رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام المجلد 7

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام/ تاليف جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق (ع) ، 14ق. = 13 -

مشخصات ظاهري : 10ج.

يادداشت : عربي.

يادداشت : فهرست نويسي بر اساس جلد ششم: 1428ق. = 1386.

يادداشت : كتابنامه.

موضوع : اسلام -- بررسي و شناخت

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندي كنگره : BP11 /س2ر5 1300ي

رده بندي ديويي : 297

شماره كتابشناسي ملي : 1053076

ص :1

اشارة

ص:2

رسائل و مقالات

7

ص:3

ص:4

رسائل و مقالات

تبحث في مسائل كلامية، عقائدية، فقهية، أُصولية، تراجم،

وحوارات مع بعض الأعلام، وفيها إرشادات

ودعوة إلى التقريب بين المذاهب

تأليف

الفقيه المحقّق

آية اللّه العظمى الشيخ جعفر السبحاني

الجزء السابع

منشورات

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:5

آية اللّه العظمى جعفر السبحاني، 1347 ق. -

رسائل و مقالات/ تأليف جعفر السبحاني. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام 1432 ق 1389

ج.

(ج. 7) 2-464-357-964-978: ISBN

(دوره) 9-465-357-964-978: ISBN

أُنجزت الفهرسة طبقاً لمعلومات فيبا:

المحتويات: ج. 2. تبحث في مواضيع فلسفية، كلامية، فقهية وفيها الدعوة إلى التقريب بين المذاهب. -- ج. 3. تبحث في مواضيع فلسفية، كلامية، فقهية واجتماعية. ج. 4. تبحث في مواضيع فقهية، أُصولية، كلامية و.... ج 5. مواضيع فقهية، أُصولية، كلامية، تراجم، ومكاتبات وحوارات مع بعض الأعلام. -- ج. 6. مسائل فلسفية، كلامية، فقهية، أُصولية، مكاتبات، تقاريض. ج. 7. تبحث في مسائل كلامية، عقائدية، فقهية، أُصولية، تراجم، وحوارات مع بعض الأعلام، وفيها إرشادات ودعوة إلى التقريب بين المذاهب

1. الشيعة -- العقائد -- مقالات ورسائل. 2. الإسلام - مسائل متفرقة. ألف. مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام. ب. العنوان.

1389 5 ر 2 س/ 211/5 / BP 297/4172

اسم الكتاب:... رسائل و مقالات

المؤلّف:... العلّامة الفقيه جعفر السبحاني

الجزء:... السابع

الطبعة:... الأُولى

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

القطع:... وزيري

التاريخ:... 1432 ه. ق

الكمية:... 1000 نسخة

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تسلسل النشر: 631 تسلسل الطبعة الأُولى: 372

توزيع

مكتبة التوحيد

ايران - قم؛ ساحة الشهداء

? 7745457؛ 09121519271

www.shia.ir

http://www.imamsadiq.org

ص:6

مقدمه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف رسله وخاتم أنبيائه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

أمّا بعد؛ فقد روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ثلاثة تخرق الحجب، وتنتهي إلى ما بين يدي اللّه: صرير أقلام العلماء، ووطء أقدام المجاهدين، وصوت مغازل المحصنات».(1)

لا شكّ أنّ هذا الحديث من جوامع الكلم التي أدلى به خير البشر، فالفقرة الأُولى تدل على أنّ العلم والثقافة ركن مهم من أركان المجتمع، كما أنّ الفقرة الثانية ترشدنا إلى أنّ الجهاد هو الركن الثاني للمجتمع الإسلامي المزدهر، والفقرة الثالثة تدلنا على أنّ العمل المقرون بالعفاف ركن ثالث، وبهذه الأركان الثلاثة يكون المجتمع قد سار على طريق الرقي والتقدم.

ومن المعلوم أنّ القلم الذي أُضفي عليه هذا الوصف، وأعطيت له هذه القيمة، هو القلم الذي يحلّ مشكلة من مشاكل المجتمع، أو يدعم عقيدة جاء بها الكتاب أو السنة، أو تُردّ به عادية الأعداء، وتحصن عقائد الشعب وأفكاره، إلى غير ذلك من الآثار الحسنة.

ولو أنّ القلم لم يتحمل واحدة من هذه المسؤوليات، وإنّما كتب شيئاً للانتفاع بالمال أو لكسب المنصب والمقام، فليس له قيمة عند اللّه ورسوله.

ص:7


1- . الشهاب في الحكم والآداب: 22.

وعلى ضوء ذلك فقد توخينا أن تكون الرسائل والمقالات في هذه الموسوعة، سائرة على هذا المنهج، وموصوفة بالصفات المذكورة، خدمة للحق وإظهاراً له وإزهاقاً للباطل.

وهذا هو الجزء السابع من هذه الموسوعة نقدمه إلى القراء الكرام آملين أن يتحفونا بآراءهم ويرشدونا إلى الأخطاء.

وقد قال الإمام الصادق عليه السلام: «أحبّ إخواني من أهدى إليّ عيوبي» و ما قاله إلّا تعليماً لشيعته وروّاد منهجه، صلوات اللّه عليه.

نرجو من اللّه سبحانه أن يجري الحق على ألسنتنا وأقلامنا، وأن يصوننا عن اقتفاء الباطل ونشره وتعليمه، إنّه سميع الدعاء.

واللّه من وراء القصد

جعفر السبحاني

قم المقدسة، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

23 محرّم الحرام 1432 ه.

ص:8

الفصل الأوّل: في الكلام والعقائد

اشارة

1. التجسيم والتشبيه في منهج ابن تيمية

2. حركة الباري ونزوله عند ابن تيمية

3. الجهة والمكان للّه سبحانه عند ابن تيمية

4. نظرة إلى تكلّمه سبحانه في منهج ابن تيمية

5. عقائد شاذّة نابية لابن تيمية

6. العصمة وحقيقتها وآثارها

7. الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية

8. في الرؤية ومعنى الإله

9. البداء في الكتاب والسنّة

10. التبرّك في الكتاب والسنّة

11. التوسّل في الكتاب والسنّة

12. الاحتفال بيوم الغدير أو سلمان العودة توّاب عوّاد

13. القرضاوي وحرمة التسمية بعبد المسيح

14. محسن بن علي بين الحقيقة والخيال

ص:9

ص:10

مع ابن تيمية في عقائده

نبدأ هذا الفصل بطرح بعض أفكار ابن تيمية وعقائده ودراستها ومناقشتها والرد عليها على ضوء الكتاب والسنّة والعقل.

1 التجسيم والتشبيه في منهج ابن تيمية

اشارة

نزلت الشرائع السماوية على تنزيه اللّه سبحانه عن كونه جسماً أو جسمانياً مشابهاً لمخلوقاته إلى غير ذلك ممّا يعد من آثار المادّة.

غير أنّ احتكاك بعض الأقوام ممّن نزلت عليهم الشرائع بالوثنيين صار سبباً لميلهم إلى التجسيم والتشبيه، وعلى رأسهم قوم بني إسرائيل.

ويدلّ على ذلك شواهد، منها:

1. طلبهم من موسى عليه السلام الإله المجسّم

إنّ نبي اللّه موسى عليه السلام بعد ما عبر ببني إسرائيل البحر ونزلوا إلى الضفة الأُخرى منه، رأوا أنّ أقواماً يعبدون أصناماً، فطلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهاً مثل ما لهؤلاء آلهة، لكي يعبدونها، فكأنّهم فكّروا أنّ عبادة الإله غير المرئي أمر غير مفيد، فيجب أن يُعبد اللّه سبحانه بصورة موجود مجسّم، وهذا ما يحكيه قوله سبحانه:

(وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ

ص:11

تَجْهَلُونَ ) .(1)

فالآية تحكي أنّ النزوع إلى الوثنية كان راسخاً في نفوسهم حتى غفلوا عن النعمة الكبرى التي شملتهم، وهي نجاتهم من فرعون، فطلبوا من موسى ما يضاد شريعته وعقيدته.

2. طلبهم رؤية اللّه تعالى

الشاهد الثاني على رسوخ فكرة التجسيم عندهم، أنّهم طلبوا من موسى عليه السلام رؤية اللّه سبحانه بالعين، ولولاها لم يؤمنوا به، وهذا ما يحكيه الذكر الحكيم في قوله سبحانه: (وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) .(2)

3. عبادتهم العجل في غياب موسى عليه السلام عنهم

الشاهد الثالث على رسوخ فكرة التجسيم في أذهانهم وأنّهم كانوا يميلون إلى الإله المجسم أكثر من ميلهم لما دعاهم إليه موسى عليه السلام، إغترارهم بما صنع السامريّ حيث صنع لهم عجلاً جسداً له خوار، ودعاهم لعبادته، فعكف القوم - إلّا القليل منهم - على عبادته، دون أن يدور في خلد أحدهم أنّ هذا يخالف ما دعاهم إليه نبيهم موسى عليه السلام عبر السنوات الطوال، وهذا ما يحكيه الذكر الحكيم عنهم، قال سبحانه:

(وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ ) .(3)

وفي آية أُخرى يتضح بصراحة أنّهم اتخذوا هذا العجل إلهاً لهم، قال سبحانه:

ص:12


1- . الأعراف: 138.
2- . البقرة: 55.
3- . الأعراف: 148.

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ ) .(1)

وهذه الحوادث التاريخية المريرة على قلب موسى عليه السلام التي يذكرها القرآن الكريم، تحكي عن انحراف بني إسرائيل عن خط التنزيه إلى خط التجسيم.

تطرّق فكرة التجسيم إلى النصرانية

لمّا بُعث المسيح عليه السلام إلى بني إسرائيل ذكر بأنّه بُعث بنفس ما بعث به الكليم فقال: (وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ) .(2)

ولكن تطرّقت فكرة التجسيم إلى النصرانية بعد ما رفع اللّه المسيح عليه السلام. وكان المبدأ لذلك هو الديانة البرهمانية التي رفعت علم التثليث وقالت بالآلهة الثلاثة، أعني:

1. برهما - الخالق.

2. فيشنو - الواقي.

3. سيفا - الهادم.

فالإله عند البراهمة يشبه مثلثاً ذا أضلاع ثلاثة، وكانت تلك الفكرة منتشرة بين الروم القاطنين في سوريا وفلسطين وما جاورها حيث بعث المسيح عليه السلام.

فأخذ أتباعه في القرن الثاني نفس الفكرة فصبغوها بشكل آخر، فصار التثليث بالنحو التالي:

الأب، الإبن، روح القدس. وهي التي يسمّونها الأقانيم الثلاثة، ينقل الأُستاذ محمد فريد وجدي عن دائرة معارف «لاروس»، ما يلي:

إنّ تلاميذ المسيح الأوّليّين الذين عرفوا شخصه، وسمعوا قوله، كانوا أبعد الناس عن اعتقاد أنّه أحد الأركان الثلاثة المكوّنة لذات الخالق، و ما كان بطرس -

ص:13


1- . طه: 88.
2- . الصف: 6.

أحد حوارييه - يعتبره إلّارجلاً موحى إليه من عند اللّه، أمّا بولس فإنّه خالف عقيدة التلاميذ الأقربين لعيسى وقال: إنّ المسيح أرقى من إنسان وهو نموذج إنسان جديد أي عقل سام متولد من اللّه.(1)

ثمّ إنّ القرآن الحكيم يحكي عن أنّ النصارى قد اقتبسوا هذه الفكرة من الذين كفروا من قبل، قال سبحانه: (وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ ) .(2)

دور الأحبار و الرهبان في نشر فكرة التجسيم

بعث النبي الخاتم صلى الله عليه و آله على تنزيهه سبحانه ورفع مقامه تعالى عن مشابهة المخلوقات، ملهماً من قوله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ ) (3) غير أنّ قسماً من الأحبار والرهبان الذين استسلموا ظاهراً - ولكن بقوا على ما كانوا عليه من الديانة الموسوية أو العيسوية باطناً - أشاعوا بين المسلمين نفس الفكرة بواسطة الأحاديث والقصص التي كانوا يحكونها عن كتبهم، فأخذها السُّذّج من المحدّثين كحقائق صادقة واقعية، محتجّين بما نسب إلى النبي صلى الله عليه و آله من قوله: «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج».

وقد اغتر بهذه الإسرائيليات أو المسيحيات محدّثان معروفان هما: ابن خزيمة وابن مندة، فقد حشدا في كتابيهما كلّ ما يدلّ على تلك الفكرة الموروثة.

فعن الأوّل يقول الرازي في تفسيره الكبير عند تفسير قوله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ ) : احتج علماء التوحيد قديماً وحديثاً بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسماً مركباً من الأعضاء والأجزاء، وحاصلاً في المكان والجهة، وقالوا: لو كان

ص:14


1- . دائرة معارف القرن العشرين، مادة ثالوث.
2- . التوبه: 30.
3- . الشورى: 11.

جسماً لكان مثلاً لسائر الأجسام فيلزم وجود الأمثال والأشباه له، وذلك باطل بصريح قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ ) .

ثم قال: واعلم أنّ محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سمّاه ب «التوحيد» وهو في الحقيقة كتاب الشرك، ثم وصفه بقوله: إنّه مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل.(1) ولكلامه صلة، من أراد فليرجع إليه.

وكفى في حق الثاني (ابن مندة) ما سنذكره عنه من قوله: إنّ للّه سبحانه عرشاً يجلس عليه وهو يئط أطيط الرحل.

عقيدة أهل السنة في التنزيه

اتّفق أهل السنة وعلى رأسهم أئمة الأشاعرة على تنزيهه سبحانه عن مشابهة المخلوقات وقد أفاضوا الكلام في ذلك بإجمال تارة وتفصيل أُخرى، وشذّ عنهم بعض الحنابلة وأهل الحديث، وها نحن نذكر بعض كلماتهم ليقف القارئ على أنّ علماء المسلمين عن بكرة أبيهم مجمعون على أنّه سبحانه منزّه عن مشابهة المخلوقات وعن كونه جسماً أو جسمانياً، وإليك أسماء بعض هؤلاء مع مقتطفات من أقوالهم:

1. أبو جعفر أحمد بن محمد المصري الطحاوي (239-321 ه) في رسالته المعروفة ب «العقيدة الطحاوية» التي أصبحت مع بعض شروحها كتاباً دراسياً في الجامعات. قال:

ولا شيء مثله، ثم قال: لا تبلغه الأحكام ولا تدركه الأفهام، ولا يشبهه(2)الأنام.(3)

ص:15


1- . التفسير الكبير: 150/27.
2- . في شروح أُخرى: يشبه.
3- . شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز: 57 و 84. ط، مؤسسة الرسالة.

2. أبو الثناء اللامشي الحنفي الماتريدي من علماء القرن الخامس وأوائل السادس، قال ما نصّه: وإذا ثبت أنّه تعالى ليس بجوهر فلا يتصور أن يكون جسماً أيضاً لأنّ الجسم اسم للمتركب عن الأجزاء، يقال: هذا أجسمُ من ذلك، أي أكثر تركّباً منه، وتركب الجسم بدون الجوهرية وهي الأجزاء التي لا تتجزأ، لا يتصور، ولأنّ الجسم لا يتصور إلّاعلى شكل من الأشكال، ووجوده على جميع الأشكال لا يُتصور أن يكون، إذ الفرد لا يتصور أن يكون مطوّلاً ومدوراً ومثلثاً ومربعاً، ووجوده على واحد من هذه الأشكال مع مساواة غيره إياه في صفات المدح والذم لا يكون إلّابتخصيص مخصص، وذلك من أمارات الحدث، ولأنّه لو كان جسماً لوقعت المشابهة والمماثلة بينه وبين سائر الأجسام في الجسمية، وقد قال اللّه تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ ) .(1)

3. أبو بكر الباقلاني (المتوفى 403 ه) في تمهيد الأوائل، قال:

إن قال قائل: لم أنكرتم أن يكون القديم سبحانه جسماً؟ قيل له: لما قدمناه من قبل، وهو أنّ حقيقة الجسم أنّه مؤلف مجتمع بدليل قولهم: رجل جسيم، وزيد أجسم من عمرو، وعلماً بأنّهم يقصرون هذه المبالغة على ضرب من ضروب التأليف في جهة العرض والطول، ولا يوقعونها بزيادة شيء من صفات الجسم سوى التأليف، فلما لم يجز أن يكون القديم مجتمعاً مؤتلفاً، وكان شيئاً واحداً، ثبت أنّه تعالى ليس بجسم.(2)

4. أبو المظفر الاسفراييني (المتوفى 471 ه)، قال:

وأن تعلم أنّ القديم سبحانه ليس بجسم ولا جوهر، لأنّ الجسم يكون فيه التأليف، والجوهر يجوز فيه التأليف والاتصال، وكل ما كان له الاتصال أو جاز عليه الاتصال يكون له حدّ ونهاية. وقد دللنا على استحالة الحدّ والنهاية على

ص:16


1- . التمهيد لقواعد التوحيد: 56، تحقيق عبد الحميد عبد المجيد تركي، ط. دار الغرب الإسلامي.
2- . تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل: 111، ط. دار الكتب العلمية، تحقيق أحمد فريد المزيدي.

الباري سبحانه وتعالى وقد ذكراللّه تعالى في صفة الجسم الزيادة فقال: (وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ ) (1) فبيّن أنّ ما كان جسماً جازت عليه الزيادة والنقصان ولا تجوز الزيادة والنقصان على الباري سبحانه.(2)

5. عمر النسفي (المتوفّى 534 ه) في العقيدة النسفية، قال: والمحدث للعالم هو اللّه تعالى الواحد القديم القادر الحي العليم السميع البصير الشائي المريد ليس بعرض ولا جسم ولا جوهر ولا مصور ولا ممدود ولا معدود ولا متبعض ولا متجز ولا متركب ولا متناه ولا يوصف بالمائية ولا بالكيفية ولا يتمكن في مكان ولا يجري عليه زمان ولا يشبهه شيء ولا يخرج من علمه وقدرته شيء.(3)

هذه إلمامة عابرة على عقيدة أهل السنة في التنزيه، فكتبهم الكلامية والعقديّة مليئة بهذه الكلمات ولا حاجة إلى نقل المزيد منها، إنّما الكلام دراسة عقيدة ابن تيمية في مجال التنزيه، فالرجل من مواليد سنة 661 ه وتوفي سنة 728 ه، فقد أحيا عقيدة أهل التجسيم والتشبيه فتارة يخفي عقيدته ويقول: لا نقول إنّه سبحانه جسم ولا نقول إنّه ليس بجسم.

ولكنّه في بعض المواضع يصرّح بأنّه سبحانه جسم بالمعنى الذي اختاره للجسم وها نحن نذكر كلماته من كتبه المختلفة مشيرين إلى الكتاب وطبعته ومحققه حتى يرجع من أراد أن يحقق الموضوع عن كثب.

النص الأوّل: يقول في تفسير قوله سبحانه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (4)، و تفسير قوله (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (5)، ما هذا نصّه:

«فإنّه لا يدلّ على نفي الصفات بوجه من الوجوه، بل ولا على نفي

ص:17


1- . البقرة: 247.
2- . التبصير في الدين: 159، ط. عالم الكتب، تحقيق كمال يوسف الحوت.
3- . العقيدة النسفية: 4، طبعة استنبول.
4- . الشورى: 11.
5- . مريم: 65.

ما يسمّيه أهل الاصطلاح جسماً بوجه من الوجوه».(1)

ومراده من الصفات في قوله: نفي الصفات، الصفات الخبرية التي أخبر عنها سبحانه كاليد والوجه وغيرهما، فهو يعتقد أنّ الجميع يوصف به سبحانه من غير تأويل ولا تعطيل بل بنفس المعنى اللغوي.

النص الثاني: وقال أيضاً:

«وأمّا ذكر التجسيم وذم المجسّمة، فهذا لا يعرف في كلام أحد من السلف والأئمّة، كما لا يعرف في كلامهم أيضاً القول بأنّ اللّه جسم أو ليس بجسم».(2)

النص الثالث: ويقول في كتاب آخر له:

«وأمّا ما ذكره [العلّامة الحلّي] من لفظ الجسم وما يتبع ذلك، فإنّ هذا اللفظ لم ينطق به في صفات اللّه لا كتاب ولا سنّة، لا نفياً ولا إثباتاً، ولا تكلّم به أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم، لا أهل البيت ولا غيرهم».(3)

إلى هنا يتّضح أنّه أخفى التصريح بأنّه تعالى جسمٌ ، ولكن ذكر أنّ تلك القضيتين ليستا من كلام السلف يعني أنّ اللّه جسم أو ليس بجسم، ولكنّه في موضع من كتابه منهاج السنّة أظهر عقيدته، وهذا ما نلاحظه في النص التالي.

النص الرابع: وقال أيضاً:

«وقد يراد بالجسم ما يشار إليه أو ما يرى أو ما تقوم به الصفات، واللّه تعالى يُرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم، فإن أراد بقوله:

ليس بجسم هذا المعنى قيل له هذا المعنى - الذي قصدت نفيه

ص:18


1- . موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول أو «درء تعارض العقل والنقل» لابن تيمية: 100/1، طبعة دارالكتب العلمية، ط 1، بيروت - 1405 ه.
2- . نفس المصدر: 189/1.
3- . منهاج السنة النبوية: 192/2، مؤسسة قرطبة - 1406 ه، ط 1، تحقيق محمد رشاد سالم.

بهذا اللفظ - معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلاً على نفيه. وأمّا اللفظ فبدعة نفياً وإثباتاً فليس في الكتاب ولا السنّة، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها إطلاق لفظ الجسم في صفات اللّه، لا نفياً ولا إثباتاً».(1)

فقد عرّف إلهه الذي يعبده بالأُمور التالية:

1. أنّه يُشار إليه.

2. أنّه يُرى

3. أنّه تقوم به الصفات فيكون مركباً.

4. أنّ له مكاناً وجهة، بدليل رفع الناس أيديهم عند الدعاء إلى الأعلى.

فالإله بهذا المعنى عنده ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول.

النص الخامس: وقال أيضاً:

«وأمّا القول الثالث - و هو القول الثابت عن أئمة السنة المحضة كالإمام أحمد وذويه - فلا يطلقون لفظ الجسم لا نفياً ولا إثباتاً، لأنّه ليس مأثوراً لا في كتاب ولا سنّة، ولا أثر من أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، فصار من البدع المذمومة».(2)

النص السادس: وقال أيضاً:

«وليس في كتاب اللّه، ولا سنّة رسوله، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها أنّه ليس بجسم، وأنّ صفاته ليست أجساماً وأعراضاً».(3)

هذه كلماته التي نقلناها بنص من كتبه المشهورة، ودع عنك ما ذكره في

ص:19


1- . منهاج السنة: 134/2-135.
2- . منهاج السنة: 224/2-225.
3- . بيان تلبيس الجهمية: 101/1. مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، 1392 ه، ط 1، تحقيق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم.

الرسائل الكبرى التي سيوافيك شيء منه.

ولكن ما ندري ما ذا يريد بقوله: ثابت بصحيح المنقول، فهل يعني الذكر الحكيم ؟ فما اختاره يضادّه تماماً حيث يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ ) ، فلو كان سبحانه جسماً يلزم أن يكون له طول وعرض وارتفاع، وبالتالي يكون مركباً من أجزاء محتاجّاً في تحقّقه إلى كلّ جزء. هذا ما يقوله صحيح المنقول.

وأمّا ما نسبه إلى صريح المعقول فهو أيضاً يضادّ ما ذكره تماماً كذلك إذ لو كان جسماً لاحتاج إلى مكان، فالمكان إمّا أن يكون قديماً فيكون إلهاً ثانياً، وإن كان حادثاً أحدثه سبحانه، فأين كان هو قبل إحداث هذا المكان ؟

وأمّا رفع الناس أيديهم عند الدعاء فلا يعني أنّه سبحانه في السماء وإنّما يريدون إفهام رفعة مقام اللّه سبحانه برفعهم أيديهم؛ مضافاً إلى أنّ البركات تنزل من السماء، قال سبحانه: (وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) (1)، وسيأتي الكلام فيه، فانتظر.

وأمّا ما نسبه إلى السلف - فالسلف بريء منه براءة يوسف ممّا اتّهم به - فيكفينا أن نذكر كلام البيهقي في كتابه «الأسماء والصفات»، قال: احتجّ أهل السنّة على أنّه سبحانه ليس في مكان بالحديث النبوي التالي، قال صلى الله عليه و آله: «أنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» فإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان.(2)

وهناك كلمات كثيرة من أهل الحديث لا يسعها المقام.

إجابة عن سؤال

ربما نسمع من الكثير من أتباع الرجل قولهم: أنّه سبحانه جسم لا كالأجسام، نظير قولنا: شيء لا كالأشياء، فكما أنّ الثاني صحيح، فالأوّل صحيح أيضاً.

ص:20


1- . الذاريات: 22.
2- . الأسماء و الصفات: 400، باب ما جاء في العرش والكرسي.

والجواب عنه واضح، وهو أنّ الشيء لا يدل على خصوصية خاصّة بل يدل على نفس الوجود والتحقق، فلا مانع من أن يقال: أنّه شيء لا كالأشياء، أي له وجود لا كوجود الأشياء.

وأمّا الجسم فيدل على خصوصية مقوّمة له، وهو كونه ذا عرض وطول وارتفاع، فالقول بأنّه جسم يلازم ثبوت هذه الصفات، فتعقيبه ب: لا كالأجسام ينفي هذه الخصوصيات، فيكون الكلام حاملاً للتناقض.

كلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية

إنّ ابن تيمية قد بدأ بنشر أفكاره الشاذّة لأول مرّة في رسالته في العقيدة الواسطية - أعني: الرسالة التاسعة من مجموعة الرسائل الكبرى - ووصف فيها الباري سبحانه بالعبارة التالية:

«تواتر عن رسوله (صلى اللّه عليه وسلم) وأجمع عليه سلف الأُمّة من أنّه سبحانه فوق سماواته، على عرشه، عليٌّ على خلقه».(1)

ومعنى العبارة أنّه سبحانه:

1. فوق السماوات.

2. جالس على عرشه.

3. في مكان مرتفع عن السماوات والأرض.

وليس لهذه الجمل معنى سوى أنّه كملك جالس على السرير في مكان مرتفع ينظر إلى العالم تحته.

نعم استند هو في كلامه هذا بما نقله ابن مندة في توحيده عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«ويحك أتدري ما اللّه، إنّ عرشه على سماواته وأرضيه - وأشار هكذا بأصابعه

ص:21


1- . مجموعة الرسائل الكبرى، الرسالة التاسعة: 401/1.

- مثل القبة عليها، وإنّه ليئط أطيط الرحل بالراكب».(1)

وكأنّه سبحانه جسم كبير فوق الكبر له ثقل على العرش، وهو يئط كما يئط الرحل حينما يجلس عليه الإنسان الثقيل.

وللأسف فإنّ هذا الحديث قد ورد كثيراً في كتب الحديث، فقد نقله أبو داود في سننه برقم 4726، وابن خزيمة في توحيده برقم 147، وابن أبي عاصم في السنة، ص 575، وابن أبي حاتم في تفسير سورة البقرة برقم 223.

ولا شك أنّ هذا الحديث وأمثاله من الإسرائيليات التي تطرقت إلى كتب الحديث، هو من الآثار السلبية لمنع كتابة الحديث النبوي في القرن الأوّل وشيء من الثاني، حتى تداركه الدوانيقي عام 143 ه.

ثمّ إنّ ابن تيمية لما رأى أنّ كلامه يستلزم أن يكون سبحانه جسماً كالأجسام حاول التهرّب عن ذلك بوجه أوقعه - أيضاً - في المحذور، حيث جمع مصطلحات الحكماء والمتكلمين في الجسم وقال:

لفظ الجسم فيه إجمال، فقد يراد به:

1. المركب الذي أجزاؤه مفرّقة فجمعت.

2. أو ما يقبل التفريق أو الانفصال.

3. أو المركّب من مادة وصورة.

4. أو المركّب من الأجزاء المفردة التي تسمى الجواهر المفردة. وقال: واللّه تعالى منزّه عن ذلك كله.

ثم قال: وقد يراد بالجسم:

5. ما يُشار إليه، أو ما يُرى، أو ما تقوم به الصفات، واللّه تعالى يُرى في الآخرة، وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم، فإن أراد [العلّامة الحلّي] بقوله: ليس بجسم هذا المعنى قيل له: هذا

ص:22


1- . توحيد ابن مندة: 429، طبعة مؤسسة المعارف، بيروت.

المعنى ثابت للّه ولم يقم دليل على نفيه.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الجسم من المفاهيم الواضحة عند العرف وليس مشتركاً بين هذه المعاني التي أخذها من الفلاسفة والمتكلمين، فالصحابة عندما سمعوا قوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ ) (2) أو قوله سبحانه: (وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ ) (3) لم يخطر ببال أحد منهم أي واحد من المعاني المذكورة حتى المعنى الأخير الذي اختاره وقال عنه: «هذا المعنى ثابت للّه ولم يقم دليل على نفيه».

فالجسم عند العرب الأقحاح عامّة ما جاء نموذجه في نفس الآيتين نظير:

طالوت في الآية الأُولى، والمنافقين في الآية الثانية. فكلّ شيء كان كهذين النموذجين فهو جسم، والذي يجمع الجميع هو اشتماله على الطول والعرض والعمق، فلو قلنا - العياذ باللّه - أنّه سبحانه جسم، فلا محيص من اشتماله على ما اشتملت عليه سائر الأجسام من الأبعاد الثلاثة.

ثمّ إنّه كرر ما ذكره هنا في مقام آخر.(4) ولا حاجة لنقله.

كما إنّه تفلسف أيضاً في تفسير المكان وقال: قد يراد بالمكان:

1. ما يحوي الشيء ويحيط به.

2. ما يستقر الشيء عليه بحيث يكون محتاجاً إليه.

3. قد يراد به ما كان الشيء فوقه وإن لم يكن محتاجاً إليه.

4. وقد يراد به ما فوق العالم وإن لم يكن شيئاً موجوداً.

ثم نفى ما ذكره من المعاني للمكان واختار المعنى التالي:

هو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وهذا المعنى حق،

ص:23


1- . منهاج السنة النبوية: 134/2-135.
2- . البقرة: 247.
3- . المنافقون: 4.
4- . لاحظ منهاج السنة النبوية: 198/2-200.

سواء سميّت ذلك مكاناً أم لم تُسمّ .(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه ليس للمكان إلّامعنى واحد وهو كون شيءٍ في شيءٍ ، وإحاطة شيء لشيء، ولذلك يفسره أهل اللغة بقولهم: المكان موضع كون الشيء، فلو كان للّه سبحانه مكان فليس إلّابهذا المعنى، دون المعاني التي أخذها من مصطلحات الحكماء والمتكلمين، الذين لهم مصطلحات خاصّة في المفاهيم لا صلة لها بمصطلحات العامّة.

وثانياً: ماذا يريد من قوله: إنّه «على عرشه»؟ إذ عندئذٍ يتوجه إليه السؤال الثاني: ماذا يريد من قوله: إنّ ذاته سبحانه لا تخلو من أن تكون مماسّة للعرش، أو غير مماسّة ؟

فعلى الثاني تكون ذاته سبحانه منزهةً عن المكان لأنّ المكان عبارة عن كون شيء في شيء. لكنّه يكون ذا جهة وهو كونه فوق العرش يشار إليه فقد اثبت للّه الجهة التي هي من خصائص الأُمور المادّية.

وإن كانت مماسّة (على الأول) فيكون محتاجاً إليه. ولعمر القارئ إنّ صرف الحبر والقلم في نقد هذه الأفكار الرديئة تضييع للمال والعمر، ولكن اغترار المتظاهرين بالسلفية بابن تيمية، ألجأني إلى دراسة هذه المواضيع. وسيأتي الكلام حول المكان والجهة للّه في الرسالة الثالثة.

موقف أهل البيت عليهم السلام من فكرة التجسيم

تقدم أنّ ابن تيمية ذكر في كلماته أنّه لم يرد عن أهل البيت عليهم السلام ما يدل على عدم كونه جسماً، ولكنّه لبعده عنهم وما يبدو من كلماته من النصب والعداء الذي يكنّه لهم، فإنّه لم يراجع كلماتهم، فصار يرمي الكلام على عواهنه من غير دليل.

وقد وقف الأصم والأبكم فضلاً عن العلماء على أنّ التوحيد والتنزيه من

ص:24


1- . منهاج السنة النبوية: 144/1-145.

شعار أئمة أهل البيت عليهم السلام كما أنّ التشبيه والجبر من شعار الأمويين، وها نحن ننقل شيئاً قليلاً من كلمات أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله.

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في أحدى خطبه:

«ما وحدّه من كيّفه، ولا حقيقته أصاب مَن مثّله، ولا إياه عنى من شبّهه، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه».(1)

روى الصدوق بإسناده إلى أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث الأعور قال:

خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يوماً خطبة بعد العصر، قال فيها:

«الحمد للّه الذي لا يموت، ولا تنقضي عجائبه، لأنّه كل يوم في شأن، من إحداث بديع لم يكن، الذي لم يولد فيكون في العزّ مشاركاً، ولم يلد فيكون موروثاً هالكاً، ولم تقع عليه الأوهام فتقدّره شبحاً ماثلاً، ولم تدركه الأبصار فيكون بعد انتقالها حائلاً، الذي ليست له في أوّليّته نهاية، ولا في آخريّته حدّ ولا غاية، الذي لم يسبقه وقت، ولم يتقدمه زمان، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان، ولم يوصف بأين ولا مكان».(2)

فأي كلمة أوضح في نفي التشبيه والتجسيم من قوله عليه السلام: «ولم تقع عليه الأوهام فتقدّره شبحاً ماثلاً».

وأي جملة أوضح في نفي المكان من قوله: «ولم يوصف بأين ولا مكان».

***

ثمّ إنّ ابن تيمية صار بصدد تصحيح حديث عبد اللّه بن خليفة الظاهر في التجسيم على ما رواه عبد اللّه بن أحمد بن حنبل باسناده عن عبد اللّه بن خليفة قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و آله فقالت: ادع اللّه أن يدخلني الجنة، قال: فعظّم الرب عزّ وجلّ وقال: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) إنّه ليقعد عليه جل وعز فما

ص:25


1- . نهج البلاغة، الخطبة 186.
2- . توحيد الصدوق: 31.

يفضل منه إلّاقيد أربع أصابع وإنّ له أطيطاً كأطيط الرحل إذا رُكب.(1) فقال ردّاً على العلّامة الحلي حيث نقل الحديث فقال: فهذا لا أعرف له قائلاً ولا ناقلاً ولكن روي في حديث عبد اللّه بن خليفة أنّه: ما يفضل من العرش أربع أصابع، يُروى بالنفي تارة ويُروى بالإثبات، والحديث قد طعن فيه غير واحد من المحدّثين كالإسماعيلي وابن الجوزي، ومن الناس من ذكر له شواهد وقوّاه.

ولفظ النفي لا يرد عليه شيء فإن مثل هذا اللفظ يرد لعموم النفي كقول النبي صلى الله عليه و آله: «ما في السماء موضع أربع أصابع إلّاوملك قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد»، أي ما فيها موضع.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الوارد في كتاب السنّة أي كتاب إمام مذهبه أحمد بن حنبل الذي نقله عنه ولده عبد اللّه هو الإثبات: ما يفضل منه إلّاقيد أربع أصابع - ومعنى ذلك أنّ العرش يمتلأ بوجوده سبحانه ويبقى منه أربعة أصابع خالياً - وما احتمله من النفي للفرار عن المعنى الذي يضحك الثكلى، وما استشهد به من الحديث أعني قوله: «ما في السموات موضع أربع أصابع إلّاوملك...» يفارق المقام، فإنّ الاستثناء فيه بعد أربع أصابع وفي المقام قبله.

وعلى كلتا الصورتين فالحديث ظاهر في التجسيم سواء امتلأ العرش بوجوده أو بقي منه أربع أصابع.

وعلى كلّ تقدير فآفة المشبهة لا تنتهي بما ذكرنا فإنّهم أخذوا التشبيه من اليهود.

يقول الشهرستاني: وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأكثرها مقتبسة من اليهود، فإنّ التشبيه فيهم طباع، حتى قالوا: اشتكت عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه، وإنّ العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الحديد (الجديد)، وأنّه ليفضل من كل

ص:26


1- . السنّة: 305/1 برقم 593.
2- . منهاج السنة: 629/2.

جانب أربع أصابع.(1)

ولو أراد الباحث تنظيم العقيدة الإسلامية عما عليه المشبهة من حمل الصفات الخبرية في الكتاب والسنة على ظاهرها لأصبحت العقيدة الإسلامية عقيدة الزنادقة، وإن كنت في شك فلاحظ ما ذكره الشهرستاني، قال:

وأمّا ما ورد في التنزيل من الاستواء والوجه واليدين والجنب والمجيء والإتيان والفوقية وغير ذلك فأجروها على ظاهرها، أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام، وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه الصلاة والسلام: «خلق آدم على صورة الرحمن»، وقوله: «حتى يضع الجبار قدمه في النار» وقوله: «قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن»، وقوله: «خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحاً»، وقوله: «وضع يده أو كفّه على كتفي»، وقوله: «حتى وجدت برد أنامله على كتفي» إلى غير ذلك؛ أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام.(2)

إنّ الصفات الخبرية هي التي أوجدت فكرة التشبيه والتجسيم عند بعض السلفيين، والمراد بها ما أخبر عنه سبحانه دون أن يدلّ عليه العقل من كونه مستوياً على عرشه، أو أنّ له الوجه واليدين، والجَنْب والمجيء والإتيان والفوق.

ثم إنّ السلف في تفسير الصفات الخبرية على مذاهب:

1. منهم مَن يثبت الصفات الخبرية كاليدين والوجه ويقولون هذه الصفات وردت في الشرع، فبالغوا في إثبات الصفات إلى حدّ التشبيه بصفات المحدثات.

قال الشهرستاني (المتوفّى 548 ه): إنّ جماعة من المتأخّرين زادوا على ما قاله السلف، فقالوا لابد من إجرائها على ظاهرها فوقعوا في التشبيه الصرف، ولقد كان التشبيه صرفاً خالصاً في اليهود....(3)

ص:27


1- . الملل والنحل: 121/1، دار المعرفة، بيروت - 1416 ه.
2- . الملل والنحل: 121/1.
3- . الملل والنحل: 105/1.

2. ومنهم مَن اكتفى بتلاوتها من دون أن يحقّقوا معانيها، ونسب ذلك إلى مالك بن أنس لمّا سُئل عن الاستواء على العرش، قال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ونسب ذلك إلى أحمد بن حنبل وسفيان الثوري وداود بن علي الإصفهاني.(1)

3. ومنهم مَن أوّل الظواهر كي يخرجوا عن مغبّة التشبيه والتجسيم، فقالوا: إنّ المراد من اليد قدرته ونعمته إلى غير ذلك من وجوه التأويل.

وعلى ذلك فالسلف إمّا مبتدعة وهم الذين يجرون الصفات الخبرية على ظاهرها، وإمّا معطلة الذين يمرّون على الآيات ويتلونها دون أن يتفكّروا في حقائقها، أو مؤوّلة يحملون الآية على خلاف ظواهرها من دون قرينة في نفس الآية.

وأمّا العلماء الواعون فهم برآء من التشبيه والتعطيل والتأويل، وإنّما يفرقون بين الظهور الإفرادي والظهور الجملي ؟ وإنّما يحتاج إلى التأويل إذا أخذنا بالظهور الحرفي أو الإفرادي، وأمّا لو أخذنا بالظهور الجملي فنحن في غنى عنه، إذ تصير الجمل عندئذٍ ظاهرة في المعاني الكنائية أو المجازية، فالحجّة هو الثاني دون الأوّل، والآيات عندهم ظاهرة في معانيها التصديقية من دون حاجة إلى التأويل، وهي بين مجاز وكناية واستعارة، وأمّا تفصيل ذلك ففي مجال آخر، وقد أوضحنا حاله في كتابنا الإنصاف.(2)

وعلى كل تقدير فابن تيمية من الطائفة الأُولى، وهو إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه وشيخ اسلام أهل التجسيم ممّن سبقه من الكرامية وجهلة المحدّثين الذين أخذوا بالظواهر ونسبوها إلى اللّه سبحانه وأحيوا بذلك عقيدة اليهود في اللّه سبحانه.

ص:28


1- . الملل والنحل: 105/1.
2- . الإنصاف: 352/3-359.

2 حركة الباري ونزوله عند ابن تيمية

اشارة

من الأُمور الّتي يصرّ عليها ابن تيمية، تجويز الحركة والانتقال والنزول للّه سبحانه، بل إنّه يقول فوق ذلك بأنّه ينزل وينتقل من مكان إلى آخر، وأنّه لا مانع من ثبوت ذلك للّه سبحانه، بل يدّعي أنّ عليه أئمة السلف!!

هذا ما يدّعيه ابن تيمية في غير واحد من كتبه، وهانحن ننقل شيئاً من كلماته، ليتّضح للقارئ موقف الرجل من هذا الأمر.

كتب بشر المريسي الجهني كتاباً في التوحيد ونقضه عثمان بن سعيد الدارمي المجسّم، وقد نقل ابن تيمية شيئاً من كتاب النقض مرتضياً به وإليك ما نقله: أمّا دعواك (بشر المريسي) أنّ تفسير القيّوم: الّذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك، فلا يقبل منك هذا التفسير إلّابأثر صحيح مأثور عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أو عن بعض أصحابه أو التابعين، لأنّ الحيّ القيوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء، ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء، لأن أمارة ما بين الحي والميّت، التحرّك كل حيّ متحرّك لا محالة، وكل ميّت غير متحرك لا

ص:29

محالة.(1)

ويقول ابن تيمية أيضاً: إنّ جمهور أهل السنّة يقولون: إنّه ينزل ولا يخلو منه العرش، كما نُقل مثل ذلك عن إسحاق بن راهويه وحمّاد بن زيد وغيرهما ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدّد(2).

وقال في «الموافقة»: وأئمة السنّة والحديث على إثبات النوعين، وهوالّذي ذكره عنهم مَنْ نقل مذهبهم، كحرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما، بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة، وأنّ ذلك هو مذهب أئمة السنّة والحديث من المتقدّمين والمتأخّرين، وذكر حرب الكرماني أنّه قول مَن لقيه من أئمة السنة، كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبداللّه بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور، وقال عثمان بن سعيد وغيره: إنّ الحركة من لوازم الحياة، فكلّ حيّ متحرك، وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات، الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم.(3)

هذه الكلمات تكفي في بيان نظرية الرجل، وأنّه يثبت للّه سبحانه ما هو من صفات الأجسام، وسيوافيك في آخر المقال أنّه جسّد عقيدته في نزوله سبحانه عن العرش، بنزوله درجة من درج المنبر إلى درجة أُخرى، وقبل دراسة هذه النظرية ومناقشتها، نقدّم أُموراً:

ص:30


1- . موافقة صحيح المنقول لصريح العقول (درء التعارض): 1/333. نشر دار الكتب العلمية، بيروت - 1405 ه. ما نقله من المريسي وما ردّ به عليه فهو من مصاديق: ضعف الطالب والمطلوب، فليس معنى القيّوم هو الّذي لا يزول عن مكانه، بل معناه القائم بنفسه في مقابل الممكن القائم بغيره، وأمّا ما رُدّ به فهو من الفضاحة بمكان ولا يحتاج إلى نقد وردّ!!
2- . منهاج السنة: 2/638، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم.
3- . الموافقة: 1/309.

الأوّل: تعريف الحركة

عرّفت الحركة بتعاريف مختلفة أصحّها وأسدّها هو أنّ الحركة: عبارة عن خروج الشيء من القوّة إلى الفعل على سبيل التدرّج.

والقوة عبارة عن الاستعداد، ووجوده المستعدلة يلازم خروجه عن القوة إلى الفعلية، فهذا النوع من التعريف يشمل كلّ أنواع الحركة الجوهرية والعرضية، أمّا الأُولى فإنّ نواة البرتقال تنطوي على قابلية خاصّة، وهي قابلية أن تكون شجرة في المستقبل، فإذا وقعت تحت التراب تحولت تلك القابلية إلى الفعلية وبالتدريج تخرج من القوّة إلى الفعل.

هذا في الحركة الجوهرية، أمّا الحركة العرضية فمنها الحركة في الأين الّتي نسمّيها بالحركة الانتقالية إلى مكان آخر، فهي أيضاً داخلة في التعريف، ففي الجسم قابلية لأن ينتقل من مكان إلى مكان، فإذا أخذ بالحركة فقد صحّ أن تتحول تلك القوة والقابلية إلى الفعلية، سواء أكان ذلك بسبب عامل داخلي أو خارجي.

هذه هي الحركة وأقسامها.

الثاني: وجود الإمكان في المتحرّك

إذا كانت الحركة هي الخروج من القوة إلى الفعل، فلازم ذلك إمكان وجود الشيء المترقّب في المتحرك. ومن المعلوم أنّ واجب الوجود بريء عن الإمكان فهو فعلية محضة لا ينسجم مع الإمكان. كيف يمكن أن يقال: إنّ في واجب الوجود، قوة ناقصة تتكامل بالخروج عنها إلى الفعلية، وهو كمال مطلق وغنيّ من عامة الجهات.

الثالث: ما هي الغاية من الحركة ؟

إنّ الحركة لابدّ لها من غاية، فما هي الغاية في حركة الباري ؟ فهل هي الحركة من النقص إلى الكمال أو من الكمال إلى النقص ؟ أو لا هذا ولا ذاك ؟

ص:31

أمّا الأوّل فيلازم وجود النقص في اللّه سبحانه مع أنّه الغني المطلق والكمال التامّ .

وأمّا الثاني فهو يلازم خروج الواجب من الكمال المطلق إلى النقص (الكمال النسبي).

وأمّا الثالث فهو يلازم العبث، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

هذه تحليلات فلسفية تعرضنا لها في هذا المقام لمن له مقدرة علمية على فهم هذه الأُمور، وهناك أمر آخر هو:

الرابع: إنّ السبب لذهاب ابن تيمية وأسلافه المجسّمة إلى إثبات الحركة والنزول للّه سبحانه هو ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «يتنزّل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: مَن يدعوني فأستجيب له، مَنْ يسألني فأُعطيه، مَنْ يستغفرني فأغفر له»(1).

وعن هذا الحديث تثار تساؤلات، منها:

أوّلاً: أنّ اللّه سبحانه هو الغفور الرحيم، وأنّه أقرب إلينا من حبل الوريد، فأي حاجة إلى نزول الرب الجليل من عرشه إلى سماء الدنيا وندائه بقوله: مَن يدعوني فأستجيب له. وهو القائل عزّ اسمه: (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (2).

والقائل أيضاً: (أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (3).

والقائل أيضاً: (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ

ص:32


1- . صحيح البخاري: 8/71، باب الدعاء نصف الليل برقم 6321؛ صحيح مسلم: 2/175، باب الترغيب في الدعاء.
2- . المائدة: 39.
3- . المائدة: 74.

اَللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (1)، إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن سعة رحمته لعموم عباده.

كما أنّه سبحانه وعد عباده بأنّه يستجيب دعاء من دعاه ويقول: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (2)، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على قُرب المغفرة من المستغفرين، والإجابة من اللّه سبحانه للسائلين آناء الليل والنهار، فأي حاجة إلى نزول الرب الجليل من عرشه الكريم إلى السماء الدنيا وندائه بقوله: «من يدعوني فاستجيب له»؟!

ثانياً: تعالى ربّنا عن النزول والصعود والمجيء والذهاب والحركة والانتقال وسائر العوارض والحوادث التي تُفضي إلى الجسمية والتحيّز، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً، ومن هنا صار هذا الحديث وأشباهه، سبباً لذهاب الحشوية إلى التجسيم والسلفية إلى التشبيه.

ثالثاً: أنّ لازم ما ذكره أن يكون اللّه سبحانه مستمراً طوال النهار والليل في النزول والصعود وذلك لتعاقب الليل والنهار، فربما يكون نصف النهار في بلد هو نصف الليل في بلد آخر، أو أوّل النهار في بلد هو أوّل الليل في بلد آخر، وكلّ بلد له نصف ليل، فحينئذٍ يلزم أن يكون سبحانه طول الليل والنهار بين النزول والصعود، إذ معنى ذلك أنّه يتحرك في عامّة الليل وعامّة النهار الّتي تكون ليلاً في بلد آخر وهو كما ترى.

رابعاً: أي فائدة في هذا النداء الّذي لا يسمعه أي ابن أُنثى حتّى يرغب في الدعاء؟!

***

ومن العجيب أنّه نسبه إلى أئمة السلف، ولكنّ السلف والخلف بريئان من

ص:33


1- . الزمر: 53.
2- . غافر: 60.

هذه النسبة؛ وذلك لأنّهم يتلون كتاب اللّه ليل نهار وهو يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ ) (1) وإذا أثبتوا للّه الحركة والنزول والصعود، فقد جعلوا للّه مثلاً وشبيهاً.

ومن يرجع إلى كلمات علماء الإسلام الواعين من السلف والخلف يجد أنّهم متّفقون على تنزيهه سبحانه من أوصاف الجسم والجسمانيات وأنّهم أوّلوا الحديث المروي عن أبي هريرة.

يقول الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما هذا نصّه: استدلّ به من أثبت الجهة وقال هي جهة العلو، وأنكر ذلك الجمهور؛ لأنّ القول بذلك يُفضي إلى التحيّز، تعالى اللّه عن ذلك. وقد اختلف في معنى النزول على أقوال.... ثم قال:

وقد حكى أبو بكر بن فورك أنّ بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكاً، ويقوّيه ما رواه النسائي من طريق الأعز عن أبي حويرة وأبي سعيد بلفظ: «إنّ اللّه يمهل حتّى يمضي شطر الليل ثم يأمر منادياً يقول: هل من داع فيستجاب له..» ثم قال: وبهذا يرتفع الإشكال.

ثم نقل عن البيضاوي أنّه قال: ولمّا ثبت بالقواطع أنّه سبحانه منزّه عن الجسمية والتميّز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه.(2)

نعم ربّما يتمسّك المجسّمة بقوله سبحانه: (وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (3).

ولكن الناظر في آيات تلك السورة يقف على أنّه سبحانه يصوّر هول القيامة ورعبها ويقول قبل هذه الآية: (كَلاّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) (4) ثم يقول بعدها

ص:34


1- . الشورى: 11.
2- . فتح الباري: 3/30.
3- . الفجر: 22.
4- . الفجر: 21.

(وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنّى لَهُ الذِّكْرى ) (1). فإنّ المراد من مجيء جهنم إبرازها للعصاة كما في قوله تعالى: (وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى ) (2)فالمراد من مجيئه سبحانه هو ظهور قدرته في ذلك اليوم العصيب وسطوع شوكته، وكثيراً ما يقال: جاء آل فلان، ويراد تسلطهم وسيطرتهم على البلاد.

وفي الكشّاف: هو تمثيل لظهورآيات اقتداره وتبيين آثار قهره وسلطانه، مثّلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم(3).

وعلى ما ذكرنا فالمراد بمجيئه تعالى مجيء أمره قال تعالى: (وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ ) (4)، ويؤيد هذا الوجه بعض التأييد قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ) (5) إذا انضم إلى قوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) (6) وعليه فهناك مضاف محذوف والتقدير جاء أمر ربك، أو نسبة المجيء إليه تعالى من المجاز العقلي.(7)

وكان على ابن تيمية ومن لف لفه أن يرجعوا إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام، الذين هم اعدال الكتاب وقرناؤه، حتّى يعرفوا مكانة الحديث من الصحة والسقم.

روى يعقوب بن جعفر الجعفري عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام قال: ذكر عنده قوم يزعمون أنّ اللّه تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدّنيا، فقال: إنّ اللّه تبارك وتعالى لا ينزل، ولا يحتاج إلى أن ينزل، إنّما منظره في القرب والبعد سواء، لم

ص:35


1- . الفجر: 23.
2- . النازعات: 36.
3- . الكشّاف: 3/337.
4- . الانفطار: 19.
5- . البقرة: 210.
6- . النحل: 33.
7- . الميزان في تفسير القرآن: 20/284.

يبعد منه قريب، ولم يقرب منه بعيد، ولم يحتج بل يُحتاج إليه، وهو ذو الطول، لا إله إلّاهو العزيز الحكيم.

أمّا قول الواصفين: إنّه تبارك وتعالى ينزل فإنّما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة، وكلُّ متحرِّك محتاج إلى من يحرِّكه أو يتحرَّك به، فظنّ باللّه الظنون فهلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حدٍّ تحدّوه بنقص أو زيادة أو تحرّك أو زوال أو نهوض أو قعود، فإنّ اللّه جلّ عن صفة الواصفين و نعت الناعتين وتوهُّم المتوهِّمين، (وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * اَلَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ * وَ تَقَلُّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) (1).(2)

وفي الختام: نقول إن الرجل صرّح بمذهبه وهو على منبر الشام، يقول الرّحالة ابن بطوطة: وكان بدمشق من كبار فقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية كبير الشام يتكلم في فنون، إلّاأنّ في عقله شيئاً. وكان أهل دمشق يعظّمونه أشدّ التعظيم، ويعظهم على المنبر، وتكلم مرّة بأمر أنكره الفقهاء... ورفعوه إلى الملك الناصر فأمر بإشخاصه إلى القاهرة، وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر، وتكلم شرف الدين الزواوي المالكي، وقال: «إنّ هذا الرجل قال كذا وكذا» وعدّد ما أُنكر على ابن تيمية، وأحضر العقود بذلك ووضعها بين يدي قاضي القضاة.

قال قاضي القضاة لابن تيمية: ما تقول ؟ قال: لا إله إلّااللّه، فأعاد عليه فأجاب عليه بمثل قوله: فأمر الملك الناصر بسجنه، فسجن أعواماً، وصنف في السجن كتاباً في تفسير القرآن سماه «البحر المحيط» في نحو أربعين مجلداً.

ثمّ إنّ أُمّه تعرضت للملك الناصر، وشكت إليه فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه ذلك ثانية، وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرتُه يوم الجمعة، وهو يعظ الناس على منبر

ص:36


1- . الشعراء: 217-219.
2- . التوحيد للصدوق: 183، كتاب التوحيد، باب نفي المكان والزمان والحركة عنه تعالى، الحديث 18.

الجامع ويذكّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: (إنّ اللّه ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا) ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلّم به، فقامت العامّة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً.(1)

وربما يحاول بعض المتعصّبين، أن ينفي حضور ابن بطوطة في ذلك العام في دمشق، لكنّه غفل عن أنّ النقل لا ينحصر به، بل نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني في موسوعته الدرر الكامنة(2)، وهذا يدلّ على أنّ الخبر كان منتشراً يوم ذاك في البلد.

(ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ

ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى ) .(3)

ص:37


1- . الرحلة لابن بطوطة: 112، طبعة دار الكتب العلمية.
2- . الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني: 154/1.
3- . النجم: 30.

3 الجهة والمكان للّه سبحانه عند ابن تيمية

اشارة

اتّفق علماء الإسلام - عدا بعض المحدّثين - على أنّه سبحانه منزّه عن الجهة والمكان، وقد برهنوا على ذلك ببراهين واضحة، نذكر بعضها:

1. أن الجهة أو المكان لو كانا قديمين للزم تعدّد القدماء، ولو كانا حادثين ليلزم أن يكون سبحانه محلّاً للحوادث، حيث لم يكن ذا مكان ولا ذا جهة ثم وصف بهما.

2. أنّ اللّه سبحانه غني بالذات، فكونه ذا جهة أو ذا مكان، يلازم حاجته إليهما، فينقلب الغني فقيراً، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

3. أنّ كلّ ما هو في جهة إمّا جسم أو جسماني، وكلّ منهما ممكن بل حادث، فكيف يوصف بهما سبحانه وتعالى ؟

وهذه البراهين مبثوثة ومشروحة في الكتب الكلامية والعقدية، ونحن في غنى عن أن نأتي بكلمات العلماء أو أن نشرحها.

هذه هي البراهين العقلية الّتي تفسّر لنا قوله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ ) (1)، فلو كان في جهة أو مكان، يكون له ملايين الأمثال، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

وإذا رجعنا إلى كلمات أئمة أهل البيت عليهم السلام - الذين ينزّهون الباري أشدّ

ص:38


1- . الشورى: 11.

التنزيه - نجد أنّهم يصفونه بنفي الجهة والمكان، وكلام الإمام علي عليه السلام خير شاهد على ذلك، حيث قال عليه السلام في خطبة له: مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ ، وَمَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ ، وَمَنْ قَالَ : كَيْفَ فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ ، وَمَنْ قَالَ : «أَيْنَ » فَقَدْ حَيَّزَهُ ».(1)

وقال أيضاً: «لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ ، وَلَا يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ ، وَلَا يَحْوِيهِ مَكَانٌ ، وَلَا يَصِفُهُ لِسَانٌ ».(2)

وقال في خطبة أُخرى له: «ولا أنّ الأشياء تحويه، فتقلّه أو تهويه، أو أنّ شيئاً يحمله، فيميله أو يعدله! ليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج».(3)

وروى الصدوق بإسناده عن سليمان بن مهران قال: قلت لجعفر بن محمد عليه السلام: هل يجوز أن نقول: إنّ اللّه في مكان ؟ فقال: «سبحان اللّه وتعالى عن ذلك، إنّه لو كان في مكان لكان محدثاً، لأنّ الكائن في مكان محتاج إلى المكان، والاحتياج من صفات المحدَث لا من صفات القديم»(4).

وروى أيضاً عن أبي بصيرد عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام قال: «إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون، تعالى اللّه عمّا يقولون علواً كبيراً».(5)

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في الجوامع الحديثية المعتبرة.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى عقيدة ابن تيمية من خلال ما ورد في كتبه.

1. قال في «منهاج السنّة»: وجمهور السلف على أنّ اللّه فوق العالم، وأنّ

ص:39


1- . نهج البلاغة: الخطبة: 152.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 178.
3- . نهج البلاغة، الخطبة 186.
4- . توحيد الصدوق: 178، كتاب التوحيد، باب نفي المكان والزمان والحركة عنه تعالى، الحديث رقم 11.
5- . توحيد الصدوق، 184، كتاب التوحيد، باب نفي المكان والزمان والحركة عنه تعالى، الحديث رقم 20.

أحدهم لا يلفظ بلفظ الجهة، فهم يعتقدون بقلوبهم، ويقولون بألسنتهم: ربهم فوق.(1)

2. وقال في «بيان تلبيس الجهميّة»: واللّه تعالى قد أخبر عن فرعون أنّه طلب أن يصعد ليطلع إلى إله موسى، فلو لم يكن موسى أخبر أنّ اللّه فوق لم يقصد ذلك، فإنّه لو لم يكن مقرّاً به فإذا لم يخبره موسى به لم يكن إثبات العلو لا منه ولا من موسى عليه السلام، ثم قال: فموسى صدق محمداً في أنّ ربه فوق، وفرعون كذب موسى في أنّ ربه فوق. فالمقرّون بذلك متّبعون لموسى ولمحمد، والمكذبون بذلك موافقون لفرعون.(2)

والعجب أنّه يستدلّ بطلب فرعون من هامان ليبني له صرحاً ليصعد عليه ويطّلع إلى إله موسى، فهل يكون طلبه دليلاً على أنّ اللّه في السماء؟! ومن أين له أنّ موسى قد أخبر فرعون، بل أنّ طلبه مبني على توهّمه أنّ إله موسى جسم ماديّ فبما أنّه ليس في الأرض فلا بد أن يكون في السماء، فطلب من وزيره أن يجعل له صرحاً ليطّلع إلى إله موسى.

ولعمر القارئ أنّ هذا النوع من الاستدلال يكشف عن عجز المستدل حيث يتشبث بهذا النوع من التسويلات.

يقول المحقّق الدواني في شرح العقائد العضدية: ولابن تيمية أبي العباس أحمد وأصحابه ميل عظيم إلى إثبات الجهة ومبالغة في القدح في نفيها، ورأيت في بعض تصانيفه: أنّه لا فرق عند بديهية العقل بين أن يقال: هو معدوم، أو يقال:

طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده، ونسب النافين إلى التضليل.

3. وقال في «العقيدة الواسطية»: وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان باللّه، الإيمان بما أخبر اللّه به في كتابه وتواتر عن رسوله صلى الله عليه و آله وأجمع عليه سلف الأُمّة،

ص:40


1- . منهاج السنة النبوية: 1/262.
2- . بيان تلبيس الجهمية: 1/526.

من أنّه سبحانه فوق سماواته على عرشه، عليّ على خلقه، وهو معهم سبحانه أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون كما جمع بين ذلك في قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (1) وليس معنى قوله: (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) : أنّه مختلط بالخلق فإنّ هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأُمّة، وخلاف ما فطر اللّه عليه الخلق، بل القمر آية من آيات اللّه من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطّلع إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته.(2)

يلاحظ عليه: أنّ كلامه صريح في أنّ اللّه سبحانه واقع في جهة وهي فوق السماوات، مستقر على عرشه، مستعل على خلقه، فهو مهما أراد أن ينكر عقيدته بأنّ اللّه سبحانه في جهة، فلا يتسنّى له ذلك.

ثمّ إنّه لمّا لاحظ التعارض بين عقيدته - أعني: أنّ اللّه سبحانه مستقر على عرشه، بائن عن خلقه - وقوله سبحانه: (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) حاول أن يجمع بين الآيتين، بتفسير المعيّة بالمعية العلمية، حيث إنّه سبحانه في العرش مع أنّه مطّلع على أعمال عباده.

أقول: وليس هذا إلّاتأويلاً للكتاب العزيز وتفسيراً بالرأي حيث إنّ عقيدته بأنّ اللّه فوق السماوات صارت سبباً لتفسير الآية بما مرّ.

إنّ ابن تيمية كثيراً ما يرد على الجهمية بتأويلهم آيات الصفات ولكنّه وقع بنفس ما يردّ به عليهم.

هبّ أنّه صح تأويله سبحانه: (وَ هُوَ مَعَكُمْ ) بالمعيّة، فبماذا يفسّر قوله سبحانه:

ص:41


1- . الحديد: 4.
2- . مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية: 400/1-401؛ العقيدة الواسطية، الرسالة التاسعة، طبعة محمد علي صبيح.

(ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) (1)؟! فإنّ الآية صريحة في حضوره سبحانه بين الثلاثة وهو رابعهم، وبين الخمسة وهو سادسهم، لا أنّه مستقر في عرشه ينظر إلى مادونه فيعلم بما يجري بين العباد.

ثمّ إنّ الرجل لمّا لم يتوفّق لتفسير المعيّة، تصور أنّ القول بالمعيّة يستلزم الحلول، ومن المعلوم أنّ الحلول في المخلوقات كفر بواح، لا يتكلّم به المتشرّع المؤمن بكتابه وسنّة رسوله، وإنّما المراد بالمعيّة، المعيّة القيوميّة فهو مع كونه خارجاً عن مخلوقاته لكن لا بنحو تنقطع صلته بهم، بل هو مع كونه موجوداً بنفسه، لكن عالم الإمكان قائم به قيام صدور لا قيام حلول.

وإذا أردنا أن نصوّر ذلك بتصوير أدنى فلنذكر هذا المثال:

إنّ النفس الإنسانية مع علوها واستقلالها، لكن الصور الإبداعية التي تخلقها في عالمها قائمة بها، فلا الصور داخلة في النفس، ولا النفس منقطعة عنها، بشهادة أنّ النفس لو ذهلت عن الصور لم يبق منها شيء، فمن قال بالمعية - تبعاً للذكر الحكيم - إنّما يريد المعيّة القيوميّة، ولذلك يقول الإمام علي عليه السلام: «مع كلّ شيء لا بمقارنة، وغير كلّ شيء لا بمزايلة».(2)

ثمّ إنّ الرجل لمّا وقف على كلام الإمام علي عليه السلام في شأنه سبحانه مع المخلوقات، حاول أن يردّ عليه دون أن يذكر اسمه، يقول مخاطباً خصمه: فأنت تقول: إنّه موجود قائم بنفسه وليس بداخل في العالم ولا خارج عنه ولا مباين له ولا محايث (مجانب) له، وأنّه لا يقرب منه شيء ولا يبعد منه شيء، وأمثال ذلك من النفي الذي لو عُرض على الفطرة السليمة جزمت جزماً قاطعاً أنّ هذا باطل

ص:42


1- . المجادلة: 7.
2- . نهج البلاغة، الخطبة 1.

وأنّ وجود مثل هذا ممتنع، وكان جزمها ببطلان هذا أقوى من جزمها ببطلان كونه فوق العالم وليس بجسم.(1)

ويقول في موضع آخر: وأمّا الأحكام الكلّية فهي عقلية فحكم الفطرة بأنّ كل موجودين إمّا متحايثان (متجانبان) وإمّا متباينان، وبأنّ ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلّامعدوماً. وأنّه يمتنع وجود ما هو كذلك.(2)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ قوله: «بأنّ جزم الفطرة ببطلان القول بأنّه سبحانه ليس بداخل في العالم ولا خارج عنه، أقوى من جزمها ببطلان كونه فوق العالم وليس بجسم» يدلّ على أنّ كلا القولين عنده باطل، ولكن الأوّل أظهر بطلاناً من الثاني.

فأين قوله: بأنّ سلف الأُمّة اتفقوا على أنّه فوق العالم، وأنّه ليس لنا أن نصفه بأنّه ليس بجسم، إذ لم يرد في الكتاب والسنّة ؟!

وثانياً: أنّ قوله: «ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلّامعدوماً»، يدل على أنّه يتصوّر أنّه سبحانه جسم، إذ من المعلوم أنّ الجسم إذا لم يكن داخل العالم ولا خارجه يكون معدوماً.

وأمّا إذا قلنا: بأنّه سبحانه فوق أن يكون جسماً أو جسمانياً، وأنّ سنخ وجوده أعلى وأنبل من أن يكون مادّة أو مادّياً، جوهراً أو عرضاً، أو ينال حقيقته العقل، فمثل هذا أعلى من أن يوصف بأنّه في خارج العالم أو داخل العالم، إذ الخارج والداخل ظرف للأُمور الجسمية، وما هو غير مماثل له فلا يوصف بالداخل ولا بالخارج.

ثمَّ إنّ الرجل يصرّح بأنّ جعفر بن محمد عليهما السلام من أئمة الدين، ويقول: قد استفاض عن جعفر الصادق أنّه سئل عن القرآن أخالق هو أم مخلوق ؟ فقال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنّه كلام اللّه، وهذا ممّا اقتدى به الإمام أحمد في المحنة،

ص:43


1- . منهاج السنة النبوية: 147/2.
2- . منهاج السنة النبوية: 149/2.

فإنّ جعفر بن محمد من أئمة الدين باتّفاق أهل السنّة.(1)

فإذا كانت هذه مكانة الإمام الصادق عليه السلام فهو وآباؤه الأقدمون بدأ من علي عليه السلام إلى أن ينتهي بأبيه الباقر عليه السلام كلّهم من أئمة الدين، فلماذا لم يرجع إلى شيء من أحاديثهم حول تنزيهه سبحانه عن المكان والجهة ؟! فهذه خطب الإمام علي عليه السلام وأحاديث العترة، وهي واضحة في تنزيه اللّه سبحانه عن شوائب المادّة والمادّيات وعن الجهة والمكان.

قال الإمام علي عليه السلام: «الحمد للّه الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماؤه العادّون، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون، الذي لا يدركه بُعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حدّ محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود... - إلى أن قال عليه السلام: - فمن وصف اللّه سبحانه (بصفة زائدة على ذاته) فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن قال: فيمَ؟ فقد ضمّه، ومن قال: علامَ؟ فقد أخلى منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كلّ شيء لا بمقارنة، وغير كلّ شيء لا بمزايلة».(2)

وقال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام: «إنّ اللّه تبارك وتعالى كان لم يزل بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان، لا يخلو منه مكان، ولا يشغل به مكان، ولا يحلّ في مكان، ما يكون من نجوى ثلاثة إلّاهو رابعهم، ولا خمسة إلّاهو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلّاهو معهم أينما كانوا ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، لا إله إلّاهو الكبير المتعال».(3)

ص:44


1- . منهاج السنة النبوية: 245/2.
2- . نهج البلاغة، الخطبة 1.
3- . التوحيد للصدوق: 179، كتاب التوحيد، باب نفي المكان والزمان والحركة عنه تعالى، الحديث 12.

وفي النهاية أنّ الرجل متأثر بالأحاديث التي أدخلتها مستسلمة أهل الكتاب في الأحاديث الإسلامية وأنت تقرأ كثيراً منها في توحيد ابن خزيمة وابن مندة وغيرهما.

والجدير بالذكر، أنّ ابن تيمية كأنّه يسلم بأنّ كثيراً من هذه الأحاديث يوافق التوراة، ولكن بما أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يردّه فيكون دليلاً عنده على صحة غير المردود، قال: إنّ المشركين من العرب لم تكن تنازع فيه كما كانت تنازع في المعاد، مع أنّ التوراة مملوءة من ذلك ولم ينكره الرسول صلى الله عليه و آله على اليهود كما أنكر عليهم ما حرّفوه وما وصفوا به الرب من النقائص، كقولهم: (إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ ) (1)و (يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) (2)، ونحو ذلك.(3)

وفي موضع آخر: وقد علم أنّ التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي تسمّيها النفاة تجسيماً، ومع ذلك فلم ينكر رسول اللّه ولا أصحابه على اليهود شيئاً من ذلك ولا قالوا: أنتم تجسّمون.(4)

وكفى في ردّ ما يخبره الأحبار في باب المعارف قوله سبحانه: (وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (5) أي ما وصفوه حق وصفه وما عرفوه حق معرفته.

أقول: إنّ موقف القرآن من التوراة - في أغلب الموارد - موقف النفي حيث يصرّح في غير واحد من آياته بأنّها محرّفة وكذلك يصفها بأنّها أمنية، قال سبحانه:

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ ) .(6)

ص:45


1- . آل عمران: 181
2- . المائدة: 64.
3- . منهاج السنة النبوية: 152/2.
4- . منهاج السنّة: 251/2، الطبعة القديمة.
5- . الزمر: 67.
6- . البقرة: 79.

فالآية صريحة في أنّ الأحبار كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند اللّه، وأنّهم يتكسّبون بفعلهم هذا، وليس هذا الكتاب المزوّر إلّاالتوراة المحرّفة، وكذلك ما يوصف بالكتب السماويّة الواردة في العهدين، وهذا المقدار كافٍ في عدم جواز الاعتماد على ما ورد في الكتب الموصوفة بالسماوية في باب المعارف خصوصاً ما يرجع إلى صفات اللّه سبحانه من التجسيم والتشبيه والحركة والنزول، والتمكّن من المكان.

كيف نعتمد على كتاب وصف بكونه ممّا أُنزل على موسى وهو يذكر مصارعة الرب مع يعقوب إلى نهاية الفجر في خيمته ؟! يقول: ثم قام في تلك الليلة وأخذ امرأتيه وجاريتيه وأولاده الأحد عشر، وعبر مخاضة يبوق، أخذهم وأجازهم الوادي وأجاز ما كان له. فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسانٌ حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنّه لا يقدر عليه ضرب حُقّ فخذه. فانخلع حُقّ فخذ يعقوب في مصارعته معه. وقال: أطلقني لأنّه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني. فقال له: ما اسمك ؟ فقال: يعقوب، فقال: لا يُدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل.(1)

هذه هي التوراة التي كتبتها أيدي الأحبار، ليتكسّبوا بها في الدنيا وهي مليئة بنزول الرب وحركته وجسمانيته، وغير ذلك ممّا لا يليق أن يكتب ويسطّر!!

وقد افتخر أحد المحاضرين في قناة المستقلة، بأنّ ابن تيمية حلّ مشكلة تدور في أذهان الإلهيين، وهي أنّهم يقولون: إنّ اللّه سبحانه لا في داخل العالم ولا في خارجه، وعندئذٍ يطرح هذا السؤال: إذا لم يكن لا في داخل العالم ولا في خارجه، فكيف يكون موجوداً؟ فقد حلّ ابن تيمية المشكلة بقوله: إنّ اللّه على عرشه خارج هذا العالم. هذا ما تطرّق له المحاضر في تلك القناة الفضائية...

غير أنّه غفل عن أنّ السؤال عن مكان اللّه سبحانه وأنّه هل هو في هذا العالم

ص:46


1- . الكتاب المقدس، الإصحاح 32 من سفر التكوين.

أو خارجه، يساوق تسليم كونه جسماً متحيّزاً، ومن المعلوم أنّ المتحيّز لا يفارق الحيّز، فلابد أن يكون له مكان وهو إمّا داخل العالم أو خارجه، وهذا يكشف عن أنّهم لم يعرفوا اللّه حق قدره، وصوّروه موجوداً مادّياً، فطلبوا مكاناً له. وزعموا أنّه إذا لم يكن داخل العالم فهو في خارج العالم وليس هو إلّافوق السماوات.

ولكن البارئ سبحانه بما أنّه ليس كمثله شيء ليس جسماً ولا جسمانياً، فلا معنى أن نطلب له مكاناً داخل العالم أو خارجه.

على أنّ خارج العالم إذا لم يكن أمراً مادّياً فهو مساوق عند المحاضر للعدم، فيعود السؤال أيضاً: كيف يكون موجوداً في عالم معدوم ؟

ثم أين كان سبحانه قبل أن يخلق هذا العالم ؟ فإن قال: خارج هذا العالم، فيقال له: إنّ الخارج لا يتصور إلّامع وجود الداخل، والمفروض أنّه لم يخلق الداخل حتى يتصور له خارج، ويكون فيه.

وحقيقة الكلام: أنّ البحث في أنّه سبحانه في داخل هذا العالم أو خارجه أو ليس فيهما، كلّ ذلك مبني على تصويره سبحانه موجوداً مادّياً، فيتطلب أنّه إمّا في داخل العالم أو خارجه لا في غيرهما.

وأمّا على القول بأنّ وجوده أرفع من أن يحيطه مكان أو يحدّه زمان، فهو قد خلقهما، فعندئذٍ يسقط السؤال عن مكانه في داخل العالم أو خارجه أو لا هذا ولا ذاك، بل هو موجود قيّوم قائم بنفسه والكون قائم به نظير قيام الصور العلمية بالنفس، وعندئذٍ فهو في نفس العالم لكن لا بالحلول والممازجة وفي خارج هذا العالم لكن لا بالمباينة، فلا يمكن للإنسان الغور في كنه وجوده كما قال القائل:

فيك يا أُعجوبة الكو ن غدا الفكر كليلاً

كلّما قدم فكري في ك شبراً فرّ ميلاً

وبذلك تقف على قيمة كلام ابن تيمية حيث يقول: ولم يقل أحد من سلف الأُمّة ولا من الصحابة والتابعين إنّ اللّه ليس في السماء، ولا إنّه ليس على العرش، ولا إنّه في كل مكان، ولا إنّ جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا إنّه داخل العالم ولا

ص:47

خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا إنّه لا تجوز الإشارة الحسيّة إليه بالأصابع ونحوها.(1)

أخبار الآحاد هي المصدر عنده للعقائد

إنّ جذور فكرة التجسيم والتشبيه التي استولت على فكر ابن تيمية ومقلّديه في العصر الحاضر هي أنّهم يعتمدون في الأُصول والفروع على أخبار الآحاد، وقد انعقد مؤتمر قبل سنين في المدينة المنوّرة وكان موضوعه: دراسة حجّية أخبار الآحاد في الأُصول والفروع، وقد قُدّم إلى المؤتمر حوالي ثمانين مقالاً كلّها تؤيد حجّية خبر الآحاد في الأُصول، ولم يدر في خلد واحد منهم، أنّ المقصود الأسنى في العقائد هو تحصيل اليقين، ومن المعلوم أنّ أخبار الآحاد لا توجب علماً ولا يقيناً، نعم هي حجّة في باب الفروع لأنّ المقصود فيها هو تطبيق العمل على مضمون الخبر، سواء أفاد يقيناً أو ظناً أولا هذا ولا ذاك، وهو أمر ممكن.

إنّ أخبار الآحاد التي يعتمد عليها هؤلاء في الأُصول والمعارف أكثرها مدسوسة وموضوعة من قبل مستسلمة أهل الكتاب أو الوضّاعين والكذّابين الذين كانوا يتاجرون بوضع الأحاديث، وقد أدخلوها في الأحاديث الإسلامية ونشروها بين المحدّثين واغترّ بها السذّج منهم، فتصوّروها حقائق راهنة، وحيكت الأسانيد بشكل لا يظهر تدخل الأحبار والرهبان في وضع هذه الأحاديث. ودوّنها أصحاب الصحاح والسنن وجمعها ابن خزيمة وابن مندّة في كتابيهما.

هؤلاء المجسّمة الذين يصورون اللّه تعالى أنّه في السماء ينظر إلى ما دونه من الخلائق يستدلّون بحديث الجارية، على ما رواه مسلم في صحيحه، التي سألها رسول اللّه: أين اللّه ؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول اللّه...

ص:48


1- . الرسالة الحموية الكبرى في مجموعة الرسائل الكبرى : ص 489، 419.

قال صلى الله عليه و آله [لسيدها]: «اعتقها فإنّها مؤمنة».(1)

إنّ الاحتجاج بهذه الرواية مشكل من جهتين:

الأُولى: أنّ السيرة المستمرة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله في دعوته الناس للإسلام هو أخذ الاعتراف بالشهادتين، ولم يرد أنّه سأل أحداً - غير هذه الجارية - عن اللّه ومكانه وصفاته، فلماذا خُصّت هذه الجارية التي كانت بعيدة عن الإسلام، بهذا السؤال المشكل ؟!

الثانية: أنّ هذه الرواية رويت بشكل آخر أيضاً، فهذا هو مالك يرويها في الموطّأ بالشكل التالي: أنّ رسول اللّه قال لها: أتشهدين أن لا إله إلّااللّه ؟ فقالت:

نعم، قال: أتشهدين أنّي رسول اللّه ؟ قالت: نعم.(2)

ورواها أحمد بالنحو التالي: قال: جاء رجل من الأنصار بأمة سوداء، فقال: يا رسول اللّه: أنّ عليّ رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة فاعتقها، فقال لها رسول اللّه: أتشهدين أن لا إله إلّااللّه ؟ قالت: نعم، قال: أتشهدين أنّي رسول اللّه ؟ قالت:

نعم، قال: تؤمنين بالبعث بعد الموت ؟ قالت: نعم، قال: اعتقها.(3)

وللعلّامة كمال الدين أحمد البياضي الحنفي كلام حول هذه الرواية نذكر عصارته: وأنّه مأوّل لمخالفته القواطع العقليات والنقليات، إذ لا يُتجاوز عن الظاهر إلّا لضرورة، فإنّ حجج اللّه تعالى تتعاضد ولا تتضاد،... إلى أن قال: إنّها كانت أعجمية لا تقدر أن تفصح عمّا في ضميرها من اعتقاد التوحيد بالعبارة فتعرف بالإشارة أنّ معبودها إله السماء، فإنّهم كانوا يسمّون اللّه إله السماء، كما دلّ السؤال والاكتفاء بتلك الإشارة.(4)

وبهذا يسقط الاستدلال بظاهر حديث الجارية على كونه سبحانه في السماء.

ص:49


1- . صحيح مسلم: 71/2؛ سنن أبي داود: 211/1، الحديث رقم 930.
2- . الموطأ: 145/1، كتاب العتاقة والولاء، باب ما يجوز من العتق.
3- . مسند أحمد: 451/3.
4- . إشارات المرام من عبارات الإمام: 199-200.

والعجب أنّ ابن تيمية كلّما يذكر شيئاً ممّا يدلّ على التجسيم والتشبيه والحركة والنزول ينسبه إلى السلف قاطبة، وكأنّ السلف عنده يتلخّص في مبتدعة السلفيين وأمّا الآخرون فكأنّهم ليسوا من الأُمّة ولا من سلفهم، حتى أنّه يرمي المفكّرين من المسلمين - كإمام الحرمين والغزالي - في كتابيه منهاج السنة والموافقة بأنّهما أشد كفراً من اليهود والنصارى! فلو كان هؤلاء المفكرون أشد كفراً من أهل الكتاب فعلى الإسلام السلام!!

بقي الكلام فيما يستند إليه المجسّمة وهو أنّ كل إنسان يتوجّه إلى السماء حين الدعاء ويرفع إليها يديه، وكأنّ الإنسان بالفطرة قائل بأنّ اللّه في السماء.

ولكن الإجابة عن ذلك واضحة.

أمّا أوّلاً: فبما أنّ الخيرات والبركات تنزل من السماء كما في قوله: (وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ) (1)، فلأجل ذلك يتوجّه إلى السماء وترفع الأيدي إليها.

وثانياً: أنّ الإنسان بهذا العمل يجسّد علو مقامه سبحانه ورفعته.

ابن تيمية وجلوسه سبحانه على العرش

لا شكّ أنّ الجلوس والقعود من صفات الإنسان أو الموجود الحيّ ، من غير فرق بين أن يكون الجلوس تربعاً، أو على ركبتيه، وهذا كالتحيّز، من صفات المادّة والمادّي، والموجود المنزّه عنهما لا يوصف بالجلوس.

ومع ذلك فإنّ جلوس اللّه ينسبه ابن تيمية إلى أهل السنّة حيث قال في تفسير قوله تعالى: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (2): الاستواء من اللّه على عرشه المجيد على الحقيقة، لا على المجاز.(3)

ص:50


1- . الذاريات: 22.
2- . طه: 5.
3- . مجموع الفتاوى: 519/5.

وقال في كتابه بيان تلبيس الجهمية: إنّ العرش في اللغة السرير بالنسبة إلى ما فوقه، وكالسقف إلى ما تحته، فإذا كان القرآن قد جعل للّه عرشاً، وليس هو بالنسبة إليه كالسقف، عُلم أنّه بالنسبة إليه كالسرير بالنسبة إلى غيره، وذلك يقتضي أنّه فوق العرش.(1)

ولا أدري إذا كان اللّه سبحانه جالساً على السرير ينزل ويصعد، فما معنى قوله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ ) ، بل إنّه عندئذٍ أصبح ذا أمثال كثيرة وعديدة.

وقد جمع ابن قيّم الجوزيّة آراء أُستاذه ابن تيمية في قصيدته النونية، المليئة بالتجسيم، وأنّ اللّه بزعمه فوق سماواته، على عرشه، وأنّه ينزل ويهبط ويصعد.

وإليك بعض أبيات قصيدته هذه التي أخذ فيها يستهزأ بعقيدة التنزيه:

فأسرّ قول معطل ومكذب في قالب التنزيه للرحمن

إذ قال ليس بداخل فينا ولا هو خارج عن جملة الأكوان

بل قال ليس ببائن عنها ولا فيها ولا هو عينها ببيان

كلا ولا فوق السماوات العُلى والعرش من رب ولا رحمان

بل حظه من ربه حظ الثرى منه وحظ قواعد البنيان

لو كان فوق العرش كان كهذه أجسام سبحان العظيم الشأن(2)

ترى أنّه كيف يستهزأ بعقائد المسلمين في هذه الأبيات.

وقد فسّر المجسّمة المقام المحمود في قوله سبحانه: (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (3) بإقعاد النبي صلى الله عليه و آله على العرش في جنبه.

وقد نسب ابن القيّم لابي الحسن الدارقطني الأبيات التالية:

حديث الشفاعة عن أحمد إلى أحمد المصطفى نسنده

وجاء حديث بإقعاده على العرش أيضاً فلا نجحده

ص:51


1- . بيان تلبيس الجهمية: 576/1.
2- . السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل: 35.
3- . الإسراء: 79.

أمروا الحديث على وجهه ولا تدخلوا فيه ما يفسده

ولا تنكروا أنّه قاعد ولا تنكروا أنّه يقعده(1)

فالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله - عندهم - يجلس جنب اللّه وهو في عرشه.

وسيوافيك الكلام فيه في المقال الخامس(2)، فانتظر.

ص:52


1- . لاحظ بدائع الفوائد لابن القيّم: 39/4.
2- . لاحظ صفحة 68 من هذا الجزء.

4 نظرة إلى تكلّمه سبحانه في منهج ابن تيمية

اشارة

اتّفق المسلمون - تبعاً للكتاب والسنّة - على كونه سبحانه متكلّماً، واختلفوا في كيفيّته، ويعدّ وصف التكلّم للّه سبحانه من الصفات الخبريّة حيث أخبر عنه سبحانه في الذكر الحكيم ولولاه لما صحّ لنا وصفه به لأنّ أسماءه وصفاته توقيفية.

قال سبحانه: (وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً) (1) وقال: (وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) .(2)

إنّما الكلام في تفسير حقيقة تكلّمه سبحانه فهناك أقوال للمسلمين مع اتّفاقهم على تنزيهه سبحانه عن كونه متكلّماً بحرف وصوت، قائمين بذاته كتكلّم الإنسان بهما، وإليك النظريات المعروفة:

نظرية المعتزلة

ذهبت المعتزلة إلى أنّ كلامه تعالى أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى، بل يخلقها في غيره، وتكلّمه في الحقيقة من صفات الفعل لا من صفات الذات نظير كونه رازقاً ومنعماً.

ص:53


1- . النساء: 164.
2- . الشورى: 51.

قال القاضي عبد الجبار: حقيقة الكلام هي الحروف المنظومة والأصوات المقطّعة، وهذا كما يكون سبحانه منعماً بنعمة توجد في غيره ورازقاً برزق يوجد في غيره، وهكذا يكون متكلّماً بإيجاد الكلام في غيره، وليس من شرط الفاعل أن يحلّ عليه الفعل.(1)

هذه النظرية وإن كانت صحيحة لكنّها إنّما تتمّ إذا كان المخاطب شخصاً خاصّاً كتكليمه موسى أو تكليمه أحداً من الأنبياء بالطرق الثلاثة حيث قال:

1. (إِلاّ وَحْياً) .

2. (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) .

3. (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) .

وأمّا إذا كان المخاطب عموم الناس من الأوّلين والآخرين، فلابدّ أن يفسّر بوجه آخر وهو أنّ كلامه هو الفعل المنبئ عن جماله، المظهر لكماله، كما سيوافيك.

نظرية الأشاعرة

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ التكلّم من الصفات الذاتية كالعلم والقدرة، هذا من جانب ومن جانب آخر صاروا بصدد تنزيهه سبحانه عن قيام الأصوات والحروف بذاته، فاختاروا هنا مذهباً باسم الكلام النفسي وقالوا: إنّه غير العلم والإرادة. وصار أبو الحسن الأشعري إلى أنّ حقيقة الكلام معنى قائم بذات المتكلم وإنّما هو القول لذي يجده العاقل في نفسه ويجيله في خلده، وفي تسمية الحروف التي في اللسان كلاماً حقيقياً تردّد، أهو على سبيل الحقيقة أم على سبيل المجاز؟ وإن كان على طريق الحقيقة فإطلاق الكلام عليه وعلى النطق النفسي بالاشتراك اللفظي.(2)

ترى أنّ الأشعري يرى أنّ واقع الكلام ليس قائماً بالحروف والأصوات وأنّ

ص:54


1- . شرح الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار: 528، و شرح المواقف للسيد الشريف: 495.
2- . الشهرستاني، نهاية الاقدام في علم الكلام، ص 320، طبعة اكسفورد، 1934.

حقيقته هي المعاني التي يردّدها الإنسان في خلده ويجيله وبهذا المعنى فسّر كلامه سبحانه وأسماه بالكلام النفسي.

ولسنا في صدد نقد عقيدة الأشعري في المقام، لكن نشير إلى نكتة بأنّ ما ذكره من قيام المعاني والمفاهيم بذاته - على فرض تسليمه - يوجب رجوع وصف التكلّم إلى العلم، إذ ليس للعلم الحصولي حقيقة وراء قيام المفاهيم المتصوّرة بالذات، فلا يكون وصفاً لغير ذلك.

على أنّ قيام المفاهيم المجرّدة بذاته سبحانه لا يخلو عن إشكال واضح مبيّن في محلّه.

وإنّما ذكرنا المذهبين (المعتزلة والأشاعرة) لأجل الإشارة إلى أنّ المسلمين قاطبة - وإن اختلفوا في حقيقة التكلّم - ولكن اتفقوا على تنزيهه سبحانه بقيام الحروف والأصوات بذاته. أمّا المعتزلة فذهبوا إلى إيجاده سبحانه الحروف والأصوات في الشجر وغيره، وامّا الأشاعرة فلم يعيروا لهما قيمة، وإنّما ركّزوا على الكلام النفسي الباطني القائم بالذات.

نظرية الإمامية

إنّ مشاهير الإمامية قسّموا كلامه إلى قسمين:

1. ما إذا كان المخاطب فرداً معيّناً فتكلّمه سبحانه هو ما أشار إليه في سورة الشورى بأنّه سبحانه: إمّا يوحي إليه أو يكلّمه من وراء حجاب أو يرسل رسولاً، فقد أشار بقوله: (إِلاّ وَحْياً) إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة وخفاء من دون توسيط ملك، وأشار بقوله: (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) إلى الكلام المسموع لموسى في البقعة المباركة من الشجرة. قال سبحانه: (فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللّهُ رَبُّ

ص:55

اَلْعالَمِينَ ) .(1) وأشار بقوله: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) إلى الإلقاء الذي يتوسط فيه ملك الوحي.

وأمّا إذا كان المخاطب عامّة الناس في عامة الأجيال والأعصار فيفسّر كلامه بصورة أُخرى يسمعه كل الناس سماعاً عقلياً وسماعاً يضفي على الإنسان التعرّف على كمال اللّه سبحانه، وهذا ما سنشرحه تالياً.

لا شكّ أنّ الكلام في أنظار عامّة الناس هو الحروف والأصوات الصادرة من المتكلم القائمة به وهو يحصل من تموّج الهواء واهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج زال الكلام معه، ولكن الإنسان يتوسّع في إطلاقه، فيطلقه على كلّ فعل من أفعال المتكلم إذا أفاد نفس الأثر الذي كان يفيده الكلام اللفظي.

فالكلام وإن وضع يوم وضع للأصوات والحروف المتتابعة الكاشفة عمّا يقوم في ضمير المتكلم من المعاني إلّاأنّه لو وجد هناك شيء يفيد ما تفيده الأصوات والحروف المتتابعة بنحو أعلى وأتمّ ، لصحّت تسميته كلاماً أو كلمة وهذا الشيء الذي يمكن أن يقوم مقام الكلام اللفظي هو فعل الفاعل الذي يليق أن يسمّى بالكلام الفعلي، ففعل كل فاعل يكشف عن مدى ما يكتنفه الفاعل من العلم والقدرة والعظمة والكمال، غير أنّ دلالة الألفاظ على السرائر والضمائر وضعية، ودلالة الأفعال والآثار على ما عليه الفاعل من العظمة تكوينية.

ويمكن أن يستدلّ على هذا القسم من الكلام ببعض الآيات. يقول سبحانه:

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ ) .(2) ترى أنّه سبحانه يصف المسيح بكونه كلمته، لأنّ تولده بلا لقاح يعرب عن قدرة خالقه، وهكذا كلّ ما في الكون من الذرة إلى المجرّة، فالجميع كلامه ولسانه في مقام الفعل يتكلّم بلسان

ص:56


1- . القصص: 30.
2- . النساء: 171.

الحال، ويدل على عظمة الخالق وسعة علمه واحاطة قدرته بكلّ شيء.

يقول الإمام علي عليه السلام: «يقول لما أراد كونه: كن، فيكون، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع. إنّما كلامه سبحانه فعل منه، أنشأه ومثّله لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً».(1)

وقد نسب إليه هذان البيتان:

أتزعم أنّك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

وأنت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر

فكلّ ما في صحيفة الكون من الموجودات الإمكانية كلماته، وتخبر عمّا في المبدأ من كمال وجمال وعلم وقدرة.

نظرية ابن تيمية

هذه نظرة عابرة إلى آراء المسلمين في وصف كونه سبحانه متكلماً وقد عرفت اتّفاقهم على تنزيهه من وصفه بالتكلّم، بمعنى قيام الحروف والأصوات بذاته، وحان حين البحث عن عقيدة ابن تيمية وسلفه.

وحاصل كلامه: أنّه سبحانه لم يزل متكلّماً وأنّ نوع التكلم قديم، ولكن مصاديقه حادثة نظير ما يقول الحكماء في العالم في بعض الأنواع بأنّ النوع قديم والمصاديق غير قديمة. وعلى كلّ تقدير فالحروف والأصوات قائمة بذاته ولا تفارق العلم والإرادة والكراهة، فالجميع من صفات الذات، وإليك نصوص كلامه من كتبه.

1. قال في «منهاج السنة»: وسابعها: قول من يقول: إنّه لم يزل متكلّماً إذا شاء بكلام يقوم به وهو متكلم بصوت يسمع، وإنّ نوع الكلام قديم وإن لم يجعل نفس الصوت المعيّن قديماً. وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنّة، وبالجملة

ص:57


1- . نهج البلاغة، الخطبة 186.

أهل السنة والجماعة أهل الحديث.(1)

2. وقال في «الموافقة»: وإذا قال السلف والأئمة إنّ اللّه لم يزل متكلّماً إذا شاء فقد أثبتوا أنّه لم يتجدد له كونه متكلّماً، بل نفس تكلّمه بمشيئته قديم، وإن كان يتكلّم شيئاً بعد شيء، فتعاقب الكلام لا يقتضي حدوث نوعه، إلّاإذا وجب تناهي المقدورات والمرادات.(2)

3. وقال: فحينئذٍ فيكون الحق هو القول الآخر وهو أنّه لم يزل متكلّماً بحروف متعاقبة لا مجتمعة.(3)

وقال أيضاً: وقد يقول هؤلاء إنّه يتكلّم إذا شاء ويسكت إذا شاء، ولم يزل متكلّماً بمعنى أنّه يتكلّم إذا شاء ويسكت إذا شاء.(4)

وقال أيضاً: وفي الصحيح إذا تكلّم اللّه بالوحي، سمع أهل السماوات كجرّ السلسلة على الصفوان، فقوله: «إذا تكلم اللّه بالوحى سمع» يدل على أنّه يتكلم به حين يسمعونه. وذلك ينفي كونه أزلياً، وأيضاً فما يكون كجرّ السلسلة على الصفا يكون شيئاً بعد شيء، والمسبوق بغيره لا يكون أزليّاً.(5)

وقال أيضاً: وجمهور المسلمين يقولون إنّ القرآن العربي كلام اللّه وقد تكلّم اللّه به بحرف وصوت، فقالوا: إنّ الحروف والأصوات قديمة الأعيان، أو الحروف بلا أصوات، وأنّ الباء والسين والميم مع تعاقبها في ذاتها فهي أزليّة الأعيان لم تزل ولا تزال، كما بسطت الكلام على أقوال الناس في القرآن في موضع آخر.(6)

حصيلة كلامه عبارة عن الأُمور التالية:

ص:58


1- . منهاج السنة: 362/2.
2- . موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول: 278/2، دارالكتب العلمية، بيروت - 1417 ه.
3- . نفس المصدر: 127/4.
4- . مجموع الفتاوى: 150/6، تحقيق عبدالرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية.
5- . مجموع الفتاوى: 234/6.
6- . مجموع الفتاوى: 556/5-557.

1. إنّ تكلمه سبحانه من صفات ذاته كالعلم والقدرة، فيجب أن يكون قائماً بذاته لا قائماً بفعله وليس كالرزق والنعمة، حتى يقوم بفعله، فإذا أنعم يصير منعماً وإذا رزق يصير رازقاً، بل تكلمه ككونه عالماً وقادراً.

2. إذا كان تكلمه قائماً بالذات وداخلاً فيها، يجب أن يكون قديماً كقدم علمه وقدرته ولا يكون حادثاً.

3. وبما أنّ التكلم سنخ وجوده التدّرج، وحقيقته قائمة به أيضاً، فلابدّ أن يكون نوع التكلم قديماً وافراده حادثاً، نظير قول الحكماء من الأغارقة أنّ النفس الإنساني قديم بالنوع وإن كانت مصاديقه حادثة.

4. إنّ ما ذكره عقيدة جمهور المسلمين، وكأنّ المسلمين عنده هم جماعة أهل الحديث فقط.

يلاحظ على ما ذكره أوّلاً: بأنّه إذا كان التكلم الذي واقع وجوده الحدوث والتجدد، قائماً بالذات ونابعاً عنها، فلازم ذلك، حدوث الذات، لأنّ حدوث الجزء يلازم حدوث الكل، إلّاأن يرجع التكلّم إلى صفة الفعل، كما عليه العدلية من المعتزلة والشيعة.

وثانياً: إنّ القول بأنّ نوع التكلم قديم ومصاديقه حادثة يستلزم قدم الكلام فيكون الهاً ثانياً كما في كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كما مرّ. إلّاأن يكون التكلم جزء الذات فيكون قديماً بقدمها.

وثالثاً: كيف ينسب مختاره إلى جمهور المسلمين، مع أنّ جمهور المسلمين هم الأشاعرة والماتريدية والإمامية والمعتزلة، والجميع يتبرأون من تلك النسبة.

بل هم بُرآء منها براءة يوسف ممّا اتهم به. وهذا هو الإمام الاسفرائيني شيخ الأشاعرة في عصره يقول: إنّا نعلم أنّ كلام اللّه تعالى ليس بحرف ولا صوت، لأنّ الحرف والصوت يتضمنان جواز التقدّم والتأخر، وذلك مستحيل على القادر

ص:59

سبحانه.(1)

ورابعاً: لو كان تكلمه سبحانه مع كل فرد من المكلّفين بالحروف والأصوات، فلا يكون أسرع الحاسبين بل أبطأهم مع أنّه سبحانه يقول: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ ) .(2)

وخامساً: إنّ ما زعمه في كيفية تكلّمه سبحانه يتفق تماماً مع ما ورد في التوراة في قصة آدم وحوّاء عند أكلهما من الشجرة، فقد جاء فيها ما هذا نصّه:

«ورأت المرأة أن الشجرة طيبة للأكل ومتعة للعيون وأنّ الشجرة شهية للنظر فأخذت من ثمرها وأكلت وأتت أيضاً زوجها الذي معها، فأكل فانفتحت أعينهما فعرفا أنّهما عريانان، فخاطا من ورق التين وصنعا لهما منه مآزر، فسمعا وقع خطى الرب الإله، وهو يتمشّى في الجنة عند نسيم النهار، فاختبأ الإنسان وامرأته من وجه الرب الإله فيما بين أشجار الجنّة، فنادى الرب الإله الإنسان وقال له: أين أنت ؟ قال: إنّي سمعت وقع خطاك في الجنّة، فخفت لأني عريان فاختبأت. قال:

فمن أعلمك أنّك عريان، هل أكلت من الشجرة التي أمرتك أن لا تأكل منها؟ فقال الإنسان: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت...»(3).

وبذلك تقف على قيمة كلام الشهرستاني في الملل والنحل حيث يقول:

«زادت المشبهة في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - وأكثرها مقتبس من اليهود فإنّ التشبيه فيهم طباع حتى قالوا:

اشتكت عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه... وزادوا على التشبيه قولهم في القرآن: إنّ الحروف والأصوات والرقوم المكتوبة قديمة أزلية، وقالوا: لا يعقل كلام ليس بحروف ولا كلم.(4)

ص:60


1- . التبصير في الدين: 167، تحقيق كمال يوسف الحوت، طبعة عالم الكتب، بيروت.
2- . الأنعام: 62.
3- . التوراة، سفر التكوين، الفصل الثالث، الفقرات رقم 6-13.
4- . الملل والنحل للشهرستاني: 106/1، نشر دار المعرفة، بيروت.

الاستدلال برواية جابر بن عبد اللّه

استدلّ ابن تيمية على أنّ تكلّمه سبحانه بحرف وصوت برواية جابر بن عبد اللّه التي أشار إليها البخاري في كتاب العلم، باب الخروج في طلب العلم إشارة إجمالية وقال: «ورحل جابر بن عبد اللّه مسيرة شهر إلى عبد اللّه بن أنيس في حديث واحد».(1)

وأمّا ما هو هذا الحديث فقد نقله في صحيحه في كتاب التوحيد، باب قول اللّه تعالى: (وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) فقال: ويذكر عن جابر عن عبد اللّه ابن أنيس قال: سمعت النبي يقول: يحشر اللّه العباد فيناديهم بصوت يسمعه مَن بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ : أنا الملك أنا الديَّان.(2) ترى أنّه ينقله بتمريض حيث يقول: «ويذكر عن جابر» الظاهر في عدم جزمه بالصحّة. نعم نقله في «الأدب المفرد» بلا لفظ: (ويذكر)، قال:

عن ابن عقيل أنّ جابر بن عبد اللّه حدّثه أنّه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبي فابتعت بعيراً فشددت إليه رحلي شهراً حتى قدمت الشام، فإذا عبد اللّه بن أنيس، فبعثت إليه أنّ جابراً بالباب فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد اللّه ؟ فقلت: نعم فخرج فاعتنقني، قلت: حديث بلغني لم أسمعه، خشيت أن أموت أو تموت. قال: سمعت النبي يقول: يحشر اللّه العباد أو الناس عراة غُرلاً بُهماً، قلنا: ما بُهماً؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُد (أحسبه قال: كما يسمعه من قَرُب): أنا الملك.(3)

ص:61


1- . صحيح البخاري: ج 1، برقم 19، كتاب العلم، باب الخروج في طلب العلم.
2- . صحيح البخاري برقم 7480.
3- . الأدب المفرد: 326، الباب 442 باب المعانقة برقم 973.

تحليل الحديث

يلاحظ على الاستدلال أوّلاً: أنّه لا شك أنّ صحيح البخاري أصحّ من كتاب «الأدب المفرد» وقد نقله فيه بصيغة التمريض، وهذا يدل على عدم جزمه فلا يعادل ما في «الصحيح» ما نقله في «الأدب المفرد».

وثانياً: أنّ الحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد، عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي: يقول اللّه يا آدم ويقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إنّ اللّه يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار.(1) فقوله: «فينادي» يقرأ على وجهين: بصيغة المعلوم فيكون المنادي هو اللّه ويصير كالشاهد على مذهب ابن تيمية، وبصيغة المجهول: «فيُنادى بصوت» فيكون نائب فاعله هو آدم، ومع هذا الاحتمال لا يمكن أن يستدل بمثل هذا الحديث على عقيدة يطلب فيها العلم.

ثالثاً: أنّ البخاري أخرجه في كتاب أحاديث الأنبياء عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه عن النبي باللفظ التالي: يقول اللّه تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار....(2)

فقد ورد فيه: يقول اللّه تعالى مكان «فينادى بصوت» فصار الحديث مردداً بين التعبيرين ولا دلالة في التعبير الثاني على مرامه إذ هو نظير قوله سبحانه: (قالَ اللّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) .(3)

فتلخص مما ذكرنا أنّ الحديث لا يمكن الاحتجاج به من جهات:

أوّلاً: رواه البخاري في كتاب التوحيد عن جابر عن عبد اللّه بن أنيس بصيغة التمريض.

وثانياً: رواه البخاري أيضاً في كتاب التوحيد عن أبي سعيد الخدري بلفظ:

فينادي، الذي يُحتمل فيه وجهان: صيغة المعلوم وصيغة المجهول.

ص:62


1- . صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: (وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ ) برقم 7483.
2- . صحيح البخاري، كتاب حديث الأنبياء، برقم 3348.
3- . المائدة: 119.

قال ابن حجر: «فيُنادى» مضبوطاً للأكثر بكسر الدال، وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول، ولا محذور في رواية الجمهور فإنّ قرينة قوله: «إنّ اللّه يأمرك» تدل على أنّ المنادي ملك يأمره اللّه بأن ينادي بذلك.(1)

وثالثاً: رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري - أيضاً - في كتاب حديث الأنبياء بلفظ: يقول اللّه تعالى، دون لفظ: ينادي بصوت. ومع هذا الاضطراب هل يصح لعالم أن يستدل بمثله على أصل من أُصول الدين.

ورابعاً: أنّ معنى قوله: فينادي بصوت: أنّه يوجد النداء يوم القيامة ويسمعه من قرب ومن بعد لا أنّه يتكلّم بذاته بالحروف والأصوات ومثل هذا الاستعمال كثير فلا فرق بين أن يقول «نادى» أو يقول «قال»، فالجميع من صفات الفعل.

وخامساً: إذا دلّ العقل الحصيف الذي عرفنا به اللّه سبحانه وتعالى على امتناع قيام الحوادث بذاته لا يعتد بخبر الواحد وان بلغ من الصحة ما بلغ إذا كان على خلاف ما يحكم به العقل الحصيف الذي هو من حجج اللّه سبحانه.

وللمحقق الكوثري في نقد هذا كلام نذكره بنصه:

قال: وقد أفاض الحافظ أبو الحسن المقدسي شيخ المنذري في رسالة خاصّة في تبيين بطلان الروايات في ذلك زيادة على ما يوجبه الدليل العقلي القاضي بتنزيه اللّه عن حلول الحوادث فيه سبحانه، وإن أجاز ذلك الشيخ الحرّاني (ابن تيمية) تبعاً لابن ملكا اليهودي الفيلسوف المتمسلم، حتى اجترأ على أن يزعم أنّ اللفظ حادث شخصاً قديم نوعاً يعني أنّ اللفظ صادر منه تعالى بالحرف والصوت فيكون حادثاً حتماً، لكن ما من لفظ إلّاوقبله لفظ صادر منه إلى ما لا أوّل له فيكون قديماً بالنوع... إلى أن قال: ولم يدر المسكين بطلان القول بحلول الحوادث في اللّه جلّ شأنه وأنّ القول بحوادث لا أول لها هذيان، لأنّ الحركة انتقال من حالة إلى حالة فهي تقتضي بحسب ماهيتها كونها مسبوقة بالغير، والأزل ينافي كونه مسبوقاً

ص:63


1- . فتح الباري: 460/13، كتاب التوحيد.

بالغير، فوجب أن يكون الجمع بينهما محالاً.(1)

استدلال بحديث آخر

روى البخاري قال: وقال مسروق عن ابن مسعود: إذا تكلم اللّه بالوحي سمع أهل السماوات شيئاً.(2)

فنقله ابو داود بلفظ آخر وقال: إذا تكلّم اللّه بالوحي سمع أهل السماء للسماء صَلْصَلة كجرّ السلسلة على الصفا.(3)

وقد زعم المستدل أنّ الصوت للّه سبحانه، ولكن ظاهر الحديث الذي نقله أبو داود أنّ الصوت للسماء حيث إنّ المسموع لأهل السماء هو قوله: «للسماء صلصلة».

أضف إلى ذلك أنّ الاستدلال بحديث أعرض عن ذيله البخاري في صحيحه وتفرّد بنقله أبو داود أمر مرفوض جدّاً، فإنّ معرفة العقائد لا تخضع لخبر واحد.

إنّ اللّه تعالى مستغن عن أن يستعين في كلامه بالحروف والأصوات وإلّا يكون فقيراً كالإنسان تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً. ولذلك اشتهر بين المحققين أنّ من وصف اللّه تعالى بمعنى من معاني البشر فقد كفر.

وفي نهاية المقال نذكر ما ذكره الخطيب البغدادي حيث قال: يُرد الحديث الصحيح الإسناد لأُمور:

أن يخالف القرآن، أو السنة المتواترة، أو العقل، لأنّ الشرع لا يأتي إلّا بمجوزات العقول.(4)

ص:64


1- . مقالات الكوثري: 124، طبعة عام 1414 ه، المكتبة الأزهرية للتراث.
2- . صحيح البخاري، باب قول اللّه تعالى: (وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ ) برقم: 7480.
3- . سنن أبي داود: 421/2، كتاب السنّة، باب في الشفاعة، الحديث رقم 4738، دار الفكر - 1410 ه.
4- . الفقيه والمتفقه: 132/1.

ومن المعلوم أنّ هذه الأحاديث على خلاف العقل الحصيف ومن أوضح مصاديق تشبيه الخالق بالمخلوق، غير أنّ اغترار بعض الحنابلة - و على رأسهم ابن تيمية - بالتعبد بالأحاديث جرّهم إلى تلك المغبّة، وإلّا فالموحّد الذي يعتمد على النصوص القرآنية أوّلاً والنبوية ثانياً وحكم العقل الحصيف ثالثاً لا يحوم حول هذه الأحاديث ولا يقيم لها قيمة.

ذاته سبحانه ليست محلّاً للحوادث

إنّ نظرية ابن تيمية في تكلّمه سبحانه، وقوله: إنّ الصوت والحروف قائمان بذاته، تستلزم أنّ ذاته تكون محلّاً للحوادث، ولم يقل به أحد من أئمة السلف إلّا الكرّامية، وقد استدلّ المحقّقون على امتناع كون ذاته محلّاً للحوادث بوجوه نأتي بها إجمالاً:

1. إنّ حدوث الحوادث في ذاته يدلّ على انفعاله، والانفعال من شؤون الممكن لا الواجب، كما هو واضح.

2. إنّ المقتضي للحادث إن كان ذاته كان أزلياً وهو خلاف الفرض، وإن كان غيره، كان الواجب مفتقراً إلى الغير.

3. إن كان الحادث صفة كمال استحال خلو الذات عنها، وإن كان صفة نقص استحال اتّصاف الذات بها.(1)

وقد أوضح سيف الدين الآمدي الوجه الثالث في كتابه «غاية المرام» وقال ما هذا نصّه: فالرأي الحق والسبيل الصدق والأقرب إلى التحقيق أن يقال: لو جاز قيام الحوادث به لم يخل عند اتّصافه بها إمّا أن توجب له نقصاً، أو كمالاً، أو لا نقص ولا كمال.

ص:65


1- . كشف المراد: 294.

لا جائز أن يقال بكونها غير موجبة للكمال ولا النقصان، فإنّ وجود الشيء بالنسبة إلى نفسه أشرف له من عدمه، إلى أن قال:

ولا جائز أن يقال: إنّها موجبة لكماله، وإلّا لوجب قدمها لضرورة أن لا يكون البارئ ناقصاً محتاجاً إلى ناحية كمال في حال عدمها.

فبقي أن يكون اتّصافه بها ممّا يوجب القول بنقصه بالنسبة إلى حاله قبل أن يتّصف بها، وبالنسبة إلى ما لم يتّصف بها من الموجودات، ومحال أن يكون الخالق مشروفاً أو ناقصاً بالنسبة إلى المخلوق، ولا من جهة ما.(1)

وقال الاسفرائيني: إنّ الحوادث لا يجوز حلولها في ذاته وصفاته؛ لأنّ ما كان محلّاً للحوادث لم يخل منها، وإذا لم يخل منها كان محدثاً مثلها؛ ولهذا قال الخليل عليه السلام: (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ) (2) بيّن به أنّ من حلّ به من المعاني ما يغيره من حال إلى حال كان محدثاً لا يصحّ أن يكون إلهاً.(3)

وبذلك ظهر أنّ ابن تيمية قد أحيا منهج الكرّامية لا منهج السلف الصالح ولا من تبعهم بإحسان، واللّه هو الهادي.

ص:66


1- . غاية المرام في علم الكلام: 191-192.
2- . الأنعام: 76.
3- . التبصير في الدين: 160-161.

5 عقائد شاذّة نابية

إنّ القول بتجسيم اللّه سبحانه وحركته ونزوله و تكلّمه بصوت، الذي تبنّاه ابن تيمية وإن كان قولاً غريباً بعيداً عن الكتاب والسنّة ودلائل العقل، إلّاأنّ للرجل عقائد أُخرى أغرب من ذلك، نذكر منها نماذج ثلاثة:

1. استقرار اللّه على العرش وإمكان استقراره على ظهر بعوضة.

2. إقعاد النبي صلى الله عليه و آله جنبه سبحانه في العرش.

3. فناء النار والعذاب، عن أهل النار.

أمّا الأوّل: فيقول: ولو شاء لاستقرّ على ظهر بعوضة، فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته، فكيف على عرش عظيم أكبر من السماوات والأرض، فكيف تنكر أيها النفّاج أنّ عرشه يقلّه.(1)

إنّ ابن تيمية قد اعتقد أنّ اللّه عزّ وجل جسم وأنّ له استقراراً وأنّه مع عظمته وكبره يستطيع أن يستقر على ظهر بعوضة، أفيصح في عصرنا هذا الذي غلب على أهله التعقّل أكثر من التعبّد، الدعوة إلى الاعتقاد بربٍ تستطيع أن تحمله بعوضة، وهو في نفس الوقت أكبر من العرش، وهذا العرش أكبر من السماوات والأرض ؟!! فواللّه إن نشر هذه الأفكار السخيفة في هذه الأيام يورث ابتعاد الناس عن الدين، والعزوف إلى الماديّة.

وأمّا الثاني: - أعني: إقعاد اللّه النبي جنبه على العرش - فقد قال الحافظ أبو

ص:67


1- . بيان تلبيس الجهمية: 568/1.

حيان في تفسيره:

وقرأت في كتاب لأحمد بن تيمية - هذا الذي عاصرناه وهو بخطه سمّاه كتاب العرش -: إنّ اللّه تعالى يجلس على الكرسي وقد أخلى منه مكاناً يقعد فيه معه رسول اللّه صلى الله عليه و آله.(1)

إنّ النسخة المطبوعة من التفسير خالية من هذا المطلب(2)، قال الزاهد الكوثري في تعليقه على (السيف الصقيل): وقد أخبرني مصحّح طبعه في مطبعة السعادة أنّه استفظعها جدّاً، فحذفها عند الطبع، لئلّا يستغلها أعداء الدين، ورجاني أن أسجل ذلك هنا استدراكاً لما كان منه ونصيحة للمسلمين.(3)

وقد مرّ في الفصل الثالث ما نسبه ابن القيم إلى أبي الحسن الدارقطني من الأبيات التي تضمنت هذه الأُسطورة.

وأمّا الثالث: - أعني قوله بفناء النار - فقد قال ما نصّه:

وفي المسند للطبراني ذكر فيه أنّه ينبت فيها الجرجير، وحينئذٍ فيحتج على فنائها بالكتاب والسنّة، وأقوال الصحابة، مع أنّ القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنّة ولا أقوال الصحابة.(4)

وقد نسب القول بفناء النار إلى السلف أيضاً، ونقل هذا عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم.

وفيما ادّعاه رد لصريح القرآن والسنّة، فقد قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ

ص:68


1- . تفسير النهر الماد: 254/1، تفسير آية الكرسي.
2- . وقد نقل هذه الفقرة تقي الدين أبو بكر الحصني الدمشقي (المتوفّى 829 ه) عن أبي حيّان النحوي الأندلسي في تفسيره المسمّى بالنهر الماد، في كتابه: «دفع شبه من شبّه وتمرّد»: 47/1-48، نشر المكتبة الأزهرية للتراث، مصر.
3- . السيف الصقيل ردّ ابن زفيل للسبكي: 97، طبعة مكتبة زهران؛ دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه لابن الجوزي: 123، تحقيق حسن السقاف، طبعة الأردن، 1412 ه؛ كشف الظنون لحاجي خليفة: 1438/2.
4- . الردّ على من قال بفناء الجنة والنار: 67.

وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً) .(1)

وقد رد عليه الكثير من علماء الإسلام، فهذا المناوي يقول: إنّ الجنّة أبدية لا تفنى والنار مثلها، وزعم جهم بن صفوان أنّهما فانيتان لأنّهما حادثتان، ولم يتابعه أحد من الإسلاميين بل كفّروه به، وذهب بعضهم إلى إفناء النار دون الجنة، وأطال ابن القيّم كشيخه ابن تيمية في الانتصار له في عدة كراريس، وقد صار بذلك أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان لمخالفته نصّ القرآن، وختم بذلك كتابه الذي في وصف الجنان.(2)

وقال الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي: وبينما تراه - يعني: ابن تيمية - يسبّ جهماً والجهمية، إذا بك تراه يأخذ بقوله في أنّ النار تفنى وأنّ أهلها ليسوا خالدين فيها أبداً.(3)

وقال أبو بكر الحصيني الدمشقي (752-829 ه): واعلم أنّه انتُقد عليه زعمه:

أنّ النار تفنى ، وأنّ اللّه تعالى يفنيها، وأنّه جعل لها أمداً تنتهي إليه وتفنى ، ويزول عذابها. وهو مطالب أين قال اللّه عزّ وجل ؟ وأين قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وصحّ عنه ؟(4)

ويكفي في بطلان هذه العقيدة قوله سبحانه في أهل الجحيم: (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ) .(5)

وقال سبحانه: (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) .(6)

وقال: (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) .(7)

ص:69


1- . الأحزاب: 64 و 65.
2- . فيض القدير: 341/6.
3- . فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان: 135.
4- . دفع الشبهة عن الرسول والرسالة: 116، طبعة 1418 ه، القاهرة؛ دفع شبه من شبّه وتمرّد للحصني: 58/1، طبعة المكتبة الأزهرية للتراث، فى. مصر، والعنوانان هما لكتاب واحد.
5- . الحج: 22.
6- . الإسراء: 97.
7- . الفرقان: 65.

6 العصمة حقيقتها وآثارها

لماذا نبحث عن العصمة ؟

ليست (العصمة)، من المسائل الخلافية التي عفا عليها الزمن والتي يجب أن تُترك إلى غيرها من المسائل، بل (العصمة) من الأُمور التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة والحياة الإسلامية الحاضرة، لأنّ بحث (العصمة) بحث فيما يضمن سلامة هذه الثقافة واستقامتها، وبالتالي يضمن مطابقة حياتنا الحاضرة لما أنزل اللّه من تشريع وما ترك نبيه العظيم صلى الله عليه و آله من سنّة.

فكما تشترط (العصمة) في النبي الذي يوحى إليه، ضماناً لسلامة تبليغه، وإلّا لما وثق الناس بكلامه، ولما اطمأنّوا إلى إخباره وحديثه، كذلك لابد من اشتراط هذه الصفة في مَن يحمل إلى الأجيال المتلاحقة هذا التشريع الإلهي ويكون امتداداً للنبوة في وظائفها ومسؤولياتها، حفاظاً على الدين من تحريف المحرفين، وإبطال المبطلين، وتشكيك المشكّكين.

إنّ أسوأ داء أصاب الشرائع السابقة هو أنّ أتباعها أخذوا أحكام أنبيائهم بعد غيابهم من كلّ مَن هَب ودبّ ، فكان التحريف - الذي تحدّث عنه الكتاب العزيز

ص:70

في ثلاثة مواضع(1) - وكان الضلال، وكان الضياع.

إنّ بحث العصمة لا يعني إلّاالتعريف بالطريق الأفضل، لتلقّي الشريعة الإلهية على نقاوتها وأصالتها، ومن هنا يكون طرح هذه المسألة على بساط البحث ضرورة يقتضيها الواجب على كلّ مسلم بأن يتلقّى دينه من أكثر الطرق اطمئناناً.

العصمة في اللغة

العصمة في اللغة بمعنى المنع، ويطلق على ما يعتصم به الإنسان ويمنع به نفسه عن الوقوع فيما يكره.

ومنه قولهم: اعتصم فلان بالجبل إذا امتنع به، ومنه سمّيت العصم وهي وعول الجبال لامتناعها بها.

قال سبحانه: (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) (2) أي التجأ إلى الجبل زاعماً أنّه يمنعه من الماء، وأُجيب بأنّه: لا مانع من أمره سبحانه إلّامن رحم.(3)

العصمة في مصطلح المتكلمين

في مصطلح أهل الكلام تعني العصمة: التوفيق واللطف والاعتصام عن الذنوب والغلط في دين اللّه، وهي تفضّل من اللّه على من علم أنّه يتمسّك بعصمته.(4)

وبعبارة أُخرى: العصمة لطف من اللّه إلى المكلّف يمنع منه وقوع المعصية

ص:71


1- . لاحظ: البقرة: 75؛ النساء: 46؛ المائدة: 13.
2- . هود: 43.
3- . أوائل المقالات: 111.
4- . شرح عقائد الصدوق، 60.

وترك الطاعة مع قدرته عليهما.(1)

ويقرب من هذين التعريفين، ما عرّفه غير واحد من علماء الكلام.(2)

وهذه التعاريف توقفنا على حقيقة العصمة، وأنّها ليست أمراً اكتسابياً، بل هي موهبة من اللّه سبحانه لمن فيه قابلية ذلك الفيض وتلك الموهبة، وهذا ممّا لا بحث فيه، وإنّما الكلام هو في منشأ هذه العصمة، وبعبارة أُخرى: من أي مقولة هي ؟

العصمة من مقولة العلم الرادع

الحق أنّ العصمة نوع من العلم يفاض منه سبحانه على من اختاره اللّه سبحانه فيمنعه عن ارتكاب المعصية أو الوقوع في الخطأ، بل ويردعه عن التفكير في كلّ ذلك، فضلاً عن العمل، وذلك أثر العلم وخاصيته، فإنّ العلم النافع والحكمة البالغة يوجبان تنزّه صاحبهما عن الوقوع في مهالك الرذائل، والتلوث بأقذار المعاصي، وذلك ممّا نشاهده في رجال العلم والحكمة من أهل الدين والتقى، غير أنّ سببية (العلم العادي) سببية غالبية لا دائمية.

وإن شئت قلت: هو مقتض للتنزّه عن المعاصي، كما هو شأن سائر الأسباب الموجودة في عالم المادة، وعلى ذلك فكلّ متلبّس بالكمال، يحجزه ذلك الكمال عن النقص، ويصونه عن الخطأ حسب قوته وشدته.

هذا هو شأن (العلم) وأثره، غير أنّ القوى الشعورية والغريزية الأُخرى ربّما توجب مغلوبية (العلم) وتنفي أثره، أو توجب ضعفه، فصاحب ملكة التقوى - مثلاً - مادام يشعر بتلك الفضيلة ويخضع لتلك الملكة فهو لا يميل إلى الشهوة غير المرضية، وإنّما توجب أن يجري صاحبها على مقتضى تقواه، غير أنّ اشتعال نار الشهوة، ربما أوجب تغلّب الشهوة على ذلك الشعور الديني، فلا يلبث دون أن

ص:72


1- . النكت الاعتقادية: 45.
2- . لاحظ تعاليق أوائل المقالات: 30.

يرتكب مالا ترتضيه التقوى، وعلى هذا النمط يكون حال سائر الأسباب الشعورية في الإنسان فهو لا يحيد عن حكم سبب ومقتضاه مادام ذلك السبب قائماً على قدم وساق، ومادام الإنسان يخضع له ويعيش في جوّه إلّاإذا غلبته سائر القوى البشرية الأُخرى، فهناك يسقط تأثير السبب المغلوب، وينساق الإنسان مع مقتضى السبب الغالب.

نعم شتّان بين (العلم العادي) الذي يحجز صاحبه عن ارتكاب الرذائل و (العلم المفاض من اللّه سبحانه إلى أوليائه)، فإنّ العلم المفاض سبب علمي غير مغلوب البتة، ولو كان من قبيل ما هو متعارف من أقسام الوعي والعلم، ومن الأنواع المألوفة من الشعور والإدراك، لتسرب إليه التخلّف، فهذا العلم الذي يصون حامله عن ارتكاب المعاصي والخطايا، يغاير سائر العلوم والإدراكات العادية المألوفة التي تحصل بالاكتساب والتعلّم، ولعلّه إلى ذلك يشير سبحانه بقوله: (وَ أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) .(1)

فإن قوله: (وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) بقرينة عطفه على نزول الكتاب والحكمة، يفيد أنّ للنبي علماً مفاضاً منه سبحانه مضافاً إلى العلم والحكمة اللّذين أُنزلا عليه.

ويؤيده أنّ مورد الآية هو قضاء النبي صلى الله عليه و آله في الحوادث الواقعة والدعاوي التي يقضي فيها النبي بعلمه الخاص، وليس في ذلك شيء من الكتاب والحكمة.

من كلّ هذا تبيّن أنّ هذه الموهبة الإلهية التي نسمّيها بالعصمة نوع من العلم والشعور يغاير سائر أنواع العلم في أنّه غير مغلوب لشيء من القوى الشعورية، بل هو الغالب القاهر على سائر القوى المستخدمة إيّاه، ولأجل ذلك فإنّ العصمة - بهذا المعنى - تصون صاحبها، وتمنعه من الوقوع في المعاصي، بل والتفكّر فيها، وقد ورد في الروايات والأخبار أنّ للنبي والإمام روحاً تسدّده، وتعصمه عن

ص:73


1- . النساء: 113.

المعصية والخطيئة.(1)

وممّا يقرب كون العصمة من مقولة العلم هو أنّه ربما يبلغ العلم في الأفراد العاديين مرتبة يوجب إيجاد العصمة في آحاد الناس في بعض الموارد، ولذلك لا يمسّ الإنسان العاقل بيده الأسلاك الكهربائية ولا يلقي بنفسه أمام السيارة المتحركة، لعلمه بأنّ في ذلك هلاكه وموته.

فلو بلغ علم الإنسان في جميع المجالات إلى هذه المرحلة لصار معصوماً ومصوناً من كلّ المعاصي، وعاد مثالاً لقوله سبحانه: (كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ) .(2)

العصمة لا تسلب الاختيار عن صاحبها

وممّا يجب التنبيه عليه هو أنّ صاحب العصمة - مع ماله من تلك الموهبة الإلهية العظيمة - قادر على ارتكاب المعصية وإن كان لا يختارها، وهذا يعني أنّ العلم الإلهي المذكور لا يوجب سلب الاختيار عن صاحبه.

وإن شئت قلت: إنّ صاحب العصمة وإن كانت لا تصدر منه المعصية قط إلى آخر عمره، إلّاأنّ عدم الصدور ليس بمعنى كونه مجبوراً على الترك، ومضطراً إلى الطاعة بل (المعصوم) قادر على كلا الطرفين: الفعل والترك، ويختار الطاعة على المعصية بإرادته واختياره، وسنوضح ذلك بالمثال التالي:

لا شكّ أنّ قدرته سبحانه عامة تشمل قدرته على القبائح كقدرته على الحسن، غير أنّه لا يصدر منه القبيح قط في زمن من الأزمان، ولأجل ذلك نرى عمومية قدرته لكلّ شيء، ونرى في جانبه عدم صدور القبيح منه سبحانه، إذ لو لم يقدر على القبيح لما صح قولنا: إنّه على كلّ شيء قدير.

ونظيره المعصوم المصون من القبائح فهو يعصم نفسه طيلة حياته من أي

ص:74


1- . لاحظ الكافي: 273/1، والميزان: 80/5.
2- . التكاثر: 5-7.

قبيح وإن كان قادراً على الإتيان به، وقد نصّ بذلك علماؤنا الأعلام.

فقد قال المفيد: وليست العصمة مانعة من القدرة على القبيح، ولا مضطرة للمعصوم إلى الحسن ولا ملجئة له إليه، بل هي الشيء الذي يعلم اللّه تعالى أنّه إذا فعلها بعبد من عبيده لم تؤثر معه معصية له. وليس كلّ الخلق يعلم هذا من حاله، بل المعلوم منهم ذلك، بل هم الصفوة والأخيار.

قال اللّه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ) .(1)

وقال سبحانه: (وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ ) .(2)

وقال سبحانه: (وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) .(3)

موقف الشيعة من العصمة

يجد المتتبع في الأبحاث الكلامية: إنّ الشيعة الإمامية أشدّ الفرق التصاقاً بالعصمة، وأكثر الطوائف الإسلامية تنزيهاً للأنبياء عن وصمة النقص والذنب والخطأ، ويلاحظ ذلك من السبر في الأقاويل المنقولة حول عصمة الأنبياء من الفرق الإسلامية.

فالمعتزلة جوّزوا الصغائر على الأنبياء، وذهبت الأشاعرة، والحشوية إلى أنّه يجوز عليهم الصغائر والكبائر إلّاالكفر والكذب.

وقال «الإمامية»: إنّه يجب عصمتهم عن الذنوب كلّها صغيرة كانت أو كبيرة، وهناك أقوال أُخر تظهر من ملاحظة الكتب الكلامية.(4)

ص:75


1- . الأنبياء: 101.
2- . الدخان: 32.
3- . ص: 47. ولاحظ شرح عقائد الصدوق: 6.
4- . كشف المراد: 217؛ و دلائل الصدق: 368/1.

العصمة وآية التطهير

قد استدلّت الشيعة عن بكرة أبيهم بآية التطهير، أعني: قوله سبحانه: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (1) على عصمة أهل البيت النبوي الطاهر.

وقد أفاض المفسّرون حول الآية وأتوا ببيانات شافية في وجه دلالة الآية على عصمة أهل البيت، كما نقلوا الروايات الموضحة للمراد منها، يقف عليها كلّ من راجع تفاسير الفريقين.

غير أنّ هناك جماعة من العلماء قد اعتنوا بشرح هذه الآية عناية خاصة، وقاموا بتفسيرها بأكمل الوجوه وأفردوا لذلك تآليف ورسائل نشير - فيما وقفنا عليه - إلى ما يلي:

1. «السحاب المطير في تفسير آية التطهير» للسيد القاضي نور اللّه بن الشريف الحسيني المرعشي (الشهيد عام 1019 ه.).(2)

2. «تطهير التطهير» تأليف العلّامة بهاء الدين محمد بن حسن الاصفهاني الشهير بالفاضل الهندي (المتوفّى عام 1335 ه.)، وقد بحث فيه عن آية التطهير وكتبه رداً على من فسرها بغير معناها ومفادها من العامة.

3. «شرح تطهير التطهير» كتبه العلّامة السيد عبد الباقي الحسيني شرحاً لما كتبه الفاضل الهندي الآنف الذكر.

4. «إذهاب الرجس عن حظيرة القدس» للعلامة الشيخ عبد الكريم بن محمد طاهر القمي، كتبه في رد اعتراضات أوردها بعضهم على «تطهير التطهير» للفاضل الهندي.

وله أيضاً كتاب: «الصور المنطبعة» الذي بحث فيه عن إثبات العصمة للأئمة

ص:76


1- . الأحزاب: 33.
2- . الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 469/4.

بآية التطهير.

وهذه الكتب الأربعة الأخيرة توجد في مجموعة موجودة في مكتبة آية اللّه العظمى الگلپايگاني في دار القرآن الكريم، في قم المقدسة.(1)

5. «تفسير آية التطهير»، وهي رسالة فارسية من تأليف الشيخ إسماعيل بن زين العابدين الملقب بمصباح قد أثبت فيها: أنّ أهل البيت مطهّرون من كلّ رجس دنيوي.(2)

6. «التنوير في ترجمة رسالة آية التطهير» التي ألّفها القاضي نور اللّه الشهيد، ترجمها إلى اللغة الأُردوية السيد حسن عباس الموسوي النيسابوري الكنتوري منشئ (دفتر الشهيد) طبع الأصل مع تذييل في كل صفحة بالهند عام 1341 ه..(3)

7. «جلاء الضمير في حل مشكلات آية التطهير» للشيخ محمد علي بن محمد تقي البحراني طبع في بمبئي بالمطبعة المظفرية عام 1325 ه..(4)

8. «أقطاب الدوائر» التي ألّفها العلّامة «عبد الحسين بن مصطفى» أحد علماء الإمامية في القرن الثاني عشر، ألّفه لأحد أُمراء عصره «بهمن ميرزا» ولم نعثر على ترجمته غير أنّه يعد من طبقة تلاميذ العلامة المجلسي قدس سره وربّما يعبر عنه بالفاضل المجلسي، وقد فرغ من الكتاب في شهر رجب عام (1138 ه.) ولم نعثر على حياته، غير أنّ له شرحاً على «الباب الحادي عشر» وقد أشار فيه إلى الكتاب المزبور.

وقد قمنا بطبع هذا الكتاب خدمة لأهل بيت الرسالة، ويرى الباحث عن الحقيقة فيه عمقاً في البحث وسعة اطّلاع في الموضوع، فهو بحجمه الصغير ينبئ عن مكانة المؤلّف المرموقة بحبه وولائه ونضاله في الدفاع عن حريم التشيّع، ولم

ص:77


1- . لاحظ فهرس مخطوطات مكتبة السيد الگلپايگاني: 42-52.
2- . الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 326/2.
3- . الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 150/12.
4- . الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 124/5.

نقف على أزيد من نسخة، ولعلّها بخط المؤلف نفسه.

وقد كانت في مكتبة آية اللّه الوالد المرحوم الشيخ محمد حسين السبحاني قدس سره الذي استوهبها من صديقه العالم التقي الشيخ حسين «النمروري» الذي كان مولعاً بجمع الكتب المخطوطة ومهتماً بها، رحمهما اللّه ورحم الماضين من علمائنا.

هذا وقد وفّق اللّه سبحانه الفاضل المحقّق الشيخ علي الفاضل القائيني النجفي صاحب «معجم مؤلفي الشيعة» لأن يكرس اهتمامه في استنساخ هذه الرسالة النفيسة وتحقيقها، وتخريج مصادرها، والتعليق عليها بما لا بد منه في فهم المراد، ومقابلة النصوص الواردة فيها مع أُصولها الحديثية والقرآنية، فجاءت الرسالة هذه رسالة كافلة لإثبات ما يتوخّاه مؤلّفها، فشكر اللّه مساعي المؤلّف والمعلّق عليها، ولهما الشكر الجزيل منّا ومن كلّ قارئ يحمل بين جنبيه الود والولاء الخالص لآل الرسول عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

جعفر السبحاني

قم - 20 جمادى الآخرة 1403 ه.

ص:78

7 الأحكام الشرعية،

اشارة

ألطاف في الأحكام العقلية

اشتهر بين المتكلمين - وتبعهم الأُصوليون - أنّ الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية، وربّما يُعبر عن ذلك بتعبيرين آخرين:

1. الأحكام السمعية ألطاف في الأحكام العقلية.

2. الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية.

وقد اختلفت كلمة القائلين في تفسير القاعدة، وبالتالي في الموارد الّتي استدل بها عليها، وإليك بعض ما عثرنا عليه في كلا المقامين:

وقبل بيان التفاسير المختلفة للقاعدة نلفت نظر القارئ على نكتة، وهي أنّ اللطف عبارة عما يقرب إلى الطاعة ويبعد عن المعصية فلابدّ من حفظ هذا المعيار في تفسير القاعدة، ولو فقد التفسير ذلك الملاك لكان غير صحيح، وإليك التفاسير:

1. صيرورة الإنسان مستعداً لامتثال الأحكام العقلية

العقل مستقل على إتيان أُمور كردّ الأمانة ومجازاة الإحسان بالإحسان، كما أنّه يستقل بلزوم ترك أُمور كخيانة الأمانة ومجازاة الإحسان بالإساءة، يستقل بذلك مع قطع النظر عن حكم الشرع، ويحثُّ العقلُ على تطبيق الحياة عليها بحكم أنّ

ص:79

الحاكم بذلك هوالعقل العملي.

