيث الثواب نفسه في الكوفة فالسفر من البصرة إلى الكوفة لغاية درك فضيلة اقامة الصلاة في المسجد الجامع في الكوفة أمر لا طائل تحته لإمكان الزائر أن يناله بالصلاة في جامع البصرة.

ولعمري أنّ الحديث واضح لا شبهة فيه. وعلى ما ذكرنا لا يشمل مَن يشد الرحال ويتوجه لمرقد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لزيارته وتجديد البيعة معه لخروجه عن مصب الحديث في جانبي المستثنى والمستثنى منه.

هذا على القول بصحة سند الحديث، وبما أنّه ورد في الصحيحين أبى الفقهاء عن المناقشة في مضمونه، وإلّا فيمكن نقض القاعدة بما تضافر من أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يزور مسجد قباء في كل سبت(1)، ومنطقة قباء تبعد عن المدينة

ص:530


1- . صحيح مسلم 127/4؛ صحيح البخاري: 76/2.

مسافة تستوجب السفر وشدّ الرحال.

شدّ الرحال إلى المساجد السبعة

إنّ حجاج بيت اللّه الحرام يقصدون المساجد السبعة في المدينة المنورة، مضافاً إلى المساجد الثلاثة الأُخرى كمسجد رد الشمس (الفضيخ)، والاجابة، وبلال، فكيف يبرر هذا السفر مع نهي النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن شد الرحال إلّالمساجد ثلاثة.

الجواب: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن السفر إلى غير هذه المساجد لأجل العبادة والصلاة فيها، لكون السفر أمراً لغواً لعدم مزية مسجد على مسجد آخر مثله. وأمّا سفر الحجاج إلى هذه المساجد فليس لغاية إقامة الصلاة فيها وإن كانوا يصلّون بمجرد الدخول فيها، بل الغاية من السفر هو التعرّف على البطولات التي قام بها المسلمون في وجه المشركين وما قدّموا من التضحيات في طريق إرساء أُسس الإسلام ونشر راية التوحيد، وكل ذلك لا يعلم إلّابالحضور في تلك المشاهد حتّى يتعرف الإنسان على ما جرى عليهم في تلك الحقبة من الزمن، وذلك واضح لكل من له إلمام بالسفر إلى هذه المساجد. ولم يكن السفر إليها لأجل اقامة الصلاة فيها بل التعرف على تاريخ الإسلام وبطولات رجاله.

والعجب أنّ الحكومة السعودية بسبب ضغط هيئة الآمرين بالمعروف قد وضعت العراقيل أمام حجاج بيت اللّه الحرام الّذين يقومون بزيارة هذه المشاهد، بإقفال بعض هذه المساجد والمنع عن الأُخريات، وما ذلك إلّالقطع صلة المسلمين بآثار نبيهم.

صيانة آثار الصالحين

إنّ كل ظاهرة دينية أو اجتماعية إذا تجرّدت عن الآثار الدالة على وجودها

ص:531

على أرض الواقع قد تصبح بمرور الأجيال عرضة للتشكيك والترديد.

ولأجل ذلك نرى أنّ الدعوة النصرانية أصبحت في الغرب - بالأخص عند شبابهم - ظاهرة مشكوكة، وذلك لأنّه ليس لسيدنا المسيح أثر ملموس يستدل على وجوده ودعوته، إذ ليس للمسيح عندهم مقام يزار، ولا لأصحابه قبور تقصد، ولم يجدوا كتاباً مصوناً من التحريف والدس، إذ أنّ ما بين أيديهم ما يقارب من 24 أنجيلاً يُضاد بعضها بعضاً، على أنّ كثيراً منها حافل بحياة سيدنا المسيح، وكأنّ إنساناً غيره قد كتب ترجمة حياته إلى أنّ صلب ودُفن وخرج من قبره بعد عدة أيام.

كل ذلك ممّا سبب تولد التشكيك في أصل الدعوة النصرانية، وأنّه من المحتمل أن تكون من الأساطير والروايات كأُسطورة قيس ومعشوقته ليلى العامريين.

ولأجل ألاّ تبتلي الأُمّة الإسلامية بما ابتلت به الأُمم السابقة يجب على أبنائها صيانة كل أثر يرجع إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأولاده الطيبين عليهم السلام وأصحابه الميامين وكل ما يمت بصلة إليهم حتّى يصبحوا عند الأُمم المتحضرة شامخي الرؤوس، وانّهم اتباع دين قيّم ونبي عظيم، فيقولون هذا مولده، وهذا مهبط وحيه، وهذه قبور أولاده وأصحابه، وهذه أماكن بطولاتهم وفتوحاتهم، إلى غير ذلك ممّا يدل على وجود هذه الدعوة وواقعيتها.

ومن العوامل التي تساعد على صيانة الآثار شد الرحال إلى زيارة قبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وقبور أولاده وأصحابه، الذين بذلوا مهجهم في إرساء أُسس الدين، فلو تركت الأُمّة الإسلامية زيارتهم ولم يتعاهدوا تلك الأماكن المشرفة المنتشرة في أرجاء البلدان الإسلامية لتعرضت إلى الاندراس والزوال، ولم يبق منها أثر شاهد.

ص:532

البيوت التي أذن اللّه أن ترفع

لقد أمر اللّه سبحانه المسلمين برفع بعض البيوت التي يذكر فيها اسمه ويسبّح له فيها بالغدو والآصال.

قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ * رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ) (1).

فلنبحث في البيوت التي عنتها هذه الآية، فهناك قولان:

1. المساجد.

2. بيوت الأنبياء والأولياء.

أمّا الأوّل فغير صحيح جدّاً، لأنّ البيت غير المسجد، فالبيت عبارة عن المكان الّذي يسكن فيه الرجل وأهله ويأوي إليه من الحر والبرد، وهو مبيته، لذا يجب أن يكون له سقف فلا يطلق على المكشوف بيتاً، قال سبحانه: (وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ) (2).

وتفسير ذلك هو أنّه لولا أنّ مشيئته تعلّقت بأن يكون الناس أُمّة واحدة لجعل سقوف بيوت الكافرين من فضة، وهذا يدل على أنّ السقف من لوازم البيت مع أنّ المساجد لا يشترط فيها السقف، وهذا هو المسجد الحرام مكشوف غير مسقف.

ولذا يتعيّن الثاني وهو الّذي يؤيده ما أُثر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، روى

ص:533


1- . النور: 36-37.
2- . الزخرف: 33.

السيوطي في تفسير الآية قال: أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريد قال:

قرأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هذه الآية (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ...) فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللّه ؟ قال: «بيوت الأنبياء»، فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول اللّه هذا البيت منها - بيت علي وفاطمة -؟ قال: «نعم، من أفاضلها».(1)

والمراد من الرفع إمّا الرفع المادي أو الرفع المعنوي، فعلى الأوّل يجب تعميرها عند طروء الحوادث المخربة.

وعلى الثاني يجب تعظيمها وتنظيفها ممّا يشينها.

ثم إنّ هذه البيوت ربّما تكون بيتاً للنبي وآله فتزيد شرفاً وتكتسب فضلاً كما هوالحال في مرقد النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ومرقد الإمامين الهمامين الهادي والعسكري عليهما السلام فقد دفنا في بيتهما وكانا يسبحان له بالغدو والآصال.

ومن المؤسف أن يبلغ الجهل بالإنسان درجة يرى فيها أنّ تخريب هذه البيوت عبادة يتقرب بها إلى اللّه، وفريضة يثاب عليها.

ألّا قاتل اللّه الجهل أوّلاً، والعصبية الطائفية ثانياً، فإنّ المخرّبين يعلمون بأنّ البيت الّذي قاموا بتخريبه هو مرقد العترة الطاهرة التي أمراللّه سبحانه بمودتهم في قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (2).

ص:534


1- . الدر المنثور: 6/203.
2- . الشورى: 23.

الفصل الثاني صيانة مراقد الأنبياء والأئمة

اشارة

تعرفت في الفصل الأوّل على الفوائد والآثار الايجابية المترتبة على زيارة مطلق القبور، مضافاً إلى الآثار الخاصة لزيارة قبور الأنبياء والأولياء، وكل ذلك بشكل موجز.

ولندرس هنا ضرورة حفظ قبورهم وصيانتها من الخراب والتدمير على ضوء الكتاب والسنة.

وبما أنّا في هذه الرسالة بصدد نقد كتاب «فقه المزار» حيث إنّ مؤلّفه حاول تطبيق أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام على أقوال الوهابيين وآرائهم، لذلك نركّز البحث على رواياتهم ولا نعتمد على غيرها إلّاقليلاً.

إنّ فكرة هدم القبور والآثار المقدسة قد أرسى قواعدها أحمد ابن تيمية (662-728 ه)، وبعد مضي أربعة قرون نفذ هذه الفكرة محمد بن عبدالوهاب النجدي (1115-1206 ه)، وذلك بعد أن عرض هذه الفكرة على كبير قبيلة آل سعود (محمد بن سعود)، فاتفقا على نشر الفكرة وتعزيز الدعوة في الربوع التي يسكنونها، واشترطا أن يتولى ابن عبدالوهاب الأُمور الدينية، ويتولى ابن سعود الأُمور السياسية والاجتماعية، وأن يسلم كل أمره إليه.

لقد خاب أحمد بن تيمية في دعوته لأنّه نشر الفكرة في أوساط مكتظة

ص:535

بالعلم والفقاهة والتاريخ ولذلك أخذوه وزجوه بالسجن، حتّى مات فيه.

بخلاف الثاني الّذي طرح هذه الفكرة معتمداً على سلطة عشيرة آل سعود في بيئة يندر فيها العلم والفقه، فلا علم ناجع ولا معرفة بموازين التوحيد والشرك، لذا تبعت أعراب نجد قول ابن تيمية ونفذوا ما أمرهم به محمد بن عبدالوهاب، وساعد على ذلك أنّ هذه الدعوة كانت مقرونة بشن الغارات على القرى والمدن فصاروا يغتنمون كل ما تقع أيديهم عليه من أموال وممتلكات، فكان الخمس للشيخ، والأربعة أخماس هي للمهاجمين.

وقد اعتمد الشيخ في دعوته على كلمتين براقتين هما:

البدعة

الشرك

وكأنّه لا يوجد في منطقه ومنهجه إلّاهاتين الكلمتين، بدون أن يضعوا ميزاناً للبدعة وملاكاً للشرك في العبادة، وسوف ندرس في هذا الفصل تعريفهما وبيان ملاكهما.

حدّ التوحيد والشرك

لم نزل نسمع من أعضاء الهيئة المسمّاة ب «الآمرين بالمعروف» أن البناء على القبور شرك، فيجب هدمها، وقد سمعت شخصياً أحدهم يقول في وصف محمد بن عبدالوهاب: «أنّه قد دمّر الشرك»، ولو كان هؤلاء باحثين واقعيين كان عليهم تعريف التوحيد والشرك في العبادة بشكل منطقي يكون جامعاً ومانعاً حتّى تكون الضابطة ملاكاً لتمييز أحدهما عن الآخر، فبما أنّهم قصّروا في هذا الميدان، سوف نقوم نحن بذكر الميزان الجامع لهما فنقول:

إنّ للشرك مراتب ولكن مراد القائلين بالشرك في المقام هو الشرك في

ص:536

العبادة، وأنّ من بنى بيتاً على قبر نبي أو ولي فقد أشرك باللّه سبحانه أي بمعنى عبد غيره، فلندرس هذه الفكرة.

إن العبادة سواء أكانت للّه سبحانه أم لغيره كالأصنام والأوثان أو الأجرام السماوية، تُقيّد بقيدين:

الأوّل: الخضوع بالجوارح بنحو من الأنحاء إمّا بالركوع أو بالسجود أو بالانحناء، أو باللسان، وغير ذلك ممّا يستكشف منه الخضوع.

الثاني: مبدأ الخضوع ومصدره وهوقائم بالقلب وحقيقته عبارة عن اعتقاد الخاضع بأنّ المخضوع له إمّا خالق للسماوات والأرض أو مدبّر للكون كما هو الحال في عبادة الموحّدين، أو من بيده مصير الخاضع ومستقبله قليلاً أو كثيراً، كما هو الحال في عبادة المشركين، حيث كانوا خاضعين أمام أربابهم باعتقاد أنّ بيدهم الأُمور التالية:

1. غفران الذنوب 2. الشفاعة 3. العزّة والذلة، 4. الانتصار في الحرب، 5. نزول المطر.

قال سبحانه: (وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (1). وقال أيضاً:

(وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ) .(2) روى ابن هشام في سيرته، أنّ عمرو بن لُحيّ - أحد رؤساء مكة - قد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان، وعندما سألهم عمّا يفعلون قائلاً:

ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟

قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتُمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا!

فقال لهم: أفلاتعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه ؟

ص:537


1- . مريم: 81.
2- . يس: 74.

وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم «هبل» ووضعه على سطح الكعبة المشرفة، ودعا الناس إلى عبادته.(1)

والّذي يعرب عن أنّ المشركين في العبادة كانوا يعتقدون في آلهتهم قدرة غيبية مستقلة عن اللّه مؤثرة في توفير حوائجهم ما يلي.

1. قوله سبحانه: (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ) .(2)

ترى أنّ الآلهة المزعومة تتمتع بأمرين:

أ. كونها أنداداً للّه.

ب. أنّها محبوبة عندهم كحب اللّه.

ومن المعلوم أنّ أي كائن وموجود لا يكون مثلاً للّه ونداً له إلّاإذا صار يتصرف في الكون بإرادته الشخصية من دون إرادة اللّه تعالى.

2. قوله سبحانه: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (3).

فقد فوضّوا أمر التشريع والتحليل والتحريم بيد الأحبار والرهبان، فلو دل الكتاب المقدّس على حرمة شيء، وقال الأحبار والرهبان بحليته، تراهم يقدّمونه على نص الكتاب، فلذلك صاروا مشركين في أمر التشريع.(4)

3. وقوله سبحانه حاكياً عن المشركين حيث يصرحون بعقيدتهم بالآلهة يوم القيامة بقولهم: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) (5)، ولازم التسوية كون الآلهة يتصرفون في الكون بصورة مستقلة بإرادتهم الشخصية.

ص:538


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 1/79.
2- . البقرة: 165.
3- . التوبة: 31.
4- . لاحظ التفاسير حول الآية، وأخصّ بالذكرمجمع البيان للطبرسي.
5- . الشعراء: 98.

إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية: أنّ العبادة تتقوّم بأمرين: أحدهما: يتعلّق بالجوارح وهوالخضوع. والثاني: يرجع إلى الجوانح وهو الاعتقاد بكون المخضوع له خالق أو رب، أو بيده مصير الخاضع في أمر من الأُمور، كغفران الذنوب والعزة في الحياة والانتصار في الحرب ونزول بركات السماء أو غير ذلك.

وعلى ضوء ما ذكرنا فلو كان هناك خضوع مجرد عن كل عقيدة خاصة بالنسبة للمخضوع له، إلّاأنّه عبد للّه تبارك وتعالى ورسول من رسله أو ولي من أوليائه، فلا يعد الخضوع له عبادة أبداً ولا يصير الخاضع بعمله مشركاً، وهذا هو يعقوب النبي وأولاده سجدوا ليوسف، قال سبحانه: (وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً) (1)، كما أنّ الملائكة في بدء الخلقة سجدوا لآدم خاضعين لكرامته وشرفه ولعلمه بالأسماء دونهم،(2) ولم يوصف عملهم هذا عبادة لآدم.

والّذي يدل على ذلك أنّه سبحانه علّق الأمر بالعبادة على عنوان الرب وقال: (يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (3) ومن المعروف أنّ تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية، فلو قال: أكرم عالماً، يستفاد منه أنّ وجوب الإكرام لأجل علمه، فيستفاد من الآية أنّ العبادة من شؤون الربوبية، فالعبادة خاصة بمن هو ربّ يدبر الكون وبيده مصير الإنسان دون غيره.

فإذا خضع الإنسان في مقابل من هو رب واقعاً أو هو رب - حسب زعم الخاضع - فيوصف عمله بالعبادة، دونما إذا خضع مجرداً عن أيّة عقيدة ترتبط بالربوبيّة.

ص:539


1- . يوسف: 100.
2- . لاحظ: البقرة: 30-34.
3- . البقرة: 21.

وهذا هو القرآن الكريم يأمر بالتذلّل أمام الوالدين ويقول: (وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (1).

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ البناء على قبر نبي أو ولي أو غيرهما من عامة الناس يعد تكريماً للميت، وتبجيلاً له لأنّه لم يعمل ذلك باعتقاد أنّه خالق أو رب أو مدبر للكون أو غافر للذنوب أو منزل للمطر أو بيده الشفاء والشفاعة إلى غير ذلك من الأُمور التي هي بيد اللّه سبحانه.

نعم مجرد عدم كونه عبادة لا يلازم كونه عملاً مباحاً، بل ربّما يستنبط حكم العمل من حيث الحرمة والحلية من أدلة أُخرى، وسيوافيك عدم وجود دليل على الحرمة، وبذلك يتضح أنّ تقبيل الأضرحة وأبواب المشاهد التي تضم أجساد الأنبياء والأولياء ليس عبادة لصاحب القبر والمشهد لفقدانها العنصر الثاني ولا يعدّ شركاً.

البناء على القبور والبدعة
اشارة

تعرّض اللغويون لتعريف البدعة في مصنّفاتهم، قال الخليل: البدع:

إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة.(2)

وقال الراغب: الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء ولا اقتداء.(3)

أقول: البدعة بهذا المعنى موضوع للفقه حيث يبحث عن حلية الأشياء وحرمتها، فربّما يكون الأمر البديع حلالاً وربّما يكون حراماً.

فقد حدثت في العصر الحاضر أُمور لم يكن لها مثيل كالألعاب الرياضية، فهذا هو من الموضوعات الفقهية التي يبحث الفقيه عن حكمه الذاتي، ونظير ذلك المجالس التي يختلط فيها الرجال والنساء المتبرجات وهذا هو أيضاً

ص:540


1- . الإسراء: 24.
2- . العين: 53/2.
3- . مفردات الراغب: 38-39.

يرجع إلى الفقيه. فيفتي بحلّية الأُولى وحرمة الثانية.

وكلامنا في المقام في إحداث الأمر البديع في الدين فقد عرّفه الشريف المرتضى بقوله: الزيادة في الدين أو النقصان منه مع اسناده إلى الدين.(1) وعرّفه ابن حجر العسقلاني بقوله: ما أُحدث وليس له أصل في الشرع، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس بدعة.(2) إلى غير ذلك من التعاريف التي تدل على أنّ البدعة تتقوم بأُمور ثلاثة أساسية:

1. التدخّل في الدين والتصرف فيه عقيدة أو حكماً بزيادة أو نقيصة.

2. أن لا تكون لها جذور في الشرع يدعم جوازها إما بالخصوص أو بالعموم.

3. أن تكون هناك إشاعة بين الناس.

وعلى ذلك فكل عمل يصدر من الإنسان ويشيعه بين الناس من دون أن يتسم بكونه من الدين كلعبة كرة القدم والسلة والطائرة خارج عن حدّ البدعة، لأنّ لاعبها والناشر لها لا يقوم بذلك باسم الدين، فعلى الباحث في الأُمور المبتدعة أن يُفرّق بين ما يفعل من دون أن يكون له سمة الدين والأعمال التي يقوم بها باسم الدين وأنّه جزء منه.

فالأوّل منه يوصف بالبدعة لغوياً ويطلب حكمه من الفقه، فربّمايكون حلالاً وربّما يكون حراماً.

والبدعة بالمعنى الثاني أنسب بالعقيدة وله صلة تامّة بالمتكلّمين، الذين يبحثون عن التوحيد والشرك.

إذا علمت ذلك فلنرجع إلى الموضوع فنقول:

أوّلاً: إنّ البناء على القبور ليس أمراً مبتدعاً، بل كانت له جذور في الأُمم

ص:541


1- . رسائل الشريف المرتضى: 3/83.
2- . فتح الباري: 5/156.

السابقة فهذه قبور الأنبياء في الشامات والعراق وإيران فقد بني عليها البناء قبل بعثة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

ثانياً: إنّ الباني لا يقوم بالبناء بما أنّه جزء من الدين وأنّ الرسول أمر به، وإنّما يقوم به من عند نفسه تكريماً للميّت واحتراماً له.

نعم مجرد عدم كونه بدعة لا يسبب الحلية، بل للفقيه أن يبحث عن حكمه في الكتاب والسنة، وأنّه هل هو محكوم بالحرمة أو بالحلية مع قطع النظر عن عنوان البدعة ؟

وبذلك يظهر مفاد ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «أما بعد فإنّ أصدق الحديث كتاب اللّه، وأفضل الهدى هدى محمد، وشر الأُمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة».(1)

فإنّ الحديث ناظر إلى عمل مَن يتدخّل في الدين ويزيد فيه أو ينقص منه شيئاً، ومنه يعلم أنّ تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة أمر باطل حسب المعنى الثاني، فإنّ التدخّل في الدين قبيح عقلاً حرام شرعاً وليس لأحد أن يتدخّل فيه.

نعم روى البخاري في صحيحه: عن عبدالرحمن بن عبدالقارئ، قال:

خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون... فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على أُبي بن كعب، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم.

فقال عمر: نعم البدعة هذه.(2)

ص:542


1- . مسند أحمد: 3/310؛ سنن ابن ماجة: 1/17، الباب 7، الحديث 75.
2- . فتح الباري: 4/203؛ عمدة القارئ: 6/125؛ صحيح البخاري: 3/58، كتاب الصوم، باب فضل قيام شهر رمضان.

فلو كان لإقامة صلاة التراويح أصل في الكتاب والسنّة، فيصلح توصيفها بالبدعة الحسنة بالمعنى اللغوي، وأمّا لو لم يكن لها أصل فيهما كما هو الحق، لأنّها بالكيفية الحاضرة لم تنقل عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم حتى في فترة من خلافة عمر فعندئذٍ تكون بدعة تشريعية، محضة.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ البناء على قبور الأنبياء والأئمة والأولياء حتّى العاديين من الناس لايوصف بالعبادة لهم ولا بكونه بدعة أي تصرفاً في الدين.

نعم يبقى هناك شيء آخر وهو مراجعة الفقيه لمعرفة الحكم الشرعي من حيث الحلية والإباحة من الكتاب والسنة، وهذا ما سنتناوله في البحث التالي.

1. حكم البناء على القبور في الكتاب

يستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ البناء على القبور كان أمراً رائجاً بين الأُمم السالفة، ومن هذه الآيات ما تحدّث عن اتفاق من عثروا على أصحاب الكهف على البناء على قبورهم وإن اختلفوا في كيفية البناء، فقال جماعة منهم:

نبني عليهم بنياناً فإنّهم أبناء آبائنا، وقال الموحّدون: نحن أحق بهم هم منّا نبني عليهم مسجداً نصلي فيه ونعبد اللّه فيه، قال سبحانه حاكياً عنهم: (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) ،(1) والمراد من الغلبة هي غلبة الموحّدين على المشركين في ظل التطور الفكري الحاصل في عقول الناس.... ولذلك نرى أنّ الطبري ينسب القول الأوّل إلى المشركين والثاني إلى المسلمين.(2) وسيوافيك تفصيل ذلك في الفصل الثالث.

وعلى كلّ تقدير فالآية تنقل كلا القولين من دون أن يردّ حتى على الأوّل

ص:543


1- . الكهف: 21.
2- . تفسير الطبري: 277/9.

منهما فكيف على الثاني، وهذا يدل على أنّه كان أمراً مرضياً عند اللّه سبحانه، وإلاّ فلو كان من مظاهر الشرك لما مرّ عليه الذكر الحكيم بلا نقد.

2. البناء على القبور وإظهار المودّة

يعتبر البناء على قبور ذوي القربى أحد مصاديق التودد، لقوله سبحانه: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (1) والبناء على قبور عظماء المجتمعات الإنسانية يعد احتراماً وتكريماً لهم نابعاً عن المودة وعرفان الجميل.

فإذا كان البناء على القبور تكريماً مشعراً بالمودة فيكون ممّا دعا إليه الكتاب العزيز بصورة عامة.

ولذلك نجد أنّ الأُمم السابقة انطلقوا من هذا الأصل فبنوا على قبور أنبيائهم أبنية شامخة باقية إلى يومنا هذا، ولم يقتصروا بذلك بل عيّنوا لهم سدنة وخدماً يحافظون على البناء ويهتمون به.

