رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام المجلد 5

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام/ تاليف جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق (ع) ، 14ق. = 13 -

مشخصات ظاهري : 10ج.

يادداشت : عربي.

يادداشت : فهرست نويسي بر اساس جلد ششم: 1428ق. = 1386.

يادداشت : كتابنامه.

موضوع : اسلام -- بررسي و شناخت

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندي كنگره : BP11 /س2ر5 1300ي

رده بندي ديويي : 297

شماره كتابشناسي ملي : 1053076

ص :1

اشارة

ص :2

ص :3

ص :4

ص :5

ص :6

رسائل و مقالات (ج5)

مقدمة المؤلف

بسم اللّه الرحمن الرحيم العقيدة الإسلامية واحدة

رغم تعدّد المذاهب

الحمد للّه الملك العلاّم،خالق النفوس و الأجسام،الذي حارت عن إدراك كنهه،العقول،و ضلّت الأوهام،و الصلاة و السلام على المبعوث حجّة على الأنام،أقدس السفراء الفخام محمد صلى الله عليه و آله و سلم،و على الأطائب من ذرّيته،الحجج الغُرّ الكرام.

أمّا بعد:فانّ العقيدة الإسلامية الّتي نزل بها القرآن الكريم ودعت إليها السنّة الشريفة و دعمها العقل الحصيف،عقيدة واحدة على مر الحُقُب و القرون، ذلك لأنّ العقيدة تحكي عن حقيقة ثابتة لا تتبدّل و لا تتغيّر،شأن كل أمر كونيّ معتمِد على واقعيات خارجة عن تصوّرات الإنسان و تفكيره.

فالمعادلات الرياضية،و القوانين الميكانيكية،و الأحكام العقلية القطعية،كلّها من الأُمور الثابتة لا يزعزعها تصور الإنسان الخاطئ،و لا يؤثر عليها التفكير الإنساني مهما بلغ من القوة مبلغاً لا يُشقّ شأوه.

و لمّا كانت العقيدة الإسلامية ممّا يجب اقتناصه من المصادر الصحيحة،

ص:7

اختلف العلماء و في مقدّمتهم أساتذة العقائد و الكلام في كيفية الاقتناص و الاقتباس،و هذا هو الّذي أعقب مذاهب عقائدية و مدارس كلامية لكلّ شأنه و دليله،و قيمته.

و لكن لمّا كان بين هذه المسائل،مسائل خاصة أوجبت تعميق الهوّة بين المسلمين فقد أحببتُ أن أطرحها على طاولة البحث و الدراسة ليتجلّى الحق لطلابه و أكون ممّن شارك في التقريب بين المذاهب و توحيد الخطى بينها، و هذه المسائل عبارة عن:

المسألة الأُولى:التفكير فريضة إسلامية و انّه لا غنى للمسلم عن التفكير في ما يرجع إلى العقائد حتى يصدر عن دليل يقيني مفيد للعلم به،و انّ الذين يحرّمون الخوض في المعارف العقلية هم الذين وقعوا في مصيدة التجسيم و التشبيه،فلمّا رأوا أنّ البراهين القاطعة تعارض تفكيرهم و تُزعزع بنيانَ ما ورثوه من آبائهم،اضطرّوا إلى تحريم التفكير العقائدي لسدّ هذا الباب.

فصاروا يدعمون عقيدتهم البسيطة بالبرهان قائلين«لو كان المنطق(الاستدلال) طريقاً محصِّلاً لم يقع الاختلاف بين أهل الاستدلال».

ترى أنّهم كيف يستدلّون على بطلان الاستدلال،بالبرهنة و الدليل.

هؤلاء الذين أقفلوا باب التفكير في صفاته سبحانه و أفعاله و شطبوا على البحوث العقلية بقلم عريض،فقد أنكروا في الحقيقة كثيراً من الآيات و الروايات الّتي تبرهن على العقائد،و هذا هو الّذي عالجناه في المقالة الأُولى أو الفصل الأوّل من فصول الكتاب.

المسألة الثانية:و هي أنّ كثيراً من العقائد المنسوبة إلى السلف-و السلف الصالح بريء منها،براءة يوسف من الذنب الملصق به-مستقى من الخبر الواحد

ص:8

الّذي لا يفيد علماً في باب العقائد.

فقد طرحنا هناك هذا النوع من المسائل و قلنا بأنّ الخبر الواحد في الشئون الدينية بين الرفض و القبول؛فقول الثقة حجة في مجال الأحكام و ما يرجع إلى سلوك الإنسان من فعل و ترك،و لكنّه-قول الثقة-ليس بحجة في مجال العقائد فإنّ المطلوب في هذا الحقل هو تحصيل اليقين،و خبر الواحد أقلّ شأناً من أن يفيد اليقين.

و بعبارة أُخرى:الأُصول و المعارف من الأُمور الّتي يطلب منها عقد القلب و الإذعان بالقضية على نحو يطرد الطرف النقيض،و قول الثقة بما أنّه غير معصوم لا يورث إلاّ الظنّ و هو لا يغني في مجال العقيدة عن الحق شيئاً، و هذه المسألة طرحناها في المقالة الثانية من تلك المقالات أو الفصل الثاني من فصول هذا الكتاب.

المسألة الثالثة:و هي مسألة التساهل أو التطرف،و هي من الأُمور الهامة حيث نرى أنّ طائفة من المفكّرين يدعون إلى التساهل و التسامح و يصفون الإسلام بثقافة التساهل،و على النقيض من ذلك توجد جماعة يهتمون و يشدّدون على التكفير و يدعون إلى ثقافته: و كلّ يدّعي وصلاً بليلى و ليلى لا تقرّ لهم بذاكا

و قد عالجنا هذه المسألة بالتفريق بين التساهل السلوكي و التساهل في العقيدة و الإيمان.

فليس للمسلم أن يتنازل عن عقيدته و الأُصول الّتي بُني عليها الإسلام قيد شعرة،و لكنّه لا يمنع من التساهل في علاقته مع الفرق الأُخرى على نحو الهدوء و الهدنة.

ص:9

و قد ذكرنا عدداً من المسائل الّتي صارت سبباً للتطرف و طرد الآخرين من بين الطوائف الإسلامية.

و في هذا الصدد نرى أنّ الشيخ الأشعري-و الّذي تاب عن الاعتزال و لجأ إلى مذهب أحمد بن حنبل-يؤلّف كتاباً في الفرق الإسلامية يسميه«مقالات الإسلاميين،و اختلاف المصلّين»و هو يسمّى أصحاب المذاهب كلّهم أهل القبلة و الصلاة،و مع ذلك اختلفوا في كثير من المسائل الكلامية و الّتي لا تمت إلى الإيمان الواجب بصلة.

فيا ليت كان منهجُ الأشعري سائداً على هؤلاء المتطرّفين اللّذين يتحاملون على الفرق الإسلامية الأُخرى.

و قد تطرقنا إلى هذه المواضيع في المقالة الثالثة أو الفصل الثالث.

المسألة الرابعة:فتنة التكفير فتنة عمّت أكثر ربوع العالم الإسلامي دون أن يكون لهذا الاتّساع و الانتشار حدّ و توقف،و من يقوم بهذه الفتنة يتمسّك بعناوين يصفونها بالبدعة دون أن يقوّموا مفهوم البدعة و خصوصياتها،فصار الترامي بالابتداع أمراً شائعاً تسمعه حيث ما كنت في الديار المقدسة.

و قد نتج من إشاعة التكفير و رمي الآخرين بالابتداع الإرهابُ الّذي غطّى البلاد الإسلامية،فإنّ كثيراً ممّن اغترّ بتكفير المسلمين و وصفهم بالابتداع، استقوا مواقفهم المتطرفة تلك،من هذه الفكرة،إلى أن استغلّ الأعداءُ ذلك فجعلوا الإسلام مساوياً للإرهاب و إراقة الدماء و قتل الأبرياء،دون أن يميّزوا بين الإرهابيّين الذين هم نتاج أعمال الأجانب و تضييقهم على المواطنين و بين الإسلام الواقعي الّذي تعلوه الرحمة الإلهية و الأخوّة الإسلامية و التعاون البشري.و هذا هو محور المقالة الرابعة و الّتي كانت بعنوان:فتنة التكفير و خطرها على مستقبل الأُمّة

ص:10

الإسلامية.

و مع هذا فهذا الجزء يضم بين دفتيه مقالات أُخرى في الفقه و أُصوله و الرجال و التراجم و الرسائل الإخوانية الّتي دارت بيننا و بين عدد من المفكّرين و العلماء الأعزاء.

فنرجو من اللّه سبحانه أن يكون هذا الجزء كسوابقه مفيداً للقراء و منيراً لدربهم.

نسأل اللّه سبحانه أن يصوننا من التقصير في التفكير و الزلل في البيان و العمل إنّه خير مسئول و مجيب.

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

28 ربيع الأوّل 1426ه

ص:11

ص:12

ص:13

ص:14

الفصل الأوّل:تاريخ علم الكلام و كيفية نشوئه و تكامله و مدارس

1 ما هو سبب تسمية علم الكلام بهذا الاسم؟

اشارة

اختلفت كلمات أعلام المتكلّمين في وجه تسمية علم الكلام،و ها نحن نذكر كلماتهم في المقام:

1.قال العلاّمة الحلّي (المتوفّى 726ه) في موسوعته«نهاية المرام في علم الكلام»:خُصِّصَ هذا العلم باسم الكلام لوجوه:

- العادة قاضية بتسمية البحث في دلائل وجود الصانع تعالى و صفاته و أفعاله، بالكلام في اللّه تعالى و صفاته،فسُمّي هذا العلم بذلك.و لا استبعاد في تخصيص بعض الأسماء ببعض المسمّيات دون بعض.

- أنكر جماعة البحث في العلوم العقلية و البراهين القطعية،فإذا سُئلوا عن مسألة تتعلّق باللّه تعالى و صفاته و أفعاله و النبوة و المعاد،قالوا:نُهينا عن الكلام في هذا العلم،فاشتهر هذا العلم بهذا الاسم.

- هذا العلم أسبق من غيره في المرتبة،فالكلام فيه أسبق من الكلام في غيره، فكان أحقّ بهذا الاسم.

- هذا العلم أدق من غيره من العلوم،و القوة المميزة للإنسان-و هي النطق - إنّما تظهر بالوقوف على أسرار هذا العلم،فكان المتكلّم فيه أكمل الأشخاص البشرية،فسمّي هذا بالكلام لظهور قوة التعقّل فيه.

- هذا العلم يُوقف منه على مبادئ سائر العلوم،فالباحث عنه كالمتكلم في غيره،فكان اسمه بعلم الكلام أولى.

- إنّ العارفين باللّه تعالى يتميزون عن غيرهم من بين نوعهم،لما شاهدوه من

ص:15

ملكوت اللّه تعالى،و أحاطوا بما عرفوه من صفاته،فطالت ألسنتهم على غيرهم فكان علمهم أولى باسم الكلام. (1)

2.و قال التفتازاني(المتوفّى عام 791ه):سُمِّي علم الكلام كلاماً،لأنّ مباحثه كانت مصدّرة بقولهم:كلام في كذا و كذا،و لأنّ أشهر الاختلافات فيه كانت مسألة كلام اللّه تعالى انّه قديم أو حادث،و لأنّه يُورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات كالمنطق في الفلسفيات،و لأنّه كثر فيه من الكلام مع المخالفين و الردّ عليهم ما لم يكثر في غيره،و لأنّه لقوة أدلّته صار كأنّه هو الكلام دون ما عداه كما يقال للأقوى من الكلامين هذا هو الكلام. (2)

و قد ذكر التفتازاني أيضاً في«شرح العقائد النسفية»أسباب تسمية علم الكلام بهذا الاسم فقال:و سَمُّوا معرفة العقائد عن أدلّتها بالكلام:

- لأنّ عنوان مباحثه كان قولهم:الكلام في كذا و كذا.

- و لأنّ مسألة الكلام(في حدوث القرآن و قدمه) كانت أشهر مباحثه و أكثر نزاعاً و جدالاً.

- و لأنّه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات و إلزام الخصوم كالمنطق للفلسفة.

- و لأنّه أوّل ما يجب من العلوم التي تُعْلم و تُتعلم بالكلام،فأطلق عليه هذا الاسم لذلك ثمّ خُصّ به و لم يطلق على غيره تميزاً له.

- و لأنّه إنّما يتحقّق بالمباحثة و إدارة الكلام بين الجانبين،و غيره قد يتحقّق بالتأمل و مطالعة الكتب.

- و لأنّه أكثر العلوم خلافاً و نزاعاً فيشتد افتقاره إلى الكلام مع المخالفين و الرد عليهم.

ص:16


1- 1) .نهاية المرام في علم الكلام:8/1-9. [1]
2- 2) .شرح المقاصد:164/1،تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة. [2]

- و لأنّه لقوة أدلّته صار كأنّه هو الكلام دون ما عداه من العلوم،كما يقال للأقوى من الكلامين هذا هو الكلام.

- و لأنّه لابتنائه على الأدلّة القطعية المؤيَّد أكثرها بالأدلّة السمعية،أشدّ العلوم تأثيراً في القلب و تغلغلاً فيه،فسُمِّي بالكلام،المشتق من الكلم و هو الجرح. (1)

و على كلّ تقدير فقد يطلق على هذا العلم،علمُ أُصول الدين،كما يسمّى أيضاً بعلم التوحيد،أو علم التوحيد و الصفات،أو الفقه الأكبر،أو علم النظر و الاستدلال. (2)

هذا خلاصة ما ذكروه غير أنّ كثيراً منها إبداعيّ لا يَعتمِدُ على دليل،خصوصاً ما اشتهر بين الناس من أنّ وجه التسمية بالكلام لأجل انّ البحث في الكلام الإلهي من حيث الحدوث و القدم كان هو السبب وراء تسمية هذا العلم بعلم الكلام.و ذلك لأنّ البحث في الكلام الإلهي من حيث القدم و الحدوث نجم في عصر المأمون عام 212ه،مع أنّ هذا المصطلح كان دارجاً بين المسلمين قبل هذا العصر.

نظرنا في وجه التسمية

و الظاهر انّ خطب الإمام و كلماته،كانت هي الأساس في التسمية و تدوين علم الكلام،فالمتكلّمون كانوا يستدلّون بكلام علي عليه السلام في كذا و كذا حتّى سمّى مجموع المسائل بعلم الكلام.

و سيوافيك أنّ المؤسس الأوّل لهذا العلم هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، فإنّه أوّل من تكلّم بين الصحابة حول أسمائه سبحانه و صفاته و أفعاله بوجه بديع،و خطبه و كلماته أفضل شاهد على ذلك.

ص:17


1- 1) .شرح العقائد النسفيّة:15،ط آستانة- [1]1326ه.
2- 2) .كشاف اصطلاحات العلوم:30؛و علم الكلام و مدارسه:53.

2

تعريف علم الكلام

و قد عُرِّف علم الكلام بتعاريف مختلفة:

1.علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج و دفع الشبه. (1)

2.هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلّة اليقينية. (2)

3.هو ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء و الأفعال المحمودة التي صرّح بها واضعُ الملة و تزييف كل ما خالفها بالأقاويل. (3)

4.علم يتضمّن الحجاج على العقائد الإيمانية بالأدلّة العقلية و الرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقاد عن مذاهب السلف و أهل السنّة. (4)

و يلاحظ على التعريف الأخير بأنّ المتكلّم-على ضوء هذا التعريف-هو من يدافع عن أُصول الدين لا عن فروعه.و اختلاف السنّة مع غيرهم اختلاف في

ص:18


1- 1) .المواقف:333/1؛ [1]كشاف اصطلاحات العلوم:30.
2- 2) .شرح المقاصد:163/1. [2]
3- 3) .موسوعة مصطلحات العلوم عند العرب:1061/2.
4- 4) .مقدمة ابن خلدون:ص 458،الفصل العاشر في علم الكلام. [3]

الفروع لا في الأُصول بما فيه الاختلاف في الإمامة،لأنّها عند أهل السنّة من الفروع و جزء من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،فلا معنى لتخصيص علم الكلام بالدفاع عن عقيدة السلف و السنّة،بل المتكلّم يدافع عن العقيدة الإسلامية المشتركة بين السنّة و الشيعة.

و على ضوء هذه التعاريف يكون علم الكلام علماً آلياً يستخدم في إثبات العقائد الدينية،إمّا بإيراد الحجج أو دفع الشبه،و يكون موضوعه العقائد الدينية من حيث إقامة الحجج العقلية عليها أو دفع الشبه عنها.

و هذا النوع من التعاريف ينطبق على الكتب المؤلفة في العصور الإسلامية الأُولى التي اقتصر البحث فيها على المسائل العقائدية.

و لكن هذا الوضع لم يدم،ففي العصور المتأخرة شرع المتكلّمون في البحث عن أوسع الموضوعات و هو البحث عن الموجود بما هو موجود؛ فقسّموا المباحث الكلامية إلى:الأُمور العامة أوّلاً،و الطبيعيات ثانياً، و الإلهيات ثالثاً.

و على ضوء ذلك سار نصير الدين الطوسي (المتوفّى672ه) في كتابه «تجريد الاعتقاد»؛و تبعه غير واحد من المتكلّمين،منهم:العلاّمة الحلّي في غير واحد من كتبه الكلامية لا سيّما كتاب«نهاية المرام في علم الكلام»، و القاضي الإيجي (المتوفّى756ه) في«المواقف»، و التفتازاني(المتوفّى791ه) في«مقاصده»و«شرحه»،و الجرجاني (المتوفّى 816ه) في«شرح المواقف»،و الفاضل المقداد(المتوفّى 826ه) في «اللوامع الإلهية»،إلى غير ذلك من الكتب.

و هذه المسائل لا تمت إلى العقائد الدينية بصلة.نعم حاول محمد علي الفاروقي التهانوي من علماء القرن الثاني عشر إرجاع هذه المسائل إليها بالبيان

ص:19

التالي:

و موضوعه هو المعلوم من حيث إنّه يتعلّق به إثبات العقائد الدينية تعلّقاً قريباً أو بعيداً،و ذلك لأنّ مسائل هذا العلم إمّا عقائد دينية كإثبات القدم و الوحدة للصانع،و إمّا قضايا تتوقف عليها تلك العقائد كتركب الأجسام من الجواهر الفردة و جواز الخلاء و انتفاء الحال و عدم تمايز المعدومات المحتاج إليها في المعاد،و كون صفاته تعالى متعددة موجودة في ذاته،و الشامل لموضوعات هذه المسائل هو المعلوم المتناول للموجود و المعدوم و الحال،فإن حكم على المعلوم بما هو من العقائد تعلّق به إثباتها تعلّقاً قريباً،و إن حكم عليه بما هو وسيلة إليها تعلّق به إثباتها تعلّقاً بعيداً،و للبعد مراتب متفاوتة. (1)

يلاحظ عليه:أنّه لا صلة بين إثبات الأحوال البهشمية المطروحة في الأُمور العامّة و نفيها و العقائد الدينية،و هكذا كثير من المسائل المطروحة في علم الطبيعيات.

و سيوافيك الرأي الحاسم في الفصل القادم.

ص:20


1- 1) .كشاف اصطلاحات الفنون:31. [1]

3

اشارة

موضوع علم الكلام

إنّ تحديد موضوع علم الكلام رهن كيفية تعريفه،فلو قلنا في تعريف علم الكلام بأنّه علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج و دفع الشبه،يكون موضوعه العقائد الدينية التي أذعن المتكلّم بصحّتها بدلائل إجمالية،و تكون عوارضها إقامة الحجج التفصيلية عليها أو بدفع السهام المرشوقة إليها.

و أمّا لو قلنا في تعريف علم الكلام بأنّه الباحث عن أحوال الموجود بما هو موجود كما يدلّ عليه مباحثه،فالموضوع هو الموجود بما هو موجود الذي ثبوته من البديهيات و مسائله من النظريات،فعندئذٍ يتّحد موضوع علم الكلام مع موضوع الفلسفة،و غاية ما يمكن أن يقال في الفرق هو انّ البحث في علم الكلام على نهج قانون الإسلام بمعنى انّ المتكلّم ملتزم بأن لا يخرج بنتيجة يخالف فيها الإسلام و لكن الفيلسوف غير ملتزم بذلك.

ينقل الإيجي في«المواقف»و يقول:و قيل الموضوع هو الموجود بما هو موجود و يمتاز عن الإلهي باعتبار،و هو انّ البحث هاهنا على قانون الإسلام. (1)

ص:21


1- 1) .المواقف:7/1. [1]

و على ضوء ذلك فالفلسفة و الكلام اسمان لعلم واحد،مشتركان في عامّة المسائل،غير أنّ همّ المتكلّم في النهاية إيراد الحجج على العقائد أو دفع الشبه بخلاف الفيلسوف.

و بذلك ظهر انّ الموضوع أحد أمرين:

أ.العقائد الدينية المبرهنة إجمالاً في غير علم الكلام.فيبحث عن العوارض الذاتية لها و هي-كما مرّ-إمّا إقامة الدليل أو دفع الشبهة.

ب.الموجود بما هو موجود الذي يؤمن به كلّ إنسان موضوعي و يبحث عن عوارضه الذاتية،و هي تقسيم الموجود إلى واجب و ممكن،و الممكن إلى مجرّد و مادّي و هكذا.

و قد تقدّم انّ التهانوي جعل الموضوع«المعلوم»من حيث إنّه يتعلّق به إثبات العقائد الدينية و كأنّه حاول الجمع بين الأمرين.

هذا هو المستفاد من كلمات القوم.

إيضاح و تفصيل

و الحقّ أن يقال:أنّه لو قلنا بأنّ علم الكلام يتضمّن الاحتجاج على العقائد الإيمانية بالأدلّة العقلية و الردّ على المبتدعة فموضوع علم الكلام«هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث الاستدلال عليها بالأدلّة العقلية فترفع البدع و تزول الشكوك و الشبه عن تلك العقائد».

و قد كان علم الكلام في أوائل الأمر لا يتجاوز هذا الحدّ،و كان الغرض منه هو الذبّ عن العقائد الصحيحة،فالعقائد الإيمانية و البرهنة عليها بالأدلّة العقلية و رفع البدع و إزالة الشكوك من عوارضها موضوع له.

ص:22

و لكن علم الكلام-بمرور الزمن-تجاوز هذا الحدّ فصار يواكب الفلسفة في حقولها الثلاثة:الأُمور العامّة،الطبيعيات و الفلكيات،و الإلهيات بالمعنى الأخصّ.

فعند ذلك لا محيص من القول من أنّ موضوع علم الكلام هو نفس موضوع الفلسفة،لكن الغرض الأقصى للمتكلّم هو البرهنة على ما ثبت في الشرع في الحقول الثلاثة،و بالأخص ما يمت إلى العقائد بصلة؛و هذا بخلاف الحكيم،فإنّ الغاية هو فهم حدود الوجود و تعيّناته من الواجب إلى الممكن و من الجوهر إلى العرض و من المادّة إلى المجرّد.

و بذلك يتيسّر لنا أن نقول:إنّ علم الكلام تطوّر عبر القرون،ففي القرون الأُولى كان الهدف هو الدفاع عن العقائد الإيمانية فقط،و لم يكن هناك أيّ غرض سوى ذلك،و لكن بمرور الزمن و احتكاك الثقافات و ازدهار الفلسفة لم يجد المتكلّمون بدّاً من التوسع في المعارف الكونيّة من الطبيعيات و الفلكيات و البحث عن القواعد العامّة في الأُمور العامّة و غير ذلك.

و بذلك اختلفت كلمتهم في بيان موضوع العلم.

استظهار موضوع العلم من خلال غايته

إنّ الوقوف على موضوع العلم يحصل من خلال الوقوف على غايته،فإنّ غاية العلم تُحدِّدُ موضوعَ العلم و بالتالي تعريفَه.

فالغاية القصوى للمتكلّم هي معرفة اللّه سبحانه و صفاته و أفعاله،و يدخل في أفعاله معرفة المعاد و الأنبياء و الأئمّة و ما يمت لهم بصلة،فإذا كانت هذه هي الغاية فلا معنى لاتخاذ الموجود بما هو موجود موضوعاً لعلم الكلام،فإنّ البحث

ص:23

عن مطلق الموجود و إن لم يكن له صلة باللّه و أسمائه و صفاته و أفعاله خارج عن الغاية المتوخاة للمتكلّم،و بذلك تخرج كثير من المباحث المطروحة في الفلسفة عن علم الكلام،نظير:

1.الأُمور العامة،كالبحث عن الوجود و الماهية،و البحث عن العدم و أحواله إلى غير ذلك من المسائل.

2.الطبيعيات،كالبحث عن تركّب الجسم من الهيولى و الصورة،أو الفلكيات إلى غير ذلك.

و قد مرّ أنّ المتكلّمين في العصور الأُولى لم يكن لهم همّ إلاّ طرح المسائل التي لها مساس بالعقائد الدينية،و لكن لمّا اتسعت العلوم و دام التنازع بينهم و بين غيرهم اتسعت دائرة علم الكلام إلى مسائل لا تمت إليها بصلة،و كانت الغاية من إدخال هذه المسائل هي مجاراة الفلاسفة فيها حتّى لا يُتَّهمُوا بقلة الاطّلاع و ضآلة الفضل و العرفان،و لو لا هذا لما شمل علم الكلام هذه المباحث.

و لذلك نرى أنّ العلاّمة الحلّيّ يذكر في غاية علم الكلام ما هذا نصّه:

إنّ الإنسان هو مدني بالطبع يفتقر في معاشه إلى غذاء و لباس و مسكن،و هذه الأُمور لا يمكن صدورها عن صانع واحد و إنّما تحصل باجتماع خلق يتعاونون عليه و يتشاركون في تحصيله.

ثمّ إنّ الاجتماع على التعاون إنّما يتم إذا كان بين بني النوع معاملة و عدل،إذ كلّ منهم يشتهي ما يحتاج إليه و يغضب على مزاحمته فيه،و بحسب هاتين يحصل الجور فيقع الهرج و المرج فمسّت الحاجة إلى وضع قوانين إلى كيفية العدل.

و تلك القوانين لو وضعها الناس لحصل الاختلاف،فوجب في عناية اللّه

ص:24

تعالى إرسال الأنبياء بشرائع تقتضي نظام الوجود و مجازاة الممتثل لها بإحسان و مقابلة المخالف بالعذاب الأُخروي،فوجب معرفة المجازي. (1)

ترى أنّه يبيّن غاية علم الكلام بحاجة الإنسان إلى القوانين العادية،و لا يحصل ذلك إلاّ بتشريع اللّه سبحانه،و معرفة القوانين تتوقّف على معرفة اللّه سبحانه و أسمائه و صفاته و أنبيائه،و ما وعد به المطيع،أو أوعد به المجرم.

فإذا كانت الغاية هي هذه،فالبحث عن الماهية و الوجود و الأحوال البهشمية أو عن أصالة الوجود و الماهية أو المسائل الطبيعية بأجمعها يكون أمراً زائداً، و لذلك نرى أنّ العلاّمة الحلّي بعد ما يذكر الغاية يعرّف علم الكلام بالشكل التالي:

علم الكلام هو المتكفّل بمعرفة المجازي،و كيفية آثاره و أفعاله و تكاليفه على الإجمال.و ذلك هو سبب السعادة الأبدية و الخلاص عن الشقاء الأبدي،و لا غاية أهمّ من هذه الغاية. (2)

فإذا كانت هذه غاية علم الكلام حسب ما قرره العلاّمة الحلي اتّضحت الأُمور الثلاثة:

1.تعريف علم الكلام.

2.موضوعه.

3.غايته.

ص:25


1- 1) .نهاية المرام:12/1. [1]
2- 2) .نهاية المرام:13/1. [2]

4

اشارة

التفكير فريضة إسلامية

إنّ الذكر الحكيم يعدّ التفكير فريضة دينية،يقول سبحانه: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً». 1

و قد تكرر قوله سبحانه في الذكر الحكيم: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ». 2

فلو كانت الفريضة هي الجمود على ما ذكره السلف فيما يرجع إلى المبدأ و المعاد،فلما ذا حثَّ سبحانه على التفكير في آياته و خلقه؟! أ ليس في ذلك دعوة لمعرفة المبدئ و أسمائه و صفاته و أفعاله حسب الطاقة البشرية من خلال التدبّر في آثاره و آياته الكونية؟.

إنّه سبحانه عند ما يندِّد بالملحدين و المشركين يخاطبهم بقوله: «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ» ،و يقول سبحانه: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا

ص:26

ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ». 1

و على ضوء ذلك فالبرهان هو مدار الإيمان و الصلاح و النجاح،فمَن طلب البرهان أو أبطل الوهم به،فقد عمل بالقرآن؛و أمّا من أقفل على قلبه و عقله و قلّد السلف دون تفكير،فقد عطّل عقلَه و تفكيره.

ثمّ ما الدليل على أنّ السلف أفضل من الخلف،و كأنّ السلف قد أحاطتهم هالة من العصمة لا يخطئون و لا يشتبهون.و سيوافيك أنّ خير السلف هو الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام و أهل بيته الطاهرين،قد فتحوا باب المعارف الإلهية بوجه الأُمّة على ضوء الكتاب و السنّة الصحيحة و العقل الحصيف الذي به عرفنا ربّنا سبحانه،لا عن طريق المشاغبات و المجادلات.

إنّ القرآن الكريم يحثُّ على التعقّل في آياته سبحانه و يقول: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ». 2

و يقول سبحانه: «أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» 3 ،و يبيّن أنّ الغاية من ضرب الأمثال هو التعقّل و يقول: «وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ» 4.

و يبيّن انّ شر الدّواب هو الإنسان الذي أغلق عقله و أعدم تفكيره،يقول تعالى: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ». 5 إلى غير ذلك من الآيات الحاثَّة على التعقّل.

ص:27

أ فهل يصحّ تخصيص هذه الآيات بالتعقّل في أُمور الدنيا و معاش الإنسان و ما حوله من العلوم الطبيعية و الفلكية فقط؟ أو أنّ مقتضى إطلاقها،هو التفكير في الطبيعة و ما بعدها؟

فلو صحّ ما يقوله علماء السلف:«إنّما أُعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية،فمن شغل ما أُعطي لإقامة العبودية بإدراك الربوبية فاتته العبودية و لم يدرك الربوبية». (1)

فلو صحت هذه الجملة فمَن المخاطب إذن بهذه الآيات التي تحتوي على براهين مشرقة؟!

«أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ». 2

«لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ». 3

«مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ». 4

إلى غير ذلك من الآيات التي وردت فيها أُصول المعارف الإلهية التي تقع وراء الحس و الطبيعة.

ثمّ إنّه سبحانه يأمر بالشكر بعد ما يذكِّر ببعض مواهبه من السمع و الأبصار و الأفئدة و يقول سبحانه: «وَ اللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». 5

ص:28


1- 1) .الإثبات و التفويض لرضا نعسان معطي،نقلاً عن الحجة في بيان المحجة:33.

و المراد من الشكر في ذيل الآية صرف النعمة في مواضعها،فشكر السمع و البصر هو إدراك المسموعات و المبصرات بهما،و شكر الفؤاد هو درك المعقولات و غير المشهودات به،فالآية تحرّض على استعمال الفؤاد و القلب و العقل في ما هو خارج عن إطار الحس و غير واقع في متناول أدواته.

و لأجل ذلك يتّخذ القرآن لنفسه في هذه المجالات موقف المعلِّم فيعلِّم المجتمع البشري كيفية إقامة البرهنة العقلية على توحيده سبحانه في أمر الخلقة و التدبّر.

باللّه عليك أيّها القارئ اقرأ الآيات التالية،ثمّ احكم بنفسك،هل يمكن لإنسان أن يقف على مغزاها بلا تفكير و تعقّل مبني على أُصول متعارفة أو موضوعة؟ فلو أعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإدراك (مشاهد) الربوبية فما ذا تهدف هذه الآيات التي أمرنا بالتدبّر فيها؟!

«نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ* أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ* نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ* وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ* أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ* أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ* لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ* إِنّا لَمُغْرَمُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ* أَ فَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ». 1

رغم انّ علم الكلام الذي هو من أفضل مظاهر التفكير،كان ضرورة زمنية دعت المخلصين الغيارى من علماء الإسلام إلى تدوينه و نشره حتّى يقوم الجيل

ص:29

الحاضر بالدفاع عن حياض الشريعة بقوة و حماس،ترى أنّ أكثر التابعين و حتّى أئمّة الفقه يعارضون علم الكلام بل يحرمونه،فهذا هو مالك و الشافعي و أحمد بن حنبل و سفيان الثوري ذهبوا إلى رفض علم الكلام و مهاجمة المتكلمين.

فقد نقلوا عن الشافعي قوله في أثناء موته:لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفرّوا منه فرارهم من الأسد.

و أمّا أحمد بن حنبل فقد استخدم في حقهم لفظ الزنادقة.

و أمّا مالك فقد رفض الكلام و المتكلّمين بحجة انّهم قوم على استعداد أن يغيّروا دينهم وفقاً للبراهين التي تعرض لهم أو تعرض عليهم،فقال:أ رأيت إن جاء عالم الكلام من هو أجدل منه أيدع دينه كلّ يوم،لدين جديد. (1)إلى غير ذلك من الكلمات المروية عن التابعين و تابعي التابعين.

و هذا هو الإمام الأشعري لما عدل عن منهج الاعتزال و التحق بمذهب الإمام أحمد لم يحتفل به أصحاب الإمام أحمد.

قال عبد اللّه الحمراني:لمّا دخل الأشعري بغداد جاء إلى البَربهاري فجعل يقول:رددت على الجبائي و على أبي هاشم،و نقضت عليهم و على اليهود و النصارى و المجوس و قلت و قالوا؛و أكثرَ الكلامَ،فلمّا سكت قال البربهاري:

و ما أدري ما قلت لا قليلاً و لا كثيراً،و لا نعرف إلاّ ما قاله أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل.قال:فخرج من عنده و صنف كتاب«الإبانة»فلم يقبله منه،و لم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها. (2)

و قد اشتهر ذمُّ علم الكلام على لسان الذين عطلوا تفكيرهم و كرّسوا

ص:30


1- 1) .علم الكلام و مدارسه:51-52.
2- 2) .تبيين كذب المفتري:391.

جهودهم بنقل الحديث دون وعيه و درايته،و قد نُقلت في هذا المقام كلمات عن السلف نظير ما نقلناه.و لا بأس بذكر بعضها:

نقل ابن الجوزي بسنده عن الوليد بن أبان الكرابيسي أنّه قال لبنيه لما حضرته الوفاة:تعلمون أحداً أعلم بالكلام منّي ؟ قالوا:لا،قال:أ فتتهمونني؟ قالوا:لا،قال:فإنّي أُوصيكم أتقبلون؟ قالوا:نعم،قال:عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإنّي رأيت الحقّ معهم.

و نقل أيضاً عن إمام الحرمين أنّه كان يقول:لقد جُلت أهل الإسلام جولة و علومهم و ركبتُ البحرَ الأعظم،و غصت في الذين نهوا عنه كلّ ذلك في طلب الحقّ و هرباً من التقليد،و الآن فقد رجعت عن الكلّ إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز،فإن لم يدركني الحق بلطيف برّه فأموت على دين العجائز و يختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص فالويل لابن الجويني.

و كان يقول لأصحابه:يا أصحابنا،لا تشتغلوا بالكلام،فلو عرفتُ أنّ الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به.

و قال أبو الوفاء ابن عقيل لبعض أصحابه:أنا أقطع أنّ الصحابة ماتوا و ما عرفوا الجوهر و العرض،فإن رضيتَ أن تكون مثلهم فكن،و إن رأيتَ انّ طريقة المتكلّمين أولى من طريقة أبي بكر و عمر فبئس ما رأيت،و قد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك و كثير منهم إلى الإلحاد،تشم روائح الإلحاد من فلتات المتكلّمين،و أصل ذلك انّهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع و طلبوا الحقائق و ليس في قوة العقل إدراك ما عند اللّه من الحكمة التي انفرد بها و لا أخرج الباري من علمه لخلقه ما علمه هو من حقائق الأُمور. (1)

ص:31


1- 1) .انظر للوقوف على مصادر هذه الكلمات تلبيس إبليس:82- 83،ط دار القلم،بيروت.

هذه كلماتهم في ذم التعقّل و التفكّر و كم لها من نظير،و على القارئ الكريم أن يعرض كلماتهم على الذكر الحكيم حتّى يتبين الحقّ من الباطل،و أن يكون رائده إلى الحق كلامه سبحانه لا كلمات القوم.

مضاعفات تعطيل العقول عن التفكير

إنّ تعطيل العقول عن المعارف الإلهية بين أهل الحديث أو صنف منهم جرّهم إلى القول بالتشبيه و التجسيم باطناً و إن أنكروه ظاهراً،يقول ابن تيمية محيي الدعوة السلفية في القرن الثامن:أهل السنّة و الجماعة يؤمنون بما أخبر اللّه به في كتابه من غير تحريف و لا تعطيل،و من غير تكييف و لا تمثيل،بل هم الوسط في فرق الأُمة كما أنّ الأُمّة هي الوسط في الأُمم،فهم وسط كما في باب صفات اللّه سبحانه و تعالى بين أهل التعطيل الجهمية و أهل التمثيل (المشبهة). (1)

و القارئ الكريم يتصوّر أنّه مشى على هذا الأصل إلى آخر كتابه،و لكنّه يقف على أنّه سرعان ما انقلب على وجهه و ارتد على أدباره و غرق في التشبيه و التجسيم و نادى به و قال:

«و ممّا وصف الرسول به ربّه في الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول و وجب الإيمان به قوله صلى الله عليه و آله و سلم:ينزل ربّنا إلى سماء الدنيا كلّ ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول:من يدعوني فاستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ و من يستغفرني فاغفر له؟ و قوله:يضحك اللّه إلى رجلين،أحدهما يقتل

ص:32


1- 1) .مجموعة الرسائل و المسائل:400.

الآخر كلاهما يدخل الجنة.و قوله:لا تزال جهنم يلقى فيها و تقول هل من مزيد حتّى يضع ربّ العزة فيها قدمه ينزوي بعضها إلى بعضه،و تقول:قط قط.و هذه الأحاديث متفق عليها. (1)

نحن نسأل«ابن تيميّة»و من لفّ لفّه:هل هو يأخذ بظواهر هذه الأحاديث التي لو وردت في حقّ غيره سبحانه لقطعنا بكونه جسماً،كالإنسان له أعضاؤه،أو يترك ظواهرها و يحملها على غيرها؟ فعلى الأوّل يقع في مغبّة التشبيه،و على الثاني يقع في عداد المؤوّلين و هو يتبرّأ منهم.

و أمّا الأخذ بظواهرها لكن بقيد«بلا تكييف»و«لا تشبيه»-فمضافاً إلى أنّه لم يرد في النصوص-يوجب صيرورة الصفات مجملة غير مفهومة،فإنّ واقعيّة النزول و الضحك و وضع القدم،إنّما هي بكيفيتها الخارجيّة،فحذفها يعادل عدمها.فما معنى الاعتقاد بشيء يصير في نهاية المطاف أمراً مجملاً و لغزاً غير مفهوم؟ فهل يجتمع هذا مع بساطة العقيدة و سهولة التكليف التي تتبنّاها السلفيّة في كتبهم؟!

فلو صحّ تصحيح هذه الأحاديث و الصفات الجسمانية بإضافة قولهم «بلا تمثيل»فليصحّ حمل كلّ وصف جسماني عليه بإضافة هذا القيد بأن يقال:اللّه سبحانه جسم لا كهذه الأجسام،له صدر و قلب لا كمثل هذه الصدور و القلوب،إلى غير ذلك مما ينتهي الاعتقاد به إلى نفي الإله الواجب الجامع لصفات الجمال و الجلال.

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد و تفسير القرآن و الحديث،لا يُنتج إلا إجلاسه سبحانه على عرشه فوق السماوات،يقول«ابن قتيبة»-المدافع عن

ص:33


1- 1) .نفس المصدر:398- 399.

الحشوية و أهل الحديث-في تفسير قوله: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» يستوحشون أن يجعلوا لله كرسيّاً أو سريراً و يجعلون العرش شيئاً آخر،و العرب لا تعرف العرش إلا السرير،و ما عُرِش من السقوف و الآبار.يقول اللّه «وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ» أي على السرير.

و أُميّة بن أبي الصلت يقول: مَجّدُوا اللّه و هو للمجد أهل

ترى أنّه يصور اللّه سبحانه ملكاً جبّاراً جالساً على عرشه،و الخدم دونه ينظرون إليه بأعناق مائلة،و هو يتبجّح بذلك تبجّح المتكبّر باستصغار الناس و ذلتهم.

و يقول أيضا:

«كيف يسوغ لأحد أن يقول:إنّه بكلّ مكان على الحلول مع قوله:

«الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» أي استقر،كما قال: «فَإِذَا اسْتَوَيْتَ

ص:34

أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ» أي استقررت.

و مع قوله تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ».

كيف يصعد إليه شيء هو معه أو يرفع إليه عمل و هو عنده. (1)

ثمّ إنّه يستشهد بكونه سبحانه في السماء بما ورد في الحديث:

«إنّ رجلاً أتى رسول اللّه بأمة أعجميّة،للعتق،فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:أين اللّه تعالى؟

فقالت:في السماء،قال:فمن أنا؟ قالت:أنت رسول اللّه،فقال(عليه السلام):هي مؤمنة،و أمر بعتقها. (2)فقد غاب عن«ابن قتيبة»إنّ المراد من كونه سبحانه بكلّ مكان ليس هو حلوله فيه،بل المراد أنّ العالم بكلّ أجزائه و ذرّاته قائم به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي و انّ وجوده سبحانه وجود فوق الزمان و الزمانيّات و المكان و المكانيّات،غني عنهما،لا يحتاج إليهما،بل هو الخالق لهما.

و أمّا الحديث الذي استدلّ به فليس فيه دلالة على تصديق رسول اللّه بكلّ ما تعتقده الأمة،بل انّه صلى الله عليه و آله و سلم اكتفى بما أظهرت من الاعتقاد الساذج بوجوده سبحانه و نبوّة نبيّه و إن أخطأت في الحكم بأنّه في السماء و لم تكن الظروف-إذ ذاك-تساعد،لتفهيمها إنّه سبحانه منزّه عن المكان و الزمان و الجهة،و إنّه ليس جسماً و لا جسمانياً حتى يحلّ في السماء.

على أنّ الرواية،نقلت بصور مختلفة أوضحنا حالها في رسالة خاصة.

ص:35


1- 1) .نفس المصدر:271.
2- 2) .المصدر نفسه:272.

5

اشارة

شبهات منكري علم الكلام

قد عرفت أنّ التفكير فريضة إسلامية و انّ الإنسان بطبعه يفكِّر و ينقض و يبرم و يتطلّع إلى موضوعات قابلة للتفكير فيطلب إجابة حاسمة لها،و مع ذلك نرى أنّ أُناساً يعدُّون من طبقة المحدِّثين ينكرون علم الكلام و ينددون به تحت غطاء شبهات نذكرها تباعاً: (1)

1.لو كان المنطق طريقاً موصلاً،لم يقع الاختلاف بين أهل المنطق، لكنّا نجدهم مختلفين في آرائهم.

يلاحظ عليه:أنّ القائل استخدم المنطق في إبطال المنطق،فإنّ ما ذكره قياس استثنائي حيث قال:لكنّا نجدهم مختلفين فاستنتج بأنّ المنطق ليس طريقاً موصلاً.

أضف إلى ذلك انّ معنى كون المنطق آلة للاعتصام،هو انّه لو استعمل استعمالاً صحيحاً يعصم من الخطأ،و أمّا انّ كلّ مستعمل له،يستعمله صحيحاً

ص:36


1- 1) .نقل قسماً من هذه الشبهات،السيد الطباطبائي في الجزء الخامس من كتاب الميزان، [1]فلاحظ ص 256- 271،طبعة بيروت.

فلا يدّعيه أحد،و هذا نظير ما يقال:انّ السيف آلة القطع،و لكن ليس كلّ مستعمل يستعمله،يترتّب عليه القطع.

2.انّ هذه الأُصول إنّما روِّجت بين الناس لصرف الناس عن اتّباع الكتاب و السنّة أو لصدّهم عن باب أهل البيت،فيجب علينا الاجتناب.

يلاحظ عليه:أنّ المتكلّم لا يدّعي الاستغناء عن الكتاب و السنّة،بل الكتاب و السنّة الصحيحة أحد الطرق إلى معرفة الحقائق،و إنّما يستعان بالعقل أيضاً إمّا لدعم ما يستفاد منهما،أو لدفع الإشكال عنهما،أو لإثبات ما لا يستفاد منهما حسب فهمنا.كيف و أئمّة أهل البيت هم الذين فتحوا باب التفكّر بوجه الأُمّة؟!

3.لا حاجة إلى آثار الكفّار و الملاحدة مع وجود الكتاب و السنّة.

يلاحظ عليه:أنّ ما نُقل عن الحكماء يشتمل على الصحيح و الخطأ، و الحسن و السيِّئ،و القرآن يدعو إلى أخذ الحسن دون السيِّئ،لا إلى رفض الجميع،يقول سبحانه: «فَبَشِّرْ عِبادِ * اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ». 1

و ثمّة آيات و روايات كثيرة تؤكّد هذا المعنى،و لا ريب في أنّ القرآن هو الداعي إلى تعلم العلوم و الأخذ بأحسنها و ردّ سيّئها.

و بعبارة أُخرى:انّ الكتاب و السنّة يحثّان الإنسان على التوسع في استعمال الطرق العقلية الصحيحة،أعني:المقدّمات البديهيّة أو المنتهية إليها لتمييز الفكرة الصحيحة عن السقيمة،سواء كانت الفكرة شرقية أم غربية.

4.انّ طريق السلف الصالح كان مبايناً لطريق الكلام و الفلسفة و العرفان،

ص:37

و كانوا يستغنون بالكتاب و السنّة عن استعمال الأُصول المنطقية و العقلية.

يلاحظ عليه:أنّ السلف الصالح لم يكونوا على وتيرة واحدة،فعليّ عليه السلام و أهل بيته و شيعتهم و لفيف من أهل السنّة يرون التفكير فريضة إسلامية،و كانوا يخوضون في بحار المعارف و يستدلّون بالأقيسة الصحيحة على النتائج.

و أصحّ دليل على ذلك خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام و احتجاجات تلاميذه و تابعيه.

و الحاصل:انّ رائدنا في الخوض في المباحث العقلية،هو قوله سبحانه: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ». 1 فما هو المراد من الحكمة؟ فهل هي كلّ كلام أو فكر مقرون بالبرهان أو الدليل كما أنّ المراد من الجدل هو الاحتجاج على الخصم بأقواله؟

5.و قال أبو الوفاء ابن عقيل لبعض أصحابه:أنا أقطع انّ الصحابة ماتوا و ما عرفوا الجوهر و العرض،فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن،و إن رأيت انّ طريقة المتكلّمين أولى من طريقة أبي بكر و عمر فبئس ما رأيت. (1)

يلاحظ عليه:أنّ معنى ذلك إيقاف ركب العلم عن التقدّم،فلا شكّ انّ العلوم الكونية قد تقدّمت و كشفت عن مكامن و قوانين لم تكن معروفة للصحابة، أ فيصحّ-في منطق العقل-رفض هذه العلوم بحجّة انّ الصحابة كانوا يجهلونها؟! لا أدري متى أصبحت طريقة الصحابة محوراً للحقّ و معياراً لتمييز الصحيح عن الفاسد...و القرآن يدعو إلى التفكير في السماوات و الأرض و يقول: «أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» 3 ،و يقول: «أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ

ص:38


1- 2) .تلبيس إبليس:83،مرّ نقل ذلك أيضاً في ص23.

بَنَيْناها وَ زَيَّنّاها» 1 إلى غير ذلك من الآيات الحاثّة على التفكير في عالم المادة.

6.انّ العقول بريئة أصحّ البراءة و أوضحها عمّا ادّعوا عليها من معرفة وجوب ما لم يرد به كتاب من اللّه تعالى،و من معرفة صحّة ما يناقض الآيات القرآنية، فانّه قد وضح للمحقّقين من نظار العقلاء و أذكيائهم انّه لا تعارض بين صحيح السمع و صحيح العقل،و انّ أصل البدع كلّها يوهم التعارض بينهما . (1)

و حاصل الشبهة يرجع إلى أمرين:

أ.عدم وجوب معرفة ما لم يرد به كتاب من اللّه تعالى.

ب.انّ العقول بريئة من معرفة صحّة ما يناقض الآيات القرآنية.

يلاحظ على الأوّل:بأنّ المتكلّم-في مجال العقائد-لا يهمُّه إلاّ معرفة ما جاء في الكتاب و السنّة معرفة علمية لا تقليدية،فهو عند ما يتلو قوله سبحانه: «وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» 3 يريد أن يفهم مغزى هذه الآية بتحاليل عقلية،فلا هدف للمتكلّم إلاّ معرفة ما ورد في كتاب اللّه و سنّة نبيّه،لكن معرفة رعاية لا معرفة رواية.

و أمّا في غير مجال العقائد فالقرآن ليس كتاباً في العلوم الطبيعية أو الرياضية أو الفلكية لكي تغنينا دراسته عن دراسة سائر العلوم،و لو قلنا بمقالة القائل لوجب إغلاق كافة المراكز العلمية.

و أنّى لنا نسبة هذه الفكرة إلى الإسلام و هذا كتابه المجيد يتحدّث فيما يرجع إلى العلم قرابة 800 مرة،أ فيصحّ أن نرمي الإسلام بأنّه يصدُّ أبناءه عن دراسة ما ليس في كتابه؟!

ص:39


1- 2) .إيثار الحق على الخلق:112.

و يلاحظ على الثاني:أنّه يمتنع التعارض بين القطعيين،و قد حقّقنا في محلّه انّه لا بدّ في تعارض العلم مع القرآن الكريم من ملاحظة أمرين:إمّا القول بأنّ ما أثبته العلم ليس علماً بل تخيّل،أو انّ ما نفهمه من القرآن ليس فهماً صحيحاً،و إلاّ فيمتنع التعارض بين القطعيين.

7.انّ علم الخلائق في (علم اللّه) مثلُ لا شيء في جنب ما لا نهاية له، و القصد،انّ من عُرف منه الخطأ في الجليات فكيف يكون حاله متى خاض في هذه الخفيات،و تَرَك عبارات الحق الذي نصّ على أنّها لا تُبدل كلماته، و أنّه لا معقِّب لحكمه،و انّ كتابه لو كان من عند غيره لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً،و انّه نور و شفاء و هدى لا ريب فيه،فكيف تترك عبارات هذا المعجز الباهر و تبدل بعبارات من لا عصمة له عن الخطأ بل عن القبائح و الكفر». (1)

يلاحظ عليه:أنّ المتكلّم لا يدّعي أنّ علمه يساوي علم اللّه سبحانه،إذ لا يتكلّم بذلك إلاّ المجنون،كيف و هو يقرأ في كتابه العزيز: «وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً». 2

ثمّ إنّ المتكلّم في العقائد الدينية لا يهدف إلى إيثار عبارات الآخرين على عبارات المعجز الباهر (فأين التراب من رب الأرباب؟!) و إنّما يريد أن يستثمر العقل الذي وهبه اللّه سبحانه لهذا الموجود فيسلّط الضوءَ على آفاق و آفاق،ليتعرف على أحكامها من الإمكان و الوجوب و الامتناع،و أين ذلك من ترك كتاب اللّه؟!

و حصيلة الكلام:انّ ما كتبه ابن الجوزي في«تلبيس إبليس»و ابن الوزير

ص:40


1- 1) .إيثار الحق على الخلق:138،ط دار الكتب العلمية،بيروت.

في«إيثار الحق على الخلق»و ما جمعه مؤلف«علاقة الإثبات و التفويض» (1)من كلمات المنتمين إلى السلف،كلّها مشاغبات و مناظرات في غير محلّها، تكشف عن أنّ هؤلاء لم يَمسّوا كتاباً كلامياً،و لم يناظروا متكلّماً إسلامياً.

إنّ الإسلام دين عالمي تكلّم في الكون و التشريع بأبسط الوجوه،و من المعلوم أنّ خصومه يتربّصون به الدوائر فيثيرون عجاجة الشبهات على أُصوله و فروعه بين حين و آخر،و طبيعة الحال تقتضي أن يكون هناك علماءٌ أفذاذ محيطون بمنطق الخصم و حقيقة الإسلام،ليردّوا عنه سهام الأعداء، و يصونوا المسلمين من الوقوع في مصائد هؤلاء،و المتكلّم هو ذلك الإنسان الرسالي المدافع بمنطقه و أُسلوبه عن كيان الإسلام و عقيدة المسلمين بأساليب مختلفة و في كلّ زمان.

فلو ترك الإسلام دون أن يناظر في أُصوله و فروعه لاعتراه الوهن و خَمَد نوره،و انطلاقاً من ذلك صار علم الكلام ضرورة زمنية ملحة.

نعم إنّ العقيدة الإسلامية التي هي عصارة الكتاب العزيز،و السنّة النبوية، بنيان مرصوص لا تتزعزع بالترّهات و الشبهات،فهي كالجبل الراسخ لا تحركه العواصف.

نعم العقيدة الإسلامية-كما وصفت-لها رصيدها الغيبي،و هي مستقاة من الوحي الذي لا يتطرق إليه الخطأ.

لكن الذي يُحَفِّز المفكر الإسلامي على مزاولة علم الكلام و مدارسته، و التطلّع إلى سائر المدارس البشرية أو الإلحادية،هي أُمور نشير إليها إجمالاً:

1.انّ المجتمع البشري صار-اليوم-كقرية واحدة،و المسلمون يعيشون في أجواء و ثنايا التيارات المتضادة و هم ليسوا ببعيدين عن أصحاب

ص:41


1- 1) .طبع بمكة،و قدّم له ابن باز.

العقائد المختلفة،و من الواضح انّ التعايش على صعيد واحد،يستلزم احتكاكات ثقافية،و تبادل أفكار و معلومات،الأمر الذي يُفضي إلى اختلاط الآراء الحقة بالدعاوي الباطلة التي تناقض العقيدة الإسلامية،ففي مجال تمحيص الحق،و استخلاصه من دنيا الباطل،لا محيص عن علماء واعِين يفرزون الأفكار الإسلامية الصحيحة،عن غيرها من الأفكار السقيمة، و الأُصول الصحيحة عن الأُصول الباطلة بطرق علمية.

2.لم يزل أصحاب الديانات الباطلة-بعد أن قبض النبي صلى الله عليه و آله و سلم-يسعون إلى طرح شبهات و إثارة تشكيكات فيما نزل به القرآن الكريم و دعا إليه النبي الأكرم،بُغية إزالة الإيمان عن قلوب المؤمنين،كما هو واضح لمن قرأ تاريخ الإسلام،و مكافحة علمائه مع الملحدين في الأدوار المختلفة،خصوصاً في أواخر العصر الأموي و أوائل العصر العباسي حيث تمتعت اليهود و النصارى و الأسرى بحرّية تامة في بيان العقائد و نشر الآراء و المعتقدات و بثّ الشكوك و الشبهات بأمان و حرية كاملة.

و هذا هو مفضل بن عمر الجعفي الكوفي الذي عاصر الأئمّة الأربعة من الباقر إلى الرضا عليهم السلام يشرح لنا مدى الحرية التي نالها أصحاب المدارس الإلحادية في ذلك العصر و يقول:

كنت ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة بين القبر و المنبر و أنا مفكِّر فيما خصّ اللّه تعالى به سيّدنا محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم،من الشرف و الفضائل،و ما منحه و أعطاه و شرّفه و حباه،ممّا لا يعرفه الجمهور من الأُمّة و ما جهلوه من فضله و عظيم منزلته،و خطير مرتبته،فانّي لكذلك إذ أقبل«ابن أبي العوجاء»فجلس بحيث أسمع كلامه،فلمّا استقرّ به المجلس إذا رجل من أصحابه قد جاء فجلس إليه،

ص:42

فتكلّم«ابن أبي العوجاء»فقال:لقد بلغ صاحب هذا القبر العز بكماله،و حاز الشرف بجميع خصاله،و نال الحظوة في كلّ أحواله؛فقال له صاحبه:إنّه كان فيلسوفاً ادّعى المرتبة العظمى،و المنزلة الكبرى،و أتى على ذلك بمعجزات بهرت العقول،و ضلّت فيها الأحلام،و غاصت الألباب على طلب علمها في بحار الفكر،فرجعت خاسئات و هي حُسَّر،فلمّا استجاب لدعوته العقلاء و الفصحاء و الخطباء،دخل الناس في دينه أفواجاً،فقرن اسمه باسم ناموسه فصار يهتف به على رءوس الصوامع،في جميع البلدان و المواضع التي انتهت إليها دعوته،و علتها كلمته،و ظهرت فيها حجته براً و بحراً،سهلاً و جبلاً،في كلّ يوم و ليلة خمس مرّات مردداً في الأذان و الإقامة،ليتجدد في كلّ ساعة ذكره،و لئلّا يخمل أمره.

فقال«ابن أبي العوجاء»:دع ذكر محمد صلى الله عليه و آله و سلم فقد تحيّر فيه عقلي،و ضلّ في أمره فكري،و حدثنا في ذكر الأصل الذي يمشي به...ثمّ ذكر ابتداء الأشياء، و زعم أنّ ذلك بإهمال لا صنعة فيه و لا تقدير،و لا صانع و لا مدبّر،بل الأشياء تتكون من ذاتها بلا مدبّر،و على هذا كانت الدنيا لم تزل و لا تزال!

محاورة المفضل مع ابن أبي العوجاء

(قال المفضل):فلم أملك نفسي غضباً و غيظاً و حنقاً،فقلت:يا عدو اللّه ألحدت في دين اللّه،و أنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم،و صوّرك في أتمّ صورة،و نقلك في أحوالك حتّى بلغ إلى حيث انتهيت.

فلو تفكّرتَ في نفسك و صدقك لطيف حسّك،لوجدت دلائل الربوبية و آثار الصنعة فيك قائمة،و شواهده جلّ و تقدّس في خلقك واضحة، و براهينه لك لائحة.

ص:43

فقال:يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك،فإن ثبتت لك حجّة تبعناك،و إن لم تكن منهم فلا كلام لك،و إن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا يخاطبنا،و لا بمثل دليلك يجادلنا،و لقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت،فما أفحش في خطابنا،و لا تعدى في جوابنا و انّه الحليم الرزين، العاقل الرصين،لا يعتريه خرق و لا طيش و لا نزق،يسمع كلامنا،و يصغي إلينا،و يتعرف حجّتنا،حتّى إذا استفرغنا ما عندنا،و ظننّا إنّا قطعناه،دحض حجّتنا بكلام يسير،و خطاب قصير،يلزمنا به الحجة،و يقطع العذر،و لا نستطيع لجوابه رداً،فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه.

خروج المفضل من المسجد

قال المفضل:فخرجت من المسجد محزوناً مفكّراً فيما بلي به الإسلام و أهله من كفر هذه العصابة و تعطيلها،فدخلت على مولاي عليه السلام فرآني منكسراً، فقال:مالك؟ فأخبرته بما سمعت من الدهريّين و بما رددت عليهما.فقال:يا مفضل لألقين عليك من حكمة الباري جلّ و علا و تقدّس اسمه في خلق العالم،و السباع،و البهائم،و الطير،و الهوام،و كلّ ذي روح من الأنعام و النبات و الشجرة المثمرة،و غير ذات الثمر و الحبوب،و البقول،المأكول من ذلك و غير المأكول،ما يعتبر به المعتبرون،و يسكن إلى معرفته المؤمنون،و يتحيّر فيه الملحدون،فبكّر عليّ غداً. (1)

ثمّ إنّ الإمام أملى عليه دروساً في مجالس أربعة،شرح فيها برهان النظم التوأم مع وجود الهادفية في عالم الكون المنظّم،و قد طبعت باسم توحيد المفضل

ص:44


1- 1) .توحيد المفضل:39- 43،ط النجف [1]الأشرف مع تقديم كاظم المظفّر؛بحار الأنوار:57/3. [2]

غير مرّة،و ترجمت إلى عدة لغات.

فلولا هذه الشموس المضيئة و الأقمار المنيرة لغطت ظلمة الباطل الأقطار كلّها،و أصبحت كلمة التوحيد كحديث أمس الدابر لا ترى منها أثراً.

و قد أخبر الرسول عن هؤلاء الرجال الغيارى على الإسلام الذابين عن أُصوله و فروعه في حديثه الذي رواه الكشي في رجاله قال:

يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين و تحريف الغالين و انتحال الجاهلين كما ينفى الكير خَبَث الحديد. (1)

ففي هذا الجوّ الذي يتدرّع فيه الخصم-اليوم-بسلاح العلم،و يشن الهجوم على عقائدنا و مقدّساتنا،لا محيص من التدرّع بنفس السلاح حتّى يُردّ الحجر من حيث جاء.

و نعم ما قاله المصلح السيد شرف الدين العاملي:«لا يأتي الهدى إلاّ من حيث أتت الضلالة».

و قد دخل الإمام الصادق من حيث دخل ابن أبي العوجاء و حلّ شبهته،على الأُصول التي اعتمد عليها ضمن مجالس أربعة.

3.و لو شك باحث في لزوم دراسة المذاهب و المدارس العقائدية في الحقب الغابرة،فلا يرتاب في لزومه في العصر الراهن الذي تطورت فيه أجهزة الإعلام و الاتصالات اللاسلكية،و توفر فيه البث المباشر عبر الأقمار الصناعية،فتُحاك الشبهة في الغرب في ساعة و تُبثّ بعد دقيقة في الشرق و تعمّ العالم كلّه.

و من هنا تفرض المسئولية على المسلم الغيور أن يلمّ بعلم الكلام و قواعده

ص:45


1- 1) .رجال الكشي:ص10. [1]

ليشكل سداً منيعاً أمام التيارات الهدّامة للدين.

و يطيب لي ذكر ما أبرق به شيخ إسلام العثمانيين-قبل غَلَبة العلمانيّة-إلى المرجع الأعلى في النجف الأشرف الشيخ محمد كاظم الخراساني (1255- 1329ه) و حاصل البرقية أنّ هذا السيل الجارف باسم الحضارة الحديثة انطلق من الغرب إلى الشرق إذا لم يكن أمامه سدّ منيع،سيطيح بالدين الإسلامي و الحضارة الإسلامية.

و هذا ما أبرق به عام 1327ه،فما هو هذا السد الذي سيقف أمام هذا التيار الزاحف؟ إنّه ليس إلاّ دعم العقيدة الإسلامية و مكافحة الأُميّة بالاسلوب العلمي،و هو ما نعبّر عنه بعلم الكلام و التفكير المنطقي.

القول الحاسم في المقام

إنّ هؤلاء-أي الذين يحرّمون الخوض في المعارف العقلية،و يقولون:إنّ واجبنا هو الإيمان و الإقرار أو التلاوة و السكوت-خلطوا مرحلة الإيمان القلبي المطلوب من جميع الناس،بمرحلة الفهم و النظر العقلي الذي لا يقوم به إلاّ الأماثل من الناس،و أصحاب المواهب و المؤهلات الفكرية الخاصة، و ما ذكروه راجع إلى المرحلة الأُولى،فإنّ الإيمان المنقذ من الضلال و العذاب،هو الاعتقاد بصحّة ما جاء في الكتاب العزيز حول أسمائه و صفاته و أفعاله،حتى في مجالات الصفات الخبرية من اليد و الوجه و العين و الاستواء على العرش،و بما أنّ الأكثرية الساحقة لا يستطيعون فهم ما فيها من الدقائق و المعارف و ربما يكون الخوض فيها منتهياً إلى ما لا يحمد،فإنّه يكفي لهم الإيمان و الإقرار و الإمرار و السكوت،و ما نقل عن الإمام مالك (المتوفّى179ه):إيّاكم و البدع،قيل:يا أبا عبد اللّه ما

ص:46

البدع؟ قال:أصحاب البدع هم الذين يتكلّمون في أسمائه و صفاته و كلامه و علمه و قدرته،و لا يسكتون عمّا سكت عنه الصحابة و التابعون لهم بإحسان. (1)لعلّه ناظر إلى هذه الطائفة الذين لو خاضوا فيها،فسدوا و أفسدوا،و لم يأتوا بشيء.

و أمّا إذا انتُقل إلى المرحلة الثانية،أي مرحلة الفهم و الدراية و البحث و النظر و صياغة العقائد في ضوء الكتاب و السنّة و العقل،فلا يصحّ له الاكتفاء بالإقرار و الإمرار،فإنّ الاستطلاع أمر طبيعيّ للبشر،و هو أحد الأبعاد الأربعة الروحية له،فلا يمكن كبح جماح فهمه و نظره بحجّة أنّ الصحابة و التابعين سكتوا عنه،و كأنّ السلف هم القدوة دون الذكر الحكيم،و دون النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عترته الذين تكلّموا فيها،و أضاءوا الطريق لسالكيه،و كأنّ قوّة التفكير و النظر و المواهب العقلية المودعة في الإنسان خلقت سدىً و بلا غاية.

و هل يمكن أن يفرض على عمالقة الفكر و أصحاب المواهب العقلية أن يقفوا دون هذه المعارف و يُطفئوا أنوار عقولهم ليصبحوا كأجلاف البيداء لا همّ لهم سوى الأكل و الشرب و السير طلباً للماء و العشب؟!

و على هذا فيجب تصنيف الناس إلى صنفين:قابل و غير قابل،مستعدّ و غير مستعدّ،فلو صحّ الحرمان فإنّما للسوقة من الناس دون من أُوتي تفكيراً قوياً و استعداداً وقّاداً.

ثمّ إنّه كما يجب تصنيف الناس،يجب تصنيف المسائل بين ما يمكن للإنسان الخوض فيه و الرجوع عنها بفكرة صحيحة،و ما لا يمكن للإنسان دركه

ص:47


1- 1) .الدكتور أحمد محمود صبحي:في علم الكلام:21/1 نقلاً عن تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية،لمصطفى عبد الرازق:155،طبعة 1944م.

و فهمه،فإنّ البحث عن ذاته سبحانه أمر غير ممكن،إذ ليس كمثله شيء حتى يعرف الذات به،و لأجل ذلك ورد النهي الأكيد عن البحث و الجدال في ذاته، و مثله البحث عن حقيقة الوحي و النبوة،أو عن حقيقة الجنة و النار،إلى غير ذلك من الأُمور الغيبية التي لا يلمسها و لا يدركها إلاّ نبي يوحى إليه أو إنسان خرج من الدنيا و دخل الآخرة،و الواجب فيها الإيمان فقط،قال سبحانه:

«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» 1 .فإنّ الإنسان المحبوس في سجن المادة،لا يمكن له درك حقيقتها،و إن كان له حقّ البحث عن آثار الوحي و النبوة و خصائصهما.

أضف إلى ذلك انّه لا مفرّ للمانعين عن الخوض في المعارف القرآنية بل العقلية على الإطلاق،من سلوك أحد طريقين:

1.التلاوة و السكوت و الإمرار و الإقرار و تفويض معانيها إلى مُنزِّلها.

2.الأخذ بظواهر الآيات الحرفية و تفسيرها بظواهرها الحرفية.

أمّا الأوّل فينتهي إلى تعطيل العقول عن المعارف و بالتالي يتنزّل الإنسان إلى حدّ الحيوان،و تكون وظيفة الحكيم العارف المقتدر على درك دقائق التوحيد و رقائقها،هي نفس وظيفة الجاهل البائل على عقبه،في مجال العقيدة و التفكير،و هو كما ترى.

و أمّا الثاني فهو ينتهي إلى التشبيه و التجسيم،و أقصى ما عند هؤلاء الذين يأخذون بالظواهر الحرفية هو ضمّ كلمة«بلا كيف و لا تمثيل»إلى مفاد هذه الآيات،فيقولون:إنّ للّه يداً و رجلاً و عيناً و استواءً على العرش بنفس المعنى اللغوي،و لكن بلا كيف و لا تمثيل.

ص:48

يلاحظ عليه أوّلاً:أنّه لم ترد تلك الجملة (بلا كيف) في نصّ قرآني و لا سنّة نبوية،فمن أين لهم هذه الجملة و تفسير الآيات على ضوئها؟!

و ثانياً:أنّ اليد و أضرابها موضوعة حسب اللغة للأعضاء المحسوسة،التي لها هيئات و مواصفات و هي مقوّماتها،فإجراؤها على اللّه سبحانه مع حفظ المقوّمات،يستلزم التشبيه و التمثيل،و مع عدمها،يستلزم التأويل،فاليد في «يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» 1 إمّا مستعملة في اليد المحسوسة فهو مثار التشبيه،و إمّا في غيرها فهو مثار التأويل الذي يفرّون منه فرار المزكوم من المسك.

و هذه المضاعفات ناشئة عن الجمود على الظواهر الحرفية و الأخذ بالظهور التصوّري،دون الظهور التصديقي الذي لا يخالف العقل قيد شعرة في آية من الآيات.

إنّ الدعوة السلفية التي أحدثت ضجة في القرن الرابع عشر قد طرحت الصفات الخبرية على صعيد البحث في الآونة الأخيرة،و تصرّ على الأخذ بمعانيها الحرفية،و قد عرفت أنّها تنتهي إلى التجسيم أو التأويل.

و من المؤسف جدّاً إنّ المتقدّمين من السلف كانوا يصرّون على الأخذ بحرفية الصفات،و إليك بعض نصوصهم:

1.قيل لعبد اللّه بن مبارك:كيف يعرف ربّنا؟ قال:بأنّه فوق السماء السابعة و على العرش بائن من خلقه.

2.و قال الأوزاعي:إنّ اللّه على عرشه،و نؤمن بما وردت به السنّة من صفاته.

ص:49

3.و قال الدارمي في مقدمة كتابه«الردّ على الجهمية»:استوى على عرشه فبان من خلقه.

4.و قال القرطبي في تفسير قوله سبحانه: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» 1 ،و قد كان السلف لا يقولون بنفي الجهة و لا ينطقون بذلك،بل نطقوا هم،و الكافة بإثباتها للّه تعالى كما نطق كتابه و أخبرت رسله و لم ينكر أحد من السلف الصالح أنّه استوى على عرشه حقيقة. (1)«ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى» 3.

الدعوة إلى العلوم الحسّيّة

قد عرفت أدلّة المتقدّمين على منع الخوض في المعارف الإلهية،و هناك من يؤيد تلك الفكرة لكن بثوب جديد و هو انّ العلم المفيد هو العلم المعتمد على الحس و التجربة،فالخارج عن ذينك الحكمين لا يفيد شيئاً.و في ذلك يقول فريد وجدي في بعض كتبه:

بما انّ خصومنا يعتمدون على الفلسفة الحسّية و العلم الطبيعي في الدعوة إلى مذهبهم،فنجعلهما عمدتنا في هذه المباحث،بل لا مناص لنا من الاعتماد عليهما،لأنّهما اللّذان أوصلا الإنسان إلى هذه المنصة من العهد الروحاني. (2)

ص:50


1- 2) .لاحظ للوقوف على مصادر هذه الأقوال كتاب«علاقة الإثبات و التفويض»:41،48،68،115.
2- 4) .على أطلال المذهب المادي:16/1.

و قال أبو الحسن الندوي:

و قد كان الأنبياء عليهم السلام أخبروا الناس عن ذات اللّه و صفاته و أفعاله و عن بداية هذا العالم و مصيره و ما يهجم على الناس بعد موتهم،آتاهم اللّه علم ذلك كلّه بواسطتهم عفواً بلا تعب،و كفاهم مئونة البحث و الفحص في علوم ليس عندهم مبادئها و لا مقدّماتها التي يبنون عليها بحثهم ليتوصلوا إلى مجهول، لأنّ هذه العلوم وراء الحس و الطبيعة لا تعمل فيها حواسّهم،و لا يؤدي إليها نظرهم،و ليست عندهم معلوماتها الأوّلية.

إنّ الذين خاضوا في الإلهيات من غير بصيرة و على غير هدى جاءوا في هذا العلم بآراء فجّة،و معلومات ناقصة،و خواطر سانحة،و نظريات مستعجلة فضلّوا و أضلّوا. (1)

و يلاحظ على كلا التقريرين:

أوّلاً:إنّ الاعتماد على الفلسفة الحسّية و التركيز على الحسّ من بين أدوات المعرفة،مقتبس من الفلسفة المادية التي ترفض الاعتماد على العقل و أدواته و لا تعترف إلا بالحسّ و تحسبه أداة منحصرة للمعرفة،و العجب أن يَلْهج بهذا الأصل مَنْ يدّعي الصلة بالإسلام و يعد من المناضلين ضد الفلسفة الماديّة،ففي القول بهذا،إبطال للشرائع السماوية،المبنية على النبوّة و الوحي و نزول الملك و سائر الأُمور الخارجة عن إطار الحسّ،و التي لا تدرك إلا بالعقل و البرهنة،فمن العجيب أن يلعب فريد وجدي و مقلّد الدعوة السلفية «أبو الحسن الندوي»بحبال المادية من غير شعور و لا استشعار.

ص:51


1- 1) .ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين:97.

و ثانياً:إنّه لو صحّ قول«الندوي»إنّ:«هذه العلوم وراء الحسّ و الطبيعة لا تعمل فيها حواسّهم،و لا يؤدّي إليها نظرهم،و ليست عندهم معلوماتها الأوّلية»،فلما ذا يطرح الذكر الحكيم لفيفاً من المعارف،و يحرّض على التدبّر فيها و هي ممّا يقع وراء الحسّ و الطبيعة،و ليست الغاية من طرحها هو التلاوة و السكوت حتى تصبح الآيات لقلقة لسان لا تخرج عن تراقي القارئ بدل أن تتسلّل إلى صميم الذهن و أعماق الروح؟!

ص:52

6

اشارة

المصير المأساوي للفلسفة

لقد مُنيت الفلسفة بنفس ما مُني به علم الكلام،و المراد من الفلسفة هو التفكير العقلي في صفحة الكون و الوجود،و قد انتقلت الفلسفة إلى أوساط المسلمين عن طريق المترجمين في عصر العبّاسيّين،و لمّا كان فيها من الآراء ما لا يوافق الأُصول المسلّمة عند المسلمين،قام المتطرّفون بتحريم الكلّ و تكفير المتعاطي لها خلافاً لقوله سبحانه: «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» ، لكن المنصفين من علماء الإسلام حافظوا على الاعتدال،فأخذوا الصحيح منها و نقدوا الباطل و تلقّوها ثروة فكرية بشريّة لا تختص بفئة دون فئة،لكنّها بحكم أنّها حصيلة الفكر البشري لا تخلو عمّا يخالف الحقّ،و ها نحن-على وجه الإيجاز-نذكر كلمات بعض المنكرين لها بتاتاً:

1.الغزالي (450- 505ه)

اشارة

ألّف الغزالي كتابه المعروف«تهافت الفلاسفة»و هو يضمّ عشرين مسألة عالجها الفلاسفة القدماء و رأى تناقضَهم فيها،فكفّرهم في ثلاث منها،دون غيرها من المسائل التي رأى أنّها قريبة من عقائد المعتزلة و غيرهم،و قد ذكر الغزالي

ص:53

المسائل العشرين في ديباجة الكتاب و نحن نذكرها حسب ما ذكره،قال:

التي أظهرنا تناقض مذهبهم فيها في هذا الكتاب و هي عشرون مسألة:

المسألة الأُولى:إبطال مذهبهم في أزلية العالم.

المسألة الثانية:إبطال مذهبهم في أبدية العالم.

المسألة الثالثة:بيان تلبيسهم في قولهم:إنّ اللّه صانع العالم،و إنّ العالم صنعه.

المسألة الرابعة:في تعجيزهم عن إثبات الصانع.

المسألة الخامسة:في تعجيزهم عن إقامة الدليل على استحالة إلهين.

المسألة السادسة:في إبطال مذاهبهم في نفي الصفات.

المسألة السابعة:في إبطال قولهم:إنّ ذات الأوّل لا تنقسم بالجنس و الفصل.

المسألة الثامنة:في إبطال قولهم:إنّ الأوّل موجود بسيط بلا ماهية.

المسألة التاسعة:في تعجيزهم عن بيان أنّ الأوّل ليس بجسم.

المسألة العاشرة:في بيان أنّ القول بالدهر و نفي الصانع لازم لهم.

المسألة الحادية عشرة:في تعجيزهم عن القول بأنّ الأوّل يعلم غيره.

المسألة الثانية عشرة:في تعجيزهم عن القول بأنّه يعلم ذاته.

المسألة الثالثة عشرة:في إبطال قولهم:إنّ الأوّل لا يعلم الجزئيات.

المسألة الرابعة عشرة:في قولهم:إنّ السماء حيوان متحرك بالإرادة.

المسألة الخامسة عشرة:في إبطال ما ذكروه من الغرض المحرِّك للسماء.

المسألة السادسة عشرة:في إبطال قولهم:إنّ نفوس السماوات تعلم جميع الجزئيات.

ص:54

المسألة السابعة عشرة:في إبطال قولهم باستحالة خرق العادات.

المسألة الثامنة عشرة:في قولهم:إنّ نفس الإنسان جوهر قائم بنفسه ليس بجسم و لا عرض.

المسألة التاسعة عشرة:في قولهم باستحالة الفناء على النفوس البشرية.

المسألة العشرون:في إبطال إنكارهم لبعث الأجساد،مع التلذذ و التألّم في الجنة و النار باللذات و الآلام الجسمانية.

فهذا ما أردنا أن نذكر تناقضهم فيه من جملة علومهم الإلهية و الطبيعية،و أمّا الرياضيات فلا معنى لإنكارها و لا للمخالفة فيها،فإنّها ترجع إلى الحساب و الهندسة.

و أمّا المنطقيات فهي نظر في آلة الفكر في المعقولات،و لا يتّفق فيه خلاف به مبالاة،و سنورد في كتاب«معيار العلم»من جملته ما يحتاج إليه لفهم مضمون هذا الكتاب إن شاء اللّه. (1)

أقول:و قبل الكلام في المسائل الثلاث التي كفّر بها الفلاسفة نلفت نظر القارئ إلى نكتة و هي انّ قسماً من هذه المسائل مبنيّ على أُصول الهيئة البطليموسية،أعني:المسائل الرابعة عشرة-الثامنة عشرة،فليس في الكون سماء حسب التفكير البطليموسي،حتّى نتكلّم في خصوصياتها،نعم لا شكّ أنّ القول بقدم العالم الملازم لاستغنائه عن الخلق و الإيجاد كفر لا يتفوّه به الموحد فضلاً عن المسلم،و هكذا إنكار علمه سبحانه بالجزئيات،إذ صريح الآيات المتضافرة على أنّه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء.كما هو مقتضى البراهين الفلسفية التي غفل عنها الغزالي.

ص:55


1- 1) .تهافت الفلاسفة:41-42،ط دار و مكتبة الهلال.

و يقرب من ذلك إنكار حشر الأجساد،فإنّ المعاد الجسماني من ضروريات الدين،يقول سبحانه: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» 1 ،و أمّا ما سوى ذلك فإنّما هي آراء فلسفيّة أو كلامية و ليست من أسباب الإيمان و الكفر.

لكن الكلام في ثبوت الصغريات،فهل الفلاسفة المسلمون كانوا ينكرون حدوث العالم و يعتقدون بقدمه؟ و هل الفلاسفة الإسلاميّون كلّهم على النحو الذي يصفهم هو بقوله:قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب و النظراء بمزيد الفطنة و الذكاء،قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات،و استحقروا شعائر الدين:من وظائف الصلوات،و التوقي عن المحظورات،و استهانوا بتعبّدات الشرع و حدوده و لم يقفوا عند توقيفاته و قيوده،بل خلعوا بالكلية ربقة الدين بفنون من الظنون،يتبعون فيها رهطاً يصدون عن سبيل اللّه و يبغونها عوجاً و هم بالآخرة هم كافرون،و لا مستند لكفرهم غير تقليد سماعي إلفي كتقليد اليهود و النصارى،إذ جرى على غير دين الإسلام نشؤهم و أولادهم؟ و عليه درج آباؤهم و أجدادهم،و غير بحث نظري،صادر عن التعثّر بأذيال الشبه،الصارفة عن صوب الصواب، و الانخداع بالخيالات المزخرفة كلامع السراب،كما اتّفق لطوائف من النظّار في البحث عن العقائد و الآراء،من أهل البدع و الأهواء. (1)

و نحن لا يمكن لنا إنكار ما ذكره أو تصديقه و لكن نجلّ أكثر الفلاسفة الإسلاميين عن هذه الآراء الساقطة خصوصاً من تقدّم عليه،نظراء:الفارابي، و الشيخ الرئيس،و من تأخر عنه كالمحقّق نصير الدين محمد بن محمد بن حسن

ص:56


1- 2) .تهافت الفلاسفة:27-28.

الطوسي (597- 672ه) و من تربّى على يديه،كالكاتب القزويني،و العلاّمة الحلّي،و من أتى بعدهم كالمحقّق الداماد و مشايخه و تلاميذه.

و على كلّ تقدير نرجع إلى ما نسب إلى الفلاسفة المسلمين من المسائل الثلاث التي بها كفّرهم الغزالي،أعني:

1.حدوث العالم زماناً و ذاتاً

أوجدت مسألة حدوث العالم حدوثاً زمانياً ضجّة كبرى بين أهل المنقول، فالمتكلّمون-تبعاً لما ورد في الروايات-على أنّ العالم حادث زماناً، و يقولون:كان زمان لم يكن للعالم فيه أيّ أثر.

غير أنّهم عجزوا عن البرهنة و الاستدلال على معتقدهم هذا،إذ انّ الحدوث الزماني عبارة عن«سبق عدم العالم في زمان خاص و انّه كان زمان لم يكن للعالم فيه خبر و لا أثر».

و هذا الرأي أوقعهم في مشكلة،لأنّه ينقل الكلام إلى نفس«الزمان»فهل لهذا الزمان حدوث زماني أو لا؟

فإن اختاروا الأوّل لزم أن يكون للزمان زمان،أي أن يكون ثمة زمان لم يكن فيه من الزمان اللاحق أثر و لا خبر،و هذا باطل جدّاً،لأنّه ينقل الكلام إلى الزمان السابق و هكذا يتسلسل.

و إن اختاروا الثاني استلزم ذلك قدم الزمان و هم يفرّون من كلّ قديم زماني.

هذا و قد طال البحث و الجدل حول هذه المسألة التي هي خارجة عن إطار هذا البحث و لو أنّهم فرقوا بين الحدوث الذاتي المتّفق عليه بين الإلهيين و الحدوث الزماني الذي يستلزم القول به التسلسلَ،لكان أفضل و أقطع للنزاع.

ص:57

على أنّ نظرية«الحركة الجوهرية»قد حلّت العقدة و أثبتت الحدوث الزماني للمادة بأوضح الوجوه لا بنحو يستلزم التسلسل،لأنّه إذا كان الزمان منبعثاً من تجدّد المادة و تدرّجها،فكلّ قطعة من المادة السيّالة ترسم عدم القطعة اللاحقة،فتصير كلّ قطعة من المادة موصوفة بأنّها لم تكن مع القطعة السابقة، و بالنتيجة لم تكن القطعة اللاحقة في الزمان السابق عليها.

و بتعبير آخر:إذا كان كلّ قطعة من المادة السيّالة و كلّ درجة منها متعانقاً مع الزمان،و لم يكن من القطعة اللاحقة فيها عين و لا أثر،صحّ توصيف القطعة اللاحقة بالحدوث الزماني،و هو انّه لم تكن القطعة اللاحقة في ظرف القطعة السابقة،و هكذا الحال إذا وضعنا البنان على كلّ جزء جزء من تلك المادة السيّالة.

و بهذا يثبت الحدوث الزماني للطبيعة من دون أي إشكال.

و في هذا الصدد يقول الحكيم صدر الدين الشيرازي:

«لقد تبيّن انّ الأجسام كلّها متجدّدة الوجود في ذاتها،و انّ صورتها صورة التغيّر،و كلّ منها حادث الوجود مسبوق بالعدم الزماني كائن فاسد لا استمرار لهوياتها الوجودية،و لا لطبائعها المرسلة،و الطبيعة المرسلة وجودها عين شخصياتها و هي متكثرة،و كلّ منها حادث و لا جمعية لها في الخارج حتّى يوصف بأنّها حادث أو قديم». (1)

و قال:«إنّ الطبائع المادية كلّها متحركة في ذاتها و جوهرها مسبوقة بالعدم الزماني،فلها بحسب كلّ وجود معيّن مسبوقية بعدم زماني غير منقطع في الأزل». (2)

ص:58


1- 1) .الأسفار:297/7 و 285 و [1]أيضاً راجع المصدر نفسه،ص 292- 293.
2- 2) .الأسفار:297/7 و 285 و [2]أيضاً راجع المصدر نفسه،ص 292- 293.
2.علم الباري بالجزئيات

إنّ نفي علمه سبحانه بالجزئيات فكرة غير صحيحة لا يليق أن تنسب إلى الفلاسفة الإلهيين الذين اتّفق أكثرهم على علمه بها،و إنّما اختلفوا في الكيفية،و قد ذكر صدر المتألّهين أقوال المتقدّمين و المتأخرين منهم في الفصل الرابع من الموقف الثالث في الأسفار،و ها نحن نذكر آراءهم في الموضوع،و التي تحكي اتّفاقهم أو اتّفاق أكثرهم على العلم بالجزئيات، و الاختلاف بينهم إنّما هو اختلاف في الطريقة.

الأوّل:مذهب توابع«المشّائين»منهم الشيخان«أبو نصر»و«أبو علي»و «بهمنيار»و«أبو العباس اللوكري»،و كثير من المتأخرين،و هو القول بارتسام صور الممكنات في ذاته تعالى و حصوله فيها حصولاً ذهنياً على الوجه الكلّي.

الثاني:القول بوجود صور الأشياء في الخارج،و هو مذهب المحقّق الطوسي و ابن كمونة و العلاّمة الشيرازي و محمد الشهرزوري.

الثالث:القول باتحاده تعالى مع الصور المعقولة،و هو المنسوب إلى فرفوريوس.

الرابع:ما ذهب إليه أفلاطون الإلهي من إثبات الصور المفارقة و المثل العقلية و انّها علوم إلهية.

الخامس:مذهب القائلين بثبوت المعدومات الممكنة قبل وجودها،و هم المعتزلة.

السادس:مذهب القائلين بأنّ ذاته تعالى علم بجميع الممكنات.

السابع:القول بأنّ ذاته علم تفصيلي بالمعلول الأوّل و إجمالي بما سواه و ذات

ص:59

المعلول الأوّل علم تفصيلي بالمعلول الثاني و إجمالي بما سواه،و هكذا إلى أواخر الموجودات،فهذا تفصيل المذاهب المشهورة بين الناس. (1)

و قد أنهى الحكيم السبزواري في شرح المنظومة عدد الأقوال في كيفية العلم بالجزئيات إلى أحد عشر قولاً آخرها لصدر المتألّهين الذي استنبطه من القاعدة الفلسفية،و هي أنّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء و أنّ ذاته سبحانه حاوٍ لكلّ الكمالات،فما يوجد في عالم الإمكان من الجزئيات،فاللّه سبحانه جامع لكمالاته على نحو أبسط و أتمّ،كملكة علم النحو التي تجمع كمالات الأجوبة التفصيلية النحوية،و عندئذٍ يكون العلم بالذات نفس العلم بما سواه.

نحن لا نريد أن نحوم حول هذه الآراء لنميّز الصحيح عن الزائف،بل المقصود هو بيان اتّفاقهم (إلاّ من شذّ) على علمه سبحانه بالجزئيات و إنّما اختلفوا في طريقته.

3.حشر الأجساد يوم القيامة

المسألة الثالثة التي كفّر بها الفلاسفة هي إنكار حشر الأجساد و هي ليست على ما نقل،نعم ينسب إلى النصارى بأنّ المعاد روحاني و ليس بجسماني، و أمّا الفلاسفة الإسلاميون،فأقصى ما عندهم أنّ المعاد الروحاني مبرهن عليه دون المعاد الجسماني فلا برهان عليه،غير أنّ النصوص متضافرة على حشر الأجساد.

يقول الشيخ الرئيس:يجب أن يعلم:انّ المعاد منه ما هو منقول في الشرع و لا سبيل إلى إثباته إلاّ من طريق الشريعة و تصديق خبر النبي و هو الذي للبدن

ص:60


1- 1) .الأسفار الأربعة:180/6- 181. [1]

عند البعث،و خيرات البدن و شروره معلومة لا يحتاج إلى تعلم.

و قد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا بها نبيّنا و سيّدنا و مولانا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم حال السعادة و الشقاوة التي بحسب البدن،و منه ما هو مدرك بالعقل و القياس. (1)

هذا نصّ كلامه،و أمّا من تأخّر عنه كصدر المتألهين،فقد قال في شرح الهداية الأثيرية:اعلم أنّ إعادة النفس إلى بدن مثل بدنها الذي كان لها في الدنيا، مخلوق من سنخ هذا البدن بعد مفارقتها عنه في القيامة،كما نطقت به الشريعة من نصوص التنزيل و روايات كثيرة متضافرة عن أصحاب العصمة و الهداية غير قابلة للتأويل،كقوله تعالى: «قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ». 2

«فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ». 3

«أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ* بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ». 4

و هذا أمر ممكن غير مستحيل فوجب التصديق به،لكونه من ضروريات الدّين و إنكاره كفر مبين. (2)

و لعلّ هذا المقدار حول المسائل الثلاث كاف.

و أمّا سائر المسائل من المسائل العشرين فهي على أقسام:

1.ما لا موضوع لها في صفحة الكون حتّى يبحث فيها،فهي أشبه

ص:61


1- 1) .الشفاء:544/2،فصل في المعاد. [1]
2- 5) .شرح الهداية الأثيرية:381،ط 1313ه.

بالسالبة بانتفاء الموضوع،كالمسائل المبنية على الهيئة البطلميوسية.

2.ما هو صحيح و مبرهن،أدعمه الذكر الحكيم كتجرد النفس و بقائها بإذن اللّه سبحانه و كون الواجب سبحانه صرف الوجود لا ماهية له.

3.ما يعد مسائل فلسفية أو كلامية لا يناط بها الإيمان و الكفر كسائر المسائل.

2.ابن حزم الأندلسي (384- 456ه)

إنّ علي بن أحمد بن علي بن سعيد بن حزم الأموي بالولاء،أبو محمد الأندلسي القرطبي مروّج المذهب الظاهري و منقحه قام بنقد الفلسفة في رسائله و في كتابه«الفِصَل في الملل و الأهواء و النحل»،أمّا في رسائله فقد ألّف رسالة في الرد على«رسالة الكندي إلى المعتصم باللّه»في الفلسفة الأُولى و قد أسماه كتاب«الفلسفة الأُولى فيما دون الطبيعيات و التوحيد»،كما ناقش في«الفِصَل»بعض المسائل الفلسفية. (1)

3.الشهرستاني (467- 548ه)

لقد ألّف أبو الفتح محمد بن أبي القاسم عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني الشافعي الأشعري كتاب«مُصارعة الفلاسفة»و ردّ فيه على سبعة من المسائل الفلسفية المهمّة،يقول:

«هذه المصارعة في سبع مسائل من الإلهيات،من جملة نيّف و سبعين مسألة في المنطق و الطبيعيات و الإلهيات خنقتُه فيها بوتده،و رشقتُه بمشاقصه، و رددتُه في

ص:62


1- 1) .اقرأ ترجمته في الأعلام:254/4،و [1]معجم المؤلفين:16/7،و [2]غيرهما.

مهوى حُفرته،و أركسته لأُمّ رأسه في زُبيته (1)،ذلك من فضل اللّه علينا و على الناس و لكن أكثر الناس لا يشكرون.

المسألة الأُولى:في حصر أقسام الوجود.

المسألة الثانية:في وجود واجب الوجود.

المسألة الثالثة:في توحيد واجب الوجود.

المسألة الرابعة:في علم واجب الوجود.

المسألة الخامسة:في حدوث العالم.

المسألة السادسة:في حصر المبادئ.

المسألة السابعة.... (2)

و قد كان الركب سائراً في نقد الفلاسفة عصراً بعد عصر،فهذا هو أبو البركات البغدادي ينقد آراء الفلاسفة في إرادته سبحانه في كتابه المعتبر(ج3،ص 176).كما أنّ الإمام الرازي قام بنقد الإشارات للشيخ الرئيس،و لم يقتصر على كتابه هذا،بل له في غير واحد من كتبه (كالمباحث المشرقية و البراهين و غير ذلك) ردود و تشكيكات،و مع ذلك كلّه فالقوم بدل أن يستهدفوا في كتاباتهم تمييز الصحيح عن الزائف و الاستماع إلى الأحسن،شطبوا على الجميع و رموهم بسهم واحد خلافاً لما دعا إليه الذكر الحكيم.

غير أنّ المحقّقين لم يلزموا جانب الصمت إزاء هذا الهجوم،بل تصدّوا للردّ على تلك الشبهات منهم:علمان جليلان و كوكبان مضيئان في سماء العلم

ص:63


1- 1) .هذه العبارة تكشف عن روحيات الرجل و نزعاته،و انّ الرد لم يكن بدافع نزيه بل كان لمجرّد إظهار الفضل و الأنانية.
2- 2) .مصارعة الفلاسفة:18- 19. [1]

و الفلسفة:

أ.أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي (520- 595ه) ألّف كتاب«تهافت التهافت»سنة (575ه) ردّاً على كتاب«تهافت الفلاسفة» لأبي حامد الغزالي،و قد أحدث هذا الكتاب منذ ظهوره دويّاً في الأوساط الدينية و الفلسفية،يبدأ كتابه بقوله:

و بعد حمد اللّه الواجب و الصلاة على جميع رسله و أنبيائه،فإنّ الغرض من هذا القول أن نبيّن مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت في التصديق و الإقناع و قصور أكثرها عن مرتبة اليقين و البرهان.

ب.نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي (597- 672ه)،ألّف كتاباً باسم«مصارع المصارع»ردّ فيه على كتاب«مصارعة الفلاسفة» للشهرستاني الّذي ألّفه للرد على الشيخ الرئيس في مسائل سبع.يقول المحقّق الطوسي في مقدّمة الكتاب:

عثرت في أثناء طلبي على كتاب يعرف بالمصارعات للشيخ تاج الدين أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ادّعى فيه مصارعته مع الشيخ الرئيس أبي علي حسين بن عبد اللّه بن سينا في عدّة من المسائل و الردّ عليه فيما ذكره في كتبه.

فدعتني دعواه إلى النظر فيه،و اشتد حرصي من استماع اسمه على التأمّل في معانيه.

فلمّا طالعته وجدته مشتملاً على قول سخيف،و نظر ضعيف،و مقدّمات واهية،و مباحث غير شافية،و تخليط في الجدال،و تمويه في المثال،قد مازج به سفهاً يحترزُ عنه العلماء،و رثّاً من القول لا يستعمله الأُدباء،إلاّ المنتسبين بالانتقام،و المتسوقين عند العوام،قد انصرع في أكثر مصارعاته،و انهزم في معظم

ص:64

مبارزاته.

فرأيت أن أكشف عن تمويهاته،و أُميز بين تخليطاته،غير ناصر لابن سينا في مذاهبه،لكن مشيراً إلى مزالّ أقدام صاحبه،و منبّهاً على مغالطات مشاغبه، و إن كلته في بعض المواضع بصاعه،أو سقيته بكأسه،فاللّه يعلم مني أنّ ذلك ليس ممّا يقتضيه دأبي،و لا يتعوده خلقي،بل الحرب يعدي،و الكلام يجر الكلام.

و نقلت فيه متن كلامه،و نص مرامه،من صدره إلى ختامه،لئلا يحتاج من يقع إليه هذه النسخة إلى طلب أصل الكتاب،و سمّيته ب«مُصارِعُ المصارِع»، فإن وقعت لي فيه زلة أو هفوة،فليصلح من اطّلع عليه من إخواني،طلباً بذلك اقتناء الخير،و إحراز الأجر،و ها أنا مفتتح الكتاب،و اللّه ملهم الصواب.

و لم يزل النقد و الردّ قائماً على قدم و ساق بين المتخاصمين،و قد عرفت أنّ القول الحاسم هو دراسة الأقوال و الآراء و الاستماع إلى أحسنها،هذا من جانب و من جانب آخر أنّ دراسة الفلسفة و مذاكرتها رهن قابلية و صلاحية خاصّة،و هي ليست شرعة لكلّ وارد و شارد،و إنّما يردها وارد بعد وارد،فهي رهن ذهن وقّاد و صلاحية ممتازة كما يقول الشيخ الرئيس:

أيّها الأخ إنّي قد مخضت لك في هذه الإشارات عن زبدة الحقّ،و ألقمتك قفي الحكم في لطائف الكلم،فضُنْه عن الجاهلين و المبتذلين و من لم يرزق الفطنةَ الوقادة و الدربة و العادة،و كان صغاه من الغاغة،أو كان من ملحدة هؤلاء الفلاسفة و من همجهم،فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته و استقامة سيرته و بتوقّفه عمّا يتسرع إليه الوسواس و بنظره إلى الحقّ بعين الرضا و الصدق فآته ما يسألك منه مدرّجاً مجزأً مفرقاً،تستفرس ممّا تسلفه لما تستقبله، و عاهِدْه باللّه و بأيمان لا مخارج لها ليجري فيما يأتيه مجراك متأسياً بك، فإن أذعت هذا العلم أو

ص:65

أضعته فاللّه بيني و بينك،و كفى باللّه وكيلاً. (1)

4.ابن تيمية و آراؤه الفلسفية

اشارة

ألّف ابن تيمية كتاباً أسماه«درء تعارض العقل و النقل»أو«موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول»حاول فيه رفع التناقض بين العقل و النقل،و لكنّه في الحقيقة يريد العقل الذي يوافق النقل الموجود في الصحيحين و غيرهما، دون العقل المخالف،و إن دعمته البراهين الناصعة التي بها عرفنا ربّنا سبحانه،فالأصل عنده النقل،لا العقل،و السلفية اليوم يكيلون له بكيل كبير و يضفون عليه ألقاباً فخمة،نظير شيخ الإسلام،علم الأعلام،مفتى الأنام، الإمام المجاهد،الصادق الصابر،سيف السنّة المسلول على المبتدعين، و القاطع البتّار لألسنة المارقين الملحدين و....

هلمّ معي لنقف على عطاءاته الفكرية في هذا المجال،و هل هو عارض المبتدعين أو هو أحد المبتدعة؟ و نحن نستعرض في ذلك شيئاً من آرائه ليكون كنموذج لما لم نذكره:

1.قدم العالم نوعاً

قد تقدّم أنّ الغزالي كفّر الفلاسفة لقولهم بقدم العالم و عدم حدوثه زماناً،و قد أحيا ابن تيمية تلك الفكرة،و قال بقدم العالم نوعاً،و حدوثه شخصاً،ذكره في غير واحد من كتبه،مثل«موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول» و«منهاج السنة»و غيرهما.

و هذا نصّ عبارته في الموافقة:

ص:66


1- 1) .شرح الإشارات:419/2. [1]

و أمّا أكثر أهل الحديث و من وافقهم فانّهم لا يجعلون النوع حادثاً بل قديماً، و يفرّقون بين حدوث النوع و حدوث الفرد من أفراده،كما يفرق جمهور العقلاء بين دوام النوع و دوام الواحد من أعيانه. (1)

و العجب أنّه نسبه إلى أكثر أهل الحديث،و أين هم من هذه البحوث الفلسفية؟! و متى أدلوا بهذا الرأي؟! فانّ مذهبهم هو السكوت عمّا سكت عنه الكتاب و السنّة،و هل هناك آية أو رواية تدلّ على أنّ كلّ ما في العالم من الأنواع،قديم بنوعه،حادث بشخصه.

و يقول في منهاجه:و حينئذٍ يمتنع كون شيء من العالم أزلياً،و إن جاز أن يكون نوع الحوادث دائماً لم يزل،فانّ الأزل ليس هو عبارة عن شيء محدد، بل ما من وقت يقدر إلاّ و قبله وقت آخر،فلا يلزم من دوام النوع،قدم شيء بعينه. (2)

و يقول أيضاً:و أين في القرآن امتناع حوادث لا أوّل لها. (3)

أقول:إنّ صريح ذلك انّ الزمان بجنسه قديم،دون مصاديقه،و هكذا سائر الأنواع من إنسان و فرس،و بقر،فهل هذا ما نطق به الذكر الكريم أو السنّة النبوية؟!

ثمّ إنّ الذي دعاه إلى اختيار هذا الرأي،هو قوله بجلوس الرب على العرش، فعند ما يثار بوجهه هذا السؤال إنّ العرش مخلوق للّه سبحانه،فأين كان سبحانه قبل خلق العرش؟ فإنّه يحاول الخروج من هذا المأزق بما نقله عنه المحقّق الدواني في كتاب شرح العضدية،قال:و قد رأيت في بعض تصانيف ابن تيمية القول بالقدم الجنسي في العرش. (4)و معناه انّه كان يعتقد انّ جنس العرش أزلي أي

ص:67


1- 1) .الموافقة:75/2،دار الكتب العلمية،بيروت.
2- 2) .منهاج السنة:109/1.
3- 3) .الموافقة:64/2.
4- 4) .شرح العضدية:13. [1]

ما من عرش إلاّ و قبله شيء إلى ما لا نهاية و انّه يوجد و ينعدم ثمّ يوجد و ينعدم،و هكذا فالعرش عنده قديم جنساً و لكن شخصه حادث.

هذا جزاء من أعدم العقل،و أكبَّ على النقل دون تمحيص.

و أعجب منه انّه يستدلّ على الجواز،بأنّه ليس في القرآن امتناع حوادث لا أوّل لها،فيكون سكوت القرآن عن امتناعه،دليلاً على إمكانه بل وقوعه.

فكأنّ القرآن كتاب فلسفي جاء لبيان ما هو الممكن و المستحيل،فإذا سكت عن استحالة شيء يكون دليلاً على إمكانه«ما هكذا تورد يا سعد الإبل»!!

2.قيام الحوادث بذات اللّه سبحانه

و من مبتدعاته التي خرق بها إجماع المتألهين على أنّه سبحانه منزّه عن قيام الحوادث به،قوله:فمن أين في القرآن ما يدلّ دلالة واضحة على أنّ كلّ متحرك محدث أو ممكن؟ و أنّ الحركة لا تقوم إلاّ بحادث أو ممكن،أو ما قامت به الحوادث لم يخلُ منها،و أنّ ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث؟

و يقول في مكان آخر:فإنّا نقول:إنّه يتحرك و تقوم به الحوادث و الأعراض، فما الدليل على بطلان قولنا؟ (1)

أقول:لو كان الكاتب درس الفلسفة و الكلام عند أساتذتهما دون أن يكون له رأي مسبق في الموضوع لوقف على أنّ الذات القائم به الحوادث كالحركة و السكون حادث،لأنّ الحركة في العرض نابعة من الحركة في الجوهر، و الحركة في الجوهر عبارة عن تغيير ذات الشيء و تحوّله من جوهر إلى جوهر،و أيّ

ص:68


1- 1) .منهاج السنّة:64/1و 210.

حادث أظهر من ذلك؟

و هو بهذا القول أحيا نظرية الكرّامية-أعني:أتباع محمد بن كرّام-حيث زعموا أنّ الحوادث تطرأ،أي تتجدد على ذات اللّه.

يقول الاسفرائيني في التبصير:و ممّا ابتدعوه-أي الكرامية-من الضلالات ممّا لم يتجاسر على إطلاقه قبلهم واحد من الأُمم لعلمهم بافتضاحه هو قولهم:بأن معبودهم محلّ الحوادث تحدث في ذاته أقواله و إرادته و إدراكه للمسموعات و المبصرات،و سَمُّوا ذلك سمعاً و تبصّراً،و كذلك قالوا:

تحدث في ذاته ملاقاته للصفحة العليا من العرش،زعموا أنّ هذه أعراض تحدث في ذاته،تعالى اللّه عن قولهم». (1)

3.قوله بالتجسيم

إنّ ابن تيمية و إن كان لا يصرّح بكونه سبحانه جسماً لكنّه يصرّح بأنّه لم يرد عن الصحابة و التابعين أنّ اللّه ليس بجسم،يقول:و أمّا الشرع فمعلوم أنّه لم ينقل عن أحد من الأنبياء و لا الصحابة و لا التابعين و لا سلف الأُمّة أنّ اللّه جسم أو أنّ اللّه ليس بجسم،بل النفي و الإثبات بدعة في الشرع. (2)

و يقول أيضاً:و أمّا ذكر التجسيم و ذمّ المجسّمة فهذا لا يعرف في كلام أحد من السلف و الأئمة،كما لا يعرف في كلامهم أيضاً القول بأنّ اللّه جسم أو ليس بجسم،بل ذكروا في كلامهم الذي أنكروه على الجهمية نفي الجسم، كما ذكره أحمد في كتاب الردّ على الجهمية.

ص:69


1- 1) .التبصير في الدين:66- 67. [1]
2- 2) .شرح حديث النزول:80.

و قال في موضع ثالث:أمّا ما ذكره من لفظ الجسم و ما يتبع ذلك فانّ هذا اللفظ لم ينطق به في صفات اللّه لا كتاب و لا سنّة لا نفياً و لا إثباتاً،و لا تكلم به أحد من الصحابة و التابعين و تابعيهم و لا أهل البيت و لا غيرهم. (1)

إنّ فكرة التجسيم من مستوردات اليهود،و كتبهم مشحونة به و بالجهة و بالنزول و الحركة.و هذا أمر ظاهر لمن راجع كتبهم،و ابن تيمية تبعاً لما أدخله مستسلمة اليهود بين أصحاب الحديث،جوّز أن يكون سبحانه جسماً .و من المعلوم أنّ الجسم ذو أبعاض يحتاج في تحقّقه إلى أبعاد،و المحتاج ممكن،و الممكن ليس بواجب.

و العجب أنّه زعم أنّه لم ترد عن أهل البيت كلمة في نفي الجسميّة،و هذه خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام و كلمات أبنائه الطاهرين عليهم السلام صريحة في ذلك لا يسعنا نقل معشار منها.إلاّ أن يكون«أهل البيت»عنده،غيرهم.

ثمّ إنّ أبناء التجسيم يصحّحون قولهم بالجسمية بأنّه سبحانه جسم لا كسائر الأجسام،و في ذلك يقول أبو الثناء في كتابه«التمهيد لقواعد التوحيد»ما هذا نصّه:

ثمّ إنّهم ناقضوا في ما قالوا،لأنّ الجسم اسم للمتركّب لما مرّ،فإثبات الجسم إثبات التركيب و نفي التركيب نفي الجسم،فصار قولهم جسم لا كالأجسام كقولهم:متركب و ليس بمتركب،و هذا تناقض بيّن بخلاف قولنا:شيء لا كالأشياء،لأنّ الشيء ليس باسم للمتركّب و ليس ينبئ عن ذلك و إنّما ينبئ عن مطلق الوجود،فلم يكن قولنا:«كالأشياء نفياً لمطلق الوجود،بل يكون نفياً لما وراء الوجود من التركيب و غيره من أمارات الحدث،فلم يكن

ص:70


1- 1) .منهاج السنّة:312/1.

ذلك متناقضاً و للّه الحمد و المنّة».

و إذا ثبت أنّ اللّه تعالى لا يوصف بالجسم،فلا يوصف بالصورة أيضاً،لأنّ الصورة لا وجود لها بدون التركيب. (1)

4.اللّه سبحانه محدود بالحدّ

ذهب ابن تيمية إلى صحّة نسبة الحدّ إلى ذاته تعالى،و قد نقله في كتابه «الموافقة»عن أبي سعيد الدارمي المجسِّم موافقاً له،فقال ما نصّه:

و قد اتّفقت الكلمة من المسلمين و الكافرين أنّ اللّه في السماء و حدّوه بذلك إلاّ المريسي الضالّ و أصحابه،حتّى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوا ذلك إذا أحسن الصبي يثني.يرفع يده إلى ربّه و يدعوه في السماء دون ما سواها و كلّ أحد باللّه و بمكانه أعلم من الجهميّة. (2)

و قال في كتابه«تلبيس الجهميّة»:لقد دلّ الكتاب و السنّة على معنى ذلك، كما تقدّم احتجاج الإمام أحمد لذلك بما في القرآن ممّا يدلّ على أنّ اللّه تعالى له حدّ يتميّز به عن المخلوقات. (3)

إلى غير ذلك من كلماته الصريحة في إثبات الحدّ و إخلاء العالم بأرضه و سمائه عن وجوده سبحانه.

لقد أثبت المفكّرون الواعون من المسلمين تنزيهه سبحانه عن الحدّ و ذكروا

ص:71


1- 1) .التمهيد لقواعد التوحيد:60. [1]
2- 2) .موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول:29/2.
3- 3) .بيان تلبيس الجهمية:445/1.و خفى عليه انّ رفع اليد في الثناء و السؤال إنّما هو تمثيل لرفعة شأنه و ترسيم لعلوّ مقامه،لا كونه في السماء.

براهينه بما لسنا في مقام بيانها،و لكن إذا دار الأمر بين أخذ المعارف و العقائد من ابن تيمية أو تلميذه ابن القيّم أو مَن لفّ لفّهما و بين أخذها من ربيب بيت النبوة و عيبة علم النبي الإمام علي عليه السلام،فلا شكّ أنّ الثاني أولى و أفضل، بل هو المتعيّن،و لقد صدع بذلك الرازي في مسألة الجهر بالبسملة و قال:

و من اقتدى في دينه بعليّ فقد اهتدى،قال و الدليل عليه قول رسول اللّه:

«اللّهم أدر الحقّ مع عليّ حيث دار». (1)

و هذا هو الإمام يصف اللّه سبحانه بقوله:«و من وصفه سبحانه-أي جعل صفاته غير ذاته-فقد قرنه،و من قرنه فقد ثنّاه،و من ثنّاه فقد جزّأه،و من جزّأه فقد جهله،و من جهله فقد أشار إليه،و من أشار إليه فقد حدّه،و من حدّه فقد عدّه،و من قال:فيم فقد ضمّنه،و من قال علام فقد أخلى منه».

و في (2)كلام له:«الحمد للّه اللابس الكبرياء بلا تجسّد،و المرتدي بالجلال بلا تمثّل،و المستوي على العرش بلا زوال،و المتعالي عن الخلق بلا تباعد منهم،القريب منهم بلا ملامسة منه لهم،ليس له حدّ ينتهي إلى حدّه،و لا له مثل فيعرف بمثله». (3)

إلى غير ذلك من خطبه و خطب أبنائه و كلماتهم عليهم السلام.

5.نسبة الجهة و المكان للّه تعالى

لقد تكرّر إثبات الجهة و المكان للّه سبحانه في كلمات ابن تيمية في«منهاج السنّة»،و يكفي في ذلك العبارتان التاليتان:

ص:72


1- 1) .التفسير الكبير:204/1. [1]
2- 2) .نهج البلاغة،الخطبة الأُولى. [2]
3- 3) .الصدوق،التوحيد:33.

1.إذا قيل إنّه في جهة كان معنى الكلام أنّه هناك فوق العالم حيث انتهت المخلوقات،فهو فوق الجميع عالٍ عليه. (1)

2.و جمهور الخلف على أنّ اللّه فوق العالم و إن كان أحدهم لا يلفظ بلفظ الجهة،فهم يعتقدون بقلوبهم و يقولون بألسنتهم ربهم فوق. (2)

أقول:فمن أين لابن تيمية هذا العلم ؟! فهل هو يعلم ما تخفي الصدور؟!.لا أدري!!

و أسوأ من ذلك أنّه استدلّ على ثبوت الجهة للّه بطلب فرعون أن يصنع له مصعداً ليطّلع إلى إله موسى،قال:و اللّه قد أخبر عن فرعون أنّه طلب أن يصعد ليطّلع إلى إله موسى،فلو لم يكن موسى أخبره أنّ اللّه فوق،لم يقصد ذلك،فإنّه لو لم يكن مقرّاً به فإذا لم يخبره موسى به لم يكن إثبات العلوّ لا منه و لا من موسى عليه الصلاة و السلام،ثمّ قال:فموسى صدّق محمّداً في أنّ ربّه فوق و فرعون كذّب موسى في أنّ ربّه فوق،فالمقرّون بذلك متبعون لموسى و لمحمد و المكذبون بذلك موافقون لفرعون. (3)

ما الدليل على أنّ موسى أخبر فرعون بأنّ ربّه فوق السماوات،و أيّ دليل على أنّه لم يأخذه من مجسّمة عصره؟!

و أين هذا من كلام الإمام جعفر الصادق عليه السلام حيث يقول:«سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلاّ هو،ليس كمثله شيء،و هو السميع البصير،لا يحدّ و لا يحسّ و لا يُجسّ و لا يُمسّ و لا تدركه الحواسّ،و لا يحيط به شيء و لا جسم و لا

ص:73


1- 1) .منهاج السنّة:217/1.
2- 2) .نفس المصدر:262/1.
3- 3) .المصدر نفسه:526/1.

صورة و لا تخطيط و لا تحديد». (1)

و قد تضافر هذا التعبير عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في غير مكان.

و هذا هو الإمام أبو الحسن الهادي عليه السلام يقول:«سبحان من لا يحدّ،و لا يوصف،و لا يشبهه شيء،و ليس كمثله شيء،و هو السميع البصير». (2)

و إثبات الجهة للّه سبحانه إثبات مكان و إثبات تحديد،و أين هذا من الواجب الغنيّ عن المكان و الجهة و الحدّ؟!

6.جلوسه سبحانه على العرش

و من عجائب أفكاره في باب التوحيد،إثبات جلوسه سبحانه على العرش، يقول:ثمّ إنّ جمهور أهل السنّة يقولون:إنّه ينزل و لا يخلو منه العرش،كما نقل ذلك عن إسحاق بن راهويه و حماد بن زيد و غيرهما،و نقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته. (3)

و قال في شرح حديث النزول:و القول الثابت هو الصواب،و هو المأثور عن سلف الأُمّة و أئمّتها أنّه لا يزال فوق العرش و لا يخلو العرش منه مع دنوّه و نزوله إلى السماء و لا يكون العرش فوقه.

و يقول أيضاً في فتاواه:و قال أهل السنّة في قوله: «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» 4 ،الاستواء من اللّه على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز. (4)

ص:74


1- 1) .الصدوق:التوحيد:98،باب أنّ اللّه عزّ و جلّ ليس بجسم و لا صورة،الحديث4.
2- 2) .المصدر نفسه،نفس الباب،الحديث 13،ص 101.
3- 3) .منهاج السنة:262/1.
4- 5) .مجموع الفتاوى:519/5.

و قال أيضاً في كتاب«تلبيس الجهمية»:الوجه الخامس:انّ العرش في اللغة السرير بالنسبة إلى ما فوقه كالسقف إلى ما تحته،فإذا كان القرآن قد جعل للّه عرشاً و ليس هو بالنسبة إليه كالسقف،علم أنّه بالنسبة إليه كالسرير بالنسبة إلى غيره،و ذلك يقتضي أنّه فوق العرش. (1)

و قال في تفسير سورة العلق:إنّ عرشه أو كرسيّه وسع السماوات و الأرض و إنّه يجلس عليه فما يفضل منه إلاّ قدر أربعة أصابع،و إنّه ليئطّ أطيط الرحل الجديد براكبه. (2)

هذا هو الإله الذي يعبده ابن تيمية و مقلدو منهجه،فهو إله ينتقل و يتحرك و ينزل،محدود بحدود،له جهة و مكان،و أنّه يجلس على العرش،و عرشه يزيد عليه بأربعة أصابع،فإذا كان هذا إله العالم و خالق البرايا،فرفض هذا الإله أفضل من إثباته،و الرجل بعدُ قد تأثر بأخبار الآحاد المستوردة من مستسلمة أهل الكتاب،و تصوّر أنّها حقائق راهنة و أنّ بها تناط سعادة الأُمّة و أنّ عرش إله العالم يئطّ أطيط الرحل الجديد!

فإذا كان هذا هو الإله المعبود«فيا موت زر إن الحياة ذميمة»!!

هذا جزاء من أعدم العقل و أكبّ على النقل بلا وعي،و تلقّى روايات الصحيحين كأوثق ما يكون،دون إخضاعها للنقد و التمحيص.

فإذا كان هذا شيخ الإسلام و حجة الدين فعلى الإسلام السّلام!

و لا يتصوّر القارئ بأنّ شذوذه و انحرافه عن الرأي العام بين المسلمين

ص:75


1- 1) .تلبيس الجهمية:576/1.
2- 2) .مجموعة التفسير:354- 355.

يختصّ بما ذكرنا،و لكن خطأ الرجل لا يختصّ بباب دون باب،و إليك قوله بفناء النار و انتهاء العذاب.

7.فناء النار و انتهاء عذاب الكفّار

أكّد القرآن الكريم في آيات كثيرة على خلود المنافقين و الكفّار في نار جهنم و عدم خروجهم من النار.قال تعالى: «وَعَدَ اللّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْكُفّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ». 1

و قال في آية أُخرى: «كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ». 2

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في خلود الكفّار في نار جهنم.

و لكن هلمّ معي نقف على رأي ابن تيمية في المقام،يقول:و في المسند للطبراني:أنّه ينبت فيها-النار-الجرجير». (1)

فيحتج ابن تيمية بهذا الحديث على فناء النار مضيفاً أنّ القائلين ببقائها ليس معهم كتاب و لا سنّة و لا أقوال الصحابة.

و أضاف أيضاً:أنّ من قال بدوام النار محتجاً بالإجماع،فالإجماع غير معلوم، إلى أن زعم أنّ القول بفنائها فيه قولان معروفان عن الخلف و السلف. (2)

أقول:قد عرفت أنّ الآيات صريحة في بقاء النار و خلود الكفّار فيها،و مع ذلك لا تصل النوبة إلى المرويّات التي لا تتجاوز أخبار الآحاد.

ص:76


1- 3) .الرد على من قال بفناء الجنة و النار:67.
2- 4) .لاحظ للوقوف على نصّ ابن تيمية كتاب«فناء الجنة و النار»:ص 67- 71 و غيره.

و كم لابن تيمية من زلاّت في باب التوحيد و فيما يرجع إلى النبوّة و النبي و غيرهما،بيْد أنّنا نقتصر على ذلك،لأنّ الإطناب ربما يكون مملاًّ.

إنّ دراسة العقائد الإسلامية بحاجة إلى الإلمام بالكتاب و السنّة الصحيحة المعتبرة (غير المأخوذة من مستسلمة أهل الكتاب)،و الاستناد إلى العقل الصريح الذي يصون الإنسان من الوقوع في هذه المهالك.و اللّه هو المسدّد.

ص:77

7

اشارة

علم الكلام و عوامل نشوئه

إنّ علم الكلام كسائر العلوم الإنسانية،ظاهرة علمية نشأت بين المسلمين في ظل أسباب سيوافيك بيانها،و انبثقت عنها مدارس مختلفة،كما كانت للأُمم السابقة مذاهب كلامية و مدارس دينية يبحث فيها عن اللاهوت و الناسوت، و قد ألّف غير واحد من علماء اليهود (1)و النصارى كتباً كلامية يرجع تاريخها إلى القرنين الخامس و السادس،و أمّا عوامل نشأته بين المسلمين فتتلخص في عوامل داخلية و خارجية،إليك بيان الأُولى منهما:

العوامل الداخلية لنشوء علم الكلام

1.القرآن هو المنطلق الأوّل
اشارة

إنّ الذكر الحكيم هو المنطلق الأوّل لنشوء علم الكلام بين المسلمين،

ص:78


1- 1) .كدلالة الحائرين لابن ميمون و غيرها.هذا ما يرجع إلى سالف الأيّام،و أمّا اليوم فما من شهر إلاّ و لهم كتاب أو رسالة حول ديانتهم.

و هو المصدر الأوّل عند المتكلّمين في دعم ما وافق و ردّ ما خالف.

إنّ الآيات المتضمّنة للحوار بين الرسل و من أرسل إليهم هي أحد أسباب التفكير الكلامي عند المسلمين،فلنذكر نماذج من تلك الحوارات:

1.حوار إبراهيم عليه السلام مع مدّعي الربوبية

هذا هو إبراهيم عليه السلام يحتجّ على مَن أنكر ربوبية اللّه سبحانه و تعالى،و ينقل سبحانه احتجاجه بقوله: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ» و هذا المقطع من الآية يكشف عن أنّ مَلِكَ زمانه كان مشركاً في الربوبية و يزعم أنّ ربوبية العالم و تدبيره مفوضة إليه،فاحتجّ إبراهيم عليه بقوله: «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ» ،فأجاب الملك و قال: «أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ». 1

قال إبراهيم: «فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ».

فعند ذلك بهت الملك و لم يدر بما ذا يجيب،فيحكي سبحانه تحيّره و خذلانه أمام البرهان القاطع للخليل بقوله: «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ». 2

2.حوار إبراهيم عليه السلام مع عبدة الأصنام

إنّ لبطل التوحيد إبراهيم الخليل حواراً آخر مع المشركين بشأن أصنامهم

ص:79

التي أقدم على كسرها و جعلها جذاذاً إلاّ كبيراً لهم ليكون عبرة لهم،فلمّا فوجئ المشركون بهذه الكارثة،تساءلوا عمّن قام بهذا الفعل الشنيع؟ فانتهى الأمر بهم إلى اتّهام إبراهيم عليه السلام بذلك،فأحضروه للكشف عن جليّة الحال، و دار بينه و بينهم حوار ينقله سبحانه بقوله:

- المشركون: «أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ».

- إبراهيم: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ».

- المشركون: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ».

- إبراهيم: «أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ».

و لمّا أحسّ المشركون بالعجز عن إفحامه،تمسّكوا بمنطق القوة،فقالوا:

«حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ».

ثمّ إنّه سبحانه نصر رسوله في هذه اللحظة الرهيبة بجعل النار برداً و سلاماً على إبراهيم كما يقول:

«قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ* وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ». 1

3.حوار موسى عليه السلام مع فرعون

إنّ الحوار الدائر بين موسى الكليم عليه السلام و فرعون مدّعي الربوبية يُرينا بوضوح قوةَ منطق الكليم مع أحد جبابرة عصره الذي ذَبَح لحفظ عرشه مئات من الأطفال الرُّضع للحيلولة دون ولادة موسى عليه السلام و الذي تنبّأ كهنة مصر بزوال عرشه

ص:80

على يد موسى عليه السلام،و قد نقل القرآن ذلك الحوار مبسطاً في سورة الشعراء من الآية 16 إلى 51،و نحن نقتطف منه ما يلي:

- موسى: «إِنّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ».

- فرعون: «قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ* وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ».

- موسى: «قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضّالِّينَ* فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ* وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ».

- فرعون: «وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ».

- موسى: «رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ».

- فرعون: «قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ».

- موسى: «رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ».

- فرعون: «إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ».

- موسى: «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ».

- فرعون: «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ».

- موسى: «أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ».

- فرعون: «فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ».

- موسى: «فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ* قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ».

إلى آخر الحوار.

ص:81

ترى أنّ موسى يستدلّ بالدليل و البرهان و يعرّف الربّ سبحانه بقوله: «رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا» و بقوله: «رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ».

و لكن فرعون يتّهمه أوّلاً بالجنون و يقول: «إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ».

و من المعلوم أنّ المصلحين في العالم يُتّهمون دائماً بالجنون،لأنّهم يريدون التغيير الجَذريّ في المجتمع و الذي يعدّه البسطاء أمراً محالاً،و يصفون الساعين إليه بالجنون،و لكن موسى لم يُعر أهمية لهذه التهمة و أعاد برهانه بقوله: «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ».

فعند ذلك واجهه فرعون بمنطق القوة و قال: «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ».

و لما أثبت صلته بعالم الغيب بالإتيان بالمعجزة الباهرة و أثبت بوضوح انّه رسول ربّ العالمين،قابله فرعون بادّعاء أنّ ما أتى به سحر و لا نصيب له من الواقع.

4.حوار مؤمن آل فرعون مع قومه

إنّ الحوار الدائر بين مؤمن آل فرعون و بين فرعون و رهطه حوار صدر في ظروف عصيبة،قام به أحد المنتمين إلى فرعون (كان يُظْهر كفره و يكتُم إيمانه)،على مرأى و مسمع من فرعون و ملئه،و في جوّ مشحون بالت آمر على موسى عليه السلام و استئصال دعوته،و قد نقل الذكر الحكيم هذا الحوار على طوله في سورة غافر من الآية 26 إلى 45،نقتطف منه ما يلي:

- فرعون: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ».

ص:82

- موسى: «إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ».

- مؤمن آل فرعون: «أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ».

- فرعون: «يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً».

- مؤمن آل فرعون: «يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ».

و كم في القرآن الكريم من نظائر لهذا الحوار دار رحاها بين رجال صالحين و أُناس طالحين و كان الظفر فيها حليف أصحاب المنطق و التفكير.

و بذلك يظهر أنّ القرآن الكريم بما فيه من الأدلة الساطعة و البراهين المحكمة على توحيده ذاتاً و فعلاً،و ما نقل من الحوارات،كان هو المنطلق الأوّل لعلم الكلام.

***

2.السنّة هي المنطلق الثاني
اشارة

إذا كان الكتاب هو المنطلق الأوّل،فإنّ خُطَب النبي و كلماته و مناظراته مع المشركين و اليهود و النصارى،كانت هي المنطلق الثاني للتفكير الكلامي.

إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ناظر المشركين و أهل الكتاب بمرأى و مسمع من المسلمين، و هذه احتجاجاته مع نصارى نجران في العام العاشر من الهجرة،حتّى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد ما أفحمهم،دعاهم إلى المباهلة،و قد حفل التاريخ و كتب السير و التفسير بما

ص:83

دار بين الرسول و بطارقة نجران و قساوستهم،و قد استدلّوا على ألوهية المسيح بقولهم:هل رأيت ولداً من غير ذكر؟ فأفحمهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإيحاء من اللّه:و قال: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ». 1 أي انّ مثل عيسى في عالم الخلقة كمثل آدم،و قد خُلق من غير أب و لا أُمّ،فليس هو أبدع و لا أعجب منه.

و إليك نموذجاً من مناظراته صلى الله عليه و آله و سلم:

احتجاج النبي مع اليهود في تبديل القبلة

لمّا أمر اللّه جلّ شأنه نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة،جاء قوم من اليهود و قالوا:يا محمد هذه القبلة (بيت المقدس) قد صلّيت إليها أربع عشرة سنة ثمّ تركتها الآن.أ فحقاً كان ما كنت عليه؟ فقد تركته إلى باطل،فانّ ما يخالف الحقّ فهو باطل؛أو باطلاً كان ذلك،و قد كنت عليه طول هذه المدة فما يؤمننا أن تكون الآن على باطل؟!

و أساس الشبهة التي أشار إليها اليهود هو انّه لا يمكن أن يكون التوجه صوب القبلتين صحيحاً،فأحدهما باطل،إمّا السابق و إمّا اللاحق،و من المحتمل أن يكون الباطل هو اللاحق فكيف نؤمن به؟

و قد غفل المجادل عن أنّ الأحكام تتغيّر حسب تغيّر المصالح و المفاسد،فلا مانع من أن يكون كلاّ من التوجّهين حقاً في ظرفه،و على ذلك تدور رحى النسخ في الأحكام الشرعية.

فأجاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله:«بل ذلك كان حقّاً،و هذا حقّ،يقول اللّه: «قُلْ

ص:84

لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 1 إذا عرف صلاحكم يا أيّها العبادُ في استقبال المشرق أمركُم به،و إذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به،و إن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به،فلا تنكروا تدبير اللّه تعالى في عباده و قصده إلى مصالحكم».

ثمّ قال لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«لقد تركتم العمل يوم السبت ثمّ عملتم بعده في سائر الأيام ثمّ تركتموه في السبت ثمّ عملتم بعده،أ فتركتم الحق إلى باطل أو الباطل إلى حق؟! و الباطل إلى باطل أو الحق إلى حق؟! قولوا كيف شئتم فهو قول محمد و جوابه لكم».قالوا:ترك العمل في السبت حق و العمل بعده حق.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حق،ثمّ قبلة الكعبة في وقته حق». (1)

3.خطب الإمام علي عليه السلام هي المنطلق الثالث

إنّ خطب الإمام و رسائله و كلمه القصار،التي حفظها التاريخ من الضياع لأوضح دليل على أنّ الإمام كان هو المؤسس للأُصول الكلامية خصوصاً فيما يرجع إلى التوحيد و العدل،و بين يديك«نهج البلاغة»الذي جمعه الشريف الرضي ممّا وصل إليه من خطبه،تجد فيه من الأُصول الكلامية ما لا تجده في غيره،و إلى ذلك يشير السيد المرتضى في أماليه،فيقول:

اعلم أنّ أُصول التوحيد و العدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام و خطبه، فانّها تتضمن من ذلك ما لا زيادة عليه و لا غاية وراءه،و من تأمّل المأثور في ذلك من كلامه،علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعد في

ص:85


1- 2) .الاحتجاج:83/1. [1]

تصنيعه و جمعه إنّما هو تفصيل لتلك الجمل و شرح لتلك الأُصول،و روي عن الأئمّة من أبنائه عليهم السلام في ذلك ما لا يكاد يحاط به كثرة،و من أحب الوقوف عليه و طلبه من مظانه أصاب منه الكثير الغزير الذي في بعضه شفاء للصدور الشقية و لقاح للعقول العقيمة. (1)

و جاء في«الفهرست»للنديم:أنّ أبا الهذيل العلاّف،محمد بن الهذيل،قال:

أخذت هذا الذي أنا عليه من العدل و التوحيد،عن عثمان الطويل،و كان معلم أبي الهذيل.

قال أبو الهذيل:و أخبرني عثمان أنّه أخذه عن واصل بن عطاء،و أنّ واصلاً أخذه عن أبي هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية،و أنّ عبد اللّه أخذه من أبيه محمد بن الحنفية،و أنّ محمداً أخبره أنّه أخذه عن أبيه علي عليه السلام،و أنّ أباه أخذه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،و أنّ رسول اللّه أخبره أنّ جبرئيل نزل به عن اللّه تعالى. (2)

و بما أنّ خطب الإمام عليه السلام و رسائله تعجّ بالتوحيد و العدل،و التنزيه و غيرها من المعارف،فنحن في غنى عن نقل نتف منها.

4.أئمّة أهل البيت عليهم السلام و دورهم في نشوء علم الكلام

إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام و إن أُقصُوا عن منصّة الحكم و لكنّهم كلّما أُتيحت لهم الفرصة في عصر الأمويين أو العباسيين قاموا بمهمة بيان المعارف و الأُصول التي كان القوم يتنازعون فيها،و ها نحن نذكر مقتطفات من مناظراتهم

ص:86


1- 1) .الشريف المرتضى،الأمالي:148/1.و لاحظ شرح ابن أبي الحديد في هذا الصدد:17/1.
2- 2) .الفهرست:202. [1]

و نبتدئ بمناظرة أُمّ الأئمّة النجباء مع خليفة زمانها.

روى المؤرخون أنّ فاطمة الزهراء عليها السلام لمّا مُنعت من إرثها،لاثت خمارها على رأسها و اشتملت بجلبابها،و أقبلت في لُمّة من حفدتها،و نساء قومها حتّى دخلت على أبي بكر و هو في حشد من المهاجرين و الأنصار،فقالت مخاطبة إيّاهم بخطبة بليغة نقتصر منها على موضع الحاجة:

يا ابن أبي قحافة،أ في كتاب اللّه أن ترثَ أباك و لا أرث أبي؟ لقد جئتَ شيئاً فريّاً على اللّه و رسوله،أ فعلى عمد تركتم كتاب اللّه و نبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» 1 ،و قال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا عليهما السلام إذ قال: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» 2 ،و قال أيضاً:

«وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ» 3 ،و قال: «يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» 4 و قال: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ...» 5 ،و زعمتم أن لا حظوة لي و لا إرث من أبي و لا رحم بيننا،أ فخصّكم بآية من القرآن أخرج أبي محمداً صلى الله عليه و آله و سلم منها؟ أم هل تقولون:إنّ أهل الملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا و أبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمي؟ (1)

نموذج من مناظرات الإمام الصادق عليه السلام مع أحد القدرية

لقد راجت فكرة استغناء الممكن في فعله«لا في ذاته»عن اللّه سبحانه في

ص:87


1- 6) .الاحتجاج:267/1-268. [1]

عصر عبد الملك بن مروان (65-86ه) و كان لهذه الفكرة دويّ في عصره، و قد طلب عبد الملك بن مروان من عامله في المدينة أن يوجه إليه الإمام الباقر عليه السلام حتّى يناظر رجلاً يتبنّى تلك الفكرة و قد أعيا الجميع.

فبعث الإمام الباقر ولده مكانه،فقدم الشام،و تسامع الناس بقدومه لمخاصمة الرجل،فقال عبد الملك لأبي عبد اللّه:إنّه قد أعيانا أمر هذا القدري،فقال الإمام:«إنّ اللّه يكفيناه»،فلمّا اجتمعوا،قال القدري لأبي عبد اللّه عليه السلام:سل عمّا شئت؟ فقال له:«اقرأ سورة الحمد»،قال:فقرأها،فلمّا بلغ إلى قول اللّه تبارك و تعالى: «إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ» فقال جعفر:«قف مَن تستعين؟ و ما حاجتك إلى المئونة،إن الأمر إليك»،فبهت الرجل. (1)

احتجاج الإمام الرضا عليه السلام مع اليهود و النصارى و المجسّمة

إنّ للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام احتجاجات و مناظرات مع أصحاب الديانات المختلفة و على رأسهم اليهود و النصارى و المجسمة و غيرهم،نقلها الشيخ أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي(المتوفّى حوالي 550ه) في كتاب«الاحتجاج»بصورة مفصلة،و نحن لا يسعنا نقل القليل منها فضلاً عن الكثير،و كان الخليفة المأمون يشارك في مجالس المناظرة مع الأحبار و القساوسة و أصحاب الحديث و التي كان يتجلّى فيها قوة منطق الإمام بالاستدلال عليهم بنصوص التوراة و الإنجيل باللغة العبريانية و السريانية،و ها نحن نذكر احتجاجه مع أبي قُرّة الذي كان يدّعي رؤية النبيّ للّه سبحانه في هذه الدنيا.

ص:88


1- 1) .راجع البحار:55/5-56،الحديث98. [1]

- قال أبو قرة:إنّا رُوِينا انّ اللّه عزّ و جلّ قسّم الرؤيةَ و الكلام بين اثنين،فقسّم لموسى عليه السلام الكلام،و لمحمد صلى الله عليه و آله و سلم الرؤية.

- قال الإمام:فمن المبلّغ عن اللّه عزّ و جلّ إلى الثقلين:الجن و الإنس «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» 1 ،و «وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» 2 ،و «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» 3 ، أ ليس محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم ؟!

- قال أبو قرة:بلى.

- قال الإمام عليه السلام:«فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيُخبرهم انّه جاء من عند اللّه،و انّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه،و يقول: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» و «وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» و «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» ثمّ يقول:أنا رأيته بعيني و أحطت به علماً،و هو على صورة البشر؟! أما تستحيون،ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا،أن يكون يأتي عن اللّه بشيء ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر. (1)

هذه هي العوامل الداخلية لنشوء علم الكلام بين المسلمين،و هناك عوامل خارجية لنشوئه،نذكر المهمّ منها:

العوامل الخارجية لنشوء علم الكلام

1.معطّلة العرب

إنّ الطابَع العام للعرب في العصر الجاهلي هو التوحيد في الذات و التوحيد في الخالقية،و لكنّهم كانوا مشركين في أمر الربوبية و العبادة،فكانوا معتقدين بربوبية غيره سبحانه كما كانوا يعبدون غيره كالأصنام و الأوثان.

ص:89


1- 4) .التوحيد للصدوق:110- 111.

نعم كان عندهم صنف ينكر الخالق،و يشارك مع الطائفة الأُولى في إنكار البعث و الإعادة.

يقول الشهرستاني:فصنف منهم أنكروا الخالق و البعث و الإعادة،و قالوا بالطبع المحيي و الدهر المفني و هم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد «وَ قالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا» 1 إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي و قصراً للحياة و الموت على تركّبها و تحلّلها،فالجامع هو الطبع و المهلك هو الدهر «وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ». 2

و صنف منهم أقرّوا بالخالق و ابتداء الخلق و الإبداع و أنكروا البعث و الإعادة، و هم الذين أخبر عنهم القرآن: «وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ». 3

و صنف منهم أقرّوا بالخالق و ابتداء الخلق و نوع من الإعادة و أنكروا الرسل و عبدوا الأصنام و زعموا انّهم شفعاؤهم عند اللّه في الدار الآخرة،و حجّوا إليها،و نحروا لها الهدايا و قرّبوا القرابين،و تقرّبوا إليها بالمناسك و المشاعر، و أحلّوا و حرّموا؛و هم الدهماء من العرب إلاّ شرذمة منهم.

و من العرب من يعتقد بالتناسخ فيقول:إذا مات الإنسان أو قتل اجتمع دم الدماغ و أجزاء بنيته،فانتصب طيراً«هامة»فيرجع إلى رأس القبر كلّ مائة سنة، و عن هذا:أنكر عليهم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فقال:«لا هامة و لا عدوى و لا صفر». (1)

ص:90


1- 4) .الملل و النحل للشهرستاني:216/2- 217، [1]المكتبة العصرية،بيروت.و الحديث رواه أبو داود في سننه برقم (3921)،و أحمد في مسنده:174/1.

إنّ العرب و إن اعتنقوا الإسلام و لكن جذور هذه الأفكار كانت موجودة في أذهانهم خلفاً بعد سلف،إذ لا تقلع الأفكار الراسخة بمضي يوم أو سنة أو سنين،و كان خصماء الإسلام يطرحون تلك الأفكار حيناً بعد حين في مناسبات خاصة،فصار هذا سبباً مناسباً لنشوء علم الكلام و الدفاع عن العقائد الإسلامية بدليل و برهان،كما أنّ القرآن الكريم طرح شبهاتهم في التوحيد و المعاد و ردّها بقوّة،مثلاً:إنّهم كانوا يستبعدون إحياء العظام و هي رميم، فاستدلّ لهم بالنشأة الأُولى،إذ اعترفوا بالخلق الأوّل،فقال عزّ و جلّ: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» 1 ،و قال سبحانه: «أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ». 2

2.اليهود و عقائدهم في التجسيم و القدر

يقول الشهرستاني:اليهود تدّعي أنّ الشريعة لا تكون إلاّ واحدة،و هي ابتدأت بموسى عليه السلام و تمّت به،فلم تكن قبله شريعة،إلاّ حدود عقلية و أحكام مصلحية.

و لم يجيزوا النسخ أصلاً،قالوا:فلا يكون بعده«شريعة»أصلاً،لأنّ النسخ في الأوامر«بداء»،و لا يجوز البداء على اللّه تعالى،و مسائلهم تدور على جواز النسخ و منعه،و على التشبيه و نفيه،و القول بالقدر و الجبر و تجويز الرجعة و استحالتها.

ص:91

أمّا النسخ فكما ذكرنا،و أمّا التشبيه فلأنّهم وجدوا التوراة ملئت من المتشابهات،مثل:الصورة و المشافهة و التكلّم جهراً و النزول على طور سيناء انتقالاً و الاستواء على العرش استقراراً،و جواز الرؤية فوقاً و غير ذلك.

و أمّا القول«بالقدر»فهم مختلفون فيه حسب اختلاف الفريقين في الإسلام، فالربّانيون منهم كالمعتزلة فينا،و القرّاءون كالمجبرة و المشبهة. (1)

3.النصارى و التثليث

لمّا رفع المسيح عيسى بن مريم عليه السلام إلى السماء،اختلف الحواريون و غيرهم فيه اختلافاً شديداً مع أنّه كان رسول التوحيد،فأثبت أتباعه للّه أقانيم ثلاثة و سمّوها:الأب،و الابن،و روح القدس. (2)

و قد افترقت النصارى إلى:«ملكانية»،و«نسطورية»،و«يعقوبية»؛و قد كان قسم منهم منتشراً في الجزيرة العربية.

إنّ وجود هذه التيارات الدينية مضافاً إلى غيرها ممّا لم نذكره كالصابئين و المجوس و كلّ من له شبهة كتاب في الجزيرة العربية،أوجد أرضية صالحة لنشوء علم الكلام في مختلف المسائل حيث كان المسلمون على مقربة منهم.

و قد أدى الاحتكاك بينهم إلى تغلغل أفكارهم في أوساط المسلمين،ممّا حدا بالعلماء المسلمين إلى إجراء الحوارات و المناظرات معهم،الأمر الذي ساهم في نشوء مباحث جديدة لعلم الكلام في الشرق الإسلامي.

ص:92


1- 1) .الملل و النحل للشهرستاني:178/1.و [1]القرّاءون:الذين يعودون في فهم دينهم إلى التوراة مباشرة.
2- 2) .الملل و النحل للشهرستاني:186/1. [2]
4.الفتوحات الإسلامية و الاحتكاك الثقافي

قام المسلمون بواجبهم ففتحوا البلاد و نشروا الثقافة الإسلامية بين الأُمم المتحضّرة،التي كانت تتمتع-وراء الآداب و الفنون و العلوم و الصناعات - بمناهج فلسفية و آراء كلامية لا يذعن بها الإسلام.

و قد كان لذلك الاحتكاك الثقافي و اللقاء الحضاري تأثير بالغ،عاد على الإسلام و المسلمين بالخير الكثير،إلاّ أنّ هذا الاحتكاك لم يكن يخلو من مضاعفات،منها انتقال تلك الآراء و الأفكار إلى الأوساط الإسلامية في وقت لم تكن فيه متدرّعة تجاه تلك الشبهات و المشاكل.

و أعان على ذلك أمر ثان و هو انتقال عدّة من الأسرى إلى العواصم الإسلامية بآرائهم و أفكارهم و عقائدهم المضادّة للإسلام و أُسسِه،و كان بين المسلمين من لم يتورّع عن أخذ هاتيك العقائد الفاسدة،نظراء:عبد الكريم بن أبي العوجاء،و حمّاد بن عجرد،و يحيى بن زياد،و مطيع بن أياس،و عبد اللّه بن المقفّع،إلى غير ذلك بين غير متدرّع أو غير متورّع،فأوجد ذلك بلبلة في الأفكار و العقائد بين المسلمين.

و ثَمَّة أمر ثالث كان له التأثير الحاسم في بسط الإلحاد و الزندقة،و هو نقل الكتب الرومانية و اليونانية و الفارسية إلى اللغة العربية من دون نظارة و رقابة و جعلها في متناول أيدي الناس،و قد ذكر النديم تاريخ ترجمة تلك الكتب فقال:

«كان خالد بن يزيد بن معاوية محِبّاً للعلوم،فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان ممّن كان ينزل مدينة مصر،و أمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني و القبطي إلى العربي،و هذا أوّل نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة،ثمّ نقل الديوان و كان باللغة الفارسية إلى العربية في أيام الحجاج، و كان أمر

ص:93

الترجمة يتقدم ببطء،إلى أن ظهر المأمون في ساحة الخلافة،فراسل ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة،المدّخرة في بلد الروم،فأجاب إلى ذلك بعد امتناع،فبعث المأمون جماعة،منهم:

الحجاج بن مطر،و ابن بطريق،و محمد و أحمد و الحسن بنو شاكر المنجّم، فجاءوا بطرائف الكتب،و غرائب المصنّفات في الفلسفة و الهندسة و غيرهما»،ثمّ ذكر النديم أسماء النقلة من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، و جاء بأسماء كميّة هائلة (1)فأخذوا يصبون ما وجدوه من غث و سمين في كتب الوثنيين و المسيحيين على رءوس المسلمين،و هم غير متدرّعين و غير واقفين على جذور هذه الشبه،مع أنّها كانت تزعزع أركان الإسلام.

و نقل المسعودي في وصف المنصور أنّه أوّل خليفة قرّب المنجّمين فعمل بأحكام النجوم،و كان معه نوبخت المجوسي المنجّم و أسلم على يديه و هو أبو هؤلاء النوبختية،و إبراهيم الفزاري المنجم صاحب القصيدة في النجوم، و غير ذلك من علوم النجوم و هيئة الفلك،و علي بن عيسى الاسطرلابي المنجم.و هو أوّل خليفة ترجمت له الكتب من اللغات العجميّة إلى العربيّة، منها:كتاب«كليلة و دمنة»،و كتاب«السند هند»،و ترجمت له كتب ارسطاطاليس،من المنطقيات و غيرها،و ترجم له كتاب«المجسطي» لبطليموس و كتاب«الارتماطيقي»و كتاب«أقليدس»و سائر الكتب القديمة من اليونانية و الرومية و الفهلوية و الفارسية و السريانية و أخرجت إلى الناس، فنظروا فيها،و تعلّقوا إلى علمها. (2)

و ذكر في وصف المهدي العبّاسي:و أمعن في قتل الملحدين و الذاهبين عن

ص:94


1- 1) .النديم:الفهرست:352،356. [1]
2- 2) .مروج الذهب:223/4،ط دار [2]الأندلس.

الدين لظهوره في أيامه و اعلانهم باعتقاداتهم في خلافته،ذلك لما انتشر من كتب«ماني»و«ابن ديصان»و«مرجئون»مما نقله«عبد اللّه بن المقفع»و غيره و ترجمت من الفارسية و الفهلوية إلى العربية،و ما صنفه في ذلك ابن أبي العوجاء و حماد بن عجرد و يحيى بن زياد و مطيع بن أياس من تأييد المذاهب المانية و الديصانية و المرقيونية،فكثر بذلك الزنادقة و ظهرت آراؤهم في الناس،و كان المهدي أوّل من أمر الجدليين من أهل البحث من المتكلّمين بتصنيف الكتب على الملحدين ممّن ذكرنا من الجاحدين و غيرهم،و أقاموا البراهين على المعاندين و أزالوا شبه الملحدين،فأوضحوا الحقّ للشاكّين.... (1)

و في ظل انتشار الكتب المترجمة بين أهل العلم من المسلمين،استفحلت المناظرة في عصر المأمون،و كان أهل الفرق و المذاهب و النحل و أصحاب المقالات يتناظرون فيما بينهم على مرأى و مسمع من الخليفة،و هذا هو المسعودي ينقل عن يحيى بن أكثم أنّه قال:كان المأمون يجلس للمناظرة في الفقه يوم الثلاثاء،فإذا حضر الفقهاء و من يناظره من سائر أهل المقالات أُدخلوا حجرة مفروشة،و قيل لهم:انزعوا أخفافكم،ثمّ أحضرت الموائد، و قيل لهم:أصيبوا من الطعام و الشراب و جدّدوا الوضوء،و من خفّه ضيق فلينزعه،و من ثقلت عليه قلنسوتُه فليضعها،فإذا فرغوا أتوا بالمجامر فبُخروا و طُيّبوا،ثمّ خرجوا فاستدناهم حتّى يدنوا منه و يناظرهم أحسن مناظرة، و أنصفها و أبعدها من مناظرة المتجبرين،فلا يزالون كذلك إلى أن تزول الشمس،ثمّ تنصب الموائد ثانية فيطعمون و ينصرفون. (2)

و يذكر في حياة الواثق باللّه أنّه كان له مجلس في الفلسفة و الطب و كان الواثق باللّه محبّاً للنظر،مكرماً لأهله،مبغضاً للتقليد و أهله محبّاً للإشراف على علوم

ص:95


1- 1) .مروج الذهب:223/4-224. [1]
2- 2) .مروج الذهب:432/3. [2]

الناس و آرائهم،ممّن تقدّم و تأخّر من الفلاسفة و غيرهم من الشرعيّين، فحضرهم ذات يوم جماعة من الفلاسفة و المتطببين،فجرى بحضرته أنواع من علومهم في الطبيعيات و ما بعد ذلك من الإلهيات. (1)

لقد أثار انتقال هذه الشبه و العقائد و الآراء إلى أوساط المسلمين ضجّة كبرى بينهم،و افترقوا إلى فرقتين:

فرقة اقتصرت على الذب عن حياض الإسلام بتضليلهم و تكفيرهم و توصيفهم بالزندقة و تحذير المسلمين من الالتقاء بهم و قراءة كتبهم و الاستماع إلى كلامهم،إلى غير ذلك مما كان يعدّ مكافحة سلبية،لا تصمد أمام ذلك السيل الجارف.

و فرقة قد أحسّوا بخطورة الموقف و أنّ المكافحة السلبية لها أثرها المؤقت، و إنّ ذلك الداء لو لم يعالج بالدواء الناجع سوف يعمّ المجتمع كلّه أو أكثره، فقاموا بمكافحة إيجابية،أي الدعوة بالحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال الذي يستحسنه الإسلام،فأزالوا شبهاتهم،و نقدوا أفكارهم في ضوء العقل و البرهان،و قد نجحوا في ذلك نجاحاً باهراً،و هؤلاء هم الشيعة خرّيجو مدرسة أهل البيت أوّلاً،و المعتزلة أتباع واصل بن عطاء ثانياً الذين أخذوا أُصول مذهبهم عن علي عليه السلام بواسطتين:

1.أبي هاشم ابن محمد بن الحنفية.

2.محمّد ابن الحنفية ابن علي بن أبي طالب.

ففي تلك الأجواء المشحونة بالبحث و الجدل استفحل أمر الكلام،أي العلم الباحث عن المبدأ و أسمائه و صفاته و أفعاله لغاية الذب عن الإسلام،فكان

ص:96


1- 1) .مروج الذهب:489/3. [1]

علم الكلام وليد الحاجة،و نتاج الصراع الفكري مع التيارات الإلحادية المتحدية للإسلام و المسلمين،و في هذه الظروف العصيبة قام أهل البيت عليهم السلام بتربية جموع غفيرة من أصحاب المواهب للذب عن الإسلام و أُصوله أوّلاً،و حريم الولاية ثانياً،في ضوء العقل و البرهان،فصاروا يناظرون كل فرقة و نحلة بأتقن البراهين و أسلمها،و قد حفظ التاريخ أسماء لفيف من الرافلين في حلل الفضائل و المعارف،و سوف توافيك أسماؤهم في هذه الموسوعة.

يقول الدكتور فيصل بدر عون أُستاذ جامعة عين شمس:على ضوء هذه الثقافات المتباينة انّه كانت توجد في الجزيرة العربية،و في البلاد التي امتدت إليها الفتوحات الإسلامية فلسفات و علوم و ديانات متباينة،و كان لكلّ دين أو فلسفة أنصاره و مؤيدوه،و هؤلاء الأنصار أيضاً انقسموا فيما بينهم إلى شيع و أحزاب،و مع أنّ هذه الطوائف قد احتفظت بكثير من عناصرها و خصائصها الأصلية،فانّ امتزاجها قد أدّى فيما بعد إلى صعوبة التمييز بينها و بين معالم الدين الجديد،إلاّ أنّ ذلك لم يمنع من القول بأنّ معظم هذه الثقافات قد احتفظ بسماته العامة التي تميزه عن غيره،و هكذا أيضاً تجد انّ المسلمين قد ورثوا تراثاً إنسانياً ضخماً،كان عليهم أن يدرسوه و يمحّصوه و يضيفوا إليه و يقتبسوا منه ما يتفق و دينهم و يردّوا على الآراء التي لا تتفق و الروح الإسلامية الجديدة. (1)

أقول:إنّ ما اقترحه الأُستاذ الفاضل من أنّه كان من واجب المسلمين دراسة التراث و تمحيصه،لم يعر له المشايخ أهمّيّة فقد حرّموا علم الكلام و دراسته و أدانوا الممارسين له،و استمرت فكرة التحريم إلى عصر أبي الحسن علي بن إسماعيل إمام الأشاعرة(260-324ه) الذي كتب رسالة في استحسان الخوض في علم

ص:97


1- 1) .علم الكلام و مدارسه:31-32.

الكلام،و حاول بذلك القضاء على فكرة أهل الحديث المحرّمين لعلم الكلام و البحوث العقلية.

فمع أنّ الإمام تاب عن الاعتزال و التحق بركب الحنابلة،فمع ذلك استحسن الخوض في علم الكلام.

و لما كانت الرسالة تحتوي على نكات بديعة تعرب عن رسوخ الرجعيّة بين أهل الحديث و تعالج ذلك الداء العضال،فقد ارتأينا الإتيان بنصّها.قال بعد التسمية و الحمد و التسليم:

رسالة الإمام الأشعري في استحسان الخوض في علم الكلام

(1)

أمّا بعد فإنّ طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم،و ثقل عليهم النظر و البحث عن الدين،و مالوا إلى التخفيف و التقليد،و طعنوا على من فتّش عن أُصول الدين و نسبوه إلى الضلال،و زعموا أنّ الكلام في الحركة و السكون و الجسم و العرض و الألوان و الأكوان و الجزء و الطفرة و صفات الباري عز و جلّ بدعة و ضلالة،و قالوا:لو كان هدى و رشاداً لتكلّم فيه النبي صلى الله عليه و آله و سلم و خلفاؤه و أصحابه! قالوا:و لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يمت حتّى تكلم في كلّ ما يحتاج إليه من أُمور الدين،و بيّنه بياناً شافياً،و لم يترك بعده لأحد مقالاً فيما للمسلمين إليه حاجة من أُمور دينهم،و ما يقربهم إلى اللّه عزّ و جلّ و يباعدهم عن سخطه؛فلما لم يرووا عنه الكلام في شيء ممّا ذكرناه،علمنا أنّ الكلام فيه بدعة،و البحث عنه ضلالة،لأنّه لو كان خيراً لما فات النبي صلى الله عليه و آله و سلم و لتكلّموا فيه،قالوا:و لأنّه ليس يخلو ذلك من وجهين:إمّا أن يكونوا علموه فسكتوا عنه،أو لم يعلموه بل جهلوه،فإن كانوا

ص:98


1- 1) .الرسالة طبعت للمرّة الثالثة في حيدرآباد الدكن (الهند) عام 1400ه1979/ م،كما طبعت في ذيل كتاب اللمع للأشعري أيضاً.

علموه و لم يتكلموا فيه وسعنا أيضاً نحن السكوت عنه،كما وسعهم السكوت عنه،و وسعنا ترك الخوض كما وسعهم ترك الخوض فيه،و لأنّه لو كان من الدِّين ما وسعهم السكوت عنه،و إن كانوا لم يعلموه وسعنا جهله كما وسع أُولئك جهله،لأنّه لو كان من الدين لم يجهلوه،فعلى كلا الوجهين الكلام فيه بدعة،و الخوض فيه ضلالة،فهذه جملة ما احتجوا به في ترك النظر في الأُصول.

قال الشيخ أبو الحسن رضي اللّه عنه:الجواب عنه من ثلاثة أوجه:

أحدها:قلب السؤال عليهم بأن يقال:النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يقل أيضاً إنّه من بحث عن ذلك و تكلّم فيه فاجعلوه مبتدعاً ضالاً،فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة ضُلاّلاً،إذ قد تكلّمتم في شيء لم يتكلّم فيه النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و ضلّلتم من لم يضلله النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

الجواب الثاني:أن يقال لهم:إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يجهل شيئاً ممّا ذكرتموه من الكلام في الجسم و العرض،و الحركة و السكون،و الجزء و الطفرة،و إن لم يتكلّم في كلّ واحد من ذلك معيناً،و كذلك الفقهاء و العلماء من الصحابة، غير أنّ هذه الأشياء التي ذكرتموها معينة،أُصولها موجودة في القرآن و السنّة جملة غير منفصلة.

فأمّا الحركة و السكون و الكلام فيهما فأصلهما موجود في القرآن،و هما يدلاّن على التوحيد،و كذلك الاجتماع و الافتراق،قال اللّه تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم صلوات اللّه عليه و سلامه في قصة أُفول الكوكب و الشمس و القمر (1)و تحريكها من مكان إلى مكان،ما دلّ على أنّ ربّه عزّ و جلّ لا يجوز عليه شيء من ذلك،و أنّ من جاز عليه الأُفول و الانتقال من مكان إلى مكان فليس بإله.

و أمّا الكلام في أُصول التوحيد فمأخوذ أيضاً من الكتاب،قال اللّه

ص:99


1- 1) .الأنعام:75-79.

تعالى: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا» 1 ،و هذا الكلام موجز منبه على الحجة بأنّه واحد لا شريك له،و كلام المتكلّمين في الحجاج في التوحيد بالتمانع و التغالب فإنّما مرجعه إلى هذه الآية،و قوله عزّ و جلّ: «مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» 2 ،إلى قوله عزّ و جلّ: «أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ». 3

و كلام المتكلّمين في الحجاج في توحيد اللّه إنّما مرجعه إلى هذه الآيات التي ذكرناها،و كذلك سائر الكلام في تفصيل فروع التوحيد و العدل إنّما هو مأخوذ من القرآن،فكذلك الكلام في جواز البعث و استحالته الذي قد اختلف عقلاء العرب و من قبلهم من غيرهم فيه حتّى تعجبوا من جواز ذلك فقالوا: «أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» 4 ،و قولهم: «هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ» 5 ، و قولهم: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ» 6 ،و قوله تعالى: «أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ» 7 ،و في نحو هذا الكلام منهم إنّما ورد بالحجاج في جواز البعث بعد الموت في القرآن تأكيداً لجواز ذلك في العقول،و علّم نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم،و لقّنه الحجاج عليهم في إنكارهم البعث من وجهين على طائفتين:

منه طائفة أقرّت بالخلق الأوّل و أنكرت الثاني،و طائفة جحدت ذلك بقدم العالم فاحتج على المقر منها بالخلق الأوّل بقوله: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» 8 ،و بقوله: «وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» 9 و بقوله: «كَما

ص:100

بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» 1 ،فنبّههم بهذه الآيات على أنّ من قدر أن يفعل فعلاً على غير مثال سابق فهو أقدر أن يفعل فعلاً محدثاً،فهو أهون عليه فيما بينكم و تعارفكم،و أمّا الباري جلّ ثناؤه و تقدست أسماؤه فليس خَلْقُ شيء بأهون عليه من الآخر،و قد قيل:إنّ الهاء في«عليه»إنّما هي كناية للخلق بقدرته،إنّ البعث و الإعادة أهون على أحدكم و أخفّ عليه من ابتداء خلقه،لأنّ ابتداء خلقه إنّما يكون بالولادة و التربية و قطع السرة و القماط و خروج الأسنان، و غير ذلك من الآيات الموجعة المؤلمة،و إعادته إنّما تكون دفعة واحدة ليس فيها من ذلك شيء،فهي أهون عليه من ابتدائه،فهذا ما احتجّ به على الطائفة المقرة بالخلق.

