رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام المجلد 8

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام/ تاليف جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق (ع) ، 14ق. = 13 -

مشخصات ظاهري : 10ج.

يادداشت : عربي.

يادداشت : فهرست نويسي بر اساس جلد ششم: 1428ق. = 1386.

يادداشت : كتابنامه.

موضوع : اسلام -- بررسي و شناخت

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندي كنگره : BP11 /س2ر5 1300ي

رده بندي ديويي : 297

شماره كتابشناسي ملي : 1053076

ص :1

اشارة

ص:2

رسائل ومقالات

8

ص:3

ص:4

رسائل ومقالات

تبحث في مسائل كلامية، عقائدية، فقهية، أُصولية، تراجم،

وحوارات مع بعض الأعلام، وفيها إرشادات

ودعوة إلى التقريب بين المذاهب

تأليف

الفقيه المحقّق

آية اللّه العظمى الشيخ جعفر السبحاني

الجزء الثامن

منشورات

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:5

آية اللّه العظمى جعفر السبحاني، 1347 ق. -

رسائل ومقالات: تبحث في مسائل كلامية، عقائدية، فقهية، أُصولية، تراجم، وحوارات مع بعض الأعلام، وفيها إرشادات ودعوة إلى التقريب بين المذاهب / تأليف جعفر السبحاني. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام 1433 ق = 1391

ج. (8. Vol ) 8-503-357-964-978: ISBN

( Vol.SET ) 9-465-357-964-978: ISBN

أُنجزت الفهرسة طبقاً لمعلومات فيبا:

1. الإسلام -- مقالات وخطابات 2. الشيعة - رسائل ومقالات. ألف. مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام. ب. العنوان.

تبحث في مسائل كلامية، عقائدية، فقهية، أُصولية، تراجم، وحوارات مع بعض الأعلام، وفيها إرشادات ودعوة إلى التقريب بين المذاهب.

5 ر 2 س/ 10/5 / BP 297/08

1391

اسم الكتاب:... رسائل ومقالات

الجزء:... الثامن

المؤلّف:... العلّامة الفقيه جعفر السبحاني

الطبعة:... الأُولى

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

القطع:... وزيري

التاريخ:... 1433 ه. ق

الكمية:... 1000 نسخة

عدد الصفحات:... 488 صفحة

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

التنضيد والإخراج الفني:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام - السيد محسن البطاط

تسلسل النشر: 717 تسلسل الطبعة الأُولى: 389

توزيع

مكتبة التوحيد

ايران - قم؛ ساحة الشهداء

7745457؛ 09121519271

http://www.imamsadiq.org

www.shia.ir

ص:6

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه وأفضل بريته، محمد وعلى آله، موضع سرّه، وملجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، الذين أذهب ربهم عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

أمّا بعد:

فقد وقفت منذ - زمن قديم - على حديث مرويّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو:

«المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة ستراً فيما بينه وبين النار»(1).

فهذا الحديث وما ورد في معناه ومضمونه في الجوامع الحديثية، مضافاً إلى قول الإمام الصادق عليه السلام: «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، فإن لم يفعل سلب نور الإيمان»(2)، كان حافزاً لي للإجابة عن الأسئلة والشبهات الّتي تطرح بكثرة في هذه الأيام عن الإسلام والتشيّع.

وقد قمت بتحرير مجموعة من المقالات والرسائل في مناسبات مختلفة لغاية الدفاع عن الإسلام، والذبّ عن حياضه، وإماطة اللثام عن وجه الحقيقة؛ وقد تناولت مواضيع متفرّقة، وبحوث متعدّدة في الكلام والفقه وعلوم القرآن، وغيرها من الكلمات الّتي ألقيناها في بعض المؤتمرات واللقاءات العلمية. وقد

ص:7


1- . أمالي الصدوق: 40 برقم 3.
2- . وسائل الشيعة: 11، الباب 40 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحديث 9.

قمنا بإدراج هذه المقالات والرسائل في هذا الجزء، وهو الجزء الثامن من موسوعتنا «رسائل ومقالات» الذي يزفّه الطبع للقرّاء الكرام راجين أن يقع موقع القبول.

وقد اشتمل هذا الجزء على فصول أربعة، هي:

الفصل الأوّل: المقالات. ويحتوي على سبع مقالات في الفقه والكلام والتراجم.

الفصل الثاني: مقالات وردود. ويشتمل على أربع مقالات كلامية تجيب عن شبهات القوم حول التقية، والبداء، وقاعدة اللطف والاختبار، وإتقان الاستدلال بآية الابتلاء.

الفصل الثالث: مقالات قرآنية. ويشتمل على ثمان مقالات في علوم القرآن وتفسيره، هي: المجاز في القرآن، الوحي لغةً واصطلاحاً، نزول القرآن في شهر رمضان، فرية انقطاع الوحي، غار حراء وذكريات النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيه، صيانة القرآن من التحريف، الإعجاز البياني للقرآن، وتفسير سورة القيامة.

الفصل الرابع: رسائل وتقاريظ. ويشتمل على ست رسائل، هي: الحسن والقبح العقليان، تفسير كلام الإمام علي عليه السلام في توحيده تعالى، استنكار الاحتفال الذي أُقيم في لندن، بياننا إلى طالبات الحوزة المهدوية في المدينة المنوّرة، بحار الأنوار دائرة معارف إسلامية، وخصوصيات التشريع الإسلامي والمسائل المستحدثة.

أشكر اللّه سبحانه على نعمه الوافرة وأستغفره من جميع الذنوب والآثام.

وأُصلي وأُسلم على نبيه وآله الأطهار

جعفر السبحاني

ص:8

الفصل الأوّل: المقالات

اشارة

1. الحدوث والقدم

2. تطوّر العلوم سر بلوغ القمّة

3. فلسفة الفقه: مخاضات التأصيل

4. صفة حج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حديث الإمام الباقر عليه السلام

5. تغيير الجنس في الشريعة الإسلامية

6. شدّ الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وآله الأطهار عليهم السلام

7. كمال الدين ميثم البحراني.. حياة مليئة بالعطاء والأحداث

ص:9

ص:10

1 الحدوث والقدم

اشارة

الحدوث لغة هو: كون الشيء بعد أن لم يكن، عرضاً كان ذلك أو جوهراً، وإحداثه إيجاده، والمُحدَث ما أُوجِدَ بعد أن لم يكن.(1)

وفي الحديث: «إيّاكم ومحدثاتِ الأُمور» أي: اجتنبوا عن الأُمور التي ليست في الكتاب والسنّة ولا في سيرة النبي صلى الله عليه و آله، وفي حديث آخر: «من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ مردود».

وأُريد أنّ من أدخل في الدين ما ليس منه فهو مردود باطل.(2)

وعلى هذا فالحدوث نقيض القِدم، والحديث نقيض القديم.(3)

غير أنّ العرف يتسامح في استعمال الحادث والقديم، فكلّ ظاهرة طال عمرها يقال عنها قديمة، وما قصر عمرها فهي حادثة.

إنّ البحث عن حدوث العالم أو قدمه، له جذور في الفلسفة الإغريقية وقد نُقلت عن أفلاطون وأرسطو أُمور لها صلة بهذا البحث، وهذا يعرب عن أنّ المسألة كانت مطروحة بين الفلاسفة منذ زمن قديم.

الحدوث والقدم تارة يبحث عنهما في إطار واسع يعبّر عنه بمعرفة

ص:11


1- . مفردات الراغب، مادة «حدث».
2- . مجمع البحرين، مادة «حدث».
3- . لسان العرب، مادة «حدث».

الوجود، فيكون الوجود بما هو وجود موضوعاً للبحث فينقسم إلى قديم وحادث، فاللّه سبحانه هو القديم وغيره حادث.

وتارة أُخرى يبحث عنهما في إطار ضيق وهو معرفة العالم، وأنّه هل هو حادث أو قديم ؟ وإن شئت قلت: معرفة الوجود الإمكاني، فيبحث عن حدوثه وقدمه بمعانٍ مختلفة.

أمّا البحث عنهما في الإطار الواسع فمحلّه هو الأُمور العامة التي يبحث فيها عن الموجود بما هو موجود فيصحّ تقسيم الوجود إلى قديم وحادث، وقد عُرّفت الأُمور العامة بقولهم: نعوت كلية تعرض للموجود من حيث هوهو من دون أن يكون مقيّداً بقيد رياضي أو طبيعي.(1)

أو يبحث عن أُمور لا تختص بموجود خاص كالجوهر والعرض.(2)

فالمحمول في الأُمور العامة يعرض على الموجود بما هو موجود ويقال:

الموجود إمّا واجب أو ممكن، والممكن إمّا مجرد أو مادّي، إلى غير ذلك من العوارض كالعلية والمعلولية والحدوث والقدم التي تعرض على ذات الموجود بما هو موجود.

وإن شئت قلت: إنّ المحمول في الأُمور العامة كالوجوب والإمكان والعلّة والمعلول والحدوث والقدم والتجرّد والمادة، يعرض على ذات الموجود، لا الموجود بقيد كونه رياضياً أو طبيعياً.

وبذلك يتميّز البحث الفلسفي عن البحوث العلمية فالموضوع في الأوّل

ص:12


1- . الأسفار الأربعة: 28/1.
2- . شرح التجريد للفاضل القوشجي: 4.

هو الموجود أو الوجود بما هوهو، ولكن الموضوع في العلوم، هو الموجود المتخصّص بالطبيعية أو الرياضية، فالبحث عن عوارض الجسم الطبيعي بحث علمي طبيعي، كما أنّ البحث عن عوارض الكم المنفصل والمتصل بحث علمي رياضي.

وليعلم أنّ المراد من عروض هذه المحمولات على الوجود هو العروض في الذهن، يعني أنّ الذهن يتصوّر الوجود أوّلاً ويصفه ثانياً بالوجوب والإمكان، وأمّا في الخارج فالمحمولات عين الوجود بمعنى أنّ الوجود يتحقّق في ضمن هذه القوالب والخصوصيات، فالوجوب قالب والإمكان قالب آخر، والقدم والحدوث قالب ثالث ورابع بمعنى ظهور الوجود بهذه الخصوصيات والتعيّنات، وليست هذه الخصوصيات إلّانفس الشيء في الخارج.

وقد عرفت أنّ هذه المباحث ترجع إلى الأُمور العامة ولا صلة لها بمقالنا هذا، وإنّما نركّز فيه على الحدوث والقدم في إطار العالم الإمكاني. وقد درس علماء اليونان هذه المسألة فخرجوا بنتائج لم تصلنا على وجه التفصيل، لكن لمّا ترجمت الكتب اليونانية إلى العربية خاض فلاسفة الإسلام في حدوث العالم وقدمه وجاءوا بنتائج مهمة نذكرها تباعاً، ولكن قبل أن نستعرض آراءهم نركّز على أمرين:

أ. اتّفاق أصحاب الشرائع على حدوث العالم زماناً

اتّفق أتباع الشرائع السماوية على حدوث العالم زماناً، وقد ذاع فيهم

ص:13

قولهم: كان اللّه ولم يكن معه شيء.(1)

وقد شاع تفسير هذه الكلمة القدسية بقولهم: كان زمان ولم يكن للعالم أثر ولا خبر، فالزمان المتصوّر قبل هذا العالم يُعدّ مهداً متضمّناً لعدم هذا العالم، ثم انقلب العدم في برهة من هذا الزمان إلى الوجود.

هذا هو الشيخ الأنصاري يقول: اتّفقت الشرائع السماوية على حدوث العالم زماناً بهذا المعنى.(2)

ب. التفسير الخاطئ لما نقل عن أفلاطون وأرسطو

قيل: إنّه سُئل أفلاطون عن قدم العالم وحدوثه، فقال: النظم حادث والمادة قديمة، كما قيل: إنّه سئل أرسطو نفس هذا السؤال فقال: الحركة والزمان لابداية لهما، لأنّ تصوّر الحدوث لهما يلازم وجود زمان لم يكن فيه حركة ولا زمان ثم حدثا، فكيف يمكن تصوير ذلك مع أنّ الزمان مقدار الحركة. فيجب أن يكون قبل العالم أفلاك متحركة توجد الزمان، والمفروض أنّه لا أفلاك قبلها.(3)

وقد انتزع بعض من ليس له قَدمٌ في المسائل الفلسفية أنّ العلمين لا يعتقدان بوجود واجب أوجد العالم.

مع أنّه لو صحّت هذه النسبة، لا يصحّ نسبة الإلحاد إليهما، بل غاية ما تدلّ عليه أنّ المادة قديمة زماناً لا قديمة ذاتاً، والقدم الزماني غير غني عن الواجب.

ص:14


1- . صحيح البخاري: 73/4، و 175/8.
2- . فرائد الأُصول: 57.
3- . دانشنامه جهان اسلام: 28-29، مادة «حدث».

ويمكن تفسير كلام العلمين بأنّ العالم حادث ذاتاً لا زماناً، لأنّ لازم كونه حادثاً زماناً تصوير وجود زمان قبل العالم خالياً عن وجوده، فحدث فيه، مع أنّ الزمان هو جزء من هذا العالم وليس خارجاً عنه، فهذا ما دعا الفيلسوفان إلى القول بحدوث النظم زماناً وقدم المادة زماناً لا ذاتاً، فالعالم الإمكاني بنظامه ومواده موجود إمكاني قائم باللّه سبحانه مخلوق له وإن لم يكن هنا فاصل زماني بينه سبحانه وبين العالم.

هذا ما يمكن به تفسير كلامهما، والعلم عند اللّه سبحانه.

***

إذا علمت ذلك فلنرجع إلى بيان أقسام الحدوث والقدم والمتمثّلة بالعناوين التالية:

1. الحدوث الزماني للعالم.

2. الحدوث الذاتي للعالم.

3. الحدوث الدهري للعالم.

4. حدوث المادة حسب العلوم الحديثة.

5. الحدوث الاسمي للعالم.

فها نحن نشرح آراء وعقائد القائلين بهذه الأقسام، من دون انحياز منّا إلى واحد منها، وسيوافيك ما هو المختار في آخر المقال:

1. الحدوث الزماني للعالم

اشارة

ص:15

الحدوث الزماني عبارة عن سبق زمان على وجود الشيء لم يكن عنه - في ذلك الوعاء - خبر ولا أثر، وكأنّ الزمان السابق على الوجود وعاء عدم الشيء، ثم حدث وتحقّق. ومن المعلوم أنّ العدم السابق المتحقّق في وعاء الزمان عدم مقابل لا يجتمع مع الوجود، فلا يوصف هذا العدم بالعدم المجامع مع وجود الشيء بل بالعدم المقابل، فيقال: لم يكن زيد موجوداً في عصر كذا، ثم ولد ووجد وحدث.

ولا شكّ أنّ الإنسان يواجه حوادث كثيرة لم يكن لها أثر في الزمان السابق ثم حدثت، فما نشاهده من آلاف الظواهر في يومنا هذا كانت مسبوقة بالعدم في الأمس، وهكذا ظواهر الأمس الدابر كانت مسبوقة بالعدم قبل الأمس، وهكذا فصاعداً، وكلّ حادث في زمان كان معدوماً في الزمان السابق له،... وعلى هذا فالعالم بإجزائه المتسلسلة حادث زماني كلّ جزء منه مسبوق بالعدم في الزمان السابق، وما هذا إلّالأنّ وجود الحركة في العالم تعكس عدم الحوادث الجديدة.

ولذلك اتّفق اتّباع الشرائع السماوية على حدوث العالم زماناً فلم يكن العالم موجوداً في برهة، ثم حدث.

تقييم النظرية

لا شكّ أنّا إذا نظرنا إلى كلّ جزء من أجزاء العالم الذي نحن فيه وإلى كلّ جزء ممّا سبق، نجد أنّ كلّ ظاهرة كانت غير متحقّقة ثم حدثت، فكلّ ظاهرة مسبوقة بالعدم قبل وجودها، وهكذا إذا نظرنا إلى ملايين الظواهر المتسلسلة في العالم فكلّ قطعة مسبوقة بالعدم في القطعة المتقدمة وكأنّ كلّ قطعة متقدّمة،

ص:16

مهد لعدم القطعة المتأخّرة.

إنّما الكلام إذا نظرنا إلى العالم نظرة كلّية فاحصة عنه بكلّه، فهل يمكن أن يقال: كان مسبوقاً بزمان حقيقي حاضن لعدم العالم، ثم تبدّل العدم في ذلك إلى الوجود مع أنّ الزمان الذي صار مهداً لعدم العالم هو جزء من هذا العالم وليس أمراً منفصلاً عنه، فكيف يمكن أن يتقدّم قبل العالم ويصير مهداً لعدم العالم، وعلى فرض صحّة ذلك ينتقل الكلام إلى هذا الزمان الذي صاراً عاكساً لعدم هذا العالم، فهل هو حادث زماني، بمعنى أنّه كان في صفحة الوجود زمان لم يكن عن هذا الزمان فيه أثر ثم حدث.

فلو صحّ هذا ينتقل الكلام إلى كيفية هذا الزمان الثاني، فيلزم التسلسل.

ولذلك ترى أنّ الحكيم السبزواري يسمّي الزمان الذي يعكس عدم هذا العالم بالزمان الموهوم لا الزمان الحقيقي.(1)

وهناك من يتجاسر ويريد أن يثبت عدم هذا العالم في ظرف من الظروف ويقول: إنّ وجوده سبحانه بما أنّه موجود قديم كافٍ لانتزاع عدم العالم منه، وكأنّ وجوده سبحانه حاضن لعدم هذا العالم.

وأظن أنّ هذا التصوير غير لائق بالطرح والإجابة؛ لأنّ وجوده سبحانه أرفع من أن يكون منشأً لانتزاع الزمان الحقيقي، لأنّ الزمان مقدار الحركة، والموجود المنزّه عن التحوّل والتغيّر والتبدّل لا يتصوّر فيه الزمان الحقيقي.(2)

ص:17


1- . شرح المنظومة للسبزواري، قسم الحكمة: 77.
2- . مجلة مكتب تشيّع، السنة 2، مقال العلّامة الطباطبائي: 148.
ما هي المصلحة في إمساك الفيض ؟

لمّا كان لازم القول بالحدوث الزماني للعالم كلّه أن يكون هناك فاصل زماني بين وجوده سبحانه وإيجاده العالم فيتوجه للقائلين بذلك، السؤال التالي:

أي مصلحة في إمساك الفيض مدّة، ثم إحداث العالم ؟

ولكن هذا السؤال في غير محلّه، إذ يمكن أن تكون في إمساك الفيض مصلحة لا ندركها بعقولنا القاصرة فهي لا تحيط بعامة المصالح.

نعم اعترض الشيخ الرئيس على إمساك الفيض بوجه آخر، وقال: إنّ العدم الصريح لا يتميز فيه حال يكون فيها إمساك الفاعل عن الفاعلية أولى بالقياس إليه، أو يكون لا صدور الفعل أولى بالقياس إلى الفعل من حال أُخرى يصير فيها فاعليته أولى به، أو صدور الفعل أولى بالفعل.(1)

وما ذكرناه إيضاح من المحقّق الطوسي لعبارة الشيخ في الإشارات حيث يقول هو فيها: إنّه لم يتميز في العدم الصريح حال الأولى به فيها أن لا يوجد شيئاً أو بالأشياء أن لا توجد عنه أصلاً وحال بخلافها.(2)

وحاصله: أنّ العدم الفاصل بين ذاته سبحانه وفعله عدم مطلق، وباطل محض، وظلمة بحتة لا نور فيها فلا يتصوّر فيها النفي والإثبات حتى يقال:

الإمساك أفضل من الإفاضة أو بالعكس....

كلّ هذه المفاهيم إنّما تتصوّر فيما إذا كان هناك فصل حقيقي وزمان واقعي حتى يقاس الإمساك إلى الإفاضة ويحكم على الأوّل بالأصلحية.

ص:18


1- . شرح الإشارات: 131/3.
2- . نفس المصدر.

2. الحدوث الذاتي للعالم

اشارة

إنّ الكون بتمام أجزائه حادث ذاتاً ويراد به أنّ كلّ جزء منه في حدّ ذاته فاقد للوجود والتحقّق، وإنّما يعرض له الوجود في مرتبة متأخّرة بعد الانتساب إلى العلّة، وهذا النوع من الفقدان أمر ذاتي له لا ينفك عنه حتى بعد الوجود ولذلك يوصف بالعدم المجامع فيقال: الشيء الممكن المتحقّق فاقد للوجود في حدّ ذاته، واجد له بعد الانتساب إلى العلّة.

وقد عرّف الشيخ الرئيس الحدوث الذاتي بالتعبير التالي:

ثم أنت تعلم أنّ حال الشيء الذي يكون للشيء باعتبار ذاته متخلّياً عن غيره قبل حاله من غيره قبليّة بالذات، وكلّ موجود عن غيره يستحقّ العدم لو انفرد، أو لا يكون له وجود لو انفرد، بل إنّما يكون له الوجود عن غيره. فإذن لا يكون له وجود قبل أن يكون له وجود و [هذا] هو الحدوث الذاتي(1).

وقد وقع قول الشيخ الرئيس: «كلّ موجود عن غيره يستحق العدم لو انفرد» موضع الاعتراض، من قِبل شراح كلامه، فقال الرازي في شرحه على الإشارات: الممكن لا يستحق الوجود من ذاته ولا يلزم منه أنّه يستحقّ اللاوجود، فإنّ المستحق للّاوجود هو الممتنع. فإذن وجوده مسبوق بلا استحقاق الوجود لا بالعدم، أو باللّا وجود.

ثمّ قال: ففي قول الشيخ: «إنّه يستحق العدم لو انفرد، أو لا يكون له وجود لو انفرد» مغالطة؛ لأنّه إن أراد بالانفراد اعتبار ذاته من حيث هي هي، فهو في

ص:19


1- . شرح الإشارات والتنبيهات، القسم الثالث: 113.

هذه الحالة لا يستحقّ العدم أو اللّاوجود، وإلّا لكان ممتنعاً لا ممكناً، وإن أراد به اعتبار ذاته مع عدم علّته فلا يكون الانفراد انفراداً.(1)

وما اعترض به الرازي على كلام الشيخ الرئيس ربما يورد على القول المعروف في تعريف الماهية، فيقال: «الماهية من حيث ذاتها أن تكون ليس، ومن جانب علّتها أن تكون أيس» فيتوهم أنّ المراد أنّ الماهية بحدّ ذاتها تقتضي العدم كما هو ظاهر قوله: «ليس».

ثمّ إنّ المحقّق الطوسي أجاب عن الإشكال وقال: لفظة «لا يكون له وجود» في قول الشيخ: «أو لا يكون له وجود لو انفرد» ليست بمعنى العدول حتى يكون معناه «انّه يثبت له أن لا يكون له الوجود» بل هي بمعنى السلب، وتقدير الكلام كلّ موجود عن غيره فليس له معنى الوجود لو انفردت ماهيته.(2)

وبعبارة أُخرى: فرق بين قولنا: الماهية لا يكون لها الوجود لو انفردت، على نحو المعدولة فتكون الماهية في حدّ ذاتها موصوفة بأن لا يكون لها الوجود لو انفردت، فتكون مقتضية للعدم وتتساوى مع ممتنع الوجود، وبين قولنا: ليست الماهية مقتضية للوجود لو انفردت، إذ معناه عدم الاقتضاء لا اقتضاء العدم.

وبذلك يصحّ أن يقال: إنّ اتّصاف الماهية بالعدم سابق لاتّصافها بالوجود.(3)

ص:20


1- . الإشارات والتنبيهات، القسم الثالث: 115.
2- . شرح الإشارات: 116/3.
3- . لاحظ: نهاية الحكمة: 206. بتصرف.
المحقّق الداماد ونقد الحدوث الذاتي

الحدوث الذاتي وإن كان أمراً صحيحاً لكنّه لم يكن مقنعاً للسيد المحقّق الداماد، ولذلك حاول أن يثبت للعالم حدوثاً آخر أسماه الحدوث الدهري، وإليك نصّ كلامه:

قد تعرّفت أنّ سبق العدم بحسب الحدوث الذاتي سبقاً بالذات ليس سبيله مسبوقية الوجود بالعدم المقابل له، إذ سلب الوجود في مرتبة نفس الماهية من حيث هي هي لا يقابل الوجود الحاصل في حاقّ الواقع من تلقاء العلّة الفاعلة بل يجامعه.(1)

توضيحه: أنّ الذي نحن بصدده هو إثبات سبق العدم على وجود الممكن، سبقاً مقابلاً غير مجامع، وأمّا الحدوث الذاتي فلا يُثبت عدماً سابقاً على الوجود، بل العدم فيه مجامع مع الوجود وليس هناك تقابل بينهما، فالعدم في مرتبة الماهية من حيث هي هي، مع الوجود في مرتبة وجود العلّة الفاعلة، متجامعان يتعانقان ولا يتقابلان.

المحقّق الداماد والحدوث الزماني

ثمّ إنّ المحقق الداماد كما اعترض على الحدوث الذاتي بأنّه على فرض ثبوته غير مطلوب لنا، كذلك اعترض على الحدوث الزماني بقوله: وكذلك سبق العدم بحسب الحدوث الزماني، سبقاً بالزمان، ليس سبيله - أن يكون الوجود الحادث مسبوقاً بعدم يقابله في امتداد الزمان، فإنّ قبليّة العدم السابق ممايزة

ص:21


1- . القبسات: 17.

لبعديّة الوجود اللاحق بحسب تمايز زمانيهما في الوجود، لكونهما زمانيين، وحدّ العدم القبل غير حدّ الوجود البعد، والحدّان غير مجتمعين في امتداد الزمان الغير القارّ، بل إنّما هما معاً بحسب الوجود في متن الدّهر، معيّة دهريّة غير متكممة. ومن الوحدات المعتبرة في التقابل بين الإيجاب والسلب الزمانيين، وحدة الزمان البتّة وفي هذا النوع من الحدوث (كالحدوث الذاتي) لا تقابل بين القبل والبعد ألبتة.(1)

وحاصل كلامه: أنّ العدم السابق على الوجود بما أنّهما في مرحلتين من الزمان وإن كانا غير مجتمعين لكنّهما ليسا بمتناقضين، إذ يشترط في التناقض عدة وحدات منها الوحدة في الزمان، ومن المعلوم أنّ العدم السابق العارض للماهية في برهة من الزمان لا يعدّ نقيضاً لوجود الماهية المتحقّق في برهة أُخرى.

إنّ هذين الاعتراضين المتوجّه أحدهما على الحدوث الذاتي والآخر على الحدوث الزماني، صارا سبباً لتصوّر حدوث آخر للعالم باسم الحدوث الدهري، وسيوافيك بيانه في موضعه.

نظريتنا في الاعتراض

وأظن أنّ كلا الاعتراضين لا يضرّان القول بالحدوث الذاتي أو الزماني، لأنّ الحدوث الذاتي - بالمعنى الذي عرفت - أمر واقعي لا يمكن لأحد إنكاره، وأنّ كلّ ممكن معدوم في حدّ ذاته ثم يعرض له الوجود، وأمّا الإشكال عليه بأنّ

ص:22


1- . القبسات: 17.

هذا العدم مجامع للوجود غير مقابل له لا يضر، إذ ليس القائل بصدد بيان إثبات العدم المقابل للوجود، بل هو بصدد توضيح ما اتّفق عليه أصحاب الشرائع السماوية بأنّ العالم حادث، حتى يتحقّق تلاؤم بين الفلسفة والشريعة.

هذا وقد روى الصدوق عن الإمام الباقر عليه السلام حديثاً يكشف عن صحّة النظرية وأنّ العالم حادث ذاتاً، قال الإمام الباقر عليه السلام: «إنّ اللّه تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره، نوراً لا ظلام فيه، وصادقاً لا كذب فيه، وعالماً لا جهل معه، وحيّاً لا موت فيه، وكذلك هو اليوم، وكذلك لا يزال أبداً».(1) فإنّ قوله: «وكذلك هو اليوم» يرجع إلى عامّة الصفات وأنّه تعالى حتى في ذلك اليوم «ولا شيء غيره» فعندئذٍ نسأل كيف يكون سبحانه بعد أن خلق العالم بكلّ ما فيه ومع ذلك يوصف سبحانه بكونه «ولا شيء غيره» مع أنّ معه عامّة الأشياء قال سبحانه: (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) (2)؟ ولا يصحّ تفسير ما أُثر عن باقر علم النبيين عليه السلام إلّابما جاء به الشيخ الرئيس؛ لأنّ ما يُعد غيراً فهو في حدّ ذاته معدوم وفاقد للوجود، فيصحّ أن يقال: كان اللّه ولم يكن معه شيء في ذلك الحدّ حتى اليوم، وأمّا بعد التنزّل عنه فالأشياء كلّها مشهودة معلومة قائمة معه.

وأمّا الاعتراض على الحدوث الزماني، فلا يضرّ؛ لأنّ القائل به يريد أن يثبت للأشياء عدماً متقدّماً على وجودها، فكون عدمها في فترة ووجودها في فترة أُخرى وإن كان خارجاً عن التناقض المصطلح ولكن القائل ليس بصدد إثبات العدم والوجود المتناقضين الواقعي في فترة واحدة، بل هو بصدد أمر آخر

ص:23


1- . التوحيد: 141، برقم 5.
2- . الحديد: 4.

وهو سبق العدم الزماني على الوجود.

الشيخ الرئيس وحدوث العالم

إنّ الموضوع للحدوث عند الشيخ هو الوجود وهو يعتقد بأنّ لوجود العلّة تقدّماً ذاتياً على المعلول، وللمعلول تأخّراً ذاتياً عن العلّة، وإن اجتمعا وجوداً في زمان واحد، وهو يوضح ذلك بالمثال المعروف، حرّك زيد يده فتحرّك المفتاح، فإنّ حركة المفتاح وإن كانت متزامنة مع حركة اليد، غير أنّه لمّا كانت (حركة المفتاح) مفاضة من حركة اليد فيكون لها تقدّماً ذاتياً، ولحركة المفتاح تأخّراً كذلك وإن كانتا متزامنتين.

وعلى ضوء ذلك فبما أنّ الواجب سبب تام لوجود العالم الإمكاني فيكون للسبب تقدّماً ذاتياً وللمسبب تأخّراً كذلك، وهذا هو المراد من حدوث العالم، هذا ما يريده الشيخ، وإليك نصّ عبارته: فإذن وجود كلّ معلول واجب مع وجود علّته، ووجود علّته واجب عنه وجود المعلول. وهما معاً في الزمان أو الدهر أو غير ذلك، ولكن ليسا معاً في القياس إلى حصول الوجود؛ وذلك لأنّ وجود ذلك لم يحصل من هذا، فذلك له حصول وجود ليس من حصول وجود هذا، ولهذا حصول وجود هو من حصول وجود ذلك، فذلك أقدم بالقياس إلى حصول الوجود.(1)

3. الحدوث الدهري للعالم

اشارة

ص:24


1- . الإلهيات من كتاب الشفاء: 172.

قلنا: إنّ المحقّق الداماد لم يقتنع بالحدوث الذاتي ولا بالحدوث الزماني، فحاول طرح نظرية جديدة فراراً عن الإشكالين اللّذين وجّههما عليهما، وقد بيّن نظريته في كتابه «القبسات» الذي كان الغرض المهم من تأليفه هو توضيح هذه النظرية ولذلك لا محيص لنا إلّاتلخيصها، وقد سبقنا في هذا المضمار المحقّق السبزواري في شرحه على المنظومة، والشيخ محمد تقي الآملي في شرحه عليها.

إنّ هذه النظرية مبنية على تقسيم مراتب الوجود إلى أقسام ثلاثة:

1. الماديات، التي يعبر عنها بعالم الملك وتشمل كلّ موجود طبيعي يقع في أُفق الزمان.

2. المجرّدات والمفارقات عن المادة وآثارها، ويعبر عنها بعالم الملكوت، وهو عالم العقول والنفوس الكلّية.

3. الوجود الواجب المنزّه عن الإمكان والفقر، فضلاً عن الحركة والزمان.

ثمّ إنّ لكلّ من هذه المراتب وعاءً خاصّاً، فالموجود المادي وعاؤه الزمان، والموجود المجرد وعاؤه الدهر، والواجب تبارك وتعالى وعاؤه السرمد؛ ولا يراد من الوعاء ما يراد من قولك: الماء في القدح، بل أنّ الظرف نفس المظروف، وهو خصوصية موجودة فيه.

إذا علمت هذا فلنشرح هذه المقولات الثلاث التي تعد وعاءً لما فيها:

أ. مقولة الزمان

إنّ لكلّ موجود وعاءً خاصّاً به، فالظواهر السيّالة المتحركة، ظرفها الزمان

ص:25

لا بمعنى أنّ الزمان شيء والحركات والمتحرّكات شيء آخر كالماء في الكوز، بل بمعنى أنّ الزمان والزماني كالخارج والخارجي، فكما أنّ الموجود الخارجي ليس منفكّاً عن الخارج بل نوع وحدة بينهما، فهكذا الزمان والزماني فبينهما وحدة.

يقول السيد الداماد: العقل يدرك ثلاثة أكوان: أحدها: الكون في الزمان وهو متى الأشياء المتغيّرة التي يكون لها مبدأً ومنتهى ، ويكون مبدأه غير منتهاه، بل يكون مقتضياً، ويكون دائماً في السيلان وفي تقضّي حال وتجدّد حال.(1)

يقول الحكيم السبزواري: إنّ كلّ موجود فلوجوده وعاء أو ما يجري مجراه، فوعاء السيالات كالحركات والمتحرّكات هو الزمان... إلخ.(2)

ص:26


1- . القبسات: 7.
2- . شرح المنظومة: 76.
ب. مقولة الدهر

يقول السيد الداماد: بأنّ المجرّدات أو المفارقات النورية - حسب تعبيره - كالعقول متحقّقة في عالم الدهر، والدهر كالعقول منزّه عن المادة وعوارضها كالاتصال والسيلان، ونسبة عالم الدهر إلى الزمان نسبة الروح إلى الجسد، فإنّ ما في وعاء الزمان يقبل التبدّل والتغيّر، وما في عالم الدهر منزّه عن ذلك، وما ذلك إلّا لأنّ الدهر محيط، والزمان والزمانيات محاطان.

يقول السيد الداماد: الدهر وعاء الزمان بمعنى أنّه محيط والزمان محاط به، والزمان ضعيف الوجود لكونه سيالاً غير ثابت.(1)

يقول الحكيم محمد تقي الآملي في توضيح قوله: «ونسبته إلى الزمان نسبة الروح إلى الجسد»: وذلك لأنّ ما في الدهر من الموجودات مبادئ وجود الزمان وما فيه من الزمانيات بأنواعها، والعلّة مرتبة كمال المعلول كما أنّ المعلول مرتبة ضعف العلّة، فتكون نسبة الدهر إلى الزمان كنسبة الروح إلى الجسد في كون الروح علّة.(2)

وليعلم أنّ نسبة الدهر إلى المفارقات كنسبة الزمان إلى السيالات، وقد قلنا: إنّ التعدد في التعبير، وإلّا ففي الحقيقة الدهر نفس المفارقات والعقول الكلية والنفوس كذلك التي تقع في درجة العلّة لما تحتها من العوالم المادّية.

ص:27


1- . القبسات: 8.
2- . درر الفوائد: 254، الطبعة الثانية.
ج. مقولة السرمد

ويراد من السرمد الوجود الذي لا بداية له ولا نهاية، وليس هو إلّااللّه تبارك وتعالى وأسماءه وصفاته، فهو محيط بالدهر كإحاطة الدهر بالزمان، ونسبة السرمد إلى الدهر نسبة الروح إلى الجسد، وما ذلك إلّالأنّ السرمد في مرتبة العلّة، والعقول والنفوس في مرتبة المعلول.

يقول السيد الداماد: والثالث كون الثابت مع الثابت ويسمّى السرمد وهو محيط بالدهر.(1)

يقول الحكيم السبزواري: وما يجري مجرى الوعاء للحق وصفاته وأسمائه هو السرمد.(2)

إلى هنا تمّ بيان أمرين:

أ. تبيين مراتب الوجود إلى مراتب ثلاث.

ب. تبيين ما هو الوعاء لكلّ من هذه المراتب.

فلنشرح نفس النظرية التي تبتني على بيان الأمرين المذكورين.

فنقول: إنّ كلّ موجود زماني راسم لعدم موجود زماني آخر، وإنّما لم نقل مصداق لعدم موجود زماني آخر؛ لأنّ الوجود بما هو وجود لا يعقل أن يكون مصداقاً للعدم، ولذلك نقول: كلّ موجود زماني يعكس ويرسم عدم وجود زماني آخر، وبذلك يمكن بيان الحدوث الدهري بالبيانين التاليين:

ص:28


1- . القبسات: 7.
2- . شرح المنظومة: 76.

إنّ عالم الدهر يرسم ويعكس عدم عالم الطبيعة؛ لأنّ عالم الدهر بما أنّه سابق على عالم الطبيعة فيحتضن الدهرُ عدَمَ الموجود المتأخّر فيقال: عالم المادة بتمام صورها مسبوق بالعدم في عالم الدهر، وهذا ما يقال: إنّ الملكوت يحتضن عدم عالم الملك لسبق الملكوت في مرتبة الوجود على الملك.

ويمكن لك بيان هذا بتعبير آخر هو:

إنّ الحدوث الدهري عبارة عن كون الماهية الموجودة المعلولة مسبوقة بعدمها المتقرّر في مرتبة علّتها بما أنّها يُنتزع عدمها بحدّها عن علّتها وإن كانت علّتها واجدة لكمال وجودها بنحو أعلى وأشرف.(1)

توضيح ما ذكره: أنّ عالم الدهر علّة لعالم الملك، فبما أنّ كلّ علّة جامعة لكمال معلولها ومع ذلك كلّه فعدم المادة بحدّه - لا بكماله - متقدّم على وجوده، وهذا ما يقال له: الحدوث الدهري، أي سبق عدم عالم المادة على وجوده في مرتبة علّتها. فظهر أنّ الحدوث الدهري ليس إلّاسبق عدم الماديات على وجودها، وليس لهذا النوع من العدم محلٌ إلّاعالم الدهر.

فلو كان الحدوث هو سبق عدمه على الوجود فهذه العوالم المحسوسة سبقت عدمها على وجودها لأنّ علّتها - أعني: المفارقات - تعكس عدمها.

وإن شئت بياناً أوضح فاستمع إلى بيان الشيخ الآملي على شرح المنظومة(2): إنّ عالم الملك مسبوق الوجود بالعدم الدهري، ووجه كونه

ص:29


1- . نهاية الحكمة: 206.
2- . راجع شرح المنظومة: 2/291 و 288.

مسبوق الوجود بالعدم الدهري هو أنّ وجود عالم الملك وهو عالم الناسوت والشهادة متأخّر عن وجود عالم الملكوت، وأنّ العدم الدهري يكون في رتبة الوجود الدهري، فعالم الملك حادث دهري، أي وجوده مسبوق بعدمه الواقعي الفكّي الواقع في عالم الدهر.

والذي دعا المحقّق الداماد إلى القول بالحدوث الدهري الأمران التاليان:

1. أنّ العدم في الحدوث الذاتي لم يكن منفكّاً عن الوجود، بل كان عدماً مجامعاً معه، ولكن العدم في الحدوث الدهري منفكّ عن الوجود، فوجود الحادث في عالم الناسوت وعدمه في عالم الدهر، فيكون منفكّاً.

2. أنّ العدم في الحدوث الزماني لم يكن متزامناً مع الوجود، بل كان العدم في فترة والوجود في فترة أُخرى، بخلاف العدم في الحدوث الدهري فإنّه متزامن مع الوجود، فالحادث المادّي في فترة معيّنة له الوجود وفي الوقت نفسه عدمه متحقّق في عالم الدهر.

***

صدر المتألّهين والحركة الجوهرية

اتّفقت كلمة الفلاسفة قبل صدر المتألّهين على جواز الحركة في الأعراض الأربعة: (الكيف، والكم، والوضع، والأين) واختلفوا في إمكان وقوعها في غير ذلك من الأعراض الخمسة، وفي الوقت نفسه اتّفقوا على عدم جوازها في الجواهر، غير أنّ صدر المتألّهين أثبت أنّ العالم بوجوده من الجواهر والأعراض في حال الحركة والتغيّر والتبدّل.

ص:30

إنّ صدر المتألّهين توصّل بالبراهين العقلية إلى أنّ التغيّر والحدوث المتجدّد لا يختصّ بصفات المادة وعوارضها، بل يتطرّق هذا التغيّر إلى ذات المادة بمعنى أنّ الكون بجميع ذراته في تحوّل وتغيّر مستمر، وإنّ ما يتراءى للناظر من الثبات والاستقرار والجمود في مادة الكائنات الطبيعية ليس إلّامن خطأ الحواس، إذ الحقيقة هي غير ذلك، فكلّ ذرّة من ذرّات المادّة خاضعة للتغيّر والتبدّل والسيلان والصيرورة. وبفضل هذا الكشف تبيّن تعدّي التغيّر من سطوح الطبيعة إلى أعماقها، ومن ظواهرها إلى بواطنها.

وقد أقام مكتشف نظرية الحركة الجوهرية براهين رصينة على ما تبنّاه، ثمّ إنّه رتّب على نظريته الحدوث الزماني للعالم بأوضح الوجوه، وحاصل ما أفاد:

أنّ كلّ قطعة من المادة السيّالة وكلّ درجة متعانقة مع الزمان، منها لمّا لم يكن من القطعة اللاحقة أثر ولا عين فيها، صحّ توصيف القطعة اللاحقة بالحدوث الزماني، وهو أنّه لم تكن القطعة اللاحقة في ظرف القطعة السابقة، وهكذا الحال إذا وضعنا البنان على كلّ جزء جزء من تلك المادة السيّالة. وبهذا يثبت الحدوث الزماني للطبيعة من دون أي إشكال. وفي هذا الصدد يقول الحكيم صدر الدين الشيرازي: فقد ثبت وتحقّق أنّ الأجسام كلّها متجدّدة الوجود في ذاتها، وأنّ صورتها صورة التغيّر والاستحالة، وكلّ منها حادث الوجود مسبوق بالعدم الزماني كائن فاسد لا استمرار لهوياتها الوجودية، ولا لطبائعها المرسلة، والطبيعة المرسلة وجودها عين شخصياتها، وهي متكثّرة، وكلّ منها حادث ولا جمعية لها في الخارج حتّى يوصف بأنّها حادث أو قديم.(1)

ص:31


1- . الأسفار: 297/7 و 285، ولاحظ: 292-293.

وقال أيضاً: إنّ الطبائع المادّية كلّها متحرّكة في ذاتها وجوهرها مسبوقة بالعدم الزماني، فلها بحسب كلّ وجود معيّن مسبوقية بعدم زماني غير منقطع في الأزل.(1)

إنّ هذه النظرية وإن كانت لها قيمة علمية عالية حيث إنّها كشفت عن البعد الرابع لعالم الطبيعة وهو الزمان وراء الأبعاد الثلاثة التي اتّفق عليها العلماء، ولكنّها لا تقنع المتشرّعين في تفسير الحدوث الزماني للعالم، وذلك لما ذكرناه عند بيان الإشكال على الحدوث الزماني، وهو أنّ الحدوث الزماني بهذا المعنى يصحّ في حالة النظرة التجزيئية فإنّ كلّ قطعة من عالم المادة مسبوقة بالعدم في القطعة المتقدّمة، وأمّا إذا نظرنا إلى العالم نظرة جملية لا تشذ عنه قطعة، فعندها لا يصحّ توصيف العالم بالحدوث الزماني، لأنّ الزمان وليد حركة المادّة، والمفروض أنّ الزمان جزء من العالم فكيف يمكن أن يتقدّم عليه ويحتضن عدم العالم ؟ ومع ذلك كلّه، فلهذه النظرية نتائج مفيدة أُخرى يقف عليها من له إلمام بالفلسفة الإسلامية.

ص:32


1- . نفس المصدر.
حدوث المادة والعلوم التجريبية

إنّ إثبات حدوث المادة يمكن بطريقين:

1. الطريق الفلسفي الذي يعتمد على البراهين العقلية والفلسفية، ومنها القول بالحركة الجوهرية حيث تثبت حدوث المادة.

2. الطريق العلمي الذي يستند إلى معطيات الفيزياء الحديثة، وها نحن ندرس هذا الطريق بإيجاز.

لقد أثبتت العلوم الطبيعية الحديثة أنّ الكون يسير باتّجاه موت حراري وشيخوخة يصطلح عليها في الفيزياء بالانتروبي، فقد توصّل «إسحاق نيوتن» نتيجة تحقيقاته إلى أنّ العالم يتّجه - باستمرار - نحو التفكّك والتحلّل، والبرود والاهتراء، وسيأتي اليوم الّذي تتساوى فيه كلّ الأجسام في حرارتها، وتغدو كالماء الذي استقر في الأواني المستطرقة بصورة متساوية السطوح، وحينئذٍ ستتوقف كلّ حركة، ويترك الصخب والضجيج مكانهما للجمود والسكوت، وتترك الحياة مكانها للموت.

لقد أثبت من خلال دراسته للحرارة أنّه في جميع التغيّرات الحاصلة في الحرارة يتحول قسم من «الطاقة ذات الوجود الحراري» إلى «طاقة غير ذات وجود حراري» ولا يمكن العكس أي أن تنتقل الطاقة غير ذات الوجود الحراري إلى الطاقة ذات الوجود الحراري.

ويسمّى هذا القانون بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية الّذي يسمّى قانون الطاقة المتاحة أيضاً.

ص:33

فهذا الكشف يثبت أنّ الحرارة تنتقل بصورة تدريجية من وجود حراري إلى عدم حراري والعكس غير ممكن، وهو أن تنتقل هذه الحرارة من عدم حراري إلى وجود حراري أكثر، ويعني هذا أن يأتي وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات، وحينذاك لا تبقى أيّة طاقة مفيدة للحياة والعمل والتحرك، ويترتّب على ذلك انتهاء العمليات الكيمياوية والطبيعية وتنتهي الحياة.

إذ أنّ وجود الحركة والحياة في هذا الكون إنّما هو نتيجة التفاوت والاختلاف الموجود بين أجزائه في الحرارة، فإذا انتقلت الحرارة من الأجسام الحرارية إلى الأجسام الأُخرى وتساوت الحرارة في الجميع وحلّت البرودة مكان الحرارة لم يبق مجال للتفاعل الّذي هو نتيجة الاصطكاك بين الأجزاء المتفاوتة والفعل وردة الفعل.

هذا هو الأصل العلمي الّذي اتّفقت عليه كلمة علماء الفيزياء الحديثة، ونحن نستنتج من هذا الأصل «حدوث المادة» بالبيان التالي:

الاستنتاج الفلسفي من القانون الحراري

إنّ الكشف المذكور يعدّ دليلاً قوياً على حدوث الكون، إذ لو كان هذا العالم المادي أزلياً لزم أن تبرد فيه الحرارة منذ زمن بعيد، وأن تنعدم فيه الحياة منذ وقت طويل، لأنّ العالم محدود في طاقاته، فكيف يمكن أن يكون هذا العالم موجوداً منذ الأزل إلى الآن وهو يفقد كلّ يوم هذه الكمية الهائلة من حرارته نتيجة الانفجارات المتلاحقة في ذراته ؟!

وبعبارة ثانية: أنّ العالم لو كان أزلياً لكان ينبغي أن تنعدم الحياة والحركة

ص:34

فيه منذ أقدم العصور نتيجة فقدان أجزائه للحرارة، وانتقال طاقاتها المتاحة إلى طاقة غير متاحة، وتوقّف العمليات الطبيعية والكيمياوية، وللزم أن لا نجد على الأرض أيّ أثر للحياة والأحياء، وأن لا تبقى إلى الآن أيّة حرارة للشمس لحصول الموت الحراري الّذي أشار إليه الكشف المذكور منذ زمن بعيد، نظراً للكمية المحدودة للحرارة في الكون.

فنستنتج من ذلك أنّ لهذا الكون بداية وأنّه حادث، وليس أزلياً، فالكون يشبه السراج النفطي الّذي يفقد أجزاء من وقوده عند الاشتعال باستمرار، فلا يمكن أن يكون مشتعلاً منذ الأزل، إذ يلزم من ذلك أن ينتهي نفطه ووقوده منذ وقت طويل، لأنّ الوقود المحدود لا يمكن أن يبقى إلى الأبد.

فإذا وجدناه لا يزال مشتعلاً استنتجنا من ذلك كونه حادثاً، وعرفنا أنّ اشتعاله وإضاءته لم تكن من الأزل.

إنّ نظامنا الشمسي بل مجرّتنا الّتي يعتبر هذا النظام الشمسي جزءاً صغيراً منها أشبه ما يكون بالسراج النفطي المذكور الّذي تتناهى طاقاته، لأنّ هذه المجرة تملك طاقات محدودة، فلو كانت هذه المجرة قديمة في وجودها وانفجاراتها لزم أن يكون قد انتهى كلّ ما فيها من الطاقات، وللزم أن لا نرى الآن أي أثر للعمليات والتفاعلات الطبيعية، والحال أنّنا نشاهد استمرار هذه العمليات والتفاعلات، ونلاحظ - تبعاً لذلك - استمرار مظاهر الحياة التابعة لذلك، وهذا يكشف بجلاء عن وجود بداية لهذا الكون، ويبطل القول بأزليته وقدمه.

***

بقيت في المقام نظرية أُخرى وهي نظرية الحدوث الإسمي التي طرحها

ص:35

الحكيم السبزواري في كتابيه: «شرح الأسماء»، و «شرح المنظومة».

الحدوث الإسمي للعالم

يقول الحكيم السبزواري في منظومته:

والحادث الإسمي الذي مصطلحي إن رسمٌ ، إسم جاء، حديث منمحي

والنظرية مبنية على أمرين:

1. كلّ ممكن فهو زوج تركيبي له ماهية ووجود، فالوجود الإمكاني لا يخلو عن أمرين:

أ. الوجود والتحقّق.

ب. حدّه في مراتب الوجود، فيحدّد بكونه عرضاً أوجوهراً، جسماً أو نفساً أو عقلاً، فلا ينفكّ الوجود الإمكاني عن حدّ يحدّده، به تتعيّن هوية الشيء وتتشخّص. فلو أُخذ الحدّ ولم يبق إلّاالوجود لا يتميّز شيء عن شيء، وهذه الحدود هي التي توجب تميّز الوجود وتشخّصه....

2. أنّ العالم بمعنى المفاهيم والمعاني المعبّر عنها بالأسماء والصفات التي تنتزع عن حدود الوجود المنبسط كلّه مسبوق بالعدم في المرتبة الأحدية، فهو برمّته من العقول والنفوس والصور والأجسام أسماء حدثت بعد تجلّي الذات للعوالم الممكنة باسمه المبدع، كما أنّه ينمحي عند تجلّيه باسمه القهّار.

فالحدوث الاسمي عبارة عن حدوث هذه الحدود بعد تجلّيه سبحانه باسم المبدع، حيث إنّ الوجود الإمكاني يتحدّد بهذه المفاهيم.

ص:36

إذا علمت هذين الأمرين فاعلم أنّ الماهيات لمكان كونها اعتبارية كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماءً ليس لها حقيقة ولا أثر فليست إلّاأسماء سميّتموها ما أنزل اللّه بها من سلطان، بل النازل من صقعه ليس إلّاالوجود، فالماهية ليست شيئاً حتى يبحث عن قدمها أو حدوثها، وأمّا الوجودات فهي وإن كانت متحقّقات إلّاأنّها ليست خارجة عن الصقع الربوبي لأنّها تنزلات وجود الحق وتجلّياته ورشحاته وأظلاله، وهي قائمة بوجوده سبحانه لا بإيجاده، فالفرق بينهما بالتشكيك لا بالتباين، وإلى هذا يومي المروي عن مولى الموالي عليه السلام من أنّ البينونة وصفية لا عزلية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ القول بأنّ هذا النوع من الحدوث أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع، لأنّ موضوعه هو العالم وهو مركّب من الماهيات التي ليست بشيء حتّى يبحث عن حدوثها أو قدمها والوجود ليس إلّاظلال وجوده سبحانه وتجلّياته قائم بوجوده لا بإيجاده فلم يبق شيء يبحث عن حدوثه إلّاأن يقال:

يتمركز الحدوث في تجلّيه، فتأمّل.

إلى هنا تمّ طرح النظريات العلمية والفلسفية التي جاءت بها أفكار المتألّهين حسب التخصّصات المختلفة.

وها نحن نذكر ما هو مختارنا في الموضوع.

نظريتنا في الحدوث الزماني
اشارة

لقد عرفت أنّ ما قام به الحكماء من تفسير الحدوث الزماني للعالم وإن

ص:37


1- . شرح الأسماء: 77.

كان ناجحاً في بعض الصور، أي في النظرة التجزيئية إلى العالم، ولكنّه غير ناجح في النظرة الجملية، وعلى هذا فيجب أن يفسّر بشكل لا يكون مخالفاً لما أجمعت عليه الشرائع السماوية، وما نذكره مبني على أمرين:

1. وجود عوالم قبل هذا العالم

ربما يتصوّر الإنسان أنّ هذا العالم الذي نعيش فيه هو أوّل عالم خلقه اللّه سبحانه، ولكن المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ للّه عز وجلّ اثنتي عشر ألف عالم كلّ عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين.(1)

ويدلّ عليه أيضاً ما رواه الصدوق، من جواب الإمام عليه السلام، حيث بعد أن أجاب عن سؤاله على وجه التفصيل أنشأ يقول:

ولم يزل سيدي بالحمد معروفاً ولم يزل سيدي بالجود موصوفاً

فلعل قوله: لم يزل سيدي بالجود موصوفاً إشارة إلى تعاقب العوالم واحداً بعد الآخر.

وعلى هذا: فكلّ عالم متأخر مسبوق بالعدم الزماني بعالم آخر متقدّم عليه، وليس هذا العدم عدماً موهوماً بل عدماً واقعياً حيث إنّ كلّ العالم متقدّم يحضن عدم عالم متأخّر، فيقال: حدث العالم في زمان لم يكن منه عين ولا أثر.

2. تفسير حدوث ما سوى اللّه

إنّ المراد من قولنا: «إنّ سوى اللّه حادث» إمّا أن يراد به هذا العالم المشهود

ص:38


1- . الخصال: 639.

لنا من السماء والسماويات والعنصر والعنصريات، وإمّا أن يراد به مطلق ما سوى اللّه ممّا يتصوّر وراء هذا العالم المشهود.

فإن كان الأوّل فهذا المحسوس حادث زماني، أي مسبوق العدم، أي مسبوقاً بالعدم الزماني ويكون وعاء عدمه زماناً منتزعاً من عالم قبله، وهو العالم الذي خلق قبله فهو أيضاً حادث زماني مسبوق بعدمه الواقع في عالم ثالث قبل ذاك العالم الثاني، وهكذا. والمفروض وجود الحركة والزمان في العوالم كلّها.

فلو أراد أصحاب الشرائع السماوية من قولهم كون العالم حادثاً زمانياً، هذا المعنى فهو موافق للحديث والعقل والعلم. وأمّا الحديث والعقل فقد عرفت، وأمّا العلم فإنّ العلوم العصرية نطقت بأنّ الأمر كذلك، فإنّ المنظومة الشمسية مسبوقة بعدم واقعي متأخّر عن عالم متقدّم متألف من منظومة أُخرى مع ما حولها من السيارات، وهكذا سائر المنظومات الشمسية فهي بشمسها وكواكبها متأخّرة الوجود عمّا تقدّمها.

فعلى هذا يصحّ ما أجمع عليه أصحاب الشرائع السماوية.

وأمّا إذا أُريد الثاني أي مطلق العوالم وجملة ما سوى اللّه سبحانه، فالحق أنّ حدوثه بهذا المعنى شيء لم يتّفق عليه الإلهيون، ولم يثبت له حدوث بهذا المعنى في شرعنا المقدّس، وقد عرفت ما يدلّ على وجود عوالم قبل عالمنا هذا، ويلائم هذا كونه تعالى دائم الفضل على البرية وباسط اليدين بالعطية ولا إمساك له عن الفيض.

وعلى هذا يصبح النزاع في حدوث العالم وقدمه واقعاً على أمر غير معيّن، فلو قال الحكماء بقدم هذا العالم الذي نعيش فيه زماناً فهم خاطئون لما

ص:39

عرفت من حدوثه الزماني بصورة واضحة، وإن أرادوا مجموع ما سوى اللّه، فالعالم بهذا المعنى ليس مصب الإجماع ولا إشكال في وصفه بالقدم الزماني

هذا ما توصّلنا إليه بفضل ما استفدناه من أساتذتنا وعلمائنا، ولعلّ العلم في المستقبل يكشف لنا حقائق أُخرى حول حدوث العالم، واللّه العالم بحقائق الأشياء.

ص:40

2 تطوّر العلوم سرّ بلوغ القمّة

اشارة

العلوم الإنسانية، بل كلّ علم يبحث فيه الإنسان في البداية عبارة عن مسائل قليلة وربّما كان مسألة واحدة، لكن تكثّرت مسائله وتكاملت فروعه عبر الزمان إلى أن بلغ ما بلغ.

وما ذكرناه من الضابطة أمر واضح لا يحتاج إلى ذكر شواهد، ورغم ذلك نذكر كلام «ارسطاطاليس» حول علم المنطق، حسب ما ذكره الشيخ الرئيس في «منطق الشفاء»، قال حاكياً عن المعلم الأوّل:

إنّا ما ورثنا عمّن تقدّمنا في الأقيسة إلّاضوابط غير مفصّلة، وأمّا تفصيلها وإفراد كلّ قياس بشروطه وضروبه وتمييز المنتج عن العقيم إلى غير ذلك من الأحكام فهو أمر قد كددنا فيه أنفسنا وأسهرنا أعيننا حتّى استقام على هذا الأمر، فإن وقع لأحدٍ ممّن يأتي بعدنا فيه زيادة أو إصلاح فليُصلحه أو خلل فليسده .(1)

وهذا هو علم الأُصول، فقد كتب غير واحد من أصحاب الأئمة عليهم السلام صحائف مختصرة فيه، إلى أن وصلت النوبة إلى الشيخ المفيد (336-413 ه) فألّف كتاباً باسم «التذكرة في أُصول الفقه» وقد لخّصه تلميذه الكراجكي

ص:41


1- . شرح المنظومة للسبزواري: 5-6.

وأدرجه في كتابه «كنز الفوائد»، وليس ما وصل إلينا منه إلّارسالة صغيرة، وأين هذا ممّا بلغه المتأخّرون خصوصاً من عصر الشيخ الأنصاري إلى يومنا هذا، وقس على علم الأُصول، بقية العلوم.

حكى سيدنا الأُستاذ العلّامة الطباطبائي في مقاله الّذي قدّمه إلى مؤتمر تكريم صدر المتألهين، أنّ عدد المسائل الفلسفية يوم ترجمت من الإغريقية إلى العربية كان حوالي مائتي مسألة، وقد تكاملت بفضل جهود حكماء الإسلام وفلاسفتهم فبلغت سبعمائة مسألة(1).

وقد حثّ بعض الآيات القرآنية على طلب زيادة العلم من اللّه تعالى، وهذا دليل على أهمية زيادة العلم وتطوّره، وأنّ ذلك هدف بحدّ ذاته.

ولذلك يأمر اللّه سبحانه نبيّه الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بأن يقول: (وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (2).

وقد ورد في بعض الأحاديث أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «لا بارك اللّه لي في يوم لم ازدد فيه علماً». وقد ورد عن المعصومين عليهم السلام: «من استوى يوماه فهو مغبون».

وهذا يدلّ على أنّ طلب الزيادة وبلوغ القمم له أهمّية خاصّة في الإسلام.

ص:42


1- . من المؤسف أنّه قدس سره لم يُشر إلى المسائل الفلسفية الّتي أُضيفت من قبل حكماء الإسلام.
2- . طه: 114.

معنى التطوّر في العلوم الشرعية

إذا أردنا أن نعرّف التطوّر في هذه العلوم فإنّ تعريفه يتلخّص في جملتين:

1. كشف آفاق جديدة وموضوعات مستجدة لها دور هام في حياة المجتمع، ودراستها على ضوء الكتاب والسنّة والإجماع والعقل الحصيف، فإنّ المجتمع الإسلامي لم يزل يتطوّر في مختلف جوانبه، فتواجهه أُمور مستجدّة لم يكن لها نظير في الأعصار السابقة، فلا يمكن للفقيه غضّ النظر عن هذا النوع من التطوّر وإهماله.

ولذلك يجب أن يواكب الفقه حاجات العصر ومقتضيات الزمان مواكبة لا تشذّ عن الأُصول الثابتة في الإسلام.

2. تقييم نظريات من تقدّم من الفقهاء والأُصوليين تقييماً علمياً خالياً عن سائر النزعات، فيتبع ما وافق الأُصول ويترك ما خالفها.

منهجية التطور

إنّ المهم في المقام التعرّف على منهجية يصحّ معها التطوّر؟ فهي تتلخّص في الأُمور التالية:

الأوّل: المحافظة على الأُصول الأساسية في حقل العقائد والفقه والأخلاق، وهي الأُصول غير الخاضعة للتغيير والتبدّل، فكلّ تطوير يجب أن يحترم تلك الأُصول ولا يتجاوزها، وأنّ تلك الأُصول خطوط حمراء لعلماء الإسلام لا يحقّ لهم المساس بها، مثلاً:

أ. أنّ توحيد العبادة كسائر أقسام التوحيد من الأُصول المسلّمة، وكأنّ

ص:43

التوحيد فيها هو الهدف لإرسال الرسل وإنزال الكتب، قال سبحانه: (وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ ) (1). فتكريم الأنبياء والأولياء، يجب أن لا يصل إلى حدّ العبادة.

ب. أنّ الخاتمية في النبوة والرسالة أمر ضروريّ ومسلّم وإجماعي لا يخضع للنقد والخدشة.

ج. أنّ خلود الشريعة الإسلامية كخلود النبوة هو أمر ثابت لا يتغيّر.

د. العدول عمّا حكم اللّه فيه بحكم، نابع عن كفر العادل وظلمه وفسقه، كما قال سبحانه: (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (2).

وقال سبحانه: (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (3)، وقال سبحانه: (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (4)، فلابد أن يكون التطوّر على ضوء هذه الأُصول ولا يتجاوزها.

الشرط الثاني: الاجتناب عن الابتداع وحصر التشريع في اللّه سبحانه، حتّى لا تحصل زيادة في الدين أو نقيصة منه، فإنّ البدعة في الدين من أكبر المعاصي وأعظم المحرّمات، قال سبحانه: (قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (5).

الشرط الثالث: أن يكون التطوير منطلقاً عن نظام علمي في البحث والدراسة، حتّى ينتج في ظل ذلك النظام، الفكر الجديد الذي يواكب سائر

ص:44


1- . النحل: 36.
2- . المائدة: 44.
3- . المائدة: 45.
4- . المائدة: 47.
5- . يونس: 59.

الأُصول الشرعية.

وها نحن نرى بعض المحدثين يصرّ على إنكار حكم المرتدّ الّذي أطبق عليه فقه الفريقين أو أنّ بعضهم يريد أن يفسّر آية القصاص - أعني: قوله تعالى:

(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (1) - بصورة توجب اختصاص هذا الحكم بزمان النبي صلى الله عليه و آله و سلم دون بقية القرون، كلّ ذلك ناتج عن البحث في تطوّر الفقه الإسلامي بنحو مجرّد عن التخطيط العلمي المدروس.

دور الزمان والمكان في الاستنباط

ولأجل إيضاح الفكرة نذكر مثالاً للموضوع، وهو دور الزمان والمكان في استنباط الأحكام الشرعية، ونبيّن أنّ إبداء النظرية الجديدة كيف لا يزاحم الأُصول الثابتة والخطوط الحمراء. فنقول:

قد يطلق الزمان والمكان ويراد منهما المعنى الفلسفي، فيفسّر الأوّل بمقدار الحركة، والثاني بالبعد الذي يملأه الجسم، وهذا المعنى للزمان والمكان ليس مقصودنا هنا، وإنّما الذي نعنيه هو المعنى الكنائي لهما، وهو تغيّر أساليب الحياة والظروف الاجتماعية حسب تقدّم العلم وتطوّر وسائل التواصل والانتاج والبحث العلمي، وهذا يستدعي بعد استعراض الروايات الواردة في هذا المجال تبيين دورهما في غير واحد من أبواب الفقه، ضمن حفظ الشروط المذكورة آنفاً.

لاشكّ أنّ لهذين الأمرين تأثيراً في تفسير أُمور وقعت موضوعات

ص:45


1- . البقرة: 194.

للأحكام الشرعية، وهنا نذكر نماذج منها:

1. مفاهيم مثل الاستطاعة في وجوب الحج، والفقر في مستحق الزكاة، والغنى في عدم الاستحقاق لها، وبذل النفقة للزوجة، وإمساك الزوجة بالمعروف.

ومن المعلوم أنّ الاستطاعة والفقر وما بعدها في عصر صدر الإسلام ونزول الشريعة غيرها في عصرنا هذا، فرب فقير اليوم كان يعدّ غنيّاً في العصور السابقة.

2. المثليّ والقيميّ والمكيل والموزون، الّتي تغيّرت مصاديقها بفضل التطوّر الصناعي الجديد، فكم من قيميّ - كالثياب - صار مثليّاً في أيامنا هذه.

3. كما أنّ للزمان والمكان دوراً في تغيير الحكم بتغيير مناطه، كحرمة بيع الدم لأجل عدم منفعة محلّلة له في السابق، وحليته الآن لوجود منفعة حياتية كإنقاذ الجرحى والمرضى.

4. كما أنّ للزمان والمكان دوراً في كشف مصاديق جديدة للموضوع، مثلاً السبق والرماية من التدريبات العسكرية المهمة حيث يكتسب بها المهارة اللازمة للدفاع عن النفس والنفيس، وظاهر الروايات اختصاصها في (الخف والحافر والنصل)(1).

ولكن الحصر ناظر إلى السبق فيما يُعد لهواً كاللعب بالحمام، وأمّا السبق بالمعدّات الحربية كالمدرّعات والدبابات والطائرات المقاتلة فهو خارج عن حدّ الحصر، لوجود الملاك الموجود في الثلاثة في هذه الأُمور بنحو أوضح.

ص:46


1- . الوسائل: 13، الباب 3 من أبواب السبق والرماية، الحديث 1 و 2 و 3 و 5.

5. ذهب المشهور إلى تخصيص الاحتكار بأجناس معدودة، روى غياث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «ليس الحكرة إلّافي الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن»، فلاشكّ أنّ تخصيص الاحتكار بهذه الأجناس الأربعة كان نتيجة كونها من ضرورات الحياة والحاجات العامّة يومذاك، وأمّا اليوم فلا شكّ أنّه قد اتّسعت الحاجات وتغيّرت فعاد ما لم يكن ضرورياً في الماضي أمراً ضرورياً في عصرنا، ولذلك ذهب غير واحد من فقهاء عصرنا إلى القول بتحقّق الاحتكار في كلّ ما يحتاج إليه أهل البلد كالأُرز والذرة والدواء للمرضى والجرحى، إلى غير ذلك.

6. قد نقل الفريقان أن من أحيا أرضاً فهي له، كما ورد في أحاديثنا أنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام أحلّوا الأنفال لشيعتهم، ومن المعلوم أنّ تطبيق هذا الحكم في العصور السابقة لا يحتاج إلى نظام خاصّ يراقب المحيي، ويحدّد مقدار الأرض التي يريد إحياءها أو الانتفاع بها من الأنفال كالغابات وغيرها.

ولكن التطوّر الصناعي والعلمي ألزم الحكومات الإسلامية إلى تنظيم قوانين في تطبيق هذا الحكم الشرعي بأن تحدّد مساحة الأرض الّتي يحقّ لكلّ فرد أن يقوم بإحيائها، لكي لا تقع أقطاع كبيرة بيد مجموعة قليلة من التجّار وأصحاب رؤوس الأموال، فيكون الحرمان هو النصيب الأوفر لأبناء الشعب الفقراء.

7. اتّفق الفقهاء على أنّ الغنائم الحربية تقسّم بين المقاتلين على نسق خاص بعد إخراج خمسها لأصحابها، لكن الغنائم الحربية في عصر صدور الروايات كانت تدور حول السيف والرمح والسهم والفرس وغير ذلك، ومن

ص:47

المعلوم أنّ تقسيمها بين المقاتلين كان أمراً يسيراً آنذاك، وأمّا اليوم وفي ظل التقدّم العلمي الهائل فقد أصبحت الغنائم الحربية هي الدبابات والمدرّعات والحافلات والطائرات المقاتلة والبوارج البحرية ومن الواضح عدم إمكان تقسيمها بين المقاتلين، بل هو أمر متعسّر، فعلى الفقيه أن يتّخذ أُسلوباً في كيفية تطبيق الحكم على صعيد واحد ليجمع فيها بين العمل بأصل الحكم والابتعاد عن المضاعفات الناجمة عنها.

8. أفتى القدماء بأنّ الإنسان يملك المعادن المركوزة في أرضه تبعاً لها دون أيّ قيد أو شرط، وكان الداعي من وراء تلك الفتوى هو بساطة الوسائل المستخدمة لذلك، ولم يكن بمقدور الإنسان إلّاالانتفاع بمقدار ما يعدّ تبعاً لأرضه، ولكن مع تطوّر الوسائل المستخدمة للاستخراج، استطاع أن يتسلّط على أوسع ممّا يعدّ تبعاً لأرضه، فعلى ضوئه لا مجال للإفتاء بأنّ صاحب الأرض يملك المعدن المركوز تبعاً لأرضه بلا قيد أو شرط، بل يحدّد بما يعدّ تبعاً لها عُرفاً، وأمّا الخارج عنها فهو إمّا من الأنفال أو من المباحات الّتي يتوقّف تملّكها على إجازة الإمام.

9. أنّ روح القضاء الإسلامي هو حماية الحقوق وصيانتها وكان الأُسلوب المتبع في العصور السابقة هو أُسلوب القاضي المفرد، وقضاؤه في مرحلة واحدة قطعية، وكان هذا النوع من القضاء يلبّي حاجيات المجتمع ويحقّق أغراض نظام المحاكم، ولكن اليوم دبّ الفساد في المحاكم، وقلّ الورع فاقتضى الزمان أن يتبدّل أُسلوب القضاء إلى أُسلوب آخر، وهو اجتماع القضاة والتشاور وصدور الحكم الجماعي وتعدّد مراحل صدور الحكم حسب المصلحة الزمانية

ص:48

الّتي أصبحت تقتضي زيادة الاحتياط.

10. الدفاع عن بيضة الإسلام، حكم ثابت لا يتغيّر، وإليه يرشد قوله تعالى:

(وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ ) (1).

ولكن الدفاع كان سابقاً بالسهم والنصل والسيف وما شابهها من الآلات الحربية.

ولكن اليوم وفي ظل التقدّم العلمي والتطوّر الصناعي، فقد أصبحت المعدّات الحربية تتمثل بالدبابات والمدرّعات والحافلات والطائرات المقاتلة والبوارج البحرية والصواريخ العابرة للقارات وغيرها من الأسلحة الحديثة.

هذه نماذج للمسائل الّتي يتّضح فيها دور الزمان والمكان وتأثيرهما، ولأجل أن نعرض مسائل مستجدة تحتاج إلى دراسة ميدانية، نأتي برؤوس هذه المسائل:

مسائل مستحدثة بحاجة إلى دراسة

هناك مسائل مستجدة تحتاج إلى دراسة ميدانية للباحثين، وهي بين عقائدية وفقهية نأتي بها لعلّ بين القرّاء من تتولّد لديه رغبة بدراستها:

1. ما هي صيغة الاقتصاد الإسلامي على وجه التفصيل، وما هي الحلول الإسلامية للأزمات الراهنة في هذا الصعيد؟

ص:49


1- . الأنفال: 60.

2. ما هي صيغة الدولة الإسلامية بين الصيغ المختلفة وأنواع أنظمة الحكم ؟

3. إذا كان الدين الإسلامي ديناً جامعاً، فما هي صيغة سياسته الخارجية ؟

4. لقد ظهر في ميدان التجارة العالمية شركات عملاقة باعتبارات مختلفة ذكرها الفقه الوضعي وليس لها في الفقه الإسلامي أي أثر، وفي الوقت نفسه تطلب حلولاً من منظار فقهي يعبّر عن موقف الإسلام تجاهها، كشركة التضامن، شركة التوصية البسيطة، شركة التوصية بالأسهم، شركة المحاصّة، شركة المساهمة الخاصّة، وشركة المساهمة العامّة، والشركة ذات المسؤولية المحدودة.

5. ألّف الأُستاذ عبدالرزاق السنهوري المصري كتاباً في الفقه الوضعي عنوانه «الوسيط في شرح القانون المدني» وقد اعتمد على القوانين الغربية، ونحن نرى من الواجب أن يدرس هذا الكتاب من منظار إسلامي.

هذه نماذج من المسائل الفقهية، وهناك مسائل جديدة على صعيد العقيدة والفكر نشير إلى نماذج منها:

1. هل المعرفة البشرية تتجاوز حدّ الحس والمادة أو لا؟

2. هل الدين يوافق الحرية الفكرية، أو أنّه يعارضها ويقضي عليها أو يعرقل حركتها؟

3. هل الدين ظاهرة مادية حدثت في المجتمع غبّ عوامل كالجهل بالعلل الطبيعية، أو لسيطرة الإقطاعيّين والرأسماليّين على الفلاحين والعمال، أو

ص:50

لعوامل أُخرى كالجنس والخوف وغيرهما من الأُمور المذكورة في كتب الماديين ؟

4. هل الدين أمر باطني شهودي لا يخضع للبرهان، أو أنّه أمر عقلي برهاني خاضع له ؟

5. ما هو دور علماء الإسلام في مجال تعارض العلم مع الدين، إذ قد تتعارض الفروض العلمية مع التعاليم الدينية في بعض الحالات ؟

***

توصيات عملية

في الختام نحبَّ الإشارة إلى أمرين هامين:

الأوّل: دراسة المسائل المستجدّة لا تنفك عن بذل الجهد والطاقة في معرفتها ومعرفة أحكامها، وبما أنّها لم تدرس في العصور السابقة، يكون طريق الوصول إلى حلّها غير معبّد، ولأجل تذليل الصعاب نقترح أن تكون الدراسة جماعية فإنّ «يد اللّه مع الجماعة»، إذ أنّ الخطأ في الفكر الفردي أكثر منه في الفكر الجماعي.

وهنا نترحّم على العلّامة المجلسي، فهذا الرجل العملاق هو أوّل من ابتكر العمل الجماعي وعرض فوائده أمام المحقّقين والمؤلّفين، فقد استعان رحمه الله في تأليف دائرة معارفه - أعني: بحار الأنوار - بأكثر من مائتي باحث لهم تخصّصات مختلفة حتّى أتمّ تأليف موسوعته الكبرى.

الثاني: عرض الأبحاث والدراسات الّتي اتّفقت عليها آراء الباحثين على

ص:51

الأساتذة الكبار والمجتهدين لتقييمها وسدّ الثغرات فيها، وهذا فرعُ أن تؤسّس في الحوزة دائرة خاصّة يجتمع فيها أكابر العلماء لدراسة البحوث الجديدة المؤلّفة في كافة العلوم الإسلامية.

وفي نهاية المقال أرجو من الأساتذة الكرام الذين لهم دور في تطوير العلوم في الحوزة العلمية أن يقوموا بدراسة هذه الموضوعات العشرة الّتي أشرنا إليها وأن يقتفوا الخطوط العريضة الّتي ذكرتها في مقالتي هذه، حتّى تصير الحوزة العلمية نبراساً وهّاجاً يشع منه العلم والخير والتطوّر، كما كانت كذلك في العصور السابقة.

واللّه من وراء القصد

10 صفر المظفر عام 1433 ه

ص:52

3 فلسفة الفقه: مخاضات التأصيل

اشارة

3 فلسفة الفقه: مخاضات التأصيل(1)

تعني لفظة «الفلسفة» عندما ترد دون إضافةٍ : «معرفة الوجود». وإذا أُضيفت إلى لفظة أُخرى، كما لو أُلحقت بها كلمة «التاريخ» مثلاً، فإنّها تكتسب معنى آخر يتناسب مع ما يعكسه المركّب الجديد؛ فالتاريخ هو العلم الذي يبحث في أحداث ووقائع العالم وعللها ونتائجها بشكل مقاطع، في حين تهتم «فلسفة التاريخ» بالسنن العامّة الّتي يسير التاريخ وفقاً لها، فعندما ينظر المؤرّخ إلى التاريخ نظرة تجزيئية مرحلية، ينظر باحثو فلسفة التاريخ إلى «تاريخ العالم» نظرة عامّة، ترمي إلى مناقشة قوانينه واستكشاف سننه، وكنموذج لذلك: فالبحث في السبب الذي أدّى إلى انتصار المسلمين وهزيمة المشركين في «بدر»، بحثٌ تاريخي، بينما البحث في كون التاريخ خاضعاً لقوانين وسنن، بحثٌ مختصٌّ بفلسفة التاريخ؛ أو أنّ البحث في العامل الموجِّه للتاريخ، هل هو واحد، كأن يكون الاقتصاد مثلاً، أو أنّها عوامل متعدّدة ؟ يُعدّ من بحوث فلسفة التاريخ.

وهذا المعنى ينطبق على «الفقه» و «فلسفة الفقه». فالفقه يبحث في «أحكام فعل المكلّف»، ويقنّن الحلال والحرام، ويرسم حدود حركة الإنسان، بينما يجري البحث في «فلسفة الفقه» عن المبادئ التصورية والتصديقية

ص:53


1- . مجلّة المستقبلية: الصادرة عن المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية، العدد 3.

للأحكام وخصائصها وأهدافها. فعندما يبحث الفقيه في تفريعات المسائل ويدرسها واحدة واحدة، يُلقي باحث فلسفة الفقه نظرة شمولية تتناول الفقه - الذي هو أحكام اللّه - ككل، فيصنّف أحكامه إلى واقعية وثانوية، وتكليفية ووضعية، ويحدّد نطاق الثابت منها ونطاق المتغيّر، كما ويبيّن واقعية وظاهرية، أولوية وثانوية، علاقة الفقه بالعلوم الأُخرى، وهو ما قد نجد بعضه مبثوثاً في علم الأُصول، أو في غيره من العلوم، لكن فلسفة الفقه كعلم، يمكن القول: إنّها علم حديث الظهور، لذا ينبغي إعارته اهتماماً أكبر وإدخاله وتدريسه في الجامعات العلمية، ولي هنا مناقشة نقدية لبعض الأفكار الّتي تطرحها البحوث ذات العلاقة بالموضوع.

بشرية علم الفقه!

يطرح بعض الباحثين الفكرة التالية: بما أنّ الفقه علم بشري، فإنّه يبقى ناقصاً وقابلاً للتكامل، ولا يختص ذلك بنفس مسائل الفقه، بل بإمكان تطوّرات علم الأُصول في أن تُحدث نقلات نوعية في علم الفقه، لذا لا وجه لادّعاء تكامله.

هذه الفكرة تثير قضيتين:

الأُولى: أنّ الفقه علم بشري.

الثانية: أنّ الفقه علم غير كامل.

إن كان المقصود من الفقه الذي اعتبره هؤلاء الباحثين علماً بشرياً، هو «الكتب الفقهية»، فلا شك أنّ كتب الفقه عبارة عن عصارة تدبّر الفقهاء الأعلام

ص:54

في الكتاب والسنّة وسواهما من مصادر الفقه.

وإن كان المقصود منه «مصادر الفقه»، فلا شك أو أنّ الكتاب والسنّة، كمصدرين للفقه، لا علاقة لهما بالعلم البشري؛ لأنّ منشأهما الوحي الإلهي.

أما القول بنقص أو كمال الفقه فله معنيان أيضاً، فإمّا أن يُقصد به أنّ الفقه بشكله الراهن لا يستوعب مستحدثات المسائل، فهذا قول مَن يرى أنّ باب الاجتهاد مسدود؛ وتوقّف الاجتهاد يجعل الفقه عاجزاً حقّاً عن رفد ما يستحدث من المسائل بالأحكام اللازمة، لكنّ هناك مَن يعتقد ببقاء باب الاجتهاد مفتوحاً، وهؤلاء يرون أنّ الفقه قادر على تلبية كلّ متطلّبات البشرية.

ولا معنى للنقص في هذه الصورة. وإن كان المراد من الفقه الحالي بفكره المحدود عاجز عن تقديم إجابات لأسئلة سيأتي بها القرن القادم وذلك لعدم توفّره على علم مسبق بالموضوعات الّتي سيطرحها القرن القادم، فهذا قول صائب، لكنّ هذا ليس عيباً في الفقه، لأنّ الفقه قادر على مواكبة قضايا القرن القادم في ضوء ما يتمتع به الكتاب والسنّة من عمق وسعة، كما كان حاله في هذا القرن والقرون الّتي قبله.

نحن ندّعي كمال الدين ولا ندّعي كمال الفقه، وكمال الدين بإمكانه في كلّ عصر أن يرتقي بالفقه إلى حدّ الكمال، فلو عجز فقه عصر ما عن الإجابة؛ لعدم اطّلاعه على مستحدثات المسائل، فسيكون فقه العصر اللاحق قادراً على ذلك باستناده إلى الكتاب والسنّة. ومن له معرفة بالفقه الإسلامي، يعلم أنّ الشيخ الطوسي رغم أنّه كان أعظم فقهاء عصره، إلّاأنّ أهم كتبه الفقهية وهو «المبسوط»

ص:55

لا يناهز مستواه مستوى كتاب «الجواهر»، هذا بالرغم من أنّ صاحب الجواهر كان يرى نفسه تلميذاً للشيخ الطوسي. والسبب في ذلك: أنّ الفقه قد شهد مع مرور الزمن تطوراً من خلال التدبّر والتعمّق في الكتاب والسنّة.

تبعية علم الفقه

قد يقول بعض الباحثين: إنّ الفقه علمٌ تابع، أي أنّه ليس واضعاً لبرنامج، ولا دخل له بصياغة المجتمع، فأحكامه إنّما تصدر بعد أن يأخذ المجتمع شكله ويكتسب طابعه الخاص. فالفقهاء لم يبتكروا التأمين، ولا الانتخابات، ولا تقسيم سلطات الدولة، كما لم يلغوا الرق، ولا نظام الإقطاع... بل على العكس، فقد اتّخذوا مواقف سلبية من جميع ذلك أوّلاً. ثم خضعوا لها بالتدريج رغماً عنهم.

يشير هذا القول إلى نقطتين:

الأُولى: علم الفقه تابع.

الثانية: أنّ الفقه ليس واضعاً لبرنامج، ولا دخل له بصياغة المجتمع.

أما النقطة الأُولى فهي صحيحة إذا قصد منها أنّ وظيفة الفقه هي بيان حكم ما يظهر في الحياة من موضوعات.

وبعبارة أُخرى: أنّ الفقه لا دخل له بصناعة الموضوعات؛ لأنّ المجتمع والطبيعة هما اللّذان يفرزان الموضوعات، ثم يأتي الفقه في المرحلة اللاحقة لظهور الموضوعات، ليصدر الأحكام بشأنها، ولا يدّعي الفقه الإسلامي أكثر من ذلك.

فمثلاً «التأمين» الّذي لم يكن موجوداً من قبل عندما ظهر في المجتمع،

ص:56

انبرى الفقيه ليفتي بحكمه في ضوء الاجتهاد والتعمّق في مصادر الفقه.

وهكذا «بيع وشراء الأسهم» إذ لم يبيّن الفقه حكمه قبل وجوده؛ لكنّه فعل ذلك عندما ظهر في المجتمع. وهذا الأمر ليس مدعاة للانتقاص من الفقه، بل هو دليل على طاقته الذاتية الكامنة في رفد موضوعات الحياة بالأحكام دون تلكّؤ.

أمّا كون الفقه ليس واضعاً لبرنامج فهو غير دقيق من ناحيتين:

أوّلاً: أنّ القائل بهذا اقتصر في نظره على مسائل الحلال والحرام، ولم يلتفت إلى السنن والمستحبات المبثوثة في مختلف أبواب الفقه، والّتي هي جميعاً مؤسسة، أي أنّها تعطي نموذجاً لما ينبغي أن تكون الحياة عليه، فالقسم الأعظم من روايات كتاب المعاشرة تحمل هذا المعنى.

ثانياً: أنّ توقّعنا وضع الفقه لبرنامج للمجتمع، يشبه توقّعنا حلّ المشاكل الفيزيائية من قبل علم الكيمياء، وهو توقّع ليس في محلّه. فالإسلام لم يأتِ ليجمّد جميع الأفكار والتطلّعات، وينفرد في ميدان الحياة يحدّد لكلّ شيء مهمّته، بل لقد دعا الإسلام المجتمع إلى التفكّر والتدبّر والتخطيط والسعي والتشاور في شؤون حياته. ثم يأتي دور الفقه في صيانة التخطيط بفرز الجائز من غير الجائز، وهذا هو سر خاتمية الإسلام. حيث اكتفى في دعوته بالعموميات، وأوكل التفاصيل إلى مقتضيات الزمان، ولو أنّه كان قد وضع برنامجاً عامّاً منذ اليوم الأوّل، لما انسجم تخطيطه مع جميع صيغ الحياة بلا شك.

وما نسبه صاحب المقال إلى الفقهاء من المواقف السلبية إزاء تحرير العبيد وإلغاء نظام الإقطاع، كلام لا أساس له؛ لأنّ إحدى موارد صرف الزكاة الّتي عيّنها الإسلام هي «عتق رقبة العبد»، هذا فضلاً عن أنّه جعل عتق الرقبة كفّارة

ص:57

للذنوب. أمّا ما بدر من فقهاء الإسلام في بعض الموارد، عندما تصدّوا لبعض الدعوات الّتي ظاهرها الإصلاح، فذلك لاطّلاعهم على أنّ حقيقة الأمر تخالف ظاهره. فتقسيم الأراضي في إيران مثلاً، كان الهدف منه توجيه ضربة إلى الزراعة كي يصبح البلد تابعاً للغرب بالكامل. وهو ما حدث بالفعل. إذ ألغيت الإدارات التقليدية السابقة، دون تقديم البديل لها، ممّا أوجد ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة، الّتي شكّلت بداية مرحلة التخلّي عن الزراعة.

ودع عنك نهباً صيحَ في حجراته ولكنْ حديثاً ما حديثُ الرواحل

ففي عام 1959 م عندما بدأ الحديث عن استصلاح الأراضي، وتصدى له المرحوم آية اللّه البروجردي، سمعت من الإمام الخميني قوله: «إن الشاه يريد تدمير زراعة البلد، ولا شأن له باستصلاحها». وعليه فالفقهاء كانوا على طول التاريخ مخالفين للظلم والحرام، ومدافعين عن أوامر اللّه وفرائضه.

ص:58

دنيوية علم الفقه

يذكر بعض الباحثين: إنّ الفقه علم متحايل، شأنه في ذلك شأن علم القانون، وهي صفة تُنبئ عن طابع دنيوي لا مجال للمواربة فيه. هذه الخصوصية تعود إلى أمرين:

الأوّل: أنّ الفقه علم دنيوي.

الثاني: أنّ الفقه متحايل.

لو كان المقصود من الخصوصية الأُولى، أنّ مهمة الفقه تنظيم حياة البشر في هذا العالم والإشراف عليها، فلا شكّ أنّ للفقه خصوصية كهذه، وهي إحدى أهم مميّزاته. الّتي لولا تحلّيه بها لتحوّل الإسلام إلى رهبانية لا صلاحية له إلّافي نطاق الأديرة. أمّا لو أُريد منها أنّ الفقه مقتصر باهتمامه على دنيا البشر، ولا شأن له بالأبعاد النفسية والتربوية والأخلاقية للشخصية الإنسانية، فهو قول خاطئ جداً. فالفقه ينقسم إلى أربعة أقسام أحدها العبادات، الّتي يشترط في صحّتها القربة والقيام للّه والابتعاد عن مراءاة الناس.

فلابد أن يكون دافع المسلم لأداء الوضوء والغُسل والصلاة والزكاة والجهاد والحج القرب من اللّه، فكيف يمكن - والحالة هذه - القول بأنّ الفقه لا يُعنى بغير الدنيا؟! إنّ النوافل الليلية وكثير من المستحبات الواردة في الفقه كلّها ذات طابع أُخروي ومعنوي، وهذه الآية الكريمة تصوغ لنا أساس الفقه، قال تعالى:

ص:59

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَ فُرادى ) (1). نعم إنّ الفقهاء متّفقون جميعاً على اعتبار أنّ قصد القربة يمثّل روح العبادة في كافة الأعمال العبادية، وإلّا فالعمل بدونها لغو لا طائل منه، وهو ما سنفصّل الحديث بصدده في مناقشتنا للسؤال الرابع.

أمّا فيما يتعلّق بالخصوصية الثانية، فننوّه أوّلاً إلى أنّه قد ساوى في هذا الشأن الفقه الشيعي بفقه بعض المذاهب، إذ تذكر المصادر الفقهية أنّ أبا حنيفة قد أوجد مبدأ «فتح الذرائع»، الذي يرفضه فقهاء الشيعة بالإضافة إلى جمع من فقهاء السنّة؛ لأنّه مبدأ يرمي إلى تحويل بعض الحرام إلى حلال وبالعكس، وذلك باللجوء إلى حيل شرعية الظاهر، في حين أنّ فقهاء آخرين يعتقدون بمبدأ آخر عرف باسم «سد الذرائع».

يقول الفقه الإمامي: إنّ التهرّب من الحكم يكون مقبولاً متى ما عيّنه الشرع نفسه، كما لو قال - مثلاً - على الإنسان أن يصوم إذا كان في حضر، ثم يأذن الشارع نفسه بالإفطار للمكلّف المسافر، مخيّراً له بين إقامته وسفره، وهذا اللون من التحايل من الشرع نفسه لا من الفقه، بل الصواب أن لا نسمّي حالة كهذه حيلة شرعية؛ لأنّ الحاضر والمسافر موضوعان يباين أحدهما الآخر، ولكلّ منهما حكمه الخاص.

إنّ احتراف التحايل من خصائص اليهود، الذين عرفوا بتنصّلهم عن تنفيذ الأحكام بحيل متعدّدة، وقد تطرّق القرآن الكريم إلى ماضيهم؛ فقد حرم اللّه عليهم الصيد في يوم السبت امتحاناً لهم، في الوقت الذي كانت أمواج البحر لا

ص:60


1- . سبأ: 46.

تأتي بالحيتان إلى الساحل إلّافي يوم السبت بالذات، ففكّروا بحيلة للالتفاف على الحكم، فحفروا جداول تتّصل بالبحر بحيث تمتلئ بالماء إذا كان البحر مدّاً، فإذا حلّ يوم السبت وملأت المياه الجداول، دخلتها الحيتان مع المد فلا يصطادون منها شيئاً، ولكن يعمدون إلى نهايات الجداول فيغلقونها، فإذا صار البحر جزراً، وجاء يوم الأحد اصطادوا، فكان ذلك سبباً لإنزال العذاب عليهم، وقال لهم اللّه تعالى: (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (1)، ويقول تعالى: (وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) (2).