ولكن الاستمرار على أداء الواجبات العقلية وهكذا على ترك المناهي العقلية رهن وجود ملكة طاعة في الإنسان تحثّه على الطاعة وتمنعه عن الانهزام أمام القوى الجامحة للنفس الأمّارة، كخيانة الأمانة مثلاً.

هذا من جانب ومن جانب آخر أنّ بعثة الأنبياء بين الناس لا تنفك عن برنامج عملي فيه فرائض ومحرمات، فهم يحثون الناس على فعل الأُولى، وترك الثانية مقروناً بالوعد والوعيد.

وممّا لا شك فيه: امتثال التكاليف الشرعية يُحدث في الإنسان ملكة الطاعة، وعندئذ يسهل له أيضاً فعل الواجبات وترك المنهيات العقلية أيضاً، وبذلك تصبح الأحكام الشرعية ألطافاً في الواجبات العقلية لكون الاستمرار على الأحكام العقلية رهن ملكة قوية تتولد في الإنسان ضمن امتثال تكاليف شرعية، وتجعل الإنسان مطيعاً للأوامر والنواهي من غير فرق بين السمعية والعقلية.

وبهذا المعنى فسّر القاعدة المحقّق الطوسي حيث قال في مسألة «وجوب بعثة الأنبياء»:

وهي واجبة لاشتمالها على اللطف في التكاليف العقلية، وأوضحها العلّامة الحلّي بأنّ الإنسان إذا كان مواظباً على فعل الواجبات السمعية وترك المناهي الشرعية كان من فعل الواجبات العقلية والانتهاء من المناهي العقلية أقرب.(1)

يقول الفاضل القوشجي: بأنّ الإنسان إذا كان واقفاً على التكاليف بحسب الشرع كان أقرب من فعل الواجبات العقلية وترك منهياتها.(2)

أقول: ما ذكره من أنّ امتثال الفرائض الشرعية يُرسّخ في النفس ملكة الطاعة، وبالتالي يكون الإنسان ممتثلاً للأحكام العقلية أيضاً - وإن كان صحيحاً - ومحقّقاً

ص:80


1- . كشف المراد: 154، ط مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام.
2- . شرح التجريد: 358.

لمعنى اللطف، فيكون التكليف الشرعي مقرباً للطاعة، أي طاعة الأحكام العقلية والابتعاد عن مخالفتها، لكن الكلام في مورد آخر، وهو أنّ تعليل لزوم بعثة الأنبياء بهذا الوجه لا يخلو من بعد، لأنّ الأحكام العقلية لا تتجاوز عدد الأنامل، فلزوم بعثة الأنبياء عبر القرون مع البرامج الهائلة لهذا الغرض القليل، أمر بعيد جداً. نعم يمكن أن يكون هذا من فوائدها ولذلك قال القوشجي: لا يخفى ما في هذا من البعد فالأقرب أن يحال وجه وجوب البعثة إلى ما بيّنه آنفاً من اشتمالها على فوائد(1).

أقول: ذكر المحقّق الطوسي فوائد تسعة في مسألة «حسن بعثة الأنبياء» وذكر هذه القاعدة في مسألة «وجوب بعثة الأنبياء» وما ذكره من الفوائد التسعة في حسن البعثة يكفي في إثبات وجوبها أيضاً من دون حاجة إلى تلك القاعدة الّتي هي شيء قليل بالنسبة إلى وجوب البعثة.

2. باعثة على معرفة المعبود

إنّ شكر المنعم ممّا يستقل به العقل، إذ في تركه وجود الضرر المحتمل الّذي يستقل العقل أيضاً على دفعه، و شكر المنعم رهن معرفته بما له من الصفات الجمالية والجلالية، والعمل بالتكاليف الشرعية الّتي جاء بها الأنبياء: يبعث الإنسان على معرفة المنعم.

وبهذا الوجه علّلوا وجوب البعثة، يقول الفاضل المقداد في ذلك الصدد: إنّ التكاليف السمعية ألطاف في التكاليف العقلية، أي مقربة إليها فإنّنا نعلم ضرورة أنّ الإنسان إذا واظب على فعل الصلاة والصوم دعاه ذلك إلى العلم باللّه تعالى وصفاته ويعلم أنّ العبادة هل هي لائقة به أو لا وكلّ لطف واجب.(2)

ويقول أيضاً في كتاب آخر: إنّ العبادات متلقاة من النبيّين ولا شك أنّ

ص:81


1- . شرح التجريد: 358.
2- . إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: 147، الطبعة الأُولى.

المواظبة عليها باعثة على معرفة المعبود الواجبة عقلاً فيكون لطفاً فيها(1).

واللطف بالمعنى المصطلح موجود في هذا التفسير فإنّ معرفة المنعم من الأحكام العقلية، والعمل بالأحكام الشرعية ينتهي إلى معرفة المعبود المطلوبة عقلاً، إلّاأنّه يلاحظ على هذا التفسير بما ذكرناه في التفسير الأوّل، فإنّ تعليل وجوب بعثة الأنبياء عليهم السلام بهذا الطريق بعيد، لأنّه يرجع إلى أنّ في بعثة الأنبياء فائدة خاصّة وهي معرفة المعبود الواجبة عقلاً، ومن المعلوم أنّ هذه الغاية لوحدها لا يمكن أن تكون علّة غائية لبعثة الأنبياء عليهم السلام، نعم يمكن أن تكون من فوائدها الكثيرة.

اللّهم إلّاأن يقال: إنّ الغاية من التكاليف السمعية هي معرفة اللّه سبحانه، كما قال: (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (2)، ولا مانع من أن تكون هنا غايات طولية أُخرى لها، إلّاأنّ الغاية القصوى هو معرفته سبحانه.

3. تأكيد العقليات

لاشك أنّ العقل يستقل بإتيان المحاسن من الأفعال وترك القبائح منها، فإذا ورد في الشرع ما يؤكد على ذلك فيكون سبباً لتأكيد ما يدعو إليه العقل، وهذا هو الذي يستفاد من كلام صدر الدين الشيخ محمود الحمصي الرازي يقول في مبحث حسن البعثة: وقد قيل فيما يتصوّر أن يكون غرضاً في البعثة [هو] تأكيد العقليات لو علم اللّه تعالى أنّ المكلّفين عند تأكيدهم ودعائهم يختارون من الطاعات ما لا يختارونه مع فقد دعائهم، أو يجتنبون عن القبائح ما لا يجتنبون عن فقد دعائهم.(3)

ص:82


1- . اللوامع الإلهية: 231، الطبعة الثانية.
2- . الذاريات: 56.
3- . المنقذ من التقليد: 1/374. وانظر: شرح التجريد للمحقّق الشعراني: 460.

واللطف بالمعنى المصطلح متحقّق في هذه الصورة، لأنّ السمعيات تقرب إلى الإنسان امتثال ما يحكم به العقل - قبل الشرع - من إتيان المحاسن وترك القبائح فإنّ الشرع يوعده، وإيعاده يبعث الإنسان إلى محاسن الإحسان ويصده عن قبائحها.

4. محصلة للقرب

القرب إلى اللّه سبحانه وتعالى من أفضل الفرائض عند العقل، إذ هو كمال للنفس ولا كمال فوقه وهذا هو الّذي يحكم به العقل، ولكنّه غير واقف على ما يحصل به القرب.

وبعبارة أُخرى: العقل يدرك الكبرى وهي لزوم تحصيل القرب ولكن لا يعرف الصغرى أي بماذا يحصل ذلك الكمال النفساني، إلّامن طريق الشرع حيث إنّ الأحكام الشرعية واجباتها ومستحباتها، وهكذا مكروهات الشرع ومنهياته تولّد في النفس الإنسانية القرب من مركز الكمال ومعدنه، فلذلك تكون الأحكام الشرعية ألطافاً في الأحكام العقلية.

روى أبان بن تغلب، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: «أنّ اللّه جلّ جلاله قال: ما يتقرّب إليّ عبد من عبادي بشيء أحب إليّ ممّا افترضت عليه، وإنّه ليتقرب إليّ بالنافلة حتّى أُحبّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الّذي يسَمع به، وبَصره الّذي يبُصر به، ولسانه الّذي ينطق به، ويده الّتي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته».(1)

وإن شئت قلت: العقل يحكم بتحصيل ما يقرّب من اللّه سبحانه والابتعاد عما يورث البعد عنه، غير أنّه لا يعرف المقرّب والمبعد، فالأحكام الشرعية الّتي أتى بها الأنبياء توضح له الطريق وتبيّن له ما هو المقرّب وما هو المبعد.(2)

ص:83


1- . الوسائل: 3، الباب 17 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 3.
2- . بحر الفوائد للمحقّق الآشتياني في تعليقته على الفوائد للشيخ الأنصاري: 2/155. ذكره بصورة أحد المحتملات للقاعدة، وإن لم يرتضه.

إلّا أنّ تسمية ذلك لطفاً بالمعنى المصطلح مشكل، إذ ليس فيه شيء يقرب من الطاعة ويبعد من المعصية، غاية الأمر أنّ الشرع يرفع الجهل عمّا يقرّب. نعم هو لطف بالمعنى العام.

5. الكشف عن المصالح والمفاسد

لاشك - عند العدلية - أنّ الأحكام الشرعية بأسرها مبنية على المصالح والمفاسد في نفس المأمور به، وشذ من اكتفى في المورد بوجود المصلحة في الأمر، فإنّ مواضعها قليلة جدّاً، ولكن مناطات الأحكام قد تكون معلومة، وأُخرى مجهولة، وعلى كل تقدير فلصيانة فعل الشارع عن اللغو لا محيص من القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الكامنة في المتعلّق، قال سبحانه: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ) (1) هذا من جانب.

ومن جانب آخر إن العقل يحثّ على تحصيل المصالح والمفاسد، غير أنّه لا يمكنه أن يحدد مواضعها. فإذا حكم الشارع بوجوب شيء ونهى عن شيء آخر فقد أظهر للعقل ما يبتغيه من التعرّف على المصالح والمفاسد، فيكون حكم الشارع ألطافاً في الحكم العقلي.(2)

يرد عليه: أنّه ليس لطفاً بالمعنى المصطلح، بل هو لطف بالمعنى العام.

وحقيقة الكلام: أنّ القاعدة يمكن أن تكون صحيحة في عامة الموارد الخمسة الّتي مرّ تفصيلها، دون أن تختصّ بمورد دون غيره، بشرط أن يريد من اللطف المعنى الأعم وهو استعانة العقل بالشرع، وعندئذ يصلح أن يقال:

إنّ العقل مع أنّه حجّة في باب المعارف، ولكنّه غير مستغن عن السمع حتّى في تلك المواضع، ولولا هداية الوحي الإلهي المنزّل على الأنبياء الإلهيين وخلفائهم المعصومين في ذلك المجال، لما استطاع العقل من تسلّق قمة

ص:84


1- . العنكبوت: 45.
2- . بحر الفوائد: 2/154، بتوضيح منا.

المعارف.

هذا في مجال المعارف، وأمّا دوره في مجال العبادات والعقود والإيقاعات وغيرها فهو قليل جدّاً.

إن القيم الإنسانية وإن كانت هي الغاية المنشودة للحكيم ولكن معطيات العقل في ذلك المقام ليست متوفرة حتّى يستغني بها العقل عما ورد في الشرع، والّذي يوضح ذلك هو المقارنة بين الأخلاق اليونانية الّتي سار على ضوئها أمثال ابن مسكويه، وبعده الغزالي وما جاء به الوحي الإلهي وشرحه أولياؤه المعصومون.

كلّ ذلك يكشف أنّ الشرع هو العماد الأكبر للعقل في كثير من المجالات، وإن كان له دور كبير في مواضع تخصّه.

جعفر السبحاني

صبيحة يوم الأحد السادس والعشرين

من شهر جمادى الآخرة

عام 1429 ه

ص:85

8 في الرؤية ومعنى الإله

الأُستاذ الفاضل علي محيي الدين علي القره داغي المحترم

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

تسلّمنا بيد التكريم كتاب «معنى لا إله إلّااللّه» للإمام بدر الدين الزركشي، وقد لاحظنا أنّكم قد بذلتم جهوداً كبيرة لإحياء الكتاب من خلال تعاليقكم القيّمة.

شكر اللّه مساعيكم في سبيل إحياء آثار السلف ومآثر المسلمين.

وممّا لفت نظرنا قولكم في ص 148، حول الاستدلال على إثبات الرؤية للّه سبحانه يوم القيامة بقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (1)وفسّرتم هاتين الآيتين بقولكم: أي تنظر هذه الوجوه الضاحكة الصافية في الجنة إلى وجه اللّه تعالى.

وقد استغربت من هذا التفسير، فإنّ ما جاء هنا عبارة عن أربع آيات على وجه اللف والنشر المرتّب:

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) يقابلها: (وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ )

(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) يقابلها: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ )

فبالإمعان في الجزء الثاني يرتفع الإبهام عن معنى الجزء الأوّل.

فإنّ معنى الجملة الثانية أنّهم ينتظرون العذاب الكاسر لظهورهم، ومثل هذا

ص:86


1- . القيامة: 22-23.

الظن لا ينفك عن الانتظار، فتكون قرينة على أنّ المراد من الجملة الأُولى: أنّ أصحاب الوجوه المشرقة ينتظرون رحمته الواسعة.

ولو حملت الجملة الثانية على الرؤية خرجت الجملة عن التقابل.

ويمكن رفع الإبهام عن قوله سبحانه: (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) بالإمعان في قوله سبحانه في سورة «عبس»:

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ) يقابلها: (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ )

(وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ) يقابلها: (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ )

فقوله سبحانه: (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) بمنزلة قوله سبحانه: (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) .

فالجميع يهدف إلى معنى واحد وهو أنّ مصير الكافرين إلى عذاب اللّه سبحانه ومصير المؤمنين إلى رحمته الواسعة، فالطائفة الأُولى ذات وجوه غبرة، والطائفة الثانية ذات وجوه مستبشرة، وقد فصّلنا الكلام في هذا الموضوع في الرسالة الّتي نهديها إليكم فلاحظوا الصفحة 66 إلى - 68.

وقد بعثنا إليكم رسالة «رؤية اللّه سبحانه في الكتاب والسنّة» عسى أن تكون خير وسيلة للحوار.

***

لقد ذكرتم الأقوال الكثيرة في معنى الإله، والاختلاف هذا في معنى الإله قائم بين اللغويين والمفسّرين على قدم وساق، ولكنّ لنا نظرية أُخرى نطرحها عليكم، وهي: أنّه لا فرق بين «الإله» ولفظ الجلالة، في المعنى، إلّاأنّ الثاني علم، والأوّل مفهوم كلّي.

ويؤيّد ذلك بعض الآيات كقوله سبحانه: (وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (1) فإن مقتضى المعيّة أن يراد من لفظ الإله نفس ما أُريد من لفظ الجلالة لكن بتفاوت أنّ أحدهما علم والآخر كلّي. وليست هذه الآية هي

ص:87


1- . الذاريات: 51.

الوحيدة في استظهار تلك النظرية، بل هناك آيات أُخرى يمكن استنباطها منها.

وبعبارة أُخرى: إنّ ها هنا اسماً عامّاً وهو «إله» ويجمع على «آلهة»، واسماً خاصّاً وهو «اللّه» ولا يجمع أبداً، ويرادفه في الفارسية «خدا» وفي التركية «تاري» وفي الانجليزية «گاد»؛ غير أنّ الاسم العام والخاص في اللغة الفارسية واحد وهو «خدا» ويعلم المراد منه بالقرينة، غير أنّ «خداوند» لا يطلق إلّاعلى الاسم الخاص، وأمّا «گاد» في اللغة الانجليزية فكلّما أُريد منه الاسم العام كتب على صورة «god» ، وأمّا إذا أُريد الاسم الخاص فيأتي على صورة « God» ، وبذلك يشخّص المراد منه.

فهل عندكم ما يؤيّد هذه النظرية ؟!

وفي الختام أرجو لكم ولمن حولكم من الأساتذة الأعزاء خير الدنيا والآخرة.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

25 ربيع الثاني 1430 ه. ق

ص:88

9 البداء في الكتاب والسنّة

اشارة

البداء من المسائل الشائكة لمن لم يتدبّر فيه، ومن المسائل الواضحة لمن تدبّر وأمعن النظر فيه، ولم تزل الشيعة منذ قرون في قفص الاتّهام لأجل الاعتقاد بالبداء، وذلك لجمود المخالف على ظاهر اللفظ الذي هو بمعنى الظهور بعد الخفاء، فإذا قلنا: «بَدا للّه» يُتوهم منه أنّه ظهر له بعدما خفي، ومن المعلوم أنّ وصف الحق تعالى به على حد الكفر، لإحاطة علمه سبحانه بعامة الأُمور والحوادث قبل وجودها وحينه وبعده، قال سبحانه: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ) (1).

ولكن بعد ما قام الباحث بتفسير البداء ثبوتاً وإثباتاً، وأثبت: أنّ هذا التعبير من باب المشاكلة على حد قوله سبحانه: (وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) (2) حتّى نقل عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «بدا للّه في الأبرص والأقرع والأكمه»، فعندئذٍ يرجع المخالف عن رأيه ويؤمن بالبداء شيئاً فشيئاً على نحو

ص:89


1- . الحديد: 22.
2- . الأنفال: 30.

يذعن بأنّه عقيدة كلّ مسلم آمن باللّه وكتابه ورسوله وحديثه، كما اتّفق ذلك لي في مناظرة مع أحد علماء أهل السنة في طهران عند تنظيم القانون الأساسي للجمهورية الإسلامية الإيرانية.

قد مرّ أنّ الشيعة لم تزل في قفص الاتّهام منذ قرون ويشهد على ذلك ما ذكره الشيخ الطوسي في التبيان، حيث حكى عن البلخي (المتوفّى عام 317 ه)، قوله في هذا المضمار: قال قوم ليس ممن يُعتبرون، ولكنّهم من الأُمّة على حال أنّ الأئمة المنصوص عليهم - بزعمهم - مفوض إليهم نسخ القرآن وتدبيره، وتجاوز بعضهم حتى خرج من الدين بقوله: إنّ النسخ قد يجوز على وجه البداء، وهو أن يأمر اللّه عز ّوجلّ عندهم بالشيء ولا يبدو له، ثمّ يبدو له فيغيّره، ولا يريد في وقت أمره به [وله]، أن يغيّره هو ويبدله وينسخه، لأنّه عندهم لا يعلم الشيء حتّى يكون، إلّا ما يقدره فيعلمه علم تقدير، وتعجرفوا فزعموا أنّ ما نزل بالمدينة ناسخ لما نزل بمكة.(1)

هذا كلام البلخي الذي هو من أئمّة المعتزلة.

وكلامه يعرب عن أنّه تبع ظاهر حرفية البداء ولم يرجع فيه إلى المصادر الشيعية أو رواية مرويّة عن أئمّتهم، ولذلك قال الشيخ الطوسي بعد كلامه:

وأظن أنّه عنى بهذا أصحابنا الإمامية، لأنّه ليس في الأُمّة من يقول بالنصّ على الأئمّة عليهم السلام سواهم. فإن كان عناهم فجميع ما حكاه عنهم باطل وكذب عليهم، لأنّهم لا يجيزون النسخ على أحد من الأئمّة عليهم السلام، ولا أحد منهم يقول بحدوث العلم.(2)

وتبعه في ذلك أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين(3)، وفخر الدين

ص:90


1- . التبيان: 13/1-14، ط النجف عام 1376 ه.
2- . التبيان: 13/1-14.
3- . مقالات الإسلاميين: 107، 109، 119.

الرازي في تفسيره(1)، وتلخيص المحصل(2)، ومن المعاصرين الشيخ أبو زهرة المصري(3)، إلى غير ذلك من كُتّاب مغفّلين الذين صدّروا في تقييم عقائد الشيعة من كتب المخالفين.

ولو أنّهم رجعوا إلى كتب أعلام الطائفة، لآمنوا بالبداء وندموا على ما فعلوا، ولكن ربّما لا ينفعهم الندم.

فرفع الغشاء عن وجه الحقيقة رهن الكلام في البداء ثبوتاً وإثباتاً على وجه الإيجاز، وقد قمنا بالتفصيل في محاضراتنا الكلامية، وأفرده بالتأليف بعض الأعزة - حفظه اللّه -.

1. البداء ثبوتاً

ويراد من البداء ثبوتاً، أنّ للإنسان أن يُبدّل ما كتب وقُدِّر له، بأعماله الصالحة أو الطالحة، إذ ليس ما قُدّر، تقديراً محتوماً غير قابل للتغيير والتبديل، خلافاً لليهود حيث قالت باستحالة تعلّق مشيئة اللّه بغير ما جرى به قلم التقدير، وقد تبلورت تلك العقيدة في كلامهم (يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) قال سبحانه حاكياً عنهم:

(وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً) (4).

إنّ كثيراً من المفسّرين وإن فسّروا الآية بالعطاء والسعة في الرزق، ولكن أئمة أهل البيت عليهم السلام فسّروا قولهم: (يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) ، بالفراغ من الأمر(5)، ورتّبوا على

ص:91


1- . مفاتيح الغيب: 10/145 في تفسير الآية 59 من سورة النساء.
2- . تلخيص المحصل: 420.
3- . الإمام الصادق عليه السلام: 238-239.
4- . المائدة: 64.
5- . تفسير البرهان: 1/486، الحديث 3.

ذلك امتناع نسخ الأحكام وتغيير المصير والمقدّر.

وقد ردّ سبحانه عليهم بأنّه: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) (1)، وأنّه يزيد وينقص من العمر (وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ) (2).

وقد دلّ غير واحد من الآيات على أنّ مصير الإنسان فيما يرجع إلى السعادة والشقاء في الحياة الدنيوية والأُخروية بيده، فالكفر بأنعم اللّه يُزيلها، والشكر لها، يزيدها، يقول سبحانه: (ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (3)، وقد تضافر هذا المضمون في سائر الآيات.(4)

وبكلمة جامعة: انّ ما قُدر وقُضي بين ما يكون تقديراً قطعياً، وقضاء حتمياً، فهذا لا يُبدّل بأي عمل، وهذا النوع من التقدير لا يرجع إلى سعادة الإنسان وشقائه، كتقديره سبحانه بأنّ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) (5)، وأنّه سبحانه (يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ) (6)، وأنّ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (7)، إلى غير ذلك من الأُمور المحتومة الّتي لا تُبدل ولا تتغيّر.

وبين ما يكون تقديراً معلّقاً قابلاً للتبديل حسب ما يقوم به الإنسان من العمل في حياته الدنيوية (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (8).

والبداء بهذا المعنى مذهب كلّ مسلم آمن باللّه ورسوله وكتابه. أمّا الآيات فقد عرفت بعضها وأشرنا إلى البعض الآخر في الهامش.

ص:92


1- . فاطر: 1.
2- . فاطر: 11.
3- . الانعام: 53.
4- . لاحظ: الرعد: 11؛ والأعراف: 56.
5- . آل عمران: 185.
6- . يس: 78.
7- . الزلزلة: 7-8.
8- . الرعد: 39.

وأمّا الروايات فيكفيك ما رواه السيوطي في «الدر المنثور» عن علي عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقد سأله الإمام عن تفسير قوله: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ ) فقال الرسول صلى الله عليه و آله: «لأقُرَّنَّ عينك بتفسيرها ولأقُرّنَّ أُمّتي بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها وبرّ الوالدين واصطناع المعروف، يحوّل الشقاء سعادة، ويزيد في العمر، ويقي مصارع السوء».(1)

والروايات بهذا المضمون كثيرة يقف عليها من تتبّع الجوامع الحديثية.

والبداء بهذا المعنى، أصل تربويّ يبعث في الإنسان روح العزيمة على إصلاح حاله في المستقبل، إذا كانت سيئة فيما مضى، وكأنّه مصباح جاء ينوّر الطريق له، ليسلك طريق الصلاح، بعدما كان سالكاً طريق الهلاك.

فالقائل بالبداء وانّ في مَقْدرته تبديل ما قدّر بعمله الصالح، إنسان راج يبعثه رجاؤه إلى العمل الصالح، ملبّياً قوله سبحانه: (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ ) (2)؛ والمنكر للبداء بهذا المعنى آيس من سعادته وغفرانه، يستمر في عصيانه وغلوائه إلى أُخريات عمره ويلقى اللّه سبحانه ضالاً خاسراً، فأي الفريقين أحق بالأمن يا تُرى؟!

هذا في البداء ثبوتاً، وإليك الكلام في البداء إثباتاً.

2. البداء إثباتاً

اشارة

المراد من وقوع البداء إثباتاً هو إمكان إخبار النبي أو الوليّ عن حادث في المستقبل لوجود المقتضي له ولكنّه لم يقع لأجل وجود المانع عن تأثير المقتضي، فيكون المخبر صادقاً في إخباره لوجوده في لوح المحو والإثبات، غير أنّ النبي - حسب المصالح - لم يكن واقفاً على المانع الذي يمنع عن تأثير المقتضي.

ص:93


1- . الدر المنثور: 4/661.
2- . الزمر: 53.

توضيح ذلك: أنّ للّه سبحانه في مقام علمه الفعلي لوحين:

1. اللوح المحفوظ الذي لا يتطرّق إليه التغير، وقد أشار إليه سبحانه بقوله:

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ) (1).

2. لوح المحو والإثبات فيكتب فيه التقدير الأوّل، وهو وإن كان بظاهره مطلقاً وظاهراً في الاستمرار إلّاأنّه مشروط بشروط فإذا تغيرت الشروط انتهى أمر التقدير الأوّل وحان وقت التقدير الثاني، وإلى هذا اللوح أشار سبحانه بقوله:

(يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (2).

ومثل هذا التغيّر في التقدير لا يمس كرامة العلم الإلهي الأزلي أبداً، ثم إنّ النبيّ ربّما يطّلع على المقتضي للشيء دون العلّة التامّة لوقوعه، فيخبر استناداً إلى المقتضي مع عدم الوقوف على العلّة التامّة التي من أجزائها عدم المانع من تأثير المقتضي.

فإخباره يستند إلى وجود المقتضي للشيء، وأمّا عدم وقوعه فلاستناده إلى وجود المانع من تأثير المقتضي. كل ذلك إذا اتصل بلوح المحو والإثبات، ولما ذكرنا نظائر في الكتاب والسنّة:

1. إخبار يونس عن نزول العذاب

أخبر يونس عليه السلام قومه بنزول العذاب، ثم ترك القوم وكان في وعده هذا صادقاً، إذ رآه مكتوباً في ذلك اللوح، ولكن لم يطّلع على وجود المانع وهو إنابة القوم عن غيّهم وعصيانهم. قال سبحانه: (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) (3).

ص:94


1- . الحديد: 22.
2- . الرعد: 39.
3- . يونس: 98.

وإن أردت أن تتّضح لك حقيقة البداء في مقام الإثبات، فاستظهر حاله من النسخ في الشريعة، فإنّ النسخ في التكوين نظير النسخ في التشريع.

يقول المحقّق الداماد: البداء منزلته في التكوين منزلة النسخ في التشريع، فما في الأمر التشريعي والأحكام التكليفية فهو نسخ وفي الأمر التكويني والمكوّنات الزمانية بداء، فالنسخ كأنّه بداء تشريعي، والبداء كأنّه نسخ تكويني، ولابداء في القضاء ولا بالنسبة إلى جناب القدس الحق.. وكما أنّ حقيقة النسخ عند التحقيق انتهاء الحكم التشريعي وانقطاع استمراره، لا رفعه وارتفاعه عن وعاء الواقع، فكذلك حقيقة البداء انبتات(1) استمرار الأمر التكويني وانتهاء اتصال الإفاضة(2).

2. إخبار موسى بثلاثين ليلة في الميقات

ذكر المفسّرون أنّه سبحانه واعد موسى ثلاثين ليلة فقضاها موسى عليه السلام، فلمّا تمّ الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره اللّه تعالى أن يكمل بعشر. قال سبحانه:

(وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (3).

أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية: إنّ موسى قال لقومه: إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه واخلف هارون فيكم، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده اللّه عشراً، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده اللّه.(4)

إنّ هنا إخبارين:

1. إخبار بالمكث في الميقات ثلاثين ليلة.

2. إخبار بأنّه يمكث أربعين ليلة.

ص:95


1- . الانقطاع.
2- . نبراس الضياء: 56.
3- . الأعراف: 142.
4- . الدر المنثور: 3/335.

وكان موسى صادقاً في كلا الإخبارين حيث كان الخبر الأوّل مستنداً إلى جهات تقتضي إقامة ثلاثين ليلة، وكان هذا الإخبار مقيّداً في الواقع بقيد لم يكن موسى مطّلعاً عليه وكان اللّه سبحانه عالماً به، وهو أنّ مكث ثلاثين ليلة مشروط بعدم طروء ملاك آخر يقتضي أن يكون الوقوف أزيد من ثلاثين.

هذا بعض ما وقع فيه البداء الذي أخبر عنه سبحانه في كتابه، وأمّا الروايات فحدّث عنها ولا حرج:

1. مرّ يهوديّ بالنبي صلى الله عليه و آله فقال: السام عليك، فقال النبي صلى الله عليه و آله له: «وعليك»، فقال أصحابه: إنّما سلّم عليك بالموت، فقال: الموت عليك ؟ فقال النبي صلى الله عليه و آله: «وكذلك رددت»، ثمّ قال النبي صلى الله عليه و آله لأصحابه: «إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله».

قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله، ثمّ لم يلبث أن انصرف.

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «ضعه»، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود، فقال صلى الله عليه و آله: «يا يهوديّ ما عملت اليوم ؟» قال: ما عملت عملاً إلّا حطبي هذا حملته فجئت به، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «بها دفع اللّه عنه»، وقال: «إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان».(1)

2. أنّ المسيح مرّ بقوم مجلبين، فقال: ما لهؤلاء؟ قيل: يا روح اللّه فلانة بنت فلانة تُهدى إلى فلان في ليلته هذه، فقال: يُجلَبُون اليوم ويَبكوُن غداً، فقال قائل منهم: ولِمَ يا رسول اللّه ؟ قال: لأنّ صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه، فلما أصبحوا وجدوها على حالها، ليس بها شيء، فقالوا: يا روح اللّه إنّ التي أخبرتَنا أمس أنّها ميتة لم تمت، فدخل المسيح دارها فقال: ما صنعت ليلتك هذه ؟ قالت: لم أصنع شيئاً إلّاوكنت أصنعه فيما مضى، إنّه كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة فننيله ما نقوته إلى مثلها. فقال المسيح: تنحّ عن مجلسك، فإذا تحت ثيابها أفعى مثل

ص:96


1- . بحار الأنوار: 121/4.

جذعة، عاضّ على ذنبه، فقال عليه السلام: بما صنعت، صرف عنك هذا.(1)

أقول: إنّ الإخبارات الصادرة من الأنبياء لأجل اتّصالهم باللوح الثاني الذي في معرض التغيّر والتبدّل كثيرة مبثوثة في الكتب، فيخبرون لمصالح حسب ما يقتضي المقتضي مع احتمال تغيّرها حسب توفّر الشروط وعدمها أو الموانع وعدمها.

إطلاق البداء على اللّه سبحانه

لاشك أنّ إطلاق البداء على اللّه سبحانه بالمعنى اللغوي غير صحيح، لكن وصفه سبحانه به من باب المشاكلة، وهو باب واسع في كلام العرب، فإنّه سبحانه يعبّر عن فعل نفسه في بعض الموارد بما يعبّر به الناس عن فعلهم، وما ذلك إلّا لأجل المشاكلة الظاهرية بين الفعلين، وإليك نماذج من هذا النوع من الاستعمال:

يقول سبحانه: (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ ) (2).

ويقول: (وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) (3).

وقال عزّ من قائل: (وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) (4).

وقال عز اسمه: (وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) (5).

إذ لا شك أنّه سبحانه لا يخدع ولا يمكر ولا ينسى، لأنّها من صفات الإنسان الضعيف، ولكنّه سبحانه وصف أفعاله بما وصف به أفعال الإنسان من باب المشاكلة، والجميع كناية عن إبطال خدعهم ومكرهم وحرمانهم من مغفرة اللّه سبحانه وبالتالي عن جنته ونعيمها.

وعلى ضوء ذلك فلا غرو في أن نعبّر عن فعله بما نعبّر عن أفعالنا، إذا كان

ص:97


1- . بحار الأنوار: 94/4.
2- . النساء: 142.
3- . آل عمران: 54.
4- . الأنفال: 30.
5- . الجاثية: 34.

التعبير مقروناً بالقرينة الدالة على المراد، فإذا ظهر الشيء بعد الخفاء فبما أنّه بداء بالنسبة إلينا، فوصف فعله سبحانه به أيضاً من باب المشاكلة، وإلّا فهو في الحقيقة بداء من اللّه للناس ولكنّه يتوسّع كما يتوسّع في غيره من الألفاظ ويقال: بدا للّه تمشياً مع ما في حسبان الناس وأذهانهم وقياس أمره سبحانه بأمرهم، ولا غرو في ذلك إذا كانت هناك قرينة على المجاز والمشاكلة.

والذي يرشدك إلى صحّة هذا النوع من الاستعمال وروده في كلام النبي الأعظم صلى الله عليه و آله الذي رواه البخاري في صحيحه قال: «بدا للّه سبحانه في الأبرص والأقرع والأعمى أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحبّ إليك ؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذّرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، فأُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك ؟ قال: الإبل أو قال:

البقر - هو شك في ذلك أنّ الأبرص والأقرع، قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر:

البقر - فأُعطي ناقة عُشراء، فقال: يبارك اللّه لك فيها.

وأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحبّ إليك ؟ قال: شعر حسن ويذهب عنّي هذا، قد قذرني الناس، قال: فمسحه، فذهب، وأُعطي شعراً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك ؟ قال: البقر. قال: فأعطاه بقرة حاملاً، وقال: يبارك لك فيها.

وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: يرد اللّه إليّ بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فردّ اللّه إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك ؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والداً. فأُنتج هذان وولّد هذا، فكان لهذا وادٍ من إبل، ولهذا وادٍ من بقر، ولهذا واد من الغنم.

ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري، فلابلاغ اليوم إلّاباللّه ثمّ بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيراً أتبلّغ عليه في سفري؛ فقال له: إنّ الحقوق كثيرة.

فقال له: كأنّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذّرك الناس، فقيراً فأعطاك اللّه ؟ فقال: لقد وَرِثت لكابر عن كابر؟ فقال: إن كنتَ كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

ص:98

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فردّ عليه مثلما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطّعت بي الحبال في سفري، فلابلاغ اليوم إلّاباللّه، ثمّ بك، أسألك بالذي ردّ عليك بصرَك، شاةً أتبلّغ بها في سفري؛ فقال: قد كنت أعمى فرد اللّه بصري، وفقيراً فقد أغناني، فخذ ما شئت، فواللّه لاأجْحَدك اليوم بشيء أخذتَه للّه، فقال: أمسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضي اللّه عنك وسخط على صاحبيك».(1)

***

هذا هو كلام الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله وقد استعمل لفظ البداء في حقّه سبحانه، ومن الطبيعي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يستعمل هذا اللفظ في معناه اللغوي لاستلزامه - و العياذ باللّه - الجهل على اللّه سبحانه، بل استعمله في معنى آخر لمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي.

وعلى ضوء ذلك فلا غرو في أن نعبّر عن فعله بما نعبّر به عن أفعالنا، إذا كان التعبير مقروناً بالقرينة الدالة على المراد، فإذا ظهر الشيء بعد الخفاء، فبما أنّه بداء بالنسبة إلينا نوصف فعله سبحانه به أيضاً وفقاً للمشاكلة، وإلّا فهو - في الحقيقة - بداء من اللّه للناس، ولكنّه يتوسع كما يتوسّع في غيره من الألفاظ، ويقال: بدا للّه تمشّياً مع ما في حسبان الناس وأذهانهم وقياس أمره سبحانه بأمرهم، ولا غرو في ذلك إذا كانت هناك قرينة على المجاز والمشاكلة.

وبذلك يعلم أنّ النزاع في البداء أمر لفظي لامعنوي، وأنّ الفريقين متّفقان على البداء ثبوتاً وإثباتاً، والذي صار سبباً لإنكار البداء وطعن الشيعة به هو تصوّر أنّ المراد منه هو الظهور بعد الخفاء، وقد عرفت أنّ المراد هو الإظهار بعد الإخفاء، وأنّ إطلاق البداء في المقام من باب المشاكلة.

ص:99


1- . صحيح البخاري: 172/4، كتاب الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل.

10 التبرك في الكتاب والسنّة

اشارة

لا يشك ذو مسكة في أنّ التقريب بين المذاهب الإسلامية وقادتها وأتباعها، هو بغية كلّ مسلم عارف بما يسودهم من الظن السيِّئ والتباعد بينهم، وأنّ أعداء الإسلام على سعي حثيث، في زرع العداء والتباغض بين أبناء الأُمّة الواحدة، وإغراء طائفة على طائفة أُخرى بصور مختلفة، وبين ظهرانيهم آذان صاغية للنعرات الجاهلية، كما أنّ بينهم أقلاماً مستأجرة تلعب بحبل الأعداء لإشعال نار الفتنة بين الإخوة، الذين تجمعهم وتربطهم أُمور شتّى من الإيمان باللّه ورسله وكتبه وخاتم أنبيائه وسنّته وشريعته إلى غير ذلك من أواصر الوحدة.

والطريق الوحيد لتقريب الخُطى بين الإخوة هو الدعوة إلى الأخذ بالمشتركات، وتبيين أنّ ما يوحِّد المسلمين على اختلاف فرقهم أكثر ممّا يفرقهم ويشتّتهم، فاللازم هو التأكيد على أواصر الوحدة، والإغماض عما يسبِّب الفُرقة، خصوصاً إذا كانت المفرّقات مسائل كلامية أو فروعاً فقهية ممّا لا تمتّ إلى الإيمان والكفر بصلة.

ولأجل أن نجسّد كيفية الدعوة إلى الوحدة الإسلامية نضع أمام القارئ الكريم (سنّياً كان أم شيعياً) رسالة التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه و آله الّذي هو من الأُصول

ص:100

المشتركة بين عامّة المذاهب الإسلامية، عسى أن نُسكت الصوت المخالف لهذا الأمر الّذي دعا إليه الكتاب والسنّة، ونساهم في تعزيز الروابط بين المسلمين، حتّى يصبح الجميع في كلّ موطن وموقف إخوة متحابّين متمسّكين بحبل الوحدة، الّذي أرشد إليه سبحانه بقوله عزّ من قائل: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً) (1).

إنّ من ينطلق من الكتاب والسنّة وأحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام والسيرة الرائجة بين المسلمين لا يخالف في أمر التبرّك قدر شعرة، وإنّما يخالف فيه ويناقش في مشروعيته، مَن يأبى التحرّر من أسر تقليد بعض مَن لم يُمعن النظر في هذه المصادر، ولم يُرزَق التوفيق في التبرّك بآثار النبي، الّذي يعبّر عن غاية مودّته وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه و آله.

التبرّك لغةً

التبرّك مأخوذ من «برك» وله معنيان:

1. الثبات والدوام، كما يقال: وبارك على محمد وعلى آل محمد، أي أثبت وأدم ما آتيتهم من التشريف والكرامة.

2. الزيادة والنمو.(2) ويناسب المعنى الثاني قوله تعالى: (وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ ) (3)، وقوله سبحانه: (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ) (4).

ويقال في المثل: بارك اللّه الشيء وبارك فيه وعليه. ففي الموارد المشار إليها، خير مكنون يزيد وينمو على مرّ الزمان. ويقصده المتبرِّك.

ص:101


1- . آل عمران: 103.
2- . مقاييس اللغة: 1/227؛ النهاية في غريب الحديث: 1/120.
3- . الأنعام: 155.
4- . الإسراء: 1.

التبرّك اصطلاحاً

اشارة

التبرّك اصطلاحاً هو طلب ثبوت الخير الإلهي في الشيء(1).

وعلى هذا فالمتبرِّك بالقرآن وبالآثار المتبقية عن الأنبياء والأئمة، يطلب الخير الإلهي، لا بمعنى أنّها تحمل خيراً في ذاتها وإنّما يتوسّل بها لطلب الخير من اللّه سبحانه وتعالى، وعلى هذا فالأحرى أن يعدّ التبرّك من فروع التوسّل، فكلّ خير من الأثر المتبرّك به فإنّما هو من اللّه سبحانه وهو الّذي أعطاه هذا الأثر، فطلب الخير منه طلب خير من اللّه وهو كعملة ذات وجهين، فهو يطلب الخير من الأثر ظاهراً ولكن يطلبه من اللّه حقيقة، لأنّ ما للسبب من الأثر هو من اللّه سبحانه وليس منه بالذات، وهنا كلمة قيمة لبعض الأعلام نأتي بنصّها:

إنّ التبرّك ليس إلّاتوسّلاً إلى اللّه تعالى بذلك المتبرّك به، سواء أكان أثراً أو مكاناً أو شخصاً.

أمّا الأعيان فلاعتقاد فضلها وقربها من اللّه سبحانه وتعالى مع اعتقاد عجزها عن جلب خير أو دفع شر إلّابإذن اللّه.

وأمّا الآثار فلأنّها منسوبة إلى تلك الأعيان فهي مشرّفة بشرفها ومكرّمة ومعظّمة ومحبوبة لأجلها.

وأمّا الأمكنة فلا فضل لها لذاتها من حيث هي أمكنة، وإنّما لما يحلّ فيها ويقع من خير وبرّ، كالصلاة والصيام وجميع أنواع العبادات ممّا يقوم به عباد اللّه الصالحون، إذ تتنزّل فيها الرحمات وتحضرها الملائكة وتُغشِّيها السكينة، وهذه هي البركة الّتي تطلب من اللّه في الأماكن المقصودة لذلك.

وهذه البركة تطلب بالتعرض لها في أماكنها، بالتوجّه إلى اللّه تعالى ودعائه واستغفاره، وتذكر ما وقع في تلك الأماكن من حوادث عظيمة ومناسبات كريمة

ص:102


1- . الموسوعة الكويتية: 10/69.

تحرّك النفوس وتبعث فيها الهمّة والنشاط للتشبّه بأهلها أهل الفلاح والصلاح.(1)

إذا عرفت ذلك فلنذكر النصوص الدالّة على جواز التبرّك بين الأُمم السالفة، والأُمّة الإسلاميّة.

1. التبرّك في الأُمم السالفة

يظهر من الآيات والروايات أنّ التبرّك بآثار الأنبياء كان رسماً شائعاً عند الأُممّ السالفة، فكانوا يطلبون الخير تارة من الأسباب الطبيعية، وأُخرى من الأسباب غير الطبيعية.

وبعبارة أُخرى: أنّ الخير في كلا الموردين بيد اللّه تعالى لقوله تعالى: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) (2)، ولكنّه ينزل ضمن أسباب خاصّة، تارة عادية طبيعية، وأُخرى على خلاف العادة، وطالب الخير تارة يقصده من القسم الأوّل وأُخرى من الثاني والسيرة جارية على هذا في أكثر الأُمم.

ذكر صاحب تاريخ الخميس في خلافة «المتقي للّه» القصة التالية: في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة أرسل ملك الروم يطلب منه - المتقي للّه - منديلاً زعم أنّ المسيح مسح به وجهه، فصارت صورة وجهه فيه، وكان هذا المنديل في كنيسة الرهبان، وأرسل ملك الروم يقول: إن أرسلت هذا المنديل أطلقت لك عشرة آلاف أسير من المسلمين.

فأحضر المتقي للّه الفقهاء واستفتاهم فقالوا: أرسل إليهم هذا المنديل، ففعل وأطلق الأسراء.(3)

وما نقله الدياربكري يكشف عن وجود التبرّك عند المسيحيّين وقد ورثوا الفكرة عن آبائهم وأجدادهم.

ص:103


1- . مفاهيم يجب أن تصحّح للسيد محمد بن علوي المالكي الحسيني: 219، الطبعة العاشرة.
2- . آل عمران: 26.
3- . تاريخ الخميس: 2/352.

وقد ورد لفظة «بارك» ومشتقاتها كثيراً في الكتاب المقدس ومنه: «بركة هارون وبنيه لبني إسرائيل» (عد 6:23-27) وقد بارك المسيح تلاميذه قبل أن يصعد. (انجيل لوقا: 24:50، 51).(1)

2. التبرّك في القرآن الكريم

وقد ذكر القرآن الكريم التبرّك في العديد من الآيات نذكرها تباعاً:

1. هذا هو نبي اللّه يعقوب الّذي تبرّك بقميص يوسف، قال تعالى حاكياً عن يوسف: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) (2). ثم قال تعالى: (فَلَمّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (3).

فاللّه سبحانه هو الّذي جدّد بصر يعقوب بعدما كُفَّ ، لكن بسبب خاص وهو قميص ولده يوسف.

وأمّا ما هي الصلة بين القميص المنسوج من القطن وإعادة البصر إلى يعقوب فغير معلومة لنا، وعلى كل تقدير فللقميص وإرادة يوسف مدخلية في إعادة البصر بإذن من اللّه سبحانه.

2. تبرّك بني إسرائيل بصندوق العهد، أي التابوت، والتابوت هو الصندوق الّذي صنعه موسى عليه السلام بأمر اللّه تعالى وقد وصفه في قاموس الكتاب المقدس بأنّ طوله كان ذراعين ونصفاً وعرضه ذراعاً ونصفاً وارتفاعه ذراعاً ونصفاً، وكان في التابوت، الوعاء الّذي يحتوي على المنّ ، وعصا هارون الّتي أفرخت، ولوحا العهد وكان عليهما وصايا اللّه العشر المكتوبة.(4)

ص:104


1- . قاموس الكتاب المقدس: 171.
2- . يوسف: 93.
3- . يوسف: 96.
4- . قاموس الكتاب المقدس: 209.

ويصفه سبحانه بقوله: (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ ) (1).

قال الطبرسي: إنّ التابوت كان [هو] الّذي أنزله اللّه على أُم موسى فوضعت فيه ابنها وألقته في البحر وكان في بني إسرائيل معظّماً يتبرّكون به، فلمّا حضر موسى الوفاة، وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آثار النبوة، وأودعه عند وصيه يوشع بن نون فلم يزل التابوت بينهم، وبنو إسرائيل في عزّ وشرف ما دام فيهم(2).

وقال السيوطي: كان في التابوت عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ولوحان من التوراة والمنّ وكلمة الفرج «لا آله إلّااللّه الحليم الكريم، وسبحان اللّه رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، والحمدللّه رب العالمين»(3).

وعلى كل تقدير فقد كان بنو إسرائيل يتبرّكون به ويحملونه عند مواجهة الأعداء فينتصرون، وكفى في قداسة التابوت أنّه سبحانه يقول: (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ ) وقصة التابوت وكيفية غلبة العمالقة على بني إسرائيل وأخذ التابوت منهم، مذكورة في التفاسير، واللّه سبحانه وعدهم بأنّهم لو قاتلوا مع ملكهم طالوت، يسترجع إليهم التابوت وتحمله الملائكة إليهم يقول: (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ ) (4)، أي أنّ آية ملك (طالوت) هو أنّه يحارب الأعداء ويسترجع التابوت الّذي تحمله الملائكة فيرونه بنو إسرائيل عياناً.(5)

ص:105


1- . البقرة: 248.
2- . مجمع البيان: 1/614، ط. بيروت.
3- . الدر المنثور: 1/778.
4- . البقرة: 248.
5- . مجمع البيان: 1/615.

3. التبرّك بأصحاب الكهف، فعندما يذكر اللّه سبحانه وتعالى أصحاب الكهف والرقيم في سورة الكهف يبتدئ ببيان قصتهم بالآية التاسعة ويختمها بالآية 26.

وقد نزلت هذه الآيات لتشدّ قلوب المؤمنين وتثبت الإيمان فيها، وذلك بالوقوف على مصير أصحاب الكهف الذين تركوا متاع الحياة الدنيا وزينتها وهجروا مجتمعهم الغارق في الوثنية والتجأوا إلى كهف ضيّق موحش من أجل أن تبقى قلوبهم عامرة بالعقيدة الصحيحة، متوهّجة بحرارة الإيمان.

فلمّا علم سبحانه صدقهم وثباتهم في طريق التوحيد شملتهم عناية اللّه تبارك وتعالى فالتجأوا إلى الكهف، فأطبق اللّه سبحانه على آذانهم فناموا سنين طويلة، وبذلك خلصوا من مكائد الملك وأعوانه الذين كانوا يروّجون الوثنية ويحاربون الموحّدين، فلمّا بعثهم اللّه سبحانه بعد مضي ثلاثة قرون وانكشف أمرهم للناس، وثبت أنّ وعد اللّه حق حيث إنّ إيقاظهم الّذي يشبه البعث والإحياء بعد إنامتهم الّتي تُشبه الموت، أقوى دليل على قدرته سبحانه على أن يبعث الناس يوم القيامة ثم إنّه بعدما تبيّن ما هو الغرض من إنامتهم وإيقاظهم أماتهم اللّه سبحانه واختلف الناس في حقّهم وفي شأنهم، فذهب فريق منهم إلى إغلاق باب الكهف وسترهم عن أعين الناس وجعلهم وراء البنيان وإلى هذا يشير قوله سبحانه: (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) 1، والقائلون بذلك هم الأقلية الوثنية، أرادوا بذلك أن يخفوا أمرهم لكي ينساه الناس ولا يتحدّثون به، وقالوا - تحقيراً بشأنهم -: (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) 2، وقال الفريق الآخر، أي: (الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ ) 3، أي على أمر القائلين بالاقتراح الأوّل: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) 4 تتعبّدون فيه للّه سبحانه تبركاً بتربتهم، وهذا يدل على أمرين:

1. جواز بناء المساجد على قبور الأولياء.

ص:106

2. جواز التبرّك بتربة القبور، لأنّ القرآن يذكر ذلك من دون ردّ واعتراض، بل يظهر منه التأييد والموافقة.

تبرّك الصحابة بآثار النبي صلى الله عليه و آله

اشارة

ذكر أصحاب السير والتاريخ تبرّك الصحابة بأنواع متعددة من آثار النبي صلى الله عليه و آله نظير: «التبرّك بماء وضوئه، وبريقه، وبنخامته، وبدمه، وبشعره، وبسؤره، وبطعامه، وبأظافره، وبلباسه، وبأوانيه، وبما لمسه، وبمصلاه»، هذا ما جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: 10/70-71، ولكن الموارد أوسع ممّا ذكر هناك، ولأجل الإشارة إلى شيء منها، نذكر بعض النصوص:

1. التبرّك بماء وضوئه صلى الله عليه و آله

أرسلت قريش عروة بن مسعود الثقفي ليمثّلها في صلح الحديبية مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وكلّمه رسول اللّه بنحو ما كلّم به أصحابه وأخبره أنّه لم يأت يريد حرباً وبعدما تمت المذاكرة بين الطرفين قام عروة من عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضّأ، إلّاابتدروا وضوءه، ولا يَبْصق بُصاقاً إلّاابتدروه. ولا يسقط من شعره شيء إلّاأخذوه. فرجع إلى قريش، فقال: يا معشر قُريش، إنّي قد جئت كِسْرى في مُلكه، وقيصر في مُلكه، والنجاشيِّ في مُلكه، وإني واللّه ما رأيت مَلِكاً في قوم قط مثلَ محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يُسلمونه لشيء أبداً، فَرَوا رأيكم.(1)

ص:107


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 3/328.
2. التبرّك بقدحه

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أنّه قال: فأقبل النبي صلى الله عليه و آله يومئذٍ حتّى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه، ثم قال: اسقنا يا سهل، فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه [وقال أبو حازم] فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه، قال: ثم استوهبه عمر بن عبدالعزيز بعد ذلك فوهبه له.(1)

3. التبرّك بسؤره

روى أحمد بن حنبل عن أبي صالح، عن أُم هاني أنّ النبي صلى الله عليه و آله دخل عليها يوم الفتح، فأتته بشراب، فشرب منه، ثم فضلت منه فضلة، فناولها فشربته، ثم قالت: يا رسول اللّه، لقد فعلت شيئاً ما أدري يوافقك أم لا؟ قال: «وما ذاك يا أُمّ هاني ؟»، قالت: كنت صائمة فكرهت أن أرد فضلك فشربته، قال: «تطوعاً أو فريضة ؟» قالت: قلت: بل تطوُّعاً، قال: «فإنّ الصائم المتطوع بالخيار إن شاء صام، وإن شاء أفطر»(2).

4. التبرّك بمنبره

سأل عبداللّه بن أحمد عن أبيه قال: سألته عن الرجل يمسّ منبر النبي صلى الله عليه و آله ويتبرّك بمسّه، ويقبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، أو نحو ذلك، يريد بذلك التقرب إلى اللّه جلّ وعزّ، فقال: «لا بأس بذلك».(3)

وعلّق محقّق كتاب (العلل ومعرفة الرجال) على هذا الحديث وقال: أمّا مسّ منبر النبي صلى الله عليه و آله فقد أثبت ابن تيمية - في الجواب الباهر لزوّار المقابر - فعله عن ابن عُمر، دون غيره من الصحابة، وروى أبو بكر بن أبي شيبة في المصنّف (4/121)

ص:108


1- . فتح الباري: 10/98، برقم 5687.
2- . مسند أحمد: 10/391، برقم 27454. ط. دار الفكر، بيروت.
3- . العلل ومعرفة الرجال: 2/492، برقم 3243.

عن زيد بن الحباب قال حدّثني أبو مودود قال: حدّثني يزيد بن عبدالملك بن قسيط، قال: رأيت نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رُمّانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا، قال: ورأيت يزيد يفعل ذلك».

وقال الكرماني حول قول عمر: عندما جاء إلى الحجر الأسود فقبّله فقال: إنّي أعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ولولا أنّي رأيت النبي يقبلك ما قبلتك: «وأمّا تقبيل الأماكن الشريفة على قصد التبرّك وكذلك تقبيل أيدي الصالحين وأرجلهم فهو حسن محمود باعتبار القصد والنية، وقد سأل أبو هريرة الحسن رضى الله عنه أن يكشف له المكان الّذي قبّله رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو سرته فقبّله تبرّكاً بآثاره وذريته صلى الله عليه و آله، وقد كان ثابت البناني لا يدع يد أنس رضى الله عنه حتّى يقبّلها ويقول: يد مسّت يد رسول اللّه، وقال أيضاً: وأخبرني الحافظ أبو سعيد ابن العلائي قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزه قديم عليه خط ابن ناصر وغيره من الحفاظ ان الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي صلى الله عليه و آله وتقبيل منبره فقال: لا بأس بذلك، قال: فأريناه للشيخ تقي الدين بن تيمية، فصار يتعجّب من ذلك ويقول: عجيب أحمد عندي جليل يقوله هذا كلامه أو معنى كلامه. وقال: وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد انّه غسل قميصاً للشافعي وشرب الماء الّذي غسله به، وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم فكيف بمقادير الصحابة وكيف بآثار الأنبياء عليهم السلام ؟! ولقد أحسن مجنون ليلى حيث يقول:

أمرّ على الديار ديار ليلى أُقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا(1)

ص:109


1- . عمدة القارئ: المجلد 5 الجزء 9/241.
5. التبرّك بالدنيانير الّتي لمسها النبي صلى الله عليه و آله

أخرج أحمد في مسنده عن جابر بن عبداللّه قال: كنت مع النبي في سفر - إلى أن قال: - وكنت على جمل فاعتلّ قال: فلحقني رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأنا في آخر الناس قال: فقال: «مالكَ يا جابرُ؟» قال: قلت اعتلّ بعيري، قال: فأخذ بذنبه ثم زجره قال:

فما زلت إنّما أنا في أوّل الناس يهمني رأسه فلمّا دنونا من المدينة قال: قال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «ما فَعَلَ الجملُ؟» قلت: هو ذا، قال: «فبعنيه» قلت: لا بل هو لك، قال: «بعنيه» قال: قلت: هو لك، قال: «لا، قد أخذته بأُوقيةٍ ، اركبه فإذا قدمتَ فائتنا به» قال: فلمّا قدمت المدينة جئت به فقال: «يا بلال زن أوقيةً وزده قيراطاً» قال:

قلت: هذا قيراط زادنيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله لا يفارقني أبداً حتّى أموت قال: فجعلته في كيس فلم يزل عني حتّى جاء أهل الشام يوم الحرة فأخذوه فيما أخذوا.(1)

6. التبرّك بالعصا الّتي أعطاها النبي صلى الله عليه و آله

روى أحمد في مسنده عن عبداللّه بن أنيس في حديث فلمّا قدمت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله فرآني فقال: «أفلح الوجه». قال: قلت: قتلته يا رسول اللّه قال:

«صادقت». قال: ثم قام معي رسول اللّه صلى الله عليه و آله فدخل في بيته فأعطاني عصاً فقال:

«أمسك هذه عندك، يا عبداللّه بن أنيس». قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟ قال: قلت: أعطانيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأمرني أن أمسكها، قالوا: أو لا ترجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فتسأله عن ذلك ؟ قال: فرجعت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقلت:

يا رسول اللّه، لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: «آية بيني وبينك يوم القيامة، إنّ أقل الناس المتخصّرون يومئذٍ يوم القيامة». فقرنها عبداللّه بسيفه فلم تزل معه حتّى إذا مات أمر بها فصبت معه في كفنه ثم دفنا جميعاً.(2)

ص:110


1- . مسند أحمد: 5/51-52 برقم 14383.
2- . مسند أحمد: 5/431 برقم 16047.
7. التبرّك بقميص النبي صلى الله عليه و آله

روى ابن عبد البر في ترجمة فاطمة بنت أسد بن هاشم، قال: أسلمتْ وهاجرتْ إلى المدينة وتوفيت بها، وقال الزبير: هي أوّل هاشمية ولدت لهاشمي.

قال: وقد أسلمت وهاجرت إلى اللّه ورسوله وماتت بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه و آله وشهدها رسول اللّه صلى الله عليه و آله. قال أبو عمر: روى سعدان بن الوليد السابري، عن عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عباس قال: لمّا ماتت فاطمة أُم علي بن أبي طالب ألبسها رسول اللّه صلى الله عليه و آله قميصه واضطجع معها في قبرها فقالوا: ما رأيناك صنعت ما صنعت بهذه، فقال: «إنّه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي لتكسي من حلل الجنة واضطجعت معها ليهون عليها»(1).

8. التبرّك بالبردة المهداة
اشارة

قدم كعب بن زهير على الرسول صلى الله عليه و آله وأنشد قصيدته اللامية المعروفة الّتي مستهلها:

بانت سعاد فقلبي اليوم مبتول متيّم إثرها لم يُفد مكبول

وجاء فيها قوله:

كل ابن أُنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلةٍ حدباء محمول

أُنبئت أنّ رسول اللّه أوعدني والعفو عند رسول اللّه مأمول

إنّ الرسول لنور يستضاء به مهنّد من سيوف اللّه مسلول

قال الدياربكري: رمى عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله بردة كانت عليه، وأنّ معاوية بذل له فيها عشرة آلاف مثقال، فقال: ما كنت لأُوثر بثوب رسول اللّه صلى الله عليه و آله أحداً، فلمّا مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفاً فأخذها منهم. قال: وهي البردة الّتي عند السلاطين إلى اليوم.(2)

ص:111


1- . الإصابة: 4/368؛ والاستيعاب بهامش الاصابة: 4/370.
2- . تاريخ الخميس: 2/131.
التبرّك بجبّته صلى الله عليه و آله

روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر أنّها أخرجت جبّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله كانت عند عائشة، فلمّا قبضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه و آله يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى ونستشفي بها.(1)

9. التبرّك بالقبر الشريف

أخرج الحاكم في مستدركه عن داود بن أبي صالح، قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع ؟ قال:

نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري رضى الله عنه فقال: جئت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ولم آت الحجر، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله.

ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه (يعني البخاري ومسلم)(2).

وروى السمهودي عن أبي الجوزاء قال: قُحِطَ أهلُ المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة، فقالت: فانظروا قبر النبي صلى الله عليه و آله فاجعلوا منه كُوَّةً إلى السماء حتّى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا، فمطروا حتّى نَبَتَ العُشْبُ وسمنت الإبلُ حتّى تفتقت من الشحم، فسمى عام الفتق.

قال الزين المراغي: واعلم أنّ فتح الكُوَّة عند الجَدْب سُنَّةُ أهل المدينة حتّى الآن، يفتحون كوة في سفل قبة الحجرة: أي القبة الزرقاء المقدسة من جهة القبلة، وإن كان السقف حائلاً بين القبر الشريف وبين السماء.

قلت: وسنّتُهم اليوم فتحُ الباب المواجهِ للوجه الشريف من المقصورة

ص:112


1- . صحيح مسلم: برقم 2069، باب النهي عن لبس الحرير، كتاب اللباس والزينة.
2- . مستدرك الحاكم: 4/115، كتاب الفتن والملاحم.

المحيطة بالحجرة، والاجتماع هناك، واللّه أعلم.(1)

وروى البخاري: لمّا حضرت الوفاة عمر بن الخطاب، قال لابنه عبداللّه: انطلق إلى أُم المؤمنين عائشة، فقل: يقرأ عليك عمر السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، قال: فاستأذن وسلم، ثم دخل عليها وهي تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه.

فقالت: كنت أُريده لنفسي ولأُوثرنّه اليوم على نفسي، فلمّا أقبل قال له: ما لديك ؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين. قال: ما كان شيء أهم من ذلك المضجع فإذا قبضت فاحملوني ثم سلّموا ثم قل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فادفنوني، وإلّا فردّوني إلى مقابر المسلمين.(2)

10. التبرّك بالمواضع الّتي صلّى فيها الرسول صلى الله عليه و آله

أخرج البخاري عن مولى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبداللّه يتحرّى أماكن من الطريق فيصلّي فيها ويحدّث أنّ أباه كان يصلّي فيها، وأنّه رأى النبي صلى الله عليه و آله يصلّي في تلك الأمكنة، وحدثني نافع عن ابن عمر أنّه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالماً فلا أعلمه إلّاوافق نافعاً في الأمكنة كلها إلّاأنّهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.(3)

11. التبرّك بخاتم النبي صلى الله عليه و آله

روى عبدالرزاق عن معمر، قال: أخرج إلينا عبداللّه بن محمد (بن) عقيل خاتماً نقشه تمثال، وأخبرنا أنّ النبي صلى الله عليه و آله لبسه مرّة أو مرّتين، قال: فغسله بعض من

ص:113


1- . وفاء الوفا: 1/560.
2- . صحيح البخاري: برقم 1392، كتاب الجنائز.
3- . صحيح البخاري: برقم 483، باب المواضع الّتي صلى فيها النبي صلى الله عليه و آله.

كان معنا فشربه.(1)

12. التبرّك بالمسح واللمس

كانت الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه و آله أن يمسح على رؤوسهم ويبارك لهم، ومن هؤلاء زياد بن عبد اللّه بن مالك الهلالي، قال ابن حجر: فدخل زياد منزل ميمونة أُمّ المؤمنين وكانت خالته... فقالت: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله إنّه ابن أُختي، فدعاه فوضع يده على رأسه ثمّ حدرها على طرف أنفه، فكان بنو هلال يقولون: ما زلنا نعرف البركة في وجه زياد.

ثمّ قال ابن حجر: وذكر ابن سعد القصة مطولة عن هشام بن الكلبي... وقال الشاعر لعلي بن زياد المذكور:

يا ابن الذي مسح الرسول برأسه ودعا له بالخير عند المسجد

مازال ذاك النور في عرنينه حتى تبّوأ بيته في ملحد(2)

هذه اثنا عشر مورداً تبرّك فيها الصحابة ولم يعترض عليه أحد وكانوا يتلقون التبرّك بأنّه غير مناف للتوحيد الّذي بعث لأجله النبي صلى الله عليه و آله والموارد كثيرة نكتفي بهذا المقدار، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتابين التاليين فقد بلغا الغاية:

1. «تبرّك الصحابة بآثار النبي والصالحين» للعلّامة المحقّق والمؤرّخ الخبير محمد طاهر بن عبد القادر بن محمود المكي، طبع الكتاب في القاهرة، مطبعة المدني، عام 1385 ه. ق.

2. «التبرّك» بقلم المحقّق الخبير آية اللّه علي الأحمدي الميانجي (1344 - 1421 ه)، فقد تتبّع قدس سره في كتابه هذا - وبنحو يثير الإعجاب حقّاً - المسألة من جميع أبعادها التاريخية والحديثية و...، وأثبت بما لا مزيد عليه وبنحو لا يدع للترديد أو الشكّ مجالاً في أنّ سيرة المسلمين عامّة والصحابة والتابعين خاصة

ص:114


1- . المصنف لعبدالرزاق الصنعاني: 1/347.
2- . الإصابة: 539/1-540، رقم الترجمة 2856.

كانت قائمة على التبرّك بآثار النبي والصالحين.

التبرّك في روايات أهل البيت عليهم السلام

اشارة

قد ذكرنا فيما مضى التبرّك في السنة النبوية ومصادر التاريخ، والآن نذكر ما ورد عن أئمة أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وهم أعلم بما فيه.

1. التبرّك باسم اللّه جل وعلا

روى الإمام الحسن بن علي العسكري، عن آبائه، عن علي عليهم السلام - في حديث - أنّ رجلاً قال له: إن رأيت أن تعرّفني ذنبي الّذي امتحنت به في هذا المجلس، فقال: «تركك حين جلست أن تقول: بسم اللّه الرحمن الرحيم، إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله حدّثني عن اللّه عزّوجلّ أنّه قال: كلّ أمر ذي بال لا يذكر بسم اللّه فيه فهو أبتر»(1).

2. التبرّك بالقرآن الكريم

روى الكليني بسنده عن ابن القدّاح، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: البيت الّذي يقرأ فيه القرآن ويذكر اللّه عزوجل فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض، وإنّ البيت الّذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر اللّه عزوجل فيه تقلّ بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين».(2)

ص:115


1- . تفسير الإمام العسكري: 24/7 و 25؛ الوسائل: (كتاب الصلاة)، الباب 17 من أبواب الذكر، الحديث 4.
2- . أُصول الكافي: 2/611، كتاب فضل القرآن.
3. التبرّك بماء وضوء النبي صلى الله عليه و آله

روى الصدوق في «عيون أخبار الرضا عليه السلام»، عن الإمام الرضا عليه السلام قال:

«سمعت أبي يحدّث عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام، عن جابر بن عبداللّه قال: كان رسول في قبّة من أدم وقد رأيت بلالاً الحبشيّ وقد خرج من عنده ومعه فضل وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله فابتدره الناس، فمن أصاب منه شيئاً تمسّح به وجهه، ومن لم يُصب منه شيئاً أخذ من يدي صاحبه فمسح به وجهه، وكذلك فعل بفضل وضوء أمير المؤمنين عليه السلام».(1)

4. التبرّك بقبر النبي صلى الله عليه و آله

روى الكليني بسنده عن علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن موسى، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام قال: «كان علي بن الحسين عليه السلام يقف على قبر النبي صلى الله عليه و آله فيسلم عليه ويشهد له بالبلاغ، ويدعو بما حضره، ثمّ يسند ظهره إلى العروة الخضراء الدقيقة العرض ممّا يلي القبر، ويلتزق بالقبر ويسند ظهره إلى القبر، ويستقبل القبلة فيقول: «اللّهم إليك ألجأت ظهري، وإلى قبر نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله عبدك ورسولك أسندت ظهري، والقبلة الّتي رضيت لمحمّد صلى الله عليه و آله استقبلت، اللّهم إنّي أصبحت لا أملك لنفسي خير ما أرجوه، ولا أدفع عنها شرّ ما أحذر عليها، وأصبحت الأُمور بيدك فلا فقير أفقر منّي، ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير، اللّهمّ ارددني منك بخير فإنّه لا رادّ لفضلك، اللّهم إنّي أعوذ بك من أن تبدّل اسمى، أو تغيّر جسمي، أو تزيل نعمتك عندي، اللّهمّ كرّمني بالتقوى، وجمّلني بالنعم، وأعمرني بالعافية، وارزقني شكر العافية».(2)

وروى الكليني - أيضاً - عن ابن فضّال قال: رأيت أبا الحسن (الرضا) عليه السلام وهو يريد أن يودّع للخروج إلى العمرة فأتى القبر من موضع رأس رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعد

ص:116


1- . عيون أخبار الرضا عليه السلام: 227؛ بحار الأنوار: 17/33، برقم 15.
2- . الوسائل: 14، (كتاب الحج)، الباب 6 من أبواب المزار وما يناسبه، الحديث 2.

المغرب فسلّم على النبي صلى الله عليه و آله ولزق بالقبر، ثمّ أتى المنبر، وانصرف حتّى أتى القبر فقام إلى جانبه يصلّي، وألصق منكبه الأيسر بالقبر قريباً من الأسطوانة الّتي دون الأسطوانة المخلقة الّتي عند رأس النبي صلى الله عليه و آله فصلّى ستّ ركعات - أو ثماني ركعات - في نعليه.(1)

وروى الكليني بسنده عن معاوية بن عمّار قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام: «إذا فرغت من الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه و آله فائت المنبر فامسحه بيدك وخذ برمانتيه، وهما السفلاوان، وامسح عينيك ووجهك به فإنّه يقال: إنّه شفاء للعين، وقم عنده فاحمد اللّه وأثن عليه وسل حاجتك فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة، ومنبري على ترعة من ترع الجنّة - والترعة هي الباب الصغير - ثمّ تأتي مقام النبي صلى الله عليه و آله فتصلّي فيه ما بدا لك».(2)

شبهة القائلين بحرمة التبرّك

لما وقف القائل بمنع التبرّك على هذه الروايات الهائلة الحاكية عن تبرّك الصحابة بآثار النبي صلى الله عليه و آله، حاول أن يتخلّص من ذلك بالوجهين التاليين:

الأوّل: التبرّك مخصوص بآثار النبي صلى الله عليه و آله في حال حياته لا بعد رحيله(3).

ولسائل أن يسأل القائل: هل كان التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه و آله في حال حياته أمراً عباديّاً يتقرّب به إلى اللّه سبحانه أو كان عملاً عادّياً - لا عبادّياً - نظير

ص:117


1- . الوسائل: 14، كتاب الحج، الباب 15 من أبواب المزار وما يناسبه، الحديث 3.
2- . الوسائل: 14، كتاب الحج، الباب 7 من أبواب المزار وما يناسبه، الحديث 1.
3- . التبرّك والتوسل والصلح مع العدوّ الصهيوني: 40. والقائل عبدالعزيز بن باز مفتي السعودية سابقاً.

الأعمال الّتي يقوم بها الناس حسب فطرتهم ؟ فعلى الأوّل يكون التبرّك عندئذٍ شركاً يعدّ نوع عبادة للغير فلا يجوز للنبي أن يقرّه فيسكت عنه أو أن يدعمه بدفع العصا وغيرها، كيف وقد وصف سبحانه الشرك بأنّه ظّلم عظيم ؟ قال سبحانه مخاطباً لنبيّه: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (1) وعلى هذا فلا محيص من ردّ هذا الفرض.

وعلى الثاني أي كون التبرّك أمراً عادّياً يطلب المتبرك الخير من مورده كما يطلب الخير من سائر الأُمور فلا يصحّ تخصيص الجواز بآثار النبي، لأنّ المفروض أنّه خارج عن إطار العبادة وداخل تحت الأُمور العاديّة.

إنّ التبرّك بآثار الأولياء والعلماء والأخيار أمر فطري للناس، ولذلك تبرّكت بنو إسرائيل بتابوت موسى، كما تبرّك الموحدون بأصحاب الكهف ببناء المسجد على قبورهم والعبادة فيه، وقد مرّ أن إمام الحنابلة أحمد بن حنبل تبرّك بماء غسل فيه قميص الشافعي(2) وقد جاء في بعض الروايات أنّ في سؤر المؤمن شفاء.(3)

ونقل بعض الثقات أنّه شارك في ضيافة أقامها الشيخ عبدالعزيز بن باز لجماعة من العلماء وهو منهم ورأى بأُم عينيه أنّ أصحاب المفتي في نهاية الأمر تسابقوا إلى سؤر طعامه، أفيصحّ بعد ذلك تخصيص التبرّك بآثار النبيّ؟!

الثاني: أنّ التبرّك يختصّ بما مسّ جسده الشريف.

إنّ التبرّك بما مسّ جسده عليه السلام من ماء وضوء أو عَرَق أو شعر، فهذا معروف وجائز عند ا لصحابة لما في ذلك من الخير والبركة. وهذا قد أقرّه النبي دون ما لم يمسّ جسده.(4)

وعلّق محقّق كتاب الإمام أحمد باسم «العلل ومعرفة الرجال» فقال في

ص:118


1- . الزمر: 65.
2- . مرّ ص: 79.
3- . الوسائل: 25، الباب 18 من أبواب الأشربة المباحة، الحديث 1.
4- . التبرّك والتوسل والصلح مع العدو الصهيوني: 40.

الهامش: وأنّ هذا كان لمّا كان منبره الّذي لامس جسده الشريف، أمّا الآن فقد تغيّر، لا يقال بمشروعيّة مسه تبركاً به.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ تخصيص التبرّك بالآثار مسّها جسد النبي المطهّر لا يخلو من وجهين:

1. إنّ لجسده المطهّر تأثيراً في نشوء الخير وزيادة النعمة. وهذا الوجه مرفوض بما عليه علماء السنّة وبالأخص فقهاء الحنابلة، لأنّهم ينكرون أيّ مؤثر في العالم سوى اللّه تبارك وتعالى وشعارهم في هذا الموضع قول القائل:

ومن يقل بالطبع أو بالعلّة فذاك كفر عند أهل الملّة

فعلى هذا الأصل فليس لجسده المطهر أي تأثير في وجود الخير وزيادة النعمة، وإلّا يلزم الاعتقاد بمؤثر سوى اللّه سبحانه، ولو كان التأثير ظلّياً وتابعاً لمشيئته سبحانه فإنّهم ينفون ذلك كلّه.

2. نفي القول بالتأثير لكن تبرّك الصحابة كان في خصوص ما مسّ جسده الشريف لا غير. لكن هذا الوجه مردود بنصّ التاريخ، وذلك:

أوّلاً: أنّ فاطمة الزهراء بنت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله الّتي طهرها اللّه سبحانه في كتابه وقال: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (2)، وأناط سبحانه رضاه وغضبه برضا فاطمة وغضبها فقال النبي صلى الله عليه و آله:

«فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها فقد أغضبني».(3)

وفي رواية أُخرى، أنّ غضب الزهراء عليها السلام ورضاها يوجب غضب اللّه سبحانه ورضاه، فقال:

ص:119


1- . العلل ومعرفة الرجال: 2/494.
2- . الأحزاب: 33.
3- . صحيح البخاري: 210/4، دار الفكر، بيروت؛ فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 7/84.

«يا فاطمة إنّ اللّه يغضب لغضبك ويرضى لرضاك»(1).

إنّها عليها السلام تبركت بتراب قبر أبيها ووضعت شيئاً منه على عينها وقالت:

ماذا على مَنْ شمَ تربة أحمد ألّا يشم مدى الزمان غواليا

صُبّت علي مصائب لو أنّها صُبّت على الأيام صرن لياليا(2)

والتراب الّذي أخذته بنت النبي لم يمسَّ جسد النبي صلى الله عليه و آله، إذ لم تأخذه من تراب داخل القبر الّذي مسّ جسده، بل أخذته من تراب ظاهر القبر الّذي يوارى به الميّت.

وهذا هو مضيّف النبي أبو أيوب الأنصاري حيث جعل خدّه على تراب قبر النبي صلى الله عليه و آله متبرّكاً به أيّام كانت الحكومة بيد الأمويين وعلى رأسهم مروان بن الحكم.(3)

وهؤلاء هم صحابة النبي صلى الله عليه و آله كانوا يتبرّكون بالصلاة في أماكن صلّى فيها النبي، ومن المعلوم أنّ تلك الأماكن لم تكن مسقّفة أو مفروشة بالحُصُر والبواري، بل كانت أراضٍ مكشوفة صلّى فيها النبي صلى الله عليه و آله، فمن المعلوم أنّ الأمطار والرياح والعواصف تفرّق ترابها إلى نقاط بعيدة وترسل غبار الأماكن الأُخرى إليها.

إنّه سبحانه أمر حجّاج بيته الحرام بالصلاة في مقام إبراهيم عليه السلام فقال:

(وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (4) وليس المقام إلّاجزءاً من المسجد الحرام، ولكنّه سبحانه أمر بالصلاة فيه وما هذا إلّاللتبرّك به، والمقام الموجود حاليّاً وحتّى الموجود في القرون السابقة لم يكن ممّا مسّه جسد بطل التوحيد.

ص:120


1- . مستدرك الحاكم: 154/3؛ مجمع الزوائد: 203/9، وقد استدرك الحاكم في كتابه الأحاديث الصحيحة حسب شروط البخاري ومسلم ولكن لم يخرجاه. وعلى ذلك فهذا الحديث صحيح عند الشيخين وهو متفق عليه.
2- . المغني لابن قدامة: 2/411.
3- . مرّ ص 82.
4- . البقرة: 125.

ومَن قرأ تبرّك الصحابة بآثار النبي يقف على أنّ تلك المحاولة ليست إلّالرأي مسبق ودعماً للمذهب ولم تكن هذه المحاولة وما تقدّمها في خلد أي صحابي يتبرّك بآثار النبي صلى الله عليه و آله.

وثانياً: أنّ كثيراً من الأعمال الّتي يمارسها المسلمون في الحرمين الشريفين من تقبيل الضريح والجدران والأبواب وأركان البيت وغير ذلك كله تجسيد منهم لحبّ اللّه وحبّ رسوله الّذي أمر سبحانه به في قوله: (إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) (1).

وأمر في آية أُخرى بتوقير النبي صلى الله عليه و آله إلى جانب الإيمان به ونصرته واتّباعه وقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2)، والمراد من التعزير هو تكريمه وتوقيره، وبما أنّ يد المحبين لا تصل إلى يد النبي صلى الله عليه و آله حتّى يقبّلونها، يقبّلون ما له، به صلة، وهذه هي العادة السائدة بين العقلاء فيقبّل الولد ما ورثه من الآباء من ألبسة وكتب وأقلام وتصاوير، وكأنّ منطق الجميع منطق مجنون ليلى العامرية:

أمر على الديار ديار ليلى أُقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وماحب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا(3)

وقد عدّ البيهقي محبة النبي من شعب الإيمان(4)، كما عقد مسلم في صحيحه باباً باسم توقيره صلى الله عليه و آله وترك إكثار سؤاله عمّا لا ضرورة إليه(5).

ص:121


1- . التوبة: 24.
2- . الأعراف: 157.
3- . مرّ مصدر البيتين ص 79.
4- . شعب الإيمان: 2/129.
5- . صحيح مسلم: كتاب الفضائل، الباب 37.

والعجب أنّ أتباع ابن تيمية - الّذي يعدّ التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه و آله بعد رحيله بدعة - كانوا يتبرّكون بالماء الّذي فضل من غسله، يقول تلميذه ابن كثير في حوادث سنة 728 ه: شرب جماعة الماء الّذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الّذي غُسّل به، ودفع في الخيط - الّذي كان فيه الزئبق الّذي كان في عنقه بسبب القمل - مائة وخمسون درهماً، وقيل: إنّ الطاقية الّتي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهماً، وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء كثير وتضرع، وختمت له ختمات كثيرة بالصالحية وبالبلد، وتردد الناس إلى قبره أياماً كثيرة ليلاً ونهاراً يبيتون عنده ويصبحون، ورويت له منامات صالحة ورثاه جماعة بقصائد جمّة.(1)

الحمد للّه الّذي بنعمته تتمّ الصالحات

تمّت الرسالة بيد العبد الفقير

إلى اللّه الغني، عشية يوم السبت

ثاني شهر محرم الحرام من شهور عام 1431 ه

ص:122


1- . البداية والنهاية: 14/142-143.

11 التوسّل في الكتاب والسنّة

اشارة

التوسّل: مأخوذ من مادة «وسل» بمعنى التقرّب من الشخص. و «الوسيلة» ما يتقرّب به إلى الغير، والجمع «الوسائل»، وفي الحديث: «اللهم آت محمداً الوسيلة»، قيل: هي الشفاعة يوم القيامة، وقيل: هي منزلة من منازل الجنة.(1)

وقد أمر اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين أن يبتغوا إليه الوسيلة، قال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (2).

والآية تدلّ بوضوح على أنّ تقرّب المؤمن إلى اللّه سبحانه رهن تحصيل الوسيلة أو الوسائل حتّى يتقرّب بها إليه سبحانه، ويكون في النهاية من المفلحين.

وأمّا ما هي الوسيلة ؟ فالآية ساكتة عن ذلك، نعم ذكر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ما يتمكن أن يُتقرّب به، فقال: «إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اللّهِ سُبْحانَهُ وَتَعَالى ، الْإِيمَانُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ ، فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الْإِسْلَامِ ؛ وَكَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ ؛ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ ؛ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ ؛ وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ ؛ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَاعْتَِمارُهُ فَإِنَّهُمَا

ص:123


1- . انظر: لسان العرب: 11/725؛ النهاية لابن الأثير: 5/185.
2- . المائدة: 35.

يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ، وَيَرْحَضَان الذَّنْبَ ؛ وَصِلَةُ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ ، وَمَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ ؛ وَصَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ ؛ وَصَدَقَةُ الْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ ؛ وَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ الْهَوَانِ ».(1)

وفي خطبة أُخرى يقول عليه السلام في ذكر النبي صلى الله عليه و آله: «فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ ، وَبَعِيثُكَ نِعْمَةً ، وَرَسُولُكَ بِالْحَقِّ رَحْمَةً . اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً مِنْ عَدْلِكَ ، وَاجْزِهِ مُضَعَّفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ . اللَّهُمَّ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ (النّاس) بِنَاءَهُ ، وَأَكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ ، وَشَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ ، وَآتِهِ الْوَسِيلَةَ ، وَأَعْطِهِ السَّنَاءَ وَالْفَضِيلَةَ ».(2)

أنواع الوسائل

اشارة

قد أشار الإمام علي عليه السلام في كلامه إلى بعض الوسائل، ومن أنواع الوسائل الاهتمام بالنوافل، قال الإمام محمد الباقر عليه السلام: «إنّ اللّه جل جلاله قال: ما يُتقرب إليّ عبد من عبادي بشيء أحبُ إليّ ممّا افترضتُ عليه، وإنّه ليتقرب إليّ بالنافلة حتّى أُحبَّه فإذا أحببتُه كنتُ سمَعه الّذي يَسمع به، وبصرَه الّذي يُبصر به، ولسانَه الّذي يَنطق به، ويده الّتي يُبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته».(3)

ومن الواضح أنّه لا يصلح كل عمل أن يتقرّب به الإنسان إلى اللّه سبحانه، وإنّما يصلح بعملٍ قد ورد في الشريعة الأمر بالتوسّل به والتقرّب به إلى اللّه، وهذا ما نبحثه تالياً:

الأوّل: التوسّل بأسماء اللّه وصفاته

إنّه سبحانه وتعالى يأمرنا أن ندعوه بأسمائه فيقول: (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى

ص:124


1- . نهج البلاغة: الخطبة 110.
2- . نهج البلاغة: الخطبة: 105.
3- . الكافي: 2/263 ح 8؛ الوسائل: ج 2، الباب 17 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 6.

فَادْعُوهُ بِها) (1).

وقد وردت أسماؤه الحسنى في الذكر الحكيم والسنّة النبوية، وهي بين ما هو وصف للذات كقولنا: عالم وقادر، أو وصف للفعل كقولنا: خالق ورازق، وبين ما هي أوصاف الجمال كقولنا: سميع بصير، أو أوصاف الجلال كقولنا: قدوس، فيصحُ لِمن يريد التقرّب إلى اللّه أن يقول: يااللّه، يا رحمن، يا رحيم، يا خالق السماوات والأرض، يا غافر الذنوب، ويا رازق الطفل الصغير.. فلا شكّ أنّ دعاءه سبحانه بهذه الأوصاف يبعث رحمته ومغفرته إلى الداعين ويوجب قضاء حوائجهم.

أخرج الترمذي عن عبداللّه بن بريدة الأسلمي، عن أبيه قال: سمع النبي صلى الله عليه و آله رجلاً يدعو ويقول: اللهم إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت اللّه لا إله إلّا أنت الأحد الصمد الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، قال فقال:

«والّذي نفسي بيده لقد سأل اللّه باسمه الأعظم الّذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل أعطى ».(2)

وقد كان الإمامان الباقر والصادق عليهما السلام يفتتحان دعاءهما باسمه العظيم الأعظم، على النحو التالي: «اللّهم إنّي أسألك باسمك العظيم الأعظم الأعزّ الأجل الأكرم الّذي إذا دُعيتَ به على مغالق السماء للفتح بالرحمة انفتحت، وإذا دُعيتَ به على مضايق أبواب الأرض للفرج انفرجت، وإذا دُعيت به على العسر لليُسر تيسّرت».(3)

الثاني: التوسّل بالقرآن الكريم

إنّ للقرآن الكريم منزلة رفيعة عند اللّه سبحانه، وهو من الوسائل الّتي يمكن

ص:125


1- . الأعراف: 180.
2- . سنن الترمذي (الجامع الصحيح): 5/515، الحديث: 3475.
3- . مصباح المتهجد: 374.

للعبد أن يتقرّب بها إليه سبحانه من خلال تلاوته، روى أحمد بن حنبل بسنده عن عمران بن حصين أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «اقرأوا القرآن واسألوا اللّه تبارك وتعالى به، قبل أن يجيء قوم يسألون به الناس»(1).

وروى حريز بن عبداللّه السجستاني عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ من أعمال ليلة القدر أن تأخذ المصحف في ثلاث ليال من شهر رمضان وتنشره وتضعه بين يديك وتقول: اللهم إنّي أسألك بكتابك المنزل وما فيه، وفيه اسمك الأكبر وأسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار.(2)

الثالث: التوسّل بالأعمال الصالحة

قلّما يتفق لمؤمن أن لا يقوم بعمل صالح بعيد عن الرياء والسمعة عبْر حياته فيمكن أن يتوسّل بعمله الصالح ثم يدعو اللّه تعالى أن يقضي حاجته به.

ولأجل ذلك نرى أنّ نبي اللّه إبراهيم عليه السلام يدعو اللّه سبحانه حينما يشتغل بعمل صالح كرفع قواعد البيت الحرام كما يحكي عنه سبحانه ويقول: (وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ ) (3).

فقد طلب عليه السلام من اللّه سبحانه أُموراً أربعة حينما كان يرفع قواعد البيت كما هو ظاهر لمن تأمل في تلك الآية الكريمة.

كما أنّه عزّوجلّ يذكر دعاءً آخر للمؤمنين فيقول سبحانه: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا

ص:126


1- . مسند أحمد: 4/445.
2- . إقبال الأعمال: 1/346.
3- . البقرة: 127-128.

إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النّارِ) (1) فهاهم قد طلبوا من اللّه سبحانه غفرانَ ذنوبهم وصيانتهم من العذاب بعدما أظهروا الإيمان وقالوا: (رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا...) .

وقد ورد هذا النوع من التوسل في الأحاديث الشريفة نذكر نموذجاً منه:

أخرج البخاري عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «بينما ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنّه واللّه يا هؤلاء لا ينجيكم إلّاالصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنّه قد صدق فيه.

فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنّه كان لي أجير يعمل لي على فرق من أرز فذهب وتركه وأنّي عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أنّي اشتريت منه بقراً وأنّه أتاني يطلب أجره، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فسقها.

فقال لي: إنّما لي عندك فرق من أرز. فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فإنّها من ذلك الفرق، فساقها. فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساخت عنهم الصخرة.

فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنّه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عليهما ليلة فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، فكنت لا أسقيهم حتّى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكنّا بشربتهما، فلم أزل انتظر حتّى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساخت عنهم الصخرة حتّى نظروا إلى السماء.

فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنّه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي وإنّي راودتها عن نفسها فأبت إلّاأن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتّى قدرت فأتيتها بها

ص:127


1- . آل عمران: 16.

فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها، فلما قعدت بين رجليها فقالت: اتق اللّه ولا تفض الخاتم إلّابحقه، فقمت وتركت المائة دينار. فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنّا، ففرج اللّه عنهم فخرجوا»(1).

الرابع: التوسل بدعاء الأخ المؤمن

إنّ التوسّل بدعاء الأخ المؤمن من الوسائل الّتي أمر بها الكتاب والسنّة، ويمكن استظهار ذلك من خلال أنّ حملة العرش يستغفرون للمؤمنين، قال سبحانه: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) (2)، فلولا أنّ دعاء الغير مقرون بالاستجابة لما قام حملة العرش بالاستغفار لمن آمن.

وفي ضوء هذا فقد روي أنّ النبي صلى الله عليه و آله طلب من الأُمّة أن يسألوا اللّه سبحانه أن يرزقه الوسيلة.

أخرج مسلم في صحيحه عن عبداللّه بن عمرو بن العاص أنّه سمع النبي صلى الله عليه و آله يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ ، فإنّه من صلّى عليّ صلاة صلّى اللّه عليه بها عشراً، ثم سلوا اللّه لي الوسيلة، فإنّها منزلة في الجنة لا تنبغي إلّالعبد من عباد اللّه، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة».(3)

وفي روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام إشارات إلى ذلك، روى الحسين بن سعيد الأهوازي بسنده عن أبي بصير، قال: أمر أبو جعفر عليه السلام غلاماً له وقال: «يا بني إذهب

ص:128


1- . صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، الحديث 3465؛ وكتاب البيوع، الحديث 2215؛ مجمع البيان: 3/452 في تفسير الآية 9 من سورة الكهف؛ نور الثقلين: 3/249، في تفسير نفس الآية.
2- . غافر: 7.
3- . صحيح مسلم: 2/4، كتاب الصلاة، الحديث 384/735.

إلى قبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله فصلّ ركعتين ثم قل: اللهم اغفر لعلي بن الحسين خطيئته يوم الدين، ثم قال للغلام: اذهب فأنت حر لوجه اللّه»(1).

وروى الإربلي عن علي بن محمد الحجّال قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام: أنا في خدمتك وأصابني علة في رجلي ولا أقدر على النهوض والقيام بما يجب، فإن رأيت أن تدعو اللّه أن يكشف علتي ويعينني على القيام بما يجب عليّ وأداء الأمانة في ذلك ويجعلني من تقصيري من غير تعمد مني، وتضييع ما لا أتعمده من نسيان يصيبني في حلّ ويوسّع عليّ وتدعو لي بالثبات على دينه الّذي ارتضاه لنبيه عليه السلام.

فوقّع: «كشف اللّه عنك وعن أبيك، قال: وكان بأبي علّة ولم أكتب فيها فدعا له ابتداء».(2)

الخامس: التوسّل بدعاء النبي صلى الله عليه و آله في حياته

التوسل بدعاء النبي الأعظم صلى الله عليه و آله في حال حياته ممّا اتّفقت عليه كلمات العلماء ولم يختلف فيه أحد. ويظهر من القرآن الكريم وجود هذا النوع من التوسل في الأُممّ السالفة بشهادة أنّ إخوة يوسف بعدما تبيّن خطأهم طلبوا من أبيهم الاستغفار لهم، فقالوا: (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئِينَ ) (3) وقد استجاب لهم أبوهم يعقوب وقال: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (4). فإذا كان التوسّل بدعاء الأخ المؤمن أمراً راجحاً مرجو الاستجابة فالتوسل بدعاء النبي الطاهر أولى بذلك.

ولذلك نرى أنّه سبحانه يحثّ الذين ظلموا أنفسهم (بالعصيان) على أن

ص:129


1- . بحار الأنوار: 46/92، الحديث 79.
2- . كشف الغمة: 3/251.
3- . يوسف: 97.
4- . يوسف: 98.

يتوسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه و آله واستغفاره، ويقول سبحانه: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً) (1).

وفي آية أُخرى يندد بالمنافقين بأنّهم إذا خوطبوا بالذهاب إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ليستغفر لهم أعرضوا عن ذلك وصدّوا تكبّراً، قال سبحانه: (وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) (2).

إلى هنا تم بيان أنواع التوسلات الّتي لم يظهر فيها خلاف، وأمّا الأنواع الأُخرى الّتي ظهر فيها الاختلاف من زمان ابن تيمية، فإليك بيانها:

السادس: التوسّل بدعاء النبي صلى الله عليه و آله بعد رحيله

التوسّل بدعاء النبي الأكرم صلى الله عليه و آله رهن ثبوت أمرين:

1. كونه حيّاً يُرزق عند ربه.

2. وجود الصلة بينه وبين المتوسل.

أمّا الأمر الأوّل: فيكفي في ثبوت الحياة البرزخية ما دل على حياة الشهداء بعد رحيلهم من الدنيا، فإذا كان الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون فنبي الشهداء أولى بها.

أمّا حياة الشهداء فالذكر الحكيم صريح في ذلك الأمر، قال سبحانه: (وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (3).

وليست هذه هي الآية وحيدة في الموضوع، بل يدل على ذلك غير واحدة

ص:130


1- . النساء: 64.
2- . المنافقون: 5.
3- . آل عمران: 169-170.

من الآيات منها:

1. قال سبحانه: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) (1).

والخطاب في قوله: (ادْخُلِ ) متوجه لمن جاء من أقصى المدينة وخاطب قومه بقوله: (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اِتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) (2)وبعدما أتم كلامه ودعا الناس إلى الإيمان برسل المسيح، قام قومه بضربه ورجمه حتّى مات فعند ذلك خاطبه سبحانه بقوله: (ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) فقال الرجل: (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) ، فالاستدلال مركّز على تبيين المراد من الجنة ؟ هل هي جنة المأوى الّتي يدخل فيها الإنسان المؤمن بعد الحشر والنشر؟ أو المراد منها الجنة البرزخيّة الّتي يتنعم فيها العباد الصالحون بعد موتهم إلى يوم القيامة، فتكون الآية شاهداً لاستمرار الحياة بعد الرحيل عن هذه الدنيا.

وممّا نلفت إليه نظر القارئ هو أنّ الحياة البرزخية تعمّ المؤمن والكافر، غاية الأمر المؤمن منعّم فيها والكافر معذّب، يقول سبحانه في حق الفراعنة: (النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ) .(3)

إنّ القول بأنّ الموت إبطال للإنسان ولا يبقى بعد الموت منه شيء عقيدة مادّية يصرّ عليها حماة المادة في عصرنا هذا، حيث يعتقدون بأنّ الموت نهاية وجود الإنسان ولا يبقى بعد الموت منه شيء، والقرآن الكريم يرفض تلك العقيدة قائلاً بأنّ الموت فناء للجسم الّذي هو بمنزلة الثوب للروح، وأمّا الروح فهي الّتي يأخذها ملك الموت وتبقى عند اللّه تبارك وتعالى، وهذه الحقيقة قد أشار إليها سبحانه في جواب نفاة المعاد بقولهم: (أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي

ص:131


1- . يس: 26-27.
2- . يس: 20-21.
3- . غافر: 46.

خَلْقٍ جَدِيدٍ) (1) فأجابهم سبحانه بأمرين:

1. (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ) .

2. (قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (2).

فقوله سبحانه: (يَتَوَفّاكُمْ ) بمعنى: يأخذكم. فالآية الثانية تدلّ على أنّ الباقي في الأرض الّذي اعتمد عليه نفاة المعاد وزعموا امتناعه بحجة تفرقه وتبعثر أجزاء بدنه، غير واقع الإنسان وأنّ هنا واقعاً ثابتاً لا يضل ولا يُنسى بل يأخذه ملك الموت ويبقى عند اللّه سبحانه وهو روحه الّتي أشار إليها سبحانه بعد إتمام خلق الإنسان بقوله: (فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (3).

وحصيلة الكلام: أنّ الآية لا تصلح جواباً لشبهة المنكرين إلّابالقول بأنّ الضالّ في الأرض، غير الباقي عند اللّه، وأنّ الرميم فيها شيءٌ منفصل عن حقيقة الإنسان، إذ أنّ حقيقته هي الّتي يأخذها ملك الموت الموكل بقبض الأرواح. وهي باقية عند اللّه إلى رجوعه يوم القيامة. والسنّة النبوية تؤيد ذلك حيث عقد البخاري باباً باسم «باب الميّت يسمع خفق النعال» فروى فيه عن أنس، عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «العبد إذا وضع في قبره وتولّى وذهب أصحابه، حتّى إنّه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فأقعداه... الخ».(4)

وبما أنّ بحوثنا تدور حول دلالة القرآن الكريم والأحاديث المتضافرة، اقتصرنا في إثبات الأمر الأوّل - وهو بقاء الإنسان بعد الموت - على هذا المقدار، وقد أقام المحقّقون على تجرّد روح الإنسان وبقائها، براهين علمية متقنة، ومن أراد التفصيل فليرجع إليها.(5)

ص:132


1- . السجدة: 10.
2- . السجدة: 11.
3- . المؤمنون: 14.
4- . صحيح البخاري: 316، كتاب الجنائز، الحديث رقم 1338.
5- . لاحظ شرح الإشارات: 2/292، الأسفار لصدر المتألهين: 3/445 و 8/260-303.

وأمّا الأمر الثاني أعني: وجود الصلة بين من يعيش على وجه البسيطة وبين الأرواح، فإنّ من أنكر التوسّل بدعاء النبي صلى الله عليه و آله بعد رحيله ربّما يسلّم بالأمر الأوّل وأنّ النبي صلى الله عليه و آله حيّ بحياة برزخية بعد رحيله، ولكن ربّما ينكر الصلة بيننا وبين عالم الأرواح، ويصرّ على الانقطاع، بينما القرآن الكريم يدلّ بوضوح على وجود الصلة بيننا وبينهم بشهادة أنّ نبيين كريمين - أعني: صالحاً وشعيباً - قد خاطبا قومهما بعد هلاكهم، فلو كانت الصلة منتفية فما معنى تكلّمهما مع قومهما بعد هلاكهم ؟!

أمّا نبي اللّه صالح عليه السلام فقد حكى القرآن تكلّمه مع قومه بعد هلاكهم بقوله سبحانه: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) (1) فالآية صريحة في هلاك قومه، وموتهم عن آخرهم، وبعد ذلك يحكي تكلّم النبي صالح عليه السلام معهم، ويقول: (فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصِحِينَ ) (2).

إنّ «الفاء» في قوله: (فَتَوَلّى) دالّ على وجود الترتيب بين هلاكهم وتكلّم نبيهم معهم، فلولا وجود الصلة فما معنى قوله: (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ) ، حتّى أنّ قوله: (وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصِحِينَ ) (3) حاكٍ عن أنّ أرواحهم قد بلغت من الخبث حتّى أنّهم لا يحبون النبي عليه السلام بعد هلاكهم أيضاً.

ونقل نظير ذلك الخطاب في قصة شعيب عليه السلام، قال سبحانه: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) (4)، ثم يحكي فعل شعيب بقوله: (فَتَوَلّى عَنْهُمْ )5 أي تولّى شعيب عن قومه، ومع ذلك خاطبهم بقوله: (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي

ص:133


1- . الأعراف: 78.
2- . الأعراف: 79.
3- . الأعراف: 79.
4- . الأعراف: 91.

وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ ) (1).

تكلّم النبي صلى الله عليه و آله مع الهالكين من قريش

لمّا قتل صناديد قريش ورؤساؤهم أمر النبي صلى الله عليه و آله برميهم في القليب ويبلغ عددهم 24 رجلاً فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث، ثم قام النبي صلى الله عليه و آله على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسرّكم أنّكم أطعتم اللّه ورسوله ؟ فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقّاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقّاً؟ قال: فقال عمر: يا رسول اللّه، ما تُكلم من أجساد لا أرواح لها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «والّذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم».(2)

والعجب أنّ الوصي عليه السلام أيضاً خاطب الناكثين بعدما قتلوا في الجمل، حيث لمّا انجلت الحرب في البصرة وقتل طلحة والزبير وحملت عائشة إلى قصر بني خلف ركب أمير المؤمنين عليه السلام وتبعه أصحابه، وعمّار رحمه الله يمشي مع ركابه حتّى خرج إلى القتلى يطوف عليهم ثم سار حتّى وقف على كعب بن سور القاضي وهو مجدل بين القتلى وفي عنقه المصحف فقال نحّو المصحف وضعوه في مواضع الطهارة ثم قال أجلسوا إليّ كعباً فأُجلس ورأسه ينخفض إلى الأرض فقال: «يا كعب بن سور قد وجدتُ ما وعدني ربي حقّاً، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟»، ثم قال: «أضجعوا كعباً»، فتجاوزه.

فمرّ فرأى طلحة صريعاً فقال: أجلسوا طلحة فأُجلس فخاطبه بمثل ما خاطب به كعباً.

فعند ذلك قال رجل لأمير المؤمنين عليه السلام: ما كلامك، هذه الهام قد صديت لا تسمع لك كلاماً ولا ترد جواباً! فقال عليه السلام: «واللّه إنهما ليسمعان كلامي كما تسمع

ص:134


1- . الأعراف: 93.
2- . صحيح البخاري: 971، كتاب المغازي، الحديث رقم 3976.

أصحاب القليب كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله ولو أُذن لهما في الجواب لرأيت عجباً».(1)

كيف يمكن لنا إنكار الصلة بيننا وبين النبي صلى الله عليه و آله والمسلمون ليلاً ونهاراً يسلّمون عليه مخاطبين له بقولهم: السلام عليك أيّها النبي ورحمة اللّه وبركاته.

حتّى أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عندما زار بقيع الغرقد خاطب أهل القبور بقوله:

«السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً - مؤجلون - وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون، اللهم أغفر لأهل بقيع الغرقد».(2)

سيرة المسلمين بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله

من أمعن النظر في ما نُقل عن سيرة المسلمين بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله يقف على أنّ التوسّل بدعاء النبي الأعظم صلى الله عليه و آله كانت سيرتهم المستمرة، وإليك نماذج من سيرة الصحابة الكرام:

1. روى البخاري: أقبل أبوبكر على فرسه من مسكنه بالسنح، حتّى نزل ودخل المسجد فلم يكلّم الناس حتّى دخل على عائشة، فتيمم النبي صلى الله عليه و آله وهو مسجّى ببرد حبرة فكشف عن وجهه، ثم أكبّ عليه، فقبّله ثم بكى . فقال: بأبي أنت يانبي اللّه! لا يجمع اللّه عليك موتتين. أمّا الموتة الّتي كتب اللّه عليك فقد متّها.(3)

2. وجاء في سيرة ابن هشام: وأقبل أبو بكر حتّى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يكلِّم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتّى دخل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله في بيت عائشة، فأقبل حتّى كشف عن وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله. قال: ثم أقبل عليه فقبَّله، ثم قال: بأبي أنت وأُمّي، أمّا الموتة الّتي كتب اللّه عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً.(4)

ص:135


1- . الجمل والنصرة للشيخ المفيد: 392.
2- . صحيح مسلم: 3/63، كتاب الجنائز؛ وانظر صفحة 441 برقم 2144. ط. دار الفكر.
3- . صحيح البخاري: 294، كتاب الجنائز، 1241-1242.
4- . سيرة ابن هشام: 4/656؛ ولاحظ الروض الأنف: 4/260.

3. وروى الحلبي في سيرته أنّه قال: «بأبي أنت وأُمّي»، وتكلّم كلاماً بليغاً، سكّن به نفوس المسلمين وثبّت جأشهم(1).

4. وجاء في سيرة زيني دحلان: دخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه و آله فأكبّ عليه وكشف الثوب عن وجهه، وقال: طبت حيّاً وميتاً، وانقطع لموتك ما لم ينقطع للأنبياء قبلك، فعظمتَ عن الصفة وجللت عن البكاء، ولو أنّ موتك كان اختيارياً لجدنا لموتك بالنفوس، اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن على بالك(2).

أقول: لو أنّ الصلة بين النبي صلى الله عليه و آله والأحياء كانت مقطوعة، فما معنى مخاطبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه و آله بالعبارات الّتي مرّت عليك ؟!

ولو لم يكن التوسّل بدعاء النبي صلى الله عليه و آله بعد رحيله فما معنى قوله: اذكرني يا محمد عند ربك، ولنكن على بالك ؟!

5. قال أمير المؤمنين علي عليه السلام - عندما ولي غسل رسول اللّه صلى الله عليه و آله -: «بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللّهِ ، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ - إلى أن قال: - بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ ، وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ !(3)

6. ذكر غير واحد من المؤرخين بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي أنّه قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي صلى الله عليه و آله فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره، ثم قال: يا خير الرسل إنّ اللّه أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً) (4)، وإنّي جئتك مستغفراً ربك من ذنوبي، مستشفعاً بك، وفي رواية: وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي، ثم بكى وأنشأ يقول:

ص:136


1- . سيرة الحلبي: 3/392.
2- . سيرة زيني دحلان في هامش سيرة الحلبي: 3/391.
3- . نهج البلاغة، قسم الخطب، الخطبة 235.
4- . النساء: 64.

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجودُ والكرمُ

ثم استغفر وانصرف.

فرقدت فرأيت النبي صلى الله عليه و آله في نومي وهو يقول: ألحقِ الرجل فبشّره بأنّ اللّه قد غفر له بشفاعتي. فاستيقظت فخرجت أطلبه، فلم أجده.(1)

أقول: إنّ الأعرابي أدرك بسلامة فطرته أنّ الآية الكريمة الّتي تدعو المسلمين إلى المجيء إلى النبي صلى الله عليه و آله حتّى يطلبوا منه الاستغفار لهم، ليست خاصّة بحياة النبي صلى الله عليه و آله بل تعمّ الحياة الأُخروية، فلأجل ذلك قام يطلب من النبي صلى الله عليه و آله أن يستغفر له.

وقد ذكر المؤرخون قضايا كثيرة من المسلمين - من الصحابة والتابعين إلى غيرهم - كانوا يتوسّلون بدعاء النبي صلى الله عليه و آله بعد رحيله، وقد ذكر السمهودي شيئاً كثيراً من هذه القصص والآثار، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابه وفاء الوفا.(2)

ولعل هؤلاء فهموا جواز التوسّل بدعاء النبي صلى الله عليه و آله بعد رحيله من قوله تعالى:

(وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً) .

وقد أوضح السبكي دلالة الآية على جواز التوسّل بدعاء النبي صلى الله عليه و آله في حالتي حياته وبعد رحيله؛ فقال في الباب الخامس: في تقرير كون الزيارة قربة، وذلك بالكتاب، والسنّة، والإجماع، والقياس: أمّا الكتاب فقوله تعالى: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً) ، ثم قال [بعد مقدمة]: فقد ثبت على كل تقدير أنّ الأُمور الثلاثة المذكورة في الآية [يعني: المجيء، واستغفار المؤمنين، واستغفار الرسول صلى الله عليه و آله لهم]، حاصلة لمن

ص:137


1- . مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر: 2/408؛ المواهب اللدنية: 4/583؛ وفاء الوفا: 4/1361؛ شفاء السقام: 151، ط. مصر، 1419 ه وغيرها.
2- . وفاء الوفا: 4/1354-1363.

يجيء إليه صلى الله عليه و آله مستغفراً في حياته وبعد مماته.

والآية وإن وردت في أقوام معيّنين في حالة الحياة، فتعمّ بعموم العلّة كلّ من وجِدَ فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت.

ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبّوا لمن أتى إلى قبره صلى الله عليه و آله أن يتلوا هذه الآية، ويستغفر اللّه تعالى.

وحكاية العتبي في ذلك مشهورة، وقد حكاها المصنّفون في المناسك من جميع المذاهب، والمؤرّخون، وكلهم استحسنوها ورأوها من آداب الزائر، وما ينبغي أن يفعله، وقد ذكرناها في آخر الباب الثالث.(1)

ونقل السمهودي عن الحافظ أبي عبداللّه محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام» أنّ الحافظ أبا نصير السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه، قال: قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه و آله وحثا من ترابه على رأسه وقال: يا رسول اللّه، قلتَ فسمعنا قولك، ووعيتَ عن اللّه سبحانه، وما وعينا عنك، وكان فيما أُنزل عليك:

(وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً) وقد ظلمتُ وجئتُك تستغفرْ لي، فنودي من القبر: أنّه قد غُفر لك.

ونقله السمهودي أيضاً بسند آخر عن الإمام علي عليه السلام.(2)

ولا منافاة بين النقلين لإمكان التعدد، وعلى فرض الوحدة فأحد النقلين اقتصر والآخر أسهب، فنقل القصة كاملة.

وهذا هو القاضي عياض بن موسى الأندلسي في كتابه: «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» ذكر مناظرة أبي جعفر المنصور مع إمام دار الهجرة مالك، يقول: ناظر

ص:138


1- . شفاء السقام: 181-183، وانظر أيضاً الصفحة: 151.
2- . وفاء الوفا: 4/1361.

أبو جعفر - أمير المؤمنين - مالكاً في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإنّ اللّه تعالى أدّب قوماً فقال: (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) (1) وذمّ قوماً فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ ) (2).

وأنّ حرمته ميتاً كحرمته حيّاً، فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبداللّه، أستقبلُ القبلةَ وأدعو أم أستقبلُ رسول اللّه ؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى اللّه تعالى إلى يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به، فيشفّعه اللّه، قال اللّه تعالى: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً) (3).

ونحن نجد في هذه المناظرة الّتي نقلت بسند صحيح(4)، دلالة واضحة على حياة النبي صلى الله عليه و آله ووجود الصلة بينه وبين الزائر له، وأنّ قوله سبحانه: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً) تختص برسول اللّه صلى الله عليه و آله في حياته وبعد رحلته.

إلى غير ذلك من قصص الصحابة والتابعين والّتي تثبت شمول الآية لكلتا الحالتين.

ص:139


1- . الحجرات: 2.
2- . الحجرات: 4.
3- . الشفا بتعريف حقوق المصطفى: 2/92-93.
4- . يقول المحقّقون لكتاب الشفا وفي هذا الحديث ردّ على من قال بأنّ استقبال القبر الشريف في الدعاء عند الزيارة أمر منكر لم يقل به أحد إلّافي حكاية مفتراة على الإمام مالك يعني هذه القصة وقد أوردها المؤلف له القاضي عياض - وللّه الحمد - بسند صحيح وذكر أنّه تلقاها من عدّة من ثقات مشايخه فهذا مذهب مالك وأحمد والشافعي رضي اللّه عنهم في استحباب استقبال القبر الشريف في الدعاء وهو مسطّر في كتبهم.

شبهات المخالفين

اشارة

قد ورث المتأخّرون عن ابن تيمية ووارث منهجه (محمد بن عبدالوهاب) شبهات يطرحونها لإغواء السذّج من الناس، وهي شبهات واهية لا تعتمد على دليل رصين، وإليك تحليلها.

الأُولى: البرزخ مانع من الاتصال

قالوا: إنّ الحياة البرزخية حياة لا يعلمها إلّااللّه تعالى، فهي حياة مستقلة نؤمن بها ولا نعلم ماهيتها، وإنّ بين الأحياء والأموات حاجزاً يمنع الاتصال فيما بينهم قطعياً، وعلى هذا يستحيل الاتصال لا ذاتاً ولا صفاتاً وأنّه سبحانه يقول: (وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (1)، والبرزخ معناه الحاجز الّذي يحول دون اتصال هؤلاء بهؤلاء.(2)

أقول: إنّ البرزخ في اللغة هو الحاجز بين الشيئين، لا بمعنى انقطاع الصلة بين أهل الدنيا وأهل الآخرة، ومن فسّره بهذا المعنى فإنّما قام بذلك لدعم مذهبه، فالمراد من البرزخ هو المانع من رجوع الناس إلى حياتهم الدنيوية، ويدل على ذلك أنّه سبحانه ذكر وجود البرزخ بعد ما ذكر تمنّي العصاة الرجوع إلى الدنيا، قال سبحانه: (حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) (3).

فقوله: «كلا» ردع لتمنّي رجوعهم، يعني لا يستجاب دعاؤهم، ثم عاد سبحانه يؤكده بقوله: (وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) أي حائل مانع من الرجوع إلى الدنيا إلى يوم يبعثون.

وأمّا ما ذكره المانع من أنّ الحياة البرزخية حياة لا يعلمها إلّااللّه، فهو لا صلة له

ص:140


1- . المؤمنون: 100.
2- . التوصل إلى حقيقة التوسل: 267.
3- . المؤمنون: 99-100.

بموضوع البحث، ولكنّه لو أمعن النظر في الآيات الناظرة إلى الحياة البرزخية لوقف على بعض خصوصياتها.

الشبهة الثانية: امتناع إسماع الموتى

قالوا: إنّ اللّه تعالى يقول: (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ) (1)، وقال سبحانه:

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ) (2)، وقال تعالى: (وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) (3).

والرسول صلى الله عليه و آله بعد أن توفّاه اللّه هو من الموتى ومن أهل القبور، فثبت أنّه لا يسمع دعاء أحد من أهل الدنيا وإن كان هو والأنبياء، لا يُبْلُون لأن اللّه قد حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولكنّهم أجساد بلا أرواح وهم أموات.(4)

أقول: من أمعن النظر في هذه الآيات وما جاء بعدها وقبلها من الآيات الكريمة يقف على أنّ المراد نفي الانتفاع لا نفي الاستماع، بشهادة أنّ المشرك يسمع ولا ينتفع، فالموتى أيضاً يسمعون ولا ينتفعون، وإلّا لاختل التشبيه، فإنّ أحد طرفيه يسمع ولا ينتفع فيجب أن يكون الطرف الآخر كذلك بمعنى أنّ المشركين والموتى سيّان يسمعون ولاينتفعون.

وقد بلغ مفاد الآية أعلى حدّ من الظهور فقد فسّر ابن قيّم الجوزية تلميذ ابن تيمية الآيات على نحو ما ذكرنا، وإليك نص كلامه: أمّا قوله تعالى: (وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) فسياق الآية يدلّ على أنّ المراد منها أنّ الكافر الميّت القلب لا تقدر على إسماعه إسماعاً ينتفع به، كما أن مَنْ في القبور لا تقدر على إسماعهم إسماعاً ينتفعون به، ولم يرد سبحانه أنّ أصحابَ القبور لا يسمعون شيئاً البتة، كيف وقد أخبر النبي صلى الله عليه و آله أنّهم يسمعون خفق نعال المشيعين وأخبر أنّ قتلى

ص:141


1- . الروم: 52.
2- . النمل: 80.
3- . فاطر: 22.
4- . التوصل إلى حقيقة التوسل: 267.

بدر سمعوا كلامه وخطابه، وشرّع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الّذي يسمع، وأخبر أنّ من سلم على أخيه المؤمن رد عليه السلام.

هذه الآية نظير قوله: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (1).

وقد يقال: نفي إسماع الصم مع نفي إسماع الموتى يدل على أنّ المراد عدم أهلية كل منهما للسماع وأنّ قلوب هؤلاء لمّا كانت ميتة صمّاء كان إسماعها ممتنعاً بمنزلة خطاب الميت والأصم وهذا حق ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبيخ وتقريع بواسطة تعلّقها بالأبدان في وقتٍ ما، فهذا غير الإسماع المنفي، واللّه أعلم.(2)

الشبهة الثالثة: انقطاع عمل الإنسان

قالوا: إنّ الرسول صلى الله عليه و آله قد انقطع عمله بوفاته، فلم يعد يتحرك أبداً فضلاً عن أن يحرك لسانه بالاستغفار أو غيره فهو على ضجعته من يوم أن دفن إلى يومنا هذا إلى يوم القيامة.

أمّا أن يسمع أو يتكلم أو يصدر عنه أي عمل فلا. وقد انقطع عمله نهائياً كما قال هو عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له». ولا شك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله يشمله هذا الحديث. لأنّه من بني آدم، وقد قضى اللّه عليه بالموت والتحق بالرفيق الأعلى.(3)

وعلى هامش هذه الشبهة نقول: إنّ مَنْ وطّن نفسه على إثبات ما يتبنّاه، سواء أكان حقاً أم باطلاً فهو يتمسّك بكل شيء، سواء أكانت له دلالة على رأيه أم لا.

ص:142


1- . النمل: 80.
2- . الروح لابن القيّم: 45-46.
3- . التوصل إلى حقيقة التوسل: 267.

فأي دلالة لهذا الحديث على انقطاع الصلة، إذ غاية ما يدل عليه أنّ الإنسان لا ينتفع بعمله شخصياً بعد ما انتقل إلى البرزخ إلّاعن ثلاث، فليس له عمل مباشر ينتفع به إلّاهذه الثلاث، وأمّا أنّه لايتمكّن من التكلّم والجواب والاستغفار في حق الغير فلا دلالة للحديث عليه.

ثم كيف يقول إنّ الأموات في الحياة البرزخية غير قادرين على التكلم مع أنّه سبحانه ينقل عن الشهداء أنّهم يتكلّمون حيث يقول: (وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) (1).

وهذا هو ناصر رسل عيسى عليه السلام فعندما قتل ودخل الجنة قال: (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) (2).

الشبهة الرابعة: التوسّل بدعاء الأنبياء شرك

هذه الشبهة قرّرها مفتي السعودية (ابن باز)، إذ قال في رسالة له إلى أحد علماء الإمامية: وأمّا دعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك فهو الشرك الأكبر، وهو الّذي كان يفعله كفّار قريش مع أصنامهم وأوثانهم، وهكذا بقية المشركين يقصدون بذلك أنّها تشفع لهم عند اللّه، وتقرّبهم إليه زلفى، ولم يعتقدوا أنّها هي الّتي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم على عدوهم، كما بيّن سبحانه ذلك عنهم في قوله: (وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّهِ ) (3) فردّ عليهم سبحانه بقوله: (قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا

ص:143


1- . آل عمران: 170-171.
2- . يس: 26-27.
3- . يونس: 18.

يُشْرِكُونَ ) (1).

ونظير ذلك ما ذكره ابن تيمية في الفتاوى (2).

وجوابنا عن هذه الشبهة يأتي ضمن أُمور:

1. كيف يمكن أن يكون عملاً واحداً في حال حياة المدعوّ نفس التوحيد، وبعد رحلته يكون الشرك بعينه ؟!

فإنّ طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه و آله بعد رحلته هو نفس طلب الدعاء منه حال حياته، فكيف يمكن أن يكون الثاني موصوفاً بالتوحيد ويكون الأوّل موصوفاً بالشرك، مع أنّ ماهية الطلب في كلتا الحالتين لم تتغير، واعتقاد الطالب بحق النبي في كلا الموضعين سيّان، غاية الأمر لو لم نقل بحياة المدعو أو عدم وجود الصلة يكون الطلب أمراً لغواً لا شركاً وحراماً. وهذه النكتة لو وقف عليها المستدل ومَنْ يقتفي أثره لرجع عن دليله إذا كان إنساناً واعياً ومنصفاً.

2. إنّ عطف عمل المسلمين بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله على عمل المشركين في دعاء الأصنام والأوثان قياس باطل، وذلك أنّ المشركين كانوا يعتقدون بإلوهية الأصنام وأنّها تضرّ وتنفع في غير واحد من المقامات بشهادة قوله سبحانه:

(وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (3)، وقوله تعالى: (وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ) (4)، وقوله عزوجل: (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ) (5) فالعز والنصر في الحروب بيد الأصنام حسب اعتقادهم، وأنّها أنداد للّه سبحانه في قضاء الحوائج ورفع الملمّات، إلى غير ذلك من صفات اللّه سبحانه.

ص:144


1- . يونس: 18.
2- . الفتاوى : 1/157.
3- . مريم: 81.
4- . يس: 74.
5- . البقرة: 165.

فأين هذا من دعاء المسلمين فإنّهم يطلبون من النبي صلى الله عليه و آله الدعاء والشفاعة من دون أن يعتقدوا بأنّ النصر والعزّة بيده صلى الله عليه و آله أو أنّه ند للّه سبحانه ؟!

فتشبيه عمل المسلمين بعمل المشركين تعسّف واضح، لا يصدر إلّاعن المتعصب لما تربى عليه.

3. ثم إنّه حاول التقريب بين عمل المشركين والمسلمين قائلاً: بأنّ الكفّار لم يقصدوا من آلهتهم أنّهم يشفون مرضاهم أو يقضون حوائجهم وإنّما أرادوا منهم أن يقربونهم من اللّه زلفى كما في الآية المباركة.(1)

يلاحظ عليه: كيف يقول أنّهم لم يقصدوا من آلهتهم شفاء المرضى وقضاء الحوائج، مع أنّه سبحانه ينقل عنهم قولهم بأنّ العز والنصر بيد الآلهة، بل كانوا يتجاوزون هذا الحد ويعتقدون بالأنداد.

نعم كان المشركون في عصر الرسول صلى الله عليه و آله ربّما يخفون عقيدتهم ويتظاهرون بأنّ عبادتهم للأصنام ليست إلّاوسيلة ليقربونهم إلى اللّه زلفى فقط، ولكن ما تظاهروا به كان كذباً وفرية فضحها الذكر الحكيم وقال: (إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ) (2).

حيث كانوا كاذبين في حصر وجه عبادتهم للأصنام على تقريبهم إلى اللّه زلفى، بل هم كانوا يعبدونها لأجل أنّ مصيرهم في الحياة وفي الحروب بيد هذه الأصنام والآلهة، ومن أمعن النظر في الآيات النازلة في حق المشركين يقف على أنّهم كانوا يعتقدون فيهم نفس ما يعتقده المسلمون في اللّه سبحانه.

4. أفيصح أن نجعل الجميع في صف واحد؛ من يسوّي بين الأصنام ورب العالمين، ويقول: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) (3) ويصورها نداً للّه سبحانه، ومَنْ يعبد اللّه سبحانه ولا يرى له ندّاً ولا مثلاً ويتلوا كل يوم وليلة قوله سبحانه: (قُلِ

ص:145


1- . التبرك والتوسل والصلح مع العدو الصهيوني: 43.
2- . الزمر: 3.
3- . الشعراء: 98.

اَللّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) (1).

5. وقد روى ابن هشام في سيرته أنّ عمرو بن لُحيّ كان أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة ونواحيها، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان، وعندما سألهم عمّا يفعلون بقوله: ما هذه الأصنام الّتي أراكم تعبدون ؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم:

أفلاتعطوني منها صنماً، فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه ؟ فأعطوه صنماً يقال له هُبَل، فقدم به مكَّة، فنصبه وأمرَ الناس بعبادته وتعظيمه.

فمع هذه القصة والآيات الّتي تلوناها عليك كيف يقول الشيخ: بأنّهم لم يعتقدوا بأنّ آلهتهم هي الّتي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم على عدوهم ؟!(2)

الشبهة الخامسة: أنّ دعاء النبي صلى الله عليه و آله بعد رحيله بدعة

قالوا: لو كان طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه و آله أمراً جائزاً لسبق إليه الصحابة لأنّهم أعلم بحلاله وحرامه.(3)

يلاحظ عليه: أنّ البدعة عبارة عمّا لم يكن له أصل في الكتاب والسنّة، وقد عرفت دلالته فيها، وقد مرّت سيرة الصحابة والتابعين في ذلك المجال. فكيف يوصف هذا العمل بكونه بدعة.

ص:146


1- . آل عمران: 26.
2- . التبرّك والتوسل والصلح مع العدوالصهيوني: 150.
3- . المصدر نفسه: 59. وهذا النوع من الدليل عندهم يُستدل به في كل مورد يرونه حراماً، أو بدعة أو شركاً، ولا يختص بمورد واحد.
السابع: التوسّل بذات النبيّ حال حياته
اشارة

كان القسم السابق هو التوسّل بدعاء النبي صلى الله عليه و آله ومن المعلوم أنّ التوسّل بدعاء النبي صلى الله عليه و آله في حياته أو بعد رحيله ليس إلّالأجل أنّه دعاء روح طاهرة ونفس كريمة وشخصية مثالية وهو أفضل الخلائق ففي الحقيقة ليس الدعاء بما هو دعاء، وسيلة، وإنّما الوسيلة هي الدعاء النابع عن تلك الشخصية الإلهية الّتي كرمها اللّه وعظّمها ورفع مقامها وقال عنها: (وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) ،(1) وأمر المسلمين بتكريمه وتعزيزه حيث قال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2).

فإذا كان رصيد استجابة الدعاء، هو الشخصية الفذة المثالية للداعي، ومنزلته عند اللّه فأولى أن يتوسّل بها كما يتوسّل بدعائها، فمن اعترف بجواز الثاني ومنع الأُولى فقد فرّق بين أمرين متلازمين.

ونحن نغض النظر عمّا ذكرنا من الدليل، ونذكر ما ورد في السنّة النبوية من التوسل بذاته وشخصه بطريق صحيح وقد أقرّ بصحّته الأقطاب من أهل الحديث:

توسّل الضرير بشخص النبي صلى الله عليه و آله

أخرج الترمذي، وابن ماجة، وأحمد بأسانيد صحيحة عن عثمان بن حنيف أنّه قال: إنّ رجلاً ضريراً أتى النبي فقال: أُدعُ اللّه أنْ يعافيني فقال صلى الله عليه و آله: «إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرت وهو خير».

قال: فإدعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضؤه ويصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: «اللّهم إنّي أسألك وأتوجُه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربّي في حاجتي لتقضى، اللّهم شفّعه فيّ ».

قال ابن حنيف: فواللّه ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا كأن لم

ص:147


1- . الحشر: 4.
2- . الأعراف: 157.

يكن به ضَر.(1)

والاستدلال بالحديث رهن صحة السند أوّلاً، وتمامية الدلالة ثانياً. أمّا صحة السند فقد اعترف الأقطاب بصحته:

1. قال الترمذي: هذا حديث حق، حسن، صحيح.

2. وقال ابن ماجة: هذا حديث صحيح.

3. وقال ابن تيمية: قد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه علم رجلاً أن يدعو ويقول: اللّهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيك، وروى النسائي نحو هذا الدعاء(2).

4. ورواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين.(3)

5. وقال الرفاعي: لا شك أنّ هذا الحديث صحيح مشهور.(4) وأبو جعفر الوارد في السند هو أبو جعفر الخطمي، كما في بعض الأسانيد. إلى هنا تبيّنت صحة سند الحديث فلم يبق لمشكّك شك ولا لمريب ريب.

وأمّا الدلالة فإليك بيانها:

إنّ الحديث يدل بوضوح على أنّ الأعمى توسّل بذات النبي بتعليم منه صلى الله عليه و آله، والأعمى وإن طلب الدعاء من النبي الأكرم في بدء الأمر إلّاأنّ النبي علّمه دعاء تضمّن التوسّل بذات النبي، وهذا هو المهم في تبيين معنى الحديث.

وبعبارة ثانية: أنّ الذي لا ينكر عند الإمعان في الحديث أمران:

الأوّل: أنّ الرجل طلب من النبي صلى الله عليه و آله الدعاء ولم يظهر منه توسّل بذات النبي.

الثاني: أنّ الدعاء الذي علّمه النبي، تضمّن التوسّل بذات النبي بالصراحة

ص:148


1- . سنن الترمذي: الصحيح كتاب الدعوات، الباب 119، برقم 3578؛ سنن ابن ماجة: 1/441 برقم 1385؛ مسند أحمد: 4/138 إلى غير ذلك من المصادر.
2- . مجمع الرسائل والمسائل: 1/13.
3- . المستدرك: 1/313.
4- . التوصل إلى حقيقة التوسل: 158.

التامّة، فيكون ذلك دليلاً على جواز التوسّل بالذات.

وإليك الجمل والعبارات الصريحة في بيان المقصود:

1. اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك

إنّ كلمة «بنبيّك» متعلّقة بفعلين هما «أسألك» و «أتوجّه إليك»، والمراد من النبي صلى الله عليه و آله نفسه القدسية وشخصيته الكريمة لا دعاؤه.

وتقدير كلمة «دعاء» قبل لفظ «بنبيّك» حتى يكون المراد هو «أسألك بدعاء نبيّك أو أتوجّه إليك بدعاء نبيّك» تحكّم وتقدير بلا دليل، وتأويل بدون مبرّر، ولو أنّ محدثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجَهْمية والقدريّة.

2. محمد نبي الرحمة

لكي يتّضح أنّ المقصود هو السؤال من اللّه بواسطة النبي صلى الله عليه و آله وشخصيته فقد جاءت بعد كلمة «بنبيّك» جملة «محمد نبي الرحمة» لكي يتّضح نوع التوسّل والمتوسّل به بأكثر ما يمكن.

3. يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي

إنّ جملة «يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي» تدلّ على أنّ الرجل الضرير - حسب تعليم الرسول - اتّخذ النبي نفسَه، وسيلة في دعائه، أي أنّه توسّل بذات النبي لا بدعائه صلى الله عليه و آله.

4. وشفّعه فيّ

إنّ قوله «وشفّعه فيّ » معناه: يا ربِّ اجعل النبي شفيعي، وتقبّل شفاعته في حقّي، وليس معناه تقبّل دعاءه في حقّي؛ فإنّه لم يرد في الحديث أنّ النبي دعا بنفسه حتى يكون معنى هذه الجملة: استجب دعاءه في حقّي.

ص:149

ولو كان هناك دعاء من النبي لذكره الراوي؛ إذ ليس دعاؤه صلى الله عليه و آله من الأُمور غير المهمّة حتى يتسامح الراوي في حقّه.

وحتى لو فرضنا أنّ معناه «تقبّل دعاءه في حقّي» فلا يضر ذلك بالمقصود أيضاً؛ إذ يكون على هذا الفرض هناك دعاءان: دعاء الرسول ولم يُنْقَل لفظه، والدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، وقد جاء فيه التصريح بالتوسّل بذات النبي وشخصه وصفاته، وليس لنا التصرّف في الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، بحجّة أنّه كان هناك للرسول دعاء.

لقد أورد هذا الحديث النسائي والبيهقي والطبراني والترمذي والحاكم في مستدركه، ولكن الترمذي والحاكم ذكرا جملة «اللّهمّ شفّعه فيه» بدل «وشفّعه فيّ ».

وهنا كلمة للدكتور عبدالملك السعدي نأتي بنصها: وقد ظهر في الآونة الأخيرة أُناس ينكرون التوسل بالذات مطلقاً، سواء كان صاحبها حيّاً أو ميتاً، وقد أوّلوا حديث الأعمى وقالوا: إنّ الأعمى لم يتوسّل، ولم يأمره النبي صلى الله عليه و آله به بل قال له: صلِّ ركعتين ثم اطلب منّي أن أدعو لك، ففعل.

وأنت يا أخي عليك أن تقرأ نص الحديث هل يحتمل هذا التأويل، وهل فيه هذا المدّعى؟ أم أنّه أخذ يطلب من اللّه مستشفعاً بالنبي صلى الله عليه و آله ولم يدع له صلى الله عليه و آله. ولو أراد منه ذلك لاستجاب له أوّل مرة حيث طلب منه الدعاء بالكشف عن بصره فأبى إلّاأن يصلّي ويتولّى الأعمى بنفسه الدعاء.(1)

***

الثامن: التوسل بذات النبيّ صلى الله عليه و آله بعد رحيله

إنّ الصحابي الجليل عثمان بن حنيف فهمَ من الحديث السابق أنّ التوسّل

ص:150


1- . البدعة في مفهومها الإسلامي: 46، ط بغداد.

بذات النبي وشخصه يعم حياته ومماته، ولذلك علّمه لبعض أصحاب الحاجة، وقد عمل به من تعلّم وكان ناجحاً في قضاء حاجته.

روى الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني (المتوفّى 360 ه) عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمّه عثمان بن حنيف، أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضى الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقى ابن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضّأ، ثمّ ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثم قل: «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمد صلى الله عليه و آله نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي» فتذكر حاجتك ورح إليَّ حتى أروح معك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثمّ أتى باب عثمان بن عفان رضى الله عنه، فجاء البوّاب حتى أخذ بيده، فأدخله على عثمان بن عفان رضى الله عنه، فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: ما حاجتك ؟ فذكر حاجته، فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها.

ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك اللّه خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمته فيّ ، فقال عثمان بن حنيف: واللّه ما كلّمته، ولكنّي شهدت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقد أتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه و آله: أفتصبر؟ فقال: يا رسول اللّه ليس لي قائد وقد شقّ عليّ .

فقال النبي صلى الله عليه و آله: ائت الميضأة فتوضّأ ثمّ صلّ ركعتين، ثمّ ادع بهذه الدعوات.

قال ابن حنيف: فواللّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ قط(1).

إنّ الاستدلال بالحديث رهن صحة السند وصحة الدلالة.

ص:151


1- . المعجم الكبير: 9/16-17، باب ما أُسند إلى عثمان بن حنيف، برقم 8310، والمعجم الصغير له أيضاً: 1/183-184.

أمّا الثانية فقد تبيّن ممّا ذكرناه في الرواية السابقة، فإن المتن والمضمون في كليهما واحد.

وأمّا السند فقد ناقش فيه مؤلف «التوصل إلى حقيقة التوسل» وقال: إنّ في سند هذا الحديث رجلاً اسمه روح بن صلاح وقد ضعّفه الجمهور، وابن عدي وقال ابن يونس: يروي أحاديث منكرة.(1)

أقول: لعلّ المناقش لم يرجع إلى مصدر الحديث، وإنّما نقله عن مصدر ثانوي وفيه روح بن صلاح، وإليك نص الطبراني في معجمه الكبير قال: حدثنا طاهر بن عيسى بن قريش المصري المقري: حدثنا أصبغ بن الفرج: حدثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف(2).