3. موقف الخلفاء من البناء على قبور الأنبياء

حدثنا التاريخ أنّ الجيوش الإسلامية المحررة حينما فتحت بلاد الشام لم تتعرض إلى تلك القبور المشرفة للأنبياء بأي سوء، ولم ينقل لنا التاريخ أيّة محاولة إساءة أو اعتداء على تلك البقاع الشريفة بل لم يبد المسلمون أيّة رد فعل سلبية اتجاهها، فأقرّوا خدمتها والمشرفين عليها على ما هم عليه وأوصوا بالحفاظ عليها وصيانتها، فلو كان البناء على قبور الأنبياء والأولياء حراماً ومنافياً للتوحيد، لسعى المسلمون الفاتحون - و بأمر من الخلفاء - لتخريبها وإزالتها من الوجود ولم يتركوا لها أثراً يذكر، والحال أنّا نجد المسلمين لم يتعرضوا لها بل

ص:544


1- . الشورى: 23.

أبقوها كما هي عليه من دون أي تغيير. ولقد بقيت تلك القباب عامرة إلى هذه اللحظة حيث تحظى باهتمام خاص وعناية فائقة من الموحدين في جميع أقطار العالم.

وقد اعترف ابن تيمية بوجود هذه القباب قبل الإسلام وبقائها بعده، قال:

وقد كانت البنية التي على قبر إبراهيم عليه السلام مسدودة لا يدخل إليها إلى حدود المائة الرابعة.(1)

نفترض أنّ ما ذكره ابن تيمية صحيح وانّها كانت مسدودة، ولم يذكر له أي مصدر فلو كانت البنية على قبر الخليل شركا بواحاً، فلماذا لم يهدمها أحد في القرون الثلاثة التي هي عند السلفيين خير القرون، كما ينقلون على الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».(2)

وإليك نموذجاً آخر وهو قول ابن جبير في رحلته: وبهذه القرية [يعني جدّة] آثار قديمة تدل على أنّها كانت مدينة قديمة، وأثر سورها المحدق بها باق إلى اليوم، وبها موضع فيه قبة مشيّدة عتيقة، يذكر أنّه كان منزل حواء أُمّ البشر، صلى اللّه عليها، عند توجهها إلى مكة، فبني ذلك المبنى عليه تشهيراً لبركته وفضله.(3)

4. سيرة المسلمين والبناء على القبور

قد جرت سيرة المسلمين من عصر رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم على البناء على قبور الأولياء والصلحاء ومن كان لهم أيادي الفضل على الأُمّة. وكانت السيرة سائدة في الحرمين الشريفين إلى أن استولت الوهابية عليهما فهدمتها بمعاول

ص:545


1- . اقتضاء الصراط المستقيم: 331، طبعة مكتبة الرباط الحديثة.
2- . عمدة القارئ: 180/14؛ تفسير ابن كثير: 331/3؛ الصواعق المحرقة: 5.
3- . رحلة ابن جبير: 68، طبعة دار الكتاب اللبناني.

الظلم والتعصب، وها نحن نذكر نماذج من هذه الأبنية والقبور التي عليها صخور وخطوط لتظهر أنّ السيرة على خلاف ما يدّعيه ابن تيمية وتلميذ منهجه المقتات على فضلات مائدته الفكرية.

وقد كانت هذه السيرة سائدة في القرون الثلاثة التي يتباهى بها السلفيون وعلى رأسهم ابن تيمية، ويظهر ذلك لمن يقرأ شيئاً من كتب التاريخ والرحلات التي كتبها الرحالة إلى بلاد الحجاز ومصر وغيرهما.

قال المسعودي: توفي أبو عبد اللّه جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن على بن أبي طالب عليهم [رضي اللّه عنهم] سنة ثمان وأربعين ومائة ودفن بالبقيع مع أبيه وجدّه وله خمس وستون سنة وقيل أنّه سُمّ ، وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة عليها مكتوب:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه مبدئ الأُمم ومحيي الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سيدة نساء العالمين وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد رضي اللّه عنهم أجمعين».(1)

مشاهدات الرحالة ابن جبير الأندلسي

ابن جبير، ذلك الرحالة المعروف (المولود 540 ه) وقد شرع برحلته عام 578 ه، يذكر مشاهداته في مصر وهي كثيرة ننقل شيئاً يسيراً فعندما يذكر القاهرة وآثارها العجيبة، يقول: فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما، وهو في تابوت فضة مدفون تحت الأرض، قد بني عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه

ص:546


1- . مروج الذهب: 132/4، برقم 2377، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1973 م. و ما ذكر عن قبر فاطمة فإنّما هو قبر فاطمة بنت أسد أُمّ أميرالمؤمنين عليه السلام لا فاطمة بنت النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ولا يحيط الإدراك به، مجلّل بأنواع الديباج... إلى آخر ما قال. ثم يذكر ما أمكنه مشاهدته: ومنها قبر ابن النبي صالح، وقبر روبيل بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، صلوات عليهم أجمعين، وقبر آسية امرأة فرعون رضي اللّه عنها، ومشاهد أهل البيت رضي اللّه عنهم أجمعين. مشاهد أربعة عشر من الرجال، وخمس من النساء، وعلى كلّ واحد منها بناء حفيل، فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان، قد وُكّل بها قَومةٌ يسكنون فيها ويحفظونها، ومنظرها منظر عجيب، والجرايات متصلة لقوامها في كلّ شهر.(1)

ثمّ ذكر مشاهد أهل البيت رضي اللّه عنهم، قال: مشهد علي بن الحسين بن علي رضى الله عنه، ومشهدان لابني جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنه، ومشهد القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين المذكور رضى الله عنه، ومشهدان لابنيه الحسن والحسين (رضي اللّه عنهما)، ومشهد ابنه عبد اللّه بن القاسم رضى الله عنه ومشهد ابنه يحيى بن القاسم، ومشهد علي بن عبداللّه بن القاسم رضى الله عنه، ومشهد أخيه يحيى ابن عبداللّه رضى الله عنه، ومشهد... الحسين بن علي (رضي اللّه عنهم)، ومشهد جعفر بن محمد من ذرية علي بن الحسين رضى الله عنه ثم ذكر مشاهد الشريفات العلويات (رضي اللّه عنهن)، وقال: مشهد السيدة أُمّ كلثوم ابنة القاسم بن محمد بن جعفر (رضي اللّه عنها)، ومشهد السيدة زينب ابنة يحيى بن زيد بن علي بن الحسين (رضي اللّه عنها)، ومشهد أُمّ كلثوم ابنة محمد بن جعفر الصادق (رضي اللّه عنها)، ومشهد السيدة أُمّ عبد اللّه بن القاسم بن محمد (رضي اللّه عنها)، وهذا ذكر لما حصله العيان من هذه المشاهد العلوية المكرمة، وهي أكثر من ذلك. وأخبرنا أنّ في جملتها مشهداً مباركاً لمريم ابنة علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، وهو مشهور، لكنا لم نعاينه.(2)

ص:547


1- . رحلة ابن جبير: 48 و 49.
2- . رحلة ابن جبير: 49.

ولنقتصر بما ذكر فإنّ ذكر مشاهده من الأبنية على قبور الأنبياء والصحابة والشهداء كثير لا يسع المجال لنقله.

مشاهدات الرحالة ابن النجّار (578-643 ه)

إنّ الرحالة المعروف محمد بن محمود بن النجار يذكر في كتابه: أخبار مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم» مشاهدته للقبة الرفيعة في أوّل البقيع، وأنّ عليها بابان يفتح أحدهما في كل يوم للزيارة.(1)

مشاهدات ابن الحجّاج (المتوفّى 391 ه)

هذا ابن الحجّاج البغدادي - وهو من شعراء العراق - وقد دخل النجف الأشرف وزار قبر باب مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم علي أميرالمؤمنين عليه السلام وأنشأ قصيدة في حرمه مستهلاً بالبيت التالي:

يا صاحب القبة البيضاء في النجف من زار قبرك واستشفى لديك شُفي

وذلك يشهد على وجود القبة خلال خير القرون على قبر الإمام علي عليه السلام.

إلى غير ذلك من النصوص التي تكشف عن وجود هذه القباب في مختلف البقاع من بلاد المسلمين من غير أن ينكر عليه أحد لا في خير القرون ولا بعده، حتى جاء ابن تيمية وأفتى بتحريم البناء ولم يقتصر على ذلك بل تمادى ووصفه بأنّه من مظاهر الشرك.

وهناك سؤال هو: أنّ إجماع الامة في عصر من العصور دليل قطعي على ما اجمعوا عليه، فلو كان في المسألة دليل ظني واجمعت الامة على مضمونه يرتفع به الحكم الظني إلى الحكم القطعي ويصير حكماً واقعياً، فإذا كان هذا هو

ص:548


1- . راجع كتاب: «أخبار مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم»: 135، تحقيق صالح محمد جمال طبع مكة المكرمة، 1366 ه.

الأصل فلأي دليل يطرح هذا الإجماع ؟

ونعم ما قاله سيد الطائفة السيد محسن الأمين في القصيدة المسماة ب «العقود الدريّة في ردّ شبهات الوهابية»:

دفن النبي المصطفى في حجرة شأت الكواكب في العلى والسؤدد

والمسلمون تجد في تعظيمها ما بين بان منهم ومشيّد

من ذلك العهد القديم ليومنا تعظيمهم لضريحه لم ينفد

لم يهدم الأصحاب حجرة أحمد وهم الهداة وقدوة للمقتدي

بل لم تزل مبنية وبناؤها في كلّ عصر لم يزل يتجدد

إن لم يجز فوق القبور بناؤها لِمَ لم تهدم قبل حجرة أحمد

ما كان ممنوعاً لنا إحداثه ابقاؤه عن ذاك غير مجرد

مع أنّهم قد احدثوا بنيانها متتابعاً من بعد دفن محمّد

زوج النبي بنت عليها حائطاً بين القبور وبينها لم يعهد

وابن الزبير لها بنى وكذلك الفاروق ثم سمّيه فلنقتد

جهلوا تراهم ماعلمتم أم غدوا متساهلين وأنتم بتشدد

وتتابع الباقون في بنيانها وغدت لأصل الدين اعظم مقصد

لضريح أحمد حرمة ما ردّها غير الجهول وغير ذي الطبع الردي

لو لم يكن شرف القبور في الذي يدعو إلى هذا المقيم المقعد

وكذا ضرائح آله فلها الذي لضريح جدهم برغم الحُسّد(1)

ص:549


1- . العقود الدريّة في ردّ شبهات الوهابية: 395، المطبوعة مع كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبدالوهاب.
5. صيانة القبور في أحاديث العترة

قد سبق أنّ مؤلف كتاب «فقه المزار» تطرق للروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وحاول أن يطبق عنهم على ما عليه الوهابيون، ولذلك نحن سندرس رواياتهم في هذا المضمار فنقول:

إنّ الروايات الواردة عنهم على أصناف:

الأوّل: ما يدل على استحباب تعمير القبور

روى الشيخ الطوسي في التهذيب بطريقه عن أبي عامر واعظ أهل الحجاز ما هذا نصّه: قال أتيت أبا عبد اللّه عليه السلام فقلت له: ما لمن زار قبره (يعني أمير المؤمنين عليه السلام) و عمّر تربته ؟ قال: «يا أبا عامر حدّثني أبي عن أبيه عن جده الحسين بن علي عن علي عليه السلام أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال له: واللّه لتقتلن بأرض العراق وتدفن بها، قلت: يا رسول اللّه ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟ فقال لي: يا أبا الحسن إنّ اللّه جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنة وعرصة من عرصاتها، وإنّ اللّه جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوته من عباده تحنّ إليكم وتحتمل المذلة والأذى فيكم، فيعمّرون قبوركم ويكثرون زيارتها تقرّباً منهم إلى اللّه، مودة منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي والواردون حوضي، وهم زواري غداً في الجنة.

يا علي من عمّر قبوركم وتعاهدها فكأنّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك له ثواب سبعين حجة بعد حجة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أُمّه، فأبشر وبشّر أولياءك ومحبّيك من النعيم وقرّة العين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكن حثالة من الناس يعيّرون زوار قبوركم بزيارتكم كما

ص:550

تعيّر الزانية بزناها، أُولئك شرار أُمّتي، لا نالتهم شفاعتي، ولا يردون حوضي».(1)

فهل ترى أنّ الحديث يحث على تعمير قبور الأولياء وصيانتها عن الدمار والخراب، وما لمعمّرها عنداللّه من الأجر والثواب، أوَ يكون - هذا الحديث - مؤيداً لموقف ابن تيمية وابن عبد الوهاب اللّذين اتفقا على محو آثار الأنبياء والأولياء وهدم الأبنية وجعل القبور معرضاً لجريان السيول والأمطار وتردد الحيوانات عليها؟!

الثاني: آداب الزيارة تدل على وجود البناء

قد ورد عنهم عليهم السلام روايات تعلم المسلمين آداب الزيارة وكيفيتها، وذلك يحكي بوضوح على أنّ المشاهد كانت مشتملة على البناء والأبواب في عصورهم عليهم السلام، وإليك بعض هذه العبارات:

1. روى الكليني عن الحسين بن ثوير، قال: كنت أنا ويونس بن ظبيان والمفضل بن عمر وأبو سلمة بن السراج جلوساً عند أبي عبد اللّه عليه السلام وكانت المتكلم يونس بن ظبيان وكان أكبر منا سناً، فقال له: جعلت فداك إذا أردت زيارة الحسين كيف أصنع، وكيف أقول ؟ فقال له: «إذا أتيت أبا عبد اللّه عليه السلام فاغتسل على شاطئ الفرات وألبس ثيابك الطاهرة، ثم امش حافياً فإنّك في حرم من حرم اللّه وحرم رسوله، وعليك بالتكبير والتهليل والتمجيد والتعظيم للّه كثيراً، والصلاة على محمد وأهل بيته حتى تصير إلى باب الحائر ثم تقول: السلام عليك يا حجة اللّه وابن حجته، السلام عليكم يا ملائكة اللّه...».(2)

أقول: والحائر عبارة عن 12 متراً من الجوانب الأربع للقبر الشريف،

ص:551


1- . تهذيب الأحكام: 22/6؛ الوسائل: 10، الباب 26 من أبواب المزار، الحديث 1.
2- . الكافي: 4/576، أبواب الزيارات، ولاحظ: تهذيب الأحكام: 6/54، الباب 18، الحديث 10.

والعبارة (حتى تصير إلى باب الحائر) تحكي عن وجود باب في ذلك الوقت.

2. قال الشيخ الطوسي حاكياً عن الشيخ المفيد قال: وقد ذكر الشيخ المفيد في مناسك الزيارات ترتيباً لزيارة أبي عبد اللّه الحسين ابن علي عليهما السلام أحببت إيراده على وجهه، ذكر رحمه الله أنّه إذا انتهيت إلى باب المشهد فقف عليه وكبّر أربعاً ثم قل:....(1)

ويطلق المشهد على الموضع الذي استشهد فيه الإمام وهذا يحكي عن وجود الباب وقت ذاك، والباب فرع أن تكون هناك جدران وسقف.

3. قد ورد في زيارة أخي الإمام الحسين عليه السلام سيدنا العباس بن علي عليهما السلام وهي التي وردت عنهم عليهم السلام: ثم امش حتى تأتي مشهد العباس بن علي عليهما السلام، فإذا أتيته فقف على باب السقيفة وقل: سلام اللّه وسلام ملائكته المقربين....(2)

4. روى الصدوق بسنده عن موسى بن عبد اللّه النخعي قال: «قلت لعلي بن محمد بن علي بن موسى (يريد الإمام الهادي): علّمني يابن رسول اللّه قولاً أقوله بليغاً كاملاً إذا زرت واحداً منكم، فقال: إذا صرت إلى الباب فقف واشهد الشهادتين وأنت على غسل».(3)

5. روى ابن قولويه في «كامل الزيارات» قال: روي عن بعضهم عليهم السلام أنّه قال: «إذا أردت زيارة قبر أبي الحسن علي بن محمد وأبي محمد الحسن بن علي عليهم السلام، تقول بعد الغسل إن وصلت إلى قبريهما وإلاّ أومأت بالسلام من عند الباب الذي على الشارع - الشباك -».(4)

ص:552


1- . التهذيب: 56/6، الباب 18، الحديث 1.
2- . التهذيب 56/6، الباب 18، الحديث 1.
3- . التهذيب: 95/6، الباب 46، الحديث 1.
4- . مستدرك الوسائل: 364/10.

6. روى علي بن محمد الخزّاز في كتاب «كفاية الأثر» بسنده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه أخبره بقتل الحسين عليه السلام... إلى أن قال: «من زاره عارفاً بحقه... ألاّ وإن الإجابة تحت قبته والشفاء في تربته والأئمة من ولده».(1)

7. ومن أوضح الدلائل على وجود البناء في (خير القرون) ما روي عن تجرّؤ المتوكل على قبر الإمام الحسين عليه السلام حيث قام بهدمه وتخريبه وأجرى الماء عليه. قال السيوطي: وفي سنة ست وثلاثين أمر [المتوكل] بهدم قبر الحسين، وهدم ما حوله من الدور، وأن يعمل مزارع، ومنع الناس من زيارته، وخُرِّب، وبقي صحراء.(2)

الثالث: الدعوة إلى زيارة المشاهد

هناك روايات متضافرة أو متواترة تحث على زيارة قبر النبي الأكرم والعترة الطاهرة صلوات عليهم أجمعين ولا يمكن لنا نقل شيء يسير منها - لكثرتها - بل نكتفي باثنين منها:

الأُولى: روى الصدوق بسنده قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «أتمّوا حجّكم برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا خرجتم إلى بيت اللّه، فإنّ تركه جفاء وبذلك أُمرتم».(3)

الثانية: روى ابن قولويه بسنده عن الوشّاء أنّه قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: «إنّ لكلّ إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم».(4)

نحن ندرس هذا القسم من الروايات من دون رأي مسبق ونقول:

ص:553


1- . الوسائل: 10، الباب 45 من أبواب المزار، الحديث 16.
2- . تاريخ الخلفاء: 407.
3- . الخصال للصدوق: 406/2.
4- . الوسائل: 10، الباب 44 من أبواب المزار، الحديث 2؛ كامل الزيارات: 150.

إذا صحّت هذه الروايات وكان إتمام الحج بزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، أو كان تمام الوفاء بالعهد بزيارة قبورهم فيلزم أن تصان قبورهم وتحفظ وتبقى شاخصة على مر الدهور والأيام حتى يتمكّن المسلمون من زيارة قبورهم، ولا يتحقق ذلك إلاّ بالبناء عليها وصيانتها من الحوادث الطبيعية.

فلو قام أحد المعاندين بتدمير هذه الأبنية بتهمة الشرك فقد عرّض قبورهم للخراب والدمار وبالتالي منع الباقين من القيام بهذه السنن.

وبكلمة قصيرة دعوة الأُمّة الاسلامية إلى زيارة قبور النبي الأكرم وعترته الطاهرة والشهداء لا يتحقّق إلّاأن يكون هناك ضمان لبقاء هذه القبور والتعرف عليها، فلو تعرضت قبورهم للحوادث الطبيعية ولم يبق منها أثر فكيف يمكن إتمام الحج بزيارة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وتمام الوفاء بالعهد بزيارة الإمام.

إذا وقفت على ما ذكرنا من أصناف الروايات نقف أنّ ما عليه أئمة أهل البيت ينافي تماماً ما عليه الوهابيون من تهديم القبور وإزالة آثارها وتعريضها للخراب والدمار، فأين هذا من هذا ياترى ؟!!

ص:554

الفصل الثالث حجج المؤلف وذرائعه

اشارة

قد تعرفت على موقف أهل البيت عليهم السلام من البناء على القبور، فهلم ندرس حجج الكاتب التي ذكرها لتشويش الأذهان، ولكي يتّضح ما هو المقصود منها نقول: ما استند عليه على أصناف:

الأوّل: النهي عن زيادة التراب على القبر
اشارة

يستفاد من الروايات أنّ قبر الميت يملأ بنفس التراب الذي أخرج منه ولا يزاد في ملء الحفر بشيء من الخارج، وإليك ما روي في ذلك:

1. روى السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: «إنّ النبي نهى أن يزاد على القبر تراب لم يُخرج منه».(1)

2. وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «كلّ ما جعل على القبر من غير تراب فهو ثقل على الميت».(2)

3. وروي عنه عليه السلام قوله: «لا تطيّنوا القبر من غير طينه».(3)

دراسة الروايات

أمّا الأُولى والثالثة فقد وقع في سنديهما السكوني والنوفلي، وهما غير إماميين، وربّما يستشهد برواياتهما، وأمّا الثانية فهي مرسلة.

ص:555


1- . الوسائل: 2، الباب 36 من أبواب الدفن، الحديث 1.
2- . الوسائل: 2، الباب 36 من أبواب الدفن، الحديث 3.
3- . الوسائل: 2، الباب 36 من أبواب الدفن، الحديث 2.

هذا حول السند وأمّا المضمون فلا صلة له بما يرتئيه الكاتب، فإنّ النهي عن زيادة التراب على القبر لا صلة له بالبناء على القبر حتى يستريح الزائر عند زيارته ويصان من الحر والبرد، فإنّ جدران البناء تقع حول القبر وأطرافه، ولا صلة لها بالقبر نفسه.

على أنّ المضمون ينافي ما قام به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عندما دفن عثمان ابن مظعون، حيث أعلم قبره بصخرة.(1)

وقد روى السمهودي أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أمر رجلاً بحمل صخرة، ليعلّم بها قبر عثمان بن مظعون، ولم يستطع حملها فقام إليه رسول اللّه، فحسر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن ذراعيه فوضعها عند رأسه وقال: «أُعلّم بها قبر أخي، وادفن إليه من مات من أهله».(2)

أضف إلى ذلك أنّ وضع الصندوق أو الضريح على القبر لا يزيد على القبر ثقلاً ولا وزناً، لأنّ جدران الصندوق أبعد من حدود القبر.

الثاني: النهي عن البناء على القبور
اشارة

ممّا وقع ذريعة في يد الكاتب ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام من النهي عن البناء على القبور، وإليك هذه الروايات:

1. روى علي بن جعفر قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن البناء على القبر والجلوس عليه هل يصلح ؟ قال عليه السلام: «لا يصلح البناء عليه ولا الجلوس، ولا تجصيصه ولا تطيينه».(3)

ص:556


1- . سنن ابن ماجة: 498/1، الباب 42 من أبواب الجنائز، الحديث 1561.
2- . مستدرك الوسائل: 344/2؛ وفاء الوفا: 894/3، وفي طبعة أُخرى لمؤسسة الفرقان، في الصفحة 272.
3- . الوسائل: 2، الباب 44 من أبواب الدفن، الحديث 1.

2. روى يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «نهى رسول اللّه أن يُصلّى على قبر أو يقعد عليه أو يُبنى عليه».(1)

3. روى جراح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا تبنوا على القبور ولا تصوّروا سقوف البيوت، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كَرِهَ ذلك».(2)

تحليل الروايات

أمّا الرواية الأُولى فقد ورد فيها لفظة: «لا يصلح» وهو دليل على الكراهة لا الحرمة، وسوف يوافيك ما يزيل الكراهة. وكم من أُمور توصف بالكراهة ولكن هناك ما يسبّب زوالها.

وأمّا الرواية الثالثة فقد ورد فيها النهي بلفظ: «لا تبنوا على القبور»، فهي محمولة على الكراهة أيضاً بقرينة الرواية الأُولى.

أضف إلى ذلك: أن ما دلّ على جواز البناء على القبور فيما سبق أفضل دليل على حمل النهي في هذه الروايات على الكراهة.

وأمّا الرواية الثانية فقد وقع في سندها راويان، هما: زياد بن مروان القندي، ويونس بن ظبيان.

أمّا الأوّل فقد عرفه النجاشي بقوله: أبو الفضل وقيل أبو عبد اللّه الأنباري، روى عن أبي عبد اللّه وأبي الحسن عليهما السلام، ووقف في الرضا عليه السلام.

قال الطوسي: له كتاب، و روى الكشي ما يدلّ على خبثه ووقفه.

وقال العلّامة: هو عندي مردود الرواية.(3)

ص:557


1- . الوسائل: 2، الباب 44 من أبواب الدفن، الحديث 2.
2- . الوسائل: 2، الباب 44 من أبواب الدفن، الحديث 3.
3- . الموسوعة الرجالية الميسّرة: 202، برقم 2459.