يرى الإمام الخميني أنّ كلّ الحيل الشرعية باطلة ولا قيمة لها، والآن كيف أمكن أن ينسبوا إلى الفقه حكماً كهذا، إنّه شيء يدعو إلى العجب حقّاً! نعم، لقد أعاد بعض الفقهاء النظر في بعض المسائل، ولكن ليس ذلك بهدف ابتكار حيلة، بل سعياً منهم لحل ما بدأت تخلقه تبعية اقتصاد البلد للغرب من مشاكل يومية للناس، وذلك بزيادة بعض الشروط وتقليص بعضها الآخر، وإدخال الموضوع تحت عنوان آخر. كما حصل اليوم مع موضوع المضاربة، إذ أمكن بواسطتها حلّ بعض المسائل المتعلّقة بالربا. بشرط التزام الطرفين بالشروط بشكل دقيق يميز بين الربا والمضاربة، حيث أحلّ اللّه المضاربة وحرّم الربا. وبناء على ذلك، فليس واضحاً بأي معيار أفتى صاحب المقال بحكم كهذا.

الفقه يُعنى بالظواهر!

ص:61


1- . البقرة: 65.
2- . الأعراف: 163.

يقولون: إنّ الفقه علمٌ يُعنى بالظواهر، أي أنّه يُعنى بظواهر الأعمال، حتّى لقد عُدّ الإسلام بقوة السيف إسلاماً، وعليه فالمجتمع الفقهي لا يلزم اعتباره مجتمعاً دينياً. وأُشير هنا إلى موضوعين:

الأوّل: أنّ الفقه يكتفي في قبوله لإسلام الفرد بالظاهر.

الثاني: أنّ الفقه يُعنى بظواهر الأعمال.

نشير فيما يتعلّق بالأمر الأوّل، إلى أنّ الفقه عندما يكتفي في قبوله لإسلام الفرد بالإقرار والاعتراف، فذلك لأنّه لا سبيل إلى معرفة الباطن مطلقاً، لذا لو اتّفق أن انكشف نفاق شخص من خلال طول المعاشرة، فإنّه يخرج من جماعة المسلمين ويعدّ واحداً من المنافقين. كأنّ صاحب المقال يتوقّع من الإسلام أن يأمر بتفتيش القلوب، وكشف مكنونات الضمائر، وهو ما لا سبيل له، فضلاً عمّا يفضي إليه من مفاسد لا عدّ لها ولا حصر.

أمّا كون الفقه يُعنى بظواهر الأعمال، فإنّه تكرار للفكرة الثالثة «دنيوية علم الفقه»، ومن الجدير هنا مراجعة كتاب «المحجة البيضاء» للفيض الكاشاني، وكذلك كتاب «إحياء علوم الدين» للغزالي، فقد حوى الكتابان أبواباً بعناوين متنوعة مثل: المقربات، والمبعدات، والطاعات، والمعاصي، وهي أُمور مستلة جميعاً من الفقه الإسلامي، ولا يمكن اعتبارها ناظرة إلى ظواهر الأعمال.

إنّ لكلّ علم موضوعه الخاص الّذي يصدر أحكامه بشأنه، ولا ينبغي أن يتوقع من ذلك العلم ما هو خارج عن واجبه الخاصّ به، وما نعتقد به هو أنّ الدين الإسلامي كامل، والفقه يمثل جزءاً من الإسلام، لا الإسلام كلّه. وإنّ للفقه دوراً أساسياً في تهذيب الظواهر، أمّا تهذيب النفس فلابد لأجله من مراجعة

ص:62

علمي الأخلاق والعرفان الإسلامي، اللّذين يتعاونا مع الفقه على إيصال الإنسان إلى كماله؛ لكنّنا نجد أنّ النقد الموجّه في هذا السؤال قائم على تصوّر أنّ الفقه متكفّل بتسكين جميع الآلام، في حين ينبغي أخذ مجموع الدعوة الإسلامية بنظر الاعتبار، عندها يكون التقييم ممكناً.

لقد عبّر علماء الإسلام عن الدين الإسلامي بأنّه دين يرتقي بالإنسان إلى حقيقته، لما يتمتّع به من إحاطة بجميع أبعاد حياة الإنسان المادّية والمعنوية.

وهذا الدين مؤلّف من أجزاء منها الفقه ومنها الأخلاق والعرفان الإسلامي، وهي أجزاء منسجمة مع بعضها ولا تعارض فيما بينها إطلاقاً.

المجتمع الفقهي ليس متقدّماً!

ويطرح الباحثون هذه الفكرة: إنّ الفقه علم يلائم مجتمعاً ذا مستوى متخلّف في الأخلاق والفن والعلم، إلى جانب مستوى معيشي واطئ.

والمجتمع الفقهي لا يكون بالضرورة مجتمعاً متقدّماً وحداثوياً.

وهذه الفكرة غامضة، إذ لا يتّضح مرادها من «الأخلاق المتخلّفة» و «الفن المتخلّف» و «العلم المتخلّف» و «المستوى المعيشي الواطئ». وهناك احتمالان لذلك: فإمّا أنّ الفكرة تقصد أنّ الفقه بما يتمتع به من مرونة قادرة على إدارة المجتمعات البشرية على اختلاف مستوياتها، أي أنّه قادر على إدارة حتّى أدنى المجتمعات من الناحية الفكرية والمعيشية، فهذا بلا شك يعبّر عن كمال الفقه؛ لأنّ بإمكانه أن يتلاءم في ضوء مرونته مع كلا المستويين. أو أن مقصودها هو أنّ أحكام الفقه لا تلائم سوى المجتمعات ذات المستويات الواطئة من حيث

ص:63

الأخلاق والفن والعلم والمستوى المعيشي، فهذا تفسير خاطئ للفقه الإسلامي.

فقد كان الفقه الإسلامي قادراً على إدارة مجتمع المسلمين في العصر الّذي كانوا فيه روّاد العالم في الأخلاق والفن والعلم والمعيشة، وكان مجتمعهم الأرقى في جميع ذلك، بل إنّ المستوى الّذي بلغته الإمبراطورية الإسلامية العظمى في العصر العباسي وما بعده، لدليل على قدرة الإسلام. حيث استطاع في ضوء قوانينه أن يربّي في أحضانه حضارة كهذه.

يبدو أنّ صاحب هذه الفكرة يقصد شيئاً آخر، وهو أنّ الفقه الإسلامي غير قادر على إدارة المجتمعات الغربية بالخصوصيات الّتي تمتاز بها. لكن عدم القدرة هذه ناشئة من كون المجتمعات الغربية لا تعير اهتماماً للقيم السامية، بل هي لا ترى حدوداً لإشباع شهواتها الحيوانية. إنّ الفقه الإسلامي لا ينسجم مع مجتمع «مادي» بكلّ تأكيد. فالإسلام يعادي كلّ سياسة تقوم على تجاهل حقوق المستضعفين، وكلّ عرف يقرّ الخمر والقمار والابتذال، ولا يلائمهما مطلقاً، وما أرسل الرسل إلّالتغيير البيئة الفاسدة، وليس لإدارة المجتمعات كيفما كانت، ودون المساس بوضعها. وتوسيع نطاق السلطة على حساب المبادئ، ليس هو هدف القادة الربّانيّين والفكر الإسلامي.

الفقه علمٌ استهلاكي!

هناك من يقول أيضاً: إنّ الفقه علم استهلاكي، فهو مستهلك للعلوم الطبيعية والإنسانية واللغوية والاجتماعية القديمة. وهذا الاستهلاك لا يقتصر على علوم الدرجة الثانية، بل يطال علوم الدرجة الأُولى أيضاً.

ص:64

وفي معرض الرد نعتقد أنّنا لو ألقينا نظرة عامّة على العلوم المتداولة، لوجدنا أنّ أغلب العلوم يقتبس بعضها من بعض، لكنّها في ذات الوقت منتجة، فالفيزياء مثلاً تستعين بالرياضيات وهي بالنسبة له مستهلكة، لكنّها منتجة بالنسبة إلى الميكانيك، فقانون نيوتن للجاذبية ناتج فيزيائي. وكذلك قانون الثرموداينامك (التبادل الحراري). وهذا الكلام ينطبق على الفقه تماماً، فالفقه يستعين بعلوم الأدب كالصرف والنحو والبلاغة لأنّ مصادره باللغة العربية، لكنّه في نفس الوقت مصدر لإنتاج آلاف الأحكام والقوانين المستلة من الكتاب والسنّة، والفقه يستعين في باب الوقت والقبلة بعلمي الفلك والرياضيات، وبالأخير في باب الإرث، لكنّه يضع عدداً كبيراً من الأحكام في ضوئها، فأن يكون علم منتحاً ومقتبساً في آن واحد، فذلك مبلغ الكمال. فالطب في الوقت الّذي يستعين فيه بالبايولوجيا (علم الأحياء)، والفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) والتشريح، يعمل على بناء مجتمع سالم ويكون أساساً لبرنامج وآثار مهمة في المجتمع. وهكذا الفقه مع فارق أنّ الطب يعتمد على مصادر طبيعية وتجريبية، بينما يستلهم الفقه أحكامه من مصادر الوحي.

ص:65

الفقه علمٌ مختصر!

إنّ الفقه علم مختصر، أي أنّه يقتصر على الحدّ الأدنى من الأحكام لحلّ المنازعات. ولا يقدّم الحدّ الأكثر من التفاصيل لإدارة وتدبير الحياة.

وللجواب على هذا الرأي نرى ضرورة معرفة أنّ قوانين الإسلام لا تنحصر بحل المنازعات، بل أنّ جزءاً من قوانينه الاجتماعية يختص بإرشاد الأفراد إلى واجباتهم. فما أكثر أُولئك الذين ليسوا متنازعين فيما بينهم، لكنّهم بحاجة إلى مَن يرشدهم إلى واجباتهم.

وقد قع خلط في هذا الرأي بين القوانين العامة والتخطيط: لأنّ المطلوب من دين خاتم يتواءم مع كلّ صيغ الحياة، هو أن يوضح العموميات ويترك التخطيط على عاتق المفكّرين. وإلّا فلو أعدّ التخطيط إلى جانب توضيح العموميات لما صار ديناً خاتماً. ذلك أنّ لكلّ زمان ومكان وضعهما الخاص الّذي يستلزم تخطيطاً خاصاً، لذا فملاحظة كل هذا التنوع يخلق مشاكل فضلاً عن استلزامه تعطيل العقول. فكيف يمكن التخطيط لكلّ العصور؟ إذ قد لا ينسجم تخطيط كهذا مع كلّ صيغ الحياة. على سبيل المثال، أنّ الإسلام دعا إلى النظافة، ومنع من تناول اللحوم الضارة، وأعطى للطهارة أهمية في برامجه. لكن هذا لا يعني أنّ البشر لم يعودوا بحاجة إلى جهد لتنفيذ هذه المبادئ؛ لأنّ تحقيق صحّة المجتمع ينبغي أن يأخذ منحى علمياً بالاستفادة من النتائج العلمية الخاصة بكلّ زمان. وهذا الكلام ينطبق أيضاً على مجال القضاء والمحاكمات والعلاقات الدولية وغير ذلك.

ص:66

علم الفقه متأثّر بالبنية الاجتماعية!

إنّ الفقه علم سياسي اجتماعي: لذا فهو تابع لمتطلّبات المجتمع والسياسة ومتناسب معها، وليس العكس، وبمرافقتها يتحرّك. وبعبارة أُخرى: أنّ العالم والتاريخ ليسا صنيعة الفقه والفقهاء، بل العالم والتاريخ في تحول دائم، والفقه يتابعهما كي يجعل حياة الإنسان في هذا العالم المتغيّر وفي إطار العلاقات الجديدة أكثر ملائمة وأقل تشنّجاً.

ونشير حيال هذه الفكرة إلى بعض النقاط:

1. أنّ علم الفقه مختص بتنظيم علاقات الإنسان باللّه وعلاقة الإنسان بالإنسان. أمّا المرحلة الأُولى فلا دخل للمجتمع فيها؛ لأنّه ليس طرفاً فيها، فموضوع هذه العلاقة هو الإنسان مع اللّه. وعليه فتقييد الفقه بالتأثّر بالبنية الاجتماعية يمثل إهمالاً لرسالة الفقه الواسعة.

2. أنّ الفقه في مجال تنظيمه لعلاقة الإنسان بالإنسان لا يتأثّر بالبنية الاجتماعية في كلّ تفاصيله، ذلك أنّ الأحكام الفقهية على نوعين: قوانين ثابتة وقرارات متغيّرة. وحركة الفقه ومرونته تابعة لقراراته لا لقوانينه، ولا يخفى على أهل الاختصاص ما بين الاثنين من تفاوت. فالمعايير العامّة في الإسلام قوانين ثابتة. مستمدّة من فطرة الإنسان. وليست تابعة للبنية الاجتماعية بأي وجه كان.

لذا فهي جارية عليه ما دام الإنسان إنساناً، ولا فرق هنا بين الإنسان الغربي والشرقي؛ لأنّ الفطرة واحدة في الجميع، فتحريم الظلم والكذب والخيانة والغش قانون ثابت، وكذلك المطالبة بالعدل وصيانة الحقوق. وأفضلية الإسلام على الكفر. أمّا ما يتغير منها، فهو شكلها وصياغتها الّتي بالإمكان تغيرها تبعاً

ص:67

للزمان.

3. أنّ للفقه بالإضافة إلى تنظيمه لهاتين العلاقتين، واجب آخر، وهو أنّ عليه بما يمتلك من رصانة أن يقدّم الأحكام لما يطرأ في المجتمع من تغيرات بعيداً عن التأثر بالبنية الاجتماعية. وهذه الخصوصيات الثلاث دالة على كمال الفقه لا ضعفه:

الأُولى: لا يتأثر بالمجتمع في تنظيمه لعلاقة الإنسان باللّه.

الثانية: يعتمد على فطرة الإنسان الثابتة في سنّه للقوانين الثابتة.

الثالثة: رصين في تعامله مع تغيّرات الحياة إلى الحد الذي يصدر أحكامه بشأنها غير ملتفت للبنية الاجتماعية لاستناده إلى الكتاب والسنّة.

4. لا يستعين الفقه بالبنية الاجتماعية إلّافي نطاق القرارات ذات الطابع الشرعي.

لا شأن للفقه بالحقوق!

إنّ علم الفقه الحالي يدور حول الواجبات ولا شأن له بالحقوق، هذه هي خلاصة الفكرة.

والجواب عليها نقول: هناك تمييز بين الواجبات والحقوق، فكما لدينا باب بعنوان «الأحكام» لدينا أيضاً باب بعنوان «الحقوق»، بل لدى الفقهاء باباً بعنوان «الفرق بين الأحكام والحقوق»، وقد كتب البعض في ذلك رسائل مستقلة، ومع هذا الوصف كيف حدّد الفقه بالأحكام، وأخرج الحقوق من دائرته ؟ إنّ الحق والواجب مفهومان متغايران، ولكلّ منهما أحكامه الخاصّة، وقد

ص:68

يتّحدان في الحكم أحياناً.

فوجوب الصلاة والصوم والحج والجهاد من الأحكام، في حين أنّ نفقة الزوجة حقّ في ذمّة الزوج، وليتّضح أنّ الفقه الإسلامي إلى أي حدّ هو مليء بالحقوق الاجتماعية والفردية. نذكر عدداً ممّا ورد في كتب الفقه كنماذج لذلك:

حقّ الفقراء، حقّ الإمام والمأموم، حقّ الزوجة، حقّ المسلم على المسلم، حقّ الطفل، حقّ المجني عليه، حقّ المرتهن، حقّ الجوار، حق المالك، حقّ المساكين، حقّ الزوج، حقّ الوارث، حقّ المدعي، حقّ المستأجر، حقّ الغانم، حقّ البائع، حقّ المشتري، حقّ المتعاقدين، حقّ الشريك، حقّ الواهب، حقّ الغرماء، حقّ المتخاصمين، حقّ المحتال، حقّ السلطان، حقّ الزراع، حقّ العامل، حقّ المستعير، حقّ المؤجر، حقّ الموقوف عليه،... الخ.

الفقه والمصالح

يرى علم الفقه الحالي أنّ الأحكام الاجتماعية تستند إلى مصالح خفيّة، وهذا بحدِّ ذاته أصبح سبباً في تلكّؤ حركته.

والحقيقة أنّ كون استناد أحكام الإسلام إلى المصالح الخفية، يؤدّي إلى العجز عن إحداث تغيير في الفقه، ليس صحيحاً بالطبع، فأحكام الإسلام يمكن تقسيمها بحسب المصالح إلى عدّة أقسام:

1. قسم منها قائم على أساس الحسن والقبح العقليين، وبإمكان الإنسان اكتشاف مصالحه بمجرد مراجعته لوجدانه، يقول تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ

ص:69

تَذَكَّرُونَ ) (1).

2. قسم آخر خاص بالعبادات التي تعود أحكامها إلى مجموعة من مصالح خفية بلا شك، ولكن عدم معرفتنا بها لا علاقة له بتلكّؤ إدارة المجتمع.

3. قسم ثالث من أحكام الإسلام ينطوي على مصالح واضحة، ووضوحها مشروط بالبحث عنها بمنظار واقعي، مثال ذلك الاختلاف بين حقوق المرأة والرجل. فليس هذا الاختلاف تمييزاً، بل الاختلاف في المسؤولية ناشئ من اختلاف الخلقة، فعندما يحدد إرث الرجل بضعف إرث المرأة، فذلك في مقابل تكاليف الحياة الملقاة على عاتق الرجل. أمّا الأحكام الخاصة بالعناوين الثانوية، فتحديدها بناء على الضرر والحرج، والمهم والأهم، ليس بالأمر الصعب، لذا فتشخيص ملاكات الأحكام يمنح الفقه سيولة ومرونة. وهناك قسم آخر يعرف بالأحكام الولائية، وهي الأحكام الّتي يصدرها الحاكم بعد التشاور مع أهل الخبرة لتمييز ما فيه صالح المسلمين عن سواه، نظير حكم الميرزا الشيرازي بشأن احتكار تجارة التبغ، هذا مضافاً إلى أنّ بعض الأحكام قد ذكرت مصالحها وملاكاتها بوضوح في الكتاب والسنّة، لذا فالمصالح الخفية في العبادات غالباً لا تمنع الفقهاء من تطوير الفقه فيما يرتبط بالمجتمع.

ص:70


1- . النحل: 90.

4 صفة حجّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حديث الإمام الباقر عليه السلام حضور الصادقين عليهما السلام في الحج قلّل الاختلاف في المناسك

اشارة

الحمد للّه الذي جعل الكعبة للناس قياماً، والبيت الحرام مثابة لهم وأمناً، وجعل زيارة بيته فريضة على المسلمين رجالاً ونساءً ، شيباً وشبّاناً، وعلى كلّ لون وجنس ممّن آمن باللّه ورسوله وكتابه وسنّته، حتى يؤدّوا تلك الفريضة العبادية السياسية على صعيد واحد، وفي أجواء روحية تسمو فيها مشاعر الوحدة والتقارب بين المسلمين، دون أن يكون بينهم تنازع وتناوش.

والحجّ ، مع كونه من أفضل العبادات الفردية، فإنّ له أبعاداً سياسية واجتماعية عميقة، فهو بمثابة مؤتمر سنويّ موسّع، يجتمع فيه المسلمون من مختلف البلدان، فيوفّر لهم فرصة ثمينة للبحث والتشاور وتبادل الرأي، في قضايا الإسلام، وشؤون الأُمّة، في حاضرها ومستقبلها، ودراسة سُبل توحيد قواهم ورصّ صفوفهم وحلّ مشاكلهم، حتى يعودوا جبالاً راسية أمام المعتدين والمستكبرين، الذين يتربّصون بهم الشرّ، ويطمعون في نهب أموالهم وثرواتهم وسحق كرامتهم، وقتل رجالهم ونسائهم بلا هوادة.

إنّ فريضة هذه طبيعتها وطابَعها تقتضي أن يكون الخلاف في أداء طقوسها وواجباتها نادراً حتى لا يشتغل المسلمون بالخلافات الفقهية في أداء المناسك ولا تصدّهم عن الأهداف السياسية والاجتماعية المُبتغاة من ذلك

ص:71

المؤتمر السنوي.

ومن حسن الحظّ أنّا نجد أنّ الخلاف بين الفقهاء السنّة والشيعة في مناسك الحج، قليلاً إلى درجة لا يؤثّر معها في وحدة الكلمة ورصّ الصفوف، ولذلك أسباب وعلل أهمّها أمران:

1. أنّ رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم مكث سنين في المدينة ولم يحج، ثم أذّن في الناس للحج في السنة العاشرة، فلبّى كثير من المسلمين نداءه، ورافقوه في مراحل الحج ابتداءً من الإحرام في ذي الحليفة حتّى الخروج عن إحرام الحجّ .

فهذا الجمع الحاشد قد مارس هذه العبادة مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، الأمر الذي أدّى إلى تعلّم الصحابة وغيرهم فرائض الحج وسننه منه مباشرة.

فكم هو الفرق بين معلم يخطب ويتكلّم ويأمر الناس بأعمال وتروك، وبين من يمارس العمل بنفسه والناس يتبعونه في أفعاله وتروكه، لا شكّ في أنّ ما يقوم به الثاني يكون أرسخ في القلوب، وأوفر حظّاً في انتقاله إلى الأجيال اللاحقة.

2. العامل الآخر لتقليل الخلاف حضور الإمامين العظيمين محمد الباقر وجعفر الصادق عليهما السلام في مواسم الحجّ عاماً بعد عام، ورجوع الناس إليهم في بعض الفترات التي خفّ فيها نوعاً ما - الضغطُ على أئمة أهل البيت عليهم السلام لا سيّما في الفترة الممتدّة بين أواخر العصر الأُموي وأوائل العصر العباسي.

وقد انصبّ اهتمام الإمامين على تعليم فريضة الحجّ ونشرها بين الناس طوال سنين، فهذا هو زرارة بن أعين يقول: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: جعلني اللّه

ص:72

فداك أسألك في الحجّ منذ أربعين عاماً فتفتيني ؟! فقال: «يا زرارة! بيت يحج إليه قبل آدم بألفي عام تريد أن تفنى مسائله في أربعين عاماً»؟!(1)

والحديث يعرب أنّه كان للإمام الصادق عليه السلام دور عظيم في تبيين وتعليم مناسك الحجّ ، حيث كان يفتي فيها أربعين سنة، وقد أخذ بزمام الإمامة عام 114 ه وتوفّي سنة 148 ه، وعلى هذا فإنّه كان يفتي أيضاً في حياة أبيه.

الإمام الباقر عليه السلام يصف حج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

واجهت الدولة الأموية انتفاضات شعبية واسعة في أكثر البلاد الإسلامية شغلتها - إلى درجة ما - عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فقام الإمام الباقر عليه السلام ببيان أحكام الحجّ فرائضه وسننه بوجه دقيق، وقد روى مسلم في صحيحه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد اللّه، فسأل عن القوم حتّى انتهى إليّ ، فقلت: أنا محمّد بن علي بن الحسين، فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زرّي الأعلى ثمّ نزع زرّي الأسفل، ثمّ وضع كفّه بين ثديَيّ وأنا يومئذٍ غلام شابٌّ فقال:

مرحباً بك يا ابن أخي سل عمّا شئت، فسألته وهو أعمى، وحضر وقت الصلاة، فقام في نساجة ملتحفاً بها كلّما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها ورداؤه إلى جنبه على المشجب، فصلّى بنا، فقلت: أخبرني عن حجّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال بيده فعقد تسعاً فقال:

إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكث تسع سنين لم يحجّ ثمّ أذّن في الناس في العاشرة: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حاجٌّ ، فقدم المدينة بشر كثير كلُّهم يلتمس أن يأتمّ

ص:73


1- . الوسائل: 8، الباب 1 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 12.

برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عُميس محمّد بن أبي بكر، فأرسلَتْ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كيف أصنع ؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، فصلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد، ثمّ ركب القصواء حتّى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرتُ إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به، فأهلّ بالتوحيد، لبّيك اللّهمّ لَبّيك لبّيك لا شريك لك لَبّيك إنّ الحمد والنِّعمة لك والمُلك لا شَريك لك، وأهلَّ النّاس بهذا الّذي يُهلّون به، فلم يردّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليهم شيئاً منه، ولزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تلبيته، قال جابر رضى الله عنه: لسنا ننوي إلّاالحجّ لسنا نعرف العمرة.

حتّى إذا أتينا البيت معه استلم الرّكن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثمّ نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (1)، فجعل المقام بينه وبين البيت فكان أبي يقول: «ولا أعلمه ذكره إلّاعن النبي صلى الله عليه و آله و سلم» كان يقرأ في الرّكعتين قل هو اللّه أحد، وقل يا أيّها الكافرون، ثمّ رجع إلى الرُّكن فاستلمه، ثمّ خرج من الباب إلى الصّفا، فلمّا دنا من الصّفا قرأ: (إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ ) (2) أبدأُ بما بدأ اللّه به، فبدأ بالصّفا فَرَقِيَ عليه حتّى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحّد اللّه وكبّره وقال: «لا إله إلّااللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير، لا إله إلّااللّه وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم

ص:74


1- . البقرة: 125.
2- . البقرة: 158.

الأحزاب وحده» ثمّ دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرّات، ثمّ نزل إلى المروة حتّى إذا انصبّت قدماه في بطن الوادي سعى حتّى إذا صعدتا مشى حتّى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتّى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: «لو أنّي استقبلت من أمري ما استدبرتُ لم أسُق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلّ وليجعلها عمرة».

فقام سراقة بن مالك بن جُعشم فقال: يا رسول اللّه ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبَّك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصابعه واحدة في الأُخرى وقال: دخلت العمرة في الحجّ مرّتين لا بل لأبدٍ أبدٍ، وقدم عليٌّ من اليمن ببُدن النّبي صلى الله عليه و آله و سلم... (فقال له:

رسول اللّه) ماذا قلتَ حين فرضت الحج ؟ قال: قلت: «اللّهمّ إنّي أُهلُّ بما أهَلَّ به رَسُولُك» قال: «فإنّ معي الهدي فلا تحلُّ » قال: فكان جماعة الهدي الّذي قدم به عليٌّ من اليمن والّذي أتى به النّبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مائة قال: فحلّ الناس كلّهم وقصّروا، إلّا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ومن كان معه هَدْي.

فلمّا كان يوم التروية توجَّهوا إلى منى فأهلّوا بالحجّ وركبَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فصلّى بها الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثمّ مكث قليلاً حتّى طلعت الشمس وأمر بقُبّة من شعر تُضرب له بنمرة، فسار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولا تشكّ قريش إلّاأنّه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى أتى عرفةً فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتّى إذا زاغت الشَّمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس.

وقال: «إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم

ص:75

هذا، في بلدكم هذا، ألا كلُّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع ودِماء الجاهليّة موضوعة، وإنّ أوّل دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث - كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل - وربا الجاهليّة موضوع، وأوّل رِباً أضع ربانا ربا عبّاس بن عبد المطّلب فإنّه موضوع كلّه، فاتّقوا اللّه في النِّساء فإنّكم أخذتموهنّ بأمان اللّه واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه ولكم عليهنّ أن لا يوطِئْن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضرباً غير مبرّح، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، وقد تركتُ فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب اللّه(1)، وأنتم تسألون عنّي فما أنتم قائلون ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت، فقال بإصبعه السّبّابة يرفعها إلى السّماء وينكتها إلى الناس: اللّهمّ اشهد، اللّهمّ اشهد، ثلاث مرّات.

ثمّ أذّن، ثمّ أقام فصلّى الظُّهر، ثمّ أقام فصلّى العصر، ولم يُصلّ بينهما شيئاً، ثمّ ركب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصَّخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتّى

ص:76


1- . المعروف أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم دعا إلى التمسك بالثقلين: الكتاب، والعترة، ورويت عنه صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك روايات عديدة، منها ما رواه الترمذي بإسناده عن محمد الباقر، عن جابر بن عبد اللّه، قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: «يا أيها الناس، إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي». قال الترمذي: وفي الباب عن أبي ذرّ وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أُسَيد. سنن الترمذي: 1078، برقم 3811، تحقيق جميل صدقي العطار، وانظر: مسند أحمد: 17/3، ومصابيح السنّة: 175/4، برقم 4773. وروى الحاكم (وصحّحه على شرط الشيخين) باسناده عن زيد بن أرقم قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وأهل بيتي، وإنّهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض». المستدرك على الصحيحين: 148/3.

غربت الشَّمس وذهبت الصُّفرة قليلاً حتّى غاب القُرص وأردف أُسامة خلفَه، ودفع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد شنق للقصواء الزِّمام حتّى إنّ رأسها ليُصيب مورك رَحله ويقول بيده اليمنى: «أيّها النّاس السَّكينة السَّكينة» كلّما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتّى تصعد، حتّى أتى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئاً، ثم اضطجعَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى طلع الفجر وصلّى الفجر حين تبيّن له الصّبح بأذان وإقامة، ثمّ ركب القصواء حتّى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبّره وهلّله ووحّده، فلم يزل واقفاً حتّى أسفر جِدّاً فدفع قبل أن تطلع الشَّمس.

وأردف الفضل بن عبّاس وكان رجلاً حسن الشَّعر أبيض وسيماً، فلمّا دفع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مرّت به ظُعُنٌ يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهنّ ، فوضع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يده على وجه الفضل، فحوّل الفضل وجهه إلى الشِّق الآخر ينظر (فحوّل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يده من الشِّقّ الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشِّقّ الآخر ينظر)(1)، حتّى أتى بطن محسِّر فحرّك قليلاً، ثمّ سلك الطّريق الوسطى الّتي تخرج على الجمرة الكبرى حتّى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبِّر مع كلّ حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي، ثمّ انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستّين بيده ثمّ أعطى عليّاً فنحر ما غبر وأشركه في هديه، ثمّ أمر من كلِّ بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، ثمّ ركب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأفاض إلى البيت فصلّى بمكّة

ص:77


1- . كذا في صحيح مسلم، ولكن في سنن أبي داود العبارة أكثر وضوحاً، وهي كما يلي: وحوّل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يده إلى الشق الآخر، وصرف الفضل وجهه إلى الشقّ الآخر ينظر.

الظُّهر فأتى بني عبد المطَّلب يسقون على زمزم فقال: «أنزعوا بني عبد المطّلب فلولا أن يغلبكم النّاس على سقايتكم لنزعتُ معكم» فناولوه دلواً فشرب منه.(1)

***

إنّ نقل الإمام الباقر عليه السلام هذه المناسك عن جابر بن عبد اللّه، إنّما هو لأجل إقناع عامّة المسلمين بما يرويه، وإلّا فهو صلوات اللّه وسلامه عليه أعرف بها من هذا الصحابيّ الجليل، لكن الظروف ألجأته إلى روايتها عنه، لتقع موقع القبول عند عامّة المسلمين.

ص:78


1- . صحيح مسلم: 4/39-43، باب حجة النبي؛ سنن أبي داود: 2/182، الحديث 1905؛ شرح مسلم للنووي: 7-8/172، باب حجة النبي، برقم 2941.

السيّد البروجردي يهدي هذا الحديث إلى الملك سعود

وممّا يحسن ذكره أنّ الملك سعود بن عبد العزيز زار إيران عام 1374 ه، وأهدى إلى السيد المحقق البروجردي مصاحف مطبوعة بمكة وقطعاً من كسوة الكعبة وهدايا أُخرى، فكتب السيد البروجردي إلى سفير المملكة في طهران رسالة جاء فيها:

«... ولمّا كان أمر الحج في هذه السنين بيد جلالة الملك، أرسلت حديثاً طويلاً في صفة حج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رواه مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه ويستفاد منه أكثر أحكام الحجّ إن لم يكن كلها... وأسأل اللّه عزّ شأنه أن يؤلف بين قلوب المسلمين ويجعلهم يداً واحدة على من سواهم ويوجههم إلى أن يعملوا بقول اللّه تعالى: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) (1) ويجتنبوا التدابر والتباغض واتباع الشهوات الموجبة لافتراق الكلمة ويلتزموا بقول اللّه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (2).

والسلام عليكم ورحمة اللّه

حسين الطباطبائي

فإذا كان هذا دور الإمام الباقر عليه السلام في نشر حج رسول اللّه وقطع دابر الاختلاف، فقد واصل الإمام الصادق عليه السلام نفس الدور بعد وفاة أبيه فكان يحضر في المواسم عاماً بعد عام والناس يصدرون عن فتاواه، وإليك بعض ما روي عنه:

ص:79


1- . آل عمران: 103.
2- . النساء: 94.

1. روى الشيخ الطوسي في «التهذيب» عن عبد الصمد بن البشير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: جاء رجل يلبّي حتى دخل المسجد وهو يلبّي وعليه قميص، فوثب إليه أُناس من أصحاب أبي حنيفة فقالوا: شقّ قميصك وأخرجه من رجليك فإنّ عليك بدنة وعليك الحج من قابل وحجّك فاسد، فطلع أبو عبد اللّه عليه السلام فقام على باب المسجد فكبّر واستقبل الكعبة، فدنا الرجل من أبي عبد اللّه عليه السلام وهو ينتف شعره ويضرب وجهه، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: «اسكن يا عبد اللّه»، فلمّا كلمه وكان الرجل أعجميّاً، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: «ما تقول ؟» قال: كنت رجلاً أعمل بيدي فاجتمعت لي نفقة فجئت أحجّ لم أسأل أحداً عن شيء، فأفتوني هؤلاء أن أشقّ قميصي وأنزعه من قبل رجلي وإنّ حجّي فاسد وإن عليّ بدنة. فقال له: «متى لبست قميصك أبعد ما لبّيت أم قبل ؟» قال: قبل أن ألبّي.

فقال: «أخرجه من رأسك، فإنّه ليس عليك بدنة وليس عليك الحجّ من قابل، أي رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه، طف بالبيت سبعاً وصلّ ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام واسعَ بين الصفا والمروة وقصّرْ من شعرك، فإذا كان يوم التروية فاغتسلْ وأهل بالحجّ واصنع كما يصنع الناس».(1)

ونحن وإن كنّا نسمع من المسؤولين في الحجّ شعار تيسير الحج وتسهيله ولكن التسهيل يجب أن يكون مبنيّاً على أُسس صحيحة متّخذة من القرآن والسنّة، وترى أنّ الإمام الصادق عليه السلام سهّل الأمر وأفتى بصحّة حجّه، لكنّه استدلّ بأصل فقهي متّفق عليه من أنّ أي رجل ركب أمراً بجهالة فليس عليه شيء، خصوصاً إذا كان جهله عن قصور لا عن تقصير، كما هو

ص:80


1- . تهذيب الأحكام: 72/5-73، باب إذا لبس الإنسان قميصاً...

واضح.

2. روى الشيخ الطوسي في «التهذيب» عن معاوية بن عمّار: إنّ امرأة هلكت فأوصت بثلثها يتصدّق به عنها ويحجّ عنها ويعتق عنها، فلم يسع المال ذلك. فسألت أبا حنيفة وسفيان الثوري، فقال كلّ واحد منهما: انظر إلى رجل قد حجّ فقُطع به فيقوّى، ورجل قد سعى في فكاك رقبته فيبقى عليه شيء فيعتق، ويتصدّق بالبقية؛ فأعجبني هذا القول وقلت للقوم - يعني أهل المرأة - إنّي قد سألت لكم فتريدون أن أسأل لكم من هو أوثق من هؤلاء؟ قالوا: نعم. فسألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن ذلك ؟ فقال: «ابدأ بالحج فإنّ الحجّ فريضة، فما بقي فضعه في النوافل». قال: فأتيت أباحنيفة فقلت: إنّي قد سألت فلاناً فقال لي كذا وكذا. قال:

فقال: هذا واللّه الحق، وأخذ به وألقى هذه المسألة على أصحابه، وقعدت لحاجة لي بعد انصرافه فسمعتهم يتطارحونها، فقال بعضهم بقول أبي حنيفة الأوّل فخطّأه من سمع هذا وقال: سمعت هذا من أبي حنيفة منذ عشرين سنة.(1)

إنّ ما أفتى به الإمام الصادق عليه السلام لم يكن اجتهاداً في حكم اللّه من الكتاب والسنّة وإنّما هو علم تعلّمه من آبائه. وقد قال عليه السلام مراراً: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وحديث علي أمير المؤمنين حديث رسول اللّه، وحديث رسول اللّه، قول اللّه عزّوجلّ ».(2)

ص:81


1- . تهذيب الأحكام: 407/5، الحديث 63.
2- . الكافي: 1/53، الحديث 14، باب رواية الكتب والحديث، كتاب فضل العلم.

وقد عرفت الأُمّة الإسلامية علماؤها ومحدّثوها أنّ الإمام الصادق عليه السلام هو الباب المأتي منه، وفيما يلي نذكر بعض كلماتهم:

1. هذا هو أبو حنيفة يفتخر ويقول بأفصح لسان: «لولا السنتان لهلك النعمان» يعني السنتين اللتين جلس فيهما لأخذ العلم عن الإمام الصادق عليه السلام(1).

2. قال الحسن بن زياد اللؤلؤي سمعت أبا حنيفة - وقد سئل من أفقه من رأيت ؟ - قال: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد الصادق عليه السلام لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيّئ له من المسائل الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة. ثم بعث إليّ أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلمّا بصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلّمت عليه.

وأومأ إليّ فجلست، ثم التفت إليه فقال: يا أبا عبد اللّه هذا هو أبو حنيفة. فقال:

نعم.

ثم أتبعها: قد أتانا، كأنّه كره ما يقول فيه قوم: أنّه إذا رأى الرجل عرفه. ثم التفت إليّ فقال: يا أبا حنيفة: ألقِ على أبي عبد اللّه من مسائلك، فجعلت أُلقي، فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا، فربّما تابعنا وربّما تابعهم وربّما خالفنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين مسألة، ما أخلّ منها بمسألة، ثم قال أبو حنيفة: ألسنا روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس...».(2)

ص:82


1- . التحفة الاثناعشرية، للآلوسي: 8.
2- . المناقب، للموفق المكي: 173/1؛ جامع مسانيد أبي حنيفة: 222/1؛ تذكرة الحفاظ للذهبي: 157/1؛

وهذا وبعد رحيل الإمام الصادق عليه السلام واستيلاء بني العباس على العباد والبلاد وتضييق الأمر على أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم وعلى رأسهم الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، ومع ذلك نرى أنّ الإمام يرشد المفتين إلى وصف حجّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

روى محمد بن فضيل قال: كنّا في دهليز يحيى بن خالد بمكّة وكان هناك أبو الحسن موسى عليه السلام وأبو يوسف، فقام إليه أبو يوسف وتربّع بين يديه، فقال:

يا أبا الحسن جعلت فداك المحرم يظلّل ؟ قال: «لا». قال: فيستظلّ بالجدار والمحمل ويدخل البيت والخباء؟ قال: «نعم». قال: فضحك أبو يوسف شبه المستهزئ فقال له أبوالحسن عليه السلام: «يا أبا يوسف إنّ الدين ليس بقياس كقياسك وقياس أصحابك، إنّ اللّه عزّ وجلّ أمر في كتابه بالطلاق، وأكد فيه شاهدين ولم يرض بهما إلّاعدلين، وأمر في كتابه بالتزويج وأهمله بلا شهود، فأتيتم بشاهدين فيما أبطل اللّه، وأبطلتم شاهدين فيما أكّد اللّه عزّ وجل، وأجزتم طلاق المجنون والسكران، حجّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأحرم ولم يظلّل ودخل البيت والخباء، واستظلّ بالمحمل والجدار فقلنا (فعلنا) كما فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم» فسكت.(1)

ص:83


1- . الوسائل: 9، الباب 66 من أبواب تروك الإحرام، الحديث 2.

5 تغيير الجنس في الشريعة الإسلامية

اشارة

من المسائل المستحدثة - التي هي من نتائج التقدّم الحضاري والتطوّر العلمي - مسألة تغيير الجنس، ولذا صارت موضوعاً للدراسة الفقهية.

وتحقيق المسألة رهن الكلام في محورين:

الأوّل: تبيين الموضوع وتحديده وبيان صوره.

الثاني: الحكم الفقهي على ضوء الأدلّة.

وبما أنّ التغيير ينقسم إلى أقسام أربعة، ندرس كلّ قسم - موضوعاً وحكماً - في مقام واحد، فنقول:

***

القسم الأوّل: تغيير الجنس

يراد بتغيير الجنس تحول جنس كامل إلى جنس آخر كذلك، بأن يتبدّل جنس الرجل بتمامه إلى جنس المرأة بتمامها، ويخرجَ المورد من تحت العنوان الأوّل ويدخلَ تحت العنوان الثاني، فيكونَ الجهاز الحاكم على الفرد بعد التحوّل، نفس الجهاز الحاكم على العنوان الثاني، فهذا النوع من التغيير هو الذي نسمّيه تغيير الجنس، فلو تبدّل الرجل إلى الأُنثى بهذا النوع يجب أن يشتمل

ص:84

الفرد بعد التحوّل؛ على ثديين ورحم ومبيض، إلى غير ذلك من الأعضاء المختصّة بالمرأة.

إنّ التغيير بهذا المعنى لم يثبت إمكانه إلى الآن حتى أنّ بعض الأخصّائيين يدّعون استحالته، وما ربما ينشر في المجلات أو يبث في وسائل الأعلام فإنّما يرجع إلى القسم الثاني والثالث، وإلّا فتبديل الرجل بكامله إلى امرأة كاملة، بعيد جداً من الناحية الفسيولوجية والعضوية.

وبما أنّ هذا القسم غير واقع نقتصر بهذا المقدار موضوعاً وحكماً. ولا نطيل الكلام فيه.

***

القسم الثاني: التغيير في الجنس

ويراد بهذا القسم إيجاد التغيير على من له آلة الذكورية فقط أو الأُنثوية كذلك، وذلك عندما يريد الشخص اللحوق بالجنس الآخر ويتحقّق ذلك عن طريق إجراء العملية الجراحية على آلته حتى تصير آلته غير الآلة التي هو عليها.

ويحصل ذلك بقلع العضو التناسلي وتبديله بعضو تناسلي للجنس المخالف، بالترقيع حتى يلتئم الجزء ويصير جزءاً للمرقع، كما يستعان لإنجاح العملية بحقنه بالهرمونات الخاصّة بالجنس الجديد المبدّل إليه، لكي تظهر عليه بعض علائم هذا الجنس.

أقول: هذا النوع من التبديل ليس من مقولة تبديل الجنس، بل الجنس الأصلي بكامله محفوظ، وإنّما طرأت عليه بعض التغييرات في نفس الجنس من

ص:85

غير فرق بين بروزه في آلة التناسل أو بروزه في الأعضاء الأُخرى للبدن.

وإنّما يخضع لهذا النوع من التبديل بعض الرجال، فمع أنّه رجل - مثلاً - خلقة لكنّه يميل سلوكياً إلى السلوك الأُنثوي، فترى أنّه في زينته ولباسه ومشيه يقلّد ما عليه الأُنثى ولذلك يرغب في نفسه أن يلحق بالجنس الآخر، وكأنّه غير راض عن الجنس الحاكم عليه وإنّما يرتاح إذا تحول إلى الجنس الآخر، فهل تتحقّق تلك الأُمنية ؟!!

وبعبارة أُخرى: كل من له آلة واحدة لا آلتان، وإنّما يميل إلى جنس آخر - شذوذاً - فهل يلحق بما أُجري عليه من عملية جراحية أوحقنه بالأدوية، بالجنس الآخر واقعاً؟ الجواب: لا وإنّما يوصف به كذباً لا واقعاً، وبذلك يصبح الجنس الكامل جنساً ناقصاً.

والناس وإن كانوا يتعاملون معه معاملة الجنس الآخر، ولكنّهم لجهلهم بالواقع يحسبونه أُنثى ، وهو في الواقع رجل، وإنّما قلعت منه آلة التناسل الذكرية ورقع بآلة تناسلية أُنثوية، ومع ذلك فهو في عامّة الأعضاء رجل لا رحم له ولا مبيض.

ولذلك نصفه تغييراً في الجنس، لا تغيير الجنس. هذا كلّه يرجع إلى بيان الموضوع وأنّه باق على جنسه الأصلي.

وأمّا بيان حكمه الشرعي فهو حرام لأنّه تنقيص في الخلقة، وإن أردت التفصيل في ذكر الأدلّة فنقول:

هذا النوع من التبديل حرام للأدلّة التالية:

ص:86

1. إنّه تغيير لخلق اللّه، وقد دلّ الذكر الحكيم على أنّه عمل شيطاني، قال سبحانه: (وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) .(1)

وجه الاستدلال: أنّ قطع عضو التناسل في الذكر وتبديله بعضو تناسل أُنثوي تغيير لخلق اللّه سبحانه، وأي تغيير أوضح من تبديل الإنسان الكامل إلى الإنسان الناقص.

وبما أنّ الآية تعدّ تغيير الخلق عملاً شيطانياً، فالآية منصرفة عن تقليم الأظافر وتقصير الشعر فإنّها ليست أعمالاً شيطانية، بل هي من الأُمور التي تتطلّبها النظافة العامة، وقد ورد جوازها في الشرائع السابقة كشريعة إبراهيم عليه السلام.

ثم إن هاهنا سؤالين:

الأوّل: ربما يقال إنّ الآية فاقدة للإطلاق وذلك لأنّ «خلق اللّه» تشمل الجمادات والنباتات والحيوانات ومن المعلوم أنّ الحضارة البشرية قامت على التصرّف في هذا النوع من الخلق، ومعه كيف يمكن ادّعاء الإطلاق في الآية وإخراج هذه الموارد لأنّه يستلزم تخصيص الأكثر.

والجواب عن ذلك: أنّ قوله سبحانه قبل هذه الفقرة - أعني: (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ ) - دليل على أنّ المراد من الخلق هو ليس الجمادات والنباتات وإنّما يختصّ بالحيوانات، وعلى ذلك لايلزم منه تخصيص الأكثر.

الثاني: أنّ لسان الآية آب عن التخصيص حيث ورد (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ )

ص:87


1- . النساء: 119.

بصورة التنديد والاستنكار، فمثل هذا اللسان لايقبل تخصيص الأقل أبداً فضلاً عن الأكثر مع اتّفاق المسلمين على تقليم الأظفار وقصّ الشعر وإخصاء الحيوانات.

والجواب: أنّ الآية تمنع عن كلّ تغيير في خلق اللّه إذا كان بأمر الشيطان، كما يقول سبحانه حاكياً عن الشيطان: (وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ ) ، وعلى هذا فيختص التحريم بما إذا كان العمل مستنداً إلى الشيطان، لا ما إذا كان مستنداً إلى الرحمن، فذبح الحيوانات للأكل وبقاء الحياة، أو إخصاء ذكور الحيوانات، وغير ذلك كلّها بأمر من الرحمن عزّ وجل.

إنّ الشريعة الإسلامية حرّمت الذبح إذا كان باسم اللات والعزّى وجوّزته إذا كان باسم الرحمن، فعلى ذلك لا يمنع كون اللسان آبياً عن التخصيص عن جواز هذه الأعمال لما عرفت من أنّ الموضوع هو التغيير المنتسب إلى الشيطان.

ولأجل إيضاح المراد من الآية نأتي ببعض كلام المفسّرين:

قال الشيخ الطوسي في «التبيان»: قوله تعالى: (وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ ) قال ابن عباس والربيع بن أنس عن أنس أنه الإخصاء، وكرهوا الإخصاء في البهائم. ثم اختار الشيخ في نهاية الكلام معنى عامّاً يشمل الإخصاء أيضاً.(1)

وروى الشيخ بسنده عن عثمان بن مظعون قال: قلت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله:

أردت يا رسول اللّه أن أختصي، قال: «لاتفعل يا عثمان فإنّ اختصاء أُمّتي الصيام».(2)

ص:88


1- . التبيان: 334/3.
2- . الوسائل: 7، الباب 40 من أبواب الصوم المندوب، الحديث 2.

وروي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا إخصاء في الإسلام».(1)

وقال العلّامة الطباطبائي في تفسير الآية: إنّ الآية تنطبق على مثل الإخصاء وأنواع المثلة واللواط والسحق.(2)

2. أنّ نتيجة هذا العمل الإضرار بالنفس، ولا شكّ أنّه حرام، وأي إضرار أوضح من قلع الجهاز التناسلي الذكري وترقيع أعضاء من الجهاز الأُنثوي حتى تمضي أيام ليتحقّق فيه الالتئام والالتحام.

3. أنّ نتيجة هذا العمل صيرورة الإنسان في بعض الصور مخنثاً، ويراد به أن الرجل يتزيّن بزينة النساء، ويلبس ملابسهن ويعاشرهن ويتعامل الرجال معه معاملة النساء إلى غير ذلك من الآداب والأعراف التي تسبب وقوع الرجل في عداد النساء، وقد نُهي عنه، وقد روي عن أبي عبداللّه وأبي إبراهيم عليهما السلام أنّهما قالا: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: لعن اللّه المتشبهات من النساء بالرجال، ولعن اللّه المتشبهين من الرجال بالنساء».(3)

روى الصدوق عن جعفر بن محمد، عن آبائه عليهم السلام في وصية النبي صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام قال: «يا علي خلق اللّه عزّ وجل الجنّة لبنتين: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة - إلى أن قال: - فقال اللّه جلّ جلاله: وعزّتي وجلالي لا يدخلها مدمن خمر، ولا نمّام، ولا ديّوث، ولا شرطي، ولا مخنّث

ص:89


1- . سنن البيهقي: 24/10.
2- . تفسير الميزان: 85/5.
3- . الكافي: 552/5، باب السحق.

و...».(1)

وروى زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام أنّه رأى رجلاً به تأنيث في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال له: «اخرج من مسجد رسول اللّه، يا لعنة رسول اللّه»، ثم قال علي عليه السلام: «سمعت رسول اللّه يقول: لعن اللّه المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال».(2)

وعن أبي خديجة عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «لعن رسول اللّه المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، وهم المخنثون، واللاتي ينكحن بعضهن بعضاً».(3)

إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة حول التخنيث والتخنّث، وقد فسّر غير واحد من أهل اللغة (المخنث) بأنّه الرجل المشبه للمرأة في لينه ورقة كلامه وتكسير أعضائه.(4)

ولا شك أنّ إجراء العملية الجراحية على آلة الرجل بقطعها ووضع المهبل مكان آلته من أوضح مظاهر التخنيث والتخنّث، فيكون الرجل مستعداً لأن يوطأ من القبل أو الدبر. أفيمكن للشارع الحكيم أن يسوّغ هذا النوع من التبديل الذي سيجعل الرجل الواقعي الذي لم تتغير هويته بصورة المرأة ويعمل معه ما يعمل مع المرأة ؟!

ثم إنّه يظهر من بعضهم تجويز هذا النوع من التبديل تحت عناوين ثانوية،

ص:90


1- . الوسائل: 11، الباب 49 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الحديث 14.
2- . الوسائل: 12، الباب 87 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
3- . الوسائل: 14، الباب 24 من أبواب النكاح المحرم، الحديث 5.
4- . لاحظ: تاج العروس: مادة «خنث».

ويقول: نعم لو كان ذلك لغرض المعالجة، كما إذا كان شخص له ميول مخصوصة بالجنس المخالف بحيث صارت تلك الميول موجبة لحدوث اختلالات في نفسه أو روحه، أو كانت مصلحة ملزمة أُخرى للتغيير هي أهم، فلا إشكال.

أمّا الأوّل: فلأنّه معالجة وضرورة المعالجة تبيح المحظورات.

وأمّا الثاني: فلأهمية المصلحة الملزمة بالنسبة إلى حرمة الإضرار، وأنّ حرمة النظر وحرمة اللمس من الطبيب مرتفعتان بضرورة المعالجة وأهمية المصلحة الملزمة.(1)

أقول: إنّ محط الكلام ليس في القسم الأوّل الذي يتبدّل الجنس واقعاً إلى جنس آخر، وتزول الهوية الأُولى، وتحلّ محلها هوية أُخرى، فلا إشكال فيه إلّا أنّه أمر غير واقع إلّابالإعجاز.

إنّما الكلام في القسم الثاني الذي يوصف التبدّل هناك بالتبدّل الكاذب والصوري، والهوية الأُولى باقية على حالها، ولو كان هناك تبديل فإنّما هو في المظاهر لا في البواطن، وقد عرفت التوالي الفاسدة المترتّبة عليه.

وأمّا تجويزه بالعناوين الثانوية كالمصلحة الملزمة وغيرها، فلايخلو من إشكال من جهتين:

أوّلاً: أنّ المفسدة المترتّبة على هذا النوع من التبديل أكثر فأكثر من المصلحة التي تُرضِي صاحبها، وقد عرفت أن نتيجة هذا النوع من التبديل هو

ص:91


1- . مجلة فقه أهل البيت، العدد 16، السنة 4، ص 24.

استمتاع الرجال بعضهم ببعض، وهو فاحشة وساء سبيلاً.

أ فيمكن تجويز تلك المفسدة الكبيرة بحجة أنّ فيه رفع الضرورة عن رجل له رغبة إلى التأنيث، لا أظن أنّ فقيهاً يجوّز ذلك.

وثانياً: أنّ بعض الأطباء الذين يقومون بإجراء هذه العملية يتمسّكون بأنّ هذا الصنف من الرجال إذا لم تجر لهم هذه العملية ربما ينتحرون، وجعلوا هذا الأمر تبريراً لقيامهم بإجراء هذه العملية.

ولكنّه دليل ضعيف جدّاً، لأنّ حفظ النفس الخبيثة ليس بأهم من جعله بؤرة للفساد.

إلى هنا تبيّن أنّ هذا القسم - وهو الرائج حالياً - حرام شرعاً وقبيح عرفاً.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ التغيير في الجنس بالنحو المذكور لايخرج المورد عن الجنس الأوّل أوّلاً، وأنّه حرام ثانياً، وبذلك يُعلم أنّ أكثر ما ذكره السيد الإمام الخميني قدس سره في تحرير الوسيلة من المسألة الثالثة إلى التاسعة من باب المسائل المستحدثة، فروض لا واقع لها وإنّما تنطبق هذه الفروض على القسم الأوّل [تغيير الجنس] الذي قلنا بعدم ثبوت إمكانه إلّابالإعجاز، ولأجل إيقاف القارئ على أنّ الفروض المذكورة في كلامه لا تنطبق إلّاعلى القسم الأوّل دون الثاني نذكر مسألة واحدة وليقس عليها سائر ما ذكره قدس سره.

يقول: لو تزوّج امرأة فتغيّر جنسها فصارت رجلاً، بطل التزويج من حين التغيير وعليه المهر تماماً لو دخل بها قبل التغيير، فهل عليه نصفه مع عدم الدخول أو تمامه ؟

ص:92

فيه إشكال، والأشبه التمام. وكذا لو تزوّجت امرأة برجل فغيّر جنسه بطل التزويج من حين التغيير، وعليه المهر مع الدخول، وكذا مع عدمه على الأقوى.(1)

ولأجل إيضاح أنّ هذا النوع من التغيير لايؤثر في تبديل الجنس نأتي بمثال وهو أنّه لو فرضنا أنّ طبيباً عمل عملية جراحية - أو عن طريق حقن بعض الأدوية - لإنسان بحيث صار هذا الإنسان يمشي على أطرافه الأربعة ونبت على جسمه شعر كثيف، يشبه شعر القرد، فهل يمكن أنّ نعتبر أن هذا الإنسان قد انقلب قرداً؟ كلا ولا.

***

القسم الثالث: من له آلتان لكن تترجّح إحدى الآلتين على الأُخرى

من كان له آلتان وتترجح إحدى الآلتين على الأُخرى ولو من جهة نزول البول، أو سائر العلامات، أو دلّت الاختبارات الطبيّعية على هويته الواقعية، فالتغيير فيه ليس تغيير الجنس ولا تغييراً في الجنس، بل كشفاً عن جنسه الواقعي وهويته الحقيقية حيث إنّ إجراء العملية الجراحية يرفع الستر عن واقعه وأنّه رجل واقعاً أو امرأة كذلك، وإن عاش برهة في الإبهام، وهذا ما يسمّى في الفقه بالخنثى غير المشكلة.

إنّ إجراء التبديل في هذا النوع جائز شرعاً وراجح عقلاً، حيث تجري العملية في الآلة الزائدة وليست هي إلّالحماً زائداً لاجزءاً من الجسم،

ص:93


1- . تحرير الوسيلة: 564/2.

وعلى فرض استلزام هذا العمل الحرمة بسبب النظر واللمس فهي مرفوعة بحكم الضرورة، على أنّه إذا كانت امرأة واقعاً - وإن كانت بشكل الرجل - يمكن إجراء العقد المؤقت مع الطبيب، فيما لو كان المباشر (الطبيب) واحداً.

القسم الرابع: من له آلتان ولم تترجّح إحدى الآلتين على الأُخرى

من كان له آلتان ولم تترجّح إحدى آلتيه على الأُخرى لا من طريق التبوّل، ولا بواسطة الاختبارات الطبية، وهذا ما يسمّى في الفقه بالخنثى المشكل.

فبما أنّ إجراء العملية الجراحية وحقن الأدوية لاينتج ولايكشف عن واقع مستور، فإنّ ذلك لايسبب الجواز.

وأمّا وظائفه الشرعية فهي رهن القول بأنّها ليست طبيعة ثالثة، فهي إمّا رجل أو امرأة، ومقتضى العلم الإجمالي بأنّه محكوم بأحكام أحد الجنسين، وجوب الاحتياط عليه.

أمّا أنّها ليست طبيعة ثالثة فيستفاد من بعض الآيات.

1. قال تعالى: (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ اللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ ) .(1)

2. وقال تعالى: (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى ) .(2)

ص:94


1- . آل عمران: 195.
2- . القيامة: 39.

ومقتضى عطف الأُنثى على الذكر، أو حصر الإنسان عليهما، هو انحصار الهوية الإنسانية فيهما ولا تتجاوزهما وإيجاب الاحتياط التام عليه، بمعنى المعاشرة مع المحارم دون غيرهم، وهو مقتضى العلم بكونه إمّا رجلاً أو امرأة.

كما أنه يجب على الآخرين الاحتياط، فعلى الرجال والنساء غير المحارم حرمة النظر له، وقد بسط شيخنا الأنصاري الكلام في الخنثى المشكل من حيث معاملتها مع غيرها أو معاملة الغير معها في آخر مبحث القطع، وقال في آخره:

وأمّا التناكح فيحرم بينه وبين غيره قطعاً، فلايجوز له تزويج امرأة، لأصالة عدم ذكوريته بمعنى عدم ترتّب أثر الذكورية من جهة النكاح ووجوب حفظ الفرج إلّا عن الزوجة وملك اليمين، ولا التزوّج برجل، لأصالة عدم كونه امرأة، كما صرّح به الشهيد.(1)

ص:95


1- . فرائد الأُصول: 65/1-67.

فخرجنا بالنتائج التالية:

1. تغيير الجنس بمعنى تبديل جنس كامل إلى جنس آخر كذلك أمر لم يثبت إمكانه، وما ذكر من المسائل الفقهية حول هذا النوع فهي فروض فاقدة للموضوع.

2. التغيير في الجنس بمعنى بقاء الفرد على جنسه الأوّل إنّما يسبّب التغيير في الجنس دون تبديله إلى جنس آخر، وذلك بإيجاد التغيير في الجهاز التناسلي وحقنه بالأدوية لكي تظهر فيه حالات الجنس المخالف، فهذا الفرد بعد باق تحت العنوان الأوّل، ولم يتغير موضوعه أوّلاً، وإيجاد التغيّير فيه حرام ثانياً.

3. من له آلتان ودلّت الاختبارات على أنّه من أحد الجنسين، فيكشف واقعه بالعملية الجراحية أوّلاً، وهذا جائز ثانياً.

4. من له آلتان ولم يحرز لحوقه بأحد الجنسين فإيجاد التغيير لاينتج شيئاً، وعليه الاحتياط التام، إلّاإذا أوجد الحرج، فيجب الاحتياط إلى حدّ عدم لزومه.

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام - قم المقدّسة

25 ربيع الثاني 1433 ه

ص:96

6 شدّ الرحال إلى زيارة قبر النبي وآله عليهم السلام

اشارة

سألني أحد الأخوة عن السفر إلى زيارة قبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة الطاهرين عليهم السلام وصلحاء الأُمّة والأقرباء.

هل يجوز السفر إلى زيارة قبورهم ؟ فهناك مَنْ يقول بحرمة السفر إليها، مستدلّاً بما رواه مسلم وغيره، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «لا تشدّ الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى ».

والجواب:

إنّ تحقيق المسألة رهن الكلام في مقامين:

الأوّل: تبيين مفاد الحديث، وأنّه لا صلة له بالسفر إلى زيارة القبور الّتي حثّت السنّة النبوية عليها.

الثاني: سيرة المسلمين عبر القرون في السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وغيره.

وإليك الكلام في كلا المقامين.

المقام الأوّل: تبيين مفاد الحديث

اشارة

قد روي هذا الحديث بصورة أُخرى غير ما ذكر في السؤال:

ص:97

«إنّما يُسافَرُ إِلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ: مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ ، وَمَسْجِدي، وَمَسْجِدِ إيليا».

وروي أيضاً بصورة ثالثة، وهي:

«تُشَدُّ الرِّحال إلى ثَلاثةِ مَساجِدَ...».(1)

لا شكّ في وجود هذا الحديث في الصحاح، ولسنا الآن في مقام مناقشة سند الحديث، لكونه ورد في أصحّ الكتب، بل مقصودنا بيان مفاد الحديث، لكي يظهر أنّ ما ادّعاه القائل لا يمتّ لما ادّعاه بصلة.

ولنفرض أنّ نصّ الحديث هو: «لا تُشَدُّ الرحال إِلّا إِلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ...» وإلّا فالصورتان الأخيرتان لا تدلّان على حصر الجواز في الثلاثة، خصوصاً الصورة الثالثة.

وعلى ضوء هذا نقول: إنّ من الثابت أنّ لفظة «إلّا» هي أداة استثناء ولابدّ من وجود «المستثنى منه»، ويجب تحديده، وبما أنّه مفقود في النصّ فلابدّ من تقديره في الكلام، وقبل الإشارة إلى القرائن الموجودة يمكن تقدير المستثنى منه في صورتين:

1. لا تُشَدُّ إِلى مَسْجِدٍ مِنَ الْمَساجِد إِلّا ثَلاثة مَساجِد...

2. لا تُشَدُّ إِلى مَكان من الأمكنَةِ إِلّا ثَلاثَة مَساجد...

إنّ فهم الحديث والوقوف على معناه يتوقّف على ثبوت أحد هذين التقديرين، فإن اخترنا التقدير الأوّل كان معنى الحديث عدم شدّ الرحال إلى أيّ

ص:98


1- . أورد مسلم هذه الأحاديث الثلاثة في صحيحه: 4/126، كتاب الحج، باب لا تشدّ الرحال، وذكره أبو داود في سننه: 1/469، كتاب الحج، وكذلك النسائي في سننه المطبوع مع شرح السيوطي: 2/37-38.

مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة، ولا علاقة له بشدّ الرحال إلى أيّ مكان إذا لم يكن مسجداً.

فلا يشمل النهي من يشدّ الرحال لزيارة قبور الأنبياء والأئمّة الطاهرين والصالحين؛ لأنّ موضوع البحث نفياً وإثباتاً هو شدّ الرحال إلى المساجد - باستثناء المساجد الثلاثة المذكورة، وأمّا شدّ الرحال إلى زيارة المشاهد المشرّفة وقبور الصلحاء من الأُمّة فليس مشمولاً للنهي ولا داخلاً في موضوعه.

هذا على التقدير الأوّل.

وأمّا على التقدير الثاني، أعني: إذا كان المستثنى منه هو المكان، فلازمه أن تكون كافّة السفرات المعنويّة - ما عدا السفر إلى المناطق الثلاث المذكورة - محرّمة، سواء أكان السفر من أجل زيارة المسجد أو زيارة مناطق وغايات أُخرى، وهذا ما لا يقول به أحدٌ من الفقهاء، كما سيوافيك.

ولكن القرائن والدلائل تدلّ على أنّ التقدير الأوّل هو الصحيح، والثاني باطل، وهي كالآتي:

أوّلاً: أنّ المساجد الثلاثة هي المستثناة، والاستثناء هنا متّصل - كما هو واضح - فلابدّ أن يكون المستثنى منه هو: المساجد لا الأمكنة. ويكون الكلام مركّزاً على المساجد، نفياً وإثباتاً، ولا علاقة للحديث بغيرها.

ثانياً: لو كان الهدف هو منع كافّة السفرات المعنويّة لما صحّ الحصر في هذا المقام؛ لأنّ الإنسان يشدّ الرحال في موسم الحجّ للسفر إلى «عرفات» و «المشعر» و «منى»، فلو كانت السفرات الدينية - لغير المساجد الثلاثة - محرّمة،

ص:99

فلماذا يُشدّ الرحال إلى هذه المناطق ؟!

ثالثاً: لقد أشار القرآن الكريم والأحاديث الشريفة إلى بعض الأسفار الدينية، وجاء التحريض عليها والترغيب فيها، كالسفر من أجل الجهاد في سبيل اللّه وطلب العلم وصلة الرحم وزيارة الوالدين وما شابه ذلك. فمن ذلك قوله تعالى:

(... فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) .(1)

وقوله سبحانه: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (2).

ولهذا فقد فسّر كبار الباحثين والمحقّقين الحديث المذكور بما أشرنا إليه، فمثلاً يقول الغزالي - في كتاب إحياء العلوم -:

القسم الثاني وهو أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحجّ أو جهاد... ويدخل في جملته: زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء، وكلّ من يُتبرّك بمشاهدته في حياته يُتبرّك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تُشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى » لأنّ ذلك في المساجد، فانّها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد، وإلّا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل، وإن كان يتفاوت في الدرجات

ص:100


1- . التوبة: 122.
2- . آل عمران: 137.

تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند اللّه.(1)

وعلى ضوء هذا فالمنهيّ عنه - في هذا الحديث - هو شدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، من المساجد الأُخرى، ولا علاقة له بالسفر للزيارة أو لأهداف معنويّة أُخرى.

وفي الختام لابدّ من الإشارة إلى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عندما قال: «لا تُشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد...» فإنّه لا يعني أنّ شدّ الرحال إلى المساجد الأُخرى حرام، بل معناه أنّ المساجد الأُخرى لا تستحقّ شدّ الرحال إليها، وتحمّل مشاق السفر من أجل زيارتها، لأنّ المساجد الأُخرى لا تختلف - من حيث الفضيلة - اختلافاً كبيراً.

فالمسجد - سواء كان في المدينة أو في القرية أو في المنطقة - لا يختلف مع الآخر فثواب إقامة الصلاة في المسجد الجامع في أيّ بلد من البلاد واحد، فلا ملزم للسفر عندئذٍ لإقامة الصلاة في جامع مثله. وعليه فلا داعي إلى أن يشدّ الإنسان الرحال إليه، أمّا إذا شدّ الرحال إليه فليس عمله هذا حراماً ولا مخالفاً للسُّنّة الشريفة.

ويدلّ عليه ما رواه أصحاب الصحاح والسُّنن:

«كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يأتي مسجد قُبا كلّ سبت راكباً وماشياً فيصلّي فيه ركعتين».(2)

ص:101


1- . كتاب إحياء علوم الدين للغزالي: 247/2، كتاب آداب السفر، طبعة دار المعرفة بيروت.
2- . صحيح مسلم: 4/127؛ وفي صحيح البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، عن عبدالعزيز بن

فعلى ضوء هذه الرواية لنا أن نتساءل: كيف يمكن أن يكون شدّ الرحال وقطع المسافات من أجل إقامة الصلاة - مخلصاً للّه - في بيتٍ من بيوته سبحانه حراماً ومنهياً عنه ؟!!

استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم

وقد روى غير واحد من أئمة الحديث قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، «من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي» ونقله عدّة من الحفّاظ وأئمة الحديث يزيد عددهم على أربعين محدّثاً وحافظاً، وها نحن نذكر بعض من رواه من قدماء المحّدثين:

1. ابن أبي الدنيا، أبو بكر عبداللّه بن محمد القرشي (المتوفّى 281 ه).(1)

2. محمد بن إسحاق، أبو بكر النيسابوري (المتوفّى 311 ه) الشهير بأبي خزيمة.(2)

3. الحافظ أبو الحسن عليّ بن عمر الدارقطني (المتوفّى 385 ه).(3)

4. الحافظ أبو بكر البيهقي (المتوفّى 458 ه).(4)

5. القاضي عياض المالكي (المتوفّى 544 ه).(5)

ص:102


1- . لاحظ: الغدير: 5/143.
2- . ذكره في صحيحه.
3- . سنن الدارقطني: 2/278، برقم 194.
4- . السنن الكبرى: 5/245.
5- . الشفا بتعريف حقوق المصطفى : 5/194.

6. الحافظ أبو القاسم عليّ بن عساكر (المتوفّى 571 ه).(1)

7. الحافظ ابن الجوزي (المتوفّى 597 ه) في كتابه «مثير الغرام الساكن».

وهذه الرواية لا تختص بمن استوطن المدينة بل هي خطاب شامل لكافة المسلمين دانيهم وقاصيهم.

المقام الثاني: سيرة المسلمين عبر القرون في السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وآله عليهم السلام وغيرهم

اشارة

إنّ مَنْ تتبع سيرة المسلمين عبر القرون يجد شواهد كثيرة على أنّهم كانوا يشدّون الرحال لأجل زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقبور آله وأصحابه - بل وزيارة قبور الصالحين من أقاربهم - ونحن نقتصر في المقام بذكر ما يلي:

1. سفر السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام لزيارة قبر حمزة سيد الشهداء في أُحد

أخرج الحاكم في مستدركه، عن علي بن الحسين، عن أبيه، أنّ فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانت تزور قبر عمّها حمزة كلّ جمعة وتبكي عنده. قال الحاكم بعد نقل هذا الحديث: «رواته عن آخرهم ثقات»(2).

ومن المعلوم أنّ بين المدينة وموقع معركة أُحد مسافة شاسعة ربّما تتجاوز اثني عشر كيلومتراً، فهل للشيخ أن يتّهم سيدة نساء العالمين بأنّها لا تعلم حرمة هذا العمل، كما يدّعيه هو.

ص:103


1- . مختصر تاريخ دمشق: 2/406 في باب مَنْ زار قبره صلى الله عليه و آله و سلم، وهذا الباب أسقطه المهذِّب من الكتاب في طبعه، واللّه يعلم سرّ تحريفه هذا وما أضمرته سريرته (عن الغدير).
2- . المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: 1/377، كتاب الجنائز.
2. سفر عائشة إلى زيارة قبر أخيها

أخرج الترمذي في سننه، عن عبداللّه بن مليكة، قال: توفّي عبدالرحمن بن أبي بكر ب «حبشى »، قال: فحمل إلى مكة فدفن فيها، فلمّا قدمتْ عائشة مكة، أتت قبر عبدالرحمن بن أبي بكر، فقالت:

وكنّا كندماني جذيمة حِقبةً من الدهر حتّى قيل: لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأنّي ومالكاً لطول اجتماع لم نَبتْ ليلة معا

ثمّ قالت: واللّه لو حضرتك ما دفنت إلّاحيث مت، ولو شهدتك ما زرتك .(1)

والمتبادر من العبارة أنّها لمّا قدمت مكة ذهبت إلى زيارة قبر أخيها لا أنّها مرّت عليه عفواً في طريقها إلى مكة.

وأمّا قولها: «ولو شهدتك لما زرتك» فهو بمعنى : بما أنّي لم أُؤدّ حقّك في حال حياتك، فلذلك أزورك بعد مماتك، ولو كنت مؤدّية لحقّك لما تحمّلت عبء زيارتك.

ص:104


1- . سنن الترمذي: 3/371، باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور، الحديث 1055.
3. سفر بلال إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم

روى ابن عساكر: أنّ بلالاً رأى في منامه النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهو يقول: له ما هذه الجفوة يا بلال! أما آنَ لك أنْ تزورني يا بلال! فانتبه حزيناً وَجِلاً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين، فجعل يضمّهما ويقبّلهما.(1)

وذكر بعد ذلك قصة أذانه بطلب من الحسن والحسين عليهما السلام.

وقال الحافظ جمال الدين المزّي (في ترجمة بلال): إنّه لم يؤذّن لأحد، بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلّامرّة واحدة في قدَمة قدمها المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وطلب إليه الصحابة ذلك فأذّن.(2)

4. إبراد عمر بن عبدالعزيز بالسلام على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

وقد استفاض عن عمر بن عبدالعزيز إنّه كان يبرد البريد من الشام، يقول:

سلّم لي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

قال السبكي: وممّن ذكر ذلك ابن الجوزي، ونقلته من خطّه «مثير الغرام الساكن»، وذكره أيضاً الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل الّذي توفّي سنة سبع وثمانين ومائتين في مناسكه، وقال: كان عمر بن عبدالعزيز يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليُقرئ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثم يرجع.

ثم قال السبكي: فسفر بلال في زمن صدر الصحابة، ورسول عمر بن

ص:105


1- . مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر: 5/265.
2- . تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 4/289.

عبدالعزيز في زمن صدر التابعين من الشام إلى المدينة، لم يكن إلّاللزيارة والسلام على النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولم يكن الباعث على السفر غير ذلك لا من أمر الدنيا، ولا من أمر الدين، لا من قصد المسجد، ولا من غيره، وإنّما قلنا ذلك لئلّا يقول بعض من لا علم له: إنّ السفر لمجرّد الزيارة ليس بسنّة! وسنتكلّم على بطلان ذلك في موضعه.(1)

5. سفر كعب الأحبار إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بدعوة من الخليفة

روى الواقدي - عند ذكر فتح مدينة حلب وقلاعها - قال: التقى في بيت المقدس كعب الأحبار، فدار الحديث بينه وبين الخليفة حتّى أسلم، ففرح عمر بإسلام كعب الأحبار ثم قال: هل لك أن تسير معي إلى المدينة فنزور قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وتتمتع بزيارته! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا أفعل ذلك.

ثم سار عمر يريد مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وأخذ كعب الأحبار معه.(2)

6. سفر أئمة الحديث لزيارة الإمام الرضا عليه السلام

قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الإمام علي الرضا عليه السلام: وقال الحاكم في تاريخ نيسابور: قال: وسمعت أبا بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا - وهم إذ ذاك متوافرون - إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا بطوس، قال: فرأيت من تعظيمه - يعني ابن خزيمة - لتلك البقعة

ص:106


1- . شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 142-143، لاحظ: الصارم المنكي لابن قدامة المقدسي: 246.
2- . فتوح الشام للواقدي: 1/244.

وتواضعه لها وتضرّعه عندها ماتحيّرنا.(1)

وقال ابن حبّان: وقبره (يعني الإمام الرضا عليه السلام) بسناباذ خارج النوقان مشهور يُزار - بجنب قبر الرشيد - قد زرته مراراً كثيرة، وما حلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات اللّه على جدّه وعليه، ودعوت اللّه إزالتها عني إلّااستجيب لي وزالت عني تلك الشدّة، وهذا شيء جرّبته مراراً فوجدته كذلك، أماتنا اللّه على محبة المصطفى وأهل بيته صلى اللّه عليه وعليهم أجمعين.(2)

7. إطباق المسلمين على جواز السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم

أطبق السلف والخلف على جواز السفر لأجل زيارة قبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم والشاهد على ذلك أنّهم إذا قضوا الحج يتوجّهون إلى زيارته وإنّ منهم من يفعل ذلك قبل الحج.

قال السبكي: هكذا شاهدناه، وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء في الأعصار القديمة، وكلّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافة بعيدة، وينفقون فيه الأموال، ويبذلون فيه المهج، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على مرّ السنين وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم، يستحيل أن يكون خطأ، وكلّهم يفعلون ذلك على وجه التقرّب به إلى اللّه عزّوجلّ ، ومن تأخّر فإنّما يتأخّر بعجز أو تعويق المقادير مع تأسّفه عليه، وودّ لو تيسّر له، ومن ادّعى أنّ

ص:107


1- . تهذيب التهذيب: 339/7.
2- . كتاب الثقات لابن حبّان التميمي البستي: 456/8-457، ترجمة علي الرضا عليه السلام.

هذا الجمع العظيم مجمع على خطأ، فهو المخطئ.

وما ربّما يقال من أنّ سفرهم إلى المدينة لأجل قصد عبادة أُخرى وهي الصلاة في المسجد، باطل جدّاً. فإنّ المنازعة فيما يقصده الناس مكابرة في أمر البديهة، فمن عرف الناس أنّهم يقصدون بسفرهم الزيارة من حين يعرجون إلى طريق المدينة، ولا يخطر غير الزيارة من القربات إلّاببال قليل منهم، ولهذا قلّ القاصدون إلى بيت المقدس مع تيسّر إتيانه، وإن كان في الصلاة فيه من الفضل ما قد عرفت، فالمقصود الأعظم في المدينة، كما أنّ المقصود الأعظم في مكة، الحج أو العمرة، وصاحب هذا السؤال إن شكّ في نفسه فليسأل كلّ من توجّه إلى المدينة، ما قصد بذلك ؟(1)

حصيلة الكلام

هذه هي سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء، تسافر إلى زيارة قبر عمها حمزة سيد الشهداء في أُحد، وهذه عائشة تقصد زيارة قبر أخيها، وهذا الصحابي الجليل بلال يشدّ الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وهذا عمر بن عبدالعزيز يبرد البريد إلى المدينة للسلام على النبي صلى الله عليه و آله و سلم نيابة عنه، وأخيراً يدعو الخليفة الثاني كعب الأحبار لمرافقته في السفر من بيت المقدس إلى المدينة لأجل زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وهكذا يجد المتتبع في غضون كتب التاريخ شواهد أُخرى من سفر الصالحين والعلماء إلى المدينة لتلك الغاية، وهذا يدلّ على أنّ سيرة المسلمين والسلف الصالح مجمعة على خطأ من يقول بحرمة السفر إلى

ص:108


1- . شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 85-86، ط. بولاق مصر.

زيارة قبور الأنبياء والأولياء عليهم السلام، وهو الأمر الذي يحاول أن يروّج له مَن يدّعي الدفاع عن التوحيد، وينظر إلى ما تسالمت عليه الأُمّة برأيه المسبق الّذي ورثه عن شيوخه ومعلميه بلا تدبّر وتمحيص، ويحق لنا أن نتمثّل بقول الشاعر:

إذا لم تكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر

ولا يبقى بأيدينا إلّاأن نقول: إنّ هذه الدعوة هي نتيجة النصب والعداء للنبي وآله عليهم السلام، الّذي تحرض عليه الأصابع اليهودية الخفيّة في أوساط الأُمّة الإسلامية.

فإنّ اليهود أشدّ الناس بغضاً وعداءً لأنبيائهم حيث كانوا يكنّون العداء لهم ويستهزئون بهم ويتّهمونهم ثم يقتلونهم عند كلّ شجر ومدر.

ورحم اللّه الشاعر إذ يقول:

لابل مواليد النواصب جدّدت دين اليهود فأين دين محمد

والحمد للّه رب العالمين

15 ذي الحجّة الحرام 1432 ه

ص:109

7 كمال الدين ميثم البحراني حياة مليئة بالعطاء والأحداث

اشارة

7 كمال الدين ميثم البحراني حياة مليئة بالعطاء والأحداث(1)

هو الفيلسوف المحقّق، والحكيم المدقّق، قدوة المتكلّمين، وزبدة الفقهاء والمحدّثين: كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم بن المعلّى، أبو الفضل البحراني، شارح «نهج البلاغة». ومَيثم بالفتح، وقيل: كلّ ميثم بالكسر إلّاميثم البحراني (المصنّف) وجدّه فبالفتح. ولد في إحدى قرى البحرين سنة 636 ه.

مكانته العلمية وثناء العلماء عليه

كان المصنّف على جانب كبير من العلم والدراية، مشبعاً بفنون المعارف المتداولة في عصره، مبجّلاً عند أساطين العلم والمعرفة، ينقلون آراءه وأقواله

ص:110


1- . مصادر ترجمة المؤلّف الّتي أخذنا عنها: مجمع الآداب في معجم الألقاب: 4/266 برقم 3819؛ أمل الآمل: 2/332 برقم 1022؛ رياض العلماء وحياة الفضلاء: 5/226-227؛ لؤلؤة البحرين: 254-261؛ روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات: 7/216 برقم 626؛ هدية العارفين: 6/486؛ تنقيح المقال: 3/262 برقم 12343؛ أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والإحساء والبحرين: 62-69؛ أعيان الشيعة: 1/166 و ج 10/197؛ تأسيس الشيعة: 169؛ طبقات أعلام الشيعة: 4/187؛ الفوائد الرضوية: 689؛ معجم رجال الحديث: 19/94 برقم 12915؛ الأعلام: 7/336؛ معجم المؤلّفين: 13/55؛ موسوعة طبقات الفقهاء: 7/285 برقم 2627؛ معجم طبقات المتكلّمين: 2/418؛ رسائل ومقالات: 6/460؛ ومقدّمة كتبه المطبوعة: شرح نهج البلاغة الكبير، شرح مائة كلمة لأمير المؤمنين، النجاة في القيامة، قواعد المرام في علم الكلام.

مع إجلال وتعظيم، وينظرون إلى تحقيقاته الرشيقة بإكبار وتكريم. ويكفيك دليلاً على جلالة شأنه وسطوع برهانه اتّفاق كلمة أئمة الأعصار وأساطين الفضلاء في جميع الأعصار على تسميته بالعالم الربّاني، وشهادتهم له بأنّه لم يوجد مثله في تحقيق الحقائق وتنقيح المباني.

إنّ الحكيم الفيلسوف سلطان المحقّقين وأُستاذ الحكماء والمتكلّمين نصير الملّة والدين محمد الطوسي شهد له بالتبحّر في الحكمة والكلام.

كما شهد سيد المحقّقين الشريف الجرجاني (المتوفّى 816 ه) على جلال قدره في أوائل فن البيان من شرح المفتاح قد نقل بعض تحقيقاته الأنيقة وتعليقاته الرشيقة، وعبّر عنه ببعض مشايخنا، ناظماً نفسه في سلك تلامذته، ومفتخراً بالانخراط في سلك المستفيدين من حضرته، المقتبسين من مشكاة فطرته.

والسيد السند الفيلسوف الأوحد مير صدر الدين محمد الشيرازي أكثر النقل عنه في حاشية شرح التجريد، لاسيّما في مباحث الجواهر والأعراض، والتقط فرائد التحقيقات الّتي أبدعها في كتاب «المعراج السماوي» وغيره من مؤلّفاته، لم تسمح بمثله الأعصار مادار الفلك الدوّار.

عصر المؤلّف

كانت ولادة المؤلّف في أواخر عصر المستنصر باللّه العباسي (623-640 ه) وفي الرابعة من عمره توفّي المستنصر؛ وخلفه ابنه عبداللّه المستعصم باللّه الّذي اشتغل باللعب بالطيور، وضرب الطنبور، واللهو والفجور إلى أن انتهى

ص:111

ملكه على يد المغول بقيادة هولاكو، وكان ذلك في سنة 656 ه، وبمقتله كان نهاية الدولة العباسية، وبدء حقبة سوداء مليئة بالأهوال والمآسي حيث استباح المغول بعد قتل الحاكم العباسي وابنه والمقرّبين له استباحوا بغداد أربعين يوماً، وقتلوا سائر أولاد المستعصم واسترقّوا بناته، ووقع الناس بأيدي أعداء لا يرضون إلّابالقتل والسبي حيث لم ينجو منهم إلّاالمختفون في الخفايا والآبار.

رجع هولاكو إلى تبريز الّتي اتخذها عاصمة له بعد سنة من دخول بغداد، وترك محمد الجويني والياً عليها إلى أن توفّي في سنة 661 ه، ففوض هولاكو حكومة بغداد إلى ابنه علاء الدين عطاء ملك الجويني واستوزر له أخاه شمس الدين، وكان فيهما كرم وسؤدد وخبرة بالأُمور، وعدل ورفق بالرعية وعمارة البلاد حتّى بالغ بعض الناس وقال: عمّر صاحب الديوان بغداد حتّى كانت أجود من أيام الخلافة، ووجد أهل بغداد به راحة.(1)

وهذه هي الفترة الّتي اتّصل بها المصنّف بالأخوين عطاء ملك ومحمد لما شاهده فيهما من حب العلم وتقدير العلماء فألّف بعض كتبه باسمهما، وهذا ما نلاحظه في مقدّمة بعض كتبه، كشرحه الكبير على نهج البلاغة حيث قال في مقدّمته: (إلى أن قضت صروف الزمن بمفارقة الأهل والوطن، وأوجبت تقلّبات الأيام دخول دار السلام (بغداد)، فوجدتها نزهة للناظر وآية للحكيم القادر، بانتهاء أحوال تدبيرها، وإلقاء مقاليد أُمورها، إلى من خصّه اللّه تعالى بأشرف الكمالات الإنسانية... صاحب ديوان الممالك... علاء الحق والدين عطاء ملك ابن الصاحب... بهاء الدنيا والدين محمد الجويني... وشدّ أزره بدوام عز صنوه

ص:112


1- . تاريخ الإسلام: 51/80-83.

وشقيقه... مولى ملوك العرب والعجم شمس الحق والدين محمد... ولمّا اتّفق اتصالي بخدمته وانتهيت إلى شريف حضرته).

وقد كانت مدة ولاية عطاء ملك الجويني على بغداد إحدى وعشرون سنة وعشرة أشهر وتوفّي في سنة 681 ه. وبعد هذا التاريخ لم تحدثنا كتب التراجم والتاريخ عن نشاطات المؤلّف وما جرى عليه، والظاهر أنّه رجع إلى البحرين وبقي فيها إلى سنة وفاته.

فعليه كانت الفترة الّتي عاش فيها المؤلّف فترة حرجة ومأساوية ومظلمة من تاريخ الإسلام انعكست على قلّة المعلومات الواصلة إلينا بحقّه، فلم تصلنا ترجمة وافية عنه، ولا عن تفاصيل حياته وأسفاره، ولا عن شيوخه وأساتذته ومن تربّى على يده ونقل عنه إلّابهذا المقدار اليسير الّذي ذكرناه، وهذا ما يعتبر خسارة عظمى للتراث الإسلامي.

أساتذته وشيوخه

نهل ابن ميثم العلم عن أساتذة عصره وكبار علمائه وشبّ في حوزاتهم الدراسية مكبّاً على طلب العلم والتحصيل، وذهب إلى العراق سعياً وراء الثقافة، وكان من أبرز أساتذته:

1. الحكيم المتكلّم علي بن سليمان بن يحيى البحراني (المتوفّى حدود 670 ه) أحد كبار متكلّمي الإمامية.

2. الفيلسوف الكبير الخواجة نصير الدين الطوسي (597-672 ه) الّذي يضن الدهر بمثله.

ص:113

3. الشيخ أبو السعادات أسعد بن عبدالقاهر بن أسعد الأصفهاني.

4. المحقّق الحلّي جعفر بن الحسن الهذلي (المتوفّى 676 ه) صاحب التصانيف القيمة، وعلى رأسها كتاب: «شرائع الإسلام»، وكذلك: النافع، والمعتبر، ونكت النهاية.

تلامذته والراوون عنه

لقد تلمّذ عليه وروى عنه الكثير من فطاحل العلماء، نذكر منهم:

1. العلّامة الحسن بن يوسف بن المطهر (المتوفّى 726 ه) الّذي يضرب به المثل في عالم الذكاء، ومثله لا يحضر إلّاعند عالم كبير يشار له بالبنان.

2. الشيخ محمد بن جهم الأسدي الحلّي.

3. السيد عبدالكريم بن أحمد ابن طاووس الحلّي (المتوفّى 693 ه).

4. الشيخ عبداللّه بن صالح البحراني.

5. علي بن الحسين بن حمّاد الليثي.

6. ابن الفوطي فقد اجتمع به وكتب عنه، ووصفه بالفقيه الأديب وقال:

كان ظاهر البشر، حسن الأخلاق.

مصنّفاته وآثاره العلمية

الآثار العلمية الّتي تركها كثيرة، فقد صنّف في غير واحد من العلوم، إلّاأنّ الجانب الفلسفي والعرفاني غلب على آثاره ومصنّفاته، وها نحن نذكر عناوين مصنّفاته الّتي تدلّ على علو كعبه، وسموّ مقامه في غير واحد من العلوم

ص:114

الإسلامية:

1. مصباح السالكين (الشرح الكبير لنهج البلاغة) الّذي فرغ منه سنة 677 ه، طبع في خمسة أجزاء.

2. اختيار مصباح السالكين (الشرح الصغير لنهج البلاغة) وقد فرغ منه سنة 681 ه.

3. الشرح المتوسط على نهج البلاغة، ذكره الشيخ يوسف البحراني في «لؤلؤة البحرين».

4. قواعد المرام في علم الكلام، ويسمّى بالقواعد الإلهية، وقد يُسمّى ب «القواعد في أُصول الدين». فرغ منه في 20 ربيع الأوّل سنة 676 ه. وقد طبع في قم سنة 1406 ه، نشر مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي. كما طبع طبعات أُخرى.

5. النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة، وقد طبع عام 1417 ه في قم، نشر مجمع الفكر الإسلامي.

6. استقصاء النظر في إمامة الأئمة الاثني عشر، ذكره بعض المشايخ المحقّقين، ووصفه بأنّه لم يعمل مثله.

7. شرح الإشارات في الحكمة والكلام، لأُستاذه علي بن سليمان. وهو كتاب في غاية المتانة والدقّة على قواعد الحكماء الإلهيين.

8. شرح «مائة كلمة لأمير المؤمنين عليه السلام»، الّتي جمعها أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (المتوفّى 255 ه)، ويسمّى: «منهاج العارفين في شرح كلام أمير المؤمنين».

ص:115

وقد وصف المترجم تلكم الكلم بأنّ كلّ كلمة منها تفي بألف من محاسن كلام العرب، وقد طبع مرّتين.

9. المعراج السماوي، والّذي أكثر النقل عنه صدر الدين الشيرازي (المتوفّى 1050 ه) في حاشية شرح التجريد.

10. رسالة في الوحي والإلهام، والفرق بينهما والإشراق.

11. رسالة في آداب البحث.

12. رسالة في شرح حديث المنزلة.

13. البحر الخضم في الإلهيات.

14. الدرّ المنثور.

15. تجريد البلاغة. وقد عنون الكتاب باسم «أُصول البلاغة»، وقد جاء بهذا الاسم في بعض المصادر، واشتهر بين المتأخّرين بهذا الاسم، لكنّنا وجدنا أكثر المعاجم وفهارس الكتب والمؤلّفين تذكره باسم «تجريد البلاغة». فهذا هو الشيخ آغابزرگ الطهراني - وهو خرّيت هذا الفن - يذكره في الذريعة قائلاً:

«تجريد البلاغة» في المعاني والبيان للشيخ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (المتوفّى 679 ه) ويقال له: أُصول البلاغة، لكن اسمه التجريد، وبلحاظ الجناس سمّى الفاضل المقداد شرحه له ب: «تجويد البراعة في شرح تجريد البلاغة». أوّله: الحمد للّه الّذي خلق الإنسان علّمه البيان... ألّفه باسم نظام الدين أبي المظفر منصور بن علاء الدين عطاء ملك بن بهاء الدين محمد

ص:116

الجويني. ورتّبه على مقدّمة وجملتين.(1)

وذكره باسم «تجريد البلاغة» الكثير من الأعلام، منهم: إسماعيل باشا البغدادي في «هدية العارفين»(2)، والزركلي في الأعلام(3)، وعمر كحالة في «معجم المؤلّفين»(4)، ومحسن الأمين في «أعيان الشيعة»(5)، والسيد حسن الصدر في «الشيعة وفنون الإسلام» و «تأسيس الشيعة»(6)، وغيرها من المصادر(7) الّتي تُوصل الباحث إلى الاطمئنان بأنّ الاسم الأصلي للكتاب هو «تجريد البلاغة».