ورواه البيهقي بالسند التالي:

أخبرنا أبو سعيد عبدالملك بن أبي عثمان الزاهد رحمه الله: أنبأنا الإمام أبو بكر محمد بن علي بن الشاشي القفّال، قال: أنبأنا أبو عروبة: حدّثنا العباس بن الفرج:

حدثنا إسماعيل بن شبيب: حدثناً أبي عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المدني... إلى آخر السند.(3)

وأنت ترى أنّه ليس في طريق الرواية روح بن صلاح بل هو روح بن القاسم، والكاتب صرح بأن الرواية رواها الطبراني والبيهقي، وهذا يعرب عن أن الكاتب لم يرجع إلى المصدرين، وإنّما اعتمد على نقول الآخرين.

نحن نفترض أنّه ورد في سند الرواية روح بن صلاح، ولكن ما ذكره من أنّ الجمهور ضعّفوه أمر لا تصدّقه المعاجم فيما بين أيدينا، وإنّما ضعفه ابن عدي، وفي الوقت نفسه وثّقه ابن حِبّان والحاكم وقال الذهبي: روح بن صلاح المصري

ص:152


1- . التوصل إلى حقيقة التوسل: 237.
2- . المعجم الكبير: 9/17؛ وفي المعجم الصغير له أصبغ بن الفرج مكان أصبغ بن فرح.
3- . دلائل النبوة: 6/168.

يقال له ابن سيّابة ضعفه ابن عدي، يكنّى أبا الحارث، وقد ذكره ابن حبّان في الثقات، وقال الحاكم: ثقة مأمون.(1)

التاسع: التوسّل بحق الصالحين وحرمتهم ومنزلتهم

إنّ من التوسّلات الرائجة بين المسلمين، التوسّل بحق النبي ومن سبقه من الأنبياء، ومن المعلوم أنّه ليس لأحد على اللّه حق إلّاما جعله اللّه سبحانه حقّاً على ذمته لهم تفضّلاً وتكريماً قال سبحانه: (وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) (2).

روى الطبراني بسنده عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنّه لمّا ماتت فاطمة بنت أسد أُمّ علي - رضي اللّه عنها - دخل عليها رسول اللّه فجلس عند رأسها فقال: «رحمكِ اللّه يا أُمّي، كنتِ أُمِّي بعد أُمِّي تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسينني، وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعمينني، تريدين بذلك وجه اللّه والدار الآخرة».

ثم أمر أن تغسّل ثلاثاً ثلاثاً فلمّا بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول اللّه بيده، ثم خلع رسول اللّه قميصه فألبسها إيّاه وكفّنها ببرد فوقها، ثم دعا رسول اللّه أُسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون فحفروا قبرها، فلمّا بلغوا اللحد حفره رسول اللّه بيده وأخرج ترابه بيده، فلمّا فرغ دخل رسول اللّه فاضطجع فيه وقال: «اللّه الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، اغفر لأُمّي فاطمة بنت أسد ولقّنها حجتها، ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي، فإنّك أرحم الراحمين» وكبّر عليها أربعاً وأدخلها اللحد والعباس وأبوبكر.

والاستدلال بالرواية يتوقف على تمامية الرواية سنداً ومضموناً.

أمّا المضمون فلا مجال للخدشة فيه، وأمّا السند فصحيح، رجاله كلّهم ثقات؛ لا يغمز في حقّ أحد منهم، نعم فيه روح بن صلاح وثّقه ابن حبّان والحاكم؛ وقد

ص:153


1- . ميزان الاعتدال: 2/85 برقم 2801.
2- . الروم: 47.

عرفت كلام الذهبي فيه(1).

وقد رواه أئمة الحديث وأساتذته، وإليك أسماء من وقفنا على روايتهم:

1 - رواه الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في المعجم الأوسط ص 356-357.

2 - رواه أبو نعيم عن طريق الطبراني في حلية الأولياء: 3/121.

3 - رواه الحاكم في مستدركه: 3/108 وهو لا يروي في هذا الكتاب إلّا الصحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم.

4 - رواه ابن عبد البرّ في الاستيعاب على هامش الإصابة: 4/382.

5 - نقله الذهبي في سير أعلام النبلاء: 2/118 برقم 7.

6 - رواه الحافظ نور الدين الهيثمي (المتوفّى 708 ه) في معجم الزوائد ومنبع الفوائد: 9/256-257، وقال: ورواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح وثّقه ابن حبّان والحاكم.

7 - رواه المتّقي الهندي في كنز العمال: 13/636 برقم 37608.

وأمّا التوسّل بحقّ الأولياء والشخصيّات الإلهيّة ففي أدعية أئمة أهل البيت عليهم السلام نماذج من أدعية التوسّل، وهي كثيرة وموزعة في الصحيفة العلوية(2) ودعاء عرفة(3) والصحيفة السجادية(4) وغيرها من كتب الدعاء.

وفيما يلي نذكر نماذج من تلك الأدعية:

1 - يقول الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء له:

«... بحقّ محمّد وآل محمّد عليك، وبحقّك العظيم عليهم أن تصلّي عليهم

ص:154


1- . للوقوف على حال روح بن صلاح المصري لاحظ: ميزان الاعتدال: 2/85 برقم 2801.
2- . وهي المجموعة التي تضم بعض أدعية الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام جمعها الشيخ عبد اللّه السماهيجي.
3- . وهو دعاء الإمام الحسين عليه السلام في عرفات، يوم عرفة.
4- . هي بعض أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام.

كما أنت أهله، وأن تعطيني أفضل ما أعطيت السائلين من عبادك الماضين من المؤمنين وأفضل ما تعطي الباقين من المؤمنين..»(1).

2 - ويقول الإمام سيد الشهداء الحسين عليه السلام في دعاء عرفة:

«... اللّهمّ إنّا نتوجّه إليك - في هذه العشية التي فرضتها وعظّمتها - بمحمد نبيّك ورسولك وخيرتك من خلقك».

3 - ويقول الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه بمناسبة حلول شهر رمضان:

«... اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ هذا الشهر وبحقّ من تعبّد فيه»(2).

إلى هنا تمّت بعض الأدلّة على جواز التوسّل بالشخصيات الطاهرة التي لها منزلة ومكانة، وهناك روايات أُخرى في هذا الصدد نتركها لئلّا يطول بنا الكلام؛ فإنّ الغرض الإيجاز لا الإطناب.

العاشر: التوسّل بحقّ السائلين

روى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: «اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سُمعة إنّما خرجت اتّقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تعيذني من النار وأن تغفر ذنوبي إنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت»، إلّاأقبل اللّه عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك»(3).

إنّ دلالة الحديث واضحة لا يمكن لأحدٍ التشكيك فيها، وسند الحديث صحيح ورجاله كلّهم ثقات، نعم اشتمل السند على عطية العوفي وقد وثّقه لفيف من أهل الجرح والتعديل.

قال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ابن معين: صالح، وقال ابن حجر: عطية

ص:155


1- . الصحيفة العلوية: 51.
2- . الصحيفة السجادية: الدعاء رقم 44.
3- . سنن ابن ماجة: 1/256 برقم 778؛ مسند أحمد: 3/21.

بن سعيد بن جنادة العوفي الجدلي الكوفي أبو الحسن صدوق، قال ابن عدي: قد روى عن جماعة من الثقات، توفّي سنة إحدى عشرة ومائة، قال ابن سعد: خرج عطية مع ابن الأشعث فكتب الحجّاج إلى محمد بن القاسم أن يعرض عليه سبَّ علي - إلى أن قال: - كان ثقة، وله أحاديث صالحة، وكان أبوبكر البزّاز يعدّه في التشيّع، روى عن جلّة الناس(1).

نعم، هناك من ضعّفه لا لأنّه غير صدوق، بل لأنّه كان يتشيّع، وليس تشيّعه إلّا ولاؤه لعلي وأهل بيته، وهل هذا ذنب ؟!

إنّ لوضع الحديث دوافع خاصّة توجد أكثرها في أبواب المناقب والمثالب وخصائص البلدان والقبائل، أو فيما يرجع إلى مجال العقائد، كالبدع الموروثة من اليهود والنصارى في أبواب التجسيم والجهة وصفات الجنة والنار، وأمّا مثل هذا الحديث الذي يعرب بوضوح عن أنّه كلام إنسان خائف من اللّه سبحانه ترتعد فرائصه من سماع عذابه فبعيد عن الوضع.

توسّل الأنبياء عليهم السلام بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله

يظهر ممّا رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أنّ الأنبياء العظام يتوسّلون يوم القيامة بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله عندما يجمع اللّه تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد، وتدنو الشمس ويبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولايحتملون...

إلى أن قال: فيأتي الأنبياء محمداً فيقولون: يا محمد أنت رسول اللّه وخاتم الأنبياء وقد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقَعُ ساجداً لربّي عزّ وجلّ ثم يفتح اللّه عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفّع، فأرفَعُ رأسي فأقولُ : أُمّتي يا ربّ أُمّتي يا ربّ ،

ص:156


1- . تقريب التهذيب: 2/24 برقم 216، وتهذيب التهذيب: 7/227 برقم 413.

فيقال: يا محمد أدخل من أُمّتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة كما بين مكة وحميراً وكما بين مكّة وبصرى»(1).

فالحديث يدلّ على جواز التوسّل بالمقام والمنزلة لقولهم: يا محمد أنت رسول اللّه وخاتم الأنبياء...، كما أنّ فيه دلالة على طلب الشفاعة منه لقولهم اشفع لنا إلى ربك.

إنّ التوسّل بالأنبياء والأولياء ليس بملاك جسمانيتهم فإنّهم وغيرهم في ذلك المجال سواسية، وإنّما يتوسّل بهم بروحانيتهم العالية؛ وهي محفوظة في حال الحياة وبعد الارتحال إلى البرزخ وإلى الآخرة.

فالتفريق في التوسّل بين الحياة والممات ينشأ من نظرة مادية تعطي الأصالة للجسم والمادّة ولا تقيم للمعنى والروحانية وزناً ولا قيمةً .

فالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله مدار الفضائل والكمالات وهو يتمتع بأروع الكرامات وكلّها ترجع إلى روحانيته ومعنويته القائمة المحفوظة في جميع الحالات.

فما هذا التفريق بين الحياة المادّية والبرزخية والأُخروية ؟

فمن اتّخذ الأنبياء والأولياء وغيرهم ممّن باتوا لربّهم سجّداً وقياماً، أسباباً حال حياتهم أو بعد مماتهم، ووسائل لقضاء حوائجهم ووسائط لجلب الخير ودفع الشر، لم يحيدوا عمّا تهدف إليه الشريعة، ولم يتجاوزوا الخط المشروع، ولم يتعدّوا مقصود الرسالة النبوية وغاياتها.

فالأسباب لا يمكن إنكارها، ولا يعقل تجاهلها، ولا يتأتّى جحودها؛ لأنّه تعالى هو الذي خلق الأسباب والمسبّبات ورتّب النتائج على المقدّمات فمن تمسّك بالأسباب فقد تمسّك بما أمر اللّه سبحانه.

ص:157


1- . صحيح البخاري: 6/84-85؛ صحيح مسلم: 1/127-130؛ مسند أحمد: 2/412.
خاتمة المطاف سيرة الموحدين في توسّلهم
اشارة

بالطيبين والطاهرين

التاريخ الصحيح يشهد على أنّه جرت سيرة الموحدين على التوسّل بالطيبين والطاهرين عند الشدائد والأزمات، عند الجفاف وقلة الأمطار، وسنوات القحط.

وهانحن نذكر هنا نماذج من هذه التوسّلات الّتي أمضاها النبي صلى الله عليه و آله وأظهر رضاه على هذا النوع من التوسّل.

1. استسقاء عبدالمطلب بالنبي صلى الله عليه و آله وهو صغير

استسقى عبدالمطلب بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وهو طفل رضيع حتّى أنّ ابن حجر قال: إنّ أبا طالب يشير بقوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

إلى ما وقع في زمن عبدالمطلب حيث استسقى لقريش والنبي صلى الله عليه و آله معه غلام.

2. استسقاء أبي طالب بالنبي صلى الله عليه و آله وهو غلام

أخرج ابن عساكر عن أبي عرفة، قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام - يعني: النبي صلى الله عليه و آله - كأنّه شمس دجى تجلّت عن سحابة قتماء،

ص:158

وحوله أُغيلمه، فأخذ النبيَّ أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذَ إلى الغلام وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل(1)

وقد كان استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام، بل استسقاء عبد المطلب به وهو صبي أمراً معروفاً بين العرب، وكان شعر أبي طالب في هذه الواقعة ممّا يحفظه أكثر الناس.

ويظهر من الروايات أنّ استسقاء أبي طالب بالنبي صلى الله عليه و آله كان موضع رضاً منه صلى الله عليه و آله فإنّه بعدما بعث للرسالة استسقى للناس فجاء المطر وأخصب الوادي فقال النبي: لو كان أبو طالب حيّاً لقرّت عيناه، ومن ينشدنا قوله ؟ فقام علي عليه السلام وقال: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله كأنّك أردت قوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل(2)

إنّ التوسّل بالأطفال في الاستسقاء أمر ندب إليه الشارع، قال الدكتور عبد الملك السعدي: من السنّة أن نُخرج معنا إلى الصحراء الشيوخ والصبيان والبهائم لعلَّ اللّه يسقينا بسببهم(3).

وهذا هو الإمام الشافعي يقول في آداب صلاة الاستسقاء: «وأُحب أن يخرج الصبيان، ويتنظفوا للاستسقاء، وكبار النساء، ومن لا هيبة منهنّ ، ولا أُحبّ خروج ذات الهيبة، ولا آمر بإخراج البهائم»(4).

فما الهدف من إخراج الصبيان والنساء الطاعنات في السن، إلّااستنزال الرحمة بهم وبقداستهم وطهارتهم ؟ كل ذلك يعرب عن أنّ التوسّل بالأبرياء

ص:159


1- . فتح الباري: 2/494؛ السيرة الحلبية: 1/116.
2- . إرشاد الساري: 2/338.
3- . البدعة: 49.
4- . الأُم: 1/230.

والصلحاء والمعصومين مفتاح استنزال الرحمة وكأنّ المتوسّل يقول: ربّي وسيّدي!! الصغير معصوم من الذنب، والكبير الطاعن في السن أسيرك في أرضك، وكلتا الطائفتين أحقّ بالرحمة والمرحمة. فلأجلهم أنزل رحمتك علينا، حتى تعمّنا في ظلّهم.

إنّ الساقي ربّما يسقي مساحة كبيرة لأجل شجرة واحدة، وفي ظلّها تُسقى الأعشاب وسائر الحشائش غير المفيدة.

3 - توسّل الخليفة بعمّ النبي: العباس

روى البخاري في صحيحه قال: كان عمر بن الخطاب إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضى الله عنه وقال: اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا، قال: فيُسقون(1).

والحديث صريح في أنّ عمر بن الخطاب توسّل بنفس العباس بما أنّ له من وشيجة بالنبي صلى الله عليه و آله، وتشهد على ذلك الأُمور التالية:

1. قول عمر عند الدعاء: اللّهم إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبينا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعم نبينا فاسقنا، ومعنى ذلك أنّ الخليفة قام بالدعاء وتوسّل في أثناء الدعاء بعم الرسول صلى الله عليه و آله لا بدعاء عمّه.

2. روى ابن الأثير كيفية الاستسقاء فقال: استسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة لمّا اشتدّ القحط، فسقاهم اللّه تعالى به، وأخصبت الأرض، فقال عمر:

هذا واللّه الوسيلة إليّ والمكان منه، وقال حسّان:

سأل الإمام وقد تتابع جدبنا فسقى الغمام بغُرّة العباس

عمِّ النبي وصنو والده الذي ورث النبي بذاك دون الناس

أحيى الإله به البلاد فأصبحت مخضرّة الأجناب بعد الياسِ

ص:160


1- . صحيح البخاري: 2/32، باب صلاة الاستسقاء.

ولمّا سَقوا طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون هنيئاً لك يا ساقي الحرمين(1).

أيها القارئ: أمعن في قول عمر: «هذا واللّه الوسيلة».

ويظهر من قول حسّان: «سأل الإمام...»، أنّ المستسقي كان هو عمر، وهو الداعي وكان العباس وسيلته لإجابة الدعاء.

وربّما يقال: لو كان المقصود التوسل بذات العباس لكان النبي صلى الله عليه و آله أفضل وأعلم، فلماذا لم يتوسل بذات النبي صلى الله عليه و آله ؟

ولكن الإجابة عنه واضحة، وذلك لأن الهدف من إخراج عم النبي صلى الله عليه و آله إلى المصلّى وضمّه إلى الناس هو استنزال الرحمة، فكأن المصلّين يقولون: ربّنا إذا لم نكن مستحقّين لنزول الرحمة، فإنّ عمّ النبي مستحق لها، فأنزل رحمتك إليه لتريحه من أزمة القحط والغلاء، وعندئذٍ تعمّ الرحمة غير العباس، ومن المعلوم أنّ هذا لا يتحقق إلّابالتوسّل بإنسان حيّ يكون شريكاً مع الجماعة في الصبر وفي هناء العيش ورغده لا مثل النبيّ الراحل الخارج عن الدنيا والنازل في الآخرة، نعم يجوز التوسل بشخصه أيضاً ولكن لا بهذا الملاك بل بملاك آخر لم يكن مطروحاً لعمر في هذا المقام.

***

نجزت بحمد اللّه رسالتنا في التوسّل وقد أسفرت الحقيقة عن وجهها وعُلم أنّ التوسّل بأنواعه العشرة أمر مندوب إليه، دعا إليه الكتاب والسنّة، وعمل به النبي صلى الله عليه و آله وأصحابه والتابعون لهم بإحسان. واستمرت السيرة على التوسّل بأصنافه الماضية، عند عامّة المسلمين.

ولا يجد المنصف فيها أي رائحة للشرك، بل روح الجميع خضوع لرب الأرباب خالق السماوات والأرض، والمتوسّلون يطلبون استجابة حوائجهم من خالقهم وربّهم ومعبودهم ولكن من خلال التوسّل بوسائل تنزل مغفرته وتثير

ص:161


1- . أُسد الغابة: 3/111، ط. مصر.

رحمته.

فعلى الغيارى من علماء الإسلام التصدي للدعايات الفارغة عن الدليل، والمفرّقة لوحدة المسلمين، بالنقد والرد حتّى (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (1)، بإذن من اللّه سبحانه.

نسأل اللّه تعالى أن ينير أبصارنا ويصلح قلوبنا ويخلص نوايانا، ويجعلنا من أنصار كتابه وسنة نبيّه، والحمد للّه رب العالمين

جعفر السبحاني

قم / مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

26 ذي الحجة الحرام

من شهور عام 1430 ه

ص:162


1- . الأنفال: 42.

12 الاحتفال بيوم الغدير

أو

سلمان العودة توّاب عوّاد

إنّ سلمان العودة من رجال الوهابية المتعصّبين، وقد سار على هذا المنهج أعواماً، غير أنّه عَدَلَ عن مواقفه القاسية وأصبح أحد المعتدلين وندد بالمتطرفين والتكفيريين في خطبه وكلماته، كما أظهر أنّه يدعم موقف التقريب بين المذاهب والدعوة إلى الأُلفة والوحدة الإسلامية، لغاية تكاتف أبناء الأُمّة الإسلامية وتضامنهم أمام الأعداء.

حتّى أنّه عندما نشرت بعض وسائل الإعلام خطاباً له ربّما يُشمّ منه العنف والتطرّف، اعتذر بأنّه خطاب قديم سجّل على الشريط وأُذيع مؤخّراً.

ومع ذلك كلّه فقد عاد سلمان بن فهد العودة - مجدّداً - إلى ما رجع عنه، ونقض ما فتل أخيراً (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) (1)، وصار عمله هذا مجسّداً لاسمه «سلمان العودة»، وهذا ما نراه في مقاله الّذي نشرته جريدة

ص:163


1- . النحل: 92.

«الجزيرة»(1) وإليك نصّه:

«وأعياد الأُممّ الكافرة ترتبط بأُمور دنيوية مثل قيام دولة أو سقوطها، أو تنصيب حاكم أو تتويجه، أو زواجه، أو لحلول مناسبة زمانية كفصل الربيع أو غير ذلك، ولليهود أعيادهم، وللنصارى أعيادهم الخاصّة بهم، فمن أعياد النصارى العيد الّذي يكون في الخميس الّذي يزعمون أنّ المائدة أُنزلت فيه على عيسى عليه السلام، وكذلك عيد ميلاد عيسى، وعيد رأس السنة «الكريسميس»، وعيد الشكر، وعيد العطاء، ويحتفلون بها الآن في جميع البلاد الأُوربية والإمريكية وغيرها من البلاد الّتي للنصرانية فيها ظهور، وإن لم تكن نصرانية، وللمجوس كذلك أعيادهم الخاصة بهم، مثل عيد المهرجان، وعيد النوروز وغيرهما.

وللرافضة أيضاً أعيادهم، مثل عيد الغدير الّذي يزعمون أنّ النبي صلى الله عليه و آله بايع فيه علياً رضى الله عنه بالخلافة».

وها نحن نلفت نظر الشيخ إلى النقاط التالية، ولعلّه يجد لها أجوبة أو يرجّح العودة الثانية إلى صف المعتدلين، والاعتذار عمّا أبداه في هذا المقال:

1. أنّه - عفا اللّه عنّا وعنه - اعتبر الاحتفال بتأسيس الدولة أو سقوطها في يوم من أيام السنة شأن الأُممّ الكافرة، ولكن الشيخ لم ينس ولن ينسى أنّ الدولة السعودية شعباً وحكومة احتفلت بمرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1419 ه، وكان لهذا الاحتفال صدى في المملكة وحضوراً واسعاً من الطبقات المختلفة، فهل الشيخ يعدّ الاحتفال بهذه المناسبة من أعياد الأُممّ الكافرة، أو يعدّ المشايخ والعلماء الذين حضروا فيه من الكفّار؟ ياترى ؟!!

2. أنّ الشيخ عدّ اتّخاذ النصارى خميس آخر السنة عيداً من أعياد الأُممّ الكافرة مع أنّ الأساس لهذا العيد هو دعاء نبي اللّه عيسى بن مريم كما حكى عنه سبحانه: (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا

ص:164


1- . انظر جريدة «الجزيرة» العدد 12799، يوم الأحد الثاني من شوال 1428 ه.

عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) (1).

وكون النصرانية من الأُممّ الكافرة لا يكون مبرراً لإنكار عملهم هذا الّذي نرى أنّ له جذوراً في الكتاب العزيز كما عرفت.

3. لقد عدّ عيد الغدير الّذي يحتفل به الشيعة احتفالاً باهراً، من أعياد الأُمم الكافرة وبذلك عطف ربع المسلمين أو ثلثهم إلى معسكر الأُممّ الكافرة، وهذا يدل على أن الرجل باق على مواقفه السابقة القاسية، ولو تكلّم بشيء من اللين والتسامح فإنّما هو لمصلحة جرّته إلى ذلك، وإلّا فالرجل من حملة التكفير ودعاة العنف.

إنّ أرخص التهم بين هؤلاء هو رمي الآخرين بالكفر تارة، والشرك أُخرى، والبدعة ثالثةً ، وكأنّ معايير الشرك والكفر فُوّضت إليهم، يكفّرون مَن شاءوا ويصفون مَن شاءوا بالشرك!!

إنّ الشيعة يحتفلون باليوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام ويجتمعون في المساجد والمعاهد ويذكرون في هذا اليوم فضائل الإمام علي عليه السلام شكراً للّه على عظيم النعمة الّتي أعطيت لهذه الأُمّة.

فإذا كانت المائدة السماوية الّتي تشبع البطن عدة ساعات سبباً لاتّخاذ ذلك اليوم عيداً لأوّلهم وآخرهم فلم لا يكون تنصيب علي - أعلم الأُمّة وأتقاهم - للإمامة والولاية موجباً للمسرة والفرح ؟!

إنّ الشيعة لم يصدروا في عملهم هذا عن هوى وإنّما صدروا عن السنة النبوية الّتي أمرت باتّخاذ هذا اليوم عيداً، وأمر النبي صلى الله عليه و آله أصحابه بالتهنئة لصاحب الولاية علي أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك اليوم.

إنّ ولاية علي يوم الغدير، نزل بها كتاب اللّه المبين، وتواترت بها السنّة النبوية وتواصلت حلقات أسانيدها منذ عهد الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا.

ص:165


1- . المائدة: 114.

والثابت الصحيح من السيرة النبوية أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أجمع الخروج إلى الحج العام العاشر من الهجرة وأذّن للناس بذلك، فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به في حجّته الّتي يقال لها حجّة الوداع، وحجّة الإسلام، وحجّة البلاغ، ولم يحجّ غيرها منذ هاجر إلى أن توفّاه اللّه، فلمّا قضى مناسكه وانصرف راجعاً إلى المدينة وصل إلى غدير خم من الجهة الّتي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين، وذلك يوم الخميس 18 من ذي الحجة، نزل إليه جبرئيل الأمين عن اللّه بقوله:

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (1) وأمره أن ينصب علياً علماً للناس ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد.

فقام صلى الله عليه و آله خطيباً وسط القوم على أقتاب الإبل وأسمع الجميع رافعاً صوته، فحمداللّه وشهد له بالتوحيد ولنفسه بالرسالة، وقال: ألستم تشهدون أنّ لا إله إلّا اللّه وأنّ محمد عبده ورسوله، وأنّ الموت حق والساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللّه يبعث من في القبور؟!

قالوا: نشهد بذلك.

قال: اللّهم اشهد.

ثم قال: أيّها الناس ما أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟

قالوا: اللّه ورسوله أعلم.

قال: إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، يقولها ثلاث مرات.

وقد روى حديث الغدير أُمّة كبيرة من الصحابة والتابعين والعلماء.

فمن الصحابة يربو عدد الرواة إلى مائة وعشرين صحابياً.

ومن التابعين إلى أربع وثمانين تابعياً.

ومن العلماء ثلاثمائة وستين عالماً.

ص:166


1- . المائدة: 67.

وهذا الجمع الغفير من الصحابة والتابعين لهم بإحسان والعلماء وفيهم المحدّثون واللغويون والأُدباء والمؤرّخون، يمتنع تواطؤهم على الكذب، فلو لم يوصف حديث الغدير بالتواتر، كما يدّعي البعض زوراً وبهتاناً، فلن تجد مثيله في الأحاديث الإسلامية من خلال تعدّد طرقه، وكثرة رواته، ووفرة المصادر التي نقلته من الفريقين.

وقد نزلت في هذا اليوم آية التبيلغ أي: (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) فاجتماع المسلمين في ذلك اليوم هو تجسيد لآية التبليغ وتجسيد لطلب النبي صلى الله عليه و آله: «ألا فليبلغ الشاهدُ الغائب».

وأمّا التهنئة في ذلك اليوم فقد صدرت الأُمة الإسلامية عن حديث النبي صلى الله عليه و آله فقد أمر النبي أصحابه بعد ما نزل من على المنبر بقوله: سلّموا على علي بإمرة المؤمنين: (وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللّهُ ) (1).(2)

روى المؤرخ ابن خاوندشاه (المتوفّى 903 ه) في «روضة الصفا» في الجزء الثاني من ج 1 ص 173 بعد ذكر حديث الغدير ما ترجمته: ثم جلس رسول اللّه صلى الله عليه و آله في خيمة تخصّه وأمر أمير المؤمنين علياً عليه السلام أن يجلس في خيمة أُخرى وأمر إطباق الناس بأن يهنّئوا علياً في خيمته، ولمّا فرغ الناس من تقديم التهنئة له عليه السلام، أمر رسول اللّه أُمّهات المؤمنين بأن يَسرن إليه ويهنّئنه ففعلن، وممّن هنّأه من الصحابة: عمر بن الخطاب، فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب! أصبحت مولاي ومولى جميع المؤمنين والمؤمنات.

وقد روى المحقّق العلّامة الأميني حديث التهنئة يوم الغدير عن ستين شخصاً.

ص:167


1- . الأعراف: 43.
2- . الغدير: 1/270. نقلاً عن كتاب الولاية في طرق الحديث، للحافظ أبي جعفر محمد بن جريرالطبري.

وقد كان أئمة أهل البيت عليهم السلام كالصادق والكاظم والرضا عليهم السلام يحتفلون في ذلك اليوم، فمن أراد الاطلاع فليرجع إلى الكافي للكليني، وقد ذكر نصوص الروايات العلّامة الاميني في الغدير(1).

وقد كان ذلك اليوم في القرون السابقة معروفاً بعيد غدير خم، فهذا هو ابن خلكان يقول في ترجمة المستعلي الفاطمي:

وكانت ولادة المستعلي لعشر ليال بقين من المحرم سنة 469 ه بالقاهرة وبويع في يوم عيد غدير خم وهو الثامن عشر من ذي الحجة سنة 487 ه(2).

وقال - أيضاً -: في ترجمة المستنصر: وكانت ولادة المستنصر صبيحة يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة عشرين وأربعمائة، وتوفّي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، رحمه اللّه تعالى.

قلت: وهذه الليلة هي ليلة عيد الغدير، أعني ليلة الثامن عشر من ذي الحجة، وهو غدير خم - بضم الخاء وتشديد الميم - ورأيت جماعة كثيرة يسألون عن هذه الليلة متى كانت من ذي الحجة ؟ وهذا المكان بين مكة والمدينة، وفيه غدير ماء، ويُقال إنّه غيْضَة هناك ولما رجع النبي صلى الله عليه و آله من مكة، شرفها اللّه تعالى، عام حجة الوداع، ووصل إلى هذا المكان وآخى عليَّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: علي مني كهارون من موسى، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.(3)

وقال المسعودي بعد ذكر حديث الغدير: وولد علي رضى الله عنه وشيعتهُ يعظّمون هذا اليوم.(4)

ص:168


1- . الغدير: 1/185-287.
2- . وفيات الأعيان: 1/180، تحقيق الدكتور إحسان عباس.
3- . وفيات الاعيان: 5/230-231.
4- . التنجيم والاشراف: 221.

وقال الثعالبي: بعد أن عدّ ليلة الغدير من الليالي المشهورة عند الأُمّة ما هذا لفظه: هي الّتي خطب رسول اللّه في غدير خم على أقتاب الإبل فقال في خطبته:

من كنت مولاه فعليّ مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله. فالشيعة يعظّمون هذه الليلة ويحيونها قياماً.(1)

إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على اشتهار ذلك اليوم بعيد الغدير، وذكره الحفاظ والمؤرخون بهذا الوصف من دون غمز ولمز.

ففي الختام نرجو من الخطيب سلمان العودة أن يعود إلى ما رجع عنه ويعتذر عن وصف أُمّة كبيرة بالكفر ويتّخذ موقفاً علمياً صحيحاً تابعاً للكتاب والسنّة والتاريخ الصحيح.

ص:169


1- . ثمار القلوب: 511.

13 في تسمية الولد بعبد المسيح

13 في تسمية الولد بعبد المسيح(1)

قرأنا في قسم الفتاوى في العدد (479) من مجلة «الشريعة» الأردنية أسئلة مختلفة أجاب عنها عددٌ من الشيوخ والأساتذة - حفظهم اللّه تبارك وتعالى -. ومن تلك الأسئلة سؤال يتعلق بجواز تسمية الولد ب (عبد المسيح) وقد أجاب عنه الشيخ يوسف القرضاوي قائلاً: هذه التسمية حرام، حرام، حرام، أعني: أنّ حرمتها مضاعفة ثلاث:

الأُولى: أنّ كل اسم معبد لغير اللّه تحرم التسمية به بإجماع المسلمين.

أقول: ولنا على الشق الأوّل من هذه الإجابة تعليق ينبغي التنبيه عليه ينفع في إبعاد شبهة تثار حول جواز التسمية بأسماء شاعت بين المسلمين كعبد النبي أو عبد الرسول أو غير ذلك.

ولو أنّ الشيخ وضّح معنى العبد في مثل هذه الأسماء لما ادّعى الإجماع على حرمته، لأنّ العبودية تطلق ويراد بها معان مختلفة ويختلف حكمها حسب اختلاف الموارد وهذا بيانه:

1. العبودية التكوينية، وهي بهذا المعنى ناشئة من المملوكية التكوينية التي تعمّ جميع العباد، ومنشأ المملوكية كونه سبحانه خالقاً، والإنسان مخلوقاً.

ص:170


1- . تم إرسال هذه المقالة في 16 ذي الحجة 1426 ه.

فالعبودية إذا كانت رمزاً للمملوكية الناشئة من الخالقية، فهي لا تضاف إلّاإلى اللّه سبحانه كما يقول سبحانه: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) .(1)

وقال سبحانه حاكياً عن المسيح: (إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا) .(2)

2. العبودية الوضعية الناشئة من غلبة إنسان على إنسان في الحروب، وقد أمضاها الشارع تحت شرائط معينة مذكورة في الفقه.

فأمر الأُسارى - الذين يقعون في الأسر بيد المسلمين - موكول إلى الحاكم الشرعي فهو مخيّر بين إطلاق سراحهم بلا عوض، أو بأخذ مال منهم، أو استرقاقهم.

فإذا اختار الثالث فيكون الأسير عبداً للمسلم، ولذلك ترى أنّ الفقهاء عقدوا باباً باسم «العبيد والإماء».

قال سبحانه: (وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) .(3)

تجد أنّه سبحانه ينسب العبودية والإمائية إلى الذين يتملكونهم ويقول: (عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ ) فيضيف العبد إلى غير اسمه جلّ ذكره.

3. العبودية بمعنى الطاعة وبها فسرها أصحاب المعاجم.(4)

والمعنى الثالث هو المقصود من تلك الأسماء فيسمُّون أولادهم باسم عبد الرسول أي مطيع الرسول، وعبد الحسين أي مطيعه، وكلّ مسلم مطيع للرسول والأئمّة من بعده، ولا شكّ أنّه يجب إطاعة النبي صلى الله عليه و آله وأُولي الأمر.

ص:171


1- . مريم: 93.
2- . مريم: 30.
3- . النور: 32.
4- . لاحظ: لسان العرب: مادة عبد، وكذلك «القاموس المحيط» في نفس المادة.

قال سبحانه: (أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) .(1)

فعرّف القرآنُ النبيَ بأنّه مطاع والمسلمين بأنّهم مطيعون، ولا عتب على الإنسان أن يبرز هذه المعاني من خلال تسمية أولاده وفلذات كبده بهذه الأسماء المقدّسة.

نعم المسمّى بعبد الرسول هو عبد للرسول وفي الوقت نفسه عبد للّه أيضاً، ولا منافاة بين النسبتين لما عرفت من أنّ العبودية في الصورة الأُولى هي العبودية التكوينية النابعة من الخالقية، ولكنّها في الصورة الثانية والثالثة ناجمة عن تشريعه سبحانه حيث جعل الغالب مولى والأسير عبداً، كما جعل النبي مطاعاً وغيره عبداً أي مطيعاً، وشتّان ما بينهما وبين المعنى الأوّل، ولا أجد مسلماً على أديم الأرض يسمّي اسمَ ولده بعبد الرسول ويقصد به العبودية التكوينية للرسول، وانّما يقصد المعنى الثالث وهو كونه مطيعاً للرسول. وغاية ما يمكن أن يقال يقصد العبودية التشريفية والتنزيلية بضرب من المجاز وتشبيهاً بالعبودية الرائجة بين الموالي العرفيين وعبيدهم.

ص:172


1- . النساء: 59.

14 محسن بن علي بين الحقيقة والخيال

رسالة إلى الناطق

باسم مبرّة الآل والأصحاب الشيخ محمد العوضي المحترم

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أمّا بعد؛

فقد بلغنا أنّ جنابكم تكلّمتم حول محسن «السقط» وقلتم: إنّ القصة أُسطورة اختلقتها الشيعة، مستدلّين بأنّ الرسول صلى الله عليه و آله قد أسرّ حديثاً قبل وفاته إلى بضعته فاطمة عليها السلام بحيث بكت في أوّله ثم ضحكت (الحديث المعروف)، وقلتم إنّ هذا الحديث مروي عن الفريقين.

وأضفتم بأنّ المحسن هو من أهل البيت وسقوطه - بمعنى وفاته - ينافي الحديث المتفق عليه من أنّ فاطمة هي أوّل أهل البيت لحوقاً بالنبي صلى الله عليه و آله.

ولكن الذي ألفت نظركم إليه هو أنّ الموضوع الذي نفيتم قد أكده أكثر من عشرين مؤرخاً ومحدّثاً من أهل السنّة، وقد قام المؤرّخون المحقّقون بتنقيب الموضوع وتحقيقه، غير أنّ جنابكم لم تقفوا على جهود هؤلاء، وها نحن نذكر عصارة ما قام به أحد أقطاب التاريخ والنسب وهو السيد محمد مهدي الخرسان أحد علماء النجف الأشرف (بتصرف وتلخيص) وهو ليس فريداً في ذلك الباب فقد قام بتحقيق الموضوع غير واحد من علمائنا الأعلام.

ص:173

وإليك أسماء من ذكر هذا الموضوع من فضلاء السنّة:

1. أبو إسحاق إبراهيم النظّام (المتوفّى 231 ه.) قال: إنّ عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت المحسن من بطنها. نقله عنه الصفدي في الوافي بالوفيات: 17/6، والشهرستاني في الملل والنحل: 77/1.

2. ابن قتيبة (المتوفّى 276 ه.) قال: إنّ محسناً فسد من زحم قنفذ العدوي، نقله عنه الحافظ السروي المعروف بابن شهرآشوب (المتوفّى 588 ه.) في كتابه «مناقب آل أبي طالب»: 933/3، ولكن يد الأمانة حذفت هذه الجملة من معارف ابن قتيبة، كما حذفت غيرها مما كشفه بعض الأعلام عنه، كالعلامة الأميني في غديره.

وليس ابن شهرآشوب هو الوحيد في نقل هذه الجملة عن المعارف بل أنّ الحافظ الكنجي الشافعي نقلها عنه حيث قال: إنّ فاطمة أسقطت بعد النبي صلى الله عليه و آله ذكراً سماه رسول اللّه صلى الله عليه و آله محسناً، ثم قال: وهذا شيءٌ لم يوجد عند أحد من أهل النقل إلّاعند ابن قتيبة.(1)

3. النسابة الشيخ أبو الحسن العمري الذي كان حياً في (425 ه.) قال في كتابه المجدي - بعد ذكر اختلاف النسابين في المحسن -: ولم يحتسبوا بمحسن لأنّه ولد ميّتاً وقد روت الشيعة خبر المحسن والرفسة، ووجدت بعض كتب أهل النسب يحتوي على ذكر المحسن، ولم يذكر الرفسة من جهة أعوّل عليها.(2)

4. النسابة محمد بن أسعد بن علي الحسيني الجواني (المتوفّى 588 ه.) قال:

وقيل درج صغيراً والصحيح أنّ فاطمة أسقطت جنيناً.(3)

5. كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي (المتوفّى 652 ه.) قال في مطالب السؤول عند ذكر أولاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: وذكروا فيهم محسناً شقيقاً للحسن

ص:174


1- . سنذكر مصدره تحت رقم 6.
2- . المجدي في أنساب الطالبيين: 12.
3- . الشجرة المحمدية والنسبة الهاشمية (نسخة مصورة في مجلة الموسم، ع 32، سنة 1418 ه.).

والحسين وكان سقطاً.(1)

6. الحافظ محمد بن يوسف الكنجي الشافعي (المتوفّى 658 ه.) حكى في كتابه «كفاية الطالب» أنّ فاطمة أسقطت بعد النبي صلى الله عليه و آله ذكراً كان سمّاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله محسناً. وقد مرّ كلامه عند نقل القصة عن ابن قتيبة.(2)

7. الحمويني (المتوفّى 730 ه.) ذكر القصة باسناده وقال: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن إلى أن قال: وأمّا ابنتي فإنّها سيدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، وهي بضعة مني وهي...، وإنّي لمّا رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي، كأنّي بها وقد دخل الذلّ بيتها، وانتهكت حرمتها، وغصب حقها، ومُنعت إرثها، وكُسر جنبها، وأُسقطت جنينها.(3)

8. الحافظ جمال الدين المزّي في كتابه تهذيب الكمال قال: كان لعلي من الولد الذكور... والذين لم يعقبوا محسن درج سقطاً.(4)

9. الحافظ الذهبي (المتوفّى 749 ه.) قال في كتابه «فتح المطالب في فضل علي بن أبي طالب»: إنّ المحسن سقط، نقله عنه صلاح الدين الصفدي المذكور تالياً، وذكره أيضاً في سير أعلام النبلاء.(5)

10. صلاح الدين الصفدي (المتوفّى 734 ه.) قال في الوافي بالوفيات:

والمحسن طرح، وحكى ذلك من كتاب شيخه الذهبي «فتح المطالب في فضل علي بن أبي طالب».(6)

11. التقي الفاسي الحسني المكي (المتوفّى 832 ه.) في كتابه «العقد الثمين في

ص:175


1- . مطالب السؤول: 62، الفصل 11.
2- . كفاية الطالب: 423.
3- . فرائد السمطين: 34/2.
4- . تهذيب الكمال: 479/20.
5- . سير أعلام النبلاء: 125/3.
6- . الوافي بالوفيات: 281/21.

تاريخ البلد الأمين»، قال: ولعلي من الولد الحسن والحسين ومحسناً، ثم ذكر في صفحة تالية قول الحافظ المزّي في «تهذيب الكمال»: ومحسن درج سقطاً، ولم يعقب عليه بشيء.(1)

12. إبراهيم بن عبد الرحمن الحنفي الطرابلسي (كان حياً 841 ه.) قال في المشجرة التي صنعت للخليفة الناصر وكتبت لخزانة صلاح الدين ص 9: محسن ابن فاطمة أسقط، وقيل درج صغيراً، والصحيح أنّ فاطمة أسقطت جنينها.

13. ابن الصباغ المالكي الصفاقسي (المتوفّى 855 ه.) قال في ذكر أولاد الإمام:

وذكروا أنّ فيهم محسناً شقيقاً للحسن والحسين ذكرته الشيعة وإنّه كان سقطاً.(2)

14. أبو الفضيل محمد الكاظم بن أبي الفتوح قال في كتابه «النفحة العنبرية في أنساب خير البرية» الذي ألفه سنة 891 ه.: والمحسن وأخوه ولدا ميتين من الزهراء عليها السلام.(3)

15. الصفوري الشافعي (المتوفّى 894 ه.) قال: كان الحسن أوّل أولاد فاطمة الخمسة: الحسن والحسين والمحسن - كان سقطاً - وزينب الكبرى وزينب الصغرى.(4)

وقال في كتابه الآخر «المحاسن المجتمعة في الخلفاء الأربعة» نقلاً من كتاب الاستيعاب لابن عبد البر قال: وأسقطت فاطمة سقطاً سماه عليّ محسناً(5)، وقد حذفت يد الأمانة هذه الجملة من الاستيعاب المطبوع، ولعبت بالآثار الإسلامية في غير واحد من الموارد.

16. الشيخ جمال الدين يوسف المقدسي (المتوفّى 909 ه.) في «الشجرة

ص:176


1- . العقد الثمين: 202/6 و 203.
2- . الفصول المهمة: 54.
3- . النفحة العنبرية النسخة مصورة عن نسخة المجمع العلمي العراقي.
4- . نزهة المجالس: 229/2.
5- . المحاسن المجتمعة: 164.

النبوية في نسب خير البرية» قال: محسن قيل: سقط، وقيل: بل درج صغيراً، والصحيح أنّ فاطمة أسقطت جنيناً.(1)

17. النسابة عميد الدين الذي كان حيّاً سنة (929 ه.) قال: والمحسن الذي سقط.(2)

18. السيد المرتضى الزبيدي (المتوفّى 1205 ه.) قال في «تاج العروس» مادة شبر: المحسّن - بتشديد السين - ذهب أكثر الإمامية من أنّه كان حملاً فأسقطته فاطمة الزهراء لستة أشهر وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله.(3)

19. الشيخ محمود بن وهيب الحنفي قال: وأمّا محسن فأدرج سقطاً.(4)

20. الشيخ محمد الصبان الشافعي (المتوفّى 1206 ه.) قال: وأمّا محسن فأدرج سقطاً.(5)

21. الشيخ حسن الحمزاوي المالكي قال في كتابه «مشارق الأنوار» الذي فرغ من تأليفه سنة 1264 ه.: وأمّا محسن فأدرج سقطاً.(6)

هذه جملة من المحدثين والنسابين والمؤرخين ذكروا حديث سقط المحسن، فكيف تكون أسطورة اختلقتها الشيعة ؟!

فإذا أُضيف إليها ما ذكره علماء الشيعة من العصور الأُولى إلى العصر الحاضر رأيت أنّ القصة صارت ظاهرة متواترة لا يشك فيها إلّامن أغمض عينيه عن رؤية الحق.

والذي نرجوه من الشيخ أن ينظر إلى هذه المصادر ولا يكون من رماة الكلام

ص:177


1- . الشجرة النبوية في نسب خير البرية: 60.
2- . المشجر الكشاف: 229.
3- . تاج العروس: مادة (شبر).
4- . جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام: 104.
5- . إسعاف الراغبين بهامش مشارق الأنوار للحمزاوي: 81.
6- . نفس المصدر.

على عواهنه.

***

وأمّا ما استدل به من أنّ القول بسقط المحسن ينافي الحديث المعروف من أنّ السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام هي أوّل أهل البيت لحوقاً بالنبي صلى الله عليه و آله فالجواب عنه واضح جدّاً - ووجدان الشيخ قاض بذلك -، لأنّ الحديث ناظرٌ إلى المتواجدين والحاضرين حول الرسول صلى الله عليه و آله وأمّا الجنين المستور في ظلمات ثلاث فلا يعد من أهل البيت مادام لم يظهر إلى عالم الوجود.

والسلام عليكم وعلى كل من أحبّ الحق وترك التعصب لأجل الحق.

جعفر السبحاني

قم المقدسة - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

5 شوال المكرم 1430 ه.

ص:178

الفصل الثاني: في الأُصول والحديث والفقه

اشارة

1. أُصول الفقه ومناهجه عبر العصور

2. مصطلح «المسند» في علوم الحديث والمسانيد في عصر الأئمة عليهم السلام

3. منهجية نقد متن الحديث

4. حجة الوداع خطب وإرشاد

5. ما هو المراد من أنّ الأنبياء لم يورثوا؟

6. رسالة إلى الدكتور عبد الوهاب في رؤية الهلال

7. شركة الاعمال في الفقه الإسلامي

8. وقف الحلي والأثمان

9. رسالة في إرث الزوجة

10. هل ترك النبي صلى الله عليه و آله من مصادر التشريع

11. ادّعاء تحريم الزواج المؤقّت (المتعة)

12. عدم كفاية التسمية عند الأكل

13. حرمة الاستمناء كتاباً وسنة

14. الغناء والموسيقى في الكتاب والسنّة

15. في عدم مساواة دية المرأة لدية الرجل

ص:179

ص:180

1 أُصول الفقه ومناهجه عبر العصور

اشارة

عُرّف علم الأُصول بالعلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية، ولمّا كان هذا التعريف مختصّاً بالموارد التي يستنبط المجتهد فيها الحكم الشرعي من الكتاب والسنّة، ولا يشمل ما يستنبطه المجتهد بما يعد وظيفة فعلية للشاك في التكليف كأصل البراءة والاحتياط وغيرهما من الأُصول العملية، أضاف المتأخّرون من الأُصوليين على التعريف قيداً آخر، وهو: «أوما ينتهي إليه المستنبط في مقام العمل».

وعلى كلّ تقدير فأُصول الفقه في كلا الحقلين يقع في خدمة الفقه، ويوصف بالطريق الموصل إليه، فلذلك يعدّ من المبادئ التصديقية للقواعد والمسائل الفقهية، ويراد من المبادئ التصديقية القضايا التي يتوقّف التصديق بالنسب الموجودة في العلم (الفقه) عليها.

وهذا التعريف للمبادئ التصديقية ينطبق تماماً على أُصول الفقه، مثلاً قد وردت في الكتاب والسنّة أوامر ونواهي، والتصديق بوجوب ما أمر به أو حرمة ما نهي عنه موقوفٌ على ثبوت المسألة الأُصولية، وهو أنّ الأمر يدلّ على الوجوب وضعاً أو عقلاً، والنهي يدلّ على الحرمة كذلك، وهكذا سائر المسائل الأُصولية التي لها دور في استنباط الأحكام الشرعية.

ص:181

إنّ أبواب المفاهيم لها دور في استنباط الحكم الشرعي، فلو ثبت في علم الأُصول أنّ الجملة الشرطية والوصفية تدلّان على الثبوت عند الثبوت والانتفاء عند الانتفاء، تستخدم المسألة الأُصولية في استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الجمل الشرطية والوصفية الواردة في الكتاب العزيز. ويحكم على الحكم الشرعي في قوله: «الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء» بالثبوت لدى ثبوت القيد والانتفاء عند انتفائه.

ونظير ذلك باب العام والمطلق فإنّ حجّية عموم العام وإطلاق المطلق عند الشك في التخصيص والتقييد مسألة أُصولية يستنبط منها الحكم الشرعي الفرعي، وذلك إذا ورد عام أو مطلق وشككنا في خروج فرد أو طائفة من تحتهما. إلى غير ذلك من المسائل الكثيرة التي لها دور في استنباط الأحكام.

فإذا كان لعلم الأُصول ذلك الشأن فلا محيص من الاهتمام به ودراسته وتدريسه وتدوينه، إلى غير ذلك ممّا يزيد في تكامل العلم وتساميه.

أُصول الفقه في أحاديث العترة

لم يكن علم الأُصول بمحتواه أمراً مغفولاً عنه في عصر الأئمّة عليهم السلام، فقد أملى الإمام الباقر عليه السلام وأعقبه الإمام الصادق عليه السلام على أصحابهما قواعد كليّة في الاستنباط، رتّبها بعض الأصحاب على ترتيب مباحث أُصول الفقه.

ونخصّ بالذكر الكتب الثلاثة التالية:

1. الفصول المهمة في أُصول الأئمة للمحدث الحرّ العاملي (المتوفّى 1104 ه.).

2. الأُصول الأصلية للعلّامة السيد عبد اللّه شبر الحسيني الغروي (المتوفّى 1242 ه.).

3. أُصول آل الرسول، للسيد هاشم بن زين العابدين الخوانساري الاصفهاني (المتوفّى 1318 ه.).

ص:182

فقد بدأ نشاط تدوين علم أُصول الفقه عند الإمامية على ضوء القواعد الكلية الموجودة في أحاديث أئمتهم عليهم السلام بالنحو التالي:

فألّف يونس بن عبد الرحمن (المتوفّى 208 ه.) كتابه «اختلاف الحديث ومسائله» وهو نفس باب التعادل والترجيح في الكتب الأُصولية.

كما ألّف أبو سهل النوبختي إسماعيل بن علي (237-311 ه.) كتاب الخصوص والعموم، و الأسماء والأحكام، و إبطال القياس.

إلى أن وصلت النوبة إلى الحسن بن موسى النوبختي فألّف كتاب «خبر الواحد والعمل به». وهذه هي المرحلة الأُولى لنشوء علم أُصول الفقه عند الشيعة القدماء.

وبذلك يعلم أنّ أئمّة الشيعة عليهم السلام سبقوا غيرهم في إملاء القواعد الأُصولية على أصحابهم، كما أنّ تلامذتهم شاركوا الآخرين في حلبة التأليف والتصنيف.

أُصول الفقه ومناهجه المختلفة

لمّا ألّف الشافعي رسالته في أُصول الفقه وذاعت بين الفقهاء، عمد فقهاء أهل السنّة إلى تدوين مسائل الأُصول على طريقتين: اختصّ المتكلّمون بطريقة، وفقهاء الأحناف بطريقة أُخرى.

الطريقة الأُولى: طريقة المتكلّمين

فقد تميّزت كتبهم بأمرين:

1. هؤلاء نظروا إلى علم الأُصول نظرة استقلاليّة، وأنّه علم برأسه، فصاروا يقتنصون قواعده من هنا وهناك من دون نظر إلى فتوى فقيه دون فقيه، وبذلك صار أُصول الفقه علماً مستقلاً كسائر العلوم يخدم الفقه بما أنّه من مبادئه التصديقية، وبه توزن فتوى الفقيه فإن وافقت القاعدة فقد أصاب، وإن خالفت فقد أخطأ.

ص:183

2. سيادة الطابَع العقلي على مؤلّفهاتهم الأُصولية فأدخلوا فيه مسائل كلامية، كالحسن والقبح العقليّين وجواز تكليف ما لا يطاق وعدمه، إلى غير ذلك من المسائل العقلية.

فما بال علم باض وفرّخ بيد أهل المعقول الذين لا يصدرون في علومهم ومعارفهم إلّاعن البرهان، فلا محالة تتسم آراء الأُصوليين بالطابع العقلي.

فأوّل من بدأ التأليف على هذا النمط هو أبو بكر الصيرفي (المتوفّى 330 ه.)، قال القفّال في حقّه: ما رأيت أعلم بالأُصول بعد الشافعي من أبي بكر الصيرفي، له في الأُصول كتاب «البيان في دلائل الأعلام على أُصول الأحكام» وكتاب في الإجماع.

وقد تتابع التأليف على هذا النمط إلى أواخر القرن الثامن، فألّف جمال الدين الأسنوي شيخ الإسلام ورئيس الشافعية بالديار المصرية (المتوفّى 772 ه.) «نهاية السؤول في شرح منهاج الوصول إلى علم الأُصول» المطبوع المنتشر، وله أيضاً كتاب الزوائد وهو تلخيص للكتب الثلاثة: «المحصول» للرازي، و «الإحكام» للآمدي و «مختصر الأُصول» لابن الحاجب.

وممّا يجدر ذكره أنّ الكتب الأُم لهذه الطريقة لا تتجاوز ثلاثة:

1. المعتمد لأبي الحسين البصري (المتوفّى 436 ه.).

2. البرهان لإمام الحرمين الجويني (المتوفّى 478 ه.).

3. المستصفى للغزالي (المتوفّى 505 ه.).

وأمّا سائر الكتب فتتمتع بالتلخيص، فقد لخّص هذه الكتب الثلاثة فخر الدين الرازي (المتوفّى 606 ه.) وأسماه بالمحصول، كما قام بهذا العمل وزاد على الثلاثة شيئاً أبو الحسين المعروف بالآمدي (المتوفّى 621 ه.) في كتابه المعروف بالإحكام في أُصول الأحكام، حتّى أنّ «منتهى السؤل والأمل في علم الأُصول والجدل» لابن الحاجب (المتوفّى 643 ه.) هو تلخيص لكتاب «الإحكام» للآمدي.

ص:184

وقد كان هذا النوع من التأليف أي الجمع والتلخيص عملاً شائعاً بين الأُصوليّين في تلك المرحلة.

الطريقة الثانية: طريقة الأحناف

هذه الطريقة على خلاف ما عليه أصحاب الطريقة الأُولى حيث نظروا إلى علم أُصول الفقه نظرة آلية لا استقلالية، فلم يعمدوا إلى جمع مسائله وشوارده من هنا وهناك، بل عمدوا إلى جمع المسائل الفقهية الموافقة لفتوى أبي حنيفة فانتزعوا منها قاعدة أُصولية، فصارت القاعدة خاضعة للفروع لا حاكمة عليها، ولذلك لاترى في هذا النمط من الآثار بحثاً عقلياً أو مسألة كلامية.

وقد ظهرت هذه الطريقة في أوائل القرن الثالث، وأوّل من ألّف على وفقها هو عيسى بن أبان بن صدقة الحنفي (المتوفّى 220 ه.) فله في الأُصول رسالة مطبوعة ذكر فيها الأُصول الّتي عليها مدار كتب أصحاب أبي حنيفة.

ثم تبعه أبو منصور الماتريدي (المتوفّى 333 ه.) شيخ أهل السنّة في المشرق الإسلامي وله كتاب «مآخذ الشرائع في الأُصول».(1)

ثم تلاه أبو بكر الجصّاص (المتوفّى 370 ه.) وقد ألّف كتاباً في أُصول الفقه باسم «أُصول الجصاص» وقد تتلمذ على أبي الحسن الكرخي.

وجاء بعده أبو زيد الدبّوسي السمرقندي (المتوفّى 430 ه.) وقد ألّف كتاب «تأسيس النظر» وهو مطبوع.

وتلاه فخر الإسلام البزدوي (المتوفّى 482 ه.) فألف في الأُصول كتاب «كنز الوصول إلى معرفة الأُصول» وهو كتاب سهل العبارة يعدّ أوضح كتاب ألّف وفقاً لهذه الطريقة.

وتلاه شمس الأئمة السرخسي (المتوفّى 483 ه.) له كتاب «تمهيد الفصول

ص:185


1- . لاحظ كتابنا: بحوث في الملل والنحل: 3/11.

في الأُصول»(1).

وآخر من ألّف على هذا النمط الحافظ النسفي (المتوفّى 790 ه.) ومن تصانيفه «منار الأنوار» و «كشف الأسرار في شرح المنار» المطبوعان.

ولعلّ هناك مَن ألّف على هذه الطريقة ولم نقف عليه.

الطريقة الثالثة: الجمع بين الطريقتين

لمّا كانت لكل من الطريقتين مزيّة حيث إنّ النظرة إلى أُصول الفقه نظرة استقلالية والاستدلال عليها بالبرهنة تعدّ من مزايا هذه الطريقة غير أنّه تعوزها الصلة بين القاعدة والفروع المستنبطة، فالطالب يدرس أُصول الفقه كقواعد جافّة من دون أن يطّبقها على مواردها والفروع الّتي تترتب عليها، بخلاف الطريقة الثانية، فإنّ الصلة بين القاعدة والفروع قويمة حيث إنّ القاعدة تنتزع من جمع الفروع من هنا وهناك غير أنّه تفقد شمولية القاعدة لسائر المذاهب الفقهية، لأنّ المفروض أنّ القاعدة منتزعة من فتوى الإمام المعين كأبي حنيفة، فكيف يمكن أن يستند إليها فقهاء سائر المذاهب ؟

ولهذا حاول بعض المتأخّرين الجمع بين الطريقتين بمعنى تأسيس القاعدة والبرهنة عليها ثم تطبيقها على الفروع الكثيرة الواردة في الكتب الفقهية، وهذا نمط ثالث جدير بالتقدير، فإنّ القواعد الأُصوليّة كالقواعد الرياضية لا ينتفع بها المتعلم إلّابالتمرّن وحلّ المسائل على ضوء القواعد.

وممّن وفّق للتأليف على هذا النمط الفقيه المعروف بابن الساعاتي (المتوفّى 694 ه.) له مصنّفات في الفقه والأُصول، منها «بديع النظام في أُصول الفقه»، جمع فيه بين طريقتي الآمدي في كتابه «الإحكام» الّذي عنى فيه بذكر القواعد دون التطبيق على الفروع، وطريقة فخر الإسلام البزدوي في كتابه «كنز الوصول» الّذي

ص:186


1- . الفوائد البهية: 158؛ الجواهر المضيئة: 2/28.

عنى فيه بالشواهد الجزئية الفرعية.

وتلاه صدر الشريعة البخاري (المتوفّى 747 ه) له كتاب «تنقيح الأُصول» المطبوع وشرحه «التوضيح» المطبوع أيضاً، جمع فيه بين ثلاثة كتب من أُصول البزدوي الحنفي المؤلّف على الطريقة الثانية والمحصول للرازي ومنتهى السؤل والأمل لابن الحاجب المؤلّفين على طريقة المتكلمين.

إلى غير ذلك من الكتب المؤلّفة على هذه الطريقة.

الطريقة الرابعة: تخريج الفروع على الأُصول وتخريج الفروع على القواعد العربية

قد تعرفت على الطرق الثلاثة في تأليف أُصول الفقه، وهناك طريقة رابعة ربّما تكون أجمل وأكمل من الطريقة الثالثة، وهي تخريج الفروع على الأُصول على الطريقة الثالثة وتخريج الفروع على القواعد العربية، وهذا هو الّذي يميّز هذه الطريقة عن الطريقة الثالثة، حيث خرّج الفروع الفقهية على ضوء العلمين:

1. أُصول الفقه.

2. القواعد العربية.

وما أُلف على هذا النمط قليل جدّاً، نذكر منه:

1. الكوكّب الدّري للأسنوي الشافعي (المتوفّى 772 ه).

2. تمهيد القواعد الأُصولية، والعربية للشهيد الثاني (المتوفّى 966 ه).

فقد جمع الشهيد فيه بين تخريج الفروع على الأُصول وتخريجها على القواعد العربية، فذكر من القسم الأوّل مائة قاعدة أُصولية يستنبط منها أحكام فقهية، كما ذكر من القسم الثاني مائة قاعدة عربية لها مدخلية تامّة في استنباط الأحكام. والكتاب جدير بالمطالعة، ومن حسن الحظ أنّه طبع أخيراً في المشهد الرضوي بتحقيق أنيق، فشكر اللّه مساعي القائمين بإنجاز الكتاب بصورة بهيّة.

ص:187

منهج الإمامية في تدوين أُصول الفقه

إنّ أُصول الفقه لدى الأحناف - في الحقيقة - علم بالقواعد الفقهية حيث إنّ الفقيه يضمّ مسألة إلى مسألة ثم يوحّد بينهما وبين المسائل الأُخرى وينتزع من الجميع قاعدة فقهية. مثلاً إنّ الفقيه لمّا وقف على أنّ صحيح الإجارة وفاسدها يوجب الضمان ووقف أيضاً على أنّ البيع صحيحه وفاسده يوجب الضمان، إلى غير ذلك من المسائل الّتي فيها مبادلة مالين أو مال وانتفاع، فينتزع من الجميع قاعدة فقهية كلية ويقول: «كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» وهذا غير علم الأُصول الّذي يستعين الفقيه به في استنباط الحكم الشرعي، فلذلك نرى أنّ أصحابنا الإمامية منذ العصور الأُولى ألّفوا على طريقة المتكلّمين، فطرحوا أُصولاً وقواعد لها دور في استنباط الحكم الشرعي وربّما ألجأتهم الظروف إلى إدخال المسائل الكلامية، وهذا النمط هو السائد على ما ألّفه أصحابنا الإمامية من العصور المتقدمة إلى زماننا هذا، وفي الوقت نفسه ميّزوا القواعد الفقهية عن القواعد الأُصولية فألّفوا في ذينك الحقلين كتباً كثيرة، وها نحن نذكر بعض مَنْ ألّف في علم الأُصول:

1. الشيخ المفيد (المتوفّى 413 ه.) له كتاب «التذكرة في أُصول الفقه».

2. الشريف المرتضى (المتوفّى 436 ه.) له كتاب «الذريعة إلى أُصول الشريعة». وقد قامت مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام بتحقيقه ونشره مجدداً في مجلد واحد، عام 1429 ه..

3. سلّار الديلمي (المتوفّى 448 ه.) له كتاب «التقريب في أُصول الفقه».

4. الشيخ الطوسي (المتوفّى 460 ه.) له كتاب «العدّة في أُصول الفقه».

5. ابن زهرة الحلبي (المتوفّى 558 ه.) له كتاب «غنية النزوع إلى علمي الأُصول والفروع».

6. سديد الدين الحمصي (المتوفّى 600 ه.) له كتاب «المصادر في أُصول الفقه».

7. نجم الدين المحقّق الحليّ (المتوفّى 676 ه.) له كتاب «المعارج في أُصول

ص:188

الفقه». شكر اللّه مساعيهم.

إلى أن وصلت النوبة لنادرة الآفاق وعلّامة العراق الحسن بن يوسف بن المطهر (المتوفّى 726 ه.) المعروف بالعلّامة الحلي فغار في بحار هذا العلم وغاص في عبابها فأخرج لآلئها، وإليك أسماء ما صنّفه في هذا العلم على وجه الإجمال:

1. «غاية الوصول وأيضاح السبل» في شرح مختصر منتهى الوصول والأمل في علمي الأُصول والجدل لابن الحاجب (المتوفّى 646 ه.)، ذكره المصنّف في «خلاصة الرجال»، وقد حقّق في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام وطبع الجزء الأوّل منه عام 1430 ه.، والجزء الثاني قيد الطبع.

2. «مبادئ الوصول إلى علم الأُصول» مطبوع ذكره المصنّف لنفسه في «الخلاصة». وفي إجازته للسيد المهنّا.

3. «منتهى الوصول إلى علم الكلام والأُصول» ذكره المصنّف في الخلاصة وفي إجازته للسيد المهنّا، فرغ منه يوم الجمعة السادس عشر من شهر جمادى الأُولى سنة 687 ه.

4. «نهج الوصول إلى علم الأُصول»، ذكره المصنّف في الخلاصة وإجازته للسيد المهنّا.

5. «نهاية الوصول إلى علم الأُصول» وقد حُقّق في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ونشر في خمسة أجزاء ما بين الأعوام 1425-1429 ه..

6. «تهذيب الوصول إلى علم الأُصول» المطبوع المنتشر، ولم يزل هذا الكتاب موضع اهتمام منذ تأليفه إلى يومنا هذا، وتشهد على ذلك كثرة الشروح والتعاليق عليه الّتي ذكرها شيخنا المجيز آغا بزرگ الطهراني (المتوفّى 1389 ه.) في كتابه «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» فقد بلغ عدد الشروح 23 شرحاً، كما بلغ عدد التعاليق خمسة.

وربّما يوجد في المكتبات شروح وتعاليق أُخرى لم يقف عليها شيخنا

ص:189

المجيز، والكتاب يتميّز بالإيجاز في التعبير والرصانة في المعنى على نحو يناسب الكتب الدراسية.

وممّن قام بشرحه في عصر المؤلف أو بعد رحيله بقليل، الأخوان العالمان الكبيران والكوكبان المضيئان ابنا أُخت العلّامة وتلميذاه، أعني:

1. عميد الدين ابن الأعرج: عبدالمطلب بن محمد بن علي بن محمد بن الأعرج الحسيني المعروف بالسيد عميد الدين أبوعبداللّه الحلي البغدادي (681 - 754 ه.) ابن أُخت العلّامة الحلي وتلميذه. وسمّاه «النقول في شرح تهذيب الوصول إلى علم الأُصول» على ما ذكره ابن الفوطي.(1)

2. ضياء الدين ابن الأعرج: (بعد 681 - كان حياً 740 ه) وسمّى الشرح ب «منية اللبيب في شرح التهذيب»، وقد قامت اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام بتحقيق هذا الكتاب ونشره في جزأين.

كما أنّ الشهيد الأوّل محمد بن مكي العاملي (733-786 ه) جمع بين الشرحين في كتاب سمّاه «جامع البين من فوائد الشرحين».

يقول شيخنا المجيز: جمع الشهيد فيه بين فوائدهما وزاد عليهما فوائد أُخرى، ثم ينقل عن كشف الحجب: إن الشهيد ألّفه في أوائل شبابه ولم يراجع المسودّة فبقيت النسخة غير منقحّة، فوجدها الشيخ عزالدين حسين بن عبدالصمد والد الشيخ بهاء الدين (المتوفّى 984 ه) فأصلحها في سنة 941 ه.، وقال بعد تمام الإصلاح: «ثم إنّ الشيخ الشهيد ميّز ما اختص به شرح الضياء بعلامة (ض) وما اختص به شرح العميد بعلامة (ع) وأنا تابعته في ذلك، وما كان زائداً عليهما، كتبت في أوّله لفظة (زيادة) وفي آخره (ه.)، فصارت هذه النسخة مميّزة مختصات الشرحين والزائدة عليهما ومختصّة بمزيد الإصلاح والتصحيح، ثم ينقل عن كشف الحجب أيضاً أنّه ظفر بحمداللّه على نسخة خط الشيخ حسين بن

ص:190


1- . راجع: موسوعة طبقات الفقهاء: 119/8 برقم 2745.

عبدالصمد. أوّله: «أحمدك اللهم على سوابغ نعمائك وأبلغ محامدك وأسألك المزيد من فضلك»(1).

وقد حقّق الكتاب ونشره في جزأين مكتب الإعلام الإسلامي في قم، سنة 1430 ه.. وليس ما بأيديهم من النسخ ما يميّز أحدهما عن الآخر.

ص:191


1- . الذريعة: 5/43-44.

2 مصطلح «المسند» في علوم الحديث

اشارة

والمسانيد في عصر الأئمّة عليهم السلام

يطلق «المسند» ويقع وصفاً للحديث، يقال: «حديث مسند» وهو ما اتصل اسناده من راويه إلى منتهاه.(1) ويطلق عليه المتصل وربما يفرّق بينهما بملاحظة الرفع في المسند، فهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و آله. أمّا المتصل فما اتصل سنده بسماع كل راو من رواته فمن فوقه سواء أكان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه و آله أم موقوفاً على التابعي.(2)

وأُخرى يطلق على الحديث المدوّن، يجمع المؤلّف أحاديث صحابي في موضوعات مختلفة دون ترتيب بينها كمسند عبد اللّه بن العباس أو عبد اللّه بن مسعود أو أبي بن كعب.

يقول التهانوي: ويطلق المسند عندهم أيضاً على كتاب جمع فيه مسند كلّ صحابي على حدة أي جمع فيه ما رواه من حديثه صحيحاً كان أو ضعيفاً واحداً فواحداً.(3)

ص:192


1- . تدريب الراوي: 147/1، دار الكتاب العربي؛ محاسن الاصطلاح: 46-47، دار الكتب العلمية.
2- . تدريب الراوي: 60.
3- . كشاف اصطلاحات الفنون: 2/246، دار صادر، بيروت.

المسانيد في عصر الأئمّة عليهم السلام

قد تضافر النقل على أنّه روى عن الإمام الصادق عليه السلام من مشهوري أهل العلم، أربعة آلاف إنسان، وصُنِّف من جواباته في المسائل أربعمائة كتاب تسمّى «الأصول» رواها أصحابه وأصحاب ابنه موسى الكاظم عليه السلام، يقول المحقق الحلّي:

كتبت من أجوبة مسائل جعفر بن محمد عليه السلام أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف سمّوها أصولاً.(1)

وقال الشهيد: إنّ أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام كُتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف، ودوّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام، وكذلك عن مولانا الباقر عليه السلام، ورجال باقي الأئمّة معروفون مشهورون، أُولو مصنّفات مشتهرة ومباحث متكثّرة، قد ذكر كثيراً منهم العامّة في رجالهم، ونسبوا بعضهم إلى التمسّك بأهل البيت عليهم السلام.(2)

إلى غير ذلك من الكلمات المماثلة، وهذه الأُصول كلّها كانت مسانيد لمؤلّفيها، حيث جمع الراوي ما سمعه من الإمام بلا واسطة أو ممن سمعه كذلك، في أصل.

ولم يكن لهذه الأُصول ترتيب خاص في نقل الروايات حسب الكتب والأبواب وما ذلك إلّالأنّ جلّها من إملاءات المجالس وأجوبة المسائل النازلة المختلفة، ويشهد على ذلك ما هو الموجود من هذه الأُصول الستة عشر الّتي وقف عليها أُستاذنا السيد محمد الحجّة الكوه كمري وقام بطبعها.

وقال الشيخ بهاء الدين العاملي: قد بلغنا عن مشايخنا - قدس اللّه سرّهم - أنّه كان من دأب أصحاب الأُصول أنّهم إذا سمعوا عن أحد من الأئمّة عليهم السلام حديثاً بادروا إلى إثباته في أُصولهم، لئلّا يعرض لهم نسيان لبعضه أو كلّه بتمادي

ص:193


1- . المعتبر: 1/26.
2- . موسوعة الشهيد الأوّل: 22/1.

الأيّام.(1)

وقال المحقّق الداماد: كان من دأب أصحاب الأُصول أنهم إذا سمعوا من أحدهم عليهم السلام حديثاً بادروا إلى ضبطه في أُصولهم من غير تأخير.(2)

ومن الواضح انّ احتمال الخطأ والغلط والسهو والنسيان في الأصل المسموع شفاهاً عن الإمام عليه السلام أو عمن سمع عنه، أقلّ منه، ممّا هو منقول عن كتاب آخر، فالاطمئنان بصدور عين الألفاظ المندرجة في الأُصول أكثر والوثوق به آكد. فإذا كان مؤلف الأصل من الرجال المعتمد عليهم، الواجدين لشرائط القبول، يكون حديثه حجّة لا محالة وموصوفاً بالصحة.(3)

وعلى هذا فهذه الأصول كانت مسانيد لأصحابنا في القرنين: الثاني والثالث، ولم يكن تأليف الأصول مختصاً بحياة الإمام الصادق والكاظم عليهما السلام بل استمرت كتابتها على هذا النمط إلى عهد الإمام العسكري عليه السلام.

وبما أنّ ابن أبي عمير أدرك أصحاب الإمام الصادق عليه السلام وعاصر الإمام موسى ابن جعفر عليه السلام والرضا عليه السلام فما أخذه من تلاميذ الإمام الصادق عليه السلام أو من الإمامين الهمامين يعدّ أصلاً من الأُصول، وله قيمة كقيمة سائر الأُصول.

لقد امتاز الرجل من بين أقرانه أنّه روى عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ما لم يروه عنهم غيره، حيث بلغ عدد رواياته حسب ما جمعه ولدنا الفاضل الشيخ بشير المحمدي المازندراني (4443) رواية، وهذا يدلّ على مكانته العلمية وولعه بحفظ آثار أئمّة أهل البيت عليهم السلام ونقلها إلى الأجيال الآتية، فالرجل حقّاً من مصاديق قول الإمام الصادق عليه السلام: اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر روايتهم عنّا.(4)

إنّ التعرف على شخصية ذلك المحدّث الرفيع يتوقف على الكلام في محاور

ص:194


1- . مشرق الشمسين: 268.
2- . الرواشح السماوية، الراشحة: 92.
3- . الذريعة: 126/2.
4- . رجال الكشي: 9.

ثلاثة:

1. مكانته العلمية والاجتماعيّة.

2. التعرّف على مشايخه الذين يعدّون بالمئات.

3. مراسيله كمسانيده في الحجّية.

وأمّا الأمر الثاني أي التعرف على مشايخه، فقد قامت به لجنة التحقيق في دار الحديث فذكروا مشايخه ومن أخذ عنه الحديث على وجه التفصيل.

وأمّا الثالث فالسبب لانقلاب مسانيده إلى المراسيل أنّه لما تعرّض للظلم والاضطهاد والتعذيب، وأُصيب بمحنة هلاك كتبه، لم تضعف عزيمته، بل حدّث من حفظه، فأسند ما كان في ذاكرته وأرسل غيره، وقد اشتهر أنّ مراسيل ابن أبي عمير كمسانيده، وهذا ما أوضحنا حاله في كتابنا «كليات في علم الرجال»، وأثبتنا أنّ الرجل ممّن كان لا يروي إلّاعن ثقة، وأجبنا عن النقوض التي وجهها إليه السيد المحقق الخوئي قدس سره في «معجم رجال الحديث».(1)

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:195


1- . لاحظ كليات في علم الرجال: 216 و 234.

3 منهجية نقد متن الحديث

اشارة

الحديث هو المصدر الثاني في حقلي العقائد والأحكام، بعد كتاب اللّه الكريم، وقد خصّ اللّه سبحانه به المسلمين دون سائر الأُمم، فاهتموا بنقل ما أُثر عن النبي صلى الله عليه و آله وخلفائه المعصومين عليهم السلام وتحرّوا في نقله الدقة، وهذا أمر واضح لا سترة عليه.

ولأجل هذه المكانة قام غير واحد من الصحابة بالاهتمام بتدوين حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله على شكل صحف كما هو الحال في المسانيد، إلى أن جاء دور التدوين فرتّب على صورة كتب ومواضيع.

كان أمير المؤمنين علي عليه السلام من السبّاقين لتدوين السنة النبوية في عصره، وقد كتب ما أملاه عليه النبي صلى الله عليه و آله في صحيفة عرفت ب «كتاب علي» تارة و «بالجامعة» أُخرى، وقد ورث هذه الصحيفة أبناؤه واحداً بعد الآخر، وكانوا يرجعون إليها حيناً بعد حين.

وقد توالى الاهتمام بالحديث بعد رحيل رسول اللّه صلى الله عليه و آله عصراً بعد عصر، وإن كان هناك تفاوت في هذا الاهتمام حسب رغبات حكام الوقت وأهدافهم وضغوطهم على المحدّثين.

وبالنظر للدور الهام للحديث عند المسلمين فقد استغله الوضّاعون فراج اختلاق الحديث والتكذيب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعد رحلته، وكان النبي صلى الله عليه و آله قد تنبّأ

ص:196

به من قبل فقال: «من تعمّد عليّ كذباً فليتبّوأ بيتاً في النار».(1)

وكلّما ابتعد الناس عن عصر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، كثر الوضع والدس في الحديث فنشرت سماسرة الهوى وأعداء الدين كل غث وسمين باسم الدين وباسم رسول اللّه صلى الله عليه و آله، حتّى أنّ الغلاة من الشيعة أدخلوا في الحديث ما ليس منه، ولذلك فقد تبرّأ منهم أئمة أهل البيت عليهم السلام.

ولهذا وذاك قام المخلصون المتفانون في خدمة الحديث إلى وضع قواعد لتمييز الصحيح عن غيره، وركّزوا في ذلك على دراسة أسانيد الحديث فقسّموه إلى أقسام، وأسّسوا لذلك علماً باسم علم الرجال أوّلاً، والدراية ثانياً. فالأوّل يبحث عن الصغرى أي حال الراوي ومكانته في نقل الحديث، والثاني يبحث في تقسيم الحديث والأحكام الطارئة عليه، وبذلك قدّموا خدمات جليلة يقيّمها كل من له إلمام بالحديث.

غير أنّهم ركّزوا في تمحيص السنّة على دراسة الأسانيد وقسّموا الحديث باعتبارها إلى: الصحيح والحسن والموثّق والضعيف، كما قسّم آخرون الحديث بنفس هذا الملاك إلى الأقسام الثلاثة الأُولى، والكل يركّزون في دراستهم للحديث على سنده.

غير أنّ هناك طريقاً آخر في تمحيص السنّة قد ابتكره أئمة أهل البيت عليهم السلام وتبعهم أكابر علماء الحديث من الشيعة، ألا وهو دراسة مضمون الحديث ونقده على ضوء مقاييس قطعية:

وليس نقد الحديث كنقد السند، فإنّ الثاني سهل لمن راجع المعاجم، ولكن الأوّل يتوقّف على الإحاطة بمعارف وعلوم كثيرة، ولذلك لما سُئل ابن قيّم الجوزية وقيل له: هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده ؟ فأجاب: هذا سؤال عظيم القدر وإنّما يعلم ذلك من تضلّع في معرفة السنن

ص:197


1- . مسند أحمد: 1/70.

الصحيحة... وصار له اختصاص شديد بمعرفة السُّنن والآثار.(1)

وإليك الضوابط الست الّتي اخترناها لتمييز الصحيح عن غيره.

1. عرض الحديث على كتاب اللّه الكريم

لاشك أنّ القرآن الكريم هو المرجع الأوّل للمسلمين في الشريعة والعقيدة، وقد عرفه اللّه سبحانه بأنّ فيه تبياناً لكل شيء، قال سبحانه: (وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ ) (2).

وقال سبحانه في آية أُخرى: (وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) (3).

فإذا كان القرآن ميزاناً للحق والباطل أوّلاً، ومهيمناً على جميع الكتب السماوية ثانياً، فأولى به أن يكون ميزاناً للحق والباطل في حقل الحديث ومهيمناً على ما ينسب إلى صاحب الشريعة المحمدية من صحيح وسقيم.

وعلى ضوء هذا قال الإمام الصادق عليه السلام: «كلّ شيء لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف».(4)

والمراد من عدم الموافقة هو المخالفة، وهو واضح.

وقد اتّبع المحدّث الكبير الشيخ الكليني تلك الطريقة فقال في ديباجة أثره الخالد: اعلم يا أخي - أرشدك اللّه - أنّه لا يسع أحداً تمييز شيء ممّا اختلفت الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه إلّاما أطلقه العالم بقوله: «أعرضوها على كتاب اللّه، فما وافقه كتاب اللّه عزوجل فخذوه، وما خالف كتاب اللّه

ص:198


1- . المنار المنيف، لابن قيم الجوزية: 43-45.
2- . النحل: 89.
3- . المائدة: 48.
4- . وسائل الشيعة: 18، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14.

فردّوه».(1)

ثم إنّ عرض الحديث على كتاب اللّه وإن وقع موقع نقاش عند بعض أهل السنّة، إلّاأنّ قسماً منهم وافقوا على هذا الميزان، قال الخطيب البغدادي: ولا يُقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل وحكم القرآن الثابت المحكم.(2)

2. عرض الحديث على السنّة القطعية

السنّة القطعية والكتاب العزيز حجتان واضحتان، غير أنّ الكتاب وحي بلفظه ومعناه والسنّة وحي بمعناها لا بلفظها، ولذلك تصلح أن تكون أيضاً معياراً لتمييز الصحيح من الباطل، وقد نبّه على ذلك الإمام الصادق عليه السلام في حديث أيوب بن الحر، قال: قال عليه السلام: «كل شيء مردود إلى الكتاب والسنّة».(3)

3. عرض الحديث على العقل الحصيف

احتل العقل مكانة رفيعة في الإسلام، وليس المراد من العقل الأساليب والاستدلالات العقلية الّتي يختصّ فهمها بأصحاب الفكر والحكمة، وإنّما المراد به ما اتّفق عليه العقلاء بوحي من الفطرة إذا تجردوا عن كلّ النزعات والرواسب والخلفيات.

ولولا حجّية العقل لانسَدّ باب إثبات الصانع، بل ينسد إثبات حجّية كلّ شريعة من الشرائع السماوية، ولذلك ركّز سبحانه على العقل في غير واحد من الآيات ربّما ناهز عددها الخمسين.

ولأهمية العقل فقد افتتح المحدّث الكبير الشيخ الكليني كتابه «الكافي» بكتاب أسماه كتاب العقل والجهل، وذكر فيه 34 حديثاً، وجعل الكتاب الثاني

ص:199


1- . الكافي: 1/49.
2- . الكفاية في علم الدراية: 606.
3- . الكافي: 1/49.

باسم كتاب العلم؛ وبهذا يظهر البون الشاسع بين الكافي وصحيح البخاري الّذي افتتحه مؤلفه بكتاب العلم وفضله ولم يذكر عن العقل شيئاً.

وقد اقتفى ذلك المنهج محدِّثو الشيعة وعلماؤهم، يقول الشيخ المفيد رحمه الله:

وكذلك إن وجدنا حديثاً يخالف العقول أطرحناه لقضية العقل بفساده.(1)

وقال السيد المرتضى رحمه الله: كلّ خبر دلّ ظاهره على إجبار أو تشبيه أو ما جرى مجرى ذلك ممّا علمنا استحالته وجب الحكم ببطلانه، لأنّ الحكمة والدين يمنعان من الخطاب بما يحتاج إلى تكلّف وتعسّف شديد حتّى يحتمل الصواب.(2)

وهل يقبل العقل الحصيف ما ذكره ابن تيمية على منبر الجامع الأموي في دمشق يوم الجمعة خطيباً فقال: (إنّ اللّه ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا)، ونزل درجة من درج المنبر، يريهم نزول اللّه تعالى نزولاً حقيقياً بكل ما للنزول من لوازم، كالحركة والانتقال من العالي إلى السافل.(3)

نعم يوجد بعض المتشدّدين من المحدّثين من ينتقد ذلك المنهج (أي عرض الحديث على العقل الحصيف)، وذلك لما ورد في الصحيحين من الروايات الكثيرة الظاهرة في الجبر والتشبيه وإثبات الجهة حتّى نسبة التحرك إلى اللّه سبحانه، فإذا قبلوا هذا المنهج فعليهم برفض هذه الأحاديث.

4. عرض الحديث على التاريخ الصحيح

التاريخ الصحيح الّذي اتّفق عليه أعلام المسلمين أحد المعايير لتمييز الصحيح عن السقيم.

ولكن لا نقول: إنّ كل ما ورد في كتب السيرة صحيح، وإنّما نعني ما اتّفق عليه

ص:200


1- . تصحيح عقائد الإمامية: 149.
2- . الذريعة إلى أُصول الشريعة: 2/516.
3- . رحلة ابن بطوطة: 1/57.

المؤرخون وكتّاب السيرة المنصفون.

فمن رجع إلى كتب الحديث وجد أنّ قسماً من الأحاديث لا يصدقه التاريخ الصحيح بل يكذبه.

وهذا ما تراه في الأُنموذج التالي: أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس:

كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي: يا نبي اللّه ثلاث أعطنيهنّ؟ قال: نعم.

قال: عندي أحسن العرب وأجمله أُم حبيبة بنت أبي سفيان، أزوجكها؟ قال:

نعم.

قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك ؟ قال: نعم.

قال: وتؤمرني حتّى أُقاتل الكفّار كما كنت أقاتل المسلمين ؟ قال: نعم.

قال أبو زميل: ولولا أنّه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه و آله ما أعطاه ذلك، لأنّه لم يكن يسأل شيئاً إلّاقال نعم.(1)

إنّ أبا سفيان أسلم - حسب الظاهر - يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، والنبي صلى الله عليه و آله قد تزوّج أُمّ حبيبة في مكة قبل الهجرة، ولذلك يقول القاضي عياض:

والمعروف أنّ تزويج النبي لها كان قبل الفتح والّذي وقع في مسلم من هذا، غريب جداً.(2)

5. عرض الحديث على اتّفاق الأُمّة

إنّ اتفاق الأُمّة دليل قطعي على الصحّة، وبذلك تقف على صحّة ما أخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» عن طريق علي بن زيد بن جدعان، عن أنس قال:

مطرت السماء برداً فقال لنا أبو طلحة: ناولوني من هذا البرد فجعل يأكل وهو صائم وذلك في رمضان، فقلت: أتأكل وأنت صائم ؟! فقال: إنّما هو برد نزل من

ص:201


1- . صحيح مسلم: 7/171، باب فضائل أبي سفيان بن حرب.
2- . إكمال المعلم بفوائد مسلم (للقاضي عياض): 7/546.

السماء نطهر به بطوننا وأنّه ليس بطعام ولا شراب، فأتيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله فأخبرته بذلك، فقال: «خذها عن عمّك».(1)

أقول: إنّ اتّفاق الأُمّة على أنّ الأكل والشرب مطلقاً مبطل للصوم يكفي في الحكم على هذا الحديث بالوضع والدس، وإن صحّ سنداً.

6. مخالفة الحديث لمسلّمات العلم

إنّ المسلّمات العلمية الّتي أيّدتها التجربة عبر قرون وصدقها الخبراء ووسائل العلم تكون ميزاناً لنقد مضامين بعض الأحاديث.

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة يقول: سمعت النبي صلى الله عليه و آله يقول إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإنّ في إحدى جناحيه داء والأُخرى شفاء.(2)

ولكن العلم كشف أنّ الذباب يحمل في جناحيه الجراثيم المهلكة والمبيدة، ولم نجد أحداً من العقلاء يتفوّه بخلاف ذلك.

***

هذه المنهجية هي الّتي سرنا عليها في كتابنا «الحديث النبوي بين الرواية والدراية» مع أنّها منهج بديع ولكنّها ليست مبتكرة، فقد سبقنا إليها رجال آخرون شاركناهم في نقد الحديث مضموناً في مقابل نقده سنداً، نظير:

1. نقد متون السنّة تأليف مسفر عزم الدميني.

2. منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي لصلاح الدين الأدلبي.

3. الفوائد المقصودة في الأحاديث الشاذة المردودة للشيخ أبي الفضل الغماري.

4. الحديث النبوي بين أهل العقل والفهم للشيخ المجاهد محمد الغزالي.

ص:202


1- . مشكل الآثار: 2/238، برقم 1983.
2- . صحيح البخاري: 4/130.

5. أضواء على السنّة المحمدية للكاتب المصري الدكتور محمود أبو ريّة.

وقد قام غير واحد من أعلام الطائفة بدراسة هذه المنهجية نذكر منهم ما يلي:

1. شيخ الشريعة فتح اللّه النمازي الاصفهاني (المتوفّى 1339 ه) في كتابه:

«القول الصراح في نقد الصحاح».

2. سيد الطائفة السيد شرف الدين العاملي (المتوفّى 1377 ه) في كتابه: «أبو هريرة» وقد بحث فيه عن سيرته ورواياته.

3. المحقّق محمد تقي التستري (المتوفّى 1415 ه) مؤلف كتاب: «الأخبار الدخيلة».

4. هاشم معروف الحسني، مؤلف كتاب: «الموضوعات في الآثار والأخبار».

وأخيراً ننوه إلى أمرين:

الأوّل: أنّ دراسة الأحاديث على ضوء هذه الضوابط ليست «رمية كل رام، وشرعة كل وارد»، بل يحتاج تطبيق هذه المنهجية إلى تشكيل لجان تضم المختصين في العلوم الإسلامية حتّى تنسد بذلك جميع الثغرات المحتمل حصولها إذا كان هذا العمل فردياً.

الثاني: من حُسن الحظ أنّ الفقهاء عبر القرون قاموا بدراسة الروايات الواردة حول الأحكام الشرعية دراسة دقيقة سنداً ومضموناً، وخرجوا بنتائج باهرة، إلّاأن الروايات المتعلّقة بالعقائد والمعارف والتاريخ والسنن الكونية والسيرة والأخلاق بقيت بحاجة ماسّة إلى هذا النوع من الدراسة.

ولذلك أصبح ترك دراسة هذه الجوانب ذريعة للأعداء لكي يشنّون بواسطة بعض الروايات حملات عنيفة ضد الإسلام.

هذه هدية متواضعة مني للحضّار الكرام في مؤتمر «الطرق والمناهج لدراسة الحديث» عسى أن تحظى بقبولهم، وأن تكون منهجاً متميّزاً عن المناهج الأُخرى.

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

11 جمادى الأُولى 1429 ه.

ص:203

4 حجة الوداع..

اشارة

خطب وإرشاد

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق اللّه وخاتم رسله محمد الأمين وعلى آله الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى قيام يوم الدين.

أمّا بعد؛

بلغنا من خلال صفحات الانترنيت أنّ وزارة الحج الموقّرة في المملكة العربية السعودية ستعقد - خلال أيام الحج هذا العام 1428 ه - ندوة إسلامية كبرى تحت عنوان «حجة الوداع.. شعائر وقِيَم»، وذلك على قاعة التضامن الإسلامي في مكة المكرمة.

ونحن إذ نثمن انعقاد مثل هذه الندوات الّتي تلم شمل المسلمين وتجمع كلمتهم وتوحّد صفوفهم أمام الأعداء، ونعتبرها خطوةً مباركة للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وتظاهرةً علمية لتلاقح الأفكار؛ لا يفوتنا المساهمة المتواضعة في هذا المهرجان الكبير أداءً لحق رسول اللّه صلى الله عليه و آله وحباً له من خلال استعراض خطبه وكلماته في حجة الوداع، آملين أن تقع موقع القبول والرضا.

جعفر السبحاني

ص:204

مقدّمة

في السنة العاشرة للهجرة عزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله على أن يحج بيت اللّه الحرام فخرج لخمس بقين من ذي القعدة ووصل مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة.(1)

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد حرّض المسلمين على الحج وقال: «من أراد الحج فليتعجّل، فإنّه قد يمرض المريض، وتضلّ الضالّة، وتعرض الحاجة»(2).

وبعد أن أمر اللّه تعالى نبيه بالأذان والإعلان للحج، أمر النبي صلى الله عليه و آله المؤذنين أن يؤذّنوا بذلك بين المسلمين، وكتب إلى علي بن أبي طالب عليه السلام وجنده، وإلى أبي موسى الأشعري وأتباعه في اليمن أن يلتحقوا به صلى الله عليه و آله في مكة المكرّمة.

والظاهر أنّ أوّل هذا الإخبار والإعلام كان في أوائل ذي القعدة الحرام، فقد قال ابن إسحاق: فلمّا دخل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذو القعدة تجهّز للحج، وأمر الناس بالجهاز له.(3)

خرج النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من المدينة مغتسلاً متدّهناً وخرجت معه نساؤه كلّهنّ ، وتبعه جمّ غفير من المسلمين الذين حرصوا على مرافقته من المدينة ليتشرّفوا بصحبته.

قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب فاجتمعوا، فحجّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وإنّما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون ويتبعونه، أو يصنع شيئاً فيصنعونه».(4)

وروي عن جابر بن عبداللّه الانصاري أنّه قال: فقدم المدينة بشر كثير كلّهم

ص:205


1- . السيرة النبويّة لابن هشام: 4/248.
2- . مسند أحمد بن حنبل: 1/458؛ سنن ابن ماجة: 2/962؛ المعجم الكبير للطبراني: 18/296؛ السنن الكبرى للبيهقي: 6/463.
3- . السيرة النبوية لابن هشام: 4/248.
4- . الكافي للكليني: 4/245؛ تهذيب الاحكام: 5/454.

يلتمس أن يأتمّ برسول اللّه صلى الله عليه و آله ويعمل مثل عمله.(1)

وكان المسلمون ينتظرون هذا السفر، ليتعلّموا مناسك الحج، فأي منسك أدّاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله فهو من الحج الإبراهيمي، وما تركه فهو من أعمال الجاهلية الأُولى.

ويتجلّى هذا التهيّؤ والانتظار في رغبتهم وشوقهم واجتماعهم العظيم حتّى سلكوا طريق مكة رجالاً وركباناً، طريقاً يقرب من ألف كيلومتر ذهاباً وإياباً.

وقد اختلف المؤرخون والمحدثون في عدد المسلمين آنذاك، فمنهم من قال: إنهم كانوا مائة وعشرين ألفاً.(2)

وقال المقريزي في وصف خطبة النبي صلى الله عليه و آله في يوم عرفة: فإنّه شهد الخطبة نحواً من أربعين ألفاً.(3)

وقال الطبرسي: وبلغ من حجّ مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب سبعين ألف إنسان أو يزيدون.(4)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعد أن أتمّ الحج غادر مكة المكرمة متوجّهاً إلى المدينة في الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجة الحرام، فدخلها في الثالث والعشرين منه.

وخلال مسيرته هذه كانت له وقفات في العديد من الأماكن الّتي مر بها وشهدت له إلقاء الخطب الرائعة والتوجيهات التربوية والحضارية السامية، والإرشادات التعليمية حيث إنّه كان يجسد عملياً أهداف الحج الّتي أرادها اللّه تعالى من هذه الفريضة الإسلامية الهامّة.

وسوف نشير في هذه الرسالة بالإيعاز الموجز والإشارة العابرة إلى خطبه وكلماته الّتي ألقاها في هذه الرحلة التاريخية، وننوه إلى ما تضمنته كل منها إلى مبادئ الإسلام وأُصوله ومقاصد الشريعة وأهدافها.

ص:206


1- . صحيح مسلم: 2/724؛ المغازي للمقريزي: 2/1088.
2- . تذكرة الخواص: 30.
3- . إمتاع الأسماع: 2/112.
4- . الاحتجاج: 1/134.

عدد خطبه صلى الله عليه و آله في حجة الوداع

اشارة

اختلف أصحاب السير والمؤرخون في عدد الخطب الّتي ألقاها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في حجة الوداع.

فقد قال الحلبي في السيرة: خطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله في الحجّ خمس خطب:

الأُولى يوم السابع من ذي الحجّة بمكّة، والثانية يوم عرفة، والثالثة يوم النحر بمنى، والرابعة يوم القرّ(1) بمنى، والخامسة يوم النفر الأوّل بمنى أيضاً.(2)

ويقول المقريزي: خطب صلى الله عليه و آله في حجّته ثلاث خطب: الأُولى قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكّة، والثانية يوم عرفة بعرفة حين زاغت الشمس على راحلته قبل الصلاة، والثالثة يوم النحر بمنى بعد الظهر على راحلته القصواء. وقيل: بل خطب الثانية ثاني يوم النحر.

ثم قال: وقال المحب الطبري: دلّت الأحاديث على أنّ الخطب في الحج خمسة: خطبة يوم السابع من ذي الحجة، وخطبة يوم عرفة، وخطبة يوم النحر، وخطبة القرّ، وخطبة يوم النفر الأوّل.(3)

ومهما كان الحال فعلينا أن نورد ما ذكرته كتب التاريخ والحديث من خطبه وكلماته صلى الله عليه و آله، وقد رتّبناها حسب زمانها ومكانها، فكانت كما يلي:

1. خطبته صلى الله عليه و آله في اليوم السابع والثامن من ذي الحجة

قال الواقدي في مغازيه: خطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة.(4)

وقال الحاكم النيسابوري في مستدركه: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا كان قبل التروية

ص:207


1- . مراده من يوم القرّ اليوم الحادي عشر من ذي الحجّة.
2- . السيرة النبوية للحلبي: 3/333.
3- . إمتاع الأسماع: 2/117.
4- . المغازي: 2/1100.

بيوم خطب الناس فأخبرهم بمناسكهم.(1)

وجاء في صحيحة معاوية بن عمّار الطويلة عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام:

«فلمّا كان يوم التروية عند زوال الشمس أمرالناس أن يغتسلوا ويهلّوا بالحجّ ، وهو قول اللّه - عزّ وجلّ - الّذي أنزل على نبيّه: (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ - أبيكم - إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (2) فخرج النبيّ صلى الله عليه و آله وأصحابه مهلّين بالحجّ حتّى أتوا منى فصلّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر، ثمّ غدا والناس معه».(3)

2. كلماته صلى الله عليه و آله في يوم عرفة

وردت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله كلمات وأحاديث كثيرة خلال تواجده في يوم عرفة (التاسع من ذي الحجة) في عرفات نذكر منها:

1. جاء في التهذيب بسنده عن سعد بن عبداللّه، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن محمّد بن سماعة الصيرفي، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «... إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقف بعرفات فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته، يقفون إلى جانبها، فنحاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ففعلوا مثل ذلك، فقال: أيّها الناس إنّه ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف، ولكن هذا كلّه موقف، وأشار بيده إلى الموقف وقال: هذا كلّه موقف، فتفرّق الناس، وفعل ذلك بالمزدلفة...».(4)

2. وفي صحيحة معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «ثمّ

ص:208


1- . المستدرك على الصحيحين: 1/632؛ وجاء مثله في؛ السيرة النبويّة لابن كثير: 4/337، وإمتاع الأسماع للمقريزي: 2/117-118، ونيل الأوطار للشوكاني: 3/307، والسيرة النبويّة للحلبي: 3/227 و 333.
2- . آل عمران: 95.
3- . الكافي: 4/246-247.
4- . تهذيب الأحكام: 5/180؛ من لا يحضره الفقيه: 2/464.

غدا صلى الله عليه و آله والناس معه وكانت قريش تفيض من المزدلفة - وهي جَمْع - ويمنعون الناس أن يفيضوا منها، فأقبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقريش ترجو أن تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون، فأنزل اللّه تعالى عليه: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللّهَ ) (1) يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق: في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم. فلمّا رأت قريش أنّ قبّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد مضت كأنّه دخل في أنفسهم شيء للذي كانوا يرجون من الإفاضة من مكانهم، حتّى انتهى إلى نمرة - وهي بطن عرنة بحيال الأراك - فضرب قبّته، وضرب أخبيتهم عندها، فلمّا زالت الشمس خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومعه قريش، وقد اغتسل وقطع التلبية حتّى وقف بالمسجد، فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم، ثمّ صلّى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، ثمّ مضى إلى الموقف فوقف به، فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون إلى جنبها فنحاها، ففعلوا مثل ذلك، فقال: أيّها الناس، ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف، ولكن هذا كلّه - وأومأ بيده إلى الموقف - فتفرّق الناس، وفعل مثل ذلك بمزدلفة، فوقف الناس حتّى وقع القرص - قرص الشمس - ثمّ أفاض وأمر الناس بالدّعة حتّى انتهى إلى المزدلفة».(2)

3. وفي الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمّار، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، مثله.(3)

4. وفي رواية جابر في صحيح مسلم: وأمر بقبّة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول اللّه صلى الله عليه و آله ولا تشك قريش إلّاأنّه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول اللّه صلى الله عليه و آله حتّى أتى عرفة، فوجد القبّة قد ضُربت له بنمرة، فنزل بها حتّى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له فأتى

ص:209


1- . البقرة: 199.
2- . الكافي: 4/247؛ تهذيب الأحكام: 5/456.
3- . الكافي: 4/463.

بطن الوادي، فخطب الناس... ثمّ أذّن ثمّ أقام فصلّى الظهر، ثمّ أقام فصلّى العصر ولم يصلِّ بينهما شيئاً، ثمّ ركب رسول اللّه صلى الله عليه و آله حتّى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه(1) واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتّى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتّى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه ودفع رسول اللّه صلى الله عليه و آله.(2)

5. وروى الشيخ الطوسي عن جماعة، عن أبي المفضل، عن عبداللّه بن إسحاق بن إبراهيم بن حمّاد الخطيب المدائني قال: حدّثنا عثمان بن عبداللّه بن عمرو بن عثمان قال: حدّثنا عبداللّه بن لهيعة، عن أبي الزبير، قال: سمعت جابر بن عبداللّه يقول: بينا النبيُّ بعرفات، وعليّ عليه السلام تجاهه، ونحن معه، إذ أومأ النبيُّ صلى الله عليه و آله إلى علي عليه السلام فقال: ادن منّي يا عليُّ ، فدنا منه، فقال: ضع خمسك يعني كفّك في كفّي، فأخذ بكفّه، فقال: يا عليّ خلقت أنا وأنت من شجرة، أنا أصلها، وأنت فرعها، والحسن والحسين أغصانها، فمن تعلّق بغصن من أغصانها أدخله اللّه الجنّة برحمته.(3)

6. روى الشيخ الطوسي بإسناده عن جابر بن عبداللّه الأنصاري أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ألقى كلمة بعرفة، وإن كانت هذه الكلمة جاءت في خطبته المشهورة بالإجمال، لكن ننقلها تأكيداً وتكميلاً. ثمّ روى أيضاً رواية أُخرى تؤكد أنّ هذه الكلمة أُلقيت بمنى: أخبرنا جماعة، عن أبي المفضّل قال: أخبرنا أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري قراءةً ، وعليّ بن محمّد بن الحسن بن كاس النخعي - واللفظ له -

ص:210


1- . في النهاية: 1/333 جعل حبل المشاة بين يديه: أي طريقهم الّذي يسلكونه في الرمل. وقيل: أرادصفّهم ومجتمعهم في مشيهم تشبيهاً بحبل الرمل.
2- . صحيح مسلم: 2/726؛ ونحوه في دعائم الإسلام: 1/319.
3- . أمالي الطوسي: 611؛ عنه بحار الأنوار: 15/20 و ج 69/65 ح 125؛ ورواه ابن المغازلي في المناقب: 90 و 297؛ وعنه في الطرائف: 111؛ ورواه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق: 42/64-66.

قالا: حدّثنا أحمد بن يحيى بن زكريا الأودي الصوفي قال: حدّثنا حسن بن حسين - يعني العرني - قال: حدّثني يحيى بن يعلى، عن عبداللّه بن موسى التيمي، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبداللّه الأنصاري قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حجّة الوداع وركبتي تمسّ ركبته يقول: «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، أما إن فعلتم لتعرفنّي في ناحية الصف».(1)

وروى البيهقي بسند ذكره عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: أتيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو بعرفات، فأتاه نفر من أصحابه فأمروا رجلاً فنادى: يا رسول اللّه كيف الحجّ ، كيف الحجّ؟ قال: فأمر رجلاً فنادى: الحجّ يوم عرفة، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فقد تمّ حجّه، أيّام منى ثلاثة: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (2) ثمّ أردف رجلاً من خلفه فنادى بذلك.(3)

3. خطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم عرفة

في الضحى من اليوم التاسع استقرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله في قبّته الّتي ضُرِبت له بنمرة قرب عرفات، وقد اغتسل وتهيّأ لأداء أعمال هذا اليوم، وبعد أن زالت الشمس خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله من خيمته وتوجّه ليخطب في الناس.

ففي صحيحة معاوية بن عمّار الطويلة عن الإمام الصادق عليه السلام بما يتعلّق بمناسك حج رسول اللّه صلى الله عليه و آله وردت إشارة إلى هذه الخطبة، فقد قال عليه السلام: «فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم (ولم يذكر متن الخطبة)».(4)

وقد وردت هذه الخطبة - مختصرة - في صحيح مسلم ومصادر أُخرى حسب

ص:211


1- . أمالي الطوسي: 503؛ عنه بحار الأنوار: 32/294، ونحوه في ص 363؛ مجمع البيان: 9/72؛ تفسير فرات: 280.
2- . البقرة: 203.
3- . السنن الكبرى: 7/378.
4- . الكافي: 4/247؛ تهذيب الأحكام: 5/456.

رواية جابر الطويلة(1).

إن هذه الخطبة هي المشهورة والمعروفة في كتب الفريقين، وفي عالم الأدب لها شأن عظيم، لجزالة ألفاظها، وعظم معانيها.

وقد وقع كلام بينهم في مكانها وزمانها، فهل ألقاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله في عرفة أو منى؟ وفي أي يوم من أيام منى؟

فبعضهم أوردها ولم يذكر في أيّ مكان تكلّم بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله، كابن شعبة الحرّاني في تحف العقول(2)، والجاحظ في البيان والتبيين(3)، وابن عبد ربّه الأندلسي في العقد الفريد(4)، بل أوردوها بعنوان «خطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حجّة الوداع».

وبعض آخر أوردها وذكر أنّها خطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعرفة، كابن هشام في السيرة النبويّة والنسائي في السنن الكبرى(5)، ومسلم في صحيحه كما ذكرناها، ولم يذكر له صلى الله عليه و آله خطبة بمنى .

وثالث أوردها وذكر أنّها خطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله أيّام منى ، كالبخاري في صحيحه عن ابن عبّاس، قال: إنّ رسول اللّه خطب الناس يوم النحر.(6) وهكذا البغوي في مصابيح السنّة(7)، ولم يذكر له صلى الله عليه و آله خطبة بعرفة.

وقد أوردها الهيثمي بطرق عديدة بعنوان «باب الخُطب في الحجّ ».(8)

ص:212


1- . صحيح مسلم: 2/726؛ سنن أبي داود: 294-296؛ سنن ابن ماجة: 2/1022؛ السنن الكبرى للبيهقي: 6/14-19؛ المصنف لابن أبي شيبة: 4/423-426.
2- . تحف العقول: 30-34.
3- . البيان والتبيين: 228.
4- . العقد الفريد: 4/57-58.
5- . السيرة النبوية لابن هشام: 4/250-252؛ السنن الكبرى: 2/421.
6- . صحيح البخاري: 2/231؛ فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 4/2260.
7- . مصابيح السنّة: 2/272.
8- . مجمع الزوائد: 3/585-599.

وروى ابن كثير روايات في خطبته يوم العيد، وذكر الخطبة الشريفة الطبري أيضاً وابن الأثير.(1)

وفي كنز العمّال والطبقات الكبرى قد وردت الخطبة بروايات مختلفة.(2)

وروى ابن ماجة بأنّه صلى الله عليه و آله خطب في حجّة الوداع، وأُخرى بأنّه خطب بعرفات، وثالثة بأنّه خطب يوم النحر بين الجمرات.(3)

وفي بعض الروايات: نزلت هذه السورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ ) (4) على رسول اللّه صلى الله عليه و آله في أوسط أيّام التشريق، فعرف أنّه الوداع، فركب راحلته العضباء فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس كلّ دم كان في الجاهلية فهو هدر.(5)

وأوردها ابن كثير مختصراً مرّة بعنوان خطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعرفة - على رواية مسلم - وأُخرى بعنوان خطبة رسول اللّه بمنى برواية البخاري.(6)

وأورد الواقدي في المغازي بعض فقرات هذه الخطبة في ضمن خطبة النبي صلى الله عليه و آله بمكّة يوم الفتح(7). وكذلك المقريزي في إمتاع الأسماع.(8)

واعلم أنّ كلّ من ذكر متن الخطبة مطوّلاً أو مختصراً بعنوان أنّها خطبة النبي صلى الله عليه و آله في حجّة الوداع، أوبعنوان خطبته بعرفات، أو ذكرها بعنوان أنّها

ص:213


1- . البداية والنهاية: 3/185-189؛ تاريخ الأُممّ والملوك: 3/150-152؛ الكامل في التاريخ: 2/302.
2- . كنز العمال: 5/286-297؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: 2/183-186.
3- . سنن ابن ماجة: 2/1015-1016.
4- . النصر: 1.
5- . الخصال: 486، و عنه بحار الأنوار: 74/118.
6- . السيرة النبويّة لابن كثير: 4/387-392. وانظر أيضاً؛ جمهرة خطب العرب: 1/155-158 الخطبة 13؛ وتاريخ اليعقوبي: 2/109-112؛ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1/126-128؛ والسيرة النبويّة للحلبي: 3/327؛ والسنن الكبرى: 7/17 و ج 8/111؛ ودلائل النبوّة للبيهقي: 5/441-442؛ وتفسير القمي: 1/171؛ وبحار الأنوار: 37/113.
7- . المغازي: 2/836.
8- . إمتاع الأسماع: 1/392 وج 2/111-112.

خطبته صلى الله عليه و آله بمنى يوم النحر، أو أوسط أيّام التشريق، فكلّها قريبة المفاد والمعنى.

والّذي يبدو جلياً أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله خطبها بعرفة، ونظراً لأهميتها وعظيم ما تضمّنته من معانٍ جليلة ومطالب هامّة فقد أعاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله محتوياتها وفقراتها في مناسبات ومواقف عديدة وأماكن أُخرى في يوم النحر أو اليوم الحادي عشر، فهي تُعد بحق خطبة كاملة وكلمة جامعة وأساساً متيناً لوحدة المسلمين وتبياناً لشؤون دينهم ودنياهم.

وهي وإن اختلفت المصادر الّتي ذكرتها في بعض ألفاظها، فإنّ هذا الاختلاف لا يضرّ بالمعنى والمفاد، وإليك بعض ما ورد فيها.

فبعد الحمد والثناء والاستعاذة والشهادة بالتوحيد والعبودية والرسالة قال صلى الله عليه و آله:

أُوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه وأحثّكم على العمل بطاعته؛ وأستفتح اللّه بالذي هو خيرٌ.

أمّا بعدُ: أيّها الناس! اسمعوا منِّي ما أُبيِّنُ لكم، فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا.

أيُّها الناس! إنَّ دماءكم وأعراضكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلِّغت ؟ اللّهُمَّ اشهد.

فمن كانت عندهُ أمانةٌ فليؤدها إلى من ائتمنهُ عليها، وإنَّ ربا الجاهليَّة موضوع، وإنَّ أوَّل رباً أبدأُ به ربا العباس بن عبدالمطلب؛ وإنَّ دماء الجاهليَّة موضوعةٌ ، وإنَّ أوَّل دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، وإنَّ مآثر الجاهليَّة موضوعةٌ غير السدانة والسقاية، والعمدُ قود، وشبه العمد ما قُتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعيرٍ، فمن ازداد فهو من الجاهلية.

أيُّها الناسُ ! إنَّ الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنَّه قد رضي بأن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحتقرون من أعمالكم.

ص:214

ثم قال صلى الله عليه و آله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (1) ولا يحلُّ لمؤمنٍ مالُ أخيه إلّاعن طيب نفسٍ منهُ . ألا هل بلغت ؟ اللّهُمَّ اشهد، فلا ترجعنَّ كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلُّوا: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي. ألا هل بلغتُ؟ اللّهُمَّ اشهد.

أيُّها الناسُ ! إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكُم واحدٌ، كلُّكم لآدم وآدم من تُرابٍ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ ) (2) وليس لعربيٍّ على عجميٍّ فضلٌ إلّابالتقوى. ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: نعم. قال: فليبلغ الشاهدُ الغائب.(3)

ما ذكرناه هو بعض ما ورد في هذه الخطبة النبوية القدسية والّذي يجب علينا هنا الإشارة إلى النقاط المهمة فيها، وهي:

1. حمد اللّه وثناؤه والاستغفار والاستعاذة والشهادتين.

2. إيصاء عباد اللّه تعالى بتقواه والعمل بأوامره والتجنب عن معاصيه.

3. حثّ المسلمين على الاستماع لكلامه وفهمه.

4. حرمة دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، وأداء الأمانة.

5. تحريم الربا وإلغاء دماء (ثارات) الجاهلية، وإبطال مآثر الجاهلية الرثة.

6. تثبيت بعض الأحكام والحدود والديات في الشريعة الإسلامية وإبلاغ الناس بها.

7. إبطال النسيء، والتذكير بحقوق النساء، والنهي عن الظلم في الوصية.

8. تثبيت مبدأ الأُخوة الإسلامية.

9. إيجاب التمسّك بالثقلين.

10. إقرار مبدأ التفاضل بين المسلمين على أساس التقوى .

وبالإضافة إلى هذه الخطبة فقد ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد ألقى كلمة قصيرة

ص:215


1- . الحجرات: 10.
2- . الحجرات: 13.
3- . تحف العقول: 30-34.

حين غروب الشمس وهو بعرفات، وقد أجمعت كافة المصادر الّتي روتها على أنّه صلى الله عليه و آله دعا عشيّة عرفة لأُمته بالمغفرة والرحمة فأكثر الدعاء، فأوحى اللّه تعالى إليه(1) أنّي قد فعلت، إلّاظُلم بعضهم بعضاً.(2)

كما وردت في بعض الكتب خطبة ألقاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعرفة في كرامة الحاجّ عند اللّه تعالى، ونحن نوردها تتميماً للفائدة. ويظهر من صدر هذه الخطبة أنّه ألقاها عشيّة عرفة بعدما وقف بالموقف، والحال أنّ خطبته الشهيرة ألقاها بعد الزوال ببطن عرنة، وهي مكان آخر بجنب عرفة.

ورد في دعائم الإسلام: عن عليّ عليه السلام أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لمّاحجّ حجّة الوداع وقف بعرفة وأقبل على الناس بوجهه وقال: «مرحباً بوفد اللّه - ثلاث مرّات - الذين إن سألوا أُعطوا، وتخلف نفقاتهم، ويجعل لهم في الآخرة بكلّ درهم ألف من الحسنات - ثمّ قال -: «أيّها الناس ألا أُبشّركم ؟» قالوا: بلى يا رسول اللّه! قال: «إنّه إذا كانت هذه العشيّة باهى اللّه بأهل هذا الموقف الملائكة فيقول: يا ملائكتي أُنظروا إلى عبادي وإمائي أتوني من أطراف الأرض شعثاً غبراً هل تعلمون ما يسألون ؟ فيقولون: ربّنا يسألونك المغفرة، فيقول: أُشهدكم أنّي قد غفرت لهم، فانصرفوا من موقفهم مغفوراً لهم ما سلف».(3)

وفي المستدرك عن القطب الراوندي في لبّ اللباب، عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «إذا كانت عشيّة عرفة يقول اللّه لملائكته: أُنظروا إلى عبادي وإمائي شعثاً غبراً جاءُوني من كلّ فجٍّ عميق لم يروا رحمتي ولا عذابي - يعني الجنّة والنار - أُشهدكم ملائكتي إنّي قد غفرت لهم الحاجّ وغير الحاجّ . فلم يُرَ يوماً أكثر عتقاء من النار من يوم

ص:216


1- . وفي رواية أُخرى: فأجابه عزوجل.
2- . السنن الكبرى: 5/118 و 7/257.
3- . دعائم الإسلام: 1/293؛ وعنه بحار الأنوار: 96/49؛ ومستدرك الوسائل: 8/36؛ ورواه الشجري في أماليه: 3/58.

عرفة وليلتها».(1)

ثم إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد أكثر من الدعاء والتضرع إلى اللّه تعالى في عرفات، ولم يكتف بدعائه، بل راح يحث المسلمين ويحضهم على الدعاء والذكر والإنابة إلى اللّه تعالى.

4. خطبته صلى الله عليه و آله يوم النحر

عبّر بعض المصنفين - منهم البخاري والنسائي - عن خطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعرفة بخطبة يوم النحر. كما ذكر بعض المؤرخين خطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله بمنى ، ومفادها يقرب من خطبته بعرفة، ولكن نصّوا على أنّها خطبته بمنى.

من هؤلاء محمّد بن سعد في الطبقات، قال: أخبرنا عبدالوهاب بن عطاء، قال: أخبرنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله بمنى وإنّي لتحت جران ناقته، وهي تقصع بجرّتها، وإنّ لعابها ليسيل بين كتفيّ ، فقال: «إنّ اللّه قسم لكلّ إنسان نصيبه من الميراث فلا تجوز لوارث وصيّة، ألا وإنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر، ألا ومن ادّعى إلى غير أبيه أو تولّى غير مواليه رغبةً عنهم فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين».

وقال أيضاً: أخبرنا سليمان بن عبدالرحمن الدمشقي، أخبرنا الوليد بن مسلم، أخبرنا هشام بن الغاز، أخبرني نافع، عن ابن عمر: أنّ النبي صلى الله عليه و آله وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجّة الّتي حجّ ، فقال للناس: «أيّ يومٍ هذا»؟ فقالوا: يوم النحر.

قال: «فأيّ بلدٍ هذا»؟ قالوا: البلد الحرام. قال: «فأيّ شهرٍ هذا»؟ قالوا: الشهر الحرام. فقال: «هذا يوم الحجّ الأكبر، فدماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة هذا البلد في هذا الشهر في هذا اليوم». ثمّ قال: «هل بلّغت»؟ قالوا: نعم.

ص:217


1- . مستدرك الوسائل: 10/32.

فطفق رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «اللّهمَّ اشهد». ثمّ ودّع الناس، فقالوا: هذه حجّة الوداع.

وروى ابن سعد مثله بسند آخر، فقال: أخبرنا خلف بن الوليد الأزدي، أخبرنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدّثني أبو مالك الأشجعي،، حدّثني نُبيط بن شريط الأشجعي، قال: إنّي لرديف أبي في حجّة الوداع إذ تكلّم النبي صلى الله عليه و آله، فقمت على عجز الراحلة ووضعت رجلي على عاتقي أبي، قال: فسمعته يقول: «أيّ يومٍ أحرم»؟ قالوا: هذا اليوم. قال: «فأيّ شهرٍ أحرم»؟ قالوا: هذا الشهر، قال: «فأيّ بلدٍ أحرم»؟ قالوا: هذا البلد. قال: «فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، هل بلّغت»؟ قالوا: اللّهمَّ نعم. قال: «اللّهمَّ اشهد، اللّهمَّ اشهد، اللّهمَّ اشهد».

وقال أيضاً: أخبرنا يونس بن محمّد المؤدّب، أخبرنا ربيعة بن كلثوم بن جبر، حدّثني أبي، عن أبي غادية - رجل من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله - قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم العقبة، قال: «يا أيّها الناس إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلّغت»؟ قال:

قلنا: نعم، قال: «اللّهمَّ اشهد، ألا لا ترجعنّ بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

ثم إنّ ابن سعد قال: أخبرنا هاشم بن القاسم، أخبرنا عكرمة بن عمّار، حدّثني الهرماس بن زياد الباهلي قال: كنت ردف أبي يوم الأضحى ونبيّ اللّه صلى الله عليه و آله يخطب الناس على ناقته بمنى.

وقال: أخبرنا هشام أبو الوليد الطيالسي، أخبرنا عكرمة بن عمّار، أخبرنا الهرماس بن زياد قال: انصرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأبي مُرْدفي وراءه على جملٍ له، وأنا صبيّ صغير، فرأيت النبيّ صلى الله عليه و آله يخطب الناس على ناقته العَضْباء يوم الأضحى بمنى.(1)

ص:218


1- . الطبقات الكبرى: 2/183-186؛ ونحوه في كنز العمّال: 5/291-297.

ولا يخفى أنّ مفادها نفس مفاد الخطبة الّتي ذكرناها سابقاً، واستظهرنا بأنّه أوردها بعرفة، ويمكن إيرادها مرّة ثانية بمنى.

وفي المصنّف لابن أبي شيبة بسندين عن مجاهد ومسروق أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله خطبهم يوم النحر.(1)

وفي السنن الكبرى عن رجلين من بني بَكرٍ قالا: رأينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله يخطبُ بين أوسط أيّام التشريق، ونحن عند راحلته، وهي خطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله الّتي خطب بمنى.(2)

وقال أيضاً: أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان، أنبأ أحمد بن عبيد الصفّار، [حدّ] ثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبداللّه. وأخبرنا أبو نصر عمر بن عبدالعزيز بن عُمر ابن قتادة النعمانيّ ، أنبأ أبو عمرو إسماعيل بن نُجيد السُّلمي، أنبأ أبو مسلم إبراهيم ابن عبداللّه البصري، [حدّ] ثنا أبو عاصم، عن ربيعة بن عبدالرحمن بن حصن الغنويّ ، حدّثتني سرّاءُ بنت نبهان - وكانت ربَّة بيتٍ في الجاهلية - قالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول في حجّة الوداع: «هل تدرون أيُّ يومٍ هذا؟». قال: وهو اليوم الّذي يدعون يوم الرؤوس، قالوا: اللّه ورسوله أعلم، قال: «هذا أوسط أيّام التشريق، هل تدرون أيّ بلدٍ هذا؟». قالوا: اللّه ورسوله أعلم، قال: «هذا المَشْعَرُ الحرام». ثمّ قال: «إنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد هذا، ألا وإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا حتّى تلقوا ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فليُبَلِّغْ أدناكم أقصاكم، ألا هل بلّغتُ » فلمّا قدمنا المدينة لم يلبث إلّاقليلاً حتّى مات صلى الله عليه و آله. ثمّ قال: رواه محمّد بن بشّار عن أبي عاصم بهذا الإسناد وقال: قالت: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم الرؤوس.(3)

وفي مسند أحمد بن حنبل عن أبي نضرة قال: حدّثني من سمع خطبة

ص:219


1- . المصنّف لابن أبي شيبة: 4/339.
2- . السنن الكبرى: 7/330.
3- . السنن الكبرى: 7/330.

النبي صلى الله عليه و آله في وسط أيّام التشريق فقال: «يا أيّها الناس! إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ ، ولا لعجميّ على عربيّ ، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلّابالتقوى. أبلّغت»؟ قالوا: بلّغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى آخر الحديث.(1)

وقد روى في دعائم الإسلام عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، عن الإمام عليّ عليه السلام قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يخطب يوم النحر وهو يقول: «هذا يوم الثجّ والعجّ .

والثجّ : ما تهريقون فيه من الدماء، فمن صدقت نيّته كانت أوّل قطرة له كفّارة لكلّ ذنب. والعجّ : الدعاء، فعجّوا إلى اللّه، فوالّذي نفس محمّد بيده لا ينصرف من هذا الموضع أحد إلّامغفوراً له إلّاصاحب كبيرة مصرّاً عليها لا يحدِّث نفسه بالإقلاع عنها».(2)

ويُعتقد أنّ هذه الخطبة قد قالها صلى الله عليه و آله بمنى يوم النحر في حجّة الوداع، كما يدلّ على ذلك لفظة «هذا الموضع». ولكن يحتمل أن يكون قد ألقاها يوم عيد الأضحى بالمدينة المنوّرة في عام من الأعوام، ومراده من «هذا الموضع» مصلّى العيد ومكان الخطبة ومجمع المسلمين، ولكن روايات البيهقي صريحة في أنّه أوردها بمنى يوم النحر في حجّة الوداع.

فقد روى البيهقي بسنده عن أبي بكرة قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم النحر فقال: «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

وفيه أيضاً بسنده عن الهرماس بن زياد قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه و آله وأنا صبيّ أردفني أبي، يخطب الناس بمنى يوم الأضحى على راحلته.

وفيه أيضاً بسنده عن أبي أمامة: سمعت أبا أمامة يقول: سمعت خطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله بمنى يوم النحر.

ص:220


1- . مسند أحمد بن حنبل: 9/127؛ نيل الأوطار: 5/82، باب الخطبة أوسط أيّام التشريق ح 3.
2- . دعائم الإسلام: 1/184؛ بحار الأنوار: 96/301؛ الجعفريات: 46.

وفيه أيضاً بسنده عن رافع بن عمرو المزني قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلةٍ شهباء، وعليّ يُعَبّرُ عنه، والناس بين قائم وقاعد.(1)

وروى الصدوق بسنده عن أبي أمامة يقول: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «أيّها الناس إنّه لا نبيّ بعدي، ولا أُمّة بعدكم، ألا فاعبدوا ربّكم، وصلّوا خمسكم، وصوموا شهركم، وحجّوا بيت ربّكم، وأدّوا زكاة أموالكم طيّبة بها أنفسكم، وأطيعوا ولاة أمركم تدخلوا جنّة ربّكم».(2)

فهذه الرواية وإن لم تكن فيها دلالة على أنّ هذا الكلام صدر من النبيّ صلى الله عليه و آله في حجّة الوداع، لكن الروايتين الأُخريين تدلّان على ذلك، فإنّ أحمد بن حنبل في مسنده والحاكم في المستدرك قد زادا فيما روياه: يقول أبو أمامة: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يخطب الناس في حجّة الوداع، وهو على الجدعاء واضع رجله في غراز الرحل يتطاول يقول: ألا تسمعون ؟ فقال رجل من آخر القوم: ما تقول ؟ قال:

اعبدوا ربّكم، إلى آخر الحديث.(3)

5. خطبته صلى الله عليه و آله في مسجد الخيف

روى الكليني عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله خطب الناس في مسجد الخيف فقال: «نَضَّر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها، فربّ حامل فقهٍ غيرُ فقيهٍ ، وربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئٍ مسلم:

إخلاص العمل للّه، والنصيحة لأئمّة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإنّ دعوتهم

ص:221


1- . السنن الكبرى: 7/308؛ سنن أبي داود: 302-303.
2- . الخصال: 322.
3- . مسند أحمد بن حنبل: 8/274؛ المستدرك على الصحيحين: 1/547.

محيطة من ورائهم، المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم».

ثمّ قال: ورواه أيضاً عن حمّاد بن عثمان، عن أبان، عن ابن أبي يعفور مثله، وزاد فيه: «وهم يد على من سواهم». وذكر في حديثه أنّه خطب في حجّة الوداع بمنى في مسجد الخيف.(1)

ورواها الشيخ أبو عبداللّه المفيد في الأمالي بسند آخر ذكره عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: خطب رسول اللّه يوم منى فقال... إلى آخره.(2)

ورواها أيضاً الشيخ الصدوق عن محمّد بن موسى بن المتوكّل قال: حدّثنا علي بن الحسين السعدآبادي قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن خالد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، عن حمّاد بن عثمان، عن أبي عبداللّه عليه السلام. ورواها بسند آخر في الخصال(3)، وأيضاً وردت في جمهرة خطب العرب.(4)

ورواها ابن ماجة في السنن بسند ذكره عن جبير بن مطعم(5)، أنّه قال: قام رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالخيف من منى فقال: نضّر اللّه - إلى أن قال -: فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم. وأمّا صدر الحديث فقط، فقد ذكره في ضمن أحاديث متعدّدة.(6)

وقال الفيروزآبادي: رجع صلى الله عليه و آله إلى منزله بالقرب من مسجد الخيف، وخطب خطبة بليغة، بلغ صوته إلى جميع أهل الخيام في خيامهم، وهذا من جملة المعجزات النبويّة.(7)

وفي سنن أبي داود بسنده عن عبدالرحمن بن معاذ التيمي قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ونحن بمنى ففتحت أسماعنا، حتّى كنّا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا،

ص:222


1- . الكافي: 1/403.
2- . الأمالي للمفيد: 186؛ بحار الأنوار: 2/148.
3- . الأمالي للصدوق: 431؛ الخصال: 149.
4- . جمهرة خطب العرب: 1/151، خطبة النبيّ صلى الله عليه و آله بالخيف، رقم 5.
5- . سنن ابن ماجة: 2/1015.
6- . سنن ابن ماجة: 1/84-85.
7- . سفر السعادة: 181.

فطفق يعلّمهم مناسكهم حتّى بلغ الجمار، فوضع إصبعيه السبّابتين، ثمّ قال:

بحصى الخذف، ثمّ أمر المهاجرين فنزلوا في مقدّم المسجد، وأمر الأنصار فنزلوا من وراء المسجد، ثمّ نزل الناس بعد ذلك.(1)

وفي الكافي عن محمّد بن الحسن، عن بعض أصحابنا، عن عليّ بن الحكم، عن الحكم بن مسكين، عن رجل من قريش من أهل مكّة قال: قال سفيان الثوري:

اذهب بنا إلى جعفر بن محمّد عليه السلام قال: فذهبت معه إليه، فوجدناه قد ركب دابّته، فقال له سفيان: يا أبا عبداللّه حدّثنا بحديث خطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله في مسجد الخيف، قال: دعني حتّى أذهب في حاجتي فإنّي قد ركبت فإذا جئت حدّثتك، فقال:

أسألك بقرابتك من رسول اللّه صلى الله عليه و آله لما حدّثتني، قال: فنزل، فقال له سفيان: مُر لي بدواة وقرطاس حتّى أثبته، فدعا به، ثمّ قال: اكتب:

بسم اللّه الرحمن الرحيم. خطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله في مسجد الخيف: «نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها، وبلّغها من لم تبلغه، يا أيّها الناس ليبلّغ الشاهد الغائب، فربّ حامل فقهٍ ليس بفقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل للّه، والنصيحة لأئمّة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم، المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمّتهم أدناهم».

فكتبه سفيان ثمّ عرضه عليه، وركب أبو عبداللّه عليه السلام.(2)

وقد ذكر القمّي هذه الخطبة المباركة وزاد في آخرها: وصيّة النبي صلى الله عليه و آله في التمسّك بالثقلين(3)، وليس ببعيد؛ لأنّه قد أمر المسلمين بالتمسّك بالثقلين مرّات عديدة وفي مواطن شتّى .

ص:223


1- . سنن أبي داود: 303، ونحوه في الطبقات الكبرى: 2/185.
2- . الكافي: 1/403؛ بحار الأنوار: 47/365.
3- . تفسير القمي: 2/447؛ بحار الأنوار: 37/114.
6. خطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله عند الكعبة

عندما قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله حجّته أتى مودِّعاً للكعبة الشريفة، فلزم حلقة الباب ونادى: أيّها الناس. فاجتمع من في المسجد الحرام ومن في السوق حوله، فخطب هذه الخطبة البليغة وذكر الفتن الّتي تحدث بعده والفساد الّذي يتعرّض له الناس في أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم، وتحقّق أشراط الساعة.

وجدير بالذكر أنّ لهذه الخطبة المباركة روايات متعدّدة مختلفة فيما بينها في بعض الألفاظ. ومشتركة في الأكثر. فقد روى السيوطي في الدرّ المنثور ذيل الآية الكريمة (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) (1) وقال:

أخرج ابن مردويه، عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما قال: حجّ النبي حجّة الوداع ثمّ أخذ بحلقة باب الكعبة فقال: أيّها الناس ألا أخبركم بأشراط الساعة... إلى آخره.(2)

ورواها أيضاً محيي الدِّين ابن العربي في محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار مرسلاً عن عبداللّه بن عبّاس، عن النبي صلى الله عليه و آله.(3)

وأمّا في كتب الشيعة الإماميّة فرويت في جامع الأخبار مرسلة عن جابر بن عبداللّه الأنصاري أنّه قال: حججت مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله حجّة الوداع، فلمّا قضى النبي صلى الله عليه و آله ما افترض عليه من الحجّ أتى مودِّعاً الكعبة، فلزم حلقة الباب ونادى برفيع صوته: أيّها الناس. فاجتمع أهل المسجد وأهل السوق، فقال: اسمعوا إنّي قائل ما هو بعدي كائن إلى آخره.(4)

وجاء في تفسير القمي في ذيل الآية المباركة: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السّاعَةَ ) قال: حدّثني أبي، عن سليمان بن مسلم بن الخشّاب، عن عبداللّه بن جريج المكّي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبداللّه بن عبّاس قال: حججنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله حجّة

ص:224


1- . محمّد: 18.
2- . الدرّ المنثور: 7/412.
3- . محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار: 1/60-62.
4- . جامع الأخبار: 395-397؛ بحار الأنوار: 52/262.

الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة، ثمّ أقبل علينا بوجهه، فقال:

«ألا أُخبركم بأشراط الساعة»؟ وكان أدنى الناس منه يومئذٍ سلمان رحمة اللّه عليه، فقال: بلى يا رسول اللّه!

فقال صلى الله عليه و آله: «إنّ من أشراط الساعة إضاعة الصلوات واتّباع الشهوات، والميل إلى الأهواء، وتعظيم أصحاب المال، وبيع الدين بالدنيا، فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يُذاب الملح في الماء ممّا يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره».

قال سلمان: وإنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟!

قال: «اي والّذي نفسي بيده، يا سلمان! إنّ عندها يليهم أُمراء جَوَرَة ووزراء فسقة، وعرفاء ظلمة، وأُمناء خونة».

فقال سلمان: وإنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟!

قال صلى الله عليه و آله: «اي والذي نفسي بيده يا سلمان إنّ عندها يكون المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، ويؤتمن الخائن، ويخوّن الأمين، ويصدَّق الكاذب، ويكذَّب الصادق... إلى آخر الخطبة الشريفة».(1)

7. خطبته صلى الله عليه و آله في غدير خُم

بعد أن أتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله والمسلمون حجّهم وقضوا مناسكهم خرجوا من مكة المكرمة في ضحى اليوم الرابع عشر من ذي الحجة الحرام متوجهين إلى المدينة المنورة، وكان موكب الرسول صلى الله عليه و آله يسير نحو المدينة منزلاً بعد منزل ومرحلة بعد مرحلة، حتّى مضى اليوم الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر وفي ضحى اليوم الثامن عشر وحينما بلغ الموكب الشريف قريباً من الجحفة بغدير خمّ وقد ابتعد 185 كيلومتراً عن مكة، وقبل تفرّق الحجاج في مسيرهم

ص:225


1- . تفسير القمي: 2/303-307، عنه بحار الأنوار: 9/305-309، وتفسير البرهان: 4/183 ذيل الآية الكريمة (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) (محمّد: 18).

وذهابهم إلى أوطانهم، نادى منادي الرسول صلى الله عليه و آله: الصلاة جامعة.