و أمّا الطائفة التي أنكرت الخلق الأوّل و الثاني،و قالت بقدم العالم فإنّما دخلت عليهم شبهة بأن قالوا:وجدنا الحياة رطبة حارة،و الموت بارداً يابساً، و هو من طبع التراب،فكيف يجوز أن يجمع بين الحياة و التراب و العظام النخرة فيصير خلقاً سوياً،و الضدّان لا يجتمعان،فأنكروا البعث من هذه الجهة.

و لعمري إنّ الضدّين لا يجتمعان في محلّ واحد،و لا في جهة واحدة،و لا في الموجود في المحل،و لكنّه يصحّ وجودهما في محلّين على سبيل المجاورة،فاحتجّ اللّه تعالى عليهم بأن قال: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» 2 ،فردّهم اللّه عزّ و جلّ في ذلك إلى ما يعرفونه و يشاهدونه من خروج النار على حرها و يبسها من الشجر الأخضر على برده و رطوبته،فجعل جواز النشأة الأُولى دليلاً على جواز النشأة الآخرة،لأنّها دليل على جواز مجاورة الحياة التراب و العظام النخرة،فجعلها خلقاً سوياً و قال: «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ

ص:101

نُعِيدُهُ». 1

و أمّا ما يتكلّم به المتكلّمون من أنّ الحوادث أوّلاً (1)وردهم على الدهرية أنّه لا حركة إلاّ و قبلها حركة،و لا يوم إلاّ و قبله يوم،و الكلام على من قال:ما من جزء إلاّ و له نصف لا إلى غاية،فقد وجدنا أصل ذلك في سنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين قال:«لا عدوى و لا طيرة»فقال أعرابي:فما بال الإبل كأنّها الظباء تدخل في الإبل الجَربى فتجرب؟ فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:فمن أعدى الأوّل؟ فسكت الأعرابي لما أفحمه بالحجة المعقولة.

و كذلك نقول لمن زعم أنّه لا حركة إلاّ و قبلها حركة:لو كان الأمر هكذا لم تحدث منها واحدة،لأنّ ما لا نهاية له لا حدث له،و كذلك لما قال الرجل:يا نبيّ اللّه! إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود و عرض بنفيه،فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:هل لك من إبل؟ فقال:نعم! قال:فما ألوانها،قال:حمر،فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

هل فيها من أورق؟ قال:نعم! إنّ فيها أورق،قال:فأنى ذلك؟ قال:لعل عرقاً نزعه،فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:و لعلّ ولدك نزعه عرق.فهذا ما علّم اللّه نبيّه من ردّ الشيء إلى شكله و نظيره،و هو أصل لنا في سائر ما نحكم به من الشبيه و النظير.

و بذلك نحتج على من قال:إنّ اللّه تعالى و تقدّس يشبه المخلوقات،و هو جسم،بأن نقول له:لو كان يشبه شيئاً من الأشياء لكان لا يخلو من أن يكون يشبهه من كلّ جهاته،أو يشبهه من بعض جهاته،فإن كان يشبهه من كلّ جهاته وجب أن يكون محدثاً من كلّ جهاته،و إن كان يشبهه من بعض جهات وجب أن يكون محدثاً مثله من حيث أشبهه،لأنّ كلّ مشتبهين حكمهما واحد فيما اشتبها له،

ص:102


1- 2) .بياض في الأصل.

و يستحيل أن يكون المحدث قديماً و القديم محدثاً،و قد قال تعالى و تقدّس:

«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» 1 ،و قال تعالى و تقدّس: «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» 2.

و أمّا الأصل بأنّ للجسم نهاية و أنّ الجزء لا ينقسم فقوله عزّ و جلّ اسمه: «وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» 3 و محال إحصاء ما لا نهاية له،و محال أن يكون الشيء الواحد ينقسم (1)لأنّ هذا يوجب أن يكونا شيئين،و قد أخبر أنّ العدد وقع عليهما.و أمّا الأصل في أنّ المحدث للعالم يجب أن يتأتى له الفعل نحو قصده و اختياره و تنتفي عنه كراهيته،فقوله تعالى: «أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ» 5 ،فلم يستطيعوا أن يقولوا بحجّة أنّهم يخلقون مع تمنّيهم الولد،فلا يكون مع كراهيته له،فنبّههم أنّ الخالق هو من يتأتى منه المخلوقات على قصده.

و أمّا أصلنا في المناقضة على الخصم في النظر فمأخوذ من سنّة سيّدنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم،و ذلك تعليم اللّه عزّ و جلّ إيّاه حين لقي الحبر السمين،فقال له:نشدتك باللّه هل تجد فيما أنزل اللّه تعالى من التوراة أنّ اللّه تعالى يبغض الحبر السمين؟ فغضب الحبر حين عيّره بذلك،فقال:«ما أنزل اللّه على بشر من شيء»،فقال اللّه تعالى: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً» 6 فناقضه عن قرب،لأنّ التوراة شيء،و موسى بشر،و قد كان الحبر مقراً بأنّ اللّه تعالى أنزل التوراة على موسى.

ص:103


1- 4) .بياض في الأصل.

و كذلك ناقض الذين زعموا أنّ اللّه تعالى عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتّى يأتيهم بقربان تأكله النار،فقال تعالى: «قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 1 فناقضهم بذلك و حاجهم.

و أمّا أصلنا في استدراكنا مغالطة الخصوم فمأخوذ من قوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» -إلى قوله:- «لا يَسْمَعُونَ» 2 ،فإنّها لما نزلت هذه الآية بلغ ذلك عبد اللّه بن الزبعرى-و كان جدلاً خصماً-فقال:

خصمت محمداً و ربّ الكعبة،فجاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،فقال:يا محمد! أ لست تزعم أنّ عيسى و عزيراً و الملائكة عبدوا؟ فسكت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لا سكوت عيّ و لا منقطع،تعجباً من جهله،لأنّه ليس في الآية ما يوجب دخول عيسى و عزير و الملائكة فيها،لأنّه قال: «وَ ما تَعْبُدُونَ» و لم يقل و كلّ ما تعبدون من دون اللّه،و إنّما أراد ابن الزبعرى مغالطة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ليوهم قومه أنّه قد حاجّه،فأنزل اللّه عزّ و جلّ: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى» يعني من المعبودين «أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» 3 فقرأ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ذلك،فضجّوا عند ذلك لئلا يتبين انقطاعهم و غلطهم،فقالوا: «آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ» يعنون عيسى،فأنزل اللّه تعالى: «وَ لَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» إلى قوله: «خَصِمُونَ» 4 ،و كلّ ما ذكرناه من الآي أو لم نذكره أصل،و حجة لنا في الكلام

ص:104

فيما نذكره من تفصيل،و إن لم تكن مسألة معيّنة في الكتاب و السنّة،لأنّ ما حدث تعيينها من المسائل العقليات في أيّام النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الصحابة قد تكلّموا فيه على نحو ما ذكرناه.

و الجواب الثالث:إن هذه المسائل التي سألوا عنها قد علمها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و لم يجهل منها شيئاً مفصلاً،غير أنّها لم تحدث في أيّام معيّنة فيتكلّم فيها،أو لا يتكلّم فيها،و إن كانت أُصولها موجودة في القرآن و السنّة،و ما حدث من شيء فيما له تعلّق بالدين من جهة الشريعة فقد تكلّموا فيه و بحثوا عنه و ناظروا فيه و جادلوا و حاجّوا،كمسائل العول و الجدات من مسائل الفرائض، و غير ذلك من الأحكام،و كالحرام و البائن و البتة و حبلك على غاربك.

و كالمسائل في الحدود و الطلاق ممّا يكثر ذكرها،ممّا قد حدثت في أيّامهم، و لم يجئ في كلّ واحدة منها نصّ عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم،لأنّه لو نصّ على جميع ذلك ما اختلفوا فيها،و ما بقي الخلاف إلى الآن.

و هذه المسائل-و إن لم يكن في كلّ واحدة منها نصّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم - فإنّهم ردّوها و قاسوها على ما فيه نصّ من كتاب اللّه تعالى و السنّة و اجتهادهم،فهذه أحكام حوادث الفروع،ردّوها إلى أحكام الشريعة التي هي فروع لا تستدرك أحكامها إلاّ من جهة السمع و الرسل،فأمّا حوادث تحدث في الأُصول في تعيين مسائل فينبغي لكلّ عاقل مسلم أن يرد حكمها إلى جملة الأُصول المتّفق عليها بالعقل و الحس و البديهة و غير ذلك،لأنّ حكم مسائل الشرع التي طريقها السمع أن تكون مردودة إلى أُصول الشرع الذي طريقه السمع،و حكم مسائل العقليات و المحسوسات أن يرد كلّ شيء من ذلك إلى بابه،و لا يخلط العقليات بالسمعيات و لا السمعيات بالعقليات،فلو حدث في أيّام النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الكلام في خلق القرآن

ص:105

و في الجزء و الطفرة بهذه الألفاظ لتكلّم فيه و بيّنه،كما بيّن سائر ما حدث في أيّامه من تعيين المسائل،و تكلّم فيها.

ثمّ يقال:النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يصحّ عنه حديث في أنّ القرآن غير مخلوق أو هو مخلوق،فلم قلتم:إنّه غير مخلوق؟

فإن قالوا:قد قاله بعض الصحابة و بعض التابعين،قيل لهم:يلزم الصحابي و التابعي مثل ما يلزمكم من أن يكون مبتدعاً ضالاً إذ قال ما لم يقله الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

فإن قال قائل:فأنا أتوقّف في ذلك فلا أقول:مخلوق و لا غير مخلوق،قيل له:

فأنت في توقّفك في ذلك مبتدع ضالّ،لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يقل:إن حدثت هذه الحادثة بعدي توقّفوا فيها و لا تقولوا فيها شيئاً،و لا قال:ضلّلوا و كفّروا من قال بخلقه أو من قال بنفي خلقه.

و خبرونا،لو قال قائل:إنّ علم اللّه مخلوق،أ كنتم تتوقّفون فيه أم لا؟

فإن قالوا:لا،قيل لهم:لم يقل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و لا أصحابه في ذلك شيئاً،و كذلك لو قال قائل:هذا ربّكم شبعان أو ريان،أو مكتس أو عريان،أو مقرور أو صفراوي أو مرطوب،أو جسم أو عرض،أو يشم الريح أو لا يشمها،أو هل له أنف و قلب و كبد و طحال،و هل يحج في كلّ سنة،و هل يركب الخيل أو لا يركبها،و هل يغتمّ أم لا؟ و نحو ذلك من المسائل،لكان ينبغي أن تسكت عنه،لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يتكلّم في شيء من ذلك و لا أصحابه،أو كنت لا تسكت،فكنت تبيّن بكلامك أنّ شيئاً من ذلك لا يجوز على اللّه عز و جلّ، و تقدس كذا و كذا بحجّة كذا و كذا.

فإن قال قائل:أسكت عنه و لا أُجيبه بشيء،أو أهجره،أو أقوم عنه،أو لا

ص:106

أسلم عليه،أو لا أعوده إذا مرض،أو لا أشهد جنازته إذا مات.

قيل له:فيلزمك أن تكون في جميع هذه الصيغ التي ذكرتها مبتدعاً ضالاً،لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يقل:مَن سأل عن شيء من ذلك فاسكتوا عنه،و لا قال:

لا تسلموا عليه،و لا:قوموا عنه،و لا قال شيئاً من ذلك،فأنتم مبتدعة إذا فعلتم ذلك،و لم لم تسكتوا عمّن قال بخلق القرآن،و لم كفّرتموه،و لم يرد عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حديث صحيح في نفي خلقه،و تكفير من قال بخلقه.

فإن قالوا:إنّ أحمد بن حنبل،قال بنفي خلقه،و تكفير من قال بخلقه،قيل لهم:و لِمَ لم يسكت أحمد عن ذلك بل تكلّم فيه؟

فإن قالوا:لأنّ العباس العنبري و وكيعاً و عبد الرحمن بن مهدي و فلاناً و فلاناً قالوا إنّه غير مخلوق،و من قال بأنّه مخلوق فهو كافر.

قيل لهم:و لِمَ لم يسكت أولئك عمّا سكت عنه صلى الله عليه و آله و سلم ؟

فإن قالوا:لأنّ عمرو بن دينار و سفيان بن عيينة و جعفر بن محمد رضي اللّه عنهم و فلاناً و فلاناً قالوا:ليس بخالق و لا مخلوق.

قيل لهم:و لِمَ لم يسكت أُولئك عن هذه المقالة،و لم يقلها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ؟

فإن أحالوا ذلك على الصحابة أو جماعة منهم كان ذلك مكابرة.فإنّه يقال لهم:فلم لم يسكتوا عن ذلك،و لم يتكلّم فيه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.و لا قال:كفروا قائله،و إن قالوا:لا بدّ للعلماء من الكلام في الحادثة ليعلم الجاهل حكمها، قيل لهم:هذا الذي أردناه منكم،فلم منعتم الكلام،فأنتم إن شئتم تكلّمتم، حتّى إذا انقطعتم قلتم:نهينا عن الكلام؛و إن شئتم قلّدتم من كان قبلكم بلا حجّة و لا بيان،و هذه شهوة و تحكّم.

ص:107

ثمّ يقال لهم:فالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يتكلّم في النذور و الوصايا،و لا في العتق،و لا في حساب المناسخات،و لا صنف فيها كتاباً كما صنعه مالك و الثوري و الشافعي و أبو حنيفة،فيلزمكم أن يكونوا مبتدعة ضلالاً إذ فعلوا ما لم يفعله النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و قالوا ما لم يقله نصاً بعينه،و صنّفوا ما لم يصنّفه النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و قالوا بتكفير القائلين بخلق القرآن و لم يقله النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.و فيما ذكرنا كفاية لكلّ عاقل غير معاند.

نجز و الحمد للّه،و صلّى اللّه على سيّدنا محمد و آله و صحبه و سلم.

ص:108

8

اشارة

بدايات الخلاف في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و بعد رحيله

ذكر أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (479- 548ه) بدايات الخلاف بين المسلمين في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و بعده،و لكنّها بدايات خلاف و ليست بدايات خلاف في مسائل كلاميّة،و كان عليه عقد فصل لبدايات الخلاف و فصل آخر لبدايات الخلاف في المسائل الكلاميّة.و ها نحن نذكر كلتا البدايات في مقامين:

المقام الأوّل:في بدايات الخلاف في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

إنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم-بما أنّه لا ينطق عن الهوى و أنّ ما يقوله و يفعله إنّما هو وحي يُوحى إليه-كان سدّاً منيعاً لنشوء الخلاف،و لو حصل هناك خلاف بين الصحابة فإنّما هو خلاف سطحي،يرتفع غالباً بإرشاداته و توجيهاته، و نحن نذكر نموذجين من ذلك:

1.قسّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أموال بيت المال بين المسلمين في غزوة الطائف،

ص:109

و وزّع الخمس (الذي هو حقّه الخاص به) بين أشراف قريش الحديثي عهد بالإسلام بُغية تأليف قلوبهم،فأعطى من هذا المال لأبي سفيان بن حرب، و ابنه معاوية،و حكيم بن حزام،و الحارث بن الحارث،و الحارث بن هشام، و سهيل بن عمرو،و حويطب بن عبد العزّى،و العلاء بن جارية،و صفوان بن أُمية،و غيرهم ممّن كانوا يعادونه إلى الأمس القريب،فأعطى لكلّ واحد منهم مائة بعير. (1)

لقد شق هذا الأُسلوب في تقسيم الغنائم على الأنصار لجهلهم بالمصالح الّتي كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يراعيها و يتبنّاها في هذا التقسيم و كانوا يتصوّرون انّ التعصب القَبَلي هو الذي دفع بالرسول إلى تقسيم خمس الغنيمة بين أبناء قبيلته،فجاء ذو الخويصرة التميمي فقال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكل وقاحة:يا محمّد قد رأيتُ ما صنعتَ في هذا اليوم لم أرك عدلتَ،فغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من كلامه،فقال:ويحك إذا لم يكُن العدلُ عندي فعند من يكون؟ فطلب عمر بن الخطاب من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يأذن له بقتله،فلم يأذن له،ثمّ أخبر صلى الله عليه و آله و سلم عن مصيره السيِّئ،و قال:

دعه فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتّى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية. (2)

2.رفع سعد بن عبادة شكوى الأنصار حول كيفية تقسيم الخمس،فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم:اجْمع مَنْ كان هاهنا من الأنصار،فتكلّم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد حمد اللّه و ثنائه و قال:

«يا معشر الأنصار ما مَقالةٌ بلغتني عنكم وجدَةٌ وجدتموها في أنفسكم؟ أ لم

ص:110


1- 1) .السيرة النبوية:443/3؛ [1]إمتاع الأسماع:423. [2]
2- 2) .السيرة النبوية:496/2؛ [3]السيرة الحلبية:123/3. [4]

آتكم ضُلاّلاً فهداكم اللّه،و عالة فأغناكم اللّه،و أعداءً فألّف اللّه بين قُلوبكم»؟!

قالوا:بلى،اللّه و رسوله أمَنُّ و أفضلُ!

قال:

«أ لا تجيبوني يا معشر الأنصار»؟

قالوا:و ما ذا نجيبك يا رسول اللّه؟ لرسول اللّه المَنُّ و الفضل.

قال:

«أما و اللّه لو شِئْتُمْ قُلْتُمْ فَصدَقْتُم،أتيتَنا مكذَّباً فصدّقناك،و مخذولاً فنصرناكَ، و طريداً فآويناك،و عائلاً فآسيناك!وَجدتُم في أنفسِكُم يا معشرَ الأنصار في شيء من الدُّنيا،تألّفتُ به قوماً ليسلمُوا و وكَلتُكُمْ إلى إسلامكم،أ فلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة و البعير،و ترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم؟

و الذي نفسُ محمّد بيده لو لا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار،و لو سلك الناس شِعْباً و سلكتِ الأنصار شِعْباً لسلكتُ شِعْب الأنصار».

ثمّ ترحّم على الأنصار و على أبنائهم و على أبناء أبنائهم فقال:

«اللّهمّ ارحم الأنصار و أبناء الأنصار و أبناء أبناء الأنصار».

و قد كانت كلمات النبي صلى الله عليه و آله و سلم هذه من القوة و العاطفة بحيث أثارت مشاعر الأنصار،فبكوا بعد سماعها بكاء شديداً حتّى اخضلّت لحاهُمْ بالدُّموع و قالوا:رَضينا يا رسول اللّه حظّاً و قسماً!!!

ثمّ انصرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و تفرّقوا. (1)

ص:111


1- 1) .السيرة النبوية:498/2 و 499؛ [1]المغازي:957/3 و 958. [2]

نعم قد وقع في عصر الرسول خلاف بينه و بين بعض أصحابه لم يحسم في حياته بل بقي الخلاف إلى أن قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،و إليك شيئاً من هذا القسم.

1.تجهيز جيش أُسامة

كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مهتماً بالرّوم و يرى أنّهم يشكّلون خطراً كبيراً على الدولة الفتيّة الإسلامية،و لأجل ذلك سار في العام التاسع من هجرته إلى تبوك مع ثلاثين ألفاً من أصحابه،و جاء فلم ير هناك أثراً للعدوّ و عقد مواثيق مع رؤساء القبائل في المنطقة و رجع إلى المدينة و جهّز في أُخريات عمره،و قبل أن يطرأ عليه المرض جيشاً أمر عليه أُسامة بن زيد الذي كان أبوه أيضاً أميراً على الجيش،و غزا في أرض مؤتة و كان الناس على استعداد للنفر و قد اجتمع كثير منهم في معسكر«جُرَف».

عقد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم اللواء لأُسامة،ثمّ مرض بشدة و أصابه صداع شديد ألزمه الفراش و استمرّ المرض عدّة أيّام حتّى قضى عليه صلى الله عليه و آله و سلم،و عند ما شاهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو طريح الفراش استثقال صحابته في النفر و الحركة إلى تبوك، خرج من البيت و قال:جهّزوا جيش أُسامة،لعن اللّه من تخلّف عنه،فقال قوم:يجب علينا امتثال أمره،و أُسامة قد برز من المدينة.

و قال قوم:قد اشتدّ مرض النبي فلا تسع قلوبنا مفارقته،و الحالة هذه،نَصْبر حتى نُبْصِر أيّ شيء يكون من أمره.

و على كلّ تقدير لم يتحقّق أحد آمال النبي في أيّام حياته،بسبب فقدان الانضباط بين الصحابة و الذي أبداه فريق من شيوخ القوم و أعيان الجيش.

ص:112

2.الأمر بإحضار القلم و الدواة
اشارة

لمّا اشتدّ مرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و حضر عنده أعيان صحابته،أمر بإحضار القلم و الدواة و القرطاس ليكتب لهم شيئاً حتّى لا يضلّوا بعده،و قد ذكر ذلك مسلم في صحيحه كما ذكره البخاري في صحيحه في عدّة مواطن،و نحن نذكر ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عبيد اللّه بن عبد اللّه عن ابن عباس، قال:

لمّا حُضِرَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:هلمّ،أكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعده،فقال عمر:إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد غلب عليه الوجع و عندكم القرآن،حسبنا كتاب اللّه،فاختلف أهل البيت فاختصموا...فلمّا أكثروا اللغو و الاختلاف عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:قوموا عنّي و لا ينبغي عندي التنازع.

و كان ابن عباس يقول:إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و بين أن يُكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم و لغطهم. (1)

الخلافات بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم

كان وجود الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم بين المسلمين،يمثّل-غالباً-سدّاً منيعاً أمام نشوب الخلاف و الشقاق بينهم،و بعد رحيله صلى الله عليه و آله و سلم بدأ النزاع بينهم في المسائل الفقهية و العقائدية...و أخذ يتّسع شيئاً فشيئاً إلى أن بلغ درجة،تفرّقوا معها إلى فرق و مذاهب مختلفة.

و الخلافات بعد رحيله تنقسم إلى قسمين:

ص:113


1- 1) .صحيح مسلم:76/5،باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه من كتاب الوصية.

1.الخلافات الفرعية كالخلاف في موضع دفنه،فقد اتّفقوا بعد الخلاف على دفنه في بيته لما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:«الأنبياء يُدفنون حيث يَموتون».و نظيره الخلاف في أمر فدك و أنّ النبي يورث أو لا،فادّعى أبو بكر أنّه سمع النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول:نحن معاشر الأنبياء لا نورّث،و خالفه علي عليه السلام و بنت النبي صلى الله عليه و آله و سلم و جميع أهل البيت عليهم السلام في أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم يُورِّث كما يُورث الآخرون،و أنّ ما رواه أبو بكر خبر واحد مخالف للقرآن الكريم حيث ورث أبناء الأنبياء آباءَهم.

و لو كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم كسائر الأنبياء لا يُورِّث،كان عليه أن يبيّن ذلك لأولاده حتّى لا يدّعوا بعده ما ليس لهم،كما عمل بذلك في باب الزكاة و قال:إنّ الصدقة حرام على آل النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

2.الخلافات الأُصولية أهمّها مسألة الإمامة بعد رحيل الرسول،و قد عدّ الشهرستاني ذلك الخلاف أعظم خلاف بين الأُمّة و قال:«ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان».

إنّ الخلافة في العقيدة الشيعية منصب إلهي كالنبوة يعطى لأفضل أفراد الأُمّة و أصلحهم و أعلمهم،و الفرق الواضح بين الإمام و النبي،هو أنّ النبي مؤسس الشريعة،و يوحى إليه،و يتلقّى الكتاب من لدن اللّه تعالى،و الإمام و إن كان لا يتمتع بواحد من هذه الشئون،إلاّ أنّه يقوم بوظائف النبيّ كلّها-عدا ما استثنى-كنشر الإسلام،و تفسير الكتاب،و تبيين الأحكام،و قيادة المسلمين، و....

نعم الإمامة عند أهل السنّة مسألة فرعية من مسائل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و على كلّ تقدير فإنّ هذا الخلاف هو الأساس لعامة الخلافات،و لو كانت الصحابة عملت بوصية النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أهل بيته حيث قال في غير موضع:

«إنّي

ص:114

تارك فيكم الثقلين:كتاب اللّه و عترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا...» لذابت سائر الخلافات بين المسلمين،و ذلك لأنّ أهل البيت(كما في حديث الثقلين)،هم المرجع العلمي للأُمّة،و الخلافات تُردّ إليهم،فيكون رأيهم و قضاؤهم هو الرأي الحاسم و القاطع و لكن القوم-عفا اللّه عنّا و عنهم-أقصوا أئمّة أهل البيت و طمعوا في الخلافة و رغبوا عن الإمامة،فلو كانوا مقدّمين مَن قدّم اللّه و مؤخّرين مَن أخّر اللّه،لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم،و كان المسلمون يداً واحدة دون أية فرقة و شقاق.

هذا و قد تفاقم الأمر بعد رحيل الرسول في مسائل كثيرة،لعدول الأكثر عن الخط الذي رسمه لهم الرسول،و هو التمسّك بأئمّة أهل البيت بعد رحيله فيما يرجع إلى دينهم و دنياهم،و نودّ أن نشير إلى هذه الأُمور بإيجاز:

1.تولّى أبو بكر الخلافة قرابة ثلاث سنين و أوصى بها بعد وفاته إلى عمر بن الخطاب خلافاً للأصل الذي كانوا يتبنّونه في السقيفة من اختيار الخليفة عبر البيعة،فلمّا ولاّه الخلافة واجه رفض بعض الأصحاب و اعتراضهم،و قالوا له:

قد ولّيتَ علينا فظّاً غليظاً.

2.تسنّمَ عثمان عرش الخلافة بشورى سداسية،عيّن أعضاءَها عمرُ بن الخطاب،الذي تناسى الأصل في تعيين الخليفة من حديث البيعة و لما استتبّ لعثمان الأمر ارتكب أُموراً كثيرة نقموا بها عليه:

منها:ردّه الحكم بن أُميّة إلى المدينة بعد أن طرده رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم (و كان يسمّى طريد رسول اللّه) و بعد أن تشفّع إلى أبي بكر و عمر أيام خلافتهما فما أجابا إلى ذلك،و نفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخاً.

و منها:نفيه أبا ذر إلى الربذة.

و منها:تزويجه مروان بن الحكم بنته و إعطاؤه خمس غنائم إفريقية و قد بلغ

ص:115

مائتي ألف دينار.

و منها:إيواؤه عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح (و كان رضيعه)بعد أن هدر النبي صلى الله عليه و آله و سلم دمه و توليته إياه مصر بأعمالها.

و لما عاد الحقّ إلى نصابه و أخذ الإمام علي عليه السلام زمام الخلافة نكثت طائفة كالزبير و طلحة،و قسطت طائفة أُخرى كمعاوية و أتباعه،و مرقت طائفة ثالثة و هم الخوارج،و الحديث ذو شجون،و التاريخ متكفّل لبيانها.

ص:116

المقام الثاني:بدايات المسائل الكلامية

اشارة

إنّ ما ذكر كان إلماماً عابراً بالخلافات التي سبّبت شقاق المسلمين و اختلافهم،و حان الكلام في المقام الثاني و هو المسائل الكلامية الّتي أوجدت الفرق الكلامية،و إليك جذور هذه المسائل.

1.الإمامة تنصيصية أو انتخابية؟

إنّ الاختلاف في الإمامة الذي نشب في السقيفة و حتى بعد زمن،كان اختلافاً سياسياً لا كلامياً،و لم يكن مبنيّاً على قاعدة دينية و جدال كلامي، يظهر ذلك من المحادثات التي جرت في السقيفة و بعدها،و كان الأنصار يرون أنفسهم أولى بإدارة الأُمور لأنّهم آووا النبي و نصروه،و كان المهاجرون يرون أنفسهم أولى بها لأنّهم أصل النبي و عشيرته،إلى أن غلب منطقُ المهاجرين منطقَ الأنصار،فخرج أبو بكر من السقيفة ظافراً بعد ما بايعته قبيلة الأوس و خمسة أشخاص من المهاجرين.

و أمّا في أواسط القرن الأوّل،فقد أصبحت مسألة الإمامة مسألة كلامية،و أنّ الإمامة منصب تنصيصي أو منصب انتخابي.

ص:117

2.مسألة التحكيم

لما قَبِل عليّ عليه السلام التحكيم تحت ضغط طائفة من أصحابه (الذين أصبحوا فيما بعدُ من الخوارج)ندم الذين فرضوا التحكيم على عليّ،و قالوا:إنّ تحكيم الرجال على خلاف القرآن الكريم لقوله سبحانه: «إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ...». 1

و الفارق بين خلاف الناكثين و القاسطين و بين خلاف المارقين هو أنّ خلاف الطائفتين الأُوليين لم يكن قائماً على أساس ديني أو قاعدة دينية،بخلاف الخوارج فإنّ اختلافهم كان مبدئياً حيث كانوا يردّدون كلمة«لا حكم إلاّ للّه» و كان علي عليه السلام و ابن عباس يحتجّان عليهم بالقرآن و السنّة.

3.حكم مرتكب الكبيرة

لمّا ظهر التطرف في خلافة عثمان و دبّ الفساد في أجهزة الحكم و أنصارهم نجمت مسألة كلامية،تدور حول حكم مرتكب الكبيرة،و قد استفحل أمرها فيما بعد أيّام محاربة الخوارج للأمويين الذين كانوا معروفين بالفسق و الفجور،و سفك الدماء و غصب الأموال،فكان الخوارج يحاربونهم بحجّة أنّهم كفرة لا حرمة لدمائهم و لا لأعراضهم لاقترافهم الكبائر.

فاختلفوا إلى أقوال:

أ.مرتكب الكبيرة كافر.

ب.مرتكب الكبيرة فاسق منافق.

ص:118

ج.مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق.

د.مرتكب الكبيرة لا مؤمن و لا فاسق بل منزلة بين المنزلتين.

فالأوّل خيرة الخوارج،و الثاني مختار الحسن البصري،و الثالث مختار الإمامية و أهل الحديث و تبعهم الأشاعرة،و الرابع نظرية المعتزلة.

4.تحديد مفهوم الإيمان

و قد انبثق من النزاع السابق نزاع آخر يتعلّق بتحديد مفهوم الإيمان،و هل أنّ العمل داخل في حقيقة الإيمان أو لا؟

فالخوارج و المعتزلة على الأوّل،فمن لا عمل له فلا إيمان له.

و الشيعة و من وافقهم على الثاني،و أنّ العمل و إن كان من أركان الإيمان إلاّ أنّ الإيمان يزيد و ينقص،فالعمل شرط النجاة لا شرط تحقّق الإيمان.

5.الإرجاء و المرجئة

كان الخوارج يشنُّون الغارة على كلّ من ارتكب معصية كبيرة-و لو مرّة واحدة-و يرونه كافراً فاقداً للإيمان،فكان لتلك الفكرة ردُّ فعل سيّئ و هو إيلاء الاهتمام بالإيمان القلبي و إقصاء العمل،فظهرت طائفة اشتهرت بالمرجئة و كانوا يهدفون إلى تقديم الإيمان و تأخير العمل،و يقولون«لا يضرّ مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة».

و هذه الفكرة مع سذاجتها يوم نشوئها تحوّلت إلى الإباحية،و فتحت أبواب المعاصي أمام المسلمين بلا اكتراث.

ص:119

6.القضاء و القدر

قد ثبت في محلّه أنّ اليهود كانوا يولون اهتماماً واسعاً بالتقدير،و قد رسخت الفكرة في الأوساط العربية في عصر الجاهليّة حتّى أن عمر بن الخطاب نسب انهزام المسلمين في يوم حنين إلى تقدير اللّه سبحانه. (1)مع أنّ القرآن يشهد على خذلان الصحابة للنبي،و تولّيهم في ميدان الحرب.

قد كان (2)ت فكرة القدر راسخة في أذهان الصحابة،القدر الذي كان يُفسّر بسلب الاختيار عن الإنسان و تفويض مصير الإنسان إلى عالم التقدير فكأنّ الإنسان ريشة في مهبِّ الريح العاصف،روى عبد اللّه بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر فقال:أ رأيت الزنا بقدر؟ قال:نعم.قال:اللّه قدّره عليّ ثمّ يعذّبني؟! قال:نعم،يا ابن اللخناء،أما و اللّه لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ (3)أنفك.

لا شكّ أنّ القضاء و القدر من المعارف القرآنية التي لا يمكن لأحد إنكارها و لا تأويلها غير أنّ الكلام في موضعين:

1.هل القضاء و القدر يسلبان الاختيار عن الإنسان في الأعمال التي يُجازى بها الإنسان و يثاب عليها؟

2.هل يحقّ للحكّام تبرير أعمالهم الجنائية بالقضاء و القدر،مثلما كان الأمويون يفعلون ذلك؟

يقول أبو هلال العسكري:إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ اللّه يريد أفعال العباد كلّها. (4)

ص:120


1- 1) .الواقدي،المغازي:904/3.
2- 2) .التوبة:25.
3- 3) .السيوطي،تاريخ الخلفاء:95. [1]
4- 4) .الأوائل:135/2. [2]
7.مسألة التشبيه و التنزيه

قد تقدّم أنّ التوراة ملئت بالمتشابهات مثل الصورة و المشابهة و التكليم جهراً،و النزول على طور سيناء انتقالاً،و الاستواء على العرش استقراراً، و جواز الرؤية،و غير ذلك.

فصار التشبيه و التجسيم شعاراً لليهود أو لصنوف منهم،و يكفيك أنّ التوراة تصف اللّه بصورة إنسان و له صورة،و تقول:خلق اللّه آدم على صورته و تقول:فرغ اللّه في اليوم السادس من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع،و أنّه يمشي بين رياض الجنّة و له نداء،إلى غير ذلك ممّا ورد في العهد القديم من التشبيه و التجسيم و التمثيل. (1)

و قد دسّ الأحبار كثيراً من البدع بين الأحاديث لاعتماد الرواة على أُناس؛ نظراء:كعب الأحبار،و وهب بن منبه،و تميم الداري،و غيرهم؛و أصبحت مسألة التشبيه و الصفات الخبرية ذات أهمية بين المسلمين،و قد أخذت طريقها إلى الصحاح و المسانيد و كتب التفسير.

8.النسخ في الشريعة

قد سبق (2)أنّ اليهود تبنّت امتناع النسخ في الشريعة،فقالوا:لا يكون بعد شريعة موسى أيّة شريعة،لأنّ النسخ بداء،و البداء لا يجوز على اللّه،و بذلك صارت مسألة النسخ مسألة كلامية.

ص:121


1- 1) .التوراة،سفر التكوين:نشأة العالم و البشرية،ص 70،ط دار المشرق،بيروت.
2- 2) .راجع ص 91. [1]
9.عصمة الأنبياء

إنّ أبرز ما يفترق فيه القرآن عن العهدين هو مسألة صيانة رجال الوحي و الهداية عن الذنب و العصيان،خلافاً للتوراة و بعض ما ورد في الإنجيل،فقد جاء فيهما أساطير خيالية تمس كرامة اللّه أوّلاً،ثمّ كرامة الأنبياء ثانياً،فالأنبياء يشربون الخمر و يمكرون و يقترفون الزنا!!

10.حدوث القرآن و قدمه

إنّ مسألة حدوث القرآن و قدمه أو خلق القرآن و عدم خلقه طرحت في أيام المأمون و شقّت عصا المسلمين و وحدتهم النسبية إلى طرفين،و كانت يد يوحنا الدمشقي تلعب بهذا الأمر من وراء الستار،و كان يحاول أن يثبت قدم عيسى-بما أنّه كلمة اللّه-بالقول بقدم القرآن.

11.التحسين و التقبيح العقليان

شغلت قاعدة التحسين و التقبيح العقليين بال الكثيرين من أقدم العصور إلى يومنا هذا،إذ قلّما يتّفق لباحث أن يخوض في الكلام و الأخلاق دون أن يشير إليها.

و قد صارت القاعدة أساساً لعدّة مسائل كلامية،نأتي برءوسها:

1.وجوب معرفة اللّه عقلاً.

2.وصفه بالعدل و الحكمة.

3.لزوم اللطف على اللّه.

ص:122

4.بعثة الأنبياء.

5.حسن التكليف.

6.لزوم تزويد الأنبياء بالبيّنات و المعاجز.

7.لزوم النظر في برهان مدّعي النبوة.

8.العلم بصدق دعوى الأنبياء.

9. الخاتمية و استمرار أحكام الإسلام.

10.اللّه عادل لا يجور.

11.ثبات الأخلاق و القيم.

هذه بدايات علم الكلام في القرنين الأوّلين،و توالى البحث حول مسائل أُخرى إلى أن أصبح علماً متكامل الجوانب يواكب علم الفلسفة في بحوثه الثلاثة:

1.الأُمور العامة.

2.الطبيعيات و الفلكيات.

3.الإلهيات بالمعنى الأخصّ.

لا شكّ أنّ أكثر ما احتفلت به الكتب الكلامية في حقل الطبيعيات و الكلّيات و ما يرجع إلى الجوهر و العرض كان اقتباساً ممّا نقله المترجمون عن الإغريقيين و غيرهم من الهنود و الفرس،و أمّا ما يرجع إلى الإلهيات فللإسلاميين فيها دور فعال لا ينكر،خصوصاً الفلاسفة منهم،فقد أسّسوا قواعد،و كشفوا أُصولاً فلسفية لم يسبقهم إليها أحد.

هذا و قد نقل سيّد مشايخنا العلاّمة الطباطبائي في مقال له أُلقي في الذكرى المئوية لميلاد صدر المتألهين:«إنّ المسائل الفلسفية الموروثة عن اليونانيين و غيرهم

ص:123

لم تكن تتجاوز مائتي مسألة،و قد تكاملت بأيدي فلاسفة الإسلام و متكلّميهم إلى أن بلغت سبعمائة مسألة»،لكنّه قدس سره لم يشر إلى عناوين المسائل المنقولة،و المسائل المؤسَّسة،و يا ليته كان يشير إلى عناوين هذه المسائل ليريح الآخرين من القيام بالعبء الثقيل في طريق تمييز هذين النوعين من المسائل.

قال الدكتور شبلي شميل:إنّ الفلسفة الإلهية بلغت بين المسلمين شأواً و لكن البيئات النصرانية لم تستطع أن تحتفظ بها،و صارت الفلسفة بعد الانتشار بينهم محكومة بالفناء و الاندثار،حتّى قام رجال الكنائس يكافحونها بكلّ قوة غير ما يرجع إلى لاهوتية المسيح. (1)

لو كانت تلك الفلسفة الإسلامية (المشيّدة القواعد و المحرّرة المسائل) منتشرة بين أبناء الغرب لما ظهر بينهم ما ظهر من المسالك المتناقضة و المذاهب المتبدّدة التي يقضي الوجدان السليم ببطلانها.

و لو كانت الفلسفة الإسلامية دارجة يرجع إليها المادي في شبهاته و شكوكه و الإلهي في تقويم عقائده و تحكيم مبانيه،لما ظهر سلطان المادي في البيئات العلمية.

و لو كانت الفلسفة الإسلامية سائدة على المفكّرين من الغربيين لما تسنّى للسوفسطائي أن يبث تلك الدعاوي الفارغة و الأساطير المكذوبة حينما قضى الدهر على أسلافهم بالفناء و الهلاك،فجاء أخلافهم بعد لأي من الدهر يقتفون آثار آبائهم و أجدادهم البالية.

ص:124


1- 1) .النشوء و الارتقاء،الجزء الثامن حول القرآن و العمران.

9

اشارة

العوامل المؤثرة في نشوء المدارس الكلاميّة

من أبرز العوامل التي أدّت إلى نشوء المدارس الكلامية،هو الاختلاف في الأُصول،الذي انتهى إلى تأسيس مسالك مختلفة مع اتفاق الكلّ على أنّ الغاية من تأسيس علم الكلام هي الذبّ عن الإسلام،أُصوله و فروعه.

و تتلخص الأُصول التي أوجد الاختلافُ فيها فجوة كبيرة بين الآراء و الأفكار، في أُمور أهمّها:

1.الصفات الذاتية

لا شكّ أنّه سبحانه موصوف بالعلم و القدرة و الحياة و غيرها من الصفات الجمالية،و السؤال:هل هذه الصفات هي غير الذات مفهوماً و عينها ذاتاً و مصداقاً،أو هي غير الذات مطلقاً،مفهوماً و مصداقاً؟ فالعدلية على الأوّل، و الأشاعرة على الثاني.

ثمّ إنّ القائلين بالوحدة على طائفتين:

ص:125

الأُولى:انّ الصفات الجمالية متحقّقة في الذات،لكن لا تغاير بين الموصوف و الوصف وجوداً،و إن كان بينهما تغاير مفهوماً،فالذات كلّها علم،و كلّها قدرة،و كلّها حياة و هكذا،و لا مانع من أن يكون قسم من الصفات-كالعلم - أمراً قائماً بالغير كما في الممكنات،و قسم منه أمراً قائماً بالذات كما في الواجب عزّ اسمه،و هذا مذهب الإمامية.

الثانية:انّ الذات نائب مناب الصفات،فالذات ببساطتها،تقوم بكلّ ما تقوم به الأوصاف،فكما أنّ الذات الموصوفة بالعلم و القدرة،و الحياة يصدر منها الفعل بالعلم و الإتقان،و هكذا ذاته سبحانه،النائبة مناب الصفات،يكون فاعلاً عالماً و متقناً لفعله،و هذا هو القول بالنيابة،و به قال بعض المعتزلة.

يقول الحكيم السبزواري: و الأشعري بازدياد قائله و قال بالنيابة المعتزلة (1)

2.الصفات الخبرية

و المراد،ما وصف به سبحانه نفسه في القرآن و الحديث فأثبتا له اليد و الاستواء و العين و غيرها،فقد أوجد تفسير هذه الصفات اختلافاً عظيماً بين المتكلّمين؛فالأشاعرة على حملها بمعانيها اللغوية على اللّه سبحانه غاية الأمر«يقولون الكيف مجهول»و قد عُرِفُوا بالمثبِتة،أي مثبتة الصفات؛ و المعتزلة على تأويل اليد بالقدرة،و الاستواء على الاستيلاء و قد عرفوا بنفاة الصفات أو بالمؤوّلة.

و أمّا الإمامية فقد ذهبوا إلى أنّ المتبع هو الظهور التصديقي،لا التصوّري،

ص:126


1- 1) .شرح المنظومة للسبزواري:156.

و إن شئت قلت:المتبع هو الظهور الجُمْلي لا الإفراديّ،و اليد و الاستواء و العين و إن دلّت بظهورها التصوريّ أو الإفرادي على التشبيه و التجسيم لكنّه ليس بمتَّبع،بل المتَّبع هو الظهور التصديقي،و هو المعاني التي كنّي عنها بهذه الألفاظ،و كلام العرب مشحون بالكنايات،و التفصيل في محله.

3.الصفات الفعلية

ما يصدر عنه سبحانه من الخلق و الرزق،و الرحمة و العذاب صفات فعلية، فوقع الكلام فيما يجوز عليه تعالى و ما لا يجوز،فالمعتزلة و الإمامية على تحديد فعله سبحانه من خلال الإمعان في بعض صفاته ككونه حكيماً عادلاً، بالعدل و الحكمة،فقالوا:يمتنع عليه سبحانه،التكليف بما لا يطاق،أو تعذيب المطيع،بخلاف الأشاعرة حيث إنّه سبحانه عندهم فوق أن يقع في إطار التحديد،حتّى يوصفَ بعضُ أفعاله بالوجوب و الآخرُ بالامتناع، فيجوّزون التكليف بالمحال،و تعذيب المطيع.

4.العدل

اتّفق المتكلّمون على وصفه سبحانه بالعدل،إنّما اختلفوا في تفسيره، فالأشاعرة على أنّ الدليل على وصفه سبحانه به،هو السمع،و على ذلك فكلّ ما صدر منه سبحانه فهو عدل،سواء أ كان عدلاً،عند العقل أم لا،خلافاً للإمامية و المعتزلة فانّ الدليل على وصفه بالعدل هو العقل،و لو دلّ السمع على أنّه عادل فهو مؤيّد له،و العقل بنفسه يميّز مصداق العدل عن خلافه؛ و على ضوء ذلك،يستحيل صدور ما يعد ظلماً في منطق الفعل،فتكليف العاجز و تعذيب الطفل

ص:127

الصغير،خلاف العدل،و نفس الظلم عند العدلية.

إنّ الاختلاف في تفسير العدل ينشأ من الاختلاف في المسألة التالية،و كأنّها هي المصدر الوحيد،لنشوء أكثر المدارس الكلامية.

5.التحسين و التقبيح العقليان

إنّ القائلين بذاتيّة التحسين و التقبيح،يفسرونها بالقول:إنّ الفعل الصادر من الفاعل المختار،سواء أ كان واجباً أم ممكناً،إذا نظر إليه العقل و تجرّد عن كلّ شيء يستقل إمّا بحسنه و انّه يجب أن يفعل،أو بقبحه و انّه يجب أن يترك، بغضّ النظر عمّا يترتّب عليه من المصالح و المفاسد،أو بغضّ النظر عن موافقته لغرض الفاعل أو مخالفته،فانّ كلّ هذه الضمائم ممّا لا حاجة إليها في قضاء العقل بالحسن و القبح،فكأنّ نفس الفعل علّة تامة-عند اللحاظ-لحكم العقل بالحسن أو القبح.

فإذا كان الشيء بذاته حسناً فهو حسن عند الكلّ يجب أن يفعل،و إذا كان الشيء قبيحاً فهو قبيح عند الكلّ يجب أن يترك،و بهذا يتميز ما يجب للّه تعالى،عمّا لا يجوز عليه و يترتّب على ذلك:

1.قبح التكليف بغير المقدور،و بالتالي امتناعه.

2.قبح تعذيب البريء و بالتالي امتناعه.

3.قبح تزويد المتنبّئ الكاذب بالمعجزة و بالتالي امتناعه.

4.قبح تضليل العباد و بالتالي امتناعه.

5.حسن العمل بالوعد،و بالتالي لزومه و وجوبه.

ص:128

6.حسن العصمة في الأنبياء،و بالتالي لزومه و وجوبه.

7.حسن انتخاب الأصلح،و بالتالي لزومه و وجوبه.

إلى غير ذلك من الآثار المترتبة على التحسين و التقبيح العقليّين،على خلاف القول بعجز العقل عن إدراك ما هو الحسن و القبيح،فالقائل به لا يعترف بواحد من هذه الآثار و بذلك تتسع الفجوة بين القائلين،و تحدث مسالك و مدارس كلامية.

6.القضاء و القدر

إنّ القضاء و القدر من المعارف العليا و قد تضافرت الآيات و الروايات على وقوع كلّ ما في الكون في إطار التقدير و القضاء و اعترف به العدلية من المتكلّمين غير أنّ الكلام في تفسيرهما،فالأشاعرة يعطون للقدر سيادة على نحو يسلب الاختيار عن الإنسان،و يجعله كالريشة في مهب الريح اغتراراً ببعض الروايات المستوردة،فالقدر عندهم إله ثان و الذي له السيطرة على الكون و الإنسان،و ليس للإنسان محيص إلاّ عن سلوك ما قُدّر،و تطبيق العمل على ما قُضي سواء أ كان حُلواً أم مُرّاً؛غير أنّ العدلية،مع الاعتراف بعمومية القدر و القضاء لأفعال الإنسان،يفسرونهما على نحو لا يسلب المسئولية عن الإنسان،و ذلك ببيان أنّ المقدر ليس صدور الفعل من الإنسان بأي نحو شاء،بل المقدّر،صدوره منه عن إرادة و اختيار،عن رؤية و تفكير.

هذه هي الأُصول المكونة للمدارس الكلامية المختلفة عبر العصور،و قد اقتصرنا على الرئيسية منها:

و هناك عوامل أُخرى غير رئيسية،انتهت إلى ظهور آراء في المسائل العقائدية،يرجع لبُّها إمّا إلى اعوجاج في الفكر و تفسير الآيات و الروايات على غير

ص:129

وجهها؛أو تبنّي المدّعى أوّلاً،ثمّ طلب الدليل ثانياً.

فنحن نشير إلى أُمّهات المدارس الكلامية حسب تاريخ تكوينها،و نترك الفروع المشتقة من كلّ مدرسة،و من أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا«بحوث في الملل و النحل».

ص:130

10المدارس الكلاميّة المهمّة

اشارة

نخصّ هذا الفصل بدراسة المدارس الكلامية بمناهجها المختلفة و هي كثيرة،و لكلّ منهج،أُصول و كتب،و بُناة و دعاة،و لا يمكننا بسط الكلام فيها، فانّه يحوجنا إلى تأليف كتاب خاص في ذلك،و قد قمنا به في موسوعتنا المنتشرة باسم«بحوث في الملل و النحل».

و إنّما الغاية في المقام،الإلماع إلى مؤسسي المدارس و أُصولها و أعلامها على وجه موجز.

ص:131

1

المحكِّمة

و يعبّر عنهم بالخوارج،و قد انقرضوا و لم يبق منهم إلاّ فرقة معتدلة و هي الإباضية.

إنّ حركة الخوارج-يوم ظهرت-كانت حركة سياسية و لم يكن لها جذور كلامية خلافاً لسائر الفرق.و الأُصول التي كانوا يتبنونها،لا تعدو ثلاثة:

1.تكفير مرتكب الكبيرة.

2.إنكار مبدأ التحكيم.

3.تكفير عثمان و علي و معاوية و طلحة و الزبير،و من سار على دربهم و رضي بأعمال عثمان و تحكيم الإمام علي عليه السلام.

نعم انّ المحكِّمة عبر الاحتكاك بسائر الفرق تبنّت أُصولاً أُخرى،و بذلك تأسّست مدرسة كلامية في إطار خاص و هو:

1.عدم اشتراط القرشية في الإمام.

2.صفاته سبحانه عين ذاته.

3.امتناع رؤيته سبحانه في الآخرة.

4.القرآن حادث غير قديم.

ص:132

و في هذه الأُصول الثلاثة الأخيرة يتفقون مع العدلية بكلتا الفرقتين:الإمامية و المعتزلة.

5.الشفاعة،و تعني:دخول الجنة بسرعة لا مغفرة الذنوب،و في هذا الأصل يتفقون مع خصوص المعتزلة من العدلية.

6.التولّي و التبرّي.

ص:133

2

المرجئة

و هي مأخوذة من الإرجاء بمعنى التأخير،و هم يولون أهمية للإيمان القلبي و لا يهتمون بالعمل،و قد اشتهروا بتقديم الإيمان و تأخير العمل،فأخذوا من الإيمان جانب مجرد الإقرار بالقول الكاشف عن الإذعان قلباً و إن لم يكن مصاحباً مع العمل،فاشتهروا بالمرجئة،أي المؤخرة،و شعارهم:«لا تضرّ مع الإيمان معصية،و لا تنفع مع الكفر طاعة...»و هؤلاء و الخوارج في مسألة العمل،على جانبي نقيض،فالمرجئة لا يشترطون العمل في حقيقة الإيمان، و الخوارج يضيّقون فيرون مرتكب الكبيرة كافراً مخلّداً في النار.

و يقال:إنّ أوّل من وضع الإرجاء الحسن بن محمد بن الحنفية (المتوفّى 99ه) و لكن الإرجاء الذي قال به،ليس هو الإرجاء المصطلح. (1)

ص:134


1- 1) .لاحظ تفصيل ذلك في موسوعتنا:بحوث في الملل و النحل:ج3،فصل المرجئة. [1]

3

اشارة

المعتزلة

المعتزلة بين المدارس الكلامية المختلفة مدرسة فكرية عقلية أعطت للعقل القسط الأوفر.

و مؤسس المذهب هو واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري،نقل الشهرستاني أنّه دخل شخص على الحسن البصري فقال:يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر،و الكبيرة عندهم يُخرج بها عن الملّة،و هم وعيديّة الخوارج،و جماعة يُرجئون أصحاب الكبائر و يقولون لا تضر مع الإيمان معصية،كما لا تنفع مع الكفر طاعة،و هم مرجئة الأُمّة،فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك و قبل أن يجيب،قال واصل بن عطاء:أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً و لا كافر مطلقاً،بل هو في منزلة بين المنزلتين،لا مؤمن و لا كافر،ثمّ قام و اعتزل إلى اسطوانة المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن،فقال الحسن:اعتزل عنّا واصل،فسمّي هو و أصحابه:معتزلة. (1)

ص:135


1- 1) .الملل و النحل:62/1. [1]

و الأُصول المهمّة التي تعدّ عماداً للاعتزال لا تتجاوز الخمسة و هي:

الأُصول الخمسة عند المعتزلة

1.التوحيد.

2.العدل.

3.الوعد و الوعيد،أي يجب العمل بالوعيد كوجوبه بالوعد.

4.المنزلة بين المنزلتين،فمرتكب الكبيرة لا مؤمن و لا كافر بل بين المنزلتين.

5.الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،أي وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر عقلاً.

و للمعتزلة أئمّة نضج المذهب بأفكارهم و آرائهم و وصل إلى القمة في الكمال و في مقابل هؤلاء مشايخهم الكبار الذين لهم دور في تبيين المذهب دون أن يتركوا أثراً بارزاً يستحقّ الذكر،و إليك نزراً من أئمّتهم.

أئمّتهم

1.واصل بن عطاء (80- 131ه).

2.عمرو بن عبيد(80- 143ه)

3.أبو الهذيل العلاّف(135- 235ه).

و هذا الأخير من أعيان المعتزلة،و يصفه ابن خلكان بقوله:«كان حسن الجدال،قويّ الحجة،كثير الاستعمال للأدلّة و الإلزامات».

و يظهر من مناظرته مع صالح بن عبد القدّوس أنّ حركة الشكّ كانت استفحلت في عصره حتّى ألف صالح بن عبد القدوس كتاباً حول الشكوك،

ص:136

يقول ابن خلكان:«لقي أبو الهذيل صالحَ بن عبد القدوس و قد مات له ولد و هو شديد الجزع عليه.فقال له أبو الهذيل:لا أعرف لجزعك عليه وجهاً، إذا كان الإنسان عندك كالزرع،قال صالح:يا أبا الهذيل:إنّما أجزع عليه،لأنّه لم يقرأ كتاب الشكوك فقال له:كتاب الشكوك ما هو يا صالح؟ قال:هو كتاب قد وضعته من قرأه يشك فيما كان،حتّى يتوهم أنّه لم يكن،و يشك فيما لم يكن،حتّى يتوهم أنّه قد كان،فقال له أبو الهذيل:فشكّ أنت في موت ابنك و اعمل على أنّه لم يمت و إن كان قد مات،و شكّ أيضاً في قراءة كتاب الشكوك و إن كان لم يقرأه. (1)

4.النظّام(160- 231ه).

5.أبو علي الجبائي(235- 303ه)

6.أبو هاشم الجبائي (278- 321ه).

7.قاضي القضاة عبد الجبار(324- 415ه)

إلى غير ذلك من الأئمّة.

لقد ابتسم الدهر للمعتزلة في عصر أبي جعفر المنصور و امتد نشاطهم-إلاّ في عصر هارون-إلى خلافة الواثق(227- 232ه)،و لمّا قضى الواثق نحبه و أخذ المتوكل زمام أمر الخلافة أفل نجمهم شيئاً فشيئاً إلى أن انقرضوا،و قد قتل كثير منهم بسيف محمود بن سبكتكين في أرض خراسان،و لم نعثر بعد الزمخشري (المتوفّى 538ه)و ابن أبي الحديد(المتوفّى 656ه) على علم من أعلام المعتزلة سوى بعض الزيدية التابعين للمعتزلة في الأُصول.

ص:137


1- 1) .وفيات الأعيان:266/4، [1]منشورات الشريف الرضي،قم.

4

الجهميّة

الجهمية منسوبة إلى جهم بن صفوان السمرقندي الذي قتل في آخر دولة بني أُميّة عام 128ه،و قاعدة مذهبه أمران:

الأوّل:الجبر و نفي الاستطاعة،فصار الجهم رأس الجبر و أساسه،و يطلق على أتباعه الجبرية الخالصة في مقابل غير الخالصة منها.

الثاني:تعطيل ذاته عن الوصف بصفات الجمال و الكمال،و لأجل ذلك سمّيت المعطلة أيضاً.

و قد نسب إليه أيضاً الأُمور التالية:

1.كون القرآن الكريم مخلوقاً حادثاً.

2.نفي رؤيته في الدنيا و الآخرة.

3.جواز الخروج على السلطان الجائر.

و لعلّه لهذا الأصل الثالث قتل بسيف بني أُميّة.

ثمّ إنّ كلّ من قال بنفي الصفات،أو بخلق القرآن،يرمى بالجهميّة و إن لم يكن منهم،و الجهمية في كلمات الإمام أحمد هم المعتزلة. (1)

ص:138


1- 1) .السنة:490.

5

المجسِّمة

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد،ألحق أضراراً جسيمة بالمجتمع الإسلامي فظهرت حركات هدّامة ترمي إلى تقويض الأُسس الدينية و الأخلاقية،و من هنا نجمت المجسِّمة التي رفع لواءها مقاتل بن سليمان المجسِّم (المتوفّى عام 150ه) فهو و جهم بن صفوان مع تشاطرهما في دفع الأُمّة الإسلامية إلى حافّة الجاهلية،لكنّهما في مسألة التنزيه و التشبيه على طرفي نقيض.

أمّا جهم بن صفوان فقد أفرط في التنزيه حتّى عطَّل وصفه سبحانه بالصفات، و أمّا مقاتل فقد أفرط في التشبيه فصار مجسِّماً. (1)

ص:139


1- 1) .ميزان الاعتدال:173/4؛تاريخ بغداد:166/13.

6

الكرّاميّة

إنّ الكرّامية،مثل المجسِّمة و هي أيضاً وليدة إقصاء العقل و المنطق عن ساحة العقائد و الانكباب على الروايات المدسوسة المليئة بالأباطيل و الترّهات التي وضعتها الأهواء،و الكرّامية صنيعة محمد بن كرّام السجستاني (المتوفّى عام 255ه)،الذي يعرفه ابن حبان بقوله:«التقط من المذاهب أرداها،و من الأحاديث أوهاها،و جعل الإيمان قولاً بل معرفة،و من آرائه أنّه سبحانه جسم لا كالأجسام،و من آرائه:أنّ النبي أخطأ في تبليغ قوله: «وَ مَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى» حتّى قال بعده:«تلك الغرانيق العلى،و انّ شفاعتها لترتجى».

و الحاصل:انّ الحركة الكرّامية من أسوأ الحركات الرجعية التي ظهرت في القرن الثالث. (1)

ص:140


1- 1) .ميزان الاعتدال:21/4؛الفرق بين الفرق:222.

7

اشارة

الأشعرية

الأشعرية مدرسة كلامية أسّسها أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق،من أحفاد أبي موسى الأشعري الصحابي المعروف،ولد عام 260ه،و توفّي سنة 324ه و على قول 330ه،و كان معتزلياً و تخرّج على يد أُستاذه أبي علي الجبائي (235- 303ه)ثمّ أعلن براءته من هذا المذهب-بعد وفاة أُستاذه بسنتين-و التحق بمذهب الإمام أحمد،و نادى من على المنبر بأعلى صوته و قال:من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي،أنا فلان بن فلان،كنت قلت بخلق القرآن و إنّ اللّه لا يُرى بالأبصار،و إنّ أفعال الشر أنا أفعلها،و أنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة.

و هو و إن (1)التحق بأهل الحديث لكنّه قد امتاز عنهم باستحسان الخوض في المسائل الكلامية و البرهنة على العقيدة بالدليل العقلي،و لذلك رفضه بعض أتباع الإمام أحمد كالبربهاريّ. (2)

إنّ مذهبه و إن لم يتمتع بالانتشار في حياته،لكن تلاميذه و تلاميذ تلاميذه

ص:141


1- 1) .فهرست النديم:271؛ [1]وفيات الأعيان:285/3. [2]
2- 2) .تبيين كذب المفتري قسم التعليقة:391.

قد نضّجوا الأُصول الموروثة عنه،و نشروه إلى حد،صار المذهب الأشعري، هو المذهب الرسمي لأهل السنّة.

يقول المقريزي بعد ذكر الأُصول الكلامية للمذهب الأشعري:«فهذه جملة من أُصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية،و التي من جهر بخلافها أُريق دمه. (1)

و إليك أُصول مذهبه المهمة:

1.اللّه سبحانه ليس بجسم.2.صفاته قديمة لا حادثة.3.صفاته زائدة على ذاته.4.الصفات الخبرية تحمل عليه سبحانه بلا كيف،مثلاً:له سبحانه يد، و وجه،بلا كيف.5.اللّه هو الخالق لأفعال العباد و العبد هو الكاسب.6.

الاستطاعة مع الفعل لا قبله.7.رؤية اللّه سبحانه في الآخرة.8.كلام اللّه سبحانه،هو الكلام النفسي.9.كلامه قديم و ليس بحادث.10.الحسن و القبح شرعيان لا عقليان.لاحظ للوقوف على مصادر آرائه كتابي الإبانة و اللمع،و هما من تأليفه.

و ربما يتصور:انّ الشيخ الأشعري أعلن الالتحاق بمذهب الإمام أحمد، ليُجري الإصلاح في مذهب أهل الحديث،الذين غلب عليهم يومذاك القول بالتجسيم و الجهة و الجبر،فحاول أن يصلح ما فسد.و لكن هذا التصوّر غير دقيق.و إذا افترضنا انّ الشيخ كان يروم الإصلاح،فإنّ التوفيق لم يحالفه في ذلك للأسباب التالية:

1.إبقاء الأُصول الفاسدة في مسلك أهل الحديث،نظير:أفعال الإنسان مخلوقة للّه سبحانه مباشرة،فلا شكّ انّ القول بهذا الأصل ينتهي إلى الجبر، لأنّ

ص:142


1- 1) .الخطط:360/2.

معناه انّ المؤثر في فعل العبد هو قدرته سبحانه مباشرة و لا دور لإرادة العبد و قدرته المفاضة منه سبحانه إليه،و ربما يعبر عنه بالجبر غير الخالص.

2.تجويز رؤية اللّه يوم القيامة،و هو يلازم القول بالتجسيم و كونه سبحانه ذا جهة.

3.قوله:إنّ القرآن قديم غير حادث،أو غير مخلوق للّه سبحانه و ذلك يؤدي في النهاية إلى فرض قديم ثان،و تصور ندّ له إلى غير ذلك من الأُصول التي تركها الأشعري بحالها و لم يحدث فيها أي تغيير.

نفي السببية عن الأسباب

إنّ من أبرز سمات منهج الأشاعرة هو نفي السببيّة و العليّة حتّى بالمعنى الظلّي عن غيره سبحانه،و أنّه ليس في صحيفة الكون إلاّ علّة واحدة و سبب فارد، هو المؤثر في الكون و بذلك شطبوا على تأثير العلل الطبيعية بعضها في بعض،و نفوا السببية في الكونيات و زعموا أنّ القول بذلك ينافي التوحيد في الخالقية و الربوبية و بذلك نازعوا وجدانهم كما نازعوا الوحي المبين حيث إنّه يثبت الأثر الطبيعي لكلّ سبب،و في الوقت نفسه يربطهما باللّه سبحانه،قال: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ». 1

تجد أنّ الوحي اعترف بسببية الماء لخروج الثمرات الطيّبة و ليست هذه الآية وحيدة في هذا الباب،بل في القرآن الكريم نماذج من هذا النوع،قال سبحانه: «وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ

ص:143

صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». 1

فتستدلّ الآية على أنّ تدبيره سبحانه فوق تدبير الفواعل الطبيعية،و ذلك بشهادة أنّ الجنّات تثمر أثماراً مختلفة مع وحدة الشرائط و الظروف المحيطة بها من وحدة الماء و الأرض،و هذا يدلّ على أنّ وراء الأُمور الطبيعية و الأسباب الماديّة مدبّراً فوقها،و على الرغم من هذا الاعتراف إلاّ أنّه لا ينفي تأثير العوامل الطبيعية و لكن يراها غير كافية في خلق هذا التنوّع.

و بذلك يظهر أنّ ما ذكره ابن خلدون حول تأثير الأسباب و لزوم الغضّ عنها دون شأنه جدّاً و كان المترقب منه غير ذلك،لكن سيطرة مذهب الأشعري على العقول،أثّرت على تفكيره فعاد يفكر كأنّه أشعري مطلق،بل حنبلي محض.يقول:تأمل من ذلك حكمة الشارع في نهيه عن النظر إلى الأسباب و الوقوف معها فإنّه واد يهيم فيه الفكر و لا يحلو منه بطائل و لا يظفر بحقيقته - إلى أن قال:-فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبّباتها مجهول،لأنّها إنّما يوقف عليها بالعادة لاقتران الشاهد بالاستناد إلى الظاهر و حقيقة التأثير و كيفيته مجهولة،فلذلك أُمرنا بقطع النظر عنها و إلغائها جملة و التوجّه إلى مسبّب الأسباب كلّها و فاعلها و موجدها لترسخ صفة التوحيد في النفس.

فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع و حقّت عليه كلمة الكفر،و إن سبح في بحر النظر و البحث عنها و عن أسبابها و تأثيراتها واحداً بعد واحد فأنا الضامن له أن لا يعود إلاّ بالخيبة،فلذلك نهانا الشارع عن النظر في الأسباب

ص:144

و أمرنا بالتوحيد المطلق. (1)

يلاحظ عليه أوّلاً:ما هو الدليل أنّ الشارع نهانا عن النظر في الأسباب،فإن أراد النظر فيها بمعنى التوقّف عند تلك الأسباب،و إضفاء الأصالة عليها و انقطاعها عن مسبِّب الأسباب،فذلك كما ذكره كفر محض،و لكن المؤمن الموحّد لا ينظر إلى الأسباب بذلك المنظار.

و إن أراد النظر فيها بما فيها من نظام بديع حاك عن كونه مخلوقاً لموجود عالم قادر حكيم فالنظر فيها بهذا المنظار هو نفس التوحيد،فكيف نهانا الشارع عن النظر في الأسباب؟ هذا هو القرآن الكريم يشرح لنا نظام الكون بأدق الوجوه و يجعلها آية لتوحيد خالق العالم و مدبّره.

يقول سبحانه: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». 2

إنّ قول اللّه-هذا-مضافاً إلى كونه مشيراً إلى برهان النظم يمكن أن يكون تلويحاً إلى عوامل استقرار الحياة على الأرض،و مذكراً للعقول بأنّه لا يمكن أن تجتمع كلّ العوامل-مع ما فيها من المحاسبات الدقيقة-عن طريق الصدفة العمياء دون أن يتدخل في ذلك تدبير«مدبر عاقل حكيم»و دون أن يكون قد جمعها على هذا النسق المناسب لظاهرة الحياة-«إله خالق عارف بالأُمور،محيط بالمحاسبات و السنن».

ص:145


1- 1) .مقدّمة ابن خلدون،الفصل العاشر في علم الكلام:424. [1]

كما يمكن أن يكون بعض الآيات الأُخر مشيراً إلى هذا البرهان(برهان النظم) مثل قوله تعالى: «اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ». 1

و ثانياً:أنّ قوله:«إنّما يوقف عليها العلّية بالعادة لاقتران الشاهد بالاستناد إلى الظاهر»يرمي إلى نفي العلّية و المعلولية و لو بنحو الظلّية بين الأسباب و المسببات،و أنّ المشهود هو ظهور الحرارة مقترنة بوجود النار و البرودة مقترنة بوجود الماء دون أن يكون بين الأثر و ما هو المؤثر في الظاهر صلة و علاقة.و هذا هو الذي يدّعيه الإمام الأشعري من نفي العلّية،و إنّ ما نسمّيه علّية هو جريان عادة اللّه على وجود الآثار بعد الأسباب من دون أن يكون للسبب أيّ تأثير.

أقول:إذا كان الداعي لنفي السببيّة بين الظواهر الكونية هو تقوية روح التوحيد في الخالقية و الربوبيّة و انّ المؤثّر الحقيقي هو اللّه سبحانه فهو أمر جميل؛و إذا كان الداعي هو نفي السببية و العلّيّة بين الأسباب و المسببات الطبيعية،فهو على خلاف الكتاب أوّلاً،و الوجدان ثانياً،و تشويه لسمعة الإسلام ثالثاً.

أعيان الأشاعرة

ثمّ إنّ هناك رجالاً ارتبطت أسماؤهم ببلورة المذهب الأشعري،و لولاهم لما قام لهذا المذهب عمود و لا اخضرّ له عود،و إليك أسماء أعلامهم عبر التاريخ:

1.أبو بكر الباقلاني (المتوفّى 403ه).

ص:146

2.أبو منصور عبد القاهر البغدادي(المتوفّى 429ه).

3.إمام الحرمين أبو المعالي الجويني(419- 478ه).

4.حجة الإسلام الإمام الغزالي(450- 505ه).

5.أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني (479- 548ه).

6.أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي،فخر الدين الرازي(544- 606ه).

7.أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم المعروف بسيف الدين الآمدي(551- 631ه).

8.عبد الرحمن بن أحمد،عضد الدين الإيجي(708- 756ه).

9.مسعود بن عمر بن عبد اللّه المعروف بسعد الدين التفتازاني (712- 791ه).

10.السيد علي بن محمد بن علي الحسيني المعروف بالسيد الشريف (المتوفّى 816ه).

11.علاء الدين علي بن محمد السمرقندي القوشجي(المتوفّى 879ه).

هذا بعض الكلام في المذهب الأشعري،و الذي صار مذهباً رسمياً لأكثر أهل السنّة.

ص:147

8

اشارة

الماتريدية

في الوقت الذي ظهر فيه مذهب الإمام الأشعري بطابع الفرعية لمذهب أهل الحديث،ظهر مذهب آخر،بهذا اللون و الشكل لغاية نصرة السنّة و أهلها و بالتالي:إقصاء المعتزلة عن الساحة،و هو مذهب الإمام محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي(المتوفّى سنة 333ه) أي بعد ثلاثة أو تسعة أعوام من وفاة الإمام الأشعري.

و الداعيان كانا في عصر واحد و لم تكن بينهما أيّة صلة،فالأشعري كان يكافح الاعتزال و يُناصر السنّة في البصرة متقلّداً مذهبَ الشافعي في الفقه، و الماتريدي يكافح الاعتزال في الشرق الإسلامي متقلِّداً رأي الإمام أبي حنيفة في الفقه؛فكانت البصرة محط الأهواء و معقلها،كما كانت أرض خراسان مأوى أهل الحديث و مهبطهم.

و لم يكن الماتريدي نسيجَ وحده في هذا الأمر،بل معاصره أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة الطحاوية(المتوفّى سنة 321ه) كان أيضاً يناصر السنّة متقلّداً مذهب أبي حنيفة في الفقه،و قد صدّر رسالته المعروفة بالعقيدة الطحاوية بقوله:

ص:148

بيان عقيدة فقهاء الملة:أبي حنيفة و أبي يوسف و محمد بن الحسن. (1)

اتّفق المترجمون للماتريدي على أنّه توفّي عام 333ه و لم يعيّنوا ميلاده، لكن القرائن تشهد على أنّه من مواليد عام 248ه.و قد أخذ العلم عن عدّة من المشايخ،و هم:

1.أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني.

2.أبو نصر أحمد بن العياضي.

3.نصير بن يحيى،تلميذ حفص بن سالم (أبي مقاتل).

4.محمّد بن مقاتل الرازي.

و تخرّج عليه عدّة من العلماء،منهم:

1.أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل الشهير بالحكيم السمرقندي (المتوفّى 340ه).

2.أبو الليث البخاري.

3.أبو محمد عبد الكريم بن موسى البزدوي،جدّ محمد بن محمد بن عبد الكريم البزدوي مؤلّف«أُصول الدين».

إنّ منهج الماتريدي يتمتع بسمات ثلاث:

أوّلاً:أعطى للعقل سلطاناً أكبر و مجالاً أوسع،و ذلك هو الحجر الأساس للسمتين الأخيرتين.

ثانياً:منهجه أبعد عن التجسيم و التشبيه من منهج الأشاعرة.

ثالثاً:منهجه أقرب إلى الاعتزال من منهج الإمام الأشاعرة.

ص:149


1- 1) .شرح العقيدة الطحاوية:25. [1]

و إليك بعض الفوارق بين المنهجين:

1.معرفته سبحانه واجبة عقلاً عند الماتريدية و سمعاً عند الأشاعرة.

2.التحسين و التقبيح عقليان عند الماتريدية و سمعيّان عند الأشاعرة.

3.لا يجوز التكليف بما لا يطاق عند الماتريدية خلافاً للأشاعرة.

4.أفعال اللّه تعالى معلّلة بالأغراض عند الماتريدية دون الأشاعرة.

5.الصفات الخبرية كالاستواء و اليد و العين تثبت على اللّه سبحانه بنفس معانيها اللغوية لكن بلا كيفية عند الأشاعرة،و أما الماتريدية فهي بين مفوّضة معانيها إلى اللّه سبحانه،أو مفسّرة لها بنفس ما تفسّره العدليّة.

6.صفاته عين ذاته سبحانه عند الماتريدية،زائدة عند الأشاعرة.

المذهب الماتريدي مذهب الأحناف خصوصاً في تركيا و آسيا الوسطى و شبه القارّة الهنديّة،و مذهب الأشاعرة مذهب الشوافع غالباً.

أعيان الماتريديّة

1.القاضي الإمام أبو اليسر محمد بن محمد بن عبد الكريم البزدوي(421- 493ه)،له كتاب«أُصول الدين».

2.أبو المعين النسفي (المتوفّى 502ه)،و هو من أعاظم أنصار هذا المذهب، له كتاب«تبصرة الأدلّة»الذي ما زال مخطوطاً حتّى الآن،و يعدّ الينبوع الثاني بعد كتاب«التوحيد»للماتريديّة.

3.الشيخ نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد النسفي (المتوفّى 537ه) مؤلّف«العقائد النسفية»،و ما زال هذا الكتاب محور الدراسة في الأزهر إلى يومنا هذا.

ص:150

4.الشيخ مسعود بن عمر التفتازاني (المتوفّى 791ه)أحد المتضلّعين في العلوم العربية و المنطق و الكلام،و هو شارح«العقائد النسفية».

5.الشيخ كمال الدين محمد بن همام الدين الشهير بابن الهمام(المتوفّى 861ه) صاحب كتاب«المسايرة»في علم الكلام،نشره و شرحه محمد محيي الدين عبد الحميد و طبع بالقاهرة.

6.العلاّمة كمال الدين أحمد البياضي الحنفي مؤلف كتاب«إشارات المرام من عبارات الإمام»أحد علماء القرن الحادي عشر الهجري،و يعدّ كتابه هذا أحد مصادر الماتريدية.

7.الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري المصري (المتوفّى 1372ه) وكيل المشيخة الإسلامية في الخلافة العثمانية،أحد المتضلّعين في الحديث و التاريخ و الملل و النحل.

ص:151

9

الزيديّة

الزيديّة مذهب منتسب إلى الإمام زيد الشهيد بن زين العابدين علي بن الحسين بن مولى الموحدين علي بن أبي طالب،ولد عام 75ه،و استشهد سنة 121ه،و قد أدرك زيد ثلاثة أئمّة من أهل البيت عليهم السلام،و هم:

1.والده الإمام علي بن الحسين عليهما السلام (38- 94ه).

2.أخوه الأكبر أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام (57- 114ه).

3.ابن أخيه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام (83- 148ه).

أخذ عن أبيه،ثمّ عن أخيه محمد الباقر عليه السلام كما كانت أواصر الحبّ و الودّ تجمعه بالإمام الصادق،فلمّا بلغ نعيه إلى المدينة أخذ الناس يفدون إلى الإمام الصادق يعزّونه. (1)

و قد ترك آثاراً علمية،منها:

1.المجموع الفقهي.

2.المجموع الحديثي.

3.تفسير غريب الحديث.

ص:152


1- 1) .الأغاني:251/7.

4.الصفوة،و هي دراسة قرآنية تتبنّى بيان فضائل أهل البيت عليهم السلام و تقديمهم على سائر الناس في مختلف المجالات.

إلى غير ذلك من المسائل.

زعمت الزيدية انّه ادّعى الإمامة لنفسه،و لكن كلمات زيد تخلو من أيّة إشارة إلى ذلك،بل كلّها تعرب عن أنّه دعا للرضا من آل محمد صلى الله عليه و آله و سلم.

لم يكن زيد الشهيد صاحب منهج كلامي أو فقهي مستقلّ،و إذا كان يقول بالعدل و التوحيد و يكافح الجبر و التشبيه فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه،و إذا كان يفتي في مورد ما،فإنّما كان يصدر في ذلك عن الحديث الذي يرويه عن آبائه.

نعم جاء بعد زيد مفكّرون وعاة،و هم بين دعاة للمذهب،أو بُناة للدولة في اليمن و طبرستان،فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، منفتحين في الأُصول و العقائد على المعتزلة،و في الفقه و كيفية الاستنباط على الحنفية،و لكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول و الفروع و ما أرساه هؤلاء في مجالي العقيدة و الشريعة منقطعة إلاّ في القليل منها.

و على أية حال،التقت الزيدية مع شيعة أهل البيت في العدل و التوحيد،كما التقوا مع المعتزلة في الأُصول الثلاثة التالية:

1.الوعد و الوعيد.

2.المنزلة بين المنزلتين.

3.الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و لأجل إيقاف القارئ على الخطوط العريضة لعقائدهم التي يلتقون في بعضها مع المعتزلة و في بعضها الآخر مع الإمامية نأتي بها:

ص:153

1.صفاته تعالى عين ذاته،وفاقاً للإمامية.

2.إنّ اللّه سبحانه لا يُرى و لا يجوز عليه الرؤية خلافاً للأشاعرة.

3.العقل يدرك حسن الأشياء و قبحها.

4.اللّه سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5.انّه سبحانه متكلّم بكلام،و كلامه سبحانه فعله:الحروف و الأصوات.

6.أفعال العباد ليست مخلوقة للّه سبحانه.

7.تكليف ما لا يطاق قبيح،خلافاً للمجبّرة و الأشاعرة.

8.المعاصي ليس بقضاء اللّه.

9.الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً خلافاً للإمامية.

10.النصّ على إمامة علي و الحسنين عند الأكثرية.

11.القضاء في فدك صحيح خلافاً للإمامية.

12.خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعي.

13.خطأ طلحة و الزبير و عائشة قطعي.

14.توبة الناكثين صحيحة.

15.معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه و لم تثبت توبته.

هذه رءوس عقائد الزيدية استخرجناها من كتاب«القلائد في تصحيح العقائد»،المطبوع في مقدّمة البحر الزخار. (1)

ص:154


1- 1) .البحر الزخار:52-96.

10الإسماعيلية

اشارة

الإسماعيلية،إحدى فرق الشيعة القائلة بأنّ الإمامة منصب تنصيصي من النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو الإمام القائم مقامه،غير أنّ هناك خلافاً بين الزيدية و الإمامية و الإسماعيلية في عدد الأئمّة و مفهوم التنصيص.

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيلية هو إسماعيل بن جعفر الصادق عليه السلام و كان والده شديد المحبّة له و الإشفاق عليه،مات في حياة أبيه بالعُريض و حمل على رقاب الرجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفن بالبقيع. (1)

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي علائم و سمات نشير إليها:

1.انتماؤهم إلى بيت الوحي و الرسالة،و قد كان لهذه السمة رصيد شعبي و كان المسلمون يتعاطفون مع من ينتمي إلى أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

2.تأويل الظواهر،إنّ تأويل الظواهر و إرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيلية،و هي إحدى الدعائم الأساسية لهذا المذهب،بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل و اكتفت بالظواهر لم تتميز عن سائر الفرق الشيعية إلا بصرف الإمامة عن الإمام

ص:155


1- 1) .المفيد،الإرشاد،ص 284. [1]

الكاظم عليه السلام إلى أخيه إسماعيل بن جعفر.

3.تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفية حيث انجرفوا في تيارات المسائل الفلسفية و جعلوها من صميم الدين و جذوره،و انقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطور مع تطوّر الزمان،و يتبنى أُصولاً لا تجد لها في الشريعة الإسلامية عيناً و لا أثراً.

هذه سمات مذهبهم،و إليك رءوس عقائدهم:

أمّا التوحيد،فيصفونه سبحانه بأنّه واحد لا مثل له و لا ضدّ.

و أمّا في مجال الصفات،فقد ذهبوا إلى نفي الصفات عنه على الإطلاق، و اكتفوا في مقام معرفته بالقول بهويّته و ذاته،دون وصفه بصفات حتّى الصفات الجمالية و الكمالية.

و أمّا عقيدتهم في العدل،فالإنسان عندهم مخيّر لا مسَيّر،و القضاء و القدر لا يسلبان الاختيار.

و أمّا عقيدتهم في النبوة فإنّها أعلى مراتب البشر و الرسالة عندهم تنقسم إلى عامّة و خاصّة،و أنّ شريعة الأنبياء موافقة للحكمة،لكن لها ظاهر و باطن.

إنّ تقسيم الشريعة إلى ظاهرية و باطنية أعطى مبرّراً لكلّ إمام من أئمّتهم في أن يضع لكلّ ظاهر باطناً،و لكلّ واجب حقيقة يسمّي أحدهما شريعة ظاهرية،و الآخر باطنيّة من دون أن يستدلّ على تأويله بدليل عقلي أو نقلي.

أمّا عقيدتهم بالمعاد فهو روحاني لا جسماني،و أنّ التناسخ محال.

و أمّا عقيدتهم في الإمامة،فالحديث عنها ذو شجون،فقد ذكروا لها درجات خمس ربما تضيق المقدمة عن بيانها. (1)

ص:156


1- 1) .لاحظ في عقائدهم:راحة العقل للكرماني،ص 47؛تاج العقائد و معدن الفرائد،و قد ذكرنا تفصيل عقائدهم في موسوعتنا:بحوث في الملل و النحل،ج8. [1]

11الوهّابيّة

اشارة

الوهابيّة منسوبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي (1115- 1206ه).كان الشيخ منذ طفولته ذا رغبة شديدة في مطالعة كتب التفسير و الحديث و العقائد،و قد درس الفقه الحنبلي عند أبيه الذي كان من علماء الحنابلة،و كان ابنه محمّد يستقبح كثيراً من الشعائر الدينية التي كان يمارسها أهالي نجد،و لم يقتصر تقبيحه على نجد،بل تعدّاه إلى المدينة المنوّرة بعد انصرافه من مناسك الحج،فقد كان ينكر على الزائرين التوسّل برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند مرقده المقدّس.

و كان يكتم عقائده هذه خوفاً من أبيه،و لمّا تُوفّي أبوه،أخذ بالدعوة و الالتقاء برؤساء القبائل،و التقى أخيراً بمحمد بن سعود الجدّ الأعلى لآل سعود فاتّفقا على نشر الدعوة،بشرط أن تكون القيادة الدينية لمحمد بن عبد الوهاب، و السياسية لمحمد بن سعود،و من ذلك اليوم ابتلي المسلمون بزمرة يشنّون الغارات على القبائل النجدية و خارجها كاليمن و الحجاز و نواحي سوريا و العراق لأجل أخذ الغنائم تحت غطاء الدعوة إلى التوحيد،و قد ضبط التاريخ حروبهم و غاراتهم على المناطق الإسلامية و كانت النتيجة هي الدمار و إراقة الدماء و نهب الأموال،إلى أن استولى آل سعود على الحرمين فسادَ الأمنُ في البلاد لكن مع الفقر المدقِع،

ص:157

و الجوع الأسود إلى أن اكتشفوا آبار الذهب الأسود،فعند ذلك استتبّ الأمر للوهابية مفتين و أُمراء،و بذلك استغنوا عن شنّ الغارات و الحروب الدامية.

ميزاتهم عن سائر المسلمين

يختلف الوهابية مع المسلمين في مسائل فقهية تارة،و مسائل كلامية أُخرى،و يغالون في المسائل الفقهية الخلافية و يعتبرونها خروجاً عن الدين و التوحيد،و إليك نبذاً من خصائصهم:

1.تحريم بناء القبور و لزوم هدم المشاهد عليها.

2.حرمة بناء المساجد على القبور و الصلاة فيها.

3.حرمة شدّ الرحال لزيارة القبور و الصلاة في المساجد.

4.حرمة التوسل بالأنبياء و الصالحين.

5.حرمة طلب الشفاعة من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

6.حرمة النذر للأنبياء و الأولياء.

7.حرمة التبرّك بآثار الأنبياء و الصالحين.

8.حرمة الاحتفال بمواليد أولياء اللّه و وفياتهم.

و لهم نشاطات تبشيريّة،و منشورات و دوريات مختلفة.

ص:158

12الشيعة الإمامية

اشارة

الشيعة:من أحبّ عليّاً و أولاده عليهم السلام باعتبارهم أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم الذين فرض اللّه سبحانه مودّتهم قال عزّ و جلّ: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» 1 و ينضوي تحت لواء الشيعة (بهذا المعنى) كلّ المسلمين إلاّ النواصب،بشهادة أنّهم يصلّون على نبيّهم و آله في صلواتهم و أدعيتهم و يتلون الآيات النازلة في حقّهم صباحاً و مساء،و هذا هو الإمام الشافعي يصفهم بقوله: يا أهل بيت رسول اللّه حبّكم

و لكن المراد من الشيعة في المقام من يشايع عليّاً و أولاده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و أئمّة الناس بعده،نصبهم النبي لهذا المقام بأمر من اللّه سبحانه.

و ليس التشيع كسائر المذاهب الإسلامية من إفرازات الصراعات السياسية كما هو الحال في المحكِّمة و غيرهم،و لا من نتائج الجدال الكلامي و الصراع

ص:159

الفكري كما هو الحال في الأشعرية و المعتزلة.

بل الإسلام و التشيّع وجهان لعملة واحدة،و توأمان ولدا في يوم واحد،و لو انّ كُتّاب العقائد درسوا تاريخ التشيع بدقة و موضوعية لعلموا أنّه ليس للتشيّع تاريخ و لا مبدأ سوى تاريخ الإسلام و مبدئه،و أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو الغارس لبذرة التشيع في صميم الإسلام من أوّل يوم أُمر فيه بالصدع (1)فأصحر بالحقيقة إلى أن لبّى دعوة ربّه.

فالتشيّع عبارة عن استمرار قيادة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد وفاته عن طريق من نصبه إماماً للناس و قائداً للأُمّة حتّى يرشدها إلى النهج الصحيح و الهدف المنشود، فإذا كان التشيع متبلوراً في استمرار القيادة بالوصي فلا نجد له تاريخاً سوى تاريخ الإسلام و النصوص الواردة عن رسوله.

فالشيعة هم المسلمون من المهاجرين و الأنصار و من تبعهم بإحسان،أعني:

الذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في أمر القيادة و لم يغيروا و لم يتعدّوا ما رسم لهم الرسول إلى غيره.

و الميزة الهامة للشيعة على الإطلاق و للإمامية خصوصاً هي أنّ الإمامة عندهم منصب إلهي يتصدى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و بأمر إلهي لتعيين من يتبوّءوه.

و قد أخبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن إمامة اثني عشر رجلاً من أهل بيته و ذكر أسماءهم أوّلهم علي بن أبي طالب و آخرهم الإمام المهدي عليهم السلام.و قد ذكر أهل السنّة روايات حول الأئمّة الاثني عشر دون أن يذكروا أسماءهم.

أخرج مسلم عن جابر بن سمرة،قال:انطلقت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و معي

ص:160


1- 1) .«فاصدع بما تُؤْمَر وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكين*إِنّا كفيناك المستهزئين».(الحجر:94-95). [1]

أبي فسمعته يقول:«لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة فقال كلمة صمّنيها الناس،فقلت لأبي:ما قال؟ قال:كلّهم من قريش». (1)

و لسنا في هذا المقام بصدد تحرير تاريخ التشيع و دلائل إمامة الأئمّة الاثني عشر،بل الغاية الإلماع إلى أُصولهم الكلامية.

و الشيعة الإمامية تتّفق مع الفرق الإسلامية-أعني:المعتزلة و الأشاعرة و الماتريدية-في أكثر المسائل العقائدية،و لكنّهم يفترقون عن الأشاعرة في مسائل،كما أنّهم يفترقون عن المعتزلة في مسائل أُخرى.

و نحن نشير إلى بعض الفوارق بين هاتين الطائفتين (الشيعة و المعتزلة)،و ما ذلك إلاّ لأنّ قسماً كبيراً من كُتّاب تاريخ العقائد جعلوا الشيعة من فِرَق المعتزلة مع أنّ بين المنهجين الكلاميين مشتركات و مفترقات.

الفوارق بين الشيعة و المعتزلة:

1.الشفاعة عند الشيعة و الأشاعرة هي غفران الذنوب أو إخراج العصاة من النار بخلاف المعتزلة،فإنّ نتيجة الشفاعة هي ترفيع الدرجة.

2.مرتكب الكبيرة عند الإمامية و الأشاعرة مؤمن فاسق،و قالت المعتزلة:بل هو في منزلة بين المنزلتين.

3.الجنّة و النار عند الإمامية و الأشاعرة مخلوقتان الآن بدلالة الشرع خلافاً للمعتزلة فانّهما غير موجودتين عندهم.

4.الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضتان واجبتان عند الإمامية

ص:161


1- 1) .صحيح مسلم:3/6-4.

و الأشاعرة شرعاً،و عند المعتزلة عقلاً،نعم ذهب بعض الإمامية إلى وجوبهما عقلاً أيضاً.

5.اتّفقت الإمامية و الأشاعرة على بطلان الإحباط،خلافاً للمعتزلة،حيث قالوا:إنّ المعصية تُحبط الثواب المتقدم.

6.اتّفقت الإمامية و الأشاعرة على أنّ قبول التوبة بفضل من اللّه و لا يجب عقلاً إسقاط التوبة للعقاب بخلاف المعتزلة فانّ التوبة مسقطة للعقاب على وجه الوجوب.

7.اتّفقت الإمامية على أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة،و أجمعت المعتزلة على خلاف ذلك.

8.اتّفقت الإمامية على أنّ الإنسان غير مُسَيّر و لا مفوَّض إليه بل هو بين الجبر و التفويض،و أجمعت المعتزلة على التفويض.

9.اتّفقت الإمامية و الأشاعرة على أنّه لا بدّ في بيان بعض التكاليف من دلالة الرسول،و خالفت المعتزلة و زعموا أنّ العقول تغني بمجرّدها عن السمع.

10.غالت المعتزلة في تمسكهم بالعقل و غالى أهل الظاهر في جمودهم على ظاهر النص،و أعطت الإمامية للعقل سهماً في ما له فيه مجال.

هذه هي الفوارق بين الشيعة الإمامية و المعتزلة و قد تبيّن أنّ الشيعة ليست فرعاً من المعتزلة و إن كانت الفرقتان تستمدّان التوحيد و العدل من كلام الإمام علي بن أبي طالب.

فإذا تبيّنت الفوارق بين الطائفتين فلنذكر بعض الفوارق بين الإمامية و الأشاعرة.

ص:162

الفوارق بين الإمامية و الأشاعرة:

إنّ الشيعة الإمامية تخالف الأشاعرة في أُصول نذكر المهمّ منها:

1.صفاته سبحانه متّحدة مع ذاته،فليس هناك ذات و علم،بل الذات علم كلّه،خلافاً للأشاعرة،فإنّ الصفات زائدة على الذّات.

2.أفعال العباد عند الإمامية صادرة عن نفس العباد صدوراً حقيقياً بلا مجاز أو توسّع.

فالإنسان هو الضارب و القاتل و المصلّي و القارئ،و لم يثبت في لغة العرب استعمال كلمة الخلق في الأفعال فلا يقال:خلقت الأكل و الضرب و الصوم و الصلاة،و إنّما يقال فعلتها،فالإنسان هو الفاعل لأفعاله بقدرة مفاضة من اللّه سبحانه،و أنّ قدرته المكتسبة هي المؤثرة بإذن من اللّه خلافاً للأشاعرة،إذ ليس لإرادة العبد و لا قدرته دور في إيجاد الأفعال.

3.رؤية اللّه بالأبصار مستحيلة مطلقاً سواء أ كان في الدنيا أم في الآخرة،خلافاً للأشاعرة حيث يجوّزون رؤية اللّه في الآخرة.

4.التحسين و التقبيح عقليان عند الشيعة كما مرّ بيانه دون الأشاعرة،فانّهما عندهم شرعيّان.

هذه هي الأُصول التي تخالف الإمامية فيها الأشاعرة و ربما توافقهم المعتزلة في بعض الأُصول.

الفوارق الرئيسية بين الشيعة و سائر الفرق:

هناك فوارق رئيسية بين الشيعة و سائر الفرق و أكثرها تعدّ من خصائص

ص:163

الإماميّة.

1.وجوب نصب الإمام على اللّه سبحانه.

2.عصمة الإمام المنصوب من اللّه.

3.الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر المولود عام (255ه) و هو حيّ يرزق.

4.القول بالبداء،و هو تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة،و البداء بهذا المعنى عند التحقيق من العقائد المشتركة.

5.الرجعة و هي عبارة عن عودة جماعة قليلة إلى الحياة الدنيوية قبل يوم القيامة ثمّ موتهم و حشرهم مجدّداً يوم القيامة.و يشهد على إمكانها إحياء جماعة من بني إسرائيل (1)و إحياء قتيلهم. (2)

هذه هي الخطوط العريضة للعقائد الكلامية عند الشيعة الإمامية،و بذلك تمّ بيان المدارس الكلامية الرائجة بين المسلمين،و بقي هناك مدارس كلامية أُخرى لا حاجة لذكرها إمّا لضئالتها أو لانقراضها.

ص:164


1- 1) .البقرة:55.
2- 2) .البقرة:72- 73.

11علم الكلام الجديد أو المسائل الجديدة في علم الكلام

اشارة

لقد شاع على ألسن بعض الجامعيين الجُدد عنوانُ«علم الكلام الجديد»و هم يلهجون به بفم ملؤه الإعجاب و الاعتبار،و يبدو لأوّل وهلة أنّ هناك علمين مختلفين أحدهما«الكلام القديم»و الآخر«الكلام الجديد»و لكلّ تعريف و موضوع و مسائل و غاية.

و لكن الحقيقة غير ذلك،إذ ليس ثمّة علمان مختلفان،من حيث الموضوع و الغاية،بل هو علم واحد يتكامل عَبْر الزمان حسب تكامل الحضارة و تفتّح العقول،و ليس ذلك أمراً شاذاً في علم الكلام،بل هو جارٍ في سائر العلوم أيضاً،فعلم النحو مثلاً لم يكن يوم ظهوره إلاّ عدّة مسائل ألقاها علي عليه السلام على تلميذه أبي الأسود الدؤلي و أمره بأن ينحو نحوها،ثمّ أُضيف إليه في كلّ عصر مسائل حتّى تكامل و صار علماً متكامل الأطراف.

ص:165

و كذلك شأن علم الكلام،فلم يكن يوم ظهوره إلاّ عدّة مسائل محدودة كالتوحيد و العدل و القضاء و القدر و ما يشبهها،و لكنّه أخذ بالتكامل و التطوّر بسبب الاحتكاكات الثقافية و في ظلّ سائر العوامل المؤثرة في تكامله.

و على ذلك يكون التعبير الصحيح:المسائل الجديدة في علم الكلام لا علم الكلام الجديد.

و أظن-و ظنّ الألمعي صواب-أنّ الغاية من وصف بعض المسائل بالكلام الجديد،هو تهميش الكلام الإسلامي الذي تكامل عبر الزمان بيد عمالقة الفن و أساتذته بزعم أنّ المدوّنات الكلاميّة لا تلبّي حاجات العصر و لا تشبع رغبة الطالبين.

و لكنّه-يشهد اللّه-بخس لحق هذا العلم،فانّ الكلام الإسلامي قادر على تلبية حاجات المتكلّمين فيما يتبنّونه في هذه الأيّام باسم فلسفة الدين و ما يرجع إلى المعرفة الدينية.

إنّ الفقه الأكبر (علم الكلام) كالفقه الأصغر يستطيع أن يحلّ المشاكل و يجيب عن عامة الأسئلة في حقل الدين،و قد قمنا بطرح هذه الأسئلة و تحريرها ضمن مقالات متنوّعة نشرناها في مجلّتنا الفصلية عبر سنين،و قد طبع ما يرجع إلى هذا الموضوع في جزءين مستقلين و انتشر باللغة الفارسية باسم «مدخل مسائل جديد در علم كلام».

و لأجل إيقاف القارئ على

نماذج من هذه المسائل التي عرقلت خُطى بعض

اشارة

المفكّرين،

نذكر عناوينها مقرونة ببيان موجز:

ص:166

1.ما هو السبب لنشأة الدين؟

لقد حاول بعض المفكّرين تفسير نشأة الدين و تعليل ظهور الاعتقاد باللّه سبحانه بين البشر،بوجوه وهميّة صنعتها يد الخيال فهم-مكان أن يفسّروه بالفطرة و أنّ الدين نداء يسمعه الإنسان من ضميره و باطن عقله-حاولوا أن يفسّروه بعوامل ماديّة ألجأت البشر-حسب زعمهم-إلى اعتناقه.

فتارة يفسّرونها بالخوف من الحوادث الطبيعية المُرْعبَة،قال ويل دورانت:«الخوف-كما قال لوكريشس-أوّل أُمّهات الآلهة و خصوصاً الخوف من الموت».فهذا العامل و ما يشبهه جعل البشر يلوذ إلى قوة عليا اخترعها ليسكن إلى حمايتها و يرتاح في كنفها.

و أُخرى يفسّرونها بالجهل بالعلل الطبيعية،و حاصلها أنّ الإنسان البدائي عند ما واجه الحوادث الطبيعية كالزلازل و السيول و الكسوف و الخسوف التي تحيط به،و لم يعرف عللها الطبيعية الواقعية،لجأ-لجهله-إلى اختراع فاعل لها و اعتبره العلّة الوحيدة لكلّ شيء مباشرة.

فكان الاعتقاد بوجود اللّه وليد الجهل بأسباب الحوادث الكونية الطبيعية.

و ثالثة يفسّرونها بالعامل الاقتصادي ببيان أنّ أصحاب الرق و الإقطاعيّين و الرأسماليّين في عهود (الرق و الإقطاع و الرأسمالية) كلّما خشوا ثورة العبيد و الفلاّحين و العمال في وجه المستغلّين لهم بسبب ما يلاقونه من الضغوط، عمدوا إلى التوسّل بالمفاهيم الدينية و الروحية و ترويجها بين المحرومين و الكادحين الناقمين بهدف تخديرهم و التخفيف من غضبهم و صرفهم عن الانتفاضة و الثورة.

ص:167

و رابعة بأنّ التديّن نزعة طفولية،و قد تبنّاها«فرويد»و قال:إنّ الحالة الطفولية لدى الإنسان و التي تتطلب له أبا رءوفاً يأوي إليه في الأهوال،هي التي جرّته إلى أن يخترع فكرة الإله ليقيمه مقام الأب الحامي له في فترة الطفولة حتّى تحصل له الطمأنينة و يتوفّر له الاستقرار النفسي.

إلى غير ذلك من النظريات الساقطة التي لم تكن إلاّ دعاوى فارغة من الدليل، ظهرت لغايات سياسية.

و نحن لا نذكر ما في هذه النظريات من إشكالات تجعلها عقيمة (1)،و إنّما نلفت نظر القارئ إلى نكتة مهمة،و هي أنّ أصحاب هذه النظريات كأنّهم اتّفقوا على تغافل أنّ هناك لنشوء الاعتقاد باللّه في حياة الإنسان عللاً طبيعية روحية كالفطرة،أو منطقية و عقلية كدلالة العقل الإنساني على وجود قوة عليا عند ما يواجه هذا النظام البديع.

هذه العلل تكشف أنّ للاعتقاد جذوراً واقعية في العقل و النفس و هي التي دعت الإنسان في عامة القرون إلى الاعتقاد بالعوالم الغيبية غير عامل الخوف من الحوادث الطبيعية المرعبة أو الجهل بالعوامل الظاهرة أو نظرية الاستغلال أو الحالة الطفولية أو غير ذلك من الفروض التي حاكها الخيال و أبطلها المنطق و التاريخ و التجربة.

2.ما هي الحاجة إلى التديّن؟

هذه هي المسألة الثانية المطروحة باسم الكلام الجديد،و أكثر من يثيرها الماركسيون قبل انهيار الاتحاد السوفياتي،و بما أنّ القوم لم يدرسوا حاجة

ص:168


1- 1) .راجع في نقد هذه النظريات كتاب«اللّه خالق الكون»:19- 88.

البشر إلى التديّن عادوا يرونه أمراً زائداً في حياة المجتمع الإنساني اليوم بعد أن كان مفيداً في غابر الزمان.

و لكنّهم جهلوا ما للدين من آثار بنّاءة لا يستغني عنها الإنسان في أيّة فترة من فترات حياته،و نشير إلى بعضها و نحيل التفصيل إلى محلّه:

أ.التديّن إجابة عملية لسؤال مطروح للإنسان من أقدم العصور حتّى اليوم حيث كان يسأل نفسه في أنّه:

من أين أتى؟

لما ذا أتى؟

و إلى أين يذهب؟

و لم تزل هذه الأسئلة تطالبه بالجواب بإلحاح شديد...إنّه لا يمكنه أن يمرّ على هذه الأسئلة دون اكتراث،و هو يرى لكلّ ظاهرة حياتية سبباً،فكيف بهذا الكون العظيم و هذا الفضاء الواسع العريض و ما يتّسمان به من جلال و إبداع؟ و الدين يجيب على هذه الأسئلة بوضوح و إتقان.

ب.انّ الدين يطرد القلق المحيط بالإنسان عند ما يحتمل أن يكون هناك قوة عليا و لها عليه سلطة و تكاليف ربما يحاسب لأجلها،و يشتد هذا القلق عند ما يراجع التاريخ البشري و يواجه مجموعة كبيرة ممّن يطلق عليهم«الأنبياء»قد أخبروا بوجود إله خالق لهذا الكون،و أنّهم رسل اللّه إلى البشرية جاءوا ليخبروهم بأنّ ثمّة واجبات و تكاليف،و أنّ هناك حياة أُخرى و حشراً و نشراً و حساباً و عقاباً،و جنّة و ناراً،و أنّ الناس جميعهم مسئولون محاسبون شاءوا أم أبوا.

ص:169

إنّ هذا النوع من القلق هو الباعث على دراسة العقيدة و البحث عن اللّه و ما يتبع ذلك من العقائد و التكاليف و لا يرتاح إلاّ بالنزول على عتبة الدين.

ج.التديّن مورث للطمأنينة:يواجه الإنسان في حياته أُموراً عديدة تنغّص عليه عيشه و تسبّب له أزمة روحية منها:

1.هاجس الفناء.

2.المصائب و النكبات.

3.المطامح المادية غير المحقّقة.

إنّ العقيدة الدينية قادرة على مواجهة عوامل الاضطراب هذه و على تحقيق السكينة للإنسان و التخفيف من أزماته الروحية،و ذلك من خلال الإيمان ب:

أوّلاً:أنّ الموت في العقيدة الدينية ليس فناء،بل هو انتقال من عالم ضيق إلى عالم فسيح و من حياة زائلة إلى حياة أبدية،و عندئذٍ يتغيّر طعم الموت عند الإلهي عمّا هو عند المادي.

و ثانياً:أنّ المصائب و الآلام و إن كانت بظاهرها مرّة،و لكنّها لا تخلو من مصلحة و حكمة،ما دام خالق الكون عالماً حكيماً،فإذا وقف الإنسان على أنّها من فعل الخالق الحكيم لم يحزن لما دهاه منها،بل يزداد صلابة و استقامة.

و ثالثاً:أنّ العقيدة بما أنّها تُقدّم للإنسان تعاليم أخلاقية،تحد من سوْرة الحرص و فوْرة الطمع الذي يسبب الاضطراب نتيجة العجز عن تحقيق الطموحات المادية العريضة.

د.الاعتقاد باللّه دعامة الأخلاق:الإنسان كتلة هائلة من الغرائز التي لا

ص:170

تعرف الحدود،و مجموعة من الشهوات و المطامع و الطموحات التي لا تعرف نهاية،فإذا ترك و شأنه لينال ما تدفعه إليه شهواته و غرائزه جرّ على نفسه و على مجتمعه الفساد و الفناء،لتضارب المصالح و المطامع و الطموحات،و من هنا طرح المصلحون و الاجتماعيون مسألة الأخلاق التي تهتمّ بتعديل هذه الغرائز.

و لكن الالتزام بالأخلاق لمّا كان يلازم التنازل عن بعض الطموحات لم تستطع التوصيات الأخلاقية وحدها من السيطرة على الغرائز،فلا بدّ هنا من شيء يعزّز مكانة الأخلاق و هو أن يشعر الإنسان بأنّ هناك قوّة عليا ناظرة لأعماله تثيب من التزم طريق العدالة و حفظ الحدود و الحقوق،و تعاقب مَن خالف ذلك،و هذا لا يحصل إلاّ عن اعتقاد ديني.

ه.الاعتقاد باللّه ضمانة لتنفيذ القوانين:قد أثبت التاريخ و التجربة أنّ وجود القانون وحده ليس كافياً في توفير الأمن للمجتمع و إن كان مُدعماً بقوة جهاز الشرطة في الردع و فرض الغرامة و الحكم بالسجن،بل لا بدّ مع ذلك من رقيب (مشرف) داخلي يعمل حتّى في حالة غفلة أجهزة الدولة و الشرطة، و ليس هو إلاّ الإيمان باللّه و اليوم الآخر و مخافة الحساب و العقاب و خشية المؤاخذة و المكافاة إلى غير ذلك من آثار بنّاءة للعقيدة الدينية.

3.نطاق شمول الدين

و هذه هي المسألة الثالثة و هي تحديد دور الدين و هل هو رابطة روحية بين الخالق و المخلوق و يتلخص في تصفية الروح باتصاله بمبدإ الكمال،أو أن نطاقه يعمّ ذلك و غيره؟ فهو نظام شامل لحياة الإنسان في حقول مختلفة من غير فرق بين حقل السياسة و الأخلاق و الاقتصاد و الاجتماع،فللدين بيان و بلاغ في

ص:171

كلّ واحد من هذه الحقول.

و هذا لا يعني أنّ الدين يغني عن التفكير في هذه المجالات و يجعل الإنسان مقلّداً فارغاً عن التخطيط،بل بمعنى أنّ الأُصول الكلية الّتي عليها مدار السعادة في الدنيا و الآخرة يبيّنها الدين و يترك التخطيط للإنسان على ضوء هذه الأُصول المسلّمة.

نعم من يلخّص الدين في مجرّد الصلة بين الخالق و المخلوق و يدعو الإنسان إلى الدعاء و المناجاة في الكنائس و المعابد و يترك باقي الأُمور لهوى الإنسان،فمثل هذا الدين نطاقه ضيّق غير شموليّ و هذا كالمسيحيّة الموجودة في العصر الراهن،فإنّ الكنائس لخّصت واجب الإنسان الديني في الدعاء و الابتهال إلى اللّه في ساعة واحدة من يوم واحد من الأُسبوع.

و لعلّ ما يذكره القائل من تضييق نطاق الدين يجعل هذا النوع من الدين مقياساً لقضائه،أمّا لو عطف نظره إلى ما ورد في تلمود الكليم من الواجبات و المحرّمات و ما في الشريعة المحمّدية من آلاف الأحكام في حقول مختلفة لرجع القهقرى من هذا النوع من التفكير.

4.هل النبوة موهبة إلهية أو نبوغ اجتماعي؟

إنّ النبوّة عند الإلهيّين موهبة إلهية يهبها سبحانه إلى صالحي عباده و أفضلهم،و يجهّزهم بالآيات و البيّنات ليقيموا الناس بالقسط و العدل و يهدوهم إلى الصراط السويّ على أصعدة مختلفة.

نعم هناك من لم يؤمن بالنبوّة يفسرها بالنبوغ الاجتماعي،و أنّ الأنبياء دعاة و مفكّرون لهم من النجدة و الفكر ما يميّزهم عن غيرهم،و لأجل إقناع

ص:172

الناس و إلفات نظرهم إلى خطابهم نسبوها إلى السماء و ما وراء الطبيعة و إلى اللّه ليكون أوقع في النفوس.

و هذا النوع من التفسير للنبوة رمي للأنبياء بالكذب،و أيّ افتراء أكبر من أن نصف عمالقة الإصلاح و أتقياء المجتمع بالفرية و الكذب و لو لغاية الإصلاح!!

إنّ الأنبياء قد ضحّوا بأنفسهم و نفائسهم في طريق إصلاح المجتمع،أ فهل يصحّ وصف هؤلاء بالكذب و الدجل؟ و ما هذا إلاّ لأنّ القوم لم يدرسوا حقيقة النبوّة و شروطها و واقع الوحي و حدوده.

5.خلود الشريعة و بقاؤها

هل الشريعة السماوية تصلح لأن تسْعد المجتمع الإنساني عبر القرون و ترتقي به إلى أرفع المستويات؟ أو أنّ تعاليم الأنبياء تعاليم زمنية و إصلاحات وقتية تنتفع بها بعض المجتمعات في فترة حياة النبي أو بعدها بمدّة يسيرة؟

إنّ السائل خلط بين ما هو ثابت في الشريعة و ما هو متغيّر فيها،فانّ الأُصول المبتنية على الفطرة الإنسانية ثابتة لا تتغير و لا تتبدّل لثبات فطرتها.

نعم هناك مقرّرات في الشريعة تتبدّل و تتغيّر حسب تغيّر الظروف و الحضارات،فالسائل لم يفرّق بين القوانين و المقرّرات،فالثابت هو الأوّل و المتغيّر هو الثاني،و مثال ذلك أنّ فريضة التعليم و التعلّم و الكتابة من الأُصول الإسلامية التي لا تتغيّر،فالمسلم هنا مطالب بتحصيل العلم،و بذل أقصى الجهود في هذا المجال،و أمّا ما يتحقّق به هذا الأصل من الأدوات فهي تابعة للظروف و الحضارة كما هو واضح،و قس على ذلك كلّ ما ورد في الشريعة من

ص:173

الأُصول الثابتة و المقررات.

و في مجال آخر،يُعدّ الدفاع عن كيان الإسلام و حفظ الاستقلال،استناداً إلى قوله سبحانه: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» 1 من الأُصول الثابتة،و أمّا كيفية الدفاع و نوع السلاح المستخدم و غير ذلك،فهي من الأُصول المتغيرة التي تخضع لمقتضيات الزمان.

6.الوحدة أو التعدّدية الدينيّة

التعددية الدينية msilarulP suoigileR من المسائل الكلامية الحديثة الظهور، و قد جرت مؤخراً على الألسن،و صدرت حولها كتب و مقالات مختلفة في بيانها أو نقدها،يتكون عنوان (البيلوراليزم الديني) من كلمتين هما «بيلوراليزم»و«ديني»و المفهوم الثاني واضح نوعاً ما،إلاّ أنّ المفهوم الأوّل يحتاج إلى بيان.

تستخدم كلمة larulP اسماً أو صفة،و كذلك تأتي بمعنى«الجمع أو الكثرة» و الحقيقة أنّ الكلمة المذكورة تشير إلى«الكثرة»و«التعدد»و تكملتها msi تعني تياراً،من هنا استخدمت في مجالات مختلفة أعمّ من الدين،كالفلسفة، و الأخلاق،و الحقوق و السياسة،فمثلاً«البيلوراليزم السياسي»نوع من التعددية السياسية،كما تشير إلى تعدّد الأحزاب و التشكيلات،و المقصود من التعدّدية الدينية ما يقابل الوحدانية و التفرّد،أو ما يصطلح عليه الانحصارية في الدين في مقابل الشمولية.

إنّ التعددية الدينية لها تفسيران:

ص:174

1.إنّ جميع أتباع الأديان (حسب تعبير المنظّرين) أو الشرائع (في ضوء تعبيرنا) قادرون على التعايش على أساس ما لديهم من المشتركات،و أن يتحمّل بعضهم البعض و هو ما يُعرف-لدى السياسيّين-بالتعايش السلمي، فالتعددية الدينية بهذا المعنى ممّا نادى به الإسلام و قبلها المسلمون شعوباً و حكّاماً حيث يُتاح للجميع التعايش مع بعضهم البعض في ظل السلام و الاحترام المتبادل.

2.يكفي في سعادة الإنسان أن يؤمن باللّه و يلتزم بإحدى الشرائع السابقة، و هذا التفسير من التعددية الدينية مردود بنصوص الشريعة،و إليك بعضها:

1.انّ القول بخلود و استمرار كلّ شريعة يفضي إلى إلغاء فائدة تشريع الشرائع المتعدّدة و إرسال الرسل المحوريّين،و سوف لا نجني من ذلك شيئاً سوى التشويش و بث الفرقة.

2.إذا قلنا بأنّه يكفي في تحقيق السعادة اتّباع أية شريعة،فلما ذا تحدد مسئولية كلّ نبي بمجيء النبي الآخر بل و التبشير به؟

3.إذا كانت كل الشرائع خالدة فلا موجب لنسخ الأحكام،و لو بشكل إجمالي،و لما قال المسيح: «وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» . (1)

4.إذا كانت شريعة عيسى صالحة و معترفاً بها رسمياً حين نزول الشريعة اللاحقة،فلا وجه لدعوة اليهود و النصارى لاتّباع دين محمّد صلى الله عليه و آله و سلم،مع أنّ القرآن يصرّح بضلال أهل الكتاب ما لم يؤمنوا بالدين الجديد: «فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا». 2

ص:175


1- 1) .آل عمران:50. [1]

5.عند ما نراجع نصوص الكتاب المقدّس و القرآن الكريم و أقوال و رسائل النبي صلى الله عليه و آله و سلم نجد انّ هذه النظرية من الهشاشة إلى درجة لا يصدقها إلاّ من يقضي و يبرم جزافاً،ثمّ يبحث عن الدليل و يتشبّث من أجل نجاته بكلّ غث فيؤمن بهذه النظرية.

6.تتوقّف حياة الإنسان في الآخرة على عقيدة صحيحة و عمل صالح، و تحقّقهما موجب للثواب.و هنا نسأل:كيف يمكن للتضاد في العقيدة أو العمل بأمرين متضادين،أن يضمن الحياة المعنوية للإنسان؟ و كيف يُسعد الإنسان في الدارين بتبنّي التوحيد على جميع الأصعدة و في الوقت نفسه يسعد بالإيمان بالتثليث و بتثليث الرب،أو يُسْعد بتجنّب الخمر و الربا و كذلك مع الإدمان و أكل الربا؟

7.لو أعرضنا عن هذا،فإنّ واقعية السعادة التي ستوفّرها هذه الأديان ستكون مشروطة بعدم تحريفها،فهل هذا الشرط صادق في الأديان السابقة؟ فالانجيل المتداول ليس هو كتاب اللّه المنزل على المسيح،بل هو من تحرير تلامذته بشهادة أنّ حياة المسيح قد سجّلت في آخر الأناجيل الأربعة ضبط حياته عليه السلام بشكل خاص،و ذكر صلبه و دفنه و عروجه إلى السماء.

فهل يمكن للإنجيل الذي خطّته يد البشر أن يُسعد جميع الناس على وجه الأرض؟ و التوراة أيضاً-مثل الإنجيل-حامت حولها الشكوك،فالتوراة الحالية قُرئت و كتبت على يد أحد حفّاظ التوراة في زمان نبوخذنصّر (1)بعد اختفاء النسخة الأصلية،و هذه النسخة تعرضت بعد مرور سبعين سنة للتحريف،و اشتملت على أحكام و نصوص تخالف العقل،و قد انتقدها القرآن باعتبارها

ص:176


1- 1) .أي«بخت النصر»ملك بابل،و في الكتاب المقدس«نبوكدنصر».

عاجزة عن توفير السعادة و الهداية.

8.و لو أعرضنا عن كلّ ما تقدم نقول:«إنّ الأديان التاريخية الكبيرة هي بمنزلة مجموعة تتشكل من منظومة عقيدية واحدة»إلاّ أنّنا متى شخصنا الأكمل من بينها فعلينا-بحكم العقل-اتّباعها،و هذه الحقيقة صرّح بها بعض أنصار البيلوراليزم.يقول«وليم نلسون»:أنا لا اعتقد انّ جميع الأديان التي امتدت على طول التاريخ حتى اليوم،متساوية من منظار علمي.

7.تعارض الدين و العلم

لهذه المسألة (السابعة) جذور في القرون المتقدّمة،فحينما ترجمت الكتب اليونانية و الهندية و الفارسية إلى اللغة العربية و انتشرت الفلسفة بين المسلمين،رأى غير واحد من المفكرين أنّ هناك تعارضاً بين السمع و بين ما في هذه الكتب،فعادوا يعبرون عن هذه الفكرة بتعارض الدين و الفلسفة أو تعارض العقل و النقل.

و عند ما ارتجّ العالم بظهور الحضارة الصناعية و أخذ العلم زمام الحياة، و انتشرت نتائج التجارب في الأوساط و ربما كان بعضها مخالفاً لما في الكتاب المقدّس أخذت هذه المسألة لنفسها عنواناً آخر،و هو تعارض العلم و الدين.

و حصيلة الكلام في نقد التعارض:أنّ المراد من الدين هو حصيلة الوحي الإلهي لا أخبار الآحاد المنتشرة بين الكتب و الأفواه،و الوحي إدراك قطعي لا يقبل الخطأ،فعند التعارض لا بدّ من انتخاب أحد الأمرين:

ما تلقّيناه ديناً و ما فهمناه من الكتاب العزيز ليس بدين و إنّما هو انتزاع ذهني و فهم خاطئ منّا.

ص:177

أو ما أثبتته التجربة ليس من الحقائق المسلّمة،بل فرضية سوف تتبدل إلى فرضية أُخرى.

و عند ما ظهرت نظرية«دارون»في أُصول الإنسان،حسب المادّيون أنّهم قد توسّلوا بسلاح حادّ لضرب المتدينين القائلين بخلق الإنسان من الطين، و لكن لم يلبث أن قامت الأدلة القاهرة على بطلان هذه النظرية و قامت مقامها نظرية أُخرى،و هكذا تتابعت النظريات إلى يومنا هذا.

8.صلة الدين بالأخلاق

إنّ الأخلاق جزء من الدين و ليست شيئاً خارجاً عنه،و قد مرّ أنّ الاعتقاد باللّه دعامة الأخلاق،بحيث لو انهارت هذه الدعامة لم يبق هناك ما يدعم القيم الأخلاقية،و لأجل إيضاح المقام نقول:إنّ الفضائل و السجايا الكريمة جزء من فطرة كلّ إنسان،و إنّ الميل إلى الخير و كراهة الشر أمران مغروسان في جبلّة البشر فهم يحبّون الخير و أهله و يكرهون الشر و أهله،و لكن هذه البذور و الخمائر لا تستطيع مقاومة الغرائز و مزاحمة الشهوات إلاّ إذا قويت و نمت، و هي لا تنمو إلاّ في ظلّ الدين الذي ينطوي على الاعتقاد باللّه و اليوم الآخر و ما وعد فيه من مثوبات عظيمة على الخيرات،أو عقوبات شديدة على ارتكاب الشرور و الآثام،و بهذا تكون العقيدة خير وسيلة لتنمية السجايا النبيلة في الكيان الإنساني و خير سبيل إلى تقويتها و دعمها.

و قد سبق منّا:انّ الدين دعامة الأخلاق و لنعم ما قاله الشاعر: و إنّما الأُمم الأخلاق ما بقيت فإن هُمُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا

ص:178

فإذا كانت هذه مكانة الأخلاق،فما هي مكانة الدين الذي هو دعامتها؟

9.حريّة الإنسان في سلوكه الفردي و الاجتماعي

إنّ الفيلسوف الطائر الصيت«سارتر»و من نحا نحوه أعطوا للحرية مكانة مرموقة،و كأنّ الإنسانَ خلق للحرية و في خدمتها،و هم-لأجل ذلك - يرفضون الدين لأنّه يحدد حرية الإنسان و يزاحمها،و ينكرون كلّ أمر فطري أطبق عليه العقلاء في كلّ قرن كحسن العدل و قبح الظلم،بحجة انّ الاعتراف بوجود هذا الميل الفطري،يحدد حرية الإنسان و يضع لها إطاراً خاصاً، فصارت الحرية عند هؤلاء،إلهاً يعبد مكان إله العالم.

و قد أخذ الإسلام من الحرّية،الجانب الأوسط،فرأى كرامة الإنسان في الحفاظ على حريته،و لكن لا على نحو تكون ذريعة للانحلال الأخلاقي فتُصبحَ وبالاً عليه،و تجعل الإنسان عبداً خاضعاً،للميول و الغرائز تحت غطاء،صيانة الحرية.فالحرية بهذا المعنى،تذليل للإنسان و هدم لكرامته و نوع من العبودية للشهوات و الغرائز الجامحة كما حدّد حرّيته بعدم الإضرار بمصالح الآخرين،و إن أردت التفصيل فنقول:

يتميّز الإنسان عن سائر الموجودات بالتفكير العقلاني،و الحرّية في السلوك، و كأنّ هذين العنصرين:التفكير و الحرية،جوهر الحياة الإنسانية.

أمّا التفكير فقد دعا إليه الإسلام في العديد من آياته إلى درجة عُدَّت تنمية القوة العقلية و التفكر في مظاهر الكون من سمات ذوي الألباب،قال سبحانه:

«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ* اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ

ص:179

وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً». 1

و قد نهى الإسلام عن كلّ عمل أو سلوك يضاد التفكير العقلائي،فنهى عن الخمر،و كلّ مسكر يزيل العقل،كما نهى عن التقليد الأعمى،و الاتّباع غير المدروس للآباء و الأجداد.

و أمّا الحرّية فإنّ الإسلام حذّر الإنسان من استعباد أخيه الإنسان و قهره و إذلاله،كما حذّر من الخضوع للقهر و التسلّط،فليس للإنسان إلاّ أن يعيش حرّاً كريماً بعيداً عن أيّ شكل من أشكال الذلّ و الصغار،قال الإمام علي عليه السلام:

«لا تكن عبد غيرك و قد جعلك اللّه حرّاً». (1)

و قد روي عنهم عليهم السلام:«إنّ اللّه تبارك و تعالى فوّض إلى المؤمن كلّ شيء إلاّ إذلال نفسه». (2)

نعم الحرية موهبة إلهية منحها اللّه للإنسان لحفظ كرامته و عزته و شرفه،فلو استخدمها في هدم كرامته و شرفه،فقد خالف السنّة الإلهية،و لذلك صارت الحريات الفردية الشخصية في المجالات الاقتصادية أو السياسية محدّدة بعدم منافاتها لتكامله المعنوي،كما هي مقيدة بعدم إضرارها بالمنافع العامة.

فالحرية أصل أساسي في حياة الإنسان محددة باستخدامها في طريق رُقيّه و تكامله،و عدم إضرارها بمصالح العامة،لكي تكون في خدمة الإنسان و مصالحه،و مصالح المجتمع.

ص:180


1- 2) .نهج البلاغة،قسم الرسائل،رقم 38.
2- 3) .وسائل الشيعة:424/11،كتاب الأمر بالمعروف،الباب12،الحديث4. [1]
10.الهرمنوتيك أو تفسير النصوص

الهرمنوتيك كلمة يونانية بمعنى تفسير النصوص،و الغاية من طرح هذه المسألة هو أنّ النصوص الدينية لا يمكن تفسيرها تفسيراً قطعياً،و أنّه يتعذّر اتخاذ رأي نهائي و قطعيّ في المفاهيم الدينية المأخوذة من الكتاب و السنّة.

قالوا في ذلك:«لا يوجد أي رأي نهائي و قطعي في الشئون الدينية،لأنّ الخطاب الديني يجد معناه في نهاية الأمر عبر الارتباط باللّه،فلا توجد لدينا فتوى قطعية و لا نظرية عقائدية نهائية و إنّما نعيش مساراً تفسيرياً دائماً...».

إنّ هذا القائل و إن خصّ النظرية بالنصوص الدينية،و لكنّ مؤسّسي النظرية في الغرب،أعني:«شلاير ماخر»(1768- 1844م) و«مارتين هايدگر» (1879- 1974م) و من تقدّم عليهما أو تأخّر عنهما،تبنّوها على نطاق وسيع، و قاموا بتعميمها على كلام كلّ متكلّم و أثر كلّ مؤلّف،و أنّه لا يمكن أن يصل المخاطب إلى المقصود النهائي منهما أبداً.

و قد أفردنا رسالة في نقد هذه النظرية و انتشرت انتشاراً واسعاً،فلا نعود إليها، إلاّ أنّنا نودّ أن نلفت نظر القارئ إلى أُمور:

أوّلاً:أنّ أصحاب تلك النظرية يتكلّمون عن أصحاب الكتب السماوية،و هم لا يعترفون بتلك النظرية بل يكذبونها،فإنّ القرآن الكريم يقسم آياته إلى قسمين:محكم و متشابه،فيرى المحكم أُمّ الكتاب،و أنّ عقدة المتشابه تنحلّ بالرجوع إليه،يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ

ص:181

آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ». 1

فالمحكمات من الآيات ما أُحكمت دلالتها،و اتّضحت معالمها،و تبيّنت مقاصدها،أ فهل يصحّ وصف هذه الآيات بعدم وجود أي رأي نهائي في تفسيرها و تبيينها؟!

إنّ النظرية تعني أنّ النصوص الدينية مجموعة رموز و ألغاز يفسره كلّ إنسان، حسب ما أوتي من مواهب و حسب ما لذهنه من طابَع مع أنّه تبارك و تعالى يصف كتابه بأنّه أُنزل بلسان عربي مبين: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ». 2

إلى غير ذلك من الآيات الآمرة باستماع القرآن و الإنصات إليه لفهم مقاصده السامية.

و ثانياً:أنّ القول بعدم وجود رأي نهائي و قطعي في الشئون الدينية ناجم عن القول بنسبية الإدراكات التي ورثها الغرب عن«إيمانوئيل كانت»الذي أعاد السفسطة اليونانية-التي تهدمت بجهود حكماء كبار كسقراط و أفلاطون و أرسطاطاليس-إلى الساحة العلمية في الغرب،قائلاً بأنّ ما يدركه الإنسان لا يحكي عن الواقع مائة بالمائة و إنّما يحكي عنه بنسبة خاصة،و ذلك لأنّ القوى المدركة في الإنسان مقرونة بقوالب لها طابَعها الخاص ترد إليها المفاهيم و الصور من الخارج لكن لا تبقى على سذاجتها،بل تنصبغ بصبغة الذهن و تنطبع بتلك الطوابع،و هذا نظير من نظر إلى غابة خضراء بمنظار أصفر فيراها بلون المنظار مع أنّها على خلافه.

ص:182

و قد أثبتنا في محاضراتنا حول نظرية المعرفة،أنّ هذه الفكرة تنتهي إلى السفسطة مائة بالمائة،و الفرق بين ما تبنّاه«كانت»و ما تبنّاه بعض الإغريقيين هو أنّ الفرقة الثانية كانوا يطرحون أنظارهم ببساطة و سذاجة و يدعون أنّه ليس لنا علم بالخارج،و لكن الغرب و على رأسهم«كانت»يعرض تلك النظرية بثوب علمي يغري الجاهل.

و إذا كانت مدركات الإنسان تأخذ لنفسها أشكال القوالب الذهنية،فمن أين نعلم أنّ هناك عالماً وراء ذهننا و مدركاتنا و نحن ندركه و نعرف آثاره؟ لأنّ هذه الفكرة (وجود العالم الخارج عن الذهن) لا يمكن أن تعبّر عن الواقع مائة بالمائة لأنّها انصبغت بصبغة الذهن و أخذت شكل القوالب الذهنية.

3.أنّ المطلوب في الدين هو الإيمان الجازم و التصديق القاطع،و قد بعث الأنبياء لتلك الغاية السامية،يقول سبحانه: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ» . (1)

فلو كانت المفاهيم الدينية مفاهيم غير قطعية و إدراكات متزلزلة تتبدّل كل يوم إلى معنى يغاير الأوّل،فلا تحصل الغاية السامية من إنزال الكتب و بعث الرسل،لأنّهم بعثوا لإيجاد الإيمان القاطع باللّه سبحانه و كتبه و رسله.

نعم إن هذه المسائل و أشباهها التي اشتهرت باسم الكلام الجديد،و ذكرنا في المقام نماذج منها،كانت تتبلور في الغرب و تهز أركان الكنائس و تُضعف قدرتهم،و قد قوبلت في الغرب بقيام رجال مخلصين،تصدّوا لهذه الشبه و نقدوها أفضل النقد،و قد ألفوا في ذلك مئات الكتب،و لا يزال ينتشر في كلّ شهر أو

ص:183


1- 1) .البقرة:285. [1]

أسبوع حول المواضيع المذكورة كتاب أو رسالة،و قد وصلت موجة هذه الشبه إلى الشرق عبر مَن تخرج من المعاهد الغربية دون أن تترسخ في أذهانهم المبادئ الدينية و العلمية،فتأثروا بذلك و حسبوها حقائق راهنة، و أخذوا ينشرونها في الجامعات زاعمين أنّها منهاج فلسفي ثمين،غفل عنه الإسلاميون و انتبه له الغربيون.

مخطط الغربيّين لضرب الثقافة الإسلامية

اشارة

بدأ الغربيّون يسيطرون على البلاد الإسلامية بفضل تفوّقهم الصناعي، يقودهم جند الاستشراق الذين يعرفون ما يملك المسلمون من طاقات مادية و معنوية.

و لذلك فقد عملوا على صعيدين:

1.تصدير الصناعة بشكل ناقص بحيث يكون الشرق محتاجاً إلى الغرب في كلّ حين و زمان،و بالتالي تكون لهم السيادة و للآخرين الفقر و الحاجة.

2.إرسال البعثات التبشيرية إلى البلاد الإسلامية النائية،و البعيدة عن العواصم الإسلامية،كدول إفريقيا و دول شرق آسيا الذين أسلموا طوعاً و رغبة دون أن يكون عندهم علماء أقوياء في مواجهة التبشير.و قد نجحوا بعض النجاح في ذلك المجال،حتّى رفع البابا عقيرته قبل سنين بأنّ إفريقيا على رأس القرن الحادي و العشرين قارة مسيحية خالصة و ليس للإسلام هناك أي شأن و قدرة،و لكنّها كانت مجرّد أُمنية لم يكتب لها النجاح.

و قد أحسّ الاستعمار أنّ السيطرة على البلاد الإسلامية الّتي ضرب الإسلام فيها بجرانه،ليس أمراً سهلاً،فدخلوا من باب آخر و هو بث الشكوك و الشبهات

ص:184

عن طريق المسائل الفلسفية و الكلامية في المدارس و الجامعات حتّى يخرج الإيمان من قلوبهم فيصبحوا شكّاكين حيارى،غير باذلين أيّ اهتمام في الدفاع عن الدين،فعند ذلك يسهل استعمارهم،و ذوب ثقافتهم في ثقافة المستعمرين.

و لتنفيذ هذا المخطط فتحوا فروعاً لجامعاتهم في العواصم الإسلامية،و ربّما نفذوا هذا المخطط أيضاً عن طريق بعث رجال العلم إلى الجامعات الإسلامية-و هم يحملون شهادات علمية-لغاية إيجاد الشك و التزلزل في قلوب الطلاب و الطالبات.

و على ضوء ذلك نرى أنّ الفلسفة الغربية و الكلام المسيحي أخذ ينتشر و ينتعش في البلاد الإسلامية و خاصة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، و الغاية من نشر هذه الأفكار هي إزالة الإيمان عن قلوبهم الذي أصبح سدّاً منيعاً أمام أطماع المستعمرين،و هاهنا نشير إلى بعض المسائل الكلامية الّتي طرحت لغرض إيجاد البلبلة الفكرية و تشويش أذهان الجامعيين و سوقهم إلى الشك و الإلحاد.

1.فصل السياسة عن الدين

إنّ فصل السياسة عن الدين من أهمّ خططهم حتّى يحصروا علماء الدين في زوايا المساجد لكي لا يكون لهم شأن سوى الدعاء و الأوراد،و عند ذلك يسهل لهم السيطرة على العباد و البلاد.

فلو أُريد من الدين،الدين الرائج في البلاد المسيحية حيث إنّ أصحاب الكنائس ليس لهم شأن إلاّ الدعاء و قراءة الأوراد في يوم واحد من أيام الأسبوع و ترك الناس على أحوالهم دون تدخل في شأن من شئون حياتهم، فالحق عدم

ص:185

وجود الصلة بين السياسة و الدين.

و لو أُريد منه،خاتمة الشرائع-أعني:شريعة الإسلام-فكتابها و سنّتها يصوّران السياسة و الدين لحمة و سدى للشريعة،ففصل أحدهما عن الآخر محو لها،فكيف يمكن فصلها عن الدين إذا فسّرت السياسة بتدبير أُمور الأُمّة في معاشهم و معادهم،و قد طفح الكتاب و السنّة بأُصول تتكفّل تدبير حياة المسلمين.يقول سبحانه: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ». 1

فالصلاة صلة العبد باللّه سبحانه،و الزكاة صلة الإنسان بالمجتمع،و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو تدبير حياة الأُمّة بدفعها إلى المعروف و نهيها عن المنكر بأساليب مختلفة تقتضيها مصالح العصر.

2.تعدّد القراءات

إنّ مسألة تعدّد القراءات للدين من أخطر المصائد الّتي نصبها المستعمرون في سبيل مسخ الهوية الإسلامية،لأنّ مغزاه انّ كلّ ما ورد في الكتاب و السنّة ليس له معنى واحد و قراءة واحدة،بل يمكن تفسيرها بطرق مختلفة،و لكلّ إنسان قراءته الخاصة في الدين،فربّما تكون نتيجة قراءة فردٍ فصل السياسة عن الدين و الآخر ضمها إليه،و هكذا دواليك.

فإذا قام الخطيب بتفسير آية أو رواية في جانب من الجوانب الدينية و الّذي لا يناسب أذواق المستعمرين و أذنابهم قاموا بوجهه قائلين بأنّ ما فهمته من الدين قراءة تختص بك و للآخرين من العلماء قراءة أُخرى،فلا يكون فهمك حجّة على

ص:186

الكل.و عند ذلك يصبح الإسلام بكتابه و سنته و كلمات علمائه مفاهيم غير واضحة،بل أُلعوبة بيد المنحرفين.

3.حصر الشريعة بفترة خاصة

الشريعة الإسلامية بفضل نصوصها شريعة خاتمة للشرائع،و كتابها خاتم الكتب،و نبيّها خاتم النبيّين،و قد جاء بسنن و قوانين تستطيع أن تلبّي حاجات الإنسان فردية و اجتماعية ما دام هو يعيش في هذا الكوكب،و لمّا كان القول بالخاتمية و دوام الشريعة سدّاً منيعاً أمام أطماع المستعمرين حاولوا أن يحدّدوا شريعته بأجيال ماضية قد قضى عليها التاريخ،فعلى الإنسان أن يمهد طريقه في الحياة بأفكاره و آرائه،أو بما يمليه العلم في مختلف الجوانب دون أية حاجة إلى الوحي و الشريعة.

هذه هي الأُصول المخططة لتضعيف الإيمان و سوق المجتمع إلى اللادينية و الانحراف عن التمسّك بالشريعة،فعندئذٍ تسهل السيطرة على منافع البلاد و أرباحها و نفوسها و مصيرها و مستقبلها،فعلى علماء الإسلام و محقّقيهم رصد هذه المناهج الضالّة و الدفاع عن حياض الإسلام بتحليل هذه المناهج بالمشراط العلمي حتّى لا يذوب الإيمان في قلوب الناشئة و تصبح سدّاً منيعاً أمام هذه التيارات الضالّة.

و هذه دراسة إجمالية تدفع المفكّر الإسلامي إلى بذل التوجّه و الاهتمام بالفقه الأكبر و أنّه ينال الدرجة الأُولى من الحاجات العلمية.

ص:187

12الكلام الشيعي الإمامي في قفص الاتّهام

اشارة

الكلام الإمامي في مراحله التي مرّ بها،كان يسير على ضوء الكتاب،و السنّة الصحيحة المأخوذة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام،و العقل الحصيف،و لم يكن فيما يبرم و ينقض،أو يعتقد و يرفض عيالاً على منهج من المناهج الكلامية خصوصاً الاعتزال،من غير فرق بين أهل الحديث و الأثر منهم،كالشيخ الصدوق(المتوفّى 381ه)،و من تقدّم عليه كأُستاذه ابن الوليد(المتوفّى 343ه) و أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري (المتوفّى حدود280ه) و سعد بن عبد اللّه القمي(المتوفّى301ه)،و أهل البرهنة و الاستدلال كعيسى بن روضة حاجب المنصور،و علي بن إسماعيل بن ميثم التمار البغدادي، و أبي جعفر مؤمن الطاق،و هشام بن الحكم،و هشام بن سالم،و من يليهم إلى عصر المفيد و المرتضى و الشيخ الطوسي،و الجميع على اختلاف مشاربهم درسوا العقيدة الإسلامية على ضوء ما ذكرنا،خصوصاً خطب الإمام علي عليه السلام و كلماته،فلو قالوا بالتوحيد،و العدل،و التنزيه،و نفي الرؤية،و القدرة، و الاستطاعة فإنّ جميع هذه المفاهيم مستقاة من

ص:188

عين صافية،و هي أحاديث أئمّة أهل البيت في مقدّمهم،خطب الإمام علي عليه السلام.

فلو اتّفقوا مع المعتزلة في قسم من الأُصول المذكورة،فلا يُعدّ هذا دليلاً على أنّهم أخذوه عن المعتزلة،بل الطائفتان اجتمعتا على مائدة واحدة و انتهلتا من معين واحد.

و قد ذكرنا في موسوعتنا (1)نصوص أئمّة الاعتزال على أنّ مذهبهم يتصل بالإمام علي عليه السلام،و نأتي هنا بنموذجين:

قال القاضي عبد الجبار:فأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فخطبه في بيان نفي التشبيه و إثبات العدل أكثر من أن تحصى. (2)

و قال أيضاً:و أنت إذا نظرت في خطب أمير المؤمنين وجدتها مشحونة بنفي الرؤية عن اللّه تعالى. (3)

و هذا هو ابن المرتضى يقول:و سند المعتزلة لمذهبهم أوضح من الفلق،إذ يتّصل إلى واصل و عمرو اتصالاً ظاهراً،و هما أخذا عن محمد بن علي بن أبي طالب و ابنه أبي هاشم عبد اللّه بن محمد،و محمد هو الذي ربّى واصلاً و علّمه حتّى تخرّج و استحكم،و محمد أخذ عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. (4)

و ها نحن نذكر خطبة من خطب الإمام،و هي جواب لسؤال من قال:صِفْ لنا ربّنا مثل ما نراه،فغضب عليه السلام،و نادى الصلاة جامعة،فاجتمع إليه الناس حتّى غصّ المسجد بأهله فقال كما يرويه الشريف الرضي:

وَ أَشْهَدُ أنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبايُنِ أعْضاءِ خَلْقِكَ،وَ تلاحُمِ حِقاقِ مَفاصِلِهمْ

ص:189


1- 1) .بحوث في الملل و النحل:188/3- 190.
2- 2) .فصل الاعتزال و ذكر المعتزلة:163.
3- 3) .شرح الأُصول الخمسة:268. [1]
4- 4) .المنية و الأمل:5-6. [2]

المُْحْتَجِبَة لِتَدْبيرِ حِكْمَتِكَ،لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلى مَعْرِفَتِكَ وَ لَمْ يُباشِرْ قَلْبُهُ الْيَقينَ بِأنَّهُ لا نِدَّ لَكَ،وَ كأنّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التّابِعينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ إِذْ يَقُولُونَ: «تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» .

كَذَبَ العادِلُونَ بِكَ إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنامِهِمْ وَ نَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوهامِهِمْ.وَ جَزَّأوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّماتِ بِخَواطِرهِمْ،وَ قَدَّرُوكَ عَلى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوى بِقَرائِحِ عُقُولِهِمْ.

وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ،وَ الْعادِلُ بِكَ كافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَماتُ آياتِكَ،وَ نَطَقَتْ عَنْهُ شَواهِدُ حُجَجِ بيِّناتِكَ،وَ إِنَّكَ أَنْتَ اللّهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاه فِي الْعُقُولِ فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً وَ لاَ في رَوِيَّاتِ خَواطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً.

و من كان عنده هذا الكنز الثمين و أمثاله فهو في غنى عن التطفّل على موائد الآخرين،و في منتدح عن أن يتفوّه بالتجسيم و التشبيه أو بالجهة و الرؤية،أو يصير عيالاً على غيره.

و مع هذا التاريخ الوضّاح لكلام الشيعة الإماميّة فقد اتّهموه ببعض التهم:

نذكر منها أمرين:

1.اتّهام الشيعة بالتجسيم

اشارة

إنّ مشايخ الإمامية كانوا على عقيدة التشبيه و التجسيم و الجهة و الرؤية،إلاّ نفراً قليلاً عدلوا إلى التنزيه و العدل،لأجل مصاحبتهم المعتزلة.

و حاصل التهمة:انّ الشيعة الإمامية،كانوا مجسّمة غير أنّ أقلّية منهم اتّصلت بالمعتزلة فتأثّروا بعقائدهم و صاروا من أصحاب التوحيد و العدل.

ص:190

يقول أبو الحسين الخياط(المتوفّى311ه):«و أمّا جملة قول الرافضة،فهو:إنّ اللّه عزّ و جلّ ذو قَدٍ،و صورة،و حدّ يتحرّك و يسكن،و يدنو و يبعد،و يخفّ و يثقل...»هذا توحيد الرافضة بأسرها،إلاّ نفراً منهم يسيراً صحبوا المعتزلة و اعتقدوا التوحيد،فنفتهم الرافضة عنهم،و تبرّأت منهم،فأمّا جُملَتُهم و مشايخهم،مثل:هشام بن سالم،و شيطان الطاق،و عليّ بن ميثم،و هشام بن الحكم،و عليّ بن منصور،و السكّاك،فقولهم ما حكيت عنهم...». (1)

و يقول ابن تيمية:و معلوم أنّ المعتزلة هم أصل هذا القول(العدل الإلهي)، و انّ شيوخ الرافضة كالمفيد(336- 413ه) و السيد المرتضى(355- 436ه) و الطوسي(385- 460ه) و الكراجكي(المتوفّى 449ه) إنّما أخذوا ذلك من المعتزلة،و إلاّ فالشيعة القدماء لا يوجد في كلامهم شيء من هذا.

و يقول الذهبي،زميل ابن تيمية:و من حدود سنة 370ه،إلى زماننا هذا تصادق الرفض و الاعتزال و تواخيا. (2)

يقول ابن حجر-موسّعاً زمان التآخي -:و إنّ الطائفتين لم يزالا متواخيين من زمان المأمون العباسي. (3)

أقول:و أنّى لأبي الحسين الخياط و ابن تيمية و الذهبي و أشباههم الإلمام بتاريخ الشيعة،و تقييم عقائدهم،و هم يكتبون تاريخ الشيعة بنفسية خاصة و بعقيدة مسبقة في حقّهم.

كيف يكون الشيعة عيالاً على المعتزلة من عصر اتّصال المفيد بهم مع أنّ

ص:191


1- 1) .الانتصار:14. [1]
2- 2) .ميزان الاعتزال:149/3.
3- 3) .لسان الميزان:248/4.

مشايخ الشيعة،قد رفعوا لواء التوحيد في القرون المتقدّمة على المفيد.

و ها نحن نذكر لفيفاً من مشايخ الشيعة(في القرنين الثاني و الثالث) الذين ألّفوا كتباً حول التوحيد،منهم:

1.علي بن منصور الكوفي،البغدادي.

له كتاب التدبير في التوحيد و الإمامة.

و كان من حضار مجلس يحيى بن خالد البرمكي الذي كان يعقده للمناظرة.

قال المسعودي:كان إمامي المذهب،و من نظّار الشيعة في وقته.

فمن كان يناظر في المسائل الكلامية و الفلسفية بمحضر جمع من متكلّمي الإسلام،هل يتصور أن يقول بالتجسيم و التشبيه و الجهة؟!

2.محمد بن الخليل البغدادي،أبو جعفر السكّاك(المتوفّى بعد 208ه).

له كتاب باسم التوحيد و آخر باسم المعرفة.

و هو من المتكلّمين المرموقين في عصر هارون الرشيد،و كان يرتاد الندوة التي كان يعقدها خالد بن يحيى البرمكي ببغداد.

3.محمد بن أبي عمير البغدادي(المتوفّى 217ه).

له كتاب التوحيد.

كان من مشايخ الشيعة،و لذلك اعتُقل في أيام هارون الرشيد و كفى في مقدرته العلمية أنّ هشام بن الحكم و هشام الجواليقي لمّا أرادا المناظرة في بعض المسائل العلمية،اشترط الجواليقي أن تجري المناظرة بينهما بحضور ابن أبي عمير.

4.علي بن الحسن بن محمد الكوفي،المعروف بالطاطري (المتوفّى بعد 230ه).

ص:192

ألّف في الكلام كتاب التوحيد.

و هو أحد أقطاب الشيعة في عصره.

5.محمد بن الحسين بن أبي الخطاب (المتوفّى 262ه).

ألّف كتباً،منها:كتاب التوحيد،و كتاب الرد على أهل القدر.

و هو صاحب الباع الطويل في الفقه و الحديث و الكلام.

6.سهل بن زياد الآدمي(المتوفّى بعد 260ه).

عاصر الإمامين محمد الجواد و علي الهادي عليهما السلام.

صنف كتاب التوحيد.

و هو يروي مناظرة موسى بن جعفر عليهما السلام مع أبي حنيفة،و هي بصدد نفي الجبر عن العبد،و تصحيح التقدير على نحو لا يخالف حرية الإنسان. (1)

هذه نماذج من مشايخ الشيعة الذين عاشوا في القرنين الثاني و الثالث،و قبل أن يولد الشيخ المفيد بسنين متطاولة،فكيف يصحّ لهؤلاء المتسرّعين ذلك القضاء الباطل الذي يبخس حق الشيعة،و يتنكّر لأصالة آرائهم و نظرياتهم الكلامية؟!

و العجب العجاب أن تصبح شيعة أمير المؤمنين(الذي منه عليه السلام انتشر التوحيد و العدل) مجسّمة مجبّرة،و يكون الأغيار أهل التنزيه و العدل!!

و ليس هذا من خصائص الكلام الإمامي و حسب،فانّ الزيدية المقتفية أثر خُطَب الإمام و كلماته،رفعت أيضاً لواء التوحيد و العدل منذ زمن قديم، منهم:

أبو محمد القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل الرسّي الحسني(169-246ه)

ص:193


1- 1) .انظر تراجم هؤلاء الأعلام في هذا الجزء من الكتاب.

فقد ألّف كتاب التوحيد و العدل الصغير،طبع في بيروت،دار مكتبة الحياة ضمن مجموعة رسائل من العدل و التوحيد.

كما ألّف كتاب التوحيد و العدل الكبير و هو ردود على المشبهة و المجبرة و القدرية و المرجئة طبع أيضاً في بيروت في نفس الدار.

يحيى بن الحسين الزيدي(220- 298ه) له العدل و التوحيد كما في الجامع الكبير. (1)

إلى غير ذلك من الكتب المؤلفة حول التوحيد و العدل بيد مشايخ الشيعة إماميهم و زيديهم و قد اشتهر بين المتكلّمين:العدل و التوحيد علويان، و الجبر و التشبيه أمويان.

إنّ كتاب الكافي لمؤلفه الشيخ الكليني(260- 329ه) يزخر بالأحاديث الدالة على نفي التشبيه و التجسيم و الجبر،و يليه كتاب التوحيد للشيخ الصدوق (306- 381ه) فقد أخرج فيه ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في مجال التوحيد و العدل،و قد جمع العلاّمة المجلسي(1037- 1110ه) في موسوعته الحديثية«بحار الأنوار»،كلّ ما ورد حولهما من الأثر عن النبي و أهل بيته فاستغرق ستة أجزاء من كتابه.

أ فبعد هذه الأحاديث المتوافرة تُتّهم،شيعة آل البيت بالتجسيم و التشبيه،ظلماً و عدواناً؟! و لأجل الملازمة بين التشيع و حبّ آل البيت و بين العدل و التوحيد يقول الصاحب بن عباد: لو شُقَّ عن قلبي يُرى وسْطه

ص:194


1- 1) .الجامع الكبير:675/2.

و العجب من ابن تيمية يرى القذى في عين غيره،و لا يرى الجذع في عينه، فهو و زميله الذهبي ينسبان للشيعة ما عرفت،مع أنّ كتب الحنابلة مكتظة بأخبار التجسيم و الجبر و هذا هو محمد بن إسحاق بن خزيمة(المتوفّى311ه) ألف كتاباً باسم«التوحيد و إثبات صفات ربّ العالمين»،جمع فيه من هنا و هناك روايات التجسيم،و قد أصبح هذا الكتاب و كتاب«السنّة»،لعبد اللّه بن أحمد بن حنبل(213- 290ه)،مرجع المجسّمة،فقد جاء فيهما ضحك ربنا،و اصبعه،و يده،و رجله،و ذراعيه و صدره إلى غير ذلك من الإسرائيليات و المسيحيات التي خدع بها المغفلون من الحشوية،فملئوا بها كتبهم،و هم يحسبون انّهم يحسنون صنعاً.

و قد نال توحيد ابن خزيمة مكانة عظمى لدى الحنابلة،و صار مصدر العقيدة الإسلامية عندهم.

قال ابن كثير في حوادث 460ه:و في يوم النصف من جمادى الأُولى قُرئ«الاعتقاد القادري»الذي فيه مذهب أهل السنّة و الإنكار على أهل البدع و قرأ أبو مسلم الكجي البخاري،المحدث،كتاب«التوحيد»لابن خزيمة على الحاضرين و ذكر بمحضر من الوزير ابن جهير و جماعة الفقهاء و أهل الكلام، و اعترفوا بالموافقة. (1)

و قد وقف الرازي على ما في الكتاب من الشرك و البدع،فشطب عليه،و قال في تفسير قوله سبحانه: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» :و اعلم أنّ محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سمّاه ب«التوحيد»- و هو في الحقيقة كتاب الشرك-و اعترض عليها و أنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف

ص:195


1- 1) .البداية و النهاية:92/12. [1]

التطويلات،لأنّه كان رجلاً مضطرب الكلام،قليل الفهم،ناقص العقل. (1)

و لمّا وقف شيخنا الصدوق على اتّهام قدماء أصحابنا بالتجسيم و التشبيه، ألف كتاب«التوحيد»،في ردّ هذه الوصمة فقال في مقدّمة الكتاب:إنّ الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا،إنّي وجدت قوماً من المخالفين لنا ينسبون عصابتنا إلى القول بالتشبيه و الجبر،لما وجدوا في كتبهم من الأخبار التي جهلوا تفسيرها و لم يعرفوا معانيها،و وضعوها في غير مواضعها،و لم يقابلوا بألفاظها،ألفاظ القرآن فقبّحوا بذلك عند الجهال مذهبَنا،و لبّسوا عليهم طريقتنا،و صدّوا الناس عن دين اللّه،و حملوهم على جحود حجج اللّه، فتقربت إلى اللّه تعالى ذكره بتصنيف هذا الكتاب في التوحيد و نفي التشبيه و الجبر.

اتهام هشام بن الحكم بالتجسيم

اتّهم أبو الحسين الخياط«الهشامين:هشام بن الحكم،و هشام بن سالم» و مؤمن الطاق و غيرهم بالتجسيم و التشبيه و تبعه غيره،لكنّها شنشنة أخزمية، نسمعها من كلّ من يكنّ العداء لشيعة آل البيت.و من وقف على جانب من جوانب شخصية«هشام بن الحكم»و انّه كان رائد الدليل و البرهان في الأندية الكلامية لأذعن بأنّ نسبة التجسيم إليه و إلى نظرائه،فرية بلا مرية.

و هذا هو المسعودي يعرفنا مكانته بين أعلام عصره،و نبوغه في الجدل و البرهان،فيقول:و قد كان يحيى بن خالد ذا علم و معرفة و بحث و نظر،و له مجلس يجتمع فيه أهل الكلام من أهل الإسلام و غيرهم من أهل الآراء و النحل،فقال لهم يحيى و قد اجتمعوا عنده:قد أكثرتم الكلام في الكمون و الظهور،و القدم

ص:196


1- 1) .مفاتيح الغيب:150/27. [1]

و الحدوث،و الإثبات و النفي،و الحركة و السكون،و المماسّة و المباينة، و الوجود و العدم،و الجرّ و الطفرة،و الأجسام و الأعراض،و التعديل و التجريح،و نفي الصفات و إثباتها،و الاستطاعة و الأفعال،و الكمية و الكيفية، و المضاف،و الإمامة أنصّ هي أم اختيار،و سائر ما توردونه من الكلام في الأُصول و الفروع،فقولوا الآن في العشق على غير منازعة،و ليورد كلّ واحد منكم ما سنح له فيه،و خطر إيراده بباله.

فقال علي بن ميثم و كان إمامي المذهب من المشهورين من متكلّمي الشيعة:

أيّها الوزير العشق ثمرة المشاكلة....

و قال الثالث:و هو محمد بن الهذيل العلاّف،و كان معتزليّ المذهب و شيخ البصريين:أيّها الوزير،العشق يختم على النواظر،و يطبع على الأفئدة،مرتقى في الأجساد....

و قال الرابع:و هو هشام بن الحكم الكوفي شيخ الإمامية في وقته و كبير الصنعة في عصره-:أيّها الوزير،العشق حِبالةٌ نصبها الدهر فلا يصيد بها إلاّ أهل التخالص في النوائب....

و قال النظّام إبراهيم بن سيّار المعتزلي و كان من نظار البصريين في عصره:

أيّها الوزير العشق أرق من السراب و أدبُّ من الشراب....

ثمّ قال السادس و السابع و الثامن و التاسع و العاشر و من يليهم،حتّى طال الكلام في العشق بألفاظ مختلفة و معان تتقارب و تتناسب،و فيما مر دليل عليه. (1)

أ فيصحّ بعد هذا أن نتّهمه بأنّه كان يقول بأنّ معبوده سبعة أشبار بشبر

ص:197


1- 1) .مروج الذهب:372/3،طبعة دار [1]الأندلس،بيروت.

نفسه و انّه في مكان مخصوص وجهة مخصوصة،و انّه يتحرك و حركته...

و ليست من مكان إلى مكان و قال:هو متناه بالذات غير متناه بالقدرة.

و حكى عبد اللّه عيسى الوراق أنّه قال:إنّ اللّه تعالى مماس لعرشه،لا يفضل منه شيء عن العرش و لا يفضل من العرش شيء منه. (1)

إنّ هذه الأفكار ألصق بالحشوية منها بشيعة آل البيت الذين تربّوا في أحضان التوحيد و العدل.

إنّ أفضل السُّبُل للوقوف على شخصية إنسان و أفكاره و نزعاته هو تسليط الضوء على الآثار التي تركها بعد رحيله،فالمترجمون له،يذكرون له كتباً، منها:

1.كتاب التوحيد.

2.كتاب المجالس في التوحيد.

3.كتاب الشيخ و الغلام في التوحيد.

4.كتاب الردّ على ارسطاطاليس في التوحيد.

5.كتاب الدلالات على حدث (حدوث) الأجسام.

6.كتاب الردّ على الزنادقة.

7.كتاب الردّ على أصحاب الاثنين.

8.كتاب الردّ على أصحاب الطبائع.

9.كتاب في الجبر و القدر.

10.كتاب القدر.

11.كتاب الاستطاعة.

ص:198


1- 1) .الشهرستاني،الملل و النحل:149/1،طبعة المكتبة [1]النصرية،بيروت.

12.كتاب المعرفة.

13.كتاب الألطاف.

14.كتاب الألفاظ،و لعلّه كان يعني شرح المصطلحات التي كان يستعملها هو أو كانت تستعمل في الكلام.

إنّ من يرد على أرسطاطاليس في التوحيد،و يناضل ذلك المعلم الأوّل، يستحيل عليه أن يقدِّر ربه بأشبار نفسه،أو يجلسه على عرشه الذي لا يزيد عليه و لا ينقص منه.

و قد كفانا في دفع هذه السهام المرشوقة على شخصية مثل هشام بن حكم، أو هشام بن سالم أو مؤمن الطاق،ما قام به القدامى من علمائنا،منهم الشريف المرتضى،حيث يقول:

«...فأمّا ما رُمي به هشام بن الحكم من القول بالتجسيم،فالظاهر من الحكاية عنه القول ب«جسم لا كالأجسام»،و لا خلاف في أنّ هذا القول ليس بتشبيه، و لا ناقض لأصل،و لا معترض على فرع،و أنّه غلط في عبارة،يرجع في إثباتها و نفيها إلى اللّغة،و أكثر أصحابنا يقولون:إنّه أورد ذلك على سبيل المعارضة للمعتزلة،فقال لهم:إذا قلتم:إنّ القديم تعالى شيء لا كالأشياء، فقولوا:إنّه جسمٌ لا كالأجسام،و ليس كلّ من عارض بشيء و سأل عنه أن يكون معتقداً له و متديّناً به،و قد يجوز أن يكون قصد به إلى استخراج جوابهم عن هذه المسألة و معرفة ما عندهم فيها،أو إلى أن يُبيِّن قصورهم عن إيراد المرتضى في جوابها،إلى غير ذلك ممّا لا يتّسع ذكره.

فأمّا الحكاية أنّه ذهب في اللّه تعالى أنّه جسم له حقيقة الأجسام الحاضرة، و حديث (الأشبار) المدّعى عليه فليس نعرفه إلاّ من حكاية الجاحظ عن النظّام،

ص:199

و ما فيها إلاّ متّهم عليه غير موثوق بقوله،و جملة الأمر:أنّ المذاهب يجب أن تؤخذ من أفواه قائليها و أصحابهم المختصّين بهم و من هو مأمون في الحكاية عنهم،و لا يرجع إلى دعاوي الخصوم....

و ممّا يدلّ على براءة هشام من هذه التهم،ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله:«لا تزال يا هشام مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك».

و أمّا الجبر و تكليفه [تكليف اللّه] بما لا يطاق ممّا لا نعرفه مذهباً له...». (1)

و في معالم ابن شهرآشوب،قال الصادق عليه السلام:«هشام رائد حقّنا،و سائق قولنا، المؤيّد لصدقنا،و الدامغ لباطل أعدائنا،من تبعه و تبع أثره تبعنا،و من خالفه و ألحد فقد عادانا و ألحد فينا». (2)

و لا ريب في أنّ العارف بفنّ المناظرة و الأساليب المتّبعة في هذا الفنّ،يُدرك ما يرمي إليه المناظر القدير من مقاصد في كلامه،و يبدو أنّ أبا الفتح الشهرستاني (المتوفّى 548ه)،قد فهم هذا المعنى،و أدرك مغازي تلك المناظرات،فقال:و هذا هشام بن الحكم صاحب غوْر في الأُصول،لا يجوز أن يُغفل عن إلزاماته على المعتزلة،فإنّ الرجل وراء ما يلزمه على الخصم، و دون ما يظهره من التشبيه،و ذلك أنّه ألزم العلاف،فقال:إنّك تقول الباري عالم بعلم و علمه ذاته،فيشارك المحدثات في أنّه عالم بعلم،و يباينها في أنّ علمه ذاته،فيكون عالماً لا كالعالمين،

ص:200


1- 1) .الشافي:83/1.
2- 2) .معالم العلماء:128.و [1]قد قام المحقّق المعاصر الشيخ محمد رضا الجعفري(حفظه اللّه) بالدفاع العلمي عن شيخ الشيعة و متكلّمهم هشام بن الحكم في مقال خاص نشره في مجلة تراثنا العدد30،ط قم فلاحظ.