والرسالة مستلّة من مقدّمة «مصباح السالكين الشرح الكبير لنهج البلاغة» بعد تلخيصها وتهذيبها وتنظيم مطالبها وبحوثها.

هذا وقد نشر الكتاب مرّتين:

الأُولى: نشر دار الشروق في مصر سنة 1401 ه / 1981 م، تحقيق الدكتور عبدالقادر حسين أُستاذ البلاغة المساعد بكلّية البنات في جامعة الأزهر. وقد بذل المحقّق جهوداً مشكورة في تحقيقه وتنقحيه والتعليق عليه وإيضاح ما أُبهم من عباراته وشرح ما صعب من ألفاظه، فجزاه اللّه خير الجزاء.

الثانية: نشر مكتبة العزيزي في قم المقدّسة سنة 1410 ه. وهذه الطبعة

ص:117


1- . الذريعة: 3/352 برقم 1275. وراجع أيضاً: ج 2/179، وج 3/360.
2- . هدية العارفين: 2/470.
3- . الأعلام: 7/336.
4- . معجم المؤلّفين: 13/55.
5- . أعيان الشيعة: 1/166.
6- . الشيعة وفنون الإسلام: 128؛ تأسيس الشيعة: 169.
7- . راجع: مجلة تراثنا: 20/230 وج 25/119.

اعتمدت بشكل رئيسي على طبعة دار الشروق فهي لا تختلف عنها إلّافي موارد يسيرة.

ولأهمية الكتاب وفائدته الكبيرة لطلبة العلوم الدينية - على وجه الخصوص - ولتسليط الضوء على دور الشيعة في علم البلاغة وما قدّموه للمكتبة الإسلامية في هذا العلم كما هو شأنهم في كلّ العلوم الإسلامية، ارتأينا تحقيق هذا الكتاب وطبعه بحلّة جديدة، فشمّر محقّقو اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام عن ساعد الجد، وقاموا بتحقيق هذا الكتاب بعد الحصول على نسخة خطية نفيسة قريبة من عهد المؤلّف، وزيّنوها بتعاليق مهمة لاسيّما ما يتعلّق بالبلاغة وأقسامها من البيان والمعاني والبديع، وهي تعليقات لا يستغني عنها طلاب العلم، فخرج كتاباً جديداً محقّقاً متكاملاً بحلة قشيبة زاهية، وذلك في سنة 1433 ه.

إلى غير ذلك من التآليف المنسوبة له، والتي قد لا يخلو بعضها عن نظر؛ مثل كتاب: «الاستغاثة في بدع الثلاثة» فقد نسبه صاحب رسالة «السلافة البهية في الترجمة الميثمية» إلى الشيخ ميثم البحراني. وقد ردّ صاحب روضات الجنات ذلك في موضع، وقال في موضع آخر: وقد عرفت بطلان نسبة كتاب «الاستغاثة» إلى الشيخ ميثم البحراني من كلام صاحب اللؤلؤة؛ وهو عندنا من القطعيات الأوّلية، وإنّما مصنّف هذا الكتاب على الحقيقة هو: علي بن أحمد بن موسى الرضوي الموسويّ .(1)

ص:118


1- . راجع روضات الجنات: 7/220 و 221.

وفاته

اختلف أصحاب التراجم في تاريخ وفاة المصنّف رحمه الله، ونلاحظ في أكثر المصادر أنّ وفاته كانت سنة 679 ه. والظاهر أنّ أوّل من أرّخ ذلك الشيخ بهاء الدين العاملي (المتوفّى 1030 ه) في «الكشكول»(1)، وتبعه في ذلك صاحب الذريعة وروضات الجنّات وهدية العارفين وإيضاح المكنون ومعجم المؤلّفين.

ومنهم من لم يحدّد وفاته، كالزركلي في «الأعلام» حيث ذكر أنّ وفاته كانت بعد 681 ه.

ومنهم من ذكر أنّ وفاته كانت سنة 699 ه - وهو الأقوى - كالسيد إعجاز حسين الهندي في «كشف الحجب عن أسماء المؤلّفين والكتب»(2)، والشيخ الطهراني في «طبقات أعلام الشيعة» وأصلح ما ذكره في الذريعة وخدش على سليمان الماحوزي (المتوفّى 1121 ه) على ما ذكره في كتابه «تراجم علماء البحرين» من أنّ وفاته كانت سنة 679 ه قائلاً: لكن التاريخ مخدوش؛ لأنّ فراغ ابن ميثم من الشرح الصغير لنهج البلاغة كان في 681، وفرغ من الشرح الكبير للنهج في 677، فالصحيح من تاريخ وفاته هو ما ذكره صاحب كشف الحجب وهو 699 ه ظاهراً(3).

كما احتمله الزركلي في الأعلام حيث قال في هامش ترجمته: والصحيح:

إمّا 699 ه كما في كشف الحجب، أو 689 ه على احتمال ذلك، لأنّه كان حيّاً في

ص:119


1- . الكشكول: 3/389، الطبعة الحجرية.
2- . كشف الحجب: 357.
3- . طبقات أعلام الشيعة: 4/188.

681 ه، وقد فرغ في تلك السنّة من شرحه الصغير لنهج البلاغة.

فعليه نحن نرجّح أنّ وفاته كانت سنة 699 ه، لما ذكره صاحب كشف الحجب وآغا بزرگ والزركلي، وعلى هذا التاريخ يكون عمره ثلاثاً وستين سنة، وهو عمر يكاد يكون طبيعياً ومنسجماً مع كثرة كتبه ومؤلّفاته؛ على خلاف تاريخ 679 ه حيث يكون عمره ثلاثاً وأربعين سنة، وهو عمر قصير، ولو كان لذكر بقصر العمر، ولم يذكر ذلك أحد.

إذن فالمختار في تاريخ حياة المؤلّف المترجم له هو أنّه عاش ثلاثاً وستين سنة من 636 إلى 699 ه. واللّه العالم.

مدفنه وقبره رحمه الله

أمّا مدفنه فقد دفن في قرية «هلتا»، وفي قرية «الدُّونَج» قبر جدّه الميثم بن المعلّى.

و «هلتا» و «الدونج» قريتان تابعتان لمنطقة الماحوز الّتي تتكون من ثلاث قرى بإضافة الغُرَيفَة لهما. والغريفة قرية مازالت موجودة ومعروفة بهذا الاسم حتّى الآن وهي منفصلة عن الماحوز، بينما قريتا «هلتا» و «الدونج» غير معروفتين بهذا الاسم إنّما يطلق عليهما تغليباً الماحوز.

وقد ذكر الشيخ علي بن الحسن البلادي البحراني (المتوفّى 1340 ه) في كتابه: «أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والإحساء والبحرين» أنّ في «الدونج» و «هلتا» بقعتان كلتاهما مشهورتان بأنّهما بقعة ابن ميثم البحراني.

والأرجح هو القول الأوّل وهو قول المحقّق يوسف البحراني (المتوفّى

ص:120

1186 ه) في «لؤلؤة البحرين».

***

هذه نبذة مختصرة عن حياة هذا العالم الكبير الّذي ترك آثاراً خالدة، وربّى جيلاً من كبار العلماء، على رغم الفترة الحرجة الّتي عاشها، والّتي أشرنا إليها أثناء الترجمة، وهي فترة سقوط الدولة العباسية واجتياح المغول للبلاد الإسلامية، تزامناً مع الحروب الصليبية المسعورة ضد المسلمين، والّتي أدّت إلى القتل الفضيع للمسلمين، والتدمير الشنيع لبلدانهم، والأنكى من ذلك ضياع آثار علمائهم وحرقها من قبل تلك الجيوش الحاقدة، وهذا ما انعكس على قلّة المعلومات الواصلة إلينا عن المؤلّف، وعن الكثير من العلماء الذين عاشوا في تلك الفترة المظلمة، فيا لها من خسارة عظمى، وإلى اللّه المشتكى...

ص:121

ص:122

الفصل الثاني: مقالات وردود

اشارة

1. إتقان الاستدلال بآية الابتلاء على عصمة الإمام

2. رسالة نقدية حول قاعدتي الاختبار واللطف

3. شبهات حول التقية والرد عليها

4. البداء حقيقة قرآنية

ص:123

ص:124

1 إتقان الاستدلال بآية الابتلاء على عصمة الإمام

نُشر على صفحات موقع «كسر الصنم» مقالاً بقلم عبدالملك الشافعي بعنوان: إلى صناديد الإمامية: انهيار استدلالكم العقلي على العصمة المطلقة بآية إمامة إبراهيم عليه السلام.

وقد ناقش فيه الكاتب استدلال علماء الشيعة بآية إمامة إبراهيم عليه السلام وهي قوله تعالى: (وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (1).

وقال: وجدتهم يحاولون جاهداً، (كذا) اشتراط العصمة في الإمام مدى الحياة، وليس وقت إمامته فقط.

وحاصل استدلالهم: إنّ الناس بالنسبة إلى الظلم على أقسام أربعة:

1. من كان طيلة عمره ظالماً.

2. من كان طيلة عمره طاهراً ونقيّاً.

3. من كان ظالماً في بداية عمره وتائباً في آخره.

4. من كان طاهراً في بداية عمره وظالماً في آخره.

ص:125


1- . البقرة: 124.

عند ذلك يجب أن نقف على أنّ إبراهيم عليه السلام الّذي سأل الإمامة لبعض ذريته أراد أي قسم منها؟

حاشا لإبراهيم عليه السلام أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل والرابع من ذريته، لوضوح أنّ الفارق في الظلم من بداية عمره إلى آخره أو الموصوف به أيام تصديه للإمامة لا يصلح لأن يؤتمن عليها، فبقي القسمان الآخران، أعني: الثاني والثالث، وقد نصّ سبحانه على أنّه لا ينال عهده الظالم، والظالم في هذه العبارة لا ينطبق إلّاعلى القسم الثالث، أعني: مَن كان ظالماً في بداية عمره وصار تائباً حين التصدّي.

ثم علّق على هذا وقال: وتأمّل كيف نزّهوا باستدلالهم إبراهيم عليه السلام من سؤاله للإمامة للقسم الأوّل والرابع - من كان ظالماً مدى الحياة ومن كان نقيّاً ثم انحرف وقت تصديه للإمامة - ثم اعترفوا بأنّه عليه السلام قد طلبها للقسمين الثاني والثالث، فجاء الرفض الإلهي للقسم الثالث بعدم أهليته للإمامة... ليخرجوا بالنتيجة الّتي استماتوا في إثباتها وهي أنّ الإمام يجب أن يكون نقيّاً من الظلم طيلة عمره.

ثم إنّه ردّ على هذا الاستنتاج بقوله: نجد أنفسنا أمام حكمين عقليين متعارضين هما:

1. ما حكم به عقل إبراهيم عليه السلام من الاعتقاد بأنّ من كان ظالماً في بداية عمره تائباً وقت تصديه للإمامة، يصلح للإمامة مؤهلاً لها.

2. ما حكمت به عقول الإمامية من الاعتقاد بأنّ مَن كان ظالماً في بداية عمره وتائباً وقت تصديه للإمامة لا يصلح للإمامة وعدم أهليته لنيلها.

ص:126

وعليه فسيجد الإمامية أنفسهم بين خيارين:

1. إمّا أن يصحّحوا ما حكم به عقل إبراهيم عليه السلام من أهلية القسم الثالث للإمامة، وعندئذٍ يترتّب عليه بطلان عقيدتهم.

2. أو يصحّحوا ماحكمت به عقول الإمامية بمنع الإمامة عن القسم الثالث، ويترتّب عليه الطعن بإبراهيم عليه السلام والمتمثّل باتّهام عقله بالجهل والعجز.

هذا خلاصة ما كتبه صاحب المقال، وبما أنّه قال في آخر مقاله: وإنّا بانتظار العقلاء والمنصفين من الزملاء الإمامية ليبيّنوا موقفهم منه، وبأي الخيارين سيلتزمون، وتمثّل بقوله تعالى: (وَ ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) (1).

ونحن نزولاً على طلبه نقول:

لا تعجلن فقد أتاك مجي بُ صوتك غير عاجز

وسوف يكون جوابنا مشتملاً على نقطتين:

الأُولى: أنّ الكاتب بدل أن يجيب عن استدلال الإمامية بالآية المباركة على عصمة الإمام في عامّة المراحل، انتقل إلى أمر هامشي يُعدّ جدلاً لا استدلالاً. وسوف نجيب عن جدله في النقطة الثانية.

نحن نفترض أنّ باحثاً إسلامياً مستقلاً يريد استخراج العقيدة الإسلامية من القرآن الكريم والسنّة النبوية، ولا يريد أن يكون مقلّداً أشعرياً أو ماتريدياً أو معتزلياً أو إمامياً.

فعندئذٍ يبدأ بالتدبّر في الآية على النحو الّذي ذكرناه، فوجد في صميم

ص:127


1- . هود: 93.

ذاته أنّه لا يمكن أن يطلب إبراهيم عليه السلام الإمامة للقسمين التاليين:

1. الغارق في الظلم طيلة عمره.

2. النقي في بداية عمره والظالم وقت توليه الإمامة.

لأنّ بداهة العقل تحكم بعدم جواز تفويض مصالح الناس وأعراضهم بيد هؤلاء، الذين يمثّلون رجال العيث والفساد، يعبثون بنفوس الناس وأعراضهم وأموالهم كيفما شاءوا!!

ثم يجد هذا الباحث غير المنتسب إلى أي طائفة من الطوائف أنّ مطلوب إبراهيم عليه السلام من إفاضة الإمامة لذريته طبعاً هما القسمان الآخران.

إلى هنا يتفكّر هذا الباحث في الموضوع، فعندما ينتقل إلى جوابه سبحانه كأنّه يرفض قسماً ويقبل قسماً آخر، ينتقل إلى أنّ المرفوض هو الفاسد في أوّل عمره العادل زمان تولّيه الإمامة.

فلم يبق إلّامن كان نقيّاً طيلة عمره لم يعبد صنماً ولم يخضع بعنوان العبادة إلّاللّه سبحانه، ولم يشرب خمراً ولم يدنس نفسه بالخطيئة. فعندئذٍ نسأل كاتب المقال ما هو جوابه عن استدلال هذا الباحث ولا يسوغ له أن يبحث في حواشي المسألة، من أنّ الإمامية بين خيارين... الخ، إذ المفروض أنّ الباحث لا إمامي ولا أشعري ولا ماتريدي، ولا غير ذلك، وإنّما هو مسلم أسلم وجهه للّه وارتدى برداء الإسلام وأراد أن يعتقد بصميمه من المصدرين الكتاب والسنّة فإذا الكتاب يرشده إلى هذه الفكرة. فما هو جواب صاحب المقال، الّذي قال:

إنّنا مرتقبون ؟!

ص:128

والنقطة الثانية: إنّ الإمامية لم تتّخذ عصمة الإمام عقيدة إسلامية إلّاعن طريق التدبّر في آيات القرآن الكريم، وما أُثر في هذا الموضوع من أحاديث النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم الصحيحة.

ومن الآيات الّتي استنتجوا منها عصمة الإمام هي آية إمامة إبراهيم عليه السلام، فقد استفادوا من الحوار الدائر بين اللّه سبحانه وخليله بأنّ اللائق للإمامة هو الطاهر طول حياته.

فلو كان هناك فضل وكرامة فإنّما ترجع إلى الحوار، وبالتالي إلى اللّه سبحانه وإلى خليله عليه السلام، فحوارهما بمنزلة كلام المعلّم، والمستفيدون بمنزلة المتعلّم.

نعم استدلالهم بالآيات القرآنية على عصمة الإمام لا يصدّهم في المرحلة الثانية عن الرجوع إلى الفطرة السليمة والعقل الصريح الدالّ بأنّ تفويض الأمر إلى إنسان فاسق لا يخاف اللّه سبحانه بالغيب أمر ناقض لهدف الخلقة، كما هو الحال في أُصول عامّة العقائد. حيث يردفون الاستدلال بالآيات القرآنية بصريح المعقول الّذي لا يفارق الشرع قدر أنملة.

فالمصدر الرئيسي للباحث الإسلامي هو الكتاب والسنّة، ولكن ذلك لا يمنعه من الرجوع إلى العقل الصريح، الّذي به خاطب اللّه سبحانه عباده، وبه عرف اللّه وعرف رسله. وهذا كتابنا «الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل» يستدلّ على كلّ أصل من الأُصول الاعتقادية بالكتاب والسنّة والعقل، ولا يصدّه الاستدلال بالوحي عن الاستدلال بالعقل الفطري.

وبذلك يُعلم أنّ ما ذكره من أنّ الإمامية بين خيارين: وهو الأخذ بعقيدة

ص:129

إبراهيم (صلاحية الظالم للإمامة) والعدول عن معتقدهم، أو تفضيلهم عقولهم على عقل إبراهيم عليه السلام؛ غير تامّ .

إذ للإمامية أن تقول: لا نأخذ بهذا، ولا ذاك، بل نأخذ بشيء آخر يجمع بين كرامة الخليل وعظمة عقليته، وبين الاعتقاد بعصمة الإمام في عامّة المراحل.

وذلك أنّ الحوار الدائر بين اللّه سبحانه وخليله هو السبب الرئيسي لتواجد فكرة العصمة في أذهانهم، ولولا الحوار أو الآيات الأُخرى النازلة في هذا الصدد، لم يُتمكن من الجزم بالمسألة، فلو حاولنا التقييم، فالفضل يرجع إلى الوحي. من دون فرق بين آية الابتلاء وغيرها.

هذا ما نقدّمه إلى الكاتب لعلّه يجد فيه دواءً لما سمّاه داءً ، وحلّاً لما تصوّره إشكالاً وإعضالاً.

واللّه من وراء القصد

26 رجب المرجب 1432 ه

ص:130

2 رسالة نقدية حول قاعدتي الاختبار واللطف لا تعجلن فقد أتاك المجيب

اشارة

ليست الشيعة الإمامية بين خيارين - كما تدّعي - بل لهم خيار ثالث، وهو:

الالتزام بجهل الكاتب بحدود القاعدتين (الاختبار واللطف).

قرأنا في مقال كتبه عبدالكريم الشافعي يريد به إبطال قاعدة اللطف - الّتي يستدلّ بها الإمامية في موارد من مسائل كلامية - من خلال كلمات أوردها من «نهج البلاغة» وختم كلامه بأنّه ليس أمام الشيعة إلّاأمرين: إمّا قبول رأي أمير المؤمنين وترك هذه القاعدة، أو الأخذ بها ومخالفته. ثم قال: ونحن بانتظار العقلاء من الإمامية ليعلنوا بشجاعة بأي الخيارين سيلتزمون: (وَ ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) (1).

ونحن هنا سنثبت لصاحب المقال بأنّ الإمامية قاطبة لهم هنا خيار ثالث، وأنّ استدلاله بما في «نهج البلاغة» على بطلان قاعدة اللطف نابع عن جهله بالقاعدتين (الاختبار واللطف) وعدم معرفته بحدودهما. وأنّ تركيز الإمام على قاعدة الاختبار لا يعني بطلان قاعدة اللطف، إذ لكلّ موضع خاصّ . وإليك خلاصة استدلاله.

ص:131


1- . هود: 93.

قال الكاتب: وكان المنطلق والأرضية الّتي أسّس عليها الإمامية دعوتهم - بوجوب الإمامة على اللّه تعالى - هي كون الإمامة لطف يقرّب العباد من الطاعة يبعدهم عن المعصية، وعليه صارت نظرية اللطف - أي وجوب اللطف على اللّه - هي المرتكز الأساسي الّذي اعتمدوا عليه في إيجابهم نصب الإمام على اللّه تعالى، إلّاأنّي وقفت على نصّ خطير وصريح في أهم مصادر الإمامية المعتمدة ألا وهو «نهج البلاغة» - منسوب لعلي رضي اللّه عنه - ينسف نظرية اللطف الإلهي وذلك من خلال إيراده أُموراً لم يفعلها اللّه تعالى مع أنّ فعلها سيقرب العباد إلى الطاعة. وإليكم هذه الأُمور الّتي أوردها في خطبته المشهورة بالقاصعة:

ثم استدلّ الكاتب بنصوص ثلاثة، من أمير البيان علي عليه السلام:

النصّ الأوّل: قال عليه السلام حول الكعبة المقدّسة:

اشارة

1. فجعلها بيته الحرام (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ ) (1)

ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً، وَأَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا (الأرض، كما ذكر صاحب المقال) مَدَراً، وَأَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً.

بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ ، وَرِمَالٍ دَمِثَةٍ ،... وَلَوْ أَرَادَ سُبْحانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ ، وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ ، بَيْنَ جَنَّاتٍ وَأَنْهَارٍ، وَسَهْلٍ وَقَرَارٍ، جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الِّثمَارِ، مُلْتَفَّ الْبُنَى ، مُتَّصِلَ الْقُرَى ، بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ ، وَرَوْضَةٍ خَضْرَاءَ ... لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ .

ثم قال الإمام عليه السلام: وَلَوْ كَانَ الْأسَاسُ الَْمحْمُولُ عَلَيْهَا، وَالْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا، بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ ، وَيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ ، وَنُورٍ وَضِيَاءٍ ، لَخَفَّفَ ذلِكَ مُصَارَعَةَ

ص:132


1- . المائدة: 97.

الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ ، وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ .(1)

قال: فتأمّل كيف اعترف بلطفيّة هذا الأمر بقوله: يقرّب العباد إلى التسليم ويبعّدهم عن الشك والريب حيث قال: وَلَوْ كَانَ الْأِسَاسُ الَْمحْمُولُ عَلَيْهَا، وَالْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا، بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ ، وَيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ ، وَنُورٍ وَضِيَاءٍ ، لَخَفَّفَ ذلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ ، وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ . هذا كلامه.

أقول: نرى أنّ الكاتب قطّع الخطبة، فأخذ منها ما يفيده ظاهراً وترك ما يناقض غرضه.

فإنّ الإمام عليه السلام صدّر كلامه المذكور بقوله:

أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ اللّهَ سُبْحانَهُ ، اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عليه السلام، إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ ؛ بِأَحْجَارٍ لَاتَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ، وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ ، فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً.

ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً - إلى أن قال - حتّى يُهَلِّلُونَ (يهلّون) لِلّهِ حَوْلَهُ ، وَيَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ . قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ، ابْتِلَاءً عَظِيماً، وَامْتِحَاناً شَدِيداً، وَاخْتِبَاراً مُبِيناً، وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً.

إنّ المهم في هذه الفقرة أُمور أربعة:

ص:133


1- . نهج البلاغة: الخطبة القاصعة برقم 192.

1. ابتلاء عظيماً.

2. امتحاناً شديداً.

3. اختباراً مبيناً.

4. تمحيصاً بليغاً.

فإنّ هذه الكلمات تحدّد موضع كلام الإمام ومطرح نظره.

هذا ما حذفه الكاتب من صدر كلامه، وأمّا ما حذفه من ذيل كلامه فقوله:

يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الَْمجَاهِدِ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ ، إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ ، وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ ، وَلِيَجْعَلْ ذلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ ، وَ أَسْبَاباً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ .

فقد حذف ما يعبّر عن مقصود الإمام في المقام من الاختبار والامتحان.

وإذا وقفت على ما صدّر أمير البيان عليه السلام قوله بما ذكرنا أو ذيل كلامه بما عرفت، فاعلم أنّ هنا قاعدتين:

1. التكليف لغاية الاختبار وتمييز المطيع عن العاصي.

2. قاعدة اللطف بمعنى إيجاد الداعي إلى فعل الطاعة.

فإليك الكلام حول القاعدتين حتّى تتّضح حدودهما ولا يختلط موضع الأُولى بالثانية.

ص:134

الكلام حول قاعدة الاختبار

إنّ الاختبار - مع علمه سبحانه بواقع العباد - فلسفة التكليف والداعي إليه، يقول سبحانه: (ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (1).

وقال سبحانه: (لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ ) (2)، وقال سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (3).

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ ابتلاء وامتحان العباد سنّة إلهية.

إذا عرفت ذلك فقد ظهر أنّ الإمام عليّاً عليه السلام بصدد بيان هذه القاعدة، وأنّه سبحانه جعل بيته في أوعر بقاع الأرض حجراً ولم يجعله بين جنات وأنهار، ليبتلي بذلك عباده، فلو جعله كما قال عليه السلام: «بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ ، وَرَوْضَةٍ خَضْرَاءَ » لسارع الناس إلى زيارة بيته؛ لأنّ فيه ما تشتهيه أنفسهم من التمتّع بالحدائق الغنّاء والمناظر الجميلة والأجواء المعتدلة، وعندئذٍ لم يتميّز من قصد الكعبة لعبادة اللّه ممّن قصدها لأجل السياحة والترفّه.

ويدلّ على ما ذكرنا كلام الإمام في صدر الخطبة وذيلها الذي حذفه الكاتب بوعي أو بدون وعي، حيث قال عليه السلام في صدر الخطبة: «عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ . قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ

ص:135


1- . آل عمران: 179.
2- . الأنفال: 37.
3- . الملك: 2.

خَلْقِهِمُ ، ابْتِلَاءً عَظِيماً، وَامْتِحَاناً شَدِيداً، وَاخْتِبَاراً مُبِيناً، وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً».

وكما قال في ذيل كلامه: «وَلكِنَّ اللّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الَْمجَاهِدِ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ ، إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ ، وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ »، فالغاية من جعل البيت الحرام في هذه الأرض الخشنة والأجواء القاسية، هي لأجل الابتلاء والامتحان، الّذي هو غاية التكليف.

فاختبار العباد بالتكاليف الشاقّة لا يعني أنّه لا يجب على اللّه سبحانه - حسب حكمته - أن ينصب للعباد ما يقرّبهم إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية كالوعد والوعيد للمطيع والعاصي، كما سيوافيك في دراسة القاعدة الثانية.

فالاختبار بالشدائد أمر لازم لتمييز المطيع عن العاصي، وأمّا جعل الداعي على الطاعة في مواضع خاصّة فهو أمر آخر، لا ينازع أحدهما الآخر.

ومع ذلك فلم يترك اللّه سبحانه إعمال اللطف في الحج بطريق آخر وهو أنّه قال: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (1)، فقد عدّ مَن تركه تساهلاً أو عصياناً من الكافرين وإن كان الكفر هنا كفر النعمة لا كفر الملّة.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته للحسن والحسين عليهما السلام: «وَاللّهَ اللّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ ، لَاتُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا».(2)

ص:136


1- . آل عمران: 97.
2- . نهج البلاغة: 3/86: الرسالة رقم 47.

إلى غير ذلك من النصوص الحاثّة على الحجّ والابتعاد عن تركه، وسيوافيك أنّ الوعد والوعيد من أقسام اللطف الواجب على اللّه سبحانه حسب حكمته.

هذا كلّه حول النص الأوّل من كلام الإمام عليه السلام.

النصّ الثاني:

استدلّ صاحب المقال بنصّ آخر وهو قوله عليه السلام: «وَلَوْ أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ ، وَيَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ ، وَطِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ ، لَفَعَلَ . وَلَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً (خاشعة)، وَلَخَفَّتِ (لحقّت) الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ . وَلكِنَّ اللّهُ سُبْحانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ ، تَمْيِيزاً بِالْإِخْتِبَارِ لَهُمْ ، وَنَفْياً لِلْإِسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ ، وَإِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ »(1).

استدلّ الكاتب بهذا النص بقوله: فتأمّل كيف اعترف بلطفية هذا حيث قال: ولو أراد اللّه أن يخلق آدم من نور يخطف... ومع ذلك لم يفعل.

إنّ مراد الإمام في هذه الفقرة نفس ما ذكرناه في جعل بيت اللّه الحرام في أوعر المناطق، وهو أنّ الغاية من التكليف هي تمييز العابد للّه عن العابد لهواه، فلو خلق آدم على النحو الّذي بيّنه لظلّت له الأعناق خاضعة بلا اختيار، ولكنّه سبحانه لغاية الاختبار لم يخلقه من نور، بل خلقه من طين فسوّاه ونفخ فيه من روحه وأمر بالسجود له. فالإمام يركّز على أنّ الدواعي إلى الطاعة تجب أن تكون على حد لا تبطل غرض التكليف، أعني: تمييز المطيع للّه عن المنقاد

ص:137


1- . نهج البلاغة: الخطبة 192.

لهواه.

النصّ الثالث:

استدلّ الكاتب أيضاً، بنصّ ثالث وهو: قول الإمام عليه السلام في حقّ الأنبياء:

«وَلَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَاتُرَامُ ، وَعِزَّةٍ لَاتُضَامُ ، وَمُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ ، وَتُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ ، لَكَانَ ذلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْإِعْتِبَارِ، وَأَبْعَدَ لَهُمْ فِي الْإِسْتِكْبَارِ (الاستكثار)، وَلَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ ، أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ »(1).

ثم قال: فتأمل كيف اعترف بلطفية هذا الأمر بكونه يقربهم من الإيمان ويبعدهم عن المعصية والاستكبار، فقال: مع ذلك لم يفعل.

هذا ما ذكره الكاتب، ولم يذكر ذيل كلامه عليه السلام وهو:

«فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً ، وَالْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً . وَلكِنَّ اللّهَ سُبْحانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْإِتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ ، وَالتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ ، وَالْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ ، وَالْإِسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ ، وَالْإِسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ ، أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً ، لَاتَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ . وَكُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَالْإِخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَالْجَزَاءُ أَجْزَلَ ».

ترى أنّ الإمام علّل عدم جعل الأنبياء من أهل القوة والعزة والملك؛ لأنّهم لو كانوا كذلك لاتّبعهم الناس رغبة في دنياهم فبطل ما أراده اللّه سبحانه أن يكون الاتّباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع خالصاً لوجهه، واستكانة لأمره لا يشوبها من غيرها شائبة.

ص:138


1- . نهج البلاغة: الخطبة 192.

وقد علّق مشركو قريش إيمانهم بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم على أن يكون له جنّة نخيل وعنب فيفجّر الأنهار خلالها تفجيراً، أو يكون له بيت من زخرف إلى غير ذلك من الاقتراحات الّتي تسبب اتّباع الأنبياء طمعاً في دنياهم(1). وعندئذٍ يبطل الغرض من تكليفهم.

إلى هنا تمّ الكلام حول القاعدة الأُولى، فلنتكلّم حول القاعدة الثانية حتّى يعلم حدّ القاعدتين، بأنّ لكلّ حدّاً يسبب التمايز بينهما.

القاعدة الثانية: قاعدة اللطف

اشارة

ممّا يترتب على حكمته تعالى وجوب اللّطف عليه سبحانه. واللّطف عند المتكلّمين عبارة عمّا يقرّب المكلّف إلى الطاعة، ويبعّده عن المعصية، ثمّ إن اتّصل اللطف بوقوع التكليف يسمّى لطفاً محصِّلاً، وإلّا يسمّى لطفاً مقرِّباً، قال السيّد المرتضى:

إنّ اللطف ما دعا إلى فعل الطاعة، وينقسم إلى ما يختار المكلّف عنده فعل الطاعة ولولاه لم يختره، وإلى ما يكون أقرب إلى اختيارها، وكلا القسمين يشمله كونه داعياً.(2)

برهان وجوب اللطف
اشارة

استدلّوا على وجوب اللطف عليه سبحانه بأنّ ترك اللطف يناقض غرضه تعالى من خلقه العباد وتكليفهم، وهو قبيح لا يصدر من الحكيم، قال المحقّق

ص:139


1- . لاحظ سورة الإسراء: الآية 91 و 93.
2- . الذخيرة في علم الكلام للسيد المرتضى : 186.

البحراني:

إنّه لو جاز الإخلال به في الحكمة فبتقدير أن لا يفعله الحكيم، كان مناقضاً لغرضه، لكن اللازم باطل فالملزوم مثله.

بيان الملازمة: أنّه تعالى أراد من المكلّف الطاعة، فإذا علم أنّه لا يختار الطاعة، أو لا يكون أقرب إليها إلّاعند فعل يفعله به لا مشقّة عليه فيه ولا غضاضة، وجب في الحكمة أن يفعله، إذ لو أخلّ به لكشف ذلك عن عدم إرادته له، وجرى ذلك مجرى من أراد من غيره حضور طعامه وعلم أو غلب ظنّه أنّه لا يحضر بدون رسول، فمتى لم يرسل عدَّ مناقضاً لغرضه.

بيان بطلان اللازم: أنّ العقلاء يعدّون المناقضة للغرض سفهاً، وهو ضدّ الحكمة ونقص، والنقص عليه تعالى محال.(1)

وللسيد المرتضى بيان لإيضاح هذه القاعدة، قال: لو أنّ أحدنا دعا غيره إلى طعام وفرضنا أنه يعلم أو يغلب في ظنه أنّه متى تبسّم في وجهه أو كلّمه باللطيف من الكلام أو أنفذ إليه ابنه وما أشبه ذلك ممّا لا مشقّة عليه فيه، حضر ولم يتأخّر، وأنّه متى لم يفعل معه ذلك لم يضر على وجه من الوجوه - فعندئذٍ - وجب عليه متى استمر على إرادته منه الحضور، فلو لم يفعل لناقض غرضه.(2)

هذه هي قاعدة اللطف، ويترتّب على ذلك عدّة مسائل كلامية نشير إلى بعضها:

1. وجوب عصمة الأنبياء

ص:140


1- . قواعد المرام: 117-118.
2- . الذخيرة في علم الكلام: 193-194.

إنّ عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر بل تنزّههم من المنفّرات ممّا يقرّب العبد إلى الطاعة حيث إذا رأى بأُم عينيه أنّ الداعي إلى اللّه سبحانه يعمل بكل ما يأمر ويجتنب عمّا ينهى عنه، يذعن بصدق دعواه وصلته باللّه ويترتّب عليه أنّه يطيعه ولا يعصيه، حتّى أنّ مقتضى قاعدة اللطف تنزّه الأنبياء عن المنفّرات إمّا في خُلِقهِم كالرذائل النفسانية أو في خَلْقِهِم كالجذام والبرص، أو في نسبهم كالتولّد من الزنا ودناءة الآباء، فإنّ جميع هذه الأُمور يوجب ابتعاد الناس عنهم، بخلاف ما إذا كانوا مبرّأين من الجميع.

2. الوعد والوعيد

إنّ التكاليف الإلهية إذا خلت عن الوعد والوعيد لم تؤثر في العباد إلّا القليل منهم؛ بخلاف ما إذا كان فيه وعد ووعيد وترغيب وترهيب، فهو يقرّب العبد من الطاعة ويبعده عن المعصية.

3. وجوب نصب الإمام المعصوم

إنّ نصب الإمام المعصوم من اللّه سبحانه للأُمّة لطف من اللّه عليهم؛ وذلك لأنّ الإمامة عبارة عن الرئاسة العامّة في أُمور الدين والدنيا نيابة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فوجوده، يسبب عدم الاختلاف بين الأُمّة وعكوف الناس على بابه، كما كان كذلك في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم فلم يكن لأي نحلة من النحل أثر في عصره؛ بخلاف ما إذا لم يكن بينهم إمام معصوم فيدبّ بينهم الخلاف في المسائل العقائدية والفقهية والسياسية وغيرها، وقد شاهدنا أنّ الأُمّة بعد أن رفضوا وصية النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حقّ علي عليه السلام، دبّ الخلاف بينهم من السقيفة إلى ما بعدها

ص:141

وصارت الأُمّة ممزقة مختلفة الأهواء.

هذا بعض ما يمكن أنّ يقال حول القاعدة، وللمحقّقين من علمائنا رسائل في ذلك.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ اختبار الأُمّة في موارد ببعض التكاليف الشاقّة، شيءٌ ، وجعل الدواعي إلى الطاعة في مقامات خاصّة شيءٌ آخر، والقاعدتان لا تعارض بينهما، وليس في كلام الإمام علي عليه السلام شيء يستدلّ به على بطلان اللطف.

ونحن نتمنّى من صاحب المقال الإمعان فيما ذكرنا والإذعان للحق بشجاعة إن شاء اللّه تعالى، وأن يعلن رأيه فنحن مرتقبون، أيضاً.

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام - قم المقدّسة

17 من شهر رمضان 1432 ه

ص:142

3 شبهات حول التقية والرد عليها

زيارة وحوار مع الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين رئيس شؤون الحرمين الشريفين

إنّ زيارة البيت الحرام، والمشاهد المشرفة، تُعدّ من الآمال السامية لكلَّ مسلم، لأنّه مهبط الوحي ومطاف الملائكة، وقد دعا اللّه سبحانه إلى زيارته في الذكر الحكيم، ووصف تركه تهاوناً، كفراً بالنعم وقال: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (1) وفي آية أُخرى أمر بإتمام الحج والعمرة للّه وقال: (وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (2).

وقد رزقنا اللّه سبحانه نُسُك العمرة في شهر رجب الخير عام (1424 ه)، وبعدما فرغنا من الأعمال اقترح علينا العلّامة المغفور له الشيخ «محمد شريف مهدوي» والعلّامة «السيد عبدالوهاب نوّاب - حفظه اللّه» لقاء الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين، رئيس شؤون الحرمين الشريفين، بحجة أنّ الشيخ ذو خلق سامٍ وعزيمة صادقة في تقريب الخُطى بين المسلمين، فلبّيت اقتراحهما، فالتقيت به فرحّب بنا وتبادلنا معه أطراف الحديث، فوجدته رجلاً ساعياً في التقريب وراغباً في تعزيز العلاقات بين الطوائف الإسلامية، والحديث ذو

ص:143


1- . آل عمران: 97.
2- . البقرة: 196.

شجون.

ومن البحوث الّتي دارت بيننا وبينه مسألة السجود على الأرض الّذي دعا إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حديثه المتضافر حيث قال: «جعلت الأرض لي مسجداً وطهوراً» الّذي رواه الإمام البخاري أيضاً وقد جعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما هو الطهور مسجداً، من المعلوم أنّ المراد من الطهور هو: التراب (وأمثاله) الّذي يتيمّم به الإنسان المعذور بدلاً عن الوضوء والغسل، فعلى المسلمين السجود على الأرض لا السجود على السجّاد ونحوه.

ثم أضفت على كلامي وقلت: إنّ لكلّ ضيف قِرى ، ونحن ضيوفك، فأقرِنا بتمكيننا من السجود على الأرض خصوصاً في الحرم النبوي الشريف.

استمع الشيخ إلى كلامي بوعيٍ ودّقة، ولكن بدل أن يجيب بشيء من الكلام، أتى بأحد أعداد مجلّة «الميقات»، وهو العدد الّذي نُشر على صفحاته خطاب الإمام الخميني قدس سره لحجّاج بيت اللّه الحرام، وأفتى فيه بجواز السجود على السجاد وغيره، وأخذ يقرأ كلام الإمام من أوّله إلى آخره.

قلت: إنّ ما ذكره الإمام الخميني وهو أُستاذي الكبير صحيح بلا ريب، وأنّه أفتى بذلك حفظاً للوئام وصيانة لوحدة الأُمّة الّتي فيها قوّة الإسلام، وحذراً من تفرّق الكلمة الّذي فيه استنزاف وإهدار لإمكانيات الأُمّة، فلمّا تمّ كلامي رأيت على أسارير الشيخ علامات الرضا بما قلت، وتلقّى ما اقترحته أمراً منطقياً، ولكنّه اعتذر بأنّ ذلك الأمر يثير الجهّال علينا. وكان الشيخ راغباً في فهم فتوى الإمام.

فقلنا له: إنّه من مقولة التقية التحبيبية أو المدارائية لغاية حفظ الوئام.

وعندئذٍ وقفت على أنّ المشايخ العظام في الحرمين الشريفين غير واقفين على

ص:144

فقه أهل البيت عليهم السلام وأنّ الاحكام الشرعية تنقسم إلى واقعية أوّلية، وواقعية ثانوية.

والإفتاء بالسجود على السجّاد من القسم الثاني.

هذا ما دعاني إلى كتابة هذا المقال خصوصاً بعدما قرأت في مقال لكاتب سمّى نفسه «أبو عامر» حول التقية. ومن العجب العجاب أنّه قسّمها - بعد القول بالجواز - إلى شرعية وبدعيّة، وأنّ ما عند الشيعة هو من القسم الثاني، وأنّ بين التقيتين فروقاً سبعة؛ فدفاعاً عن الحقيقة ندرس ما ذكره الكاتب من الفروق، ليتبيّن لنا، هل لها مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، أو أنّها ممّا اختلقتها أفكار الكاتب، ودعاه إليها حقده على الشيعة أوّلاً وعدم تعرّفه على عقائدهم ثانياً؟ ولولا هذان الأمران لما أتعب نفسه في اختلاق هذه الفروق. وإليك بيانها ونقدها: وسيظهر للقارئ أنّ هنا تقية واحدة أصفقت عليها الأُمة الإسلامية جمعاء لا تقيتان.

1. يقول: يظن بعض المسلمين أنّ التقية خاصّة بالشيعة الإمامية ولا يعلمون أنّ التقيّة من الأحكام الشرعية الثابتة في كتاب اللّه تعالى، وفي سنّة رسوله صلى الله عليه و آله و سلم، وتعامل بها السلف رحمهم الله، ولكن السؤال هل هذه التقية الشرعية هي نفسها التقية الشيعية ؟

الجواب: لا، لوجود الفروق بين التقيتين:

الفرق الأوّل: التقية الشرعية من فروع الدين لا من الأُصول، وأمّا التقية الشيعية فهي من أُصول الدين. ثم استدلّ بالحديثين التاليين:

أ. ما روي عن جعفر الصادق عليه السلام: أنّه قال: «إنّ تسعة أعشار الدين في

ص:145

التقية، ولا دين لمن لا تقية له».(1)

ب. وروي عنه أيضاً: «لو قلتُ إنّ تارك التقية كتارك الصلاة لكنتُ صادقاً».(2)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الكاتب قد اعترف بجهل بعض المسلمين بأنّ التقية من الأحكام الشرعية الثابتة في كتاب اللّه وسنّة رسوله، وطالما كان هذا الجهل سبباً للتحامل على الشيعة القائلين بها، حيث كانوا يعدّون الشيعة منافقين لقولهم بالتقية، فنشكر اللّه سبحانه على أنّه قد هدى الكاتب إلى ما هو الحق الّذي كان عليه الشيعة منذ أن نزل بها الكتاب والسنّة. وكيف يمكن إنكار كون التقية أمراً مشروعاً وقد وقف الأبكم والأصمّ على تقية عمّار في نيله من النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومجيئه إليه باكياً ونزول القرآن في حقّه.

قال سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (3).

وليست هذه الآية هي الوحيدة في هذا المقام، بل نزل الذكر الحكيم بها في آية أُخرى قال سبحانه: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ

ص:146


1- . وسائل الشيعة: ج 16، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 2.
2- . وسائل الشيعة: ج 16، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 27.
3- . النحل: 106.

يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ) (1).

وقد مدح سبحانه وتعالى فعل مؤمن آل فرعون حيث أخذ التقية ترساً ودرعاً في دفاعه عن نبي اللّه موسى عليه السلام.

قال سبحانه: (وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ ) (2).

إلى هنا تبيّن أنّ التقية أمر مشروع جاء به الصادع بالحق في كتابه المنزل، وأقرّ به عملاً في ما جرى على الصحابي عمّار بن ياسر في تعامله مع مشركي قريش.

وثانياً: لا أظنّ أنّ فقيهاً من فقهاء الشيعة عدّ التقية من أُصول الدين، فإنّ أُصول الدين عند الشيعة الإمامية ثلاثة؛ هي: التوحيد، والنبوة، والمعاد .

وأمّا القول بالعدل والإمامة فهي من خصائص المذهب الّتي بها تتميّز الشيعة عن سائر الطوائف، فإنّ لكلّ طائفة ميزة خاصّة تتميّز بها عن غيرها. مثلاً إنّ المذهب الأشعري يتميّز بالقول برؤية اللّه يوم القيامة وأنّ القرآن غير مخلوق، وأنّ أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه حتّى أنّ الإمام الأشعري عندما انتقل من الاعتزال إلى مذهب أحمد بن حنبل قام في جامع البصرة وقال: أيّها الناس مَن عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي. أنا فلان بن فلان كنت

ص:147


1- . آل عمران: 28.
2- . غافر: 28.

قلت: بخلق القرآن، وانّ اللّه لا يُرى بالأبصار، وأنّ أفعال الشر أنا أفعلها؛ وأنا تائب مقلع معتقد بالرد على المعتزلة وخرج بفضائحهم ومعائبهم.(1)

وهذه كتب الشيعة في العقائد والأحكام لا ترى فيها من يعدّ التقية من الأُصول، بل التقية كسائر الأحكام العملية.

وهي من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أورد الشيخ الحرّ العاملي عامّة روايات التقية في هذا المقام، ومع ذلك كيف يمكن رمي الشيعة بأنّ التقية عندهم من الأُصول ؟!

أضف إلى ذلك: أنّ المائز بين كون الشيء من الأُصول أو الفروع هو أنّه لو كان الشيء من الأُمور القلبية الّتي يجب الالتزام بها فيعدّ من الأُصول، كالتوحيد على عامّة مراتبه، والنبّوة العامّة والخاصّة، والمعاد إلى غير ذلك من الأُمور الّتي ربما يقال بوجوب الالتزام بها عند الالتفات، وأمّا لو كان مصبّ الشيء هو العمل الجانحي كالصلاة والزكاة فهو من الفروع، ومن المعلوم أنّ التقية عبارة عن القيام بالأعمال الّتي تدفع شر العدوّ الغاشم من دون التزام بصحّة ما عمل، فتكون من الفروع لا محالة.

وبعبارة أُخرى: التقية سلاح الضعيف في البيئات الّتي كُبتت فيها الحرّية، فلا يجد المسلم الشيعي بدّاً من مماشاة المجتمع فيما يرجع إلى الأُمور العبادية وغيرها، فهل يمكن عدّ مثل ذلك من الأُصول ؟!

أمّا ما استدل به من الحديثين فقد غفل عن سبب صدورهما، فقد كان الشيعة إبّان الحكم الأمويّ يُقتلون تحت كلّ حجر ومدر، ورمي الرجل بالكفر

ص:148


1- . فهرست ابن النديم: 271؛ وفيات الأعيان: 3/285.

يومَ ذاك كان أسهل عليه من رميه بالتشيّع!! وذلك من أجل المرسوم الحكومي الّذي أصدره معاوية بن أبي سفيان إلى الأمصار، وبقي ساري المفعول إلى نهاية الحكم الأموي وبعده أيضاً. فقد ذكر ابن أبي الحديد نقلاً عن أبي الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة!!: أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدَّ الناس بلاء حينئذٍ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي عليه السلام، فاستعمل عليها زياد بن سميّة وضمّ إليه البصرة فكان يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف، لأنّه كان منهم أيام علي عليه السلام فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطردهم وشرّدهم من العراق، فلم يبق بها معروف منهم.(1)

ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين عليه السلام وتولّي عبدالملك بن مروان، فاشتدّ على الشيعة وولّى عليهم الحجّاج بن يوسف، فتقرّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض عليّ وموالاة أعدائه وموالاة من يدّعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا من الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم وأكثروا من الغضّ من علي عليه السلام وعيبه والطعن فيه والشنآن له حتّى أنّ إنساناً وقف للحجّاج - ويقال أنّه جدّ الأصمعي عبدالملك بن قريب - فصاح به: أيّها الأمير إنّ أهلي عقّوني فسمّوني علّياً وإنّي فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج. فتضاحك له الحجّاج

ص:149


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11/46.

وقال: لِلُطف ما توسّلت به قد ولّيتك موضع كذا.(1)

ففي هذه الأجواء القاسية الّتي يتقرَّب فيها بقتل الشيعة إلى الحكّام يرى بعض شباب الشيعة، التظاهرَ بالعقيدة لساناً وعملاً أمراً مقرّباً إلى اللّه سبحانه، فلأجل صيانة دمائهم وعدم إراقتها دون طائل صدرت هذه الروايات للمنع عن التظاهر بالتشيّع، ولم يكن هناك تعبير أردع لشيعة الإمام عن التظاهر بالتشيّع إلّا أن يقول عليه السلام: «لا دين لمن لا تقيّة له».

وبعبارة أُخرى: أنّ الهدف من هذه التعابير هو التأكيد على العمل بالتقية، لأنّ كثيراً من شيعة الأئمة كانوا لا يحتاطون فيعرِّضون أنفسهم وأموالهم للخطر بتظاهرهم بالتشيّع، وربما يتسرّعون إلى ذلك بلا مبالاة تصوّراً منهم أنّ هذا النوع من الاضطهاد شهادة في سبيل اللّه، ولأجل إيقافهم عن هذا الأمر أخذ الإمام يخاطبهم بهذا الخطاب ويؤكّد عليهم.

وهذا الأُسلوب من الكلام غير بعيد عن كلمات الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته عليهم السلام نظير قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا صلاة لجار المسجد إلّافي المسجد».

ولمّا صار عدم الاعتداد بهذا الحكم سبباً لسفك الدماء وإزهاق أرواح الشيعة أخذ الإمام عليه السلام بالتأكيد على النحو الّذي عرفناه، وكذلك فمن أساليب المبالغة في المقام قول المعصوم: «إنّ تسعة أعشار الدين في التقيّة».(2)

وهنا احتمال آخر لقوله عليه السلام: «لا إيمان لمن لا تقية له» وهو نفي الإيمان

ص:150


1- . المصدر نفسه.
2- . في السند الّذي ذكره الكليني لهذه الرواية ورد أبو عمر الأعجمي، وليس له في الكتب الأربعة رواية غيرها، وهو لم يوثّق.

بمعنى الالتزام العملي الّذي هو من آثار الإيمان، لا الإيمان القلبي الّذي يدور على وجوده وعدمه الإيمان والكفر.

وأفصح دليل على أنّ التقية من الأحكام الشرعية الفرعية لا من الأُصول هو نفس ما رواه الكاتب عن الصادق عليه السلام من أنّه شبّه تارك التقية بتارك الصلاة، ومن المعلوم أنّ وجوب الصلاة حكم فرعي من الأحكام الشرعية الّذي لو تركه مسلم تساهلاً يعاقب ولا يكفّر، وهكذا تارك التقية.

وثالثاً: أنّ للتقيّة حقيقة واحدة، وهي المماشاة مع المخالف إذا خيف من ضرره فحقيقتها لا تختلف باختلاف الأنظار، سواء أقيل: إنّها من الأحكام الشرعية، أو قيل إنّها من الأُصول، فالحقيقة واحدة واختلاف الأنظار في تحليلها لا يوجب التعدّد حتّى يقال: إنّ هنا تقيّة شرعية، وتقية شيعيّة، ولنوضح الحال بمثال: إنّ ترك الصوم تقيّة في يوم الشكّ ومماشاة للحكم الصادر ممّن ليس له أهليّة الحكم، حقيقة واحدة، سواء أقلنا بأنّ التقيّة هنا من الفروع أو من الأُصول، واختلاف المحلّلين لا يؤثر في حقيقة الشيء ولا يوجب تعدّده، والعجب أنّ الكاتب جعل اختلاف الأنظار على فرض ثبوته أمراً داخلاً في حقيقة التقيّة!!

وأظنّ أنّ الكاتب لو كان منصفاً لأذعن بخطئه، وأنّ استنباطه من الحديث استنباط خاطئ.

هذا كلّه يرجع إلى الفرق الأوّل، وإليك دراسة الفرق الثاني.

***

قال: الفرق الثاني: أنّ التقية الشرعية إنّما تستخدم مع الكفّار لا مع

ص:151

المؤمنين، وأمّا التقيّة الشيعية فهي مع أهل السنّة.

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره، هو نتيجة جموده على مورد الآيات الّتي قدّمنا ذكرها مع غضّ النظر عن الغاية الّتي شرّعت لأجلها التقية، وإلّا فالملاك هو صيانة النفس والنفيس من الاعتداء، سواء كان المعتدي كافراً أم مخالفاً أم مؤالفاً، فقد يُبتلى المسلم بأخيه المسلم الّذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردد في إيذائه إذا عرفه. ففي تلك الظروف يحكم العقل بصيانة النفس والنفيس من شر المخالف وذلك باستعمال التقية، فلو كان هناك وِزر فإنّما يتوجّه إلى من يُتقى منه لا إلى المتّقي، إذ لو سادت الحرية بين جميع أبناء المذاهب الإسلامية لما اتّقى أحد إلى يوم القيامة، ولذلك نرى أنّ جمعاً من علماء السنّة قد أفتوا بجواز التقية من السلطان السنّي إذا كان جائراً، وإليك بعض كلماتهم:

1. يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) : ظاهر الآية على أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين، إلّاأنّ مذهب الشافعي - رضي اللّه عنه - أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين، حلّت التقيّة محاماة عن النفس.

وقال: التقيّة جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال ؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» وقوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«من قُتل دون ماله فهو شهيد».(1)

2. ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار

ص:152


1- . مفاتيح الغيب: 8/13 في تفسير الآية.

الحقّ على الخلق» ما هذا نصه: «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران: أحدهما:

خوف العارفين - مع قلّتهم - من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقيّة عند ذلك بنصّ القرآن، وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ ، ولا برح المحقّ عدوّاً لأكثر الخلق، وقد صحّ عن أبي هريرة أنّه قال في ذلك العصر الأوّل: «حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم».(1)

3. وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه: (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) : ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسّم في وجوههم، وبذل المال لهم؛ لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعدّ هذا من الموالاة المنهيّ عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة».(2)

وحصيلة الكلام: أنّه يظهر من غضون التاريخ أنّ التقية من السلطان الجائر كان أمراً شائعاً، وكان المسلمون يعملون بالتقية مستلهمين ذلك من قوله سبحانه: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (3).

فهذا هو ابن الحنفية قد قال لبعض الغزاة: لا تفارق الأُمّة. اتق هؤلاء القوم بتقيتهم - قال الراوي: يعني بني أُمية - ولا تقاتل معهم. قال: قلت: وما تقيتهم ؟ قال: تحضرهم وجهك عند دعوتهم، فيدفع اللّه بذلك عنك عن دمك ودينك،

ص:153


1- . محاسن التأويل: 4/82. ومعنى ذلك أنّ أبا هريرة اتّقى وترك الواجب - أي بثّ حديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم - تقية وحفظاً لنفسه.
2- . تفسير المراغي: 3/136.
3- . آل عمران: 28.

وتصيب من مال اللّه الّذي أنت أحق به منهم(1).

وقال ابن مسعود: ما من كلام يدرأ عنّي سوطين من ذي سلطان إلّاكنت متكلّماً به(2).

وقد كان حذيفة يقول: فتنة السوط أشدّ من فتنة السيف. قال السرخسي:

فكان حذيفة ممّن يستعمل التقية.(3)

وفي الروايات: قال جابر بن عبداللّه: لا جناح عليّ في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها.(4)

وعن بريدة بن عميرة: قال: لحقت بعبد اللّه بن مسعود، فأمرني بما أمره به رسول اللّه أن أُصلّي الصلاة لوقتها واجعل صلاتهم تسبيحاً، قال ابن عساكر:

يعني أنّ الأُمراء إذا أخّروا الصلاة أُصلّيها لوقتها ثم أُصلّي معهم نافلة مخافة الفتنة.(5)

وروى أحمد في مسنده عن أبي ذر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال له: كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخّرون الصلاة ؟ ثم قال: صلّ الصلاة لوقتها ثم انهض، فإن كنت في المسجد حتّى تقام الصلاة فصلِّ معهم.(6)

إلى غير ذلك ممّا يجده المتتبع في غضون التاريخ أنّ المسلمين كانوا

ص:154


1- . الطبقات الكبرى، لابن سعد: 5/96؛ التقية عند أهل البيت عليهم السلام لمصطفى قصير العاملي: 28.
2- . الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 10/183 و 190 في تفسير الآية 106 من سورة النحل (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ...)؛ التقية عند أهل البيت عليهم السلام: 28.
3- . المبسوط، للسرخسي: 24/46؛ التقية عند أهل البيت عليهم السلام: 28.
4- . المبسوط، للسرخسي: 24/47؛ التقية عند أهل البيت عليهم السلام: 28.
5- . تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر: 9/205.
6- . مسند أحمد: 5/168.

يتّقون من السلاطين، وكان من مظاهر التقية مسألة الزكاة.

قال أبان: دخلت على الحسن وهو متوارٍ زمن الحجّاج في بيت أبي خليفة فقال له رجل: سألت ابن عمر أدفع الزكاة إلى الأُمراء؟ فقال ابن عمر:

ضعها في الفقراء والمساكين، فقال لي الحسن: ألم أقل لك إنّ ابن عمر كان إذا أمن الرجل قال: ضعها في الفقراء والمساكين ؟(1)

فالشيعة، إذن تتّقي الكفّار في ظروف خاصّة لنفس الغاية التي لأجلها يتّقيهم السنّيّ ، غير أنّ الشيعي ولأسباب لا تخفى، يلجأ إلى الاتّقاء من أخيه المسلم لا لقصور في الشيعي، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك؛ لأنّه يدرك أنّ الفتك والقتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الذي هو عنده موافق لأُصول الشرع الإسلامي وعقائده.

نعم كان الشيعي وإلى وقت قريب يتحاشى أن يقول: إنّ اللّه ليس له جهة، أو أنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة، وإنّ المرجعية العلمية والسياسية لأهل البيت عليهم السلام بعد رحيل النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، أو إنّ حكم المتعة غير منسوخ؛ فإنّ الشيعي إذا صرّح بهذه الحقائق - التي استنبطت من الكتاب والسنّة - سوف يُعرّض نفسه ونفيسه للمهالك والمخاطر. وقد مرّ عليك كلام الرازي وجمال الدين القاسمي والمراغي وغيرهم الصريح في جواز هذا النوع من التقية، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب، جمود على ظاهر الآية، وسدّ لباب الفهم، ورفض للملاك الذي شرّعت لأجله التقية، وإعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهمّ إذا عارضه المهمّ .

ص:155


1- . المصنّف: لعبدالرزاق الصنعاني: 4/47-48.

وبذلك يظهر ضعف اطّلاع الكاتب على مذهبه وكلمات علمائه حيث خصّ التقيّة بالتقية من الكافر.

***

قال: الفرق الثالث: التقية الشرعية رخصة وليست عزيمة. وقال في توضيحها: التقية الشرعية جاءت رخصة وتخفيفاً على الأُمة في بعض الأحوال الاستثنائية الضرورية، ولا حرج لمن ترك هذه الرخصة وأخذ بالعزيمة؛ وأمّا التقيّة الشيعية فهي عزيمة، وواجبة ولا فرق في استخدامها بين حالتي الإكراه والاضطرار وبين حالة السعة والاختيار.

يلاحظ عليه: أنّ الكاتب غير واقف على فقه الشيعة، ولذا وصف التقية عندهم بالوجوب واللزوم في حالتي الاضطرار والاختيار، ولكنّه غفل عن أنّ التقية عندهم تنقسم إلى أحكام خمسة حسب انقسام الأحكام إليها، فهي بين:

واجب إلى مندوب إلى مباح إلى مكروه وحرام، وهذا هو الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري (1214-1281 ه) قد ألّف رسالة مستقلّة، وذكر أنّها تنقسم حسب انقسام الحكم الشرعي إليها.

فالقسم الواجب ما يكون لدفع ضرر متوجّه إليه من النفس أو العرض فتكون التقيّة واجبة باعتبار غايتها وهي حفظ النفس والنفيس نزولاً على حكم العقل الحصيف، أفيصحّ في منطق العقل أن يعرّض الإنسان نفسه للهلاك وعرضه إلى الهتّك مع أنّه يمكن صيانتهما بمجرّد المماشاة مع العدوّ لفظاً أو عملاً؟! فمن قال بجواز التقية فلعلّه أراد به الجواز بالمعنى الأعم الّذي يجتمع مع الوجوب.

ص:156

وأمّا القسم المحرّم فهو كما في الدماء، فاذا توقّف العمل بالتقية على قتل المؤمن البريء فالتقية عندئذٍ حرام، فقد أُثر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام قولهم: «إنّما جعلت التقية ليُحقَن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقيّة».(1)

وأمّا سائر الأقسام فمن أراد التعرّف عليها، فليرجع إلى رسالة الشيخ الأنصاري وغيرها ممّا ألّف في هذا المقام.

وممّا يجب التنبيه عليه أنّ التقية تحرم في غير موضع الدم أيضاً، وهذا فيما إذا تعلّق بأساس الدين، كما قام أعداء الدين بعمل فيه هدم الدين، فتحرم التقية ويجب عليه تحمل الضرر مهما بلغ وإن كان بقيمة نفسه.

ونظير ذلك فيما إذا كان المكره عليه أمراً تجوز فيه التقية، كما في شرب الخمر أو اللعب بالقمار، ولكن إذا أكره السلطان الجائر أحد القادة الدينيين أو زعيماً من الزعماء الروحيين أو مرجعاً من مراجع الدين على مثل هذه الأُمور فتحرم عليه التقية، إذ في ذلك العمل تراجع الناس عن الدين وزعزعة إيمانهم، وبذلك تقف على سرّ صمود حجر بن عدي وأصحابه الذين قتلوا في مرج العذراء، فمدّوا الرقاب للسيوف ولم يتبرّأوا من علي عليه السلام، ومثلهم ميثم التّمار وغيره، وذلك لأنّ هذه الشخصيات من الأماثل الكبار من أصحاب علي عليه السلام الذين بهم عرف الناس التشيّع واعتمدوا عليهم، فلو استجابوا لما دعوا إليه من البراءة عن علي عليه السلام لخرج الناس عن دين اللّه وارتدوا.

قال سيدنا الأُستاذ الإمام الخميني قدس سره: إذا كان الاتقاء موجباً لرواج الباطل وإضلال الناس وإحياء الظلم والجور بحيث لو عُمل بالتقية أصبح دين الإسلام

ص:157


1- . وسائل الشيعة: ج 16، الباب 31 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 1 و 3.

الذي هو دين كلّ فضيلة رابية، دينَ المكر والغدر والحيلة، مثلاً إذا أوعد السلطان الجائر عالم الشريعة وخيّره بين إنكار ضرورة من ضروريات الإسلام وبين قتله، كان اختيار الثاني هو المتعيّن، حتى ولو خيّره بين القتل وارتكاب معصية من المعاصي التي تورث تزلزل الناس عن الدين، فعندئذٍ تحرم عليه التقية.

مثلاً لو خُيّر المرجع الديني بين لعب القمار أو شرب الخمر أو كشف حجاب زوجته بين الناس وبين الحبس والقتل، فالثاني هو المتعيّن، فلا أظن أنّه يخطر ببال أي فقيه في هذا المقام العمل بالتقية، وتحكيم أدلّتها على حفظ الدين وسلامة العقيدة بين الناس.

فالمقام من باب التزاحم الذي يقدّم فيه الأهم فالأهم على غيره، فلو كانت هناك مؤامرة على الدين وقوانينه وأحكامه فالتقية تصبح محرمة وإن بلغ الأمر ما بلغ.

وبذلك تقف على أنّ كلام القائل بأنّه ليس للتقية عند الشيعة إلّاقسم واحد وهو الوجوب والعزيمة، يعرب عن عدم اطّلاعه على فقه الشيعة.

***

قال: الفرق الرابع: التقية الشرعية إنّما يلجأ إليها في حالة الضعف لا في جميع الأحوال، وأمّا التقية الشيعية فهي في جميع الأحوال بلا استثناء، ولا تفريق بين حالة الضعف وحالة القوة، وينقلون عن الصادق عليه السلام أنّه قال:

«ليس منّا من لم يجعلها شعاره ودِثاره مع من يأمنُه، لتكون سجيّته مع من

ص:158

يحذره»(1).

يلاحظ عليه: أنّ التقية سلاح الضعيف في البيئات الّتي كُبتت فيها الحرية، فإذا كان هناك خطر على النفس والنفيس فالتقية أمر واجب عقلاً وشرعاً، وهذا ما يعبّر عنه بالتقية الخوفية.

وهناك تقية أُخرى يعبّر عنها بالتقية المدارائية، وهي المماشاة مع سائر المسلمين في الحرمين الشريفين، وذلك لا لأجل الخوف بل لأجل حفظ وحدة الأُمة الإسلامية ومصالحها، فلا شك أنّ وحدة الكلمة هي مصدر قوة الأُمّة وأنّ اختلافها سبب انهيار أركان المجتمع وضعفه، فظهر أنّ رمي الكاتب الشيعة بالقول بوجوب التقية في الاضطرار والاختيار خلاف ما عليه فقهاء الشيعة، فهم يفرّقون بين التقيتين الخوفية والمدارائية، ويحكم عليها بالوجوب في الأُولى وبالاستحباب في الثانية.

***

قال: الفرق الخامس: التقيّة الشرعية إنّما تكون باللسان لا بالأفعال، وأمّا التقية الشيعية فهي باللسان وبالأفعال.

يلاحظ عليه: ما هو الدليل على تخصيص التقية باللسان، فإذا كانت الغاية هي حفظ النفس والعرض، فلا فرق بين دفع الشرّ باللسان أو بعمل من الأعمال، وقد مرّ عن الشيخ المراغي قوله: ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة وإلانة الكلام لهم والتبسّم في وجوههم، وبذل المال لهم لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم ولا يعدّ هذا من الموالاة المنهيّ عنها، بل هو مشروع، قد

ص:159


1- . وسائل الشيعة: ج 16، الباب 24 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 29.

أخرج الطبراني قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ما وقى المؤمن به عرضه فهو صدقة».(1)

وقد مرّ عن بريدة بن عميرة. قال: لحقت بعبداللّه بن مسعود، فأمرني بما أمره به رسول اللّه أنّ أُصلي الصلاة لوقتها واجعل صلاتهم تسبيحاً. قال ابن عساكر: يعني أنّ الأُمراء إذا أخّروا الصلاة أُصلّيها لوقتها ثم أُصلّي معهم نافلة مخافة الفتنة.(2)

أفيصح بعد هذا أن يقول الكاتب باختصاص التقية باللسان ؟!

***

قال: الفرق السادس: التقية الشرعية لا يجوز أن تكون سجيّة للمسلم في جميع أحواله، وأمّا التقية الشيعية فهي ملازمة بطبيعة الفرد الشيعي ومستمرّة معه فهو يستخدمها في جميع أحواله.

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنّ هذا ليس فرقاً جديداً، وإنّما هو تعبير آخر عن الفرق الرابع، وقد تقدّم أنّ الشيعة تتّقي إمّا خوفاً وإمّا مداراة في الحرمين الشريفين، وأمّا في غير هذين الموردين فلا تجد فيه أي أثر للتقية، وهذه كتب الشيعة ومجلّاتهم وإذاعاتهم وخطباؤهم كلّهم ينطقون بلسان واحد على ضوء الكتاب والسنّة دون أن يعدلوا عنهما قيد شعرة.

والّذي يوضح ذلك: أنّ التقية أمر طارئ على حياة الشيعي وإلّا فهو على مذهبه وعقيدته، يكتب وينطق بما هو الحقّ عنده من دون هوادة، فكيف تكون التقية أمراً ملازماً بطبيعة الفرد الشيعي ؟

ص:160


1- . تفسير المراغي: 3/136.
2- . تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر: 9/205.

نعم في القرون السابقة خصوصاً في عهد الأمويّين وشيء من عهد العباسيين - عندما وثبوا على منصّة الحكم بالجور والتعسّف على كل من لا يوافقهم - لم يجد الشيعي مخرجاً دون أن يتقي ما دام يعيش بينهم.

أُقسم باللّه (وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) (1) لو سادت الحريّة الدينية بين المسلمين في عامّة الأجواء والأماكن لما تجد أي أثر للتقية في حياة المسلم سنّياً كان أو شيعياً، ولو ترى وجودها في حياة الشيعي في بيئة أو ظرف فإنّما يرجع وزره إلى من ألجأه إلى التقية وإلّا لعملت كلّ طائفة بفقه إمامها، ولقد سمعت من صديقي المغفور له الشيخ محمد جواد مغنية قوله: دعيت إلى مؤتمر في مصر فلمّا شاركت في الجلسة التحضيرية رأيت أنّ بعض أساتذة الأزهر يشير إليّ ويقول: إنّ الشيخ قائل بالتقية، فقلت بصوت عالٍ : نعم أنا قائل بالتقية وعامل بها، لكنْ لعن اللّه مَن حملنا على التقية.

***

قال: الفرق السابع: لا يفهم من التقية الشرعية أنّها من أجل إعزاز الدين، وإنّما يكون إعزاز الدين من خلال إظهاره على الملأ وعدم كتمانه. وأمّا التقية الشيعية فهي من أجل إعزاز دينهم، فدين الشيعة - كما يعتقدون - لا يعزّ إلّاإذا كُتم.

يلاحظ عليه: إذا كان إعزاز الدين مبنياً على إظهاره على الملأ وعدم كتمانه مطلقاً، واجه الخطر أو لا، فإذاً تصبح التقية المشروعة إذلالاً للدين وتضعيفاً له ؟ أفيصحّ أن يقال: إنّه سبحانه وتعالى أذلّ بتشريع التقية دينه وأضعفه ولو في فترة

ص:161


1- . الواقعة: 76.

خاصّة ؟ ما هذا الكلام ياترى ؟!

لا شكّ أنّ الواجب أوّلاً وبالذات هو إظهار الدين وعدم كتمانه، وهذا ممّا لا شكّ فيه، ولكن لا محيص من السكوت عن إظهار الدين، والمماشاة مع المخالف، في ظروف خاصّة ولكنّه قضية جزئية في مواقع خاصّة، لا تؤثر في إعزاز الدين.

وأخيراً: إنّ الكاتب قد خرج عن الأدب الإسلامي ووصف الشيعة بالزندقة والكذب والنفاق.

ولو صحّ ما نقله عن إمامه ابن تيمية: «قد اتّفق أهل العلم على أنّ الرافضة أكذب الطوائف» فما معنى قول الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب: إنّ البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلوّ التشيّع، أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرف؛ فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والوَرَع والصدق. فلو رُدَّ حديثُ هؤلاء لذهب جملةٌ من الآثار النبوية؛ وهذه مفسدة بيِّنة.(1)

ونحن نمرّ عليه مرور الكرام ولا نقول فيه إلّاقول ربنا: (وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (2).

وأدعه وسبّه مترنماً بقول القائل:

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني فمضيت ثمتَ قلتُ لا يعنيني

قم - الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

10 شوال المكرم 1432 ه

ص:162


1- . ميزان الاعتدال: 1/5.
2- . الفرقان: 63.

ص:163

4 البداء حقيقة قرآنية

اشارة

نُشر في موقع البرهان مقالاً حول البداء عند الإمامية، وممّا جاء في مقدّمة هذا المقال، قوله:

[تحتّل مسألة البداء مكانة رفيعة في عقيدة الإمامية الإثني عشرية، حتى لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب عقائدهم، وجاءت الروايات الكثيرة في كتبهم الحديثية بتعظيم هذه العقيدة.

وفي المقابل فقد لقيت هذه العقيدة هجوماً عنيفاً ونقداً كبيراً من معظم فرق المسلمين، وشنّعوا بها على الإمامية.

ولمّا ترى أيّها القارئ من خطورة هذا التناقض في هذه العقيدة وكون الفريقين فيها على طرفي نقيض، كان من الأهمية بمكان أن نستجلي الحقيقة فيها، وذلك أنّ مسلك النظر الحيادي في كلا القولين والإنصاف المستلزم لترك التعصب، هو المسلك الحق والطريق المرضي].

***

ربّما يتصوّر القارئ أنّ لكلام كاتب المقال مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، وأنّه درس الموضوع مجانباً التعصّب والتقليد، ولكنّه في الحقيقة كتب مقالاً صفراً من الإنصاف، بشهادة أنّه لم يبيّن حقيقة البداء عند الشيعة الإمامية،

ص:164

وإنّما عطف النظر إلى المسائل الجانبية، ولو أنّه نظر إلى ما ذكرناه في كتابنا:

«البداء في ضوء الكتاب والسنّة» لأذعن - كما أذعن بعض أهل السنّة - أنّ البداء بالمعنى الذي تعتقده الإمامية، حقيقة قرآنية وعقيدة نصّ عليها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في غير واحد من أقواله الشريفة.

ويا للأسف أنّ الرادّين على عقيدة البداء ركّزوا على لفظه الذي هو بمعنى الظهور بعد الخفاء الممتنع على اللّه سبحانه، وغفلوا عن حقيقته وواقعه، وأنّ إطلاق البداء هنا ليس بمعناه الحقيقي وإنّما استعمل بعناية خاصّة، تبعاً لما جاء في أقوال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الذي استعمل عبارة «بدا للّه» في حديث الأبرص والأقرع والأعمى ، قال صلى الله عليه و آله و سلم: «بدا للّه في أبرص وأقرع وأعمى» وقد رواه البخاري في صحيحه، وسنذكر فيما بعد نصّ الحديث.(1)

ونحن نركز في هذا المقال على أمرين ونترك المسائل الجانبية التي ذكرها صاحب المقال إلى مجال آخر، وقد أجبنا عنها جميعاً في رسالتنا المختصرة لبيان البداء.

1. حقيقة البداء

اشارة

حقيقة البداء عند الشيعة الإمامية كلمة واحدة وهي إمكان تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو بالأعمال الطالحة، وأنّه ليس للإنسان تقدير واحد محتّم لا يتغيّر بل بيده إبدال تقدير مكان تقدير آخر لكن على ضوء الأعمال التي يقوم بها، سواء أكان صالحاً أم طالحاً.

ص:165


1- . لاحظ صحيح البخاري: 172/4، كتاب الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع من بني إسرائيل.

هذه هي حقيقة البداء، دون زيادة أو نقيصة، فمن يريد أن يؤيد تلك العقيدة أو يرد عليها، فليجعل هذا التعريف منطلقاً له في التأييد أو الرد ولا يخرج عنه.

ومع الأسف أنّ الكاتب لم يحم حول ما ذكرنا في رسالتنا التي أشار إليها في مقاله، وإنّما صال وجال في أُمور جانبية، استخدمها لأنّها تصبّ في ما يرومه من مقاله.

والدليل على أنّ الإنسان قادر على تغيير مصيره الآيات القرآنية الكثيرة التي تجاهل ذكرها صاحب المقال، ومنها:

1. قوله سبحانه: (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .(1)

2. وقوله سبحانه: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) .(2)

3. وقوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) .(3)

4. وقوله سبحانه: (ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ...) .(4)

5. وقوله سبحانه: (وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) .(5)

ص:166


1- . الأعراف: 96.
2- . نوح: 10-12.
3- . الرعد: 11.
4- . الأنفال: 53.
5- . الطلاق: 2-3.

6. قوله سبحانه: (وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) .(1)

7. وقوله سبحانه: (وَ نُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) .(2)

8. وقوله سبحانه: (وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) .(3)

9. وقوله سبحانه: (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ * وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) .(4)

إنّ هذه الآيات تعرب عن أنّ الأعمال الصالحة مؤثرة في مصير الإنسان وإنّه يستطيع بعمله الصالح على تغيير التقدير وتبديل القضاء - غير المبرم - لأنّه ليس في أفعال الإنسان الاختيارية مقدّر محتوم حتّى يكون العبد في مقابله مكتوف الأيدي والأرجل.

ما ذكرناه حقيقة قرآنية، ونرى مثلها في السنّة النبوية فهي تؤيد أنّ للإنسان إبدال تقدير مكان تقدير آخر بالأعمال الصالحة، ونقتصر بذكر القليل من الكثير.

1. أخرج الحاكم عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا ينفع الحذر عن القدر، ولكن اللّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر».(5)

2. أخرج ابن سعد وابن حزم وابن مردويه عن الكلبي في الآية (يَمْحُوا اللّهُ

ص:167


1- . إبراهيم: 7.
2- . الأنبياء: 76.
3- . الأنبياء: 83-84.
4- . الصافات: 143-146.
5- . الدر المنثور: 660/13، طبعة دارالفكر، بيروت، 1403 ه.

ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ ) قال: «يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه»، فقيل له: من حدثك بهذا؟ قال: أبو صالح عن جابر بن عبد اللّه بن رئاب الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

3. وأخرج ابن مروديه وابن عساكر عن علي رضى الله عنه أنّه سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن هذه الآية فقال له: «لأقرنّ عينيك بتفسيرها، ولأقرنّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها، الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين، واصطناع المعروف، يحوّل الشقاء سعادة، ويزيد في العمر، ويقي مصارع السوء».(1)

إلى غير ذلك من الروايات المبثوثة في كتب التفسير والحديث خصوصاً في آثار الدعاء والإنابة.

هذه هي حقيقة البداء كتاباً وسنّة، وهذه هي عقيدة الشيعة الإمامية في البداء، فهل يمكن لمسلم مؤمن بالقرآن والسنّة أن ينكر هذه الحقيقة ويعتقد خلاف ذلك، حتى يقع في عداد اليهود الذين أنكروا البداء بهذا المعنى وقالوا:

(يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) فردّ عليهم سبحانه بقوله: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) .(2)

الأثر البنّاء للبداء

إنّ الاعتقاد بالبداء له آثار تربوية، فإنّ الإنسان إذا اعتقد بأنّه إذا عصى وحُكم عليه بدخول النار لا يهتم بإصلاح حاله في مستقبل أيام عمره، وذلك لاعتقاده بأنّ التقدير الأوّل ينفذ في حقّه، سواء أعمل صالحاً أم طالحاً، وهذا يوجب توغّله في المعاصي طول حياته؛ وأمّا إذا اعتقد أنّ اللّه سبحانه هو

ص:168


1- . الدر المنثور: 13/661.
2- . المائدة: 64.

الرؤوف الرحيم، فلو أصلح حاله في المستقبل فسوف يصلح اللّه له تقديره ويغيّره بنحو يتناسب مع عمله الصالح.

ولذلك ينادي اللّه سبحانه عباده بقوله: (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) .(1)

ممّا يترتّب على القول بالبداء
اشارة

ربّما أخبر أنبياءُ اللّه عليهم السلام عن وقوع حادثة في المستقبل ولكنّها لم تقع، وذلك كالقضايا التالية التي نرى إخبار الأولياء وعدم وقوعها تالياً، وما ذلك إلّا لأنّ المورد غيّر تقديره بالعمل الصالح ولولاه لوقع ما أخبر به النبي. وسنشير إلى موارد منها:

1. رفع العذاب عن قوم نبي اللّه يونس عليه السلام

أخبر يونس قومه بنزول العذاب ثم ترك القوم وكان في وعده صادقاً معتمداً على مقتضي العذاب الذي اطّلع عليه، لكن نزول العذاب كان مشروطاً بعدم المانع، أعني: التوبة والتضرّع، إذ مع المانع لا تجتمع العلّة التامّة للعذاب، قال سبحانه: (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) .(2)

2. الإعراض عن ذبح إسماعيل

ص:169


1- . الزمر: 53.
2- . يونس: 98، ولاحظ ما ذكر حول قصة يونس عليه السلام في تفسير الدر المنثور: 121/7، 122.

ذكر القرآن الكريم أنّ إبراهيم عليه السلام رأى في منامه أنّه يذبح ابنه إسماعيل، وأعلم إبراهيم ابنه بذلك، ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلده وعزمه على طاعة اللّه وطاعة أبيه، وقال كما عبّر القرآن الكريم (أَنِّي أَذْبَحُكَ ) وهذا القول يحكي عن حقيقة ثابتة وواقعية مسلّمة.

إلّا أنّ ذلك الأمر لم يتحقّق ونسخ نسخاً تشريعياً، كما لم يتحقّق ذبح إبراهيم إسماعيل في الخارج فكان نسخاً تكوينياً. وهذا هو الذي ورد في سورة الصافات.(1)

3. إكمال ميقات موسى عليه السلام

ذكر المفسّرون أنّه سبحانه واعد موسى ثلاثين ليلة فصامها موسى عليه السلام وطواها، فلمّا تمّ الميقات أمره اللّه تعالى أن يُكملها بعشر، قال سبحانه: (وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) .(2)

ففي هذه القصة إخباران:

إنّه يمكث في الميقات ثلاثين ليلة، ثم نسخه بخبر آخر بأنّه يمكث أربعين ليلة، وكان موسى عليه السلام صادقاً في كلا الإخبارين، حيث كان الخبر الأوّل مستنداً إلى جهات تقتضي إقامة ثلاثين ليلة، لولا طروء ملاك آخر يقتضي أن يكون الوقوف أزيد من ثلاثين.(3)

ص:170


1- . لاحظ سورة الصافات: الآيات 101-111.
2- . الأعراف: 142.
3- . لاحظ تفسير الدر المنثور: 335/3.

هذه جملة من الحوادث التي تنبّأ أنبياء اللّه بوقوعها، وجاء خبرها في الذكر الحكيم إلّاأنّها لم تقع، وهذا ما يعبّر عنه بأنّه بدا للّه فيها، وسيوافيك وجه استعمال هذه الصيغة في المقام، فانتظر.

هذا ما في القرآن العزيز، وأمّا ما ورد في الروايات الصحيحة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فإليك بعض منها.

1. مرّ يهوديّ بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: السام عليك، فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم له: «وعليك» فقال أصحابه: إنّما سلّم عليك بالموت، فقال: الموت عليك ؟ فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«وكذلك رددت» ثمّ قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم لأصحابه: «إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله»، فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله، ثم لم يلبث أن انصرف.

فقال له رسول اللّه: «ضعه»، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «يا يهوديّ ما عملت اليوم» قال: ما عملت عملاً إلّا حطبي هذا حملته فجئت به، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «بها دفع اللّه عنه»، وقال: «إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان».(1)

2. مرّ المسيح عليه السلام بقوم مجلبين، فقال: ما لهؤلاء؟ قيل: يا روح اللّه فلانة بنت فلانة تهدى إلى فلان في ليلته هذه، فقال: يُجلبون اليوم ويبكون غداً، فقال قائل منهم: ولِمَ يا رسول اللّه ؟ قال: لأنّ صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه، فلمّا

ص:171


1- . بحارالأنوار: 121/4.

أصبحوا وجدوها على حالها، ليس بها شيء، فقالوا: يا روح اللّه إنّ التي أخبرتنا أمس أنّها ميتة لم تمت، فدخل المسيح دارها فقال: ما صنعت ليلتك هذه ؟ قالت:

لم أصنع شيئاً إلّاوكنت أصنعه فيما مضى، إنّه كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها. فقال المسيح: تنحّي عن مجلسك؛ فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة، عاضّ على ذنبه، قال عليه السلام: «بما صنعت صُرف عنك هذا».(1)

هذا كلّه حول الأمر الأوّل الذي يتضمن بيان حقيقة البداء الذي تعتقده الشيعة والمسلمون عامّة بشرط أن يقفوا على هذا المعنى، وما ذكرناه من المعنى للبداء قد نصّ عليه علماء الشيعة منذ عصر الصدوق حتى يومنا هذا.(2)

2. ما هو معنى: «بدا للّه» في حديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ؟

هذا ولنركّز على الأمر الثاني وهو سبب التعبير بالبداء عن هذه الحقيقة القرآنية الناصعة.

لا شكّ أنّ إطلاق البداء على اللّه سبحانه بمعنى الظهور بعد الخفاء أمر باطل لا يستعمله إلّاالجاهل، لأنّ اللّه سبحانه عالم بكلّ شيء قبل أن يخلق ومع الخلق وبعده، ويستحيل أن يوصف أنّه بدا للّه أي ظهر له بعد الخفاء.

وأمّا وجه التعبير عن هذه الحقيقة بهذا اللفظ الذي يمتنع وصفه سبحانه به

ص:172


1- . بحارالأنوار: 94/4.
2- . لاحظ: عقائد الإمامية للصدوق المطبوع في ذيل الباب الحادي عشر: 73، وأوائل المقالات للشيخ المفيد: 53، ورسائل الشريف المرتضى، المسألة الرازية، المسألة 5، الصفحة 117، وعدة الأُصول للشيخ الطوسي: 29/2، وكتاب الغيبة للشيخ الطوسي: 263، ونبراس الضياء للسيد المحقق الداماد: 56، وأجوبة مسائل جار اللّه للسيد عبدالحسين شرف الدين: 101-103.

بالمعنى الحقيقي فلأجل أمرين:

1. أنّ الشيعة الإمامية قد اقتفت أثر النبي صلى الله عليه و آله و سلم في إطلاق البداء على اللّه سبحانه حيث أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة:

أنّه سمع من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى «بدا للّه» أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرصَ ، فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذّرني الناس، قال فمسحه فذهب عنه فأُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، فقال: أي المال أحبّ إليك ؟ قال:

الإبل أو قال: البقر - هو شك في ذلك أنّ الأبرص والأقرع، قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر: البقر - فأُعطي ناقة عُشراء، فقال: يبارك اللّه لك فيها.

وأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحبّ إليك ؟ قال: شعر حسن ويذهب عنّي هذا قد قذرني الناس قال: فمسحه، فذهب، وأُعطي شعراً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك ؟ قال: البقر. قال: فأعطاه بقرة حاملاً، وقال: يبارك لك فيها.

وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: يرد اللّه إليّ بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فردّ اللّه إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك ؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والداً. فأُنتج هذان وولّد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من الغنم.

ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلّاباللّه ثمّ بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيراً أتبلّغ عليه في سفري؛ فقال له: إنّ الحقوق كثيرة. فقال له: كأنّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك

ص:173

اللّه ؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر؟ فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فردّ عليه مثلما ردّ عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطّعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلّاباللّه، ثمّ بك، أسألك بالذي ردّ عليك بصرك، شاة أتبلّغ بها في سفري؛ فقال: قد كنت أعمى فرد اللّه بصري، وفقيراً فقد أغناني، فخذ ما شئت، فواللّه لا أجحدك اليوم بشيء أخذته للّه، فقال: أمسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضي اللّه عنك وسخط على صاحبيك.(1)

هذا هو تعبير الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمون جميعاً مأمورون بالاقتداء به وبأقواله، قال اللّه تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً) .(2)

2. أنّ إطلاق هذا اللفظ يأتي من باب المشاكلة، وهو باب واسع في كلام العرب فإنّه سبحانه في مجالات خاصّة يعبر عن فعله سبحانه بما يعبّر به الناس عن أفعالهم، وما ذلك إلّالأجل المشاكلة الظاهرية، وهذا ما نقرأه في الآيات التالية:

أ. قال سبحانه: (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ ) .(3)

ص:174


1- . صحيح البخاري: 370، كتاب الأنبياء، باب حديث أبرص وأقرع وأعمى في بني إسرائيل، برقم 3464، طبعة دارالفكر، بيروت، 1424 ه، تخريج وتنسيق: صدقي جميل العطار.
2- . الأحزاب: 21.
3- . النساء: 142.

ب. وقال سبحانه: (وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) .(1)

ج. وقال سبحانه: (وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) .(2)

إذ لا شكّ أنّه سبحانه لا يخدع ولا يمكر ولا ينسى، لأنّ هذا من صفات الإنسان الضعيف، إلّاأنّه سبحانه وصف أفعاله بما وصف به أفعال الناس من باب المشاكلة، والجميع كناية عن إبطال خدعتهم ومكرهم وحرمانهم من مغفرة اللّه سبحانه وبالتالي عن جنته ونعيمها.

3. إنّ اللام في قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «بدا للّه» هي بمعنى «من» أي بدا من اللّه للناس، يقول العرب: قد بدا لفلان عمل صحيح، أو بدا له كلام فصيح، كما يقولون: بدا من فلان كذا، فيجعلون اللام مقام «من»، فقولهم: بدا للّه، أي بدا من اللّه سبحانه للناس.

فعلى ضوء هذه الجهات يصحّ إطلاق «البداء» على اللّه سبحانه ووصفه به، حتّى لو قلنا بتوقيفية الأسماء والصفات، وما ينسب إليه تعالى من الأفعال، لوروده في الحديث النبوي كما عرفت.

***

هذه هي حقيقة البداء وأثره البنّاء في تربية الإنسان على النهج الإسلامي الصحيح، واتّضح للقارئ الكريم وجه استعمال هذا اللفظ لبيان هذه الحقيقة.

وكما قلنا فمن أراد الردّ أو تأييد هذه الحقيقة فليبحث في هذا الإطار

ص:175


1- . آل عمران: 54.
2- . الجاثية: 34.

ويترك الأُمور الجانبية المتعلّقة بالموضوع، والتي صعب على المستشكل فهمها لو صحّ سندها ومنها:

1. ما نُسب إلى الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «ما بدا للّه بداءٌ كما بدا له في إسماعيل».

2. ما نسب إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث أخبر بحصول الرخاء بعد سبعين عاماً، ولم يقع.

وقد درسنا هذه الأحاديث سنداً ودلالة في محاضراتنا حول «البداء» التي دوّنها العلّامة الحجّة الشيخ جعفر الهادي، فللكاتب أن يرجع إلى تلك الرسالة حتى لا يطول مقامنا مع القرّاء.

***

ومن أعجب ما رأيت حول البداء مقال آخر كتبه الشيخ إبراهيم الجنادي حيث قال: البداء عند الشيعة فكرة يهودية مستوردة.

والحق أن يقال: إنّ الناس أعداء ما جهلوا، والمسكين غير عارف بأنّ الإيمان بالبداء على طرف النقيض من عقيدة اليهود حيث أنّهم أنكروا النسخ بتاتاً، ومن المعلوم أنّ البداء في التكوين كالنسخ في التشريع، فهم ينكرونهما جميعاً، فلو أراد الكاتب التفصيل فليرجع إلى تفسير قوله سبحانه: (وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَ يَسْعَوْنَ

ص:176

فِي الْأَرْضِ فَساداً وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) .(1)

والعجب أنّ الكاتب عنون مقاله بقوله: «فهل للعقول أن تتحرّر» فنقول:

نعم عقول الشيعة تحرّرت منذ عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا، وأخذوا بما في الكتاب العزيز والسنّة النبوية، وأمّا غيرهم ممّن لم يقرأ شيئاً من عقائد الشيعة ولا سائر الطوائف فهو من رماة القول على عواهنه، فأخذ ينسب القول بالبداء إلى اليهود، وهم على جانب النقيض من تلك العقيدة.

ص:177


1- . المائدة: 64.

ص:178

الفصل الثالث: مقالات قرآنية

اشارة

1. المجاز في القرآن

2. الوحي لغة واصطلاحاً

3. نزول القرآن في شهر رمضان وبعثته في رجب

4. فرية انقطاع الوحي وفتوره وأُسطورة شقّ الصدر

5. غار حراء وذكريات النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيه

6. صيانة القرآن من التحريف

7. الإعجاز البياني للقرآن

8. تفسير سورة القيامة

ص:179

ص:180

1 المجاز في القرآن الكريم

اشارة

اختلفت كلمات العلماء في وجود المجاز في الذكر الحكيم، فهم بين منكر ومثبت، ولكلّ طائفة دليلها، وقبل الورود في صلب الموضوع (وجود المجاز في القرآن) نشرح معنى المجاز وحقيقته في علم البلاغة، فنقول:

عُرّف المجاز بأنّه استعمال اللفظ في غير ما وضع له لمناسبة بين المعنى الحقيقي والمجازي، فإن كانت المناسبة هي المشابهة فالمجاز استعارة، وإلّا فالمجاز مرسل، كاستعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، مثل ما ورد في قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «عَيْنِي بِالْمَغْرِبِ كَتَبَ إِلَيَّ يُعْلِمُنِي»،(1) فالعين مجاز مرسل، مناسبته (الجزئية) لأنّ العين جزء من الإنسان.