فارتج الحجاج من هذا النداء، إذ لم تكن هذه الساعة زمان نزول ولم يكن هذا المكان منزلاً وموقفاً للاستراحة، فتوقّف الموكب، فلحق من كان في آخر القافلة، ورجع من كان في مقدّمها، فجمعوا في الحرّ الشديد ليسمعوا الخبر الهامّ ، حتّى وضع كثير منهم رداءه على رأسه من حرارة الشمس، ووضع البعض رداءه تحت قدميه اتّقاءً لِلَهيب الرمضاء.

فصلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالمسلمين صلاة الظهر، ثمّ صنعوا من أقتاب الإبل منبراً رفيعاً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله، فصار الأُلوف من البشر آذاناً صاغية لكلامه صلى الله عليه و آله ليسمعوا وليعوا كلام خطيب اللّه تعالى، فرقى المنبر وفتح فمه الطيّب وتكلّم بكلام بلّغ فيه المسلمين ما أمره اللّه تعالى بتبليغه.

ونحن نورد الخطبة الشريفة عن كتاب المناقب لابن المغازلي الشافعي بسند ذكره. فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

«الحمد للّه نحمده ونستعينه، ونؤمن به ونتوكّل عليه، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، الّذي لا هادي لمن أضلّ ، ولا مضلَّ لمن هدى، وأشهد أن لا إله إلّااللّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله.

أمّا بعد أيّها الناس! فإنّه لم يكن لنبيّ من العمر إلّانصف من(1) عمّر من قبله، وإنّ عيسى بن مريم عليه السلام لبث في قومه أربعين سنة، وإنّي قد أسرعت في العشرين، ألا وإنّي يوشك أن أُفارقكم، ألا وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فهل بلّغتكم ؟ فماذا أنتم قائلون ؟»

فقام من كلّ ناحية من القوم مجيب يقولون: نشهد أنّك عبداللّه ورسوله، قد بلّغت رسالته، وجاهدت في سبيله، وصدعت بأمره، وعبدته حتّى أتاك اليقين، جزاك اللّه عنّا خير ما جزى نبيّاً عن أُمّته.

ص:226


1- . في العمدة: 105 والبحار: 37/184: «ما» بدل «من».

فقال: «ألستم تشهدون أن لا إله إلّااللّه وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ الجنّة حقّ ، وأنّ النار حقّ ، وتؤمنون بالكتاب كلّه ؟».

قالوا: بلى. قال: «فإنّي أشهد أن قد صدقتكم وصدّقتموني، ألا وإنّي فرطكم وإنّكم تبعي، توشكون أن تردوا عليَّ الحوض، فأسألكم حين تلقونني عن ثقليَّ كيف خلّفتموني فيهما»؟

قال: فأُعيل علينا(1) ما ندري ما الثقلان، حتّى قام رجل من المهاجرين وقال:

بأبي وأُمّي أنت يا نبيّ اللّه ما الثقلان ؟

قال صلى الله عليه و آله: «الأكبر منهما كتاب اللّه تعالى، سبب طرفه بيد اللّه وطرف بأيديكم، فتمسّكوا به ولا تضلّوا، والأصغر منهما عترتي. من استقبل قبلتي وأجاب دعوتي، فلا تقتلوهم ولا تقهروهم ولا تقصروا عنهم، فإنّي قد سألت لهم اللطيف الخبير فأعطاني، ناصرهما لي ناصر، وخاذلهما لي خاذل، ووليّهما لي وليٌّ ، وعدوّهما لي عدوٌّ. ألا وإنّها لم تهلك أُمّة قبلكم حتّى تتديّن بأهوائها، وتظاهر على نبوّتها، وتقتل من قام بالقسط».

ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب عليه السلام فرفعها ثمّ قال: «مَنْ كنتُ مولاه فهذا مولاه، ومَنْ كنتُ وليّهُ فهذا وليّهُ ، اللّهمَّ والِ من والاهُ ، وعادِ مَنْ عاداهُ ». قالها ثلاثاً.(2)

ثمّ توّج رسول اللّه صلى الله عليه و آله عليّاً عليه السلام بعمامته «السحاب» أمام جموع حاشدة من المؤمنين بيده الشريفة فسدل طرفها على منكبه، وأمر المهاجرين والأنصار أن يسلِّموا على عليّ عليه السلام بإمرة المؤمنين ويهنّئونه بهذه الفضيلة العظيمة.

ص:227


1- . يقال: علت الضالّة أُعيل عيلاً وعيلاناً فأنا عائل: إذا لم تدر أيّ وجهة تبغيها؛ عن أبي زيد، وقال الأحمر: عالني الشيء يعيلني عيلاً ومعيلاً: إذا أعجزك، والمراد أي: عجزنا عن فهم الثقلين.
2- . المناقب لابن المغازلي: 16، عنه العمدة لابن البطريق: 104؛ وبحار الأنوار: 37/184 وانظر الأمالي للطوسي: 227.

فسلّم وجوه المسلمين(1) عليه بإمرة المؤمنين وهنّأوه.(2)

ومن يراجع أغلب المصادر التاريخية وكتب الحديث يجد أنّ هذه الخطبة قد احتلت العديد من الصفحات، وأبرز مؤلّفو كتب التاريخ وجوهها المختلفة، ومن هؤلاء الطبري الّذي ألّف كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خمّ في مجلّدين ضخمين.(3)

وقال الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في ينابيع المودّة: حُكي عن أبي المعالي الجويني الملقّب بإمام الحرمين أُستاذ أبي حامد الغزالي أنّه قال: رأيت مجلّداً في بغداد في يد صحّاف فيه روايات خبر غدير خمّ مكتوباً عليه المجلّدة الثامنة والعشرون من طرق قوله صلى الله عليه و آله: من كنت مولاه فعليّ مولاه، ويتلوه المجلّدة التاسعة والعشرون.(4)

ومتن الخطبة الشريفة يختلف في الروايات الحاكية لها، وكلّها تشتمل على قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله مخاطباً هذا الجمع العظيم: «ألست أولى بكم من أنفسكم»؟ قالوا: بلى، فأخذ بضبع عليّ بن أبي طالب ورفعها حتّى رُئيَ بياض إبطيهما، فقال:

«من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله».

ص:228


1- . أخرج الطبري في كتاب الولاية (214-216) حديثاً باسناده عن زيد بن أرقم، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال بعد خطبته تلك: معاشر الناس! قولوا: أعطيناك على ذلك عهداً، عن أنفسنا... إلى أن قال: قولوا ما قلت لكم، وسلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين، وقولوا: الحمد للّه الّذي هدانا لهذا... قال زيد بن أرقم: فعند ذلك بادر الناس بقولهم: نعم سمعنا وأطعنا على أمر اللّه ورسوله بقلوبنا. وكان أوّل من صافق النبي صلى الله عليه و آله وعلياً: أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وباقي المهاجرين والأنصار وباقي الناس إلى أن صلى الظهرين في وقت واحد، وامتدّ ذلك إلى أن صلى العشائين في وقت واحد وأوصلوا البيعة والمصافقة ثلاثاً.
2- . مسند أبي داود: 23؛ كنز العمال: 15/482؛ الرياض النضرة: 3/170؛ فرائد السمطين: 1/75؛ الفصول المهمة: 41؛ السيرة الحلبية: 3/341.
3- . البداية والنهاية: 11/157.
4- . ينابيع المودّة: 1/113-114.

وفي الاحتجاج وروضة الواعظين والعدد القويّة واليقين(1) ذكروا خطبة طويلة جدّاً للنبيّ العظيم في هذا المشهد العامّ ، وبعض المؤلِّفين ذكر نصّاً متوسّطاً بين القصير والطويل لهذه الخطبة؛ كابن المغازلي (المتوفّى 483 ه) في المناقب كما مرّ، وابن الأثير في أُسد الغابة(2)، والشيخ أحمد أبو الفضل بن محمّد باكثير المكّي الشافعي (المتوفّى 1047 ه) في وسيلة المآل في عدّ مناقب الآل(3)، والشيخ العاملي في ضياء العالمين عن كتاب الولاية للطبري المؤرِّخ(4)، والمتّقي الهندي في كنز العمّال(5)، والحمويني في فرائد السمطين(6)، وابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة(7)، وابن كثير في البداية والنهاية(8)، وابن حجر في الصواعق المحرقة(9)، والحلبي في السيرة النبوية(10)، والهيثمي في مجمع الزوائد(11)، والقرماني في أخبار الدول(12)، وبعض المحدِّثين والرواة ذكروا فقط فقرة هامّة من هذه الخطبة؛ وهي قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه.

وبعد إيراد هذه الخطبة قال الشاعر الشهير حسّان بن ثابت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله:

ص:229


1- . الاحتجاج: 1/133-162؛ روضة الواعظين: 89-101؛ العدد القويّة: 169؛ اليقين: 343-361. وراجع ما نقله العلّامة المجلسي عن واقعة الغدير في بحار الأنوار: 37/108-253.
2- . أُسد الغابة: 3/33-34.
3- . وسيلة المآل في عدّ مناقب الآل: 116-118.
4- . قال ابن كثير في تاريخه (ج 11/146) في ترجمة الطبري: إنّي رأيت له كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين. انظر: الغدير للعلّامة الأميني: 1/424-426.
5- . كنز العمال: 13/104-105.
6- . فرائد السمطين: 1/62-78.
7- . الفصول المهمة: 40.
8- . البداية والنهاية: 5/197-205 و ج 7/328-331.
9- . الصواعق المحرقة: 42-49.
10- . السيرة النبوية: 3/336-337.
11- . مجمع الزوائد: 9/259.
12- . أخبار الدول: 102.

ائذن لي يا رسول اللّه أن أقول في عليّ أبياتاً تسمعهنّ . فقال صلى الله عليه و آله: قُل على بركة اللّه.

فأنشد حسّان بن ثابت شعره المعروف:

يناديهمُ يوم الغدير نبيّهم بخمّ واسمع بالرسول مناديا

فقال: فمن مولاكمُ ونبيّكم فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبيّنا ولم تلق منّا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليّ فإنّني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه فكونوا له أتباع صدقٍ مواليا

هناك دعا: اللّهمّ والِ وليّه وكُن للّذي عادى عليّاً معاديا

وقد روى هذه الأبيات الستّة العلّامة الأميني في كتابه الغدير(1) عن اثني عشر من علماء أهل السنّة وعن اثنين وعشرين من علماء الإمامية، ونقلها عن كتاب سليمان بن قيس الهلالي والمولى محسن الفيض الكاشاني في «علم اليقين»(2)بزيادة أبيات أربعة، وقال بعد البيت الأوّل:

وقد جاء جبريل عن أمر ربّه بأنّك معصوم فلا تك وانيا

وبلّغهم ما أنزل اللّه ربّهم إليك ولا تخش هناك الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافع كفّه بكفّ عليٍّ مُعلن الصوت عاليا

وزاد بعد البيت السادس:

فياربّ انصر ناصريه لنصرهم إمام هدى كالبدر يجلو الدياجيا

ثمّ قال العلّامة الأميني: والّذي يظهر للباحث أنّ حسّاناً أكمل هذه الأبيات بقصيدة ضمّنها نبذاً من مناقب أمير المؤمنين عليه السلام.(3)

وفي ختام حديثنا عن هذه الخطبة الهامة ولكي نرفع ما قد يتسرب إلى نفوس البعض من الشك فيها نذكر شيئاً عن رواتها من الصحابة والتابعين، وما أُلِّفَ في

ص:230


1- . الغدير: 2/65.
2- . علم اليقين: 343-361.
3- . الغدير: 1/73.

حديث الغدير، فنقول:

أوّلاً: روى حديث الغدير من الصحابة مائة وعشرون صحابياً، منهم:

1. أبو بكر بن أبي قحافة التيمي: (المتوفّى 13 ه).

2. أبو هريرة الدوسي: (المتوفّى 57-59 ه).

3. أبو ليلى الأنصاري: استشهد بصفين مع الإمام علي عليه السلام سنة 37 ه.

4. أبو زينب بن عوف الأنصاري.

5. أبو فضالة الأنصاري: بدري استشهد بصفين مع الإمام علي عليه السلام.

6. أبو قدامة الأنصاري.

7. أبوعمرة بن عمرو بن محصّن الأنصاري.

8. أبو الهيثم بن التيِّهان استشهد بصفين مع الإمام علي عليه السلام سنة 37 ه.

9. أبو رافع القبطيّ .

10. أبو ذؤيب خويلد - أو خالد - ابن خالد بن محرث الهذلي.

ثانياً: ورواه أيضاً اثنان وثمانون من التابعين، نذكر منهم:

1. أبو راشد الحبراني الشامي، اسمه اخضر، نعمان.

2. أبو سلمة عبداللّه بن عبدالرحمن بن عوف الزهري المدني (المتوفّى 94 ه).

3. أبو سليمان المؤذّن.

4. أبو صالح السمّان، ذكوان المدني (المتوفّى 101 ه).

5. أبو عنفوانة المازني.

6. أبو عبدالرحيم الكندي.

7. أبو القاسم الأصبغ بن نُباتة التميمي، الكوفي.

8. أبو ليلى الكندي.

9. إياس بن نُذَير.

10. جميل بن عمارة.

ص:231

ثالثاً: وقد أيّده ورواه من العلماء وأعلام الحفاظ والمؤرخين ثلاثمائة وستون، نذكر منهم:

1. الحافظ أبو عيسى الترمذي (المتوفّى 279 ه).(1)

2. الحافظ أبو جعفر الطحاوي (المتوفّى 279 ه).(2)

3. الحافظ ابن عبد البرّ القرطبي (المتوفّى 463 ه).(3)

4. الفقيه أبو الحسن بن المغازلي الشافعي (المتوفّى 483 ه).(4)

5. حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (المتوفّى 505 ه).(5)

6. الحافظ أبو الفرج بن الجوزي الحنبليّ (المتوفّى 597 ه).

7. أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي (المتوفّى 654 ه).(6)

8. ابن أبي الحديد المعتزلي (المتوفّى 655 ه).(7)

9. الحافظ أبو عبداللّه الكنجي الشافعي (المتوفّى 658 ه).(8)

10. الشيخ أبو المكارم علاء الدين السمناني (المتوفّى 736 ه).(9)

11. شمس الدين الذهبي الشافعي (المتوفّى 748 ه).(10)

12. شمس الدين الجزري الشافعي (المتوفّى 833 ه).(11)

ص:232


1- . سنن الترمذي: 5/591.
2- . مشكل الآثار: 2/308.
3- . الاستيعاب: 2/373.
4- . مناقب علي بن أبي طالب: 27 برقم 39.
5- . سر العالمين: 21.
6- . تذكرة الخواص: 29.
7- . شرح نهج البلاغة: 9/166.
8- . كفاية الطالب: 60-61.
9- . العروة لأهل الخلوة: 422.
10- . تلخيص المستدرك: 3/613.
11- . أسنى المطالب: 48.

13. الحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفّى 852 ه)(1).

14. جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن صلاح الدين الحنفي.(2)

15. نور الدين الهروي التازي الحنفي (المتوفّى 1014 ه).(3)

16. زين الدين المناوي الشافعي (المتوفّى 1031 ه).(4)

17. نور الدين الحلبي الشافعي (المتوفّى 1044 ه).(5)

18. السيد محمد البرزنجي الشافعي (المتوفّى 1103 ه).(6)

19. السيد ابن حمزة الحراني الدمشقي الحنفي (المتوفّى 1120 ه).(7)

20. ميرزا محمد البدخشي.(8)

21. مفتي الشام العمادي الحنفي الدمشقي (المتوفّى 1171 ه)(9).

22. أبو العرفان الصّبان الشافعي (المتوفّى 1206 ه).(10)

23. محمود الآلوسي البغدادي (المتوفّى 1270 ه).(11)

24. الشيخ محمود الحوت البيروتي الشافعي (المتوفّى 1276 ه).(12)

25. المولوي وليّ اللّه اللكهنوي.(13)

ص:233


1- . فتح الباري: 7/74.
2- . المعتصر من المختصر: 2/301.
3- . المرقاة في شرح المشكاة: 10/464.
4- . فيض القدير: 6/218.
5- . السيرة الحلبية: 3/274.
6- . النواقض للروافض: الورقة 8.
7- . البيان والتعريف: 3/75.
8- . نزل الأبرار: 54.
9- . الصلات الفاخرة: 49.
10- . إسعاف الراغبين في هامش نور الأبصار: 153.
11- . روح المعاني: 9/195.
12- . أسنى المطالب: 461.
13- . مرآة المؤمنين في مناقب أهل بيت سيد المرسلين: 40.

26. الحافظ المعاصر شهاب الدين الغماري المغربي.(1)

27. الشيخ عبد العزيز محمد بن الصدّيق المغربي.(2)

رابعاً: من ألف في حديث الغدير

وإليك قائمة بأسماء بعض مَن ألّف في حديث الغدير واسم كتابه أو رسالته - ولا ندّعي هنا أنّنا سنذكر كل ما أُلّف بهذا الصدد، لأنّ ذلك لا ولن يتوقف إن شاء اللّه تعالى -:

1. أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري، الآملي، (المتوفّى 310 ه) له كتاب «الولاية في طرق حديث الغدير».

2. أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، الحافظ المعروف بابن عقدة (المتوفّى 333 ه) له «كتاب الولاية في طرق حديث الغدير».

3. أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سالم التميمي، البغدادي، المعروف بالجُعابي (المتوفّى سنة 355 ه) له كتاب «مَنْ روى حديث غدير خم».

4. أبو طالب عبداللّه بن أحمد بن زيد الأنباري، الواسطي (المتوفّى 356 ه) له كتاب «طرق حديث الغدير».

5. أبو غالب أحمد بن محمد بن محمد الزُّراري (المتوفّى 368 ه) له جزء في خطبة الغدير.

6. أبو المفضل محمد بن عبداللّه بن المطّلب الشيباني (المتوفّى 372 ه) له كتاب «مَنْ روى حديث غدير خم».

7. الحافظ علي بن عمر الدارقطني، البغدادي (المتوفّى 385 ه) قال الكنجي الشافعي في كفايته عند ذكر حديث الغدير: جمع الحافظ الدارقطني طرقه في جزء.

ص:234


1- . تشنيف الآذان: 77.
2- . مجلة الموسم: 74، م 2-1990 م، مهرجان الغدير/ لندن.

8. الشيخ محسن بن الحسين بن أحمد النيسابوري، الخزاعي، له كتاب «حديث الغدير».

9. علي بن عبدالرحمن بن عيسى بن عروة بن الجراح القناني (المتوفّى 413 ه) له كتاب «طرق خبر الولاية».

10. أبو عبداللّه الحسين بن عبيداللّه بن إبراهيم الغضائري (المتوفّى 411 ه) له كتاب «يوم الغدير».

11. الحافظ أبو سعيد مسعود بن ناصر بن أبي زيد السجستاني (المتوفّى 477 ه) له كتاب «الدراية في حديث الولاية».

12. أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي (المتوفّى 449 ه) له كتاب «عدة البصير في حجج يوم الغدير».

13. علي بن بلال بن معاوية بن أحمد المهلبي: له كتاب «حديث الغدير».

14. الشيخ منصور اللائي، الرازي، له كتاب «حديث الغدير».

15. الشيخ علي بن الحسن الطاطري، الكوفي: صاحب كتاب «فضائل أمير المؤمنين عليه السلام» له «كتاب الولاية».

16. أبو القاسم عبيداللّه بن عبداللّه الحسكاني: له كتاب «دعاة الهداة إلى أداء حق الموالاة»، يذكر فيه حديث الغدير.

17. شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي (المتوفّى 748 ه) له كتاب «طرق حديث الغدير».

18. شمس الدين محمد بن الجزري، الدمشقي، المقري، الشافعي (المتوفّى 833 ه) أفرد رسالة في «إثبات تواتر حديث الغدير».

19. المولى عبداللّه بن شاه منصور القزويني، الطوسي له: «الرسالة الغديرية».

20. السيد سبط الحسن الجايسي، الهندي، اللكهنوي: له كتاب «حديث الغدير» بالأُردوية، طبع في الهند.

21. السيد مير حامد حسين ابن السيد محمد قلي الموسوي، الهندي،

ص:235

اللكهنوي (المتوفّى سنة 1306 ه)، ذكر حديث الغدير وطرقه وتواتره ومفاده في مجلّدين ضخمين في ألف وثمان صحائف. وهما من مجلّدات كتابه الكبير «العبقات».

22. السيد مهدي ابن السيد علي الغريفي، البحراني، النجفي (المتوفّى 1343 ه) له كتاب «حديث الولاية في حديث الغدير».

23. الحاج الشيخ عباس بن محمد رضا القمي (المتوفّى 1359 ه).

24. السيد مرتضى حسين الخطيب الفتحبوري، الهندي: له كتاب تفسير التكميل في آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) النازلة في واقعة الغدير.

25. الشيخ محمد رضا ابن الشيخ طاهر آل فرج اللّه، النجفي: له كتاب «الغدير في الإسلام».

26. العلّامة الشيخ عبد الحسين بن أحمد الأميني النجفي (المتوفّى 1390 ه)، له: «الغدير في الكتاب والسنة والأدب» في 11 جزءاً.(1)

***

هذا ما استطعنا أن نعرضه للقارئ الكريم من خطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حجة الوداع، عسى أن نكون قد ساهمنا في رسم صورة لما بذله رسول اللّه صلى الله عليه و آله من جهود وتضحيات في سبيل إرشاد أُمتّه وتوضيح معالم الدين الإسلامي الحنيف لأجيال الأُمّة الإسلامية.

نسأل اللّه أن يوفقنا للاستنان بسنّته وأن يرزقنا شفاعته في الآخرة وزيارته في الدنيا.

والشكر للّه وله الحمد على توفيقه للصالحات

جعفر السبحاني

ص:236


1- . يعد هذا الكتاب موسوعة شاملة لكل ما يتعلّق بخطبة النبي صلى الله عليه و آله في غدير خم في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام عام حجة الوداع. وهو شامل لمناقشات تتعلّق بأسانيد الخطبة ودلالتها وما تثبته وتنفيه.

5 ما هو المراد من أنّ الأنبياء لم يورثوا؟

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الأخ الدكتور عبدالعزيز حسن دامت معاليه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن يديم عليكم لباس الصحّة والعافية، وعلى جميع الإخوة وأفراد العائلة.

وصلتني رسالتكم عبر البريد الالكتروني ووقفت على أسئلتكم فيها، وأنتم بحمد اللّه تعالى عارفون بأجوبتها، غير أنّكم أحببتم أن أُشارككم في الإجابة عنها.

السؤال الأوّل:

ماذا يريد الإمام الصادق عليه السلام في الرواية التي رواها الإمام الكليني عن أبي البختري عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: إنّ العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهماً ولاديناراً وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه ؟ فإنّ فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين [الكافي: 1/32، كتاب فضل العلم، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، الحديث 2].

الجواب: أقول: إنّ كشف الستر عن وجه الحقيقة رهن دراسة الحديث سنداً ومتناً.

ص:237

أمّا السند فلا غبار عليه إلّافي الراوي عن الإمام عليه السلام، أعني أبا البختري فهو وهب بن وهب.

قال النجاشي: وهب بن وهب بن عبداللّه أبو البختري، روى عن أبي عبداللّه عليه السلام وكان كذّاباً.

وقال الطوسي في الفهرست: عامّي المذهب (أي لم يكن شيعياً)، ضعيف، له كتاب.

قال ابن الغضائري: أبو البختري القاضي كذاب عامي، ونقل الكشي عن ابن شاذان أنّه قال فيه: أكذب البرية.

ومع ذلك كيف يمكن أن يستند إلى هذه الرواية في مقابل الآيات الناصّة على أنّ سليمان ورث داود.

كما أنّ زكريا طلب من اللّه سبحانه أن يهب له ذرية طيبة ترثه وترث من آل يعقوب، وقال: (وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) .(1)

ولا يتبادر من لفظ الإرث إلّاما هو المتبادر والمعروف عند العرف.

والشاهد على أنّ المراد من الوراثة في دعاء زكريا أنّه قال: (وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) ، فلو كان المراد من الوراثة الوراثة في النبوة صار هذا الطلب أمراً لغواً، واحتمال أنّ المراد هو الوراثة في العلم لا يناسب قوله: (يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ، إذ ليس آل يعقوب بأجمعهم عُلُماء فهماء كأخوة يوسف. وإلّا فهل يحتمل أن يطلب زكريا ولداً يرث ما في إخوة يوسف من الخصال مع أنّ النبي يوسف عليه السلام قد وصفهم بالجهل، وقال: (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) .(2)

ص:238


1- . مريم: 5-6.
2- . يوسف: 89.

وأمّا ما يرجع إلى سليمان أعني قوله: (وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (1) فلا يمكن حمله على الوراثة في العلم، وذلك لأنّه سبحانه قد ذكر في الآية المتقدمة أنّه آتاهما علماً وقال: (وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالاَ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) ،(2) فبعد هذا التصريح بأنّ اللّه سبحانه وهبهما العلم فلا حاجة لتكرار ما ذكره بصراحة تامة، فتفسير قوله سبحانه: (وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) ، بالوراثة في العلم ساقط جداً، وبذلك تبيّن أنّ علم الناس على قسمين اكتسابي أو إيهابي، وليس العلم أمراً وراثياً إلّاعلى سبيل المجاز.

فبعد هذه الآيات الناصّة على أنّ سنّة اللّه سبحانه في الأنبياء وغيرهم على نمط سواء، فهم يتوارثون كغيرهم وإنّما لا يتوارث أهل ملتين.

دراسة مضمون الحديث

لو افترضنا صحّة سند الحديث فنقول: إنّ الإمعان فيه يقودنا إلى أنّ المقصود من قوله: «العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنّما ورثوا أحاديث من أحاديثهم»، هو أنّ شأن الأنبياء ووظيفتهم هو توعية الناس وتعليمهم بأحاديثهم وكلماتهم، وليس من شأنهم أن يتركوا للناس الدنانير والدراهم، وأين هذا من أنّ النبي لو مات وترك بيتاً أو فراشاً أو أموالاً لا ترثها ورثته ؟!

وبعبارة أُخرى: أنّ الحديث - لو صحّ - فهو بصدد بيان علاقة النبي مع أُمّته وأصحابه، وأنّه ما ترك لهم فضة ولا ذهباً وإنّما ترك لهم علماً وسنّة واضحة ليلها كنهارها، فعلى الأُمّة أن تأخذ بهذه الأحاديث عن طريق العلماء فمن أخذ بها أخذ حظاً وافراً.

ولا علاقة لهذا الحديث بما يتركه النبي من مال إلى أزواجه وأولاده.

ص:239


1- . النمل: 16.
2- . النمل: 15.

فلا يتبادر إلى ذهن أحد - مهما كان مجرداً عمّا جرى بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله - أنّ النبي صلى الله عليه و آله بصدد بيان حرمان ابنته فاطمة الزهراء عمّا تركه من بيضاء وصفراء.

والذي يدلّ على ذلك أنّ الخليفة الذي روى حديث الحرمان لم يتعرض لما تركه النبي صلى الله عليه و آله لنسائه وأزواجه وإنّما تصدّى لخصوص فدك، فلو كان الحديث صحيحاً، وكان ما تركه النبي صلى الله عليه و آله صدقة يجب عليه استرداد عامة البيوت من أزواجه وتقسيمها على مستحقي الصدقات، مع أنّا نرى أنّه تركها لهنّ .

مضافاً إلى أنّه لم يتعرض أيضاً لما كان عند علي من سيف النبي صلى الله عليه و آله وخاتمه وفرسه وألبسته.

والعجب مع أنّه ادّعى أنّ الأنبياء لا يورثون، استأذن من ابنته عائشة لأن يدفن في بيتها، مع أنّ عائشة لم تكن مالكة له، بل كان من الأموال العامة.

حتى أنّ الخليفة الثاني أيضاً استأذن عائشة في أن يدفن في حجرتها. كل ذلك يدلّ على أنّ الخليفتين كانا على علم بأنّ عائشة مالكة لهذا البيت.

إنّ الحكم بحرمان أولاد الأنبياء من الأموال الخاصة لآبائهم نوع إهانة لهم، فأي فرق بين الأنبياء وغيرهم، فأولاد الآخرين محترمون، باقون تحت عطاء آبائهم، وأمّا أولاد الأنبياء فهم محرومون حتى من الشيء البسيط الذي يتركه الوالد!!

إنّ الذي يثير العجب أنّ النبي صلى الله عليه و آله قد ذكر ذلك الحكم الإلهي - لو صحّ - لأبي بكر فقط مع أنّ اللازم أن يوجه كلامه إلى بنته التي هي وارثته بعد رحيله، فلماذا ترك صاحب الشأن وتحدّث به إلى من لا يعنيه ؟!

وبذلك تتجلّى حقيقة كلام بنت المصطفى مخاطبة لأبي بكر قائلة: «يابن أبي قحافة أفي كتاب اللّه أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟! لقد جئت شيئاً فرياً. أفعلى عمد تركتم كتاب اللّه فنبذتموه وراء ظهوركم، وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا؟ أفخصّكم اللّه بآية أخرج أبي منها أم هل تقولون: إنّ أهل ملتين لا يتوارثان ؟! أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة، أم أنتم أعلم بخصوص القرآن

ص:240

وعمومه من أبي وابن عمي ؟!».

على أنّ فدك هي ممّا كان قد وهبه النبي لفاطمة في حياته بعد أن أمره اللّه سبحانه بقوله: (وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) (1). ولم يكن ما تركه النبي صلى الله عليه و آله لا يورث ويكون صدقة. ويكفي في ذلك الأحاديث الواردة حول تفسير الآية.

روى السيوطي في تفسيره الدر المنثور عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: لمّا نزلت هذه الآية (وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله فاطمة فأعطاها فدك.

وروى أيضاً عن ابن عباس رضى الله عنه قال: لمّا نزلت (وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) أقطع رسول اللّه صلى الله عليه و آله فاطمة فدكاً.(2)

***

السؤال الثاني: ما هو الوجه لتسمية الأئمة أولادهم بأسماء الصحابة ؟

الجواب: إنّ أسماء الخلفاء الثلاثة لم تكن أسماء مختصّة بهم فقط، بل هي أسماء كانت شائعة ومنتشرة بين العرب قبل الإسلام وبعده، واتّخاذ عليّ عليه السلام هذه الأسماء لأبنائه لا يكون دليلاً على حُسن العلاقة بينه وبين أصحاب الخلافة، وأنتم بإمكانكم مراجعة الكتب الرجاليّة مثل كتاب «الاستيعاب» لابن عبد البرّ وكتاب «أُسد الغابة» لابن الأثير، لتلاحظوا الصحابة الذين كانوا يحملون أسماء أبي بكر أو عمر أو عثمان.

ونحن هنا نستعرض أسماء الأشخاص الذين يحملون اسم عمر - قبل الإسلام وبعده - من كتاب واحد فقط، وهو كتاب «أُسد الغابة في معرفة الصحابة» كأُنموذج لما ذكرنا: 1. عمر الأسلمي 2. عمر الجمعي 3. عمر بن الحكم 4. عمر بن سالم الخزاعي 5. عمر بن سراقة 6. عمر بن سعد الأنماري 7. عمر بن سعد السلمي 8. عمر بن سفيان 9. عمر بن أبي سلمة 10. عمر بن عامر السلمي 11.

ص:241


1- . الإسراء: 36.
2- . الدر المنثور: 4/177، في تفسير الآية 36 من سورة الإسراء.

عمر بن عبيداللّه 12. عمر بن عكرمة 13. عمر بن عمرو الليثي 14. عمر بن عمير 15. عمر بن عوف 16. عمر بن غزية 17. عمر بن لاحق 18. عمر بن مالك بن عقبة 19. عمر بن مالك الأنصاري 20. عمر بن معاوية الغاضري 21. عمر بن يزيد 22. عمر بن اليماني.

هؤلاء فقط الأشخاص الذين أورد ابن الأثير أسماءهم، وإلّا فلو أضفنا التابعين الذين يحملون اسم عمر، فسوف نقطع بأدلّة راسخة بأنّ هذا الاسم وأسماء الخلفاء الآخرين هي من الأسماء المعروفة والمشتهرة عند العرب في الجاهليّة والإسلام، ولا يرد في بال أحدهم هذا الادّعاء على الإطلاق.

والحاصل: إنّ التسمية لم تحمل بُعداً عقائدياً إلى عصور متأخّرة، فعلى سبيل المثال نجد من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ومن بعدهم من أصحاب الأئمة عليهم السلام مَن يسمّى بمعاوية ويزيد و...، وكذلك تجد من سفراء الإمام الحجة عليه السلام مَن اسمه عثمان، وكما نجد من المخالفين لمدرسة أهل البيت: من يحمل أسماء الأئمة عليهم السلام، ممّا يكشف عن أنّ التسمية لم تكن تحمل بُعداً عقائدياً.

الهدف هو التوقّي من الأعداء

ولنتجاوز هذا ونقول: لو نظرنا إلى الأوضاع المزرية والتضييق الذي لحق الشيعة في تلك الأيّام، فإنّنا سندرك أنّ الأئمّة المعصومين من أهل البيت: قد أُجبروا على تصرّفات معيّنة بهدف الحفاظ على الشيعة وتجنيبهم تلك الويلات، وهي تصرّفات - قطعاً - جائزة شرعاً.

ومن جملة تلك التصرّفات أنّهم: قد وضعوا أسماء الخلفاء على أبنائهم، أو أنّهم قاموا بعقد علاقات عائليّة مع بعض كبار الصحابة عن طريق الزواج، حتّى يقلّلوا من تلك الضغوطات، ولئلّا تتمكّن آلة الظلم الأمويّة والعبّاسيّة من استغلال معارضة الأئمّة: للخلفاء الثلاثة للضغط على شيعة أهل البيت والإمعان في قتلهم وسحقهم، خصوصاً وأنّ المجتمع الإسلامي آنذاك كانت تسيطر البساطة

ص:242

والسذاجة على أفراده.

وأمّا تخصيص ليالي محرم فليس هو أمراً تعبدياً منصوصاً من الأئمة عليهم السلام، بل هو من صنع الوعاظ وأرباب المقاتل وقد اقتصروا على ابرز الشهداء وأفجع المصائب، وإلّا فالجميع عند اللّه سبحانه في مقام عظيم ودرجة رفيعة يغبطها عليهم سائر الشهداء والصالحين.

وفي الختام بلّغوا سلامنا إلى المؤمنين راجين منهم ذكرنا في صالح دعواتهم.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

28 صفر المظفر 1430 ه

ص:243

6 رسالة إلى الدكتور عبدالوهاب في رؤية الهلال

اشارة

فضيلة الأُستاذ الفذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

دامت معاليه، وتواترت بيض أياديه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وصلني - وصلكم اللّه - رسالتكم القيّمة حول إثبات رؤية الهلال ووقفت على ما فيها من جلائل الحقائق وأبهى النظريات، وأعجبني ما أبديتم من الرأي حول علم الفلك في العصر الحديث وقلتم «بأنّه بلغ من الدقة حدّاً لم يبلغه في العصور السابقة، واكتشف من العوالم الكونية ما لم تعرفه الإنسانية في الماضي، ولذا فإنّه من المفترض أن يستفيد منه المسلمون مما يعينهم في أُمور دينهم ودنياهم».

وداعيكم يؤيد هذه النظرية تماماً، وأنّ ما ورد من النهي عن التنجيم منصرف إلى القواعد الظنية غير المفيدة للعلم خصوصاً فيما يرجع إلى تَنبُّئِهم عن المغيبات من وقوع الحرب والصلح والغلاء والسيول وموت الفجأة وغير ذلك.

ويترتّب على هذا الأساس أنّه لو اتّفق المنجمون على عدم إمكان رؤية الهلال لا يعتد بشهادة نفر أو نفرين بل أكثر وتُحمل شهادتهم على خطأ الباصرة وتوهم الرؤية، وهنا حديث روي عن الإمام الصادق عليه السلام ننقله في المقام ربما يؤيد

ص:244

ذلك الموقف.

قال الراوي قلت له: كم يجزي في رؤية الهلال ؟ فقال: «إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض اللّه فلا تؤدّوا بالتظنّي، وليست رؤية الهلال أن يقوم عدة فيقول واحد: قد رأيته، ويقول الآخرون: لم نره، إذا رآه واحد رآه مائة، وإذا رآه مائة رآه ألف، ولا يجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علّة أقلّ من شهادة خمسين، وإذا كانت في السماء علّة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر».(1)

وهذا يدفعنا إلى الاحتياط التام في إثبات الهلال خصوصاً إذا كانت السماء صحوة ولم يكن فيها علة فلا يجوز للحاكم أن يحكم بدخول الشهر بشهادة أفراد قليلين، إذ لو كانوا صادقين فربما تكون شهادتهم مستندة إلى خطأ الباصرة. حيث إنّ المشاهد من شدّة رغبته إلى رؤية الهلال ربما يتخيل أنّه رآه، كما يرى العطشان السراب ماءً .

فعلى هذا يُحتج باتّفاق الفلكيين على عدم إمكان الرؤية على ضد مَن يدّعي الرؤية عندما تكون الرؤية حسب القواعد العلمية القطعية غير ممكنة.

نعم لايحتج بقولهم في ثبوت الهلال وأنّ الليلة أوّل الشهر، لأنّ الصوم والإفطار معلّقان على الرؤية، لا على العلم بوجود الهلال في السماء، قال صلى الله عليه و آله: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته». وروي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام: «صم للرؤية وأفطر للرؤية»، فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ قول الفلكيين حجة في مورد دون مورد.

1. حجة فيما إذا اتفقوا على عدم إمكان الرؤية وعدم تولّد القمر لأجل عدم ابتعاده عن ضوء الشمس بمقدار يخرجه عن تحت شعاعها، ولو ادّعيت الرؤية فلا يعتدّ بها.

2. وليس بحجّة إذا ادّعوا إمكان الرؤية وخروجه عن تحت الشعاع ولكن لم

ص:245


1- . وسائل الشيعة: 4، الباب 11 من أبواب أحكام شهر رمضان من كتاب الصوم، الحديث 10.

تمكن رؤيته، مع تصدّي جماعة لاستهلال الهلال.

***

ثمّ هل الحجّة الرؤية المباشرة بالعين المجردة، أو أعمّ منه ومن الرؤية بمساعدة الأجهزة المقرّبة ؟

وبعبارة أُخرى: هل الحجة الرؤية بالعين غير المسلحة أو أعم منها ومن الرؤية بالعين المسلّحة ؟

يظهر من سماحتكم أنّ الحجّة هي الأعم كما قلتم في ص 19: المراد بالرؤية، الرؤية المباشرة بالعين المجردة أو بمساعدة الأجهزة المقرّبة، والمكبّرة كالنظارات والنواظير وأجهزة المراصد، لأنّ الرؤية من خلال هذه الوسائل رؤية حقيقية، فتدخل في الرؤية في الأحاديث.(1)

وهناك أسئلة تطرح لعل عند سماحة الشيخ أجوبة شافية لها:

1. التخيير بين الأقل والأكثر أمر لغو

إنّ لازم هذا القول هو التخيير بين الأقل والأكثر وهو أمر لغو.

توضيحه: إنّ التخيير بين الأقل والأكثر في عالم التشريع غير صحيح، لكون مثل هذا التشريع لغواً لا يصدر من الحكيم فلو قال: اغسل ثوبك من البول، تكفيك مرة، ثم قال: اغسل ثوبك من البول تكفيك ثلاث مرات، فلا يصحّ أن يجعل الشارع المرة الأُولى مطهرة وفي الوقت نفسه أن يجعل الثلاثة مطهرة أيضاً، لأنّ الثوب بالغسلة الأُولى صار طاهراً وليس نجساً حتى يطهر بثلاث مرات. نعم يمكن استحباب الغسل ثلاثاً، لابتغاء تأكيد النظافة، ولكن لا يمكن أن تُعدّ المرات الثلاث مطهرة بمعنى أنّ الثوب كان قبله نجساً وصار طاهراً بثلاث دفعات.

وهذه هي القاعدة الأُصولية، فنسأل عن قولكم: «الرؤية المباشرة بالعين

ص:246


1- . الرسالة: 19.

المجردة أو بمساعدة الأجهزة»، فهل الشارع جعل كل واحد من السببين موجباً للصوم والإفطار أو جعل واحداً منهما؟

لا سبيل إلى الثاني حسب نظركم، فتعيّن الأوّل فنقول: كيف يكون كل موجباً للصوم والإفطار مع أنّ الرؤية بمساعدة الأجهزة متقدّمة يوماً - على الأقل - على الرؤية المجردة. فلا يبقى مجال للسبب الثاني. وعلى ضوء ذلك لا يمكن أن يجعل الشارع كلا السببين حجة مع لغوية إحدى الحجتين لتأخّر الثانية زماناً عن الحجة الأُخرى دائماً.

ويمكن أن يقال: إنّ اللغوية ترتفع بأحد وجهين:

1. أنّ الرؤية المباشرة بالعين المجردة للمناطق المتخلّفة، والرؤية بمساعدة الأجهزة للمناطق المتحضّرة.

2. أنّ العبرة بالسبب الأوّل راجعة للقرون السابقة ولكن الاعتبار بالسبب الثاني للعصر الحاضر.

وأنت خبير بأنّ كلّاً من الوجهين لا يمكن أن ينسب إلى الشرع المقدس الذي يعم حكمه على الجميع بشكل واحد وعلى البشرية في عامة القرون بنظر واحد.

وهذا الوجه - أي امتناع التخيير بين الأقل والأكثر - يصد الفقيه عن اعتماد الرؤية بمساعدة الأجهزة.

2. استلزام ذلك فقهاً جديداً

أ. اتفق الفقهاء أنّه إذا نوى المكلّف السفر لا يجوز له أن يقصر الصلاة حتى يغيب عنه البنيان ويخفى عنه أذان مصره، أو جدران بلده.(1)

ومن المعلوم أنّ خفاء البنيان بالعين المجردة يحصل بابتعاد المسافر مسافة ثلاثة كيلومترات تقريباً، وأمّا بمساعدة الأجهزة ربما لا يخفى حتى مسافة

ص:247


1- . الخلاف للشيخ الطوسي: 572/1، رقم المسألة: 324، ونسبه في الهامش إلى الأُمّ : 180/1، واللباب: 107/1، والمجموع: 349/4، وبداية المجتهد: 163/1.

20 كيلومتراً، فعلى القول باعتبار الرؤية بالأجهزة المساعدة يجب أن لا يفطر ولا يقصر حتى وإن بلغ 20 كيلومتراً، وهو كما ترى.

وهنا تأتي أيضاً لغوية التقدير بالأقل (3 كيلومترات) إذا كان الملاك (20 كيلومتراً) حسب الفرض.

ب. الأبقار الحلوبة ذات الإنتاج الغزير ربما يرى في حليبها أجزاء صغيرة من الدم القليل فيما لو نظر إليها بواسطة المجهر (الميكروسكوب)، فلو قلنا بحجّية معطيات هذه الأجهزة يجب الحكم عليه بالنجاسة، للدم المرئي بالأجهزة، وهو كماترى، لأنّ الميزان هو الرؤية العادية لا الرؤية بالأجهزة.

ج. الرجل الذي أجرى عملية جراحية لعلاج غدة البروستات، ربما يخرج مع البول بعض المني الذي لا يشاهد بالعين المجردة، وإنّما يرى بواسطة التحاليل أو أجهزة المختبرات، فهل يحكم على هذا الرجل بالجنابة لأنّ الميزان هو خروج المني وقد تحقّق ذلك ؟

د. لون الدم طاهر باتفاق الفقهاء، بحجّة أنّه ليس دماً عرفاً، ولكنه حسب التحاليل والنظر الدقيق فهو دم ضعيف.

هذه الأمثلة ونظائرها تصد الفقيه من الإفتاء بمعطيات هذه الأجهزة، وإلا لاحتجنا إلى تأسيس فقه جديد.

3. الإفطار في شهر رمضان والصيام في العيد

لو كانت الرؤية بالأجهزة المساعدة حجة في إثبات أوّل الشهر يكون معنى ذلك أنّ الملاك واقعاً في دخول الشهر تولد القمر في السماء وابتعاده عن الشمس بدرجة خاصة يتمكن الإنسان من رؤيته بالجهاز المساعد.

بناءً على ذلك فأوّل الشهر هو وجود القمر في السماء بالنحو الماضي، أي لو نظر إلى السماء لرؤي.

فيترتب على ذلك الأمر التالي الذي لا يمكن الالتزام به وهو أنّ المسلمين

ص:248

طيلة أربعة عشر قرناً أفطروا في أوّل شهر رمضان بحجة أنّهم لم يروا الهلال بالعين المجردة مع أنّه كان في الواقع أول الشهر وصاموا في يوم العيد بحجة أنّهم لم يروا الهلال في السماء بعيونهم مع أنّه كان أوّل الشهر في الواقع.

ونتيجة ذلك هو أنّهم أفطروا في شهر رمضان عن عذر وصاموا أوّل شوال عن عذر أيضاً، فهل يمكن لمتفقّه - فضلاً عن الفقيه - أن يلتزم بذلك ويقول: إنّ إفطارهم وصيامهم كان على خلاف الواقع ولكنّهم كانوا معذورين ؟!

فهل يمكن نسبة هذا الحكم إلى النبي الأعظم صلى الله عليه و آله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام والصحابة والتابعين ؟!

فاللازم على فقهاء مكة المكرمة المشرفين على مناسك الحج وأعماله:

1. تحري الدقة في ثبوت الهلال إذا كان الميزان هو العين المجردة، وأن لا يعتمدوا على شهادة فرد أو فردين، بل يجمعوا الكثير من الشهود من مناطق مختلفة، لأنّ فتواهم صارت ملاكاً لعمل ملايين المسلمين، الذين يتربصون أعواماً عديدة حتى يحجّوا.

2. وإذا اعتمدوا على الرؤية بواسطة الأجهزة فلا يفرضوا آراءهم على غيرهم من المسلمين الذين يتبنّون رأياً آخر، كلّ ذلك مشروط بحفظ النظام والهدوء خلال أداء مراسم الحج.

***

شيخنا العزيز!

ورسالتنا هذه مرفقة بهدية نورانية وتراثاً ربانياً «الصحيفة السجادية» وهي مشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب. وهي من مطبوعات أحد دور النشر في العربية السعودية.

وفيها تجدون أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام قد علّم الإنسان المؤمن آداب خطابه مع رب العالمين.

وممارسة هذه الأدعية والتدبر في مضامينها تعرج بروح الإنسان إلى المقامات

ص:249

العلوية، وربما تبلغ بالإنسان درجة يصدق عليه قول الإمام علي عليه السلام: «قد أحيا عقله، وأمات نفسه، حتى دق جليلُه، ولطف غليظُه، وبرق له لامع، كثير البرق، فأبان له الطريق، وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه، في قرار الأمن والراحة».(1)

وفي الختام ندعو لكم بدوام الصحة والعافية وطول العمر في خدمة الدين الحنيف ببيانكم وخطابكم وبنانكم ويراعكم بتوفيق من الباري تعالى.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

28 شوال المكرم 1429 ه

ص:250


1- . نهج البلاغة، الخطبة رقم 215.

7 شركة الأعمال في الفقه الإسلامي

اشارة

شركة الأبدان أو الأعمال أحد أقسام الشركة الّتي تعرض لها العلماء في كتبهم الفقهية، وينبغي تحرير محل النزاع، وذلك لأنّ الشركة في الأعمال تتصوّر على وجهين:

الأوّل: لو أجر اثنان نفسهما بعقد واحد وعمل واحد بأُجرة معيّنة، صحّت الشركة وكانت الأُجرة بينهما، أو حاز اثنان معاً مباحاً كما لو اقتلعا شجرةً معاً أو اغترفا ماءً دفعة بآنية واحدة أو صادا بشبكة واحدة سمكةً كان الصيد بينهما.

والظاهر أنّ هذا القسم خارج عن مصب كلماتهم كما ستوافيك.

الثاني: أن يوقعا اثنان على عملين بشرط أن تكون أُجرة كلّ منهما مشتركة بينهما، سواء اتفقا في العمل كالخياطة كأن يعمل كل برأسه، وشاركا في الأُجرة؛ أو اختلفا كالخياطة والنساجة، وهذا هو المبحوث في المقام.

ثم إنّ الأصحاب بين من قام بتعريف الشركة في الأعمال وبين من اكتفى في مقام التعريف بذكر الأمثلة فقط، وإليك الإشارة إلى كلا القسمين:

1. قال الشيخ الطوسي: هي أن يشترك الصانعان على أنّ ما يرتفع منهما من كسبهما فهو بينهما على حسب شرطهما، سواء أكانا متّفقي الصنعة كالنجارين والخبازين، أو مختلفي الصنعة كالنجار والخباز.(1)

ص:251


1- . الخلاف: 3/330، كتاب الشركة، المسألة 6.

2. وقال العلّامة: هي أن يشترك اثنان فصاعداً فيما يكتسبونه بأيديهم، تساوت الصنعة أو اختلفت.(1)

3. عرفه المصنّف بقوله: هي أن يوقعا العقد على أن تكون أُجرة عمل كلٍّ منهما مشتركاً بينهما، سواء اتفق عملهما كالخياطة، أو كان عمل أحدهما الخياطة والآخر النساجة.

ومن الأصحاب من اقتصر في التعريف على ذكر المثال، كالشيخ المفيد في المقنعة(2)، والمحقّق في الشرائع(3).

هذا كلّه يرجع إلى أصحابنا الإمامية، وأمّا غيرهم فقد عرّفها ابن قدامة في المغني وقال: معنى شركة الأبدان أن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم كالصُّنّاع يشتركون على أن يعملوا في صناعاتهم، فما رزق اللّه تعالى فهو بينهم.(4)

وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:

إنّ شركة الأعمال هي أن يتعاقد اثنان على أن يتقبّلا نوعاً معيناً من العمل أو أكثر، أو غير معيّن، لكنّه عام، وتكون الأُجرة بينهما بنسبة معلومة، وذلك كالخياطة والصباغة والبناء وتركيب الأدوات الصحية، أو كلّ ما يتقبّل فلابدّ من التعاقد قبل التقبّل.(5)

فما ذكره من التعاقد قبل التقبّل هو الأمر المهم في المقام، فإنّ شركة الأعمال شركة عقدية وليست شركة ملكية الّتي تحصل بمزج المالين اختياراً أو بلا اختيار، فذكر هذا القيد لازم في التعاريف.

هذه هي تعاريف الفقهاء لشركة الأبدان فلندرس أقوالهم فيها.

ص:252


1- . قواعد الأحكام: 2/324.
2- . المقنعة: 632.
3- . شرائع الإسلام: 2/130.
4- . المغني: 5/111.
5- . الموسوعة الفقهية الكويتية: 16/37، مادة «شرك».

أقوال الفقهاء في شركة الأعمال

المشهور بين فقهاء الإمامية هو بطلان شركة الأعمال، وكلّ مَنْ تعرض منهم لها أفتى به.

نعم ربّما تأمل فيه بعض المتأخّرين، وسيوافيك قوله.

أمّا الصدوق فلم يذكرها في «المقنع»، وما ورد في الينابيع الفقهية(1) عن «المقنع» من تقسيم الشركة إلى الشركة في الأموال والأبدان فإنّما هو موجود في «المقنعة» للشيخ المفيد لا في المقنع للصدوق، فليس في «المقنع» بحث عن الشركة بتاتاً.

وأوّل مَنْ عنونه في الكتب الفقهية هو شيخنا المفيد فقال:

والشركة لا تصح إلّافي الأموال، ولا تصحّ بالأبدان والأعمال، وإذا اشترك اثنان في عمل كنساجة ثوب، أو بناء دار أو نجارة باب وما أشبه ذلك لم تصحّ شركتهما وكان لكلّ واحد منهما أجر عمله خاصّة، فإن لم يتميّز عملاهما لاختلاطهما قُضي بالصلح بينهما.(2)

وقال السيد المرتضى: وممّا انفردت به الشيعة الإمامية أنّ الشركة لا تصح إلّا في الأموال ولا تصحّ في الأبدان والأعمال، ومتى اشترك اثنان في عمل كصياغة عِقْد ونساجة ثوب وما أشبه ذلك، لم يثبت بينهما شركة.(3)

وقال الشيخ في «الخلاف»: شركة الأبدان عندنا باطلة، وهي أن يشترك الصانعان على أنّ ما يرتفع لهما من كسبهما فهو بينهما على حسب شرطهما.(4)

وقال ابن زهرة: وَمِنْ شرطِ صحة الشركة أن تكون في مالين متجانسين، إذا خلطا اشتبه أحدهما بالآخر - إلى أن قال: - وعلى ما قلناه لاتصح شركة الأبدان،

ص:253


1- . الينابيع الفقهية: 17/3.
2- . المقنعة: 632، طبع النشر الإسلامي.
3- . الانتصار: 229.
4- . الخلاف: 3/330، كتاب الشركة، المسألة 6.

وهي الاشتراك في أُجرة العمل.(1)

وقال ابن إدريس: لا تصح شركة الأبدان، وهي الاشتراك في أُجرة العمل.(2)

وقال الكيدري: ولا تصح شركة الأبدان، وهي الاشتراك في أُجرة العمل.(3)

وقال المحقّق: ولا تصح الشركة بالأعمال، كالخياطة والنساجة.(4)

وأمّا العلّامة في القواعد فبعد أن عرّف شركة الأبدان وغيرها قال: والكل باطل.(5)

وأنت إذا سبرت الكتب الفقهية لأصحابنا - بعد العلّامة الحلي - تجد القول بالبطلان أمراً مسلّماً عندهم حتى أنّ السيد العاملي في «مفتاح الكرامة» نقل الإجماع المنقول على البطلان عن تسعة عشر كتاباً(6)، ولم يظهر بينهم مخالف إلّا ما نسب إلى ابن الجنيد، ولكن عبارته المنقولة في «المختلف» مبهمة تحتاج إلى مزيد تأمل.

نعم يظهر الميل إلى الصحة من المحقّق الأردبيلي مطلقاً وصاحب «الحدائق» في خصوص الشركة في حيازة المباحات.

قال الأوّل: لايظهر دليل على عدم الجواز سوى الإجماع، فإن كان فهو، وإلّا فلا مانع، فإنّه يرجع إلى الوكالة في بعض الأُمور، وتمليك مال في البعض الآخر، وبذل نفس وعمل في مقابلة عوض، ولا مانع منه في العقل والشرع.(7)

وقال الثاني (أعني: صاحب الحدائق): وسببية الحيازة إمّا بأن يشتركا في نصب حبالة الصيد المشترك ورمي السهم المثبِت له (الصيد)، فيشتركان في ملكه،

ص:254


1- . غنية النزوع: 1/263.
2- . السرائر: 2/399.
3- . إصباح الشيعة: 259.
4- . شرائع الإسلام: 2/130.
5- . قواعد الأحكام: 2/325.
6- . المستمسك: 13/7.
7- . مجمع الفائدة والبرهان: 10/193.

أو بأن يقتلعا شجرة أو يغترفا ماءً دفعة، فإنّه تتحقّق الشركة بذلك في الجملة، إلّا أنّه يكون لكلّ منهما من ذلك المحاز بنسبة عمله، ويختلف ذلك بالقوة والضعف، ولو اشتبه مقدار كلّ واحد فطريق التخلّص، الصلح، وما كان من الحيازة على غير الوجوه المذكورة فإنّه يختص كلّ بما حازه على الأظهر. هذا مع تميزه، لأنّه في معنى شركة الأبدان، وهي جائزة على الأشهر الأظهر.(1)

ولا يخفى أنّ ما صحّحه خارج عن محل النزاع كما عرفت في صدر البحث.

وأمّا القسم الثاني فلو اختص كل بما حازه فهو بمعنى بطلان الشركة ولا معنى لقوله: وهي جائزة على الأشهر الأظهر.

وأمّا فقهاء السنة ففي الخلاف: أنّ الشافعي قال بالبطلان.

وقال أبو حنيفة: يجوز مع اتّفاق الصنعة واختلافها، ولا يجوز في الاحتطاب والاحتشاش والاصطياد والاغتنام.

وقال مالك: يجوز الاشتراك مع اتفاق الصنعة ولا يجوز مع اختلافها.

وقال أحمد: يجوز الاشتراك في جميع الصنائع وفي الاحتشاش والاحتطاب والاصطياد والاغتنام.(2)

وحاصل الأقوال: إنّ الشافعي يوافق أصحابنا في البطلان. وأمّا أبو حنيفة فقد خصّها بمورد الصنعة، سواء أكانت متفقة أم مختلفة ولم يجوزه في الاشتراك في المباحات العامّة.

وأمّا مالك فخصّها بالصنعة المتّفقة، وخالف أبا حنيفة في مختلفها. وأمّا أحمد فقال بالجواز على وجه الإطلاق.

وقال في المغني: معنى شركة الأبدان أن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم، كالصُّناع يشتركون على أن يعملوا في صناعاتهم فما رزق اللّه تعالى فهو

ص:255


1- . الحدائق الناضرة: 21/156.
2- . الخلاف: 3/330، كتاب الشركة، المسألة 6.

بينهم، فإن اشتركوا فيما يكتسبون من المباح، كالحطب والحشيش والثمار المأخوذة من الجبال والمعادن والتلصلص على دار الحرب، فهذا جائز. نص عليه أحمد في رواية أبي طالب، وبهذا قال مالك.

وقال أبو حنيفة: يصح في الصناعة ولا يصحّ في اكتساب المباح كالاحتشاش والاغتنام، لأنّ الشركة مقتضاها الوكالة ولا تصحّ الوكالة في هذه الأشياء، لأنّ من أخذها ملكها.(1)

وقال الشافعي: شركة الأبدان كلّها فاسدة لأنّها شركة على غير مال ولم تصح كما لو اختلفت الصناعات.(2)

وما نقله عن الأئمة الأربعة نفس ما نقله الشيخ في «الخلاف» غير أنّ الشيخ خصّ قول مالك بصورة اتفاق الصنعة لا مع اختلافها، ومن المعلوم أنّ كتاب «المغني» يمثل فقه أحمد، فلا غرو في أن لا ينقل مذهب مالك على وجه دقيق.

وقال القرطبي: شركة الأبدان بالجملة عند أبي حنيفة والمالكية جائزة، ومنع منها الشافعي.. إلى أن قال: ومن شرطها عند مالك اتفاق الصنعتين والمكان، وقال أبو حنيفة: تجوز مع اختلاف الصنعتين ويشترك عنده الدباغ والقصّار، ولا يشتركان عند مالك.(3)

وما نقله عن مالك مطابق لما نقله الشيخ، ومن المعلوم أنّ «بداية المجتهد» تُمثّل مذهب مالك. وقد نقل إمام مذهبه بوجه دقيق.

نعم وافق ابن حزم الشافعي فذهب إلى عدم الجواز، وسيأتي كلامه في آخر المقال فانتظر.

هذه هي الأقوال عندالفريقين فلندرس أدلة المانعين من أصحابنا.

ص:256


1- . لعلّه ناظر إلى القاعدة المعروفة: «من حاز ملك»، وفي رواياتنا: «للعين ما رأت ولليد ما أخذت».
2- . المغني: 5/111.
3- . بداية المجتهد: 2/255.

أدّلة القائلين بعدم الجواز

اشارة

استدلّ أصحابنا على عدم الجواز بوجوه ندرسها تالياً:

1. الإجماع على البطلان

أجمعت الطائفة على عدم الجواز، وهذا هو الظاهر من غير واحد من القائلين بالمنع: منهم: السيد المرتضى في «الانتصار»، قال: وممّا انفردت به الشيعة الإمامية أنّ الشركة لا تصح إلّافي الأموال ولا تصح في الأبدان والأعمال.. إلى أن قال: دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه، الإجماع المتردّد.(1)

ومنهم: الشيخ في «الخلاف»، قال: دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم(2).

ومنهم: ابن إدريس فإنّه بعدما شرح عدّة من الشركات وهي شركة المفاوضة وشركة الوجوه وشركة الأبدان قال: وإجماعنا منعقد على فساد ذلك أجمع.(3)

ومنهم: العلّامة، قال: دليلنا: إجماع الفرقة، وخلاف ابن الجنيد غير معتد به، لانقراضه وحصول الاتفاق بعده.(4)

ومنهم: المحقّق الثاني حيث علّق على قول العلّامة: «والكل باطل سوى الأوّل» بقوله: سوى شركة العنان، وذلك باتفاقنا.(5)

ومنهم: الشهيد الثاني قال: ولا خلاف عندنا في بطلان شركة الأعمال إلّامن ابن الجنيد حيث أجازها مع تشاركهما في الفضل.(6)

ومنهم المحقّق الأردبيلي، قال: ولا يظهر دليل على عدم الجواز سوى

ص:257


1- . الانتصار: 229، تحقيق السيد محمد رضا الخرسان.
2- . الخلاف: 3/331، المسألة 6.
3- . السرائر: 2/400.
4- . المختلف: 6/230.
5- . جامع المقاصد: 8/13.
6- . مسالك الأفهام: 4/307.

الإجماع، فإن كان فهو وإلّا فلا مانع، فإنّه يرجع إلى الوكالة في بعض الأُمور، وتمليك مال في البعض الآخر، وبذل نفس وعمل في مقابل عوض، ولا مانع منه في العقل والشرع.(1)

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي ورد فيها ذكر الإجماع.

يلاحظ عليه: بما حقّق في محله من أنّ الإجماع إنّما يكون حجة على الحكم إذا كشف عن وجود الدليل الشرعي الواصل إلى المجمعين وغير الواصل إلينا. أو عن اشتهار الحكم عند أصحاب الأئمة.

ومن المعلوم أنّ هذا القول ليس له هذا الشأن، وذلك:

أوّلاً: لو كان في المسألة نص بين القدماء لجاء ذكره في الفقه الرضوي الّذي هو نتيجة الروايات المعتبرة مع حذف أسانيدها، أو لذكره الشيخ الصدوق في المقنع، كلّ ذلك يسبب الريب والشك في أنّ الإجماع مستند إلى الدليل.

ثانياً: أنّ المجمعين استدلّوا وراء الإجماع بأدلّة أُخرى كما ستوافيك، فلو كان الحكم اتفاقياً لم يحتج إلى الاستدلال بأدلّة أُخرى، وذلك يقرب كون إجماع المجمعين مستنداً إلى الأدلّة الّتي نتلوها عليك.

2. كونها غررية

استدلّ الشيخ وآخرون على البطلان بنهي النبي صلى الله عليه و آله عن بيع الغرر، وهذا غرر بدلالة أنّ كلّ واحد منهما لا يدري أيكسب صاحبُه شيئاً أو لا يكسب، وكم مقدار ما يكسبه ؟(2)

وجاء في «الغنية»: ويدل على فساد هذه الشركة أيضاً أنّه صلى الله عليه و آله قد نهى عن الغرر وهو حاصل فيها، لأنّ كلّ واحد من الشريكين لا يعلم أيكسب الآخر شيئاً أم لا،

ص:258


1- . مجمع الفائدة والبرهان: 10/193.
2- . الخلاف: 2/331.

ولا يعلم مقدار ما كسبه.(1)

وقال ابن إدريس: والّذي يدلّ على فساد ذلك كلّه (يعني شركة الأبدان) نهيه عليه السلام عن الغرر، وفي هذه غرر عظيم، وهو حاصل وداخل فيها، لأنّ كلّ واحد من الشريكين لايعلم أيكسب الآخر شيئاً أم لا، ولا يعلم مقدار ما يكسبه.(2)

إلى غير ذلك من الأقوال التي استدلّ أصحابُها بهذا الحديث.

يلاحظ عليه: أنّ الوارد في النصوص هو النهي عن بيع الغرر، لا نفس الغرر.

وعلى فرض التسليم فيختص النهي بموارد الغرر، بمعنى الجهل بمقدار ما يكسبه الشريك الآخر دونما إذا علم ما يكسبه على وجه الإجمال، وأحيانا على وجه التفصيل. ومن حسن الحظ أنّ أكثرشركة الأعمال الّتي يعبّر عنها بشركة الخدمات من هذا القبيل.

1. نفترض أنّ عدداً من المعلمين يؤسّسون مدرسة خاصة يشاركون فيها بتدريس الطلاب الكتابة، والحساب، وتحفيظ القرآن إلى غير ذلك من الدروس.

فإنّ هؤلاء المعلّمين يشتركون في الأُجور الّتي يدفعها الطلاب في آخر السنة أو الفصل.

2. وهكذا الأطباء حينما يؤسّسون مستوصفاً، يعالج كلّ طبيب منهم المرضى حسب تخصّصه، ومن ثم فهم يشتركون في المبالغ الّتي يدفعها المرضى إلى إدارة المستوصف مقابل العلاج.

3. ونظيره مكاتب المهندسين الذين يقومون برسم الخرائط اللازمة لبناء عمارة سكنية، فكلّ مهندس وخبير يرسم الخارطة حسب اختصاصه، فمنهم من يرسم الخارطة الأساسية للبناء، والثاني يخطط لقنوات تكييف الهواء، أو لأنابيب المياه، وغيره للمجاري الصحية، أو لتأسيس الكهرباء، وهكذا.

ص:259


1- . الغنية: 1/264.
2- . السرائر: 2/400.

4. ومثال آخر يتّضح من خلال ملاحظة الشركة الّتي تقوم بتأسيس شبكة الماء في الشوارع والأزقة، فهذه الشركة تتألّف من عدد من الأخصائيين والفنيّين والعمال الماهرين، فكلّ من هؤلاء له عمل خاص به، فهناك من يقوم بالرسم وأخذ القياسات والتخطيط، وهناك من يحفر المجاري والقنوات، وهناك من يوصل الأنابيب بعضها بالبعض، وهكذا.

ففي كلّ هذه الأمثلة يشترك العاملون في إنجاز العمل الكبير، كلٌ من موقعه، ومن بعد الإنجاز فهم يقتسمون الأرباح بينهم لكلّ منهم بحسب عمله واختصاصه بعد إخراج ما تمّ صرفه في مجال عملهم.

وعلى ضوء ذلك فلو كانت هناك اتفاقية بين الشركاء في الأرباح الّتي يحصلون عليها، فلا غرر في البين، ولا ضرر، والغرر الجزئي يعفى عنه.

أضف إلى ذلك: أنّ الشركة في الأعمال كانت هي الأصل في حياة الإنسان القديم والجديد، فإنّ الأدوات اللازمة لإنجاز الأعمال كانت قليلة، والطاقة البشرية لم تكن كافية لإنجاز عمل كبير، فلم يكن بد من الاشتراك بالأعمال.

5. فمثلاً حفرالقنوات كان يقع على عاتق الاشتراك بالأعمال، حيث كان العمال يشاركون في حفر قناة بطول 10 كيلومترات أو أكثر كلّها تحت الأرض يتوسط بين كلّ 50 متر فتحة لإخراج التراب وتمهيد القناة لمرور الماء.

هذه الأعمال ليست شأن عمل فرد واحد، بل هي عمل جماعة يشارك بعضهم البعض حتى يبلغوا الهدف، ولم يرد نهي عنه في المجامع الحديثية.

6. وهكذا قنوات السقي المأخوذة من الأنهار الكبيرة كدجلة والفرات، فهي نتيجة اشتراك جماعة في إنجاز هذا المشروع لغاية الاستفادة منه بشكل مشترك في سقي الأراضي الزراعية.

7. وقد صارت الشركة في الأعمال أمراً رائجاً في عامة البلدان غبّ الثورة الصناعية، يرجع إليها الفقيه وغيره من غير أن يدور في خلدهم أنّها شركة باطلة، وأبسط الأمثلة على ذلك هو الاستفادة من مكاتب السيارات الخاصة في التنقل في

ص:260

داخل المدن أو خارجها، إذ ربّما تكون هذه الشركة مؤلفة من شركة الأموال والأعمال.

ويظهر من كلّ من علّل فساد الشركة «بأنّ كلّ شريك لا يعلم أيكسب الآخر شيئاً أم لا، ولا يعلم مقدار ما يكسبه» أنّهم فرضوا المسألة فيما إذا عمل كلّ شريك على انفراد، دون أن يطّلع أحدهما على عمل الآخر، ودون أن تكون علاقة بين العملين، فعندئذٍ يرد التعليل من أنّ الشريك لا يعلم بما يكسبه الشريك الآخر.

وأمّا على الفروض الّتي ذكرناها أو ما هو الرائج في أيامنا الحاضرة من شركات الخدمات، فالكلّ يصب عمله في مورد واحد معيّن وكلّ يكمّل عمل الآخر، ولذلك قيّد مالك الجواز باتفاق الصنعتين والمكان خلافاً لأبي حنيفة حيث جوّز مع اختلاف الصنعتين فيشترك عنده الدباغ والقصّار، ودليل مالك زيادة الغرر الّذي يكون عند اختلاف الصنعتين أو اختلاف المكان.(1) ولكن الميزان هو أن يكون العمل الجماعي عملاً يكمل بعضه بعضاً أو يرفع حاجات الشركة بشكل مترابط.

وحصيلة الكلام في شركة الأعمال أنّه يجب ان يوصف بالتعاون في البر ويدخل تحت قوله سبحانه: (وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ) وعلى ذلك فلابدّ من شمول العمومات لهذا النوع من الشركة من رعاية أُمور:

1. أن تكون الشركة أمراً عرفيّاً ذائعاً بين الناس على نحو يعدونها من أنواع الشركات فخرج ما إذا اشتركا في نوعين من الصناعة خصوصاً إذا كانا في مكانين مختلفين لا يربط أحدهما بالآخر إلّاالاتفاق عند أجراء الصيغة، كما إذا شارك النجار مع الخياط في المنافع، ومن المعلوم أنّ هذا النوع من الشركة غير رائج ولا يرغب فيه العقلاء إلّاالشذاذ منهم.

2. أنّ ما ذكرنا من الامثلة إنّما يحتج به إذا كانت الأُجرة لمجموع الافراد من

ص:261


1- . بداية المجتهد: 2/255.

المهندسين والعمال وغيرهم ممن يشاركون في العمل ويكون تقسيم الأُجرة حسب اتفاقهم عند تأسيس الشركة، وأمّا إذا كانت هناك عقود متعددة حسب اختلاف ماهية العمل فالذي يرسم الخارطة الأساسية للبناء يعقد مستقلاً مع صاحب العمل، كما أن المخطط لقنوات تكييف الهواء يعقد أيضاً مستقلاً، وهذا يخرج عن الشركة في الأعمال، لأنّ محور الشركة وحدة العقد لا العقود.

3. ان يكون العقد بين الأشخاص وصاحب العمل، وتكون الأُجرة لأنفسهم سواء أكانت الشركة تمليكة أو عقدية.

وأمّا إذا كان طرف التعهد عنوان الشركة «كالرافدين» و «المتقين» بحيث يكون للعنوان شخصية مستقلة فهو الّذي يملك ويعقد ويشترط كما سيوافيك تفصيله هذا عند دراسة الشركات الحديثة، فيخرج أكثر هذه الأمثلة عن شركة الأعمال إذ يكون طرف التعهد عندئذٍ هو نفس الأشخاص، فلا محيص عن تبيين هذه الأمثلة على نحو ينطبق عليه عنوان الشركة في الأعمال.

3. كون المعاملات توقيفية

استدلّ غير واحد من المانعين على أنّ المعاملات توقيفية، ولم يرد في الشرع ما يدل على جوازها.

يقول الشيخ الطوسي: العقود الشرعية تحتاج إلى أدلّة شرعية وليس في الشرع ما يدلّ على صحّة هذه الشركة.(1)

وقال السيد المرتضى: إنّ معوّل القائلين بالجواز كلّها على الظنون والحسبان والرأي والاجتهاد، ومرجعنا فيما نذهب إليه فيها إلى توقيف، فما قلناه أولى.(2)

وقد استدلّ به صاحب الجواهر، وقال في رد استدلال القائل بالجواز بقوله

ص:262


1- . الخلاف: 3/331.
2- . الانتصار: 230.

تعالى: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1) ما هذا نصّه: والتراضي بما لم تثبت شرعيته غير مجد، والمراد بالتجارة عن التراضي ما ثبت التكسّب به شرعاً.(2)

يلاحظ عليه: مإذا يريد من توقيفية المعاملات، فإن لكلامه احتمالين:

1. أنّ الشركة في الأعمال لم تكن موجودة في عصر الرسالة، حتّى تشملها العمومات والإطلاقات، فإن أراد ذلك فهو مردود بما ذكرنا من أنّ الشركة في الأعمال أصل عقلائي بُني عليه صرح الحياة، وقد مرّ أنّ الحياة البدائية للإنسان كانت مشحونة بهذا النوع من التعاون والتعاضد، وعلى هذا فالأدلّة العامة تشملها بلا ترديد.

نفترض أنّه لم تكن موجودة في عصر الرسالة لكن الأدلّة تشمل كلّ عقد عقلائي، سواء أكان موجوداً في عصر الرسول صلى الله عليه و آله أم لا، غاية الأمر يجب أن يكون مجرداً عما حرّمه اللّه كالربا والغرر، والشرط المخالف لمقتضى العقد أو الكتاب والسنة.

ويؤيد ذلك أنّ تعليق الحكم بالوصف مستمر بالعلّية، فإيجاب الوفاء بالعقود إنّما هو لأجل كونه عقداً وتعهداً والتزاماً، ومن المعلوم أنّ نقض العهد على خلاف كرامة الإنسان، وعلى هذا فلا فرق بين العقد الرائج في عصر الرسالة والرائج بعده، لأنّ الموضوع لوجوب الوفاء هو العهد.

فالمعاملات إذا لم تكن منهياً عنها - لا موضوعاً ولا شرطاً - فهي مواثيق بين المتعاملين يجب الوفاء بها، وعلى ضوء ذلك فكلّ عقد عقلائي ينعقد بين فردين يجب الوفاء به بشرط أن لا يكون ممّا حرمه اللّه سبحانه، كما إذا كان ربوياً أو غررياً أو غير ذلك، وبالجملة فكلّ معاملة لم يكن فيها عنصر ممّا حرمه اللّه وضعاً أو تكليفاً، جزءاً أو شرطاً، فهو واجب الوفاء.

ص:263


1- . النساء: 29.
2- . الجواهر: 26/296.

2. أنّ الشركة في الأعمال كانت موجودة في عصر الرسالة، لكن وجودها في عصرها لا يكفي إلّاإذا علم رضا الشارع بهذا النوع من العقد، والظاهر أن عبارة الجواهر ناظرة إلى هذا الاحتمال حيث قال: إنّ المراد التراضي بما شرعه اللّه.

يلاحظ عليه: أنّه لو أُريد ذلك لانسد باب التمسك بالعمومات في الموارد المشكوكة، لأنّه إذا كان الموضوع هو البيع والعقد الشرعيين أو التراضي بشيء عُلمت شرعيته، يصير بالعمومات من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وقد طرح الشيخ الأنصاري إشكال صاحب الجواهر في تعريف البيع وأجاب عنه بأنّ الموضوع للحلية ووجوب الوفاء هو البيع والعقد العرفيان إلّاما خرج بالدليل. فتكون شرعية الشيء عند العرف طريقاً إلى شرعيته عند الشرع، إلّاإذا قام الدليل على تخلّف الطريق كما في بيع الكلب والخنزير، أو سائر المحرمات.

4. تمليك المعدوم

يظهر من السيد الخوئي أنّ وجه البطلان هو أنّها من قبيل تمليك المعدوم، ولذلك فصّل في المقام بين الشركة في الأُجرتين اللتين تحصل لهما من عملهما وبين الشركة في نفس المنفعة؛ أمّا الأوّل فقال: لا ينبغي الإشكال في بطلانها لما تقدّم غير مرّة من عدم الدليل على صحّة تمليك المعدوم فإنّه ليس للإنسان أن يملّك غيره ما لا يملكه بالفعل.

وأمّا الثاني - أعني: الشركة في نفس المنفعة - فهو أن يملك كلٌ منهما نصف خياطته في ذلك اليوم له، فلا وجه لبطلانها فإنها من شركة المنافع، وقد عرفت صحّتها بناءً على عدم اعتبار الامتزاج.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه لا مانع من تمليك المعدوم عند وجود المقتضي، وهو استعداد كلّ شريك للعمل المربح، ولذلك يصح اشتراط تمليك ثمرة شجرة معيّنة

ص:264


1- . كتاب المضاربة، تقريرات لأبحاث السيد الخوئي: 245.

عند البيع فيقول: اشتريت الثوب بشرط أن تكون ثمرة هذه الشجرة في الصيف لي، وما هذا إلّالوجود المقتضي للإثمار. أضف إلى ذلك: لا مانع من تمليك المعدوم بشرط الوجود وهو أمر عرفي.

وثانياً: فإن أراد من تمليك نصف خياطته في ذلك اليوم، تمليكه قبل العمل فهو أيضاً من قبيل تمليك المعدوم، وإن أراد بعده فهو خارج عن مصب البحث، لأنّه منعقد على عقد الشركة مثل الاشتغال بالعمل.

5. عدم المزج

يظهر من الحلبي أنّ المانع هو عدم وجود المزج بين العملين فإنّه بعد ما عرّف الشركة بقوله: أن تكون في مالين متجانسين إذا اختلطا اشتبه أحدهما بالآخر، فرّع على هذا بطلان شركة الأبدان، وذلك لعدم المزج فيها.(1)

وقال في المسالك: لأنّ كلّ واحد متميّز ببدنه ومنافعه، فيختص بفوائده، كما لو اشتركا في مالين منهما متميزان.(2)

يلاحظ عليه: أنّ المزج هو شرط في الشركة الملكية لا الشركة العقدية، والأساس في الثاني هو العقد، سواء أكان هناك مزج أم لا.

6. من قبيل شركة المنافع

إنّ شركة الأعمال قسم من شركة المنافع وهي باطلة.

يلاحظ عليه: أنّ بطلان شركة المنافع أوّل الكلام، إذ يقع السؤال عن الفرق بين تمليك عمل الإنسان منفعة عمله لشخص آخر، بالإجارة تارة وبالشركة أُخرى، فيجوز في الأوّل دون الثاني مع أنّه تفكيك بلا وجه، إذ كيف يجوز تمليك منفعة داره ولا يجوزتمليك منفعة عمله.

ص:265


1- . غنية النزوع: 1/263.
2- . مسالك الأفهام: 4/307.

على أنّ شركة الأعمال غير شركة المنافع وإن كانت النتيجة واحدة.

إلى هنا تبيّن أنّه ليس في المسألة دليل شرعي قاطع يعتمد عليه في الحكم بالبطلان، وعندئذٍ يكون المعتمد هو العمومات والإطلاقات السالمة عن الدليل بالخلاف.

وأمّا أصالة الفساد الّتي ركن إليها صاحب الجواهر في كلامه فهي محكومة بالدليل الاجتهادي والسيرة العقلائية عبر الزمان من دون ردع.(1)

إلى هنا ظهر أنّه لا دليل صالح يركن إليه في الإفتاء بالبطلان، وأنّ الدليل الوحيد لتجويز هذه الشركة هو العمومات والإطلاقات أوّلاً، والسيرة العقلائية عبر الزمان ثانياً.

ابن حزم وبطلان شركة الأعمال

إنّ ابن حزم مؤخّر الظاهريين أفتى بعدم جواز الشركة بالأبدان مطلقاً، وقال: لا تجوز الشركة بها أصلاً، لا في دلالة، ولا في تعليم، ولا في خدمة، ولا في عمل يد، ولا في شيء من الأشياء، فإن وقعت فهي باطل لا تلزم ولكلّ واحد منهم أو منهما ما كسب، فإن اقتسماه وجب أن يُقضى له بأخذه.

ثم استدلّ بوجوه إمّا لا صلة لها بالموضوع، أو لا دلالة لها. أمّا الأوّل، فكالتالي:

1. قوله تعالى: (وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْها) (2).

2. قوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) (3).

3. قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام».(4) وفسّره

ص:266


1- . جواهر الكلام: 26/296.
2- . الأنعام: 164.
3- . البقرة: 286.
4- . سنن البيهقي: 5/8؛ صحيح البخاري: 1/35.

بقوله: فلا يحل أن يقضى بمال مسلم أو ذمّي لغيره، إلّابنص قرآن أو سنّة، وإلّا فهو جور.

وأمّا الثاني فاستدلّ عليه بقوله تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (1).(2)

أقول: أمّا الآية الأُولى فهي ناظرة إلى الأُمور الأُخروية بشهادة صدرها وذيلها، أمّا الصدر فيقول سبحانه: (قُلْ أَ غَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْها) ، وأمّا الذيل فقوله تعالى : (وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ ) ، ومجموع الآية يدلّ على أنّها بصدد بيان أنّ كلّ إنسان مسؤول عن أعماله، وهو يتحمّل وزر عمله لا غير، ولا صلة للآية بما إذا اتّفق العاملان على أن يحفرا بئراً لإنسان مسلم يسقي منه زرعه، فليس هناك عمل سيِّئ حتى يكون عليها لا على غيرها، ولا وزر تتحمّله هي لا غيرها.

وأمّا الآية الثانية فهي بصدد بيان أنّ لكلّ إنسان ما له وما عليه، وهذا لا ينافي أن يملّك الإنسان ما يملك لغيره بعقد مرضي بينهما.

فنتيجة عمل كلّ إنسان له ولكن له أيضاً أن يشارك الغير فيه.

وأمّا الآية قول الرسول صلى الله عليه و آله فهو بصدد بيان حرمة دم المسلم وماله، ولكن أين هذا من عدم جواز أن يهب المسلم ماله بطيب النفس للغير.

وأمّا الآية الثالثة - وإن كان لها صلة بالموضوع - إلّاأن الدلالة ضعيفة، وذلك لأنّ الاستدلال إمّا بصدرها أعني قوله سبحانه: (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) فيلاحظ عليه بأنّ الباء في قوله: (بِالْباطِلِ ) للسببية، والمراد هو الأكل بالأسباب الباطلة كالرشوة والقمار والغصب. وكون الشركة في الأعمال بطيب النفس من الأسباب الباطلة، أول الكلام.

ص:267


1- . النساء: 29.
2- . المحلّى: 8/122-124.

وإمّا بذيلها - أعني: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) - فالمفروض وجود التراضي.

أدلّة المجوّزين من السنّة

ثم إنّ فقهاء السنّة استدلّوا بوجه غير ناهض لإثبات الجواز، فهؤلاء مكان أن يعتمدوا على العمومات والإطلاقات وعلى السيرة العقلائية غير المردودة من جانب الشرع استدلّوا بما روى أبو عبيدة عن عبداللّه بن مسعود قال: أشرك رسول اللّه بيني وبين عمّار وسعد بن أبي وَقاص، فجاء سعد بأسيرين ولم يجيئا بشيء.(1)

فإن قلت: إنّ الحديث لا يدل على المطلوب، إذ ليس فيه أنّ هؤلاء اشتركوا فيما يغتنمونه في الحرب ثم خاضوا في ميادينها، إنّما يدل على أنّ سعداً أتى بأسيرين دون الآخرين وأشرك النبي صلى الله عليه و آله بينهم.

قلت: الظاهر خلاف ما ذكر بشهادة قوله: «فجاء سعد»، فإنّ توسط «الفاء» حاك عن المراد من قوله: «اشرك» أي عقد الإشراك بينهم، ويشهد على ما ذكر صورة أُخرى للحديث.

قال: اشترك سعد بن أبي وقاص وعبداللّه بن مسعود وعمّار بن ياسر فيما يغتنمونه، فأتى سعد بأسيرين ولم يأتيا بشيء، فأقرّهما النبي صلى الله عليه و آله. قال أحمد:

أشرك النبي بينهم.(2)

وأجاب عنه العلّامة بوجهين:

1. الغنائم مشتركة بين الغانمين بحكم اللّه تعالى فكيف يصحّ اختصاص

ص:268


1- . المغني: 5/111. ولاحظ ما رواه البيهقي في سننه: 6/79، باب الشركة في الغنيمة؛ والدارقطني في سننه: 3/31. والحديث ضعيف لوجود الانقطاع بين أبي عبيدة وأبيه - أعني: عبداللّه بن مسعود - لأنّه لا يروي عن أبيه شيئاً. لاحظ إرواء الغليل: 5/295؛ المحلّى: 8/122.
2- . تذكرة الفقهاء: 16/315. أخرجه أبو داود برقم 3388، وابن ماجة برقم 2288؛ سنن البيهقي: 6/79. والسند أيضاً مثل السابق منقطع، لأنّ أبا عبيدة لا يروي عن أبيه شيئاً.

هؤلاء بالشركة فيها؟

2. لا نسلّم أنّ سعداً أعطاهم على سبيل الوجوب، بل أراد التبرّع والوفاء بالوعد الّذي لا يجب إنجازه، أمّا على سبيل اللزوم فلا.(1)

وهناك جواب آخر وهو: أنّ غنائم بدر كانت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله فكان له أن يدفعها إلى مَنْ شاء، فيحتمل أن يكون فَعَل ذلك لهذا، وذلك بشهادة قوله سبحانه:

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ ) (2)، وقد فسّروا الأنفال في الآية بالغنائم الّتي حازها المسلمون في غزوة بدر.

نعم الأنفال في مصطلح الفقهاء هو الفيء الوارد في قوله سبحانه: (وَ ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) (3).

والأنفال في مصطلح الحديث أيضاً هي الفيء، بل أوسع من ذلك عن رؤوس الجبال وبطون الأودية و...(4)

وفي الختام نلفت نظر القارئ إلى نكتة وهي أنّ شركة الأعمال كانت في الأزمنة السابقة شركة في الأعمال فقط، دون أن تكون مقرونة بالأموال، وأمّا في العصر الحاضر فإنّ شركات الخدمات هي في الواقع تتألف من شركة الأعمال وشركة الأموال، أي أنّها مزيج منهما، وهذا ينطبق على ما ذكرناه من الأمثلة فالأطباء الذين أسّسوا المستوصف، فإنّ الأجهزة الطبية والأدوات واللوازم

ص:269


1- . تذكرة الفقهاء: 16/315.
2- . الأنفال: 1.
3- . الحشر: 76.
4- . الوسائل: 7، الباب 1 من أبواب الأنفال.

الخاصة بالفحص والعلاج كلّها ملك الأطباء، فهم يعملون بواسطة هذه الأموال.

وكذلك مكاتب المهندسين، فهم يمتلكون أدوات الرسم الهندسي، ويعملون بواسطتها.

وعلى ضوء هذا فإبطال هذا النوع من الشركة بوجوه غير ناهضة، أو الاحتياط في مقام الإفتاء بعدم الجواز، يوجب شل الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات.

وأقصى ما يمكن أن يقال هو: أنّه يجب على المشاركين عقد الشركة على وجه يحدد عمل المشاركين بنحو يرفع الجهل والغرر غير المعفو من أعمالهم.

***

تصحيح شركة الأعمال

ثم إنّ غير واحد من الفقهاء لمّا أحس بضرورة هذا النوع من الشركة صاروا إلى تصحيحها بوجه آخر، نذكر منهم:

1. المحقّق الأردبيلي - فإنّه قدس سره لمّا واجه الإجماع على البطلان - حاول التصحيح بوجه آخر وقال - كما مرّ - فإنّه يرجع إلى الوكالة في بعض الأُمور، وتمليك مال في البعض الآخر [في مقابل مال آخر]، وبذل نفس وعمل في مقابلة عوض ولا مانع عنه في العقل والشرع.(1)

2. السيد الطباطبائي اليزدي، إذ قال: ولو أرادا الاشتراك في ذلك صالح أحدهما الآخر نصف منفعته المعيّنة أو منافعه إلى مدة كذا بنصف منفعة أو منافع الآخر، أو صالحه نصف منفعته بعوض معيّن وصالحه الآخر أيضاً نصف منفعته بذلك العوض.(2)

3. السيد الخوئي فقد صحّح شركة الأعيان عن طريق كونها شركة في المنافع

ص:270


1- . مجمع الفائدة والبرهان: 10/193.
2- . العروة الوثقى : فصل في أحكام الشركة، المسألة 1.

وأن يملّك كُلٌّ منهم نصف خياطته في ذلك اليوم لصاحبه في قبال تمليك صاحبه نصف خياطته في ذلك اليوم. نعم له لو كان مصبُّ الشركة هو الأُجور المحصلة فلا يجوز، لأنّه من مقولة تمليك المعدوم.(1)

ولا يخفى أنّ ما ذكروه وإن كان موافقاً للاحتياط، ولكنّه أمر لا يخطر ببال أحدٍ من المتشاركين. وكان الأولى صرف الهمة إلى تصحيحها لا إلى إرجاعها إلى أمر مغفول عنه عند المتشاركين. على أنّك قد عرفت الإشكال في قوله: «ولا يجوز تمليك المعدوم».

***

شركة الأعمال فرع من الشركات المعنوية

إلى هنا جرينا على غرار ما ذكره الأصحاب حول شركة الأعمال، إذ أنّهم صوّروها بصورة شركة بسيطة بين شخصين يصبان جهودهما في عمل جزئي خاص، وهناك أمر آخر ربّما يندفع به أكثرما أُشكل عليها، وهو: أنّ الشركة في الأعمال من أقسام الشركة المعنوية بمعنى أنّ الشركة - نفسها - تعتبر شخصاً اعتبارياً قانونياً يتمتع بجميع الحقوق إلّاما كان منها ملازماً لصفة الإنسان الطبيعية ولها ذمة مالية مستقلة، فبعد إجراء أُمور تعتبرها القوانين المدنية للبلد يصبح عنوان الشركة مالكاً لعامة الأموال والمنافع الّتي تدرها ويكون الأعضاء هم أصحاب الحق في الشركة، وعلى ضوء ذلك فالعمال كلهم يعملون لهذه الشخصية الاعتبارية، ويملّكون منافع أيديهم لها، لا لواحد من الشركاء ولا لاثنين منهم، بل الكلّ في خدمة الشركة حتى تجتمع المنافع في الشركة. نعم بمجرد قسمة الأموال تبطل الشركة ولا يبقى منها أثر.

وعلى ضوء ذلك فما أُثير حولها من الإشكال فالجميع مندفع أيضاً بما

ص:271


1- . مباني العروة الوثقى : 3/245.

عرفت والّذي يحتاج إلى التوضيح هو حل الإشكال الثالث. أعني: توقيفية المعاملات فيندفع أيضاً بوجود هذا النوع من الشخصية الاعتبارية في الشريعة الإسلامية نظير:

1. بيت المال الذي له عنوان اعتباري يتملّك ما يرجع إلى الدولة الإسلامية من الأموال.

2. الزكوات فإنّ المالك لها هو عنوان الفقراء لا مصاديقهم، وإنّما هم مصارف لها.

3. الخمس فإنّ المالك له هو مقام الإمامة والولاية كما هو الوارد في رواية أبي علي بن راشد قال: قلت لأبي الحسن الثالث عليه السلام: إنّا نؤتى بالشيء، فيقال: هذا كان لأبي جعفر عليه السلام عندنا، فكيف نصنع ؟ فقال: ما كان لأبي عليه السلام بسبب الإمامة فهو لي، وما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب اللّه وسنّة نبيه.(1)

فإنّ ظاهر العبارة أنّ المالك للخمس هو مقام الإمامة والخلافة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله. وأمّا الموارد فهي مصارف لا أنّهم مُلّاك حقيقة.

4. الأراضي المفتوحة عنوة ملك لعنوان المسلمين الذي يصدق على الموجودين والمعدومين.

روى محمد الحلبي قال: سُئل أبوعبداللّه عليه السلام عن السواد ما منزلته ؟ فقال:

«هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم، ومن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمن لم يخلق بعد»(2).

على أنّك عرفت أنّ توقيفية المعاملات لا تنسجم مع كون الإسلام ديناً خالداً وشريعة خالدة إلى يوم القيامة. وقد ملأت الشركات المعنوية العالم من غير

ص:272


1- . الوسائل: 7، (كتاب الخمس) الباب 2 من أبواب الأنفال، الحديث 6.
2- . الوسائل: 17، الباب 18 من أبواب إحياء الموات، الحديث 1.

فرق بين البلاد الإسلامية وغيرها.

وأمّا تمليك المعدوم أو عدم المزج، فهما بالنسبة إلى هذه النظرية وما عليه الأصحاب في معنى شركة الأعمال على وجه سواء، وقد عرفت جوابهما.

وأمّا أنّها من قبيل شركة المنافع فيقال: إنّ الشركة المعنوية لا صلة لها بشركة المنافع، فإنّ الشخصية المعنوية تمتلك كل شيء عيناً أو منفعة حتى ولو كان ديناً، دون أن يمتلك أحد الشركاء منافع الشريك الآخر.

***

ص:273

8 في وقف الحُلِيّ والأثمان

اشارة

يقع الكلام في وقف الذهب والفضة تارة فيما إذا كانا بهيئة الحليّ ، وأُخرى فيما إذا كانا مسكوكين.

أمّا الأوّل: فالظاهر من العلّامة في «التذكرة» عدم الخلاف في جواز وقفهما بين الأصحاب وغيرهم، وإنّما خالف أحمد في إحدى الروايتين عنه. قال: يصح وقف الذهب والفضة إذا كان لفائدة اللُّبس، والإجارة، والإعارة، ولأنّه عين يمكن الانتفاع بها مع بقائها دائماً، فصحّ وقفها كالعقار، وبهذا قال الشافعي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وفي الثانية لا يصح، لأنّ التحلّي ليس المقصد الأصلي من الأثمان فلم يصحّ وقفها عليه كما لو وقف الدنانير والدراهم.(1)

والظاهر أنّ قوله: «في الأثمان» تصحيف، لأنّ الكلام في الذهب والفضة إذا كانا حُليّين لا في المسكوكين.

أقول: إذا كان حدّ الوقف - أعني: تحبيس العين وتسبيل المنفعة - منطبقاً على الموقوف وعُدّ التحلّي منفعة رائجة له مضافاً إلى إجارته وإعارته لما كان وجه للتردّد في صحّته، مثلاً: ربّما يتصوّر الواقف فيما يترك من بنات وحفيدات وأسباط، بأنّ بعضاً منهنّ ربّما لا يتمكّنّ من التحلّي في

ص:274


1- . التذكرة: 2/432، الطبعة الحجرية.

الضيافة، فيعطف على هذه الطبقة الفقيرة، فيقف الخاتم والسوار والأقراط والقلادة والخلخال عليهنّ تقرباً إلى اللّه سبحانه، لأنّه بذلك يحفظ كرامتهنّ بين الناس، وليس وقف الحليّ عندئذ إلّاكوقف الثياب والأواني والفرش والكتب والسلاح حيث يُنتفع بها كما ينتفع بالحليّ ، بل ربّما إذا كانت الحليّ كثيرة تنتفع بها العائلة كما تنتفع بالأراضي الموقوفة، وذلك بإجارتها وغير ذلك من الطرق التي تدر نفعاً.

***

أمّا الثاني: أي وقف المسكوك منها، فهل يجوز وقفه بصورة الدرهم والدينار أو لا؟ ففيه وجوه بل أقوال:

1. عدم جواز الوقف

ذهب أكثر علمائنا إلى عدم جواز وقف المسكوك لعدم انطباق حدّ الوقف عليه - أعني: حبس العين وتسبيل المنفعة - إذ لا يُنتفع بالمسكوك مع بقاء عينه.

وإليك بعض الكلمات:

قال ابن زهرة: ولا يصحّ وقف الدراهم والدنانير بلا خلاف يعتدّ به، لأنّ الموقوف عليه لا ينتفع بهما مع بقاء عينهما في يده.(1)

وهذا هو الظاهر من ابن إدريس(2)، والكيدري(3) معلّلين عدم الجواز بنفس ما ورد في الغنية.

وقال العلّامة في «القواعد»: منع الشيخ وابن إدريس وابن البراج وأكثر علمائنا من وقف الدراهم والدنانير، لأنّه لا نفع يفرض لهما إلّامع إتلافها فأشبهت المأكول والمشروب، وجوّز بعض علمائنا وقفها لإمكان فرض نفع مع بقاء العين

ص:275


1- . غنية النزوع: 1/298.
2- . السرائر: 2/480.
3- . إصباح الشيعة بمصباح الشريعة: 346.

ولهذا صحّت إعارتها.(1)

2. جواز الوقف

قد عرفت أنّ العلّامة نقل في القواعد جواز وقفهما ولم يسمّ القائل، ويظهر من الشهيد جواز وقفهما إن كان لهما منفعة حكمية، قال: ويصحّ وقف الدراهم والدنانير إن كان لهما منفعة حكمية مع بقاء عينهما كالتحلّي بهما، ونقل في المبسوط الإجماع على المنع من وقفهما إلّاممّن شذ.(2)

وقال المحقّق الثاني: والحق أنّه إن كان لهما منفعة مقصودة عرفاً سوى الإنفاق صحّ وقفهما وإلّا فلا.(3)

وقال الشهيد الثاني: والأقوى الجواز، لأنّ هذه المنافع (التحلّي وتزيين المجلس والضرب على سكّتها ونحو ذلك) مقصودة ولا تمنع قوة غيرها عليها. نعم لو انتفت هذه المنافع عادة في بعض الأزمان والأمكنة اتّجه القول بالمنع.(4)

3. التردّد وعدم الجزم بشيء

يظهر من العلّامة في القواعد التردّد، قال: وفي الدراهم والدنانير إشكال.

قال الفخر في شرح العبارة: منشؤه أنّه هل يصح أن يكون لها منفعة حكمية معتبرة في نظر الشارع مع بقاء عينها، أو لا؟(5)

إلى غير ذلك من الكلمات التي لا تخرج عن حدود هذه الأقوال

ص:276


1- . قواعد الأحكام: 2/394.
2- . الدروس: 2/27.
3- . جامع المقاصد: 9/58.
4- . مسالك الأفهام: 5/322.
5- . إيضاح الفوائد في مشكلات القواعد: 2/190.

الثلاثة(1).

أقول: المانع عن القول بالجواز هو دوران الأمر بين حبس العين وتسبيل المنفعة، فحبس العين يستلزم عدم المنفعة أو قلّتها، فإنّ إعارة الدراهم والدنانير للعارية والإجارة قليل، وتسبيل المنفعة يستلزم البيع والشراء بهما وهو يتنافى مع حبس العين. وبما أنّ حبس العين أمر مسلّم في ماهية الوقف، والتحلّي فائدة نادرة، كان الأظهر عدم جواز وقفها. إذ هنا فرق واضح بين الذهب والفضة غير المسكوكين والمسكوك منهما، فإنّ الأوّل له منافع بالتحلّي والإجارة وغير ذلك، بخلاف المسكوك إذ ليس له فائدة بارزة، بل تبقى العين صامتة ساكتة لا ينتفع بها إلّا منفعة نادرة.

تصحيح وقف الأثمان مع التجارة بها

قد عرفت أنّ المانع المهم هو لزوم حفظ العين وإبقائها في الوقف، وهذا غير ميسر في المسكوكين إذا أُريد الانتفاع بهما بالمنفعة الرائجة كالتجارة بهما، ومع ذلك يمكن أن يقال: إنّ الضابطة المذكورة وإن وردت في كلام النبي صلى الله عليه و آله لكن يُحتمل كونها ناظرة إلى ما هو الأغلب آنذاك، حيث إنّ الوقف كان يدور حول الأراضي والبساتين والآبار والعيون الجارية إلى غير ذلك من الأُمور التي تدرّ نفعاً مع بقاء عينها.

وأمّا إذا أمكن الانتفاع بالتصرف بالعين مع الحفاظ على ماليتها فلا وجه لعدم صحّة الوقف حينئذ، مثلاً إذا وقف سجادة على مسجد وشرط أنّها إذا صارت قديمة تباع ويشترى بثمنها سجادة أُخرى، فالمنع عن هذا النوع من الوقف بحاجة إلى دليل.

ص:277


1- . انظر: مفاتيح الشرائع: 3/209؛ الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع: 3/281؛ مفتاح الكرامة: 9/75؛ المناهل: 495؛ جواهر الكلام: 28/90؛ تكملة العروة الوثقى: 1/206؛ تحرير المجلة: 79/2، القسم الثالث.

وعلى هذا فلو وقف الأثمان على عائلة فقيرة ولكن أجاز لهم التصرف في أشخاص الأثمان لغاية التجارة بها، حتّى يعود نفعها للموقوف عليهم بشرط الحفاظ على المالية في عامة المتبدّلات والبيع والشراء.

وعلى ضوء ماذكرنا يكون الموقوف هو المالية السيّالة بين المتبدّلات دون الأعيان، وعلى هذا لا يختص الجواز بالذهب والفضة المسكوكين، بل يعم الأوراق النقدية الرائجة حالياً، فلا مانع من أن يقف الواقف مبلغاً مالياً على عائلة فقيرة ولكن رخّص للمتولّي البيع والشراء بها طول الزمان حتّى تدر نفعاً للموقوف عليهم وتبقى المالية محفوظة.

ومن حسن الحظ أنّه صار هذا (وقف المالية دون العين) من الأُمور الشائعة في عصرنا الحاضر، فالجمعيات الخيرية تقوم بالمساهمة وجمع الأموال لأهداف إنسانية لا تورث ولا توهب ويشترون بها الأراضي والبنايات والمدارس والمراكز الثقافية وغيرها، فالأموال تخرج عن ملكية المتبرّعين وتنتقل إلى العنوان الّذي اختاره أعضاء هذه الجمعيات لأنفسهم، فالعنوان يملك مالية الأعيان وعينها فلهم أن يتصرفوا في الأعيان بالبيع والشراء، وليس لهم التصرف في ماليتها بإتلافها وهبتها وتوريثها، بل تبقى المالية ما دامت الظروف تساعد على بقائها، وإلّا فيعمل على وفق ما اتفقوا عليه في الاتفاقية المعقودة بينهم.

وقد أوضحنا في بحوثنا في مقدّمات البيع أنّ المعاملات الحديثة إذا لم تكن مخالفة للأُصول، تكون ممضاة من قبل الشارع، لقوله سبحانه: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، أو قوله صلى الله عليه و آله: «المؤمنون عند شروطهم».

فالمفروض أنّ هذا النوع من الوقف أمر عقلائي له منافع بالنسبة للطبقة الموقوف عليهم، وليس مخالفاً للأُصول التي بُني عليها الفقه الإسلامي فلا يحرّم حلالاً ولا يحلّ حراماً، ولايناقض كلام اللّه وسنّة نبيه. فالقول بجواز هذا الوقف مطابق للأُصول ورائج بين العقلاء، ولا مانع منه ظاهراً في الشرع، واللّه العالم.

فلو قلنا بأنّ هذا النوع من تجميد الأموال بماليتها لا بأعيانها، داخل تحت

ص:278

عمومات الوقف فيكون محكوماً بحكمه وإلّا يكون عقداً أو إيقاعاً مستقلاً، رائجاً بين العقلاء، وليس فيه ما يخالف الأُصول المسلّمة في باب المعاملات، فيكون نافذاً ولازماً يجب العمل على وفق ما اتّفقوا عليه عند إيجاد الجمعيات الخيرية، والمراكز الثقافية أو غير ذلك؛ وإذا عجزت الجمعية عن إدارة الأموال، فإن كانت قد حسبت لهذه الحالة الحرجة حساباً في قانونهم فيعمل بما اتّفقوا عليه، وإلّا فيرجع إلى الحاكم الشرعي فيضعها في الأقرب فالأقرب من مقاصد الجمعية وأغراضها. واللّه العالم

ص:279

9 رسالة في إرث الزوجة

اشارة

حضرة العلّامة الحجة آية اللّه السيد محمود الشاهرودي دامت بركاته

أمّا بعد فقد أتحفني صديقي العزيز الفاضل الشيخ محمد الرحماني - دامت تأييداته - بالأعداد: 45، 46، 47، 48 من مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام فقرأت ما دبّجه يراعكم حول إرث المرأة من الأرض ووقفت على جهودكم العلمية التي بذلتم في تحقيق المسألة، شكر اللّه مساعيكم، ولاسيّما في العدد الخامس والأربعين، والسادس والأربعين وفيهما غنى وكفاية لبيان موقفكم من المسألة.

لكن لنا ملاحظات حول نظركم في كيفيّة إرث الزوجة، نقدّمها إليكم عسى أن يتّضح بها نظر المشهور في المسألة.

لاشك أنّ للقرآن الكريم مقاماً منيعاً لا يمكن رفع اليد عن ظاهره بخبر الواحد، وهذا هو رأي المحقّق رحمه الله في المعارج في المسألة، وهذا هو المختار عندنا أيضاً في محلّه ولكن المورد ليس بهذا الشأن، فالروايات هنا متضافرة مفيدة للعلم وقد عدّ مضمونها من خصائص فقه الشيعة، فلو استثنيت فتوى ابن الجنيد فهناك رأي متميز لفقهاء الشيعة بين سائر الفقهاء، على اختلافهم في كيفية ميراث المرأة من الأقوال التي ذكرتموها في المجلة.

ذكرتم حول قوله عليه السلام: «إنّ المرأة لا ترث من تركة زوجها من تربة دار أو

ص:280

أرض إلّاأن يقوّم الطوب والخشب قيمة فتعطى ربعها أو ثمنها».

«إنّ الظاهر من إضافة المنع إلى تربة الدار والأرض أنَّ النظر إلى عين الدار وترابها أي ذاتها لا ما قد يتولد فيها وعليها من الأموال الإضافية حتى المالية والقيمة نتيجة الإحياء والبناء، ولهذا استدرك بلسان الاستثناء «إلّا أن يقوّم البناء والجذوع والخشب أو الطوب وهي الآجر ونحوها»، وظاهر الاستثناء، الاتصال مع أنّ الطوب والخشب ليس من الأرض فكيف استثني منها؟

«والظاهر أنّ أقرب المعاني لمثل هذا التركيب ليس ما فعله المشهور من جعل الاستثناء على الانقطاع، بل ينبغي الحفاظ على ظهوره في الاتصال مع كون المستثنى هو الإضافات الحاصلة في القيمة والمالية، سواء بالنسبة إلى ذات البناء أو الأرض أو ما أحدث فيها أو عليها بسبب الإحياء من المالية فيكون المتفاهم عرفاً من مثل هذا التركيب من أنّها لا ترث من العين والتربة ولكن ترث أصل حقّها من التركة بأن تؤتي من قيمة الأرض وما عليها بسبب البناء والإحياء بما فيها مالية الأرض ومنفعة المكان الحاصلة بذلك، فتعطى ربعها أو ثمنها».

وفيما أكّدتم عليه ملاحظات:

الملاحظة الأُولى: فإذا كان المقصود النهائي: هو أنّ المرأة ترث من قيمة المجموع أرضاً وبناءً ، فلماذا فصّل الإمام عليه السلام بين تربة الدار والأرض، وبين الطوب والخشب في العبارة مع أنّ المجموع محكوم بحكم واحد وهو أنّها ترث منه قيمة لا عيناً؟!

إنّ التفصيل (بين التربة وسائر الأموال ذكر في كثير من الروايات كصحيحة زرارة (1/6)(1) ومحمد بن مسلم (2/6) ويزيد الصائغ (8/6) وطربال بن رجاء (12/6) والأحول (16/6) قاطع للشركة، ويدلّ على أنّ للأرض والتربة حكماً

ص:281


1- . مابين القوسين إشارة إلى الوسائل: ج 17، الباب 6 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 1. وهكذابقية الروايات الموجودة في هذه الرسالة.

وللبناء حكماً آخر، فلو كان الجميع ميراثاً لها بالثمن والقيمة ومحكوماً بحكم واحد فلا وجه للتفصيل.

وبعبارة واضحة: فإذا كان فتوى الإمام هو إرث المرأة من المجموع قيمة لا عيناً كان عليه عليه السلام أن يذكر ذلك ببيان واضح ويقول: «إنّ المرأة لا ترث من عين الدار وما عليها من البناء ولا ما فيها من الأشجار وإنّما ترث القيمة من المجموع».

إنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام فُصَحاء - كما قالوا - فما هو وجه الكلام تارة في تربة الدار والأرض وأُخرى فيما عليها من الطوب والخشب مع اشتراك الجميع في النتيجة، وهو إرث المرأة من قيمة الجميع.

الملاحظة الثانية: أنّ المستثنى منه في بدء النظر لا يخلو من أحد أُمور أربعة:

1. إمّا أن يكون عين التربة والأرض فيكون الاستثناء منقطعاً، وأنتم لا ترضون بذلك.

2. أن يكون المستثنى منه هو القيمة، فتكون النتيجة خلاف المدّعى وموافقاً لقول المشهور، إذ معناه لا ترث من قيمة الدار إلّاقيمة البناء.

3. أن المستثنى منه، مجموع الدار من الأرض والبناء بأن أُريد من الدار كلا الجزأين: الدار والبناء، فيصح استثناء الطوب منه استثناء متصلاً لدخوله في المستثنى منه، إذ أُريد من الدار مجموع البناء والمبنيّ عليه، ويكون موافقاً لفتوى المشهور.

4. أنّ المستثنى منه هو الدار مع الإضافات ومنها القيمة كما هو الظاهر من كلامكم.

ويلاحظ عليه: أنّه خلاف الظاهر، لاستلزامه لحاظ الجمع بين المبدل (العين) والبدل (القيمة) مع أنّهما طوليّان لا عرضيّان.

الملاحظة الثالثة: أنّ المرجع في تفسير الحديث هو العرف الدقيق لا العقل الدقيق ولا العرف المتسامح، وهذه الرواية ونظائرها إذا نظر إليها العربي الصميم، المتجرد ذهنه عن الخلافات الفقهية ينتقل إلى أنّ المراد هو حرمان المرأة من

ص:282

الأرض دون البناء.

الملاحظة الرابعة: قولكم: «إنّ المالك إنّما يملك حياة الأرض لا ذات الرقبة وإنّما يكون له حق الاختصاص بها» على خلاف ما ذهب إليه الفقهاء إلّامن شذ، فإنّ الأرض تملك بالإحياء وتقبل النقل والانتقال.

يقول المحقّق: ويملكها المحيي عند عدم الإمام من غير إذن.(1) ونظير ذلك في المنتهى.(2)

وقال الشيخ الأكبر في كشف الغطاء: ثم إن أحياها المحيي - كائناً من كان - بعد الغيبة كانت ملكاً له، ويملكها من شاء ويوقفها ويجري عليها أحكام الملك.(3)

وقد تضافر عنهم عليهم السلام: «أنّ من أحيا أرضاً فهي له». فاللام للملكية دون الاختصاص، ولذلك لو خربت الأرض فما لم يعلم الإعراض من صاحبها ليس للآخر إحياؤها، وما في بعض الروايات: من ترك أرضاً ثلاثة أعوام يجوز للآخر التصرف فيها قد أعرض عنه المشهور.

الملاحظة الخامسة: نقلتم عن المحقّق الشعراني رضى الله عنه أنّ الوجه لعدم ذكر قيمة الأرض هو أنّ أكثر الأراضي خصوصاً ما كان بيد الشيعة في الكوفة ونواحيها كان من المفتوحة عنوة وكان لها حق اختصاص بسبب تملّك الآلات....».

إنّه قدس سره وإن كان من أعلام المحقّقين المخلصين، وقد زرته من قرب فوجدته رجلاً موسوعيّاً، ومع ذلك يُرد على كلامه أُمور:

1. أنّ لازم كلامه أن تكون هذه الروايات قضايا خارجية لا قضايا حقيقية، وهل السائلون كلّهم كانوا عراقيين ؟

2. لازم كلامه ان يعمّ الحرمان الرجال أيضاً إذ لا فرق بين الطائفتين في مورد الأراضي المفتوحة عنوة.

ص:283


1- . الشرائع: 1/293.
2- . المنتهى: 1/936.
3- . كشف الغطاء: 4/295.

3. انّ الحقوق المالية كحق الاختصاص تورث أيضاً فلماذا لم تلحظ في هذه الروايات مالية حق الاختصاص في أرثها بناء على ما ذكرتم من انها ترث من مالية أرض الدار.

الملاحظة السادسة: أنّه قد ورد في روايات كثيرة أنّ المرأة لا ترث شيئاً، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، وإليك هذه التعابير:

1. عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «إنّ المرأة لا ترث ممّا ترك زوجها من القرى والدور والسلاح شيئاً وترث من المال والفرش». 1/6.

2. عن محمد بن مسلم قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام: «ترث المرأة الطوب ولا ترث من الرباع شيئاً». 2/6.

3. عن زرارة عن أبي جعفر، ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «لا ترث النساء من عقار الأرض شيئاً». 6/6.

4. عن طربال بن رجاء، عن أبي جعفر عليه السلام: «إنّ المرأة لا ترث ممّا ترك زوجها من القرى والدور والسلاح والدواب شيئاً وترث...» 12/6.

5. عن محمد بن مسلم وزرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «إنّ النساء لاترثن من الدور ولا من الضياع شيئاً». 13/6

6. عن الأحول، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال سمعته يقول: «لا يرثن النساء من العقار شيئاً ولهن قيمة البناء». 16/6

إنّ حمل هذه الروايات على أنّها لا ترث من العين، ولكن ترث من القيمة بعيد غايته بشهادة أنّه لو قال القائل بعد هذه الجمل: «إلّا قيمة الدور» يتلقّى كلاماً فاقداً للبلاغة، إذ لو كان المراد الحرمان من العين دون القيمة لما كان هناك أي حاجة إلى استخدام النكرة في سياق النفي بل كان اللازم أن يقول: لا ترث من الدور بل ترث من القيمة.

الملاحظة السابعة: أنّ السيد المرتضى إنّما اختار أنّها ترث من قيمة الجميع لأجل الجمع بين عموم آيات الإرث، وما أجمع عليه الأصحاب من الحرمان،

ص:284

بتخصيص الحرمان بالعين وإيجاب القيمة على نحو ما اختاره في الحبوة.

وبما أنّ الإجماع دليل لبّي أخذ بالقدر المتيقّن وعذره في المقام أنّه لم يعتد بالأخبار الواردة في المقام لكونها أخبار آحاد لا قيمة لها عنده، وأمّا من يعتد بها كسماحتكم فليس له إلّاالأخذ بظواهرها، على أنّ كلمة المجمعين صريحة في الحرمان مطلقاً عيناً وقيمة، ولاوجه للاقتصار بالقدر المتيقّن.

الملاحظة الثامنة: أنّ لازم الجمع بين الروايات والآيات على النحو المذكور في كلامكم هو القول بأنّ قوله سبحانه: (وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ ) (1)، أو (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ ) (2) يتضمّن حكمين مختلفين: إرث العين من المنقول كالنقود وغيره، والقيمة من الدار والتربة. ومن المعلوم أنّ الحكمين من قبيل المتباينين لما مرّ من أنّ الإرث من القيمة بدل الإرث من العين فهل تتحمّل الآية بيان كلا الحكمين بلفظ واحد؟

وإلى ما ذكرنا يشير بعض المحقّقين إذ يقول: إذ ليس كلّ من العين والقيمة مندرجاً في العام اندراج المصاديق في المفهوم الكلّي حتى يكون حمل كلّ منهما على بعض أفراده عملاً به في الجملة.(3)

الملاحظة التاسعة: ذكرتم حول رواية الأحول: «وما ورد في ذيلها «يعني من البناء الدور» أنّها ظاهرة في أنّ المراد إعطاؤها قيمة الدور بما فيها قيمة رقبة أرضها...».

أقول: هذا التفسير من الراوي، وعلى فرض كونه من الإمام عليه السلام فلعلّ المراد هو تضييق صدق البناء وأنّه لا يشمل إلّابناء الدور لا سائر الأبنية كبناء الطاحونة والمعمل وغيرهما.

الملاحظة العاشرة: روى الكليني عن يزيد الصائغ عن أبي عبداللّه عليه السلام قال:

ص:285


1- . النساء: 12.
2- . النساء: 12.
3- . بلغة الفقيه: 3/93.

سألته عن النساء هل يرثن من الأرض ؟ فقال: «لا ولكن يرثن قيمة البناء» قال:

قلت: إنّ الناس لا يرضون بذا، قال: «إذا ولّينا فلم يرضوا ضربناهم بالسوط».(1)

فلو كان المقصود هو الحرمان من العين دون القيمة، فلماذا لا يرضى الناس به، فإنّ دفع القيمة يكون أنفع للمرأة لخروج سهمها عن الإشاعة إلى الإفراز.

الملاحظة الحادية عشرة: ذكرتم إنّ التعبير بالإعطاء أو إعطاء حقّها أو إعطاء ربعها أو ثمنها الوارد في ألسنة هذه الروايات، يجعلها ناظرة إلى مقام التقسيم والإفراز لحقوق الورثة وبيان أنّ حقّها من التركة - وهو الربع والثمن - لايعطى من عين الأرض والعقار بل يعطى لها من سائر التركة.

يلاحظ عليه: أنّه ورد في الرواية الأُولى من الباب «قوله: إنّ المرأة لاترث ممّا ترك زوجها من القرى والدور والسلاح والدوابّ شيئاً وترث من المال والفرش والثياب ومتاع البيت ممّا ترك وتقوّم النقض والأبواب والجذوع والقصب فتعطى حقّها منه».

فعلى ما ذكرتم يكون المعنى يعطى حق المرأة من القرى والدور والسلاح والدواب من قيمة هذه الأُمور الأربعة (النقض والأبواب والجذوع والقصب) أفهل يمكن أن تكون قيمة هذه الأُمور وافية لحق المرأة من قيمة القرى والدور والسلاح والدواب كلّها، ومثل ذلك لو أضفنا إلى الأُمور الأربعة ما تقدّمها من الأُمور الثلاثة - أعني: الفرش والثياب ومتاع البيت - بخلاف ما إذا قلنا بأنّ المراد أنّه يعطى حق المرأة المتعلّق بهذه الأُمور من قيمة هذه الأُمور.

ونظيرها ما رواه صاحب الوسائل برقم 5 و 7 و 12 و 15 في الباب السادس، والجميع على غرار واحد وسبيكة واحدة.

ص:286


1- . الباب 6، الحديث 8 و 11.

1. حول الروايات المعارضة لنظر المشهور

هناك روايات معارضة لنظر المشهور، وأُمور ربّما تكون دليلاً لمختاركم ندرسها تالياً: أما الروايات فهي:

1. روى عبيد بن زرارة وفضل بن العباس قال: قلنا لأبي عبداللّه عليه السلام ما تقول في رجل تزوج امرأة ثم مات عنها وقد فرض الصداق ؟ قال: «لها نصف الصداق وترثه من كل شيء، وإن ماتت فهو كذلك».

ومحل الاستدلال قوله: «وترثه من كل شيء».

أقول: إنّه ظهور بدوي، وذلك لأنّ الراوي لمّا توّهم أنّ عدم الدخول يسبّب عدم إرثها من زوجها بتاتاً، وكأنّ العلقة عند السائل تتحقّق بالدخول لا بالعقد، فردّه الإمام عليه السلام أنّ موت الزوج قبل الدخول لا يؤثر في ما تستحق من الإرث.

فعلى هذا معنى قوله: «فترثه من كل شيء» أي ممّا تستحق أن ترث.

وبعبارة أُخرى: أنّ الإمام عليه السلام في مقام دفع التوهم المذكور لا في مقام بيان حد الإرث وما ترث.

2. رواية الصحاف قال: مات محمد بن أبي عمير بياع السابري وأوصى إلي وترك امرأة له لم يترك وارثاً غيرها، فكتبت إلى العبد الصالح عليه السلام، فكتب إليّ : «اعط المرأة الربع واحمل الباقي إلينا».(1)

ومحل الاستدلال إطلاق قوله: «اعط المرأة الربع».

يلاحظ عليه: أنّه لم يرد في الرواية أنّ الرجل ترك أرضاً أو تربة أو ربعاً أو ما شاكله، ولعلّ التركة كانت غير الأرض والدار، وليس المراد من محمد بن أبي عمير هو التاجر الثريّ المعروف، لأنّه توفّي عام 217 ه وتوفّي العبد الصالح عليه السلام (186 ه).

أضف إلى ذلك: أنّه يمكن أن يكون اللام في الربع للعهد الذهني، أي الربع المعهود في ذهن الشيعة في إرث الزوجة.

ص:287


1- . الباب 4 الحديث 2.

3. معتبرة ابن أبي يعفور والفضل بن عبدالملك وجاء فيها عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: سألته عن الرجل هل يرث من دار امرأته أو أرضها من التربة شيئاً أو يكون في ذلك بمنزلة المرأة فلا يرث من ذلك شيئاً؟ فقال: «يرثها وترثه من كل شيء ترك، وتركت».(1)

أقول: الرواية على عكس المدّعى أدلّ حيث إنّ الراوي قد سلّم أنّ المرأة لا ترث عن التربة فيسأل الإمام عليه السلام عن إرث الرجل وانّه هل هو بمنزلة المرأة حتى لا يرث من الأرض أو لا؟ فأجاب الإمام عليه السلام بأنّها ترث من كل شيء، فالرواية تشهد بأنّ الرأي السائد بين الشيعة - يوم ذاك - كان هو عدم إرث المرأة من الأرض، وعلى ذلك بنى السائل سؤاله وقاس الزوج بالزوجة، فعند ذاك لا محيص من حمل الجواب على التقية، لكونها مخالفة لما هو المشهور بين الشيعة حسب ما تعطيه الرواية، وإلّا لما اكتفى الإمام عليه السلام في ردع هذه الذهنية للسائل بجملة بسيطة ذكرت استطراداً في مقام الجواب عن سؤال آخر.

وقد اتقى أئمة أهل البيت عليهم السلام في بيان الفروض في غير مورد نذكر منها موردين تجنباً للإطالة:

روى عبداللّه بن مُحرز قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن رجل أوصى إليّ ، وهلك وترك ابنته فقال: «اعط الابنة النصف، واترك للموالي النصف»، فرجعت فقال أصحابنا: لا واللّه، لا للموالي شيء. فرجعت إليه من قابل فقلت له: إن أصحابنا قالوا ما للموالي شيء، وإنّما اتقاك.

فقال: «لا واللّه ما اتقيتك وإنّي خفت عليك أن تؤخذ بالنصف، فإن كنت لا تخاف فادفع النصف الآخر إلى ابنته فإن اللّه سيؤدي عنك».

وممّا يشهد على تقيتهم في مسائل الإرث ما رواه الفقيه باسناده عن ابن عباس أنّه قال: كتب إليّ علي بن أبي طالب عليه السلام في ستة إخوة وجدّ، أن أجعله

ص:288


1- . الوسائل: 17، الباب 7 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 1.

كأحدهم واِمحِ كتابي، فجعله عليّ عليه السلام سابعاً معهم، وقول: وامحِ كتابي، كره أن يشنع عليه بالخلاف على مَنْ تقدمه.(1)

2. مشكلة اختلال الميزان في الفرائض والأسهم

«.. إذا كانت الزوجة لا ترث من العقار شيئاً فلا محالة سوف يقلّ سهمها عن الربع والثمن للتركة، وتقييد ذلك بالربع والثمن ممّا ترث منه من التركة لا كلّ التركة وإن كان يحفظ عنوان الربع والثمن، إلّاأنّ هذا عندئذ يكون خلاف مقام التحديد وتعيين السهام بالنِّسَب والفروض، أي يوجب اختلال الميزان للفرائض والسهام ويكون أشبه بالألغاز والتمويه حينئذٍ وليس بابه التقييد والتخصيص».

يلاحظ عليه: أوّلاً: ما الفرق بين المقام حيث يُحدّد فرضها بالثمن ثم يشار بدليل منفصل إلى أنّ فرض الثُمن يتعلّق بغير العقار وبين قوله سبحانه: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى ) (2) ثم يحدّ بان الخمس بعد المؤونة.

وثانياً: ان هذه المشكلة ليست مختصة بهذا المورد فإنّ اختلال الميزان للفرائض والسهام - لو صحّت تسميته إخلالاً بهما - ليس شيئاً غريباً في باب الإرث لتوفّره في الموارد التالية:

1. عند زيادة السهام على التركة يدخل النقص على طائفة دون طائفة.

وبالتالي ينقص الميراث عن السهام.

2. عند زيادة التركة على السهام يُردّ الباقي على الورّاث، وبالنتيجة يزيد الميراث على السهام.

خلافاً لأهل السنّة حيث عالجوا المشكلة في الموردين بالعول والتعصيب.

3. سهم الولد الأكبر يزيد على الفرض بالحبوة. فيكون سهم الولد الأكبر أزيد

ص:289


1- . الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد، الحديث، 7، ولاحظ أيضاً الحديث 4.
2- . الأنفال: 41.

من حظ الأُنثيين وقد قال سبحانه: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (1).

4. حرمان القاتل والكافر من الإرث وبالتالي تحصل الزيادة في سهام الآخرين. كالبنت والبنتين إذا كان الأب قاتلاً أو كافراً.

5. إذا مات الرجل عن بنت واحدة فهي ترث النصف فرضاً والباقي قرابة، فتكون وارثة للكل لا للنصف، وان كان ذلك باعتبارين، ومثلها إذا مات عن بنتين فهما ترثان الثلثين فرضاً والباقي قرابة فيكون ميراث الواحدة أو الاثنين ازيد من الفرض المحدّد الوارد في قوله سبحانه: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) (2).

3. مشكلة تأخير البيان

إنّ مشكلة تأخير البيان لاتختص بالمورد، فإنّ كثيراً من أُصول الأحكام أوّلاً والمقيّدات والمخصّصات ثانياً ورد في لسان الصادقين عليهما السلام ومن بعدهما من أئمة أهل البيت عليهم السلام ولا يمكن الالتزام فيهما بالنسخ، إذ لا نسخ بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله.

فالجواب في الجميع أمر واحد وهو وجود المصلحة أوجب بيان الأحكام تدريجاً، فالأحكام كلّها كانت مشرّعة في عصر الرسول صلى الله عليه و آله نازلة عليه، غير أنّه صلى الله عليه و آله بيّن ما بيّن، وأودع مالم يُبيّن - إمّا لعدم استعداد المجتمع، أو لعدم وجود الفرصة للبيان، أو لوجود المصلحة في تأخيره - عند أوصيائه الأئمة المعصومين عليهم السلام بعده، و ليس تأخير البيان أمراً قبيحاً بالذات حتى لا يُغيّر حكمه، و إنّما هو بالنسبة إلى القبح كالمقتضي نظير الكذب، فلو كانت هناك مصلحة غالبة كنجاة المؤمن كان أمراً حسناً. هذا هوالحقّ الذي يدركه من سبر حال النبي صلى الله عليه و آله والمجتمع الإسلامي.

فأقصى ما في تأخير البيان وقوع المكلّف في المشقّة، أو تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة، و كلّها هيّنة إذا اقتضت المصلحة الكبرى تأخير البيان.

ص:290


1- . النساء: 11.
2- . النساء: 11.

والمسألة مطروحة في باب التعادل والترجيح، وأخصّ بالذكر فرائد الشيخ، وقد ذكر وجوهاً لهذا النوع من التأخير، وتبعه غيره من الأعلام في نفس الباب.

أضف إلى ذلك: أنّ الظاهر من رواية الصفار أنّ البيان لم يتأخر، وإنّما خفي على الناس بعد وروده. روى محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن الحسين (الخطاب)، عن جعفر بن بشير، عن الحسين بن مخلد، عن عبدالملك قال: دعا أبو جعفر عليه السلام بكتاب علي عليه السلام فجاء به جعفر مثل فخذ الرجل مطوياً، فاذا فيه: انّ النساء ليس لهنّ من عقار الرجل إذا توفي - عنهن - شيء. فقال أبو جعفر عليه السلام: «هذا واللّه خط علي وإملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله».(1)

على أنّ تأخير البيان أمر مشترك بين الحرمان مطلقاً أو الحرمان من العين والدفع من القيمة، إذ لم يرد في الرواية بوجه صريح ما يدلّ على حرمانها من الأصل، ودفع سهمها من القيمة، وذلك لأنّ الظاهر من الآيات كونها سهيمة في عين التركة كسائر الورّاث.

***

الآن حصص الحق

قد ظهر من هذا البحث الضافي أنّ حرمان الزوجة من العقار أمر لا يمكن تجاوزه، وذلك بالوجوه التالية:

1. أنّ التفصيل بين الدار والطوب والخشب في الروايات قاطع للشركة، كما مرّ.

2. أنّ استخدام النكرة ووقوعها في سياق النفي لا يلائم حرمانها من العين فقط دون القيمة.

3. الظاهر من رواية يزيد الصائغ أنّ حرمانها من العقار كان أمراً مسلّماً في

ص:291


1- . الوسائل: 17، الباب 6 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 17.

عصر أئمة أهل البيت عليهم السلام ولذلك يقول الصائغ: «قلت: إنّ الناس لا يرضون بذا، قال: إذا ولينا فلم يرضوا ضربناهم بالسوط» فإنّ إعمال السوط أفضل دليل على الحرمان المطلق لا الحرمان من العين دون القيمة، لأنّ كثيراً من الناس يرضون بذلك.

4. أنّ معتبرة ابن أبي يعفور تدل على أنّ حرمان الزوجة من الأرض كان أمراً مسلّماً عند الراوي وبالتالي عند الشيعة في عصر الإمام الصادق عليه السلام حيث جعل معتقده في المورد أساساً للسؤال عن إرث الزوج من الزوجة، وأنّه هل هو كإرث الزوجة من الزوج في الحرمان من الدار والأرض ؟

5. نرى أنّ أبا جعفر عليه السلام يحلف باللّه في حرمان الزوجة من عقار الرجل ويقول: «هذا واللّه خط عليّ وإملاء رسول اللّه». فإنّ هذا الحلف يناسب حرمانها على وجه الإطلاق لا حرمانها على الوجه النسبي بأن ترث القيمة دون العين.

6. أنّ كتاب عليّ أفضل دليل على عدم تأخير البيان وإنّما طرأ عليه الخفاء بعد البيان، وقد أظهره الإمام الصادق عليه السلام بعد خفائه فترة من الزمن.

7. أنّ مشكلة التأخير - على فرض التسليم - أمر مشترك بين القولين، إذ لم يرد في الرواية ما يدل صريحاً على إرثها من قيمة جميع ما تركه الرجل.

8. أنّ معتبرة ابن أبي يعفور على عكس المدّعى أدّل، حيث تدلّ على أنّ الرأي السائد بين الشيعة في عصر صدور الرواية هو حرمانها من العقار، أفيمكن أن تكون هذه الشهرة بلا دليل ولا وجه ؟! وعلى ذلك يكون قول الإمام: «يرثها وترثه من كل شيء» محمولاً على التقية، وليس التقية في باب الفرائض أمراً نادراً، حيث إنّ الإمام اتّقى في رواية عبداللّه بن مُحرز وقال: «النصف للبنت والنصف الآخر للعصبة»، كما أنّ الإمام علياً عليه السلام بعدما أفتى في مورد الجدّ بشيء، كتب إلى ابن عباس ألّا ينشر ما كتب ويجعل الجد كأحد الأخوة.

9. أنّ الشهرة الفتوائية المجردة عن الرواية بين أصحاب الأئمة عليهم السلام فضلاً عمّا إذا كانت مدعمة بالروايات المستفيضة، من مميزات الحجّة عن اللاحجّة، لا من

ص:292

المرجّحات، فلذلك ترى أنّ عبداللّه بن محرز لمّا فهم الرأي السائد بين أصحاب الإمام ترك قول الإمام الذي سمعه مباشرة وتوقّف عن العمل بمناسبة وجود الشهرة على خلاف قوله عليه السلام، إلى أن لقيه في العام القابل وذكر القصة فأفتاه الإمام بالحكم الواقعي، وفي المقام قد عرفت أنّ بعض الروايات يدلّ على وجود الشهرة الفتوائية بين الأصحاب في عصر الأئمة عليهم السلام، وهي حرمان المرأة من العقار.

ومع هذه القوة التي هي فوق المرجحات كيف يمكن الإفتاء بالخلاف ؟!

10. وأمّا ما ورد في رواية ميسّر بيّاع الزطّي عن أبي عبداللّه عليه السلام من تعليل الحرمان بأنّه إنّما صار هذا كذا لئلّا تتزوج المرأة فيجيء زوجها أو ولدها من قوم آخرين فيزاحم قوماً آخرين في عقارهم(1).

إذ ربّما يتوهّم اختصاص الحكم بما إذا كان هناك وارث غير الزوجة دونما إذا لم يكن، وارث غيرها، فلا وجه لحرمانها عندئذ.

فملحوظ فيه، حيث إنّها من قبيل الحِكَم، لا العلل، كتعليل لزوم الاعتداد للمرأة بالعِلم بحالها من كونها حاملاً أو لا، مع أنّه يجب الاعتداد عليها وإن علمت حالها كما إذا لم يكن هناك لقاء عبر سنة. ولذلك تعامل الفقهاء مع أمثال هذه العلل، معاملة الحكمة فلا يدور الحكم مدارها ثبوتاً وتعيّناً.

هذه ملاحظات متواضعة نقدّمها إليكم راجين إمعان النظر فيها، لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً.

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

20 صفر المظفر 1430 ه

ص:293


1- . الوسائل: 17، الباب 6 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 3.

10 هل ترك النبي صلى الله عليه و آله من مصادر التشريع

اشارة

اتّفق الفقهاء على أنّ السنّة المطهّرة من مصادر التشريع ومبادئه، وقد فسّروها بقول الرسول أو الإمام المعصوم وفعله وتقريره.

أمّا الأوّلان فحجّيتهما من لوازم عصمته في مجال التبليغ والسلوك، وأمّا الثالث فلو صدر فعل من صحابي بمرأى ومسمع منه ولم ينه عنه، فهذا يلازم كون هذا الفعل سائغاً لا حراماً، وإلّا لما سكت عنه النبي صلى الله عليه و آله بل يزجره وينهاه.

هذا كلّه يرجع إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وأمّا الصحابي فليس قوله ولا فعله ولا تقريره من السنّة، ما لم يُعلم نسبته إلى المعصوم، وذلك لافتراض أنّه غير معصوم، فربّما يخطئ ولا يصيب. مضافاً إلى أنّه لا يوحى إليه من اللّه، ولا فرق بينه وبين سائر الناس من هذه الجهة.

يقول الشوكاني: والحق أنّ قول الصحابي ليس بحجّة، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلّانبينا محمداً صلى الله عليه و آله وليس لنا إلّارسول واحد، والصحابة ومَنْ بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنّة، فمن قال إنّه تقوم الحجة في دين اللّه بغيرهما فقد قال في دين اللّه بما لا يثبت، وأثبت شرعاً لم يأمر اللّه به.(1)

وما ربّما يقال من أنّ الصحابة هم الذين عاصروا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ونقلوا أقواله

ص:294


1- . إرشاد الفحول: 214.