فلم لا تقول هو جسم لا كالأجسام،و صورة لا كالصور،و له قدر لا كالأقدار، إلى غير ذلك.

و يقول أحمد أمين:إنّ هشام بن الحكم أكبر شخصية شيعية في الكلام،و كان جداً قوي الحجّة،ناظر المعتزلة و ناظروه،و نقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرقة تدل على حضور بديهيته و قوة حججه.

و أقصى ما يمكن أن يقال:إنّ الرجل كان في بداية أمره من تلاميذ أبي الشاكر الديصاني،صاحب النزعة الإلحادية في الإسلام،ثمّ تبع الجهم بن صفوان، الجبري المتطرّف المقتول بترمذ عام 128ه،ثمّ لحق بالإمام الصادق عليه السلام ودان بمذهب الإمامية،و ما تنقل منه من الآراء التي لا توافق أُصول الإمامية، فإنّما هي راجعة إلى العصرين اللّذين كان فيهما على النزعة الإلحادية أو الجهمية،و أمّا بعد ما لحق بالإمام الصادق عليه السلام فقد انطبعت عقليّته بمعارف أهل البيت إلى حدّ كبير،حتّى صار أحد المناضلين عن عقائد الشيعة الإمامية. (1)

و إنّني أعتقد أنّ هذا الكلام الواضح كالشمس في رابعة النهار،يبدّد كلّ السحب السوداء التي أحاطت بآراء و مقالات هشام،و لم يُبق لطلاّب الحقيقة من عذر في جهل شخصية هشام،و سمو منزلته في العلم و الإيمان و العقائد الصحيحة.

2.الشيعة ورثة المعتزلة

هذه هي التهمة الأُخرى التي ألصقها خصوم الشيعة بهم،و قد مرّ في كلام الخياط و غيره الإشارة إليها و اجترّها الباحث الغربي«آدم متز»في كتابه «الحضارة

ص:201


1- 1) .راجع بحوث في الملل و النحل:578/6. [1]

الإسلامية في القرن الرابع»،و قد خصّص الفصل الخامس من كتابه للشيعة، و لم يكن عنده-حسب اعترافه-إلاّ مخطوط علل الشرائع للصدوق (306- 381ه) و قد عثر عليه في مكتبة برلين،و لم يذكر في هذا الفصل شيئاً مهماً عن الشيعة سوى الصراعات و الفتن التي دارت في هذا القرن و ما قبله بين السنّة و الشيعة في بغداد و غيرها،و قد جمع تلك الصفحات بجدّ و حماس، و كأنّه يريد أن يلخّص الشيعة في إثارة الفتنة و الفساد،متناسياً دورهم الكبير في الدين و الأدب،و مشاركتهم سائر المسلمين في بناء الحضارة الإسلامية، و إن أشار في ثنايا كتابه إلى بعض الشخصيات اللامعة منهم كنصير الدين الطوسي،وليته اكتفى في رسم صورة تلك الطائفة بما ذكره،و لم يتّهمهم بكونهم تبعاً للمعتزلة في الأُصول و الآراء،و إنّه لم يكن لهم في القرن الرابع مذهب كلامي مدوّن،و إليك نصَّ كلامه:

إنّ الشيعة هم ورثة المعتزلة،و لا بدّ أن تكون قلّة اعتداد المعتزلة بالأخبار المأثورة ممّا لاءَم أغراض الشيعة،و لم يكن للشيعة في القرن الرابع (300- 400ه) مذهب كلامي خاصّ بهم،فتجد مثلاً أن عضد الدولة (المتوفّى 372ه) و هو من الأُمراء المتشيّعين يعمل على حسب مذهب المعتزلة،و لم يكن هناك مذهب شيعي للفاطميين،و يصرح المقدسيّ بأنّهم يوافقون المعتزلة في أكثر الأُصول،و على العكس من هذا نجد الشيعة الزيدية يرتقون بسند مذهب المعتزلة حتى ينتهي إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، و يقولون:إنّ واصلاً أخذ عن محمد بن علي بن أبي طالب،و أنّ محمّداً أخذ عن أبيه،و الزيدية يوافقون المعتزلة في أُصولهم إلاّ في مسألة الإمامة،و يدلّ على العلاقة الوثيقة بين المعتزلة و الشيعة أنّ الخليفة القادر جمع بينهما حينما نهى في عام (408ه) عن الكلام و المناظرة في الاعتزال و الرفض (مذهب الشيعة) و المقالات المخالفة للإسلام.

ص:202

ثمّ إنّ الطريقة التي سار عليها ابن بابويه القمّي أكبر علماء الشيعة في القرن الرابع الهجري في كتابه المسمّى بكتاب«العلل»تذكّرنا بطريقة علماء المعتزلة الذين يبحثون عن علل كلّ شيء. (1)

إنّ في كلام هذا الباحث مناقشات كثيرة قد أشرنا إليها في مقال تحت عنوان« الشيعة و علم الكلام عبر القرون الأربعة»،نشر بمناسبة الذكرى الألفية لوفاة الشيخ المفيد برقم 32 لكن نشير في المقام إلى الغرض الأسنى من هذا البحث.

من قرأ تاريخ التشيع و الاعتزال يقف على أنّ الطائفتين تتصارعان صراع الأقران في المسائل التي اختلفتا فيها،فكيف يمكن أن تكون الشيعة عالة على المعتزلة في عقائدها؟ فأين مبادئ الشيعة من مبادئ الاعتزال و الطائفتان و إن كانتا تشتركان في التوحيد و العدل و بالتالي في نفي التجسيم و الرؤية و الجبر و القول بالتحسين و التقبيح العقليين،لكنّهما تفترقان في كثير من الأُصول،و كفاك في هذا المضمار ما ألّفه الشيخ المفيد باسم«أوائل المقالات في المذاهب و المختارات».

يقول في ديباجة كتابه:«فإنّي بتوفيق اللّه و مشيته مثبت في هذا الكتاب ما آثر إثباتَه من فرْق ما بين الشيعة و المعتزلة،و فصل ما بين العدلية من الشيعة و من ذهب إلى العدل من المعتزلة،و الفرق ما بينهم من بعد،و ما بين الإمامية فيما اتّفقوا عليه من خلافهم فيه من الأُصول،و ذاكر في أصل ذلك ما اجتبيته أنا من المذاهب المتفرعة عن أُصول التوحيد و العدل و القول من اللطيف في الكلام و ما كان وفاقاً منه لبني نوبخت رحمهم اللّه،و ما هو خلاف لآرائهم في المقال و ما يوافق

ص:203


1- 1) .الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري:106/1- 107.

ذلك مذهبه (1)من أهل الاعتزال و غيرهم من أصحاب الكلام ليكون أصلاً معتمداً فيما يمتحن للاعتقاد،و باللّه استعين على تبيين ذلك و هو بلطفه الموفق (2)للصواب».

و قد سبق منّا في الفصل العاشر الفوارق بين المنهجين في الكلام. (3)

إنّ المناظرات التي دارت بين الشيعة و المعتزلة من عصر الإمام الباقر عليه السلام إلى العصر الذي ارتمت فيه المعتزلة في أحضان آل بويه،أدلّ دليل على أنّ النظام الفكري للشيعة لا يتفق مع المعتزلة. (4)

و أمّا ردود الشيعة على المعتزلة فحدّث عنها و لا حرج،و إليك أسماء بعضها:

1.محمد بن علي بن النعمان،مؤمن الطاق(المتوفّى نحو 160ه):أحد المتكلّمين البارزين،و له مجالس مع الآخرين،له كتب،منها:الرد على المعتزلة في إمامة المفضول،و كتاب الجمل في أمر طلحة و الزبير و عائشة. (5)

2.هشام بن الحكم(المتوفّى 199ه):متكلّم الشيعة في عصره.له ردود على مختلف الفرق،منها:كتاب الردّ على المعتزلة،و كتاب الردّ على المعتزلة و طلحة و الزبير. (6)

ص:204


1- 1) .الضمير يرجع إلى الشريف الرضي حيث أشار إليه فيما سبق من كلامه هذا.
2- 2) .أوائل المقالات:1- 2،طبعة تبريز. [1]
3- 3) .لاحظ ص 161-163 من هذه الرسالة.
4- 4) .لاحظ هذه المناظرات في الكتابين التاليين:1.الفصول المختارة من العيون و المحاسن،2.كنز الفوائد،للكراجكي(المتوفّى 449ه).
5- 5) .فهرست الطوسي،رقم 595. [2]
6- 6) .رجال النجاشي:397/2 برقم 1165.

3.الفضل بن شاذان الأزدي النيسابوري(المتوفّى 260ه):فقيه متكلّم بارع.

له ردود،منها:النقض على الاسكافي،الرد على الأصمّ،كتاب في الوعد و الوعيد. (1)

4.الحسن بن موسى بن الحسن بن محمد بن العباس النوبختي(المتوفّى حدود 310ه) له ردود على المعتزلة نذكر منها ما يلي:

النقض على أبي الهذيل العلاّف في المعرفة (أبو الهذيل متكلم معتزلي توفّي سنة 235ه)،النقض على جعفر بن حرب في الإمامة (و هذا متكلّم معتزلي توفّي سنة 236ه)،نقض العثمانية للجاحظ،الردّ على أصحاب المنزلة بين المنزلتين في الوعيد،إلى غير ذلك من آثاره.

5.محمد بن عبد الرحمن بن قبة المتكلّم المعروف،المتوفّى قبل سنة (319ه)،له كتاب الردّ على الجبائي،و نقل النجاشي عن أبي الحسين السوسنجردي،أنّه قال:مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ بعد زيارتي الرضا عليه السلام بطوس فسلّمت عليه و كان عارفاً بي و معي كتاب أبي جعفر ابن قبة في الإمامة المعروف بالإنصاف،فوقف عليه و نقضه ب«المسترشد في الإمامة»،فعدت إلى الري فدفعت الكتاب إلى ابن قبة فنقضه ب«المستثبت في الإمامة»،فحملته إلى أبي القاسم فنقضه ب«نقض المستثبت»،فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قد مات. (2)

و أخيراً قام الشيخ المفيد بنقض كثير من كتب المعتزلة،فله الكتب التالية و كلّها ردود عليهم:

ص:205


1- 1) .رجال النجاشي:168/2برقم 838.
2- 2) .رجال النجاشي:288/2 برقم 1024.

1.الرد على الجاحظ العثمانية.

2.نقض المروانية.

3.نقض فضيلة المعتزلة.

4.النقض على ابن عبّاد في الإمامة.

5.النقض على عليّ بن عيسى الرماني.

6.النقض على أبي عبد اللّه البصري في المتعة.

7.نقض الخمس عشرة مسألة للبلخي.

8.نقض الإمامة على جعفر بن حرب.

9.الكلام على الجبائي في المعدوم.

10.نقض كتاب الأصمّ في الإمامة.

11.كتاب الردّ على الجبائي في التفسير.

12.عمد مختصرة على المعتزلة في الوعيد.

إنّ تلميذه الفارس البطل في حقل الكلام السيد المرتضى (355- 436ه) نقض بعض كتب المعتزلة فألف الشافي ردّاً على الجزء العشرين من كتاب «المغني»للقاضي عبد الجبار(المتوفّى 415ه).

كلّ ذلك يعرب عن أنّ الطائفتين تتفقان في أُصول و تختلفان في أُصول أُخرى و ليست إحداهما فرعاً للأُخرى،بل الجميع يصدرون في قسم من الأُصول عن عين صافية،أعني:خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام و يختلفون في أُصول كلامية.

إلى هنا تمّ تبيين بعض التهم المرميّ بها الكلام الإمامي و تركنا بعض التهم الجزئية لضئالتها،و للّه الحمد.

ص:206

13المراحل الأربع التي مرّ بها الكلام الإماميّ

اشارة

قد أصبح اليوم تاريخ كلّ علم موضوعاً مستقلاً وراء العلم حتّى غلا بعضهم في القول بأنّه ليس للعلم حقيقة سوى تاريخه و مراحله التي مرّ بها العلم عبر قرون،و الفرق بين ذات العلم و دراسة تاريخه و مراحله يتجلّى في المثال التالي:

هناك من يبحث في علم الطب من منظار داخلي و تُثمر جهودُه في نفس ذلك العلم،و تتبعه اكتشافات في الداء و الدواء،و هناك من يبحث في ذلك العلم من منظار خارجي و تنصب جهوده في تاريخه و المراحل الّتي مرّ بها العلم،و ما أعقبه من نضوج و تكامل،و هذا ما نهدف إليه في هذا الفصل الذي هو خاتمة المطاف في هذا التقديم.

المرحلتان المتواكبتان

اشارة

إنّ الشيعة الإماميّة منذ عصر الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام إلى عصر

ص:207

الشيخ المفيد كانوا على منهجين متقاربين لا متضادّين:

1.منهج جمع الحديث و تدوينه مجرّداً عن التعمّق و التمحيص إلاّ قليلاً.

2.منهج تدوين الحديث مع تمحيص السنّة الصحيحة عن الموضوعة.

و كانت الطائفتان على ذينك المنهجين و كلّ يدافع عن منهجه بجدّ و حماس إلى أن وصل دور الرئاسة إلى الفارس الباسل في ميدان العلوم و المعارف:

الشيخ المفيد فأطفأ ثورة الطائفة الأُولى و قلع فكرة الجمود على النقل من دون تمحيص و نظر.

نعم كان المنهجان يتواكبان في عصر واحد دون أن يكون لواحد تقدّم زمنيّ على الآخر،و قد اتخذت الطائفة الأُولى بلدة قم و الريّ مركزاً لتعاليمها و ثقافتها،كما كانت الكوفة و بغداد مركزاً للطائفة الثانية،و ستقف على أعلام كلّ طائفة على وجه الإجمال.

جدير بالذكر أنّ اختلاف المنهجين في المسائل الكلامية التي لا يجب الاعتقاد فيها بواحد من القولين،رغم أنّهم كانوا متّفقين في الأُصول التي تناط بها السعادة كالتوحيد و العدل و نفي الرؤية،و عينية الصفات للذات و حدوث القرآن و نفي الجبر عن أفعال العباد،و ها نحن نشير إلى أعلام كلّ منهج بإيجاز:

أعلام المنهج الأوّل

1.سعد بن عبد اللّه بن أبي خلف الأشعريّ.يقول النجاشي:شيخ هذه الطائفة و فقيهها و وجهها،كان سمع من حديث العامة شيئاً كثيراً و سافر في طلب الحديث،لقى من وجوههم:الحسن بن عرفة و محمد بن عبد الملك الدقيقي و أبا حاتم الرازي و عباس الترقفي،و لقى مولانا أبا محمد عليه السلام (توفّي سنة 301ه،

ص:208

و قيل 299ه). (1)

2.سهل بن زياد أبو سعيد الآدمي الرازي،كان ضعيفاً في الحديث غير معتمد فيه،له كتاب التوحيد،تُوفّي بعد 255. (2)

3.محمد بن الحسن الصفّار،يقول النجاشي:كان وجهاً في أصحابنا القميّين، ثقة،عظيم القدر،راجحاً،قليل السقط في الرواية.توفّي عام 290ه.له كتاب الردّ على الغلاة،و غير ذلك. (3)

4.أحمد بن محمد بن خالد البرقي،أبو جعفر،نقل العلاّمة الحلّي عن ابن الغضائري:طعن عليه القميّون و ليس الطعن فيه،و إنّما الطعن فيمن يروي عنه،فإنّه كان لا يبالي عمّن أخذ على طريقة أهل الأخبار،توفّي عام 274ه. (4)

5.عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى الجلودي البصري أبو أحمد، شيخ البصرة و أخباريّها،و كان عيسى الجلودي من أصحاب أبي جعفر الجواد عليه السلام. (5)

6.محمد بن زكريا بن دينار مولى بني غلاّب،قال النجاشي:كان هذا الرجل وجهاً من وجوه أصحابنا في البصرة،و كان أخباريّاً واسع العلم و صنّف كتباً كثيرة،توفّي عام 298ه. (6)

7.أحمد بن إبراهيم بن معلّى بن أسد العمّي،قال النجاشي:كان ثقة في

ص:209


1- 1) .رجال النجاشي،برقم 465.
2- 2) .رجال النجاشي،برقم 488.
3- 3) .رجال النجاشي،برقم 950.
4- 4) .رجال النجاشي برقم 180؛و خلاصة الرجال [1]للعلاّمة،القسم الأوّل،باب أحمد،برقم 7.
5- 5) .رجال النجاشي برقم 638.
6- 6) .رجال النجاشي برقم 937.

حديثه،حسن التصنيف،و أكثر الرواية عن عامّة الأخباريّين. (1)

و أخيرهم لا آخرهم:

8.أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه المعروف بالصدوق القمي أبو جعفر نزيل الريّ.قال النجاشي:شيخنا و فقيهنا و وجه الطائفة بخراسان،و كان ورد بغداد سنة 355ه،و سمع منه شيوخ الطائفة و هو حدث السنّ. (2)

هؤلاء هم مشاهير المقتفين للمنهاج الأوّل،و قد مرّ أنّ النجاشي يصف أكثرهم بالأخبارية،و قد مرّ أنّهم كانوا يسكنون مدينة قم أو الري،و يُستنتج ممّا جاء في تراجمهم انّهم كانوا يتميزون بأُمور:

1.كانوا يمارسون الأخبار و يروونها لكن بلا تمحيص،و مع ذلك لم يكن الجميع على منزلة واحدة من هذه الجهة للفرق الواضح بين ما ألّفه الصدوق و غيره.

2.كانوا يعتمدون على العقل بأقلّ ما يمكن.

3.يرون أنّ خبر الآحاد حجة في العقائد و المعارف كما هو حجّة في الفقه و الأحكام.

أعلام المنهج الثاني
اشارة

و أمّا أعلام المنهج الثاني الذين كانوا أكثر اعتماداً على العقل و البرهان من الطائفة الأُولى،فقد ورثوا هذا الخط من عصر الإمام الصادق عليه السلام،و نبغ في

ص:210


1- 1) .رجال النجاشي برقم 237.
2- 2) .رجال النجاشي برقم 1050.

أحضانه متكلّمون واعون نشير إلى بعضهم:

1.زرارة بن أعين.يقول النجاشي:شيخ أصحابنا في زمنه و متقدّمهم كان قارئاً،فقيهاً،متكلماً،شاعراً،أديباً،قد اجتمع فيه خصال الفضل و الدين،له كتاب في الاستطاعة و الجبر. (1)

2.محمد بن أبي عمير زياد بن عيسى.يقول النجاشي:بغدادي الأصل و المقام؛جليل القدر،عظيم المنزلة فينا و عند المخالفين.له من الكتب:كتاب الكفر و الإيمان،كتاب البداء،كتاب الاحتجاج في الإمامة،توفّي عام 217ه. (2)

3.يونس بن عبد الرحمن مولى علي بن يقطين.يقول النجاشي:كان وجهاً في أصحابنا،متقدّماً،عظيم المنزلة،روى عن الكاظم و الرضا عليهما السلام.له كتاب المثالب،كتاب البداء،كتاب الردّ على الغلاة،كتاب الإمامة. (3)

4.الفضل بن شاذان،أبو محمد الأزدي.كان أبوه من أصحاب يونس،و كان ثقة،أحد أصحابنا الفقهاء و المتكلّمين،و له جلالة في هذه الطائفة،و من كتبه:

كتاب النقض على الاسكافي في تقوية الجسم،كتاب الوعيد،كتاب الردّ على أهل التعطيل،كتاب الاستطاعة،كتاب الأعراض و الجواهر،إلى غير ذلك من كتبه. (4)

5.أبو محمد حسن بن موسى النوبختي.يقول النجاشي:الحسن بن موسى أبو محمد النوبختي شيخنا المتكلّم المبرّز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة

ص:211


1- 1) .رجال النجاشي،برقم 461.
2- 2) .رجال النجاشي،برقم888.
3- 3) .رجال النجاشي،برقم1029.
4- 4) .رجال النجاشي،برقم 838.

و بعدها.له على الأوائل كتب كثيرة،منها:كتاب الآراء و الديانات،كتاب كبير حسن يحتوى على علوم كثيرة،قرأت هذا الكتاب على شيخنا أبي عبد اللّه.

ثمّ ذكر فهرس كتبه الكثيرة عامّتها في الكلام و قسم منها نقوض و ردود.توفي حوالي 310ه. (1)

6.أبو سهل إسماعيل بن علي بن إسحاق النوبختي.يقول النجاشي:كان شيخ المتكلّمين من أصحابنا و غيرهم،له جلالة في الدنيا و الدين،يجري مجرى الوزراء في جلالة الكتاب.صنّف كتباً كثيرة،منها:الاستيفاء في الإمامة،و كتاب التنبيه في الإمامة،إلى غير ذلك من النقوض و الردود.

7.أبو (2)الجيش مظفر بن محمد البلخي.يعرّفه النجاشي بقوله:متكلّم مشهور الأمر سمع الحديث فأكثر،له كتب كثيرة،منها:نقض العثمانية على الجاحظ،كتاب مجالسة مع المخالفين،إلى غير ذلك من الكتب،توفّي عام 367ه،و قد قرأ على أبي سهل النوبختي. (3)

أخيرهم لا آخرهم:

8.محمد بن محمد بن النعمان المفيد،الغني عن التعريف،كان فارسَ ميدان العلوم و المعارف،و من أبرز تخصّصاته أنّه كان متكلماً بارعاً ذا منهج خاص و مناظراً منقطع النظير،انتهت إليه رئاسة كلام الشيعة في أواخر القرن الرابع، توفّي عام 413ه.

هذه إشارة عابرة إلى رجال المنهجين،و الطابع الغالب على الأوّل التحديث

ص:212


1- 1) .رجال النجاشي،برقم146.
2- 2) .رجال النجاشي،برقم 67.
3- 3) .رجال النجاشي،برقم1131.

و العمل بخبر الآحاد في العقائد و المعارف،كما أنّ الطابع العام لمقتفي المنهج الثاني هو العمل بالكتاب و السنّة المتضافرة و العقل الحصيف.

و هناك سبب آخر لتمايز المنهجين،و هو أنّ روّاد المنهج الأوّل كانوا في منطقة طابَعها العام هو التشيع و كانت السنّة بينهم في قلّة،فلم يكن هناك ما يحفِّز كثيراً على إعمال العقل و النظر و الاحتجاج،لكن روّاد المنهج الثاني كانوا يتواجدون في بغداد و الكوفة و فيها السنّة بطوائفها،و كان الاحتكاك الثقافي يلزمهم بالجدل و المناظرة و إعمال الفكر لتحصين العقائد.

و مع سيادة طابعين مختلفين على أصحاب هذين المنهجين إلاّ أنّهم لم يختلفوا في الأُصول و إنّما اختلفوا في مسائل كلامية،تظهر بمراجعة كتاب «تصحيح الاعتقاد»للشيخ المفيد،و هو تعليقات على كتاب«عقائد الإمامية» للشيخ الصدوق،ناقشه في عدّة من المسائل الكلامية.

و بالرجوع إلى«تصحيح الاعتقاد»تظهر مواقع الاختلاف بين المنهجين،و بما أنّ«تصحيح الاعتقاد»طبع و انتشر على نطاق واسع،فإنّنا لا نجد هنا ما يُلزم لبيان الفوارق بينهما.

و لأجل إعلام القارئ بوجود النقاش بين أصحاب المنهجين نذكر عبارة المفيد التي سطّرها في بعض فصول هذا الكتاب يقول:

«لكن أصحابنا المتعلّقين بالأخبار،أصحاب سلامة و بعد ذهن و قلّة فطنة، يمرّون على وجوههم فيما سمعوه من الأحاديث و لا ينظرون في سندها،و لا يفرقون بين حقّها و باطلها،و لا يفهمون ما يدخل عليهم في إثباتها،و لا يحصلون معاني ما يطلقونه منها...». (1)

ص:213


1- 1) .تصحيح الاعتقاد:38،طبع تبريز.

نقل الشيخ المفيد آراء بعض المحدّثين بما لا يوافق مذهب الإمامية،و لأجل ذلك خطّأهم و نسبهم إلى التقصير قال:و قد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد (1)لم نجد دافعاً في التقصير،و هي ما حكي عنه أنّه قال:أوّل درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبي و الإمام،فإن صحت هذه الحكاية فهو مقصّر مع أنّه من علماء القمّيين و مشيختهم.

قد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصّرون تقصيراً ظاهراً في الدين، و ينزلون الأئمة عن مراتبهم،يزعمون أنّهم كانوا لا يعرفون كثيراً من الأحكام الدينية حتّى ينكت في قلوبهم.

و رأينا في أُولئك من يقول:إنّهم ملتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي و الظنون،و يدّعون مع ذلك أنّهم من العلماء،و هذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه. (2)

و ها نحن نأتي ببعض المسائل الّتي اختلف فيها العلَمان،و هي إمّا موضوعات قرآنية أو مسائل كلاميّة.

1.معنى كشف الساق

قال سبحانه: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ». 3

قال الصدوق:الساق وجه الأمر و شدّته.

و فسّره الشيخ المفيد بأنّه سبحانه يريد به يوم القيامة ينكشف فيه عن أمر

ص:214


1- 1) .شيخ القميّين و فقيههم و متقدّمهم و وجههم،نزيل قم،مات سنة 343ه.
2- 2) .تصحيح الاعتقاد:66.

شديد صعب عظيم،و هو الحساب و المداقّة على الأعمال و الجزاء على الأفعال،و ظهور السرائر و انكشاف البواطن...

ترى أنّ الاختلاف بين العلمين بسيط،و بيان الشيخ توضيح لما ذكره الصدوق في تفسير الآية.

2.تأويل اليد

قال سبحانه: «وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّابٌ». 1

قال الصدوق:معنى الآية:ذو القوّة،و قال الشيخ المفيد:فيه وجه آخر و هو أنّ اليد عبارة عن النعمة.قال الشاعر: له عليّ أيادٍ لست أكفرها و إنّما الكفر أن لا تُشْكر النعم

3.نفخ الأرواح

قال سبحانه: «وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي». 2

قال الصدوق:هي روح مخلوقة أضافها إلى نفسه كما أضاف البيت إلى نفسه، حيث قال: «وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ». 3

قال الشيخ المفيد:ليس وجه إضافة الروح[و البيت] إلى نفسه و النسبة إليه،من حيث الخلق فحسب،بل الوجه في ذلك التمييز لهما بالإعظام و الإجلال، و الاختصاص بالإكرام....

ص:215

4.الخدعة و المكر و النسيان

قال سبحانه: «يُخادِعُونَ اللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ». 1

و قال سبحانه: «وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ». 2

قال سبحانه: «نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ». 3

قال الصدوق:إنّ المراد بذلك كلّه جزاء الأعمال.

و قال المفيد:هو كما قال،إلاّ أنّه لم يذكر الوجه في ذلك.ثمّ ذكر الوجه.

5.خلق أفعال العباد

قال الصدوق:أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين،و معنى ذلك أنّه تعالى لم يزل عالماً بمقاديرها.

و خالفه المفيد،و قال:إنّ العلم بالشيء لا يعدّ خلقاً له.ثمّ هو نفى كون أفعال العباد مخلوقة للّه بأيّ نحو كان،و استدلّ بما روي عن أبي الحسن الثالث أنّه سئل عن أفعال العباد؟ فقيل له:هل هي مخلوقة للّه تعالى،فقال عليه السلام:لو كان خالقاً لها لما تبرأ منها،قال سبحانه: «أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ». 4

6.الجبر و التفويض

ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام:«لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين»، ففسّره الصدوق بنحو و الشيخ بنحو آخر.

ص:216

7.المشيئة و الإرادة

قال الصدوق:«شاء اللّه و أراد،و لم يحب و لم يرض،و شاء عزّ اسمه ألاّ يكون شيء إلاّ بعلمه،و أراد مثل ذلك».و حاصله:أنّ أفعال العباد تعلّقت بها إرادة اللّه و مشيئته و لكنّها غير محبوبة و لا مرضيّة.

و خالفه الشيخ المفيد و قال:إنّ اللّه تعالى لا يريد إلاّ ما حسن من الأفعال،و لا يشاء إلاّ الجميل من الأعمال و لا يريد القبائح و لا يشاء الفواحش.يقول سبحانه: «وَ مَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ». 1

8.الكلام في القضاء و القدر

قال الصدوق:الكلام في القدر منهيّ عنه.

و خالفه الشيخ المفيد و حمل الأخبار الناهية على وجهين:

1.أن يكون النهي خاصّاً بقوم كان كلامهم في ذلك يفسدهم و يضلّهم عن الدين و لا يصلحهم في عبادتهم إلاّ الإمساك عنه و ترك الخوض فيه و لم يكن النهي عنه عامّاً لكافة المكلّفين.

2.النهي عن الكلام في ما خلق اللّه تعالى و عن علله و أسبابه و عمّا أمر به و تعبّد و عن القول في علل ذلك،إذ كان طلب علل الخلق و الأمر محظوراً، لأنّ اللّه تعالى سترها عن أكثر خلقه.

9.معنى فطرة اللّه

قال الصدوق:إنّ اللّه تعالى فطر جميع الخلق على التوحيد.

ص:217

و وافقه الشيخ،و لكن فسّر معنى ذلك.

10.الجدال في اللّه

ذهب الصدوق إلى أنّ الجدال في اللّه منهيّ عنه،لأنّه يؤدّي إلى ما لا يليق به.

قال الشيخ المفيد:الجدال على ضربين:أحدهما بالحق و الآخر بالباطل، فالحقّ منه مأمور به و مرغّب فيه،و الباطل منه منهي عنه و مزجور عن استعماله،ثمّ استشهد ببعض الآيات.

هذه نماذج ممّا اختلف فيه العلمان،و ربما ذكر الشيخ المفيد عقيدة الصدوق و لم يخالفه بشيء،و ربما اتّفقا في المعنى لكن أجمل الصدوق و أفصح المفيد،و ثالثة اختلفا جوهراً و لبّاً،و الاختلاف في هذه المسائل إمّا اختلاف في تفسير الآية،أو في مسألة كلامية لا تمتّ إلى صميم العقيدة بصلة.

و إليك قائمة بما لم نذكر كلامهما فيه:

11.معنى الاستطاعة،12.معنى البداء،13.اللوح و القلم و العرش،14.

النفوس و الأرواح،15.الموت،16.سؤال القبر،17.العدل،18.الأعراف، 19.الصراط،20.العقبات،21.الحساب و الميزان،22.الجنة و النار،23.

حدّ التكفير،24.نزول الوحي و القرآن،25.العصمة،26.الغلو و التفويض، 27.التقيّة،28.آباء النبيّ،29.تفسير قوله سبحانه: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» 1 ،30.الحظر و الإباحة،31.الطب،32.حكم الأحاديث المختلفة.

ص:218

و هذه المقدار من الاختلاف في جنب ما اتّفقا عليه من الأُصول و الأُمّهات، أمر طفيف.

المرحلة الثالثة:تجديد المنهج الحديثي

قد سبق أنّه كان بين محدّثي مدرسة قم و محدّثي مدرسة بغداد اختلاف في بعض المسائل الكلامية خصوصاً في ما يرجع إلى مقامات النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الأئمّة عليهم السلام.

و كان النزاع بين أصحاب المنهجين قائماً على قدم و ساق إلى أن حسمه الشيخ المفيد عند ما انتهت إليه رئاسة الإمامية في الكلام و الفقه،فقد جمع أصحاب المنهجين على مائدة واحدة بتأليف كتابين:

1.أوائل المقالات في المذاهب و المختارات.

2.تصحيح الاعتقاد.

و قد علّق على عقائد الإمامية للصدوق و أثبت أنّ بعض ما ذكره الصدوق ليس من عقائد الإمامية و إنّما هو نتيجة استخراجه من أخبار الآحاد.

و بما أنّ الشيخ ربّى جيلاً عظيماً كالشريفين:المرتضى و الرضيّ و الشيخ الطوسي و الكراجكي و الديلميّ و غيرهم،فقد أخذ تلامذة الشيخ زمام البحوث بعد رحيله،و جمعوا الإمامية على أُصول موحّدة،و لم ينجم بينهم خلاف مُعتبر إلى أن ظهرت الحركة الأخبارية.

كان مطلع القرن الحادي عشر مسرحاً للتيارات الفكرية المختلفة،فمن مكبّ على العلوم الطبيعية كالنجوم و الرياضيات،و الطب و التشريع،إلى آخر متوغّل في الحكمة و العرفان،إلى ثالث مقبل على علم الشريعة كالفقه

ص:219

و الأُصول.

في تلك الأجواء ظهرت المدرسة الأخبارية التي شطبت على العلوم العقلية بقلم عريض،و لم تر للعقل أيّ وزن و قيمة لا في العلوم العقلية،و لا في العلوم النقلية،و قد رفع راية تلك الفكرة الشيخ محمد أمين بن محمد شريف الاسترآبادي(المتوفّى 1036ه).

و أمّا ما هو السبب لظهور ذلك التيّار في ربوع الشيعة،فقد ذكروا هنا فروضاً مختلفة و ذكرنا ما هو الحقّ بين تلك الفروض. (1)

و على كلّ تقدير فقد تأثرت الأوساط العلمية بالتيار الأخباري و ذاع صيته و كثر أتباعه،و هم بين متطرّف-كمؤسّسه-يطعن على العلماء،و معتدل يحترم المخالف.

و من أُصول ذلك المنهج:نفي حجّية حكم العقل في المسائل الأُصولية، و عدم الملازمة بين حكم العقل و النقل،و ادّعاء قطعية صدور أحاديث الكتب الأربعة،و أنّه عند تعارض العقل و النقل يؤخذ بالنقل.

و هذا الأصل الأخير صار سبباً لتقديم أخبار الآحاد على أحكام العقل في باب المعارف و المسائل الكلامية.

و لذلك نرى أنّ المجلسي الأوّل (1003- 1070ه) و كذا ولده المجلسي الثاني(1037- 1110ه) و الفيض الكاشاني(1007- 1091ه) و المحدّث الحرّ العاملي (1033- 1104ه) و غيرهم ممّن تأثروا بالمنهج الأخباري إلى ظهور المحقّق البهبهاني (1118- 1206ه) نبذوا كلّ ألوان التفكير العقلي في أُصول الفقه على الإطلاق و في مجال العقائد على نحو خاص حتّى أنكروا تجرّد النفس الإنسانيّة.

ص:220


1- 1) .لاحظ تاريخ الفقه الإسلامي و أدواره:386- 390. [1]

و لمّا كان المظهر الأتمّ لهذا التفكير في العقائد هو كتاب«بحار الأنوار»الذي جمع درر أخبار الأئمّة الأطهار بلا تمحيص و لا تنقيح،فقد قام أُستاذنا العلاّمة الطباطبائي بالتعليق على مواضع من بيانات العلاّمة المجلسي حول الروايات،و لكنه قدس سره توقّف عن العمل بسبب الضغوط التي مورست عليه، و بذلك خسر العلم و الدين ثروة زاخرة في مجال تمحيص روايات ذلك الكتاب على ضوء الكتاب العزيز و السنّة القطعية و العقل الحصيف.

المرحلة الرابعة:إحياء المنهج العقلي

كان للمحقّق البهبهاني الدور الرئيسي في إرجاع العقل إلى الساحة في مجالي أُصول الفقه و العقائد،و قد ألّف في التحسين و التقبيح العقليين و أثبت فيه حجّية العقل في المستقلات العقليّة.

و أصبح المحقّق البهبهاني رائد الحركة الفكرية في النصف الثاني من القرن الثاني عشر و أوائل القرن الثالث عشر،ثمّ قاد هذه الحركة لفيف من تلامذته و تلامذة تلامذته،الأمر الذي مكّن من إعادة العقل إلى الساحة في مجال الاستنباط و المعارف العقلية،و لذلك ترى أنّ ما أُلّف حول المسائل الكلامية يختلف عمقاً و اعتباراً عمّا أُلّف في عهد المجلسيّين أو قبلهما أو بعدهما.

هذه إشارة عابرة إلى المراحل الأربع الّتي مرّ بها الكلام الإماميّ،و ليعذرني إخواني في هذا الإيجاز في بيان المرحلتين الثالثة و الرابعة.

ص:221

خاتمة المطاف دور أئمّة أهل البيت عليهم السلام في تبيين العقيدة الإسلامية

اشارة

إنّ للأئمّة الاثني عشر عليهم السلام دوراً كبيراً في بيان العقيدة الإسلامية،و إرساء قواعدها،و ترسيخ جذورها من خلال بثّ الآراء و الأفكار المعبّرة عن روح الإسلام و نهجه السامي.

كما قاموا-هم و تلامذتهم-بدور بالغ الأهمية في صيانة العقيدة و الدفاع عنها،و مواجهة التيارات المنحرفة و الأفكار الضالة،و التصدّي للثقافات الأجنبية و المذاهب الفاسدة المتأثرة بالفلسفة الإلحادية و إسرائيليات اليهود و آراء النصارى و غيرها،و مناقشتها و بيان هشاشتها على ضوء البراهين و الحجج العقلية الرصينة،و النصوص الدينية الصحيحة.

و قد أخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن نشاط هؤلاء الرساليين حين قال:«يحمل هذا الدين من كلّ قرن عدول،ينفون عنه تأويل المبطلين و تحريف الغالين، و انتحال الجاهلين،كما ينفي الكَيْر خبث الحديد». (1)

ص:222


1- 1) .رجا ل الكشي:10. [1]

و قبل أن نذكر-بإيجاز-ما قاموا به في مجال صيانة العقيدة الإسلامية في أدوار مختلفة،نودّ أن نذكر مقدّمة لها صلة بالموضوع و هي:

إنّ الدين السائد في الجزيرة العربية-و خاصّة منطقة أُمّ القرى-قبل بزوغ شمس الإسلام كان هو الشرك باللّه في التدبير و العبادة،و هذا أمر واضح لا يرتاب فيه ذو مسكة،و كان العرب في تلك المناطق يعيشون في خِضَمِّ الخرافات،و يستسلمون في مجال العقيدة إلى الأساطير و القصص الخرافية إلى حدّ لا يمكن أن نذكر معشار ما دوّنه المؤرّخون في ذلك المجال،لكنّا نشير إلى بعض أفكارهم التي بقيت رواسبها في أذهان بعض المسلمين حتّى بعد بزوغ الإسلام:

1.كانوا يدينون اللّه تبارك و تعالى بالجبر و سلب الاختيار عن الإنسان، و كانوا يبرّرون شركهم و عبادتهم للأصنام بمشيئة اللّه تبارك و تعالى قائلين:

«لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ» 1 و نظيره قوله: «وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ» 2 إلى غير ذلك من الآيات المعربة عن عقيدتهم الراسخة في الجبر و أنّ كلّ المعاصي و المحرّمات بمشيئة من اللّه سبحانه على نحو تسلب الاختيار عن الإنسان،و بالتالي فاللّه هو المسئول عن أعمالنا لا نحن أنفسنا،و قد بقيت رواسب هذه العقيدة في أذهان بعض الصحابة و يشهد له ما رواه الواقدي في مغازيه عن أُمّ الحارث الأنصارية و هي تحدّث عن فرار المسلمين يوم حنين.قالت:مرّ بي عمر بن الخطاب منهزماً فقلت:ما هذا؟! فقال عمر:أمر اللّه. (1)

ص:223


1- 3) .مغازي الواقدي:904/3. [1]

و هذا هو السيوطي ينقل عن عبد اللّه بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر فقال:أ رأيت الزنا بقدر؟ قال:نعم،قال:فإنّ اللّه قدّره عليّ ثمّ يعذّبني؟ قال:

نعم يا ابن اللخناء،أما و اللّه لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك. (1)

لقد كان السائل في حيرة من أمر القدر فسأل الخليفة عن كون الزنا مقدَّراً من اللّه أم لا؟ فلما أجاب الخليفة بنعم،استغرب من ذلك،لأنّ العقل لا يسوّغ تقديره سبحانه شيئاً بمعنى سلب الاختيار عن الإنسان في فعله أو تركه ثمّ تعذيبه عليه،و لذلك قال:فإنّ اللّه قدّره عليّ ثمّ يعذبني؟! فعند ذاك أقرّه الخليفة على ما استغربه و قال:«نعم يا ابن اللخناء...».

2.كانت العرب تدين بالتجسيم و التشبيه،و تعتقد انّ إله العالم بصورة الصنم و الوثن الذي يُعبد حتّى اتخذت كلّ قبيلة لنفسها ربّاً،و صارت الجزيرة العربية مسرحاً للأصنام و مستودعاً للأوثان،و يتجلّى هذا الأمر من قول شاعرهم الذي أسلم و راح يستنكر التجسيم و عبادة الأصنام المتعدّدة الخارجة عن العدد و الإحصاء: أ ربّاً واحداً أم ألف ربّ

ص:224


1- 1) .تاريخ الخلفاء:95. [1]

إلى غير ذلك من العقائد الفاسدة التي كانت العرب تدين بها،و هذا الإمام علي أمير المؤمنين يصف عقائدهم في بعض خطبه و يقول:

«و أهل الأرض يومئذ مللٌ متفرقة،و أهواء منتشرة،و طرائق متشتّتة،بين مشبّه للّه بخلقه أو ملحد في اسمه أو مشير إلى غيره،فهداهم به من الضلالة، و أنقذهم بمكانه من الجهالة». (1)

و في خطبة أُخرى له:

«إنّ اللّه بعث محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم نذيراً للعالمين و أميناً على التنزيل،و أنتم معشر العرب على شرّ دين،و في شرّ دار منيخون بين حجارة خشن،و حيات صُمّ تشربون الكدر و تأكلون الجشب،و تسفكون دماءكم و تقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة و الآثام بكم معصوبة».

و للأسف (2)أنّ هذه العقائد الباطلة بعد ما شطب الإسلام عليها جميعاً عادت - بعد رحيل الرسول-إلى الساحة الإسلامية بثوب آخر و بغطاء جديد.

و قد بذل أئمّة أهل البيت عليهم السلام جهوداً مضنية في طريق تثبيت العقيدة الإسلامية،و صيانتها عن الانحراف،بما وصل إليهم من آبائهم،و إليك نماذج منها:

1.مكافحة الجبر و التفويض

قد عرفت أنّ العرب في العصر الجاهلي كانوا يدينون بالجبر و أنّ القرآن ندّد به و عرّف الإنسان بأنّه مختار في مصيره،يقول سبحانه: «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ». 3

ص:225


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة رقم1،ط صبحي [1]الصالح.
2- 2) .نهج البلاغة،الخطبة25. [2]

و للّه در الشهيد السعيد زين الدين العاملي في قوله: لقد جاء في القرآن آية حكمة

و قد اعتنق الجبرَ طائفة كبيرة من المسلمين و ألّفوا في ذلك رسائل ذهبوا فيها إلى القول بأنّ من قال بالقدر و الاختيار يُجلد و يوثق،و قد بلغ حماس الأمويين في ترسيخ الجبر بين المسلمين إلى حدّ كُبحت معه ألسن الخطباء عن الإصحار بالحقيقة،فهذا الحسن البصري الذي يُعدّ من مشاهير الخطباء و وجوه التابعين كان يسكت عن أعمالهم الإجرامية،غير أنّه كان يخالفهم في القول بالقدر بالمعنى الذي كانت السلطة تروّجه آنذاك،فلمّا خوفه بعض أصدقائه من السلطان،وعد أن لا يعود.روى ابن سعد في طبقاته عن أيّوب قال:نازلت الحسن في القدر غير مرّة حتى خوّفته من السلطان،فقال:لا أعود بعد اليوم. (1)

و لم يسلم محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية المعروفة من الجلد لمخالفته القدر،قال ابن حجر:إنّ محمد بن إسحاق اتُّهم بالقدر و قال الزبير عن الدراوردي«و جلد ابن إسحاق يعني في القدر». (2)

و قد ألّف عمر بن عبد العزيز رسالة في الردّ على القدرية القائلين بالاختيار نقلها أبو نعيم الاصفهاني في ترجمة عمر بن عبد العزيز. (3)

ص:226


1- 1) .الطبقات الكبرى:167/7،ط بيروت. [1]
2- 2) .تهذيب التهذيب:38/9و46. [2]
3- 3) .حلية الأولياء:353/5.

كما انتشر التفويض في عصر الإمام الصادق عليه السلام بمعنى إيكال الأُمور إلى البشر و استغنائهم في أفعالهم عن اللّه سبحانه،و يظهر من بعض الروايات أنّ فكرة التفويض استولت على بعض المفكّرين في عصر عبد الملك بن مروان على نحو أعجز العلماء في الشام،فكتب عبد الملك رسالة إلى الإمام الباقر عليه السلام يدعوه لنزول أرض الشام،و مناظرة ذلك الرجل القدري (التفويضي)،فلمّا جاءت الرسالة كتب إليه الإمام بقوله:إنّي شيخ كبير لا أقوى على الخروج،و هذا جعفر ابني يقوم مقامي فوجّهه إليه،فلمّا قدم على الأمويّ أزراه لصغره،و كره أن يجمع بينه و بين القدريّ مخافة أن يغلبه، و تسامع الناس بالشام بقدوم جعفر لمخاصمة القدريّة،فلمّا كان من الغد اجتمع الناس بخصومتهما،فقال الأمويّ لأبي عبد اللّه عليه السلام إنّه قد أعيانا أمر هذا القدريّ،و إنّما كتبت إليه (1)لأجمع بينه و بينه،فإنّه لم يدع عندنا أحداً إلاّ خصمه،فقال:إنّ اللّه يكفيناه.

قال:فلمّا اجتمعوا قال القدريّ لأبي عبد اللّه عليه السلام:سل عمّا شئت! فقال له:

«اقرأ سورة الحمد»،قال:فقرأها،و قال الأمويّ و إنّا معه:ما في سورة الحمد؟!، غُلبنا،إنّا للّه و إنّا إليه راجعون!! قال:فجعل القدريّ يقرأ سورة الحمد حتّى بلغ قول اللّه تبارك و تعالى: «إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ» فقال له جعفر:«قف؛مَن تستعين؟ و ما حاجتك إلى المئونة إن الأمر إليك؟»فبهت الّذي كفر،و اللّه لا يهدي القوم الظالمين. (2)

كان الطابَع العام على السلفية و أهل الحديث،هو الجبر و نفي القدر بمعنى الاختيار إلى أن جاء الإمام الأشعري فأحسّ بخطورة الموقف و أنّ القول بالجبر

ص:227


1- 1) .الضمير يعود إلى أبي جعفر الباقر عليه السلام.
2- 2) .بحار الأنوار:55/5، [1]رقم الحديث98 نقلاً عن تفسير العياشي. [2]

يساوي بطلان التكليف و لغوية بعثة الأنبياء،فحاول أن يصحّح عقيدة أهل الحديث بإضافة الكسب على عقيدتهم،فقال:إنّه سبحانه خالق لأفعالنا و العبد كاسب،فهو حاول أن يخرج أهل الحديث عن الجبر الخالص إلى فسيح الاختيار،لكنّه أضاف عقدة إلى عقدة،فلم يُعْلَم ما هو مراده من الكسب؟! إلى حدّ صار أحد الألغاز في جنب سائرها،يقول الشاعر: مما يقال و لا حقيقة عنده

ففي خضم هذه التيارات الضالّة شمّر أئمّة أهل البيت عليهم السلام عن ساعد الجدّ، فنشروا فكرة الأمر بين الأمرين و أنّه لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين، و بذلك فسروا الآيات الواردة في الجبر و التفويض و قضوا على الفكرتين، فكرة الجبر التي تساوق بطلان التكليف،و فكرة التفويض التي تساوق الشرك و استغناء الممكن في فعله عن اللّه سبحانه،و لهم في ذلك بيانات شافية لا يمكننا نقل معشار ما ذكروه.

إنّ فكرة الأمر بين الأمرين مستنتجة من القرآن الكريم.يقول سبحانه: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى». 2

إنّه سبحانه ينسب الفعل(الرمي) إلى العبد و في الوقت نفسِه يسلبه عنه

ص:228

و ينسبه إلى اللّه سبحانه،و هو نفس الأمر بين الأمرين،فالفعل مستند إلى العبد،و في الوقت نفسه إلى اللّه سبحانه،و قد كتب الإمام الهادي عليه السلام رسالة في نفي الجبر و التفويض نقلها المجلسي في موسوعته. (1)

و قال الإمام الصادق عليه السلام في ردّ كلا المنهجين:

«إنّ اللّه أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون،و اللّه أعز من أن يكون في سلطانه ما لا يريد». (2)

2.مكافحة التجسيم و التشبيه

اتّفق الإلهيون على كونه تعالى موصوفاً بصفات الكمال و الجمال من العلم و القدرة و الحياة و لكنّهم اختلفوا في كيفية إجرائها عليه سبحانه.

ذهبت أكثر المعتزلة إلى نيابة الذات عن الصفات من دون أن يكون هناك صفة،و إنّما ذهبوا إلى ذلك لأجل أنّهم رأوا أنّ الاعتراف بأنّ هناك ذاتاً و صفة هو التركيب،لأنّ الصفة غير الموصوف،و التركيب آية الإمكان،فلذلك ذهبوا إلى نفي الصفات،و لما رأوا أنّ ذلك يجرّهم إلى القول بخلوّ الذات عن الكمال قالوا:إنّ الذات تنوب مناب الصفات و إن لم تكن هناك واقعية للصفات وراء الذّات.

و أمّا الأشاعرة فقد ذهبوا إلى زيادة الصفات على الذات،و بذلك صاروا معترفين بالقدماء الثمانية،نظير التثليث الذي اعتنقه النصارى،بل أسوأ منه.

و من المعلوم أنّ لازم ذلك هو تركيب الذات من أُمور مختلفة و التركيب آية الإمكان و الافتقار.و أمّا أئمّة أهل البيت عليهم السلام فاعترفوا بأنّ للّه سبحانه صفات

ص:229


1- 1) .بحار الأنوار:71/5-75،كتاب العدل و المعاد،الباب 2،الحديث 1. [1]
2- 2) .بحار الأنوار:41/5. [2]

كمالية،و لكنّها ليست زائدة على الذات،بل هي عينها.

صحيح أنّ الصفة غير الموصوف،و لكن هذا في الموجودات الإمكانية،و أمّا الواجب بالذات فكما هو واجب في ذاته واجب في صفاته،فلا مانع من أن تكون صفاته عين ذاته دون أن يكون هناك تركيب أو تشبيه.يقول أمير المؤمنين عليه السلام:«و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه،لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة،فمن وصف اللّه فقد قرنه،و من قرنه فقد ثنّاه،و من ثنّاه فقد جزّأه،و من جزّأه فقد جهله». (1)

و في هذا الكلام تصريح بعينية الصفات للذات،و فيه إشارة إلى برهان الوحدة،و هو أنّ القول باتحاد صفاته مع ذاته يوجب تنزيهه عن التركيب و التجزئة و نفي الحاجة عن ساحته،و لكن إذا قلنا بالتعدّد و الغيريّة فذلك يستلزم التركيب و يتولد منه التثنية،و التركيب آية الحاجة،و اللّه الغني المطلق لا يحتاج إلى من سواه.

و قال الإمام الصادق عليه السلام:«لم يزل اللّه جلّ و عزّ ربّنا و العلم ذاته و لا معلوم، و السمع ذاته و لا مسموع،و البصر ذاته و لا مبصر،و القدرة ذاته و لا مقدور». (2)

و الإمام عليه السلام يشير إلى قسم خاص من علمه سبحانه-وراء عينية صفاته و ذاته - و هو وجود علمه بلا معلوم و سمعه بلا مسموع.و ما هذا إلاّ لأجل أنّ ذاته من الكمال و الجمال بلغت إلى حدّ لا يشذ عن حيطة وجوده أيّ شيء، و تفصيل هذا القسم من العلم يُطلب من محالّه.

3.مكافحة فكرة رؤية اللّه

اتّفقت العدلية على أنّه سبحانه لا يُرى بالأبصار لا في الدنيا و لا في

ص:230


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة رقم1. [1]
2- 2) .التوحيد للصدوق:139.

الآخرة،و أمّا غيرهم فالكرّامية و المجسّمة فقد جوّزوا رؤيته في الدارين بلا إشكال،و أمّا أهل الحديث و بعدهم الأشاعرة فمع أنّهم يصفون أنفسهم بالتنزيه و يتبرّءون من التجسيم و الجهة،لكن قالوا برؤيته سبحانه يوم القيامة خضوعاً للرواية التي رواها الإمام البخاري في صحيحه.

و هؤلاء تركوا صحيح النص في القرآن الكريم،أعني: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» 1 ،كما تركوا قضاء العقل الصريح و أخذوا بالرواية، و لو لا وجود هذا الحديث في الصحيح لما أخذوا بهذا القول،و لكنّهم غفلوا عن أبسط الدلائل على امتناع الرؤية،لأنّ الرؤية لا تخلو عن حالتين:إمّا تقع على الذات كلّها،أو على البعض؛فعلى الأوّل يلزم أن يكون المرئي محدوداً متناهياً محصوراً شاغلاً لناحية من النواحي و تخلو النواحي الأُخرى منه، و على الثاني يلزم أن يكون مركّباً متحيّزاً ذا جهة.

إنّ فكرة الرؤية فكرة مستوردة جاءت من جانب الأحبار و الرهبان بتدليس خاصّ.فإنّ أهل الكتاب يدينون برؤيته سبحانه،و قد تصدّى أئمّة أهل البيت عليهم السلام لتلك الفكرة بخطبهم و أحاديثهم التي لا يسعنا إيرادها في هذا البحث.قال الإمام علي عليه السلام في خطبة الأشباح:

«الأوّل الذي لم يكن له قبلُ فيكون شيء قبله،و الآخر الذي ليس له بعدُ فيكون شيء بعده،و الرادع أناسيّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه». (1)

و قد سأله ذعلب اليماني فقال:هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام:

«أ فأعبد ما لا أرى؟»فقال:كيف تراه؟ فقال:«لا تدركه العيون بمشاهدة العيان

ص:231


1- 2) .نهج البلاغة،الخطبة87،ط عبده. [1]

و لكن تدركه القلوب بحقائق الايمان،قريب من الأشياء غير ملابس،بعيد منها غير مباين». (1)

4.مكافحة قدم غيره سبحانه

ذهبت النصارى إلى قدم الأقانيم الثلاثة،فقالوا بالتثليث و قدم الأب و الابن و روح القدس،و بذلك خرجوا عن عداد الموحّدين،و الأسف أنّ أهل الحديث تأثروا بدون وعي بالمسيحيّين فقالوا بقدم القرآن و نفي حدوثه و بذلك اعترفوا بقدم غيره سبحانه،و قد بذلوا جهودهم على طريق ترسيخ هذه العقيدة التي لا يعلم مرامها و ما هو المقصود منها،فإنّ محلّ البحث و النزاع لم يحرر بشكل واضح بحيث يمكن تحليله.فهاهنا احتمالات يمكن أن تكون محطّ النظر لأهل الحديث و الأشاعرة عند توصيف كلامه سبحانه بالقدم،نطرحها على بساط البحث و نطلب حكمها من العقل و القرآن.

أ.الألفاظ و الجمل الفصيحة البليغة التي عجز الإنسان في جميع القرون عن الإتيان بمثلها،و قد جاء بها أمين الوحي إلى النبي الأكرم،و قرأها الرسول فتلقتها الأسماع و حررتها الأقلام على الصحف المطهّرة،و من الواضح أنّها مخلوقة على الإطلاق للّه سبحانه.

ب.المعاني السامية و المفاهيم الرفيعة في مجالات التكوين و التشريع و الحوادث،و أشار إليها بألفاظه و جمله و هي حادثة بلا ترديد.

ج.ذاته سبحانه و صفاته من العلم و القدرة و الحياة التي بحث عنها القرآن، و من المعلوم أنّ ذاته و صفاته قديمة و لكن الألفاظ التي أشار بها إليها

ص:232


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة174. [1]

حادثة.

د.علمه سبحانه بكلّ ما ورد في القرآن الكريم.و لو كان المراد هذا،فلا شكّ انّه قديم و البحث فيه بلا طائل.

ه.الكلام النفسي القائم بذاته الذي هو أحد الألغاز.

و.القرآن ليس مخلوقاً،أي مصنوعاً للبشر و إن كان مخلوقاً للّه.

و قد جرّت هذه العقيدة ويلات على المسلمين و سفكت فيها الدماء و حبس فيها الأبرياء،و قد أدرك أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ المسألة اتّخذت لنفسها طابعاً سياسيّاً فامتنعوا عن الخوض فيها و منعوا أصحابهم أيضاً،فقد سأل الريان بن الصلت الإمام الرضا عليه السلام و قال له:ما تقول في القرآن؟ فقال عليه السلام:«كلام اللّه لا تتجاوزوه،و لا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا». (1)

نعم في بعض المواقف الخاصة التي يأمن فيها الأئمّة من الفتنة أدلوا برأيهم في الموضوع و صرّحوا بأنّ الخالق هو اللّه و غيره مخلوق،و القرآن ليس نفسه سبحانه،و إلاّ يلزم اتحاد المنزِل و المنزَل فهو غيره،فيكون لا محالة مخلوقاً.

روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني أنّه كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا عليه السلام إلى بعض شيعته ببغداد:« بسم اللّه الرحمن الرحيم، عصمنا اللّه و إيّاك من الفتنة،فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة،و إن لا يفعل فهي الهلكة، نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة،اشترك فيها السائل و المجيب، فيتعاطى السائل ما ليس له،و يتكلّف المجيب ما ليس عليه،و ليس الخالق إلاّ اللّه عزّ و جلّ،و ما سواه مخلوق،و القرآن كلام اللّه،لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالين،جعلنا

ص:233


1- 1) .التوحيد للصدوق:223،باب القرآن ما هو،الحديث2. [1]

اللّه و إيّاك من الذين يخشون ربّهم بالغيب و هم من الساعة مشفقون». (1)

5.مكافحة الغلوّ و النصب

الغلاة هم الذين غلوا في حقّ النبي و آله حتّى أخرجوهم من حدود الخليقة، و الخطابية و المغيرية من هذه الصنوف،كما أنّ القول بالتفويض و هو تفويض تدبير العالم إلى النبي و الأئمة و أنّهم هم الخالقون و الرازقون و المدبّرون للعالم،شعبة من الغلوّ.

و يقابله النصب و هو تنقيص أئمّة أهل البيت عليهم السلام و نصب العداء لهم،و قد كافح أئمّة أهل البيت عليهم السلام هاتين الفكرتين الهدّامتين،فبيّنوا أنّ الغلوّ كفر و خروج عن الإسلام كما كشفوا عن فضيحة أهل النصب،و ها نحن نذكر حديثين في هذا المجال:

قال أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الأربعمائة:«إيّاكم و الغلوّ فينا،قولوا:عبيد مربوبون و قولوا في فضلنا ما شئتم،من أحبنا فليعمل بعملنا و يستعن بالورع». (2)

و قال الإمام الصادق عليه السلام:«لعن اللّه من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا،لعن اللّه من أزالنا عن العبودية للّه الذي خلقنا،و إليه مآبنا و معادنا،و بيده نواصينا». (3)

و قد أوضح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام موقف أئمّة أهل البيت عليهم السلام في خطبته:

«لا يقاس بآل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم من هذه الأُمّة أحد،و لا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً،هم أساس الدين و عماد اليقين،إليهم يفيء الغالي و بهم يلحق التالي،

ص:234


1- 1) .التوحيد للصدوق:224،باب القرآن ما هو،الحديث4.
2- 2) .الخصال للصدوق:614/2.
3- 3) .الكشي،الرجال:159 في ترجمة المغيرة بن سعيد.

و لهم خصائص حق الولاية،و فيهم الوصية و الوراثة،الآن إذ رجع الحق إلى أهله،و نقل إلى منتقله». (1)

و في كلام له عليه السلام:«نحن آل محمد النمط الأوسط،الذي لا يدركنا الغالي و لا يسبقنا التالي». (2)

و قال أيضاً:«سيهلك في صنفان:محب مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحق، و مبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق،و خير الناس في حالاً النمط الأوسط فألزموه». (3)

إلى غير ذلك من الكلمات التي ترشد الأُمّة الإسلامية إلى ما لهم من المكانة الرفيعة دون الغلوّ و فوق ما يزعمه النصاب-أعداء أهل العصمة.

6.عصمة الأنبياء

اشارة

النبوّة سفارة بين اللّه و بين ذوي العقول من عباده لإزاحة علّتهم في أمر معادهم و معاشهم،و النبي هو الإنسان المخبر عن اللّه تعالى بإحدى الطرق المعروفة،و الأنبياء هم الصفوة من الناس الذين تحلّوا بزينة التقوى و العصمة،حتّى صاروا أهلاً لحمل الرسالة الإلهية إلى عباده و اللّه سبحانه يصفهم بقوله: «إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ * وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ». 4

و بقوله: «وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ». 5

ص:235


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة رقم2. [1]
2- 2) .الكافي:101/1، [2]رقم الحديث3.
3- 3) .نهج البلاغة،الخطبة127. [3]

فمن يصفه سبحانه بأنّه من المصطفين الأخيار يستحيل عادة أن يعصي اللّه سبحانه و يخالفه،و لذلك اتّفق أهل العدل على عصمة الأنبياء في المرحلتين قبل البعثة و بعدها،و استدلّوا على ذلك بأدلّة عقلية و آيات قرآنية،غير أنّ لفيفاً من أهل الحديث اغتروا بروايات رواها مستسلمة أهل الكتاب في حق بعض الأنبياء كداود و سليمان و غيرهما،و قد ملأت هذه الروايات المدسوسة كتب التفسير التي يندى الجبين من نقلها و نشرها في حياة هذين النبيين الكريمين.

و العجب أنّ أهل السنّة قالوا بعدالة الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم،بل بعصمتهم و إن لم يتفوّهوا بها،فلو سمعوا من باحث موضوعي شيئاً يمسّ كرامة صحابي كفسق الوليد بن عقبة الذي جاء وصفه بالفسق في الذكر الحكيم (1)،لطاشت عقولهم و رموْا القائل بالحقد و العداء للصحابة،بل إلى قلّة الدين و عدم الإيمان.

و بما أنّ أهل الحديث اغتروا ببعض ظواهر الآيات من دون أن يقفوا على مغزاها،فقد قام أئمّة أهل البيت عليهم السلام بتفسيرها و تبيين مقاصدها،فمن حاول الوقوف على كلماتهم في هذا الموضوع فليرجع إلى كتاب«الاحتجاج» للشيخ الطبرسي.

و لعلّ ما ذكرنا كاف في تبلور دور أئمّة أهل البيت عليهم السلام في صيانة العقيدة السامية،و الدفاع عن حياض الدين بالبرهنة و الخطابة.

لكن إكمالاً للبحث نأتي ببعض المناظرات التي دارت بينهم و بين أهل الضلال عملاً بقوله سبحانه: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ». 2

ص:236


1- 1) .الحجرات:6.

إنّ الدعوة الصحيحة تتحقق بأُمور ثلاثة:

1.الدعوة بالحكمة و الحجّة العقلية التي تفيد العلم و الإذعان بالمدّعى،و قد استخدمها القرآن الكريم في مجال التنديد بالوثنية و دحض الشرك،يقول سبحانه: «مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ». 1

2.الدعوة بالموعظة الحسنة،و هي البيان الذي تلين به النفس و يرقّ له القلب لما فيه صلاح حال السامع،و يستخدمه الآباء عند إرشاد الأبناء،و الخطباء عند الجلوس على منصّة الخطابة.

3.الجدل و هو الحجّة التي تستعمل لإفحام الخصم باستخدام مسلّماته،غير أنّ القرآن يدعو إلى العظة بالتي هي أحسن،و بالطبع إلى الجدل مثلها،و قد استخدمها العترة الطاهرة في أكثر المجالات،و لأجل إيقاف القارئ على قسم من مناظراتهم التي صانوا بها العقيدة الإسلامية عن الانحراف،نأتي ببعضها:

الأُولى:تفسير القضاء و القدر

كانت العرب في العصر الجاهلي قائلة بالقضاء و القدر بمعنى كون الإنسان مسيّراً لا مختاراً،و أنّه أمام الحوادث مكتوف اليديْن،و لا محيص له عن التسليم لما قُضي.و قد كانت هذه العقيدة راسخة في أذهان كثير من المسلمين في عصر النبي و بعده،حتّى روي أنّ رجلاً سأل عليّاً عليه السلام بعد انصرافه من الشام فقال:يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أ بقضاء و قدر؟

فقال له أمير المؤمنين عليه السلام:«نعم يا شيخ،ما علوتم تلعة و لا هبطتم بطن

ص:237

وادٍ إلاّ بقضاء من اللّه و قدر».

فقال الرجل:عند اللّه أحتسب عنائي،و اللّه ما أرى لي من الأجر شيئاً!!

فقال علي عليه السلام:«بلى،فقد عظّم اللّه لكم الأجر في مسيركم و أنتم ذاهبون، و على منصرفكم و أنتم منقلبون،و لم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، و لا إليه مضطرّين».

فقال الرجل:فكيف لا نكون مضطرّين و القضاء و القدر ساقانا،و عنهما كان مسيرنا؟!

فقال أمير المؤمنين عليه السلام:«لعلّك أردت قضاءً لازماً،و قدراً حتماً،لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب و العقاب،و سقط الوعد و الوعيد،و الأمر من اللّه و النهي، و ما كانت تأتي من اللّه لائمة لمذنب،و لا محمدة لمحسن،و لا كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المذنب،و لا المذنب أولى بعقوبة الذنب من المحسن،تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان،و جنود الشيطان،و خصماء الرحمن،و شهداء الزور و البهتان،و أهل العمى و الطغيان،هم قدريّة هذه الأُمّة و مجوسها،إنّ اللّه تعالى أمر تخييراً،و نهى تحذيراً،و كلّف يسيراً،و لم يعص مغلوباً،و لم يطع مكرهاً،و لم يرسل الرسل هزلاً،و لم ينزل القرآن عبثاً،و لم يخلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلاً،ذلك ظنّ الذين كفروا،فويل للذين كفروا من النار».

قال:ثمّ تلا عليهم: «وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ» 1 .قال:فنهض الرجل مسروراً و هو يقول: أنت الإمام الذي نرجو بطاعته يوم النشور من الرّحمن رضواناً

(1)

ص:238


1- 2) .الاحتجاج:490/1. [1]
الثانية:عدم احتجابه سبحانه بالسماوات السبع

لقد كان التجسيم و الاعتقاد بوجود الجهة للّه من عقائد اليهود،و قد تسربت تلك العقيدة عن طريق مستسلمة أهل الكتاب إلى أوساط المسلمين،فحسبه أهل الحديث أنّه سبحانه فوق السماوات السبع،و أنّه جالس على عرشه، و العرش يئط أطيط الرحل،و لم تزل هذه العقيدة محفوظة عند ابن تيمية و أتباعه. (1)و هي عقيدة سخيفة ساقطة تضاد القرآن الكريم و العقل الحصيف.

و قد كافح أئمّة أهل البيت عليهم السلام هذه الفكرة المستوردة،و هذا هو الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام سمع رجلاً يقول:«و الذي احتجب بسبع طباق»فعلاه بالدرّة،ثمّ قال له:«يا ويلك! إنّ اللّه أجلّ من أن يحتجب عن شيء،أو يحتجب عنه شيء،سبحان الذي لا يحويه مكان،و لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء».

فقال الرجل:أ فأكفّر عن يميني يا أمير المؤمنين؟

قال:«لا،لم تحلف باللّه فيلزمك كفّارة،و إنّما حلفت بغيره». (2)

الثالثة:اتحاد الصفات مع الذات

المتسالم عند الناس هو أنّ الصفة غير الموصوف و انّ الأُولى عارضة للثاني، و قد اختمرت تلك الفكرة في أذهان العامّة حسب احتكاكهم بالماديات، فهناك إناء و له لون،و إنسان و له علمه،و على ضوء ذلك زعموا أنّ علمه سبحانه زائد على ذاته و انّ مقتضى الصفة هو الاثنينية.

ص:239


1- 1) .العقيدة الواسطية،الرسالة التاسعة من مجموع الرسائل الكبرى:398.
2- 2) .الاحتجاج:496/1؛ [1]التوحيد للصدوق،ص 174 الباب 28،الحديث3.

و لما كان هذا القول مؤدياً إلى الشرك و تعدّد القدماء قام أئمّة أهل البيت عليهم السلام بوجه تلك الفكرة الخاطئة في بعض مناظراتهم.

روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال:في صفة القديم:إنّه واحد صمد،أحديّ المعنى،ليس بمعانٍ كثيرة مختلفة.

قال:قلت:جعلت فداك إنّه يزعم قوم من أهل العراق أنّه يسمع بغير الذي يبصر،و يبصر بغير الذي يسمع؟

قال:فقال:«كذبوا و ألحدوا،و شبّهوا اللّه تعالى،إنّه سميع بصير،يسمع بما به يبصر،و يبصر بما به يسمع».

قال:فقلت:يزعمون أنّه بصير على ما يعقله؟

قال:فقال:تعالى اللّه إنّما يعقل من كان بصفة المخلوق،و ليس اللّه كذلك». (1)

الرابعة:البرهنة على أنّ الحسنين من أبناء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

لقد أراد أهل النصب و أصحاب العداء أن ينكروا كون الحسنين من أبناء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،و قد أشاعوا تلك الفكرة،لأنّ الولد عندهم عبارة عمّن ينتسب إلى الرجل بنفسه أو عن طريق ابنه لا بنته،أخذاً بالرأي الجاهلي في تفسير الولد،قالوا: بنونا بنو أبنائنا و بناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

و بما انّ الحسنين كانا يتصلان بالنبي عن طريق بنته فاطمة عليها السلام فلا يصحّ وصفهما بأنّهما من أبناء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:240


1- 1) .الاحتجاج:167/2- 168. [1]

و قد رد على تلك الفكرة،تلاميذ أبي جعفر الباقر عليه السلام ببعض الآيات القرآنية، حيث عدّ القرآن عيسى بن مريم من آل إبراهيم و قال: «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ [إبراهيم] داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ». 1 حيث عدّ«عيسى»من ذريّة إبراهيم و هو يتصل به من جانب الأُمّ.

كما احتجوا عليهم بقوله سبحانه: «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» 2 ،و قد اتّفق المفسرون على أنّ المراد من قوله: «أَبْناءَنا» هو الحسنان.

هذا هو الذي احتجّ به تلاميذ الإمام و مَن تربّى في حجره،لكن الإمام الباقر عليه السلام احتجّ بشكل آخر فقال مخاطباً أبا الجارود:«و اللّه يا أبا الجارود ! لأعطينّكها من كتاب اللّه آية تسمّيهما أنّهما لصلب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يردها إلاّ كافر».

قال:قلت:جعلت فداك و أين؟

قال:«حيث قال اللّه تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ -إلى قوله:- وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ» 3 ،فسلهم يا أبا الجارود هل يحلّ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نكاح حليلتيهما؟ فإن قالوا:نعم،فكذبوا و اللّه،و إن قالوا:لا،فهما و اللّه ابنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لصلبه،و ما حرّمن عليه إلاّ للصلب». (1)

ص:241


1- 4) .الاحتجاج:176/2. [1]
الخامسة:النظام الهادف آية وجود الخالق

لم يزل برهان النظام دليلاً واضحاً و مقنعاً لعامة الناس،بالأخص إذا كان هادفاً لغاية خاصة،إذ لا تخضع الهادفية للصدفة،بل هي تكشف عن خضوع النظام لخالق مدبّر عالم،أوجد مصنوعه،لغاية عقلانية.

و هذا النوع من البرهان كثير الدوران في الذكر الحكيم و الروايات الشريفة نذكر منها ما يلي:

دخل أبو شاكر الديصاني على أبي عبد اللّه عليه السلام و قال يا جعفر بن محمد:دلّني على معبودي!.

فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام:«اجلس!»فإذا غلام صغير في كفّه بيضة يلعب بها، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام:«ناولني يا غلام البيضة!»فناوله إيّاها،فقال أبو عبد اللّه عليه السلام:«يا ديصاني! هذا حصن مكنون،له جلد غليظ،و تحت الجلد الغليظ جلد رقيق،و تحت الجلد الرّقيق ذهبة مائعة،و فضة ذائبة،فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة،و لا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة،فهي على حالها،لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها،و لم يدخل فيها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها،لا يدرى للذكر خلقت أم للأُنثى،تنفلق عن مثل ألوان الطواويس،أ ترى له مدبّراً؟».

قال:فأطرق مليّاً ثمّ قال:أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّداً عبده و رسوله،و أنّك إمام و حجّة من اللّه على خلقه،و أنا تائب [إلى اللّه تعالى] ممّا كنت فيه. (1)

ص:242


1- 1) .الاحتجاج:202/2. [1]
السادسة:قياس الخالق بالمخلوق

قد تعرفت على أنّ التجسيم و الجهة كان مختمراً في أذهان المسلمين و قلّما يتّفق لأحدٍ منهم أن يتصوّر تصوّراً صحيحاً من إحاطته سبحانه بالعالم إحاطةً قيّوميّة.

و هذا ابن أبي العوجاء زنديق عصره بعد ما سمع كلمة«اللّه»سبحانه عن الصادق عليه السلام قال له:

ذكرت اللّه فأحلت على غائب،فقال أبو عبد اللّه عليه السلام:«ويلك! كيف يكون غائباً مَنْ هو مع خلقه شاهد،و إليهم أقرب من حبل الوريد،يسمع كلامهم و يرى أشخاصهم و يعلم أسرارهم؟»فقال ابن أبي العوجاء:فهو في كلّ مكان، أ ليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض،و إذا كان في الأرض كيف يكون في السّماء؟!

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام:«إنّما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل من مكان اشتغل به مكان،و خلا منه مكان،فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه،فأمّا اللّه العظيم الشأن،الملك الديّان،فلا يخلو منه مكان و لا يشتغل به مكان،و لا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان». (1)

فقد استدلّ الإمام بأنّ إنكار إله محيط بالعالم نابع عن قياس الممكن بالواجب و المخلوق بالخالق.فالممكن لأجل كونه محدوداً إذا وقع في مكان يخلو عنه مكان آخر،و أمّا الواجب لأجل سعة وجوده و عدم تحديده يكون حاضراً في كلّ مكان،لا حضوراً حلوليّاً،بل قيّوميّاً،لقيام كلّ ممكن بوجوده قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.

ص:243


1- 1) .الاحتجاج:208/2، [1]المناظرة 218.
السابعة:إبطال القياس

لقد شاع العمل بالقياس بعد رحيل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم،لقلّة النصوص في المسائل المستجدّة،فلم يجدوا بدّاً من العمل بالقياس و الاستحسان و سائر القواعد التي لم يدلّ على حجيتها الكتاب و السنّة،و إنّما التجئوا إليها لإعواز النصوص و الإعراض عن أئمّة أهل البيت عيبة علم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

كان أبو حنيفة من أعلام العاملين بالقياس،و لذلك عُرف فقهاء العراق بأهل القياس،و فيما دار بينه و بين أبي عبد اللّه عليه السلام من المناظرة يظهر قوة منطق المناظر و رجوع الخصم إلى الحق.

قال أبو عبد اللّه عليه السلام:«فانظر إلى قياسك إن كنت مقيساً أيّما أعظم عند اللّه:

القتل أم الزنا؟»

قال:بل القتل.

قال:«فكيف رضى اللّه تعالى في القتل بشاهدين،و لم يرض في الزنا إلاّ بأربعة؟»ثمّ قال له:«الصلاة أفضل أم الصيام؟»قال:بل الصلاة أفضل.

قال عليه السلام:«فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصّلاة في حال حيضها دون الصيام،و قد أوجب اللّه تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة».

قال له:«البول أقذر أم المني؟».

قال:البول أقذر.

قال عليه السلام:«يجب على قياسك أن يجب الغُسْل من البول دون المني،و قد أوجب اللّه تعالى الغُسل من المني دون البول». (1)

ص:244


1- 1) .الاحتجاج:269/2، [1]المناظرة 237.
الثامنة:إبطال الرؤية يوم القيامة

إنّ أبا قرّة كان أحد المحدّثين الكبار في عصر الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام فدخل عليه و دار بينهما كلام طويل،نورد منه ما يلي:

قال أبو قرّة:فإنا رُوِينا انّ اللّه قسّم الرؤية و الكلام بين نبيّين،فقسّم لموسى عليه السلام الكلام و لمحمد صلى الله عليه و آله و سلم الرؤية.

فقال أبو لحسن عليه السلام:«فمن المبلّغ عن اللّه إلى الثقلين الجن و الإنس أنّه لا تدركه الأبصار و لا يحيطون به علماً و ليس كمثله شيء،أ ليس محمد صلى الله عليه و آله و سلم ؟!» قال:بلى.

قال أبو الحسن عليه السلام:«فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللّه،و أنّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه،و يقول:إنّه لا تدركه الأبصار،و لا يحيطون به علماً و ليس كمثله شيء،ثمّ يقول:أنا رأيته بعيني و أحطتُ به علماً و هو على صورة البشر،أما تستحيون؟! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا:أن يكون أتى عن اللّه بأمر ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر». (1)

التاسعة:تصحيح فهم الحديث النبوي

لم يزل أصحاب الحديث يستدلّون على التجسيم بالحديث المروي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:«إنّ اللّه خلق آدم على صورته».

فالضمير حسب زعمهم يرجع إلى اللّه،فتكون النتيجة أنّ للّه سبحانه صورة كصورة الإنسان و قد خلق آدم على غرار صورته.

ص:245


1- 1) .الاحتجاج:375/2، [1]المناظرة 285.

فلمّا سُئل الإمام الرضا عليه السلام عن هذا الحديث قال:

«قاتلهم اللّه لقد حذفوا أوّل الحديث،إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مرّ برجلين يتسابّان،فسمع أحدهما يقول لصاحبه:«قبّح اللّه وجهك و وجه من يُشبهك».فقال له صلى الله عليه و آله و سلم:«يا عبد اللّه لا تقل هذا لأخيك! فإنّ اللّه عز و جلّ خلق آدم على صورته». (1)

العاشرة:مكافحة الغلو

كانت ظاهرة الغلو فاشية في عصر الإمام الصادق عليه السلام و بعده إلى أن بلغت أوجها في عصر الإمام العسكري عليه السلام.

و إليك مناظرة دارت بين الإمام الرضا عليه السلام و أحد السائلين،قال السائل:بأبي أنت و أُمّي يا ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ! فإنّ معي من ينتحل موالاتكم و يزعم أنّ هذه كلّها من صفات علي عليه السلام،و أنّه هو اللّه ربّ العالمين.

قال:فلمّا سمعها الرّضا عليه السلام،ارتعدت فرائصه و تصبب عرقاً و قال:«سبحان اللّه عمّا يقول الظالمون و الكافرون علوّاً كبيراً! أو ليس عليّ كان آكلاً في الآكلين،و شارباً في الشّاربين،و ناكحاً في الناكحين، و محدثاً في المحدثين؟ و كان مع ذلك مصلّياً خاضعاً،بين يدي اللّه ذليلاً،و إليه أوّاهاً منيباً،أ فمن هذه صفته يكون إلهاً؟! فإن كان هذا إلهاً فليس منكم أحد إلاّ هو إله لمشاركته له في هذه الصفات الدالات على حدوث كلّ موصوف بها». (2)

ص:246


1- 1) .الاحتجاج:385/2، [1]المناظرة 292.
2- 2) .الاحتجاج:454/2، [2]المناظرة 314.
الحادية عشرة:استنطاق القرآن في مورد إسلام الذمّيّ

قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة،فأراد أن يقيم عليه الحد فأسلم.

فقال يحيى بن أكثم:قد هدم إيمانُه شركه و فعله،و قال بعضهم:يضرب ثلاثة حدود،و قال بعضهم:يُفعل به كذا و كذا.

فأمر المتوكّل بالكتاب إلى أبي الحسن العسكري عليه السلام و سؤاله عن ذلك.

فلمّا قرأ الكتاب كتب عليه السلام:«يضرب حتّى يموت»،فأنكر يحيى و أنكر فقهاء العسكر ذلك،فقالوا:يا أمير المؤمنين! سله عن ذلك فانّه شيء لم ينطق به كتاب،و لم يجئ به سنّة.

فكتب إليه:إنّ الفقهاء قد أنكروا هذا،و قالوا:لم يجئ به سنّة و لم ينطق به كتاب،فبيّن لنا لِمَ أوجبت عليه الضرب حتّى يموت؟

فكتب: «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا» الآية. (1)قال:فأمر به المتوكّل فضرب حتّى مات. (2)

الثانية عشرة:اعتراف الزنادقة بعجزهم عن نقض القرآن

اجتمع ابن أبي العوجاء و أبو شاكر الديصاني الزنديق و عبد الملك البصري و ابن المقفع عند بيت اللّه الحرام،يستهزءون بالحاج و يطعنون على القرآن.

ص:247


1- 1) .غافر:84-85. [1]
2- 2) .الاحتجاج:498/2-499. [2]

فقال ابن أبي العوجاء:تعالوا ننقض كلّ واحد منّا ربع القرآن و ميعادنا من قابل في هذا الموضع،نجتمع فيه و قد نقضنا القرآن كلّه،فإنّ في نقض القرآن إبطال نبوّة محمّد،و في إبطال نبوته إبطال الإسلام و إثبات ما نحن فيه،فاتّفقوا على ذلك و افترقوا،فلمّا كان من قابل اجتمعوا عند بيت اللّه الحرام،فقال ابن أبي العوجاء:

أمّا أنا فمفكّر منذ افترقنا في هذه الآية: «فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا» 1 ،فما أقدر أن أضمّ إليها في فصاحتها و جمع معانيها شيئاً،فشغلتني هذه الآية عن التفكّر فيما سواها.

فقال عبد الملك:و أنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: «يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ» 2 ،و لم أقدر على الإتيان بمثلها.

ص:248

فقال أبو شاكر:و أنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا» 1 ،لم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال ابن المقفع:يا قوم! إنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر،و أنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: «وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ» 2 ،لم أبلغ المعرفة بها،و لم أقدر على الإتيان بمثلها.

قال هشام بن الحكم:فبينما هم في ذلك.إذ مرّ بهم جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام فقال: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» 3 ،فنظر القوم بعضهم إلى بعض و قالوا:لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصية محمّد صلى الله عليه و آله و سلم إلاّ إلى جعفر بن محمّد، و اللّه ما رأيناه قطّ إلاّ هبناه و اقشعرّت جلودنا لهيبته،ثمّ تفرّقوا مقرّين بالعجز. (1)

هذه نماذج من مناظرات أئمّة أهل البيت في مجالات مختلفة،و من أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب«الاحتجاج»للعلاّمة الطبرسي و«بحار الأنوار» للعلاّمة المجلسي.

و قد تربى في أحضانهم رجال صاروا أبطال المناظرة،فخرجوا في حلبة الجدال العلمي بوجوه مشرقة،منهم:هشام بن الحكم،مؤمن الطاق،فضال بن حسن بن فضّال،إلى غير ذلك من متكلّمي عصر الأئمّة الذين تقرأ تفاصيل حياتهم في هذه الموسوعة.

ص:249


1- 4) .الاحتجاج:306/2 و 307، [1]المناظرة257.
ختامه مسك

هذه رسالة متواضعة في علم الكلام و علل نشوئه و مناهجه و مسائله إلى غير ذلك،قدّمناها إليك أيّها القارئ الكريم لتكون على بصيرة من سير هذا العلم،و تكون تمهيداً لما سيوافيك من حياة روّاد هذا العلم من المتقدّمين و المتأخّرين،الذين بذلوا جهوداً جبارة في إرساء قواعد هذا العلم و ردّ الشبهات و التمويهات عن وجه الدين القويم.

و أنا أختم رسالتي هذه بما ختم به الشيخ أحمد التلمساني مؤلف«نفح الطيب»،مقدّمة كتابه حتّى يكون ختامه مسك. و من يتوسّل بالنبيّ محمّد

تمّ تحرير هذه الرسالة،يوم ميلاد النبيّ الأعظم،محمد المصطفى و سبطه الإمام الصادق عليهما السلام السابع عشر من شهر ربيع الأوّل من شهور عام 1424 من الهجرة النبوية.

و الحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:250

الفصل الثاني:الخبر الواحد في الشئون الدينيّة بين الرفض و القبول

اشارة

ص:251

ص:252

الخبر الواحد في الشئون الدينيّة بين الرفض و القبول بعث اللّه سبحانه نبيّه الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم بدين مشرق يحتوي على أُصول يجب الاعتقاد بها و عقد القلب عليها،و أحكامٍ عملية يطلب العمل بها،و تطبيق السلوك عليها في الحياة الفردية و الاجتماعية،فكأنّ لفظ الإسلام شارة العقيدة و الشريعة.

فالمطلوب من العقيدة هو الإذعان القلبي،كما أنّ المطلوب من الشريعة هو العمل،فكأنَّ الشريعة ثمرةُ العقيدة،و كل إنسان ينطلق في سلوكه من عقيدته و إيمانه.

و الّذي يجب إلفات النظر إليه هو أنّ السلوك العملي و تطبيق الحياة على الحكم الشرعي ليس رهن الإذعان بصحة الحكم الشرعي،بل ربّما يعمل به الإنسان أو يتركه مع الشك و الترديد في صحة حكم ما،بشهادة أنّ جميع الأحكام الفرعية ليست من القطعيات،بل هي بين مقطوع و مظنون بها،كما أنّ له تلك الحالة مع الظن بصحة الحكم دون اليقين بها،فالعمل و التطبيق في متناول الإنسان في أيّ وقت شاء،سواء أشك في صحة الحكم أو ظنّ بها أو قطع.

ص:253

و أمّا العقيدة بمعنى عقد القلب على شيء و أنّه الحق تماماً دون غيره فتختلف عن الأحكام الفرعية،فهي رهن أُسس و مبادئ تقود الإنسان إلى الإذعان على نحوٍ لولاها لما حصلت له تلك الحالة و إن شاء و أصرّ على حصول اليقين.

فالعمل بالأحكام من مقولة الفعل و هو واقع تحت إرادة الإنسان،ربّما يعمل بما لا يجزم بصحته كما يعمل مع الجزم بها،و مثال ذلك أنّ أئمة المذاهب الفقهية مختلفون في الآراء و المصيب منهم واحد،و مع ذلك فأتباع كل إمام يعملون بفقهه مع علمهم بخطئه إجمالاً في بعض الآراء لعدم عصمته.

و لكن الإذعان من مقولة انفعال النفس بالمبادئ الّتي تؤثر في طروء هذه الحالة على صحيفتها،و لو لا تلك المبادئ لما ترى له أثراً في الذهن.

يقول سبحانه: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» . (1)ما ذا يريد اللّه سبحانه من هذه الجملة؟ هل يريد أنّ الدين لا يمكن أن يتعلّق به إكراه؟! لأنّه من شئون القلب الخارجة عن القدرة،تماماً كالتصورات الذهنية،و انّما يتعلّق الإكراه بالأقوال و الأفعال الّتي يمكن صدورها عن إرادة القائل و الفاعل. (2)

يقول العلاّمة الطباطبائي:إنّ الدين و هو سلسلة من المعارف العلمية الّتي تتبعها أُخرى عملية،يجمعها أنّها اعتقادات،و الاعتقاد و الإيمان من الأُمور القلبية الّتي لا يحكم فيها الإكراه و الإجبار،فإنّ الإكراه إنّما يؤثر في الأعمال الظاهرية و الأفعال و الحركات البدنية المادية.

و أمّا الاعتقاد القلبي فله علل و أسباب أُخرى قلبية من سنخ الاعتقاد

ص:254


1- 1) .البقرة:256. [1]
2- 2) .تفسير الكاشف:396/1. [2]

و الإدراك،و من المحال أن ينتج الجهل علماً،أو تولّد المقدّمات غير العلمية تصديقاً علمياً. (1)

فما ادّعاه أعداء الإسلام من:«أن الإسلام قام بالسيف و القوة»ما هو إلا ادّعاء فارغ يجانب العقل،لأنّ السيف لا يؤثر في العقيدة و الإذعان و إن كان يؤثر في تطبيق العمل وفق الشريعة.

و على ضوء ذلك قال المحقّقون بحجية خبر الواحد العادل في الأحكام العمليّة دون الأُصول و العقائد،لأنّه لا يفيد العلم و اليقين الّذي هو أساس العقيدة إلا إذا احتفّ بقرائن خارجية تورث العلم و الجزم،و ما هذا إلا لأنّ المطلوب في الأحكام هو العمل،و هو أمر اختياري يقوم به الإنسان حتّى في حالتي الشك و التردد في صحة الحكم.

و أمّا الأُصول و المعارف فالمطلوب فيها عقد القلب و الإذعان على نحو يطرد الطرف النقيض بإحكام،و الخبر الواحد بما هو هو-و إن كان الراوي ثقة خصوصاً إذا كان بعيداً عن مصدر الوحي-لا يورث إلا الظن،و هو لا يغني في مجال العقيدة عن الحق شيئاً.

فعلى ما ذكرنا فالخبر الواحد إذا كان راويه ثقة و سنده صحيحاً،فإنّه يوصف بالصحة،و لكن لا ملازمة بين صحة السند،و صحة المضمون،لأنّ أقل ما يمكن أن يقال في آحاد الثقات انّهم ليسوا بمعصومين،و يحتمل في حقّهم الخطأ و الاشتباه في السمع و البصر و الذاكرة،فكيف يفيد قولهم العلم بالصحة؟ و مع ذلك فالخبر الواحد حجة في الفرعيات الّتي لا تعدّ و لا تحصى،لأنّ فرض

ص:255


1- 1) .الميزان:342/2. [1]

تحصيل العلم فيها يستلزم الحرج،و ربّما لا يناله الفقيه،و لذلك اعتبره الفقهاء حجة من عهد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا كما اعتبره العقلاء حجة في حياتهم الاجتماعية و سلوكهم الفردي.

و أمّا الأُصول و المعارف فهي رهن دليل قطعي حاسم يجلب اليقين و يخاصم الطرف المقابل.

نعم شذّ عن هذه القاعدة الّتي تؤيدها الفطرة و الكتاب و السنّة جماعةٌ اغترّوا بروايات الآحاد فجعلوها أُسساً للعقائد و الأُصول،يقول ابن عبد البرّ:ليس في الاعتقاد كلّه في صفات اللّه و أسمائه إلا ما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كلّه أو نحوه يسلم له،و لا يناظر فيه.

و قال أيضاً:و كلّهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات،و يعادي و يوالي عليها،و يجعلها شرعاً و ديناً في معتقده،و على ذلك جماعة أهل السنّة. (1)

و جاء في شرح الكوكب المنير:و يعمل بآحاد الأحاديث في أُصول الديانات، و حكى ذلك ابن عبد البر إجماعاً. (2)

يقول ابن القيم:إنّ هذه الأخبار لو لم تفد اليقين،فإنّ الظن الغالب حاصل منها،و لا يمتنع إثبات الأسماء و الصفات بها،كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها...و لم تزل الصحابة و التابعون و تابعوهم و أهل الحديث و السنّة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات و القدر و الأسماء و الأحكام،و لم ينقل عن أحد منهم البتة أنّه جوّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن اللّه و أسمائه

ص:256


1- 1) .التمهيد:8/1.
2- 2) .شرح الكوكب المنير:352/2 و انظر:لوامع الأنوار الإلهية:19/1.

و صفاته.... (1)

و قد نقل هذه النصوص مؤلف كتاب«موقف المتكلمين من الكتاب و السنّة» عن المصادر الّتي أشرنا اليها في الهامش و استنتج من هذه الكلمات ما يلي:

يرى أهل السنّة و الجماعة الأخذ بكل حديث صحّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في العقائد،و اعتقاد موجبه،سواء أ كان متواتراً أم آحاداً،إذ إنّ كلّ ما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وجب القطع به و اعتقاده و العمل به،سواء أوصل إلى درجة التواتر أم لم يصل،و سواء أ كان ذلك في الاعتقادات أم فيما يسمّى بالعمليات،أي:

المسائل و الأحكام الفقهية.

- إلى أن قال:-فمن أفاده الدليل العلم القاطع وجب عليه الأخذ به و تيقن دلالته،و من أفاده الظن الغالب لم يجز له أن يترك هذا الظن الغالب لعجزه عن تمام اليقين. (2)

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي يشبه بعضها بعضاً،و يدعو الكل إلى لزوم بناء العقيدة على العلم و اليقين إنْ تيسّر،و إلا فعلى الظن و لا يجوز ترك الظن الغالب،لعجزه عن اليقين.

أقول:إن هؤلاء-نوّر اللّه بصيرتهم-لم يفرّقوا بين الأحكام العملية و الأُصول العقائدية،و قاسوا الثانية بالأُولى مع أنّ القياس مع الفارق،فالمطلوب في الأحكام هو العمل و هو يجتمع مع العلم و الظن،و لكن المطلوب في الثانية هو عقد القلب و الجزم و رفض الطرف المخالف،و هو لا يتولّد من الظن،فإنّ الظن لا يُذهب

ص:257


1- 1) .مختصر الصواعق412/2. [1]
2- 2) .موقف المتكلّمين:198/1.

الشك،بخلاف اليقين فإنّه يطردهما معاً.

و تكليف الظان بموضوع،بالإذعان به و عقد القلب عليه تكليف بما لا يطاق، كتكليف الظان بطلوع الفجر،بالإذعان به.

و لو كان العمل بالظن في العقائد أمراً مطلوباً لما ندّد به القرآن الكريم في غير واحد من الآيات.قال سبحانه: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ» 1 ، و قال: «وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» 2 ،إلى غير ذلك من الآيات.

معطيات الخبر الواحد في العقائد

لو قمنا بتنظيم العقيدة الإسلامية على ضوء الخبر الواحد لجاءت العقيدة الإسلامية أشبه بعقائد المجسّمة و المشبّهة بل الزنادقة.

نفترض أن الخبر الواحد في العقيدة حجة إذا كان السند صحيحاً،فهل يصحّ لنا عقد القلب على ما رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال:

لا تُملأ النار حتّى يضع الرب رِجْلَه فيها

تحاجّت النار و الجنّة فقالت النار:أُثرتُ بالمتكبّرين و المتجبّرين،و قالت الجنة:فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء النّاس و سقطهم و عجزهم،فقال اللّه للجنّة:أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي،و قال للنار:أنت عذابي أُعذب بك

ص:258

من أشاء من عبادي،و لكلّ واحدة ملؤها،فأمّا النّار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها فتقول:قط قط فهنالك تمتلئ و يزوى بعضها إلى بعض.

و لنا على الحديث ملاحظات تجعله في مدحرة البطلان:

الأُولى:أي فضل للمتكبّرين و المتجبّرين حتى تفتخر بهم النار،ثُمّ و من أين علمتْ الجنةُ بأنّ الفائزين بها من عجزة الناس مع أنّه سبحانه أعدّها للنبيّين و المرسلين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين؟!

الثانية:ثمّ هل للجنة و النار عقل و معرفة بمن حلّ فيهما من متجبّر و متكبّر أو ضعيف و ساقط من الناس؟

الثالثة:انّه سبحانه قد أخبر بأنّه يملأ جهنم بالجِنّة و الناس لا برجله تعالى،كما قال سبحانه: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» 1 ،و قال: «وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ» . (1)

و على ذلك فالموعود هو امتلاء جهنم بهما،و ما هو المتحقّق إنّما هو امتلاء النار بوضع الرب رجله فيها،فما وُعد لم يتحقّق،و ما تَحقّق لم يُعد.

الرابعة:هل للّه سبحانه رجل أكبر و أوسع حتى تمتلئ بها نار جهنم إلى حدّ يضيق الظرف عن المظروف فينادي بقوله:قط قط؟!

فالحديث أشبه بالأُسطورة،و قد صاغها الراوي في ثوب الحديث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فجنى به على الرسول و حديثه و سوّد صحائف كتب الحديث و صحيفة عمره-أعاذنا اللّه من الجهل المطبق،و الهوى المغري -.

ص:259


1- 2) .هود:119. [1]

و لا يتصوّر القارئ أنّ ما ذكرناه حديث شاذ بين أخبار الآحاد،لا بل هناك أخبار كثيرة لو اعتمدنا عليها لجاءت العقيدة الإسلامية مهزلة للمستهزئين، فإن كنت في شك فلاحظ الحديث التالي:

نزول الرب كلّ ليلة إلى السماء الدنيا

أخرج البخاري في صحيحه،عن أبي عبد اللّه الأغر و أبي سلمة بن عبد الرحمن،عن أبي هريرة:

إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:يتنزّل ربنا تبارك و تعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر،يقول:مَن يدعوني فأستجيب له،مَن يسألني فأعطيه،و مَن يستغفرني فأغفر له. (1)

و في الحديث تساؤلات:

أوّلاً:أنّ ربّنا هو الغفور الرحيم،و هو القائل عزّ من قائل: «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». 2

و القائل تبارك و تعالى: «أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ». 3

و القائل سبحانه: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ

ص:260


1- 1) .صحيح البخاري:71/8،باب الدعاء نصف الليل من كتاب الدعوات؛و أخرجه مسلم في صحيحه:175/2،باب الترغيب في الدعاء من كتاب الصلاة عن أبي عبد اللّه الأغر و عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.

رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً». 1 إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن سعة رحمته لعموم مغفرته.

كما أنّه سبحانه وعد عباده بأنّه يستجيب دعاء من دعاه و يقول: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» 2 ،إلى غير ذلك من الآيات الدالة على قُرب المغفرة من المستغفرين، و الإجابة من اللّه سبحانه للسائلين آناء الليل و النهار فأي حاجة إلى نزول الرب الجليل من عرشه الكريم في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا و ندائه بقوله:«مَن يدعوني فاستجيب له».

ثانياً:تعالى ربّنا عن النزول و الصعود و المجيء و الذهاب و الحركة و الانتقال و سائر العوارض و الحوادث،و قد صار هذا الحديث سبباً لذهاب الحشوية إلى التجسيم و السلفية إلى التشبيه،و إن كنت في شكّ فاستمع لكلام من أحيا تلك الطريقة بعد اندثارها و انطماسها،يقول الرّحالة ابن بطوطة في رحلته:

و كان بدمشق من كبار فقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام يتكلّم في فنون،إلا أنّ في عقله شيئاً،و كان أهل دمشق يعظّمونه أشدّ التعظيم،و يعظهم على المنبر،و تكلّم مرّة بأمر أنكره الفقهاء.و رفعوه إلى الملك الناصر فأمر بإشخاصه إلى القاهرة،و جمع القضاة و الفقهاء بمجلس الملك الناصر،و تكلم شرف الدين الزواوي المالكي،و قال:«إنّ هذا الرجل قال كذا و كذا»و عدّد ما أُنكر على ابن تيمية،و أحضر الشهود بذلك و وضعها بين يدي قاضي القضاة.

قال قاضي القضاة لابن تيمية:ما تقول؟ قال:لا إله إلا اللَّه،فأعاد عليه

ص:261

فأجاب عليه بمثل قوله:فأمر الملك الناصر بسجنه،فسجن أعواماً،و صنّف في السجن كتاباً في تفسير القرآن سمّاه ب«البحر المحيط».

ثمّ إنّ أُمّه تعرضت للملك الناصر،و شكت إليه فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه مثل ذلك ثانية،و كنتُ إذ ذاك بدمشق،فحضرتُه يوم الجمعة،و هو يعظ الناس على منبر الجامع و يذكرهم،فكان من جملة كلامه أن قال:إنّ اللّه ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا،و نزل درجة من درج المنبر،فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء،و أنكر ما تكلّم به،فقامت العامة إلى هذا الفقيه و ضربوه بالأيدي و النعال ضرباً كثيراً. (1)

نحن و مؤلّف«موقف المتكلّمين»

اشارة

ألّف الشيخ سليمان بن صالح بن عبد العزيز الغصن كتاباً باسم«موقف المتكلّمين من الاستدلال بنصوص الكتاب و السنّة،عرضاً و نقداً»في جزءين،و قدّمه إلى كلية أُصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في عام 1413 ه،لنيل درجة الدكتوراة في قسم العقيدة و المذاهب المعاصرة،و قد حصل على مرتبة الشرف الأُولى.

و قد أدان-المؤلّف في خاتمة ذلك الكتاب-المتكلّمين بأُمور عديدة منها:

1.يرى المتكلمون أنّه لا يجوز الاستمساك بأخبار الآحاد في مسائل العقيدة بحجّة أنّها ظنيّة،و مسائل العقيدة مبناها على القطع،و قد تبيّن بطلان هذا الزعم و تناقضه و مخالفته لمنهج السلف. (2)

ص:262


1- 1) .ابن بطوطة:الرحلة:112،طبع دار [1]الكتب العلمية.
2- 2) .موقف المتكلّمين:918/2.

أقول:أراد الكاتب إدانة المتكلّمين المجاهدين في معرفة اللّه و صفاته، و الذين وعد اللّه سبحانه أمثالهم بقوله: «وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» 1 ،و لكنّه في الوقت نفسه مدحهم من حيث لا يشعر،لاتّباعهم الذكر الحكيم في ترك الظن في الأُصول و العقائد،و بالتالي ترك المنهج الذي نسبه إلى السلف،و إن كان قسم من السلف بريئاً من هذه الوصمة.

2.إنّ المتكلّمين غلوا في تعظيم العقل حتى جعلوه حاكماً على الشرع، و مقدّماً عليه عند التعارض،و حتى أوجب بعضهم على اللّه-بالعقل-أُموراً، و منعوا عليه أُموراً أُخرى. (1)

نلفت نظر الكاتب إلى أمرين:

1.انّ الوحي دليل قطعيّ،لا يتطرق إليه الخطأ و الاشتباه،كما أنّ حكم العقل إذا استمدَّ حكمه من البرهان،مثله،أمر قطعي،فكيف يمكن أن يقع التعارض بين القطعيين؟! فما يُتراءى من صورة التعارض بين الوحي القرآني و ما استنبطه العقل أو دلّت عليه التجربة فلا يخلو الحال من أحد أمرين:

1.إمّا أن يكون ما فهمناه من الشرع أمراً خاطئاً،دون أن يتطرّق الخطأ إلى نفس الشرع،أو يكون ما استفدناه من البرهان مغالطة،حدثت لقصور أو تقصير في المبادئ،و قد ذكرنا تفصيل ذلك في نقد الفروض العلمية الّتي ربّما يتصوّر كونها معارضة للقرآن.

نعم إذا كان المنسوب إلى الشرع أمراً ظنياً،غير قطعي،كأخبار الآحاد،فلو كان هناك تعارض بينه و بين العقل القاطع،فالمجال للثاني،لانعدام الظن

ص:263


1- 2) .موقف المتكلّمين:919/2.

بالقطع بخلافه.

2.إنّ الكاتب لم يفرّق بين الإيجاب المولوي و الإيجاب الاستكشافي، فخلط أحدهما بالآخر،فأمّا الأوّل فهو كفر و زندقة،فأنّى للعبد تلك المولوية حتى يكلّف ربّه بما حكم به عقله؛و أمّا الثاني فهو نفس التوحيد،أعني:

استكشاف الآثار من المؤثرات،فإذا وقف الباحث على أنّ من صفاته سبحانه كونه عدلاً حكيماً،فيستكشف من خلال هذه الصفات أنّه بريء من الظلم و القبح،و أنّه لا يأخذ البريء بذنب غيره،و بعبارة أُخرى:يستكشف وجود الملازمة بين كونه حكيماً عادلاً و بين أن يفعل كذا و أن لا يفعل كذا.

و الحقّ أن الكاتب أُميّ بالنسبة إلى منطق المتكلّمين؛فلو رجع إلى كتب المحقّقين من المتكلّمين لعرف مقاصدهم،و لَما شنّ عليهم هذه الحملة العشواء.

و ما ذكره من الإدانة ليس أمراً جديداً ابتكره الكاتب،و إنّما هو أمرٌ سبق إليه غير واحدٍ من خصماء العقل و أعداء البرهان و إن كانوا يتظاهرون بالعقل و التفكير منهم الرازي؛قال:«لا يجب على اللّه تعالى شيء عندنا،خلافاً للمعتزلة فإنّهم يوجبون اللطف و العوض و الثواب،و البغداديون خاصة يوجبون العقاب و يوجبون الأصلح في الدنيا.

لنا:إنّ الحكم لا يثبت إلا بالشرع،و لا حاكم على الشرع فلا يجب عليه شيء.

و الإشكال بمعزل عن التحقيق-و أظن أنّ الرازي كان واقفاً على وضعه-و قد أجاب عنه المحقّق نصير الدين الطوسي و قال:ليس هذا الوجوب بمعنى الحكم الشرعيّ كما هو المصطلح عند الفقهاء،بل هذا الوجوب بمعنى كون الفعل بحيث

ص:264

يستحقّ تاركه الذمّ،كما أنّ القبيح بمعنى كون الفعل بحيث يستحق فاعله الذّم.و الكلام فيه هو الكلام في الحسن و القبح بعينه،و يقولون:إنّ القادر العالم الغنيّ لا يترك الواجب ضرورةً. (1)

3.أبطل المتكلّمون دلالات كثيرٍ من النصوص الشرعية من خلال عدة طرق، كاتّباع المتشابه و القول بالمجاز و التأويل و التفويض. (2)

أقول:قد نسب الكاتب إلى المتكلّمين في هذه العبارة القصيرة أُموراً أهمها أمران:

1.تفويض المراد من الصفات الخبرية إلى اللّه سبحانه.

2.التأويل.

الأمر الأوّل:تفويض المراد من الصفات الخبرية إلى اللّه سبحانه

إنّ التفويض شعار مَن يرى أنّه يكفيه في النجاة قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«بني الإسلام على خمس:شهادة أن لا إله إلا اللّه و أنّ محمداً رسول اللّه،و إقام الصلاة،و إيتاء الزكاة،و الحج،وصوم رمضان»،و عند ذاك يرى أن التفويض أسلم من الإثبات الّذي ربّما ينتهي-عند الإفراط-إلى التشبيه و التجسيم المبغوض،أو إلى التعقيد و اللغز الّذي لا يجتمع مع سمة سهولة العقيدة.

إنّ القائلين بالتفويض رأوا أنفسهم بين محذوريْن،فمن جانب أنّه سبحانه أثبت لنفسه هذه الصفات الخبرية و لا بد من إثباتها عليه سبحانه بلا كلام، و من جانب آخر أنّ إثباتها بما لها من المعاني الإفرادية و التصورية يُشرف الإنسان على التجسيم و التشبيه،فاختاروا طريقاً للتخلّص من المحذوريْن

ص:265


1- 1) .النقد المحصّل:342.
2- 2) .موقف المتكلّمين:919/2.

بتفويض معانيها إلى اللّه سبحانه مع الإيمان بمعانيها حسب ما أنزله سبحانه.

و لا يُعاب على الرجل إذا اختار طريق الاحتياط و جمع بين الواجب (الإيمان بصفات اللّه الخبرية) و التحرز عن مغبّة التشبيه و التجسيم.

و قد نقل نظير ذلك عن إمام السلفيّين أحمد بن حنبل يقول حنبل بن إسحاق:سألت أحمد بن حنبل:أ لم ترو عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّ اللّه ينزل إلى السماء الدنيا؟ قال أحمد:نؤمن بها و نصدق و لا نرد شيئاً منها إذا كانت الأسانيد صحاحاً-إلى أن قال-:قلت:أ نُزُوله بعلمه أو بما ذا؟ قال:اسكت عن هذا،ما لك و هذا،معنى الحديث على ما روي بلا كيف و لا حدّ. (1)

إنّ الاعتقاد بنزوله سبحانه بلا كيف و حدّ تعبير آخر عن الاعتقاد بالنزول و تفويض واقعه إلى اللّه سبحانه.

و لو قلنا بتغايرهما فالقول بالتفويض أهون بمراتب من الإيمان بالنزول بلا كيف،فإنّ واقع النزول هو كيفية و تحرك النازل من مكان إلى مكان،و نفي الكيف يساوق نفي النزول أساساً،فالقول به بلا كيف أشبه بقولنا بوجود أسد لا رأس له و لا ذنب و لا مخلب.

ثمّ إنّ التفويض ليس إلا عقيدة قليل من المتكلّمين الذين دعاهم الاحتياط إلى ترك التدبّر في مفاهيم الصفات باللجوء إلى التفويض.و أمّا المحقّقون منهم فهم لا يعطّلون العقول عن معرفته سبحانه و معرفة محامد أوصافه و جلائل نعوته،قائلين بأنّه سبحانه أنزل القرآن «تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» 2 ،فإذا كان تبياناً لكل شيء،فكيف لا يكون تبياناً لنفسه ؟!

ص:266


1- 1) .شرح أُصول السنّة للألكائي كما في علاقة الإثبات و التفويض:98.

هذا ما يتعلّق بالأمر الأوّل و هو التفويض الّذي نسبه الكاتب إلى المتكلّمين، و قد عرفت ما هو سبب لجوء هؤلاء إلى التفويض و إن كانوا بالنسبة إلى المحقّقين من القلّة.

و إليك تحليل الأمر الثاني:

الأمر الثاني:التأويل

اشارة

قد نسب الكاتب إلى المتكلّمين التأويل و أردفه باتّباع المتشابه،و كأنّ تأويلهم نوع من اتّباع المتشابه المنهي عنه في الذكر الحكيم (1)،لكن لا بد من تبيين حقيقة التأويل و له صورتان:

1.حمل الآيات على خلاف ظاهرها

ربّما يُفسّر التأويل بحمل الآية على خلاف ظاهرها،جمعاً بينها و بين حكم العقل أو العلم،و بالتالي درء التعارض بين الوحي و العقل و العلم.

و التأويل بهذا المعنى مرفوض جدّاً،فإنّ ظاهر القرآن حجّة بلا كلام،و ليس لأحد أن يصرف الآية إلى خلافها إلا بدليل قاطع مقبول عند العقلاء،كما هو الحال في حمل العموم على الخصوص،و المطلق على المقيّد،حيث إنّ عموم الآية أو إطلاقها يُخصّص أو يُقيّد بآية أُخرى أو بالسنّة النبوية الّتي قام الدليل على حجيتها فهذا النوع من التصرف أمر شائع بين العقلاء،خصوصاً في مجالس التقنين و التشريع،و بما أن القرآن نزل نجوماً و الأحكام شُرّعت تدريجاً فربما ورد العام و المطلق في برهة و ورد مخصصه و مقيده في برهة أُخرى،و هذا يوجب الجمع

ص:267


1- 1) .لاحظ آل عمران:7.

بينهما بالتخصيص و التقييد،و بالتالي صرف الآية عن ظاهرها،على نحو مقبول عند عامّة الناس.

و أمّا التأويل بمعنى صرف الآية عن خلاف ظاهرها في غير مجال التقنين، فهو أمر باطل لا يسير عليه إلا الفرق الباطلة كالباطنية،و أمّا غيرهم فالجميع على حجية الظواهر في عامة المجالات.

2.الأخذ بالظهور الجُمْلي لا الإفرادي

نعم لا بد من تشخيص الظاهر الّذي يجب الأخذ به و عليه عامّة العقلاء في محاوراتهم،فالمراد من الظاهر ليس هو الظهور التصوري و الإفرادي بل الظهور الجُمْلي و التصديقي،فلو قلت:رأيت أسداً في الحمّام،فالظهور الإفرادي للفظة أسد يقتضي تفسيره بالحيوان المفترس،و لكن بالنسبة إلى الظهور الجمْلي«مجموع الجملة»و التصديقي يقتضي حمله على الرجل الشجاع،يقول القائل: أسدٌ عليّ و في الحروب نعامة رَبْداءُ تجفُلُ من صفير الصافرِ (1)

فالجمود على الظهور الإفرادي و التصوري يقودنا إلى حمل الأسد على المعنى اللغوي،و لكنّه بالنظر إلى القرائن الحافّة بالشعر و الغرض الّذي صيغ لأجله الكلام يقودنا إلى حمله على الإنسان الجبان الّذي يتظاهر بالشجاعة لدى الضعفاء و لكنّه في ساحة الحرب جبان ينزوي هارباً.

و بعبارة أُخرى:لا يشكّ أيّ متشرّع غير الباطنية من أنّه يجب الأخذ بظواهر الكتاب دون العدول عنه قيد شعرة،غير أنّ المهم هو تعيين الصغرى و أنّه ما هو الظاهر،فلنأت بمثال يوضح المقصود،يقول سبحانه: «وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ

ص:268


1- 1) .لعمران بن حطان السدوسي يهجو به الحجاج.

مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً». 1

فالناظر في الآية لا يشكّ في أنّه ليس المراد هو بسط الجارحة أو قبضها،بل المراد هو المعنى المكنّى عنه و هو البخل و التقتير أو الجود و البذل الخارج عن الحدود المعتادة.

فتفسير الآية حسب ما ذكرنا تأويل صحيح بمعنى أوْل الآية و إرجاعها إلى المعنى المقصود.

و هذا رهن رفض الظهور الإفرادي و التصوري و الأخذ بالظهور الجملي و التصديقي،و هو طريقة العقلاء في تفسير الكلمات فها نحن نذكر نوعاً من هذا التأويل ليُعرف ما هي طريقة المحققين في تفسير الصفات الخبرية.

أ فيصح لمفسّر أن يأخذ بظاهر قوله سبحانه: «وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً». 2

فإنّ في الأخذ بالظهور الإفرادي و التصوّري وضعاً للإنسان الضعيف الّذي ابتلى بالعمى و فقد البصر لعوامل وراثية أو بيئية أو ما شابه ذلك،فلا محيص من رفض الظهور الإفرادي و الأخذ بالظهور التصديقي و تطبيقها على الكفّار الفاقدين للبصيرة الذين «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» . (1)

ص:269


1- 3) .الأعراف:179. [1]

طريقة المحقّقين في تفسير الصفات الخبرية

طالما تمسّك السلف و السلفيون،بالآية التالية لإثبات الرؤية الحسّية للّه،قال سبحانه:

«كَلاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ* وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ» 1 ،و قال سبحانه: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ* وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ». 2

إنّ هذه الآية شغلت بال المثبتين و المنكرين للرؤية،فالفرقة الأُولى تُصرّ على أنّ النظر بمعنى الرؤية،و الثانية على أنّها بمعنى الانتظار.

غير أنّ الإصرار على تفسير لفظ الناظرة و أنّها هل هي بمعنى الرؤية أو الانتظار ليس أمراً مهماً،بل المهم هو التفسير الجملي لا الإفرادي.

نحن نسلم أن النظر هنا بمعناه اللغوي قطعاً،و لكن القرائن تدلّ على أنّ المراد الجدّي هو الانتظار،فاستعمل اللفظ في المعنى اللغوي و لكن صار ذريعة إلى المعنى الثاني المكنّى عنه بمعنى الانتظار،كما في قولك:(زيد كثير الرماد) في مقام المدح مشيراً به إلى سخائه،و إلا فالمعنى الإفرادي يكون ذمّاً لا مدحاً.

و بما أنّ حمل الجملة على الكناية ليس بصحيح إلا بقرائن قاطعة تقود الإنسان إليها،نعطف نظر القارئ الكريم إلى تلك القرائن:

نجد إنّ هنا آيات ست و تقابلات ثلاثة و التنظيم لها بالشكل التالي:

1. «كَلاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ» يقابلها «وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ» .

ص:270

2. «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ» يقابلها «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ».

3. «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» يقابلها «تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ».

فلا شك أنّ الآيات الأربع الأُول واضحة لا غموض فيها،إنّما الإبهام و موضع النقاش هو الشق الأوّل من التقابل الثالث،فهل المراد منه جداً هو الرؤية،أو أنّها كناية عن انتظار الرحمة؟ و الذي يعيّن أحد المعنيين هو أنّ ما يقابله - أعني: «تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ» صريح في أنّ أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون العذاب الكاسر لظهرهم و يظنون نزوله،و مثل هذا الظن لا ينفكّ عن الانتظار، فكل ظان لنزول العذاب منتظر،فيكون قرينة على أنّ أصحاب الوجوه المشرقة ينظرون إلى ربّهم،أيّ يرجون رحمته،و هذا ليس تصرفاً في الآيات و لا تأويلاً لها،و إنّما هو رفع الإبهام عن الآية بأُختها المتقابلة و إرجاع الآية إلى معناها الواقعي،و تعيين أحد المحتملين بالأدلّة القاطعة.

و ترى ذلك التقابل و الانسجام في آيات أُخرى،و كأنّ الجميع سبيكة واحدة، كما في الآيات التالية:

1. «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ» يقابلها «ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ»

2. «وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ» يقابلها «تَرْهَقُها قَتَرَةٌ». 1

فإنّ قوله: «ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ» ،قائم مقام قوله: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» فيرفع إبهام الثاني بالأوّل.

3. «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ» يقابلها «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ * تَصْلى ناراً حامِيَةً». 2

ص:271

4. «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ» يقابلها «لِسَعْيِها راضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» . (1)

انظر إلى الانسجام البديع،و التقابل الواضح بينهما،و الهدف الواحد.و الجميع بصدد تصنيف الوجوه يوم القيامة،إلى:ناضرة،و مسفرة،و ناعمة،و:باسرة، و غبرة،و خاشعة.

أمّا جزاء الصنف الأوّل فهو الرحمة و الغفران،و تحكيه الآيات التالية:

«إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» ، «ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ» ، «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» .

و أمّا جزاء الصنف الثاني فهو العذاب،و الابتعاد عن الرحمة،و تحكيه الآيات التالية:

«تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ» ، «تَرْهَقُها قَتَرَةٌ» ، «تَصْلى ناراً حامِيَةً».

أ فبعد هذا البيان يبقى الشكّ في أنّ المراد من قوله «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» هو انتظار الرحمة!! و القائل بالرؤية يتمسك بهذه الآية،و يغضّ النظر عمّا حولها من الآيات،و من المعلوم أنّ هذا من قبيل محاولة إثبات المدّعى بالآية،لا محاولة الوقوف على مفادها.

و يدلّ على ذلك أنّ كثيراً ما يستخدم العرب النظر بالوجوه في انتظار الرحمة أو العذاب:

و إليك بعض ما ورد: 1.وجوه بها ليل الحجاز على الهوى

ص:272


1- 1) .الغاشية:8-10. [1]

فلا نشك أنّ قوله:«وجوه ناظرات»بمعنى رائيات،و لكن النظر إلى الرحمن كناية عن انتظار النصر و الفتح. 3.إنّي إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر

فلا ريب أنّ اللفظين في الشعر و إن كانا بمعنى الرؤية،و لكن نظر الفقير إلى الغني ليس بمعنى النظر بالعين،بل الصبر و الانتظار حتى يعينه.

و أوضح دليل على أنّ المراد الجدّي من النظر،ليس هو الرؤية،هو نسبة النظر إلى الوجوه لا إلى العيون،فلو أراد الرؤية الحسّية،لكان اللازم أن يقول:عيون يومئذ ناظرة،لا وجوه يومئذ ناظرة.

هذه هي طريقة المحقّقين من المتكلّمين،و لا أظن أن الإنسان البعيد عن الأهواء غير المتأثر بالبيئة و الرأي المُسبق،إذا تأمّل ما ذكرنا يبقى له شك في المراد بالآية،و هذا النوع من التأويل ليس من باب فرض العقيدة على الآية، و انّما هو استنطاق للآية بنفسها و بما يشابهها من الآيات الأُخرى.

و ليس التأويل بهذا المعنى،يهدف إلى صرف الآية عن ظاهرها،بل هو عين الأخذ بالظهور الجملي،مكان الظهور الإفرادي،و إرجاع الآية إلى المراد الجدّي منها،و إخراجها عن الظهور المتزلزل إلى الظهور المستقرّ بالتدبر و التفكير فيها و ما ورد حولها من الآيات الأُخرى.

تقدير لا تصويب

لسنا في هذا المقام بصدد تصويب جميع المناهج الكلامية و المسالك الفكرية،إذ كيف يمكن تصويب الجميع،مع أنّ المصيب واحدٌ؟! بل الهدف

ص:273

تقدير جهودهم الّتي بذلوها في سبيل فهم العقيدة الإسلامية على ضوء الكتاب و السنّة و العقل الحصيف.

و ما أبعد ما بينهم و بين المتقاعسين عن فهم العقائد المقتصرين على الظهور الإفرادي في فهم النصوص المقدّسة،المؤثرين راحة النفس على التدبّر و التفكّر في مضامين الآيات و مداليلها.

ثَمّةَ رجلان انطلقا إلى جبل ليتباريان في تسلُّقه،فلمّا رأى الأوّل شموخَ الجبل و علوّ قمّته،ضَعُفت إرادتُه و انهارت مُنَّتُهُ،و قَعدتْ به عن إنجاز ما كان يسعى إليه همّتهُ،فآثر البقاء حيث هو في أسفل الجبل و منحدره،دون أن يخطو خطوة واحدة في طريق تسلُّقه؛أمّا الثاني فلم يتهيّب بُعد القمّة و لا شدائد الطريق،فمضى بعزم و مضاء،و ظل يكافح و يناضل و يبذل جهده في الصعود و الارتقاء،إلى أن استبدّ به التعب و خارت قُواه،فوقف في أثناء الطريق دون أن يبلغ القمّة و يُدرك مُناه.

إن مثَل المتكلم المجاهد الّذي حاول أن يتعرف على أسمائه و صفاته سبحانه عن طريق التدبّر و التفكّر بجدّ و إخلاص إذا أخطأ في بضع مسائل كمثل متسلّق الجبال الّذي لم يتهيّب بُعْد القمّة و لا مصاعب الطريق فمضى بعزم و مضاء،و إن خارت قواه،و لم يصل إلى المقصد الأسنى،فهو ممدوح في جهده و سعيه؛و أمّا السلف و السلفيون الذين يأخذون بظواهر الآيات دون تدبّر و تعقّل و يحتجون بالظهور الإفرادي دون الجملي و يعتقدون بالظهور التصوّري لا التصديقي لإراحة أنفسهم عن تعب البحث و التفكير،فحالهم حال من رأى ارتفاع الجبل فآثر البقاء في أسفل الجبل و منحدره.

فأيّهما أحق بالمدح و الثناء.و أيّهما أحقُ أن يشمله قولُه سبحانه:

ص:274

«وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا...». 1

السلف و تفسير الصفات الخبرية

يقول مؤلّف«موقف المتكلّمين»:يعتقد أهل السنّة (1)إنّ اللّه خاطبنا بما نفهم و أراد منّا اعتقاد ظاهر النصوص«على الوجه اللائق».فنصوص الصفات مثلاً تجري على ظاهرها«بلا كيف»،كما تضافرت عبارات السلف في ذلك، فتثبت له الصفات الواردة بلا تمثيل،فلو كان ظاهر النصوص غير مراد لما خاطبنا بها ربنا تعالى و لما أمرنا بتدبّر كتابه،كما قال: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ». 3

فعلى هذا نعلم أنّ الواجب الأخذ بظواهر النصوص و أنّه ليس هناك باطن يخالف الظاهر،فالباطن الحق عند السلف موافق للظاهر الحق،و كلّ معنى باطن يخالف ظاهر الكتاب و السنّة فهو خيال و جهل و ضلال. (2)

يؤخذ على الكاتب أُمور،منها:

1.انّ الكاتب خلط الحق بالباطل،و ذلك لأنّ الأُمّة الإسلامية (غير الفرقة الباطنية) كلّهم يعتقدون بالأخذ بظاهر النصوص،و ليس الأخذ بالظواهر من خصائص السلف،بل كلّ من اتّخذ القرآن دليلاً و هادياً،يأخذ بها،غير أنّ

ص:275


1- 2) .احتكر الكاتب لفظ«أهل السنّة»و خصّه بأهل الحديث فقط،كأحمد بن حنبل و أسلافه أو أخلافه،و رأى أنّ سائر الفرق حتّى الأشاعرة ليسوا منهم.
2- 4) .موقف المتكلّمين:72/1-73،نقله عن كتاب الدرء و التعارض:86/5 و كتاب إبطال التأويلات:6-13 مخطوط.

الّذي يهّمُنا هو تشخيص الظاهر،فهل المراد الظهور الإفرادي أم الظهور الجُمْلي؟ و هل المراد الظهور التصوّري أو الظهور التصديقي؟ فالسلف و السلفيّون على الأوّل،و المحقّقون على الثاني،فهم أولى بالآية التالية: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ» دون المتسمّين بالسلفية،إذ ليس لهم أي شأن حول الآيات سوى الأخذ بظواهر مفردات الآية.

2.إنّه تبعاً لأسلافه لمّا رأى أنّ الأخذ بظواهر النصوص على النحو الإفرادي و التصوّري يوجب التجسيم و التشبيه و الجهة الّتي هي مذهب الزنادقة، حاول أن يفرّ من مغبّة ذلك المسلك بعبارتين:

1.تفسير النصوص في حقّه سبحانه على الوجه اللائق به.

2.بلا تمثيل و لا كيف.

إذا كانت الوظيفة حمل النصوص على ظواهرها فما هذا التقييد-أعني:

«اللائق به»أو«بلا تمثيل و لا كيف»-فإنّها قيود مبتدعة دون أن يكون لها سند في الكتاب و السنّة،و ما هذا إلا لأنّ السلف و السلفيّين أبناء التشبيه و التجسيم و الجهة،و لكنّهم اتّخذوا هذين التعبيرين جُنَّة للدفاع و غطاء لستر معايب منهجهم كالتشبيه و التجسيم و الجهة.

السلفية و نفي المجاز

اشارة

قد عرفت أنّ بعض السلف و أتباعهم يحاولون حمل الصفات الخبرية الواردة في القرآن الكريم على اللّه سبحانه بنفس معانيها الحرفية،و لأجل ذلك حاولوا إنكار المجاز في القرآن الكريم لئلا يكون القول به ذريعة لنفي الصفات بالمعنى اللغويّ.

ص:276

يقول مؤلف«موقف المتكلمين»:إنّ البحث في المجاز لو كان أمراً لغوياً لم يكن به بأس،و لكنّه ربّما يقع سُلّماً و مطيةً لأهل البدع بتحريف بعض نصوص الشرع عن حقائقها.و لو كان مجرد اصطلاح لا يترتب عليه خوض في مسائل الشريعة لما حصل فيه خلاف كبير و لما احتدم فيه النقاش،و لكن لمّا أدرك العلماء خطورتَه و كثرةَ المتدرّعين به سارعوا إلى تحقيق القول فيه بين ضعف قواعده و قصور مباحثه.

و ذكر في ذلك الفصل حجج المنكرين للمجاز قائلاً إنّ أبرزها ما يلي:

1.أنّ المجاز كذب؛لأنّه يتناول الشيء على خلاف حقيقته،و من المعلوم بالضرورة أنّ كلام اللّه تعالى كلّه حق،و كلّ حق فله حقيقة،و كل ما كان حقيقة،فإنّه لا يكون مجازاً.

2.أنّ العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي نسبة الحاجة أو الضرورة،أو العجز إلى اللّه تعالى،و هذا محال على اللّه تعالى.

3.أنّ اللّه تعالى لو خاطب بالمجاز لصحّ وصفه بأنّه متجوّز،و مستعير،و هو خلاف الإجماع.

4.أن المجاز لا يُفهم معناه بلفظه دون قرينة،و ربّما تخفى،فيقع الالتباس على المخاطب فلا يفهم مراد اللّه،و هذا يخالف حكمة الخطاب. (1)

هذه أدلّته على نفي المجاز لا لغاية التحقيق في اللغة،بل للتحرز عن حمل الصفات الخبرية على المعاني المجازية،و هذا يعني أنّه اتخذ موقفاً خاصاً من الصفات الخبرية و صار ذلك سبباً لإنكار المجاز،و إلا فلو دخل في البحث مجرداً عن عقيدة مسبقة لما أنكر المجاز و لما اعتمد على هذه الأدلّة الواهية الّتي تُضحك الثكلى.

ص:277


1- 1) .موقف المتكلمين:459/1- 460.

و إليك دراستها مع الاعتذار إلى القرّاء الكرام:

أمّا دليله الأوّل-أعني:وصف المجاز بالكذب-فسبحان اللّه كيف يصفه بالكذب و بالتالي ينكر وجوده في القرآن الكريم و هذا كتابه العزيز يشهد عليه؟!

يقول سبحانه حاكياً عن نساء مصر: «فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ». 1

هل هناك إنسان يتّهم نساء مصر بالكذب،لأنهنّ نفينَ كون يوسف بشراً،بل قلن بجدٍّ،إنّه ملك كريم؟!

كلاّ و لا،لأنّ القرائن الحافّة بالكلام أوضح دليل على أنّ الوصف ادّعائي لا حقيقي.

و لذلك عادت امرأة العزيز بإدانتهن و قالت: «فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ». 2

تريد بكلامها هذا،أنّ يوسف بما أنّه بلغ من الحسن و الجمال حدّاً يليق أن يقال فيه أنّه ليس بشراً بل هو ملك،صار ذلك سبباً لغرامي و تعلّق قلبي به.

أ ترى أنّه سبحانه كذب في قوله: «وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً». 3

فهو لا يريد من الأعمى في كلا الموردين المعنى الحقيقي و هو الضرير

ص:278

و مكفوف العينين،و انّما يريد من عَمي قَلبُه،و من المعلوم أنّ«الأعمى»وضع للضرير،فاستعماله في غيره على نحو من المجاز.

و قال سبحانه: «وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذاقَهَا اللّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ». 1

فإنّ اللباس حسب اللغة هو ما يلبسه الإنسان و يستر به بدنه،و اللّه سبحانه استعمله في الجوع المحيط بالإنسان،و كأنّه شمله الجوع كما يشمل اللباسُ البدنَ.

و بعبارة أُخرى:إنّه سبحانه يُخبر عن إحاطة لباس الجوع عليهم،فهل هو سبحانه-و العياذ باللّه-يكذب في ذلك؟! إذ لا شكّ أنّ الجوع ليس لباساً و لم يوضعَ اللفظ له و مع ذلك يخبر عن وجود هذا اللباس،و ما هذا إلا لأنّ القرائن الحافة بالكلام تُخرج الكلام عن كونه كذباً،و لا يخطر ببال أيّ مخاطب أنّه كذب،بل لو فُسّر الكلام بالمعنى الحقيقي لعاد كذباً.

و أمّا دليله الثاني،أيّ كون العدول عن الحقيقة سبباً لنسبة الحاجة إلى اللّه سبحانه...

يلاحظ عليه:بأنّ اللّه سبحانه كتب على نفسه أن يخاطب الناس عن طريق الوحي بلغتهم و يحاورهم بكلامهم،يقول سبحانه: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». 2

ص:279

فليس العدول عن الحقيقة آية الحاجة أو الضرورة أو العجز،بل كلّ ذلك لغاية إفهام الناس و هدايتهم.

و أمّا الدليل الثالث،فلا ملازمة بين كونه مستعملاً للمجاز و جواز وصفه بأنّه متجوّز أو مستعير،لأنّ أسماء اللّه توقيفية و يشهد على ذلك:

إنّ أفعال العباد عند أهل السنّة مخلوقة للّه سبحانه،فمع ذلك لا تصحّ تسميته سبحانه بكونه آكلاً،شارباً،ضارباً،قاتلاً.

إنّه سبحانه يصف نفسه بقوله: «أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ». 1 فهل تصحّ تسميته بكونه زارعاً،و دعوته في مقام الدعاء«يا زارع؟!».

و أمّا الدليل الرابع،فيلاحظ عليه:أنّ من شرط استعمال المجاز احتفافه بالقرينة الواضحة،فاستعمال اللفظ مجازاً مع اختفاء القرينة يضادّ البلاغة، و هو لا يناسب ساحة البلغاء.

إكمال

المعروف أنّ اللفظ إن استعمل فيما وضع له فهو حقيقة،و إن استعمل في غيره بعلاقة معتبرة مع قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي،فهو مجاز.

لكن المختار عندنا تبعاً لمشايخنا الكبار،كالعلاّمة مجد الدين الاصبهاني (1286-1362ه)،و السيد الإمام الخميني (1320-1409 ه) رضوان اللّه عليهما:انّ الألفاظ مطلقاً حتّى في الموارد الّتي توصف بالمجاز،مستعملة في معانيها الأصليّة و ليس المعنى المجازي،معنى مقابلاً للمعنى الحقيقي،كما يوهمه قولهم:الأسد مستعمل في الرجل الشجاع.وجه ذلك:أنّه إذا استعمل اللفظ في

ص:280

معناه الأصلي و لم يكن هناك أيّ ادّعاء،يوصف الاستعمال بالحقيقة،و إن استعمل في نفس معناه الأصلي،و كان مقروناً بادّعاء أنّ المورد من مصاديق ذلك المعنى الأصلي يوصف بالمجاز.

مثلاً استعمل لفظ«ملك»في قوله: «ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ» 1 في نفس معناه الأصلي مدّعياً بأنّ يوسف من مصاديقه.و الّذي يُضفي على الكلام حسناً و جمالاً،هو نفس ذلك الادّعاء،و إلا فلو استعمل لفظ«ملك»في يوسف بلا توسيط معناه الأصلي و بلا ادّعاء أنّه من مصاديقه،لسقط الكلام عن قمّة البلاغة،و لم يبق للتعجب وجه.

فلو قال القائل:إني قاتلت في جبهات القتال أسداً هصوراً،أو قابلت أمس قمراً منيراً.و هو لم يقابل إلا رجلاً شجاعاً باسلاً،أو وجهاً صبيحاً،فلا يريد بكلامه هذا اللقاء،بهذين الشخصين بلا توسيط المعنى الأصلي بل يستعملهما في معناهما الأصليين لكن بادّعاء أنّ الموردين من مصاديق الأسد،و القمر.

و هذا الشاعر،يمدح محبوبته متعجباً و يقول: قامت تُظلِّلُني و من عجبٍ شمس تُظلِّلُني من الشمس

و إنّما يصحّ أن يتعجّب إذا استعمل لفظ الشمس في نفس معناها الحقيقي، أعني:النيّر الكبير،فعند ذلك صحّ أن يتعجب،ان شمساً (محبوبته) قامت تظلّله من الشمس.

و هنا يظهر حال الكناية و إن جعلها الأُدباء قسيماً ثالثاً للحقيقة و المجاز، و ذلك لأنّ الألفاظ في الكنايات أيضاً مستعملة بالإرادة الاستعمالية في معانيها الأصلية لكن صار ذلك سبباً لتعلّق الإرادة الجدية بشيء آخر،و هو لازم المعنى

ص:281

الأصلي،كلّ ذلك بالقرائن الحالية أو المقالية.

مثلاً من ألفاظ المدح عند العرب.قولهم:فلان طويل النجاد،أو كثير الرماد؛ و الأوّل كناية عن طويل القامة،و الثاني عن كثرة الضيافة،كلّ ذلك بعلاقة الملازمة بين المعنى الاستعمالي و المعنى الجدي.و المسوِّغ للاستعمال هو كون المتكلّم في مقام المدح،و لأجل ذلك ربّما يستعمل«طويل النجاد»في من لم يشتمل سيفاً طول عمره و لم يصاحب عاتقه نجاداً.

السلفية و تفسير الصفات الخبرية

إنّ السلفيّين يصفونه سبحانه بالصفات التالية،معتمدين في ذلك حسب زعمهم على الذكر الحكيم و هي:

1.العلو.

2.الاستواء.

3.النزول.

4.الإتيان و المجيء.

5.الغضب و الضحك.

6.الوجه.

7.العين.

8.اليدان.

9.القدم.

10.الرؤية.

و على هذا فاللّه سبحانه مستوٍ على عرشه و جالس عليه،و أنّه خلق آدم

ص:282

بيديه،و هو ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل،و يأتي و يجيء، و يغضب و يضحك،و يراه الإنسان بأُم عينيه،إلى غير ذلك من الصفات،فهو - جلّ اسمه-يوصف بها بنفس المعاني الحرفية و اللغويّة،و أقصى ما عندهم في تنزيه الرب أنّه موصوف بها«بلا كيف»،و«حسب ما يليق بساحته».

و بما أنّ دراسة جميع هذه الأوصاف الواردة في الكتاب و السنّة على نحو يقلع الشبهة عن أذهان المغرورين بكتبهم و رسائلهم،تتطلّب تأليف كتاب مفرد،فنقتصر هنا على إيضاح صفتين وردتا في الذكر الحكيم،لأنّهم يعتمدون عليهما أكثر من سائر الصفات.

الأُولى:الاستواء على العرش

نقول:ورد استواؤه على العرش في غير واحد من السور (1)،و نحن نذكر آيتين و نحيل الباقي إلى القارئ الكريم:

قال سبحانه: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ» . (2)

و قال تعالى: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ». 3

ص:283


1- 1) .الرعد:2،الفرقان:59،السجدة:5،غافر:15،طه:5،باختلاف يسير.
2- 2) .يونس:3. [1]

إنّ هؤلاء-الذين يتبرّءون من المشبِّهة و المجسِّمة (و لكنهم منهم) و يتستّرون ب«البلكفة»أو«ما يليق بساحته سبحانه»-أخذوا بحرفية قوله سبحانه: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» و الظهور التصوري المتزلزل و تركوا الظهور التصديقي المستقرّ.

قال مؤلّف«موقف المتكلّمين»:روي عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال:

و العرش فوق الماء و اللّه فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. (1)

و عن الأوزاعي قال:كنّا و التابعون نقول إنّ اللّه على عرشه،و نؤمن بما وردت به السُّنّة. (2)

و ذكر ابن القيّم:أنّه روى غير واحد باسناد صحيح عن عبد الرحمن بن مهدي أنّه قال:إنَّ الجهمية أرادوا أن ينفوا أن اللّه كلّم موسى و أن يكون على العرش، أرى أن يُستتابوا،فإن تابوا و إلا ضُربت أعناقهم. (3)

إلى غير ذلك من الكلمات الظاهرة في التجسيم،و أنّه سبحانه في السماء لا في الأرض،يجلس على سريره ينظر إلى ما دون العرش و لا تخفى عليه أعمال عباده.

هؤلاء بدلَ أن يتدبّروا في نفس الآيات الوارد فيها الاستواء على العرش و يرجعوا إلى عقولهم،لاذوا بكلمات السلف غير المعصومين ثمّ أوعدوا المخالف بالسيف،كما في كلام ابن القيّم.

و أمّا المحقّقون الَّذين يتدبّرون القرآن حسب ما أمر به الذكرُ الحكيم،فقد رجعوا إلى نفس الآيات و تدبّروا الجملَ الحافّة بهذه الجملة،ثمّ قاموا بتفسيرها

ص:284


1- 1) .التمهيد،لابن عبد البر:139/7.
2- 2) .الأسماء و الصفات للبيهقي:515. [1]
3- 3) .الفتوى الحموية:40/5.

و خرجوا بالتنزيه لا بالتجسيم،و إليك البيان:

إنّ الآية الأُولى تتحدث عن الأُمور التالية:

1.إن ربّكم هو الّذي خلق السماوات و الأرض.

2.خلقهما في ستة أيام.

3.ثمّ استوى على العرش.

4.يدبّر أمر الخلقة و ليس هنا مُدبّر سواه.

5.لو كان هناك شفيع (علّة مؤثرة في الكون) لا يشفع و لا يؤثِّر إلا بإذنه.

6.هذا هو رَبُّنا الّذي فرضت علينا عبادتهُ.

هذا هو حال الآية الأُولى.

و أمّا الآية الثانية،فتتحدث عن الأُمور التالية:

1.إنّ ربّكم هو الّذي خلق السماوات و الأرض.

2.خلقهما في ستة أيام.

3.ثمّ استوى على العرش.

4.يُغشي الليل النهار،يغطِّي كلاً منهما بالآخر و يأتي بأحدهما بعد الآخر.

5.يطلبه حثيثاً فيدركه سريعاً.

6.و القمر و النجوم مسخرات بأمره.مذلّلات جاريات في مجاريهنّ بأمره و تدبيره.

7.ألا له الخلق و الإيجاد و الإبداع.

8.و الأمر:أمر التدبير أو أمره في خلقه بما أحبّ.

ص:285

9.تبارك اللّه رب العالمين:تعاظم اللّه رب العالمين تعالى فيما لم يزل و لا يزال.

نعود مرّة أُخرى و نتدبّر هذه المقاطع،فنجد أنّ قائل هذه الجُمَل-عزّ اسمه - يتحدّث عن عظمته و أنّه الخالق،خالق العالم و مدبّره،و أنّه خلقه في ستة أيّام، و يغشي الليل النهار،و هو يطلبه،و أنّ الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره،و ليس هناك من خالق و مدبّر إلا هو،و لا مؤثّر في الكون إلا بإذنه،ثمّ رتّب على ذلك تارة وجوب عبادته،لكونه القائم بالخلق و التدبير و الأمر، فتجب عبادته دون غيره كما في الآية الأُولى؛و أُخرى تعظيمه و تنزيهه كما في الآية الثانية.

ما ذكرناه خلاصة مضمون الآيتين،فعندئذ يجب أن تكون هناك مناسبة ذاتية بين استوائه على العرش و الإخبار عن هذه الأُمور الكونية،فلو فُسّر الاستواء بمعنى الجلوس على العرش،تفقد الجملة المناسبة و تصبح جملة فاقدة الصلة بما قبلها و ما بعدها.

فما هي المناسبة بين التحدّث عن عظمة الخلقة وسعتها و ما فيها من السنن الكونية و التحدّث عن جلوسه على السرير،و هذا هو الّذي دفع المحقّقين إلى التدبّر في الآية حتى يفسّروها بالظهور التصديقي لا بالظهور التصوّري، و بالظهور الجُملي لا بالظهور الإفرادي.و هذا يتحقّق بأمرين:

أ.تفسير الاستواء بالاستيلاء،لا بالجلوس و الاستقرار.

ب.جعل العرش كناية عن السلطة و القدرة،لا بمعنى السرير.

أمّا الأوّل:فقد استعمل في اللغة العربية لفظ الاستيلاء بمعنى الاستواء،قال الأخطل يمدح بشراً أخا عبد الملك بن مروان حين تولّى إمرة العراقيين:

قد استوى بِشر على العراق من غير سيف و دم مهراق

فالحمد للمهيمن الخلاق

فليس المراد من الاستواء الجلوس أو الاستقرار،بل التمكّن و الاستيلاء التام و السيطرة على العراقيين و كسح كل مزاحم و مخالف.و إلا فالجلوس المجرّد على السرير،لا يكون مدحاً.

و قال الطرمّاح بن حكيم: طال على رسم مهدد أبده و عفا و استوى له بلده

و المراد استقام له الأمر و استتب.

و قال شاعر آخر: فلمّا علونا و استوينا عليهم تركناهُمُ صرعى لنسر و كاسر

حتّى أنّ لفظة«استويت»في قوله سبحانه مخاطباً نوحاً عليه السلام: «فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي نَجّانا مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ». 1 ليس بمعنى الركوب على الفلك أو الجلوس عليه،بل المراد إذا تمكّنت من الفلك على نحو صار زمامها بيدك.و لذلك فسره السيوطي ب«اعتدلت».

و مثله قوله تعالى: «وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ

ص:286

ص:287

وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ». 1

فليس المراد من الاستواء هو الجلوس في الفلك أو الركوب على ظهر الأنعام،بل المراد هو التسلّط على الفلك و الأنعام و الاستيلاء عليها،بشهادة أنّه سبحانه يأتي بالاستواء بعد الركوب و يقول: «وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ» ،فهو يُعرب على أنّ الاستواء غير الركوب.

فليس الاستواء مجرد الجلوس و الركوب،بل هو السيطرة و السلطة على الشيء و لكن كُلٌّ بحسبه،فاستواء الإنسان على الفلك و الأنعام سيطرته عليهما بحيث يوجهها إلى أي صوب شاء،كما أنّ استواءه سبحانه على العرش (سيوافيك معنى العرش) هو استيلاؤه و سيطرته على عالم الإمكان بحيث لا يشذ عن إرادته شيء.

و لأجل هذه السيطرة و الاستيلاء فهو يُدبّر العالم بعد الإيجاد فهو خالق و مسيطر على الأُمور و الكل«مُدبَّر».

و أمّا الثاني:أي تفسير العرش

نقول:إنّ العرش حسب اللغة هو السرير،و لكن بما أنّ الملوك يجلسون عليه و يدبّرون من فوقه ملكهم و يُصدرون منه أحكامهم،صار العرش مظهر القدرة و السلطة و سبباً لأن يُكنّى به عنهما بقول الشاعر: إذا ما بنو مروان ثلّت عروشُهم و أوْدَتْ كما أودتْ إياد و حمير

فليس المراد تهدّم العروش الّتي كانوا يجلسون عليها،بل كناية عن زوال الملك و السيطرة و انقطاع سلطتهم.

ص:288

و يقول الآخر: ان يقتلوك فقد ثللت عروشهم بعتيبة بن الحارث بن شهاب

و اللّه سبحانه أخرج كلامه على المتعارف من كلام العرب حيث يقولون:

استوى الملِك على عرشه:إذا انتظمت أُمور مملكته،و إذا اختلّ أمر ملكه قالوا:ثُلَّ عرشه،و ربّما لا يكون له سرير،و لا يجلس على سرير أبداً.

و حصيلة الكلام:إنّ الملاحظة الدقيقة للآيات الّتي ورد فيها استيلاؤه سبحانه على العرش تكشف عن أنّه لا يُراد منه الجلوس و الاستقرار عليه،بل المراد هو السيطرة و التمكّن من صحيفة الكون و الخلقة،و أنّها بعد الخلقة في قبضة قدرته و حوزة سلطنته لم تفوّض لغيره.

و لأجل ذلك يذكر في سورة يونس بعد هذه الجملة أمر التدبير و يقول:يدبِّر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه معرباً عن أنّه المدبِّر لأمر الخلقة،و ذلك لاستيلائه على عرش ملكه.فمن استولى على عرش ملكه يقوم بتدبيره،و من ثلّ عرشه أو زال ملكه أو انقطع عنه لا يقدر على التدبير.و لكنّه سبحانه في سورة الأعراف يذكر بعد هذه الجملة كيفيّة التدبير و يقول: «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ» فهذه الجمل (بما أنّها تعبّر عن تدبيره صحيفة الكون،و كونه مصدراً لهذه التدبيرات الشامخة) دليل على أنّه مستول على ملكه،مهيمن عليه،مسيطر على ما خلق و لم يخرج الكون عن حوزة قدرته،و مثله سائر الآيات الواردة فيها تلك الجملة، فإنّك ترى أنّها جاءت في ضمن بيان فعل من أفعاله سبحانه.ففيها دلالات على«التوحيد في التدبير»الّذي هو أحد مراتبه.

ص:289

و أمّا إذا فسّرنا الاستواء بالجلوس،و العرش بالكرسي الّذي يتربّع عليه الملوك،يكون المعنى غير مرتبط بما ورد في الآية من المفاهيم،كما تقدّم،إذ أيّ مناسبة بين التربّع على الكرسي المادي و القيام بهذه التدابير الرفيعة؟ فإنّ المصحِّح للتدبير هو السيطرة و الهيمنة على الملك و هو لا يحتاج إلى التربّع و الجلوس على الكرسي،بل يتوقّف على سعة ملكه و نفوذ سلطته.

و المعطّلة (الذين عطّلوا عقولهم عن التدبّر و التفكير)،يحسبون أنّ ما ذكرناه تأويل،لأنّه مخالف للظهور الإفرادي،حيث لفظ«العرش»بإفراده بمعنى «السرير»لا السلطة و السيطرة على الملك،لكنّك عرفت أنّ الميزان في تفسير الآية هو الظهور«الجُمْلي»و التصديقي بمعنى التدبّر في مجموع الجملة و ما يدل عليه-بعد رعاية السياق و غيره من القرائن-و عليه،فليس ما ذكرناه تأويلاً،بل إرجاع الآية إلى واقعها،و إخراج لها من الظهور المتزلزل (الإفرادي) إلى الظهور المستقرّ (التصديقي) كما هو المتعارف في تفسير سائر الآيات و كلمات البلغاء و الفصحاء بل عامة العقلاء.و ليس التأويل المقبول إلا إرجاع الآية إلى معناها،كما أنّ تأويل الرؤيا في الذكر الحكيم،هو إرجاعها إلى واقعها و جذورها.

2.خلق سبحانه آدم بيديه

قد تعرّفت على مفاد قوله سبحانه: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» و أنّه لا يدلّ على ما يرومه ابن تيمية و أتباع مسلكه من أنّه سبحانه يجلس على سريره الخاص، و أنّه ينظر إلى العالم من فوق عرشه.

بقي الكلام في تفسير قوله: «يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ». 1

ص:290

قال ابن تيمية:إنّ للّه يدين مختصتين ذاتيتين-كما يليق بجلاله-و إنّه سبحانه خلق آدم بيده.... (1)

فابن تيمية يحمل اليدين على المعنى الإفرادي،جموداً على الظهور البدائي دون أن يتدبّر في القرائن الحافّة بالآية،التي تعطي للآية مفاداً آخر،و هو نتيجة الظهور التصديقي.

و ممّا تقدّم من أنّ الميزان هو الظهور المستقرّ لا المتزلزل،يجب الإمعان في موقف الآية و هدفها،و ليس لنا صرف الآية عن ظهورها بتوهّم أنّه يخالف حكم العقل كما مرّ عليك،و لو كان هناك تعارض فهو بدائي مرتفع بأحد الأمرين:إمّا لأجل تطرق الخطأ إلى فهم المفسّر في تبيين مفاد الآية،أو طروء القصور و التقصير على العقل في مبادئ البرهان.

و على ضوء ذلك لا محيص من القول بأنّ اليدين في الآية بمعنى الجارحة، لكن اللفظ كناية عن لازمه و هو الاهتمام بخلقة آدم،حتى يتسنّى بذلك ذم إبليس على ترك السجود لآدم فقوله سبحانه: «ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» كناية عن اهتمامه سبحانه بهذا المخلوق،و انّه لم يكن مخلوقاً لغيري حتّى يصحّ لك يا شيطان تجنّب السجود له،بحجّة أنّه لا صلة له بي،مع أنّه موجود خلقتهُ بنفسي،و نفختُ فيه من روحي،فهو مصنوعي و مخلوقي الّذي قمت بخلقه،فمع ذلك تمرّدت عن السجود له.

فأُطلقت الخلقة باليد و كنّي بها عن قيامه سبحانه بخلقه،و عنايته بإيجاده، و تعليمه إيّاه أسماءه،لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد،

ص:291


1- 1) .مجموعة الفتاوى:362/6.

يقول:هذا ما بنيته بيدي،أو ما صنعته بيدي،أو ربّيته بيدي،و يراد من الكلّ هو القيام المباشري بالعمل،و ربّما استعان فيه بعينه و سمعه و غيرهما من الأعضاء،لكنّه لا يذكرها و يكتفي باليد،و كأنّه سبحانه يندِّد بالشيطان بأنّك تركت السجود لموجود اهتممت بخلقه و صنعه.

و نظير ذلك قوله سبحانه: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ» 1 ،فالأيدي كناية عن تفرّده تعالى بخلقها،لم يشركه أحد فيها.فهي مصنوعة للّه تعالى و الناس يتصرّفون فيها تصرف الملاك،كأنّها مصنوعة لهم،فبدل أن يشكروا يكفرون بنعمته.و أنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود هو المعنى الكنائي،و المدار في الموافقة و المخالفة هو الظهور التّصديقي لا التصوّري.

قال الشريف المرتضى:«قوله تعالى: «لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» جار مجرى قوله«لما خلقت أنا»،و ذلك مشهور في لغة العرب،يقول أحدهم:هذا ما كسبت يداك،و ما جرّت عليك يداك.و إذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضرب من الكلام فيقولون:فلان لا تمشي قدمه،و لا ينطق لسانه، و لا تكتب يده،و كذلك في الإثبات،و لا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة بل الفائدة فيه النفي عن الفاعل».

و قس على ما ذكر سائر الموارد الباقية التي أوعزنا إلى عناوينها في صدر البحث.

فابن تيمية و أتباعه يأخذون بحرفية المعنى،و الظهور البدائي دون التدبّر في الظهور التصديقي،و ما يعطيه السياق أو سائر القرائن.

ص:292

بين التجسيم و التعقيد

قد عرفت أنّ ابن تيمية و أتباعه يفسّرون الصفات الخبرية بنفس معانيها الإفرادية،و لمّا كان القول به ملازماً للتجسيم و التشبيه تدرّعوا،بلفظ«بلا كيف»أو«ممّا يليق بساحته»أو ما أشبهه.و صار ذلك سبباً لاتّسام العقيدة الإسلامية بالتعقيد،مع أنّ العقيدة الإسلامية متّسمة بالسهولة و الوضوح.

ذلك لأنّ اليد و الوجه و الرِّجل موضوعة للأعضاء الخاصة في الإنسان،و لا يتبادر منها إلا ما يتبادر عند أهل اللغة،و حينئذٍ فإن أُريد منها المعنى الحقيقي يلزم التشبيه،و إن أُريد غيره فذلك الغير:إمّا معنى مجازي أُريد من اللفظ بحسب القرينة فيلزم التأويل،و هم يفرّون منه فرار المزكوم من المسك،و إمّا شيء لا هذا و لا ذاك،فما هو ذلك الغير؟ بيّنوه لنا حتى تتّسم العقيدة بالوضوح و السهولة،و نبتعد عن التعقيد و الإبهام،و إلا فالقول بأنّ له وجهاً لا كالوجوه،و يداً لا كالأيدي،ألفاظ جوفاء و شعارات خداعة لا يستفاد منها شيء سوى تخديش الأفكار و تضليلها عن جادة الصواب.

و باختصار:إنّ المعنى الصحيح لا يخرج عن المعنى الحقيقي و المجازي، و إرادة أمر ثالث خارج عن إطار هذين المعنيين يعدّ غلطاً و باطلاً،و على هذا الأساس لو أُريد المعنى الحقيقي لزم التشبيه بلا إشكال،و لو أُريد المعنى المجازي لزم التأويل،و الكلّ ممنوع عندهم،فما هو المراد من هذه الصفات الواردة في الكتاب و السنّة؟!

إنّ ما يلهجون به و يكرّرونه من أنّ هذه الصفات تجري على اللّه سبحانه بنفس معانيها الحقيقية و لكن الكيفية مجهولة،أشبه بالمهزلة،إذ لو كان إمرارها على اللّه بنفس معانيها الحقيقية لوجب أن تكون الكيفية محفوظة حتى يكون

ص:293

الاستعمال حقيقياً،لأنّ الواضع إنّما وضع هذه الألفاظ على تلك المعاني التي يكون قوامها بنفس كيفيتها،و يكون عمادها و سنادها بنفس هويتها الخارجية، فاستعمالها في المعاني،حقيقة بلا كيفية،أشبه بقولنا أسد،لكن لا ذنب له و لا مخلب و لا و لا...

فقولهم:«المراد هو أنّ للّه يداً حقيقة لكن لا كالأيدي»أشبه بالكلام الذي يناقض ذيله صدره.

عفا اللّه عنّا و عنهم،فللّه درّ الشيخ محمود صاحب الكشاف فقد عرفهم بقوله: قد شبّهوه بخلقه و تخوفوا شنَعَ الورى فتستروا بالبلْكفة

ص:294

كلمة شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري حول الصفات الخبريّة

اشارة

(1)

و نحن نختم هذا البحث بذكر كلمة شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري كتبه حول سؤال رفعه إليه الشيخ أحمد علي بدر شيخ معهد«بلصفورة»و إليك خلاصة السؤال:

ما قولكم-دام فضلكم-في رجل من أهل العلم يتظاهر باعتقاد ثبوت جهة الفوقية للّه سبحانه و تعالى و يدّعي أنّ ذلك مذهب السلف،و تبعه على ذلك بعض الناس و جمهور أهل العلم ينكرون ذلك،و السبب في تظاهره بهذا المعتقد عثوره على كتاب لبعض علماء الهند نقل فيه صاحبه كلاماً كثيراً عن ابن تيمية في إثبات الجهة للباري سبحانه و تعالى و يخطّئ أبا البركات - رضي اللّه عنه-في قوله:في خريدته: منزه عن الحلول و الجهة و الاتصال و الانفصال و السفه

ص:295


1- 1) .تولّى مشيخة الأزهر مرّة بعد أُخرى،توفّي عام 1335ه.ق.

يخطئه في موضعين من البيت قوله:و الجهة،و قوله:و الانفصال.

و الشيخ اللقاني في قوله: و يستحيل ضدّ ذي الصفات في حقّه كالكون في الجهات

و بالجملة هو مخطّئ لكلّ من يقول بنفي الجهة مهما كان قدره.

و لا يخفى على فضيلتكم أنّ الكلام في مسألة الجهة شهير،إلاّ أنّه من المعلوم أنّ قول فضيلتكم سيما في مثل هذا الأمر هو الفصل،و أرجو أن يكون عليه إمضاؤكم بخطكم و الختم و لا مؤاخذة،لا زلتم محفوظين و لمذهب أهل السنّة و الجماعة ناصرين آمين.

نصّ الجواب

و قد كتب إليه شيخ الأزهر جواباً لسؤاله و هذا نصّه:

إلى حضرة الفاضل العلاّمة الشيخ أحمد علي بدر خادم العلم الشريف ببلصفورة:

قد أرسلتم بتاريخ 22محرم سنة 1325ه مكتوباً مصحوباً بسؤال عن حكم مَن يعتقد ثبوت الجهة له تعالى،فحررنا لكم الجواب الآتي و فيه الكفاية لمن اتّبع الحق و أنصف،جزاكم اللّه عن المسلمين خيراً.

«اعلم أيدك اللّه بتوفيقه و سلك بنا و بك سواء طريقه،أنّ مذهب الفرقة الناجية و ما عليه أجمع السنّيون أنّ اللّه تعالى منزّه عن مشابهة الحوادث، مخالف لها في جميع سمات الحدوث،و من ذلك تنزهه عن الجهة و المكان كما دلّت على ذلك البراهين القطعية،فإنّ كونه في جهة يستلزم قدم الجهة أو المكان و هما من العالم،

ص:296

و هو ما سوى اللّه تعالى،و قد قام البرهان القاطع على حدوث كلّ ما سوى اللّه تعالى بإجماع من أثبت الجهة و من نفاها،و لأنّ المتمكن يستحيل وجود ذاته بدون المكان مع أنّ المكان يمكن وجوده بدون المتمكن لجواز الخلاء، فيلزم إمكان الواجب و وجوب الممكن،و كلاهما باطل،و لأنّه لو تحيز لكان جوهراً لاستحالة كونه عرضاً،و لو كان جوهراً فإمّا أن ينقسم و إمّا أن لا ينقسم، و كلاهما باطل،فانّ غير المنقسم هو الجزء الذي لا يتجزأ و هو أحقر الأشياء، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

و المنقسم جسم و هو مركّب و التركيب ينافي الوجوب الذاتي،فيكون المركّب ممكناً يحتاج إلى علّة مؤثرة،و قد ثبت بالبرهان القاطع أنّه تعالى واجب الوجود لذاته،غنيّ عن كلّ ما سواه،مفتقر إليه كلّ ما عداه،سبحانه ليس كمثله شيء و هو السّميع البصير....