وبالعكس، أي استعمال لفظ الكلّ ، والمراد منه الجزء، مثل قولك:

(ضربت زيداً)، والمراد عضو منه.

وعلى قول هؤلاء يكون استعمال اللفظ في غير ما وضع له بالوضع، وحسب تحديد الواضع، حيث إنّ الواضع خصّه فيما لو كانت هناك علاقة مشابهة أو سائر العلائق البالغة إلى خمس وعشرين علاقة.

هذا هو الرأي السائد إلى يومنا هذا بين الأُدباء، ولكن لشيخ مشايخنا

ص:181


1- . نهج البلاغة: قسم الكتب، برقم 33.

محمد رضا الاصفهاني (1285-1363 ه) آراء مبتكرة في الأدب العربي عامّة، وفي هذا الموضوع خاصّة، حيث أثبت أنّ المجاز - مطلقاً - استعارة كان أو مرسلاً، من مقولة استعمال اللفظ في معناه، غاية الأمر بادّعاء أنّ المورد من مصاديق الموضوع له.

وبعبارة أُخرى: أنّ المتكلّم في استعمالاته المجازية لا يشير إلى معنى جديد وإنّما يشير إلى مصداق جديد.

وقد شرح نظريته في كتابه «وقاية الأذهان»(1)، ونالت استحسان أساتذتنا كالسيد البروجردي، والسيد الإمام الخميني رحمهما اللّه.

وعلى ضوء ما ذكره، فالمتكلّم يستعمل الكلمة في كلا المثالين التاليين:

1. رأيت أسداً في الغابة.

2. رأيت أسداً في المدرسة، بمعنى واحد بالإرادة الاستعمالية غاية الأمر أنّ التعبير الأوّل يشتمل على الاستعمال فيما وضع له فقط، وأمّا التعبير الثاني فيشمل - وراء الاستعمال فيما وضع له - ادّعاء أنّ زيداً البطل من مصاديق الأسد.

وبتعبير آخر: إنّ دور المستعمل في المثال الأوّل يتوقّف بعد الاستعمال فيما وضع له، لكن دوره في المثال الثاني لا يتوقّف، بل يستمر ببيان مصداق ادعائيّ للمستعمل فيه، والدليل على ما ذكره كالتالي:

إنّ الغاية المتوخاة من المجاز هي التأكيد على الحسن والصباحة، أو البطولة والشجاعة، أو إثارة التعجب أو رفعه، وهذه الغايات لا تتحقّق إلّا باستعمال اللفظ في المعنى الحقيقي وادّعاء أنّ المورد من مصاديقه، وإليك بيان

ص:182


1- . وقاية الأذهان: 103.

الأمثلة:

1. التأكيد على الحسن والصباحة

لما انتشر الخبر في عاصمة فرعون مصر عن تعلّق سيدة القصر بمملوكها، كما يحكي ذلك سبحانه بقوله: (وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (1)، فلمّا بلغها قول النسوة أقامت لهن مأدبة في قصرها، وبينما كن يتفكّهن ويستعملن السكاكين عند الأكل أمرت يوسف عليه السلام بأن يخرج عليهن، قال سبحانه: (فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) (2).

فإنّ الغاية من استعمال كلمة «مَلَكٌ » هي بيان ما ليوسف من النضارة والصباحة، ولا يؤدى ذلك إلّاباستعمال اللفظ في معناه الحقيقي دون المجازي، أي الإنسان الجميل وإلّا لنزلت عن ذروة البلاغة وصارت كلاماً عادياً، كما إذا قيل: ما هذا بشراً إن هذا إلّاإنسان جميل.

2. التأكيد على الشجاعة التامّة

ربّما يتعلّق الغرض ببيان شجاعة الرجل وبطولته في الحروب وأمام الأعداء فيستخدم القائل لفظة الأسد ويقول:

ص:183


1- . يوسف: 30.
2- . يوسف: 31.

لدى أسدٍ شاكي السلاح مقذّف له لُبدٌ أظفاره لم تقلّمِ

فلبيان شجاعة الرجل وبطولته يسمّيه أسداً ويصفه بالأوصاف التالية:

أ. شاكي السلاح، وهو مقلوب الشائك أي حديد السيف.

ب. مقذّف أي له صولات وهجمات في ساحات الوغى .

ج. له لبد أي شعر كثير على عنقه كالأسد.

د. أظفاره لم تُقلّم، أي مخالبه طويلة.

فالشاعر ببيان هذه الأوصاف يصوّر صاحبه بأنّه من مصاديق الأسد بشهادة أنّ له لبداً ومخالب، فلو استعمل الأسد في معناه الحقيقي يكون للكلام بلاغة وحلاوة خاصّة، وأمّا إذا قلت بأنّه بمعنى الرجل الشجاع فلا تجد تلك الحلاوة مهما بالغ في شجاعته وطول مخالبه.

3. إثارة التعجّب

يقول الشاعر:

قامت تظلّلني ومن عَجَبٍ شمسٌ تظلِّلني من الشمس

إنّ الشاعر في هذا البيت يصور لنا امرأة حسناء قامت فوقه لتحجب عنه أشعة الشمس، فهو يصوّرها كالشمس في إشراقها وصباحتها، وفي الوقت نفسه فهي تظلّله من شمس أُخرى، وهذا أمر تعجب منه الشاعر إذ كيف تحجب الشمسُ الشمسَ ، فإنّ إثارة التعجب فرع استعمال الشمس في معناها الحقيقي، أي ذلك النجم المنير الّذي يبعث ضوءه كلّ يوم، ولو قيل مكانه المرأة الحسناء قامت تظلّلني من الشمس فلا يثير تعجباً أبداً.

ص:184

4. رفع التعجّب

اشارة

قال الشاعر:

لا تعجبوا من بِلى غِلالتهِ قد زرّ أزراره على القمر

البِلى هو الاندراس، والغلالة ثوب رقيق يُلبس تحت الثياب، و «زرّ» القميص: شدّ أزراره وأدخلها في العُرى . فالشاعر بصدد رفع تعجّب الناظر له لأنّه تعجّب من اندثار وبلى لباسه، ولكنّه يدفع هذا التعجّب بأن قال: إنّ ثوبه يتعرّض إلى أشعة القمر، حيث إنّه وصف حبيبته بالقمر، فلو استعمل القمر في معناه الحقيقي صار لرفع التعجّب معنىً حقيقياً، وأمّا لواستعمل في المرأة الحسناء لا يصلح جواباً لرفع تعجّب الناس.

إلى غير ذلك من الغايات الّتي يتتبعها البلغاء الفصحاء في خطبهم وأشعارهم ولا تتحقّق تلك الغايات إلّابما ذكرنا.

سؤال وإجابة

إنّ تلك النظرية تصحّ في أسماء الأجناس الّتي يمكن أن يتصوّر لكلّ اسم منها فردان: حقيقي، وادّعائي، وأمّا الأعلام كحاتم ويوسف فلا يصحّ فيهما، إذ ليس لهما إلّامصداق واحد.

والإجابة عن ذلك واضحة، فإنّ من يصف جمال أحدٍ ويقول: هو يوسف زماننا، أو يصف سخاء إنسان ويقول: هو حاتم عصرنا، فإنّه يدّعي أنّ للّفظين مصداقين: حقيقي وادعائي، وبما أنّ الادّعاء من مقولة الاعتبار فهو خفيف المؤونة.

ص:185

سؤال آخر

ما هو الفرق بين هذه النظرية وما ذكره السكّاكي في كتابه «مفتاح العلوم»، حيث قال: إنّ المعنى المجازي فرد إدعائيّ للمعنى الحقيقي ؟

والجواب: أنّ النظريتين وإن كانتا تشتركان في أصل وجود الادّعاء، لكن النظرية المذكورة تتبنّى استعمال اللفظ في معناه الحقيقي، وتطبّقه على المورد باعتبار أنّه من مصاديقه.

وأمّا السكّاكي فالمجاز عنده استعمال اللفظ في غير ما وضع له من أوّل الأمر، لكن المجوّز لاستعمال لفظ الأسد في ما لم يوضع له، هو ادّعاء كونه من مصاديق ما وضع له، وإليك نصّ عبارته: وأمّا المجاز فهو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق، استعمالاً في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها، مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع.(1)

وبذلك يُعلم أن تسمية المجاز بهذا الاسم على وجه الدقة، فإنّ المراد من المجاز هو المعبَر ومحلّ التجاوز، وكأنّ المتكلّم ينقل ذهن السامع من معنى إلى معنى ، ومن حقيقة إلى حقيقة أُخرى، والمعنى الثاني وإن كان مصداقاً ادّعاه للمعنى اللغوي لكنّه في حدّ نفسه حقيقة كسائر الحقائق.

وهنا نحن نذكر نماذج من المجازات الواردة في الكتاب العزيز على وجه لا يمكن لإنسان موضوعي إنكاره فيها:

1. قوله سبحانه حاكياً قول نسوة المدينة بعد أن خرج عليهن يوسف عليه السلام:

ص:186


1- . مفتاح العلوم: 153، ط. مصر: 1318 ه.

(ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) (1).

فقد وُصِفَ يوسفُ على لسانهن بأنّه مَلَكٌ مع أنّه ليس ملَكاً، وإنّما هو بشر، وما هذا إلّالأجل بيان غاية جماله وصباحة وجهه.

2. قوله سبحانه حاكياً عن اليهود: (وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) (2).

لمّا كان الجواد ينفق باليد والبخيل يمسك باليد عن الإنفاق، أضافوا الجود والبخل إلى اليد فقالوا للجواد مبسوط اليد، وللبخيل مقبوض الكف، وعلى هذا فمعنى قوله: (يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) أي مقبوضة عن العطاء ممسكة عن الرزق، كما أنّ المراد من قوله: (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) هو جواد. وعلى ضوء ما ذكرنا فكلمة الغلّ والبسط استعملتا في المعنى اللغوي لكن أُريد بهما الفرد الادّعائي (الجواد والبخيل) وإلّا لما كان للآية معنى محصّل إذا أُريد المعنى اللغوي دون التجاوز به إلى معنى آخر، إذ تكون الآية بمعنى أنّ يد اللّه مقبوضة أو مربوطة بالغل، بل يداه مبسوطتان بمعنى مفتوحتان.

3. قوله سبحانه: (وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (3).

قال السيد الرضي رحمه الله: المراد بها اليد الّتي هي الجارحة على الحقيقة، وإنّما الكلام الأوّل كناية عن التقتير، والكلام الآخر كناية عن التبذير، وكلاهما مذموم حتّى يقف كلّ منهما عند حدّه ولا يجري إلّاإلى أمده، وقد فسّر هذا قوله

ص:187


1- . يوسف: 31.
2- . المائدة: 64.
3- . الإسراء: 29.

سبحانه: (وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (1).(2)

ومراده من الكناية، المجاز.(3)

4. قوله سبحانه: (وَ أَمّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ * فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ * وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ * نارٌ حامِيَةٌ ) (4).

فقد أطلق لفظ الأُم على الهاوية، وإنّما سمّاها بذلك لأنّ الإنسان يأوي إليها كما يأوي الولد إلى أُمّه، وإن شئت قلت: إنّ الأُم كافلة لولدها وملجأ له، كذلك النار فهي كافلة للكافر ومأوى وملجأ له.

5. قال سبحانه: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (5).

فإنّ المراد من الأكل هو التصرّف في أموال الناس بالظلم والغصب والوجوه الّتي لا تحل. وإنّما أطلق الأكل على التصرّف؛ لأنّ الغاية من جمع الأموال هي العيش والالتذاذ الّذي من أبرز مظاهره الأكل.

هذه نماذج من المجازات الواردة في القرآن الكريم، وكم لها من نظير، فمن أراد الاستقصاء فعليه الرجوع إلى كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للعلّامة الجليل السيد الرضي رحمه الله، فقد استقصى المجازات القرآنية (وهي أعمّ من المجاز المصطلح أو الكناية) من فاتحة الكتاب إلى سورة الناس.

ص:188


1- . الفرقان: 67.
2- . لاحظ تلخيص البيان في مجازات القرآن: 98.
3- . الفرق بين المجاز والكناية، هو أنّ القرينة في المجاز تمنع من إرادة المعنى الوضعي (الأصلي)، وهي لا تمنع منه، بشكل عام، في الكناية.
4- . القارعة: 8-11.
5- . البقرة: 188.

***

الكناية والتعريض في القرآن الكريم

ما مرّ عليك من الكلام كان حول المجاز، وقد عرفت حقيقته أوّلاً ووروده في القرآن الكريم، وقد ذكرنا نماذج منه.

وأمّا الكناية فهي عبارة عن ذكر الملزوم لغاية الانتقال إلى لازمه فالمكنّي يستعمل اللفظ في معناه اللغوي لكنّه يتّخذه معبراً للانتقال إلى لازمه، فإذا قال:

زيد طويل النجاد، أو كثير الرماد فإنّه يعني بذلك المعنى اللغوي، لكن لينتقل به المخاطب إلى لازمه، فإنّ لازم طول النجاد (حمالة السيف) طول القامة، كما أنّ لازم كثرة الرماد كثرة الضيافة، فلم يذكروا المراد بلفظه الخاصّ به ولكن توصّلوا إليه بذكر معنى آخر هو رديفه في الوجود، لأنّ القامة إذا طالت طال النجاد، وإذا كثر القِرى كثر الرماد.

والعرب تعدّ الكناية من البراعة والبلاغة وهي عندهم أبلغ من التصريح، وأكثر أمثالهم الفصيحة على مجاري الكنايات.(1)

وممّا ذكرنا يُعلم أنّ الكناية أُخت المجاز، تستعمل في المعنى اللغوي بالإرادة الاستعمالية غير أنّ الإرادة الجدّية تعلّقت بلازم اللفظ، فهناك أُمور ثلاثة:

1. الحقيقة اللغوية.

2. المجاز اللغوي.

3. الكناية والتعريض.

ص:189


1- . البرهان في علوم القرآن: 2/300-301.

أمّا الأوّل فتتعلّق فيه الإرادة الجدية بنفس ما تعلّقت به الإرادة الاستعمالية فإذا قلت: اسقني ماءً؟ فقد تعلّقت الإرادتين بشيء واحد، وأمّا الثاني والثالث فقد تعلّقت الإرادة الاستعمالية فيهما بالمعنى اللغوي لكن لغاية الانتقال إلى مصداق من مصاديقه الادّعائية كما في المجاز، أو لازم من لوازمه كما في الكناية.

ثم إنّ الفرق بين المجاز والكناية هو أنّ المجاز يقوم على عملية الادّعاء، وأمّا الكناية فهي غنية عن الادّعاء.

ثم إنّ الكناية شائعة في كلام العرب، فهم يكنّون عن الإنسان الموصوف بالطهارة بقولهم: فلان عفيف الإزار، وعمّن يجاهر غيره بالعداوة: لبسَ له جلد النَّمر، وعمّن يغضب: ورم أنفه، كما يكنّون عن ترك الوطء بشدّ المئزر، وعن الجماع بالعُسيلة، وقد ورد أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم قال لامرأة رفاعة القرظي: «حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» شبّه لذّة الجماع بذوق العسل، واستعار لها ذوقاً، وإنّما أُنثّ لأنّه أراد قطعة من العسل.(1)

وقد اختلفت كلمات العلماء في وجود الكناية في القرآن، فقد حكى صاحب البرهان عن الطرطوسي أنّه قال: قد اختلف في وجود الكناية في القرآن وهو كالخلاف في المجاز، فمن أجاز وجود المجاز أجاز الكناية، وهو قول الجمهور، ومن أنكر ذلك أنكر هذا. وبما أنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، نأتي بنماذج من الكنايات نظير ما ذكرناه في المجاز:

1. إنّ من عادة القرآن الكريم الكناية عن الجماع بالملامسة والمباشرة

ص:190


1- . النهاية في غريب الحديث: 3/96.

والدخول، قال تعالى: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ) (1) فكنّى بالمباشرة عن الجماع، لما فيه من التقاء البشرتين.

وقال تعالى: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) (2) إذ لا يخلو الجماع عن الملامسة.

وقال تعالى: (رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) (3).

2. كنّى القرآن الكريم عن فضلة الإنسان بالغائط الّذي هو بمعنى قرارة من الأرض تحفها آكام تسترها، فأطلق هنا وأُريد منه قضاء الحاجة، قال تعالى: (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) (4).

قال الطبرسي: الغائط أصله المطمئن من الأرض وكانوا يتبرّزون هناك ليغيبوا عن عيون الناس، ثم كثر ذلك حتّى قالوا للحدث غائط.(5)

3. قال سبحانه: (وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ ) (6)، وقد كنّى بذلك عن الزنا.

4. قوله سبحانه في وصف امرأة أبي لهب: (وَ امْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الْحَطَبِ ) (7) فقد كنى بذلك عن كونها نمّامة.

5. قوله سبحانه: (وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ

ص:191


1- . البقرة: 187.
2- . النساء: 43.
3- . النساء: 23.
4- . النساء: 43.
5- . مجمع البيان: 3/93.
6- . الممتحنة: 12.
7- . المسد: 4.

سَبِيلاً) (1).

ظاهر الآية مع قطع النظر عن القرائن الحافّة، هو أنّ فاقد البصر في هذه الدنيا كذلك يكون حاله في الآخرة، ولكنّه غير مراد قطعاً لقوله سبحانه في ذيل الآية: (وَ أَضَلُّ سَبِيلاً) ، وهذا دليل على أنّ الآية كناية عن أنّ فاقد البصيرة في هذه الدنيا يحشر كذلك في الآخرة، لأنّ الدنيا مزرعة الآخرة، وما زرعه الإنسان في حياته في الأُولى يجنيه في الآخرة.

6. قال سبحانه: (وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ * ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ) (2).

ترى أنّه سبحانه في هذه الآية ينسب المعاصي الّتي يقترفها الناس - والّتي تُفضي بهم إلى عذاب الحريق - إلى الأيدي، وفي آيات أُخرى، يقول سبحانه:

(وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ ) (3)، إلى غير ذلك من الآيات الّتي تدلّ على أنّ العقوبة الأُخروية كلّها بسبب ما قدّمت يد الإنسان العاصي، كما أنّه سبحانه يشير إلى ذلك في آية ثالثة بلفظ آخر ويقول: (وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (4) فالمصائب كلّها نتيجة ما كسبت يد الإنسان الخاطئ.

هذا ومن المعلوم أنّ المعاصي كما تكتسب بالأيدي تكتسب بالأعين

ص:192


1- . الإسراء: 72.
2- . الأنفال: 50-51.
3- . البقرة: 95.
4- . الشورى: 30.

والأسماع والأرجل وسائر الجوارح، فما يقترفه المذنب ليس منحصراً بالأيدي فقط، بل يعمّ سائر جوارحه وأعضائه، ومع ذلك نرى أنّه سبحانه يلقي المسؤولية كلّها على الأيدي وما هذا إلّالأنّه كناية عن كلّ ما يقوم به الإنسان، وإنّما خصّ الأيدي بالذكر لدورها الكبير في الأفعال والأعمال، فأغلب أعمال الإنسان تقوم به الأيدي، فأُطلقت الأيدي وأُريد بها كلّ الجوارح الّتي لها دور في الطاعة والعصيان.

7. قال سبحانه: (وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (1).

وقال سبحانه: (وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (2).

وقال سبحانه: (وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (3).

الجَناح عبارة عمّا يطير به الطائر، يقولون: ركبوا جناح طائر، أي فارقوا أوطانهم، ويقال: ركب جناحي نعامة، أي جدّ في الأُمر وعجّل، ويقال: فلان مقصوص الجناح بمعنى كونه عاجزاً.

قال سبحانه: (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) (4).

وذو الجناحين لقب جعفر الطيار لقّبه به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لما روي أنّه لمّا

ص:193


1- . الإسراء: 24.
2- . الحجر: 88.
3- . الشعراء: 215.
4- . فاطر: 1.

قطعت يداه يوم مؤتة جعل اللّه له جناحين يطير بهما، وجناحا الطائر بمنزلة اليدين من الإنسان، سمّيا بذلك لميلهما في شقّيه من الجنوح وهو الميل.(1)

هذا حول الجناح، وأمّا الذُّلّ بالضّم فهو: الانقياد والسهولة، أو اللين والتواضع، وتذلّل له: خضع وتواضع.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الشريف الرضي يفسّر الآية بأوضح العبارات ويذكر أنّ في الآية استعارة عجيبة، يقول: والمراد بذلك الإخبات للوالدين، وإلانة القول لهما، والرفق واللطف بهما، وخفض الجناح في كلامهم عبارة عن الخضوع والتذلّل وهما ضد العلو والتعزّز، إذ كان الطائر إنّما يخفض جناحه إذا ترك الطيران، والطيران هو العلو والارتفاع، وإنّما قال تعالى: (وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) ليبيّن تعالى أنّ سبب الذلّ هو الرحمة والرأفة، لئلّا يُقدّر أنّه الهوان والضراعة، وهذا من الأغراض الشريفة والأسرار اللطيفة.(2)

وأمّا قوله تعالى: (وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ، ففيه ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أن يكون الخفض في الآية مأخوذاً من خفض الطائر جناحه ليجمع تحته أفراخه رحمة بها وحفظاً لها، فأمر سبحانه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أن يسع برحمته ورأفته عامة المؤمنين ويجعل الجميع تحت رحمته بلا فرق بين مؤمن وآخر، كما أنّ الطائر يضمّ جميع أفراخه تحت جناحه.(3)

الثاني: أن يكون خفض الجناح كناية عن لين الجانب والتواضع والرفق،

ص:194


1- . مجمع البحرين، مادة «جنح».
2- . تخليص البيان في مجازات القرآن: 98.
3- . تفسير الميزان: 15/329.

لأنّ الطائر يخفض جناحيه حين يهمّ بالهبوط.(1)

الثالث: أن يكون كناية عن ملازمة المؤمنين، وحبس النفس عليهم من غير مفارقة، كما أنّ الطائر إذا خفض الجناح لم يطر ولم يفارق.(2)

أفهل يمكن تفسير هذه الآيات بغير طريق المجاز والكناية ؟

إنّ تجريد القرآن عن المحسّنات البيانية والبلاغية جفاء له، ويجعل الآيات القرآنية في مصاف الكلام العرفي.

8. قال سبحانه: (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنّا لَصادِقُونَ ) (3).

لاشك أنّ القرية هي البيوت والأزقة، الّتي لا يصح سؤالها وينتظر الجواب منها، ولذلك عاد المفسرون إلى تفسير الآية بتقدير «الأهل» وقالوا المراد: اسأل أهل القرية، ولكنّهم غفلوا عن أنّ تفسيرها بهذا النحو يوجب نزول الآية عن ذروة البلاغة، ووقوعها في عداد الكلام العادي.

ولذلك نقول: المراد من القرية هو نفس البيوت بلا تقدير كلمة الأهل ولكن القائل يدّعي أنّها أيضاً كالإنسان الصالح للسؤال والجواب مدّعياً أنّ الخبر - أي سرقة أخي يوسف - قد شاع وذاع على نحو حتّى وقفت عليه القرية أيضاً، فضلاً عن أهلها، ونظيره قول الفرزدق في حق الإمام زين العابدين عليه السلام:

ص:195


1- . التبيان: 8/67؛ في ظلال القرآن: 19/118.
2- . تفسير الميزان: 12/193.
3- . يوسف: 82.

هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحلّ والحرمُ

أي أنّ الإمام عليه السلام قد بلغ من العظمة والجلالة مبلغاً حتّى عرفته البطحاء والبيت والحلّ والحرم.

9. قال سبحانه: (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) (1).

الرَّوح: نسيم الريح الّذي يلذ شميمها ويطيب نسيمها، فشبّه اللّه تعالى الفرج الّذي يأتي بعد الكربة بنسيم الريح الّذي ترتاح القلوب له وتثلج الصدور به.(2)

10. قال سبحانه: (وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ ) (3).

قال السيد الرضي: في هذه الآية استعارة؛ لأنّ النفس في الحقيقة لا توصف بالضيق والاتّساع، وإنّما المراد بذلك انضغاط القلوب لشدّة الكرب وبلوغها منقطع الصبر.

ولكن في الآية استعارة أُخرى لم يُشر إليها السيد الرضي وهي قوله سبحانه: (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ) ، إذ هو تعبير عن الحيرة في أمرهم

ص:196


1- . يوسف: 87.
2- . تلخيص البيان في مجازات القرآن: 70.
3- . التوبة: 118.

كأنّهم لا يجدون فيها مكاناً يقرّون فيه، قلقاً وجزعاً ممّا هم فيه.(1) فالأرض نفس الأرض لا تضيق ولا تتسع، ولكن ضيقها كناية عن تحيّر هؤلاء حيث لا يجدون مكاناً يعيشون فيه بعيداً عن القلق.

11. قال سبحانه: (وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ) .(2)

المفتح جمعه مفاتح: آلة لفتح الأبواب.

ومن المعلوم أنّ الغيب الّذي هو ضد الشهود لم يجعل في غرفة مقفلة حتّى تكون مفاتحه عند اللّه سبحانه، بل المفاتح في الآية استعارة للوصلة إلى علم الغيب، فإذا شاء فتحه لأنبيائه وملائكته وإن شاء أغلق عليهم علمه ومنعهم فهمه.

فعبّر تعالى عن هذا المعنى بأنّ المفاتح بيد اللّه سبحانه.

12. قال سبحانه: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) .(3)

عبّر سبحانه عن التمسّك بأمر اللّه وعهده بالتمسّك بحبله، وذلك لأنّ مَن يسقط في بئر يُرسَل إليه الحبل، فإذا تمسّك به تخلّص من الخطر، ونجا من الهلاك، وهكذا المتمسك بحبل اللّه ينجو ممّا يخافه من العذاب. فكأنّ الأُمّة المتفرّقة كالمتردّي في البئر لا ينجيه إلّاالتمسّك بحبل اللّه.

13. قال سبحانه: (وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ

ص:197


1- . تفسير الكشاف: 2/176.
2- . الأنعام: 59.
3- . آل عمران: 103.

أَلِيمٌ ) .(1)

إنّ النظر هو تقريب العين الصحيحة في جهة المرئيّ التماساً لرؤيته، وهذا لا يصحّ إلّاعلى الأجسام وما يُدرَك بالحواس، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، وهذا يرشدنا إلى القول بأنّها استعارة عن أنّه سبحانه لا يرحمهم يوم القيامة، ويدلّ عليه ذيل الآية أي قوله: (وَ لا يُزَكِّيهِمْ ) .

14. قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) (2).

البطانة: ما يلي بطن الإنسان من ثيابه، ومنه بطانة الثوب، فشبّه دخلاء الرجل وخواصّه بالبطانة لأنّهم يلازمونه ملازمة شعاره لجسمه فيقفون على أسراره وضمائره.

هذه نماذج من مجازات القرآن الكريم اقتصرنا عليها تبرّكاً، ومن أراد أن يقف على المزيد فليرجع إلى كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للسيد الرضي فقد بلغ الغاية ودرس عامّة المجازات القرآنية من أوّل سور القرآن إلى آخرها.

غير أنّ إكمال البحث يقتضي دراسة أدلّة المانعين وهي ليست إلّاشبهات وأعذاراً واهية، ورغم ذلك سوف ندرسها بموضوعية وتجرّد، فنقول:

أدلّة النافين لوجود المجاز في القرآن

اشارة

ص:198


1- . آل عمران: 77.
2- . آل عمران: 118.

قال الزركشي: وأمّا المجاز فاختلف في وقوعه في القرآن. والجمهور على الوقوع؛ وأنكره جماعة منهم: ابن القاصّ من الشافعية، وابن خويزمنداد من المالكية، وحكي عن داود الظاهري وابنه وأبي مسلم الأصفهاني. وإليك شبهاتهم:

الشبهة الأُولى: أنّ المتكلّم لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلّاإذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وهو مستحيل على اللّه سبحانه.

وقد أجاب عنها الزركشي بقوله: وهذا باطل ولو وجب خلو القرآن من المجاز لوجب خلّوه من التوكيد والحذف، وتثنية القصص وغيرها، ولو سقط المجاز من القرآن سقط شطرُ الحُسن.(1)

أقول: الأَولى الإجابة بوجه آخر، وهو:

أوّلاً: أنّه سبحانه قد استخدم المجاز لا لأجل أنّه ضاقت به الحقيقة فالتجأ إلى المجاز، وإنّما أراد أن يكلّم الناس حسب عقولهم وحسن طبعهم، وجمال ذوقهم، ولاشكّ أنّ المجاز يعطي للكلام روعة، وبلاغة، ومعنى رائقاً وأنّ الكناية(2)أبلغ من التصريح، ولذلك تكلّم سبحانه على ما اعتاد عليه الناس واستحسنوه.

ثانياً: أنّ المعترض إذا أراد من الحقيقة، الواقعية، فالمجاز أيضاً حقيقة أُخرى، فالمتكلّم جعل المعنى اللغوي جسراً إلى تلك الحقيقة، ولعلّه اغترّ بكلمة

ص:199


1- . البرهان في علوم القرآن: 2/255.
2- . إنّ بعض العلماء اعتبر الكناية ضرباً من ضروب المجاز، ولذا أنكر وقوعها في القرآن منكروالمجاز فيه.

المجاز وهو ضد الحقيقة، فزعم أنّ مَن استعمل المجاز ترك الحقيقة إلى غيرها.

وغفل عن أنّ المراد منه، هو كون الحقيقة قنطرة لبيان حقيقة أُخرى.(1)

الشبهة الثانية: ما نقله السيوطي عن المانعين، أنّ المجاز أخو الكذب والقرآن منزّه عنه، ثم ردّه السيوطي وقال: وهذه شبهة باطلة، ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن، وقد اتّفق البلغاء على أنّ المجاز أبلغ من الحقيقة.. إلى آخر ما ذكره الزركشي في برهانه - كما عرفت -.(2)

أقول: الكذب عبارة عن الكلام المخالف للواقع وهو إنّما يتمّ إذا أراد المتكلم الفرد الادّعائي بلا قرينة، كما إذا قال: رأيت أسداً (من دون قرينة) وأراد الرجل الشجاع، مع أنّ ظاهر كلامه أنّه رأى الحيوان المفترس، وأمّا إذا قرنه بقرينة دالّة على أنّ المراد الفرد الادّعائي فأي كذب في ذلك.

الشبهة الثالثة: أنّ المجاز يجوز نفيه، ولا شكّ أنّه لا يجوز نفي شيء من القرآن.

قال ابن قيّم الجوزية: وأوضح دليل على منعه في القرآن: إجماع القائلين بالمجاز، على أنّ كلّ مجاز يجوز نفيه، ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر، فنقول لمن قال: «رأيت أسداً يرمي»: ليس هو بأسد، وإنّما هو رجل شجاع، فيلزم على القول بأنّ في القرآن مجازاً، أنّ في القرآن ما يجوز نفيه، ولاشكّ أنّه لا يجوز نفي شيء من القرآن.(3)

ص:200


1- . وسيوافيك تفصيله عند الردّ على رسالة المنع للشنقيطي.
2- . الإتقان في علوم القرآن: 3/109.
3- . منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز: 240، المطبوع في ذيل «أضواء البيان».

أقول: إنّ المتكلّم إذا استعمل اللفظ الموضوع لمعنى، وأراد منه المصداق الادّعائي فهناك معنيان:

أ. المعنى الحقيقي وقد تعلّقت به الإرادة الاستعمالية دون الجدية، وإنّما استخدم الإرادة الأُولى لغاية العبور إلى معنى آخر ونصب لذلك قرينة في كلامه.

ب. مصداق ادّعائي تعلّقت به الإرادة الجدية بشهادة وجود القرينة.

فلو أُريد نفي المعنى الأوّل فلا مانع، وبما أنّه لم تتعلّق به الإرادة الجدية فليس من القرآن في شيء، ولا بأس بنفيه.

وإن أراد نفي المعنى الثاني فنمنع من جواز نفيه، كيف وقد أراده سبحانه وخصّه بالقرينة.

وقد اغترّ باذر الشبهة بظاهر لفظ الأسد حيث إنّه يمكن نفيه لعدم تعلّق الإرادة الجدية بالحيوان المفترس، مع أنّه لا يمكن نفي شيء من القرآن، لكنّه غفل عن أنّ المعنى الحقيقي ليس مراداً للمتكلم، ومن ثمّ ليس هو من القرآن قطعاً بشهادة القرينة، أعني قوله: «يرمي»، وسيوافيك تفصيل النقد في آخر المقال.

الشبهة الرابعة: أنّ لابن القيّم هنا كلام مسهب أطال فيه البحث عن دلائل شيخه في إنكار وجود المجاز في القرآن، وأنهى الوجوه الّتي استند إليها - دعماً لمذهب شيخه - إلى خمسين وجهاً، في رسالة أسماها «الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة».

قال: «وإذ قد علم أنّ تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز، لا منشأ له شرعياً

ص:201

ولا عقلياً ولا لغوياً، وإنّما هو مصطلح حادث ابتدعته المعتزلة ومن شايعهم من الجهميّة والمتكلّمين».(1)

يلاحظ عليه: بأنّه من أتفه الشبهات حيث إنّه خلط بين حدوث التقسيم وبين واقع الأقسام.

فإنّ استعمال اللفظ على كلتا الصورتين كان شائعاً بين البلغاء والعظماء، على النحو الّذي قررنا، غير أنّهم لم يطلقوا عليه مصطلحاً معيّناً، ولكن بعد أن انتشرت الحضارة الإسلامية وشرع العلماء بتفسير القرآن الكريم واضطروا إلى تأسيس علوم تُعين المفسّر، لم يجدوا بدّاً من وضع المصطلحات والتقسيم، فهناك مئات الاصطلاحات في الصرف والنحو والبديع والبيان والعروض والقوافي، لم يكن لها أثر قبل الإسلام ولا في أيامه الأُولى، وإنّما حدثت حينما تأسّست العلوم الأدبية لغاية فهم القرآن والحديث.

ثم إنّ ابن القيّم لم يكتف بما ذكر؛ بل قال: وخلاصة القول: إنّ القول بالمجاز - بالمعنى الاصطلاحي - في القرآن، بل في اللغة، قول باطل، لم يتكلّم به النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ولا عرفه أصحابُه ولا التابعون ولا علماء الأوائل، ولا أحد من أهل القرون الثلاثة المفضّلة، وإنّما هو اصطلاح حادث ابتدعته المعتزلة، ثمّ أخذه المتأخّرون، حتّى صار مألوفاً عندهم، ولم ينتبهوا إلى خطورة القول بالمجاز، ممّا أدّى بكثير منهم إلى تحريف كلام اللّه عن مواضعه.(2)

وما أشار إليه ابن القيّم في كلامه هذا بأنّ القول بالمجاز أدّى إلى تحريف

ص:202


1- . مختصر الصواعق: 2/5.
2- . مقدمة رسالة الشنقيطي: 21-28.

كلام اللّه هو ما سنذكره في الشبهة التالية:

الشبهة الخامسة: وهي أنّه عن طريق القول بالمجاز في القرآن توصّل المعطّلون لنفي كثير من صفات الكمال والجمال عن ذاته تعالى... فقالوا: لا يَدَ، ولا استواء، ولا نزول، ونحو ذلك في كثير من آيات الصفات... نظراً لأنّ حقائق هذه الصفات غير مرادة عندهم، بل هي مجازات، فاليد مستعملة - عندهم - في النعمة أو القدرة، والاستواء في الاستيلاء، والنزول نزول أمره، ونحو ذلك...

فنفوا هذه الصفات (حقيقة اليد والاستواء والنزول) الثابتة بالوحي، نفياً عن طريق القول بالمجاز، وارتكاب التأويل، ثم قال: مع أنّ الحقّ الّذي هو مذهب أهل السنّة والجماعة إثبات هذه الصفات (بحقائقها حسب ظاهر التعبير) حيث أثبتها اللّه تعالى لنفسه، ويلزم الإيمان بها من غير تكييف ولا تشبيه، ولا تعطيل ولا تمثيل.(1)

أقول: كان على ابن قيّم الجوزيّة وشيخه ابن تيمية وأتباعهما - كالشيخ الشنقيطي - أن يبحثوا، بأُسلوب علميّ ، عن وجود المجاز في القرآن أو عدمه، فيدرسوا الآيات الّتي ادّعى القائلون بالمجاز أنّها من هذا القبيل، وعندئذٍ يصحّ لهم أن يبدوا رأيهم، ولكن القوم عكسوا الأمر، فاتّخذوا من عقيدتهم في الصفات الخبرية وأنّها تجري على اللّه سبحانه بمعانيها اللغوية، دليلاً على عدم جواز المجاز في القرآن، وما هذا إلّالأنّ القول به ينافي عقيدتهم، أعني: وصفه سبحانه بهذه الصفات بلا تأويل.

وإن شئت توضيحاً أكثر، نقول: قسّم الباحثون صفاته سبحانه إلى: صفات

ص:203


1- . منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز: 240.

ذاتية، وصفات خبرية، فالعلم والقدرة والحياة - مثلاً - من الصفات الجمالية الذاتية، وقد دلّ عليها العقل قبل النقل، ولو وردت في النقل فهي تأكيد لما دلّ عليه العقل.

وأمّا الصفات الخبرية فممّا لا يدلّ عليها العقل وإنّما أخبر عنها سبحانه في كتابه العزيز كالعلو واليد والعين، أو جاءت في السنّة الشريفة كالرجل والنزول، وقد اختلفت كلمتهم في تفسير الصفات الخبرية، وطال الجدال حولها عبر القرون، بحيث صار ذلك هو الشغل الشاغل بين المحدّثين وغيرهم.

وبينما هم يتنازعون في تفسير معانيها ظهرت جماعة تنكر أصل الصفات أو تنكر أصل وجود الصانع، فبدل أن يبذلوا جهودهم في مواجهة العلمانية والإلحاد والمناهج المستوردة، أخذوا يصرفون أعمارهم في تفسير هذه الصفات.

وقد صار القوم على مناهج:

الأوّل: المثبتون للصفات بمعانيها الحرفية

ذهب قسم من المحدّثين تبعاً للمشبّهة والمجسِّمة من الكرّامية أنّ هذه الصفات تجري على اللّه سبحانه بنفس معانيها المرتكزة في أذهان الناس من دون أي تصرف فيها، فزعموا أنّ للّه سبحانه عينين ويدين ورجلين مثل الإنسان .

قال الشهرستاني: أمّا مشبّهة الحشوية فقد أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة، وأنّ المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة، إذا بلغوا في

ص:204

الرياضة والاجتهاد إلى حدّ الإخلاص.(1)

الثاني: المثبتون بلا كيف

ثم إنّ ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم ومن تابعهما من أتباع محمد بن عبدالوهاب لمّا رأوا أنّ القول بذلك يشينهم ويلحقهم بالمجسِّمة والمشبّهة، ويكونوا أتباعاً للكرّامية حاولوا الفرار من ذلك بتقييد الإثبات بقولهم: «بلا كيف» فقالوا: إنّ له وجهاً بلا كيف، وإنّ له يدين بلا كيف، وإنّ له عيناً بلا كيف، وذلك في تفسير قوله تعالى: (وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ ) (2)، وقوله سبحانه:

(لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (3)، وقوله: (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) (4)، وقوله سبحانه: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (5).

وقد سبقهم إلى ذلك الإمام الأشعري، الذي كان معتزلياً ثم رجع عن الاعتزال والتحق بما عُرف بأهل الحديث وعلى رأسهم أحمد بن حنبل، وحاول الجمع بين عقيدة أهل الحديث وأهل التنزيه فقال: إنّ الصفات الخبرية تجري على اللّه سبحانه بنفس معانيها لكن بلا تكييف ولا تشبيه(6). فبالجزء الأوّل من كلامه - أعني: (تجري بنفس معانيها) - أراد إرضاء أهل الحديث، وبالجزء الثاني (بلا تكييف ولا تشبيه) أراد إرضاء أهل التنزيه، لكنّه غفل عن أنّ الجمع بين

ص:205


1- . الملل والنحل: 1/105.
2- . الرحمن: 27.
3- . ص: 75.
4- . المائدة: 64.
5- . القمر: 14.
6- . الإبانة: 92.

العقيدتين كالجمع بين المتناقضين، وذلك:

أوّلاً: أنّ هذا التوجيه يخالف نصوص المتشدّدين من أهل الحديث، فإنّهم يجرون الصفات الخبرية على اللّه بنفس معانيها من دون تقييد بما ذكره، قال القرطبي في تفسير قوله سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) (1): وقد كان السلف الأوّل - رضي اللّه عنهم - لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافّة بإثباتها للّه تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنّه استوى على عرشه حقيقة.(2)

فعلى هذا، فالمتشدّدون من أهل الحديث يصفونه سبحانه بمعاني هذه الصفات بلا ضمّ ضميمة.

ثانياً: أنّ اليد والرجل والعين تتقوّم بالكيفية الموجودة فيها، على نحو لو جرّدت منها لا تصدق عليها هذه الأسماء، فاليد عندهم عبارة عن الجارحة ذات الأصابع، وهكذا العين عبارة عن الجارحة الخاصّة الّتي تتقوم بالقرنية والقزحية والشبكية، فلو جردت من هذه المكونات فلا يصدق عليها اسم العين، وعندئذٍ فالجمع بين الفقرتين جمع بين المتناقضين، وإطلاق هذه الصفات على اللّه بنفس معانيها اللغوية يستلزم إثبات هذه الخصوصيات المقوّمة لهذه الأعضاء، وتقييدها (بلا كيف) يستلزم نفي هذه الخصوصيات، وبالتالي يلزم عدم إجرائها على اللّه بنفس معانيها اللغوية، وما هذا إلّاجمعاً بين النقيضين.

وإن شئت قلت: إنّ إجراءها بنفس معانيها اللغوية يقتضي حفظ الكيفية

ص:206


1- . الأعراف: 54.
2- . تفسير القرطبي: 7/219.

لأنّها في اللغة موضوعة للعضو الواجد لها، وتقييد إجرائها بقولهم بلا كيف يعني نفي الكيفية، ومن ثمّ نفي المدّعى ، أعني: إجراءها بالمعاني اللغوية، فالتناقض هنا هو الجمع بين النفي والإثبات.

إلى هنا تبيّن أنّ المنهجين باطلان جدّاً، لأنّ الإجراء بنفس المعاني تشبيه وتجسيم، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً، حيث قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ ) (1).

كما أنّ الإجراء بنفس المعاني مقيّداً بنفي الكيفية، هو أشبه بالجمع بين النفي والإثبات.

بقي هنا ثلاثة مناهج أُخرى:

الثالث: منهج التفويض

وحاصله: الإيمان بكلّ ما جاء في القرآن والسنّة من الصفات الّتي وصف اللّه تعالى نفسه بها إجمالاً وتفويض التفصيل إليه. وهم بهذا قد أراحوا أنفسهم من الغور في هذه المباحث.

إنّ التفويض هو شعار من لا يتعرض للأبحاث الخطيرة، ولا يقتحم اللجج الغامرة، ويرى أنّه يكفيه في النجاة قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «بُني الإسلام على إيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان»(2)، وعند ذلك يرى أنّ التفويض أسلم من الإثبات الّذي ربما ينتهي - عند الإفراط - إلى التشبيه والتجسيم المبغوضين، أو إلى التعقيد واللغز الّذي لا يجتمع مع سمة سهولة العقيدة.

ص:207


1- . الشورى: 11.
2- . صحيح البخاري: 1/7، كتاب الإيمان.

ونحن لا نلومهم على ذلك، فربما يظنون أنّهم غير مكلّفين بتفسير هذه الصفات، فاكتفوا بالتفويض كما هو الحال في كثير ممّا يرجع إلى القيامة ومواقفها وأحوالها، فإنّ كثيراً من الصالحين يفوّضون معانيها إلى اللّه سبحانه، ولكنّ القرآن الكريم دعا المؤمنين إلى التدبّر في الآيات لغاية فهم معانيها وحقائقها، فقال سبحانه: (وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (1).

وعلى ذلك فتعطيل العقل عن سبر المعارف الواردة في القرآن الكريم، نوع بخس وظلم للعقل السليم، كيف وهو سبحانه يقول: (وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ ) (2) وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه .

الرابع: منهج التأويل

المعتزلة هم الذين أوّلوا اليد بالنعمة والقدرة، والاستواء على العرش بالاستيلاء وإظهار القدرة، وهكذا سائر الصفات الخبرية، غير أنّ هذا المنهج غير صحيح - كسائر المناهج السابقة - فإنّ ظاهر كلامهم أنّ ظاهر القرآن يخالف العقل الصريح، ولذلك يجب ترك النقل لأجل صريح العقل، ومن المعلوم أنّ هذا كلام ساقط، إذ الكتاب العزيز والسنّة الصحيحة منزّهان عمّا يخالف صريح العقل. وما يُتداول على ألسنة طلاب العصر من أنّ ظاهر الكتاب إذا خالف العقل يؤوَّل الظاهر ويؤخذ بالعقل، أمر باطل جدّاً، إذ يستحيل أن يخالف الوحي حكم العقل الحصيف قدر شعرة. أفيمكن أن يحثّ الكتاب على التدبّر في الآيات

ص:208


1- . القمر: 17.
2- . النحل: 89.

ويمدح العاقلين ويذم المخالفين، ومع ذلك يأتي في غضون الآيات بما يخالف صريح العقل والبرهان ؟ هذا أمر لا يصدر عن الحكيم المطلق.

نعم ما يُتداول على الألسن أُلصق بالكتاب المقدّس، فإنّ الآباء اليسوعيين كلّما وقفوا في آيات العهد الجديد أو القديم على ما يخالف حكم العقل أو النتائج العلمية حاولوا التصرّف في ظاهر الكتاب وتأويله ليصونوا بذلك الكتاب المقدس عن النقد، لكنّ الكتاب الخاتم الّذي نزل على النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم تعالى عن هذه الوصمة، وهذا ما يبعثنا إلى أن نحلّل مسألة الصفات الخبرية بوجه آخر .

ص:209

الخامس: الأخذ بالظهور التصديقي دون التصوري
اشارة

إنّ الذين انزلقوا إلى حضيض التشبيه والتجسيم إنّما أخذوا بالمعاني اللغوية لهذه الالفاظ، والظهور الإفرادي لها، وغفلوا عن أنّ الظهور المتبع ليس هو الظهور الإفرادي، بل المتبع هو الظهور الجملي أو الظهور التصديقي.

كما أنّ المؤوّلين لها سقطوا أيضاً في هذه الوهدة بزعمهم لزوم الأخذ بالمعنى الإفرادي، ولذلك عادوا إلى التأويل لكي يتخلّصوا من التشبيه.

وكذلك المفوّضة الذين تركوا الغور في مفاد هذه الآيات صدروا عن زعم باطل، وهو أنّ ظاهر الآيات هو التشبيه والتجسيم المخالف للعقيدة الإسلامية، فلم يجدوا مخلصاً إلّاتعطيل العقول وإرجاع معانيها إلى اللّه سبحانه.

وبالجملة كلّ هذه المناهج بين مثبت مطلقاً، ومثبت مع نفي التكييف، أو مؤوّل، أو مفوّض معناها إلى اللّه سبحانه ولذلك عرفوا بالمعطّلة، وإنّما لجأوا إلى هذه المناهج المختلفة لأجل تسليم أصل وهو الأخذ بظهور المفردات أي الظهور التصوّري، فعند ذلك كلٌّ أخذ مهرباً.

وأمّا المنهج الصحيح، فهو اتّباع الظهور الجملي والمتبادر التصديقي، أي التدبّر في الآية صدرها وذيلها وما في معنى الآية من آيات أُخرى، والأخذ بما هو المحصّل.

ومن المعلوم أنّ هذا النوع من الظهور لا يخالف حكم العقل قدر شعرة، ومن الظلم الواضح تسمية هذا النوع من التفسير بالتأويل.

وإن كنت في ريب من هذا فلاحظ لفظ (الأسد) في قول القائل: رأيت

ص:210

أسداً يرمي.

فله بإفراده ظهور في الحيوان المفترس، وله في نفس الجملة ظهور في الرجل الشجاع. فحمله على المعنى الثاني ليس تأويلاً ولا حملاً على خلاف الظاهر.

وعلى ضوء ذلك فالآيات الّتي وردت فيها الصفات الخبرية لها هذا الشأن، فالنظر إلى مفرداتها مجرّدة من القرائن الحافة بالآية، يجرّنا إلى التشبيه والتجسيم، لكن النظر إليها في إطار الآية وما في معناها من آيات، يسوقنا إلى حيث لا تشبيه ولا تجسيم.

ولنأت بمثال توضيحيّ :

قال سبحانه: (وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (1)، فالغلّ والبسط بمفردهما ظاهران في قبض الجارحة وفتحها، لكن هذا الظهور الإفرادي ليس بمراد؛ لأنّ الغرض من الآية هو الدعوة إلى الاقتصاد ونبذ الإسراف والتقتير، فبسط اليد كناية عن الإنفاق بلا قيد، كما أنّ جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن البخل والتقتير، ولا يعد هذا التفسير تأويلاً للآية، ولو صحّ إطلاقه فإنّما هو حسب مفردات الآية لا بالنسبة إلى الجملة التامّة، بل هو معنى حقيقي للآية.

وعلى هذا المنهج تفسّر الآيات الّتي تتضمّن الصفات الخبرية، فمن اغترّ بمفردات الآيات تاه في متاهات التشبيه والتعطيل والتأويل، وأمّا من أخذ

ص:211


1- . الإسراء: 29.

بالمعنى الجملي والمفاد التصديقي يرى أنّ الآية لا تمتّ بصلة إلى التشبيه (كما عليه أهل الظاهر)، ولا إلى التشبيه بلا تكييف (كما عليه الأشعري)، ولا إلى التفويض (كما عليه المعطّلة) ولا إلى التأويل، بل الآية فوق هذه المناهج بشرط أن تدخل «البيوت من أبوابها».

***

نموذج آخر

لقد عرفت أنّ الضابطة الصحيحة في تفسير القرآن الكريم هو اتّباع ظهوره التصديقي بلا تأويل وتصرّف، وأنّ السائرين على درب التشبيه والتجسيم، أو التفويض والتعطيل، أو التأويل والتصرّف في ظهور الآية، قد تنكّبوا عن الجادّة، ولو أنّهم قدّروا للقرآن ما قدّره اللّه سبحانه لما تورّطوا في هذه المسالك غير الصحيحة. وها نحن نذكر نموذجاً آخر لما ذكرناه آنفاً، من أنّ المتَّبع هو الظهور الجملي والمعنى التصديقي وأنّ الأخذ بذلك، لا يمتّ لهذه المسالك بصلة.

قال سبحانه: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ * وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) (1).

قد أصرّ المتشدّدون من أهل الحديث على تفسير الآية بحرفيّتها وقالوا بكلمة واحدة: إنّ المؤمنين يرون اللّه سبحانه بأعينهم وأبصارهم، غير أنّ أهل التنزيه بين مفوّض ومعطّل، أو مؤوّل يذهب إلى أنّ «ناظرة» هنا بمعنى منتظرة.

ص:212


1- . القيامة: 22-25.

ولكن عامّة المسالك خاطئة؛ لأنّ حجر الأساس لهذه المسالك هو الظهور الإفرادي، ولاشكّ أنّ كلمة «ناظرة» تعني ما عليه أهل الحديث من النظر إلى اللّه بالأبصار، يقول الشيخ أبو الحسن الأشعري:

«إنّ النظر في الآية لا يمكن أن يكون نظر الانتظار، لأنّ الانتظار معه تنقيص وتكدير، وذلك لا يكون يوم القيامة، لأنّ الجنّة دار نعيم وليست دار ثواب أو عقاب، ولا يمكن أن يكون نظر الاعتبار، لأنّ الآخرة ليست دار الاعتبار بل دار ثواب أو عقاب، ولا يمكن أن يكون نظر القلب، لأنّ اللّه تعالى ذكر النظر مع الوجه، فاتّضح أنّه نظر العينين، وإذا بطلت هذه المعاني للنظر لم يبق إلّاآلة واحدة وهي نظر الرؤية».(1)

يلاحظ عليه: أنّه لا دليل على أنّ الآيات تحكي أحوال المؤمنين بعد دخول الجنّة والكافرين بعد الاقتحام في النّار، بل قوله سبحانه: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) دليل على أنّهم يظنون ذلك قبل دخولهم النّار، فلا يكون مثل هذا الانتظار تكديراً وتنقيصاً. ثم إنّه سبحانه ينسب النظر إلى الوجوه لا إلى العيون، فلو كان المراد هو الرؤية لكان اللازم أن يقول: عيون يومئذٍ ناظرة، ثم إنّ أهل التنزيه فسّروا قوله «ناظرة» بالانتظار لا الرؤية، قائلين بأنّ هذه الكلمة إذا استعملت مع (إلى) تأتي بمعنى الانتظار. يقول الشاعر:

وجوه ناظرات يوم بدر إلى الرحمن يأتي بالفلاح

ونحن نقول: سواء أقلنا بأنّ النظر في الآية بمعنى نظر العين أم بمعنى

ص:213


1- . اللمع: 64.

الانتظار فإنّه لا صلة للآية بمسألة الرؤية، وذلك لأنّ النظر حسب الظهور الإفرادي والتصوّري وإن كان بمعنى نظر العين، لكنّه حسب الظهور الجملي والتصديقي له معنى آخر، وليس لنا إلّاالأخذ بهذا الظهور ولا يوصف مثله بالتأويل، وذلك يُعلَم بالمقارنة كما يأتي:

إنّ الآية الثالثة تقابل الآية الأُولى، والرابعة تقابل الثانية، وعند المقابلة يُرفع إبهام الثانية بالرابعة، وإليك تنظيم الآيات حسب التقابل:

أ. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) يقابلها قوله: (وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ )

ب. (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) يقابلها قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ )

فبما أنّ المقابل للآية الثانية واضح المراد، وهو أنّ المجرمين آيسون من رحمة اللّه ويترقّبون العذاب الفاقر للظهر، فيكون قوله: (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) ضدّ هذا المعنى، وهو أنّ المتّقين راجون رحمة ربّهم.

وبعبارة أُخرى: معنى قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) أنّ هذه الطائفة العاصية تتوقّع نزول عذاب يكسر فقارها ويقصم ظهرها، فيكون المراد - ممّا يقابله ويواجهه - عكس هذا المعنى وضدّه، وهو أنّ الطائفة المؤمنة مستبشرة برحمته، متطلّعة إلى فضله وكرمه، فليست الرؤية إلى جماله وذاته، إذاً، مطمحاً للنظر وإلّا لخرج المتقابلان عن التقابل.

وعلى هذا فنحن نسلّم أنّ النظر في الآية بمعناه اللغوي لكن نظر المؤمنين إلى اللّه يوم القيامة مثل «نظر» الفقير إلى الغنيّ ، ونظر العائلة إلى يد الأب، والموظف إلى يد الرئيس، فالنظر في عامّة هذه الموارد استعمل في

ص:214

المعنى اللغوي أي المشاهدة، ولكن أُريد به رجاء رحمة وترقب نعمة، فليس هناك إلّارجاء الرحمة وانتظار الفرج، يقول الشاعر:

إنّي إليك لما وعدتَ لناظرٌ نظر الفقير إلى الغني الموسر

وبهذا تقدر على تفسير عامّة الصفات الخبريّة الواردة في القرآن الكريم، دون أن تدقّ باب أحد هذه المناهج.

الشبهة السادسة

عقد ابن تيمية في كتاب الإيمان فصلاً في أنّه هل في القرآن مجاز أو لا؟ نقله جمال الدين القاسمي في تفسيره المسمّى «محاسن التأويل»، وجاء فيه أكثر ما تقدّم من الشُّبه وآخر ما استند إليه أنّه ردّ على أهل التنزيه القائلين بأنّ ألفاظ المكر والاستهزاء والسخرية المضافة إلى اللّه تعالى من باب المشاكلة، وقال في ردّه: وليس كذلك بل مسمّيات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلماً له وأمّا إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه، عقوبة بمثل فعله كان عدلاً، ثم سرد عدة آيات نسب فيها المكر والسخرية إلى اللّه، وقال: قال تعالى: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَ أَكِيدُ كَيْداً) (1) وقال: (وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ ) (2) وقال: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ ) (3) فلهذا كان الاستهزاء بهم فعلاً يستحق هذا.(4)

ص:215


1- . الطارق: 15-16.
2- . النمل: 50-51.
3- . التوبة: 79.
4- . محاسن التأويل (تفسير القاسمي): 1/241-242.

يلاحظ عليه: أنّ الاستهزاء فعل الجاهلين، ولذلك لمّا أمر موسى الكليم عليه السلام بني إسرائيل في مسألة ذبح البقرة قائلاً: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) قال بنو إسرائيل: (أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً) فأجابهم موسى عليه السلام بقوله: (أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ) (1).

فإذا كان الاستهزاء عمل الجاهلين، فهل تصح نسبته إلى اللّه أو إلى نبيه أو إلى سائر المؤمنين ؟ وما قاله: (إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة كان عدلاً) غفلة عن واقع الاستهزاء، فإنّ عمل الجهلة لا يصبح عدلاً في حين، وظلماً في حين آخر، فإنّ الفحشاء ذميمة مطلقاً ابتداءً كانت أو انتهاء وعقوبة.

ثم إنّ المكر والحيلة فعل العاجز، فحيث لا يقدر على عقاب المخالف مباشرة، يلجأ إلى المكر والحيلة، واللّه سبحانه أرفع من أن يكون عاجزاً (وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (2) والحقيقة أنّ مرجع هذه الشبهة هو إنكار التحسين والتقبيح العقليين، فصار هذا سبباً لتصحيح نسبة هذه الأُمور الذميمة إلى اللّه سبحانه على الحقيقة.

ولو كان الرجل من أهل الفصاحة والبلاغة وعارفاً بأساليب كلام البلغاء لما أنكر ما ذكره أهل التنزيه من أنّ الجميع من باب المشاكلة الّتي تعني ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته.

وها نحن نذكر بعض موارد المشاكلة في الذكر الحكيم، وفي خطب أمير البيان علي عليه السلام، وأشعار البلغاء.

ص:216


1- . البقرة: 67.
2- . الأنعام: 91.

أمّا في الأوّل، فنظير:

1. قوله سبحانه: (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (1).

فإنّ الثانية لكونها حقّة لا تكون سيئة، لكن وقوعها في صحبة الأُولى صحّ التعبير عنها بالسيئة.

2. قوله سبحانه: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (2)ومن الواضح أنّ من يُقابل المعتدي بمثل فعله لا يكون معتدياً، ولكنّه عبّر عنه بذلك للمشاكلة.

3. قوله سبحانه: (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) (3) المراد: ولا أعلم ما عندك، فعبّر بالنفس للمشاكلة.

وأمّا في الثاني: فقوله عليه السلام: «اجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِكُمْ ، وَاسْأَلُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ مَا سَأَلَكُمْ »(4).

والمراد من قوله «سألكم» أي أمركم وفرضه عليكم، لأنّ السؤال وظيفة الأدنى من الأعلى، وشأن الأعلى من الأدنى هو الأمر والإلزام، لكنّه عبّر بلفظ السؤال لوقوعه في صحبة الأوّل.

وقال عليه السلام: «وَايْمُ اللّهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَيْفِ الْعَاجِلَةِ ، لَاتَسْلَمُوا مِنْ سَيْفِ

ص:217


1- . الشورى: 40.
2- . البقرة: 194.
3- . المائدة: 116.
4- . نهج البلاغة: الخطبة 113.

الْآخِرَةِ »(1)، ومن الواضح أنّه لا سيف في الآخرة، وإنّما عبّر به للمشاكلة، والمراد النار وغضب الجبار.

وأمّا في الثالث: فقول الشاعر:

قالوا اقترح شيئاً نُجِدْ لك طبخه قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا

يحكي الشاعر عن أحبته وأعزته أنّهم اقترحوا عليه طبخ غذاء مرغوب لديه، وكان فقيراً لا يملك كسوة تقيه البرد، فأجابهم بأن لكم أن تطبخوا لي جبّة وقميصاً، مكان أن يقول: أن تخيطوا لي جبّة وقميصاً، فذكر الخياطة بلفظ الطبخ لوقوعه في صحبته.

وقول الشاعر الآخر:

من مبلغ أفناء يعرب كلها أني بنيت الجار قبل المنزلِ

فبناء الجار إن جاز لوقوعه في صحبة بناء المنزل وهو متأخّر عنه.

الشبهة السابعة:

إنّ العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي نسبة الحاجة أو الضرورة أو العجز إلى اللّه تعالى، وهذا محال على اللّه.

وهذه الشبهة أثارها الشيخ سليمان بن صالح بن عبدالعزيز الغصن في رسالته: «موقف المتكلّمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنّة - عرضاً ونقداً» الّتي قدّمها إلى كلية أُصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود

ص:218


1- . نهج البلاغة: الخطبة 24.

الإسلامية عام (1413 ه)، ونال بها شهادة الدكتوراه بدرجة الشرف الأُولى.

أقول: هذا ليس أمراً جديداً، بل هي نفس الشبهة الأُولى باختلاف في الالفاظ، والإجابة عنها واضحة، فنقول:

إنّ العدول عن الحقيقة ليس دليلاً على الحاجة أو العجز، بل كلّ ذلك لغاية إفهام الناس وهدايتهم، فقد كتب سبحانه على نفسه أن يخاطب الناس عن طريق الوحي بلغتهم ويحاورهم بكلامهم وأساليبهم، قال سبحانه: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1).

الشبهة الثامنة:

إنّ اللّه تعالى لو خاطب بالمجاز لصحّ وصفه بأنّه متجوّز، ومستعير، وهو خلاف الإجماع.

وجواب هذه الشبهة: أنّه لاملازمة بين كونه مستعملاً للمجاز وجواز وصفه سبحانه بأنّه متجوّز أو مستعير، لأنّ أسماء اللّه توقيفية، ويشهد لذلك أنّ أفعال العباد عند أهل السنّة مخلوقة للّه سبحانه، ومع ذلك لا تصحّ تسميته سبحانه بكونه آكلاً، شارباً، ضارباً، قاتلاً.

ثم إنّه سبحانه يصف نفسه بقوله: (أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ ) (2)، فهل تصحّ تسميته زارعاً، ودعوته في مقام الدعاء «يازارع»؟!.

ص:219


1- . إبراهيم: 4.
2- . الواقعة: 64.
الشبهة التاسعة:

إنّ المجاز لا يفهم معناه بلفظه دون قرينة، وربّما تخفى ، فيقع الالتباس على المخاطب فلا يفهم مراد اللّه، وهذا يخالف حكمة الخطاب.

وجواب هذه الشبهة: أنّ من شرط استعمال المجاز احتفافه بالقرينة الواضحة، فاستعمال اللفظ مجازاً مع اختفاء القرينة يضادّ البلاغة، وهو لا يناسب كلام البلغاء، فكيف يقع ذلك في كلام اللّه تعالى ؟

إلى هنا تمّ بيان الشبهات الّتي حاكها ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية ومن تبعهما من الظاهريين والقشريين الذين لا يهمهم إلّامتابعة الظواهر من دون تعقّل ولا تفكير.

وقد عرفت ما هو الحق، ولأجل إكمال البحث نشير إلى بعض المجازات النبوية لتكون أقوى شاهد على أنّ المجاز ليس كذباً ولا مبالغة خارجة عن الحدّ ولا شيئاً آخر.

ص:220

المجازات في الأحاديث النبوية

قد عرفت نماذج من المجازات في الذكر الحكيم، وها نحن نذكر شيئاً ممّا ورد منها في كلام سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم، وقد قام السيد الشريف الرضي رحمه الله بجمع قسم منها في كتاب خاص أسماه «المجازات النبوية» وها نحن نقتبس من هذا الكتاب نماذج لتكون شاهداً على أنّ المجاز ليس كذباً ولا غلوّاً وإنّما هو إضفاء جمالية على الكلام، وإعطاءه روعة ورونقاً:

1. اليد العليا خير من اليد السفلى (1).

وهذا القول مجاز؛ لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم أراد باليد العليا يد المعطي وباليد السفلى يد المستعطي، ولم يرد على الحقيقة أنّ هناك عالياً وسافلاً وصاعداً ونازلاً، وإنّما أراد أنّ المعطي في الرتبة فوق الآخذ.

2. هذه مكّة قد رمتكم بأفلاذ كبدها(2).

وهذه من أنصع العبارات وأرفع الاستعارات، وقد قال صلى الله عليه و آله و سلم ذلك عند خروجه إلى بدر للقتال، وقد خرجت قريش من مكّة مجلبةً عليه ومحلبةً إليه، وكان المسلمون قد ظفروا ببعض فرّاطهم، فأتى به النبي صلى الله عليه و آله و سلم فسأله عمّن خرج في ذلك الجمع من علية قُريش، فقال: فلان وفلان، وعدد قادتهم وذادتهم(3)، والوجوه والسادات منهم، فقال صلى الله عليه و آله و سلم ذلك الحديث.

ص:221


1- . صحيح البخاري: 2/234؛ صحيح مسلم برقم 133.
2- . النهاية في غريب الحديث: 3/470، مادة «فلذ».
3- . الذادة جمع ذائد وهو الحامي الدافع. لسان العرب: 3/168، مادة «ذود».

3. أنتم الشعار والناس الدثار.(1)

قاله صلى الله عليه و آله و سلم في كلام للأنصار، وهذا مجاز، لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم أراد إنّكم أقرب الناس منّي وأشدّهم اشتمالاً عليّ ، فأنتم لي كالشعار وهو الثوب الّذي يلي بدن الإنسان، والناس كالدثار لأنّهم أبعد منّي، وأنتم بينهم وبيني.

4. الآن حمي الوطيس.(2)

قاله صلى الله عليه و آله و سلم ذلك يوم حنين يوم رأى مجتلد القوم، فقوله صلى الله عليه و آله و سلم - الآن حمي الوطيس وهو يعني حمس الحرب(3) وعظم الخطب - مجازٌ، لأنّ الوطيس في كلامهم حفيرة تحتفر، ويوقد فيها النار للاشتواء وتجمع على وُطس، ولا وطيس هناك على الحقيقة وإنّما المراد هو حرّ القراع وشدّة المصاع(4)، والتفاف الأبطال واختلاط الرجال.

5. الحمّى رائد الموت.(5)

قال صلى الله عليه و آله و سلم ذلك تشبيهاً للحمّى برائد الحيّ الّذي يتقدّمهم فيرتاد لهم مساقط السحاب ومنابت الأعشاب فيكون ارتحالهم على خَبره، وإقامتهم إلى نَظره، ومنه الحديث: «الرائد لا يكذب أهله» فكأنّه صلى الله عليه و آله و سلم جعل الحمّى مقدّمة للموت، وطليعة للحتف.

ص:222


1- . صحيح مسلم: برقم 1061.
2- . صحيح مسلم: برقم 1775.
3- . حمس الحرب أي اشتدت. النهاية لابن الأثير: 1/423، مادة «حمس».
4- . المصاع: المجالدة والمضاربة بالسيف. النهاية لابن الأثير: 4/337، مادة «مصع».
5- . سند الشهاب: 1/69.

6. المؤمن مرآة المؤمن.(1)

هذا القول مجاز واستعارة والمراد به أنّ المؤمن الناصحَ لأخيه المؤمن يبصّره مواقع رشده ويطلعه على خفايا عيبه، فيكون كالمرآة له ينظر فيها محاسنه فيستحسنها، ويزداد منها، ويرى مساوئه فيستقبحها وينصرف عنها.

7. الحياء نظام الإيمان.(2)

النظام كلّ خيط يسلك فيه لؤلؤ، وهذا الكلام استعارة، والمراد أنّ الحياء يجمع خلال الإيمان كما يجمع السلك فرائد النظام، لأنّ الإنسان الكثير الحياء، يُحجم عن مواقعة المعاصي ومطاوعة المغاوي، فإذا قلّ حياؤه تفرق جُمّاع إيمانه، فأشبه السلك في أنّه إذا انقطع تهافتت خرز نظامه.

8. أوثق العُرى كلمة التقوى.(3)

وهذه استعارة؛ لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم جعل التقوى كالعروة التي يُتعلّق بها وتنجي من المزالّ والمزالق، لأنّ المتّقي للّه سبحانه يأمن من نقماته وينجو من سطواته، فيكون كالممسك بعروة الحبل المتين والمستند إلى النضد(4) الأمين.

9. الناس معادن.(5)

هذه استعارة؛ لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم شبّه الناس بالمعادن التي تكون في قرارات الأرض، فلا يحكم على ظواهرها حتّى يستخرج دفائنها، فكذلك الناس لا يجب أن يحكم على مجاريهم ولا يقطع على بواديهم حتّى يُخبَروا ويُعرَفوا،

ص:223


1- . سنن الترمذي: برقم 1927.
2- . صحيح البخاري: 1/69 (قريب من معناه)؛ وسنن الترمذي: برقم 2010.
3- . سنن الترمذي: برقم 3261.
4- . الجبل.
5- . صحيح مسلم: برقم 2638.

فيخرج البحثُ جواهرَهم ويمحّصُ الامتحانُ مخابرَهم.

10. من أتاكم وأمركم جُمعٌ يريد أن يشقّ عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه.(1)

قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «يُريد أن يشق عصاكم» استعارة، والمراد به تفريق أمرهم وتشتيت جمعهم، فشبّه ذلك بشقّ العصا، لأنّ عن شقّها يكون تشظيها وتطاير الصدوع فيها.

11. حُبُّك الشيء يعمي ويصمّ .(2)

وهذا مجاز؛ لأن حبّ الشيء على الحقيقة لا يعمي ولا يُصمّ ، وإنّما المراد أنّ الإنسان إذا أحبّ الشيء أغضى عن مواضع عيوبه كأنّه لا ينظرها، وأعرض عن الملاوم والمعاتب من أجله فكأنّه لا يسمعها، فصار من هذا الوجه كالأعمى لتغاضيه والأصمّ لتغابيه.

12. قيّدوا العلم بالكتاب.(3)

وهذه استعارة؛ لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم جعل ضروب العلم بمنزلة الإبل الصعاب الّتي تشرد إنْ لم تُعقَل، وجعل الكتاب لها بمنزلة الأقياد المانعة والعقل اللازمة.

13. الصوم جُنّة والصدقة تطفئ الخطيئة.(4)

وهاتان استعارتان أحدهما قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الصوم جُنّة»، والمراد أنّ الصائم

ص:224


1- . صحيح مسلم: برقم 1852.
2- . مسند أحمد: 5/194.
3- . المستدرك على الصحيحين: 1/206.
4- . مسند أحمد: 5/231.

الّذي يخلص في صومه ويستكمل آخر يومه يكون بالإخلاص في ذلك الصوم كأنّه قد لبس جُنّة من العقاب وأخذ أماناً من النار. والاستعارة الأُخرى في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «والصدقة تطفئ الخطيئة»، حيث جعل الخطيئة بمنزلة النار من حيث كانت مفضية إلى عذاب النار وجعل الصدقة مطفئة لها إذا كثرت فأثرت في سقوط عقابها.

14. العلم رائد، والعدل سائق، والنفس حَرون.(1)

وهذا الكلام مجاز وذلك أنّه صلى الله عليه و آله و سلم شبّه علم الإنسان بالرائد الّذي يتقدّم أمام الحي فيدلّهم على المنزل الوسيع والمرعى المريع، وشبّه العقل بالسائق لأنّه يحثّ الإنسان على سلوك النهج الأسلم، ويحمله على الذهاب في الطريق الأقوم، وشبّه النفس بالدّابة الحرون لأنّها تتقاعس عن مراشدها، وتلذع بسوط الأدب حتّى تسلك طرق مصالحها.

***

إلى هنا قدمنا لك - أيها القارئ الكريم - نماذج من أروع المجازات في كلام النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم حتّى تكون شاهداً على أنّ المجاز أمر ذائع ومطلوب ولولاه لما جنح إليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فإنّ القرآن والسنّة كلاهما من وحي اللّه سبحانه غير أنّ القرآن وحي بلفظه ومعناه، والسنّة وحي بمعناه دون لفظه، فلو كان في المجاز شيء من الشَّين لما وجدت له أثراً في كلام سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم، وقد ذكر السيد الرضي في كتابه «المجازات النبوية» 375 حديثاً نبوياً اشتمل على

ص:225


1- . بحار الأنوار: 74/174.

مجازات ناصعة، أضفتْ على كلامه روعة وجمالاً، وقد صدرنا فيما ذكرناه من المجازات في الحديث الشريف عن هذا الكتاب القيّم،(1) رحم اللّه مؤلّفه.

ص:226


1- . راجع المجازات النبوية: 35، 13، 41، 45، 57، 79، 105، 133، 134، 161، 175، 179، 189 و 204.

عود على بدء أو نقد رسالة الشيخ الشنقيطي

اشارة

لمّا فرغت من تحرير ما سبق من الكلام، وقفت على نص رسالة الشيخ الشنقيطي الّتي أسماها «منع جواز المجاز في المنزَل للتعبّد والإعجاز» والّتي طبعت في ذيل الجزء العاشر من كتابه «أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن» فرأيت أنّ الكاتب من المتحمّسين لفكرة المنع الّتي ورثها من ابن تيمية وتلميذه ابن قيّم الجوزية ومن لفّ لفّهما، وقد نقلنا شيئاً منها في المقال الماضي عن طريق كتاب «التأويل» لصديقنا الراحل العلّامة محمد هادي معرفة «رضوان اللّه عليه» لكن رأيت فيها وجوهاً أُخرى للمنع فأحببت أن أُتابع الموضوع مجدّداً، وإن استلزم التكرار في بعض الموارد.

قال الشيخ: فإنّا لمّا رأينا جلّ أهل هذا الزمان يقولون بجواز المجاز في القرآن ولم يتنبّهوا إلى :

1. أنّ القول فيه ذريعة لنفي كثير من صفات الكمال والجلال.

2. أنّ هذا المُنزَل للتعبّد والإعجاز كلّه حقائق وليس مجازاً.

3. أنّ نفي ما ثبت في كتاب أو سنّة لاشكّ في أنّه محال.

وكيف يمكن أن يكون شيء منه غير حقيقة، وكلّ كلمة منه بغاية الكمال جديرة حقيقة، إنّه لقول فصل وما هو بالهزل، أخباره كلّها صدق وأحكامه كلّها عدل.

ص:227

والمقصود من هذه الرسالة نصيحة المسلمين وتحذيرهم من نفي صفات الكمال والجلال الّتي أثبتها اللّه لنفسه في كتابه العزيز بادّعاء أنّه مجاز وأنّ المجاز يجوز فيه لأنّ ذلك من أعظم وسائل التعطيل(1).

***

أقول: الجدير بالباحث الموضوعي أن يدرس الآيات الّتي ادّعى أكثر أهل هذا الزمان وجود المجاز فيها، ثم يخرج بنتيجة خاصّة، من النفي والإثبات، ولكن الرجل تجاوز القاعدة فتبنّى العقيدة أوّلاً - ليس في القرآن مجاز - ثم درس الآيات في ضوء هذه العقيدة، ومن المعلوم أنّ دراستها على ضوء العقيدة الّتي تبنّاها من قبل، لا تنتج إلّاالنفي والردّ.

والشاهد على أنّه لم يبحث الموضوع متجرّداً عن عقيدته، أنّه نفى المجاز في القرآن لغاية حفظ تطرّق المجاز إلى الآيات الواردة حول الصفات الخبرية (لا صفات الكمال والجمال كما زعم) الّتي لو أُجريت على معانيها اللغوية، لاستلزم التجسيم والتشبيه والجهة والحركة، وإنْ كنت في شكّ من ذلك، فلاحظ الآيات التالية:

1. العين، كقوله سبحانه: (وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (2).

2. اليمين، كقوله سبحانه: (وَ السَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ ) .(3)

3. الاستواء، كقوله سبحانه: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) .(4)

ص:228


1- . ملحق أضواء البيان: 10/237.
2- . طه: 39.
3- . الزمر: 67.
4- . طه: 5.

4. النفس، كقوله سبحانه: (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) .(1)

5. الوجه، كقوله سبحانه: (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) .(2)

6. الجنب، كقوله سبحانه: (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ ) (3).

7. القرب، كقوله سبحانه: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ ) (4).

8. المجيء، كقوله سبحانه: (وَ جاءَ رَبُّكَ ) .(5)

9. الإتيان، كما قال سبحانه: (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ) (6).

10. الغضب، كما في قوله: (وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ) (7).

11. يد اللّه كما في قوله سبحانه: (يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) (8).

12. يديّ كما في قوله سبحانه: (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (9).

إلى غير ذلك من الصفات الخبرية التي وردت في القرآن الكريم وأخبر عنها الوحي، فللجميع ظواهر غير مستقرة لا تلائم الأُصول الواردة في محكمات الآيات، ولكن بالإمعان والدقة يصل الإنسان إلى مآلها ومرجعها وواقعها.

إنّ الرجل - تبعاً لأُستاذ منهجه: ابن تيمية الحرّاني، وابن قيّم الجوزية - أصرّ

ص:229


1- . المائدة: 116.
2- . البقرة: 115.
3- . الزمر: 56.
4- . البقرة: 186.
5- . الفجر: 22.
6- . الأنعام: 158.
7- . الفتح: 6.
8- . المائدة: 64.
9- . ص: 75.

على نفي المجاز في هذه الآيات ليتسنّى له إثبات هذه الصفات على اللّه سبحانه بنفس معانيها، فصارت العقيدة أساساً، لتفسير الذكر الحكيم، فهو مكان أن يعرض العقيدة عليه، فسّر القرآن وفق معتقده.

وأعجب من ذلك قوله ثانياً: «إن كلّ ما في القرآن حقائق وليس مجازاً».

حيث زعم أنّ المراد من المجاز ضد الواقع الّذي يلازم الكذب، وغفل عن أنّ المقصود هو اتّخاذ اللفظ معبَراً وجسراً لتجاوز معنى إلى معنى آخر، والخروج من أمر واقعي إلى أمر واقعي آخر، ومن حقيقة إلى حقيقة أُخرى، وليس المعنى الثاني ضد الأوّل ولا هو معنى مكذوب، بل المتكلّم يتخذ اللفظ وسيلة للتعبير عن معنى آخر له كمال المناسبة مع المعنى الأوّل، وذلك بنصب قرينة واضحة.

ومنه يظهر الخلل في قوله ثالثاً: «لا يمكن أن يكون شيء منه غير حقيقة» وذلك لأنّ المعنى الثاني أيضاً حقيقة كالمعنى الأوّل، غير أنّه أفاد المقصود باللفظ الموضوع للمعنى الأوّل بمناسبة واضحة بين المعنيين، وعلى هذا فكلّ ما في القرآن أُمور واقعية، لكن ربّما يعبَّر عنها باللفظ الموضوع لها لغة، وربّما يعبَّر عنها بغير الموضوع له ويستعان في تفهيمه بالقرينة، وسيظهر لك تفصيل ما ذكرنا في البحوث الآتية.

وجه آخر:

ثم إنّه أضاف إلى الوجوه الثلاثة وجهاً آخر وقال: وأوضح دليل على منعه في القرآن، إجماع القائلين بالمجاز على أنّ كلّ مجاز يجوز نفيه ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر فنقول لمن قال: رأيت أسداً يرمي، ليس هو بأسد وإنّما هو رجل شجاع، فيلزم على القول بأنّ في القرآن مجازاً: أنّ في القرآن ما يجوز نفيه،

ص:230

ولا شكّ أنّه لا يجوز نفي شيء من القرآن.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الكبرى أمر مسلَّم لا ريب فيه، فلا يجوز لمسلم مؤمن بأنّ القرآن كتاب سماوي نزل من اللّه على قلب سيد المرسلين أن ينفي شيئاً منه حتّى النُّقط، إنّما الكلام في الصغرى فإنّ الوارد فيه هو ما تعلّقت به الإرادة الجدّية والغرض الحتمي الّذي لأجله سيق الكلام وهو غير منفي، وإنّما المنفي هو ما تعلّقت به الإرادة الاستعمالية الّتي استخدمت لإفادة المعنى الثاني.

وبعبارة أُخرى: أنّ المتكلّم إذا قال: رأيت أسداً يرمي، فقد استعمل لفظة «أسد» في الحيوان المفترس، لكنّه تعلّقت الإرادة الجدّية بالمصداق الادّعائي منه - أعني: الرجل الشجاع - فقد أُريد المعنى الأوّل ليكون وسيلة لإفهام المعنى الثاني بالقرينة المفهمة، فنفي الحيوان المفترس المتجسّد في الأسد في الغابات لا يضرّ لأنّه ليس مقصوداً، وإنّما المقصود بالأصالة - أعني: الرجل الشجاع - فهو غير منفي، وعلى هذا:

فما هو المقصود بالأصالة ليس منفياً.

وما هو منفيٌّ فليس مقصوداً بالأصالة.

وبعبارة ثالثة: أنّ لكلّ جملة ظهوراً وهو حجّة عند العقلاء، وهذا ما لا يجوز نفيه لا في كلام اللّه ولا في كلام غيره، والجملة المذكورة ظاهرة في الرجل الشجاع لا في الحيوان المفترس. ولا يمكن نفي ما هو ظاهر فيه وما ذلك إلّالأنّ المتَّبع هو الظهور الجملي، لا الظهور الإفرادي، فللأسد، بمفرده ظهور فهو غير متّبع، ولا يحتج به ولا يضرّ نفيه، وله ظهور آخر في ضمن الجملة وهو المتّبع

ص:231


1- . ملحق أضواء البيان: 1/240.

ولا يجوز نفيه.

والكاتب لم يميّز بين الظهور الإفرادي والظهور الجملي.

***

وجه خامس: أنّ الكاتب طرح سؤالاً عن جانب القائلين بالمجاز، ثم أفاض الكلام في ردّه مع أنّ السؤال ممّا لا يحتجّ به أحد من القائلين بالمجاز في القرآن.

قال: فإنْ قيل كلّ ما جاز في اللغة العربية جاز في القرآن، لأنّه بلسان عربي مبين. ثم أجاب بأنّ هذه كلمة لاتصدق إلّاجزئية.

أقول: إنّ القائل بالمجاز في القرآن إنّما يحتج: بالآيات الدالّة على أنّ القرآن نزل بلسان عربي مبين، قال سبحانه: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) (1) وممّا لا يشكّ فيه ذو مسكة أنّ المجاز من الوسائل البيانية في اللسان العربي، وعلى هذا فلا وجه لمنع جوازه، في القرآن، وأمّا ادّعاء أن كلّ ما جاز في اللغة العربية جاز في القرآن، فلم يعتمده أحد حتّى يردّ عليه.

وبذلك يُعلم أنّ ما أطنب به في ردّ كلية القاعدة، إطناب مملّ .

النزاع في اللفظ والتسمية

يظهر من بعض كلمات المؤلّف أنّه لا ينكر واقع المجاز في القرآن لكنّه يسمّيه بأنّه أُسلوب من أساليب اللغة، وإنّما يمنع تسمية الأُسلوب بالمجاز، وإن

ص:232


1- . الشعراء: 193-195.

كنت في شكّ ممّا نقوله، فلاحظ كلامه:

وكلّ ما يسمّيه القائلون بالمجاز مجازاً، فهو عند من يقول بنفي المجاز أُسلوب من أساليب اللغة العربية.

فمن أساليبها إطلاق الأسد مثلاً على الحيوان المفترس المعروف، وأنّه ينصرف إليه عند الإطلاق وعدم التقييد بما يدلّ على أنّ المراد غيره.

ومن أساليبها إطلاقه على الرجل الشجاع إذا اقترن بما يدلّ على ذلك.

ولامانع من كون أحد الإطلاقين لا يحتاج إلى قيد، والثاني يحتاج إليه؛ لأنّ بعض الأساليب يتّضح فيه المقصود فلا يحتاج إلى قيد، وبعضها لا يتعيّن المراد فيه إلّابقيد يدلّ عليه، وكلّ منهما حقيقة في محلّه. وقسّ على هذا جميع أنواع المجازات.(1)

ثم يقول: والّذي ندين اللّه به، ويلزم قبوله كلّ منصف محقّق، أنّه لا يجوز إطلاق المجاز في القرآن مطلقاً على كلا القولين.

نحن لا نعلّق عليه بشيء لوضوح أنّ النزاع ليس في التسمية، بل في المسمّى وواقع المجاز كما ترشد إليه الوجوه الّتي احتجّ بها، فعلى ما ذكر يكون النزاع في التسمية غير لائق للبحث والنقاش.

زلّة لا تستقال

ثمّ إنّ المؤلّف لمّا أحسّ اشتراك الكناية مع المجاز في أنّ المعنى الموضوع له غير مراد، بل المراد هو لازم المعنى في الكناية دون الملزوم، حاول

ص:233


1- . ملحق أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: 10/239.

أن يفرق بينهما فقال: الكناية هي اللفظ الّذي أُريد به لازم معناه، ولكن من تمام تعريفها جواز إرادة المعنى الأصلي، وبذلك تفارق المجاز كقول الشاعر:

فما يك فيّ من عيب فإنّي جبان الكلب مهزول الفصيل

وقول الخنساء في صخر:

طويل النجاد عظيم الرما د ساد عشيرته أمردا

فإنّ جبان الكلب، ومهزول الفصيل، وعظيم الرماد كنايات عن الجود، وطويل النجاد كناية عن طول القامة، مع أنّه يجوز في كلّها قصد المعنى الأصلي، لأنّ الجواد مهزول الفصيل لنحره أُمّه وصرفه اللبن عنه في الحقوق (كذا والظاهر الضيوف).

وكذلك هو جبان الكلب لكثرة غشيان الضيوف بيته.

وكذلك هو كثير الرماد لكثرة وقود الحطب لقِرى الضيف، وطويل القامة طويل النجاد أيضاً، فلا مانع من قصد هذه المعاني الأصلية، وإن كان المراد الانتقال منها إلى لوازمها.(1)

أقول: ما ذكره زلة أدبية لا تستقال إذ لم يقل به أحد، لأنّ المقصود بالأصالة هو المعنى المكنّى عنها، بل ربّما يخرج الكلام عن المدح إلى الذم إذا أراد المعنى المكنّى به، فقوله: فلان كثير الرماد، إذا أُريد واقعاً كثرة الرماد في بيته، لعاد الكلام، ذماً وأنّ بيته مملوء بالنفايات.

بل ربّما لا يكون للمعنى المكنى به موضوع، فربّما لا يملك كلباً، ولا فصيلاً، ولا رماداً، ومع ذلك يصحّ التعبير عن سخائه بهذه التعبيرات.

ص:234


1- . ملحق أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: 10/245.
نقضت غزلها أنكاثاً

لقد فسّر المؤلّف قسماً من الآيات عن طريق المجاز، ولكنّه وصفه بأنّه أُسلوب من أساليب العربية، يقول في تفسير قوله تعالى: (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ ) (1):

أسند الكذب في هذه الآية الكريمة إلى ناصية هذا الكافر، وهي مقدّم شعر رأسه، مع أنّه أسنده في آيات كثيرة إلى غير الناصية كقوله: (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ) (2).

والجواب ظاهر، وهو أنّه هنا أطلق الناصية، وأراد صاحبها على عادة العرب في إطلاق البعض، وإرادة الكلّ ، وهو كثير في كلام العرب، وفي القرآن، فمن أمثلته في القرآن هذه الآية الكريمة المتقدمة، وقوله تعالى: (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ ) (3) يعني أبا لهب. وقوله: (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) (4) يعني بما قدّمتم.

ومن ذلك تسمية العرب، الرقيبَ عيناً.(5)

ترى أنّه تشبّث في رفع التعارض المتوهم، بين الآيات، باستعمال اللفظ الموضوع للبعض في الكلّ ووصفه بأنّه كثير في كلام العرب وفي القرآن. وليس هذا إلّاالمجاز المرسل.

وفي الختام: نعطف نظر القارئ الكريم إلى نكتة مرت في صدر المقال:

ص:235


1- . العلق: 16.
2- . النحل: 105.
3- . المسد: 1.
4- . آل عمران: 182.
5- . ملحق أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: 10/227.

وهي أنّ نفاة المجاز في القرآن، من العرب الأقحاح الّذين يرتجلون خطباً وقصائد ملؤها المجاز والكناية، ومع ذلك تجدهم ينفون وجود المجاز في القرآن!! وما هذا إلّالأنّ الغاية من نفيه، هو إجراء الصفات الخبرية على اللّه سبحانه بنفس معانيها الّتي لا تنفك عن التجسيم والتشبيه والجهة. ولولا ذلك لما أصرّوا على نفي وقوعه في القرآن الكريم.

تمّت الرسالة بيد مؤلفها جعفر السبحاني

صبيحة يوم الثامن عشر من شهر

صفر المظفر من شهور عام ألف

وأربعمائة وثلاثة وثلاثين

الحمد للّه أوّلاً وآخراً

وظاهراً وباطناً

ص:236

2 الوحي: لغة واصطلاحاً

اشارة

الوحي في اللغة هو الإلقاء في خفاء. نصّ على ذلك ابن فارس في «المقاييس»، ثم إنّ أئمة اللغة وإن ذكروا للوحي معانٍ مختلفة، لكن الجميع يرجع إلى أصل واحد وهو تعليم الغير بخفاء.

قال ابن منظور: الوحي: الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكلّ ما ألقيتَه إلى غيرك يقال: وحيتَ إليه الكلام.

المستفاد من كلماتهم أنَّ الوحي هو الإعلام بخفاء بطريق من الطرق، و العنصر المقوّم لمعنى الوحي هو الخفاء، وأمّا غيره كالسرعة على ما في «مفردات الراغب» فليس بمقوّم لمعنى الوحي، كما أنّ الإشارة والكتابة والإلهام إلى القلب كلّها من طرق الوحي ووسائله.

و قد استعمل الوحي في القرآن الكريم في موارد مختلفة كلّها مصاديق لهذا المعنى الجامع، وإن شئت قلت: من قبيل تطبيق المعنى الكلّي على مصاديقه المختلفة المتنوّعة، وإليك البيان:

1. تقدير الخلقة بالسنن والقوانين

قال سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ * فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى

ص:237

فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (1).

فقوله: (وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) يحتمل وجهين:

الأوّل: أودع في كلّ سماء السننَ والأنظمةَ الكونيةَ وقدّر عليها دوامها إلى أجل معيّن. وبما أنّ السماوات تلقّت هذه السنن والنظم بإيداع في خلقتها، استعير في التعبير لفظ الوحي.

الثاني: أنّ الشعور والإدراك ساريان في جميع مراتب الوجود من أعلاه كواجبه إلى أدناه كالهيولى في عالم التكوين، ولكن كلّ حسب درجته و مرتبته، فالسماوات تلقّت ما أوحى سبحانه إليها بخفاء، فقامت بامتثال ما أوحي إليها من الوظائف.

و من هذا القبيل قوله سبحانه: (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها * وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها * وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (2).

2. الإدراك والغريزة

قال سبحانه: (وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) .(3)

فالأعمال المدهشة الخلّابة للعقول التي يقوم بها النحل في صنع بيوتها، والقيام بشؤون وظائفها ثم التجوّل بين البساتين، ومصّ رحيق الأزهار، ثم

ص:238


1- . فصّلت: 11-12.
2- . الزلزلة: 1-5.
3- . النحل: 67-68.

إيداعها في صفائح الشهد، شيء تتعلّمه بإيحاء من اللّه سبحانه، و ذلك بإيداع الغرائز الكفيلة بذلك. وبما أنّ تأثّر النحل بها بخفاء وبلا التفات من الشعور والإدراك أُطلق عليه لفظ الوحي.

و يحتمل هنا أيضاً معنى آخر وهو الذي ذكرناه في الوحي إلى السماء.