وأفعاله وكانوا أعرف الناس بأسرار التشريع الإسلامي ومصادره وموارده، فمن اتّبعهم من الذين قال اللّه فيهم: (وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ) (1)،(2) غير تام، لأن ما ذكره من أنّهم أعرف بأسرار التشريع لا يلازم كون فتاواهم أو منقولاتهم هي ممّا وصلهم أو سمعوه عن النبي صلى الله عليه و آله، إذ من المحتمل أنّهم اجتهدوا فيما أفتوا به بوصف أنّهم أعرف بأسرار التشريع. وفتوى المجتهد حجة على نفسه لا على غيره.

أضف إلى ذلك: أنّ المقصود هو الاتّباع على النمط الحسن، وهو بعدُ غير ثابت، لاحتمال كون ما رواه الصحابي رأيه، لا قول النبي صلى الله عليه و آله فلا يُعدّ اتّباعه للمجتهد اتّباعاً حسناً.

هذا كلّه حول السنّة وقد عرفت معناه، ثم إنّه يقع الكلام فيما ظهر أخيراً من الاحتجاج بترك الرسول صلى الله عليه و آله أمراً ما، على لزوم اتّباع النبي صلى الله عليه و آله في الترك. ولو صحّ ذلك لصارت مصاديق السنّة أربعة:

1. القول.

2. الفعل.

3. الإقرار.

4. الترك.

وهذا من عجائب القول الذي ظهر بعد أربعة عشر قرناً، ولم ينبس به أحد من القدماء، من غير فرق بين فقيه مذهب وفقيه مذهب آخر، وعلى هذا فهو يُعدّ بدعة ظاهرة في مجال التشريع ومورثاً للجدال والنقاش في حياة المسلمين، ولأجل إيضاح المقام نبحث في موضعين:

الأوّل: الترك في مجال الأُمور العاديّة.

ص:295


1- . التوبة: 100.
2- . مصادر التشريع الإسلامي للدكتور شعبان محمد إسماعيل: 269.

الثاني: الترك في مجال العبادات والقربيات.

أمّا الأُمور العاديّة: فهي عبارة عن الأُمور الّتي يمارسها الناس في حياتهم الفردية والاجتماعية، وهي بين سائغ ومحظور. فما حرّمه التشريع فهو حرام إلى يوم القيامة لخلود الشريعة الإسلامية إلى يوم القيامة، وذلك كالخمر والميسر والرشوة والقتل إلى غيرها من كبائر المعاصي وصغائرها.

وأمّا السائغ منها فهو كالسابق حلال إلى يوم القيامة لا يحرمه شيء إلّابعنوان طارئ، ككونه ضاراً أو غير ذلك.

ثم إنّ الأُمور العادية لا تبقى على حالها الأوّل، بل أنّها تتكامل وتتطور حسب تكامل حياة البشر وفقاً للتقدّم الحضاري، وهذا واضح للعيان في لباس الإنسان ومسكنه وراحلته.

فقد تطوّرت وتكاملت هذه الأُمور من الحالة العادية إلى ما نشاهده الآن.

إنّ السلف الصالح والخلف من بعدهم لم يجمدوا في حياتهم الاجتماعية على النمط الّذي كانوا يعيشون عليه في عصر صدر الإسلام، بل أخذوا من الحلال حلوه، ومن الجائز صفوته، دون أن يعترض عليهم أحدٌ، ويتّهمهم بالأخذ بمحدثات الأُمور (وكلّ محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).

وذلك لافتراض أنّ هذه الأُمور سائغة وجائزة ومن الطيّبات الّتي أحل اللّه سبحانه لعباده، من غير فرق بين صورتها الأُولى وصورتها الثانية والثالثة.

وذلك لوجهين:

1. أنّ طبيعة الإنسان المتحضّر هي التدرّج في الحضارة والترقّي في مدارجها، وهذا أمر طبيعي فطري لا يمكن إيقافه والمنع عنه، لأنّه يضاد الفطرة الّتي نشأ عليها الإنسان منذ أن وطأت قدماه هذا الكوكب.

وعلى فرض إمكان الإيقاف وتحريم التطور كان على الشارع إيضاح ذلك والدعوة إلى الجمود وإيقاف الحياة على ما كانت عليه.

2. إذا كان لهذه الأُمور العادية دليلٌ في التشريع الإسلامي ومسوغ لها

ص:296

فالتطورات صور طارئة عليها، فما لم يكن فيها عنصر محرم أو ملازم للمحرم فهو حلال بلا شك استناداً إلى أصالة الحلية في الأُمور العادية ما لم يدلّ دليل على حرمته.

ذكر بعض المؤرّخين أنّ أوّل تطوّر ظهر في حياة المسلمين دخول المناخل، ولم يكن لهم عهدٌ بها، وهي من أدوات التنعم والترفه في المأكل ممّا لم يكن يعرفه العرب ولا المسلمون من قبل، وقد نظروا إلى المسألة أنّها من الأعراف المرسلة عن قيود الاتّباع وعدمه، وهي من مصاديق قوله سبحانه: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (1).

وكانت للمكيّين أعراف وعادات نشأوا عليها، فلمّا هاجروا إلى المدينة فوجئوا بعادات أُخرى غير ما مارسوه في بلادهم ممّا يتعلق بالمسكن والملبس والمأكل فاقتبسوا من هذه الأعراف أفضلها وأكملها، ولم يدر بخلد أحد أنّها من محدثات الأُمور.(2)

كل ذلك يدلّ على أنّ ما يرجع إلى العادات المحلّلة بالكتاب والسنّة مطلق مرسل لا يحدد بحدّ وإن تطورت وتكاملت، إلّاإذا انطبق عليه عنوان محرم أو كان ملازماً لأمر محرم.

إنّ المسلمين فتحوا البلاد وأشاعوا التوحيد بين الأُمم المتحضّرة، وقد كانت لهم أعراف في حياتهم الاجتماعية وآلات وأدوات في التعليم والتعلّم أو فتح البلاد وغزوها، فاستقبلوها برحابة صدر وتعلموها واستخدموها في حياتهم، غير ما كان محرماً بالذات.

أين الأزقة الضيّقة في مكة المكرمة والمدينة المنورة من الشوارع الواسعة في عواصم العراق والشام ؟!

ص:297


1- . الأعراف: 32.
2- . السلفية مرحلة مباركة لا مذهب إسلامي: 46.

أين كوخ الفلاحين في الجزيرة العربية من القصور المشيدة بعد قرن في نفس الجزيرة، ثم أين جشوبة العيش في صحاري الحجاز من العيش الرغيد في البلاد المفتوحة ؟!

كل ذلك حصل بمرأى ومسمع من الصحابة والتابعين والفقهاء ولم يقل أحدٌ بحرمته رغم كونه من الأُمور المحدثة.

وعلى ذلك جرت حياة المسلمين عبر قرون إلى أن انتهى الأمر إلى ركوب السيارات والطائرات واستخدام الإذاعات المسموعة والمرئية ووسائل الإعلام الأُخرى.

وهاهم ينشئون مشاريع تجارية وثقافية لم يكن لها نظير في القرون السالفة، كل ذلك شريطة أن لا يكون حراماً بالذات أو مقروناً به.

حكم العباديات والقربيات

اشارة

أمّا العباديات والقربيات فهي من صميم الدين وجوهره، ولا يجوز التصرف فيها بزيادة ونقيصة حيث إنّ ذلك يُعد بدعة ومن محدثات الأُمور في صميم الدين الّتي وضعها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وقال: «وإياكم ومحدثات الأُمور، فإنّ كلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار».(1)

وهذا ما آمن به عامة المسلمين أخذاً بقوله سبحانه: (آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (2).

وقال: (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ) (3).

إلى غير ذلك من الآيات والروايات الّتي تحرم التصرف في صميم الدين

ص:298


1- . مسند أحمد: 4/126؛ سنن الدارمي: 1/45.
2- . يونس: 59.
3- . النحل: 105.

بنقص أو زيادة.

إنّ لازم الإيمان باللّه سبحانه ورسوله هو التسليم في مقابل الشريعة الّتي جاءنا بها من عند اللّه، قال سبحانه: (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (1).

إنّ التصرف في التشريع الإسلامي بتحليل الحرام أو تحريم الحلال أو زيادة شيء في العبادات أو النقص من الواجبات يُعدّ تقدماً على اللّه ورسوله، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2).

هذا كلّه ممّا لا سترة عليه، فإنّ حرمة البدعة ثابتة عقلاً وشرعاً.

إنّما الكلام فيما إذا كان أمر ديني أو قربي مشروع بنص الكتاب والسنّة، ولكن لم يرد في الأثر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله مارسه، فهل يكون ترك الرسول صلى الله عليه و آله لهذا العمل دليلاً على لزوم اتّباعه في ذلك وبالتالي يصبح هذا الشيء أمراً محرماً لازم الاجتناب ؟ هذا ما سندرسه تالياً.

إنّ السنّة عبارة عن قول النبي وفعله وتقريره - كما عرفت - ولم يقل أحد أنّ ترك الرسول لأمر قربي دليل على حرمته، فإدخال الترك في مصادر التشريع بدعة حصلت في هذا العصر.

وذلك لأنّ الترك أمر لبّيّ لا يمكن الوقوف على بواعثه ودوافعه، فلعل الظروف لم تسمح له صلى الله عليه و آله بممارسته بعد أن لم يكن أمراً واجباً معيّناً وإنّما أخذ من الواجب أحد أعدال التخيير أو ترك المستحب لبعض الدوافع، وعلى ذلك فلا يحتج بالترك المجهول دافعه وعلّته بعد وجود الدليل على جواز الشيء وقربيته.

والّذي يرشدنا إلى ذلك أنّه حصل بين المسلمين أُمور قربية لم يمارسها

ص:299


1- . النساء: 65.
2- . الحجرات: 1.

الرسول صلى الله عليه و آله بل ولا كثير من أصحابه. وإليك نماذج منها:

1. تنقيط القرآن وإعرابه

إنّ القرآن الكريم في عصر الرسول صلى الله عليه و آله لم يكن منقّطاً ولا معرباً ولا مكتوباً على الصحف.

روى المؤرّخون أنّ أوّل من نقّط القرآن هو أبو الأسود الدؤلي.

قال يحيى بن أبي كثير: كان القرآن مجرداً في المصاحف، فأوّل ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء والثاء وقالوا: لا بأس به هو نور به، ثم أحدثوا نقطاً عند منتهى الآية، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم.(1)

كما أنّ أوّل من أمر بالتعشير هو المأمون العباسي، وأوّل من أدخل الحركات الإعرابية في المصحف هو أحمد بن خليل الفراهيدي.

2. التطوّر في بناء المساجد

بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه و آله إلى يثرب، فإنّ أوّل عمل قام به هو بناء مسجد للصلاة فيه، وقد بناه باللبن وسقفه من الحصر والبواري، وترك أرضه متربة يسجدون على التراب وكان المسجد طول حياته الشريفة على هذه الشاكلة، وبعد رحلته صلى الله عليه و آله ضاق المسجد بالمسلمين فقاموا بتوسيعه وبنائه بالحجارة والجصّ ، وكلّما اتّسعت رقعة الدولة الإسلامية زاد التطوّر في بناء المسجد الحرام والمسجد النبوي. إلى أن وصل الأمر في العصر الراهن إلى ما يراه كل من يقصد الحرمين الشريفين، فهما كوكبان لامعان في قلب العالم الإسلامي، مشيّدان على أحدث طراز وبأحسن المواد الإنشائية، ومزدانان بأحدث الفنون والزخارف الرائعة.

وعمارة المسجد من الأُمور القربية، قال تعالى: (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا

ص:300


1- . الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 1/63.

مَساجِدَ اللّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَ فِي النّارِ هُمْ خالِدُونَ * إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) (1).

3. المناظرة مع أصحاب المقالات

اتّسعت رقعة الإسلام ودخلت في حظيرته أُمم مختلفة الثقافة فأثاروا - وهم في لباس الإسلام - شبهات وإشكالات تمسّ صميم العقيدة من التوحيد وعصمة الأنبياء وغيرها ممّا ورد في الكتب الكلامية، فقام المسلمون وفي مقدّمتهم الإمام علي عليه السلام وأئمّة أهل البيت عليهم السلام بالمناظرة والاحتجاج عليهم بالبرهان الثابت والدليل القاطع، واحتجاجاتهم مبثوثة في كتب التاريخ والحديث والعقائد، نذكر أُنموذجاً واحداً منها.

من كلام للإمام علي عليه السلام للسائل الشامي لمّا سأَله: أَكان مسيرنا إلى الشام بقضاءٍ من اللّه و قدر؟ بعد كلام طويل هذا مختاره:

وَيْحَكَ ! لَعَلَّك ظَنَنْتَ قَضَاءً لَازِماً، وَقَدَراً حَاتِماً! وَلَوْ كَانَ ذلِك كَذلِك لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ ، وَسَقَطَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ. إِنَّ اللّهَ سُبْحانَهُ أَمَرَ عِبَادَهُ تَخْيِيراً، وَنَهَاهُمْ تَحْذِيراً، وَكَلَّفَ يَسِيراً، وَلَمْ يُكَلِّفْ عَسِيراً، وَأَعْطَى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيراً؛ وَلَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً، وَلَمْ يُطَعْ مُكْرَهاً، وَلَمْ يُرْسِلِ الْأَنْبِيَاءَ لَعِباً، وَلَمْ يُنْزِلِ الْكِتَابَ لِلْعِبَادِ عَبَثاً، ولَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً: (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ) (2).(3)

نعم ناظر النبي صلى الله عليه و آله وجادل أهل الكتاب لكن بصورة قراءة الآيات الواردة في حقّهم، ولم يرد في المأثور أنّه اجتمع للمناظرة مع أصحاب الأهواء والمقالات،

ص:301


1- . التوبة: 17 و 18.
2- . ص: 27.
3- . نهج البلاغة: 4/18، برقم 78.

غير أن القرآن أمرنا بالجدال بالتي هي أحسن، وقال: (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1).

4. كتابة الحديث

اتّفقت السلفية على أنّ النبي صلى الله عليه و آله نهى عن كتابة الحديث، ورووا في ذلك روايات مبسوطة في الصحيحين والسنن، حتى أنّ بعض الخلفاء أحرق ما كتبه بعض الصحابة من سنن الرسول صلى الله عليه و آله وصارت كتابة الحديث أمراً متروكاً معرضاً عنه. وأمّا ما هوالباعث إلى ترك كتابة الحديث خلال أكثر من قرن فهذا ما لا نخوض فيه، إنّما نتحدث في انقلاب الحال في عهد عمر بن عبدالعزيز، الّذي كتب إلى أبي بكر بن حزم عالم المدينة: انظر ما كان من حديث رسول اللّه فاكتبه، فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلّاأحاديث النبي صلى الله عليه و آله ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإنّ العلم لا يهلك حتى يكون سراً.(2)

أفيمكن لأحد أن يمنع عن كتابة الحديث وضبطه وتسجيله ونشره على النحو المعهود، بحجة أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يأمر بكتابته أو أنّ الصحابة لم يمارسوا كتابته.

5. النبي وحج التمتع

إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله اعتمر عدّة مرات وحجّ مرة واحدة وهي حجة الوداع، وكان حجّه حج قران لأنّه ساق الهدي، وكلّ من ساق الهدي يكون حجّه حج قران، ولذلك لم يتحلّل بعد العمرة، حتى أنّ علياً لما أَهلّ بتهليل النبي صار حجّه أيضاً حج قران.

إنّ حج التمتّع ممّا أطبق المسلمون على تشريعه، وهم بين مَن يفضّل التمتّع

ص:302


1- . النحل: 125.
2- . صحيح البخاري: 1/27.

على القسمين الآخرين: القران والإفراد ومن يعكس، وعلى كل تقدير فلو كان ترك النبي دليلاً على الحرمة أو كراهة الفعل فهل كان لمسلم أن يتفوّه بكراهة حج التمتع مع أنّه صلى الله عليه و آله أمر المسلمين في حجّة الوداع بأن يتحلّلوا ثم يهلّوا للحج حتى يكون حجّهم حج التمتع.

6. صلاة التراويح

إنّ التهجّد في ليالي شهر رمضان سنّة مؤكدة وقد جاء فيه في حديث الرسول صلى الله عليه و آله: «والتهجّد فيها - يعني: ليالي شهر رمضان - بنوافلها من أفضل القربات».

أخرج البخاري عن أبي هريرة أنّه قال: سمعت رسول اللّه أنّه يقول: «... من قامه (يعني شهر رمضان) إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه».(1)

إلّا أنّ الرسول صلى الله عليه و آله حثّ على أنّ خير صلاة المرء في بيته إلّاالصلاة المكتوبة، وإنّ للمرء أن يجعل للبيت نصيباً من الصلاة.

أخرج مسلم عن زيد بن ثابت قال: احتجر رسول اللّه حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله يصلّي فيها، قال: فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلّون بصلاته، قال: ثمّ جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عنهم، قال: فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله مغضباً، فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله: مازال بكم صنيعكم حتّى ظننت أنّه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلّاالصلاة المكتوبة.(2)

هذه هي صلاة النبي وصلاة أصحابه في حياته وأنّه لم يصلّ معهم إلّاصلوات معدودة، فأين ما قام به النبي صلى الله عليه و آله من أداء صلاة أو صلاتين من صلاة التراويح الّتي تقام في الحرمين الشريفين وفي عامة المساجد بالنحو المعلوم حيث يختم القرآن

ص:303


1- . صحيح البخاري: 3/44، باب فضل من قام رمضان.
2- . صحيح مسلم: 188/2، باب استحباب صلاة النافلة في بيته و جوازها في المسجد.

الكريم خلال هذه الليالي في ستمائة ركعة أو أزيد.

قال الجزيري: روى الشيخان أنّه صلى الله عليه و آله خرج من جوف الليل ليالي من رمضان، وهي ثلاث متفرقة: ليلة الثالث، والخامس، والسابع والعشرين، وصلّى في المسجد، وصلّى الناس بصلاته فيها، وكان يصلّي بهم ثماني ركعات ويكملون باقيها في بيوتهم فكان يسمع لهم أزيز، كأزيز النحل.

قال: ومن هذا يتبين انّ النبي صلى الله عليه و آله سنّ لهم التراويح والجماعة فيها، ولكن لم يصلّ بينهم عشرين ركعة كما جرى عليه من عهد الصحابة ومن بعدهم إلى الآن.(1)

كل ذلك يدلّ على أنّ ترك الرسول صلى الله عليه و آله لايدل على التحريم أو التشريع، إلّاإذا كان في الشرع دليل على الجواز أو الاستحباب، وعلى ذلك جرى السلف والخلف.

فالقول بأنّ الترك دليل على عدم الجواز، من محدثات الأُمور.

7. ترك النبي صلى الله عليه و آله استلام الحجر بيده

اتّفق الفقهاء على استحباب استلام الحجر الأسود وتقبيله، وعليه جرت سيرة المسلمين عبر قرون في الحج والعمرة، إلّاأنّ الروايات قد تضافرت على أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يستلم الحجر بيده في حجة الوداع وإنّما استلمه بمحجن معه وقبّل رأس المحجن (وهو العصا)، ولم يحج النبي صلى الله عليه و آله طيلة رسالته إلّامرة واحدة وهي حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة، نعم اعتمر ثلاث أعمار.

هذا ومسلم يروي في صحيحه عن جابر بن عبداللّه أنّه قال: طاف رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالبيت في حجة الوداع على راحلته، يستلم الحجر بمحجنه، لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس غشوه.

ص:304


1- . الفقه على المذاهب الأربعة: 251/1.

وروى أيضاً عن أبي الطفيل أنّه قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجنه ويقبّل المحجن.(1)

ولو صحّ ما روي عن عمر بن الخطاب أنّه قال عند استلامه الحجر: إنّك لاتضر ولا تنفع ولولا أنّي رأيت رسول اللّه قبّلك لما قبّلتك، فمحمول على تقبيله بواسطة المحجن، أو على تقبيله في أعماره لا في حجّه.

وعلى أي حال لم يقبّل النبي صلى الله عليه و آله الحجر، فهل يصحّ لمتفقّه - فضلاً عن الفقيه - أن يفتي بترك الاستلام باليد وتقبيله، بحجّة أنّ النبي صلى الله عليه و آله ترك الاستلام.

وما ذكرناه نماذج ممّا ثبت فيها ترك النبي صلى الله عليه و آله أمراً مندوباً ولكن المسلمون قد مارسوه.

وأظن - وظن الألمعي صواب - إنّ وراء الكواليس شيء، وأنّ الغاية من تلك الأُحدوثة الّتي هي بدعة في عالم الفتوى، أمران:

1. إدّعاء أنّ الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله بدعة بحجة أنّه صلى الله عليه و آله لم يحتفل بذلك، ولا الصحابة بعده. مع أنّا قد أثبتنا في مقال خاص أن الاحتفال مؤيد بالكتاب والسنّة وإجماع المسلمين عبر قرون، وأنّ الاحتفال من مظاهر الحب والمودّة للرسول الكريم، كما أنّ في ذلك إعلاء لذكره صلى الله عليه و آله انطلاقاً من قوله سبحانه: (وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) (2).

إلى غير ذلك من الأدلة الّتي سقناها على استحباب الاحتفال، بما أنّ له أصلاً قرآنياً وحديثياً.

2. إمحاء آثار الرسالة الّتي بقيت بعد هدم كثير منها بمعول الجهل بأحكام الإسلام وسننه، فقد هدموا كثيراً من قبور أئمة أهل البيت: وصحابة الرسول صلى الله عليه و آله كما دمروا الآثار الباقية من عهد الصحابة كبيت مضيّف النبي صلى الله عليه و آله،

ص:305


1- . صحيح مسلم: 4/67-68؛ مسند أحمد: 5/474؛ سنن ابن ماجة: 2/982-983.
2- . الشّرح: 4.

وبعض المساجد الّتي صلى فيها النبي صلى الله عليه و آله أو صحابته وأنصاره، وذلك بحجّة أنّ الرسول لم يذهب إلى زيارة هذه القبور والآثار.

ومن الواضح أنّ لهدم الآثار والمعالم التاريخية الإسلامية - لا سيّما في مهد الإسلام، مكة والمدينة - نتائج ومضاعفات كبيرة وخطيرة على الأجيال اللاحقة، الّتي سوف تأتي ولا تجد أثراً لوقائع التاريخ الإسلامي، وسوف يتسرب الشك إلى نفوسهم بأنّ الإسلام قضية مفتعلة وفكرة مبتدعة ليس لها واقع ولا جذور تاريخية، كما هو الحال في قضية السيد المسيح عليه السلام في نظر الكثير من الغربيين فنراهم ينظرون إليها وكأنّها قضية أُسطورية حاكتها أيدي البابوات والقساوسة، والّذي شجع على هذه العقيدة عدم وجود آثار ملموسة تدلّ على أصالة هذه القضية ووجودها التاريخي.

أرجو من اللّه سبحانه أن يلمّ الشعث ويرأب الصدع ويجمع كلمة المسلمين، حتى يكون الجميع يداً واحدة في مقابل الأعداء.

والحمد للّه الّذي بنعمته تتم الصالحات

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

18 ربيع الثاني من شهور عام 1430 ه.

ص:306

نظرة وتعليق على فتاوى القرضاوي الفقهية

11 ادّعاء تحريم الزواج المؤقت (المتعة)

اشارة

11 ادّعاء تحريم الزواج المؤقت (المتعة)(1)

تكلّم الشيخ القرضاوي عن الزواج المؤقت وقال: إنّ الزواج في الإسلام عقد متين وميثاق غليظ يقوم على نية العشرة المؤبدّة من الطرفين لتحقّق ثمرته النفسية التي ذكرها القرآن من السكن النفسي والمودّة والرحمة، وغايته النوعية العمرانية من استمرار التناسل وامتداد بقاء النوع الإنساني، قال تعالى: (وَ اللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) (2).

أمّا زواج المتعة فهو ارتباط الرجل بامرأة لمدة يحدّدانها لقاء أجر معيّن فلا يتحقق فيه المعنى الّذي أشرنا إليه، وقد أجازه الرسول صلى الله عليه و آله قبل أن يستقر التشريع في الإسلام، أجازه في السفر والغزوات ثم نهى عنه وحرّمه على التأبيد.

ثم أشار الشيخ إلى الظروف التي رُخّص فيها ثم حُرّم بقوله: أخرج مسلم في صحيحه عن سيرة الجهني أنّه غزا مع النبي صلى الله عليه و آله في فتح مكة فأذن لهم في متعة النساء، فلم يخرج حتّى حرّمها رسول اللّه صلى الله عليه و آله. وفي لفظ من حديثه: وأن اللّه حرّم ذلك إلى يوم القيامة.

ولكن هل هذا التحريم بات كزواج الأُمّهات والبنات، أو تحريم مثل تحريم

ص:307


1- . تم تحرير هذه المقالة بتاريخ 20 شوال المكرّم 1429 ه.
2- . النحل: 72.

الميتة والدم ولحم الخنزير فيباح عند الضرورة وخوف العنت ؟ الّذي رآه عامة الصحابة أنّه تحريم باتٌّ حاسم لا رخصة فيه بعد استقرار التشريع.

وخالفهم ابن عباس فرأى أنّها تباح للضرورة، ولمّا رأى أنّ الناس توسّعوا فيها ولم يقتصروا على موضع الضرورة أمسك عن فتياه ورجع عنها.(1)

***

أقول: شرّع اللّه سبحانه المتعة بصورة أنّها دواء لا غذاء، وبقيت على حلّيتها السابقة لتلك الغاية، وهذا ممّا اتّفقت عليه المذاهب الفقهية، وإنّما اختلفوا في استمرار حليتها وكونها منسوخة أو لا، فالشيعة الإمامية ولفيف من الصحابة والتابعين على بقاء الحلية، خلافاً للمذاهب الأربعة فهي على التحريم.

ولسنا في هذه الرسالة الموجزة بصدد بيان أدلّة حلّيتها وإباحتها من الكتاب والسنة ثم بيان بقاء حلّيتها إلى يومنا هذا، فإنّ ذلك يجبرنا على التوسع في الكلام، وإنّما نعلّق على ما جاء في كلام الشيخ القرضاوي، بوجوه:

1. أخذ التأبيد في تعريف الزواج

عرف الشيخ الزواج الدائم بقوله: (عقد متين وميثاق غليظ يقوم على نيّة العشرة المؤبدة من الطرفين).

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه أخذ التأبيد في تعريف الزواج وهو أوّل الكلام، فإنّ الزواج المؤقت من أقسام الزواج، وهو لا يتم أيضاً إلّابعقد صحيح دال على قصد الزواج جدّاً، وكل مقاربة تحصل بين رجل وامرأة من دون عقد لا تكون متعة حتّى مع التراضي والرغبة، ومتى تمّ العقد كان لازماً يجب الوفاء به.

وثانياً: لو كان التأبيد من مقومات الزواج فعندئذ تخرج المتعة عن تعريفه ويدخل في الزنا، إذ لا وسطية بين الزواج والزنا فيما لو كانت الزوجة حرّة. فلازم

ص:308


1- . الحلال والحرام في الإسلام: 180-181.

ذلك أن النبي صلى الله عليه و آله رخّص الزنا لصحابته في الأراضي المقدسة، نعني مكة المكرمة، كما صرّح بذلك الشيخ عند إجابته ناقلاً عن سيرة الجهني أنّه غزا مع النبي صلى الله عليه و آله في فتح مكة فأذن لهم في متعة النساء، أفيصح أن نرمي النبي صلى الله عليه و آله بترخيصه الفحشاء، حيث قال سبحانه: (وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً) (1).

2. أهداف الزواج

ذكر الشيخ أنّ من أهداف الزواج؛ السكن النفسي والمودّة، والرحمة، وهذه الأهداف تتحقّق في كلا الزواجين خصوصاً إذا كانت المدّة طويلة، فإنّ صون النفس عن الزنا والتوقّي عن اختلاط الأنساب أمر مشترك بين الزواجين، إذ يجب على المتمتع بها الاعتداد بحيضتين حتّى يبرأ رحمها، فإن كانت ذات حمل تخرج من العدّة بوضع الحمل، وإن لم تكن فتخرج بحيضتين أو طهرين.

وأمّا ما ذكره أنّ من أهداف الزواج هوالغاية النوعية العمرانية من استمرار التناسل وبقاء النوع الإنساني.

فيلاحظ عليه أوّلاً: أنّه يتحقق أيضاً في الزواج المؤقت خصوصاً إذا كانت المدة طويلة.

وثانياً: أنّ الدكتور خلط علّة التشريع ومناطه بحكمته، فإنّ تكوين الأُسرة وإيجاد النسل حكمة التشريع التي لا يدور الحكم مدارها، وليست علةً له، والتي يدور الحكم مدارها، ولذلك نرى وجود الزواج الصحيح مع عدم هذه الحكمة، فالزواج صحيح في الصور التالية:

1. زواج العقيم بالمرأة الولود.

2. زواج المرأة العقيم بالرجل المنجب.

3. الزواج من المرأة اليائسة.

ص:309


1- . الإسراء: 32.

4. الزواج من الصغيرة.

5. زواج الشاب من الشابة مع العزم على عدم الإنجاب إلى آخر العمر.

أفيصح للأُستاذ أن يشطب على هذه الأنكحة، بسبب عدم انطباق التعريف الّذي اختاره عليها؟!

وبذلك تبيّن عدم صحة قوله: فلا يتحقّق في زواج المتعة ذلك المعنى الّذي أشرنا إليه.

3. ادّعاؤه تحريم المتعة على التأبيد

ذكر الدكتور أنّ الرسول صلى الله عليه و آله - قبل أن يستقر التشريع - أجازه في السفر والغزوات ثم نهى عنه وحرّمه على التأبيد.

يلاحظ عليه: أنّ الترخيص والتأبيد حسب نقل الدكتور كان في فتح مكة، وقد فُتحت مكة في السنة الثامنة من هجرته الشريفة، وتمّ أمرُ التشريع في النساء قبل سنين من ذلك حيث إنّه سبحانه شرع في بيان ما حرّم اللّه من النساء وما أحلّه بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا

ص:310

أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).

وقد نزلت هذه الآيات قبل فتح مكة بسنين.

وممّا يثير العجب أنّ الأُستاذ لم يدقّق في الآية الدالّة على حلّيّة المتعة في الآيات الماضية، أعني قوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) ، فقد ذهب جل المفسرين إلى نزولها في زواج المتعة وإن اختلفوا في نسخها أو بقائها على الحلّية.

ولسنا بصدد بيان دلالة الآية على حكم المتعة، فإنّ ذلك يحوجنا إلى التبسط في الكلام.

4. هل أنّ الرسول صلى الله عليه و آله حرّم المتعة ؟

زعم الدكتور القرضاوي أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله هو الّذي حرّم المتعة حيث قال: حتّى حرّمها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وفي لفظ من حديثه: انّ اللّه حرّم ذلك إلى يوم القيامة.

أقول: كيف ينسب ذلك إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله مع أنّ لفيفاً من أصحابه الكرام قد أفتوا بحلية المتعة إلى يوم القيامة، نذكر منهم ما يلي:

1. عبد اللّه بن عمر، أخرج الإمام أحمد من حديث عبد اللّه بن عمر، قال - وقد سئل عن متعة النساء -: واللّه ما كنّا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله زانين ولا مسافحين، ثمّ قال: واللّه لقد سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «ليكونن قبل يوم القيامة المسيح الدجال وكذابون ثلاثون وأكثر».(2)

2. عبد اللّه بن مسعود، أخرج البخاري عن عبد اللّه بن مسعود، قال: كنّا نغزو

ص:311


1- . النساء: 23-26.
2- . مسند أحمد: 95/2.

مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل معين، ثمّ قرأ علينا: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (1).

(2)3. عمران بن حصين، أخرج البخاري في صحيحه عنه، قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ولم ينزل قرآن يحرّمها ولم ينه عنها حتى مات. قال رجل برأيه ما شاء.(3)

4. أخرج مسلم عن ابن جريج قال: أخبرني أبوالزبير قال: سمعت جابر بن عبداللّه يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأبي بكر حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث.(4)

5. أخرج مسلم في صحيحه عن أبي نظرة قال: كنت عند جابر بن عبداللّه فأتاه آت فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلانهما مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله ثم نهانا عنهما عمر، فلم نعد لهما.(5)

هذه نماذج من الروايات الواردة عن الطبقة العليا من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله الذين كانوا يفتون بجواز المتعة، ولو كان الرسول صلى الله عليه و آله محرّماً لها لما خفي عنهم تحريمه لها، ولو علموا لما خالفوه فيها.

5. المحرِّم هو الخليفة نفسه

إنّ الدكتور وإن نسب التحريم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ولكنّه لو أمعن النظر وسبر غضون الروايات والآثار، لوقف على أنّ المحرِّم هو الخليفة عمر بن الخطاب لا

ص:312


1- . المائدة: 87.
2- . صحيح البخاري: 4/7، باب ما يكره من التبتل والخصاء، من كتاب النكاح.
3- . صحيح البخاري: 27/6، تفسير قوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ).
4- . صحيح مسلم: 4/131، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
5- . صحيح مسلم: 4/131، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.

غيره، هذا ما يلمسه كل من نظر إلى المسألة عن كثب، وقد مر عليك في الروايات السابقة نسبة التحريم إليه، وإليك المزيد:

1. قال الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام - فيما أخرجه الطبري بالإسناد إليه -:

«لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّاشقي».(1)

وهناك روايات مأثورة عن الخليفة نفسه، تعرب عن أنّ التحريم كان من صميم رأيه، من دون استناد إلى آية أو رواية.

2. أخرج مسلم عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير قال: سمعت جابر بن عبد اللّه يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأبي بكر حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث.(2)

3. أخرج مسلم في صحيحه عن أبي نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد اللّه، فأتاه آت فقال: ابن عباس و ابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول اللّه ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما.(3)

4. أخرج الترمذي أنّ رجلاً من أهل الشام سأل ابن عمر عن المتعة، فقال: هي حلال، فقال الشامي: إنّ أباك قد نهى عنها؟ فقال ابن عمر: أرأيت إن كان أبي قد نهى عنها وقد صنعها رسول اللّه صلى الله عليه و آله أأمر أبي نتّبع أم أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله.(4)

وهذه المأثورات تعرب عن جملة من الملاحظات نجملها بملاحظتين هما:

الأُولى: أنّ المتعة كانت باقية على الحل إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وبقيت حلالاً في أيامه حتى نهى عنها ومنع.

و الثانية: أنّه باجتهاده قام بتحريم ما أحلّه الكتاب والسنة، ومن المعلوم أنّ اجتهاده - لو صحّت تسميته بالاجتهاد - حجّة على نفسه لا على غيره.

ص:313


1- . تفسير الطبري: 5/9.
2- . صحيح مسلم: 131/4، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
3- . صحيح مسلم: 131/4، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
4- . سنن الترمذي: 186/3، برقم 824.

وممّا يدل بوضوح على أنّ الخليفة هو المحرِّم ما ذكره ابن القيّم في «زاد المعاد» حيث قال:

فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبداللّه قال:

كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأبي بكر حتّى نهى عنهما عمر في شأن عمرو بن حريث، وفيما ثبت عن عمر أنّه قال:

متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنا أنهى عنهما: متعة النساء ومتعة الحج ؟

قيل: الناس في هذا طائفتان: طائفة تقول: إنّ عمر هو الّذي حرّمها ونهى عنها وقد أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله باتّباع ما سنَّه الخلفاء الراشدون، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح فإنّه من رواية عبدالملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده، وقد تكلّم فيه ابن معين ولم ير البخاري إخراج حديثه في صحيحه مع شدّة الحاجة إليه وكونه أصلاً من أُصول الإسلام، ولو صحّ عنده لم يصبر عن إخراجه والإحتجاج به، قالوا: ولو صحّ حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود حتّى يروي أنّهم فعلوها ويحتج بالآية.

وأيضاً ولو صحّ لم يقل عمر أنّها كانت على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأنا أنهى عنها وأُعاقب عليها، بل كان يقول: إنّه صلى الله عليه و آله حرّمها ونهى عنها. قالوا: ولو صحّ لم تفعل على عهد الصديق وهو عهد خلافة النبوة حقاً.(1)

إنّ الخليفة العباسي المأمون أوشك أن يُنادى في أيّام حكمه، بتحليل المتعة إلّا أنّه توقف خوفاً من الفتنة وتفرق المسلمين. قال ابن خلكان، نقلاً عن محمد بن منصور أنّه قال: كنّا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكّرا غداً إليه، فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلّا فاسكتا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعلى عهد أبي بكر وأنا أنهى عنهما، ومن أنت يا

ص:314


1- . زاد المعاد: 1/444. وللكلام صلة جاء فيها نظر الطائفة الثانية فلاحظ.

جُعَل حتى تنهى عما فعله رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأبو بكر؟ فأومأ أبو العيناء إلى محمد ابن منصور وقال: رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلمه نحن ؟! فأمسكنا، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيّراً؟ فقال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال: و ما حدث فيه ؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: الزنا؟ قال: نعم، المتعة زنا، قال: و من أين قلت هذا؟ قال: من كتاب اللّه عزّوجلّ ، وحديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله، قال اللّه تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - إلى قوله: - وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (1)يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين ؟ قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند اللّه ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين.(2)

أقول: هل عزب عن ابن أكثم - و قد كان ممّن يكنّ العداء لآل البيت عليهم السلام - انّ المتعة داخلة في قوله سبحانه: (إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ ) و انّ عدم الوراثة تخصيص في الحكم، وهو لا ينافي ثبوت الزوجيّة، وكم لها من نظير، فالكافرة لا ترث الزوج المسلم، وبالعكس، كما أنّ القاتلة لا ترث وهكذا العكس، وأمّا الولد في زواج المتعة فيلحق قطعاً، ونفي اللحوق ناشئ إمّا من الجهل بحكمها أو التجاهل به.

وما أقبح كلامه حيث فسر المتعة بالزنا وقد أصفقت الأُمّة على تحليلها في عصر الرسول صلى الله عليه و آله والخليفة الأوّل، أفحسب ابن أكثم أنّ الرسول صلى الله عليه و آله حلّل الزنا ولو مدة قصيرة ؟!

ص:315


1- . المؤمنون: 1-7.
2- . وفيات الأعيان: 149/6-150.

12 عدم كفاية التسمية عند الأكل

12 عدم كفاية التسمية عند الأكل(1)

الذكاة الشرعية المطلوبة تتم بشروط ومنها: أن يذكر اسم اللّه تعالى على الذبيحة، يقول سبحانه: (فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ ) (2).

ويقول تعالى: (وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ ) (3)، ولا شبهة في هذا الشرط، وعلى هذا لا تحل ذبيحة الكتابي بدليل أنّهم لا يسمّون عند الذبح، مضافاً إلى أنّ من الشروط كون الذابح مسلماً.

وقد ابتليت بلاد الإسلام باستيراد اللحوم من الدول الكافرة والتي نعلم بعدم حصول التسمية على الذبائح فيها، ولذا قام بعض من يحاول تسهيل الإسلام على الجيل الحاضر فأفتى بكفاية التسمية عند الأكل ممّا علم ترك التسمية عليه، وهذا ما نقله الشيخ القرضاوي والظاهرمنه رضاه به وقال: وذهب بعض العلماء إلى أنّ ذكر اسم اللّه لا بدَّ منه، ولكنّه ليس من اللازم أن يكون ذلك عند الذبح، بل يجزئ عنه أن يذكره عند الأكل، فإنّه إذا سمّى عند الأكل على ما يأكله، لم يكن آكلاً لما لم يذكر اسم اللّه عليه.

ثم قال: وفي (صحيح البخاري) عن عائشة: أنّ قوماً حديثي عهد بجاهلية قالوا للنبي صلى الله عليه و آله: إنّ قوماً يأتوننا باللحمان لا ندري أذكروا اسم اللّه عليها أم لم

ص:316


1- . تم تحرير هذه المقالة بتاريخ 15 شوال المكرم 1429 ه.
2- . الأنعام: 118.
3- . الأنعام: 121.

يذكروا؟ أنأكل منها أم لا؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «اذكروا اسم اللّه وكلوا».(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ظاهر قوله سبحانه: (وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ ) هو حرمة الأكل إذا لم يذكر اسم اللّه عليه عند الذبح مطلقاً، سواء أذُكر اسمه تعالى عند الأكل أم لا.

فالقول بجواز الأكل لأجل كفاية التسمية عند الأكل مخالف لإطلاق الآية، بل يخالف ما اتفق عليه الفقهاء.

وأمّا الاستدلال بحديث عائشة فيفارق مورده المقام بوجهين:

الأوّل: أنّ الذابح هناك مسلم «حديث العهد بالاسلام»، كما نجده في قوله: إنّ قوماً حديثي عهد بجاهلية قالوا للنبي صلى الله عليه و آله: إنّ قوماً يأتوننا باللحمان لا ندري أذكروا اسم اللّه عليها أم لم يذكروا، فإنّ المتبادر أنّ الآتين باللحم من أقوام السائلين كانوا حديثي العهد بالجاهلية وبالتالي فهم مسلمون.

ولكن اللحوم المستوردة حالياً من الخارج هي من ذبائح أهل الكتاب أو المشركين.

الثاني: أنّ فرض السؤال في الرواية، الشك في التسمية، فيؤكل عندئذ حملاً لعمل المسلم على الصحة، وأين هذا ممّا نحن فيه الّذي نعلم بعدم التسمية ؟!

وحصيلة الكلام: أنّ فكرة تسهيل الإسلام على الجيل الحاضر فكرة جيّدة، ولكن بشرط أن لا تتجاوز الحدود والأُصول.

فعلى زعماء الإسلام والمسلمين أن يقوموا بأحد أمرين:

1. دعم القطاع الزراعي لانتاج اللحوم من نفس البلاد حتّى يستغنوا عن استيراد اللحوم من البلاد الأجنبية.

2. إن كان ولابد فيجب إرسال هيئات شرعية تشرف على الذباحة على أن تكون مطابقة للشروط الإسلامية.

ص:317


1- . الحلال والحرام في الإسلام: 58.

13 حرمة الاستمناء (العادة السرّية)

13 حرمة الاستمناء (العادة السرّية)(1)

يقول الدكتور في حديثه عن موضوع حكم الاستمناء: وقد يثور دم الغريزة في الشاب فيلجأ إلى يده يستخرج بها المني من جسده ليريح أعصابه، ويهدئ من ثورة الغريزة، وهو ما يعرف اليوم «بالعادة السرية».

وقد حرّمها أكثر العلماء، واستدلّ الإمام مالك بقوله تعالى: (وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (2).

والمستمني بيده قد ابتغى لشهوته شيئاً وراء ذلك.

وروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنّه اعتبر المني فضلة من فضلات الجسم فجاز إخراجه كالفصد، وهذا ما ذهب إليه وأيّده ابن حزم، وقيّد فقهاء الحنابلة الجواز بأمرين:

الأوّل: خشية الوقوع في الزنا.

والثاني: عدم استطاعة الزواج.

ويمكن أن نأخذ برأي الإمام أحمد في حالات ثوران الغريزة وخشية الوقوع في الحرام، كشاب يتعلّم أو يعمل غريباً عن وطنه، وأسباب الإغراء أمامه كثيرة،

ص:318


1- . تم تحرير هذه المقالة بتاريخ 10 شوال المكرم 1429 ه.
2- . المؤمنون: 5-7.

ويخشى على نفسه العنت، فلا حرج عليه أن يلجأ إلى هذه الوسيلة يطفئ بها ثوران الغريزة، على ألّا يسرف فيها ويتّخذها ديدناً.

وأفضل من ذلك ما أرشد إليه الرسول الكريم صلى الله عليه و آله الشاب المسلم الذي يعجز من الزواج، أن يستعين بكثرة الصوم، الذي يُربّي الإرادة، ويعلّم الصبر، ويقوّي ملكة التقوى ومراقبة اللّه تعالى في نفس المسلم وذلك حين قال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنّه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء» كما رواه البخاري.(1)

أقول: إنّ القول بحلية الاستمناء أو العادة السرية مخالف للذكر الحكيم، والشهرة المحقّقة في المذاهب الفقهية، وما عليه أئمة أهل البيت عليهم السلام في هذا المجال.

أمّا الذكر الحكيم، فقد نقله الشيخ في كلامه فلا حاجة إلى الإيضاح، حيث إنّه سبحانه أمر بحفظ الفروج في كلّ الحالات إلّابالنسبة إلى الزوجة وملك اليمين، فإذا تجاوز هاتين الحالتين واستمنى كان من العادين المتجاوزين ما أحل اللّه لهم إلى ما حرّمه عليهم.

وأمّا الشهرة المحقّقة، فقد ذهب المالكية والشافعية والزيدية إلى تحريمه، أخذاً بالحصر الوارد في القرآن الكريم. والدليل على الحصر أمران:

أ. الاستثناء: (إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) (2).

ب. قوله تعالى: (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) .

وأمّا موقف أئمة أهل البيت عليهم السلام فقد روى طلحة بن زيد، عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أُتي برجل عبث بذكره، فضرب يده حتى احمرّت ثم زوّجه من بيت المال».(3)

ص:319


1- . الحلال والحرام في الإسلام: 164-165، ط. القاهرة، 1396 ه.
2- . المعارج: 30.
3- . وسائل الشيعة: 18، الباب 28 من أبواب النكاح المحرم، الحديث 3.

وروى عمّار بن موسى، عن الإمام الصادق عليه السلام في الرجل ينكح بهيمة ؟ فقال عليه السلام: «كلّ ما أنزل به الرجل ماءَه من هذا وشبهه فهو زنا».(1)

إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على حرمة العمل على وجه الإطلاق.

وأمّا ما ذكره الدكتور من أنّه لا حرج أن يلجأ إلى هذه الوسيلة بحيث لا يسرف فيها ولا يتّخذها ديدناً، فعجيب جدّاً، فإنّ العادة السرية أسهل شيء للالتذاذ الجنسي، فكيف يمكن للشاب أن لا يسرف فيها ولا يتّخذها ديدناً؟!

مضافاً إلى الأضرار التي يذكرها الأطباء في من اعتاد على هذا العمل.

وأمّا ما نقله عن الإمام أحمد حيث جوّز - حسب نقله - أن يرجع إلى هذه الوسيلة ويطفأ بها ثوران الغريزة عند خشية الوقوع في الزنا فممّا لا يمكن المساعدة عليه، فلعلّ مصدر كلامه القاعدة المعروفة: الضرورات تبيح المحظورات، ومن المعلوم أنّ مصبّ القاعدة هو ابتلاء الإنسان بها، من غير اختيار، فعندئذ يجوز الارتكاب باختيار أقل الضررين، أو أخفّ الحرامين، كما إذا ابتلي الصائم بالعطش المهلك، فيجوز له دفع العطش بشرب الماء لحفظ حياته.

أو فيما لو توقّفت نجاة الإنسان الغريق على التصرف في مال المسلم.

أو توقّفت الحياة على أكل مال الغير.

في هذه الموارد تطبق قاعدة: «الضرورات تبيح المحظورات» ولكن بشرط أن لا يكون الإنسان عاملاً مؤثراً في إيجاد الضرورة.

وأمّا المقام فالواجب عليه كبح النفس والاجتناب عما حرّم اللّه عليه.

فلوكان ثوران الغريزة وخشية الوقوع في الحرام سبباً لارتكاب الزنا بذات البعل فهل يمكن الإفتاء بجواز الأخفّ منه ؟!

والطريق الأفضل هو ما أرشد إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله كما نقله المجيب، وأن يتذكر عقوبة اللّه تبارك وتعالى على تلك المعاصي.

ص:320


1- . وسائل الشيعة: 18، الباب 26 من أبواب النكاح المحرم، الحديث 1.

14 الغناء والموسيقى

اشارة

في الكتاب والسنّة(1)

من المسائل التي خالف فيها الدكتور القرضاوي ما هو المشهور بين فقهاء الأُمّة هي مسألة الغناء والموسيقى حيث قال: ومن اللهو الذي تستريح إليه النفوس، وتطرب له القلوب، وتنعم به الآذان: الغناء... وقد أباحه الإسلام ما لم يشتمل على فحش أو خنا أو تحريض على إثم، ولا بأس بأن تصحبه الموسيقى غير المثيرة.

ويستحب في المناسبات السارّة، إشاعة للسرور، وترويحاً للنفوس وذلك كأيام العيد والعرس وقدوم الغائب، وفي وقت الوليمة، والعقيقة، وعند ولادة المولود.(2)

وقال في طبعة أُخرى لكتابه هذا ما نصه: والذي أراه أنّ الغناء في ذاته لا حرج فيه وهو داخل في جملة الطيبات التي أباحها الإسلام، وأنّ الإثم إنّما هو فيما يشتمل عليه أو يقترن به، من العوارض التي تنقله من دائرة الحل إلى الحرمة، أو الكراهة التحريمية.

ص:321


1- . تم تحرير هذه المقالة بتاريخ 4 ذي القعدة الحرام 1429 ه.
2- . الحلال والحرام في الإسلام: 280.

وقال الدكتور في كتاب آخر له: يجب على الفقيه الذي يبحث في القضية أن يراعي هذه الآفاق كلها، ولايركز نظره على جانب واحد، وفئة واحدة، ناسياً أن إفريقيا كلها لا تستغني عن الغناء وتوابعه، وأن أوروبا كلها، بل الغرب كله يعتبرون الموسيقى - وخصوصاً بعض أنواع منها - وسيلة للسمو بالروح والوجدان.(1)

ثمّ إنّه يقول في موضع آخر: نحن اليوم نريد أن نعرض الإسلام على العالم، وأنْ تبلغ دعوته إلى الأُممّ كافة. ومنها أُمم وشعوب ترى الغناء والموسيقى والرقص والطرب جزءاً لا يتجزأ من حياتها، لا تعيش بدونه، ولا تهنأ لها حياة إذا حُرمت منه. فكيف نرغّبهم في الإسلام ونحن نحرّم عليهم الغناء والموسيقى، ونتوعدهم بالرصاص المذاب يصبُّ في آذانهم يوم القيامة، وبغيره من ألوان العذاب المهين، في حين أنّهم يعتبرون الموسيقى غذاء الروح.(2)

وقد استدل الشيخ على فتواه بروايات تشهد متون كلها أوجلّها على أنّها مكذوبة على نبيّ العظمة والقداسة، وسوف نرجع لمناقشتها، والكلام مركز الآن فيما وجّه به حلية الغناء والموسيقى في كتابه الثاني حيث جعل ترغيب غير المسلمين بالإسلام سبباً لتحليل الغناء والموسيقى فقال: فكيف نرغّبهم بالإسلام ونحن نحرّم عليهم الغناء والموسيقى؟

فلو كان هذا السبب للإفتاء بالحلية فليكن أيضاً سبباً في حلية الخمر، والرقص بأنواعه حيث إنّهم يعتبرونهما من ضروريات الحياة، حتى أنّ الطبقة التي تسمّى بالآباء الروحانيين تنظر إلى الخمر بهذه النظرة.

وإنّي لمّا قرأت هذه الفتوى للشيخ القرضاوي خطر ببالي ما رواه ابن الأثير في ترجمة تميم بن جراشة حيث قال: قدمت على النبي صلى الله عليه و آله في وفد ثقيف فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروط، فقال: اكتبوا ما بدا لكم ثم آتوني به، فسألناه

ص:322


1- . فقه الغناء والموسيقى في ضوء القرآن والسنة: 7، ط. القاهرة، 2004 م.
2- . نفس المصدر: 148.

في كتابه أن يُحلّ لنا الربا والزنا، فأبى عليٌّ (رضي اللّه عنه) أن يكتب لنا، فسألناه خالد بن سعيد بن العاص فقال له عليّ : تدري ما تكتب ؟ قال: أكتب ما قالوا ورسول اللّه صلى الله عليه و آله أولى بأمره، فذهبنا بالكتاب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال للقارئ: «اقرأ» فلمّا انتهى إلى الربا قال: ضع يدي عليها في الكتاب، فوضع يده فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) (1)، ثم محاها، وألقيت علينا السكينة فما راجعناه، فلما بلغ الزنا وضع يده عليها وقال: (وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً ) (2)، ثم محاه وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا. (3)

حرمة الغناء في الكتاب والسنّة وأقوال الفقهاء

أقول: إنّ الغناء ممّا اتّفق أغلب فقهاء الإسلام وعلى رأسهم أئمة أهل البيت عليهم السلام على حرمته مطلقاً.

1. روى علي بن جعفر، عن أخيه الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليه السلام قال:

سألته عن الرجل يتعمد الغناء، يجلس إليه ؟ قال: «لا».(2)

2. وفي موثقة عبداللّه بن أعين، قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الغناء وقلت:

إنَّهم يزعمون أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله رخَّص في أن يقال: جئناكم، جئناكم، حيُّونا، حيُّونا جئناكم ؟ فقال: «كذبوا، إنّ اللّه عزوجل يقول: (وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ ) (3).... - ثم قال:

- ويلٌ لفلان ممّا يصف»، رجل لم يحضر المجلس.(4)

إلى غير ذلك من الروايات التي نقلها صاحب الوسائل في موسوعته الحديثية

ص:323


1- . البقرة: 278.2. الإسراء: 32.3. أُسد الغابة: 1/216.
2- . وسائل الشيعة: 12، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 32.
3- . الأنبياء: 16-18.
4- . وسائل الشيعة: 12، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 15.

وهي تناهز ثلاثين رواية.

وأمّا حكمه عند فقهاء السنة فقد ذهب عبداللّه بن مسعود إلى تحريمه، وتابعه على ذلك جمهور علماء أهل العراق، منهم: إبراهيم النخعي، وعامر الشعبي، وحمّاد بن أبي سليمان، وسفيان الثوري، والحسن البصري، والحنفية، وبعض الحنابلة.

وذهب الشافعية، والمالكية، وبعض الحنابلة إلى أنّه مكروه، فإن كان سماعه من امرأة أجنبية فهو أشد كراهة، وعلل المالكية الكراهة بأنّ سماعه مخلّ بالمروءة، وعلّلها الشافعية بقولهم: لما فيه من اللهو. وعلّلها الإمام أحمد بقوله: لا يعجبني الغناء لأنّه ينبت النفاق في القلب.(1) ولعل الكراهة في كلامهم كراهة تحريمية لا تنزيهيّة.

هذه بعض الأقوال في المسألة والمهم ما جاء في الشريعة المقدّسة من المأثورات، وإليك ما دل على تحريم الغناء:

1. حديث ابن أبي أُمامة، قال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «لا تبيعوا القينات ولا تشروهن ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام، وفي مثل هذا أُنزلت هذه الآية: (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) (2).

أخرجه من المحدّثين: أحمد والترمذي وابن ماجة وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم.(3)

وذكره عدد من المفسرين كالطبري والشوكاني وغيرهما عند تفسيرهم لهذه

ص:324


1- . انظر الموسوعة الفقهية الكويتية: 4/91، مادة: استماع، وقد ذكرت فيها المصادر بالتفصيل.
2- . لقمان: 6.
3- . انظر: مسند أحمد: 5/252؛ سنن الترمذي: 3/579 برقم 1282؛ سنن ابن ماجة: 733/2 برقم 2168؛ مصنف ابن أبي شيبة: 6/309 برقم 1171؛ السنن الكبرى للبيهقي: 6/14.

الآية.(1)

وإطلاق الحديث يعم كلّ أقسام الغناء، سواء أكان مضمونه مثيراً للفتنة أو كان غير ذلك.

2. قال سبحانه: (أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ * وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ ) (2).

روي عن ابن عباس، أنّه قال: هو الغناء بلغة حِمْيَر، يقال: سمّد لنا، أي: غنّ لنا، ويقال للقينة: أسمدينا أي: ألهينا بالغناء.(3)

3. روى ابن أبي الدنيا وابن مردويه: «ما رفع أحدٌ صوته بغناء إلّابعث اللّه تعالى إليه شيطانين يجلسان على منكبيه، يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك».(4)

هذا بعض ما أُثر عن النبي حول الغناء ولو نقلنا جميع ما ورد عنه صلى الله عليه و آله لربّما ناهز عدده إلى 17 حديثاً، ونعتقد أنّ في ما ذكرنا كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.

حرمة المعازف في السنّة

هذا كله حول الغناء، وأمّا المعازف فيكفي فيها:

أوّلاً: ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري، قال:

حدّثني أبوعامر أو أبو مالك الأشعري، واللّهِ ما كَذَبني، سَمِعَ النبي صلى الله عليه و آله يقول:

«ليكونن مِنْ أُمَّتي أقوامٌ يستحلون الحِرَ، والحرير، والخمْرَ، والمعازف، ولينزلن

ص:325


1- . راجع التفاسير المختلفة حول هذه الآية.
2- . النجم: 59-61.
3- . جامع البيان للطبري: 2/82؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 17/80؛ ولاحظ سائر التفاسير في تفسير هذه الآية.
4- . الجامع لأحكام القرآن: 14/37؛ إرشاد الساري: 13/351؛ الدر المنثور: 6/506.

أقوامٌ إلى جنب علم تَروحُ عليهم سارحة لهم فيأتيهم رجل لحاجة، فيقولون: إرجع إلينا غداً، فيبيتهم اللّه فيضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة».(1)

لا أظن أنّ أحداً يشك في دلالة الحديث، وهو صريح في تحريم المعازف وهي آلات الموسيقى، وذلك لأنّ النبي صلى الله عليه و آله أخبر أنّه سيكون من أُمّته مَن يستحل ما حرّم اللّه عليهم من الحِرَ (الفرج) - وهو كناية عن الزنا - والحرير، والخمر والمعازف، والأخير هو آلات الملاهي كالدف والعود والطبل والمزمار.

ثانياً: ما أخرج الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إن اللّه حَرَّم عليكم الخمر، والميسر، والكوبة»، وقال: «كُلُّ مسكر حرام»(2).

أمّا سند الحديث فقد صحّحه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مسند أحمد في موضعين(3)، والشيخ الألباني في كتابه تحريم آلات الطرب.(4)

وأمّا الدلالة: فالكوبة هي الطبل، فقد نقل ذلك ابن منظور في لسان العرب عن ابن الأعرابي، وابن دريد في الجمهرة في اللغة، والجوهري في الصحاح في اللغة، وابن فارس في مقاييس اللغة، وابن سيدة في المخصص في اللغة.(5)

ثالثاً: روى الطبراني باسناده عن عامر بن سعد البجلي قال: دخلت على أبي مسعود وأُبيّ بن كعب، وثابت بن زياد، وجَواري يضربن بدُفٍّ لهُنّ ويغنّين، فقلت: أتُقِرّون بذا، وأنتم أصحاب محمد صلى الله عليه و آله ؟ قال: «إنّه قد رَخَّص لنا في العرس، والبُكاء على الميّت في غير نوح».(6)

والتعبير بالترخيص في الموضعين خير شاهد على أنّ الأصل هو الحرمة في

ص:326


1- . صحيح البخاري: برقم 5268؛ فتح الباري: 10/55؛ المجموع للنووي: 20/241.
2- . مسند أحمد: 1/274 و 289 و 350 و 2/158، 165، 171، و 3/422.
3- . انظر: مسند أحمد: 4/58 و 218.
4- . تحريم آلات الطرب: 56.
5- . راجع في ذلك المعاجم اللغوية، مادة «كوب».
6- . المعجم الكبير: 17/247.

عامة الأحوال والأشخاص، غير أنّه خرج ما خرج.

ولعل فيما ذكرنا من الأدلّة كفاية لمن يطلب الحق ليتبعه.

دليل القائل بالجواز

استدلّ القائل بجواز الغناء والموسيقى بروايات في متونها من الإشكال والهوان ما يغني الفقيه عن الفحص في صحة سندها، وإليك نماذج منها:

1. أخرج الترمذي في سننه عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله جالساً فسمعنا لغطاً وصوت صبيان، فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله فإذا حبشية تزفن - أي ترقص - والصبيان حولها، فقال: يا عائشة تعالي فانظري، فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول اللّه صلى الله عليه و آله فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: أما شبعتِ؟ أما شبعتِ؟ فجعلت أقول: لا، لأنظر منزلتي عنده، إذ طلع عمر فارفضّ الناس عنها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّي لأنظر إلى شياطين الجنّ والإنس قد فرّوا من عمر، قالت: فرجعتُ .(1)

أقول: إنّ هذا الحديث مهما كان سنده صحيحاً، فلا يصح متنه ومضمونه، فالنبي الأعظم صلى الله عليه و آله أجلّ وأعلى من أن ينظر إلى هذه المناظر، وأن يدعو عائشة لذلك، وهناك كلمة للعلّامة الأميني حول هذه الرواية، يقول: إنّ ماتحرّوه من إثبات فضيلة للخليفة الثاني يجلب الفضائح إلى ساحة النبوّة - تقدّست عنها - فأي نبي هذا يروقه النظر إلى الراقصات والاستماع لأهازيجهنّوشهود المعازف، ولا يقنعه ذلك كله حتّى يُطلع عليها حليلته عائشة، والناس ينظرون إليهما من كثب، وهو يقول لها: شبعت ؟ شبعت ؟ وهي تقول: لا، لعرفان منزلتها عنده، ولا تزعه أُبهة النبوّة عن أن يقف مع الصبيان للتطلّع على مشاهد اللهو شأن الذُنابى والأوباش وأهل الخلاعة والمجون، وقد جاءت شريعته المقدّسة بتحريم كل ذلك بالكتاب

ص:327


1- . سنن الترمذي: 5/621، برقم 3691؛ مصابيح السنة: 4/159، برقم 4737؛ مشكاة المصابيح: 3/343، برقم 1049؛ الرياض النضرة: 2/255.

والسنة الشريفة.(1)

2. عن بُريدة: خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله في بعض مغازيه، فلمّا انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول اللّه إنّي كنت نذرت إن ردّك اللّه صالحاً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنّى، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إن كنتِ نذرتِ فاضربي وإلّا فلا.

فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدفّ تحت إستها ثمّ قعدت عليه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر، إنّي كنت جالساً وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثمّ دخل عليّ وهي تضرب، ثمّ دخل عثمان وهي تضرب، فلمّا دخلتَ أنت يا عمر ألقت الدفّ !

وفي لفظ أحمد: إن الشيطان ليفرق منك يا عمر.(2)

أقول: والحديث لا يحتج به لوجوه:

أوّلاً: قد نقله أحمد بن حنبل في مسنده بصور مختلفة فتارة نقل دف الجارية على رأس النبي صلى الله عليه و آله فقط، دون أن يذكر شيئاً من دخول أبي بكر وعمر وعثمان عليه صلى الله عليه و آله(3)، وأُخرى دف الجارية مع دخول أبي بكر ثم عمر دون أن يذكر دخول علي وعثمان.(4)

ثانياً: اتّفق الفقهاء على لزوم كون المنذور أمراً راجحاً لا محرّماً ولا مكروهاً فلا ينعقد النذر إذا كان المنذور مكروهاً فضلاً عن كونه حراماً.

والضرب بالدف إمّا مكروه أو حرام، فكيف أجاز لها النبي الضرب بالدفِّ عند رأسه ؟! وقد أخرج أحمد عن أبي أُمامة، عن النبي صلى الله عليه و آله: «قال تبيت طائفة من أُمّتي على أكل وشرب ولهو ولعب ثمّ يصبحون قردة وخنازير، فيُبعث على أحياء من

ص:328


1- . الغدير: 8/99.
2- . مسند أحمد: 6/485، برقم 22480؛ سنن الترمذي: 5/620، برقم 3690، وغيرها.
3- . مسند أحمد: 5/356.
4- . مسند أحمد: 5/353.

أحيائهم ريح فتنسفهم كما نسفت من كان قبلهم باستحلالهم الخمور وضربهم بالدفوف واتخاذهم القينات».(1)

على أنّ الظاهر من الحديث أنّ الضرب بالدفّ كان أمراً قبيحاً، ولذلك لمّا دخل عمر ألقت الجارية الدفَّ تحت إستها ثمّ قعدت عليه لتخفيه عن عمر، فالنبي صلى الله عليه و آله أولى بأن ينهاها عن ذلك الأمر القبيح ولا يسمح لها بالدفِّ على رأسه.

ثمّ إنّ ظاهر الرواية أنّ عثمان دخل وهي تضرب وجلس دون أن تمسك الجارية، وهي تخالف ما رواه ابن أبي أوفى، قال: استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه و آله وجارية تضرب الدف فدخل، ثمّ استأذن عمر فدخل، ثمّ استأذن عثمان فأمسكت، قال: فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ عثمان رجل حييّ .(2)

وثالثاً: أن قول النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «إن الشيطان ليخاف منك يا عمر» صريح بأنّه فعل الشيطان، وتفضيل لعمر على النبي صلى الله عليه و آله ومَن حضره.

3. روى أبو نصر الطوسي في اللمع أنّ النبي صلى الله عليه و آله دخل بيت عائشة فوجد فيه جاريتين تغنيان وتضربان بالدف، فلم ينههما عن ذلك، وقال عمر بن الخطاب حين غضب: أمزمار الشيطان في بيت رسول اللّه ؟ فقال صلى الله عليه و آله: «دعهما يا عمر فإنّ لكل قوم عيداً».(3)

يلاحظ على الرواية: أنّ الظاهر من كلام عمر أنّ الدف من مزمار الشيطان، فيكون استعماله أمراً حراماً، ومع ذلك كيف رضي رسول اللّه صلى الله عليه و آله بوجوده في بيته بحجة أنّ لكل قوم عيداً، مع أنّ عيد المسلمين معروف ومحدّد، واحتمال أن يكون ذلك اليوم يوم عيد أمر بعيد؟! وعلى كل تقدير فلو استثني فإنّما استثني في العيد لا مطلقاً.

وأظن أنّ الراوي كان بصدد بيان فضائل الخليفة الثاني، غافلاً عن أنّ مثل هذه

ص:329


1- . مسند أحمد: 259/5؛ صحيح مسلم: 185/7، باب فضل الصحابة، أخرجه عن أبي هريرة.
2- . مسند أحمد: 353/4.
3- . اللمع: 345، برقم 153.

الروايات لا تنسجم مع قداسة ساحة النبوة وعظمتها.

ولهذا النوع من الروايات نظائر كثيرة، منها:

أخرج أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة، بينما الحبشة يلعبون عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله بحرابهم، دخل عمر فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها، فقال له النبي صلى الله عليه و آله: «دعهم يا عمر».(1)

ولعل فيما ذكرنا حول هذا الموضوع غنى وكفاية لمن طلب الحقّ ليتّبعه.

ص:330


1- . مسند أحمد: 2/594، برقم 8019.

15 في عدم مساواة دية المرأة لدية الرجل

اشارة

15 في عدم مساواة دية المرأة لدية الرجل(1)

اطّلعنا على العدد 495 (آذار / 2007 م، صفر 1428 ه) من مجلة «الشريعة» الغرّاء، ووجدنا فيه فتوى للشيخ يوسف القرضاوي تتضمن القول بأنّ دية المرأة تساوي دية الرجل، وأنّ الحكم بأنّ دية المرأة على النصف من دية الرجل لا يسنده نص صريح من القرآن الكريم ولا من السنّة المطهّرة، كما لا يؤيده إجماع ولا قياس ولا مصلحة معتبرة، وأنّ رأيه في مساواة الديتين تعضده آراء علماء سابقين منهم صاحب المنار والشيخ محمود شلتوت والشيخ أبو زهرة والشيخ محمد الغزالي.

ثم إنّه اعتذر عن فتوى العلماء في القرون السابقة بالنصف بأنَّ قتل المرأة خطأ أو شبه عمد في الأزمنة الماضية، كان من الندرة فلم تعد مشكلة حول الموضوع حتّى تستدعي اجتهاداً جديداً من العلماء.

أقول: نحن نقدر الاجتهاد الحرّ الخارج عن إطار المذاهب المعيّنة، فإنّ الاجتهاد رمز خلود الإسلام واستمرار شريعته. ولكن نؤكّد على لزوم اعتماد الاجتهاد الحر على الكتاب والسنّة المطهّرة والإجماع وسائر الأُصول المعتبرة وعدم الخروج عن مقتضاها قيد شعرة.

هذا وقد عادت دراسة دية الحرة المسلمة إلى الساحة لأجل أنّ طابع العصر

ص:331


1- . تمّ تحرير هذه الرسالة بتاريخ 17 ربيع الثاني 1428 ه.

الحاضر هو طابع العطف والحنان على النساء، بزعم أنّهنّ كنّ مهضومات الحقوق في الأدوار السابقة. فقامت مؤسسات وتشكّلت جمعيات لإحياء حقوقهن، وإخراجهن من زي الرقّية للرجال، إلى الاستقلال والحرية، وربّما يتصوّر أنّ في القول بأنّ ديتها نصف دية الرجل، هضماً لحقوقها وإضعافاً وإهانة لها.

ومع ذلك كلّه ففي المسألة دليل قاطع من السنة المطهرة وإجماع المسلمين على النصف.

اتّفاق الفقهاء على النصف

أمّا الإجماع فقد اتفقت كلمات الفقهاء على النصف عبر أربعة عشر قرناً ولم يخالفهم إلّارجلين لا اعتبار لخلافهما.

قال ابن قدامة في شرحه: قال ابن المنذر وابن عبد البرّ: أجمع أهل العلم على أنّ دية المرأة نصف دية الرجل. وحكى غيرهما عن ابن عُليَّة والأصمّ أنّهما قالا:

ديتها كدية الرجل لقوله صلى الله عليه و آله: «في النفس المؤمنة مائة من الإبل»، وهذا قول شاذ يخالف إجماع الصحابة وسنّة النبي صلى الله عليه و آله فإنّ في كتاب عمرو بن حزم: «دية المرأة على النصف من دية الرجل» وهي أخص ممّا ذكروه، وهما في كتاب واحد فيكون ما ذكرنا مفسِّراً ما ذكروه، ومخصصاً له.

ودية نساء كلّ أهل دين، على النصف من دية رجالهم على ما قدّمنا في موضعه.(1)

وقال القرطبي (المتوفّى : 595 ه): اتفقوا على أنّ دية المرأة نصف دية الرجل والنفس.(2)

وقال شمس الدين السرخسي (المتوفّى 495 ه): بلغنا عن علي عليه السلام أنّه قال:

في دية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس وما دونها (الأعضاء

ص:332


1- . المغني: 9/531-532.
2- . بداية المجتهد: 2/426.

والجراح) وبه نأخذ.(1)

ومن رجع إلى الكتب الفقهية يجد نظير هذه الكلمات فلا حاجة إلى نقل كلماتهم. والذي نلفت إليه نظر الأُستاذ أنّه لم يخالف ذلك القول في العصور الماضية إلّارجلان:

أحدهما: ابن عُليّة: وهو إسماعيل بن إبراهيم المصري (110-193 ه) الّذي كان مقيماً في بغداد وولي المظالم فيها في آخر خلافة الرشيد، وكفى في سقوط رأيه أنّه سيِّئ الأخلاق والسلوك.

وكتب له عبداللّه بن مبارك أبياتاً مستهلها:

يا جاعل الدين له بازيا يصطاد أموال المساكين(2)

ثانيهما: أبو بكر الأصمّ عبدالرحمن بن كيسان المعتزلي صاحب المقالات في الأُصول، والمعتزلة يعتمدون على العقل أكثر ممّا يعتمدون على النقل، ولذلك لا يطلق عليهم أهل السنّة في مصطلح أهل الحديث والأشاعرة.

وأي إجماع أعظم وأتقن من اتفاق الفقهاء على حكم مضت عليه قرون متمادية لم ينبس فيها أحد ببنت شفة إلّارجلان قد علمت حالهما، والعجب أنّ الدكتور في صدر كلامه يقول: (لا يؤيده إجماع ولا قياس ولا مصلحة معتبرة).

ونقرأ في آخر الخبر أنّ المعلّق قد كتب أنّ رأي الدكتور القرضاوي هذا يأتي مخالفاً لآراء الفقهاء أصحاب المذاهب الأربعة الشهيرة، والمذهب الظاهري والزيدي والمذهب الجعفري والمذهب الأباضي.

ولعله حاول بذلك إعطاء أهمية لهذا البحث.

هذا ما يمكن ذكره عن الإجماع، وأمّا السنّة:

ص:333


1- . المبسوط للسرخسي: 26/79، كتاب الديات.
2- . طبقات الفقهاء: 2/61.

تضافر السنّة على النصف

1. أخرج البيهقي بسندين في أحدهما ضعف دون الآخر، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «دية المرأة على النصف من دية الرجل».(1)

2. أخرج البيهقي بسنده عن مكحول وعطاء قالوا: أدركنا الناس على أنّ دية المسلم الحرّ على عهد النبي صلى الله عليه و آله مائة من الإبل، فقوّم عمر بن الخطاب تلك الدية على أهل القرى ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم، ودية الحرّة المسلمة إذا كانت من أهل القرى خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم، فإذا كان الّذي أصابها من الأعراب فديتها خمسون من الإبل، ودية الأعرابية إذا أصابها الأعرابي خمسون من الإبل لا يُكلّف الأعرابي الذهب ولا الورق.(2)

3. أخرج البيهقي عن حمّاد عن إبراهيم، عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال:

عقل المرأة على النصف من دية عقل الرجل من النفس وفيما دونها(3) والمراد بإبراهيم، هو إبراهيم النخعي (المتوفّى 93 ه) وهو لم يدرك عليّ بن أبي طالب، والسند منقطع.

4. أخرج النسائي والدارقطني، وصحّحه ابن خزيمة، عن النبي صلى الله عليه و آله: «عقل المرأة مثل عقل الرجل حتّى يبلغ الثلث من ديته»(4).

التنصيف في دية الأعضاء

هذا في دية النفس وهكذا الكلام في دية الأعضاء والجراحات، إذ اتفق الفقهاء على أنّ دية المرأة تساوي دية الرجل في الأُروش المقدرة إلى حدّ خاص، فإذا انتهت إليه فعلى النصف، وهذه الضابطة أمر متفق عليه، غير أنّ الاختلافِ في

ص:334


1- . سنن البيهقي: 8/95.
2- . سنن البيهقي: 8/95.
3- . نفس المصدر السابق.
4- . التاج الجامع للأُصول: 3/11؛ بلوغ المرام برقم 1212.

الحدّ الّذي إذا بلغته الدية، تكون على النصف والضابطة نفسها تؤيد الكبرى الكلّية في أنّ دية المرأة، نصف دية الرجل، والاختلاف في الحدّ الّذي إذا بلغته ترجع إلى النصف لا يضرّ بها.

والمشهور أنّ المرأة تعاقل الرجل في دية الأعضاء والجراحات إلى ثلث الدّية فاذا تجاوزت الثلث رجعت إلى النصف، روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها».

وقال ربيعة: قلت لسعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة ؟ فقال: عشر، قلت:

ففي إصبعين ؟ قال: عشرون. قلت: ففي ثلاث ؟ قال: ثلاثون، قلت: ففي أربع ؟ قال:

عشرون. قلت له: لمّا عظمت مصيبتها قلّ عقلها؟! قال: هكذا السنّة.

قوله: «هكذا السنة» دالّ على أنّه أراد سنّة النبي صلى الله عليه و آله وإجماع الصحابة والتابعين.(1)

وقد أخرج البيهقي بسند متصل إلى زيد بن ثابت أنّه قال: جراحات الرجال والنساء سواء إلى الثلث وما زاد فعلى النصف.(2)

ما هي المصلحة في تنصيف الدية ؟

يقول الشيخ القرضاوي من أنّ التنصيف لا تؤيده مصلحة.

ولعلّه عَنْى أنّ التفريق بين الديتين تفريق بلا سبب ولا مصلحة.

ولكن هناك مصلحة نشير إليها، وهي:

إنّه لا شك في أنّ المرأة المسلمة كالرجل المسلم من حيث دورها وأهميتها في المجتمع، وليس الاختلاف في الدية دليلاً على نقصان في كرامتها، وإنّما شرعت الدية لسدّ الضرر المالي الوارد على الأُسرة بسبب قتل النفس، ومن المعلوم أنّ الضرر المالي والخلل الاقتصادي الّذي يصيب العائلة بفقد الرجل أكثر

ص:335


1- . الخلاف: 5/254-256، المسألة 63.
2- . سنن البيهقي: 8/97، ولاحظ بقية الروايات في نفس المصدر.

منه في حالة فقدان المرأة.

ولذلك أصبحت دية المرأة نصف دية الرجل. كل ذلك حسب طبيعة المجتمع الإسلامي الّذي حمّل الرجل مسؤولية إدارة الأُسرة والقيمومة.

وهناك شبهات وشكوك حول التنصيف تركنا التعرض لها روماً للاختصار.

وأخيراً نرجو من الأُستاذ إن كان قد اطّلع على ما لم نطّلع عليه من الأدلّة الشرعية الدالة على التساوي فليُدل بدليله.

ص:336

الفصل الثالث: مقالات تقريبية

اشارة

1. فقه أهل البيت عليهم السلام بين أهل السنّة والشيعة

2. التشيّع تاريخاً وعقيدة

3. الأواصر العلمية بين علماء الشيعة والسنّة، خطوة نحو التقريب

4. رسالة مفتوحة إلى الدكتور يوسف القرضاوي والرد على ادّعاءاته ضد الشيعة والتشيع

5. رسالة إلى الدكتور عيسى بن مانع الحميري

6. رسالة إلى الدكتور عبد الرحمن الصالح المحمود والرد على اتهامه الشيعة في مسألة الإسناد وعلم الرجال

7. الاحتفال بالمولد النبوي الشريف

8. رسالة إلى أحد أعلام التقريب من أهل السنّة حول تكفير أتباع أهل البيت عليهم السلام من قبل بعض الخطباء والوعّاظ

9. ادانة مثيري الفتنة

10. ادانة إهانة القرآن الكريم

11. رسالة إلى الدكتور الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر

ص:337

ص:338

1 فقه أهل البيت عليهم السلام بين أهل السنّة والشيعة

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله محمد المصطفى ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الميامين وعباد اللّه الصالحين.

نتقدم بالشكر الوافر إلى كافة المشاركين في هذا المحفل العلمي الكريم(1)، ونخصّ بالذكر الأخوة المشرفين، ومسؤولي جامعة قطر العامرة.

***

الموضوع الّذي نحن بصدد دراسته، يحتل أهمية بارزة على صعيد الوحدة الإسلامية المنشودة، وسنبحثه في فصلين بينهما ارتباط وثيق، وهما:

الأوّل: التعرّف على أهل البيت عليهم السلام وفقههم.

الثاني: التعرّف على المدرسة الفقهية للشيعة الإمامية، المقتبسة من أهل البيت عليهم السلام وفقههم.

ص:339


1- . انعقد حفل علمي للتعرف على فقه أهل البيت عليهم السلام سنة 1429.

الفصل الأوّل التعرّف على أهل البيت عليهم السلام وفقههم

اشارة

هذا الفصل يشتمل على محاور ثلاثة وخاتمة، والمحاور هي:

الأوّل: مَن هم أهل البيت ؟

الثاني: ما هو الدليل على حجّية فتاواهم على المسلمين كافة.

الثالث: مصادر فتاواهم.

فلندرس هذه المحاور واحداً تلو الآخر، فنقول:

المحور الأوّل مَنْ هم أهل البيت ؟
اشارة

إنّ عبارة «أهل البيت» مركبة من كلمتين؛ الأهل والبيت، وكل منهما واضح المعنى ، إنّما الكلام فيما إذا أضيف الأهل إلى البيت أو إلى الرجل فماذا يراد منها؟

ثمة آراء ثلاثة في تفسير المراد من هذه العبارة:

1. أنّها تشمل كل من له صلة وطيدة مؤكدة (من نسب أو سبب أو غيرهما) بالبيت والرجل، من غير فرق بين الأزواج والأولاد. ويستفاد هذا من كتب اللغة وموارد استعمال هذه العبارة في الكتاب والسنّة، وما ورثناه من الأدب والشعر.

2. أنّها تخصّ الزوجات.

3. أنّها تخصّ الأولاد.

وكل من الرأيين الأخيرين شاذ، يخالف نصوص القرآن والسنة، فالقرآن الكريم استعمل الأهل في زوجة موسى، قال سبحانه: (فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ

ص:340

وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) .(1)

واستعملها أيضاً في الأولاد، قال سبحانه حاكياً عن نوح عليه السلام: (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) (2). ولا ينافيه قوله سبحانه: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) (3) كما هو واضح لمن تدبر في خطاب نوح.

إلى غير ذلك من دلائل متوفرة في استعمال الأهل المضاف إلى البيت والرجل في كلا الموردين.

هذا فيما يتعلّق بتحديد المفهوم، وهناك بحث آخر، وهو أنّه هل أُريد من آية التطهير كل من انتمى إلى البيت من أزواج وأولاد، أو أنّ هناك قرائن خاصّة على أنّ المقصود قسمٌ من المنتمين إليه ؟ وليس الثاني أمراً غريباً لأنّ المفهوم العام، قد يُطلق ويراد به جميع المنتمين، وقد يطلق ويراد به بعضهم، ونحن نعتقد بالثاني، وأنّ المراد غير الأزواج. وتدلّ على ذلك القرينتان التاليتان:

الأُولى: إفراد البيت في مقابل البيوت

نرى أنّ سبحانه في سورة الأحزاب - عندما يخاطب نساء النبي - يأتي بصيغة الجمع، ويقول: (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) .(4)

و (وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ ) .(5)

وعندما يصل إلى آل النبي يأتي بصيغة المفرد ويقول:

(أَهْلَ الْبَيْتِ ).

وهذا يدل على أنّ أهل البيوت بصيغة الجمع غير أهل البيت بصيغة المفرد.

ص:341


1- . القصص: 29.
2- . هود: 45.
3- . هود: 46.
4- . الأحزاب: 33.
5- . الأحزاب: 34.

فلو كان المراد من أهل البيت نساءه وأزوجه لما عدل عن صيغة الجمع الّتي أتى بها مرتين في آية بعد آية، إلى الإفراد.

الثانية: اللام في أهل البيت للعهد

إنّ اللام في قوله: (أَهْلَ الْبَيْتِ ) لها احتمالات ثلاثة:

1. أن تكون للجنس كما في قوله سبحانه: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) .(1)

وهذا الاحتمال منتفٍ قطعاً على وجه لا يحتاج إلى بيان.

ب. الاستغراق، وهذا الاحتمال كسابقه، إذ ليست الآية بصدد بيان جميع البيوت في العالم.

فتعين الثالث وهو أن تكون مشيرة إلى بيت واحد معهود بين المتكلم والمخاطب، ولذا يجب التعرّف على ذلك البيت.

فهو في بادئ النظر يحتمل أحد بيوت ثلاثة:

1. أن يكون للنبي بيت خاصّ مستقلّ عن بيوت أزواجه.

2. أن تكون الآية مشيرة إلى بيت واحد من بيوت أزواجه.

3. أن تكون الآية مشيرة إلى بيت فاطمة الّتي هي من أهله وأولاده.

ولا سبيل للأوّل إذ لم يكن للنبي بيت مستقل، وإنّما كان بيته هو بيوت أزواجه.

كما أنّ الثاني كالأوّل لعدم تحقق العهدية في أحدها، لأنّ بيوت الأزواج كانت عند النبي على السواء. ولم يكن لواحد منها خصوصية تميّزه عن غيره حتّى تشير الآية إليه.

فتعيّن الاحتمال الثالث وهو بيت أولاده، وهو بيت فاطمة.

فقد كان لفاطمة بيت بجوار بيوت أزواجه تسكن فيه مع ولديها وزوجها.

ص:342


1- . العصر: 2.

***

وفي الآية احتمال آخر وهو أنّ المراد من «البيت» هو «بيت النبوة» و «بيت الرسالة»، لا البيت المبنيّ من الأحجار والأخشاب، تشبيهاً للمعقول بالمحسوس.

وعندئذٍ لا يمكن أن يُعدّ من أهله، كل من انتمى إلى النبي صلى الله عليه و آله عن طريق السبب والنسب فقط، بل مَن انتمى إليه أيضاً - وراء أحد هذين الأمرين - بوشائج معنوية خاصّة على وجه يصحّ عند ملاحظتها، عدُّهم أهلاً لذلك البيت. وتلك الوشائج عبارة عن النزاهة في الروح والفكر، والصلاح والتُّقى في مقام العمل، وعلى ضوء هذا لا يصحّ تفسير الآية بكل المنتسبين إليه صلى الله عليه و آله عن طريق الأواصر المادّية والروابط الظاهرية.

ولو أخذنا بهذا التفسير، فالقدر المتيقّن ممّن ينتمي إلى ذلك البيت الشامخ، هو علي وفاطمة وابناهما، الذين شهد التاريخ بسموّ منزلتهم وشموخ فكرهم ونزاهة آرائهم ونُشدانهم لرضا اللّه سبحانه في أقوالهم وأفعالهم، إلى غير ذلك من المناقب والفضائل الّتي اكتسبوها من النبي صلى الله عليه و آله فصاروا كمرايا له، يحكون صفاته وأخلاقه وسجاياه.

وأمّا مشكلة السياق - حيث إنّ هذه الآية جاءت في ثنايا خطابه سبحانه لنساء النبي صلى الله عليه و آله - فالبحث عنها موكول إلى محل آخر.

ونحن نكتفي في إيضاح الآية واختصاصها ببيت فاطمة وولديها وزوجها بهاتين القرينتين، وهناك قرائن أُخرى طوينا عنها الكلام رأفة بالوقت.

أهل البيت عليهم السلام في لسان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله

ممّا توصّلنا إليه في كلامنا المتقدّم، هو من معطيات الآية الكريمة فقط، مع غضّ النظر عما ورد حولها من السنّة الشريفة، ولكنّنا إذا ارتَدْنا هذا الحقل، فسنجد في هذا الصدد خمساً وثلاثين رواية تنتهي أسانيدها إلى أقطاب الحديث من الصحابة، وهم: أبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وابن عباس، وأبو هريرة،

ص:343

وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم.

وللنبيّ صلى الله عليه و آله أساليب مختلفة في التعريف بأهل البيت، كما تكشف عن ذلك هذه الروايات فتارة يصرّح صلى الله عليه و آله بأسماء من نزلت الآية في حقهم حتّى يتعين المنزول فيه.

وأُخرى يلجأ إلى أسلوب عمليّ للتعريف بهم، فيجلّلهم - مثلاً - وحدهم بكساء ويمنع غيرهم من الدخول فيه، ثم يشير بيده إلى السماء ويقول: «اللهم إنّ لكلّ نبي أهل بيت، وهؤلاء أهل بيتي». ومن الواضح أنّه صلى الله عليه و آله يرمي من وراء ذلك، تأكيد اختصاص الآية بهؤلاء المجلّلين بالكساء.

وثمة أسلوب آخر، عرضته لنا الروايات، وهو أنّه صلى الله عليه و آله كان يمر ببيت فاطمة عدة شهور كلما خرج إلى الصلاة ويقول: الصلاة أهل البيت، ويتلو الآية المباركة.

يقول الأُستاذ عبد الفتاح عبد المقصود، وهو يعلّق على فعل الرسول هذا:

أرى أنّ النبيّ كان في مستهلّ كل يوم، يردّد ويكرّر ما يردّد ويكرّر، لكي يحفر في القلوب والأذهان أنّ آل بيته هؤلاء هم أعلى مقاماً، وآثر على اللّه ورسوله، وأحقّ بالمودّة والرعاية والاتّباع من الخلق أجمعين.(1)

وإليك روايتين فقط ممّا ورد في هذا المجال:

1. روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: «خرج النبي صلى الله عليه و آله غداة وعليه مِرط مُرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .(2)

2. أخرج الترمذي في سننه عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه و آله قال: لمّا نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و آله (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

ص:344


1- . في نور محمد، فاطمة الزهراء: 145/2.
2- . صحيح مسلم: 1207، الحديث 2424، باب فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله، دار ابن حزم، بيروت - 1423 ه.

وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (1) في بيت أُم سلمة فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء، وعليّ خلف ظهره فجللهم بكساء ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً».

قالت أُم سلمة: وأنا معهم يا نبي اللّه، قال: «أنت على مكانك وأنت على خير».(2)

إلى هنا يتم الكلام في الصغرى أي من هم أهل البيت، وحان الوقت للتعرّف على حجّية فتاواهم، وهو المحور الثاني في هذا الفصل.

المحور الثاني الدليل على حجّية فتاواهم على المسلمين كافة

هذا هو المحور الثاني في مقالنا، وهو بيت القصيد، أعني: إقامة الدليل على حجّية فقههم وفتاواهم على عامّة المسلمين.

إنّ المسلمين وإن اختلفوا بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله في صيغة الخلافة وأنّها هل هي منصب تنصيصيّ أو منصب انتخابيّ ، ولكل من الطائفتين رأي ونظر ودليل، ونحن لا نحوم حول هذا الموضوع، ولكن الّذي أُحبُّ أن أُنوّه عليه، هو أنّه على الرغم من الخلاف المذكور، فإنّهم متفقون - استناداً إلى الحديث المتضافر، بل المتواتر أعني: حديث الثقلين - على أنّ أهل البيت عليهم السلام هم المرجع الفكري والعلمي والشرعي لهم.

ولا محيص للمسلم من الرجوع إليهم وأخذ دينه وشريعته عنهم، استجابة لوصيّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله الّذي جعلهم المفزع بعده، مبيّناً أنّ الكتاب والعترة توأمان

ص:345


1- . الأحزاب: 33.
2- . سنن الترمذي: 350/5 برقم 3205، تفسير سورة الأحزاب.

لا يفترقان، وهنا نشير إلى بعض ألفاظ حديث الثقلين كما وردت في الصحاح والمسانيد، ولا يمكننا في هذه العجالة الإشارة إلى أسماء من روى هذا الحديث عبر القرون.

أخرج مسلم في صحيحه: عن زيد بن أرقم، قال: قام رسول اللّه يوماً فينا خطيباً - إلى أن قال: - وأنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب اللّه، فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب اللّه، واستمسكوا به. فحثّ على كتاب اللّه ورغّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي.(1)

أخرج الترمذي عن جابر بن عبد اللّه قال: «رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: يا أيها الناس إنّي تركت فيكم من [ما] إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي».(2)

وأخرج الترمذي أيضاً عن زيد بن أرقم أنّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّي تركت ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما».(3)

وروى أحمد في مسنده أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قال: «إنّي تارك فيكم خليفتين:

كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض (أو: ما بين السماء إلى الأرض)، وعترتي أهل بيتي، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».(4)

وأخرج أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري أنّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّي أُوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه عزّ وجلّ ، وعترتي؛ كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وأنّ اللطيف

ص:346


1- . صحيح مسلم: كتاب المناقب، رقم 6119.
2- . سنن الترمذي: كتاب المناقب برقم 3811.
3- . سنن الترمذي: كتاب المناقب برقم 3813.
4- . مسند أحمد: 182/3 و 189.

الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما».(1)

وروى الحاكم في مستدركه على الصحيحين عن زيد بن أرقم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وأهل بيتي، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».(2)

وأخرج الحاكم في المستدرك - أيضاً - من حديث زيد بن أرقم أنّه صلى الله عليه و آله قال في منصرفه من حجة الوداع ونزوله غدير خم: «كأنّي دعيت فأجبت، إنّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه وعترتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».(3)

يستفاد من حديث الثقلين أُمور مهمة، لو اعتنت بها الأُمّة لاجتمعت على مائدة أهل البيت عليهم السلام، واستطابت ألوآنها وهي:

1. إنّ اقتران العترة الطاهرة بالقرآن الكريم فيه إشارة إلى أنّهم يعلمون من القرآن ما يليق بشأنه.

2. إنّ التمسّك بالكتاب والعترة يعصم من الضلالة ولا يغني أحدهما عن الآخر.

3. يحرم التقدّم على العترة كما يحرم الابتعاد عنهم.

4. إنّ العترة لا تفارق الكتاب، وانّهما مستمرّان إلى يوم القيامة.

قال ابن حجر بعد نقل حديث الثقلين: وفي أحاديث الحث على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض. ثم قال: أحق من يُتمسّك منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، لما قدّمناه من مزيد علمه

ص:347


1- . مسند أحمد: 17/3 و 26.
2- . المستدرك للحاكم: 148/3.
3- . المستدرك للحاكم: 109/3.

ودقائق مستنبطه.(1)

إنّ الإمعان في حديث الثقلين يثبت بوضوح حجية فتاواهم وآرائهم وأقوالهم، وأنّ من أخذ بها فقد أخذ من معين صافٍ ، كيف لا وأهل البيت - كما يفيد الحديث - قرناء القرآن وأعداله، لا يختلفان ولا يفترقان، فكما يُعصَم من تمسك بالقرآن من الغيّ والضلال، فكذلك يُعصَم منهما من تمسك بأهل البيت، وكما أنّ القرآن هو (الناصحُ الّذي لا يغُشّ ، والهادي الّذي لا يُضلّ ، والمحدِّث الّذي لا يكذب)(2)، فإنّ أهل البيت أيضاً (هم أزمّة الحقّ ، وأعلام الدين، وألسنة الصدق).(3)

ولا نريد أن نتكلم في دلالة حديث الثقلين، ولنكتفِ بما قلناه.

وإذا كانت هذه مكانة أهل البيت ومنزلتهم في حديث الرسول صلى الله عليه و آله فما هو مصدر علومهم وفتاواهم في الأحكام الشرعية. هذا ما سنبحثه الآن، وهو المحور الثالث للفصل الأوّل.

المحور الثالث مصادر فتاواهم
اشارة

إنّ لعلوم أهل البيت عليهم السلام مصادر نشير إلى أبرزها:

1. استنطاق كتاب اللّه العزيز

لقد آتى اللّه سبحانه أئمة أهل البيت فهماً خاصاً لكتاب اللّه العزيز يستنبطون

ص:348


1- . الصواعق المحرقة: 437/2.
2- . نهج البلاغة: 91/2، الخطبة رقم 176.
3- . نهج البلاغة: 154/1، الخطبة رقم 86.

منه أحكاماً شرعية، قلّما يتفق لغيرهم مثلها، ونذكر في المقام نموذجين حتّى تُعرف بهما نظائرهما:

1. في عهد الخلافة، أُتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فأُمر بها أن تُرجم فقال علي بن أبي طالب عليه السلام ليس ذلك عليها. قال اللّه تبارك وتعالى: (وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (1). (وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) (2)، فالرضاعة أربعة وعشرون شهراً والحمل ستة أشهر.(3)

نرى هنا أنّ الإمام علي عليه السلام قد استنطق كتاب اللّه في مدة أقل الحمل واستخرجها من ضم آية إلى آية أُخرى، وهذا هو المعروف في ألسن الأُصوليين بدلالة الإشارة.

روى المحدّث الطائر الصيت ابن شهر آشوب المازندراني في كتابه «المناقب»: قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ماقبله، وقال بعضهم: يُضرب ثلاثة حدود، فكتب المتوكّل إلى الإمام علي الهادي عليه السلام يسأله، فلمّا قرأ الكتاب، كتب: يُضرب حتى يموت، فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلة، فكتب عليه السلام: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ ).4

فأمر به المتوكل فضرب حتى مات.(4)

إنّ الإمام الهادي عليه السلام ببيانه هذا قد شقّ طريقاً خاصّاً لاستنباط الأحكام من

ص:349


1- . الأحقاف: 15.
2- . البقرة: 233.
3- . سنن البيهقي: 443/7؛ والدر المنثور: 688/1، وغيرهما.
4- . مناقب آل أبي طالب: 405/4.

الذكر الحكيم، طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره، وكانوا يزعمون أنّ مصادر الأحكام الشرعية هي الآيات الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه الّتي تبلغ قرابة ثلاثمائة آية، وبذلك أبان للقرآن وجهاً خاصّاً لدلالته، لا يلتفت إليه إلّا من نزل القرآن في بيته.

2. سنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله

إنّ المصدر الثاني لفقه أهل البيت عليهم السلام هو سنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله الّتي وصلتهم عن طريقين رئيسيين هما:

أ. السماع عنه صلى الله عليه و آله

يروي أئمة أهل البيت كثيراً من سنة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عن طريق السماع كابراً عن كابر، فمثلاً يروي الإمام الصادق عن أبيه الباقر عن أبيه زين العابدين إلى أن ينتهي السند إلى النبي الأكرم.

وهذا النوع من الرواية هو المعين الصافي الّذي لم يكدّره الشك والترديد في الصحة والضبط.

قال الشيخ أبو نُعيم الأصبهاني بعد أن روى حديث (سلسلة الذهب) الّذي رواه الإمام عليّ الرضا عن آبائه عليهم السلام: هذا حديث ثابت مشهور بهذا الإسناد من رواية الطاهرين عن آبائهم الطيّبين، وكان بعض سلفنا من المحدّثين إذا روى هذا الإسناد، قال: لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لأفاق.(1)

وقصة هذا الحديث، هو أنّ الرضا عليه السلام لمّا وافى نيسابور، وأراد أن يخرج منها إلى المأمون العباسي، ازدحم عليه أصحاب الحديث (وفي طليعتهم إسحاق بن راهويه، ومحمد بن رافع القشيري، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وأحمد بن

ص:350


1- . حلية الأولياء: 192/3، برقم 241.

حرب، وغيرهم)، وطلبوا منه أن يُملي عليهم حديثاً، فقال عليه السلام: حدّثني أبي موسى بن جعفر، حدّثني أبي جعفر بن محمد، حدّثني أبي محمد بن علي، حدّثني أبي علي بن الحسين بن علي، حدّثني أبي علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنهم، حدّثنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن جبريل عليه السلام، قال: قال اللّه عزّ وجلّ :

«إنّي أنا اللّه لا إله إلّاأنا فاعبدوني، من جاءني منكم بشهادة أن لا إله إلّااللّه بالإخلاص، دخل في حصني، ومن دخل في حصني أمن من عذابي».(1)

ب. كتاب علي عليه السلام

لقد كان لعلي عليه السلام كتاب خاص بإملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقد حفظته العترة الطاهرة، وصدرت عنه في مواضع كثيرة ونُقلت نصوصه في موضوعات شتى ، وقد بثّ الحر العاملي في موسوعته الحديثية (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة) أحاديث ذلك الكتاب حسب الأبواب الفقهية المختلفة من الطهارة إلى الديات.

وإليك كلام الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في حق هذا الكتاب، قال: «إنّ العلم فينا ونحن أهله وهو عندنا مجموع كلّه بحذافيره، ومنه لا يحدث شيء إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش إلّاوهو عندنا مكتوب بإملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وخط علي عليه السلام بيده».(2)

ولأئمة أهل البيت عليهم السلام كلمات ضافية حول هذا الكتاب لا يسع المجال لذكرها.

ص:351


1- . نفس المصدر. وانظر: المنتظم (لابن الجوزي): 120/10، الترجمة 1114.
2- . بحارالأنوار: 47/89.
3. العلم الموهوب

ربّما تشمل عناية اللّه سبحانه بعض عباده الصالحين فيجعلهم علماء فهماء من عنده، من دون أن يدرسوا على يد أحد، وهذا ليس بأمر غريب وله نظائر:

1. إنّه سبحانه يصف مصاحب موسى عليه السلام بقوله: (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً) (1) فقد ذكر سبحانه في حقه أمرين:

أ. (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) .

ب. (عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً) .

فنالته رحمة اللّه وعنايته فصار عالماً بتعليم منه سبحانه، من دون أن يكون نبياً بل كان إنساناً مثالياً وولياً من أولياء اللّه سبحانه بلغ من العلم والمعرفة مكانة دعت موسى - و هو نبي مرسل - إلى أن يطلب العلم منه حيث خاطبه بقوله: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً) .(2)

2. أنّه سبحانه أعطى لجليس سليمان عليه السلام علماً من الكتاب أقدره ذلك العلم على خرق العادة، كما وصفه سبحانه بقوله: (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) (3)، وهذا الجليس لم يكن نبياً ولكن كان عنده علم من الكتاب. وهو لم يَنلْه بالطرق العادية الّتي يتدرج عليها الصبيان والشباب في المدارس والجامعات، بل كان علماً إلهياً أفيض عليه لصفاء قلبه وروحه.

ما ذكرناه نماذج لمن شملتهم العناية الإلهية فصاروا علماء فقهاء حكماء من عند اللّه تبارك وتعالى.

فلنعطف نظرنا إلى الأئمة الاثني عشر فبما أنّهم قد أُنيطت بهم عزة الدين كما في حديث الرسول صلى الله عليه و آله إذ قال: «لا يزال الإسلام عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة»

ص:352


1- . الكهف: 65.
2- . الكهف: 66.
3- . النمل: 40.

وهو ما رواه مسلم في صحيحه.(1)

كما أُنيطت بهم الهداية كما في حديث الثقلين حيث قال صلى الله عليه و آله: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي» فأئمة أهل البيت ليسوا بأقل شأناً ومكانة من مصاحب موسى أو جليس سليمان، فأي وازع من أن يحيطوا بسنن النبي وعلوم الشريعة بعلم موهوب من دون أن يكونوا أنبياء بل أنّهم عيبة علم الرسول ورواة سننه بواسطة هذا المنهج.

وربّما يعبر عن أسباب العلم الموهوب بكون الرجل محدَّثاً - بفتح الدال - وقد استفاضت الروايات بوجود رجال محدَّثين في الأُمّة الإسلامية يُلهَمون ويُلقى في روعهم شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو أن تُنكت لهم في قلوبهم حقائق تخفى على غيرهم.

وقد حفلت المصادر الحديثية بالعديد من الروايات المؤيدة لهذه الحقيقة.(2)

هذا والتاريخ أصدق شاهد على علومهم في مجالي العقيدة والشريعة فقد رجع إليهم المسلمون وعلى رأسهم الفقهاء في القرون الثلاثة، وأشادوا بعلوّ كعبهم في العلم والفقه، من غير فرق بين الأئمة الأربعة وغيرهم.

خاتمة المطاف رجوع كبار الفقهاء إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام

كان أئمة أهل البيت عليهم السلام في عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم منائر العلم يستضيء بأنوار علومهم، كل من أراد الفقه والفقاهة.

ص:353


1- . صحيح مسلم، كتاب الأمارة، برقم 4601-4603.
2- . انظر: صحيح البخاري: 200/4، باب مناقب المهاجرين وفضلهم؛ وإرشاد الساري للقسطلاني: 99/6؛ و ج 431/5؛ و شرح صحيح مسلم للنووي: 166/15.

فقد ذكر ابن أبي الحديد أنّ علياً عليه السلام هو أساس الفقه الإسلامي، الّذي حمل لواءه أئمة المذاهب، ثم بيّن ذلك بقوله: أمّا أصحاب أبي حنيفة كمحمد بن الحسن، وأبي يوسف، فقد أخذوا عن أبي حنيفة، وقد قرأ الشافعي على محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة، فيرجع الشافعي بهذه الواسطة إلى أبي حنيفة، وقرأ أحمد بن حنبل على الشافعي، فيرجع في فقهه إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة تتلمذ على الإمام جعفر بن محمد، وجعفر بن محمد ينتهي في علمه وفقهه إلى جدّه علي بن أبي طالب. وأمّا مالك، فقد قرأ على ربيعة الرأي، وربيعة أخذ عن عكرمة، وعكرمة أخذ عن عبد اللّه بن العباس، وعبد اللّه مصدره الإمام علي بن أبي طالب.(1)

وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري، وهو يتحدث عن أبي حنيفة: كان وارث علوم أصحاب ابن مسعود، وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما، الذين كانت الكوفة امتلأت بهم.(2)

وقال الكوثري أيضاً: عُني ابن مسعود بتفقيه أهل الكوفة، حتّى امتلأت الكوفة بالفقهاء، ولما انتقل علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه إلى الكوفة سُرّ من كثرة فقهائها جداً... ووالى باب مدينة العلم تفقيههم، إلى أن أصبحت الكوفة لا مثيل لها في أمصار المسلمين في كثرة فقهائها ومحدثيها. وأضاف: فكبار أصحاب عليّ ، وابن مسعود رضي اللّه عنهما بها لو دوّنت تراجمهم في كتاب خاص لأتى كتاباً ضخماً. ثم قال: وقد جمع شتات علوم هؤلاء إبراهيم بن يزيد النخعيّ .(3)

أقول: وعن إبراهيم النخعي، أخذ حمّاد بن أبي سليمان (المتوفّى 120 ه) الفقه، وعن حمّاد أخذ أبو حنيفة.

أمّا مالك بن أنس، فقد أخذ عن جعفر الصادق، وروى عنه في «الموطّأ» في

ص:354


1- . انظر: شرح نهج البلاغة: 21/1-30.
2- . مقالات الكوثري: 209 (حول فكرة التقريب بين المذاهب).
3- . مقالات الكوثري: 220-221 (اللامذهبية قنطرة اللادينية).

أربعة عشر موضعاً.(1)

ولأجل بيان مكانة أئمة أهل البيت في دنيا العلم والفقه، نورد هنا كلمات بعض الأعلام في حق عدد منهم عليهم السلام، فالبحث لا يتسع لأكثر من ذلك.

قال ابن سعد في ترجمة محمد الباقر عليه السلام: كان عالماً عابداً ثقة، وروى عنه الأئمة أبو حنيفة وغيره.(2)

وقال أبو حنيفة عقب إجابة جعفر الصادق عليه السلام عن أربعين مسألة هيّأها له بطلب من المنصور العباسي: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد.(3)

وقال فخر الدين الرازي عند تفسير سورة الكوثر: فانظر إلى أهل البيت كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكية(4)وأمثالهم.(5)

وقال الشيخ محمد أبو زهرة عند ذكر جعفر الصادق: لا نستطيع في هذه العجالة أن نخوض في فقه الإمام جعفر، فإن أُستاذ مالك وأبي حنيفة وسفيان بن عُيَينة، لا يمكن أن يُدرس فقهه في مثل هذه الإلمامة.(6)

وقال الدكتور مصطفى الشِّيبي، وهو يتحدث عن عليّ بن موسى الرضا: كان الرضا من قوة الشخصية، وسموّ المكانة، أن التفّ حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية.(7)

ص:355


1- . تهذيب الكمال: 94/27، الترجمة: 5728.
2- . الطبقات الكبرى: 320/5.
3- . سير أعلام النبلاء: 257/6.
4- . النفس الزكية، ليس من أئمة أهل البيت عند الإمامية.
5- . التفسير الكبير: 124/32.
6- . تاريخ المذاهب الإسلامية: 639.
7- . الصلة بين التصوّف والتشيّع: 214.

الفصل الثاني المدرسة الفقهية للشيعة الإمامية

المصادر والخصائص

وفيه بحوث:

1. مصادر الفقه عند الشيعة الإمامية

أ. القرآن الكريم

ب. السنة الشريفة

ج. الإجماع

د. العقل

2. خصائص فقه الإمامية ومميزاته

أ. إحراز العدالة في عامة سند الرواية

ب. تقييد العمل بالقياس بموارد خاصّة

ج. انفتاح باب الاجتهاد

د. لكلّ واقعة حكم شرعي عند اللّه

ه. لا تصويب في آراء المجتهدين

و. تقسيم الأحكام إلى واقعية وظاهرية

ز. دور العناوين الثانوية فيه تحديد الأحكام الأولية

ح. صلاحيات الفقيه الجامع للشرائط

يُعدّ فقه الإمامية مرآة تعكس فقه أهل البيت وآراءهم، فهو حصيلة جهود ضخمة لفطاحل علمائهم، الذين مارسوا الاجتهاد في نطاق ما روي عن أهل البيت، وهنا لابدّ من التعرّض لأمرين:

الأوّل: المصادر الّتي يصدر عنها الإمامية في فقههم.

ص:356

الثاني: خصائص فقههم ومميزاته.

وإليك توضيحاً لكلا الأمرين:

الأمر الأوّل: مصادر الفقه عند الشيعة الإمامية
اشارة

اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ منابع الفقه ومصادره لا تتجاوز الأربعة:

1. كتاب اللّه الكريم.

2. السنة المطهرة.

3. الإجماع.

4. العقل

قال الفقيه الكبير محمد بن إدريس الحلّي (543-598 ه) في ديباجة كتابه «السرائر»: فإنّ الحق لا يعدو أربع طرق؛ إمّا كتاب اللّه سبحانه، أو سنة رسوله المتواترة المتفق عليها، أو الإجماع، أو دليل العقل، فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحققين الباحثين عن مآخذ الشريعة التمسك بدليل العقل.(1)

وقد ذكرنا كلام هذا الفقيه، ليعلم أنّ حصر المنابع الفقهية بهذه الأُمور الأربعة ليس شيئاً جديداً بين فقهاء الإمامية وإنّما هو أمر كان عليه فقهاؤهم منذ قرون عديدة.

المصدر الأوّل: القرآن الكريم

أمّا كتاب اللّه العزيز فلا يُعدل عنه إلى غيره مطلقاً، وله مكانة عظيمة عندهم حتّى أنّ قسماً من المحقّقين لا يجوِّزون تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، وإنّما يجوِّزون تخصيص الكتاب العزيز بالمتواتر المتضافر.

ص:357


1- . السرائر: 43/1.

وقد اتفقت كلمة محقّقي الإمامية - عبر تاريخهم الطويل - على أنّ كتاب اللّه الموجود عند عامة المسلمين هو نفسه الّذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين لم تتطرق إليه زيادة ولا نقص، وأنّ ما ورد من الروايات حول ذلك فهي إمّا مؤولة أو مطروحة.

المصدر الثاني: السنّة الشريفة

وأمّا السنة الشريفة فقد خصّ اللّه تعالى بها المسلمين دون سائر الأُمم، وقد اهتم المسلمون بنقل ما أُثر عن النبي صلى الله عليه و آله من قول وفعل وتقرير.

وقد أكد أئمة أهل البيت عليهم السلام على أنّ السنة الشريفة هي المصدر الرئيسي بعد الكتاب، وأنّ جميع ما يحتاج الناس إليه قد بيّنه سبحانه في الذكر الحكيم وورد في سنة نبيّه.

قال الإمام الباقر عليه السلام: «إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله، وجعل لكلّ شيء حدّاً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدّى ذلك الحد حدّاً».(1)

وقال الإمام الصادق عليه السلام: «ما من شيء إلّاوفيه كتاب أو سنّة».(2)

روى أبو حمزة الثُّماليّ عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله في خطبته في حجة الوداع: «أيها الناس اتقوا اللّه ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلّاوقد نهيتكم عنه وأمرتكم به».(3)

إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، الّتي تؤكد على الاهتمام بالسنة والركون إليها.

ص:358


1- . أُصول الكافي للكليني: 59/1، باب الرد إلى الكتاب والسنة، الحديث 2، 4.
2- . المصدر السابق.
3- . بحار الأنوار: 171/2، الحديث رقم 11.
المصدر الثالث: الإجماع

عدّ الأُصوليون من فقهاء السنّة الإجماع من مصادر الفقه، بمعنى أنّ اتفاق الأئمة في عصر على حكم شرعي - إذا كان مستنداً إلى دليل ما حتّى ولو كان دليلاً ظنيّاً - يجعله حكماً شرعياً قطعياً إلهياً، وإن لم ينزل به الوحي، فلذلك وصف الإجماع بأنّه من مصادر الفقه.

وأمّا الإجماع في مدرسة أهل البيت، فهو بما هو هو ليس من مصادر التشريع، وإنّما يكشف عن وجود الدليل، فالاتفاق مهما كان واسعاً لا يؤثر في جعل حكم ظني حكماً شرعياً قطعياً إلهياً، وإنّما المؤثر في ذلك المجال نزول الوحي به، فلو نزل به الوحي يكون المجمع عليه حكماً شرعياً، ولو لم ينزل به الوحي فالإجماع لا يضفي عليه الصفة الشرعية، فغاية ما يمكن أن يقوم به الإجماع، هو الكشف عن وجود الدليل في المسألة وإن لم يصل إلينا، إذ من البعيد اتفاق أُمّة كبيرة على الحكم إذا لم يكن في متناولهم دليل شرعي.

المصدر الرابع: العقل

لقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام على حجية العقل، قال الإمام الصادق عليه السلام: «حجة اللّه على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين اللّه العقل».(1)

وقال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام (المتوفى 183 ه) مخاطباً هشام بن الحكم: «يا هشام إنّ للّه على الناس حجتين، حجة ظاهرية وحجة باطنية، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأمّا الباطنة فالعقول».(2)

نعم إنّ العقل كالإجماع ليس من مصادر التشريع بل هو من كواشفه، بمعنى أنّه يكشف عن حكم اللّه سبحانه بالطريق الّذي سنذكره، كما يكشف الإجماع عن

ص:359


1- . الكافي: 25/1، كتاب العقل والجهل، الحديث 22.
2- . الكافي: 16/1، كتاب العقل والجهل، الحديث 12.

وجود دليل لفظي صادر عن صاحب الشريعة.

ثمّ إنّ استكشاف العقل عن حكم اللّه سبحانه يعتمد على أصلين قطعيين هما:

1. التحسين والتقبيح العقليّان.

2. الملازمات العقلية.

أمّا الأوّل: فإنّ للعقل قابلية على معرفة حسن الأفعال وقبحها، إذ هو بنفسه يدرك حسن الإحسان وحسن مجازاة الإحسان بمثله، وحسن العمل بالميثاق، وهكذا.

كما يدرك من صميم ذاته قبح الظلم وقبح مجازاة الإحسان بالإساءة، وقبح نقض الميثاق، إلى غير ذلك من الأفعال الّتي يدرك العقل الحصيف المنقطع عن كل شيء حسنها أو قبحها.

والذكر الحكيم يشهد على تلك القابلية حيث يخاطب الإنسان بما تقتضي به فطرته ويقول: (أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1)، ويقول سبحانه: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .(2)

ويقول تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ) .(3)

وهذه الآيات تتخذ من وجدان الإنسان شاهداً على عدم التسوية، وتدل بالتالي على أنّ الإنسان قادر بفطرته الإلهية على درك حسن الأفعال وقبحها، ولما كانت التسوية بين الطائفتين قبيحة عند العقل، ذَكر سبحانه أنّ ساحته أيضاً منزّهةً عنها.

فالقول بالتحسين والتقبيح العقليين - مع أنّه أساس في باب المعارف

ص:360


1- . القلم: 35-36.
2- . الجاثية: 21.
3- . ص: 28.

والعقائد أيضاً وهو خارج عن موضوع بحثنا - أساس لاستنباط فروع فقهية في حقول خاصّة، أوضحها أصل البراءة من التكليف، وعدم وجوب الاحتياط عند الشك في التكليف لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، فإذا لم يجد المستنبط دليلاً شرعياً على الحكم الشرعي، فالعقل يستقل بالبراءة من التكليف من غير فرق بين كون المحتمل وجوباً أو تحريماً، ومن حسن الحظ أنّ الشرع أيضاً عزّزه، قال سبحانه: (وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (1)، وبعث الرسول كناية عن بيان الحكم.

كما أنّ العقل يستقل بحسن الاحتياط ووجوبه فيما إذا عُلم التكليف وجُهل المكلف به وتردد بين أمرين، فالعقل يحكم بالاحتياط لأنّ الاشتغال اليقيني بالحكم يقتضي البراءة اليقينية، إمّا بإتيان الأمرين إذا علم الوجوب وتردد المكلف به بين أمرين أو أكثر، أو ترك الأمرين إذا علمت الحرمة ولم يعلم المكلف به معيّناً، إلى غير ذلك من الآثار الشرعية للقول بالحسن والقبح العقليين.

إزاحة شبهة

ربّما يُتصوَّر أنّ القول بالتحسين والتقبيح العقليين يلازم التحكم على اللّه سبحانه، وأنّه يجب عليه أن يفعل كذا لحسنه أو أن لا يفعل كذا لقبحه، ومن المعلوم أنّ التحكم من العبد الذليل بالنسبة إلى المولى العزيز أمر قبيح جدّاً.

ولكن المستشكل لم يفرق بين الإيجاب المولوي والإيجاب الاستكشافي، والباطل هو الأوّل فإنّه سبحانه مولى الجميع والناس عباد له، وليس لأحد أن يحكم عليه سبحانه بشيء إذ هو مختار على الإطلاق، وأمّا الإيجاب الاستكشافي فهو بمعنى أنّ العقل يستكشف من خلال صفاته سبحانه - ككونه حكيماً عادلاً

ص:361


1- . الإسراء: 15.

قديراً - أنّه لا يعذّب البريء، فالقول بأنّه يجب على اللّه سبحانه بمعنى الملازمة بين حكمته وعدله وعدم تعذيب البريء، وليس استكشاف العقل في المقام بأقلّ من استكشاف الأحكام الكونية، حيث يحكم بأنّ زوايا المثلث تكون قائمتين، فزوايا المثلث في الخارج موصوفة بهذا المقدار، ولكن العقل يستكشف ذلك.

وللقول بالتحسين والتقبيح العقليين آثار كثيرة في الفقه الإمامي نذكر منها ما يلي:

1. الإتيان بالمأمور به مجز عن الإعادة والقضاء، لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال.

2. مرجّحات باب التزاحم الّتي تُبنى على تقديم الأهم على المهم، والحاكم بالتقديم هو العقل لقبح العكس.

هذا كله حول الأمر الأوّل.

وأمّا الثاني: أعني باب الملازمات فنقول:

إنّ باب الملازمات هو المجال الثاني لحكم العقل، فإذا أدرك العقل الملازمة بين الوجوبين أو الحرمتين وورد أحد الوجوبين في الشرع دون الآخر، يحكم العقل بالوجوب الثاني بناء على وجود الملازمة بين الحكمين، فاستكشاف الحكم الشرعي رهن ثبوت الملازمة بين الحكمين، وإليك نماذج من هذا:

1. الملازمة بين الوجوبين، كوجوب الشيء ووجوب مقدّمته.

2. الملازمة بين الحرمتين، كحرمة الشيء وحرمة مقدّمته.

3. الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه، كوجوب المضيّق وحرمة الموسّع عند التزاحم.

4. الملازمة بين النهي عن العبادة وفسادها.

5. الملازمة بين النهي عن المعاملة وفسادها في موارد خاصّة.

6. الملازمة بين وجود الحكم لدى وجود الشرط والوصف و... والانتفاء لدى الانتفاء.

ص:362

إلى غير ذلك ممّا يدخل في أبواب الملازمة الموصوفة عندهم بالملازمات غير المستقلة، فإنّ الحكم المستكشف في هذه الموارد عن طريق الملازمة، حكم شرعي، نظير:

1. وجوب مقدّمة الواجب.

2. حرمة مقدّمة الحرام.

3. حرمة الضدّ الموسّع المزاحم للمضيّق، كالصلاة عند الابتلاء بإزالة النجاسة عن المسجد، أو أداء الدين الحالّ .

4. فساد العبادة المنهي عنها، كالصوم في السفر.

5. فساد المعاملات المنهي عنها كبيع الخمر.

إلى غير ذلك من الموارد الّتي توصف بغير المستقلات العقلية، وفي الفقه الشيعي وعلم الأُصول دور كبير لباب الملازمات، فمن مثبت ونافٍ ومفصِّل.

الأمر الثاني: خصائص فقه الإمامية ومميزاته
اشارة

إنّ لكلّ مدرسة فقهية خصائص ومميزات تفترق بها عن سائر المدارس، ومدرسة أهل البيت الفقهية مع أنّها تشارك بقية المدارس في كثير من الأُمور بحيث لا يجد الفقيه مسألة من المسائل الخلافية عندهم إلّاووافقهم فيها أحد المذاهب الفقهية السائدة أو البائدة.

ونحن إذا راجعنا كتاب الخلاف للشيخ الطوسي، نجد أنّ ما من مسألة تضاربت فيها الآراء والأفكار إلّاوللشيعة فيها قول ورأي يوافقهم فيه - كما قلنا - أحد المذاهب.

ولأجل ذلك نشير إلى خصائص فقههم.

ص:363

الأُولى: إحراز العدالة في عامة سند الرواية

قد عرفت أنّ السنّة الشريفة هي المصدر الثاني للتشريع، والشيعة يعملون بكل ما روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله سواء أوصل إليهم عن طريق أئمة أهل البيت أو عن طريق آخر، بشرط إحراز العدالة أو الوثاقة في عامة رجال السند، ولا يعتقدون بالعدالة الجماعية في طائفة من الطوائف.

الثانية: تقييد العمل بالقياس

إنّ كثرة الروايات الفقهية المروية عن أهل البيت عليهم السلام أغنت فقهاء الشيعة عن اللجوء إلى القياس فضلاً عن الاستحسان، فالمرجع عندهم هو المصادر الأربعة، وأمّا القياس فيعملون به في إطار خاص وهو:

أ. فيما لو كان منصوص العلّة في نفس الدليل، فيُعمل به في كل مورد عمّه التعليل.

وفي الحقيقة ليس هذا عملاً بالقياس بل عمل بنفس الدليل، أعني: العلة الّتي تعمّم الحكم وتخصّصه.

ب. قياس الأولوية، وربّما يسمى بتنبيه الخطاب ومفهوم الموافقة، وهو إثبات حكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق أولى، كقوله سبحانه: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ) (1) فإذا حرم التأفيف، حرم الشتم والضرب بطريق أولى.

ج. تنقيح المناط، وهو فيما لو اقترن الموضوع في لسان الدليل بأوصاف وخصوصيات لا يراها العرف دخيلة في الموضوع، كما إذا قال في السؤال: «رجل شك في المسجد بين الثلاث والأربع» فالعرف يتلقى تلك القيود مثالاً لا قيداً في الحكم، فيعمّ الرجل والأُنثى ومن شك في المسجد والبيت.

ومن هذا القبيل قصة الأعرابي، الّذي قال: هلكت يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال له: ما

ص:364


1- . الإسراء: 23.

أهلكك ؟ قال: واقعت امرأتي في نهار رمضان. قال: اعتق.(1) فالعرف يساعد على إلغاء القيدين وهما:

أ. كونه أعرابياً.

ب. مواقعة الأهل.

فيعم البدوي والقروي، ومواقعة الأهل وغيرها، فيكون هو حكم من أفطر بالوقاع في صوم رمضان.

ومن هذا القبيل قوله سبحانه في مورد صلاة الجمعة: (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ) (2)، ومن المعلوم أنّ ذكر البيع من باب المثال، فلا فرق بين البيع والإجارة والرهن، بل كل فعل يشغل الإنسان عن أداء الصلاة، ولهذا النوع أمثلة كثيرة في الفقه.

تخريج المناط

إذا قضى الشارع بحكم في محل من دون أن ينص على مناطه، ولم يكن العرف مساعداً لكون القيد الوارد فيه من باب المثال، كما إذا حرمت المعاوضة في الحنطة إلّامثلاً بمثل، فهل يصح تعميم الحكم إلى سائر الحبوب بتخريج المناط؟

وهذا هو ما يميّز الفقه الإمامي عن غيره، فهم يقولون بأنّ التشابه في الموضوع لا يكون سبباً لإسراء الحكم، فإن تخريج المناط في الموارد الّتي يعمل بها بالقياس تخريجات ظنية، ولعل المناط الّذي استخرجه الفقيه غير المناط عند الشرع، فما لم يكن المناط المستخرج، مناطاً قطعيّاً، لا يسوغ العمل به، وللتفصيل في هذا الموضوع مكان آخر.

ص:365


1- . صحيح مسلم: كتاب الصيام، الحديث رقم 24840، بتلخيص.
2- . الجمعة: 9.
الثالثة: انفتاح باب الاجتهاد

إنّ الفقه الإمامي يتبنى فتح باب الاجتهاد بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله إلى يومنا هذا، فإنّ الاجتهاد رمز بقاء الشريعة وسرّ خاتمية الدين الإسلامي، فالأُمّة الإسلامية كانت تواجه بعد رحيل قائدها حوادث مستجدّة لابدّ من الإجابة عنها ولم يكن لهم بد من استنطاق الكتاب والسنة مع سائر الأدلّة في الحصول على الجواب عنها، وهذا الداعي كان سائداً ومستمراً إلى يومنا هذا، وقد حثّ الإمامان الصادق والرضا عليهما السلام أصحابهما على الاجتهاد قائلين: «علينا إلقاء الأُصول وعليكم التفريع».(1)

وفي ظل هذه الميزة كان الفقه الإمامي متطوراً نامياً في كل عصر وزمان، وقد نتج عن ذلك تأليف موسوعات فقهية ضخمة على مر العصور.

الرابعة: لكل واقعة حكم

إنّ للّه سبحانه في كل واقعة حكماً شرعياً واحداً، وقد ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إنّه قال: «أيّها الناس اتقوا اللّه ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلّا وقد نهيتكم عنه أو أمرتكم به».(2)

وعلى ضوء هذا فليس هناك واقعة لم يكتب حكمها حتّى يترك حكمها إلى أصحاب الاجتهاد والآراء، غير أنّ الحكم الواقعي تارة يكون واضحاً، وأُخرى يحتاج إلى بذل جهود ليصل إليه المستنبط.

ص:366


1- . بحارالأنوار: 62/2؛ وسائل الشيعة: 63/27، الباب 7 من أبواب صفات القاضي، الحديث 52، طبعة آل البيت عليهم السلام.
2- . بحارالأنوار: 171/2، برقم 12.
الخامسة: التصويب والتخطئة

من مميزات الفقه الإمامي هو أنّ الحق في الشريعة أمر واحد وما سواه خطأ محض، من غير فرق بين الأحكام والموضوعات، وذلك لما مرّ من أنّ للّه سبحانه في كل واقعة من الوقائع حكماً شرعياً واحداً، فإن وافقه المجتهد في استنباطه، فقد أصاب وإن خالفه، فقد أخطأ، وليس هناك واقعة واحدة لم يكن لها حكم في الشريعة، ويُترك حكمها إلى الفقهاء حتّى يكون الجميع مصيبين.

السادسة: تقسيم الأحكام الشرعية إلى واقعية وظاهرية

من خصائص هذه المدرسة تقسيم الأحكام الشرعية إلى حكم واقعي، وحكم ظاهري، وهذا بحسب لسان الدليل.

فإن كان ملاك حجّية شيء كونه طريقاً إلى الواقع ومرشداً إليه، كما هو الحال في الوارد في الكتاب والسنة، مثل قوله صلى الله عليه و آله: «التراب أحد الطهورين»، أو قوله صلى الله عليه و آله:

«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»، فالحكم المستفاد منها حكم واقعي.

وأمّا الدليل المأخوذ في لسانه الشك، كما إذا ورد في السنّة: إذا شككت فاعمل بهذا الدليل، فيكون الحكم المستفاد منه حكماً ظاهرياً كما هو الحال في الأُصول العملية الأربعة: أصل البراءة، والاحتياط، والتخيير، والاستصحاب، فالشك مأخوذ في لسان الدليل كقوله: «لا تنقض اليقين بالشك» وهو مع الاحتفاظ بالشك يأمر بالعمل على وفق الحالة السابقة.

ومنه يظهر تأخّر مرتبة الأحكام الظاهرية عن الأحكام الواقعية، فالعبرة بالثانية بعد عدم الدليل على الأُولى، ويعبّر عمّا يدلّ على الحكم الواقعي بالدليل الاجتهادي، ويعبّر عمّا يدلّ على الحكم الظاهري بالدليل الفقاهتي، ويترتّب على ذلك عدم حجّية الأُصول العملية مع وجود الأدلّة الاجتهادية.

ص:367

السابعة: تقسيم الموضوعات إلى أوّلية وثانوية

إنّ العناوين المتعلّقة بالأحكام تنقسم إلى عنوان أوّلي، وعنوان ثانوي، فالعنوان المأخوذ في الموضوع مع قطع النظر عن العوارض والطوارئ يسمّى عنواناً أوّلياً، كلحم الميتة بالنسبة إلى حكمه أي الحرمة.

ولكن هذا الموضوع إذا طرأ عليه عنوان آخر في مرحلة ثانية كالاضطرار لأجل المجاعة، يقال له عنوان ثانوي، ربّما يصير مغيّراً لحكم العنوان الأوّلي، فلحم الميتة بما هوهو حرام، وبالنظر إلى العنوان الثانوي - أعني: الاضطرار - فهو حلال إلى حدّ معيّن.

إنّ في الحياة المعاصرة مشاكل بيئية واجتماعية تحيط بالإنسان وتجعل الحياة مرة في مذاقه، ولكن اللّه سبحانه أعطى لحكام الشرع صلاحية حلّ هذه المشاكل عن طريق أحد العناوين الثانوية، وبذلك ضمن للشريعة الإسلامية، الخاتمية والاستمرار حتّى قيام الساعة.

ولأجل ذلك نشير إلى العناوين الثانوية الّتي لها دور في تعديل الأحكام الشرعية المتعلّقة بالعناوين الأوّلية:

1. الضرورة والاضطرار

إذا اقتضت الضرورة واضطر الإنسان إلى استعمال محرّم، يكون للعنوان الثانوي حكومة على العنوان الأوّلي، وقد أُشير إلى ذلك بقوله تعالى: (وَ ما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) (1)ومورد الآية وإن كان هو اللحوم ولكن العرف يساعد على إلغاء الخصوصية، فيشمل المأكولات والمشروبات جميعاً، وبالتالي يكون للعنوان الثاني حكومة على الحكم الوارد بالعنوان الأوّلي.

ص:368


1- . الأنعام: 119.

روى سماعة عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «ليس شيء ممّا حرّم اللّه إلّاوقد أحلّه لمن اضطُر إليه».(1)

وأمّا ما هو الاضطرار وما حدّه، فالبحث فيه موكول إلى محله.

2. الضَّرر والضِّرار

إنّ الضرر والضرار من العناوين الثانوية الّتي تتغير بها أحكام العناوين الأوّلية، مثلاً أنّه لا شكّ في وجوب الوضوء بالماء، كتاباً وسنّة، لكن إذا طرأ هناك طارئ وصار استعمال الماء مضراً بالمتوضئ يجب عليه العدول إلى البدل، وهذه قاعدة تامّة باسم الضرر والضرار، وللقاعدة جذور في الكتاب العزيز والسنة النبوية، قال تعالى: (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) .(2)

وأمّا السنّة فقد تضافر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا ضرر ولا ضرار».

3. العسر والحرج

إنّ عنوان العسر والحرج من العناوين الثانوية الطارئة على العناوين الأوّلية - أيضاً - مثلاً إذا فرضنا أنّ الاغتسال بالماء البارد أو الخروج من المنزل للاغتسال صار أمراً حرجياً وإن لم يكن ضررياً، فيقدّم حكم العنوان الثانوي على العنوان الأوّلي، أخذاً بقوله تعالى: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) .(3)

4. قاعدة الأهم والمهم عند التزاحم

إذا توقّف إنقاذ الغريق على اجتياز الأرض المغصوبة، يُقدَّم وجوب إنقاذ الغريق على حرمة التصرّف بالمغصوب، أخذاً بالأهم عند التزاحم بالمهم.

ص:369


1- . الوسائل: 4، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 6.
2- . البقرة: 232.
3- . الحج: 78.

ونظيره حفظ النفس في المجاعة بالتصرّف في طعام الغير، فلا مانع من أكل مال الغير لحفظ النفس مع الضمان، وكم لهذا الحكم من فروع في الفقه.

5. صلاحيات الفقيه الجامع للشرائط

إنّ للفقيه المجتهد الجامع للشرائط صلاحيات في تدبير المجتمع وإدارته في فقه أهل البيت عليهم السلام، عن طريق تنفيذ أحكام الشرع وتطبيقها وحل المعضلات والمشاكل، وحفظ المصالح العامّة حسب الضوابط الشرعية المقرّرة، فليس ولاية الفقيه بمعنى الاستبداد بالحكم كيفما أراد، بل المراد بها إجراء الأحكام الشرعية حسب ما أمر به الشارع المقدّس مع تقديم الأصلح على غيره.

فالفقيه في مقام إجراء الأحكام الشرعية ينفذ أحكامه في ظل العناوين الثانوية، وبذلك يصبح المجتمع مجتمعاً إلهياً صالحاً.

ولنمثل لذلك ببعض الأمثلة:

1. انّه سبحانه فرض الجهاد على كافة المسلمين، ولكن إذا اقتضت المصلحة فرض الجندية على الشباب (سنة أو سنتين) للتدريب والدفاع عن حدود بلاد المسلمين وصارت المصلحة العامة في ذلك، فينفذ هذا الأمر بحكم الفقيه تقديماً للأصلح على الصالح، ويكون الوجوب حكماً ولائياً، لا حكماً شرعياً أوّلياً، ويكون الحكم هذا باقياً ما بقي ملاكه.

2. لو اقتضت المصلحة العامة فتح شوارع، ولكن بعد هدم بيوت الناس ولا يوجد بديل عن ذلك فيسوغ تخريب البيوت مع التعويض، تحقيقاً لمصالح المجتمع في ظل تشخيص الفقيه.

3. لو اقتضت المصلحة قطع العلاقات مع أحد الدول أو وصلها وتقويتها، فيجب على الحكومة القطع أو الوصل تنفيذاً لحكم الفقيه النابع من أحد العناوين الثانوية.

وقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام حول ولاية الفقيه بالمعنى

ص:370

الّذي عرفت، ولا يسع المقام للتعرض لها.

كما أنّ هناك عناوين ثانوية أُخرى كالنذر والعهد والقسم وأمر الوالد ونهيه، وهي ممّا له دور في تغيير أحكام العناوين الأوّلية.

وبذلك يعلم أنّ الفقيه الشيعي استغنى عن بعض القواعد المعروفة كفتح الذرائع وسدها والمصالح المرسلة، لأنّ في تحكيم العناوين الثانوية على العناوين الأوّلية غنى عن إعمال هذه القواعد.

***

بقي الكلام في أمرين لهما دور واسع في الفقه الإمامي إلّاوهما:

1. العرف والعادة والسيرة.

2. مقاصد الشريعة وأهدافها.

وللاختصار طوينا الكلام عنهما، وقد شرحناهما في كتبنا الأُصولية.(1)

جعفر السبحاني

إيران - قم المقدسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

21 رجب المرجب 1429 ه

ص:371


1- . لاحظ: أُصول الفقه المقارن: 296-366؛ و إرشاد العقول: 285/3-291.