وأمّا الثاني فقد قال النجاشي على ما حكى عنه القهبائي: ضعيف جدّاً، لا يلتفت إلى ما رواه، كل كتبه تخليط، وقال العياشي: متهم غال، وروى الكشي بسند صحيح رواية في ذمه، متضمّنة لعن أبي الحسن الرضا إياه، وقال الكشي:

ذكر الفضل ابن شاذان في بعض كتبه، إنّ من الكذابين المشهورين ابن سنان،(1)إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في حقّه،(2) فكيف يمكن الاستدلال بروايته ؟!

ثمّ إنّ مورد الروايات - إذا صحت أسنادها - هو عامة الناس، إذ لو بني لكلّ ميت بناءً ، أو أنّ كلّ أُسرة قامت بالبناء على أمواتهم ربما ضاقت الأرض، ولم يبق مكاناً لدفن أحد. يقول العلّامة الحلّيّ فى تفسير الروايات: لأنّ في ذلك تضييقاً على الناس ومنعاً لهم عن الدفن، هذا مختص بالمواضع المباحة، أمّا الأملاك فلا.(3)

وقد ورد نظير هذه الروايات في كتب أهل السنة وحملها بعضهم على ما كان البناء للفخر. يقول مؤلف «الفقه على المذاهب الأربعة»: يكره أن يبنى على القبر بيت أو قبة أو مدرسة أو مسجد أو حيطان تحدق به، إذا لم يقصد بها الزينة والتفاخر، وإلاّ كان ذلك حراماً، هذا إذا كانت الأرض غير مسبلة ولا موقوفة.

والمسبلة هي التي اعتاد الناس الدفن فيها ولم يسبق لأحد ملكها، والموقوفة هي التي وقفها المالك بصيغة الوقف، أمّا المسبلة والموقوفة فيحرم فيها البناء مطلقاً، لما في ذلك من التضييق والتحجير على الناس، ثم قال: الحنابلة: إنّ البناء مكروه مطلقاً سواء كانت الأرض مسبلة أو لا، إلّاأنّه في المسبلة أشد كراهة.(4)

ويقول الشيخ الطوسي: ويكره تجصيص القبور والتظليل عليها، والمقام

ص:558


1- . رجال الكشي: 507.
2- . الموسوعة الرجالية الميسّرة: 511، برقم 6713.
3- . منتهى المطلب: 403/7.
4- . الفقه على المذاهب الأربعة: 420/1.

عندها، وتجديدها بعد اندراسها، ولا بأس بتطيينها ابتداءً .(1)

وقال ابن حمزة: والمكروه تسعة عشر... إلى أن قال: وتجصيص القبر، والتظليل عليه والمقام عنده، وتجديده بعد الاندراس.(2)

وقال الشهيد في «الذكرى»: المشهور كراهة البناء على القبر واتّخاذه مسجداً، وكذا يكره القعود على القبر، وفي المبسوط نقل الإجماع على كراهة البناء عليه.(3)

ثمّ قال: هذه الأخبار رواها الصدوق والشيخان وجماعة من المتأخّرين في كتبهم، ولم يستثنوا قبراً، ولا ريب أنّ الإمامية مطبقة على مخالفة قضيتين من هذه: إحداهما البناء، والأُخرى الصلاة، - إلى أن قال: - فيمكن القدح في هذه الأخبار لأنّها آحاد، وبعضها ضعيف الاسناد، وقد عارضها أخبار أشهر منها، وقال ابن الجنيد: لا بأس بالبناء عليه، وضرب الفسطاط يصونه ومن يزوره....

إلى أن قال: [وتخصص هذه العمومات] بالأخبار الدالة على تعظيم قبورهم وعمارتها وأفضلية الصلاة عندها وهي كثيرة.(4)

الثالث: النهي عن التجصيص والتطيين

لم يرد في النهي عن التجصيص والتطيين إلّارواية واحدة تقدمت في الصنف الثاني من الروايات، وقد قلنا هناك: إنّ لفظ «لا يصلح» دليل على الكراهة، وقد مرّ أنّ الشيخ وأبا حمزة أفتيا بكراهتهما كما مرّ.

أضف إلى ذلك: أنّه يعارض ما رواه الكليني رحمه الله عن يونس بن يعقوب

ص:559


1- . النهاية: 44.
2- . الوسيلة: 69.
3- . ذكرى الشيعة: 35/2؛ المبسوط: 187/1.
4- . ذكرى الشيعة: 37/2.

قال: «لمّا رجع أبو الحسن موسى عليه السلام من بغداد ومضى إلى المدينة ماتت له ابنة ب «فيد» فدفنها وأمر بعض مواليه أن يجصّص قبرها ويكتب على لوحٍ اسمَها ويجعله في القبر.(1)

بل يمكن أن يقال: إنّ النهي عن التجصيص والتطيين راجع إلى داخل القبر لا خارجه، وذلك لاتّفاق الأُمّة الإسلامية على استحباب رفع القبر بمقدار شبر أو أربع أصابع منفرجات، وما ذلك إلّاليبقى ويُعرف ويزار، ومن المعلوم أنّ رفع التراب فوق القبر لا يبقى إلّابالتطيين والتجصيص خارج القبر.

الرابع: استحباب رفع القبر شبراً

لقد استفاضت الروايات من طرقنا ومن طرق أهل السنة أيضاً على استحباب رفع القبر مقدار شبر أو أربع أصابع منفرجات، وإليك عدداً من هذه الروايات:

أ. روى الكليني بسنده عن قدامة بن زائدة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول:

«إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سلّ إبراهيم ابنه سلاً ورفع قبره».(2)

ب. روى الكليني عن عقبة بن بشير عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام: «يا علي ادفني في هذا المكان، وارفع قبري من الأرض أربع أصابع، ورشّ عليه من الماء».(3)

ج. وروى أيضاً عن الحلبي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «إنّ أبي أمرني أن أرفع القبر من الأرض أربع أصابع مفرّجات».(4)

ص:560


1- . الوسائل: 2، الباب 37 من أبواب الدفن، الحديث 2.
2- . الوسائل: 2، الباب 31 من أبواب الدفن، الحديث 2.
3- . الوسائل: 2، الباب 31 من أبواب الدفن، الحديث 3.
4- . الوسائل: 2، الباب 31 من أبواب الدفن، الحديث 6.

وهذه الروايات تأمر برفع القبر أربع أصابع أو شبراً ولا تنهى عن الزائد عليه، نعم ورد في رواية واحدة، أنّ الإمام موسى الكاظم عليه السلام نهى أن يرفع قبره أزيد من أربع أصابع، روى عمر بن واقد عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام - في حديث - أنّه قال: «إذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري أكثر من أربع أصابع مفرّجات».(1)

ووجه النهي أنّ الإمام الكاظم عليه السلام قد دفن في مقابر قريش والتي كان كل القرشيين، من العلويين والعباسيين يدفن فيها، فلو كان قبره يرفع أكثر من قبور غيره، لأثار حفيظة الآخرين، هذا وربما يتعرض القبر للإهانة.

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّ رفع القبر شبراً أو أربع أصابع أمر مستحب، وأمّا الزائد عليه، كما لم يثبت استحبابه، لم تثبت كراهته ولا حرمته.

الخامس: تسوية القبور
اشارة

روى الكليني عن السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «بعثني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلّا محوتها، ولا قبراً إلّاسويته، ولا كلباً إلّاقتلته».(2)

روى مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليٌّ بن أبي طالب: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أن لا تدع تمثالاً إلّاطمسته، ولا قبراً مشرفاً إلّاسويته».(3)

ص:561


1- . الوسائل: 2، الباب 31 من أبواب الدفن، الحديث 11.
2- . الوسائل: 2، الباب 43 من أبواب الدفن، الحديث 2.
3- . صحيح مسلم: 61/3، كتاب الجنائز؛ سنن الترمذي: 256/2، باب ما جاء في تسوية القبر؛ سنن النسائي: 4/88، باب تسوية القبر.
مناقشة الحديث

نحن لا ندرس سند الحديث مطلقاً سواء الوارد من طرقنا أو طرقهم، وانّما نركز البحث على مضمونه، فنقول:

أوّلاً: إنّ ما ورد من طريقنا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعث علياً عليه السلام إلى المدينة، لا يخلو من احتمالين:

أ. أن يكون بعثه إلى المدينة قبل هجرته صلى الله عليه و آله و سلم إليها.

ب. أن يكون بعثه بعد الهجرة.

أمّا الأوّل فباطل قطعاً، إذ لم يكن لعلي أي هجرة إلى المدينة قبل الهجرة.

وأمّا الثاني فهو بعيد جدّاً، لأنّ الظاهر أنّ المراد من الصورة هو صورة الأصنام والأوثان التي يحافظ عليها في البيوت أو الأزقّة، وهل يحتمل أن يكون لها وجود بعد انتشار الإسلام في المدينة وأطرافها، وقد استقبلت الطائفتان (الأوس والخزرج) دعوة النبي صلى الله عليه و آله و سلم برحابة صدر وطاعة ؟!

ثانياً: إنّ التسوية الواردة في الحديث من الطريقين تستعمل على وجهين:

1. أن يكون الفعل متعدياً لمفعول واحد فقط، كما في قوله سبحانه: (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) .(1)

2. أن يكون الفعل متعدياً إلى مفعولين: أحدهما بلا واسطة، والآخر بواسطة حرف الجر، كما في قوله سبحانه: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) .(2)

أمّا الوجه الأوّل فتكون التسوية وصفاً لنفس الشيء لابالمقايسة إلى غيره، كما في الآية المتقدمة حيث إنّ المراد تسوية بدن آدم عليه السلام، ونظيره قوله سبحانه:

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى) .(3)

ص:562


1- . الحجر: 29.
2- . الشعراء: 98.
3- . الأعلى: 2.

والمراد أي سوّى ما خلق. ويكون المقصود تسوية الشيء وإكماله ورفع الإعوجاج والنقص عنه.

وأمّا الوجه الثاني أي فيما لو أخذ مفعولين وتعدّى إلى المفعول الثاني بحرف الجر، تكون التسوية وصفاً للشيء بالإضافة إلى الأمر الآخر كما في الآية المتقدمة: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) .

قال سبحانه: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً) .(1) ترى أنّ التسوية هناك ليست وصفاً لنفس المعبود بما هوهو، بل له بالقياس إلى رب العالمين، ونظيره الآية الثانية فالتسوية صفة للكافرين بالقياس إلى الأرض.

إذا علمت واقع هذه الكلمة واختلاف مضمونها حسب وحدة المفعول وكثرته فاعلم أنّ فعل التسوية في الحديث قد اكتفى بمفعول واحد فتكون التسوية وصفاً لنفس القبر، لا بالقياس إلى غيره كالأرض، فيكون المراد كون القبر مستوياً لا محدباً، ومسطحاً لا مسنّماً، فالحديث يدل على حرمة أو كراهة التسنيم، ويدل بالملازمة على استحباب التسطيح، وأين هذا من تخريب البناء على القبور، وادّعاء حرمة البناء.

وقد فسّر النووي في شرحه على صحيح مسلم الحديث على نحو ما ذكرنا، وقال: قوله: «يأمر بتسويتها» وفي الرواية الأُخرى: «ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته».

فيه: أنّ السنة أن القبر لايرفع على الأرض رفعاً كثيراً ولا يسنّم بل يرفع نحو شبر ويسطّح، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه، ونقل القاضي عياض عن

ص:563


1- . النساء: 42.

أكثر العلماء أنّ الأفضل عندهم تسنيمها وهو مذهب مالك.(1)

هذا كلّه يعود إلى إيضاح متن الحديث.

ثمّ إنّ الحديث نقل من طرقنا بصور مختلفة تفتقد الاعتماد عليها وهي:

أ. جدّد قبراً، ب. حدّد قبراً، ج. جدّث قبراً (دفن الميت في قبر غيره). د.

خدّد قبراً (أي نبشه).(2)

أفيمكن الاستدلال بهذا الحديث المردّد بين أربع صور كل يخالف الآخر؟!

إلى هنا تمّ ما اتّخذه الكاتب ذريعة لما بيّناه من أحاديث العترة الطاهرة، وقد عرفت أنّ الأدلة تدل بوضوح على جواز البناء واستحبابه بالنسبة إلى قبور الأنبياء والأولياء، وأمّا ما يتوهّم منه النهي فهو محمول على الكراهة في فترات خاصة أو لأُناس عاديين.

وبهذا يتم الكلام في هذا الفصل، فلنعد إلى بناء المساجد عند المشاهد، وهذا ما ندرسه في الفصل التالي، إن شاء اللّه تعالى.

ص:564


1- . شرح صحيح مسلم للنووي: 36/7، الباب 31 الأمر بتسوية القبر، برقم 968/92.
2- . ذكرى الشيعة: 440/2.

الفصل الرابع بناء المساجد جنب المشاهد

اشارة

المسجد هو معبد الموحّدين، يعبدون اللّه وحده ولا يدعون فيه أحداً إلّا اللّه، قال سبحانه: (وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً) (1)، والمراد من الدعوة هو العبادة أي لا تعبدوا مع اللّه أحداً.

ذلك أنّ القرآن الكريم تارة يذكر العبادة بلفظها، وأُخرى يذكرها بلفظ الدعوة قال سبحانه: (وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) .(2)

ترى أنّه سبحانه قد عبّر عن العبادة بالدعاء في صدر الآية، وهذا يدلّ على أنّ الدعاء المرادف للعبادة مختص باللّه سبحانه. وأمّا الدعاء المجرد عن عنوان العبادة فأمر مباح أو مستحب أو واجب، وعلى كلّ تقدير فالمسجد مركز العبادة الخاصّة باللّه سبحانه.

نعم جرت السنة منذ زمان على بناء المساجد في جنب المراقد تبركاً بوجود الأولياء، كما عمل به الموحّدون الذين عثروا على أصحاب الكهف وقالوا: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) ، وسوف يوافيك تفصيله.

ومن شاهد المؤمنين الذين يصلّون في تلك المساجد التي بنيت جنب

ص:565


1- . الجن: 18.
2- . غافر: 60.

المراقد يذعن بأنّهم يعبدون اللّه وحده ويصلّون باتجاه القبلة الّتي كتبها اللّه عليهم حيث قال: (وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (1)، كما يرى أنّهم يسجدون على الأرض من دون أن يتخذوا القبر قبلة أو مسجوداً عليه أو غير ذلك، من الأُمور المحرمة الموبقة.

وما يتصوره الغافل في حقهم أنّهم يرتكبون الأُمور التالية:

أ. جعل القبر قبلة.

ب. جعله مسجوداً عليه.

ج. جعله مسجوداً له.

فكلّها افتراءات لا صحة لها.

نعم أنّ الحافز للصلاة في هذه المساجد هو التبرك بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم أو بالإمام أو الولي المدفون هناك كما أمر المسلمون بالصلاة خلف مقام إبراهيم عليه السلام لتلك الغاية، قال سبحانه: (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) .(2)

وإليك ما يشهد على جواز بناء المساجد جنب المشاهد والصلاة فيها:

1. عمل الموحّدين في عصر أصحاب الكهف

عثر الناس على أصحاب الكهف بعد مرور أكثر من ثلاثمائة سنة، فوقع الخلاف بينهم، فقال المشركون: (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) .

وقال الموحّدون الذين يصفهم اللّه سبحانه بقوله: (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) .(3)

ص:566


1- . البقرة: 144.
2- . البقرة: 125.
3- . الكهف: 21.

وهذا يدلّ على أنّ كلا الأمرين قد وقعا مورد رضا اللّه سبحانه. فلو كان أحد الأمرين منافياً للتوحيد لما ذكره سبحانه بلا نقد ورد.

ثم إنّ المحدث المعاصر الشيخ الألباني الذي يقتفي أثر الوهابيين أوّل الآية في كتابه: «تحذير الساجد باتّخاذ القبور مساجد» وقال - انطلاقاً من عقيدته المسبّقة - ما هذا معناه: المقصود من قوله: (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ ) هو الأمراء والمتنفذون، ولم يعلم أنّهم كانوا رجالاً صالحين.(1)

ولكنّه غفل عن أمرين ولو كان واقفاً عليهما لم يؤوّل كلام اللّه سبحانه تأييداً لعقيدته:

1. إنّ الضمير في قوله: (غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ ) يرجع إلى أصحاب الكهف لا إلى الطائفة الأُولى الّذين اكتفوا بالبناء عليهم، والمراد أنّ الّذين عرفوا أصحاب الكهف حق المعرفة وعرفوا مقاماتهم عند اللّه سبحانه قالوا: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) .

وبعبارة أُخرى: قوله: (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ ) في مقابل قول الطائفة الأُولى: (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) فاستنكروا حالهم وأحالوه إلى ربّهم، بخلاف الطائفة الأُولى الذين عرفوهم وغلبوا على أمرهم وتسلّطوا على أحوالهم، فيكون المراد من الغلبة، هو التعرف على أحوالهم لا غلبة قوم على قوم.

2. لو افترضنا أنّ المقصود من قوله: (غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ ) هو الغلبة على الطائفة الأُولى لكن المراد من الغلبة هو الغلبة الدينية، بشهادة ما رواه الطبري حيث قال: وردّ اللّه إليهم أرواحهم في أجسامهم من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بوَرِق يشتري طعاماً، فلمّا أتى باب مدينتهم، رأى شيئاً يُنكره، حتّى دخل على رجل فقال: بعني بهذه الدراهم طعاماً، فقال: ومن أين لك هذه

ص:567


1- . تحذير الساجد باتّخاذ القبور مساجد: 72.

الدراهم ؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس، فآوانا الليل، ثم أصبحوا، فأرسلوني، فقال: هذه الدراهم كانت على عهد مُلك فلان، فأنّى لك بها؟ فرفعه إلى الملك، وكان ملكاً صالحاً؟ فقال: من أين لك هذه الوَرِق ؟

قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس، حتّى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا، ثم أمروني أن أشتري لهم طعاماً، قال: وأين أصحابك ؟ قال: في الكهف، قال: فانطلقوا معه حتّى أتوا باب الكهف، فقال: دعوني أدخل على أصحابي قبلكم، فلما رأوه ودنا منهم ضُرب على أذنه وآذانهم، فجعلوا كلما دخل رجل أُرعب، فلم يقدروا على أن يدخلوا عليهم، فبنوا عندهم كنيسة، اتّخذوها مسجداً يصلّون فيه.(1)

2. المسجد النبوي ومرقد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم

توفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في بيت إحدى زوجاته، وانجرّ الأمر إلى دفنه في نفس المكان الّذي توفّي فيه، وقد صار بيته معبداً لزوجته عائشة بقية حياتها، ولم يعترض أحد على صلاتها في بيتها والقبر إلى جانبها.

وفي السنة الثامنة والثمانين لمّا ضاق المسجد على المصلّين - حيث انتشر الإسلام في ربوع المعمورة - أمر الوليد بن عبد الملك والي المدينة عمر بن عبد العزيز بأن يوسّع المسجد بتخريب بيوت أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم الّتي كانت مبنية حول المسجد، فقام هو بتخريبها جميعاً، وعندئذٍ وقع مرقد النبي في داخل المسجد، ولم يعترض على ذلك العمل أحدٌ من التابعين حتّى الإمام زين العابدين عليه السلام ولا سائر الفقهاء في ذلك الزمن، وهذا يحكي عن أنّ وجود المرقد داخل المسجد لا يعارض أُصول التوحيد ولا أُصول الشريعة، إذ أنّ الغاية هي

ص:568


1- . تفسير الطبري: 265/1-266، طبعة دار ابن حزم.

التبرك بوجود النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وقد مر على ذلك أزيد من ثلاثة عشر قرناً ولم ينبس أحدٌ ببنت شفة. نعم روي عن سعيد بن المسيب أنّه اعترض على التخريب ولم يعلم وجه اعتراضه، إذ يحتمل أن يكون أنّ أصحاب البيوت كانوا غير راضين، أو أنّ الاعتراض كان لأجل أثر البناء لهذه الأبنية الّتي هي من الخشب والطين، حتّى يرى أبناء الاجيال التالية كيف عاش النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأهله وعياله حياة بسيطة.(1)

3. سيرة المسلمين وبناء المساجد عند المشاهد

يظهر ممّا ذكره السمهودي في «تاريخ المدينة» وجود المساجد عند المشاهد كثيراً، وإليك بعض ما ذكره: وأمّا قبر فاطمة بنت أسد أُمّ علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنهما، لمّا استقر بفاطمة وعلم بذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قام بقبرها فحفر في موضع المسجد الّذي يقال له اليوم قبر فاطمة، ثم لحد لها لحداً ولم يضرح لها ضريحاً، فلمّا فرغ منه نزل فاضطجع في اللحد وقرأ فيه القرآن ثم نزع قميصه فأمر أن تكفن فيه ثمّ صلّى عليها عند قبرها فكبر تسعاً.(2)

يذكر البيهقي أنّ فاطمة سيدة نساء العالمين عليها السلام كانت تذهب إلى زيارة قبر عمّها حمزة وتصلّي لديه.(3)

نقل السيوطي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نزل في ليلة المعراج الأماكن التالية:

طيبة؛ طور سيناء، بيت لحم وقد أمره جبرائيل بالصلاة فيها.

ثم قال: أمّا طيبة فهي مهجرك، وأمّا طور سيناء فهو الموضع الّذي كلم اللّه

ص:569


1- . اقرأ تفصيل توسعة المسجد في كتاب وفاء الوفا: 262/2-276، طبعة مؤسسة الفرقان.
2- . وفاء الوفا: 897/3، طبعة دار إحياء التراث العربي. و 276/3، طبعة مؤسسة الفرقان.
3- . سنن البيهقي: 78/4؛ مستدرك الحاكم: 377/1؛ وفاء الوفا: 322/3، طبعة مؤسسة الفرقان.

موسى، وأمّا بيت لحم فهو مولد عيسى المسيح عليه السلام.(1)

كلّ ذلك يدلّ على أنّ الصلاة تبركاً بالمواضع الّتي مسها جسد نبي أو أحد الأولياء، كان أمراً مشروعاً لم ينكره أحد.

الصلاة في المشاهد في أحاديث العترة الطاهرة

وبما أنّ كاتب الرسالة يريد أن يطبق أحاديث العترة على عقائد الوهابيين لذا يجب أن نذكر بعض ما روي عنهم لكي يظهر أنّ ما ادّعاه من اتّحاد النظرتين أمر باطل:

1. روى الكليني عن الحسن بن عطية، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا فرغت من السلام على الشهداء فأت قبر أبي عبد اللّه عليه السلام فاجعله بين يديك ثم تصلي ما بدا لك».(2)

2. روى الشيخ عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام في حديث طويل في زيارة الحسين عليه السلام: «ثمّ تمضي يا مفضّل إلى صلاتك ولك بكل ركعة تركعها عنده كثواب من حج ألف حجّة».(3)

3. ما رواه الشيخ عن ابن أبي عمير، عن رجل، عن أبي جعفر عليه السلام، قال لرجل: «يا فلان ما يمنعك إذا عرضت لك حاجة أن تأتي قبر الحسين عليه السلام فتصلي عنده أربع ركعات».(4) فقد أمر الإمام بالصلاة عند قبر الحسين عليه السلام.

وقد اقتصرنا على ما ذكر فإنّ ذكر الجميع يطول.

ص:570


1- . الخصائص الكبرى: 154/1.
2- . الوسائل: 10، الباب 69 من أبواب المزار، الحديث 1.
3- . الوسائل: 10، الباب 69 من أبواب المزار، الحديث 2.
4- . الوسائل: 10، الباب 69 من أبواب المزار، الحديث 3. ولاحظ بقية الروايات الّتي تناهز العشر.

ويستفاد من الجميع أنّ الصلاة عند مشاهد الأئمة عليهم السلام أمر مشروع ومثاب عليه.

ذرائع الكاتب وحججه

اتّخذ الكاتب في المقام بعض الروايات ذريعة لما يتبنّاه من حرمة بناء المساجد على القبور والصلاة فيها، ونحن نذكر تلك الذرائع واحدة بعد الأُخرى.

1. روى الصدوق مرسلاً عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «لا تتّخذوا قبري قبلة ولا مسجداً، فإنّ اللّه لعن اليهود حيث اتخذوا قبور الأنبياء مساجد».(1)

ترى أنّ الحديث يمنع عن أمرين:

أ. اتّخاذ القبر قبلة.

ب. اتّخاذ موضع القبر مسجداً.