3. الإلهام والإلقاء في القلب

و قد استعمل الوحي في الإلقاء إلى القلب في موارد في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه: (وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ ) .(1)

و منها قوله: (وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي) .(2)

و منها قوله تعالى في شأن يوسف عليه السلام عندما جعلوه في غيابة الجب قال سبحانه: (وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ،(3) إلى غير ذلك من الموارد.

4. الإشارة

قال سبحانه: (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا) .(4) وبما أنّه استخدم الإشارة في تفهيم مراده، فأشبه فعله إلقاء الكلام بخفاء، فصار ذلك مصحّحاً لاستعمال لفظ الوحي.

ص:239


1- . القصص: 7.
2- . المائدة: 111.
3- . يوسف: 15.
4- . مريم: 11.

5. الإلقاءات الشيطانية

قال سبحانه: (وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) .(1)

و يعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا تقدّم ذكره.

6. كلام اللّه المنزل على نبي من أنبيائه

قال سبحانه: (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .(2)

و قد عرّف هذا النوع من الوحي بأنّه تعليمه تعالى من اصطفاه من عباده كلّما أراد اطّلاعه على ألوان الهداية وأشكال العلم ولكن بطريقة خفية غير معتادة للبشر.

و حصيلة البحث: أنّ للوحي معنى واحداً، وله مصاديق متنوعة، وليست هي بمعان متكثّرة. وأنَّ حقيقة الوحي تعليم غيبي لمن اصطفاه سبحانه من عباده، لايشابه الطرق المألوفة بين العباد، وإن أردت المزيد من الاطّلاع فإليك البيان التالي:

قنوات المعرفة الثلاث

اشارة

إنّ أمام الإنسان طرقاً ثلاثة للوصول إلى مقاصده: الطريق الأوّل: يستفيد منه جموع الناس غالباً، بينما تستفيد طائفة خاصّة منهم من الطريق الثاني،

ص:240


1- . الأنعام: 112.
2- . الشورى: 3.

ولايستفيد من الطريق الثالث إلّاأفراد معدودون تكاملت عقولهم وتسامت أرواحهم. وهي كالتالي:

1. الطريق الحسّي والتجربي

و المقصود منه الإدراكات والمعلومات الواردة إلى الذهن عن طريق الحواس الظاهرية، أو بفضل التجربة التي أُسّست الحضارة المعاصرة عليها.

2. الطريق التعقّلي النظري

إنّ المفكّرين يتوصّلون إلى كشف الأُمور الخارجة عن إطار الحسّ والتجربة عن طريق الاستدلال وإعمال النظر وإنهاء المجهولات إلى البديهيات، وقد توصّل البشر بهذا الطريق إلى المسائل الفلسفية الكلّية وما يضاهيها.

3. طريق الإلهام

و هذا هو الطريق الثالث وهو فوق نطاق الحس والتعقّل: إنّه نوع جديد من المعرفة، ونمط متميّز من إدراك الحقائق ليس محالاً من وجهة نظر العلم، وإن كان يصعب على أصحاب الاتّجاه المادي، قبوله لكونه طريقاً خارجاً عن إطار الحسّ والتعقّل.

إنّ طريق التعرّف على حقائق الكون - في منهج المادّيين وأصحاب النزعة الماديّة - ينحصر في قناتين لاغير، وهما اللّذان سبق ذكرهما، في حين أنّ هنا حسب نظر الإلهيين قناة ثالثة أيضاً.

إنّ هذا الطريق الثالث أقوى أسساً وأوسع آفاقاً عند مَن يدّعون الرسالة و

ص:241

النبوة من جانب اللّه سبحانه، وأنّ نفوس أولئك الأشخاص لتبدوا أكثر صفاءً وطراوة وزهواً.

كلّما حصلت صلة بين اللّه سبحانه وفرد من أفراد النوع الإنساني على نحو تلقّي الحقائق من دون توسيط الحواس واعمال الفكر، يسمّى بالإلهام تارة، والإشراق أُخرى، وكلّما نتجت من هذا الارتباط سلسلة تعاليم عامّة يطلق عليها اسم الوحي ويسمّى المتلقّي نبياً، ومن هنا اعتبر العلماء «الوحي» الطريقة المطمئنة الوحيدة إلى المعرفة العامّة.

أنواع الوحي وأقسامه:

اشارة

إنّ النبي تارة يتلقّى الوحي، على نحو الإلهام في القلب، وأُخرى يسمع عبارات وكلمات من وراء حجاب، كسماع موسى عليه السلام كلام اللّه سبحانه في الطور، وثالثة تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار كرؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام ذبح ولده إسماعيل، ورابعة ينزل عليه ملك من جانب اللّه تعالى معه كلامه سبحانه، ويسمّى الملك بالروح الأمين.

و إلى الطرق الثلاثة: «سوى الرؤيا» أُشير إليها بقوله سبحانه: (وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) (1) وإلى نزول الملك بقوله: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) (2): وأمّا الرؤيا الصادقة فيكفي في ذلك قوله سبحانه حاكياً عن الخليل عليه السلام: (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ

ص:242


1- . الشورى : 51.
2- . الشورى: 51.

اِفْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ ) .(1)

فلو لم تكن رؤيا الخليل إدراكاً قطعياً واتّضح بها وجه الحقيقة كفلق الصبح، لما أخبر ولده بها ولا أجابه الولد بالامتثال طائعاً. نعم أُشير إلى الملك الحامل لكلام اللّه سبحانه بقوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) .(2)

***

إنّ هناك مَن يحاول أن يفسّر الوحي بالأُصول المادّية والطرق الحسيّة، و لهم في ذلك آراء ونظريات يشبه كثيرها كلام بعض المشركين في تفهيم معنى الوحي والقرآن الكريم وإليك بيان اثنتين من هذه النظريات.

1. الوحي وليد النبوغ

يقولون: يتميّز بين أفراد الإنسان المتحضّر أشخاص يملكون فطرة سليمة، وعقولاً مشرقة، تهديهم إلى ما فيه صلاح المجتمع وسعادة الإنسان فيضعون قوانين، فيها مصلحة المجتمع وعمارة الدنيا، والإنسان المتصدّي لهذه الوظيفة هو النبي، والفكر المترشّح من مكامن عقله وومضات نبوغه، هو الوحي، والقوانين التي يسنّها لصلاح المجتمع هي الدين، والروح الأمين (جبرائيل) هو نفسه الطاهرة التي تفيض هذه السنن والقوانين إلى مراكز إدراكه، والكتاب السماوي هو كتابه الذي يتضّمن تلك السنن والقوانين، والملائكة التي ترافقه في حلّه وترحاله هي القوى الطبيعية، والشيطان الذي ينابذه وينادده هو

ص:243


1- . الصافات: 102.
2- . الشعراء: 193-194.

النفس الأمّارة بالسوء.

أقول: إنّ تفسير النبوّة بالنبوغ، وإن صيغ في قالب علمي جديد، ليس نظرية جديدة بحدّ ذاتها فإن جذوره تمتد إلى عصر المشركين المعاصرين للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، فإنّهم كانوا يحسّون بحالة الانجذاب للقرآن وبلاغته الخلّابة فينسبونه إلى الشعر ويصفون قائله بالشاعر، قال سبحانه حاكياً عنهم: (بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ) .(1)

و يجيبهم القرآن بقوله: وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ ) .(2)

إنّ هذه النظرية أُسّست على إنكار ما وراء الطبيعة حيث صار الوجود عندهم مساوقاً للمادّة فلم يجدوا منتدحاً عن تفسير الوحي بما جاء في هذه النظرية.

مع أنّا إذا سبرنا تاريخ المصلحين في العالم نجدهم على فئتين:

فئة تتكلّم باسم الدين الإلهي، وتخبر عن اللّه سبحانه وتنسب كلّ ما يأمر وينهى إلى عالم الغيب، ولايرى لنفسه شأناً سوى كونه مبلّغاً لرسالات اللّه ومؤدّياً لبلاغها وإنذارها.

و فئة تتكلم باسم المصلح الاجتماعي، وينسب كلّ ما يتفوّه به إلى بنات فكره وعقله. فلو صحّت تلك النظرية لما كان لهذا التقسيم مفهوم صحيح، وعندئذ يتساءل: لماذا نسبت الفئة الأُولى ما جاءُوا به من التعاليم إلى عالم الغيب

ص:244


1- . الأنبياء: 5.
2- . يس: 69.

مع أنّه من ومضات فكرتهم ؟! هذا، ومن جانب آخر أنّ المصلحين باسم الأنبياء كانوا رجالاً صادقين وصالحين لم يبدر منهم ما ينافي صدقهم وصلاحهم، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّهم كانوا يحسّون من صميم ذاتهم بأنّهم مبعوثون من جانبه سبحانه.

إنّ هذه النظرية التي تفسّر الوحي بالنبوغ وتوسم الأنبياء بالنوابغ، لم تدرس أحوال النوابغ والعلل والمبادئ، التي يرتكز عليها النبوغ حتى تقف على أنّ أحوال الأنبياء على طرفي نقيض من أحوالهم، فإنّ أفكار النوابغ تتوقّد وتزدهر تحت لواء المجتمعات الراقية وظل الحضارات الإنسانية، وأمّا المجتمعات المتخلّفة فلو كانت تمتلك نوابغ بالذات لأخمد فيها ذكاؤهم وبارت فيها فطنتهم.

و أمّا الظروف التي كانت يعيش فيها الأنبياء خصوصاً النّبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم فقد كانت على نقيض هذا الجانب فقد بعث صلى الله عليه و آله و سلم بين قوم يغطّون في سبات التخلّف والانحطاط فكيف يمكن تفسير النبوة الخاتمة بالنبوغ مع هذا البون الشاسع بين ظروف النوابغ وبيئة خاتم المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم.

أضف إلى ذلك: أنّ النوابغ تسودهم العزلة والانزواء مع أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كان بين الناس يعيش معهم في حياتهم الاجتماعية وإن لم يكن على سيرتهم وسلوكهم فقد قضى عمره في الرعي والتجارة إلى أن بعثه اللّه سبحانه نبياً لهداية الأُمّة.

و أنّى للنوابغ الكتاب المُعجز الذي حارت فيه العقول وخرست الالسن عن النطق بمثله؛ وأين لهم هذه النُّظُم والتشريعات الحيّة النابضة التي تتلاءم

ص:245

وتنسجم مع جميع الحضارات الإنسانية فهي كما وصفها شبلي شمّيل اللبناني (المتوفى عام 1335 ه) في رسالته إلى السيد محمد رشيد رضا صاحب (المنار) والتي جاء فيها:

أنت تنظر الى محمد كنبي وتجعله عظيماً، وأنا أنظر اليه كرجل واجعله أعظم، ونحن وإن كنّا في الاعتقاد على طرفي نقيض، فالجامع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول، وذلك أوثق لنا لعرى المودّة (الحق أولى أن يقال):

دع من محمد في صدى آياته ما قد نحاه للحمة الغايات

إنّي وإن أكُ قد كفرت بدينه هل أكفرن بمحكم الآيات ؟

أو ما حوت في ناصع الألفاظ من حِكَم روادع للهوى وعظات

و شرائع لو أنّهم عقلوا بها ما قيدوا العمران بالعادات

نعم المدبر والحكيم وإنّه رب الفصاحة مصطفى الكلمات

رجل الحجى رجل السياسة والدهاء بطل حليف النصر في الغارات

ببلاغة القرآن قد خلب النُّهى و بسيفه أنحى على الهامات

من دونه الأبطال في كل الورى من سابق أو غائب أو آت

2. الوحي ثمرة الأحوال الروحية

هذه النظرية الثانية هي التي يعتمد عليها المستشرقون في تحليل نبوة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وفسّرها من بينهم «أميل درمنغام»، وخلاصتها: أنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبي إليه لا من الخارج؛ وذلك أنّ سريرته الطاهرة، وقوة إيمانه باللّه، والاعتقاد بوجوب عبادته، وترك ما سواها من عبادة وثنية وتقاليد وراثية

ص:246

موبوءة يحدث في عقله الباطن، الرؤى والأحوال الروحية فيتصّور ما يعتقد وجوبه، إرشاداً إليه، نازلاً عليه من السماء بدون وساطة، أو يتمثّل له رجل يلقِّنه ذلك، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك، ولكنّه إنّما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي، عند جميع الأنبياء فكلّما يخبر به النبي أنّه كلام أُلقي في روعه، أو ملك ألقاه على سمعه، فهو خبر صادق عنده.(1)

ص:247


1- . الوحي المحمدي: 66.
نبوة أو أضغاث أحلام ؟!

و يلاحظ على تلك النظرية أنّها ليست بشيء جديد وإن كانت قد تنطلي على السُّذِّج من الناس بِأنّها نظرية جديدة ذات قيمة علمية.

إنّ الذكر الحكيم يحكي لنا مقالة المشركين في سالف عهدهم في حق النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، وكتابه حيث كانوا يحلّلون نبوته والوحي المنزل عليه، بأنّها أضغاث أحلام، قال تعالى حكاية عنهم: (أَضْغاثُ أَحْلامٍ ) * (1)أي أنّ ما يحكيه عن اللّه تبارك وتعالى، إنّما هو وحي الأحلام يجري على لسانه، وعلى ذلك فليست تلك النظرية إلّاتفسير للنبوة بالجنون الذي هو منشأ لتجلّي النزعات الخيالية، فاستغله المستشرقون، واستعرضوه بثوب جديد يؤمّهم السُّذَج وصوّروه بأنّه تحليل علمي بُني على أساس علمي رصين، ولكنّ المساكين غير واقفين على أنّه نفس النظرية الجاهلية التي جوبه بها النبي حيث قالوا كما يحكيه عنهم قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) (2). و قد حكيت هذه التهمة عن لسان المشركين في غير سورة.

سبحانك يا رب ما أعظم جناية الإنسان على الصالحين البالغين ذروة الكمال في العقل والدراية حتى وسمهم هؤلاء المفترون تارة بالخبطة، وأُخرى بالمسّ ، وثالثة بالجنون.(3)

ص:248


1- . يوسف: 44؛ الأنبياء: 5.
2- . الحجر: 6.
3- . لاحظ: البقرة: 275، الحجر: 6، الأعراف: 184، وغيرها.

3 نزول القرآن في شهر رمضان و بعثته في رجب

اشارة

بعث اللّه سبحانه نبيّه الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأُمم، واعتزام من الفتن، وانتشار من الأُمور، وتلظ من الحروب، و الدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها، وإياس من ثمرها، واغورار من مائها، قد درست منار الهدى، وظهرت أعلام الردى، فهي متجهمة لأهلها، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف(1).

بُعث على رأس الأربعين من عمره، وبُشّر بالنبوة والرسالة، وأمّا الشهر الذي بعث فيه، ففيه أقوال وآراء، فالشيعة الإمامية تبعاً لأئمة أهل البيت عليهم السلام على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم بعث في سبع وعشرين من شهر رجب.

روى الكليني عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «لاتدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب، فإنّه اليوم الذي نزلت فيه النبوة على محمد صلى الله عليه و آله و سلم».(2)

و روى أيضاً عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: «بعث اللّه عزّ وجلّ محمّداً رحمة للعالمين في سبع وعشرين من رجب».(3)

ص:249


1- . اقتباس من كلام الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة، الخطبة 85، طبعة محمد عبده».
2- . البحار 189/18، نقلاً عن الكافي وأمالي الشيخ الطوسي.
3- . البحار 189/18، نقلاً عن الكافي وأمالي الشيخ الطوسي.

و روى المفيد عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «في اليوم السابع والعشرين من رجب، نزلت النبوة على رسول اللّه» إلى غير ذلك من الروايات.(1)

و أمّا غيرهم فمن قائل بأنّه بعث في سبع عشر من شهر رمضان، أو ثمان عشر، أو أربع وعشرين من هذا الشهر، أو في الثاني عشر من ربيع الأوّل.

و بما أنّ أهل البيت عليهم السلام أدرى بما في البيت، كيف وهم نجوم الهدى ومصابيح الدجى وأحد الثقلين اللّذين تركهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعده، فيجب علينا الأخذ بقولهم ونظرهم ولا نتجاوزه.

نعم دلّ الذكر الحكيم على أنّ القرآن نزل في شهر رمضان، قال سبحانه:

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ...) .(2)

و قال سبحانه: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) .(3)

و قال سبحانه: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ ) .(4)

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على نزوله في شهر رمضان.

و الاستدلال بهذه الايات على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم بعث أيضاً في شهر رمضان مبني على اقتران البشارة بالنبوة، بنزول القرآن وهو بعد غير ثابت، فلو قلنا بالتفكيك وأنّه بُعث في شهر رجب، وبُشّر بالنبوة فيه، ونزل القرآن في شهر رمضان، لما كان هناك منافاة بين بعثته في رجب، ونزول القرآن في شهر رمضان.

و يؤيد ذلك - أي عدم اقتران النبوة بنزول القرآن - ما نقله غير واحد عن

ص:250


1- . البحار 189/18، نقلاً عن الكافي وأمالي الشيخ الطوسي.
2- . البقرة: 185.
3- . القدر: 1.
4- . الدخان: 3.

عائشة: إنّ أوّل ما بُدئ، به رسول اللّه من النبوة حين أراد اللّه كرامته: الرؤيا الصادقة، فكان لايرى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رؤيا في نومه إلّاجاءت كفلق الصبح.

قالت: وحبب اللّه تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده.(1)

لكن الظاهر من ذيل ما روته عائشة أنّ النبوة كانت مقترنة بنزول الوحي والقرآن الكريم، ولنذكر نصّ الحديث بتمامه ثم نذيله ببيان بعض الملاحظات.

روى البخاري: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه وهو التعبّد في الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاء الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال:

اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ منّي الجَهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) (2).(3)

و في الرواية تأمّلات واضحة:

1. ما هو المبرر لجبرئيل أن يروّع النبي الأعظم وأن يؤذيه بالعصر إلى حدٍّ أنّه يظن أنّه الموت ؟ يفعل به ذلك وهو يراه عاجزاً عن القيام بما يأمره به، ولايرحمه ولايلين معه ؟!

2. لماذا يفعل ذلك ثلاث مرات لا أكثر ولا أقل ؟!

ص:251


1- . صحيح البخاري: 3/1؛ السيرة النبوية: 334/1.
2- . العلق: 1-3.
3- . صحيح البخاري: 3/1.

3. لماذا صدّقه في الثالثة، لا في المرة الأُولى ولا الثانية مع أنّه يعلم أنّ النبي لا يكذب ؟!

4. هل السند الذي روى به البخاري قابل للاحتجاج مع أنّ فيه الزُّهْري و عروة ؟!

أمّا الزُّهْري فهو الذي عرف بعمالته للحكام، وارتزاقه من موائدهم، وكان كاتباً لهشام بن عبدالملك ومعلماً لأولاده، وجلس هو وعروة في مسجد المدينة، فنالا من علي فبلغ ذلك السجاد عليه السلام حتى وقف عليهما فقال: أمّا أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك، فحُكم لأبي، على أبيك، وأمّا أنت يا زُهْري فلو كنت أنا وأنت بمكة لأريتك كنّ أبيك.(1)

وأمّا العروة بن الزبير فقد حكم عليه ابن عمر بالنفاق، وعدّه الأسكافي من التابعين الذي يضعون أخباراً قبيحة في علي عليه السلام.(2)

نعم رواه ابن هشام والطبري في تفسيره وتاريخه(3) بسند آخر ينتهي إلى أشخاص يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، ودونك أسماؤهم:

1. عبيد بن عمير، ترجمه ابن الأثير، قال: ذكر البخاري أنّه رأى النبي، و ذكر مسلم أنّه ولد على عهد النبي، وهو معدود من كبار التابعين، يروي عن عمر

ص:252


1- . أي بيت أبيك.
2- . الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم: 223.
3- . السيرة النبوية: 200/1؛ تفسير الطبري: 162/3، تاريخ الطبري: 353/3.

وغيره.(1)

2. عبداللّه بن شدّاد، ترجمه ابن الأثير، وقال: ولد على عهد النبي، روى عن: أبيه وعن عمر وعليّ .(2)

3 - عائشة، زوجة النبي، حيث تفرّدت بنقل هذا الحديث، ومن المستبعد جدّاً أن لايحدّث النبي هذا الحديث غيرها مع تلهف غيرها إلى سماع أمثال هذا الحديث.

نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكري عليه السلام(3)؛ ونقله من أعلام الطائفة ابن شهرآشوب في مناقبه(4)، والمجلسي في بحاره.(5)

لكن الكلام في صحّة نسبة التفسير المذكور إلى الإمام العسكري عليه السلام، و أمّا المناقب فإنّه يورد الأحاديث والتواريخ مرسلة لا مسندة، والمجلسي اعتمد على هذه المصادر، التي عرفت حالها.

و بذلك يظهر أنّه لا دليل على أنّ البشارة بالنبوة كانت مقترنة بنزول القرآن، وبذلك ينسجم نزول القرآن في شهر رمضان مع كون البعثة في شهر رجب، نعم أورد العلّامة الطباطبائي على هذه النظرية بقوله: إذا بعث النبي صلى الله عليه و آله و سلم في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وبينه وبين شهر رمضان أكثر من ثلاثين يوماً فكيف تخلو البعثة في هذه المدّة من نزول القرآن ؟ على أنَّ سورة

ص:253


1- . أسد الغابة: 363/3.
2- . أسد الغابة: 183/4.
3- . بحارالأنوار: 196/18.
4- . المناقب: 640/1.
5- . بحارالأنوار: 196/18.

العلق أوّل سورة نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأنّها نزلت بمصاحبة البعثة.(1)

يلاحظ على ما ذكر:

1. أنّ الوجه الأوّل من كلامه مجرّد استبعاد، فأيّ إشكال في أن يكون النبي قد بشِّر بالنبوة، ونزل القرآن بعد شهر وبضعة أيام ؟

2. وأمّا الوجه الثاني فلأنّ الروايات نطقت بأنّها أوّل سورة نزلت، وليس فيها ما يدلّ على اقتران نزولها بأوّل عهد البعثة.

سؤال وإجابة

إذا كان القرآن نازلاً في شهر رمضان فإنَّ معناه أنّ مجموعه نزل في هذا الشهر مع أنَّ نزوله كان خلال مدّة ثلاثة وعشرين سنة، فكيف التوفيق بين هذين الأمرين ؟

و أمّا الإجابة فقد أُجيب عنه بأجوبة نذكرها واحداً تلو الآخر:

الأوّل: أنّ للقرآن نزولين: نزول دفعي، وقد عبّر عنه بلفظ الإنزال الدالّ على الدفعة؛ ونزول تدريجي، وهو الذي يعبّر عنه بالتنزيل. قال سبحانه: (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (2) فإنّ هذا الإحكام في مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً، وقطعة قطعة، والإحكام كونه على وجه لاينفصل فيه جزء عن جزء، ولايتميّز بعض من بعض، لرجوعه إلى معنى واحد، لا أجزاء ولا فصول فيه، فعلى ذلك فالقرآن نزل دفعة واحدة على قلب

ص:254


1- . تفسير الميزان: 2/13.
2- . هود: 1.

النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم، ثم صار ينزل تدريجياً حسب المناسبات والوقائع والأحداث.(1)

و يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبني على الفرق بين (الإنزال) و (التنزيل)، وإنّ الأوّل عبارة عن النزول الدفعي، والثاني عن النزول التدريجي مع أنّه لا دليل عليه، فإنّ الثاني أيضاً استعمل في النزول الدفعي، قال تعالى حاكياً عن المشركين: (وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) .(2)

و قال تعالى: (وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ) (3) فلو كان التنزيل هو النزول التدريجي فلماذا وصفه بقوله: (جُمْلَةً واحِدَةً ...) .

الثاني: أنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى البيت المعمور حسبما نطقت به الروايات الكثيرة ثم صار ينزل تدريجياً على الرسول الأعظم.

روى حفص بن غياث، عن الإمام الصادق عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجل (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) وإنّما أُنزل في عشرين بين أوّله وآخره ؟ فقال أبوعبداللّه عليه السلام: «نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثم نزل في طول عشرين سنة».(4)

و لو صحّت الرواية يجب التعبّد بها، وإلّا فما معنى نزول القرآن الذي هو هدى للناس إلى البيت المعمور، وأي صلة لهذا النزول بهداية الناس التي يتكلّم عنها القرآن ويقول: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ

ص:255


1- . تفسير الميزان: 2/14-16.
2- . الإسراء: 93.
3- . الفرقان: 32.
4- . البرهان في تفسير القرآن: 182/1؛ الدر المنثور: 370/6.

اَلْهُدى وَ الْفُرْقانِ ) .

قال الشيخ المفيد:

الذي ذهب إليه أبوجعفر(1) في هذا الباب أصله حديث واحد لايوجب علماً ولا عملاً، ونزول القرآن على الاسباب الحادثة حالاً فحالاً يدلّ على خلاف ما تضمّنه الحديث، وذلك أنّه قد تضمّن حكم ما حدث، وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لايكون على الحقيقة إلّالحدوثه عند السبب... الخ، ثم استعرض آيات كثيرة نزلت لحوادث متجدّدة.(2)

الثالث: أنّ القرآن يطلق على الكلّ والجزء، فمن الممكن أن يكون المراد بنزول القرآن في شهر رمضان هو شروع نزوله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر، فكما تصحّ نسبة النزول إليه في شهر رمضان إذا نزل جملة واحدة، تصحّ نسبته إليه إذا نزل أوّل جزء منه في شهر رمضان واستمر نزوله في الأشهر القادمة طيلة حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

فيقال: نزل القرآن في شهر رمضان أي بدء نزوله في هذا الشهر، وله نظائر في العرف فلو بدأ فيضان الماء في السيل يقال جرى السيل في يوم كذا، وإن استمر جريانه وفيضانه عدّة أيام.

و هذا هو الظاهر من صاحب «المنار» حيث يقول: وأمّا معنى إنزال القرآن، في رمضان مع أنّ المعروف باليقين أنّ القرآن نزل منجماً متفرّقاً في مدة البعثة

ص:256


1- . أبوجعفر الصدوق، وقد قال في الاعتقادات: 82: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور، ثم أنزل إلى النبي في مدة عشرين سنة.
2- . تصحيح الاعتقاد: 232.

كلّها، فهو أنّ ابتداء نزوله كان في رمضان، وذلك في ليلة منه سمّيت ليلة القدر أي الشرف، والليلة المباركة كما في آيات أُخرى. وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه، على أنّ لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كلّه، ويطلق على بعضه.(1)

الرابع: أنّ جملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة، لكن لمّا نزلت سورة الحمد بها وهي تشتمل على جلّ معارف القرآن، فكأنّ القرآن فيها جميعاً، فصحّ أن يقال: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) .

يلاحظ عليه: أنّه لو كانت سورة الحمد أوّل سورة نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لكان حقّ الكلام أن يقال: قل (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أو يقال: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) قل (الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .(2)

و هذا يعرب عن أنّ سورة الحمد ليست أوّل سورة نزلت على النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

هذه هي الوجوه التي ذكرها المفسّرون المحقّقون، والثالث هو الأقوى.

4 فرية انقطاع الوحي وفتوره وأُسطورة شق الصدر

اشارة

ص:257


1- . المنار: 161/2، تفسير الآية 185 من سورة البقرة.
2- . تفسير الميزان: 21/2.

رابطة العالم الإسلامي مؤسسة دينية تبليغية، أُسّست عام 1381 ه / 1962 م، وتمثّل فيها كافة الشعوب الإسلاميّة، وقد انبثق إنشاؤها عن المؤتمر الإسلامي الذي عقد في مكة المكرّمة بعد الانتهاء من أداء مناسك الحجّ في ذلك العام.

و قد اجتمعنا في بعض أسفارنا إلى الديار المقدسة «عام 1420 ه» برئيس الرابطة الدكتور «عبداللّه بن صالح العبيد»، ودار الحديث معه آنذاك حول كتاب المرتدّ سلمان رشدي «الآيات الشيطانية» ثم فيما يحويه العهدان من القصص والقضايا التي تتعلق بالأنبياء وخاصّةً بالنبيّ داود والنبي سليمان عليهما السلام.

و خلال هذا الاجتماع قال رئيس الرابطة: «إنّي اقترحت على علماء اليهود والنصارى تصحيح ما في العهدين حول حياة الأنبياء على ضوء ما ورد في القرآن الكريم، لأنّ ما فيهما ما لايصدّقه العقل ولا النقل».

***

لا شكّ أنّ الاقتراح كان أمراً حيوياً جميلاً تنتفع به عامّة الأُمم، ويؤيّده القرآن الكريم ويصوّبه، قال سبحانه: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .(1) إذ لا شكَّ أن بينَ الأحبار اختلافات كثيرة فيما يرجع إلى حياة الأنبياء وحياة بني إسرائيل، فالمرجع الوافي لحلّ هذه الاختلافات هو القرآن الكريم، فلو رجعوا إليه لوجدوا فيه ضالّتهم المنشودة.

إنّ القرآن الكريم هو المهيمن على الكتب السماوية، أي أنّه الميزان التام

ص:258


1- . النمل: 76.

لتمييز الحق عن الباطل الوارد في الكتب المعروفة بالسماوية. قال تعالى: (وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) .(1)

فالكتاب العزيز بما أنّه مصدّق لما ورد فيما سبقه من الكتب ومسيطر عليها، فهو يقصّ ما ورد فيها على نهج صحيح، ويبيّن ما هو الحقّ من القصة عمّا أُلصق بها من زيادات أو وقع فيها من تحريف.

فلو رغب كتابيٌّ في الوقوف على التوراة أو الإنجيل المنزّهين عن التحريف فعليه أن يرجع إلى القرآن الكريم وبخاصّة في الموضوعات المشتركة، فإنّه سوف يجد الحق الذي لا مرية فيه.

فلو كان القرآن هو المسيطر على ما في العهدين يُعرف به الحق عن الباطل، فهو المسيطر أيضاً على ما في كتب التاريخ والسيرة الّتي جُمع فيها الغث والسمين حول حياة النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم ممّا لايليق أن ينسب إلى إنسان مؤمن، فكيف إلى سيد البشر وخاتم الرسل!!

فعلى المحقّق في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يعرض ما يجده في هذه الكتب على القرآن الكريم حتى ينزّه ساحة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عن القصص والخرافات الّتي ألصقها أعداء النبي صلى الله عليه و آله و سلم به، وقد استقبل رئيس الرابطة ما ذكرته بحفاوة و تأييد، حتّى أنّه أضاف قائلاً: بأنّ اليهود والنصارى يستفيدون من هذه الخرافات في التهجّم على الإسلام والقرآن.

***

ص:259


1- . المائدة: 48.

هذا ما دار بيننا وبين رئيس الرابطة الدكتور عبداللّه بن صالح العبيد، وإليك بيان إنموذج ممّا اقترحناه خلال هذا اللقاء، فنقول:

فرية انقطاع الوحي وفتوره

أنّ مسألة انقطاع الوحي بعد نزول آيات من سورة العلق، أو سورة المدثر، أو سورة الحمد على اختلاف في أوّل سورة نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، هي واحدة من الافتراءات الكثيرة الّتي حاولت تشويه صورة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم والرسالة الّتي جاء بها، وقد حازت هذه الفرية مكانةً في كتب السيرة والتفسير حتى أنَّ الدكتور محمدحسين هيكل، أرسلها إرسال المسلّمات في كتابه «حياة محمد صلى الله عليه و آله و سلم» بقوله: «انتظر هداية الوحي إيّاه في أمره، وإنارة سبيله، فإذا الوحي يفتَر، وإذا جبرئيل لاينزل عليه.... إلى أن قال: و قد روي أنّ خديجة قالت له: ما أرى ربك إلّاقد قلاك، وتولّاه الخوف والوجل، فهما يَبتعثانه من جديد، يطوي الجبال وينقطع في حراء يرتفع بكلّ نفسه ابتغاء وجه ربه، يسأله: لِمَ قلاه بعد أن اصطفاه، ولم تكن خديجة أقل منه إشفاقاً ووجلاً ويتمنّى الموت صادقاً لولا أنّه كان يشعر بما أُمر به، فيرجع إلى نفسه، ثم إلى ربه، ولقد قيل إنّه فكر في أن يلقي بنفسه من أعلى حراء أو أبي قبيس، وأي خير في الحياة وهذا أكبر أمله فيها يدوِي وينقضي، و أنّه كذلك تساوره هذه المخاوف، إذ جاءه الوحي بعد طول فتوره، إذ نزل عليه بقوله تعالى: (وَ الضُّحى * وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى * وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى * وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى * أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَ وَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدى * وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ

ص:260

فَلا تَقْهَرْ * وَ أَمَّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) (1).(2)

هذا ما يذكره كاتب مثقف في القرن العشرين في حق النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، فما ظنك بغيره ممّن سبقه من الذين يتعبّدون بالروايات ولايحيدون عن شاذّها وسقيمها قيد أنملة وقدر شعرة ؟! وأصل هذه الفرية يرجع إلى كتب السيرة والتفسير، وإليك ما يذكره واحد من أُولئك وهو الطبري حيث يصرح في تفسيره بما نصّه:

1. عن ابن زيد أنّ هذه السورة نزلت على رسول اللّه تكذيباً من اللّه قريشاً في قولهم لرسول اللّه لمّا أبطأ عليه الوحي: «قد ودّع محمداً ربّه وقلاه».

2. عن ابن عبداللّه: لمّا أبطأ جبرئيل على رسول اللّه فقالت امرأة من أهله أو من قومه: ودّع الشيطان محمداً، فأنزل اللّه عليه: (وَ الضُّحى ... - إلى قوله: - ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى ) .

3. عن جندب البجلي: أبطأ جبرئيل على النبي صلى الله عليه و آله و سلم حتى قال المشركون:

ودّع محمداً ربُه، فأنزل اللّه (وَ الضُّحى ...) ، وعنه قالت امرأة لرسول اللّه: ما أرى صاحبك إلّاقد أبطأ عنك، فنزلت هذه الآية، وفي رواية أُخرى عنه: ما أرى شيطانك إلّاقد تركك.

4. عن عبداللّه بن شداد: أنّ خديجة قالت للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: ما أرى ربك إلّاقد قَلاك، فأنزل الله (وَ الضُّحى ) .

5. عن قتادة: أنّ جبرئيل أبطأ عليه بالوحي، فقال ناس من الناس: ما نرى

ص:261


1- . الضحى: 1-12.
2- . حياة محمد: 138.

صاحبك إلّاقد قلاك فودّعك، فأنزل الله: (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى ) .

6. عن الضحّاك: مكث جبرئيل عن محمد فقال المشركون: قد ودّعه ربه.

7. عن ابن عروة عن أبيه، قال: أبطأ جبرئيل على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فجزع جزعاً شديداً وقالت خديجة: أرى ربّك قد قلاك، ممّا نرى من جزعك؛ قال: فنزلت (وَ الضُّحى ) .(1)

يلاحظ على هذه الروايات وعلى فرية انقطاع الوحي عدة أُمور:

1. أنّ هذه الروايات التي ملأت التفاسير وكتب السير، رويت عن أُناس لايركن إليهم - كقتادة والضحاك فإنّهما كانا يأخذان عن أهل الكتاب - وجلّها بل كلّها مرسلة غير مسندة إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.(2)

2. أنّها اختلفت في القائل الذي شمت برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: وَدَّعَكَ رَبُّكَ .

فَربما يُسند إلى امرأة من أهله أو قومه، وأُخرى إلى المشركين، وثالثة إلى طائفة من الناس، ورابعة إلى زوجته خديجة.

إنّ نسبة هذا القول إلى زوجته الطاهرة التي آمنت به يوم بعثته، وقد عرفت فضائله وملكاته النفسية عن كثب، بعيدٌ جداً.

3. أنّها اختلفت في مدة الفترة.

قال ابن جريج: احتبس الوحي اثني عشر يوماً، وقال ابن عباس: خمسة

ص:262


1- . تفسير الطبري: 148/30.
2- . لاحظ: آلاء الرحمن في تفسير القرآن: 46/1، يقول: إنّ يحيى بن عيسى ضعّف الضحّاك بن مزاحم و كان يروي عن ابن عباس وأنكر لقاءه له حتى قيل إنّه ما رآه قط. وأمّا قتادة فقد ذكروا أنّه مدلّس.

عشر يوماً، وقيل: خمسة وعشرين يوماً، وقال مقاتل: أربعين يوماً.(1)

و في «فتح الباري» أنّه كان ثلاث سنين كما في السيرة الحلبية، وفيها أيضاً أنّها كانت سنتين ونصفاً، وعلى قولٍ سنتين.(2) إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة التي تحكي عن اضطراب في الرواية والنقل.

4. اختلفت الرواية في سبب الفترة وانقطاع الوحي.

فتارة زعموا أنّ سببها هو أنّ اليهود سألوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن مسائل ثلاث: عن أصحاب الكهف وعن الروح وعن قصّة ذي القرنين، فقال عليه الصلاة والسلام: سأُخبركم غداً ولم يستثنِ ، فاحتبس عنه الوحي، فقال المشركون ما قالوا، فنزلت.(3)

و أُخرى: قالوا: إنّ عثمان أهدى إليه عنقود عنب وقيل: عِذق تمر، فجاء سائل فأعطاه، ثم اشتراه عثمان بدرهم، فقدمه إليه عليه السلام ثانياً، ثم عاد السائل فأعطاه، وهكذا ثلاث مرات، فقال عليه السلام ملاطفاً لا غضبان: أسائل أنت يا فلان أم تاجر؟ فتأخّر الوحي أيّاماً، فاستوحش، فنزلت.

و ثالثة: رووا عن ابن أبي شيبة في مسنده، والطبراني وابن مردويه من حديث خولة، وكانت تخدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن جرْواً دخل تحت سرير رسول اللّه فمات ولم تشعر به، فكمث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة! ماحدث في بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ؟ جبرئيل لايأتيني! فقالت يا

ص:263


1- . تفسير القرطبي: 92/20.
2- . السيرة الحلبية: 362/1.
3- . روح المعاني: 157/10.

نبيَّ اللّه ما أتى علينا يوم خير عن هذا اليوم، فأخذ برده فلبسه وخرج، فقلت في نفسي؛ لو هيّأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل، فلم أزل به حتى بدأ لي الجرو ميتاً، فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار، فجاء النبيّ ترعد لحيته وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة، فقال. يا خولة:

دثّريني، فأنزل اللّه تعالى: (وَ الضُّحى * وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى ) .(1)

و رابعة: أنّ المسلمين قالوا: يا رسول اللّه ما لك لاينزل عليك الوحي ؟ فقال: وكيف ينزل عليّ وأنتم لاتنقون رواجبكم - وفي رواية براجبكم - ولا تقصّون أظفاركم، ولاتأخذون من شواربكم، فنزل جبرئيل بهذه السورة، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: ما جئت حتى اشتقت إليك، فقال جبرئيل: وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً ولكنّي عبد مأمور، ثم أنزل عليه: (وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ) .(2)

إنّ الاضطراب في أسباب فتور الوحي يعرب عن عدم صحّة الروايات.

أمّا الأُولى: فلو صحّت فيلزم كون انقطاع الوحي في العام السابع من البعثة؛ لأنّ قريشاً أرسلت النضر بن الحارث وابن أبي معيط إلى أحبار اليهود في ذلك العام يسألانهم عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، قالا لهم: إنّكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهم أحبار اليهود: اسألوه عن ثلاث نأمركم بهنَّ ، فجاءُوا إلى رسول اللّه وقالوا: يا محمد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوّافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ فقال لهم رسول

ص:264


1- . روح المعاني: 157/10.
2- . تفسير القرطبي: 93/20؛ مجمع البيان: 55/10. والآية 64 من سورة مريم.

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «أخبركم بما سألتم عنه غداً» ولم يستثن، فانصرفوا عنه.(1)

نحن ننزّه ساحة النبي الأكرم الذي نشأ نشأة الأنبياء في عالم مليء بالطهر والقداسة أن يخبرهم على وجه قاطع بأنّه سيجيبهم غداً على أسئلتهم تلك، فمن أين علم أنّه سبحانه ينزل الوحي عليه غداً؟ أو أنّه سبحانه يجيب عن أسئلتهم عن طريق الوحي ؟

و أمّا الثانية: فهي أشبه بالقصص الموضوعة، فهل من المعتاد أن يباع عنقود عنب ثلاث مرات في السوق ؟ ومثله عذق تمر، ولعلّ الجاعل كان يهدف إلى اختلاق فضيلة لعثمان، فحسب أنّ هذا الموضع مناسب لها.

و أمّا الثالثة: فبعيدة جداً، إذ كيف يمكن أن يموت الجرو تحت سرير النبي أو في زاوية من البيت ولايلتفت اليه ؟ على أنّ ظاهر الرواية أنّ انقطاع الوحي كان بعد تلقّي النبي لنزول الوحي مدّة مديدة حيث إنّ خولة قالت: «و كان إذا نَزَلَ عَلَيه الوَحي أخَذَته الرَعدة»، فإنّ ذلك يعرب عن أنّ الحادثة كانت في أزمنة متأخّرة من بدء البعثة، أي بعد نزول سورة العلق أو آيات منها.

و أمّا الرابعة: فهي أشبه بحمل النبي وِزر الغير، فإنّ عدم قصّ المسلمين شواربهم أو عدم تنظيف رواجبهم لايكون سبباً لانقطاع الوحي، قال سبحانه: (وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) .(2)

هذه الوجوه كلّها تدفع بنا إلى القول بأنّ مسألة انقطاع الوحي فرية تاريخية صنعتها يد الجعل والوضع لغاية أو لغايات خاصّة، ولم تكن هناك أيّة

ص:265


1- . السيرة النبوية: 301/1.
2- . الأنعام: 164.

فترة، وإنّما المسألة كانت بصورة أُخرى، وهي:

أنّه تعلّقت مشيئته سبحانه على نزول الوحي نجوماً أي فترة بعد فترة حسب المقتضيات والأسباب الموجبة لنزوله أوّلاً، وتثبيت فؤاد النبي بذلك ثانياً، قال سبحانه - مشيراً إلى مشيئته الحكيمة -:

(وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (1) وقال سبحانه - مشيراً إلى أنّ من بواعث نزول الوحي تدريجياً كونه سبباً لتثبيت فؤاده -: (وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (2) فعلى ضوء ذلك لم يكن هناك إلّامسألة طبيعية على صعيد الوحي وهو نزوله تدريجياً لا دفعة واحدة، غير أنّ المشركين الجاهلين بمشيئته سبحانه وأسرار نزول الوحي تدريجياً، كانوا يترقّبون نزول الوحي عليه دوماً وفي كلّ يوم وساعة، أو نزول مجموع الشريعة دفعة واحدة، كما نزلت التوراة على موسى، قال سبحانه: (وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ ) (3)، فلمّا شاهدوا خلاف ما كانوا يترقّبونه من مدّعي النبوة انصرفوا إلى اتّهام النبي بأنّه ودّعه ربه الذي ينزل إليه الوحي أو الشيطان الذي يلهمه على حدّ تعبيرهم.

فحصيلة البحث: أنّه لم يكن هناك انقطاع ولا فتور ولا سبب من الأسباب المذكورة في الروايات، بل كان مجرد توهّم توهّموه.

ص:266


1- . الإسراء: 106.
2- . الفرقان: 32.
3- . الأعراف: 145.

ثم إنّ المعروف بين المفسّرين أنّ سورة الضحى حسب الترتيب النزولي، هي السورة الحادية عشرة، وكانت الأُولى هي: العلق، فالقلم، فالمزمل، فالمدثر، فلهب، فالتكوير، فالانشراح، فالعصر، فالفجر، فالضحى.(1)

والظاهر ممّن ينقل مسألة انقطاع الوحي وفتوره أنّها نزلت في بدء الوحي بعد انقطاعه، أي نزلت بعد العلق أو بعد المدثر مع أنّها نزلت متأخّرة وكان الوحي ينزل على النبي نجوماً، حسب مقتضيات الظروف والمناسبات والوقائع والأحداث.

نعم ذكر اليعقوبي أنّ سورة «الضحى» هي السورة الثالثة(2)، ولعلّه متفرّد في هذا القول.

بقي الكلام في أنّ المشركين اتّهموا النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأنّه سبحانه وتعالى قد قلاه، وليس هذا الاتّهام أمراً فريداً في معاملة المشركين، فقد اتّهموه بالكهانة و السحر والجنون وغير ذلك، وأمّا ما هو السبب لإلصاق هذه التهمة به صلى الله عليه و آله و سلم ؟ فلا يحتاج إلى سبب خاص، كما هو الحال في سائر التهم التي كالوها إليه، فجاء الوحي بتنزيه النبي عن هذه التهمة، كما جاء الوحي بنفي سائر التهم عنه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: (وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ) .

***

شقّ الصدر أو القلب أو البطن، أُسطورة أُخرى

ص:267


1- . تاريخ القرآن للزنجاني: 36.
2- . تاريخ اليعقوبي: 33/2.

مرّت على حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم مراحل ثلاث:

1. حياته قبل البعثة.

2. حياته بعد البعثة وقبل الهجرة.

3. حياته بعد الهجرة.

إنّ حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم في المرحلتين الأخيرتين امتازت بوجود من يؤمن به ويعشق منهجه ويراقب حركاته وسكناته ويحفظ أقواله وأفعاله، ولذلك صار بيان حياته في تينك المرحلتين من الأُمور الميسورة، حتى أنّ المحقّق إذا شاهد التعارض والخلاف فيما ينقل عنه خلال هاتين الفترتين يستطيع بقليل من العناء الوصول إلى الحقيقة، لوجود أكثر من راو لهذه الوقائع.

أمّا حياته صلى الله عليه و آله و سلم في المرحلة الأُولى خصوصاً حياته في البادية عند ضئره حليمة السعدية فهي لاتخلو من غموض، فلذلك لايمكن الاعتماد بما ينقل عن وقائع حياته في تلك المرحلة التي لايصدقها العقل ولا النقل والتي منها أُسطورة شقّ الصدر أو القلب أو البطن على اختلاف في التعبير في الزمن الذي كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حجر حليمة يعيش في البادية ومعه أولادها.

فتارة تنقل مسألة الشق عن لسان أولاد مرضعته، وأُخرى عن لسانها هي، وثالثة عن لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ففي «السيرة الحلبية» عن المحبّ الطبري:

قالت حليمة:... وبلغ سنتين، فبينما هو صلى الله عليه و آله و سلم وأخوه في بُهم لنا خلف بيوتنا (و البهم: أولاد الضأن) إذ أتى أخوه يعدو فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشي

ص:268

قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعاه، فشقّا بطنه فهما يسوطانه(1)، قالت: فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائماً منتقعاً(2) وجهه لما ناله من الفزع، أي من رؤية الملائكة.

ثم قالت (حليمة): فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: مالك يا بني ؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

جاءني رجلان عليهما ثياب بيض (أي: وهما جبرئيل وميكائيل) فأقبلا يبتدراني فأخذاني فأضجعاني فشقّا بطني، فالتمسا فيه شيئاً، فوجداه فأخذاه وطرحاه ولا أدري ما هو.

ثم ذكر أهل السيرة منهم السهيلي: إنّ الّذي أخرجاه هي العلقة التي هي محل مغمز الشيطان عند الولادة، أي مطمعه.

ثم إنّ صاحب السيرة الحلبية بسط الكلام في الأقوال المختلفة في هذا الباب بما يزيد على عشرين صفحة.(3)

ثم إنّ المؤلّف حاول الجمع بين الروايات المختلفة التي تدلّ تارة على أنّه كان في حجر حليمة، وأخرى أنّه كان ابن عشر سنين، وثالثة أنّه كان ابن عشرين سنة، كما حاول الجمع بين شقّ الصدر والبطن والقلب كما تكلّم في كيفية الشق وغسل أحشاء البطن ثم إعادتها إلى محلّها، إلى غير ذلك من الأُمور المتعارضة.

أقول: مهما كثر رواة هذا الأمر، لايمكن الاعتماد على هذه النقول، وذلك:

أوّلاً: أنَّ عظمة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في أنّه مع قدرته على العصيان

ص:269


1- . أي يدخلان يديهما في بطنه.
2- . أي متغيراً، صار لونه كلون النقع أو الغبار.
3- . لاحظ: السيرة الحلبية: 151/1-170.

والخلاف، لايعصي ولايخالف، وقد قلنا في محلّه إنّ العصمة لا تسلب الاختيار والقدرة عن المعصوم، فلو صحّ ما في هذه الروايات من أنّ الملائكة أخرجت ما هو حظ الشيطان ومغمزه ومطمعه، أو صحّ ما يقولون أخرج الغلّ والحسد منه - كما في رواية أُخرى -(1) فمعنى ذلك أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم صار غير قادر على الإتيان بكلّ المعاصي أو بعضها كالغل والحسد فهذا يحطّ من عظمة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أعلى وأفضل من النبي يوسف عليه السلام حيث إنّه في قمّة شبابه وقوة شهوته، استعصم وقطع الطريق أمام إغراء امرأة العزيز التي هيّأت نفسها وتزيّنت بأجمل أنواع الزينة، فقال لها: (مَعاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ ) .(2)

فلو لم يكن في النبي يوسف عليه السلام حاجة جنسية شديدة لما كان لهذا الردّ قيمة ولا فضل في سوق الإيمان.

فكذلك النبي صلى الله عليه و آله و سلم إنّما بلغ هذه المرتبة والمكانة لأنّه كان ذا قدرة على المعصية إلّاأنّه لم يعص اللّه طرفة عين حتى لقائه بالرفيق الأعلى.

و ثانياً: أنّ عليّاً عليه السلام أعرف بحالات النبي صلى الله عليه و آله و سلم في عامّة المراحل لأنّه ربيب بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم، إذ ربّاه في حجره يصف أيام طفولته بعد الفطام بقوله: «لقد قرن اللّه به صلى الله عليه و آله و سلم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره».(3)

ص:270


1- . لاحظ: السيرة الحلبية: 160/1-167.
2- . يوسف: 23.
3- . نهج البلاغة: الخطبة 192، المعروفة بالخطبة القاصعة، الفقرة 117.

فإذا كان للنبي صلى الله عليه و آله و سلم عند اللّه تلك المنزلة فأيّ حاجة لنزول ملكين ينزلان ويشقّان بطنه أو صدره على وجه يدخل الخوف والفزع عليه ويصير لون وجهه كلون النقع، ويخرجان مغمز الشيطان من بطنه أو صدره، أو يغسلان أحشاءه، إلى غير ذلك ممّا يشبه الأساطير.

و من خلال كلام عليٍّ عليه السلام يُعرف صحّة ما نقله العلّامة المجلسي حول توحيده صلى الله عليه و آله و سلم ورفضه الوثنية والأوثان، روى عن المنتقى للكازروني أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال يوماً لحليمة: يا أُمّاه مالي لا أرى أخويّ بالنهار؟ قلت له: يا بني:

إنّهما يرعيان غنيمات، قال: فما لي لا أخرج معهما؟ قلت له: تحبّ ذلك ؟ قال:

نعم، فلمّا أصبح دهّنته وكحّلته، وعلّقت في عنقه خيطاً فيه جزع يمانيّة، فنزعها، ثم قال لي: مهلاً يا أُمّاه فإنّ معي من يحفظني... ثم ذكر بعد ذلك مسألة شق البطن أو الصدر بتفصيل.(1) فمن كان في هذا العمر على تلك المرتبة من التوحيد والرفض للوثنية، فأي حاجة إلى شقّ صدره لاستخراج مغمز الشيطان ؟؟!

كلّ ذلك يدفع المحقّقين الّذين يكتبون سيرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وحياته ويقدّمونها إلى هذا الجيل والأجيال الآتية أن يتحرّوا ما هو الموافق للكتاب والسنّة المتواترة والعقل الحصيف وما أجمع عليه المسلمون، ويجتنبوا عن الروايات الشاذّة التي حيكت لأغراض خاصّة إمّا من محب جاهل يريد رفع قيمة النبي وإكرامه، أو من عدو ماكر يريد بذلك الإساءة إلى سيرته وصفاته.

و ربما يتبادر إلى أوهام البعض أنّ هذه الأُسطورة هي المراد من قوله

ص:271


1- . بحار الأنوار: 392/15.

سبحانه: (أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) .(1)

يلاحظ عليه: أنّ الآية تشير إلى خصائص نفسية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من انشراح قلبه وتمتعه بالقوة والصلابة أمام المصاعب القارعة، ويحتمل أن يكون المراد هو جعله بحيث يسع ما يُلقى إليه من حقائق ولايضيق بما ينزل عليه من المعارف وما يصيبه من أذى الناس في تبليغها.(2)

ولقد أحسن الدكتور محمدحسين هيكل بعد أن نقل قصة الشق وكلمات بعض المستشرقين فيها، فصار يقول: إنّه لم يكن في حاجة إلى مَن يشق بطنه أو صدره مادام اللّه قد أعدّه من يوم خلقه لتلقّي رسالته. إلى أن قال: إنّ حياة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم كانت كلّها إنسانية سامية، وأنّه لم يلجأ في إتيان رسالته إلى ما لجأ إليه من سبقه من أصحاب الخوارق.(3)

ص:272


1- . الانشراح: 1.
2- . تفسير الميزان: 314/20.
3- . حياة محمد صلى الله عليه و آله و سلم: 111-112.

5 غار حراء، وذكريات النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيه

اشارة

يقع جبل النور في شمال شرق المسجد الحرام في حَيٍّ سمّي باسمه، و يطلّ على طريق العدل، وسمّي بجبل النور لظهور أنوار النبوة فيه، فقد كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يختلي بنفسه قبل البعثة في غار منه (و هو غار حراء) ليعبد اللّه، وفيه نزل الوحي عليه لأوّل مرّة، ومنه أُرسل إلى الناس كافّة بشيراً ونذيراً.

يبلغ ارتفاع جبل النور 642 متراً، ويصير انحدار الجبل شديداً من ارتفاع 380 متراً حتى يصل إلى ارتفاع 500 متر، وتبلغ مساحة الجبل خمسة كيلومترات ومائتين وخمسين متراً مربعاً.

و قد ذكر الحموي أنّ الجبل يقع على مبعدة ثلاثة أميال من مكة المكرمة.(1)

و قال غيره على مبعدة نحو ميلين من مكة، وأمّا اليوم فقد اتّسعت المدينة وانتهت قريباً من سفح الجبل.

و أمّا غار حراء فطوله أربعة أذرع، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع، من ذراع الحديد.(2)

و كلّ مَن يعتمر أو يحج يغمره الشوق لزيارة مكان عبادة النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل

ص:273


1- . معجم البلدان: 233/2.
2- . الرحيق المختوم: 55.

بعثته، ومحلّ انطلاق دعوته المباركة، وهذا الغار يحمل في رحابه ذكريات كثيرة عن صاحبه الذي طالما تردّد إليه، وقضى ساعات بل أياماً وأشهراً فيه... ذكريات يشتاق الناس - وحتى هذه الساعة - إلى سماعها من ذلك الغار، ولذلك تجدهم يسارعون إليه عندما يؤمّون تلك الديار المشرّفة، متحملين في هذا السبيل كل عناء، للوصول إلى رحابه، لكي يستنطقونه عمّا جرى فيه عند نزول الوحي، ويسألونه عمّا تحتفظ به ذاكرته من تاريخ رسول الإنسانية الأكبر، وعمّا جرت من حوادث في ذلك المكان المقدّس، غير أنّ في كتب السير والحديث حول نزول الوحي على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في ذلك المكان أُموراً لايصدقها العقل ولا النقل، وإليك بيانها.

1. تغطية جبرئيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم

روى البخاري: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه، وهو التعبّد في الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال:

اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ منّي الجَهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجَهد، ثم أرسلني، فقال: إقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثالثة، ثم أرسلني فقال:

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) .(1)

و في الرواية - مضموناً وسنداً - تأمّلات واضحة ذكرناها في المقال

ص:274


1- . صحيح البخاري: 3/1، وللحديث تتمة نأتي بها عن قريب.

المتقدّم،(1) فراجع.

2. شكّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم في نبوته ورسالته

هناك أُسطورة ثانية تعرب عن أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن بشّره جبرئيل بالنبوة، رجف فؤاده حتى أنّه أراد أن يلقي نفسه من الجبل إلى غير ذلك من الأساطير التي حاكها مسلمة أهل الكتاب وأدخلوها في كتب السيرة، مع أنّ الأدلة النقلية والآيات القرآنية دلّت على صيانة الأنبياء عن الخطاء والاشتباه فى تلقّي الوحي أوّلاً، وضبطه في ذاكرته ثانياً، وإبلاغه إلى الناس ثالثاً، وإنّهم لايشكّون فيما يُلقى في روعهم من أنّه نداء رب العالمين، وأنّ ما يبصرونه، هو رسول إله العالمين، والكلام كلامه، لايشكّون في ذلك طرفة عين، ولايتردّدون بل يتلقّونها بنفس مطمئنة.

هذا هو القرآن الكريم يذكر كيفية بدء نزول الوحي على موسى عليه السلام، وأنّه تلقّاه بلاتردّد ولا تريّث، وقد ذكره في سور مختلفة.

يقول سبحانه: (فَلَمّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى * إِنَّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى * وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى * قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَ لِيَ

ص:275


1- . راجع ص 252-253 ضمن المقال 3 من هذا الفصل (نزول القرآن في شهر رمضان وبعثته في رجب).

فِيها مَآرِبُ أُخْرى * قالَ أَلْقِها يا مُوسى * فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى * قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى * وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى * لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى * اِذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هارُونَ أَخِي * اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) .(1)

ترى أنّ الكليم عندما فُوجئ، بنزول الوحي، تلقّاه بصدر رحب، ولم يتردّد في أنّه وحيه سبحانه وأمره، ولذلك سأل اللّه سبحانه أن يشرح له صدره، وييسِّر له أمره، ويَحلّ العقدة التي في لسانه، ويجعل له وزيراً من أهله، يَشُدّ به أزره، ويُشركه في أمره.

يقول سبحانه: (فَلَمّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النّارِ وَ مَنْ حَوْلَها وَ سُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ * يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .(2)

و جاءت هذه القصة في سورة القصص على وفق ما وردت في السورتين. ومن لاحظ الآيات يقف على أنّ موقف الأنبياء من الوحي هو موقف الإنسان المتيقّن المطمئن، وهذه خاصية تعمّ جميع الأنبياء عليهم السلام.

نرى أنّه سبحانه يذكر رؤية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، ومواجهته لمعلّمه الذي

ص:276


1- . طه: 11-35.
2- . النمل: 8-9.

وصفه القرآن - ب (شديد القوى).

و يقول: (إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى * ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى * فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى * ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى * أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ) .(1)

فأي كلمة أصرح في وصف إيمان النبي وإذعانه في مجال الوحي ومواجهته الملك بعينه، من قوله سبحانه: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) أي صدّق القلب عمل العين. ويحتمل أن يكون المراد: ما رآه الفؤاد.

قال السيّد الطباطبائي:

المراد بالفؤاد، فؤاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم وضمير الفاعل في (ما رَأى ) راجع إلى الفؤاد، والرؤيا رؤيته ولا بدع في نسبة الرؤية - وهي مشاهدة العيان - إلى الفؤاد، فإنّ للإنسان نوعاً من الإدراك الشهودي وراء الإدراك بإحدى الحواس الظاهرة، والتخيّل والتفكّر بالقوى الباطنة، كما أنّنا نشاهد من أنفسنا أنّنا نرى [ذاتنا] وليست هذه المشاهدة العيانية رؤية بالبصر ولا معلوماً بالفكر، وكذا نرى من انفسنا أننا نسمع ونشم ونذوق ونلمس، ونشاهد أنّنا نتخيّل ونتفكّر، وليست هذه الرؤية ببصر أو بشيء من الحواس الظاهرة أو الباطنة.(2)

فاللّه سبحانه يؤيد صدق النبي فيما يدّعيه من الوحي ورؤية آيات اللّه الكبرى، سواء كانت بالعين أو بالفؤاد.

و على كلّ تقدير فهذه الآيات وغيرها تدلّ على أنّ الأنبياء لا يشكّون و لا

ص:277


1- . النجم: 4-12.
2- . تفسير الميزان: 30/19.

يتردّدون فيما يواجهون من الأُمور الغيبية.

وعلى ضوء ذلك تقف على أنّ ما ملأ كتب السيرة وبعض التفاسير في مجال بدء الوحي، ونزول الوحي عليه في غار حراء من أنّ النبيّ تردّد وشكّ عندما بُشّر بالنبوة وشاهد ملك الوحي وامتلأ روعاً وخوفاً، إلى حد حاول أن يلقي نفسه من شاهق، وعاد إلى البيت فكلّم زوجته فيما واجهه، وعادت زوجته، تُسلّيه وتقنعه، بأنّه رسول رب العالمين، وأنّ ما رآه ليس إلّاأمراً حقّاً، كلّ ذلك أساطير وخرافات، قد دسّها الأحبار والرهبان وسماسرة الحديث والقصّاصون في كتب القصص والسير والحديث، ونحن نكتفي في المقام بما ذكره البخاري في صحيحه وابن هشام في سيرته، فإنّ استقصاء كلّ ما ورد حول هذا الموضوع من الروايات المدسوسة يدفع بنا إلى تأليف رسالة مفردة ولكن فيما ذكرنا غنى وكفاية.

روى البخاري عن عائشة في باب كيف كان بدء الوحي أنّها قالت - بعد نزول أمين الوحي عليه في جبل حراء -: فرجع بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي اللّه عنها، فقال: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة - وأخبرها الخبر -: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلّا واللّه ما يخزيك اللّه أبداً إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ ، وتكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق؛ فانطلقتْ به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزّى ابن عمّ خديجة وكان امرءاً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء اللّه أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي فقالت له خديجة: يا

ص:278

ابن عمّ اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خبرما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل اللّه على موسى يا ليتني فيها جَذَعاً ليتني أكون حيّاً، إذ يخرجك قومك، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أو مخرجيّ هم ؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلّاعودي، وإن يدركني يومك، أنصرك نصراً مؤزّراً، ثم لم ينشب(1) ورقة أن توفّي وفتر الوحي.(2)

هذا ما لدى البخاري، وأمّا صاحب السيرة النبوية فبعدما ذكر مسألة الغتّ ينقل عن النبي أنّه قال: فخرجت حتى إذا كنت في وسطالجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول اللّه وأنا جبرئيل، قال: فوقفت أنظر إليه، فما أتقدّم وما أتأخّر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، قال: فلا أنظر في ناحية منها إلّارأيته كذلك، فما زلت واقفاً، ما أتقدّم أمامي، و ما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عنّي وانصرفت راجعاً الى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً [أي ملتصقاً] إليها، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت ؟ فواللّه لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا أعلى مكة ورجعوا إليّ ، ثم حدّثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا أبن عم وأثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأُمة.

ثم يذكر انطلاق خديجة إلى ورقة بن نوفل، وما أجابها به ورقة بنفس

ص:279


1- . لم يلبث
2- . صحيح البخاري: 3/1، باب كيف كان بدء الوحي.

النصّ الذي ذكره البخاري، ثم يذكر لقاء النبي ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فسأله ورقة بما رأى وسمع فأخبره النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنّك لنبي هذه الأُمّة.

ثم عقبه بذكر ما قامت به خديجة من امتحان صدق نبوته فذكر أنّها قالت لرسول اللّه: أي ابن عم، أ تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا إذا جاءك ؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبرئيل، فقال رسول اللّه لخديجة: هذا جبرئيل قدجاءني، قالت: قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى، قال: فقام رسول اللّه فجلس عليها، قالت: هل تراه ؟ قال: نعم، قالت: فتحوَّلْ فاجلسْ على فخذي اليمنى، فجلس على فخذها اليمنى فقالت: هل تراه ؟ قال: نعم، قالت:

فتحوَّلْ واجلس في حجري، فتحَّول فجلس في حجرها، قالت: هل تراه ؟ قال:

نعم. فتحسرت وألقت خمارها ورسول اللّه جالس في حجرها، ثم قالت له، هل تراه ؟ قال: لا.

قالت: يا ابن عم أثبت وأبشر، فو اللّه هذا ملك وما هذا بشيطان.(1)

و نقل الطبري عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه عندما نزل جبرئيل وقال: يا محمد أنت رسول اللّه، أنّه قال: لقد هممتُ أن أطرح نفسي من حالق من جبل، فتبدّى لي حين هممت بذلك فقال: يا محمد أنا جبرئيل وأنت رسول اللّه، ثم قال: اقرأ، قلت: ما أقرأ؟ قال: فأخذني فغتني ثلاث مرات حتى بلغ منّي الجهد، ثم قال: اقرأ باسم ربّك الذي خلق، فقرأت فأتيت خديجة فقلت: لقد أشفقت على نفسي، فأخبرتها خبري فقالت: أبشر فو اللّه لايخزيك الله أبداً، و واللّه إنّك لتصل

ص:280


1- . السيرة النبوية: 153/1-157.

الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدّي الأمانة وتحمل الكَلّ ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد، فقالت: اسمع من ابن أخيك، فسألني فأخبرته خبري، فقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران....(1)

نظرة تحليلية حول هذه النصوص:

إنّ هذه النصوص التاريخية التي نقلها المشايخ كالبخاري وابن هشام و الطبري، وتلقّاها الآخرون من بعدهم على أنّها حادثة متسالم عليها، تضاد ما يستشفه الإنسان من التدبّر في حالات الأنبياء في القرآن الكريم، وتناقض البديهة العقلية، وإليك بيان ما فيها من نقاط الضعف وعلائم الجعل والتهافت:

1. أنّ النبوة - كما ثبت في محلّه - منصب إلهي لايفيضه اللّه إلّاعلى من امتلك زخماً هائلاً من القدرات الروحية والقوى النفسية العالية حتى يقوى على معاينة الوحي ومشاهدة الملائكة، فعندئذ فلا معنى لما ذكره البخاري: «لقد خشيت على نفسي» أفيمكن أن ينزل الوحي الإلهي على من لا يفرّق بين لقاء الملك، ولقاء الجن ومكالمته حتى يخشى على نفسه الجنون أو الموت ؟

2. وأسوأ منه ما ذكره الطبري من أنه صلى الله عليه و آله و سلم همّ أن يرمي بنفسه من شاهق من جبل، فندم عليه ورجع عنه حين سمع كلام جبرئيل، يقول له: يا محمد أنا جبرئيل!!

إنّ هذا الكلام يعرب عن أنّ نفسه صلى الله عليه و آله و سلم لم تكن مستعدة لتحمّل الوحي

ص:281


1- . تاريخ الطبري: 49/2-50.

إلى درجة همّ أن يقتل نفسه بالإلقاء من حالق، وهل هذا هو إلّانفس الجنون الذي كان المشركون يصفونه به طيلة بعثته ؟ فواعجباً مانسمعه من أعوانه وأنصاره وأخيراً من لسان زوجته!!

3. أنّ قول خديجة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلا واللّه ما يخزيك اللّه أبداً، يعرب عن أنّها كانت أوثق إيماناً بنبوته من نفس الرسول، فهل يمكن التفوّه بذلك ؟ وما حاجة النبي الأعظم الذي قال تعالى في حقّه: (وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (1) إلى هذا التسلّي ؟!

4. ذكر البخاري أنّ خديجة انطلقت مع رسول اللّه إلى ورقة فأخبره رسول اللّه بما وقع، فأجاب ورقة بما ذكره، وإنّ ما نزل عليه هو الناموس الذي نزّل اللّه على موسى.

إنّ معنى هذا أن يكون ورقة أعلم بالسرّ المودع في قلب رسول اللّه من نفسه، كما أنّ معنى ذلك أنّ كلّاً من الزوجين كانا شاكّين في صحّة الرسالة، فانطلقا إلى متنصّر قرأ وريقات من العهدين حتى يستفتياه ليزيل عنهما حجاب الشكّ وغشاوة الريب!!

5. أنّ معنى ما ذكره البخاري من أنّ ورقة أخبر النبي بأنّه سيخرجك قومك فتعجّب الرسول من هذا الكلام وقال: أو مخرجيّ هم ؟ كون المرسل إليه أعلم من الرسول وأفضل منه!!

6. أنّ ما ذكره ابن هشام من (أنّ الرسول كلّما رفع رأسه إلى السماء لينظر، ما رأى إلّارجلاً صافّاً قدميه في أُفق السماء فلاينظر في ناحية من السماء إلّارآه

ص:282


1- . النساء: 113.

فيها) يشبه كلام المصابين في عقولهم وشعورهم، والمتخلّفين في أفكارهم، فلايرون في كلّ جهة إلّاالصورة المتخيّلة، لطغيانها على مخيلتهم وشعورهم.

أعاذنا اللّه من نسبة الشنائع إلى مقام النبوة بنحو لايليق بساحة العاديين من الناس، فضلاً عن النبي الأكرم خاتم النبيين.

7. انظر إلى امتحان خديجة لبرهان النبوة فإنّ ظاهرها أنّها كانت شاكّة في نبوة زوجها ولكنها استحصلت اليقين على الوجه الذي سمعته في كلام ابن هشام والطبري، ولكن أي صلة بين رفع الخمار وإلقائه وعدم رؤية جبرئيل ؟ وهل لرفع الخمار وتعرية شعر الرأس تأثير في غياب أمين الوحي عن البيت ؟

ترى أنّه سبحانه ينقل في غير سورة من سور القرآن الكريم محادثة الملائكة زوجة الخليل وتبشيرها بالولد، فهل يمكن لنا أن نقول بعد ذلك: إنّ زوجة الخليل لو كانت مكشوفة الرأس لامتنعت الملائكة من دخول بيت الخليل عليه السلام ؟!(1)

8. أنّ ورقة بن نوفل على حد تصريح نصّ الرواية كان أول أمره نصرانياً بعدما كان مشركاً، فمقتضى الحال أن يشبّه الرسول الأعظم بالمسيح الذي كان يعتقد بنبوته، لا بالكليم، أو ليس هذا يعرب عن لعب يد الأحبار في الخفاء في اصطناع هذه الأحاديث، ودورهم في تشويش صفاء رسالة الرسول الأعظم بأمثال هذه الأساطير والمهاترات والخرافات ؟!

نحن على ثقة ويقين بأنّ النبوة منصب إلهي لايتحمّله إلّاالأمثل والأكمل فالأكمل من الناس، ولايقوم بأعباء مهماتها إلّامن امتلك قدرة روحية خاصّة

ص:283


1- . لاحظ: سورة هود: 71-73؛ الذاريات: 29.

تبعث في نفسه الإذعان والتسليم، والانقياد حينما يتمثّل له رسول ربه وأمين وحيه فلا يأخذه الهلع ولايستولي عليه الخوف عند سماع كلامه ووحيه، وقد درسنا وضع الكليم عندما فوجئ بالوحي، فما حاق به الروع ولا أحاط به الخوف، ولا همّ بإلقاء نفسه... إلى غير ذلك ممّا ورد في هذه الروايات.

و بما أنّ القرآن هو المرجع الفصل في تمييز الصحيح من الزائف في جملة هذه الروايات، فهذا يحتم علينا الصفح عنها وضربها عرض الجدار، مضافاً إلى ما فيها من التناقض والاختلاف في حكاية القصة، كما هو معلوم لمن تدبّر فيها وتأمّل نصّها.

ص:284

6 صيانة القرآن من التحريف

اشارة

إنّ القرآن هو المصدر الرئيسي والمنبع الأوّل للعقيدة والشريعة عند كافّة المسلمين، وهو القول الفصل.

وللقرآن مكانة سامية في نفوس المؤمنين من شيعة أهل البيت عليهم السلام، وهم على صلة وثيقة بهذا الكتاب المقدّس، لأنّهم وجدوا فيه الدواء لشفاء داء صدورهم، والمعراج لأرواحهم، والنور الّذي يضيء عتمة حياتهم، والسبيل الأقوم لعزّتهم وكرامتهم، والينبوع الّذي يفيض عليهم بالحكمة والمعارف والأخلاق والمواعظ، والدستور الّذي يكفل لهم التشريعات والأحكام، وهو فوق ذلك، المعجزة الخالدة لنبيّهم ولرسالتهم والّتي يتحدّوْن بها المعاندين ويقارعونهم بها، ولهذا كلّه عشقوه أيّما عشق، فلهجوا بذكره، وأنِسوا بتلاوته، وتسابقوا إلى حفظه، ثمّ اهتمّوا بكتابته وضبطه وإتقانه ونشره، فكثُر حفّاظُه، وتكاثرت نسخه.

وقد صدروا في ذلك الموقف - مضافاً إلى الآيات الحاثّة على ذلك - عمّا رواه أئمة أهل البيت عليهم السلام عن النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم من أحاديث وروايات، منها:

1. روى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبداللّه عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قال، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في

ص:285

حديث: «... فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنّه شافع مشفّع، ماحِلٌ مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدلُّ على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تُحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة...»(1).

2. روى الكليني عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى ، واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة، وضياء من الأحداث، وعصمةٌ من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة، وفيه كمال دينكم، وما عدل أحدٌ عن القرآن إلّاإلى النار»(2).

3. قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: «خلّف فيكم [أي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم] كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ : مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ ، وَفَرَائِضَهُ وَفَضَائِلَهُ ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ ، وَرُخَصَهُ وَعَزَائِمَهُ ، وَخَاصَّهُ وَعَامَّهُ ، وَعِبَرَهُ وَأَمْثَالَهُ ، وَمُرْسَلَهُ وَمَحْدُودَهُ ، وَمُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ ، مُفَسِّراً مُجْمَلَهُ ، وَمُبَيِّناً غَوَامِضَهُ ، بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ ، وَمُوَسَّعٍ عَلَى الْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ »(3).

4. وقال عليه السلام: «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ،

ص:286


1- . الكافي: 2/599، كتاب فضل القرآن، الحديث 2.
2- . الكافي: 2/600، كتاب فضل القرآن، الحديث 8.
3- . نهج البلاغة، الخطبة رقم 1.

وَ الْعَلَمِ الْمَأْثُورِ، وَالْكِتَابِ الْمَسْطُورِ، وَالنُّورِ السَّاطِعِ ، وَالضِّيَاءِ اللَّامِعِ ، وَالأَمْرِ الصَّادِعِ ، إزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ ، وَاحْتِجَاجاً بِالبَيِّنَاتِ ، وَتَحْذِيراً بِالْآيَاتِ ، وَتَخْوِيفاً بِالْمَثُلَاتِ »(1).

5. وقال عليه السلام: «وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَايَغُشُّ ، وَالْهَادِي الَّذِي لَايُضِلُّ ، وَالُْمحَدِّثُ الَّذِي لَايَكْذِبُ . وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ : زِيَادَةٍ فِي هُدًى، أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمىً .

وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ ، وَلَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً ؛ فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ : وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ ، وَالْغَيُّ وَالضَّلَالُ ، فَاسْأَلُوا اللّهَ بِهِ ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ ، وَلَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ ، إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللّهِ تَعَالى بِمِثْلِهِ .

وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : «أَلَا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلىً فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ ، غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ ».

فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ ، وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ ، وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ ».(2)

ونحن نقتصر على هذه الأحاديث الخمسة الصادرة عن خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله و سلم وأوّل الأوصياء عليه السلام، ونحيل القارئ إلى مطالعة ما رواه الكليني(3)

ص:287


1- . نهج البلاغة، الخطبة رقم 2.
2- . نهج البلاغة، الخطبة 176.
3- . الكافي: 2/600-634، كتاب فضل القرآن.

في كتابه «الكافي» من روايات كثيرة، في هذا المجال، عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، على أنّ الكليني لم يذكر في كتابه هذا كلّ ما صدر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.

وأجمع كتاب في ذلك هو كتاب «جامع أحاديث الشيعة» للسيد البروجردي، فقد جمع ما صدر عنهم حول القرآن الكريم في أبواب مختلفة(1) عددها 41 باباً، وكلّ ذلك يدلّ على عناية أئمة أهل البيت عليهم السلام بالمصحف الموجود ودعوة شيعتهم إلى الاستنارة به وتعلّمه وتعليمه وحفظه وكتابته والتأمّل في مضامينه.

القرآن الكريم عند أهل البيت عليهم السلام

إنّ نقل ما صدر عن أهل البيت عليهم السلام في هذا الشأن لا يناسب حجم رسالتنا هذه، ولذا سنكتفي بالإشارة إلى عناوين الأبواب الّتي وردت فيها تلك الأحاديث الدالّة على عظمة القرآن ومكانته عند أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، وأنّ مَن يعتقد بمضامين هذه الأحاديث يجلّ القرآن ويعظمه ويوقن أنّه هو كتاب اللّه العزيز على مدى العصور والأجيال. وإليك المهم من عناوين تلك الأبواب، الّتي يتضمّن كلّ باب منها روايات متعددة:

1. فضل القرآن وتعظيمه وتعلّمه وتعليمه وقراءته وختمه واستماعه والعمل به...

2. تعلم القرآن بالعربية وقراءته كما أُنزل.

3. فضل حفظ القرآن وتحمّل المشقّة لحفظه وتعلّمه.

4. باب الدعاء والصلاة لحفظ القرآن وعدم نسيانه.

ص:288


1- . جامع أحاديث الشيعة: 19/26-226.

5. ما ورد فيمن نسي القرآن أو تركه.

6. باب من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه.

7. باب ثواب من علّم ولده القرآن.

8. انّ القرآن عهد اللّه تعالى إلى خلقه فينبغي للمسلم أن ينظر في عهده ويقرأ منه كلّ يوم خمسين آية أو أكثر.

9. استحباب قراءة سورة أو آيات من القرآن في كلّ ليلة.

10. استحباب ختم القرآن بمكة المكرمة والإكثار من تلاوته في شهر رمضان.

11. باب أنّ القرآن يقرأ بالترتيل والحزن والرقة والبكاء والوجل.

12. باب تحريم القراءة بألحان أهل الفسق والكبائر واستحباب القراءة بألحان العرب.

13. باب ما ورد من الحثّ على اتّباع القرآن والتمسّك به والتدبّر والتفكّر فيه.

14. باب جواز قراءة القرآن سرّاً وجهراً.

15. باب من قرأ القرآن في المصحف تخفف العذاب عن والديه...

16. باب استحباب قراءة القرآن مع الطهارة...

17. استحباب الاستعاذة عند قراءة القرآن وكيفيتها.

18. ما ورد من الأدعية حين الشروع في قراءة القرآن، وبعد الفراغ منها وعند ختمه.

19. باب استحباب قراءة القرآن في البيت، وأمر الأولاد بقراءته...

ص:289

20. باب ما ورد في فضائل سور القرآن وفوائدها.

21. باب ما ورد في ثواب قراءة عدة من السور.

22. باب أنّ لحامل القرآن حقّاً في بيت المال.

23. باب أنّ حامل القرآن أحقّ الناس بالعمل به.

24. باب أنّ من ختم القرآن وجعله للمعصومين كان معهم يوم القيامة.

25. حكم الإنصات والاستماع إذا قُرئ القرآن.

26. استحباب البكاء عند سماع القرآن.

27. باب أنّ الراكع والساجد ومن في الكنيف والحمام لا يقرأون القرآن.

28. باب وجوب السجود عند قراءة العزائم الأربعة.

29. باب كراهة السفر بالقرآن إلى أرض العدو، وعدم جواز بيع المصحف من الكافر.

30. باب كيفية كتابة بسم اللّه الرحمن الرحيم وتجويدها بإعراب القرآن.

31. باب حكم تزيين القرآن وكتابته بالذهب.

إلى غير ذلك من الأبواب الّتي عقدها مؤلّف هذه الموسوعة الحديثية وذكر فيها الروايات المناسبة لعنوان الباب.

ثم إنّ تضافر هذه الروايات في الأبواب المختلفة يغنينا عن دراسة أسانيدها، إذ ليس هنا حديث أو حديثان أو ثلاثة أو عشرة، بل هي تتجاوز المئات، وكلٌّ يشدّ بعضه بعضاً، والجميع يهدف إلى أنّ كتاب اللّه هو الحبل المتين والنور المبين والشفاء النافع والريّ الناقع، لا يعوجّ فيُقام، ولا يزيغ

ص:290

فيستعتب، وأنّ على المسلمين استنطاق القرآن ففيه دواء دائهم ونظم أمرهم، وكيف لا يكون كذلك وهو سراج لا يخبو توقّده، وبحر لا يُدرك قعره، ومنهاج لا يضل نهجه، وفرقان لا يخمد برهانه، وشفاء لا تُخشى أسقامه، وعزّ لا تهزم أنصاره، وحقّ لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته وينابيع العلم وبحوره، وبحر لا ينزفه المستنزفون، كما ورد في كلمات مولانا أمير المؤمنين وأولاده المعصومين عليهم السلام.

فهذه الروايات هي مرآة عقيدة الشيعة في القرآن الكريم وميزان قضائهم في كتاب اللّه العزيز لا تشذّ نظرتهم إلى كتاب اللّه عن أحاديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وخطب الوصي عليه السلام وكلمات أئمة أهل البيت عليهم السلام من أوّلهم إلى آخرهم، ولذلك ترى أنّهم منذ نشأتهم وإلى الآن، يهتمون بالقرآن كتابة وحفظاً وتفسيراً ونشراً ومصدراً للعقيدة والشريعة، حتّى أنّ قسماً من المكتبات الشيعية خصّصت جناحاً كبيراً لنسخ القرآن المخطوطة، وهذا ما نراه في مكتبة العتبة الرضوية المقدّسة في مشهد، حيث ضمّت أكثر من ستة آلاف نسخة من القرآن الكريم بخطوط أئمة الخط ومشاهيره، يرجع تاريخ بعضها إلى القرن الأوّل، وقيل إنّ بعضها بخط الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

وأمّا تفسير القرآن بمناهجه المختلفة فهم أبناء عذرته، حيث اقتبسوا ذلك من الإمام علي عليه السلام الّذي يُعدّ أوّل مفسّرٍ للقرآن الكريم وتلاه أبناؤه المعصومون عليهم السلام ثم شيعتهم الأقدمون بأسانيدهم الموصولة إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

وقد صنّف علماء الشيعة، عبر القرون، مؤلفات في غريب القرآن، ومجازاته، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وآيات أحكامه، وأمثاله،

ص:291

وأقسامه، وقصصه، ومعارفه، وأسباب نزوله، ولو جُمع ما ألّفوا حول هذه المواضيع لشكّل مكتبة ضخمة تبهر العقول، وتخرس ألسنة الذين يقولون بغير علم.

صيانة القرآن من التحريف

إنّ القول بصيانة القرآن الكريم من التحريف بالزيادة والنقيصة هو من خصائص كلّ مسلم قرأ تاريخ المسلمين وعرف اهتمامهم بالقرآن وارتباطهم به ارتباطاً وثيقاً في عصر الرسالة وبعده، ولايشكّ المسلم الواعي في أنّ فكرة التحريف أُسطورة صنعها اليهود، وروّجها المنافقون، وخُدع بها السذّج من المحدّثين من غير فرق بين شيعيّ أو سُنّيٍّ .

وكفانا في ذلك ما ذكره الشريف المرتضى (355-436 ه) في هذا الشأن، يقول: إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار، والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإنّ العناية اشتهرت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه غيره فيما ذكرناه، لأنّ القرآن معجزة النبوّة، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآيه، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً ومنقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟!

ثم قال رحمه الله: والعلم بتفسير القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة ككتاب سيبويه

ص:292

والمُزَني، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما، ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء.(1)

وليس السيد المرتضى فريداً بين العلماء بل أصفق على رأيه هذا أعاظم المحدّثين والمفسّرين، منهم من وصلتنا كلماتهم من القرن الثالث إلى يومنا هذا، ومنهم من لم يصلنا كلامهم.

فهذا هو الفضل بن شاذان (المتوفّى 260 ه) ينصّ في كتابه «الإيضاح» على صيانة القرآن من التحريف في مذهبه(2).

وقد قام مجمع البحوث الإسلامية في المشهد الرضوي بتخصيص جزءٍ من موسوعته «نصوص في علوم القرآن» لموضوع صيانة القرآن من التحريف، فذكر أقوال ما يربو على تسعين شخصية علمية شيعية صرّحوا بصيانة القرآن من التحريف، وألّفوا في ذلك رسائل أو كتباً أو ذكروه في مقدّمات تفاسيرهم أو في غضون بحوثهم، خاصّة عندما يصلون إلى قوله تعالى: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (3).

ولا يسعنا ذكر نصوص أقوالهم وما احتجّوا به على ما يرتؤونه، فلنقتصر على ذكر أسمائهم فقط، لكي نجعل القارئ على بصيرة من واقع الأمر، حتّى يعلم أنّ الناصّين على عدم التحريف من الشيعة أكثر من غيرهم، لأنّهم مستهدفون بهذه التهمة الباطلة، حيث عقد مؤلّف الموسوعة لكلّ واحد فصلاً

ص:293


1- . نقله عنه الطبرسي في مجمع البيان: 1/15، قسم الفن الخامس، طبعة صيدا.
2- . الإيضاح: 213.
3- . الحجر: 9.

خاصّاً أتى بكلّ أو جلّ كلامه فيه، وإليك فحوى الباب الثالث الّذي يحتوي على أسماء العلماء النافين للتحريف:

الفصل الأوّل: نصّ ابن شاذان.(1)

الفصل الثّاني: نصّ الطبريّ .

الفصل الثّالث: نصّ الأشعريّ .

الفصل الرّابع: نصّ الشيخ الصَّدوق.

الفصل الخامس: نصّ الباقّلانيّ .

الفصل السادس: نصّ الشريف الرضيّ .

الفصل السابع: نصّ الشيخ المفيد.

الفصل الثامن: نصّ القاضي عبدالجبّار.

الفصل التاسع: نصّ الشريف المرتضى.

الفصل العاشر: نصّ الماوَرْديّ .

الفصل الحادي عشر: نصّ الشيخ الطُّوسيّ .

الفصل الثاني عشر: نصّ العاصميّ .

الفصل الثالث عشر: نصّ الزمخشريّ .

الفصل الرابع عشر: نصّ الطَّبرسيّ .

الفصل الخامس عشر: نصّ أبي الفتوح الرازي.

ص:294


1- . حيث عدّ في كتابه «الإيضاح» رواية أخبار التحريف من المطاعن على أهل السنة. وهذا يدلّ على أن الشيعة لم يقولوا بالتحريف، وإلّا لم يكن ابن شاذان ليشنّع على أهل السنة بذلك، وهو يرى مجالاً للنقض عليه بأخبار التحريف عند أهل مذهبه.

الفصل السادس عشر: نصّ الرّاونديّ .

الفصل السابع عشر: نصّ ابن شهرآشوب.

الفصل الثامن عشر: نصّ القزوينيّ .

الفصل التاسع عشر: نصّ ابن إدريس.

الفصل العشرون: نصّ الفَخْر الرازيّ .

الفصل الحادي والعشرون: نصّ ابن طاووس.

الفصل الثاني والعشرون: نصّ العلّامة الحلّيّ .

الفصل الثالث والعشرون: نصّ النيسابوريّ .

الفصل الرابع والعشرون: نصّ الشَّيبانيّ .

الفصل الخامس والعشرون: نصّ الخازن.

الفصل السادس والعشرون: نصّ البياضيّ .

الفصل السابع والعشرون: نصّ الكاشفيّ .

الفصل الثامن والعشرون: نصّ السيوطيّ .

الفصل التاسع والعشرون: نصّ الكركيّ .

الفصل الثلاثون: نصّ الحسينيّ الجرجانيّ .

الفصل الحادي والثلاثون: نصّ المقدّس الأردبيليّ .

الفصل الثاني والثلاثون: نصّ الجرجانيّ .

الفصل الثالث والثلاثون: نصّ الشريف الكاشاني.

ص:295

الفصل الرابع والثلاثون: نصّ التستري.

الفصل الخامس والثلاثون: نصّ الشيخ بهاء الدين العاملي.

الفصل السادس والثلاثون: نصّ صدر المتألهين.

الفصل السابع والثلاثون: نصّ الفاضل التونيّ .

الفصل الثامن والثلاثون: نصّ ملاّ صالح المازندرانيّ .

الفصل التاسع والثلاثون: نصّ الطريحيّ .

الفصل الأربعون: نصّ الفيض الكاشاني.

الفصل الحادي والأربعون: نصّ الشريف اللاهيجيّ .

الفصل الثاني والأربعون: نصّ الحُرّ العامليّ .

الفصل الثالث والأبعون: نصّ المشهدي.

الفصل الرابع والأربعون: نصّ البروسوي.

الفصل الخامس والأربعون: نصّ النراقيّ .

الفصل السادس والأربعون: نصّ بحر العلوم.

الفصل السابع والأربعون: نصّ المحقّق البغداديّ .

الفصل الثامن والأبعون: نصّ كاشف الغطاء.

الفصل التاسع والأربعون: نصّ الميرزا القمّيّ .

الفصل الخمسون: نصّ الطباطبائيّ .

الفصل الحادي والخمسون: نصّ الطهراني.

ص:296

الفصل الثاني والخمسون: نصّ الكلباسي.

الفصل الثالث والخمسون: نصّ الآلوسي.

الفصل الرابع والخمسون: نصّ السبزواري.

الفصل الخامس والخمسون: نصّ الكوه كمريّ .

الفصل السادس والخمسون: نصّ التنكابني.

الفصل السابع والخمسون: نصّ الدهلويّ .

الفصل الثامن والخمسون: نصّ التبريزيّ .

الفصل التاسع والخمسون: نصّ الشهرستانيّ .

الفصل الستّون: نصّ الآشتيانيّ .

الفصل الحادي والستّون: نصّ المامقانيّ .

الفصل الثاني والستّون: نصّ البلاغيّ .

الفصل الثالث والستّون: نصّ الإيراونيّ .

الفصل الرابع والستّون: نصّ الحائريّ .

الفصل الخامس والستّون: نصّ الأمين العامليّ .

الفصل السادس والستّون: نصّ النهاونديّ .

الفصل السابع والستّون: نصّ الرشتيّ .

الفصل الثامن والستّون: نصّ آل كاشف الغطاء.

الفصل التاسع والستّون: نصّ آية اللّه البروجرديّ .

ص:297

الفصل السبعون: نصّ الشيرازي.

الفصل الحادي والسبعون: نصّ شرف الدين.

الفصل الثاني والسبعون: نصّ المظفر.

الفصل الثالث والسبعون: نصّ الشهرستاني.

الفصل الرابع والسبعون: نص الشيخ آغا بزرگ الطهراني.

الفصل الخامس والسبعون: نصّ الأمينيّ .

الفصل السادس والسبعون: نصّ آية اللّه الحكيم.

الفصل السابع والسبعون: نصّ سلطان الواعظين.

الفصل الثامن والسبعون: نص الشعراني.

الفصل التاسع والسبعون: نصّ أبي زهرة.

الفصل الثمانون: نصّ آية اللّه الميلانيّ .

الفصل الحادي والثمانون: نصّ الشهيد المطهري.

الفصل الثاني والثمانون: نصّ مغنية.

الفصل الثالث والثمانون: نصّ الشهيد البهشتي.

الفصل الرابع والثمانون: نصّ الكرديّ .

الفصل الخامس والثمانون: نصّ عزَّة دروزة.

الفصل السادس والثمانون: نصّ العلّامة الطباطبائي.

الفصل السابع والثمانون: نصّ معروف الحسني.

ص:298

الفصل الثامن والثمانون: نصّ الخطيب.

الفصل التاسع والثمانون: نصّ الشريعتي.

الفصل التسعون: نصّ الإمام الخمينيّ .

الفصل الحادي والتسعون: نصّ آية اللّه المرعشي.

الفصل الثاني والتسعون: نصّ آية اللّه الخوئي.