هذا و قد خذل اللّه أقواماً أغواهم الشيطان و أزلّهم،اتّبعوا أهواءهم و تمسّكوا بما لا يجدي فاعتقدوا ثبوت الجهة تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

و اتّفقوا على أنّها جهة فوق إلاّ أنّهم افترقوا؛فمنهم من اعتقد أنّه جسم مماس للسطح الأعلى من العرش،و به قال الكرامية و اليهود،و هؤلاء لا نزاع في كفرهم.

و منهم من أثبت الجهة مع التنزيه،و أنّ كونه فيها ليس ككون الأجسام، و هؤلاء ضلاّل فسّاق في عقيدتهم،و إطلاقهم على اللّه ما لم يأذن به الشارع، و لا مرية أنّ فاسق العقيدة أقبح و أشنع من فاسق الجارحة بكثير سيما من كان داعية أو مقتدى به.و ممّن نسب إليه القول بالجهة من المتأخّرين أحمد بن عبد الحليم بن

ص:297

عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي من علماء القرن الثامن،في ضمن أُمور نسبت إليه خالف الإجماع فيها عملاً برأيه،و شنّع عليه معاصروه، بل البعض منهم كفّروه،و لقى من الذل و الهوان ما لقى،و قد انتدب بعض تلامذته للذب عنه و تبرئته ممّا نسب إليه و ساق له عبارات أوضح معناها، و أبان غلط الناس في فهم مراده.

و استشهد بعبارات له أُخرى صريحة في دفع التهمة عنه،و أنّه لم يخرج عمّا عليه الإجماع،و ذلك هو المظنون بالرجل لجلالة قدره و رسوخ قدمه،و ما تمسّك به المخالفون القائلون بالجهة أُمور واهية وهمية،لا تصلح أدلّة عقلية و لا نقلية،قد أبطلها العلماء بما لا مزيد عليه،و ما تمسكوا به ظواهر آيات و أحاديث موهمة:

كقوله تعالى: «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» ،و قوله: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» ،و قوله:

«تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ» ،و قوله: «أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ» ،و قوله:

«وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ» .

و كحديث:«إنّه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كلّ ليلة».

و في رواية«في كلّ ليلة جمعة فيقول هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟».

و كقوله للجارية الخرساء:«أين اللّه فأشارت إلى السماء»حيث سأل بأين التي للمكان و لم ينكر عليها الإشارة إلى السماء،بل قال إنّها مؤمنة.

و مثل هذه يجاب عنها بأنّها ظواهر ظنيّة لا تعارض الأدلّة القطعية اليقينيّة الدالّة على انتفاء المكان و الجهة،فيجب تأويلها و حملها على محامل صحيحة لا تأباها الدلائل و النصوص الشرعية،إمّا تأويلاً إجمالياً بلا تعيين للمراد منها كما هو

ص:298

مذهب السلف،و إمّا تأويلاً تفصيلياً بتعيين محاملها و ما يراد منها كما هو رأي الخلف،كقولهم:إنّ الاستواء بمعنى الاستيلاء كما في قول القائل: قد استوى بشر على العراق من غير سيف و دم مُهراق

و صعود الكلم الطيب إليه قبوله إيّاه و رضاه به،لأنّ الكلم عرض يستحيل صعوده،و قوله:من في السماء:أي أمره و سلطانه أو ملك من ملائكته موكّل بالعذاب.

و عروج الملائكة و الروح إليه صعودهم إلى مكان يتقرب إليه فيه.و قوله:فوق عباده أي بالقدرة و الغلبة،فإنّ كلّ من قهر غيره و غلبه فهو فوقه،أي عال عليه بالقهر و الغلبة،كما يقال:أمر فلان فوق أمر فلان،أي أنّه أقدر منه و أغلب.

و نزوله إلى السماء محمول على لطفه و رحمته و عدم المعاملة بما يستدعيه علوّ رتبته و عظم شأنه على سبيل التمثيل،و خصّ الليل لأنّه مظنّة الخلوة و الخضوع و حضور القلب.

و سؤاله للجارية ب«أين»استكشاف لما يظن بها اعتقاده من أينية المعبود كما يعتقده الوثنيون،فلمّا أشارت إلى السماء فهم أنّها أرادت خالق السماء، فاستبان أنّها ليست وثنية،و حكم بإيمانها.و قد بسط العلماء في مطولاتهم تأويل كلّ ما ورد من أمثال ذلك،عملاً بالقطعي و حملاً للظني عليه،فجزاهم اللّه عن الدين و أهله خير الجزاء.

و من العجيب أن يدع مسلم قول جماعة المسلمين و أئمّتهم و يتمشدق

ص:299

بتُرّهات المبتدعين و ضلالتهم.أما سمعوا قول اللّه تعالى: «وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً» فليتب إلى اللّه تعالى من تلطخ بشيء من هذه القاذورات و لا يتبع خطوات الشيطان فانّه يأمر بالفحشاء و المنكر،و لا يحملنه العناد على التمادي و الإصرار عليه فانّ الرجوع إلى الصواب عين الصواب و التمادي على الباطل يفضي إلى أشدّ العذاب «مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» نسأل اللّه تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل و هو حسبنا و نعم الوكيل،و صلّى اللّه تعالى و سلّم على سيّدنا محمّد و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أملاه الفقير إليه سبحانه (سليم البشري) خادم العلم و السادة المالكية بالأزهر عفا عنه آمين آمين. (1)

اقتراح

و في الختام نوصي رؤساء الطوائف الإسلامية بالابتعاد عن العصبية و عن الآراء التي ورثوها عن أُناس غير معصومين،و بالاستعداد لإجراء الحوار الهادئ فيم اختلف فيه كلمة المحقّقين من العلماء حتّى يرتفع كثير من الخلافات النابعة من تقديم الهوى على الحقّ.

قال أمير المؤمنين علي عليه السلام:«إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان:اتّباع الهوى و طول الأمل؛فأمّا اتباع الهوى فيصدّ عن الحقّ،و أمّا طول الأمل فينسي الآخرة». (2)

ص:300


1- 1) .فرقان القرآن:74- 76.
2- 2) .نهج البلاغة:الخطبة42،طبعة عبده. [1]

دور أئمّة أهل البيت عليهم السلام في مكافحة البدع

انّ المرجع الديني-بعد رحيل الرسول-حسب حديث الثقلين،هو الكتاب و العترة-كما قال صاحب الرسالة العظمى في غير موقف من مواقف حياته-:

«إنّي تارك فيكم الثقلين:كتاب اللّه و عترتي،ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا»، و قد تضافرت بل تواترت ألفاظه و تواصلت حلقات أسانيده من عصر الرسالة إلى هنا،و أُلّفت حول الحديث كتب و رسائل. (1)

و الأسف كلّه على هؤلاء المتسمّين بالسلفية،حيث يسندون دينهم و شرعهم إلى أقوال السلف من صحابي أو تابعي و...و لكنّهم لا يستضيئون بعلوم أئمة أهل البيت الذين مثلهم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق. (2)فلا تجد في كتب هؤلاء خصوصاً الجدد من أتباعهم نقل حديث منهم أو استدلالاً بكلامهم،فكأنّهم ليسوا من السلف،أو أنّ النبي لم يوص الأُمّة بالاهتداء بهم.

و الذي يورث الأسى أنّهم يأخذون بقول كلّ سلفي من غير فرق بين المرجئ و الناصبي،و الخارجي و الجهمي و الواقفي. (3)إلى غير ذلك من الفرق.

إنّ لأئمّة أهل البيت دوراً بارزاً في مكافحة البدع،و الردّ على الأفكار الدخيلة على الشريعة عن طريق أهل الكتاب الذين تظاهروا بالإسلام و بزيّ المسلمين،نظراء:كعب الأحبار،و تميم الداري،و وهب ابن منبه،و من كان على

ص:301


1- 1) .انظر:عقبات الأنوار للعلاّمة مير حامد حسين الهندي(المتوفّى1306) فقد خصّ أجزاء من كتابه لبيان أسانيده.
2- 2) .حديث مستفيض.
3- 3) .تدريب الراوي للسيوطي:328/2.

شاكلتهم.

إنّ كتب الحديث-من غير فرق بين الصحاح و غيرها-مشحونة بأخبار التجسيم و التشبيه و الجبر و نفي الاستطاعة المكتسبة و نسبة الكذب و العصيان إلى الأنبياء و الرسل،و قد تأثّر بها المحدثون السُّذَّج و حسبوا أنّها حقائق مسلّمة فنقلوها إلى الأجيال اللاحقة،و قد حيكت العقائد على نول هذه الأحاديث،و لم يتجرّأ أحد من المفكرين الإسلاميين القدامى و الجدد على نقدها إلاّ من شذّ.

نرى في مقابل هذه البدع أنّ أئمّة أهل البيت يكافحون التجسيم و التشبيه و الجبر و غيرهما،بخطبهم و رسائلهم و مناظراتهم أمام حشد عظيم،و في وسع القارئ الكريم مراجعة:«نهج البلاغة»للإمام عليّ عليه السلام و كتاب«التوحيد» للشيخ الصدوق (306-381ه)،و كتاب«الاحتجاج»للشيخ الطبرسي (المتوفّى 550 ه)،إلى غير ذلك من الكتب المؤلّفة في ذلك المضمار،و ما أحلى المناظرات التي أجراها الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في عاصمة الخلافة الإسلامية (مرو) يوم ذاك مع الماديين و الملحدين و أحبار اليهود و قساوسة النصارى،بل و مع المتزمّتين المغترّين بتلك الأحاديث.

كانت لفكرة الإرجاء التي تدعو إلى التسامح الديني في العمل،واجهة بديعة عند السذج من المسلمين و لا سيما الشباب منهم،فقام الإمام الصادق عليه السلام بردّها و التنديد بها،و قد أصدر بياناً فيها حيث قال:«بادروا أولادكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة». (1)

هذا هو الإمام الثامن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام يكافح فكرة رؤية اللّه تبارك و تعالى بالعين،و يرد الفكرة المستوردة من اليهود و التي اغترّ بها بعض المحدّثين،

ص:302


1- 1) .الكافي:47/6،الحديث 5،و [1]لاحظ البحار:297/68.

و إليك ما جرى بينه و بين أحدهم باسم أبي قرّة.

قال أبو قرّة:إنّا روينا أنّ اللّه عزّ و جلّ قسم الرؤية و الكلام بين اثنين،فقسم لموسى عليه السلام الكلام و لمحمد صلى الله عليه و آله و سلم الرؤية.

فقال الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام:«فمن المبلّغ عن اللّه عزّ و جلّ إلى الثقلين الجنّ و الإنس «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» 1 ، «وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» 2 و «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» 3 أ ليس محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم ؟»

قال أبو قرّة:بلى.

قال الإمام:«فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللّه و أنّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه و يقول: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» و «وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» و «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» ثمّ يقول:أنا رأيته بعيني و أحطت به علماً و هو على صورة البشر.أما تستحيون؟! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن اللّه بشيء ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر». (1)

هذا نموذج من نماذج كثيرة أوردناه حتى يكون أُسوة لنماذج أُخرى.

و إن أردت أن تقف على مدى مكافحة الأئمة الاثني عشر للبدع المحدثة، فعليك مقارنة كتابين قد أُلّفا في عصر واحد بيد محدّثين في موضوع واحد، و هما:

1- التوحيد لابن خزيمة (المتوفّى 311 ه).

2- التوحيد للشيخ الصدوق (306-381 ه).

ص:303


1- 4) .الصدوق:التوحيد،باب ما جاء في الرؤية:111.

قارن بينها،تجد الأوّل مشحوناً بأخبار التجسيم و التشبيه و الجبر و ما زال المتسمّون بالسلفية ينشرونه عاماً بعد عام،كأنّ ضالّتهم فيه.

و أمّا الثاني ففيه الدعوة إلى التوحيد و تنزيه الحق،و معرفته بين التشبيه و التعطيل،و تبيين الآيات التي اغترّ بعضهم بظواهرها من دون التدبّر بالقرائن الحافّة بها.

و بذلك تبيّن أنّ النبيّ الأكرم قد جعل من الأئمّة عليهم السلام واجهة دفاعية لصد البدع و أفكار المبتدعين و لا تتبين تلك الحقيقة إلاّ بعد معرفتهم و مراجعة كلماتهم.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

25شوال المكرم1424ه

ص:304

الفصل الثالث:الإيمان و الكفر بين التساهل و التطرّف

اشارة

ص:305

ص:306

تمهيد

اشارة

(1)

من سمات العقيدة الإسلامية هي بساطتها و وضوحها،و يُسرُ تكاليفها و وظائفها،و قد كان هذان الأمران من أسباب انتشار الإسلام في ربوع الأرض بصورة سريعة عند بزوغ شمس الهداية.

مثلاً،التوحيد الّذي هو الركن الركين للدعوة،قد بيّنه الذكر الحكيم في سورة التوحيد،بلغة واضحة يُدركها الناس و يستفيد منها كلّ بحسب فهمه و مقدرته الفكرية،قال سبحانه: «قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اَللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ». 2

فأين هذه العقيدة الواضحة في توحيده سبحانه من عقيدة التثليث و الأقانيم الثلاثة للنصرانية الّتي تدّعي أنّها من دُعاة التوحيد و مكافحي الشرك و الثنويّة، و في الوقت نفسه تدعو إلى التثليث و تدّعي أنّه يجب الإيمان به دون أن يدرك واقعه؟

و مثل التوحيد،الاعتقاد بنبوّة النبي الخاتم و خلود شريعته.

و يتلوه في الوضوح الاعتقاد بالحشر و النشر و العود إلى الحياة الجديدة.

ص:307


1- 1) .الذي دعاني إلى اختيار هذا الموضوع هو الأوضاع الراهنة الّتي نمرّ بها و الّتي شاع فيها التطرّف بين الطوائف الإسلامية،بحيث عاد يكفّر بعضها بعضاً لمجرّد وجود فوارق بسيطة لا تمتّ إلى ملاك الإيمان و الكفر بصلة.

فالأُصول التي أُنيط بها الإيمان هي الأُصول الثلاثة المشار إليها من التوحيد و النبوّة و المعاد،فلها من الوضوح و البساطة ما يجعلها في متناول الجميع بعيداً عن التعقيد.

هذا كلّه حول العقيدة الإسلامية،و أمّا يسر التكاليف و الفرائض الإسلامية، فالكلّ محدّد بإطار عدم الحرج و الضرر و ما لا يطاق.قال سبحانه: «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». 1

و قال سبحانه: «لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها». 2

و قال صلى الله عليه و آله و سلم:«لا ضرر و لا ضرار». (1)

فأين هذه التكاليف الحنيفية الميسورة و السهلة من الدعوة إلى العزوبة و الرهبانية المبتدعة الّتي تضادّ فطرة الإنسان و تنتهي إلى انقطاع النسل؟ و من التكاليف الشاقة التي تحفل بها الشرائع السابقة.

فالدخول في حظيرة الإسلام رهن الإيمان بأُصول بسيطة و واضحة،كما أنّ الفوز و النجاح رهن العمل بأحكامه الميسورة.

نجاح الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في دعوته

لقد حالف التوفيق الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم في دعوته الرسالية حيث ضرب الإسلام-غبّ دعوته-بجرانه في أكثر الربوع العامرة في مدّة قليلة حتّى دخل الناس في دين اللّه زرافات و وحداناً،و إنّ من أبرز أسباب نجاحه هو دعوته إلى

ص:308


1- 3) .مسند أحمد:326/5؛ [1]الوسائل:17،الباب2 من إحياء الموات،الحديث5.

عقيدة واضحة المعالم،و تكليف مرفق باليُسر.

نعم لم يكن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم متساهلاً في قبول الإيمان،و لا متشدّداً فيه.

أمّا أنّه لم يكن متساهلاً في قبول الإيمان فإنّه صلى الله عليه و آله و سلم قَبِلَ إسلام قوم-عند ما أسلموا بلسانهم-لكن رفض إدّعاء إيمانهم،إذ كان لعقاً على ألسنتهم،و قد اطّلع على واقع اعتناقهم عن طريق الوحي،فلمّا وفدوا إليه صلى الله عليه و آله و سلم و قالوا آمنا، أمره اللّه سبحانه أن يجيبهم بقوله: «قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». 1

و قد كان حزب النفاق من أبرز المنتمين إلى هذه الطائفة حيث كانوا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم،فلذلك اشتهروا بالنفاق و لم يكن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم يعتمد عليهم،و لذا رفض التساهل في قبول الإيمان،و إدخال من لم يكن مؤمناً في حظيرة الإيمان.و قد أماط سبحانه الستر عن كثير من نيّاتهم و فِتَنهم و تخطيطاتهم في ضرب الإسلام.

و كما أنّه لم يكن متساهلاً،لم يكن أيضاً متطرفاً متشدّداً في قبول الإيمان،فإذا دلّت الأمارات على أنّ الرجل آمن بلسانه و قلبه،و نبذ عبادة الأصنام و آمن بنبوته و شريعته و حشره يوم القيامة،قَبِلَ إيمانَه و أدخله مدخل المؤمنين، و أثبت له من الحقوق ما للآخرين دون أن يسأله وراء الأُصول الثلاثة:

«التوحيد و النبوّة و المعاد»عن أعرافه و عاداته و تقاليده القومية التي تختلف حسب البيئات و الظروف المختلفة.

ص:309

فقد ندّد سبحانه بالسَّريّة الّتي بعثها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لغاية من الغايات فالتقت برجل صاحب أموال و ثروة فحسبوه كافراً،فأرادوا قتله،فتكلّم هو بما يدلّ على إسلامه كإلقاء تحية الإسلام إليهم أو النطق بالشهادة و نحوها،فاعتبرها بعضهم مجرّد كلمات يدفع بها عن نفسه القتل،فعمدوا إلى قتله،و لمّا وصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم شقّ ذلك عليه،و أنّب القاتل فقالوا له:إنّما تعوّذ بها من القتل،فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم للقاتل:«هلاّ شققت قلبه؟»و قد نزل في ذلك قوله سبحانه: «وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً». 1

قال ابن كثير:روى الإمام أحمد عن ابن عباس،قال:مرّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم يرعى غنماً له فسلّم عليهم،فقالوا:لا يسلّم علينا إلاّ ليتعوّذ منّا،فعمدوا إليه فقتلوه،و أتوا بغنمه النبي صلى الله عليه و آله و سلم،فنزلت هذه الآية:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...» إلى آخرها. (1)

و حصيلة الآية:أنّ من أظهر الإسلام و لم يدلّ على أنّه آمن بلسانه دون قلبه، فله ما للمسلمين و عليه ما عليهم،خصوصاً فيما يرجع إلى حقن الدماء و حفظ الأموال.

ثمّ إنّه سبحانه نقض منطق القاتل-إنّما تعوّذ بهذه الكلمة لينجو من القتل - بمنطق العقل و الوجدان،فقال: «كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ» أي قد كنتم من قبل في هذه الحالة كهذا الّذي يُسرّ إيمانه و يُخفيه من

ص:310


1- 2) .تفسير ابن كثير:363/2. [1]

قومه،أو انّكم كنتم مشركين من قبل،ثمّ دخلتم الإسلام بنفس الكلمة الّتي نطق بها،و بها حُقنت دماؤكم و أموالكم،فكان عليكم أن تقبلوا من القتيل ما قبله النبيّ منكم.

و الآية تدلّ على حكمين شرعيّين:

1.وجوب التثبّت في كلّ شيء خاصّة فيما يرجع إلى الدماء و الأموال.

2.إنّ كلّ من أظهر الإسلام و نطق بالشهادتين فحكمه حكم المسلمين ما لم يدلّ دليل على نفاقه.

و هذا هو موضوع مقالنا و تحقيق القول في الموضوع يأتي ضمن أُمور:

ص:311

1

اشارة

ثقافة التساهل

لقد شاعت ثقافة التساهل بين الساسة الغربيّين و المثقّفين في الشرق،حيث استخدموا هذه الكلمة في مجالات مختلفة أعمّ من الدين و الفلسفة و الأخلاق و الحقوق و السياسة،و نحن نركّز في المقام على خصوص التساهل الديني أو«البيلوراليزم الديني»حسب مصطلح الغربيين،و نفسّره بوجهين:

1.التساهل السلوكي

قد يطلق التساهل و يراد به الخضوع للتعدّدية الدينية و قبولها في صعيد الحياة مع الناس و الأخذ بالمشترك الأصيل بين الشرائع السماوية الّذي لا يختلف فيه اثنان من أتباعها،و الغمض عن الاختلاف في غيره،أخذاً بقوله سبحانه: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ» 1 و قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ». 2

ص:312

و التساهل بهذا المعنى ركيزة التعايش الاجتماعي و أساسه،في مجتمع استولت عليه الثقافات المختلفة،و الأفكار المتنوّعة. و كلٌّ يدّعي وصلاً بليلى و ليلى لا تقرُّ لهم بذاكا

فليس للإنسان الراغب في الحياة إلاّ الغمض عن نقاط الافتراق،و التركيز على المشتركات لتدور رحى الحياة لصالح الجميع،مثلاً أصحاب الديانات المختلفة في شبه القارة الهنديّة الّتي هي أشبه ب«متحف المذاهب»لا محيص لهم من الأخذ بالتعدّدية الدينية حسب التفسير السلوكي،حتّى يعيش أتباع الديانات المختلفة جنباً إلى جنب حياة سِلْميّة،و يتحمّل بعضهم البعض الآخر،فتكون النتيجة هو تقليل التعصّب الديني بالمعنى السلبي بين أتباع الديانات الأُخرى و إيجاد التعاون و التفاهم على طريق تحقيق العدالة الاجتماعية،و إقامة الصلح و نشر الصفاء بين المواطنين.

فالتساهل السلوكي لا يضاد مبادئ الإسلام و أُسسه.

و اعترافه بأتباع الشرائع السماوية كاليهودية و النصرانية و المجوسية آية قبول التسالم السلوكي،ما لم يتآمروا على مصالح المسلمين و أهدافهم العالية.

و قد اعترف الفقه الإسلامي بحقوقهم،ففيه فصول تعكس تعاطف الإسلام مع أتباع هذه الشرائع،نذكر على سبيل المثال:

عند ما كان الإمام علي عليه السلام يتجوّل في شوارع المدينة رأى رجلاً أعمى يستعطي الناس،فسأل:«ما هذا؟»فقيل:رجل نصراني،فأجاب الإمام:«عجباً، استعملتموه حتّى إذا كبر و عجز منعتموه! اصرفوا عليه من بيت اللّه لتصونوا وجهه». (1)

ص:313


1- 1) .الوسائل:49/11،الباب19 من أبواب الجهاد،الحديث1. [1]

إنّ الحياة السليمة لا تختص بأهل الكتاب،بل جوّز القرآن ذلك التعامل مع المشركين أيضاً،شريطة عدم اشتراكهم في حرب ضدّ المسلمين،و عندئذٍ يجب معاملتهم بالحسنى و العدل و القسط،لأنّ اللّه يحبّ المقسطين.

و هذا السلوك لا ينطوي على شيء من النفاق،و إنّما هو من صميم الدين الإسلامي،بل كان هذا أحد الأسباب المشجِّعة على اعتناق الإسلام.و ليس في هذا الشأن أجمل من كلام الإمام علي عليه السلام و هو يخاطب واليه على مصر،إذ يقول:«و أشعِر قلبكَ الرحمةَ للرعية و المحبةَ لهم،و اللطف بهم،و لا تكون عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فانّهم صنفان:

[أ.] إمّا أخ لك في الدين.

[ب.] أو نظير لك في الخلق». (1)

نعم التساهل بهذا المعنى،لا يعني توفر السعادة الأُخروية للناس في جميع الأعصار و من أتباع أيِّ دين،فالتساهل الديني بهذا المعنى-و إن صدر عن بعض الكُتّاب-تفسير خاطئ يناقض القرآن الكريم الذي يرى الفوز و السعادة و الإيمان بما نزل على محمد صلى الله عليه و آله و سلم،و العمل به،يقول سبحانه: «فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا» 2 ،و قد أوضحنا التساهل الديني بهذا المعنى في كتابنا«مفاهيم القرآن»و فنّدنا أدلّة اتباع تلك الفكرة في الأوساط الإسلامية. (2)

ص:314


1- 1) .نهج البلاغة، [1]قسم الكتب،الكتاب 53.
2- 3) .مفاهيم القرآن:200/3- 214. [2]

2.التساهل العملي

التساهل العملي عبارة عن فكرة الإرجاء،بمعنى الاكتفاء في فوز الإنسان بالسعادة الأُخروية و دخوله في حظيرة الإيمان،بالإقرار باللسان و الإيمان بالقلب،و إن اقترف المعاصي،و ترك الفرائض،فهؤلاء هم القائلون بالإرجاء، و المعروفون بالمرجئة.

و في هذا النوع من التساهل-لو صحّت نسبته إلى المرجئة-خطر على أخلاق المجتمع،و لو ساد لم يبق من الإسلام إلاّ رسمه و من الدين إلاّ اسمه، و يكون المتظاهر بهذه الفكرة كافراً حقيقة،اتّخذ هذه الفكرة واجهة لما يكنّ في ضميره.

و لقد شعر أئمّة أهل البيت عليهم السلام بخطورة الموقف،و علموا بأنّ إشاعة هذه الفكرة عند المسلمين عامّة،و الشيعة خاصّة،سترجعهم إلى الجاهليّة،فقاموا بتحذير الشيعة و أولادهم من خطر المرجئة فقالوا:

«بادِرُوا أولادَكُم بالحديثِ قبلَ أن يَسبقكُم إليهم المرجِئَةُ». (1)

و حصيلة الكلام:انّ فكرة الإرجاء و إن كانت تضرّ بالمجتمع عامّة.و لكن الإمام خصّ منه الشباب لكونهم سريعي التقبّل لهذه الفكرة،لما فيها من إعطاء الضوء الأخضر لهم لاقتراف الذنوب و الانحلال الأخلاقي و الانكباب على الشهوات مع كونهم مؤمنين.

و لو صحّ ما تدّعيه المرجئة من الإيمان و المعرفة القلبيّة،و المحبّة لإله العالم، لوجب أن تكون لتلك المحبّة القلبيّة مظاهر في الحياة،فإنّها رائدة الإنسان و راسمة حياته،و الإنسان أسير الحبّ و سجين العشق،فلو كان عارفاً

ص:315


1- 1) .الكافي:47/6،الحديث5. [1]

باللّه،محبّاً له،لاتّبع أوامره و نواهيه،و تجنّب ما يُسخطه و عمل بما يرضيه، فما معنى هذه المحبّة للخالق الّتي ليس لها أثر في حياة المحبّ؟!

و لقد وردت الإشارة إلى التأثير الذي يتركه الحبّ و الودّ في نفس المحبّ في كلام الإمام الصادق عليه السلام حيث قال:«ما أحبّ اللّه عزّ و جلّ من عصاه»ثمّ تمثّل و قال: تعصي الإله و أنت تظهر حبّه

(1)

ص:316


1- 1) .سفينة البحار:199/1، [1]مادة«حبّ».

2

اشارة

ثقافة التكفير

إذا كان التساهل يطلق و يراد به تارة التساهل السلوكي،و أُخرى الانحلال الأخلاقي.و الأوّل منهما أساس الحياة الاجتماعية،و الثاني دعامة المادية المحضة،فهكذا التكفير،يطلق و يراد به أحد الأمرين:

1.إنكار دعائم الإيمان

للإيمان في الكتاب و السنّة دعائم ثلاث،قامت عليها خيمة الإيمان و عرشه، ألا و هي:

1.الإيمان بتوحيده سبحانه،و انّه واحد لا ثاني له،و لا مدبِّر غيره،و لا معبود سواه.

2.إنّ محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم رسول اللّه و خاتم النبيّين،لا نبي بعده،و إنّ كتابه خاتم الكتب،و شريعته خاتمة الشرائع.

3.إنّ الساعة آتية لا ريب فيها،و انّ اللّه يبعث من في القبور.

هذه هي الأُصول الثلاثة التي تدور عليه رحى الإيمان،فمن اعتنقها فهو مؤمن،و من أنكرها فهو كافر.

ص:317

فمن أنكر هذه الأُصول،أو واحداً منها،أو ثبت بالدليل إنكاره،فهو محكوم بالكفر،خارج عن ساحة الإيمان،فلو ولد من والدين مسلمين أو أحدهما مسلم،و مع ذلك رفضها أو رفض واحداً منها،فيحكم عليه بالكفر و الارتداد، و للكافر و المرتد أحكام محرّرة في الكتاب و السنّة.

أمّا من شكّ فيها،تأثّراً بتيارات كلامية مناهضة للدين،و لكن بغير إنكار،بل مع محاولة جادّة لإزالة الشّك عن ضميره،فلا يحكم عليه بالكفر و لا بالارتداد.

فهذا النوع من التكفير-القائم على ثبوت إنكار الرجل دعائم الإيمان و أُسسه، باعترافه أو بدليل قاطع-ممّا ثبت بالكتاب و السنّة،قال سبحانه: «وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» 1.

و هذا هو القرآن الكريم،يحكي لنا اتّخاذ اليهود،الإيمان بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم ثمّ الارتداد عنه في عصر الرسالة،ذريعة لإيجاد الريب و الشكّ في قلوب البسطاء من الناس،قال سبحانه: «وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ». 2

إنّ شيوع الارتداد بين المؤمنين،هو إحدى الأُمنيات الكبرى لأهل الكتاب، لأجل انّ الارتداد كما يضرّ بدين المرتد،يضر بالمجتمع الديني أيضاً، و يورث الفوضى في اعتناق الدين،و يزعزع الإيمان بالأُصول،و ينبت العداء بين المسلمين،يقول سبحانه حاكياً عن أُمنية كثير من أهل الكتاب،في

ص:318

أن يروا ارتداد المسلمين على أعقابهم: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». 1

فتكفير من أنكر الأُصول و دعائم الإيمان،لا صلة له بالتشدّد و التطرّف،بل هو عمل بالكتاب و السنّة،و قد أطبق عليه فقهاء الإسلام و علماؤه.

قال سبحانه: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ». 2

فالإيمان باللّه و رسوله،من دعائم الإيمان و لا ينفك الإيمان بالرسول،عن الإيمان بالحياة الأُخروية.فمن آمن بهذه الاصول فهو مؤمن بشرط أن لا يطرأ عليه الريب و الشكّ دون أن يسعى في قلعه و إزالته.

و أمّا الجهاد الوارد في الآية فهو من علائم الإيمان و أماراته،فالتضحية بالنفس و النفيس آية الإذعان بالذي ضحّى من أجله،و أراق دمه في طريقه.

هذه هي نصوص الكتاب،أمّا كلمات المحقّقين فنذكر منها ما يلي:

1.قال أبو الحسن الأشعري(المتوفّى324ه):إنّ الإيمان هو التصديق للّه و لرسله في أخبارهم،و لا يكون هذا التصديق صحيحاً إلاّ بمعرفته و الكفر هو التكذيب. (1)

2.قال القاضي الايجيّ(المتوفّى 756ه):الكفر و هو خلاف الإيمان،فهو عندنا عدم تصديق الرسول في بعض ما علم بمجيئه به ضرورة. (2)

ص:319


1- 3) .أُصول الدين لأبي منصور البغدادي:248.
2- 4) .المواقف:388. [1]

3.و قال سديد الدين الحمصي الرازي (المتوفّى حوالي 585ه):و قد أجمعت الأُمّة على أنّ الإخلال بمعرفة اللّه تعالى و توحيده و عدله،و الإخلال بمعرفة رسوله،و بكلّ ما تجب معرفته ممّا يعدّ من أُصول الدين،كفر. (1)

4.و قال ابن ميثم البحراني (المتوفّى 699ه):الكفر هو إنكار صدق الرسول، و إنكار شيء ممّا علم بمجيئه به بالضرورة. (2)

5.و قال الفاضل المقداد(المتوفّى 826ه):الكفر اصطلاحاً إنكار ما علم ضرورة مجيء الرسول به. (3)

إلى غير ذلك من الكلمات الحاكية عن أنّ منكر أحد الأُصول الثلاثة محكوم بالكفر أو الارتداد.

فاللازم على حكّام الإسلام و فقهاء المسلمين تصفية المجتمع الإسلامي من المرتدّين بعد السعي إلى هدايتهم و إزالة شبهاتهم و حلّ عُقَدِهم،مهما استغرق ذلك من الوقت،و كلّف من الثمن،و إلاّ فيحكم عليهم بما حكم به الكتاب و السنّة.

2.مسلسل التكفير بلا ملاك

اشارة

فإذا كان ملاك الإيمان هو التصديق القلبي بالأُصول الثلاثة،و هي جامعة لكلّ ما يجب الاعتقاد به على وجه الإيجاز،فأبناء الطوائف الإسلامية الذين يؤمنون بها بجد و حماس،و يُقرّون بها باللسان،كلّهم مؤمنون و في حظيرة الإيمان متبوّءون،فمن التطرّف تكفير طائفة لم يظهر منها إنكار أحد الأُصول و إن غلب عليها

ص:320


1- 1) .المنقذ من التقليد:161/2.
2- 2) .قواعد المرام:171. [1]
3- 3) .ارشاد الطالبين:433. [2]

الهوى فاقترفت معاصي أو تركت فرائض،دون أن تُنكر جزءاً من هيكل الشريعة الإسلامية.

نعم إنّ القول بإيمان هؤلاء المحكومين بهوى النفس،لا يعني عدم الاهتمام بالعمل،و أنّ مجرّد التصديق هو المنقذ من عذاب النار،بل يعني أنّ الّذي ينقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان-و الّذي من آثاره حرمة دمه و عرضه و ماله-هو التصديق القلبي المقترن بالإقرار باللسان إن أمكن أو بالإشارة إذا امتنع،و أمّا المنقذ من عذاب اللّه سبحانه،أو المُدخل إلى الجنة،فهو أمر آخر، مرهون بالعمل بالشريعة و ترك المعاصي و أداء الفرائض.

و لذلك ترى أنّ الآيات تركّز على العمل بعد الإيمان نحو قوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» 1 ،و قوله تعالى: «وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً». 2

و قال عزّ من قائل: «وَ الْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ». 3

فللتصديق القلبي المظهر بالإقرار،أثر،و هو احترام دمه و عرضه و ماله،و له - مقروناً بالعمل بالصالحات-أثر آخر،و هو الفوز بالسعادة الأُخروية.

مبدأ التطرّف في التكفير

ظهر التطرّف في أمر التكفير من الخوارج الذين كفّروا مرتكب الكبيرة

ص:321

و أخرجوه من ساحة الإيمان،و تشدّدوا إلى حد جعلوه مخلّداً في النار لخروجه عن ربقة الإيمان،إلاّ أن يتوب.

و تلتهم المعتزلة،الذين جعلوا لمرتكب الكبيرة منزلة بين المنزلتين،فلا هو مؤمن و لا هو كافر،و لكنّهم اقتفوا أثر الخوارج فجعلوه مخلداً في النار إذا مات بلا توبة،و حُرم من شفاعة الشفعاء.

إنّ المسلمين اليوم بأمسّ الحاجة إلى توحيد الكلمة و رصّ الصفوف، و الابتعاد عن كلّ ما يُفرّق جمعهم.و يشتّتُ كلمتهم.و لو جعلنا هذه الفوارق و ما شابهها ممّا يوجب خروج هذه الجماعة من الإسلام لتمزّقت وحدة الأُمّة، و سهل حينئذٍ ابتلاعها جميعاً من قبل أعداء الإسلام المتربّصين الطامعين.

و نحن نأسف لما مضى من إقدام أتباع بعض المذاهب الإسلامية على تكفير بعضها بعضاً من دون تورّع و تحرّج،فأهل الحديث و الحنابلة يكفّرون المعتزلة،و المعتزلة يكفّرون أهل الحديث و الحنابلة.

ثمّ لمّا ظهر الأشعري،و حاول إصلاح عقائد أهل الحديث و الحنابلة،ثارت ثائرة تلك الطائفة ضدّه،فأخذ الحنابلة يكفّرون الأشاعرة،و يلعنونهم و يسبّونهم على صهوات المنابر.

فهذا هو تاج الدين السُّبكي يقول حول تكفير الحنابلة للأشاعرة:هذه هي الفتنة التي طار شررها فملأ الآفاق و طال ضررها فشمل خراسان و الشام و الحجاز و العراق و عظم خطبُها و بلاؤها،و قام في سبّ أهل السُّنة(يريد بهم الأشاعرة) خطيبها و سفهاؤها،إذ أدّى هذا الأمر إلى التصريح بلعن أهل السنّة في الجمع،و توظيف سبِّهم على المنابر،و صار لأبي الحسن الأشعري-كرّم اللّه وجهه-بها أُسوة بعليّ بن أبي طالب-كرّم اللّه وجهه-في زمن بعض بني أُميّة

ص:322

حيث استولت النواصب على المناصب،و استعلى أُولئك السفهاء في المجامع و المراتب. (1)

كما نأسف لسريان هذه الحالة إلى مجال الفروع فإذا بأصحاب المذاهب الفقهية الأربعة تختلف و تتشاحن و تتنازع،و نجمت عن ذلك فتنٌ كثيرة دامية بينها.

فقد وقعت فتنة بين الحنفية و الشافعية في نيسابور ذهب تحت هياجها خلقٌ كثير،و أُحرقت الأسواق و المدارس و كثُر القتل في الشافعية فانتصروا بعد ذلك على الحنفية و أسرفوا في أخذ الثأر منهم في سنة 554ه،و وقعت حوادث و فتنٌ مشابهةٌ بين الشافعية و الحنابلة و اضطرت السلطات إلى التدخّل بالقوّة لحسم النزاع في سنة 716ه و كثر القتلُ و حرق المساكن و الأسواق في أصبهان،و وقعت حوادثُ مشابهة بين أصحاب هذه المذاهب و أتباعها في بغداد و دمشق و ذهب كلُّ واحد منها إلى تكفير الآخر.فهذا يقول:

من لم يكن حنبليّاً فليس بمسلم،و ذاك يغري الجهلة بالطرف الآخر فتقع منهم الإساءة على العلماء و الفضلاء منهم و تقع الجرائم الفظيعة. (2)

يا للّه و لهذه الدماء المراقة،و الأعراض المهتوكة و الأموال المنهوبة و قد صارت ضحيّة التعصّب الممقوت و الجهل المطبق بالشريعة السمحة السهلة،و الحنيفية البيضاء.

لم يكن الشافعي و لا أحمد مختلفين في الأُصول و أركان الدين و دعائمه بل

ص:323


1- 1) .طبقات الشافعية:391/3.
2- 2) .راجع:البداية و النهاية لابن كثير:76/14؛مرآة الجنان:343/3؛الكامل لابن الأثير:229/8؛تذكرة الحفّاظ:375/3؛طبقات الشافعية:109/3،و غيرها.و لاحظ الإمام الصادق عليه السلام لأسد حيدر،فقد أشبع المقال في هذا المجال.

كانا متعاطفين،و قد تبرّك أحمد بشرب الماء الّذي غُسِلَ فيه قميص الشافعي،و في قاموس الدهر أن يرث المأموم ما ورّثه إمامه،فلو كان بينهما اختلاف فإنّما كان في الفروع و لم تزل الأُمّة مختلفة فيها بعد غروب شمس الدين و مصباحه و كلّ مأجور في فتياه إذا كانت جامعة للشرائط.

يقول محمد صالح العثيمين:

«لقد جرى في سنة من السنين مسألة في«منى»على يدي و يد بعض الإخوان،و قد تكون غريبة عليكم،حيث جيء بطائفتين،و كلّ طائفة من ثلاثة أو أربعة رجال،و كلّ واحدة تتّهم الأُخرى بالكفر و اللعن-و هم حُجّاج-و خبر ذلك أنّ إحدى الطائفتين،قالت:إنّ الأُخرى إذا قامت تصلّي وضعت اليد اليمنى على اليسرى فوق الصدر،و هذا كفر بالسنّة،حيث إنّ السنّة عند هذه الطائفة،إرسال اليدين على الفخذين؛و الطائفة الأُخرى تقول:إنّ إرسال اليدين على الفخذين دون أن يجعل اليمنى على اليسرى،كفر مبيح للّعن، و كان النزاع بينهم شديداً.

ثمّ يقول:فانظر كيف لعب الشيطان بهم في هذه المسألة التي اختلفوا فيها، حتّى بلغ أن كفّر بعضهم بعضاً بسببها التي هي سنّة من السُّنن،فليست من أركان الإسلام،و لا من فرائضه،و لا من واجباته،غاية ما هنالك إنّ بعض العلماء يرى أنّ وضع اليد اليمنى على اليسرى فوق الصدر هو السنّة و آخرين من أهل العلم يقولون:إنّ السنة هو الإرسال،مع أنّ الصواب الذي دلّت عليه السنّة هو وضع اليد اليمنى على الذراع اليسرى». (1)

ص:324


1- 1) .محمد بن صالح العثيمين:دروس و فتاوى في الحرم المكّي:26.

أقول:لا أظنّ أنّ الشباب أو غيرهم-الذين يتنازعون في مسألة القبض و نظائرها حتّى كادوا أن يقتتلوا-مقصّرون،و إنّما يرجع التقصير إلى خطباء القوم و علمائهم،فانّ خطيب كلّ مذهب يثني على إمام مذهبه إلى درجة يُصوّر فيها انّ الحقّ يدور على قوله و فعله،و بالتالي عند ما يبرز الخلاف في الفتوى،فأتباع كلّ إمام يتّهم الآخر بالانحراف عن الحقّ،و ربّما ينتهي الأمر إلى ما لا تحمد عقباه.

فالشافعي و ابن حنبل و عامّة أئمّة المذاهب،كلّهم خرّيجو مدرسة الكتاب و السنّة الّتي تدعو إلى الاعتصام بحبل اللّه و التحرّز عن الجدال و التفرقة.

يقول تعالى شأنه: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً». 1

و يقول سبحانه: «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ». 2

موقف النبي من تكفير المسلم

لقد حذر النبي صلى الله عليه و آله و سلم المؤمنين من تكفير بعضهم بعضاً،و نحن نعكس في هذه الصفحات بعض ما أُثر عنه صلى الله عليه و آله و سلم:

1.بني الإسلام على خصال:شهادة أن لا إله إلاّ اللّه،و انّ محمّداً رسول اللّه، و الإقرار بما جاء من عند اللّه،و الجهاد ماض منذ بعث رسله إلى آخر عصابة تكون من المسلمين...فلا تكفّروهم بذنب و لا تشهدوا عليهم بشرك». (1)

2.أخرج أبو داود عن نافع،عن ابن عمر،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«أيّما

ص:325


1- 3) .كنز العمال:29/1،برقم 30.

رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً،فإن كان كافراً و إلاّ كان هو الكافر». (1)

3.أخرج مسلم،عن نافع،عن ابن عمر،انّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال:«إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما». (2)

4.أخرج مسلم،عن عبد اللّه بن دينار،أنّه سمع ابن عمر،يقول:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«أيّما امرئٍ قال لأخيه يا كافر،فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال، و إلاّ رجعت عليه». (3)

5.عقد البخاري باباً باسم«المعاصي من أمر الجاهلية و لا يكفر صاحبها بارتكابها إلاّ بالشرك»،يقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:إنّك امرؤ فيك جاهلية،و قول اللّه تعالى: «إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» 4. 5

6.أخرج الترمذي في سننه عن ثابت بن الضحاك،عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال:«ليس على العبد نذر فيما لا يملك،و لاعن المؤمن كقاتله،و من قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله». (4)

7.أخرج أبو داود عن أُسامة بن زيد قال:بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سرية إلى الحرقات،فنذروا بنا فهربوا،فأدركنا رجلاً فلمّا غشيناه قال:لا إله إلاّ اللّه، فضربناه حتى قتلناه،فذكرته للنبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال:«من لك بلا إله إلاّ اللّه يوم القيامة؟»قال:

ص:326


1- 1) .سنن أبي داود:221/4،برقم 4687،كتاب السنّة. [1]
2- 2) .صحيح مسلم:56/1،باب«من قال لأخيه المسلم يا كافر»من كتاب الإيمان.
3- 3) .صحيح مسلم:57/1،باب«من قال لأخيه المسلم يا كافر»من كتاب الإيمان،و أخرجه الإمام أحمد في مسنده:22/2و 60 و142؛و [2]أخرجه الترمذي في سننه:22/5 برقم 2637،كتاب الإيمان.
4- 6) .سنن الترمذي:22/5،برقم 2636،كتاب الإيمان. [3]

قلت:يا رسول اللّه،إنّما قالها مخافة السلاح و القتل،فقال:«أ فلا شققت عن قلبه حتّى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟ من لك بلا إله إلاّ اللّه يوم القيامة؟» قال:فما زال يقولها حتى وددت انّي لم أسلم إلاّ يومئذ. (1)

8.لما خاطب ذو الخويصرة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم بقوله:اعدل،ثارت ثورة من كان في المجلس،منهم خالد بن الوليد قال:يا رسول اللّه أ لا أضرب عنقه؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«لا،فلعلّه يكون يصلّي»فقال:إنّه رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه،فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّي لم أُومر أن أنقب قلوب الناس و لا أشق بطونهم». (2)

و على ضوء هذه الأحاديث المتضافرة و الكلمات المضيئة المرويّة عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم يعلم أنّ تكفير المسلم ليس بالأمر الهيّن،بل هو من الموبقات.

إجابة عن شبهة

إنّ هؤلاء المكفّرين-المتطرّفين عندنا-ربّما يشتبه عليهم الأمر و يقولون:إنّ الكتاب و إن أمر بالاعتصام بحبل اللّه و نهى التفرقة،و الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و إن حذّر من التكفير،لكن مصب الآيات أو موضوع الروايات،هم المسلمون و المؤمنون،و هؤلاء الذين نكفِّرهم أو نغتالهم،و نقتلهم و ننهب أموالهم، ليسوا منهم،فتُستحل دماؤهم و أعراضهم و أموالهم؟

هذه الشبهة الّتي تدرّعوا بها في سفك الدماء،محجوجة بكلام الرسول و لا شيء في المقام أحسم و أقطع منه،فهو صلى الله عليه و آله و سلم لا يعتبر في وصف الرجل بالإسلام

ص:327


1- 1) .سنن أبي داود:45/3برقم 2643؛ [1]صحيح البخاري:144/5،باب بعث النبي أُسامة بن زيد إلى الحرقات من كتاب المغازي.
2- 2) .صحيح البخاري:164/5،باب بعث علي و خالد بن الوليد من كتاب المغازي.

و الإيمان سوى الإيمان بالأُصول الثلاثة،و هذه هي كلماته:

1.أخرج البخاري و مسلم في باب فضائل علي عليه السلام أنّه قال رسول صلى الله عليه و آله و سلم يوم خيبر:«لأُعطينّ هذه الراية رجلاً يحبّ اللّه و رسوله يفتح اللّه على يديه».

قال عمر بن الخطاب:ما أحببتُ الأمارة إلاّ يومئذٍ،قال:فتساورتُ لها رجاء أن أُدعى لها،قال فدعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّ بن أبي طالب فأعطاه إيّاها،و قال:

«امشِ و لا تلتفت حتّى يفتح اللّه عليك»فسار«عليٌّ»شيئاً ثمّ وقف و لم يلتفت و صرخ:يا رسول اللّه على ما ذا أُقاتل الناس؟

قال صلى الله عليه و آله و سلم:«قاتِلهُمْ حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّداً رسول اللّه،فإذا فعلوا ذلك فقد مُنِعُوا منك دماؤهم و أموالهم إلاّ بحقّها و حسابهم على اللّه». (1)

2.روى الشافعيّ في كتاب«الأُمّ»عن أبي هريرة،أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«لا أزال أُقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه،فإذا قالوا لا إله إلاّ اللّه فقد عصموا منّي دماءَهم و أموالهم إلاّ بحقّها و حسابهم على اللّه».

قال الشافعي:فأعلمَ رسول اللّه أن فرض اللّه أن يقاتلهم حتّى يُظهروا أن لا إله إلاّ اللّه فإذا فعلوا منعوا دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها،يعني إلاّ بما يحكمُ اللّه عليهم فيها و حسابهم على اللّه بصدقهم و كذبهم و سرائرهم،اللّهُ العالم بسرائرهم،المتولّي الحكم عليهم دون أنبيائه و حكّام خلقه،و بذلك مضت أحكام رسول اللّه فيما بين العباد من الحدود و جميع الحقوق،و أعلمهم أنّ جميع أحكامه على ما يظهرون و أنّ اللّه يدين بالسرائر. (2)

3.روى الجزريّ في«جامع الأُصول»عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:«من شهد

ص:328


1- 1) .صحيح البخاري:2،مناقب عليّ عليه السلام؛صحيح مسلم:ج6 باب فضائل علي عليه السلام.
2- 2) .الأُمّ:296/7- 297.

أن لا إله إلاّ اللّه،و استقبل قبلتنا،و صلّى صلاتنا،و أكل ذبيحتنا،فذلك المسلمُ، له ما للمسلم،و عليه ما على المسلم». (1)

و قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم روى أنس قال:إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«أُمرت أن أُقاتل الناس حتّى يقولوا:لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّداً رسول اللّه،فإذا شهدوا أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّداً رسول اللّه و استقبلوا قبلتنا و أكلوا ذبيحتنا و صلُّوا صلاتنا،حرمت علينا دماؤهم و أموالهم إلاّ بحقّها».

كلّ هذه الأحاديث تصرّح بأنّ ما تُحقَن به الدماء و تُصان به الأعراض و يدخل به الإنسان في عداد المسلمين هو الاعتقاد بتوحيده سبحانه و رسالة الرسول، فإذا كان هذا هو ملاك الدخول في الإسلام،فقد حفظ اللّه للمقرّين بها، أنفسهم و أعراضهم و أموالهم و حرم انتهاكها،و قال صلى الله عليه و آله و سلم في خطبة حجة الوداع:

«إنّ اللّه حرم دماءكم و أموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة شهركم هذا». (2)

موقف علماء الإسلام من تكفير المسلم

و قد تشدّد علماء الإسلام في تكفير المسلم و نهوا عنه بقوّة،و بالغوا في النهي عنه.

قال ابن حزم حيث تكلّم فيمن يكفّر و لا يكفر (3):و ذهبت طائفة إلى أنّه لا يكفَّر و لا يفسَّق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فُتيا،و أنّ كلّ من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنّه الحقّ فإنّه مأجورٌ على كلّ حال،إن أصابَ فأجران،

ص:329


1- 1) .جامع الأُصول:158/1- 159.
2- 2) .السيرة النبوية:605/2.و [1]المذكور في السيرة،يختلف مع ما في سائر الجوامع الحديثية بشيء يسير.
3- 3) .الفصل بين الأهواء و الملل و النحل:247/3.

و إن أخطأ فأجرٌ واحدٌ.

(قال):و هذا قول ابن أبي ليلى و أبي حنيفة و الشافعي و سفيان الثوري و داود ابن علي،و هو قول كلّ من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة (رض) لا نعلم منهم خلافاً في ذلك أصلاً.

و قال شيخ الإسلام تقي الدين السُّبكي:إنّ الإقدام على تكفير المؤمنين عَسِر جداً،و كلُّ من كان في قلبه إيمان يستعظم القولَ بتكفير أهل الأهواء و البدع مع قولهم لا إله إلاّ اللّه،محمّد رسول اللّه،فإنّ التكفير أمرٌ هائل عظيم الخطر(إلى آخر كلامه و قد أطال في تعظيم التكفير و تفظيع خطره). (1)

و كان أحمد بن زاهر السرخسي(و هو أجل أصحاب الإمام أبي الحسن الأشعري) يقول:لمّا حَضَرتِ الشيخ أبا الحسن الأشعري الوفاةُ بداري في بغداد أمرني بجمع أصحابه فجمعتُهُم له فقال:اشهَدوا عليّ أنّني لا أُكفّر أحداً من أهل القبلة بذنبٍ،لأنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبودٍ واحد،و الإسلام يشملهم و يعمّهم. (2)

و قال القاضي عبد الرحمن الإيجيّ:جمهور المتكلّمين و الفقهاء على أنّه لا يكفَّر أحد من أهل القبلة-و استدلّ قائلاً-:إنّ المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة-من كون اللّه تعالى عالماً بعلم،أو موجداً لفعل العبد أو غير متحيّز و لا في جهة و نحوها-لم يبحث النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن اعتقاد من حكم بإسلامه فيها و لا الصحابة و لا التابعون،فعلم أنّ الخطأ فيها ليس قادحاً في حقيقة الإسلام. (3)

ص:330


1- 1) .اليواقيت و الجواهر:58. [1]
2- 2) .اليواقيت و الجواهر:58. [2]
3- 3) .المواقف:393،طبعة القاهرة، [3]مكتبة المتنبي،لاحظ ذيل كلامه ترى أنّه يستدلّ على أنّه لا يجوز تكفير أية فرقة من الفرق الإسلامية إذا اتّفقوا على أصل التوحيد و الرسالة.

و قال السيد محمّد رشيد رضا:إنّ من أعظم ما بُليَت به الفرق الإسلامية رمى بعضهم بعضاً بالفسق و الكفر مع أنّ قصد الكلّ الوصول إلى الحقّ بما بذلوا جهدهم لتأييده،و اعتقاده و الدعوة إليه،فالمجتهد و إن أخطأ معذور.... (1)

ص:331


1- 1) .تفسير المنار:44/17.

3

اشارة

التكفير و المسائل الكلامية الخلافية

المسائل العقائدية على قسمين:

الف.ما اتّفق فيها المسلمون على رأي واحد،فإنكارها يوجب الكفر، و يناقض الاعتقاد برسالة الرسول،كرسالة النبي و خاتميته.

ب.ما اختلف فيها المسلمون.و نحن نركّز الكلام على القسم الثاني و نأتي ببعض الأمثلة.

1.رؤية اللّه في الآخرة

إنّ رؤية اللّه يوم القيامة،من المسائل الخلافية بين علماء الإسلام و مفسّري القرآن،فهم بين مثبت و ناف،و نحن لا نخوض في الموضوع،إنّما نركّز على أنّ إنكار رؤية اللّه يوم القيامة لا يلازم إنكار ما جاء به النبي،إذ لم يثبت انّها ممّا جاء به النبي بضرورة من الدين و إن كان المثبت يستدلّ عليها بآية قرآنية نظير: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» 1 ،لأنّ الثاني أيضاً يستدلّ بآية أُخرى نحو: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ

ص:332

يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ». 1

نحن نأسف على الجواب الّذي صدر من مفتي السعودية السابق:عبد العزيز بن باز المؤرخ ب 1407/3/8ه رقم 2/717 على السؤال الّذي وجّه إليه حول الائتمام بمن ينكر الرؤية يوم القيامة،أي رؤية اللّه جلّ و علا من قبل أهل الجنة.

فنَقَل عن عدّةٍ منهم بأنّه كافر،منهم:ابن تيمية و تلميذه ابن القيّم،فقال الأوّل:

و الذي عليه جمهور السلف أنّ من جَحَدَ رؤية اللّه في الدار الآخرة فهو كافر، فإن كان ممّن لم يبلغه العلم في ذلك عُرِّف ذلك كما يُعرَّف مَن لم تبلغه شرائع الإسلام،فإن أصرّ على الجحود بعد بلوغ العلم فهو كافر.

إنّ هذه الفتوى تضادّ ما تضافر عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من أنّ أركان الإسلام عبارة عن التوحيد و الإقرار بالرسالة و غيرهما ممّا مضى ذكره،فهل كان النبيّ يفرض على من يعترف بالشهادتين،الاعتقاد برؤية اللّه؟!

إنّ الرؤية مسألةٌ اجتهاديةٌ تضاربت فيها أقوال المفسّرين،و من نفى الرؤية فإنّما اجتهد في النصوص التي زعم القائل دلالتها عليها.

إنّ التكفير أمر خطير له من المضاعفات ما لا تحمد عقباه،و لا يصحح بأي مقياس،و هو بطبيعته يقتضي الحزم و التثبت،و لا أقلّ من دعوة المكفَّر كالنافي لرؤية اللّه يوم القيامة لإراءة دليله من الكتاب و السنّة،فلو كان ذلك مقنعاً للغير،أو على الأقلّ مقنعاً لنفس المستدل،فيجتنب عن تكفيره،إذ لا ملازمة عند النافي بين نفي الرؤية،و إنكار رسالته صلى الله عليه و آله و سلم.

و لعمر الحقّ انّ ما يعاني منه مجتمعنا اليوم من التطرّف و الإرهاب و الخوف،

ص:333

بل تفجير المراكز و المؤسّسات المدنية،و قتل النفوس و حرق الأموال،ناجم عن هذا النوع من الفتيا،و قد ابتليت البلاد الإسلامية بهذا الشر بلا استثناء حتّى صارت الأراضي المقدسة هدفاً له،و أُعيد الحجر إلى ما جاء منه.

2.الاعتقاد بعلم الغيب للأنبياء و الأولياء

كثيراً ما نرى المتطرّفين في التكفير،يكفّرون من أثبت علم الغيب لغيره سبحانه،بزعم أنّ هذه العقيدة تضاد قوله سبحانه: «قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ». 1

و لا أظنّ أنّ مسلماً واعياً يصف الأولياء بعلم الغيب بنفس المعنى الّذي يصف به اللّه سبحانه،فعلمه سبحانه بالغيب،نابع من ذاته،غير مكتسب و لا محدود؛و الآخر تعلّم من ذي علم مأخوذ من اللّه سبحانه،مكتسب محدد، و أين المعنى الأوّل من الآخر؟ و ليس علم الأنبياء و الأولياء بالغيب-بإذن اللّه سبحانه-في موارد خاصّة،إلاّ كعلم صاحب موسى بالأُمور الخفية الّتي تعلّمها من لدنه سبحانه،قال تعالى في وصفه: «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً». 2

و لأجل تحلّيه بهذا العلم اللّدني،طلب منه موسى عليه السلام أنْ يعلِّمه من ذاك العلم و قال له: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً». 3

فالاعتقاد بهذا النوع من العلم بالمغيّبات،لا ينافي تخصيص علم الغيب باللّه سبحانه.

ص:334

3.الاعتقاد بالقدرة الخارقة للعادة

الاعتقاد بكون الأولياء مصادر لأُمور خارقة للعادة،كنفس الاعتقاد،بعلمهم بالغيب،لا يستلزم كفراً و انكاراً لأصل من الأُصول الثلاثة،و ذلك لأنّ غير اللّه سبحانه لا يملك لنفسه شيئاً،و أنّ ما يصدر منه من الأفعال،سواء أ كانت عادية أو غيرها انّما هو بإقداره سبحانه عليها،و لو لا إفاضة القدرة على العبد الّذي لا يملك شيئاً،لعجز عن أبسط الأعمال فضلاً عن الأُمور الخارقة للعادة.

فالاعتقاد بهذا النوع من المقدرة المفاضة من اللّه سبحانه لا ينافي التوحيد أبداً،لأنّ هنا قادراً بالذات و هو اللّه سبحانه،و قادراً بالغير (الإنسان)،فهو قادر بفضله و بإفاضة منه سبحانه.

هذا هو الذكر الحكيم يخبر عن مقدرة خارقة للعادة لبعض أصحاب سليمان.

و يقول: «قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ». 1

هذه هي المقدرة الخارقة للعادة الّتي أثبتها سبحانه لعفريت من الجن،أثبتها بشكل أوسع إلى من كان عنده علم من الكتاب حيث استطاع أن يأتي بالعرش قبل أن يرتد إلى سليمان طرفُه،كما أشار سبحانه إلى هذه الحقيقة بقوله:

«قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي». 2

ص:335

و قد شعر سليمان أنّ ذلك كلّه من فضل ربّه و كرمه،و حينئذٍ ندرك بما لا ريب فيه أنّ تفضّل اللّه على بعض عباده بالكرامة لا ينافي كبرياءه سبحانه و لا ينازع توحّده بالملك.

4.الصفات الخبرية

لقد شغلت الصفات الخبرية الكثير من المحدّثين و بعض المتكلّمين،ككونه سبحانه مستوياً على العرش،و انّ له وجهاً،و عيناً،و يدين،فالتشاجر قائم على قدم و ساق من القرن الثاني إلى يومنا هذا،حتّى أنّ الإمام الأشعري جعل الاعتقاد بها من عقائد أهل السنّة،فقال في رسالته الّتي كتبها في عقيدة أهل السنّة:من جملة قولنا....

و إنّ اللّه استوى على عرشه كما قال: «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى». 1

و إنّ له وجهاً بلا كيف،كما قال: «وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ». 2

و إنّ له يدين بلا كيف،كما قال سبحانه: «خَلَقْتُ بِيَدَيَّ». 3

و إنّ له عيناً بلا كيف كما قال سبحانه: «تَجْرِي بِأَعْيُنِنا» 4. 5

و لسائل أن يسأل الشيخ الأشعري لما ذا جعلتَ هذه البنود من عقائد أهل السنّة؟ فإن كان الملاك ورودها في القرآن الكريم،فقد ورد في القرآن أُمور كثيرة

ص:336

حول موضوعات مختلفة،تصلح لأنْ تكون نواة للعقيدة فلما ذا تركتها؟!

ثمّ هل كان النبي عند وفود الناس إليه،يسألهم عن عقيدتهم في الصفات الخبرية؟!

فالعقيدة الإسلامية عند الشيخ الأشعري بعد ما تاب من الاعتزال و التحق بالحنابلة،عبارة عن عدّة أُصول،دام فيها الخلاف بين المحدّثين و أهل الفكر و الوعي من الإسلاميين،و لو لا الخلاف بينهم لما رأيت منها أثراً في كتابيه:

الإبانة،و مقالات الإسلاميين،فكأنّ العقيدة الإسلامية عبارة عن عدة مسائل، تضاربت فيها الآراء و الأفكار،فصار الخلاف نواة للعقيدة.«ما هكذا تورد يا سعد الإبل»!!

5.خلق القرآن و حدوثه

و من أعظم الفتن الّتي ابتليت بها الأُمّة الإسلامية في أوائل القرن الثالث هو مسألة خلق القرآن و حدوثه،أو قدمه،و كان الأولى بمنهج أهل الحديث،عدم الخوض في هذا الموضوع،لأنّ مسلك أهل الحديث في اتّخاذ العقيدة في مسائل الدّين هو اقتفاء كتاب اللّه و سنّة رسوله،فما جاء فيها يؤخذ به،و ما لم يجئ فيها يسكت عنه و لا يبحث فيه،و لأجل ذلك،حرّم أهل الحديث علم الكلام،و منعوا البحث عن ما لم يرد في الكتاب و السنّة.

و على ضوء هذا كان اللازم على أهل الحديث السّكوت و عدم النّبس ببنت شفة في هذه المسألة،لأنّ البحث فيها حرام على أُصولهم،سواء أ كان الموقف هو قدم القرآن أم حدوثه،لأنّه لم يرد فيه نصّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، و لا عن أصحابه،و مع الأسف كان موقفهم-و في طليعتهم أحمد بن حنبل - سلبياً و قاموا بتكفير المخالف.

ص:337

يقول الإمام أحمد بن حنبل في كتاب«السنّة»:«و القرآن كلام اللّه ليس بمخلوق،فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهميّ كافر،و من زعم أنّ القرآن كلام اللّه عزّ و جلّ و وقف و لم يقل مخلوق و لا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل،و من زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن و تلاوتنا له مخلوقة و القرآن كلام اللّه،فهو جهميّ،و من لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم». (1)

إنّ السّلفيين و حتّى أتباعهم في هذه الأيّام يتحرّجون من القول بأنّ اللّه ليس بجسم،قائلين بأنّه لم يرد فيه نصّ في الشّريعة،و لكن يتشدّقون بقدم القرآن و عدم حدوثه بلا اكتراث،سالفهم و لاحقهم حتّى جعلوه أصلاً يدور عليه إسلام المرء و كفره.

و أنا أُجلّ الإمام أحمد،من هذا التطرّف و التشدد الّذي أفضى به إلى تكفير من لم يكفّر هؤلاء القوم،و لعل الرسالة موضوعة على لسانه،كما عليه بعض أهل التحقيق.

ما ذا يراد من قدم القرآن؟ فإن أُريد قدم علمه سبحانه فلا شكّ انّ علمه بما في القرآن قديم،و إن أُريد به قدم ما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين فلا شكّ أنّه حادث،و كيف يمكن أن يكون قديماً و هو فعله سبحانه،و كلّ ما سواه فهو حادث و إن أُريد من نفي كونه مخلوقاً انّه غير مختلق فهو حقّ لا غبار عليه،كيف و الاختلاق تهمة ألصقها المشركون بالقرآن فقالوا: «ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ». 2

و كيف يعدّ القول بعدم حدوث القرآن أو حدوثه ملاكاً للإيمان و الكفر مع

ص:338


1- 1) .كتاب السنّة:49.

أنّ محل النزاع غير واضح جدّاً؟!

هذه نماذج من المسائل الكلامية التي صارت ذريعة للمتطرّفين لئن يكفّروا مخالفيهم مع أنّها مسائل كلامية،لا صلة لها بالعقيدة التي يُسأل العبد عنها يوم الورود.

و هناك مسائل فقهية،تذرّعت بها المتطرّفة لتكفير من يخالفهم،و إليك عناوينها:

ص:339

4

اشارة

التكفير و المسائل الفقهية

ما عشت أراك الدهر عجباً،و العجب العجاب أن تصبح المسائل الفرعية محوراً للإيمان و الكفر أو التوحيد و الشرك،خصوصاً ما اختلفت فيها كلمة الفقهاء،فنرى أنّ المتخصّصين في توزيع الكفر و الشرك و الألقاب البذيئة، ينثرونها على مخالفيهم في المسائل الفقهية مرفقة بشيء من السب و الشتم، كالدجل و الخرف.أعاذنا اللّه و إيّاكم من التنابز بالألقاب و سباب المؤمن و شتمه.

لقد خفي على هؤلاء أو تجاهلوا حقيقة الأمر،فإنّ الإيمان و الكفر لا يدور على المسائل الفرعية،بل على المسائل العقائدية،فالاختلاف في الفروع لا يورث كفراً و لا شركاً،فغاية ما يُقال في هذا الشأن،أن يوصف المخالف بالخطإ،و الجهل بحكم اللّه الشرعي،و مع ذلك يكون القائل به معذوراً إلاّ إذا كان الحكم الشرعي من ضروريات الدين على نحو يكون إنكاره ملازماً لإنكار الرسالة،و هذا خارج عن محلّ البحث.

و ها نحن نذكر رءوس بعض المسائل الفقهية الّتي صارت ذريعة للرمي بالشرك:

1.زيارة القبور.

ص:340

2.شدّ الرحال إلى زيارة القبور.

3.البناء على القبور.

4.بناء المسجد على القبور،و الصلاة فيه.

5.الاحتفال بميلاد النبي.

6.البكاء على الميت.

7.التوسّل بالأنبياء بأقسامه.

8.التبرّك بآثار الأنبياء.

9.صيانة الآثار الإسلامية.

10.الاستغاثة بالنبيّ.

هذه المسائل كلّها مسائل فرعية عملية،و لكلّ من القائل بالجواز و عدمه دليله الذي يطرحه على صعيد النقاش العلمي كسائر المسائل الفقهية،و ليس لواحد من الطرفين رمي الآخر بالشرك،و إنّما له نقد دليل المخالف و إرشاده إلى الحقّ المهيع،شأن عامة المسائل الفقهية الّتي لم تزل محلاً للخلاف بعد رحيل الرسول إلى يومنا هذا.

و نحن إذا طالعنا كتاب«الفقه على المذاهب الأربعة»للشيخ الجزيري،لرأينا فجوة الخلاف فيه متّسعة بين فقهاء المذاهب،و مع ذلك نجد آراء الجميع فيه محترمة.

و لا نريد هنا الخوض في هذه المسائل الفرعية لأنّنا أشبعنا الكلام فيها في محاضراتنا،و إنّما نودّ أن نسلّط بصيص ضوء عليها ليتاح للقارئ معرفة دليل القائل بالجواز.

ص:341

1.زيارة القبور

تنطوي زيارة القبور على آثار تربوية هامّة،و قد أشار الرسول الأعظم إلى بعضها،فقال«زوروا القبور فإنّها تذكّركم بالآخرة». (1)

و في كتاب«الفقه على المذاهب الأربعة»:زيارة القبور مندوبة للاتّعاظ و تذكّر الآخرة و تتأكد يوم الجمعة،و ينبغي للزائر الاشتغال بالدعاء و التضرّع، و الاعتبار بالموتى،و قراءة القرآن للميت فإنّ ذلك ينفع الميت على الأصحّ، و بما ورد أن يقول الزائر عند رؤية القبور:«السّلام عليكم دار قوم مؤمنين و إنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون»و لا فرق في الزيارة بين كون المقابر قريبة أو بعيدة (2)،بل يندب السفر لزيارة الموتى خصوصاً مقابر الصالحين. (3)

2.شدّ الرحال إلى زيارة القبور

فإذا كانت زيارة القبور أمراً مستحباً فتكون مقدّمته أمراً مستحباً،أو على الأقلّ مباحاً لا حراماً.

و تخصيص الحديث النبوي الحاث على زيارة القبور بالقبور القريبة على خلاف الإطلاق أوّلاً،و على خلاف إطلاق الحكمة الّتي ذكرها النبي لها،لأنّ التذكير بالآخرة يشارك فيه القبر القريب و البعيد.

إنّ النبيّ الأعظم كان يشدّ الرحال إلى زيارة قبور شهداء أُحد و يقول:هذه قبور إخواننا. (4)

ص:342


1- 1) .سنن ابن ماجة:117/1،باب ما جاء في زيارة القبور.
2- 2) .إلاّ الحنابلة فقالوا:إذا كانت القبور بعيدة فزيارتها مباحة لا مندوبة.
3- 3) .الفقه على المذاهب الأربعة:340/1، [1]خاتمة في زيارة القبور.
4- 4) .سنن أبي داود:218/2برقم 2043، [2]آخر كتاب الحجّ.

و قد جرت سيرة المسلمين عبر القرون على شدّ الرحال إلى زيارة قبر النبي في المدينة المنوّرة،و القصص و الأخبار في ذلك كثيرة لا يسع المجال لنقل معشارها.

و أمّا ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه«لا تشدّ الرحال إلاّ إلى مساجد ثلاثة:

مسجدي هذا،و المسجد الحرام،و المسجد الأقصى» (1)فليس له مساس بشدّ الرحال إلى زيارة القبور،لانّ الاستثناء فيه مفرّغ و المستثنى منه محذوف و هو المسجد،فالنهي فيه متوجّه إلى شدّ الرحال إلى مسجد غير هذه المساجد الثلاثة،لا إلى شدّ الرحال إلى مكان من الأمكنة غير هذه المساجد الثلاثة،لوضوح جواز شدّ الرحال إلى التجارة،و السياحة،وصلة الأرحام، و تحصيل العلم،و الإصلاح بين الفئتين إلى غير ذلك،و هذا يُعرب عن أنّ مصب النهي هو المساجد،جوازاً أو منعاً،لا مطلق الأماكن.فكأنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:لا تشدّ إلى مسجد من المساجد إلاّ إلى ثلاثة....

3.البناء على القبور

المراد من القبور في العنوان هو قبور الأنبياء و الشهداء و الأئمّة و الأولياء الذين لهم مكانة عالية في قلوب المؤمنين،فهل هو أمر جائز أو لا؟

و هذه المسألة كالمسألتين السابقتين لا تمتّ إلى العقيدة الإسلامية بصلة حتّى تكون ملاكاً للتوحيد و الشرك،و إنّما هي من المسائل الفقهية التي يدور أمرها بين الإباحة و الكراهة و الاستحباب و غيرها.

و لا يصحّ لمسلم واع أن يتّخذ هذه المسألة ذريعة لتوزيع تُهم الشرك و التكفير و الابتداع،فكم من مسائل فقهية اختلفت فيها كلمة الفقهاء،و من

ص:343


1- 1) .صحيح مسلم:126/4،باب لا تشد الرحال،كتاب الحجّ.

حسن الحظ لم يختلف في هذه المسألة فقهاء الأئمّة الأربعة و لا فقهاء المذهب الإمامي،و دليلهم على جواز البناء على قبور تلك الشخصيات،هو ما اتّفق عليه المسلمون منذ رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا من صيانة الأبنية على قبور الأنبياء و الصالحين و البناء على قبور الأولياء. مضت القرون،وذي القباب مشيّد فبسيرة للمسلمين تتابعت

من كلّ عصر فيه أهل الحلّ و ال

أضف إلى ذلك،انّ البناء على قبور الأنبياء و الأولياء من مظاهر حبّ الرسول و مودة آله،فصيانة آثارهم و العناية بكلّ ما يتّصل بهم من مظاهر الحب و الودّ.

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من والده و ولده و الناس أجمعين». (1)

نعم من مظاهر الحب،الاتّباع،و لكن تخصيص المظهرية بالاتّباع فقط،قول بلا دليل،بل له مظاهر أُخرى كما عرفت.

ص:344


1- 2) .صحيح البخاري:8/1،باب حب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من الإيمان،من كتاب الإيمان.

4.بناء المسجد على القبر و الصلاة فيه

إنّ بناء المساجد على القبور أو عندها و الصلاة فيها مسألة فقهية فرعية لا تمتُّ إلى العقائد بصلة.

فالمرجع في هذه المسائل هم أئمّة المذاهب و فقهاء الدين-أعني:الذين يستنبطون أحكامها من الكتاب و السنّة-و ليس لنا تكفير أو تفسيق واحد من الطرفين إذا قال بالجواز أو بعدمه،و نحن بدورنا نعرض المسألة المذكورة على الكتاب و السنّة لنستنبط حكمها من أوثق المصادر الفقهية.

الذكر الحكيم يشرح لنا كيفية عثور الناس على قبور أصحاب الكهف و انّهم - بعد العثور-اختلفوا في كيفية تكريمهم و إحياء ذكراهم و التبرّك بهم على قولين:فمن قائل:يُبنى على قبورهم بنيان ليُخلّد ذكرهم بين الناس.

إلى قائل آخر:يبنى على قبورهم مسجد يصلّى فيه.

و قد حكى سبحانه كلا الاقتراحين من دون تنديد بواحد منهما.

قال سبحانه: «وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً». 1

قال المفسّرون:إنّ الاقتراح الأوّل كان لغير المسلمين و يؤيده قولهم في حقّ أصحاب الكهف: «رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ» حيث حوّلوا أمرهم إلى ربّهم.

و أمّا الاقتراح الثاني فنفس المضمون(اتّخاذ قبورهم مسجداً) شاهد على أنّ المقترحين كانوا من المؤمنين،و ما اقترحوا ذلك إلاّ للتبرّك بالمكان الذي دفنت فيه

ص:345

أجساد هؤلاء الموحّدين.

و القرآن يذكر ذلك الاقتراح من دون أن يعقب عليه بنقد أو رد،و هو يدلّ على كونه مقبولاً عند مُنزل الوحي.

إنّ المسلمين من عهد قديم أي من سنة 88ه و الّتي وُسِّع فيها المسجد النبويّ و دخل مرقد النبيّ الشريف فيه-،ما زالوا يصلّون في المسجد النبوي و فيه قبر النبي الأعظم،و لم يخطر ببال أحد،انّه تحرم الصلاة في مسجد فيه قبر إنسان.

5.الاحتفال بميلاد النبي

الاحتفال بمواليد الأنبياء و الأولياء خصوصاً ميلاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم،كلّه من مظاهر الحب و الودّ،قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان و طعمه:أن يكون اللّه و رسوله أحب إليه من سواهما...». (1)

و على ذلك جرت سيرة المسلمين عبر قرون.

ففي«تاريخ الخميس»:لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده،و يعملون الولائم،و يتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات،و يُظهرون السرور،و يزيدون في المبرّات،و يعتنون بقراءة مولده الشريف و يظهر عليهم من كراماته كلّ فضل عظيم. (2)

و قال القسطلاني:و لا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده صلى الله عليه و آله و سلم،يعملون الولائم،و يتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات،و يظهرون السرور،و يزيدون المبرّات،و يعتنون بقراءة مولده الكريم،و يظهر عليهم من بركات كلّ فضل

ص:346


1- 1) .جامع الأُصول:338رقم 22.
2- 2) .تاريخ الخميس:323/1 [1]للديار بكري.

عميم...فرحم اللّه امرئ اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ليكون أشدّ علّة على من في قلبه مرض و أعياه داء. (1)

6.البكاء على الميت

الحزن و التأثّر على فقد الأحبّة أمر جبلت عليه الفطرة الإنسانية و ربّما يتعقبه ذرف الدموع على صفحات الوجه دون أن يملك الإنسان حزنه أو بكاءَه،و الإسلام دين الفطرة و لا يكون حكمه مخالفاً لها.

و هذا رسول اللّه يبكي على ولده إبراهيم و يقول:«العين تدمع،و القلب يحزن، و لا نقول إلاّ ما يُرضي ربّنا،و إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون». (2)

و قد بكى النبي و أصحابه في مواقف كثيرة على فقدان أحبّتهم و أفلاذ أكبادهم، و لا يسع المجال لبيانها. (3)

7.التوسل بالأنبياء و الصالحين

اشارة

قد وصلت تهمة الشرك للمتوسّلين بأنبياء اللّه و الصالحين من عباده ذروتها، و ظهرت بأشدّ صورها،فصار المتوسّلون بهم،دعاة للشرك و الضلال، و مجددي نحلة«عمرو بن لُحَيّ»الّذي هو أوّل من دعا إلى عبادة غير اللّه سبحانه في مكّة المكرمة،فكأنّهم نسوا قول اللّه سبحانه: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ

ص:347


1- 1) .المواهب اللدنية:27/1. [1]
2- 2) .سنن أبي داود:58/1؛ [2]سنن ابن ماجة:482/1.
3- 3) .لاحظ:بحوث قرآنية:140- 147.

سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ». 1

و بالتالي نسوا أُسلوب الدعوة،و أدب الحوار في الإسلام،و طرق النقاش في الشريعة،فعادوا يكيلون للمتوسّلين-و هم جمهرة المسلمين في مشارق الأرض و مغاربها-أنواع التهم من التكفير،و الشرك،و البدعة،و الانحراف عن الحنيفية،إلى غير ذلك من ردود و كلمات تحوّلت إلى عناد شخصيّ و رغبة إلى إلصاق التهم،لجمهور المسلمين.

ثمّ مَن المستفيد من هذا الهجوم في الكلام،و إلحاق جماهير المسلمين بالمشركين؟!

لا شكّ انّها فتنة يستغلّها أعداء الإسلام حيناً بعد حين.

فإذا بلغ السيل الزبى،لا محيص من بسط الكلام لأجل إيقاف القارئ على واقع التوسّل الدائر بين المسلمين من عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا،كلّ ذلك من منظار التوحيد و الشرك.فنقول انّ للتوسل أقساماً:

الف.التوسّل بدعاء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في حال حياته

إنّ التوسل بدعاء البني صلى الله عليه و آله و سلم حال حياته،أمر اتّفق على جوازه المسلمون، و دعا إليه الكتاب و قال: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً». 2

فتجد انّه سبحانه يدعو الظالمين إلى المجيء إلى مجلس الرسول كي يستغفر لهم النبي.

ص:348

ب.التوسّل بدعاء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بعد رحيله

التوسّل بدعاء الرسول بعد رحيله لا يمكن أن يصبح شركاً،و إلاّ يكون التوسّل بدعائه في حياته شركاً أيضاً،لأنّ الحياة و الموت ليسا مدار التوحيد و الشرك،بل هما مدار كون الفعل (الدعاء) مفيداً أو غير مفيد،فلو كان نبيّ الشهداء و رسولهم،كنفس الشهداء حيّاً،فيكون طلب الدعاء منه كطلبه في حياته الدنيوية.

فإذا كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يسمع كلام المتوسّل،يصبح التوسل مفيداً لا لغواً،موافقاً لأُصول التوحيد لا شركاً،مع أنّ الكلام في إلصاق تهمة الشرك بالمتوسّل بدعاء النبي بعد رحيله،لا في كونه مفيداً أو غير مفيد.

و من حسن الحظ أنّ المسلمين اتّفقوا على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم حيّ،و على الرغم من الخلافات المذهبية بينهم في فروع الدين،يسلّمون على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في الصلاة في تشهدهم،و يقولون:

«السّلام عليك أيّها النَّبيّ و رحمة اللّه و بركاته».

و قد أفتى الإمام الشافعي و آخرون بوجوب هذا السلام بعد التشهد،و أفتى الآخرون باستحبابه،لكن الجميع متّفقون على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم علّمهم السلام و انّ سنّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ثابتة في حياته و بعد وفاته. (1)

فلو انقطعت صلتنا بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم بوفاته،فما معنى مخاطبته و السلام عليه يومياً؟!

ص:349


1- 1) .تذكرة الفقهاء:333/3،المسألة 294؛الخلاف:47/1.
ج.طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه و آله و سلم

و قد اتّضحت بما ذكرنا حقيقة طلب الشفاعة من النبيّ بعد رحيله،إذ هو من أقسام طلب الدعاء منه،فلو جاز طلب الدعاء منه لجاز طلب الشفاعة،مضافاً إلى أنّ سيرة المسلمين تكشف عن جواز طلب الشفاعة في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و بعده.

أخرج الترمذي في سننه عن أنس قال:سألت النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يشفع لي يوم القيامة،فقال:أنا فاعل،قال:قلت:يا رسول اللّه فأين أطلبك؟ فقال:«اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط». (1)

و نقل ابن هشام في سيرته:انّه لما توفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كشف أبو بكر عن وجهه و قبله،و قال:بأبي أنت و أُمّي أمّا الموتة التي كتب اللّه عليك فقد ذقتها، ثمّ لن تصيبك بعدها موتة أبداً. (2)

و قال الرضي في«نهج البلاغة»لمّا فرغ أمير المؤمنين عليه السلام من تغسيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال كلاماً و في آخره:«بأبي أنت و أُمّي طبت حيّاً و طبت ميتاً،اذكرنا عند ربّك». (3)

إنّ طالب الشفاعة من الشفعاء الصالحين-الذين أذن اللّه لهم بالشفاعة-إنّما يعتبرهم عباداً للّه مقربين لديه،وجهاء فيطلب منهم الدعاء،و ليس طلب الدعاء من الميت عبادة له،و إلاّ لزم كون طلبه من الحيّ عبادة لوحدة واقعية العمل.

ص:350


1- 1) .سنن الترمذي:621/4،كتاب صفة القيامة.
2- 2) .السيرة النبوية:656/2،ط عام 1375ه.و [1]هو يدلّ على وجود الصلة بين الأحياء و الأموات،و قد جئنا به لتلك الغاية.
3- 3) .نهج البلاغة،رقم الخطبة23.

و قياس طلب الشفاعة من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بطلب الوثنيين الشفاعة من الأصنام قياس مع الفارق،لأنّ المشركين كانوا على اعتقاد بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها،و أين هذا من طلب الموحد الذي لا يراه إلهاً و لا ربّاً و لا ممّن بيده مصير حياته؟! و إنّما تعتبر الأعمال بالنيات لا بالصور و الظواهر.

د.التوسّل بذات النبي و قدسيّته

و هناك من لا يرى التوسّل بدعاء النبي أو طلب الشفاعة منه حيّاً و ميّتاً،عبادة له،لأنّ أقصاه،هو طلب الدعاء و أمره يدور بين كونه مفيداً أو غير مفيد،و لكن ربّما يدور في خلده انّ التوسّل بذاته و شخصيته،أو قدسيّته و منزلته أمر ممنوع أو شرك خفي،و يتوهّم انّ هذا النوع من الخضوع عبادة للنبي.

و لكن التفريق ما بين التوسّلين،تفريق بلا فارق،لأنّ التوسّل بدعاء النبي في كلتا الحالتين إنّما هو لأجل كونه ذا مقام محمود و منزلة كبيرة عند اللّه،بل هو الرصيد لأمره سبحانه بالمجيء إليه صلى الله عليه و آله و سلم و طلب الدعاء و الاستغفار منه ثمّ استجابة دعائه،فلولا طهارة روحه،و قدسية نفسه،لكان هو و سائر الناس سواء،فالتوسّل بدعائه،في الحقيقة توسّل بقربه منه،و منزلته لديه، «وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً». 1

و قد أحسّ أولاد النبي يعقوب بذلك،فعند ما تبيّن أنّهم عصاة التجئوا إلى والدهم فقالوا: «يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئِينَ» ،فاستجاب الأب لدعوتهم و «قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». 2

ص:351

ثمّ كيف يوصف هذا النوع من الخضوع عبادة للنبي،مع عدم صدق حدّها عليه،فإنّها عبارة عن الخضوع لشخص بما أنّه إله العالمين،أو لمن فوّض إليه أُموره سبحانه فصار إلهاً صغيراً،بيده التدبير و النصر،و العزّ،و الذلّة، و المغفرة،و الشفاعة،كما كان عليه المشركون في عصر الرسالة حيث كانوا يسوّون بين الأوثان و إله العالمين كما يحكي عنهم سبحانه بقوله: «تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ». 1

و كانوا يعبدون الأوثان،بتصوّر انّ العزة في الحياة الدنيا،أو الانتصار في الحرب بأيديهم و قد فوّض اللّه سبحانه ذلك لهم.كما يقول سبحانه: «وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا». 2

و قال عزّ من قائل: «وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ». 3

و أين هذا من التوسّل بقدسية النبي و منزلته عند اللّه،بما أنّه من عباد اللّه الصالحين،فالعبودية جوهره،و الحاجة إلى اللّه سبحانه،طبيعته،لم يفوّض إليه شيء من الشفاعة و التدبير.

يا للّه و للأفهام الصافية و الأذهان المستقيمة،الّتي تجعل التوسّل بالنبيّ بما هو عبد صالح مقرّب عند اللّه،و التوسل بالآلهة المزعومة-الّتي يتخيل المتوسل انّه فوض إليها أمر التكوين و التشريع،و الشفاعة و المغفرة-في كفّ واحد!!

و هاهنا وثيقة تاريخية ننقلها بنصّها تعرب عن توسّل الصحابة بدعاء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في حال حياته أوّلاً،و بقدسيّته و شخصيته ثانياً،و المقصود من نقلها هو الاستدلال على الأمر الثاني.

ص:352

روى عثمان بن حنيف أنّه قال:إنّ رجلاً ضريراً أتى النبي فقال:ادع اللّه أن يعافيني؟

فقال صلى الله عليه و آله و سلم:«إن شئت دعوت،و إن شئت صبرت و هو خير».

قال:فادعه،فأمره صلى الله عليه و آله و سلم أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه و يصلّي ركعتين و يدعو بهذا الدعاء:«اللّهمّ إنّي أسألك و أتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة،يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى،اللّهمّ شفّعه في».

قال ابن حنيف:فو اللّه ما تفرقنا و طال بنا الحديث حتّى دخل علينا كأن لم يكن به ضرّ.

و هذه الرواية من أصحّ الروايات،قال الترمذي:هذا حديث حق،حسن صحيح. (1)

و قال ابن ماجة:هذا حديث صحيح. (2)

و يستفاد من الحديث أمران:

الأوّل:يجوز للإنسان أن يتوسّل بدعاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم و يدلّ على ذلك قول الضرير:ادعُ اللّه أن يعافيني،و جواب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم:إن شئتَ دعوتُ،و إن شئت صبرتَ و هو خير.

الثاني:انّه يجوز للإنسان الداعي أن يتوسّل بذات النبي صلى الله عليه و آله و سلم في ضمن دعائه،و هذا يستفاد من الدعاء الذي علّمه النبي صلى الله عليه و آله و سلم للضرير،و الإمعان فيه يثبت هذا المعنى،و انّه يجوز لكلّ مسلم في مقام الدعاء أن يتوسل بذات النبي صلى الله عليه و آله و سلم و يتوجه به إلى اللّه.

ص:353


1- 1) .صحيح الترمذي:5،كتاب الدعوات،الباب119 برقم 3578. [1]
2- 2) .سنن ابن ماجة:441/1برقم 1385؛مسند أحمد138/4؛ [2]إلى غير ذلك.

و إليك الجمل التي تدلّ على هذا النوع من التوسّل:

1.اللّهمّ إنّي أسألك و أتوجّه إليك بنبيّك.

إنّ كلمة«بنبيّك»متعلّق بفعلين«أسألك»و«أتوجّه إليك»و المراد من النبي صلى الله عليه و آله و سلم،نفسه القدسية و شخصيته الكريمة لا دعاؤه.

2.محمد نبي الرحمة.

نجد انّه يذكر اسم النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثمّ يصفه بنبي الرحمة معرباً عن أنّ التوسّل حصل بذات النبي صلى الله عليه و آله و سلم بما لها من الكرامة و الفضيلة.

3.يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي.

إنّ جملة:«يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي»تدلّ على أنّ الضرير حسب تعليم الرسول،اتّخذ النبي صلى الله عليه و آله و سلم نفسه وسيلة لدعائه و توسّل بذاته بما لها من المقام و الفضيلة.

إلى هنا تمّ بيان أحكام التوسل على وجه موجز فلنذكر سائر الأُمور التي صارت ذرائع للتكفير.

8.التبرك بآثار الأنبياء و الصالحين

اشارة

جرت سنّة اللّه الحكيمة على إجراء فيضه إلى الناس بالطرق و الأسباب العادية،فاللّه سبحانه مع أنّه«هو الرازق ذو القوة المتين»،أمرنا بطلب الرزق عن طريق العمل،فمن جلس في البيت و طلب الرزق فقد أخطأ في فهم سنّة اللّه.

و مع ذلك ربّما تقتضي المصلحة جريان فيضه بطرق و أسباب غير مألوفة، خارقة للعادة لغايات قدسية،فتارة تكون الغاية هو إثبات النبوة-كما في المعاجز-

ص:354

و أُخرى،إجلال الشخص و إظهار كرامته عند اللّه.

أمّا الأوّل فلا حاجة إلى البيان،فقد حكى الذكر الحكيم معاجز الأنبياء و تحدّيهم للمخالفين.و أمّا الثاني فالنموذج الواضح له في الذكر الحكيم هو قصة مريم في محرابها أوّلاً،و بعد مخاضها ثانياً.

يقول سبحانه: «كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ». 1

و قال أيضاً: «وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا». 2

كلّ ذلك كان تفضّلاً من اللّه على مريم في فترات متلاحقة دون أن يعدّ ذلك من معاجزها و تحدّياتها.

و هذا ما نلاحظه أيضاً في قصة النبي يعقوب عليه السلام الذي ابتلي بفراق ابنه يوسف،و صبّ عليه أنواع المحن و الغصص،فبكى عليه حتّى ابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم (1)،و قد ردّ اللّه سبحانه بصره إليه بسبب غير مألوف، و هو تبرّكه بقميص ابنه يوسف فارتدّ بصيراً.

و الذكر الحكيم يحكي تفصيل ذاك التبرّك و انّه قال يوسف: «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ... * فَلَمّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ». 4

لكن أيّة صلة هنا بين إلقاء القميص و ارتداد البصر؟ و هو شيء لا تؤيّده

ص:355


1- 3) .يوسف:84. [1]

التجربة العلمية،و لا يمكن تفسيره و تعليله إلاّ عن طريق التمسّك بعلل غيبية فوق تلك الحسابات،فاللّه سبحانه ربّما يخرق سنّته و عادته بتدبير الأُمور عن طرق غير مألوفة.

و قد كان التبرّك بآثار الأنبياء من الأشياء الثابتة في الأُمم السابقة على نحو يحكيه القرآن بتحسين.

تبرّك بني إسرائيل بصندوق العهد

لمّا أخبر نبي بني إسرائيل قومه ب «إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً» حتّى يقاتلوا العدو بأمره،طلبوا منه آية تدلّ على أمره سبحانه،فبعث إليهم ملكاً فقال لهم:

«إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ». 1

قال ابن كثير في تفسير الآية:

فاللّه سبحانه يصف الصندوق الّذي فيه آثار موسى و هارون بالأوصاف التالية:

1.فيه سكينة من ربّكم و طمأنينة لقلوبكم حيث كانوا يستفتحون به على عدوهم و يقدّمونه في القتال و يسكنون إليه.

2.فيه بقية ممّا ترك آل موسى و آل هارون،حيث كان فيه:نعلا موسى و عصاه و عمامة هارون و قفيز من المنّ الّذي ينزل عليهم من السماء و رضراض الألواح. (1)

3.تحمله الملائكة فحملته الملائكة بين السماء و الأرض و هم ينظرون حتّى

ص:356


1- 2) .تفسير ابن كثير:301/1. [1]

وضعته أمام طالوت.

فإذا جاز التبرّك بصندوق فيه نعلا موسى و عمامة أخيه هارون و غير ذلك، و قد بلغ شرفاً و كرامة إلى درجة كانت الملائكة تحمله،فلما ذا لا يجوز التبرّك بآثار النبي و الصالحين من عباد اللّه سبحانه؟!

9.صيانة الآثار الإسلامية

اشارة

تسعى الأُمم المتحضّرة المعتزّة و المهتمة بماضيها و تاريخها بما فيه من شخصيات و مواقف و أفكار،إلى إبقاء كلّ أثرٍ تاريخي يحكي عن ذلك الماضي لتدلّل به على واقعية ماضيها،و تُبقي على أمجادها و أشخاصها في القلوب و الأذهان.

و لا شكّ أنّ لهدم الآثار و المعالم التاريخية الإسلامية و خاصّة في مهد الإسلام:مكّة،و مهجر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم المدينة المنورة،نتائج و آثاراً سيئة على الأجيال اللاحقة التي سوف لا تجد أثراً لوقائع التاريخ الإسلامي و ربّما ينتهي بها الأمر إلى الاعتقاد بأنّ الإسلام قضية مُفتعلة،و فكرة مُبتدعة ليس لها أيّ أساس واقعي،تماماً كما أصبحت قضية السيد المسيح عليه السلام في نظر الغرب،الذي بات جُلُّ أهله يعتقدون بأنّ المسيح ليس إلاّ قضية أُسطورية حاكتها أيدي البابوات و القساوسة،لعدم وجود أيّة آثار ملموسة تدلّ على أصالة هذه القضية و وجودها التاريخي.

فالواجب على المسلمين تشكيل لجنة من العلماء من ذوي الاختصاص للمحافظة على الآثار الإسلامية و خاصّة النبويّة منها،و آثار أهل بيته و العناية بها و صيانتها من الاندثار،أو عمليات الإزالة و المحو،لما في هذه العناية و الصيانة من

ص:357

تكريم لأمجاد الإسلام و حفظ لذكرياتها في القلوب و العقول و إثبات لأصالة هذا الدين،إلى جانب ما في أيدي المسلمين من تراث ثقافي و فكري عظيم.

و ليس في هذا العمل أيُّ محذور شرعي فحسب،بل هو أمر محبّذ كما عرفت،بل هو أمر وافق عليه المسلمون الأوائل.

فهذا هو السلف الصالح قد وقف-بعد ما فتح الشام-على قبور الأنبياء ذات البناء الشامخ...فتركها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم و على رأسهم عمر بن الخطاب بأنّ الإبقاء على الآثار أمرٌ محرّمٌ فيجب أن يهدم، و هكذا الحال في سائر القبور المشيَّد عليها الأبنية في أطراف العالم،و إن كنت في ريب من هذا فاقرأ تواريخهم و إليك نصّ ما جاء في دائرة المعارف الإسلامية:

إنّ المسلمين عند فتحهم فلسطين وجدوا جماعةً في قبيلة«لخم»النصرانية يقومون على حرم إبراهيم ب«حبرون»و لعلّهم استغلّوا ذلك ففرضوا اتاوة على حجّاج هذا الحرم...و ربّما يكون توصيف تميم الداري أن يكون نسبة إلى الدار أي الحرم،و ربّما كان دخول هؤلاء اللخميين في الإسلام،لأنّه قد مكّنهم من القيام على حرم إبراهيم الذي قدّسه المسلمون تقديس اليهود و النصارى من قبلهم. (1)

محافظة الخلفاء على خاتم النبي صلى الله عليه و آله و سلم

روى البخاري بسنده عن ابن عمر قال:«اتّخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خاتماً من ورق و كان في يده،ثمّ كان بعد في يد أبي بكر،ثمّ كان بعد في يد عمر،ثمّ كان بعد في يد عثمان،حتّى وقع بعد في بئر أريس،نقشه محمد رسول اللّه».

ص:358


1- 1) .دائرة المعارف الإسلامية:484/5،مادة«تميم الداري».
عبد اللّه بن عمر و الاعتناء بآثار النبي صلى الله عليه و آله و سلم

اشتهر ابن عمر بتتبّعه للآثار و اعتنائه بها و محافظته عليها،قال الشيخ ابن تيمية:سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الرجل يأتي هذه المشاهد؟ فأجاب و ذكر في جوابه:أنّ ابن عمر كان يتتبع مواضع سير النبي صلى الله عليه و آله و سلم حتّى أنّه رُئي يصب في موضع ماء،فسئل عن ذلك،فقال:كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يصب هاهنا ماء.

و روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة قال:رئي سالم بن عبد اللّه يتحرّى أماكن من الطريق و يصلّي فيها،و يحدّث أنّ أباه كان يصلّي فيها و أنّه رأى النبي صلى الله عليه و آله و سلم يصلّي في تلك الأمكنة،قال موسى:و حدّثني نافع أنّ ابن عمر كان يصلّي في تلك الأمكنة. (1)

10.الاستعانة بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

و نركّز في المقام على أُمور ثلاثة:

1.إذا كانت الاستعانة بحكم قوله سبحانه: «وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ» مختصة به سبحانه، فكيف نستعين في قضاء الحوائج بالأولياء و نستعين بهم؟

2.هل الاستعانة بالنبي-مثلاً-عبادة له؟

3.هل للصالحين القدرة على الإجابة عند الاستعانة و الاستغاثة بهم؟

و إليك دراسة الجميع واحداً بعد الآخر:

الف.الاستعانة المختصّة باللّه،غير الاستعانة بالمخلوق

إنّ الاستعانة،مختصّة باللّه سبحانه و قد أمرنا اللّه سبحانه أن نقول في

ص:359


1- 1) .اقتضاء الصراط المستقيم:385.

صلواتنا: «وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ» ،و مع ذلك كلّه،فإنّ حياة البشر-فضلاً عن المسلمين - لا تستغني عن الاستعانة بالغير.فكيف الجمع بين حصرها في اللّه،و كون التعاون أساس الحياة؟

و بعبارة أُخرى إنّ الاستعانة بالغير تشكّل الحجر الأساس للحضارة الإنسانية حيث إنّ حياة البشر في هذا الكوكب قائمة على أساس التعاون،و إنّ العقلاء يتعاونون في أُمورهم الحيوية.

و هذا هو العبد الصالح ذو القرنين استعان في بناء السد و قال: «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً» 1 ،و مع ذلك كيف تحصر الاستعانة باللّه سبحانه؟!

و الجواب:انّ المُعين حقيقة و في عامّة الصور،هو اللّه سبحانه،فلو قام شخص بإعانة غيره،فانّما يُعين بقدرة مكتسبة و بإرادة من اللّه سبحانه.

و على ضوء هذا فالاستعانة بمن يعين بذاته،و بقدرته الّتي هي عين ذاته، مختصة باللّه سبحانه؛و أمّا الاستعانة بمن يعين بقدرة مكتسبة من اللّه سبحانه،لا تؤثر إلاّ بإذنه فهو يختص بالمخلوق.و كم في القرآن الكريم نظائر لهذا الأمر،مثلاً انّه سبحانه ينسب التوفّي لنفسه و يقول: «اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها». 2

و في ذات الوقت ينسبه إلى الملائكة و يقول: «حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ». 3

فالتوفّي المنسوب إلى اللّه غير المنسوب إلى رسله،فالتوفّي الصادر عن شخص بقدرة ذاتية غير محددة،هو قائم باللّه سبحانه لا يعمّ غيره؛و أمّا التوفّي

ص:360

الصادر عن الرسل بقدرة مكتسبة محددة،فهو للرسل.

و قس على ذلك كثيراً من الأفعال الّتي نسبت إلى اللّه سبحانه و في الوقت نفسه نسبت إلى المخلوق.

ب.الاستعانة بالأولياء ليست عبادة لهم

إنّ طلب الإعانة أو الاستعانة بالأولياء ليست عبادة لهم،و إنّما يكون عبادة لهم إذا استعان الإنسان و استغاث بهم بما أنّهم آلهة،أو فُوّض إليهم تدبير العالم في عامّة الجهات أو بعضها،و تحدّثنا بالتفصيل في محاضراتنا عن معنى العبادة و مواردها،و قلنا:إنّ الاعتقاد بالألوهيّة و الربوبيّة هو الّذي يصبغ العمل بصبغة العبادة،و من الواضح أنّ المتوسّل بأولياء اللّه لا يعتقد بألوهيتهم و لا بربوبيّتهم،و لا بتدبيرهم لشئون الكون و لا بقيامهم بأفعال اللّه-بالاستقلال و الاختيار-بل يعتبرهم عباداً مكرمين،أطهاراً طيّبين،وُجَهاء عند اللّه، مطيعين له،غير مرتكبين لأدنى ذنب و معصية.

إنّ التواضع و الخضوع أمام قبور أولياء اللّه هو-في الحقيقة-تواضعٌ للّه و خضوعٌ له،و إن كان في ظاهره تواضعاً لذلك الوليّ الصالح،إلاّ أنّه لو كشفنا الستار عن قلب ذلك المتواضع لرأينا أنّه يتواضع للّه من خلال تواضعه لوليّه الصالح،و أنّه يطلب حاجته من اللّه بواسطة هذا الوليّ الصالح و بسببه، فالتوسُّل بالأسباب هو عين التوسّل بمسبِّب الأسباب-و هو اللّه سبحانه - و هذا واضح لأهل البصيرة و المعرفة.

و أنت لو سألتَ المتوسِّل بأولياء اللّه عن الّذي دعاه إلى التوسُّل به،لأجابك - فوراً-بأنّه«وسيلة»إلى اللّه سبحانه،كما قال تعالى:

ص:361

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». 1

فكما أنّ الإنسان يتوسَّل إلى اللّه بالصلاة و الصوم و العبادات و الطاعات، كذلك يتوسَّل إليه سبحانه بأوليائه الصالحين المكرَّمين لديه.

و الخلاصة:أنّ المؤمن يعتقد-في قرارة نفسه-بأنّ توسُّله بالنبيّ و غيره من المعصومين و الصالحين يدفع المتوسَّل به إلى السؤال من اللّه تعالى لقضاء حاجة من توسَّل به،سواء أ كانت الحاجة غفران ذنب،أو أداء دَين،أو شفاء مريض،أو رفاهيّة عيش،أو غير ذلك.

ج.هل للصالحين القدرة على الإعانة؟

إذا تبيّن انّ الاستعانة بالخالق غير الاستعانة بالمخلوق،كما أنّها ليست عبادة للمستعان ما دام المستعين يعترف بكونه عبداً،لا يقدر على الإعانة إلاّ بما قدّره سبحانه و مكّنه منه.

فعندئذٍ ينتهي البحث إلى الأمر الثالث و هو كون الصالحين قادرين على إنجاز ما يطلب منهم-إذا شاء اللّه-و دراسة الحياة البرزخية،يزيح الستار عن وجه الحقيقة.و إليك موجز الكلام فيه.

هل الموت انعدام و فناء مطلق،أو انّه انتقال من دار إلى دار و من عالم ضيق إلى عالم فسيح؟

فالماديون على الأوّل،فالموت عندهم عبارة عن فناء الإنسان و ضلاله في الأرض،فلا يبقى بعد الموت إلاّ الذرات المادية المبعثرة في الطبيعة،و هي غير

ص:362

كافية في إعادة الإنسان،إذ ليس هنا شيء متوسط بين المبتدأ و المعاد.

و الإلهيون على الثاني،و أنّ الموت خروج الروح من البدن العنصري و تعلّقه ببدن آخر يناسبه،و هو أمر يدعمه كتاب اللّه الأكبر،و يدلّ عليه بأوضح دلالة، و يفنّد دليل المشركين القائلين: «أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» بقوله: «قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ». 1

و معنى الآية:هو أنّ الموت ليس ضلالاً في الأرض و أنّ الشخصية الإنسانية ليست هي الضالّة الضائعة في ثنايا التراب،إنّما الضال في الأرض هو أجزاء البدن العنصري المادي،فهذه الأجزاء هي التي تتبعثر في الأجواء و الأراضي، و لكن لا يشكّل البدنُ حقيقةَ الشخصية الإنسانية،و لا يكون مقوّماً لها،و إنّما واقعيتها هي نفس الإنسان،و روحه،و هي لا ينتابها ضلالٌ،و لا يطرأ عليها تبعثر،بل يأخذها اللّه سبحانه و يحتفظ بها كما قال: «قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ».

و يتجلّى معنى الآية بوضوح إذا عرفنا أنّ التوفّي في الآية يعني الأخذ في مثل قوله سبحانه: «اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ». 2

و المعنى:هو أنّ اللّه يقبض الأنفس و يأخذها في مرحلتين:حين الموت، و حين النوم،فما قضى عليها بالموت أمسكها و لم يردّها إلى الجسد،و ما لم يقض عليها بالموت أرسلها إلى أجل مسمّى.

ص:363

كلّ ذلك يكشف عن أنّ الموت ليس علامة الفناء و آية العدم،بل هناك انخلاع عن الجسد،و ارتحال إلى عالم آخر،و لو لا ذلك لما كانت الآية جواباً على اعتراض المشركين،و رداً على زعمهم.

فإذا كانت الحياة البرزخية،حياة واقعية،فالمسيح الّذي كان يبرئ الأكمه و الأبرص بإذن اللّه،هو نفس المسيح في الحياة البرزخية،فيستطيع قطعاً أن يقوم بنفس ما كان يقوم به في حياته المادّية.

كلّ ذلك بإذنه سبحانه.

فإذا كان الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم-في حياته المادية-سبباً،لاستجابة الدعاء و انفتاح أبواب الرحمة،كما قاله أبو طالب:

و أبيض يُستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

فالاستسقاء به في الحياة البرزخية لا ينقص عن الاستسقاء به في حياته المادية،لأنّ سبب استجابة دعائه،هو منزلته و مكانته عند اللّه و قربه لديه، و الجميع محفوظ في كلتا الحالتين.

ص:364

5

اشارة

الآن حصحص الحق

الآن حصحص الحقّ،و تجلّت الحقيقة بأجلى مظاهرها و تبيّن أنّ تكفير أهل القبلة لأجل الاختلاف في المسائل الكلامية أو الأحكام العملية،على خلاف الكتاب و السنّة النبوية،و سيرة علماء الإسلام خصوصاً إذا صدر المخالف فيها عن دليل،لا عن الهوى و العصبية.

و العجب انّ هؤلاء المتطرّفين،يرون أنفسهم أتباع أحمد بن تيمية،و لكنّه بريء منهم حسب فتاواه الّتي جمعها عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي.

فعلى هؤلاء-الذين يقتلون الأبرياء و لا يقيمون لدمائهم و أعراضهم و أموالهم وزناً-أن يرجعوا إلى فتاوى إمامهم حتّى يقفوا على أنّه يعذِّر المخالف إذا صدر عن اجتهاد،و قد ذكر عدّة مسائل عذّر فيها المخالف-بما ليس معذوراً عند المتطرفين-و إليك نصّ كلامه:

«و الخطأ المغفور في الاجتهاد هو نوعي المسائل الخبرية و العلمية كما قد بُسط في غير موضع،كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث،و كان لذلك ما

ص:365

يعارضه و يبين المراد و لم يعرفه.

مثل من اعتقد أنّ الذبيح إسحاق،لحديث اعتقد ثبوته،أو اعتقد أنّ اللّه لا يُرى،لقوله: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» ،و لقوله: «وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» ،كما احتجّت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حقّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و إنّما يدلاّن بطريق العموم.

و كما نقل عن بعض التابعين أنّ اللّه لا يُرى،و فسّروا قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» بأنّها تنتظر ثواب ربّها،كما نقل عن مجاهد و أبي صالح.

أو من اعتقد أنّ الميت لا يعذب ببكاء الحي؛لاعتقاده أنّ قوله: «وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» يدلّ على ذلك؛و أنّ ذلك يقدّم على رواية الراوي،لأنّ السمع يغلط، كما اعتقد ذلك طائفة من السلف و الخلف.

أو اعتقد أنّ الميت لا يسمع خطاب الحي؛لاعتقاده أنّ قوله تعالى: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى» يدلّ على ذلك.

أو اعتقد أنّ اللّه لا يعجب،كما اعتقد ذلك شريح؛لاعتقاده أنّ العجب إنّما يكون من جهل السبب و اللّه منزّه عن الجهل.

أو اعتقد أنّ عليّاً أفضل الصحابة؛لاعتقاده صحّة حديث الطير؛و أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال:«اللّهمّ ائتني بأحبِّ الخلق إليك؛يأكل معي من هذا الطائر».

أو اعتقد أنّ من تجسّس للعدو و علّمهم بغزو النبي صلى الله عليه و آله و سلم فهو منافق؛كما اعتقد ذلك عمر في حاطب و قال:دعني أضرب عنق هذا المنافق.

أو اعتقد أنّ من غضب لبعض المنافقين غضبة فهو منافق؛كما اعتقد ذلك أُسَيْد بن حُضَيْر في سعد بن عبادة و قال:إنّك منافق! تجادل عن المنافقين.

أو اعتقد أنّ بعض الكلمات أو الآيات أنّها ليست من القرآن؛لأنّ ذلك لم

ص:366

يثبت عنده بالنقل الثابت،كما نقل عن غير واحد من السلف أنّهم أنكروا ألفاظاً من القرآن،كإنكار بعضهم: «وَ قَضى رَبُّكَ» ،و قال:إنّما هي«و وصيّ ربّك».

و إنكار بعضهم قوله: «وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ» ،إنّما هو ميثاق بني إسرائيل، و كذلك هي في قراءة عبد اللّه.و إنكار بعضهم: «أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا» إنّما هي أو لم يتبين الذين آمنوا.و كما أنكر عمر على هشام بن الحكم،لما رآه يقرأ سورة الفرقان على غير ما قرأها.و كما أنكر طائفة من السلف على بعض القراء بحروف لم يعرفوها،حتّى جمعهم عثمان على المصحف الإمام.

و كما أنكر طائفة من السلف و الخلف أنّ اللّه يريد المعاصي،لاعتقادهم أنّ معناه أنّ اللّه يحب ذلك و يرضاه و يأمر به.و أنكر طائفة من السلف و الخلف أنّ اللّه يريد المعاصي،لكونهم ظنوا أنّ الإرادة لا تكون إلاّ بمعنى المشيئة لخلقها،و قد علموا أنّ اللّه خالق كلّ شيء،و أنّه ما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن،و القرآن قد جاء بلفظ الإرادة بهذا المعنى،و لكن كلّ طائفة عرفت أحد المعنيين و أنكرت الآخر.

و كالذي قال لأهله:إذا أنا متُّ فأحرقوني،ثمّ ذرّوني في اليمّ فو الله لئن قدر اللّه عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين.و كما قد ذكره طائفة من السلف في قوله: «أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ» ،و في قولِ الحواريّين: «هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ».

و كالصحابة الذين سألوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم:هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فلم يكونوا يعلمون أنّهم يرونه،و كثير من الناس لا يعلم ذلك،إمّا لأنّه لم تبلغه الأحاديث،و إمّا لأنّه ظن أنّه كذب و غلط». (1)

ص:367


1- 1) .ابن تيمية:أحمد،مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية،جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي:33/20- 36.

معنى كلامه:انّ هنا مجموعة من المسائل اتّفق جمهور الأُمّة فيها على رأي واحد،و مع ذلك عذّر المخالف حتّى لم ير اعتقاد المخالف بتحريف القرآن خروجاً عن الدين.

يا أُمّه اثكليه

يعاني العصر الراهن من الإرهاب الواسع الّذي من ثمراته:قتل الأبرياء، و إراقة دماء الشيوخ الرُّكّع،و الأطفال الرُّضّع،و تمارسه كوادر سياسية-لا دينية-عليها سمة الإسلام،فصار ذلك سبباً لتشويه سُمْعة الإسلام في مختلف الأقطار،و عاد الشياطين يشهّرون بالإسلام،و يزعمون أنّه دين الإرهاب و انّهما وجهان لعملة واحدة.

و قد قام غير واحد من علماء الإسلام بإدانة هؤلاء و التبرّي منهم،و أكّدوا على أنّها فتنة استغلها أعداء الإسلام للإيقاع بالمسلمين و ضرب بعضهم ببعض، عبر خطابات من عُلى المنابر،و وسائل الإعلام،حتّى وقف الأبكم و الأصمّ على أنّ هذه الأعمال الوحشية،تغاير مبادئ الإسلام في عقيدة عامة طوائفه.

و لكن ما عشتَ أراك الدهر عجباً،فقد قام في هذه الظروف العصيبة أحد دكاترة السعودية (1)بمهمة التحقيق و التعليق على كتاب يحمل اسم«كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب»و الكتاب حافل بذكر الأعمال الدموية و الإرهابية و ملخّص الكتاب:انّ انتصار الشيخ كان قائماً على شنّ الغارات على الطوائف العربية في داخل نجد و خارجها و أحياناً على القبائل البعيدة،و كلّ هؤلاء كانوا من أهل القبلة،يصلّون و يصومون،و على ذلك درج آل

ص:368


1- 1) .الدكتور عبد اللّه الصالح العثيمين بجامعة الملك سعود،نشرته دار الملك عبد العزيز.

سعود أيضاً بعد رحيل الشيخ.

و ها نحن نقتطف من الكتاب،نموذجاً يوقف القارئ على عامّة محتوياته.

غزوات بإذن محمد بن عبد الوهاب

لما التجأ ابن عبد الوهاب-هرباً من حاكم الإحساء-إلى الدرعية الّتي كان يحكمها محمد بن سعود،قال له الأمير:يا شيخ ما يكون لك قعود (1)عندنا و لا مسكن،فأنا رجل متعوّد على أكل الحرام،و أنت عالم زاهد.هل عندك أن تفتينا؟ (2)قال له الشيخ محمد:نعم أنا أبقيك على ما أنت عليه من أكل الحرام و أنت تتركني أسكن عندك،أُقوّم الدين.فرضي ابن سعود بذلك.و قام ابن سعود و غزا من بلده على أربع ركائب.فوجد غنماً لقوم يسمّون القرينية، فذبح راعي الغنم و أخذها...ثمّ بعدها أرسل ثماني ركائب على أهل القرينية لأنّهم قريبون منه.ثمّ [غزا] هذه القرية الّتي تسمّى عرقة.و[حارب ثانية،و غزا] بقدر أربعين ذلولاً.و بعث إلى جماعة له بالعيينة ثمانية رجال،و ذبح عثمان بن معمّر و عبيداً حوله أربعين.ثمّ إنّه ضجّت القوم،و قالوا:مريدون.و لا اختلف منهم أحد.و ملك العيينة و الجبلية.و هذه تبعد عن الدرعية بقدر ست ساعات.و اللّه أعلم بالصواب.

و بعد ما قتل ابن معمر خاف ابن سعود منه،و قال:أخاف أن يقتلني.و أمّا الشيخ كان بذلك الوقت إذا خرج من بيته إلى المسجد يمشي خلفه مقدار مائتي رجل.و إذا دخل كذلك. (3)

ص:369


1- 1) .(قعود):إقامة.
2- 2) .(هل عندك أن تفتينا؟):هل عندك لنا فتوى بحلّ ذلك.
3- 3) .كيف كان ظهور محمد بن عبد الوهاب:58-59.

نموذج آخر

إنّه لمّا أراد الجهاد تجهز معه مائة و عشرون جملاً،فحارب قرية تسمّى الهلالية.و أخذها و أخرج أهلها منها و دخلها.و هي بأرض القصيم تبعد عن الدرعية بقدر سبعة أيام.و أسلم رياض العارض و ضرما.الرياض حاكمها ابن دوّاس،و أهل«ضرما»حاكمها ناصر بن إبراهيم.و صارت غزوته مقدار ثلاثمائة ذلول.و طاعوا له بنو سبيع،و هم بدو و أصحاب بيوت شعر.و تبعوا الدين الظفير. (1)

و هكذا ساق المؤلّف غزوات آل سعود طيلة سنين و كلّها تخريب و دمار، اغتيال و إغارة،لا على الكافرين و المشركين و لا على أهل الكتاب من اليهود و النصارى،بل على المسلمين الذين يخالفون تطرّف ابن عبد الوهاب في التكفير و الاتّهام بالشرك!!

إنّ نشر هذا الكتاب و أمثاله،هو الّذي أعطى بعض المبرّرات للأعداء و المتربّصين بنا للنيل من إسلامنا العظيم،و فتح لهم أبواب الطعن عليه لتشويه صورته الناصعة.

كما لعبت هذه الكتب دوراً فاعلاً في تهيئة الأرضية المناسبة لبث الأحقاد و الأضغان في النفوس المريضة الّتي انطلقت لتزرع الرعب و القتل و الدمار في كلّ زاوية،غير مكترثة بالضحايا الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى نشدان الأمن و الراحة و السلام،تلك الآمال الّتي حرص إسلامنا العزيز على تحقيقها من خلال تجسيد مبادئه و قيمه و مفاهيمه السامية على أرض الواقع.

ص:370


1- 1) .المصدر نفسه:61- 62.

و لعل المحقّق-سامحه اللّه و إيّانا-لم يكن يحسب لهذه المضاعفات الخطيرة و النتائج المأساوية الّتي يسببها نشر مثل هذه الكتب.و اللّه العالم.

بيان هيئة كبار العلماء في الأراضي المقدسة

لمّا أحسّت هيئة كبار العلماء في الأراضي المقدّسة،بخطورة الموقف،و انّ التكفير ثمّ التفجير و ما ينشأ عنه من سفك الدماء و تخريب المجتمعات و...

يضاد أُصول الإسلام و مبادئه،أصدرت بياناً يُعرب عن وقوفهم في وجه أعداء الإسلام و المغفّلين المشغولين بالمسائل الخلافية،مكان التركيز على المسائل المتّفق عليها.

و إليك نصّ البيان:

أعلن مجلس هيئة كبار العلماء في بيان أصدره عن ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية و غيرها من التكفير و التفجير،و ما ينشأ عنه من سفك الدماء و تخريب المنشآت.و ما يترتّب عليه من إزهاق أرواح بريئة،و إتلاف أموال معصومة،و إخافة الناس،و زعزعة الأمن و الاستقرار.

أعلن أنّ الإسلام بريء من معتقد التكفير الخاطئ،و إنّ ما يجري في بعض البلدان من سفك للدماء البريئة و تفجير المساكن و المركبات و المرافق العامة و الخاصة و تخريب للمنشآت هو عمل إجرامي و الإسلام بريء منه و كذلك كلّ مسلم يؤمن باللّه و اليوم الآخر.

و أوضح البيان أنّ مَن يقوم بمثل هذه الأعمال من التفجير و التخريب بحجة التكفير إنّما هو تصرّف من صاحب فكر منحرف،و عقيدة ضالّة.فهو يحمل إثمه و جرمه فلا يحتسب عمله على الإسلام و لا على المسلمين المهتدين بهدى الإسلام،المعتصمين بالكتاب و السنّة،المتمسكين بحبل اللّه المتين، و إنّما هو

ص:371

محض إفساد و إجرام تأباه الشريعة و الفطرة.و لهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعة بتحريمه محذرة من مصاحبة أهله.

قال اللّه تعالى: «وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ * وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ * وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ». 1

و أوضح بيان مجلس هيئة كبار العلماء أنّ التكفير حكم شرعي مردّه إلى اللّه و رسوله،فكما أنّ التحليل و التحريم و الإيجاب إلى اللّه و رسوله،فكذلك التكفير،و ليس كلّ ما وصف بالكفر من قول أو فعل يكون كفراً أكبر مخرجاً من الملّة.

و لمّا كان مردّ حكم التكفير إلى اللّه و رسوله لم يجز أن نكفّر إلاّ من دلّ الكتاب و السنّة على كفره دلالة واضحة،فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة و الظن لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة.

و إذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات مع أنّ ما يترتّب عليها أقلّ ممّا يترتّب على التكفير فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات،و لذلك حذر النبي صلى الله عليه و آله و سلم من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر فقال:«...أيّما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال و إلاّ رجعت عليه...». (1)

نشكر اللّه سبحانه على وجود هؤلاء العلماء الواعين،الذين لا تأخذهم في اللّه لومة لائم.فشكراً لهم ثمّ شكراً شكراً.

ص:372


1- 2) .اقرأ البيان بتمامه في رسالة«التحذير من المجازية بالتكفير»:د-ج.

6

اشارة

ذرائع واهية في تضليل الشيعة

ما تقدّمت الإشارة إليه من ذرائع التكفير أو التفسيق،لم تكن مختصة بطائفة دون طائفة،بل كانت تستهدف عامّة المسلمين بفرقهم المختلفة.و نريد أن نتحدّث هنا عن أُمور يُضلّل بها طائفة خاصّة من المسلمين و هم الشيعة الإماميّة المتمسّكون بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته.

و قد أخذ الجُدَد من الكُتّاب-الذين لهم ولع بتمزيق الشمل و تفريق الصف - بنشرها و ترويجها،مركِّزين على الفوارق،و مُعرضين عن المشتركات،و كأنّه ليس بين تلك الطائفة و سائر المسلمين سوى هذه الفوارق.

إنّ الشيعة تشارك السنّة في أغلب الأُصول و الفروع و تفارقها في أُمور كلّها عند السنّة من الفروع و ليست من الأُصول،و الاختلاف في الفروع بين العلماء قائم على قدم و ساق منذ رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا،و نحن ندرسها على ضوء الكتاب و السنّة،و سيظهر للقارئ الكريم أنّ الخلاف في هذه المسائل لا يمت إلى الإيمان و الكفر بصلة على أنّ بعضها ممّا أُلصق بالشيعة و هم منه برآء براءة يوسف ممّا اتّهم به.

ص:373

1.عدم الاعتراف بخلافة الخلفاء

إنّ الشيعة ترفض خلافة الخلفاء و تعتقد بإمامة الأئمّة الاثني عشر.

أقول:إنّ الشيعة لا تعترف بخلافة الخلفاء،لأنّ الإمامة عندهم-بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم-مقام تنصيبيّ،لا انتخابي،و قد قام النبي صلى الله عليه و آله و سلم حسب الأخبار المتواترة بتنصيب وصيّه عند منصرفه من حجة الوداع إلى المدينة في أرض الغدير و قال مخاطباً أصحابه البالغين إلى ثمانين ألفاً أو أزيد:

«أ لستُ أولى بكم من أنفسكم»؟ قالوا:بلى.

قال:«من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه،اللّهم وال من والاه،و عاد من عاداه، و انصر من نصره،و اخذل من خذله».ثمّ قال:«اللّهم اشهد أنّي قد بلّغت».

و هو حديث متواتر رواه الصحابة و التابعون و العلماء في كلّ عصر و قرن،و قد احتفلت بنقله كتب التفسير و الحديث و التاريخ و السير.كما أُلّف في هذا الموضوع عشرات الموسوعات و مئات الكتب،و صاغه الشعراء في قصائدهم عبر القرون. (1)

و نحن نضرب عن ذلك صفحاً و نركّز على أمر آخر و هو:

هل الاعتقاد بخلافة الخلفاء من الأُصول؟ و هل كان إسلام الصحابة و إيمانهم في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مشروطاً بالإيمان بخلافة الخلفاء؟ و هل كان النبي يسأل الوافدين لاعتناق الإسلام عن إيمانهم بخلافتهم؟ أو انّها عند أهل السنّة

ص:374


1- 1) .لاحظ الغدير للأمين في 11جزءاً.يُذكر أنّ الحافظ المؤرخ شمس الدين الذهبي ممّن جزم بصدور حديث الغدير، [1]حيث قال عند ترجمته للمؤرخ الشهير أبي جعفر الطبري:جمع طرق حديث غدير خمّ في أربعة أجزاء،رأيت شطره،فبهرني سعة رواياته،و جزمت بوقوع ذلك.سير أعلام النبلاء:267/14برقم 175.

من الفروع و من شعب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حيث إنّهما من الواجبات المطلقة و لا يتحقّقان إلاّ بنصب الإمام.فيكون واجباً بحكم وجوب مقدّمته؟

و إن كنت في شكّ فاستمع لما نتلو عليك من كلمات أكابر أهل السنّة:

قال الغزالي:«اعلم أنّ النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمّات،و ليس أيضاً من فنّ المعقولات،بل من الفقهيّات». (1)

و قال الآمدي:«و اعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أُصول الديانات،و لا من الأُمور اللابدّيّات،بحيث لا يسع المكلَّف الإعراض عنها و الجهل بها». (2)

و قال الايجي:و هي عندنا من الفروع،و إنّما ذكرناها في علم الكلام تأسّياً بمن قبلنا». (3)

و قال التفتازاني:«لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة،بعلم الفروع أليق،لرجوعها إلى أنّ القيام بالإمامة،و نصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة،من فروض الكفايات،و هي أُمور كليّة تتعلّق بها مصالح دينية أو دنيوية،لا ينتظم الأمر إلاّ بحصولها،فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة من غير أن يقصد حصولها من كلّ أحد.و لا خفاء في أنّ ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية». (4)

و إذا كانت الإمامة،بعامّة أبحاثها من الفروع،فما وجه إقحام ذلك في عداد المسائل الأُصولية،كما صنع إمام الحنابلة،و قال:«خير هذه الأُمّة بعد نبيّنا،

ص:375


1- 1) .الاقتصاد في الاعتقاد:234. [1]
2- 2) .غاية المرام في علم الكلام:363. [2]
3- 3) .المواقف:395. [3]
4- 4) .شرح المقاصد:271/2. [4]

أبو بكر؛و خيرهم بعد أبي بكر،عُمَر؛و خيرهم بعد عُمر،عُثْمان؛و خيرهم بعد عثمان،عليّ؛رضوان اللّه عليهم،خلفاء راشدون مهديُّون».

و مثله، (1)أبو جعفر الطحاوي الحنفي في العقيدة الطحاوية،المسمّاة ب«بيان عقيدة السنّة و الجماعة»،حيث قال:«و تثبت الخلافة بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم لأبي بكر الصِّدّيق،تفضيلاً،و تقديماً على جميع الأُمّة،ثمّ لِعُمر بن الخطاب،ثمّ لعثمان بن عفّان،ثمّ لعليّ بن أبي طالب». (2)

و قد اقتفى أثرهما الشيخ أبو الحسن الأشعري،عند بيان عقيدة أهل الحديث و أهل السُّنة،و الشيخ عبد القاهر البغدادي في بيان الأُصول التي اجتمع عليها أهل السنّة. (3)

و هذا الصراع في المسألة الفرعيّة،أراق الدماء الطاهرة،و جرّ على الأُمّة الويلَ و الثُّبُور،و عظائم الأُمور،فما معنى إقحام الاعتقاد بالأحكام الفرعية في قائمة العقائد؟ و إن هذا إلاّ زَلّة لا تُقال.

2.نظرة الشيعة إلى أصحاب الرسول نظرة سيّئة

و ممّا يؤاخذ به الشيعة هو أن نظرتها إلى أصحاب رسول اللّه نظرة سيّئة.

ص:376


1- 1) .كتاب السنّة:49،المطبوع ضمن رسائل بإشراف حامد محمد الفقي.و هذا الكتاب أُلّف لبيان مذاهب أهل العلم و أصحاب الأثر و أهل السُّنة،و وصف مَن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طغى فيها أو عاب قائلها،بأنّه مخالف مبتدع و خارج عن الجماعة،زائل عن منهج السنّة و سبيل الحق.
2- 2) .شرح العقيدة الطحاوية، [1]للشيخ عبد الغني الميداني الحنفي الدمشقي:471،و [2]أخذنا العبارة من المتن.و توفّي الطحاوي عام 321ه.
3- 3) .لاحظ«الإبانة عن أُصول الديانة»:190،الباب16؛و«الفَرْق بين الفِرَق»:350.و [3]لاحظ«لُمَع الأدلّة»للإمام الأشعري:114؛و«العقائد النَّسَفية»:177. [4]

أقول:إنّ نظرة الشيعة إلى أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما هي نفس نظرة أئمتهم الهداة إليهم،فهذا هو الإمام علي عليه السلام يقول في حقّهم:

«أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحق؟ أين عمّار،و أين ابن التيّهان،و أين ذو الشهادتين،و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية؟». (1)

و هذا هو الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام يدعو لأصحاب جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الذين أحسنوا الصحبة و يقول:«اللّهم و أصحاب محمد خاصّة الذين أحسنوا الصحبة و الذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، و استجابوا له حيث أسمعهم حجّة رسالاته و فارقوا الأزواج و الأولاد في إظهار كلمته،و قاتلوا الآباء و الأبناء في تثبيت نبوّته،و انتصروا به،و مَنْ كانوا منطوين على محبته،يرجون تجارة لن تبور في مودته»إلى أن قال:«اللّهمّ و أوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان خير جزائك». (2)

إنّ الّذي يميّز الشيعة عن غيرهم،هو قولهم بأنّ حكم الصحابة،حكم التابعين،فكما أنّ فيهم الصالح و الطالح،و العادل و الفاسق،فهكذا الصحابة ففيهم عدول اتقياء بهم يستدرّ الغمام،و فيهم من سماه سبحانه،فاسقاً و قال:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا». 3

و فيهم من ترك النبي قائماً و هو يخطب و أعرض عن الذكر و الصلاة و اشتغل بالتجارة،قال سبحانه: «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما

ص:377


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 182. [1]
2- 2) .الصحيفة السجادية:الدعاء رقم4. [2]

عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ». 1

لنفترض أنّ بين الشيعة من لا يحب بعض الصحابة لا لكونهم صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم،بل لما صدر عنهم من أعمال لا تنطبق على موازين الشريعة، و على كلّ تقدير فالشيعي إمّا مصيب في اعتقاده و اجتهاده و إمّا مخطئ؛و على الأوّل له أجران،و على الثاني له أجر واحد.

كيف لا و قد حدث هذا التشاجر و التعارض بين صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنفسهم، فهذا هو الإمام البخاري ينقل لنا مشاجرة حامية بين سعد بن عبادة الذي قال لسعد بن معاذ في محضر النبي صلى الله عليه و آله و سلم«كذبتَ لعمر اللّه لا تقتله و لا تقدر على قتله،و لو كان من أهلك ما أحببتَ أن يُقتل،فقام أسيد بن حُضير-و هو ابن عم سعد بن معاذ-و قال لسعد بن عبادة:كذبت،و عمر اللّه لنقتلنّه،فإنّك منافق تجادل عن المنافقين». (1)

و كم لهذه المشاجرات الساخنة و التراشق بالاتّهامات بين الصحابة من نظير، و مع ذلك لم يعتبرها أحد موجباً للكفر أو الخروج عن ربقة الإيمان.

ثمّ ما ذا يفعل الشيعة إذا وجدوا في أصحّ الكتب عند أهل السنّة بعد كتاب اللّه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:«يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُحلَّئون عن الحوض،فأقول:يا ربّ أصحابي،فيقول إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك،إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى»،و غير ذلك من الروايات الّتي أخرجها الإمام البخاري في صحيحه في باب الحوض و غيره. (2)

ص:378


1- 2) .صحيح البخاري:118/5- 119،في تفسير سورة النور.
2- 3) .لاحظ جامع الأُصول:10/11.

و ما ذنب الشيعي إذا وجد في أصحّ الكتب لدى إخوانه السنة انّ صحابياً جليلاً كأسيد بن حُضير يصف سعد بن عبادة ذلك الصحابي الجليل بالنفاق و يقول:إنّك منافق تجادل عن المنافقين؟!

فإذا صحّ ذلك العمل من الصحابي بحجّة أنّه وقف على نفاق أخيه الصحابي الآخر،فلما ذا لا يصحّ صدوره من الآخرين إذا وقفوا على أنّ بعض من كان حول النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد اقترف ما لا يرضى به اللّه و رسوله صلى الله عليه و آله و سلم فيبدي عدم رضاه عن عمله كما أبداه أسيد بن حُضير؟!

أ فبعد هذه الحقائق،يصحّ أن يعدّ الاعتقاد بطهارة كلّ صحابي من الأُصول ممّا يناط بها الإيمان و الكفر.

ثمّ هل كان النبي يسأل الوافدين من مختلف الأقطار عن اعتقادهم بعدالة أصحابه و طهارتهم أو انّها مسألة تاريخية،يجب أن تطرح على صعيد البحث،و لكلّ دليله و نظره دون أن يخرج أحد الطرفين عن حظيرة الإسلام.

ثمّ إنّ لعضد الدين الإيجي في«المواقف»و شارحه السيد الجرجاني في شرحها كلاماً في عدم جواز تكفير الشيعة بمعتقداتهم نأتي بنصهما متناً و شرحاً قد ذكرا الوجوه و ردّها:

الأوّل:أنّ القدح في أكابر الصحابة الذين شهد لهم القرآن و الأحاديث الصحيحة بالتزكية و الإيمان (تكذيب) للقرآن و (للرسول حيث أثنى عليهم و عظّمهم) فيكون كفرا.

قلنا:لا ثناء عليهم خاصة،أي لا ثناء في القرآن على واحد من الصحابة بخصوصه و هؤلاء قد اعتقدوا انّ من قدحوا فيه،ليس داخلاً في الثناء العام الوارد فيه و إليه أشار بقوله:(ولاهم داخلون فيه عندهم) فلا يكون قدحهم تكذيباً

ص:379

للقرآن،و أمّا الأحاديث الواردة في تزكية بعض معين من الصحابة و الشهادة لهم بالجنّة فمن قبيل الآحاد،فلا يكفّر المسلم بإنكارها أو تقول ذلك،الثناء عليهم،و تلك الشهادة لهم مقيّدان،بشرط سلامة العاقبة و لم توجد عندهم، فلا يلزم تكذيبهم للرسول.

الثاني:الإجماع منعقد من الأُمّة،على تكفير من كفّر عظماء الصحابة،و كلّ واحد من الفريقين يكفّر بعض هؤلاء العظماء فيكون كافراً.

قلنا:هؤلاء،أي من كفّر جماعة مخصوصة من الصحابة،لا يسلِّمون كونهم من أكابر الصحابة و عظمائهم،فلا يلزم كفره.

الثالث:قوله عليه السلام:«من قال لأخيه المسلم يا كافر،فقد باء به-أي بالكفر - أحدهما».

قلنا:آحاد،و قد أجمعت الأُمّة على أنّ إنكار الآحاد ليس كفراً،و مع ذلك نقول:

المراد مع اعتقاد أنّه مسلم،فإنّ من ظن بمسلم أنّه يهودي أو نصراني فقال له يا كافر لم يكن ذلك كفراً بالإجماع. (1)

أقول:إنّ القدح في الصحابة غير تكفيرهم؛ثمّ إنّ القدح في البعض منهم - الذين لا يتجاوزون عدد الأصابع-دون جميعهم.

ثمّ القدح ليس بما أنّهم صحابيون،بل بما أنّهم أُناس مسلمون،و لو كان القدح كفراً،فقد قدح فيهم القرآن فسمّى بعضهم فاسقاً،و قال: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا...». 2

نعم إنّ الخلاف الذي دام قروناً،لا يرتفع بيوم أو اسبوع،و لكن رجاؤنا

ص:380


1- 1) .السيد الشريف الجرجاني:شرح المواقف:344/8،ط مصر.

سبحانه أن يُلمَّ شعث المسلمين و يجمع كلمتهم،و يفرّق كلمة الكفر و أهله.

3.الشيعة لا تعمل بصحيحي البخاري و مسلم

إنّ الشيعة لا تعمل بالصحيحين لدى السنّة،أعني:صحيحي البخاري و مسلم!!

و هل الأمر كذلك،أو أنّها تعمل بما صحّ عندهم من السنّة من غير فرق بين الصحيحين و غيرهما من السنن:نحو سنن أبي داود،و سنن الترمذي،و سنن النسائي،و ابن ماجة،و ما صحّ عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام الذين جعلهم اللّه أعدال الكتاب و قرناؤه و قال:

«إنّي تارك فيكم الثقلين:كتاب اللّه و عترتي». (1)

و أخيراً نقول:لم يكن الأخذ بالصحيحين ملاكاً للإيمان،بشهادة أنّ المسلمين كانوا يعملون بسنّة رسول اللّه و يروونها قبل أن يولد البخاري و مسلم و يكون لهما أثر في الوجود،فمتى أصبح البخاري و مسلم أصلاً و مناراً و محوراً للإيمان و الكفر؟! مع أنّ الأصل هو سنّة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و عند الشيعة سنّته صلى الله عليه و آله و سلم المروية عن طريق رجال عدول،خصوصاً ما روي عن طريق أهل بيته المطهرين بأسانيد عالية و نقية من كلّ شائبة.

4.عصمة الأئمّة الاثني عشر

قالت الشيعة بعصمة الأئمّة الاثني عشر،و العصمة من خصائص الأنبياء.

أقول:إنّ الشيعة الإمامية على أنّ الأئمّة الاثني عشر معصومون من الذنب

ص:381


1- 1) .حديث مستفيض أو متواتر.لاحظ مسند الإمام أحمد:371/4؛صحيح مسلم:1873/4؛و سنن الترمذي:665/5.

و الخطأ،و لا ينسون شيئاً من الأحكام.

و يقع الكلام في موضعين:

أ.ما هو الدليل على عصمتهم؟

ب.القول بالعصمة لا يلازم النبوة.

أمّا الأوّل:فهو خارج عن موضوع بحثنا،و موجز القول فيه:إنّه ليست عصمتهم فكرة ابتدعتها الشيعة،و إنّما دلّهم عليها في حقّ العترة الطاهرة كتاب اللّه و سنّة رسوله،قال سبحانه: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» 1 ،و ليس المراد من الرجس إلاّ الرجس المعنوي،و أظهره هو الفسق.

و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«علي مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور معه كيفما دار». (1)و من دار معه الحقّ كيفما دار لا يعصي و لا يخطأ.

و قوله صلى الله عليه و آله و سلم في حقّ العترة:«إنّي تارك فيكم الثقلين:كتاب اللّه و عترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً». (2)فإذا كانت العترة عِدل القرآن،و القرآن هو كلام اللّه تعالى،فاللازم أن تكون معصومة كالكتاب،لا يخالف أحدهما الآخر.

و من ألطف ما استُدلّ به على عصمة الإمام-بوجه مطلق-هو ما ذكره الرازي في تفسيره حول قوله: «أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» 4 قال ما هذا نصّه:إنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية،و من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم و القطع لا بدّ و أن يكون معصوماً عن الخطأ؛

ص:382


1- 2) .حديث مستفيض،رواه الخطيب في تاريخه:321/14 و الهيثمي في مجمعه:236/7و غيرهما.
2- 3) .تقدّم بعض مصادره.

إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته،فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ،و الخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه،فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر و النهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، و أنّه محال،فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم،و ثبت أنّ كلّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ،فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ و أن يكون معصوماً. (1)

و أمّا الثاني:أعني:انّ العصمة لا تلازم النبوة،فهو أمر واضح لمن درس حياة الصالحين و الصالحات.و نذكر على سبيل المثال:

إنّ مريم العذراء كانت معصومة بنصّ الكتاب العزيز حيث طهّرها اللّه سبحانه من المساوئ و السيّئات و اصطفاها على نساء العالمين مع أنّها لم تكن نبيّة،قال تعالى: «وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ». 2

و هل المراد من التطهير هو تطهيرها من الذنوب و الآثام،أو تطهيرها من مسّ الرجال؟

الظاهر هو الأوّل.

لأنّ امرأة عمران أُمّ مريم طلبت من اللّه سبحانه أن يعيذ«مريم»و ذرّيّتها من الشيطان الرجيم و قال: «وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» 3 .فاستجاب سبحانه دعوتها فصانها سبحانه من وساوس

ص:383


1- 1) .مفاتيح الغيب:144/10. [1]

الشيطان و دعوته إلى العصيان،فمن عُصِم من وساوسه و دعوته فهو مطهّر من الذنوب.

و اللّه سبحانه يشير إلى استجابة دعوتها تارة بقوله: «فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً». 1

و أُخرى بقوله في المقام: «وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ».

و تفسير التطهير بمسّ الرجال-أعني:القسم المحرم منه-لا دليل عليه بعد إطلاق الآية في أمر التطهير و صيانته سبحانه إيّاها من الشيطان الرجيم.

أضف إلى ذلك اتّفاق المفسّرين على أنّ المراد من التطهير في قوله سبحانه: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» هو التنزيه من الذنوب و مساوئ الأخلاق و سيئات الأعمال.

من غير فرق بين تفسير أهل البيت بالعترة الطاهرة الّذين جمعهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تحت الكساء و قال:«اللّهمّ إنّ لكلّ نبي أهل بيت و هؤلاء أهل بيتي». (1)أو فسّرت بنساء النبي.

5.التقية من المسلم المخالف

إنّ الشيعي يتّقي من المسلم الذي يخالفه في العقيدة،مع أنّ التقية الّتي نزل بها الذكر الحكيم،هي تقية المسلم من الكافر لا المسلم من المسلم،قال سبحانه: «مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ». 3

فقد نزلت الآية في حقّ عمّار الّذي أظهر الكفر و أبطن الإيمان تقيّة من كفّار

ص:384


1- 2) .تفسير الطبري:125/22؛و [1]الدر المنثور:198/5- 199. [2]

قريش لصيانة دمه.

و لكنّ الشيعي،يتّقي من المسلم المخالف،فيقول على خلاف عقيدته و يعمل على خلاف مذهبه.

أقول:التقية شعار كلّ مضطهد صُودرت حرياته و حقوقه،و لاقى ضروبَ المحن و صنوف الضيق إلى درجة اضطرّ معها إلى استعمال التقية في تعامله مع المخالفين و ترك مظاهرتهم،فلو كانت التقية أمراً مذموماً أو محرّماً فالأخ المسلم الّذي صادر حريات أخيه،هو الأولى بتحمل وزر عمل هذا المضطهد الضعيف الّذي ليس له سلاح في حفظ دمه و عرضه و ماله إلاّ بالمسايرة و المداراة و التكتّم على معتقداته.

و لعمر الحق لو سادت الحرية جميع الفرق الإسلامية،و تحمّلت كلّ فرقة آراء الفرق الأُخرى،لتجدنّ الشيعة في طليعة الفرق التي تهتف بآرائها و معتقداتها بكلّ صراحة و وضوح،و لأُلغيت هذه اللفظة (التقية) من قاموس حياتها،و لساد الوئام و الانسجام،و ولّى النزاع و الخصام.

نعم مورد الآيات الواردة في القرآن حول التقية،هي التقية من الكافر لا من المسلم،لكن الملاك واحد،فانّ ملاك التقيّة هو التحرّز من الضرر المرتقب عند التظاهر بالخلاف،و هذا بنفسه موجود في التقية من المسلم الذي لا يحترم أخاه المسلم،و هذا ليس بأمر بديع،بل صرّح به جمع من الفقهاء و المفسّرين.

1.قال الشافعي:تجوز التقية بين المسلمين كما تجوز بين الكافرين محاماة عن النفس. (1)

2.و قال الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه: «أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» :

ص:385


1- 1) .تفسير النيسابوري في هامش تفسير الطبري:178/3. [1]

ظاهر الآية يدلّ على أنّ التقية إنّما تحل مع الكفّار الغالبين،إلاّ أنّ مذهب الشافعي أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين و الكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس،و قال:التقية جائزة لصون النفس،و هل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى الله عليه و آله و سلم:«حرمة مال المسلم كحرمة دمه»،و قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«من قتل دون ماله فهو شهيد». (1)

3.و نقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه«إيثار الحقّ على الخلق»ما نصّه:و زاد الحق غموضاً و خفاءً أمران:أحدهما:خوف العارفين-مع قلّتهم-من علماء السوء و سلاطين الجور و شياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن،و إجماع أهل الإسلام،و ما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ،و لا برح المحقُّ عدوّاً لأكثر الخلق،و قد صحّ عن أبي هريرة أنّه قال-في ذلك العصر الأوّل-:حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعاءين،أمّا أحدهما فبثثته في الناس،و أمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. (2)

4.و قال المراغي في تفسير قوله سبحانه: «مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» :و يدخل في التقية مداراة الكفرة و الظلمة و الفسقة،و إلانة الكلام لهم،و التبسّم في وجوههم،و بذل المال لهم،لكف أذاهم و صيانة العرض منهم،و لا يعدّ هذا من الموالاة المنهي عنها،بل هو مشروع،فقد أخرج الطبراني قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«ما وقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة». (3)

ص:386


1- 1) .مفاتيح الغيب:13/8 [1]في تفسير الآية.
2- 2) .محاسن التأويل:82/4. [2]
3- 3) .تفسير المراغي:136/3. [3]

6.قولهم بالبداء للّه

و ممّا يؤاخذ به الشيعة،إثباتهم البداءَ للّه و معناه:ظهور ما خفى عليه سبحانه، و هو يلازم جهله تعالى بالمستقبل.

أخي العزيز:لو أُريد من قولهم«بدا للّه»ما فسّرتَ به،فالحقّ معك فإنّه عقيدة باطلة و لكن-يا للأسف-قد فسّرت كلام الشيعة بغير ما يقصدون منه،فإنّهم يريدون به أنّه سبحانه أبدى للناس ما خَفي عليهم،و أمّا التعبير عن هذا المعنى الصحيح بقولهم«بدا للّه»فهو من باب المجاز أوّلاً،أو من باب التأسّي بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم ثانياً على ما رواه البخاري في صحيحه في باب حديث أبرص و أقرع و أعمى في بني إسرائيل عن أبي هريرة أنّه سمع من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ ثلاثة في بني إسرائيل:أبرص و أقرع و أعمى بدا للّه أن يبتليهم.... (1)

و لو احفيت الحقيقة من كتب الفريقين لوقفت على أنّ النزاع في البداء نزاع لفظي،فالقائل بعدم الجواز يريد به معناه الحقيقي الّذي يستلزم الجهل للّه، و القائل بالجواز يريد معناه المجازي أي إبداء من اللّه لما خفى على الناس، و إن كان يتخيّل في بادئ الأمر انّه بداء له سبحانه.

و أمّا مورد البداء فهو عبارة عن تغيير مصير العباد،بحسن أفعالهم و صلاح أعمالهم من قبيل:الصدقة و الإحسان،وصلة الرحم،و برّ الوالدين، و الاستغفار،و التوبة،و شكر النعمة و أداء حقّها،إلى غير ذلك من الأُمور التي تغيّر المصير و تبدّل القضاء،و تفرّج الهموم و الغموم،و تزيد في الأرزاق و الأمطار و الأعمار و الآجال؛كما أنّ لمحرّم الأعمال و سيّئها من قبيل:البخل و التقصير،و سوء الخلق،

ص:387


1- 1) .الصحيح:171/4- 172،كتاب الأنبياء.

و قطيعة الرحم،و عقوق الوالدين،و الطيش،و عدم الإنابة،و كفران النعمة،و ما شابهها تأثيراً في تغيير مصيرهم بعكس ذلك من إكثار الهموم،و القلق، و نقصان الأرزاق و الأمطار و الأعمار و الآجال،و ما شاكلها.

فليس للإنسان مصير واحد،و مقدّر فارد؛يصيبه على وجه القطع و البتّ، و يناله شاء أو لم يشأ،بل المصير أو المقدر يتغيّر و يتبدّل بالأعمال الصالحة و الطالحة و شكر النعمة و كفرانها،و بالإيمان و التقوى،و الكفر و الفسوق.و هذا ممّا لا يمكن-لمن له أدنى علاقة بالكتاب و السنّة-إنكاره أو ادّعاء جهله.

و هذا ما نراه جلياً في عدة موارد من الذكر الحكيم:

منها:قوله سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً». 1

ترى أنّه عليه السلام يجعل الاستغفار علّة مؤثرة في نزول المطر،و كثرة الأموال و البنين،و جريان الأنهار إلى غير ذلك،و أمّا بيان كيفيّة تأثير عمل العبد في الكائنات الطبيعية،فيطلب من محلّه.

و قوله سبحانه: «إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ». 2

و قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» . (1)

ص:388


1- 3) .الأنفال:53. [1]

7.اعتقادهم بالمهدي الموعود

إنّ الشيعة و إن كانت تعتقد بالإمام المهدي الّذي يُظهره اللّه سبحانه في آخر الزمان لبسط العدل،و إعلاء كلمة الحق،و لكن هذه العقيدة ليست مختصة بهم،بل هي عقيدة اتّفق عليها المسلمون إلاّ من أصمّه اللّه.و قد تضافر قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم:«لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يخرج رجل من ولدي فيملأها عدلاً و قسطاً كما ملئت جوراً و ظلماً».

و ليس هناك اختلاف بين الفريقين إلاّ أنّ الشيعة قاطبة و قليلاً من السنّة يقولون بأنّه ولد عام (255ه) و هو حيٌّ يُرزق و له حياة طبيعية و الناس يرونه و لا يعرفونه،و أكثر السنّة يقولون:إنّه سيولد في آخر الزمان.

و قد ألّف عدّة من محقّقي السنّة و محدّثيهم كتباً حول المهدي و ألّف أخيراً الدكتور عبد الباقي كتاباً في نفس الموضوع أسماه«بين يدي الساعة»فقال:أمّا عقيدة السُّنة بالنسبة إلى المهدي فإنّ المشكلة ليست في حديث أو حديثين أو راو أو راويين،إنّها مجموعة من الأحاديث و الأخبار تبلغ الثمانين تقريباً، اجتمع على تناقلها مئات الرواة،و أكثر من صاحب كتاب صحيح.

لما ذا نردّ كلّ هذه الكمّية؟ أ كلّها فاسدة؟ لو صحّ هذا الحكم لانهار الدين - و العياذ باللّه نتيجة تطرّق الشك و الظن الفاسد إلى ما عداها من سنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ثمّ إنّي لا أجد خلافاً حول ظهور المهدي،أو حول حاجة العالم إليه،و إنّما الخلاف حول من هو،حسني أو حسيني؟ سيكون في آخر الزمان،أو موجود الآن؟ خفي و سيظهر؟ ظهر أو سيظهر؟ و لا عبرة بالمدّعين الكاذبين،فليس لهم اعتبار.

ص:389

ثمّ إنّي لا أجد مناقشة موضوعية في متن الأحاديث،و الذي أجده إنّما هو مناقشة و خلاف حول السند،و اتّصاله و عدم اتّصاله،و درجة رواته،و من خرّجوه،و من قالوا فيه.

إذا نظرنا إلى ظهور المهدي نظرة مجرّدة فإنّنا لا نجد حرجاً من قبولها و تصديقها،أو على الأقلّ عدم رفضها.فإذا تؤيّد ذلك بالأدلّة الكثيرة، و الأحاديث المتعددة،و رواتها مسلمون مؤتمنون،و الكتب التي نقلتها إلينا كتب قيمة،و الترمذي من رجال التخريج و الحكم،بالإضافة إلى أنّ أحاديث المهدي لها ما يصحّ أن يكون سنداً لها في البخاري و مسلم،كحديث جابر في مسلم الذي فيه:«فيقول أميرهم (أي لعيسى):تعال صلّ بنا» (1)،و حديث أبي هريرة في البخاري،و فيه:«كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح بن مريم و إمامكم منكم» (2)،فلا مانع من أن يكون هذا الأمير،و هذا الإمام هو المهدي.

يضاف إلى هذا انّ كثيراً من السلف-رضي اللّه عنهم-لم يعارضوا هذا القول،بل جاءت شروحهم و تقريراتهم موافقة لإثبات هذه العقيدة عند المسلمين. (3)

8.حلّية المتعة

اشارة

و ممّا يُشنع به على الشيعة قولهم بجواز نكاح المتعة،و هو عبارة عن تزويج المرأة الحرة الكاملة نفسها-إذا لم يكن بينها و بين الزوج مانع نسب أو سبب أو

ص:390


1- 1) .صحيح مسلم:59/1،باب نزول عيسى.
2- 2) .صحيح البخاري،بشرح الكرماني:88/14.
3- 3) .بين يدي الساعة للدكتور عبد الباقي:123- 125.

رضاع-بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا و الاتّفاق،فإذا انتهى الأجل تبين المرأة من الزوج من غير طلاق،و يجب عليها مع الدخول-إذا لم تكن يائسة - أن تعتد عدة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض و إلاّ فبخمسة و أربعين يوماً.

و قد أجمع أهل القبلة على أنّه سبحانه شرّع هذا النكاح في صدر الإسلام و عمل به الصحابة انّما الاختلاف في كونه على حليته أو أنّه منسوخ.

و قد ذهب أكثر المفسرين إلى أنّ قوله سبحانه: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» 1 نزل في هذا الشأن. (1)

و على كلّ تقدير سواء أقلنا بأنّها غير منسوخة أو قلنا بأنّها منسوخة فهي من المسائل الفقهية،الّتي تضاربت فيها الأقوال،و ليس الخلاف فيها معياراً للتكفير،أو التفسيق.

هذه بعض المؤاخذات على عقائد الشيعة.

أكاذيب و مفتريات

و هناك أكاذيب و مفتريات نسبوها إلى الشيعة،نظير:

1.تأليههم لعلي و أولاده و أنّهم يعبدونهم و يعتقدون بألوهيّتهم.

2.تحريف القرآن الكريم و انّه حذف منه سور أو آيات.

3.نسبة الخيانة لأمين الوحي و انّه سبحانه بعثه لإبلاغ الرسالة إلى علي، فخان فجاء بها إلى محمد صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:391


1- 2) .تفسير الطبري:9/5؛ [1]أحكام القرآن:178/2؛سنن البيهقي:205/7؛و جامع أحكام القرآن:13/5،إلى غير ذلك من كتب الحديث و التفسير.

إلى غير ذلك من المهازل و المنكرات التي افتعلها الكذّابون الأفّاكون الذين لا يخافون حساب اللّه يوم الورود،و الشيعة منها برآء؛و هذه كتبهم،و هؤلاء علماؤهم و خطباؤهم كلّهم متّفقون على خلاف هذه النِّسب.

و نعم ما قال المرحوم محمد جواد مغنية:

إنّ لكلّ شيء دليلاً إلاّ الافتراء على الشيعة.

و إنّ لكلّ شيء نهاية إلاّ الكذب على الشيعة.

و في الختام نقدّم كلمة فيها رضى اللّه و رضى رسوله و صلاح الأُمّة جميعاً.

نصيحة للمتطرّفين

إنّ للّه سبحانه يوماً،تقام فيه الموازين،و تنشر فيه الصحف،و تتمثّل فيه الأعمال «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» 1 يُحاسب فيه العباد على أعمالهم صغيرها و كبيرها.

فعلى مَن يرمي طائفة بالكفر و الشرك و غيرها من مساوئ الأعمال و سيّئات الأفعال،أن يذكر ذلك اليوم العصيب،ثمّ يكتب عن عباد اللّه ما شاء و كيف شاء،و ليعلم أنّ رمي أيّة طائفة من الطوائف الإسلامية بالكفر،تلاعب بدمائهم و أعراضهم و أموالهم،و هو عند اللّه ليس بالأمر الهيّن.

ثمّ إنّ في القرآن الكريم و سنّة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم بياناً شافياً في كلّ ما يتنازع فيه،فعلى المتنازعين في المسائل المختلفة الرجوع إلى ذينك المصدرين،

ص:392

و الصدور عنهما دون رأي مسبق فعندئذٍ تجدون فيهما بياناً شافياً.

كما أنّ على مفكّري الأُمّة الإسلامية و علمائها الواعين عقد مؤتمر أو مؤتمرات لدراسة هذه المسائل و يُدعى إليها رءوس الطوائف الإسلامية للمشاركة فيها.

و إذا صلُحت النيّات،فيكون التوفيق-بإذن اللّه-حليفاً لهم،يقول سبحانه:

«وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ». 1

هذه كلمتي أُقدّمها لإخواني المسلمين عسى أن أكون مأجوراً بهذا التذكير كما يقول سبحانه:

«وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ». 2

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

عاشر شهر صفر الخير

من شهور عام 1425ه

ص:393

ص:394

الفصل الرابع:البدعة و آثارها الموبقة

اشارة

ص:395

ص:396

1

اشارة

البدعة و الاتجاهان في تفسيرها

البدعة في اللغة

هو الفعل أو القول لا عن سابق مثال،قال ابن فارس:البدعة:ابتداع الشيء و صنعه لا عن مثال،نحو قولهم:أبدعتُ الشيء قولاً أو فعلاً إذا ابتدعتَه لا عن مثال سابق.و اللّه بديع السماوات و الأرض؛و العرب تقول:فلان بدع في هذا الأمر،قال تعالى: «ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» 1 ،أي ما كنت أوّل. (1)

و في«النهاية»لابن الأثير:البديع:المخترع لا عن مثال. (2)

و قال ابن منظور في«اللسان»:بَدَع الشيء يبدعه بدعاً و ابتدعه:أنشأه و بدعه، و البديع و البدع:الشيء الذي يكون أوّلاً،و البدعة:الحدث و ما ابتدع من الدين بعد الإكمال. (3)

ص:397


1- 2) .المقاييس:209/1، [1]مادة«بدع».
2- 3) .النهاية:107/1.
3- 4) .لسان العرب:342/1، [2]مادة«بدع»

و قد جمع ابن منظور في كلامه هذا،بين المعنى اللغوي:(الشيء الّذي يكون أوّلاً)،و المعنى الاصطلاحي:(ما ابتدع في الدين بعد الإكمال).و لإيضاح المعنيين نقول:

ثمّة اتّجاهان في تفسير البدعة:

الأوّل:التزم المعنى اللغوي،فشمل كلّ أمر مستحدث لم يكن في عصر الرسالة،سواء أ كان صحيحاً أم باطلاً.و بعبارة أُخرى:كلّ فعل لم يعهد في عصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

الثاني:التزم المعنى الاصطلاحي بين العلماء،و هو التّدخل في أمر الدين و إدخال ما ليس منه فيه.