وإليك دراسة كلا الأمرين:

إنّ في مضمون الحديث سؤالاً ربما يسبب الشك في صحته حيث يصف اليهود بأنّهم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وهذا من اليهود بعيد جداً، لأنّ اتخاذ القبر مسجداً آية التكريم والتعظيم واليهود على النقيض من ذلك حيث اشتهروا بقتل أنبيائهم، قال سبحانه: (سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ) .(2) وقال أيضاً: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ) .(3)

نحن نغض النظر عن هذا السؤال ونرجع إلى بيان معنى الحديث فنقول:

ص:571


1- . الوسائل: 2، الباب 65 من أبواب الدفن، الحديث 2.
2- . آل عمران: 181.
3- . النساء: 155.

الحديث ينهى عن أمرين:

أ. اتّخاذ قبر النبي قبلة.

ب. اتّخاذ قبره مسجداً.

أمّا الأوّل فلا شك أنّه من المحرمات الموبقة فقد جعل اللّه سبحانه الكعبة هي القبلة دون غيرها فالنهي في محله.

وأمّا الثاني فالمراد به هو اتخاذ القبر مسجداً بمعنى المسجود عليه تعظيماً له، وهذا أيضاً من المحرمات، ولكنّك لا تجد أحداً من المسلمين مَن يصلي إلى القبر ويتّخذه قبلة ولا مَن يصلي ويسجد على القبر.

2. روى الشيخ الطوسي عن الإمام الرضا عليه السلام قال: «لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم يتخذ القبر قبلة».(1)

إنّ قوله عليه السلام: «ما لم يتخذ القبر قبلة» يحتمل وجهين:

1. ان يصلي إلى القبر كما يصلي إلى الكعبة.

2. أن يكون القبر حيال وجهه مع كونه مصلياً إلى الكعبة.

أمّا الأوّل فهو حرام بلا شك؛ وأمّا الثاني فمحمول على الكراهة، بشهادة أنّ المسلمين يصلّون في المسجد النبوي في الصفّة وقبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بحيال وجههم.

بقيت هنا نكتتان:

1. إنّ مصب الرواية الأخيرة هو المقابر العامّة لا المشاهد المشرّفة والمراقد المطهرة، الّتي تضافرت الروايات على استحباب الصلاة فيها بلا نكير.

2. إنّ هذه الروايات أخبار آحاد لا يمكن الاستدلال بها على حكم الصلاة

ص:572


1- . الوسائل: 3، الباب 25 من أبواب مكان المصلي، الحديث 3.

في المشاهد ومراقد الأولياء، الّتي تضافرت الروايات على استحبابها، يقول صاحب الجواهر: إنّ قبور الأنبياء والأئمّة عليهم السلام لا تندرج في تلك الإطلاقات حتّى تحتاج إلى استثناء، كما هو واضح، وأيضاً فاللائق استثناؤها من كراهة البناء على القبور كما في الذكرى وغيرها، والمقام عندها لا التجصيص والتجديد، اللّهم إلاّ أن يراد منهما ذلك.(1)

ومن أراد التفصيل عليه مراجعة كتابينا التاليين:

1. الوهابية في الميزان.

2. الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية.

ص:573


1- . جواهر الكلام: 340/4.

الفصل الخامس البكاء على الميّت وإقامة العزاء عليه

اشارة

الحزن والتأثّر عند فقدان الأحبة أمر جُبلت عليه الفطرة الإنسانية، فإذا ابتلي انسانٌ بمصاب عزيز من أعزائه أو فلذة من فلّذات كبده، أو أحدٍ من أرحامه يحسّ بحزن شديد يتعقّبه ذرف الدموع على وجناته، دون أن يستطيع أن يتمالك حزنه أو بكاءه.

ولا أجد أحداً ينكر هذه الحقيقة إنكار جدّ وموضوعية، ومن الواضح بمكان انّ الإسلام دين الفطرة يجاريها ولا يخالفها.

قال سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها) .(1)

ولا يمكن لتشريع عالمي أن يحرّم الحزن على فقد الأحبة والبكاء عليهم إذا لم يقترن بشيء يغضب الرب.

ومن حسن الحظ نرى أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم، والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان ساروا على وفق الفطرة.

روى أصحاب السِّيَر والتاريخ، أنّه لمّا احتضر إبراهيم ابن النبي، جاء صلى الله عليه و آله و سلم فوجده في حجر أُمّه، فأخذه ووضعه في حجره، وقال: «يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من اللّه شيئاً - ثم ذرفت عيناه وقال: - إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب، ولولا أنّه أمرٌ حقّ ووعدٌ صدق

ص:574


1- . الروم: 30.

وأنّها سبيل مأتية، لحزنّا عليك حزناً شديداً أشدّ من هذا».(1)

وفي رواية أُخرى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يرضي ربنا، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون».(2)

وروي أيضاً أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا أُصيب حمزة رضى الله عنه وجاءت صفية بنت عبد المطلب (رضي اللّه عنها) تطلبه، - فحال بينها و بينه الأنصار، قال صلى الله عليه و آله و سلم:

دعوها، فجلست عنده فجعلت إذا بكت بكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وإذا نشجت نشج، وكانت فاطمة (رضي اللّه عنها) تبكي، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلما بكت يبكي، وقال: «لن أصاب بمثلك أبداً».(3)

ولمّا رجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من أحد بكت نساء الأنصار على شهدائهنّ ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: «لكن حمزة لا بواكي له»، فرجع الأنصار فقالوا لنسائهم: لا تبكيّن أحداً حتّى تبدأن بحمزة، قال: فذاك فيهم إلى اليوم لا يبكين ميتاً إلّابدأن بحمزة.(4)

وهذا هو النبي صلى الله عليه و آله و سلم ينعى جعفراً، وزيد بن حارثة، وعبد اللّه بن رواحة، وعيناه تذرفان.(5)

وهذا هو صلى الله عليه و آله و سلم يقبّل عثمان بن مظعون وهو ميت ودموعه تسيل على خدّه.(6)

وروي أيضاً أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يزور قبر أُمّه ويبكي عليها وقد أبكى من حوله.(7)

ص:575


1- . السيرة الحلبية: 248/3.
2- . سنن أبي داود: 58/1؛ سنن ابن ماجة: 482/1.
3- . إمتاع الاسماع للمقريزي: 154.
4- . مجمع الزوائد: 120/6.
5- . صحيح البخاري: 184/4، كتاب المناقب في علامات النبوة في الإسلام؛ سنن البيهقي: 70/4.
6- . سنن أبي داود: 63/2؛ سنن ابن ماجة: 445/1.
7- . سنن البيهقي: 70/4؛ تاريخ الخطيب البغدادي: 289/7.

وشوهد صلى الله عليه و آله و سلم يبكي على ابن لبعض بناته، فقال له عبادة بن الصامت: ما هذا يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ؟ قال: «الرحمة الّتي جعلها اللّه في بني آدم، وإنّما يرحم اللّه من عباده الرحماء».(1)

كما أنّ بنت المصطفى سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام قد وقفت على قبر أبيها الطاهر وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعتها على عينها وبكت، وأنشأت تقول:

ما ذا على مَنْ شمَّ تربة أحمد أن لا يشمَّ مدى الزمان غواليا

صُبّت عليَّ مصائبٌ لو أنّها صُبّت على الأيام صِرن لياليا

وهذا أبو بكر بن أبي قحافة يبكي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويرثيه بقوله:

يا عين فابكي ولا تسأمي وحُقّ البكاء على السيّد

إنّ البكاء على فراق الأعزة من ثمرات الفطرة الإنسانية، ولذا نرى أنّ النبي يعقوب عليه السلام بكى على ولده يوسف حتّى ابيضّت عيناه، قال سبحانه: (وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) .(2)

حتّى وَرد أنّه يجوز شق الثوب في موت الأب والأخ. روى الصدوق رحمه الله قال: لمّا قبض علي بن محمد العسكري عليهما السلام (يعني الإمام الهادي) رؤي الحسن بن علي عليهما السلام وقد خرج من الدار وقد شق قميصه عن خلف وقدّام.(3)

وهذا يدلّ على مرونة حكم الإسلام بحيث يجيز عند شدة المصيبة ان يشق المصاب ثوبه، لئلا يختنق بغصته.

ص:576


1- . سنن أبي داود: 58/2؛ سنن ابن ماجة: 481/1.
2- . يوسف: 84.
3- . الوسائل: 2، الباب 84 من أبواب الدفن، الحديث 4.
إقامة العزاء على موت الأحباب

إلى هنا ظهر أنّ البكاء من دون أن يقترن بما يغضب الرب أمر مطلوب دعت إليه الفطرة الإنسانية وأمضاه الشرع، بقي الكلام في إقامة العزاء والمآتم عليهم.

ويكفي في صحّة ذلك ما نقلناه عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم حيث إنّه لمّا رأى اجتماع نساء الأنصار يبكين شهدائهن هاجت نفسه ورغبت في إقامة العزاء فقال: «أمّا حمزة فلا بواكي له»، فقام الأنصار بدعوة نسائهم للبكاء على حمزة.

والعجب أنّ صاحب مجمع الزوائد يقول: فذاك فيهم إلى اليوم لا يبكين ميتاً إلاّ بدأن بحمزة.(1)

إقامة العزاء على سيّد الشهداء عليه السلام

إنّ إقامة العزاء على سبط النبي صلى الله عليه و آله و سلم سيد الشهداء الحسين بن علي عليهما السلام هو إحياء لأصل من أُصول الإسلام، وهو لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف في وجه الظالمين والمستكبرين الذين استولوا على ثروات الشعوب وإمكانياتهم، ونسوا المواساة والعدل بين الأُمّة.

فقد قام الحسين بن علي عليهما السلام في وجه طواغيت بني أُمّية الّذين أحلّوا حرام اللّه وهتكوا حرماته وصادروا الحريات، وهو سلام اللّه عليه قد صرح بذلك في أحد خطبه عند مسيره إلى كربلاء، وقال: «أيّها الناس إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:

من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرام اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنّة رسول اللّه، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على اللّه أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة

ص:577


1- . مجمع الزوائد: 120/6.

الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله، وأنا أحق مَنْ غيّر».(1)

ثمّ إنّه عليه السلام كتب إلى أخيه محمد ابن الحنفية قبل أن يترك المدينة وقال:

«إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي وأُبي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحقّ فاللّه أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يحكم اللّه بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين».(2)

هذا هو أبوالشهداء عليه السلام يبين موقفه من ظلم الحكام، فعلى شيعته ومحبيه الاقتداء به واقتفاء خطاه.

ولأجل أن لا يُنسى هذا المنهج الّذي هو أصل من أُصول الإسلام تخرج يوم عاشوراء أو قبله وبعده جماهير المحبين يرددون شعارات حماسية وفي الوقت نفسه أشعاراً محزنة لكي يبقى هذا المنهج حيّاً نابضاً في نفوس المسلمين.

والّذي يُسبب إثارة حفيظة الآخرين هو أنّ هذه المسيرات الجماهيرية منشأ لانتشار الصحوة الإسلامية في عامة البلاد وتنبيه على ظلم الظالمين، هذا من جانب، ومن جانب آخر خوف أصحاب السلطة والمسند والمقام الحكومي وأصحاب الثروات الطائلة ذات الأرقام المليونية، من أن يثور الشعب ضدهم، ويؤسّسوا حكماً إسلامياً مبنياً على أُسس من العدل والقسط، كلّ هذا صار سبباً لاتّخاذ موقف مضاد من هذه المراسم والتعازي.

كما أنّ تخصيص العزاء باسم الإمام الحسين عليه السلام ليس الدافع له دافعاً

ص:578


1- . تاريخ الطبري: 229/6.
2- . بحارالانوار: 329/44.

شخصياً، وإنّما طبيعة الثورة الّتي قادها سلام اللّه عليه لها من الخصوصية ما يجعلها موضع اهتمام محبي العدل والمساواة من شيعة أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين أوصوهم بإحياء ذكرى سيد الشهداء عليه السلام سنوياً، فهم بهذه المراسم والتعازي يستجيبون لتعاليم قادتهم وأئمتهم عليهم السلام إحياءً لهذا المنهج الثوري وتحقيقاً لأهدافه السامية.

لقد تحدث الكثير من العلماء والكتاب والقادة عن الإمام الحسين عليه السلام وثورته، ومن هذا البحر الخضم نختار قولاً لأحد مفكّري ومفسّري أهل السنة في القرن الرابع عشر الهجري، ألا وهو سيد قطب حيث يقول:

والحسين - رضوان اللّه عليه - وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، المفجعة من جانب! أكانت هذه نصراً أم هزيمة ؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة، فأمّا في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين (رضوان اللّه عليه)، يستوي في هذا المتشيّعون وغير المتشيّعين، من المسلمين، وكثير من غير المسلمين!

وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده. وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفِّز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد. وربما كانت حافزاً محركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال.(1)

ص:579


1- . في ظلال القرآن: 189/7-190، تفسير الآية 51 من سورة غافر.

خاتمة المطاف: تضخيم بعض الممارسات

اشارة

يركز المؤلف في آخر كتابه على أُمور يصفها بأنّها محرّمات ترتكب عند القبور وليس في كيسه إلّاما ذكره محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، في حق محبي النبي وأهل بيته عليهم السلام، وأكثر هذه الأُمور إمّا أكاذيب وافتراءات، أو أنّها أُمور جائزة، وإليك الكلام فيها:

الأوّل: الاعتقاد بأنّ النبي والولي ينفع ويضر

إنّ الكاتب نسب إلى زائري قبور الأولياء بأنّهم يعتقدون بأنّ الأموات يضرون وينفعون، مع أنّه سبحانه هو الضار والنافع وحده، قال اللّه تعالى:

(وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً) .(1)

أقول: إنّ الكاتب لا يملك ذرة من الإنصاف، كيف وقد حمل الآيات الواردة في حق المشركين الذين اتخذوا أصنامهم آلهة على الموحّدين الذين لم يتخذوا غيره سبحانه إلهاً ويرددون شهادة التوحيد على ألسنتهم ليل نهار. فأنت لا تجد على أديم الأرض من يقول بأنّ أولياء اللّه يضرون وينفعون، وانّما المؤثر هو اللّه سبحانه واللّه هو الشافي، نعم يتوسلون بهم كما كان المسلمون يتوسلون بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم في حياته، قال سبحانه: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً) .(2)

ولو كان طلب الدعاء بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم شركاً وعبادة للمدعو، فليكن

ص:580


1- . الفرقان: 3.
2- . النساء: 64.

كذلك شركاً وعبادة له في زمان حياته صلى الله عليه و آله و سلم.

إنّ من الغباء تشبيه طلب الشفاعة والدعاء من الأنبياء والأولياء بدعاء المشركين الذين تركوا عبادة اللّه سبحانه واشتغلوا بعبادة الأصنام حتّى يكون لهم العز في الحياة الدنيا والنصر في الحروب ونزول الموائد السماوية إليهم.

وبذلك يظهر أنّ ما أورده من الآيات الواردة في حق المشركين في هذا المورد دليل على جهله بعقائد المسلمين أو تجاهله انّ منشأ جهله، تصور أنّ مطلق دعاء الأموات عبادة لهم وإن كان مجرداً عن أية عقيدة بربوبيتهم وتأثيرهم في مصير الداعي.

الثاني: اتخاذ أصحاب القبور شفعاء

قال المؤلف: إنّ زوار القبور يتخذون أصحاب القبور شفعاء ووسائط تقربهم إلى اللّه، وقد ذم القرآن الكريم هذا العمل بقوله سبحانه وتعالى حكاية عن المشركين: (وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ) (1).

أقول: جعل الأنبياء والأولياء وسائط بين الناس وبين اللّه على قسمين:

1. يُعتقد بأنّهم عباد اللّه الصالحين يستجاب دعاءهم، فهذا عين التوحيد، فهذا عمر بن الخطاب استسقى بالعباس عام الرمادة، لمّا اشتد القحط، فسقاهم اللّه تعالى به وأخصبت الأرض، فقال عمر: هذا واللّه الوسيلة إلي اللّه والمكان منه، ولمّا سُقي الناس طفقوا يتمسّحون بالعباس ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين.(2)

ص:581


1- . الزمر: 3.
2- . أُسد الغابة في معرفة الصحابة: 111/3، طبعة مصر.

فهذا النوع من العمل عين التوحيد، فلو طلب المؤمن نفس هذا الدعاء من أحد الأولياء بعد رحيله يمتنع أن يكون شركاً، لأنّ عملاً واحداً لا يمكن أن يكون على غرار التوحيد في حياة المتوسل به وشركاً في مماته، وآخر ما يمكن أن يقال: إنّ الميت لا يسمع فيكون التوسّل لغواً لا تركاً، وسيوافيك أنّ الشهداء ونبيهم أحياء يسمعون كلامه.

2. أن يتخذه إلهاً مؤثراً في مصير الداعي، بيده النصر والعز والمغفرة إلى غير ذلك من أفعاله سبحانه، ثمّ يعبده ليتقرب بعبادته، ثم يجعله كواسطة للتقرب إلى اللّه تعالى، وهذا هو الّذي تهدف إليه الآية بشهادة أنّه سبحانه يقول: (وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى ) ،(1) فكيف يعطف القسم الثاني على القسم الأوّل وهو الذي يتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حياته ومماته من دون أن يصيّره معبوداً من دون اللّه سبحانه، ولا يعتقد بربوبيته وتأثيره في مصيره.

ومن حكم بالتسوية بينهما فقد حكم بتساوي النور والظلام والعلم والجهل، وبذلك يظهر حال ما استدل به من الآيات النازلة بحق المشركين.

الثالث: الاستغاثة بأصحاب القبور

من التهم التي ألصقها المؤلف بزائري قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقبور أهل البيت الطاهرين عليهم السلام أنّهم يدعون أصحاب القبور ويستغيثون بهم من دون اللّه، ورتّب على ذلك قوله: وهذا شرك بنص القرآن الكريم حيث قال تعالى: (وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) .(2)

ص:582


1- . الزمر: 3.
2- . فاطر: 13-14.

والجواب: أنّ دعاء أصحاب القبور على قسمين:

الأوّل: دعاؤهم بما أنّهم آلهة يُعبدون وبيدهم النفع والضر وقضاء الحوائج مستقلين في أفعالهم، وهذه هي سيرة المشركين إذ كانوا يسوون آلهتهم برب العالمين، كما اعترفوا بذلك في قولهم الذي يذكره اللّه تعالى: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) .(1)

وهذا النوع من الدعاء لا يصدر من مسلم موحّد معتقد بأنّ اللّه سبحانه هو المدبّر وأنّ بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير.

الثاني: دعاؤهم بما أنّهم عباد اللّه سبحانه، وأنّ للنبي مقاماً محموداً تستجاب دعوته، ولذلك يتوسل به حتّى يدعو اللّه سبحانه ليستجيب دعاء المتوسل، وأين هذا من الشرك ياترى ؟!

وما تمسّك به من الآيات لا صلة له بالمقام فإنّ المراد من: (وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ ) هم الّذين تعبدون من دون اللّه (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) ، فالدعاء في هذه الآيات دعاء خاص مرادف للعبادة لا مطلق الدعاء.

هذا هو أبو أيوب الأنصاري يروي حاله الحاكم في مستدركه، قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع ؟! قال: نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري، فقال: جئت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم آت الحجر، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «فلا تبكوا على الإسلام إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله».(2)

كما أنّ الاستغاثة بأولياء اللّه بما أنّهم عباد اللّه الصالحين هو ممّا نتعلمه من

ص:583


1- . الشعراء: 98.
2- . المستدرك للحاكم: 12/4، باب الفتن والملاحم، بسند صحيح على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي في تلخيصه عن داود بن أبي صالح.

سيرة نبينا الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم وذلك من خلال ما رواه الصحابي الجليل عثمان بن حنيف حيث قال: إنّ رجلاً ضريراً أتى إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: ادعُ اللّه أن يعافيني.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: إن شئت دعوتُ ، وإن شئت صبرت، وهو خير؟ قال: فادعه، فأمره صلى الله عليه و آله و سلم أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء:

«اللّهم إنّي أسألُكَ وَأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرّحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بِك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى ، اللّهم شفّعه فيّ ».

قال ابن حنيف: فواللّه ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا كأنّ لم يكن به ضرّ.(1)

وأي استغاثة أظهر من الوارد في الجملتين التاليتين:

1. اللّهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة.

2. يا محمد إنّي أتوجّه بكَ إلى ربي في حاجتي.

وأمّا سند الحديث فرجاله رجال الصحيحين، ولذلك رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجّاه، وأقره الذهبي في تلخيصه.(2)

ثمّ إنّ مؤلف الكتاب استدلّ على تحريم الاستغاثة بما روي عن علي عليه السلام قال: «فاسألوا اللّه به وتوجّهوا إليه بحبه، ولا تسألوا اللّه بخلقه، إنّه ما توجّه العباد إلى اللّه بمثله».(3)

ولكن خفي على المؤلف أنّ المراد هو السؤال للأُمور الدنيوية، أو كالذهاب إلى أبواب الأغنياء وسؤالهم، وأين هذا من توسيط الأنبياء والأولياء

ص:584


1- . سنن ابن ماجة: 441/1، برقم 1385؛ مسند أحمد: 138/4.
2- . المستدرك للحاكم: 313/1.
3- . نهج البلاغة: 91/2-92.

إلى باب رب العزة حتّى ينزل اللّه سبحانه على الناس من بركاته وعطاياه التي لا نهاية لها.

وبما ذكرنا يظهر الجواب عمّا أوصى به الإمام علي ابنه الحسن عليهما السلام وهو أنّه قال: «وألجئ نفسك في الأُمور كلّها إلى إلهك، فإنّك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز، وأخلص في المسألة لربك فإنّ بيده العطاء والحرمان».(1)

وهكذا يكون جوابنا عن سائر ما استدل به من الروايات. كيف والتوسل بدعاء الأخ المؤمن الحي ممّا اتفقت الوهابية على جوازه، فلو كان سؤال غيره سبحانه ممنوعاً مطلقاً فكيف يجوز سؤاله في حياته ؟!

الرابع: الذبح والنذر للقبور

قال المؤلّف: انّهم ينذرون للقبور وأصحابها ويذبحون لها وهذا يدخل في ما أُهل به لغير اللّه، قال سبحانه: (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ) .(2)

خفي على الكاتب ما هو المقصود من النذر لأصحاب القبور، وأنّ اللام في قولهم: هذا للنبي غير اللام في قوله: «نذرت للّه».

توضيحه: أنّ اللام في هذه المواضع على وجهين:

1. لام الغاية بمعنى التقرّب إليه سبحانه كقوله تعالى على لسان امرأة عمران: (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) .(3)

2. لام الانتفاع كقوله سبحانه: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ ) .(4)

فإذا قال: للّه عليّ إن قُضيت حاجتي أن أذبح كبشاً للنبي صلى الله عليه و آله و سلم، فاللام في

ص:585


1- . نهج البلاغة: 39/3-40.
2- . البقرة: 173.
3- . آل عمران: 35.
4- . التوبة: 60.

قوله: «للّه»، للغاية بمعنى التقرب إليه، ولكنّها في قوله «للنبي» للانتفاع بمعنى عود الثواب إليه، وبذلك يتضح الفرق بين عمل المشركين عن عمل المسلمين، فأُولئك يذبحون وينذرون للأصنام ويُهلّون بها، ويقولون: باسم اللات والعزى.

بخلاف المسلمين فإنّهم ينذرون للّه ويذكرون اسم اللّه عند الذبح ويهدون ثوابه للنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

وإن شككت فيما ذكرنا فاسأل سعداً واستمع كلامه حيث إنّه سأل النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقال: يا نبي اللّه، إنّ أُمّي قد افتلتت (أي ماتت) وأعلم أنّها لو عاشت لتصدقت، فإن تصدقت عنها، أينفعها ذلك ؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم: «نعم».

ثمَّ إنّه سأل النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أي الصدقة أنفع يا رسول اللّه ؟ قال: «الماء»، فحفر [ سعد] بئراً وقال: هذه لأُمّ سعد.(1)

فاللام في «هذه لأُمّ سعد» للانتفاع، فالمسلمون في قولهم: هذا للنبي أو للولي، كلهم سعديون لا وثنيون.