الفصل الثالث والتسعون: نص آية اللّه الگلبايگانيّ .

الفصل الرابع والتسعون: نصّ الشيخ الغزالي.

الفصل الخامس والتسعون: نصّ آية اللّه الوحيدي.

الفصل السادس والتسعون: نصّ السيد الحكيم.

الفصل السابع والتسعون: نصّ الشيخ الوائلي.

الفصل الثامن والتسعون: نصّ البهنساوي.

الفصل التاسع والتسعون: نصّ الدرّاز.

الفصل المائة: نصّ حسن زادة الآمليّ .

الفصل المائة والواحد: نصّ الجواديّ الآملي.

الفصل المائة والثاني: نصّ الشيخ الفاني.

الفصل المائة والثالث: نصّ لبيب السعيد.

الفصل المائة والرابع: نص المدني.

الفصل المائة والخامس: نصّ التيجاني.

ص:299

الفصل المائة والسادس: نص العلّامة العسكري.

الفصل المائة والسابع: نصّ الشيخ معرفة.

الفصل المائة والثامن: نصّ مكارم الشيرازي.

الفصل المائة والتاسع: نصّ الفاضل اللنكراني.

الفصل المائة والعاشر: نصّ السيد فضل اللّه.

الفصل المائة والحادي عشر: نصّ الشيخ الصافي.

الفصل المائة والثاني عشر: نص الشيخ السبحاني.

الفصل المائة والثالث عشر: نصّ الهيدجي.

الفصل المائة والرابع عشر: نصّ المدرس التبريزي.

الفصل المائة والخامس عشر: نصّ مرتضى العاملي.

الفصل المائة والسادس عشر: نصّ الحسيني الميلاني.

الفصل المائة والسابع عشر: نصّ الميرمحمدي.

الفصل المائة والثامن عشر: نصّ علي الصغير.

الفصل المائة والتاسع عشر: نصّ عليّ السالوس.

الفصل المائة والعشرون: نصّ جعفريان.(1)

القرآن مقياس الحق والباطل

اشارة

إنّ الروايات الدالّة على أنّ القرآن مصون عن التحريف في مدرسة أهل

ص:300


1- . راجع: نصوص في علوم القرآن: الجزء الخامس.

البيت عليهم السلام كثيرة نشير إليها في طوائف:

الطائفة الأُولى: ما دلّ على كون القرآن هو الفصل والحكم عند الاختلاف.

1. عرض الروايات المتعارضة على القرآن

قد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام على وجوب عرض الروايات على القرآن والأخذ بما وافقه منها، وردّ ما خالفه، وهي روايات كثيرة نذكر ثلاثاً منها:

أ. روى الكليني عن السكوني، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فدعوه».(1)

ب. روى أيّوب بن راشد، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف».(2)

ج. روى أيوب بن الحر، قال: سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول: «كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف».(3)

والدلالة من وجهين:

أ. أنّ المتبادر من أخبار العرض أنّ القرآن مقياس سالم لم تنله يد التبديل والتحريف والتصرّف، والقول بالتحريف لا يلائم القول بسلامة المقيس عليه.

ص:301


1- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10، 12، 15 وغيرها.
2- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12.
3- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 15، وغيرها.

ب. أنّ الإمعان في مجموع روايات العرض يثبت أنّ الشرط اللازم هو عدم المخالفة، لا وجود الموافقة، وإلّا لزم ردّ أخبار كثيرة لعدم تعرّض القرآن إليها بالإثبات والنفي، ولا تعلم المخالفة وعدمها إلّاإذا كان المقيس عليه (القرآن) بعامّة سوره وأجزائه موجوداً عندنا، وإلّا فإنّ احتمال مخالفة الخبر لما سقط وحُرّف يظلّ قائماً.

2. حديث الثقلين

إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر أُمّته بالتمسّك بالقرآن، وبالعترة الطاهرة، حيث قال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا»(1) وإمكان التمسّك بالقرآن يستلزم عدم تطرّق التحريف إليه، وذلك:

أ. أنّ الأمر بالتمسّك بالقرآن، فرع وجود القرآن بين المتمسّكين.

ب. أنّ القول بسقوط قسم من آياته وسُوَره، يورث عدم الاطمئنان فيما يستفاد من القرآن الموجود، إذ من المحتمل أن يكون المحذوف قرينة على المراد من الموجود.

3. كمال الدين بكمال القرآن
اشارة

إنّ الإمعان في خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الّتي ينقلها علماء الشيعة

ص:302


1- . سنن الترمذي: 5/328 برقم 3874، وص 329 برقم 3876؛ سنن النسائي: 5/45 و 130؛ مسندأحمد: 3/14 و 17 و 26 و 59 و ج 5/182؛ مجمع الزوائد: 9/163-165. وراجع: صحيح مسلم: 7/123، فضائل علي؛ وسنن الدارمي: 2/432.

يكشف عن اعتبار القرآن الموجود بين المسلمين، هو كتاب اللّه المنزل على رسوله بلا زيادة ولا نقصان، فهاك شذرات من كلماته عليه السلام:

1. قال أمير المؤمنين عليه السلام: «أَنْزَلَ عَلَيْكُمُ (الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ ) ، وَعَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَاناً، حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَلَكُمْ فِيَما أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ - دِينَهُ الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ ».(1)

والخطبة صريحة في إكمال الدين تحت ظل كتابه، فكيف يكون الدين كاملاً ومصدره محرّفاً غير كامل ؟! ويوضح ذلك أنّ الإمام يحثّ على التمسّك بالدين الكامل بعد رحيله، وهو فرع كمال مصدره وسنده.

2. وقال عليه السلام: «وَكِتَابُ اللّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نَاطِقٌ لَايَعْيَا لِسَانُهُ ، وَبَيْتٌ لَاتُهْدَمُ أَرْكَانُهُ ، وَعِزٌّ لَاتُهْزَمُ أَعْوَانُهُ ».(2)

وأنت ترى أنّ القرآن الذي يذكره أمير المؤمنين عليه السلام ويعظّمه ويرشد إليه، هو نفس القرآن الموجود عند الناس، المتداول بينهم، ويدّل على ذلك تصريحه عليه السلام بأنّه بين أظهرهم.

3. وقال عليه السلام: «فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ ، وَافْتَرَقُوا عَلَى الْجَمَاعَةِ ، كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ ».(3)

شتّان بينهما

إنّ الإصرار على لصق تهمة القول بالتحريف إلى أي طائفة من الطوائف

ص:303


1- . نهج البلاغة: الخطبة: 86.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 133.
3- . نهج البلاغة: الخطبة 147.

الإسلامية يشكّل ضرراً كبيراً على الإسلام والمسلمين ولا يستفيد منه إلّا المستعمرون وأذنابهم، حيث يتّخذونه ذريعة لإبطال الحجة البالغة إلى يوم القيامة، فيأخذون من السنّة قولهم بأنّ الشيعة تقول بالتحريف، ويأخذون من بعض الشيعة القول بأنّ السنّة هم القائلون بالتحريف، فيحتجون بكلا النقلين ويصوّرون أنّ في المقام إجماعاً مركباً من الطائفتين على التحريف!! فهل هذا يا أبناء الإسلام لصالح الإسلام وصالح المسلمين ؟ ألا تدعو مصلحة الإسلام العليا إلى التركيز على تبرئة عامّة الطوائف من القول بالتحريف، والقول بأنّ ما ورد من الروايات عند الفريقين المُشعرة بالتحريف إمّا ساقطة ضعيفة مكذوبة، وإمّا مؤوّلة مفسّرة للآية كما هو الحق في كلا الطرفين، وحيث قام غير واحد من علمائنا بتوضيح حال هذه الروايات الّتي اتّخذها المغرضون الموقدون لنار الشحناء والتفرقة بين المسلمين، حجّة على مدّعاهم.

شتّان بين عالم واع منصف يركّز - قبل قرن، بل أزيد - على تنزيه الشيعة عن القول بالتحريف، وبين من يصب الزيت على النار ويستميت لإثبات هذه التهمة وإلصاقها بالشيعة، بنفَس حاقد، وقلم غير نزيه، وكأنّه لا مشكلة على وجه الأرض إلّاالشيعة واتّهامهم بالقول بالتحريف!! وها نحن نعرض أمام القارئ أُنموذجين من المنصفين ثم نتبعهما بأُنموذجين من غيرهم:

أقوال العلماء السنّة في مسألة القول بالتحريف عند الشيعة

1. العلّامة الدهلوي الكيرانوي

هو العلّامة الشيخ رحمة اللّه بن خليل الرحمن الهندي الدهلوي (المتوفّى 1306 ه) ألّف كتاباً سمّاه «إظهار الحق» ردّاً على المبشرين النصارى في شبه القارة الهندية، وقد قال فيه ما يلي:

ص:304

إنّ القرآن المجيد عند جمهور علماء الشيعة الإمامية الاثني عشرية محفوظ عن التغيير والتبديل، ومن قال منهم بوقوع النقصان فيه، فقوله مردود غير مقبول عندهم... [ثم ذكر قول الشيخ الصدوق والسيد المرتضى والقاضي التستري والشيخ الحرّ العامليّ ، كما تقدم عنهم، فقال:]

فظهر أنّ المذهب المحقّق عند علماء الفرقة الإمامية الاثني عشرية: أنّ القرآن الّذي أنزله اللّه على نبيّه، هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، وأنّه كان مجموعاً مؤلّفاً في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحفظه ونقله أُلوف من الصحابة كعبد اللّه بن مسعود وأُبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ عدّة ختمات.

ويظهر القرآن ويشهد بهذا الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عشر.

والشرذمة القليلة الّتي قالت بوقوع التغيير فقولهم مردود، ولا اعتداد بهم فيما بينهم، وبعض الأخبار الضعيفة الّتي رويت في مذهبهم لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته وهو حقّ ، لأنّ خبر الواحد إذا لم يقتض علماً ولم يوجد في الأدلّة القاطعة ما يدلّ عليه، وجب ردّه على ما صرّح ابن المطهّر الحلّيّ في كتابه المسمّى ب: «مبادئ الوصول إلى علم الأُصول»(1).

وهكذا ترى أنّ الرجل كيف يدافع عن الإسلام ومذهب الشيعة ويذب عنهم تلك الأُكذوبة الباطلة.

2. الدكتورة عائشة يوسف المناعي (المعاصرة)

ص:305


1- . إظهار الحق: 2/71-72.

وهي عميدة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة قطر، وقد ألّفت كتاباً بعنوان: «موقف الإمامية من كتاب اللّه تعالى» بيّنت فيه موقف شيعة أهل البيت عليهم السلام من كتاب اللّه تعالى، وأنّ أكابر علمائهم ينفون فكرة تحريفه، ويصفون ما ورد من الروايات الّتي تشير إلى ذلك بالضعف والدسّ والتزوير، ثم خلصت إلى النتيجة التالية: إنّ هذه الدراسة أردت بها وجه اللّه تعالى، لا دفاعاً عن الشيعة ضد أهل السُّنة، ولا تأكيداً وبياناً لموقف أهل السُّنة ضد الشيعة، بل أردت منها البحث عن نقطة - واضحة بيّنة - يلتقي حولها الفريقان، وهي كتاب اللّه تعالى ودستور الأُمة الإسلامية، الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والّذي أجزم تمام الجزم بأنّ من قال واعتقد فيه غير ذلك فهو كافر بكتاب اللّه... ومن كفر بكتاب اللّه تعالى كفر باللّه تعالى لا محالة، سواء في ذلك الشيعي أو السنيّ ، أو غيرهما ممّن يتسمّى باسم الإسلام.(1)

هذان أُنموذجان من المنصفين الذين تنبض قلوبهم بتوحيد الكلمة ورصّ الصفوف وحشد القوى وصبها في سبيل هدف واحد.

ومع الأسف في مقابل هؤلاء نجد من ليس له همّ - طول عمره - إلّا تحريف الكلمة، وتشتيت القوى، ورمي شيعة آل البيت بما هم براء منه كبراءة يوسف ممّا اتّهم به، وها نحن نذكر أُنموذجين منهم:

3. عبداللّه بن علي القصيمي

ألّف القصيمي كتاباً باسم «الصراع بين الإسلام والوثنية» وفي نفس هذا

ص:306


1- . لاحظ: موقف الإمامية من كتاب اللّه تعالى: 45.

الاسم دلالة واضحة على نفسية مؤلّفه، فأوّل جنايته على المسلمين عامّة تسميته بالوثنية أُمماً من المسلمين، يُعدّ كُلّ منهم بالملايين، وفيهم الأئمة والقادة والعلماء والحكماء والمفسّرون والحفّاظ والأدلّاء على دين اللّه الخالص، وفي مقدّمتهم أُمّة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والعجب أنّه ألف كتابه هذا ردّاً على كتاب «كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبدالوهاب» للعلّامة محسن الأمين العاملي (1284-1371 ه) وركّز جهده على دعم ما ذكره ابن تيمية وما ورثه محمد بن عبد الوهاب من كتبه، وطبع الكتاب على نفقة آل سعود ووزع توزيعاً واسعاً. وقد اتّهم فيه الشيعة بقوله: مَن نظر في كتب القوم علم أنّهم لا يرفعون بكتاب اللّه رأساً، وذلك أنّه يقل جدّاً أن يستشهدوا بآية من القرآن فتأتي صحيحة غير ملحونة مغلوطة... إلى أن قال: فلا يكاد أحد منهم يسلم من التحريف والغلط، ولا يوجد فيهم مَن يحفظون القرآن، وتندر جدّاً أن توجد بينهم المصاحف.

هذا مبلغ علمه بالشيعة مع وضوح اهتمامهم بالقرآن عبر القرون بوجوه مختلفة، ولذا لا نعلّق على كلامه شيئاً؛ لأنّه صفر من الإنصاف وكذب ودجل، ومن مرّ على بلاد الشيعة وخالطهم يقف على أنّ ما ذكره القصيمي فرية بلا مرية.

والعجب أنّ هذا الرجل عاش عمراً طويلاً، فكان في شبابه وكمال عمره وهابياً مروّجاً للوهابية ومدافعاً عن آل سعود بقلمه ولسانه، ولكنّه في آخر عمره انقلب ملحداً، منكراً لأكثر الأُصول الّتي اتّفق عليها المسلمون، وعاد يروّج الثقافة الغربية، وذلك ظاهر من كتابه المعنون «كيف ذلّ المسلمون» الّذي ألّف بعده

ص:307

كتاباً آخر باسم «هذه هي الأغلال».

وقد أثار هذا الكتاب غضب الوهابيين، فقام الشيخ عبداللّه يابس بالردّ عليه بكتاب أسماه ب «الردّ القويم على ملحد القصيم» ثم توالت الردود على كتابه حتّى أنهم أنشأوا فيه قصائد، في أحدها هذا البيت:

هذا القصيمي في الأغلال قد كفرا وفاه بالزيغ والإلحاد مشتهرا

4. عبدالملك بن عبدالرحمن الشافعي

قد وضع هذا المؤلّف رسالتين بخصوص القرآن، هما:

1. «الفصام النكد، دراسة لحقيقة الأزمة بين علماء الشيعة والقرآن».

2. «الروايات الشيعية النافية لتحريف القرآن - دراسة وتحليل».

ومن راجع الرسالتين يرى فيهما أنّ الكاتب أخذ بالقلم الّذي يحمل الحقد والضغينة بأعلى مراتبها، حتّى أنّه لم ينزّه قلمه عن الاستهزاء والسخرية، وهذا واضح من وصفه علماء الشيعة بألفاظ مثل: ثقتهم، علّامتهم، مفكّرهم، إلى غير ذلك من الكلمات الّتي لا تنسجم مع أدب الحوار والمناظرة والدراسة الموضوعية.

وها نحن نتناول بالدراسة ما ورد في هاتين الرسالتين، لأجل إيضاح ما عمد مؤلّفهما إلى تدليسه وإيهام ذهن القارئ به، وهدفنا هو تنوير القارئ الكريم بالحق الصريح في هذا الموضوع.

مناقشة الرسالة الأُولى

اشارة

ص:308

رتّب المؤلّف رسالته «الفصام النكد» على فصول؛ وها نحن نبدأ بمناقشة الفصل الأوّل منها.

مناقشة الفصل الأوّل
اشارة

يذكر عبدالملك الشافعي هنا أنّ عقيدة الشيعة بأصل الإمامة صارت سبباً للقول باستحالة صدور أي موقف إيجابي من صحابة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم لصالح الإسلام والمسلمين حتّى وإن صَغُر، ثم يذكر من باب المثال فيقول: كيف تعاملوا مع أكبر المناقب الّتي قام بها الخلفاء الراشدون رضي اللّه عنهم على مرّ التاريخ، وهي جمعهم لكتاب اللّه تعالى.

ثم يقول: إنّ علماء الشيعة أمام مفترق خطير، إذ سيفرض عليهم الالتزام بأحد الخيارين التاليين وهما:

الخيار الأوّل:

الاعتراف بأنّ جمع الخلفاء للقرآن كان على الوجه المرضيّ عند اللّه تعالى ورسوله، ومن ثم لم يقرّوا لهم بتلك الفضيلة والمنقبة التاريخية والّتي ستظل أجيال البشرية إلى قيام الساعة تدين لهم بالفضل والامتنان، ألا وهي جمعهم وحفظهم لكتاب اللّه تعالى.

الخيار الثاني:

أن يعملوا بأصلهم فيجهزوا على تلك المنقبة ليقلبوها إلى مثلبة بحقّهم زاعمين أنّ جمعهم للقرآن لم يكن على الوجه المرضيّ عند اللّه تعالى ورسوله، قاصدين بذلك طمس الحق وإضلال الناس.

ص:309

ثم بنى على ذلك ما بنى من كلمات لاذعة.

هذه هي عصارة كلامه في الفصل الأوّل، وسيوافيك الكلام حول ما ذكره في الفصول الأُخرى.

أقول: إنّ الكاتب بنى ما ذهب إليه على أصل باطل، وهو أنّ الصحابة هم الذين قاموا بجمع القرآن الكريم بعد رحيل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، وعلى ذلك جعل الشيعة بين خيارين فقط، ولكنّ المسكين غفل عن أنّ الآيات القرآنية والروايات الصحيحة تدلّ على أنّ القرآن جمع في أيام حياته صلى الله عليه و آله و سلم، وأنّ نسبة جمعه إلى الخليفتين الأوّل والثاني أمر لا دليل عليه، بل الدليل قائم على خلافه.

وما أشبه قول الكاتب بقول الشاعر:

قد أصبحت أم الخيار تدعي عليّ ذنباً كلّه لم أصنعِ

توضيح ذلك: إنّ أساس ما ذكره هو زعمه أنّ جمع القرآن كان بأمر من أبي بكر بعد أن قتل سبعون رجلاً من القرّاء في بئر معونة وأربعون نفراً في حرب اليمامة، فخيف ضياع القرآن وذهابه من الناس، فتصدّى عمر وزيد بن ثابت لجمع القرآن من العسب، والرقاع، واللخاف، ومن صدور الناس، بشرط أن يشهد شاهدان بأنّه من القرآن، وهذا هو الّذي رواه البخاري، قال: إنّ زيد بن ثابت الأنصاري رضى الله عنه وكان ممّن يكتب الوحي، قال: أرسل إليّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إنّ عمر أتاني فقال: إنّ القتل قد استحرّ يوم اليمامة بالناس، وإنّي أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن فيذهب كثيرٌ من القرآن إلّاأن تجمعوه، وإنّي لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: قلت

ص:310

لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ؟ فقال عمر: هو واللّه خيرٌ، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتّى شرح اللّه لذلك صدري ورأيت الّذي رأى عمر.

قال زيد بن ثابت - وعمر عنده جالس لا يتكلّم: فقال أبو بكر: إنّك رجلٌ شابٌ عاقل، ولا نتهمُك كنت تكتب الوحي لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فتتبع القرآن فاجمعه. فواللّه لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ ممّا أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله النبي صلى الله عليه و آله و سلم ؟ فقال أبو بكر: هو واللّه خير. فلم أزل أراجعه حتّى شرح اللّه صدري للذي شرح اللّه له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمع من الرقاع والأكتاف والعسب(1)وصدور الرجال حتّى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خُزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) (2).(3)

وروى البخاري أيضاً عن ابن شهاب، قال: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنّه سمع زيد بن ثابت يقول: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف كُنت أسمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقرؤها بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ

ص:311


1- . العُسب: جمع عَسيب وهو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض. اللخاف: (بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة آخره فاء): جمع لخفة (بفتح اللام وسكون الخاء) وهي الحجارة الدقاق، وقال الخطابي: صفائح الحجارة (وفي بعض الروايات:). الرقاع: جمع رقعة وقد تكون من جلد أو رقّ أو كاغذ. الاكتاف: جمع كتف، وهو العظم الّذي للبعير أو الشاة، كانوا إذا جفّ كتبوا عليه.
2- . التوبة: 128.
3- . صحيح البخاري: برقم 4679، كتاب تفسير القرآن.

عَلَيْهِ ) (1) فألحقناها في سورتها في المصحف»(2).

هذا الحديث هو الأساس لما رتّب عليه الكاتب من آراء وقضاء باطل، ولكنّه ليس بصحيح جدّاً وإن كان قد ورد في أصحّ الكتب عندهم، لأنّه مخالف للكتاب العزيز أوّلاً، والتاريخ الصحيح ثانياً، وحكم العقل الحصيف ثالثاً.

أمّا الأوّل، فثمّة آيات قرآنية كثيرة تدلّ على جمع القرآن في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وانّه كان آنذاك مكتوباً، ومنها:

1. قال سبحانه: (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) (3)، وقال سبحانه: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (4)، ومعنى ذلك أنّه كان عند نزول الوحي كتّاب يكتبون القرآن كسائر الكتب السماوية، وأنّه كان مكتوباً مجموعاً؛ لأنّه لا يصحّ إطلاق الكتاب على القرآن، وهو في الصدور، بل لا يصح على ما كُتب على العسب والأكتاف والرقاع إلّاعلى نحو المجاز والعناية، والمجاز لا يُحمل اللفظ عليه من غير قرينة، فإنّ لفظ الكتاب ظاهر فيما كان له وجود واحد جمعي، ولا يُطلق على المكتوب إذا كان مجزّأً فضلاً عمّا إذا لم يُكتب، وكان محفوظاً في الصدور.(5)

2. قال سبحانه: (رَسُولٌ مِنَ اللّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ) (6).

ص:312


1- . الأحزاب: 23.
2- . صحيح البخاري، كتاب المغازي برقم 4048.
3- . البقرة: 2.
4- . فاطر: 32.
5- . البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي: 252.
6- . البيّنة: 2.

3. قال سبحانه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ * اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (1).

فقد جاء في أوّل ما نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من آيات، ذكر القراءة والكتابة بالقلم، فهل يمكن، بعد ذلك، أن لا يُكتب قرآنه طيلة حياته في صحف مكرّمة ؟

وكيف يقسم سبحانه في كتابه المجيد بالقلم وبما يكتبون، ويقول: (ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ) (2). ثم لا يُكتب شيءٌ منه، بل يبقى في صدور الرجال والعسب واللخاف، المبعثرة بين الناس ؟!

ونرى أنّه سبحانه يأمر بكتابة الدين ويقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) (3).

فإذا أمر سبحانه المسلمين بكتابة الدين من الدراهم والدينار، فأولى أن يكتبوا آيات القرآن وهي دستورهم ومنهجهم، كلّ ذلك يبعّد أن يكون الرسول قد رحل ولم يجمع القرآن في صحف أو كتاب وبقي في صدور الحفّاظ.

وأمّا الثاني، فهناك روايات تدلّ على جمع القرآن في حياة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، ومن يقرأ المجاميع الحديثية عند الفريقين يجد عدداً من الروايات التي تدلّ على أنّ القرآن كان قد جمع في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ومنها:

1. روى البراء أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال له: «ادع لي زيداً وقل له يأتي بالكتف

ص:313


1- . العلق: 1-4.
2- . القلم: 1.
3- . البقرة: 282.

والدواة واللوح، فلمّا جاء، قال له: اكتب: (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ ) (1).(2)

2. روى ابن عباس عن عثمان بن عفان أنّه قال:... كان إذا نزل عليه [أي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم] الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: «ضعوا هؤلاء الآيات في السورة الّتي يذكر فيها كذا وكذا»(3).

3. روى البخاري عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول اللّه ؟ قال: أربعة كلّهم من الأنصار: أبيّ [بن كعب]، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت. قلت لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي(4).

4. ذكر ابن النديم أسماء الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهم:

علي بن أبي طالب رضى الله عنه، وسعد بن عبيد بن النعمان بن عمرو بن زيد، وأبو الدرداء عويمر بن زيد، ومعاذ بن جبل بن أوس، وأبو زيد ثابت بن زيد بن النعمان، وأُبيّ بن كعب بن قيس بن مالك بن امرئ القيس، وعبيد بن معاوية، وزيد بن ثابت بن الضحّاك.(5)

5. روى زيد بن ثابت قال: كنّا عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نؤلّف القرآن من الرِّقاع. وفي نصّ آخر عند الحاكم عن زيد: «كنّا حول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نؤلف القرآن، إذ قال... الخ»(6).

ص:314


1- . النساء: 95.
2- . صحيح البخاري: برقم 4593، كتاب التفسير.
3- . سنن الترمذي: 878-879، كتاب تفسير القرآن، باب (ومن سورة التوبة)، رقم 3097، تحقيق صدقي العطار.
4- . صحيح البخاري: برقم 3810، كتاب مناقب الأنصار.
5- . الفهرست لابن النديم: 36-42.
6- . المستدرك للحاكم: 2/229؛ ولاحظ: سنن الترمذي: 1113، برقم 3980؛ ومسند أحمد: 5/185.

وتدلّ هذه الروايات على أنّ القرآن قد جُمع على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ختم القرآن في العهد النبوي

قد ورد في غير واحدة من الروايات أنّ أُناساً ختموا القرآن في العهد النبوي، نذكر منها ما يلي:

روى البخاري عن عبداللّه بن عمرو (بن العاص) أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم سأله:

كيف تختم القرآن ؟ قال: في كلّ ليلة. قال صلى الله عليه و آله و سلم: «صم في كلّ شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كلّ شهر»(1). فإنّ ختم القرآن يدلّ على أنّه كان مبوّباً من حيث السور والآيات، معلوماً أوّلها من آخرها، أفيمكن أن يقال: إنّه كان يختم القرآن، في كلّ ليلة، وهو في العسب واللخاف وصدور الرجال ؟!

قراءة القرآن في المصحف

دلّت غير واحدة من الروايات على أنّ هناك جماعة في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانوا يقرأون القرآن في المصحف:

1. روى عبداللّه بن عمرو أنّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه و آله و سلم بابن له فقال: يا رسول اللّه إنّ ابني هذا يقرأ المصحف بالنهار ويبيت بالليل، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم «أما تنقم أنّ ابنك يظل ذاكراً ويبيت سالماً»(2).

2. روى عثمان بن عبداللّه بن أوس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «من قرأ القرآن في المصحف كانت له ألفا حسنة، ومن قرأه في غير المصحف - فأظنّه قال -

ص:315


1- . صحيح البخاري: 5052، كتاب فضائل القرآن، باب في كم يقرأ القرآن ؟
2- . مسند أحمد: 2/173.

كألف حسنة»(1).

3. روى أبو داود بسنده عن عائشة مرفوعاً: «النظر إلى الكعبة عبادة، والنظر في وجه الوالدين عبادة، والنظر في المصحف عبادة»(2).

كلّ ذلك يدلّ على وجود المصحف في زمان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم سواء أكان مصحفاً تامّاً أو مصحفاً ناقصاً، وأنّ الصحابة كانوا يتسابقون في كتابة القرآن وإعداد المصحف حتّى يقرأوا فيه، فلو كان القرآن مبثوثاً في العسب واللخاف وصدور الرجال، فما معنى هذه الروايات ؟!

4. روى المتقيّ الهندي قال: عنه صلى الله عليه و آله و سلم: «الغرباء في الدنيا أربعة: قرآن في جوف ظالم، ومسجد في نادي قوم لا يصلّى فيه، ومصحف في بيت لا يُقرأ فيه، ورجل صالح مع قوم سوء»(3).

كلّ ذلك يدلّ على أنّ القرآن كان مجموعاً في مصحف في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وعندئذٍ لم تكن ثمة حاجة إلى قيام زيد بن ثابت بجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال وربّما عثر على بعض الآيات عند بعض الأصحاب.

وهذا هو الرافعي المصري الملمّ بعلوم القرآن يقول: اتّفقوا على أنّ مَن كتب القرآن فأكمله وكان قرآنه أصلاً للمصاحف المتأخّرة؛ علي بن أُبّي طالب، وأُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبداللّه بن مسعود.(4)

ص:316


1- . كنز العمال: 1/536، برقم 2405؛ البرهان في علوم القرآن: 1/546 (عن البيهقي في شعب الإيمان).
2- . البرهان في علوم القرآن: 1/546، عن أبي داود.
3- . كنز العمال: 1/544، عن الديلمي في الفردوس.
4- . اعجاز القرآن للرافعي: 35-36.

والمتبادر من كلامه أنّ هذه المصاحف قد كانت مجموعة قبل قيام زيد بجمع القرآن بعد رحلة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وعلى هذا، فما هو الداعي إلى جمع القرآن من العسب واللخاف والأكتاف، وقد كان بإمكانهم أن يرجعوا إلى تلك المصاحف الّتي كتبها كتّاب الوحي في عصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولا يضطروا إلى الرجوع إلى خزيمة بن ثابت، الّذي زُعم أنّه وجدت معه آخر سورة التوبة، ولم توجد مع أحد غيره ؟!!

وممّا يدلّ على وجود مصاحف في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم ما يذكره ابن الأثير في الكامل، قال: إنّ أهل الكوفة يقرأون على مصحف ابن مسعود، وأهل البصرة على مصحف أبي موسى الأشعري، وأهل الشام على مصحف أُبيّ ، وأهل دمشق خاصّة على مصحف المقداد، وعند ابن الأثير أنّ أهل حمص كانوا على قراءة المقداد.(1)

ثم كيف يقول الرسول في الحديث الصحيح: «إني تارك فيكم الثقلين:

كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي...»، وهو لم يترك في أمته كتاباً مجموعاً؟ وقد مرّ عليك القول بأن الكتاب ظاهر فيما كان له وجود واحد جمعي.

***

وهناك دليل قوّي على جمع القرآن في العهد النبوي، وهو أنّ الصحف الّتي قالوا إنّ زيد بن ثابت كتب فيها القرآن، كانت عند أبي بكر احتفظ بها (دون أن يستنسخها أحد)، ثم صارت إلى عمر، ثم كانت بعدُ عند حفصة، يقول

ص:317


1- . التمهيد في علوم القرآن: 1/247.

الزركشي: فكانت الصحف عند أبي بكر حتّى توفّاه اللّه، ثم عند عمر حتّى قُبض، ثم عند حفصة بنت عمر(1).

وبمثله قال السيوطي في الإتقان(2).

ولمّا حاول عثمان توحيد القراءات أرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليكِ ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبداللّه بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة.(3)

ومعنى ذلك أنّ الصحف الّتي جمعها زيد بن ثابت لم تُستنسخ إلى عصر عثمان وإنّما جعلها عثمان أصلاً في الاستنساخ مع شروط خاصة مذكورة في محلّها، حيث قال عثمان للرهط القرشيين: إذا اختلفتم انتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش.

والسؤال الّذي يُثار هنا: إذا كان أبو بكر هو الّذي أمر زيداً بجمع القرآن في صحف، وأنّ تلك الصحف قد احتفظوا بها إلى عهد عثمان، فمن أين أتت كلُّ تلك المصاحف الّتي انتشرت في بلاد الإسلام، والّتي أمر عثمان بإحراقها، ليعتمد الناس - كما يقولون - على المصاحف الّتي أمر عثمان باستنساخها من صحف زيد الّتي كانت عند حفصة ؟!!

ص:318


1- . البرهان: 1/296. وانظر: سير أعلام النبلاء: 2/441، الترجمة 85.
2- . الإتقان: 1/165.
3- . الإتقان: 1/169.

يقول الزركشي: والمشهور عند الناس أنّ جامع القرآن عثمان، وليس كذلك وإنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد، وأمّا قبل ذلك فكانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة الّتي أُنزل بها القرآن(1).

وعندئذٍ نسأل: ما هو الأصل لهذه المصاحف بعدما كانت صحف زيد محفوظة في بيت أبي بكر ثم في بيت عمر ثم في بيت حفصة ؟!

وما هو الأصل لمصحف أُبيّ ومصحف ابن مسعود اللذين عقد السيوطي باباً لهما لبيان ترتيبهما(2).

نعم، ما هو الأصل للمصاحف الّتي أحرقها عثمان خدمة لتوحيد القراءة، حتّى عُدّ الإحراق من فضائله، يقول الزركشي: وأمّا تعلّق الروافض بأنّ عثمان أحرق المصاحف، فإنّه جهل منهم وعمى ، فإنّ هذا من فضائله وعلمه، فإنّه أصلح ولمّ الشعث، وكان ذلك واجباً عليه ولو تركه لعصى ، لما فيه من التضييع وحاشاه من ذلك.(3)

نحن لا نتكلّم عن الإحراق، هل كان فضيلة أو لا؟ ولكن نتكلّم حول جذور هذه المصاحف فكيف استنسخت وتكثرت مع انحصار الجمع بمصحف زيد بن ثابت وحبسه في بيت الخليفتين، أليس هذا يدلّ على وجود مصاحف في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ناقصة وكاملة حتّى صارت مبدأً لمصاحف

ص:319


1- . البرهان: 1/302.
2- . الإتقان: 1/181.
3- . البرهان: 1/302.

كثيرة ؟

وقد نسبوا إلى عليِّ عليه السلام أنّه قال: «أيّها الناس اللّه اللّه إيّاكم والغلو في أمر عثمان، وقولكم حرّق المصاحف، فواللّه ما حرّقها إلّاعن ملأ من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم».(1)

وهذا هو أبو بكر السجستاني يحدّثنا عن مصاحف مختلفة يذكرها بالنحو التالي:

1. مصحف عمر بن الخطاب.

2. مصحف علي بن أبي طالب.

3. مصحف أُبيّ بن كعب.

4. مصحف عبداللّه بن مسعود.

5. مصحف عبداللّه بن عباس.

ثم يذكر اختلافات هذه المصاحف في كثير من الآيات.(2)

فما هي جذور هذه المصاحف المكتوبة في عصر الخلافة ولم تستنسخ ممّا جمعه زيد بن ثابت ؟ دع عنك سائر المصاحف الّتي أحرقها الخليفة الثالث، وأمر الناس أن يعتمدوا على المصاحف الّتي أرسلها إلى البلدان المختلفة.

كلّ ذلك يعرب عن وجود مصحف أو مصاحف في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم استنسخت منها هذه المصاحف.

ص:320


1- . تاريخ القرآن للزنجاني: 46. وانظر: تاريخ ابن الأثير: 3/112.
2- . كتاب المصاحف: 60-88.
وأمّا الثالث: قضاء العقل الحصيف

إنّ القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى والبرهان الأعظم للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم على كونه حجة إلهية إلى يوم القيامة، وهو في كلّ عصر وجيل برهان واضح ودليل قاطع على صدق نبوته، وصلته باللّه سبحانه، فمثل هذا الأمر الّذي عليه يعتمد بقاء الشريعة إلى يوم القيامة يجب أن يقع موقع اهتمام النبي صلى الله عليه و آله و سلم حتّى يجمعه في مصحف أو مصاحف ويبقى بعده بين الأُمة تستضيء به وينقل مرامه وشريعته إلى سائر الأجيال.

إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم هو أحكم الحكماء، أفيصح أن يجاهد قائد ويعاني من شتّى المشاكل ويواجه المصاعب في بقاء شريعته وديمومتها عبر الأجيال، ثم يترك عماد شريعته وبرهان نبوته مبعثراً بين العُسب واللخاف وصدور الرجال، وتقرّ عينه بذلك ويرضى به، حتّى تعرج روحه للقاء اللّه ؟ إنّ هذا لَعمر النبي يُعدّ استهانة بالمعجزة الكبرى!!

يقول السيد عبدالحسين شرف الدين: ومَن عرف النبي في حكمته البالغة ونبوته الخاتمة ونصحه للّه ولكتابه ولعباده، وعرف مبلغ نظره في العواقب، واحتياطه على أُمّته في مستقبلها، أنّ من المحال عليه أن يترك القرآن منثوراً مبثوثاً، وحاشا هِمَمه وعزائمه وحكمته المعجزة عن ذلك.(1)

***

وبما ذكرنا من أنّ جمع القرآن قد تمّ في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ظهر أنّ الشيعة

ص:321


1- . أجوبة مسائل موسى جار اللّه: 31.

ليسوا أمام مفترق خطير، وغير ملزمين بالاعتراف بأحد الخيارين اللّذين حدّدهما، بعقله المحدود المقلِّد، عبد الملك الشافعي، بل لهم خيار آخر، بل هو الخيار الوحيد الذي يسنده الكتاب والسنّة وينسجم مع حكمة الرسول وحرصهِ على رسالته وأُمّته، وهو أنّ المصحف الموجود هو المصحف الّذي جُمع في عهد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وتوارثه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ثم انتقل منهم إلى سائر الأجيال، وأنّه ليس هناك أي فضيلة لأحد، من غير فرق بين من أمر بالجمع أو ائتمر به، فقد كانت الأُمّة في غنى عن هذا الآمر ومن امتثل.

النتائج السلبية لرواية جمع القرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم

لو افترضنا أنّ القرآن الموجود هو الّذي جمعه زيد بن ثابت من هنا وهناك، وأنّه كتب كل آية بشهادة شاهدين، وكتب آية أو آيتين بشهادة رجل واحد وهو خزيمة بن ثابت الأنصاري!! لو افترضنا ذلك لترتبت عليه النتائج الفاسدة التالية:

1. عدم تواتر القرآن الكريم (أو قسم منه) حيث إنّ قسماً منه ثبت بشهادة رجلين أو رجل واحد، وهذا يخالف ما أجمع عليه المسلمون من أنّ طريق إثبات القرآن هو التواتر.

2. احتمال فوات شيء من القرآن الكريم، فإنّه إذا كان القرآن متفرّقاً بين الناس، وأقدم إنسان على جمعه ربّما يفوت منه بعضه لعدم قدرته على الاتّصال بكل من كان عنده شيء من القرآن، مع تفرّق القرّاء بين المدن والبوادي، واستشهاد قسم منهم في المغازي في قتال أهل اليمامة.

ص:322

فرية بعد مرية

ذكر المؤلّف في الفصل الثاني فرية أُخرى وحاصلها: أنّ اعتقاد الشيعة بأنّ القرآن الموجود من جمع الخلفاء يورث التشكيك به والنفرة عنه،... الخ.

أقول: إنّ الشيعة في منأى عن التشكيك بالقرآن - والعياذ باللّه - والنفرة عنه؛ لأنّهم يعتقدون بأنّ القرآن الموجود بين أيديهم حالياً هو القرآن المجموع في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم دون أن يكون لأحد فضيلة في جمعه.

فالأساس باطل وما بُني ورُتِّب عليه أبطل، وهذا ما بسط المؤلّف الكلام فيه وإليك مناقشته.

***

مناقشة الفصل الثاني
اشارة

تعرّض الكاتب في هذا الفصل إلى إعادة ذكر الفرية بوجود الشك والنفرة من هذا القرآن في نفوس الشيعة؛ وذلك لأنّهم يعتقدون أنّ جمع الخلفاء لهذا القرآن قد حصل بعد مجيء عليٍّ لهم بالقرآن الّذي أوصاه رسول اللّه بجمعه، والّذي رفضوه بعدما اطّلعوا على ما فيه وقالوا: لا حاجة لنا في قرآنك سنجمع لنا قرآناً غيره.

ثم قال: إنّ القرآن الّذي جمعه عليٌّ ورفضه الخلفاء يحتوي على زيادات تفسيرية لمعاني القرآن وأسباب نزولها والّتي بيّنها له النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ويقول أيضاً: إنّ القرآن الّذي جمعه الخلفاء يخالف القرآن الّذي جمعه الإمام المعصوم في ترتيب آياته وسوره.

ص:323

ثم استدلّ على ما ذكره من الجمل بكلمات علماء الشيعة، لكن بكلام لاذع وساخر، كما مرّ.

أقول: قبل أن نبدأ في مناقشة كلام المؤلّف، نطرح سؤالاً ونطلب جوابه منه، وهو:

إنّ عليّاً كان وليد بيت النبوة ملازماً للنبي مذ بعث في غار حراء إلى أن ارتحل صلى الله عليه و آله و سلم إلى جوار ربه، وكان يلازمه كملازمة الظل لذي الظل، ويكتب الوحي النازل من أوّل يومه إلى آخر ما نزل عليه، وقد علم حتّى الأبكم والأصم أن عليّاً أوّل من آمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأعلم الأُمّة وأقواهم، إلى غير ذلك من صفات جعلته في ذروة السنام...

وعلى ضوء ذلك نسأل الكاتب: لماذا لم يشرك الخلفاء عليّاً في جمع القرآن، لا في الجمع المنسوب إلى أبي بكر، ولا في الجمع الّذي قام به عثمان لتوحيد القراءات ؟!

باللّه عليك هل كان علي عليه السلام أقل علماً بالقرآن من زيد بن ثابت، فلماذا رجعوا إلى صدور الناس من هنا وهناك وجمعوا القرآن من أفواه الرجال ولم يرجعوا إلى أعلم الأُمّة وأعرفها؟

هل يمكن أن تكون هناك دعوة من الخلفاء ولم يُجب إليها علي عليه السلام ؟ كلا واللّه، فإنّ علياً كان يرشد الخلفاء ويعلّمهم في معضلات المسائل، وعويصات المشاكل، مع يقينه بأنّه الأولى والأليق بإدارة الحكم، وأنّه الإمام المنصوب، ومع ذلك كلّه لم يترك مساندة الأُمّة بما أُوتي من علم وحكمة.

ص:324

إن من هوان الدنيا على اللّه أن يشتغل علي عليه السلام بغرس النخل والحراثة وسقي البساتين، ويكلَّف شاب كان عمره عند هجرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أحد عشر عاماً، بمهمة جمع القرآن الكريم!! كلّ ذلك يدلّ على أنّ وراء هذا المخطط هدفاً ما؟

لا أظن أنّه يتيسّر للكاتب الجواب عن هذا السؤال، ونحن أيضاً نترك السؤال بلا جواب، وندخل في صلب الموضوع.

واقع مصحف عليّ عليه السلام

قد تضافرت الروايات على أنّه كان لعلي مصحف خاصٌّ به، وليس هذا أمراً بديعاً، فقد كان لكلٍّ من ابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، مصحف خاصٌّ به، وقد ذكر السيوطي في «الإتقان» ترتيب مصحفَي أُبيّ وابن مسعود، وكانا يختلفان في ترتيب السور عمّا هو الموجود في المصحف الرائج، حتّى أنّ مصحف ابن مسعود كان خالياً من الحمد والمعوذتين.(1)

وعلى هذا فالقول بأنّ للإمام عليّاً مصحفاً يختلف ترتيب السور فيه عمّا هو الرائج، ليس أمراً فريداً، وقد اتّفقت كلمات المحقّقين على أنّ ترتيب السور لم يكن توقيفياً، ولذلك نرى اختلاف المصاحف الثلاثة في ترتيب السور مع الرائج.

نعم كان ترتيب الآيات في كلّ سورة توقيفياً(2)، صادراً عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم حيث كان يأمر بوضع آيات في سورة كذا ومحلّ كذا. ولو قلنا بجمع القرآن بعد

ص:325


1- . الإتقان: 1/181-183.
2- . لاحظ الإتقان: 1/176.

حياة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، يكون زيد قد جمع آيات كلّ سورة في محلّها، وإن لم يكن هناك ترتيب في جمع السور.

قال السيوطي: وممّا استدلّ به لذلك [ترتيب السور ليس توقيفياً] اختلاف مصاحف السلف في الترتيب، فمنهم من رتّبها على النزول، وهو مصحف عليّ ، كان أوّله: إقرأ، ثم المدثر، ثم المزمل، ثم تبّت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكّي والمدنيّ ، وكان أوّل مصحف ابن مسعود: البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، على اختلاف شديد، وكذا مصحف أُبيّ وغيره.(1)

فإذا كان القول بوجود مصحف لعلي يختلف في الترتيب مع المصحف الموجود، يزرع في نفوس من يعتقده الشكّ والنفرة من هذا القرآن، فليكن القول بوجود مصحف لابن مسعود ومصحف لأُبيّ بن كعب اللّذين يختلفان ترتيباً مع المصحف الموجود، زارعاً في نفوس المعتقد الشكّ والنفرة من هذا القرآن!!

ولا أدري لماذا باؤك تجر وباؤنا لا تجر!!

إنّ القول بوجود مصحف لعليّ أمر اتّفق عليه أغلب من كتب وألّف في علوم القرآن والتفسير، وقد مرّ عليك كلام السيوطي، وأمّا غيره، من غير الشيعة فمنهم:

1. الجاحظ (المتوفّى 255 ه) وقد أشار إليه في كتابه «العثمانية»(2).

2. قال ابن إسحاق النديم: ترتيب سور القرآن في مصحف أمير المؤمنين

ص:326


1- . الإتقان: 1/176.
2- . لاحظ: العثمانية: 93، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، طبعة دار الكتاب العربي - مصر.

علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه... ثم قال: قال ابن المنادي: حدثني الحسن بن العباس، قال: أُخبرت عن عبدالرحمن بن أبي حمّاد عن الحكم بن ظهير السدوسي عن عبد خير عن علي عليه السلام أنّه رأى من الناس طَيْرَةً عند وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم فأقسم أنّه لا يضع عن ظهره رداءه حتّى يجمع القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيام حتّى جمع القرآن، فهو أوّل مصحف جمع فيه القرآن من قلبه، وكان المصحف عند أهل جعفر. ورأيت أنا في زماننا عند أبي يعلى حمزة الحسني رحمه الله مصحفاً قد سقط منه أوراق بخط عليّ بن أبي طالب يتوارثه بنو حسن على مرّ الزمان، وهذا ترتيب السور من ذلك المصحف.(1)

3. قال الحاكم الحسكاني (وهو من أعلام القرن الخامس) في (فصل خاص): إنّ علياً رأى من الناس طيرة عند وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأقسم أن لا يضع على ظهره رداءً حتّى يجمع القرآن، فجلس في بيته حتّى جمع القرآن، فهو أوّل مصحف جُمع فيه القرآن، جمعه من قلبه وكان عند آل جعفر.

ونقل عن ابن سيرين أنّه قال: نبّئت أنّه كتب المنسوخ وكتب الناسخ في أثره(2).

4. روى ابن عساكر (المتوفّى 571 ه) بسنده عن محمد بن سيرين: أنّ عليّاً قال:... آليتُ بيمين أن لا ارتدي بردائي إلّاإلى الصلاة حتّى أجمع القرآن، قال: فزعموا أنّه كتبه على تنزيله. قال محمد: فلو أصبت ذلك الكتاب كان فيه

ص:327


1- . الفهرست لابن النديم: 30، المقالة الأُولى: الفن الثالث.
2- . شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: 1/36-38.

علم.(1)

5. قال الإمام أبو القاسم محمد بن أحمد بن جُزيّ الكلبي (المتوفّى 741 ه): وكان القرآن على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم متفرّقاً في الصحف وفي صدور الرجال، فلمّا توفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قعد علي بن أبي طالب في بيته فجمعه على ترتيب نزوله، ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير.(2)

6. ذكر المتقيّ الهندي (المتوفّى 975 ه) رواية عن محمد بن سيرين، قال فيها: لما توفّي النبي صلى الله عليه و آله و سلم أقسم عليّ أن لا يرتدي برداء إلّابجمعة حتّى يجمع القرآن في مصحف ففعل.(3)

هذا بعض ما عثرنا عليه ممّن ذكر وجود مصحف لعلي يمتاز عن المصحف الموجود.

فالشيعة، إذن، لم تتفرّد بهذا الاعتقاد، ولم يدّعوا ذلك من عند انفسهم، وإنّما هو أمر واقع لا ينكره إلّامن لم يكن له إلمام بالتاريخ.

ولا أدري لماذا صارت العقيدة بوجود هذا المصحف سبباً لزرع الشكّ في نفوس الشيعة دون نفوس غيرهم، أو سبباً للنفرة من هذا القرآن عندهم دون غيرهم ؟!

وحقيقة الأمر أنّه لو وجد هذا المصحف بين أيدي المسلمين لانتفعوا به كما مرّ نقله عن الكلبي وغيره، غير أنّ التعصب حال بين المسلمين وبين

ص:328


1- . تاريخ مدينة دمشق: 42/398-399.
2- . التسهيل لعلوم التنزيل: 1/6-7، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.
3- . لاحظ كنز العمال: 13/127.

مصحفه عليه السلام.

وأمّا كيفية مصحف علي عليه السلام فالأمر المقطوع به أنّه يختلف ترتيب السور فيه؛ لأنّه جمعه على ترتيب النزول، إنّما الكلام في الاختلاف في ترتيب آيات السور، فهذا أمر غير مقطوع، وإن ذكر بعضهم - كما قرأت - أنّه ذكر الناسخ بعد المنسوخ، ولو تمّ لكان الاختلاف بسيطاً لقلّة وجود النَّسخ في القرآن الكريم كما حُقِّق في محلّه.

وقد ذَكرَ ترتيب السور في مصحف علي عليه السلام السيوطي في إتقانه، وقبله اليعقوبي في تاريخه. قال: روى بعضهم أنّ علي بن أبي طالب عليه السلام كان جمعه (القرآن) لمّا قُبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأتى وحمله على جمل، فقال: هذا القرآن جمعته، وكان قد جزأه سبعة أجزاء، ثم ذكر كلّ جزء، والسور الواردة فيه.

والإمعان في ما ذكر اليعقوبي يظهر أنّ مصحف علي لا يخالف المصحف الموجود في سوره وآياته، وإنّما يختلف في ترتيب السور.

وممّا يدل على أنّ الفرق بين مصحفه وسائر المصاحف كان منحصراً في كيفية ترتيب السور، ما رواه الشيخ المفيد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «إذا قام قائم آل محمد، ضرب فساطيط لمن يُعلّم الناس القرآن على ما أنزل اللّه جلّ جلاله، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم لأنّه يخالف فيه التأليف»(1).

وعلى كلّ تقدير فالاختلاف إمّا في ترتيب السور فقط كما هو الأظهر، وإمّا في ترتيب آيات بعض السور، بتقديم المنسوخ على الناسخ.

ص:329


1- . الإرشاد للشيخ المفيد: 365.

ومن المعلوم أنّ هذا الاعتقاد لا يورث أي شكّ وترديد في قداسة القرآن الموجود، ويشهد لذلك، الواقع الملموس من علماء الشيعة ومفسّريهم ومتكلّميهم وعباقرتهم، فكلّهم يجلّون القرآن الموجود، ويستشهدون بهداه، ولا يجدون في أنفسهم أي نفرة منه.

نعم غاية ما في الباب أنّ الإمام علي عليه السلام فسّر في هامش هذا المصحف، مجمله ومتشابهه، وما يمكن أن يفيد الأُمّة، وليس هذا أمراً بديعاً.

والحقيقة أنّ قصّة الكاتب (عبدالملك الشافعي) مع الشيعة في دعواه بأنّ الشيعة يشكّون في قداسة القرآن الموجود، وهم ينفون عنهم ذلك بشكل قاطع وجازم، كيف ينسب الشكّ إلى الشيعة وهم اعرف بحالهم من غيره، إنّ ذلك من العجب، وإنّ قصته معهم تشبه قصة ذينك الصاحبين اللّذين التقيا بعد فراق طويل.

- مرحباً بك يا صاحبي، أنا (فلان)، لقد اشتقتُ إليك.

- أأنت (فلان)؟ كلا، إنّ (فلاناً) قد مات، وشُيّعت جنازته، ووُري جثمانه في التراب منذ زمن.

- ها أنذا أمامك، تسمع صوتي بأُذنيك، وتُبصرني بعينيك، وأنا حيٌّ ، معافى ، والحمد للّه.

- لا أُصدّقك أبداً.. لقد أخبرني من أثق به أن الموت قد طواك، ولم تعد من الأحياء. ثم أدار وجهه عنه، ومشى في طريقه مسرعاً!!

بقي (فلان) فاغر الفم، لا يدري ما يقول لمن لم يوهب قلباً عقولاً!!

ص:330

***

ص:331

مناقشة الفصل الثالث
اشارة

يقول المؤلف: إنّ ما تبنّاه علماء الشيعة (في مجال القرآن) قد آتت أُكلها ضعفين بصرف الشيعة عن كتاب اللّه تعالى، وإضعاف هيبته وتعظيمه في قلوبهم، ثم ذكر مظاهر لتلك العقيدة، وقال:

المظهر الأوّل:

رفضهم تكفير القائل بتحريف القرآن، حيث إنّهم لم يكفّروا بعض القائلين بالتحريف من علماء الشيعة. ثم عدّ منهم المجلسي في «مرآة العقول»، والشيخ النوري في «فصل الخطاب».

ثم أفاض الكلام في أنّهم بدل أن يكفرّونهما يمدحونهما.

أقول: أوّلاً:

إنّ للتكفير ملاكاً خاصّاً محدّداً بين فقهاء الإسلام ولم يفوض تكفير مسلم لأحد، حتّى يحكم بإيمان شخص وكفر آخر، وإلّا فيكون من مصاديق قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أيّما امرئ قال لأخيه ياكافر، فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال، وإلّا رجعت عليه»، فلأجل ذلك نقوم بتحرير ما عليه فقهاء المسلمين في ملاك التكفير.

يظهر ممّا رواه البخاري أنّ من أجرى الشهادتين على لسانه فقد دخل في حظيرة الإسلام.

قال: روى ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «أُمرت أن أقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمداً رسول اللّه، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا

ص:332

بحق الإسلام وحسابهم على اللّه»(1).

ولمّا كان الإيمان بالتوحيد مقروناً برسالة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كان الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً وشعارهم: (لا إله إلّااللّه، محمد رسول اللّه).

نعم الإيمان بالمعاد ويوم الجزاء من أركان الإيمان.

إذ لا يتحقّق للدين - بالمعنى الوسيع - مفهوم ما لم يوجد فيه عنصر العقيدة بيوم المعاد، ولا تكتسب العقيدة سمة الدين إلّابه، ولأجل ذلك قُرن الإيمان به بالإيمان باللّه في غير واحدة من الآيات، قال سبحانه: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ) (2).

وقوله تعالى: (مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ) (3)، فإذا آمن إنسانٌ بالأُصول الثلاثة من صميم القلب واعترف بها فهو مؤمن.

نعم لو آمن بها ولكن أنكر ما هو من ضروريات الإسلام الّتي يعترف بها كلّ المسلمين في عامّة البلاد الإسلامية بحيث يكون إنكاره ملازماً لإنكار الرسالة، كما إذا أنكر وجوب الصلاة والزكاة، يُعدّ كافراً خارجاً عن حظيرة الإسلام.

وأمّا العمل بالأحكام كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم شهر رمضان فهو من شرائط النجاة في الآخرة، فلو تساهل وتسامح فيكون فاسقاً مستحقّاً للنار، ولا يوصف بالكفر ما لم ينكر إحدى الضروريات.

ص:333


1- . صحيح البخاري: 1/11، كتاب الإيمان باب 17، رقم 25.
2- . النساء: 59.
3- . البقرة: 232.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ صيانة القرآن من التحريف وإن كان أمراً قطعياً لا يداخله الشك والترديد إلّالمن أغمض عينيه عن الأدلّة القاطعة الدالّة عليه، ولكنّها ليست على حدّ وجوب الصلاة ووجوب الزكاة على نحو لولم يعترف بها لخرج عن ربقة الإسلام، وإلّا لزم تكفير جمع كثير ممّن سُجلت أسماؤهم في التاريخ من الذين قالوا بالتحريف، وهم من أبناء الطبقة الأُولى!! وإن كنت في شكّ ممّا أقول فاستمع إلى ما سنذكره تالياً، فإنّ أُم المؤمنين عائشة والخليفة الثاني وأُبيّ بن كعب من القائلين بالتحريف، وإليك ما يدلّ على ذلك:

عائشة وتحريف القرآن

1. روى مالك في «الموطأ» باسناده عن عمرة بنت عبدالرحمن، عن عائشة قالت: كان فيما أُنزل من القرآن: «عشر رضعات معلومات يُحرِّمن» ثم نُسخن ب «خمس معلومات» فتوفّي رسول اللّه، وهنّ فيما يُقرأ من القرآن.(1)

أفيصح لقائل أن يعترض على المؤلّف وغيره ويقول: لماذا لا تكفّرون أُم المؤمنين مع قولها بذلك. وقد روى مسلم كلام عائشة هذا في صحيحه عن طريق مالك وعن طريق يحيى بن سعيد، ولكن مالكاً قال - بعد نقل الحديث -:

وليس على هذا العمل.

وقال الزيعلي - تعليقاً على رواية مسلم -: لا حجّة في هذا الحديث؛ لأنّ عائشة أحالتها على أنّه قرآن. وقالت: ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلّما

ص:334


1- . تنوير الحوالك: 2/118، آخر كتاب الرضاع.

مات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتشاغلنا بموته دخل داجن البيت فأكلها!(1)

عمر بن الخطاب والقول بنقص القرآن

ذكر البخاري وغيره أنّ عمر بن الخطاب كان يقول بسقوط آيات أربع من القرآن الكريم، وكان يصرّ على ذلك حتّى بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وإليك ما ذكروه:

1. آية الشيخ والشيخة

أخرج البخاري ومسلم بإسنادهما عن ابن عباس قال: خطب عمر خطبته بعد مرجعه من آخر حجّة حجّها، قال فيها: إنّ اللّه بعث محمداً صلى الله عليه و آله و سلم بالحقّ ، وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل اللّه آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فلذا رجم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها اللّه.

والرجم في كتاب اللّه حقّ على من زنى ، إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة أو كان الحبل أو الاعتراف(2).

وفي موطأ مالك: خطب عمر عند منصرفه من الحجّ وقال: إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرجم، يقول قائل: لا نجد حدّين في كتاب اللّه، فقد رجم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ورجمنا. والّذي نفسي بيده، لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب اللّه

ص:335


1- . صحيح مسلم: 4/167؛ ولاحظ ما أورد الزيعلي في هامش صحيح مسلم.
2- . صحيح البخاري: 8/208-211، باب رجم الحبلى ؛ صحيح مسلم: 4/167، وج 5/116.

تعالى لكتبتها: «الشيخ والشيخة - إذا زنيا - فارجموهما البتة» فإنّا قد قرأناها(1).

ومن الطريف أنّ عمر جاء بآية الرجم عند الجمع الأوّل على عهد أبي بكر، فلم تقبل منه، وطلب زيد بن ثابت منه شاهدين يشهدان بأنّها آية من كتاب اللّه، فلم يتمكن عمر من إقامتهما.(2)

ومع ذلك فقد بقيت كامنة في نفسه يبوح بها بين آونة وأُخرى، حتّى أعلن بها صريحاً في أواخر عمره.

2. آية الرغبة

وزعم أيضاً أنّ آية ثانية أُسقطت فيما أُسقط من القرآن، قال: ثُمَّ إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه: «أن لا ترغبوا عن آبائكم، فإنّه كفرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو إنّ كُفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم»(3).

وفي لفظ آخر: «إنّ انتفاءكم من آبائكم كفر بكم»(4).

3. آية الجهاد

وآية ثالثة زعمها محذوفة من القرآن، هي آية الجهاد. قال لابن عوف: ألم تجد فيما أنزل علينا: «أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة» فإنّا لا نجدها؟ قال:

ص:336


1- . تنوير الحوالك: 3/42؛ فتح الباري: 12/127؛ الموطأ: 2/824، كتاب الحدود، الحديث 10.
2- . راجع: الإتقان: 1/163 برقم 761، النوع الثامن عشر (في جمع القرآن وترتيبه).
3- . صحيح البخاري (كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة، باب 17، رقم 6830، دار الكتب العلمية، 1419 ه).
4- . الدر المنثور: 1/106.

أُسقطت فيما أُسقط من القرآن(1).

4. آية الفراش

وآية رابعة زعمها ساقطة، هي قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»(2).

فهذه آيات أربع زعم عمر بن الخطاب أنّها أُسقطت من القرآن، أفيمكن في منطق المؤلّف (عبدالملك الشافعي) تكفير أُم المؤمنين، وعمر بن الخطاب ؟!

وأمّا قولهم: إنّ هذه الآيات نسخت تلاوتها، فصارت منسوخة التلاوة، فهذا ما يكرره كثير ممّن يريد تبرير قول الخليفة، ولكنّها محاولة فاشلة، لأنّ ذلك تعبير آخر عن التحريف، وغطاء لهذا القول الساقط، إذ لسائل أن يسأل لماذا نسخت تلاوتها؟!

أفي نقص في لفظها؟ أو نقص في مضمونها؟

أمّا الأوّل فساقط جدّاً، لأنّ معناه أنّ قسماً من الوحي الإلهي كان ذا تعبير سطحي لا يناسب القرآن الكريم فلذلك حذف.

وأمّا الثاني فالمفروض أنّ الحكم باق حيث إنّ الرجم غير منسوخ باتّفاق الفقهاء.

أُبيّ بن كعب والقول بنقص سورة الأحزاب

ص:337


1- . الدر المنثور: 1/106.
2- . الدر المنثور: 1/106.

نسب إلى أُبيّ بن كعب أنّه كان يعتقد أنّ سورة الأحزاب كانت تضاهي سورة البقرة أو أطول منها.

روى أحمد بن حنبل باسناده عن زرّ بن حبيش قال: قال لي أُبيّ بن كعب:

كائن تقرأ سورة الأحزاب ؟ (أو كائن تعدّها) قال: قلت: ثلاثاً وسبعين آية. فقال:

قط لقد رأيتها وأنّها لتعادل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها(1): «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من اللّه واللّه عليم حكيم»(2).

وقد اكتفينا بهذا النزر اليسير، وإلّا فالقائلين بالتحريف، بين الصحابة والتابعين غير قليل، وقد نقل ذلك عنهم أصحاب الصحاح والمسانيد من غير ترديد، ولم يكفّروا قائليها كما لم يفسقوا ناقلها، كيف وقد ألّف أخيراً بعض المشايخ في مصر المحمية كتاباً في تحريف القرآن، أسماه «الفرقان» وطبع عام 1345 ه، نعم صادره الأزهر، ولم تكفّر مشيخة الأزهر مؤلّفه.

تبرير القول بالتحريف بالقول بنسخ التلاوة

ثم إنّ بعض من يريد الجمع بين القول بصيانة القرآن من التحريف وحفظ مكانة أصحاب هذه الروايات، يحاول أن يبرر تلك النقول بأنّها من قبيل نسخ التلاوة، بمعنى أنّها كانت جزءاً من القرآن الكريم ثم نسخت قراءتها وتلاوتها وحذفت من المصاحف، أو لم تُكتب من أوّل الأمر.

ونكرّر السؤال هنا مرّة أُخرى: لماذا نسخت ؟ أكان لنقص في المضمون -

ص:338


1- . أي ما يقرب من مائتين وثمانين آية، وهذا يعني أنّها أربعة أضعاف الموجود.
2- . مسند أحمد: 5/132؛ الإتقان للسيوطي: 3/72؛ تفسير القرطبي: 14/113.

والمفروض أنّه باق في الشريعة الإسلامية كرجم المحصن والمحصنة - أو كان لنقص في اللفظ - لا سامح اللّه - فإنّ القرآن معجز بلفظه ومعناه، متّحدٍ بفصاحته وبلاغته، وقد أدهشت فصاحة ألفاظه وجمال عبارته، وبلاغة معانيه وسموها، وروعة نظمه وتأليفه، وبداعة أسلوبه، عقول البلغاء.

ثمّ إنّ تلك الآيات المزعومة لا تداني، في عباراتها، آيات القرآن في الفصاحة والبلاغة، والروعة والجمال، وإن نسج بعضها مثل قوله: (الشيخ والشيخة) على منوال قوله سبحانه: (الزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ ) (1)، ولكن أين ذلك الكلام الذي بدا أنّه من كلام البشر، من كلام ربّ الأرباب!!

ثم إنّ هذا القول، هو نفس القول بالتحريف، ومَن اخترع هذا المصطلح فقد حاول أن يبرر هذا النوع.

ومن العجب أنّ القوم يجوّزون هذا النوع من النسخ الّذي هو عبارة عن نوع من التحريف، ثمّ يتّهمون الشيعة بالتحريف!!

المظهر الثاني: مدحهم وثناؤهم على القائل بتحريف القرآن

يقول المؤلّف في هذا المظهر: إنّ علماء الشيعة راحوا يثنون على القائل بالتحريف مكان أن يكفِّروه، ثم قال: لم يتوقّف الموقف المخزي من كتاب اللّه تعالى عند رفضهم الطعن بمن قال بتحريفه من علمائهم وعدم تكفيره، بل تعدّت الخزايا موقفهم ذاك بكثير حين راحوا يثنون عليهم ويطلقون بحقّهم

ص:339


1- . النور: 2.

أسمى عبارات المدح والثناء عند ورود ذكرهم.(1)

ثم راح يستشهد بكلمات عدّة من العلماء يصفون الشيخ المجلسي أو النوري بكلمات مدح وإطراء.

أقول: إنّ الإنصاف يقتضي أن ينظر الإنسان إلى أعمال الآخرين بعين العدل، لا بعين الرضى أو بعين السخط، وأن يزن الأعمال بميزان الحق.

والموقف الذي يُفترض أن يتخذه ممّن نجمت بين حسناته الكثيرة سيئة واحدة مثلاً، ينبغي أن تحدّده طبيعة تلك الأعمال، فيضع تلك في موضعها، وهذه في موضعها، حتّى لا يجور في الحكم، فيواجه بالنقد والاستنكار العمل السيّئ، ويكيل المدح والثناء للأعمال الحسنة. وما أشار إليه الكاتب بخصوص بعض علمائنا القائلين بالتحريف، هو من هذا القبيل، فلا يحلّ بخس حقوقهم في مجال الحسنات فيما لو صدر عنهم رأي خاطئ، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) (2).

وكأنّ القائل لم يقرأ قوله سبحانه: (وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ ) (3)، وقد مرّ أنّ مسألة عدم التحريف ليست من المسائل الضرورية وإنّما هي مسألة نظرية اجتهادية، فلو انتهى اجتهاد إنسان إلى وجود نقص في القرآن

ص:340


1- . الفصام النكد: 57.
2- . المائدة: 8.
3- . محمد: 2.

فغاية ما يمكن، تخطئة فكرته ونقد كلامه وإبطال عقيدته، وليس لنا تسمية عمله سيئة وإنّما هو اجتهاد منه وإن كان اجتهاداً خاطئاً، وإنّما استدللنا بالآية جدلاً، وإبطالاً لفكرة الكاتب.

ومن المؤسف جداً أنّ الكاتب غير مُلمٍّ بما قام به علماء الشيعة في نقد كتاب «فصل الخطاب» للمحدّث النوري، والمجال لا يسع أن نذكر جميع ما رُدّ به على كتابه ونكتفي بذكر بعض هذه الكتب:

1. كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب: للمحقّق الشيخ محمود بن أبي القاسم الشهير بالمعرّب الطهراني (المتوفّى 1313 ه) فرغ من الكتاب عام 1302 ه.

2. حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف: للعلّامة السيد محمد حسين الشهرستاني (المتوفّى 1315 ه).

3. آلاء الرحمن: للعلّامة الحجّة محمد جواد البلاغي (المتوفّى 1352 ه).

4. صيانة القرآن من التحريف: للعلّامة الشيخ محمد هادي معرفة (المتوفّى 1430 ه).

5. التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف: بقلم المحقّق السيد علي الميلاني (معاصر).

6. اكذوبة تحريف القرآن: للشيخ رسول جعفريان (معاصر).

إلى غير ذلك من الكتب والرسائل الّتي أُلفت بهذا الصدد، ولا بأس أن نشير هنا إلى كلمات بعض مَن وجّهوا نقداً واعتراضاً على هذه الفكرة:

1. الشيخ البلاغي، حيث وصف مساعي الشيخ النوري في كتابه «فصل

ص:341

الخطاب» بقوله: جَهِدَ في جمع الروايات وكثّر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل، مع أنّ المتتبع المحقّق يجزم بأنّ هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد.

وفي جملة ما أورده ما لا يتيسّر احتمال صدقه، ومنها ما يؤول إلى التنافي والتعارض، وإنّ قسماً وافراً منها ترجع إلى عدّة أنفار، وقد وصف علماء الرجال كلّاً منهم، إمّا بأنّه ضعيف الحديث، فاسد المذهب، مجفوّ الرواية، وإمّا بأنّه مضطرب الحديث والمذهب، يعرف حديثه وينكر، ويروي عن الضعفاء، وإمّا بأنّه كذّاب متّهم لا يستحل أن يُروى من تفسير حديث واحد، وربّما كان معروفاً بالوقف شديد العداوة للإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام، وإمّا بأنّه كان غالياً كذّاباً، وإمّا بأنّه ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعوّل عليه ومن الكذابين، وإمّا بأنّه فاسد الرواية يُرمى بالغلو.

ثم قال رحمه الله: ومن الواضح أنّ أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئاً.(1)

2. السيد الإمام روح اللّه الخميني قدس سره، يقول: إنّ الشيخ النوري شخص صالح متتبع إلّاأنّ اشتياقه بجمع الضعاف والغرائب والعجائب وما لا يقبله العقل السليم والرأي المستقيم أكثر من الكلام النافع.(2)

3. السيد هبة الدين الشهرستاني قال بحقّ الكتاب ومؤلّفه (حينما كان طالباً شاباً في حوزة سامراء): عندما طبع هذا الكتاب، لا ندخل مجلساً في الحوزة العلمية إلّاونسمع الضجّة والعجّة ضد الكتاب ومؤلّفه وناشره، يلقونه بألسنة حداد.(3)

ص:342


1- . مقدّمة تفسيره «آلاء الرحمن»: 1/26.
2- . أنوار الهداية: 1/245.
3- . البرهان: 144.

ونقتصر بما ذكرنا، ففيه غنىً وكفاية لمن أراد الحق.

وشهد شاهد من أهلها

قال الشيخ علي السالوس: ولكنّ المهم هو أنّ - المعتدلين - من إخواننا الجعفرية قد تصدّوا لهذه الحركة قديماً وحديثاً وكشفوا القناع عن هذا الباطل، وفنّدوا مزاعم القائلين بالتحريف، وبيّنوا أنّ ما ذكر من روايات منسوبة لأهل البيت عليهم السلام تمسّك بها القائلون بالتحريف، منها ما يحتمل التأويل ولا يفيد وقوع التحريف، وأشهر من تصدّى منهم لحركة التضليل في القديم، محمد بن بابويه القمّي الملقّب بالصدوق... والسيد الشريف المرتضى ، وتلميذه الشيخ الطوسي، وشيخ مفسّري الجعفرية أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسيّ ... هذا موقف المعتدلين في القديم، أمّا في الحديث فأكثر شيعة اليوم يتفقّون مع جمهور المسلمين في أنّ القرآن هو ما بين الدفتين بلا زيادة أو نقصان.(1)

***

المظهر الثالث: الإعراض عن دراسة القرآن في الحوزات الشيعية

يذكر المؤلّف في هذا (المظهر) بعض كلمات علماء الشيعة الكبار الذين يحثّون على دراسة القرآن دراسة معمّقة والتعرّض إلى شؤونه وأبعاده المختلفة.

وقد استنبط من ذلك أنّ الحوزات الشيعية كانت مُعرِضة عن القرآن الكريم، تلاوة وقراءة، وتفسيراً، وكلّ ما يتعرض إلى المجالات القرآنية.

ص:343


1- . لاحظ: بين الشيعة والسنة دراسة مقارنة في التفسير وأُصوله: 157-158.

ثم إنّه أخذ بعرض بعض كلمات علمائنا الّتي صدرت عنهم في موضع التواضع، والّتي قالوها لكي تؤثر في نفوس المخاطبين، وهو اسلوب فعّال في اقناع المستمعين، فليس من الانصاف الاستفادة من هذه الكلمات في الإهانة والتشفيّ ، ولذا لا نعطي أي أهمية لما قاله ويقوله أضرابه.

يلاحظ عليه: أنّ ما استنبطه من كلمات علمائنا هو استنباط خاطئ، حيث إنّ دُور القرآن الكريم تعج بآلاف القرّاء والحفّاظ صغاراً وكباراً وهم يشاركون في المسابقات الدولية لحفظ القرآن وقراءته، وقد نالوا المراتب العليا والجوائز النفيسة في الكثير منها. أضف إلى ذلك: أنّ في الجمهورية الإسلامية إذاعة للقرآن الكريم، وكذلك توجد قناة فضائية لبثّ القرآن وتفسيره، وبرامج حول علومه ومفاهيمه.

نعم لا شكّ أنّه قد كثرت الرغبة إلى تلاوة القرآن وحفظه بعد الثورة الإسلامية، وهذا من خصائص هذا النظام، فلكلّ نظام خصيصته، وقد كان النظام السابق في إيران نظاماً علمانياً معارضاً للإسلام ومعادياً له، ولذلك كان التوجّه في المدارس والجامعات غير لائق بشأن القرآن الكريم، وأمّا بعد الثورة فبحمد اللّه تغيّر الوضع وتطورت الأُمور وازداد الاهتمام بالقرآن وعلومه.

وهنا أمر نريد أن ننبه المؤلّف عليه، وهو أنّ عدم الاهتمام بالقرآن كان أمراً متفشياً في القرون السابقة حتّى القرن الثالث عشر في كلّ البلاد الإسلامية من غير فرق بين الشيعي والسنّي، وإنّما ظهرت الرغبة بعد الصحوة الإسلامية في أوائل القرن الرابع عشر، فبدأ المسلمون بتأليف التفاسير على غرار يوافق روح العصر وحاجاته.

ص:344

وهذا هو الشيخ محمد عبده (السنّي) ينعى على المسلمين عزوفهم عن القرآن، ويقول: إنّ القرآن نظيف، والإسلام نظيف، وإنّما لوّثه المسلمون بإعراضهم عن كلّ ما في القرآن، واشتغالهم بسفاسف الأُمور.

ويقول أيضاً: كنت أقرأ التفسير وكان يحضره بعض طلبة الأزهر [لاحظ ]، وبعض طلبة المدارس الأميرية، وكنت أذكر كثيراً من الفوائد الّتي تحتاج إليها حالة العصر، فما اهتمّ لها أحد فيما أعلم مع أنّها كان من حقّها أن تُكتب، وما علمت أحداً كتب شيئاً خلا تلميذين قبطيين [لاحظ] من مدرسة الحقوق.. وأما المسلمون فلا.

وقال تلميذه السيد محمد رشيد رضا (السنّي أيضاً): إنّنا نعتقد أنّ المسلمين ما ضعفوا وما زال ما كان لهم من الملك الواسع إلّابإعراضهم عن هداية القرآن.

ولم يكتفِ السيد محمد رشيد رضا بنقد عامّة المسلمين، بل وجّه سهام نقده للمفسّرين، وقال: كان من سوء حظ المسلمين أنّ أكثر ما كتب في التفسير يُشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية والهداية السامية... وأن أكثر ما روي في التفسير المأثور أو كثيره حجاب على القرآن وشاغل لقارئيه عن مقاصده العالية، المزكّية للأنفس، المنوّرة للعقول.(1)

والّذي يجب الاعتراف به هو أنّ المسلمين عادوا إلى القرآن واهتموا به في العصور الحاضرة، وتشهد لذلك المحطّات الإذاعية والقنوات الفضائية

ص:345


1- . انظر: مقدمة تفسير القرآن الكريم (الشهير بتفسير المنار).

والمدارس القرآنية وكثرة التفاسير المطبوعة في مختلف اختصاصاتها، وتصاعد عدد القرّاء والحفّاظ في كلّ بلد ومدينة، وناحية وقرية.

***

إلى هنا تمّ استعراض ما ذكره الكاتب في رسالته المسمّاة «الفصام النكد، دراسة لحقيقة الأزمة بين علماء الشيعة والقرآن» وقد عرفت أنّه ليس هناك أي أزمة بين علماء الشيعة والقرآن، ولو وجدت أزمة - كما يعتقد - فإنّما هي بين القرآن وبين من يقول بأنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ارتحل إلى الرفيق الأعلى وقد ترك القرآن مفرّقاً على العُسب واللّخاف والاكتاف، ولم يقم بجمعه.

ص:346

مناقشة الرسالة الثانية

اشارة

والآن نتعرض لمناقشة رسالته الثانية الّتي أسماها:

الروايات الشيعية النافية لتحريف القرآن - دراسة وتحليل.

فنقول: إنّ المؤلّف زعم أنّ الشيعة يستدلّون على صيانة القرآن الكريم بروايتين إحداهما ضعيفة سنداً، والأُخرى ضعيفة مضموناً لاحتمال أنّها صدرت تقية.

وقبل أن نذكر الروايتين وكلام الكاتب حولهما، نعيد ما ذكرناه في صدر رسالتنا هذه، وهو أنّ جمهور الشيعة يعتقدون بصيانة القرآن من التحريف ويستدلّون على ذلك بوجوه مختلفة، وهي:

1. الكتاب العزيز، الّذي ذكر أنّ اللّه سبحانه قد جعل مهمة حفظه وصيانته بيده عزوجل، وقال: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (1).

كما وعد سبحانه أنّ القرآن كتاب لا يدانيه الباطل، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (2).

ولا شك أنّ إسقاط آيات من القرآن أو حذف سور منه من أوضح مصاديق البطلان، مع أنّه سبحانه نفى تطرّق البطلان إليه.

ص:347


1- . الحجر: 9.
2- . فصلت: 41-42.

2. السنة النبوية الشريفة، وخطب الإمام علي عليه السلام وكلمات أهل البيت عليهم السلام الّتي وردت بصور مختلفة، وجمَعها المحدّثون في أبواب متنوعة تدلّ على أنّ القرآن الموجود بين الدفتين هو كلام اللّه الّذي يضمن سعادة البشر وهدايتهم إلى الحق المبين.

3. الاستدلال بما يحكم به العقل الحصيف من أنّه من الممتنع أن يتعرض إنسان للقرآن فيزيد أو ينقص فيه، وهو في صدور مئات الحفّاظ، أو في مصاحف الصحابة والتابعين، ويتلى في كلّ يوم في كلّ مسجد، إلى غير ذلك ممّا سبق تفصيله في رسالتنا هذه.

نعم ربّما يستدلّ البعض بروايات خاصّة، وهذا هو الّذي وقع في مطمع المؤلّف ومطمحه فأراد تضعيفه، وها نحن نذكر كلامه، مع ما يمكن من التعقيب عليه.

الرواية الأُولى
اشارة

روى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد أبي سعيد، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن قول اللّه عزوجل: (أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1)؟

فقال: «نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام».

فقلت له: إنّ الناس يقولون: فما له لم يسمِّ عليًّا وأهل بيته عليهم السلام في كتاب اللّه عزوجل ؟

ص:348


1- . النساء: 59.

قال: فقال: «قولوا لهم:

إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ اللّه لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتّى كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو الّذي فسّر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يُسَمّ لهم من كلّ أربعين درهماً درهم، حتّى كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو الّذي فسّر ذلك لهم، ونزل الحج فلم يقل لهم: طوفوا أُسبوعاً حتّى كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو الّذي فسّر ذلك لهم، ونزلت (أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) - ونزلت في علي والحسن والحسين - فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: في علي: «من كنت مولاه، فعلي مولاه...»(1).

ثم قال: ووجه الدلالة في هذه الرواية هو أنّ الإمام الصادق قد اعترف بصحّة كلام المعترض، أعني: عدم ذكر اسم علي وأهل بيته في القرآن الكريم، ومن ثم تكون الرواية دليلاً صحيحاً عن الأئمة، تثبت عدم ذكر اسم الإمام في القرآن لتطرح في مقابله جميع الروايات الّتي تقول إنّ اسم الإمام كان مذكوراً في القرآن ولكن تم إسقاطه وحذفه بالتحريف.(2)

مناقشة الكاتب للرواية:

ثم إنّ الكاتب ناقش في سند الرواية وقال: إنّ الرواية وردت بسندين هما:

1. علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى ، عن يونس وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد أبي سعيد، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان،

ص:349


1- . أُصول الكافي: 1/286-288، باب (ما نص اللّه عزوجل ورسوله على الأئمة عليهم السلام واحداً فواحداً)، الحديث 1.
2- . الروايات الشيعية النافية...: 7-8.

عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام...

2. محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد والحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن أيوب بن الحر وعمران بن علي الحلبي، عن أبي بصير، عن أبي عبداللّه عليه السلام....

وبالنسبة للسند الأوّل فالكثير يضعفه بسبب سهل بن زياد الّذي صرّح الخوئي بضعفه في عدة مواضع.(1)

يلاحظ عليه: أنّ من لا يعرف أبجدية علم الرجال عند الشيعة لا يحقّ له ولا يمكنه أن ينقض ويبرم في سند الرواية، وبالتالي يحكم على أحد السندين بالضعف وعلى الآخر بالصحة، مع أنّ كلا السندين صحيح - لو دقّق النظر فيهما - وذلك لأنّ الكاتب زعم أنّ السند الأوّل من البدء إلى الختام سند واحد، وهو أنّ علي بن إبراهيم يروي عن أبي بصير بسند واحد، ولكنّه غفل عن أنّ للكليني إلى يونس طريقين:

الطريق الأوّل: علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس.

الطريق الثاني: علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن يونس.

ثم ينتهي كلا الطريقين إلى يونس الّذي يروي عن ابن مسكان، عن أبي بصير.

فلو كان في الطريقين ضعف، فإنّما هو لأجل سهل بن زياد وهو في الطريق الثاني، وليس في الأوّل.

ص:350


1- . الروايات الشيعية النافية...: 9-10.

ويشهد على ذلك أنّ الكليني بعد ما نقل طريقه إلى يونس شرع في الطريق الثاني بحرف العطف فقال (وعلي بن محمد) ولم يقل (عن علي بن محمد) وهذا ما يسمّى في علم الدراية بالحيلولة في أثناء السند، وهو ممّا غفل عنه المؤلّف، أو ليس له به علم.

مناقشة الكاتب للمضمون

وهلم معي لننظر مناقشته للمضمون، فقد بنى كلامه على قاعدة لم يدلّ عليها دليل وقال: إنّ النقطة الجوهرية تكمن بمعرفة الجهة الّتي صدر منها الاعتراض، هل هم أتباعه الشيعة أو المخالفون لهم من سائر المسلمين ؟

فإن كان صادراً من الشيعة فيكون الاستدلال بالرواية تامّاً بتقرير المعصوم على عدم ذكر أسماء الأئمة في القرآن.

وأمّا إن كان صادراً من غير الشيعة ممّن يخالفهم من سائر المسلمين، فلا شكّ أنّ جوابه كان خارجاً مخرج التقية، والّذي يفرض عليه إخفاء معتقده في تحريف القرآن بأنّ اللّه تعالى قد ذكر أسماء الأئمة في القرآن ولكنّ الصحابة أسقطوها طمساً للحق وإخفاءً لحق الأئمة في الإمامة.

ومن ثم كان جوابه وفق عقيدة المعترض بخلو القرآن من أسماء الأئمة .(1)

وبعد ذلك استمات المؤلّف ليثبت أنّ المعترض كان من غير الشيعة، مع عدم الحاجة إلى شيء من ذلك!!

ص:351


1- . الروايات الشيعية النافية...: 11.

يلاحظ عليه بوجهين:

أوّلاً: أنّ الأصل العقلائي في كلّ متكلّم أنّه بصدد بيان ما يعتقده، فما لم يدلّ دليل قطعي على الخلاف يؤخذ بهذا الأصل، وعلى هذا تدور رحى المحاورة بين العقلاء، فكلّ يحمل كلام الآخر على أنّه يبيّن عقيدته ومعتقداته.

إنّ الإمام الصادق عليه السلام كان إماماً للمسلمين، إماماً في نقل الحديث والفقه والتفسير والأخلاق، وكان يجتمع تحت منبره مئات المسلمين بينهم من يوافق عقيدته في الإمامة ومن يخالفها، وكان الجميع يستضيئوون بضوء كلامه من دون أن يدور في خلد أحدهم بأنّ كلام الإمام مع المخالف كلام صوري غير نابع عن عقيدة راسخة.

وثانياً: أنّ للتقية مجالاً خاصّاً وهو الخوف على النفس والنفيس، فعند ذلك يجوز للمتكلّم أن يصون نفسه وعرضه وماله بإظهار الموافقة، كما سار عليه عمار بن ياسر حيث اتّقى ونزل في حقّه قوله سبحانه: (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (1).

وأمّا الإمام الصادق عليه السلام فلم يكن - في هذه المحادثة - عنده خوف لا على نفسه ولا على نفيسه، لأنّ القول بالتحريف تذهب إليه أُمّة من المخالفين حتّى قالوا بأنّه حُذف من سورة الأحزاب مائتا آية!!

وثالثاً: أنّ الإمام لم يكن، في جوابه، بصدد إقناع المعترض فقط، بل هو بصدد تفهيم بعض خواصّه - أعني: أبا بصير - حيث دخلت الشبهة في ذهنه أيضاً، فأجاب الإمام عليه السلام بجواب يُقنع به كلّاً منهما، وهو أنّ القرآن الكريم مع

ص:352


1- . النحل: 106.

علو مقامه وسمو مكانته لم يرد فيه كلّ الضروريات والواضحات بين المسلمين، وما ذلك إلّالأنّ الشريعة قائمة على أساسين:

1. الكتاب العزيز.

2. السنّة الشريفة.

قال سبحانه: (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (1).

وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وعترتي».(2)

وبذلك ظهر أنّ ما سوّد به المؤلّف كتابه بصحائف حتّى يثبت أنّ المعترض كان من السنّة أمر لا طائل فيه، ونحن ندري قبل الشواهد الّتي أقامها المؤلّف بأن المعترض هو من المخالفين، ولكن معرفة ذلك لا تضر أبداً بالمقصود؛ لأنّ الإمام لم يكن بصدد إفهام المعترض فقط، بل كان بصدد إقناع الناقل للاعتراض أيضاً.

الرواية الثانية
اشارة

روى الكليني عن: محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عمّه حمزة بن بزيع.

وروى أيضاً عن: والحسين بن محمد الأشعري، عن أحمد بن محمد بن عبداللّه، عن يزيد بن عبداللّه، عمّن حدثه، قال: كتب أبو جعفر عليه السلام إلى سعد الخير:

ص:353


1- . الحشر: 7.
2- . حديث متضافر، يغني عن ذكر السند له.

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد فإنّي أُوصيك بتقوى اللّه فإنّ فيها السلامة من التلف، والغنيمة في المنقلب، إنّ اللّه عزوجل يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله»... إلى أن قال عليه السلام: «وكلّ أُمّة قد رفع اللّه عنهم علم الكتاب حين نبذوه وولّاهم عدوهم حين تولوه، وكان من نبذهم الكتاب، أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده، فهم يرونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية...

الخ».

مناقشة المؤلّف للسند

إنّ السند الأوّل ضعيف بسبب حمزة بن بزيع، لأنّ حمزة بن بزيع لم يدرك أبا جعفر سواء أُريد به الإمام الباقر أو الجواد.

وأمّا السند الثاني فهو أيضاً ضعيف لوجود قوله: عمّن حدّثه.

أقول: قبل أن نذكر حال سند الرواية نذكر شيئاً وهو التعرّف على سعد الخير.

ففي «الاختصاص» للمفيد قال: دخل سعد (وكان أبو جعفر عليه السلام يسمّيه سعد الخير، وهو من ولد عبدالعزيز بن مروان) على أبي جعفر عليه السلام فبينا ينشج كما تنشج النساء، قال: فقال له أبو جعفر عليه السلام: «ما يبكيك يا سعد؟» قال: وكيف لا أبكي وأنا من الشجرة الملعونة في القرآن، فقال: «لست منهم، أنت أموي منّا

ص:354

أهل البيت، أما سمعت قول اللّه عزّوجل يحكي عن إبراهيم: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) »(1).(2)

فظاهر قوله: هو من ولد عبدالعزيز بن مروان، أنّه ولده المباشر، فيكون معاصراً للإمام الباقر عليه السلام، لأنّ عمر بن عبدالعزيز توفّي عام 101 ه، فيكون سعد معاصراً للإمام الباقر عليه السلام الّذي توفّي عام 114 ه، ويحتمل أن يكون هو من أحفاده.

فعلى الأوّل يكون المراد من أبي جعفر عليه السلام هو الإمام الباقر، وعلى الثاني يحتمل أن يكون المراد من أبي جعفر هو أبو جعفر الثاني أي الإمام الجواد عليه السلام المتوفّى عام 225 ه.

ويؤيّده أنّ صياغة الحديث تشبه أن تكون من مكاتيب الإمام الجواد عليه السلام، لكن الّذي يبعده أنّ حمزة بن بزيع مات في أيام الرضا عليه السلام ولم يدرك إمامة الجواد عليه السلام.

وأمّا حمزة بن بزيع فقد اختلفت كلمات أصحابنا في حقّه، فقد قال العلّامة: من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم كثير العمل، وروى الكشي بسنده عن الحسن بن صالح الخثعمي أنّه ذُكر بين يدي أبي الحسن الرضا عليه السلام حمزة بن بزيع فترحّم عليه.(3)

وأقصى ما في الرواية أنّها مرسلة، إذ لو كان المراد بأبي جعفر هو الإمام

ص:355


1- . إبراهيم: 36.
2- . الاختصاص: 85.
3- . لاحظ قاموس الرجال: 9/111.

الباقر عليه السلام فحمزة بن بزيع في طبقة متأخّرة، ولو كان هو الإمام الجواد فهو في طبقة متقدّمة عليه، ومع ذلك يمكن تأييد الحديث بالوجه التالي:

1. أنّ للحديث سنداً آخر وهو أيضاً مرسل إذ في آخره «عمّن حدّثه»، فكلّ من السندين يعاضد الآخر.

2. أنّ المكاتبة أشبه بكلام الأئمة، فمن أنس بكلامهم وخطبهم ومكاتيبهم يعرف الدخيل من الأصيل، والموضوع من الصحيح، فكلّ ما في هذه المكاتبة يشبه سائر كلماتهم.

3. أنّ السيد الخوئي قدس سره لم يستدلّ بهذا الحديث على عدم التحريف، وإنّما استدلّ به على معنى التحريف وأنّه ربّما يطلق على نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غيره، ثم قال: ولا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب اللّه، فإنّ كلّ من فسّر القرآن بغير حقيقته وحمله على غير معناه فقد حرّفه، وترى كثيراً من أهل البدع والمذاهب الفاسدة قد حرّفوا القرآن بتأويلهم آياته على آرائهم وأهوائهم.

ثم استشهد قدس سره بهذا الحديث أي بالفقرة التالية:

«حرّفوا حدوده» لا بالفقرة الأُولى الّتي هي محط كلام الكاتب.

نعم هناك مَن استدلّ بالفقرة الأُولى من الحديث، أعني: «أقاموا حروفه» اعتماداً على بعض الوجوه الّذي ذكرناها.

ثم إنّ للمؤلّف مناقشة حول مضمون الحديث خارجة عن موضوع البحث تركنا التعرّض لها.