الاتّجاه الأوّل:و عليه مضى جماعة من الشوافع كالعز بن عبد السلام، و جماعة من المالكية منهم القرافي.

و انتهى ذلك الاتجاه إلى تقسيم البدعة-وفق تقسيم الأحكام-إلى أقسام خمسة،و هي:

بدعة واجبة،و بدعة محرمة،و بدعة مكروهة،و بدعة مباحة،و بدعة مندوبة.

و قد ضربوا لكلّ قسم منها أمثلة.

فالبدعة الواجبة مثّلوا لها بتعلّم العلوم التي يفهم بها كلام اللّه تعالى و رسوله صلى الله عليه و آله و سلم،بحكم أنّ ذلك مقدّمة لحفظ الشريعة و العمل بها،و مقدّمة الواجب أمر واجب.

و البدعة المحرمة مثّلوا لها بالعقائد الّتي ظهرت بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الّتي تضاد الكتاب و السنّة الشريفة،و الأفعال الّتي يؤتى بها باسم الشريعة لم يكن لها

ص:398

أصل في الشرع المقدّس.

و البدعة المندوبة فمِثلُ إحداث المدارس و بناء القناطر.

و البدعة المكروهة كزخرفة المساجد.

و البدعة المباحة هو بناء ناطحات السحاب و التنوع في الملابس.

و ممّا يلاحظ على الاتّجاه الآنف الذكر هو أنّ المتبادر من البدعة في الكتاب و السنّة هو الأمر المذموم،و الأمر القبيح كما سيوافيك بيانه.

فإذا كان هذا المتبادر منها فما هو المبرّر لرفض ما هو الشائع بالكتاب و السنّة و الأخذ بالمعنى اللغوي ثمّ تقسيمها إلى أقسام خمسة؟!

و يبدو أنّ الدافع لنشوء هذا الاتّجاه هو قول عمر في صلاة التراويح في شهر رمضان:نِعْمَتِ البدعةُ هذه كما أخرجه البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنّه قال:خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلّي الرجل لنفسه،و يصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط،فقال عمر:إنّي أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل،ثمّ عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب،ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى و الناس يصلّون بصلاة قارئهم،قال عمر:نعم البدعةُ هذه،و الّتي ينامون عنها أفضل من الّتي يقومون. (1)

فلمّا سمّى عمر الأمر المسنون عندهم بالبدعة،صار ذلك سبباً لنشوء الاتّجاه،و لو لا ذلك لما كان لهذا الاصطلاح من أثر بين العلماء و في كتبهم.

و ربما يبرّر هذا الاتّجاه (تقسيم البدعة) بما رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:«من سنّ سنّة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة،و من سنّ

ص:399


1- 1) .صحيح البخاري:44/3،باب فضل من قام رمضان من كتاب الصوم.

سنّة سيّئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة». (1)

و هذا التبرير في غير محلّه،للفرق الواضح بين البدعة و السنّة،لأنّ المتبادر من البدعة في عصر نزول القرآن هو الأمر المذموم كما يشهد بذلك الكتاب العزيز و السنّة النبوية،و لذلك صار تقسيمه إلى الأقسام الخمسة تقسيماً في غير محلّه و إن كان صحيحاً حسب المعنى اللغوي.

و أمّا السنّة في اللغة فهي الطريقة و السيرة من غير فرق بين كونها حسنة أو سيئة،و إنّما يعلم حالها عن طريق إضافتها إلى الشرع المقدّس أو غيره.قال الهذلي:

فلا من سنّة أنتَ سرتَها فأوّل راض سنّةً من يسيرها

يقول ابن منظور:الأصل في السنّة:الطريقة و السيرة،فإذا أُطلقت في الشرع فإنّما يراد بها ما أمر به النبي صلى الله عليه و آله و سلم و نهى عنه و ندب إليه قولاً و فعلاً ممّا لم ينطق به الكتاب العزيز. (2)

و لذلك نرى أنّ السنّة أُضيفت في القرآن الكريم إلى اللّه سبحانه و إلى غيره، فقال تعالى: «سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ». 3

و قال: «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ». 4

نعم اصطبغ لفظ السنّة في عصر الصحابة و التابعين بلون خاص من القداسة، فأصبح يستعمل في الأُمور المستحبة،فما كان النبي يداوم عليه سُمي

ص:400


1- 1) .صحيح مسلم:705/2،ط.الحلبي.
2- 2) .لسان العرب:396/6، [1]مادة«سن».

سنّة،و ما لم يداوم عليه سُمّي مندوباً.

و لذلك نرى ذلك التقسيم الرائج،أي تقسيم الفعل إلى سنّة و بدعة.

و على كلّ تقدير فهذا الاتجاه ليس فيه كثير فائدة.

الاتجاه الثاني:الّذي يأخذ بالمعنى الرائج في عصر الرسالة و حين نزول القرآن الكريم،و هو كلّ أمر دخل في الشريعة و لم يكن له رصيد فيها من غير فرق بين العبادات و المعاملات و العاديات.

و على هذا جرى الإمام الشاطبي في كتابه«الاعتصام»الّذي ألّفه في جزءين، عقد عامة مباحثه الّتي ترجع إلى البدعة بهذا المعنى. (1)

و قد عرّف البدعة وفق هذا الاتّجاه و قال:البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية.

و قال في إيضاحه:و لمّا كانت الطرائق في الدين تنقسم-فمنها ما له أصل في الشريعة،و منها ما ليس له أصل فيها-خصّ منها ما هو المقصود بالحدّ و هو القسم المخترع،أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدّمها من الشارع،إذ البدعة إنّما خاصّتها أنّها خارجة عمّا رسمه الشارع،و بهذا القيد انفصلت عن كلّ ما ظهر لبادي الرأي أنّه مخترع ممّا هو متعلّق بالدين،كعلم النحو و التصريف و مفردات اللغة و أُصول الفقه و أُصول الدين،و سائر العلوم الخادمة للشريعة.فإنّها و إن لم توجد في الزمان الأوّل فأُصولها موجودة في الشرع،إذ الأمر بإعراب القرآن منقول،و علوم اللسان هادية للصواب في الكتاب و السنّة فحقيقتها إذاً أنّها فقه التعبّد

ص:401


1- 1) .يعدّ الشيخ الشاطبي(المتوفّى عام 750ه) من المفكّرين و صاحب منهج في الفقه الإسلامي،و له جهود متميزة في إرساء بعض القواعد الفقهية كمقاصد الشريعة و غيرها،و لكنّه كان مطنباً في الكلام،و قد خصّص كتابه«الاعتصام»بكلا جزأيه لمباحث البدعة.

بالألفاظ الشرعية الدالّة على معانيها كيف تؤخذ و تؤدّى...إلى آخر ما أفاد. (1)

و على ضوء هذا الاتّجاه عرّفها أيضاً ابن حجر العسقلاني بقوله:إنّ المراد بالبدعة ما أُحدث و ليس له أصل في الشرع،و ما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة. (2)

و قال ابن رجب الحنلبي:البدعة ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه،أمّا ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة شرعاً و إن كان بدعة لغةً. (3)

ص:402


1- 1) .الاعتصام:27/1.
2- 2) .فتح الباري:156/5،و 9/17.
3- 3) .جامع العلوم و الحكم:160،ط الهند.

2

اشارة

البدعة في الكتاب العزيز

استعمل الذكر الحكيم لفظ (البدع) بالمعنى اللغوي مرّة واحدة و قال: «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» 1 ،أي لست بأوّل مُرسَلٍ،و إنّما بُعثت الرسل من قبلي تترا، فلست بأمر جديد حتّى تستنكروني....

إلاّ أنّه قد أشار إلى الاتّجاه الثاني إمّا بنفس لفظ«البدعة»أو بغيره.

فمن الأوّل قوله سبحانه: «وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها». 2

فقوله سبحانه: «ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» أي ما فرضناها عليهم و لكنّهم نسبوها إلينا كذباً.

و أمّا قوله: «إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللّهِ» ففيه وجهان:

1.الاستثناء منقطع،أي ما كتبنا عليهم الرهبانية و إنّما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان اللّه.

ص:403

2.الاستثناء متصل،أي أنّه سبحانه قد كتب عليهم أصل الرهبانية لأجل كسب رضوان اللّه و لكنّهم لم يراعوا حقّها.

فعلى الأوّل تكون البدعة في نفس الرهبانية.

و على الثاني تكون البدعة في الخروج عن حدودها.

و أمّا الآيات الّتي تشير إلى واقع البدعة الّتي عمّت حياة المشركين و غيرهم فكثيرة،نشير إلى قسم منها.

فلنقدم ما ورد في المشركين ثمّ نتطرق إلى غيرهم.

القرآن و بِدَعُ المشركين

ذكر سبحانه و تعالى في أكثر من آية شيئاً من بدعهم و افتراءاتهم على اللّه سبحانه،و ندّد بأعمالهم،و إليك قسماً من هذه الآيات:

الآية الأُولى و الثانية

قال سبحانه: «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصّاكُمُ اللّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ». 1

تطلق كلمة«زوج»على كلّ ما له قرين كأحد الزوجين و أحد النعلين،و ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآية أزواجاً أربعة:الضأن،و المعز،و الإبل،و البقر...

و من

ص:404

كلّ منها ذكر و أُنثى فتكون أزواجاً ثمانية.

أمّا«الضأن»فالكبش و النعجة،و أمّا«المعز»فالتيس و المعزاة،و أمّا«الإبل» فالجمل و الناقة،و أمّا«البقر»فالثور و البقرة.فيكون الجميع ثمانية أزواج.

ثمّ إنّه سبحانه يردّ على تحريم المشركين و نسبة بعض هذه الأزواج إلى اللّه فيسألهم هل هو حرّم الذكرَ منها أو الأُنثى؟ أو هل هو حرّم ممّا اشتملت عليه أرحام الإناث؟ فيذمّهم بقوله: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ».

فالآيتان ترشدان إلى أُمور:

1.أنّ المبدع مفتر على اللّه كذباً حيث ينسب إلى اللّه سبحانه حكماً من غير علم أو مع العلم بكذبه.

2.الغاية من الابتداع هو إضلال الناس.

3.فإذا استمر المبدع على موقفه فلا تشمله هدايته سبحانه،بل يبقى ضالاً مضلاً حتّى تختطفه المنية.

الآية الثالثة

قال سبحانه: «وَ جَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَ ما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ». 1

كان المشركون يجعلون شيئاً من زرعهم و ثمارهم و أنعامهم للّه تعالى،و شيئاً لأصنامهم تأخذه سدَنة الأصنام و حُرّاسها،فإذا أخصبت السنة أبقوا لكلّ

ص:405

نصيبه،و إذا أجدبت السنة جعلوا ما للّه للأصنام قائلين بأنّها فقيرة لا شيء لها و للّه كلّ شيء.

انظر كيف يجمع العقل البدائي بين المتناقضات؟! فالصنم أو الحجر الّذي ليس بشيء هو في نفس الوقت شريك للخالق في كلّ شيء !! فساء ما يحكمون في الجمع بين من يقول للشيء «كُنْ فَيَكُونُ» و بين الحجر الأصم!

الآية الرابعة

قال سبحانه: «وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ». 1

المراد من الشركاء في الآية «شُرَكاؤُهُمْ» هو الكهنة و خدمة الأصنام و غيرهم من الرؤساء،الذين زيّنوا للمشركين قتل أولادهم،و كانت الغاية من تزيين هذا العمل القبيح هو إهلاكهم و تلبيس دينهم عليهم،أي تخليط دينهم عليهم.

الآية الخامسة

قال سبحانه: «وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ». 2

الحجر هو الحرام،و معنى ذلك أنّ المشركين كانوا يقتطعون قسماً من زرعهم و ثمارهم و ماشيتهم و يحرّمون التصرف فيه إلاّ على من يختارون،كما يحكي عنهم قوله

ص:406

سبحانه: «هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ (أي حرام) لا يَطْعَمُها إِلاّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ».

كما كانوا يحرّمون ظهور بعض الأنعام فلا يركبونها و لا يحملون عليها شيئاً.

كما أنّهم كانوا يذبحون أنعاماً باسم الأصنام لا باسمه سبحانه.

فهذه الآيات إخبار عن الأُمم الماضية،و كلّها كانت افتراءً على اللّه سبحانه.

و قد ذكر القرآن الكريم تفصيل ما حرّموا من الأنعام في الآية التالية:

الآية السادسة

قال سبحانه: «ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ». 1

و كان العرب في الجاهلية يحرّمون الأنعام التالية:

1.البحيرة:المراد بها الناقة التي تنجب خمسة أبطن،فيشقّون أُذنها و يحرّمون ركوبها.

2.السائبة،كان العربي الجاهلي يقول:إذا قدمتُ من سفري أو برئتُ من مرضي فناقتي سائبة،فتكون أيضاً كالبحيرة.

3.الوصيلة:كانوا إذا ولدت الناقة ذكراً و أُنثى في بطن واحد قالوا:وصلتْ أخاها و لم يذبحوا الذكر لأجلها.

4.الحام:كانوا إذا نتج من صلب الجمل عشرة بطون قالوا:قد حمى ظهره فلا يركَب و لا يُحمَل عليه شيء.

ص:407

و لكن اللّه سبحانه يعدّ هؤلاء الكفرة من المفترين على اللّه الكذب و انّ افتراءَهم من قلّة عقلهم.

و العجب أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم كان إذا دعاهم إلى ما أنزل اللّه أعرضوا عنه،و قالوا:

تكفينا سنّة آبائنا و طريقتهم كما يقول سبحانه:

«وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ». 1

و هذه الأنعام الأربعة المحرمة افتراءً على اللّه هي المقصودة في قوله سبحانه: «وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها».

الآية السابعة

أشار القرآن الكريم في آية أُخرى إلى أنّ أبالسة الإنس هم الذين كانوا يبتدعون و يفترون على اللّه.

قال سبحانه: «وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ». 2

فالآية تنهى عن أكل ما لا يذكر اسم اللّه عليه عند الذبح معتبرة«الأكل»فسقاً و معصيةً،و كان الشياطين-أي أبالسة الإنس-يعلّمون بعض أذنابهم أن يقولوا للمسلمين:كيف تأكلون الحيوان الذي ذبحتموه بأيديكم،و لا تأكلون الحيوان الّذي أماته اللّه؟ أ ليس قتيل اللّه أولى بالأكل من قتيلكم؟

ص:408

الآية الثامنة

قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ». 1

إنّه سبحانه و تعالى يهدّد في هذه الآية من يفرّق الأُمة الواحدة و يجعلها شيعاً ما،فخاطب النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ» ،فهو وحده تعالى يتولّى عقاب من يثير العداء و البغضاء بين أهل الدين الواحد.

و المراد من هؤلاء المفرّقين هم المشركون،بقوله سبحانه: «وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ». 2

و الآية و إن نزلت في شأن المشركين إلاّ أنّ شأن النزول لا يكون سبباً لتخصيص مفهوم الآية،فلو قام فريق من المسلمين(في أي عصر من العصور) بتفريق الأُمّة الواحدة بأهوائه و بدعه فهو من مصاديق الآية المتقدّمة.

الآية التاسعة

قال سبحانه: «قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ». 3

لقد اعتبر سبحانه و تعالى تشتّت الأُمّة الواحدة إلى فرق و شيع بمثابة العذاب النازل من السماء (كالصواعق و الطوفان) أو المنبعث من الأرض

ص:409

(كالزلازل و الخسف)،إذ عطف قوله «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» على هذه الكوارث.

الآية العاشرة

قال سبحانه: «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». 1

فالآية المباركة تأمر الأُمّة باتّباع سبيل واحد،و هو صراط اللّه سبحانه و تنهى عن اتّباع سبل أُخرى تُفضي بها إلى التفرّق و بالتالي نزول العذاب عليها.

هذه بعض الآيات الواردة في ابتداع المشركين و ذمّهم و التنديد بهم،و الّتي يتّضح منها أنّ لفظة البدعة و الابتداع و ما يشابهها كانت في عصر نزول الرسالة تحمل معنى سلباً،و لذا لا يصحّ تقسيمها إلى الأقسام الخمسة الآنفة الذكر.

ص:410

3

اشارة

القرآن و البدعة عند أهل الكتاب

و لم يكن الابتداع منحصراً بالمشركين و إنّما عمّ أهل الكتاب،إذ ندّد بهم القرآن المجيد،و أشار إلى بعض بدعهم،و نقتصر هنا على ما يلي:

أمر سبحانه و تعالى جميع الأنبياء باتّباع إبراهيم عليه السلام في المعارف و العقائد و خاصّة التوحيد.

قال سبحانه: «قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً». 1

و قال: «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً». 2

و قال سبحانه: «إِنَّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ». 3

ثمّ إنّ الخط الّذي رسمه إبراهيم عليه السلام لمن يأتي بعده هو خط التوحيد و عبادته سبحانه و الاجتناب عن عبادة غيره،فجعلها كلمة باقية في عقبه،قال

ص:411

سبحانه: «وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ». 1

و لكنّهم انحرفوا عن الصراط المستقيم و ابتدعوا بدعاً،منها ما يلي:

1.بدعة التثليث

مع أنّ الخط الّذي رسمه إبراهيم عليه السلام هو خط التوحيد و تنزيه اللّه سبحانه عن الأمثال و الأنداد و عن الأولاد ذكوراً و إناثاً،لكن بدعة التثليث لصقت بالنصارى فكانوا من دعاتها و بغاتها.

يقول سبحانه: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً». 2

أين التوحيد الّذي دعا إليه إبراهيم عليه السلام من القول بالتثليث،أي الأب و الابن و روح القدس؟! فالأب عندهم هو الّذي خلق العالم بواسطة الابن،و الابن هو الّذي أتمّ الفداء و قام به،و روح القدس هو الّذي يطهر القلب و الحياة للّه، و هذه هي الأقانيم الثلاثة.

ثمّ إنّه سبحانه نبّه على تنزيهه من الولد بقوله: «سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ» ،فإنّ الولد عندهم إله،و الإله لا بداية له و لا نهاية،و المولود له بداية،و هي يوم ولادته،فكيف يكون إلهاً؟!

ص:412

و يقول سبحانه في آية أُخرى مندّداً بفكرة التثليث: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ». 1

و ممّا يُثير العجب أنّ فكرة التثليث و اتّخاذ الولد فكرة مستوردة،استعاروها من الهنود البوذيّين،و الذكر الحكيم يصرّح بأنّ النصارى يضاهئون في قولهم بالتثليث قول القائلين به في الأُمم الماضية،يقول سبحانه: «وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ». 2

و قد أثبت الباحثون أنّ القول بالتثليث رائج بين البراهمة و البوذيين،و قد ألّف أحد المحقّقين كتاباً في هذا الصدد أسماه:«العقائد الوثنية في الديانة النصرانية»،أثبت فيه وجود عقيدة التثليث عند البراهمة و هم يسمّونها بأسماء ثلاثة:

برهما:خالق العالم.

وشتو:الحافظ و رب العالم.

سيفا:المميت.

2.بدعة اتّخاذ الرهبان أرباباً

و قد بلغت غوايتهم حداً اتّخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً،قال سبحانه:

«اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ

ص:413

لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ». 1

و يظهر ممّا رواه الطبري و غيره أنّهم كانوا مشركين في مسألة التقنين،روي عن الضحاك أنّه قال: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ» أي قرّاءهم و علماءهم «أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ» يعني سادة لهم من دون اللّه،يُطيعونهم في معاصي اللّه،يحلّون ما أحلّوه لهم ممّا قد حرّمه اللّه عليهم،و يحرّمون ما يحرّمونه عليهم ممّا قد أحلّه اللّه لهم.

و روي أيضاً عن عدي بن حاتم قال:انتهيت إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو يقرأ في سورة براءة: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ» قال:قلت:يا رسول اللّه إنّا لسنا نعبدهم،فقال:«أ ليس يُحرّمون ما أحلّ اللّه فتحرّمونه،و يحلّون ما حرّم اللّه فتحلّونه؟»قال:قلت:بلى،قال:«فتلك عبادتهم». (1)

هذه نماذج من بدع أهل الكتاب و أخص بالذكر النصارى منهم،و لغيرهم أيضاً بدع تحدّث عنها القرآن الكريم نُعرض عن ذكرها.

ص:414


1- 2) .تفسير الطبري:80/10- 81. [1]

4

البدعة في السنّة

قد وردت روايات متضافرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عترته الطاهرة بشأن هذا الموضوع،و هي على قسمين:

الأوّل منهما يذكر البدعة و يندّد بها،و الآخر يذكرها و يحدّد وظيفة المسلمين من أصحابها.

و نحن نذكر في هذا المقام ما يتعلّق بالأمر الأوّل.

1.روى الإمام أحمد عن جابر قال:خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فحمد اللّه و أثنى عليه كما هو أهل له ثمّ قال:«أمّا بعد:فإنّ أصدق الحديث كتاب اللّه،و أفضل الهدي هدي محمد،و شرّ الأُمور محدثاتها،و كلّ بدعة ضلالة». (1)

2.و روى أيضاً عن جابر قال:كان رسول اللّه يقوم فيخطب فيحمد اللّه و يُثني عليه بما هو أهله و يقول:من يهد اللّه فلا مضلّ له،و من يضلل فلا هادي له، إنّ خير الحديث كتاب اللّه،و خير الهدي هَدي محمّد صلى الله عليه و آله و سلم،و شرّ الأُمور محدثاتها،و كلّ محدثة بدعة». (2)

ص:415


1- 1) .مسند أحمد:310/3، [1]دار الفكر.
2- 2) .مسند أحمد:371/3. [2]

3.و روى أيضاً عن العرباض بن سارية قال:صلّى بنا رسول اللّه الفجر ثمّ أقبل علينا فوعظنا موعظة بيّنة،قال:«أُوصيكم بتقوى اللّه...و إيّاكم و محدثاث الأُمور،فإنّ كلّ محدثة بدعة،و كلّ بدعة ضلالة». (1)

4.روى ابن ماجة عن جابر بن عبد اللّه قال:كان رسول اللّه إذا خطب احمرّت عيناه ثمّ يقول:«أمّا بعد فإنّ خير الأُمور كتاب اللّه،و خير الهدي هَديُ محمد،و شرّ الأُمور محدثاتها،و كلّ بدعة ضلالة». (2)

5.روى مسلم في صحيحه:كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا خطب:احمرّت عيناه، و علا صوته،و اشتدّ غضبه،حتّى كأنّه منذر جيشٍ،يقول:صبّحكم و مسّاكم»، و يقول:«بُعِثْتُ أنا و الساعة كهاتين»،و يقرن بين اصبعيه:السبّابة و الوسطى، و يقول:«أمّا بعد،فإنّ خير الحديث كتاب اللّه،و خير الهدي هَديُ محمد،و شرّ الأُمور محدثاتها،و كلّ بدعة ضلالة»ثمّ يقول:أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله،و من ترك ديْناً أو ضياعاً فإليّ و عليّ». (3)

6.روى النسائي عن جابر قال:كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول في خطبته:«نحمد اللّه و نثني عليه بما هو أهله»،ثمّ يقول:«من يهدِ اللّه فلا مضلّ له،و من يضلل فلا هادي له،إنّ أصدق الحديث كتاب اللّه،و أحسن الهدي هَديُ محمّد، و شرّ الأُمور محدثاتها،و كلّ محدثة بدعة،و كلّ بدعة ضلالة،و كلّ ضلالة في النار»،ثمّ يقول:«بعثت أنا و الساعة كهاتين»،و كان إذا ذكر الساعة احمرّت وجنتاه،و علا صوته،و اشتدّ غضبه،كأنّه نذير جيشٍ،و يقول:«صبّحكم و مسّاكم»،ثمّ قال:«من ترك

ص:416


1- 1) .المصدر نفسه:126/4.و [1]لاحظ أيضاً ص 127،و لاحظ البحار:263/2 [2]فقد جاءت فيها نفس النصوص و في ذيلها:«و كلّ ضلالة في النار».
2- 2) .سنن ابن ماجة:17/1،الباب السابع،الحديث45،دار الفكر.
3- 3) .صحيح مسلم:11/3،باب تخفيف صلاة الجمعة و الخطبة،دار الفكر.

مالاً فلأهله،و من ترك ديْناً أو ضياعاً فإليَّ(أو عليّ)،و أنا أولى بالمؤمنين». (1)

7.قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ». (2)

قال الشاطبي:و هذا الحديث عدّه العلماء ثُلثَ الإسلام،لأنّه جمع وجوه المخالفة لأمره صلى الله عليه و آله و سلم،و يستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية. (3)

8.روى الكليني عن محمد بن مسلم،عن أبي جعفر عليه السلام قال:خطب أمير المؤمنين عليه السلام الناس فقال:«أيّها الناس إنّما بَدْءُ وقوع الفتن،أهواءٌ تُتَّبَع، و أحكام تُبتدع،يُخالَف فيها كتاب اللّه،و يتولّى عليها رجال رجالاً على غير دين اللّه،فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين،و لو أنّ الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين،و لكن يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان،فهناك يستولي الشيطان على أوليائه،و ينجو الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى». (4)

9.و روى عن الحسن بن محبوب رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:«إنّ من أبغض الخلق إلى اللّه عزّ و جلّ لرجلين:رجل وكَله اللّه إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل،مشغوف بكلام بدعة،قد لهج بالصوم و الصلاة فهو فتنة لمن افتتن به،ضالّ عن هدى من كان قبله،مضلّ لمن اقتدى به في حياته و بعد موته،حمّال خطايا غيره،رهن بخطيئته؛و رجل قمش رجلاً...». (5)

ص:417


1- 1) .السنن الكبرى:550/1 برقم 1786؛ [1]جامع الأُصول:5،الفصل الخامس،برقم 3974.
2- 2) .مسلم:الصحيح:133/5،كتاب الأقضية،الباب8؛مسند أحمد:270/6. [2]
3- 3) .الاعتصام:68/1.
4- 4) .الكافي:54/1-55 ح2،3،4،1،باب البدع.و [3]لفظ الأخير مطابق لما في نهج البلاغة،الخطبة 50، [4]دون الكافي [5]لكونه أتم.
5- 5) .المصدر نفسه:ح6. [6]

10.قال أمير المؤمنين عليه السلام:«ما اختلفت دعوتان إلاّ كانت إحداهما ضلالة». (1)

11.و قال عليه السلام:«ما أُحدثت بدعة إلاّ ترك بها سنّة،فاتّقوا البدع و ألزموا المهيع، إنّ عوازم الأُمور أفضلها،و إنّ محدثاتها شرارها». (2)

12.و قال عليه السلام:«من مشى إلى صاحب بدعة فوقّره فقد مشى في هدم الإسلام». (3)

13.روي مرفوعاً عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«عليكم بسنّة،فعمل قليل في سنّة خير من عمل كثير في بدعة». (4)

و للإمام عليّ عليه السلام في«نهج البلاغة»وراء ما نقلناه كلمات درّية في ذمّ البدعة، نقتبس منها ما يلي:

14.«فاعلم أنّ أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هُدِيَ و هَدى،فأقام سنّة معلومة و أمات بدعة مجهولة؛و إنّ شرّ الناس عند اللّه إمام جائر ضلّ و ضُلّ به، فأمات سنّة مأخوذة و أحيا بدعة متروكة». (5)

15.و قال:«أوّه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه،و تدبّروا الفرض فأقاموه،أحيوا السنّة و أماتوا البدعة». (6)

16.و قال عليه السلام أيضاً:«إنّما الناس رجلان:متّبع شرعة،و مبتدع بدعة». (7)

ص:418


1- 1) .البحار:264/2،ح 14. [1]
2- 2) .البحار:264/2،ح15. [2]
3- 3) .البحار:304/2،ح 45. [3]
4- 4) .البحار:261/2 ح 3. [4]
5- 5) .نهج البلاغة: [5]الخطب164،182،176.
6- 6) .نهج البلاغة: [6]الخطب164،182،176.
7- 7) .نهج البلاغة: [7]الخطب164،182،176.

17.و قال عليه السلام:«طوبى لمن ذلّ في نفسه و طابَ كسبه-إلى أن قال:-و عزل عن الناس شرّه و وسعتْه السنّة و لم ينسب إلى البدعة». (1)

ص:419


1- 1) .المصدر نفسه:قسم الحكم-رقم 123.

5

اشارة

البدعة و آثارها الموبقة و واجب المسلمين تجاهها

إنّ صيانة الشريعة و حفظها من التحريف،رهن مكافحة المبدعين بشتّى الوسائل،و لو لا ذلك لأصبحت فريسة لكلّ طامع،و غرضاً لكلّ حاقد، و لتسرّب الشك إلى أُصولها و فروعها،الأمر الّذي يؤول إلى مسخها و تشويه صورتها،و إلى تفرّق المسلمين إلى فرق و طوائف متخاصمة،لا تلجأ إلى ركن وثيق،و لا تتمسك بحبل اللّه المتين الّذي أمرت الأُمّة بأن تعتصم به.

و قد نبّه الذكر الحكيم إلى هذا المصير المرديّ بقوله سبحانه: «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ». 1

و كذا تبعته السنّة الشريفة فذكرت آثار البدعة الموبقة،ودعت الأُمّة الإسلامية إلى مكافحتها و محاربتها بما تيسر؛و إليك نزراً ممّا ورد في هذا المجال.

ص:420

أثر البدعة في مصير المبدِعْ

قد وردت أحاديث وافرة في تأثير البدعة في حياة المبدع و مصيره عاجلاً و آجلاً،نقتصر منها على ما يلي:

1.روى ابن ماجة:«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:لا يقبل اللّه لصاحب بدعة صوماً و لا صلاة و لا صدقة و لا حجّاً و لا عمرة و لا جهاداً». (1)

2.روى مسلم عن أبي هريرة قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أُجور من تبعه لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً،و من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً». (2)

3.روى مسلم في«الصحيح»من حديث أبي هريرة: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أتى المقبرة فقال:«السلام عليكم دار قوم مؤمنين و إنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون - إلى أن قال-:ألا ليُذادنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال،أُناديهم ألا هلمّ! ألا هلمّ! ألا هلمّ! فيقال:إنّهم قد بدّلوا بعدك،فأقول:سحقاً! سحقاً». (3)

4.روى الكليني عن محمد بن جمهور،رفعه؛قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أبى اللّه لصاحب البدعة بالتوبة»قيل:يا رسول اللّه و كيف ذلك؟ قال:«إنّه قد أُشرب في قلبه حبّها». (4)

ص:421


1- 1) .سنن ابن ماجة:19/1.
2- 2) .صحيح مسلم:62/8،كتاب العلم؛سنن أبي داود:393/2 برقم 4609،باب من دعا إلى سنّة. [1]
3- 3) .صحيح مسلم:150/1-151،كتاب الطهارة.
4- 4) .الكافي:54/1- 55،الحديث4،باب البدع. [2]

واجب المسلمين تجاه المبدعين

إذا تلاعب المبدع بالشريعة و ألصق بها ما ليس منها،أو رفض منها ما هو من صحيحها و لم يكن يقف أمامه وازع يمنعه عن ذلك،تسربت الفكرة الموبقة إلى أوساط المسلمين،فيُصوّر الحقّ باطلاً و الباطل حقّاً،و لذلك فرض الإسلام على المسلمين عامة و على حُكّامهم و علمائهم خاصة مكافحة المبدعين بما تيسّر.

و من المعلوم أنّ مسئولية الحاكم ذي المنعة و القدرة غير مسئولية الناس العاديين،و إليك بعض ما ورد من ذلك في السنّة الشريفة:

1.روى مسلم في صحيحه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ». (1)

2.روى الكليني عن محمد بن جمهور،رفعه؛قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«إذا ظهرت البدع في أُمّتي فليظهر العالم علمه،فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه». (2)

3.و بنفس الإسناد قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«من أتى ذا بدعة فعظّمه فإنّما يسعى في هدم الإسلام». (3)

4.روى عمر بن يزيد،عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:«لا تصحبوا أهل البدع و لا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم،قال رسول اللّه:المرء على دين خليله و قرينه». (4)

ص:422


1- 1) .صحيح مسلم:133/5،كتاب الأقضية،الباب8؛و رواه أحمد في مسنده:270/6. [1]
2- 2) .الكافي:54/1- 55،الحديث2،باب البدع. [2]
3- 3) .نفس المصدر:الحديث3. [3]
4- 4) .الكافي:375/2. [4]

5.و روى داود بن سرحان،عن الإمام الصادق عليه السلام قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم،و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيع...». (1)

6.و روى المجلسي أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال:«من تبسّم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه». (2)

ص:423


1- 1) .نفس المصدر. [1]
2- 2) .بحار الأنوار:217/47؛ [2]عن مناقب آل أبي طالب:375/3. [3]

6

اشارة

البدعة و مقوّماتها الثلاثة

قد تعرفت فيما سبق على أنّ الموضوع ليس هو نفس لفظ البدعة و مفهومها حتّى يشمل الأُمور العادية؛و إنّما هو يخصّ البدعة في الدين؛و لكن قسماً كثيراً من علماء السنّة جعلوا الموضوع نفس البدعة و قسّموها إلى قسمين:

حسنة و سيئة،و ما ذلك إلاّ لتصحيح ما أقدم عليه عمر بن الخطاب في مسألة صلاة التراويح،و وصف إقامتها بالجماعة و بإمام واحد،بدعة حسنة،و لو لا ذلك لما خطر في بالهم هذا التقسيم للبدعة.

و كما عرفت أنّ المتبادر من البدعة و ما ورد في الذكر الحكيم من مرادفاتها هو الفعل المذموم.

و مع ذلك نرى أنّ الإمام الشافعي يقول:البدعة بدعتان:بدعة محمودة، و بدعة مذمومة؛فما وافق السنّة فهو محمود،و ما خالف السنّة فهو مذموم. (1)

و على هذا المنوال نسج غير واحد من علماء أهل السنّة (2)،كالغزالي في

ص:424


1- 1) .فتح الباري:10/17.
2- 2) .لا حاجة لذكر الكثير من التفاصيل.

الإحياء (1)،و غيره.

غير أنّ أصحابنا-إلاّ النادر منهم-حينما يتناولون موضوع البدعة،فإنّهم يقصدون بها خصوص البدعة في الدين،و يذهبون إلى أنّ لها قسماً واحداً، و إليك بعض كلماتهم في هذا الصدد:

1.قال السيد المرتضى(355- 436ه):البدعة:الزيادة في الدين،أو نقصان منه مع إسناد إلى الدين. (2)

2.و قال العلاّمة(648- 726ه):كلّ موضع لم يشرع فيه الأذان فإنّه يكون بدعة. (3)

3.و قال الشهيد الأوّل (734- 786ه):محدثات الأُمور بعد عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم تنقسم أقساماً،لا يطلق اسم البدعة عندنا إلاّ على ما هو محرّم منها. (4)

4.و قال الطريحي(...- 1086ه):البدعة:الحدث في الدين و ما ليس له أصل في كتاب و لا سنّة،و إنّما سمّيت بدعة لأنّ قائلها ابتدع هو نفسه،و البِدَع - بالكسر و الفتح-جمع بدعة،و منه الحديث:«من توضأ ثلاثاً فقد أبدع»أي فعل خلاف السنّة،لأنّ ما لم يكن في زمنه صلى الله عليه و آله و سلم فهو بدعة. (5)

5.و قال المجلسي رحمه الله (1037- 1110):البدعة في الشرع ما حدث بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و لم يرد فيه نص على الخصوص،و لا يكون داخلاً في بعض العمومات،أو ورد نهيٌ عنه خصوصاً أو عموماً. (6)

ص:425


1- 1) .إحياء علوم الدين:3/2، [1]ط.الحلبي.
2- 2) .الرسائل:83/3.
3- 3) .المختلف:131/2.
4- 4) .القواعد و الفوائد:144/2- 145، [2]القاعدة 205.
5- 5) .مجمع البحرين:ج1، [3]مادة«بدع».
6- 6) .بحار الأنوار:202/74. [4]

إلى غير ذلك من التعاريف الّتي تركّز على أنّ البدعة هو التدخّل في الدين بزيادة أو نقيصة،و أمّا إيجاد ما لم يكن له مثال في السابق و لا في عهد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و لم يكن له أي صلة بالدين،فلا يدخل في إطار البدعة،و إنّما يطلب حكمه من الكتاب و السنّة،فتارة يكون حلالاً و أُخرى حراماً لكن لا بما هو«بدعة»بل بما هو هو.

مقوّمات البدعة

اشارة

المهم في المقام هو التعرف على مقومات البدعة،و إن ظهر بعضها ممّا سبق.

إنّ البدعة تتقوّم بقيود ثلاثة:

1.التدخّل في الدين عقيدة و شريعة بزيادة أو نقيصة.

2.أن لا يكون لها دليل في الشرع يدلّ على جوازها خصوصاً أو عموماً.

3.أن تكون هناك إشاعة و دعوة من المبدع.

و إليك دراسة القيود الثلاثة:

الأوّل:التدخّل في الدين بزيادة أو نقيصة
اشارة

إذا كان الموضوع هو البدعة في الدين،فلا محالة أن تكون البدعة متقوّمة بالتدخّل في الدين بزيادة شيء فيه أو نقيصة شيء منه.

و قد تعرّفت فيما سبق على تضافر الآيات و الروايات على أخذ هذا القيد (في الدين) في مفهومها.و أمّا ما تظافر نقله عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من أنّ«شر الأُمور محدثاتها»فإنّما يريد الأُمور الّتي لها صلة بالدين،و أمّا الخارجة عنه فهي تتبع في كونها حلالاً و حراماً ما ورد بشأنها في الكتاب و السنّة.

ص:426

فاختلاط الرجال-مثلاً-بالنساء السافرات في الأعراس،من البدع الغربية الّتي تسربت إلى الشرق الإسلامي،و هو بلا شكّ محرّم شرعاً،لكن لا بعنوان أنّه بدعة في الدين،لأنّ القائمين بهذه الأعمال غير متمسكين بأهداب الدين، و غير معنيّين بمسائله،فهم يمارسون مثل هذه الأعمال تأثّراً بالغرب و اقتداءً بالغربيين،لا بأنّه من الدين.

و لأجل تحقيق الحقّ و إيضاحه نذكر نصّ الحديث الّذي صرّح به الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و نُقل بصور مختلفة حتّى يبين أنّ القائل لا يريد من الأُمور إلاّ الأُمور الّتي لها صلة بالدين،و أمّا الأُمور العادية و ما شابهها فمحدثاتها قد تكون حلالاً و قد تكون حراماً،لكن لا من حيث كونها من مصاديق البدعة.

روى الإمام أحمد عن جابر:قال:خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فحمد اللّه و أثنى عليه بما هو أهل له،ثمّ قال صلى الله عليه و آله و سلم:«فإن أصدق الحديث كتاب اللّه،و أفضل الهدي هدي محمد،و شر الأُمور محدثاتها،و كلّ بدعة ضلالة». (1)

تفسير قوله صلى الله عليه و آله و سلم:شرّ الأُمور محدثاتها

إنّ الذكر الحكيم دعا المسلمين إلى التفكير في خلق السماوات و الأرض و قال: «وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً» 2 ،كما أمر سبحانه في موضع آخر بالنظر-بتدبّر-إلى ما في السماوات و الأرض،فقال سبحانه: «قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ». 3

إلى غير ذلك من الآيات الّتي تدعو الإنسان إلى النظر و التفكّر و التدبّر في عالم الطبيعة.

ص:427


1- 1) .مسند أحمد:310/3. [1]

هذا من جانب و من جانب آخر دعا الإسلام إلى التعلّم و نشر العلم و إن اقتضى ذلك السفر إلى البلاد النائية كالصين مثلاً.

و الآيات و الروايات الواردة في هذا المجال كثيرة لا حاجة لبيانها و التفصيل في ذكرها.

و النتيجة الّتي تسفر عن هذين الأمرين:التفكير و التعلّم،هي كشف كوامن الطبيعة،و سنن اللّه سبحانه في عالم الحياة،و بالتالي التطور و التكامل في حياة الإنسان في مختلف شئونها و متطلّباتها.

و لذلك نرى أنّه قد طرأت في حياة المسلمين بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم أُمور جديدة تلقّاها الصحابة و التابعون بالقبول بلا غمز و اعتراض،و خاصة بعد اتّساع دائرة الفتوحات الإسلامية و احتكاك المسلمين بسائر الشعوب كاليهود و النصارى و المانويين و الزرادشتية و البراهمة و الصابئة،و كانت لديهم علوم و معارف و عادات و تقاليد اقتبسها المسلمون منهم (باستثناء ما ورد نهي عنها في الشرع) خصوصاً ما يرتبط منها بالعلوم الكونية و الرياضيات و التاريخ،و عند ذلك حدثت أطوار و أنماط في الحياة العمرانية و العادات الاجتماعية و الأنشطة الاقتصادية على وجه لم يكن لها أي مثال في عصر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

يقول أحد الكتّاب المعاصرين في هذا الصدد:أخذ المسلمون يشيّدون الأبنية باللبن و الحجارة و الجص،بعد أن كانت تقام بالقصب و خوص النخل، و تدعم باللبن فيما بينها ثمّ تسقف بالإذخر و نحوه.و أخذ الأُمراء يبنون لأنفسهم قصوراً ذات حمى و أبهاء،لممارسة وظائف الحكم و النظر في مصالح المسلمين فيها،و راح المهندسون يخطّطون لإقامة المدن و تشييدها، الكوفة و البصرة أبرز مثالين لها،فقد نظموا الشوارع الرئيسية فيها بعرض أربعين ذراعاً،و الشوارع الفرعية بعرض

ص:428

ثلاثين،و الأزقة الداخلية بعرض سبعة أذرع،كما وضعوا نظاماً لارتفاع الأبنية حسب مكان وجودها.

نشطت الأعمال التجارية نشاطاً بيّناً بين الصحابة بعد أن كانت التجارة محتقرةً عند العرب،...ظهرت الصناعات بأنواعها المختلفة و أخذت تنتشر بين الصحابة فمن بعدهم تباعاً.

تطوّرت صناعات الأطعمة و أساليب استحضارها فاستعملوا دقيق الحواري، و هو خلاصة الدقيق و لبابه خالياً من النخالة،كانوا يجلبونه في أوّل معرفتهم له و عهدهم به من بلاد الشام و غيرها،ثمّ ما لبثوا أن أتقنوا صنعه و تحضيره، و اتّخذوا طعاماً لهم:الخبز الرقاق آناً،و أنواع الحلوى كالتي كانت تسمى بالخبيص و الفالوذج آناً آخر. (1)

لقد ظهرت المناخل بينهم فجأة،و ما كان لهم عهد بها من قبل.و هي من أدوات التنعم و الترفه في المأكل،ممّا لم يكن يعرفه العرب و لا المسلمون من قبل.فما الّذي ينبغي أن يتخذوه؟ أ يتبعون في ذلك سنن الصحابة الذين من قبلهم،فيتجنبون استعمال المناخل في نخل الدقيق،نظراً لأنّ ذلك بدعة مستحدثة،و كلّ بدعة ضلالة،أم يجارون الزمن و تطوراته و ينظرون إلى المسألة على أنّها من الأعراف المرسلة عن قيود الاتباع و عدمه،و لا علاقة لها بشيء من الأحكام التعبدية الّتي قضى بها الإسلام؟ و أياً كان الموقف المتَّخَذُ،فما هو الميزان أو البرهان المعتمد في ذلك؟ (2)

جرى المسلمون على هذا المنوال عبر قرون متطاولة و لم يخطر ببال أحد أنّ

ص:429


1- 1) .السلفية مرحلة زمنية للدكتور البوطي:37- 38.
2- 2) .السلفية مرحلة زمنية:46.

هذه الأُمور-من أبسط التحوّلات إلى أعمقها-أنّها من محدثات الأُمور و أنّها بدعة،و هذه قرينة منفصلة على تفسير حديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بأنّ المراد من قوله صلى الله عليه و آله و سلم«شر الأُمور محدثاتها» (1)هو الأُمور المحدثة في متن الشريعة بالزيادة أو النقيصة و يشهد على ذلك أيضاً صدر الحديث و ذيله.

ففي صدره:«انّ أصدق الحديث كتاب اللّه»،و في ذيله:«و كلّ بدعة ضلالة».

فالصدر و الذيل شاهدان على أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بصدد المحافظة على الشريعة و الدعوة الإسلامية حتّى لا يتلاعب فيها المبدع بأهوائه،فيزيد فيها شيئاً باسم الشريعة أو ينقصه أيضاً كذلك.

و أمّا الأُمور الّتي لم يحرّمها الشارع في أصل الشريعة،لا في كتابها و لا في سننها،و لكن وصل إليها المسلمون من جراء عوامل شتى،فلا صلة لهذه الأُمور المحدثة بالحديث الشريف المذكور.

روى مسلم في صحيحه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا خطب احمرّت عيناه و علا صوته،و اشتد غضبه كأنّه منذرُ جيش ثمّ يقول:«أمّا بعد،فإنّ خير الحديث كتاب اللّه،و خير الهدي هدي محمد...».

و من الواضح أنّ سبب غضبه ليس إلاّ تدخّل المبتدع في شريعته،لا مطلق التدخل في شئون الحياة و أن لم تمسّ دينه خصوصاً إذا كان فيه مصلحة الإنسان.

كيف يمكن للصادع بالحق أن يوقف عجلة الحياة عن السير إلى الإمام حتّى يعيش المسلمون عيشة بدائية،مع أنّه يأمر بالتسلّح بما استطاعوا من قوة، و هو يلازم التجاوز عن الحياة البدائية،و إعداد أفتك الأسلحة و أعقدها أمام

ص:430


1- 1) .مسند أحمد:310/3،دار الفكر.

الأعداء؟ يقول سبحانه: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ». 1

إلى هنا تمّ الكلام في بيان المقوّم الأوّل للبدعة،و يأتي الكلام في المقوّم الثاني.

المقوّم الثاني:أن لا يكون لها رصيد في الشريعة
اشارة

و هذا هو العنصر الثاني لمفهوم البدعة،و هو عدم وجود رصيد لها في الشريعة بمعنى فقدان الدليل من الكتاب و السنّة على جوازها،لأنّه عند ذاك لا تصبح أمراً جديداً طارئاً على الدين،و لا تعدّ زيادة عليه و لا نقيصة.

فإنّ البدعة في الشرع:ما حدث بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و لم يرد فيه نص على الخصوص و لم يكن داخلاً في بعض العمومات،و إن شئت قلت:إحداث شيء في الشريعة لم يرد فيه نص،سواء أ كان أصله مبتدعاً كصوم عيد الفطر، أم خصوصيّته مبتدعة كالإمساك إلى غسق الليل ناوياً به الصوم المفروض، معتقداً بأنّه الواجب في الشرع.

و قال ابن حجر العسقلاني:المراد بالبدعة ما أُحدث و ليس له أصل في الشرع،و ما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة. (1)

قال ابن رجب الحنبلي:البدعة ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه،أمّا ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة شرعاً،و إن كان بدعة لغةً. (2)

و انطلاقاً من ذلك،فإنّ ما واجهه المسلمون في خضم التيارات الحضارية

ص:431


1- 2) .فتح الباري:156/5،و لاحظ ج 9/17.
2- 3) .جامع العلل و الحكم:160،ط الهند.

الّتي فرضها عليهم الاحتكاك الثقافي و غيره و لم يجدوا فيه منعاً من الشرع و لا تحريماً،تقبلوه بصدر رحب و قلب راض و نفس مطمئنة،و ما ذلك إلاّ لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة،و المحتاج إلى البيان هو الحرمة،يقول سبحانه: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ». 1

و يقول سبحانه: «وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ». 2

و يقول سبحانه: «قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ». 3

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ مهمة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم هي بيان المحظورات و المحرمات،و أنّ الناس في سعة من أمرهم ما لم يحرّم الشارع منها شيئاً.

نعم لا ينحصر وجود الدليل الشرعي على الحلّية بأصل البراءة و الإباحة،بل ربّما تكون هناك عمومات و إطلاقات اجتهادية تدلّ على أنّ حكم الموضوع،هو الحلّية بعموماتها و إطلاقاتها و إن لم يكن هناك دليل بالخصوص.و قد عرفت أنّ قوله سبحانه: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» كاف في تجويز التسلّح بالأسلحة الحديثة.لكون الجميع من مصاديق إعداد القوة،و هذا العنصر الثاني الّذي نبهنا عليه هو مفتاح حل كثير من المشاكل الّتي علقت بأذهان المسلمين في بلدانهم و خارجها و بما يتصورها بعض القشريين أنّها بدعة.

و على ضوء هذا فالخطّة العسكرية المتبعة في عصرنا الحالي لا تعدّ بدعة إذا

ص:432

كان فيها مصلحة للشعب،و تحصيناً للبلد،فإنّها من مصاديق قوله تعالى:

«وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ».

و لإيضاح الحال نأتي هنا بأمثلة ليتبين أنّ وجود الدليل العام أو المطلق،كاف في خروج الشيء عن كونه بدعة.

1.السفر لمشاهدة الآثار الإسلامية

جرت السيرة في أيام الحجّ عبر قرون على السفر لمشاهدة معالم و آثار معركة بدر و أُحد و الحديبية و الأحزاب و غيرها من أيام اللّه الّتي نصر بها رسوله صلى الله عليه و آله و سلم و عبادَه الصالحين و هزم الشرك و المشركين.

و لكن الهيئة العلمية المتمثلة بالآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر تعدّ ذلك بدعة،لعدم ورود الدليل على جواز السفر إلى هذه المشاهد في الكتاب و السنّة.

و لكن نظرتهم مبنية على لزوم وجود الدليل بالخصوص على العمل،و هو أمر غير تام لكفاية وجود الدليل العام و إن لم يكن ثمة دليل في المورد الخاص،و مثال ذلك أنّه تبارك و تعالى يأمرنا بأن نسير في الأرض لننظر آثار المشركين فنعتبر بها،كعاد و ثمود الموجودة في ديار صالح قرب المدينة المنورة و الّتي لا تزال مزاراً للسائحين،يقول سبحانه: «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ». 1

و قال تعالى: «أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا

ص:433

مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ واقٍ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ». 1

فإذا كان السير في الأرض لمشاهدة آثار المشركين و الاعتبار بها،أمراً محبوباً و مطلوباً أمر به الكتاب العزيز،كان السير إلى الأماكن الّتي فيها معالم النبوة و آثار الصالحين جائزاً بطريق أولى،و ما ذلك إلاّ لتقف الأجيال المتعاقبة على الجهود الّتي بذلها المسلمون الأوائل في رفع راية التوحيد و قمع راية الشرك أوّلاً،و تكون على بصيرة من دينها ثانياً،و تتخذ أعمالهم و أفعالهم أُسوة في الحياة ثالثاً.

فالمنع عن السفر و السير إلى تلك المعالم لا يصدر إلاّ عن إنسان لا يعي الآثار الإيجابية المترتبة على ذلك.

أضف إلى ذلك:انّ السفر إلى تلك المساجد و المشاهد لرؤيتها و التعرّف عليها ليس سفراً عباديّاً،حتّى يحتاج إلى الدليل،و إنّما هو على غرار سائر الأسفار،لغايات محلّلة،و إذا لم يكن محرّماً بالذات أو بالغاية فيحكم عليه بالرخصة.

2.الاحتفال بالمولد النبوي

جرت سيرة المسلمين منذ قرون على الاحتفال بالمولد النبوي،و يرشدك إلى هذا ما ذكره الدياربكري (المتوفّى 966ه) مؤلّف«تاريخ الخميس»إذ يقول:لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده،و يعملون الولائم، و يتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات،و يظهرون السرور،و يزيدون المبرّات،و يعتنون بقراءة مولده

ص:434

الشريف،و يظهر عليهم من كراماته كلّ فضل عظيم. (1)

و قال القسطلاني (851- 923ه):«لا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، و يعملون الولائم،و يتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات،و يظهرون السرور، و يزيدون في المبرّات،و يعنون بقراءة مولده الكريم،و يظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عظيم...فرحم اللّه امرأً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً، ليكون أشدّ علّة على من في قلبه مرض و أعياه داء. (2)

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي تتحدث عن هذه السيرة الحسنة،و مع ذلك نرى ابن تيمية (و من تبعه) يُنكر ذلك،و يقول:و كذلك ما يحدثه بعض الناس،إمّا مضاهاةً للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام،و إمّا محبة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و اللّه قد يثيبهم على هذه المحبة و الاجتهاد،لا على البدع من اتّخاذ مولد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عيداً،مع اختلاف الناس في مولده،فإنّ هذا لم يفعله السلف،مع عدم قيام المقتضي له،و عدم المانع منه،و لو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف أحقّ به منّا،فإنّهم كانوا أشدّ محبةً لرسول اللّه و تعظيماً له منّا. (3)

و قد تبع ابن تيمية لفيف من تلامذة منهجه،حتّى أنّ الفقي رئيس جماعة (أنصار السنّة المحمّدية) يقول في حواشيه على كتاب«الفتح المجيد»:

الذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم و تعظيمهم. (4)

و قد نسج على هذا المنوال المتأخّرون من أتباع مدرسة ابن تيمية الذين يشار إليهم بالبنان كالفوزان و غيره.

ص:435


1- 1) .تاريخ الخميس:323/1. [1]
2- 2) .المواهب اللدنية:148/1. [2]
3- 3) .اقتضاء الصراط المستقيم:294.
4- 4) .الفتح المجيد:154.

و لكن وقفة قصيرة في المقام تثبت أنّ ما زعموه من العلل أُمور واهية ستنهار قواعدها أمام الدليل القاطع،و ذلك لأنّ ابن تيمية اعتمد على أمرين:

الأوّل:انّ الاحتفال مضاهاة للنصارى في الاحتفال بميلاد عيسى عليه السلام.

الثاني:أنّه من البدع،لأنّه لم يفعله السلف،و لو كان هذا خيراً محضاً لكانوا أحقّ به منّا.

لكن الوجهين غير صحيحين:

أمّا الأوّل:فلأنّه ادّعاء بلا دليل،و التوافق في العمل لا يعدّ دليلاً على المضاهاة للنصارى و أنّهم تبعوا النصارى في هذا العمل،و ربّما يكشف التوافق عن أنّ الاحتفال نزعة إنسانيّة تنبعث من عوامل الحبّ و العاطفة-كما سيوافيك - من غير فرق بين المسلم و المسيحي.

ثمّ إنّ القائمين بالاحتفال لا يدور في خلدهم انّ عملهم مضاهاة و انّهم يقصدون بذلك التشبه بهم.

و إن كنت في ريب من هذا فاسأل القائمين به في أقطار العالم،دانيه و قاصيه، و ستجد أنّ السبب الداعي للاحتفال هو حبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم و تعظيمه و تكريمه.

و أمّا الثاني:فلأنّ عدّه من البدع غفلة عمّا ورد في الكتاب و السنّة الّذي يصحّ أن يكون رصيداً لهذا الاحتفال كما نلاحظه في الموارد التالية:

1.ما دلّ على وجوب تكريم النبي و تبجيله،يقول سبحانه: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». 1

و المراد من التعزير هو التعظيم و التوقير،و ليس المراد منه هو النصرة

ص:436

المحضة،لأنّها مذكورة بعد التعزير حيث قال تعالى: «عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ» ،و لذلك فسّره علماء التفسير بقولهم:أي عظّموه و وقّروه، (1)و فسّره أبو حيان الأندلسي بقوله:أثنوا عليه و مدحوه. (2)

و قال ابن كثير:و نصروه أي عظموه و وقروه. (3)

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي تفسر الآية بتعظيم النبي و توقيره و تكريمه.

و تخصيص مفاد الآية بحياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بخس لحقّه و تنكّر لعظمته و شأنه، و تفسير لها بالرأي،فلو صحّ ذلك الزعم فليكن الأمر بالإيمان به و اتّباع النور المذكور في الآية مختصاً أيضاً بحال حياته فقط.

و على ضوء ذلك فالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله و سلم في شهر ربيع الأوّل تجسيد لهذه الآية،أي أنّه تكريم و تبجيل للنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

2.ما ورد حول ترفيع شأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال سبحانه: «وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» 4 .فالآية تدلّ بصراحة على أنّه سبحانه رفع ذكر النبي بأساليب مختلفة،و تدلّ بالدلالة الالتزامية على أنّ رفع ذكره أمر مطلوب و محبوب،فلو عدّ الاحتفال بذكرى ميلاده لدى الناس ترفيعاً،فيكون تجسيداً لمفادها.

فالاحتفال بنفسه تجسيد لهذه الآية،و هذا ما دعا المسلمين القدامى و الجدد إلى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.

3.كيف لا يصحّ للمسلمين أن يتّخذوا ولادة النبي أو يومه صلى الله عليه و آله و سلم عيداً و قد غمرتهم المائدة الإلهية و الرحمة العالمية بميلاده و ظهوره؟ إنّ المسيح عليه السلام

ص:437


1- 1) .مجمع البيان:604/4.
2- 2) .البحر المحيط:196/5. [1]
3- 3) .تفسير ابن كثير:234/3. [2]

عند ما دعا ربّه أن ينزل مائدة عليه،و على حواريّيه،بقوله: «رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ» 1 ،اتّخذ يوم نزول النعمة المادية الّتي تشبع البطون عيداً،و الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم هو أعظم نعمة منَّ اللّه بها على المسلمين،فكيف لا نتخذ يوم ولادته عيداً و يوم فرح و سرور؟

نعم لم يرد النص على الاحتفال في هذا اليوم أو هذا الشهر بالخصوصية الكذائية،فالاحتفال بهذا العنوان بدعة بلا شك،لأنّ الخصوصية ليست منصوصة،و إنّما المنصوص هو التكريم و التبجيل،و له أسباب و طرق و مظاهر،و الاحتفال هو أحد هذه الطرق و الوسائل.و المسلمون لا يحتفلون بنية ورود الأمر به في ذلك اليوم الخاص و إنّما يختارون يوم ميلاده لمناسبات عرفيّة نظير احتفال الإنسان بيوم ولادته.

و أخيراً:ما ذكره من أنّ السلف لم يحتفل بذلك مع قيام المقتضي له و عدم المانع منه،كلام خال عن التحقيق،و ذلك للأُمور التالية:

أوّلاً:أنّ المسلمين قد احتفلوا بذكراه في أواسط القرن الرابع في القاهرة، و ذلك في خلافة المعز لدين اللّه عام 361ه،ثمّ درج عليه حكام الأقطار الإسلامية الأُخرى عدة قرون،و بذلك تحقّق الإجماع على جوازه و استحبابه قبل أن يولد ابن تيمية(662- 728ه).و انعقد قبله بقرون،و إجماع المسلمين على جواز شيء في عصره حجّة في أعصار متوالية؟!

ثانياً:أنّ الصحابة لم تحتفل بذلك،ففيه أنّ عملهم دليل على الجواز،و أمّا عدم احتفالهم فلا يعدّ دليلاً على التحريم،و كم من مشاريع علمية و صناعية قام

ص:438

بها المسلمون في أعصار متأخرة لم يقم بها الصحابة و التابعون.

ثالثاً:إذا اشتملت هذه الاحتفالات على أُمور محرّمة فلا شكّ أنّه حرام،و لذا يجب تنزيه الاحتفال عن كلّ أمر محرم،و لكنّه لا يكون دليلاً على حرمة الاحتفال إذا كان نزيهاً.

كلمتان قيّمتان في المقام

و في هذا المقام كلمتان قيمتان إحداهما للعلاّمة الأميني و الأُخرى للأُستاذ سعيد حوّى.

قال العلاّمة الأميني:«لعلّ تجديد الذكرى بالمواليد و الوفيات،و الجري على مراسم النهضات الدينية،أو الشعبية العامّة،و الحوادث العالمية الاجتماعية، و ما يقع من الطوارق المهمة في الطوائف و الأحياء،بعدِّ سنيها،و اتخاذ رأس كلّ سنة بتلكم المناسبات أعياداً و أفراحاً،أو مآتماً و أحزاناً،و إقامة الحفل السارّ،أو التأبين،من الشعائر المطّردة،و العادات الجارية منذ القدم،و دعمتها الطبيعة البشرية،و أسّستها الفكرة الصالحة لدى الأُمم الغابرة،عند كلّ أُمّة و نحلة،قبل الجاهلية و بعدها،و هلم جرّاً حتى اليوم.

هذه مراسم اليهود،و النصارى،و العرب،في أمسها و يومها،و في الإسلام و قبله،سجّلها التاريخ في صفحاته.

و كأنّ هذه السُّنّة نزعة إنسانية،تنبعث من عوامل الحب و العاطفة،و تسقى من منابع الحياة،و تتفرع على أُصول التبجيل و التجليل،و التقدير و الإعجاب، لرجال الدين و الدنيا،و أفذاذ الملأ،و عُظماء الأُمّة إحياءً لذكراهم،و تخليداً لاسمهم،و فيها فوائد تاريخية اجتماعية،و دروس أخلاقية ضافية راقية، لمستقبل

ص:439

الأجيال،و عظات و عبر،و دستور عملي ناجع للناشئة الجديدة،و تجارب و اختبارات تولد حنكة الشعب،و لا تختصّ بجيل دون جيل،و لا بفئة دون أُخرى.

و إنّما الأيّام تقتبس نوراً و ازدهاراً،و تتوسّم بالكرامة و العظمة،و تكتسب سعداً و نحساً،و تتخذ صبغة ممّا وقع فيها من الحوادث الهامّة،و قوارع الدهر و نوازله.... (1)

و قال الأُستاذ سعيد حوّى:و الّذي نقوله:أن يعتمد شهر المولد كمناسبة يُذكّر بها المسلمون بسيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و شمائله،فذلك لا حرج فيه،و أن يعتمد شهر المولد كشهر تهيج فيه عواطف المحبة نحو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فذلك لا حرج فيه،و أن يُعتمد شهر المولد كشهر يكثر فيه الحديث عن شريعة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،فذلك لا حرج فيه،و انّ ممّا أُلّف في بعض الجهات أن يكون الاجتماع على محاضرة و شعر،أو إنشادٍ في مسجد،أو في بيت بمناسبة شهر المولد،فذلك ممّا لا أرى حرجاً فيه،على شرط أن يكون المعنى الّذي يُقال صحيحاً.

إنّ أصل الاجتماع على صفحةٍ من السيرة،أو على قصيدة في مدح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جائز،و نرجو أن يكون أهله مأجورين،فإن يُخصص للسيرة شهر يُتحدث عنها فيه بلغة الشعر و الحب فلا حرج.

أ لا ترى لو أنّ مدرسة فيها طلاّب خصصت لكل نوعٍ من أنواع الثقافة شهراً بعينه،فهل هي آثمة؟ ما نظن أن الأمر يخرج عن ذلك.

و يضيف إلى ذلك القول:

لقد كان الأُستاذ حسن البنا رجل صدق،و ثاقب نظر،و إماماً في العلم،و كان يرى إحياء المناسبات الإسلامية في عصر مضطرب مظلم قد غفل فيه

ص:440


1- 1) .سيرتنا و سنتنا:38- 39،الطبعة الثانية.

المسلمون،و جهلوا فيه كثيراً من أُمور دينهم،و من كلامه رحمه الله في مذكّراته:

إحياء جميع الليالي الواجب الاحتفال بها بينَ المسلمين،سواء بتلاوة الذكر الحكيم،و بالخطب،و المحاضرات المناسبة....

إلى أن قال:

و المتشدّدون في مثل هذه الشئون تشدّدهم في غير محلّه،فليس الأصل في الأشياء الحرمة،بل الأصل فيها الإباحة،حتّى يرد النصّ بالتحريم،و فهمهم لحديث:«كلّ ما ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ»فهم خاطئ.... (1)

3.حفظ الآثار الإسلامية

إنّ لصيانة الآثار الإسلامية من عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا سببين:

1.الحب:فإنّ حبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم و حبّ شريعته و ما تمتّ إليه بصلة،يدفع الإنسان إلى العناية بكلّ ما يتّصل بها،حتّى الألبسة الّتي صلّوا فيها و الآنية الّتي شربوا بها،كلّ ذلك انعكاس طبيعي لهذا الحب الكامن في النفوس و الود المكنون في الطبيعة البشرية.

و ليس هذا أمراً مختصّاً بالمسلمين،بل الأُمم المتحضّرة المعتزّة بماضيها و تاريخها تسعى إلى صيانة كلّ أثر تاريخي باق من الماضي.

2.انّ لهدم الآثار و المعالم التاريخية الإسلامية لا سيّما في مهد الإسلام مكّة و مهجر النبي صلى الله عليه و آله و سلم المدينة المنورة،نتائج سيئة و مضاعفات خطيرة على الأجيال اللاحقة،الّتي سوف لا تجد أثراً لوقائع التاريخ الإسلامي،و الأمر الّذي قد يدفعها

ص:441


1- 1) .كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر:36- 39،الفصل 6؛السيرة بلغة الحبّ و الشعر،كما في البدعة للدكتور الباقري:261- 262. [1]

إلى الاعتقاد بأنّ الإسلام قضية مفتعلة و فكرة مبتدعة ليس لها جذور في التاريخ.

و لنعتبر بما مرّ على الديانة المسيحية،فقد تحولت في الغرب إلى أُسطورة تاريخية،و ذلك لأنّ قسماً من المحقّقين يشكّكون مبدئياً في وجود رجل اسمه المسيح و أُمّه مريم و كتابه الإنجيل،لما ذا؟ لأنّهم لا يجدون أي أثر ملموس لصاحب الشريعة:المسيح،و لا لأُمّه،و لا لتلامذته و أصحابه،و أصبح (الإنجيل) كتاب ترجمة لحياته و ليس كلاماً موحى به إليه لبيان المعارف و الشريعة.

إنّ رسالة الإسلام رسالة خالدة و دائمة إلى يوم القيامة،و اللّه سبحانه يعلم مدى عمر الرسالة الّذي يمتدّ إلى يوم البعث و النشور.

فرسالة هذا شأنها تفرض على كلّ جيل أن يحافظ على كلّ ما يمت إليها بلا تحوير و لا تخريب ليكون الطريق وضّاءً للأجيال القادمة،و لكي لا تنقطع صلتهم بالماضي.

و لذا اهتم المسلمون منذ أربعة عشر قرناً بصيانة الآثار الإسلامية،كمرقد النبي صلى الله عليه و آله و سلم و مراقد آله و أصحابه،و المساجد الّتي صلوا فيها،و المصاحف الّتي خطّوها بأيديهم،و الآبار الّتي شربوا منها،و الألبسة و الأواني الباقية بعدهم،و كلّ ما يرتبط بهم.

و لكن-يا للأسف-استولى على هذه المعالم و الآثار رجال لا يعرفون البدعة و لا حدودها الصحيحة،فتصوّروا أنّ وجود هذه الآثار من البدع الّتي ينبغي مكافحتها،فراحوا يهدمون قبور الصحابة و أُمّهات المؤمنين و آل البيت حتّى تركوها قاعاً صفصفاً،لا يعلم و لا يعرف قبر هذا من هذا.

و في ظل هذه الرؤى الضيّقة هدم البيت الّذي تأرّج بأنفاس السيدة خديجة الكبرى أُمّ المؤمنين و حبيبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و سطع بمولد الزهراء عليها السلام فيه، البيت الّذي

ص:442

كان مهبط الوحي الأوّل على الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من ربّ العزة و الجلال.

و قد كان هذا البيت وراء المروة و قد تبدّل الآن إلى ما ترى،فأين الخوف من اللّه تعالى؟!

و قد كانت البقعة الشريفة الّتي ولد فيها النبي صلى الله عليه و آله و سلم باقيةً إلى أعصارنا،فهدّمت و جُعلت سوقاً للبهائم،إلى أن وفق اللّه رجلاً من الصالحين فحوّلها بطريقة ذكية إلى مكتبة،و هي مكتبة مكة المكرمة الرائجة،قريباً من فندق الرواسي.

إنّ صيانة الآثار أمر نابع من حب النبي و هو السبب للإبقاء عليها و صيانتها و ترميمها.

و العجب أنّ المعاول تهدم آثار نبي التوحيد و الداعي إليه و تقضي عليها باسم التوحيد!!

ما ذا يريدون من التوحيد؟ هل يريدون التوحيد في العبادة؟ فالمسلمون جميعاً يعبدون اللّه وحده لا غيره.و هل صيانة آثار النبي-حبّاً له-عبادة للآثار؟ لا أدري و لا المنجم يدري!!

المقوّم الثالث:الإشاعة و الدعوة

اقتصر المحقّقون في تفسير البدعة على العنصرين السابقين:

1.التدخّل في الدين بالزيادة و النقيصة.

2.عدم وجود رصيد لها في الدين.

و لم يذكروا العنصر الثالث،و هو دعوة الناس إلى البدعة و إشاعتها بين الناس.

إنّ قيام شخص بإضافة شيء إلى الدين أو حذف شيء منه دون أن يكون له

ص:443

دعوة إليهما يعدّ عملاً محرماً،و لا يوصف بالبدعة إلاّ بعد دعوة الناس إلى العقيدة و الفكرة الخاطئة الّتي يحملها.

و هذا هو الظاهر من بعض الروايات.

روى مسلم عن أبي هريرة قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أُجور من تبعه،و من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مَنْ يتبعه لا ينقص من آثامهم شيئاً». (1)

و يدلّ على ذلك أيضاً قول القائل يوم القيامة مخاطباً النبي صلى الله عليه و آله و سلم عند الحوض:

«أنّهم قد بدّلوا بعدك» (2)فإنّ تبديل الدين ليس عملاً قائماً بالشخص،بل عمل قائم به و بمن حوله.

و قد كان الإمام السيد الخميني قدس سره يركّز على هذا القيد،و يرى أنّ البدعة وراء العنصرين السابقين تمتلك هذا العنصر أيضاً،و لولاه لما صدق عليها عنوان البدعة و إن كانت تعدّ أمراً محرّماً.

ص:444


1- 1) .صحيح مسلم:62/8،كتاب العلم.
2- 2) .صحيح مسلم:150/1،كتاب الطهارة.

7

سنّة الخلفاء الراشدين

هل كانت ثمّة سنّة،وراء سنّة النبي؟

يظهر من بعض الروايات و كلمات بعض أهل السنّة أنّ هناك سنّة وراء سنّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هي حجّة كسنّته.

و استدلّوا على ذلك بما رواه العرباض بن سارية قال:صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم صلاة الفجر،ثمّ وعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون،و وجلت منها القلوب،فقال قائل:يا رسول اللّه كأنّها موعظة مودّع فأوصنا،فقال:

أُوصيكم بتقوى اللّه و السمع و الطاعة و إن كان عبداً حبشياً،فإنّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً،فعليكم بسنّتي و سنّة الخلفاء الراشدين المهديين عضّوا عليها بالنواجذ. (1)

و هذه الرواية تدلّ على أنّ للخلفاء سنّة كسنّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و سنّتهم حجّة كسنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:445


1- 1) .سنن الترمذي:340/5،كتاب العلم،الباب السادس عشر،الحديث2676؛سنن أبي داود:200/4،باب لزوم السنة،الحديث4607، [1]إلى غير ذلك من المصادر.

روى السيوطي:قال حاجب بن خليفة شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب و هو خليفة،فقال في خطبته:ألا و إنّ ما سنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و صاحباه فهو دين نأخذ به و ننتهي إليه و ما سنّ سواهما فإنّا نرجئه. (1)

و يظهر من الذهبي:قبوله للحديث إذ قال:السنّة ما سنّه النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الخلفاء الراشدون من بعده. (2)

يقول مؤلّف كتاب«السنة قبل التدوين»:تطلق السنة أحياناً على ما عمل أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و إن لم يكن في القرآن و في المأثور عنه صلى الله عليه و آله و سلم، و قد كان يفرق بعض المحدثين فيرى الحديثَ هو ما ينقل عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و السنّة ما كان عليه العمل المأثور في الصدر الأوّل. (3)

نرى هناك اختلافاً بارزاً بين حديث العرباض و ما ذكره عمر بن عبد العزيز، فالأوّل يوسّع الموضوع و يضفي الحجية على عامّة الخلفاء الراشدين، لكن الخليفة الأموي يخصّ الحجّية بالشيخين و يُرجئ سنن الصهرين،كما أنّ مؤلّف التدوين يفرط و يطلقها على عمل أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من دون استثناء.

و لكن الجميع سراب لا ماء.

و الأصل في ذلك هو رواية العرباض بن سارية،و هي مخدوشة سنداً و مضموناً.

أمّا الأوّل:فإنّ أسانيد الحديث تصل إليه و كلّها أسانيد غير نقية.يعلم بالرجوع إلى الأسانيد الّتي روى الحديث بها.

ص:446


1- 1) .تاريخ الخلفاء:160؛ [1]كنز العمال:332/1.
2- 2) .سير أعلام النبلاء:116/7.
3- 3) .السنة قبل التدوين:8.

و لو افترضنا صحّة الأسانيد فإنّ الجميع ينتهي إلى شخص واحد فلا يتجاوز الحديث عن كونه خبراً واحداً،و الخبر الواحد لا يحتج به في الأُصول،و إن كان يحتج به في الأحكام،و ذلك لأنّ إضفاء الحجّية على سنن الخلفاء الراشدين مسألة أُصولية،و لا يقبل فيها إلاّ الدليل القطعي.

نعم دلّت الأدلّة القطعية على حجّية خبر الواحد في الأحكام الفرعية العملية، و أمّا العقائد أو المسائل الأُصولية فلا يحتج فيها بخبر الواحد.و أسانيد الحديث مهما كثرت فهي تصل إلى شخص واحد.

هذا ما يرجع إلى السند.

نظرة إلى مضمون الرواية:

و أمّا المضمون فهو مردود من وجوه:

1.إنّ العمل بمضمونه مستحيل،لاختلاف سيرة الخلفاء،و كيف يمكن أن يتعبّدنا الشارع بالمتناقضات من سيرتهم.

فهذا هو أبو بكر قد ساوى في توزيع الأموال الخراجية،و خالفه عمر حيث فرّق فيها،و كان أبو بكر يرى طلاق الثلاث واحداً،و رآه عمر ثلاثاً.

و أمّا الاختلاف بين سيرة الشيخين و عثمان فواضح جدّاً حتّى أنّ اختلافه معهما قد أودى بحياته،حيث أثار حفيظة المسلمين على خلافته فقتل في عقر داره.

كما أنّ اختلاف سيرة علي عليه السلام مع عثمان،بل مع الجميع واضح لمن استقرأ التاريخ،فكيف يمكن للنبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يتعبّدنا بالعمل بالمتناقضات؟

و ممّا يؤكّد ذلك أنّ عبد الرحمن بن عوف لمّا بايع علياً بشرط العمل بالكتاب

ص:447

و السنّة و سيرة الشيخين،رفض علي عليه السلام بيعته،و قال:«أعمل بكتاب اللّه و سنّة نبيّه».

2.إنّ من مراتب التوحيد،التوحيد في التشريع و التقنين،فهما حقّ للّه تبارك و تعالى لا يشاركه فيه أحد،و النبي صلى الله عليه و آله و سلم بحكم أنّه معصوم يحكي بقوله و فعله و تقريره،تشريعه سبحانه تبارك و تعالى و ليس لأحد أن يشرع حكماً لقوله سبحانه: «إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ». 1

و المراد من الحكم،هو الحكم التشريعي لا التكويني؛بقرينة قوله: «أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ».

فما أشبه قول من أثبت حقّ التشريع لغيره سبحانه تبارك و تعالى،بما عليه أهل الكتاب،كما حكاه سبحانه بقوله: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ». 2

روى السيوطي في«الدر المنثور»عن عدّة من المحدّثين منهم البيهقي في سننه عن عدي بن حاتم قال:أتيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو يقرأ في سورة براءة «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ» فقال:أما إنّهم لم يكونوا يعبدونهم و لكن كانوا إذا أحلّوا لهم شيئاً استحلّوه،و إذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه. (1)

و ثمة كلمة قيّمة للشوكاني (و قد وقف على خطورة الموقف و أنّ إثبات السنّة لغير النبي قول بنبوتهم) جاء فيها:و الحقّ انّه-رأي الصحابي-ليس بحجة، فإنّ اللّه لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم،و ليس لنا إلاّ رسول واحد و كتاب واحد،و جميع الأُمّة مأمورة باتّباع كتابه و سنّة نبيه،و لا فرق بين الصحابة و من

ص:448


1- 3) .الدر المنثور:330/3. [1]

بعدهم في ذلك،فكلّهم مكلّفون بالتكاليف الشرعية و باتّباع الكتاب و السنّة، فمن قال:إنّها تقوم الحجّة في دين اللّه عز و جلّ بغير كتاب اللّه تعالى و سنّة رسوله صلى الله عليه و آله و سلم و ما يرجع إليها،فقد قال في دين اللّه بما لا يثبت. (1)

3.كيف تكون سنّة الخلفاء سنّة شرعية إلهية يجب العمل بها مع أنّ الخلفاء لم يكونوا يرون لأنفسهم هذا المقام،و هذا هو عمر بن الخطاب كان يقول:

إنّي لعلّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم،و آمركم بأشياء لا تصلح لكم. (2)

و من الكلمات الرائجة المنقولة عن أبي بكر:أقول فيها برأيي فإن أصبت فمن اللّه،و إن أخطأت فمنّي أو من الشيطان. (3)

فالرأي الّذي يتردّد بين كونه من اللّه أو من الشيطان هل يمكن أن يكون سنّة شرعية يجب على الأجيال اتّباعها و العمل بها؟! لا و اللّه.

4.اتّفق أهل السنّة عن بكرة أبيهم أنّ منصب الخلافة منصب انتخابي،و أنّ المهاجرين و الأنصار أو أهل الحل و العقد أو غيرهم يختارون خليفة الإسلام و قائد المسلمين و ان ليس هناك أيّ تنصيص من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم على خليفته، و لكنّ الحديث يشير إلى أنّ للرسول خلفاءً راشدين،و أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تنبّأ بهم،خاصّة إذا فسرنا قوله بالخلفاء الأربعة،لغاية إخراج سائر الخلفاء:

الأُمويّين و العباسيّين.

فالتصريح من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم باقتفاء سنّة الخلفاء الراشدين،هو نوع تعيين للخليفة بعده و تنبأ عنه لهم بالرشد،و هو على النقيض ممّا أطبق عليه أهل السنّة من عدم وجود نصّ من النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أمر الخلافة لا تصريحاً و لا إيماءً و إشارة،و إنّما خوِّل الأمر إلى الأُمّة.

ص:449


1- 1) .إرشاد الفحول:214.
2- 2) .تاريخ بغداد:81/14. [1]
3- 3) .سنن الدارمي:366/2،باب الكلالة؛ [2]سنن البيهقي:223/6.

8

اشارة

البدعة في تحديد البدعة

قد تعرفت على أنّ البدعة هو التدخّل في أمر العقيدة و الشريعة بزيادة شيء عليهما أو نقيصته منهما.و المرجع في التعرف عليهما على الوجه الصحيح هو المصادر القطعية التالية:

1.كتاب اللّه المنزل الذي هو تبيان لكلّ شيء،كما قال سبحانه: «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ». 1

2.السنّة الشريفة التي رواها الثقات عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في الأحكام الفرعية،و السنّة المتواترة في مجال العقائد و المعارف.

3.ما أجمع عليه المسلمون في عامّة الأعصار.

4.العقل الحصيف الذي به عرفنا اللّه سبحانه و صفاته و أفعاله.

و هناك من يرى أنّ ثمّة مرجعاً آخر تُحدّد به البدعة،و هو القرون الثلاثة الأُولى،فما حدث فيها فهو سنّة و ما حدث بعدها فهو بدعة،فتكون تلك القرون ملاكاً لتمييز البدعة عن السنّة.

ص:450

و على هذا درج محمد بن عبد الوهاب و قال:إنّ البدعة-هي ما حدثت بعد القرون الثلاثة-مذمومة مطلقاً خلافاً لمن قال:حسنة و قبيحة،و لمن قسّمها خمسة أقسام إلاّ ان أمكن الجمع بأن يقال:الحسنة ما عليها السلف الصالح شاملة للواجبة و المندوبة و المباحة و تكون تسميتها بدعة مجازاً،و القبيحة ما عدا ذلك شاملة للمحرمة و المكروهة فلا بأس بهذا الجمع. (1)

و قد ورث هذه الفكرة كثير ممّن يؤمن بمنهج ابن عبد الوهاب،و منهم عبد اللّه بن سليمان بن بليهد الّذي قام باستفتاء علماء المدينة بشأن تخريب قباب الصحابة و أئمّة أهل البيت في بقيع الغرقد عام 1344ه و جاء في مقاله:

لم نسمع في خير القرون أنّ هذه البدعة-البناء على القبور-حدثت فيها بل بعد القرون الخمسة. (2)

و لعلّ الأُستاذ و التلميذ و كلّ من اقتفى منهج الأُستاذ،استندوا في هذه الضابطة إلى ما رواه البخاري قال:سمعت عمران بن الحصين يقول:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:خير أُمّتي قرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم-قال عمران:فلا أدري أ ذَكَر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة-ثمّ إنّ بعدكم قوماً يشهدون و لا يستشهدون،يخونون و لا يُؤتمنون،و يَنذرون و لا يفُون،و يظهر فيهم السمن.

و روى أيضاً عن عبد اللّه بن عمر أنّ النبي قال:خير الناس قرني،ثمّ الذين يلُونهم،ثمّ يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه،و يمينه شهادته. (3)

ص:451


1- 1) .الهدية السنية،الرسالة الثانية:51.
2- 2) .كشف الارتياب، [1]للسيد الأمين العاملي:357/1- 358.
3- 3) .فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر:6/7،باب فضائل أصحاب النبي،شرح صحيح مسلم للنووي:84/8- 85.

نظرة في مضمون الحديث

نحن لا نناقش سند الحديث،لأنّه مروي في صحيح البخاري و مسلم و هما فوق أن يناقشا على زعم القوم،إنّما الكلام في مضمونه حيث إنّه على فرض الصحّة لا يثبت ما رامه القائل من نزاهة القرون الثلاثة الأُولى عن وجود البدعة و التحريف.و ذلك لأنّ القرن في اللغة بمعنى النسل. (1)و في هذا المعنى استعمله الذكر الحكيم فقال سبحانه: «فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ» 2.

فإذا كان القرن بمعنى النسل،فلنرجع إلى تفسير الحديث،المروي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:خير أُمّتي قرني.

ثمّ الذين يلونهم.

ثمّ الذين يلونهم.

على ضوء تفسير القرن بالنسل يكون المراد من قوله«قرني»هو النسل الحاضر و المعاصر للرسول صلى الله عليه و آله و سلم و المنقرض برحيله،أو بعده بشيء.

و يكون المراد من قوله:

«ثمّ الّذين يلونهم» هو النسل الثاني بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،كما يكون المراد من قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«ثمّ الذين يلونهم» هو النسل الثالث بعد مضي سبعين سنة-مثلاً-من النسل الثاني.

فإذا افترضنا انّ كلّ نسل عاش سبعين سنة،فإنّ الاستدلال بالرواية لا يصحّ إذن لتنزيه من عاش بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بأكثر من (140)سنة.

فأين ذلك من صيانة من عاش خلال الثلاثمائة سنة الّتي أعقبت رحلة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ؟!

ص:452


1- 1) .لاحظ كتاب العين للخليل؛لسان العرب لابن منظور،مادة«قرن».

أقوال شرّاح الحديث

هذا،و قد اختلف شرّاح الحديث في تفسير الرواية على أقوال،لم يسعف أيّ واحد منها ما يتبنّاه الكاتب من رأي في هذا الموضوع.

قال بعضهم:إنّ المراد من القرن في قوله«قرني»هو أصحابه،و من«الذين يلونهم»أبناؤهم،و من الثالث أبناء أبنائهم.

و قال آخر:إنّه قرنه ما بقيت عين رأته صلى الله عليه و آله و سلم،و من الثاني ما بقيت عين رأت من رآه،ثمّ كذلك.

و ذهب ثالث إلى:أنّ قرنه:الصحابة،و القرن الثاني:التابعون،و الثالث:تابعو التابعين.

كلّ ذلك تخمينات و انطباعات شخصية ليس عليها دليل،و على تقدير صحتها لا ينطبق شيء منها على ما يتبنّاه الكاتب الّذي يريد إضفاء الصيانة و العصمة على أبناء ثلاثة قرون أي300 سنة.

و لأجل عدم انطباقه على ثلاثمائة سنة،قال ابن حجر العسقلاني في الفتح:

و في هذا الوقت (220ه) ظهرت البدع فاشيةً،و أطلقت المعتزلة ألسنتها، و رفعت الفلاسفة رءوسها،و امتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن،و تغيّرت الأحوال تغيّراً شديداً،و لم يزل الأمر في نقص إلى الآن. (1)

و لا عتب على ابن حجر،لأنّه محدِّث و ليس له باع في تاريخ العقائد أو في حقل الملل و النحل،فالبدع التي ادّعاها قد ظهرت في نفس القرن الأوّل و ليس في القرون المتأخّرة عنه.

فقد ظهرت فكرة الإرجاء بمعنى تقديم الإيمان و تأخير العمل في أواخر

ص:453


1- 1) .فتح الباري في شرح صحيح البخاري:4/7.

القرن الأوّل،كما ظهر الاعتزال في أوائل القرن الثاني و قبل وفاة الحسن البصري(111ه) بقليل. (1)

خير القرون:ما ساد فيها الصلح و الصفاء

ما ذا يريد القائل من قوله:«خير القرون قرني...»؟ فإنّ خير القرون ما ساد فيه الصلح بين أفراد المجتمع،فهل كان الأمر كذلك؟ كلاّ،و لا،بشهادة أنّ المجتمع الإسلامي كان مسرحاً لحروب طاحنة.

ففي أي يوم ساد الصلح؟

أ يوم معركة الجمل (عام 36ه) الّتي قُتل فيها الآلاف من الطرفين بين صحابي و تابعي،و ما أسفر عن ذلك من ترميل النساء و أيتام الأطفال و حدوث الأزمة و الشدّة؟

أم يوم صفّين (عام 37ه) الّذي نازع فيه معاوية الإمام عليّاً عليه السلام الذي بايعه المهاجرون و الأنصار،بيعة لم ير لها نظير في التاريخ،و ما تبع ذلك من صِدَام مسلّح بين الطائفتين أُريقت فيه دماء عشرات الأُلوف إلى أن انتهى بالتحكيم؟

أم يوم ظهور الخوارج(عام38ه) على الساحة الإسلامية يُغيرون و يقتلون الأبرياء،إلى أن انتهت فتنتهم بقتل مشايخهم في النهروان؟

و إن يُنسَ شيء فلا يُنسى ذلك اليوم الّذي أُغير فيه على آل رسول اللّه بكربلاء عام (61ه) و قتل فيه أبناء المصطفى و فيهم سبطه و ريحانته سيد شباب أهل الجنّة،و سُبيت بنات الزهراء و من معهنّ من نساء أهل البيت حتّى لم يبقَ بيت

ص:454


1- 1) .لاحظ بحوث في الملل و النحل:ج2، [1]فصول الإرجاء و الاعتزال و المناهج الرجعيّة.

له برسول اللّه صلة إلاّ و قد ضجَّت فيه النوائح و عمّته الآلام و الأحزان.

و إن شئت فاستمع للتاريخ يحدّثك عن وقعة الحرّة(سنة62ه) الّتي أُبيحت فيها مدينة رسول اللّه،و قتل فيها أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم و التابعون،و نهبت الأموال،و بقرت بطون الحوامل،و هتكت الأعراض،حتى ولدت الأبكار لا يعرف من أولدهنّ. (1)

و اقرأ ما حدث في (سنة 64ه) حيث حاصر جيش بني أُمية مكّة المكرمة و البيت العتيق و رموه بالحجارة،لأجل القضاء على عبد اللّه بن الزبير.

و ما جرى في (سنة 65ه) فقد تسلّم فيها عبد الملك بن مروان منصّة الخلافة و عيّن الحجاج بن يوسف عاملاً على العراق،فأقدم هذا الطاغية على سفك الدماء الطاهرة و زجّ الأبرياء من الرجال و النساء في السجون من دون أن تظلّهم مظلّة تقيهم حرّ الشمس و برد الليل القارص.

هذه الحوادث الدموية الّتي ذكرناها لك (و أعرضنا عن غيرها للاختصار) قد وقعت في القرن الأوّل،فكيف يعتبر ذلك القرن خير القرون و أفضلها و إن كان صاحب القرن هو الرسول الأعظم أفضل الخلق؟! و أين سيرته،من سيرة أُمّته التي وقفتَ على صورة مجملة من سيرتها الدموية. (2)

خير القرون لأجل تمسّك أهلها بالدين

و لعلّ بين المحدّثين من يفسّر الخيرية،بكون أهلها متمسّكين بأهداب

ص:455


1- 1) .راجع منهج في الانتماء المذهبي لصائب عبد الحميد:277.
2- 2) .للوقوف على هذه الحوادث المرّة،لاحظ:تاريخ الطبري،و تاريخ اليعقوبي،و مروج الذهب للمسعودي،و تاريخ الكامل للجزري،و الإمامة و السياسة لابن قتيبة و غيرها من المصادر.

الشريعة،لا يختلفون عنها قيد شعرة،بخلاف القرون التالية،فقد شاع فيها الارتداد،و الفساد.

و هذا النوع من التفسير،لا يصدقه التاريخ الصحيح،و إن كنت في ريب فأقرأ - في صفحات التاريخ-ما حدث بعد رحيل النبي في نفس عام الرحلة،فإنّ كثيراً ممّن رأى النبيّ الأكرم و أدركه و سمع حديثه أصبح يمتنع عن أداء الزكاة، بل أصبح البعض مرتدّاً عن دين الإسلام لو لا أنّ الخليفة الأوّل قام بقمعهم و ردّ عاديتهم.

لا ندري هل نصدق هذا الحديث أم نؤمن بما حدّث به القرآن الكريم،حيث يعرّف قوماً بأنهم أفضل و أعرف بمبادئ الإسلام ممّن كان في حضرة النبيّ من الصحابة الكرام،يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» 1 قل لي من هؤلاء الذين يعتزّ اللّه بهم سبحانه و يفضّلهم على أصحاب النبيّ؟ فلاحظ التفاسير. (1)

لا ندري هل نؤمن بهذا الحديث الذي رواه الشيخان،أم نؤمن بما روياه هما أيضاً في باب آخر،قالا:قال رسول اللّه:«يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُحلّئون عن الحوض فأقول:يا ربّ أصحابي،فيقول:إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى». (2)

ص:456


1- 2) .الرازي:مفاتيح الغيب:427/3؛ [1]تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري:165/6. [2]
2- 3) .جامع الأُصول:120/11برقم 7973.

9

اشارة

الترامي بالابتداع

إنّ القرآن الكريم يأمر المسلمين بالاعتصام بحبل اللّه المتين و يقول:

«وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً». 1

و قد استخدم الذكر الحكيم لفظ«الحبل»في الآية الآنفة الذكر و لم يستعمل لفظ الدين أو ما يرادفه،و ذلك لأنّ في استخدام«الحبل»نكتة بديعة و هي أنّ الأُمّة المتفرقة المختلفة،كالساقط في البئر لا يتمّ إنقاذه إلاّ بإرسال الحبل إليه ليتمسّك به و يخرج من البئر سالماً.

فالأُمّة الإسلامية إذا ما انضوت تحت لواء الوحدة في الفكر و العقيدة و العمل أُتيحت لها القوة و غمرتها السعادة،و أمّا إذا تفرّقت و تنافرت،فإنّها ستصبح كحال المتردّي في البئر،المشرف على الهلاك.

ارتحل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و ترك شريعة ناصعة و طريقاً مهيعاً لا يضلُّ فيه سالكه.بيد أنّ الأحداث الّتي جرت بعده شتّتت وحدة المسلمين و جعلتهم

ص:457

طوائف و فئات يكيل بعضها لبعض تُهم الابتداع و التكفير و التفسيق.

و هذا داء عضال ينخر في جسم الأُمّة الإسلامية إلى يومنا هذا و لا يعالج إلاّ بسعي رؤساء الطوائف الإسلامية لتوحيد الكلمة و الأخذ بالمشتركات و الإغماض عمّا يفرّق و يشتت،و هذا هو واجب المسلمين و وظيفتهم أمام التيّارات الإلحادية القادمة من الغرب،لأجل نشر التحلّل الديني.

و لا أظن أنّ من له مسيس معرفة بالأوضاع العالمية أن يتصوّر غير ذلك، و يسلك مسلكاً مغايراً.

و لهذه الغاية قام نخبة من فطاحل علماء الفريقين بتأسيس دار باسم«دار التقريب بين المذاهب الإسلامية»لأجل تقريب الخطى و توطيد الأُخوة الإسلامية،و في طليعة من ساهم في تعزيز الإخاء و ترسيخ الوفاق:الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء،و السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي، و الشيخ محمد جواد مغنية(من علماء الشيعة)،و الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الأزهر،و الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر،و الشيخ محمد المدني(من علماء السنّة)،و غيرهم من الأفاضل الأفذاذ الذين كانت تنبض قلوبهم بتوحيد الكلمة و لمّ الشعث.

و لكن الّذي يثير العجب أن تظهر-في غضون تاريخ الأُمّة-طائفة توزّع تهمة الابتداع على عامة الفرق الإسلامية دون أن تحاسب كلّ فرقة بخصوصها.

فهذا هو ابن تيمية (662- 728ه) يتكلّم في مسألة كلام اللّه سبحانه فيقول:

و من تدبّر هذا الباب وجد أهل البدع و الضلال لا يستطيلون على فريق منتسبين إلى السنّة و الهدى،إلاّ بما دخلوا فيه من نوع بدعة أُخرى،و ضلال آخر،لا سيما إذا وافقوهم على ذلك،فيحتجون عليهم بما وافقوهم عليه من ذلك،و يطلبون لوازمه حتّى يُخرجوهم من الدين إن استطاعوا خروج الشعرة من

ص:458

العجين،كما فعلت القرامطة الباطنية،و الفلاسفة،و أمثالهم بفريق فريق من طوائف المسلمين.

و المعتزلة استطالوا على الأشعرية و نحوهم من المثبتين للصفات و القدر،بما وافقوهم عليه من نفي الأفعال القائمة باللّه تعالى،فنقضوا بذلك أصلهم الّذي استدلّوا به عليهم،من أنّ كلام اللّه غير مخلوق،و أنّ الكلام و غيره من الأُمور إذا خلق (1)بمحل عاد حكمه على ذلك المحل،و استطالوا عليهم بذلك في مسألة القدر و اضطرّوهم إلى أن جعلوا نفس ما يفعله العبد من القبيح،فعلاً للّه ربّ العالمين دون العبد (2)إلى آخر كلامه.

ترى أنّه يهاجم في كلامه هذا و في غيره،عامة الفرق و يصفهم بالبدع و الضلال،مع أنّ أكثر الفرق الإسلامية لم يفترقوا في الأُصول التي أُنيط بها الإيمان و الإسلام،كالتوحيد و الرسالة الخاتمة و معاد يوم القيامة،و ما للّه سبحانه من صفات الجمال و الجلال.

و المسائل الّتي شتّتت الأُمّة الإسلامية إلى طوائف،أكثرها يرجع إلى مسائل كلامية و أُمور نظرية لا تمسّ العقيدة الإسلامية الّتي فرضت على الأُمّة جمعاء.

فالاختلاف في الفلكيات و الجواهر و الأعراض،و المسائل النظرية المعقّدة لا يعدّ اختلافاً في الدين،و لا خروجاً عن الإيمان و الإسلام.و أكثر المسائل الّتي شتّتت المسلمين،هي مسائل فكرية كلامية لا تمتّ بصلب الإيمان و العقيدة.

ص:459


1- 1) .كذا في المطبوع و لعلّ الصحيح«حلّ».
2- 2) .مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية:365.

هل القول بالقدر بدعة؟

كلّما أطلق القدر-عند أهل الحديث و مؤرّخي العقائد-يراد به نفي القدر، و كلّما قيل:القدرية،يراد به نفاة القدر (1)و بالتالي القائلون بكون الإنسان حراً مختاراً في فعله مسئولاً عن عمله،و الاختيار بهذا المعنى هو أساس الشرائع السماوية.فلولا أنّ الإنسان حرّ في عمله لبطلت التكاليف و أُلغيت جهود علماء التربية.

و مع ذلك فقد بلغ الجمود في فهم الإسلام إلى حدّ عُدّ فيه القدرية بهذا المعنى من الفرق المبتدعة،و القول بالقدر بالمعنى السابق بدعة،و هذا هو عمر بن عبد العزيز يرى أنّ الجبر نفس الإسلام و أنّ القول بالقدر ينافي إحاطة علمه سبحانه بأفعال العباد،و له رسالة في ذلك الصدد ذكرها أبو داود.

قال:كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر؟ فكتب:أمّا بعد؛ أوصيك بتقوى اللّه،و الاقتصاد في أمر اتّباع سنّة نبيه،و ترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت فيه سنته،و كُفُوا مئونته.فعليك بلزوم السنّة فإنّها لك بإذن اللّه عصمة...إلى أن قال:

ما أعلم ما أحدث الناس من محدثة و لا ما ابتدعوا من بدعة هي أبيَنُ أثراً و لا أثبت أمراً من الإقرار بالقدر،لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلّمون به في كلامهم و في شعرهم،يُعَزُّون به أنفسهم على ما فاتهم،ثمّ لم يزده الإسلام بعدُ إلاّ شدّة،و لقد ذكره رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في غير حديث و لا حديثين،و قد سمعه منه

ص:460


1- 1) .انّ استعمال القدرية بمعنى نفاة القدر،استعمال لا توافقه اللغة و لا قواعدها،إذ اللازم هو أن يراد به القائلون بالقضاء و القدر،لا نفاتهما،و ما اللفظة هذه إلاّ كالعدلية،فهي تستعمل في القائلين بالعدل لا نفاته.

المسلمون فتكلموا به في حياته و بعد وفاته،يقيناً و تسليماً لربهم،و تضعيفاً لأنفسهم،أن يكون شيء لم يحط به علمه،و لم يحصه كتابه،و لم يمض فيه قدره.... (1)

إنّ تحذير الخليفة الأُموي من القول بالقدر و رميه القائل به بالابتداع،نابع عن أُمور:

أ.أنّه وليد البيت الأُموي و إن كان يختلف مع أبناء هذا البيت في النزعة و السلوك،إلاّ أنّه يتأثر بآراء هذا البيت،فقد كان الأُمويون على القول بالجبر و من مروّجي ذلك المنهج الّذي يثبّت دعائم عروشهم.

ب.تصوّر أنّ القول بالقدر يتنافى مع القول بإحاطة علمه تعالى بأفعال العباد، و لذلك كان يرمي القائل بالقدر بالابتداع.

ج.القول بالاختيار،ينافي القول بالقضاء و القدر،فتقديره سبحانه جار في الكون عامّة و في حياة الإنسان خاصة،و معه كيف لا يصحّ القول بالاختيار.

و هذه الأُمور جرته إلى نفي القول بالقدر بمعنى الاختيار،لأنّه ينافي سبق علمه سبحانه تبارك و تعالى بأفعال العباد.و بما أنّ علمه تعالى لا يختلف فيكون الإنسان مجبوراً في سلوكه و حياته.

و لكن عزب عن المسكين أنّه سبحانه كما أنّه عالم بصدور فعل من عبده عالم أيضاً بكيفية صدوره و المبادئ الّتي تؤثر في صدوره منه،و من تلك المبادئ حرية الإنسان و اختياره،و على ضوء ذلك يعلم سبحانه في الأزل أنّ فلاناً يقوم بهذا الفعل في ظروف خاصة مختاراً.

ص:461


1- 1) .سنن أبي داود:203/4،الرقم 4612.و [1]نقله أبو نعيم في حلية الأولياء:346/5.

هل الدفاع عن العقيدة بدعة؟

إنّ احتكاك المسلمين العرب بأُمم و شعوب البلدان المفتوحة،صار سبباً لانتقال كثير من الشبه و الأفكار غير الصحيحة إلى أوساط المسلمين،ممّا دعا لفيفاً من كبار علماء الإسلام إلى الذبّ عن العقيدة و الشريعة و الدفاع عنهما دفاعاً علمياً معتمداً على المنطق و البرهان.

و لما لم يَرُق ذلك لبعض المحدِّثين و حُكّام العصر عادوا يرمون المتكلّمين بالابتداع،و الذابّين عن حياض الشريعة بالخروج عن الكتاب و السنّة.

فالعجب كلّ العجب لهذا التهجّم الغريب! و هل دعا الكتاب و السنّة إلاّ إلى التمسّك بالدليل و البرهان؟ أ لم يقل سبحانه: «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»؟ 1

لقد أقام بعض أهل الحديث القيامة على رءوس المتكلّمين الذين كرّسوا جهودهم للدفاع عن الدين،و لأجل ذلك كتب الإمام الأشعري رسالة مبسوطة حول علم الكلام أثبت فيها أنّه ليس ببدعة. (1)

إنّ تكفير الطوائف الإسلامية و رميهم بالابتداع عدول عمّا عليه أئمّة الفقه، كأبي حنيفة و الشافعي،و هذا هو ابن حزم يذكر رأيهم في ذلك فيقول:

ذهب طائفة إلى أنّه لا يكفّر و لا يفسّق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا،و أنّ كلَّ من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنّه الحقّ،فإنّه مأجور على كلّ حال،إن أصاب الحقّ فأجران،و إن أخطأ فأجر واحد.

ص:462


1- 2) .اقرأ الرسالة في الجزء الثاني من موسوعتنا في الملل و النحل،ص49- 58.

إلى أن يقول:و هذا قول ابن أبي ليلى،و أبي حنيفة و الشافعي و سفيان الثوري، و داود بن علي رضي اللّه عنهم أجمعين،و هو قول كلّ من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة رضي اللّه عنهم،لا نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلاً. (1)

نعم نحن لا نوافق ابن حزم فيما ذكره بشكل مطلق،ذلك أنّ من خالف في شيء يعدّ من ضرورات الكتاب و السنّة يجب أن يُفسّق أو يكفر،و مثال ذلك أنّ الأُمّة أجمعت على حبّ عليّ و أهل بيته،و يكفيك في ذلك ما روته طائفة من الصحابة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«يا علي لا يحبك إلاّ مؤمن،و لا يبغضك إلاّ منافق».

و قال صلى الله عليه و آله و سلم:«من أحبّ علياً فقد أحبّني،و من أبغض علياً فقد أبغضني،و من آذى علياً فقد آذاني،و من آذاني فقد آذى اللّه». (2)

فإذا كان حبّ علي عليه السلام بهذه المنزلة و هذه الدرجة من الوضوح،فلا ريب في أنّ من يخالفه إنّما يخالف ما ثبت بالضرورة من الدين.

نعم نوافقه في أكثر ما أفاده من أنّ الخلاف في المسائل العلمية النظرية الّتي لم يثبت أنّ أحد الرأيين فيها من ضروريات الدين لا يوجب التكفير و التفسيق ما لم يهدم أحد الأُصول الثلاثة.

و قد ذهب ضحيّة هذا التطرف أبو سهل محمد بن هبة اللّه العالم الكبير المعروف بأبي سهل (423- 456ه) و إليك ما قاله بهذا الشأن عند ترجمة السبكي له في طبقاته:

أنّه لما بلغ من سُموّ المقام أرسل إليه السلطان الخِلَع،و ظهر له القبول عند

ص:463


1- 1) .الفِصَل،لابن حزم:247/3.
2- 2) .الاستيعاب:204/3.ط دار [1]الكتاب العلمية بيروت،ط 1،عام 1415ه.

الخاصّ و العام حتّى حسده الأكابر و خاصموه،فكان يخصمهم و يتسلّط عليهم.فبدا له خصوم استظهروا بالسلطان عليه و على أصحابه.و صارت الأشعريّة مقصودين بالإهانة و المنع عن الوعظ و التدريس،و عُزِلوا من خطابة المجامع.و نبغ من الحنفيّة طائفة أشربوا في قلوبهم الاعتزال و التشيّع، فخيّلوا إلى أُولي الأمر الإزراء بمذهب الشافعي عموماً،و بالأشعريّة خصوصاً.

و هذه هي الفتنة الّتي طار شررها،و طال ضررها،و عظم خطبها،و قام في سبّ أهل السنّة خطيبها،فإنّ هذا الأمر أدّى إلى التصريح بلعن أهل السنّة في الجُمَع،و توظيف سبّهم على المنابر،و صار لأبي الحسن الأشعري بها أُسوة بعليّ بن أبي طالب عليه السلام و استعلى أُولئك في المجامع.

فقام أبو سهل في نصر السنّة قياماً مؤزّراً،و تردّد إلى المعسكر في ذلك و لم يفد،و جاء الأمر من قبل السلطان (طغرل بك) بالقبض على الرئيس الفراتي، و الأُستاذ أبي القاسم القشيري،و إمام الحرمين،و أبي سهل ابن الموفّق، و نفيهم و منعهم عن المحافل.

و كان أبو سهل غائباً في بعض النواحي،فلمّا قُرِئ الكتاب بنفيهم أغرى بهم الغاغة و الأوباش،فأخذوا بالأُستاذ أبي القاسم القشيري و الفراتي يجرّونهما و يستخفّون بهما،و حبسا بالقَهَنْدَز (1)و بقيا في السجن متفرّقين أكثر من شهر، و أمّا إمام الحرمين فإنّه كان أحسّ بالأمر فاختفى و خرج على طريق كرمان إلى الحجاز...إلى آخر ما ذكره. (2)

ص:464


1- 1) .القهندر في الأصل اسم الحصن أو القلعة في وسط المدينة،و هو في مواضع كثيرة،بسمرقند و بخارى و بلخ و مرو و نيسابور.معجم البلدان:210/4. [1]
2- 2) .طبقات الشافعية:209/4- 210،ط دار إحياء الكتب العربيّة.

كلمة قاسية في حقّ الإمام القفّال الشاشي

يُعدّ محمد بن علي بن إسماعيل المعروف بالقفّال الشاشي(261- 365ه) من كبار شيوخ الشافعية بما وراء النهر،و له مذاهب في علم الأُصول على وفق آراء المعتزلة،نظير:

1.يجب العمل بالقياس عقلاً.

2.يجب العمل بخبر الواحد فعلاً.

و مع أنّ القول بوجوب العمل بهما،لا يمتُّ إلى صميم الدين بصلة،نرى أنّ السبكي ينقل عن أبي سهل الصُّعلوكي انّه سئل عن تفسير الإمام أبي بكر القفّال فقال«قدسه من وجه و دنّسه من وجه أي دنّسه من جهة نصرة مذهب الاعتزال». (1)

و لعمر القارئ،انّه يضاد أدب الإسلام و أدب القرآن الكريم في الحوار مع المخالفين،ثمّ أي مساس بصميم الإسلام حتّى يصبح سبباً لدنس الرجل الّذي أنفق عمره في دراسة فقه الشافعي و أُصوله،و كان في من غزا الروم في أهل خراسان مع سيف الدولة،و له قصيدة غراء ردّ فيها على قصيدة وردت من نِقْفور (دُمُستق الروم) فيها ضروب من الاتهامات و التهديد و الوعيد للمسلمين مستهلها: من الملك الطهر المسيحي رسالةٌ إلى قائم بالملك من آل هاشم

فأجاب الشيخ القفّال الشاشي قائلاً: اتاني مقال لأمري غير عالم بطرق مجاري القول عند التخاصم (2)

ص:465


1- 1) .طبقات الشافعية الكبرى:201/3. [1]
2- 2) .طبقات الشافعية:209/3.

وثيقة اعتقادية لحفظ النفس!!!

كان العلماء العظام الأحرار على وجل من الغاغة و الأوباش،حيث كانوا يتّهمون العلماء الكبار بالفسق و الكفر،و كان بعضهم يتأبّط دائماً وثيقة أحد القضاة لإثبات صحة إيمانه.

و إن كنت في شكّ من ذلك فاقرأ ما ذكره ابن حجر في«الدرر الكامنة»قال:

إنّ العالم الجليل الّذي هو زينة عصره،و تاج دهره،كان لا يأمن على نفسه من الإفك عليه،هو السعاية به،فيما يكفِّره و يحلّ دمه،حتّى صار يخشى على نفسه مَنْ أخذت منه السنّ،و أقعده الهرم،و أفلجته الشيخوخة،و لا من راحم أو منصف،كما نقرأ ذلك في ترجمة علاء الدين العطّار تلميذ الإمام النووي، و أنّه مع زمانته،و كونه صار حلس بيته،يتأبّط دائماً وثيقة أحد القضاة بصحّة إيمانه و براءته من كلّ ما يكفِّره. (1)

و لقد أُريقت دماء محرّمة،و عذّبت أبرياء بالسجون و النفي و الإهانات باسم الدين،و روّعت شيوخ و شبّان أعواماً و سنين،حتّى عجّ لسان حالها بالدعاء إلى فاطر الأرض و السماوات،بكشف هذه الغمم و الظلمات.

التاريخ يعيد نفسه

لقد حفل التاريخ بدعوات التكفير و التضليل و إلصاق التهم الجاهزة ببعض الفرق أو الأعلام،و قد استفحل هذا في عصرنا و أصبح أشدّ ممّا كان عليه في منتصف قرون الألف الأوّل من الهجرة،فالمسلمون بعامّتهم مضلّلون،إلاّ من

ص:466


1- 1) .الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة:74/3.

تبع نهج ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب،لا تكاد عبارة الحديث الشريف:«كلّ بدعة ضلالة»تفارق ألسنتهم و أقلامهم،مشيرين بذلك إلى أنّ أعمالهم على وفق السنّة و لا تخالفها في شيء.

إنّ الذكر الحكيم يذكر ما تركه آل موسى و آل هارون بالتقديس و أنّه كان بمنزلة من الكرامة بحيث إنّ الملائكة تحمله و تنزله إلى بني إسرائيل.

يقول سبحانه: «وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ». 1

و قد صرح المفسرون بأنّ ما تركاه لم يكن يتجاوز العصا و الألبسة.

هذا ما عليه الذكر الحكيم في تكريم تركة الرجلين النبيين عليهما و على نبينا و على آله السلام.

و أمّا المتشدّدون في العصر الحاضر،و خصوصاً من تحكّم منهم بالمدينة المنورة و مكة المكرمة،فبدل أن يبذلوا الجهود لحفظ آثار الرسالة و مآثر الصحابة و بيوت الآل،راحوا يضَعون المعاول الهدامة فيها لتخريبها و إزالتها من الوجود،فيا للّه و لسوء الأدب و سوء الفهم و سوء المنقلب.

ص:467

10نفثة مصدور

اشارة

ربّما يَحْسِبُ من تغرّه القشور:أنّه قد مضى عصر التعصب بزَبْدِه و غُثائه، و دارت على دولته الدوائر،و أنّه يحكم الآن في الساحة فقهاء أُمناء على النفوس و الأعراض و الأموال ذوو طويّات صالحة و نفسيّات طيبة.

لكنّه سرعانَ ما يرجع عن قضائه و حكمه إذا وقف على الفتاوى الصادرة عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء-في المملكة العربية السعودية-الّتي كان يرأسها عبد العزيز بن عبد اللّه بن باز و ينوب عنه عبد الرزاق العفيفي و غيرهما من الأعضاء كعبد اللّه بن قعود و عبد اللّه بن غديان،و قد جمع فتاواهم أحمد بن عبد الرزاق الدرويش و نشرت في مجلدات تناهز العشرين.

و في الجزء الثامن عشر منها جاء السؤال التالي:

ما حكم الزواج من الرافضة،و إن حصل و تمّ فما هو الحكم الآن؟

فكان الجواب:لا يجوز للسنّي أن يتزوّج من نساء الرافضة،و إذا وقع النكاح وجب فسخه،لأنّ المعروف عنهم دعوة أهل البيت و الاستغاثة بهم و ذلك من الشرك الأكبر. (1)

ص:468


1- 1) .فتاوى اللجنة:313/18.

لقد ألحق المجيبون فرقة كبيرة من المسلمين بمن يعبد الأوثان،و لكنّهم في الوقت نفسه جوّزوا نكاح النصرانية و اليهودية،و إن كنت في شك فاقرأ جوابهم التالي:

يجوز للمسلم أن يتزوج الكتابية نصرانية أو يهودية (إذا كانت محصنة) و الأصل في ذلك قوله سبحانه: «وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ». 1

و المحصنة هي الحرة العفيفة،و أمّا قوله: «وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ» فالمراد بها المشركات الوثنيات دون الكتابيات،لأنّ آية سورة المائدة صريحة في حل الكتابيات. (1)

أ رأيت مثل هذه الجرأة على اللّه في إصدار هذه الفتوى الجائرة الّتي يكاد لعظمها تتزلزل الأرض و تسيخ الجبال الراسيات؟! أ رأيت كيف تبيح للمسلم نكاح اليهودية الّتي تقول عزير ابن اللّه،و النصرانية الّتي تقول المسيح ابن اللّه و أنّ اللّه ثالث ثلاثة و انّ المسيح هو الإله،و لا تبيح له نكاح المسلمة المؤمنة الّتي تشهد الشهادتين و تصلّي إلى القبلة و تصوم شهر رمضان و تحج البيت و تحب أهل البيت حباً صادقاً لا مرية فيه؟!

و أمّا ما اتّخذه المجيب ذريعة لحكمه فهو أوهن من بيت العنكبوت،فإنّ دعوة أئمّة أهل البيت عليهم السلام إنّما تجري على لسان الشيعي باعتبارهم عباداً صالحين لا آلهة يُعبدون من دون اللّه.

فهناك فرق بين دعاء إنسان بما أنّه عبد للّه سبحانه،محبوب عنده،مستجابة

ص:469


1- 2) .فتاوى اللجنة:318/18.

دعوته،و بين دعائه بما أنّه إله،خالق،رازق،أو بيده الشفاعة و المغفرة.

فدعاء الشيعي من الضرب الأوّل و ليس من الثاني.و لو صار الأوّل ذريعة للتكفير يلزم تكفير الصحابة العدول.و إليك نماذج من توسّلاتهم و دعواتهم للنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

1.توسّل الضرير و دعاءه النبي

أخرج الترمذي بسند صحيح عن عثمان بن حنيف أنّه قال:إنّ رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال:ادع اللّه أن يعافيني؟

فقال صلى الله عليه و آله و سلم:إن شئت دعوت و إن شئت صبرت فهو خير لك؟

قال:فادعه،فأمره صلى الله عليه و آله و سلم أن يتوضأ فيُحسن وضوءه و يصلّي ركعتين و يدعو بهذا الدعاء:«اللّهمّ إنّي أسألك و أتوجّه إليك بنبيك محمّد نبي الرحمة،يا محمّد إنّي أتوجّه بكَ إلى ربّي في حاجتي لتُقضى اللّهم شفّعه فيَّ».

قال ابن حنيف:فو الله ما تفرّقنا و طال بنا الحديث حتّى دخل علينا كأن لم يكن به ضرٌّ.

قال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح. (1)

و قال ابن ماجة:هذا حديث صحيح. (2)

و قال الحاكم:هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه. (3)

و رواه في موضع آخر بسندين آخرين و قال بعدهما:هذا حديث صحيح

ص:470


1- 1) .سنن الترمذي:229/5،كتاب الدعوات،الباب119 برقم3649.
2- 2) .سنن ابن ماجة:441/1برقم 1385؛و مسند أحمد:138/4. [1]
3- 3) .مستدرك الحاكم:313/1.

الاسناد و لم يخرجاه. (1)

و في موضع ثالث قال:تابعه شبيب بن سعيد الحبطي عن روح بن الهاشم في المتن و الاسناد-إلى أن قال:-هذا حديث صحيح على شرط البخاري و لم يخرجه. (2)

ترى أنّ الرجل الضرير يدعو محمّداً و يقول:يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربي.

نعم انّ الضرير يدعوه بما أنّه نبي التوحيد و قائد الموحّدين،و دعوته مستجابة،و أنّ له مقاماً و منزلة عند اللّه.

و قد استمرت الدعوة بالنحو الموجود في الرواية حتّى بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم .و إليك نزراً منها:

2.توسّل و دعاء ثان

روى الطبراني عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمّه عثمان بن حنيف، أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له،فكان عثمان لا يلتفت إليه و لا ينظر في حاجته،فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه،فقال له عثمان ابن حنيف:ائت الميضاة فتوضّأ ثمّ ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثمّ قل:«اللّهمّ إنّي أسألك و أتوجّه إليك بنبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم نبيّ الرحمة،يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي»فتذكر حاجتك،و رُحْ حتّى أروحَ معك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال له،ثمّ أتى باب عثمان بن عفان،فجاء البوّاب حتّى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة،فقال:

ص:471


1- 1) .المستدرك:519/1.
2- 2) .المستدرك:526/1.

حاجتك؟ فذكر حاجته و قضاها له،ثمّ قال له:ما ذكرت حاجتك حتّى كان الساعة.و قال:ما كانت لك من حاجة فاذكرها.

ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له:جزاك اللّه خيراً ما كان ينظر في حاجتي و لا يلتفت إليَّ حتّى كلّمتَه في،فقال عثمان بن حنيف:و اللّه ما كلّمته،و لكنّي شهدتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أتاه ضريرٌ فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:فتصبر؟ فقال:يا رسول اللّه ليس لي قائدٌ فقد شقّ عليّ.

فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:ائت الميضاة فتوضّأ ثمّ صلّ ركعتين،ثمّ ادع بهذه الدعوات.

قال ابن حنيف:فو الله ما تفرّقنا و طال بنا الحديث حتّى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ قط. (1)

3.بلال بن الحارث و دعاء النبيّ

هذا هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم علّمنا كيفية التوسّل و هذه سيرة أصحابه صلى الله عليه و آله و سلم.

روى البيهقي و ابن أبي شيبة بإسناد صحيح:أنّ الناس أصابهم قحط في خلافة عمر،فجاء بلال بن الحارث-و كان من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم-إلى قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قال:يا رسول اللّه استسق لأُمّتك فإنّهم هلكوا،فأتاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المنام و أخبره أنّهم يُسقون.

و ليس الاستدلال برؤية النبي صلى الله عليه و آله و سلم فإنّ رؤياه و إن كانت حقّاً إلاّ أنّها لا تثبت بها الأحكام،لإمكان اشتباه الكلام على الرائي،لا لشكّ في الرؤيا.و إنّما

ص:472


1- 1) .المعجم الكبير للحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني(المتوفّى 360ه):16/9- 17،باب ما أُسند إلى عثمان بن حنيف برقم 8310؛و المعجم الصغير له أيضاً:183/1- 184.

الاستدلال بفعل الصحابي و هو بلال بن الحارث،فإتيانه لقبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و نداؤه له و طلبه منه أن يستسقي لأمّته دليل على أنّ ذلك جائز،و هو من باب دعائه و التوسّل و التشفّع و الاستغاثة به صلى الله عليه و آله و سلم،و ذلك من أعظم القربات،و قد توسّل به صلى الله عليه و آله و سلم أبوه آدم عليه السلام قبل وجود سيدنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم. (1)

4.دعاء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بحضور الصحابة

روى ابن أبي شيبة باسناد صحيح من رواية أبي صالح السمّان عن مالك الداري-و كان خازن عمر-قال:

أصاب الناس قحط في زمن عمر،فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم،فقال:يا رسول اللّه هلك الناس،استسق لأُمّتك،فأتاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المنام، [فقال:] ائت عمر فاقرئه منّي السلام،و أخبره أنّهم مسقون [مستقيون]،و قل له:

عليك الكيس! عليك الكيس!

قال:فأتى الرجل عمر فأخبره،فبكى عمر،و قال:يا رب ما آلو إلاّ ما عجزت عنه. (2)

قال ابن حجر:رواه ابن أبي شيبة باسناد صحيح. (3)

و قال ابن كثير:هذا اسناد صحيح. (4)

و أضاف ابن حجر و قال:روى سيف بن عمر التميمي في«الفتوح الكبير»

ص:473


1- 1) .دلائل النبوة:47/7،باب ما جاء في رؤية النبي صلى الله عليه و آله و سلم في المنام،و [1]نقله مفتي مكة زيني دحلان في الدرر السنية:9.
2- 2) .المصنف لابن أبي شيبة:482/7.و لاحظ طبقات ابن سعد:12/5.
3- 3) .فتح الباري:412/2،باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قُحطوا.
4- 4) .البداية و النهاية في حوادث سنة ثماني عشرة.

أنّ الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة. (1)

قلت:سواء أ كان السائل هو بلال بن الحارث أم غيره،فإنّ دعاء النبي من قبل الرجل لم يكن أمراً سريّاً،بل كان بمرأى و مسمع من مالك الداري.

و نصّ ابن حجر أنّ لمالك إدراكاً-لعصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم-فهو صحابي صغير روى عنه أربعة من الثقات.و لو كان نداء النبي شركاً موجباً للخروج عن الدين لما خفي على خازن الخليفة،كونه شركاً و لنهاه عنه.

إنّ من هوان الدنيا على اللّه أن تكون العقيدة الشخصية مقياساً لصحّة الرواية و بطلانها،فهذا هو عبد العزيز بن باز-عفا اللّه عنا و عنه-لمّا رأى أنّ الرواية تخالف ما ورثه من ابن تيمية و ابن عبد الوهاب-و من أتى بعدهما-حول التوسّل بالنبي و دعائه،أخذ يناقش في صحّة الرواية فقال في تعليقته على فتح الباري:هذا الأثر على فرض صحّته-كما قال الشارح (يريد ابن حجر) - ليس بحجّة على جواز الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد وفاته لما ذا؟:

1.لأنّ السائل مجهول.

2.و لأنّ عمل الصحابة رضي اللّه عنهم على خلافه،و هم أعلم الناس بالشرع.

3.و لم يأت أحد منهم إلى قبره يسأله السقيا و لا غيرها،بل عدل عمر عنه لمّا وقع الجدب إلى الاستسقاء بالعباس،و لم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة، فعلم أنّ ذلك هو الحقّ و أنّ ما فعل هذا الرجل منكر و وسيلة للشرك. (2)

و لَعمر الحق أنّ الرجل لو لم يكن متمسّكاً بالعقيدة الموروثة،لما ردّ الرواية بما ذكر من الأُمور الثلاثة الواهية.

ص:474


1- 1) .فتح الباري:412/2.
2- 2) .فتح الباري:495/2قسم التعليقة.

أمّا الأوّل:من أنّ الرجل مجهول،فهذا لا يضرّ،لأنّ أساس الاستدلال هو دعاء النبي بمرأى و مسمع من مالك الداري الصحابي الذي كان خازن عمر.

و أمّا الثاني:من أنّ عمل الصحابة كان على خلافه،و أنّه لم يأت إلى قبره أحد يسأل السقيا،فموهون جداً،لأنّ من قال بمرجعية الصحابة،فإنّما قال بحجّية أقوالهم و أفعالهم على الجواز و الإباحة،لا بحجّية تروكهم على الحرمة و الشرك،فعدم قيام الصحابة بهذا الفعل لا يعدّ دليلاً على التحريم و لا على كونه شركاً و خروجاً عن الدين.

و أمّا الثالث:من أنّ عمر توسّل بالعباس عم النبي،لا به صلى الله عليه و آله و سلم فموهون أيضاً، لأنّ التوسّل بعم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،لا يكون دليلاً على بطلان التوسّل بالرسول.

على أنّ العارف إذا أمعن النظر في قول عمر:«إنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا»،يقف على أنّ التوسل كان في الحقيقة بالرسول،و أنّ التوسّل في الظاهر بالعباس كان لأجل صلته بالرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

تلك-و اللّه شقشقة هدرت ثمّ قرّت-فإذا كان هذا هو الفقه و الفتوى،و هؤلاء هم الفقهاء المعنيون بحفظ الدين و صيانة أعراض المسلمين،فعلى الإسلام السلام و على الدنيا العفا.

و كأنّي بشاعر المعرّة شهد ما يشابه هذه الظروف القاسية فجادت قريحته بالأبيات التالية: إذا وصف الطائيّ بالبخل مادرٌ

ص:475

أين فتاواهم و أقوالهم و أعمالهم ممّا نصح به أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أصحابه الكرام و أمرهم بالدعاء التالي في حقّ الناكثين و القاسطين:

اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَ دِمَاءَهُمْ،وَ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَ بَيْنَهُمْ،و اهْدِهِمْ مِنْ ضَلالَتِهِمْ، حتّى يَعْرِفَ الحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ،و يَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَ الْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ. (1)

ص:476


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة رقم 206. [1]

11يقظة بعد سبات

يعدّ الاتّهام بالشرك و البدعة من الأُمور التي كان يتردّد صداها باستمرار في الحرمين الشريفين،فلم يكد الوافد إلى حرم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم يقف أمام الضريح الشريف،و يسلّم على النبي و يقول:يا رسول اللّه اشفع لنا عند اللّه،حتّى تعلو بوجهه صرخة شديدة من أحد مَن يُسمّون بالآمرين بالمعروف،متّهماً إياه بالشرك و البدعة!!

و إذا ما هوى زائر للثم الباب أو الضريح حبّاً و شوقاً للنبي و تبرّكاً بكلّ ما يتصل به،فيواجه بعنفٍ من أحد هؤلاء الغلاظ،فيُصدّ و يُضرب،و ربّما يُهان و يُساق إلى مركز الشرطة للاستجواب و المحاكمة!!

و إذا حلّ مسافر في أحد الأماكن المقدّسة كجبل أُحد أو غيره،لأجل المزيد من البصيرة في الدين و تاريخه،فإنّ مكبّرات الصوت تقرع سمعه بعبارات تصف هذا السفر بالشرك و البدعة!!

إلى غير ذلك من كلمات جوفاء تتّهم عامّة المسلمين-باستثناء فرقة واحدة - بالابتداع و الانحراف عن الصراط المستقيم.

ص:477

و كان من نتيجة هذا النوع من التطرّف في إلصاق هذه التهم،أن ظهر في الساحة شباب متعصّبون أوقفوا أنفسهم لمحاربة ما يتصوّرونه شركاً و بدعة.

و ممّا يبعث على الأسى و الأسف أنّ هؤلاء لم يدرسوا الكتاب و السنّة دراسة معمّقة،و إنّما اغترّوا و اكتفوا بما أخذوه من أساتذتهم في الثانويات و الجامعات و ما يثيرهُ خطباء المساجد في الجمع و صلاة الجماعة.

و لمّا جنت المجتمعات ثمار تلك الأفكار المتطرّفة قتلاً و إرهاباً و تخريباً و دماراً،شعر العديد من المفكّرين و القادة بأنّ الطريق الّذي كانوا يسلكونه عبر سنين طريق غير سويّ،لا يُفضي إلاّ إلى زعزعة كيان المسلمين و تبديد وحدتهم و جعلهم فريسة للآخرين.

و لأجل معالجة هذه الأوضاع المستغلة بالحقد و الكراهية و التعصب،و التي أصابهم منها بعض شررها،راحوا يعظون الشباب في خطبهم و كلماتهم داعين إيّاهم إلى الرجوع إلى الطريق الوسطى قائلين بأنّ اليمين و الشمال مضلّة و أنّ الطريق الوسطى هي الجادة.

و من أمثلة ذلك،البيان الّذي أصدرته هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية و أعدّه للنشر أحمد بن عبد العزيز بن محمد التويجري تحت عنوان«فتنة التكفير و خطرها على مستقبل الأُمّة الإسلامية»،و إليك نصّ المقدمة و مقاطع من البيان:

ص:478

12فتنة التكفير و خطرها على مستقبل الأُمّة الإسلامية

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على نبيّنا محمّد و على آله و صحبه أجمعين.

أمّا بعد:

فإنّ التكفير شرّه عظيم،و خطره جسيم،و عواقبه وخيمة،و نهايته مؤلمة، و فواجعه لا تنتهي.

أخي القارئ الكريم:لا يسارع في التكفير من كان عنده مُسْكَةٌ من ورع و دين،أو شذرة من علم و يقين،ذلك بأنّ التكفير وبيلُ العاقبة،بشع الثمرة، تتصدعُ له القلوب المؤمنة،و تفزع منه النفوس المطمئنة.يقول العلاّمة الشوكاني في (السيل الجرار:58/4):و هاهنا تُسكب العبرات،و يُناح على الإسلام و أهله بما جناه التعصّب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر،لا لسنّةٍ،و لا لقرآنٍ،و لا لبيان من اللّه،و لا لبرهان،بل لمّا غلتْ به مراجل العصبية في الدين،

ص:479

و تمكّن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقَّنهم،إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء،و السراب بقيعة،فيا للّه و للمسلمين من هذه الفاقرة الّتي هي أعظم فواقر الدين،و الرزية الّتي ما رزئ بمثلها سبيل المؤمنين....

و الأدلّة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم و احترامه يدلّ بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح،فكيف إخراجه عن الملّة الإسلامية إلى الملّة الكفرية،فإنّ هذه جناية لا تعدلها جناية،و جرأة لا تماثلها جرأة،و أين هذا المجترئ على تكفير أخيه من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«المسلمُ أخو المسلم،لا يَظلمه و لا يسلمه»و قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«سبابُ المسلم فُسُوق و قِتالُهُ كُفْر»،و قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّ دماءَكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام».

و الأحاديث الخاصة بالترهيب العظيم من تكفير المسلمين كثيرة نذكر منها على سبيل المثال:

1.قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«أيُّما امرئ قال لأخيه:يا كافر،فقد باءَ بها أحدهما،إن كان كما قال،و إلاّ رجعتْ عليه».

2.و قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«مَن دعا رَجُلاً بِالكُفْرِ،أو قال:عَدُوُّ اللّهِ،و لَيْسَ كَذلك إلا حارَ عَلَيه».رواهما مسلم في (صحيحه).

3.و قال صلى الله عليه و آله و سلم:«لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بالفُسُوق،و لا يَرْميه بالكُفْر،إلاّ ارتدّت عليه،إن لم يَكُنْ صاحِبُهُ كذلِك».

4.و قال صلى الله عليه و آله و سلم:«و مَنْ رَمى مُؤْمِناً بِكُفْرٍ،فهو كقَتْله»رواهما البخاري في(صحيحه).

أخي القارئ الكريم:التكفير حكم شرعي،مردّه إلى اللّه تعالى و رسوله صلى الله عليه و آله و سلم،

ص:480

و من ثبت إسلامه بيقين،لم يَزُلْ عنه ذلك إلاّ بيقينٍ،و لا يجوز إيقاع حكم التكفير على أي مسلم،إلاّ ما دلّ الكتاب و السنّة على كفره،دلالة واضحة، صريحة بينة،فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة و الظن.

و قد يَرِدُ في الكتاب و السنّة ما يُفهم منه أنّ هذا القول،أو العمل،أو الاعتقاد:

كفر،و لا يُكَفَّرُ به أحدٌ عيناً إلاّ إذا أقيمت عليه الحجة بتحقّق الشروط و انتفاء الموانع،و هي:

أوّلاً:العلم،و ذلك بأن يعلم المسلم أنّ هذا العمل كفر و يقابله من الموانع الجهل،فمتى حلّ الجهل ارتفع التكفير،قال سبحانه و تعالى: «وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً». 1

فمن لم يتبيّن له الأمر فلا تُنزل نصوص الوعيد عليه.

ثانياً:قصد القول أو الفعل الكفري،و المراد به تعمد القول أو الفعل و يقابله من الموانع الخطأ،أي:أن يقع القول أو الفعل دون قصد كسبق اللسان أو السهو و يدلّ له قوله تعالى: «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» 2 قال سبحانه و تعالى في الحديث القدسي:«قد فعلت»رواه مسلم.

ثالثاً:الاختيار و يقابله من الموانع الإكراه قال تعالى: «مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ». 3

رابعاً:التأويل غير السائغ:و يقابله من الموانع التأويل السائغ،و يدلّ له

ص:481

اتّفاق الصحابة على عدم تكفير الذين استحلّوا الخمر،لأنّهم تأوّلوا قوله سبحانه: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا» 1 بجواز شرب الخمر مع التقوى و الإيمان.رواه عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح،على أنّ الخمر محرمة تحريماً قاطعاً و لكن الصحابة لم يكفروهم لوجود الشبهة و هي تأويلهم للآية الكريمة.

و هذا كلّه لأنّ التكفير حقّ للّه و لرسوله صلى الله عليه و آله و سلم و من لم يُصبْ في إطلاقه فإنّه يعود إليه كما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«مَنْ قال لأخيه يا كافر إن كان كما قال و إلاّ حارت عليه».انظر (مخالفات في التوحيد،ص 15).

و إليك أخي القارئ الكريم:بيان هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية عن خطر التكفير و ضوابطه:

بيان من هيئة كبار العلماء

الحمد للّه،و الصلاة و السلام على رسول اللّه،و على آله و صحبه و من اهتدى بهداه،أمّا بعد:

فقد درس مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة و الأربعين المنعقدة بالطائف ابتداء من تاريخ 1419/4/2ه،ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية و غيرها من التكفير و التفجير،و ما ينشأ عنه من سفك الدماء، و تخريب المنشآت،و نظراً إلى خطورة هذا الأمر،و ما يترتب عليه من إزهاق أرواح بريئة،و إتلاف أموال معصومة،و إخافة للناس،و زعزعة لأمنهم و استقرارهم،فقد رأى المجلس إصدار بيان يوضِّح فيه حكم ذلك نصحاً للّه و لعباده،و إبراءً للذمة،

ص:482

و إزالة للبس في المفاهيم لدى مَن اشتبه عليه الأمر في ذلك،فنقول و باللّه التوفيق:

أوّلاً:التكفير حكم شرعي،مردّه إلى اللّه و رسوله،فكما أنّ التحليل و التحريم و الإيجاب إلى اللّه و رسوله،فكذلك التكفير،و ليس كلّ ما وصف بالكفر من قول أو فعل،يكون كفراً أكبر مخرجاً عن الملّة.

و لمّا كان مَرَدّ حكم التكفير إلى اللّه و رسوله لم يَجُز أن نُكَفِّر إلاّ من دلَّ الكتاب و السُّنَّة على كُفْرِه دلالة واضحة،فلا يكفي في ذلك مجرّد الشبهة و الظن،لِما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة،و إذا كانت الحدود تُدْرَأ بالشبهات،مع أنّ ما يترتب عليها أقلّ ممّا يترتب على التكفير،فالتكفير أولى أن يُدْرَأ بالشبهات؛و لذلك حذَّر النبي صلى الله عليه و آله و سلم من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر،فقال:«أيُّما امرئ قال لأخيه:يا كافر،فقد باء بها أحدهما،إن كان كما قال و إلاّ رجعت عليه».و قد يَرِد في الكتاب و السنّة ما يُفْهَم منه أنّ هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كُفْر،و لا يكفَّر من اتّصف به،لوجود مانع يمنع من كفره،و هذا الحكم كغيره من الأحكام الّتي لا تتم إلاّ بوجود أسبابها و شروطها،و انتفاء موانعها كما في الإرث،سببه القرابة-مثلاً-و قد لا يرث بها لوجود مانع كاختلاف الدين،و هكذا الكفر يُكره عليه المؤمن فلا يكفر به.

و قد ينطق المسلم بكلمة الكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما فلا يكفر بها لعدم القصد،كما في قصة الّذي قال:«اللّهمّ أنت عبدي و أنا ربّك»أخطأ من شدة الفرح.

و التسرُّع في التكفير يترتّب عليه أُمور خطيرة من استحلال الدم و المال،و منع التوارث،و فسخ النكاح،و غيرها ممّا يترتّب على الرِّدَّة،فكيف يسوغ للمؤمن أن يُقدِم عليه لأدنى شبهة.

و جملة القول:إنّ التسرُّع في التكفير له خطره العظيم؛لقول اللّه عزّ و جلّ:

ص:483

«قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ». 1

ثانياً:ما نَجَمَ عن هذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء و انتهاك الأعراض، و سلب الأموال الخاصة و العامة،و تفجير المساكن و المركبات،و تخريب المنشآت،فهذه الأعمال و أمثالها محرَّمة شرعاً بإجماع المسلمين؛لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة،و هتك لحرمة الأموال،و هتك لحرمات الأمن و الاستقرار،و حياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم و معايشهم،و غدوهم و رواحهم،و هتك للمصالح العامة الّتي لا غِنى للناس في حياتهم عنها.

و قد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم و أعراضهم و أبدانهم و حرَّم انتهاكها، و شدَّد في ذلك و كان من آخر ما بلَّغ به النبي صلى الله عليه و آله و سلم أُمّته فقال في خطبة حجة الوداع:«إنّ دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا،في بلدكم هذا».ثمّ قال صلى الله عليه و آله و سلم:«ألا هل بلَّغت؟ اللّهم فاشهد».

متّفق عليه.

و قال صلى الله عليه و آله و سلم:«كلّ المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه».

و قال عليه الصلاة و السلام:«اتّقوا الظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة».

و قد توعَّدَ اللّه سبحانه مَن قَتَلَ نفساً معصومة بأشدّ الوعيد،فقال سبحانه في حقّ المؤمن: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً». 2

و قال سبحانه في حقّ الكافر الذي له ذمّة في حكم قتل الخطأ: «إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» 3 فإذا كان

ص:484

الكافر الّذي له أمان إذا قُتِل خطأ،فيه الدية و الكفّارة،فكيف إذا قُتل عمداً،فإنّ الجريمة تكون أعظم،و الإثم يكون أكبر.و قد صحّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:«من قَتَلَ معاهداً لم يَرح رائحة الجنة».

ثالثاً:إنّ المجلس إذ يبيِّن حكم تكفير الناس بغير برهان من كتاب اللّه و سنّة رسوله صلى الله عليه و آله و سلم و خطورة إطلاق ذلك،لما يترتب عليه من شرور و آثام،فإنّه يُعلِن للعالم أنّ الإسلام بريء من هذا المُعْتَقَد الخاطئ،و أنّ ما يجري في بعض البلدان من سفك الدماء البريئة،و تفجير للمساكن و المركبات و المرافق العامة و الخاصة،و تخريب للمنشآت هو عمل إجرامي،و الإسلام بريء منه،و هكذا كلّ مسلم يؤمن باللّه و اليوم الآخر بريء منه،و إنّما هو تصرُّف من صاحب فكر منحرف،و عقيدة ضالَّة،فهو يحمل إثمه و جرمه،فلا يحتسب عمله على الإسلام،و لا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام، المعتصمين بالكتاب و السُّنَّة،المستمسكين بحبل اللّه المتين،و إنّما هو محض إفساد و إجرام تأباه الشريعة و الفطرة؛و لهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعة بتحريمه،محذِّرة من مصاحبة أهله.قال اللّه تعالى:

«وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ * وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ * وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ». 1

و الواجب على جميع المسلمين في كلّ مكان التواصي بالحق،و التناصح و التعاون على البرّ و التقوى،و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بالحكمة و الموعظة

ص:485

الحسنة،و الجدال بالتي هي أحسن،كما قال اللّه تعالى: «وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ». 1

و قال سبحانه: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». 2

و قال عزّ و جلّ: «وَ الْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ». 3

و قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:«الدين النصيحة».قيل:لمَن يا رسول اللّه؟ قال:«للّه و لكتابه و لرسوله و لأئمّة المسلمين و عامَّتهم».

و قال عليه الصلاة و السلام:«مَثَل المؤمنين في توادّهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد،إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحُمَّى».

و الآيات و الأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

رئيس المجلس

عبد العزيز بن عبد اللّه بن باز

صالح بن محمد اللحيدان عبد اللّه بن عبد الرحمن البسام

عبد اللّه بن سليمان بن تقنيع عبد العزيز بن عبد اللّه بن محمد آل الشيخ

محمد بن صالح العثيمين ناصر بن حمد الراشد

د.عبد اللّه بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ محمد بن عبد اللّه السبيل

محمد بن سليمان البدر عبد الرحمن بن حمزة المرزوقي

راشد بن صالح بن خنين د.عبد اللّه بن عبد المحسن التركي

عبد اللّه بن عبد الرحمن الغديان د.عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان

محمد بن إبراهيم بن جبير محمد بن زيد آل سليمان

د.صالح بن فوزان الفوزان د.صالح بن عبد الرحمن الأطرم

حسن بن جعفر العتمي د.بكر بن عبد اللّه أبو زيد

***

نقول:مع تقديرنا لموقفهم هذا،و لكنّهم وضعوا الدواء بعد أن تفشّى الداء و انتشر،و أصاب ما أصاب من جسم الأُمّة الإسلامية:

و قد قال الشاعر: تَروحُ إلى العطار تبغي شبابها و هل يصلح العطار ما أفسد الدهر

و إن ننس،لا ننسى ما جرى في سنة 1362ه من إزهاق روح حاج مسلم إيراني يسمّى ب«أبو طالب»بين الصفا و المروة ببهتان عظيم و هو يتشهد

ص:486

الشهادتين،و قد حجّ البيت و اعتمر و أتى بالفرائض كلّها،فقُتل مظلوماً،من دون مانع و لا رادع و لا زاجر و لا مدافع.

و العجب أنّ عبد العزيز بن عبد اللّه بن باز،-أحد الموقعين في بيان هيئة كبار العلماء-هو نفسه رئيس لجنة الإفتاء التي أفتت بكون الشيعة مشركين مرتدين عن الإسلام،لا يحلّ الأكل من ذبائحهم لأنّها ميتة و لو ذكروا عليها اسم اللّه. (1)فبأي القولين نؤمن يا شيخ!! أ بما جاء في البيان الماضي،أم بإفتائك في غير مقام بكفر طائفة كبرى من المسلمين!!

ص:487


1- 1) .فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث برقم 1661.

فعلى الصالحين من الموقعين و على كلّ عالم واع ينبض قلبه بعز الإسلام و شرف المسلمين أن يوحّدوا كلمتهم،و يشدّوا صفوفهم كبنيان مرصوص لصيانة دماء المسلمين و أعراضهم و أموالهم،و تحقيق الوئام و السلام،و لا يسمحوا بنشر هذه الكتب في بلادهم-البلد الحرام و حرم النبي-لكي لا تشوّه سمعتها في أرجاء الدنيا و هي ثغر الإسلام و ملجأ المسلمين.

و السلام

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:488

الفصل الخامس:في المسائل الفقهية و الأُصولية

اشارة

1.حقيقة الإحرام في كلمات الفقهاء

2.من لا يمرّ بميقات من المواقيت

3.المطاف بين السعة و الضيق

4.شبهات و إيضاحات

5.التقية مفهومها،حدّها،دليلها

ص:489

ص:490

1

اشارة

حقيقة الإحرام في كلمات الفقهاء

تحقيق المقام يتوقّف على البحث في أُمور ثلاثة:

1.الإحرام في كلمات أهل اللغة.

2.ما هو حقيقة الإحرام في لسان الأصحاب،و ما هو المستفاد من الروايات؟

3.تصوير تعلّق النية بالإحرام.

و إليك الكلام فيها:

الأوّل:الإحرام في معاجم اللغة

قال الفيومي:الحرمة-بالضم -:ما لا يحلّ انتهاكه،و هذه اسم من الاحترام مثل الفرقة من الافتراق،و الجمع حرمات،مثل«غرفة»:«غرفات»،و شهر حرام و جمعه حرم،بضمتين،-إلى أن يقول:-و أحرم الشخص:نوى الدخول في حجّ أو عمرة،و معناه أدخل نفسه في شيء حرم عليه ما كان حلالاً له، و هذا كما يقال:أنجد إذا أتى نجداً،و أتْهَم إذا أتى تهامة-إلى أن قال:-أحرم:

دخل الحرم،

ص:491

و أحرم:دخل في الشهر الحرام. (1)

و الإمعان في كلامه يفيد انّ المعنى الأصلي للإحرام هو نية الدخول في حجّ أو عمرة،و لازمه،إدخال نفسه في شيء حرم عليه ما كان حلالاً،لا انّه المعنى الأصلي للإحرام.فلاحظ.

الثاني:ما هي حقيقة الإحرام؟

اشارة

ما هي حقيقة الإحرام؟ فهل هو نقل لفظه من المعنى اللغوي-الذي صرّح به المصباح (نوى الدخول في حجّ أو عمرة) إلى معنى آخر-أو لا؟

الظاهر من كلمات أكثر الأصحاب ذلك،و لنشر إلى آراء السنّة في حقيقة الإحرام أوّلاً،ثمّ إلى آراء الأصحاب ثانياً،فنقول:

الإحرام عند الحنفية هو الدخول في حرمات مخصوصة غير أنّه لا يتحقّق شرعاً إلاّ بالنية مع الذكر أو الخصوصية.

و المراد بالدخول في حرمات:التزام الحرمات،و المراد بالذكر التلبية و نحوها ممّا فيه تعظيم اللّه تعالى.

و المراد بالخصوصية ما يقوم مقام التلبية من سوق الهدي،أو تقليد البدن.

و أمّا الإحرام عند المذاهب الثلاثة الباقية فهو نية الدخول في حرمات الحجّ و العمرة. (2)

و الظاهر عدم وجود الفرق الجوهري بين التعريفين،فالنية المذكورة في

ص:492


1- 1) .المصباح المنير: [1]مادة حرم:162.
2- 2) .الموسوعة الفقهية الكويتية:128/2،مادة«إحرام».

تعريف الثلاثة شرط عند الحنفية أيضاً،كما صرحوا به،و الظاهر انّ مراد الحنفية من حرمات مخصوصة،هو حرمات الحجّ و العمرة.

هذا كلّه عند السنّة،و أمّا أصحابنا فقد اختلفت كلمتهم في تعريف الإحرام نذكرها تباعاً.

1.الإحرام أمر مركب من أُمور ثلاثة

يظهر من كلمات المحقّق في«الشرائع»و العلاّمة في غير واحد من كتبه:انّ الإحرام أمر مركب من أُمور ثلاثة:1.النيّة،2.التلبيات الأربع،3.لبس ثوبي الإحرام.

ثمّ إنّ متعلق النية عبارة عن الأُمور الأربعة،أعني:ما يُحرم به من حجّ أو عمرة متقرباً،و نوعه من تمتع و قران أو إفراد،وصفته من وجوب أو ندب،و ما يحرم له من حجة الإسلام أو غيرها. (1)

و على هذا فالإحرام أمر مركب من أُمور ثلاثة،و للجزء الأوّل منها-أعني:النيّة - متعلّقات أربعة،و به صرّح العلاّمة في غير واحد من كتبه.

قال في«المختلف»:الإحرام ماهية مركبة من النية و التلبية و لبس الثوبين. (2)

و قال في«التذكرة»:واجبات الإحرام ثلاثة:النية و التلبيات الأربع،و لُبس ثوبي الإحرام-إلى أن قال:-و الواجب في النية أن يقصد بقلبه إلى أُمور أربعة:ما يحرم به من حج أو عمرة.إلى آخر ما ذكره المحقّق في«الشرائع». (3)

ص:493


1- 1) .الشرائع:245/1. [1]
2- 2) .المختلف:43/4.
3- 3) .التذكرة:231/7. [2]

و قد فسّره في المنتهى بنفس عبارة«التذكرة». (1)

يلاحظ عليه أوّلاً:بأنّ نسبة الإحرام إلى هذه الأُمور الثلاثة لا يخلو من أحد وجهين:

1.أن يكون من قبيل المحصَّل إلى المحصِّل و المسبَّب إلى مسبب،فعندئذٍ تتعلّق به النية،لكونه وراء الثلاثة التي منها النية لكن لازمه وجوب الاحتياط في ما شكّ في جزئية شيء أو شرطيته للمحصِّل و هو كما ترى.

2.أن يكون من قبيل العنوان المشير،و الجمع في التعبير،كما هو حال العشرة بالنسبة إلى الأفراد الواقعة تحتها،و حال الصلاة بالنسبة إلى الأفعال و الأقوال،فعند ذاك،إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته فالمرجع هو البراءة العقلية و الشرعية،لكن لا تتعلّق به النية،إذ ليس الإحرام أمراً زائداً على الأجزاء الثلاثة التي منها النية،مع اتّفاقهم على أنّ الإحرام أمر قصدي،يعتبر فيه النية.فتأمّل.

و بذلك يعلم النظر فيما أفاده بعض الأعاظم حيث أوّل كلمات القدماء الظاهرة في أنّ الأُمور الثلاثة هي الإحرام قائلاً بأنّ وجوب تلك الأُمور،في الإحرام لا يلازم كونه عبارة عن تلك الأُمور لا غير،بل يدلّ على أنّ الإحرام بأي معنى كان،لا يصح بدونها. (2)

وجه النظر واضح،إذ لو كان الإحرام أمراً غير الأُمور الثلاثة فلا تخلو الحال من أحد الوجهين اللّذين عرفت وجه الإشكال فيهما.

و ثانياً:لم يظهر الاتفاق من القدماء على تفسير صاحب الشرائع و ابن أُخته

ص:494


1- 1) .المنتهى:215/10- 216،مجمع البحوث الإسلامية،مشهد-1424ه.
2- 2) .كتاب الحج:216/1. [1]

العلاّمة-أعلى اللّه مقامهما-من الأُمور الثلاثة،فقد قال في«المدارك»:

اختلفت عبارات الأصحاب في حقيقة الإحرام،فذكر العلاّمة في«المختلف» في مسألة تأخير الإحرام عن الميقات أنّ الإحرام ماهية مركبة من النية و التلبية و لبس الثوبين.

و حكى الشهيد في الشرح عن ابن إدريس انّه جعل الإحرام عبارة عن النية و التلبية و لا مدخل للتجرد و لبس الثوبين فيه.

و عن ظاهر«المبسوط»و«الجمل»انّه جعله أمراً واحداً بسيطاً و هو النية. (1)

و ثالثاً:انّه لم يدلّ دليل على وجوب بعض متعلّقات النية كقصد الوجه من كونه واجباً أو مندوباً،كما حقّق في محله،كما لم يدل دليل على لزوم قصد كونه حجة الإسلام،إذا لم تكن ذمّته مشغولة بحجّ آخر،فليس ذلك العنوان، كعنواني الظهر و العصر ممّا يجب قصده،فإذا كان الرجل مستطيعاً و لم يحج من ذي قبل و نوى العمرة و الحج،كفى ذلك،إذ الواجب عليه في هذه الحالة ليس إلاّ واقع حجّة الإسلام بأحد أقسامها الثلاثة.

2.توطين النفس على ترك المنهيات

الإحرام عبارة عن توطين النفس على ترك المنهيات المعهودة إلى أن يأتي بالمناسك،و هذا القول هو الذي حكاه صاحب المدارك عن الشهيد،قال:

و كنت قد ذكرت في رسالة أنّ الإحرام هو توطين النفس على ترك المنهيات المعهودة إلى أن يأتي بالمناسك أو التلبية هي الرابطة لذلك التوطين نسبتها إليه كنسبة التحريمة إلى الصلاة. (2)

ص:495


1- 1) .المدارك:239/7. [1]
2- 2) .المدارك:239/7. [2]

و نسبه المحقق الخوئي إلى الشيخ الأنصاري،بل إلى المشهور،و لذلك ذكروا انّه لو بنى على ارتكاب شيء من المحرمات،بطل إحرامه لعدم كونه قاصداً للإحرام. (1)

و ربما يؤيد ذلك بما في صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام من أنّ المحرم يقول:«أحرم لك شعري و بشري و لحمي و دمي و عظامي و مخّي و عصبي من النساء و الثياب و الطيب،أبتغي بذلك وجهك و الدار الآخرة». (2)

يلاحظ عليه أوّلاً:أنّ كثيراً من الناس،يحرمون و لا يدور ببالهم،توطين النفس على ترك محظورات الإحرام من غير فرق بين العالم بها تفصيلاً،أو إجمالاً أو الجاهل بها.

و أمّا صحيح معاوية بن عمار،فهو دعاء قبل الإحرام،و لذلك يقول في ذيله:

ثمّ قم-بعد الدعاء المذكور-«فامش هنيهة فإذا استوت بك الأرض،ماشياً كنت أو راكباً فلبّ»،فالإحرام يتحقّق بالتلبية،و بها تحرم الأُمور المذكورة، و كأنّه قبل الإحرام يتذكر ما يحرم عليه بالتلبية،فتحريم الأُمور المذكورة من آثار الإحرام و أحكامه لا حقيقته.

و ثانياً:انّه ليس في الروايات أثر من هذا التوطين،فلاحظ أحاديث الباب17 من أبواب الإحرام لا تجد فيها أثراً منه،نظير:

1.خبر أبي الصلاح مولى بسام الصيرفي قال:أردت الإحرام بالمتعة فقلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:كيف أقول؟ قال:«تقول:«اللّهم إنّي أُريد التمتع بالعمرة إلى الحجّ،على كتابك و سنّة نبيّك». (3)

ص:496


1- 1) .المعتمد:477/2. [1]
2- 2) .الوسائل:9،الباب16 من أبواب الإحرام،الحديث1. [2]
3- 3) .الوسائل:9،الباب17 من أبواب الإحرام،الحديث 2. [3]

2.صحيح يعقوب بن شعيب،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام فقلت:كيف ترى أن أُهلّ (أي أحرم)؟ فقال:«إن شئت سمّيت،و إن شئت لم تسمّ شيئاً»فقلت له :كيف تصنع أنت؟ قال:«أجمعهما فأقول:لبيك بحجة و عمرة معاً لبيك». (1)

و لو كانت حقيقة الإحرام هي التوطين لجاء ذكره فيهما خصوصاً في الرواية الأُولى.

و ربّما يورد على هذا القول باستلزامه الدور قائلاً بأنّه لا يعقل أخذ هذه المنهيات و المحرمات في معنى الإحرام و إلاّ لزم الدور،لأنّ حرمة هذه المحرمات متوقّفة على الإحرام،هذا من جانب،و من جانب آخر كون الإحرام متوقّفاً على حرمة المحرمات،و بعبارة أُخرى:صيرورته محرماً تتوقّف على كون المحرمات محرمة عليه و تحريمها متوقف على كونه محرماً. (2)

يلاحظ عليه:بأنّ الإحرام و توطين النفس على تحريم المنهيات،يتوقّف على تحريم هذه الأُمور في لسان الدليل.

و إن شئت قلت:يتوقّف على التحريم الإنشائي،لأنّ الحكم الشرعي لا يوصف بالفعلية إلاّ بعد وجود الموضوع،أي كون الشخص محرماً.

و المفروض انّه مريد للإحرام،لا متلبس به،و التحريم الفعلي يتوقف على الإحرام و توطين النفس و إعلامه بالتلبية.

3.إدخال نفسه في حرمة اللّه بسبب التلبية

الإحرام عبارة عن إدخال النفس في حرمة اللّه،غاية الأمر إنّما يدخل في

ص:497


1- 1) .الوسائل:9،الباب17 من أبواب الإحرام،الحديث 3. [1]
2- 2) .المعتمد:483/2. [2]

حرمة اللّه بسبب التلبية،فما لم يلبّ لم يدخل في الإحرام و في حرمة اللّه، كما أنّه إذا لم يكبّر لم يدخل في الصلاة،و إذا كبّر حرم عليه منافيات الصلاة، و في المقام تحرم عليه الأُمور المعهودة إذا لبّى،و لا يتحلّل من ذلك إلاّ بالتقصير في العمرة و السعي في الحجّ.

و بعبارة أُخرى:الإحرام شيء مترتّب على التلبية لا انّه نفس التلبية،و لذا يعبّر عنها بتلبية الإحرام،و لا مدخل في هذه الحرمة الإلهية إلاّ بالتلبية.

و الحاصل:انّ الإحرام أمر اعتباري يترتّب عليه هذه الأُمور بسبب التلبية، فحال الحجّ بعينه،حال الصلاة في كون التكبيرة أوّل جزء من أجزائها و بها يدخل في الصلاة،و كذلك التلبية فإنّها أوّل جزء من أجزاء الحجّ و بها يدخل في تلك الحرمة الإلهية،كما في النصّ الدالّ على أنّ الذي يوجب الإحرام ثلاثة:التلبية،و الإشعار،و التقليد. (1)

و حاصل كلامه-بعد الغض عن التهافت-هو انّ الإحرام أمر مسببيّ،يحصل بسبب التلبية،و له آثار بعدها.

ثمّ إنّ القائل استشهد لما ذكره بروايات:

1.صحيحة معاوية بن عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«إذا فرغت من صلاتك و عقدت ما تريد فقم و امش هنيهة،فإذا استوت بك الأرض-ماشياً كنت أو راكباً-فلبّ». (2)

2.صحيحة منصور بن حازم،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«إذا صلّيت عند الشجرة فلا تلبّ حتّى تأتي البيداء حيث يقول الناس يخسف بالجيش». (3)

ص:498


1- 1) .المعتمد:483/2. [1]
2- 2) .الوسائل:9،الباب34 من أبواب الإحرام،الحديث2 و 4. [2]
3- 3) .الوسائل:9،الباب34 من أبواب الإحرام،الحديث2 و 4. [3]

3.صحيحة عبد اللّه بن سنان قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:«إنّ رسول اللّه لم يكن يلبّي حتّى يأتي البيداء». (1)إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على أنّ مفتاح الإحرام هو التلبية كتكبيرة الإحرام في الصلاة،و يؤيد ذلك أيضاً أمران:

الف.ما دلّ على جواز المواقعة بعد دخول المسجد و الصلاة فيه،و لبس الثوبين،و قبل التلبية. (2)

ب.ما سيوافيك من أنّ الإشعار و التقليد يقومان مقام التلبية. (3)

كلّ ذلك يدلّ على أنّ مفتاح الإحرام و الدخول في عمل العمرة،هو التلبية، فما لم يُلبّ لا ينعقد الإحرام بها فمع أنّها جزء من العمرة مفتاح لها،كتكبيرة الإحرام،و مثل هذا العمل يتحقّق بلا نية.

فإن قلت:إذا كان الإحرام غير متحقّق إلاّ بالتلبية فبما ذا تفسر قول الراوي قال كتبت إلى أبي إبراهيم عليه السلام رجل دخل مسجد الشجرة فصلّى و أحرم و خرج من المسجد،فبدا له قبل أن يلبّي أن ينقض ذلك بمواقعة النساء.... (4)

قلت:هو محمول على مجاز المشارفة،أي تهيأ للإحرام،كما أنّ الحال هو كذلك في بعض الروايات السابقة.

يلاحظ عليه أوّلاً:بأنّ ما استدلّ به من الروايات لا يدلّ إلاّ على أنّ مفتاح الإحرام هو التلبية،و أنّ الحاج ما لم يُلبّ لا يحرم عليه من المحظورات،و أمّا أنّ حقيقة الإحرام عبارة عن إدخال النفس في حرمة اللّه فلا يستفاد من هذه الروايات.و بعبارة أُخرى:أنّ ما أفاده أنّ التلبية سبب و الإحرام أمر اعتباري يتولد

ص:499


1- 1) .الوسائل:9،الباب34 من أبواب الإحرام،الحديث 5. [1]
2- 2) .راجع الوسائل:9،الباب14 من أبواب الإحرام.
3- 3) .الوسائل:8،الباب12 من أبواب أقسام الحجّ،الحديث 9،20،21.
4- 4) .الوسائل:9،الباب14 من أبواب الإحرام،الحديث 12. [2]

من التلبية أمر لا يستفاد ممّا أورده من الأحاديث.