الخامس: الحلف بأصحاب القبور

قال مؤلف الكتاب: وهم يحلفون بأصحاب القبور دون اللّه، ثم روى عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّ من المناهي أن يحلف الرجل بغير اللّه، وقال: «من حلف بغير اللّه، فليس من اللّه في شيء».(2)

ثم استشهد بكلام الشيخ الطوسي في «النهاية» حيث قال: اليمين المنعقدة عند آل محمد عليهم السلام هي: أن يحلف الإنسان باللّه تعالى، أو بشيء من أسمائه أيّ اسم كان. وكل يمين بغير اللّه أو بغير اسم من أسمائه فلا حكم له.(3)

ص:586


1- . سنن أبي داود: 130/2، برقم 1681؛ السيرة الحلبية: 583/6.
2- . مكارم الأخلاق: 415.
3- . النهاية: 555.

والجواب: إنّ القرآن الكريم ملئ بالحلف بغير اللّه، والغاية من الحلف بغيره في الذكر الكريم أحد أمرين:

1. الإشادة بالمحلوف به وبيان فضله ومقامه كقوله سبحانه: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .(1)

2. دعوة الإنسان إلى التدبّر في المحلوف به واستكشاف أسراره ورموزه وما له من العظمة. ولهذا جاء الحلف بغير اللّه سبحانه في سورة الشمس سبع مرات، أو أكثر، قال سبحانه: (وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها * وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها * وَ النَّهارِ إِذا جَلاّها * وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها * وَ السَّماءِ وَ ما بَناها * وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها * وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها) .(2)

وقد تكرر الحلف بغير اللّه في الذكر الحكيم قرابة 40 مرة، وقد عرفت ما هو الداعي من حلفه سبحانه بها.

فلو كان الحلف بغير اللّه شركاً منهياً عنه لما جاء في القرآن الكريم فلو جاز للّه سبحانه ولم يجز للآخرين لنبّه عليه في الذكر الحكيم، فالإنسان عندما يرى الأقسام الكثيرة المذكورة في القرآن الكريم ربما ينتقل إلى جواز الحلف أو إلى استحبابه لا إلى حرمته.

وأمّا الروايات الواردة من طرقنا فالغرض منها عدم انعقاد اليمين أوّلاً، وعدم صحة القضاء وفصل الخصومات به ثانياً، وإنّما يقضى في الخصومات بالحلف باللّه تعالى، وإلى ذلك تشير الرواية الواردة عن مكارم الأخلاق، وهذا ما توضحه عبارة الشيخ في النهاية حيث قال: اليمين المنعقدة عند آل محمد صلى الله عليه و آله و سلم هي أن يحلف الإنسان باللّه تعالى.

ص:587


1- . الحجر: 72.
2- . الشمس: 1-7.

وعلى ذلك فقوله قدس سره: وكل يمين بغير اللّه أو بغير اسم من أسمائه فلا حكم له، أي لا يترتب عليه الأثر، وأين هذا من التحريم ؟!

قال الإمام الخميني: لا تنعقد اليمين إلّاإذا كان المقسم به هو اللّه جلّ شأنه، ولا تنعقد اليمين بالحلف بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة عليهم السلام وسائر النفوس المقدّسة المعظمة، ولا بالقرآن الكريم ولا بالكعبة المشرفة، وسائر الأمكنة المحترمة.(1)

السادس: الطواف حول القبور

نسب المؤلف إلى الشيعة الطوافَ حول القبور، مع أنّ ذلك فرية بلا مرية، وقد ألف غير واحد من الأجلّاء كتباً ورسائل في أدب الزائر، وأخصّ بالذكر ما كتبه المحقق العلامة الأميني رحمه الله ولم يذكر أحد منهم من آداب الزيارة «الطوافَ حول القبر»، مع ورود النهي عنه في غير واحد من الروايات.

وغاية ما عند الشيعة هو التسابق إلى تقبيل الضريح دون الطواف بالقبر، أي الابتداء من نقطة والانتهاء عندها، كما هو الحال في الطواف بالبيت الحرام.

ولا نطيل الكلام في هذه الفرية.

السابع: اللطم وضرب الخدود والصدور

استدل الكاتب ببعض الروايات على حرمة ضرب الخدود والصدور، وإليك دراستها.

الأُولى: ما روي عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ضرب المسلم يده على فخذه عند المصيبة إحباط لأجره».(2)

أقول: نقل الشيخ الحر العاملي هذه الرواية بسندين فيهما ضعف، ففي

ص:588


1- . تحرير الوسيلة: 99/2، المسألة 2 و 5.
2- . الوسائل: 2، الباب 81 من أبواب الدفن، الحديث 2.

أحدهما وقع النوفلي والسكوني وهما ليس بشيعيين. وفي الثاني وقع سهل بن زياد الآدمي، وفي الوقت نفسه ينقل هو عن علي بن حسّان وهو مشترك بين الضعيف والثقة.

نفترض صحة الرواية سنداً وكمالها دلالة لكن الرواية مختصة بالمصيبة الشخصية كموت الأب والأُمّ والولد، فربما يكره ما ذكر من الأُمور بقرينة كونه سبباً لذهاب الأجر، ونحن أيضاً نقول بذلك ونوصي أصحاب المصائب بالصبر، فاللّه سبحانه هو مجزي الصابرين.

ولكن كلام الكاتب ناظر إلى مواكب العزاء يوم عاشوراء التي تخرج باللطم على الصدور فقط، لا على الخدود - كما قال - والرواية منصرفة عن مثل هذه المصائب الدينية، إذ أنّ العامل بها إنّما يريد إحياء منهج الثورة بوجه الطغاة والظالمين. وكأنّه بعمله هذا يريد أن يلفت نظر العامة في الشوارع والبيوت المشرفة على هذه المواكب على عظمة المصائب التي أوردها الطغاة على آل البيت عليهم السلام.

وإن شئت قلت: إنّ هذه المظاهرات مع ما فيها من اللطم نابعة عن حب واخلاص لأبي الشهداء عليه السلام الذي كرس حياته وأراق دمه الطاهر لمواجهة الظلمة الذين جعلوا عباد اللّه خولاً ومال اللّه دولاً....

إنّ هذه الجماهير المليونية وهي تردد الأشعار والقصائد التي تحمل معان ثورية وعقائدية سامية، تنبه جماهير المسلمين عن نومة الغفلة ورغد العيش، حتى ينهضوا منها ويأخذوا حقوقهم بإزالة الظلمة عن عروشهم ويؤسّسوا للمسلمين حكومة إلهية على وفق الكتاب والسنّة.

وبكلمة قصيرة أنّ هذه المسيرات تتبنى الأُمور التالية:

1. الدعوة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.

ص:589

2. إلفات النسل الحاضر إلى ما جرى على أئمة أهل البيت عليهم السلام من الظلم والجور.

3. تحذير الظالمين وحكام الجور، لغرض عودتهم إلى حظيرة الإسلام.

الثانية: عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: ما الجزع ؟ قال: «أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجز الشعر من النواصي، ومن أقام النواحة فقد ترك الصبر وأخذ في غير طريقه، ومن صبر واسترجع وحمد اللّه عزوجل فقد رضي بما صنع اللّه ووقع أجره على اللّه، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء وهو ذميم وأحبط اللّه أجره».(1)

يلاحظ على الاستدلال: أوّلاً: أنّ الحديث ضعيف سنداً، وقد وصفه بالضعف العلّامة المجلسي في «مرآة العقول».(2)

وثانياً: أنّ مصب هذه الروايات هو المصائب الشخصية الفردية التي ربما ينفد صبر الإنسان فيها ولا يتمالك نفسه فيأتي ببعض هذه الأُمور، وقد منع عنه في الحديث ونحن نقول به.

وأمّا المصائب الدينية التي تطرأ على المجتمع فلا صلة لهذه الأحاديث بها، فإنّ الجزع والفزع عندئذٍ ليس لأجل أنّه فقد ما يملكه شخصياً وانّما هو لأجل مصائب وردت على الإسلام والمسلمين وأئمة أهل البيت عليهم السلام، وهذا ما دعاه إلى الهيجان وإظهار الحزن والخروج بمسيرات إلى الشوارع والاجتماع في المساجد والمآتم والحسينيات لإقامة مراسم العزاء والنياحة، وقد مرّ أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر الأنصار وزوجاتهم بالنياحة على حمزة عليه السلام بعد شهادته.

وثالثاً: أنّ مورد الرواية النياحة بالباطل التي تغضب الرب، وأمّا النياحة

ص:590


1- . الوسائل: 2، الباب 83 من أبواب الدفن، الحديث 1.
2- . مرآة العقول: 181/4.

بالحق التي فيها أداء الشكر وإظهار العبر والتسلية لخاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله و سلم فلا تشمله الرواية.

واعلم أنّ النياحة بالحق في فقدان الأعزة خصوصاً عندما تتراكم الهموم والغموم أمر فطري وربما يخاف على سلامة الإنسان عند حبس هذه الهموم وعدم النياحة، ولذلك نرى الإمام الصادق عليه السلام قد عمل بذلك.

روى الصدوق في «إكمال الدين» عن الحسين بن يزيد، قال: ماتت ابنة لأبي عبد اللّه عليه السلام فناح عليها سنة، ثم مات له ولد آخر فناح عليه سنة، ثم مات إسماعيل فجزع عليه جزعاً شديداً فقطع النوح، قال: فقيل لأبي عبد اللّه عليه السلام:

أيناح في دارك ؟ فقال: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال - لما مات حمزة -: لكن حمزة لا بواكي له».(1)

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال: «لمّا مات إبراهيم ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هملت عين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالدموع، ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون».(2)

وروي عنه عليه السلام أنّه قال: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة، كان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليهما جداً، ويقول: كانا يحدّثاني ويؤنساني فذهبا جميعاً».(3)

وروي عنه عليه السلام أيضاً: «أنّ زين العابدين بكى على أبيه أربعين سنة، صائماً نهاره قائماً ليله، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه

ص:591


1- . الوسائل: 2، الباب 70 من أبواب الدفن، الحديث 2.
2- . الوسائل: 2، الباب 87 من أبواب الدفن، الحديث 3.
3- . الوسائل: 2، الباب 87 من أبواب الدفن، الحديث 6.

فيقول: كلْ يا مولاي، فيقول: قتل ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جائعاً، قتل ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عطشاناً، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه بدموعه، ويمزج شرابه بدموعه، فلم يزل كذلك حتى لحق باللّه عزّ وجل».(1)

وروى الصدوق في «ثواب الأعمال» وابن قولويه في «كامل الزيارات» بالإسناد إلى أبي هارون المكفوف قال: دخلت على أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام فقال: «يا أبا هارون، أنشدني في الحسين»، فأنشدته!

فقال: «لا، بل كما تنشدون، وكما ترثيه عند قبره».

قال: فأنشدته حينئذٍ:

أمرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزكية

يا أعظماً لا زلت من وطفاء ساكبة روية

وإذا مررت بقبره فأطل به وقف المطية

وابك المطهر للمطهر والمطهرة التقية

كبكاء معولة أتت يوماً لواحدها المنية

قال: فبكى، ثم قال: زدني، فأنشدته القصيدة الأخرى:

يا مريم قومي واندبي مولاك وعلى الحسين اسعدي ببكاك

قال فبكى الصادق، وتهايج النساء من خلف السترة، فلما أن سكتن قال:

«يا أبا هارون، من أنشد في الحسين فبكى أو أبكى عشرة كتبت له الجنة».(2)

الثالثة: ما رواه عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: «ثلاثة لا أدري أيّهم أعظم جرماً: الذي يمشي خلف جنازة في مصيبة بغير رداء، والذي يضرب على فخذه

ص:592


1- . الوسائل: 2، الباب 87 من أبواب جواز البكاء، الحديث 10.
2- . كامل الزيارات: 211؛ طبعة قم، 1417 ه؛ ثواب الأعمال: 109، طبعة 1391 ه.

عند المصيبة، والذي يقول: ارفقوا وترحّموا عليه يرحمكم اللّه».(1)

أقول: أوّلاً: الرواية ضعيفة وقد نقلت بسندين ففي الأوّل منهما النوفلي والسكوني، وفي الثاني أُناس لم يوثقوا كأحمد بن يحيى القطّان، وبكر بن عبد اللّه بن حبيب، وتميم بن بهلول.

وثانياً: أنّ مضمون الرواية لا يوافق الأُصول المسلّمة بين الفقهاء والعلماء. نفترض أنّ رجلاً شيّع ميتاً بلا رداء، فهل ارتكب محرّماً من المحرمات، حتى يوصف باحتمال أنّه أعظم الجرائم.

وثالثاً: قول المشيّع: ارفقوا وترحّموا عليه يرحمكم اللّه. فهذا القول يدعو المشيعين إلى الترحّم على الميت فهل يكون محتمل الحرمة فضلاً عن أن يكون من الجرائم الكبيرة ؟

نعم بقي الضرب على الفخذ عند المصيبة فقد مرّ أنّ موضعه هو المصائب الفردية التي ربما تجر الإنسان إلى أقوال وأعمال غير صحيحة، وأمّا المصائب الدينية فقد عرفت أنّ هذه الأفعال رمز لتنبيه الأُمّة ونشر خبر مصائب أهل البيت عليهم السلام.

ورابعاً: أنّ المستفاد من بعض الروايات الصحيحة أنّ الجزع لا يذهب الأجر، قال الإمام الصادق عليه السلام: «ثواب المؤمن من ولده إذا مات، الجنة، صبر أم لم يصبر».(2)

الثامن: اختلاط النساء بالرجال

يقول الكاتب: يحدث عند هذه القبور الاختلاط فترى النساء والرجال مختلطين عند الطواف بالقبر.

ص:593


1- . الوسائل: 2، الباب 47 من أبواب الاحتضار، الحديث 3.
2- . الوسائل: 2، الباب 72 من أبواب الدفن، الحديث 7.

أقول: الاختلاط عند الطواف بالبيت الحرام أوضح وأظهر، فهل يدعو ذلك إلى تحريم الطواف ؟! أو يجب أن تتخذ أساليب لكي لا يحصل الاختلاط.

ومن حسن الحظ أنّ مكان زيارة الرجال متميّز عن مكان زيارة النساء بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران حيث قسّم المشاهد المشرفة إلى قسمين بينهما حاجز، وكذا الحال في مشاهد الأئمة عليهم السلام في العراق بعد سقوط النظام الصدامي البائد.

إلى هنا تمّ مناقشة ما ذكره في الفصل الخاص باسم «محرمات ترتكب عند القبور».

***

ردود على أجوبة المؤلف

ثمّ إنّ الكاتب فتح فصلاً جديداً بعنوان «اعتراضات وأجوبة»، حاول أن يذكر أدلّة القائلين بجواز البناء ويرد عليها، إلّاأنّه وللأسف لم يذكر الأدلة على وجهها الصحيح، قال:

الدليل الأوّل: أنّ رفع قبور الأنبياء والأئمّة عليهم السلام مستثنى من روايات النهي المتقدمة... ثم أجاب عن ذلك بقوله: إنّ الأئمّة أنفسهم أمروا ووصّوا بعدم رفع قبورهم أكثر من شبر أو أربع أصابع.

يلاحظ على ما ذكره أوّلاً: أنّه لم يذكر الدليل على وجهه فإنّهم عليهم السلام قالوا بأنّ البناء على القبور مستثنى من روايات النهي، ولم يذكروا أنّ رفع القبور مستثنى من روايات النهي.

وكم فرق بين استثناء رفع القبر واستثناء البناء.

وثانياً: قد عرفت أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام ذكروا رفع القبر بشبر ولم يرد

ص:594

عنهم نهي عن الرفع بأكثر منه، إلّافي رواية الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، وقد عرفت وجهه.

الدليل الثاني: أنّ رفع قبور الأنبياء والأئمّة عليهم السلام والبناء عليها فيه مصلحة عظيمة وهي إبقاء قبورهم مدى الزمان وعدم اندراسها ومحوها....

ثمّ أجاب عنه: بأنّه لا يستلزم من عدم البناء على قبورهم أنّها سوف تدرس وتمحى آثارها فهذه هي قبور الأئمّة الحسن وزين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وفاطمة عليهم السلام لم ترفع فوق المقدار الشرعي وهي مع ذلك لم تدرس ولم تمح آثارها.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ بقاء قبور أئمّة أهل البيت عليهم السلام رهن وجود البناء عليها عبر القرون السابقة، فلو لم يكن عليها بناء طيلة هذه السنوات لم يبق منها أثر إلى الآن.

وثانياً: أنّ بقاء هذه القبور بهذا الشكل المؤلم للقلب رهن ضغط شيعة آل البيت ودوام تفقدهم لها، والذي صار سبباً لبقائها بهذا الشكل المزري.

والشاهد على ذلك أنّه قد دمرت قبور عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فلذلك لم يبق أثر منها إلّاقبر الخليفة الثالث وعدد قليل منهم.

الدليل الثالث: اتفاق الناس على البناء من غير إنكار يدل على ذلك.

وأجاب عنه بقوله: إنّ قوله من غير إنكار يرد عليه كلام الأئمة عليهم السلام أنفسهم كما هو مبيّن في روايات النهي عن البناء على القبور المذكورة.

يلاحظ عليه: أنّ أساس الاستدلال هو إجماع المسلمين عبر القرون - بل عامة الموحّدين - من البناء على قبور الأنبياء والأولياء من دون أن يخدش فيه أحد، إلى أن أولد الدهر رجل الضلال والنصب أحمد بن تيمية فأفتى بتحريم البناء وتبعه محمد بن عبد الوهاب من غير وعي.

ص:595

وهذا الاتفاق دليل قاطع لا يقبل الرد ولا النقض، وعندئذٍ لا يعارضه ما نسب إلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام من النهي عن البناء على القبور، لأنّه أخبار آحاد لا يعادل الدليل القاطع.

أضف إلى ذلك: أنّك قد عرفت أنّ هذه الروايات على فرض صحتها لا تدلّ على ما يرتئيه الكاتب كما مرّ.

الدليل الرابع: أنّ الأئمّة عليهم السلام قالوا بحرمة البناء على القبور تقية.

ثم أجاب عليه بأنّ هذا الاعتراض مستبعد جداً، لأنّ العلماء لم يحملوا هذه الروايات على التقية.

يلاحظ عليه: انظر إلى التناقض في كلامه حيث يقول: حُملت الروايات الناهية عن البناء على القبور على التقية، ثم يرد عليه بأنّ العلماء لم يحملوها عليها، فإذا كان هذا هو حال العلماء، فمَن حملها على التقية، لأنّ الحمل وعدمه من شأن العلماء لا غير.

الدليل الخامس: هناك روايات تدلّ على جواز البناء على القبور، وهي كثيرة.

ثمّ أجاب عنه: بأنّ روايات النهي هي كثيرة أيضاً.

يلاحظ عليه: قد عرفت أنّ البناء على القبور يؤيده الذكر الحكيم والسنة المستمرة بين الموحّدين وعمل الصحابة والتابعين ومن أتى بعدهم، وهذا هو المرجّح للأخذ بالروايات الدالة التي تجاوز عددها على العشر، وأمّا الروايات الناهية فقد عرفت ضعف أسانيدها أو عدم مساسها للمقام ومخالفتها للسيرة المستمرة والقرآن الكريم.

ثمّ إنّ الكاتب أيّد الأخذ بروايات النهي ورجّحها على روايات الجواز بالقاعدة المعروفة وهي: أنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.

ص:596

يلاحظ عليه: بأنّ الكاتب لم يعرف مكان القاعدة، فإنّ مكانها ما إذا لم يكن في المسألة دليل قاطع فيتوسل بأمثال هذه القواعد في مقام الإفتاء، وأمّا إذا كان هناك نص قرآني وسيرة قطعية بين الموحّدين والمسلمين وروايات بلغ عددها إلى عشر أو أزيد، لم يبق مورد للقاعدة، كما أنّه لا يبقى مورد للأخذ بالروايات الناهية.

إلى هنا خرجنا عمّا كتبه المؤلف في كتيبه وقد مررنا على كلامه من بدايته إلى ختامه، وعرفت وهن كلامه وضعف أدلته، فهو كحاطب ليل، قد جمع في حزمته كل رطب ويابس.

***

تمت الرسالة بيد مؤلفها، جعفر السبحاني في اليوم الثامن

من شهر شوّال المكرّم من شهور عام 1429

من الهجرة النبوية على هاجرها وآله آلاف

التحية والسلام والحمد للّه الذي

بنعمته تتم الصالحات

ص:597

ص:598

الفصل الثالث

اشارة

الفصل الثالث(1): رسائل وتقاريظ وبيانات

1. رسالة إلى الشيخ الأعرافي حول كتاب «الفلسفة، بحث فقهي في دراسة الفلسفة».

2. رسالة إلى الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان حول استحالة رؤية هلال شهر ذي الحجة لسنة 1435 ه مساء يوم الأربعاء.

3. رسالة إلى آية اللّه الشيخ محمد واعظ زادة الخراساني حول الجزء 25 من موسوعة «المعجم».

4. رسالة أُخرى إلى آية اللّه الشيخ محمد واعظ زادة الخراساني حول موسوعة «المعجم» وتقديم بعض المقترحات.

5. «انواع التحديث والمسند بينها» تقريظ لكتاب «مسند أبي الصلت».

6. آية اللّه الحائري مظهر الفضيلة والتقى.

7. كلمة العلّامة السبحاني إلى مهرجان ربيع الشهادة الثقافي العالمي الّذي أُقيم في كربلاء المقدسة.

8. بيان تعزية بمناسبة وفاة العلّامة المجاهد الشيخ محمد مهدي الآصفي رحمه الله.

9. كلمة العلّامة الفقيه جعفر السبحاني إلى مؤتمر الوحدة الإسلامية المنعقد في طهران.

10. تقريظ كتاب «المحرز في شرح الموجز في أُصول الفقه».

ص:599


1- . تمّ ترتيب هذا الفصل حسب تاريخ الرسائل بدءاً بالأقدم وانتهاء بالجديد.

ص:600

1 فضيلة الأُستاذ الشيخ علي رضا الأعرافي (دام عُلاه)

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

الرجاء من اللّه سبحانه أن تكونوا جادّين في طريق تربية الجيل الحاضر لنشر الإسلام والتشيّع في مختلف أقطار العالم وأنحائه.

لقد قرأت كتابكم القيم: «الفلسفة، بحث فقهي في دراسة الفلسفة» وهو في الحقيقة كتاب مبتكر في موضوعه، وقد قام بنقض أدلّة المعارضين لدراسة الفلسفة بأحسن وجه.

ومع ذلك نشير إلى بعض النكات وهي لا تنقص من قيمة الكتاب:

1. جاء في الصفحة 270 عند ذكر التيّارات الأساسية:

1. التيار الكلامي الأشعري.

2. التيار الأخباري عند الشيعة.

3. تيار العرفان والتصوّف.

4. التيار التفكيكي.

ثمّ فسّر التيار الأوّل بأنّه: قد ظهر منذ أواسط القرن الثاني للهجرة تياران في العالم الإسلامي... الخ.

الصحيح أن يقال: تيّار أهل الحديث منهج أحمد بن حنبل وأتباعه، وأمّا أبو الحسن الأشعري فقد جاء متأخّراً كثيراً عنه حيث ولد عام 260 ه وتوفّي عام 324 ه.

فعلى هذا فالأصل في التيار هو المحدّثون وعلى رأسهم أحمد بن حنبل،

ص:601

وأمّا الأشاعرة فمنهجهم متوسط بين الاعتزال وأهل الحديث.

وبذلك يظهر الإشكال في هامش ص 29، حيث جاء فيه: «إنّ كلمة «السنّي» لم يتمّ وضعها في مقابل لفظة «الشيعي»، بل أنّها استخدمت للإشارة إلى الأشاعرة في مقابل المعتزلة، حيث إنّ الأشاعرة كان يعدّون أنفسهم كأتباع السنّة».

إنّ لفظة «السنّي» تطلق ويراد أهل الحديث أي أتباع أحمد بن حنبل وشيوخه وأساتذته وأوّل من سمّاهم بأهل السنّة هو عمر بن عبد العزيز (المتوفّى 101 ه) في رسالته القدرية الّتي نقلها أبو نعيم الاصبهاني في «حلية الأولياء»، وهؤلاء لا يعدّون الأشاعرة من أتباع السنّة فضلاً عن المعتزلة. وقد دارت بين الأشاعرة وأهل الحديث مساجلات ومناقشات؛ بل عراكات مذكورة في كتابنا «بحوث في الملل والنحل».

***

2. لقد وجدت ما حرّرتموه حول ما روي عن المفضّل، فقد جاء فيها: فتبّاً و... لمنتحلي الفلسفة.