ص:356

الآن حصص الحق

قد ظهر من هذا البحث أيضاً أنّ للقرآن مكانة سامية في نفوس المؤمنين، وأنّهم خدموا المعجزة الكبرى لنبيهم صلى الله عليه و آله و سلم من بعده، بتأسيس أنواع العلوم على وجه لم يُرَ مثله بين سائر الأُمم.

وأنّ أكابر علماء الفريقين قد أصفقوا على سلامة القرآن عن التحريف، وأنّ القائلين به عدّة من المحدّثين الذين اغترّوا بكثرة الأحاديث وروايتها دون درايتها.

كما أنّ القرآن المجيد قد حفظ من التحريف؛ لأنّه جُمع في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، بترتيب آيات كلّ سورة في مكانها.

والاعتقاد بهذا الأصل يجعل للقرآن في النفوس منزلة راقية، على خلاف ما رواه بعض المحدّثين من أنّ القرآن لم يجمع في عهد الرسالة، بل جمعه زيد بن ثابت، من العُسب واللخاف والأكتاف وصدور الرجال.

وأمّا مصحف علي عليه السلام فلا يختلف مع القرآن الموجود إلّافي ترتيب السور، وهو ليس أمراً بديعاً، إذ أنّ الاعتقاد بذلك لا يسبب نفرة ولا شكّاً في القرآن الموجود.

إنّ اتهام كلّ طائفة للأُخرى بالقول بالتحريف لا يعود بالنفع إلّا إلى الأعداء، دون المسلمين من الشيعة والسنّة، ولذلك فالواجب على علماء المسلمين وكتّابهم التركيز على تنزيه كلّ طائفة عن القول بالتحريف.

ص:357

ونحن نسأل الكاتب وأمثاله عن الهدف الذي يبتغونه من وراء تأليف أمثال هذه الرسائل والكتب، هل هي تصبّ في خدمة الإسلام والمسلمين كما يدّعون، أم تصبّ في خدمة أعداء الإسلام وخاصّة المبشّرين من النصارى واليهود الذين يقفون بالمرصاد للصق التهم الباطلة بالدين الإسلامي وكتابه المجيد.

نحن ندعو أصحاب هذه الأقلام بصرف أعمارهم الثمينة فيما ينفع الإسلام والمسلمين ليدفعوا بذلك السهام المرشوقة من جانب الأعداء، كما نوصيهم بأن لا يمسكوا بالقلم إلّابعد التجرّد عن العقيدة المسبّقة في حقّ كلّ طائفة من الطوائف الإسلامية ثم يرجعوا إلى مصادرها الأصلية ويأخذوا بالقول المشهور عندهم ويطرحوا القول الشاذ، وليكن قضاؤهم قضاءً عادلاً مرضياً عند اللّه تعالى، فإنّ الكلّ مسؤولون أمام اللّه وأمام رسوله صلى الله عليه و آله و سلم، والأُمّة الإسلامية جمعاء.

وفي الختام أدعو اللّه سبحانه أن يؤلّف بين أهل الإسلام ويجعل كلمتهم هي العليا، ليعيشوا أُخوة متحابّين متمثّلين قول شاعر الأهرام محمد عبدالغني حسن:

إنّا لتجمعنا العقيدة أُمّة ويضمّنا دين الهُدى أتباعا

ويؤلّف الإسلام بين قلوبنا مهما ذهبنا في الهوى أشياعا

والحمد للّه رب العالمين

ص:358

جعفر السبحاني

قم / مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

4 / ربيع الثاني/ 1433 ه

ص:359

7 الإعجاز البياني للقرآن الكريم

اشارة

إنّ إعجاز القرآن في عصر الرسالة، كان يتمثّل في فصاحة ألفاظه، وبلاغة معانيه، وروعة نظمه، وبداعة أُسلوبه الخاص، فَعَرَبُ عَصْر الرسالة وبُلَغاؤهم وحذّاقُهم في الخطابة والشعر، لمسوا أنّ القرآن في ظل عُذوبة ألفاظه وسحر معانيه وجمال تأليفه ونظمه، وبداعة سبكه، لا يُشبه الشعر ولا النثر، وأنّه كتاب جاء في قالب، لم يسبق له نظير فله جذابية خاصة، وهيبة رائعة تهتزّ بها النفوس تارة، وتقشعرّ منها الجلود أُخرى. فأحسّوا بضعف الفطرة عن معارضته، ولمسوا أنّه جنس من الكلام غير ما هم فيه، ووجدوا منه ما يغمر القوة، ويخاذل النفس، مصادمةً ، لا حيلةً ولا خدعة، مع أنّه مؤلّف من نفس الحروف الّتي هي المادة الأُولى لكلماتهم وكلمهم.

إنّ المحقّقين في علوم القرآن، ومبيّني وجوه إعجازه، وإن ذكروا وجوهاً كثيرة لكون هذا الكتاب معجزاً، غير أنّ جهة إعجازه في عصر الرسالة كان متمركزاً في جانبه البياني الّذي يتمثّل في لفظه الجميل، ومعناه البليغ، ونظمه المعجب، وأُسلوبه الرائق. ولذلك أدهش عُقول الفصحاء والبُلغاء في عصر النبي، ولم يزل يدهش كلَّ عربي مُلِمّ بلغته، أو غير عربي عارف باللغة العربية، من غير فرق بين جيل وجيل.

إنّ للقرآن في مجالي اللفظ والمعنى كيفية خاصّة يمتاز بها عن كلّ كلام

ص:360

سواه، سواء أصدر من أعظم الفُصَحاء والبُلغاء أو من غيرهم، وهذا هو الّذي لمسه العرب المعاصرون لعصر الرسالة، كما أنّهم أذعنوا بأنّ القرآن كتاب سماوي معجز، لا يقدر الإنسان - مهما عظمت طاقاته - على الإتيان بمثله. ولكن عندما يُتسَاءل عن سرّ إعجازه، يتوقّف الكثير منهم في ذلك ولا يأتون بكلمة شافية تغني السائل.

فمنهم من ذهب إلى أنّ شأن الإعجاز عجيب، يُدْرَك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن، تُدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة. وأضافوا: «إنّ مُدرك الإعجاز هو الذوق ليس إلّا، وطريق اكتساب الذوق، طول خدمة علمَيْ المعاني والبيان. نعم، للبلاغة وجوه متلثمة، وربّما تيسرت إماطة اللثام عنها لتتجلّى عليك. أمّا نفس الإعجاز، فلا(1).

ومنهم مَن يحيل سبب الإعجاز إلى فرط الفصاحة والبلاغة، من دون أن يشرح السبب، ويطرحَ آيات من القرآن على منضدة التشريح، ويقارنها بكلام من كلم فصحاء العرب وبلغائهم، وأقصى ما عندهم هو التصديق بكونه معجزاً بحجة أنّ أساطين البلاغة وأساتذتها عجزوا عن الإتيان بمثله في عصر نزول القرآن. ولكن هذا دليل إقناعي، ورجوع إلى أهل الخبرة.

إلّا أنّ هناك جماعة من المحقّقين لم يقنعوا بهذا القدر دون البحث عن حقيقة إعجازه، فبحثوا ونقبوا حتى رفعوا اللثام عن وجه إعجازه، وبيّنوا الدعائم والأركان الّتي يقوم عليها تفوّقه على كلام البشر، قائلين:

هل يمكن أن يُعَرِّف سبحانه كتابَه النازلَ على نبيّه، معجزاً وخارقاً،

ص:361


1- . مفتاح العلوم، للسكاكي: 176، قسم البيان.

ويباري الناس ويدعوهم إلى مقابلته والإتيان بمثله، ثم لا يوجد فيه حتى إشارات إلى ملاك إعجازه ووجه تفوّقه ؟! إنّ مثل هذا لا يصدر عن الحكيم تعالى.

فعلى ضوء ذلك، لا بُدّ لنا من الإمعان في آيات القرآن الكريم حتى نلمس ونستكشف ملاك إعجازه وخرقه للعادة، وهذا هو ما نتعاطاه في هذا التحليل والّذي تَبَيَّن لنا بعد دراسة ما كتبه المحقّقون حول إعجاز القرآن، وبعد الإمعان في نفس آيات الذكر الحكيم، أنّ ملاك تفوّقه هو الأُمور الأربعة الّتي نذكرها بعد قليل.

أجل، إنّ ما نركّز البحث عليه في المقام راجع إلى الإعجاز البياني للقرآن، الّذي كان هو محور الإعجاز في عصر النزول وعند فصحاء الجزيرة، وبُلغائهم، وبه وقع التحدي. وأمّا إعجازه من جهات أُخرى، ككون حامله أُميّاً، وكونه مبيِّناً للعلوم الكونية الّتي وصل إليها البشر بعد أحقاب من الزمن، أو إخباره عن المُغَيَّبات، أو كونه مصدراً لتشريع مُتْقَن ومتكامل، أو غير ذلك من الجهات، فلا يمكن أن نعدّها ملاكاً للتحدّي يوم ذاك، ووجه ذلك أنّ القرآن أبهر عقول العرب منذ اللحظة الأُولى لنزوله، سواء منهم في ذلك من شرح اللّه صدره للإسلام، أو من جعل على بصره غشاوة. وكان القرآن هو العامل الحاسم في أوائل أيام الدعوة، يوم لم يكن للنبي حول ولا طول، ولم يكن للإسلام قوة ولا منعة.

فلا بُدّ أن نبحث عن منبع ذلك في القرآن، قبل التشريع المُحكَم، وقبل النبوءة الغيبيَّة، وقبل العلوم الكونية، وقبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشتمل

ص:362

على هذه المزايا. فقليل القرآن الّذي كان في أيام الدعوة الأُولى، كان مجرّداً عن هذه الأشياء الّتي جاءت فيما بعد، وكان مع ذلك محتوياً على هذا النبع الأصيل الّذي تذوقه العرب، فقالوا: إنْ هذا إلّاسحر يُؤثَر.

إنّنا نقرأ الآيات الكثيرة في هذه السور فلا نجد فيها تشريعاً محكماً، ولا علوماً كونية، ولا نجد إخباراً بالغيب يقع بعد سنين، ومع ذلك أدهش عقول العرب وتحدث عنه ابن المغيرة بعد التفكير والتقدير، بما ذكره عنه في الكتاب العزيز: (فَقالَ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (1)

لا بدّ إذن أنّ السحر الّذي عناه، كان كامناً في مظهر آخر غير التشريع والغيبيات والعلوم الكونية، لا بدّ أنّه كامن في صميم النسق القرآني ذاته، وكان هذا يتجلّى من خلال التعبير الجميل المؤثر المعتبر المصوّر.

وعلى ذلك فالجمال الفنّي الخاص، عنصر مستقل في إثبات إعجاز القرآن(2)، ويتجلّى ذلك في أُمور أربعة تضفي على القرآن - مجتمعة - إعجازه وتفوّقه، وهي:

1. فصاحةُ ألفاظه وجمالُ عباراته.

2. بلاغةُ معانيه وسموُّها.

3. روعة نظمه(3) وتأليفه. ويراد منه: ترابط كلماته وجُمَله، وتناسق آياته، وتآخي مضامينه، حتى كأنّها بناء واحد، متلاصق الأجزاء، متناسب الأشكال، لا

ص:363


1- . المدّثر: 24.
2- . لاحظ التصوير الفنّي في القرآن الكريم لسيد قطب: 11-23، فصل سحر القرآن.
3- . ربما يطلق النظم في كلماتهم ويراد منه الأُسلوب والسبك الّذي هو الأمر الرابع.

تجد فيه صَدْعاً ولا انشقاقاً.

4. بداعة أُسلوبه الّذي ليس له مثيل في كلام العرب، فإنّ لكل من الشعر والنثر بأقسامه، أسلوباً وسبكاً خاصاً، والقرآن على أُسلوب لا يماثل واحداً من الأساليب الكلامية والمناهج الشعرية.

وهذه الدعائم الأربع إذا اجتمعت، تخلق كلاماً له وقع في القلوب، وتأثير في النفوس. فإذا قرع السمع، ووصل إلى القلب، يحسّ الإنسان فيه لذّة وحلاوة في حال، وروعةً ومهابةً في أُخرى، تقشعرّ منه الجلود، وتلين به القلوب، وتنشرح به الصدور، وتغشى النفوس خشية ورهبة ووجداً وانبساطاً، ويحسّ البليغ بعجزه عن المباراة والمقابلة. ولأجل ذلك، كم من عدوّ للرسول صلى الله عليه و آله و سلم من رجال العرب وفُتّاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين قرعت مسامعهم؛ أن تَحَوّلوا عن رأيهم الأوّل، ومالوا إلى مسالمته، ودخلوا في دينه، وانقلب عداءهم موالاةً ، وكفرهم إيماناً.

يقول سبحانه: (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) (1).

ويقول سبحانه: (اللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) (2).

ويقول سبحانه: (وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ

ص:364


1- . الحشر: 21.
2- . الزمر: 23.

اَلدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ) (1).

هذا ما يثبته التحليل الآتي لكلٍّ من هذه الدعائم. فليس المُدَّعى كون كلّ واحدة منها، وجهاً مستقلاً للإعجاز، وإنّما المراد أنّ كلّ واحدةٍ منها توجِد أَرْضِيَّةً خاصةً ، ليتشكّل باجتماعها كلامٌ معجزٌ خارق، مُبهر للعقول، ومدهش للنفوس.

فيجد الإنسان في نفسه العجز عن المباراة، والضعف عن التحدّي.

ولأجل توضيح هذه الدعائم الأربع نأتي بمقدمة نبينّ فيها معنى الفصاحة والبلاغة، حتى يتبيّن نسبة كلّ واحدة من هذه الدعائم إلى الأُخرى.

تعريف الفصاحة

الفصاحة يوصف بها المفرد كما يوصف بها الكلام.

والفصاحة في المفرد عبارة عن خلوصه من تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس اللغوي المستنبط من استقراء اللغة العربية.

وقد ذكر القوم للتنافر وجهاً أو وجوهاً، والحق أنّه أمْر ذوقي، وليس رهن قرب المخارج، ولا بعدها دائماً.

وأمّا الفصاحة في الكلام، فهي خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد، مع فصاحتها، أي يشترط مضافاً إلى الشرائط المعتبرة في فصاحة المفرد، الأُمور الثلاثة الواردة في صدر التعريف.

ثم إنّ التعقيد تارة يحصل بسبب خلل في نظم الكلام، بمعنى تقديم ما حقّه التأخير وبالعكس، وأُخرى بسبب بُعْد المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى

ص:365


1- . المائدة: 83.

الكنائي المقصود.

والمتكفّل لبيان الخلل في النظم هو النحو. والمتكفّل لبيان الخلل في الانتقال من المعنى اللغوي إلى المقصود هو علم البيان، فبما أنّه علم يبحث فيه عن إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه وخفائه، يشرح لنا التعقيد المعنوي ومراتبه، فإنّ لكل معنى لوازم، بعضها بلا واسطة، وبعضها بواسطة، فيمكن إيراده بعبارات مختلفة في الوضوح والخفاء.

تعريف البلاغة

البلاغة في الكلام عبارة عن مطابقته لمقتضى الحال، أي مطابقته للغرض الداعي إلى التكلّم على وجه مخصوص. مثلاً: كون المخاطب منكراً للحكم، حال يقتضي تأكيده، والتأكيد مقتضى الحال. كما أنّ كون المخاطب مستعداً لقبول الحكم، يقتضي كون الكلام عارياً عن التأكيد، والإطلاق مقتضاها، وهكذا في سائر الأبواب.

هذا كلّه مع لزوم اعتبار فصاحة الكلام في تحقّق البلاغة، فالبلاغة لها عمادان. أحدهما: مطابقة الكلام لمقتضى الحال، والثاني: فصاحة الكلام.

وها هنا نكتة وهي أنّ القوم حصروا معنى البلاغة في هذا المعنى، وحاصله: كون عرض المعنى موافقاً للغرض الداعي إلى التكلّم (مع فصاحة الكلام)، وجعلوا للبلاغة بهذا المعنى طرفين:

أحدهما: أعلى، وهو حدّ الإعجاز، وهو أن يرتقي الكلام في بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته.

ص:366

والثاني: ما لا يبلغ إلى هذا الحدّ.

ولكل واحد درجات ومراتب.

ولا يخفى أنّ جعل البلاغة بهذا المعنى (أي العرض الصحيح المطابق للغرض) لا يكون ركن الإعجاز وإن بلغ الكلام إلى نهاية الإتقان في العرض، ما لم يضمّ إليه شيء آخر، وهو إتقان المعاني وسموّ المضامين. وإلّا فالمعاني المبتذلة، والمضامين المتوفّرة بين الناس إذا عرضت بشكل مطابق للغرض الداعي إلى التكلّم، لا يصير الكلام معها معجزاً خارقاً للعادة.

ولأجل ذلك كان على القوم الذين جعلوا الفصاحة والبلاغة ركنين للإعجاز، وملاكين له، إضافة قيد آخر، وهو كون المعاني والمضامين عالية وسامية، تسرح فيها النفوس، وتغوص فيها العقول.

ومن هنا نرى أنّ بعض أساتذة هذا الفن المعاصرين، عرّفوا البلاغة بشكل آخر، وقالوا: هي تأدية المعنى الجليل واضحاً بعبارة صحيحة فصيحة، مع ملائمة كلّ كلام للموطن الّذي يقال فيه، والأشخاص الذين يخاطبون(1).

فترى أنّه أُضيف في التعريف وراء ملائمة كلّ كلام للموطن (مطابقة الكلام لمقتضى الحال)، كون المعنى جليلاً.

نعم هذا المقدار من التعريف أيضاً غير وافٍ للرقيّ بالكلام إلى حدّ الإعجاز، بل يحتاج إلى دعامة أُخرى وهي بداعة الأُسلوب ورقيّه.

ص:367


1- . البلاغة الواضحة: 8.

***

ثم إنّ علماء الإسلام قديمهم وحديثهم قاموا - لأجل تحليل الإعجاز البياني للقرآن الكريم - بتأسيس علمي المعاني والبيان حتّى يتعرّف الناشئ - عن طريق دراسة هذين العلمين - على كون القرآن معجزة خالدة لا يمكن لأحد من البشر تحدّيه ومعارضته.

لقد بذل علماء الإسلام جهوداً مضنية لإغناء المكتبة الإسلامية بكتب البلاغة وما يتعلّق بها من علوم المعاني والبيان والبديع، فقاموا بتأليف المطوّلات والمختصرات، وكان للشيعة قدم السبق في هذا المجال كما هو شأنهم دائماً، ولأجل إيقاف القارئ على ما قدّموه نستعرض أبرز إنجازاتهم بشكل موجز.

تقدّم الشيعة في علم البيان والمعاني والبديع

كان للشيعة دور أساسي في ازدهار العلوم الإسلامية، وكان علماؤهم في طليعة مَن تقدّموا في تأسيس فنون العلم منذ الصدر الأوّل لبزوغ الإسلام إلى وقتنا الحاضر، وأغنوا المكتبة الإسلامية في مختلف العلوم، كعلم الحديث، والفقه، وأُصول الفقه، والدراية، والرجال، والكلام والعقائد، والفرق والأديان، والنحو، والصرف، واللغة، والمعاني والبيان والبديع، والعروض، والشعر، وغيرها وقد كتبنا بحثاً مفصّلاً حول هذا الموضوع تحت عنوان «دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية» طبع في الجزء السادس من موسوعتنا «بحوث في الملل والنحل» الّذي تناول تاريخ الشيعة وعقائدهم وفرقهم وشخصياتهم،(1)

ص:368


1- . راجع بحوث في الملل والنحل: 6/639-716، الفصل الثاني عشر.

كما طبع على شكل رسالة مستقلة، وقد سلّطنا الضوء على أبرز علمائهم وكتبهم الّتي ألّفوها، فمن أراد المزيد فليرجع إليه.

تقدّم الشيعة في علم البيان والفصاحة والبديع، ومن أبرز علمائهم في هذا المضمار:

1. الإمام المرزباني أبو عبداللّه محمد بن عمران بن موسى بن سعيد بن عبداللّه المرزباني الخراساني الأصل، البغدادي المولد والمنشأ والمدفن (المتوفّى 378 ه)، صنّف كتاب: «المفضّل في علم البيان والفصاحة» قال عنه ابن النديم في «الفهرست»: وهو نحو ثلاثمائة ورقة.

2. محمد بن أحمد العميدي (المتوفّى 423 ه) صنّف «تنقيح البلاغة» كما في كشف الظنون. وقد تقدم العلمان على عبدالقاهر الجرجاني (المتوفّى 444 ه) أوّل مَن صنّف من السنّة في هذا المجال.

3. قدامة بن جعفر بن زياد البغدادي الكاتب (المتوفّى 337 ه) صنّف كتاب «نقد الشعر» المعروف بنقد قدامة، وهو في البديع.

4. ميثم بن علي بن ميثم البحراني (المتوفّى 699 ه) صنّف كتاب «تجريد البلاغة» أو ما يُسمى ب «أُصول البلاغة».

وهي رسالة صغيرة الحجم، كبيرة المضمون حول الفصاحة والبلاغة، بترتيب خاصّ .

والرسالة هي من آثار علماء القرن السابع الهجري، الّذي عمّت فيه الفتن والمصائب أكثر البلدان الإسلامية، وذلك بسبب استيلاء الوثنيين عليها، ومع

ص:369

ذلك نرى أنّ علمائنا لم تثن عزائمهم هذه الظروف الصعبة عن خدمة الدين وإبلاغ رسالتهم الدينية. ومنهم العلّامة ميثم البحراني الّذي ألّف هذه الرسالة في أظلم العصور وأدهمها.

وقد قامت مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام في قم المقدسة بتحقيق هذه الرسالة وطبعها في سنة 1433 ه.

5. حسام الدين المؤذني، شرح مفتاح السكاكي وفرغ منه سنة 742 ه.

6. الشيخ قطب الدين محمد بن محمد الرازي البويهي، من تلامذة العلّامة الحلّي، له شرح مفتاح السكاكي.

7. بدر الدين حسن بن جعفر بن فخر الدين حسن بن نجم الدين بن الأعرج الحسيني العاملي الكركي (المتوفّى 933 ه) صنّف كتاب «مقنع الطلاب في ما يتعلّق بكلام الإعراب» وهو كتاب حسن الترتيب، ضخم في النحو والتصريف والمعاني والبيان.

ومن أئمة علم البديع:

8. صفي الدين الحلّي، الشاعر المعروف (677-750 ه) صنّف كتاب «الكافية البديعية في مدح خير البرية» جمع فيها جميع أنواع البديع على نمط بديع.

9. الشيخ إبراهيم بن علي بن الحسن بن محمد بن صالح العاملي الكفعمي (المتوفّى سنة 905 ه) صنّف كتاب «فرج الكرب» وهو شرح بديعيته الّتي نهج فيها منهج صفي الدين الحلي في نظم البديعية

ص:370

وشرحها.(1)

10. السيد علي خان الشيرازي (المتوفّى 1120 ه) صاحب السلافة، نظم فيه بديعيته وشرحها وطبعت مع الشرح، واسمه «أنوار الربيع».(2)

وكذلك ممّن ألّف من علماء الشيعة البارزين في علم البلاغة وما فيه من البيان والمعاني والّذي يؤكّد ريادة الشيعة لهذا المضمار:

11. جلال الدين محمد بن عبدالرحمن القزويني (المتوفّى 739 ه) صنّف كتاب «الإيضاح».

12. السيد عبدالوهاب بن علي الحسيني الاسترآبادي الجرجاني (من أعلام القرن التاسع) صنّف كتاب «الأنموذج في علوم البلاغة».

13. السيد اختيار بن السيد غياث الدين الحسيني، صنّف كتاب «الاقتباس» ألّفه في سنة 897 ه.

14. بهاء الدين العاملي (المتوفّى 1031 ه) صنّف كتاب «أسرار البلاغة» طبع في مصر وبيروت.

15. الفاضل الهندي (المتوفّى 1137 ه) صنّف كتابي: «تمحيص التخليص». و «التنصيص على معاني تمحيص التخليص».

16. الميرزا محمد رضا بن إسماعيل المشهدي القمّي (المتوفّى 1125 ه) صنّف كتاب «إنجاح المطالب في الفوز بالمآرب» شرح المنظومة المحبية لابن

ص:371


1- . راجع تأسيس الشيعة: 168-176.
2- . أعيان الشيعة: 1/166.

الشحنة الحنفي. طبع في مجلة تراثنا: 25/115.

17. قوام الدين محمد بن محمد مهدي القزويني الحلّي (من أعلام القرن الثاني عشر) صنّف «منظومة البيان» نظمها في 274 بيتاً سنة 1135 ه.

18. هبة الدين الشهرستاني (1301-1386 ه) صنّف «الدر والمرجان في علمي المعاني والبيان» وهي منظومة من 300 بيت نظمها سنة 1321 ه.

19. الميرزا عبدالرزاق الأحمد الآبادي الاصفهاني (المتوفّى بعد 1340 ه) صنّف «بساتين الجنان في علمي المعاني والبيان».

20. محمد بن محمد طاهر السماوي الفضلي (المتوفّى 1370 ه) صنّف «بلغة البلاغة» وهو أُرجوزة في علوم البلاغة(1).

21. السيد محسن الأمين (المتوفّى 1371 ه) له حواش على كتاب «المطول» للتفتازاني.

22. الشيخ أحمد أمين الشيرازي (المعاصر) صنّف كتاب «البليغ في المعاني والبيان والبديع». المطبوع في قم من قبل مؤسسة النشر الإسلامي، سنة 1422 ه. وهو كتاب يسير وفق منهج كتاب «المطول» للتفتازاني مع توضيح لبعض الأُمور الّتي جاءت فيه غير واضحة. وأُسلوبه واضح وسهل ومنظم ومرتّب بشكل جيد.

إلى غيرها من الكتب الكثيرة نكتفي بما ذكرناه خوف الإطالة، ومن أراد المزيد فعليه مراجعة كتاب «الذريعة» للطهراني.

ص:372


1- . راجع مجلة تراثنا: 25/117-120.

***

ص:373

8 تفسير سورة القيامة

اشارة

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة على محمّد وآله الطيبين الطاهرين الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

تمهيد:

1. ترتيبها: هذه السورة هي السورة الخامسة والسبعون من سور القرآن الكريم في المصحف الشريف.

2. اسمها: سمّيت بسورة القيامة لورود القسم بها في بدء السورة، قال سبحانه: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) .

و نقل الآلوسي أنّ من أسمائها: سورة «لا أُقسم»، لوروده في بدئها، ولو صحّ ما ذكره فالاسم متروك.

3. عدد آياتها: عدد آيات السورة أربعون آية عند الكوفيين وعليه الترقيم

ص:374

في المصاحف المتداولة، وتسع وثلاثون عند الباقين. وموضع الاختلاف هو قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) (1) فهو آية مستقلة عند الكوفيين، وجزء من الآية التالية عند غيرهم.

4. موضع نزولها: السورة مكية بالاتّفاق بشهادة سياق آياتها.

5. أغراضها: يدور البحث في السورة حول التنبّؤ بوقوع يوم القيامة والتذكير بأشراطه وأوصافه، ثم ما يجري على الإنسان فيه، وهل هو من أصحاب الوجوه الناضرة، أو من أصحاب الوجوه الباسرة ؟ إلى أن ينتهي البحث إلى المعاد، والاحتجاج بأنّ القادر على النشأة الأُولى قادر على النشأة الأُخرى، إلى غير ذلك ممّا له صلة بيوم القيامة.

***

الآية الأُولى والثانية:

اشارة

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ * وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ ) .

المفردات:

اللوامة: هي النفس التي اكتسبت بعض الفضيلة فتلوم صاحبها إذا ارتكب مكروهاً، فهي دون النفس المطمئنة.(2)

و قال الطريحي: النفس اللوامة ما تكون مائلة إلى الخير تارة وإلى الشر أُخرى، وتندم على الشر وتلوم عليه، فهي اللوامة.(3)

ص:375


1- . القيامة: 16.
2- . مفردات الراغب: 457، مادة «لوم».
3- . مجمع البحرين: 155/4، مادة «لوم».
التفسير:

قوله سبحانه: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) :

ورد هذا التعبير - أعني: (لا أُقْسِمُ ) - في القرآن الكريم في صور مختلفة، هي: (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ) (1)، (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ ) (2)، (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ ) (3)، (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ) (4)، (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ) (5)، (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (6)، فعلى المفسّر أن يبيّن معنى الجملة في عامّة السور على نسق واحد. وإليك ما قيل في المقام:

1. قيل: إنّ «لا» صلة، أي زائدة، ومعناه: أُقسم بيوم القيامة. روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير، ومثلها قوله تعالى: (لِئَلاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ ) .(7)

أقول: إنّ القول بوجود زيادة في القرآن لاينسجم مع كونه في نهاية الفصاحة والبلاغة، فعلى الباحث أن ينّزه القرآن الكريم عن ذلك ويثبت خلوّه عن لغوية هذه الزيادة التي لا غاية لها إلّاالإيهام.

وأمّا الاستشهاد بقوله تعالى: (لِئَلاّ يَعْلَمَ ) حيث فُسّر ب (لِيَعْلَمَ ) فهو بعيد عن معنى الآية، وإليك بيان ذلك:

ص:376


1- . الواقعة: 75.
2- . الحاقة: 38.
3- . المعارج: 40.
4- . التكوير: 15.
5- . الانشقاق: 16.
6- . البلد: 1.
7- . الحديد: 29.

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللّهِ وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (1)، فإنّ المعنى هو أنّ اللّه وعد الذّين آمنوا واتقوا اللّه وآمنوا برسوله أن يؤتهم كفلين من رحمته ويجعل لهم نوراً يمشون به ويغفر لهم، وكأنّ سائلاً يسأل عن فوائد ذلك وغاياته، فأُجيب بأنّ الغاية أن لايعلم أهل الكتاب (و أن لايعتقدوا) أن الذين آمنوا لايقدرون على شيء من فضل اللّه، وذلك لأنّ الفضل بيد اللّه.

ثم إنّ صاحب الكشّاف كرّر القول بزيادة (لا) في آيات أُخرى نذكر منها ما يلي:

أ. قوله تعالى: (قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) .(2)

ب. قوله تعالى: (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ * قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) .(3)

فبما أنّ جواب إبليس في كلا السؤالين واحد، صار ذلك سبباً للقول بزيادة «لا» في الآية 12 من سورة الأعراف.(4)

ص:377


1- . الحديد: 28-29.
2- . الأعراف: 12.
3- . ص: 75-76.
4- . الكشاف: 89/2.

و لكنّ المفسّر غفل عن أنّ حيثية السؤال في الآية الأُولى تغاير حيثيته في الآية التالية.

فإنّ السؤال في سورة الأعراف عن السبب الذي حمله على المخالفة، و لم يجد في نفسه أي داع إلى العمل فأشار سبحانه في سورة الأعراف بوجود «لا» إلى السؤال عن السبب الكامل على المعصية، فكأنّه قال: ما حملك على أن لاتسجد.

و أمّا السؤال في سورة «ص» فهو عن وجود المانع عن القيام بالعمل، نعم كان الجواب من إبليس في كلا المقامين هو بيان السبب الكامل له على أن لا يسجد، لا التعليل بالمانع، فقال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) ، أي أنّ سبب المخالفة هو كونه أفضل من آدم.

2. إنّ قوله «لا» ردّ على الذين أنكروا البعث والنشور من المشركين، فكأنّه قال: «لا كما تظنون» ثم ابتدأ القسم ب «أقسم بيوم القيامة إنكم مبعوثون».(1)

يلاحظ عليه: أنّه يجب تفسير هذه الآيات في الموارد التي ذكرناها على نسق واحد، مع أنّه لايصح في قوله: (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ) وغير ذلك من الآيات الماضية. فليس النفي فيها، راجعاً إلى قول أو فعل.

3. الأخذ بظهور الآية وأنّ معناها: لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لظهورها بالدلائل العقلائية والسمعية، وعلى هذا يكون المقصود في الموارد الست نفي القسم لا الإقسام بيوم القيامة.

ص:378


1- . مجمع البيان: 596/5.

يلاحظ عليه: أنّ بعض الموارد ظاهر في الإقسام لا نفيه، قال سبحانه: (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ * وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) .(1) فإنّ الضمير في قوله:

«وإنّه» راجع إلى القسم المفهوم من قوله (فَلا أُقْسِمُ ) فيكون دليلاً على أنّه سبحانه أقسم بمواقع النجوم.

4. أن يكون المعنى هو: أُقسم بيوم القيامة، ولا أُقسم بالنفس اللوامة، أُقسم بالأوّل ولا أُقسم بالثاني. وهذا ضغيف غاية الضعف؛ لأنّه مخالف لسياق الكلام.

5. أنّهما قسمان مع كون «لا» غير زائدة، وجواب القسم محذوف، وتقديره: (انّكم لتبعثون).

بيانه: أنّ الأُسلوب الرائج بين الناس أنّهم ربما يقسمون بشيء عزيز عليهم و لكن بنحو نفي القسم، فيقال: لا أُقسم بنفسي، ولا أُقسم بنفسك، ولا أقسم بولدي، أنّ الأمر كذا وكذا، وهو بصورة نفي القسم بالشيء العزيز ولكن في النهاية قسم، وهذا مما يقال: أن صيغة (لاأُقسم) قسم، يقول السيد الطباطبائي: قوله: (لاأُقسم) كلمة قسم، وقوله تعالى: (وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ ) إقسام ثانٍ على ما يقتضيه السياق ومشاكلة اللفظ.(2)

و بهذا يتّضح معنى الآية، وأنّ الوحي الإلهي مصون من الإتيان بكلمة زائدة فيه لا دور لها في المعنى .(3)

ص:379


1- . الواقعة: 75-76.
2- . تفسير الميزان: 20/103.
3- . لاحظ: آلاء الرحمن: 89/1، 92، فقد بسط الكلام في المقام، وما ذكرناه مقتبس منه.

قوله: (يَوْمُ الْقِيامَةِ ) .

سمّي يوم الآخرة بيوم القيامة لأجل قيام الحساب والأشهاد والروح (روح الأمين) والناس، قال سبحانه:

1. (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) .(1)

2. (يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) .(2)

3. (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ ) .(3)

4. (يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) .(4)

وعلى هذا فوجه التسمية هو قيام الحساب وغيره من الأُمور المذكورة.

و قد عبّر سبحانه عن تلك النشأة تارة بلفظ اليوم مضافاً إلى وصف، وأُخرى بالاستعانة بوصف من أوصاف ذلك اليوم دون أن يذكر لفظ «اليوم». أمّا الأوّل فكالتالي:

1. يوم القيامة، 2. يوم الدين، 3. يوم الآخر، 4. يوم عظيم، 5. يوم كبير، 6.

يوم محيط، 7. يوم الحسرة، 8. يوم عقيم، 9. يوم عليم، 10. يوم الوقت المعلوم، 11. يوم الحق، 12. يوم مشهود، 13. يوم البعث، 14. يوم الفصل، 15. يوم الحساب، 16. يوم التلاق، 17. يوم الآزفة، 18. يوم التناد، 19. يوم الجمع، 20.

يوم الوعيد، 21. يوم الخلود، 22. يوم الخروج، 23. يوم عسير، 24. يوم التغابن،

ص:380


1- . ابراهيم: 41.
2- .. غافر: 51
3- . النبأ: 38.
4- . المطفّفين: 6.

25. اليوم الموعود، 26. يوماً عبوساً، 27. يوم معلوم، 28. يوم لا ريب فيه، 29.

يوم الفتح.(1)

فقد أُضيف اليوم في هذه الأسماء إلى شيء يومئ إلى حال من أحوال ذلك اليوم.

وأمّا الثاني أي تسميته بشيء من أوصافه، فهي أيضاً كالتالي:

1. «الساعة»: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها) .(2)

2. «الآزفة»: (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللّهِ كاشِفَةٌ ) .(3)

و «الأزف» في اللغة بمعنى القرب، وكأنّه يشير إلى أنّ الساعة قريبة وليست ببعيدة وإن كان الناس يتخيّلون خلافه.

3. «الحاقّة»: (الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ ) .(4)

و الحاقّة مؤنث الحق، يطلق على شيء حتميّ الوقوع.

4. «القارعة»: (الْقارِعَةُ * مَا الْقارِعَةُ * وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ) .(5)

و القرع بمعنى الضرب المبرح، وكأنّ القيامة تهزّ القلوب هزّاً شديداً،

ص:381


1- . «يوم الفتح»: (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) (السجده: 29) و المراد من الفتح هو الحكم بالثواب والعقاب يوم القيامة، وكان المشركون يسمعون المسلمين يستفتحون باللّه عليهم، فقالوا لهم: متى هذا الفتح، أي متى هذا الحكم فينا؟ فأُجيبوا بما في الآية، ويؤيده قوله سبحانه: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِيمُ ) (سبأ: 26).
2- . الأعراف: 187.
3- . النجم: 57-58.
4- . الحاقّة: 1-3.
5- . القارعة: 1-3.

وتقرعها بالفزع، وتقرع الكفّار بالعذاب الأليم.

5. «الطامّة الكبرى »: (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ) .(1)

الطامّة في اللغة بمعنى المصيبة، وكأنّ المصيبة التي يواجهها الإنسان في ذلك اليوم، تُنسِي سائر المصائب التي مرّت به، ولذلك وصفت بالكبرى .

6. «الواقعة»: (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) .(2)

و الواقعة هي الحادثة، والاسم كناية عن عظمها وهولها.

7. «الصاخّة»: (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ) .(3)

و الصاخّة هي الصوت المرعب، ولعلّها كناية عن نفخ الصور الذي سيوافيك تفصيله بإذن اللّه.

8. «الغاشية»: (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) .(4)

الغاشية: هي المحيطة، وكأنّ الحوادث المرعبة تحيط بجميع الناس.

9. «الآخرة»: (وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ) .(5)

و سمّيت بالآخرة لأنّها متأخّرة عن الدنيا.

10. «الميعاد»: (إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) .(6)

وثمة آيات أُخرى تصف يوم القيامة وتذكر شيئاً من أحوالها وأهوالها،

ص:382


1- . النازعات: 34.
2- . الواقعة: 1.
3- . عبس: 33.
4- . الغاشية: 1.
5- . المؤمنون: 74.
6- . آل عمران: 9.

قال سبحانه: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) .(1)

و قال سبحانه: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) .(2)

وقال سبحانه: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) .(3)

ونظائر هذه الآيات كثيرة في الذكر الحكيم لم نذكرها في عداد أسماء يوم القيامة لأنّها بصدد التوصيف لا التسمية.

قوله تعالى: (وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ ) .(4)

قال الراغب: النفس: الروح في قوله تعالى: (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ) (5)، وقال: (وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ) .(6)

و قوله: (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) (7).

و قوله (يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ ) (8).

فنفسه ذاته.(9)

ص:383


1- . الشعراء: 88-89.
2- . آل عمران: 30.
3- . آل عمران: 106.
4- . القيامة: 2.
5- . الأنعام: 93.
6- . البقرة: 235.
7- . المائدة: 116.
8- . آل عمران: 28.
9- . المفردات للراغب: 501، مادة «نفس».
نظرية الماديّين والإلهيّين حول الروح

زعم الماديون أنّ الإنسان ليس إلّامجموعة خلايا وعروق وأعصاب وعظام وجلد، وليس وراء الوجود المادي له موجود علوي باسم الروح، وإنّما الإنسان هو الهيكل المشهود الذي يحكم عليه بالقواعد المادّية وليس وراء ذلك شيء باسم النفس أو الروح.

لكنّ الإلهيّين استدلّوا على وجود النفس الإنسانية المجرّدة عن المادة و آثارها بوجوه فلسفية وعلمية لايمكننا نقل قليل منها فضلاً عن الكثير، وإنّما نشير هنا إلى برهان حسّي وتجربيّ ذكره الشيخ الرئيس في كتابيه «الإشارات» و «الشفاء» وسماه: ببرهان الطلق، لورود عبارة الهواء الطلق في تعبيره، وإليك نصّ البرهان:

إفرض نفسك في حديقة زاهرة غنّاء، وأنت مستلق لاتُبصر أطرافك ولاتنتبه إلى شيء، ولا تتلامس أعضاؤك، لئلّا تحسّ بها، بل تكون منفرجة، و مرتخية في هواء طلق، لاتحسّ فيه بكيفية غريبة من حرٍّ أو بردٍ أو ما شابه، ممّا هو خارج عن بدنك. فإنّك في مثل هذه الحالة تغفل عن كلّ شيء حتى عن أعضائك الظاهرة، وقواك الداخلية، فضلاً عن الأشياء التي حولك، إلّاعن ذاتك، فلو كانت الروح نفس بدنك وأعضائك وجوارحك وجوانحك، لزم أن تغفل عن نفسك إذا غفلت عنها، والتجربة أثبتت خلافه.

و بكلمة مختصرة: «المغفول عنه، غير اللا مغفول عنه». وبهذا يكون إدراك الإنسان نفسه من أوّل الإدراكات وأوضحها.(1)

ص:384


1- . لاحظ: الإشارات: 92/2؛ الشفاء: 282 و 464، قسم الطبيعيات.

و لنقتصر بهذا البرهان، وهناك براهين أُخرى ذكرناها في كتابنا «الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل».(1) كما سنشير إلى حقيقة الروح في القرآن الكريم لاحقاً.(2)

مراتب النفس
اشارة

لا شكّ أنّه ليس للإنسان إلّانفس واحدة يعبّر عنها بالروح تارة، والنفس أُخرى، والعقل ثالثة، فالكل يشير إلى ذلك الأمر المجرّد الذي يدبر بدن الإنسان في حياته الدنيوية.

و لها مراتب عبّر عنها القرآن الكريم بما يلي:

1. النفس الملهمة.

2. النفس الأمّارة.

3. النفس اللوامة.

4. النفس المطمئنة.

5. النفس الراضية.

6. النفس المرضية.

و قد أشار الذكر الحكيم إلى الجميع في الآيات التي سيتم تفسيرها، وإليك بيان هذه المراتب واحدة بعد الأُخرى.

ص:385


1- . الإلهيات: 4/195-199.
2- . راجع ص 429 من هذا الكتاب.
1. النفس الملهمة:

لا شكّ أنّ كل إنسان يدرك في صميم ذاته حسن بعض الأُمور وقبح الآخر، كحسن الإحسان وقبح الظلم، وهكذا يدرك حسن العمل بالميثاق وقبح نقضه إلى غير ذلك، فهذه المدركات أُمور فطرية يدركها الإنسان بنفسه من دون أن يكتسبها من مصدر خارجي.

كما أنّ الحكمة النظرية تنقسم إلى ضرورية ونظرية، فهكذا الحكمة العملية تنقسم إلى بديهي ونظري، فالبديهي من الإدراكات التي يستوي فيها جميع البشر على تمام الأصعدة، هي الأُمور الفطرية.

وقد وصف الإمام علي عليه السلام شيئاً من تعاليم الأنبياء، بالتنبيه على ما يدركه الإنسان في منهج الفطرة بقوله: «وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ (بني آدم) أَنْبِيَاءَهُ ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ ».(1)

فلو قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .(2)

فإنّما ينطق بلسان الفطرة، ففطرة الإنسان قاضية بحسن الثلاثة الأُولى وقبح الثلاثة الأخيرة، وأنّه يجب أن يقوم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى و يجتنب الأُمور الأُخرى.

و إلى هذه المرتبة من النفس يشير سبحانه بقوله: (وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها

ص:386


1- . نهج البلاغة: الخطبة رقم 1.
2- . النحل: 90.

فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها) .(1)

و قال سبحانه: (إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً) .(2)

و يقول سبحانه: (وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) .(3)

و الكلام في الفطرة وعلائمها وما هو الفرق بين الأُمور الفطرية والعادية يحتاج إلى بحث مفصّل، ذكرناه في «مفاهيم القرآن».(4)

2. النفس الأمّارة

يراد بالنفس الأمّارة الحالةُ التي تميل بالإنسان إلى الانزلاق نحو الشهوات وإرضاء غرائزه السافلة والميلان إلى الهوى. نعم في الوقت الذي تميل فيه النفس إلى الأُمور السافلة تجد في صميم ذاتها ميولاً إلى الأُمور السامية، وما هذا إلّا لأنّه سبحانه خلقه من نطفة أمشاج.(5) والمراد به الأخلاط، ولعلّه أنّ اللّه أودع في النطفة قوى مختلفة وميولاً متنوعة متضادة يشترك فيها عامّة البشر من نبي أو ولي إلى غير ذلك، ولذلك نجد أنّ يوسف عليه السلام بعد أن وصف نفسه بقوله:

(لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) ، وصار هذا الكلام في موقع من يزكي نفسه ويعجب بها، بادر إلى استدراك ذلك قائلاً: (وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .(6)

و بهذه القوة امتاز الإنسان عن سائر الموجودات العلوية، فلو لم يكن

ص:387


1- . الشمس: 7-8.
2- . الإنسان: 2.
3- . البلد: 10.
4- . لاحظ: مفاهيم القرآن: 50/1-56.
5- . الإنسان: 2.
6- . يوسف: 53.

الإنسان مجهّزاً بالنفس الأمّارة لم يكن لاجتنابه عن الذنوب ومساوئ الأخلاق أي قيمة وفضل، فهو بما أنّه يجد في نفسه ميولاً إلى الهوى ولكن يكبح جماحها بالتقوى وبالرجوع إلى الفطرة وتعاليم الأنبياء، يستحق الثواب والمدح.

3. النفس اللوامة

اللوامة صيغة مبالغة من اللوم، وهي من مراتب النفس وليست شيئاً مستقلاً، فالآية تدلّ على أنّه في ضمير الإنسان قوة خاصّة ربما تلومه بالنسبة إلى الأعمال التي يحكم العقل بقبحها.

و إن شئت قلت: هي عبارة عن الضمير الذي يؤنّب الإنسان على ما اقترفه من السيئات والآثام، خصوصاً بعد أن يفيق من سكراتها.

فيجد نفسه تنحدر في دوامة الندم على ما ارتكبه وفي صميم ذاته إنابة إلى الحق، وهذا يدلّ على أنّ النفس مجبولة على الميل إلى الشهوات وفي الوقت نفسه فيها ميل إلى الحق والعدل، ولكلِّ تجلٍّ خاص، فإن غلبت الشهوات تحول دون ظهور نور العقل، فيقترف القبائح، ولكنّه ما إن تخمد شهوته، يتّضح أمامه قبح العمل فتستيقظ النفس اللوامة وتأخذ باللوم والعذل، إلى حدِّ ربما تدفع بصاحبها إلى الانتحار لعدم تحمّله وطأة الجريمة التي ارتكبها.

و لعلّ التعبير بالوجدان الأخلاقي في علم النفس يقابله في التعبير القرآني:

النفس اللوامة، فإنّ ما يوصف به ذلك الوجدان هو نفس ما نعرفه من النفس اللوامة، فإذا كانت الجريمة عظيمة بحيث لاتتحمّلها النفس التي أُلهمت الخير والشر في مرحلة الفطرة، فقد تؤدّي إلى الجنون نتيجة الضغط الوجداني أو

ص:388

النفس اللوامة، فيشعر عظمة الجريمة ولايستطيع التحمّل، وبالتالي يفقد الشعور والعقل.

و في تاريخ المجرمين ما يشهد على ذلك منها:

إنّ بسراً قائد جيش معاوية لمّا دخل الطائف، وقد كلَّمه المغيرة، قال له:

لقد صدقتني ونصحتني، فبات بها، وخرج منها، وشيّعه المغيرة ساعة، ثم ودّعه وانصرف عنه، فخرج حتى مَرَّ ببني كنانة، وفيهم ابناعبيداللّه بن العباس وأُمّهما، فلما انتهى بُسْر إليهم، طلبهما، فدخل رجل من بني كنانة - وكان أبوهما أوصاه بهما - فأخذ السيف من بيته وخرج، فقال له بُسْر: ثكلتك أُمّك! واللّه ما كنّا أردنا قتلك، فلِمَ عرضت نفسك للقتل! قال: أُقتل دون جاري أعذَر لي عند اللّه والناس. ثم شدّ على أصحاب بُسْر بالسيف حاسراً،....، فضارب بسيفه حتى قُتل، ثم قُدِّم الغلامان فقتلا. فخرج نسوة من بني كنانة، فقالت امرأة منهنّ : هذه الرجال يقتلها، فما بال الولدان! واللّه ما كانوا يقتلون في جاهلية ولا إسلام، واللّه إنّ سلطاناً لايشتدّ إلّابقتل الرضيع الضعيف، والشيخ الكبير، ورفع الرحمة، وقطع الأرحام لَسُلطان سوء؛ فقال بُسْر: واللّه لهممت أن أضعَ فيكنّ السيف، قالت:

واللّه إنّه لأحَبُّ إليّ إن فعلت!(1)

ثم يقول: فلم يلبث بُسر بعد ذلك إلّايسيراً حتى وسوس وذُهب عقله، فكان يهذي بالسيف، ويقول: أعطوني سيفاً أقتل به، لايزال يردد ذلك حتى اتّخِذ له سيف من خشب، وكانوا يدنون منه المرفقة، فلايزال يضربها حتى

ص:389


1- . شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد: 14/2؛ الغدير: 11/26.

يُغشى عليه، فلبث كذلك إلى أن مات.(1)

و قال ابن الأثير في «أُسد الغابة»: توفّي بُسر بالمدينة أيام معاوية، وقيل:

توفّي بالشام أيام عبدالملك بن مروان، وكان قد خرف آخر عمره.(2)

ثم إنّ المفسّرين اختلفوا في تطبيق النفس اللوامة على أقوال:

فتارة يطبقونها على نفس آدم التي لم تزل تتلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنّة، وأُخرى بالنفس الكافرة الفاجرة، وثالثة مطلق النفس لكن يخصّصون محل اللوم بيوم القيامة، ويقولون: ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلّا وهي تلوم نفسها يوم القيامة إن كانت عملت خيراً قالت: هلا أزددت، وإن كانت عملت سوءاً قالت: ياليتني لم أفعل.

كلّ ذلك من قبيل تطبيق الكلّي على المصداق، لأنّ الآية تحكي عن المنزلة العظيمة التي تتمتّع بها النفس إلى الحدِّ الذي أقسم بها سبحانه، ولولا عظمتها لما حلف بها سبحانه، من غير فرق بين المؤمن والكافر، فهذه موهبة من اللّه سبحانه للإنسان الذي كرّم اللّه مقامه حتى نرى أنَّ قضاة المحكمة التي أُسّست بأمر نمرود وصلوا إلى مرتبة عادوا يلومون أنفسهم لأجل عبادة الأصنام التي لاتقدر على النطق والدفاع عن نفسها، وهذا هو الذي يحكيه عنهم سبحانه:

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظّالِمُونَ ) .(3)

بيانه: إنّ إبراهيم عليه السلام لمّا حطّم الأصنام وجعلها جذاذاً إلّاكبيراً لهم لعلّ

ص:390


1- . شرح نهج البلاغة: 18/2.
2- . أُسد الغابة: 180/3.
3- . الأنبياء: 64.

القوم يرجعون إليه ويرتدعون عن عقيدتهم بإلوهيّتها فلمّا رجعوا ووقفوا على أنّه عمل إبراهيم أحضروه للاقتصاص منه، وخاطبوه بقولهم: (أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا) (1)، فأجابهم إبراهيم (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) (2)، ثم أمرهم بالسؤال عن الجريمة التي ارتكبها؟! فبُهت الجمع من هذا السؤال وظلوا صامتين لعجزهم عن الإجابة، فعندئذ تبيّن لهم أنّ مثل هذا الصنم أحط من أن يعبد، فاستيقظ وجدانهم وأخذت نفوسهم تلومهم على النهج الذي اختطوه، بل الآلهة التي عبدوها حيث وجدوا أنّها غير خليقة بالعبادة والخضوع وهذا ما يحكي عنه القرآن بقوله: (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظّالِمُونَ ) (3)، أي خاطبوا أنفسهم بالظلم، فكأنّه قال بعضم لبعض: أنتم الظالمون حيث تعبدون ما لايقدر على الدفع عن نفسه، وما نرى الأمر إلّاكما قال هذا الفَتى .

هذه هي النفس اللوامة التي تظهر بين الحين والآخر وتزجر الإنسان عن ارتكاب الذنوب.

ما هي الصلة بين المقسم به وجواب القسم ؟

إنّ القسم يتشكّل من أمرين:

1. المقسم به.

2. جواب القسم الذي يعبر عنه ب (المقسم له).

و من المعلوم أنّه يجب أن توجد بينهما صلة، فهذا أصل سائد في عامّة

ص:391


1- . الأنبياء: 62.
2- . الأنبياء: 63.
3- . الأنبياء: 64.

الأقسام التي وردت في الذكر الحكيم، وقد أهمل المفسّرون البحث حول الصلة بين المقسم به والمقسم له، وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في كتابنا: «الأقسام في القرآن الكريم»، ولكن الصلة هنا واضحة، أمّا الشق الأوّل أي القسم بيوم القيامة فالصلة بينه وبين الدعوة إلى البعث والإخبار عنه واضحة، و هكذا بين الإقسام بالنفس اللوامة وجواب القسم (لتبعثنّ ) وذلك من وجهين:

1. ما مرّ من أنّ النفس اللوامة كما تلوم الإنسان في هذه الدنيا، فهي - أيضاً - تلومه في الآخرة لما يظهر لها من الآثار السيّئة لأفعالها.

2. وجود التشابه بين النفس اللوامة ويوم القيامة في أنّ كّلاً منهما محكمة يُحكم فيها على الإنسان بالجزاء والعقاب، غير أنّ النفس اللوامة محكمة خاصّة لكل إنسان، يُحاكَم الإنسان فيها عن طريق النفس اللّوامة ويندد بأعماله الإجرامية، وأمّا يوم القيامة فهو محكمة عامّة تشمل جميع البشر، فهناك يظهر اللوم من كلّ إنسان قد قصّر في عمله.

إلى هنا تمّ تفسيرنا للآيتين: الأُولى والثانية، ولكن يبقى الكلام في تفسير المراحل الأُخرى للنفس، وهي المطمئنة والراضية والمرضية، ونشير إلى معانيها على وجه الإيجاز، لكونها خارجة عن محط البحث.

4. النفس المطمئنّة

المطمئنّة: اسم فاعل من اطمأنّ ، يطلق على الإنسان إذا كان هادئاً غير مضطرب ولا منزعج، إنّما الكلام في متعلّق الاطمئنان، فهل المراد اليقين بوجود اللّه ووحدانيته، أو اليقين بوعد اللّه، والإخلاص في العمل ؟

ص:392

الظاهر أنّ المراد غير ذلك؛ لأنَّ ما ذُكر من مقوّمات الاطمئنان، بل النفس المطمئنّة هي التي تسكن إلى ربها وترضى بما رضي به، فإذا تواترت عليها النعم لم تُسبّب لها الطغيان والتعالي والاستكبار، وإذا ما ضيّق عليها الفقر والعوز فلايخرجها ذلك إلى الكفر وترك الشكر فنفوسهم مستقرة في العبودية لاتخرج عن الصراط المستقيم بإفراط أو تفريط، قال سبحانه: (أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (1)، فالنفس المطمئنة كالجبل الراسخ لا تحركها العواصف في إدبار الدنيا وإقبالها، فهي مطمئنة عند أهوال الدنيا الرهيبة وعند تواتر النعم وغشيانها.

5. النفس الراضية

6. النفس المرضية

فإذا بلغت النفس مرتبة الاطمئنان فستكون راضية بتقدير اللّه سبحانه، من غنى أو فقر أو قوة أو ضعف، سواء رفعتها السياسة إلى درجة عالية أو أنزلتها العوامل المادية وحاصرتها في زاوية الإهمال والنسيان، ففي كلّ الحالات النفس راضية بما قُدّر لها، وبالتالي إذا رضي العبد من ربه، رضي الرب منه، إذ لايسخطه تعالى إلّاخروج العبد من زيّ العبودية، فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضا ربه عنه فصارت نفسه مرضيّة.

و في الدعاء المروي عن الإمام الصادق عليه السلام عقيب زيارته جدّه الامام أمير المؤمنين عليه السلام، ما يشير إلى ذلك وهو: اللّهم اجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك، مولعة بذكرك ودعائك، محبّة لصفوة أوليائك، محبوبة في أرضك وسمائك، صابرة على نزول بلائك، شاكرة لفواضل نعمائك، ذاكرة لسوابغ

ص:393


1- . الرعد: 28.

آلائك، مشتاقة إلى فرحة لقائك، متزودة التقوى ليوم جزائك، مستنّة بسنن أوليائك، مفارقة لأخلاق أعدائك، مشغولة عن الدنيا بحمدك وثنائك.

كلام حول مرضاة اللّه تعالى

الإنسان الكامل هو الذي لايفعل شيئاً ولايتركه إلّاابتغاءً لمرضاة اللّه تبارك وتعالى، فتذوب في نفسه كلّ الحوافز، إلّاداعٍ واحد هو طلب رضا اللّه سبحانه، فإذا بلغ هذه الدرجة فقد بلغ الذروة من الكمال إلى درجة لا يتمنّى وقوع ما لم يقع أو عدم ما وقع، وإلى ذلك المقام يشير الحكيم السبزواري في منظومته، قائلاً:

و بهجة بما قضى اللّه رضا وذو الرضا بما قضى ما اعترضا

أعظم باب اللّه، في الرضا وُعى و خازن الجنة رضواناً دُعى

فقرا على الغنى صبورٌ ارتضى وذان سيّان لصاحب الرضا

عن عارف عُمّر سبعين سنة إن لم يقل رأساً لأشياء كائنة

يا ليت لم تقع ولا لما ارتفع ممّا هو المرغوب ليته وقع(1)

و قد جاء في وصايا الإمام الباقر عليه السلام لجابر بن يزيد الجعفي ما له صلة بالمقام، قال عليه السلام: «واعلم أنّك لاتكون لنا وليّاً حتّى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا: إنّك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا: إنّك رجلٌ صالح لم يسرّك ذلك، ولكن أعرض نفسك على كتاب اللّه، فإن كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبه، خائفاً من تخويفه، فاثبت وأبشر، فإنّه لايضرّك ما قيل

ص:394


1- . منظومة الحكيم السبزواري: 352.

فيك. وإن كنت مبائناً للقرآن فماذا يغرّك من نفسك».(1)

***

وروي أنّ جابر بن عبداللّه الأنصاري رضى الله عنه ابتلي في آخر عمره بضعف الهرم والعجز، فزاره محمد بن عليّ الباقر عليه السلام فسأله عن حاله، فقال: أنا في حالة أُحبّ فيها الشيخوخة على الشباب، والمرض على الصحّة، والموت على الحياة. فقال الباقر عليه السلام:

«أمّا أنا ياجابر، فإن جعلني اللّه شيخاً أُحبّ الشيخوخة، وإن جعلني شابّاً أُحبّ الشبوبة، وإن أمرضني أحبّ المرض، وإن شفاني أحبّ الشفاء والصحّة، وإن أماتني أُحبّ الموت، وإن أبقاني أُحبّ البقاء».

فلمّا سمع جابر هذا الكلام منه قبّل وجهه، وقال صدق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه قال: «ستدرك لي ولداً اسمه اسمي، يبقر العلم بقراً كما يبقر الثور الأبيض»؛ ولذلك سمّي باقر علم الأوّلين والآخرين، أي شاقه.(2)

الآيات الثالثة والرابعة والخامسة:

اشارة

(أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) (3).

المفردات:

ص:395


1- . بحار الأنوار: 163/78-164.
2- . مسكّن الفؤاد: 77 (المطبوع ضمن المصنفات الأربعة للشيخ زين الدين بن علي العاملي الشهيد الثاني رحمه الله).
3- . القيامة: 3-5.

1. نسوّي: من التسوية: تقديم الشيء وإتقان الخلق، قال تعالى: (وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها) (1)، وقال سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى) (2).

2. البنان: جمع بنانة، أطراف الأصابع، وهو اسم.

3. الفجر: شقّ الشيء شقّاً واسعاً، قال تعالى: (وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) (3)، وقال: (وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) (4)... ومنه قيل للصبح: الفجر لكونه فجّر الليل ثم قال: والفجور شقّ ستر الديانة، يقال: فجر فجوراً، فهو فاجر، وجمعه فجّار وفجرة.(5)

4. أمام: أصله اسم للمكان، يقابله خلف، ويطلق مجازاً على الزمان المستقبل.

التفسير:

قوله تعالى: (أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) .(6)

الآية دليل على جواب القسم المقدّر الذي مرّ وهو: لتبعثن...

وتدل على أنّ المخاطب يستبعد أو يستنكر إمكان جمع العظام الرميم، ويقول في نفسه: هل يمكن أن تجمع هذه العظام المبعثرة في أطراف العالم، ومختلف الأرض ؟! وقد ورد هذا النوع من الاستنكار في غير واحدة من الآيات، حيث كان الناس يتصوّرون أنّ جمع العظام أمر محال نقله سبحانه عنهم في الآية

ص:396


1- . الشمس: 7.
2- . الأعلى: 2.
3- . القمر: 12.
4- . الكهف: 33.
5- . المفردات للراغب: 373، مادة «فجر».
6- . القيامة: 3.

التالية: (وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ) .(1)

و المستنكر يقيس قدرته سبحانه بقدرة نفسه، فلمّا كان الإنسان غير قادر على إحياء العظام وجمع شتاتها فعطف عليه قدرة اللّه تعالى، وهؤلاء هم الذين يصفهم سبحانه بقوله: (وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (2)؛ وقد أُجيب عن هذا النوع من الاستنكار في مختلف الآيات بأجوبة قاطعة، مثلاً أُجيب في سورة «يس» بقوله:

(وَ نَسِيَ خَلْقَهُ ) ثم أشار في الآية التالية بقوله: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (3)، وفي آية أُخرى: (وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (4)، وبما أنّا بسطنا الكلام في الإجابة عن هذه الشبهة في موسوعتنا (مفاهيم القرآن)، نقتصر بذلك ونعود إلى تفسير الآية التالية.(5)

قوله تعالى: (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) (6).

إنّ تسوية البنان عبارة عن تصويرها على ما هي عليه من الصور والخطوط، والمعنى : نحن نجمع العظام مضافاً إلى تصوير بنانه على الصورة التي كانت عليها في الخلق الأوّل.

و قد أثبت العلم الحديث أنّ كلّ إنسان تختلف بصمات أنامله عن الإنسان الآخر، ولايوجد فردان يتساويان في بصمات الأنامل حتى التوائم. و

ص:397


1- . يس: 78.
2- . الأنعام: 91.
3- . يس: 79.
4- . الروم: 27.
5- . لاحظ: مفاهيم القرآن: 8/51.
6- . القيامة: 4.

بذلك ظهر وجه الترقي في قوله تعالى: (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) فاللّه سبحانه قادر على جمع العظام بل على الأعظم منه وهو تسوية البنان بما لها من الصور والخصوصيات.

إنَّ لبنان الإنسان دوراً كبيراً في القبض والبسط والأخذ والردّ، كما أنّ لها دوراً في الأعمال الدقيقة والصنائع الظريفة، فلولا البنان لما استطاع الإنسان الكتابة وتدوين الأفكار والنظريات وبالتالي تُعَرقَل مسيرةَ العلم وتتأخر عجلة تطور البشرية.

وهنا قصّة ظريفة وهي أنّ شيخنا الرضي الزنوزي - قدّس اللّه سرّه - كان أحد أعلام الفقه المحنكين في تبريز، قلّما يتفق بين الفقهاء مثله، وكان أخوه طبيباً ماهراً، وله كتاب في تاريخ الأطباء.

قال الشيخ الرضي: كنت في البيت إذ دخل عليّ أحد المؤمنين، وطلب منّي الاستخارة ففتحت المصحف بعد الدعاء الخاص، فخرجت هذه الآية:

(بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) .

بعد ذلك سألت الأخ المؤمن عن الغاية من هذه الاستخارة، فأجاب: بأن أناملي مجروحة وأُريد أن أذهب إلى أخيك لمداواتها. انظر كيف تكون الاستخارة هادية إلى طالب الخير!

قوله تعالى: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) (1).

هذه الآية ترشدنا إلى سبب استنكارهم المعاد واستبعادهم له، وتشدّقهم

ص:398


1- . القيامة: 5.

بكلام خشن لايناسب قدرة اللّه سبحانه بقولهم: (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ) (1)؟!

إنّ السبب لإنكار المعاد هو أنّ المنكرين يريدون شقّ ستر الديانة والعصيان، والمخالفة وعدم الالتزام بشيء من المنهيات، فلذلك عادوا يستنكرون المعاد، لمّا عرفوا أنّ الاعتقاد به لاينسجم مع ميل الإنسان إلى التحرّر عن القيود والضوابط التي يراها تقييداً للحرية.

فالإنسان من جانب يريد التوغّل في الشهوات والأهواء والخروج عن الحدود الشرعية، ومن جانب آخر يرى أنّ الاعتقاد بالمعاد على طرف النقيض من تلك الميول، فيعود يقدم الميول ويستنكر المعاد.

فالغاية من إنكار المعاد التحرّر من كلّ قيد، ومن كلّ التزام عقلي وشرعي، ولذلك يقول تعالى: (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) ويعصي مستقبل حياته وبقيّة عمره.

و ليس هذا النوع من الاستنكار مختصّاً بالاعتقاد بيوم القيامة، بل كلّ إنسان - لم يرض بتشريعه سبحانه - إذا رأى أنّ قسماً من تعاليمه على طرف النقيض من منافعه ومصالحه فيقوم بإنكاره، وفي الوقت نفسه لو كانت هذه القوانين تصبّ في مصلحته فهو يعود إلى تأييدها والالتزام بها.

قال الإمام الحسين عليه السلام: «إنّ الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محصّوا بالبلاء قلّ الديّانون»(2).

ص:399


1- . يس: 78.
2- . تحف العقول: 245.

وفي نهاية الكلام نقول: إنّه سبحانه يذكر ارتكاب الحرام والمنكرات بلفظة «يفجر» الذي عرفت أنّه عبارة عن شقّ ستر الديانة، ولعلّ التعبير عن ارتكاب الحرام بالفجور إشارة إلى أنّ كلّ جريمة تصدر من الإنسان مسبوقة في بدء الحياة بميول ضعيفة نحو الجريمة، غير أنّه إذا ازدادت هذه الميول واشتدت إلى حدّ قد بلغ مرحلة لايستطيع كبح جماح الهوى، فعند ذلك تورث التفجّر وتدفع بالإنسان نحو الجريمة.

***

ص:400

الآية السادسة:

اشارة

(يَسْئَلُ أَيّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) .

المفردات:

أيّان: اسم زمان للبعيد، يقول تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها) (1).

التفسير:

إنّ هؤلاء الذين أنكروا جمع العظام وتسوية البنان عادوا يسألون النبي صلى الله عليه و آله عن وقت القيامة وتعيين زمانها بالضبط، ومن المعلوم أنّ هذا السؤال ليس سؤالاً جدّياً بل هو أشبه بالهزل، وذلك:

أوّلاً: أنّه سبحانه إذا أخبر بوقوع القيامة في المستقبل يجب أن يؤخذ بقوله، فالسؤال عندئذ عن وقتها بصورة الشكّ والتردّيد ساقط عند المؤمن باللّه والّذي صدق كلامه.

و ثانياً: أنّه سبحانه خصّ العلم بوقت القيامة لنفسه، قال اللّه تعالى: (إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ) (2) وقال سبحانه: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ) .(3)

و ثالثاً: لايترتّب على الاجابة عن هذا السؤال أي فائدة، فلنفرض أنّه

ص:401


1- . الأعراف: 187.
2- . لقمان: 34.
3- . الأعراف: 187.

سبحانه أجابهم وقال بأنّ الساعة بعد عشرة آلاف سنة، أو أكثر، فماذا يترتّب عليها من الفائدة ؟ أضف إلى ذلك: أنّه إذا أُجيبوا عن سؤالهم على وجه الضبط والدقة كيف يمكن إثبات ذلك للخصم ؟!

كلّ ذلك يدلّ على أنّ في هذا النوع من الأسئلة شغباً وتبريراً لانغماسهم بالشهوات والجرائم.

لذا نرى أنّه سبحانه أجاب عن سؤالهم هذا - أعني مكان تعيين وقتها - بوجه آخر، فأجاب - بدل تعيين وقتها - ببيان أهوالها، وهذا ما سنراه في الآيات التالية.

***

الآيات السابعة إلى الثالثة عشرة

اشارة

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَ خَسَفَ الْقَمَرُ * وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلاّ لا وَزَرَ * إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ) .

المفردات:

برق: البرق لمعان السحاب، قال سبحانه: (فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ ) .(1)

و المراد هنا اضطراب العين، ففي المفردات: برقت العين إذا اضطربت وجالت من الخوف.(2) والمراد الخوف والاضطراب والدهشة الّتي تصيب

ص:402


1- . البقرة: 19.
2- . المفردات للراغب: 43، مادة «برق».

الإنسان وتظهر آثارها في العين.

الخسوف: زوال نور القمر.

الوزر: الملجأ من جبل أو حصن. يقول الراغب: الوزر الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل.(1)

التفسير:

عدل سبحانه عن تعيين وقت ليوم القيامة، إلى بيان أهوال القيامة وأشراطها؛ لأنّ العلم بهذه الأهوال له تأثير تام في كبح جماح العصاة والمذنبين، فذكر من أهوالها الأُمور التالية:

1. (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) : وتحيّر الإنسان في إبصاره.

2. (وَ خَسَفَ الْقَمَرُ) : بزوال نوره.

3. (وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ) : أي زال النظام السائد، حاكياً عن انتهاء حياة الإنسان على هذا الكوكب.

4. (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) : أي بعد أن تشتد أهوال القيامة، يطلب الإنسان ملجأً حتى يتحصّن به ويحفظ نفسه عن عذاب القيامة، فيجاب:

5. (كَلاّ لا وَزَرَ) : أي ليس هناك مكان يلجأ إليه للتوقّي عن الإصابة بالمكروه، وإنّما المصير عندئذ إلى اللّه كما يقول:

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) : والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه و آله و (إِلى رَبِّكَ ) متعلّق بقوله (الْمُسْتَقَرُّ) قدم الظرف لإفادة الحصر، والمعنى : والجميع يحشر إلى اللّه

ص:403


1- . المفردات للراغب: 521، مادة «وزر».

كقوله سبحانه، (وَ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ) (1).

قوله تعالى: (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ) .(2)

لمّا أفاد قوله سبحانه: (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أنّ مصير الناس إلى اللّه سبحانه، بيّن بقوله (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ ) أنّ كلّ إنسان مؤمناً كان أو كافراً ينبّأ يومئذٍ بما قدّم من الأعمال الصالحة أو الطالحة، أمّا ما قدّم فهي الأعمال التي قام بها مباشرة أيام حياته سواء أكانت صالحة فيثاب عليها، أم طالحة فيعاقب عليها.

أمّا ما تأخر فهي الأعمال التي قام بها في أيام حياته لكن لم تنقطع آثارها بعد وفاته، من غير فرق بين العمل الصالح وأثره الباقي، أو العمل السيِّئ وآثره الباقي بعد الموت. وقد أُشير إلى هذا النوع من العمل الذي عبّر عنه سبحانه بقوله: (أَخَّرَ) في السنّة الشريفة، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلّا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة تجري له، أو ولد صالح يدعو له».(3)

و روي عن الإمام الكاظم عليه السلام أنّه قال: «من استنّ بسنّة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها، من غير أن ينقص من أُجورهم شيء؛ ومن استنّ بسنّة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».(4)

فإنّ هذه الرواية تدلّ على أنّ الإنسان لا يُجزى بأعماله السابقة فقط، بل يجازى أيضاً على الأعمال التي عملها في حياته ولكن بقيت آثارها بعدها.

ص:404


1- . آل عمران: 28.
2- . القيامة: 13.
3- . بحار الأنوار: 23/2.
4- . مستدرك الوسائل: 229/12، كتاب الأمر بالمعروف، الباب 15، الحديث 13956.

ثم إنّ الإنسان ينبّأ بما قدّم وأخّر من طرق مختلفة:

1. كُتّاب الأعمال من الملائكة

دلّت غير واحدة من الآيات على أنّ الملائكة من شهداء الأعمال، هم الذين يستنسخون ما يقوم به الإنسان من أعمال ثم يشهدون عليه يوم القيامة، ثم يسوقون المشهود عليه إلى الحساب، قال سبحانه: (وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ) (1).

يقول الإمام علي عليه السلام: «وَانْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ وَالْمَوَاعِظِ، فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخالِبُ الْمنيَّةِ وَانْقَطَعَتْ مِنْكُمْ عَلائقُ الْاُمْنِيَّةِ وَدَهِمَتْكُمْ مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ، وَالسِّيَاقَةُ إِلَى الْوِرْدِ الْمَوْرُودِ، ف (كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ) سَائِقٌ يَسُوقُهَا إلِى مَحْشَرِهَا؛ وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا».(2)

و آية أُخرى قال سبحانه: (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) .(3)

و قال عز من قائل: (وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ * كِراماً كاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) .(4)

المستفاد من هذه الآيات أنّ كُتّاب الأعمال هم الشهود عند اللّه في المحشر، وهم السُوُّاق إلى النار أو إلى الجنّة.

2. الأرض، أخبر سبحانه بأنّ الأرض تحدِّث أخبارها عند يوم القيامة

ص:405


1- . ق: 21.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 85.
3- . ق: 18.
4- . الانفطار: 10-12.

فقال: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) .(1)

و لعل ما تحدِّث به الأرض هو الأعمال الصادرة عن الإنسان فوق هذا الكوكب، سواء أكانت خيراً أم شرّاً، ولذلك ذكر في آية تالية كلّاً من جزاء الخير والشر وقال: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) .(2)

و قد روي في السنّة الشريفة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «أ تدرون ما أخبارها؟» قالوا: اللّه ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه و آله: «أخبارها: أن تشهد على كلّ عبد، وأنّه بما عمل على ظهرها، تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا، وهذا أخبارها».(3)

و أمّا أنّ الأرض مع كونها من أصناف الجماد كيف تتحمّل الشهادة وتشهد يوم القيامة فهو خارج عن موضوع بحثنا، ولكن المستفاد من الذكر الحكيم أنّ كلّ موجود وإن بلغ من الضعف بمكان له نصيب من العلم والإدراك حتى قال سبحانه: (وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) .(4)

3. صحيفة الأعمال

إنّ الصحف التي كتبتها الملائكة الموكّلون على أعمال الإنسان تشهد على الإنسان، قال سبحانه: (قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما

ص:406


1- . الزلزلة: 4-5.
2- . الزلزلة: 6-8.
3- . مجمع البيان: 798/10.
4- . الإسراء: 44.

تَمْكُرُونَ ) .(1)

إنّ صحيفة الأعمال تشتمل على كلّ صغير وكبير، على وجه يتعجّب منها الإنسان ويقول: (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها) .(2) وأمّا ما هي ماهية هذه الصحيفة التي لايشذ عنها ما دقّ وجل، فهي غير معلومة، ويمكن أن تكون مع صغرها حاوية لمعلومات كثيرة تناهز الملايين كالأقراص الكامبيوترية المضغوطة في أيامنا هذا.

***

ص:407


1- . يونس: 21.
2- . الكهف: 49.

الآيتان الرابعة عشرة والخامسة عشرة:

اشارة

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ ) .(1)

المفردات:

بصيرة: هل البصير صفة مشبهة والهاء للمبالغة، كما يقال: رجل علّامة و نسّابة، أو أنّها مصدر من باب التفعيل ؟ فعلى الأوّل بمعنى مبصر شديد المراقبة، فيكون خبراً للإنسان، وقوله: (عَلى نَفْسِهِ ) متعلّقاً ب (بَصِيرَةٌ ) أي الإنسان بصير بنفسه.

و على الثاني هو أيضاً خبر للإنسان ولكن من باب (زيد عدل)، فالإنسان لأجل إحاطته بما صدر عنه كأنّه نفس البصر والعلم.

معاذير: اسم جمع (معذرة) وليس جمعاً حقيقياً؛ لأنّ معذرة تجمع على (معاذر) لا (معاذير).

التفسير:

قوله تعالى: (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) .

لمّا أفاد سبحانه في الآيات المتقدّمة على وجود شهود على أعمال الإنسان خارجة عن صميم ذاته، فتكون منزلتهم بمنزلة بيّنة الخارج، وأشار في هذه الآية إلى أنّ هناك شهوداً في داخل حياة الإنسان فتكون منزلتهم بمنزلة بيّنة الداخل، وهو أنّ أعضاء الإنسان وجلوده تشهد على ما عمل، فالأعضاء

ص:408


1- . القيامة: 14-15.

والجوارح بمنزلة الشهود على ما صدر من الإنسان، قال سبحانه: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .(1)

و ربما يستفاد من بعض الآيات أنّه يُختم على أفواههم وتتكلّم أيديهم وتشهد أرجلهم، قال سبحانه: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .(2) حتى أنّه سبحانه يشير إلى شهادة السمع والبصر والجلود، ويقول: (حَتّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .(3)

قوله تعالى: (وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ ) .(4)

أي إنّ الإنسان رغم كثرة هذه الشهود والحجج يحاول أن يدفع التهمة عن نفسه ويثبت براءته من الذنب والمعصية، ويتشبّث بأعذار واهية تبرّر ما صدر منه من الذنوب والمنكرات، وهو يعلم أنّ الأعذار كلّها باطلة ليس لها قيمة في يوم الحساب، لأنّ نفسه شاهدة على جرائمه.

***

ص:409


1- . النور: 24.
2- . يس: 65.
3- . فصّلت: 20.
4- . القيامة: 15.

الآيات السادسة عشرة إلى التاسعة عشرة:

اشارة

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) .(1)

المفردات:

التحريك: تصيير الشيء من مكان إلى مكان آخر، ومن جهة إلى جهة.

اللسان: آلة الكلام.

العجلة: عمل الشيء قبل وقته الذي يبنغي أن يعمل فيه، ونقيضه الإبطاء.

قرآنه: القرآن في الموضعين بمعنى القراءة مثل الغفران والفرقان.

البيان: إظهار المعنى بما يتميّز به عن غيره، نقيض الإفتاء والإغماض.

الجمع: ضم شيء بتقريب بعضه من بعض.

التفسير:

هذه الآيات الأربع جُمَل معترضة لا صلة لها بما تقدّم وبما سيأتي؛ وذلك لأنّه بينما يبحث في يوم القيامة وعقيدة المشركين والمنكرين فيها، وما هو السبب لإنكارهم، فإذا به سبحانه يأمر النبي صلى الله عليه و آله بعدم تحريك لسانه بالقرآن لغاية التعجيل به، ثم يعده بأنّ جمعه وقرآنه عليه سبحانه، ثم يأمره باتّباع قراءة جبرئيل، ويعطف عليه أنّ عليه سبحانه بيان القرآن، والمجموع من حيث المجموع يفقد الصلة بما تقدّمه وبما تأخّر عنه.

ص:410


1- . القيامة: 16-19.

و نرى نظير ذلك في سورة البقرة حيث إنّه سبحانه يذكر أحكام المطلقة ويقول: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) .(1)

ثم يذكر في الآية 240 حكم النساء اللاتي يتوفّى أزواجهن ويقول:

(وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .(2)

وفي الوقت نفسه يذكر بين هاتين الآيتين قوله: (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) .(3) ترى أنّ الآيتين لا صلة لهما بما تقدّم من أحكام النساء عند الطلاق أو عند توفّي أزواجهنّ .

و مثله ما في سورة مريم حيث يذكر في الآية 60 إلى 63 إلى أنّ أصحاب الجنة: (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاّ سَلاماً) إلى آخر ما ذكر، كما يذكر في الآية 66 قول المشركين الذين ينكرون عودة الإنسان إلى الحياة حيث يقول: (وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) (4)، وفي الوقت نفسه يذكر بينهما نزول الملائكة وأنّه بأمر ربهم وأنّ للّه سبحانه الماضي والحال والمستقبل، قال تعالى:

ص:411


1- . البقره: 237.
2- . البقرة: 240.
3- . البقرة: 238-239.
4- . مريم: 66.

(وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) .(1)

فما هو وجه الحلّ في هذه الموارد الثلاثة ؟

أمّا ما ورد في سورتي البقرة ومريم فنكيل بيان الصلة فيهما إلى محلّه؛ وأمّا المقام فبيان الصلة رهن تفسير الآيات وبيان ما هو المراد منها؟ فقد ذكروا وجوهاً ثلاثة:

الوجه الأوّل: ما نقل عن القفّال أنّه قال: قوله: (لا تُحَرِّكْ ) ليس خطاباً للنبي صلى الله عليه و آله، بل خطاب للإنسان المذكور في قوله تعالى: (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ ) (2)، وذلك حال إنبائه بقبائح أفعاله، يعرض عليه كتابه فيقال له: إقرأ كتابك (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) ، فإذا أخذ بالقراءة تلجلج لسانه من شدّة الخوف و سرعة القراءة، فقيل له: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) ، فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك، فإذا قرأناه عليك فاتّبع قراءته بالإقرار بأنّك فعلت تلك الأفعال أو التأمّل فيه، ثم إنّ علينا بيانه أي بيان أمره وشرح عقوبته.(3)

فعلى هذا فالصلة بين هذه الآيات وما تقدم عليها وما تأخر عنها واضحة.

يلاحظ عليه: بأنّه أشبه بالتفسير بالرأي:

أمّا أوّلاً: فقد ورد مضمون الآيات في آية أُخرى، قال سبحانه: (وَ لا

ص:412


1- . مريم: 64.
2- . القيامة: 13.
3- . روح المعاني: 143/29.

تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ،(1) ويقول سبحانه: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ) (2) أي نجعلك قارئاً للقرآن فلا تنساه أبداً.

و ثانياً: أنّ ما ذكر يخالف ظاهر الجمل حيث يقول: (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ) (3)، وذلك لأنّ الصحيفة التي تدفع إلى الإنسان يوم القيامة جامعة لكلّ صغيرة وكبيرة وجليل وحقير لاتحتاج إلى الجمع والقراءة، يقول سبحانه عن لسان الكافر: (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها) .(4)

الوجه الثاني: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا نزل عليه القرآن يسارع في إعادة تلاوته، أو تكون له رغبة شديدة في حفظه، فكان يلاقي من ذلك شدّة وجهد، فأنزل اللّه تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ) ،(5) أي جمعه في صدرك ثم تقرأه، فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه، أي فاستمع وأنصت، ثم إنّ علينا أن نبيّنه بلسانك.

و لعلّ هذا التفسير مأخوذ ممّا رواه البخاري، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا نزل جبرئيل عليه بالوحي، وكان ممّا يحرك به لسانه وشفتيه فيشتدّ عليه، و كان يُعرف منه فأنزل اللّه الآية التي في (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) (6): (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ) (7)، قال: علينا أن نجمعه في صدرك، وقرآنه (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) (8)، فإذا أنزلناه فاستمع (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا

ص:413


1- . طه: 114.
2- . الأعلى: 6.
3- . القيامة: 17.
4- . الكهف: 49.
5- . القيامة: 16-17.
6- . القيامة: 1.
7- . القيامة: 16-17.
8- . القيامة: 18.

بَيانَهُ ) (1) علينا أن نبيّنه بلسانك، قال: فكان إذا أتاه جبرئيل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده اللّه تعالى.(2)

يلاحظ عليه: أنّ هذا التفسير لايلائم أمرين:

الأوّل: قوله (لِتَعْجَلَ بِهِ ) : فلو كان تحريك لسانه عقب سماعه من جبرئيل لغاية عدم نسيانه، كان اللازم أن يقول: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لئلا تنساه) مع أنّه جعل غاية الحركة هو العجلة في القرآءة.

الثاني: أنّ أمره بالإنصات في قوله: (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) يدلّ على أنّ واجب النبي صلى الله عليه و آله هو السماع من جبرئيل وإنصاته ثم قراءته، فكلّ ذلك لايتلاءم مع الوجه الثاني.

الوجه الثالث: أنّ المراد من الآيات أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يبادر عندما يقرأ جبرئيل إلى قراءة ما لم يقرأ بعد ويحرك به لسانه، فأُمر بعدم التحريك والإنصات حتى يتمّ الوحي، فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلّم أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلّم باللفظة و اللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلّم، وذلك يشغله عن التجرد للإنصات، فيقطع المتكلّم حديثه ويعترض ويقول: لاتعجل بكلامي وأنصت لتفقه ما أقول لك، ثم يمضي في حديثه.(3)

و هذا المعنى ينطبق على الجملتين الماضيتين أعني: (لِتَعْجَلَ بِهِ ) وقوله:

ص:414


1- . القيامة: 19.
2- . صحيح البخاري: 1260، برقم 4929، كتاب تفسير القرآن، باب (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه).
3- . تفسير الميزان: 109/20.

(فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) .

ثم إنّ الظاهر من قوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي بيان معانيه لا ألفاظه حتى يكون المعنى بيانه للناس عن طريق بيان النبي صلى الله عليه و آله لأنّ البيان غير القراءة، فاللّه سبحانه يعد النبي صلى الله عليه و آله بأمرين:

1. قراءة القرآن حتى يتبع قراءته.

2. تبيين مفاد الآيات وحقائقها.

و يشهد على ما ذكرنا قوله سبحانه: (وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).

إلى هنا تمّ تفسير هذه الآيات، وأمّا وجه الصلة بينها وبين ما تقدّم وتأخرّ من الآيات، فيمكن أن يقال: نزلت الآيات المتقدّمة وكان النبي صلى الله عليه و آله عند نزولها يعجل ويبادر إلى قراءة ما لم يقرأ، فنزلت هذه الآيات في تأديب النبي صلى الله عليه و آله من اللّه سبحانه، ثم انتقل سبحانه إلى ما هو الغرض الأصلي في السورة، وهذا أمر رائج عند إلقاء الكلام، مثلاً: ربما يكون الخطيب مستمراً في إلقاء خطبته، وفي الأثناء يواجه الخطيب مشكلة في المجلس، ويريد حلّها فيقطع كلامه لبيان الحل، ثم يرجع إلى كلامه في الموضوع الذي كان يبحث فيه، فمن كان حاضراً في المجلس رأى جميع الكلام مرتبط بعضه ببعض ومن كان في خارج المجلس ربما يستغرب من عدم وجود ارتباط، والمقام من هذا القبيل، فعندما كان جبرئيل يقرأ عليه كان النبي صلى الله عليه و آله يبادر إلى قراءة ما لم يسمع، فخوطب من

ص:415


1- . النحل: 44.

اللّه سبحانه في أثناء الآيات بالإنصات والإناة والقراءة بعد تمام الكلام، ويؤيد ذلك ما في ذيل رواية النبي صلى الله عليه و آله حيث جاء فيها: فكان إذا أتاه جبرئيل أطرق فإذا ذهب قرأ.(1)

***

الآيتان العشرون والحادية والعشرون

اشارة

(كَلاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ * وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) .(2)

المفردات:

العاجلة: الأغراض الدنيوية.

تذرون: لم يوجد في لغة العرب صيغة الماضي من هذه المادة، ولذلك قالوا في علم الصرف: وأماتوا ماضي يذر ويدع. وعلى كلّ تقدير فهو بمعنى قذف الشيء لقلّة اعتداده، وكأنّ الأغراض الدنيوية هي التي يعتدّ بها والآخرة على الخلاف منها.

التفسير:

قوله تعالى: (كَلاّ) رجوع أيضاً إلى بيان ما هو السبب لإنكار المعاد، فذكر أوّلاً أنّ السبب هو أنّ هؤلاء يريدون الفجور في حياتهم وهو لاينسجم مع القول بالمعاد ومحاسبته العباد، وثانياً يفصّل ذلك السبب بقوله: إنّهم يحبون شهوات الدنيا ويتركون الآخرة، فمن أحب العاجلة ولم يعتد بالآخرة يستنكر المعاد

ص:416


1- . مجمع البيان: 10/197؛ الدر المنثور: 6/289، تفسير سورة القيامة.
2- . القيامة: 20-21.

ويستبعده لأنّه لاينسجم مع ما يحبه، وكأنّ قوله سبحانه: (كَلاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) بيان لقوله سبحانه: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) .(1)

***

الآيات الثانية والعشرون إلى الخامسة والعشرين

اشارة

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ * وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) .(2)

المفردات:

ناضرة: النضرة الحسن كالنضارة، قال تعالى: (نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) (3) أي رونقه. و قال: (وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً) (4). يقال: نضر وجهه ينضر فهو ناضر.(5)

باسرة: شديدة العبوس، قال سبحانه: (ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ) (6) أي أظهر العبوس.

فاقرة: الداهية العظيمة تقصم فقار الظهر.

ناظرة: تقليب البصر، لإدراك الشيء ورؤيته إذا أسندت إلى العيون.

ص:417


1- . القيامة: 5.
2- . القيامة: 22-25.
3- . المطففين: 24.
4- . الإنسان: 11.
5- . المفردات للراغب: 496، ماده «نضر».
6- . المدثر: 22.

و النظر: الانتظار، يقال: نظرته وانتظرته وأنظرته: أي أخّرته، قال تعالى:

(قُلِ انْتَظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ ) (1) وقال: (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاّ مِثْلَ أَيّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ) (2).(3)

التفسير:

الآيات تشير إلى أحوال الناس يوم القيامة فهم بين أهل سعادة وأهل شقاء، فأصحاب الوجوه الناضرة من الطائفة الأُولى ، وأصحاب الوجوه الباسرة هم أصحاب الشقاء.

ولقد اختلف المفسّرون في تفسير قوله تعالى: (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) .(4)

فجرى المحدّثون على ظاهر الآية، وقالوا: المراد النظر إلى اللّه سبحانه و رؤيته يوم القيامة، أخذاً بما رواه جرير بن عبداللّه قال: كنّا جلوساً عند النبي صلى الله عليه و آله إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، قال: «إنّكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لاتضامون في رؤيته».

و بما رواه أحمد عن عمر قال، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة من ينظر إلى حياته وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرِره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على اللّه من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

ص:418


1- . الأنعام: 158.
2- . يونس: 102.
3- . المفردات للراغب: 498، مادة «نظر».
4- . القيامة: 23

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (1).(2)

و هؤلاء بهذا التفسير أثبتوا للّه جهة ووجهاً ينظر إليها أكرم عباد اللّه غدوة وعشية، وليس لهم دليل إلّاالجمود على لفظ (الناظرة) التي هي بمعنى تقليب البصر. فالنظر عندهم حسّي بصري، ويرد عليه:

أوّلاّ: أنّ صريح الذكر الحكيم ينفي أي مثل للّه سبحانه ويقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ ) (3)، فلو كان سبحانه واقعاً في جهة ينظر إليه عباد اللّه الأكرمون غدوة وعشية، يكون عندئذ موجوداً جسمانياً واقعاً في الزمان، ويكون مكان المِثل الواحد آلاف الأمثال.

ثانياً: أنّه سبحانه تبارك وتعالى ذكر مضمون هذه الآيات، في سورة عبس، في آيات أربع، فقال:

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ * تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) .(4)

فقوله سبحانه في المقام:

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) نظير قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ) .

و قوله سبحانه في المقام:

(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) نظير قوله: (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) .

فإذن المراد من قوله سبحانه: (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) نفس ما أُريد من قوله

ص:419


1- . القيامة: 22-23.
2- . روح المعاني: 145/29.
3- . الشورى: 7.
4- . عبس: 38-41.

(ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) أو قريب منه، لا الرؤية البصرية بل النظر فيه مثل النظر في قول القائل:

إنّي إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر

فإنّ نظر الفقير إلى يد الموسر ليس من قسم النظر الحسّي إلى يده، وإنّما ذكر النظر إلى اليد لينتقل منه المخاطب إلى أنّه متوقع عطاءه وإنعامه، فأصحاب الوجوه الناضرة ضاحكون مستبشرون يرجون ثواب اللّه وجزاءه، كما أنّ أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون جزاءه وعقابه الفاقر للظهر.