2 التشيّع تاريخاً وعقيدة

اشارة

الشيعة لغة هم الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم. يقال: تشايَع القومُ إذا تعاونوا، وربما يطلق على مطلق التابع. قال تعالى: (وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ) (1) وتستعمل اللفظة في الجماعة التابعة لرئيس لهم، وأمّا اصطلاحاً فلها إطلاقات عديدة بملاكات مختلفة:

1. الشيعة: من أحبّ عليّاً وأولاده باعتبار أنّهم أهل بيت النبي الذين فرض اللّه سبحانه مودّتهم، وقال: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (2).

والشيعة بهذا المعنى تعمّ جميع المسلمين إلّاالنواصب.

2. من يفضّل عليّاً على الخليفة الثالث أو عامّة الخلفاء، مع الاعتقاد بأنّه رابع الخلفاء، وإنّما يقدّم لاستفاضة مناقبه وفضائله عن الرسول صلى الله عليه و آله والّتي دوّنها أصحاب الحديث في مسانيدهم وصحاحهم.

3. الشيعة من يشايع عليّاً وأولاده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول صلى الله عليه و آله وأئمّة الدين بعده، نصبهم لهذا المقام بأمر من اللّه سبحانه وقد اشتهر أنّ عليّاً هو الوصي، حتّى صار من ألقابه.

ص:372


1- . الصافات: 83.
2- . الشورى: 23.

وبعبارة جامعة: تطلق الشيعة ويراد بها كلّ من يقول بأنّ قيادة الأمّة لعليّ بعد الرسول صلى الله عليه و آله وأنّه يقوم مقامه في كلّ ما يمت إليه بصلة سوى النبوة ونزول الوحي عليه. كلّ ذلك بأمر من اللّه وتعيين الرسول.

والمقوّم للتشيّع وركنه الركين هو القول بالوصاية والقيادة بجميع شؤونها للإمام علي عليه السلام وأولاده الطاهرين، وأمّا ما سوى ذلك فليس مقوّماً لمفهوم التشيّع ولا يدور عليه اطلاق الشيعة وإنّما هو مسائل كلامية، أو فقهية أو غير ذلك.

وعلى ضوء ما ذكرناه فالتشيّع يركز بوضوح على الاعتقاد باستمرار القيادة الإسلامية في قالب الوصاية لعليّ وعترته، وأنّ هذه الفكرة غرست بيد النبي صلى الله عليه و آله في أيام حياته وتبنّاها لفيف من المهاجرين والأنصار في عصر الرسول وبقوا عليها بعد حياته واقتدى بهم لفيف من التابعين لهم باحسان وتواصل الاعتقاد بها عبر العصور إلى العصر الحاضر، وهذا هو الذي تدّعيه الشيعة، وعليه بُني صرح التشيّع وأمّا ما سوى ذلك من الآراء والعقائد في مجالي العقيدة والشريعة فليست داخلة في صميم التشيّع، ويعم الإمامية الإثني عشرية والزيدية والإسماعيلية.

وبذلك يعلم أنّ التشيّع ليس من افرازات الصراعات السياسية ولا من نتاج الجدال الكلامي والصراع الفكري، ولا وليد احداث وتطورات أدّت إلى تكوين هذا المذهب، فلا يزيد على صميم الإسلام بشيء قيد شعرة حتّى يكون له نشوء بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله، غير أنّ الشيعة تركّز على شيءٍ واحد وهو استمرار القيادة بأهل بيت النبي صلى الله عليه و آله بأمر من اللّه سبحانه وتبليغ الرسول صلى الله عليه و آله.

***

التسمية من النبي الأعظم صلى الله عليه و آله

إنّ الآثار المرويّة عن لسان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في حقّ الإمام علي عليه السلام تعرب عن التفاف قسم من المهاجرين والأنصار حول الوصيّ ، وكانوا معروفين بشيعة علي في عصر الرسالة وأنّ الرسول سماهم بها و وصفهم بأنّهم هم الفائزون وقد

ص:373

تضافرت النصوص على ذلك ولا مجال لذكرها هنا، فالقارئ الكريم يرجع في تفسير هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (1) إلى التفاسير الأثرية كتفسير الطبري والثعلبي والسيوطي وغيرها، نقتصر بنص واحد.

أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه و آله فأقبل علي عليه السلام فقال: والذى نفسي بيده إنّ هذا وشيعته هم الفائزون. ثم تلا الآية الكريمة. فكان أصحاب النبي إذا أقبل علي عليه السلام قالوا: جاء خير البريّة.

وهذا النص وما يضاهيه البالغ عدده إلى أربعين نصّاً في هذا المضمار، يعرب عن كون علي عليه السلام متميّزاً بين أصحاب النبي بأنّ له شيعة وأتباعاً ولهم مواصفات وصفات كانوا مشهورين بها في حياة النبي وبعدها، وكان يشيد بهم ويبشرهم بفوزهم، وهم - بلا ريب - لم يكونوا خارجين عن الخطّ النبوي المبارك قيد أنملة.

ومن حسن الحظّ أنّ قسماً كبيراً من أصحاب المقالات والفرق صرّحوا بذلك نذكر منهم ما يلي:

قال الإمام أبو الحسن الأشعري: وإنّما قيل لهم الشيعة لأنّهم شايعوا علياً ويقدمونه على سائر أصحاب الرسول.(2)

وقال ابن حزم: ومن وافق الشيعة في أنّ علياً أفضل الناس بعد رسول اللّه وأحقهم بالإمامة وولده من بعده، فهو شيعي وإن خالفهم فيما عدا ذلك مما اختلف فيه المسلمون، وإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعياً.(3)

وقال الشهرستاني: الشيعة هم الذين شايعوا علياً على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصيّة.(4)

ص:374


1- . البيّنة: 7.
2- . مقالات الاسلاميين: 65/1، ط. مصر.
3- . الفصل: 112/2، ط. بغداد.
4- . الملل والنحل: 131/1.

وهذه هي حقيقة التشيّع وصميمه وقوامه وما سوى ذلك فالكل مسائل كلاميّة أو فقهية، أو تاريخيّة.

***

الأُصول المشتركة بين الشيعة والسنّة

الأدلّة الّتي تعتمد عليها الشيعة في معارف الإسلام وأصوله وأحكامه هي الكتاب والسنّة والعقل الحصيف وما أجمع عليه المسلمون عبر الزمان، فإذا كانت هذه مصادر العقيدة والشريعة، فهم يشاركون عامّة المسلمين في أكثر الأصول والفروع، والعقائد والأحكام ويؤمنون بما جاء في الكتاب العزيز والسنّة الصحيحة وادراكات العقل واتفاق المسلمين بلا ترديد، فالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله عندهم خاتم الأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات، وشريعته خاتمة الشرائع، وكتابه خاتم الكتب (وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) .(1)

فالسنة النبوية - سواء أنقلت عن طريق الصحابة أو عن طريق أئمة أهل البيت عليهم السلام - مصدر ثان لعامة المسلمين في حقلي العقيدة والشريعة إذا كان النقل للشرائط المحرّرة في محلّها.

إنّ العقل الحصيف الذي به عرفناه سبحانه كما عرفنا به أنبياءه ورسله وكتبه، هو المصدر الثالث الذي يعتمد عليه عامّة المسلمين تقريباً بلا فرق بين الشيعة والسنة، وأعطف عليه ما اتّفق عليه المسلمون في ضروريات العقائد والأحكام على نحو لا يدخل فيه ريب ولا شك.

فإذا كانت هذه هي مصادر العقيدة والشريعة، وهي معتبرة عند الجميع فالمشتركات عندهم أكثر من المتفرقات في المسائل النظرية التي طبيعتها

ص:375


1- . فصلت: 41-42.

اختلاف النظر فيها وتعدّد الفكر، ونعم ما قال الفقيه الرائد السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي رحمه الله مخاطباً لعلماء السنّة: ما يجمعنا أكثر ممّا يفرّقنا، ولنعم ما قال شاعر الأهرام:

إنّا لتجمعنا العقيدة أمّة ويضمّنا دين الهدى أتباعاً

ويؤلّف الإسلام بين قلوبنا مهما ذهبنا في الهوى أشياعاً

ومع ذلك كلّه فلكل فرقة من الفرق الإسلامية أُصول كلامية تمتاز بها عن الفرق الأُخرى، وبما أنّ مشاهير الفرق هم الأشاعرة والمعتزلة، نذكر بعض الفوارق الكلامية بينهم وبين الشيعة.

***

الفوارق بين الإمامية والأشاعرة

وافقت الشيعة الإماميةُ الأشاعرةَ في أُصول كثيرة لا حاجة لذكرها، وفارقتهم في الأصول التالية:

1. اتحاد صفاته سبحانه الذاتية مع الذات، فالعلم أو القدرة عند الشيعة الإمامية عين ذاته سبحانه، وهي زائدة عليها عند الأشاعرة.

2. الصفات الخبرية الواردة في الكتاب والسنة - كالوجه والأيدي والاستواء - تفسّر بالمفهوم التصديقي للجملة لا بالمفهوم التصوري للمفردات، فمعنى قوله سبحانه: (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) (1) أنّه بريء من البخل باذل وسخّي وقادر على البذل، وأمّا الأشاعرة فهم يفسّرونها بالمفهوم التصوري يقولون: إنّ للّه سبحانه يدين لكن بلا كيف. وقس على ما ذكرنا سائر الصفات الخبرية.

3. أفعال العباد عند الإمامية صادرة عن نفس العباد صدوراً حقيقياً فالإنسان هو الضارب، هو الآكل، هو الشارب، هو المصلّي، كل ذلك بقدرة مكتسبة من اللّه.

ص:376


1- . المائدة: 64.

وأمّا الأشاعرة فذهبوا إلى أنّ أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه وليس للإنسان فيها صنع ولا دور، وليس لقدرة العبد أيّ تأثير في تحقّق الفعل.

4. رؤية اللّه سبحانه في الدنيا والآخرة مستحيلة، ولكنّها عند الأشاعرة محققة في الآخرة.

5. استطاعة الانسان على فعل من الأفعال تقارنه تارة وتتقدم عليه أخرى، خلافاً للأشاعرة، فقالوا بالتقارن مطلقاً وفي الوقت نفسه غير مؤثرة.

6. كلامه سبحانه عند الشيعة الإمامية هو فعله فهو حادث لا قديم، خلافاً للأشاعرة فكلامه عبارة عن الكلام النفسي القائم بذاته، فهو قديم كقدم الذات.

7. التحسين والتقبيح العقليان، من الأمور الواضحة عند الشيعة الإمامية حيث إنّ العقل يدرك حسن بعض الأفعال وقبحها من أيّ فاعل صدر، خلافاً للأشاعرة فقد عزلوا العقل عن إدراك حسن الأفعال وقبحها.

8. استحالة التكليف بغير المقدور من الأُصول المسلّمة عند الشيعة الإمامية وخالفهم الأشاعرة فجوّزوا التكليف بالممتنع.

إلى غير ذلك من الأصول الكلامية التي هي نتاج بحوث وسجالات بين المتكلمين شيعة وسنّة.

***

الفوارق بين الشيعة والمعتزلة

قد ثبت في محلّه أنّ المعتزلة أخذوا أُصولهم عن الإمام علي عليه السلام وأولاده، ومع ذلك فهناك فوارق بين الشيعة والمعتزلة، نشير إلى أهمّها:

1. مرتكب الكبيرة عند الإمامية والأشاعرة، مؤمن فاسق والمعتزلة على أنّه منزلة بين المنزلتين.

2. الجنّة والنار عند الإمامية والأشاعرة مخلوقتان الآن بدلالة الشرع على ذلك، وأكثر المعتزلة على أنّهما غير مخلوقتين.

ص:377

3. الشفاعة ممّا اتفق على ثبوتها عامّة المسلمين غير أنّ الإمامية والأشاعرة فسّروها باسقاط العقاب عن المسيئين أو إنقاذهم من النار، وفسرها المعتزلة بترفيع درجة المؤمنين.

4. الاحباط بمعنى بطلان الأعمال ممّا اتفق الإمامية والأشاعرة على عدم صحّته وقالوا: لكلّ عمل حسابه الخاص، بخلاف المعتزلة فانّهم قالوا إنّ المعصية المتأخرة تحبط الثواب المتقدّم.

5. غلت المعتزلة في تمسكهم بالعقل وغلا أهل الظاهر في جمودهم على ظاهر النص، وخالفهم الإمامية والأشاعرة فأعطوا للعقل سهماً فيما له مجال القضاء فيه. نعم أعطت الإمامية للعقل مجالاً أوسع ممّا أعطته الأشاعرة.

6. اتّفقت الإمامية والأشاعرة على أنّ قبول التوبة بفضل من اللّه ولا يجب عقلاً على اللّه سبحانه قبولها وبالتالي اسقاطه العقاب. وقالت المعتزلة إنّ التوبة مسقطة للعقاب على وجه الوجوب.

7. اتفقت الإمامية على أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك.

8. اتفقت الإمامية على أنّ الإنسان غير مسيّر ولا مفوّض إليه بل هو في ذلك المجال، بين أمرين: الجبر والتفويض، وأجمعت المعتزلة على التفويض.

9. اتفقت الإمامية والأشاعرة على أنّه لابدّ في بدء التكليف من بعث الرسول، وخالفت المعتزلة وقالوا: إنّ العقول تغني بمجردّها عن السمع.

10. وجوب عصمة الإمام الذي يقود الأُمّة عند الإمامية خلافاً لغيرهم.

11. اتفق المسلمون على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال أكثر الإمامية والأشاعرة، يجبان سمعاً، خلافاً للمعتزلة، فقالوا بوجوبهما عقلاً.

12. مرتكب الكبيرة غير مخلد في النار عند الإمامية والأشاعرة خلافاً للمعتزلة.

هذا بعض ما تمتاز الشيعة به عن المعتزلة.

ص:378

ودراسة هذه الأصول تثبت أنّ هذه المسائل نتاج صراعات كلامية وسجالات فكريّة لا تصلح أن تكون حجاباً بين المسلمين. مفرقة لصفوفهم ومبددة لشملهم.

***

الشيعة الإمامية والأحكام الفرعيّة

إذا كان المصدر لبيان التشريع الإسلامي هو الكتاب والسنّة، فلازم ذلك مشاركة الفرق الإسلامية في أكثر الأحكام، ومن حسن الحظ أنّه ما من فرع من الفروع الفقهية إلّاوالشيعة تتفق فيه مع المذاهب الفقهية أو بعضها، ومن قرأ كتاب الخلاف لفقيه الإسلام الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (385-460 ه) يقف على اتفاق الشيعة في عامّة أبواب الفقه مع سائر الفقهاء إلّاقليلاً من الأحكام التي انفردت بها، ونشير إلى مهمّاتها:

1. عدم جواز المسح على الخفين.

2. مسح الأرجل مكان غسلها.

3. وجوب الجهر بالبسملة في الصلاة وجزئيتها لكلّ سورة.

4. سدل اليدين في الصلاة ويوافقهم المالكية.

5. السجود على الأرض أو ما نبت منها وعدم جوازه على غيرهما.

6. جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير سفر ولا مطر.

7. بطلان صلاة التراويح جماعة.

8. لزوم قصر الصلاة في السفر.

9. لزوم الافطار في السفر.

10. شرطية العدالة في إمام الجمعة والجماعة.

11. وجوب الخمس في أرباح المكاسب.

12. عدم جواز الجهاد الابتدائي إلّابأمر من إمام معصوم.

ص:379

13. لزوم اشهاد العدلين في صحة الطلاق.

14. صحة نكاح المتعة.

15. بطلان الطلاق الثلاث في مجلس واحد.

16. شرطية كون الطلاق في غير طهر المواقعة.

17. بطلان طلاق الحائض.

18، بطلان الطلاق المعلّق.

19. جواز الوصية للوارث.

20. بطلان العول والتعصيب وتقديم الأولى بالميت على غيره.

21. وراثة المسلم من الكافر دون العكس.

***

وفي الختام ندعو عامّة المسلمين وفي طليعتهم العلماء وأصحاب الأقلام إلى التمسّك بحبل اللّه المتين الذي أمرنا اللّه به في قوله تعالى: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) (1)، والآية تدلّ على أنّ الأُمّة المتفرقة كالمتردّي في بئر فلا يكتب النجاة له إلّابالتمسك بالحبل الموصول إليه، فهكذا الأُمة الإسلامية لا تكتب النجاة لها إلّابالتمسك بوحدة الكلمة وتوحيدها في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وليتركوا هذه الخلافات الكلامية والفقهية إلى أهلها فهم يتدارسونها في مدارسهم ومراكزهم برحابة صدر دون أن يثيروا عداء ويسفكوا دماء، وهذا هو خُلُق العلماء الواعين عبر القرون، ونعم ما قال القائل:

وكذلك العلماء في أخلاقهم يتباعدون ويلتقون سراعا

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

20 شهر صفرالمظفر 1431 ه. ق

ص:380


1- . آل عمران: 103.

3 الأواصر العلمية بين علماء الشيعة والسنّة

اشارة

خطوة نحو التقريب

جعل اللّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس وجعل الحج موسماً للعبادة وفرصة للقاء بين المسلمين من كل صقع وصوب ليتعارفوا ويطّلعوا على أحوال بعضهم بعضاً، وهذا ما يشير إليه سبحانه بقوله: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ) وأي منفعة بعد العبادة أكبر من أن يلتقي الأُخوة في اللّه في مكان واحد بعيداً عن جميع الاعتبارات الشخصية والاجتماعية والحواجز القومية والإقليمية والعرقية تغمرهم مشاعر المحبة والمودة وتجمعهم روح الأُخوة الصادقة الصافية.

وأي مسألة أهم من أن يتعرف المسلمون على الأخطار والمشاكل المحدقة بهم ويتدارسوا حلولها المناسبة ويعملوا معاً بيد واحدة وعزيمة صارمة.

وانطلاقاً من هذا المبدأ قمنا بإلقاء كلمة حول الوحدة الوطنية والتضامن الإسلامي شرحنا فيها ما للاتحاد والوحدة من المنافع وما للفرقة والاختلاف من المضار، وأتينا بدلائل على التلاحم الموجود بين السنة والشيعة في الأزمنة السابقة.

الحديث عن الاتحاد والوحدة لا يحتاج إلى برهنة واستدلال، فكلّ إنسان - و إن كان يتمتع بمعلومات محدودة حول القضايا الاجتماعية - يعرف أن تلاحم أُمّةٍ

ص:381

ما وتضامنها سبب للكثير من الفوائد والخيرات، كما أنّه يعلم أنّ الاختلاف والانقسام لا ينتجان سوى الإخفاقات المتزايدة.

إنّ ضرورة وحدة الأُمّة - أيّ أُمّة - من القضايا التي قياساتها معها حسب الاصطلاح المنطقي، أي أنّها ادّعاءٌ يحمل دليله معه، ومن ثم لا يحتاج إلى برهان أو دليل.

المقطع الأوّل من مقطعي العنوان أعلاه عبارة عن «الوحدة الوطنية»، ومن الواضح أنّ الوحدة القومية والوطنية تختلف عن النزعة القومية، فالقومية مرفوضة في الإسلام، وقد ذمّ القرآن بشكل واضح هذه النزعة، فقد جاء فيه قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ ) .(1)

وتحمل النزعة القومية معها معطيات مرفوضة وسلبية، إنّها تعني أفضلية قوم على آخرين؛ للغتهم أو دمهم أو أرضهم أو قوميتهم، إنّهم يفتخرون بذلك، ويمارسون الإذلال والتحقير بحق الشعوب الأُخرى.

إنّ هذا اللون من التفكير مذموم من جانبي العقل والشريعة الإسلامية المقدّسة، فهو يمثّل نوعاً من التفكير اليهودي الذي يرى بني إسرائيل أُمّةً مختارةً ، ولهذا فهم ينسبون إلى اللّه أشياء لطالما ردّها القرآن، منها - على سبيل المثال -:

(وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ) (2)، و (وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ ) (3)، و (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ) .(4)

إنّ هذه القومية نوع من عبادة العِرق، ومع الأسف فقد تفشّت هذه النزعة في

ص:382


1- . الحجرات: 13.
2- . البقرة: 111.
3- . البقرة: 113.
4- . البقرة: 94.

العالم في القرنين الأخيرين وأفضت إلى نزاعات واضطرابات وحروب عدّة، بينما نرى أنّ منطق الإسلام لا يعطي للقومية والعِرقية أيّ قيمة ولا يعيرها أيّ اهتمام.

والنتيجة: أنّ النزعة القومية مرفوضة قرآنياً وعقلياً؛ لما تحمله من مضمون سلبي.

أمّا الوحدة الوطنية، فهو مفهوم إيجابي لا يحمل في طيّاته أيّ آثار سلبية، إنّه يعني أنّ الأُمّة التي تعيش على أرضٍ واحدة وتشرب من مياه واحدة، تستفيد منها طوال سنين، فإنّ لهذه الأرض حقّاً عليهم، وهذا الحق يتمثّل في أن يتّحد البشر الساكنين على سطحها ويضعوا يدهم بيد بعضهم بعضاً، يرفعون بذلك نقائص حياتهم، ويتغلّبون على المشاكل والأزمات، دون أن يمارسوا تحقيراً للشعوب الأُخرى أو يقوموا بأذيتها والإضرار بها، إنّ الاتحاد القومي والوطني بهذا المعنى الآنف الذكر فكرٌ فطري؛ فكل إنسان تربطه بوطنه علاقة عاطفية.

عندما هاجر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من مكة، وقعت هذه المدينة في ذاكرته وهو في وسط الطريق عند «الجحفة»، فلم يتمكّن من إخفاء مشاعره وحبّه لمسقط رأسه، فامتلأت عيناه بالدموع، وهنا نزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) .(1)

كذلك وعندما فتح النبي صلى الله عليه و آله مكة بعد عشر سنوات من البُعد عنها ومفارقتها، وطهّر بيت التوحيد من لوث عبادة الأصنام، نزل لدى دخوله إليها نقطةً مرتفعة فيها تسمّى «أذاخر» وعندما وقعت عيناه على الكعبة كما ورد في كتب التاريخ:

اجتاحت قلبه عاصفة من الهم والحزن، وقال: «إنّي أحبك ولولا أنّي هُجّرتُ لما تركتك».

يتبيّن من هذا أنّ بين الوحدة الوطنية والنزعة القومية فاصلة كبيرة، بل لا يمكن - من الأساس - الجمع والمقارنة بينهما.

ص:383


1- . القصص: 85.

مدح القرآن للاتحاد وذمّه للانقسام والتفرّق

كلّما وصل القرآن الكريم إلى الحديث عن الوحدة والاتحاد أردفه بمدحهما، وكلّما مرّ بالحديث عن الاختلاف والانقسام ذمّهما، يقول في الاتحاد: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) (1)، ولتحقيق هذا الاتحاد اعتبر القرآن المؤمنين إخوةً فيما بينهم، فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (2)، وفي الحقيقة فإنّ أقرب علاقة بين شخصين من مستوى واحد هي علاقة الأخوة، ولهذا اعتبر المؤمنون إخوة، فعلاقة الأُبوّة والبنوّة رغم كونها أقوى من علاقة الأُخوّة إلّاأنّ طرفي هذه العلاقة ليسا بمستوى واحد، لهذا لم يوظف القرآن هذه العلاقة، وإنّما استعاض عنها بعلاقة الأُخوّة.

أمّا لدى حديثه عن الفرقة والانقسام، فنجده يقول: (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) (3)؛ فقد عرضت هذه الآية المباركة ثلاثة أنواع من العذاب هي:

1. العذاب من فوق، كحجارة السماء أو الصاعقة التي تحرق مدينةً كاملة.

2. العذاب من أسفل، كالزلزلة المدمرة والبراكين.

3. عذاب الأُمّة الواحدة التي تتشتت إلى فرق مختلفة تعزف كل واحدةٍ منها على منوال خاصّ بها، وهذا العذاب أسوأ من العذابين السابقين، بشهادة أنّه بعد ذكر العذاب الثالث المشؤوم يذكر نتيجته ألا وهي تعذيب كل واحدٍ بالآخر.

وأُنهي هذا القسم من الموضوع بتحليل آية الاعتصام، حيث إنّ القرآن دعا إلى الوحدة والتمسّك بالحبل الواحد؛ فبدلاً من أن يقول: تمسّكوا بالقرآن والإسلام، نراه يقول: تمسّكوا بحبل اللّه، وكأنّ الهدف من ذكر (الحبل) الإشارة إلى أنّ

ص:384


1- . آل عمران: 103.
2- . الحجرات: 10.
3- . الأنعام: 65.

الإنسان عندما يكون في قعر البئر فإنّ سبيل نجاته الوحيد هو أن يُلقى إليه حبل إلى داخل البئر ليتمسّك به ويصعد بواسطته إلى خارج البئر، وإلّا فإنّ موته في الداخل يغدو محتماً، إنّ الأُمّة المضطربة التي يعزف كل واحدٍ فيها على منواله تشبه ذاك الذي سقط في البئر، ذلك أنّ موتها قطعي ونهايتها محتومة، فما أروع أن نعمل على أن تتوحّد هذه الإيقاعات ونمسك خير إمساك بحبل الوحدة كي نحظى بالنجاة وننعم بالخلاص.

كانت هذه كلمات موجزة وإجمالية حول المقطع الأوّل من العنوان (الوحدة الوطنية)، ولننتقل الآن إلى شرح المقطع الثاني.

الانسجام والتضامن الإسلامي

تعني كلمة الانسجام النظم والانضباط، وهو أحد المحسنّات البديعية في البلاغة، فإنّ الكلام الذي تتّسم مفرداته بالجمالية وتخلو من التعقيد يطلق عليه اسم الكلام المنسجم. والانسجام الإسلامي يختلف عن وحدة المذاهب، وهو معادل - بمعنى من المعاني - للتقريب بين المذاهب. فوحدة المذاهب أمر غير ممكن التحقّق؛ وذلك لأنّ الاختلافات التي مضى عليها أربعة عشر قرناً لا يمكن أن تزول بأُسبوع واحد أو شهر واحد أو سنوات عدة، إلّاأنّه في الوقت عينه الذي تختلف فيه المذاهب يمكنها استخراج مجموعة من المشتركات الكثيرة فيما بينها لتنطلق منها في تعاون ضروري وتحصل من خلال ذلك على نتائج باهرة، دون أن تمتنع في الوقت عينه عن تداول القضايا الخلافية في المحافل العلمية - لا في مقبرة البقيع(1) - عبر حوارات مثمرة لتحلّ العالق منها أو تجعل الأفكار متقاربة.

ص:385


1- . إشارة إلى دعايات الوهابيين التي تطرح من قبل البعض في مقبرة البقيع، على أسماع حجاج بيت اللّه الحرام و زائري قبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

التضامن الإسلامي في ظلال المذاكرة والحوار

من المناسب أن أنقل هنا قصّة تتصل بموضوعنا، فقبل سبعة وعشرين عاماً انطلق مجلس الخبراء من هذه النقطة بالذات، والتقى نيّف وسبعون شخصاً هنا، وكنت أنا آنذاك في لجنة (الأحوال الشخصية)، التي تشكّل الفصل الأوّل من الدستور.

وقد كان في لجنتنا المولوي عبد العزيز؛ فسألني: هل تقولون - أنتم الشيعة - بالبداء؟ فأجبت: نعم، قال: والبداء بمعنى الظهور بعد الخفاء، لا يمكن نسبته إلى اللّه فلا يقال: بدا للّه ؟

فأجبت: البداء كلمة تستخدم في موردين:

1. البداء في مقام الثبوت.

2. البداء في مقام الإثبات.

أمّا الذي في مقام الثبوت فيعني أنّ كلّ إنسان يتمكّن من تغيير مصيره بأعماله الصالحة والطالحة، وأن لا يظن بأنّه ليس له سوى مصير واحد، وإنّما يرى أنّ له مصائر عدّة، كي يعرف كيف يحوّل مصيره عبر العمل، فمثلاً هناك عمر محدود للإنسان في لوح المحو والإثبات، إلّاأنّ هذا المصير غير حتمي، إذ بإمكانه تغييره عبر ممارسة صلة الأرحام، فيتمكن من زيادة عمره أو الإنقاص منه بالأعمال التي يقوم بها. وقد يُكتب في مصير الإنسان بلاء أو مرض إلّاأنّه لا يكون حتمياً، إذ يمكنه أن يرفع هذا البلاء عنه بالصدقة.

وهناك عدة آيات وروايات تدلّ على هذا النوع من البداء ذي البُعد الثبوتي، كما أنّ الآية الكريمة: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (1) ناظرة إلى هذا الأمر. وقد أورد جلال الدين السيوطي في تفسيره «الدر المنثور» عدداً من الروايات بهذا المضمون.

ص:386


1- . الرعد: 39.

إنّ أكثر أثر للاعتقاد بالبداء متصل بعالم الثبوت، في مقابل اليهود الذين يعتقدون بعدم إمكان تغيير المصير البشري حتى بالنسبة للّه تعالى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) .(1)

أمّا البداء في مقام الإثبات، فيحمل معنى آخر، وهو أن يُخبر نبيّ أو ولي من أولياء اللّه بخبر ما، غير أنّه لا يتحقق، وهنا لابد أن نعرف أنّ هذا المخبر الإلهي لم يكن كاذباً في خبره، فقد كان مطّلعاً على المقتضيات التي تدفع إلى تحقّق الظاهرة أو الحدث، دون أن يكون مطّلعاً على المانع اللابث في البَيْن، وفي هذا المورد يقال: بدا للّه، تماماً كما في قصة يونس، حيث أخبر بنزول العذاب، وبدت آثاره، عبر ذلك ثبت قول هذا النبي، غير أنّ قوم يونس سلكوا سبيل التوبة بإرشاد من أحد العباد الزاهدين، وتمكّنوا بذلك من إبعاد شبح العذاب الإلهي عنهم، وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة: (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) .(2)

وللبداء في مقام الإثبات موارد معدودة، أحدها ما جرى لقوم يونس، أمّا أنّه لماذا يقولون: بدا للّه، فيما كان سبحانه وتعالى مطّلعاً على تمام زوايا الحدث وأطرافه، أي أنّه كان يعلم بتكذيب قوم يونس وبلعنة يونس عليهم وتهديد مظاهر العذاب لحياتهم وعمرانهم. كما أنّه سبحانه يعلم بأنّهم يسلكون سبيل التوبة، وتنزل الرحمة الإلهية عليهم، وفي هذه الحالة لماذا يقال: بدا للّه ؟ فيما يفترض أن نقول: أبدى اللّه ما أخفاه ؟ فالجواب: هو أنّ البشر يتحدّثون عمّا يرونه، فحيث كان هذا الواقع بنظرهم ظهوراً بعد الخفاء، فإنّ الاستنتاج الأوّلي لهم يصوغونه في جملة: بدا للّه، وإلّا لابدّ من القول - انطلاقاً من العقائد والأُصول المسلّمة -: بدا من اللّه.

ص:387


1- . المائدة: 64.
2- . يونس: 98.

إنّ هذا النوع من الاستعمالات كثير في القرآن الكريم، ونذكر هنا مورداً واحداً؛ حيث يتحدّث القرآن عن المنافقين، فيقول: (وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) (1)؛ فمن المسلّم أنّ عمل المشركين كان حيلةً ، فيما لا يكون عمل اللّه حيلة والعياذ باللّه، وإنّما يبطل سبحانه حيلهم، لكن حيث جرى التعبير عن عملهم بالمكر، بيّن فعل اللّه باستخدام الكلمة نفسها، كي يكون هناك نوع من التناغم والتناسق في الحوار والمجادلة، وهذا ما يسمّى في الاصطلاح البلاغي بالمشاكلة التي تعطي الكلام جماله ورونقه.

ومن هذا المنطلق، عندما تحدث رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن الأشخاص الثلاثة من بني إسرائيل الذين كانوا يتعذبون: واحد بالقرع وآخر بالعمى، وثالث بالبرص، وأنّ اللّه رفع عن كلّ واحد منهم بلاءه؛ فأعطى الأوّل شعراً جميلاً، والثاني عيوناً ناظرة مبصرة، والثالث جلداً نضراً، وعندما لم يشكر بعضهم هذه النعمة الإلهية أخذها اللّه منه؛ لأنّه لم يكن ليقوم بواجباته ومسؤولياته مقابل هذه النعم الربانية، في هذه القصة نجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله يعبّر: «بدا للّه في الأقرع والأبرص...»(2)، والعلّة في هذا التعبير هو ما قلناه قبل قليل.

... عندما سمع عبد العزيز هذا البيان كلّه قال: آتني بكتاب من قدماء الإمامية يفسّر البداء بهذا الشكل الذي ذكرته الآن، وفي تلك الأيام، أتيته بكتاب «أوائل المقالات» مع «تصحيح الاعتقاد» للشيخ المفيد، وذلك عارية من مكتبة مسجد چهل ستون (الأربعون عموداً)، في طهران، وقدّمته له، وبعد ستة أيام أرجع الكتاب لي، وقال: إنّ البداء بهذا المعنى الذي يقوله (المفيد) متّفق عليه بين علماء أهل السنّة كافة.

نستنتج من هذا كلّه، أنّ الحوارات الحميمة الصادقة التي تحكمها الصداقة

ص:388


1- . الأنفال: 30.
2- . صحيح البخاري: 208/4، كتاب الأنبياء، الباب 51.

يمكنها أن تقلّص المسافات وترفع الكثير من الستر الذي يحجب رؤية الحقيقة.

تعاون علماء الفريقين في العصور السابقة

إنّ هذا البُعد والقطيعة الموجودين اليوم بين علماء الشيعة والسنّة كانا أقلّ حجماً في الماضي، وقد ضاعفت العناصر الخارجة عن الأجواء العلمية منها، ووسعت من الانشطار والتشظي، ونمرّ هنا على تاريخ هذا التعاون بين علماء الفريقين:

عصر الصادقين عليهما السلام المنير والتضامن الإسلامي

يعدّ عصر الإمامين: الباقر والصادق عليهما السلام عصر الصراع والتصادم بين الدولتين:

الأموية والعباسية، فحينما كان رجال السياسة مشغولين ببعضهم، كان الجو العلمي مفتوحاً أمام التعاون المعرفي، وقد استفاد منهما عليهما السلام عدد كبير من أعظم شخصيّات فقهاء ذلك العصر، نذكر بعضاً منهم:

1. أبو حنيفة (150 ه.) إمام الحنفية، فقد كان ملازماً للإمام الصادق عليه السلام لعامين كاملين في المدينة المنورة، وهو بنفسه يتحدث عن تأثير هذين العامين عليه، حيث يقول: «لولا السنتان لهلك النعمان».(1)

2. مالك بن أنس (179 ه.) فقيه المالكية، حيث يقول عن الإمام الباقر عليه السلام: لقد رأيت جعفر بن محمد، وكانت الابتسامة على شفتيه، كان عندما يذكر اسم رسول اللّه صلى الله عليه و آله يتغير لونه ويصفر، ولم ينقل حديثاً عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلّاوكان على وضوء، لقد كنت لمدة أكرر الذهاب عنده والتردد عليه، فلم أره إلّاعلى إحدى ثلاث خصال: إمّا مصليّاً وإمّا صائماً وإمّا يقرأ القرآن، وكان من العبّاد الزهاد الذين يخشون اللّه تعالى.(2)

ص:389


1- . التحفة الاثنا عشرية: 8.
2- . التوسل والوسيلة، لابن شمسية: 52.

3. سفيان الثوري (161 ه.) صاحب مذهب فقهي يُنسب إليه، وقد استمرّ مذهبه قائماً حتى القرن الرابع الهجري، وقد نقل الكثير من الروايات عن الإمام الصادق عليه السلام.

4. سفيان بن عيينة (198 ه.) أحد رؤساء المذاهب التي انقرض أنصارها، وكان ينقل روايات عن الإمام الصادق عليه السلام.

هذه نماذج لما أردنا ذكره، وكتب الرجال والتراجم حافلة بالمزيد.(1)

ولم تكن هذه العلاقة لتربط الفقهاء المعاصرين للإمام الصادق والباقر عليهما السلام وتجعلهم يحملون رواياتهما فقط، وإنّما امتدّت لتشمل الفقهاء الكبار في علاقتهم بتلامذة هذين الإمامين، حيث كانت بين الطرفين علاقات علمية وفكرية، فابن أبي ليلى قصد محمد بن مسلم كي يطلع من خلاله على فتاوى وآراء الإمام الصادق عليه السلام، ليتمكّن عبر ذلك من حلّ مشكلاته الفقهية.(2)

وفي سفر الإمام الرضا عليه السلام من المدينة إلى مرو، كان على مسير نيسابور آلاف المحدّثين ينتظرون الإمام الثامن عليه السلام وفي أيديهم القلم والكاغذ، وهناك بالذات سمعوا حديث السلسلة الذهبية حيث ألقاه الإمام عليهم.

ويشير الإمام الفخر الرازي في تفسيره لسورة الكوثر إلى نسل السيدة الزهراء عليها السلام، ويقول: في أيّ أُسرة نجد علماء كبار مثل الباقر والصادق والكاظم والرضا! وفي المجلّد الأوّل من تفسيره، ولدى بحثه عن جزئية البسملة من كلّ سورة ولزوم الجهر بها، ينقل الفخر الرازي رأي الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ويقول: «كلّ مَن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى»، ودليله على ذلك قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «اللّهم أدر الحق معه حيثما دار».(3)

أكتفي هنا بهذا المقدار للتدليل على التعاون المعرفي الذي كان قائماً بين

ص:390


1- . لمزيد من الاطلاع انظر كتاب: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة: 71/1-73.
2- . وسائل الشيعة، ج 12، أبواب أحكام العيوب، الباب 1، الحديث 1.
3- . التفسير الكبير، للفخر الرازي: 204/1.

المذاهب في عصر الأئمة الأربعة، وأسعى - لاحقاً - لبيان هذا التعاون بين علماء الفريقين في عصر الغيبة، منذ عام 260 ه. فما بعد.

1. الكليني في بعلبك

محمد بن يعقوب الكليني، أحد المحدّثين الشيعة البارزين، ولد حوالي عام 255 ه. وتوفّي عام 329 ه.، وقد كتب «الكافي» في حوالي عشرين سنة، وأخذ عنه القميّون الحديث، ثم عزم السفر إلى بغداد، ليعرض هناك كتابه على المحدّثين.

في تلك الأيام، كانت بغداد والكوفة مركز التشيع، ومع ذلك لم يكتف الكليني بما فعل، بل واصل سيره نحو دمشق وبعلبك، وهناك في بعلبك بالذات نقل الحديث عن أُستاذين هما: أبو الحسن محمد بن علي السمرقندي، ومحمد بن أحمد الخفاف النيسابوري.

يكتب ابن عساكر في تاريخه أنّ مشايخه ضبطوا الحديث عن الكليني، ويعمد من ثم إلى نقل حديث عنه بسنده إلى أمير المؤمنين عليه السلام: «إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله».(1)

لقد كان الجو في بعلبك منفتحاً إلى حدّ أن محدّثي الفريقين كانوا يتبادلون الحديث فيما بينهم، وقد أخذوا الحديث من هذا الشيخ الجليل، دون أن يروا أن تشيّعه مانع من أخذ الحديث عنه.

2. الشيخ الصدوق في بلاد ماوراء النهر

يمّم الشيخ محمد بن علي بن بابويه (306-381 ه.) المعروف بالشيخ الصدوق، شطره - لأخذ الحديث - ناحية المشرق الإسلامي، وأقام لسنوات عدة في بلخ وبخارى، ونقل الحديث عن 260 شيخاً من شيوخ الحديث، وقد كان

ص:391


1- . تاريخ ابن عساكر: 298/56.

بعضهم من محدثي أهل السنّة، مثل أبي نصر أحمد بن الحسين الضبّي المرواني(1)، كما نقل عددٌ من محدّثي أهل السنّة عنه الأحاديث، وقد كان بعض مشايخ الخطيب البغدادي، مثل محمد بن طلحة النعالي من تلامذة الشيخ الصدوق، ليس هذا الرجل فحسب، بل هناك آخرون من أهل السنّة أخذوا الحديث عنه.(2)

3. الشيخ المفيد في بغداد

محمد بن محمد بن النعمان العكبري المعروف بالشيخ المفيد (336-413 ه.) أحد العلماء المشهورين في بغداد، لقد كان مشعلاً يضيء على المحيطين به، وقد استفادت الفرق عامتها منه، يقول ابن الجوزي عن درسه: «كان له مجلس بداره بدرب رباح يحضره كثير من العلماء من سائر الطوائف»(3)؛ وما يرشد إلى عمق العلاقة التي كانت تربط الفرق كافة - من الشيعة والسنّة - به وحبهم له، ما يقوله عنه كل من الشيخين: الطوسي والنجاشي، وهما من تلامذته، يقول النجاشي: «وكان يوم وفاته مشهوراً، وصلى عليه الشريف المرتضى بميدان الإشنان، وضاق على الناس مع كبره».(4) ويصف الشيخ الطوسي يوم وفاته فيقول: «كان يوم وفاته يوماً لم يُرَ أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه، وكثرة البكاء من المخالف والمؤالف».(5)

لقد كان الشيخ المفيد وكافة علماء بغداد من الفرق المختلفة يكرّمون العلم رغم اختلافهم فيما بينهم. وكانت تربطهم علاقات وطيدة، فذرف شخص سنّي

ص:392


1- . انظر: علل الشرائع: 134/1، ح 1، الباب 116؛ معاني الأخبار: 56، ح 4؛ التوحيد: 94، ح 11.
2- . كمال الدين: 170.
3- . المنتظم: 157/15.
4- . رجال النجاشي، الرقم: 1067.
5- . الفهرست للشيخ الطوسي، الرقم: 711.

الدموع على موت عالم شيعي كاشف عن عمق العلاقة والارتباط الروحيين.

4. الشريف المرتضى زعيم أهل العراق

يعدّ الشريف المرتضى، علي بن الحسين (355-431 ه.) من أركان العلم في العراق، وقد اعترف الجميع له بالإمامة في الكلام والفقه والتفسير والأدب، فابن بسام الأندلسي يمتدحه في أواخر كتاب (الذخيرة) فيقول: «كان هذا الشريفُ إمام أئمة العراق بين الاختلاف والاتفاق، إليه فزع علماؤها، وعنه أخذ عظماؤها».(1)

5. الشيخ الطوسي وكرسيّ التدريس

وممّا أنتجته يراع الأُستاذين البارزين: المفيد والمرتضى، الشيخ محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385-460 ه.)، إنّنا نجده ينقل في أسانيده عن عالمين سنيّين أخذ عنهما الرواية، وهما: أبو علي بن شاذان، وأبو منصور السكّري.(2)

ويصف الذهبي بيته بمعقل السبّاقين إلى العلم، ويكفينا للإشارة إلى عظمته العلمية أن أعطاه الخليفة العباسي (القائم بأمر اللّه) كرسي الكلام الإسلامي.(3)

6. ابن إدريس الحلّي والتعاون مع الفقيه الشافعي

يخبرنا محمد بن منصور الحلي، المعروف بابن إدريس (543-598 ه.) - و هو عالم بارز مرموق صاحب رأي ومدرسة في الفقه - في كتابه القيّم (السرائر) عن علاقته وتعاونه مع أحد فقهاء الشافعية: «كتب إليّ بعضُ فقهاء الشافعية، وكان بيني وبينه مؤانسة ومكاتبة: هل يقعُ الطلاق الثلاثُ عندكم ؟ وما القول في ذلك عند

ص:393


1- . وفيات الأعيان: 313/3، الرقم: 443، نقلاً عن ابن بسام.
2- . مقدّمة التبيان: 7.
3- . سير أعلام النبلاء، للذهبي: 334/18.

فقهاء أهل البيت ؟ فأجبته...».

لقد عاش ابن إدريس في مدينة الحلّة فيما كان مسكن هذا الفقيه الشافعي هو بغداد أو شمال العراق، إلّاأنّ بُعد المسافة لم يشكل مانعاً من استفادة هذين الفقيهين من بعضهما، ليرجّحا المشتركات على نقاط الخلاف.

7. الشيخ منتجب الدين الرازي ومديح الرافعي القزويني

منتجب الدين أحد علماء القرن السادس، وقد كتب تكملةً على فهرست الشيخ الطوسي، وفي الحقيقة فقد أكمل فهرست الشيخ الطوسي شخصان في وقتٍ واحد: منتجب الدين في الري، وابن شهر آشوب في بغداد أو دمشق.

يعدّ الرافعي القزويني - صاحب كتاب (التدوين) - من المحدّثين الرفيعين لأهل السنّة، ومن مؤرخي القرن السادس، وقد لازم الشيخ منتجب الدين وظل في خدمته فترة طويلة، وأخذ عنه الحديث والعلم، ومن المناسب هنا أن نطالع مكانة هذا العالم الشيعي على لسان تلميذه، إنّه يعرّف أُستاذه في كتاب (التدوين) كما يلي: «شيخ ريّان من علم الحديث سماعاً وضبطاً، يكتب ما يجد ويسمع ممّن يجد، ويقلّ من يدانيه في هذه الأعصار في كثرة الجمع والسماع والشيوخ الذين سمع منهم وأجاز لهم، وله كتاب الأربعين، وقد قرأته عليه بالريّ سنة 584 ه.».(1)

8. فخر المحقّقين ومديح صاحب القاموس

فخر المحقّقين محمد بن الحسن بن يوسف، أحد فقهاء القرن الثامن الكبار، إنّه ابن الحسن بن يوسف المعروف بالعلامة الحلّي، وقد كان هذا الولد عزيزاً ومحترماً جداً عند والده، لهذا كتب الوالدُ جملةً من مؤلفاته بناء على طلبٍ منه ورغبة، وفي آخر كتاب (قواعد الأحكام) سجّل وصيّته لولده وهي وصية تحوز

ص:394


1- . التدوين في أخبار قزوين: 372/3.

على قدر عالٍ من الأهمية من الناحية الاجتماعية والأخلاقية.

هذا من جانب ومن جانب آخر، يصنّف الفيروزآبادي، صاحب كتاب (القاموس المحيط) من الأدباء اللامعين في القرن الثامن الهجري، ويصنّف كتابه هذا مرجعاً لكتّاب القواميس اللغوية الذين جاؤوا بعده.

أجاز الفيروزآبادي لأحد تلامذته - المعروف باسم ابن الحلواني - نقل كتاب (التكملة)، ويخبره بأنّه أخذ هذا الكتاب عن أُستاذه ورواه عنه، ذاكراً سنده لمؤلّف التكملة.

وفي هذه الحال، يصف الفيروزآبادي فخر المحقّقين بالقول: «بحر العلوم وطودُ العلى، فخر الدين محمد بن الشيخ الإمام الأعظم برهان علماء الأُمم، جمال الدين أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر بحقّ روايته عن والده».

هل هناك تبادلاً علمياً وتعاوناً معرفياً أكثر من هذا؟ وهل يمكن أن يكون هناك أوضح من هذا في واقعية تقييم الآخرين ؟

9. الخواجه نصير الدين الطوسي ونجاة العلماء

نفذ المغول من المشرق إلى داخل البلاد الإسلامية، وشرعوا بحملتهم عام 606 ه. واحتلوا بغداد عام 656 ه.، ومنذ بداية الحرب خربوا المدن والقرى التي مرّوا بها وارتكبوا فيها المجازر الجماعية، وعلى امتداد مسيرهم أبادوا مظاهر الحضارة الإسلامية، ولذا اختفى الكثير من العلماء والمفكّرين ولجأوا إلى أماكن ونقاط بعيدة قاصية، وعندما وصل المغول إلى بغداد لم يرحموا الصغير ولا الكبير ولا السنّي ولا الشيعي، ولم تمض أيام إلّاوغرقت المنطقة في مسلسل إعدامات واسع النطاق، ورموا بكتب علماء الإسلام في نهر دجلة حتى غدا ماؤه أسود.

وفي هذه الفترة كان نصير الدين الطوسي أسيراً في يد الإسماعيليين عند فتح قلعة ألموت، وسقط أسيراً في يد المغول، وحيث بلغهم علمه بالنجوم والرياضيات، وكانت هذه العلوم مرغوبة لدى هولاكو، حفظوه تحت أيديهم في

ص:395

بغداد، وقدّموا له الاحترام، وقد تمكّن بخبرته ودرايته من دعوة الكثير من العلماء من أماكن اختبائهم، وأعاد بناء الحضارة الإسلامية بتأسيسه مرصداً في مراغة.

لم يكن نصير الدين يعرف في العلاقات العلمية والفكرية سنّياً ولا شيعياً، لأنّه كان لا يميّز بينهما، فقد أخذ العلم من أُستاذٍ سنّي المذهب اسمه: كمال الدين ابن موسى، كما تعلّم العديد من علماء أهل السنّة على يديه فبلغوا مكانةً مرموقة في سماء المعرفة، ويكفينا أن نعرف أنّ قطب الدين الشيرازي، وشهاب الدين الكازروني، وأبا الحسن علي بن عمر الكاتبي القزويني - مؤلّف كتاب الشمسية - من خريجي مدرسة الطوسي.

وقد حظي كتابه «تجريد الاعتقاد» باهتمام مختصّي علم الكلام الإسلامي، وبعد العلّامة الحلّي الذي يعدّ أوّل شارح لهذا الكتاب، قام عدد من العلماء السنّة بشرحه أيضاً، مثل شمس الدين البيهقي، وشمس الدين الإصفهاني، وعلاء الدين القوشجي.

ويكتب ثالث هؤلاء الشراح في مقدّمة شرحه يحدّثنا عن هذا الكتاب بشكل مثير للدهشة، مما يجدر بطلاب المعرفة والراغبين مراجعته، وهذه بعض كلماته.

يقول: «تصنيف مخزون بالعجائب، وتأليف مشحون بالغرائب، فهو وإن كان صغير الحجم وجيز النظم، لكنه كثير العلم، عظيم الاسم، جليل البيان، رفيع المكان، حسن النظام، مقبول الأئمة العظام، لم يظفر بمثله علماء الأعصار، ولم يأت بمثله الفضلاء في القرون والأدوار، مشتمل على إشارات إلى مطالب هي الأُمهات، مشحون بتنبيهات على مباحث هي المهمات، مملوّ بالجواهر كلّها كالفصوص، ومحتوٍ على كلمات يجري أكثرها مجرى النصوص، متضمّن لبيانات معجزة في عبارات موجزة...».(1)

ص:396


1- . شرح التجريد للقوشجي: 1.

10. العلّامة الحلّي ومختصر ابن الحاجب

يصنّف ابن الحاجب (المتوفّى 646 ه.) من أُدباء القرن السابع ومن أُصوليّي عصره، وقد غدت ثلاثة من كتبه محاور للتدريس والشرح، وهي:

1. الشافية، في الصرف.

2. الكافية، في النحو.

3. مختصر الأُصول، في علم أُصول الفقه.

وقد شرح الكتابين الأوّلين رضي الدين الاسترآبادي، وكان شرحاه لامعين في سماء اللغة والأدب، يقول جلال الدين السيوطي: بعد الرضي كل من جاء كان يعتاش على فتاته.

أمّا الكتاب الثالث لابن الحاجب فقد ظل كتاباً دراسياً في الحوزات الشيعية، وقد درّسه المغفور له المحقق الأردبيلي لتلميذيه: صاحب المدارك، وصاحب المعالم، ووقع الكتاب موقع القبول والترغيب من جانب علماء أُصول أهل السنّة، وتعدّت شروحاته الأربعين شرحاً. ومن الوسط الشيعي كانت للعلّامة الحلي مساهمة علمية كريمة، فقد كتب شرحاً علمياً تحقيقياً عليه، يقول فيه ابن حجر: «في غاية الحسن في حلّ ألفاظه، وتقريب معانيه...».(1)

إلى هنا، نكون قد مررنا سريعاً على بعض جوانب التعاون العلمي بين الفريقين، حتى القرن السابع، وقد كان هذا التعاون على مستوى العلماء والمفكرين، رغم أنّه على مستويات أُخرى ثمة من أوقد نار الفتنة فأوجد المشكلات للعلماء أنفسهم.

ونكون بما عرضناه قد عرضنا جانباً من مشهد التعاون بين علماء السنّة والشيعة، إلّاأنّ شرح حال هذه العلاقة المتبادلة في القرون اللاحقة يطيل بنا المقام ويزيد في الكلام، لهذا نصرف - فعلاً - النظر عنه، ولنطل على هذا التعاون المعرفي

ص:397


1- . الدرر الكامنة: 71/2.

بين الفريقين في القرن الرابع عشر الهجري، وبشكل موجز.

11. العلّامة هبة الدين الشهرستاني قدس سره (1301-1386 ه) انّ لهذا السيد الجليل خدمات جليلة في نشر الإسلام عن طريق الرسائل والمقالات والكتب والموسوعات، ومن آثاره القيّمة كتابه المعروف ب «الهيئة والإسلام» فإنّه بحق أثر جليل وتصنيف بلا مثيل، كشف فيه الغطاء عن نظرية الإسلام فيما يتعلّق بشأن الأرض والسماء، وقد كان الفلكيون من المسلمين معتقدين بما جاء به بطليموس في ذلك المجال وصاروا يفسرون الآيات والروايات وفقاً لهذه النظرية، ويواجهون في ذلك صعوبة لا توصف.

كانت هيمنة النظرية البطليموسية حاجبة بينهم وبين الرؤية الواقعية للإسلام في مجال الفلكيات، إلّاأنّ السيد الشهرستاني رحمه الله تجرد عن تلك النظرية ونظر إلى الآيات والروايات متخلّياً عن رأي مسبق فرأى أنّ ما جاء به الإسلام في الكتاب والسنّة هونفس ما أثبته العلم الحديث بفضل المراصد والحسابات الرياضية الفلكية.

ولمّا خرج الكتاب من الطبع وانتشر في العراق وخارجه تواترت التقاريظ وكتب الثناء والتقدير على الكتاب ومؤلّفه من علماء الإسلام كافة، وممّن قرّظه من علماء السنّة في العراق، شيخ علماء بغداد في عصره، وكبير أعلام أهل السنّة في مصره، العلّامة السيد محمود شكري بن عبداللّه بن أبي الثناء الآلوسي البغدادي(1)(المتوفّى 1342 ه) إذ جاء في رسالته خطاباً إلى السيد المؤلف:

«إنَّ صريح المعقول لا يخالف صحيح المنقول، فكان ما ظهر لدى المتأخّرين من الآراء كالشرح لما جاءت به الشريعة الغراء، لا سيما ما يتعلق بشأن الأرض والسماء؛ وقد كان هذا السرُّ مكتوماً عن الناس، خفياً على أفهام كثير من الأكياس،

ص:398


1- . كتاب العلوي: 45، نقلاً عن مجلة (العلم) (المجلد الثاني، ص 95-96، شعبان 1329 ه، 27 تموز 1911 م).

حتى قيّض اللّه تعالى لكشفه فرع الشجرة الهاشمية، وغصن الدوحة العلوية، فخر الأكابر والأعاظم، وذخر السادة الأكارم، جامع مجامع الأخلاق الحميدة، حاوي محاسن الصفات السديدة، محيي دارس المجد والرئاسة، مقوم أود العز، بما أحكم به أساسهُ ، علّامة عصره وفهامة مصره، المصلح الشهير، والفطن النحرير؛ هبة الدين السيد محمد علي الشهرستاني لا زال مؤيداً بالتأييد الرباني، وفَتَحَ مُقْفَل السرّ.. وفَتَح البابَ وأصبح وله يدٌ بيضاء على الأُمّة الإسلامية ومَجْدٌ مخلد من بين أعلام أئمة الإمامية»(1).

وللسيد الشهرستاني رحمه الله مراسلات مع علّامة الأزهر الشيخ محمد رشيد رضا، وهو من تلاميذ المصلح الشيخ محمد عبده (المتوفّى عام 1323 ه)، وقد نشر ما أملاه عليه أُستاذه على صفحات مجلة المنار، ثم جمع ما نشره وسمّاه بتفسير المنار، وقد أدخل ضمن دروس إمامه وأُستاذه ما ليس منه.

ومع ذلك فللرجل مقام سام بين الأزهريين، وله كتاب «الوحي المحمدي» الذي كان له صدى واسعاً يوم نشر، وكان بينه وبين السيد هبة الدين الشهرستاني

ص:399


1- . السيد محمود شكري الآلوسي البغدادي ابن السيد عبداللّه ابن المفسر الشهير السيد محمود شهاب الدين أبي الثناء صاحب (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) (المتوفّى 1270 ه) كانت ولادته في بغداد في دار جدّه الكبير السيد أبي الثناء، المجاورة لجامع الشيخ العاقولي في محلة (الحيدرخانة) وموضعها في السنين الأخيرة مدرسة التفيض، وكانت هذه المحلة تعرف في أيام العباسيين ب (درب فراشا) و (درب الخبازين). والسيد محمود شُكري - ويقال له (شكري أفندي) أيضاً -: كان من أكابر علماء زمانه على مذهب أهل السنة، وله تلامذة كثيرون، منهم: العلّامة الشيخ بهجة البغدادي المعروف ب (الأثري)، وهو آخر من مات من تلامذته إذ كانت وفاته في سنة 1416 ه وولادته في سنة 1320 ه. ومن أشهر مؤلفات الآلوسي: (بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب) الّذي قال فيه يصف (نهج البلاغة) - مع تعصّبه وتعنّته -: (هذا كتابُ نهج البلاغة قد استودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب سلام اللّه عليه ما هو قبسٌ من نور الكلام الإلهي، وشمسٌ تضيءُ بفصاحة المنطق النبويّ ) - والحقُّ ينطق منصفاً وعنيداً - راجع (3/180) من (بلوغ الأرب) - باب خطب أهل الصدر الأوّل من الإسلام -، وقد عاش هذا العالم حصوراً فلم يتزوج.

علقة وطيدة تظهر من رسالة السيد إليه، وقد كتب الأُستاذ رشيد رضا رسالة إليه وأجاب عنها السيد الشهرستاني بما هذا نصّه:

حضرة العلّامة الكامل شيخ المصلحين الأفاضل سماحة الأُستاذ محمد رشيد أفندي رضا الأفخم - مد ظله -

بعد إهداء أسنى سلام وأزكى تحية إلى تلك الحضرة القدسية، أدامها ربّ البرية وبث الأشواق الخالصة القلبية.

نرجو من سيادتكم:

أوّلاً: أن تتفضّلوا علينا بالإخبار عن صحّتكم وسلامة مزاجكم الوهّاج، وتبشرونا باستقامة أحوالكم وطيب خاطركم العاطر.

وثانياً: أنّه بأسعد وقت حظوت بمُشرِّفكم المؤرخ 19 ربيع الأنور [1330 ه] فتناولته بيد المسرة والاحترام وتطاير قلبي فرحاً من إشعاره بتشريفكم في رحلتكم هذه الميمونة إلى بلادنا لزيارة أجدادكم وإخوانكم وإنْ هي إلّابشارة عظيمة، ولا شك أنّ محلنا يتشرف بنزول أجلالكم فيه، إذ هو في الحقيقة محلكم، والمخلص خادمكم ما دمتم مشرفين وينبغي لسيادة الأُستاذ دام ظله أن لا يقطع عنّي خبره ويبشرني بزمان تشريفه إلى قطرنا إن استقر عليه رأيه، وهذه واللّه نعمة غير مترقّبة تستوجب الشكر الجزيل.

وحيث إنّ رقيمكم الزاهر شرّفني في أوّل أمس ولا يبلغكم الجواب حسب الظاهر إلّافي أواسط الشهر المقبل، فلا شك انّ كتابتي إليكم فيما يتعلق برحلتكم في الهند غير مجدية، ولكنّي أحاول الفرص فإن أباحها لي التوفيق فلربما سافرت إلى البصرة استقبل تشريفكم إذا تحقّق إن شاء اللّه.

ولو صرفتم النظر (فرضاً) عن تشريف العراق فعرفوني عن ذلك أيضاً فإن ذلك يهمني كما يهمني معرفة زمان ورودكم....

تحرير أقل خدّام الإسلام السيد هبة الدين الشهرستاني

16 شهر ربيع الثاني 1330 ه

ص:400

***

وله رسالة أُخرى إلى الأُستاذ رشيد رضا، نتشرف بنقلها في المقام

بسمه تعالى

سيدّي العلّامة أدام اللّه أيّامه

مرحباً بكم وأهلاً وسهلاً، ما كان أجمل ذلك النبأ الّذي بلغني فيه قدومكم، ولكن وا أسفاه لو تمّ السرور فقد كنتُ متشوقاً لطلعتكم مُترقباً ورودكم أنا وسائر العلماء والأُدباء المخلصين لكم على البعد والذين تهيئوا وتهيئنا معهم للقائكم، وعسى أن يكون العذر الّذي قعد بكم عن الورود على هذه البلاد قد عافاكم اللّه منه ولو كان سلك البرق غير منقطع بيننا وبين بغداد لجعلت المخابرة تترى استعلاماً لأحوالكم واستكشافاً لنياتكم قدّر اللّه الاجتماع بكم، وها أنا ذا بعد أن علمت أنّكم ألقيتم عصى التسيار في بغداد ناهض إليكم متحرك إلى حيث أنتم على كثرة أشغال وتشويش بال، ولكن لقياكم ومشاهدتكم هما أعزّ عندي من كل شيء، وقد جعلت حركتي بكرة - أي يوم السبت - لأنّ هذا اليوم عندنا يوم نفير البريد العام هذا ما لزم عرضه، وسلامي لمقام السيد النقيب نقيب الأشراف المُعظّم وأولاده الكرام.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

المخلص هبة الدين الحسيني الشهرستاني

النجف 28 جمادى الآخرة 1330 ه

وله رسالة ثالثة أرسلها إليه من الهند، هذا نصّها:

من آتاو بالهند 24 شهر رمضان سنة 1331 ه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

سيدنا العلّامة المصلح دامت إفاضاته

بعد إهداء أسنى السلام وأزكى التحية، وبث الأشواق الخالصة القلبية لحضرتك البهية، فإنّ هذا المشتاق تشرف من عهد بعيد بزيارة كتابك الكريم،

ص:401

وقد أشغله عن المواظبة على التراسل جملة أُمور منها لوازم السفر ومهمات الحل والترحال، حيث إنّي لا أُقيم في بلد أكثر من أُسبوعين، ومنها عروض الأسقام والحميات غالباً بسبب اختلاف أهوية البلاد ومغايرة البيئة الهندية لظواهر البنية العراقية، ومنها اشتغالي بالمذاكرات والتقريرات الخصوصية والعمومية الدائرة على قطبي الإرشاد العام نحو الإصلاحات والحث على تقوية أمر الدعوة الإسلامية دحضاً لمساعي دعاة النصرانية، ومنها تحريري لأجوبة المسائل الواردة عليّ علاوةً على اشتغالي بتحرير المقالات الفارسية تحت عنوان (قفان اسلام) ولا مقصد لي فيها غير الحث على الدعوة ومعارضة دعاة النصرانية بقوة اجتماعية إسلامية تتجلّى في كسوة المدارس والمجالس والمطبوعات والمجتمعات، وقد شرع الإخوان في طبع تلك المقالات في كتاب مستقل بالفارسية، كما شرعوا في ترجمتها إلى اللغة الهندية وسوف أهديهما إلى إدارتكم الزاهرة بعد نجازهما.

مضافاً إلى انتشار هاتيك المقالات في بعض صحف الهند الفارسية والأُردوية. وبالجملة ليس الغرض من ذكر هذه الأُمور إظهار خدماتي الإسلامية لأنّ أعداءنا يخدمون باطلهم أكثر من هذا، بل المقصود أن يعذرني حضرتك السّامية. إذا أنا أبطأت في المكاتبة.

ثم إنّي مقدّم إلى مجلتكم الغراء كتابي في أجوبة مسائل اقترحها عليّ جلالة الملك العربي السيد فيصل بن تركي سلطان عمان - دام في عز وأمان - عسى أن تحظى بالقبول فينشر على صفحات المنار الزاهية، ويطبع مع ذلك كرسالة مستقلة نظراً إلى ما فيها من المسائل المستطرفة والأبحاث التفسيرية المناسبة لخطة المنار الأغر، ومتى طبعتموه كتاباً مستقلاً فأخبروني عنه سريعاً حتى اشتري من نسخه نحواً من خمسين نسخة لأوّل وهلة أُوزعها على طالبيه من أحبتي الهنديين، وليكن الجواب عن ذلك سريعاً في البريد المتعهد بهذا العنوان.

وممّا استظرفت ذكره لكم من حيل دعاة النصرانية إنّي مررت بمجتمع عظيم في منتزه (بارابنكى) وإذا بقسٍ يدعو إلى اعتناق المسيحية، ثم خرج من الجماعة

ص:402

رجل في زي أُوروبي وذكر للناس أنّه جاب البلاد وفتّش عن الأديان فلم يجد خيراً من النصرانية، ثم بايع ذلك القس وجلس بجنبه، ثم خرج من الجماعة رجل في زي العرب وذكر للناس أنّه رجل من أهل مكة على مذهب الحنفي قد ساح البلدان طلباً لأصحّ الأديان فلم يجد كالنصرانية نطق بهذه الشهادة وبايع القس وجلس بجنبه، ثم خرج من الجماعة رجل في زي العجم وذكر للناس أنّه شيعي خرج من كربلاء يفتش الدين الصحيح من أديان العالم فلم يجد مثل دين المسيح نطق بهذه الشهادة وبايع القس وجلس بجانبه، ثم خرج من الجماعة رجل هندي وذكر للناس أنّه وثني خرج من بلده (اجودهيا) وتصفح المذاهب فلم يجد كالمسيحية ثم بايع القس وجلس بجنبه، ولما دقّقت النظر في أمرهم وجدت ذلك منهم حيلة يريدون اغتيال العامّة البسطاء بذلك، والأربعة كانوا جميعاً هنود متنصّرين من زمن طويل، إذ لم يكن الّذي ادّعى أنّه عربي حنفي يعرف شيئاً من العربية ولا فيه شمائل العرب، وكذلك الذي ادّعى أنّه شيعي أعجمي لم يكن عارفاً بالعجمية ولا فيه شمائلهم، ولو كان معي أصحابي أو كنت ماهراً في اللغة الهندية لعارضتهم أتمّ المعارضة، لكنّي خشيت الفتنة مع غربتي وانفرادي، وعدم معرفتي محاورات الهنود كاملةً وغلب عليّ الذهول والتحير من هذه الحيلة المعجبة الّتي يقصر عنها دهاء إبليس.

ثم السلام التام عليكم وعلى الأخ السيد صالح رضا ورحمة اللّه وبركاته

تحرير أقل خدام الإسلام هبة الدين

الشهرستاني النجفي

صاحب مجلة العلم

هكذا يجب أن يكون العلماء الذين تنبض قلوبهم بحفظ الوحدة وتقريب الخطى ورأب الصدع وجمع الشمل انطلاقاً من قوله سبحانه: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ

ص:403

اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) (1).

12. السيد الجليل عبدالحسين شرف الدين العاملي رحمه الله (المتوفّى 1377 ه.) الّذي يهدف في كل أثر حبّره يراعه إلى تماسك المسلمين وتعاونهم وتمسّكهم بالكتاب والسنّة، فترى أنّه يؤلّف كتاباً باسم: «الفصول المهمة في تأليف الأُمّة» وهو من أجلّ الكتب الكلامية، تناول فيه مسائل الخلاف بين الطائفتين على ضوء العقل والاستنتاج والتحليل، وقد ألفه في أيّام شبابه، وتمّ في عام 1327 ه.

لمّا كان باب الحوار بين أعلام السنّة والشيعة غير مفتوح في الأعصار الأخيرة نهض السيد الراحل إلى فتحه من جديد عن طريق المكاتبة مع أحد أعلام أهل السنّة، أعني: الشيخ سليم البشري (1284-1335 ه) شيخ الأزهر في عصره، وذلك بعدما هبط مصر أواخر عام 1329 ه مؤملاً في ذلك تحقيق الأُمنية الّتي أمّلها، فوجد تربة مصر تربة خصبة بالعلم والذكاء، وقد جمع الحظ السعيد بينه وبين أحد أعلامها المبرزين المتميزين: «بعقل واسع، وخلق وادع، وفؤاد حيّ ، وعلم عيلم، ومنزل رفيع» كما عبر رحمه الله في مقدّمة مراجعاته وهو يصف لقاءه معه بقوله: «شكوت إليه وجدي، وشكا إليّ مثل ذلك وجداً وضيقاً، وكانت ساعة موفقة أوحت إلينا التفكير فيما يجمع اللّه به الكلمة، ويلمّ به شعثَ الأُمّة، فكان ممّا اتفقنا عليه أنّ الطائفتين - الشيعة والسنّة - مسلمون يدينون حقاً بدين الإسلام الحنيف، فهم فيما جاء الرسول به سواء، ولا اختلاف بينهم في أصل أساسي يفسد التلبّس بالمبدأ الإسلامي الشريف...».

فترتّب على ذلك اللقاء الجميل مكاتبات ومراجعات بلغ عددها 65 مراجعة، أي أنّ السيد قد تلقّى خمساً وستين سؤالاً من شيخ الأزهر ليجيب عليها، وقد أجاب بعدد الأسئلة، فصار المجموع كتاباً علمياً تاريخياً حديثياً كلامياً كان له صدى واسع عندما طبع عام 1355 ه.

ص:404


1- . آل عمران: 103.

يُشار إلى أنّ المتحاورين لم يخرجا عن أدب الإسلام وأدب المناظرة قيد شعرة، بل أنّهما تبادلا عبارات التقدير والاحترام، وهذا ما نلمسه في ثنايا كلامهما، فهذا شيخ الأزهر يبدأ مراجعته الأُولى بقوله: «سلام على الشريف العلّامة الشيخ عبدالحسين الموسوي ورحمة اللّه وبركاته» ثمّ إنّه يكتب في ثنايا تلك المراجعة:

وإنّي لواقف على ساحل بحرك اللجي، استأذنك في خوض عبابه والغوص على درره، فإن أذنت غصنا على دقائق وغوامض تحوك في صدري منذ أمد بعيد، وإلّا فالأمر إليك، وما أنا فيما أرفعه بباحث عن عثرة، أو متبع عورة، ولا بمفند أو مندد، وإنّما أنا نشّاد ضالة، وبحّاث عن حقيقة، فإن تبيّن الحقّ فإنّ الحق أحق أن يتّبع، وإلّا فأنا كما قال القائل:

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف

فبادله السيد رحمه الله الجواب الجميل وقال: «رميتني بآمالك ونزعت إليّ برجائك، وأنت قبلة الراجي، وعصمة اللاجي، وقد ركبت من سوريا إليك ظهور الآمال، وحططت بفنائك ما شددت من الرحال، منتجعاً علمك، مستمطراً فضلك، وسأنقلب عنك حي الرجاء، قوي الأمل، - ثم يقول له -: فسل عمّا أردت، وقل ما شئت، ولك الفضل، بقولك الفصل، وحكمك العدل».(1)

هكذا كان العلمان في سماء الأدب، وهذا هو تقديرهما لحقوق كلا الطرفين.

13. السيد آية اللّه العظمى محمد حسين البروجردي (1292-1380 ه) من مراجع الشيعة العظام، وهو من دعاة التقريب وعماده، وقد ورث فكرة التقريب عن أُستاذه السيد محمد باقر الاصفهاني (المتوفّى عام 1342 ه)، ويعلم مدى دعمه لمسألة التقريب أنّه قد كان للسيد مساهمة فعالة في تأسيس دار التقريب بين المذاهب، ودعم المعنيّين بتأسيسها من دون فرق بين السنّة والشيعة، وقد كان على صلة وثيقة بأخبار دار التقريب عن طريق مندوبه، أعني: الأمين العام لجماعة

ص:405


1- . المراجعات: الأُولى والثانية.

دار التقريب، الشيخ محمد تقي القمي، كلّ ذلك يدلّ على شدة اهتمامه بأمر التقريب ولمِّ شمل الأُمّة كسائر روّاده من معاصريه، نظير: الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (المتوفّى 1373 ه) والسيد عبدالحسين شرف الدين العاملي (المتوفّى 1377 ه) وغيرهم من أقطاب التقريب.

ولم يقتصر نشاطه على متابعة أخبار دار التقريب فحسب، بل أنّه قدس سره راح يراسل شيخ الأزهر عبدالمجيد سليم لمّا بعث إليه برسالة يستفسر فيها عن صحّته بعدما سمع من المذياع أنّ صحته قد تدهورت، وقد اغتنم السيد الفرصة وبعث بجواب إليه، وإليك نصّ رسالة شيخ الأزهر:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

حضرة صاحب السماحة آية اللّه الحاج آقا حسين البروجردي

سلام اللّه عليكم ورحمته

أمّا بعد: فقد بلغنا - عن طريق المذياع - أنّ صحتكم الغالية قد ألمّ بها طارئ من المرض، فأسفنا لذلك أشدّ الأسف لما نعرفه فيكم من العلم والفضل والإخلاص للحق، وإنّا لنسأل اللّه جلّت قدرته أن يعجل بشفائكم، ويلبسكم لباس العافية، حتى تتمكّنوا من العود الحميد إلى نشاطكم المعهود في خدمة الإسلام والمسلمين.

ولقد شاءت إرادة اللّه أن أكون أنا أيضاً في هذه الفترة مريضاً معتكفاً في بيتي أحمل همّين ممضّين: همّ نفسي وهمّ قومي، وأطيل التفكير حالياً في حال أُمّتنا العزيزة، فيأخذني من القلق والحزن ما اللّه به عليم، فأرجو أن تسألوا اللّه لي العافية كما أسأله لكم، واللّه يتولّانا جميعاً برحمته.

إنّ الأُمّة الإسلامية الآن، أحوج ما تكون إلى رجال صادقي العزم، راجحي الوزن، يجاهدون في اللّه حقّ جهاده، ليدرأوا عنها غوائل الفتن، ونوازل المحن، فقد تألّبت قوى الشر، وتجمّعت عناصر الفساد، وزلزل المؤمنون في كلّ قطر من أقطارهم زلزالاً شديداً، وكأن قد أتى الزمان الّذي أنبأ الصادق الأمين - صلوات اللّه

ص:406

وسلامه عليه وعلى آله وصحبه -: أنّ القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، وإنّما مثل أهل العلم من المؤمنين الصادقين كأطواد راسية أو حصون منيعة ألقاها اللّه في الناس أن تميد بهم الأرض من فتنة أو جهالة، أو كنجوم ثاقبة في ليل داج، ترشد السارين، وتهدي الحائرين. فادع اللّه معي أن يحفظ هؤلاء ويكثر في الأُمّة منهم، وينشر عليهم رحمته، وينزل عليهم سكينته، ويؤيد بهم الحقّ والدين، ويهزم بهم المبطلين والملحدين والمفسدين، إنّه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

14 من شعبان سنة 1370 ه(1)

ولمّا وصلت رسالة شيخ الأزهر إلى السيد الراحل أجابه شاكراً عواطفه تجاهه، وقال:

حضرة صاحب الفضيلة الأكبر الشيخ عبدالمجيد سليم

شيخ الجامع الأزهر - دامت إفاضاته -

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أمّا بعد - فقد بلغنا كتابكم الكريم الحاوي للعواطف الإسلامية السامية، يحكي لنا أنّه لمّا بلغكم عن طريق المذياع أنّ صحّة هذا العبد قد ألمّ بها طارئ من المرض، أسفتم لذلك، ودعوتم اللّه تعالى أن يعيد له الصحة.

فأشكركم على ذلك، وأسأل اللّه تعالى أن يبدّل التعارف والتعاطف بين المسلمين، ممّا كان بينهم من التناكر والتدابر والتقاطع، إنّه على ما يشاء قدير.

ويحكي كتابكم أيضاً، أنّه قد ألمّ بصحتكم الغالية طارئ من المرض، كما ألمّ

ص:407


1- . رسالة الإسلام: العدد الثالث من السنة الثالثة. وليست هذه الرسالة، الرسالة الوحيدة الّتي تم تبادلها بين شيخي السنّة والشيعة، بل ثمّة رسالة أُخرى كتبها الشيخ عبد المجيد سليم إلى السيد في جواب رسالة شفوية حملها إليه الأمين العام لدار التقريب، وقد نُشر الجواب على صفحات مجلة رسالة الإسلام العدد الثاني من السنة الرابعة عام 1371 ه.

بي، فاعتكفتم في البيت حاملين لهمين ممضين: همّ نفسكم، وهمّ قومكم، وأنّ إطالة التفكير في حالة الأُمّة، توجب لكم من القلق والحزن، ما اللّه به عليم.

هكذا ينبغي أن يكون رجال العلم ورجال الإسلام، مهما حاقت بالمسلمين زلازل الفتن، وأحاطت بهم نوازل المحن، فأسأل اللّه عزّ سلطانه، أن يلبسكم لباس العافية، ويوفقكم لخدمة الإسلام والمسلمين، ولما يوجبه الاهتمام بأمر الأُمّة في مثل هذا الزمان، من أمثال جنابكم الذين وقفوا أنفسهم لخدمة هذه الأُمّة، ودرء عوادي المفسدين والملحدين عنها، إنّه قريب مجيب.

إنّ هنا أُموراً كنت أحب إبداءها لكم، لكن حالي لا تساعدني على ذلك.

والسلام عليكم وعلى من أحاط بكم من المؤمنين الصادقين ورحمة اللّه وبركاته

17 من رمضان سنة 1370 ه.(1)

كان السيد يتحيّن الفرص بين حين وحين لأن يدعم موقف التقريب، ومن نماذج ذلك:

إنّ الملك سعود بن عبدالعزيز زار إيران وأرسل بهدية سنية للسيد البروجردي، وقام السيد ببعث كتاب إلى سفير المملكة السعودية في طهران كإجابة لما أُهدي إليه، وقد أشار في ذلك الكتاب إلى أنّ مسألة الحجّ من أهم مظاهر الوحدة، فللمسلمين أن يؤدّوا مناسك الحج وفق الحديث الّذي رواه مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وقد دعا اللّه عز شأنه في ختام الرسالة أن يؤلِّف بين قلوب المسلمين، ويجعلهم يداً واحدة على من سواهم.

14. السيد محمود شكري الآلوسي البغدادي (المتوفّى 1342 ه) من أكابر علماء زمانه، من أشهر مؤلفاته (بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب)، وقد كانت

ص:408


1- . رسالة الإسلام: العدد الثالث من السنة الثالثة.

بينه وبين العلّامة الحجة الشيخ أبي عبداللّه الزنجاني مؤلف كتاب «تاريخ القرآن» وغيره، علائق وطيدة، وزيارات متبادلة، ومراسلات متواصلة.

وقد كتب العلّامة الزنجاني إلى عالم بغداد رسالة يسأله عن كتاب النبات والرسالة ليست بأيدينا ولكن قد وافاه الجواب من الآلوسي، والّذي سنورده فيما يلي، ليتعرف القارئ على مدى العلاقة الطيبة بين العلمين من خلال عبارات الود والاحترام.

وعندما نشر العلّامة الزنجاني محاضراته في تاريخ القرآن، قرظه أحمد أمين المصري وقدّر جهوده في هذا المصنّف، كما أنّ السيد محمود الآلوسي قد ثمّن هذا الكتاب، الّذي أصبح يُعدّ من الكتب الّتي ردّت على ما جاء في كتاب «فصل الخطاب».

وإليك رسالة الآلوسي وهي موجودة في مكتبة العلّامة الزنجاني، وقد أرسل مصورتها إلينا نجله دام مجده.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إلى فخر العلماء وعمدة الفضلاء حضرة الشيخ أبي عبداللّه الزنجاني أمدّه اللّه بفيض لطفه الربّاني

سلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أمّا بعد: فقد شرّفنا كتابكم وسرّنا خطابكم وحمدنا اللّه على بشرى سلامتكم، وكمال صحتكم، لا زلتم كذلك على الدوام موفوري الآلاء والانعام، وقد أبهجني ما أخبرتم عنه من فحصكم عن كتاب «النبات» ووعدكم بتبشيرنا بالعثور عليه، حقّق اللّه تعالى ذلك بمساعيكم المشكورة وهممكم المذكورة، وقد سرّني أيضاً ماتفضّلتم به من أسماء نوادر الكتب والمصنّفات السلفية الّتي هي من تحف الزمان ونوادره وفي الحقيقة إنّه لا غناء لطلاب العلم عن جميعها، غير أنّها ممّا لا يلقاها إلّاذو حظ عظيم، ونحن نكتفي منها إذا أمكن استكتاب مقاييس اللغة فقط بواسطة كاتب مجيد على شرط أن نقدم ما يصرف عليه من الأُجرة، وإن كان في

ص:409

ذلك كلفة على ذلك الجناب، وإتعاب لفكركم.

وأمّا ما أخبرتم به أنّكم بذلتم السعي لإلقاء محاضرات في شؤون القرآن العظيم وإنكار التحريف فجزاكم اللّه عن ذلك خير الجزاء وأمدّكم بالتوفيقات الإلهية، عسى اللّه أن يغلق بجهادكم هذا الباب الّذي فتحه الشيخ حسين النوري بكتابه «فصل الخطاب»(1)، فإنّ كتابه أضحى مدار مطاعن أعداء الإسلام من الپروتستان وغيرهم فإنّ جمعيتهم الّتي في مصر نشرت كتاباً في المطاعن مستندة إلى كتابه، وسمعت أنّ بعض أفاضل النجف رد عليه أيضاً، وكتاب الجمعية المصرية قد ردّ عليه بعض أفاضل مصر بكتاب سمّاه «تنزيه القرآن الشريف عن التغيير والتحريف» وقد عثرت على نسخة منه وها هي مقدمة إليكم بصحبة الكتاب مع الفائدة السادسة من الفوائد الّتي في مقدمة تفسير روح المعاني، ورأيت المجلد الثاني من كتاب تاريخ أدب العرب لأبي السامي مصطفى صادق الرافعي مشتملاً على شؤون القرآن من أوّله إلى آخره، والكتاب مطبوع في مصر يمكنكم أن تستجلبوا منه نسخة، فإنّ نسخه الّتي وردت إلى بغداد نفدت، ولو كنت عثرت على نسخة منه لاشتريتها وقدمتها إليكم، وهو ممّا يلزم إحضاره بين يديكم.

ثم أيّها الفاضل: إنّ اللّه سبحانه وتعالى أمرنا عند الاختلاف أن نراجع الكتاب والسنة، فقد قال سبحانه: (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (2).

فلمّا وقع الخلاف في هذه المسألة راجعنا كتاب اللّه فوجدناه قد قال في أوائل

ص:410


1- . نشير إلى أنّ جل علماء الشيعة الإمامية عن بكرة أبيهم اقتداءً بأئمة أهل البيت عليهم السلام ينفون وقوع التحريف في القرآن الكريم وما ورد في «فصل الخطاب» وغيره إمّا روايات ضعاف، رفضها أئمة الحديث، أو وردت لغاية التفسير لا أنّها جزء من الآية. ومثل هذه الروايات موجودة أيضاً في كتب الفريقين. ونحن ننزه الفريقين من القول به.
2- . النساء: 59.

سورة الحجر: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (1)، وقال في آخر (حاميم) السجدة: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (2).

فكيف يعتريه التحريف والتغيير ويتطرّقه التبديل وهو أعظم باطل ؟ والمفسّرون قد أشبعوا الكلام في تفسير هاتين الآيتين، وراجعنا الحديث الصحيح فرأينا البخاري يروي بسنده عن محمد بن الحنفية وابن عباس: أنّ القرآن الّذي جاء به محمد صلى الله عليه و آله هو ما بين الدفتين لم ينقص منه شيء ولم يزد عليه شيء، ومثل هذين الحبرين هما من أكابر أهل البيت، فالاعتماد على قولهما يتبيّن به حقيقة الحال ويبطل به رواية ما خالف ذلك، على أنّ القرآن العظيم هو شريعة ومعجزة وقد تعهّد اللّه سبحانه بدوام الشريعة الغرّاء وبقاء المعجزة الواضحة البيضاء فنقص شيء منه يستوجب الإخلال بالشريعة والمعجزة.

ولاشك أنّ الشيخ أيده اللّه بتوفيقه ممّن سيلقم الخصم بالحجر ويبسط من الدلائل والحجج الغرر ما فيه كفاية لمن تبصر وأعتبر، واختم الكلام بتقديم وافر الاحترام.

وعليكم منا التحية والسلام

محمود شكري الآلوسي

6 جمادى الآخرة 1341 ه

هذه صور مختصرة عن الأواصر العلمية بين أعلام الشيعة والسنّة عبر القرون، وهو ما يجب أن يقتدي به علماء العصر الحاضر، بدلاً عن التنافر والعداء وحملات التكفير الّتي يقوم بها البعض خدمة لأعداء الأُمّة والإسلام.

ص:411


1- . الحجر: 9.
2- . فصلت: 41-42.

دار التقريب ودورها في تقارب المذاهب

وفي القرن الرابع عشر، برزت بشكل واضح مظاهر هذا التعاون، وفكّر الفريقان: السني والشيعي منذ عام 1325 ه. / 1946 م بمسألة التقريب، وهذا ما أبرز مقولة التضامن الإسلامي، وكان أعمدة هذا المشروع كل من المرحوم آية اللّه الشيخ محمدحسين كاشف الغطاء في العراق (1294-1373 ه.)، والمرحوم آية اللّه البروجردي (1292-1380 ه.) في إيران، من الطرف الشيعي، وأمّا من الطرف السنّي فكان الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الأزهر، والشيخ محمود شلتوت.

لقد رفع هؤلاء الأساطين في المعرفة شعار التقريب، وكانوا من رجال الإصلاح، ودعوا عبر تأسيس «دار التقريب بين المذاهب الإسلامية» العلماء والكتّاب إلى التمسّك بالمشتركات، وقد كرر هؤلاء الروّاد أنّه ليس هدفهم توحيد المذاهب أو دمجها، وإنّما التقريب بينها في الرؤى ووجهات النظر، وقد أدّى رجال العلم هؤلاء رسالتهم بإخلاص تام وخطوا خطوات كبيرة في مجال التقريب، إلى أن طبع ونشر في القاهرة كتاب «مجمع البيان» بتصحيح قليل النظير، وكذلك كتاب «المختصر النافع» للمحقّق الحلي، حتى أنّ الكتاب الثاني قد نفد من الأسواق خلال شهرين.

لقد خطت دار التقريب في القاهرة خطوات كبيرة على طريق تقريب المذاهب من بعضها، كانت من إفرازاتها الفتوى التاريخية لشيخ الأزهر فيما يخصّ الفقه الجعفري، وأنّ هذا الفقه معتبرٌ ورسمي وشرعي كسائر المذاهب الفقهية.

وهذا هو نصّ الفتوى الشهيرة:

«قيل لفضيلته: إنّ بعض الناس يرى أنّه يجب على المسلم - لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح - أن يقلّد أحد المذاهب الأربعة المعروفة، وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية، فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مثلاً؟

ص:412

فأجاب فضيلته:

1. إنّ الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتّباع مذهب معين، بل يقول: إنّ لكل مسلم الحق في أن يقلّد بادي ذي بدء أيّ مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً والمدوّنة أحكامها في كتبها الخاصة، ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره - أيّ مذهب كان - ولا حرج عليه في شيء من ذلك.

2. إنّ مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، مذهب يجوز التعبّد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة.

فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلّصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معيّنة، فما كان دين اللّه وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أو مقصورة على مذهب، فالكلّ مجتهدون مقبولون عند اللّه تعالى، ويجوز لمن ليس أهلاً للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرّرونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات».(1)

وقام المغفور له آية اللّه البروجردي، بطبع كتاب (الخلاف) للشيخ الطوسي، وأثبت عبر ذلك أنّ 99% من المسائل الفقهية يوافق فيها الرأي الشيعي رأي أحد المذاهب الفقهية السنّية، وليست سوى مسائل معدودة تلك التي تفرّد الشيعة بها، تماماً كما هو الحال في كلّ مذهب حيث له متفرّداته.

وما زلت أذكر عندما وردت إلى مدينة قم هيئة من علماء مصر، أذعنوا بأنّ ما نقله الشيخ الطوسي في هذا الكتاب عن علماء المذاهب كان صحيحاً تماماً.

ومن النتائج ذات البركة التي أفرزتها دار التقريب أنّ الفقه الشيعي أثّر في وضع بعض القوانين في مصر ممّا يرجع إلى الأحوال الشخصية، كما أثر في الآراء الفقهية لبعض المفتين، كما هو الحال في المسائل التالية:

1. إنّ الطلاق المتعدد في مجلس واحد ولو بلغ الثلاثة يكون في حكم طلاق واحد.

ص:413


1- . مجلّة رسالة الإسلام، السنة الحادية عشرة، العدد الثالث.

2. عدم صحّة الطلاق الذي يقع في طهر قارب الزوج زوجته فيه، كما أنّ الطلاق في حال الحيض غير صحيح.

3. لزوم وجود شاهدين عند إجراء صيغة الطلاق.

نعم، من الممكن أن تكون السياسات اللاحقة قد تلاعبت في هذه القوانين فأخرجتها عن حالتها السابقة.

***

هذه إطلالة سريعة على ما بذله علماء الفريقين ودعاة التقريب خدمة للإسلام وتوحيداً لصفوفه بعيداًعن الطائفية المقيتة، إلّاأنّ الشيء الذي نئنّ منه اليوم هو ذاك النوع من الإفراط المسمّى بالسلفية، والذي تجلّى في «الوهابية»، وهو اتجاه خدش صورة السلف من جهة، وعذّب الخلف من الناحية الأُخرى.

السلفية الوهابية

رسم أحمد بن تيمية في القرن الثامن الإسلامي مدرسةً في أرض العلم والمعرفة، أرض الشام، كانت نتيجتها تقليص مقامات الأنبياء والأولياء، وإفناء الآثار الباقية عن المسلمين السابقين، وقد دفنت هذه المدرسة بموت مؤسّسها عام (728 ه.) في مسقط رأسه، حيث شنّ علماء الشام ومصر الكبار من الذين كانوا يتمتعون بمكانة رفيعة في الحديث والكلام والتفسير... شنّوا عليه هجوماً نقدياً جادّاً، ووقف الجميع على اشتباهاته وأخطائه.

لكن، ومرةً أُخرى، جُدّدت هذه المدرسة بعد عدة قرون، عام 1160 ه. على يد محمد بن عبد الوهاب، وتمكنت من بسط نفوذها على قطرٍ معين من أقطار المسلمين، والسرّ في هذا الأمر بُعد مسقط رأسه عن حواضر العلم والمعرفة، فقد كان سكان منطقته من أبناء الصحراء وأهل البادية، لذا وقعوا في خداع كلماته التي كانت تبدو في ظاهرها جميلة شيّقة، فأعلنوه حاملاً للواء التوحيد.

في هذه الأثناء، كتبت ضدّه ردود مفصّلة في بلاد نجد والحجاز وسوريا والعراق، وقلّصت من نفوذه وتناميه، لكن مدرسته استطاعت بعد الحرب العالمية

ص:414

الأُولى - بالتعاون والاتفاق مع الامبريالية العالمية - أن تطيح بحكومة الأشراف في مكة والمدينة، وهي حكومة استمرّت قرابة الألف عام، ليتسلط أنصاره على الحرمين الشريفين، وفي هذه الفترة شهدت سياسته صعوداً وهبوطاً، فكانوا يظهرون الرفق والعاطفة حيناً وأُخرى يردون الميدان بالخشونة والعنف.

وفي السنتين الأخيرتين، بلغت خشونة الوهابية حدّها الأعلى، فأهانت الزوار، فحوّلت المقبرة التي يفترض بها أن تكون محيطاً هادئاً لقراءة الفاتحة والقرآن وزيارة أولياء اللّه الإلهيين وأنصار رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأصحابه، إلى مركز للدعوة إلى الوهابية، دعوة من طرف واحد بحيث لو أجاب أحد أو ناقش يجازى ويعتقل ويضرب ويشتم، أفهل يتّبع هؤلاء السلف وسيرتهم ؟! حاشا أن يكون السلف كذلك ؟ فأحمد بن حنبل (186-241 ه.) غسل قميص الشافعي (204 ه.) عندما مات وأخذ يتبرّك بمائه، أفهل يتبرّك إمامهم بقميص الشافعي وهم لا يتبركون بضريح النبي صلى الله عليه و آله بل يرون ذلك ممنوعاً ومحظوراً؟!

إنّ زوّار بيت اللّه يدخلون السعودية بتأشيرة دخول رسمية ويفترض أن يكونوا محل احترام الدولة الحاكمة، إلّاأنّ أغلب هؤلاء الزوّار يخشون على أنفسهم وأموالهم، ويقومون بالواجبات والمستحبات بقلق واضطراب وخوف، بل يتعرّض أكثرهم لإهانة رجال الشرطة الدينية.

إنّ الحرمين الشريفين حرم آمن للّه تعالى، فكلّ الطوائف الإسلامية من حقّها أن تقوم بأعمالها في حريةٍ تامة في الوقت عينه الذي تكون فيه الأُمور التنظيمية والإدارية بيد الدولة. فالنظم والانضباط مسألة، وإرغام الجميع على اتباع مذهبٍ واحد ظهر في القرن الثامن الهجري، واتّهام الناس - عبر ذلك - بالكفر والشرك..

ذلك كلّه أمرٌ آخر.

إنّ أعمال العنف التي يقوم بها هذا الفريق سبّبت عرض الإسلام في الغرب بشكل دين العنف، وأعاق مجال التبليغ لدى الطبقة الشابة عند هؤلاء أنفسهم.

من الجيّد أن تستفيد هذه الشريحة من الملك السعودي الثاني (سعود بن عبد العزيز)، ذلك أنّه استضيف في إيران عام 1334، وقد أهدى - احتراماً - عدة نسخ

ص:415

من القرآن الكريم وبعض القطع من ستائر الكعبة، وعدداً آخر من الهدايا عبر السيد يوسف أبو علي للسيد آية اللّه البروجردي. وقد قبل السيد البروجردي نسخ القرآن وقطعة ستار الكعبة وأهدى بقية الهدايا إلى حاملها له، وقد كتب رسالة أشار فيها: اليوم والحج في يد جناب الملك أرسل إليكم حديثاً حول حج رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ونقله البخاري في صحيحه وأبو داود في سننه، فاسعوا أن يطابق الحج مفادَ هذه الرواية.(1)

من المؤسف جداً أنّ تباد بالجرّافات تمام الآثار الإسلامية التي هي علائم على أصالتنا وجذورنا، عبر حديث واحد لا يدل أبداً على مقصودهم، واليوم غدت مكة والمدينة مدينتان غربيّتان، مظاهرها أضحت بعيدة عن مظاهر المدن الشرقية المتميّزة بطابعها الإسلامي الخاص.

أمّا ذاك الحديث وكيف دلّ على مقصودهم فنوضح أمره باختصار، حيث روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي عن علي عليه السلام أنّه قال له: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن لا تدع تمثالاً إلّاطمسته، ولا قبراً مشرفاً إلّا سوّيته».(2)

لا نتحدّث فعلاً عن سند هذا الحديث، حيث لا يخلو بعض رواته من الإشكال والخدشة، إنّما المهم هو إيضاح مدلوله، ولابد من التذكير أنّ فعل «سوّى» فعلٌ متعدٍّ، ويتطلّب مفعولاً واحداً فقط، تماماً كما في قوله تعالى: (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) (3)، إلا أنّه قد يأخذ أحياناً مفعولين اثنين، فيحتاج في هذه الحال إلى حرف جر، تماماً كما يقول تعالى: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) (4)، وكلّما أخذ مفعولاً واحداً تكون التسوية صفة لذلك

ص:416


1- . رسالة الإسلام، السنة الثامنة، العدد الأوّل.
2- . صحيح مسلم: 61/3، كتاب الجنائز؛ وسنن الترمذي: 256/2، باب ما جاء في تسوية القبور؛ وسنن النسائي: 88/4، باب تسوية القبر.
3- . الحجر: 29.
4- . الشعراء: 98.

الشيء تماماً كما جاء في الآية بمعنى: عندما أكمل خلق الإنسان، لكن عندما يأخذ مفعولين وينال المفعول الثاني حرف الجر، فلا تكون التسوية صفةً للشيء نفسه، بل صفةً قياساً وإضافةً إلى شيءٍ آخر، تماماً كما جاء في الآية الثانية: إنّنا نعدكم - أيّتها الأصنام - شيئاً واحداً مع اللّه.

وانطلاقاً من هذا المبدأ لابد أن نرى أن فعل «سوّيت» في الحديث له مفعول واحد أم مفعولين ؟ الوارد في تعبير الإمام علي عليه السلام - على تقدير صحة الحديث -:

«ولا قبراً مشرفاً إلّاسوّيته»، وفي هذه الحال تكون التسوية صفة للقبر نفسه، لا صفةً له بالنسبة إلى شيء آخر، وإذا كانت صفةً للقبر نفسه فالمقصود منها جعل القبر مسطحاً غير مسنّم، وإلّا فإذا كان المراد تخريب القبور كان لابد من مفعول ثانٍ بحرف الجر، إذ يقول: «إلّا سويته بالأرض».

والنتيجة أنّه لابد في متن الحديث من إعمال الدقة لمعرفة هل هذه التسوية صفة للقبر نفسه أو صفة له بالنسبة إلى شيء آخر؟ ونص الحديث يعطي شهادة على كون التسوية صفةً للقبر نفسه، بمعنى إخراج القبر من حالة الإعوجاج وعدم الانتظام أو التسنيم أو الانحناء، لا أنّ المراد تخريب القبر وتسويته بالأرض.

كيف يمكن أن يكون المعنى الثاني صحيحاً والحال أنّ تمام فقهاء الإسلام يفتون باستحباب أن يرتفع القبر عن الأرض بمقدار أربعة أصابع ؟! ومن حسن الحظ أن شرّاح صحيح مسلم فسروا الحديث المذكور بالمعنى الذي ذكرناه.(1)

إنّنا نصرف النظر عن تمام هذه الأُمور ونفترض تمامية دلالة الحديث إلّاأنّه يقول: سوّوا القبور بالأرض، لكنّه لا يتحدّث عن حرمة البناء على القبر ورفع القباب عليه وتدمير الصروح المشادة عليه، فبورك هذا الاجتهاد الذي لا يقوم لا على كتاب ولا على حديث ولا على اتفاق العلماء!!

وأوضح شاهد على جواز البناء على القبور هو قبر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، فمنذ

ص:417


1- . شرح النووي على صحيح مسلم: 36/7، الطبعة الثالثة، طبعة دار إحياء التراث العربي.

اليوم الأوّل دفن صلى الله عليه و آله في بيته، وللبيت بناء، وقد حفظ هذا البناء عبر القرون كلّها إلى يومنا هذا.

حفظ الأصالة

إنّ حفظ التراث والأصالة من الوظائف الإسلامية الملقاة على عاتقنا، والمقصود منها الأشياء التي تحكي عن واقع الإسلام واستمراره عبر العصور.

فالدين الإسلامي دينٌ عالمي، وسيظل إلى يوم القيامة أكمل الأديان السماوية، حيث من الممكن أن تفصلنا عن القيامة آلاف السنين، فنحن ملزمون بحفظ ما يدلّ على أصالة الإسلام من غدر الزمان وتخريبه، لنحفظه سالماً إلى الأجيال اللاحقة.

إنّ وجود المسيح عليه السلام وديانته أمرٌ قطعي عند المسيحيّين وفي نظرهم، إلّاأنّ ذلك بدأت تغلب عليه الحالة الأُسطورية في رؤية الشباب الغربي، إذ لا يوجد أثر ملموس للمسيح عليه السلام بين أيديهم، فكتابه طالته التحريفات، ولم يبق لديهم شيء عنه ولا من أثر لأُمّه ولا لحواريّيه، لهذا يقلص مرور الزمان من قطعية هذا الدين ويذره في هالة من الإبهام والترديد. وهكذا فإنّ وجود الآثار والمآثر الإسلامية التي منها مرقد النبي صلى الله عليه و آله حاكية عن واقعية وجوده وأصالة مدرسته، كما أنّ تدمير الآثار يعرّض أصالة الإسلام واعتباره وقادته وأئمته لخطر الضياع أيضاً.

من هنا، ولكي يحول المسلمون دون هذا الخطر الكبير، لابد لهم من حفظ كل الآثار المتصلة بالرسالة. والتذكير بها دوماً، كما يجب عليهم زيارة مراقد هؤلاء المعصومين حفاظاً عليها من الفناء التدريجي، وفي هذه الحال لا يمكن التغاضي عن هذه المزية الكبيرة، وإقفال باب اللقاء الروحي والمعنوي مع هؤلاء العظماء أمام المسلمين.

نعم، الحديث عن موضوع هدم الآثار مفصّل وطويل، لكننا نكتفي بهذا المختصر ونحيل التفصيل إلى فرصةٍ أُخرى.

ص:418

4 رسالة مفتوحة إلى الشيخ يوسف القرضاوي

اشارة

والرد على ادّعاءاته ضد الشيعة والتشيع

سماحة الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي دامت بركاته

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أسأل اللّه تعالى أن يحفظكم رجل توحيد وتقريب بين المسلمين، ويسدد خطاكم لنشر المعارف الإسلامية الحقّة في أوساط الأُمّة الإسلامية.

قرأت البيان الصادر عنكم بتاريخ 13 رمضان عام 1429 الموافق للثالث عشر من الشهر التاسع عام 2008 م، والذي ترد فيه على ما جاء في وكالة مهر الإيرانية، وعلى العلمين الجليلين: محمد حسين فضل اللّه ومحمدعلي التسخيري حفظهما اللّه تعالى.

لا ريب أنّ البيان المذكور يحتوي على أُمور تستحق الثناء والتقدير حيث ذكرتم وبطريقة استدلالية براءة الشيعة من القول بتحريف القرآن، وموقفكم الداعم لحق إيران في امتلاك التقنية النووية للأغراض السلمية. فلقد اعتدنا من علمائنا الكبار النظر إلى الأُمور بأُفق رحب وروح منفتحة والإعلان عنها بشجاعة، وهذا ما شاهدناه من جنابكم هنا، بعيداً عن التقوقع الطائفي والنظر إلى الاختلافات الجزئية التي تحجب الرؤية وتؤدي إلى ضيق الأُفق.

ص:419

لا شك أنّ سماحتكم من رجال التقريب والسعي إلى حفظ وحدة الكلمة، ولكم في هذا المضمار الكثير من المقالات والمحاضرات، وهذا أمر يعرفه الجميع، ولا يمكن أن نتوقع من جنابكم غير الاقتداء بشيخكم الكبير المرحوم محمود شلتوت، الأمر الذي يؤدي إلى استحكام حبل التقريب.

لا ريب أنّ الاختلاف بين المسلمين يمتد بجذوره إلى مابعد رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وهذه الاختلافات قائمة حتى الساعة ولا يمكن معالجتها في يوم أو يومين أو سنة أو سنتين، وإنّما الذي نتوقعه من الرجال الكبار والشخصيات الحكيمة هو التركيز والإصرار على المشتركات وعدم النظر إلى المسائل الخلافية.

وطرحها في الملتقيات العلمية بعيداً عن صخب السياسة، ليتسنّى لنا حصرها في دائرة ضيقة ومحدودة.

وهنا أود أن أُذكر سماحتكم ببعض الأُمور التي أراها ضرورية:

1. تعلم سماحة الشيخ كما يعلم سائر المفكّرين أنّ الغرب والصهيونية العالمية ومن أجل إبعاد المسلمين عن الفكر الإسلامي رفعوا ومنذ فترة طويلة شعارات ثلاثة هي:

أوّلاً: التخويف والتحذير من الإسلام.

ثانياً: التخويف والتحذير من إيران.

ثالثاً: التخويف والتحذير من الشيعة.

ولقد عملت وسائلهم الإعلامية بكل أنواعها وبكل قوة لترسيخ ذلك في أذهان العالم الغربي، بل في أصقاع المعمورة، وكأنّ الإسلام غول يهدد البشرية والسلام العالمي!! في مثل هذه الظروف الحسّاسة لا نرى مبرراً لما قمتم به سماحة الشيخ في لقاء مع صحيفة «المصري اليوم» وما تحدثتم به بخصوص التشيّع والتبشير الشيعي - حسب تعبيركم - في البلدان ذات الغالبية السنية، وتحذيركم من ذلك وإطلاقكم لصفارة الإنذار!! وما هي الحصيلة التي يخرج بها القارئ (حتى لو كانت خلافاً لما تقصدونه)؟ أليست الحصيلة التي يخرج بها هي تأييد موقف

ص:420

المستكبرين والصهاينة وإعطاء الشرعية والمصداقية لما ينشرونه وتبثُه وسائل إعلامهم المسمومة ؟!!

2. لقد أكّدتم سماحة الشيخ من جهة على كون الشيعة مبتدعة، ومن جهة ثانية أكّدتم أنّ الفرقة الناجية هم أهل السنة، مستنداً في ذلك إلى الحديث المعروف: «ستفترق أُمّتي إلى ثلاث وسبعين فرقة»، هنا نسأل سماحتكم ما هي الحصيلة التي يخرج بها شاب متعصّب من شباب أهل السنّة ؟ أليست هي القيام بربط حزام ناسف من المتفجرات ليقوم بقتل عشرات الأبرياء من الشباب والأطفال والنساء من المؤمنين في مدن العراق وغيرها من البلدان الإسلامية، وهذا ما يقوم به العشرات من الشباب الأردني والسعودي والأفغاني والمغربي مستندين في عملهم هذا إلى فتاوى تكفيرية ومواقف إقصائية يقوم بها بعض الرجال المحسوبين على العلم والفتوى، حتى وصل الأمر إلى حد تقيم عائلة الانتحاري الأردني الذي فجّر نفسه في أوساط المؤمنين الأبرياء في مدينة الحلة العراقية مجلس عرس تتلقى فيه التهاني والتبريك بتلك المناسبة!!!

سماحة الشيخ، إنّ لكلّ مقام مقالاً كما يقول الحكماء، فهل ياترى كان من المناسب في تلك الظروف العصيبة التي تمر بها أُمّتنا الإسلامية والتي تتكالب فيها قوى الاستكبار العالمي على العالم الإسلامي بأسره، أن يصدر من عالم ومفكّر إسلامي ما يثير النائرة ويشعل نار الحقد والصراع في أوساط المسلمين ممّا قد يؤدي إلى الصراع الداخلي لا سامح اللّه ؟!!!

وإذا كان كل من الإخوة السيد فضل اللّه والشيخ التسخيري - ا للّذين تربطهما بكم علاقة الود وتكن لهما مشاعر الحب والاحترام - لم يرتضيا الطريقة التي طرحتم فيها القضية، فإنّهما ينطلقان في واقع الأمر ممّا ذكرناه لكم من أنّ ذلك لا يليق بشأنكم وليس في صالح المسلمين أبداً.

3. اعتبرتم انتقال مجموعة من الشباب السنّي - في بعض البلدان التي يقطنها أهل السنّة - إلى التشيّع تبشيراً شيعياً وخطراً يستحق الوقوف أمامه ودق صفارة

ص:421

الإنذار، وإنّ عدم التصدّي له يمثّل مخالفة للدين وخيانة للأمانة التي في عنقكم، ولكن في نفس الوقت غضضتم الطرف عمّا يجري في السعودية والإمارات وغيرها من البلدان السنيّة من الحملة الشعواء التي تُشن على المفكّرين الشيعة والفكر الإمامي، فما من ساعة تمر إلّاوتجد إصداراً - كتاب أو رسالة - ينال منهم، والذي يؤسف له أنّ ما يصدر ما هو إلّاتكرار للمكرّرات وتهم واهية لا تقوم على دليل ولا تستند إلى برهان؛ أليس من اللائق بجنابكم الكريم التصدي لمثل هذه الحملة المسعورة التي تنال من طائفة كبيرة من المسلمين ؟!! بل نجد البعض قد تمادى في غيّه وكذبه بحيث صنّف كتباً في ذم الشيعة ونسبها إلى شخصيات شيعية من أمثال المرحوم العلامة السيد العسكري وبعضها نسبوها لي شخصياً موحين للناس أنّنا من المبلّغين للمذهب الوهابي والمهاجمين للتشيّع!!

وأخيراً نشر كتاب في موطنكم مصر العزيزة في نقد رأيي الفقهي حول مسألة «الصلاة خير من النوم» امتلأ الكتاب بالسب والشتم والكلام القاذع والافتراء و...

وهو من تأليف علاء الدين البصير، ثم طبع هذا الكتاب مرة ثانية ضمن سلسلة «محقّقو الشيعة في الميزان» وأعطاه ناشروه اسم «جعفر سبحاني... لا محقق مقرب» ومن العجب أن يقدّم لهذا الكتاب أُستاذ من الأزهر هو الدكتور محمد عبد المنعم البري وهو عميد مركز الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، ورئيس جبهة علماء الأزهر (وقد طبع في مصر ونشر عام 2007 م، في مركز التفوير بالقاهرة)؛ لا أدري هل البحث الفقهي يستحق كل هذا التحامل والتشنيع والتسقيط؟!!

4. أكّدتم في بيانكم على حديث «ستفترق أُمّتي إلى ثلاث وسبعين فرقة» وهنا أود التذكير بأنّ الحديث قد ضعّفه المحقّقون في علم الحديث، وعلى فرض وجود سند معتبر للحديث فلا يصحّ الاستناد إلى حديث آحاد لإثبات مثل هذا الأصل، واعتبار اثنتين وسبعين فرقة من فرق المسلمين من أصحاب النار وحصر أصحاب الجنة في فرقة واحدة.

ص:422

إنّ مضمون الحديث يحكي عن عدم صحّته، وأنا هنا لا أتحدّث عن فرق اليهود والنصارى، بل أتساءل أين هي فرق المسلمين الأساسية التي وصلت إلى هذا الحد، وأمّا الفرق الفرعية المذكورة في كتب الملل والنحل فقد تجاوزت الحد قطعاً؟ فهل يمكن أن نجد ذلك العدد من الفرق الإساسية في كتب الملل والنحل ؟! وهل يمكن اعتبار الاختلاف في مسألة واحدة مبرراً لتصنيفها فرقة مستقلة ؟ إنّ فرق المسلمين الأساسية لا تتجاوز عدد أصابع اليد، من هنا نرى أصحاب كتب الملل والنحل يتشبّثون بأُمور واهية لإثبات العدد المذكور ليكون دليلاً على مصداقية الحديث.

إنّ الأجدر بالإخوة أن يستندوا في عقائدهم إلى الحديث الذي رواه البخاري حيث قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: كلّ أُمّتي يدخلون الجنّة إلّامن أبى. قالوا: يا رسول اللّه ومن يأبى ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى».

فقد حدد الحديث الملاك في دخول الجنة والنار في إطاعة الرسول صلى الله عليه و آله وعصيانه، ومن الواضح أنّ العصيان والتمرّد يصدق في حالة كون الإنسان لا يملك الحجّة والدليل المعقول على عمله، وليس خفياً عليكم وعلى المفكّرين أنّ الشيعة تستند في المسائل الخلافية إلى الدليل والحجّة الكافية وإن كان ذلك غير تام في نظركم. أو ليس الملاك في دخول الإنسان في حظيرة الإيمان، هو ما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه و آله حيث قال: «بني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلّااللّه، وأنّ محمداً رسول اللّه وإقام الصلاة، وايتاء الزكاة والحج، وصوم رمضان». رواه الشيخان ؟

فإذا كانت أُصول الدين هي الإيمان باللّه ورسوله وكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر، وما فيه من الحساب إلى غير ذلك، فجميع المسلمين المتمسكين بالكتاب والسنة يدخلون تحت هذه الضابطة، فما هو الوجه لإضفاء القداسة على فرقة وحرمان فرقة أُخرى ؟

مما يجدر بالشيخ العزيز أن يقتدي بإمام أهل السنّة الشيخ الأشعري حيث

ص:423

ألف كتاباً في الفرق الإسلامية وأدخل الجميع تحت عنوان كتابه والذي سمّاه:

«مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين» فمنح الجميعَ الصبغةَ الإسلامية وجعل اختلافهم في الفروع فقط بشهادة قوله: «واختلاف المصلّين».

يقول أحمد بن زاهر السرخسي الأشعري: لما حضرت الشيخ أبا الحسن الأشعري الوفاة بداري في بغداد أمرني بجمع أصحابه فجمعتهم له، فقال: اشهدوا عليّ أنّني لا أُكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب، لأنّي رأيتهم كلهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمّهم.(1)

لقد أشرتم في بيانكم أنّ لدى الشيعة بدعتين:

الأُولى: بدعة نظرية.

الثانية: بدعة عملية.

وأود هنا الإشارة - رغم ضيق الوقت - إلى تحليل تلك البدع حسب رأيكم:

الأُولى: البدع النظرية

1. ادّعاء الوصية لأمير المؤمنين

لا شك أنّ أساس التشيّع وعماده يقوم على الاعتقاد بأنّ المرجعية والقيادة السياسية والفكرية والعلمية بعد رحيل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هي من شؤون العترة الطاهرة وعلى رأس العترة أمير المؤمنين عليه السلام، ولقد ثبتت الوصية له من خلال الأحاديث المتواترة، أُشير هنا إلى بعضها:

* لمّا نزل قوله سبحانه: (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (2) دعا النبي صلى الله عليه و آله خمسة وأربعين وجيهاً من وجهاء بني هاشم، فقال لهم: «يا بني عبد المطلب إنّي واللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا

ص:424


1- . اليواقيت والجواهر للشعراني: 58.
2- . الشعراء: 214.

والآخرة، وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم». فكرر هذه الجملة ثلاث مرات، وفي كلّ مرة كان علي يقوم ويقول: «أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه» وفي المرة الثالثة ضرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله يده على يد علي وقال في حقه على رؤوس الأشهاد: «هذا علي أخي ووصيي وخليفتي فيكم».

ولولا خوف الإطالة لأشرت إلى المصادر الكثيرة التي ذكرت هذا الحديث، ولكن اكتفي بالقول: إنّه حتى مثل محمد حسنين هيكل قد نقل هذا الحديث في الطبعة الأُولى من كتابه «حياة محمد» وقد حذفت في الطبعات اللاحقة.

* حديث «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبي بعدي» ومن المعلوم أنّ استثناء النبوة فقط يحكي عن ثبوت جميع المقامات التي كانت لهارون عليه السلام مثل الخلافة والوزارة.

* حديث «مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق».

* حديث «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه». ويكفي في تواتر الحديث أن نقله 120 صحابياً وما يقرب من 90 من التابعين، كما نقله 360 عالماً سنياً.

ومع كلّ هذه الأدلة الواضحة التي استندت إليها الشيعة، فعلى أقل تقدير والحد الأدنى المتوقع منكم أن تعذروهم في موقفهم وعقيدتهم لا أن تصفوهم بالمبتدعة، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما تتبنّونه معاشر فقهاء السنّة الأعزاء من القول: «للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد» وهنا لابدّ أن يستحق الشيعة الثواب والأجر لا الرمي بالابتداع.

قلتم في بيانكم أنّ الاختلاف في فروع الدين ومسائل العمل وأحكام العبادات والمعاملات، لا حرج فيه، وأُصول الدين هنا تسع الجميع، وما بيننا وبين الشيعة من خلاف هنا ليس أكبر ممّا بين المذاهب السنية بعضها مع بعض.

وهنا أود أن أسأل سماحتكم هل أنّ مسألة الإمامة والخلافة عند أهل السنة من

ص:425

الفروع أو الأُصول ؟

لقد أكّد كبار علماء الأشاعرة مثل عضد الدين الإيجي في المواقف وشارحه المير سيد شريف الجرجاني وسعد الدين التفتازاني في «شرح المقاصد» وغيرهم: انّ الإمامة والخلافة من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنّه يجب على المسلمين إشاعة المعروف والنهي عن المنكر، وهذا لا يتحقّق إلّافي ظل حكومة وقدرة تستطيع إجراء الأحكام وأنّ مركز هذه القدرة والسلطة هو الإمام والخليفة الذي يجب أن يوجد في أوساط المسلمين.

وهذا من الأُمور التي يتفق عليها الشيعة والسنة، إلّاأنّ الاختلاف وقع في طريقة تشخيص وتحديد الخليفة والإمام حيث طرحت نظريتان:

أ. تعيين الإمام يتم عن طريق شورى المهاجرين والأنصار.

ب. تعيين الإمام يتم بتنصيبه من قبل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

لست هنا في مقام ترجيح إحدى النظريتين على الأُخرى، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا كيف أصبحت إحدى النظريتين عين السنّة والأُخرى عين البدعة ؟!! والحال أنّ النظرية الأُولى لا تقوم إلّاعلى السيرة الناقصة للخلفاء لا أكثر، وأمّا النظرية الثانية فتستند إلى الأدلّة المحكمة والقوية.

إنّ منطق الإنصاف يقتضي ترجيح النظرية الثانية، وعلى أقل تقدير النظر إليهما نظرة واحدة لا اعتبار أصحاب النظرية الأُولى هم أهل السنة وأتباع النظرية الثانية من المبتدعة (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ) !!

وأين ذهب التسامح والعيش المشترك في الفروع ؟!

الجدير بالذكر أنّ تبريركم لوصف الشيعة بالمبتدعة كان في مقابل من يقول بأنّهم كفرة لا يحل المشكلة أبداً، بل كان من الواجب عليكم أن تنصروا المظلوم وتدفعوا عنه تهمة الكفر والخروج عن الدين لا أن تبدّلوا التهمة بتهمة أُخرى، وهنا أود أن أسأل سماحة الشيخ لو أنّ شخصاً اتّهمكم بتهمة خطيرة هل تسمحون لمن يدافع عنكم أن ينفي عنكم تلك التهمة لكنّه يستبدلها بتهمة هي أقل من الأُولى ؟!!

ص:426

2. العلم بالغيب

من الأُمور التي اعتبرتموها دليلاً على الابتداع هي قضية «العلم بالغيب»، وهنا أود أن أُشير إلى أنّ العلم بالغيب نوعان:

أ. علم الغيب الذاتي وغير المحدود وهو من مختصات الباري تعالى، قال تعالى في كتابه الكريم: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ ) .(1)

ب. علم الغيب الاكتسابي، وهذا النوع محدود أيضاً بالإذن الإلهي، وهذا النوع من الغيب يحصل لغير اللّه تعالى كثيراً، ولقد جاء في سورة يوسف عليه السلام الكثير من الإخبارات الغيبية على لسان كل من يعقوب ويوسف عليهما السلام؛ وكذلك جاء في القرآن الكريم الحديث عن مصاحب موسى بقوله تعالى: (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً) .(2)

وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه لمّا أخبرَ ببعض الغُيُوب. قال لهُ رجلٌ :

أُعطيتَ يا أمير المؤمنينَ علمَ الغَيبِ ! فقال: «ليس هو بعلم غيب وإنّما هو تعلُّمٌ من ذي علم».

وبما أنّ هذا النوع من العلم محدود فلا يكون هو المعنى الاصطلاحي لعلم الغيب، لأنّ المراد منه هو غير المحدود وهو من مختصات الباري تعالى.

من هنا إذا علم أئمة أهل البيت عليهم السلام بالغيب وأخبروا عن المغيّبات فهو من النوع الثاني الذي يحصل بإذن اللّه حتى للصالحين والعارفين الإلهيين الذين بذلوا عمراً طويلاً في طاعة اللّه تعالى والسير وفقاً لشريعة الإسلام الغرّاء.

ص:427


1- . النمل: 65.
2- . الكهف: 66.
3. عصمة العترة

من الأُمور التي اعتبرتموها من البدعة هي القول بعصمة الأئمة؛ وهنا أقول:

العصمة لا تعني إلّاحالة قصوى من التقوى تحصل لدى الإنسان تمنعه من ارتكاب ما لا يرضي اللّه تعالى، وتتجسّم أمامه آثار الذنوب ممّا يصونه عن ارتكابها. فهل من الغريب أن يطوي الإنسان مراحل الكمال الروحي حتى يصل إلى حد يعصم فيه من الذنوب وقد يصل إلى مرحلة أُخرى بحيث لا يصدر الخطأ منه ؟

إنّ مريم العذراءعليها السَّلام لم تكن نبية ولكن كانت معصومة ومصونة من الذنب، ولقد أشار القرآن الكريم لذلك بقوله: (وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ) .(1)

ومن المسلّم أنّ المراد من التطهير هو تطهير مريم من الذنوب والخصال المذمومة؛ وهنا نسأل لماذا لا يكون القول بعصمة مريم من البدعة والقول بعصمة أمير المؤمنين عليه السلام - الذي هو عدل القرآن وفقاً لحديث الثقلين - بدعة ؟!

إنّ حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة والذي اعتبر فيه الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله العترة عدلاً للقرآن وإنّهما لن يفترقا حيث قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا»، ومن الواضح أنّ مقتضى كون العترة عدلاً للقرآن الكريم أن تكون معصومة كعصمة القرآن الكريم، ولا يمكن أن يحدث بينهما أدنى افتراق أو تناف.

القول بعصمة الأئمة إذا كان غلوّاً فلماذا لا يكون القول بأنّ صحيح البخاري أصحّ الكتب بعد كتاب اللّه تعالى، كذلك، فهل هذا التعبير صحيح بحق هذا الكتاب مع ما فيه من الشذوذ ومخالفة العقل الحصيف وغير ذلك ؟!

هلا يكون حصر المذاهب في الأربعة وطرد سائر المذاهب الأُخرى في

ص:428


1- . آل عمران: 42.

مجال العمل والقضاء غلواً مع أنّ الأُمّة الإسلامية عاشت مسلمة ولم يتولد واحد من أصحاب هذه المذاهب، ولم يكن لأحد منهم عين ولا أثر.

ولولا الحفاظ على صفو مياه الودّ لبسطنا الكلام في هاتيك المواضع التي أخذتم بها الشيعة، ولكن اقتصرنا بذلك حتى ينظر الشيخ الجليل إلى الجميع بعين واحدة وفكرة خاصّة.

4. سب الصحابة

الأمر الذي يدعو إلى الحيرة والعجب أن يصدر هذا الكلام من عالم من أمثالكم وإنّما الأنسب صدور هذا الكلام من الناس البعيدين عن العلم والمعرفة.

فهل يمكن لطائفة كبيرة أن تحب النبي صلى الله عليه و آله لكنها تبغض أصحابه وتشتمهم ؟!! إنّ عدد أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد تجاوز المائة ألف صحابي وإنّ الذين ترجم لهم أصحاب الكتب الرجالية بلغ ما يقارب 15 ألف صحابي استشهد بعض منهم في معارك الرسول مثل بدر وأُحد والخندق وخيبر وغيرها، فهل يجوز لمسلم يؤمن باللّه واليوم الآخر أن ينال من هؤلاء العظماء؟!

ثمّ إنّ القسم الأعظم من هؤلاء الصحابة نجهل حالهم ولا نعرف عنهم شيئاً، فهل يسمح الوجدان للإنسان أن يمس أو ينتقص من إنسان لا يعرف حاله ؟

من هنا نقول: إنّ مسألة سب الصحابة بالمعنى الذي يتداوله عامة الناس ما هي إلّا ذريعة يحاول البعض التمسّك بها، إنّ منطق الشيعة منطق إمامهم أمير المؤمنين عليه السلام الذي جاء في «نهج البلاغة»(1)، قال صلوات اللّه عليه: «لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه و آله فما أرى أحداً يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً وقد باتوا سُجّداً وقياماً، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم،

ص:429


1- . الخطبة 97.

ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب».

إنّ شيعة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقتفون كلام إمامهم، حيث إنّه عندما سمع بعض أصحابه وهم يسبون أهل الشام - أيام حرب صفين - خاطبهم بقوله: «إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العُذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم، حتّى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به».(1)

فإذا كانت هذه عقيدة إمام الشيعة في حق محاربيه، فكيف لا تكون عقيدة شيعته فيهم كعقيدته.؟!

إنّ السب فعل الجهلة الذين لا يحفظون ألسنتهم عمّا يشينهم، ولذلك أطلب من سماحتكم أن لا تطرحوا القضية بهذه الصورة، نعم إنّ الذي تعتقده الشيعة هو أنّ بعض الصحابة والذين لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد تعاملوا مع أهل بيت النبي بعد رحيله معاملة سيئة ومن هنا تتبرّأ الشيعة منهم لهذا السبب، وهذا ليس أمراً غريباً فهذا النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يتبرّأ من عمل خالد بن الوليد ويقول: «اللهم إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد».

ولكن ألفت نظركم السامي إلى روايات الارتداد المعروفة بروايات الحوض التي جاءت في صحيحي البخاري ومسلم، كيف تفسرون هذه المأثورات عن النبي الأعظم صلى الله عليه و آله ؟(2)

ص:430


1- . نهج البلاغة: الكلمات القصار، برقم 206.
2- . لاحظ: صحيح البخاري: 67/4 و 107/5، كتاب المغازي.

الثانية: البدع العملية

1. تجديد مأساة الحسين عليه السلام كل عام

أشار سماحتكم بعد ذكر البدع النظرية إلى البدع العملية واعتبرتم من ضمنها «تجديد مأساة الحسين عليه السلام كل عام» ولا أدري كيف أصبحت التظاهرات المليونية التي تقام لإحياء ذكرى سيدالشهداء وسبط رسول اللّه صلى الله عليه و آله وإظهار ظلامته بدعة تستحق اللوم والذم!!

لو اطّلعتم سماحة الشيخ على فلسفة الثورة الحسينية وفكرتم في أبعاد تلك الثورة لقمتم بنفس ما تقوم به الشيعة من إحياء لتلك الواقعة العظيمة، لأنّ التظاهر من أجل مواجهة الظلم ورفض التعدّي على القيم والوقوف أمام الحكومات الجائرة لابد أن يبقى حياً في أوساط الأُمّة الإسلامية، وهذا هو هدف الثورة الحسينية التي ينهل منها الأحرار في العالم مثل حركة حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين ضد الصهاينة الغاصبين.

من هنا يتضح سبب الاهتمام بالثورة الحسينية أكثر من الاهتمام بالمناسبات الأُخرى للأئمة، كشهادة أمير المؤمنين عليه السلام وإن كانت تقام مراسم في تلك المناسبات أيضاً إلّاأنّها لا ترقى في كثرتها زماناً ومكاناً لما يقام بمناسبة الثورة الحسينية، إنّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام تمثل رسالة تحريك وبعث لكل الأجيال التي تقع تحت الظلم والاضطهاد لتضخ فيهم دماء الغيرة والدفاع عن الدين كما فعل سيد شباب أهل الجنة في دفاعه عن دين جده المصطفى صلى الله عليه و آله.

كذلك تهدف مجالس العزاء لتعرية تلك الطغمة الفاسدة التي تصدت لأهل البيت وأذاقتهم ألوان العذاب والاضطهاد.

ص:431

2. ما يحدث عند مزارات آل البيت من شركيات

اتهمتم في بيانكم الشيعة بممارسة الشركيات عند زيارتهم لقبور أهل البيت عليهم السلام؛ لكن الجدير بكم أن تشيروا إلى مصاديق تلك الشركيات ولا تبقوا القضية عائمة، فهل أصل الزيارة شرك ؟ لا شك أنّ الجواب بالنفي. وهل الدعاء وطلب الشفاعة من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام شرك ؟ من المسلم كلا؛ لقد كان من الجدير بسماحتكم الاقتداء بإمام الأحناف الكبير، فقد روى مؤلف كتاب «فتح القدير»: انّ الإمام أبا حنيفة وقف أمام قبر النبي الشريف وأنشد قائلاً:

يا أكرم الثقلين يا كنز الورى جد لي بجودك وارضني برضاكا

أنا طامع في الجود منك ولم يكن لأبي حنيفة في الأنام سواكا(1)

وكأنّ أبا حنيفة اقتدى بالصحابي الجليل سواد بن قارب الذي أنشد قائلاً:

فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلاً عن سواد بن قارب

لقد جاء في بيانك انّ دعاء أهل البيت من دون اللّه يعد من الشركيات؛ عذراً سماحة الشيخ أنّ هذا المنطق هو منطق الوهابية الذين قد يستندوا أحياناً لقوله تعالى: (وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً) (2). ولكن ينبغي أن يتّضح المراد من كلمة «الدعوة» ما هو؟ هل المقصود مخاطبة غير اللّه ؟ لا شك أنّه ليس هو المراد، لأنّ لازم ذلك تكفير جميع البشر، لأنّ الإنسان في حياته يخاطب آلاف الناس ويستعين بهم، نعم المقصود من الدعوة هنا عبادة غير اللّه بمعنى الخضوع والخشوع أمام موجود بعنوان كونه خالقاً ومدبراً فيكون معنى الآية «انّ المساجد للّه فلا تعبدوا مع اللّه أحداً» ومن حسن الحظ يوجد شاهد على ذلك، وهو قوله تعالى: (وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) .(3)

ص:432


1- . أُنظر: فتح القدير: 336/2.
2- . الجن: 18.
3- . غافر: 60.

ففي صدر الآية جاءت كلمة «ادعوني» ولكن في ذيلها جاءت كلمة «عبادتي» وهذا يحكي أنّ الدعاء الخاص باللّه تعالى هو الدعاء الذي يحمل صبغة العبادة لا أي نوع من أنواع الدعاء والدعوة، وإلّا لما وجد على وجه الأرض موحّد أبداً.

جناب الدكتور القرضاوي إنّ القرآن الكريم رسم الطريق لتمييز الموحّد من المشرك بقوله: (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) .(1)

فهل ياترى أنّ جموع الشيعة وأعداد كبيرة من المصريين الذين يجتمعون عند رأس الإمام الحسين عليه السلام وفي مقام السيدة نفيسة والسيدة زينب عليها السلام ويتوسلون بهم ليقضي المولى سبحانه حوائجهم، هل هؤلاء عندكم مشركون ؟! بمعنى أنّهم انحرفوا عن عبادة اللّه الواحد الأحد؟ أو يزداد إيمانهم باللّه تعالى حينما يتواجدون في تلك الأماكن الشريفة ؟ أليس هذا هو منطق التكفيريين الذي طالما انتقدتموه واعتبرتموه فكراً متطرفاً؟

إلى هنا نمسك عنان القلم عن الجري راجياً من جنابكم الكريم تدارك ما فات ودعوة الجميع للاعتصام بحبل اللّه المتين والحث على وحدة الكلمة.

فالرجاء من سماحتكم، أن ترفعوا لافتة التقريب وتتدّثروا بدثاره في ظل الأُصول التي ألمح إليها رجال التقريب: وهي: الإيمان بالإله الواحد وما يستلزمه من الإيمان بالغيب والملائكة والكتب والأنبياء واليوم الآخر وما جاء به النبي الخاتم، في الكتاب والسنة، وما اتّفق عليه المسلمون في الأُصول والفروع، إلى غير ذلك من الأُمور المشتركة بين الأُمّة الإسلامية التي لم يختلف فيها اثنان.

كما أنّ رجاء عشّاق التقريب أن تدخلوا ساحة الحوار بأدب الأُسلوب القرآني: (وَ إِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .(2)

ص:433


1- . غافر: 12.
2- . سبأ: 24.

وما قرأناه في البيان ينافي كلامكم حول العولمة المنشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي، و هذا نصّه:

ولكن على الأُمّة أن تعرف أنّها مهددة إذا لم تتوحّد ويكون بينها نوع من التآلف والتعاون، ولذلك نحن ندعو أيّها الإخوة إلى مصالحة عامة، تجمع كل قوى الأُمّة في هذه المرحلة، لا داعي للتفرقة. هناك أُناس يريدون أن يفرقوا الأُمة، هم أعداؤنا يريدون ذلك، إمّا أن يفرّقوا بينها إذا كان هناك أقليات غير إسلامية، فيثيرون هذه الأقليات، إذا كان هناك أقليات عرقية، هناك عرب وبربر وعرب وأكراد، إذا كان هناك أقليات مذهبية يكون سنة وشيعة، إذا لم يكن هذا وذاك يبقى يمينيين ويساريين، أو ثوريين ورجعيين، نحن نريد أن نجمّع كل قوى الأُمة وندعو إلى مصالحة حتى بين الحكام والعلماء، وبين الحكّام والجماعات الإسلامية، لا داعي الآن أن نفرّق بين الأُمة، الأُمّة يجب أن تكن صفاً واحداً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً في ساعة الشدائد، لا مجال للاختلاف ولا مجال للمعارك الجانبية، يجب أن يقف الجميع صفاً واحداً.(1)

أقول قولي هذا واستغفر اللّه لي ولكم

والحمد للّه ربّ العالمين

اللّهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله

وتذلّ بها النفاق وأهله

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم المقدسة - إيران

24 رمضان المبارك 1429 ه.

ص:434


1- . مجلة مجمع الفقه الإسلامي: الدورة 14، العدد 14، ج 4، ص 402.

5 رسالة إلى الدكتور عيسى بن مانع الحميري

سماحة الدكتور عيسى بن مانع الحميري المحترم

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

لقد تسلمنا بيد الشكر والتقدير كتاب العلّامة السخاوي مع تقديم رائع بقلم سماحتكم.

وقد اطّلعنا على التقديم وبقيت قراءة الجزء الثاني، فشكر اللّه مساعيكم في نشر مآثر آل البيت والدعوة إلى حبهم.

غير أن هناك أُموراً أُحب أن أعرضها عليكم:

1. قمنا بترجمة حياة العلّامة السخاوي في موسوعة طبقات الفقهاء (الجزء 10 ص 240-242) وأوردنا فيها آثاره، وذكرنا في الهامش المصادر الّتي جاء فيها ذكر السخاوي.

2. ذكرتم في الصفحات الأُولى من الجزء الأوّل أشعاراً تتضمن مدح النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والخلفاء من بعده وفاطمة الزهراء وغيرهم، ولكن الّذي استوقفني هو أنكم قد أفضتم البيان في ذكر مآثر الخلفاء الثلاثة وأوجزتم فيما يخص الإمام علي

ص:435

بن أبي طالب عليه السلام الّذي هو باب مدينة علم الرسول وأخوه.