فالذي يجب أن يركّز عليه هو: هل كانت لفظة «الفلسفة» الّتي نقلت من لغة اليونان، رائجة في عصر الإمام الصادق عليه السلام حتّى يستخدمها الإمام في كلامه، فإنّ الإمام ولد عام 83 ه وتوفّي عام 148 ه، وشاعت الترجمة في عصر الرشيد، نعم بدأت من أواخر الأمويّين، فهل هناك دليل قطعي على وجود استعمال كلمة الفلسفة في عصر الإمام عليه السلام حتّى يستخدمها عليه السلام في كلامه ؟ وهذا شيء يحتاج إلى بحث ضاف.

وأرجو أن تخوضوا في هذا البحث بما عندكم من كتب تتعلّق بتدوين الفلسفة وترجمتها إلى العربية.

ص:602

وبفارغ الصبر أنتظر نظركم السامي في هذا الموضوع.

وأمّا الرواية الثانية: عن الإمام العسكري عليه السلام: «لأنّهم يميلون إلى الفلسفة والتصوّف» فالظاهر أنّها ليست من كلمات الإمام؛ لأنّ من أنس كلمات المعصومين يقف على أنّها أشبه بعبارة العلماء.

هذا ما سنح به الخاطر وعليكم بمطالعة مجلة «نور الصادق» الّتي تصدر فترة بعد فترة.

عصمنا اللّه من الزلل واتّخاذ الموقف المسبق في القضاء والحكم.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

قم - جعفر السبحاني

18/6/1391 ش

ص:603

2 الأُستاذ الفاضل عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان حفظه اللّه تعالى

اشارة

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

بعثنا إليكم بمناسبة عيد الفطر تبريكاً عبر الفاكس، ولم نتشرّف بقراءة جوابه، أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا في غاية الصحّة والسلامة.

الّذي يهمنا في هذه الرسالة الموضوع التالي:

إنّ الاخصّائيّين الّذين يرصدون هلال كلّ شهر اتّفقوا على أنّ هلال شهر ذي الحجّة الحرام في هذه السنة (1435 ه) لا يمكن رؤيته بالعين المجرّدة ولا المسلّحة في المنطقة كلّها في مساء يوم الأربعاء، خلافاً لما جاء في تقويم أُمّ القرى الّذي تضمّن القول بأنّ يوم الخميس هو أوّل شهرذي الحجّة الحرام، وهذا ممّا أوجد ضجّة بين الحجّاج، فالرجاء أن تتّصلوا بأصحاب هذا الشأن حتّى يحصل الوفاق على ما هو الواقع، ولا تكون هذه السنة لا سامح اللّه مثل بعض السنين الّتي ظهر الخلاف فيها بعد الفراغ عن أعمال الحج، فتحمّل الملك إعطاء الكفّارة عن كلّ الحجّاج. هذا وقد كتبتم إلينا إنّ الملاك في البلد هو الرؤية بالعين المجرّدة، والفلكيّون اتّفقوا على عدم إمكان الرؤية حتّى بالعين المسلّحة.

وفي الختام بلغوا تحياتنا إلى الأهل والأصدقاء.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

***

ثمّ انّه بعد أن حرّرنا ذلك وبعثناه إلى الأُستاذ عن طريق بعض المهتمين بأُمور الحج، أتتنا رسالة عن طريق الفاكس، من السعودّية تؤيّد ما ذكرناه، وإليك نصّها:

ص:604

مستجدات الهلال

التقرير الفلكي ل «لجنة الرصد الفلكي والاستهلالي» التابعة لمركز الإستفتاءات الدينية بالقطيف حول حيثيات هلال شهر ذي الحجّة الحرام 1435 ه.

جمعية الفلك بالقطيف:

رؤية هلال شهر ذي الحجّة 1435 ه بالعين المجرّدة مساء يوم الخميس «ممكنة» وذلك في حال صفاء الجو.

الجمعية الفلكية بجدة:

رؤية هلال شهر ذي الحجّة 1435 ه مساء يوم الأربعاء «مستحيلة» في كافّة مناطق الشرق الأوسط، والجمعة هو غرة شهر ذي الحجّة 1435 ه.

الجمعيات الفلكية بسلطنة عمان:

تستحيل رؤية هلال شهر ذي الحجّة 1435 ه مساء يوم الأربعاء «مستحيلة عملياً» في الخليج العربي، والجمعة هو أوّل شهر ذي الحجّة بمشيئة اللّه تعالى.

المشروع الإسلامي لرصد الأهلّة:

الجمعة هو غرّة شهر ذي الحجّة 1435 ه، وقد أجمع علماء الفلك ومراكز الرصد على استحالة الرؤية مساء الأربعاء في الشرق الأوسط.

جمعية الفلك بدمشق:

تتعذّر رؤية هلال شهر ذي الحجّة 1435 ه مساء يوم الأربعاء في كافّة مناطق العالم العربي.

مركز الإستهلال في طهران:

ص:605

التقارير الفلكية تشير إلى حتمية رؤية هلال شهر ذي الحجّة 1435 ه بالعين المجرّدة مساء الخميس القادم في كافّة مناطق العالم.

المركز الفلكي بجنوب لبنان:

يوم الجمعة هو غرّة شهر ذي الحجّة 1435 ه، لحتمية الرؤية للهلال مساء الخميس في كافة مناطق العالم العربي.

***

ولكنّ المسؤولين في السعودية بقوا على غلوائهم وخالفوا الرأي العام، فحجّ الناس على ضغط عمّالهم وفق ما في تقويم «أُم القرى ». واللّه هو الحاكم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ)

«سورة ق: 37».

ص:606

3 سماحة الأُستاذ آية اللّه الشيخ محمد واعظ زادة الخراساني (دامت بركاته)

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا في غاية الصحّة والسلامة.

استلمنا بيد التكريم الجزء الخامس والعشرين من مشروعكم القيّم «المعجم» وفّقكم اللّه تعالى لإتمامه وإكماله.

وقد ورد في الصفحة 365، ما يلي:

قال رشيد رضا: التوفّي في اللغة أخذ الشيء وافياً تامّاً، ومن ثم استعمل بمعنى الإماتة، قال تعالى: (اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (1).

أقول: كيف يقول إنّ التوفّي في الآية بمعنى الإماتة مع أنّه سبحانه عطف على هذه الجملة قوله سبحانه: (وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) والموصول عطف على الأنفس والعامل فيهما واحد، فيكون معنى الآية حسب نظره: اللّه يميت الأنفس حين موتها ويميت الّتي لم تمت في منامها.

وهل هذا إلّاالتناقض ؟!

والّذي يشهد على أنّ التوفّي في الآية ليس بمعنى الإماتة - مضافاً إلى ما ذكرنا من لزوم التناقض - أنّه سبحانه يُصنِّف أخذ النفس إلى قسمين:

1. (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ) : أي حُكم عليه بالموت.

ص:607


1- . الزمر: 42.

2. (وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى ) : أي لم يحكم عليه بالموت.

فالصنف الثاني توفّي ولكن لم يمت، وإلّا لا معنى للإرسال.

وفي نهاية المقال: إنّ للشيخ محمد جواد البلاغي (رضوان اللّه عليه) مقالاً مفصّلاً حول التوفّي في الآية ذكره في مقدّمة «آلاء الرحمن» نرسل صورته إليكم، عسى أن يُنتفع به في المستقبل. مضافاً إلى المقال الّذي كتبته أنا في سالف الأيام وهو مندرج في كتابنا «الإيمان والكفر»، (ص 145-175) عسى أن يقع موقع القبول.

وقد أرسلنا إليكم أجزاء ستة من تفسيرنا «منية الطالبين» وأقل ما كان يرجى من ألطافكم الكريمة هو إعلامنا بوصول الكتاب إليكم.

وفي الختام ندعو اللّه لكم بالتوفيق وطول العمر.

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

20/5/1393 ش

ص:608

4 حضرة العلّامة الحجّة آية اللّه الشيخ واعظ زادة الخراساني (دامت بركاته)

اشارة

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أدعو اللّه سبحانه لكم بدوام الصحّة والتوفيق.

أمّا بعد:

فلا شكّ أنّ ما قمتم به من موسوعة المعجم في فقه لغة القرآن الكريم، عمل ضخم وجهد كبير، يستنير به المفسّرون وعشّاق القرآن الكريم، ومع ذلك فلي اقتراح لإكمال هذا المشروع، ألا وهو دعوة القرّاء الأكارم لطرح آرائهم حول ما في المعجم، فإنّ الحقيقة - كما قيل - هي بنت البحث، وفيها كمال الكتاب، يقول الشيخ آية اللّه العظمى محمد حسين كاشف الغطاء: وحقاً أنّ زينة الكتاب وحليته، نقده وتمحيصه، بل هو كماله وجماله، وتمامه أن يبدو عوزه ونقصه ويستقصى فليه وفحصه.(1)

وعلى هذا فعليكم دعوة القرّاء الكرام إلى إبداء وجهات نظرهم حول المداخل المذكورة في المعجم، وما ورد فيها من آراء، ونشر هذه الآراء في آخر الأجزاء التالية، وقد كان السيد الأمين على هذه السيرة فكان يطبع ما يصله من إطراء ونقد آخر كلّ جزء من موسوعته «أعيان الشيعة».

هذا هو اقتراحنا والأمر لكم وإليكم.

وعلى ضوء ذلك نقدّم لكم ملاحظتين: إحداهما متعلّقة بتفسير لفظ (الروح) الوارد في الجزء 26، أعني قوله سبحانه: (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) (2)؛

ص:609


1- . تحرير المجلة: 2/405، الطبعة الأخيرة.
2- . الإسراء: 85.

والأُخرى تتعلّق بتفسير لفظ (بيوت) في قوله سبحانه: (فِي بُيُوتٍ ) الوارد في الجزء 8، ولنا ملاحظة ثالثة حول تفسير كلمة الإله نؤخّر تقديمها إذا ظهرت منكم رغبة إلى إرسالها، واللّه الهادي إلى سواء السبيل.

الملاحظة الأُولى: حول تفسير لفظ الروح

اشارة

جاءت في الجزء 26 آراء المفسّرين حول لفظ (الروح) الوارد في قوله سبحانه: (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً) (1) وقد اختلفت كلمات المفسّرين في المراد منه، فهل أُريد به: جبرئيل، أو ملك أكبر، أو القرآن، أو الروح الإنسانيّة.

فلو كان في مورد الآية حديث معتبر فهو، وإلّا فيمكن الاهتداء إلى ما هو المقصود عن طريق آخر وهو:

استكشاف المراد من دراسة حال السائل

فنقول: السائل أو السائلون هم اليهود حسب ما اتّفقت عليه كلمات مؤلّفي السيرة والمفسّرين، وأنّ اليهود هم الّذين طرحوا الأسئلة الثلاثة الّتي منها السؤال عن الروح، نصّ عليه ابن هشام في سيرته وغيره.

إذا تبيّن ذلك فنقول: كان اليهود يكنّون العداء لجبرئيل لسبب ذكر المفسّرين في تفسيرهم لقوله تعالى: (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ) .(2)

ص:610


1- . الإسراء: 85.
2- . البقرة: 97.

فقال: جبرئيل، قال: ذاك عدونا، ينزل بالقتال والشدّة والحرب، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الّذي يأتيك لآمنا بك.(1)

فالآية وما ورد حولها من المأثورات أدلّ دليل على أنّ اليهود كانوا يكنّون العداء لجبرئيل، وعلى ضوء ذلك فيصحّ أن يقال: إنّ اليهود المكرة طرحوا هذا السؤال قبل الهجرة ليستكشفوا معتقد نبينا حول جبرئيل فإن كان موافقاً لما يعتقدونه فقد وجدوا شاهداً على معتقدهم، وإن كان مخالفاً، يبقون على خلافهم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ولذلك جاء الجواب مطابقاً للسؤال وهو قوله تعالى: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي: الروح مأمور من جانب اللّه سبحانه فلا يُبيد ولا يُهلك إلّابأمره سبحانه، فليس له شأن إلّاالامتثال (وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً) .

وعلى ضوء ما ذكرنا من البعيد أن تفسّر (الروح) بالنفس الإنسانيّة المجردة، فإنّ هذه مسألة فلسفية بعيدة عن أذهان هؤلاء الّذين لا يفكّرون إلّافي المادة والدنيا. وقد استغرق البحث في تجرّد الروح في هذا الجزء صفحات وكان عليكم يا سماحة الشيخ - حفظكم اللّه - إحالة البحث عن تجرّد الروح إلى آية أُخرى وهي قوله تعالى في سورة السجدة: (أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) .(2)

فإنّ هذه الآية أدلّ دليل على بقاء الروح بعد فناء الجسد حسب ما قرّر في الميزان.

***

ص:611


1- . مجمع البيان: 1/167، ولاحظ: الدر المنثور: 1/222، وغير ذلك من المصادر.
2- . السجدة: 10-11.

وفي هذا الجزء (26)، ص 1028 جاءت وفاة صدر المتألهين بالنحو التالي: 1059 ه، والصحيح: 1050 ه. وفي نخبة المقال:

ثمّ ابن إبراهيم صدر الأجل في سفر الحج مريضاً ارتحل

فإنّ لفظ «مريضاً» هي مادة تاريخه، وهي تساوي 1050 ه.

ثمّ إنّ كثيراً من المعاصرين الّذين انتقلوا إلى رحمة اللّه قد ذكرت أسماؤهم بلا ذكر لتاريخ وفياتهم، كعلي أصغر حكمت وغيره، ولو بذل الجهد في تعيين تواريخ وفياتهم يكون أفضل.

***

الملاحظة الثانية: حول قوله سبحانه: (فِي بُيُوتٍ )

جاءت في الجزء الثامن الأقوال حول قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) .

ولكن الحق أنّ المراد به هو بيوت الأنبياء والأولياء لا غيرها. وإنّ تفسيره بالمساجد تفسير خاطئ وذلك بالبيان التالي:

1. ورد في المجامع اللغوية أنّ «بيوت» جمع «بيت» بمعنى المنزل والمسكن.

قال ابن منظور: بيت الرجل داره، وبيته قصره.(1)

وقال الراغب: أصل البيت مأوى الإنسان بالليل.(2)

وعلى هذا يكون تفسير «البيوت» الوارد في الآية «بالمساجد» الّتي هي أماكن العبادة العامّة لا محلّ إقامة الرجل ليلاً، غير صحيح.

ص:612


1- . لسان العرب: 2/14، مادة «بيت».
2- . مفردات الراغب: 64، مادة «بيت».

وبعبارة أوضح: أنّ كلمة «بيت» مشتقة من «البيتوتة» بمعنى «الإقامة في المكان ليلاً».

قال في «المنجد»: بات وبيتوتة في المكان: أقام فيه الليل.(1) وإذا أُطلق لفظ «البيت» على «مسكن الرجل ومنزله» فبسبب أنّ الرجل يقضي ليله عادة في ذلك المكان حتّى يصبح، فمن غير الصحيح تفسيره حينئذٍ بالمساجد من دون نصب قرينة تدلّ على ذلك.

2. أنّ من يمعن النظر في آيات الذكر الحكيم يجد أنّها إذا أرادت التعبير عن دور العبادة العامّة للمسلمين تأتي بمصطلح «مسجد» أو «المساجد»، ومن هنا نجد أنّ هذه المصطلحات قد تكرّر ذكرها في القرآن الكريم 28 مرة.

وأمّا إذا أرادت التعبير عن «المسكن» أو «المأوى» فتستعمل مصطلح «بيت» أو «البيوت». ومن هنا نجد أنّ هذه المصطلحات قد جاءت في الذكر الحكيم 66 مرّة بهذا المعنى.

من هنا نصل إلى النتيجة التالية: وهي أنّ القرآن الكريم لم يستعمل مصطلح «البيت» ومصطلح «المسجد» بمعنى واحد، وكلّ مَن يحاول أن يعدّ المصطلحين مصطلحاً واحداً، فقد جاء عن غير طريق، وقال من دون دليل.

نعم، قد يقال: إنّ القرآن الكريم أطلق لفظ البيت على الكعبة المشرّفة حيث قال تعالى:

(جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ...) .(2)

ص:613


1- . المنجد في اللغة: مادة «بيت».
2- . المائدة: 97.

والجواب: أنّ هذه التسمية لم تنطلق من كون الكعبة المشرّفة بيتاً لعبادة الموحّدين، وذلك لأنّنا نعلم أنّ الكعبة هي «قبلة» الموحّدين لا بيت عبادتهم، ومن هنا تكون هذه الإضافة والنسبة من باب التعظيم والتقديس لهذه البقعة من الأرض، وكأنّها بيت للّه حقيقة، وبيت اللّه تعالى يستحقّ التعظيم والتقديس.

3. أنّه يوجد بين «البيت» و «المسجد» فرق وتفاوت جوهري، وذلك لأنّ البيت يطلق على البناء المكوّن من الجدران الأربعة والسقف، والحال أنّه يكفي في إطلاق المسجد على المكان الّذي يحاط بجدران أربعة فقط ولا يشترط فيه وجود السقف، فالمسجد الحرام مسجد بلا سقف، وهكذا.

ويشهد على حاجة البيت إلى السقف قوله تعالى:

(وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ) .(1)

ومن الواضح أنّ الآية تشير إلى أنّ مفهوم البيت يتقوّم - خلافاً للمسجد - بوجود السقف، وأنّه من الممكن أن يميّز اللّه الكافرين من المؤمنين بأن يمكّن اللّه الكافرين من الأُمور المادية بنحو يجعل لبيوتهم سقفاً من فضة، ولكنّه سبحانه لم يفعل ذلك لمصالح اقتضت ذلك، وهذا يدلّ على أنّ البيت يومذاك يطلق على البناء المسقّف.

4. روى الحافظ السيوطي قال: أخرج ابن مردويه، عن أنس بن مالك وبريدة: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قرأ هذه الآية: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل، قال: أيّ بيوت هذه يا رسول اللّه ؟ قال: «بيوت الأنبياء»، فقام إليه أبو بكر، وقال: يا رسول اللّه، وهذا البيت منها؟ - مشيراً إلى بيت علي وفاطمة عليهما السلام - فقال

ص:614


1- . الزخرف: 33.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «نعم ومن أفاضلها».(1)

وقد روي عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام: «أنّ المقصود بيوت الأنبياء، وبيوت علي عليهم السلام».(2)

فهذه القرائن لو أمعن المفسّر النظر فيها لأذعن بأنّ المراد من مصطلح «البيوت» الوارد في سورة النور هو بيوت الأنبياء عليهم السلام، وبيت النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، وبيت عليّ عليه السلام، وبيوت الأولياء والصالحين الّتي امتازت بفضيلة ومنزلة خاصّة بسبب ظاهرة التحميد والتسبيح والتهليل الّتي يقوم بها أصحابها الّذين وصفتهم الآية بأنّهم: (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ ) الأمر الّذي أدّى إلى أن يأذن سبحانه وتعالى برفعها وتشريفها، فقال: (أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) .

5. وهناك شاهد واضح يشهد على أنّ المراد من البيوت في الآية المباركة بيوت العترة الطاهرة عليهم السلام، وهذا الشاهد يتمثّل في الآيتين المباركتين التاليتين:

ألف. قال تعالى مخاطباً آل إبراهيم عليهم السلام: (رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) .(3)

ب. قوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .(4)

ولكن قد يقال: إنّ ذيل الآية الّذي جاء فيه قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) قرينة على أنّ المراد من البيوت هي المساجد، لأنّ مسلمي صدر الإسلام كانوا جميعاً يؤدّون صلواتهم في المسجد، ومن الطبيعي أنّ إقامة

ص:615


1- . تفسير الدر المنثور: 6/203.
2- . البرهان في تفسير القرآن: 3/137.
3- . هود: 73.
4- . الأحزاب: 33.

الصلاة ملازمة للتسبيح والتهليل والتكبير.

يلاحظ عليه: أنّه تصوّر خاطئ، وذلك لأنّ الصلاة الّتي كانت تقام في المسجد هي الصلوات الواجبة، وأمّا الصلاة المستحبّة فقد كانت تؤدّى في البيوت، حيث وردت الروايات الكثيرة الّتي تحثّ المسلمين على تقسيم صلاتهم إلى طائفتين: طائفة تُصلّى في المسجد وهي الصلاة الواجبة، وأُخرى تصلّى في البيوت، وهي الصلاة النافلة (المستحبّة). ثمّ إنّ المستشكل غفل عن نكتة أساسية ومهمّة وهي أنّ بيوت الأنبياء والأئمّة والصالحين لا تقلّ عن المساجد في التسبيح والتهليل، فإنّهم عليهم السلام فيها بين قائم وراكع وساجد، وذاكر وقارئ للقرآن آناء الليل وأطراف النّهار.

ولكي نرفع الشكّ والوهم عن أذهان البعض حول الرأي الّذي ذكرناه، نذكر نماذج من الروايات الّتي وردت في هذا المجال.

فقد عقد مسلم في صحيحه باباً لاستحباب إقامة النافلة في البيوت، روى فيه الأحاديث التالية:

أ. عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً».

ب. عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «صلّوا في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً».

ج. عن جابر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإنّ اللّه جاعل في بيته من صلاته خيراً».

د. عن أبي موسى عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «مثل البيت الّذي يذكر اللّه فيه والبيت الّذي لا يذكر اللّه فيه مثل الحيّ والميّت».

ه. وعن زيد بن ثابت في حديث: «فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإنّ خير

ص:616

صلاة المرء في بيته، إلّاالصلاة المكتوبة».(1)

و. روى أحمد أنّ عبداللّه بن سعد سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: أيّما أفضل:

الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال: «فقد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، ولئن أُصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أُصلّي في المسجد إلّاأن تكون صلاة مكتوبة».(2)

فهذه القرائن المؤكّدة ترفع الستار عن وجه المعنى؛ فإنّ المراد من الآية هو بيوت الأنبياء وبيوت النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وبيت علي عليه السلام وما ضاهاها، فهذه البيوت لها شأنها الخاص؛ لأنّها تخصُّ رجالاً يُسبّحونه ليلاً ونهاراً، غُدّوّاً وآصالاً، يَعيش فيها رجال لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقلوبهم مليئة بالخوف من يوم تتقلّب فيه القلوب والأبصار.

وفي الختام نقدّم لكم أفضل التحيّات ولمن حولكم من الأعزاء الّذي يشاركونكم في هذا الجهد القيّم.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

20 ذو القعدة الحرام

الموافق

25/6/1393 ش

ص:617


1- . صحيح مسلم: 2/187-188، باب استحباب صلاة النافلة في البيت.
2- . مسند أحمد: 4/342.

5 أنواع التحديث والمسند بينها

كثرت المدوّنات الحديثية وتنوّعت بين مسند ومعجم وجامع وسنن وصحاح، فإذا كانت الأحاديث مدوّنة باسم صحابي أو تابعي أو راوي فيترجم بالمسند، مقابل تدوينه على الأبواب حيث يرتّب المحدّث كتابه على الموضوعات، والموضوع الواحد يتناول موضوعات جزئية، وتحت كلّ موضوع جزئي أحاديث توضّح الموضوع، وكلامنا في المقام في القسم الأوّل.

وقد كثر التأليف على نمط المسند في العصور الأُولى فروايات كلّ صحابي أو تابعي إذا جمعت في كتاب واحد، يُسمّى «المسند»، وقد قام لفيف من المحدّثين القدامى بتدوين الحديث على هذا النحو، ولنذكر منها ما يلي:

1. مسند الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لأبي أحمد عبدالعزيز بن يحيى الجلودي شيخ جعفر بن قولويه الّذي توفّي عام 367 ه.(1)

2. مسند ابن عباس له أيضاً.(2)

3. مسند زيد بن علي بن الحسين (الشهيد عام 122 ه) جمعه عبدالعزيز بن إسحاق البقّال (المتوفّى 313 ه) ورواه عن زيد أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي.(3) وقد ذكر النجاشي سنده إلى عمرو بن خالد الواسطي الّذي كان زيدياً.(4)

ص:618


1- . لاحظ: رجال النجاشي: 240، برقم 640.
2- . لاحظ: رجال النجاشي: 240، برقم 640.
3- . الذريعة للطهراني: 12/26.
4- . رجال النجاشي: 288، برقم 771.