و نحن نعترف بأنّ النظر في الآية إنّما استعمل في معناه الحقيقي، غير أنّ النظر إذا أسند إلى العيون والابصار يراد منه غالباً النظر الحسّي، وأمّا إذا أسند إلى الوجوه فيُراد منه المعنى الكنائي، أعني: التوقّع والرجاء، فالمعنى : إنّهم يتوقّعون النعمة والرحمة من ربهم ولذلك تكون وجوههم (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) .

فلو كان المرادُ النظرَ الحسّي البصري فلماذا نسبه إلى الوجوه ولم ينسبه إلى العيون التي تلازم النسبة إليها إفادة الرؤية الحسّية ؟

ثم إنّ بعضَ من حاول الإجابة عن الاستدلال بالآية على الرؤية الحسّية فسرّ النظر في قوله و (ناضرة)، بالانتظار، ورُدّ بأنّ النظر بمعنى «الانتظار» لايتعدّى بحرف الجر، بل يتعدّى بنفسه. وردّ الإشكال باستعمال (الانتظار) مع حرف الجرّ (إلى) أيضاً كما في قول الشاعر:

وجوه ناظرات يوم بدر إلى الرحمن يأتي بالفلاح

لكن الإصرار على أنّ النظر في الآية بمعنى الانتظار ليس له وجه مُلْزِم، بل

ص:420

النظر في الآية بمعناه المعروف، إنّما الكلام في أنّه هل أُريد منه المعنى الحقيقي والرؤية الحسّية فقط، أو أنّه كناية عن معنى آخر، فالسلفيون - المغترّون بأحاديث الرؤية يوم القيامة - يحملون اللفظ على المعنى الحقيقي وهو الرؤية، إلّا أنّ المنزّهين يجعلون المعنى اللغوي كناية عن توقّع الرحمة ونزولها، والشاهد عليه مضافاً - إلى أنّه مقتضى التنزيه - ما ورد في سورة عبس كما مرّ.

بيان آخر لرفع الإبهام عن قوله: (ناظِرَةٌ )

لا شكّ أنّ الآيات المذكورة من المحكمات ولا إجمال فيها، والذي يبطل الاستدلال هو أنّ النظر سواء أكان بمعنى الرؤية أم بمعنى الانتظار لايدلّ على أنّ المراد هو الرؤية الحقيقية، ويعلم ذلك بمقارنة الآيات المذكورة بعضها ببعض، وعندئذ يرتفع الإبهام عن وجهها. وإليك تنظيم الآيات حسب المقابلة:

أ. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) يقابلها قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ) .

ب. (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) يقابلها قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) .

و لا شكّ أنّ الآيتين الأُوليين واضحتان جدّاً، وإنّما الكلام في الآية الثالثة فيجب رفع إبهامها عن طريق الآية الرابعة التي تقابلها.

و بما أنّ المراد من الآية الرابعة هو أنّ الطائفة العاصية التي عبّر عن صفتها بكونها ذات وجوه باسرة، تظن وتتوقّع أنْ ينزل بها عذاب يكسر فقارها ويقصم ظهرها، يكون ذلك قرينة على المراد من الآية الثالثة، هو أنّ الطائفة المطيعة ذات وجوه ناضرة تتوقع عكس ما تتوقّعه الطائفة الأُولى، وتنتظر فضله وكرمه. هذا هو الذي يستظهره الذهن المجرد عن كل رأي مُسْبَق، من مقابلة الآيتين.

ص:421

و بعبارة أُخرى: لايصح لنا تفسير الآية الثالثة إلّابضد الآية الرابعة. فبما أنّ الآية الرابعة صريحة في أنّ المراد توقع العُصاة العذاب الفاقر، يكون المراد من الآية الثالثة توقّع المؤمنين، الرحمةَ والفضلَ والكرمَ حتى ولو كان النظر بمعناه الحقيقي، إذ ليس كلّما أُطلق لفظ النظر يراد به الرؤية الحسّية، بل ربما يكون النظر كناية عن التوقّع والانتظار، مثلاً يقال: «فلان ينظر إلى يد فلان» ويراد أنّه رجل معدم محتاج ليس عنده شيء وإنّما يتوقّع عطاء الشخص، فما أعطاه مَلَكه وما منعه حُرِم منه. وهذا ممّا درج عليه الناس في محاوراتهم العرفية ويقال: «فلان ينظر إلى اللّه ثم إليك»، فالنظر وإن كان هنا بمعنى الرؤية لا الانتظار، ولكنّه كناية عن توقّع رحمته سبحانه أوّلاً، وكرم الشخص المأمول ثانياً، كما يقال: «يتوقع فضل اللّه سبحانه ثم كرمك».

فمحور البحث والمراد هو توقّع الرحمة وحصولها أو عدم توقّعها وشمولها، فالطغاة يظنون شمول العذاب، والصالحون يظنون عكسه وضده، وأمّا رؤية اللّه سبحانه ووقوع النظر إلى ذاته فخارج عمّا تهدف إليه الآية.

قال الزمخشري في كشّافه: وسمعت سَرَوِيّة مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم، ويأوون إلى مقائلهم تقول: «عُيَيْنَتَيَّ نُوَيْظِرَةٌ إلى اللّه وإليكم» تقصد راجية ومتوقعة لإحسانهم إليها.(1)

هذا هو مفتاح حل المشكلة المتوهّمة في الآية، فتفسير الآية برؤية ذاته غفلة عن القرينة الموجودة فيها.

ص:422


1- . تفسير الكشّاف: 622/4.

و هنا تفسيران آخران لقوله سبحانه: (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) :

الأوّل: أنّ المراد النظر إلى آثاره سبحانه، فإنّ العوالم الحسّية حتّى الغيبية التي تتجلّى للمؤمن كلّها في الدنيا والآخرة، تجليات لوجوده وظهور كماله، فأصحاب الوجوه الناظرة حيثما نظروا لايرون إلّااللّه سبحانه، أي يتجلّى وجوده لهم قبل تجلي المرأيّ ، وقد نقل عن بعض أصحاب الكمال أنّه قال: «ما رأيت شيئاً إلّاورأيت اللّه قبله وبعده ومعه» وأمّا أصحاب الوجوه الباسرة فهم لايرون إلّاعلائم العذاب وسوء العاقبة.

الثاني: الرؤية القلبية التي ينالها من كمل توحيده إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة.

ويدلّ عليه ما رواه الصدوق قدس سره بسند صحيح عن عبداللّه بن سنان، عن أبيه، قال: حضرت أباجعفر عليه السلام فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أباجعفر أيَّ شيءٍ تعبُد؟ قال: «اللّهَ »، قال: رأيته ؟ قال: «لم تره العيون بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لايعرف بالقياس، ولايُدرك بالحواس، ولايشبّه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لايجور في حكمه، ذلك اللّه لا إله إلّاهو».

قال: فخرج الرجل وهو يقول: (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .(1)

و روى الصدوق أيضاً عن أبي الحسن المفضل عن أبي عبداللّه عليه السلام قال:

«جاء حبرٌ إلى أميرالمؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين، هل رأيتَ ربك حين عبدته ؟ فقال: ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أره.

قال: وكيف رأيته ؟ قال: ويلك لاتدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن

ص:423


1- . التوحيد للصدوق: 108.

رأته القلوب بحقائق الأعيان».(1)

وروى أيضاً عن زرارة قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: جُعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا نزل عليه الوحي ؟ فقال: «ذاك إذا لم يكن بينه وبين اللّه أحد، ذاك إذا تجلّى اللّه له». قال: ثم قال له: «تلك النبوة يا زرارة» وأقبل يتخشّع.(2)

و الحديث أوضح ممّا سبق في الرؤية القلبية.

و روى أيضاً عن مرازم عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: «رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ربّه عز وجلّ ، يعني بقلبه».(3)

و روى أيضاً عن محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن عليه السلام: هل رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ربّه عز وجل ؟ فقال: «نعم بقلبه رآه، أما سمعت اللّه عز وجل يقول: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) (4) أي لم يره بالبصر، ولكن رآه بالفؤاد».(5)

و روى أيضاً عن أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: قلت له: أخبرني عن اللّه عزّ وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال: «نعم، وقد رأوه قبل يوم القيامة» فقلت: متى؟» قال: حين قال لهم: (أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) (6) ثم سكت ساعة، ثم قال: وإنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل القيامة. ألست تراه في وقتك

ص:424


1- . التوحيد: 109.
2- . التوحيد: 115.
3- . التوحيد: 116.
4- . النجم: 11.
5- . التوحيد: 116.
6- . الأعراف: 172.

هذا؟ قال أبوبصير: فقلت له: جُعلت فداك فأحدّث بهذا عنك ؟ فقال: «لا، فإنّك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثمّ قدَّر أنّ ذلك تشبيه كفر، وليست الرّؤية بالقلب كالرّؤية بالعين، تعالى اللّه عمّا يصفه المشبهون والملحدون».(1)

و على هذا فالرؤية القلبية رهن انفتاح العين البرزخية التي تزال عنها الحجب ويرى الإنسان أُموراً لايراها بالعين الحسّية، ومع ذلك كلّه فالرؤية القلبية لاتلازم كونه جسماً ولا أنّه في جهة، وإنّما هي انكشاف عالم الغيب بعد ستره.

***

ص:425


1- . التوحيد: 117.

الآيات السادسة والعشرون إلى الثلاثين

اشارة

(كَلاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ * وَ قِيلَ مَنْ راقٍ * وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ * وَ الْتَفَّتِ السّاقُ بِالسّاقِ * إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) .(1)

المفردات:

التراقي: جمع الترقوة: وهي مقدّم الحلق من أعلى الصدر، وهي ثغرة النحر، ويكتنفها عظم من اليمين والشمال، تترقّى إليها النفس عند الموت، وبلوغ الروح إلى الترقوة آية خروج الروح من سائر الأعضاء، أعني: اليدين والرجلين، فتجتمع عند الترقوة.

راق: الراقي مشتق من الرُّقية وهي ما يستشفي به الملسوع والمريض من الكلام المعدّ لذلك، فيضع يده على موضع الوجع من المريض، أو على رأس المريض، أو يكتب شيئاً في ورقة تعلّق على المريض، وكانت العرب تستشفي بالرقية، وبالتالي بصاحبها أعني: الراقي.

المساق: مصدر ميمي لساق، وهو تسيير ماشٍ أمام مسيَّره إلى حيث يريد مسيّرُه.

التفسير:

قوله تعالى: (كَلاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) .

هو ردع ثان لاستنكار المنكر واستبعاده حيث أنكر يوم القيامة بصورة

ص:426


1- . القيامة: 26-30

السؤال وقال: (أَيّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) (1)، فرُدّ عليه بجوابين:

1. قوله تعالى: (كَلاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ * وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) (2) وقد مرّ شرحهما.

2. قوله تعالى: (كَلاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) .

فعندما تبلغ الروح إلى التراقي يندمون على استنكارهم واستبعادهم الحياة الأُخروية، وبالتالي خلودهم إلى الأرض، لما يشاهدونه من طلائع ماينكرون، وعلائم ما يستبعدون.

قوله تعالى: (وَ قِيلَ مَنْ راقٍ ) .

فالقائل هو من حضر المحتضر حيث يتمنّى من يشفيه ويحييه ويقول:

هل من طبيب يشفيه، أو حكيم يحييه، أو غير ذلك. يقول ذلك آيساً من حياة المحتضر، وتدلّ عليه الآية التالية: (وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) .

و يحتمل أن يكون فاعل «ظن» هو المحتضر بقرينة قوله: (وَ الْتَفَّتِ السّاقُ بِالسّاقِ ) (3) حيثُ إنّ المراد التفاف ساق المحتضر بعضها ببعض.

ثم إنّ التفاف الساق بالساق يحتمل معنيين:

1. أن تكون كناية عن شدة المصيبة بمعنى تتابع مصيبة بعد مصيبة، و العرب تستخدم أمثال تلك الصيغة في شدّة المصائب، يقولون: قامت الحرب على ساق، وقوله سبحانه: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ) .(4)

ص:427


1- . القيامة: 6.
2- . القيامة: 20-21.
3- . القيامة: 29.
4- . القلم: 42.

2. التفاف ساقي المحتضر عند خروج الروح، ووقوع بعضها على بعض، وربما يقال: التفاف ساقي الميّت عندما يلف بالكفن، والجميع يشير إلى معنى واحد وهو أنّ منكر المعاد ومن حوله يرون بأعينهم نهاية الحياة الدنيوية، ويفكّرون في مستقبل أمرهم وعند ذلك يخاطب اللّه سبحانه نبيّه بقوله: (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) تعليماً لهم. فالمنتهى هو اللّه سبحانه كما هو المبدأ، والناس يُساقون إلى اللّه شاءوا أم لم يشاءوا.

الروح حقيقة وراء البدن
اشارة

إنّه سبحانه في قوله: (كَلاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) ذكر الفعل وترك ذكر الفاعل، وهذا يدلّ على وجود شيءٍ وراء البدن يبلغ التراقي عند الاحتضار، فما هو هذا الشيء؟

الجواب: أنّ هذا هو ما يعبّر عنه بالروح تارة، وبالنفس الإنسانية ثانياً، وهذا يدلّ على أنّ البدن والروح، شيئان، وأنّ هنا أمراً وراء البدن يخرج شيئاً فشيئاً من قدميه إلى أن ينتهي إلى الترقوة.

ويدلّ عليه وراء البراهين الفلسفية والحسّية لفيف من الآيات القرآنية و سنذكر شيئاً من ذلك.

أقام الروحيون براهين فلسفية وتجربية على أنّ الإنسان مؤلّف من روح وبدن، والثاني غير الأوّل، وبما أنّ بحوثنا في هذه الرسالة تركّز على الاستضاءة بآيات الذكر الحكيم نقتصر بما تشير إليه، وما سنذكره هنا يدلّ بوضوح على أنّ وراء البدن شيء آخر على وجه لايمكن للباحث إنكاره.

ص:428

1. آية التوفّي والإمساك والإرسال

يقول سبحانه: (اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .(1)

وجه الدلالة: إنّ التوفّي في الآية بمعنى الأخذ والقبض لا الإماتة - كما هو واضح - فالآية تدلّ على أنّ للإنسان وراء البدن شيئاً يأخذه سبحانه حين الموت والنوم ثمّ يمسكه ولايرجعه إن كُتب عليه الموت، ويرسله إن لم يُكتب عليه ذلك إلى أجل مسمّى . فلو كان الإنسان متمحّضاً في البدن فلا معنى (للأخذ) و (الإمساك) و (الإرسال).

2. آية حياة الشهداء

يقول سبحانه: (وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) .(2)

الآيات صريحة في أنّ الشهداء أحياء أوّلاً، ويرزقون عند ربّهم ثانياً، وإنّهم يفرحون ويستبشرون ثالثاً، ولايخافون ولايحزنون رابعاً، فلو كان الإنسان متمحضاً في البدن فالمفروض أنّه قتل في المعركة، وربما صار إرباً إرباً

ص:429


1- . الزمر: 42.
2- . آل عمران: 169-171.

أو تراباً رميماً ومع ذلك يصفهم سبحانه بأنّهم أحياء ويرزقون إلى آخر الآيات.

و نظير هذه الآيات قوله سبحانه: (وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) .(1) فالآية تندد بمن يظن أنّ موت الشهداء نهاية حياتهم، ولكنّه يخطأ في قضائه، بل هم أحياء، وإن كان الماديّ لأجل ضيق نظرته لايفهم ذلك.

3. عرض آل فرعون على النار

قال سبحانه: (وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ * اَلنّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ) .(2)

ترى أنّه سبحانه يفصّل تعذيب آل فرعون بالعرض على النار تارة، والدخول فيها أُخرى؛ أمّا الأوّل فيعرضون عليها قبل يوم القيامة، وأمّا الثاني - أي الدخول في النار - فذلك بعد قيام القيامة. فلو كان الموت إبطالاً للشخصية، فما معنى عرض هؤلاء على النار قبل قيام القيامة...؟!

4. ما يأخذه ملك الموت

يقول سبحانه: (قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) .(3)

وجه الدلالة: أنّ منكري المعاد كانوا يستدلّون بأنّ الموت يلازم ضلال الإنسان في الأرض وتفكّك أجزاء بدنه في أقطار العالم في البر والبحر، فكيف

ص:430


1- . البقرة: 154.
2- . غافر: 45-46.
3- . السجدة: 11.

يمكن جمع هذه الأجزاء المبعثرة في البر والبحر حتى يكون إنساناً تامّاً، ويشير سبحانه إلى هذه الشبهة بقوله: (وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ...) .(1) ثم إنّه سبحانه أجاب عن شبهتهم الواهية بجوابين:

1. قال: (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ) .(2)

يريد بذلك أنّ السبب الحقيقي للتمسّك بهذه الشبهة أنّهم ينكرون لقاء اللّه يوم القيامة، لما فيه من الحساب والجزاء وبما هم يخافون منه لذلك عادوا يتمسّكون بهذه الشبهة تمسّك الغريق بالطحلب.

2. قال: (قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (3)، ومعناه أنّ ملك الموت يأخذ ما هو الأصيل فيكم، وهو أمر غير ضال ولا متبعثر ولا متفرق، بل محفوظ عند ملك الموت، فإذا حان وقت القيامة يرجع ما أخذه إلى أبدانكم ثم إليه تُرجعون، فضلال البدن وتفرّقه وعدم التعرّف عليه - حسب زعمكم - غير مضرّ بعد وجود ما هو الأصيل عندنا.

و على هذا فما به تناط هويتكم الشخصية فهو غير ضال، وما هو ضال - حسب زعمكم - لاتناط به شخصيتكم وهويتكم.

فالآية تدلّ بصراحة على أنّ الموت ليس إبطالاً للشخصية، وإنّما الموت عبارة عن أخذ ملك الموت ما هو الجزء الأصيل من الإنسان وحفظه إلى يوم القيامة، وإن تبدّل بدنه واندثر وتفرّق تفرق أيادي سبأ.

ص:431


1- . السجدة: 10.
2- . السجدة: 10
3- . السجدة: 11.
5. الأمر بإخراج الأنفس

قال سبحانه: (وَ لَوْ تَرى إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) .(1)

المراد من الأنفس هو نفس ما ورد في قوله سبحانه: (اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (2)، والآية تدلّ على أنّ للظالمين أبداناً وأنفساً والملائكة موكّلون بأخذ الأنفس وترك الأبدان ولذلك يخاطبوا الظالمين بقولهم: (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ) ، فلو كان الإنسان ممحّضاً في البدن فما معنى إخراج الأنفس، وأخذها؟!

أضف إلى ذلك: أنّ الآية تدلّ على أنّ الظالم يعذّب يوم خروج نفسه بعذاب الهون، وهذا شيء لايشاهده من يكون عند المحتضر ولكن المحتضر لامس له، قال سبحانه: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ) فإنّ المقصود من اليوم هو يوم قبض الروح.

6. الأمر بدخول الجنة حين الموت

يقول سبحانه: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) .(3)

ص:432


1- . الأنعام: 93.
2- . الزمر: 42.
3- . يس: 26-27.

دلالة الآية على ما ذكرنا من التعدد تُعلم من الوقوف على شأن نزول الآية، يقول المفسّرون إنّ : سيدنا المسيح عليه السلام بعث رسولين من الحواريين إلى مدينة انطاكية، فلقيا من أهلها عنفاً وردّاً، غير أنّ واحداً من أهلها اسمه حبيب النجّار آمن بهما وأظهر إيمانه وقال: (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ) .(1)

فلمّا وقف القوم على إيمانه أخذوا بوطئه بأرجلهم حتى مات، فعند ذلك خوطب بقوله سبحانه: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) فعندئذ يسأل هو المراد من الجنّة التي أُمر بالدخول فيها؟ فالجواب: أنّ هذه الجنة غير الجنة التي وعد المتقون يوم القيامة، وهذا يدلّ على أنّ الإنسان الشهيد في طريق إعلاء كلمة اللّه يدخل الجنة، فعندئذ فما هو الداخل هل هو البدن والمفروض أنّه وطئ بأرجل المشركين ؟! فتعيّن أنّ المراد غير البدن، أعني: الروح التي كانت تدبر البدن، فهي باقية بعده إلى يوم القيامة.

و العجب أنّه بعدما خوطب بدخول الجنة أخبر عن مصيره المبارك، وقال: (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) .(2)

7. إنشاء خلق آخر

قال سبحانه: (وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ

ص:433


1- . يس: 25.
2- . يس: 26-27.

اَلْخالِقِينَ ) .(1)

والدلالة من وجوه:

أوّلاً: أنّه سبحانه يبيّن مسير خلقة الإنسان من مرحلة إلى مرحلة، فمن نطفة إلى مضغة إلى علقة، ومنها إلى خلق العظام، ثم كسوتها باللحم، وعند ذلك تتغيّر صيغة الكلام وسياقه فيبدأ بلفظ (ثم) فيقول: (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) ، بخلاف المراحل المتقدّمة حيث كان يعطف كلّ مرحلة على مرحلة أُخرى بالحرف (ف)، وهذا النوع من التعبير يدلّ على أنّ هذه المرحلة من حيث الخلقة والجوهر تباين المراحل المتقدّمة.

ثانياً: يعبّر في بيان هذه المرحلة بلفظ الإنشاء الذي هو بمعنى الإبداع، وكأنّ هذه المرحلة ليست لها مثيل في المراحل السابقة.

ثالثاً: أنّه سبحانه يثني على نفسه عند بيان هذه المرحلة ويقول (فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) حيث إنّ الفاء تدلّ على الترتيب بلا فصل، فكأنّه ثناء على اللّه على تمامية الخلقة لا على سائر المراحل لوجود الفاصل بين الثناء وخلق سائر المراحل.

8. التركيز على إنجاء البدن

قال سبحانه: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) .(2)

وجه الدلالة:

ص:434


1- . المؤمنون: 12-14.
2- . يونس: 92.

أنّه سبحانه يخاطب فرعون بعدما غرق ومات بأنّه ينجو ببدنه ليكون للآخرين عبرة، والآية تدلّ على أنّه سبحانه أنجى فرعون ببدنه واستبقى شيئاً آخر، وما هو إلّاالروح.

هذه هي الآيات التي تدلّ على أنّ واقع الإنسان وهويته وشخصيته تكمن وراء بدنه، ولذلك يقول سبحانه في المقام: (كَلاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) فهناك شيء يبلغ التراقي وشيء آخر يبقى بحاله، والأوّل هو الروح والثاني هو البدن.

***

الآيات الحادية والثلاثون إلى الخامسة والثلاثين:

اشارة

(فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلّى * وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطّى * أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ) .(1)

المفردات:

صدّق: يحتمل معنيين، أوّلهما التصدّق بالزكاة وغيرها، كما عليه قوله سبحانه: (فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ ) ،(2) ثانيهما: التصديق بالرسول وكتابه وما جاء به.

و الظاهر هو الثاني بشهادة مقابله في الآية التالية: (وَ لكِنْ كَذَّبَ ) .

و أمّا قوله (صَلّى) فالمراد هو الدعاء أو العبادة المخصوصة، والإنسان في كلا الحالين يتوجّه إلى اللّه سبحانه، ولذلك جاء في مقابله (وَ تَوَلّى) أي عن

ص:435


1- . القيامة: 31-35.
2- . المنافقون: 10.

ربه.

يتمطّى : يقال: أصل يتمطّى (يتمطط) فجعلت إحدى الطائين ياءً ، فصار ( يتمطّى ) بمعنى يتمدّد، لأنّ المتبختر يمدّ خطاه، فهي مشية المعجب بنفسه.

التفسير:

تتعلّق هذه الآيات بالإنسان المذكور في قوله تعالى: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) فبما أنّه أعرض عن دعوة الأنبياء فصار كما يقول سبحانه: (فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلّى * وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّى) فالآيتان تأكيد لماقبلهما، ولم يقتصر على التكذيب بل عاد يتكبّر ويتبختر ويذهب إلى أهله متكبّراً كما قال تعالى: (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطّى) .

و الآيات تنطبق على أشد المعاندين والمكذبين، وعلى رأسهم أبو جهل بن هشام، حيث كذّب وتولّى ثم رجع إلى أهله مختالاً ومتكبّراً، نظيره قوله سبحانه: (وَ أَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً * وَ يَصْلى سَعِيراً * إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) .(1)

ثم إنّه سبحانه يهدد هذا الإنسان المكذب المولّي بقوله: (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ) .(2) فالمعنى ما أنت عليه من الحال من التكذيب والتولّي أرجح لك فأولى، ثم أولى لك فأولى لتذوق وبال أمرك ويأخذك ما أعدّ لك من العذاب، نظير قوله سبحانه: (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى

ص:436


1- . الانشقاق: 10-14.
2- . القيامة: 34-35.

لَهُمْ ) .(1)

و نظير هذا التعبير كثير في المحاورات العرفية فالإنسان إذا نصح شاباً غارقاً في الفساد والمعاصي وكرّر عليه النصح ولكنّه لم يتّعظ من نصح المحبّ ، حتى يأس الناصح فعندئذ يخاطبه بقوله: أولى لك بأن تكون في هذا الحال حتى تذوق وبال أمرك.

و يؤيد ذلك التفسير ما رواه الطبرسي وقال: وقيل: إنّ المراد بذلك أبوجهل بن هشام (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ) فقال أبوجهل: بأيّ شيء تهدّدني لاتستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئاً وإنّي لأعزّ أهل هذا الوادي، فأنزل اللّه كما قال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله.(2)

فعلى هذا (أَوْلى لَكَ ) خبر لمبتدأ محذوف وهو ضمير عائد إلى ما ذكر من حال هذا الإنسان، وهو أنّه لم يصدّق ولم يصلّي ولكن كذّب وتولّى ثم ذهب إلى أهله يتمطّى .

***

ص:437


1- . محمّد: 20.
2- . مجمع البيان: 606/10.

الآيات السادسة والثلاثون إلى الأربعين:

اشارة

(أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى * أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ) .(1)

المفردات:

سُدى: على وزن هدى، وهو المهمل، ويقال للإبل السائبة التي تترك بلا راع: سُدى.

النطفة: القليل من الماء، سمّي بها ماء التناسل لقلّته.

يُمنى : بمعنى يراق حتى قيل: إنّه سمّيت «منى » التي بمكة بها لأنّه تراق فيها دماء الهدي.

علقة: القطعة الصغيرة من الدم المتعقّدة، ولأجل وجود الفاصل الزماني بين النطفة والعلقة أتى ب (ثُمَّ ) .

سوّى: التسوية: جعل الشيء معدّلاً مقوّماً، قال سبحانه: (فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ) (2)، وقال: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى) (3). فإكمال الخلق هو التسوية.

التفسير:

قوله تعالى: (أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) (4) عود على بدأ، حيث

ص:438


1- . القيامة: 36-40.
2- . البقرة: 29.
3- . الأعلى: 2.
4- . القيامة: 36.

قال في أوّل هذه السورة (أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) (1) وهو بصورة الاستفهام الإنكاري، فأتى به أيضاً في أواخر السورة بتعبير آخر فقال: (أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) والآيتان تشيران إلى معنى واحد، وهو أنّ الإنسان المشرك أو الملحد يستبعد المعاد وينكره بزعم أنّه محال، ونتيجة ذلك أنّه خلق سدى بلا غاية.

ثم إنّه سبحانه أشار في هذه الآيات إلى دليلين لطيفين على المعاد:

الأوّل: يبتني على كون المعاد نتيجة الحكمة الإلهية وهدف الخلقة.

الثاني: يبتني على بيان قدرته سبحانه ببيان أنّ من صيّر النطفة عبر مراحل إنساناً كاملاً فهو قادر على إحياء الموتى ، وإليك البيانين:

الأوّل: إنّ اللّه تبارك وتعالى حكيم لايعبث، فلا ينفكّ فعله عن الغاية التي ترجع إلى المخلوق، وإلّا يكون عابثاً تعالى عن ذلك.

و قد أشار سبحانه في غير واحدة من الآيات إلى أنّ مقتضى الحكمة ترتّب الغاية على فعله، قال سبحانه: (أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) (2)، وقال تعالى: (وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ) (3)، فإذا كان الحال كذلك فالإنسان الذي كرّمه اللّه سبحانه على سائر الخلائق أولى بأن لايكون مهملاً و أن تكون لخلقه غاية وهي الرجوع إلى اللّه يوم القيامة، فمن تصوّر أنّ الموت بطلان للشخصية الإنسانية وختام لوجودها فما عرف اللّه حق معرفته، إذ أنّه يصف عمله بالعبث، ولصيانة عمله عن اللغو لابدّ أن تكون بعد الحياة الدنيوية حياة

ص:439


1- . القيامة: 3.
2- . المؤمنون: 115.
3- . ص: 27.

أُخرى تُعد غاية الفعل وغرضه.

و ربما يفسّر (سُدى) بمعنى أن يكون مجرّداً عن التكليف والأمر، وبالتالي بأن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء، بل أنّ اللّه وضع عليه التكليف وحدّد حياته به فلو أطاع يثاب يوم القيامة ولو خالف يُجزى به، وعلى كل تقدير فهذه الفقرة برهان لوجود المعاد بعد الارتحال عن الدنيا.

الثاني: التركيز على سعة قدرته سبحانه وأنّ منكري المعاد ما عرفوا اللّه حق معرفته، فجعلوا قدرته نظير قدرة الإنسان فأنكروا المعاد، ولكن قياس قدرة الإنسان على قدرة اللّه قياس باطل، فأين الظلمة من النور، والعجز من القدرة، قال سبحانه: (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .(1)

و من مظاهر قدرته نشأة الإنسان وتطوّره من النطفة إلى العلقة ثم إلى الإنسان السويّ ؛ فهذا يدلّ :

أوّلاً: على أنّ خلقة الإنسان ذات نظام خاص مخطط له حيث إنّ كلّ مرحلة من مراحل الخلقة في الأرحام مقدّمة للمرحلة الأُخرى، فهذا يدلّ على أنّ هناك حكيماً ناظراً إلى تطوّر الخلقة وتكاملها.

و ثانياً: أنّ القادر على تصيير النطفة إنساناً سويّاً أولى بأن يكون قادراً على إعادته إلى الحياة مرّة أُخرى، ولذلك قال سبحانه: (أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ) (2)، فكيف يظن أنّه مهمل مع أنّه ينقل من حال إلى حال ومن نطفة إلى

ص:440


1- . غافر: 57.
2- . القيامة: 37.

نطفة: (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى) (1) ثم إنّه سبحانه لم يقتصر على إنشائه على البسيطة، بل شاء أن يبقى الإنسان فيها ولذلك خلق له من جنسه أُنثى كما قال:

(فَجَعَلَ مِنْهُ ) أي من الإنسان (الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى ) (2)، وهذه الآية تدلّ على إمكان المعاد كما قال: (أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ) .(3)

و في الحديث عن البرّاء بن عازب، قال: لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «سبحانك اللّهم وبلى».

و روي ذلك أيضاً عن أبي جعفر وأبي عبداللّه عليهما السلام.(4)

و ربما يستدلّ بالآية على صحّة القياس حيث إنّ القرآن قاس إمكان الحياة الأُخروية ووقوعها بإمكان الحياة الدنيوية ووقوعها؛ وهو وإن كان صحيحاً إلّاأنّ القياس - في الآية - جرى بملاك قطعيّ وهو سعة قدرة اللّه سبحانه، فلو كان المناط في القياس قطعيّاً لا محتملاً فلا مانع منه. بل المورد من قبيل القياس الأولويّ الذي هو حجّة حتّى عند المنكرين.

تم تحرير تفسير هذه السورة المباركة

صبيحة يوم الجمعة 23 من شهر ربيع الثاني

من شهور عام 1433 ه.

والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات.

ص:441


1- . القيامة: 38.
2- . القيامة: 39.
3- . القيامة: 40.
4- . مجمع البيان: 607/10.

الفصل الرابع: رسائل وتقاريظ

اشارة

1. الحسن والقبح العقليان

2. تفسير كلام الإمام علي عليه السلام في توحيده سبحانه

3. استنكار الاحتفال الذي أُقيم في لندن

4. بيان السبحاني إلى طالبات الحوزة المهدوية في المدينة المنورة

5. بحار الأنوار دائرة معارف إسلامية

6. خصوصيات التشريع الإسلامي والمسائل المستحدثة

ص:442

ص:443

1 الحسن والقبح العقليان

اشارة

سماحة الأُستاذ الدكتور عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان

دامت معاليه وتواترت بيض أياديه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أُحيّيكم ومن حولكم من الأعزاء.

أمّا بعد:

فقد وصلتني رسالتكم الكريمة، ووقفت على ما قام به أمير مكّة وغيره بواجبهم تجاه سماحتكم الكريمة الفذّة الّتي يضن بها الدهر إلّافي فترات يسيرة.

وفي الحقيقة ما زانك المهرجان، ومن حضره، وإنّما أنت الّذي زنتَه وأضفيتَ عليه رونقاً وتألقّاً، فحضور المهرجان هم بحاجة لأن يفتخروا بك، وأنت في غنى من تهنئتهم، على حدّ قول المتنبي:

فإذا استطال الشيء قام بنفسه وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاً

قرأتُ مقالتكم الّتي قدمتموها في ندوة الذكرى الألفية لإمام الحرمين الجويني، فوجدت أنّها قد استقصت ما يتعلّق بآراء الإمام الجويني في الفكر الأُصولي، فجزاك اللّه خير الجزاء.

ص:444

وأظن أنّ الإمام الجويني لو أراد أن يشرح آراءه الخاصّة لما تيسّر له أزيد ممّا سطّر يراعك، فقد تتبعت كتابه صفحة بعد صفحة ثم أخرجتْ يمينُك دُرره وجواهره.

ثم إنّي وجدت ما ذكرتموه حول تصويب المجتهدين مطابقاً لما عليه أئمة أهل البيت عليهم السلام فإنّهم اتّفقوا على أنّ المصيب واحد، وغيره مخطئ، ومع ذلك كلّه فالجميع مثابون مأجورون.

وقد روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في خطبته في حجّة الوداع أنّه قال: «أيّها الناس ما من شيء يقربكم إلى الجنّة ويبعدكم عن النار إلّاوأمرتكم به، وما من شيء يبعدكم عن الجنّة ويقربكم من النار إلّاونهيتكم عنه»(1). ومعه كيف يكون الجميع على حدّ الصواب ؟!

ولكن لي معكم وقفة في تلك الرسالة حول التحسين والتقبيح العقليين، ووقفة أُخرى في تفسير آية الوضوء.

وقفة حول التحسين والتقبيح العقليين

إنّ أكثر المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين لم يحدّدوا محلّ النزاع، ولذلك ذهبوا إلى مذاهب، ولو عرفوا ما هو مصبّ النزاع لاعترفوا بأنّهما من العقليات الواضحة الّتي تزامنت مع فطرة الإنسان في عامّة الأزمان والأجيال.

ترى أنّ كثيراً منهم يفسّرون التحسين بموافقة الأغراض والمصالح،

ص:445


1- . لاحظ: الكافي: 5/83، الحديث 11، باب الإجمال في الطلب، كتاب المعيشة؛ كنز العمال: 4/24 برقم 9316.

والتقبيح بمخالفتها، فكلّ فعل يؤمّن مصلحة الشخص أو مطلق النوع، فهو حسن، وإلّا فهو قبيح.

فهذا النوع من البحث غفلة عن ملاك النزاع، فإنّ البحث فيهما فوق مستوى البحث عن المصالح الشخصية والنوعية، وإن شئت قلت: فوق مستوى المفاسد الشخصية والنوعية.

ترى أنّ بعضهم يفسّر التحسين والتقبيح بموافقة العادات والتقاليد أو مخالفتها، وهذا أيضاً خروج عن نطاق البحث وغاياته.

ويأتي ثالث آخر يفسّر الحسن والقبح بما تعلّق به المدح والثواب والذمُ والعقاب، وهذا أيضاً خروج عن التحسين والتقبيح العقليين، بل يرجع إلى الشرعيين. فالتحسين والتقبيح العقليان لا صلة لهما بالمقاصد الفردية أو النوعية ولا بالأعراف الرائجة ولا ما ورد فيه المدح والذم في الشريعة.

إنّ هؤلاء غفلوا عن الغاية من عنوان المسألة، وما هي إلّاالتعرف على أفعاله سبحانه دون أفعال البشر، ولو دخل الثاني فإنّما دخل استطراداً، ومن المعلوم أنّ فعله سبحانه خارج عن إطار المصلحة والمفسدة، بل هو على مستوى فوق ذينك الأمرين، وقس عليه الملاك الثاني أو الثالث.

إذا عُلم ذلك فنقول: إنّ مصبّ البحث وملاكه هو أمر آخر، وهو أنّ الفعل الصادر من الفاعل المختار سواء أكان واجباً أم ممكناً إذا نظر إليه العقل وتجرّد عن كلّ شيء، هل يستقل بحسنه أو بقبحه أو لا؟

كلّ ذلك مع غضّ النظر عمّا يترتّب عليه من المفاسد، أو كونه موافقاً

ص:446

لغرض الفاعل أو مخالفته، فإنّ كلّ هذه الضمائم لا حاجة إليها في قضاء العقل بالحسن والقبح.

وبعبارة أُخرى: إذا لاحظ العقل نفس الفعل، مجرداً عن كون فاعله واجباً أو ممكناً مجرداً عمّا يترتّب عليه من الآثار، هل يدرك العقل حسنه ويأمر بإتيانه، أو يدرك قبحه فيحكم بتركه ؟

مثلاً: حسن الإحسان وقبح الظلم، أو حسن العمل بالميثاق وقبح نقضه، أو حسن جزاء الإحسان بالإحسان، وقبح جزاء الإحسان بالسوء، إلى غير ذلك من القضايا الّتي يستقل بحسنها وقبحها على وجه الإطلاق مجرّداً عن كلّ ما يترتّب عليها من الآثار في الحياة الفردية أو الاجتماعية.

وبغض النظر عن كون الفاعل واجباً أو ممكناً.

وإن أردت التفصيل فنقول: إنّ مصبّ النزاع أمر لا يمتّ لما ذكر هؤلاء من الملاكات، بصلة، فليس البحث مركّزاً على ما يلائم الغرض أو يضادّه، ولا على ما يستحسنه العقلاء حسب العادات والتقاليد أو يستقبحوه، ولا على ما يترتّب عليه المدح والثواب، أو الذم والعقاب.

كلّ ذلك خارج عمّا يقصد به في المقام، فكلّ مَن حاول إخضاع القاعدة لهذه الأُمور فقد ضلّ وأضلّ .

بل الّذي ترومه القاعدة وتدلّ عليه الأدلّة هو أنّ في الحكمة العملية قضايا خاصّة إذا لاحظها العقل متجرّدة عن كلّ شيء ملاحظاً نفس القضية يجد بعضه أمراً حسناً موافقاً للفطرة الإنسانية وأُموراً قبيحة ينفر عنها الطبع الإنساني،

ص:447

وعندئذٍ يجد العقل أنّ الحسن والقبح من ذاتيات تلك القضايا أو من ذاتيات موضوعه من غير فرق بين كونه صادراً عن الواجب جلّ شأنه أو عن الممكن، فإنّ الحسن والقبح من لوازم الموضوع نظير الزوجية فإنّها من لوازم الأربعة من غير فرق بين كون الأربعة في عالم المادّة أو في عالم البرزخ أو عند الممكن أو عند الواجب، وهذا هو الّذي يدّعيه القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين بأنّ في الحكمة العملية قضايا اتّفق العقلاء - وفق قضاء العقل - على الحسن أو القبح فيها، من غير فرق بين المؤمن والكافر، والإلهي والمادي، ومن غير فرق بين صدورها عن اللّه سبحانه أو غيره.

وفي الذكر الحكيم إشارات إلى هذا ا لنوع من الحسن والقبح بشرط التدبّر في الآيات، فهناك آيات يحتجّ القرآن فيها بقضاء الفطرة على حسن بعض الأفعال وقبح أُخرى على نحو يسلّم أنّ الفطرة صالحة لدرك حسن الشيء وقبحه، ولذلك يتّخذ وجدان الإنسان قاضياً صادقاً في قضائه، ويقول:

1. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ) (1).

2. (أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ) (2).

3. (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ ) (3).

ففي هذه الطائفة من الآيات يوكِّل الذكر الحكيم القضاء إلى وجدان

ص:448


1- . ص: 28.
2- . القلم: 35.
3- . الرحمن: 60.

الإنسان، وأنّه هل يصح التسوية بين المفسدين والمتّقين، والمسلمين والمجرمين، كما يتّخذ من الوجدان قاضياً في قوله: (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ ) .

وهناك آيات أُخرى تأمر بالمعروف كالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي على نحو تسلِّم أنّ المخاطب يعرفها معرفة ذاتية ولا يحتاج إلى الشرع بغية التعرّف على الموضوع، وكأنّ الشرع يؤكّد ما يجده الإنسان بفطرته، يقول سبحانه:

1. (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (1).

2. (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ) (2).

3. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) (3).

وكيفية دلالة هذه الآيات على قابلية العقل على درك الحسن والقبح عُلم ممّا سبق. وثمة آية أُخرى تندِّد بعمل المشركين حينما ينسبون بعض أعمالهم المنكرة إلى أمره سبحانه، وهو يردّ عليهم بأنّ عملهم فحشاء واللّه لا يأمر بها، وبذلك سلم قضاء الوجدان على أنّ اللّه منزّه عن ارتكاب القبائح والمنكرات، ويقول: (وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا

ص:449


1- . النحل: 90.
2- . الأعراف: 33.
3- . الأعراف: 157.

يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) (1).

سلبيات إنكار التحسين والتقبيح العقليين

إنّ مَن أنكر إدراك العقل للحسن والقبح لا يمكنه إثبات المعارف الّتي بُني عليها الدين وهي:

1. وجوب معرفة اللّه تبارك وتعالى، فما الدليل على وجوبه هل هو الشرع ؟ والشرع بعد ليس ثابتاً، فما هو إلّاالعقل.

2. وجوب تنزيه فعله سبحانه عن العبث، فما الدليل على هذا التنزيه ؟ هل هو الشرع وهو بعد لم يثبت ؟ فليس إلّاالعقل.

3. لزوم تكليف العباد وعدم تركهم سُدى، وليس له دليل إلّاالعقل.

4. لزوم بعث الأنبياء فما هو الدليل عليه ؟ والشرع بعد لم يثبت.

5. الإعجاز دليل على صدق المدّعي، فما الدليل على ذلك ؟

6. ثبات المبادئ الأخلاقية وعدم تغيرها بتغيّر الزمان والمكان.

7. قبح التكليف بما لا يطاق.

8. قبح الكذب على اللّه سبحانه وعلى رُسله.

إلى غير ذلك من المعارف العليا للشرائع ولا سيّما الإسلام، فمن حاول أنكار التحسين والتقبيح العقليين فقد عرقل عجلة البحث في هذه الموارد. كما أنّ في التمسّك في ثبوت هذه الأُمور بالآيات والروايات دور واضح، فإنّ هذه الأُمور مبادئ لثبوت الشرع وصدقه.

ص:450


1- . الأعراف: 28.

سؤال وجواب

الّذي يصدّ أمثال الأعاظم - نظير إمام الحرمين - عن القول بالتحسين والتقبيح العقليين حتّى في حكم اللّه سبحانه، هو تصوّر أنّ القول بذلك يلازم حكم العباد على اللّه سبحانه بأنّه يجب عليه أن يفعل كذا، ويجب أن لا يفعل كذا، ومن المعلوم أنّ الممكن أدون من أن يكون حاكماً على اللّه تعالى شأنه.

والجواب: ما ذُكر صحيح، ولكن أين التراب من رب الأرباب، فليس للممكن الفقير أن يحكم على الغني المطلق، كيف والحال كما يذكره الذكر الحكيم (يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ وَ اللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (1).

لكن المراد من الإيجاب هو استكشاف ذلك الحكم من الصفات الّتي دلّ العقل والشرع على اتّصافه سبحانه بها، فبما أنّه سبحانه حكيم غنيّ لا يناقض ولا يعبث، فهذه الصفات تقتضي أن يكون فعله سبحانه مطابقاً لحكمته.

فهذا النوع من الحكم ليس حكماً بالمعنى المصطلح، بل يُعدّ استكشافاً لما تقتضيه صفاته.

وهذا نظير قولنا: مجموع زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين.

فنحن نحكم بذلك ولكن حكمنا هذا لا يؤثر في التكوين، فإنّ التكوين لا يخضع لإرادتنا وحكمنا، وإنّما نستكشف من البراهين القاطعة هذا، وقس عليه حكمنا أنّه يجب على اللّه سبحانه أن يحكم بين العباد بالعدل لا بالجور، وأنّ عليه أن لا يأخذ البريء بذنب المجرم، وأنّ عليه أن لا يعطي الإعجاز لمدّعي

ص:451


1- . فاطر: 15.

النبوة كذباً.

وبهذا يُعلم أنّ ما ذكرتم حول نظرية إمام الحرمين في مسألة الحسن والقبح لا يمتّ للموضوع ولا بما يراد به، وهو قوله رحمه الله: والكلام في مسألتنا مداره على ما يقبح ويحسن في حكم اللّه تعالى، وإن كان لا ينالنا منه ضرر، ولا يفوتنا بسببه نفع لا يرخص العقل في تركه، وما كان كذلك فمدرك قبحه وحسنه من عقاب اللّه تعالى إيّانا، وإحسانه إلينا عند أفعالنا وذلك عيب، والرب سبحانه وتعالى لا يتأثر بضررنا ونفعنا، فاستحال - والأمر كذلك - الحكم بقبح الشيء في حكم اللّه تعالى وحسنه، ولم يمتنع إجراء هذين الوصفين فينا، إذا تنجّز ضرر، أو أمكن نفع بشرط أن يعزى إلى اللّه، ولا يوجب عليه أن يعاقب، أو يثيب.

فلينظر هذا الكلام، فإنّ القائل به ظن أنّ مصبّ النزاع في الحسن والقبح وجود الضرر والنفع في الفعل، فاستنتج بذلك أنّ ما كان كذلك أن الرب تعالى لا يتأثر بضررنا ونفعنا فاستحال - والأمر كذلك - الحكم بقبح الشيء في حكم اللّه وحسنه... الخ.

ولعمرك - شيخنا الأُستاذ - كلّ ذلك بعيد عن نظر القائلين بالحسن والقبح العقليين، فليس في المسألة وجود الضرر والنفع في أفعالنا حتّى يقال: إنّه سبحانه لا يتأثر بضررنا ونفعنا، بل النزاع في إمكان درك العقل لحسن قضية ما أو قبحها كذلك، من دون أن يقرنها بالضرر والنفع أو غير ذلك.

هذا ما تيسّر لي من بيان الحسن والقبح عسى أن تقرأه متجرّداً عن كلّ شيء، كما هي شيمتك في عامّة القضايا.

ولنا في الموضوع كتاب سبق وأن أرسلته إليكم، فإن شئتم التفصيل

ص:452

فراجعوه وهو كتاب: «رسالة في التحسين والتقبيح العقليين».

وإنّ ما ذكرناه من الملاحظات لا ينقص من قيمة مقالكم البارع، ولا من إمام الحرمين رحمه الله، فإنّ المؤلّف والمعلِّق هم من رجالات العلم وفي قمم الإنصاف في القضاء.

وقفة أُخرى حول آية الوضوء

لاشكّ أنّ آية الوضوء آية واضحة أنزلها اللّه سبحانه على قلب سيد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم ليقرأها على عامّة الناس، وبما أنّ الآية تتضمّن حكماً تشريعياً يبتلي به المسلمون ليل نهار، فلابدّ أن تكون واضحة الدلالة مبيّنة المفهوم مجردةً عن الإبهام والإجمال، فمن تصوّر وجود الإجمال فيها فقد بعد عن معنى الآية، إنّما الكلام في الاختلاف الواقع في تفسير قوله: (وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (1)، وقد قرأت: «أرجلكم» على وجهين:

1. (وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ ) - بالفتح - قرأ بها ثلاثّة من القرّاء السبعة.

2. (وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ ) - بالكسر - قرأ بها أربعة من القرّاء السبعة.

أمّا القراءة الأُولى، فالفتح لأجل كونها معطوفة على محل الرؤوس، والعطف على المحلّ أمر رائج في الكتاب والسنّة وشعر العرب.

ص:453


1- . المائدة: 6.

قال سبحانه: (أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ ) (1). فقد قرأ رسوله بالرفع وهو عطف على لفظ الجلالة إسم إنّ فإن محلّه بما أنّه مبتدأ مرفوع.

والعجب أنّ إمام الحرمين مكان أن يأتي بمثال من الذكر الحكيم يتمسّك بكلام بعضهم الذين يقولون: يا عمر الجواد، قائلاً: «بأنّ المنادى المفرد العلم وإن كان مبنياً على الرفع فأصله النصب» مع أنّ الأولى الاستشهاد بالذكر الحكيم.

هذا كلّه حول القراءة بالفتح، إنّما الكلام على القراءة بالكسر فقد أوجدت إشكالاً بين القائلين بغسل الأرجل فقد ذكروا وجوهاً بعيدة تعرضنا لها في كتابنا «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف».

ومن أردأ الوجوه الّذي ردّه أيضاً إمام الحرمين هو القول بأنّ الجرّ للجوار بمعنى أنّ الأرجل معطوف على وجوهكم فيكون المعنى فاغسلوا وجوهكم وأرجلكم، ومقتضى العطف هو النصب، لكنّ الجرّ لأجل كونه في جوار «برؤوسكم» فاكتسب الجر من الجار، كما في قولهم: جحر ضبٍّ خربٍّ ، فقرأ «خربٍّ » بالجر، وكان يجب أن يُرفع لأنّه خبر جُحر، وما ذلك إلّالكونه في جوار ضبٍّ .

يلاحظ عليه: أنّ الجر بالجوار لا يوجد ولم يوجد في الكلام الفصيح، ولو قيل به فإنّما يجوز في مضايق القوافي لأجل حفظ أوزان الشعر، وأمّا الكلام الفصيح الّذي ورد لبيان الحكم الإلهي الّذي يبتلي به المكلّف يومه ونهاره، فلا يجري فيه أبداً.

وهذا ممّا اتفقنا عليه مع إمام الحرمين جزاه اللّه خير الجزاء.

ص:454


1- . التوبة: 3.

ولكنّه حاول أن يجد وجهاً للجر، فالتجأ فيه إلى كلام سيد الصياغة سيبويه، وأنّه قال: الكلام الجزل الفصيح يسترسل في الأحايين استرسالاً، ولا تختلف مبانيه لأدنى تغيير لدقائق في المعاني لا تحتفل بها العرب ثم عضد ما قاله بأنّ قال: ذكر الرب تعالى فرض الرجلين ذكره فرض اليدين، وربط منتهى الفرض في الرجلين بالكعبين ربطه واجب منتهى فرض اليدين بالمرفقين.

ومن يكتفي بالمسح فلا معنى لذكر الكعبين عنده، وهذا راجع إلى إطباق حملة الشريعة قبل ظهور الآراء على غسل الرجلين، ولمّا أراد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يبيّن الوضوء غسل رجليه، فاجتماع هذه الأُمور في القرآن والسنّة، وفعل السلف أظهر من الجريان على ما يقتضيه ظاهر العطف.

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ الذكر الحكيم لم ينزل على رأي سيبويه وأضرابه، بل نزل على فهم عامّة الذين يفهمون معاني الجمل والكلمات، بصميم ذواتهم وبطريقتهم المألوفة بين المدني والبدوي، فما ذكره من أنّ الكلام الجزل يسترسل في الأحايين استرسالاً، لا يناسب مقام التشريع والتقنين، فإنّ الحاجّة هنا ماسّة للتعبير الناصع، والبيان الواضح لا البيان الّذي يوجب الإجمال والإبهام حتّى تصل النوبة إلى سيد الصياغة ويفسّره بما ذكره.

وبعبارة أُخرى هنا مقامان:

الأوّل: مقام التشريع وتبيين الوظيفة لعامّة الناس من مدنيهم وبدويهم وعالمهم وجاهلهم، فهذا المقام رهن وضوح البيان، وإلّا لناقض الغرض منها.

الثاني: التحدّي بفصيح الكلام وبليغه وإعمال المحسّنات اللفظية، وهذا ما يناسب غير مقام التشريع.

ص:455

ويلاحظ عليه ثانياً: أنّ تشبيه فرض الرجلين بفرض اليدين، وربط منتهى الفرض في الرجلين بالكعبين ربط منتهى فرض اليدين بالمرفقين صحيح، ولكن لا يقتضي أن يكونا متّحدين في الحكم بمعنى أنّ حكم اليدين هو الغسل، والرجلين أيضاً كذلك، بل الوجه هو أنّ اليد مشترك بين أُصول الأصابع والزند والمرفق والكتفين، فلزم بيان الحدّ، وكذلك الرجل مشترك بين قبّة القدم والكعبين الناتئين والركبة وما فوقها، فلزم تحديد القدم على نحو يرفع الإبهام.

فهذا هو وجه الشبه بين اليدين والرجلين لا وحدة الحكم.

ويلاحظ عليه ثالثاً: ما ذكره من أنّه من يكتفي بالمسح فلا معنى لذكر الكعبين عنده، كلام غير تام، لما عرفت من اشتراك الرجل في الاستعمال كاشتراك اليد، فلولا تحديده بالكعبين لما علم حدّ المسح، كما إذا لم تحدّ اليد لم يعلم حدّ الغسل.

ويلاحظ عليه رابعاً: ما ذكره من أنّه لمّا أراد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يبّين الوضوء غسل رجليه... وما ذكره صحيح لكنّه في فترة خاصّة، ولكنّه في فترة أُخرى مسح رجليه. وقد تضافرت الروايات عن أنّه صلى الله عليه و آله و سلم مسح، ومن المعلوم أنّ سورة المائدة هي السورة الأخيرة النازلة على النبي ولم ينزل على النبي سورة أو آية بعد هذه السورة، فالذكر الحكيم هو المحكّم، والسنّة تبيّن بالقرآن.

وبما أنّا بسطنا الكلام في ذلك في كتاب «الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف» فلنقتصر على هذا المقدار داعين الأُستاذ المحقّق مراجعة ما كتبناه في هذا الصدد، فيجد فيه تبييناً لما أجملناه وتوضيحاً لما أُبهم.

وهذه رسالتي للأُستاذ المفضال الدكتور عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان

ص:456

راجياً النظر فيها بالتجرّد عن كلّ رأي مسبق.

اسأل اللّه سبحانه أن يوفقنا وإيّاه لما فيه رضاه.

حرّرت في يوم الجمعة الرابع عشر

من رجب المرجب 1432 ه

ص:457

2 تفسير كلام الإمام علي عليه السلام في توحيده سبحانه

سماحة العلّامة الحجة السيد زكي محمد أمين الحكيم دامت بركاته

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وصلتني - وصلكم اللّه - رسالتكم تطلب تبيين معنى قول الإمام علي عليه السلام في خطبته الأُولى ففيها فقرات أربع:

1. كائن لا عن حدث.

2. موجود لا عن عدم.

3. مع كلّ شيء لا بمقارنة.

4. وغير كلّ شيء لا بمزايلة.

وقد بسط الكلام العلمان الجليلان: ابن ميثم البحراني وابن أبي الحديد في شرحهما على نهج البلاغة في تبيين هذه الفقرات، خصوصاً البحراني قدس سره لأنّه من أبطال هذه الحلبة، فعلى الباحث أن يرجع إلى الشرح الحديدي: 1/78-79، والشرح الميثمي: 1/127-128 ولكن المعنى الّذي نختاره هو:

1. قوله: «كائن لا عن حدث» يشير إلى تنزّهه عن موجود وجد منه بأن يكون لوجوده مادة سابقة تحوّلت إلى الوجود الفعلي؛ لأنّ ذلك من أحكام الممكنات كيف وهو واجب الوجود.

ص:458

2. قوله: «موجود لا عن عدم»: أي وجوده غير مسبوق بالعدم فوجوده - إن صحّ هذا التعبير - نابع من صميم ذاته فلا يتصوّر له العدم.

فالفقرة الأُولى تشير إلى عدم خلو زمان عن وجوده، لأنّ المفروض أنّه غير متحوّل من مادة، فلا بأس أن يقال: إنّه قديم زماناً وإن كان قدمه أفضل من ذلك أيضاً.

والفقرة الثانية تشير إلى عدم سبق العدم على وجوده، فيكون وجوده ووجوبه أزلياً فوق كلّ شيء.

3. قوله: «مع كلّ شيء لا بمقارنة»: إن تبيين المراد من العبارة يحتاج إلى بيان مقدّمة:

أ. تطلق العلّة ويراد بها المعنى الفلسفي، أي معطي الوجود وإيجاد الشيء من كتم العدم كالنفس الإنسانية الخلّاقة للصور.

ب. تطلق العلّة ويراد بها العلّة المادية، وهي بمعنى تحوّل شيء إلى شيء آخر من دون إعطاء الوجود، كتحوّل الحطب إلى النار ثم الرماد، فليس الحطب معطياً للصورة النارية أو الرمادية، وإنّما هي علّة إعدادية لإفاضة الصور من جانب خالق الصور والموجودات عامّة.

إذا علم ذلك فنقول:

إنّ نسبة المعلول الفلسفي إلى علّته نسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي. فكما أنّ الأوّل قائم بالثاني بحيث لو قطعت الصلة بينهما لانعدم المعنى الحرفي، فالممكنات عامّة أشبه بالمعنى الحرفي بالنسبة إلى الواجب فوجودها

ص:459

وقوامها بالواجب جلّ ذكره، فلو حدث انقطاع بينهما لصار مصير الممكنات هو الإعدام، فللّه سبحانه مع الممكنات معيّة قيومية لا معيّة حلولية، نظير كون النفس مع الصور العلمية فلها مقام شامخ مع قطع النظر عن الصور، وفي الوقت نفسه هي مع الصور معيّة قيومية لو انقطعت الصلة لصار المصير انعدام الموجودات. لا معيّة حلولية كما عليه أصحاب التصوّف، وإلى هذا المعنى يشير قوله سبحانه: (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) (1)، وقوله تعالى: (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ ...) (2).

4. قوله: «وغير كلّ شيء لا بمزايلة»: أي ليست بينهما بينونة على وجه تنقطع صلة المخلوق إلى الخالق، لما عرفت من أنّ في البينونة الحقيقية انعدام الموجودات.

ولو أراد القائل تصوير ذلك وإن كان المثال أنزل بكثير عن الممثل: أنّ مثل الممكنات إلى الواجب كمثل النور الحسّي إلى الأجهزة المولّدة له، فالنور غير الأجهزة والأجهزة غير النور، لكنّ المغايرة ليست بالمباينة كما أنّ المقارنة ليست بالحلول والنفوذ، ولكن لو انقطعت صلة النور المضيء مع الأجهزة لعمّت الظلمة عامّة المكان.

هذا ما سمح به الوقت لامتثال أمركم السامي، والتفصيل موكول إلى محاضراتنا في كتاب «الإلهيات».

فسلام اللّه على أمير البيان ووليد بيت الوحي حيث أفاد في هذه الفقرات

ص:460


1- . الحديد: 4.
2- . المجادلة: 7.

الموجزة أسمى الحقائق الفلسفية والمعارف العليا.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

ميلاد الإمام الحسن عليه السلام

الخامس عشر من شهر رمضان - 1432 ه

ص:461

3 استنكار الاحتفال الّذي أُقيم في لندن

سماحة حجة الإسلام الشيخ حسن الصفّار - أطال اللّه بقاءه -

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

بلغنا نبأ الاحتفال الذي أُقيم في لندن حول زوجة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، فإذا صحّ ذلك، وصحّ أنّه أُلقيت فيه كلمات تضمّنت ألفاظاً نابية، فإنّنا ندعو، انطلاقاً من مسؤوليتنا الرسالية والأخلاقية، جميع المسلمين إلى الاهتمام بقضاياهم المصيرية، ومواجهة التحدّيات والأخطار التي تتهدّدهم، لا سيّما الخطر الصهيوني المدمّر، وإلى العمل الدؤوب على تعزيز التعاون والتضامن بينهم، من خلال التأكيد على ما يجمعهم من مشتركات، وما أكثرها، وتجنّب إثارة كلّ ما من شأنه أن يثير الخلاف، ويؤجّج النزاع بينهم، والكفّ عن كلّ التصرّفات التي تسيء إلى الهدف المقدّس: الوحدة الإسلامية.

ونحن إذ ندين ما يصدر هنا وهناك من أقوال وأفعال لا تنسجم مع الإسلام في أهدافه وروحه وخلقه، فإننا نُهيب بالعلماء الواعين وبالمثقفين الحريصين على أُمّتهم، أن يضعوا، عبر الحوارات واللقاءات المشتركة، حلولاً ناجعة لما تعانيه أُمّتنا من تمزّق وتشرذم، وأن يقفوا موقفاً صريحاً ومسؤولاً، لكي يحسموا مادة النزاع وأصل الداء، من ظاهرة التكفير والاتّهام بالشرك

ص:462

والابتداع التي تتبناها بعض المؤسسات الدينية، وأن يعلنوا عن شجبهم واستنكارهم للحملة الإعلامية الشعواء التي تشنّ ضد أتباع أئمة أهل البيت عليهم السلام، من قبل بعض القنوات الفضائية المقيتة.

ولا شكّ في أنّ السكوت والوقوف موقف المتفرّج (فضلاً عن التحريض وشحن النفوس بالحقد والبغضاء) تجاه ما يحدث لشيعة أهل البيت لا سيّما في العراق وباكستان من مجازر دموية رهيبة، يذهب ضحيّتها الآلاف منهم بغير حقّ ، إنّ السكوت عن ذلك يعدّ جريمة كبرى، وتشجيعاً للمتشدّدين على التخبّط أكثر في الظلام، وعلى ارتكاب المزيد من الجرائم وعمليات القتل الجماعي، والمزيد من ردود الأفعال السلبيّة والتصرّفات غير اللائقة، وكلّ ذلك لا يخدم ما يهدف إليه المخلصون الواعون في أُمّتنا من دعوة المسلمين جميعاً إلى الاعتصام بحبل اللّه تعالى، ومدّ جسور الثقة بينهم، ونبذ الخلاف والفرقة (وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ ) (1).

أمّا بالنسبة إلى موقف الشيعة من قضية الإفك، فهو ماذكره شيخنا الطبرسي (471-548 ه) في تفسيره «مجمع البيان»، فمن أراد من إخواننا السنّة الوقوف على رأي علماء الشيعة، فليرجع إليه، وبإمكانكم نشر كلامه في الوسائل الإعلامية.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

الثالث من شوال المكرّم - 1431 ه

ص:463


1- . التوبة: 105.

4 بيان إلى طالبات الحوزة المهدوية في المدينة المنوّرة

الحمدللّه ربّ العالمين الّذي فضّل مداد العلماء على دماء الشهداء، وجعلهم ورثة الأنبياء وصيّر أجنحة الملائكة مواطئ لأقدامهم.

والصلاة والسلام على محمد وآله الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

السلام على نبي اللّه الأعظم وعلى بضعته فاطمة الزهراء عليها السلام وأسباطه المكرّمين ورحمة اللّه وبركاته.

بناتي المؤمنات في الحوزة المهدوية

السلام عليكنّ ورحمة اللّه وبركاته

أمّا بعد: من عظيم سروري أن أسمع بأخبار اهتمامكنّ بدراسة علوم أهل البيت عليهم السلام وتفوقكنّ في كسب المقامات السامية في هذه الدروس، فإنّه ممّا يثلج الصدر أن تشتغل بناتنا في تحصيل العلوم الدينية، وأن يتفرغ بعض نسائنا لإبلاغ الرسالة في بيئاتهن، إجابة لأمر اللّه سبحانه: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ

ص:464

لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) (1).

إنّ الواجبات الدينية - ومنها كسب العلم - قد فرضت على كلا الجنسين حيث لم تتميز المرأة عن الرجل في أغلب التكاليف، قال تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ وَ الصّادِقِينَ وَ الصّادِقاتِ وَ الصّابِرِينَ وَ الصّابِراتِ وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ وَ الصّائِمِينَ وَ الصّائِماتِ وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ وَ الذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَ الذّاكِراتِ أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً) (2).

وما مسألة الدراسة الحوزوية إلّاواحدة من هذه التكاليف التي يجب على شبابنا المؤمن - من الجنسين - الاهتمام بها، والتفوّق فيها، فهي الدرع الواقية أمام هجمات معسكر الكفر وحملاته الشرسة التي تبغي مسخ هوية المسلمين وإذابتها في ما يسمّى بالعولمة الثقافية.

إنّ دور المرأة المتعلّمة في بعض المواقع أهم من دور الرجل، إذ أنّها تدخل إلى مجالس النساء ويرتفع بينها وبينهن ما يمكن أن يكون حائلاً من مصارحة المرأة للرجل بقضاياها الخاصة وتكاليفها وواجباتها، لأسباب كالحياء مثلاً، كما أنّ المثابرة التي تمتاز بها المرأة توفر لها إمكانية التعمّق في فهم المسائل العقائدية والفقهية، وهذه نعمة إلهية يجب على النساء شكرها، وشكر النعم هو وضعها واستخدامها في مواضعها.

إنّ المسيرة العلمية للفقه في ظلال رعاية أهل البيت عليهم السلام شهدت نبوغ

ص:465


1- . التوبة: 122.
2- . الأحزاب: 35.

عدد من المحدّثات وراويات الأخبار، كما برز عدد من الفاضلات في مجال التأليف والبحث والدراسة، وذلك اقتداءً بسيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام التي انبرت لتدافع عن حق الإمام علي عليه السلام في الخلافة وتبيّن مواضع الخلل والخروج عن سنّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، لكي تحافظ على الجهود التي بذلها أبوها صلى الله عليه و آله و سلم في بناء المجتمع الإسلامي وترسيخ جذور هيكلية الإسلام، وبيان تعاليمه وواجبات الأمة تجاه القرآن والعترة الطاهرة.

كما أنّ مواقف السيدة زينب عليها السلام ودورها في نشر مفاهيم الثورة الحسينية ليس بعيداً عن أذهان بناتنا المؤمنات، وصدق من قال: إنّه لولا زينب عليها السلام لبقيت ثورة كربلاء في كربلاء.

على المرأة المسلمة أن تقتدي بفاطمة وزينب عليهما السلام في الدفاع عن الإسلام عقيدة وشريعة، وهذا لا يتوفر إلّابفهم الأبحاث العقائدية والنظريات الفكرية لمدرسة أهل البيت عليهم السلام، وكذلك الإحاطة التامّة بالمسائل الفقهية، وبالأخص ما يتعلّق بأحكام النساء، لتكون داعية ناجحة، ومبلّغة متمكّنة من الإجابة عن كلّ الشبهات التي تثار هذه الأيام على صفحات الانترنت وشاشات الفضائيات المغرضة التي لا يهدف أصحابها إلّاإلى زرع الفتنة وتمزيق الأُمّة، ومركبهم في ذلك هو الجهل، فإذا أبدلناه بالعلم والوعي فقدوا ما يعتمدون عليه في نشر أباطيلهم.

إنّ دراسة علوم أهل البيت عليهم السلام من قبل أبناء وبنات الحجاز لها أهمية خاصّة وذلك بالنظر للتعتيم الفكري والفقهي المطبق على المناهج الدراسية المتبعة هناك، والتي اعتمدت غلق باب الحوار وعدم سماع الرأي المخالف،

ص:466

وفرضت رأي مذهب واحد لا غير.

وفّقكن اللّه تعالى لكلّ خير، وبارك اللّه لكنّ في تفوقكنّ في الدراسة الدينية، وأُوصيكنّ بمواصلة الجهود والسعي للتفوّق في بقية مجالات الحياة، والحمد للّه ربّ العالمين.

جعفر السبحاني

قم المقدسة

ثامن ربيع الأوّل 1433 ه

ص:467

5 بحار الأنوار دائرة معارف إسلامية

إنّ موسوعة «بحار الأنوار» دائرة معارف إسلامية بصبغة شيعية، جُمع فيها لأوّل مرّة ما يرجع إلى الكتاب والسنّة من متون الفقه والتفسير والحديث والرجال وأُصول العقائد والكلام وأُصول الفقه والتاريخ والنجوم والفلكيات، إلى غير ذلك من فنون ابتكرها المسلمون عبر قرون.

وقد بذل العلّامة المجلسي رحمه الله جهده في تأليف هذا الكتاب فطفق يكاتب أصحاب المكتبات والشخصيات البارزة في شرق البلاد وغربها حتّى يحصل على الكتب الّتي لم تكن موجودة عنده، فاجتمع بفضل ذلك كثير من الأُصول والكتب المعوّل عليها في الأعصار الماضية، فرتّب مضامين هذه الكتب بترتيب فائق يقف عليه من يسبر الموسوعة ويمعن النظر فيه.

ولولا أنّه استعان في تأليف الكتاب بجماعة من المحقّقين والمحدّثين لم يُوّفق لإنجاز مثله، فإنّ تأليف كتاب بهذا الحجم الّذي يناهز 110 أجزاء لا يقوم به الفرد مهما بذل من جهد، ولذلك استعان بكثير من تلامذته الذين ناهز عددهم المائتين، وهم بين: مجتهد ومحدّث ومفسّر ولغوي ومؤرّخ وناسخ ومصحّح، ومع ذلك انفرد رحمه الله بتفسير معضلات الأحاديث ومشكلاتها، وقد

ص:468

شاهدنا بعض الأجزاء الّذي كتب فيه الحديث بخط الناسخ، لكن كان الشرح والبيان بخط المؤلف المعروف بخصوصياته.

ولمّا كانت الغاية من تأليف هذه الموسوعة هي جمع الشوارد والمتفرّقات من الكتب في كتاب واحد، فطبع الحال يقتضي أن يشتمل من الأحاديث على صحيحها وموثّقها وحسنها وضعيفها حتّى على ما ربّما لا يوافق الكتاب والسنّة - عند الإمعان - أو يخالف ما اجتمعت عليه الطائفة المحقّة، ولكن هذا لا يقلّل من أهمية الكتاب، لما مرّ من أنّ الهدف هو التأليف لا التحقيق في عامة الموارد.

وقد نقل أُستاذنا الراحل السيد محمد البادكوبي قدس سره(1) عن شيخه وأُستاذه شيخ الشريعة الاصفهاني (1266-1339 ه) أنّه كان يتمنّى أن يقوم الأمثل فالأمثل أو لجنة علمية على تهذيب البحار وتنقيحها سنداً ومضموناً، ومن المعلوم أنّ هذا النوع من العمل لا يقوم به إلّاالأماثل من المحقّقين الذين يحيطون بعلوم مختلفة.

رحم اللّه علمائنا الماضين الذين قاموا بواجبهم ووظائفهم على أحسن وجه.

وقد اطّلعنا أخيراً على أنّ الشيخ الفاضل المحقّق جابر عبد العزيز الجوير قد قام بتحقيق كتاب «بحار الأنوار» وذلك بذكر الصحيح والحسن والموثّق من

ص:469


1- . كان رحمه الله في النجف الأشرف من تلاميذ المحقّق الخراساني، وشيخ الشريعة الاصفهاني ولمّا أكمل دروسه، غادر النجف راجعاً إلى موطنه «باكو» وفي أوائل الثورة الشيوعية، اعتقل ككثير من العلماء ولمّا أُطلق سراحه، التجأ إلى إيران، وقطن مدينة تبريز. قائماً بأعباء الإمامة والدراسة والتبليغ إلى أن وافاه الأجل مغفوراً له.

الروايات بعد دراسة الأسانيد ومضامين الروايات، فخرج عمله في 25 مجلداً اختصر فيها 110 أجزاء بحار الأنوار بعد أن ترك الأجزاء المخصصة للإجازات الروائية.

وقد سبرنا قسماً من الجزء الأوّل من هذا العمل فوجدناه نافعاً في بابه، ورأينا أنّ المحقّق قد بذل جهده لإنجاز هذا العمل، فجاء عمله مشكوراً مقبولاً عند اللّه عزّوجلّ وعند أوليائه الكرام إن شاء اللّه.

ولا يسعني إلّاأن أنبه على أمر، وهو أنّ ضعف الرواية من حيث السند لا يدلّ على بطلانها وعدم صدورها، نعم لا تكون حجّة علينا وإن كانت في الواقع صادرة عن المعصوم.

كما أنّ دراسة السند لا تغني عن دراسة المضمون، إذ ربّما يكون السند صحيحاً ولكن المضمون يكون غير مقبول، وذلك بطروء الخلل على الحديث من جانب الرواة أو الناسخين.

والحمد للّه الّذي به تتم الصالحات

7 ذي القعدة 1427 ه

ص:470

6 خصوصيات التشريع الإسلامي والمسائل المستحدثة

الحمدللّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّه المصطفى وآله الأطهار.

أمّا بعد؛ فإنّ مصادر التشريع الإسلامي التي يعتمد عليها الفقيه في استنباط الأحكام الفرعية هي: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل الحصيف الذي به عرف الإنسان ربه ورسله وما أُنزل معهم؛ وما سوى هذه الأربعة إمّا ليست من مصادره، أو يرجع إليها في النهاية.

وفي هذه المصادر أُصول وقواعد كلّية، استطاعت أن تجعل حلولاً لكلّ الحوادث الطارئة على الحياة الإنسانية، وليس هذا قولاً اعتباطياً، والتاريخ أفضل شاهد على ذلك، فمنذ رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم الذي زامن إقفال باب الوحي، واجه المسلمون في كلّ عصر مسائل مستحدثة لم تكن في عصر الرسالة، ولكن كان في اشتقاق هذه المصادر الأربعة غنى وكفاية في الإجابة عن كافة تلك الأسئلة وفي كلّ عصر من العصور إلى يومنا هذا.

إنّ التشريع الإسلامي يتمتّع بخصوصيات تجعله صالحاً للبقاء والإجابة عن كلّ ما يطرح من المسائل المتجدّدة، وهذه الخصوصيات عبارة عن أُمور نشير إلى عناوينها ونترك تفصيلها إلى وقت آخر:

ص:471

1. كثرة النصوص حول الأحكام الفقهية: وهذا هو «جامع أحاديث الشيعة» الذي أُلّف تحت إشراف أُستاذنا آية اللّه البروجردي قدس سره يحتوي على خمسين ألف حديث عن النبي وآله صلى الله عليه و آله و سلم.

2. مرونة التشريع: وقد أعطت هذه الخصوصية للتشريع الإسلامي مكانة عالية لقيادة المجتمعات بما فيها من حضارات مختلفة، كما قال سبحانه: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) .(1)

3. النظر إلى المعاني لا الظواهر: وهي تخصّ النظر إلى المصالح العامّة، فلو حكم بحرمة بيع الدم سابقاً لانحصار منفعته يوم ذاك بالأكل، فإنّه يحكم بحلّية بيعه في الوقت الحاضر لما فيه من حاجة المرضى إليه.

4. دور العقل في استنباط الأحكام الشرعية: من غير فرق بين باب الملازمات العقلية، أو إدراك العقل الحسن والقبح العقليين، أو إدراكه المصالح والمفاسد العامّة، فللعقل في هذا المقام دور واضح في استنباط الأحكام الشرعية.

***

إنّ الحضارة الصناعية كما أثرت في مظاهر الحياة، أوجدت مسائل جديدة في غير واحد من مختلف أبواب الفقه التي لم يكن لها جذور في مختلف العصور السابقة، ولذلك فتحت أمام الفقهاء باباً واسعاً تضمّن مسائل مستحدثة، وقد قام فقهاؤنا بتحليلها ودراستها في إطار أُصول عامّة، وقد صدرت رسائل وكتب في هذا المجال، شكر اللّه مساعيهم.

ص:472


1- . الحج: 78.

وممّن جدّ واجتهد في هذا المضمار، بل تقدّم على سائر الأقران وفاز بالقدح المعلّى: الفاضل المحقّق الشيخ مرتضى الترابي - وفّقه اللّه لمرضاته - فقد أهدى إلى المكتبة الإسلامية كتاباً فقهياً حديثاً في موضوعه، بقلم رائع، وبيان ساطع، يعرب عن توقّد ذهنه وعلوّ شأنه في هذا المضمار، وهانحن نثمن جهوده في سدّ الفراغ في هذا الباب.

ومن حسن الحظ أنّ هذه الرسائل حول مختلف المسائل قد أُلقيت في مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من المؤتمر الإسلامي، ونالت استحسان الحاضرين في هذا الحفل وقد نشرت في مجلتهم مجلة: مجمع الفقه الإسلامي.

وختاماً نقدّم فائق شكرنا لجامعة المصطفى التي تقوم بنشر هذه الرسائل، شاكرين للمؤلّف أيضاً جهده هذا، راجين أن يكون باكورة خير لسائر الموضوعات، وهو أهل لذلك، وجدير بتحقيق الأُمنية، شكر اللّه مساعيه، ورزقه اللّه خير الدنيا والآخرة.

والحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم المشرفة

24 شعبان المعظم 1432

ص:473

فهرس المحتويات

الموضوع الصفحة

مقدّمة المؤلّف 7

الفصل الأوّل

المقالات

1. الحدوث والقدم 11

تمهيد 13

أ. اتّفاق أصحاب الشرائع على حدوث العالم زماناً 13

ب. التفسير الخاطئ لما نقل عن أفلاطون وأرسطو 14

أقسام الحدوث والقدم 16

1. الحدوث الزماني للعالم 16

تقييم النظرية 16

ما هي المصلحة في إمساك الفيض ؟ 18

2. الحدوث الذاتي للعالم 19

المحقّق الداماد ونقد الحدوث الذاتي 21

المحقّق الداماد والحدوث الزماني 22

نظريتنا في الاعتراض 23

ص:474

الموضوع الصفحة

الشيخ الرئيس وحدوث العالم 24

3. الحدوث الدهري للعالم 25

في شرح المقولات الثلاثة 26

أ. مقولة الزمان 26

ب. مقولة الدهر 27

ج. مقولة السرمد 28

صدر المتألّهين والحركة الجوهرية 30

حدوث المادة والعلوم التجريبية 33

الاستنتاج الفلسفي من القانون الحراري 34

الحدوث الإسمي للعالم 36

نظريتنا في الحدوث الزماني 38

1. وجود عوالم قبل هذا العالم 38

2. تفسير حدوث ما سوى اللّه 39

2. تطوّر العلوم سرّ بلوغ القمّة 41

معنى التطوّر في العلوم الشرعية 43

منهجية التطور 43

دور الزمان والمكان في الاستنباط 45

مسائل مستحدثة بحاجة إلى دراسة 50

توصيات عملية 51

3. فلسفة الفقه: مخاضات التأصيل 53

بشرية علم الفقه 54

ص:475

الموضوع الصفحة

تبعية علم الفقه 56

دنيوية علم الفقه 59

الفقه يُعنى بالظواهر 62

المجتمع الفقهي ليس متقدّماً 63

الفقه علمٌ استهلاكي 65

الفقه علمٌ مختصر 66

علم الفقه متأثّر بالبنية الاجتماعية 67

لا شأن للفقه بالحقوق 68

الفقه والمصالح 69

4. صفة حجّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حديث الإمام الباقر عليه السلام... حضور الصادقين عليهما السلام في الحج قلّل الاختلاف في المناسك 71

الإمام الباقر عليه السلام يصف حج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم 73

السيّد البروجردي يهدي هذا الحديث إلى الملك سعود 79

5. تغيير الجنس في الشريعة الإسلامية 84

في أقسام التغيير 84

القسم الأوّل: تغيير الجنس 84

القسم الثاني: التغيير في الجنس 85

القسم الثالث: من له آلتان لكن تترجّح إحدى الآلتين على الأُخرى 93

القسم الرابع: من له آلتان ولم تترجّح إحدى الآلتين على الأُخرى 94

نتيجة البحث 96

ص:476

الموضوع الصفحة

6. شدّ الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وآله عليهم السلام 97

وفيه مقامان 97

المقام الأوّل: تبيين مفاد الحديث 97

استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم 102

المقام الثاني: سيرة المسلمين عبر القرون في السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وآله عليهم السلام وغيرهم 103

1. سفر السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام لزيارة قبر حمزة سيد الشهداء في أُحد 103

2. سفر عائشة إلى زيارة قبر أخيها 104

3. سفر بلال إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم 105

4. إبراد عمر بن عبدالعزيز بالسلام على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم 105

5. سفر كعب الأحبار إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بدعوة من الخليفة 106

6. سفر أئمة الحديث لزيارة الإمام الرضا عليه السلام 106

7. إطباق المسلمين على جواز السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم 107

حصيلة الكلام 108

7. كمال الدين ميثم البحراني.. حياة مليئة بالعطاء والأحداث 110

مكانته العلمية وثناء العلماء عليه 110

عصر المؤلّف 111

أساتذته وشيوخه 113

تلامذته والراوون عنه 114

مصنّفاته وآثاره العلمية 115

وفاته 119

ص:477

الموضوع الصفحة

مدفنه وقبره 120

الفصل الثاني

مقالات وردود

1. إتقان الاستدلال بآية الابتلاء على عصمة الإمام 125

2. رسالة نقدية حول قاعدتي الاختبار واللطف 131

القاعدة الأُولى: قاعدة الاختبار 132

الاستدلال بنصوص ثلاثة 132

النص الأوّل 132

الكلام حول قاعدة الاختبار 135

النصّ الثاني 137

النصّ الثالث 138

القاعدة الثانية: قاعدة اللطف 139

برهان وجوب اللطف 140

1. وجوب عصمة الأنبياء 141

2. الوعد والوعيد 141

3. وجوب نصب الإمام المعصوم 141

3. شبهات حول التقية والرد عليها 143

زيارة وحوار مع الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين رئيس شؤون الحرمين الشريفين 143

الفروق بين التقية الشرعية والتقية البدعية والرد عليها 146

4. البداء حقيقة قرآنية 164

1. حقيقة البداء 165

ص:478

الموضوع الصفحة

الأثر البنّاء للبداء 168

ممّا يترتّب على القول بالبداء 169

1. رفع العذاب عن قوم نبي اللّه يونس عليه السلام 169

2. الإعراض عن ذبح إسماعيل 170

3. إكمال ميقات موسى عليه السلام 170

2. ما هو معنى: «بدا للّه» في حديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ؟ 172

الفصل الثالث

مقالات قرآنية

1. المجاز في القرآن الكريم 181

الغاية المتوخاة من المجاز 183

1. التأكيد على الحسن والصباحة 183

2. التأكيد على الشجاعة التامّة 184

3. إثارة التعجّب 184

4. رفع التعجّب 185

سؤال وإجابة 185

سؤال آخر 186

الكناية والتعريض في القرآن الكريم 189

أدلّة النافين لوجود المجاز في القرآن وشبهاتهم 199

الشبهة الأُولى: عدم عدول المتكلّم عن الحقيقة إلى المجاز 199

الشبهة الثانية: المجاز أخو الكذب 200

الشبهة الثالثة: المجاز يجوز نفيه 200

ص:479

الموضوع الصفحة

الشبهة الرابعة: دلائل ابن القيّم في إنكار المجاز نقلاً عن لسان شيخه 202

الشبهة الخامسة: القول بالمجاز ينفي الكثير من صفات الكمال والجمال 203

في مناهج القوم حول الصفات الخبرية 205

الأوّل: المثبتون للصفات بمعانيها الحرفية 205

الثاني: المثبتون بلا كيف 205

الثالث: منهج التفويض 208

الرابع: منهج التأويل 209

الخامس: الأخذ بالظهور التصديقي دون التصوري 210

الشبهة السادسة: كلام ابن تيمية حول المجاز 215

الشبهة السابعة: العدول إلى المجاز يقتضي نسبة العجز إلى اللّه 218

الشبهة الثامنة: لو خاطب اللّه بالمجاز لصحّ وصفه بالمتجوّز والمستعير 219

الشبهة التاسعة: المجاز لا يفهم بدون قرينة 220

المجازات في الأحاديث النبوية 221

عود على بدء أو نقد رسالة الشيخ الشنقيطي 227

النزاع في اللفظ والتسمية 233

زلّة لا تستقال 234

نقضت غزلها أنكاثاً 235

2. الوحي لغة واصطلاحاً 237

الوحي في القرآن الكريم 237

1. تقدير الخلقة بالسنن والقوانين 237

2. الإدراك والغريزة 238

3. الإلهام والإلقاء في القلب 239

ص:480

الموضوع الصفحة

4. الإشارة 239

5. الإلقاءات الشيطانية 240

6. كلام اللّه المنزل على نبي من أنبيائه 240

قنوات المعرفة الثلاث 240

1. الطريق الحسّي والتجربي 241

2. الطريق التعقّلي النظري 241

3. طريق الإلهام 241

أنواع الوحي وأقسامه 242

1. الوحي وليد النبوغ 243

2. الوحي ثمرة الأحوال الروحية 247

نبوة أو أضغاث أحلام ؟! 248

3. نزول القرآن في شهر رمضان و بعثته في رجب 249

هل كانت النبوة مقترنة بنزول الوحي والقرآن ؟ 251

سؤال وإجابة 254

4. فرية انقطاع الوحي وفتوره وأُسطورة شق الصدر 258

فرية انقطاع الوحي وفتوره 260

شقّ الصدر أو القلب أو البطن، أُسطورة أُخرى 268

5. غار حراء، وذكريات النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيه 274

روايتان حول نزول الوحي على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ومناقشتهما 275

1. تغطية جبرئيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم 275

2. شكّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم في نبوته ورسالته 276

نظرة تحليلية حول هذه النصوص 282

ص:481

الموضوع الصفحة

6. صيانة القرآن من التحريف 286

القرآن الكريم عند أهل البيت عليهم السلام 289

صيانة القرآن من التحريف 293

القرآن مقياس الحق والباطل، وفيه طوائف من الروايات 302

1. عرض الروايات المتعارضة على القرآن 302

2. حديث الثقلين 303

3. كمال الدين بكمال القرآن 304

شتّان بينهما 305

أقوال العلماء السنّة في مسألة القول بالتحريف عند الشيعة 306

1. العلّامة الدهلوي الكيرانوي 306

2. الدكتورة عائشة يوسف المناعي (المعاصرة) 307

3. عبداللّه بن علي القصيمي 308

4. عبدالملك بن عبدالرحمن الشافعي 309

رسالتان لعبدالملك الشافعي ينتقد فيهما الشيعة 309

مناقشة الرسالة الأُولى المسمّاة ب: «الفصام النكد، دراسة لحقيقة الأزمة بين علماء الشيعة والقرآن» 310

مناقشة الفصل الأوّل الذي يدور حول مناقب الصحابة وجمعهم للقرآن الكريم 310

مناقشة قوله بأنّ الصحابة جمعوا القرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم 311

ما يدلّ على جمع القرآن في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم 313

الأوّل: القرآن الكريم 313

الثاني: السنّة النبوية 315

ص:482

الموضوع الصفحة

ختم القرآن في العهد النبوي 316

قراءة القرآن في المصحف 317

دليل قوي على جمع القرآن في العهد النبوي 319

الثالث: قضاء العقل الحصيف 322

النتائج السلبية لرواية جمع القرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم 324

فرية بعد مرية 324

مناقشة الفصل الثاني الذي يدور حول مصحف علي عليه السلام 325

واقع مصحف عليّ عليه السلام 327

الفصل الثالث وفيه مظاهر 333

مناقشة المظهر الأوّل: رفض الشيعة تكفير القائل بتحريف القرآن 333

عائشة وتحريف القرآن 335

عمر بن الخطاب والقول بنقص القرآن 336

1. آية الشيخ والشيخة 336

2. آية الرغبة 337

3. آية الجهاد 337

4. آية الفراش 338

أُبيّ بن كعب والقول بنقص سورة الأحزاب 339

تبرير القول بالتحريف بالقول بنسخ التلاوة 339

مناقشة المظهر الثاني: مدح الشيعة وثناؤهم على القائل بتحريف القرآن 340

وشهد شاهد من أهلها 344

مناقشة المظهر الثالث: الإعراض عن دراسة القرآن في الحوزات الشيعية 345

ص:483

الموضوع الصفحة

مناقشة الرسالة الثانية المسمّاة ب: «الروايات الشيعية النافية لتحريف القرآن دراسة وتحليل» 348

زعم عبدالملك الشافعي أنّ الشيعة تستدلّ بروايتين إحداهما ضعيفة السند والأُخرى صدرت تقية 348

الرواية الأُولى 349

مناقشة الكاتب للرواية 350

مناقشة الكاتب للمضمون 352

الرواية الثانية 354

مناقشة المؤلّف للسند 355

الآن حصص الحق 358

7. الإعجاز البياني للقرآن الكريم 361

تعريف الفصاحة 366

تعريف البلاغة 367

تقدّم الشيعة في علم البيان والمعاني والبديع 369

8. تفسير سورة القيامة 375

تمهيد 375

الآية الأُولى والثانية 376

المفردات 376

التفسير 377

نظرية الماديّين والإلهيّين حول الروح 385

مراتب النفس 386

ص:484

الموضوع الصفحة

1. النفس الملهمة 387

2. النفس الأمّارة 388

3. النفس اللوامة 389

ما هي الصلة بين المقسم به وجواب القسم ؟ 393

4. النفس المطمئنّة 394

كلام حول مرضاة اللّه تعالى 395

الآيات الثالثة والرابعة والخامسة 397

المفردات 397

التفسير 398

الآية السادسة 402

المفردات 402

التفسير 402

الآيات السابعة إلى الثالثة عشرة 403

المفردات 403

التفسير 404

في الطرق الّتي ينبّأ بها الإنسان بما قدّم وأخّر 406

1. كُتّاب الأعمال من الملائكة 406

2. الأرض 407

3. صحيفة الأعمال 408

الآيتان الرابعة عشرة والخامسة عشرة 409

المفردات 409

ص:485

الموضوع الصفحة

التفسير 409

الآيات السادسة عشرة إلى التاسعة عشرة 411

المفردات 411

التفسير 411

الآيتان العشرون والحادية والعشرون 417

المفردات 417

التفسير 417

الآيات الثانية والعشرون إلى الخامسة والعشرين 418

المفردات 418

التفسير 419

بيان آخر لرفع الإبهام عن قوله: (نَاظِرَة) 422

الآيات السادسة والعشرون إلى الثلاثين 427

المفردات 427

التفسير 427

الروح حقيقة وراء البدن 429

1. آية التوفّي والإمساك والإرسال 430

2. آية حياة الشهداء 430

3. عرض آل فرعون على النار 431

4. ما يأخذه ملك الموت 431

5. الأمر بإخراج الأنفس 433

6. الأمر بدخول الجنة حين الموت 433

ص:486

الموضوع الصفحة

7. إنشاء خلق آخر 434

8. التركيز على إنجاء البدن 435

الآيات الحادية والثلاثون إلى الخامسة والثلاثين 436

المفردات 436

التفسير 437

الآيات السادسة والثلاثون إلى الأربعين 439

المفردات 439

التفسير 439

الفصل الرابع

رسائل وتقاريظ

1. الحسن والقبح العقليان 445

وقفة حول التحسين والتقبيح العقليين 446

سلبيات إنكار التحسين والتقبيح العقليين 451

سؤال وجواب 452

وقفة أُخرى حول آية الوضوء 454

2. تفسير كلام الإمام علي عليه السلام في توحيده سبحانه 459

3. استنكار الاحتفال الّذي أُقيم في لندن 463

4. بيان إلى طالبات الحوزة المهدوية في المدينة المنوّرة 465

5. بحار الأنوار دائرة معارف إسلامية 469

6. خصوصيات التشريع الإسلامي والمسائل المستحدثة 472

فهرس المحتويات 475

ص:487

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.