وكانت أشعاركم في ذلك لا تتجاوز الأربعة أبيات، ولذا أحببت مشاركتكم في هذا الميدان، وأبعث إليكم الأبيات التالية لتكون متممة لما كتبتم، وإليكم هذه الأبيات، الّتي نفضّل أن تكون بعد البيتين التاليين:

ويليه في الفضل المبين مهنّد صنو الرسول وقوسه الختميُّ

قد جاء في غرر المواكب رفعة والختم في الأُخرى به حتميّ

***

كم موقفٍ نكص الأشاوسُ دونه قد خاضه زينُ الهداة: عليُّ

ومشى إلى الموت الزؤام كأنّه أرْيٌ لديهِ ، سائغ وشهيُّ

فاق الورى علماً، وبذّ أولي النُّهى حُكماً، وإنْ شئت الندى فَسَريُّ

آخاه من دون الأنام محمدٌ أمرٌ رواه المسلمون جليُّ

وغدا ربيعَ العدل في قيظ الدُّنى يزهو، ويعبق عطره المسكيُّ

لا غَرْوَ أن عانى هَواك سَلامةٌ (1)حتّى بدا، وكأنه شيعيُّ

فهواك ريحانُ المحبّ ورَوْحُهُ وهواك وحدك حلمُهُ الورديُّ

3. ذكرتم في المطلب الثالث الاختلاف في مفهوم آل البيت عند المفسرين

ص:436


1- . هو الشاعر المسيحيّ المفلق بولس سلامة، صاحب الملحمة الشعرية الرائعة في أهل البيت عليهم السلام.

وأن هناك اتجاهات، والحق أن يقال: إنّ هنا اتجاهاً واحداً، ويعلم ذلك من التدقيق في الآية الكريمة، بالبيان التالي:

إنّه سبحانه يقول: (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ ) .(1)

ثم يقول سبحانه: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .(2)

فالفقرة الأُولى من الآية تشير إلى بيوت ولها أهلها وهن أزواج النبي.

والفقرة الثانية تشير إلى بيت واحد وله أهله.

فمعنى المقابلة أنّ أهل ذلك البيت غير أهالي البيوت المتبقية. ومع هذا فكيف يحتمل دخول أزواج النبي صلى الله عليه و آله في مفهوم أهل البيت الّذي أشرتم إليه في الاتجاه الأوّل.

إنّ اللام في أهل البيت لام عهد تشير إلى بيت معهود فيجب أن نبحث عن هذا البيت المعهود، وليست اللام هي لام الجنس كما هو معلوم. والروايات تفسر وتحدد هذا البيت كما هو واضح لمن تدبر الروايات الواردة حول الآية.

إن أوّل من سمّى متابعي «علي» بالشيعة هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وقد ورد في ذلك قرابة أربعين حديثاً عن النبي صلى الله عليه و آله نقل بعضها الحافظ السيوطي في تفسير قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) .(3)

4. لقد أفضتم الكلام حول الرفض والروافض وذكرتم أنّ وجه تسمية الشيعة بالروافض هو أنّهم طلبوا من زيد بن علي أن يتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر.

وقال رداً عليهم: «كانا وزيري جدّي، وحكما فعدلا» فتركوه ورفضوه، وارفَضُّوا عنه، فسميت الرافضة والنسبة رافضي.

ص:437


1- . الأحزاب: 33.
2- . الأحزاب: 33.
3- . البيّنة: 7.

والحق أنّ الرواية غير صحيحة، كما أنّ ما ذكرتم أنّ الروافض كل جُندٍ تركوا قائدهم، مثل السابق.

بل الرفض مصطلح سياسي لا يختص بمن رفض الشيخين، أو تركوا قائدهم.

إنّ مصطلح الرافضة كان قد استُعمل قبل أن يولد زيد بن علي ومن بايعه من أهل الكوفة، وهو يطلق على كل جماعة لم تقبل الحكومة القائمة، سواء أكانت حقاً أو باطلاً.

هذا هو معاوية بن أبي سفيان يصف شيعة عثمان - الذين لم يخضعوا لحكومة علي بن أبي طالب عليه السلام وسلطته - بالرافضة ويكتب في كتابه إلى «عمرو بن العاص» وهو في البيع في فلسطين أمّا بعد: فإنّه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة وقدم علينا جرير بن عبداللّه في بيعة علي وقد حبست نفسي عليك حتّى تأتيني، أقبل أُذاكرك أمراً.(1)

وأنت ترى أنّ معاوية يصف من جاء مع مروان بن الحكم بالرافضة وهؤلاء كانوا أعداء علي ومخالفيه، وما هذا إلّالأنّ هؤلاء الجماعة كانوا غير خاضعين للحكومة القائمة آنذاك.

5. ذكرتم في الصفحة (161) قولاً بأنّ غلاة الشيعة يعترضون على أغلب صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وينكرون جهودهم، وأنّ الناس ارتدوا غير أربعة أو غير ستة.

نقول: إنّ وزان رواية ارتداد الصحابة نظير ما رواه البخاري عن أبي هريرة، الّذي كان يحدّث أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلّؤون عن الحوض، فأقول: يارب أصحابي، فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا

ص:438


1- . وقعة صفين: 29.

بعدك، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى».(1)

وهناك تسع روايات أُخرى تحمل هذا المعنى، والفريقان أمام هذه الروايات شرع سواء.

وبما أنّ البحث في هذا الموضوع غير مفيد في ظروفنا الحاليّة الّتي تحالف فيها الكفر على ضرب الإسلام والنيل من المسلمين بدون تمييز بينهم، فلا نطيل البحث، والحرّ تكفيه الإشارة.

شكر اللّه مساعيك إذ أديت حق البحث في آل البيت وفي الدفاع عن الشيعة خصوصاً في مسألة التحريف.

وكان الأَولى ترك البحث في فرق الشيعة والخوارج، والتركيز بدلاً عن ذلك على الهدف الّذي كنت ترومه من نشر كتاب العلّامة السخاوي.

جعلنا اللّه وإياكم ممن تناله شفاعة محمد وآله الطاهرين

والسلام عليكم وعلى من حولكم من الأعزاء

جعفر السبحاني

قم المقدسة - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

24 ربيع الثاني 1429 ه

ص:439


1- . صحيح البخاري: 4/228، برقم 6585.

6 رسالة إلى الدكتور عبدالرحمن الصالح المحمود

والرد على اتهامه الشيعة في مسألة الإسناد وعلم الرجال

الدكتور عبدالرحمن الصالح المحمود المحترم

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا وإيّاكم من أعوان الحق وأنصار الصدق، وأتباع الإنصاف في كل ما نحكم وننقض.

قرأنا تقديمكم لكتاب «مصادر التلقّي وأُصول الاستدلال العقلية عند الإمامية الاثني عشرية» تأليف إيمان صالح العلواني، وممّا جاء في صفحة (ب) منه، قولكم: [ولا يفوتني - في هذه المقدمة المختصرة - أن أنبّه إلى مسألتين مهمتين تعرضت لهما الباحثة - وفقها اللّه - بشكل جيّد وإن كنت أتمنى إفراد كل واحدة منهما بدراسة مفصلة مستقلة:

إحداهما: مسألة الإسناد وعلم الرجال عند الرافضة، وفضح منهجهم في ذلك، وأنّهم اخترعوا الإسناد في القرن الرابع أو الخامس لما رأوا أئمة الحديث من أهل السنّة عنوا بذلك كما هو معلوم.

فحبذا لو تقوم دراسة حديثية مفصّلة في ذلك].

وفي كلامكم هذا ملاحظات نقدمها إليكم عسى أن تتدبّروا فيها، لعل اللّه

ص:440

يبصّركم بالحقيقة، أو يحدث بعد ذلك أمراً:

أوّلاً: إنّني أربأ بالدكتور أن يقتدي بالمتعصّبين في القرون الخالية، فيطلق على الشيعة الإمامية مصطلح الرافضة، ومن الغريب أن تختار الأُستاذة العلواني لكتابها عنوان (مصادر التلقي وأُصول الاستدلال العقلية عند الإمامية الاثني عشرية) في حين يأبى الدكتور إلّاأن يلقّبهم بالرافضة، وينسى قوله تعالى: (وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ...) (1).

***

ثانياً: أنّ ابن الخاضبة محدّث بغداد قد أنصف في كلامه حينما قال: بلغني أنّ اللّه خصّ هذه الأُمّة بثلاثة أشياء لم يؤتها مَنْ قبلها من الأُمم؛ الإسناد والأنساب والإعراب.(2)

ما أمتن هذا الكلام وما أنصفه، حيث جعل الفضائل الثلاث من شؤون الأُمّة الإسلامية ومن غير تمييز بين فريق وفريق. والشيعة الإمامية جزء من هذه الأُمّة.

ثم جاء ابن تيمية من بعده، فخالف ما ذكره ابن الخاضبة، وقال: الاسناد من خصائص هذه الأُمّة، وهو من خصائص الإسلام ثم هو في الإسلام من خصائص أهل السنة، والرافضة من أقل الناس عناية به.(3)

وأنت ترى أنّه لم ينفِ الإسناد عن الشيعة الإمامية، وإن ادّعى قلّة عنايتهم به.

ولمّا وصل الأمر إلى المرعشلي من المعاصرين تجاوز الحد أكثر وقال: ولم تكن هذه المزية - يعني الإسناد - مطلقة للأُمّة الإسلامية، بل اختصّ بها أهل السنّة

ص:441


1- . الحجرات: 11.
2- . فتح المنان: 161، بمقدمة لسان الميزان، إعداد ودراسة محمد عبدالرحمن المرعشلي، الطبعة الأُولى 1415 - دار إحياء التراث العربي - بيروت. نقلاً عن القسطلاني. وابن الخاضبة، هو: أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدالباقي البغدادي. قال ابن عساكر: كان مفيد بغداد في وقته. توفّي سنة (489 ه). سير أعلام النبلاء: 19/109 برقم 61.
3- . فتح المنان: 161، نقله المرعشلي عن كتاب منهاج السنة: 4/11.

والجماعة، دون الرافضة وغيرهم من طوائف البدع.(1)

ثم أتى دوركم يا دكتور، فزدتم في الطين بلةً ، وتجاوزتم أكثر، بوصفكم أُمّةً كبيرة من المسلمين بالكذب والجعل، فقلتم: «اخترعوا الإسناد في القرن الرابع أو الخامس لمّا رأوا أئمة الحديث من أهل السنة عنوا بذلك كما هو معلوم».

والإمعان في سير هذه الفكرة الّتي بدأت من عصر ابن تيمية، يثبت بأنّ باذر هذه الفكرة هو ابن تيمية المعروف بنزعته الخاصة في مقابل أئمة أهل البيت عليهم السلام أوّلاً، ولشيعتهم ثانياً، وهو الّذي قال فيه الحافظ الكبير ابن حجر: طالعت رد ابن تيمية على الحلّي فوجدته كثير التحامل في ردّ الأحاديث الّتي يوردها ابن المطهر الحلّي، ردّ - في ردّه - كثيراً من الأحاديث الجياد.(2)

ومع ذلك كلّه فالشيخ (ابن تيمية) كان أكثر إنصافاً ممّن تبعه من تلاميذ منهجه أعني المرعشلي ثم جنابكم المحترم. حيث لم ينفِ عن الشيعة الإسناد بنحو مطلق، بل جعلهم قليلي العناية به، لكنّكما نفيتماه، ثم اتّهمتهم أنت بالوضع!

***

ثالثاً: إذا كان الأمر مجرد ادّعاء، فبإمكان غيركم أن يدّعي أيضاً، أنّ أهل السنّة اخترعوا الأسانيد في القرن الثاني، وهو أقرب إلى القبول من دعواكم أنّ (الرافضة اخترعوا الإسناد في القرن الرابع أو الخامس)، إذ من الثابت أنّ أتباع مدرسة الخلفاء كانوا - تبعاً لرأي الخليفة الثاني - يقلّون من رواية الحديث، بل ألزموا أنفسهم بعدم تدوينه نحو قرن من الزمان، حتى قال ابن شهاب الزهري: كنّا نكره كتابة العلم، حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا ألا نمنعه أحداً من المسلمين.(3)

ص:442


1- . فتح المنان: 160، ولاحظ (إيقاظ الوسنان) مقال في نقد هذا الكتاب، طبع في مجلة (علوم الحديث) الصادرة من كلية علوم الحديث في طهران، العدد (15).
2- . لسان الميزان: 9/319، ولاحظ الدرر الكامنة له: 2/71؛ وفتح الباري: 9/222.
3- . طبقات ابن سعد: 2/35؛ وتقييد العلم: 107. يُراجع - للاطّلاع أكثر - كتاب (تدوين السنة الشريفة) للجلالي. طبع بوستان كتاب - قم 1413 ه.

ولا يحسبنّ أحد أن الأجواء بدأت تنفتح أمام التدوين بسهولة بعد إكراه الأمراء عليه، بل ظلت الآثار السلبية للمنع قائمة بعد ذلك وهذا ما يتبيّن في كلام الأوزاعي الّذي قال: كان هذا العلم شيئاً شريفاً إذ كان من أفواه الرجال يتلقّونه ويتذاكرونه، فلمّا صار في الكتب ذهب نوره، وصار إليه في غير أهله.(1)

وعلى ذلك فإن الفترة الزمنية بين عصر الصحابة، وبين عصر المدونات الحديثية كانت طويلة جداً، إذ أُلفت الكتب الستة المعتمدة عند السنة في القرن الثالث، وأوّلها صحيح البخاري (المتوفّى 256 ه).

وإذا كان الأمر كذلك، فإنّه يمكن لمعارضيكم أن يدّعوا أنّ مؤلفي السنة في القرن الثاني وبعدهم أصحاب الكتب الستة - ولبُعدهم عن عصر الصحابة - قد اخترعوا الأسانيد، هكذا بدون دليل - كما فعلت أيّها الدكتور - وبدون مراعاة لحرمتهم، وأدائهم للأمانة العلمية.

فهل تقبل أيّها الدكتور هذه النتيجة، فتصبح كلّ أحاديث المسلمين في مهبّ الريح ؟ كما يُريد القرآنيون، وأعداء الحديث الشريف، قديماً واليوم ؟!

***

رابعاً: أنّ جلّ روايات الشيعة، هي عن أئمتهم الطاهرين عليهم السلام المتّفق على جلالتهم ومنزلتهم العلمية والدينية بين المسلمين، وقد استمر بثّهم للحديث منذ الصدر الأوّل إلى سنة (260 ه) أي إلى سنة وفاة الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام، وكانت أسانيد رواياتهم تنتهي إلى جدّهم الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وقد روي عن جعفر الصادق عليه السلام أنّه كان يقول: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث

ص:443


1- . سنن الدارمي: 1/121؛ وتقييد العلم: 64.

رسول اللّه، وحديث رسول اللّه قول اللّه عز وجل».(1)

ويؤكد ذلك الحادثةُ التاريخيةُ الشهيرةُ الّتي حصلت للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، حين جعله المأمون العباسي ولياً للعهد عام (201 ه)، ذلك أنّه عليه السلام لمّا وافى نيسابور في طريقه إلى مرو، ازدحم عليه أصحاب الحديث، وطلبوا منه أن يُملي عليهم حديثاً، فأملى عليهم - وهو في هودجه - هذا الحديث الذي رواه عن أبيه عن آبائه عن علي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن جبرئيل عن اللّه سبحانه: «كلمة لا إله إلّا اللّه حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي».

وكان على رأس محدّثي السنّة الذين خرجوا للقائه عليه السلام: يحيى بن يحيى النيسابوري، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن رافع القشيري، وغيرهم.(2)

قال أبو نعيم الأصفهاني (بعد أن روى حديث الرضا عليه السلام الموسوم بحديث سلسلة الذهب): هذا حديث ثابت مشهور بهذا الإسناد من رواية الطاهرين عن آبائهم الطيبين، وكان بعض سلفنا المحدثين إذا روى هذا الإسناد، قال: لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لأفاق.(3)

وعلى ضوء ذلك نقول: إنّ أسانيد روايات الشيعة أقصر من أسانيد روايات السنة لاتّصالها بالأئمة عليهم السلام، وذلك إذا اعتبرنا طريق كل إمام الّذي ينتهي إلى النبي صلى الله عليه و آله لكونه أنزه الطرق، وقد مر عليك تعليق أبي نعيم على ذلك، وهذا يعني أنّ درجة السلامة والصحّة والدقة في أسانيدهم أكثر من غيرهم، حتى وإن أخذنا بأوّل الكتب الحديثية المؤلفة عندهم من حيث السعة، أعني كتاب «الكافي» للشيخ الكليني (المتوفّى 329 ه)، وغضضنا الطرف عما أُلّف من الكتب المتضمّنة للأسانيد في القرون: الأوّل والثاني، والثالث، والأخير هو القرن الّذي أُلِّفت فيه الكتب الستة عند السنة.

ص:444


1- . الكافي: 53/1، باب رواية الكتب والحديث، الحديث 14.
2- . عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق: 1/143، الباب 37؛ والمنتظم لابن الجوزي: 10/120.
3- . حلية الأولياء: 3/192، الترجمة 241.

***

خامساً: كيف تتهمون الشيعة الإمامية وفيهم فحول المحدّثين والمفسّرين والخبراء في علم الشريعة بوضع الإسناد في القرن الرابع أو الخامس، مع أنّ بين ايدينا كتباً حديثية أُلِّفت في القرن الأوّل والثاني والثالث، والأحاديث فيها متصلة مرفوعة حتى تبلغ إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أو إلى وصيه الإمام علي عليه السلام أو إلى أولاده الطاهرين عليهم السلام. ومن حسن الحظ أنّ النسخ الخطية من هذه الكتب متوفرة الآن، فضلاً عن المطبوع، وإليك بعضها(1):

1. وقعة صفين: لنصر بن مزاحم المنقري (المتوفّى 212 ه).

2. تفسير الحبَري: للحسين بن الحكم بن مسلم الكوفي (المتوفّى 286 ه).

3. المحاسن: للمحدّث الجليل الثقة أبي جعفر أحمد بن محمد بن خالد البرقي (المتوفّى عام 274 أو 280 ه)، طبع في جزأين ضخمين، وهو يشتمل على 123 باباً في الفقه والأخلاق والمعيشة وغيرها، والكل مروي بالأسانيد.

4. كتاب النوادر: لشيخ القميين ووجههم الثقة الثبت الجليل أبي جعفر أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام (المتوفّى 203 ه)، والإمام الجواد عليه السلام (المتوفّى 220 ه)، والإمام الهادي عليه السلام (المتوفّى 254 ه).

وكان المؤلّف رئيس المحدّثين في قم المقدسة، وكتابه مطبوع منتشر.

5. كتاب الغارات: أو الاستنفار والغارات تأليف أبي إسحاق إبراهيم بن محمد ابن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي الكوفي الرقّي، من أكابر علماء القرن الثالث. نشأ بالكوفة وانتقل إلى أصفهان لنشر كتابه فيها. مات بها سنة 283 ه.(2)

6. بصائر الدرجات: تأليف محمد بن الحسن الصفار، من أصحاب الإمام

ص:445


1- . للوقوف على التراث الإمامي المؤلف في القرون الأُولى (1-3) راجع كتاب «تدوين السنة الشريفة» القسم الأوّل.
2- . الغارات طبع دار الأضواء، بيروت، لبنان.

الحسن العسكري عليه السلام الّذي توفّي عام 260 ه. والكتاب مليء بالأسانيد يرويه كابر عن كابر، وقد توفّي المؤلف عام 290 ه، والكتاب مطبوع منتشر.

7. قرب الاسناد: تأليف الشيخ الجليل أبي العباس عبداللّه بن جعفر الحميري.

كان من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام. وصفه النجاشي بقوله: أبوالعباس القمي شيخ القميين ووجههم قدم الكوفة سنة نيّف وتسعين ومائتين، ثقة من أصحاب أبي محمد العسكري عليه السلام(1). والكتاب مطبوع منتشر، ومن طبعاته طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

وقد سمّي بقرب الاسناد لقلّة الوسائط بينه وبين الإمام عليه السلام المروي عنه.

8. تفسير القمي: تأليف أبي الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم الكوفي الأصل، القمي. كان من أعلام المحدّثين في النصف الثاني من القرن الثالث، وبقي إلى أوائل القرن الرابع.

قال ابن إسحاق النديم في وصفه: من العلماء الفقهاء، وله من الكتب: كتاب المناقب، كتاب اختيار القرآن، كتاب قرب الإسناد.

وقد طبع تفسيره المذكور في جزأين.

9. الأشعثيات (أو الجعفريات): لأبي علي محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي، نزيل مصر. وهو من رجال الشيعة الثقات (كان حياً 313 ه).

والكتاب يتضمّن ألف حديث بإسناد واحد، يرويها عن موسى بن إسماعيل ابن موسى بن جعفر عن أبيه إسماعيل عن أبيه موسى بن جعفر عليهما السلام، وتلك الأحاديث مرتبة على كتب الفقه: الطهارة، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، الجنائز، الطلاق، النكاح، الحدود، الدعاء، السنن والآداب.

وقد طبع باسم الأشعثيات منضماً إلى كتاب «قرب الاسناد» لعبداللّه بن جعفر الحميري، وهو من إصدار مكتبة نينوى الحديثة بطهران.

ص:446


1- . رجال النجاشي: برقم 473؛ الخلاصة في الرجال للعلّامة الحلّي (المتوفّى 726 ه): 106.

إلى غير ذلك ممّا أُلف في القرن الثاني والثالث.

***

سادساً: أنّ أسانيد الكتب الحديثية عند الشيعة تناهز الآلاف فهل يمكن الحكم بكون هذه الأسانيد موضوعة ومفتعلة مع طول تباعد عصورهم!

نعم يمكن لشخص أو لجماعة اختراع سند أو أسانيد محددة في موضع خاص أو عدة مواضع، وأمّا ادعاؤكم وضع هذه الآلاف من الأسانيد لهذه الجوامع الكبيرة فهذا أمر محال عادة، ولا يقول به من له أدنى اطلاع على تاريخ الحديث والمحدّثين.

كما أنّ أصحاب المدوّنات الحديثية لم يكونوا من المغمورين، البعيدين عن علماء عصرهم من الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة، حتى يتسنّى لهم الاعتكاف في الغرف المظلمة ليخترعوا هذه الأسانيد الجمّة، بل كانوا من الشهرة بمكان، ومن الورع والتقوى بالمنزلة الرفيعة، فهذا الإمام أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني (260-329 ه) الّذي قدم بغداد عام 310 ه، قد روى وقرأ وأملى كتابه الكبير (الكافي) في عاصمة الدولة الإسلامية - يومذاك - ومعقل أعلام الأُمّة من الفرق كافة، على مرأى المحدّثين ومسمعهم، فلم يقلْ أحدٌ من سلفكم فيه مثل ما تقولون، بل لم ينبز بسوءٍ من المؤرخين أو المترجمين له، ثم قصد دمشق وبعلبك فحدث هناك، يقول الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر: محمد بن يعقوب من شيوخ الرافضة قدم دمشق وحدّث ببعلبك عن أبي الحسين محمد بن علي الجعفري السمرقندي ومحمد بن أحمد الخفّاف النيسابوري وعلي بن إبراهيم بن هاشم.

ثم قال: روى عنه أبو سعد الكوفي شيخ المرتضى أبي القاسم علي بن الحسين بن موسى الموسوي وأبو القاسم علي بن محمد بن عبدوس الكوفي وعبداللّه بن محمد... إلى أن قال: أنبأنا أبو الحسن بن جعفر، أنبأنا جعفر بن أحمد ابن حسين بن السرّاج، أنبأنا أبو القاسم المحسن حمزة الورّاق بتنيس، أنبأنا أبو

ص:447

علي الحسن بن علي بن جعفر الديبلي في المحرّم بتنيس سنة 395 ه، أنبأنا أبو القاسم علي بن محمد بن عبدوس الكوفي: أخبرني محمد بن يعقوب الكليني، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن موسى بن إبراهيم المحاربي، عن الحسن بن موسى، عن موسى بن عبداللّه، عن جعفر بن محمد. قال: قال أميرالمؤمنين عليه السلام:

«إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله»، إلى آخر ما نقله ابن عساكر.(1)

وبطبيعة الحال أنّه حدّث في غير واحد من مجالس الحديث عن كتابه ولم يخطُر ببال أحد أنّه اخترع الأسانيد.

***

سابعاً: نحن نطالبكم بما يشير - ولو من بعيد - إلى هذه النسبة الباطلة الّتي نسبتموها إلى الشيعة.

يقول سبحانه:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) (2).

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

26 ربيع الآخر 1430 ه.

ص:448


1- . تاريخ مدينة دمشق: 56/297-298.
2- . المائدة: 8.

7 الاحتفال بالمولد النبويّ الشريف

اشارة

على ضوء الكتاب والسنّة

لم يزل المسلمون منذ أقدم العصور الماضية يحتفلون بمولد النبي صلى الله عليه و آله بإلقاء الخطب والقصائد في مدحه وذكر مناقبه في الكتاب والسنّة تجسيداً لحبّهم له صلى الله عليه و آله الّذي أمر اللّه ورسوله به.

يقول الدياربكري (المتوفّى 960 ه): لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الشريف، ويظهر عليهم من كراماته فضل عظيم.(1)

ويقول القسطلاني (المتوفّى 923 ه): ولازال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده،... فرحم اللّه امرءاً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً، ليكون أشد علّة على من في قلبه مرض، وأعياه داء.(2)

إنّ كلّاً من العلمين ينسب الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله إلى أهل الإسلام، وكُلٌّ منهما ينصّ على أنّهم لم يزالوا يحتفلون بشهر مولده، فهذا إن دلّ على شيء فإنّما

ص:449


1- . تاريخ الخميس: 1/323.
2- . المواهب اللدنية: 1/27.

يدلّ على أنّ الاحتفال بمولده صلى الله عليه و آله له جذور في تاريخ الإسلام والمسلمين، دون أن يرجع أصله إلى عصر المماليك الذين حكموا مصر ما بين عام 650 إلى 922 هجرية حتّى انقرضوا على يد العثمانيّين. والقول بأنّ الاحتفال حدث في زمن المماليك في القرون المتأخّرة، تخرّص بلا دليل، بل كان عمل المسلمين في هذا العصر استمراراً لما كان عليه المسلمون من قبل.

ولو افترضنا أنّ المسلمين - من عصر المماليك إلى يومنا هذا - قد احتفلوا بمولد النبي صلى الله عليه و آله عبر قرون، فهذا العمل منهم يعدّ أفضل دليل على كون الاحتفال أمراً مشروعاً، إذ أنّ اتّفاق الأُمّة الإسلامية في عصر واحد على عمل، يصير دليلاً شرعيّاً على مشروعيته، فكيف إذا كان الاتفاق عبر عصور مديدة ؟!

قال الغزالي في تعريف الإجماع: إنّه (الإجماع) اتّفاق أُمّة محمد صلى الله عليه و آله بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي.(1) مستدلّين بقوله سبحانه: (وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً) (2).

ثم إنّ مَن يعتبر الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله بدعة يُسيء الظن بالأُمّة الإسلاميّة وعلى رأسها العلماء والفقهاء والمحدّثون، فإنّهم كانوا يحتفلون في هذه القرون بمولده الشريف من دون أن يدور بخلدهم أنّه بدعة في الدين، ومن المستحيل أن يتّفق أهل الإسلام على شيء عبر قرون مع كونه بدعة في الواقع.

فعلى مَن يسيء الظنّ بهم أن يقرأ أدلّة القائلين بجواز الاحتفال، بل واستحبابه ثم يحكِّم ضميره الحرّ: فهل هو من مصاديق البدعة أو لا؟

وقبل إيضاح الأدلّة نفسّر البدعة، ونميّز البدعة اللغوية من البدعة الشرعيّة.

ص:450


1- . المستصفى: 1/110.
2- . النساء: 115.

البدعة في اللغة والشرع

البدعة في اللغة هي: ما أُحدث على غير مثال سابق، فتعمّ كلّ أمر أو عمل جديد لم يكن له شبيه من قبل.

قال الراغب: الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء ولا اقتداء.

وأمّا البدعة في الشرع فهي: عبارة عن الافتراء على اللّه قولاً وعملاً، وقد عدّ المفتري على اللّه من أظلم الناس.

قال سبحانه: (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ ) (1).

وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «أمّا بعد فإنّ أصدق الحديث كتاب اللّه، وأفضل الهدى هدى محمد، وشرّ الأُمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار».(2)

وقال ابن حجر العسقلاني في تفسير هذا الحديث: «المحدثات» جمع «محدثة» والمراد بها ما أُحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمّى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة.(3)

فإذا كانت «البدعة» هي الافتراء على اللّه ورسوله والتلاعب بدينه وإدخال ما ليس من الدين، أو ما لم يعلم أنّه من الدين، في الدين، فعلى الباحث تمييز ما ليس ببدعة شرعاً عن البدعة لغة، وإن كانا يشتركان في الاسم، أعني: «البدعة» فنقول:

1. إذا كانت البدعة هي الافتراء على اللّه بجعل ما ليس من الدين، أو ما لم يعلم أنّه من الدين، في الدين. فكل عمل قام به الإنسان من دون أن ينسبه إلى الدين - وإن كان أمراً بديعاً - فهو ليس ببدعة شرعاً، كالألعاب الرياضية التي ابتدعها

ص:451


1- . الأنعام: 21.
2- . صحيح البخاري: 139/8، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة، باب الاقتداء بسنن رسول اللّه صلى الله عليه و آله؛ صحيح مسلم: 11/3، باب تخفيف الصلاة والخطبة.
3- . فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 13/253.

الإنسان لتوفير الراحة لنفسه بما فيها من الفوائد، فلا شك أنّها بدعة بالمعنى اللغوي، لأنّها إبداع ما ليس له مثيل في الزمن السابق، ولكنّها ليست ببدعة شرعاً، لعدم نسبتها إلى الشرع، إذ لا يقول: قال اللّه أو قال رسول اللّه: العبوا كذا وكذا، وإنّما ينسبها إلى منشئها. نعم مجرّد كونها غير بدعة لا يكون دليلاً على كونها عملاً سائغاً شرعاً، بل يُستنبط حكمها من الأدلّة الشرعيّة.

مثلاً: الاحتفال في العرائس باختلاط الرجال والنساء السافرات أمر بديع لم يكن له مثيل في البلاد الإسلامية، فهو بدعة لغوية ولكنّه ليس بدعة شرعية، إذ القائم بهذا الأمر لا ينسبه إلى الشريعة، ومع ذلك فهو حرام بنصّ الكتاب والسنّة.

2. إذا أبدع الإنسان شيئاً وأتى به باسم الدين ولكن كان له أصل كلّي في الشريعة، وإن لم تكن الخصوصية منصوصة في الشرع، فهذا ما يسمّى بدعة لغة ولا يكون بدعة شرعاً، لأنّ الخصوصية وإن لم تكن منصوصة لكن العنوان العامّ المنطبق عليه منصوص عليه في الشريعة المقدّسة. مثلاً:

الدفاع عن بيضة الإسلام بالأسلحة الحديثة، كالسفن الحربية والطائرات المقاتلة لم يرد بنفس الخصوصية في الشريعة المقدّسة، لكن العنوان المنطبق عليه وعلى غيره منصوص في الشريعة وهو الدفاع عن بيضة الإسلام وصيانة حدوده من الأعداء. قال سبحانه: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) (1)، فيكون العمل الحديث البديع تجسيداً لهذا العنوان الكلّي، ولم تزل الآية تتجسّد في كل قرن بوجه خاص.

3. إذا قام إنسان بأمر باسم الدين، وكان أمراً حديثاً لم يكن له مثيل في السابق، ولم يكن له أصل كلّي يعضده ويسوّغه ويضفي عليه الشرعيّة، فهذا هو البدعة المحرّمة التي وصفها سبحانه بالافتراء على اللّه، كتغيير الأذان والإقامة بنقص أو زيادة، فمن أراد التدخل في الشريعة الإسلامية في عباداتها ومعاملاتها وسياساتها

ص:452


1- . الأنفال: 60.

بأن يدخل فيها ما ليس منها أو لم يُعلم أنّه منها، ولم يكن في الشريعة أصل كلّي يستمد العمل مشروعيتَه منه، فقد ابتدع وافترى على اللّه الكذب.

إذا تُقررّ ذلك فلندرس حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله، وأنّه من أي قسم من الأقسام الثلاثة ؟ فنقول:

الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله له أصل في الشريعة

اشارة

إنّ الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله هو من القسم الثاني، فإنّ الاحتفال على النحو الرائج وإن لم يرد في الشريعة بحرفيّته، ولكن هناك نصوص عامّة في الكتاب والسنّة يستدل بها على أنّ الاحتفال بمولده يعتبر تجسيد لما تتضمّنه تلك النصوص والعناوين الّتي يستفاد منها تسويغ هذا الاحتفال، ويُضفي الشرعية عليه وهي كالتالي:

1. حبّ النبي أصل من الأُصول

لقد أمر الكتاب والسنّة بحبّ النبي صلى الله عليه و آله:

أمّا الكتاب العزيز فقوله سبحانه: (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) (1).

وأمّا السنّة النبوية فقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين».(2)

وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ

ص:453


1- . التوبة: 24.
2- . جامع الأُصول: 1/237-238 برقم 20.

الناس إليه من والده وولده»(1).

وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه: أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه ممّا سواهما، وأن يحب في اللّه ويبغض في اللّه، وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحبّ إليه من أن يشرك باللّه شيئاً».(2)

لا شك أنّ لحبّ النبي صلى الله عليه و آله مظاهر ومصاديق متعدّدة، ومن مظاهره اتّباع النبي واقتفاء قوله وفعله في الحياة.

ومن مظاهره أيضاً الاحتفال بمولده والإشادة بمنزلته التي نزّله سبحانه فيها، فمَن يحتفل في مولده فإنّما ينطلق من هذا المبدأ، أي حب النبي الذي أمر به القرآن والسنّة، ونحن نسأل من يعدُّ الاحتفال بمولده بدعة! هل المحتفلون - في نظر الأُمّة - ينطلقون من حب النبي صلى الله عليه و آله وودّه، أو ينطلقون من بغضه وعدائه ؟! لا أظنّ أنّ أحداً يتفوّه بغير الأوّل بل يعدّه تجسيداً للحبّ .

نعم، الاحتفال بيوم ولادة النبي صلى الله عليه و آله وإن لم يكن منصوصاً فإنّ الآية لا تحدّد حبّ النبي وإظهاره بيوم دون يوم أو طريقة دون طريقة، بل تُسوِّغ إظهاره كلّ يوم من أيّام السنة، إلّاأنّ اختيار ذلك اليوم من جانب المحتفلين لمناسبة خاصّة معلومة للجميع، وهو ظهور نوره صلى الله عليه و آله للعالم في ذلك اليوم، دون سائر الأيام، فلذلك اختاروا ذلك اليوم مع إمكان اختيار سائر الأيام.

وهناك كلمة قيّمة لأحد العلماء، قال: إنّنا لا نقول بسنّية الاحتفال بالمولد المذكور في ليلة مخصوصة، بل مَن اعتقد ذلك فقد ابتدع في الدين، لأنّ ذكره صلى الله عليه و آله والتعلّق به يجب أن يكون في كل حين ويجب أن تملأ به النفوس، نعم:

إنّ في شهر ولادته يكون الداعي أقوى لإقبال الناس واجتماعهم وشعورهم الفيّاض بارتباط الزمان بعضه ببعض فيتذكرون بالحاضر الماضي، وينتقلون من

ص:454


1- . جامع الأُصول: 237/1-238 برقم 21.
2- . جامع الأُصول: 237/1-238 برقم 22.

المشاهدَ إلى الغائب.(1)

إنّ الاحتفال ليس عبادة للنبي صلى الله عليه و آله ولا لغيره فإنّ العبادة لها مقوّم خاص غير موجود في المقام وهو الخضوع أمام موجود معيّن مع الاعتقاد بربويته، وانّ مصير الخاضع بيده في الدنيا والآخرة.

وإنّما الاحتفال أمر قربي يورث الثواب كسائر الأُمور القربية، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعانة الضعفاء وإعطاء الصدقات فكل هذه أُمور قربية لا عبادية. فإذا أتى به الإنسان للّه سبحانه، يكون وسيلة لقربه من اللّه تعالى ونيل الثواب منه سبحانه.

2. تكريم النبي صلى الله عليه و آله أصل من الأُصول

كما أنّ حب النبي صلى الله عليه و آله أصل من الأُصول الرئيسية في الإيمان كذلك تكريم النبي وتعظيمه.

قال سبحانه: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2).

وقال سبحانه: (لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً) (3).

فقد أمر سبحانه بالإيمان باللّه والرسول معاً كما خصّ نفسه بالتسبيح بكرة وأصيلاً، كذلك خصّ نبيه بالتعزير والتوقير، وليس التعزير في الآيتين إلّاالتكريم

ص:455


1- . مفاهيم يجب أن تصحح، المالك العلوي: 251.
2- . الأعراف: 157.
3- . الفتح: 9.

والتعظيم. وتخصيص تكريمه بأيّام حياته تفسير بالرأي مع إطلاق الآية، وإلّا يلزم تخصيص الإيمان به بأيّام حياته فقط.

وما ربّما يتوهم من أنّ المراد من التعزير هو النصرة يردّه أنّه سبحانه ذكره بقوله: (وَ نَصَرُوهُ ) في الآية الأُولى حيث ذكر النصرة بعد التعزير، فيكون التعزير غير النصرة، كما أردف التعزير بالتوقير في الآية الثانية، وفسّره به.

فنحن نستنطق كل ضمير حرّ وحتّى المخالفين - بشرط أن يتجرّدوا عن عقيدتهم المسبقة الموروثة - هل الاحتفال بمولده فيه تكريم للنبي وتعظيم له أو إذلال له وإهانة ؟!

لا أظن من له أدنى مسكة أن يتفوّه بالثاني وهو يعلم بضميره أنّ الاحتفال تعظيم له.

نعم تعظيم النبي وتكريمه لا يختص بيوم دون يوم، ولا الآية تحدّده بيوم خاص، وإنّما اختير ذلك اليوم من بين أيام السنة، لمناسبة ظهور هذا النور في ذلك اليوم الّذي حداهم إلى تخصيص ذلك اليوم بالاحتفال.

فمن نسب أصل الاحتفال إلى الشرع فقد صدق، لوجود أصل له في القرآن والسنّة.

3. رفع ذكر النبي صلى الله عليه و آله

إنّ إحياء ذكر النبي صلى الله عليه و آله أصل من الأُصول التي جاءت في القرآن الكريم.

قال سبحانه: (أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ * اَلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) (1).

فالآية تدلّ على أنّه سبحانه رفع ذكر النبي، ومن مظاهره، الشهادة برسالته في الأذان والإقامة وفي تشهد الصلاة، فيدلّ ذلك على أنّ الإشادة بذكر النبي أمر

ص:456


1- . الشرح: 1-4.

محبوب ومطلوب للّه تبارك وتعالى وليس مبغوضاً، ويُعتبر الاحتفال بمولده وقراءة الآيات الناصّة على عظيم منزلته والأحاديث الواردة في حقّه تجسيداً لهذه الآية وإحياءً لذكره، فهل يكون مثل ذلك بدعة ؟! ومن مقولة (ما نَزَّلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) (1)!!

4. ذكر نعم اللّه سبحانه وتعالى

الاحتفال بمولد النبي هو إعادة ذكر نعمة كبيرة من اللّه تعالى إلى ذاكرة الناس، وهذه النعمة هي ميلاد نور النبي صلى الله عليه و آله الّذي هو مبدأ الخير والهداية للناس، وقد أسماه اللّه سبحانه وتعالى بالنور وقال:

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ ) (2).

فالتذكير بنعمة اللّه يُعدّ شكراً للّه سبحانه في مقابل هذه النعمة التي أنجى اللّه سبحانه بها هذه الأُمّة من الضلالة والغواية.

يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي - عند الكلام في استحباب صيام الأيام التي تتجدّد فيها نعم اللّه على عباده - ما هذا لفظه: إنّ من أعظم نعم اللّه على هذه الأُمّة إظهار محمد صلى الله عليه و آله وبعثته وإرساله إليهم، كما قال اللّه تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (3)، فصيام يوم تجدّدت فيه هذه النعمة من اللّه سبحانه على عباده المؤمنين حسن جميل، وهو من باب مقابلة النعم في أوقات تجدّدها بالشكر.(4)

روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنه قال: لمّا قدم النبي صلى الله عليه و آله المدينة

ص:457


1- . الأعراف: 71.
2- . المائدة: 15.
3- . آل عمران: 164.
4- . لطائف المعارف: 98.

وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسُئلوا عن ذلك ؟ فقالوا: هو اليوم الذي أظفر اللّه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصوم تعظيماً له، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «نحن أولى بموسى» وأمر بصومه.(1)

وقد استدلّ ابن حجر العسقلاني بهذا الحديث على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي على ما نقله الحافظ السيوطي، فقال: فيستفاد فعل الشكر للّه على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة ويعاد ذلك، نظير ذلك اليوم من كل سنة. والشكر للّه يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم.(2)

وللسيوطي أيضاً كلام آخر نأتي بنصه، يقول: وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه و آله عقّ عن نفسه بعد النبوة مع أنّه قد ورد أنّ جده عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أنّ الذي فعله النبي صلى الله عليه و آله إظهار للشكر على إيجاد اللّه إيّاه رحمة للعالمين وتشريع لأُمّته كما كان يصلّي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع، وإطعام الطعام، ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرّات(3).

أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أنّ رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً.

فقال: أيّ آية ؟ قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (4).

ص:458


1- . صحيح مسلم: 3/149، باب صوم يوم عاشوراء؛ وأخرجه البخاري في صحيحه: 215/7.
2- . الحاوي للفتاوي: 196/1.
3- . الحاوي للفتاوي: 196/1.
4- . المائدة: 3.

فقال عمر: إنّي لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله قائم بعرفة يوم الجمعة.(1)

وأخرج الترمذي عن ابن عباس نحوه وقال: نزلت في يوم عيد من يوم جمعة ويوم عرفة. وقال الترمذي: وهو صحيح(2).

وفي هذا الأثر موافقة عمر بن الخطاب على اتّخاذ اليوم الذي حدثت فيه نعمة عظيمة، عيداً، لأنّ الزمان ظرف للحدث العظيم، فعند عود اليوم الذي وقعت فيه الحادثة، كان موسماً لشكر تلك النعمة، وفرصة لإظهار الفرح والسرور.(3)

5. الاقتفاء بسنّة نبي اللّه عيسى عليه السلام

يحكي سبحانه وتعالى عن المسيح - على نبينا وآله وعليه السلام - أنّ حواريّيه طلبوا منه أن يدعو اللّه سبحانه أن ينزّل عليهم مائدة من السماء ليأكلوا منها وتطمئن قلوبهم ويزيد إيمانهم بصدقه فدعا لهم، وقال في دعائه:

(اللّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) (4).

ترى أنّ المسيح يجعل يوم نزول المائدة عيداً لأوّل أُمّته وآخرهم جميعاً، فما كانت المائدة السماوية إلّاطعاماً يشبع بطونهم مرة واحدة في العمر، ومع ذلك اتّخذوا يوم نزول تلك النعمة عيداً للأُمّة، فما ظنّك بنعمة سماوية معنوية ظهرت يوم ميلاده وقد أشبع عقول البشر وقلوبهم ونوّر طريقهم ونجّاهم من الغواية إلى الهداية إلى يوم القيامة ؟!

ص:459


1- . صحيح البخاري: 270/8، كما أخرجه الترمذي في سننه 250/5. والروايات متضافرة على أنّ الآية نزلت في الثامن عشر من ذي الحجة في حجة الوداع في غدير خم.
2- . نفس المصدرين السابقين.
3- . بلوغ المأمول للدكتور عيسى بن مانع الحميري: 29.
4- . المائدة: 114.

أفلا يستحق هذا اليوم المبارك الاحتفال والتبريك والإشادة بعظمة النعمة ومناقبها وفضائلها؟

أفلا يستحق هذا اليوم أن يكون عيداً للمسلمين ويحتلفوا بقراءة الآيات الواردة في منزلة رسول اللّه التي منها قوله سبحانه: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1).

نعم يشترط أن يكون الاحتفال مجرّداً عن الغلو والخروج عن الحقّ ، كما يشترط أن يكون منزهاً ممّا لا يحلّ حتّى يكون الاحتفال شرعياً إلهياً من عامّة الجهات.

ولا يخفى على القارئ الكريم أنّ لهذه الاحتفالات أثراً كبيراً في التعرّف على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأخلاقه وآدابه وسيرته وسلوكه، فإنّ الخطيب في الحفلات يركّز في كلماته وجمله على ما له صلى الله عليه و آله من الأخلاق السامية والآداب الكريمة، وأنّه كيف كان يتعايش مع الناس، وكيف كان يداري المخالفين والأعداء، إلى غيرها من الفوائد الجمّة من الاحتفالات.

هذه هي أدلّة القائلين بجواز الاحتفال واستحبابه ونحن ندعو الشيخ خالد بن سعود البليهد في الرياض صاحب هذا العنوان على البريد الالكتروني gmail.com

binbulihed الّذي يصر على حرمة الاحتفال - في مقال خاص - من دون أن يذكر شيئاً من أدلّة القائلين بجوازه، أن ينظر إلى ما ذكرنا من الأدلّة بنظر دقيق دون أن يعتمد على قول فلان وفلان، بل يعتمد في نقده على الكتاب والسنّة كما اعتمدنا عليهما.

ص:460


1- . الأعراف: 157.

أدلّة القائل بالبدعة

أورد الشيخ خالد بن سعود البليهد وجوهاً استدلّ بها على كون الاحتفال بالمولد النبوي من البدعة، فنحن نستعرضها ثم نجيب عنها. يقول:

1. ليس في الكتاب ما يدل عليه.

الجواب: قد عرفت أنّ له أصلاً في الكتاب العزيز، ويكفي ذلك في خروجه عن البدعة.

2. ولا في السنّة أصل له.

الجواب: قد عرفت أنّ حب النبي صلى الله عليه و آله له أصل في السنّة، كما أنّ لغيره أصل كذلك.

3. ولا يعرف فعله عن الصحابة.

الجواب: إنّ هذا عجيب جدّاً، فإنّ فعل الصحابة لا يُعدّ حجّة شرعية ما لم ينسب إلى النبي صلى الله عليه و آله فكيف تركهم ؟! مضافاً إلى أنّ أحداً من الفقهاء لم يفت بأن عدم فعلهم أمراً ما، دليلٌ على حرمته.

4. ولا يعرف الترخيص به من الأئمة المتبوعين الأربعة ومَن في طبقتهم.

الجواب: يكفي في ذلك أنّ الأُمّة الإسلامية قد احتفلت بالمولد النبوي عبر قرون، وكم من مسألة لم يذكرها الأئمة الأربعة ومَن في طبقتهم استدركها المتأخّرون، ولو كان الملاك في الحل والحرمة كلمة الأئمة الماضين فقط، لشُلّ الفقه عن الاستجابة لمتطلبات العصر وإعطاء الحكم الشرعي للمسائل المستحدثة!!

5. انّ هذه البدعة [المنكرة] حدثت في زمن المماليك في القرون المتأخّرة.

الجواب: قد عرفت أنّه تخرص ورمي بالقول بلا دليل، وإن ذكره البعض.

وعلى فرض صحّته فقد اعتمدوا على الأُصول القرآنيّة.

6. لاشك في فضل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وإنّما النقاش في تخصيص يوم بعينه لذلك، واعتقاد أنّ له مزية عند اللّه وفضل، تعظم فيه العبادة والمحبة والذكر.

ص:461

الجواب: أنّهم يتقربون إلى اللّه بنفس الاحتفال، وأمّا تخصيص يوم خاص مع جواز الاحتفال في عامة الأيّام فإنّما هو لأجل مناسبة ظهور هذا النور المبارك في ذلك اليوم.

ثم إنّ المعترض يعود إلى نقد أدلّة القائلين بجواز الاحتفال بالنحو التالي:

7. انّ مَن يحتج بقول بعض العلماء المتأخّرين في إباحته فالكلام على وجوه:

أ. إنّ كلام العالم ليس دليلاً شرعياً يُحتجّ به وتجب متابعته، بل هو اجتهاد منه، فإن وافق الكتاب والسنة كان صواباً، وإن خالفهما كان خطأً باطلاً.

الجواب: ترى وجود التناقض بين قوله السابق - في الفقرة 4 حيث قال: ولم يعرف الترخيص من الأئمة المتبوعين الأربعة ومَن في طبقتهم - وقوله هذا، بأنّ كلام العالم ليس دليلاً شرعياً!!

فنسأله كيف تحتج بقول الأئمة الأربعة ومَن في طبقتهم وهم كانوا من العلماء، ومع ذلك تسلب الاعتماد من قول العلماء في هذا المقام وتقول: إنّ كلام العالم ليس دليلاً شرعياً؟!

ب. انّ العبرة في معرفة الحق مجموع أقوال الأئمة المتقدّمين أهل القرون الفاضلة الذين أثنى الرسول صلى الله عليه و آله عليهم، لا في كلام المتأخّرين الذين تكثر مخالفتهم للسلف الصالح بسبب طروء المذاهب المحدثة وتغيّر بعض المذاهب.

الجواب: بغض النظر عن الأحداث المؤلمة والمصائب الجليلة التي أصابت قلب الأُمّة الإسلامية خلال الفترة التي يصفها بالقرون الفاضلة، فهل القرون التي حكم فيها بنو أُمية وبنو العباس هي من القرون الفاضلة، وقد دهمت المسلمين حروب طاحنة واستبيحت أعراض الصحابة والتابعين في المدينة المنورة خلال وقعة الحرة عدة أيام، ورميت الكعبة المشرفة بالمنجنيق أيام الحجاج الثقفي ؟! أضف إلى ذلك المأساة الكبرى التي حدثت في القرن الأوّل من قتل ذراري الرسول ومُهج قلبه كالإمام الطاهر الحسين بن علي عليهما السلام وأولاده وأصحابه وما تلته من مجازر دمويّة أُخرى.

ص:462

واعطف على ما حدث أيّام الأُمويين ما جرى أيام العباسيين وما كان رائجاً من شرب الخمور ومسامرة المغنيات والراقصات الغالب والشائع في بلاط الخلافة!!

نتمنّى مَن المجيب أن يفتح عينيه على التاريخ منذ رحلة الرسول صلى الله عليه و آله إلى أن زالت الخلافة العباسية، ليرى خلال هذه الفترة أحداثاً يندى لها الجبين ويدمى لها القلب، فما من سنة خلت من الحرب أو القتل والدمار والتلاعب بالدين، فقد قام المتاجرون بالحديث بوضع الحديث على لسان رسول اللّه صلى الله عليه و آله خلال تلك (القرون الفاضلة) وأدخلوا في السنة الشريفة الإسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات، ولم يكتفوا بذلك حتّى تقربوا إلى اللّه سبحانه بسب الصحابي الجليل والإمام الطاهر (علي بن أبي طالب) على أعواد المنابر ستين عاماً.

فدع عنك نهباً صيح في حجراته ولكن حديثاً ما حديث الرواحل

ومع غض النظر عمّا ذكرنا - وهو شقشقة هدرت ثم قرّت - كيف يرمي المجيب المتأخّرين بكثرة مخالفتهم للسلف الصالح، وهل السلف الصالح معصومون من الخلل ؟! وإذا كان عامة المتأخّرين على غرار ما ذكره، فلِمَ يستثنى منهم ابن تيمية وابن القيّم، ويُضفى عليهما ثوب العصمة، حيث يُحتج بقولهما في عامة المواضع من دون نقد ورد؟!

ج. أنّ بعض من نشأ في بيئة التصوف كان معظماً لأهل التصوف، ومن نشأ في بيئة التشيّع صار معظماً لأئمة الشيعة، ومن نشأ في بيئة الخوارج كان معظماً لأئمتهم.

الجواب: وكذلك مَن نشأ في بيئة السلفيين - وبالأخص ما ينسبه ابن تيمية إلى السلف - يكون معظماً لهم فما هو الفرق يا ترى ؟! فهل يمكن أن يكون الأخير على الصراط المستقيم والباقون على الضلال المبين ؟! (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1).

ص:463


1- . الصافّات: 154.

د. أنّ باب التقرب إلى اللّه مبناه على التوقيف الشرعي والتقيّد بقيود الشرع، وليس مبناه على الاستحسان والاجتهاد.

الجواب: قد عرفت أنّ مَن يتقرب إلى اللّه بتلاوة آياته الواردة في فضائله صلى الله عليه و آله، وما في السنة النبوية من الإشادة بمنزلته ينطلق من الكتاب والسنّة لا من الاستحسان والاجتهاد.

ه - أنّه من العسير جداً على الإنسان أن يخالف ما نشأ عليه في مذهب قومه وآبائه وأجداده.

الجواب: أنّ ما ذكره صحيح ولكن لا يشذّ منه صاحب المقال!! فهو أيضاً متأثر ببيئته ومذهب آبائه وأجداده وقومه، فما هووجه التفريق بينه وبين غيرهم ؟! فاللائق به - قبل أن يتّهم الآخرين بتقليد الآباء والأجداد - أن يتّهم نفسه بذلك!!

نعم هناك رجال كسروا قيد التقليد ونظروا إلى الحقائق ببصيرة وتجرد عن عقائدهم المسبقة.

نسأل اللّه سبحانه الهداية لنا ولصاحب المقال، ولكلّ إنسان يتحرّى الحق والحقيقة ويتجرّد عن العصبية ويتّبع الحق لأجله، انّه سبحانه على الإجابة لقدير.

والحمد للّه رب العالمين

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

14 محرم الحرام 1430 ه.

ص:464

8 رسالة إلى أحد أعلام التقريب من أهل السنّة حول تكفير اتباع أهل البيت عليهم السلام من قبل بعض الخطباء والوعاظ

يتعرّض أتباع أهل البيت عليهم السلام في هذه الأيام إلى هجمة شرسة من قبل بعض الوعّاظ وخطباء الجمعة والجماعات ومجموعة مشبوهة قليلة البضاعة في العلم والتقوى في بعض دول المنطقة، وقد بثثنا شكوانا إلى أحد العلماء الأعلام ودعاة الوحدة والتقريب من أهل السنّة، وذلك في رسالة جوابيه بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك، وقد أبدينا أسفنا من تصريحات هؤلاء الخطباء وذكرنا بأنّ مكة والمدينة مدينتان مقدّستان تعدّان من أبرز مراكز الوحدة والتقريب بين المسلمين ولكنّنا نلاحظ الآن - مع الأسف الشديد - خطباء المنابر ووعّاظ السلاطين يتّهمون فئة كبيرة من المسلمين بالشرك والكفر، من غير أن يعرفوا المعيار الحقيقي للتوحيد والشرك، وأنّ ميزان التوحيد والشرك ليس ألعوبة بأيديهم حتى يطعنوا ويتّهموا الآخرين حسب ما تشتهيه نفوسهم المريضة.

وقد وصلت رسالتنا إلى هذا العلم العيّلم وقد أبدى تعاطف معنا في هذه المسألة وذكر - متأسفاً - بأنّ العالم الإسلامي - بفقهائه العظام وعلمائه الكرام - يعاني من هذا الخط التكفيري وإنّ غالبية هؤلاء الخطباء والوعاظ هم من أنصاف المتعلمين الذين يكون ضررهم أكثر من نفعهم...

ونقدّم إليكم نص الرسالتين:

ص:465

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سماحة الأُستاذ الفاضل الدكتور... حفظه اللّه تعالى

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وصلني - وصلكم اللّه - كتابكم المتضمن تبريكاتكم بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك.

أسأل اللّه سبحانه أن يعيد هذا الشهر المبارك عليكم وعلى من والاكم، في السنين القادمة بالصحة والعافية، ويوفقكم لصيامه وقيامه وأداء فرائضه.

كما أرجو من اللّه سبحانه أن يجمع ببنانكم وبيانكم كلمة المسلمين وأن ينجيهم من الاختلاف والفرقة. كيف وإنّ الذكر الحكيم كلما ذكر الوحدة يمدحها، وكلما ذكر الفرقة ذمها ونهى عنها.

قال تعالى: (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) (1) فاللّه سبحانه قد جعل تفرق المسلمين إلى فرق وشيع عِدْلاً لنزول العذاب من الفوق أو التحت.

إنّ مكة المكرمة بلد التوحيد والوحدة لأنّها مهوى قلوب المسلمين كافة، فمنبرها وخطيبها يجب أن يكونا داعية إلى توحيد الكلمة، وكلمة التوحيد، إلّاأنّنا ومع الأسف نرى أنّ خطب الجمعات أصبحت داعية للتفريق والتكفير.

نسأل اللّه سبحانه أن يرزقنا الطريق لتوحيد الكلمة كما رزقنا نعمة كلمة التوحيد.

وفقكم اللّه لكم خير

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الثالث من شوال المكرم 1430 ه. ق

ص:466


1- . الأنعام: 65.

الإجابة على الرسالة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

عناية مؤسسة الإمام الصادق رضي اللّه عنه

سماحة العلّامة آية اللّه العظمى جعفر السبحاني يحفظه اللّه

مدير مؤسسة الإمام الصادق رضي اللّه عنه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وبعد:

بكل الإجلال والتقدير لسماحتكم تسلّمتُ رسالتكم الكريمة عبْر الفاكس سائلاً المولى الكريم أن يمنَّ عليكم بدوام الصحة والتوفيق وأن يُعيد على الأُمّة الإسلامية هذه المناسبات الكريمة بالعز والنصر.

سيدي: وصلتني رسالتكم الكريمة وما ضمّنتموها من نتائج الاختلاف والفرقة وما تجني على الأُمّة هو الواقع المؤلم الّذي تعيشه الأُمّة، والأمر منوط بحكّامها وعلمائها، ومن يدرك هذا ويعمل على إزالته قليل ونادر ولكنها الأمانة والمسؤولية وكل يعمل في حدود طاقاته وإمكاناته، والتعليم في الحلقات العلمية والحوزات ومؤسسات التعليم، والاجتماعات الخاصة فالكل مسؤول أمام المولى عز وجل، أمّا الخطاب في الجمعات فالمعروف أنّ غالبية هؤلاء الخطباء والمتصدّين للوعظ أنصاف المتعلمين، ضررهم أكثر من نفعهم، ولن يفضّ هذا الإشكال إلّاولاة الأمر في البلاد الإسلامية (وإن اللّه ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) وإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.

سيدي أدامكم اللّه وسدّد خطاكم، الدعاء لسماحتكم والشكر....

الإمضاء

ص:467

9 إدانة مثيري الفتنة

بلغنا نبأ الاحتفال الذي أُقيم في لندن حول زوجة الرسول صلى الله عليه و آله، فإذا صحّ ذلك، وصحّ أنّه أُلقيت فيه كلمات تضمّنت ألفاظاً نابية، فإنّنا ندعو، انطلاقاً من مسؤوليتنا الرسالية والأخلاقية، جميع المسلمين إلى الاهتمام بقضاياهم المصيرية، ومواجهة التحدّيات والأخطار التي تتهدّدهم، لا سيما الخطر الصهيوني المدمّر، وإلى العمل الدؤوب على تعزيز التعاون والتضامن بينهم، من خلال التأكيد على ما يجمعهم من مشتركات، وما أكثرها، وتجنّب إثارة كل ما من شأنه أن يثير الخلاف، ويؤجّج النزاع بينهم، والكفّ عن كل التصرفات التي تسيء إلى الهدف المقدّس: الوحدة الإسلامية.

ونحن إذ ندين ما يصدر من هنا وهناك من أقوال وأفعال لا تنسجم مع الإسلام في أهدافه وروحه وخلقه، فإننا نُهيب بالعلماء الواعين وبالمثقفين الحريصين على أُمّتهم، أن يضعوا، عبر الحوارات واللقاءات المشتركة، حلولاً ناجعة لما تعانيه أُمّتنا من تمزّق وتشرذم، وأن يقفوا موقفاً صريحاً ومسؤولاً، لكي يحسموا مادة النزاع وأصل الداء، من ظاهرة التكفير و الاتّهام بالشرك والابتداع التي تتبناها بعض المؤسسات الدينية، وأن يعلنوا عن شجبهم واستنكارهم

ص:468

للحملة الإعلامية الشعواء التي تشنّ ضد أتباع أئمة أهل البيت عليهم السلام، من قبل بعض القنوات الفضائية المقيتة.

ولا شك أنّ في السكوت والوقوف موقف المتفرّج (فضلاً عن التحريض وشحن النفوس بالحقد والبغضاء) تجاه ما يحدث لشيعة أهل البيت لا سيما في العراق وباكستان من مجازر دموية رهيبة، يذهب ضحيّتها الآلاف منهم بغير حقّ ، إنّ السكوت عن ذلك يعدّ جريمة كبرى، وتشجيعاً للمتشدّدين على التخبّط أكثر في الظلام، وعلى ارتكاب المزيد من الجرائم وعمليات القتل الجماعي، والمزيد من ردود الأفعال السلبيّة والتصرّفات غير اللائقة، وكلّ ذلك لا يخدم ما يهدف إليه المخلصون الواعون في أُمّتنا من دعوة المسلمين جميعاً إلى الاعتصام بحبل اللّه تعالى، ومدّ جسور الثقة بينهم، ونبذ الخلاف والفرقة (وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ ) .(1)

أمّا بالنسبة إلى موقف الشيعة من قضية الإفك، فهو ماذكره شيخنا الطبرسي (471-548 ه) في تفسيره «مجمع البيان»، فمن أراد من إخواننا السنّة الوقوف على رأي علماء الشيعة، فليرجع إليه.(2)

جعفر السبحاني

قم المشرفة

ثالث شهر شوال المكرّم - 1431 ه

ص:469


1- . التوبة: 105.
2- . راجع مجمع البيان: 230/7، في تفسير الآية 11 من سورة النور: (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ...).

10 إدانة إهانة القرآن الكريم في أمريكا

نص البيان الذي صدر من مكتب سماحة آية اللّه العظمى الشيخ جعفر السبحاني (دام ظله) مستنكراً فيه جريمة إهانة القرآن الكريم من قبل مثيري الفتن والغوغاء في آمريكا.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إنّ احترام الأديان والمذاهب والمقدّسات هو أحد البنود الهامة التي أكّد عليها ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن منظمة الأُمم المتحدّة، والموقّع عليه من قبل كافة رؤساء دول العالم الأعضاء في هذه المنظمة العالمية.

إلّا أنّنا نرى في الأيام الأخيرة أنّ هذا الأصل الهام قد أصبح عرضة للانتهاك والخرق بحجّة حرية التعبير عن الرأي، التي يتذرع بها البعض لهتك حرمة المقدّسات الدينية لمليارات المتديّنين.

إنّ الجريمة الأخيرة التي تتمثّل بهتك حرمة القرآن المجيد ووصفه بأنّه كتاب حرب والإقدام على حرقه وتمزيقه قد حدثت على أرض دولة تعد مضيّفاً لمنظمة الأُمم المتحدة، وتحسب نفسها حارسة لحقوق البشر، ومهد الحرية والديمقراطية.

بعد ما انتشرت أخبار نيّة البعض القيام بهذه الجريمة حذّر الكثير من

ص:470

المفكّرين والسياسيين والعلماء من خطورة الإقدام على مثل هذه الأعمال المخالفة لكافة الأُصول الإنسانية والقوانين العالمية، ولكن وممّا يؤسف له أقدمت زمرة من الأذناب والمجهولين ومقابل البيت الأبيض مركز الحكومة الأمريكية على إهانة المصحف الشريف وتمزيقه، ولم يمنع هؤلاء الشرذمة، مسؤول حكومي ولا حتى الشرطة المتواجدين في ذلك المكان.

لا نشك نحن ولا يشك أيضاً ذو مسكة من عقل أنّ هؤلاء الأشرار إنّما قاموا بعملهم هذا بإذن خاص من رؤوسائهم والذين يؤيدونهم من وراء الستار، ولولا ذلك لما تجرّأوا وأقدموا على هذا العمل الشنيع.

إنّ القائمين بهذا العمل والمؤيدين له قد أصبحوا منبوذين ومكروهين من قبل أتباع كافة الأديان السماوية الذين استنكروا هذه الجريمة، لأنّ هؤلاء لم يهتكوا حرمة القرآن الكريم فقط بل تعدّوا على حرمة نبي اللّه عيسى المسيح عليه السلام الذي ذكره الذكر الحكيم بأنّه قدوة البشر، ووصفت أُمّه مريم العذراء فيه بأنّها صدّيقة وأنّ اللّه اصطفاها وطهّرها وفضلها على نساء العالمين.

إنّ وراء هذه الأعمال نوايا شريرة منها زرع التفرقة بين المسيحيين والمسلمين وإغراء بعضهم ببعض وإثارة نار الحقد والكراهية والشحناء في أوساطهم حتى تستعر نار الحروف والخلافات والقتال بين الشعوب والدول.

إنّ للقرآن المجيد مكانة عظيمة وجليلة في قلوب مليارد ونصف مسلم، وأنّ عمل هؤلاء النوكى لم ينقص من مكانة القرآن وجلالته شيئاً، بل على العكس أثبت خفة عقلهم وشذوذ أفكارهم، ذلك أنّ اللّه قد تكفّل بحفظ هذا الكتاب العزيز وضمن سلامته.

وكما قام علماء الأُمّة ومفكّروها باستنكار هذه الجريمة، فالواجب على حكّام الدول الإسلامية وقادتها السياسيين مواجهة هذه الإهانة وأن لا يكتفوا بإصدار بيانات الاستنكار اللفظية، بل عليهم - حفاظاً لكرامة مقدّساتهم - الإقدام بعمل جدّي يؤثر على سياسة المجرمين واقتصادهم ومنافعهم، بتخفيض التمثيل

ص:471

الدبلوماسي وتقليل التبادل التجاري ومقاطعة المنتجات الاقتصادية، وغير ذلك من الأساليب التي تحدّ من تكرار أمثال هذه الأعمال المشينة، ولولا ذلك فسوف تستمر هذه الأعمال، ويتجرّأ أعداء اللّه والقرآن أكثر، ويقدموا على أعمال أقبح وأشنع.

نداؤنا الأخير لكافّة المؤمنين و رؤساء الدول الإسلامية أن يتوكّلوا على اللّه سبحانه وأن ينصروا اللّه ورسوله ويجعلوا نصب أعينهم قوله تعالى:

(إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ) .

كما نطالب المسلمين كافّة التمسّك بوحدة الكلمة.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

جعفر السبحاني

الخامس من شوال المكرم 1431 ه

ص:472

11 رسالة إلى الدكتور الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر

سماحة الدكتور الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف المحترم

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وبعد؛ فقد اطّلعنا على موقفكم الرسالي بالنسبة إلى عامّة الفرق الإسلامية وبينها المذهب الشيعي الإمامي، فسررنا به.

إنّ موقفكم هذا قد سبقكم إليه رجال مخلصون من الشيعة والسنّة - كما تذكرون أنتم - وعلى رأسهم الحاج حسين البروجردي المرجع الأعلى للشيعة في عصره، والشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر - رضوان اللّه عليهما -، فأنتم خير خلف لهما ولجماعة دار التقريب.

ولا ريب في أنّ الأُمّة الإسلامية أُمّة واحدة كما سمّاهم اللّه سبحانه، إذ قال:

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (1)، ولو اختلف علماؤهم فيما روي عن النبي، ولكنّهم لم يختلفوا في نبيهم، وهذه فضيلة رابية للمسلمين عامّة.

وفي هذه الأجواء الشائكة التي يسعى فيها العدو لإشعال نار الفرقة وتأجيج الخلاف بين الفرق الإسلامية عن طريق وسائل الإعلام المختلفة يجب على صالحي المؤمنين ودعاة التقريب السعي إلى تقريب الخطى وتعزيز الوحدة

ص:473


1- . الأنبياء: 92.

الإسلامية تحت ظل الاعتقاد برب واحد وكتاب واحد ورسول واحد وقبلة واحدة وشريعة موحدّة، وبها وبأمثالها يصدق بحقنا قول القائل: أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا. ونعم ما قال الشاعر المفلق الأزهري محمد عبد الغني (رضي اللّه عنه):

إنا لتجمعنا العقيدة أُمّةً ويضمنا دين الهدى أتباعا

ويؤلف الإسلام بين قلوبنا مهما ذهبنا في الهوى أشياعا

وفّقكم اللّه تعالى لنصرة الإسلام، وسدّد خطاكم على طريق التضامن والتكاتف بين المسلمين جميعاً.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم المشرفة

15 ذي القعدة الحرام 1431 ه

ص:474

الفصل الرابع: في التراجم

اشارة

1. البرقي وأثره الرجالي

2. علي بن إبراهيم القمي عصره...، مكانته العلمية.. آثاره

3. المحدّث الكليني وأثره الخالد

4. الشريف المرتضى.. حياته وآثاره

5. ميثم البحراني عالم رباني وفيلسوف إلهي

6. آقا بزرگ الطهراني وطبقات أعلام الشيعة

7. السيد محمد محمدصادق الصدر رجل العلم والجهاد

ص:475

ص:476

1 البرقي وأثره الرجالي

اشارة

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

أمّا بعد:

إنّ علم الرجال - الّذي يبحث عن أحوال رواة الحديث التي لها دخل في قبول روايتهم وعدمه - قد أصبح في هذه الأيام من مبادئ الاجتهاد. ولا ينكر هذه الحقيقة إلّامَن لم يمارس الفقه ولم يطّلع على دور السنّة في استنباط الأحكام الشرعية.

إنّ الخبر المتواتر، بل المستفيض قليل، وهما لا يكفيان لاستنباط جميع الأحكام الشرعية، فالمهم هو الخبر الواحد، فالحجّة إمّا قول الثقة، أو الخبر الموثوق صدوره وإن لم تحرز وثاقة الراوي، وعلى كلا التقديرين فتمييز الثقة عن غيره، أو جمع القرائن على كون الخبر موثوق الصدور، رهن الخوض في أحوال الرواة وتحديد مدى وثاقتهم وضبطهم، وممارستهم للحديث، إلى غير ذلك من الأُمور التي يتبنّاها علم الرجال.

ثم إنّ للمؤلّفين في هذا العلم منهجين رئيسيّين:

الأوّل: ترتيب أسماء الرواة حسب الحروف الهجائية، وذكر خصوصيات الراوي، من دون أن تُذكر طبقة الراوي وعصره والمشايخ الذين

ص:477

لقيّهم والتلاميذ الذين أخذوا منه، إلّاقليلاً، وعلى ذلك سلك تقريباً الرجالي النقّاد علي بن أحمد النجاشي (372-450 ه) في فهرسته المعروف برجال النجاشي، وشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (385-460 ه) في فهرسته، وتبعهما مَن جاء بعدهما.

الثاني: تدوين أسماء الرواة، وجعلهم طبقات حسب أزمانهم، مع سرد أسماء المشايخ الذين أخذوا منهم والتلاميذ الذين رووا عنهم، ويأتي في إطار هذا المنهج، إيراد أصحاب النبي صلى الله عليه و آله، ثم أصحاب الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، وفق العصر الّذي عاش فيه كل إمام.

وقد لا يُراعى في هذا المنهج ترتيب أسماء كلّ طبقة على حروف الهجاء، كما هو الأمر في كتاب البرقيّ هذا، الّذي عمد مؤلّفه - في أماكن عديدة منه - إلى جمع الأسماء المشتركة في محلّ واحد.

إنّ دراسة أحوال الرواة حسب الطبقات لها ميزة خاصة، وهي: التعرف على طبقة الراوي وزمانه. وربّما يكشف المتتبِّع ما في السند من السقط، كما إذا روى من هو في الطبقة الثامنة عمّن هو في الطبقة السادسة ولم يكن الراوي من المعمِّرين، فيستظهر أنّ الواسطة قد سقطت من الرواية.

وبالجملة فإنّ التعرّف على الطبقات، يوقف الباحث على نقصان السند وكماله، وعلى مشايخ الراوي وتلاميذه، ومدى اهتمامه بالحديث قلّة وكثرة.

ومن حسن الحظ أنّ كلا المنهجين كان موجوداً منذ تدوين علم الرجال إلى يومنا هذا.

وقد ألّف غير واحد من العلماء وفق المنهج الثاني، نشير إلى ما وقفنا عليه منهم:

1. أحمد بن محمد بن خالد بن عبدالرحمن البرقي (المتوفّى 274 ه).

ترجمه النجاشي في رجاله، وقال: صنّف كتباً منها المحاسن. ثم ذكر ما اشتمل عليه من كتب، إلى أن قال: كتاب الطبقات، كتاب أفاضل الأعمال، كتاب أخص

ص:478

الأعمال، كتاب المساجد الأربعة، كتاب الرجال(1).

وذكر الشيخ الطوسي ما تضمّنه «المحاسن» من كتب، ثم قال: وزاد محمد بن جعفر بن بُطة (ق 4 ه) على ذلك (يعني ما ذكره هو من الكتب) طبقات الرجال، كتاب الأوائل، كتاب الطب...(2)

2. أحمد بن محمد بن الحسين بن الحسن بن دؤل القمي (المتوفّى 350 ه).

قال النجاشي في حقّه: له مائة كتاب، ثم عدّ كتبه ومنها كتاب الطبقات(3).

والظاهر منه ترتيب الرواة وفقاً لطبقاتهم، حياة وموتاً، أُستاذاً وتلميذاً.

3. محمد بن عمر بن محمد بن سالم بن البراء التميمي، المعروف بالقاضي الجعابي (284-355 ه).

ترجمه غير واحد من السنة والشيعة. قال النجاشي بعد ذكر اسمه: الحافظ القاضي، كان من حفاظ الحديث، وأجلّاء أهل العلم، له كتاب الشيعة من أصحاب الحديث وطبقاتهم، وهو كتاب كبير سمعناه من أبي الحسين محمد بن عثمان. ثم ذكر له كتاباً آخر باسم: أخبار بغداد وطبقات أصحاب الحديث بها، وقال: أخبرنا بسائر كتبه شيخنا أبو عبداللّه محمد بن محمد بن النعمان رضى الله عنه(4).

4. محمد بن الحسن الطوسي (385-460 ه).

ألّف كتاب الرجال، ويشتمل - كما جاء في مقدّمته -: على أسماء الرجال الذين روَوا عن النبي صلى الله عليه و آله، وعن الأئمة عليهم السلام من بعده إلى زمن القائم عليه السلام، ثم أذكر من تأخّر زمانه عن الأئمة عليهم السلام من رواة الحديث، أو مَن عاصرهم ولم يروِ عنهم،

ص:479


1- . رجال النجاشي: برقم 180.
2- . الفهرست للطوسي: 45، برقم 65.
3- . رجال النجاشي: برقم 221.
4- . رجال النجاشي: برقم 1056.

وأَرتّب ذلك على حروف المعجم...(1)

***

إنّ هذا الكتاب الماثل بين يديك المعروف ب «رجال البرقي»، من الكتب القيمّة من تراثنا الخالد، وله منزلة رفيعة بين علماء الرجال فلنذكر شيئاً عن رجالات هذا البيت الرفيع ثم نتحدث بعد ذلك عن الكتاب ومؤلّفه.

الأوّل: محمد بن خالد بن عبدالرحمن البرقي

إنّ محمد بن خالد البرقي هو أساس هذا البيت المبارك في قم المشرّفة، وكان كوفياً نزل بقم مع جدّه عبدالرحمن، وقد ترجمه غير واحد من علماء الرجال، وعدّوه من أصحاب موسى بن جعفر والرضا والجواد عليهم السلام.

قال النجاشي: محمد بن خالد بن عبدالرحمن بن محمد بن علي البرقي، أبو عبداللّه. مولى أبي موسى الأشعري. ينسب إلى برق رود قرية من سواد قم، على واد هناك. وله أخوة يعرفون بأبي علي الحسن بن خالد، وأبي القاسم الفضل بن خالد، ولابن الفضل ابن يعرف بعلّي بن العلاء بن الفضل بن خالد، فقيه. وكان ضعيفاً في الحديث(2) وكان أديباً حسن المعرفة بالأخبار وعلوم العرب.(3)

وذكره الشيخ الطوسي في أصحاب الرضا عليه السلام ووثقّه، وفي أصحاب الجواد عليه السلام، وقال: إنّه من أصحاب موسى بن جعفر، والرضا عليهم السلام.(4)

ص:480


1- . رجال الطوسي: 2 (مقدمة المؤلف).
2- . قال المحقّق التستري: قول النجاشي: كان ضعيفاً في الحديث لا ينافي قوله: كان حسن المعرفة بالأخبار، لأنّ مراده بالحديث الحديث الديني وروايات الأحكام فلم يكن له فيها يد طولى، بخلاف الأخبار والسير والتاريخ. قاموس الرجال: 9/250.
3- . رجال النجاشي: برقم 899.
4- . رجال الطوسي: 386 برقم 4، و 404 برقم 1.

وذكره ابن إسحاق النديم في الفهرست في أوّل الفن الخامس من المقالة السادسة في أخبار فقهاء الشيعة، وعدّ من تصانيفه (كتاب الرجال)، وفيه ذكر مَنْ روى عن أمير المؤمنين عليه السلام(1).

وممّا تقدّم يتّضح بجلاء أنّ الكتاب (رجال البرقي) ليس من تأليفه قطعاً، لأنّه في طبقة متقدّمة على طبقة المؤلّف، فهو يروي عن الإمام الجواد(2) عليه السلام (المتوفّى 220 ه)، بل يروي عمن توفّي في أوائل القرن الثالث كيونس بن عبدالرحمن(3)(المتوفّى 208 ه)، في حين أنّ المؤلّف أورد في كتابه أصحاب الإمام العسكري (المتوفّى 260 ه)، وصرّح فيه بسماعه من عبداللّه بن جعفر الحميري، الّذي ورد الكوفة سنة نيف وتسعين ومائتين(4).

***

الثاني: أحمد بن محمد بن خالد البرقي

ترجمه النجاشي بقوله: أحمد بن محمد بن خالد بن عبدالرحمن بن محمد ابن علي البرقي، أبو جعفر. أصله كوفي. وكان جدّه محمد بن علي حبسه يوسف ابن عمر بعد قتل زيد بن علي عليه السلام، ثم قتله، وكان خالد صغير السن، فهرب مع أبيه عبدالرحمن إلى بَرْق رُود. وكان ثقةً في نفسه، يروي عن الضعفاء، واعتمد

ص:481


1- . فهرست ابن النديم: 223.
2- . وقد استندنا في بيان طبقته بروايته عن الإمام الجواد عليه السلام مع أنّ الشيخ عدّه من أصحاب الكاظم والرضا عليهما السلام - كما تقدّم - وذلك لأنّنا لم نعثر له على رواية عنهما، حتّى أنّه لم ينقل عن الإمام الجواد عليه السلام إلّاروايتين. [لاحظ: الكافي: 3/559، باب الرجل يعطي عن زكاته العوض من كتاب الزكاة، الحديث 1؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام: 253/2، الحديث 26، الباب 28: ما جاء عن الإمام الرضا عليه السلام من الأخبار المتفرقة].
3- . انظر: معجم رجال الحديث: 21/218 برقم 14465.
4- . رجال النجاشي: برقم 571.

المراسيل.(1)

روى أحمد: عن أبيه محمد بن خالد البرقي، وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، وعبدالرحمن بن أبي نجران، والحسن بن علي بن فضّال، والحسن بن علي بن يقطين، والحسن بن محبوب، وإسماعيل بن مهران، والحسن بن علي الوشّاء، والحسين بن سعيد الأهوازي، ويحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد، وعليّ بن الحكم، وآخرين.

وعدّ من أصحاب الإمامين الجواد والهادي عليهما السلام.

وكان كثير الرواية، عارفاً بالسيِّر والأخبار، مصنّفاً. روى عنه: سعد بن عبداللّه الأشعري، ومحمد بن الحسن الصفار، ومحمد بن أحمد بن يحيى، وعلي بن إبراهيم، وعلي بن الحسين السعد آبادي، والحسن بن متيل الدقّاق، وأحمد بن عبداللّه البرقي (حفيده)، ومحمد بن علي بن محبوب، وعبداللّه بن جعفر الحميري وآخرون.

وقد ترجمه من أعلام السنّة: الذهبيّ ، والصفدي، وابن حجر، والزركلي.(2)

توفّي سنة (274 ه)، وقيل: سنة (280 ه).

وقد مضى قبل قليل أنّ النجاشي عدّ من تآليف المترجم كتاب الطبقات، وكتاب الرجال. كما أنّ الشيخ الطوسي نقل عن ابن بُطة أنّ له طبقات الرجال.

واستناداً إلى ما تقدّم، قال شيخنا المجيز الطهرانيّ : إنّ لأبي جعفر البرقي كتابين في الرجال:

أحدهما: الطبقات الموجود المرتّب، بترتيب أصحاب النبي والأئمة إلى

ص:482


1- . رجال النجاشي: برقم 180.
2- . تاريخ الإسلام (261-280 ه): 282 برقم 252؛ الوافي بالوفيات: 390/7 برقم 3386؛ لسان الميزان: 1/262؛ الأعلام للزركلي: 1/205.

الحجّة صاحب الزمان عليهم الصلوات والسلام.

ثانيهما: الموسوم بكتاب الرجال الّذي عبّر به الشيخ كذلك بعد ذكر ثلاث كتب أُخرى، ولعلّه كان بغير هذا الترتيب.(1)

وهذا القول ضعيف كما نبّه عليه المحقّق التستري في قاموسه(2) للأسباب التالية:

أوّلاً: إنّ المؤلف ينقل (عند ذكر أصحاب الصادق عليه السلام) في مواضع سبعة عن كتاب سعد، وهو سعد بن عبداللّه الأشعري (المتوفّى 299 أو 301 ه)، الّذي ألّف كتابين في الرجال: مناقب رواة الحديث، ومثالب رواة الحديث. وإليك المواضع التي نقل فيها عنه:

1. ترجمة عبيداللّه بن عبداللّه النخعي برقم 179.

2. ترجمة سليمان بن خالد البجلي برقم 434.

3. ترجمة فضيل بن سُكرة برقم 467.

4. ترجمة الفضل البقباق أبي العباس برقم 474.

5. ترجمة هشام بن سالم الجواليقي برقم 477.

6. ترجمة هشام بن الحكم برقم 478.

7. ترجمة أُمَيّ الرواني المرادي برقم 781.

وكان سعد من أبرز تلامذة أحمد بن محمد البرقيّ ، ويروي عنه روايات جمّة، فكيف يستند أحمد إلى كتابه ؟!

ثانياً: إنّ المؤلّف عدّ عبداللّه بن جعفر الحميريّ في أصحاب أبي محمد العسكري عليه السلام، وصرّح بسماعه منه، في حين أنّ الحميري كان من تلامذة أحمد الراوين عنه، فكيف يروي مَن هو في الطبقة العليا عمّن في الطبقة الدنيا؟! اللهم إلّا

ص:483


1- . مصفى المقال: 61.
2- . قاموس الرجال: 1/31، الطبعة الأُولى.

أن يُحمل على نقل الأكابر عن الأصاغر، ولكنّه بعيد مع هذه القرائن.

ثالثاً: إنّ أحمد بن محمد بن خالد قد عُدّ في الكتاب من أصحاب الإمامين:

الجواد، والهادي عليهما السلام (الرقم: 63، و 54) من دون أن يشير إلى أنّه المؤلف، وقد ترجم النجاشي نفسه وقال (مصنّف هذا الكتاب)(1).

كما ترجم الشيخ نفسه في الفهرست وقال: مصنّف هذا الفهرست.(2)

رابعاً: إنّ محمد بن خالد عُدّ في الكتاب من أصحاب الكاظم، والرضا، والجواد عليهم السلام، ولم يذكر أنّه والد المؤلف.

هذه الأسباب والقرائن القوية تنفي إمكانية نسبة الكتاب إلى أحمد هذا، على الرغم من اشتهار القول بأنّه من تأليفه.

***

الثالث: عبداللّه بن أحمد بن محمد بن خالد

عبداللّه بن أحمد بن محمد البرقي، وهو أحد أبناء هذه العائلة ولكنّنا لم نقف على ترجمة له في الكتب الرجالية والتاريخية، ولعلّه لم يكن من رواة الحديث ورجالاته وإن كان لابنه - كما سيأتي - منزلة عظيمة.

ويدلّ على ذلك أيضاً أنّ ابنه أحمد - وهو من مشايخ الكليني - لم يرو عن أبيه شيئاً، بل أنّ كلّ ما رواه فهو عن جدّه أحمد بن محمد بن خالد البرقي، وإليك نماذج:

1. أحمد بن عبداللّه، عن أحمد بن أبي عبداللّه (أبو عبداللّه كنية محمد ابن خالد)، عن أبيه، عن عبداللّه بن فضل النوفلي، عن علي بن أبي حمزة(3).

2. أحمد بن عبداللّه، عن أحمد بن أبي عبداللّه، عن محمد بن علي الصيرفيّ ،

ص:484


1- . رجال النجاشي: برقم 253.
2- . الفهرست: برقم 714.
3- . الكافي: 3/455، باب تقديم النوافل، الحديث 20.

عن ابن سنان.(1)

3. أحمد بن عبداللّه، عن أحمد بن أبي عبداللّه، عن ابن عمران الأرمني، عن علي بن الحسين، عن محمد بن الحسن، عن أبي عبداللّه عليه السلام.(2)

4. أحمد بن عبداللّه، عن أحمد بن أبي عبداللّه، عن أبيه، عن صفوان عن خالد بن نجيح.(3)

5. علي بن أحمد بن عبداللّه بن أحمد بن أبي عبداللّه البرقي، قال: حدّثني أبي، عن جدّه أحمد بن أبي عبداللّه البرقي، عن محمد بن عيسى.(4)

6. حدّثنا أبو القاسم علي بن أحمد بن عبداللّه بن أحمد بن أبي عبداللّه البرقي، قال: حدّثني أبي وعلي بن محمد بن ماجيلويه جميعاً، عن أحمد بن أبي عبداللّه البرقي.(5)

7. حدّثنا علي بن أحمد بن عبداللّه بن أحمد بن أبي عبداللّه البرقي، قال:

حدّثني أبي، عن جدّه أحمد بن أبي عبداللّه.(6)

8. حدّثنا علي بن أحمد بن عبداللّه، قال: حدّثني أبي، عن جده أحمد ابن أبي عبداللّه.(7)

9. حدّثنا علي بن أحمد بن عبداللّه بن أحمد بن أبي عبداللّه البرقي، قال:

حدّثني أبي، عن جدّه أحمد.(8)

ص:485


1- . الكافي: 4/54، باب فضل القصد، الحديث 12.
2- . الكافي: 4/317، باب من يشرك قرابته من كتاب الحج، الحديث 10.
3- . الكافي: 5/78، باب الحث على الطلب والتعرض للرزق، الحديث 8.
4- . عيون أخبار الرضا عليه السلام: 2/88، الباب 32، الحديث 17.
5- . عيون أخبار الرضا عليه السلام: 2/221، الباب 47، الحديث 11.
6- . معاني الأخبار: 107، باب معنى الأمانات، الحديث 1.
7- . معاني الأخبار: 161، باب النعم، الحديث 2.
8- . معاني الأخبار: 302، باب معنى الشجنة، الحديث 1.

الرابع: أحمد بن عبداللّه بن أحمد بن محمد بن خالد البرقي

قال المحقّق البروجردي - عند ذكر مشايخ الكليني: أحمد بن عبداللّه فقد روى المصنّف (الكليني) عنه مفرداً (بلفظ أحمد) عشرة أحاديث، روى هو واحداً منها عن جدّه، وواحداً عن أحمد بن محمد، والباقي عن أحمد بن أبي عبداللّه أو أحمد بن محمد البرقي، والكلّ واحد كما سيظهر، ولم أجد له رواية عن غير أحمد بن محمد بن خالد البرقي، وقد روى عنه ولده علي بن أحمد بن عبداللّه وهو من شيوخ الصدوق، والشريف الصالح الحسن بن حمزة العلوي المرعشي الطبري، والمصنّف (الكليني)، وهو من الطبقة الثامنة.

ثم إنّ أحمد بن محمد بن خالد البرقي، كان جدّ هذا الشيخ كما يستفاد من أسانيد الروايات(1).

ثم ذكر قدس سره أحاديث عن كتاب الأمالي للشيخ الطوسي.

قال المحقّق التستري: أحمد بن عبداللّه بن أحمد بن أبي عبداللّه البرقي يروي عن جدّه، ويروي عنه الكليني، وهو آخر عدته في طريقه إلى أحمد بن أبي عبداللّه البرقي.(2)

***

أمّا الخامس من رجال هذا البيت، فهو:

عليّ بن أحمد بن عبداللّه بن أحمد البرقيّ (شيخ الصدوق)

وقد مرّ الكلام عنه عند ذكر الثالث منهم.

ص:486


1- . أسانيد كتاب الكافي: 116.
2- . قاموس الرجال: برقم 403. والعجب أنّ الأُستاذ حسين علي محفوظ، لم يذكره في مشايخ الكليني في تقديمه على كتاب الكافي، رغم كونه قد صار بصدد استقصائهم!!

الكتاب تأليف الحفيد

وعلى ضوء ما تقدّم نقول: إنّ القرائن السابقة التي تنفي أن يكون الكتاب من تأليف الجدّ، تؤيد أنّ الكتاب من تأليف أحمد بن عبداللّه بن أحمد الّذي هو سميّ جدّه، وكان هو وسعد بن عبداللّه في طبقة واحدة، وكلاهما من مشايخ الكليني، فيكون المؤلف ممّن عاش في أواخر القرن الثالث، وأدرك شيئاً من القرن الرابع، وله دور في نقل الأحاديث، كما عرفت شيئاً منه، وهذا هو المتعيّن جدّاً.

نعم هناك احتمال آخر، ولكنّه لا ينافي ما قلناه، وهو أنّه قد مرّ أن محمد بن خالد البرقي ألّف كتاباً في من يروي عن أمير المؤمنين عليه السلام وجاء بعده ابنه الّذي ألف كتاب طبقات الرجال، ولعله أدرج فيه ما كتبه والده في مَن يروي عن أمير المؤمنين عليه السلام، وقد توارث الكتاب أبناء هذه العائلة إلى أن وصلت النوبة إلى أحمد ابن عبداللّه، فأكمل الكتاب بما وجده في كتاب طبقات سعد بن عبداللّه بن خلف الأشعري القمي وغيره. فتكون النتيجة: أنّ الكتاب ليس من نتاج جهود مؤلف واحد، بل هو نتيجة لعمل ثلاثة علماء، وهم:

1. محمد بن خالد البرقي.

2. ابنه أحمد بن محمد بن خالد.

3. حفيد الابن أحمد بن عبداللّه بن أحمد بن محمد بن خالد البرقي.

هذا ما توصلنا إليه في تحقيق وتعيين مؤلف الكتاب.

***

وأمّا هوية الكتاب فهو بصدد التعريف بطبقات الرواة عن المعصومين بحسب الترتيب الزمني لهم عليهم السلام من دون أن يركّز على وثاقة أحد وعدمها، وقد أصبح كتاباً ثميناً في هذا المضمار.

ومَن قرأ كتاب رجال الشيخ الطوسي يذعن بأنّه قد صدر عن هذا الكتاب، وانتفع به كما انتفع هو بما دوّنه أسلافه.

ومن المعلوم أنّ الكتاب بهذه الصورة يحتاج إلى ترجمة المذكورين

ص:487

فيه من الرواة، ترجمة موجزة تُطلع القارئ على منزلة الراوي علماً ووثاقة وشيخاً وتلميذاً، وهذا هوالّذي قام به الأُستاذ الفاضل: حيدر محمد علي البغدادي (أبو أسد)، فشمّر عن ساعد الجد وأتى بما هو فوق المرام، وهذا ما سيكشف عنه الإمعان في مطالعة تعليقاته وتحقيقاته، التي اتّسمت بالدقة والوضوح والشمول.

رحم اللّه تعالى الماضين من علمائنا ورواة أحاديثنا، وحفظ الباقين منهم.

والحمد للّه الّذي تتم بنعمته الصالحات

جعفرالسبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

12 ذي الحجة الحرام 1429 ه

ص:488

2 علي بن إبراهيم القميّ (230-310 ه)

اشارة

عصره.. مكانته العلمية.. آثاره

ازدهر علم الحديث في القرنين: الثاني والثالث الهجريّين ازدهاراً باهراً، نتيجة للجهود الكبيرة الّتي بذلها حَمَلةُ الحديث الذين استهانوا بكلّ الصعاب في سبيل تلقّيه وتدوينه وضبطه وتنقيحه، ورفعِ رايته، وقد تركوا في هذا المجال آثاراً قيّمة، أضاءت الطريق للأجيال التالية.

وأوَدُّ قبل الشروع في الحديث عن شخصية شيخنا القميّ ، أن أُمهّد بهذا التمهيد:

كان للشيعة آنذاك مراكز مهمة للحديث:

أوّلها: العراق، ونخصّ بالذكر منه الكوفة، فلقد كانت تزدحم بمئات المحدِّثين، الذين تلقَّوا حديث الرسول صلى الله عليه و آله والوصي وسائر الأئمة عليهم السلام (من بعده) وتناقلوه عصراً تلوَ عصر.

وممّا يشهد لذلك قول الحسن بن علي بن زياد الوشّاء (وكان من أصحاب الرضا عليه السلام) لأحمد بن محمد بن عيسى الأشعريّ القُمّي: إنّي أدركت في هذا المسجد - يعني: مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر بن

ص:489

محمد.(1)

ثانياً: بلاد ماوراء النهر وأخصّ بالذكر «سمرقند وكشَ وخوارزم» وما حولها، فقد كان لمحدّثي الشيعة هناك نشاط ملموس، أدّى إلى انتعاش الحركة العلمية فيها، لاسيّما في عصر أبي النضر العيّاشي، الّذي يُعتبر بحق قطب رحى تلك الحركة، يدلّ على ذلك قول النجاشي: إنّ أبا النضر أنفق على العلم والحديث، تَركة أبيه سائرها، وكانت ثلاثمائة ألف دينار، وكانت دارهُ كالمسجد، بين ناسخ، أو مقابل، أو قارئ، أو معلّق، مملوءةً من الناس.(2)

وقوله في ترجمة أبي الحسن علي بن محمد بن عبداللّه القزويني القاضي: إنّه قدم بغداد سنة ست وخمسين وثلاثمائة ومعه من كتب العياشي قطعة، وهو أوّل من أوردها إلى بغداد ورواها عن أبي جعفر أحمد بن عيسى العلوي الزاهد عن العياشي.(3)

ثالثاً: قم والريّ ، فقد كانتا مركزاً لحديث أهل البيت: وكان للمحدّثين في هذه الديار مدرسة خاصة تختلف عن مدرسة محدّثي الكوفة في شرائط قبول الحديث وردِّه.

وقد بلغت عناية العلماء بالحديث درجة أنّهم كانوا يفارقون أهليهم، ويقطعون الفيافي مِن أجل طلبه أو نشره، وممّن اعتنى هذا الاعتناء: إبراهيم بن هاشم، الّذي جدّ في طلب الحديث في بلدة الكوفة، وتخرّج من مدرستها، ثم انتقل إلى قمّ ، فكان هو أوّل من نشر حديث الكوفيين بها.(4)

هذه الثروة الحديثية، انتقلت إلى ابنه (أبي الحسن علي بن إبراهيم)، الّذي تبوّأ مكانة سامية في دنيا العلم والحديث. وإليك كلمات الرجاليين في حقّه:

ص:490


1- . رجال النجاشي: برقم 79.
2- . رجال النجاشي: برقم 945.
3- . رجال النجاشي: برقم 691.
4- . انظر: رجال النجاشي: برقم 17؛ وفهرست الطوسي: رقم 6.

قول العلماء في حقّه

1. قال النجاشي: ثقة في الحديث، ثبت، معتمد، صحيح المذهب، سمع فأكثر، وصنّف كتباً، وأضرّ في وسط عمره.(1)

2. وقال الشيخ الطوسي: له كتب (ثم ساق أسماء كتبه) وقال: أخبرنا بذلك الشيخ المفيد رحمه الله عن محمد بن علي بن الحسين بن بابويه (الصدوق) عن أبيه، ومحمد بن الحسن (ابن الوليد) وحمزة بن محمد العلوي، ومحمد بن علي ماجيلويه، عن علي بن إبراهيم(2).

3. وذكره ابن إسحاق النديم ضمن فقهاء الشيعة ومحدّثيهم وعلمائهم حيث قال: «علي بن هاشم» وهو علي بن إبراهيم بن هاشم، من العلماء والفقهاء وله من الكتب: كتاب المناقب، كتاب اختيار القرآن، كتاب قرب الإسناد.(3)

4. وقال الذهبي: علي بن إبراهيم، أبو الحسن المحمدي (كذا)، رافضي جلد، ثم ذكر أنّ له تفسيراً، وأنّه يروي عن ابن أبي داود، وابن عُقدة، وجماعة.(4)

أقول: في قول الذهبي نظر، فعليّ بن إبراهيم أعلى طبقة من ابن عُقدة (المتوفّى 333 ه)، ولم نجد له رواية عنه، ولعلّ الذهبيّ وجد روايات ابن عقدة في التفسير، فظنّ أنّ الراوي عنه، هو عليّ بن إبراهيم، والصواب أنّه العباس بن محمد (تلميذ علي بن إبراهيم)، أمّا ابن أبي داود، وهو عبداللّه بن سليمان بن الأشعث (230-316 ه)(5) فهو من أقرانه، فلا تستبعد روايته عنه، ولكنّنا لم نظفر له برواية عنه.

5. وقال ابن حجر العسقلاني بعد ذكر عبارة الذهبي المتقدّمة: وهو علي بن

ص:491


1- . رجال النجاشي: برقم 678.
2- . الفهرست: برقم 380.
3- . الفهرست (للنديم): 325.
4- . ميزان الاعتدال: 3/111 برقم 5766.
5- . ميزان الاعتدال: 2/433 برقم 4368.

إبراهيم بن هاشم القمي، ذكره أبو جعفر الطوسي في مصنفي الإمامية، وذكره محمد بن إسحاق النديم في الفهرست، وقال له من الكتب التفسير والناسخ والمنسوخ والمغازي والشرائع.(1)

أساتذته:

امتاز علي بن إبراهيم بسعة روايته، وقد وقع في إسناد كثير من الروايات، يبلغ عددها في الكتب الأربعة (7140)(2) مورداً.

1. أبوه إبراهيم بن هاشم. ويأتي في طليعة أساتذته، حيث انتفع بعلمه غاية الانتفاع، وحمل عنه حديثاً كثيراً، تكشف عنه رواياته عنه، الّتي بلغت في الكتب الأربعة (6414) مورداً.(3)

2. محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين، من أصحاب أبي جعفر الثاني عليه السلام.

قال النجاشي في وصفه: جليل في أصحابنا، ثقة، عين، كثير الرواية، حسن التصانيف.(4) ورواياته عنه تبلغ (568) مورداً.(5)

3. هارون بن مسلم بن سعدان الكاتب السرمرائي، وأصله الأنبار. قال عنه النجاشي: ثقة، وجه. لقي أبا محمد وأبا الحسن عليهما السلام. له كتاب التوحيد، وكتاب الفضائل، و...(6). ورواياته عنه تبلغ (83) مورداً.(7)

4. صالح بن السندي. ورواياته عنه تبلغ (63) مورداً.

5. أحمد بن محمد بن خالد البرقيّ ، مؤلف «المحاسن»، توفّي عام 274 ه أو

ص:492


1- . لسان الميزان: 4/191 برقم 506.
2- . معجم رجال الحديث: 11/193 برقم 7816.
3- . معجم رجال الحديث: 316/1 برقم 332.
4- . رجال النجاشي: برقم 897.
5- . معجم رجال الحديث: 214/12 برقم 7830.
6- . رجال النجاشي: برقم 1181.
7- . معجم رجال الحديث: 214/12 برقم 7830.

280 ه، ذكره الشيخ الطوسي في رجال الجواد والهادي عليهما السلام.

6. عليّ بن محمد شيرة القاشاني. قال النجاشي: كان فقيهاً، مكثراً من الحديث. له كتاب التأديب، وكتاب الجامع في الفقه.(1)

وثمة أساتذة آخرون يروي عنهم عليّ بن إبراهيم، منهم:

7. المختار بن محمد بن مختار الهمداني. ورواياته عنه تبلغ (16) مورداً.

8. أخوه إسحاق بن إبراهيم بن هاشم القمي. روى عن أبي جعفر الثاني عليه السلام، كما روى عن محمد بن إسماعيل بن بزيع.

9. إسماعيل بن محمد المكي.

10. الحسن بن موسى الخشاب، الّذي أدرك عصر أبي الحسن العسكري عليه السلام(2). قال عنه النجاشي: من وجوه أصحابنا، مشهور، كثير العلم والحديث.(3)

11. ريّان بن الصلت الأشعري، القمي. قال النجاشي: روى عن الرضا عليه السلام، كان ثقة صدوقاً.(4)

12. سلمة بن الخطاب، قال عنه النجاشي: كان ضعيفاً في حديثه له عدّة كتب.

13. العباس بن معروف، أبو الفضل القمي. ذكره الشيخ الطوسي في أصحاب الرضا عليه السلام(5). وقال النجاشي: ثقة، له كتاب الآداب.(6)

14. عبداللّه بن الصلت، أبو طالب القمي. قال النجاشي: ثقة، مسكون إلى روايته، روى عن الرضا عليه السلام يُعرف له كتاب التفسير(7) وقد بقي عبداللّه حتّى لقيه

ص:493


1- . رجال النجاشي: برقم 669.
2- . رجال الطوسي: برقم 5 (أصحاب العسكري عليه السلام)، وبرقم 3 (من لم يرو عنهم عليهم السلام).
3- . رجال النجاشي: برقم 84.
4- . رجال النجاشي: برقم 435.
5- . رجال الطوسي: برقم 34.
6- . رجال النجاشي: برقم 741.
7- . رجال النجاشي: برقم 562.

محمد بن الحسن الصفار (المتوفّى 290 ه)، وروى عنه.

15. محمد بن خالد بن عمر الطيالسي التميميّ . قال النجاشي: مات سنة (259 ه)، وهو ابن (97) سنة.(1)

16. يعقوب بن يزيد بن حماد السلميّ ، الأنباريّ ، من كتّاب المنتصر. قال النجاشي: روى عن أبي جعفر الثاني عليه السلام، وكان ثقة صدوقاً.(2)

17. ياسر، خادم الرضا عليه السلام. وغيرهم.

تلامذته:

روى عنه جماعة نذكر منهم ما يلي:

1. علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القميّ (والد الشيخ الصدوق). قال النجاشي: شيخ القميين في عصره، ومتقدّمهم، وفقيههم، وثقتهم. ثم ذكر له (18) كتاباً، وقال: مات سنة (329 ه).(3)

2. أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني. قال عنه الصدوق في «كمال الدين»:

كان رجلاً ثقة ديّناً، فاضلاً، رحمة اللّه عليه ورضوانه. وكان من مشايخه، وقد ترضّى عليه في موارد من المشيخة، وكنّاه بأبي علي في الأمالي. روى له في «الوسائل» سبعين مورداً.

3. الحسن بن حمزة العلوي. قال النجاشي: أبو محمد الطبري يعرف بالمرعشي. كان من أجلّاء هذه الطائفة وفقهائها. له كتب. قدم بغداد ولقيه شيوخنا في سنة 356 ه ومات في سنة 358 ه(4).

وقال عنه الطوسي: العلوي الطبري، كان فاضلاً أديباً عارفاً فقيهاً زاهداً ورعاً

ص:494


1- . رجال النجاشي: برقم 911.
2- . رجال النجاشي: برقم 1216.
3- . رجال النجاشي: برقم 684.
4- . رجال النجاشي: برقم 148.

كثير المحاسن، له كتب وتصانيف كثيرة.(1)

ووصفه المفيد بالشريف الزاهد والشريف الصالح في أماليه. وهو من مشايخ الصدوق، ترضّى عليه في معاني الأخبار.

4. محمد بن موسى بن المتوكل. ذكره الطوسي في من لم يرو عنهم عليهم السلام وقال: روى عن عبداللّه بن جعفر الحميري، وروى عنه ابن بابويه.(2)

وقد أكثر الصدوق الرواية عنه، وذكره في طرقه إلى الكتب في 48 مورداً، والظاهر أنّه كان يعتمد عليه، وادّعى ابن طاووس في فلاح السائل الاتفاق على وثاقته. ذكره العلّامة وابن داود في القسم الأوّل.

5. محمد بن يعقوب الكليني. قال عنه النجاشي: أبو جعفر الكليني... شيخ أصحابنا في وقته بالرّي، ووجههم وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم، صنّف الكتاب الكبير المعروف بالكليني، يسمّى الكافي في عشرين سنة... مات رحمه الله ببغداد سنة 329 ه.(3) وقال الطوسي في الفهرست: ثقة عارف بالأخبار، له كتب.

6. أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى الكاظم عليه السلام.

7. محمد بن علي بن أبي القاسم، ماجيلويه.

8 و 9. أحمد ومحمد ابنا علي بن إبراهيم. وغيرهم.

طبقته في الرجال

من أجل تحديد طبقته نذكر في المقام أُموراً تلقي ضوءاً على العصر الّذي عاش فيه على وجه التقريب، ومنها:

الأوّل: يبدو ممّا سردنا من أسماء مشايخه أنّ أكثر رواياته عن تلامذة الإمام الجواد عليه السلام (المتوفّى 220 ه)، والهادي عليه السلام (المتوفّى 254 ه)، والعسكري

ص:495


1- . الفهرست: برقم 195.
2- . رجال الطوسي: برقم 3.
3- . رجال النجاشي: برقم 1027.

(المتوفّى 260 ه). وقد يروي عمّن بقي من تلامذة الإمام الرضا إلى سنوات طويلة بعده عليه السلام، كعبداللّه بن الصَّلت.

الثاني: أنّه لا يروي (مشافهة) عن محدّثي قم، الذين ماتّوا في حياة الجواد عليه السلام. وفي حدود تلك الفترة، أو بعدها بقليل، مثل: زكريا بن آدم الأشعريّ ، وعبدالعزيز بن المهتدي الأشعريّ ، ومحمد بن عيسى بن عبداللّه الأشعريّ ، ومحمد بن خالد البرقيّ .

الثالث: أنّ أقدم من روى عنهم عليّ بن إبراهيم، ممّن أُرّخت وفياتهم هو:

محمد بن خالد الطيالسيّ ، الّذي توفّي سنة (259 ه).

وعلى ضوء ما تقدّم، يمكننا أن نقدّر تاريخ مولده بنحو سنة (230 ه) أو بعدها بقليل، وأُرجّح أنّها لا تتجاوز العقد الرابع من القرن الثالث.

وأمّا تاريخ وفاته، فلم يُحدَّد أيضاً، ولكنّه كان حياً عام 307 ه، فقد روى الصدوق عن حمزة بن محمد بن أحمد بن جعفر، قال: أخبرنا علي بن إبراهيم بن هاشم سنة 307 ه(1) وأظنّ أنّه مات بعد هذا التاريخ بقليل.

وقفة مع تفسيره المتداول

إنّ كتاب «تفسير القميّ » المشهور المتداول اليوم، مؤلَّف من قسمين رئيسيين منضميّن إلى بعضهما:

الأوّل: تفسيرُ شيخنا، الّذي نحن بصدد الحديث عنه، أعني: علي بن إبراهيم القمّي، ورواياته وأخباره، الّتي يروي جُلَّها عن أبيه.

وقد روى تفسيره هذا تلميذه أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى الكاظم عليه السلام.

الثاني: روايات تلميذه العباس (المذكور آنفاً)، الّتي يروي أكثرها عن أحمد

ص:496


1- . عيون أخبار الرضا عليه السلام: 1/292، الحديث 43.

ابن محمد بن سعيد الهمْدانيّ ، المعروف بابن عُقدة (المتوفّى 333 ه) بسنده إلى أبي الجارود زياد بن المنذر، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام.

وللعباس هذا ذكر في كتب الأنساب، وليس له ذكر في الكتب الرجالية.

يُشار إلى أنّ الشيخ الطوسيّ عدّ جدَّه: محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى العلوي، في أصحاب الإمام الهادي عليه السلام.(1)

ونخلص ممّا تقدّم أنّ التفسير مُلفَّق من تفسيرين أساسييّن: تفسير علي بن إبراهيم، وتفسير أبي الجارود؛ ولكل من التفسيرين سند خاص يعرفه كل من راجع هذا التفسير.

هذا، ولم يقتصر العباس العلوي (تلميذ القميّ ) في روايته على ابن عُقدة، بل روى عن مشايخه الآخرين وهم:

1. محمد بن جعفر الرزاز: قال راوي التفسير (أبو الفضل العباس بن محمد):

حدثنا محمد بن جعفر الرزاز، عن يحيى بن زكريا، عن علي بن حسان، عن عبدالرحمن بن كثير عن أبي عبداللّه عليه السلام في قوله تعالى: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ ) (2).

2. أبو عبداللّه الحسين بن محمد بن عامر الأشعري. قال (راوي التفسير):

أخبرنا الحسين بن محمد بن عامر، عن المعلى بن محمد البصري، عن ابن أبي عمير، عن أبي جعفر الثاني عليه السلام في تفسير قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (3).

3. أبو علي محمد بن أبي بكر همام بن سهيل البغداديّ الكاتب (المتوفّى 336 ه) قال (راوي التفسير): حدثنا محمد بن همام، قال حدثنا جعفر بن محمد ابن مالك، قال حدثنا القاسم بن الربيع، عن محمد بن سنان، عن عمّار بن مروان، عن منخل، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ

ص:497


1- . رجال الطوسي: 444 برقم 41.
2- . تفسير القمي: 2/331، سورة الحديد.
3- . تفسير القمي: 1/168، سورة المائدة.

تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) (1).

وقد ذكر المحقّق الطهراني في موسوعته أسماء ثلة أُخرى ممّن روى عنه جامع التفسير غير ما ذكرنا، وإليك أسماء بعضهم على وجه الإجمال:

1. أبو الحسن علي بن الحسين السعدآبادي القمي، الراوي عن أحمد بن أبي عبداللّه البرقي.

2. الشيخ أبو علي أحمد بن إدريس بن أحمد الأشعري القمي (المتوفّى 306 ه).

3. الشيخ أبو عبداللّه محمد بن أحمد بن ثابت، الراوي عن الحسن بن محمد ابن سماعة (المتوفّى عام 263 ه).

4. أبو جعفر محمد بن عبداللّه بن جعفر الحميري القمي، الراوي عن أبيه كتاب «قرب الاسناد».

5. محمد بن أبي عبداللّه وهو أبو الحسين محمد بن عون الأسدي (المتوفّى 312 ه)، من مشايخ الكليني.

6. حُميد بن زياد النينوائي (المتوفّى 310 ه)، وهو أيضاً من مشايخ الكليني.

7. الحسن بن علي بن مهزيار، عن أبيه علي.

8. أبو القاسم الحسني، الراوي لتفسير الفرات عن مؤلفه، وفرات وعلي بن إبراهيم كانا متعاصرين.

إلى غير ذلك من المشايخ الذين يروي عنهم في هذا التفسير، مع أنّه لم توجد رواية علي بن إبراهيم عن أحد من هؤلاء في جميع رواياته المروية عنه في الكافي وغيره(2)، وهذا دليل على أنّ راوي التفسير يروي عن هؤلاء المشايخ بلا واسطة علي بن إبراهيم.

ص:498


1- . تفسير القمي: 2/79، سورة النور.
2- . لاحظ الذريعة: 4/302-307.

توثيق من وقع في أسناد التفسير

ثم إنّ غير واحد من المحدّثين وغيرهم استظهر ممّا ورد في أوّل تفسير القمي توثيق كل من وقع في أسناد روايات هذا التفسير المنتهية إلى المعصومين، لأنّه ورد في ديباجة الكتاب العبارة التالية:

نحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي إلينا، ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض اللّه طاعتهم وأوجب رعايتهم ولا يقبل العمل إلّابهم.(1)

قال صاحب الوسائل: قد شهد علي بن إبراهيم - أيضاً - بثبوت أحاديث تفسيره وأنّها مروية عن الثقات عن الأئمة عليهم السلام.(2)

وقال المحقّق الخوئي: إنّ علي بن إبراهيم يريد بما ذكره إثبات صحّة تفسيره وأنّ رواياته ثابتة وصادرة عن المعصومين، وأنّها انتهت إليه بواسطة المشايخ والثقات من الشيعة، وعلى ذلك فلا موجب لتخصيص التوثيق بمشايخه الذين يروي عنهم علي بن إبراهيم بلا واسطة.(3)

أقول: ما نقلناه عن العلمين - مع احترامنا وتكريمنا لرأيهما - نابع عن عدم دراسة الكتاب بدقة إذ اكتفوا بما جاء في ديباجة الكتاب، لما عرفت من أنّ التفسير ملفّق ممّا رواه جامعه عن علي بن إبراهيم عن مشايخه إلى المعصومين عليهم السلام، وممّا يرويه (جامع التفسير) عن مشايخه حتّى ينتهي السند إلى زياد بن المنذر أبي الجارود.

بل هناك روايات يرويها راوي التفسير عن سائر مشايخه بأسانيدهم المتصلة إلى الإمام عليه السلام - كما مرّت عليك أسماؤهم - فكيف يمكن عدّ هذا التفسير أحد مؤلفات علي بن إبراهيم القمي والأخذ بما ذكره في ديباجة الكتاب.

أضف إلى ذلك: أنّه لا يمكن القول بأنّ مراد القميّ من عبارته: «رواه مشايخنا

ص:499


1- . تفسير القمي: 1/4.
2- . الوسائل: 20/68، الفائدة السادسة.
3- . معجم رجال الحديث: 1/49 المقدمة الثالثة.

وثقاتنا» كلّ من وقع في سنده إلى أن ينتهي إلى الإمام، بل الظاهر كون المراد خصوص مشايخه بلا واسطة، ويعرب عنه عطف «وثقاتنا» على «مشايخنا» الظاهر في الأساتذة بلا واسطة، ولمّا كان النقل عن الضعيف بلا واسطة من وجوه الضعف، دون النقل عن الثقة إذا روى عن غيرها، خصّ مشايخه بالوثاقة ليدفع عن نفسه سهم النقد والاعتراض، وإلّا فقد ورد في أسناد القمي من لا يصح الاعتماد عليه من أُمّهات المؤمنين، فلاحظ.

والحق، إنّ لتفسير القميّ أهمية خاصة بين كتب التفسير، فبالإضافة إلى سمّو مكانة مؤلِّفه في العلم والفضل والإتقان، وقُربِ عصره من عصر أئمة أهل البيت عليهم السلام، بل أدرك عصر الإمامين: الهادي والعسكري عليهما السلام، وإن لم يروِ عنهما، فإنّ تفسيره يتمتع بمزايا عديدة، من أهمّها:

1. إنّه شحنه بالروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام، لاسيما عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام.

2. شرحَ المفردات القرآنية شرحاً واضحاً وافياً، مستلهماً معانيها من رؤية كلية للقرآن المجيد، تجد ذلك على سبيل المثال في شرحه لمعنى الهداية، قال:

(الهداية في كتاب اللّه على وجوه أربعة...)(1)، ومعنى الإيمان، قال: (الإيمان في كتاب اللّه على أربعة أوجه...)(2)، ومعنى الظنّ ، قال: (الظنّ في الكتاب على وجهين....)(3)، ومعنى الحسنة والسيئة، قال: (الحسنات في كتاب اللّه على وجهين، والسيئات على وجهين...)(4)، وغير ذلك من الموارد.

4. اتَّبع أُسلوب الاستدلال عند تفسيره لآية ما في موارد عديدة، وقد يستدلّ لذلك إمّا بآية أُخرى، أو برواية عن المعصومين عليهم السلام.

ص:500


1- . تفسير القمي: 1/43-44.
2- . المصدر السابق.
3- . تفسير القمي: 1/57.
4- . تفسير القمي: 1/152.

5. أشار في موارد كثيرة إلى أسباب النزول، مستنداً في ذلك إلى بعض الروايات، وقد يسرد بعض الحوادث التاريخية المتّصلة بهذا الشأن، لتبيان معنى الآية، الّتي هو بصدد تفسيرها.

ولهذه المزايا وغيرها، أجد الحاجة ماسّة إلى تجريد تفسير القميّ من روايات تلميذه أبي الفضل العباس العلوي لتتجلّى صورته أكثر، وتبرز قيمته الحقيقية بشكل أوضح، فأسأل اللّه تعالى أن يقيّض بعض الباحثين الجديرين بهذا العمل، ليقوم به أحسن قيام.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

1 جمادى الآخرة 1429 ه

ص:501

3 المحدّث الكليني وأثره الخالد

اشارة

(بعد 250-329 ه)

محمد بن يعقوب بن إسحاق، ثقة الإسلام وشيخ المحدّثين أبو جعفر الكليني الرازي، البغدادي، صاحب كتاب «الكافي» أحد الكتب الأربعة عند الشيعة الإمامية.

ولد بعد منتصف القرن الثالث، أي بعد عام 250 ه، وتوفّي عام 329 ه.

أُسرته

إنّ للأُسرة الّتي يترعرع فيها الإنسان تأثيراً في تكوين شخصيته ونمو سجاياه، ورسم مؤهّلاته، وقد ولد الشيخ الكليني في أُسرة علمية عريقة، وتربّى في أحضان فاضلة شريفة.

فوالده هو أحد علماء الري وقد انتقل إلى موطنه (كُلين) وبقي فيها إلى أن تُوفّي، وقبره هناك معروف يُزار.

وأخوه إسحاق بن يعقوب أحد من يروي عنه الكليني على ما في غيبة الشيخ الطوسي باسناده عن محمد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال:

سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أُشكلت عليّ ، فوقع التوقيع بخط مولانا صاحب الدار عليه السلام: «أمّا ما سألت عنه - أرشدك اللّه تعالى وثبّتك - من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا...» وجاء في آخره:

ص:502

«والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب، وعلى من اتّبع الهدى».(1)

وأمّا أُمّه فهي أيضاً من بيت عريق في العلم والحديث، وكانت عالمة فاضلة، تربّت في هذا البيت الّذي أنجب العديد من المحدّثين والعلماء.

فوالدها هو الشيخ محمد بن إبراهيم بن أبان، الذي وصفه الشيخ الطوسي بقوله: محمد بن إبراهيم المعروف بعلّان الكليني، خيّر.(2)

وعمّها هو الشيخ أحمد بن إبراهيم بن أبان، الذي يعرّفه الشيخ الطوسي بقوله:

أحمد بن إبراهيم المعروف بعلّان الكليني، خيّر، فاضل، من أهل الري.(3)

وأخوها، هو الشيخ علي بن محمد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني، يعرّفه النجاشي بقوله: علي بن محمد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني المعروف بعلّان، يكنّى أبا الحسن، ثقة، عين، له كتاب أخبار القائم عليه السلام.(4)

وممّا ذكرنا يظهر أنّ «علّان» لقب للعائلة، حيث إنّ الجد والأب والخال يطلق عليهم علّان، وخال الكليني هذا من مشايخه.

ويظهر من العلّامة المامقاني أنّ ابن الخال محمد بن علي وحفيده القاسم بن محمد، كانا من علماء عصرهما.(5)

وهذا يدلّ على أن ّ العلم قد ضرب بجرانه في هذه الأُسرة قبل الكليني وبعده، وأنّه نشأ بين ظهرانيهم وتألّق نجمه عندهم، فصار من أكابر المحدّثين وأعظم المجتهدين في عصره على وجه أطلق لسان كلّ موافق ومخالف للثناء عليه وإطرائه.

ص:503


1- . الغيبة للشيخ: 176.
2- . رجال الطوسي: 496، باب من لم يرو عنهم عليهم السلام، باب الميم برقم 29.
3- . رجال الطوسي: 438، باب من لم يرو عنهم عليهم السلام، باب الألف برقم 1.
4- . رجال النجاشي: 88/2 برقم 680.
5- . تنقيح المقال: 302/2 برقم 8446.

الظروف الّتي نشأ فيها

إنّ البيئة الّتي عاش فيها الكليني كان يغلب عليها التشيّع، فقد كانت الري وقم من معاقل الشيعة ومراكز تجمّعهم.

ولكنّ الأفكار السائدة في العالم الإسلامي آنذاك، كانت تميل إلى التجسيم والتشبيه وإثبات الجهة للّه سبحانه والقول بالجبر والقدر إلى غير ذلك ممّا طفحت به كتب المحدّثين في ذلك العصر، وذلك بعد أن مات المأمون والمعتصم اللّذان كانا يؤيدان التيّار العقلي ويحاربان تيّار المحدّثين الذين طغى عليهم الجمود، ولمّا جاء المتوكّل ومن خلفه انقلبت سياسة البيت العباسي إلى تقريب أهل الحديث المتشدّدين وإقصاء أهل العقل والكلام، وبهذا راجت الروايات المدسوسة من قبل مسلمة أهل الكتاب كما ظهرت طوائف وفرق مختلفة.

فمن محدّث يحمل لواء التشبيه والتجسيم، ويضم في جرابه كلّ غث وسمين لا يبالي عمّن أخذ وما أخذ.

إلى خارجي يكفّر جميع طوائف المسلمين بملء فمه، ويحب الشيخين ويبغض الصهرين.

إلى دُخلاء في الإسلام يتظاهرون به صوناً لدمائهم ويوجهون سهام غدرهم إلى ظهور المسلمين.

إلى غير ذلك من الطوائف والأفكار المنحرفة الّتي نشأت بعد إقصاء العقل والعقليين.

ويكفيك أنّ محمد بن أبي إسحاق بن خزيمة (المتوفّى 311 ه)، كان من ثمرات ذلك العصر، وقد ألّف كتاباً أسماه: «التوحيد في إثبات صفات رب العالمين» و هو في الحقيقة كتاب شرك، وقد قال عنه الرازي: إنّه كان رجلاً مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل.(1)

ص:504


1- . مفاتيح الغيب: 150/27.

وليس ابن خزيمة هو الوحيد في نشر التجسيم والتشبيه، فقد سبقه في ذلك خشيش بن أصرم (المتوفّى 525 ه) مصنّف كتاب «الاستقامة» والّذي عرّفه الذهبي بأنّه يردّ فيه على أهل البدع.(1)

ويريد الذهبي ب «أهل البدع» أهل التنزيه الذين لا يُثبتون للّه سبحانه خصائص الموجود الإمكاني وينزّهونه عن الجسم والجسمانية.

ولحقه أحمد بن محمد السجستاني السجزي، وقد اعتمد عليه الذهبي قائلاً:

بلغني أن ابن خزيمة حسن الرأي فيه، وكفى بهذا فخراً.(2)

وكان لتلك الأفكار انتشار وصدى في الحواضر الإسلامية، ولأجل نقد هذه المسائل عقد شيخنا الكليني في أُصول الكافي أبواباً وفصولاً عديدة لردّها وإبطالها.(3)

وكان أبو الحسن الأشعري (المعاصر للكليني) في أوّل أمره معتزلياً رافعاً لواء العقل والتفكير، إلّاأنّه رجع في عام 305 ه عن ذلك المنهج والتحق بمنهج الإمام أحمد منادياً بأعلى صوته في الجامع الكبير في البصرة: مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا أُعرّفه بنفسي، أنا فلان بن فلان كنت قلتُ بخلق القرآن، وإنّ اللّه لا يُرى بالأبصار، وإنّ أفعال الشرّ أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد للردّ على المعتزلة.(4)

وهذا يشير إلى أنّ الجو العام في ذلك العصر لم يكن لصالح الداعين إلى التحرّر من الجمود والتقليد، وإعمال الفكر والنظر.

ص:505


1- . تذكرة الحفاظ: 551/2؛ سير أعلام النبلاء: 250/2.
2- . ميزان الاعتدال: 132/1.
3- . انظر: الكافي (كتاب التوحيد): 137/1-205.
4- . فهرست ابن النديم: 271.

ثقافته الواسعة

لم يكن الشيخ الكليني متمكّناً من فنّ الحديث فحسب، بل كان مع براعته فيه، ملمّاً بثقافة عصره، مشاركاً أو متخصصاً في أكثر من فرع من فروعها، يظهر ذلك ممّا جاد به قلمه في كتبه العديدة.

فأدبه الراقي تبدو ملامحه من خلال مقدّمة «الكافي» وكذا من ثنايا هذا الكتاب، كقوله: الحمد للّه المحمود لنعمته، المعبود لقدرته، المطاع في سلطانه، المرهوب لجلاله، المرغوب إليه فيما عنده، النافذ أمره في جميع خلقه، علا فاستعلى ، ودنا فتعالى ، وارتفع فوق كلّ منظر، الّذي لا بدء لأوّليته، ولا غاية لأزليته.(1)

ومن ملامح أدبه - أيضاً - أنّه أفرد كتاباً فيما قيل في الأئمّة عليهم السلام من الشعر.

أمّا معرفته بالرجال فتبرز واضحة في «الكافي» حيث إنّ الأسانيد الّتي يسوقها قبل الرواية تعرب عن اطّلاعه الواسع على المشايخ والتلاميذ وطبقاتهم، مضافاً إلى أنّ له كتاباً خاصّاً في علم الرجال، ذكره مترجموه، إلّاأنّه - للأسف - مفقود، ولو وصلنا هذا الكتاب لنفعنا كثيراً.

هذا ولم تقتصر معرفة الكليني بالأدب والرجال، وإنّما شملت علم الكلام أيضاً، حيث ذكر بعض آرائه الكلامية في ثنايا الأحاديث، خصوصاً في الجزء الأوّل.

أضف إلى ذلك أنّه ألف كتاباً في رد القرامطة أصحاب النحلة الفاسدة المنشقة من الإسماعيلية.

ص:506


1- . الكافي: 41/1.

أثره الخالد

إنّ أهم أثر تركه شيخنا المحدث هو «الكافي» الّذي أمضى في تأليفه عشرين عاماً من عمره الشريف، ولذلك أصبح الكتاب من أوثق الكتب الحديثية، وقد وصفه الشيخ المفيد بأنّه من أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة.(1)

ويقول الشهيد في إجازته لابن الخازن: كتاب «الكافي» في الحديث الّذي لم يعمل الإمامية مثله.(2)

والمشهور أنّه يحتوي على 16199 حديثاً، وهو يزيد على ما في الصحاح الستة من الأحاديث بعد حذف المكررات منها.

ثناء العلماء وأقوالهم فيه

قد سمعت كلمة المفيد والشهيد في حق شيخنا المترجم وكتابه، وإليك كلمات أُخرى لعلماء الفريقين - وسنقتصر على القليل بدل الكثير -:

1. يقول النجاشي: محمد بن يعقوب بن إسحاق، أبو جعفر الكليني، شيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم، وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم، صنّف الكتاب الكبير المعروف الّذي يسمّى «الكافي» في عشرين سنة.(3) ثمّ ذكر كتبه.

2. وقال الشيخ الطوسي: محمد بن يعقوب الكليني يكنّى أبا جعفر، جليل القدر، عالم بالأخبار، وله مصنّفات يشتمل عليها الكتاب المعروف بالكافي.(4)

3. وقال في الفهرست: محمد بن يعقوب الكليني، يكنّى أبا جعفر، ثقة، عارف بالأخبار، له كتب منها كتاب «الكافي» يشتمل على ثلاثين كتاباً.(5)

ص:507


1- . تصحيح الاعتقاد: 57.
2- . بحارالأنوار: 76/25.
3- . رجال النجاشي: 290/2، برقم 1027.
4- . رجال الطوسي: 496، باب من لم يرو عن الأئمّة، باب الميم برقم 27.
5- . الفهرست: 161، برقم 603.

هذا بعض ما قاله علماء الشيعة في حقّه، وإليك بعض النصوص من علماء السنّة، وقد ذكروه بإجلال من دون أيّ غمز فيه.

4. ذكره مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد المعروف بابن الأثير (544-606 ه) في «جامع الأُصول» في تفسير ما رواه أبو هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّ اللّه يبعث لهذه الأُمّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها». وقال: أخرجه أبو داود.(1)

ثمّ ذكر أنّ العلماء تكلّموا في تأويل هذا الحديث كلّ واحد في زمانه، ثمّ قال:

ونحن نذكر الآن المذاهب المشهورة في الإسلام التي عليها مدار المسلمين في أقطار الأرض وهي: مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك، وأحمد، ومذهب الإمامية، ومن كان المشار إليه من هؤلاء على رأس كلّ مائة سنة.

ثمّ ذكر أنّ الإمام الباقر هو مجدّد مذهب الإمامية على رأس المائة الأُولى، والإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام على رأس المائة الثانية.

ثمّ قال: وأمّا من كان على رأس المائة الثالثة... أبو جعفر محمد بن يعقوب الرازي من الإمامية.(2)

5. وذكره عزّ الدين أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأثير (558 - 630 ه) في حوادث عام 328 ه وقال: وفيها توفّي محمد بن يعقوب، (وقتل محمد بن علي) أبو جعفر الكليني وهو من أئمّة الإمامية وعلمائهم.(3)

6. وقال عنه ابن حجر: محمد بن يعقوب بن إسحاق، أبو جعفر الكليني سكن بغداد وحدّث بها عن محمد بن أحمد بن عبد الجبار وعلي بن إبراهيم بن هاشم، كان من فقهاء الشيعة والمصنفين على مذهبهم، توفّي سنة ثمان وعشرين

ص:508


1- . لسان الميزان: 433/5.
2- . جامع الأُصول: 323/11 ضمن الرقم 8881، في الملاحم باب ما يذكر حول المائة.
3- . ما بين القوسين موجود في الطبعتين القديمة والحديثة. لاحظ الكامل في التاريخ: 364/8 حوادث عام 328 ه، ولاحظ الطبعة القديمة: 274/6. ولعلّ «قتل» مصحف «قيل».

وثلاثمائة ببغداد.(1)

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي لا مجال لنقلها.

رحلاته في أخذ الحديث وعرض كتابه

إنّ التاريخ لم يسجّل رحلات الكليني في أخذ الحديث وعرضه، إذ لا شك أنّه كانت له رحلات في أخذ الحديث وعرض كتابه، فإنّ أكثر مشايخه وإن كانوا متواجدين في قم والري، ولكنّ قسماً منهم كانوا في خارج ذينك البلدين، حتّى أنّ بعض مشايخه كان من منطقة آذربايجان، وبما أنّ الكليني كان ملتزماً بأخذ الحديث من الراوي شفهياً فلابدّ من أن تكون له رحلات إلى بعض المناطق الّتي يتواجد فيها أئمّة الحديث وكتبهم.

والّذي ذكره التاريخ هو رحلته إلى بغداد عام 327 ه، ولكنّه لم يقتصر على هذه الرحلة بل إنّه قصد دمشق وبعلبك، وهذا ما يذكره الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر حيث يقول: محمد بن يعقوب من شيوخ الرافضة قدم دمشق وحدّث ببعلبك عن أبي الحسين محمد بن علي الجعفري السمرقندي، ومحمد بن أحمد الخفاف النيسابوري، وعلي بن إبراهيم بن هاشم.

روى عنه أبو سعد الكوفي شيخ الشريف المرتضى أبي القاسم علي بن الحسين بن موسى الموسوي، وأبو عبد اللّه أحمد بن إبراهيم (بياض في الأصل)، وأبو القاسم علي بن محمد بن عبدوس الكوفي، وعبد اللّه بن محمد.

أنبأنا أبو الحسن... (بياض في الأصل) بن جعفر، قالا: أنبأنا جعفر بن أحمد بن حسين بن السراج، أنبأنا أبو القاسم المحسن حمزة... الوراق بتنيس، أنبأنا أبو علي الحسن بن علي بن جعفر الديبلي بتنيس في المحرم سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، أنبأنا أبو القاسم علي بن محمد بن عبدوس الكوفي، أخبرني محمد بن

ص:509


1- . لسان الميزان: 433/5، والمطبوعة مغلوطة أثبتنا ما هو الصحيح.

يعقوب الكليني، عن علي بن إبراهيم بن هاشم عن موسى بن إبراهيم المحاربي، عن الحسن بن موسى، عن موسى بن عبد اللّه، عن جعفر بن محمد قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله».

أخبرنا أبو محمد بن حمزة - بقراءتي عليه - عن أبي زكريا عبد الرحيم بن أحمد.

وأخبرنا أبو القاسم بن السوسي، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن يونس، أنبأنا أبو زكريا.

وأخبرنا أبو الحسين أحمد بن سلامة بن يحيى، أنبأنا سهل بن بشر، أنبأنا رشأ بن نظيف، قالا: حدثنا عبد الغني بن سعيد قال:

فأمّا الكليني - بضم الكاف والنون بعد الياء -: فمحمد بن يعقوب الكليني، من الشيعة المصنفين، مصنف على مذاهب أهل البيت.

قرأت على أبي محمد بن حمزة، عن أبي نصر بن ماكولا، قال:(1)

وأمّا الكليني - بضم الكاف، وإمالة اللام، وقبل الياء نون - فهو: أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي من فقهاء الشيعة المصنفين في مذهبهم، روى عنه أبو عبد اللّه أحمد بن إبراهيم الصيمري وغيره، وكان ينزل بباب الكوفة في درب السلسلة ببغداد، وتوفّي فيها سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، ودفن بباب الكوفة في مقبرتها. قال الأمير بن ماكولا: ورأيت أنا قبره بالقرب من صراة الطائي عليه لوح مكتوب فيه: هذا قبر محمد بن يعقوب الرازي الكليني الفقيه.(2)

العناية بكتاب «الكافي»

حظيَ كتاب «الكافي» منذ أن ظهر إلى النور باهتمام العلماء والمحدّثين قراءة واستنساخاً ونشراً، ثمّ تعليقاً وشرحاً ودراسة. وإليك بعض ما يدلّ على ذلك:

ص:510


1- . الإكمال لابن ماكولا: 144/7.
2- . تاريخ مدينة دمشق: 297/56-298.

قال النجاشي (372-450 ه) في ترجمته للكليني: كنت أتردّد إلى المسجد المعروف بمسجد اللؤلؤي، وهو مسجد نفطويه النحوي، أقرأ القرآن على صاحب المسجد، وجماعة من أصحابنا يقرأون كتاب الكافي، على ابن الحسين أحمد بن أحمد الكوفي الكاتب، (حدثكم): محمد بن يعقوب الكليني، ورأيت أبا الحسن العقرائي، يرويه عنه.(1)

وهذا يعني أنّ الشيخ العقرائي يروي الكافي عن مؤلفه بلا واسطة وهو صريح قول النجاشي: «يرويه عنه».

ويقول في ترجمة العقرائي: إسحاق بن الحسن بكران أبو الحسين العقرائي (وقد مر في ترجمة الكليني أنّه أبو الحسن) كثير السماع ضعيف في مذهبه، رأيته في الكوفة وهو مجاور وكان يروي كتاب الكليني عنه، وكان في هذا الوقت علواً، فلم أسمع منه شيئاً.(2) وفي النسخ المطبوعة (غلواً) والظاهر أنّه تصحيف (علواً) والمراد به أي أنّه كان طاعناً في السن، وعلواً في الاسناد حيث ينقل عن المؤلف بلا واسطة.