4. مسند عبداللّه بن بكير بن أعين، جمعه أبو العباس أحمد بن عقدة الهمداني اليماني (المتوفّى 333 ه)(1) إلى غير ذلك ممّا ذكره البحّاثة الكبير شيخنا المجيز الطهراني في الذريعة.(2)

وهنا نكتة خاصّة وهي أنّ الأُصول الأربعمائة لأربعمائة محدّث الّتي أُلفت في عصر أئمة أهل البيت عليهم السلام تعدّ كلّها من المسانيد، فكلّ مَن تشرّف أو تتلمذ على يدي أحد أئمة أهل البيت عليهم السلام فقد جمع ما سمعه منه مباشرة أو بواسطة واحدة، جمعه في كتاب واحد سميّ بالأصل، وهي بالحقيقة مسانيد، فلو قلنا بأنّ للشيعة السهم الأوفر في تأليف المسانيد، لم يكن أمراً بعيدأً. شكر اللّه مساعي الجميع.

***

وممّن خدم حديث أئمة أهل البيت عليهم السلام وأناخ راحلته على أعتابهم هو المحدّث الكبير عبدالسلام بن صالح المكنّى ب «أبي الصلت» الهروي، فقد كان الرجل من أقطاب الحديث وعباقرة الكلام، فقد عاصر الإمام الرضا عليه السلام وكتب شيئاً كثيراً من أحاديثه.

وهذا الكتاب الماثل بين يدي القارئ قد بذل مؤلّفه جهداً حثيثاً في جمع ما رواه أبو الصلت عن الإمام الرضا عليه السلام وغيره من أئمة أهل البيت عليهم السلام في أبواب مختلفة، فحقّ له أن يُسمّى ب (مسند أبي الصلت) ونحن نقدّم شكرنا ودعاءنا للعلّامة الشيخ محمد حسن الرباني البيرجندي حفظه اللّه تعالى إذ قام بهذا العمل القيّم بوجه رائع.

كما إنّا نقدّم خالص الشكر والتقدير لشيخنا الفاضل حجّة الإسلام

ص:619


1- . رجال النجاشي: 94، برقم 233.
2- . لاحظ: الذريعة للطهراني: 21/27.

الگنابادي دامت معاليه مسؤول مديرية الأوقاف في محافظة خراسان الرضوي، حيث حثّ على تأليف هذا المسند، كما أشرف على تجديد بناء مقبرة الشيخ الراحل أبي الصلت وما حولها بأفضل وجه، وبذلك أدّى واجبه بحقّ من خدم علوم أهل البيت عليهم السلام بقلمه وبنانه.

فها نحن نفسح المجال لمؤلّف المسند ليحدثنا عن تاريخ كتابة المسند وما قام به المحدّث أبو الصلت في هذا المجال.

وفق اللّه الجميع لخدمة العلم والحديث

والحمد للّه رب العالمين

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

11 من شهر ذي القعدة الحرام

يوم ميلاد الإمام الرضا عليه السلام من شهور عام 1435 ه

ص:620

6 آية اللّه الحائري مظهر الفضيلة والتقى (1334-1406 ه)

اشارة

إنّ كثيراً من الناس ممّن يطوي الزمان ذكرَهم ويلفّهم رداء النسيان والاندثار، فلا تسمع لهم ذكر ولا تحس لهم أثراً، يخرجون من الدنيا وكأنّهم لم يعيشوا فيها ولم يشاركوا في حوادثها، فلم تجد لهم بصمة أو أثراً هناك. وفي قبال هؤلاء هناك طائفة أُخرى من الرجال النموذجيين، لا تسمح لعواصف الدهر بإحناء قامتها ولا لغيومه بحجب نورها ولا لتقلبات الحوادث بمحو اسمها من عَلى صعيد الحياة الوسيعة.

وسرّ بقاء هذه النفوس الزكية هو ما حققوا من صلابة إيمان ورسوخ عقيدة وتجذّر معرفة، وروح امتزجت مع أسمى مظاهر التقى والفضل والخلق الرفيع، وأسدت للبشرية خدمات جليلة، مكنتها من تجاوز الحدود، والنفوذ إلى عمق الوجدان البشري، متسنمة بذلك ذروة العلياء، راكبة صهوة جياد العزّ والكرامة.

ومن هؤلاء الرجال الكبار آية اللّه الحاج الشيخ مرتضى الحائري النجل الأكبر لزعيم ومؤسس الحوزة العلمية في قم المقدسة آية اللّه العظمى الحاج عبدالكريم الحائري اليزدي (قدّس اللّه أسرارهما) النموذج الامثل والفرد النادر من الرجال الّذين جمعوا بين شرف المَحْتِد، وأصالة المنشأ، وكرم المَولد، وبين عزّة النفس وعلو الهمّة.

فهو يأبى إلّاأن يضيف إلى كرم والده كرماً، وإلى مجده مجداً، وإلى عزه عزّاً.

ص:621

فكان قدس سره الفقيه الغائص في عباب بحر الفقاهة، والأُصولي المتمرّس، الممتطية سفينته أمواج الفضيلة، والتقيّ الزاهد، المتواضع بعزّ، المتزين بزينة الوقار وسيماء الصلاح.

مولده

عمّت البهجة دار الشيخ الحائري في مدينة «أراك» يوم الرابع عشر من ذي الحجّة سنة 1334 ه بولادة أوّل الذكور من ابنائه، الّذي أبصر النور في بيت عرف بالعلم والفضيلة والأدب والتقى.

ولم يبلغ الفقيد عقده الأوّل حتّى هبط والده المكرّم - مصطحباً أهله وتلامذته - مدينة قم المشرّفة ومثوى العلوية فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم عليه السلام، بدعوة من بعض رجال العلم فيها رغبة في تنظيم أمرها وإعادة مجدها، ومنذ ذلك اليوم الّذي وطأتْ قدمه تراب تلك المدينة المقدّسة، حتّى شمّر عن ساعد الجد في طلب العلم وتحصيل المعارف ابتداء بعلوم اللغة العربية ومروراً بالفقه والأُصول متتلمذاً في مرحلة السطوح العالية على يد كبار تلامذة أبيه رحمه الله، حيث قرأ فرائد الشيخ الأعظم الأنصاري على السيد آية اللّه الگلپايگاني والمكاسب على يد آية اللّه السيد محمد تقي الخوانساري، وكفاية الأُصول على المرحوم آية اللّه المحقّق الداماد (قدس اللّه ارواحهم) حتّى أهلّته تلك المواهب لحضور حلقة أبحاث الخارج لوالده آية اللّه العظمى الشيخ الحائري منتهلاً من نمير علمه، ومرتوياً من منهله العذب الّذي تعدّ الحوزة العلمية القمية اليوم إحدى اشعاعات نوره الوضاح.

وبعد رحيل شيخه الوالد سنة 1355 ه يمّم وجهه صوب حلقات درس منارة العلم والتقى آية اللّه العظمى «حجّت» مغترفاً من بحره الفيّاض.

وما أن أطل العام 1364 ه الموافق لسنة 1324 شمسية حتّى استنارت

ص:622

سماء الحوزة القمية بضياء المرجع الكبير المرحوم السيد آية اللّه العظمى البروجردي قدس سره بطلب من علمائها وفضلائها، والأُمّة كافّة.

الأمر الّذي احدث في الحوزة تحوّلاً كبيراً في عامّة المعارف وفي مجالي الفقه والأُصول خاصّة، وكان لعلم الرجال نصيبه الوافر من عطاء ذلك الرجل الكبير. وانتهز شيخنا الفقيد الفرصة والتحق بدروس السيد البروجردي الّذي يعود إليه الفضل الأكبر في تشييد عماد شخصية الشيخ الحائري العلمية في الفقه والأُصول وتدعيم أُسسها.

حلقات درسه

لا ريب أن الفقيد كان من المشايخ المبرزين والأساتذة الماهرين والاعلام المتضلعين حيث خاض عباب التدريس في مرحلة الشباب لم يتجاوز العقد الثالث من العمر بشيء حتّى تصدّى لعقد حلقات ابحاث الخارج الّتي استطاعت أن تربّي جيلاً من الفضلاء ورجال العلم والسياسة في الحوزة العلمية ممّن أخذوا من بيدر علمه الوافر.

لقد كانت حلقة درسه حلقة متميّزة، وعرف بحثه بالدقة والعمق، وقد استمر عطاؤه وحلقة دروسه العليا أكثر من ثلاثين عاماً، ولم يتوقف عن الفيض والعطاء إلى الأيام الاخيرة الّتي اشتدّت فيها علته.

انتاجاته العلمية

أثرى الفقيه المكتبة الإسلامية بمؤلفات هي غاية من الأهمية والجودة طبع البعض منها وما زال الكثير منها مخطوطات لم تبصر النور بعد، منها:

1. شرح العروة الوثقى ، في ستة أجزاء.

2. مباني الأحكام في أُصول شرائع الإسلام، في ثلاثة أجزاء.

ص:623

3. كتاب الخمس.

4. خلل الصلاة وأحكامها.

5. صلاة الجمعة.

هذه هي الكتب المطبوعة من آثاره، وأما ما لم يطبع فهو كالتالي:

1. ابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة، في خمسة أجزاء.

2. التعليقة على الكفاية.

3. التعليقة على مكاسب الشيخ الأنصاري.

4. بحث حول الخيارات.

وللفقيد رسالة في العقائد مطبوعة، وله أيضاً تفاسير لبعض السور، رحمه اللّه من مؤلف ثرّ أغنى المكتبة الإسلامية بذخائر قيّمة.

الخدمات الاجتماعية

ورث الفقيد من والده المعظّم الشيخ عبد الكريم الحائري طهارة الروح، وصفاء الباطن، فكان لطيف العشرة، ليّن العريكة، زاهداً في حطام الدنيا وزخارفها، جامعاً بين رتبتي العلم والعمل، مشفقاً على الفقراء والضعفاء، ولتحقيق هدفه الأمثل هذا قام بتشييد الكثير من المؤسسات في قم المقدّسة لعلها تساعده في الوصول إلى مبتغاه من تقديم العون لعيال اللّه تعالى، منها:

1. صندوق الادّخار العلوي.

2. مؤسسة مكافحة الفقر.

3. مؤسسة رعاية الأيتام.

4. ثانوية باسم الدين والمعرفة.

وقد أسدت تلك المؤسسات - وخاصة الثلاثة الأُولى منها - خدمات جليلة نأمل أن يأتي اليوم الّذي يقوم به امناء تلك المؤسسات بنشر عطائها الثر

ص:624

وبيان ما قدمته من خدمات جديرة بالتقدير والذكر، لتكون مثالاً يحتذى به في التنافس في الخيرات وتقديم العون للمعوزين.

ومع ذلك فإنّ الفقيد السعيد لم يغفل لحظة عن العطاء العلمي بالتدريس والإفاضة والإرشاد، وتلك حقيقة يلمسها بوضوح كل من عاشر الفقيد أو عاش بالقرب منه.

إنعكاسات ارتحال الفقيد وردود الفعل

عمّ خبر رحيل آية اللّه الحائري جميع البلاد وكساها بثوب من الحزن والأسى، وقد تقاطرت جموع غفيرة من المؤمنين من داخل مدينة قم وخارجها متوافدة على بيت الفقيد لتقدّم العزاء وتشترك بتشييع جسده الطاهر بمظاهرة حاشدة وروحية ذكرّت الجميعَ بتشييع مراجع الدين الكبار كالسيد البروجردي وآية اللّه السيد محمد تقي الخوانساري.

حمل الجسد الشريف على الاكتاف صوب صحن السيدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم (عليه وعليها السلام) وتقدّم الجموعَ آيةُ اللّه العظمى السيد الگلپايگاني للصلاة على الفقيد، بعدها ووري جثمانه الثرى بالقرب من والده رحمه الله وكأنهم أودعوا الثرى بدفنه جبلاً من الفقاهة وطوداً من المعرفة والعلم.

واقيمت له مجالس العزاء في شتى ربوعها وعطّل الاعلامُ والمراجعُ حلقاتِ دروسهم وفاءً لحقّه واداءً لجميل احسانه وعظيم صفاته.

ونحن ومهما تحدّثنا عن مآثر الفقيد وصفاته لم نؤد حقه، ومن هنا نرى من المناسب الاشارة إلى تأبين السيد الإمام الخميني قدس سره له أداء لحقّه وتعويضاً عما فاتنا.

ص:625

تأبين السيد الإمام الخميني

أصدر الإمام الخميني قدس سره بياناً نعى فيه إلى الشعب الإيراني رحيل الشيخ الحائري، جاء فيه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ

أدّت رحلة سماحة آية اللّه الحاج مرتضى الحائري - رحمة اللّه عليه - إلى تأثرنا العميق. لقد كان الخلف الصالح للمرحوم الجليل آية اللّه العظمى الأستاذ الحاج الشيخ عبدالكريم الحائري - رضوان اللّه تعالى عليه - في العلم والعمل وكفى به شَرفاً وسَعادة.

كانت لي المعرفة به منذ أوائل تأسيس الحوزة العلمية المباركة في قم، حيث تأسست على يد والده الكريم وآتت ثمارها وبركاتها، ثم أصبح بعد ذلك صديقاً حميماً ومقرباً، ولم أشاهد منه طيلة فترة معاشرتي له سوى الخير والسعي لانجاز التكاليف العلمية والدينية.

كان المرحوم يتمتع بصفاء القلب فضلاً عن المنزلة الفقهية والعدالة، وكان من رواد هذه الثورة المقدّسة منذ بزوغ شمسها «جَزاهُ اللّهُ عن الإسلام خيراً».

***

وفي الختام نقدّم ثناءنا العطر للعلّامة الحجّة الشيخ محمد حسين أمراللهي حفظه اللّه تعالى حيث كرّس حياته وكلّ جهوده في تحقيق آثار الفقيد، ونشرها بأفضل الوجوه. وقد اشرنا إلى ما هو المطبوع بفضل سعيه الحثيث.

فجزاه اللّه عن ذلك العمل خير الجزاء.

جعفر السبحاني

قم المقدّسة - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الحادي والعشرون من ذي الحجة عام 1435 ه

ص:626

7 كلمة إلى مهرجان ربيع الشهادة الثقافي العالمي

اشارة

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، وأُصلّي وأُسلّم على ريحانة رسول اللّه الحسين بن علي، وأخيه الوفي أبي الفضل العباس، وولده الإمام الطاهر زين العابدين سلام اللّه عليهم أجمعين.

نتقدّم بأصدق التهاني وأخلص التبريكات إلى كافّة المسلمين في أرجاء العالم، وإلى حضّار هذا المهرجان الكريم والأُخوة المشرفين، حفظهم اللّه تعالى ووفّقهم لكلّ خير.

كما نتقدّم بالثناء والتقدير إلى الإخوة في الأمانتين العامّتين للعتبتين المقدّستين الحسينية والعبّاسية الّذين أشرفوا على إقامة هذا المهرجان الرائع.

وإنّي إذ أشكرهم على توجيه الدعوة لي لحضور المهرجان إلّاأنّ مسؤوليتنا وظروفنا منعتنا عن ذلك، ولذا فنحن نكتفي بالمشاركة بهذه الكلمة الّتي يحملها وفد كريم من جانبنا.

الاحتفال بمواليد أولياء اللّه من صميم الدين

مَن يطالع التاريخ الإسلامي يقف على أنّ المسلمين في شتّى بلدانهم كانوا يحيون، ومنذ زمن بعيد، ذكرى مولد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم حيث يعتلي الخطباء والمحدّثون في هذه المناسبة، المنابر ومنصّات الخطابة لبيان فضائله ومناقبه وذكر الثناء الوارد بحقّه في القرآن الكريم إلى غير ذلك من جوانب

ص:627

حياته، وهم ينطلقون في عملهم هذا من قوله تعالى: (وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) (1) حيث تدلّ الآية على أنّ رفع ذكر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر مطلوب، فالاحتفال يكون تجسيداً لمفهوم هذه الآية.

الاحتفال بذكرى الأئمّة عليهم السلام تجسيد للمودّة

أمر اللّه تعالى المسلمين بمودّة ذوي القربى بقوله: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ،(2) فمودّتهم تتمثّل بأمرين:

1. اتّباع سبيلهم، سبيل الهدى والخير، والاقتداء بما تحلَّوا من فضائل الأخلاق وسَنيّ الصفات.

2. إحياء أمرهم بمختلف الوسائل، ومنها إقامة الاحتفالات بمناسبة مواليدهم إظهاراً للحبّ وتعبيراً عن مدى الولاء والإخلاص لهم.

وهذا المهرجان تجسيد لرفع ذكر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أوّلاً وإظهار لحب أولاده وأوصيائه ثانياً، خصوصاً إذا كان مقروناً بإلقاء المحاضرات وإنشاد الأشعار والمدائح الّتي تلقي الضوء على سيرتهم وتضحياتهم والخطوط البارزة في حياتهم.

هذا هو السيد المسيح عليه السلام يصف يوم نزول مائدة من السماء عليه وعلى حواريّيه، يصفه بأنّه عيد لأوّلهم وآخرهم، قال تعالى: (رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) .(3)

فالسيد المسيح عليه السلام يحتفل بنزول نعمة مادّية أنزلها اللّه إليه من السماء،

ص:628


1- . الشرح: 4.
2- . الشورى: 23.
3- . المائدة: 114.

أفلا يحق لنا أن نحتفل ابتهاجاً بالنعم الكُبرى الّتي أفاضها اللّه تعالى على الأُمّة الإسلامية كميلاد النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أو مبعثه الشريف، أو مواليد ذريته الطيبة عليهم السلام الّذين ضحّوا بنفوسهم ونفيسهم في طريق الدعوة إلى اللّه.

وفي الوقت الّذي نحتفل فيه بهذه المناسبات العطرة ونُسرّ بها، فإنّ الحزن لا يفارق قلوبنا لما يمر على الأُمّة الإسلامية من آلام ومصائب، واعتداءات سافرة على الأطفال والنساء والشيوخ، ترتكبها زُمر تكفيرية إرهابية، بتخطيط وتدبير من أجهزة المخابرات الغربية والدوائر الصهيونية العالمية، مستهدفة تقسيم البلدان الإسلامية، ونشر الفوضى والخراب فيها، وإشغال المسلمين بعضهم ببعض في صراعات محتدمة، لضمان أمن دويلة إسرائيل الغاصبة واستقرارها.

ونحن نهيب بأصحاب الضمائر الحيّة، والغَيارى على دينهم ومقدّساتهم وأوطانهم أن يتحمّلوا مسؤوليتهم بعزمٍ وجدّ في هذه الظروف الحرجة، وأن يقفوا في وجه الدعايات الخادعة الّتي تطرحها القنوات الفضائية المأجورة الّتي تُدار من الغرب (الغربية واقعاً والشرقية ظاهراً)، ويفضحوا دورها في تكريس الشقاق والخلاف بين المسلمين، ومباركة الممارسات الإجرامية للمجموعات الإرهابية.

وختاماً

أبعث تحياتي الخالصة إلى المرجعية الرشيدة الّتي حفظت هذه البلاد من التفرّق والتشرذم أمام الهجمة الإرهابية.

كما أُحيّي الشعب العراقي النجيب بكافّة طوائفه، وأُوصيهم بالالتفاف حول القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة وتعاليم العترة الطاهرة، وأن يكونوا يداً واحدة في مواجهة العدو الغاشم ويحافظوا على ثقافتهم الإسلامية، وخيرات

ص:629

بلادهم، ويستثمروها للبناء والرقيّ وسعادة أجيالهم القادمة.

اللهمّ منّ على عبادك الصالحين بالأمن والأمان، واحفظ بلادهم وأرضهم وخيراتهم من تطاول الأعداء، إنّك مجيب الدعاء.

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

1 / شعبان المعظم / 1436 ه

ص:630

8 بيان تعزية بمناسبة وفاة العلّامة المجاهد الشيخ محمدمهدي الآصفي رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)

صدق اللّه العليُّ العظيم

ببالغ الأسى والحزن تلقينا نبأ رحيل العلّامة المجاهد الحجّة آية اللّه الشيخ محمد مهدي الآصفي تغمده اللّه برحمته الواسعة.

لقد كان رحمه الله حليف العلم والقلم، ذاباً عن الإسلام وأهله ببيانه وبنانه، رادّاً على الاعوجاج والالحاد، تشهد على ذلك آثاره ومؤلفاته في شتى المواضع المختلفة.

ولم يقتصر جهده على تشر العلم وتوعية الأُمة، بل كان رجلاً مجاهداً، مخالطاً للمجاهدين في مواقع الجهاد، ومعيناً لهم بما في يده من الامكانات.

وقد لاقى الفقيد العزيز في الدفاع عن دينه وابناء وطنه المصاعب والآلام الكثيرة والمضايقات من النظام الصدامي البائد.

ص:631

كان شيخنا الراحل يعيش معيشة الزاهدين مقتنعاً من الدنيا بأقلها، ومع ذلك فقد كان يخدم الأيتام والفقراء ويرعاهم ويهتم بأمور حياتهم.

وفوق كلّ ذلك فهو كاتب قدير، ومجاهد شجاع، وعالم عامل، وزاهد ورع.

ليس من اللّه بمستنكر أن يجمع العالم في واحد

ونحن إذ نعزي بفقده إمام العصر (عج) والحوزات العلمية والمراجع العظام والشعب العراقي وبيته الرفيع، ندعو اللّه أن يمّن عليهم بالصبر والسلوان.

فسلام اللّه عليه يوم ولد ويوم توفي ويوم يبعث حيّاً مع محمد وآله الطاهرين.

قم المقدسة

الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

17 شعبان المعظّم 1436 ه

ص:632

9 كلمة إلى مؤتمر الوحدة الإسلامية المنعقد في طهران

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أمّا بعد:

أتقدم اليكم أيها المشاركون في هذا المؤتمر المبارك من الأخوة والاخوات بمناسبة تجلّي النور في غياهب الظلمة أعني ميلاد الرسول الأكرم محمد بن عبداللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وسبطه الإمام الصادق عليه السلام أتقدم إليكم بالتهاني العطرة، وأدعو اللّه تبارك وتعالى أن يوفقكم لما فيه رضاه.

إن اللّه سبحانه يصف رسوله الأكرم والّذين من حوله بقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) .(1)

وهذه الفقرة وردت بصورة جملة خبرية إرشاداً إلى الأمر بأن يكونوا كذلك، وقد صرّح علماء البلاغة بأن الأمر والطلب بصورة الجملة الخبرية آكد من الأمر نفسه.

فإذا كان هذا التكليف منذ عصر نزول الوحي إلى زماننا هذا، فهل المسلمون في كافة أرجاء العالم قائمون بتكليفهم على هذا النحو، أو أنّ الحال هو خلاف ذلك، فصار المسلمون أشدّاء على المؤمنين وربّما صار قسمٌ منهم

ص:633


1- . الفتح: 29.

رحماء على الكافرين، وعلى الصهاينة الّذين يحتلّون الأرض المباركة، وينتهكون حرمة المقدّسات فيها!!

ويشهد لذلك انحسار مظاهر الحرب من عامّة أقطار العالم وتمركزها في البلاد الإسلامية، وأخص بالذكر العراق وسوريا واليمن وافغانستان، فكل يوم نشاهد الانفجارات وهدم المنشآت الحيوية وقتل النساء والأطفال والعُزَّل من الرجال، والدول الإسلامية تلتزم الصمت حيال هذه الجرائم، وكذلك المنظمات الدولية لا تقدّم حلّاً إلّاالاستنكار والشجب.

وفي هذه الظروف، وقد حاق البلاء بالإسلام والمسلمين، حرّي بالمفكرين الواعين الّذين لهم حضور واسع في هذا المؤتمر أن يقدّموا حلولاً لهذه الأزمات الخانقة، وإيجاد السُّبل الكفيلة بإيقاف نزيف الدماء الّتي تسيل ظلماً وعدواناً.

وأسوأ من ذلك ظهور فئة طائشة هَوجاء ليس لها أيّ صلة بالإسلام وتشريعاته وسننه وأُصوله، تحكم باسم الإسلام، وتمارس أسوأ الأعمال الّتي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً إلّافي العصور المظلمة والحملات الوحشية الشرسة في القرون الوسطى.

لقد كان الإسلام يتقدّم بمنطقه القويّ وقوانينه الرصينة في مجال المعارف والاحكام والاخلاق، وكان الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً من الغربيين والشرقيين، وكاد قوله سبحانه: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) * أن يتجلّى ويتحقّق على أرض الواقع، غير أن أعمال هؤلاء القساة الغلاظ صارت سبباً لابتعاد غير المسلمين عن الفهم الصحيح للإسلام والاعتقاد والالتزام بمنهجه القويم. واللّه سبحانه يعلم كيف يجازي من يموِّل هذه الفئة ومن يساندها إعلامياً وتسليحياً.

وختاماً نعتذر من المشاركين في المؤتمر عمّا امتزجت به كلمتي من

ص:634

حزن وأسى ، هي نفثة مصدور قد برّحت به الآلام.