نعم لو أراد من«إدخال النفس في حرمة اللّه»مصداق الحرمة-أعني:العمرة و الحج-لرجع إلى الوجه السادس الذي هو مختارنا،و عندئذٍ يلاحظ عليه:

لما ذا عدل عن التعبير الواضح إلى التعبير المعقّد؟

و ثانياً:لو كان الإحرام أمراً اعتبارياً متحصلاً من التلبية التي نسبتها إليه نسبة المحصِّل إلى المحصَّل،يلزم الاحتياط في كلّ ما شك في جزئية شيء أو شرطيته للإحرام،و هو كما ترى.

4.الإحرام أمر إنشائي يوجد بتحريم المحرمات

إنّ الإحرام صفة خاصّة تحصل للمحرم بتوسط الالتزام بترك المحرّمات أو نيّة ترك المحرّمات،فيكون الالتزام سبباً لإنشاء الإحرام و حصوله،نظير سائر المفاهيم الإيقاعية التي إيقاعها بالالتزام،لا انّه نفس الإحرام،كما أنّه ليس نفس الترك. (1)

هو أيضاً خيرة بعض الأساطين على ما في تقريرات درسه حيث قال:إنّ الإحرام أمر إنشائي يوجده المحرم بتحريم المحرمات على نفسه،و إن كان لا يؤثر في التحريم قبل التلبية،كما هو المستفاد من المحقّق في«الشرائع».

ثمّ إنّه قدس سره ذكر كلام المحقّق في«الشرائع»في إحرام الحجّ حيث جاء فيه:«ثمّ ينشأ إحراماً آخر للحج من مكة».و هو ظاهر في أنّ الإحرام أمر إنشائي،و عبر بذلك في التحرير و السرائر. (2)

ص:500


1- 1) .المستمسك:361/1. [1]
2- 2) .كتاب الحج للسيد الگلپايگاني:246.

يلاحظ عليه:أنّ الإنشاء يحتاج إلى سبب،فما هو السبب؟ فإن كان السبب هو الالتزام القلبي بتحريم المحظورات-كما هو ظاهر كلامهما-فهو ممنوع، لأنّ الإنشاء يحتاج إلى سبب إمّا فعلي-كما في المعاطاة-أو قولي، و المفروض عدمهما،و لو قيل:إنّ السبب هو التلبية،فهو ليس بتام،لأنّها ليست سبباً عرفياً لتحريم المحرمات،بل هو إجابة لدعوة إبراهيم الخليل القريب و البعيد إلى زيارة البيت الحرام حيث إنّه سبحانه يخاطب إبراهيم بقوله: «وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ». 1

و أمّا ما استدل به من كلام الشرائع فالظاهر أنّ مراده من الإنشاء هو نفس الإحرام،أي يحرم إحراماً آخر وراء الإحرام للعمرة.لا انّ الإحرام من الأُمور الإنشائية مقابل الأُُمور الواقعية التي يحكى عنها بالألفاظ،و على فرض صحّة إنشاء الأُمور النفسية بالالتزام فهو نفس عقلي غير مطروح لأكثر المحرمين.

5.الإحرام حالة تمنع عن فعل شيء من المحظورات

عرّف الشيخ جعفر كاشف الغطاء الإحرام بقوله:هو عبارة عن حالة تمنع عن فعل شيء من المحرّمات المعلومة،و لعلّ حقيقة الصوم كذلك،فهما عبارة عن المحبوسية عن الأُمور المعلومة،فيكونان غير القصد،و الترك،و الكف، و التوطين،فلا يدخلان في الأفعال،و لا الأعدام،بل هما حالتان متفرعتان عليها،و لا يجب على المكلّفين من العلماء فضلاً عن الأعوام الاهتداء إلى معرفة الحقيقة،و إلاّ للَزم بطلان عبادة أكثر العلماء و جميع الأعوام. (1)

ص:501


1- 2) .كشف الغطاء:521/4-522. [1]

يلاحظ عليه:بأنّه لو كانت حقيقة الإحرام هو ما ذكره،يجب تحصيل تلك الحالة عند الإحرام،لأنّ الأمر بالإحرام أمر به بما له من الواقعية مع أنّه اعترف بأنّ العلماء فضلاً عن العوام لا يهتدون إلى تلك الحقيقة حتّى يحصّلونها، فأي فائدة في جعل شيء موضوعاً للحكم مع عدم اهتداء أغلب المكلّفين إليه،و يرد عليه مثل ذلك في تعريف حقيقة الصوم.

6.الإحرام هو الدخول في العمرة أو الحجّ لا غير

الظاهر كما هو اللائح من معاجم اللغة انّ الإحرام عبارة عن الدخول في العمرة و الحج و إنّما أُطلق عليه الإحرام لكون المدخول من حرمات اللّه.

و تبيين ذلك رهن بيان أمرين:

1.الحرمة لغة،ما لا يجوز انتهاكه و وجبت رعايته،قال سبحانه في سورة الحج بعد ذكر مناسكه: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ». 1

قال الطبرسي: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» أي ليزيلوا،شعث الإحرام من تقليم ظفر و أخذ شعر،و «لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» بإنجاز ما نذروا من أعمال البر في أيام الحج «لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» و البيت العتيق هو الكعبة «وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ...» و الحرمات ما لا يحلّ انتهاكه،و اختار أكثر المفسرين في معنى الحرمات هنا:انّها المناسك لدلالة ما يتصل بها من الآيات على ذلك.و قيل معناها:البيت الحرام،و البلد الحرام،و الشهر الحرام،و المسجد الحرام. (1)

ص:502


1- 2) .مجمع البيان:82/4- 83،و لاحظ أيضاً،تفسير قوله سبحانه:«وَ الْحُرُماتُ قِصَاصٌ»البقرة:194، [1]في المجمع:287/1.

و اللفظ يدلّ على أنّ كلّ شيء له مكانة عند اللّه تجب رعايتها،فهو الحرمة من غير فرق بين الأعمال كالمناسك،أو غيرها كالبيت و الشهر و المسجد الحرام.

2.وجود الفرق الواضح بين التحريم و الإحرام كالفرق بين قوله«حرّم» و«أحرم».

أمّا الأوّل،فهو عبارة عن المنع عن الشيء،كقوله سبحانه: «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ» 1 حيث حرّم يعقوب بعض الأطعمة على نفسه وفاء للنذر. (1)

و أمّا الثاني-أي أحرم-فهو عبارة عن الدخول في شيء له منزلة و كرامة لا تهتك،فتارة يكون المدخول فيه مكاناً له حرمة يقال أحرم:دخل الحرم، و أُخرى يكون زماناً كذلك فيقال:أحرم:دخل الشهر الحرام،و ثالثة يكون عملاً له حرمة يقال:أحرم:دخل العمرة و الحج،و الميزان في صدق الإحرام كون المدخول فيه شيئاً يحرم انتهاكه،و بما انّ المدخول فيه في المقام هو العمل-لا المكان و لا الزمان-يكون معنى«أحرم»انّه دخل العمرة و الحجّ اللّذين لهما ذاك الشأن،و قد مرّ عن الفيومي أنّه فسر قوله:«أحرم»الشخص:

نوى الدخول في حج أو عمرة،و مثله ابن منظور في«اللسان».نعم لا يتحقّق الدخول في العمرة أو الحجّ إلاّ عن طريق خاص و هو التلبية،فكأنّها مفتاح الدخول في هذا العمل الذي هو من محرّمات اللّه سبحانه.

و في بعض الروايات ما يدل عليه،نظير:صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام حيث وصف حجّ النبي في حديث مبسوط و قال:«ثمّ خرج

ص:503


1- 2) .مجمع البيان:475/1.

حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة،فصلّى فيه الظهر،و عزم بالحجّ مفرداً و خرج حتى انتهى إلى البيداء عند الميل الأوّل،فصف الناس له سماطين، فلبّى بالحجّ مفرداً،و ساق الهدي. (1)فقد بيّن الإمام إحرام النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالجملتين:

1.عزم بالحجّ،و في بعض النسخ:أحرم بالحجّ.

2.فلبّى بالحجّ مفرداً.

و بما انّ«العزم»يتعدّى بنفسه يقال:عزمت الأمر،فلعل الصحيح هو الثاني، أي أحرم بالحجّ،أي دخل الحجّ الذي هو من حرم اللّه،فليس للإحرام واقعية سوى الدخول في واحدة من الحرمتين:العمرة و الحجّ،بطريق خاص و هو التلبية،و بما انّ النبيّ لبّى في البيداء،يحمل قوله:«أحرم بالحجّ»على مجاز المشارفة.

هذا هو حقيقة الإحرام،و مع ذلك يستحبّ معه أن يقول:أحرم لك شعري و بشري و لحمي و دمي و عظامي و مخّي و عصبي من النساء و الثياب و الطيب. (2)و الجميع من أحكام الإحرام و لوازمه،لا انّها حقيقته.

ص:504


1- 1) .الوسائل:8،الباب2 من أبواب أقسام الحجّ،الحديث4. [1]
2- 2) .الوسائل:8،الباب16 من أبواب أقسام الحجّ. [2]

2

اشارة

من لا يمرّ بميقات و لا بما يحاذيه

اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ الآفاقي (النائي) يجب عليه الإحرام لعمرته من أحد المواقيت الخمسة التي وقّتها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لمن يمرّ بها (1)،أو ممّا يحاذيها،محاذاة عرفيّة كما إذا كان الحد الفاصل بين الميقات و مهلّه،بضع كيلومترات.

أخرج الكليني بسند صحيح عن عبد اللّه بن سنان الثقة عن الإمام الصادق عليه السلام قال:«من أقام بالمدينة شهراً و هو يريد الحجّ،ثمّ بدا له أن يخرج في غير طريق أهل المدينة الذي يأخذونه،فليكن إحرامه من مسيرة ستة أميال فيكون حذاء الشجرة من البيداء». (2)

و لعلّ الحدّ الفاصل بين المدينة و مسجد الشجرة يوم ذاك،كان ستة أميال، فلذلك أمر الإمام بالإحرام بعد الابتعاد عن المدينة،مقدار ستة أميال،ليكون المهلّ،محاذياً للمسجد.

إنّما الكلام إذا ورد عن طريق لا يمرّ بالميقات،و لا بما يحاذيه محاذاة عرفية.

ص:505


1- 1) .الوسائل:8،الباب 1 من أبواب المواقيت،الحديث 1،2 و 3 و غيرها.
2- 2) .الوسائل:8،الباب 7 من أبواب المواقيت،الحديث 1. [1]

فإن قلنا بعدم تصوّر طريق لا يمر بالميقات (1)و لا يكون محاذياً لواحد منها، بحجة أنّ المواقيت محيطة بالحرم من الجوانب،و قلنا بكفاية مطلق المحاذاة و إن كانت عن مسافة بعيدة،يحرم ممّا يحاذي أحد المواقيت.

و أمّا لو قلنا بإمكان طريق لا يمر بميقات و لا بما يحاذيه محاذاة عرفية،عن مسافة قريبة،كما هو الحال في مدينة«جدة»فإنّها ليست بميقات كما هو واضح،و لا تحاذي أحد المواقيت-كالجحفة-محاذاة عرفية (2)،فيقع الكلام فيما هو الواجب على الوافدين إلى جدة جويّاً أو بحريّاً؟

و المسألة معنونة في كلمات الفريقين،و هي ذات قوانين منذ عهد بعيد.

و إليك البيان:

دراسة فتوى السيد الخوئي قدس سره

ثمّ إنّ السيد الخوئي-رضوان اللّه عليه-أفتى في الموضوع بالأُمور التالية:

1.لزوم الذهاب إلى أحد المواقيت مع الإمكان.

2.أو نذر الإحرام من بلده أو من الطريق قبل الوصول إلى جدّة بمقدار معتد به،و لو في الظاهر فيُحرم من محل نذره.

3.الذهاب إلى-رابغ-الذي هو في طريق المدينة و الإحرام منه بنذر،

ص:506


1- 1) .قال المحقّق النراقي:و قد اختلفوا في حكم من سلك طريقاً لا يحاذي شيئاً من المواقيت،و هو خلاف لا فائدة فيه،إذ المواقيت محيطة بالحرم من الجوانب.(المستند:283/11) و تبعه صاحب العروة الوثقى [1]في مبحث المواقيت،و التصديق العلمي يحتاج إلى دراسة ميدانية،و أنّى لنا هذه.
2- 2) .و أمّا المحاذاة عن مسافة بعيدة،و التي نسمّيها محاذاة غير عرفية فالظاهر من الخرائط الجغرافية انّ المطار الحديث للحجاج و ساحل البحر،و مقدّم الجسر الكبير تحاذي الجحفة،فإنّ الخط الممتد من الجحفة إلى جدّة يمرّ على هذه الأمكنة أو على مقربة منها.

باعتبار أنّه قبل الجحفة التي هي أحد المواقيت.

4.إذا لم يمكن المضي إلى أحد المواقيت و لم يحرم قبل ذلك بنذر،لزمه الإحرام من جدة بالنذر ثمّ يجدد إحرامه خارج الحرم قبل دخوله فيه. (1)

يلاحظ على ما أفاده بأُمور:

أوّلاً:انّ لزوم الذهاب إلى أحد المواقيت مع الإمكان،بلا ملزم،لما مرّ من أنّ الروايات الدالّة على لزوم الإحرام من المواقيت التي وقّتها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ناظرة إلى من كان من أهل هذه المواقيت أو كان ممّن يجتازها،و أمّا من سلك طريقاً لا يؤدّي إلى أحدها فلا دليل على لزوم الذهاب إلى المواقيت.

ثانياً:انّ نذر الإحرام من بلده أو من الطريق قبل الوصول إلى جدة بمقدار معتد به أو في الطائرة،و إن كان يحل مشكلة الإحرام،لكن يبقى الإشكال في الاستظلال بعده بسقف الطائرة،و نحوها إذا كان الطيران في النهار أو في الليالي الممطرة أو ذات الرياح العاصفة.

وجه الإشكال:انّ حقيقة الإحرام عبارة عن العزم على ترك المحرمات، فكيف يجتمع ذلك العزم الجدي،مع العلم بنقضه في الطريق أو قبل ركوب الطائرة،و نحو ذلك،و هذه مشكلة يجب التخلّص منها على نحو لا يصادم حقيقة الإحرام الذي هو أمر قلبي قائم بالجزم و النية.

أضف إلى ذلك:انّ هذا الاقتراح،لا ينفك عن وجوب الفدية عليه،و هو تكليف زائد و تحميل عليه،و هو رهن الدليل.

ثالثاً:انّه إذا تمكن من الذهاب إلى رابغ يتمكّن غالباً من الذهاب إلى الجحفة، فإنّها بمقربة من رابغ،و الطريق:معبّد،ذلول،و المسافة قليلة جداً.

ص:507


1- 1) .المعتمد:324/3،و [1]لاحظ المناسك. [2]

رابعاً:إذا لم يمكن المضي إلى أحد المواقيت و لم يحرم قبل ذلك بنذر،فقد أفتى بلزوم الإحرام من جدة بالنذر،ثمّ يجدد إحرامه خارج الحرم قبل دخوله فيه،و لم يعلم وجهه،لأنّ المورد خارج عن مصب روايات النذر،لأنّ مورد رواياته (1)هو نذر الإحرام قبل الميقات،ثمّ اجتيازه و المرور به.و أين هو من المفروض،و هو نذر الإحرام قبل الدخول في الحرم ثمّ الدخول فيه محرماً ؟! و قد ثبت في محله انّه لا يمكن تحليل الحرام-تكليفاً أو وصفاً-بالنذر و اليمين و العهد،و الإحرام قبل الميقات،أو بعده حرام تكليفاً و باطل وضعاً، خرجت منه صورة واحدة،و هو نذره قبل الميقات ثمّ المرور به محرماً و الصور الأُخرى باقية تحت المنع.

و الحمد للّه الذي بنعمته تتمّ الصالحات

ص:508


1- 1) .الوسائل:8،الباب12 من أبواب المواقيت،الحديث 1-3. [1]

3

اشارة

المطاف بين السعة و الضيق

كان الحجيج في الأزمان المنصرمة يُعدّون بالأُلوف حيث لا يتجاوز عددهم مائة ألف حاج في أغلب السنين،و لم تكن آنذاك أية مشكلة باسم الازدحام في المطاف،إلاّ حين استلام الحجر الأسود،غير أن تطور وسائل النقل البحرية و البرية و الجوية جعل هذا العدد يتضاعف كثيراً في كلّ سنة إلى أكثر من ميلوني حاج.

هذا و انّ عدد الحجاج في هذه السنة 1425ه-حسب وكالة الأنباء للمؤتمر الإسلامي في اليوم الثامن من ذي الحجة الحرام لهذه السنة-بلغ مليونين و مائتي و خمسين ألفاً (000،250،2 ألف)،و كان عدد الحجاج الوافدين من سائر الأقطار يبلغ مليوناً و سبعمائة و خمسين ألفاً (000،750،1)،و هذا يعرب عن أن تطور وسائل المواصلات صار سبباً لتزايد عدد الوافدين إلى البيت الحرام.

و على ضوء ذلك،فإنّ عدد الحجاج سوف يشهد تزايداً ملحوظاً في المستقبل.

ص:509

هذا من جانب و من جانب آخر المشهور عند فقهاء الشيعة هو انّ المطاف عبارة عمّا بين البيت و المقام،و هو لا يزيد على 12متراً أو 26ذراعاً و نصف ذراع.و من المعلوم أنّ طواف هذا العدد الهائل من الحجاج في هذه المسافة الضيقة يوجب ازدحاماً و حرجاً كثيراً في أشهر الحج خصوصاً في الشهر الأخير.

و أشكل من ذلك تحديد المطاف خلف جدار حجر إسماعيل بثلاثة أمتار.

و من المعلوم أنّ هذا التضييق يوجب العسر و الحرج و الزحام للشيعة الإمامية.

و هذا ما يلمسه كلّ من يحج في هذه السنوات و يعاني من هذه المشكلة.

و أمّا أهل السنّة فهم في يسر حيث جعلوا ساحة المسجد كلّها مطافاً للحاج حتى تحت الأروقة و السقائف بل قالوا لو وسع المسجد إلى الحل لكان الجميع مطافاً،كما سيوافيك.

و لذلك نطرح هاتين المسألتين على صعيد التحقيق.

ص:510

المسألة الأُولى:في تحديد المطاف في الجوانب الثلاثة

اشارة

ذهب أكثر فقهاء الشيعة إلى أنّ المطاف هو المسافة الفاصلة بين البيت و المقام الموجود حالياً و نص بذلك جلّ فقهائهم،و ستوافيك كلماتهم.

و هناك قولان آخران:

1.جواز الطواف خارج المقام اختياراً على كراهة،و هو خيرة الصدوق و المحقّق الأردبيلي على وجه.

2.جواز إدخال المقام في الطواف في حالة الضرورة،و هو خيرة ابن الجنيد و العلاّمة في«التذكرة»،فعلينا دراسة أدلة الأقوال بعد ذكر نصوص من أقوال الفقهاء.

القول الأوّل:المطاف هو الحدّ الفاصل بين الحدّين

تقدّم انّ المشهور بين فقهائنا انّ المطاف هو الحدّ الفاصل بين البيت و المقام، و تجد النص على ذلك في أغلب الكتب الفقهية،و إليك منها ما يلي:

1.قال الشيخ في«الخلاف»:إذا تباعد من البيت حتى يطوف بالسقاية و زمزم لم يجزه به.و قال الشافعي:يجزيه. (1)

ص:511


1- 1) .الخلاف:324/2،المسألة 133.

2.و قال في«المبسوط»:و ينبغي أن يكون طوافه فيما بين المقام و البيت و لا يجوزه،فإن جاز المقام و تباعد عنه لم يصحّ طوافه. (1)

3.و قال في«النهاية»:و ينبغي أن يكون الطواف بالبيت فيما بين المقام و البيت و لا يجوزه،فإن جاز المقام أو تباعد عنه لم يكن طوافه شيئاً. (2)

و ذيل العبارة في الكتابين يدلّ على أنّ مراده من قوله:«ينبغي»هو الوجوب.

4.و قال ابن البراج:و يجب أن يكون طوافه بين المقام و البيت. (3)

5.و قال ابن زهرة:و الواجب في الطواف النية-إلى أن قال:-و ان يكون،بين البيت و المقام فمن ترك شيئاً من ذلك لم يجزه الطواف. (4)

6.و قال ابن إدريس:ينبغي أن يكون الطواف بالبيت فيما بين مقام إبراهيم عليه السلام و البيت يُخرج المقام في طوافه،و يدخل الحجر في طوافه، و يجعل الكعبة في شماله،فمتى أخلّ بهذه الكيفية أو نسي منها بطل طوافه. (5)

7.قال العلاّمة:يجب عندنا أن يكون الطواف بين البيت و المقام و يدخل الحجر في طوافه،فلو طاف في المسجد خلف المقام لم يصحّ طوافه،لأنّه خرج بالتباعد عن القدر الواجب فلم يكن مجزئاً.

و قال الشافعي:لا بأس بالحائل بين الطائف و البيت كالسقاية و السواري و لا بكونه في آخر باب المسجد و تحت السقف،و على الأروقة و السطوح إذا كان البيت أرفع بناءً على ما هو اليوم،فإن جعل سقف المسجد أعلاه لم يجز الطواف

ص:512


1- 1) .المبسوط:357/1. [1]
2- 2) .النهاية:237. [2]
3- 3) .المهذب:233/1.
4- 4) .الغنية:172. [3]
5- 5) .السرائر:572/1.

على سطحه...إلى أن قال:و لو اتّسعت خطة المسجد اتّسع المطاف،و قد جعلته العباسية أوسع ممّا كان في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم. (1)

8.و قال في«المنتهى»:و يجب أن يكون [الطواف] بين البيت و المقام. (2)

9.و قال في«المدارك»:و أمّا أنّه يعتبر كون الطواف واقعاً بين البيت و المقام بمعنى كونه في المحل الخارج عن جميع البيت و الداخل عن جميع المقام، فهو المعروف من مذهب الأصحاب. (3)

10.و قال في«الجواهر»:لا خلاف معتد به أجده في وجوب كون الطواف بينه و بين البيت،بل عن الغنية الإجماع عليه. (4)

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي يقف عليها المتتبع في الكتب،خلافاً للسنّة كما مرّ عن العلاّمة.

نعم المطاف عند فقهاء السنّة أوسع بكثير،كما مرّ عن العلاّمة في التذكرة.و في«الموسوعة الفقهية الكويتية»:مكان الطواف هو حول الكعبة المشرفة داخل المسجد الحرام قريباً من البيت أو بعيداً عنه،فلو طاف من وراء مقام إبراهيم عليه السلام أو من وراء حائل كمنبر أو غيره كالأعمدة أو على سطح المسجد الحرام أجزأه،لأنّه قد حصل حول البيت ما دام ضمن المسجد و إن وسع المسجد و مهما توسع ما لم يبلغ الحلّ عند الجمهور،لكن خصّت المالكية الطواف بالسقائف بصورة الزحام. (5)

ص:513


1- 1) .التذكرة:93/8- 94. [1]
2- 2) .المنتهى:691/2،الطبعة الحجرية.
3- 3) .المدارك:130/8. [2]
4- 4) .الجواهر:295/19. [3]
5- 5) .الموسوعة الفقهية الكويتية:127/29.

و المعروف أنّ المسافة بين«شاذروان»البيت و المقام هي ستة و عشرون ذراعاً و نصف ذراع،و أمّا حسب المتر فالحدّ الفاصل 12 متراً.

و كيف كان فهذا هو القول المعروف بين الأصحاب و الدليل الوحيد-مضافاً إلى الشهرة-صحيحة محمد بن مسلم حسب ما رواه الكليني،قال:سألته عن حدّ الطواف بالبيت الّذي من خرج منه لم يكن طائفاً بالبيت؛قال:«كان الناس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يطوفون بالبيت و المقام،و أنتم اليوم تطوفون ما بين المقام و البيت،فكان الحدُّ موضعَ المقام اليوم،فمن جازه فليس بطائف،و الحدّ قبل اليوم و اليوم واحد قدر ما بين المقام و بين نواحي البيت كلّها،فمن طاف فتباعد من نواحيه أبعد من مقدار ذلك كان طائفاً بغير البيت،بمنزلة من طاف بالمسجد،لأنّه طاف في غير حدّ،و لا طواف له». (1)

و الاستدلال بالرواية فرع صحّة السند و إتقان الدلالة.

أمّا الأوّل فرجال السند كلّهم ثقات سوى«ياسين الضرير»فإنّه لم يوثق،بل هو مهمل من ذلك الجانب،و الرجل إماميٌّ بشهادة عنوان النجاشي له في رجاله. (2)

و عناية المشايخ بذكره و ذكر كتابه،و استحصال السند إليه تعرب عن صلاحية كتابه للاحتجاج.و قد ذكر النجاشي سنده إلى كتابه.

و أمّا اتقان الدلالة،فالدلالة واضحة.

إنّما الإشكال في بعض المضمون حيث دلّت على أنّ المقام كان ملصقاً بالبيت في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و صار بعده في المكان الّذي هو فيه اليوم و يؤيده ما

ص:514


1- 1) .الوسائل:9،الباب28 من أبواب الطواف،الحديث1. [1]
2- 2) .رجال النجاشي:برقم1227.

نقل عن الطبري:أنّ قريشاً في الجاهلية،كانت قد ألصقته بالبيت خوفاً عليه من السيول،و استمر كذلك في عهد النبي و عهد أبي بكر،فلمّا ولي عمر ردّه إلى موضعه الحالي،الّذي هو مكانه في زمان الخليل عليه السلام. (1)

و لكن فيما ذكره الطبري ملاحظة واضحة،إذ لو كان الأمر كما ذكره الطبري فالنبي أولى بأن يأتي به إلى مكانه اليوم،فلما ذا لم ينقله حتّى قام عمر بذلك؟! و المذكور في بعض التواريخ انّ المقام كان موجوداً في محلّه الّذي هو الآن فيه،في عصر النبي و فترة بعد رحيله.

قال أبو الوليد محمد الأزرقي (المتوفّى قريباً من عام 222ه) في كتابه«أخبار مكة و ما فيها من الآثار»:حدّثني جدّي قال:حدّثنا عبد الجبار بن الورد،قال:

سمعت ابن أبي مليكة يقول:موضع المقام هذا الّذي هو به اليوم هو موضعه في الجاهلية و في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أبي بكر و عمر،إلاّ أنّ السيل ذهب به في خلافة عمر فجعل في وجه الكعبة حتّى قدم عمر فردّه بمحضر الناس. (2)

و قال أيضاً:...حتّى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب يقال له:سيل أُم نهشل،فاحتمل المقام من موضعه هذا فذهب به حتّى وجد بأسفل مكة، فأُتي به فربط إلى أستار الكعبة في وجهها،و كُتب في ذلك إلى عمر،فأقبل عمر فدخل بعُمرة في شهر رمضان و قد غُبي موضعه و عفاه السيل،فدعا عمر بالناس فقال:أنشد اللّه عبداً عنده علم في هذا المقام،فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي:أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك فقد كنت أخشى عليه هذا فأخذت قدره من موضعه إلى الركن و من موضعه إلى باب الحجر،و من موضعه إلى زمزم بمقاط،و هو عندي في البيت،فقال له عمر:فاجلس عندي، و أرسل إليها،فأُتي بها فمدّها فوجدها

ص:515


1- 1) .الجواهر:296/19. [1]
2- 2) .أخبار مكة:35/2. [2]

مستوية إلى موضعه هذا،فسأل الناس و شاورهم،فقالوا:نعم هذا موضعه، فلمّا استثبت ذلك عمر و حقّ عنده أمر به فاعلم ببناء ربضه تحت المقام ثمّ حوله فهو في مكانه هذا إلى اليوم. (1)

و ما ذكره الأزرقي هو الأوفق بالقبول،لأنّ المقام هو العمود من الصخر الّذي كان إبراهيم عليه السلام يصعد عليه عند بنائه البيت،فلو كان هذا متّصلاً بالبيت في عصر النبي كان على الزائرين الصلاة وراءه و هي تزاحم طواف الطائفين، و الروايات في المورد متعارضة،تحتاج إلى فحص أكيد يوصل إلى رأي حاسم،و على أي تقدير،فيجب علينا الطواف بين البيت و المقام الموجود حالياً برواية محمد بن مسلم الماضية،و ضعف السند منجبر بعمل المشهور.

قولان آخران في المطاف

قد تقدّم أنّ في تحديد المطاف قولين آخرين،و إليك دراستهما:

الأوّل:جواز الطواف خارج المقام اختياراً على كراهة،و قد اختاره قليل من الفقهاء،منهم:

1.الصدوق في«الفقيه»حيث روى بسند صحيح عن أبان بن عثمان،عن محمد بن علي الحلبي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الطواف خلف المقام، قال:«ما أحب ذلك و ما أرى به بأساً،فلا تفعله إلاّ أن لا تجد منه بُدّاً» (2).بناء على أنّ الصدوق يُفتي بكلّ ما نقله في الفقيه،لما صرّح به في أوّل الكتاب.

فلو قلنا بأنّ قوله عليه السلام:«ما أحب ذلك»ظاهر في الكراهة،و هي تزول مع

ص:516


1- 1) .نفس المصدر:33/2. [1]
2- 2) .الفقيه:399/2،الباب219،ما جاء في الطواف خلف المقام.

الضرورة،و يكون دليلاً على أنّ الصدوق ممّن يجوِّز الطواف خارج المقام اختياراً و إن كان مكروهاً،و تزول الكراهة في الضرورة.

2.و قال المحقّق الأردبيلي بعد نقل الرواية المذكورة:فإنّها ظاهرة في الجواز خلف المقام على سبيل الكراهة،و تزول مع الضرورة،و لكن قال في «المنتهى»:و هي تدلّ على ذلك مع الضرورة و الزحام و شبهه.

و أنت تعلم انّ دلالتها على ما قلناه(جواز الطواف خلف المقام اختياراً) أظهر إلاّ أن يقال:إنّه لا قائل به فيحمل على ما قاله في«المنتهى»على أنّ«أبان» الظاهر انّه ابن عثمان،و فيه قول فلا يقبل منه ما ينفرد به. (1)

يلاحظ عليه:أنّ أبان بن عثمان من أصحاب الإجماع،و قد اتّفقوا على وثاقة هؤلاء.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الصدوق و الأردبيلي-على وجه-ذهبا إلى جواز الطواف خلف المقام اختياراً.

الثاني:اختصاص الجواز بصورة الضرورة و الزحام،و عليه ابن الجنيد و العلاّمة في بعض كتبه،و إليك كلماتهم:

1.قال العلاّمة في«التذكرة»بعد ما نقل خبر الفقيه:و هو يعطي الجواز مع الحاجة كالزحام. (2)

2.و قال في«المختلف»:المشهور انّه لا يجوز إدخال المقام في الطواف، و قال ابن الجنيد:يطوف الطائف بين البيت و المقام الآن،و قدره من كلّ جانب،فإن اضطر أن يطوف خارج المقام أجزأه. (3)

ص:517


1- 1) .مجمع الفائدة و البرهان:87/7.
2- 2) .التذكرة:93/8. [1]
3- 3) .المختلف:183/4.

و هذا القول هو الأقوى،و يدلّ عليه مضافاً إلى صحيح الحلبي:

انّه سبحانه يأمر مجموع الحجيج الحاضرين في المسجد بالطواف بقوله:

«وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» 1 هذا من جانب.

و من جانب آخر يقول سبحانه: «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». 2

فمقتضى دعوة الحاضرين في المسجد إلى الطواف مع رعاية عدم تسبب الحرج هو كون المطاف في هذه الظروف أوسع من الحدّ المذكور مع ملاحظة الأقرب فالأقرب.بمعنى اتصال الطائف خارج المقام بالطائفين داخل المطاف.

و ربما يقال بإيجاب الاستنابة،عند عدم الاستطاعة أو إذا كان حرجيّاً.

يلاحظ عليه:بأنّه إذا كان الابتلاء في مورد واحد صحّ ما احتمل،و إلاّ فلو كان ممّا تبتلي به العامّة،فنفس الاستنابة تكون حرجية،فكيف الطواف نفسه.

ص:518

المسألة الثانية:حدّ المطاف خلف حجر إسماعيل

هذه هي المسألة الثانية التي ألمعنا إليها.

و إليك توضيحها:

قد تقدم أنّ المطاف هو الحدّ الفاصل بين الكعبة و مقام إبراهيم،و قد حدّد بستة و عشرين ذراعاً و نصف ذراع،و هو يقرب من 12 متراً،فعلى الطائف ألاّ يخرج عن هذا الحدّ إلاّ عند الضرورة كما قلنا.

و اتّفقوا على أنّ مبدأ هذا الحدّ في الأضلاع الثلاثة هو جدار الكعبة.

و إنّما الكلام في الضلع الذي يتصل به حجر إسماعيل فهل يُحسب الحد الفاصل من جدار الكعبة كما هو المشهور عند أكثر فقهائنا؛أو يحسب من جدار الحجر إلى نهاية 12متراً،كما عليه لفيف من المتقدمين و المعاصرين؟

فلو قلنا بالاحتمال الأوّل يكون مقدار المسافة للطواف نحو ثلاثة أمتار و هو يسبّب الحرج في أكثر الأوقات،و أكثر ممّا سبق،إذ لازم ذلك أن يكون المطاف في الأضلاع الثلاثة هو 12متراً و في الضلع المتصل ب«حجر إسماعيل»3 أمتار.

و أمّا لو قلنا بالاحتمال الثاني،فبما أنّ مبدأ المسافة هو خارج الحجر

ص:519

يكون المطاف نظير سائر الأضلاع،و بذلك يزول الحرج في غالب الأوقات غير أيّام الحجّ.

إنّما الكلام في استظهار أحد القولين من معتبرة محمد بن مسلم الماضية.

أقول:إنّ الرواية في النظرة الأُولى تحتمل أحد معنيين و لا يتعيّن المقصود النهائي إلاّ في الإمعان في الغرض الّذي سيقت له،و إليك الاحتمالين:

1.إنّ الرواية بصدد بيان حدي المسافة،و يكون غرضها مصروفاً إلى بيان المبدأ و المنتهى.

2.إنّ الرواية بصدد بيان مقدار المسافة الّتي يطوف فيها الطائف بحيث لو خرج عنها في جانب المقام لبطل طوافه.و إنّما ذكر المبدأ ليتيسّر له ذكر المسافة الّتي لو خرج عنها الطائف لبطل طوافه.

فإذا كان المقصود هو الأوّل،لكانت الرواية مؤيدة للقول المشهور،غير أنّ القرائن المتوفرة تشهد بأنّ الغرض هو بيان مقدار المسافة الّتي لا يجوز الخروج عنها،و أمّا المبدأ فهو و إن تعرضت له الرواية بقولها:«قدر ما بين المقام و بين البيت من نواحي البيت كلّها»إلاّ أنّه لم تصبَّ اهتمامها عليه،و إنّما جاء ذكره ليكون مقدّمة لبيان حدّ المسافة الّتي لا يجوز للطائف الخروج عنها،لا لبيان الحدّ حتّى من الجانب الذي يُبدأ منه.

لكن القرائن تشهد بأنّ الغرض هو بيان مقدار المسافة لا بيان مبدأ المسافة، و إليك القرائن:

أ.نفس سؤال الراوي حيث ركّز على الحدّ الّذي لا يجوز الخروج عنه،و قال:

سألته عن حدّ الطواف بالبيت الّذي«من خرج عنه»لم يكن طائفاً

ص:520

بالبيت،فلا بدّ أن يكون الجواب ناظراً إلى تلك الجهة أي بيان الحدّ الّذي لا يجوز الخروج عنه،و الخروج يتحقّق من جانب المقام،لا من جانب البيت.

ب.انّ الإمام عليه السلام بيّن كيفية طواف الناس أيّام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالبيت و المقام، ثمّ بيّن انقلاب الأمر بعده حتّى صار الناس يطوفون بين البيت و المقام.ثمّ يؤكد بأنّ ذلك لا يؤثر في تغيير الحدّ بقوله:«فكان الحد،موضعَ المقام اليوم فمن جازه فليس بطائف»فهذه التعابير تشير كلّها إلى أنّ المقصود الأصلي في الرواية هو بيان المسافة الّتي يطاف فيها و لا يجوز الخروج عنها،و إنّ نقل المقام في العهود السابقة لا يؤثر في ذلك.

ج.«فالحدّ قبل اليوم و اليوم واحد،قدر ما بين المقام و بين البيت»و هو ظاهر في أنّ تغيير مكان المقام لا يؤثر في تحديد المسافة و مقدارها فهي في جميع الظروف واحدة لا تتغير،و إن ذكر المبدأ(بين البيت) فلأجل أن يتيسّر له بيان حدّ المسافة الّتي لا يجوز الخروج عنه.

و لقد لخّص العلاّمة المجلسي مفاد الحديث بقوله:و الحاصل أنّ المعتبر دائماً مقدار،بين الموضع الّذي فيه المقام الآن و بين البيت،سواء أ كان المقام فيه أم لم يكن. (1)

و على ضوء ما ذكرنا فالرواية تركّز على بيان الحدّ الفاصل الّذي لا يجوز الخروج عنه في عامة الجوانب لا على مبدئه.

إذا عرفت ذلك فنقول:إذا كانت الرواية ظاهرة في تبيين المسافة الّتي يسلكها الطائف،فيجب الأخذ بها في عامة الجوانب.

لكن الأخذ به واضح في الأضلاع الثلاثة،و إنّما الكلام في الأخذ به في

ص:521


1- 1) .ملاذ الأخيار:393/7. [1]

الضلع المتصل بحجر إسماعيل،فهو يتحقق بأحد أمرين:

الأوّل:أن يكون الحجر جزءاً من المسافة و المطاف،فيجوز للطائف سلوكه.

الثاني:ألاّ يكون الحجر جزءاً منها بل خارجاً.

و بما أنّ الروايات المتضافرة أبطلت الاحتمال الأوّل يتعيّن الاحتمال الثاني فيكون المبدأ خارج الحجر إلى نهاية اثني عشر متراً.

ثمّ إنّ المشهور و إن ذهب إلى أنّ المبدأ هو البيت في ذلك الضلع الخاص، غير أنّ جماعة من الفقهاء اختاروا ما ذكرناه،و إليك مقتطفات من كلماتهم:

1.قال الشهيد الثاني في«الروضة»:و تحتسب المسافة من جهة الحجر من خارجه و إن جعلناه خارجاً من البيت. (1)

2.و قال أيضاً في«المسالك»:و تجب مراعاة هذه النسبة من جميع الجهات فلو خرج عنها و لو قليلاً بطل،و من جهة الحجر تحتسب المسافة من خارجه بأن ينزله منزلة البيت و إن قلنا بخروجه عنه.

ثمّ إنّه قدس سره تردد فيما ذكر و قال:مع احتمال احتسابه(الحجر) منها على القول بخروجه و إن لم يجز سلوكه. (2)

يلاحظ عليه:أنّ المتبادر من الرواية جواز السلوك في المسافة المحدّدة في عامة الجوانب،فلو كان الحجر جزءاً من المسافة جاز السلوك فيه مع تضافر الروايات على المنع.

ص:522


1- 1) .الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية:249/2. [1]
2- 2) .مسالك الأفهام:333/2. [2]

3.و قال سبطه في«المدارك»:و قد قطع الأصحاب أنّه يجب مراعاة قدر ما بين البيت و المقام من جميع الجهات،و في رواية محمد بن مسلم دلالة عليه، و تحتسب المسافة من جهة الحجر من خارجه و إن كان خارجاً من البيت، لوجوب إدخاله في الطواف،فلا يكون محسوباً من المسافة.

4.و قال (1)المحقّق السبزواري في«الذخيرة»:و قد ذكر جماعة من المتأخّرين أنّه يحتسب المسافة من جهة الحجر من خارجه،و منهم من قال:

و إن كان خارجاً من البيت،و منهم من علّله بوجوب إدخاله في الطواف فلا يكون محسوباً من المسافة. (2)

5.ما نقله المحقّق النراقي عن جماعة من المتأخّرين. (3)

6.و قال في«الجواهر»:نعم لا إشكال في احتساب المسافة من جهة الحجر من خارجه،بناءً على أنّه من البيت،بل في«المدارك»و غيرها و إن قلنا بخروجه عنه لوجوب إدخاله في الطواف فلا يكون محسوباً من المسافة. (4)

و إن استشكل في ما ذكره و زعم أنّه خلاف ظاهر الخبر.

و يؤيد ذلك أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم طاف في عمرة القضاء مع أصحابه الذين صدّهم المشركون في العام الماضي،فهل يمكن أن يطوف هذا الجمّ الغفير في مسافة قليلة لا تتجاوز عن ثلاثة أمتار؟

قال ابن هشام:ثمّ استلم النبي صلى الله عليه و آله و سلم الركن و خرج يهرول و يهرول أصحابه معه حتّى إذا واراه البيت منهم و استلم الركن اليماني مشى حتّى يستلم الركن

ص:523


1- 1) .مدارك الأحكام:131/8. [1]
2- 2) .ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد:628. [2]
3- 3) .مستند الشيعة:76/12. [3]
4- 4) .الجواهر:298/19. [4]

الأسود،ثمّ هرول كذلك ثلاثة أطواف و مشى سائرها. (1)

و قد شارك النبي عام الحديبية حوالي 700 رجل،و لما صُدُّوا في ذلك العام، قضوا عمرتهم في السنة القادمة،و الظاهر أنّهم شاركوا في القضاء بلا استثناء.

قال ابن إسحاق:خرج معه المسلمون ممّن كان صدّ معه في عمرته تلك، و هي سنة سبع،فلمّا سمع به أهل مكة خرجوا عنها. (2)

و من المعلوم أنّ طواف هؤلاء في زمان قليل في تلك المسافة الضيّقة،لا يخلو من حرج و لو كان واجباً لنصّ به النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم،كلّ ذلك يعرب عن أنّ المطاف من جانب الحجر أوسع و يساوي في السعة سائر الجوانب، فتدبّر.

أضف إلى ذلك:ان لو كان المطاف في الضلع المتصل بالحجر،ثلاثة أمتار لأوجب ذلك الزحام الشديد في عامّة الأعصار و انتهى إلى طرح السؤال على النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أئمّة أهل البيت عليهم السلام،مع أنّا لا نرى أي سؤال قد طرح حوله.

ص:524


1- 1) .السيرة النبوية:371/2، [1]عمرة القضاء.
2- 2) .السيرة النبوية:370/2. [2]

4

اشارة

شبهات و إيضاحات حول أُصول الفقه للشيعة الإمامية

لقد قمنا بزيارة المملكة المغربية في مستهلّ عام 1425ه،و تعرّفت على رجال الفكر و الثقافة في تلك البلاد من خلال إلقاء المحاضرات في غير واحدة من جامعاتها حول مواضيع مختلفة.و قد دُوّنت مذكّراتي حول هذه الرحلة في كتاب سمّي«الرحلة المغربية أو على ساحل جبل طارق» و سيصدر قريباً إن شاء اللّه تعالى.

و ممّا يجب ذكره:إنّي قد ألقيت محاضرة حول تطوّر أُصول الفقه عند الإمامية في جامعة القرويين في مدينة فاس بتاريخ 4محرم الحرام 1425ه،و ذكرت فيها التطوّر الّذي أحدثه علماء الإمامية في علم الأُصول عبر القرون على نحو لا يُرى نظيره في المدارس الأُخرى،و ذكرنا نماذج من تقدم الحركة الأُصولية،و قد أعقب هذه المحاضرة مناقشات و استفسارات أجبنا عنها حسب ما سمح لنا الوقت بذلك.

و في اليوم الأخير من سفرنا و الّذي غادرنا فيه المملكة المغربية زرنا صباحاً

ص:525

مؤسسة«دار الحديث الحسنية»الّتي يديرها الدكتور أحمد الخمليشي،و قد استقبلونا بحفاوة و تكريم،و تعرّفنا هناك على عدد من الأساتذة المحترمين من أصحاب الاختصاصات المتنوّعة،و قد دار الحديث خلال هذه الزيارة في مواضيع عديدة لا يسع المجال لذكرها هنا.

كلّ ذلك كان بفضل ربّنا سبحانه و تعالى حيث التقينا بشخصيات علمية بارزة،و لمسنا منهم حب المعرفة و الاطّلاع على مذهب الشيعة الإماميّة و التقريب بين المسلمين،و الاهتمام بالتبادل الثقافي بين الجمهورية الإسلامية و المملكة المغربية.

و قد وقفنا في هذه الأيام على مقال نشر في مجلة«الواضحة»،الصادرة من «دار الحديث الحسنية»العدد الثاني من السنة الأُولى 1425ه تحت عنوان «أُصول الفقه عند الشيعة الإمامية-تقديم و تقويم»بقلم:الدكتور أحمد الريسوني،الأُستاذ في جامعة محمد الخامس في الرباط.

و من حسن الحظ أنّا قد التقينا بصاحب المقال مرتين:

الأُولى:خلال إلقاء محاضرة في كلية الآداب و العلوم الإسلامية جامعة محمد الخامس،و كان موضوعها:«الفقه الإسلامي و أدواره التاريخية».

الثانية:كانت خلال الحفل الّذي أُقيم في سفارة الجمهورية الإسلامية في المغرب لتكريم ضيفها.

و نشكر اللّه الّذي هيّأ لنا هذه اللقاءات الأخوية.

و قد قرأت المقال و وجدت أنّ المواضيع الّتي تخضع للبحث و النقاش فيه عبارة عمّا يلي:

1.تأخّر الشيعة في تدوين علم الأُصول عن السنّة.

ص:526

2.أدلّة الأحكام عند الشيعة الإمامية،و منها سنّة الأئمّة الاثني عشر و الإجماع.

3.الإمامية ترفض الأخذ بالقياس و الاستصلاح لأنّها أدلّة ظنية،و في الوقت نفسه يعملون بالظنّيات كالعمل بأخبار الآحاد.

4.الإمامية يقولون بحجّية الدليل العقلي بينما يرفضون القياس و هو من بديهيات العقول و أوّلياتها.

5.الإمامية ترفض حجّية المصلحة؟! و لكنّهم يأخذونها بأسماء و أشكال متعدّدة.

هذه هي المحاور الّتي يدور حولها مقال الدكتور الّذي مارس النقد البنّاء، و استعرض وجهة نظره بعبارات مهذّبة،و نحن نتناول تلك الأُمور بالبحث و المناقشة ضمن فصول،خضوعاً لما أفاده في مقدّمة مقاله قائلاً:

على أنّني حين أضع هذا المقال في سياق التقريب و السعي نحو التفاهم، فإنّي لا أنفي حتمية النقاش الصريح و النقد الحر المتبادل،لأنّ التقريب المنشود لا يمكن أن يبنى على المجاملة أو المحاباة،و لكنّه بحاجة إلى تحسين الظن،و تهذيب الخطاب،و تحمّل النقد بحثاً عمّا فيه من حق لقبوله، لا بحثاً-فقط-عمّا فيه من مداخل لنقضه و تسفيهه.

ص:527

الأوّل:التقدّم في التأسيس أو التدوين

إنّ واقع العلم المنتشر قائم بأمرين:

1.إلقاء الأفكار الّتي تنقدح في أذهان المؤسّسين إلى تلاميذهم.

2.تدوين الأفكار من قبل المؤسّسين أو تلاميذهم الذين اقتبسوا من أضوائهم و استلهموا تلك الأفكار.

و ليس علم الأُصول شاذّاً عن هذه القاعدة.

إذا كانت الغاية من علم الأُصول هو تعليم الفقيه كيفية إقامة الدليل على الحكم الشرعي و استنطاق الأدلّة الشرعية لاستنباط الحكم الشرعي في الحقول المختلفة،فإنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام-لا سيّما الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام-هم السابقون في هذا الميدان،فقد أملوا على أصحابهم قواعد كلّيّة تتضمّن قواعد أُصولية تارة و قواعد فقهية تارة أُخرى،فربّوا جيلاً كبيراً من الفقهاء في مجال الاجتهاد و الاستنباط حفلت معاجم الرجال و التراجم بأسمائهم و آثارهم.

فمن سبَر ما وصل إلينا من آثار الفقهاء في القرن الثاني و الثالث ممّن تربّوا في أحضان أهل البيت عليهم السلام،يقف على مدى رقيّهم في سلم الاجتهاد،فمن باب المثال انظر إلى ما بقي إلى هذا الوقت من اجتهادات تلاميذ الإمامين

ص:528

الصادقين عليهما السلام،نظير:

1.زرارة بن أعين (المتوفّى عام 150ه) الّذي يقول في حقّه ابن النديم:

زرارة أكبر رجال الشيعة فقهاً و حديثاً.

2.محمد بن مسلم الثقفي (المتوفّى عام 150ه).

3.يونس بن عبد الرحمن (المتوفّى عام 208ه).

4.الفضل بن شاذان(المتوفّى عام 260ه)،مؤلف كتاب«الإيضاح»المطبوع.

إلى غيرهم من الفقهاء البارزين،الذين تركوا تراثاً فقهياً مستنبطاً من قواعد أُصولية و فقهية على نحو يبهر العقول،و قد ذكرنا شيئاً من فتاواهم و اجتهاداتهم في كتابنا(تاريخ الفقه الإسلامي و أدواره،ج1،ص 195- 202).

و قد كانت اجتهاداتهم و استنباطاتهم على ضوء قواعد تلقّوها عن أئمّتهم عليهم السلام و استضاءوا بنور علومهم.و قد جاءت هذه القواعد مبثوثة ضمن أحاديث موجودة في جوامعنا الحديثية.

و قد قام جماعة من المحدّثين بفصل هذه الروايات و جمعها في مكان واحد، نذكر منهم:

1.العلاّمة المجلسي (1037- 1110ه) الذي جمعها ضمن موسوعته الكبيرة«بحار الأنوار»،في كتاب العقل و العلم. (1)

2.الشيخ الحرّ العاملي (المتوفّى 1104ه) الذي ألّف كتاباً مستقلاً في هذا المضمار أسماه«الفصول المهمة في أُصول الأئمّة»و قد اشتمل على 86 باباً أودع فيها الأحاديث الّتي تتضمّن قواعد أُصولية و فقهية ممّا يبتنى عليها الاستنباط.

ص:529


1- 1) .بحار الأنوار:266/2- 283. [1]

3.المحدث الخبير السيد عبد اللّه شبّر (المتوفّى 1242ه) الذي صنّف كتاباً أسماه«الأُصول الأصلية و القواعد الشرعية»يحتوي على مائة باب،و قد طبع الكتاب في 340صفحة.

4.العلاّمة الفقيه السيد محمد هاشم الخوانساري الاصفهاني (المتوفّى 1318ه) الّذي خاض بحار الأحاديث و صرف برهة من عمره في جمع هذا النوع من الروايات المروية عن أهل البيت عليهم السلام (و الّتي تتضمن الأُصول و القواعد الّتي يبتني عليها الاستنباط) في كتاب سماه«أُصول آل الرسول» و أورد فيه خمسة آلاف حديث من هذا النوع،و لو أسقطنا المتكرر منها لكان في الباقي غنى و كفاية،و هذا يشهد على تقدّم أئمّة أهل البيت عليهم السلام في تأسيس الفكرة و هداية الأُمّة إلى تلك القواعد و الأُصول.

هذا و إنّ كثيراً من أئمة الفقه كانوا سبّاقين في التأسيس لا في التدوين،و إنّما قام بالتدوين تلاميذ منهجهم.و من المعلوم أنّ الفضل للمؤسّس لا للمدوّن.

هذا الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت(80- 150ه) أحد أئمّة المذاهب الأربعة،و مؤسّس الفقه الحنفي قد أسّس مدرسة فقهية توسّعت على يد تلاميذه،و أخصّ بالذكر منهم:تلميذه المعروف محمد بن الحسن الشيباني(131- 189ه)،و تلميذه الآخر القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (113- 182ه) و هذان الفقيهان اتّصلا بأبي حنيفة و انقطعا إليه و تفقّها على يديه و بهما انتشر المذهب،و الفضل للمؤسّس لا للمدوّن.

و هذا أحمد بن محمد بن حنبل (164- 241ه) الحافظ الكبير الذي لم يصنّف كتاباً في الفقه يُعدّ أصلاً و مرجعاً،و إنّما جمع أُصوله تلميذ تلميذه

ص:530

«الخلال»من الفتاوى المتشتّتة الموجودة بين أيدي الناس و جاء من جاء بعده فاستثمرها و بلورها حتّى صارت مذهباً من المذاهب.

يقول الشيخ أبو زهرة:إنّ أحمد لم يصنّف كتاباً في الفقه يُعدّ أصلاً يؤخذ منه مذهبه و يُعدّ مرجعه و لم يكتب إلاّ الحديث. (1)

و مع هذا فقد صقل تلاميذه مذهبه و ألّفوا موسوعة فقهية كبيرة،كالمغني لابن قدامة....

و أمّا مسألة التدوين فهي و إن كانت أمراً مهماً قابلاً للتقدير لكن لا نخوض فيها،على الرغم من وجود تآليف في أُصول الفقه للشيعة الإمامية يعود تاريخها إلى نهاية القرن الثاني و أوائل القرن الثالث الهجري.

و من سبر تاريخ الحديث و الفقه و دور الأئمّة الاثني عشر و خاصّة الباقر و الصادق عليهما السلام في حفظ سنّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و توعية الناس،يقف على أنّ حضور مجالسهم كان واسعاً جداً،فكان يحضر فيها فئات مختلفة من طوائف المسلمين،و كانت خطاباتهم موجهة إلى عامّة الحاضرين...فإنّ الفوارق الّتي نشاهدها اليوم بين السنّة و الشيعة لم تكن في عصر الإمامين عليهما السلام على حد تصد غير شيعتهم عن الاختلاف إلى مجالسهم و محاضراتهم،فقد كان يشهد حلقات دروسهم فريق من التابعين و تابعي التابعين،من غير فرق بين من يعتقد بإمامتهم و قيادتهم أو من يرى أنّهم مراجع للعقائد و الأحكام.

هذا هو التاريخ يحكي عن أنّ حلقة درس الإمام الصادق كانت تضم عدداً كبيراً من رجال العلم،و ها نحن نذكر فيما يلي أسماء البارزين منهم:

1.النعمان بن ثابت (المتوفّى 150ه) صاحب المذهب الفقهي المعروف.

ص:531


1- 1) .ابن حنبل حياته و عصره لأبي زهرة:168.

يقول محمود شكري الآلوسي في كتابه«مختصر التحفة الاثني عشرية»:هذا أبو حنيفة و هو من بين أهل السنّة كان يفتخر و يقول بأفصح لسان:لو لا السنتان لهلك النعمان،يريد السنتين اللتين صحب فيهما-لأخذ العلم - الإمام جعفر الصادق عليه السلام. (1)

يقول أبو زهرة:و أبو حنيفة كان يروي عن الصادق كثيراً،و اقرأ كتاب الآثار لأبي يوسف،و الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني فإنّك واجد فيهما رواية عن جعفر بن محمد في مواضع ليست قليلة. (2)

2.مالك بن أنس (المتوفّى 179ه) و كانت له صلة تامّة بالإمام الصادق عليه السلام، و روى الحديث عنه،و اشتهر قوله:ما رأت عين أفضل من جعفر بن محمد.

3.سفيان الثوري(المتوفّى 161ه) من رؤساء المذهب و حملة الحديث و كان له اختصاص بالإمام الصادق،و قد روى عنه الحديث،كما روى كثيراً من آدابه و أخلاقه و مواعظه.

4.سفيان بن عيينة(المتوفّى198ه) و هو من رؤساء المذاهب البائدة.

5.شعبة بن الحجاج(المتوفّى 160ه)،خرّج له أصحاب الصحاح و السنن.

6.فضيل بن عياض(المتوفّى 187ه)،أحد أئمّة الهدى و السنّة.خرّج له البخاري.

7.حاتم بن إسماعيل(المتوفّى 180ه) خرج له البخاري و مسلم،أخذ عن

ص:532


1- 1) .مختصر التحفة:ص 8،طبع عام 1301ه.
2- 2) .الإمام الصادق:38. [1]

الصادق عليه السلام و أخذ عنه خلق كثير.

8.حفص بن غياث(المتوفّى 194ه) روى عن الصادق عليه السلام و روى عنه أحمد و غيره.

9.إبراهيم بن محمد أبو إسحاق المدني (المتوفّى 191ه) روى عن الصادق.

10.عبد الملك بن جريج القرشي (المتوفّى 149ه).

هذه عشرة كاملة و من أراد أن يقف على حملة علمه و تلامذة منهجه من السنّة،فعليه بكتاب«الإمام الصادق و المذاهب الأربعة»لأسد حيدر،ج1، ص 400- 421.

هذه نبذة ممّن استناروا بنور الصادق عليه السلام الوهّاج،و انتهلوا من نميره العذب، و تلقّوا عنه الفقه و الحديث كما تلقّاهما عنه غيرهم من شيعته.

ص:533

الثاني:أدلّة الأحكام عند الإمامية

اشارة

اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ منابع الفقه و مصادره لا تتجاوز الأربعة،و هي:

1.الكتاب.

2.السنّة.

3.الإجماع.

4.العقل.

و ما سواها إمّا ليست من مصادر التشريع،أو ترجع إليها.

هذا هو فقيه القرن السادس محمد بن إدريس الحلّي (543- 598ه) يذكر الأدلّة الأربعة في ديباجة كتابه (السرائر) و يُحدّد موضع كلّ منها،و يقول:فإنّ الحقّ لا يعدو أربع طرق:إمّا كتاب اللّه سبحانه،أو سنّة رسوله صلى الله عليه و آله و سلم المتواترة المتّفق عليها (1)،أو الإجماع،أو دليل العقل؛فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل

ص:534


1- 1) .اشتراط التواتر نظرية خاصّة لقليل من علماء الإمامية،فالجمهور منهم يعملون بخبر العدل أيضاً.

الشرعية عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة،التمسّك بدليل العقل فيها،فإنّها مبقاة عليه و موكولة إليه،فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه،فيجب الاعتماد عليها و التمسّك بها. (1)

تقسيم الأدلّة إلى اجتهادية و أُصول عملية

تقسيم الأدلّة إلى اجتهادية و أُصول عملية من خصائص الفقه الشيعي،و أمّا الفرق بينهما فهو ما يلي:

إذا كان الملاك في اعتبار شيء حجّة على الحكم الشرعي هو كونه أمارة للواقع و طريقاً إليه عند المعتبر فهو دليل اجتهادي كالأدلّة الأربعة.فإنّ الملاك في حجّيتها هو ما ذكرنا،فإنّ كلاً من الكتاب و السنّة حتّى الخبر الواحد منها طريق إلى الواقع و كاشف عنه إمّا كشفاً تامّاً كما إذا أفاد القطع،أو كشفاً غير تام كما في خبر العدل،و على كلّ تقدير فالملاك لاعتباره حجّة هو كاشفيته عن الواقع.

و أمّا إذا كان الملاك بيان الوظيفة و وضع حلول عملية للمكلّفين عند قصور يد المجتهد عن الواقع فهو أصل عملي،فالملاك لاعتبار هذا القسم من الأدلّة هو رفع التحيّر و إراءة الوظيفة عند اليأس عن العثور على دليل موصل للواقع،و لذلك أُخذ في لسان حجّيتها الجهل بالواقع و عدم توفر طريق في متناوله.و هذه الأُصول العامّة الّتي تجري في عامّة أبواب الفقه لا تتجاوز الأربعة،و هي:

1.أصالة البراءة.

2.أصالة الاشتغال.

3.أصالة التخيير.

ص:535


1- 1) .السرائر:46/1.

4.أصالة الاستصحاب.

و لكلّ منها مجرى خاص:

أمّا الأُولى:فمجراها هو الشكّ في التكليف،فإذا كان المجتهد شاكّاً في أصل الوجوب أو الحرمة،و تفحّص عن مظانّ الأدلّة و لم يقف على دليل و حجّة على الحكم الشرعي،فوظيفته الحكم بالبراءة عن التكليف،كما إذا شكّ مثلاً في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً أو ما أشبهه ذلك،و الأصل له رصيد قطعي و هو:

أ.قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم:رفع عن أُمّتي تسعة...و ما لا يعلمون.

ب.حكم العقل بقبح عقاب الحكيم دون بيان واصل.

و أمّا الثانية:فمجراها فيما إذا علم بالحكم الشرعي،و لكن تردّد الواجب أو الحرام بين أمرين،فيجب عليه الجمع بين الاحتمالين بالإتيان بهما عند تردّد الواجب،و الاجتناب عنهما عند تردّد الحرام.

مثلاً إذا علم بفوت صلاة مردّدة بين المغرب و العشاء يجب عليه الجمع بينهما،أو إذا علم نجاسة أحد الإنائين من غير تعيين يجب الاجتناب عن كليهما.

و أمّا الثالثة:فمجراها ما إذا دار حكم الشيء بين الوجوب و الحرمة و لم يقف على دليل شرعي يوصله إلى الواقع،فالوظيفة العملية هي التخيير.

و أمّا الرابعة:فمجراها ما إذا علم بوجوب شيء أو بطهارته لكن شك في بقاء الحكم أو بقاء الموضوع و تفحّص و لم يقف على بقائه أو زواله،فالمرجع هو الأخذ بالحالة السابقة أخذاً بقول الإمام الصادق عليه السلام«لا يُنقض اليقين بالشك».

هذه هي الأُصول العملية الأربعة الّتي استنبطها المجتهدون من الكتاب و السنّة،و لا يرجع إليها إلاّ عند فقد النص على الحكم الشرعي،و لكلّ مجرى

ص:536

خاصّ و ليس الملاك في اعتبارها كونها كاشفة عن الواقع،بل كونها مرجعاً للوظيفة الفعلية.

تقسيم الأُصول إلى محرزة و غير محرزة
اشارة

إنّ الأُصول العملية تنقسم إلى:أُصول محرزة،و أُصول غير محرزة.و المراد من الإحراز،هو إحراز الواقع و الكشف عنه،و ذلك لأنّ بعض الأُصول فيه جهة كشف عن الواقع،كشفاً ضعيفاً،لكن العقلاء لا يعتبرون في معاملاتهم و سياساتهم كونه حجّة لهذه الجهة،بل الملاك لاعتباره هو تسهيل الأمر في الحياة و وضع حلول عملية في ظرف الجهل و الشكّ،كما أنّ الشارع الّذي أمضاه و اعتبره حجّة في الفقه،لم يعتبره لهذه الغاية حتّى يكون أمارة عقلائية كخبر الثقة.

و مثّلوا لذلك بالأُصول العملية الثلاثة:

1.الاستصحاب.

2.قاعدة اليد.

3.قاعدة التجاوز.

فالأوّل منها أصل عام يجري في عامّة أبواب الفقه،بخلاف الأخيرين فإنّهما خاصان ببعض الأبواب.

و ما سوى ذلك أصل غير محرز كأصالة البراءة و الاشتغال و التخيير.

هذه هي أدلّة الأحكام عند الشيعة الإمامية،فهلمّ معي ندرس ما ذكره الأُستاذ حول أدلّة الأحكام عند الشيعة لنرى فيه مواقع الخطأ و الالتباس على ضوء الدراسة الصحيحة لأُصول الفقه عند الإمامية.

ص:537

1.مسلك الشيعة مسلك الغزالي

يقول الأُستاذ:جعلت الشيعة أدلّة الأحكام المعتمدة أربعة:الكتاب و السنّة و الإجماع و العقل،ثمّ قال:و لا يخفى على الدارس أنّ هذا هو مسلك الإمام الغزالي في باب الأدلّة. (1)

يلاحظ عليه:لا نظن أنّ الأُستاذ يتّهم الشيعة بمتابعة الغزالي في حجّية الكتاب و السنّة،فإنّ المسلمين قاطبة يقولون بذلك.و إنّما مظنّة التهمة قولهم بحجّية العقل.

فنقول:هناك فرق واضح بين المسلكين:الإمامي و الغزالي،فإنّ الأوّل يعتمد على التحسين و التقبيح العقليين،و الغزالي تبعاً لإمام مذهبه يرفض ذلك و يقول:إنّ للّه عزّ و جلّ إيلام الخلق و تعذيبهم من غير جرم سابق،لأنّه متصرّف في ملكه.... (2)

و العقل الّذي هو مصدر التشريع عند الإمامية أو كاشف عن التشريع الإلهي - على الأصح-هو العقل المعتمد على حكمين ينبعان من صميم العقل و هما:

1.التحسين و التقبيح العقليان.

2.الملازمات العقلية.

و أين الغزّالي و منهاج أُستاذه عن القول بهما؟!

و تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام على حجّية العقل قبل أن يولد الغزالي بقرون،قال الإمام الصادق عليه السلام:«حجّة اللّه على العباد النبي،و الحجّة فيما

ص:538


1- 1) .الصفحة86 مجلة الواضحة.
2- 2) .قواعد العقائد:60 و 204.

بين العباد و بين اللّه،العقل». (1)

و قال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام (المتوفّى 183ه) مخاطباً هشام بن الحكم:«يا هشام إنّ للّه على الناس حجتين:حجّة ظاهرة،و حجّة باطنة؛فأمّا الظاهرة فالرسل و الأنبياء و الأئمّة،و أمّا الباطنة فالعقول». (2)

إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام أعطوا للعقل أهمية كبيرة،فهذا هو الإمام الباقر عليه السلام يقول:«إنّ اللّه لمّا خلق العقل استنطقه-إلى أن قال:-و عزّتي و جلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك،و لا أكملتك إلاّ في مَن أُحب،أما إنّي إيّاك آمر و إيّاك أنهى،و إيّاك أُعاقب و إيّاك أُثيب». (3)

فكان المترقب من الأُستاذ المحترم أن لا يقضي في الموضوع إلاّ بعد الإحاطة بأُصول الشيعة الإماميّة.

2.تقييم تعريفه للأدلّة الاجتهادية و الأُصول العملية

قد تعرّفت على ما هو الفرق بين الأدلّة الاجتهادية و الأُصول العملية،و على تقسيم الأُصول إلى أصل محرز و غير محرز.

و للأُستاذ كلام في هذا الصدد نأتي به:

أ.الأدلة الأربعة المعتمدة المشار إليها آنفاً تسمّى الأدلّة المحرزة-الكتاب، السنّة،العقل،و الإجماع-و يقابلها الأُصول باعتبارها تعطي حلولاً عملية للمكلّفين حين يتعذر عليهم إحراز الحكم الشرعي من دليله.

ص:539


1- 1) .الكليني:الكافي:25/1،كتاب العقل و الجهل،الحديث22. [1]
2- 2) .الكافي:16/1،كتاب العقل و الجهل،الحديث12. [2]
3- 3) .الكافي:10/1،كتاب العقل و الجهل،الحديث1. [3]

يلاحظ عليه:أنّه أصاب في التفريق بين الأدلّة الأربعة و الأُصول العملية إلاّ أنّ وصفَ الأدلّة الأربعة بالأدلّة المحرزة،خلاف المصطلح و إنّما يوصف بها بعض الأُصول،فمنها أصل محرز و منها غير محرز.كما تقدّم في كلامنا،و إنّما توصف الأدلّة الأربعة،بالأدلّة الاجتهادية.

ب.و يدخل ضمن هذه الأُصول العملية جملة قواعد:أهمها قاعدة الاحتياط، انطلاقاً من أنّ الأصل هو شغل الذمّة بالتكليف و انّ للّه في كلّ نازلة حكماً يتعيّن الالتزام به،و قاعدة البراءة الأصلية،انطلاقاً من أنّ الأصل براءة الذمّة من التكليف،و قاعدة الاستصحاب الّتي تقضي بإبقاء ما كان على ما كان انطلاقاً من أنّ اليقين لا يرتفع بالشكّ. (1)

يلاحظ عليه:أنّ قاعدة الاحتياط تنطلق من العلم القطعي بنفس التكليف في الواقعة بلا تردد فيه،و الجهل بالموضوع،كما إذا علم بفوت إحدى الصلاتين المغرب أو العشاء،فيجب عليه قضاؤهما،و ما ذكره من المنطلق يعني أنّ «الأصل هو شغل الذمّة بالتكليف»لا صلة له بقاعدة الاحتياط،بل أساسه هو العلم بالتكليف و الجهل بالمتعلّق.

و العجب انّه عند ما يفسّر قاعدة الاحتياط عند الإمامية،يقول:الأصل شغل الذمّة بالتكليف.

و عند ما يفسّر قاعدة البراءة عندهم يقول:الأصل براءة الذمّة من التكليف، و هذا تناقض واضح،فلو كان الأصل هو الاشتغال فما معنى كون الأصل هو البراءة؟!

ص:540


1- 1) .مجلة الواضحة:87 بتلخيص.

و هذا يكشف عن أنّ الأُستاذ لم يكن ملمّاً بأُصول الفقه عند الإمامية حيث ارتكب في بيانها التناقض.

كما أنّ ما ذكره:«أنّ للّه في كلّ نازلة حكماً يتعيّن الالتزام به»و جعله منطلقاً للاحتياط عجيب جداً،لأنّ العلم بأنّ للّه في كلّ نازلة حكماً لا يسبب الاحتياط،إذ من المحتمل أن يكون حكم اللّه في المورد هو الإباحة أو الكراهة،أو الاستحباب.

ص:541

الثالث هل هناك سنّة وراء سنّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ؟

اشارة

السنّة هي المصدر الثاني للعقيدة و الشريعة،سواء أ كانت منقولة باللفظ و المعنى،أو كانت منقولة بالمعنى فقط،إذا كان الناقل ضابطاً في النقل.

و قد خصّ اللّه بها المسلمين دون سائر الأُمم،إذ إنّهم اهتموا بنقل ما أُثر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم من قول و فعل و تقرير،و بذلك صارت السنّة من مصادر التشريع الإسلامي.

و قد أكد أئمّة أهل البيت عليهم السلام على أنّ السنّة الشريفة هي المصدر الرئيسي بعد الكتاب،و أنّ جميع ما يحتاج الناس إليه قد بيّنه سبحانه في الذكر الحكيم أو ورد في سنّة نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم.

قال الإمام الباقر عليه السلام:«إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلاّ أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله،و جعل لكلّ شيء حدّاً،و جعل عليه دليلاً يدلّ عليه،و جعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً». (1)

و قال الإمام الصادق عليه السلام:«ما من شيء إلاّ و فيه كتاب أو سنّة». (2)

ص:542


1- 1) .الكافي:59/1،باب الرد إلى الكتاب و السنّة،الحديث 2،4. [1]
2- 2) .الكافي:59/1،باب الرد إلى الكتاب و السنّة،الحديث 2،4. [2]

و روى سماعة عن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام،قال:قلت له:أ كل شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيه،أو تقولون فيه؟

قال:«بل كلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه». (1)

روى أُسامة،قال:كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام و عنده رجل من المغيرية (2)، فسأله عن شيء من السنن؟ فقال:«ما من شيء يحتاج إليه ولد آدم إلاّ و قد خرجت فيه سنّة من اللّه و من رسوله،و لو لا ذلك،ما احتجّ علينا بما احتج؟»

فقال المغيري:و بما احتج؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام:«قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» 3 فلو لم يكمل سنّته و فرائضه و ما يحتاج إليه الناس،ما احتجّ به». (3)

روى أبو حمزة،عن أبي جعفر،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في خطبته في حجّة الوداع:«أيّها الناس اتّقوا اللّه ما من شيء يقرّبكم من الجنّة و يباعدكم من النار إلاّ و قد نهيتكم عنه و أمرتكم به». (4)

إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام من التأكيد على السنّة و الركون إليها.

ص:543


1- 1) .الكافي:62/1،باب الرد إلى الكتاب و السنّة،الحديث10. [1]
2- 2) .هم أصحاب المغيرة بن سعيد،الذي تبرّأ منه الإمام الصادق عليه السلام.
3- 4) .البحار:168/2،ح3. [2]
4- 5) .البحار:171/2،ح11. [3]
أئمّة أهل البيت عليهم السلام حفظة سنن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم

كان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يقوم بأُمور و مهام لها صلة بالجوانب المعنوية - بالإضافة إلى إدارة دفّة الحكم-و هي:

1.تبيين الأحكام الشرعية و الإجابة عن الحوادث المستجدَّة الّتي لم يُبيّن حكمها في الكتاب و لا في السنّة الصادرة إلى يومها.

2.تفسير القرآن الكريم و تبين مجملاته و تقييد مطلقاته و تخصيص عموماته.

3.الردّ على الشبهات و التشكيكات الّتي يطلقها أعداء الإسلام من اليهود و النصارى بعد الهجرة.

و من المعلوم أنّ من يقوم بهذه المسئوليات،سوف يُورث فقده فراغاً هائلاً في نفس هذه المجالات،و من الخطأ أن نتّهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم-و العياذ باللّه-بأنّه قد ارتحل من دون أن يفكّر في ملءِ تلك الثغرات المعنوية الحاصلة برحيله....

فإذا رجعنا إلى أحاديث النبي صلى الله عليه و آله و سلم نقف على أنّه قد سدّ هذه الثغرات باستخلاف مَنْ جعلهم قرناء الكتاب و أعداله،و أناط هداية الأُمّة بالتمسّك بهما،و نذكر نماذج من كلماته صلى الله عليه و آله و سلم في هذا المجال:

1.روى ابن الأثير الجزري في«جامع الأُصول»عن جابر بن عبد اللّه،قال:

رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حجّة الوداع يوم عرفة و هو على ناقته القصواء يخطب،فسمعته يقول:«إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا:كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي». (1)

ص:544


1- 1) .جامع الأُصول:424/1.

2.و أخرج مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم،قال:

قام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوماً فينا خطيباً بماء يُدعى خماً بين مكة و المدينة، و حمد اللّه و أثنى عليه و وعظ و ذكر،ثمّ قال:

أمّا بعد:ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب،و أنا تارك فيكم ثقلين:أوّلهما:كتاب اللّه فيه الهدى و النور فخذوا بكتاب اللّه و استمسكوا به.فحثّ على كتاب اللّه و رغب فيه.

ثمّ قال:و أهل بيتي أذكّركم اللّه في أهل بيتي،أذكّركم اللّه في أهل بيتي،أذكّركم اللّه في أهل بيتي. (1)

3.أخرج الترمذي في صحيحه عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري،قال:رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حجّة يوم عرفة على ناقته القصواء يخطب فسمعته، يقول:يا أيّها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا:كتاب اللّه و عترتي. (2)

4.أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر:كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض،و عترتي أهل بيتي،و انّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. (3)

و هذا الحديث المعروف بحديث الثقلين رواه عن النبي أكثر من ثلاثين صحابياً،و دوّنه ما يربو على ثلاثمائة عالم في كتبهم في مختلف العلوم و الفنون،و في جميع الأعصار و القرون،فهو حديث صحيح متواتر بين المسلمين،و قد عيّن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ببركة هذا الحديث من يسدّ هذه الثغرات و يكون

ص:545


1- 1) .صحيح مسلم:325/2.
2- 2) .سنن الترمذي:662/5،باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم. [1]
3- 3) .مسند أحمد:14/3. [2]

المرجع العلمي بعد رحيله و ليس هو إلاّ أهل بيته.

و بهذا يتبين أنّ العترة عليهم السلام عيبة علم الرسول و خزنة سننه و حفظة كَلِمه، تعلموها بعناية من اللّه تبارك و تعالى كما تعلّم صاحب موسى بفضل من اللّه دون أن يدرس عند أحد،و لذلك تمنّى موسى عليه السلام أن يعلّمه ممّا عُلّم.

قال سبحانه حاكياً عن لسان نبيه موسى: «قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً». 1

و على ضوء ذلك فليس لأئمّة أهل البيت عليهم السلام سنّة و لا تشريع،و ما أثر عنهم من قول و فعل أو تقرير،فإنّما يعتبر لكونهم حفظة سنن النبي صلى الله عليه و آله و سلم،فلا يصدرون و لا يحكمونَ إلاّ بسنّته.

فلو قيل:إنّ قول الإمام عليه السلام أو فعله أو تقريره سنّة إنّما يراد به أنّهم تراجم سنّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أقواله و أفعاله.

فما قاله العلاّمة الشيخ المظفر قدس سره من أنّ المعصوم من آل البيت عليهم السلام يجري قوله مجرى قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم من كونه حجة على العباد،إنّما يريد ذلك و ما أحسن قوله:«يجري مجرى قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم»،فلو كان أئمة أهل البيت عليهم السلام هم أصحاب سنن في عرض سنّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم فلما ذا قال«يجري قولهم مجرى قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم»؟!

هذه عقيدة الإمامية من أوّلهم إلى آخرهم؛فالتشريع للّه سبحانه فقط،و النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم هو المبلّغ عن اللّه سبحانه في ما شرّعه،و أئمّة أهل البيت خلفاء رسول اللّه و حفظة سننه و تراجم كلمه،و المبلّغون عنه السنن حتى يجسّدوا إكمال الدين في مجالي العقيدة و الشريعة.

ص:546

و حين قال سبحانه: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» 1 فإنّما هو لأجل نصب علي عليه السلام أوّل أئمّة أهل البيت عليهم السلام للخلافة لكي يقوم بنفس المسئوليات الّتي كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم قائماً بها طيلة أيّام رسالته،و يملأ الثغرات الّتي أعقبتها رحلته صلى الله عليه و آله و سلم غير أنّه نبي يوحى إليه و هذا وصي حافظ لسننه.

سنّة الصحابة في مقابل سنّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

لقد تبيّن لنا أنّ الأُستاذ قد عجب من وجود سنّة لأهل البيت عليهم السلام،و قد فسّرنا معنى ذلك عند الإماميّة،و قلنا:إنّه ليس للأئمّة سنّة سوى ما سنّه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و لكن أُلفت نظره إلى أنّ أهل السنّة قد قالوا بوجود سنن أُخرى بعد سنّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم،و إليك ما يشير إلى ذلك:

1.الحديث المعروف عندهم:«عليكم بسنّتي و سنّة الخلفاء المهديين الراشدين،تمسكوا بها و عضّوا عليها بالنواجذ».

يقول ابن قيم الجوزية في تفسير الحديث:فقد قرن سنّة خلفائه بسنّته و أمر باتّباعها كما أمر باتباع سنّته،و هذا يتناوله ما أفتوا به و سنّوه للأُمّة و إن لم يتقدّم للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فيه شيء و إلاّ كان ذلك سنّة. (1)

فالرواية تدلّ على أنّ للصحابة سنّة كسنّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم،فعندهم سنّة أبي بكر و سنّة عمر و سنّة عثمان و سنّة علي.

2.روى السيوطي:قال حاجب بن خليفة:شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب و هو خليفة،فقال في خطبته:على أنّ ما سنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و صاحباه

ص:547


1- 2) .إعلام الموقعين:140/4.

فهو دين نأخذ به و ننتهي إليه،و ما سنّ سواهما فإنّا نرجئه. (1)

أبعد هذه النصوص يصحّ للأُستاذ أن يستغرب من وجود سنّة لأئمّة أهل البيت عليهم السلام:أعلام الهدى و مصابيح الدجى و قرناء الكتاب،و ثاني الثقلين....

و لو لا المخافة من تكدير مياه الصفاء لبسطنا القول في ذلك.

طُرق علم الأئمّة بالسنّة
اشارة

قد أشرنا إلى أنّه ليس لأئمّة أهل البيت عليهم السلام سنّة خاصّة،بل هم حفظة سنن النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و لسائل أن يسأل:ما هي طرقهم إلى سنن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أكثرهم لم يعاصروه و لم يسمعوها منه مباشرة،و من المعلوم أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد عاصره الإمام علي و الإمامان الحسن و الحسين عليهم السلام،فقط؟

و الإجابة عن هذا السؤال واضحة لمن عرف أحاديث الشيعة و أنس بجوامعهم،فإنّ لهم عليهم السلام طرقاً إلى سنن النبي صلى الله عليه و آله و سلم نأتي ببعضها:

الأوّل:السماع عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

إنّ الأئمّة عليهم السلام يروون أحاديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سماعاً منه بلا واسطة أو بواسطة آبائهم،و لذلك ترى في كثير من الروايات أنّ الإمام الصادق عليه السلام يقول:حدّثني أبي عن زين العابدين عن أبيه الحسين بن علي عن علي أمير المؤمنين عن الرسول الأكرم.

و هذا النمط من الروايات كثير في أحاديثهم.

فأئمّة أهل البيت عليهم السلام رووا أحاديث كثيرة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن هذا الطريق

ص:548


1- 1) .تاريخ الخلفاء للسيوطي:160. [1]

دون أن يعتمدوا على الأحبار و الرهبان أو على مجاهيل أو شخصيات متسترة بالنفاق.

الثاني:كتاب علي عليه السلام

كان لعلي عليه السلام كتاب خاص بإملاء رسول اللّه و قد حفظته العترة الطاهرة عليهم السلام و صدرت عنه في مواضع كثيرة و نُقِلتْ نصوصه في موضوعات مختلفة،و قد بث الحرّ العاملي في موسوعته الحديثية،أحاديث ذلك الكتاب حسب الكتب الفقهية من الطهارة إلى الديات،و من أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة.

و إليك شذرات من أقوال الأئمّة بشأن هذا الكتاب الّذي كانوا يتوارثونه و ينقلون عنه و يستدلّون به:

قال الإمام الحسن المجتبى عليه السلام:«إنّ العلم فينا و نحن أهله،و هو عندنا مجموع كلّه بحذافيره،و منه لا يحدث شيء إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش إلاّ و هو عندنا مكتوب،بإملاء رسول اللّه و خطّ علي بيده». (1)

و قال أبو جعفر الباقر عليه السلام لأحد أصحابه-أعني:حمران بن أعين-و هو يشير إلى بيت كبير:«يا حمران إنّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخطّ علي و إملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،لو وُلّينا الناس لحكمنا بما أنزل اللّه،لم نعدُ ما في هذه الصحيفة».

و قال عليه السلام أيضاً لبعض أصحابه:يا جابر إنّا لو كنّا نحدِّثكم برأينا و هوانا لكنّا من الهالكين،و لكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم».

و قال الإمام الصادق عليه السلام عند ما سئل عن الجامعة:«فيها كلّ ما يحتاج

ص:549


1- 1) .الاحتجاج:6/2، [1]بحار الأنوار:47/89. [2]

الناس إليه،و ليس من قضية إلاّ فيها حتّى أرش الخدش».

و قال الإمام الصادق عليه السلام في تعريف كتاب علي عليه السلام:«فهو كتاب طوله سبعون ذراعاً إملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من فَلقِ فيه و خط علي بن أبي طالب عليه السلام بيده، فيه و اللّه جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة،حتّى أنّ فيه أرش الخدش و الجلدة و نصف الجلدة». (1)

و يقول سليمان بن خالد:سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:«إنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً،إملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و خطّ علي عليه السلام بيده،ما من حلال و لا حرام إلاّ و هو فيها حتّى أرش الخدش».

و قد كان علي عليه السلام أعلم الناس بسنّة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و كيف لا يكون كذلك،و هو القائل:«كنت إذا سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أعطاني،و إذا سكت ابتدأني». (2)

الثالث:انّهم محدَّثون

لأجل إيقاف القارئ على المحدَّث في الإسلام و مفهومه نذكر شيئاً في توضيحه.

«المحدَّث»مَن تكلّمه الملائكة بلا نبوّة و رؤية صورة،أو يُلهم و يُلقى في روعه شيء من العلم على وجه الإلهام و المكاشفة من المبدأ الأعلى،أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره.

فالمحدّث بهذا المعنى ممّا أصفقت الأُمّة الإسلامية عليه،بيد أنّ

ص:550


1- 1) .قد جمع العلاّمة المجلسي ما ورد من الأثر حول كتاب علي في موسوعته بحار الأنوار:18/26- 66 تحت عنوان،باب جهات علومهم و ما عندهم من الكتب،الحديث12،1،10،20.
2- 2) .المستدرك للحاكم:125/3.

الخلاف في مصاديقه،فالسنّة ترى عمر بن الخطاب من المحدَّثين،و الشيعة ترى علياً و أولاده الأئمّة منهم.

أخرج البخاري في صحيحه:عن أبي هريرة قال:قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:لقد كان قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء؛فإن يكن من أُمّتي منهم فعمر. (1)

و قد أفاض شرّاح صحيح البخاري الكلامَ حول المحدَّث. (2)

و للمحدّثين من أهل السنّة كلمات حول المحدَّث نأتي بملخّصها:

يقول القسطلاني حول الحديث:يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوة. (3)

و أخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد كان في الأُمم قبلكم محدَّثون،فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم.

و قال النووي في شرح صحيح مسلم:اختلف تفسير العلماء للمراد ب«محدَّثون»فقال ابن وهب:ملهمون،و قيل:يصيبون إذا ظنّوا فكأنّهم حُدّثوا بشيء فظنّوه،و قيل:تكلّمهم الملائكة و جاء في رواية مكلّمون. (4)

و قال الحافظ محب الدين الطبري في«الرياض»،و معنى«محدّثون»-و اللّه أعلم-أن يلهموا الصواب،و يجوز أن يحمل على ظاهره و تحدّثهم

ص:551


1- 1) .صحيح البخاري:200/4،باب مناقب المهاجرين و فضلهم،دار الفكر،بيروت.
2- 2) .لاحظ:إرشاد الساري،شرح صحيح البخاري للقسطلاني:99/6.
3- 3) .ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري:431/5.
4- 4) .شرح صحيح مسلم للنووي:166/15،دار الكتاب العربي،بيروت.

الملائكة لا لوحي،و إنّما بما يطلق عليه اسم حديث،و تلك فضيلة عظيمة. (1)

و حصيلة الكلام:انّه لا وازع من أن يخصّ سبحانه بعض عباده بعلوم خاصّة يرجع نفعها إلى العامّة من دون أن يكونوا أنبياء،أو معدودين من المرسلين، و اللّه سبحانه يصف مصاحب موسى بقوله: «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً» و لم يكن المصاحب نبيّاً،بل كان وليّاً من أولياء اللّه سبحانه و تعالى بلغ من العلم و المعرفة مكانةً،دعت موسى-و هو نبيّ مبعوث بشريعة-إلى القول: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً». 2

و يصف سبحانه و تعالى جليس سليمان-آصف بن برخيا-بقوله: «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي». 3

و هذا الجليس لم يكن نبيّاً،و لكن كان عنده علم من الكتاب،و هو لم يحصّله من الطرق العاديّة التي يتدرّج عليها الصبيان و الشبان في المدارس و الجامعات،بل كان علماً إلهياً أُفيض عليه لصفاء قلبه و روحه،و لأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربّه و يقول: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي». 4

و الإمام علي و الأئمّة من بعده،الّذين أُنيطت بهم الهداية في حديث

ص:552


1- 1) .الرياض النضرة:199/1. [1]

الثقلين،ليسوا بأقلّ من مصاحب موسى عليه السلام،أو جليس سليمان،فأي وازع من أن يقفوا على سنن النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق الإشراقات الإلهية؟!

الرابع:الاستنباط من الكتاب و السنّة

هذا هو الطريق الرابع،فقد كانوا يستدلّون على الأحكام الإلهية بالكتاب و السنّة بوعي متميز يبهر العقول و يورث الحيرة،و لو لا خشية الإطالة في المقام لنقلنا نماذج كثيرة من ذلك،و نكتفي هنا بانموذج واحد و هو:قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد،فأسلم، فقال يحيى ابن أكثم:الإيمان يمحو ما قبله،و قال بعضهم:يُضرب ثلاثة حدود،فكتب المتوكّل إلى الإمام علي الهادي عليه السلام (1)يسأله،فلمّا قرأ الكتاب، كتب:يُضرب حتى يموت،فأنكر الفقهاء ذلك،فكتب إليه يسأله عن العلة، فكتب: «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ» 2.

فأمر به المتوكل فضرب حتّى مات. (2)

إنّ الإمام الهادي ببيانه هذا شقّ طريقاً خاصّاً لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم،طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره،و كانوا يزعمون أنّ مصادر الأحكام الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه الّتي لا تتجاوز ثلاثمائة

ص:553


1- 1) .الإمام العاشر و هو علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق عليهم السلام.
2- 3) .مناقب آل أبي طالب:405/4. [1]

آية،و بذلك أبان للقرآن وجهاً خاصّاً لدلالته،لا يلتفت إليه إلاّ من نزل القرآن في بيته،و ليس هذا الحديث غريباً في مورده،بل له نظائر في كلمات الإمام و غيره من آبائه و أبنائه عليهم السلام.

هذه إلمامة عابرة في بيان طرق أهل البيت عليهم السلام إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

فما روي عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام حول علمهم بالسنّة فإنّما هو ناظر إلى ما سبق ذكره.

سئل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام:أ كل شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيه،أو تقولون فيه؟ فقال:«لا بل كلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه». (1)

فالإمام يريد بالسنّة ما ذكرنا (مصادرها و طرقها) لا خصوص السنّة الموجودة في أفواه الناس و على ألسنتهم،و إن كان ربّما يلتقي علمهم بالسنن بما رواه الناس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في بعض المواضيع.

هذه الرواية العابرة توقفنا على مدى ما تلقاه الأئمّة من سنن النبي،أ فبعد هذا يصحّ أن نعتمد على ما رواه البخاري عن أبي جحيفة الّذي قال:قلت لعلي:

عندكم كتابٌ؟ قال:لا إلاّ كتاب اللّه،أو فهم أُعطيه رجلٌ مسلم،أو ما في هذه الصحيفة.قال:قلت:فما في هذه الصحيفة؟ قال:العقل و فكاك الأسير و لا يُقتل مسلم بكافر. (2)

كيف لا يكون عند عليّ عليه السلام كتاب يجمع فيه سنن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هؤلاء هم أبناء علي عليه السلام ينقلون عنه و يعتمدون عليه؟!

و العجب ممّا ورد في هذه الرواية من أنّ الصحيفة الّتي كان يحتفظ بها

ص:554


1- 1) .الكافي:62/1،باب الرد إلى الكتاب و السنّة،الحديث10. [1]
2- 2) .صحيح البخاري:64/1،باب كتابة العلم،الحديث52.

علي لم تشتمل إلاّ على جمل محدودة،فلو لم يكن عند علي و أبنائه المعصومين إلاّ ما جاء في هذه الرواية،فمن أين هذه العلوم الموروثة عنه و عن أبنائه الصادقين الّتي بهرت العقول؟!

كيف لا يكون عند علي عليه السلام سوى ما في هذه الصحيفة أو ما في ألسن الناس مع أنّ المسلَّم عند الفريقين أنّ علياً كانت عنده علوم و أسرار لم تكن عند غيره،و كان الصحابة يرجعون إليه في المشاكل و المسائل العويصة،فهذا عمر بن الخطاب و سائر الخلفاء كانوا يرجعون إليه و يسألونه،كيف لا و هو باب مدينة علم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

و قد قام زميلنا الجليل المغفور له الشيخ علي الأحمدي.بجمع ما ورد في كتاب علي عليه السلام ممّا هو مبثوث في الجوامع الحديثية و رتّبه على 26 باباً (1)، و ما جمعه إنّما هو غيض من فيض و قليل من كثير ممّا كان في الأصل.

ص:555


1- 1) .مكاتيب الرسول:135/2- 313.

4

الرابع تقييم الإجماع عند الإماميّة

اشارة

عدّ الأُصوليون الإجماع من أحد الأدلّة الشرعية،غير أنّهم اختلفوا في ملاك الحجيّة فالمحقّقون من السنّة قالوا:إنّ الإجماع يجب أن يكون مستنداً إلى دليل شرعي قطعي أو ظنّي كالخبر الواحد و المصالح المرسلة و القياس و الاستحسان.

فلو كان المستند دليلاً قطعياً من قرآن أو سنّة متواترة،يكون الإجماع مؤيداً معاضداً له (1)؛و لو كان المستند دليلاً ظنياً،فيرتقي الحكم بالإجماع من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع و اليقين.و مثله إذا كان المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة،فالاتفاق على حكم شرعي-استناداً إلى ذلك الدليل-يجعله حكماً شرعياً قطعياً إلهياً و إن لم ينزل به الوحى (2).

و على ضوء ذلك فالإجماع عند أهل السنّة من مصادر التشريع في عرض الكتاب و السنّة،لكن بشرط أن يكون الحكم مستنداً إلى دليل ظني،فعندئذٍ يجعله إجماع العلماء حكماً قطعياً.

ص:556


1- 1) .لا يذهب عليك أنّه إذا كان في المورد دليل قرآني أو سنّة متواترة،فلا حاجة للتأييد و التعضيد،و الأولى أن تخص مورده بما إذا لم يكن في مورده إلاّ دليل ظنّي.
2- 2) .الوجيز في أُصول الفقه لوهبة الزحيلي:49.

و أمّا عند الشيعة فالإجماع بما هو هو ليس من مصادر التشريع و إنّما يكشف عن وجود الدليل،فالاتّفاق مهما كان واسعاً،لا يؤثر في جعل الحكم،شرعياً إلهيّاً و إنّما المؤثر في ذلك المجال،نزول الوحي به فقط.

نعم للإجماع دور في كشف الدليل الأعم من القطعي و الظنّي،و قد اختلفوا في كيفية كشفه إلى أقوال يجمعها أمران:

1.استكشاف الدليل بالملازمة العادية بين فتوى المجمعين و قول الإمام.

2.استكشاف موافقة الإمام عليه السلام من الإجماع لكونه من جملة المجمعين.

أمّا الثاني فمشروط بشرطين:

أ.أن يكون الإمام ظاهراً لا غائباً.

ب.أن تتوفر الحرية في الفتوى و يكون للإمام حرية تامة في إظهار رأيه، و مثل ذلك لم يتّفق في عصر الحضور إلاّ في فترة قليلة،و هي الّتي عاصرها الإمامان الصادقان:الباقر و الصادق عليهما السلام.و بسبب عدم توفر هذين الشرطين في عصر الأئمّة لم يلتفت إليهما إلاّ القليل من العلماء،و إنّما المهم استكشاف وجود الدليل من إجماع المجمعين بأحد الطريقين التاليين:

أ.تراكم الظنون مورث لليقين بالحكم الشرعي،لأنّ فتوى كلّ فقيه و إن كانت تفيد الظن،إلاّ أنّها تعزز بفتوى فقيه ثان فثالث،إلى أن يحصل للإنسان من إفتاء جماعة على حكم،القطع بالصحة،إذ من البعيد أن يتطرق البطلان إلى فتوى هؤلاء الجماعة.

ب.الإجماع كاشف عن دليل معتبر.

إنّ حجّية الإجماع ليس لأجل إفادته القطع بالحكم،بل لأجل كشفه عن

ص:557

وجود دليل معتبر وصل إليهم و لم يصل إلينا،و هذا هو الّذي اعتمد عليه صاحب الفصول،و عدّة من المتأخرين.

قال صاحب الفصول:سنكشف قول المعصوم عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمّة في الأحكام و طريقتهم التحرّز عن القول بالرأي و الاستحسان. (1)

قراءة صاحب المقال للإجماع عند الشيعة

إنّ الدكتور أحمد الريسوني«حفظه اللّه»بعد أن ذكر أنّ الإجماع عند الشيعة ليس حجّة بما هو هو و إنّما ملاك حجّيته كشفه عن الدليل،حاول أن يطبق نظرية أهل السنّة على نظرية الشيعة.فقال:

و هذا القول في حقيقة الإجماع و حقيقة حجّيته ليس بغريب على أُصوليّي السنّة،فهو بعض ما يتضمّنه قولهم:«الإجماع لا بدّ فيه من مستند»،ثمّ ذكر كلام إمام الحرمين و الشريف التلمساني. (2)

و ما استنتجه من التوفيق بين النظريتين عمل مشكور عليه،إلاّ أنّنا نشير إلى أنّهما ليستا متحدتين بالشكل الّذي ذكره الأُستاذ،و إنّما هما متحدتان في شيء و مختلفتان في شيء آخر.

1.تشتركان في أنّ إجماع المجمعين لا بدّ أن يكون على أساس دليل،و لا يصحّ إفتاؤهم بلا دليل.

2.و تختلفان في أنّ للإجماع-عند أهل السنّة-دوراً في إضفاء

ص:558


1- 1) .الفصول [1]في علم الأُصول للشيخ محمد حسين الحائري.
2- 2) .الصفحة:91 من المجلة المذكورة.

المشروعية على الحكم المجمع عليه،بحيث يجعله حكماً-كسائر الأحكام الواردة في الكتاب و السنّة-سواء أصح المستند الظني في الواقع أم لم يصح، و كأنّ الاتفاق،عملية كيمياوية تقلب النحاس ذهباً.إمّا مطلقاً و في عامّة الموارد،أو فيما إذا كان مستند الإجماع مثل القياس و المصالح و المفاسد العامّة،و هذا ليس شيئاً خفياً على من له إلمام بأُصول الفقه لدى السنّة،و قد وقفت على كلام الفقيه المعاصر«وهبة الزحيلي»حتّى أنّ الكاتب صرح بذلك في مقاله الذي يقول فيه:

و قد يكون إجماعهم ناشئاً عن قياس ظنّي في أصله،و لكن الإجماع على الحكم أضفى عليه صواباً و يقيناً (1)لا يحتمل الشك.

و قد يكون الإجماع منعقداً عن نظر استصلاحي سديد،و من خلال الإجماع عليه تأكّدت موافقته القطعية للشرع و للمصالح الّتي اعتبرها.

هذا الّذي عليه السنّة و أمّا الشيعة فهم عن بكرة أبيهم،لا يقيمون للإجماع دوراً سوى الكشف عن الدليل:القطعي أو الظنّي،و ليس له دور في إضفاء الصواب على الدليل و المشروعية على الحكم-لو فرض عدم صحته - فلذلك ليس الإجماع بما هو هو،من مصادر التشريع.

نقد الإجماع الدخولي

قد عرفت أنّ ملاك حجّية الإجماع هو كشفه عن الدليل بأحد الوجهين التاليين:

أ.كشفه عن دخول الإمام في المجمعين.

ص:559


1- 1) .أمّا اليقين فنعم،و أمّا الصواب فلا،فيما إذا كان غير صحيح.

ب.كشفه عن وجود الدليل و الحجة.

أمّا القسم الأوّل فقد عرفت اختصاصه بعصر الحضور،لكن بشرط أن تسود الحرية عامّة أهل الفتوى في البلد الّذي يقيم فيه المعصوم،كالمدينة المنورة كما كان ذلك في بعض الأعصار أيّام نشوب الصراع بين الأمويين و العباسيين.

فلو وصل إلينا أنّ كلّ من يؤخذ عنه الفتوى في المدينة أفتوا بحكم من الأحكام و لم يشذّ منهم أحد،نكشف اتّفاق الإمام الباقر و الصادق معهم،لأنّ لسان الإجماع هو كلّ من يؤخذ عنه الفتوى،و هما من أبرز مَنْ يؤخذ منهم الفتوى.

و على ضوء ذلك نقف على مدى صحّة رأي الأُستاذ حول الإجماع الدخولي.قال:

و لست أدري كيف استساغ علماء الإمامية و أذكياؤهم هذا التناقض الواضح، إذ يعتبرون الإجماع كاشفاً عن قول المعصوم،ثمّ يشترطون دخول هذا المعصوم؟ و إذا دخل المعصوم في الإجماع-بحيث كان قوله معروفاً و ثابتاً - فأي كشف بقي للإجماع أن يقوم به؟ ثمّ إذا كان قول المعصوم حجة في ذاته فأي حاجة و أي قيمة للإجماع مع ثبوت قول المعصوم؟(الصفحة 93).

و يلاحظ عليه:أنّه تصوّر أنّ الإجماع الدخولي عبارة عن معرفتنا بدخول الإمام شخصياً ضمن المجمعين فرتّب عليه ما رتّب،حيث قال:«فعند ذلك أي كشف بقي للإجماع أن يقوم به».

و بعبارة أُخرى:تصور انّ الإجماع الدخولي عبارة عن رؤية الإمام شخصياً بين المجمعين،أو سماع صوته منهم،أو ثبوت تواجده بين المجمعين بخبر

ص:560

قطعي،فعند ذلك قال:«فأيّ دور يبقى للإجماع بعد معرفة الإمام».

و لكن خفي عليه واقع هذا القسم من الإجماع،فالمراد به ما إذا ثبت بخبر قطعي،أنّ علماء المدينة و كلّ من يؤخذ عنه الفتوى،اتّفقوا على حكم من الأحكام الشرعية و كان أهل البيت يتمتّعون بالحرية لإظهار رأيهم و إبداء ما عندهم،فعند ذلك نستكشف دخول الإمام المعصوم في المجمعين و تواجده فيهم على نحو لو لا هذا الإجماع و الاتّفاق بالنحو الّذي عرفت لم يكن لدينا طريق لمعرفة قول الإمام،و عندئذٍ يكون للإجماع دور الكشف عن دخولهم فيهم.

و بذلك تقف على ما هو المقصود للمحقّق حيث قال:«فلو خلت المائة من علمائنا من قوله،لما كان حجّة و لو حصل في اثنين كان قولهما حجة».

إنّ الممعن في كلامه من أوّله إلى آخره يقف على أنّ الغاية من هذا المقال، هو التركيز على أنّ حجّية الإجماع،لأجل وجود الإمام في المجمعين إمّا دخولاً،أو كشفاً عن دليل وصل إلى يد المجمعين،عنهم عليهم السلام فجاء قوله كمثال يبين مقصده.

ص:561

5

الخامس خبر الواحد و القياس ظنّيان

اشارة

فلما ذا التفريق بينهما؟

قد عجب الدكتور أحمد الريسوني من تفريق الإماميّة بين خبر الواحد و القياس في الحجّية قائلاً:أنّهما ظنّيان،فلما ذا فرّق الإماميّة بينهما و قالوا بحجّية الأوّل دون الثاني؟ و قد أطال الكلام في ذلك و ما ذكرناه لبّ إشكاله، و لإيضاح المقام نقدّم أُموراً:

الأمر الأوّل:اتّفقت الأُمّة الإسلامية على أنّ البدعة أمر محرم كتاباً و سنّة و إجماعاً و عقلاً،و هي عبارة عن إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين، هذا من جانب.

و من جانب آخر أنّ الاعتماد على الظن-الّذي لم يقم على حجّيته دليل قطعي من الشارع-و الإفتاء على وفقه و الالتزام بأنّ مؤدّاه حكم اللّه تعالى في حقّه و حقّ غيره،هو نفس البدعة و من مصاديقها،فبضم الثاني إلى الأوّل يتشكّل قياس منطقي يُنتج حرمة العمل بالظن الّذي لم يقم الدليل القطعي على حجّيته،فتكون صورة القياس كالتالي:

ص:562

العمل بالظن الّذي لم يقم على حجّيته دليل شرعي بدعة في الدين.

البدعة في الدين حرام بالاتّفاق.

فتكون النتيجة:

العمل بالظن الّذي لم يقم على حجّيته دليل شرعي حرام بالاتّفاق.

و على ضوء هذا تقول الإمامية:إنّ الضابطة الكلّية في العمل بكلّ ما لم يقم دليل على حجّيته،سواء أ كان مفيداً للظن أو لا،هي المنع لكونه تشريعاً قولياً و بدعة فعلية و عملية،و تقوّلاً على اللّه بغير علم.

نعم لو قام الدليل القطعي على حجّية ظن مثلاً في مورد أو موارد يؤخذ بهذا الظن بحكم الشرع،لأنّه يكون العمل عندئذٍ بإذن الشارع و أمره فيخرج عن الضابطة الكلية:«العمل بالظن الّذي لم يقم دليل شرعي على حجّيته:بدعة».

الأمر الثاني:ذهب جمهور الإمامية إلى خروج عدّة من الظنون عن تحت الضابطة خروجاً عن الموضوع لا خروجاً عن الحكم،و هي الظنون الّتي قام الدليل على حجّيتها،و لأجل ذلك توصف بالظنون العلمية،أي إنّها ظنون و لكن دلّ الدليل العلمي على جواز العمل بها و هي عبارة عن:

1.خبر الواحد إذا أخبر عن حسٍّ.

2.حجّية الظواهر على القول بأنّها ظنّية الدلالة.

3.الإجماع المنقول-بخبر الواحد-في مقابل الإجماع المحصّل-إذا كشف نقل الإجماع عن وجود دليل معتبر عند المجمعين إلى غير ذلك.

هذا هو رأي جمهور الإمامية،نعم قد خالف في حجّية خبر الواحد قليل من المتقدّمين كالسيد المرتضى و القاضي ابن البرّاج و أمين الإسلام الطبرسي و ابن إدريس الحلي رضي اللّه عنهم.

ص:563

ثمّ إنّ القائلين بالحجية ألّفوا في ذلك المجال كتباً و رسائل أجابوا فيها عن شبهات النافين،شأن كلّ مسألة نظرية لا تخلو من مخالف.

هذا إجمال الكلام حول حجّية خبر الواحد الّذي عليه بناء العقلاء،و عليه تدور رحى حياتهم و معاشهم بالشروط المذكورة في محلها.

و أمّا القياس فقد رفضه علماء الإمامية عن بكرة أبيهم إذا كان مستنبط العلّة، لأجل أنّ القياس مفيد للظن،و الضابطة الكلّية في الظن حرمة العمل به ما لم يقم دليل على حجّيته.

ثمّ إنّهم استثنوا من حرمة العمل بالقياس موارد أبرزها ما يلي:

1.إذا كانت العلة منصوصة من جانب الشرع كأن يقول الخمر حرام لكونه مسكراً،فيحكم بحرمة كلّ مسكر.

قالوا:إنّ ذلك في الحقيقة ليس عملاً بالقياس و إنّما هو عمل بالسنّة،أي عموم العلّة كما لا يخفى.

2.القياس الأولويّ،فإذا قال الشارع: «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ» 1 يفهم منه حرمة الشتم و الضرب بطريق أولى،لحصول القطع و العلم بالحكم.

ثمّ إنّ رفض الإمامية العمل بالقياس في مجال مستنبط العلّة،لأجل أنّ استخراج علّة الحكم بالسبر و التقسيم مظنة للاشتباه،و ذلك بالبيان التالي:

أوّلاً:نحتمل أن يكون الحكم في الأصل معللاً عند اللّه بعلّة أُخرى غير ما ظنّه القائس،مثل كونه صغيراً أو قاصر العقل،في قوله:«لا يُزوّج البكرَ الصغيرَة إلاّ وليّها»حيث ألحق بها أصحاب القياس الثّيب الصغيرة،بل المجنونة و المعتوهة،و ذلك بتخريج المناط و انّه هو قصور العقل و ليس للبكارة مدخلية في

ص:564

الحكم،فهل يمكن ادّعاء القطع بذلك،و قد قال سبحانه: «وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً» ؟! (1)

إنّ الإنسان لم يزل في عالم الحسّ تنكشف له أخطاؤه،فإذا كان هذا حال عالم المادة الملموسة،فكيف بملاكات الأحكام و مناطاتها المستورة عن العقل إلاّ في موارد جزئية كالإسكار في الخمر،أو إيقاع العداء و البغضاء في الميسر،أو إيراث المرض في النهي عن النجاسات؟ و أمّا ما يرجع إلى العبادات و المعاملات خصوصاً فيما يرجع إلى أبواب الحدود و الديات فالعقل قاصر عن إدراك مناطاتها الحقيقية و إن كان يظن شيئاً.

قال ابن حزم:و إن كانت العلّة غير منصوص عليها،فمن أيّ طريق تُعرف و لم يوجد من الشارع نصّ يبيّن طريق تعرّفها؟ و تركُ هذا من غير دليل يعرّف العلّة،ينتهي إلى أحد أمرين:إمّا أنّ القياس ليس أصلاً معتبراً،و إمّا أنّه أصل عند اللّه معتبر و لكن أصل لا بيان له و ذلك يؤدي إلى التلبيس،و تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً،فلم يبق إلاّ نفي القياس.

ثانياً:لو افترضنا أنّ القائس أصاب في أصل التعليل،و لكن من أين يُعلم أنّها تمام العلّة،و لعلّها جزء العلّة و هناك جزء آخر منضم إليه في الواقع و لم يصل القائس إليه؟

ثالثاً:احتمال أن يكون القائس قد أضاف شيئاً أجنبياً إلى العلّة الحقيقية لم يكن له دخل في المقيس عليه.

رابعاً:احتمال أن يكون في الأصل خصوصية في ثبوت الحكم و قد غفل عنها القائس.

ص:565


1- 1) .الإسراء:85. [1]

و لأجل وجود هذه الاحتمالات الّتي لا تنفك عن ذهن القائس،رفضت الإماميّة،العمل بالقياس إذا كان مستنبط العلّة.

التفريق بين الظنّيين لما ذا؟

إنّ الدكتور أحمد الريسوني-حفظه اللّه-قد أخذ على علماء الإمامية بموارد، قائلاً:إنّهم يقولون بعدم حجّية الظن و مع ذلك يعملون به في الموارد التالية:

1.الخبر الواحد.

2.الظواهر.

3.المرجّحات الظنية عند التعارض.

4.الأُصول العمليّة.

و إليك دراسة هذه الموارد من رؤية الدكتور و ما يمكن القول حولها،و نذكر كلامه ضمن مقاطع قال:

1.انّ الإمامية إذ يرفضون الأخذ بالقياس و الاستصلاح باعتبار أنّ إفادتهما ظنيّة،فإنّهم يقبلون الظنّيات في كثير من أُصولهم و قواعدهم،في مقدّمها أخذهم بأخبار الآحاد فإنّهم يُسلّمون بكون أخبار الآحاد لا تسلم من الظنية و الاحتمال،و أذن الشرع استثناءً في اعتبارها.و يكون الإجماع لديهم على حجّيتها. (1)

أقول:هذا ملخّص كلامه،و القارئ الكريم-بعد الاطّلاع على ما ذكرنا من الأُمور-يقف على الفرق الواضح عندهم بين خبر الواحد العدل،و القياس، فإنّ الأخذ بالأوّل ليس بملاك إفادته الظن،بل لأجل قيام الدليل الشرعي على حجّيته،و لو كان الدليل قائماً على حجّية القياس لأخذوا به.

ص:566


1- 1) .الصفحة 94 من المجلة.

و بعبارة أُخرى:انّ خبر الواحد ممّا قام الدليل القطعي على حجّيته فصار ظناً علمياً،أي ظناً بالذات و لكن ذو رصيد علمي،بخلاف القياس إذ لم يرد عندهم دليل يثبت حجّيته لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه.

و لأجل أن يقف الأُستاذ الكريم على الفوارق بين خبر الواحد و القياس نقترح عليه مراجعة كتابنا المعنون:«أُصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه».

2.و من المواطن الّتي أخذوا فيها بالظنيات أيضاً قولهم بحجية الظواهر،أي أنّهم يعتمدون اعتماداً أساسياً على ما يفهم من ظواهر النصوص،و الظواهر كما هو معلوم لا تكاد تسلم من الظنية و الاحتمال. (1)

أقول:إن العمل بالظواهر ممّا أطبق العقلاء على العمل به،و لا نجد بينهم من ينكر حجّية الظواهر،فإن رحى الحياة في المجتمع الإنساني تدور عليها، و ليس كلّ كلام،نصاً في مدلوله.

إنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و أئمّة أهل البيت عليهم السلام و أصحابهم يعلّمون الناس بظواهر كلماتهم،و المستمعون يتلقّونها حجّة شرعية دون أن يناقشوا في حجّية الظواهر.

فأين الظواهر من القياس الظني الّذي تضاربت فيه الآراء و أنكر حجّيته أئمّة أهل البيت و لفيف من الصحابة و التابعين؟! أضف إلى ذلك قيام الدليل على حجّية الظواهر دون القياس،فهذا هو الفارق بينهما.

3.انّ الترجيحات-عند تعارض الخبرين-كلّها أو معظمها ترجيحات ظنية تعليلية و تقريبية،فقد جرى ديدنهم على ترجيح ما ظهر أنّه الأقرب إلى واقع الحكم الشرعي الحقيقي،و هذا كما لا يخفى ليس إحرازاً للحكم الشرعي بالضرورة و إنّما هو ظني و تقريب. (2)

ص:567


1- 1) .الصفحة 95 من المجلة.
2- 2) .المجلة:ص 96.

أقول:هذا هو المورد الثالث الّذي أثار تعجّب الأُستاذ من التفريق بينه و بين القياس و الاستحسان و أمثالهما حيث أخذوا بالمرجّحات الظنية و رفضوا القياس و الاستحسان.

و لكن الإجابة عنه واضحة،و هي قيام الحجّة على لزوم الترجيح بالمرجّحات،و قد تضافرت الأخبار الّتي ثبتت حجّيتها على لزوم الترجيح بالمرجحات المنصوصة كموافقة الكتاب و موافقة السنّة و موافقة المشهور و غيرها.

نعم هناك من يستنبط من هذه الروايات لزوم الترجيح بكلّ مرجّح و إن لم يكن منصوصاً كالشيخ الأنصاري في فرائده،و منهم من لا يقبل ذلك،و على كلّ تقدير فالفارق بين العمل بالمرجّحات و القياس و الاستحسان وجود الدليل على لزوم الترجيح بها و عدمه في القياس و الاستحسان.

و لو أنّ صاحب المقال أحاط بأُصول الفقه عند الإمامية لما أثار عجبه هذا التفريق،و لعمد إلى التركيز على موضوع آخر و هو طرح القياس على صعيد البحث على ضوء دراسة أدلّة المثبتين و النافين دون أن يربط العمل بالقياس بالعمل بخبر الواحد و الظواهر.

4.و ممّا أخذه الأُستاذ على الإمامية هو العمل بالأُصول العملية،أعني:البراءة و الاشتغال و التخيير و الاستصحاب،فقد قال:إنّ ما يسمّونه أُصولاً عملية هي قواعد توصل إلى الظن،و الرجحان،و مع ذلك أجازوا بل أوصوا بالعمل بها عند عدم الدليل الصريح. (1)

أقول:أظن انّ القارئ في غنى عن تكرار الجواب فإنّ الإشكال في الجميع واحد و الجواب مثله،و هو أنّ الفارق وجود الدليل على حجّية الأُصول،سواء

ص:568


1- 1) .الصفحة 96 من المجلة.

أ كانت مفيدة للظن أم لا،و من درس الأُصول العملية في الكتب الأُصولية للشيعة الإمامية يقف على أنّهم يستدلّون عليها بطرق مختلفة من الكتاب و السنّة و الإجماع و العقل.فكيف يقاس ذلك بالقياس الّذي تواتر النهي عن العمل به عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام،و هذا هو قول الإمام الصادق عليه السلام لأبان بن تغلب:«إنّ السنّة إذا قيست محق الدين». (1)

استدلاله على حجّية القياس عن طريق العقل

إنّ الأُستاذ الفاضل يستدلّ على حجّية القياس عن طريق العقل قائلاً:إنّ الإمامية و بخاصة متأخّريهم يجعلون من الأدلّة الشرعية«الدليل العقلي»،بينما هم يرفضون القياس و هو من بديهيات العقول و أوّلياتها،يقوم على قاعدة لا ينكرها عقل و لا عاقل،و هي«أنّ ما ثبت لشيء ثبت لمثله»،و هذا هو العدل الّذي قامت به الأرض و السماوات و جاءت به الكتب و الرسالات.

أقول:لا شكّ أنّ العقل أحد الحجج الشرعية،و ذلك في مجالات خاصة،ممّا للعقل إليها سبيل،و نمثل لذلك بنموذجين:

الأوّل:إذا استقل العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه و تجرّد في قضائه عن كلّ شيء إلاّ النظر إلى نفس الفعل يكون حكم العقل كاشفاً عن حكم الشرع،و هذا نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان،و حسنه معه،فيستكشف منه أنّ الشرع كذلك.

الثاني:إذا أمر المولى بشيء و استقلّ العقل بوجود الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته،أو وجوب الشيء و حرمة ضده،أو امتناع اجتماع الأمر و النهي

ص:569


1- 1) .الوسائل:18،الباب6 من أبواب صفات القاضي. [1]

على شيء واحد بعنوانين،أو جوازه إلى غير ذلك من أنواع الملازمات، فيكشف حكم العقل عن حكم الشرع.

ففي هذين الموردين و ما يشبههما يكون العقل قاطعاً بالحسن و القبح أو الملازمة بين الوجوبين أو الحرمتين،و عند ذلك نستكشف من خلال كونه سبحانه حكيماً لا يعبث،الحكم الشرعي؛للحسن و القبح،أو للمقدّمة و ضد الواجب.

و أمّا القياس فهو ليس دليلاً عقلياً،و إنّما هو دليل ظني بشهادة أنّه لو كان دليلاً قطعياً لما اختلف فيه اثنان كما لم يختلفوا في حجّية الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم.

فإنّ إطلاق الدليل العقلي على القياس على وجه الإطلاق غير صحيح،بل يجب أن يقال الدليل العقلي الظني،لأنّ الدليل العقلي-عند الإطلاق - ينصرف إلى الدليل العقلي المفيد للعلم.

الخلط بين المماثل و المشابه

و الّذي أُلفت نظر الأُستاذ إليه هو أنّ القياس ليس من باب المماثلة،بل من باب المشابهة،و كم هو الفرق بين التماثل و التشابه،فما ذكره من أنّ«ما ثبت لشيء ثبت لمثله»راجع إلى المتماثلين،و الفرق بينهما واضح،و ذلك لأنّ التماثل عبارة عن دخول شيئين تحت نوع واحد و طبيعة واحدة،فالتجربة في عدة من مصاديق طبيعية واحدة تفيد العلم بأنّ النتيجة لطبيعة الشيء لا لأفراد خاصة،و لذلك يقولون:إنّ التجربة تفيد العلم،و ذلك بالبيان التالي:

إذا أجرينا-مثلاً-تجربة على جزئيات من طبيعة واحدة،كالحديد،تحت ظروف معينة من الضغط الجوي،و الجاذبية،و الارتفاع عن سطح البحر، و غيرها

ص:570

مع اتّحادها جميعاً في التركيب،فوجدنا أنّها تتمدد مقداراً معيناً، و لنسمّه(س)،عند درجة خاصة من الحرارة و لنسمّها (ح).ثمّ كررنا هذه التجربة على هذه الجزئيات،في مراحل مختلفة،في أمكنة متعددة،و تحت ظروف متغايرة،و وجدنا النتيجة صادقة تماماً:يتمدد الحديد بمقدار (س) عند درجة (ح)؛فهنا نستكشف أنّ التمدد بهذا المقدار المعين،معلول لتلك الدرجة الخاصة من الحرارة فقط،دون غيرها من العوامل.فعندئذٍ يقال:«ما ثبت لشيء،ثبت لمثله»أو حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد.

و أمّا التشابه فهو عبارة عن وقوع فردين مختلفي الطبيعة تحت صفة واحدة توجب التشابه بينهما،و هذا كالخمر و الفقاع فإنّهما نوعان و بينهما تشابه في الإسكار.فلو أثبتت التجربة أنّ للخمر أثراً خاصاً،لا يمكن القول بثبوته للفقاع و النبيذ،بل لا بدّ من التماس الدليل على المشاركة،وراء المشابهة.

و أوضح من ذلك مسألة الاستقراء،فإنّ ما نشاهده من الحيوانات البرية و البحرية،أنواع مختلفة،فلو رأينا هذا الحيوان البري و ذلك الحيوان البحري كلّ يحرك فكّه الأسفل عند المضغ ربما نحكم-بلا جزم-بذلك على سائر الحيوانات من دون أن تكون بينها وحدة نوعية أو تماثل في الحقيقة،و الدافع إلى ذلك التعدّي في الحكم هو التشابه و الاشتراك الموجود بين أنواع الجنس الواحد رغم اختلافها في الفصول و الأشكال،و لكن لا يمكن الجزم بالحكم و النتيجة على وجهها الكلي لإمكان اختلاف أفراد نوعين مختلفين في الحكم.

و بذلك يعلم أنّ القياس عبارة عن إسراء حكم مشابه إلى مشابه لا حكم مماثل إلى مماثل،و من المعلوم أنّ إسراء الحكم من طبيعة إلى طبيعة أمر مشكل لا يصار إليه إلاّ إذا كان هناك مساعدة من جانب العرف لإلغاء الخصوصية،و إلاّ

ص:571

يكون الإسراء عملاً بلا دليل.

مثلاً دلّ الكتاب العزيز على أنّ السارق و السارقة تقطع أيديهما،و الحكم على عنوان السارق،فهل يلحق به النبّاش الّذي ينبش القبر لأخذ الأكفان؟ فإنّ التسوية بين العنوانين أمر مشكل،يقول السرخسي:

لا يجوز استعمال القياس في إلحاق النبّاش بالسارق في حكم القطع،لأنّ القطع بالنصّ واجب على السارق. (1)

و الحاصل:أنّ هناك فرقاً واضحاً بين فردين من طبيعة واحدة،فيصحّ إسراء حكم الفرد إلى الفرد الآخر لغاية اشتراكهما في الإنسانية،و أنّ حكم الأمثال في ما يجوز و ما لا يجوز واحد،لكن بشرط أن يثبت أنّ الحكم من لوازم الطبيعة لا الخصوصيات الفردية.

و أمّا المتشابهات فهما فردان من طبيعتين-كالإنسان و الفرس-يجمعهما التشابه و التضاهي في شيء من الأشياء،فهل يصحّ إسراء حكم نوع إلى نوع آخر؟ كلاّ و لا،إلاّ إذا دلّ الدّليل على أنّ الوحدة الجنسية سبب الحكم و مناطه و ملاكه التام (2)،كما دلّ الدليل على أنّ سبب الحرمة في الخمر،هو الإسكار، و إلاّ فلا يصحّ إسراء حكم من طبيعة إلى طبيعة أُخرى بمجرد التشابه بينهما، أو الاشتراك في عرض من الأعراض.

ص:572


1- 1) .اصول السرخسي:157/2.
2- 2) .أُصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه:108- 110. [1]

6

السادس الدليل العقلي و حجّية المصلحة

قد تعرفت على أنّ العقل أحد مصادر التشريع و-بالأحرى-أحد المصادر لكشف الحكم الشرعي.

و مجال الحكم العقلي-غالباً-أحد الأُمور التالية:

1.التحسين و التقبيح العقليان.

2.أبواب الملازمات من قبيل الملازمة بين وجوب الشيء و مقدمته و حرمة ضدّه،و الملازمة بين النهي عن العبادة أو المعاملة و فسادها،إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى باب الملازمة.

3.أبواب التزاحم أي تزاحم المصالح الّتي لا بدّ من أخذها كإنقاذ الغريقين مع العجز عن إنقاذ كليهما،أو تزاحم المصالح و المفاسد كتترس العدو بالمسلمين فإنّ للعقل دوراً فيها،و له ضوابط لتقديم إحدى المصلحتين على الأُخرى،أو تقديم المصلحة على المفسدة أو بالعكس (و هي مذكورة في مظانّها).

و لا غبار على حجّية العقل في هذه الموارد،إنّما الكلام في حجّية المصلحة و عدّها من مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه؛فقد ذهب عدة من فقهاء السنّة إلى

ص:573

حجّية المصلحة و سمّاها المالكية بالمصالح المرسلة و الغزالي بالاستصلاح، و حاصل دليلهم على حجّية المصلحة و كونها من مصادر التشريع ما يلي:

إنّ مصالح الناس تتجدّد و لا تتناهى،فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدّد من مصالح الناس،و لما يقتضيه تطورهم و اقتصر التشريع على المصالح الّتي اعتبرها الشارع فقط،لعطّلت كثير من مصالح الناس في مختلف الأزمنة و الأمكنة،و وقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس و مصالحهم،و هذا لا يتفق و ما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس. (1)

و حاصل هذا الوجه ادّعاء وجود النقص في التشريع الإسلامي لو اقتصر في مقام الاستنباط على الكتاب و السنّة،لأنّ حاجات المجتمع إلى قوانين جديدة لا زالت تتزايد كلّ يوم،فإذا لم تكن هناك تشريعات تتلاءم مع هذه الحاجات لم تتحقّق مقاصد الشريعة.

ثمّ إنّ السبب لجعلهم المصالح مصادر للتشريع هو الأُمور التالية:

1.إهمال العقل و عدم عدّه من مصادر التشريع في مجال التحسين و التقبيح العقليين.

2.إقفال باب الاجتهاد في أواسط القرن السابع إقفالاً سياسياً،فقد صار ذلك سبباً لوقف الدراسات الفقهية منذ قرون،و في ظل ذلك توهّم المتأخّرون وجود النقص في التشريع الإسلامي و عدم كفايته لتحقيق مقاصد الشريعة فلجئوا إلى عدّ المصالح المرسلة من مصادره،و بذلك وجّهوا قول من يعتقد بحجية المصالح المرسلة من أئمّة المذاهب.

3.عدم دراسة عناوين الأحكام الأوّلية و الثانوية،كأدلّة الضرر و الحرج

ص:574


1- 1) .علم أُصول الفقه،لعبد الوهاب الخلاّف:94.

و الاضطرار و النسيان،فإنّ هذه العناوين و ما يشابهها تحل أكثر المشاكل الّتي كان علماء السنّة يواجهونها من دون حاجة لعدّ الاستصلاح من مصادر التشريع.

4.عدم الاعتراف بصلاحيات الفقيه الجامع للشرائط بوضع أحكام ولائية كافية في جلب المصلحة و دفع المفسدة أحكاماً مؤقتة ما دام الملاك موجوداً.

و الفرق بين الأحكام الواقعية و الولائية هو أنّ الطائفة الأُولى أحكام شرعية جاء بها النبي صلى الله عليه و آله و سلم لتبقى خالدة إلى يوم القيامة،و أمّا الطائفة الثانية فإنّما هي أحكام مؤقتة أو مقررات يضعها الحاكم الإسلامي(على ضوء سائر القوانين) لرفع المشاكل المتعلّقة بحياة المجتمع الإسلامي.

هذه هي حقيقة المصالح المرسلة.

ثمّ إنّهم مثّلوا للمقام بأمثلة،نذكر منها ما يلي:

1.جمع القرآن الكريم في مصحف بعد رحيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

2.قتال مانعي الزكاة.

3.وقف تنفيذ حكم السرقة في عام المجاعة.

4.إنشاء الدواوين.

5.سك النقود.

6.فرض الإمام العادل على الأغنياء من المال ما لا بدّ منه،لتكثير الجند و إعداد السلاح و حماية البلاد و غير ذلك.

7.سجن المتهم كي لا يفر.

8.حجر المفتي الماجن و الطبيب الجاهل و المكاري المفلس.

ثمّ إنّ بعض المغالين ربّما يتجاوز فيمثّل بأُمور لا تُبرّرها أدلّة التشريع الواقعي كتنفيذ الطلاق ثلاثاً،مع أنّ الحكم الشرعي هو كونه طلاقاً واحداً في

ص:575

عصر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و برهة بعد رحيله،و هذا من باب تقديم المصلحة على النص.

ثمّ إنّ للإمامية في العمل بالمصالح مذهباً وسطاً أوضحناه في كتابنا. (1)

و ليست الإماميّة ممّن ترفضه بتاتاً كما تصوّره الأُستاذ أو تقبله في عامّة الصور.

هذا إجمال الكلام في المصالح المرسلة-و تفصيل مالها و ما فيها يُطلب من محله-إذا عرفت ذلك فهلمّ معي نقرأ ما ذكره الدكتور الريسوني حول هذا الموضوع،قال:

«أمّا حجّية المصلحة،فإنّهم و إن كانوا ينكرونها بالاسم إلاّ أنّهم يأخذون بها بأسماء و أشكال متعدّدة:

فتارة تدخل تحت اسم«الدليل العقلي»حيث يدرجون ضمنه-مثلاً-اعتبار «الأصل في المنافع الإباحة،و في المضار الحرمة»و هذا عين اعتبار المصلحة.

كما أنّ من القواعد المعتبرة عندهم ضمن دليل العقل قاعدة«وجوب مقدّمة الواجب»و هي المعبر عنها ب«ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب»ذلك أنّ معظم المصالح المرسلة هي من قبيل«ما لا يتم الواجب إلاّ به»فهي مقدّمات أو وسائل لواجبات أُخرى،و مثلها قاعدة«كلّ ما هو ضد الواجب فهو غير جائز»فهذا ما يعبر عنه بدرء المفاسد.و أُخرى يدخلون العمل بالمصلحة من باب ما يسمّى عندهم السيرة العقلائية و بناء العقلاء،و هو في الوقت نفسه من المصالح المرسلة». (2)

و حاصل كلامه:انّه تدخل تحت حجّية المصلحة القواعد التالية:

1.وجوب مقدّمة الواجب.

ص:576


1- 1) .لاحظ أُصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه.
2- 2) .الصفحة:97 من المجلة المشار إليها.

2.حرمة ضد الواجب.

3.حجّية بناء العقلاء و سيرتهم.

4.الأصل في المنافع الإباحة،و في المضار الحرمة.

فهي نفس العمل بالمصلحة مع أنّهم يدخلونها تحت«الدليل العقلي».

يلاحظ عليه:أنّ اشتمال هذه القواعد على المصالح و درء المفاسد،غير كون المصلحة سبباً لتشريعها و مبدأ لتقنينها،فإنّ الدليل على وجوب مقدّمة الواجب أو حرمة ضد الواجب حكم العقل بالملازمة بين الإرادتين،فمن حاول الوقوف على السطح،لا محيص له من إرادة نصب السلّم،أو ركوب المصعد.

فاشتمال المقدّمة على المصلحة أو اشتمال الضد على المفسدة أمر جانبي لا مدخلية له في الحكم بالوجوب و الحرمة.

و أمّا حجّية بناء العقلاء،فإنّ أساسها كونه بمرأى و مسمع من الشارع و هو إمضاؤه،لهذا لو كان غير مرضيّ عنده،لما سكت عن النهي عنه،لقبح السكوت عمّا يوجب إغراء الأُمّة،و لو لا إمضاؤه لما صحّ الاعتماد عليه في الفقه،كما هو الحال في السِّير الّتي رفضها الشارع كبيع الخمر و الكلب و الخنزير و التملك بالمقارنة.

و به يظهر حكم القاعدة الرابعة،فإنّ الحكم بجلب المنفعة أو درء المفسدة هو العقل الحصيف،لا قاعدة المصالح المرسلة،و إن كان في الجلب و الدرء مصلحة،و بالجملة:الأُمور الجانبية،ليست أساساً لحكم العقل في مورد هذه القواعد.

نحن نفترض أنّ لهذه المسائل طابعاً عقلياً كما أنّ لها طابعاً استصلاحياً،فلو كان الوصول إليها من دليل العقل أمراً غير صحيح فليكن الوصول إليها عن طريق الاستصلاح مثله،فلما ذا يوجّه اللوم إلى الفريق الأوّل دون الثاني؟!

***

ص:577

هذه بعض الملاحظات على كلام الأُستاذ،حفظه اللّه و نفعنا بعلومه.و بقيت في كلامه أُمور أُخرى يظهر النظر فيها من بعض ما ذكرنا.

و في الختام ندعو له و لعامّة الإخوان في المملكة المغربية و الأساتذة و الطلاب في دار الحديث الحسنية بدوام التوفيق و السداد.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

قم المقدسة-إيران

غرّة ربيع الأوّل 1426ه

ص:578

بسم اللّه الرحمن الرحيم

5

اشارة

التقيّة مفهومها،حدّها،دليلها

الحمد للّه ربّ العالمين،و الصلاة و السلام على أفضل خلقه و خاتم رسله محمّد و على آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيبة علمه و حفظة سننه.

أمّا بعد،فانّ الإسلام عقيدة و شريعة،فالعقيدة هي الإيمان باللّه و رسله و اليوم الآخر،و الشريعة هي الأحكام الإلهية التي تكفل للبشرية الحياة الفضلى و تحقّق لها السعادة الدنيوية و الأُخروية.

و قد امتازت الشريعة الإسلامية بالشمول،و وضع الحلول لكافّة المشاكل التي تعتري الإنسان في جميع جوانب الحياة قال سبحانه: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً». 1

غير أنّ هناك مسائل فرعية اختلف فيها الفقهاء لاختلافهم فيما أثر عن مبلّغ الرسالة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم،الأمر الذي أدّى إلى اختلاف كلمتهم فيها،و بما أنّ الحقيقة بنت البحث فقد حاولنا في هذه الدراسات المتسلسلة أن نطرحها على طاولة البحث،عسى أن تكون وسيلة لتوحيد الكلمة و تقريب الخطى في هذا

ص:579

الحقل،فالخلاف فيها ليس خلافاً في جوهر الدين و أُصوله حتّى يستوجب العداء و البغضاء،و إنّما هو خلاف فيما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم،و هو أمر يسير في مقابل المسائل الكثيرة المتّفق عليها بين المذاهب الإسلامية.

و رائدنا في هذا السبيل قوله سبحانه: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً...» . (1)

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:580


1- 1) .آل عمران:103. [1]

التقيّة من المفاهيم الإسلامية السامية

تُعدّ التقية من المفاهيم الإسلامية الأصيلة،المنسجمة مع حكم العقل،و روح الإسلام،و مرونة الشريعة المقدسة و سماحتها،و ضرورات العمل الإسلامي، و قد وردت في القرآن الكريم،و أكّدتها السنة الشريفة،و آمن بمشروعيتها علماء المسلمين.

و لا ريب في أنّ الشيعة-و بحكم الظروف العصيبة التي حاقت بهم على امتداد فترات تاريخية طويلة-اشتهروا بالعمل بالتقية،و اللّياذ بظلها كلما اشتدت عليهم وطأة القهر و الظلم.

و قد سعى الصائدون في الماء العكر من حُكّام الجور و المغرضين و المتعصّبين إلى استغلال هذا الأمر،و ذرّ الرماد في العيون من خلال إيجاد تصوّرات و أوهام باطلة،و غرسها في أذهان الناس،بدعوى أنّ التقية عند الشيعة ضرب من النفاق و الخداع و التمويه،و أنّها تجعل منهم منظّمة سرية غايتها الالتفاف على الإسلام و تشويه صورته و تهديم أركانه.

إنّ العمل بالتقية و الاحتراز عن الإفصاح عن المبادئ و الأفكار لا يعنيان أبداً أنّ للشيعة أسراراً و طلاسم يتداولونها بينهم،و لا يتيحون للآخرين فرصة

ص:581

الاطلاع عليها و معرفتها،و لا يعنيان أيضاً أنّ لهم نوايا عدوانية ضدّ الإسلام و أهله،و إنّما يتعلّق الأمر كلّه بإرهاب فكري و سياسي مُورس ضدهم، و جرائم وحشية ارتكبت بحقهم،ألجأتهم إلى اتخاذ التكتّم و الاحتراز أسلوباً لصيانة النفوس و الأعراض و المحافظة عليها.و نحن إذا نظرنا إليهم في بعض العهود التي استطاعوا أن يتنفسوا فيها نسائم الحرية،نجد كيف أنّهم بادروا و بنشاط إلى نشر أفكارهم و آرائهم و بثّ مبادئهم و تعاليمهم،و كيف أنّهم ساهموا-مع إخوانهم من سائر المذاهب و الطوائف-في صنع حضارة الإسلام الخالدة.

و إذا كان الإنصاف يدعو إلى تبرير موقف ضحايا القمع و الاستبداد بالالتجاء إلى حمى التقية لضمان السلامة و التوقّي من الشر المستطير...و إذا كان الضمير الحي يدعو إلى مواساة هؤلاء المظلومين الذين تُحصى عليهم أنفاسهم و يعانون أفانين الضغط و الإكراه،و أشكال التضييق و المحاربة،فإنّ شيئاً من هذا و لا ذاك لم يحصل،بل حصل العكس،إذ عمد الكثير من أهل السنّة و الجماعة-و مع الأسف-إلى الإغضاء عن الجزّارين أو معاضدتهم، و إلى التنديد بالضحايا و التشهير بهم!!

و أخيراً،نحن نعتقد أنّ العمل بالتقية أمر لا مفرّ منه،و أنّ مجانبتها تماماً و في كلّ الأحوال و العصور أمر لا واقع و لا حقيقة له.و أنت إذا رميت ببصرك إلى بعض الشعوب التي تحكمها أنظمة قمعية استبدادية،لوجدت أنّها - و فيها من هم من أهل السنّة-تتجنّب الإعلان عن آرائها و أهدافها جهرةً، و تسكت عمّا يُمارس بين ظهرانيها من أعمال منافية للإسلام،و ما ذلك إلاّ خوفاً من البطش و القتل و الأذى الذي سيصيبها لو أنّها نطقت بما يخالف إرادة المستبدين.

و هذه الرسالة المتواضعة،ستميط الستر عن وجه الحقيقة و تثبت،انّ التقية

ص:582

ثمرة البيئة التي صودرت فيها الحريات،و لو كان هناك لومٌ و انتقاد،فالأجدر أن نتوجه بهما إلى من حمل المستضعفين على التقية،لا أنفسهم.

و ستتضح للقارئ في غضون هذه الرسالة،انّ التقيّة من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم،و في تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد التي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة،ليصون بها نفسه و عرضه و ماله، أو نفسَ من يمتُّ إليه بصلة و عرضَه و مالَه،كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل و التنكيل (1)و لاذ بها عمّار عند ما أُخذ و أُسِر و هُدِّد بالقتل (2)،إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب و السنّة،فمن المحتّم علينا أن نتعرّف عليها،مفهوماً (لغة و اصطلاحاً)،و تاريخاً و غايةً و دليلاً و حدّاً،حتى نتجنَّب الإفراط و التفريط في مقام القضاء و التطبيق.

و تحقيق المسألة يتم ببيان أُمور:

ص:583


1- 1) .القصص:20.
2- 2) .النحل:106.

1

التقية لغة

التقية اسم مصدر ل«اتقى يتقي»و أصل اتقى:اوتقى فقلبت الواو ياءً للكسرة قبلها،ثمّ أُبدلت تاءً و ادغمت و قد تكرر ذكر الاتقاء في الحديث و منه حديث علي:«كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللّه»،أي جعلناه وقاية لنا من العدو. (1)

و قد أخذ«اتقى»من وقي الشيء،يقيه إذا صانه،قال اللّه تعالى: «فَوَقاهُ اللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا» 2 أي حماه منهم فلم يضرّه مكرهم.

و ربما تستعمل مكان التقية لفظة«التُّقاة»قال سبحانه: «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً». 3

قرأ الأكثر«تقاة»إلاّ يعقوب فقرأ«تقيّة»و كلاهما مصدر لفعل اتقى«فتقاة»أصله «وقية»أبدلت الواو تاءً كما أبدلوها في تُجاه و تكاة و انقلبت الياء ألفاً لتحركها و انفتاح ما قبلها،و هو مصدر على وزن فُعل كتؤدد و تخمة. (2)

ص:584


1- 1) .النهاية: [1]مادة وقي.
2- 4) .عن تعليق أحمد محمد شاكر على دائرة المعارف الإسلامية:423/5.

2

التقية اصطلاحاً

التقية كما عرّفها السرخسي هي أن يقي الإنسان نفسه بما يظهره و إن كان ما يضمر خلافه. (1)

و قال ابن حجر:التقية:الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد و غيره للغير. (2)

و عرفها صاحب المنار بأنّها ما يقال أو يفعل مخالفاً للحقّ لأجل توقّي الضرر. (3)

و عرفها الشيخ محمد أبو زهرة بأنّها أن يخفي الشخص ما يعتقد دفعاً للأذى. (4)

و التعريف الثالث أشمل من الرابع لاختصاص الأخير بالعقيدة و عمومية الآخر لها و للفعل.

ص:585


1- 1) .المبسوط للسرخسي:45/25.
2- 2) .فتح الباري:314/12،ط المكتبة السلفية.
3- 3) .تفسير المنار:280/3.
4- 4) .محمد أبو زهرة:الإمام الصادق:255.

و أمّا الشيعة فقد عرّفها الشيخ المفيد بقوله:التقية كتمان الحقّ و ستر الاعتقاد فيه،و مكاتمة المخالفين و ترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين أو الدنيا.

و فُرض ذلك،إذا علم بالضرورة أو قوي في الظن،فمتى لم يعلم ضرراً بإظهار الحقّ و لا قوي في الظن ذلك لم يجب فرض التقية. (1)

و عرفها الشيخ الأنصاري بقوله:التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ. (2)

ص:586


1- 1) .شرح عقائد الصدوق:66،ط تبريز.
2- 2) .رسالة التقية للشيخ الأنصاري:37.

3

اشارة

التقية تاريخيّاً

ربما يتصوّر لأول وهلة انّ للتقية مبدأً تاريخياً ظهر في المجتمع الإنساني، و لكن هذا التصور يجانب الحقّ،فظاهرةُ التقية زامنت وجود الإنسان على هذا الكوكب يوم برز بين البشر القويّ و الضعيف،و صادر الأوّل حريات الثاني و لم يسمح له بإبداء ما يضمره عن طريق القول و الفعل.

فظهور التقية في المجتمع البشري إذن،كان تعبيراً عن مصادرة الحريات، و سلاحاً لم يجد الضعيف بدّاً من اللجوء إليه للدفاع عن نفسه و عرضه و ماله.

1.التقيّة في عصر الكليم

و أظهر مورد تبنّاه القرآن الكريم في هذا الصدد هو مؤمن آل فرعون،يقول اللّه تعالى:

«وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ». 1

ص:587

و كانت عاقبة أمره أن «فَوَقاهُ اللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ». 1

و ما كان ذلك إلاّ لأنّه بتعميته،استطاع أن ينجّي نبيَّ اللّه من القتل كما يحكيه سبحانه عنه و يقول: «قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ». 2

نقل الثعلبي عن السدي و مقاتل انّ مؤمن آل فرعون كان ابن عم فرعون و هو الذي أخبر اللّه تعالى عنه فقال: «وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى». 3

و قال آخرون:كان إسرائيلياً،و مجاز الآية:و قال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعونْ،و اختلفوا أيضاً في اسمه.

فقال ابن عباس و أكثر العلماء:اسمه حزبيل.

و قال وهب بن منبه:اسمه حزيقال.

و قال ابن إسحاق:خبر ل. (1)

2.التقية في عصر الرسول

هناك حوادث تاريخية تدلّ على شرعية التقية في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم نكتفي بهذين النموذجين:

1.يقول سبحانه: «مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ». 5

قال المفسرون:قد نزلت الآية في جماعة أُكْرِهُوا على الكفر،و هم عمّار و أبوه

ص:588


1- 4) .تفسير الثعلبي:273/8. [1]

ياسر و أُمّه سُميّة،و قُتل الأبوان لأنّهما لم يُظهرا الكفر و لم ينالا من النبي، و أعطاهم عمّارُ ما أرادوا منه فأطلقوه،ثمّ أخبر بذلك رسول اللّه،و انتشر خبره بين المسلمين،فقال قوم:كفر عمار،فقال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم:«كلاّ انّ عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه،و اختلط الإيمان بلحمه و دمه».

و في ذلك نزلت الآية السابقة،و كان عمّار يبكي،فجعل رسول اللّه يَمْسَحَ عينيه،و يقول:«إن عادُوا لك فعُد لهم بما قلت». (1)

2.أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن،انّ مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال لأحدهما:

أتشهد انّ محمّداً رسول اللّه؟ قال:نعم،قال:أ فتشهد أنّي رسول اللّه؟ قال:

نعم،ثمّ دعا بالآخر فقال:أتشهد أنّ محمّداً رسول اللّه؟ قال:نعم،فقال له:

أ فتشهد انّي رسول اللّه؟ قال:إنّي أصمّ.قالها ثلاثاً،كل ذلك يجيبه بمثل الأوّل،فضرب عُنقُه،فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال:أمّا ذلك المقتول فقد مضى على صدقه و يقينه،و أخذ بفضله،فهنيئاً له.

و أمّا الآخر فقبلَ رخصة اللّه فلا تبعةَ عليه. (2)

3.التقية بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم

قد استغل الأمويُّون مسألة القضاء و القدر و ركّزوا على أنّ كلّ ما يجري في

ص:589


1- 1) .مجمع البيان:388/3.
2- 2) .مسند ابن أبي شيبة:358/12،ط السلفية؛التبيان:453/2،و [1]قد علق الطوسي على الرواية و قال:و على هذا التقية رخصة،و الافصاح بالحق فضيلة،و ظاهر أخبارنا يدلّ على انّها واجبة،و خلافها خطأ و سيوافيك أنّها على أقسام خمسة.

المجتمع الإسلامي بقضاء و قدر من اللّه سبحانه و ليس لأحد فيه الاختيار و لا الاعتراض،و على ذلك فالفقر المدقع السائد بين أكثر المسلمين تقدير من اللّه،و الترف الذي يعيشه الأمويون،و الظلم الذي يُلحقونه بالمسلمين تقدير من اللّه.

و لما كانت تلك المزعمة مخالفة لضرورة الدين و بعثة الأنبياء،قام غير واحد بوجه هذه الفكرة،و سكت كثيرون خوفاً من بطش الأمويين،فكتموا عقيدتهم و سلكوا مسلك التقيّة.

1.هذا هو ابن سعد يروي عن الحسن البصري بأنّه كان يخالف الأمويين في القدر بالمعنى الذي تتبنّاه السلطة آنذاك فلما خوّفه بعض أصدقائه من السلطان،وعد أن لا يعود.

روى ابن سعد في طبقاته عن أيوب قال:نازلت الحسن في القدر غير مرة حتّى خوّفته من السلطان،فقال:لا أعود بعد اليوم. (1)

2.كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة في بغداد أن يُشخص إليه سبعة نفر من المحدثين منهم:

1.محمد بن سعد كاتب الواقدي،2.أبو مسلم،مستملي يزيد بن هارون،3.

يحيى بن معين،4.زهير بن حرب أبو خثيمة،5.إسماعيل بن داود،6.

إسماعيل بن أبي مسعود،7.أحمد بن الدورقي فامتحنهم المأمون و سألهم عن خلق القرآن،فأجابوا جميعاً انّ القرآن مخلوق فأشخصهم إلى مدينة السلام،و أحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره فشهّر أمرهم و قولهم بحضرة الفقهاء و المشايخ من أهل الحديث فأقرّوا بمثل ما أجابوا به المأمون فخلّى سبيلهم.و قد فعل إسحاق بن إبراهيم ذلك بأمر المأمون.

ص:590


1- 1) .طبقات ابن سعد:167/7،ط بيروت. [1]

يذكر أن الرأي الذي كان سائداً بين المحدّثين هو قدم القرآن أو عدم حدوثه و لكنّهم اتّقوا و اعترفوا بخلق القرآن،و هذا هو نفس التقية التي يعمل بها الشيعة،و قد مارسها المحدِّثون في عصر المأمون.

و هناك رسالة أُخرى للمأمون إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة،و ممّا جاء فيها:و ليس يَرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة(القرآن ليس بمخلوق) حظاً في الدين و لا نصيباً من الإيمان....

فلما جاءت الرسالة إلى إسحاق بن إبراهيم أحضر لفيفاً من المحدّثين ربما يبلغ عددهم إلى 26 فقرأ عليهم رسالة المأمون مرتين حتّى فهموها ثمّ انّ إسحاق دعا بهم رجلاً رجلاً فأجاب القوم كلّهم و اعترفوا بأنّ القرآن مخلوق إلاّ أربعة نفر منهم:

أحمد بن حنبل،و سجادة،و القواريري،و محمد بن نوح المضروب،فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشُدُّوا في الحديد،فلما كان من الغد دعا بهم جميعاً يساقون في الحديد فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده و خلّى سبيله و أصرّ الآخرون على قولهم.

فلما كان من بعد الغد عاودهم أيضاً فأعاد عليهم القول،فأجاب القواريري بأنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده و خلّى سبيله،و أصرّ أحمد بن حنبل و محمد بن نوح على قولهما و لم يرجعا فشدّا جميعاً في الحديد و وُجِّها إلى طرسوس و كتب معهما كتاباً بإشخاصهما.

ثمّ لما اعتُرض على الراجعين عن عقيدتهم،برّروا عملهم بعمل عمار بن ياسر حيث أكره على الشرك و قلبه مطمئن بالإيمان. (1)

ص:591


1- 1) .لاحظ تاريخ الطبري:197/7،حوادث 218ه.

كلّ ذلك يدلّ على انّ التقية أصل مشروع التزم بها المسلمون عند الشعور بالضعف أمام السلطة الغاشمة.

و بذلك يظهر انّ اتهام الشيعة بتفرّدها بالقول بالتقية يضادُّ الذكر الحكيم و السنة النبوية و سيرة المسلمين عبر التاريخ.

إنّ التقية سلاح الضعيف،سلاح من صُودرتْ حقوقه و حرّياته من قبل سلطة غاشمة،قاهرة،لا تُبدي أية مرونة في مواقفها،و هذا هو حكم العقل و هو دفع الضرر عن النفس و النفيس بإظهار الموافقة لساناً و عملاً حتّى يرتفع الضرر ثمّ يعود الإنسان إلى ما كان عليه.

و مثل هذا لا يمكن أن يختص بفرقة دون أُخرى.

ص:592

4

اشارة

محنة الشيعة في عصر الأمويين و العباسيين

اشتهرت الشيعة بالتقيّة أكثر من سائر الفرق،و لكونهم أكثر من غيرهم من حيث التعرّض للضغط،و مصادرة الحريّات،بالظنّة،و التشريد و القتل تحت كلّ حجر و مدر.

إنّ الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين إخوانهم و أبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة،فلو لم يكن هناك في غابر القرون-من عصر الأمويين ثمّ العباسيين و العثمانيين-أيُّ ضغط على الشيعة،و لم تكن بلادهم و عُقر دارهم مخضّبة بدمائهم (و التاريخ خير شاهد على ذلك)،لأصبح من المعقول أن تَنْسى الشيعة كلمة التقية و أن تحذفها من قاموس حياتها،و لكن - يا للأسف-إنّ كثيراً من إخوانهم كانوا أداة طيّعة بيد الأمويين و العباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم،فكانوا يؤلِّبون العامة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم و يضطهدونهم و ينكلون بهم،و لذا و نتيجة لتلك الظروف الصعبة،لم يكن للشيعة،بل لكل من يملك شيئاً من العقل وسيلة إلاّ اللجوء إلى التقية أو رفع

ص:593

اليد عن المبادئ المقدّسة التي هي أغلى عنده من نفسه و ماله.

و الشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تعدَّ،إلاّ أنّا سنستعرض جانباً مختصراً منها:فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا و كيفما كانوا،و إليك نص ما ذكرته المصادر عن هذه الواقعة لتدرك محنة الشيعة:

محنة الشيعة في العصر الأموي

روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب«الأحداث» قال:كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمّاله بعد عام الجماعة:أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب و أهل بيته،فقامت الخطباء في كل كورة، و على كل منبر،يلعنون علياً و يتبرءون منه و يقعون فيه و في أهل بيته،و كان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة،لكثرة مَن بها من شيعة علي عليه السلام فاستعمل عليها زياد بن سمية،و ضم إليه البصرة،فكان يتتبّع الشيعة و هو بهم عارف، لأنّه كان منهم أيام علي عليه السلام،فقتلهم تحت كل حجر و مدر،و أخافهم،و قطع الأيدي و الأرجل،و سَمَلَ العيون،و صلبهم على جذوع النخل،و طردهم و شرَّدهم عن العراق،فلم يبق بها معروف منهم،و كتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق:ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي و أهل بيته شهادة.

ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان:انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً و أهل بيته،فامحوه من الديوان،و أسقطوا عطاءه و رزقه، و شفع ذلك بنسخة أُخرى:مَن اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم،فنكّلوا به، و اهدموا داره.فلم يكن البلاء أشد و لا أكثر منه بالعراق،و لا سيّما بالكوفة حتّى أنّ الرجل من

ص:594

شيعة علي عليه السلام ليأتيه من يثق به،فيدخل بيته،فيُلقي إليه سرّه،و يخاف من خادمه و مملوكه،و لا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة،ليكتمنَّ عليه.

و أضاف ابن أبي الحديد:فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي عليهما السلام،فازداد البلاء و الفتنة،فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ و هو خائف على دمه،أو طريد في الأرض.

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين عليه السلام،و ولي عبد الملك بن مروان،فاشتد على الشيعة،و ولّى عليهم الحجاج بن يوسف،فتقرَّب إليه أهل النسك و الصلاح و الدين ببغض علي و موالاة أعدائه،و موالاة من يدعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه،فأكثروا في الرواية في فضلهم و سوابقهم و مناقبهم،و أكثروا من البغض من علي عليه السلام و عيبه،و الطعن فيه،و الشن آن له،حتى أنّ إنساناً وقف للحجاج-و يقال إنّه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب-فصاح به:أيّها الأمير إنّ أهلي عقوني فسمّوني علياً،و إنّي فقير و بائس و أنا إلى صلة الأمير محتاج،فتضاحك له الحجاج،و قال:للطف ما توسّلتَ به،قد ولّيتك موضع كذا. (1)

و استمر الحزب الأموي في الإرهاب و سفك الدماء على امتداد مراحل وجوده في السلطة،حيث سجّل لنا التاريخ حوادث أُخرى تحكي أبشع صور الإرهاب و الاستخفاف بقيم الحق و العدل أيام عبد الملك بن مروان و قتله سعيد بن جبير.و قد جاء في كتاب عبد الملك بن مروان الذي ولّى فيه خالد بن عبد اللّه القسري:

أمّا بعد،فانّي ولّيت عليكم خالد بن عبد اللّه القسري،فاسمعوا له و أطيعوا، و لا يجعلن امرؤ على نفسه سبيلاً،فإنّما هو القتل لا غير،و قد برئت الذمة من رجل

ص:595


1- 1) .شرح نهج البلاغة:44/11- 46.

آوى سعيد بن جبير،و السلام.ثمّ التفت إليهم خالد،و قال:و الذي نحلف به، و نحجُّ إليه،لا أجده في دار أحد إلاّ قتلته و هدمت داره و دار كلّ من جاوره و استبحت حرمته،و قد أجّلت لكم فيه ثلاثة أيّام. (1)

ثمّ يُلقى القبض على سعيد بن جبير الذي كان من طلائع الموالين لآل البيت النبوي،و يُسلَّم إلى الحجاج السفّاح الشهير في تاريخ الإسلام الذي قتل عشرات الآلاف من معارضي السلطة،فيقتله.

و هذا هو الإمام الباقر عليه السلام يصف بيئته و المجتمع الذي كان يعيش فيه حيث قال لبعض أصحابه:يا فلان،ما لقينا من ظلم قريش إيانا،و تظاهرهم علينا، و ما لقي شيعتنا و محبونا من الناس...-إلى أن قال-ثمّ لم نزل-أهلَ البيت - نُستذل و نُستضام، و نُقصى و نُمتهن،و نُحرم و نُقتل،و نخاف و لا نأمن على دمائنا و دماء أوليائنا،و وجد الكاذبون الجاحدون،لكذبهم و جحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم،و قضاة السوء و عمال السوء في كلّ بلدة،فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة و رووا عنّا ما لم نقله و ما لم نفعله،ليبغّضونا إلى الناس،و كان عُظم ذلك و كبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة،و قطعت الأيدي و الأرجل على الظنة،و كان من يذكر بحبنا و الانقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله،أو هدمت داره،ثمّ لم يزل البلاء يشتد و يزداد إلى زمان عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسين عليه السلام ثمّ جاء الحجاج فقتلهم كلّ قتلة و أخذهم بكلّ ظنة و تهمة،حتّى انّ الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال شيعة علي. (2)

ص:596


1- 1) .الإمامة و السياسة:47/2،ط مصر. [1]
2- 2) .شرح ابن أبي الحديد:43/11- 44. [2]
محنة الشيعة في العصر العباسي

لقد مارست السلطة العباسية سياسة البطش و القتل و التشريد كنظيرتها السلطة الأموية بل كانت أكثر بطشاً و تنكيلاً،و هذا هو أبو الفرج الاصفهاني يقول في حقّ المتوكل:

كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب،غليظاً في جماعتهم،شديد الغيظ و الحقد عليهم،و سوء الظن و التهمة لهم...و استعمل على المدينة و مكة عمر بن الفرج الرخجي،فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس و منع الناس من البرّ بهم،و كان لا يبلغه انّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء،و إن قل إلاّ أنهكه عقوبة،و أثقله غرماً،حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ثمّ يرقعنه،و يجلسن على مغازلهن عواري حاسرات. (1)

هكذا شاء أمير المؤمنين المتوكل على اللّه،أن تقبع العلويات في بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقّع عند الصلاة،و ان تختال الفاجرات العاهرات بالحلي و حلل الديباج بين الإماء و العبيد...لقد أرسل الرشيد إلى بنات الرسول من يسلب الثياب عن أبدانهن،أمّا المتوكّل فقد شدد و ضيق عليهن،حتّى ألجأهن إلى العري،و هكذا تتطور الفلسفات و المناهج مع الزمن على أيدي القرشيين العرب أبناء الأمجاد و الأشراف!

لقد تفرق العلويون أيام المتوكل،فمنهم من توارى فمات في حال تواريه كأحمد بن عيسى الحسين و عبد اللّه بن موسى الحسيني،و منهم من ثار على القهر

ص:597


1- 1) .مقاتل الطالبيين:395- 396. [1]

و الجور كمحمد بن صالح و محمد بن جعفر.

و لم يكتف المتوكل بالتنكيل بالأحياء،حتّى اعتدى على قبور الأموات فهدم قبر الحسين عليه السلام و ما حوله من المنازل و الدور،و منَع الناس من زيارته و نادى مناديه من وجدناه عند قبر الحسين عليه السلام حبسناه في المطبق-سجن تحت الأرض-فقال الشاعر: تاللّه إن كانت أمية قد أتت

نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة و تتضاءل أُخرى،حسب قوّة الضغط و ضآلته،فشتّان بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت،و يكرم العلويين،و بين عصر المتوكل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة.

فهذا ابن السكيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكل،و قد اختاره معلّماً لولديه فسأله يوماً:أيّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أم الحسن و الحسين؟ قال ابن السكيت:و اللّه إنّ قنبر خادم علي عليه السلام خير منك و من ابنيك.فقال المتوكل:سلّوا لسانه من قفاه،ففعلوا ذلك به فمات.و لما مات سيَّر المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم و قال:هذه دية والدك!! (1)

و هذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته التي يرثي بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي:

ص:598


1- 2) .ابن خلكان:وفيات الأعيان:33/3. [1]الذهبي:سير أعلام النبلاء:16/12.