والشاهد على ما ذكرنا أنّ النجاشي ذكر ذلك في ترجمة أحمد بن عبد الواحد المعروف بابن عبدون، قال: ولقد لقي أبا الحسن علي بن أحمد القرشي المعروف بابن الزبير، وكان علواً في الوقت (أي عمّر مائة سنة ومات ابن الزبير سنة 348 ه).(3)

وممّن روى كتاب الكافي عن المؤلف: المحدّث الشريف جعفر بن محمد بن قولويه صاحب «كامل الزيارات» (المتوفّى 369 ه) ويدلّ على ذلك ما ذكره النجاشي في سنده إلى الكافي يقول: عن جماعة شيوخنا، محمد بن محمد (بن النعمان المفيد)، والحسين بن عبيد اللّه (الغضائري)، وأحمد بن علي بن

ص:511


1- . رجال النجاشي: 290/2 برقم 1027.
2- . رجال النجاشي: 199/1 برقم 176.
3- . رجال النجاشي: 228/1 برقم 209.

نوح (السيرافي) عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه عنه.(1)

ولأبي غالب أحمد بن محمد الزراري (المتوفّى 368 ه) عناية خاصة بهذا الكتاب، يكشف عنها قوله في رسالته إلى حفيده في ذكر آل أعين: وجميع كتاب الكافي تصنيف أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني: روايتي عنه. بعضه قراءةً ، وبعضه إجازة. وقد نسخت منه كتاب الصلاة والصوم في نسخة، وكتاب الحج في نسخة، وكتاب الطهر والحيض في جزء، والجميع مجلد. وعزمي أن أنسخ بقية الكتاب إن شاء اللّه في جزء واحد، ورقٍّ طلحي.(2)

وفي هذا المجال يأتي قول العلاّمة الحلّي (المتوفّى 726 ه) في إجازته للسيد ابن مهنا: وأمّا الكافي للشيخ محمد بن يعقوب الكليني فرويت أحاديثه المذكورة المتصلة بالأئمّة عليهم السلام عنّي وعن والدي والشيخ أبي القاسم جعفر بن سعيد وجمال الدين أحمد بن طاووس وغيرهم باسنادهم المذكور إلى الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن رجاله المذكورة في كلّ حديث عن الأئمّة عليهم السلام.(3)

أمّا التعليقات والشروح والدراسات، فلا نرى حاجة للحديث عنها، لكثرتها، وانتشار عدد كبير منها.

الكليني وتهمة تحريف القرآن

اتُّهِم الشيخ الكليني بالقول بتحريف القرآن أكثر من الآخرين، وما ذلك إلّا لأنّه أورد في كتابه روايات ربّما يستظهر منها المخالف - من دون دراسة السند والمتن - القول بالتحريف، وقد قام غير واحد من المحقّقين بالإجابة عن هذه الروايات ببيان ضعف أسنادها وعدم دلالتها على ما يرومه الخصم، والّذي يهمّنا

ص:512


1- . رجال النجاشي: 290/2 برقم 1027.
2- . رسالة أبي غالب الزراري: 176-177، برقم 90.
3- . بحار الأنوار: 146/104، كتاب الإجازات، رقم 8.

هو ما ربّما يوجد في بعض النسخ عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ القرآن الّذي جاء به جبرئيل إلى محمد صلى الله عليه و آله سبعة عشر ألف آية».(1)

وهذه رواية شاذة لا تفيد علماً ولا عملاً ولا يقبلها العقل السليم، مضافاً إلى أنّ نسخ الكافي مختلفة، فهذا هو المحدّث الكبير الفيض الكاشاني نقلها عن الكافي على لفظ سبعة آلاف آية.(2)

يقول المحقّق الشعراني: أنّ لفظ «عشر» من زيادة النساخ أو الرواة والأصل هو سبعة آلاف، فإنّ لفظة «سبعة آلاف» هي القريبة من الواقع الموجود بأيدينا، وظاهر الحديث أنّه ليس بصدد إحصاء عدد الآيات، بل الغاية من ذلك إطلاق العدد التام المتناسب مع الواقع بعد حذف الكسور أو تتميمها، كما هي العادة والمتعارف في الاستعمال.(3)

والعجب أنّ خصوم الكليني بين من ينقله عنه بلفظ سبعة عشر ألف آية، كالآلوسي(4)، وبين من ينقله بلفظ سبعة آلاف آية، كموسى جار اللّه.(5)

غير أنّ أحد خصومه كأبي الحسن الندوي لم يرتض كلا العددين، فنقله في رسالته(6) بلفظ: سبعين ألف آية!!

والّذي اقترحه على اللجنة المشرفة على تصحيح الكافي دراسة الموضوع، وملاحظة النسخ قديمها وحديثها حتّى يتجلّى الحق بأظهر صوره.

ص:513


1- . الكافي: 634/2، الحديث رقم 28.
2- . الوافي: 1781/19، الحديث رقم 7/9089.
3- . شرح أُصول الكافي للمازندراني: 76/11 و 87.
4- . مختصر التحفة: 52.
5- . الوشيعة: 23.
6- . صورتان متضادتان: 94.

وهناك اقتراحات أُخرى نذكرها تباعاً:

1. التعليق على المواضع الّتي روي فيها الحديث معلّقاً أو الاسناد محولاً، أو نقل بلفظ «بهذا الاسناد»، أو «بالاسناد» فيجب توضيح هذه الموارد في كلّ صفحة وردت فيها دون أن يقتصر على مورد واحد ثم تعطف عليه سائر الموارد.

2. تفسير المفردات المشكلة في النثر والنظم الواردين في الكتاب.

3. التعليق على الأحاديث الشاذة الّتي لا تتفق مع ظاهر الكتاب والسنّة المتواترة، أو ما اتّفقت عليه الإمامية.

4. نشر الكتب الّتي نقل عنها الكليني بواسطة أو بلا واسطة، كبصائر الدرجات والمحاسن للبرقي، والنوادر لأحمد بن محمد بن عيسى، إلى غير ذلك ممّا يمكن أن نصل إليه في المكتبات.

5. إنّ للشيخ الكليني كتاباً - كما ذكرنا - باسم رسائل الأئمّة عليهم السلام، وكان هذا الكتاب موجوداً عند ولد الفيض حيث ينقل عنه في كتابه: «مكاتيب الأئمّة عليهم السلام» بلا واسطة، فيجدر بأصحاب هذا الشأن البحث عنه في المكتبات، فربّما يكون موجوداً فيها.

6. التأكد من كتاب «روضة الكافي» هل هو من تأليفه أو لا؟ وعلى الأوّل فهل هو جزء من الكافي أو كتاب مستقل ؟

7. الفحص عن قبره في بغداد والاهتمام به، فقد اتّفق المترجمون على أنّه دفن في باب الكوفة ببغداد، وقيل: إنّ قبره في درب السلسلة ببغداد بالقرب من صراة الطائي.(1)

8. التحقيق والفحص عن قبور نواب الإمام المهدي عليه السلام الأربعة رحمهمُ اللّه.

وفي الختام نقدّم هذه الصفحات القليلة إلى الإخوة الكرام المشاركين في المؤتمر العالمي لثقة الإسلام الكليني رحمه اللّه، عسى أن نشاركهم في هذا

ص:514


1- . تاريخ مدينة دمشق: 298/56.

الثواب الجزيل، وأن تكون خدمة متواضعة لروح هذا المحدّث الكبير الّذي لم يزل يشع نور كتابه على العالم الإسلامي أجمع.

وكما نتقدّم بجزيل الشكر والامتنان إلى الإخوة المحقّقين والمشرفين في مؤسسة «دار الحديث» العامرة.

والحمد للّه رب العالمين

ص:515

4 الشريف المرتضى رحمه الله

اشارة

حياته وآثاره

الحمد للّه على جزيل إفضاله وعظيم إنعامه، والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه، محمد وآله الطيبين الطاهرين عيبة علمه، وموئل حكمه، صلاة دائمة مادامت السماء ذات أبراج والأرض ذات فجاج.

أمّا بعد: فليس من السهل اليسير ترجمة حياة الشريف المرتضى، الذي فاق أقرانه، وزان أمثاله، فصار يشار إليه بالبنان في مختلف العلوم، فهو في الفقه إمامه، وفي أُصوله مؤسسه، وفي الكلام رائده، وفي الحديث راويته، وبالجملة هو أُسوة في العلم والفضل والأخلاق.

كيف لا يكون الشريف المرتضى كذلك، وقد اكتسب من العلوم النصيب الأوفر ولم يترك فضيلة من الفضائل إلاّ حازها.

وكان رحمه الله من الشخصيات اللامعة التي اتّفق المترجمون على الثناء عليه وإطرائه، والإشادة بنبوغه وفضله وعلمه، وانّه القدوة في العلوم الإسلامية، وهو غصن الدوحة العلوية.

ص:516

نسبه الشريف

هو السيد علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق عليهما السلام، أبو القاسم العلوي الموسوي، البغدادي، الملقب بالشريف المرتضى، وبعلم الهدى .

وأُمّه السيدة فاطمة بنت الحسين بن أحمد بن حسن بن الناصر الأصم، والتي ينتهي نسبها إلى الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام.

شرف تتابع كابرٌ عن كابرٍ كالرمح انبوب على انبوب

نشأته وسيرته

ولد في بغداد عام 355 ه، وتوفّي فيها سنة 436 ه، ونشأ في بيت علوي طاهر، وعلميّ عريق، وقد درس أوّليات العلوم هو وأخوه الشريف الرضي على ابن نباتة وابن جنّي إلى أن تأهّلا لحضور دروس شيخ الأُمّة المفيد رحمه الله، وقصّة تتلمذهما على يد الشيخ المفيد معروفة ومشهورة، ملخّصها: أنّ أُمّهما (العلوية فاطمة بنت الناصر) أخذت بأيديهما ودخلت على الشيخ المفيد فقام لها وسلّم عليها فقالت له: هذان ولداي قد أحضرتهما إليك لتعلّمهما الفقه، فبكى الشيخ وقال: رأيت البارحة في المنام أنّ فاطمة الزهراء عليها السلام بنت الرسول صلى الله عليه و آله دخلت عليّ وأنا في مسجدي بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين عليهما السلام صغيرين فسلّمتهما إليّ وقالت: علّمهما الفقه، فانتبهت من النوم، وتعجّبت من ذلك.

ولذلك تولّى رحمه الله تعليمهما وفتح اللّه لهما على يديه من العلوم والفضائل ما لا يحصى، وهي باقية ما بقي الدهر.

كلمات العلماء في حقّه

لقد أثنى عليه علماء الفريقين، على نحو قلّما يتّفق لغيره مثل هذا الثناء، ونحن نذكر شيئاً من ذلك.

ص:517

قال تلميذه النجاشي: أبو القاسم المرتضى، حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه، وسمع من الحديث فأكثر، وكان متكلّماً شاعراً أديباً، عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا.(1)

وقال تلميذه الآخر الشيخ الطوسي: إنّه أكثر أهل زمانه أدباً وفضلاً، متكلّم فقيه جامع العلوم كلّها، مدّ اللّه في عمره.(2)

وقال السيد ابن زهرة: علم الهدى الفقيه النظّار، سيد الشيعة وإمامهم، فقيه أهل البيت، العالم المتكلّم، البعيد المثل، الشاعر المجيد، كان له برٌّ وصدقة وتفقّد في السرّ.(3)

وقال الثعالبي: قد انتهت الرئاسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد والشرف والعلم والأدب والفضل والكرم، وله شعر في نهاية الحسن.(4)

وقال ابن خلّكان: كان إماماً في علم الكلام والأدب والشعر، وله تصانيف على مذهب الشيعة، ومقالة في أُصول الدين.(5)

وقال ابن أبي طي: هو أوّل من جعل داره دار العلم وقدّرها للمناظرة، ويقال:

إنّه أُمّر ولم يبلغ العشرين، وكان قد حصل على رئاسة الدنيا والعلم مع العمل الكثير، والمواظبة على تلاوة القرآن، وقيام الليل وإفادة العلم، وكان لا يؤثر على العلم شيئاً، مع البلاغة وفصاحة اللهجة.(6)

وأخير قال الدكتور عبدالرزاق محيي الدين: كان من سابقيهم - يعني الشيعة - دعوة إلى فتح باب الاجتهاد في الفقه، وأسبقهم تأليفاً في الفقه المقارن، وأنّه كان

ص:518


1- . رجال النجاشي: 270، برقم 708.
2- . رجال الطوسي: 484؛ الفهرست: 164، برقم 431.
3- . غاية الاختصار: 76.
4- . يتيمة الدهر: 69/5، برقم 49.
5- . وفيات الأعيان: 313/3، برقم 443.
6- . انظر: لسان الميزان: 257/4، برقم 5797.

واضع الأُسس لأُصول الفقه لديهم، ومجلي الفروق بينها و بين أُصول العقائد لدى الشيعة وسواهم، وأنّه في علم الكلام كان قرن القاضي عبد الجبار رأس المعتزلة، وإنّه في جماع ذلك كان يعتبر مجدد المذهب الشيعي الإمامي.(1)

وللشاعر الكبير أبي العلاء المعرّي قصيدة غرّاء، رثى بها النقيب أبا أحمد الموسوي، والتفت فيها إلى مدح ولَديْه: الشريفين المرتضى والرضيّ في أبيات رائعة، مطلعها:

أودى فليتَ الحادثاتِ كَفافِ مالُ المُسيفِ وعنبرُ المُستافِ

ومنها:

أبقيتَ فينا كوكبيْن سناهُما في الصبح والظّلماء ليس بخافِ

متأنّقين، وفي المكارم أرتعا متألِّقينِ بسؤدد وعفافِ

قَدَرَيْن في الإرداء، بل مَطَريْنِ في ال إجداء، بل قَمَريْن في الإسلاف

رُزقا العلاء، فأهلُ نجدٍ كلّما نَطَقا الفصاحةَ مثلُ أهلِ ديافِ

ساوى الرضيّ المرتضى وتقاسما خِطط العُلا بتناصفٍ وتصافِ (2)

آثاره العلمية

إنّ التعرف على شخصية لامعة يحصل من طريقين: تارة بسماع أقوال العلماء بحقّه، وأُخرى بالتعرف على آثاره التي تركها. فإنّ مكانة الإنسان بآرائه وأفكاره.

ص:519


1- . انظر: موسوعة طبقات الفقهاء: 235/5.
2- . ديوان سقط الزّند: 301، طبع القاهرة.

وقد تعرفت على الطريق الأوّل، وأمّا الطريق الثاني فإنّ الإمعان في الآثار يدلّ بوضوح على أنّ السيد الشريف ما ترك حقلاً من حقول العلم والمعرفة إلاّ ورده، ومصنّفاته تدلّ على أنّه كان متخصّصاً في أكثر العلوم الإسلامية و مشاركاً في بعضها. وقد استقصى الشيخ الأميني رحمه الله مؤلّفاته، وقال: ومن هذه الفضائل ما خطّه مزبره القويم من كتب ورسائل استفاد بها أعلام الدين في أجيالهم وأدوارهم، وإليك أسماؤها:

1. الشافي في الإمامة 2. الملخّص في الأُصول

3. الذخيرة في الأُصول 4. جمل العلم والعمل

5. الغُرر والدرر 6. تكملة الغُرر

7. المقنع في الغَيْبة 8. الخلاف في الفقه

9. الناصريّة في الفقه 10. الحلبيّة الأُولى

11. الحلبيّة الأخيرة 12. المسائل الجرجانيّة

13. المسائل الطوسيّة 14. المسائل الصباويّة

15. المسائل التبّانيات(1) 16. المسائل السلاّريّة

17. مسائل في عدّة آيات 18. المسائل الرازيّة

19. المسائل الكلاميّة 20. المسائل الصيداويّة

21. الديلميّة في الفقه 22. كتاب البرق

23. طيف الخيال 24. الشيب والشباب

25. المقمصة 26. المصباح في الفقه

27. نصر الرواية 28. الذريعة في أُصول الفقه

29. شرح بائيّة الحميري 30. تنزيه الأنبياء

ص:520


1- . سألها الشيخ أبو عبداللّه محمد بن عبد الملك التبّان (المتوفّى 419 ه)، وهي (66) مسألة في عشرة فصول. (الأميني).

31. إبطال القول بالعدد 32. المحكم والمتشابه

33. النجوم والمنجّمون 34. متولِّي غسل الإمام

35. الأُصول الاعتقاديّة 36. أحكام أهل الآخرة

37. معنى العصمة 38. الوجيزة في الغَيْبة

39. تقريب الأُصول 40. طبيعة المسلمين

41. رسالة في علم اللّه 42. رسالة في الإرادة

43. أيضاً رسالة في الإرادة 44. رسالة في التوبة

45. رسالة في التأكيد 46. رسالة في المتعة

47. دليل الخطاب 48. طرق الاستدلال

49. كتاب الوعيد 50. شرح قصيدة له

51. الحدود والحقائق 52. مفردات في أُصول الفقه

53. الموصليّة، ثلاث مسائل 54. الموصليّة الثانية، تسع مسائل

55. الموصليّة الثالثة (109) مسائل 56. المسائل الطرابلسيّة الأُولى

57. الطرابلسيّة الأخيرة (13) مسألة(1) 58. مسائل ميافارقين (65) مسألة

59. المسائل الرازيّة (14) مسألة 60. المسائل المحمديّات (5) مسائل

61. المسائل البادرات (24) مسألة 62. المسائل المصريّة الأُولى (5) مسائل

63. المصريّات الثانية 64. المسائل الرمليّات (7) مسائل

65. مسائل في فنون شتّى ، نحو مائة مسألة 66. المسائل الرسيّة الأولى(2)

67. المسائل الرسيّة الثانية 68. الانتصار فيما انفردت به الإماميّة

69. تفضيل الأنبياء على الملائكة

70. النقض على ابن جنّي في الحكاية والمحكي

ص:521


1- . سألها الشيخ أبو الفضل إبراهيم بن الحسن الأباني. (الأميني).
2- . 28 مسألة سألها العلاّمة أبوالحسين الحسين بن محمد بن الناصر الحسيني الرسّي. (الأميني).

71. ديوان شعره يزيد على عشرين ألف بيت

72. الصِّرفة في بيان إعجاز القرآن

73. الرسالة الباهرة في العترة الطاهرة

74. نقض مقالة ابن عديّ فيما لا يتناهى

75. جواب الملاحدة في قِدَم العالم

76. تتمّة الأعراض من جمع أبي رشيد

77. نكاح أمير المؤمنين ابنته من عمر

78. إنقاذ البشر من القضاء والقدر

79. الردّ على أصحاب العدد في شهر رمضان

80. تفسير الحمد وقطعة من سورة البقرة

81. الردّ على ابن عديّ في حدوث الأجسام

82. تفسير قوله تعالى: (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) (1)

83. كتاب الثمانين(2)

84. الكلام على من تعلّق بقوله: (وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ) (3)

85. تفسير قوله: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) (4)

86. تتبّع أبيات للمتنبّي التي تكلّم عليها ابن جنّي.(5)

ص:522


1- . الأنعام: 151.
2- . قاله القاضي التنوخي كما في المستدرك [على وسائل الشيعة للعلاّمة النوري]: 516/3. (الأميني).
3- . الإسراء: 70.
4- . المائدة: 93.
5- . الغدير: 355/4-357.

فضائله ومكارم أخلاقه

كان الشريف المرتضى قدس سره زاهداً في الدنيا، راغباً عنها، ذامّاً لها، سالكاً طريق أجداده الكرام. وكان قدس سره مشهوراً بالبذل والعطاء، والجود والسخاء، مغضياً الطرف عن الحسّاد والأعداء، وإليك غيض من فيض جوده وكرمه ومحاسن أخلاقه:

1. وقف الشريف المرتضى موارد قرية من أملاكه على قرطاس الفقهاء حتى لا يواجهوا أيّة مصاعب في ما يحتاجون لتحرير كتبهم.

2. روي أنّه كان يملك أراضي كثيرة بين بغداد وكربلاء، وكانت في غاية الإعمار، وقد نُقل في وصف عمارتها أنّه كان بين بغداد وكربلاء نهر كبير، وعلى حافتي النهر كانت القرى إلى الفرات، وكان يعمل في ذلك السفائن، فإذا كان في موسم الثمار كانت السفائن المارّة في ذلك النهر تمتلئ من سقطات تلك الأشجار الواقعة على حافتي النهر، وكان الناس يأكلون منها بلا محذور.

3. نقل أصحاب السير أنّ الناس أصابهم في بعض السنين قحط شديد، فاحتال رجل يهودي على تحصيل قوته، فحضر يوماً مجلس الشريف المرتضى وسأله أن يأذن له في أن يقرأ عليه شيئاً من علم النجوم، وأمر له بجائزة تجري عليه كلّ يوم، فقرأ عليه برهة، ثمّ أسلم على يده.(1)

4. قال الخطيب: إنّ أبا الحسن علي بن أحمد بن عليّ بن سلّك الفالي الأديب كانت له نسخة من كتاب «الجمهرة» لابن دُريد في غاية الجودة، فدعته الحاجة إلى بيعها فباعها واشتراها الشريف المرتضى بستين ديناراً، فتصفّحها فوجد بها أبياتاً بخطّ بائعها، وهي:

أنِسْتُ بها سبعين حولاً وبعتُها لقد طال وَجْدي بعدها وحنيني

وما كان ظنّي أنّني سأبيعها ولو خلَّدتْني في السجون ديوني

ولكن لضعفٍ وافتقارٍ وصبيةٍ صغارٍ عليهم تستهلُّ شؤوني

ص:523


1- . رياض العلماء: 20/4-23؛ روضات الجنات: 296/4.

فقلت ولم أملك سوابق عَبرةٍ مقالة مكويّ الفؤاد حزينِ

«وقد تُخرج الحاجات يا أُمّ مالك كرائم من ربّ بهنّ ضنين»

وقال الخطيب: فأرجع السيد النسخة إليه وترك له الدنانير.(1)

5. حكي عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنّه قال: كان الشريف المرتضى ثابت الجأش، ينطق بلسان المعرفة ويردّد الكلمة المسدّدة، فتمرق مروق السهم من الرمية ما أصاب أصمى ، وما أخطأ أشوى.(2)

6. روى أصحاب التراجم أنّ السيد المرتضى كان يجري الرزق على جميع تلامذته حتى أنّه قرّر للشيخ الطوسي كلّ شهر أيّام قراءته عليه اثني عشر ديناراً وعلى ابن البرّاج كلّ شهر ثمانية دنانير ليتفرّغوا بكلّ جهدهم إلى الدراسة من غير تفكير بأزمات المعيشة ومشاكل الحياة.(3)

7. قال ابن أبي طيّ : هو أوّل من جعل داره دار العلم وقدّرها للمناظرة... وأنّه أُمِّر ولم يبلغ العشرين.(4)

ولعلّ هذا المقدار يكفي في تبيين عظمة سيدنا الشريف المرتضى في مجال العلم والفضل والأخلاق والسجايا الحسنة.

أشهر تلامذته

أحصى الشيخ الأميني في «الغدير» اثنين وعشرين عالماً ممّن درس على يد الشريف المرتضى رحمه الله، نذكر منهم:

ص:524


1- . وفيات الأعيان: 316/3.
2- . لسان الميزان: 223/4، نقلاً عن تاريخ ابن أبي طيّ . ومعنى (أصمى): رمى الصيد فقتله مكانه وهو يراه، أمّا قوله: (وما أخطأ أشوى ) فيُراد به أنّ السهم إذا أخطأ الصيد، أصاب شواه، والشوى ، ما كان غير مقتل من الأعضاء، كاليدين والرجلين.
3- . روضات الجنات: 203/4.
4- . لسان الميزان: 257/4، برقم 5797.

1. شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (المتوفّى 460 ه).

2. أبو يعلى سلّار بن عبد العزيز الديلمي (المتوفّى 448 ه).

3. أبو الصلاح تقي بن نجم الحلبي، خليفته في بلاد حلب (المتوفّى 447 ه).

4. القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي (المتوفّى 481 ه).

5. الشريف أبو يعلى محمد بن الحسن بن حمزة الجعفري (المتوفّى 463 ه).(1)

إلفات نظر

بقيت أُمور تتعلّق ببعض آرائه الخاصة وما نسب إليه من تهم وافتراءات يجب إلفات نظر القارئ إليها، وهي:

1. انّ السيد الشريف المرتضى مع كونه علماً من أعلام الطائفة، ومرجعاً يرجع إليه في المعارف والعقائد والأحكام والشريعة، فمع ذلك كلّه فله آراء تختصّ به ولا يشاركه فيها إلاّ القليل، وإليك بعضها:

أ. قوله بعدم حجّية خبر العدل الواحد واختصاص الحجية بالمتواتر أو المحفوف بالقرينة المفيدة للعلم، وفي الوقت نفسه هو يعمل بأكثر الأحاديث الواردة في الجوامع الحديثية، وذلك لزعم تواترها أو كونها محفوفة بالقرينة. وقد خالفه في هذه المسألة تلميذه الجليل شيخ الطائفة في كتاب العدّة بوجه مبسوط.

ب. قوله بالصرفة في إعجاز القرآن، وقد ألّف رسالة باسم الصرفة طبعت أخيراً، وهذا قول غير مرضي عند الطائفة الإمامية، وقد أوضحنا القول الصحيح حول ذلك في كتابنا «الإلهيات».(2)

2. ترجم الذهبيّ للشريف المرتضى في «ميزان الاعتدال» ولكنّه (عفا اللّه عنه) أتى ببعض الكلمات التي يناقض بعضها بعضاً، فيصفه بقوله: المتكلّم

ص:525


1- . روضات الجنات: 29/4؛ الغدير: 362/4.
2- . لاحظ الإلهيات: 337/3-344.

الرافضي المعتزلي.(1) فهو يجمع له بين الرفض والاعتزال، مع أنّ الاعتزال منهج كلامي من أغصان مدرسة الخلافة المعروفة.

وأمّا الرافضة فتتمثل بالإمامية والزيدية والإسماعيلية، وأين هؤلاء من المعتزلة ؟! مع أنّ وصف هؤلاء بالرفض من مصاديق قوله سبحانه: (وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ ) .(2)

والعجب أنّه نسب تأليف «نهج البلاغة»، إلى الشريف المرتضى، قائلاً: وهو المتّهم بوضع كتاب «نهج البلاغة»!! مع أنّ الكتاب ليس موضوعاً أوّلاً، ثم هو من جمع أخيه الشريف الرضيّ ثانياً.

وأعجب منه ما نقله ابن حجر عن ابن حزم أنّه قال: «إنّ الشريف المرتضى كان من كبار المعتزلة الدعاة، وكان إمامياً!!»(3) مع أنّ الإمامية عن بكرة أبيهم هم غير المعتزلة، وإن كانوا يشاركونهم في القول في بعض الأُصول، ومن أراد أن يقف على الأُصول المشتركة بين الفريقين فليرجع إلى كتابنا «رسائل ومقالات».(4)

3. انّ الشريف المرتضى وأخيه الرضي قد رميا بالتهم الباطلة وهم برآء منها، مع أنّهما كوكبان في سماء العلم والفضيلة، وقد مضى قول أبي العلاء المعري فيهما:

أبقيت فينا كوكبين سناهما في الصبح والظلماء ليس بخاف

ساوى الرضي المرتضى وتقاسما خطط العُلا بتناصف وتصاف

وقد كتبنا مقالاً في الأكاذيب التي رمي بها العلمان الجليلان، تحت عنوان: «المرتضى والرضي كوكبان في سماء العلم والعمل» وأُلقي في مؤتمر

ص:526


1- . ميزان الاعتدال: 124/3، برقم 5827.
2- . الحجرات: 11.
3- . لسان الميزان: 257/4، برقم 5797.
4- . رسائل و مقالات: 367/1-385.

تكريمي انعقد بمناسبة مرور ألف عام على تأليف «نهج البلاغة».(1)

نكتفي بهذا المقدار اليسير من الكلام حول هذه الشخصية الفذّة وننتقل للكلام عن كتابه القيّم: «الذريعة إلى أُصول الشريعة».

السيد المرتضى وأُصول الفقه

إذا كان الاجتهاد عبارة عن بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية من مصادرها، فهو رهن تأسيس قواعد ممهّدة لاستنباط هذه الأحكام والوظائف.

فإذا كان الاجتهاد سر خلود الدين الإسلامي وحياته، وجعله غضّاً طرياً مصوناً عن الاندراس عبر القرون ومغنياً للمسلمين عن التطفّل على موائد الأجانب، فعلم أُصول الفقه في طريق هذا الهدف السامي. ولذلك عرّفوا علم أُصول الفقه بأنّه عبارة عن القواعد الممهَّدة لاستنباط الأحكام الشرعية وما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل، فالمجتهد يبذل وسعه لاستنباط أحد أمرين:

1. استنباط حكم اللّه الواقعي الذي جاء به صاحب الشريعة من الكتاب أو السنّة.

2. استنباط الوظيفة العملية عندما تقصر يد المجتهد ولم يتوصّل إلى الحكم الواقعي، فيلتجئ إلى الأُصول العملية كأصل البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب. فالأُصول العملية تقع في الدرجة الثانية من الاستنباط، لا يعتمد عليها المجتهد إلّابعد اليأس من الوصول إلى الحكم الشرعي الواقعي في المصدرين الرئيسيين، ولذلك وقع علم الأُصول موضع عناية واهتمام العلماء من الفريقين.

إنّ علم الأُصول بمحتواه لم يكن أمراً مغفولاً عنه في عصر الأئمة عليهم السلام، فقد

ص:527


1- . اقرأ ذلك المقال في كتابنا: تذكرة الأعيان: 31/1-49.

أملى الإمام الباقر وأعقبه ولده الإمام الصادق عليهما السلام على أصحابهما قواعد كلية في الاستنباط، رواها أصحاب الحديث في كتبهم، كما قام لفيف من أصحاب الأئمة بتأليف رسائل مختصرة في بعض الأبواب:

فألّف يونس بن عبد الرحمن (المتوفّى 208 ه) كتاب «اختلاف الحديث ومسائله»(1)، وهو أشبه بباب التعادل والترجيح.

كما ألّف إسماعيل بن علي النوبختي (237-311 ه) كتاب «الخصوص والعموم والأسماء والأحكام».(2) وألّف كتاباً آخر باسم «إبطال القياس».(3)

وجاء بعده الحسن بن موسى النوبختي، فألّف رسالة في خبر الواحد والعمل به.(4)

وقد جمع الحرّ العاملي قدس سره هذه الأحاديث في كتاب مستقل أسماه: «الفصول المهمة في أُصول الأئمّة».

هذه هي المرحلة الأُولى من مراحل تدوين أُصول الفقه، وقد اتّسعت حركة التأليف في المرحلة الثانية، فأفردوا لجميع مسائل أُصول الفقه باباً خاصاً في التأليف.

وفي مقدّمة هؤلاء شيخ الأُمة محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد، فألّف كتاباً باسم «التذكرة في أُصول الفقه»(5) وهو مطبوع ومنتشر.

وقد اقتدى به تلامذته، فألف سلاّر بن عبد العزيز الديلمي (المتوفّى 448 ه) كتاباً في ذلك المضمار أسماه «التقريب في أُصول الفقه».(6)

ص:528


1- . رجال النجاشي: برقم 1209.
2- . رجال النجاشي: برقم 67.
3- . فهرست ابن النديم: 225.
4- . فهرست ابن النديم: 225.
5- . لاحظ: الذريعة لآقا بزرگ الطهراني: 365/4.
6- . لاحظ: الذريعة لآقا بزرگ الطهراني: 365/4.

كما ألّف تلميذه الآخر الشيخ الطوسي (385-460 ه) كتاباً آخر باسم «العدة في أُصول الفقه» وقد طبع عدة مرات.

لكن الّذي شمّر عن ساعد الجدّ في هذه المرحلة وألّف كتباً عديدة في أُصول الفقه هو السيد الشريف المرتضى، فله تآليف ثلاثة في هذا الصدد، هي:

1. مسائل الخلاف في أُصول الفقه

2. مسائل منفردات في أُصول الفقه

3. الذريعة في أُصول الشريعة.

والكتاب الثالث هو الأثر الوحيد الباقي في هذا الصدد له قدس سره، ولم نجد أثراً للكتابين المتقدّمين.

ولم يزل هذا الكتاب منذ تدوينه مرجعاً للفقهاء والمجتهدين ومورد اهتمام العلماء عبر القرون، وقد قاموا بتحريره تارة وتلخيصه أُخرى وشرحه ثالثة، وإليك بيان ذلك:

1. قام العلاّمة الحلّي بتحريره وأسماه: «النكت البديعة في تحرير الذريعة»، كما ذكر ذلك في كتابه «خلاصة الأقوال».(1)

2. قام الشيخ أبو الحسن علي بن أبي القاسم زيد بن محمد البيهقي فريد خراسان (499-565 ه) بتلخيص الكتاب وأسماه «تلخيص مسائل الذريعة» ذكر ذلك تلميذه محمد بن شهرآشوب في «معالم العلماء».(2)

3. وشرحه الشيخ عماد الدين الطبري صاحب «بشارة المصطفى».(3)

4. وشرحه - أيضاً - السيد كمال الدين المرتضى بن المنتهى بن الحسين بن علي الحسيني المرعشي، من مشايخ منتجب الدين كما في فهرسته.(4)

ص:529


1- . لاحظ: الذريعة: 303/24.
2- . لاحظ: الذريعة: 427/4.
3- . الذريعة: 26/10.
4- . فهرست منتجب الدين، برقم 371. قال: شاهدته ولي عنه رواية.

والكتاب يحتوي على مقدمة وأربعة عشر باباً، هي كما يلي:

1. الكلام في الخطاب وأقسامه وأحكامه.

2. القول في الأمر وأحكامه وأقسامه.

3. في أحكام النهي.

4. الكلام في العموم والخصوص.

5. في المجمل والبيان.

6. الكلام في النسخ.

7. الكلام في الأخبار.

8. صفة المتحمّل للخبر.

9. الكلام في الأفعال.

10. الكلام في الإجماع.

11. الكلام في القياس.

12. الكلام في الاجتهاد.

13. الكلام في الحظر والإباحة.

14. في النافي والمستصحب للحال.

وقد صنّف السيد الشريف هذا الكتاب في السنوات الأخيرة من عمره الشريف، إذ فرغ من تأليفه عام 430 ه، وقد ذرّف على السبعين، أي أنّه ألّفه بعد أن نضجت أفكاره وأحاط بالعلوم جميعاً واستخرج دقائقها، ولذا صار مصدراً دراسياً منذ تأليفه إلى عدة قرون.

و كان الكتاب مخطوطاً مستوراً عن الأعين إلى أن قام الأُستاذ الكبير الدكتور أبو القاسم الگُرجي بتحقيقه وبذل جهده في مقابلته مع ثلاث نسخ خطية، وبهذا قدم للعلم والعلماء خدمة كبيرة، ومع ذلك لم يكن المطبوع خالياً من هَنٍ وهَن.

فقد اهتم المحقق بتسويد الهوامش وشحنها بالإشارة إلى النسخ المختلفة التي لا حاجة لذكرها لوضوح عدم صحّتها، في حين أهمل تخريج الأحاديث

ص:530

والروايات وأقوال الصحابة وأقوال العلماء وآرائهم، ومع ذلك فالفضل يرجع إليه لأنّنا استفدنا من جهوده وعمله.

ولأهمية هذا الكتاب قامت مؤسستنا مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام بتحقيق الكتاب تحقيقاً جديداً منقحّاً كاملاً، مزّيناً بالتعليقات وشرح المعضلات مع فهارس كاملة خدمة للإسلام وهدية ثمينة لطلبة العلوم الدينية.

ص:531

5 العالم الرباني

اشارة

ميثم البحراني

جدّ في اكتساب العلم، فاستضاء بنوره، وتمسّك بأهل البيت عليهم السلام، فلجأ إلى ركن وثيق.

جال في أكثر من ميدان من ميادين العلم، ولكنّه أولع بعلمَي الحكمة والكلام، واستأثرا بنصيب وافر من جهوده وعنايته، فجلّى في ميدانهما، وذاعت شهرته بهما في الأوساط العلمية، وعند رجال الدولة في العراق، ممّن اهتم بترويج العلم مثل عبد العزيز بن جعفر بن ليث النيسابوري(1)، وعلاء الدين عطامَلِك بن بهاء الدين الجويني(2).

وتدلّك مؤلّفات شيخنا البحراني على غزارة علمه، ومتانة تحقيقه، وعمق أفكاره، ورصانة تعبيره في ما تناوله من موضوعات لاسيما ما يرتبط منها بمباحث الحكمة والكلام والعقائد.

ص:532


1- . كان شيخاً مشكوراً محموداً جواداً، حسن السيرة. تولّى مديرية شرطة واسط والبصرة. توفّي ببغداد سنة (672 ه). انظر: تاريخ الإسلام (671-780 ه.): ص 98 برقم 68.
2- . كان جليل الشأن، محسناً للعلماء ذا نظر في العلوم الأدبية والعقلية. تنقّل في المناصب إلى أن ولي العراق. توفّي (سنة 681 ه). انظر: تاريخ الإسلام (681-690 ه.): ص 80-83 برقم 34.

هناك حقول يانعة زاهرة في حياة هذا الفيلسوف المتكلّم، والفقيه الأديب، ولكنّني أكتفي هنا بارتياد حقلين منها، يتعلق الأوّل منها بالجانب العلمي، والثاني بالجانب السلوكي، وهما يلتقيان في شخصيته، ويرفد أحدهما الآخر ليعبّرا عن توجّهاته واهتماماته، وعن منهجه في الحياة.

وأود أن أصطحب معي شرحَه لنهج البلاغة المسمّى بمصباح السالكين، لأَلِجَ بواسطته إلى الحقل الأوّل، ولكن لا لأستريح فيه طويلاً، وإنّما لأقف قليلاً في إحدى زواياه، وأشمّ عبير بعض أزهاره، فالوقت لا يسع لأكثر من ذلك.

اتفقت المعاجم على أنّ ميثماً البحراني كان عالماً ربانياً وفيلسوفاً إلهياً جال في أكثر من ميدان من ميادين العلم، إلّاأنّه أولع بعلمي الحكمة والكلام، فجلّى في ميدانها وذاعت شهرته بها في الأوساط العلمية، وعند رجال الدولة في العراق، كعبد العزيز بن جعفر بن ليث النيسابوري وعلاء الدين الجويني اللّذين اهتما بترويج العلم ورعاية العلماء، هذا ما يقوله عنه أصحاب المعاجم وكتب التراجم.

غير أنّ التعرّف عليه عن طريق هؤلاء أحد الطرق الّتي راجت في التعرّف على الشخصيات العلمية، إلّاأنّ لنا في المقام طريقاً آخر للتعرف على قابلياته العلمية وإنجازاته وما اكتسبه في الحقلين: العلمي والسلوكي.

وهذا الطريق يتمثّل في دراسة حياة أساتذته وتلاميذه وما ترك من آثار علمية.

فإنّ دراسة هذه المواضيع الثلاثة تلقي أضواءً على شخصيته وما حصل عليه في مجالي العلم والعمل.

أمّا أساتذته فقد تتلمذ على يد الفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسي الّذي يضنّ الدهر بمثله إلّافي فترات يسيرة وبينه وبين أُستاذه مساجلات ومكاتبات تدلّ على رفيع منزلته وولعه باكتساب العلم.

وأمّا تلامذته فنكتفي أنّ العلّامة الحلّى الّذي يضرب به المثل في عالم الذكاء هو ممّن تخرّج عليه. ومثله لا يخضع إلّالدرس عالم كبير يروي عطشه.

وأمّا الثالث وهو التعرّف على الآثار العلمية الّتي تركها، فهي وإن كانت كثيرة

ص:533

فقد تربو على عشرة.

ولكن بيت القصيد من مؤلّفاته - مع ما له من آثار ومؤلفات مذكورة في المعاجم - هو شرحه لنهج البلاغة الّذي أسماه بمصباح السالكين، وقد جاء الاسم مطابقاً للمسمّى حيث تناول في هذا الشرح جانباً خاصّاً من جوانب نهج البلاغة وهو الجانب الفلسفي والعرفاني اللّذان قلّما ولجه شُرّاح ذلك الكتاب الّذين ناهز عددهم المئات.

إنّ موضوعات نهج البلاغة متعددة ومتنوعة، وغالباً ما يكرّس شرّاحُه جهودهم لتفسير وتبيين وتحقيق موضوع واحد منها أو موضوعين - كلٌّ وفق اختصاصه وعلى قدر بضاعته من العلم - أمّا سائر موضوعاته فيتناولونها بإيجاز أو بشكل غير مُرضٍ .

ثَمّة شرّاح ركّزوا على الجانب الأدبي فيه، وحاولوا إبراز ما فيه من (عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية، وثواقب الكَلِم الدينية والدنيوية)، وعُني آخرون بالجانب التاريخي فيه، وتبيان الوقائع والأحداث التاريخية، وجمعَ غيرهم بين هذين الجانبين، في حين اهتم آخرون بموضوعات أُخرى فيه، كعلّامتنا البحراني الّذي سلك فيه مسلكاً يتلاءم مع اختصاصه، حيث ملأه بالمباحث الإلهية والمسائل الكلامية والعقائدية والأسرار العرفانية، وأشبعها بحثاً وتوضيحاً، ولذا لم يُعط سائر الموضوعات حقّها من الشرح والتحقيق.

ولعلّ الأجواء السياسية والاجتماعية المضطربة الّتي كانت سائدة في عصره، قد ساعدت في دفعه إلى اختيار هذا المسلك، حيث عاصر الغزو العسكري للبلاد الإسلامية من قِبَل التتار، وانهيارَ الدولة العباسية، وضعف المسلمين، وتغلّبَ الروح الانهزامية لدى معظم ساسة البلاد وقادتها، وانصرافهم إلى اللهو والعبث والفساد، وشاهد بأُمّ عينيه تفشّي الانحرافات في المجتمع وطغيان الروح المادية فيه.

هذا هو ابن كثير يعكس لنا في تاريخه، الوضع المؤسف السائد في بلاط

ص:534

الخلافة العباسي الّذي كان يرقص فيه الخليفة مع حبيبته، وجيوش التتار أحاطت بسور دار السلام بغداد، ونصبوا عليه المجانيق والعرادات، يقول:

قال اللّه تعالى: (إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ) (1)، ثم قال: وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتّى أُصيبت جارية تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الّذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب: «إذا أراد اللّه إنفاذ قضائه وقدره أذهب عن ذوي العقول عقولهم» فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة وكان قدوم هولاكوخان بجنوده كلها - وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل - إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة.

فإذا كان هذا هو حال الخليفة ومقدار إهتمامه بحفظ الخلافة فمابال غيره ؟!

إذا كان رب البيت بالدف مولعاً فشيمة أهل البيت كلهم الرقصّ

فالداء الناجع لهذا المجتمع الغارق في العيث والفساد والترفه هو الدعوة إلى القيّم والمثل الأخلاقية وذكر اللّه سبحانه وذكر مقامات الأولياء والأنبياء والمثوبات والعقوبات، وهذا هو الّذي دفع العلّامة إلى التركيز عليه في شرحه لنهج البلاغة.

ومن هنا حاول رحمه الله أن يغرس في النفوس حبَّ اللّه تعالى، وحبَّ الفضائل والمكارم، ويحثّها على انتهاج سبيل الحق، والرجوع إلى اللّه تعالى، وسلوك الطريق الموصل إليه، وضرورة التحلّي بالفضائل النفسانية، والابتعاد عن رذائل الأخلاق.

وممّا يدخل في هذا الإطار، قوله قدس سره:

ص:535


1- . الرعد: 11.

إنّ كمال القوة العملية إنّما هو باستكمال الحكمة العملية، وهي استكمال النفس بكمال الملكة التامة على الأفعال الفاضلة حتّى يكون الإنسان ثابتاً على الصراط المستقيم متجنّباً لطَرَفي الإفراط والتفريط في جميع أفعاله.(1)

لن يسمح لنا الوقت بالوقوف أكثر من هذه اللحظات في هذا الحقل، فلننطلق إلى الحقل الثاني لنمّر عليه سريعاً. ومرورنا هذه المرة يكون من خلال قصة طريفة وقعت للمحقّق البحراني، نقلها بعض العلماء، ومفادها أنّ بعض فضلاء العراق، بعثوا إليه برسالة تتضمّن لومه على اعتزاله عن الناس، مع ما يتمتّع به من مهارة في العلوم، فكتب في جوابهم:

طلبتُ فنون العلم أبغي بها العُلا فقصّر بي عما سموتُ به القلُّ

تبيّن لي أنّ المحاسن كلَّها فروع، وأنّ المال فيه هو الأصل

فلم يرتضوا منه هذا القول، فكتب في جوابهم:

قد قال قوم بغير علمٍ ما المرء إلّابأصغَرَيْهِ

فقلتُ قول امرىءٍ حكيم ما المرء إلّابدرهميهِ

من لم يكن درهم لديه لم تلتفت عرسه إليهِ

ثم توجّه إلى العراق، ودخل إحدى حلقات الدرس بثيابه الخشنة الرثّة، فلم يلتفتوا إليه، ثم أخذوا في مناقشة مسألة دقيقة، فراح البحراني يجيب عنها بأجوبة جيدة، فلم يرتضوها، ولما حضر الطعام لم يشركوه فيه، وأفردوه بشيء منه.

ثم جاء في اليوم التالي بملابس فاخرة، ذات أكمام واسعة، فرحّبوا به، ثم جرى نقاش بينهم في إحدى المسائل، فتكلّم فيها صاحبنا بكلام غير علمي، فاستحسنوه، ولما حضرت المائدة بادروا إليه بالآداب، فألقى الشيخ كُمّه في الطعام، وقال لها (كُلي يا كُمّي)، فاستغربوا منه ذلك، فقال: أنتم إنّما أكرمتم أكمامي هذه الواسعة، وإلّا فأنا صاحبكم بالأمس!!

ص:536


1- . شرح نهج البلاغة: 1/80.

هذه القصة ذات مداليل عميقة ترتبط بواقع الأوضاع الاجتماعية في ذلك العصر، فإذا كان (الفضلاء) الذين تقع عليهم مسؤولية التوجيه والتعليم والإرشاد، ومَن يتطلّع إليهم المجتمع على أنّهم الأسوة والقدوة في ترجمة أفكار وقيم الإسلام وتجسيدها في الواقع المعاش، إذا كان هؤلاء قد اختلّت عندهم المقاييس، وعظمت في أعينهم أشياء هذه الحياة الفانية، فما بالُك بسائر شرائح وطبقات المجتمع!!

إنّ شيخنا البحراني يدين من خلال هذه القصة التناقض الفاضح بين القول والفعل، وبين الشعار والممارسة.

إنّ أخطر ما يواجه الدين، ويُفضي إلى إبعاد الناس عنه ونفورهم منه، هو اتّساع المسافة بين الكلام عن الدين، وبين تحكيم الدين في الحياة، وكلما قلّت المسافة بينهما أو أُلغيت، كلما ازداد إقبال الناس عليه، وآمنوا بصلاحيته لتنظيم الحياة وقيادتها.

وممّا لا ريب فيه أنّ العلم والمعرفة لا يُغنيان شيئاً، ولا يُثمران ثماراً طيّبة، إذا لم تتحرك خطوات الإنسان على ضوئهما، ف (الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر) و (العلم يهتف بالعمل وإلّا ارتحل عنه) كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام.

ولنعم ما قاله الشاعر:

تعصي الإله وانت تظهر حبَّه هذا لعمري في الفعال بديع

إن كان حبُّك صادقاً لأطعته إن المحبّ لمن يحبّ مطيع

وفي هذا الإطار يأتي قول الفيلسوف والعالم الفيزيائي الفرنسي باسكال (المتوفّى 1662 م): كم هي المسافة بعيدة بين أن تعرف اللّه، وأن تُحبَّه.

مؤلّفاته وتصانيفه

وفي الختام نشير إلى أسماء عدد من مؤلفات العلّامة البحراني رحمه الله:

1. مصباح السالكين (الشرح الكبير لنهج البلاغة) في خمسة أجزاء.

ص:537

2. اختيار مصباح السالكين (الشرح المتوسط لنهج البلاغة).

3. شرح على المائة كلمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

4. قواعد المرام في علم الكلام.

5. النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة.

6. الاستقصاء في إمامة الأئمة الاثنى عشر.

7. أُصول البلاغة.

8. رسالة في الإمامة.

9. رسالة في الوحي والإلهام.

10. شرح الإشارات في الحكمة النظرية.

والحمد للّه رب العالمين

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

25 ذي الحجة الحرام 1427 ه

ص:538

6 آقا بزرگ الطهراني وطبقات أعلام الشيعة

إنّ في نشر حياة العلماء والإشارة إلى جهودهم المضنية في طريق تحصيل العلم وتعليمه وبثه بين الناس، إشادة بمكانة العلم وترويجه لمدارسته، كما أنّ فيه استجابة لدواعي الوفاء لهم وتثميناً لجهودهم وتعريفاً بمقامهم ومكانتهم، واستلهاماً لعطائهم الثرّ.

والحقّ انّ في دراسة حياة العلماء إحياءً لتراث الأُمّة، وتعريفاً بمن بنى تلك الحضارة ورفع أعمدتها ووضع ركائزها، الأمر الّذي يعزّز من ثقة الجيل الحاضر بنفسه، وكذا الأجيال القادمة، لإدراكهم أنّ حضارتهم عريقة وذات جذور ضاربة في أعماق التاريخ.

ولذلك نرى أنّ الأُمم المتحضّرة قد اهتمّت بنشر آثار السلف بأساليب مختلفة، وهي تحتفل بذكرياتهم بإقامة المؤتمرات والاجتماعات، وما هذا إلّالأنّ في ذلك حثّاً للجيل الصاعد على الأخذ بطريقتهم والمشي على مسيرتهم.

وقبل كلّ شيء فإنّ الكتاب العزيز قد أشاد بمقام العلم والعلماء في غير واحدة من الآيات.

قال تعالى: (يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (1).

ويقول سبحانه: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ

ص:539


1- . المجادلة: 11.

لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1).

وأيّ مقام ومنزلة أولى وأنبل من ذلك، إذ جاء ذكر العلماء في رديف الملائكة وشهدا مع اللّه سبحانه على أنّه لا إله إلّاهو.

فالعلماء مصابيح الظلام وحصون الإيمان وخلفاء الأنبياء بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ:

أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ ، وَ أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ .(2)

***

هذا وقد قام لفيف من علمائنا الأبرار بتأليف موسوعات حول علماء الشيعة وطبقاتهم وآثارهم وما قدّموا للحضارة الإنسانية من عطاءات وما ابتكروا من علوم، إلّاأنّ ما قام به البحّاثة الكبير والمتتبّع الخبير آية اللّه الشيخ محمد محسن (المعروف بآقا بزرگ) الطهراني (1293-1389 ه) في هذا المجال عمل لا يُعادله غيره، ذلك أنّه قام بعملين كبيرين كلّ واحد منهما يُعدّ عمل جماعة، وقد تصدّى له بمفرده، وها نحن نذكر هذين العملين:

1. الذريعة إلى تصانيف الشيعة: جمع فيه أسماء مصنفاتهم في مختلف العلوم وقد طبع في 26 جزءاً.

2. طبقات أعلام الشيعة: ترجم فيها حياتهم، مبتدئاً بالقرن الرابع الهجري ومختتماً بالقرن الرابع عشر.

وقد أفاض رحمه الله في موسوعته هذه، القول في تراجم أعيان تلك الأيام الخالية، وذكر مآثرهم وآثارهم الخالدة، وأسمى كلّ جزء يرجع إلى قرن باسم خاص وإليك ذكرها:

1. نوابغ الرواة في رابعة المئات.

2. إزاحة الحلك الدامس بالشموس المضيئة في القرن الخامس.

ص:540


1- . آل عمران: 18.
2- . نهج البلاغة: الحكمة 147.

3. الثقات العيون في سادس القرون.

4. الأنوار الساطعة في المائة السابعة.

5. الحقائق الراهنة في تراجم أعيان المائة الثامنة.

6. الضياء اللامع في عباقرة القرن التاسع.

7. إحياء الداثر من مآثر أهل القرن العاشر.

8. الروضة النضرة في علماء المائة الحادية عشرة.

9. الكواكب المنتثرة في القرن الثاني بعد العشرة.

10. الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة.

11. نقباء البشر في القرن الرابع عشر.

وقد قامت دور النشر بطبع أكثر أجزاء هذه الموسوعة في بيروت وإيران، غير أنّ القسم الثالث من «الكرام البررة» لم يزل تحت الخباء، وكانت النفوس تشتاق إلى مطالعته، غير أنّه كان في تحقيقه ونشره صعوبة، بل صعوبات، ومع ذلك فقد استسهله المحقّقان الفاضلان: السيد حيدر محمد علي البغدادي، وخليل النايفي، فقاما بتحقيق هذا القسم وبيان مصادر التراجم الواردة فيه، في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، الّتي وفّرت لهما كلّ ما يلزم للعمل من أجواء مناسبة، وإمكانات متاحة. وقد بذلا في هذا السبيل جهوداً لايقوم بها إلّاالأمثل فالأمثل من عشاق الفضيلة، شكر اللّه مساعي الجميع، والحمد للّه رب العالمين.

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

5 رجب 1427 ه

ص:541

7 السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر

رجل العلم والجهاد

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم رسله، إمام الرحمة، وقائد الخير، ومفتاح البركة، وعلى آله الهداة الميامين.

عَلم الشهادة والكرامة والعُلى وحليف عِلم الدين والآثار

نحمد اللّه الّذي رفع منزلة العلماء الصُّلحاء على الشهداء، وفضّل مدادهم على دمائهم، فالشهيد ثمرة من ثمار جهود العالم، استضاء بأنوار علمه، وسلك درب الجهاد على هدى تعاليمه وإرشاداته، ومن هنا فضّل اللّه سبحانه جهود العلماء في ميادين التعليم والتربية، على شهادة الشهداء في مجال الجهاد والنضال.

هذا إذا كان الشهيد ليس بعالم، والعالم ليس بشهيد، وأمّا إذا اجتمع كلا العنوانين في فردٍ، فيكون عالماً محقّقاً، وكاتبا بارعاً، وخطيباً مرشداً، وشجاعاً باسلاً، يحمل هموم المسلمين، ويخوض غمار ساحات الجهاد، ليصون الإسلام من كيد الأعداء، فيحظى بوسام الشهادة، فإنّ مثل هذا الفرد قد بلغ الغاية في الكمال، وفاز بالقدح المعلّى في ميداني العلم والإيثار.

وهذا هو شأن العلّامة الراحل آية اللّه السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر رضوان اللّه تعالى عليه.

لقد عاش رحمه الله في بيت علمي عريق، زانه التقى والفضل، فأثمر ثمرات يانعة،

ص:542

وفاح شذا أزهاره، فبلغ كل قريب وبعيد.

وثمة نكتة نلفت نظر السامع إليها، وهي أنّ طبيعة العلم والعلماء تقتضي الهدوء والدعة والعيش في أجواء بعيدة عن الضوضاء والضجيج، فالعلماء غالباً ما يتواجدون في المعاهد والمدارس والمختبرات وقاعات الدرس والبحث.

وأمّا الشهيد فهو يعيش في خضم الحوادث الدامية في ميادين النضال.

فكيف يلتقي العلم بالشهادة والشهادة بالعلم، وبالتالي يفوز العالم بمقام الشهادة ؟

وما يدفع العجب، هو وقوفنا على هذه المسألة، وهي أنّ العلم والشهادة يجمعهما أمران:

1. الملكات النفسية السامية والفضائل الأخلاقية العالية، إذ يرى كلّ منهما أنّه مسؤول أمام اللّه تعالى وأمام الأُمّة...

2. أن العالم يقبض قلمه ويُسيل فكره ليقارع الظلم والفساد ويدعو إلى الصلاح والفلاح، والشهيد يقبض سلاحه، ويُريق دمه، ليستأصل جذور الظلم والطغيان، ويسقي بدمه شجرة الحرية والإيمان، ليعيش المجتمع تحت راية العدل.

إنّ الآثار العلمية للمرجع الديني الشهيد السيد محمد الصدر؛ تدلنا على علو كعبه في الفقه والأُصول، وهذا ما نراه واضحاً في كتابه القيّم «ما وراء الفقه»، فهذا الكتاب مبتكر في موضوعه، جامع لشتات ما يحتاج إليه الفقيه في الدورة الفقهية، إلى قضايا ومعلومات لها صلة وثيقة بالفقه ولكنها لا تبحث إلّافيه.

وقد أجاد السيد الشهيد كلّ الإجادة في جمعها وتحقيقها، وقدّمها للمحقّقين من الفقهاء والأُصوليين في موسوعة ضمّت عشرة أجزاء، تثير العجب من بُعد غوره، وغزارة علمه، وسعة اطّلاعه على العلوم الكونية والطبيعية والتاريخية.

وأمّا دوره في الإصلاح والتغيير، فكان فاعلاً ومؤثراً، وقد خطا خطوات جريئة على طريق توعية المجتمع، وشحذ عزيمته، وتوجيهه نحو المبادئ والقيم

ص:543

الإسلامية، ووقف بوجه السلطة الغاشمة الظالمة، الّتي سلبت كل الحريات وصادرت عامة ثروات الشعب المادية والمعنوية، حتّى صار أُسوة للآخرين، ورمزاً للأبطال الخالدين.

وفي ختام كلمتنا نتمثل بقول الفقيه والشاعر المفلق السيد محمود البغدادي:

رجلان في دنيا الثبات وهبا الحياة إلى الحياة

رجل الصراع المرّ يع - صف باللئام وبالطغاة

والعالم الوثّاب امن - ية الشعوب الناهضات

عاشا بلا ذات وما كال - عزِّ في سحق الذوات

فسلام اللّه عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

جعفر السبحاني

قم المقدسة مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الرابع من ربيع الأوّل 1429 ه

ص:544

الفصل الخامس: رسائل إرشادية

اشارة

1. رسالة الشيخ محمد شهيد وجوابنا عنها

2. رسالة إلى أعضاء دارالزهراء

3. التقريظ على تفسير الشيخ الملكي الإصفهاني

4. رسالة مفتوحة إلى الشيخ محمد سالم الخضر رئيس مبرّة الآل والأصحاب

ص:545

ص:546

1 رسالة الشيخ محمد شهيد وجوابنا عنها

بسمه تعالى

الحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على خاتم الأنبياء وحبيب إله العالمين محمد وآل بيته الطاهرين الطيبين المعصومين.

إلى سماحة الشيخ جعفر السبحاني (أدام اللّه ظله)

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

اسمي محمد شهيد من جنوب افريقيا تخرجت من جامعة الأزهر الشريف والحمد للّه متمسّك بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

بهذا الخطاب لسماحتكم أودُّ أن أُعلمكم بأنّني تعلمت كثيراً منكم خلال قراءتي لقليل من مؤلفاتكم، لا سيّما كتابكم المترجم إلى اللغة الإنجليزية (The Message of Muhommad) يعني عن حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، وأيضاً كتابكم الفلسفي بعنوان «نظرية المعرفة».

زُرتُ الجمهورية الإسلامية في إيران العام الماضي ولكن الوقت ما وسعني لزيارتكم، وكم أرجو العودة إلى مدينة قم (صانها اللّه) لا سيما إلى ضريح السيدة المعصومة عليها السلام وإلى بيتكم بيت العلم والأخلاق والتقوى إن شاء اللّه.

واللّه أسأل أن (يوفق) يوفّقني لأن أتعلم على أيديكم الشريفة (حفظكم اللّه).

يتبقى لي أن أطلب منكم أن تذكرني في دعائكم الصالح إذ أنت الأب الحنون لي وإن أنتم قادتنا لطريق إمام زماننا قائم آل محمد الحجة ابن الحسن (عجّل اللّه في فرجه الشريف وسهل اللّه مخرجه).

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

تلميذكم: محمد شهيد

ص:547

ولدنا الفاضل الشيخ محمد شهيد حفظه الباري تعالى

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وصلتني - وصلكم اللّه - رسالتكم الشريفة، ولمست من خلالها ولاءكم الخالص لأئمة أهل البيت عليهم السلام حشرنا اللّه وإيّاكم معهم يوم القيامة.

أُوصيكم بمطالعة حياة قادتنا الأئمة الاثني عشر عليهم السلام فإنّ فيها حياة القلوب وصفاء الروح، وعليكم بالاتصال بجامعة المصطفى العالمية، وطلب الكتب النافعة منهم، والكراريس الدراسية.

أرجو من اللّه أن تكونوا في دوام الصحة وأن تدعو لنا بحسن العاقبة، كما أنّي أدعو لكم بالتوفيق لما فيه خير الدنيا والآخرة، إن شاء اللّه تعالى.

جعفر السبحاني

قم المقدسة - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

24 ذي القعدة 1429 ه

ص:548

2 رسالة إلى أعضاء دارالزهراء عليها السلام

بسم اللّه الرحمن الرحيم

قال الصادق عليه السلام:

«بادروا إلى أولادكم قبل أن يسبقكم المرجئة».

الحمد للّه بجميع محامده كلّها، على جميع نعمه كلّها، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله المطهرين الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

إخوتي مسؤولو وأعضاء دارالزهراء عليها السلام، أبنائي وبناتي المشاركين في الدورة الإسلامية الصيفية؛

سلام اللّه عليكم جميعاً وبركاته وواسع خيره وجزيل رعايته وفواضل توفيقاته.

لقد رسم لنا النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأهل بيته الطاهرون عليهم السلام منهجاً تربوياً حافلاً شاملاً، لا يترك ناحية من نواحي النفس لا يوليها عنايته، ولا تتناولها إرشاداته، ولا تعمّها نصائحه وتوجيهاته وتعليماته، وله في كلّ جانب وعمل آداب سامية وأخلاق رفيعة، وهذا من خصائص ديننا الحنيف التي لا نجدها في غيره من الشرائع أو النظم الوضعية....

ولذا فإنّ التعرف على هذا المنهج والسعي إلى تطبيقه مرهون بدراسة ما جاء في القرآن الكريم وسنّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأحاديث الأئمّة المعصومين عليهم السلام... وهذا

ص:549

ما نوصي به أوّلاً، ثمّ إنّ التدبّر في القرآن الكريم لا ينفك عن إقامة الدروس الخاصّة بحفظه أو حفظ أجزاء منه، فإنّ في حفظ القرآن صيانة للإيمان وتقوية للعقيدة وسنداً لبناء الأخلاق الحميدة.

كما أنّ التعرف على أخلاقيات أهل البيت عليهم السلام وسلوكياتهم وإفهامها للطلبة والطالبات من خلال شرحها لهم بمحاضرة أو قصة أو شعر، أو كتابة أحاديثهم بخط جميل من قبل الطلاب ومنح الجوائز لمن يصمّم أجمل زخرفة أو لوحة فنية، كلّ ذلك يُعدّ من وسائل ترسيخ المفاهيم الإسلامية في النفوس وتعبئة الأرواح، وإحياء أمر النبي وأهل بيته عليهم السلام وهو الوقود الحقيقي الذي يحتاجه البشر كافة لخوض عباب بحر الحياة المتلاطم، والوصول إلى الأهداف النبيلة وسواحل الأمان.

إنّ التركيز على مفاهيم الصدق والإنصاف والاستقامة واحترام الكبير وصلة الرحم والصبر على المكاره يعتبر من الضروريات التي لها أولوية التقدّم على غيرها.

كما أنّ الاهتمام بالرياضة والسلامة البدنية لا يتخلف في الأهمية عن السلامة الروحية المطلوبة، وهذا يتحقق من خلال وضع برنامح متكامل، لبعث النشاط في نفوس وأبدان الطلبة والطالبات، ومنه نستطيع تعويدهم على أداء الصلاة في أوقاتها والنهوض إلى صلاة الصبح في وقتها المفضّل...

أيّها الشباب اعلموا أنّكم أوّل من يخطط الأعداء لإصابته بسهام شرّهم وعدائهم، إذ أنّ فترة الشباب حساسة جدّاً وخطرة أيضاً، فإذا نجحتم خلالها في صيانة أنفسكم، فقد أغلقتم أمام الشيطان والأعداء ذلك الباب، الباب الذي يحلم أن يبقى مفتوحاً دوماً ليَلجَ من خلاله إلى كيانكم ويحقّق أُمنياته في إفساد المجتمع وجعله خاضعاً لمخططاته ويستعمره فكرياً وروحياً.

قال الإمام الصادق عليه السلام: عليكم بالأحداث فإنّهم أسرع إلى كلّ خير.

فليكن ما تشرعون إليه هو الخير والصلاح، واحذروا من سريان الشبهات وما

ص:550

يسبب الانحراف إلى أوساطكم.

ويجب الاهتمام بالمحاورات الفكرية فيما بينكم وبتوجيه من معلميكم ومناقشة الأفكار والعقائد الإسلامية على ضوء مؤلفات العلماء الأعلام وتفاسير القرآن العزيز.

وبهذا الأسلوب سوف تكونون قادرين في المستقبل على الدفاع عن دينكم ومذهبكم، والنهوض بمسؤولية الدعوة إلى الحق والخير، ليحظى الآخرون بالنعمة التي أنعمها اللّه عليكم، وتكونوا مصداقاً لقول سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام: «فأحببْ لغيرك ما تحبّ لنفسك».

وفي الختام لا يسعنا إلّاأن نجدّد دعاءنا لكم بالخير والسداد.

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ثامن رجب الأصب 1430 ه

ص:551

3 التقريظ على تفسير البيّنات

للملكي الإصفهاني

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على مَنْ أُنزل عليه الكتاب نوراً لا تُطفأ مصابيحُه، وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يُدرك قعره، ومنهاجاً لا يضلّ نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوؤه، وفرقاناً لا يخمد برهانه(1) وعلى آله الذين هم ينابيع الحكمة، ومصابيح الدجى، وترجمان الوحي إلى يوم الدين.

أمّا بعد؛ فإنّ اللّه سبحانه قد بعث رسوله بالمعجزة الكبرى الخالدة على مرّ الدهور والأجيال، إيذاناً بأنّ شريعته شريعة خالدة لا تُنسخ، وأنّ بقاءها رهن ببقاء تلك المعجزة ساطعة النور في كلّ القرون، ومرشدة للأُمم جمعاء إلى نهج الحق.

ولأجل تلك الغاية القصوى قام علماء الإسلام منذ رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله

ص:552


1- . اقتباس من خطبة الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام حول عظمة القرآن الكريم، في نهج البلاغة، الخطبة 128.

بتأسيس العلوم التي تساعد على فهم القرآن الكريم، وتكشف الغطاء عن مضامينه ومفاهيمه، ولم يكتفوا بذلك بل ألّفوا تفاسير بأساليب وأنماط مختلفة حسب مقتضيات الزمان وحاجات العصر، فجاءت التفاسير تترى كلٌّ يكمّل الآخر.

وممن بذل جهده في عصرنا هذا، العالم الفاضل الحجة الشيخ محمود الملكي الإصفهاني - دامت إفاضاته - حيث شمّر عن ساعد الجد وقام بتفسير كتاب اللّه العزيز في صورة بين الإيجاز والإطناب تنسجم وحاجات الجيل الحاضر، وفسّر مفرداته وأوضح فقراته، وآخى بين الجمل والآيات بطريقة مناسبة. ولم يقتصر على ما وصل إليه ذهنه الوقّاد، بل استعان بتفاسير الأعاظم وأعلام العصر وغيرهم.

ونحن إذ نبارك له هذا الأثر القيّم والسفر المنيف، نرجو من اللّه سبحانه أن يوفقه لإكمال مشروعه، إنّه قريب مجيب.

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

23 شوال المكرّم 1431 ه

ص:553

4 رسالة مفتوحة إلى الشيخ محمد سالم الخضر

اشارة

رئيس مركز البحوث والدراسات

في مبرّة الآل والأصحاب المحترم

قرأنا في جريدة الرأي الكويتية (العدد 10428) حواراً مع الشيخ محمد سالم الخضر حول مشروع (مبرّة الآل والأصحاب) تحت عنوان «هدفنا تخليص الأُمّة من الصراع الطائفي».

وإليك بعض فقرات هذا الحوار:

1. قال الشيخ الخضر جواباً عن سؤال: كيف جاءت فكرة مبرة الآل والأصحاب ؟ بزغت الفكرة نتيجة للوضع الطائفي القائم في الأُمّة الإسلامية والذي استغله أعداء الإسلام أسوأ استغلال، فأردنا أن نقوم بعمل شيء إيجابي حتى نخلّص المجتمعَ من الصراع الطائفي الذي وصل إلى الكويت، وصارت فكرة المبرّة مقبولة لدى المعتدلين من الطرفين حيث إنّها مسّت الجرح وتعاملت معه بحكمة، وأبرزت بعض الحقائق الغائبة عن المنتسبين للطرفين.

2. وقال: إنّ حب آل البيت فطري عند جميع المسلمين، وإنّ المبرة على وشك الانتهاء من كتاب يستوعب شخصية الإمام الحسين من ميلاده ونشأته، وقد

ص:554

أسميناه «قرة العين في سيرة الإمام الحسين رضي اللّه عنه» إلى أن يقول: إنّنا نعيش في فترة حرجة في حياة الأُمّة تفرض علينا أن نتعقّل في رؤيتنا لمأساة الحسين رضي اللّه عنه، وان نقف موقفاً واحداً ضد النداءات الطائفية المستفزة والتي من شأنها أن تخلق جوّاً من التشاحن البغيض بين المسلمين.

3. وقال: أذكر منها عبارة (يا لثارات الحسين) التي تستحق من خطباء المنابر و القادة السياسيين (سنّة وشيعة) موقفاً موحّداً لما فيها من الاستفزاز الطائفي والتحريض على المسلمين:

فيزيد لم يكن سنياً كما أنّ الحسين لم يكن شيعياً، إذ لم يكن في ذلك الزمان (سنّة وشيعة) بالمعنى العقائدي أصلاً، وترديد عبارة (يا لثارات الحسين) في زماننا هذا، وقد مات قتلة الحسين رضي اللّه عنه منذ أكثر من 1360 سنة يعني أنّنا نكرّس في أبنائنا، الطائفية، والرغبة في الانتقام من الآخر.

وعلينا أن نتساءل: من منّا يتحمّل دم الحسين رضي اللّه عنه ويستحق أن يُنتقم منه ؟

4. ثم تطرق الشيخ الخضر إلى صيام عاشوراء وانّه ليس فكرة طائفية ولا حتى من خصوصيات طائفة دون أُخرى، فإنّ الذين ينتقدون هذه السنّة النبوية يتناسون أنّ المسألة اتفاقية بين أهل السنّة والجماعة وبين الشيعة الاثني عشرية بغضّ النظر عن اجتهادات وآراء البعض.

***

هذه فقرات أربع التقطناها من الحوار الذي أُجري مع الشيخ محمد الخضر رئيس مركز البحوث والدراسات في المبرة المذكورة.

ولنا معها وقفات، نريد عطف نظر الرئيس المحترم إليها:

الأُولى: لا شك أنّ توحيد الكلمة والابتعاد عن التفرق والتشرذم أمر يستحسنه العقل، ويأمر به الشرع، فاللّه سبحانه مدح الوحدة وذم الفرقة بقوله:

ص:555

(وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) (1) فكأنّ الأُمّة المتفرّقة كالمتردي في البئر، حيث لا تكتب له النجاة إلّابالتمسّك بالحبل الموصول إليه، وهكذا الأُمّة المتفرّقة، لا تنجو من عواقب الفرقة إلّابالتمسّك بحبل اللّه سبحانه.

ونحن إذا أمعنا النظر في هذه الآية: (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) (2)، نرى أنّه سبحانه جعل تفرّق الأُمّة إلى شيع، في عداد العذاب النازل من السماء! فأي بيان أفضل من هذا؟ كما نزّه سبحانه نبيّه الأكرم صلى الله عليه و آله من أن يكون في عداد المفرّقين للدين فقال: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ) .(3)

ويقول الإمام أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «والزموا السواد الأعظم، فإنّ يد اللّه مع الجماعة. وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب. ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه».(4)

وعلى هذا، فالتقريب بين المسلمين و تخليص الأُمّة من الصراع الطائفي، هو أُمنية كل مسلم واعٍ ينبض للإسلام ومصالح المسلمين قلبه. ولأجل تحقيق هذه الأُمنية قام في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، رجال مخلصون من الشيعة والسنّة بتأسيس دار باسم «دار التقريب بين المذاهب الإسلامية»، وإصدار مجلة باسم «رسالة الإسلام» وقد نجحوا في أهدافهم نجاحاً باهراً يقف عليه كلّ من قرأ شيئاً من منشوراتهم، وما قدّموا للأُمّة من أفكار وآراء وأعمال صادقة تنمُّ عن إخلاصهم وتفانيهم في سبيل التقريب.

هذا ممّا لا نقاش فيه، ونحن نصافق أصحاب المبرة فيما يدعون إليه من

ص:556


1- . آل عمران: 103.
2- . الأنعام: 65.
3- . الأنعام: 159.
4- . نهج البلاغة، الخطبة 127.

التقريب و الوحدة الإسلامية و تخليص الأُمّة من الصراع الطائفي.

***

الثانية: جاء في الفقرة الثانية: إنّ حب أهل البيت أمر فطري وعطف عليه حب الصحابة وإنّه أيضاً فطري، ونحن لا نناقشه في جعل أهل البيت والصحابة في ميزان واحد، مع أنّه لا يقاس بآل محمد أحد. قال علي عليه السلام في حقّهم: «لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه و آله من هذه الأُمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين وعماد اليقين. إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة».(1)

كيف يقاس بهم غيرهم مع أنّه سبحانه فرض مودّتهم على المسلمين عامة، من غير فرق بين الصحابة وغيرهم، وقال: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (2)؟!

كيف يقاس بهم غيرهم وقد أشركهم النبي صلى الله عليه و آله في المباهلة دون غيرهم، فقال سبحانه: (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (3)؟!

وقد اتّفق أهل السير والحديث والتفسير على أنّه لم يحضر في أرض المباهلة غير النبي وسبطيه وبنته وصهره وأشركهم في المباهلة، وأمرهم بالتأمين بعد دعائه، وترك أزواجه وأقرباءه وعامّة الصحابة.

وكم وكم لآل البيت من فضائل، ومناقب متواترة أو متضافرة أصفق على نقلها أئمة الحديث، وليس لغيرهم ما لهم، وهذا يبعثنا على أن نعطي لكلّ فئة حقّها، ونقيم لهم وزناً خاصّاً، ولا نبخس الناس أشياءهم.

نحن نمر على هذه التسوية مرور الكرام، ولكن نناقشه في أمرين آخرين:

ص:557


1- . نهج البلاغة، الخطبة 2.
2- . الشورى: 23.
3- . آل عمران: 61.

1. أنّ الكاتب يدّعي أنّ حب آل البيت أمر فطري، فلازم ذلك أن يُرى أثر الحب على مائدة المدّعين: في كتبهم وخطبهم و آرائهم، والدفاع عن محبّيهم إلى غير ذلك من مظاهر الحب، ومن أظهر مظاهر الحب هو الطاعة حيث قالوا: «إنّ المحب لمن أحب مطيع» وقد شاع وذاع: الحب هو الاتّباع.

ومع ذلك لا نجد في حياة المدّعين أي أثر من آثار الحب سوى هذه الكلمة وما أشبهها، وقد ملأوا كتبهم بآثار غيرهم، واستشهدوا برواياتهم وآرائهم وفتاواهم، ولم يذكروا عن آل البيت عليهم السلام في الفقه والتفسير والأدب والأخلاق والأُصول والفروع إلّاشيئاً يسيراً جداً!!

هذا هو أبو هريرة قد عاش مع النبي صلى الله عليه و آله وصحبه أقل من أربع سنين وقد رووا عنه أزيد من خمسة آلاف حديث، في حين عاش علي عليه السلام مع النبي صلى الله عليه و آله منذ بعثته إلى رحيله صلى الله عليه و آله ولكنّهم لم يرووا عنه إلّاعشرما رووا عن أبي هريرة!! فهل هذا ينسجم والتسوية بين الآل والأصحاب في الحب والاتّباع ؟!

2. أنّ لازم حب آل البيت عليهم السلام حبّ مَن يحبهم ويطيعهم، ويأخذ منهم حلالهم وحرامهم، وفي الوقت نفسه يأخذ عن غيرهم إذا صحّ الطريق، وهؤلاء هم المعروفون بالشيعة في أقطار العالم، ومنهجهم وديدنهم هو العمل بقول الرسول: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي وانّهما لا يفترقان حتى يردا علي الحوض».(1) وفي هذا المجال نقول: إنّ الأبطال المجاهدين في جنوب لبنان هم من الشيعة الإمامية، وقد وقفوا أمام أطماع الصهاينة في الأراضي الإسلامية حتى ردّوا السهام إلى نحورهم، فأعمالهم البطولية وتضحياتهم أمر مشكور يقدّره كل من له غيرة على إسلامه ودينه، ولكن ممّا يثير الدهشة، أنّه في الوقت الذي يقاتل فيه هؤلاء المجاهدون الأبطال في لبنان، القوات الصهيونية المعتدية، دفاعاً عن حياض الوطن وعن كرامة الأُمّة العربية والإسلامية، ويسطّرون أروع الملاحم

ص:558


1- . حديث متواتر رواه أصحاب الصحاح والمسانيد بأسانيد كثيرة.

في الثبات والتضحية والفداء، كانت الأصوات المبحوحة ل «علماء» ودعاة وخطباء تلك الفئة المتطرّفة، تدعو الناس إلى عدم تقديم أي شكل من أشكال المساعدة لهم، بل راحوا يفتون (مأجورين من حكّامهم) بتحريم رفع يدي الضراعة إلى اللّه عزّ وجلّ ، والدعاء لأبطال الجهاد والمقاومة بالنصر وتثبيت الأقدام!!

فلو أنّ امرءاً حرّاً (مسلماً كان أو غير مسلم) مات أسفاً من هذه المواقف المخزية، ما كان به ملوماً، بل كان جديراً به عند ذوي الضمائر الحيّة.

فأيّة قلوب مختومة تضمّ صدور هؤلاء، حيث لا يفقهون مصالح المسلمين، بل مصلحة أنفسهم! وأية غشاوة على أعينهم، إذ لا يبصرون من يدافع بحقٍّ عن كيان الأُمّة ومقدّراتها ومقدّساتها!! وأيّ وقر في آذانهم، يصمّهم عن سماع صراخ اليتامى والثكالى، وأنين الجرحى والمعذّبين والمشرّدين من أبناء دينهم وأُمّتهم!! وأية أنفس شحيحة ينطوون عليها، حين تدفعهم إلى البخل عليهم بالدعاء، بل يأمرون الناس فيه بالبخل!!

كيف يتلُون الكتاب المجيد، وتلهج ألسنتهم بآياته، وهم يخذلون، ويحضّون على خذلان من يصدّ عدوان أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا، وينعتونهم بكل سوء (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ ) .(1) ومع ذلك يدّعون حبّ آل البيت وتخليص الأُمّة من الصراع الطائفي.

***

الثالثة: تطرّق الشيخ محمد الخضر في كلامه إلى الشعار الذي ترفعه الشيعة وخطباء المنابر - أعني قولهم: «يا لثارات الحسين» - وسأل عن معنى هذا الشعار ومَن الذي يُنتقَم منه ؟

أقول: إنّ التساؤل عن معنى شعار «يا لثارات الحسين»، وعن الغاية المقصودة منه، وقد بات قتلَة الحسين في مزبلة التاريخ، والإيحاء بأنّ

ص:559


1- . المائدة: 80.

المناداة به دعوة للانتقام من أتباع سائر المذاهب الإسلامية، ما هو إلّاتساؤل مريب، ومحاولة بائسة للطعن على حملة هذا الشعار، وتشويه سمعتهم، وتمزيق وحدة المسلمين.

فالحسين عليه السلام يمثّل أحد طرفي الصراع المشتعل أُواره بين الحق والباطل، والعدل والجور، والاستقامة والانحراف، والصلاح والفساد، والحرية والاستبداد، ومن هنا بقيت قضيته حيّة خالدة، ولم تمت باستشهاده ولن تموت، ولم تنته بموت قاتليه ولن تنتهي، فكلّ سعي، وكلّ تحرّك، وكلّ موقف ينتصر للحق والعدل والاستقامة والحرية والمبادئ السامية، ويخذل الباطل والظلم والانحراف والاستبداد والانتهازية، فهو انتقامٌ لأبي الأحرار الإمام الحسين عليه السلام، وأخذٌ بثأره.

والتاريخ، لم يسجّل في صفحة واحدة من صفحاته الكثيرة، استغلال الشيعة لهذا الشعار استغلالاً سيئاً، باستباحة دم أيّ مسلم من أيّ مذهب كان، على الرغم ممّا تعرّضوا له من ظلم واضطهاد وقتل وسجن وتشريد على أيدي الحكام الجائرين وأشياعهم، وعلى الرغم من امتلاء تاريخهم القديم والحديث بالثورات والانتفاضات والمواقف الجريئة ضد الطغاة المفسدين.

وتزداد الصورة نصاعة أكثر، إذا انضمّ إلى ما تقدّم، وقوفهم إلى صفّ أتباع سائر المذاهب الإسلامية في الدفاع عن الإسلام، والمصالح العليا للمسلمين، بل لهم فضل السبق على غيرهم في مواجهة الأعداء والغزاة المستعمرين، كما حصل مثلاً في حركة الجهاد ضد الاحتلال البريطاني الغاشم لمدينة البصرة في عام (1333 ه)، ودفاعهم عن الخلافة العثمانية على الرغم مما مارسه العثمانيون ضدهم من قمع وظلم وإقصاء وتهميش، وكما حصل أيضاً في ثورة العشرين العارمة (1338 ه / 1920 م) ضد القوات البريطانية المحتلة للعراق.

***

الرابعة: ختم الشيخ الخضر كلامه بقوله: نفخر أن لدينا مشروعاً عملياً للوحدة الإسلامية منطلقاً من صيام عاشوراء وقال: إنّه لابد من إحياء تلك السنة

ص:560

النبويّة فإنّ المسألة اتفاقية بين أهل السنة وبين الشيعة الاثني عشرية. واستند إلى قول المرجع الديني السيد الخوئي - رضوان اللّه عليه -.

أقول: إذا كانت الغاية، تخليص الأُمّة من الصراع الطائفي وتجسيد الوحدة الإسلامية من خلال صيام عاشوراء، فنعمت الغاية وبئست الوسيلة، وذلك للأُمور التالية:

1. أنّ تسمية صيام ذلك اليوم بالسنّة النبوية يعرب عن الخلط بين السنّة، والنفل، لأنّ المطلوب بلا منع من الترك إن كان ممّا واظب عليه النبي أو الخلفاء الراشدون من بعده فسنّة، وإلّا فمندوب ونفل.(1)

روى البخاري عن عائشة: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يصومه، فلمّا قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه.(2)

وتدل الرواية بوضوح على أنّ الرسول صلى الله عليه و آله والصحابة الكرام تركوا صيامه بعد فرض رمضان. و مع هذا، كيف يصفه الشيخ بالسنّة، ويريد إحياءها وقد تركه صاحب الشريعة وخلفاؤه ؟!

والحديث يدلّ على أنّ صيام عاشوراء كان سنّة جاهلية وقد كان النبي صلى الله عليه و آله يصومه قبل قدومه للمدينة.

ويظهر من صحيح البخاري أنّ معاوية بن أبي سفيان بعد ما اغتصب الخلافة، صار بصدد إحياء تلك السنّة الجاهلية، حيث روى عن محمد بن عبد الرحمن أنّه سمع معاوية بن أبي سفيان يوم عاشوراء عام حجّ ، على المنبر يقول:

يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر.(3)

ص:561


1- . الموسوعة الفقهية الكويتية: 265/2، مادة سنّة.
2- . صحيح البخاري، كتاب الصوم، رقم الحديث 2002.
3- . صحيح البخاري، كتاب الصوم، رقم الحديث 2001.

ما هو المراد بعاشوراء في الحديث النبوي صلى الله عليه و آله ؟

اشارة

روى البخاري عن ابن عباس قال: قدم النبي المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح. هذا يوم نجّى اللّه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى. قال: فأنا أحقّ بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه.(1)

والحديث يدلّ على أنّ صيام يوم عاشوراء من سنن اليهود على خلاف ما دلّ عليه الحديث السابق من أنّها سنة جاهلية عربية، ويمكن الجمع بأنّ العرب في الجاهلية اتخذتها عن اليهود فصارت سنة لهم.

وعلى أي تقدير سواء أكانت سنة جاهلية أم سنة يهودية، فيوم عاشوراء الذي كانت اليهود يصومون فيه وصام فيه النبي صلى الله عليه و آله بحجّة أنّه أحق بموسى منهم، غير اليوم العاشر من محرّم الحرام الذي يُتصوّر أنّ صيامه سنّة من سنن النبي صلى الله عليه و آله.

وذلك لأنّ الحديث يحكي بوضوح أنّ النبي صلى الله عليه و آله أوان قدومه للمدينة، وجد اليهود يصومون فيه، ومن المعلوم أنّ هجرة النبي صلى الله عليه و آله كانت في النصف الأوّل من ربيع الأوّل، فاليوم الذي صام فيه النبي صلى الله عليه و آله، وأمر بصومه كان في النصف الأوّل من شهر ربيع الأوّل ولا صلة له بعاشر محرم الحرام، فمن يريد أن يعمل بالحديث فليصم اليوم العاشر الذي يصوم فيه اليهود، لا عاشر محرّم الحرام.

وقد تنبّه بعض الفلكيين من المسلمين لذلك الخطأ الرائج على ألسنة العوام، أعني الفلكي الطائر الصيت أبو ريحان محمد البيروني (362-440 ه) حيث قال انّ عاشوراء هو عبراني معرّب يعني: «عاشور» و هو العاشر من «تشرى» اليهود، الذي صومه صوم «الكِبّور» وأنّه اعتُبر في شهور العرب، فجُعل في اليوم العاشر من أوّل شهورهم كما هو في اليوم العاشر من أوّل شهور اليهود.

ثم نقل الرواية من أنّ النبي صلى الله عليه و آله لما قدم المدينة... وقال: وهذه الرواية غير صحيحة لأنّ الامتحان يشهد عليها وذلك لأنّ أوّل المحرم كان سنة الهجرة يوم

ص:562


1- . صحيح البخاري، الحديث رقم 2003.

الجمعة، السادس عشر من شهر تمّوز سنة ثلاث وثلاثين وتستعمائة للاسكندر، فإذا حسبنا أوّل سنة اليهود في تلك السنة كان يوم الأحد، الثاني عشر من أيلول ويوافقه اليوم التاسع والعشرون من صفر، ويكون صوم العاشور يوم الثلاثاء التاسع من شهر ربيع الأوّل، وقد كانت هجرة النبي صلى الله عليه و آله في النصف الأوّل من ربيع الأوّل، إلى أن قال:... فيكون على ما ذكرنا قدوم النبي المدينة قبل العاشور بيوم واحد وليس يتفق وقوعه في المحرّم إلّاقبل تلك السنة ببضع سنين أو بعدها بنيّف وعشرين سنة، فكيف يجوز أن يقال: إنّ النبي صام عاشوراء لاتفاقه مع العاشور في تلك السنّة ؟!(1)

وبعبارة أكثر وضوحاً: إنّ السنة العبرية (اليهودية) تبدأ في الخريف، بدلاً من منتصف فصل الشتاء (كما في التقويم الميلادي)، وهي (أي السنة العبرية) تعتمد على القمر، وتتكون من (12) شهراً، وهي:

تشْرى، مرحشوان، كسلو، طبت، شباط، أدار، نيسان، أيار، سيوان، تموز، آب، أيلول.

وتتكون الأشهر من (30) و (29) يوماً بالتبادل. ويضاف في خلال (19) عاماً شهر قوامه (29) يوماً سبع مرات بين شهري (أدار ونيسان)، ويطلق على هذا الشهر اسم (فيادار)، وفي الوقت ذاته يصبح أدار (30) يوماً.(2)

وعلى ضوء ذلك نقول: إذا صحّ أنّه نُدب إلى صيام يوم عاشوراء، وأنّ ثمّة من يريد صوم ذلك اليوم، فليصم في يوم (العاشور) من شهر (تشرى) الذي يقع دائماً في فصل الخريف (حسب التقويم العبري)، لا أن يصوم في يوم (عاشوراء) من شهر (محرم الحرام)، الذي يتحرك عبر الفصول، وفقاً للتقويم الهجري.

وممّا يثير العجب ما نقله ابن حجر عن بعض من حاول تصحيح الحديث

ص:563


1- . الآثار الباقية عن القرون الخالية، ص 421، تحقيق اذكيائي.
2- . انظر: الموسوعة العربية العالمية: 82/7-83، مؤسسة أعمال الموسوعة، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية.

وقال: يحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحسب السنين الشمسية فصادف يوم عاشوراء بحسبهم اليوم الذي قدم فيه المدينة.(1)

ولا أظن أنّه يخفى على القارئ وجود التناقض في كلام القائل، إذ كيف يمكن أن يصادف قدوم النبي صلى الله عليه و آله يوم عاشوراء بحسبهم ؟ ولذلك قال ابن حجر: إنّ سياق الأحاديث تدفع هذا التأويل.

وفي الختام نلفت نظر الأساتذة الذين يصرون على الاحتفال بيوم عاشوراء أنّ أوّل من احتفل بهذا اليوم الحجاج بن يوسف الثقفي في أيام عبد الملك بن مروان، يقول المقريزي: إنّ ملوك بني أيوب الذين أزالوا الفاطميين عن منصة الخلافة كانوا يتخذون يوم عاشوراء يوم سرور، يوسعون فيه على عيالهم ويتبسطون في المطاعم ويصنعون الحلاوات ويتخذون الأواني الجديدة ويكتحلون ويدخلون انلحمام جرياً على عادة أهل الشام التي سنّها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب - كرم اللّه وجهه - الذين يتخذون يوم عاشوراء يوم عزاء وحزن فيه على الحسين بن عليّ لأنّه قتل فيه.(2)

وقد لعب الوضاعون الكذّابون دوراً عظيماً في الدعوة إلى إظهار الفرح والسرور في عاشر محرم، واتخاذه عيداً وإظهار الزينة كالخضاب والاكتحال إلى حد، قام غير واحد من المحققين بتكذيب هذه المراسم.

قال ابن حجر: انّ ما أصيب به الحسين - رضي اللّه تعالى عنه - في يوم عاشوراء إنّما هو الشهادة الدالة على حظوته ورفعته ودرجته عند اللّه، وإلحاقه بدرجات أهل بيته الطاهر - إلى أن قال - و امّا بدع الناصبة المتعصبين على أهل البيت من اظهار غاية الفرح والسرور، واتخاذه عيداً وإظهار الزينة فيه، كالخضاب

ص:564


1- . فتح الباري: 200/4.
2- . الخطط المقريزية: 490/1 (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار).

والاكتحال ولبس جديد الثياب، وتوسيع النفقات، وطبخ الأطعمة والحبوب الخارجة عن العادات واعتقادهم انّ ذلك من السنة والمعتاد، والسنة ترك ذلك كله فانّه لم يرد في ذلك شيء يعتمد عليه ولا أثر صحيح يرجع إليه، وقد سئل بعض أئمة الحديث عن هذه الأُمور - فقال لم يرد فيه حديث عنه صلى الله عليه و آله ولا أحد من أصحابه، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين لا من الأربعة ولا من غيرهم، ولم يرد في الكتب المعتمدة في ذلك صحيح أو ضعيف....(1)

فدع عنك نهباً صيح في حَجَراته ولكن حديثاً ما حديث الرواحلِ

ثمّ إنّ بعض من يريد احياء هذه السنة المتروكة بنص الحديث المتقدم يحاول أن يدعمه بفتوى فقهاء الشيعة والمسكين جاهل بفقههم وانّ استحباب صومه ليس أمراً متفقاً عليه وإليك دراسة كلامه في هذا الموضوع:

2. أنّ القول بأنّ صيام يوم عاشوراء أمر اتّفق على جوازه، السنّة والشيعة، أمر لا يوافق الواقع، فإنّ لفقهاء الإمامية فيه آراء سبعة إليك إجمالها:

أ. حرمة صومه إذا كان بنية التبرّك بمصرع الحسين وآل بيت النبي عليهم السلام، سواء أثبت صيام عاشوراء عن النبي أم لم يثبت.

ب. استحباب الإمساك في هذا اليوم عن الأكل والشرب وبقية المفطرات إلى ما بعد صلاة العصر تأسيّاً بعطش الحسين وأهل بيته وأصحابه.

ج. استحباب صومه كملاً لكن على وجه الحزن فقط، ومعنى ذلك استحبابه بهذا القيد.

د. كراهة صومه من دون نيّة الحزن، ولعلّه المشهور.

ه.. استحباب صومه من حيث هو.

و. حرمة صومه مطلقاً بأي نيّة كانت، حزناً أم تبركاً.

ص:565


1- . الصواعق المحرقة: 183، بتلخيص ولكلامه ذيل يليق بالمطالعة.

ز. الاحتياط - وجوباً - باجتناب صومه مطلقاً بأي نيّة كانت.(1)

ومع ذلك فكيف يصف الشيخ صيام عاشوراء بقوله: أمراً أصفق عليه الفريقان ؟!

نعم، قال السيد الخوئي بكونه مندوباً - لكن مندوباً - بالذات، و حراماً بالعرض، وقد اختزل المتحدّث كلامه فاكتفى بصدره وترك ذيله، وإليك ما قاله في ذيل كلامه:

نعم لا إشكال في حرمة صوم هذا اليوم بعنوان التيمّن والتبرّك والفرح والسرور كما يفعله أجلاف آل زياد والطغاة من بني أُميّة من غير حاجة إلى ورود نص أبداً، بل هو من أعظم المحرّمات، فإنّه ينبئ عن خبث فاعله وخلل في مذهبه ودينه، وهو الّذي أُشير إليه في بعض النصوص المتقدّمة من أنّ أجره مع ابن مرجانة الّذي ليس هو إلّاالنار، ويكون من الأشياع والأتباع الذين هم مورد اللعن في زيارة عاشوراء. وهذا واضح لا سترة عليه، بل هو خارج عن محلّ الكلام كما لا يخفى.(2)

3. سلّمنا، كون صيامه سنّة يليق أن تُحيا فلماذا تُحيا بالابتهاج والسرور، أيجوز في منطق العقل، والعاطفة، الابتهاج بيوم سُفك فيه دم إمامهم سبط رسول اللّه وريحانته، ودماء الأبرار الأتقياء من أهل بيته وأصحابه ؟!

أو ليس هذا دليلاً على أنّ وراء الكواليس شيئاً، وأنّ النيّات ليست بصادقة ولا خالصة، وأنّ المبرة مصيّدة للشيعة أو صد عن انتشار التشيّع الّذي بدأ ينتشر منذ أعوام لقوة منطقه، ووضوح مسالكه.

إنّه يجدر بمن تهمّه وحدة خطا المسلمين، ويدعو إلى جمع كلمتهم وإصلاح

ص:566


1- . لاحظ: رياض المسائل: 467/5؛ جواهر الكلام: 105/17، الصوم في الشريعة الإسلامية الغراء للكاتب: 306/2-310؛ الرسول المصطفى صلى الله عليه و آله والشعائر الحسينية: 475-478 وقد أفاض القول في حكم الصيام مما لا مزيد عليه.
2- . مستند العروة، كتاب الصوم: 305/2.

واقعهم المأساوي، يجدر به أن يعمل على تجنّب إثارة مسائل الخلاف، والتأكيد على المشتركات - وما أكثرها - لتعزيز روح الثقة، التي هي مفتاح التآخي والتعاون والتآلف بينهم، وأن تكون نياته صادقة في هذا الاتجاه، لا أن يرفع يافطة الوحدة، ليختفي وراءها، ويُخفي معه - كما يظن - أغراضه السقيمة، فيصبح مصداقاً للمثل السائر: سَبَّحَ ليسرق.

فدعوا هذا الحرص المصطنع على الوحدة والتقارب بين المذاهب الإسلامية، فإنّ إصراركم على استفزاز الآخرين في عقائدهم ومشاعرهم، يكشف عن نياتكم الحقيقية، ويفضح دموع التماسيح التي تذرفونها أسىً كاذباً على مصالح المسلمين، الذين لم يَعُد ينطلي عليهم هذا التمويه والخداع.

***

4. نفترض أنّ صيام يوم عاشوراء سنّة نبوية، ولكن من أُصول بعض أهل السنّة وعلى رأسهم ابن تيمية، ترجيح ترك السنّة إذا كان شعاراً للمخالف، وله نظائر:

1. تسطيح القبر

قال الشيخ محمد بن عبد الرحمن الدمشقي: السنّة في القبر التسطيح، وهو أولى على الراجح من مذهب الشافعي(1).

وقال الرافعي: إنّ النبي صلى الله عليه و آله سطّح قبره ابنه، وعن القاسم بن محمد قال رأيت قبر النبي و أبي بكر وعمر مسطّح. وقال ابن أبي هريرة: إنّ الأفضل الآن العدول من التسطيح إلى التسنيم، لأنّ التسطيح صار شعاراً للروافض، فالأولى مخالفتهم وصيانة الميت وأهله عن الاتهام بالبدعة.(2)

ص:567


1- . اختلاف الأئمة: 88/1، في هامش الميزان للشعراني
2- . فتح العزيز في شرح الوجيز: 453/2.
2. الجهر بالبسملة

روى البيهقي عن أبي هريرة قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يجهر بالصلاة ب «بسم اللّه الرحمن الرحيم»، وأمّا أنّ علي بن أبي طالب عليه السلام يجهر بالتسمية، فقد ثبت بالتواتر.

وكان علي بن أبي طالب يقول: يا من ذكره شرف للذاكرين، ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه.(1)

ولكن حكى الرافعي عن ابن أبي هريرة أنّ الجهر بالتسمية إن صار في موضع شعار للروافض، فالمستحب هو الإسرار بها مخالفة لهم.(2)

3. ترك المستحبات إذا صارت شعاراً للشيعة

قال ابن تيمية عند بيان التشبّه بالروافض: ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات إذا صارت شعاراً لهم، فإنّه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك، لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم ولا يتميّز السنّي من الرافضي، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم، ومخالفتهم، أعظم من مصلحة هذا المستحب.(3)

حكى البرسوي عن كتاب «عقد الدرر واللآلي وفضل الشهور والليالي» للشيخ شهاب الدين الشهير بالرسّام ما يلي يقول: ولا ينبغي للمؤمن أن يتشبّه بيزيد الملعون في بعض الأفعال، وبالشيعة والروافض والخوارج أيضاً، يعني لا يجعل ذلك اليوم يوم عيد أو يوم مأتم، فمن اكتحل يوم عاشوراء فقد تشبّه بيزيد الملعون وقومه وإن كان للاكتحال في ذلك اليوم أصل صحيح، فإنّ ترك السنّة، سنّة إذا كانت شعاراً لأهل البدع كالتختم باليمين فإنّه في الأصل سنّة، لكن لمّا كان شعار أهل البدعة والظلمة، صارت السنّة أن يجعل الخاتم في خنصر

ص:568


1- . مفاتيح الغيب: 205/1 و 204.
2- . فتح العزيز في شرح الوجيز: 453/2.
3- . منهاج السنّة: 143/2.

اليد اليسرى.(1)

إلى غير ذلك من الموارد التي تركوا فيها السنّة لأجل كونها شعاراً للمخالف.

فإذا كان هذا هو الأصل المتّبع عند السلف فيليق بالخلف أن يتبع في كلّ سنّة صارت شعاراً للمخالف، ومن المعلوم - إلى حدٍّ عَلِمَهُ الأكمهُ والأصمُ - أنّ صيام عاشوراء صار شعاراً للأمويين بعد مقتل الحسين عليه السلام وشهادته، ويقول باقر العلوم عليه السلام: «اللهم إنّ هذا يوم تبرّكت به بنو أمية وابن آكلة الأكباد بقتلهم الحسين عليه السلام...(2)

فعلى مَن ينبض قلبه بوحدة الكلمة وتوحيد الأُمّة أن لا يصوم يوم عاشوراء لئلّا يتشبّه بالأمويين وأذنابهم ومن سار على نهجهم.

هذه رسالتي المفتوحة لرئيس مركز البحوث والدراسات في مبرّة الآل والأصحاب عسى أن ينظر إليها بعين الإنصاف والتجرد عن الرأي المسبق الذي نشأ عليه في بيئته.

زاد في الطنبور نغمة

هذا هو حال صوم عاشوراء وقد اتضح انّ النبي صلى الله عليه و آله لو صام، فإنّما صام في شهر ربيع الأوّل الّذي اتفق فيه عاشوراء اليهود ولا صلة له بعاشر محرم الحرام.

بلغنا أنّ فؤاد الرفاعي صاحب مركز (وذكر) أعلن يوم عاشوراء يوم فرح وسرور، وقد نشر دعاية لذلك في صحيفة (الوطن) الكويتية يوم 29 ذي الحجة من هذه السنة 1431 ه.

والمسكين مع أنّه من مقلّدة ابن تيمية، فقد تجاوز حدّه، فإنّ إمامه يعدّ الفرح في يوم عاشوراء من بدع الناصبيّ الحجّاج بن يوسف الثقفي، وقال في منهاج السنة وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «سيكون في ثقيف كذّاب

ص:569


1- . روح البيان: 142/4.
2- . مصباح المتهجد: 775؛ بحار الأنوار: 98/295.

ومبير».

وهذا الناصبي هو المبير، فأحدث السرور حتّى رووا أنّ من وسّع على أهله يوم عاشوراء، وسّع اللّه عليه سائر سنته.

ثم نقل (ابن تيمية) عن حرب الكرماني أنّه سأل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، فقال: لا أصل له، وليس له إسناد يثبت.

ثم ذكر أنّ كلّ ما روي من الاكتحال يوم عاشوراء والاغتسال والتوسعة على العيال وإحداث أطعمة غير معتادة كلها بدع، لم يستحب أحد من أئمة المسلمين الأربعة، ولا غيرهم، شيئاً من هذه الأُمور.(1)

فإذا كان داعيتكم، هذا الّذي اتخذتموه إماماً في الأُصول والفروع، ووصفتموه بشيخ الإسلام، وتلقّيتم أنظاره وعقائده كالوحي المنزل، يعدَ ذلك من البدع، أفيصحّ بعد هذا لفؤاد الرفاعي أن يجعل ذلك اليوم، يوم فرح وسرور؟ (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .(2)

ومع ذلك، ففي الأُمّة من أهل السنة من ألقى جلباب التعصّب وأصدر بياناً توضيحياً، نأتي به بنصّه:

قال السيد يوسف هاشم الرفاعي:

قد اطلعت على ما أصدره ووزعه مركز «وذكر» من منشورات بمناسبة يوم عاشوراء العاشر من شهر محرم الحرام والّتي يدعو الناس فيها بجانب الصوم المسنون إلى «ابداء الفرح والسرور» في ذلك اليوم الّذي قتل فيه شهيداً مظلوماً سبط رسول اللّه صلى الله عليه و آله الإمام الحسين رضى الله عنه واكرم منزله ومثواه ومن استشهد معه من أهل بيته وأنصاره الكرام في معركة الطف بكربلاء حوالي سنة 60 من الهجرة، وبهذا الخصوص أجد واجباً علي أن أوضح وأبين ما يلي:

ص:570


1- . منهاج السنة: 554/4-555 (بتلخيص).
2- . يونس: 35.

أوّلاً: انّ نص حديث الصيام الوارد في البخاري وغيره لم يتضمن ولا يفهم منه ولا يستنبط انّ النبي صلى الله عليه و آله يدعو أصحابه ومن بعدهم المسلمين إلى ابداء واظهار «السرور والفرح والأنس» بهذا اليوم ولم يؤثر ذلك عن الصحابة الكرام ومن قال ذلك فقد حمّل نص الحديث ما لا يحتمل ونسب إلى الرسول صلى الله عليه و آله ما لم يقل وفي هذا العمل من الإثم العظيم ما فيه.

ثانياً: انّ السواد الأعظم من المسلمين (أهل السنة والجماعة) وخاصة أتباع المذاهب الأربعة (الشافعية والحنابلة والمالكية والأحناف) أجمعوا على أنّ الإمام الحسين مات شهيداً مظلوماً ومن معه، ويحمّلون ابن زياد وابن سعد وجنودهما «المظلمة الكبيرة والإثم العظيم» على تلك الجريمة النكراء الّتي أغضبت اللّه تعالى ورسوله وصالح المسلمين، وكانت نقطة سوداء في تاريخ المسلمين، واعتبروا يزيد بن معاوية ظالماً طاغياً هو وجنوده وجلاوزته وقد قام المسلمون جميعاً بعد ذلك بالاقتصاص منهم فرداً فرداً وقتلهم، وقد كانت تلك المأساة المفجعة الّتي حصلت في كربلاء (السبب الرئيسي في سخط اللّه وفي سرعة زوال الدولة الأُموية الّتي لم تعمر إلّاقليلاً بعد ذلك «سبعين(1) سنة تقريباً») وقد حفلت كتب أهل السنة والجماعة بما يثبت ويجلي موقفهم المستنكر لهذه المأساة والغاضب عليها، وفي كتاب الإمام «الشبلنجي، الشافعي المصري رحمه اللّه تعالى عن أهل البيت» ما يشفي الغليل ويوضح الدليل على ذلك ومعروف كذلك رأي الإمام أحمد بن حنبل في تكفير واستنكار عمل من أقروا وقاموا وشاركوا بتلك الجريمة النكراء والمأساة الأليمة الّتي لا نزال ندفع ثمنها حتّى اليوم.

ثالثاً: إنّي وجمهور الأُسرة الرفاعية في الكويت وخارجها، نبرأ ونشجب ولا نقبل بإبداء السرور والفرح في هذا اليوم (عاشوراء) ذكرى استشهاد «جدنا الإمام

ص:571


1- . في الأصل: تسعين، ولعلّه خطأ الطباعة.

الحسين» بل يعتصر قلبنا ألماً وحزناً لذكراها وما نال أهلنا أهل البيت الكرام فيها ونترحم عليهم ونحتسبهم عند اللّه تعالى مع الشهداء الأخيار، غير أنّنا لا نلطم خداً ولا نشق جيباً امتثالاً لما أمرنا به ربنا اللّه تعالى ورسوله جدنا وسيدنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ونقول: (إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) واللّه أكبر ولا حول ولا قوّة إلّاباللّه العليّ العظيم، ولنتذكر قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) .(1)

وقوله صلى الله عليه و آله: «أحبوا اللّه لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحب اللّه، واحبوا آل بيتي بحبي»، وصلّى اللّه على سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.

***

ونرفق ذلك ببيان آخر، كتبه علي يوسف المتروك، وها هو نص البيان، الّذي جاء تحت عنوان:

عاشوراء بين الحزن والفرح

لأُولئك الذين يدعون للفرح والمسرة يوم عاشوراء لنجاة موسى وقومه من الغرق، ويتخذون من هذه المناسبة فرصة لاستفزاز المسلمين من محبي آل البيت عليهم السلام، وإذا كان النبي صلوات اللّه عليه وآله قد احتفل بنجاة موسى عليه السلام، فهناك مناسبات لا تقل أهمية عن هذه المناسبة لم نسمع أنّه احتفل بها، كنجاة إبراهيم من نار النمرود، ونجاة يونس من بطن الحوت، ونوح من الغرق، وغير ذلك من حوادث جرت على الأنبياء السابقين.

أقول: ليس هناك مجال للمقارنة بين مناسبة حصلت قبل آلاف السنين لأمة خلت مشكوك في صحة توقيتها، لعدم وجود أشهر عربية زمن موسى عليه السلام خاصة باليهود، أو لدى الفراعنة في زمانه، وبين مأساة حدثت بعد خمسين سنة من وفاة المصطفى صلوات اللّه عليه وآله، فسجلت صفحة سوداء بل حمراء قانية في

ص:572


1- . الشورى: 23.

تاريخ الإسلام، وهي استشهاد حفيده وريحانته بل روحه الّتي بين جنبيه.

فقد روت أُم سلمة في حديث صحيح رواه الترمذي عن أبي سعيد الأشج...

عن سلمى قالت: دخلت على أُمّ سلمة وهي تبكي فقلت: ما يبكيك ؟ فقالت:

رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعلى رأسه ولحيته التراب فقلت: مالك يا رسول اللّه ؟ قال:

شهدتُ قتل الحسين آنفاً) وروى الإمام أحمد مع حذف الاسناد عن ابن عباس قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله في المنام نصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم فقلت: بأبي وأُمّى يا رسول اللّه ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل التقطه منذ اليوم. قال عمار بن أبي عمار وهو أحد رواة الحديث: فأحصينا ذلك اليوم فوجدناه قد قتل في ذلك اليوم (تفرد به الإمام أحمد وإسناده قوي).

يروي الإمام البخاري (في باب معانقة الصبي، ص 364 والترمذي: 195/13 في باب مناقب الحسن والحسين وابن ماجه في المقدمة، باب 11، ج 144 و مسند أحمد، ج 172/4 و الحاكم في المستدرك ج 177/3 وغيرها من المصادر انّ النبي صلى الله عليه و آله قال: حسين مني وأنا من حسين، أحبّ اللّه من أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط) وليس من المبالغة ان قلنا انّ ما جرى على الحسين من أذى واعتداء كأنّه جرى على رسول اللّه صلى الله عليه و آله لقوله: «حسين منّي وأنا من حسين»، ولابدّ أن نتوقف مع بقية كلامه صلوات اللّه عليه عندما قال: «حسين سبط من الأسباط» وحتّى نتعرف على معنى هذاالقول والمنزلة الّتي منحها الباري جل شأنه للأسباط نقرأ قوله تعالى: (قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) .(1)

وهذا ما أكده الحسين يوم عاشوراء وقد عزم القوم على قتله قال عليه السلام: أيها الناس اعلموا أنّه ليس بين مشرق الأرض ومغربها سبط غيري، فكان يشير إلى

ص:573


1- . البقرة: 136.

حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله انّ الحسين سبط من الأسباط، لم يقتصر الحزن على رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وعلى كلّ مسلم يؤمن باللّه واليوم الآخر، ويتأسى بما جرى على أهل بيته الكرام، وذريته الّتي أمر اللّه بمودتها وموالاتها بقوله: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) بل تعدى ذلك الحزن فشمل الطبيعة، فأمطرت السماء دماً في ذلك اليوم وأصبح الناس وكل شيء لهم مليء دماً، وبقي أثره في الثياب مدة حتّى تقطعت، وانّ هذه الحمرة الّتي ترى في السماء ظهرت بعد قتله عليه السلام ولم تر قبله.

وقال ابن سيرين في (تفسير روح البيان): والحمرة الّتي مع الشفق لم تكن حتّى قتل الحسين وحكمته على ما قال ابن الجوزي: ان غضبنا يؤثر حمرة الوجه، والحق منزه عن الجسمية، فأظهر تأثير غضبه على من قتله الحسين بحمرة الأُفق، إظهاراً لعظيم الجناية، ولم يرفع حجَر في الدنيا يوم قتله إلّاوجد تحته دم عبيط، وقد ورد هذا المعنى بألفاظ مختلفة في المصادر التالية: مقتل الحسين: 89/2؛ ذخائر العقبى: 150، 145، 144؛ تاريخ دمشق كما في مناقبه: 339/4؛ والصواعق المحرقة: 116، 192؛ الخصائص الكبرى: 126؛ تاريخ الإسلام: 349/2؛ تذكرة الخواص: 284، ومصادر أُخرى لم أذكرها اختصاراً للمقال.

يقول الشيخ عرفان بن سليم العشا حسونة الدمشقي في كتابه (الحسين حفيداً وشهيداً): إن مبغضي أهل البيت من أهل الشام كانوا يطبخون الحبوب ويغتسلون، ويتطيبون، ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتخذون ذلك اليوم عيداً يظهرون فيه الفرح والسرو، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عما يفعله الناس يوم عاشوراء من الكحل، والاغتسال، والحناء فقال: ما ملخصه كما ورد في مجموع الفتاوى:

299/25 فأجاب (الحمد للّه رب العالمين: لم يرد شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه و آله، ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين ولا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً لا عن النبي صلى الله عليه و آله ولا الصحابة ولا التابعين، لا صحيحاً ولا ضعيفاً، لا في كتب الصحيح، ولا في السنن، ولا المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون

ص:574

الفاضلة، ورووا في حديث مكذوب عن النبي صلى الله عليه و آله: أنّه من وسع على أهل يوم عاشوراء وسع اللّه عليه سائر السنة (انتهى كلام ابن تيمية).

يا جماعة، أيها المسلمون، إذا كان هذا كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله في سبطه وريحانته الحسين، وما روته أُمّ المؤمنين أُمّ سلمة رضي اللّه عنها وابن عباس، وما رواه البخاري وغيره من كبار أصحاب المسانيد، وكتب الحديث، وما أفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية من حرمة الفرح يوم عاشوراء، فماذا ترك من ينادي بالفرح في هذا اليوم المليء بالحزن والأسى لأعداء الإسلام ؟ أما الصوم في هذا اليوم فإن كان هذا الصوم قربة إلى اللّه ولم يكن على سبيل الشماتة، فلا شك أنّ من قام به يثاب على عمله، فلكل امرئ ما نوى، واللّه أعلم بما تحمل السرائر.

في يوم عاشوراء سلام عليك يا أبا الشهداء، أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار، وعلى الأرواح الّتي حلت بفنائك، وأناخت برحلك مني ومن أُمّة جدّك المصطفى صلى الله عليه و آله في يوم استشهادك العظيم، سلام المحتسبين الصابرين والمؤمنين بقضاء اللّه وقدره، سلام عليكم أهل بيت النبوة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي ورحمة اللّه وبركاته. وحشرنا اللّه تحت رايتكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّامن أتى اللّه بقلب سليم.

***

هكذا يجب أن يكون العلماء الغيارى على الإسلام الذين يحرصون على وحدة الكلمة والتضامن بين الطوائف الإسلامية. ويجتنبون عن النعرات الجاهلية المبغضة، المفكِّكة لعرى الأخوة الإسلامية.

والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات

ص:575

ص:576

فهرس المحتويات

مقدمة المؤلّف... 7

الفصل الأوّل:

في الكلام والعقائد

1. التجسيم والتشبيه في منهج ابن تيمية... 11

1. طلبهم من موسى عليه السلام الإله المجسّم... 11

2. طلبهم رؤية اللّه تعالى... 12

3. عبادتهم العجل في غياب موسى عليه السلام عنهم... 12

تطرّق فكرة التجسيم إلى النصرانية... 13

دور الأحبار و الرهبان في نشر فكرة التجسيم... 14

عقيدة أهل السنة في التنزيه... 15

إجابة عن سؤال... 20

كلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية... 21

موقف أهل البيت عليهم السلام من فكرة التجسيم... 24

مع ابن تيمية في عقائده... 29

ص:577

2. حركة الباري ونزوله عند ابن تيمية... 29

الأوّل: تعريف الحركة... 31

الثاني: وجود الإمكان في المتحرّك... 31

الثالث: ما هي الغاية من الحركة ؟... 31

3. الجهة والمكان للّه سبحانه عند ابن تيمية... 38

أخبار الآحاد هي المصدر عنده للعقائد... 48

ابن تيمية وجلوسه سبحانه على العرش... 50

4. نظرة إلى تكلّمه سبحانه في منهج ابن تيمية... 53

نظرية المعتزلة... 53

نظرية الأشاعرة... 54

نظرية الإمامية... 55

نظرية ابن تيمية... 57

الاستدلال برواية جابر بن عبد اللّه... 61

تحليل الحديث... 62

استدلال بحديث آخر... 64

ذاته سبحانه ليست محلّاً للحوادث... 65

5. عقائد شاذّة نابية لابن تيميّة... 67

6. العصمة حقيقتها وآثارها... 70

لماذا نبحث عن العصمة ؟... 70

العصمة في اللغة... 71

العصمة في مصطلح المتكلمين... 71

العصمة من مقولة العلم الرادع... 72

ص:578

العصمة لا تسلب الاختيار عن صاحبها... 74

موقف الشيعة من العصمة... 75

العصمة وآية التطهير... 76

7. الأحكام الشرعية، ألطاف في الأحكام العقلية... 79

1. صيرورة الإنسان مستعداً لامتثال الأحكام العقلية... 79

2. باعثة على معرفة المعبود... 81

3. تأكيد العقليات... 82

4. محصلة للقرب... 83

5. الكشف عن المصالح والمفاسد... 84

8. في الرؤية ومعنى الإله... 86

9. البداء في الكتاب والسنّة... 89

1. البداء ثبوتاً... 91

2. البداء إثباتاً... 93

1. إخبار يونس عن نزول العذاب... 94

2. إخبار موسى بثلاثين ليلة في الميقات... 95

إطلاق البداء على اللّه سبحانه... 97

10. التبرك في الكتاب والسنّة... 100

التبرّك لغةً ... 101

التبرّك اصطلاحاً... 102

النصوص الدالّة على جواز التبرّك... 103

1. التبرّك في الأُمم السالفة... 103

2. التبرّك في القرآن الكريم... 104

ص:579

تبرّك الصحابة بآثار النبي صلى الله عليه و آله... 107

1. التبرّك بماء وضوئه صلى الله عليه و آله... 107

2. التبرّك بقدحه... 108

3. التبرّك بسؤره... 108

4. التبرّك بمنبره... 108

5. التبرّك بالدنيانير الّتي لمسها النبي صلى الله عليه و آله... 110

6. التبرّك بالعصا الّتي أعطاها النبي صلى الله عليه و آله... 110

7. التبرّك بقميص النبي صلى الله عليه و آله... 111

8. التبرّك بالبردة المهداة... 111

التبرّك بجبّته صلى الله عليه و آله... 112

9. التبرّك بالقبر الشريف... 112

10. التبرّك بالمواضع الّتي صلّى فيها الرسول صلى الله عليه و آله... 113

11. التبرّك بخاتم النبي صلى الله عليه و آله... 113

12. التبرّك بالمسح واللمس... 114

التبرّك في روايات أهل البيت عليهم السلام... 115

1. التبرّك باسم اللّه جل وعلا... 115

2. التبرّك بالقرآن الكريم... 115

3. التبرّك بماء وضوء النبي صلى الله عليه و آله... 116

4. التبرّك بقبر النبي صلى الله عليه و آله... 116

شبهة القائلين بحرمة التبرّك... 117

11. التوسّل في الكتاب والسنّة... 123

أنواع الوسائل... 124

ص:580

الأوّل: التوسّل بأسماء اللّه وصفاته... 124

الثاني: التوسّل بالقرآن الكريم... 125

الثالث: التوسّل بالأعمال الصالحة... 126

الرابع: التوسّل بدعاء الأخ المؤمن... 128

الخامس: التوسّل بدعاء النبي صلى الله عليه و آله في حياته... 129

السادس: التوسّل بدعاء النبي صلى الله عليه و آله بعد رحيله... 130

تكلّم النبي صلى الله عليه و آله مع الهالكين من قريش... 134

سيرة المسلمين بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله... 135

شبهات المخالفين... 140

الأُولى: البرزخ مانع من الاتصال... 140

الشبهة الثانية: امتناع إسماع الموتى... 141

الشبهة الثالثة: انقطاع عمل الإنسان... 142

الشبهة الرابعة: التوسّل بدعاء الأنبياء شرك... 143

الشبهة الخامسة: أنّ دعاء النبي صلى الله عليه و آله بعد رحيله بدعة... 146

السابع: التوسّل بذات النبيّ حال حياته... 147

توسّل الضرير بشخص النبي صلى الله عليه و آله... 147

الثامن: التوسل بذات النبيّ صلى الله عليه و آله بعد رحيله... 150

التاسع: التوسّل بحق الصالحين وحرمتهم ومنزلتهم... 153

العاشر: التوسّل بحقّ السائلين... 155

توسّل الأنبياء: بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله... 156

خاتمة المطاف: سيرة الموحدين في توسّلهم بالطيبين والطاهرين... 158

1. استسقاء عبدالمطلب بالنبي صلى الله عليه و آله وهو صغير... 158

ص:581

2. استسقاء أبي طالب بالنبي صلى الله عليه و آله وهو غلام... 158

3. توسّل الخليفة بعمّ النبي: العباس... 160

12. الاحتفال بيوم الغدير أو سلمان العودة توّاب عوّاد... 163

13. في تسمية الولد بعبد المسيح... 170

14. محسن بن علي بين الحقيقة والخيال... 173

الفصل الثاني

في الأُصول والحديث والفقه

1. أُصول الفقه ومناهجه عبر العصور... 181

أُصول الفقه في أحاديث العترة... 182

أُصول الفقه ومناهجه المختلفة... 183

الطريقة الأُولى: طريقة المتكلّمين... 183

الطريقة الثانية: طريقة الأحناف... 185

الطريقة الثالثة: الجمع بين الطريقتين... 186

منهج الإمامية في تدوين أُصول الفقه... 188

2. مصطلح «المسند» في علوم الحديث والمسانيد في عصر الأئمّة عليهم السلام... 192

المسانيد في عصر الأئمّة عليهم السلام... 193

3. منهجية نقد متن الحديث... 196

1. عرض الحديث على كتاب اللّه الكريم... 198

2. عرض الحديث على السنّة القطعية... 199

3. عرض الحديث على العقل الحصيف... 199

4. عرض الحديث على التاريخ الصحيح... 200

ص:582

5. عرض الحديث على اتّفاق الأُمّة... 201

6. مخالفة الحديث لمسلّمات العلم... 202

4. حجة الوداع.. خطب وإرشاد... 204

مقدّمة... 205

عدد خطبه صلى الله عليه و آله في حجة الوداع... 207

1. خطبته صلى الله عليه و آله في اليوم السابع والثامن من ذي الحجة... 207

2. كلماته صلى الله عليه و آله في يوم عرفة... 208

3. خطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم عرفة... 211

4. خطبته صلى الله عليه و آله يوم النحر... 217

5. خطبته صلى الله عليه و آله في مسجد الخيف... 221

6. خطبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله عند الكعبة... 224

7. خطبته صلى الله عليه و آله في غدير خُم... 225

5. ما هو المراد من أنّ الأنبياء لم يورثوا؟... 237

دراسة مضمون الحديث... 239

الهدف هو التوقّي من الأعداء... 242

6. رسالة إلى الدكتور عبد الوهاب في رؤية الهلال... 244

1. التخيير بين الأقل والأكثر أمر لغو... 246

2. استلزام ذلك فقهاً جديداً... 247

3. الإفطار في شهر رمضان والصيام في العيد... 248

7. شركة الأعمال في الفقه الإسلامي... 251

أقوال الفقهاء في شركة الأعمال... 253

أدّلة القائلين بعدم الجواز... 257

1. الإجماع على البطلان... 257

ص:583

2. كونها غررية... 258

3. كون المعاملات توقيفية... 262

4. تمليك المعدوم... 264

5. عدم المزج... 265

6. من قبيل شركة المنافع... 265

ابن حزم وبطلان شركة الأعمال... 266

أدلّة المجوّزين من السنّة... 268

تصحيح شركة الأعمال... 270

شركة الأعمال فرع من الشركات المعنوية... 271

8. في وقف الحُلِيّ والأثمان... 274

1. عدم جواز الوقف... 275

2. جواز الوقف... 276

3. التردّد وعدم الجزم بشيء... 276

تصحيح وقف الأثمان مع التجارة بها... 277

9. رسالة في إرث الزوجة... 280

1. حول الروايات المعارضة لنظر المشهور... 287

2. مشكلة اختلال الميزان في الفرائض والأسهم... 289

3. مشكلة تأخير البيان... 290

الآن حصص الحق... 291

10. هل ترك النبي صلى الله عليه و آله من مصادر التشريع... 294

حكم العباديات والقربيات... 298

1. تنقيط القرآن وإعرابه... 300

2. التطوّر في بناء المساجد... 300

ص:584

3. المناظرة مع أصحاب المقالات... 301

4. كتابة الحديث... 302

5. النبي وحج التمتع... 302

6. صلاة التراويح... 303

7. ترك النبي صلى الله عليه و آله استلام الحجر بيده... 304

نظرة وتعليق على فتاوى القرضاوي الفقهية

11. ادّعاء تحريم الزواج المؤقت (المتعة)... 307

1. أخذ التأبيد في تعريف الزواج... 308

2. أهداف الزواج... 309

3. ادّعاؤه تحريم المتعة على التأبيد... 310

4. هل أنّ الرسول صلى الله عليه و آله حرّم المتعة ؟... 311

5. المحرِّم هو الخليفة نفسه... 312

12. عدم كفاية التسمية عند الأكل... 316

13. حرمة الاستمناء (العادة السرّية)... 318

14. الغناء والموسيقى في الكتاب والسنّة... 321

حرمة الغناء في الكتاب والسنّة وأقوال الفقهاء... 323

حرمة المعازف في السنّة... 325

دليل القائل بالجواز... 327

15. في عدم مساواة دية المرأة لدية الرجل... 331

اتّفاق الفقهاء على النصف... 332

تضافر السنّة على النصف... 334

ص:585

التنصيف في دية الأعضاء... 334

ما هي المصلحة في تنصيف الدية ؟... 335

الفصل الثالث

مقالات تقريبية

1. فقه أهل البيت عليهم السلام بين أهل السنّة والشيعة... 339

الفصل الأوّل: التعرّف على أهل البيت عليهم السلام وفقههم، وفيه محاور... 340

المحور الأوّل: مَنْ هم أهل البيت ؟... 340

الأُولى: إفراد البيت في مقابل البيوت... 341

الثانية: اللام في أهل البيت للعهد... 342

أهل البيت عليهم السلام في لسان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله... 343

المحور الثاني: الدليل على حجّية فتاواهم على المسلمين كافة... 345

المحور الثالث: مصادر فتاواهم... 348

1. استنطاق كتاب اللّه العزيز... 348

2. سنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله... 350

أ. السماع عنه صلى الله عليه و آله... 350

ب. كتاب علي عليه السلام... 351

3. العلم الموهوب... 352

خاتمة المطاف: رجوع كبار الفقهاء إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام... 353

الفصل الثاني: المدرسة الفقهية للشيعة الإمامية... 356

المصادر والخصائص... 356

الأمر الأوّل: مصادر الفقه عند الشيعة الإمامية... 357

المصدر الأوّل: القرآن الكريم... 357

ص:586

المصدر الثاني: السنّة الشريفة... 358

المصدر الثالث: الإجماع... 359

المصدر الرابع: العقل... 359

إزاحة شبهة... 361

الأمر الثاني: خصائص فقه الإمامية ومميزاته... 363

الأُولى: إحراز العدالة في عامة سند الرواية... 364

الثانية: تقييد العمل بالقياس... 364

تخريج المناط... 365

الثالثة: انفتاح باب الاجتهاد... 366

الرابعة: لكل واقعة حكم... 366

الخامسة: التصويب والتخطئة... 367

السادسة: تقسيم الأحكام الشرعية إلى واقعية وظاهرية... 367

السابعة: تقسيم الموضوعات إلى أوّلية وثانوية... 368

1. الضرورة والاضطرار... 368

2. الضَّرر والضِّرار... 369

3. العسر والحرج... 369

4. قاعدة الأهم والمهم عند التزاحم... 369

5. صلاحيات الفقيه الجامع للشرائط... 370

2. التشيّع تاريخاً وعقيدة... 372

التسمية من النبي الأعظم صلى الله عليه و آله... 373

الأُصول المشتركة بين الشيعة والسنّة... 375

الفوارق بين الإمامية والأشاعرة... 376

الفوارق بين الشيعة والمعتزلة... 377

ص:587

الشيعة الإمامية والأحكام الفرعيّة... 379

3. الأواصر العلمية بين علماء الشيعة والسنّة خطوة نحو التقريب... 381

مدح القرآن للاتحاد وذمّه للانقسام والتفرّق... 384

الانسجام والتضامن الإسلامي... 385

التضامن الإسلامي في ظلال المذاكرة والحوار... 386

تعاون علماء الفريقين في العصور السابقة... 389

عصر الصادقين عليهما السلام المنير والتضامن الإسلامي... 389

نماذج من التعاون والتآلف بين علماء الفريقين... 391

1. الكليني في بعلبك... 391

2. الشيخ الصدوق في بلاد ماوراء النهر... 391

3. الشيخ المفيد في بغداد... 392

4. الشريف المرتضى زعيم أهل العراق... 393

5. الشيخ الطوسي وكرسيّ التدريس... 393

6. ابن إدريس الحلّي والتعاون مع الفقيه الشافعي... 393

7. الشيخ منتجب الدين الرازي ومديح الرافعي القزويني... 394

8. فخر المحقّقين ومديح صاحب القاموس... 394

9. الخواجه نصير الدين الطوسي ونجاة العلماء... 395

10. العلّامة الحلّي ومختصر ابن الحاجب... 397

11. العلامة هبة الدين الشهرستاني وصلته بعلماء السنة... 398

12. شرف الدين العاملي ومكاتبته مع شيخ الأزهر... 404

13. السيد البروجردي ودعمه للتقريب... 405

رسائل الشيخ الأزهر إلى السيد البروجردي... 406

14. السيد محمود الآلوسي وصلته بالعلامة الزنجاني... 408

ص:588

دار التقريب ودورها في تقارب المذاهب... 412

السلفية الوهابية... 414

حفظ الأصالة... 418

4. رسالة مفتوحة إلى الشيخ يوسف القرضاوي والرد على ادّعاءاته ضد الشيعة والتشيع... 419

الأُولى: البدع النظرية... 424

1. ادّعاء الوصية لأمير المؤمنين... 424

2. العلم بالغيب... 427

3. عصمة العترة... 428

4. سب الصحابة... 429

الثانية: البدع العملية... 431

1. تجديد مأساة الحسين عليه السلام كل عام... 431

2. ما يحدث عند مزارات آل البيت من شركيات... 432

5. رسالة إلى الدكتور عيسى بن مانع الحميري... 435

6. رسالة إلى الدكتور عبدالرحمن الصالح المحمود والرد على اتهامه الشيعة في مسألة الإسناد وعلم الرجال... 440

7. الاحتفال بالمولد النبويّ الشريف على ضوء الكتاب والسنّة... 449

البدعة في اللغة والشرع... 451

الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله له أصل في الشريعة... 453

1. حبّ النبي أصل من الأُصول... 453

2. تكريم النبي صلى الله عليه و آله أصل من الأُصول... 455

3. رفع ذكر النبي صلى الله عليه و آله... 456

4. ذكر نعم اللّه سبحانه وتعالى... 457

ص:589

5. الاقتفاء بسنّة نبي اللّه عيسى عليه السلام... 459

أدلّة القائل بالبدعة... 461

8. رسالة إلى أحد أعلام التقريب من أهل السنّة حول تكفير اتباع أهل البيت عليهم السلام من قبل بعض الخطباء والوعاظ... 465

9. إدانة مثيري الفتنة... 468

10. إدانة إهانة القرآن الكريم في أمريكا... 470

11. رسالة إلى الدكتور الشيخ أحمد الطيّب شيخ الأزهر... 473

الفصل الرابع

في التراجم

1. البرقي وأثره الرجالي... 477

الأوّل: محمد بن خالد بن عبدالرحمن البرقي... 480

الثاني: أحمد بن محمد بن خالد البرقي... 481

الثالث: عبداللّه بن أحمد بن محمد بن خالد... 484

الرابع: أحمد بن عبداللّه بن أحمد بن محمد بن خالد البرقي... 486

عليّ بن أحمد بن عبداللّه بن أحمد البرقيّ (شيخ الصدوق)... 486

الكتاب تأليف الحفيد... 487

2. علي بن إبراهيم القميّ عصره.. مكانته العلمية.. آثاره... 489

قول العلماء في حقّه... 491

أساتذته... 492

تلامذته... 494

طبقته في الرجال... 495

ص:590

وقفة مع تفسيره المتداول... 496

توثيق من وقع في أسناد التفسير... 499

3. المحدّث الكليني وأثره الخالد... 502

أُسرته... 502

الظروف الّتي نشأ فيها... 504

ثقافته الواسعة... 506

أثره الخالد... 507

ثناء العلماء وأقوالهم فيه... 507

رحلاته في أخذ الحديث وعرض كتابه... 509

العناية بكتاب «الكافي»... 510

الكليني وتهمة تحريف القرآن... 512

4. الشريف المرتضى رحمه الله حياته وآثاره... 516

نسبه الشريف... 517

نشأته وسيرته... 517

كلمات العلماء في حقّه... 517

آثاره العلمية... 519

فضائله ومكارم أخلاقه... 523

أشهر تلامذته... 524

إلفات نظر... 525

السيد المرتضى وأُصول الفقه... 527

5. العالم الرباني ميثم البحراني... 532

مؤلّفاته وتصانيفه... 537

6. آقا بزرگ الطهراني وطبقات أعلام الشيعة... 539

ص:591

7. السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر رجل العلم والجهاد... 542

الفصل الخامس

رسائل إرشادية

1. رسالة الشيخ محمد شهيد وجوابها عنها... 547

2. رسالة إلى أعضاء دارالزهراء عليها السلام... 549

3. التقريظ على تفسير البيّنات للملكي الإصفهاني... 552

4. رسالة مفتوحة إلى الشيخ محمد سالم الخضر... 554

كلام حول صوم عاشوراء... 561

ما هو المراد بعاشوراء في الحديث النبوي ؟... 562

النبي صام عاشر الربيع عام وروده المدينة لا عاشر محرم الحرام... 562

تحقيق الفلكي البيروني في الآثار الباقية في صيام النبي في مهجره... 562

نماذج من ترجيح ابن تيمية ترك السنّة إذا كانت شعاراً للمخالف... 567

1. تسطيح القبر... 567

2. الجهر بالبسملة... 568

3. ترك المستحبات إذا صارت شعاراً للشيعة... 568

الردّ على البيان الذي أصدره مركز «وذكر»... 569

ابن تيمية يرى الاحتفال والسرور يوم عاشوراء بدعة أحدثها الناصبي الحجّاج بن يوسف الثقفي... 569

تبرّؤ جمهور الأُسرة الرفاعية من هذا البيان... 571

عاشوراء بين الحزن والفرح... 572

فهرس المحتويات... 577

ص:592

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.