أُجدّد لكم التبريك والتهاني بهاتين المناسبتين السعيدتين وأرحِّب بكم في بلدكم.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

11 ربيع الأوّل 1437 ه

ص:635

10 تقريظ كتاب «المحرز في شرح الموجز في أُصول الفقه»

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّه الخاتم المخلِّف للثقلين: الكتاب والعترة، للاستضاءة بأنوارهما في مجالَي المعارف والأحكام، وعلى آله الطيّبين الطاهرين الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

أمّا بعد؛ فإنّ الاجتهاد بمعنى ردّ الفروع إلى الأُصول واستخراج حكم الموضوع من الأدلّة الشرعية، من ألطاف اللّه سبحانه على بعض عباده الّذين سهروا الليالي بالمطالعة والتفكير، ولا يحظى به كلّ شارد ووراد، ولا يقوم به إلّا الأمثل فالأمثل من رجال العلم والفضيلة، حتّى وصفه الشيخ الأنصاري في فرائده في مبحث الانسداد بقوله: رزقنا اللّه الاجتهاد فإنّه أشدّ من طول الجهاد.

ثمّ إنّ تحصيل ملكة الاجتهاد فرع تحصيل علوم مختلفة لا تُنال إلّا بممارستها، ومنها علم الأُصول الّذي يبحث فيها عن القواعد الّتي يتوسّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلّة.

ثم إنّي ألّفت في سالف الزمان كتاب «الموجز» للمبتدئين في هذا العلم بلغة واضحة وأردفت بعض القواعد بالتفريعات، فنال موقع القبول عند أساتذة الحوزة وصار محوراً للدراسة.

وممّن قام بشرحه وتوضيحه شيخنا الفاضل الحجّة الشيخ محمد حسين

ص:636

العبدي (دامت إفاضاته) فقد شرح الكتاب شرحاً مبسّطاً، وأسماه «المحرز في شرح الموجز في أُصول الفقه»، وأنا إذ أُبارك له هذا العمل، أسأل اللّه تعالى أن يجعله من أصحاب الفتيا في مستقبله الزاهر.

والحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

16 من شهر جمادى الأُولى

من شهور سنة 1437 ه

ص:637

ص:638

فهرس المحتويات

الموضوع/الصفحة

مقدّمة المؤلّف... 7

الفصل الأوّل:

مقالات في الكلام والعقائد

وفيه أربع مقالات:

1. مع شيخ الأزهر في محاضراته الرمضانية... 11

تمهيد... 13

الحلقة الأُولى: اليوم الأوّل من شهر رمضان 1436 ه... 15

الحلقة الثانية: اليوم الثاني من شهر رمضان 1436 ه... 17

الأوّل: ادّعاء الإجماع على موضوع غير محدّد... 19

الثاني: التوسّع لحفظ كرامة بعض الصحابة... 19

الحلقة الثالثة: اليوم الثالث من شهر رمضان 1436 ه... 20

الحلقة الرابعة: اليوم الرابع من شهر رمضان 1436 ه... 26

الحلقة الخامسة: اليوم الخامس من شهر رمضان 1436 ه... 33

الحلقة السادسة: اليوم السادس من شهر رمضان 1436 ه... 37

ص:639

الموضوع/الصفحة

الصحابة أبصر بحالهم من غيرهم... 38

الحلقة السابعة: اليوم السابع من شهر رمضان 1436 ه... 41

تفسير الآية... 42

الرضا مقيّد لا مطلق... 44

الحلقة الثامنة: اليوم الثامن من شهر رمضان 1436 ه... 51

تعريف العصمة... 52

حقيقة العصمة... 53

الحلقة التاسعة: اليوم التاسع من شهر رمضان 1436 ه... 56

الحلقة العاشرة: اليوم العاشر من شهر رمضان 1436 ه... 61

الحلقة الحادية عشرة: اليوم الحادي عشر من شهر رمضان 1436 ه... 66

الحلقة الثانية عشرة: اليوم الثاني عشر من شهر رمضان 1436 ه... 69

الحلقة الثالثة عشرة: اليوم الثالث عشر من شهر رمضان 1436 ه... 74

الحلقة الرابعة عشرة: اليوم الرابع عشر من شهر رمضان 1436 ه... 77

الحلقة الخامسة عشرة: اليوم الخامس عشر من شهر رمضان 1436 ه... 80

الحلقة السادسة عشرة: اليوم السادس عشر من شهر رمضان 1436 ه... 83

الحلقة الثامنة عشرة: اليوم الثامن عشر من شهر رمضان 1436 ه... 85

الحلقة التاسعة عشرة: اليوم التاسع عشر من شهر رمضان 1436 ه... 88

تحليل أحداث السقيفة... 94

الحلقة العشرون: اليوم العشرون من شهر رمضان 1436 ه... 99

1. حديث الثقلين... 100

2. حديث السفينة... 101

ص:640

الموضوع/الصفحة

الحلقة الحادية والعشرون: اليوم الحادي والعشرون من شهر رمضان 1436 ه... 105

الحلقة الثالثة والعشرون: اليوم الثالث والعشرون من شهر رمضان 1436 ه... 115

الحلقة الرابعة والعشرون: اليوم الرابع والعشرون من شهر رمضان 1436 ه... 122

1. رزية يوم الخميس... 125

2. الاعتراض على صلح الحديبية... 125

3. الأمر بالإحلال... 125

4. سرية أُسامة... 126

5. إسقاط سهم المؤلّفة قلوبهم... 127

الحلقة الخامسة والعشرون: اليوم الخامس والعشرون من شهر رمضان 1436 ه... 133

الحلقة السادسة والعشرون: اليوم السادس والعشرون من شهر رمضان 1436 ه... 142

الحلقة السابعة والعشرون: اليوم السابع والعشرون من شهر رمضان 1436 ه... 147

الحلقة الثامنة والعشرون: اليوم الثامن والعشرون من شهر رمضان 1436 ه... 149

الحلقة التاسعة والعشرون: اليوم التاسع والعشرون من شهر رمضان 1436 ه... 152

2. فتنة التكفير... 157

تمهيد... 163

الفصل الأوّل: الكفر والإيمان في اللغة ومصطلح المتكلّمين... 167

الكفر والإيمان لغةً ... 167

الإيمان والكفر في مصطلح المتكلّمين... 168

1. التصديق اللساني... 168

2. التصديق القلبي... 169

3. التصديق لساناً وقلباً مع الاجتناب عن الكبائر... 169

ص:641

الموضوع/الصفحة

4. المنزلة بين المنزلتين... 170

5. نظرية جمهور العلماء... 170

الفصل الثاني: ما يجب التصديق به... 174

1. التوحيد في الذات... 174

2. التوحيد في الخالقية... 174

3. التوحيد في الربوبية... 175

4. التوحيد في العبادة... 179

إجابة عن سؤال... 179

5. رسالة النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم... 181

6. إنّ القرآن وحيٌ مُنزل... 182

7. الإيمان بالمعاد... 182

حكم إنكار الضروريات... 183

الفصل الثالث: شروط التكفير وموانعه... 185

التكفير المطلق... 185

تكفير الفرد المعيّن... 185

الشرط الأوّل: إقامة الحجّة على المنكر... 186

الشرط الثاني: كونه قاصداً للمعنى المخرج... 186

موانع التكفير... 187

الأول: كونه مختاراً في البيان والعمل... 187

الثاني: الإنكار عن شبهة خارجة عن الاختيار... 188

الثالث: عدم احتمال التأويل... 188

1. قتل مالك بن نويرة وتبريره بالتأويل... 189

ص:642

الموضوع/الصفحة

2. قتل الهرمزان وإمساك الخليفة عن إجراء القصاص... 190

الفصل الرابع: جذور التكفير في العصور الأُولى... 191

بادرة التكفير في عصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم 191

1. أُسامة بن زيد يقتل مسلماً... 191

2. الوليد بن عقبة وتكفير بني المصطلق... 192

3. اعتراض ذي الخويصرة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 192

ظاهرة التكفير في زمن الخلفاء 193

1. تكفير مالك بن نويرة بتأويل باطل... 193

2. تكفير عائشة عثمان... 193

3. الخوارج والتكفير... 194

الفصل الخامس: إدانة تكفير أهل القبلة على لسان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والعلماء... 196

الفصل السادس: الذرائع الباطلة لتكفير المسلمين... 199

الذرائع التي يكفّر بها عامّة المسلمين... 199

المسألة الأُولى: الاعتقاد بقدرة غيبية في الأولياء وطلب الشفاعة والاستغاثة والتوسّل بهم... 201

1. القدرة الغيبية للنبي يوسف عليه السلام... 202

2. القدرة الغيبية للنبي سليمان عليه السلام... 203

التوسّل بالأنبياء والأولياء بالصور الثلاث... 205

كلام حول سند الحديث... 206

توسّل عمر بن الخطاب بعمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 207

شبهة كون النبيّ ميّتاً... 209

المسألة الثانية: الصلاة عند قبور الأنبياء والأولياء... 210

ص:643

الموضوع/الصفحة

1. الصلاة في مقام إبراهيم عليه السلام... 210

2. إقامة الصلاة على قبور أصحاب الكهف... 211

كيفية الاستدلال... 212

دليل المخالف... 213

إيضاح مفاد الروايات... 214

المسألة الثالثة: حفظ آثار الأنبياء والسلف الصالح من قبورهم وبيوتهم وما يمتّ إليهم بصلة... 218

الأوّل: مكانة بيوت الأنبياء في القرآن الكريم... 219

الثاني: صيانة الآثار ومودّة القربى... 221

الثالث: صيانة الآثار تعظيم للشعائر... 222

الرابع: القرآن الكريم وحفظ الآثار... 223

دليل المخالف... 224

المسألة الرابعة: النذر للنبي والإمام... 226

المسألة الخامسة: التبرّك بآثار الأنبياء... 228

نتيجة البحث... 230

الفصل السابع: الذرائع التي يكفّر بها الشيعة... 232

1. القول بالبداء... 233

2. الإيمان بخلافة الخلفاء... 234

3. علم الأئمة عليهم السلام بالغيب... 235

4. التقيّة من المسلم... 236

5. تكفير الصحابة... 237

نتيجة الدراسة... 240

ص:644

الموضوع/الصفحة

هذا هو الداء وأمّا الدواء... 240

1. نقد الأفكار الخاطئة التي تُشمّ منها رائحة تكفير الفرق الإسلامية... 240

2. تطهير البرامج الدراسية في بعض الدول... 242

الملاحق... 245

1. جذور ظاهرة التكفير ودوافع عقد المؤتمر... 245

التكفير العنيف... 248

2. كيف نواجه ظاهرة التكفير؟... 251

3. آل البيت عليهم السلام وحقوقهم الشرعية... 255

تمهيد... 257

الفصل الأوّل: في تفسير «أهل البيت»... 259

مَنْ حُرّمت عليهم الصدقة ؟... 259

تفسير آل البيت بمَن تحرم عليه الصدقة... 261

أهل البيت في حديث زيد بن أرقم... 262

الفصل الثاني: مفهوم «آل البيت»... 266

عند الشيعة الاثني عشرية... 266

دليل الحصر عند الشيعة... 267

أوّلاً: اللام في أهل البيت للعهد... 267

ثانياً: تذكير الضمائر... 269

ثالثاً: ممارسة الحصر في فعل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم... 271

تلاوة الآية على باب بيت فاطمة عليها السلام... 272

الفصل الثالث: فضائل آل البيت عند أهل السنّة... 275

تحليل ومناقشة... 276

ص:645

الموضوع/الصفحة

1. حديث الثقلين... 277

2. حديث السفينة... 278

الفصل الرابع: عقيدة أهل السنّة والجماعة في آل البيت عليهم السلام... 280

الاستدلال بخروج الإمام الحسين عليه السلام... 291

الفصل الخامس: حقوق آل البيت عليهم السلام... 298

1. رمي الشيعة بالغلو... 298

2. مشروعية الصلاة عليهم... 300

3. حقّهم في الخمس... 304

الخمس في أرباح المكاسب... 307

مصرف الخمس... 308

1. رفع بيوتهم... 310

2. المرجعية السياسية والعلمية... 311

الفصل السادس: بشرية آل البيت عليهم السلام... 312

كلمة أخيرة للشيخ... 317

4. أسئلة وأجوبة عقائدية... 325

السؤال الأوّل: هل يجوز طلب الشفاء والرزق من الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة عليهم السلام ؟... 328

1. التوحيد في الربوبية... 328

2. التوحيد في الربوبية غير تعطيل الأسباب... 329

3. فعل واحد ينسب إلى الرب والمربوب... 330

السؤال الثاني: وجود الصلة بين العالَمين الدنيوي والأُخروي... 333

النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يكلّم أهل القليب... 334

ص:646

الموضوع/الصفحة

الشعر يضفي على القضية طابعاً خالداً... 335

السؤال الثالث: هل النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام يسمعون كلامنا أو لا؟... 336

1. أمير المؤمنين عليه السلام يخاطب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم حين غسله... 336

2. أبو بكر يخاطب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بعد موته... 337

3. التسليم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في كلّ صلاة... 337

4. النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من شهداء الأعمال... 338

السؤال الرابع: شبهة عدم اطّلاع المسيح عليه السلام على ما يجري على أُمّته... 338

الفصل الثاني:

مقالات في الفقه والأحكام... 341

وفيه أربع مقالات

1. مواقيت الصلوات في الكتاب والسنّة... 343

1. مكانة الصلاة في الكتاب والسنّة... 350

2. الصلاة فريضة موقوتة تجب المحافظة على أوقاتها... 353

3. مواقيت الصلوات في الذكر الحكيم... 355

حصيلة البحث حول الآيات... 363

4. أوقات الفضيلة للصلوات الخمس... 365

القامة والقامتان:... 366

الذراع والذراعان... 367

القدم والقدمان... 367

5. الجمع بين الصلاتين في عرفة والمزدلفة والسفر... 370

1. الجمع بين الصلاتين في عرفة والمزدلفة... 370

ص:647

الموضوع/الصفحة

2. الجمع بين الصلاتين في السفر... 371

3. الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل العذر... 373

6. الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً... 373

1. ما دلّ على الجمع معلّلاً بعدم إحراج الأُمة، أو للتوسعة عليها... 374

2. ما دلّ على الجمع، من غير ذكر السّبب... 377

3. ابن عباس يجمع بين الصلاتين، اقتداءً بسنّة النبيّ 379...6

7. تأويل النصوص لنصرة المذهب... 381

التأويل الأوّل: الجمع لأجل وجود المطر... 381

التأويل الثاني: الجمع كان صورياً... 384

مفهوم الجمع في عامة الموارد واحد... 385

مع الشوكاني في قوله: إن الجمع كان صورياً... 386

التأويل الثالث: الجمع لأجل الغيم... 390

التأويل الرابع: الجمع كان لمرض... 390

التأويل الخامس: كان الجمع لأحد الأعذار المبهمة... 392

8. الجمع بين الصلاتين في أحاديث أهل البيت عليهم السلام... 395

خاتمة: تساؤلات وأجوبتها... 402

2. الخمس فريضة شرعية... 409

مقدّمة المؤلّف... 411

الفصل الأوّل: الخمس في الكتاب والسنة... 415

الخمس في الكتاب العزيز... 415

الأوّل: الغنيمة مطلق ما يفوز به الانسان:... 415

الثاني: المورد لا يخصّص... 418

ص:648

الموضوع/الصفحة

استدلال الفقهاء بالآية في غير مورد الغنيمة... 418

الخمس في السنة النبويّة... 420

تفسير ألفاظ الأحاديث... 422

كلام أبي يوسف في المعدن والركاز... 423

خمس أرباح المكاسب في الحديث النبوي... 424

إيضاح الاستدلال بهذه المكاتيب... 427

الخمس في روايات أئمة أهل البيت... 429

1. المعادن... 430

2. الكنز... 430

3. ما يخرج من البحر بالغوص... 430

4. أرض الذمي إذا اشتراها من مسلم... 430

5. الحلال المختلط بالحرام... 431

6. أرباح التجارات والصناعات والزراعات... 431

الخمس في كلام الإمام الصادق عليه السلام... 431

الخمس في كلام الإمام الكاظم عليه السلام... 432

الخمس في كلام الإمام الرضا عليه السلام... 432

الخمس في كلام الإمام الجواد عليه السلام... 434

الخمس في كلام الإمام الهادي عليه السلام... 435

الفصل الثاني: ما هو المقصود من تحليل الخمس في بعض الروايات... 437

القسم الأوّل: تحليل خمس الغنائم... 438

القسم الثاني: التحليل لمن ضاق عليه معاشه... 441

القسم الثالث: تحليل ما ينتقل إلى الشيعة من غير المخمّس... 441

ص:649

الموضوع/الصفحة

القسم الرابع: التحليل لمرحلة زمنية خاصّة... 442

القسم الخامس: تحليل الأنفال... 445

الخمس بدل الزكاة لبني هاشم... 446

الفصل الثالث: جهاز الوكالة في عصر الحضور... 448

1. المُعَلّى بن خُنَيس... 448

2. حُمران بن أعيَن... 449

3. نصر بن قابوس اللخمي... 450

4. عبدالرحمن بن الحجّاج... 450

5. المُفضَّل بن عمر الجُعفي... 450

6. عبداللّه بن جندب البجلي... 451

7. محمد بن سنان... 451

8. علي بن مهزيار... 451

9. أيوب بن نوح بن درّاج... 452

10. علي بن جعفر الهمّاني... 452

11. أبو علي الحسن بن راشد... 452

12. صالح بن محمد بن سهل الهمداني... 453

13. علي بن أبي حمزة البطائني... 453

14. زياد بن مروان القندي... 453

15. عثمان بن عيسى الرواسي... 453

16. عثمان بن سعيد العمري... 453

17. أبو جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري... 454

18. الحسين بن روح النوبختي... 454

ص:650

الموضوع/الصفحة

الفصل الرابع: فريضة الخمس وتولّي الفقيه... 456

بيان ما يدل على تولّي الفقيه... 462

بانت الحقيقة بأجلى صورها... 465

الفصل الخامس: دراسة نقدية للكتاب... 467

الأوّل: افتراؤه على السيد محمد الصدر... 468

الثاني: تحريفه لكلام الشيخ الطوسي... 469

الثالث: «حقائق ثمانية» أو انطباعات خاطئة ؟!... 472

1. عدم الدليل على إعطاء الخمس للفقيه... 474

2. خلوّ القرآن والسنة عن ذكر الخمس... 474

3. ارتقاء الحكم من الاستحباب إلى الوجوب... 475

4. أخذ الفقيه الخمس كلّه... 475

5. أخذ اغنياء بني هاشم الخمس... 476

6. لم يذكر أحد المتقدمين تولّي الفقيه... 476

الرابع: مصدر شرعية الخمس... 477

الخامس: مهمّات الشرع رهن الدليل القاطع... 478

السادس: تكرّر ذكر الزكاة دون الخمس... 479

السابع: المقارنة بين الزكاة وخمس المكاسب... 482

تمثيل باطل للمقارنة!!... 483

مقارنة خاطئة بين الزكاة والخمس... 486

في الفقه الشيعي... 486

أخطاؤه حول «الزكاة» في الفقه الشيعي... 487

أخطاؤه حول «الخمس» في الفقه الشيعي... 488

ص:651

الموضوع/الصفحة

المقارنة الصحيحة بين الزكاة والخمس في الفقه الشيعي... 490

الأمر الثامن: الخمس سياسة يوسفية لا فرعونية!... 491

الخاتمة: أسئلة وأجوبة... 494

3. رسالة حول توسعة المسعى ... 497

توسعة المسعى... 499

4. فقه المزار... 511

المقدمة... 513

الفصل الأوّل: زيارة القبور وآثارها البنّاءة في الكتاب والسنة... 515

الآثار الإيجابية للزيارة... 516

زيارة مراقد العلماء والشهداء... 518

زيارة قبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في الروايات الشريفة... 521

رأي ابن القيّم في زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 523

طلب الاستغفار من النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 524

اهتمام العلماء بزيارة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم... 525

زيارة القبور في السنة النبوية... 527

حديث لا تشدّ الرّحال... 529

شدّ الرحال إلى المساجد السبعة... 531

صيانة آثار الصالحين... 531

البيوت التي أذن اللّه أن ترفع... 533

الفصل الثاني: صيانة مراقد الأنبياء والأئمة... 535

حدّ التوحيد والشرك... 536

البناء على القبور والبدعة... 540

ص:652

الموضوع/الصفحة

1. حكم البناء على القبور في الكتاب... 543

2. البناء على القبور وإظهار المودّة... 544

3. موقف الخلفاء من البناء على قبور الأنبياء... 544

4. سيرة المسلمين والبناء على القبور... 545

مشاهدات الرحالة ابن جبير الأندلسي... 546

مشاهدات الرحالة ابن النجّار (578-643 ه)... 548

مشاهدات ابن الحجّاج (المتوفّى 391 ه)... 548

5. صيانة القبور في أحاديث العترة... 550

الأوّل: ما يدل على استحباب تعمير القبور... 550

الثاني: آداب الزيارة تدل على وجود البناء... 551

الثالث: الدعوة إلى زيارة المشاهد... 553

الفصل الثالث: حجج المؤلف وذرائعه... 555

الأوّل: النهي عن زيادة التراب على القبر... 555

دراسة الروايات... 555

الثاني: النهي عن البناء على القبور... 556

تحليل الروايات... 557

الثالث: النهي عن التجصيص والتطيين... 559

الرابع: استحباب رفع القبر شبراً... 560

الخامس: تسوية القبور... 561

مناقشة الحديث... 562

الفصل الرابع: بناء المساجد جنب المشاهد... 565

1. عمل الموحّدين في عصر أصحاب الكهف... 566

ص:653

الموضوع/الصفحة

2. المسجد النبوي ومرقد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم... 568

3. سيرة المسلمين وبناء المساجد عند المشاهد... 569

الصلاة في المشاهد في أحاديث العترة الطاهرة... 570

ذرائع الكاتب وحججه... 571

الفصل الخامس: البكاء على الميّت وإقامة العزاء عليه... 574

إقامة العزاء على موت الأحباب... 577

إقامة العزاء على سيّد الشهداء عليه السلام... 577

خاتمة المطاف:... 580

تضخيم بعض الممارسات... 580

الأوّل: الاعتقاد بأنّ النبي والولي ينفع ويضر... 580

الثاني: اتخاذ أصحاب القبور شفعاء... 581

الثالث: الاستغاثة بأصحاب القبور... 582

الرابع: الذبح والنذر للقبور... 585

الخامس: الحلف بأصحاب القبور... 586

السادس: الطواف حول القبور... 588

السابع: اللطم وضرب الخدود والصدور... 588

الثامن: اختلاط النساء بالرجال... 593

ردود على أجوبة المؤلف... 594

الفصل الثالث

رسائل وتقاريظ وبيانات

1. فضيلة الأُستاذ الشيخ علي رضا الأعرافي (دام عُلاه)... 601

2. الأُستاذ الفاضل عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان حفظه اللّه تعالى... 604

ص:654

الموضوع/الصفحة

مستجدات الهلال... 605

3. سماحة الأُستاذ آية اللّه الشيخ محمد واعظ زادة الخراساني (دامت بركاته)... 607

4. حضرة العلّامة الحجّة آية اللّه الشيخ واعظ زادة الخراساني (دامت بركاته)... 609

الملاحظة الأُولى: حول تفسير لفظ الروح... 610

استكشاف المراد من دراسة حال السائل... 610

الملاحظة الثانية: حول قوله سبحانه: (فِي بُيُوتٍ ) ... 612

5. أنواع التحديث والمسند بينها... 618

6. آية اللّه الحائري مظهر الفضيلة والتقى... 621

مولده... 622

حلقات درسه... 623

انتاجاته العلمية... 623

الخدمات الاجتماعية... 624

إنعكاسات ارتحال الفقيد وردود الفعل... 625

تأبين السيد الإمام الخميني... 626

7. كلمة إلى مهرجان ربيع الشهادة الثقافي العالمي... 627

الاحتفال بمواليد أولياء اللّه من صميم الدين... 627

الاحتفال بذكرى الأئمّة عليهم السلام تجسيد للمودّة... 628

8. بيان تعزية بمناسبة وفاة العلّامة المجاهد الشيخ محمدمهدي الآصفي... 631

9. كلمة إلى مؤتمر الوحدة الإسلامية المنعقد في طهران... 633

10. تقريظ كتاب «المحرز في شرح الموجز في أُصول الفقه»... 636

فهرس محتويات الكتاب... 639

ص:655

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.