أ كلّ أوانٍ للنبيّ محمّد

و كان العباسيون أشدّ كرهاً للعلويين من الأمويين،و أعظم بغضاً فأمعنوا فيهم قتلاً و حرقاً و اضطهاداً و تعذيباً،فهذا هو المنصور يُحمل إليه من المدينة كلّ من كان فيها من العلويين مقيدين بالسلاسل و الأغلال،و لما وصلوا إليه حبسهم في سجن مظلم لا يعرف فيه ليل من نهار،و كان إذا مات أحدهم تُرك معهم و أخيراً أمر بهدم السجن عليهم،و في ذلك يقول أحد شعراء الشيعة: و اللّه ما فعلت أمية فيهم معشار ما فعلت بنو العباس

و قال آخر: يا ليت جور بني مروان دام لنا وليت عدل بني العباس في النار (1)

و قال أبو فراس: ما نال منهم بنو حرب و إن عظمت تلك الجرائم إلاّ دون نيلكم

ص:599


1- 2) .الشعر لأبي عطاء السندي.

و قال الشريف الرضي: ألا ليس فعل الأولين و إن علا على قبح فعل الآخرين بزائد

و قال الشيخ الطوسي الذي كان يعيش في عصر ازدهار الخلافة العباسية، و هو يصف حال الشيعة:

لم تلق فرقة و لا بُلي أهل مذهب بما بُليت به الشيعة،حتّى إنّا لا نكاد نعرف زماناً تقدّم سلمت فيه الشيعة من الخوف و لزوم التقية،و لا حالاً عريت فيه من قصد السلطان و عصبيته و ميله و انحرافه. (1)

هذه لمحة خاطفة لمحنة الشيعة في العصر العباسي و قد دام الأمر على هذه الوتيرة في العصور المتأخرة لا سيما في عصر الأيوبيين و العثمانيين.

محنة الشيعة في العصرين:الأيوبي و العثماني

ما إن انتزع صلاح الدين الأيوبي الملك من الفاطميين حتّى قام بعزل القضاة الشيعة و استناب عنهم قضاة شافعية،و أبطل من الأذان«حي على خير العمل»و تظاهر الناس بمذهب مالك و الشافعي،و اختفى مذهب التشيع إلى أن نسي من مصر،و كان يحمل الناس على التسنن و عقيدة الأشعري،و من خالف ضربت عنقه،و أمر أن لا تقبل شهادة أحد و لا يقدم للخطابة و لا للتدريس إلاّ إذا كان مقلداً لأحد المذاهب الأربعة،قال الخفاجي في كتابه «الأزهر في ألف عام» (2)ما نصه:فقد غالى الأيوبيون في القضاء على كلّ أثر للشيعة.

ص:600


1- 1) .الطوسي:تلخيص الشافي:59/2.
2- 2) .الأزهر في ألف عام:58/1. [1]

و أمّا في العصر العثماني فقد تولى السلطان سليم زعامة السنة و استحصل على فتوى من شيوخ السوء بأنّ الشيعة خارجون على الدين يجب قتلهم و لذلك أمر بقتل كلّ من كان معروفاً بالتشيع داخل بلاده.

و بهذا الأمر قُتل في الاناضول وحدها أربعون ألفاً و قيل سبعون،لا لشيء إلاّ لأنّهم شيعة.و جاء في«الفصول المهمة»للسيد شرف الدين انّ الشيخ نوح الحنفي أفتى بكفر الشيعة و وجوب قتلهم،فقتل من جراء هذه الفتوى عشرات الألوف من شيعة حلب حتّى لم يبق فيها شيعي واحد و كان التشيّع فيها راسخاً و منتشراً منذ كانت حلب عاصمة الدولة الحمدانية،و قد نشأ في حلب منذ القديم العديد من كبار العلماء و أئمة الفقه كبني زهرة و آل أبي جرادة و غيرهم ممن جاء ذكرهم في كتب السير و التراجم خاصة كتاب«أمل الآمل». (1)

و قتل العثمانيون الشهيد الثاني المشهور بفضله و ورعه و كتبه العلمية الجليلة التي يدرس بعضها حتّى اليوم في جامعة النجف و قم،و فعل الجزار والي عكا بجبل عامل ما فَعل الحجاج في العراق.

و انتهب الجزار أموال العامليين و مكتباتهم،و كان في مكتبة آل خاتون خمسة آلاف مجلد و بقيت أفران عكا توقد أسبوعاً كاملاً من كتب العامليين،و لم يسلم من ظلم الجزار إلاّ من استطاع الفرار،و في عهده هاجر علماء جبل عامل مشردين في الأقطار،و من هؤلاء الشاعر الشيعي إبراهيم يحيى الذي هرب إلى دمشق،و في نفسه لوعة و حسرة،و ذكرى فظائع الجزار لا تفارقه بحال و قد صورها و هو شاهد عيان في قصائد تدمي الأفئدة و القلوب منها

ص:601


1- 1) .راجع الفصول المهمة:206،الفصل التاسع؛ [1]غنية النزوع:11،المقدمة.

قصيدة طويلة،يقول فيها: يعز علينا أن نروح و مصرنا

هذه لمحة خاطفة لمحنة الشيعة في العصر العثماني،و على الرغم من شيوع الحرية في عصرنا الراهن فلم تزل الشيعة في أكثر نقاط العالم تمارس التقية، و إلاّ يضيق عليها الخناق.

يقول العلاّمة السيّد هبة الدين الشهرستاني:إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية.إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لأنّها مُنيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى،فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأموية كلّه،و في عهد العباسيين على طوله،و في أكثر أيام الدولة العثمانية،و لأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أيّ قوم،و لما كانت الشيعة، تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أُصول الدين و في كثير من الأحكام الفقهيّة،و المخالفة تستجلب بالطبع رقابة و تصدقه التجارب،لذلك أضحت شيعة الأئمّة من آل البيت مضطرّة في أكثر الأحيان إلى كتمان ما تختص به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك،تبتغي بهذا الكتمان،صيانةَ النفس و النفيس،و المحافظة على الوداد و الاخوة مع سائر اخوانهم المسلمين،لئلاّ تنشق عصا الطاعة،و لكي لا يحسّ الكفّار بوجود اختلاف ما في المجتمع الإسلامي فيوسع الخلاف بين الأُمّة المحمدية.

لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقية و تحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الاُخرى،متبعة في ذلك سيرة الأئمّة من آل محمد

ص:602

و أحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل:«التقية ديني و دين آبائي»، إذ أنّ دين اللّه يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية،دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم. (1)

روي عن صادق آل البيت عليهم السلام في الأثر الصحيح:

«التقية ديني و دين آبائي».

لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت عليهم السلام دفعاً للضرر عنهم،و عن أتباعهم،و حقناً لدمائهم،و استصلاحاً لحال المسلمين،و جمعاً لكلمتهم،و لمّاً لشعثهم،و ما زالت سمة تُعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف و الأُمم.و كل إنسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه،أو ماله بسبب نشر معتقده،أو التظاهر به لا بد أن يتكتم و يتقي مواضع الخطر.و هذا أمر تقتضيه فطرة العقول.

من المعلوم أنّ الإمامية و أئمّتهم لاقوا من ضروب المحن،و صنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة،أو أُمّة أُخرى،فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم،و ترك مظاهرتهم،و ستر عقائدهم،و أعمالهم المختصة بهم عنهم،لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا.

و لهذا السبب امتازوا بالتقية و عرفوا بها دون سواهم. (2)

حصيلة البحث

فحصيلة البحث انّ أوساط الشيعة شهدت مجازر بشعه على يد السلطات

ص:603


1- 1) .غافر:28؛النحل:106.
2- 2) .مجلة المرشد:252/3،253و لاحظ تعاليق اوائل المقالات ص 96.

الغاشمة،فقتل الآلاف منهم،و أمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرض إلى شتى صنوف التنكيل و الارهاب و التخويف،و الحقّ يقال:انّ من الأُمور العجيبة أن يبقى لهذه الطائفة باقية رغم كلّ ذلك الظلم الكبير و القتل الذريع بل العجب العجاب أن تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوة وعدة و أقامت دولاً و شيّدت حضارات و برز منها الكثير من العلماء و المفكرين.

فلو كان الأخ السني يرى التقية أمراً محرماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي و أن لا يضيق عليه في الحرية التي سمح بها الإسلام لأبنائه،و ليعذره في عقيدته و عمله كما عذَرَ أُناساً كثيرين خالفوا الكتاب و السنّة و أراقوا الدماء و نهبوا الديار فكيف بطائفة تدين بدينه و تتفق معه في كثير من معتقداته،و إذا كان معاوية و أبناء بيته و العباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم و إراقة دماء مخالفيهم فما ذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين.

و إذا كانوا يقولون-و ذاك هو العجيب-انّ الخروج على الإمام علي عليه السلام غير مضرّ بعدالة الخارجين و الثائرين عليه،و في مقدمتهم طلحة و الزبير و أُمّ المؤمنين عائشة،و إنّ إثارة الفتن في صفّين-التي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة و التابعين و إراقة دماء الآلاف من العراقيين و الشاميين-لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين!! و هم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد و أخطأ،فَلِمَ لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم و لا يذهب إلى أنّهم معذورون و مثابون!!

ص:604

5

الغاية من تشريع التقية

الغاية من التقية:هي صيانة النفس و العرض و المال،و ذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحق صريحاً خوفاً من أن تترتّب على ذلك مضار و تهلكة من قوى ظالمة غاشمة تمارس الارهابَ،و التشريد و النفي،و القتل و التنكيل،و مصادرة الأموال،و سلب الحقوق الحقة،و عندئذٍ لا يجد صاحبُ العقيدة-الذي يرى نفسه محقاً-محيصاً عن إبطانها، و التظاهر بما يوافق هوى الحاكم و توجّهاته حتى يسلم من الاضطهاد و التنكيل و القتل،إلى أن يُحدِث اللّه أمراً.

إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم،سلاح من يُبتلى بمن لا يحترم دمه و عرضه و ماله،لا لشيء إلاّ لأنّه لا يتفق معه في بعض المبادئ و الأفكار.

إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول و العمل، و الرأي و العقيدة فلا ينجو المخالف إلاّ بالصمت و السكوت مُرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة و أفكارها،أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لا بد منها من أجل اغاثة الملهوف المضطهد و المستضعف الذي لا حول له و لا قوة،فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولاً إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون

ص:605

الذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.

إنّ أكثر من يَعيبُ التقية على مستعملها،يتصوّر أو يصوِّر أنّ الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم و التخريب،كما هو المعروف من الباطنيين و الأحزاب الإلحادية السرية،و هو تصوّر خاطئ ذهب إليه أُولئك جهلاً أو عمداً دون أن يرتكزوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يُذكر،و لو لم تستبد الظروف القاهرة و الأحكام المتعسفة بهذه الجموع المستضعفة من المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية، و لما تحمّلوا عبء إخفاء معتقداتهم و لَدَعوا الناس إليها علناً و دون تردّد.

أين العمل الدفاعي بصورة بدائية من الأعمال التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرية للإطاحة بالسلطة و امتطاء منصّة الحكم؟ و هي أعمال كلها تخطيطات مدبّرة لغايات ساقطة.

و هؤلاء هم الذين يحملون شعار«الغايات تبرّر الوسائل»فكل قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشئومة.

إنّ القول بالتشابه بين هؤلاء و بين من يتخذ التقية غطاءً،و سلاحاً دفاعياً ليسلم من شر الغير،حتى لا يُقْتَل و لا يُستأصل،و لا تُنهب داره و ماله،إلى أن يُحدث اللّه أمراً،من قبيل عطف المبائن على مثله.

إنّ المسلمين القاطنين في الاتحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب و المحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها و لا أن تتصورها،فإنّ الشيوعيّين طيلة تسلّطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر المِجَنّ،فصادروا أموالهم و أراضيهم،و مساكنهم،و مساجدهم،و مدارسهم،و أحرقوا مكتباتهم،و قتلوا كثيراً منهم قتلاً ذريعاً و وحشياً،فلم ينج منهم إلاّ من اتقاهم بشيء من التظاهر

ص:606

بالمرونة،و إخفاء المراسيم الدينية،و العمل على إقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم اللّه سبحانه بانحلال تلك القوة الكافرة،فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد،فملكوا أرضهم و ديارهم،و أخذوا يستعيدون مجدهم و كرامتهم شيئاً فشيئاً،و ما هذا إلاّ ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها اللّه تعالى لعباده بفضله و كرمه سبحانه على المستضعفين.

فإذا كان هذا معنى التقية و مفهومها،و كانت هذه غايتَها و هدفَها،فهي أمر فطريّ،يسوق الإنسان إليها قبل كل شيء عقلُه و لبُّه،و تدعوه إليها فطرته، و لأجل ذلك يلوذ بها كل من ابتُلي بالملوك و الساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم و فكرتهم و مطامعهم و سلطتهم و لا يترددون عن التنكيل بكل من يعارضهم في ذلك،من غير فرق بين المسلم-شيعياً كان أم سنيّاً-و غيره، و من هنا تظهر جدوى التقية و عمق فائدتها.

و لأجل دعم هذا الأصل الحيويّ،ندرس دليله من القرآن و السنّة.

ص:607

6

التقية في الكتاب العزيز

شرّعت التقية بنص القرآن الكريم،حيث وردت فيها جملة من الآيات الكريمة (1)سنحاول استعراضها في الصفحات التالية:

الآية الأُولى:

قال سبحانه: «مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ». 2

ترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً و مجاراةً للكافرين خوفاً منهم، بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان،و صرّح بذلك لفيف من المفسرين القدامى و الجُدد،سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم تجنّباً عن الإطالة و الاسهاب،و لمن يبتغي المزيد فعليه مراجعة كتب التفسير المختلفة:

1.قال الطبرسي:قد نزلت الآية في جماعة أُكرهوا على الكفر،و هم عمّار

ص:608


1- 1) .غافر:الآية 28 و 45،و القصص:الآية 20،و ستوافيك نصوص الآيات في ثنايا البحث.

و أبوه ياسر و أُمّه سمية،و قُتلَ الأبوان لأنّهما لم يظهرا الكفر و لم ينالا من النبيّ، و أعطاهم عمّار ما أرادوا منه،فأطلقوه،ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول اللّه، و انتشر خبره بين المسلمين،فقال قوم:كفر عمّار،فقال الرسول:«كلاّ إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه،و اختلط الإيمان بلحمه و دمه».

و في ذلك نزلت الآية السابقة،و كان عمّار يبكي،فجعل رسول اللّه يمسح عينيه و يقول:«إن عادوا لك فعد لهم بما قلت». (1)

2.و قال الزمخشري:روي أنّ أُناساً من أهل مكّة فُتِنُوا فارتدّوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه،و كان فيهم من أُكره و أجرى كلمة الكفر على لسانه و هو معتقد للإيمان،منهم عمّار بن ياسر و أبواه:ياسر و سمية،و صهيب و بلال و خبّاب.

أمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً.... (2)

3.و قال الحافظ ابن ماجة:و الايتاء:معناه الاعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية،و التقية في مثل هذه الحال جائزة،لقوله تعالى: «إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» . (3)

4.و قال القرطبي:قال الحسن:التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة-ثمّ قال:- أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل إنّه لا إثم عليه إن كفر و قلبه مطمئن بالإيمان و لا تَبين منه زوجته و لا يُحكم عليه بالكفر،هذا قول مالك و الكوفيين و الشافعي. (4)

ص:609


1- 1) .مجمع البيان: 388/3.
2- 2) .الكشاف عن حقائق التنزيل:430/2.
3- 3) .ابن ماجة:السنن:53/1،شرح حديث رقم 150.
4- 4) .الجامع لأحكام القرآن:57/4. [1]

5.قال الخازن:التقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل مع سلامة النيّة،قال اللّه تعالى: «إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» ثمّ هذه التقية رخصة. (1)

6.قال الخطيب الشربيني: «إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ» أي على التلفّظ به «وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» فلا شيء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب. (2)

7.و قال إسماعيل حقّي: «إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ» أُجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه...لأنّ الكفر اعتقاد،و الإكراه على القول دون الاعتقاد،و المعنى:«و لكن المكره على الكفر باللسان»، «وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» لا تتغير عقيدته،و فيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند اللّه،هو التصديق بالقلب. (3)

الآية الثانية:

قال سبحانه: «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ» . (4)

و كلمات المفسّرين حول الآية تغنينا عن أي توضيح:

1.قال الطبري: «إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» :قال أبو العالية:التقية باللسان،و ليس بالعمل،حُدّثت عن الحسين قال:سمعت أبا معاذ قال:أخبرنا

ص:610


1- 1) .تفسير الخازن:277/1. [1]
2- 2) .السراج المنير.في تفسير الآية.
3- 3) .تفسير روح البيان:84/5. [2]
4- 4) .آل عمران:28. [3]

عبيد قال:سمعت الضحّاك يقول في قوله تعالى: «إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» قال:

التقيّة باللسان من حُمِلَ على أمر يتكلّم به و هو للّه معصية فتكلم مخافة نفسه «وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» فلا إثم عليه،إنّما التقية باللسان. (1)

2.و قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: «إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» :رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم،و المراد بتلك الموالاة:مخالفة و معاشرة ظاهرة، و القلب مطمئن بالعداوة و البغضاء و انتظار زوال المانع. (2)

3.قال الرازي في تفسير قوله تعالى: «إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» :المسألة الرابعة:

اعلم:أنّ للتقية أحكاماً كثيرة،و نحن نذكر بعضها:

ألف:إنّ التقيّة إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار،و يخاف منهم على نفسه،و ماله،فيداريهم باللسان،و ذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان،بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة و الموالاة،و لكن بشرط أن يضمر خلافه و أن يعرض في كل ما يقول،فإنّ للتقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.

ب:التقيّة جائزة لصون النفس،و هل هي جائزة:لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز،لقوله صلى الله عليه و آله و سلم:«حرمة مال المسلم كحرمة دمه»،و لقوله صلى الله عليه و آله و سلم:«من قتل دون ماله فهو شهيد». (3)

4.و قال النسفي: «إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» إلاّ أن تخافوا جهتهم أمراً يجب اتّقاؤه، أي ألاّ يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك و مالك فحينئذ يجوز لك اظهار الموالاة و إبطان المعاداة. (4)

ص:611


1- 1) .جامع البيان:153/3. [1]
2- 2) .الكشاف:422/1. [2]
3- 3) .مفاتيح الغيب:13/8. [3]
4- 4) .تفسير النسفي [4]بهامش تفسير الخازن:277/1. [5]

5.و قال الآلوسي:و في الآية دليل على مشروعية التقية و عرَّفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء.و العدو قسمان:

الأوّل:من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين،كالكافر و المسلم.

الثاني:من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية،كالمال و المتاع و الملك و الامارة. (1)

6.و قال جمال الدين القاسمي:و من هذه الآية: «إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف،و قد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحق على الخلق). (2)

7.و فسّر المراغي قوله تعالى: «إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» بقوله:أي انّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلاّ في حال الخوف من شيء تتّقونه منهم،فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يتقى ذلك الشيء،إذ القاعدة الشرعية:«إنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح».

و إذا جازت موالاتهم لاتّقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين،إذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة،لفائدة تعود إلى الأُولى،إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة،و ليس لها أن تواليها في شيء يضر المسلمين،و لا تختص هذه الموالاة بحال الضعف،بل هي جائزة في كل وقت.

و قد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق،لأجل التوقّي من ضرر يعود من الأعداء إلى النفس،أو العرض،أو المال.

ص:612


1- 1) .روح المعاني:121/3. [1]
2- 2) .محاسن التأويل:82/4. [2]

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك،و قلبه مطمئن بالإيمان،لا يكون كافراً بل يُعذر كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً و قلبه مطمئن بالإيمان،و فيه نزلت الآية:

«مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ». 1

هذه الجمل الوافية و العبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالاً إلاّ أن يحكم بشرعية التقيّة بالمعنى الذي عرفته،بل قد لا يجد أحد مفسّراً أو فقيهاً وقف على مفهومها و غايتها،و هو يتردد في الحكم بجوازها،كما أنّك-أخي القارئ - لا تجد إنساناً واعياً لا يستعملها في ظروف عصيبة،ما لم تترتّب عليها مفسدة عظيمة،كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها.

و إنّما المعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها،فإنّما يفسّرها بالتقية الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرية و المذاهب الهدّامة كالباطنية و أمثالهم،إلاّ أنّ المسلمين جميعاً بريئون من هذه التقية الهدّامة لكل فضيلة رابية.

الآية الثالثة:

قوله سبحانه: «وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ». 2

و كانت عاقبة أمره أن: «فَوَقاهُ اللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ

ص:613

اَلْعَذابِ». 1

و ما كان ذلك إلاّ لأنّه بتقيّته استطاع أن ينجي نبيّ اللّه من الموت: «قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ». 2

و هذه الآيات تدل على جواز التقية لإنقاذ المؤمن من شرّ عدوّه الكافر.

ص:614

7

اشارة

التقيّة في السنّة النبويّة

دلّت الروايات على أنّ الوجوب و الحرمة ترتفع عند طروء الاضطرار،الذي تعدّ التقية من مصاديقه و أوضح دليل على ذلك هو حديث الرفع الذي رواه الفريقان.

1.روى الصدوق بسند صحيح في خصاله عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«رفع عن أُمّتي تسعة:الخطأ،و النسيان،و ما أُكرهوا عليه، و ما لا يطيقون،و ما لا يعلمون،و ما اضطروا إليه،و الحسد،و الطيرة،و التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة». (1)

إنّ للحديث دوراً في مبحث البراءة و الاشتغال في علم الأُصول،و قد فصلنا الكلام حوله في بحوثنا الأُصولية. (2)

و على كلّ تقدير فالحديث صريح في أنّ الاضطرار يبيح المحظور.

2.روى الكليني بسند صحيح عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السلام،قال:«التقية

ص:615


1- 1) .الخصال:417.
2- 2) .لاحظ إرشاد العقول:347/1- 364. [1]

في كلّ ضرورة،و صاحبها أعلم بها حين تنزل به». (1)

3.روى الكليني عن محمد بن مسلم و زرارة قالوا:سمعنا أبا جعفر عليه السلام يقول:

«التقية في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له». (2)

4.و عن الإمام الصادق عليه السلام انّه قال:«و كلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين فانّه جائز». (3)

5.و عنه عليه السلام انّه قال:«و لا حنث و لا كفّارة على من حلف تقية يدفع بذلك ظلماً عن نفسه». (4)

6.و عنه عليه السلام قال:«و انّ التقية لأوسع ممّا بين السماء و الأرض». (5)

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا الموضوع.

و لك أن تضيف إلى ذلك الاستدلال بالآيات التي رخصت عند الاضطرار، قال تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» 6 و مورد الآية و إن كان الاضطرار لأجل الجوع،و لكن الموضوع هو الاضطرار،سواء أ كان العامل داخلياً كاضطراره إلى أكل الميتة،أو خارجياً قاهراً مُلْزِماً على العمل بالخلاف على نحو لو لم يفعله لأدّى إلى إلحاق الضرر بنفسه و نفيسه.

التقية في كلمات العلماء

1.قال ابن عباس:التقيّة باللسان و القلب مطمئن بالإيمان و لا يبسط يده

ص:616


1- 1) .الوسائل:11،الباب25 من أبواب الأمر و النهي،الحديث1. [1]
2- 2) .الوسائل:11،الباب25 من أبواب الأمر و النهي،الحديث2. [2]
3- 3) .الكافي:168/2. [3]
4- 4) .الخصال:607.
5- 5) .بحار الأنوار:412/75. [4]

للقتل. (1)

2.قال الحسن البصري:التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلاّ في قتل النفس. (2)

3.و قال الرازي:تجوز التقية لصون المال على الأصح كما يجوز صون النفس. (3)

4.و قال السيوطي:يجوز أكل الميتة في المخمصة و إساغة اللقمة في الخمر، و التلفظ بكلمة الكفر،و لو عمّ الحرام قطراً بحيث لا يوجد فيه حلال إلاّ نادراً فانّه يجوز استعمال ما يحتاج إليه. (4)

و قد أنكر الشاطبي على الخوارج إنكارهم التقية في القول و الفعل،و عدّها من جملة مخالفاتهم للكليات الشرعية أصلية أو عملية. (5)

5.و قال الطوسي:و التقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس،و قد روي رخصة في جواز الإفصاح بالحق عنده. (6)

6.و قال العلاّمة الطباطبائي:الكتاب و السنّة متطابقان في جوازها في الجملة، و الاعتبار العقلي يؤيده،إذ لا بغية للدين و لا همَّ لشارعه إلاّ ظهور الحقّ و حياته،و ربما يترتّب على التقية و المجاراة مع أعداء الدين و مخالفي الحقّ حفظ مصلحة الدين و حياة الحق ما لا يترتب على تركها و إنكار ذلك مكابرة و تعسف. (7)

ص:617


1- 1) .فتح الباري:279/12.
2- 2) .تفسير النيسابوري في هامش الطبري:178/3.
3- 3) .التفسير الكبير:13/8. [1]
4- 4) .الأشباه و النظائر:76.
5- 5) .الموافقات:180/4.
6- 6) .التبيان:435/2. [2]
7- 7) .الميزان:153/3. [3]
مجال التقية هو الأُمور الشخصية

عُرِفَتِ الشيعة بالتقية و أنّهم يتّقون في أقوالهم و أفعالهم،فصار ذلك مبدأ لوهمٍ عَلِقَ بأذهان بعض السطحيين و المغالطين،فقالوا:بما أنّ التقية من مبادئ التشيّع فلا يصح الاعتماد على كلّ ما يقولون و يكتبون و ينشرون،إذ من المحتمل جداً أن تكون هذه الكتب دعاياتٍ و الواقع عندهم غيرها.هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرّة،و يكرّره الكاتب الباكستاني«إحسان إلهي ظهير» في كتبه السقيمة التي يتحامل بها على الشيعة.

و لكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقية إنّما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس و النفيس،فإذا دلّت القرائن على أنّ في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت ما يُلحق بالمؤمن الضرر،يُصبح هذا المورد من مواردها،و يحكم العقل و الشرع بلزوم الاتقاء حتى يصون بذلك نفسه و نفيسه عن الخطر.و أمّا الأُمور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصوّر فيها التقية،و الكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الأخير،إذ لا خوف هناك حتى يكتب خلاف ما يعتقد،حيث ليس هناك أيُّ مُلْزم للكتابة أصلاً في هذه الأحوال فله أن يسكت و لا يكتب شيئاً.

فما يدعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشئ عن قلّة معرفتهم بحقيقة التقية عند الشيعة.

و الحاصل:أنّ الشيعة إنّما كانت تتّقي في عصر لم تكن لهم دولة تحميهم،و لا قدرة و لا منعة تدفع عنهم الأخطار.و أمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ و لا مبرّر للتقية

ص:618

إلاّ في موارد جزئيّة خاصة.

إنّ الشيعة كما ذكرنا لم تلجأ إلى التقية إلاّ بعد أن اضطرّت إلى ذلك،و هو حق لا أعتقد أنّ أحداً ينظر إلى الاُمور بلبّه لا بعواطفه يخالفها فيه،إلاّ أنّ من الأُمور المسلّمة في تاريخ التشيّع،كثرة التقية على مستوى الفتاوى،و أمّا على المستوى العمليّ فالشيعة من أكثر الناس تضحية،و بوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية و غيره من الحكّام الأمويين، و الحكام العباسيين،أمثال حجر بن عدي،و ميثم التمار،و رشيد الهجري، و كميل بن زياد،و مئات من غيرهم،و كمواقف العلويين على امتداد التاريخ و ثوراتهم المتتالية و قد مرّ تفصيله في بعض الفصول.

ص:619

8

أقسام التقية

تنقسم التقية حسب انقسام الأحكام إلى خمسة،و المهم هو الإشارة إلى الأقسام الثلاثة:

1.التقية الواجبة:و هي ما كانت لدفع الخوف على نفس أو عرض محترمين، أو ضرر لا يتحمل عن نفسه أو غيره من المؤمنين.

2.التقية المندوبة:و هي ما كانت لدفع ما يرجح دفعه من ضرر يسير يتحمّل عادة،سواء تعلق بنفسه أو بغيره.

3.التقية المحرمة و هي ما يترتّب عليها مفسدة أعظم،كهدم الدين و خفاء الحقيقة على الأجيال الآتية،و تسلّط الأعداء على شئون المسلمين و حرماتهم و معابدهم،و لأجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقية في بعض الأحيان و قدّموا أنفسهم و أرواحهم أضاحي من أجل الدين، فللتقية مواضع معينة،كما أنّ للقسم المحرم منها مواضع خاصة أيضاً.

إنّ التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتى يزول الخطر،فهي أفضل السبل للخلاص من البطش،و لكن ذلك لا يعني أنّ الشيعي جبان خائر العزيمة،خائف متردّد الخطوات يملأ حناياه الذل،كلاّ إنّ للتقية حدوداً لا

ص:620

تتعداها،فكما هي واجبة في حين،هي حرام في حين آخر،فالتقية أمام الحاكم الجائر كيزيد بن معاوية مثلاً محرّمة،إذ فيها الذل و الهوان و نسيان المُثُل و الرجوع إلى الوراء،فليست التقية في جوازها و منعها تابعة للقوّة و الضعف،و إنّما تحددها جوازاً و منعاً مصالح الإسلام و المسلمين.

إنّ للإمام الخميني قدس سره كلاماً في المقام ننقله بنصّه حتى يقف القارئ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة و ربّما تحرم لمصالح عالية.قال قدس سره:

تحرم التقية في بعض المحرّمات و الواجبات التي تمثّل في نظر الشارع و المتشرّعة مكانة بالغة،مثل هدم الكعبة،و المشاهد المشرّفة،و الرد على الإسلام و القرآن و التفسير بما يفسد المذهب و يطابق الإلحاد و غيرها من

ص:621

عظائم المحرّمات،و لا تعمّها أدلة التقية و لا الاضطرار و لا الإكراه.

و تدلّ على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة و فيها:«فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز». (1)

و من هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن و أهمية في نظر الخلق،بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرّمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب و هاتكاً لحرمه،كما لو أُكره على شرب المسكر و الزنا مثلاً،فإنّ جواز التقية في مثله متمسّكاً بحكومة دليل الرفع (2)و أدلّة التقية مشكل بل ممنوع،و أولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية،ما لو كان أصل من أُصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال و الهدم و التغيير،كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الإرث و الطلاق و الصلاة و الحج و غيرها من أُصول الأحكام فضلاً عن أُصول الدين أو المذهب،فإنّ التقية في مثلها غير جائزة،ضرورة أنّ تشريعها لبقاء المذهب و حفظ الاُصول و جمع شتات المسلمين لإقامة الدين و أُصوله،فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية،و هو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة. (3)

و على ضوء ما تقدّم،نخرج بالنتائج التالية:

1.إنّ التقية أصل قرآني مدعم بالسنّة النبوية،و قد عمل بها في عصر الرسالة من ابتلي من الصحابة،لصيانة نفسه،فلم يعارضه الرسول،بل أيّده بالنص القرآني كما في قضية عمّار بن ياسر،حيث أمره صلى الله عليه و آله و سلم بالعودة إذا عادوا.

2.انّ التقيّة ليست بمعنى تشكيل جماعات سرية لغاية التخريب و الهدم، و هذا لا يمت إلى التقية بصلة.

3.اتّفق المفسّرون عند التعرّض لتفسير الآيات الواردة في التقية على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية.

4.تنقسم التقية حسب انقسام الأحكام إلى أقسام خمسة،فبينما هي واجبة في موضع،تجدها محرّمة في موضع آخر.

5.إنّ مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية،و هي فيما إذا كان الخوف قائماً،و أمّا إذا ارتفع الخوف و الضغط،فلا مجال للتقية.

و في ختام هذا البحث نقول:

نفترض أنّ التقية جريمة يرتكبها المتقي لصيانة دمه و عرضه و ماله،و لكنّها في الحقيقة ترجع إلى السبب الذي يفرض التقيّة على الشيعي المسلم و يدفعه إلى أن

ص:622


1- 1) .الوسائل:10،الباب25 من أبواب الأمر و النهي،الحديث8. [1]
2- 2) .الوسائل:10،الباب56 من أبواب جهاد النفس،الحديث1.
3- 3) .رسالة في التقية مطبوعة ضمن الرسائل العشر:14،باب حول موارد استثنيت من الأدلّة.

يتظاهر بشيء من القول و الفعل الذي لا يعتقد به،فعلى من يعيب التقية للمسلم المضطهد،أن يسمح له بالحرية في مجال الحياة و يتركه بحاله، و أقصى ما يصح في منطق العقل،أن يسأله عن دليل عقيدته و مصدر عمله، فإن كان على حجّة بيّنة يتبعه،و إن كان على خلافها يعذره في اجتهاده و جهاده العلمي و الفكري.

نحن ندعو المسلمين للتأمّل في الدواعي التي دفعت بالشيعة إلى التقية،و أن يعملوا قدر الإمكان على فسح المجال لإخوانهم في الدين فإنّ لكل فقيه مسلم،رأيَه و نظرَه،و جهدَه و طاقتَه.

إنّ الشيعة يقتفون أثر أئمّة أهل البيت في العقيدة و الشريعة،و يرون رأيهم، لأنّهم هم الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً،و أحد الثقلين اللّذين أمر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالتمسّك بهما في مجالي العقيدة و الشريعة،و هذه عقائدهم لا تخفى على أحد،و هي حجّة على الجميع.

نسأل اللّه سبحانه،أن يصون دماء المسلمين و أعراضهم عن تعرض أي متعرض،و يوحّد صفوفهم،و يؤلّف بين قلوبهم،و يجمع شملهم،و يجعلهم صفّاً واحداً في وجه الأعداء،إنّه على ذلك قدير و بالإجابة جدير.

ص:623

9

اشارة

شبهات حول التقية

لقد تعرفت على حقيقة التقية:لغة و اصطلاحاً و تاريخاً،كما تعرفت على أدلّتها من الكتاب و السنّة و ظهر انّ سيرة المسلمين جرت على ممارسة التقية عند الشدة،و بقيت ثَمّة شبهات تدور حول التقية،نطرحها على طاولة البحث.

الشبهة الأُولى:التقية من شعب النفاق

إذا كانت التقية إظهارَ ما يُضمر القلبُ خلافَه أو ارتكاب عمل يخالف العقيدة،فهي إذن شعبة من شعب النفاق،لأجل انّ النفاق عبارة عن التظاهر بشيء على خلاف العقيدة.

و الجواب عنها واضح:لأنّ مفهوم التقية في الكتاب و السنّة هو إظهار الكفر و إبطان الايمان،أو التظاهر بالباطل و إخفاء الحق،و إذا كان هذا مفهومها،فهي تقابل النفاق،تقابلَ الإيمان و الكفر،فانّ النفاق ضدها و خلافها،فهو عبارة عن إظهار الإيمان و إبطان الكفر،و التظاهر بالحق و إخفاء الباطل،و مع وجود هذا التباين بينهما فلا يصحّ عدّها من فروع النفاق.

و بعبارة أُخرى:انّ النفاق في الدين ستر الكفر بالقلب،و إظهار الإيمان

ص:624

باللسان،و أين هذا من التقية التي هي على العكس تماماً «إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» فهي إظهار الكفر و إخفاء الإيمان و ستره بالقلب،و أمّا تقية الشيعة فهي تَكْمُنُ في إخفاء الاعتقاد بالإمامة و الولاية لأهل البيت عليهم السلام يعني ستر التشيع مع التظاهر بموافقة الآخرين في عقيدتهم تجاه الإمامة و في الوقت نفسه يشاركون المسلمين في الشهادتين و الإيمان بالقيامة،و يمارسون العبادات و يعملون بالفروع و يعتقدون ذلك بقلوبهم و يعيشون هذه العقيدة بوجدانهم و بأرواحهم.

نعم من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن و به صوّر التقية-الواردة في الكتاب و السنّة-من فروعه،فقد فسره بمفهوم أوسع ممّا هو عليه في القرآن، فانّه يعرف المنافقين بالمتظاهرين بالإيمان و المبطنين للكفر بقوله تعالى:

«إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» 1 فإذا كان هذا حدّ المنافق فكيف يعمّ من يستعمل التقية تجاه الكفار و العصاة فيُخفي إيمانه أو عقيدته في ولاء أهل البيت و يظهر الموافقة لغاية صيانة النفس و النفيس و العرض و المال من التعرض؟!

و يظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الإسلامي،و لو كانت من قسم النفاق،لكان ذلك أمراً بالقبيح و يستحيل على الحكيم أن يأمر به «قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» . (1)

ص:625


1- 2) .الأعراف:28. [1]
الشبهة الثانية:لما ذا عُدَّت التقية من أُصول الدين؟

قد نقل عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام انّهم قالوا:التقية ديني و دين آبائي،و لا دين لمن لا تقية له. (1)

و ظاهر هذه الروايات انّ الاعتقاد بالتقية و تطبيق العمل على ضوئها من أُصول الدين فمن لم يتق فقد خرج عن الدين و ليس له من الإيمان نصيب.

يلاحظ عليه:بأنّ التقية من الموضوعات الفقهية،تخضع كسائر الموضوعات للأحكام الخمسة،فتارة تجب و أُخرى تحرم،و ثالثة...،و معه كيف يمكن أن تكون من أُصول الدين،و قد ذكرها فقهاء الشيعة في باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و أمّا الروايات التي عدتها من الدين فهي من باب الاستعارة و غايتها التأكيد على أهميتها و تطبيقها في الحياة لصيانة النفس و النفيس،و بما انّ بعض الشيعة كانوا يجاهرون بعقائدهم و شعائرهم،الأمر الذي يؤدّي إلى إلقاء القبض عليهم و تعذيبهم و إراقة دمائهم،فالإمام و للحيلولة دون وقوع ذلك يقول بأنّ (التقية ديني و دين آبائي) لحثّهم على الاقتداء بهم،و أمّا ما ورد في الحديث«لا دين لمن لا تقيّة له»فالغاية التأكيد على الالتزام بالتقيّة،نظير قوله:

لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد.

و بعبارة أُخرى:ليس المراد من الدين هو الأُصول العامة كالتوحيد و النبوة و المعاد التي بالاعتقاد بها يرد إلى حظيرة الإسلام و بإنكارها أو إنكار واحد منها أو إنكار ما يلازم إنكار أحد الأُصول الثلاثة يخرج عنها،و إنّما المراد به هو الشأن

ص:626


1- 1) .الوسائل:10،الباب24 من أبواب الأمر بالمعروف،الحديث3،22. [1]

الذي يتعبد به الإمام و يعمل بدين اللّه،فقوله:«التقية ديني و دين آبائي»أي هو من شئوننا أهل البيت عليهم السلام فاقتدوا بنا،و أمّا من يتصور انّ التقية تمس كرامته فهو إنسان جاهل خارج عن هذا الشأن الذي عليه تدين الأئمة به.

الشبهة الثالثة:التقية تؤدي إلى محق الدين

إذا مارست جماعةٌ التقية فترة طويلة في أُصول الدين و فروعه،ربما يتجلى للجيل المقبل بأنّ ما مارسه آباؤهم من صميم الدين و واقعه،فعند ذلك تنتهي التقية إلى محق الدين و اندثاره.

يلاحظ عليه:أنّ الظروف مختلفة و ليست على منوال واحد،فربما يشتد الضغط فلا يجد المحقّ مجالاً للإعراب عن رأيه و عقيدته و شريعته،و قد تتبدّل الظروف إلى ظروف مناسبة تسمح بممارسة الشعائر بكلّ حرية،و قد عاشت الشيعة بين الحين و الآخر في هذه الظروف المختلفة،و بذلك صانت أُصولها و فروعها و ثقافتها و اللّه سبحانه هو المعين لحفظ الدين و شريعته.

و بعبارة أُخرى:انّ للتقية سيطرة على الظاهر دون الباطن،فالأقلّية التي صودرت حرياتها يمارسونها في الظاهر،و أمّا في المجالس الخاصة فيقومون بواجبهم على ما هو عليه و يربّون أولادهم على وفق التعاليم التي ورثوها عن آبائهم عن أئمتهم.

و لو افترضنا انّ مراعاة التقية فترة طويلة تنتهي إلى محق الدين فالتقية عندئذٍ تكون محرمة يجب الاجتناب عنها.و قد مرّ انّ التقية لها أحكام خمسة، فالتقية المنتهية إلى محق الدين محظورة.

ص:627

الشبهة الرابعة:التقية تؤدي إلى تعطيل الأمر بالمعروف

إنّ التقية فكرة تحوّل المسلم إلى إنسان يتعايش مع الأمر الواقع على ما فيه من ظلم و فساد و انحراف،فتعود إلى الرضا بكلّ ما يحيط بها من الظلم و الفساد و الانحراف.

يلاحظ عليه:أنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مشروط بالتمكن منه، فمرتبة منه وظيفة الفرد و هو الأمر بالمعروف بكراهية القلب و اللسان، و مرتبة منه وظيفة المجتمع و على رأسه الدولة صاحبة القدرة و المنعة، فالممارس للتقية يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر حسب مقدرته و لو لا القدرة فلا حكم عليه،لأنّ اللّه سبحانه لا يكلف نفساً إلاّ وسعها.

و مع ذلك فالممارس للتقية يتحيّن الفرص للانقضاض على الواقع الفاسد و تغييره،فلو ساعدته الظروف على هذا التغيير فحينها يتخلّى عن التقية و يجاهر بالحقّ قولاً و عملاً.

الشبهة الخامسة:التقية من المسلم من البدع

ربما يتصور انّ التقية من اختلاقات الشيعة و انّها لا دليل عليها من الكتاب و السنّة،و ذلك لأنّ الآيات الواردة في التقية ترجع إلى اتّقاء المسلم من الكافر،و أمّا اتّقاء المسلم من المسلم فهذا ما لا دليل عليه من الكتاب و السنة.

الجواب

إنّ مورد الآيات و إن كان هو اتّقاء المسلم من الكافر،و لكن المورد ليس بمخصّص لحكم الآية فقط،إذ ليس الغرض من تشريع التقية عند الابتلاء

ص:628

بالكفار إلاّ صيانة النفس و النفيس من الشر،فإذا ابتُلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع و لا يتردد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر،كأن ينكل به أو ينهب أمواله أو يقتله،ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة النفس و النفيس عن طريق كتمان العقيدة و استعمال التقية،و لو كان هناك وزر فإنّما يحمله من يُتّقى منه لا المتّقي.و نحن نعتقد أنّه إذا سادت الحرية جميع الفرق الإسلامية،و تحمّلت كل فرقة آراء الفرقة الأُخرى لوقفت على أنّ الرأي الآخر هو نتيجة اجتهادها، و عندها لا يضطر أحد من المسلمين إلى استخدام التقية،و لساد الوئام مكان النزاع.

و قد فهم ذلك لفيف من العلماء و صرّحوا به،و إليك نصوص بعضهم:

1.قال الشافعي:تجوز التقية بين المسلمين كما تجوز بين الكافرين محاماة عن النفس. (1)

2.يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه: «إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» :ظاهر الآية يدل على أنّ التقية إنّما تحل مع الكفّار الغالبين،إلاّ أنّ مذهب الشافعي - رضي اللّه عنه:أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين و الكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس،و قال:التقية جائزة لصون النفس، و هل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«حرمة مال المسلم كحرمة دمه»،و قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«من قتل دون ماله فهو شهيد» . (2)

3.ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه«إيثار الحق على الخلق»ما نصّه:و زاد الحق غموضاً و خفاءً أمران:أحدهما:خوف

ص:629


1- 1) .تفسير النيسابوري في هامش تفسير الطبري:178/3. [1]
2- 2) .مفاتيح الغيب:13/8 [2] في تفسير الآية.

العارفين-مع قلّتهم-من علماء السوء و سلاطين الجور و شياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن،و إجماع أهل الإسلام،و ما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق،و لا برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق،و قد صحّ عن أبي هريرة-رضي اللّه عنه أنّه قال-في ذلك العصر الأوّل -:حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعاءين،أمّا أحدهما فبثثته في الناس،و أمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. (1)

4.و قال المراغي في تفسير قوله سبحانه: «مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» :و يدخل في التقية مداراة الكفرة و الظلمة و الفسقة،و إلانة الكلام لهم،و التبسّم في وجوههم،و بذل المال لهم،لكف أذاهم و صيانة العرض منهم،و لا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها،بل هو مشروع،فقد أخرج الطبراني قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة». (2)

إنّ الشيعة تتقي الكفّار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتّقيهم السنّي،غير أنّ الشيعي و لأسباب لا تخفى،يلجأ إلى اتّقاء أخيه المسلم لا لتقصير في الشيعي،بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك،لأنّه يدرك أنّ الفتك و القتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الذي هو عنده موافق لاُصول الشرع الإسلامي و عقائده،نعم كان الشيعي و إلى وقت قريب يتحاشى أن يقول:إنّ اللّه ليس له جهة،أو أنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة،و إنّ المرجعية العلمية و السياسية لأهل البيت بعد رحلة النبي الأكرم،أو أنّ حكم المتعة غير منسوخ.

إنّ الشيعي إذا صرّح بهذه الحقائق-التي استنبطت من الكتاب و السنّة سوف يُعرّض نفسه و نفيسه للمهالك و المخاطر.و قد مرّ عليك كلام الرازي و جمال الدين القاسمي و المراغي الصريح في

ص:630


1- 1) .محاسن التأويل:82/4. [1]
2- 2) .تفسير المراغي:136/3. [2]

جواز هذا النوع من التقية،فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب،جمود على ظاهر الآية وسد لباب الفهم،و رفض للملاك الذي شُرّعت لأجله التقية،و إعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهم إذا عارض المهم.

و قد مرّ الكلام عن لجوء جملة من كبار المحدّثين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تؤدي بحياتهم و بما يملكون،و خير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه (1)عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة و المحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً و قد علموا انّ إنكاره يستعقب قتل الجميع دون رحمة،و لما أبصر أُولئك المحدّثون لَمَعان،حد السيف عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه و أسرّوا معتقدهم في صدورهم،و لمّا عُوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أُكره على الشرك و قلبه مطمئن بالإيمان،و القصّة شهيرة و صريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض بالتشنيع فيها على الشيعة و كأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد و أُصول إسلامية ثابتة و معلومة.

ص:631


1- 1) .تاريخ الطبري:195/7-206.

10الآثار البنّاءة للتقية

اشارة

إذا ساد الاستبداد المجتمع الإنساني و صودرت فيه الحريات و هُضمت فيه الحقوق و أُخمدت فيه أصوات الأحرار،فحينئذٍ لا تجد الأقلية المهضومة، حيلة سوى اللجوء إلى التقية و التعايش مع الأمر الواقع،و هذا الأمر و ان يتلقّاه البعض أمراً مرغوباً عنه،و لكن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام-كما سيوافيك كلامه - يصفه بأنّه رخصة من اللّه تفضّل اللّه بها على المؤمنين.كيف و قد يترتّب على ممارسة التقية آثار بنّاءة تتلخّص في الأُمور التالية:

1.حفظ النفس و النفيس

إنّ ممارسة التقية و المداراة مع الظالم المستبد يصون الأقلية من البطش و الكبت و القتل و مصادرة الأموال بخلاف عدم ممارستها فانّه يعرِّضها للقتل و الفناء،و لذلك يعبر عنها بالترس و الجُنّة،قال الإمام الصادق عليه السلام:«إنّ التقية ترس المؤمن،و لا إيمان لمن لا تقية له». (1)

و قال عليه السلام:«كان أبي يقول:و أي شيء أقرّ لعيني من التقية،انّ التقية جُنّة المؤمن». (2)

ص:632


1- 1) .الوسائل:11،الباب24 من أبواب الأمر بالمعروف،الحديث4و6. [1]
2- 2) .الوسائل:11،الباب24 من أبواب الأمر بالمعروف،الحديث4و6. [2]

روى شيخنا المفيد قال:كتب علي بن يقطين (الوزير الشيعي للرشيد) إلى الإمام الكاظم عليه السلام يسأله عن الوضوء؟ فكتب إليه أبو الحسن عليه السلام:«فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء،و الذي آمرك به في ذلك أن تمضمض ثلاثاً،و تستنشق ثلاثاً،و تغسل وجهك ثلاثاً،و تخلّل شعر لحيتك،و تغسل يديك من أصابعك إلى المرفقين ثلاثاً،و تمسح رأسك كلّه،و تمسح ظاهر أُذنيك و باطنهما،و تغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً،و لا تخالف ذلك إلى غيره.

فلمّا وصل الكتاب إلى علي بن يقطين تعجب مما رسم له أبو الحسن عليه السلام فيه ممّا أجمع العصابة على خلافه،ثمّ قال:مولاي أعلم بما قال:و أنا أمتثل أمره، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد،و يخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالاً لأمر أبي الحسن عليه السلام،و سُعِيَ بعلي بن يقطين إلى الرشيد،و قيل:إنّه رافضي، فامتحنه الرشيد من حيث لا يشعر،فلمّا نظر إلى وضوئه ناداه:كذب يا علي بن يقطين من زعم أنّك من الرافضة،و صلحت حاله عنده،و ورد عليه كتاب أبي الحسن عليه السلام:«ابتدأ من الآن يا علي بن يقطين و توضّأ كما أمرك اللّه تعالى،اغسل وجهك مرة فريضة و أُخرى إسباغاً و اغسل يديك من المرفقين كذلك،و امسح بمقدم رأسك و ظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك،فقد زال ما كنّا نخاف منه عليك،و السلام». (1)

ترى أنّ الإمام أنقذ علي بن يقطين من الموت من خلال أمره بالتقية و كم له في التاريخ من نظير،و كفى شاهداً قصة عمّار و أبيه و أُمّه المتقدّمة.

ص:633


1- 1) .الوسائل:1،الباب32 من أبواب الوضوء،الحديث3. [1]
2.حفظ وحدة الأُمّة

لا شكّ انّ وحدة الكلمة هي مصدر قوة الأُمّة و ازدهارها،و هي حبل اللّه الوثيق الذي لا بدّ من الاعتصام به،حيث قال في محكم كتابه: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا». 1

فقد عدّ سبحانه التفريق و التشرذم و التشتت عذاباً يستأصل الأُمّة و يستنفد قواها،قال سبحانه: «قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» . (1)

إلى غير ذلك من الآيات الحاثّة على الوحدة و المحذِّرة من التفرق و التبدد.

و تشريع التقية يعين على الوحدة و يمسك الأُمة عن التبدد،فلذلك يصفها الإمام بأنّها«رخصة تفضّل بها اللّه على المؤمنين رحمة لهم».

و هذا لا يعني الإفراط في ممارسة التقية حتّى إذا توفرت الفرص المناسبة للتعبير عن رأيه و منهجه،فعند ذلك تحرم التقية،لأنّه يترتب عليها طمس الدين و كتمان الحقيقة.

3.الحفاظ على القوى من الاستنزاف

إنّ الجماعة المهضومة،بممارسة التقية تحمي قواها و طاقاتها من الاستنزاف، و بالتالي تربّي جماعة واعية لأهدافها،فإذا هبّ على مجتمعها نسيم الحرية فيتيسّر عندها أن تُجاهر بأفكارها و آرائها دون أي خوف أو وجل و تطالب بحقوقها،و هذا من آثار التقية حيث صانت الجماعة الضعيفة من استنزاف قواها.

ص:634


1- 2) .الأنعام:65. [1]

و بما انّ هذه الآثار البنّاءة تعبير واضح للرحمة،التي أشار إليها الإمام أمير المؤمنين،نأتي بنص كلمته:

روى الشريف المرتضى في رسالة«المحكم و المتشابه»نقلاً عن«تفسير النعماني»عن علي عليه السلام أنّه قال:«و انّ اللّه منّ على المؤمن بإطلاق الرخصة له عند التقية في الظاهر،أن يصوم بصيامه و يفطر بإفطاره و يصلّي بصلاته و يعمل بعمله و يظهر له استعمال ذلك،موسعاً عليه فيه،و عليه أن يدين اللّه تعالى في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الأُمّة،فهذه رخصة تفضّل اللّه بها على المؤمنين رحمة لهم ليستعملوها عند التقية في الظاهر». (1)

و الحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات

ص:635


1- 1) .الوسائل:1،الباب 25 من أبواب مقدمة العبادات،الحديث1. [1]

ص:636

الفصل السادس:في الحديث و التراجم

اشارة

1.الاستنارة بالتاريخ لكشف الخطأ في الحديث

2.الإمام شرف الدين باحثاً و مجاهداً و داعية للإصلاح و الوفاق

3.حياة المحقّق اللاهيجي و آراؤه و تصانيفه

4.الخطوط البارزة في الحياة العلمية للشهيد المطهري

ص:637

ص:638

بسم اللّه الرحمن الرحيم

1

اشارة

الاستنارة بالتاريخ لكشف الخطأ في الحديث

نشرت مجلة بصائر الرباط في عددها الأوّل من السنة الأُولى،الصادر في محرّم عام 1426ه،مقالاً بقلم الدكتور عبد الكريم عكيوي بعنوان:«علم الرجال و فائدته»تناول فيه بيان فائدة علم الرجال في تقويم المعرفة الإسلامية و ترشيد الحياة البشرية....

و ممّا لفت نظرنا في هذا المقال هو مسألة اكتشاف كذب الرواة عن طريق التاريخ،و قد استشهد بقول النووي:«لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ».

يقول الكاتب في هذا الصدد:فالمحدّثون عند ما ينظرون في حديث الرجل يستحضرون زمانه و عمره،من مولده إلى وفاته،و بلده و رحلاته و البلدان الّتي دخلها و من لقيه بها من الشيوخ و الأقران و أخبار شيوخه و أقرانه و تواريخهم و رحلاتهم،و كثيراً ما يكتشفون كذب الراوي باعتبار ذلك. (1)

ص:639


1- 1) .مجلة بصائر الرباط:العدد106/1.

لا شكّ انّ السنّة النبوية هي المصدر الثاني للعقيدة و الشريعة،و انّ المسلمين بذلوا جهودهم لجمع ما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم من قول أو فعل أو تقرير بنحو لا مثيل له في الأُمم السابقة.

و لكن هذا لم يكن مانعاً من وضع ضوابط لتمييز الصحيح من السنّة عن السقيم، و قد لجأ الأكثرون في تمحيص السنّة المتداولة إلى سبيل النقاش في مسانيد الحديث و رجاله و خرجوا بنتائج باهرة و صار التوفيق حليفاً لهم إلى حدّ ما.

و هناك طريق آخر للتمحيص،و هو جمع القرائن و الشواهد من طرق مختلفة لبيان موقع الحديث من حيث الصحّة و الكذب.

و من هذه القرائن ما ذكره الدكتور عبد الكريم-حفظه اللّه-في مقالته و هو اكتشاف كذب الراوي عن طريق التاريخ.

و قد مثّل لذلك بانموذجين لا نريد تكرارهما،و لأجل تعزيز هذه القاعدة و توسيع نطاقها نأتي بمثالين آخرين ثمّ نعرضهما على صعيد البحث.و لكن لا نعبّر بما ذكر الدكتور:اكتشاف كذب الراوي بالتاريخ،بل نقول:اكتشاف تسرّب الخطأ إلى الحديث و طروء العلّة عليه بعرضه على التاريخ.

النموذج الأوّل

اشارة

أخرج البخاري عن عروة أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم خطب عائشة إلى أبي بكر فقال له أبو بكر:إنّما أنا أخوك،فقال له:إنّما أنت أخي في دين اللّه و كتابه،و هي لي حلال. (1)

و لإيضاح تسرب الخطأ نذكر أمرين:

ص:640


1- 1) .صحيح البخاري:5/7،باب تزويج الصغار و الكبار من كتاب النكاح،الباب الحادي عشر،الحديث 5081.
1.النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تزوج بعائشة في مكّة

تزوج النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعائشة في مكّة المكرمة و هي بنت ستّ سنين.

روى البخاري عن عروة عن أبيه عن عائشة:إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تزوجها و هي بنت ست سنين،و بنى بها و هي بنت تسع سنين،و أُنبئت أنّها كانت عندهُ تسع سنين.و في رواية:و مكثت عنده تسعاً. (1)

و بما أنّها مكثت عند النبي تسع سنين،فقد بنى بها النبي في السنة الثانية من الهجرة،و على هذا فالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تزوّجها في مكّة المكرّمة بعد وفاة السيّدة خديجة بعامٍ،يتراوح بين الحادي عشر و الثاني عشر من البعثة.

يقول الذهبي في«تاريخ الإسلام»:قال أبو أسامة عن هشام عن أبيه،قال:

توفّيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة بثلاث سنين فلبث سنتين أو قريباً من ذلك،و نكح عائشة و هي بنت ست سنين،ثمّ بنى بها و هي ابنة تسع. (2)

2.النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم آخى بين المسلمين في المدينة

آخى النبي صلى الله عليه و آله و سلم بين المهاجرين و الأنصار في المدينة المنوّرة،فآخى كلاً مع الآخر على أساس المشاكلة في الدرجات و النفسيّات.

قال ابن هشام:و آخى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين أصحابه من المهاجرين و الأنصار فآخى بين حمزة بن عبد المطلب و زيد بن حارثة،و بين الزبير و عبد اللّه بن مسعود،و بين عثمان بن عفان و أوس بن ثابت،و بين طلحة بن عبيد اللّه و كعب بن مالك،

ص:641


1- 1) .صحيح البخاري:1319-1320،كتاب النكاح،باب إنكاح الرجل ولده الصغار،الحديث 5133 و 5134 دار الفكر،بيروت-1424ه.
2- 2) .تاريخ الإسلام:282، [1]قسم السيرة النبوية. [2]

و بين سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل و أُبي بن كعب،و بين مصعب بن عمير و أبي أيوب خالد بن يزيد،و بين أبي حذيفة عتبة بن ربيعة و عباد بن بشر، و بين عمار بن ياسر و حذيفة اليماني،و بين أبي ذرّ و المنذر بن عمرو. (1)

إذا تبيّن هذان الأمران فنقول:التاريخ المسلّم بين المحدّثين يكشف عن تسرّب تحريف أو تصحيف أو وجود سقم و علّة في هذا الحديث،و ذلك بالبيان التالي:

ترى أنّ أبا بكر اعتذر عن تزويج بنته النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله:«إنّما أنا أخوك»،و يعني أنّ بنت الأخ لا تصلح للعمّ.

يروي ابن حجر القصة كما يلي:إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أرسل خولة بنت حكيم إلى أبي بكر يخطب عائشة فقال لها أبو بكر:فهل تصلح له؟ إنّما هي بنت أخيه، فرجعت و ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال لها:ارجعي فقولي له:أنت أخي في الإسلام و ابنتك تصلح لي،فرجعت إلى أبي بكر فذكرت ذلك له،فقال:ادعي رسول اللّه،فجاء فأنكحه. (2)

فعندئذٍ يتوجه السؤال التالي:

ما ذا أُريد من الأخوّة في كلام أبي بكر؟ فهناك احتمالات:

1.الأُخوّة النسبية.

2.الأُخوّة الإسلامية.

3.المؤاخاة الّتي أجراها النبي صلى الله عليه و آله و سلم بين كلّ اثنين من أصحابه في المدينة المنوّرة.

ص:642


1- 1) .السيرة النبوية:119/2- 120، [1]جعل المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار.
2- 2) .فتح الباري:124/9.

أمّا الأُولى،فهي منتفية قطعاً و لا تحتاج إلى بيان.

و أمّا الثانية،أعني الأُخوّة الإسلامية المتجلية في قوله سبحانه: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ». 1 فلا شكّ أنّها غير مانعة من النكاح،و إلاّ يلزم عدم صحّة نكاح المسلمين قاطبة.

فانحصر المراد بالأُخوّة الخاصّة الّتي أجراها النبي صلى الله عليه و آله و سلم بين كلّ شخصين من أصحابه كما مرّ في السيرة النبوية،و من المعلوم أنّها تحقّقت في المدينة المنوّرة في أوائل الهجرة (السنة الأُولى أو الثانية) فإذن كيف يخطب النبي صلى الله عليه و آله و سلم عائشة في مكة المكرمة قبل الهجرة و يعتذر أبوها بالأُخوّة الخاصة المتحقّقة في المدينة؟!

قد تنبّه لذلك بعض المحدّثين،فقد نقل ابن حجر عن بعضهم أنّه قال:في صحّة هذا الحديث نظر،لأنّ الخلّة لأبي بكر إنّما كانت بالمدينة،و خطبة عائشة كانت بمكّة،فكيف يلتئم قوله:إنّما أنا أخوك؟!

و أجاب ابن حجر عن هذا:المذكور في الحديث،الأُخوّة،و هي أُخوّة الدين و الّذي اعترض به الخلّة و هي أخصّ من الأخوة،ثمّ الّذي وقع بالمدينة إنّما هو قوله عليه السلام:لو كنت متخذاً من أُمّتي خليلاً لاتّخذت أبا بكر،و لكن أخي و صاحبي. (1)

و يُردّ على ابن حجر بما يأتي:

أوّلاً:انّ الأُخوّة الإسلامية العامّة غير مانعة من التزويج فكيف فسّر كلام أبي بكر بها؟!

و ثانياً:انّ الأخوة الخاصة الدائرة بين كلّ شخصين تحقّقت في المدينة،إمّا

ص:643


1- 2) .صحيح البخاري:894،الحديث رقم 3656،كتاب فضائل الصحابة.

في أوائل الهجرة كما عليه أصحاب السيرة،أو آخرها في مورد خاص حسب ما يرويه البخاري عن عكرمة عن ابن عباس:انّ رسول اللّه قالها في مرض موته. (1)

روى البخاري عن ابن عباس،قال:خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مرضه الّذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة،فقعد على المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال:

إنّه ليس من الناس أحد أمنّ عليّ في نفسه و ماله من أبي بكر بن أبي قحافة، و لو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتّخذت أبا بكر.هذا و للحديث طرق ذكرها البخاري في مقام آخر و هو قوله:«و لكن أخي و صاحبي».

و لا يصحّ الحديث إلاّ إذا ثبت انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم آخى بينه و بين أبي بكر قبل الهجرة بسنتين،في مكّة المكرمة،حتّى يعتمد عليه أبو بكر و يعتذر عن تزويج بنته،و لم يذكر المحدثون و أصحاب السير شيئاً من ذلك،و لو كان لبان،لأنّها فضيلة،لا يكتمها هو و لا عشيرته و أُسرته على أنّ الظروف السائدة في مكّة المكرمة من العيش بين الخوف و الرجاء لم تكن تساعد بمثل هذه التصريحات.

نعم الّذي ثبت بالتضافر انّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال:«تآخوا في اللّه أخوين أخوين» ثمّ أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال:«هذا أخي».فكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سيد المرسلين و إمام المتقين و رسول ربّ العالمين الّذي ليس له خطير و لا نظير في العبادة و علي بن أبي طالب عليه السلام أخوين. (2)

إنّ الامعان في ما ذكرنا يكشف عن تسرّب الخطأ و الاشتباه إلى الحديث و وجود العلّة فيه،و إنّا لا نتّهم صاحب الجامع و لا الرواة في الاسناد و إنّما نعرضه

ص:644


1- 1) .صحيح البخاري:125،الحديث رقم 467،كتاب الصلاة؛و أطرافه في 3656 و 3657 و 6738،كتاب فضائل الصحابة.
2- 2) .السيرة النبوية:118/2. [1]

على التاريخ لنستكشف وجود الخطأ.

و العصمة للّه و لمن عصمه اللّه.

النموذج الثاني

أخرج مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة عن ابن عباس قال:كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان و لا يقاعدونه،فقال للنبي صلى الله عليه و آله و سلم:يا نبي اللّه ثلاث أعطنيهنّ.

قال:نعم.

قال:عندي أحسن العرب و أجمله أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان،أزوجكها؟

قال:نعم.

قال:و معاوية تجعله كاتباً بين يديك؟

قال:نعم.

قال:و تؤمّرني حتى أُقاتل الكفار كما كنت أُقاتل المسلمين؟

قال:نعم.

قال أبو زميل:و لو لا انّه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه و آله و سلم ما أعطاه ذلك،لأنّه لم يكن يسأل شيئاً إلاّ قال:نعم. (1)

أقول:لا يشك أي باحث متضلّع في التاريخ الإسلامي انّ الحديث عليل، لاتّفاق المسلمين على أنّ النبيّ تزوج بأُمّ حبيبة قبل فتح مكة،و انّ أبا سفيان دخل المدينة بغية لقاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل إسلامه و كانت أُمّ حبيبة زوجته،و إنّما استسلم أبو سفيان بعد ما اجتثت جذور الشرك من جزيرة العرب و فتحت معاقله.

ص:645


1- 1) .صحيح مسلم:171/7،باب فضائل أبي سفيان بن حرب.

حكى ابن هشام في ذكر الأسباب التي دعت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى المسير نحو مكة في شهر رمضان سنة 8ه و قال:ثمّ خرج أبو سفيان حتّى قدم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة،فدخل على ابنته أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان،فلما ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه طوته عنه،فقال:يا بُنيَّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش،أم رغبت به عني؟

قالت:بل هو فراش رسول اللّه و أنت رجل مشرك نجس،و لم أحب أن تجلس على فراش رسول اللّه. (1)

و قد اتّفق كُتّاب السير على أنّ أُمّ حبيبة أسلمت في مكة المكرمة قبل الهجرة، و هاجرت مع زوجها إلى الحبشة،و ذكرها ابن هشام من المهاجرات إلى الحبشة.

قال ابن هشام:و من بني أُميّة عبيد اللّه بن جحش بن رئاب الأسدي حليف بني أُميّة ابن عبد شمس معه امرأته أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان،فلما قدم عبيد اللّه أرض الحبشة تنصّر بها و فارق الإسلام و مات هناك نصرانياً،فخلف رسول اللّه على امرأته من بعده أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب. (2)

ثمّ إنّ ابن حزم ممّن تنبه إلى الإشكال في الرواية و قال:و الآفة فيه من عكرمة بن عمار الراوي عن أبي زميل.

و أنكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح على ابن حزم،فقال:لا نعلم أحداً من أئمّة الحديث نسب عكرمة بن عمار إلى وضع الحديث،و قد وثقه وكيع و يحيى بن معين و غيرهما،ثمّ حاول أن يصحح مضمون الحديث بأنّ أبا سفيان سأل تجديد عقد النكاح تطييباً لقلبه،لأنّه كان ربما يرى عليها غضاضة من رئاسته و نسبه أن تزوج بنته بغير رضاه،أو أنّه ظن انّ إسلام الأب في مثل هذا يقتضي تجديد العقد. (3)

يلاحظ عليه أوّلاً:إنّ إذن الولي معتبر في تزويج البكر لا الثيّب و قد تزوجها ابن جحش فلما مات في الحبشة،تزوجها النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قد قال صلى الله عليه و آله و سلم:«ليست للوليّ مع الثيّب أمر». (4)

و ثانياً:إنّ ما ذكره النووي تأويل لو ارتكبه غيره لرمي بالجهمية،فلم يكن أبو سفيان بعد إسلامه على درجة عالية من التقوى حتّى يتسنّى لابن الصلاح إبداء مثل هذه الظنون.و من أراد أن يقف على حياته فليرجع إلى المصادر الّتي ترجمت حياته.

و في الختام أرجو من أساتذة الحديث و صيارفته عرض ما ذكرت على طاولة التحقيق عسى أن أكون مخطئاً في ما استنتجت أو مصيباً.

ص:646


1- 1) .السيرة النبوية لابن هشام:396/2،و [1]غيرها من المصادر المتوفّرة.
2- 2) .السيرة النبوية لابن هشام:362/2. [2]
3- 3) .شرح صحيح مسلم للنووي:296/16.
4- 4) .سنن أبي داود:233/2 برقم 2100؛و [3]السنن للنسائي:85/6؛و مسند أحمد بن حنبل:334/1. [4]

و العصمة للّه سبحانه و لمن عصمه.

ص:647

ص:648

2

اشارة

الإمام شرف الدين باحثاً و مجاهداً و داعية للإصلاح و الوفاق

الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين.

قال اللّه تعالى: «يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ». 1

أمّا بعدُ،فإنّي أتقدّم بالشكر و التقدير إلى الإخوة المسئولين في مكتب الاعلام الإسلامي لما بذلوه من جهود في عقد هذا المؤتمر الدولي المخصَّص لتكريم العلاّمة السيّد شرف الدين العاملي قدس سره.

إنّها-و اللّه-لفرصة طيبة و جميلة أن نلتقي في رحاب العلاّمة السيد شرف الدين لنُحيي م آثره الخالدة في حقول الدين و المذهب و الأُمّة،و نقتطف منها أزاهير نُعطِّر بأريجها الزاكي،هذا الحفل المبارك الّذي يجتمع فيه العلماء الأعلام و الأساتذة و الأُدباء و الفضلاء،فأهلاً بكم جميعاً و مرحباً.

و نَوَدُّ في هذا الوقت الّذي تهبّ فيه أعاصير الشرّ و الطغيان لتستأصل

ص:649

المبادئ و القيم الرفيعة،و تسلب حقّ الشعوب في تحقيق كرامتها و حريتها و استقلالها...نودّ في هذا الوقت العصيب أن نحيّي بألسنتنا و قلوبنا و عواطفنا الصادقة الوفدَ الكريم الّذي حلّ علينا ضيفاً من ربوع العلم و الفكر و الجهاد و التضحية و الفداء،تلك الربوع التي أنبتت فطاحل العلماء و الفقهاء و المفكرين و الأُدباء.كما نحيّي الإخوة الأفاضل الأماجد الوافدين من العراق،فشكراً للجميع.

لا شكّ في أنّ الأُمّة الّتي تتسلّح بالعلم و الإيمان و اليقظة و الوحدة،لا يمكن أن تضعُف أو تُستَفَلّ مهما كانت الخطوب و المحن الّتي تداهمها.

و في هذا العصر أثبت علماء لبنان المجاهدون و أحرارُه و صناديده أنّهم أعزّ و أمنع من أن تتطاولَ عليهم الذئاب،أو تنطليَ عليهم أحابيل الأفاعي مهما لان مسُّها،أو تخدعهم شعارات الديمقراطية المزيفة الّتي رأينا صوراً منها في مُدن العراق المُستباحة،و سجونه الحافلة بكلّ ما يبعث على التقزّز و الاشمئزاز.

لقد اتضح تماماً أنّ أحرار لبنان و مجاهديه على مستوى المسئولية في شتى الظروف و الأحداث،فبالأمس وثبَ رجاله الأشاوس لتحرير أرضهم من دنس العدو الصهيوني الّذي ردّد الكثيرون-جهلاً و جبناً و طمعاً-مقولة أُسطورة جيشه الّذي لا يُقهر،و لكن لم يمضِ وقت طويل حتّى رأى العالم فرارَ جنوده من الميدان فرار الحُمُر من بطشة الليث الهصور.

لقد كان لهذا الانتصار و المظاهرات الحاشدة صدى واسع و وقع مؤثر في نفوس الجماهير الّتي بدأت تقترب من الإيمان بأن جولة الباطل لا بدّ أن تنتهي بصولة الحق و الإيمان و الوحدة و الإقدام،و أخذت تدنو من الاعتقاد بواقعية قول الشاعر:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة

و اليوم،و ثأراً للهزيمة الّتي مُني بها الصهاينة،و تنفيذاً لسياسة إخضاع الشعوب و إذلالها و مسخ هويتها و نهب ثرواتها،تمّت حياكة مؤامرة خبيثة في مصانع الكيان الصهيوني و دوائره العالمية و بتأييد بعض الفئات المخدوعة ببريق الديمقراطية الخادع أو المتاجرة بضمائرها للالتفاف على الإنجازات الكبيرة للشعب اللبناني و سوقِه إلى دائرة الشرق الأوسط الكبير الّذي تسعى أمريكا خاسئة لتحقيقه.

و هنا أيضاً،انطلقت الجموع لصنع ملحمة جديدة لإحباط هذه المؤامرة و إخماد الفتنة،و الكشف عن زيف الادّعاءات و الشعارات الكاذبة الّتي راحت تنزوي و تختفي أمام الحضور الجماهيري الحاشد الّذي أجبر الأعداء على الاعتراف بمرارةٍ بحقيقة قوة و وعي و تلاحم الشعب،و على التفكير بأساليب جديدة تمهّد الطريق لأغراضهم الشريرة،و لكن اللّه تعالى و المؤمنين و الأحرار لهم دائماً بالمرصاد«و ما النصر إلاّ من عند اللّه العزيز الحكيم».

***

برز في تاريخ الأُمّة الإسلامية عامة و الشيعة الإمامية خاصة في كلّ قرن و عصر علماء كبار و عباقرة عظام،بذلوا جهودهم في ترسيخ العقيدة الإسلامية في قلوب الناس و كشف حجب الريب و الشكّ عن وجه الحقيقة،فكأنّهم هم المعنيون في حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،إذ يقول:

«يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين و تحريف

ص:650

ص:651

الغالين،و انتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد». (1)

و في القرن الرابع عشر نجد رجالاً أحيوا الدين و أماتوا البدع و صدوا سهام الأعداء المرشوقة،تشهد على جهادهم العلمي المتواصل كتب التراجم، و معاجم الرجال.

و من هؤلاء؛الأجلاء الأربعة الذين عاشوا في عصر واحد وبيئة واحدة و تخرجوا من مدرسة واحدة و لمسوا حلوا الحياة و مرّها في العراق و الشام، أعني:

1.آية اللّه الشيخ محمد جواد البلاغي(1284- 1352ه).

2.آية السيد محسن الأمين العاملي (1284- 1373ه).

3.آية اللّه الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (1294- 1373ه).

4.آية اللّه السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي (1290- 1377ه).

فهؤلاء الأجلّة هم حجج الإسلام بحق،و رافعو ألوية الجهاد العلمي ببيانهم و بنانهم بلا شك،فقد ثابروا في عملهم لأجل هداية الأُمّة،و صبروا على مضض الحياة من غير اكتراث بما يصيبهم في طريق هذا الهدف.

و حيث إنّ هذا المؤتمر ينعقد إجلالاً لأحد هؤلاء العباقرة الأربعة،أعني:

العلاّمة الحجّة آية اللّه العظمى السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي،فنودّ أن نلقي أضواءً على جوانب من حياته.

1.كان رجلاً عالمياً

العالِم الإسلامي تارة تتعلق رغبته ببلد خاص أو بإقليم معيّن،يبذل جهده في إنارة الطريق لأهله فقط،و لكن هناك قليل من المصلحين يحملون هموم

ص:652


1- 1) .رجال الكشي:10. [1]

المسلمين جميعاً فيحررون أفكارهم عن قيد الإقليمية و يعطفون رغبتهم إلى العالم الإسلامي كلّه،فيكتبون للمسلمين عامة و يحاورونهم كذلك، فالمسلمون لديهم كأسنان المشط،من غير ميز بين إقليم دون إقليم أو فئة دون فئة.

و في طليعة هؤلاء سيدنا الجليل عبد الحسين شرف الدين العاملي قدس سره الذي يهدف في كلّ أثر حبّره يراعه إلى تماسك المسلمين و تعاونهم و تمسكهم بالكتاب و السنّة،فترى أنّه يؤلف كتاباً باسم:«الفصول المهمة في تأليف الأُمّة»و هو من أجل الكتب الكلامية،تناول فيه مسائل الخلاف بين الطائفتين على ضوء العقل و الاستنتاج و التحليل،و قد ألفه في أيام شبابه و تم في عام 1327ه.

و من دلائل كونه رجلاً عالمياً لا إقليمياً أنّه ركب البحر عند ما لم تكن أي طائرة في المنطقة،و تحمّل جهد هذا النوع من السفر،فتوجّه من لبنان إلى مصر عام 1329ه،و التقى فيها بأفذاذ الحياة العقلية في مصر و على رأسهم الشيخ سليم البشري المالكي شيخ الجامع الأزهر،و دارت بينه و بين رئيس الأزهر مساجلات و مراجعات سوف نتحدّث عنها فيما بعد.

و لم تكن هذه الرحلة فريدة في حياته و إن كان لها آثار جميلة،فقد زار عام 1338ه دمشق و مصر و فلسطين مرّة أُخرى،و ألقى خلالها محاضرات قيّمة و اجتمع هناك مع مشايخ العلم و عباقرته.

كما أنّه زار عام 1340ه الأراضي المقدسة في عهد الملك حسين و كان الموسم في ذلك العام من أحفل مواسم الحج،و كان للسيد بين جموع الحجاج مكانة شامخة بشهادة أنّه أمّ المسلمين في المسجد الحرام،و كان المسجد مكتظاً بألوان المسلمين،و صلّى من غير تقية.

و قد كان لهذه الرحلات أثر بارز في تعريف الأُمّة و تعريف الشيعة

ص:653

لإخوانهم،و تبيان أنّ الشيعة هم إخوانهم الّذين افتقدوهم منذ قرون.

2.الاهتمام بتوعية الشيعة

إنّ الإمام شرف الدين لمّا أكمل دروسه عند أعلام العصر و جهابذة الوقت، كالمحقّق الخراساني (1255- 1329ه)،و السيد كاظم اليزدي(1247- 1337ه)،و شيخ الشريعة (1266- 1339ه)،و غيرهم من أعلام النجف و مراجعها،غادر العراق و نزل بلاده فوجد أنّ الأُمّية متفشية بين المسلمين عامّة،و عند الشيعة خاصّة،و لاحظ أيضاً أنّ المناصب العليا بيد المسيحيّين، و المهن الّتي لا يرغب فيها المثقفون تركت للشيعة،فهم يمارسون المهن و الحرف البسيطة.

فأحسّ السيد قدس سره بواجبه فجعل توعيتهم و تثقيفهم نصب عينيه،فقام بتأسيس المدرسة الجعفرية في صور و جعلها نواة لفتح مدارس أُخرى في هذا المضمار،و قال عند مراسم الافتتاح كلمة قيّمة دارت على الألسنة منذ أن قيلت إلى يومنا هذا،و هي:«لا ينتشر الهدى إلاّ من حيث ينتشر الضلال».

و قد رسم بذلك الخط الّذي يجب أن يسير عليه قادة المسلمين،فإن التأثّر بالمسيحية أو المادية الّتي راجت في ذلك الزمان أو بعده انّما حدث في أوساط المسلمين عن طريق المراكز الثقافية كالمدارس و الجامعات،فأخذ أساتذة العلوم يبشرون بالمسيحية تارة و بالمادية أُخرى في ثنايا دروسهم و محاضراتهم.فإذا دخل الخصم في تحقيق مآربه عن هذا الطريق،فعلينا أن نسلك نفس هذا المنهج لتحقيق أهدافنا،لأنّه طريق معبّد و منتج...

و إذا كان في ناموس الخلقة أن يرث الأبناء ما للآباء من الفضائل و المناقب فإنّ كلمة السيد هذه،هي أشبه ما تكون بكلمات جدّه الإمام علي عليه السلام،فلو

ص:654

وجدناها مكتوبة في ثنايا قصار الكلم للإمام في«نهج البلاغة»لما شككنا في صدورها عنه عليه السلام،و هذه فضيلة رابية للإمام الراحل شرف الدين.

3.فتح باب الحوار بين الطائفتين

سادت على المسلمين بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فكرتان مختلفتان:

إحداهما:انّ المرجعية السياسية الدينية منصب إلهي يضعه سبحانه أين يشاء،و قد شاء أن تكون مختصة بأئمّة أهل البيت عليهم السلام،فهم الذين لهم الحق في تولّي أُمور المسلمين في شتى الحقول و المجالات.

ثانيهما:أنّ هذه المرجعية منصب بشري يمارسها من يختاره الصحابة من المهاجرين و الأنصار،و قد قاموا بدورهم هذا في سقيفة بني ساعدة.

هاتان الفكرتان سادتا على المسلمين إلى يومنا هذا،و لهم في هذا المجال؛ رسائل و كتب و موسوعات لا يمكن إحصاؤها.

إنّ أتباع هاتين الفكرتين يشتركون في أُصول و فروع كثيرة تسهّل لهم التمسك بعرى الوحدة الوثيقة،و لكنّهم-و للأسف-تناسوا المشتركات، و ضخّموا الأمر الّذي يفرّق بينهم،فأسفر ذلك عن عدم اطّلاع طائفة على ما عند الطائفة الأُخرى،و لذا نادى سيدنا شرف الدين قدس سره بفتح باب الحوار لأجل تقريب الخطى بين الطائفتين،قائلاً:بأنّ ما يجمعنا أكثر ممّا يفرقنا.

إنّ باب الحوار،كان مفتوحاً إلى أواخر القرن الرابع و أوائل القرن الخامس، فهذا هو الشيخ المفيد(336- 413ه) قد ملأ كتبه و أماليه بالحوارات العلمية، و تبعه في ذلك تلميذاه الشريف المرتضى (355- 436ه) و الشيخ الطوسي (385- 460ه)،و لكن بعد هذه الفترة انسد باب الحوار بين أعلام المسلمين و لم

ص:655

يفتح إلاّ في موارد يسيرة لا تكاد تذكر،فنهض السيد الراحل إلى فتحه من جديد عن طريق المكاتبة مع أحد أعلام أهل السنة،أعني الشيخ سليم البشري(1284- 1335ه) شيخ الأزهر في عصره،و ذلك بعد ما هبط مصر أواخر عام 1329ه مؤملاً في ذلك تحقيق الأُمنية الّتي أمّلها.فوجد تربة مصر تربة خصبة بالعلم و الذكاء،و قد جمع الحظ السعيد بينه و بين أحد أعلامها المبرزين المتميزين:«بعقل واسع،و خلق وادع،و فؤاد حيّ،و علم عيلم، و منزل رفيع»كما عبر رحمه الله في مقدمة مراجعاته و هو يصف لقاءه معه بقوله:

«شكوت إليه وجدي،و شكا إليّ مثل ذلك و جداً و ضيقاً،و كانت ساعة موفقة أوحت إلينا التفكير فيما يجمع اللّه به الكلمة،و يلمّ به شعثَ الأُمّة،فكان ممّا اتفقنا عليه أنّ الطائفتين-الشيعة و السنّة-مسلمون يدينون حقاً بدين الإسلام الحنيف،فهم فيما جاء الرسول به سواء،و لا اختلاف بينهم في أصل أساسي يفسد التلبّس بالمبدإ الإسلامي الشريف...».

فترتب على ذلك اللقاء الجميل مكاتبات و مراجعات بلغ عددها 65 مراجعة، أي أنّ السيد قد تلقّى خمساً و ستين سؤالاً من شيخ الأزهر ليجيب عليها،و قد أجاب بعدد الأسئلة،فصار المجموع كتاباً علمياً تاريخياً حديثياً كلامياً كان له صدى واسع عند ما طبع عام 1355ه.

يُشار إلى أنّ المتحاورين لم يخرجا عن أدب الإسلام و أدب المناظرة قيد شعرة،بل انّهما تبادلا عبارات التقدير و الاحترام،و هذا ما نلمسه في ثنايا كلامهما،فهذا شيخ الأزهر يبدأ مراجعته الأُولى بقوله:«سلام على الشريف العلاّمة الشيخ عبد الحسين الموسوي و رحمة اللّه و بركاته»ثمّ إنّه يكتب في ثنايا تلك المراجعة:و إنّي لواقف على ساحل بحرك اللجي،استأذنك في خوض عبابه و الغوص على

ص:656

درره،فإن أذنت غصنا على دقائق و غوامض تحوك في صدري منذ أمد بعيد، و إلاّ فالأمر إليك،و ما أنا فيما أرفعه بباحث عن عثرة،أو متبع عورة،و لا بمفند أو مندد،و إنّما أنا نشّاد ضالة،و بحّاث عن حقيقة،فإن تبيّن الحقّ فإنّ الحق أحق أن يتّبع،و إلاّ فأنا كما قال القائل: نحن بما عندنا و أنت بما عن -دك راض و الرأي مختلف

فبادله السيد رحمه الله الجواب الجميل و قال:«رميتني بآمالك و نزعت إليّ برجائك،و أنت قبلة الراجي،و عصمة اللاجي،و قد ركبت من سوريا إليك ظهور الآمال،و حططت بفنائك ما شددت من الرحال،منتجعاً علمك، مستمطراً فضلك،و سأنقلب عنك حي الرجاء،قوي الأمل،-ثمّ يقول له-:

فسل عما أردت،و قل ما شئت،و لك الفضل،بقولك الفصل،و حكمك العدل». (1)

هكذا كان العلمان في سماء الأدب،و هذا هو تقديرهما لحقوق كلا الطرفين.

4.اهتمامه بالفقه الأكبر

اهتم سيدنا الراحل بالفقه الأكبر نظير اهتمامه بالفقه الأصغر،فإن قائمة أسماء مؤلّفاته تشير إلى أنّ اهتمامه بعلم الكلام و العقائد و مسائل البنية التحتيّة للدين الإسلامي كان بنفس مستوى اهتمامه بمسائل الفقه الإسلامي،و يشهد على ذلك كتبه و محاضراته في العقائد و الكلام.

و هو قدس سره يذكر في إجازته لآية اللّه السيد شهاب الدين المرعشي النجفي رحمه الله أنّ من شيوخ إجازته الإمام الفقيه المحدث محمد المعروف بالشيخ بدر الدين الدمشقي شيخ الإسلام في دمشق و أعلم أعلامها،قال:فقد لقيته في شعبان

ص:657


1- 1) .المراجعات: [1]الأُولى و الثانية.

سنة1338ه بدمشق و حضرت درسه ليالي رمضان من تلك السنة و جرت بيننا مذاكرة تتعلق بمباحث الحسن و القبح العقليين و بإمكان رؤية اللّه تعالى و امتناعها و بقدم القرآن و حدوثه،فآل البحث إلى ميله التام إلى رأينا في كلّ من المسائل الثلاث.... (1)

نعم قد بذل رحمه الله جهوده الكثيرة في مسألة الإمامة و الخلافة الّتي هي من الأُصول عندنا و من الفروع عند أهل السنّة،حيث إنّ تنصيب الإمام عندهم من فروع الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

5.تبيين المسائل الخلافية

نحن نعتقد بأنّ الخط الفاصل بين الطائفتين السنَّة و الشيعة أمر واحد لا غير، و هو أنّ الشيعي يرى أنّ المرجعية السياسية و العلمية بعد رحلة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تعود إلى أئمّة أهل البيت من سلالته،و ترى الطائفة الأُخرى خلاف ذلك،هذا هو الفارق الأصيل بين الطائفتين.

و أمّا سائر المسائل فلا تمتّ إلى الخلاف الجوهري بين الطائفتين،فهي إمّا مسائل كلامية أو مسائل فقهية.

مثلاً:المسائل الثلاث الّتي خاض فيها الإمام شرف الدين في دمشق و أقنع المخالف بما يراه الإمامية ليس شيئاً ممّا يختص بالإمامية،فإنّ المعتزلة أيضاً شاركت الإمامية بالتحسين و التقبيح العقليين،و امتناع رؤية اللّه تعالى في الآخرة،و حدوث القرآن و عدم قدمه،و نظير ذلك المسائل الفقهية فإنّ الشيعي يرى عدم نسخ نكاح المتعة أو بطلان العول و التعصيب،كلّ ذلك خلافات فقهية لا تمت

ص:658


1- 1) .مجلة آيينه پژوهش«مرآة التحقيق»:206.

إلى أُصول الدين بصلة.

فكلّ من يريد أن يعمّق الخلاف أو الشقاق فإنّما يتمسّك بالمسائل الكلامية أو الفقهية،أو يتّهم الطائفة بما هم براء عنه براءة يوسف من الذنب الّذي أُلصق به.

و على ضوء ذلك بحث السيد شرف الدين بعض المسائل الفقهية الخلافية تبعاً للقدماء من كلتا الطائفتين،فهذا هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (المتوفّى سنة 310ه) يؤلّف كتاباً باسم اختلاف الفقهاء،كما أنّ أبا جعفر أحمد ابن محمد الطحاوي (المتوفّى 321ه) ألف كتاباً باسم اختلاف العلماء،هذا ما عند السنّة.

و عند الشيعة نرى أنّ السيد المرتضى (355- 436ه) ألف كتاباً باسم«مسائل الخلاف في الفقه»،و تبعه تلميذه أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي(385- 460ه) فألف كتاب«الخلاف في الأحكام»،ذكر فيه آراء الموافق و المخالف بسعة صدره و طول باعه.

إنّ هذه الكتب الّتي قام بتأليفها فطاحل العلماء من الطرفين كانت أداة التقريب بينهما،إذ ما من مسألة إلاّ و للشيعة الإمامية موافق من أحد الطوائف الأربعة أو أحد المذاهب البائدة،و لم يكن لهذه الكتب أي أثر سيِّئ.

كما ألّف محمد بن حسن الشيباني (المتوفّى 298ه) كتاباً باسم«الحجة على أهل المدينة»و قد طبع في أربعة أجزاء طرح فيه المسائل الخلافية بين مدرسة الرأي الّذي هو من أعاظم أتباعها و مدرسة أهل الحديث الّتي كان عليها المحدثون في المدينة كمالك و اتباعه،و لم توصف هذه الكتب بشق العصا أو توسيع نطاق الخلاف،لأنّها كانت بحوثاً علمية فكرية توجب تقدم عجلة الفقه إلى الامام.

و في القرن السابع قام أحد الفطاحل من علماء الشيعة الّذي قلّما يتّفق في

ص:659

الزمان أن يسمح بمثله و هو الإمام العلاّمة الشيخ الحسن بن يوسف المطهر الحلّي (648- 726ه)،قام بتأليف كتابين قيّمين،و هما:

1.تذكرة الفقهاء.

2.منتهى المطلب في تحقيق المذهب.

أورد فيهما آراء الصحابة و التابعين و الفقهاء،بصدر رحب،و نقلَ دليل كلّ طائفة على رأيه و ذكر مذهبه مع دليله.

فنحن نتلقى هذه الكتب تحقيقاً للفقه و إنارة للمذهب.

فتبعاً لسيرة هؤلاء الأعاظم قام سيدنا شرف الدين بالبحث حول المسائل الفقهية الخلافية،و هو و إن لم يستقصها جميعاً و لكنّه أدلى بمهمات المسائل الخلافية،و ألف في ذلك كتاباً طبع باسم:المسائل الفقهية.

و على ضوئه سرنا في كتابنا«الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف» فاستقصينا المسائل الخلافية الّتي اشتهرت بها الشيعة الإمامية كالمنع عن مسح الخفين،و غسل الأرجل و الّتي لم تتجاوز عن 26مسألة.

إنّ اختلاف الفقهاء في المسائل العملية نابع عن الاختلاف في المدارك الّتي يعتمدونها في استنباط الأحكام،و كلّ منهم يطلب الوصول إلى الحكم الواقعي بنية خالصة.فرحم اللّه علماءنا الماضين و حفظ اللّه الباقين.

و لعلّ اختلافهم كان مثل اختلاف نبي اللّه داود و سليمان في قصة الحرث الّتي ذكرها اللّه سبحانه في كتابه الكريم،إذ يقول عنها: «وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ* فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنّا

ص:660

فاعِلِينَ». 1

و قد ذكر المفسرون حكمهما على وجه لا يصادم عصمتهما،فمن أراد تفصيل ذلك فليرجع إلى التفاسير.

6.تأسيس منهج لتمييز الصحيح من الأحاديث

إنّ حديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم كالقرآن الكريم حجتان عند الأُمّة الإسلامية،غير أنّ القرآن وحي بلفظه و معناه،و أمّا حديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فوحي بالمعنى دون اللفظ،و قد ارتحل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و ترك في الأُمّة وديعتين ثمينتين، و هما:كتاب اللّه و عترته الذين هم حفظة سنّته و مبلّغو أحاديثه.

غير أنّ تحريم كتابة السنّة و التحدّث بها في عصر الخلفاء الثلاثة (خاصّة الثاني منهم) أفرز مشكلةً كبيرة هي ذهاب كثير من حفظَة الحديث مع أحاديثهم دون أن يكتب أو ينقل،فحلّ محلهم مستسلمة أهل الكتاب، فروّجوا الإسرائيليات و المسيحيات و المجوسيات،فتلقّتها الأُمّة علماً ناجعاً ملئوا به كتبهم.

و في نهاية القرن الأوّل تنبّه عمر بن عبد العزيز إلى الخسارة الفادحة المتوجهة إلى التراث النبوي من ترك كتابة الحديث و التحدّث به،فكتب إلى عامله في المدينة المنورة أبي بكر بن حزم قائلاً:أُنظر ما كان من حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فاكتبه،فإنّي خفتُ دروس العلم و ذهاب العلماء،و لا تقبل إلاّ حديث النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و لتفشوا العلم و لتجلسوا حتّى يعلم من لا يعلم،فإنّ العلم لا يهلك حتّى يكون سرّاً. (1)

ص:661


1- 2) .صحيح البخاري:27/1،باب كيف يقبض العلم،من كتاب العلم.

و مع الحثّ الأكيد من جانب الخليفة الأموي لم تكن هناك حركة سريعة بالنسبة إلى هذا الموضوع،إلى أن دالت دولة الأمويين و قامت محلّها دولة العباسيين و أخذ أبو جعفر المنصور بمقاليد الحكم،فعندئذٍ قام المحدّثون بتدوين الحديث عام 143ه. (1)

و في خلال الفترة الّتي أُهملت فيها (باستثناء شيء يسير) السنّة النبوية كتابة و تحديثاً،دخلت الإسرائيليات و المسيحيات و المجوسيات و المكذوبات على لسان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق تجار الحديث و المستأكلين به، فاحتاج المحقّقون إلى تمييز الصحيح عن غيره،و الصادق عن الكاذب بعلم الرجال الباحث عن صفات الراوي ضبطاً و ثقةً.

فمن ذلك العصر صار المحور في نقد السنّة في ألسن الرواة و تمحيص الأحاديث النبوية هو صفات الراوي،من حيث كونه عادلاً حافظاً ضابطاً مسنداً إلى غير ذلك من الصفات.

و لكن القوم غفلوا عن أنّ هناك طريقاً آخر في جنب الطريق الأوّل و هو نقد مضمون الحديث بأُصول علمية و هي:

1.عرض الحديث على الكتاب.

2.عرض الحديث على السنة القطعية المتواترة.

3.عرض الحديث على العقل الحصيف الّذي به يخاطبنا سبحانه في كتابه، و يحتج به علينا.

4.عرض الحديث على التاريخ المتواتر المتضافر.

5.عرض الحديث على ما اتّفق عليه المسلمون.

ص:662


1- 1) .تاريخ الخلفاء للسيوطي:261.

فإذا كان الحديث مخالفاً لأحد هذه الأُسس القطعية فإنّنا نعلم ضعف الحديث و عدم صدقه و تسرب الوضع إليه من إحدى النواحي دون أن يُتَّهم الصحابي أو التابعي أو مؤلّف الكتاب به.

نعم الشرط هو عدم مخالفته،لا موافقته لأحد هذه الموازين،لوجود موضوعات مختلفة حفلت بها الأحاديث الكثيرة،دون أن يرد في القرآن الكريم-حسب أفهامنا-منها شيء.

فهذا النوع من دراسة الحديث ممّا رسمه سيدنا الراحل في كتابه«أبو هريرة» الّذي نُسب إليه أكثر من خمسة آلاف حديث،مع أنّه لم يدرك من حياة النبي أكثر من ثلاث سنوات.

و هذا النوع من التحقيق بِكر في بابه،و قد سار عليه أحد أعلام مصر ألا و هو محمد الغزالي،حيث ألّف كتابه«الحديث النبوي بين أهل النقل و الفهم» الذي أثار ضجة عند بعض المتحجّرين،و قام أئمة الجمعة و الجماعة في بعض المساجد بالتنديد و التشهير بهذا الكتاب،و ما ذلك إلاّ لأنّهم ألِفوا و أنِسوا بصحّة عامّة ما في الصحاح و السنن على وجه لا يقبل النقاش.

رحم اللّه سيدنا الراحل الّذي شق لنا هذا الطريق الّذي سرنا على ضوئه في كتابنا«الحديث النبوي بين الرواية و الدراية»فقمنا بدراسة أحاديث ثلة من الصحابة تربو على الأربعين بعد ذكر نبذة مختصرة عن سيرتهم و نماذج من روائع حديثهم،ثمّ أخذنا بالأحاديث الزائفة المخالفة لأحد هذه الأُسس دون أن نتّهم الصحابي أو التابعي بشيء،و انّما اتّهمنا مضمون الحديث بالوضع و الدس،و ممّا ذكرناه في هذا الكتاب انموذج لما لم نذكر،و إلاّ فهذا النوع من التحقيق يحتاج إلى دراسة مبسطة منهجية في ضوء سعي لجنة عالمة بأُصول التحديث و قواعده.

ص:663

7.مواجهة المستعمرين

لم يقتصر جهاد السيد رحمه الله على الجانب العلمي و الفكري فقط،بل ضمّ إليه نضاله ضد الاستعمار،و ذلك عند ما انسحبت قوات الخلافة العثمانية عن البلاد العربية بعد الحرب العالمية الأُولى عام 1917م،و حلّت مكانها قوات الحُلفاء و تقسّم العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة تقاسمها الحلفاء بينهم، و صارت بلاد الشام تحت الانتداب الفرنسي.

فعند ذلك أحس السيد شرف الدين رحمه الله بأنّ الأخطار محدقة بالإسلام و المسلمين،فنهض بعزم صارم إلى محاربة الاستعمار و دعوة الجماهير(السنّة منهم و الشيعة) إلى طرد الحكام و رفض حكومة الانتداب فلاقى في هذا الطريق ما لاقى ممّا لا يمكن تبيينه في هذا المقال.

يقول المحقّق الخبير بحياة السيد (الشيخ مرتضى آل ياسين):و لعل المحن الّتي كابدها هذا السيد الجليل في سبيل إسعاد قومه لم يكابد نارها إلاّ أفذاذ من زعماء العرب و قادتهم ممّن أبلوا بلاءه و عانوا عناءه...ثمّ إنّه بعد ما يذكر الأحداث المرّة الّتي مرت بحياة السيد يقول:تلا هذا الحادث أحداث و أحداث اتّسع فيها الخرق،و انفجرت فيها شقّة الخلاف،حتّى أدّت إلى تشريد السيد بأهله و من إليه من زعماء عاملة إلى دمشق،و قد وصل إليها برغم الجيش الفرنسي الّذي كان يرصد عليه الطريق،إذ كانت السلطة الغاشمة تتعقّبه بقوة من قواتها المسلحة لتحول بينه و بين الوصول إلى دمشق،و حين يئست من القبض عليه،عادت فسلّطت النار على داره في (شحور) فتركتها هشيماً تذروه الرياح،ثمّ احتلت داره الكبرى الواقعة في (صور) بعد أن أباحتها للأيدي الأثيمة،تعيث بها سلباً و نهباً،حتّى لم تترك فيها غالياً و لا رخيصاً،و كان أوجع ما في هذه النكبة تحريقهم مكتبة

ص:664

السيد بكلّ ما فيها من نفائس الكتب و أعلاقها،و منها تسعة عشر مؤلفاً من مؤلفاته،كانت لا تزال خطية إلى ذلك التاريخ.

ظل السيد في دمشق في أُبهة من نفسه و جهاده،و كان في دمشق يومئذ اجتماعات سياسية و حفلات وطنية،و كان السيد في جميعها زعيماً من زعماء الفكر و قائداً من قادة الرأي،و له في هذه الميادين مواقف مذكورة و خطابات محفوظة.

ثمّ إنّ السيد لم يجد بدّاً من مغادرة دمشق إلى فلسطين و منها إلى مصر دفعاً لمؤامرات حيكت عليه....

و لمّا ورد مصر احتفلت به و عرفته بالرغم من تنكّره وراء كوفية و عقال.

و قد كانت له مواقف في مصر وجهت إليه نظر الخاصّة من شيوخ العلم و أقطاب الأدب و رجال السياسة على نحو ما تقتضيه شخصيته الكريمة.ثمّ حدثت ظروف سمحت له لأن يغادر مصر أواخر سنة 1338ه،فهاجر إلى قرية في فلسطين تسمّى«علمى»تقع على حدود جبل عامل،إلى أن أُبيح للسيد أن يعود إلى عاملة على أثر مفاوضات أدّت إلى العفو عن المجاهدين عفواً عامّاً. (1)و الحديث ذو شجون.

8.كلمات الأعاظم في حق السيد

اشارة

الحق أنّ شخصية شرف الدين و مكانته العلمية و شخصيته الجليلة و نضاله ضد المستعمرين و الملحدين أظهر من أن تخفى على من له إلمام بتاريخ العلم و العلماء.

و نقتصر في المقام-إكمالاً للبحث-ببعض كلمات الثناء و التقدير الّتي

ص:665


1- 1) .مقدمة المراجعات،بقلم مرتضى آل ياسين:(ط-ي).

ذكرها العلماء في حقّه.

هذا هو آية اللّه المحقّق الخراساني (1255- 1329ه) صاحب المدرسة الأُصولية،المعروف بكثرة الانتاج و التخريج،يعرّف تلميذه الجليل شرف الدين في إجازة خاصّة له،بما يلي:

كلمة المحقّق الخراساني في حقّه

«و إنّ سيادة السيد السند،و الثقة الفقيه المجتهد المنزّه من كلّ شين،سيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي-شد اللّه أركانه و أعطاه يوم القيامة أمانه - مجتهد مطلق،و عدل موثّق قد أصبح من أهل الذكر الذين ترجع إليهم العباد، و ترقّى من حضيض التقليد إلى أوج الاجتهاد،فخفقت ألوية النيابة عليه، و ألقت بأزمّتها إليه،و حرم عليه التقليد،و وجب عليه العمل برأيه السديد، فليمتثل المؤمنون أمره و نهيه،و ليرجعوا إليه في أموالهم،و يفزعوا إليه في سائر أفعالهم،فإنّه حجّة عليهم،ماضية فيهم حكومته و نافذ قضاؤه،و يحرم الردّ عليه فإنّ الرادّ عليه رادّ على اللّه،و هو على حدّ الشرك باللّه؛و المأمول منه أن يسلك جادّة الاحتياط فإنّها سبيل النجاة،و اللّه الموفق و هو حسبنا و نعم الوكيل».

كلمة الحجّة الطهراني

يقول الشيخ آقا بزرك الطهراني في ترجمته:لقد كان المترجم له مأثرة من م آثر الوقت،و آية كبرى ازدهر بها العصر الحاضر،و حسْب هذا القرن مفخرة أن ينبغ فيه مثل هذا العبقري الفذّ،و حسْب«عاملة»أن تقل باحتها علَماً خفاقاً للدين و سيفاً مشهوراً للهدى مثله من بقايا العترة الطاهرة عليهم السلام.

ص:666

فلقد فاق أقرانه بثروة علمية طائلة،و قوة في العارضة،و فلج في الحجة، و رصانة في الاسلوب،و جودة في السرد،و اهتداء إلى المغازي الشريفة و الدقائق البعيدة المرمى،و الغايات الكريمة،فما ذا يقول الواصف فيه،أ هو مجتهد فاضل،أم متكلم بارع،أم فيلسوف بحر محقّق،أم أُصولي ضليع،أم مفسر كبير،أم محدث صدوق،أم مؤرخ ثبت،أم خطيب مصقع،أم باحث ناقد،أم أديب كبير؟ نعم هو كلّ ذلك أضف إليه:أنّه ذلك المجاهد الدائب على المناضلة دون الدين و المكافح المتواصل دفاعه عن المذهب الحق، تشهد له بذلك كلّه المحابر و المزابر،و الكتب و الدفاتر،و الخطب و المنابر، و أعماله الناجعة،و محاضراته البديعة،و حجاجه الدامغ. (1)

و لعلّ في هذه الكلمة من معاصره الخبير بالرجال،الغنى و الكفاية.

و قد ترجم في«موسوعة طبقات الفقهاء»و وصف فيها بالنحو التالي:

كان فقيهاً مجتهداً محدثاً خطيباً مفوهاً أديباً بارعاً من كبار الدعاة إلى الوفاق بين المسلمين. (2)

9.مؤلفاته و آثاره

امتازت مؤلفات السيد بالعمق و الاستيعاب و المتانة و الأدب الرفيع،نذكر منها ما هو الأهم:

1.شرح تبصرة المتعلّمين في الفقه للعلاّمة الحلي في ثلاثة أجزاء.

2.المسائل الفقهية.

ص:667


1- 1) .نقباء البشر:1083/3. [1]
2- 2) .موسوعة طبقات الفقهاء:318/14. [2]

3.تحفة الأصحاب في طهارة أهل الكتاب.

4.رسالة في منجزات المريض.

5.رسالة في المواريث.

6.تعليقة على مبحث الاستصحاب من فرائد الأُصول للشيخ الأنصاري.

7.المراجعات.

8.تعليقة على صحيح البخاري في مجلد واحد.

9.تعليقة على صحيح مسلم في مجلد واحد.

10.أبو هريرة.

11.النص و الاجتهاد.

12.الفصول المهمة في تأليف الأُمّة.

13.المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة،في أربعة أجزاء.

14.رسالة حول الرؤية.

15.رسالة فلسفة الميثاق و الولاية.

16.رسالة الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء.

17.بغية الراغبين في سلسلة آل شرف الدين.

18.أجوبة مسائل موسى جار اللّه.

19.تحفة المحدّثين في من أخرج عنه السنّة من المضعّفين.

20.سبيل المؤمنين في الإمامة في ثلاث مجلدات.

و من رغب الاطلاع على كافة مؤلفاته فليرجع إلى كتاب«نقباء البشر»ج3، ص 1086- 1087.

ص:668

10.السيد البروجردي و كتاب المراجعات

صدر كتاب المراجعات إلى الأسواق عام 1355ه،ثمّ تلت الطبعة الأُولى طبعات أُخرى بعد مضي عقد من السنين،و لم يكن السيد البروجردي مطّلعاً عليه،و قد قدّم الكتاب إليه أحد أساتذة الحوزة العلمية و هو آية اللّه السلطاني، فأخذه السيد قدس سره بإجلال و إكبار،فلمّا جلس لمطالعته ليلاً أسرته جاذبيته و أخذت بمجامع قلبه،فاستغرق في مطالعته إلى أن بلغ الصفحة الأخيرة من الكتاب و قد مضى هزيعاً من الليل.

و لما التقى صبيحة تلك الليلة بالسيد السلطاني أعرب له عن إعجابه بالكتاب، و تقريره الهادئ و في الوقت نفسه الصارم و القاطع لحجة المناظر.

ثمّ إنّ السيد السلطاني أخبر السيد البروجردي أنّ للسيد شرف الدين كتاباً آخر و هو كتاب«النص و الاجتهاد»،أثبت فيه أنّ المسلمين الأُول خصوصاً المُنتمين منهم لمدرسة الخلفاء كانوا يقدّمون المصالح على النصوص،و انّ السيد رحمه الله قد استقصى موارد هذا النوع من الاجتهاد بمعنى العمل بالسلائق في مقابل الكتاب و السنة،فسعد السيد البروجردي بهذا الكتاب و تحمّل نفقة طبعه و صدر إلى الأسواق مرات عديدة.

11.الإمام الخميني و السيد شرف الدين

قضى السيد الراحل حياته بجلائل أعماله و عظيم مواقفه إلى أن لبّى دعوة ربه عاشر جمادى الآخرة سنة 1377ه،فخسره المسلمون زعيماً كبيراً من رجالات الأُمّة و بطلاً من أشهر ابطالها،و قد أحدثت وفاته،ثلمة في الدين، و أُقيمت له الفواتح في مختلف البلاد،و منها مجلس الفاتحة الذي أقامه السيد البروجردي في

ص:669

مسجد الحرم الشريف لكريمة أهل البيت عليهم السلام في قم المقدسة،و لم يطلع السيد الإمام الخميني قدس سره على إقامة الفاتحة ذلك اليوم،فجاء بنية إلقاء درسه اليومي في أحد المساجد المعروفة في قم (مسجد السلماسي)و الذي يلقي فيه دروسه يومياً،فأخبرناه بمجلس الفاتحة،فقال:نحن نجمع بين الحقّين:

الدراسة و الحضور في الفاتحة،فألقى شيئاً من محاضرته،ثمّ تحدّث عن خدمات السيد شرف الدين،و ممّا ذكره:«أنّه كان سيفاً مسلولاً على أعداء اللّه»،ثمّ توجّه بعد ذلك هو و طلاب درسه إلى مجلس الفاتحة لأجل المشاركة فيه.

و عند وصولنا إلى المجلس نُبِّئنا أنّ الفاتحة كانت في وقتها الأخير،فلمّا ورد السيد الإمام المجلس و التلاميذ من ورائه فكأنّه قد انعقد مجلس الفاتحة من جديد للسيد الراحل.

ص:670

ختامه مسك السيد شرف الدين و التقريب بين المسلمين

إنّ التقريب بين المسلمين من الآمال الّتي يطمح إليها كلّ مسلم مخلص عارف بالقضايا الراهنة،و ممّا يحز بالنفس أن نرى أبناء أُمّة واحدة تجمعها روابط كثيرة،متشتّتين مختلفين لا يتعاونون تعاون الإخوة،و قد خاطبهم اللّه سبحانه و تعالى بقوله: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ». 1 و جعلهم الكتاب إخوة متعاطفين و قال: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» 2 ،و مع ذلك نرى التشتت و التمزق متفشّيين فيهم.

و لدرء هذا الخطر قام في أواسط القرن الرابع عشر جماعة-إحساساً منهم بخطورة الموقف-بتأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة، و على رأسهم الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر من أهل السنّة و السيد شرف الدين من الشيعة.

و قد نشرا مقالات حول التقريب و تبيين المشتركات،و أنّ المسائل الخلافية لا تضر بوحدة الكلمة و توحيد الأُمّة.

و هذا ما يظهر من مقالاته المنتشرة في مجلة رسالة الإسلام.

ص:671

و مع ذلك كلّه ليس التقريب عنده بمعنى تذويب السنّة في الشيعة أو بالعكس،فإنّ التقريب شيء و التذويب شيء آخر،فالسيد من دعاة التقريب لا من دعاة التذويب،فإنّ الثاني أمر مستحيل في الظروف الحاضرة و الأوّل أمر ممكن.

و لذا نراه-مع أنّه يكتب مقالات في التقريب و ألّف كتاب:«الفصول المهمة في تأليف الأُمّة»الّذي طبع في صيدا عام 1330ه-يرد على موسى جار اللّه الّذي افترى على الشيعة برسالة خاصّة أسماها:«أجوبة مسائل موسى جار اللّه»الّتي طبعت في صيدا عام 1355ه،كما أنّه ألّف رسالة باسم:«رسالة إلى المجمع العلمي العربي بدمشق»و الّتي طبعت في صيدا سنة 1370ه،و قد ردّ بها على الأُستاذ محمد كرد علي رئيس المجمع عند ما تعرض لآل البيت عليهم السلام في مقال نشره في مجلة المجمع.

هذا بعض ما تيسّر لنا كتابته تقديماً للمؤتمر الّذي أُقيم إجلالاً له في اليومين الثالث و الرابع من صفر المظفر عام 1426ه في قم المشرفة في قاعة مدرسة الإمام الخميني رحمه الله.

و نحن نعترف بتقصيرنا أو قصورنا عن بيان ما للسيد الراحل من فضائل و مناقب و خدمات و بطولات.

فسلام اللّه عليه يوم ولد و يوم مات و يوم يبعث حيّاً.

جعفر السبحاني

قم المشرفة

صفر المظفر 1426ه

ص:672

3

اشارة

حياة المحقّق اللاهيجي و آراؤه و تصانيفه

إنّ شرف كلّ علم بشرف موضوعه و الغاية الّتي تُتوخى منه،و لمّا كان موضوع علم الكلام،هو معرفة اللّه سبحانه و صفاته و أفعاله،فإنّ هذا العلم يعدّ من أشرف العلوم.

و لذلك اشتهر علم الكلام بالفقه الأكبر،و معرفة الوظائف العمليّة بالفقه الأصغر.

إنّ الكتاب العزيز هو الّذي فتح باب التّفكير في المعارف الإلهيّة،و حثّ الإنسان عليه في نصوص كثيرة،حتّى أنّه أشار في مجال إثبات المبدأ و إبطال بعض الفروض المزعومة إلى أتقن البراهين و ألطفها،قال سبحانه: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ». 1

و نحن إذا تدبّرنا الذكر الحكيم و قرأنا حِجاجَ إبراهيم عليه السلام و حواره مع عبدة الأجرام السماويّة،لوجدنا فيه أنصع البراهين و أتقنها في إبطال ربوبيّتها.

قال جلّ شأنه: «وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ

ص:673

اَلْآفِلِينَ* فَلَمّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ* فَلَمّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ* وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ». 1

ثمّ يقول: «وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ». 2

إنّ الإمعان في تلك الآيات يرشدنا إلى النقاط المهمّة التّالية:

1.إنّ توحيده سبحانه بمعنى أنّه الربّ،و لا ربّ سواه،هو عبارة أُخرى عن ملكوت السماوات و الأرض الّذي أراه سبحانه لإبراهيم عليه السلام،فكأنّ لصحيفة الكون من السماوات و الأرض وجهين،هما:

أ.وجه ظاهري،و هو ما يشاهده الإنسان و يستكشف أسراره و مكامنه.

ب.و وجه غيبي،و هو قيام الكون باللّه سبحانه قياماً صدوريّاً لا غنى له عنه حدوثاً و بقاءً.و هذا هو المراد من ملكوتهما.

2.إنّ الحجج الدّامغة و البراهين السّاطعة المعتمدة على أدوات المعرفة الرّصينة،لها من الشرف و الكرامة منزلة عالية و مكانة رفيعة بحيث يصفها بكونها

ص:674

حجّته: «وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها».

3.إنّ المعرفة القائمة على البراهين السّاطعة الرّصينة تكون سبباً لرفع الدرجة و تفضيل حاملها على غيره،و لذلك فُضِّل إبراهيم عليه السلام بها على غيره «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ». 1

4.إنّ المتألهين في حكمته سبحانه و البراهين الّتي توصلهم إلى معرفته هم مظاهر أسمائه سبحانه و صفاته،و لذلك يقول سبحانه: «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ».

***

إنّ القرآن الكريم هو المنطلق الأوّل لعلم الكلام،ثمّ السنّة النبويّة و خُطب الإمام علي عليه السلام،و أحاديث العترة الطّاهرة عليهم السلام.

فقد روي عنهم عليهم السلام في مجال البرهنة على العقائد و الأُصول،ما يُبهر العقول و يهزّ الشعور.و ممّا يثير العجب أنّ جماعة من السّلفيّين في القرون الأُولى منعوا التفكير ودعوا النّاس إلى الأخذ بالظّواهر،بحجّة:«أنّا أُعطينا العقل لإقامة العبوديّة لا لإدراك الرّبوبيّة،فمن شغل ما أُعطي لإقامة العبوديّة بإدراك الرّبوبيّة،فاتته العبوديّة و لم يدرك الرّبوبيّة». (1)

فلو أخذنا بقول هذا القائل،لَلَزم حذف كثير من الآيات الّتي تحتوي على براهين واضحة في مجال الإلهيّات،و معرفة الحقّ صفات و أفعالاً.

و لأجل ذلك قام علماء الإسلام (من الشّيعة و السنّة) بتدوين مسائل علم الكلام منذ أواخر القرن الأوّل إلى يومنا هذا،و إن كان سهم الشّيعة في الدّعوة إلى التّفكير و مكافحة الجمود هو السهم الأكبر.

ص:675


1- 2) .الإثبات و التفويض لرضا نعسان معطي نقلاً عن الحجة في بيان المحجة:33.

و في هذا الإطار قامت اللّجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام بترجمة متكلّمي الشّيعة منذ القرن الأوّل إلى نهاية القرن الرابع عشر ضمن موسوعة في خمسة أجزاء بتقديم منّا،و ذكرنا في مقدّمة الجزء الأوّل أهميّة التّفكير و نقدنا أدلّة المخالفين للتفكّر المنطقي على وجه لا يبقي للقارئ المنصف أيّ شكّ و ريب في لزوم التدبّر و التّفكير في المعارف الإلهيّة،فمن أراد التّفصيل فليرجع إلى الجزء الأوّل من كتاب«معجم طبقات المتكلّمين».

المحقّق الطوسي و«تجريد الكلام»

يُعدّ نصير الدّين المعروف بالمحقّق الطوسي(597- 672ه) من النوابغ القلائل الذين لا يسمح بهم الزمان إلاّ في فترات يسيرة.و إليك كلمات بعض الأعلام في حقّه:

قال تلميذه العلاّمة الحلّي (648- 726ه):كان أفضل أهل زمانه في العلوم العقليّة و النقليّة،و له مصنّفات كثيرة في العلوم الحكميّة و الأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة،و كان أشرف مَن شاهدناه في الأخلاق.

و قال الصفدي:كان رأساً في علم الأوائل،لا سيّما في الإرصاد و المجسطي.

ثمّ وصفه:بالجود و الحلم و حسن العشرة و الدهاء.

و قال بروكلمان الألماني:هو أشهر علماء القرن السابع،و أشهر مؤلّفيه إطلاقاً. (1)

و قال الدّكتور مصطفى جواد البغدادي:أنشأ نصير الدّين الطوسي دار العلم و الحكمة و الرّصد بمراغة من مدن آذربيجان،و هي أوّل مجمع علميّ

ص:676


1- 1) .معجم طبقات المتكلّمين:410/2برقم 279؛ [1]موسوعة طبقات الفقهاء:243/7برقم 2589. [2]

حقيقيّ«أكاديمية»في القرون الوسطى بالبلاد الشرقيّة،فضلاً عن الأقطار الغربية الجاهلة أيامئذ. (1)

و قد قام بترجمته العديد من المحقّقين حتّى المستشرقين،و لا يمكن لنا في هذه العجالة بيان ما للمحقّق من علم و فضل و ذكاء و دهاء و آثار و تآليف،و ما كان له من دور مهم في خدمة الدين و دفع خطر المغول عن الإسلام و المسلمين بعد استيلائهم على الحواضر الإسلاميّة. (2)إذ لا يسع المقام لشرح ذلك،و إنّما المهمّ هو الإشارة إلى أحد آثاره المهمّة.

تجريد الكلام في تحرير عقائد الإسلام

يُعتبر كتاب«تجريد الكلام في تحرير عقائد الإسلام»مع وجازته من أشهر كتبه،و الّذي لم يزل منذ تأليفه إلى يومنا هذا مطمحاً للمفكّرين و كبار المتكلّمين،و قد توالت عليه الشّروح و التّعاليق عبر ثمانية قرون،و هو مع صغر حجمه يشتمل على أُمّهات المسائل الكلامية،و يبحث في ثلاثة محاور:

الأوّل:الأُمور العامّة الّتي يطلق عليها«الإلهيّات بالمعنى الأعمّ»و يبحث فيه عن

ص:677


1- 1) .في مقدمته لكتاب«مجمع الآداب في معجم الألقاب»:20. [1]
2- 2) .راجع الجزء الرابع من موسوعتنا«بحوث في الملل و النحل»فقد دفعنا عنه سهام التهم و الطعن من الحاقدين عليه.

الوجود و العدم و أحكام الماهيات،و الموادّ الثّلاث-الوجوب و الإمكان و الامتناع-و القدم و الحدوث،و العلّة و المعلول،و غيرها من المسائل الّتي تبحث عن أحكام الوجود بما هو هو.

الثاني:الجواهر و الأعراض الّتي يطلق عليها«الطبيعيّات»،و يبحث فيه عن الأقسام الفلكيّة و العنصريّة و الأعراض التّسعة،على وجه التفصيل.

الثالث:«الإلهيّات بالمعنى الأخص»و يبحث فيه عن الأُصول الخمسة.

و هذا هو الشيخ علاء الدّين علي بن محمد(المتوفّى 879ه) المعروف ب«القوشجي»يعرفه في شرحه له بقوله:إنّ كتاب التّجريد الّذي صنّفه في هذا الفنّ المولى الأعظم،و الحبر المعظم،قدوة العلماء الرّاسخين،أُسوة الحكماء المتألّهين،نصير الحقّ و الملّة و الدّين محمّد بن محمّد الطّوسي-قدّس اللّه نفسه،و روّح رمسه-تصنيف مخزون بالعجائب،و تأليف مشحون بالغرائب، فهو و إن كان صغير الحجم،وجيز النّظم،فهو كثير العلم،عظيم الاسم،جليل البيان،رفيع المكان،حسن النظام،مقبول الأئمّة العظام،لم تظفر بمثله علماء الأعصار،و لم يأت بشبهه الفضلاء في القرون و الأدوار،مشتمل على إشارات إلى مطالب هي الأُمّهات،مشحون بتنبيهات على مباحث هي المهمّات مملوّ بجواهر كلّها كالفصوص،و يحتوي على كلمات يجري أكثرها مجرى النّصوص،متضمّن لبيانات معجزة،في عبارات موجزة،و تلويحات رائعة لكلمات شائقة،يفجر ينبوع السّلاسة من لفظه،و لكن معانيه لها السّحرة تسجد،و هو في الاشتهار كالشّمس في رائعة النّهار،تداولته أيدي النظّار، و سابقت في ميادينه جياد الأفكار. (1)

أقول:قلّما يتّفق لكتاب أن يكون له ذلك الحظ الّذي ناله كتاب«تجريد الاعتقاد»من إقبال المحقّقين عليه-من الفريقين-بالشّرح و التّعليق، و التّحشية.

و هذا من فضل اللّه سبحانه يؤتيه من يشاء من عباده الصالحين. و إليك بيان شروحه و تعاليقه.

ص:678


1- 1) .شرح تجريد العقائد للقوشجي:1.

شروح التجريد

تصدّى لشرح هذا الكتاب و التّعليق على شروحه الكثير،من العلماء و المفكّرين و الطبقة العليا من المتكلّمين و الفلاسفة،فلنذكر أسماءهم و أسماء شروحهم:

1.كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد:للعلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف(648- 726ه) و هو أوّل شرح كُتِبَ عليه.

و قد أصبح المتن و الشّرح كتاباً دراسياً في الحوزات العلميّة الشّيعيّة،و لكاتب هذه المقدّمة تعاليق على قسم الإلهيّات منه و قد بيّن معضلاته و أخرج مصادره. (1)

2.تعريد الاعتماد في شرح تجريد الاعتقاد:للشّيخ شمس الدين محمّد البيهقي الإسفرائيني،على ما في«الذريعة»؛أو أبي العلاء محمّد بن أحمد البهشتي الإسفرائيني البيهقي،على ما في فهرس مخطوطات مجلس الشورى،و الّذي كان حيّاً سنة 741ه.

و ذكر شمس الدّين محمود بن عبد الرّحمن في شرحه على التّجريد:أنّ العلاّمة الحلّي هو أوّل من شرحه.

ثمّ قال:و رأيت له شرحاً آخر مزجياً لا يتبيّن المتن منه،و هو للشّيخ شمس الدّين محمّد البيهقي الإسفرائيني.

هذا ما ذكره شيخنا الطّهراني في«الذريعة» (2)و أسماه في فهرس مخطوطات

ص:679


1- 1) .تم طبع هذا الكتاب في عام 1418ه ضمن منشورات مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام.
2- 2) .الذريعة:353/3،برقم 1278.

مجلس الشورى ب«تفريد الاعتماد في شرح تجريد الاعتقاد».

و جاء في كتاب«وقائع السنين»للخاتون آبادي أنّ الملاّ البهشتي الاسفرائيني كان من تلامذة الخواجة،و له شرح على كتابه تجريد العقائد. (1)

و أوّل هذا الشرح:«الحمد للّه الفيّاض الجود،الوهّاب الوجود،القيّوم المعبود،الديموم المسجود،و الصلاة على محمّد المسعود بالمقام المحمود».

و قال في المقدّمة:و سمّيته«تفريد الاعتماد في شرح تجريد الاعتقاد».و خُتم الشرح المذكور بالعبارة الآتية:«و كان فراغ مؤلّفه من نقله من السواد إلى البياض يوم الأحد،الثاني و العشرين من ربيع الآخر لسنة إحدى و أربعين و سبعمائة ببلدة«إسفرائن»شكر اللّه جميل مساعيه،و قدّر حصول مباحثه، و غفر لذنوبه و مساويه آمين».

و تحتفظ مكتبة مجلس الشورى الإسلامي بنسختين من هذا الشرح،بالرقم 3830 و 3963،و هما قديمتان جدّاً.و كانتا في عداد كتب المرحوم فضل اللّه المعروف ب«شيخ الإسلام الزنجاني»،الّتي نقلت إلى المكتبة المذكورة.

و قال المرحوم المغفور له شيخ الإسلام الزنجاني-طاب ثراه-في انتقاداته الّتي وجّهها إلى الصفحات 56- 66 من كتاب آثار الشيعة:«الشرح الموسوم ب"تفريد الاعتماد في شرح تجريد الاعتقاد" ألّفه حسام الدّين محمّد بن أحمد البهشتي الإسفرائيني أحد علماء الشّيعة في القرن الثامن الهجري.

و نسخة من هذا الشرح في مكتبتي». (2)

3.تسديد القواعد أو تشييد القواعد في شرح تجريد العقائد:للشيخ

ص:680


1- 1) .وقائع السنين:نسخة مكتبة المجلسي:365.
2- 2) .دائرة المعارف الإسلامية،العدد الأوّل،تأليف عبد العزيز جواهر الكلام:16.

شمس الدين محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الاصفهاني الشافعي(694- 749ه).

قال الشيخ الطهراني:توجد نسخة منه بخط الشيخ ياسين بن صلاح الدين علي بن ناصر البحراني،شرع في كتابته سنة 1124ه و فرغ منها سنة 1126ه في مكتبة الشيخ محمد السماوي،و نقش خاتمه (سلام على آل ياسين)، و يعرف هو ب«الشرح القديم». (1)

و في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي نسخة منه تاريخ تحريرها 819ه، و في مكتبة مدرسة الشهيد المطهري العالية نسخة أُخرى تاريخ كتابتها 876ه،و للشريف الجرجاني (المتوفّى سنة 816ه) حاشية محقّقة على« الشرح القديم»تعرف ب«حاشية التّجريد»كما دوّن جمع من العلماء حواشيَ أُخرى على هذه الحاشية ذكر أكثرها في كتاب«كشف الظنون». (2)

و تسميته ب«الشرح القديم»في قبال الشرح الرابع الّذي سنذكره لاحقاً.

4.شرح تجريد العقائد:للشيخ علاء الدين علي بن محمد القوشجي (المتوفّى 879ه)،و يُعرف ب«الشرح الجديد».

و قد كثرت الحواشي و التّعليقات على هذين الشّرحين "القديم" و"الجديد" و لا سيّما ثانيهما لمزيد اعتناء المحقّقين به.

و من أهمّ الحواشي على هذا الشّرح،ثلاث حواش بعنوان "حاشية التّجريد" للملاّ جلال الدّين محمد بن أسعد الصديقي الدّواني (المتوفّى907ه).

و اشتهرت حاشيته الأُولى ب"الحاشية القديمة"،كتبها في البداية باسم السلطان

ص:681


1- 1) .الذريعة:354/3. [1]
2- 2) .كشف الظنون:251/1.

يعقوب بايندري آق قيونلو (883- 896ه)،ثمّ أهداها إلى السلطان بايزيد.

كما أنّ هناك حاشية أُخرى للسيّد صدر الدّين محمّد الدشتكي الشيرازي(828- 903ه) سجّل فيها مؤاخذته على حاشية الدّواني المتقدّم، فقام الدّواني بكتابة حاشية ثانية على ذلك الشرح،دوّن فيها اعتراضاته على حاشية الدشتكي الشيرازي،و اشتهرت هذه الحاشية ب«الحاشية الجديدة».

ثمّ كتب صدر الدّين حاشيته الثانية و أجاب فيها عن اعتراضات الدّواني.فردّ عليه الدّواني بحاشيته الثالثة المشهورة ب«الحاشية الأجد».

و تعتبر هذه الحواشي أيضاً من أفضل الحواشي المكتوبة على الشرح المذكور.و تعرف حواشي الدّواني الثلاث،و حاشيتا صدر الدّين بين العلماء باسم«الطبقات الجلاليّة و الصدريّة».

5.شرح التجريد:لزين الدّين عليّ بن عبد اللّه البدخشي بالفارسيّة،و عنوانه «تحفه شاهي و عطيّه الهي».و ألّفه صاحبه للسلطان محمّد قطب شاه.

و أوّله:«شكر و سپاس پادشاهى را سزد،و حمد و ثناى بى قياس خالقى را رسد». (1)

و قد فرغ المؤلّف من تأليفه في جمادى الآخرة سنة 1023ه.و يحوم هذا الكتاب حول شرح إلهيّات التجريد.توجد نسخة منه في مكتبة جامعة طهران،و هي من الكتب الّتي أهداها الأُستاذ«مشكاة»إلى المكتبة المذكورة.

كما توجد نسخة أُخرى منه في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي رقمها 2058،و تاريخ تحريرها1207ه،و تبدأ بالمقصد الثالث في إثبات الصانع.

ص:682


1- 1) .كشف الحجب و الأستار:106.و [1]ترجمة أوّله:ينبغي الشكر و الحمد و الثناء الّذي لا يقاس للخالق ربّ الأرباب.

6.شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام:للحكيم المتألّه و المتكلّم الحاذق عبد الرّزاق بن علي بن الحسين اللاّهيجي القمي،و هذا هو الكتاب الماثل بين يدي القارئ،و الّذي نحن بصدد تعريفه و تعريف مؤلّفه.

7.مشارق الإلهام في شرح تجريد الكلام:للحكيم عبد الرّزاق اللاّهيجي المذكور،و قد شرح فيه الأُمور العامّة فقط.ذكره«صاحب الرّياض»مشعراً بأنّه غير شوارق الإلهام،و لم نقف على نسخة منه.

و لعلّ الشرحين شرح واحد اختلفا في الاسم مع وحدتهما في المسمّى.

8.شرح التجريد:لمحمّد جعفر بن سيف الدّين الاسترآبادي المقيم بطهران (المتوفّى 1263ه)،و عنوانه:«البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد السّاطعة».فرغ المؤلّف منه في يوم الجمعة 19جمادى الأُولى 1254ه.

و أوّله:«الحمد للّه الواجب الوجود بالذات،الواحد من جميع الجهات،الّذي يكون صفاته الذاتيّة عين الذات».

تحتفظ مكتبة مدرسة الشهيد مطهّري العالية بنسخة تامّة من هذا الشرح رقمها 1352و تاريخ تحريرها 1258ه.

كما أنّ في مكتبة جامعة طهران نسخة أُخرى تحتوي على الجزء الثاني و الثالث منه،و هي في عداد الكتب الّتي أهداها السيد محمّد المعروف ب«مشكاة»إلى المكتبة المذكورة.

9.شرح التجريد:لمحمّد كاظم بن محمّد رضا الطبري،كتبه باسم محمّد شاه قاجار.

و أوّله:«سبحان من أظهر الأشياء لكمال وجوده،و أفاض عليها سجال

ص:683

الآثار لغاية جوده».

تحتفظ مكتبة مجلس الشورى الإسلامي بنسخة منه،ورد اسم المؤلّف في مقدّمتها كالآتي:«فيقول الراجي إلى رحمة ربّه الوفيّ محمّد قاسم بن الرضا الكاظم الطبري».

و لهذا الشارح كتاب آخر عنوانه«حلّ التركيب»،فسّر فيه بعض التراكيب العربيّة.توجد منه نسخة في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي،رقمها 1176.

10.شرح الأردبيلي:كتب المولى أحمد بن محمّد الأردبيلي(المتوفّى سنة 993ه) شرحاً على إلهيّات التجريد سمّاه«التوحيد على التجريد». (1)

11.شرح تجريد:للميرزا عماد الدّين محمود الشريف بن ميرزا مسعود السمناني صدر دار السرور(برهان پور) بالفارسية.فرغ المؤلّف منه سنة 1068ه.

12.شرح التجريد:للمولى بلال الشاختي القائني.

13.شرح التجريد:للملاّ محمّد بن سليمان تنكابني مؤلّف«قصص العلماء»(المتوفّى سنة 1302ه) بالفارسيّة.و أوّله:«الحمد للمحمود الوجود الفعّال،الّذي لا يحويه ماض و لا استقبال». (2)

14.تحرير تجريد العقائد:للتبريزي،و يحتوي على زبدة المسائل الكلاميّة وفقاً لمذهب الإماميّة الناجية.توجد نسخة منه في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي و رقمها 3968.و أوّلها:و ما هو ذاك الشرح المسئول عن اللّه تعالى أن ينفع الطلاّب،و أن يجعل ذخراً لي في يوم الحساب المبتدي بأنّه تعالى لما أوجب على كلّ

ص:684


1- 1) .دانشمندان آذربايجان:31؛هديّة العارفين:318/1.و [1]طبع بعضها في حاشية شرح التجريد للقوشجي و طبع مستقلاً ضمن الرسائل للأردبيلي.
2- 2) .فهرس الجامعة:2729.

ما أنعم عليه شكر.

15.شرح أبي عمرو أحمد بن محمّد المصريّ(المتوفّى سنة 757ه) المسمّى ب«المفيد».

و تحتفظ مكتبة الآستانة الرضويّة المقدّسة بنسخة من هذا الشرح رقمها 915،و هي ناقصة من أوّلها و آخرها.و يذكر أبو عمرو أحمد بن محمّد المصري في هذا الشرح أُستاذه العلاّمة الحلّي كثيراً.

16.شرح العلاّمة أكمل الدّين محمّد بن محمود البابرتي الحنفي(المتوفّى سنة 786ه) و هو بعنوان«عقيدة الطوسي». (1)

17.شرح الفاضل خضر شاه بن عبد اللطيف المنشوري(المتوفّى سنة 853ه). (2)

18.شرح قوام الدّين يوسف بن حسن المعروف بقاضي بغداد(المتوفّى 922ه). (3)

19.تنقيح الفصول في شرح تجريد الأُصول:للملاّ أحمد بن محمّد مهدي النّراقي الكاشاني (المتوفّى سنة 1245ه). (4)

20.نهاية التحرير في شرح التجريد:ذهب صاحب الذريعة إلى أنّ الشارح هو السيّد محمّد تقي بن أمير مؤمن بن أمير محمّد تقي بن أمير رضا الحسيني القزويني(المتوفّى سنة 1270ه).توجد نسخة من هذا الشرح المنظوم في

ص:685


1- 1) .كشف الظنون:1158/2. [1]
2- 2) .المصدر نفسه:351/1 و 95/2. [2]
3- 3) .كشف الظنون:351/1و 95/2. [3]
4- 4) .إيضاح المكنون:331/1. [4]

مكتبة الآستانة الرضويّة المقدّسة برقم (949)،و ذكر منظِّم الفهرس فيها أنّ الناظم مجهول.و تاريخ تحرير هذه النسخة:1225ه.و الكتاب المشار إليه أُرجوزة في شرح تجريد الاعتقاد،فرغ الناظم منها سنة 1223ه.أوّلها: و بعد حمد اللّه واجب الوجود

***

21.تجريد التجريد:لابن كمال الدّين باشازاده شمس الدّين أحمد بن سليمان (المتوفّى سنة 940ه) و هو إصلاح لكتاب التجريد،كما كتب أيضاً شرحاً على تحريره.توجد نسخة من هذا المتن و الشرح في مكتبة باريس الوطنيّة. (1)

22.علاقة التجريد:و هو ترجمة و شرح بالفارسية لتجريد العقائد للسيّد محمّد أشرف بن عبد الحسيب بن أحمد بن زين العابدين الحسيني(المتوفّى سنة 1145ه).

و أوّلها:«حمد مر خداى را كه تجريد علايق جسمانيه و تهذيب اخلاق ايمانيّه را صراط مستقيم ابواب جنان قرارداد». (2)

و تحتفظ المكتبة المركزيّة لجامعة طهران بنسخة من هذه الترجمة الفارسيّة.

ص:686


1- 2) .الذريعة:310/15برقم 1980. [1]
2- 3) .الذريعة:310/15برقم 1980.و [2]ترجمة العبارة:الحمد للّه الّذي جعل تجريد العلائق الجسمانيّة و تهذيب الأخلاق الإيمانيّة صراطه المستقيم إلى أبواب الجنان.

الحواشي على التجريد و شروحه

و دُوّنت على متن التجريد و شروحه حواش أُخرى كثيرة أيضاً.

منها:حاشية الخفري على إلهيّات التجريد.

و أوّلها:«الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة على سيّد المرسلين و آله الطاهرين،فيقول الفقير إلى اللّه الغنيّ محمّد بن أحمد الخفري:هذه تعليقات...».

و منها:حاشية فخر الدّين الحسيني.

و أوّلها:«الحمد للّه الغفور الرحيم،و السلام على حبيبه المنعوت بالخلق العظيم محمّد الباقر لعلوم الأوّلين و الآخرين،و آله الطيّبين و صحبه الأكرمين و بعد.فيقول الحقير الفقير إلى عفو ربّه الغفور الغنيّ محمّد بن حسين الشهير بفخر الدّين الحسيني». (1)

ترجمة الشارح

قد عرفت أنّ المحقّق اللاّهيجي من شرّاح«تجريد الكلام»فلنذكر شيئاً من ترجمته على وجه الإيجاز كما أوجزنا الكلام في ترجمة الماتن،فنقول:

إنّ التاريخ قد بخس حق هذا العالم الجليل،و لم يذكر شيئاً من حياته إلاّ القليل،و لم يسجّل تاريخ ولادته مع الاختلاف كذلك في تاريخ وفاته.

ص:687


1- 1) .قد صدرنا في تبيين شروح التجريد و شرّاحه و تعليقاته عن المعاجم،كالذريعة،و كشف الظنون،و معجم التراث الكلامي،الصادر عن مؤسستنا في خمسة أجزاء،و أخصّ بالذكر ما ألّفه المحقّق:محمد تقي المدرسي الرضوي حول حياة نصير الدين و آثاره،و نقله إلى العربية:الأُستاذ علي هاشم الأسدي في مجمع البحوث الإسلامية في مشهد الإمام الرضا عليه السلام. و أمّا التعليقات على شروح التجريد فقد اختصرنا الكلام فيها،و من أراد التفصيل فليرجع إلى ذيل كتاب«سبع رسائل».

فقد ذكر صاحب الروضات و تبعه السيد الأمين في أعيانه أنّه توفّي عام 1051ه (1)،أي بعد سنة من وفاة صدر المتألّهين،و لكنّ الحقّ أنّه توفّي عام 1072ه.

و يشهد على ذلك أمران:

أ.أنّه ألّف كتاب«گوهر مراد»و أهداه إلى الشاه عباس الصفوي الثاني الّذي حكم بين 1052- 1077ه،فكيف يمكن أن يكون من المتوفّين عام 1051ه؟!

ب.أنّه لخص كتابه گوهر مراد عام 1058ه و أسماه ب«سرمايه إيمان».

و أمّا ميلاده فلم نقف فيه على شيء،و بما أنّه من تلاميذ المحقّق الداماد (المتوفّى عام 1041ه) و صدر المتألّهين(المتوفّى عام 1050ه)،فيمكن أن يقال أنّه من مواليد العشرة الأُولى من القرن الحادي عشر.

مكانته في الفلسفة و الكلام

إنّ المتتبّع لآثار اللاهيجي الفلسفية و الكلامية يعرف أنّه قد بلغ في فلسفة المشاء و الإشراق،و الإحاطة بأقوال المتكلّمين من المعتزلة و الأشاعرة مرتبة سامية لا تجد لها نظيراً بعد أُستاذيه المذكورين،فهو بحق ثالث الحكماء المتكلّمين.

و حيث إنّ الرائج في المدارس الفلسفية هو مؤلّفات صدر المتألهين أو المحقّق الداماد،فقد صار ذلك سبباً لخفاء مكانة الحكيم اللاهيجي،و إن كان هو قد تربّى في أحضان أُستاذيه المذكورين.

ص:688


1- 1) .روضات الجنات:197/4؛أعيان الشيعة:270/7.

خصائصه الفكرية

اشارة

إنّ الحكيم المتألّه اللاهيجي قد بحث و تتبع آراء و أفكار الفلاسفة و المتكلّمين،كابن سينا و الفخر الرازي و المحقّق نصير الدين الطوسي و عضد الدين الإيجي و سعد الدين التفتازاني و علاء الدين القوشجي و سائر متكلّمي الفرق و المذاهب الإسلامية،و ناقشهم في بعض الموارد،و نشير إلى أبرز ما يتميّز به بحثه و تفكيره ضمن أُمور:

1.الاستقلال في التفكير

إنّ تعمّق الحكيم اللاهيجي في تلك المناهج و المشارب لم يجعله ناقلاً و تابعاً فقط،و إنّما جعله ناقداً للأقوال و محقّقاً للأفكار و مستقلاًّ في التفكير و التحقيق.

و لذلك نرى أنّه لم يقفُ تماماً آراء أُستاذيه،و إنّما سلك في بعض الموارد مسلكاً يخالف منهجهما،كما نلاحظه في مسألة أصالة الوجود أو الماهية الّتي تعتبر من رءوس المسائل الفلسفية و الّتي تترتب عليها آثار و فروع مختلفة.

فالسيد الداماد من المتحمّسين لأصالة الماهية،و لكنّ صدر المتألّهين من القائلين بأصالة الوجود بعد ما ظل مدة معتقداً بأصالة الماهية.

أمّا شارحنا الجليل فقد ألّف كتاباً سمّاه«الكلمات الطيبة»حاكم فيه النظريتين، و انتهى أخيراً إلى الجمع بين الرأيين،و انّ القول بأصالة الماهية لغاية رد نظرية المعتزلة القائلة بتقرر الماهيات في مواطنها قبل الوجود.كما سيوافيك تفصيله.

ص:689

2.الاستشهاد بالكتاب و السنّة

إنّ الحكيم المتألّه اللاهيجي استهدى بهدى الكتاب و السنّة في غير مورد، فهو من القائلين بأنّ الكتاب و السنّة و العقل تصب في مصب واحد و ليس بينها أي خلاف،و ما يتراءى من بعض الظواهر ما يخالف البرهان فانّما هي ظواهر بدئية غير مستقرة:كقوله تعالى: «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» 1 ،و لكن لو أعطى القائل حق النظر في هذه الآية،لوقف على أنّها كناية عن معاني سامية، و هي استيلاؤه سبحانه على صحيفة الكون بعد إنشائه.

3.الاهتمام بكلتا اللغتين

كانت الكتابة باللغة العربية في عصر المؤلف دليلاً على ثقافة المؤلف و سموّ مقامه في المعارف و العقائد،و قلّما يتّفق لعالم أن يؤلّف كتاباً بلغة أهله،لعامة الناس أو لطائفة خاصة،و لكن الشارح الشهم قد تحرر من ذلك القيد و أخذ يؤلف باللغتين:العربية و الفارسية،فألّف«شوارق الإلهام»في الكلام بالعربية، كما ألّف«گوهر مراد»الّذي هو نسخة ثانية للشوارق باللغة الفارسية،ثمّ لخّصه في كتاب و أسماه«سرمايۀ ايمان».

فهذه الطبقة من العلماء الذين يحملون هموم أمّتهم هم المكرّمون عند اللّه سبحانه،و لذلك نرى أنّه قد توالى التأليف باللغة الفارسية من عصر المؤلف و عصر المجلسي إلى يومنا هذا في مختلف البلاد.

آثاره العلمية

ترك الحكيم اللاهيجي آثاراً علمية تتلألأ على جبين الدهر،و إليك سرداً لما

ص:690

وقفنا عليه من مؤلّفاته رحمه الله:

1.شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام (مطبوع).

2.مشارق الإلهام في شرح تجريد الكلام.

3.تعليقته على حاشية شمس الدين الخفري على قسم الإلهيات من شرح القوشجي للتجريد المذكور (مخطوط).

4.گوهر مراد(بالفارسية)(مطبوع).

5.سرمايۀ ايمان بالفارسية(مطبوع).

6.التشريقات (مخطوط) في التوحيد و العدل و المحبة.

7.رسالة حدوث العالم.

8.الكلمات الطيبة في المحاكمة بين الداماد و ملا صدرا.

9.تعليقته على شرح الإشارات في الفلسفة للمحقّق الطوسي.

10.ديوان شعره بالفارسية(مطبوع).

11.مختصر حاشية الشرح الجديد للتجريد.يوجد في مكتبة الوزيري في يزد.

12.حدوث العالم.

و للأسف أنّ أكثرها رهين محبسين:محبس عدم معرفة الأكثر بكتبه،و محبس رداءة الطبع أو عدمه،الأمر الّذي جعلها بعيدةً عن متناول الأيدي.

و هذا ما دعا مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام إلى تحقيق كتاب«شوارق الإلهام» و تصحيحه و التعليق عليه و طبعه طبعة جديدة لائقة.

التعاليق على الشوارق

و قد علّق على هذا الشرح من جاء بعده من المحقّقين،نذكر منهم ما يلي:

ص:691

1.التعليقة عليه للمولى إسماعيل بن المولى سميع الاصفهاني من تلاميذ المولى علي النوري (المتوفّى عام 1277ه).

2.التعليقة عليه للمولى عبد الرحمن بن الميرزا نصر اللّه الشيرازي المدرس في الرضوية،ولد عام 1268ه.

3.التعليقة عليه للمولى محمد نصير بن زين العابدين اللاهيجي الچهاردهي،والد الشيخ الميرزا محمد علي المدرسي(المتوفّى عام 1270ه)،كتبه في بلدة اصفهان.

و قد علّق على كلا المقصدين:الأُمور العامة،و الجواهر و الأعراض،و فرغ منه عام 1243ه،نقل كثيراً من حواشي المولى إسماعيل الاصفهاني المذكور. (1)

4.و هناك تعليقة أُخرى للمولى آقا علي المدرس الزنوزي،كما سيوافيك بيانه.

بعض آرائه و أفكاره

اشارة

و ها نحن نذكر نموذجين من آرائه و أفكاره،و هما يدلاّن على نبوغه و استقلاله في التفكير،و هما:

أ.الجمع بين الرأيين:أصالة الماهية و الوجود

كان النزاع بين الرأيين:أصالة الوجود و أصالة الماهية،على قدم و ساق إلى عصر أُستاذيه:السيد المحقّق الداماد و صدر المتألّهين،فقد كان أُستاذه الأوّل قائلاً بأصالة الماهية ذابّاً عن رأيه بحماس.

و كان أُستاذه الثاني صدر المتألّهين قائلاً بأصالة الوجود بعد ما كان قائلاً

ص:692


1- 1) .الذريعة:144/6. [1]

بأصالة الماهية،و قد شاد صَرحَ رأيه بأدلّة محكمة رصينة في أسفاره،و ذكر ملخّص الأدلّة في كتابه المشاعر.

و المحقّق اللاهيجي قد تتلمذ لديهما،و في الوقت نفسه كان صهراً لصدر المتألّهين،الّذي لقّبه ب«الفيّاض»كما لقّب صهره الآخر ب«الفيض»،أعني:«ملا محسن»المعروف ب«الفيض الكاشاني».

و قد اختار نظرية أُستاذه الثاني و قال بأصالة الوجود،و مع ذلك فقد فسر نظرية أصالة الماهية الّتي كان عليها أُستاذه الآخر،و وجّهها بشكل يلائم النظرية الأُخرى،و لا يتعارض معها.و خلاصة التوجيه كالآتي:

إنّ هنا مسألتين:

الأُولى:ما هو الأصيل في الخارج هل الوجود أو الماهية؟

الثانية:ما هو المجعول و الصادر عن المبدأ الأوّل و مبدأ المبادئ؟

و من المعلوم أنّ ما هو الأصيل هو الصادر من المبدأ الأوّل.هذا من جانب.

و من جانب آخر فإنّ المعتزلة ذهبت إلى تقرر الماهيات منفكة عن الوجود في ظروفها الخاصة.

و لمّا كان هذا القول يضاد أُصول التوحيد،إذ معنى ذلك غناء الماهيات في وعائها و تقررها عن المبدأ،و كان القول بأصالة الوجود،بظاهره يدعم نظرية المعتزلة،من كون الماهيات فوق الجعل و انّها متقررة في وعائها،جنح بعض الحكماء إلى القول بأصالة الماهية ردّاً لنظرية المعتزلة.

و لو أُغمض النظر عن هذا فلا شكّ في أنّ الأصيل و المجعول هو الوجود، و هذا هو الّذي يصرح به المحقّق اللاهيجي في عبارته التالية:

إنّ المراد بكون المجعول هو الماهيات هو نفي توهم أن تكون الماهيات

ص:693

ثابتات في العدم،بلا جعل و وجود؛ثمّ يصدر عن الجاعل،الوجود أو اتّصاف الماهية بالوجود،فإذا ارتفع التوهّم فلا مضايقة في الذهاب إلى جعل الوجود أو الاتّصاف بعد أن تيقّن أن لا ماهيات قبل الجعل،و إلى هذا يؤول مذهب أُستاذنا الحكيم المحقّق الإلهي قدس سره في القول بجعل الوجود،فإنّه يصرّح بكون الوجود مجعولاً بالذات و الماهيات مجعولة بالعرض على عكس ما يقوله القوم».

ثمّ إنّه استشهد بكلام المحقّق الطوسي التالي:

«إذا صدر عن المبدأ الأوّل شيء كان لذلك الشيء هوية مغايرة للأوّل بالضّرورة،و مفهوم كونه صادراً عن الأوّل،غير مفهوم كونه ذا هوية ما،فإذن هاهنا أمران معقولان:أحدهما:الأمر الصادر عن الأوّل و هو المسمّى بالوجود؛الثاني:هو الهوية اللازمة لذلك الوجود و هو المسمّى بالماهية». (1)

و هذه التعابير تحكي عن أنّ القول بأصالة الماهية إشارة إلى مجعوليتها، و القول بمجعوليتها لأجل الردّ على النظرية الّتي تذهب إلى ثبوتها قبل الوجود.

و لو لا أنّ القول بأصالة الوجود يوهم غناء الماهية عن الجعل،الموهم أيضاً لتقررها قبل الوجود،لم يكن هناك أيّ داع للقول بأصالة الماهية،و إنّما اختاروا هذا العنوان (أصالة الماهية) لأجل نفي الثبوت لها قبل الوجود، و ذلك لأجل تعلّقها بالجعل.

ب.ملاك التحسين و التقبيح العقليين

إنّ مسألة التحسين و التقبيح العقليين من أهمّ المسائل الكلامية التي تبتني عليها أُصول أُخرى و لها ثمرات كثيرة ذكرناها في موضعها. (2)

ص:694


1- 1) .الشوارق:108/1طبع طهران، [1]المسألة 27.
2- 2) .انظر كتاب رسالة في التحسين و التقبيح العقليين-لكاتب هذه السطور:86- 98،الفصل 11.

و قد اختلفت كلمة المثبتين و النافين في ما هو الملاك لقضاء العقل بالحسن و القبح،فقد ذكروا للحسن و القبح ملاكات نذكرها إجمالاً:

1.ملائمة الطبع و منافرته.

فالمشهد الجميل بما أنّه يلائم الطبع يعدّ حسناً،كما أنّ المشهد المخوف بما أنّه منافر للطبع يعدّ قبيحاً،و الطعام اللذيذ و الصوت الناعم لأجل موافقتهما الطبع حسنان كما أنّ الدواء المرّ و نهيق الحمار قبيحان.

2.موافقة الغرض و المصلحة الشخصية أو النوعية و مخالفتهما.

فالعدل بما أنّه حافظ لنظام المجتمع حسن،و الظلم بما أنّه هادم للنظام و مخالف لمصلحة النوع فهو قبيح.

3.كون الشيء كمالاً للنفس أو نقصاً لها،كالعلم و الجهل،فالأوّل زين لها و الثاني شين.

4.كون الشيء حسناً أو قبيحاً عادة،كتحسين خروج الجندي بالبزة العسكرية و تقبيح خروج العالم بنفس ذلك اللباس.

و ليعلم أنّ هذه الملاكات التي تكلّم بها المثبت و النافي ليست ملاكاً للتحسين و التقبيح العقليين،و ذلك لأنّ الغرض من القاعدة معرفة أفعاله سبحانه تبارك و تعالى و معرفة ما هو حسن أو قبيح بالنسبة له،فلو كانت الغاية هي تلك،فلا معنى لجعل طبع الإنسان المادّي ملاكاً للحسن و القبح كما هو الملاك الأوّل.

كما لا معنى لاتّخاذ الثاني (كونه محصّلاً لغرض النوع أو هادماً له) ملاكاً للحسن و القبح،و ذلك لأنّ الغاية هي معرفة صفاته سبحانه و أفعاله قبل أن يخلق العالم و المجتمع الإنساني.فكون العدل حافظاً للنظام،و الظلم هادماً،لا صلة لهما بفعل اللّه تعالى.

ص:695

و أمّا الثالث،أي كونه كمالاً للنفس أو شيناً له فلا أظن أنّه محل للنزاع.

و أمّا الرابع فهو واضح البطلان،لأنّ الأُمور العادية تختلف حسب الظروف و البيئات.

و لأجل هذا فقد أنكر مؤلّفنا البارع المحقّق اللاهيجي تلك الملاكات كلّها و أبدع نظراً خاصاً حاصله:أنّ نفس الشيء بما هو هو-مع قطع النظر عن كون فاعله واجباً أو ممكناً،و مع قطع النظر عمّا يترتّب عليه من المصالح و المفاسد - إذا لاحظه العقل يستقل بحسنه أو قبحه مطلقاً.

و إن شئت قلت:إنّ الفعل الصادر من الفاعل المختار-سواء أ كان واجباً أم ممكناً-إذا نظر إليه العقل و تجرّد عن كل شيء يستقل إمّا بحسنه و أنّه يجب أن يفعل،أو بقبحه و أنّه يجب أن يترك بغضّ النظر عمّا يترتّب عليه من المصالح و المفاسد،أو بغضّ النظر عن موافقته لغرض الفاعل أو مخالفته،فإنّ كلّ هذه الضمائم ممّا لا حاجة إليها في قضاء العقل بالحسن و القبح،فكأنّ نفس الفعل علّة تامة-عند اللحاظ-لحكم العقل بالحسن أو القبح. (1)

نبوغ الشارح في الأدب الفارسي

ربّما يتصوّر القارئ أنّ المحقّق اللاهيجي،كان متوقّد الفكر في الجانب الفلسفي و المناقشات الكلامية فقط،و لم يكن له حظ في القريض و نظم الشعر،و لكنّه سرعان ما يرجع عن تلك الفكرة الخاطئة إذا عطف نظره إلى ديوانه الضخم الّذي يقع في حدود 780 صفحة،و يشتمل على الكثير من الغزليات و القصائد

ص:696


1- 1) .سرمايۀ ايمان:60- 62.

و المدائح باللغة الفارسية،نقتطف منه ما يلي:

يقول في مدح الرسول صلى الله عليه و آله و سلم: چشم دارد بر متاع ما سپهر چنبرى يوسف ما بهتر از گرگى ندارد مشترى

و يقول في منقبة بنت المصطفى فاطمة الزهراء عليها السلام: چنان به صحن چمن شد نسيم روح افزا كه دم ز معجز عيسى زند نسيم صبا

و يقول في مدح صاحب العصر و الزمان (عجّل اللّه فرجه الشريف): كنون خوشست كشيدن شراب خندۀ گل كه شسته است چمن رو در آب خندۀ گل

إلى غير ذلك من المدائح و القصائد الّتي تسمو به قدس سره إلى الطبقة العليا من الشعراء الهادفين الذين وصفهم سبحانه بقوله: «إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللّهَ كَثِيراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ». 1

***

و ممّا يجدر ذكره،هو أنّ كتاب التجريد يشتمل على مقاصد ستة:

المقصد الأوّل:في الأُمور العامّة.

المقصد الثاني:في الجواهر و الأعراض.

المقصد الثالث:في إثبات الصانع تعالى و صفاته و آثاره.

المقصد الرابع:في النبوة العامّة و الخاصّة.

ص:697

المقصد الخامس:في الإمامة.

المقصد السادس:في المعاد و الوعد و الوعيد و ما يتّصل بذلك.

و قد وُفِّق المحقّق اللاهيجي في الشوارق لشرح المقصدين الأوّلين بتمامهما و شيئاً من المقصد الثالث،و قد جفَّ قلمه في نهاية المسألة السادسة في أنّه تعالى متكلم،و بذلك صار الكتاب شرحاً غير كامل.

و من اللائق أن يتصدّى عباقرة علم الكلام لإكمال هذا الشرح (الشوارق)، و لكنّنا لم نعثر على من تصدّى لذلك،إلاّ ما قام به العلاّمة الحجّة آية اللّه محمد المحمديّ الگيلاني دامت بركاته،حيث شرح ما بقي من الكتاب، و أسماه ب«تكملة شوارق الإلهام»طبع عام 1421ه.ق،فسدّ بذلك الفراغ الموجود في هذا الشرح،و قد أعاننا-حفظه اللّه-في تحقيق هذا المشروع بوضع النسخ المطبوعة و المصورة الّتي كانت بحوزته،في متناول المحقّقين في المؤسسة،فشكر اللّه مساعيه و مساعي الجميع في إرساء صرح هذا العلم و الذب عن حياض الدين بالبيان و البنان.

كما نقدِّر جهود العلاّمة المحقّق زين العابدين«قرباني»اللاهيجي-دامت بركاته-في إحياء ذكرى المؤلف بإقامته مؤتمراً في مدينة«لاهيجان»في شمال إيران عام 1414ه،باسم المحقّق اللاهيجي،شارك فيه جمع من العلماء و المفكّرين ببحوث أشادوا فيها بمكانة المؤلف و فضله و تفوقه الفكري،كما أنّه قام بطبع أحد كتب المؤلف أعني«گوهر مراد»بعد أن ترجم له في مقدمته ترجمة ضافية...فحيّاه اللّه و بيّاه.

انّ إحياء ذكرى علمائنا أمر مرغوب جدّاً،إذ فيه إحياء للعلم و ترغيب الجيل

ص:698

الحاضر للتعرّف على نتاج أفكار عظماء هذه الأُمّة،و خاصّة إذا قام المشرفون على هذه المؤتمرات بنشر آثار أصحاب الذكرى بعد تحقيقها بالشكل الصحيح و اللائق بهم.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

18 شوال المكرّم من شهور عام 1425ه

ص:699

بسم اللّه الرحمن الرحيم

4

اشارة

في الحياة العلميّة للشهيد المطهري(1338- 1399ه)

التحق نبي الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم بالرفيق الأعلى تاركاً بين أُمّته عقيدة بيضاء و شريعة سهلة سمحة،يقف عليهما من قرأ كتاب اللّه سبحانه بإمعان و تدبّر و راجع السنّة النبوية الشريفة.

و كان أئمّة أهل البيت عليهم السلام و من تربّى في مدرستهم هم السبّاقون في الذبّ عن الإسلام و حياض الشريعة...استجابة لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين و تحريف الغالين و انتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد». (1)

و نحن إذا درسنا تاريخ حياة الأئمّة المعصومين عليهم السلام و حياة تلامذتهم لرأينا أنّ مناظراتهم و احتجاجاتهم دفاعاً عن حياض الشريعة و العقيدة كانت تتصدّر قائمة اهتماماتهم،و تقع في أعلى سلّم الأولويات لديهم.

و لمّا غاب نجم الإمامة بعد مرور 260 سنة من هجرة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،انتقلت

ص:700


1- 1) .رجال الكشي:10. [1]

هذه المسئولية المهمة إلى عاتق العلماء المجاهدين في ذلك المضمار،فهذا هو الشيخ الصدوق يذبّ عن العقائد بتأليف كتب في مجالات مختلفة،منها كتابه المعروف:«كمال الدين»الّذي أجاب فيه عن الشبهات المثارة حول ميلاد الإمام الثاني عشر عليه السلام و تناول فيه حياته عليه السلام و كيفية انتفاع الأُمّة منه في غيابه.

و قد ظهر في مختتم القرن الرابع و أوائل القرن الخامس نابغة العراق و نادرة الزمان الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد(336- 413ه) و الّذي فتح باب المناظرات و الحوارات بين مختلف الطوائف،فكان مجلس درسه ملتقىً للآراء و الأفكار المختلفة،و كان الشيخ يستمع إلى أقوال الحاضرين و آرائهم و وجهات نظرهم،ثمّ يبادر إلى التفكير فيها و دراستها و تحليلها و الإجابة عنها.

و قد تخرّج على الشيخ المفيد جموعٌ من المتكلّمين الذابّين عن الشريعة منهم:

1.السيد المرتضى (355-436ه).

2.سلاّر بن عبد العزيز صاحب«المراسم العلوية»ناقض نقض الشافي لأبي الحسين البصري المتوفّى سنة 448.

3.الشيخ محمد بن الحسن الطوسي(385- 460ه).

و غيرهم من عباقرة الفكر الذين ربّاهم الشيخ في مدرسته،و قاموا هم أيضاً بدورهم و تحمّلوا أعباء هذه الوظيفة.

و لو حاول أحد أن يذكر أسماء العلماء المناضلين و الذابّين عن الدين بقلمهم و لسانهم لاحتاج إلى تأليف كتاب حافل،و لعل في«معجم طبقات المتكلمين» (1)غنى و كفاية في هذا المضمار.

ص:701


1- 1) .موسوعة تتضمن ترجمة رجالات العلم و الفكر عبر أربعة عشر قرناً،طبعت في خمسة أجزاء،تأليف اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام بإشراف منّا.

و ممّن يعدّ من الطبقة العليا من هؤلاء الفطاحل في مختتم القرن الرابع عشر، المفكّر الإسلامي الكبير الشيخ الشهيد المطهري رحمه الله،فقد شمّر عن ساعد الجدّ للذبّ عن المبادئ و القيم حينما رأى هجوم الأفكار المادية الماركسية و المسالك المشتقة عنها و المغطاة بغطاء إسلامي،نهض بمسئوليته المتمثّلة في الحضور في ساحات الجامعات و التركيز على المفاهيم الرائجة فيها.

فصرف رحمه الله مدة طويلة من عمره في هذا المجال على نحو أوجدت شهادته فراغاً هائلاً.

و منذ أن التحق الشيخ الشهيد بالرفيق الأعلى كُتب حول حياته الكثير من الرسائل و المقالات،و كلّ منها قد درس حياته منطلقاً من جوانب خاصّة.

و الّذي نطرحه في هذه المقالة هو الإشارة إلى الخطوط البارزة من جهاده العلمي و تفكيره.

1.التركيز على التفكير

إنّ ما يميّز الإنسان عن سائر ذوات الحياة هو التفكير و الاهتداء بالمقدّمات وصولاً إلى النتائج،و لذلك عُرّف الإنسان بأنّه حيوان ناطق،و ليس المقصود من النطق هو التكلّم،بل هو التكلم النابع عن التفكير،فكأنّ كلامه وجود تجسيدي لفكره و رأيه.

و كان شيخنا الشهيد مفكراً غائراً في أعماق المواضيع الّتي يريد أن يكتب فيها أو يلقي محاضرة عنها.

و لذا يجد المُطالع في جُلّ آثاره نوعاً من التجديد و شيئاً بارزاً من التطوير بحيث أتت مقالاته و رسائله حلقة وصل بين القديم و الجديد.

و لا أنسى أنّه قد شرح و علّق على كتاب«أُصول الفلسفة الإسلامية»للسيد

ص:702

العلاّمة الطباطبائي بعامّة أجزائه،و لكنّه أخّر نشر ما يتعلّق بمباحث الحركة و الّتي هي من أعقد البحوث الفلسفية بين القدماء و المتأخّرين.

و لما سُئل عن سبب التأخير أجاب بأنّي لم استطع هضمها حتّى أكون قادراً على كتابتها،و لذلك فإنّي أُراجع مواضيعها مرة بعد أُخرى حتّى تتّضح لي معالمها و آثارها ثمّ اكتب.

كان رحمه الله قليل التكلّم كثير التفكير،و كان يحضر دروس سيدنا الأُستاذ الإمام الخميني قدس سره،و كنّا نرى أنّه لا يناقش آراء أُستاذه إلاّ مرة واحدة في الأُسبوع، و لكنّه في تلك المرة يصل إلى نقطة يكاد يخضع فيها الأُستاذ إلى إيراده و إشكاله،فكان يحاول الجمع بين ما تبنّاه و ما أورد عليه تلميذه النابغة،و هذا ما كنت أُشاهده أيّام حضوري معه دروس الإمام الراحل رحمه الله.

2.الاستقامة في تحليل المواضيع

التفكير موهبة إلهية عمّت كافّة عباده و بحسب درجات استعدادهم،و المهم هو أن يستخدم الإنسان هذه الموهبة الإلهية في الكشف عن الواقع و الحقيقة دون أن يتأثر بالبيئة أو بالدوافع المادية أو النزعات النفسية.

و هكذا كان شيخنا العلاّمة المطهري فهو ينظر إلى المسائل الفلسفية أو العقائدية متجرداً عن كلّ تحيّز أو تأثر بالبيئة أو نزعة طائفية،فيأتي بما هو لُبّ اللباب و يدافع عنه بحماس.

و في مقابل ذلك نجد كاتباً إسلامياً يحمل طابَع الإسلام،و لكنّه يتخذ الإسلام غطاءً لأفكاره و واجهة أمام الشعب حتّى لا يُتّهم بالإلحاد و الانحراف عن المحجّة البيضاء،مع أنّه يبث الإلحاد في كتاباته و رسائله و يريد إخضاع العقائد الإسلامية و الأحكام العملية للأُصول المادية لكي تنطلي أغراضه على

ص:703

أذهان المسلمين.

و كان الشهيد الراحل في منأى عن هذا النوع من التفكير الّذي لا يفارق النفاق قيد شعرة،و من هنا انبرى الأُستاذ المطهري لمناهضة هذا النوع من التفكير المادي الّذي غلافه الإسلام و محتواه الإلحاد،قائلاً بأنّ ضرر هذه الزمرة أكثر من ضرر المعتقدين بالمادية الماركسية أو غيرهم.

3.تلبية الحاجات الثقافية

ألّف الشيخ الشهيد عشرات الكتب و المقالات و الرسائل في مواضيع مختلفة، و كان الحافز الّذي يدعوه للكتابة و التأليف هو تلبية الحاجات الثقافية في المجتمع و سدّ الفراغ الموجود في المكتبة الإسلامية،فكلّ أثر من آثاره إنّما يحمل هذا الطابع،فما تآليفه إلاّ وسيلة لتحقيق غرض خاص من غير فرق بين كتبه الفلسفية أو التاريخية أو العقائدية.

و من هذا المنطلق نرى الشهيد المطهري-و هو المفكّر و الأُستاذ الكبير - يؤلّف كتاباً قصصياً للشباب لأجل اطّلاعهم على سيرة الصالحين.

هذا ما دفع بعضهم إلى انتقاده معتبراً أنّ هذا النوع من التأليف غير لائق بمن هو في الرعيل الأوّل من أساتذة الفلسفة و ممّن يشار إليه بالبنان في التعقّل و التفكير،فأجاب رحمه الله بما هذا مثاله:

إنّي ما أمسكت بالقلم منذ أعوام إلاّ لأخدم المسلمين و العقيدة الصحيحة، و الّذي دفعني إلى تحرير أُصول الفلسفة الإسلامية هو الّذي دفعني إلى كتابة هذا النوع من الكتب (1)و الّذي يتراءى أنّه دون شأني،فإنّي وجدت

ص:704


1- 1) .إشارة إلى كتاب«داستان راستان».

فراغاً هائلاً في الكتب التربوية،لأنّ الآخرين يركّزون على قصص روائية خيالية لا واقع لها إلاّ في ذهن الكاتب و لها أثرها الخاص في عالم التربية، و لكنّي عمدت في هذا التأليف إلى استخراج سيرة الصالحين من بطون الكتب لتكون مصباحاً للشباب و داعياً لهم إلى انتهاج مسالكهم.

خذ من باب المثال كتابه الطائر الصيت«خدمات متقابل اسلام و ايران»الذي ألّفه دفاعاً عن الإسلام و المسلمين،ذلك أنّ الدعايات الكاذبة في عهد النظام السابق كانت تركّز على الرجوع إلى الثقافة البهلوية الّتي سبقت الإسلام، و لتحقيق هذه الغاية استخدموا كتّاباً من الجامعات و غيرها ليشيّدوا هذه الفكرة و للإيحاء بأنّ المسلمين العرب إنّما جاءوا لهدم الحضارة الإيرانية و الإغارة عليها.

كانت الفكرة القومية آنذاك سائدة في عامّة البلاد الإسلامية،و لها في كلّ بلد لون خاص.فالقومية العربية الفارغة عن الإسلام هي الّتي كان يتبنّاها عملاء الاستعمار و المخدوعون به في البلاد العربية لغرض إبعاد الشعب المسلم عن الإسلام و سَوْقه نحو العربية المحضة الّتي تجمع كلّ عربي تحت هذا الغطاء،سواء أ كان مسلماً أم مسيحياً أم غير ذلك.

هكذا كانت الدعايات الغربية تعمل وراء الستار في كلّ بلد بشكل خاص.

و في معترك هذه الأزمة الفكرية قام المطهري رحمه الله بإلقاء محاضرات في الجامعات و غيرها بيّن فيها عطاءات الإسلام للإيرانيين و أوضح-في نفس الوقت-خدمة الإيرانيين للغة الإسلام و كتابه و سنّته.

فكان هناك تأثير متبادل و عطاء غير منقطع.و يُعدّ كتابه هذا من أفضل ما أُلّف في هذا الموضوع.

و ما دفعه إلى ذلك النوع من التأليف إلاّ تلبية حاجة المجتمع.

ص:705

4.كان ملجأً للجامعيّين

عاش الشيخ الشهيد في عصر أتاح فيه النظام الحاكم آنذاك للمتأثّرين بالمبادئ الغربية من أساتذة الجامعات،المجال لطرح آرائهم و نظرياتهم حول الدين و جذوره و الشريعة و فروعها.

و كانت الغاية من هذه الحرية هو ضرب فئات الشعب بعضها ببعض كي تتلهّى بالحوار و النقض و الإبرام دون أن تفكّر في المسائل السياسية المصيرية.

إنّ الحرية بهذا المعنى و إن كان لها أثر في نمو الأفكار و تقدّم الثقافة،و لكنّها ربّما تضرّ بالمبادئ و القيم الّتي تقابل النظرات الغربية في الأخلاق و الشريعة، و كان الشهيد الراحل ملجأ للجامعيين يرجعون إليه في حلّ الشبهات و رفع الإشكالات.

و بما أنّه كان أحد الأساتذة في الجامعة،فقد كان يتمتع بفرصة عقد محاضرات و جلسات يردّ فيها الأفكار السامة بأسلوب علمي رصين و خلق رفيع.و قد أوجدت شهادته فراغاً هائلاً في هذا الجانب لو لا أن منّ اللّه سبحانه بأساتذة أفاضل سدّوا هذا الفراغ حفظهم اللّه من كلّ مكروه.

5.انفتاحه على آراء الآخرين

من السمات الّتي يمتاز بها الباحث عن الحقيقة،هو الانفتاح على آراء الآخرين،و الإصغاء إليها بوجه طلق لا يبدو عليه أي امتعاض،موحياً إلى المتحدّثين أنّه يسمع إلى آرائهم و يحترمها،و أنّها ستحظى بقبوله إذا ما دعمها البرهان و الدليل،و على ذلك سار الأنبياء و الأولياء في مواجهة المخالفين و المعاندين،بقوله سبحانه: «وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ

ص:706

حَوْلِكَ» 1 .فالمراد من قوله: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ» هو سعة صدره في مجابهة أقوال الآخرين.

و إليك هذه القصة الّتي تنطلق بك إلى آفاق رحيبة في حسن الاستماع للآخرين:

كان ابن أبي العوجاء كبير الملحدين في عصر الإمام الصادق عليه السلام يبث دعاياته الإلحادية في مسجد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،و لمّا سمع المفضل بن عمر الجعفي - أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام-ما يبثّه من سموم في مركز الدعوة الإلهية، هجم عليه و كلّمه بعنف و قال:يا عدو اللّه ألحدتَ في دين اللّه و أنكرت الباري جلّ قدسه الّذي خلقك في أحسن تقويم و صوّرك في أتم صورة، ...إلى آخر ما قال.فأجابه ابن أبي العوجاء.بقوله:

يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك،و إن ثبت لك حجة تبعناك،و إن لم تكن منهم فلا كلام لك،و إن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فما هكذا يخاطبنا،و لا بمثل دليلك يجادلنا،و لقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت،فما أفحش في خطابنا،و لا تعدّى في جوابنا،و انّه للحكيم الرزين العاقل الرصين،لا يعتريه خرق و لا طيش و لا نزق،و يسمع كلامنا و يصغي إلينا و يستعرف حجتنا حتى استفرغنا ما عندنا و ظننا أنّا قد قطعناه،أدحض حجّتنا بكلام يسير و خطاب قصير يلزمنا به الحجّة،و يقطع العذر،و لا نستطيع لجوابه ردّاً،فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه. (1)

و هكذا كانت سيرة فقيدنا الشهيد في حواراته و مناظراته و عامّة تآليفه،

ص:707


1- 2) .بحار الأنوار:(كتاب التوحيد): [1]58/3.

و إليك نموذجاً من هذا النوع من الانفتاح على المخالف:

ألّف الشيخ المطهري كتاب«نظام حقوق المرأة في الإسلام»في مقابل ما كان ينشره الدكتور إبراهيم المهدوي الزنجاني حول حقوق المرأة الّتي كان أكثرها مخالفاً للقرآن و الشريعة الإسلامية،و قد نشر هذا الدكتور لائحة في أربعين مادة في هذا الصدد من على صفحات مجلة (زن روز) المهتمة بالأُمور النسوية.

و بعد مباحثات بين الطرفين اتّفقا على أن يكتب الدكتور مقالاته في الدفاع عن أُطروحته المسمّاة بالأربعين مادة في حقوق المرأة و حرّيتها،و ذلك في مجلة (زن روز)،و يكتب الشهيد المطهري آراءه و نظراته في كلِّ مادة يذكرها الدكتور في صفحات مقابلة لصفحات مقال الدكتور.

و قد كان لتلك المساجلات و المناظرات صدى واسع يوم ذاك بشكل أصبح واضحاً عند الجامعيّين و الحقوقييّن تفوّق منطق المطهري و قدرة تفكيره و بيانه على منطق الطرف الآخر،ممّا سبب انفعالاً عند الدكتور الزنجاني فأُصيب بسكتة قلبية كانت سبب وفاته،و ذلك بعد العدد السادس من بدء المحاورة.و لكن الشيخ استمر في كتابة مقالاته،حول نظام حقوق المرأة في الإسلام،و أصبحت هذه المقالات-بعد أن جمعت-كتاباً و مصدراً لمن يريد أن يكتب في هذا الموضوع.

و هذا النوع من المرونة من الشيخ و الاتّفاق على الكتابة في موضوع واحد مع كاتب بعيد عن منطق الإسلام أفضل دليل على أنّ هذا الشهيد رحمه الله كان منفتحاً على آراء الآخرين،و كان مطمئناً أنّه سوف يخرج في النهاية منتصراً مسدداً.

ص:708

6.الغيرة على الدين

قد تطلق لفظة (الغيرة) و يراد بها التعصّب الأعمى المنطلق من العصبية العرقية أو القومية أو ما يشابههما.فالتعصّب بهذا المعنى يخالف منطق العقل و طريق الشرع.

و قد تطلق هذه اللفظة-مرة أُخرى-و يراد بها التعصّب للحق دفاعاً عنه و عن أهله،سواء أ كان لصالح المتعصّب أم لا،فالتعصّب بهذا المعنى هو حميّة عقلية و غيرة دينية يوصف به الصالحون من عباد اللّه تبارك و تعالى حيث يضحّون بأنفسهم في طريق إحياء الحق.

هذا هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يتكلّم حول التعصّب و يندّد به فيقول:أمّا إبليس فتعصّب على آدم لأصله،و طعن عليه في خلقته فقال:أنا ناري و أنت طيني.

و أمّا الأغنياء من مترفة الأُمم فتعصّبوا،لآثار مواقع النعم،فقالوا:نحن أكثر أموالاً و أولاداً و ما نحن بمعذبين.

فإن كان لا بدّ من العصبية فليكن تعصّبكم بمكارم الخصال،و محامد الأفعال، و محاسن الأُمور الّتي تفاضلت فيها المُجداء النجداء من بيوتات العرب و يعاسيب القبائل ذوي الأخلاق الرغيبة و الأحلام العظيمة و الأخطار الجليلة و الآثار المحمودة. (1)

كان شهيدنا الراحل مظهراً للتعصّب للحق لا يعادل به شيئاً حتى شخصه و شخصيته،فلذلك سجن و اعتقل مرة بعد أُخرى،لإظهاره الحق و الإجهار بالمعتقد و إن بلغ ما بلغ.

ص:709


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة 192. [1]

لم يكن الشيخ المطهري رحمه الله من أهل المساومة،فلا يتراجع عن الأُصول و الفروع الشرعية قيد شعرة و لو كلّفه ذلك نتائج باهضة.

عكف الشهيد الراحل على دروس الإمام الخميني سنين متمادية،و اختلف إلى أندية دروسه صباحاً و مساءً حتى أصبح من أعاظم تلاميذه،و أفضل من برع على يديه،و لكن حبه للإمام و أُستاذه لم يكن بشكل يثير فيه العصبية العمياء للتنكّر للآخرين،فهو في الوقت نفسه يعظّم الآخرين من غير فرق.

و لذلك نراه عند ما ينقل شيئاً عن العلاّمة الطباطبائي الّذي كان أحد أساتذته يقرن اسمه بجملة (روحي فداه).

هكذا كان الشهيد الراحل يتبع الحق و يتّخذه مصباحاً يمشي على ضوئه،فإذا عرف الحق عرف أهله و جلّلهم،و إذا عرف الباطل عرف أهله و أعرض عنهم و عن باطلهم و نقدهم.

فكان الشهيد الراحل مثالاً لما ذكره الإمام علي عليه السلام في حرب الجمل عند ما تقابل الجيشان للقتال و في الجيش المقابل الزبير بن العوام و طلحة بن عبيد اللّه(و هما من شيوخ الصحابة) و أُمّ المؤمنين عائشة حرم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فأوجد ذلك حالة من الشك عند البسطاء،فحاولوا الانعزال عن الجيشين، لأنّ في كلّ طرف شخصية عظيمة لا تنكر،و لمّا سأل أحد القادة الإمام عليه السلام قبل نشوب الحرب و اشتعال نارها:كيف تقاتلون يا أمير المؤمنين مع هذه الجماعة و فيهم من تعرفه؟

فأجابه الإمام بكلمة قيّمة تعدّ من أفضل الكلمات و أعظمها:

«إنّك رجل ملبوس عليك.

إنّ الحقّ و الباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال.

ص:710

اعرف الحق تعرف أهله،و اعرف الباطل تعرف أهله».

و قد أخذت هذه الكلمة بمجامع قلوب الأُدباء و الكُتّاب من المصريّين حتى قال الدكتور طه حسين في حقّها:هذه الكلمة أعظم كلمة سمعتها أُذن الدنيا بعد الوحي.

صلّى اللّه عليك يا أمير المؤمنين يا أمير البيان.

7.العارف بزمانه

كان الشهيد المطهري عارفاً بزمانه و بالظروف الّتي يعيش فيها،و الأساليب الّتي يجب أن يتّخذها أداة للتبليغ و التعليم.

فإنّ الحقيقة لم تزل أمراً واحداً و لكن العرض قد يختلف حسب الظروف، فربَّ حقيقة رائعة إذا عرضت بأُسلوب لا يوافق أذواق المخاطبين،لا تؤثر شيئاً،بل ربما توجب بُعداً.

يقول الإمام الصادق عليه السلام في بعض نصائحه:«العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس». (1)

و المراد من اللوابس هو الفتن و الحوادث المرة الّتي تحيط حياة الإنسان، و ربّما تقضي عليه إذا لم يكن مستعداً من ذي قبل على ردّها و دفعها.

يقول سبحانه: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ». 2

صحيح أنّه يقول: «مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» و لكن لا يكتفي به،و لكن يذكر معه «مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» ،و معنى ذلك أنّ القائد الإسلامي يجب أن يتدرّع

ص:711


1- 1) .الكافي:27/1،الحديث 29،كتاب العقل و الجهل. [1]

بكلّ قوة ما استطاع،و من المعلوم أنّ لكلّ عصر جهاز و وسيلة دفاعية تتناسب معه،و يزيد سبحانه على هذا بقوله: «تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ» .و معنى ذلك أنّ النظام الإسلامي يجب أن يكون على استعداد تام يملأ قلوب الآخرين بالرهبة و الخوف،و كلّ ذلك رهن كون الجهاز الحاكم عارفاً بزمانه و بما يجري في الشرق و الغرب من الحوادث الّتي قد تكون لصالح الإسلام أو بضرره.

و على ضوء ذلك فإنّه يجب تقليد المجتهد الحي دون المجتهد الميت،لأنّ الأوّل عارف بالزمان و بحلول المسائل المستجدة،بخلاف الميت المنقطع عن الدنيا غير المتنبئ بمستقبل الحوادث.

و قد تحدّثنا عن ذلك مفصّلاً في أحد محاضراتنا الّتي ألقيناها في إحدى جامعات المغرب العربي خلال سفرنا إلى هناك في محرم 1425ه.

نرى أنّ الشيخ المطهري يجسّد ذلك في حياته و هو لم يزل يطالع كتب الشرقيّين و الغربييّن من الموافقين و المخالفين،و لذلك أحاط برأي الغربيّين في قسم من المسائل الفلسفية،و جمع بين الثقافة الإسلامية و الثقافة الغربية، غير أنّه لم يتأثر بالأفكار الغربية قيد شعرة.

و إنّما استخدمها لنقد الحضارة الغربية،و بيان مشاكلها،و ما في الإسلام من حلول لهذه المشاكل العويصة.

8.المثابرة في العمل

كان الشيخ الراحل ساعياً إلى هدفه،دءوباً على العمل،لم يُرَ منه الكسل و الضجر في كافّة الأوقات،و كان يواصل أعماله في شتّى الحقول،على نظام خاص،و كان جهده و سعيه في سبيل نيل الضالّة المنشودة،و هي التعليم

ص:712

و التعلّم منذ شبابه إلى أن لبّى دعوة ربّه على وتيرة واحدة.

كيف لا و هو يقرأ قوله سبحانه: «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى». 1

كيف لا و هو ربيب بيت العمل و السعي و الجدّ و المثابرة،و قد هاجر من مسقط رأسه مشهد الرضا إلى قم المشرفة و هو في أوان شبابه ليس له معين إلاّ كدّه و تعبه حتى في ضروريات حياته،و بذلك أصبح نتيجة تلك الظروف العصيبة كزبر الحديد-بعد أن تعرض إلى حرارة النار-رغم مواجهته لأنواع المشاكل و العوائق.

رحم اللّه السيد المجاهد الأمين العاملي الّذي قال في قصيدة يصف فيها حياته و كأنّه يرسم بريشته حياة شهيدنا الراحل،إذ يقول: لئن كان قد ولّى الشبابُ عصره

هكذا كان العلماء الراسخون في العلم الذين بلغوا أسمى المدارج و الدرجات.

قال أُستاذنا الكبير السيد حسين البروجردي (1292- 1380ه) في أحد دروسه:كنت طالب علم في مدينة اصفهان أسكن مدرسة الصدر،و قد جلست للمطالعة في ليلة من الليالي بعد صلاة العشاء،و كنت أدرس مسألة الترتب الّتي هي من المسائل الأُصولية الغامضة،و كنت أفكر و أكتب و أُمحي،

ص:713

و قد استغرقت في عملي إلى أن سمعت صوت المؤذن يؤذّن لصلاة الصبح.

و هكذا كان الإمام الخميني رحمه الله ينزل في الصيف بعض المدن القريبة من قم المشرفة للاصطياف،و قد سافر في عام 1370ه إلى مدينة محلاّت الّتي هي قريبة من قم،و هي ذات هواء معتدل،و فيها حدائق أزاهير عطرة و مياه معدنية،و هناك أيضاً مارس جهاده العلمي قراءة و كتابة ليلاً و نهاراً،و قلّما يتفق أن يكون له احتكاك بعامّة الناس أو بعلماء المدينة،إلاّ في وقت خاص و هو قريب من المغرب.

فقد سمعت منه رحمه الله عند ما سألته عن كيفية اشتغاله فقال:كنت ابتدأ بالمطالعة و الكتابة من الساعة السادسة صباحاً إلى الساعة الثانية عشر دون أن يطرأ عليّ كسل أو ضجر،غير أني أُنوّع عملي بين المطالعة و الكتابة.

فإذا كان هذا هو حال الأُستاذين فيجب أن يكون مَن تربى في أحضانهما مثلهما،إذ في ناموس الخلقة أن يخطو التلميذ خطوات أُستاذه.

9.منهجية التحقيق

نرى أنّ كثيراً من العلماء و الكتاب يبذلون جهودهم في القراءة و الكتابة و لكن لا يتمكّنون من استثمار جهودهم فتذهب سدى ادراج الرياح.

و انّما يكون التوفيق حليف من له منهجية في التحقيق،و هذه موهبة إلهية.

و كان الشيخ المطهري ممّن رزقه اللّه ذوقاً خاصاً للتحقيق و تنظيم المذكرات و استثمارها في مواقعها،على نحو لو قام أحد بنشر بعض مذكراته في موضوع معين لأصبحت كتاباً دون أن يظهر فيه نقص.

ص:714

هكذا كان شهيدنا الراحل و هكذا كان العلماء المحقّقون من ذوي المواهب الكبيرة.

10.موسوعيته في العلوم

إنّ كثيراً من العلماء يبذلون جهودهم في تعلّم فنّ خاص،و ليس لهم في بقية العلوم إلاّ حظ قليل.

و لكن في المقابل يوجد أُناس استثنائيون لهم في كلِّ علم حظ باهر،و الشيخ المطهري كان من هذه الفئة،فهو متكلّم بارع،و حكيم واع،و في الوقت نفسه كان فقيهاً أُصولياً صرف شطراً من عمره في تحصيل ذينك العلمين حتى برع و اجتهد،كما أنّه كان له في اللغة العربية يد طوى حيث إنّه يقرأ الكتب المؤلّفة في السيرة و التاريخ و الآداب و السياسة،كما أنّ له إلماماً بالأدب العربي المعاصر.

فهو رجل موسوعي جامع لأغلب الفنون و العلوم،يتمتّع بحافظة و ذاكرة قوية.

هذه إضاءات على أبرز ما تميّزت به حياة الشهيد الراحل الفكرية،و أمّا البحث عن خصائصه في الجوانب الأُخرى فهو موكول إلى وقت آخر.

فلنقتصر على ذلك و نرفع آيات الاعتذار عن التقصير في البيان بما يستحقه شأنه و مقامه.

و العذر عند كرام الناس مقبول.

فسلام اللّه عليه يوم ولد و يوم استشهد و يوم يبعث حيّاً

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

10 ربيع الثاني من شهور عام 1426ه

ص:715

ص:716

الفصل السابع:رسائل و مكاتبات

اشارة

1.ملاحظات جول ندوة الاهتمام بالسنّة و السيرة النبوية

2.معاوية بن أبي سفيان في الميزان

3.رسالة رئاسة شئون الحرمين الشريفين

4.التأليف حول الفقه على ضوء المذاهب الستة

5.رسالة تأبينية بوفاة السيد محمد بن علوي المالكي

6.تقدير و تقويم للجزء الأوّل من موسوعة الفقه الإسلامي

7.توضيح حول قوله سبحانه: «فِي بُيُوتٍ»

8.صورة تقريظ لكتاب أُصولي

9.ملاحظات حول كتاب جمهرة القواعد الفقهية في المعاملات المالية

10.مقال حول:القواعد الفقهية للشيخ مرتضى الترابي

11.ملاحظات الدكتور عبد الوهاب حول موسوعة طبقات الفقهاء و جوابنا

ص:717

ص:718

1

اشارة

ملاحظات حول ندوة الاهتمام بالسنّة و السيرة النبوية

أُقيمت في المدينة المنورة ندوة علمية حول الاهتمام بالسنّة و السيرة النبوية بتاريخ 15- 17ربيع الأوّل عام 1425ه،و قدّم المعنيّون بالسنّة و السيرة النبوية حوالي ثمانين مقالاً في مواضيع مختلفة تجمعها العناية بهما.

و قد شارك في هذه الندوة أساتذة السنّة و السيرة من مختلف بلدان العالم الإسلامي،إلاّ أنّنا-و للأسف-لم نجد بينهم عالماً شيعياً يعرض جهود محدّثي الشيعة للحاضرين حتّى يقفوا على دور الشيعة في تدوين السنّة و السيرة و مقدار الاهتمام بهما.

و كنّا قد كتبنا إلى الصديق الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان و طلبنا منه أن يبعث إلينا بمقالات المؤتمر،فقام مشكوراً بإرسالها،و حين وصولها إلينا فاطلعنا على بعضها،و كتبنا حولها بعض الملاحظات الّتي تجدها في رسالتنا اللاحقة و الّتي أرسلناها إلى صديقنا المتفضّل علينا حفظه اللّه.

ص:719

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إلى الأُستاذ الفاضل المحقّق الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان دامت معاليه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن يكون سيدنا العزيز في غاية الصحّة و تمام العافية، و أن يوفقه اللّه تبارك و تعالى لما يحبه و يرضاه.

وصلتنا رسالتكم الكريمة مشفوعة بالكتب التالية:1.تصوير مقاصد الشريعة للشيخ علال الفاسي.2.نظرية المقاصد للدكتور الريسوني،3.مجموع ما أُلقي في ندوة (السنّة و السيرة النبوية) و كان حافلاً بثمانين رسالة قد قرأت بعضها،و سأقوم بقراءة الباقي إن شاء اللّه تعالى.

و الّذي لفّت انتباهي في هذه الرسائل هو إصرار عدد من المحاضرين في الندوة على حجية الخبر الواحد في العقائد و المعارف وراء حجيته في الأحكام و الفروع العملية.منهم:محمد بن جميل مبارك،و عامر بن حسن صبري.

أقول:أمّا حجّيته في الفروع و الأحكام فممّا لا غبار عليها،إنّما الكلام في حجيته في الأُصول و العقائد،و الحق-وفاء للمحقّقين-عدم حجّيته فيها؛ و ذلك:لأنّ المطلوب من العقيدة هو الإذعان القلبي،كما أنّ المطلوب من الشريعة هو العمل،فكأنّ الشريعة ثمرةُ العقيدة،و كلّ إنسان ينطلق في سلوكه من عقيدته و إيمانه.و السلوك العملي و تطبيق الحياة على الحكم الشرعي ليس رهن الإذعان بصحّة الحكم الشرعي،بل ربّما يعمل به الإنسان أو يتركه مع الشكّ و الترديد في صحّة حكم ما،بشهادة أنّ جميع الأحكام الفرعية ليست من القطعيات،بل هي

ص:720

بين مقطوع و مظنون بها،كما أنّ له تلك الحالة مع الظن بصحّة الحكم دون اليقين بها،لكن العمل و التطبيق في متناول الإنسان في أيّ وقت شاء،سواء أشك في صحّة الحكم أو ظنّ أو قطع بها.

و أمّا العقيدة بمعنى عقد القلب على شيء و أنّه الحقّ تماماً دون غيره-كما هو المطلوب في العقائد-فتختلف عن الأحكام الفرعية،فهي رهن أُسس و مبادئ تقود الإنسان إلى الإذعان على نحوٍ لولاها لما حصلت له تلك الحالة و إن شاء و أصرّ على حصول اليقين.و أين خبر الواحد،من هذه الأُسس و المبادئ التي تنتج العلم شاء الإنسان أم لم يشأ.

و بعبارة أُخرى:العمل بالأحكام من مقولة الفعل و هو واقع تحت إرادة الإنسان،فربّما يعمل بما لا يجزم بصحته كما يعمل مع الجزم بها،و مثال ذلك أنّ أئمّة المذاهب الفقهية مختلفون في الآراء و المصيب منهم واحد، و مع ذلك فأتباع كلّ إمام يعملون بفقهه مع علمهم بخطئه إجمالاً في بعض الآراء لعدم عصمته.

و لكن الإذعان من مقولة انفعال النفس بالمبادئ الّتي تؤثر في طروء هذه الحالة على صحيفتها،و لو لا تلك المبادئ لما ترى له أثراً في الذهن.

يقول سبحانه: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» 1 .ما ذا يريد اللّه سبحانه من هذه الجملة؟ يريد أنّ الدين (العقيدة) لا يمكن أن يتعلّق به إكراه؟! لأنّه من شئون القلب الخارجة عن القدرة،تماماً كالتصورات الذهنية،و انّما يتعلّق الإكراه بالأقوال و الأفعال التي يمكن صدورها عن إرادة القائل و الفاعل.

إنّ الدين و هو سلسلة من المعارف العلمية الّتي تتبعها أُخرى عملية،

ص:721

يجمعها أنّها اعتقادات،و الاعتقاد و الإيمان من الأُمور القلبية الّتي لا يحكم فيها الإكراه و الإجبار،فإنّ الإكراه إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهرية و الأفعال و الحركات البدنية المادية.

و أمّا الاعتقاد القلبي فله علل و أسباب أُخرى قلبية من سنخ الاعتقاد و الإدراك، و من المحال أن ينتج الجهل علماً،أو تولّد المقدّمات غير العلمية تصديقاً علمياً.

فما ادّعاه أعداء الإسلام من:«أنّ الإسلام قام بالسيف و القوة»ما هو إلاّ ادّعاء فارغ يجانب العقل،لأنّ السيف لا يؤثر في العقيدة و الإذعان و إن كان يؤثر في تطبيق العمل وفق الشريعة.

و على ضوء ذلك قال المحقّقون بحجية خبر الواحد العادل في الأحكام العمليّة دون الأُصول و العقائد،لأنّه لا يفيد العلم و اليقين الّذي هو أساس العقيدة إلاّ إذا احتفّ بقرائن خارجية تورث العلم و الجزم،و ما هذا إلاّ لأنّ المطلوب في الأحكام هو العمل،و هو أمر اختياري يقوم به الإنسان حتّى في حالتي الشك و التردد في صحّة الحكم.

و أمّا الأُصول و المعارف فالمطلوب فيها عقد القلب و الإذعان على نحو يطرد الطرف النقيض بإحكام،و الخبر الواحد بما هو هو و إن كان الراوي ثقة خصوصاً إذا كان بعيداً عن مصدر الوحي-لا يورث إلاّ الظن،و هو لا يغني في مجال العقيدة عن الحقّ شيئاً.و من عجيب الكلام انّ المحاضرين ادّعيا أنّ خبر الواحد،يفيد العلم (ذكره محمد بن جميل في رسالته،ص 44،و عامر بن حسن في ص 9) و كأنّ الكاتبين خلطا بين الحجية و إفادة العلم و شتان بينهما و كون الظن حجة،لا يعني قطعية مدلوله،بل كون العمل به مبرئاً للذمّة.

ص:722

و في الختام اعتذر إليكم عن طول الكلام في المقام،فإنّ الباعث لذلك هو حبي و تقديري لكم انطلاقاً من قول النبي الكليم حيث أطال في الجواب عند ما سأله الباري عمّا في يده فقال: «هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى».

و هذه الرسالة مرفقة بالكتب التالية:

1.فقه الرضاع،2.أحكام السفر،3.السيرة المحمدية،4.الأمثال في القرآن الكريم.

و في الختام نرجو القبول مع فائق الاحترام و لكم منّا جزيل الشكر.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

قم المقدسة مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

السادس عشر من جمادى الأُولى 1425ه

ص:723

2

اشارة

معاوية بن أبي سفيان في الميزان

قام الشيخ يوسف القرضاوي حفظه اللّه في بعض خطب صلاة الجمعة بالدفاع عن معاوية بن أبي سفيان.

و قد كتبنا إليه رسالة ألفتنا نظره فيها إلى عدم ضرورة طرح مثل هذه المواضيع و المسلمون في هذا الوقت يعانون ما يعانون من ظلم و إبادة،كما ألفتنا نظره إلى أنّ مواقف معاوية في حياته و الّتي يذكرها التاريخ لا تؤهّله لأن يدافع عنه أحد.

و لما وصلت الرسالة إلى يد العلاّمة عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان حفظه اللّه كتب رسالة يوصينا فيها بترك التعرض إلى الصحابة.

و قد أجبنا عن هذه الرسالة بجواب يوضح موقفنا من الصحابة.

و إليك قارئنا الكريم تلك الرسائل الثلاث:

ص:724

الأُستاذ الفاضل الشيخ يوسف القرضاوي المحترم

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

نثمّن جهودكم العلمية و ما قدّمتموه للأُمّة الإسلامية من تآليف و آثار قيمة في مختلف المجالات.

نسأل اللّه سبحانه و تعالى أن يأخذ بيدكم لما يحب و يرضى و يوفّقكم لصالح الأعمال،كما نثمِّن مواقفكم الإيجابية في مسألة التقريب و الوحدة بين المذاهب الإسلامية.

و لكن ذلك لا يمنعنا من الإشارة إلى بعض الكلمات الّتي صدرت عنكم في بعض المناسبات.

1.قد طرحتم إيمان سيد الأباطح أبي طالب و قلتم إنّه مات كافراً،مع أنّ أفعاله و أعماله طيلة عشر سنين في مكّة المكرمة،و قصائده الفاخرة،تشهد على أنّه مات مؤمناً،و عاش كعيشة مؤمن آل فرعون،و قد أرسلنا إليكم رسالة حول هذا الموضوع سابقاً،و ركزنا على أنّ المسألة ليست من الضروريات حتّى تطرح من على المنابر.

2.قرأنا في إحدى الصحف دفاعكم عن معاوية بن أبي سفيان في خطبة صلاة الجمعة.

و لنا أن نتساءل:

ما هي جدوى الانتصار لمعاوية في هذه الأيام الّتي تتعرض فيها الأُمّة الإسلامية إلى تحديات كبيرة و هجمات شرسة؟! و نتطلّع فيها إلى تقديم فهم

ص:725

صحيح للإسلام،و تصوّر واضح لمفاهيمه و أفكاره،و موقف سليم و جريء إزاء قضاياه و رجاله و شخصياته،يُتحرّى في كلّ ذلك الحق،و يُلتزم فيه بالموقف الشرعي و الأخلاقي،بعيداً عن التأثيرات العاطفية،و القناعات الّتي ربما نشأت على أساس من المفاهيم المغلوطة و المعلومات المزيّفة.

هل خلا تاريخنا الإسلامي من رجالٍ تبنّوا الإسلام شعاراً و هدفاً و منهجاً و سلوكاً،و استرخصوا الأرواح و الدماء في سبيله...؟! هل خلا من هؤلاء حتّى يُعمد إلى مثل معاوية ليبعث من بين هذا الركام الهائل من الخطايا و الأخطاء من أجل أن يُبرّأ و يلمّع وجهه البشع؟! فهذا عليّ و الأهازيج باسمه

لا أدري ما ذا يقتبس (جيل النصر المنشود) الّذي يسعى الأُستاذ القرضاوي إلى صُنعه،من معاوية الّذي ناوأ الحقّ،و ناجز الهدى،و أراق دماء الصالحين، و أشاع السبّ و اللعن،و أدنى الانتهازيّين و النفعيّين و أصحاب القلوب المريضة الذين آثروا الحياة الدنيا على الّتي هي خير و أبقى؟!

هل يُرجى من جيل النصر المنشود إذا زُيّنت له صورة معاوية و اقتدى به و اقتفى آثاره،أن (تتحقق على يديه الآمال و تستحيل الهزائم و النكسات إلى انتصارات،و ينتقل من الغوغائية إلى العلمية،و من التشاحن إلى التعاون) على حدّ تعبير الدكتور القرضاوي؟!

إنّ معاوية لم يرحل عن دنياه المظلمة بالفتن و الأحقاد و المكر و الاستبداد

ص:726

حتّى ختمها بجريمة كبرى لا تُغتفر استجابة لنزعة شريرة و أهواء مُضلّة،عبّر عنها بقوله:«لو لا هواي في يزيد لأبصرت طريقي».

و نحن نسأل الداعية الكبير و صاحب الروح الشفافة الأُستاذ القرضاوي:هل من الحقّ إسدال الستار على مقترف هذه الجريمة النكراء المتمثّلة بتسليط يزيد الفجور و الخمور على رقاب المسلمين؟ و ارتكابه تلك المجازر الوحشية بقتل ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته و أصحابه،و سفك دماء المسلمين في وقعة الحرّة و انتهاك حرماتهم و أعراضهم؟!

و نودّ أن نذكر هنا بعض ما ورد في حقّ قائد الفئة الباغية معاوية:

قال الذهبي:و قُتل عمار مع علي،و تبيّن للناس قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:تقتله الفئة الباغية. (1)

قال محقّق الكتاب المذكور:و هو حديث صحيح مشهور بل متواتر،و لما لم يقدر معاوية على إنكاره،قال:إنّما قتلَه الذين جاءُوا به،فأجابه علي عليه السلام،بأنّ رسول اللّه إذن قتل حمزة حين أخرجه،و هذا منه إلزام مفحم لا جواب عنه، و حجة لا اعتراض عليها.

و روى مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص،عن أبيه،قال:أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال:ما منعك أن تسبَّ أبا التُّراب؟ فقال:أمّا ما ذكرتُ ثلاثاً قالهن له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،فلن أسبَّه.لأن تكون لي واحدةٌ منهنّ أحبُّ إليَّ من حُمْرِ النَّعم.سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول له،و قد خلَّفهُ في بعض مغازيه،فقال له عليّ:يا رسول اللّه،خلّفتني مع النساء و الصبيان؟ فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من

ص:727


1- 1) .سير أعلام النبلاء:142/3 ترجمة معاوية برقم 25.

موسى،إلاّ أنّه لا نبوّة بعدي».

و سمعته يقول يوم خيبر:«لأعطينَّ الرّاية رجلاً يحبُّ اللّه و رسوله،و يحبه اللّه و رسوله»،قال:فتطاولنا لها فقال:«ادعوا لي عليّاً»،فأُتي به أرمد.فبصق في عينه و دفع الرّاية إليه،ففتح اللّه عليه.

و لمّا نزلت هذه الآية «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ» 1 دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً و فاطمة و حسناً و حسيناً عليهم السلام فقال:«اللَّهُمَّ هؤلاءِ أَهْلي». (1)

و قال ابن أبي نجيح،قال:لما حجّ معاوية طاف بالبيت و معه سعد،فلمّا فرغ انصرف معاوية إلى دار الندوة فأجلسه معه على سريره،و وقع معاوية في عليّ،و شرع في سبّه،فزحف سعد ثمّ قال:أجلستني معك على سريرك ثمّ شرعت في سبّ عليّ،و اللّه لأن يكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس.

إلى آخر الحديث،و فيه من قول سعد:و أيم اللّه لا دخلت لك داراً ما بقيت.

و نهض. (2)

لقد بدّل معاوية الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض،و أخذ البيعة لابنه يزيد على كره من أهل الحلّ و العقد و تحت بوارق الإرهاب و أطماع أهل الشره و الشهوات،و قد حجّ في سنة خمسين و اعتمر في رجب سنة 56،و كانت الغاية من السفرين أخذ البيعة من المهاجرين و الأنصار لولده يزيد،و قد دار بينه و بين أهل الشرف و الكرامة من الجيلين كلمات يقف عليها مَن قرأ التاريخ.

ص:728


1- 2) .صحيح مسلم:1198،كتاب فضائل الصحابة،باب من فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام،الحديث 6114،دار الفكر،بيروت-1424ه.
2- 3) .مروج الذهب:24/3؛ [1]البداية و النهاية:83/8 [2] حوادث سنة 55ه.

و لا نذكر من ذلك شيئاً،لأنّه في متناول الجميع،و قد وقف على ذلك الأصم و الأبكم حتى الغربيون.

قال السيد محمد رشيد رضا في المنار:قال أحد كبار علماء الألمان في الآستانة لبعض المسلمين و فيهم أحد شرفاء مكة:

إنّه ينبغي لنا أن نقيم تمثالاً من الذهب لمعاوية بن أبي سفيان في ميدان كذا من عاصمتنا(برلين)،قيل له:لما ذا؟ قال:لأنّه هو الذي حوّل نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية الغلب،و لو لا ذلك لعم الإسلام العالم كلّه،و لكنّا نحن الألمان و سائر شعوب أوروبا،عرباً مسلمين. (1)

أ ليس هو الذي قتل الأبرياء من صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و غيرهم مثل حجر بن عدي و أصحابه و عمرو بن الحمق الخزاعي و شريك بن شداد الحضرمي و غيرهم،و قد كان أصحابه «أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ». 2

و لم يكن لهم أي ذنب سوى أنّهم كانوا من أصحاب علي عليه السلام و محبيه.

و في هذا الصدد كتب الإمام الطاهر الأبيّ الضيم الحسين بن علي سيد الشهداء عليه السلام رسالة إلى معاوية،قال فيها:

«أ لست قاتل حُجر و أصحابه العابدين المخبتين الذين كانوا يستفظعون البدع،و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر؟! فقتلتهم ظلماً و عدواناً من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة و العهود المؤكّدة جرأةً على اللّه و استخفافاً بعهده.

أ وَ لستَ بقاتل عمرو بن الحمق الذي أخلقت و أبلت وجهه العبادة،فقتلتَه من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العُصم نزلت من شعف الجبال؟

ص:729


1- 1) .تفسير المنار:260/11.

أو لستَ قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد:إنّه على دين عليّ كرّم اللّه وجهه.و دين عليّ هو دين ابن عمّه صلى الله عليه و آله و سلم الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه،و لو لا ذلك كان أفضل شرفك و شرف آبائك تجشّم الرحلتين:رحلة الشتاء و الصيف،فوضعها اللّه عنكم بنا،منّةً عليكم». (1)

نعم قام غير واحد من المغفلين بتبرير أعماله بالاجتهاد حتّى أثبتوا له أجراً، معتمدين على القول المعروف:للمصيب أجران و للمخطئ أجرٌ واحد.و قد عزب عنه انّ هذا لو صحّ فإنّما هو للاجتهاد المعتمد على الكتاب و السنّة الذي هو رمز بقاء الدين و سرّ خلوده لا الاجتهاد في مقابل الأدلّة الشرعية.

فوا عجباً أ يُكتب الأجر لمن سنّ سب المرتضى عليه السلام صنو النبي و أخيه الذي لم يفارقه منذ نعومة أظفاره إلى أن التحق النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالرفيق الأعلى؟!

و للّه درّ الشاعر المبدع الأُستاذ محمد مجذوب،القائل في قصيدته العصماء: أين القصور أبا يزيد و لهوُها

نازعته الدنيا ففزتَ بوِرْدها

ص:730


1- 1) .الإمامة و السياسة:160/1؛ [1]جمهرة خطب العرب:255/2،رقم 246.

و لعلّ في هذه الكلمات القصيرة التي هي غيض من فيض و قليل من كثير تذكرة للأُستاذ المعظم.و دمتم موفقين.

جعفر السبحاني

قم المقدسة-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

العاشر من جمادى الأُولى1424ه

و لمّا وصلت هذه الرسالة إلى يد العلاّمة الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان كتب إلينا الرسالة التالية يوصينا بإيقاف البحث عن الصحابة،و إليك نصّها و جوابنا عنها:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سماحة العلاّمة الشيخ جعفر السبحاني حفظه اللّه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

فأسأل المولى جلّ و علا لسماحتكم دوام الصحة و السعادة.أشكر لسماحتكم تفضّلاتكم العديدة،و هداياكم الثمينة من المؤلفات القيّمة الّتي هي أغلى من كلّ شيء عدا ما بعثتموه لي من خيرات البلد الشقيق إيران صانها اللّه من كلّ مكروه.

سيدي:كما يقول الشاعر (لعل له عذراً و أنت تلومه).

أمّا عن خطابكم الأوّل فقد وصلني مع ما بعثتموه لي و كنت قد عزمت

ص:731

على السفر في اليوم بعد وصول خطابكم الكريم،و لمّا عدت إلى الوطن تسلّمت خطابكم الثاني،و قد ضمّنتموه طلب إرسال كتاب التحصيل،و قد بحثت عنه في مكتبات مكة المكرمة فما وجدته،و كلفت بعض الإخوة من أصحاب المكتبات للبحث عنه في مدن المملكة،و كنت دائم التردد عليه لحثّه على حضوره،و قد أحضره لي الأُسبوع الماضي،و كنت خارج مكة المكرمة لمدة أُسبوع و هَا أنا ذا سعيد بحصول طلبتكم،هذا هو سبب تأخر إجابتي على خطابيكم الكريمين.شكر اللّه عنايتكم و اهتمامكم.

سيدي:تأملت رسالتكم للشيخ القرضاوي،و ما جاء من قضايا علمية سطرها قلمكم الرفيع.

بخصوص خبر الواحد و ما شرحتم حوله فرأيكم الّذي عرضتموه هو رأي علماء أهل السنّة و الجماعة بالنسبة للعقيدة و الأخذ به في الفروع فقط.

أمّا موقفكم من بعض صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فالواقع أنّنا و نحن نسعى للتقريب بين المذاهب أ ليس الأولى و الأجدر بنا أن نتمثل الآية الكريمة «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ» ،و قد كررها المولى جلّ و علا في موضعين متقاربين من سورة البقرة،و لا أُريد أن أذكركم و أنتم الأعلم بقوله تعالى: «وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا» الآية.

سيدي:إنّ الكف عن التعرض لصحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و غيرهم ممّن سبقونا هو أدب القرآن،و هو بداية التقريب الصحيح،و لا أريد أفيض و أسهب في هذا الأمر،فإنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كافة اختارهم المولى جلّ و علا لرسوله صلى الله عليه و آله و سلم،و ما هي ثمرة محاكمتهم،و قد انتقلوا إلى الدار الآخرة و اللّه يتولى

ص:732

حساب الجميع؟

و أسرتني في خطابكم الثاني عبارة (ما يجمعنا أكثر ممّا يفرقنا) هذا صحيح، و أسأل اللّه عزّ و جلّ أن يزيل أسباب الفرقة الّتي مزقتنا و يحقق الألفة،و الحقّ لا شكّ أبلج.

سيدي:أطلت عليكم فمعذرة إليكم و لسماحتكم و من حولكم خالص المحبة و التقدير و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.

المخلص

عبد الوهاب أبو سليمان

1425/7/12ه

ص:733

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سماحة الأُستاذ الفذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان حفظه اللّه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن يحفظكم من كلّ سوء،و يوفقكم لما يحبه و يرضاه.

وصلتني رسالتكم الكريمة المؤرخة 1425/7/12ه و فيها عظة و نصيحة من أخٍ لأخيه الّذي لم يزل يسمع لكلامكم بشوق و قبول و ينظر إلى رسائله نظر الظامئ إلى الماء و الصائم إلى الهلال.

و لكنّني أستجيزكم في أن أُعرب عن عقيدة الشيعة الإمامية في صحابة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم،و هي عقيدة معتدلة بين الإفراط و التفريط،و هي أنّ منزلة الصحابة كمنزلة التابعين،و قد أخذ المسلمون عقيدتهم و شريعتهم عنهم جميعاً،و التفكيك بين الطائفتين يحتاج إلى دليل.

إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام كانوا باستمرار يدعون للصحابة و يترضّون عليهم، فهذا هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه مدح أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائلاً:«أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه،و قرءوا القرآن فأحكموه،و هيجُوا إلى القتال فولهوا ولَهَ اللقاح إلى أولادها،و سلبوا السيوف أغمادها،و أخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً،وصفاً صفاً،بعضٌ هلك، و بعض نجا،لا يُبشَّرون بالأحياء،و لا يُعَزَّوْنَ بالموتى،مُرْهُ العيون من البكاء، خمصُ البطون من الصيام،ذُبَّل الشفاه

ص:734

من الدعاء،صُفرُ الألوان من السَّهَر،على وجوههم غبرة الخاشعين،أُولئك إخواني الذاهبون،فحقَّ لنا أن نظمأ إليهم،و نعضَّ الأيدي على فراقهم». (1)

و هذا هو الإمام علي بن الحسين عليه السلام المعروف بالإمام السجاد،يخص أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في بعض أدعيته في الصحيفة السجادية و يقول:«اللّهم و أصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة،و الذين أبلوا البلاء الحسن في نصره،و كانفوه و أسرعوا إلى وفادته،و سابقوا إلى دعوته، و استجابوا له...إلى آخر دعائه». (2)

هؤلاء أئمتنا و أئمّة المسلمين و هم القدوة و الأُسوة،و قد اقتفينا أثرهم في التقريب و التأليف بين الأُمّة بتأليف كتاب باسم«موسوعة طبقات الفقهاء»في 16جزءاً ذكرنا فيه من يؤخذ عنهم الفتيا من الصحابة و التابعين.

ثمّ ذكرنا فقهاء الطوائف الإسلامية المختلفة،و ذكرنا تراجمهم و مؤلّفاتهم و مكانتهم العلمية من دون نظر إلى طائفة دون أُخرى،فتجد فيهم الحنفي و الشافعي و المالكي و الحنبلي في جنب الزيدي و الإسماعيلي و الإمامي.

هذا يا شيخنا الجليل حفظك اللّه و رعاك،فنحن من دعاة التقريب لا التفريق و كتبنا الفقهية تشهد على ذلك،فنحن نذكر فيها آراء الفقهاء المسلمين، و نقدّر جهود كلّ مسلم يسعى لملء الفراغ و تقريب الخطى،و هتافنا كلّ يوم:

«قاربوا الخطى أيّها المسلمون».

و مع ذلك كلّه فليس لنا ترك دراسة حياة الصحابة على ضوء القرآن و السنّة و التاريخ الصحيح اقتداءً بالذكر الحكيم و السنّة النبوية و سيرة المسلمين، فدراسة

ص:735


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة17. [1]
2- 2) .الصحيفة السجادية،الدعاء رقم 4. [2]

حياة رجال المسلمين شيء و بخس حقوقهم و الإساءة إليهم شيء آخر.

إنّ إيقاف البحث و الدراسة حول الصحابة يستلزم تعطيل قسم من الآيات النازلة في حقّهم،كما يستلزم تعطيل بعض السنّة النبوية الّتي تهتم بشئونهم و حياتهم.

كما أنّ ذلك يستلزم إغلاق صحائف التاريخ،مضافاً إلى أنّها على خلاف السيرة الرائجة بين المسلمين.

و أمّا ما ذكرتم في رسالتكم الكريمة الغالية أنّ:«الأولى بنا أن نتمثّل الآية الكريمة: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ» و قد كررها المولى جلّ و علا في موضعين متقاربين من سورة البقرة...».إلى آخر ما تفضلتم به شكر اللّه مساعيكم.

أقول:لا شكّ أنّ هذه الآية قد وردت في الذكر الحكيم-كما ذكرتم في موضعين متقاربين-و لكن لا صلة لها بما تبنّيتم،فإنّ الآية بصدد نقد ما يقع في أذهان بني إسرائيل من أنّهم ينتفعون بما لسلفهم من المكانة و يسعدون يوم القيامة بمجرد الانتساب إليهم،فبيّن اللّه سبحانه في هذه الآية أنّ سنّته في عباده أنّ الإنسان لا يجزى إلاّ بكسبه و عمله و لا يسأل إلاّ عن كسبه و عمله.

و قد جاء هذا المضمون في سورة النجم قال سبحانه: «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى* وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفّى* أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى* وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى» . (1)

فالآية في كلا المقامين ناظرة إلى بني إسرائيل،و غاية ما يمكن هو إلغاء الخصوصية و شمولها بمناطها للأُمّة الإسلامية،و نحن معترفون بأنّ كلّ إنسان

ص:736


1- 1) .النجم:36- 39. [1]

مسئول عن عمله و لا يُسأل عن أعمال الآخرين يوم القيامة،يوم يضع سبحانه الموازين القسط،فمن ثقلت موازينه فأُولئك هم المفلحون و من خفّت موازينه فأُولئك هم الخاسرون.

و أمّا دراسة أحوال الأُمم السالفة من الصحابة إلى التابعين و تابعي التابعين إلى يومنا هذا على ضوء الذكر الحكيم و السنّة النبوية و التاريخ الصحيح،فليس هذا ممّا تمنع عنه الآية الكريمة،إذ ليس معنى الدراسة انّا نتحمل مسئولية أعمالهم،بل بمعنى تقديرهم و تكريمهم و إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه،و الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة.

فلو كان معنى قوله: «لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ» هو ترك التعرض لأحوال السلف و حياتهم،لزم إخراج المعاجم الرجالية و التاريخية من المكتبات،لأنّ الجميع يهتم بشئون السلف مبتدئاً من الصحابة إلى التابعين ثمّ تابعي التابعين إلى يومنا هذا.

و لا أظن أنّ قائلاً يخصّ قوله: «لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ» بخصوص الطبقة الأُولى-أعني الصحابة-دون التابعين و من جاء بعدهم.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:737

3

اشارة

رسالة إلى رئاسة شئون الحرمين الشريفين رئاسة شئون الحرمين الشريفين

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سماحة العالم الجليل الشيخ صالح بن عبد الرحمن المحترم - دامت معاليه -

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن يوفّقكم لما فيه مرضاته،و يسدّد خطاكم،على طريق تحقيق الوحدة الإسلامية إنّه على ذلك قدير.

تقديراً لأخلاقكم السامية و عزيمتكم الصادقة في تقريب الخطى بين المسلمين أُهدي إليكم الجزء الأوّل من كتاب الحجّ و هو جزء من محاضراتي في الفقه المقارن في الحوزة العلمية،و النظرة الثاقبة في المسائل المعنونة تكشف عن أنّ المشتركات بين الفريقين أكثر من غيرها،و ما أصدق قول القائل:«ما يجمعنا أكثر ممّا يفرقنا».

أرجو من اللّه سبحانه لفضيلتكم الصحّة و العافية و السعي وراء الصالح العام للمسلمين.

و دمتم سالمين للإسلام و أهله

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

قم المقدسة مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الحادي عشر من جمادى الآخرة 1425ه

ص:738

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سماحة العلاّمة النحرير الفقيه المحقق الشيخ جعفر السبحاني

دام علاه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

و أدعو اللّه أن يديم عليكم نعمة الصحة و العافية،و قد تلقيت رسالتكم اللطيفة بتاريخ 11 جمادى الثانية 1425ه و معها هديتكم القيمة«الحجّ في الشريعة الإسلامية الغرّاء»و لا شكّ كما تفضلتم بأنّ عبادة الحجّ تتميز بكثرة مسائلها و تشعب فروعها و أكثر مسائلها غير مأنوس و لا متكرر،كما لا أشك انّ هذا الكتاب القيم و إن لم تتح لي قراءته بعد،فإنّه ينطبق عليه الوصف (وافر المقاصد جم المطالب) كيف لا و هو تحرير عالم واسع الاطّلاع عميق التفكير صبور على مكابدة البحث،حريص على ما يجمع و لا يفرق.

و كما دعا السيد المحقّق البروجردي فإنّي أدعو اللّه أن يؤلف بين قلوب المسلمين و يجعلهم يداً على من سواهم و يوجههم إلى أن يعملوا بقوله تعالى: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» و أن يجزيكم على ما قدمتم عظيم الأجر و الثواب.

أكرر شكري لكم و تقبلوا لائق التحية و السلام من أخيكم.

صالح بن عبد الرحمن الحصين

في 1425/7/6ه

ص:739

4

اشارة

رسالة أرسلناها إلى أحد الأشراف في الحجاز

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الفاضل الفقيه صاحب الموسوعة الفقهية حفظه اللّه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرجو من اللّه سبحانه الصحة و العافية لكم و لمن حولكم من الأعزاء.

أخبرني الصديق العزيز الأُستاذ«رضواني»حفظه اللّه أنّ جنابكم بصدد تأليف كتاب حول المذاهب الإسلامية،مضيفاً إلى المذاهب الأربعة المذهب الإمامي و المذهب الزيدي.

فسررت بسماع ذلك فكيف بمشاهدته إن شاء اللّه تعالى،و هو خطوة كبيرة على طريق التقريب بين المذاهب الإسلامية.

إنّ الفقه الإسلامي ثروة كبيرة تركها فقهاء الإسلام جيلاً بعد جيل حتّى وصل إلى القمّة من الكمال و هو بحمد اللّه مستعد لحلّ الأزمات القانونية الّتي يعاني منها الغرب و الشرق.

و قد أرسلنا إليكم عن طريق الصديق كتاب«الإنصاف في مسائل دام فيها

ص:740

الخلاف»في أجزائه الثلاثة،و الّذي يتناول المسائل الفقهية الّتي اختلف فيها الفريقان تماماً و طرحنا هناك أدلة المذهب الإمامي فليكن هذا مساهمة صغيرة في مشروعكم السامي.

و الّذي اقترحه عليكم هو أن تتخذوا مساعداً في تدوين هذا المشروع خصوصاً بما يتعلق بالمذهب الإمامي و الزيدي ليركزوا على الرأي السائد بينهم لا على كتاب خاص،و هذا أمر تخصصي لا يقوم به إلاّ الأمثل فالأمثل في حق الفقه الإمامي.

و ختاماً أسألكم الدعاء في مواقع إجابته خاصة في الحرم النبوي الشريف سلام اللّه على صاحبه سلاماً لا نهاية له و لا أمد.

و السلام عليكم و رحمة اللّه بركاته

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم-ايران

18ذي القعدة الحرام عام 1425ه

ص:741

رسالة الأخ الفاضل الفقيه صاحب الموسوعة الفقهية-حفظه اللّه-

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سماحة آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني دام ظله

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

من جوار قبر المصطفى و أهل بيته الأطهار أئمة الهدى في بقيع الغرقد عليهم الصلاة و السلام.و تلك الروضة الشريفة و القبة الخضراء،و ذكريات الرعيل الأوّل من بيت النبوة حيث بيت النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم و دار الزهراء و زوجة الإمام المرتضى ابن عم المصطفى و محلة الهاشميين و انطلاق الدعوة و هم منبع الرسالة و معدن الحكمة،الشجرة اليانعة الّتي أحكمت عروقها،فصلى اللّه على محمّد و آل محمد و عجّل فرجهم.

بهذه العبارات بدأت هذه الرسالة و تلك المعاني الّتي يجهلها كثير من المسلمين و لا يعرفون حقيقة الأمر،فأسأل اللّه الكريم ربّ العرش العظيم أن يرزقنا و إيّاكم محبة نبيه و أهل بيته الخالصة إلى يوم الدين.

لقد سعدت كثيراً برسالتكم الّتي سلّمني إياها الأُستاذ رضواني-حفظه اللّه - و تمعنت بها و قد كانت دافعاً و تشجيعاً كبيراً للاستمرار في العمل على إخراج

ص:742

موسوعتي الفقهية على المذاهب المشتهرة،و أقول:و لو انّنا لم نلتقي من قبل لكني أعرفك جيداً ولي بك صلة وثيقة ممّا تعلمته من مؤلفاتك النافعة و موسوعاتك الدينية الّتي وصلت إلى أيدينا و عرفتنا كثير من الحقائق،و منها أحببنا الشيخ السبحاني ذلك العلامة الّذي أغنى المكتبة الإسلامية بالمؤلفات النافعة،و هو إضافة إلى ذلك يعد في مقدمة علماء العصر.

سماحة الشيخ أود أن أوضح لكم انّ عملي في الموسوعة يعتمد على أُصول الكتب،و هو بصفة مبسطة إلى جميع طبقات المجتمع،فقد اعتمدت على أُمّهات الكتب لأُصول المذاهب،و قد أضفت أخيراً إلى المذاهب الستة المذهب السابع الإسماعيلي لتقاربه في كثير من الأحكام و العبادات و المعاملات مع المذاهب الستة،و إنّني على عجل أكتب لكم هذه الرسالة و سوف أثقل عليكم قليلاً بأنّي حال انتهائي من الكتاب سوف أرسله لكم لأتشرف بمراجعتكم و وضع الملاحظات ان وجدت.

على كلّ حال أُؤكد لكم مدى سعادتي بالتخاطب معكم و أتمنى أن يكتب اللّه لكم الزيارة للمدينة المنورة في موسم العمرة لنتشرف بخدمتكم سائلاً المولى أن يحفظكم من كلّ سوء،و أوصيكم ان لا تنسوني من الدعاء في الخلوات و الجلوات و صلّى اللّه على محمد و آل محمد.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

1425/12/18ه

يوم الغدير وعيد الولاية

ص:743

5

اشارة

رسالة تأبينية بوفاة السيد محمد بن علوي المالكي

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سماحة العالم الجليل الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان حفظه اللّه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

و بعد أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا في سرور و حبور و صحّة و عافية و عزّ و كرامة.

أدام اللّه ظلكم و حفظكم من كلّ سوء و مكروه.

استلمنا بكلّ تكريم و تبجيل تهنئتكم الخالصة بحلول عيد الفطر السعيد الذي جعله اللّه سبحانه عيداً للمسلمين كافة.

و في الوقت الذي نعرب عن شكرنا و سرورنا بذلك،نهنّئكم بهذه المناسبة المباركة،و ندعو اللّه تبارك و تعالى العزة للمسلمين و الأمن و السلام لبلدانهم،و رفع راية الإسلام خفاقة.

و نقدم أحر تحياتنا و أخلص تبريكاتنا لمن حولكم من الأعزاء الكرام و ننتهز هذه الفرصة بتقديم التعازي بمناسبة رحيل العلامة السيد محمد بن علوي المالكي ذلك الرجل الصامد بوجه الباطل الذي لم تأخذه في اللّه لومة لائم.

و كنا قد أرسلنا رسالة مواساة إلى بيته الرفيع و إليكم نصها:

ص:744

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إلى أُسرة العلم و الشرف بيت السيد محمد بن علوي المالكي

دام عامراً بالعلم و التقى

ببالغ من الحزن و الأسى تلقينا نبأ وفاة العالم الجليل الدكتور السيد محمد بن علوي المالكي رحمه الله و حشره مع أجداده الطاهرين.

لقد كان المغفور له مثالاً للصلاح و أُنموذجاً للخلق السامي،و قد عشنا معه فترة قصيرة في أحد المؤتمرات القرآنية عام 1400ه في مكة المكرمة فوجدناه إنساناً مثالياً يتمتع بسعة الصدر،و تعرّفنا عليه من خلال آثاره الخالدة و بطولاته العلمية،و وقوفه أمام الأفكار الزائفة.

نقدم أحرّ التعازي إلى أُسرة الفقيد،و على رأسها أخوه الأُستاذ الفاضل السيد عباس بن علوي المالكي المحترم راجين من اللّه سبحانه أن يرزق الجميع الصبر الجميل و الأجر الجزيل.

كما ندعوه سبحانه أن يلم شعث المسلمين،و يوحّد كلمتهم،و يدفع عنهم شر الأعداء بمنه و كرمه.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم-ايران

19رمضان المبارك1425ه

ص:745

و قد بعثنا هذه الرسالة عن طريق السفارة،و نتمنى أن تكون قد وصلت إلى بيته الرفيع.

و نحن إذ نستشعر الخسارة الفادحة على المملكة و الأُمة الإسلامية،فإنّنا نؤكّد ايماننا و تسليمنا بقضاء اللّه و قدره،كما نؤكّد على حاجة الأُمّة الإسلامية لاستمرار نهج الفقيد الراحل في الانفتاح على الطوائف و الاهتمام بوحدة الأُمّة الإسلامية تغمده اللّه بواسع رحمته و مغفرته.

و ختاماً نتقدم لكم بالشكر و الامتنان.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

مخلصكم

جعفر السبحاني

4 شوال 1425ه

ص:746

6

اشارة

تقدير و تقويم للجزء الأوّل من موسوعة الفقه الإسلامي

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الإخوان الأعزاء في دائرة معارف الفقه الإسلامي

طبقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

استلمنا بيد التكريم و التبجيل قبل يومين الجزء الأوّل من موسوعة الفقه الإسلامي،بواسطة أحد الإخوة.

نشكر اللّه سبحانه الّذي قيّض جماعة من ذوي الهمم العالية لإخراج هذه الموسوعة إلى المكتبة الإسلامية.

كما وفقهم من ذي قبل لإخراج معجم كتاب الجواهر و أخيراً تعجيم الكتب الفقهية للشيخ الطوسي...هذه الموسوعات الكبيرة الّتي سيكتب لها الخلود و البقاء عبر القرون إن شاء اللّه تعالى.

و ندعو اللّه سبحانه تبارك و تعالى أن يديم توفيقه للقائمين بهذا العبء الثقيل حتى تتم الموسوعة،بخروج الجزء الأخير منها.

و هذا لا يمنع من أن نشير إلى بعض الملاحظات الجزئية الّتي لا تنقص من قيمة الكتاب:

الأُولى:استدل (في صفحة 22) على أنّ الكتاب و السنة يفيان بكلّ ما يحتاجه الإنسان في حياته بقوله سبحانه: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ

ص:747

شَيْءٍ» (الأنعام:38).

و الظاهر أنّ (الكتاب) الوارد في الآية هو الكتاب التكويني لا التشريعي، و يدلّ على ذلك قوله سبحانه في نفس الآية: «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ».

فالبحث عن الدابة و الطير و وصفهم بأنّها أُمم،قرينة واضحة على أنّ المراد من الكتاب هو الكتاب التكويني.

الثانية:جاء لفظ«لا سيما»في المقدمة في غير واحد من المواضع مجرداً عن لفظ«لا»مع أنّ الفصيح هو«لا سيما»و لا تستعمل«سيما»منفردة إلاّ في كتب المتأخرين غير العرب كثيراً....

الثالثة:ذكرتم (في صفحة 49) أنّه مرّ فقه أهل البيت عليهم السلام على أيدي فقهاء هذه المدرسة في عصره الثاني بمراحل عديدة من الانطلاق و التطور و الكمال يمكن بيانها ضمن الأدوار التالية:

1.دور التأسيس...و قلتم من أهمّ فقهاء هذه المرحلة محمد بن يعقوب الكليني(المتوفّى 329ه).

و لكن الظاهر أنّ مبدأ هذا النوع من التأليف يرجع إلى عصر الإمام الهادي و العسكري عليهما السلام،و في طليعة هؤلاء الفضل بن شاذان (المتوفّى 260ه) صاحب كتاب الايضاح(و هو مطبوع)،فبمراجعته يعلم مدى نضوج الفقه الإمامي في عصره.

و على ذلك فمن تخرج على يده أقدم من الكليني و الصدوقين و لا نناقش في سائر الأدوار،إلاّ ما سمّيتم الدور الرابع دور التطرف،فهذا التعبير القاسي لا يناسب ما بذله فقهاء هذا العصر في تطوير الفقه و تنقيحه من حيث الدلالة

ص:748

و المسانيد...على أنّ فقهاء هذا الدور غير منحصرين بالأردبيلي و تلميذيه، فإنّ المحقّق الثاني (المتوفّى940ه) و الشهيد الثاني (المتوفّى 965ه) و غيرهما ممن تخرج على يديهما من فقهاء هذا الدور.

إلاّ أن يكون المقصود تخصيص هذا الدور بأشخاص ثلاثة هم الأردبيلي و تلميذيه،فتكون تسميته دوراً للفقه الإمامي غير صحيحة.

و هناك اقتراح آخر و هو الرجوع إلى الأدوار الستة الّتي قمنا ببيانها في القسم الأوّل من مقدّمتنا لموسوعة طبقات الفقهاء و هو بعنوان أدوار الفقه الإسلامي.

و كان المترقب من الأعزاء الإشارة إليها.

الرابعة:اقترح على الأعزاء تخصيص الموسوعة للعناوين الفقهية و ترك البحث عن المسائل الكلامية أو الأُصولية باسم الملحق الأُصولي.

فإنّ استيعاب هذه المسائل يحتاج إلى تخصّصات مختلفة و إلى أوقات طويلة ربّما تعوق عن إكمال الكتاب.

فالبحث عن الإمام و الأئمّة أو عن أهل البيت عليهم السلام أو سائر المسائل الأُصولية الّتي تمرّون عليها يترك لموسوعات أُخرى و آونة أُخرى عسى أن يكون ذلك سبباً لسرعة العمل و إنجازه في وقت مناسب،خصوصاً أنّ الأزمات في حياتنا كثيرة كما تعلمون.

و في الختام أتقدم بالتحية إلى كافة الأعزاء.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم-ايران

21ذي القعدة الحرام عام 1425ه

ص:749

7

اشارة

تفسير قوله سبحانه: «فِي بُيُوتٍ»

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سماحة العلاّمة الحجة......دام ظلّه الوارف

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن يديم عليكم ثوب الصحّة و العافية،و يوفّقكم فيما قمتم به من مشروع المدرسة الفقهية الّتي نتمنّى أن يتربّى فيها جيل كبير يحمل راية الاجتهاد الصحيح في المستقبل إن شاء اللّه.

أبلغني أحد السادة دام علاه بأنّ سماحتكم أشكلتم على استدلالنا بالآية المباركة: «وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ* وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً...». 1

على أنّ البيت لا ينفك عن السقف،و تفضّلتم حسب ما حكاه السيد العزيز بأمرين:

1.انّه لو أمر الآمر بإنشاء دار فيه سرداب،فهو لا يدلّ على أنّ كلّ بيت فيه سرداب.

ص:750

2.قوله سبحانه: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً» 1 و لم يكن له سقف....

نعود إلى بيانكم السامي بالتعليق التالي:

البيت كما نص عليه اللغويون،و منهم ابن فارس في«معجم مقاييس اللغة» هو المأوى و المآب و مجمع الشمل،و من المعلوم أنّ المأوى و مجمع العائلة لا يخلو عن سقف،فإنّ الجدران الأربعة بلا سقف لا تصون الإنسان عن الحر و البرد،و الغاية من الحلول في البيت هو الاستراحة و تجنّب الحر و البرد.

و قال ابن منظور في«اللسان»:الخباء بيت صغير من صوف أو شعر،فإذا كان أكبر من الخباء فهو بيت،ثمّ مِظَلَّة إذا كبرت عن البيت،و بيت الرجل داره و بيته قصره. (1)

فالخباء،لا ينفك عمّا يُظلل،فإذا كبر مع هذا الوصف يكون بيتاً،فإذا كبر يسمّى مظلّة.

هذا حسب اللغة.

و أمّا كيفية الاستدلال بالآية المباركة على أنّ البيت لم يكن ينفك عن السقف يوم ذاك فهي متوقفة على إيضاح مفاد الآية السابقة،و هو كالتالي:

«لو لا أن يجتمع الناس على الكفر حينما يروا تنعّم الكافرين و حرمان المؤمنين،لجعلنا لبيوتهم سقفاً من فضة،و درجات يصعدون عليها إذا أرادوا الظهور عليها و جعلنا لبيوتهم أبواباً من فضة».

و لكنّه سبحانه لم يفعل ذلك لئلا يجتمع الناس على الكفر،بمشاهدة انّ

ص:751


1- 2) .لسان العرب:14/2. [1]

الكفّار يتمتعون بزخارف الدنيا.و الإمعان في الآية و ما بعدها يثبت أنّ بيوت عامّة الناس و منهم من يكفر بالرحمن كانت تشتمل على:

- السقف.

- و الباب.

و كان مادتهما غير الفضة.فلولا مخافة اجتماع الناس على الكفر لجعل سبحانه سقف بيوتهم و أبوابها من الفضة.

فلو دلّت الآية على شيء فإنّما تدلّ على أنّ السقف و الباب يلازمان الدار يوم ذاك،و لم يكن هناك دار بلا سقف و لا باب.فيكون ذلك قرينة على تفسير قوله سبحانه: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ» 1 ،على أنّ المراد بالبيوت،هو غير المساجد،إذ لا يشترط فيها السقف،بخلاف البيت فإنّه يلازم السقف.

و أمّا ما تفضّلتم به حسب ما سمعناه من السيد الجليل من أنّ البيت في قوله سبحانه: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ» كان فاقداً للسقف،فهو غير ظاهر من الآية إذ لا تدلّ على أنّه كان فاقداً للسقف عند البناء.

إلاّ إذا كان في تاريخ بناء البيت تصريح بذلك،فيكون إطلاق البيت عليه من باب مجاز المشارفة.

على أنّ في الروايات أحكاماً لسطح الكعبة.

فقد عقد الشيخ الحرّ العاملي باباً في الوسائل أسماه«حكم الصلاة على ظهر الكعبة»و جاء في إحدى روايتيه عن الصادق عن آبائه عليهم السلام في حديث المناهي:نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن الصلاة على ظهر الكعبة.

و في رواية أُخرى عن الرضا عليه السلام في الذي تدركه الصلاة و هو فوق

ص:752

الكعبة.... (1)

هذا ما قدّمته لسماحتكم عسى أن تُبدوا رأيكم السامي حوله،مدّ اللّه في عمركم،و عمّر بكم مدارس الفقه و الفقاهة،و حفظكم من كلّ سوء.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق

الخميس 24 ذي القعدة الحرام،عام 1425ه

ص:753


1- 1) .الوسائل:340/4،الباب 19 من أبواب القبلة. [1]

8

صورة تقريظ لكتاب أُصولي

بسم اللّه الرحمن الرحيم

التقريظ لغة هو الإطراء و المدح،و هو أمر جميل،يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:«و لا يكوننّ المحسنُ و المسيءُ عندك بمنزلة سواء،فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان و تدريباً لأهل الإساءة على الإساءة». (1)

و مع ذلك فالإطراء المطلق مع الغض عن الجوانب السلبية بخس لحقوق الممدوح،فالتقريظ عند المحقّقين هو التحسين و الإطراء مقروناً بالنقد البنّاء.

و على ضوء ذلك فالكتاب الّذي بين يدي القارئ،جهد مبارك يدور حول مفهوم الحكم في محاور ثلاثة:

1.تعريف الحكم الشرعي.

2.مبادئ الحكم الشرعي.

3.أقسام الحكم الشرعي.

و قد بذل المؤلف-حفظه اللّه-جهداً كبيراً في الرجوع إلى المصادر المتوفرة في

ص:754


1- 1) .نهج البلاغة، [1]عهد الإمام إلى مالك الأشتر.

إيضاح هذه المحاور بأفضل وجه؛فصارت نتيجة هذا الجهد هذه الرسالة المتميزة بحسن التبويب و رصانة البيان،مرفقة بذكر المصادر الكثيرة.

و نحن نبارك للمؤلف هذه الخطوة و نرجو أن يُتبعها بخطوات أُخرى حول سائر المسائل الأُصولية.

و لكن ذلك لا يصدّنا عن إبداء بعض الملاحظات حول ما ورد في الكتاب:

1.انّ مؤلفنا المكرّم فسر الحكم في أوّل الرسالة بالعلم و التفقّه ناقلاً ذلك عن المعجم الوسيط،و لكن الحقّ أنّ الحكم بمعنى المنع و الفصل و القضاء، يقول حسّان: فنحكُم بالقوافي مَن هجانا و نضربُ حين تختلط الدماء

أي نمنع بالقوافي من هجانا.

و قال آخر: أ بني حنيفة حكِّموا سفهاءكم أنّي أخاف عليكم أن أغضبا

أي؛امنعوا سفهاءكم.

و لو صحّ إطلاقه على العلم و التفقّه فإنّما هو بضرب من المجاز،كما هو الحال في إطلاق الحكمة على الفلسفة،و الحكيم على العاقل المتّزن.

2.إنّ المؤلف-حفظه اللّه-قسم الحكم إلى واقعي و ظاهري و لم يذكر بعض الأقسام الأُخرى،مثل:

الحكم الولائي،الحكم القضائي،فإنّهما من أقسام الحكم و كان عليه أن يذكرهما.

3.ذكر أنّ القرآن ظنّي الدلالة وفاقاً لأكثر الأُصوليين أو جميعهم،و لكنّه أمر غير صحيح،بل القرآن قطعي الدلالة بالنسبة للمراد الاستعمالي كسائر

ص:755

الظواهر و قد شرحنا ذلك في محاضراتنا الأُصولية،و القائلون بكون القرآن ظني الدلالة غفلوا عن بعض مضاعفات ذلك القول،و هو استلزامه كون القرآن ظني الإعجاز لا قطعيّه.

4.قسّم الإجماع إلى بسيط و مركّب و محصّل و منقول و هذا تقسيم صحيح، ثمّ ذكر من أقسامه الإجماع التشرفي أو اللطفي أو الدخولي،و لكن هذه الأقسام الثلاثة ليست في عرض التقسيم الأوّل،فإنّ التشرف أو اللطف أو الدخول-حتّى الحدس بموافقة الإمام عليه السلام-من دلائل حجّية الإجماع لا من أقسامه.

و هذه الملاحظات البسيطة لا تقلل من قيمة الكتاب،و إنّما ذكرناها تحقيقاً للتقريظ الّذي هو عندنا بمعنى النقد البنّاء.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

السابع عشر من محرم الحرام من عام 1425ه

ص:756

9

اشارة

ملاحظات حول كتاب جمهرة القواعد الفقهية في المعاملات المالية

و جواب الدكتور أبو سليمان عليها

بسم اللّه الرحمن الرحيم

فضيلة الشيخ العلاّمة الفقيه عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان دامت معاليه و تواترت بيض أياديه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد:

فقد وصلت رسالتكم الميمونة(و المؤرخة 1424/12/7ه)،معربة عن طيب أعراقكم و شريف أخلاقكم،فسررت بها كثيراً. وصلت رسالتكم و فيها نَشرُكم متضوِّعاً يحكي أريج الزَّنبقِ

كما وصلتنا هديتكم الثمينة المسماة ب«جمهرة القواعد الفقهية في المعاملات المالية»تأليف تلميذكم النابه الدكتور علي أحمد الندوي،و لعلّه من أقارب الشيخ أبو الحسن الندوي الحسني مؤلف كتاب«ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»،فلو صحّ ظني فهو: من بيت علم شُيّدت أركانه بمعالم موروثة من أحمد

ص:757

و على كلّ تقدير فقد بذل المؤلف تحت رعايتكم جهوداً كبيرة في تأليف هذه الموسوعة و جمع شوارد القواعد من شتى الأبواب فيها،فنحن نبارك له و لأُستاذه المشرِف هذه الخطوة الفقهية القيّمة،فمرحباً بهمته القعساء و عزيمته الّتي لا تثنى،و لولاهما لما خرجت هذه الموسوعة بهذا الشكل القشيب إلى عالم الوجود.

و لكنّ ثناءنا العاطر للمؤلّف و المؤلَّف لا يمنعنا من تسجيل بعض الملاحظات الّتي لا تنقص من قيمة الكتاب شيئاً،و هي كما يلي:

الملاحظة الأُولى

كان على المؤلّف تعريف القواعد الفقهية و إيضاح الفرق بينها و بين المسائل الأُصولية،ثمّ الفرق بينها و بين المسائل الفقهية،فهناك أُمور ثلاثة يجب أن تحدد و تميز:

1.المسائل الأُصولية.

2.القواعد الفقهية.

3.المسائل الفقهية.

ففيما أتى في فهرس الجمهرة الّتي تناهز عددها 2503 خلط بين هذه الأُمور الثلاثة و المؤلف بصدد بيان القواعد الفقهية فقط،لا المسائل الأُصولية و الفقهية.و قد عطف الأخيرتين على الأُولى فجاء بالجميع في موسوعته المباركة.

الملاحظة الثانية

انّه ذكر من القواعد الفقهية-الّتي وردت نصوصها في كلام النبي

ص:758

الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم-شيئاً يسيراً مع أنّه لو كان قد راجع ما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق أئمّة أهل البيت عليهم السلام لوقف على كثيرٍ من النصوص الّتي تشتمل على قواعد فقهية أُخرى،و نشير هنا إلى نماذج من ذلك:

1.حرمة مال المؤمن كحرمة دمه.

2.كلّ ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب.

3.لا بيع إلاّ في ما تملك.

4.البيّعان بالخيار حتّى يفترقا.

5.ليس على المؤتمن ضمان.

6.الصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً.

7.رفع القلم عن ثلاثة:عن الصبي حتّى يبلغ،و عن النائم حتّى يستيقظ،و عن المعتوه حتّى يبرأ.

8.حلال محمّد صلى الله عليه و آله و سلم حلال أبداً إلى يوم القيامة،و حرامه حرام إلى يوم القيامة.

9.كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.

10.كلّ مجهول ففيه القرعة.

11.الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها.

12.لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن.

13.رفع عن أُمّتي تسعة:الخطأ و النسيان،و ما أُكرهوا عليه،و ما لا يُطيقون،و ما لا يعلمون،و ما اضطروا إليه،و الحسد،و الطيرة،و التفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة.

ص:759

14.ليس شيئاً ممّا حرم اللّه إلاّ أحله لمن اضطرّ إليه.

15.كلّ أجير يعطى الأجر على أن يصلح فيفسد و هو ضامن.

هذه نماذج من النصوص النبوية الّتي رواها أئمّة أهل البيت كعلي و أبنائه الطاهرين عليهم السلام و هي مذكورة في الجوامع الحديثية عندنا بأسانيدها.

و كان على المؤلف الّذي هو غصن من الدوحة الحسنية-حسب ما استظهرناه-،أن يرجع إلى ما رواه أجداده عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من النصوص الّتي تتعلق بالمعاملات المالية تعلّقاً قريباً أو غير قريب.

و في قاموس الخلقة أن يرث الأبناء ما ورثه الآباء،و حقيق له-لا لمثلي-أن يترنم بقول الفرزدق: أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ

أو بقول البحتري: شرف تتابع كابراً عن كابرٍ كالرمح أُنبوباً على أُنبوب

الملاحظة الثالثة

لقد طرح الولد البارّ قاعدة«الخراج بالضمان»،و حاصل القاعدة كما هو المعروف:انّ منافع العين المضمونة هي للضامن فالخراج في مقابل الضمان.

و هل هذه القاعدة تعمّ كلّ ضمان سواء أ كان بسبب مشروع كالبيع،أم غير مشروع كالغصب و السرقة؟ أو تختص بالأسباب الصحيحة فقط مثلاً:لو غصب رجل دابة شخص فانتفع بها مدّة شهر فهل يمكن أن يقال أنّ منافع الدابة للغاصب؟ فلو قلنا بذلك فهذا يعني إعطاء الضوء الأخضر للغاصبين و السارقين،ليستثمروا أموال الناس في مقابل ضمانهم لقيمة الأعيان.

و بمثل هذه الفتيا تمنع السماء ماءها و الأرض بقلها؟

ص:760

الملاحظة الرابعة

إنّ المؤلّف نقل النصّ النبوي«لا ضرر و لا ضرار»مبتوراً و لم يرشد إلى سبب صدوره من النبي الخاتم،فكان عليه الإلماع إلى ما نقله الحافظ أبو داود السجستاني في سننه في ذلك الصدد عن واصل مولى أبي عيينة قال:

«سمعت أبا جعفر محمّد بن علي يحدّث عن سمرة بن جندب أنّه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار قال:و مع الرجل أهله قال:فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذّى به و يشق عليه،فطلب إليه أن يبيعه،فأبى، و طلب إليه أن يناقله،فأبى،فأتى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فذكر [ذلك] له،فطلب إليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يبيعه،فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى،قال:«فهبه له و لك كذا و كذا»أمراً رغبة فيه،فأبى،فقال:«أنت مضار».فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للأنصاري:«اذهب فاقلع نخله». (1)

هذه لمحة خاطفة قدّمناها للمؤلف القدير،و كفى له فخراً أنّه ثمرة من ثمار عمركم،و أنّه اتبع الخط الّذي رسمتموه.

و في الختام نتقدم إليكم ببالغ الشكر لما أسديتموه لمكتبتنا (مكتبة الإمام الصادق عليه السلام).

فشكراً للوالد و الولد و للأُستاذ و التلميذ شكراً يناطح السماء.

و السلام عليكم و على من حولكم من الأحبّة و الأعزّة و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

قم المقدسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

1424/12/25ه

ص:761


1- 1) .سنن أبي داود:315/3،أبواب القضاء. [1]

بسم اللّه الرحمن الرحيم

صاحب الفضيلة العلاّمة الشيخ جعفر السبحاني حفظه اللّه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

فقد تسلمت رسالتكم الكريمة بيد الشكر و الامتنان و أسأل المولى جلّ و علا أن تكونوا و من يلوذ بفضيلتكم في صحّة و سعادة.

سيدي:لقد استمتعت برسالتكم الّتي تفيض علماً و أدباً،و تشع نوراً و مكرمات،و ليس هذا غريباً على علماء الإسلام ذوي القدم الراسخة في العلم.

سيدي:أعترف بالثغرات و الملاحظات العلمية الّتي أبديتموها على كتاب «الجمهرة للقواعد الفقهية»،و لا أنتحل لمؤلفها العذر.و الّذي قد يُدافع به بأنّه قرر ما ذكرتموه من الفروق بين القواعد الفقهية و الأُصولية و الضوابط في كتاب له سابق نال به درجة الماجستير و قد طبع ثلاث طبعات،كذلك ما ذكرتموه من عدم اطّلاعه على مؤلفات آل البيت في هذا المجال،و لا أخالفكم كما تعلمون لعدم توفر مؤلفاتهم رضي اللّه عنهم بيننا،و هي آفة كبيرة كان المفروض كسر الحواجز المذهبية المتعصبة بيننا و إنا للّه و إنّا إليه راجعون،و أن نركز على جوانب الاتفاق بدلاً من تعميق جوانب الاختلاف، و هذه مسئوليتنا جميعاً أمام اللّه و أمام التاريخ.

ص:762

إنّ زمرة القواعد الّتي ذكرتموها الواردة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق أهل البيت معظمها مسطور أيضاً ضمن القواعد الفقهية عند أهل السنّة،و الّذي لفت نظري انّه بينها القاعدة التاسعة:

«كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

هذه خلاف القاعدة الفقهية الموجودة لدى أهل السنّة إذ ينصّون:«إذا اجتمع الحلال و الحرام غلب الحرام»يبدو لي أنّ موضوع القاعدتين واحد، و الموضوع بحاجة إلى دراسة متعمقة لعلي أقف على مصادر القاعدة الأُولى توثيقاً من الكتب الموجودة لدي في القواعد الفقهية.

إنّ ملاحظاتكم العلمية مهمة جداً،و سأوافيها للأخ علي الندوي و لفضيلتكم عظيم الشكر و خالص الدعاء.

و أود أن ألفت نظر فضيلتكم الكريم إلى أنّ كلمة الندوي لا تعني صلة القرابة بينه و بين الشيخ أبي الحسن الندوي فالنسبة إلى (ندوة العلماء) و هي مؤسسة علمية بالهند ينسب إليها كلّ متخرج منها.

سبق لي في الحجّ أن بعثت لفضيلتكم بكتاب«الإرشاد»للإمام الباقلاني حسب طلبكم،و قد بعثته مع أحد أفراد بعثة الحج الرسمية و هو من قم و أخبرني بمعرفته بمؤسستكم أرجو أن تكونوا قد استلمتموه،أسأل اللّه لفضيلتكم تمام الصحة و أن لا تنسوني في دعائكم.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

1425/2/1ه

ص:763

10مقال حول:القواعد الفقهية للشيخ مرتضى الترابي

اشارة

كنّا قد أرسلنا مقالة ولدنا الروحي الشيخ الفاضل مرتضى الترابي حول القواعد الفقهية إلى فضيلة الشيخ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان و قد قرنّا الرسالة بالجزء الثالث من كتابنا«الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف» فأجاب فضيلته برسالة تحكي عن خلقه السامي و أدبه الجمّ حفظه اللّه و رعاه و إليك الرسالتين.

ص:764

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إلى الأخ في اللّه الأُستاذ الفاضل الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان المحترم

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد:فقد وافتني رسالتكم الميمونة معربة عن طيب أعراقكم،و شريف أخلاقكم. وصل الكتاب فمرحباً بوصوله ..............................

أشكره سبحانه على هذه النعمة المتمثلة بنشوء العلاقة بيني و بين فقيه من فقهاء الإسلام،يقضي بالحق و يقدّمه على العواطف.

و في هذه الفرصة أود أن أخبركم بوصول كتاب«الإرشاد»للباقلاني فشكراً لك على هذه الهدية الثمينة.

و انطلاقاً من المثل المعروف:«الحقيقة بنت البحث»فقد طلبت من أحد حضّار درسي و هو الشيخ مرتضى الترابي أن يكتب رسالة تسلّط الضوء على الفرق بين القواعد الفقهية و المسائل الأُصولية،و يذكر فيها آراء فقهاء الإمامية في هذا المضمار،و يذكر ما هو المختار لدي.

و يختم الرسالة بذكر ما لفقهاء الإسلام من مؤلفات حول القواعد الفقهية،و قد أنصف الكاتب إذ قال:بأنّ فقهاء السنّة سبقوا الإمامية بالتأليف في هذا المضمار،لسبب أشار إليه هناك.

و لو أُتيحت الفرصة و رفعت الحواجز عن إرسال الكتب لأرسلنا إليكم

ص:765

قسماً من هذه المؤلفات،و عندئذٍ يقف إخواننا على أنّ الشُّقّة بين الطائفتين ليست بكبيرة،و انّ اختلافهما أشبه باختلاف المذاهب الأربعة بعضها مع بعض. إنّا لتجمعنا العقيدة أُمّة

و هذه الرسالة المتواضعة مرفقةٌ بكتاب«الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف»و الّذي طرحنا فيه المسائل الّتي اختلفت فيها الطائفتان و شرحناها بمشراط علمي لا يثير العواطف،و لعلّه يكون خطوة متواضعة للتقريب حتّى يقف الإخوان على ما لدى الآخرين من فكر وفقه.نعم الخلاف الذي دام قروناً لا يرتفع باسبوع أو شهر و لكنّه ربما يعبّد طريق التقريب.

و أخيراً إذا تمكّنتم من الحصول على الكتب التالية فنرجو إرسالها،لنضمها إلى مكتبة مؤسستنا:

1.مقاصد الشريعة:تأليف علال الفاسي.

2.الشاطبي و كتابه:تأليف أحمد الرويسي.

3.مقاصد الشريعة:تأليف طه جابر العلواني.

بلغوا سلامنا إلى ولدكم الروحي الندوي و الرجاء أن يقرأ الرسالة بإمعان و دقّة، فيشير إلى بعض الآراء المذكورة فيها،في الطبعة الجديدة لكتابه«جمهرة القواعد الفقهية».

أسأل اللّه سبحانه التوفيق و السداد لكم و لمن حولكم من الأعزاء،و دمتم موفقين

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

العاشر من ربيع الأوّل من شهور سنة 1425ه

ص:766

بسم اللّه الرحمن الرحيم

صاحب الفضيلة العلاّمة الشيخ جعفر السبحاني حفظه اللّه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

و بعد

فأدعو اللّه عزّ و جلّ من جوار البيت الحرام أن يمدّكم بعونه،و يديم عليكم نعمه و إفضالاته و بعد.

فقد وافتني رسالتكم الكريمة الّتي تزخر علماً و فضلاً،و تحمل درراً نفيسة، و لا غرابة،فهي من بحر علومكم مستمدة،و من صفاء فكركم معدة،استفدت منها أيما فائدة،و إنّي أسأل المولى جلّ و علا أن يمنحني بعضاً من الوقت، و فسحة من الأجل لأتأمل كتاب (الإنصاف) مؤلّفكم الجليل الّذي لا شكّ أنّه مكتوب مداد الإخلاص لأتطفل على مائدتكم العلمية،و أغرف من معينكم الصافي،و إنّي حريص كلّ الحرص أن يكون ضمن اهتماماتي العلمية، و مشروعاتي الدراسية،لأني أعتقد فيما أعتقد أن الّذي فرق بيننا هو الجهل ببعضنا أوّلاً،و مصالح لبعض الفئات المستغلة يحزنها أن تجتمع كلمتنا.لكن المسئولية قبل كلّ شيء أمام اللّه جلّ و علا تقع على عاتق علماء الفريقين في تضييق شقة الخلاف،و رفع موجبات النزاع و الشقاق،و هم المسئولون أمام اللّه و التاريخ.

ص:767

سيدي:أشرتم إلى موضوع القواعد الفقهية و البحث الّذي قام به الشيخ مرتضى الترابي حفظه اللّه،و هو لا شك جيد و نفيس،الجديد فيه بالنسبة للباحثين هنا هو ما يتصل بفقه السادة الإمامية،و لا يخفى على سماحتكم أنّ هذا الموضوع،أو على الأصحّ علم القواعد الفقهية سار خطوات طويلة موفقة في جامعتنا و في طليعتها جامعة أُمّ القرى فقد اهتممنا به منذ ثلاثين عاماً،أو يزيد:تأليفاً جديداً،أو تحقيقاً لكتب التراث،و كانت البداية بسيطة جداً قمت بها بكتابة بحث متواضع أرفقه مع خطابي هذا،أو المؤلفات و الكتب المحققة فإنّها كثيرة جداً.و من الموضوعات العلمية الّتي نشطت فيها جامعاتنا في العقود السابقة علم المقاصد الشرعية فأصبح له حظ في المناهج الدراسية، و البحوث العلمية الرفيعة،و لا زالت الدراسات تترى و تتوالى،و قد ظهر أخيراً إلى الساحة العلمية تحقيق كتاب«مقاصد الشريعة الإسلامية»تأليف العلاّمة شيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله بتحقيق تلميذه العلاّمة الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة في ثلاثة مجلدات:المجلد الأوّل عن حياته العلمية و الفكرية،الثاني بين علم المقاصد و أُصول الفقه،الجزء الثالث النص المحقّق،و هو جهد علمي فريد للشيخ محمد الحبيب بن الخوجة و هو تلميذ خاص للشيخ ابن عاشور،و قد عكف على هذا العمل ما يزيد على خمسة عشر عاماً،و قد أقمت حفلة علمية على شرف المحقّق حفظه اللّه لصدور هذا الكتاب،و عند ما أحصل على نسخة سأبعث لفضيلتكم بها.

مقاصد الشريعة الإسلامية و مكانتها للشيخ علال الفاسي ليست موجوداً بالأسواق،و لهذا صورته لفضيلتكم من نسختي،كما أبعث لفضيلتكم بكتاب (نظرية المقاصد) للدكتور الريسوني،أمّا كتاب الدكتور جابر فلا أظنه إلاّ محاضرة

ص:768

ألقاها في بعض المناسبات و لا أذكر إنّي اقتنيتها،و لو عثرت عليها صورتها لفضيلتكم،و إنّي أعتذر على التأخير،و لكن فقدت نسخة المقاصد للشيخ علال الفاسي بداخل المكتبة و قد عثرت عليها أخيراً.

سيدي:لا أدري إذا كان يتيسر لديكم شرحاً لكتاب (الخلاف)للإمام الطوسي رحمه الله الّذي قد زودتموني به سابقاً.

في الختام أسأل اللّه لفضيلتكم دوام الصحة و السعادة و أنّه يجمعنا على الحقّ.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

المخلص

عبد الوهاب أبو سليمان

1425/4/21ه

ص:769

11ملاحظات الدكتور عبد الوهاب حول موسوعة طبقات الفقهاء و جوابنا

إنّ موسوعة طبقات الفقهاء أكبر موسوعة في تراجم فقهاء الإسلام منذ رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا،فقد ضمت أجزاؤها الستة عشر تراجم أُمّة كبيرة من فقهاء الإسلام من كافة المذاهب الموجودة و البائدة.

حضيت هذه الموسوعة بإعجاب المفكرين و المؤلفين،و قد نشرنا رسائلهم الّتي أرسلوها في هذا الصدد في طيات أجزائها.

كما نالت هذه الموسوعة موقع الرضا عند فضيلة الشيخ العلاّمة عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان،و قد أبدى بعض الملاحظات حولها.

لذا ننشر نصّ رسالته مرفقاً بجوابنا حولها.

ص:770

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سماحة العلاّمة الشيخ جعفر السبحاني حفظه اللّه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

و بعد:

فأهنئكم بشهر رمضان المبارك سائلاً المولى جلّ و علا أن يوفق الجميع لصيامه و قيامه و أن يتقبّل من الجميع صالح الأعمال،و أن يكتب النصر و وحدة الكلمة للأُمة الإسلامية.

سيدي:لقد أمطرتموني بإفضالاتكم،و أحطتموني برعايتكم،و لا أملك أمام هذا السيل المتدفق من كريم خصالكم إلاّ الدعاء أن يجزيكم اللّه خير الجزاء.

سيدي:أعتذر لسماحتكم عن تقصيري في عدم سرعة المخاطبة،و واجبكم كبير،و لا أكتمكم أنّي أقوم بأُموري العلمية،و المخاطبات الاجتماعية بنفسي بالإضافة إلى الالتزامات و الاجتماعات الرسمية دون مساعد إلاّ اللّه جلّ و علا.

أمامي ثلاث رسائل شريفة من قبل سماحتكم.

الأُولى:معنونة باسمي و فيها مناقشة بخصوص منزلة الصحابة و التابعين، و نحن جميعاً سنّة و شيعة متفقون على حبهم و تقديرهم،فالصحابة جميعهم رضوان اللّه عليهم اختارهم المولى جل و علا أن يكونوا حواريي نبيه صلى الله عليه و آله و سلم و رفقته،و هم

ص:771

متفاوتو الدرجات،و عقيدتنا أن لا نخوض فيما شجر بينهم فهذا أسلم و أحكم، و أن لا نوغر صدور أجيالنا ضد بعضهم،و شعارنا الآية الكريمة: «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا» (الآية)

أمّا أهل البيت رضوان اللّه عليهم فموقفنا:هو الحب و التقدير الذي يستحقونه من الأُمة،و لا تجد سنّياً على وجه البسيطة إلاّ و ينظر إليهم بعين الإجلال و الإكبار من دون إفراط و مغالات،أو تفريط و تقصير،فهم سادتنا رضوان اللّه عليهم.أمّا بخصوص الموسوعة النفيسة طبقات الفقهاء فهي بحقّ مفخرة من مفاخركم جزاكم اللّه خيراً،و العمل جليل مهما فيه من هنات، شأن الأعمال العظيمة،و قد لاحظت بعض الملاحظات لا أُريد أن أثيرها حتى لا يساء الظن منها:

1.أنّ الكتابة عن فقهاء أهل السنّة لم ترق إلى الدرجة التي كتب فيها عن علماء الشيعة كماً و كيفاً.

2.وصلني من الكتاب حتى الجزء الرابع عشر رقم 2 و ينقص بينها الجزء الثامن.كان بودي أن أرى من النهاية قائمة المصادر؛لأنّي أشعر بعدم استيفاء الموسوعة للكثير من علماء السنّة،و ما من شك أنّ هذا سببه ربما يكون عدم توافر المصادر.

3.لا يوجد ذكر للفقهاء المكيين و بخاصة في القرن الرابع عشر الهجري، و لهذا اسمحوا لي أن أبعث لسماحتكم بكتاب (أعلام المكيين) و هناك كتب و مؤلفات عديدة آخرها كتاب (الجواهر الحسان) من تأليف فقيه من كبار فقهاء البلد الحرام قمت بتحقيقه مع زميل من الزملاء لربما يصدر العام القادم إن شاء اللّه،و قد دونت في المقدمة عناوين كتب تراجم المكيين في (الدراسة)،و سأوا في سماحتكم بنسخة منه لدى صدوره إن شاء اللّه.

ص:772

4.لاحظت أثناء تصفحي للكتاب وجود بعض الأخطاء مثلاً في ترجمة القاضي عياض ورد هذا العنوان (ترتيب المدارس) و صحته (ترتيب المدارك)،و أُخرى لا أذكرها،و مرجع هذا أن عناوينها ربما تكون ليست مألوفة لدى الباحثين لديكم.الكتاب في اعتقادي و من خلال تصفحي السريع مهم و مفيد و مصدر في تراجم فقهاء الإمامية رحمهم اللّه،و من يقرأه لأوّل وهلة سيكون لديه هذا الانطباع.

سيدي:لا أشك أنّكم من دعاه التقريب و جزاكم اللّه على نياتكم و حسن مقاصدكم.

الحديث في هذا المجال طويل جداً،و لكن العزيمة الصادقة و الإخلاص لدين اللّه و لأُمّة الإسلام يستوجبان ذلك.

الثانية و الثالثة:تسلمت من الصديق العزيز سيد نواب رسالتين فيهما بحث:

(مسألة البيعتين في بيعة)،و قد جاء بحثكم فيه مستفيضاً،و توصلت من دراسته إلى الاتفاق الكبير في هذا الموضوع بين الفقه الإمامي مع المذهبين المالكي و الحنبلي،أفادكم اللّه،و إني أشكر سماحتكم أعظم الشكر على هذا الاهتمام الكبير،أدام المولى جلّ و علا على سماحتكم نعمة الصحة و العافية و لا حرمنا منكم،و لا تنسونا من الدعاء في هذه الليالي المباركة.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

المخلص

عبد الوهاب أبو سليمان

1425/9/7

ص:773

بسم اللّه الرحمن الرحيم

صاحب الفضيلة سماحة العلاّمة الدكتور عبد الوهاب إبراهيم

أبو سليمان المحترم

السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

ورد الكتاب فمرحباً بوروده...

لقد سررنا بمطالعة رسالتكم الكريمة حول«اشتراط الربط بين عقود المصارف الإسلامية»و إذا هي رسالة حبّرتها يد فقيه محقّق و منفتح على المذاهب الفقهية،أخذ اللّه بيدكم و رعاكم.

كما وصلت إلينا هديتكم الثمينة المشتملة على الجزءين من«أعلام المكيّين»،و نحن ننتظر بفارغ الصبر أن تصل إلينا موسوعة أعلام المدنيين بإذن اللّه تعالى.

و قد ذكرتم في الرسالة المعنونة باسمي،أنّه وقع خطأ في ترجمة القاضي عياض،فجاء فيها«ترتيب المدارس»مكان«ترتيب المدارك»و نحن راجعنا الترجمة المذكورة في ج222/6 برقم2261،فرأينا العنوان قد تكرر فيها مرّتين،و في كلتيهما ورد صحيحاً.

و على فرض وروده،بالصيغة التي أشرتم إليها في موضع آخر،فلا ريب في كونه خطأ مطبعياً،لأنّ الكتاب-لا كما يظن صاحب الفضيلة-معروف لدى

ص:774

الباحثين في مؤسستنا،و هو من المصادر المعتمدة عندهم في ترجمة العشرات من فقهاء أهل السنّة،و قد تكرّر ذكره على سبيل المثال في الصفحات(39،51،64،76،96،106،117،...) من الجزء الرابع، و الصفحات (25،27،37،52،58،62،127،129،130،140،152،169، 175،...) من الجزء الخامس.

أما بشأن قول فضيلتكم:انّ الكتابة عن فقهاء أهل السنّة لم ترق إلى الدرجة التي كتب فيها عن علماء الشيعة كماً و كيفاً،فنودّ أن نشير (قبل الإجابة عن ذلك) إلى حقيقة مهمة كنّا قد بيّناها في مقدمة الجزء الأوّل،و هي (بإيجاز) أنّ الطابع العام لفقه الشيعة هو التقدّم و التطوّر قرناً بعد قرن،و ذلك بفضل فتح باب الاجتهاد عندهم،و أنّ الطابع العام لفقه السنّة كان هو التقدّم و التطور في القرون الأُولى ثمّ الميل إلى الركود منذ أواسط القرن السابع نتيجة إغلاق باب الاجتهاد عندهم.

و على ضوء هذه الحقيقة نقول:إنّ تراجم أهل السنة في القرون الأُولى لم تكن بأدنى من تراجم الشيعة كماً و كيفاً،بل لعلّ تراجمهم في بعض القرون قد فاقت تراجم الشيعة من حيث العدد و من حيث وفرة المعلومات و قيمتها.

و نحن إذا راجعنا القرن السادس-مثلاً-لوجدنا فيه (331) ترجمة،منها (216) ترجمة أو أكثر لفقهاء أهل السنة.

هذا من حيث الكمّ،أمّا من حيث النوع،فلا أظن أن تراجم الشيعة (بما فيهم الكبار منهم) تفوق تراجم السنة،فتراجم:ابن الجوزي (المرقمة 2184) و أبي يعلى الصغير (2337) و ابن فضلان (2377) و القاضي عياض(2261) و السمعاني (2198) و غيرهم،هي أغزر مادة من كثير من فقهاء الشيعة في هذا القرن،و ليست بأقلّ نوعاً من تراجم أكابرهم كابن زهرة الحلبي (2146) و ريحان

ص:775

الحبشي(2153) و الحقيقة التي ذكرناها آنفاً ألقت بظلالها على القرون المتأخرة،ففي القرن الثالث عشر كان عدد المترجمين (483) فقيهاً بينهم (146) فقيهاً سنياً (بما فيهم فقهاء الحجاز الذين بلغ عددهم 36فقيهاً) و الباقي لفقهاء الشيعة (الإمامية و الزيدية).

و لا بدع-كما يدرك سماحتكم-إذا ظهر لنا ميل إلى فقهاء الشيعة،و جاءت بعض تراجمهم بمستوى يفوق تراجم غيرهم،و ذلك لمعرفتنا بهم و قربنا منهم أوّلاً،و لأنّ حب الرجل قومه أمر غير مذموم ما لم يبخس حق الآخرين، أو يسيء إليهم لهوىً يتّبعه.

و مهما يكن من أمر،فقد قدمنا العذر في مقدمة الجزء (14) و قلنا:إنّ هذه الموسوعة ليست سوى خطوة متواضعة على هذا الطريق،تستهدف التعريف بطائفة كبيرة من الفقهاء على اختلاف مذاهبهم،ناهيك عن الرغبة الأكيدة في تحقيق الأُلفة بين المسلمين و توحيد صفوفهم.و العذر عند كرام الناس مقبول.

و كم نتمنى أن يتصدى أحد علماء السنّة لمثل هذا المشروع أو أفضل منه، و يدرج علماء الشيعة-حتى و إن اقتصر على مشاهير المشاهير منهم-جنباً إلى جنب مع علماء أهل السنة،تحقيقاً للهدف المنشود.و اللّه المسدد للصواب.

و ختاماً،بلغوا سلامي و تحياتي إلى الأُستاذ عبد اللّه عبد الرحمن مؤلف «أعلام المكيين»،و أرجو من اللّه تعالى أن يوفّقني لمطالعة الكتاب،و الصدور عنه في مستقبل الأيام إذا قام المحقّقون في المؤسسة بمهمة تأليف استدراك للموسوعة.

تقبلوا تحياتنا العطرة

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

12 رمضان المبارك1425ه

ص:776

الفصل الثامن:رسائل و حوارات

اشارة

مع الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش

ص:777

ص:778

دارت بيننا و بين الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش القاضي بالمحكمة الكبرى بالقطيف رسائل و مساجلات حول مسائل مختلفة يجمعها ما اختلف فيه النظر بين السنّة و الشيعة،و إليك الإشارة إلى رءوس الموضوعات:

1.رسالتنا إلى الشيخ مرفقة بكتاب الحجّ مشيرةً إلى أنّ المشتركات في موضوع الحج بين الطائفتين كثيرة.

2.رسالة الشيخ إلينا يذكر فيها بعض ملاحظاته حول نهج البلاغة و حول كتابنا في نقد كتاب«تأملات حول كتاب نهج البلاغة».

3.رسالة منّا إلى الشيخ نذكر فيها أنّ صحابة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم الذين رأوا نور الرسالة ليسوا على وتيرة واحدة و على صعيد واحد من حيث العمل و السلوك و الالتزام.

4.الشيخ صالح الدرويش يهدي إلينا كتاب«الإمامة و النص»و قد قمنا بتقديم الشكر إليه ناقدين فصلاً واحداً من هذا الكتاب.

5.طلب الشيخ صالح الدرويش تأليف كتاب يجمع الروايات الصحيحة عند الشيعة و جوابنا عن ذلك.

6.جوابنا عن الرسالة الّتي أرسلها مؤلف«الإمامة و النص»حول ملاحظاتنا عليه.

7.رسالة أحد محقّقي مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام إلى الشيخ صالح الدرويش تشتمل نقداً للموقع الّذي يشرف عليه مؤلف كتاب«الإمامة و النص».

ص:779

بسم اللّه الرحمن الرحيم

1

إلى الأخ البارع البصير الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش-دامت معاليه القاضي في المحكمة الكبرى بالقطيف

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد؛

فقد جرت بيني و بينكم-في سالف الزمان-مساجلات و مراجعات طرحت خلالها أفكار و تساؤلات،كان مبعثها ودّ الحقيقة و الدفاع عن العقيدة،و قد قيل:«انّ الحياة عقيدة و جهاد».

و على كلّ تقدير فهذه الرسالة الموجزة مرفقة بكتاب«الحجّ»الذي هو جزء من محاضراتي الفقهية حول الحجّ و الكتاب يقع في عدة أجزاء،و هو أقوى شاهد على أنّ المشتركات في الحجّ بين المذاهب أكثر،و ما أصدق قول القائل:«ما يجمعنا أكثر ممّا يفرقنا».

و نحن نعتقد أنّ الّذي فرّق بيننا هو الجهل بالآراء و النظريات الّتي يتبنّاها

ص:780

الطرف الآخر،و لو وقف الأخ السنّي على آراء أخيه الشيعي لأذعن أنّه هو الأخ الّذي افتقده عبر قرون.

و دمتم سالمين للإسلام و أهله

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

قم المقدسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الثالث عشر من جمادى الآخرة 1425ه

ص:781

بسم اللّه الرحمن الرحيم

2

سماحة الشيخ جعفر السبحاني وفقه اللّه

الحمد للّه وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده،و على آله الأطهار و صحبه الأخيار.و بعد،فعليكم السلام و رحمة اللّه و بركاته

*فقد سعدت بوصول ردكم إلي و المعنون ب (حوار مع صالح الدرويش) و قد اطّلعت عليه و قيدت أثناء التصفّح بعض الملحوظات عليه،و ارتأيت أنّها كثيرة ترجأ لحينها! و من أهم ما استوقفني فيه و آسف له،و هو أنّ المؤلف لا يفرق بين من هم (الصحابة) الذين جاءت النصوص في مدحهم و الثناء عليهم بأوضح العبارات و أبلغ الآيات،و من هم (المنافقون) الذين جاءت النصوص بذمّهم و أنّهم في الدرك الأسفل من النار؟!

*و دونك سماحة الشيخ:كتاب اللّه تعالى،تأمل في آياته لترى الصراحة في القصد من الثناء على المهاجرين،و لم يذكر أحد من المؤرخين قاطبة-فيما أعلم-أي منافق أو علامة للنفاق قبل غزوة بدر!

*و قد رأيت سماحتكم:نحا و سلك مسلكاً آخر في أصل الحوار...و لأجل

ص:782

أنّ الأمر فيه بون شاسع بيني و بينكم-وفقكم اللّه-حول تحرير أصل المسألة؛لذا تركت الرد أو الحوار فيما يتعلق برسالتنا (صحبة رسول اللّه) عليه و على آله أزكى تحية و سلام.

*أمّا فيما يتعلق بالحوار حول رسالة (تأمّلات في نهج البلاغة) لمؤلفه الأُستاذ محمد الصادق-وفقه اللّه-فسماحتكم يعلم أنّي إنّما قدّمت للمؤلف...و من ثمّ جعلتم كلّ الحوار معي و في مخاطبتي!

*و من هنا فقد أعطيت حواركم فيه لمؤلفه للنظر فيه و موافاتنا بمرئياته حياله، و لم يوافني ليومي هذا بشيء خاصة و أنّه أخبرني بالطبعة الثانية للرسالة و أنّها تحت الإعداد،هناك رسالة أُخرى في نفس الموضوع و هي قراءة راشدة في نهج البلاغة أتمنّى أن تبحثوا عنها و تنظروا فيها.و اللّه الموفق.

*كما أنّه لا يخفى على شريف علمكم الكلام في نسبة الكتاب كلّه إلى أمير المؤمنين رضي اللّه عنه و أرضاه،و الصنعة الأدبية ظاهرة على أبوابه و محتوياته،فيمكن لكم المقارنة بين البلاغة العربية في عهد النبوة و ما كان عليه أمير المؤمنين من فصاحة و بلاغة،و كتاب النهج و ما فيه من سجع متكلف،و غرائب في بعض الألفاظ و ما ساد في بلاغة القرن الرابع-زمن جامع الكتاب-و أقل ما يقال فيه أنّه:زاد فيه!

و أيضاً انقطاع السند بين جامعه و قائله و بين ذلك خرط القتاد.

و لكني إنّما قدمت للكتيب على قاعدة التسليم في حجة الخصم-على افتراض صحتها-و كما قيل:«من فمك أُدينك».

*سماحة الشيخ الكريم:أُفيدكم أنّ رسالتكم مع كتابيكم قد وصلتني من يد الشيخ هاني المسكين.

ص:783

و هي هدية مقبولة أمّا الرسالة فلي عليها ملحوظات يسيرة لا يحسن ان نذكرها من باب حسن الظن بكم.

*هذا و قد التقيت بنخبة من الآيات و بعدد كبير ممّن دونهم الموسومين بحجة الإسلام،و مع قناعتي التامة بعدم وجود ضابط لديكم نحتكم إليه في ثبوت النصوص من عدم ثبوتها،و لمعرفة المقبول فيُعمل به،و المردود فلا يُعمل به.

*و أنا مع ذلك حريص على الالتقاء و مقابلة العقلاء،فإن زان عقلهم علماً فقد زاد شرفهم فجمعوا بين العقل و العلم...و انّي أرجو أن يكون سماحتكم من هذا الصنف.

سماحة الشيخ:إن من أهم المسائل الّتي يعاني منها كثير من المشايخ الذين التقينا بهم سلفاً هي:

عدم وجود نصوص عن الأئمّة يتفق الشيعة عليها.فهذا يضعف و ذاك!! و بالتالي لا تستطيع إلزام أحدٍ بنص إذ يقول و بكلّ سهولة و يسر«أنا أرى ضعف هذه الرواية»!!

و كما قال صاحب مقدمة صحيح الكافي:محمد باقر البهبودي...ب أن الزنادقة...و....

قاموا بوضع مرويات مكذوبة على الأئمّة،و تصل في الكافي إلى أكثر من...

كذا...و كذا.

و كتابه الآن بعيد عن متناول يدي،فأنا أكتب هذه الرسالة على عجل -و أستسمحكم لكثرة مشاغلي-و لكني أتذكر أنّه قال:يدسون الأكاذيب و الترهات من خلال الصحائف و الأُصول...فيختلط الحق بالباطل.

*لذا فإنّنا من محل المسئولية و تحمل الأمانة نناشدكم اللّه عزّ و جل أن

ص:784

تجعلوا اهتمامكم بتصحيح الروايات عن الأئمّة،فهذه أكبر خدمة لهم،و هو مصداق محبتهم.

و تأمل معي يا سماحة الشيخ هذا:

كيف يتعبد عوام الشيعة بمرويات لا يعلمون ثبوتها من عدمه،على مر هذه القرون.و ما حجتهم في هذا؟

إنّ باب الاجتهاد مفتوح،و على المجتهدين أن ينظروا فيها.و هذا عند الأُصوليين أمّا الأخباريين فالأمر لا يخفى على مثلكم.

و إليكم:مثال واحد بسبب عدم الضوابط،ما حصل من خروج الشيخ/أحمد الأحسائي و من تبعه،ثمّ خروج المعروف بالباب و قرة العين،و ما حصل في النجف في ذات التاريخ؟!!

و أخيراً/أعتذر إليكم مرّة أُخرى لعدم تمكّنني من إيفاء الأمر حقّه و ذلك لكثرة المشاغل...و برفقته كتاب فيه دراسة لمسألة النص و الإمامة و هو كتاب «الإمامة و النص»،و نأمل أن يتسع وقتكم للاطّلاع عليها و إفادتنا بما ترونه من ملاحظات.

أخوكم

صالح بن عبد اللّه الدرويش

ص:785

بسم اللّه الرحمن الرحيم

3

اشارة

أصناف الصحابة في القرآن الكريم

إلى الأخ البارع البصير الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش

- دامت معاليه و تواترت بيض أياديه-

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد:

فقد وافتني رسالتكم الكريمة-عبر الفاكس-و الّتي تعرب عن وصول رسالتنا إليكم الّتي كانت مرفقة بالجزء الأوّل من كتاب الحجّ من محاضراتي الفقهية،و كانت الغاية من إرساله إليكم هو الحث على الوقوف على فقه الشيعة ليتضح لديكم مدى المشتركات بين الفريقين،و لكن المؤسف أنّكم، لم تذكروا شيئاً من انطباعاتكم عنه،و الّتي ما زلنا ننتظرها بفارغ الصبر.

و أود أن أشير إلى أُمور تتعلق بما ذكرتموه في رسالتكم الكريمة تلك:

1.ذكرتم:أنّنا في كتابنا«حوار حول الصحبة و الصحابة»،لم نفرق بين

ص:786

الصحابة الذين جاءت النصوص في مدحهم و الثناء عليهم بأوضح العبارات و أبلغ الآيات،و المنافقين الذين جاءت النصوص بذمهم و أنّهم بالدرك الأسفل من النار.

ولي هنا نظرة و هي:كيف يصف الشيخ الكريم المؤلف بعدم التفريق بين الفريقين مع أنّ المؤلف قد صنف الصحابة إلى عشرة أصناف اثنان منهم المنافقون و المندسّون،و الثمانية الباقون من غيرهم و قد ورد التنديد و الذم في الكتاب و السنة بهم و هم:

1.مرضى القلوب (الأحزاب:12).

2.السماعون (التوبة:45- 47).

3.الذين خلطوا العمل الصالح بغيره (التوبة:102).

4.المشرفون على الارتداد(آل عمران:154).

5.الفاسق (الحجرات:6).

6.المسلمون غير المؤمنين (الحجرات:14).

7.المؤلفة قلوبهم (التوبة:60).

8.المولّون ادبارهم في زحف الكفار (الأنفال:15-16)

و لا شكّ أنّ هؤلاء الذين وضعنا البنان عليهم لم يكونوا من المنافقين،فإن وردت أبلغ الآيات في مدح الصحابة و الثناء عليهم بأوضح العبارات،فقد وردت أيضاً أبلغ الآيات و أوضح العبارات بالتنديد بهذه الأصناف الثمانية منهم.

فإذا كانت الآيات بحق الصحابة على قسمين مادحة و ذامّة فلا محيص من القول بوجود صالح و طالح،و عادل و فاسق بينهم،و من يقبل قوله و من يجب أن يترك قوله،فيكون حال الصحابة كحال التابعين،و هذا هو نفس عقيدة الشيعة

ص:787

الإمامية في حقّ صحابة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

2.إذا اعترفتم بأنّ صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم يشكل لحمتهم و سداهم طائفتان هما الصحابة العدول،و المنافقون المعروفون و المندسّون فيهم الذين لم يكن الناس يعرفونهم،و حتّى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم،كذلك لقوله سبحانه: «وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ» (التوبة:101).

فإذا كان الأمر كذلك فكيف تعتبرون روايات الصحابة و أحاديثهم بل و آراءهم و سننهم حجة على الإطلاق من دون أن تتعرفوا على أحوالهم و تتأكدوا من انتمائهم إلى الطائفة الأُولى أو الثانية.

إنّ في علم الأُصول بحثاً ضافياً حول العلم الإجمالي و أنّه ينجز كالعلم التفصيلي،مثلاً كما أنّ العلم التفصيلي بغصبية شيء ينجز التكليف،فهكذا العلم الإجمالي بوجود الأموال المغصوبة ضمن الأموال الحلال الكثيرة ينجز التكليف أيضاً،فيجب الفحص و التنقيب حتّى يتميز الحلال عن الحرام،و على ضوء هذا يجب الفحص عن أحوال الصحابة،ليتميز العادل عن الطالح،و المؤمن عن المنافق،و من يستدرّ به الغمام،عمن يحبس دعاؤه و لا يستجاب.

لم يكن عدد المنافقين في عصر النبي قليلاً حتّى يغمض عنهم،بل كانوا أُمّة كبيرة يتآمرون على الإسلام ليلاً و نهاراً و الدليل على كثرتهم بين الصحابة هو عناية القرآن بذكر أحوالهم و التنديد بأفعالهم في كثير من السور نظير:

البقرة،آل عمران،النساء،المائدة،الأنفال،التوبة،الحج،العنكبوت، الأحزاب،الفتح،الحديد،المجادلة،الحشر،المنافقون،التحريم،فلو كان عددهم قليلاً و كانوا غير مؤثرين لما اهتمّ القرآن بهم إلى هذا الحدّ.

إنّ القرآن لم يقتصر على التنديد بهم ضمن هذه السور،بل أنّه قد خصّهم

ص:788

بسورة كاملة،أعني (المنافقون).

كما أنّ الكاتب المصري إبراهيم علي سالم قد جمع آيات النفاق و المنافقين على نظم خاص،و ادّعى أنّ عدد الآيات الواردة في حقّهم يعادل أجزاءً ثلاثة من أجزاء القرآن الثلاثين.

و العجب أنّه لم يكن لهم أي دور بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أيام الخلفاء،و هذه ظاهرة تاريخية تستوجب التوقّف عندها،فلما ذا غاب نجمهم و خابت حيلتهم بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

3.ذكرتم أنّه لم يذكر أحد من المؤلفين قاطبة-فيما أعلم-أيّ منافق أو علامة للنفاق قبل غزوة بدر.

إنّكم بحمد اللّه على سعة من العلم بالتاريخ و تعلمون أنّ نطفة النفاق قد انعقدت يوم نزول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة المنورة حيث قابله عبد اللّه بن أُبيّ المعروف برأس المنافقين بقوله:يا هذا اذهب إلى الذين غروك و خدعوك و أتوا بك فانزل عليهم و لا تغشنا في ديارنا. (1)

فأصبح هذا نواة النفاق،ثمّ اجتمع حوله جماعة من المتظاهرين بالإسلام، حتّى صاروا كتلة قوية في المدينة المنورة،على نحو يتحدث التاريخ عن كثرتهم،و إليك ما يشهد على ذلك:

إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حينما خرج من المدينة إلى غزوة أُحد بجيش يناهز الألف نفر،وقع التشاجر بين النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عبد اللّه بن أُبيّ فرجع هو بثلث الجيش إلى المدينة و تركوا النبي في طريقه إلى أُحد،و هذا يعرب عن بلوغ المنافقين و مَن تأثّر بهم في السنة الثالثة من الهجرة حدّاً يعادل ثلث الناهضين إلى الحرب،فمن العجب

ص:789


1- 1) .تاريخ الخميس:341/1.

القول بأنّه لم يكن للنفاق وجود قبل غزوة بدر مع أنّ الفاصلة الزمنية بين الغزوتين كانت قليلة،لا يمكن خلالها أن يتشكّل حزب النفاق و يصل إلى ذلك المستوى في هذا الزمن القصير.حيث كانت غزوة بدر في رمضان السنة الثانية من الهجرة و غزوة أُحد،في شوال السنة الثالثة.

و ان كنت في شكّ من ذلك فاقرأ نص السيرة النبوية لابن هشام يقول:حتّى إذا كان بالشوط الأوّل بين المدينة و أُحد،انعزل عنه عبد اللّه بن أُبي بن سلول بثلث و قال أطاعهم و عصاني،ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيّها الناس فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق و الريب. (1)

و قد كان للمنافقين و على رأسهم عبد اللّه بن أُبيّ دور في أمر بني قينقاع و كان بعد غزوة بدر،و قبل غزوة أُحد حيث قال للنبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم:أربعمائة حاسر،و ثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر و الأسود تحصدهم في غداة واحدة.

و في حقهم نزل قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» 2 . (2)

كلّ ذلك يعرب عن تغلغل النفاق بين الصحابة عند إجلاء بني قينقاع و كان ذلك بعد غزوة بدر بقليل.

***

حول انعدام النصوص الّتي تتفق عليها الشيعة

الموضوع الثاني الّذي ركزتم عليه في الرسالة هو عدم اتّفاق الشيعة على

ص:790


1- 1) .السيرة النبوية:64/2، [1]ط.مصطفى البابي الحلبي.
2- 3) .السيرة النبوية:49/2. [2]

النصوص،حتّى نحتكم إليها،و قلتم حول ذلك:إنّ من أهمّ المسائل الّتي يعاني منها كثير من المشايخ الذين التقينا بهم سلفاً هي:عدم وجود نصوص عن الأئمّة يتفق الشيعة عليها...فهذا يضعف و ذاك!! و بالتالي لا نستطيع إلزام أحد بنص إذ يقول و بكل سهولة و يسر«أنا أرى ضعف هذه الرواية».

و كما قال صاحب مقدمة صحيح الكافي:محمد باقر البهبودي...ب«أنّ الزنادقة ...و...».

قاموا بوضع مرويات مكذوبة على الأئمّة،و تصل في الكافي إلى أكثر من...

كذا...و كذا. (1)

أقول:ركّزتم-حفظكم اللّه-على أمرين،ندرسهما واحداً بعد الآخر أمّا عدم وجود كتاب صحيح لدى الشيعة فهذا هو أحد مميزات منهجهم عن السنّة، لأنّ أهل السنّة قد التزموا بكتابين صحيحين بعد كتاب اللّه تعالى و هما صحيحا البخاري و مسلم،و قد اعتقدوا بصحة أحاديثهما،و لاقوا في ذلك ما لاقوا،لأنّ في الصحيحين أحاديث تضاد القرآن الكريم و السنّة النبوية المتواترة و العقل الحصيف الّذي به عرفنا اللّه تعالى.

و إن شئتم أن تتعرفوا على مواضيع هذه الروايات فعليكم بكتابنا«الحديث النبوي بين الرواية و الدراية»فقد درسنا فيه أحاديث أربعين صحابياً،ذكرنا روائع أحاديثهم ثمّ أردفناها بأحاديث رويت عنهم تضاد الكتاب و السنة و العقل،و لا يسع المقام هنا لذكر شيء منها و قد طبع الكتاب و وزع في بيروت،و لو لا المنع الموجود في الجمارك السعودية لأرسلنا إليكم نسخة منه عن طريق البريد لكي تقفوا على صدق ما عرضنا و يمكنكم مطالعته عبر موقعنا في الانترنيت على

ص:791


1- 1) .كما ورد في الصفحة الرابعة من رسالتكم.

الرابط:

mth.xedni ivaban-la-htidah-la 1 bus koob gro.qedasmami.www

و أمّا الشيعة فليس عندهم كتاب صحيح من أوّله إلى آخره سوى كتاب اللّه العزيز الّذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين،و هو الكتاب الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ما زاد و ما نقص.

و مع ذلك فقد وضع الشيعة ضوابط لتمييز الصحيح عن الزائف،و المقبول عن المردود،و هذه كتبهم في الرجال و الدراية و الحديث تملأ المكتبات.

و لكن مهما صحّ الحديث سنداً فانّما يؤخذ به في الأحكام العملية و الفروع الشرعية،و أمّا العقائد فالمرجع فيها هو الكتاب و السنة المتواترة المفيدة للقطع و اليقين و العقل الحصيف.

و هنا يفترق طريق السلفية عن الشيعة،فإنّ الطائفة الأُولى يعتبرون الخبر الواحد حجة في العقائد و يستدلّون به،و أمّا الشيعة فلا يرون للخبر الواحد و إن صحّ أسناده دوراً في مجال المعارف،لأنّ المطلوب فيها هو الاعتقاد و هو رهن أُمور تنتج اليقين و تستوجبه و الخبر الواحد-مهما صحّ-لا يلازم اليقين بخلاف الأحكام العملية فانّ المطلوب فيها هو العمل و هو أمر ممكن مع عدم الإذعان بمطابقتها للواقع.

لقد جرت عادة مشايخكم-زادهم اللّه شرفاً و عزاً و علماً و تُقى-على الاحتجاج بروايات الآحاد الصحاح في أكثر الساحات،فصار ذلك سبباً لدخول أُمور منكرة في الشريعة المقدسة،نظير:

1.نزوله سبحانه إلى السماء الدنيا.

2.الشؤم في المرأة.

ص:792

3.بول النبي قائماً.

4.سلطان إبليس على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حال صلاته.

5.طواف النبي على نسائه التسع في ليلة واحدة.

6.وضع الرب رجله في نار جهنم ليملأها مع أنّه سبحانه وعد بإملائها من الجنة و الناس لا بإدخال الرِّجْل.

7.انّه سبحانه ليس بأعور.

إلى غير ذلك من أُمور لا يقيم لها وزناً من له أدنى إلمام بالمعارف الإسلامية السامية.

و إن أردتم الاطّلاع على عقائد الشيعة الإمامية في مختلف المجالات فبإمكانكم الرجوع إلى كتابنا«العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت»،و الّذي اتبعنا فيه منهجاً شفافاً موجزاً،و تستطيعون مطالعته من خلال موقعنا في الانترنيت على الرابط:

mth.xedni hebihga-la 3 bus koob gro.qedasmami.www

إنّ كاتب هذه السطور مستعد للقائكم في أيّ مكان تريدون من غير فرق بين المدنية المنورة أو مكة المشرفة،لنجري الحوار حول عقائد الشيعة الّتي اتفقت عليها فطاحل علمائهم و عظمائهم.

و أمّا الأمر الثاني:أعني الاستدلال بما رواه محمد باقر البهبودي-حفظه اللّه - بأنّ الزنادقة قاموا بوضع روايات مكذوبة على الأئمّة...الخ.

فهو من أخطاء الشيخ البهبودي،فلو صحت القضية و قلنا بحجية قول الفاسق أو الكافر كابن أبي العوجاء فهو إنّما دسّ في كتب حمّاد بن سلمة الّذي كان ربيباً له،لا في كتب الشيعة فأين هو من كتب الشيعة؟!

ص:793

و إن شئت توضيحاً أكثر،نقول:

روى المرتضى في أماليه أنّه لما قبض على عبد الكريم بن أبي العوجاء، محمد بن سليمان و هو والي الكوفة من قبل المنصور و احضره للقتل،و أيقن بمفارقة الحياة قال:«لئن قتلتموني فقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة مصنوعة». (1)

و هنا نكتتان نلفت نظركم السامي إليهما:

1.أ فيصح الاستدلال بقول الفاسق فضلاً عن الكافر،و من المعلوم أنّ الإنسان الآيس من الحياة المحكوم عليه بالقتل و الصلب يطول لسانه و يأتي بالغث و السمين و يثير غضب الحاكم من دون أن يكون ملتزماً بصدق مقاله و قد قيل:

إذا يئس الإنسان طال لسانه كسنّور مغلوب يصول على الكلب

2.لو صحّ ما نقله المرتضى فإنّما أراد القائل الدسّ في حديث أهل السنّة، و قد صرّح بذلك ابن الجوزي في كتاب«الموضوعات»انّ ابن أبي العوجاء كان ربيباً لحماد بن سلمة المتوفّى عام (167 أو 169ه) و قد دسّ في كتب حماد (الموضوعات:37 طبع المدينة المنورة).كما نص على ذلك الذهبي في ميزانه (ج1،ص 590-595) و ابن حجر في تهذيبه(ج3،ص 11- 16).

و الجميع ينصّون على أنّ الرجل قد دسّ ما دسّ في كتب من ربّاه الّذي كان من محدّثي السنّة،و أين ذلك من الدس في كتب الشيعة.

ما هكذا تورد يا سعد الإبل.

ص:794


1- 1) .أمالي السيد المرتضى:128/1.

التشكيك في نسبة نهج البلاغة إلى الإمام علي عليه السلام

كان في كلامكم إلماعاً إلى الشك و الترديد في نسبة نهج البلاغة كلّه إلى أمير المؤمنين علي(رضي اللّه عنه و ارضاه) قلتم في رسالتكم:...و الصنعة الأدبية ظاهرة على أبوابه و محتوياته،فيمكن لكم المقارنة بين البلاغة العربية في عهد النبوة و ما كان عليه أمير المؤمنين من فصاحة و بلاغة...و كتاب النهج و ما فيه من سجع متكلف،و غرائب في بعض الألفاظ و ما ساد في بلاغة القرن الرابع-زمن جامع الكتاب-و أقل ما يقال فيه أنّه:زاد فيه،و أيضاً انقطاع السند بين جامعه و قائله و بين ذلك خرط القتاد. (1)

أقول:ما ذكرتم من التشكيك أمر قد سبقكم إليه أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن أبي بكر المعروف بابن خلكان المولود في مدينة اربل عام 608،فهو أوّل من أثار الشكوك في قلوب الباحثين بنسبته الكتاب إلى الشريف الرضي تأليفاً.

ثمّ جاء بعده الصفدي و هو من كتّاب التراجم إلى أن انتقلت الشبه إلى الكتّاب المعاصرين،و هم يدّعون القول بأنّ الكتاب من صنع جامعه و تأليفه بأدلّة منها ما ذكرتم من ظهور الصنعة الأدبية،و السجع المتكلّف.

و قد تحدثنا عن ذلك في الحوار الأوّل معكم بالتفصيل في ص 14- 20 و ممّا قلناه هناك:

بأنّ الشريف الرضي ليس أوّل من جمع كتب الإمام و رسائله و كلماته،بل سبقه جمهور من الكتاب ذكرنا أسماءهم و كتبهم،و قد صدر عنها و عن غيرها

ص:795


1- 1) .الصفحة الثانية من الرسالة.

الشريف الرضي.حتّى أنّ الشريف الرضي قد ذكر مصادر بعض خطبه و رسائله و كلماته،و ترك ذكر مصادر الكثير و ما ذلك إلاّ لكون الشريف الرضي كان على ثقة بصحة سائر ما ذكره فلم يرَ حاجة لذكر المصادر.و إنّما ذكر بعض المصادر فيما لم يكن على ثقة بصدوره.و أمامكم كلام الكاتب الكبير الرحالة المسعودي (المتوفّى عام 345ه) قبل أن يولد الرضي مؤلف «مروج الذهب»يقول:و الّذي حفظ الناس عن الإمام من خطبه في سائر مقاماتهم هو أربعمائة و نيف و ثمانون خطبة يوردها على البديهة تداول الناس ذلك عنه قولاً و عملاً. (1)

و قد أشبعنا الكلام في ذلك في الحوار المذكور.و المظنون أنّه لم تتح الفرصة لكم لمطالعة الحوار الأوّل و عاقتكم عن ذلك كثرة المشاغل،و قد أشرتم إلى ذلك في رسالتكم حيث قلتم:«إنّي أكتب هذه الرسالة على عجل و استسمحكم لكثرة مشاغلي».

فلنرجع إلى ما ذكرتم من وسائل التشكيك:أعني:ظهور الصنعة الأدبية:

و هذا هو أحد الإشكالات الأربعة التي جمعها المحقّق محمد محيي الدين المصري الّذي كتب مقدمة لشرح نهج البلاغة لمحمد عبده (المطبوع في مصر) و قال:الثاني:أنّ فيه من السجع و النميق اللفظي و آثار الصنعة ما لم يعهده عصر علي،و لا عرفه،و إنّما ذلك شيء طرأ على العربية بعد العصر الجاهلي و صدر الإسلام،و افتتن به أدباء العصر العباسي و الشريف الرضي جاء من بعد ذلك على ما ألفوه فصنف الكتاب على نهجهم و طريقتهم.

و قد أجاب هو عن هذا الإشكال في ذات المقدمة قائلاً:و أمّا عن السبب الثاني فليس ما في الكتاب كله سجعاً،و ما فيه من السجع فهو ممّا لم تدع إليه

ص:796


1- 1) .مروج الذهب:45/2. [1]

الصنعة،و لا اقتضاه الكلف بالمحسنات،و أكثره ممّا يأتي عفواً بلا كد خاطر و لا تجشم هول،و مثله في عبارات عصره واقع،و من عرف أنّ ابن أبي طالب كان حامي عرين الفصاحة و ابن بجدتها لم يعسر عليه التسليم. (1)

و نضع أمام الشيخ نموذجاً من السجع المتكلّف الرائج في العصر العباسي حتّى يعلم أنّ ما جاء في نهج البلاغة نتج عفواً و بلا تكلّف.

هذا هو الحريري أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان البصري صاحب«المقامات»المشهور،و تعمقه في الصناعة يغنينا عن إيراد كثير من نثره و نظمه.فمن نثره قوله:

«فمذ اغبر العيش الأخضر،و ازور المحبوب الأصفر،اسودّ يومي الأبيض، و ابيض فؤادي الأشيب،حتّى رثى لي العدو الأزرق،فيا حبذا الموت الأحمر».

فيا شيخنا القاضي بالحق:قسْ هذا الكلام بقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في عدم الاغترار بالدنيا أعني قوله:فإنّ الدنيا قد أدبرت،و آذنت بوداع،و إنّ الآخرة قد أشرفت باطّلاع،ألا و إنّ اليوم المضمار و غداً السباق،و السبقة الجنة،و الغاية النار،أ فلا تائب من خطيئته قبل منيته؟ (2)

و كأن المشكّكين ينكرون على أصحاب المواهب أن يبتكروا و يجودوا بعطاءاتهم الفذة،و أمير المؤمنين-كما أصفق الجميع-من العباقرة الذين جاءوا في زمن غير زمانهم،و يُبدعوا فلا بِدْعَ أن يكون عطاؤه متميزاً في النحو (و هو مؤسسة) و البلاغة و الفقه و الكلام و التفسير و غيرها من المجالات.

و أنت ترى أنّ أرباب الأدب و اللغة و الفصاحة و البيان من لدن جمعه إلى

ص:797


1- 1) .نهج البلاغة شرح الإمام محمد عبده،قم المقدسة،ص«و».
2- 2) .نهج البلاغة،الخطبة:27. [1]

وقتنا الحاضر قد وقفوا مبهورين أمام سحر تلك الألوان و الصور الّتي أبدعتها ريشة أمير البيان و سيد البلغاء و هو ينظم تلك الفرائد.

و لا اعتقد أنّ أحداً ممن يحترم ذوقه و أدبه لا يعشو إلى تلك الأنوار الّتي تتلألأ بها تلك الفرائد،و يخضع لجلالها.

إنّ الشريف الرضي الجامع لنهج البلاغة،قد ألف كتاباً باسم«المجازات النبوية»و قد طبع غير مرة،و الفرق بينه و بين«نهج البلاغة»هو انّ الأوّل ألّف باسم النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم و الثاني ألّف باسم تلميذه و ربيب القرآن،و لم يشك في الأوّل أي مشكك دون الثاني.

فما هو الوجه،و المؤلف واحد،و كلا التأليفين على غرار فارد.

و في الختام أقدّم اعتذاري عن الإسهاب في الكلام،راجياً من سماحتكم الإمعان في هذه الرسالة و ما تقدمها من الحوارين فإنّ الحقيقة بنت البحث.

و تقبّلوا فائق احترامي و خالص سلامي لكم و لكافة الأخوة المؤمنين الذين من حولكم،و أرجو منكم الدعاء في أيام شهر رمضان و لياليه المباركة، لخلاص المسلمين من الظلم و العدوان،و دسائس الكفار....

وفقكم اللّه

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

3رمضان المبارك 1425ه

ص:798

4

أهدى إليّ سماحة الشيخ صالح الدرويش كتاب«الإمامة و النص»و كتب ما

هذا نصّه:

«إهداء للشيخ العلاّمة جعفر السبحاني-وفّقه اللّه-آمل أن يتّسع وقتكم للاطلاع عليه و دراسته بإنصاف و أسأله سبحانه و تعالى أن ينفعني و إيّاكم بما نسمع و نقرأ و يجعله حجة لنا يوم القيامة لا علينا،اللّهم آمين.

و صلّى اللّه على نبيّنا محمد و آله و صحبه أجمعين».

القاضي بالمحكمة الكبرى بالقطيف

صالح بن عبد اللّه الدرويش

ص:799

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سماحة الأخ في اللّه الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش

حفظه اللّه و رعاه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا في صلاح و فلاح و سرور و حبور،و في خدمة الدين الحنيف و إصلاح المجتمع.

جعلكم اللّه مصباحاً منيراً للدرب،و أخذ بيدكم إلى ما فيه رضاه.

استلمت بيد التكريم و التبجيل قبل بضعة أيّام (عاشر شوال المكرم) هديتكم،أعني الكتاب الموسوم ب«الإمامة و النص»و قلت:في نفسي هدية حلوة من بلاد التمور و الحلويّات،و فتحت الغلاف فاستوقف نظري إليه في بادئ الأمر خطكم الشريف و الّذي جاء فيه:«إهداء للشيخ العلاّمة جعفر السبحاني-وفقه اللّه-آمل أن يتّسع وقتكم للاطلاع عليه و دراسته بإنصاف...».

ثمّ لاحظت تقريظ الكتاب بقلم الشيخ سعد بن عبد اللّه الحميد حيث ابتدأ كلامه-بعد البسملة و الحمد-بقوله:فإنّ من الأُمور الّتي يبغضها اللّه لأهل الإسلام الفرقة و الاختلاف كما قال سبحانه: «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» إلى أن قال:«و كل غيور على دين اللّه ينفر من

ص:800

الاختلاف و يكرهه و يسعى إلى درئه ما استطاع».

فتفألت بمستهل التقريظ و قلت في نفسي:إنّ المقرّظ من دعاة التقريب، و الكتاب المهدى في طريقه،ثمّ سبرت فهرس الموضوعات فأخذتني الحيرة بين التعبير الماضي للمقرّظ و محتويات الكتاب،فأيقنت انّ المقرظ من رجال التفرقة و حماتها،و انّه اتّخذ التعبير المذكور واجهة لدعمه موقف الكتاب،الّذي يفرّق و لا يجمع،و يشتّت و لا يلمّ،و يؤجج نار الشحناء و العداء بين المسلمين،و لا يعمل على توطيد علائق الأُخوة بينهم.

و ممّا لفت انتباهي عند سبر فهرس الموضوعات عنوان«تعظيم الشيعة لليهود و النصارى»فتحيّرت:كيف ينسب الكاتب إلى الشيعة تعظيم اليهود و النصارى مع أنّ إمام الشيعة و إمام المسلمين علي بن أبي طالب عليه السلام هو الذي استأصل شأفة اليهود في قلاعهم،و سقاهم كؤوس الذلّ بسيفه و سنانه،و قتل أبطالهم،و في مقدّمتهم مرحب الخيبري مرتجزاً:

أنا الّذي سمتني أُمّي حيدرة ضرغام آجام و ليث قسورة

و قد كرّمه الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم عند ما بعثه لقتال الخيبريين بقوله:«لأُعطينّ الراية غداً رجلاً يحب اللّه و رسوله و يحبه اللّه و رسوله يفتح على يديه،كرار غير فرار»،و قد أطاح بقوله:«غير فرار»باللذَيْن أخذا الراية،من قبَل ثمّ رجعا منهزمينَ،و اتُّهما بالجبن و الفرار.

ثمّ عدتُ إلى متن الكتاب حتّى أقرأ ذلك الفصل عن كثب و أتعرّف على حقيقة هذه الدعوى،دعوى«تعظيم الشيعة لليهود و النصارى»أو ليس رجال الشيعة هم الذين أخرجوا اليهود عن الوطن الإسلامي-في جنوب لبنان - صاغرين،و بذلك صاروا أسوة لأبطال فلسطين و قدوة لأبناء الحجارة و علّموهم

ص:801

بأنّ التحرّر من ذلّ العدوان الصهيوني لا يُكتب إلاّ بالتضحية و العمليات الاستشهادية؟!

كنت أفكر بهذا الموضوع،فقرأت ذلك الفصل فلم أجد فيه سوى أنّ جماعة من اليهود سألوا الإمام عليّاً عليه السلام عن مسائل فأجابهم و أقنعهم فأسلموا غبّ ذلك و قالوا:«أشهد أن لا إله اللّه و...»،و كانت نتيجة الإجابة هي رفضهم للديانة اليهودية أو النصرانية و دخولهم حظيرة الإسلام.

شيخنا الجليل! أطال اللّه بقاءَك هل أنّ هذه الروايات-سواء أ صحّت أم لم تصحّ-تدلّ على تعظيم الشيعة لليهود و النصارى؟ أو أنّها تدلّ على سعة علم الوصيّ و إخضاعه اليهود و النصارى بالبيان الرصين لقبول الإسلام و اللجوء إليه؟ و لا غرو في ذلك و هو عليه السلام باب علم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أقضى الأُمّة،نطقت بذلك الآثار و الأخبار و احتفلت به المجامع و الكتب.

باللّه عليك! لو كانت هذه الروايات واردة في حقّ واحد من الصحابة أو أحد الشيخين،و كانت تشير إلى أنّ جماعة من اليهود أو النصارى سألوا أبا بكر أو عمر عن مسائل فأجاب عنها بأجوبة انتهت إلى إسلام السائلين،هل كان الكاتب عندئذٍ يتهم أهل نحلته بتعظيم اليهود و النصارى؟!

قليلاً من الإنصاف! قليلاً من الوعي!

و قد قال اللّه سبحانه: «وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى». 1

فلو صحّ ما ادّعاه الكاتب من أنّ إسلام اليهود و النصارى على ضوء بيان الوصي عليه السلام،دليل على تعظيم الشيعة لليهود و النصارى،فالقرآن الكريم أوّل من

ص:802

عظّم اليهود و النصارى.حيث وصفَ لفيفاً منهم بالإيمان غبَّ سماع الآيات القرآنية،قال سبحانه: «لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ». 1

قل لنا يا أيّها الأخ في اللّه هل يصحّ لإنسان عاقل أن يتّهم الذكر الحكيم بتعظيم اليهود و النصارى بحجة انّه يصفهم بقوله:

«وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ». 2

لقد فرّق سبحانه و تعالى بين اليهود و النصارى و وصف الطائفة الثانية بأنّهم أقرب مودّة إلى المؤمنين و قال: «وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ». 3

إنّ القرآن الكريم يأمر المشركين بسؤال أهل الكتاب للتعرف على سمات الأنبياء و يقول: «وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ». 4

لا شكّ أنّ لأهل الذكر مفهوماً واسعاً يعم الأحبار و الرهبان و غيرهم،و لكنّهما بلا شكّ من مصاديق الآية حسب سياقها،أ فيكون الأمر بسؤالهم تعظيماً

ص:803

لليهود و النصارى؟!

لا أدري و لا المنجم يدري و لا القرّاء يدرون!

كعب الأحبار وعاء العلم!

و الحقيقة أنّ بعض الصحابة هم الذين عظّموا اليهود و النصارى،-على وفق الضابطة التي ذكرها المؤلف-هذا هو كعب بن ماتع الحميري الذي قالوا في حقه:هو من أوعية العلم و من كبار علماء أهل الكتاب،أسلم في زمن أبي بكر،و قدم من اليمن في خلافة عمر،فأخذ عنه الصحابة و غيرهم،و أخذ هو من الكتاب و السنّة عن الصحابة،و توفّي في خلافة عثمان،و روى عنه جماعة من التابعين،و له شيء في صحيح البخاري و غيره.

قال الذهبي:العلاّمة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و قدم المدينة من اليمن في أيام عمر،فجالس أصحاب محمد فكان يحدّثهم عن الكتب الإسرائيلية و يحفظ عجائب.

إلى أن قال:حدّث عنه أبو هريرة و معاوية و ابن عباس،و ذلك من قبيل رواية الصحابي عن التابعي و هو نادر عزيز،و حدّث عنه أيضاً أسلم مولى عمر و تبيع الحميري ابن امرأة كعب.

و روى عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار و غيره مرسلاً.

وقع له رواية في سنن أبي داود و الترمذي و النسائي. (1)

ص:804


1- 1) .سير أعلام النبلاء:489/3 و لاحظ تفسير ابن كثير:339/3 [1] سورة النمل حيث قال-بعد ما أورد طائفة من الأخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان-:و الأقرب في مثل هذه السياقات أنّها متلقاة عن أهل الكتاب،ممّا وجد في صحفهم كروايات كعب و وهب،سامحهما اللّه تعالى في ما نقلاه إلى هذه الأُمّة،من أخبار بني إسرائيل من الأوابد و الغرائب و العجائب ممّا كان و ما لم يكن،و ممّا حرِّف و بدِّل و نسخ،و قد أغنانا اللّه سبحانه عن ذلك بما هو أصحّ منه و أنفع و أوضح و أبلغ.

و ترى الذهبي في كتابه«تذكرة الحفاظ»يعرفه أيضاً بأنّه من أوعية العلم. (1)

و معنى ذلك أنّ الصحابة كانوا يعتقدون أنّه موئل العلم و الفضل،و لهذا السبب أخذ عنه الصحابة و غيرهم.و عندئذٍ نسأل:إذا أخذ عنه الصحابة و غيرهم على أنّه من أوعية العلم،فما هو ذاك الذي أخذوه عنه؟ هل أخذوا عنه سوى الإسرائيليات المحرّفة و الكاذبة؟! فإنّه لم يكن عنده-على فرض كونه صادقاً - سوى تلك الأساطير و القصص الموهومة.فهل تسعد أُمّة أخذت معالم دينها عن المحدّث اليهودي،المتظاهر بالإسلام المعتمد على الكتب المحرفة بنص القرآن الكريم؟! و هذا،مع افتراض كونه صادقاً،امّا إذا كان كاذباً فالخطب أفدح و أجل،و لا يقارن بشيء !!

و المطالع الكريم في روايات كعب يقف على أنّه يركز على القول بأمرين:

التجسيم و الرؤية،و قد اتّخذهما بعض أهل الحديث من الآثار الصحيحة، فبنوا عليهما العقائد الإسلامية و كفّروا المخالف.

و العجب أنّ عثمان بن عفان ربما كان يستفتيه في بعض الأُمور،فقد سأله عن المال المجتمع المؤداة زكاته هل هو من الكنز أو لا؟ و صار ذلك سبباً للمشاجرة بينه و بين أبي ذر و انتهى ذلك إلى تسيير أبي ذر الغفاري إلى الربذة. (2)

وهب بن منبه ناشر الإسرائيليات

و ليس كعب الأحبار هو أوّل من أخذ عنه الصحابة،فقد ابتلى المسلمون بعد كعب الأحبار بكتابيّ آخر قد بلغ الغاية في بثّ الإسرائيليات بين المسلمين

ص:805


1- 1) .تذكرة الحفاظ:52/1.
2- 2) .مروج الذهب:349/2و غيره.

حول تاريخ الأنبياء و الأُمم السالفة،و هو وهب بن منبه اليماني.قال الذهبي:

ولد في آخر خلافة عثمان،كثير النقل عن كتب الإسرائيليات،توفّي سنة 114ه و قد ضعّفه الفلاس. (1)

و قال في تذكرة الحفاظ:عالم أهل اليمن،ولد سنة أربع و ثلاثين و عنده من علم أهل الكتاب شيء كثير،فإنّه صرف عنايته إلى ذلك و بالغ،و حديثه في الصحيحين عن أخيه همام. (2)

و ترجمه أبو نعيم في حلية الأولياء ترجمة مفصلة استغرقت قرابة ستين صفحة،و بسط الكلام في نقل أقواله و كلماته القصار. (3)

و قد خدع عقول الصحابة بأفانين المكر،حيث صار يعرّف نفسه بأنّه أعلم ممّن قبله و ممن عاصره بقوله لبعض حضّار مجلسه:يقولون عبد اللّه بن سلام أعلم أهل زمانه،و كعب أعلم أهل زمانه،أ فرأيت من جمع علمهما؟ يعني نفسه. (4)

و قد تسنّم الرجل،منبر التحدّث عن الأنبياء و الأُمم السالفة يوم كان نقل الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ممنوعاً و أخذ بمجامع القلوب فأخذ عنه من أخذ، و كانت نتيجة ذلك التحدّث،انتشار الإسرائيليات حول حياة الأنبياء في العواصم الإسلامية،و قد دوّن ما ألقاه في مجلد واحد،أسماه في كشف الظنون«قصص الأبرار و قصص الأخيار». (5)

و كم هناك من مستسلمة أهل الكتاب صاروا مصادر للقصص و التفسير

ص:806


1- 1) .ميزان الاعتدال:352/4- 353.
2- 2) .تذكرة الحفاظ:100/1- 101.
3- 3) .حلية الأولياء:23/1-81.
4- 4) .تذكرة الحفاظ:101/1.
5- 5) .كشف الظنون:223/2، [1]مادة قصص.

كتميم بن أوس الداري راوية الأساطير،و ها هي الصحاح و السنن مليئة برواياتهم...و تذكر قصصهم.

فإذا صحّ زعم الكاتب أنّ إيمان أهل الكتاب-بعد ما أتم الإمام علي عليه السلام، الحجة عليهم-دلل على تعظيمهم،فليكن عكوف الصحابة و التابعين و من ثمّ المحدثين على أبواب هؤلاء من أفضل الأدلة على تعظيمهم.

لما ذا نُؤْمِنُ بِبَعضٍ وَ نَكْفُر بِبَعضٍ؟!

الأخبار المتواترة و نقد أسانيدها

إنّ الكاتب يصبّ جهوده على تضعيف رواة الأحاديث المتواترة أو المتضافرة كما في الروايات الواردة حول آيتي الإكمال و البلاغ(ص563- 596،من نفس الكتاب).

فقد نقل فيه قرابة خمسين حديثاً و بذل جهوده لتضعيف أسانيد الروايات، ذاهلاً عن أنّ الضابط في الحديث المتواتر أو المتضافر هو«إخبار جماعة عن واقعة يفيد إخبارهم العلم»سواء أ كانوا ثقاة أم لا،و إذا ضم إلى هذه الروايات الهائلة ما أخرجه أهل السنّة حول نزول الآيتين يوم الغدير لتجلّت الحقيقة بأجلى مظاهرها.و تكون دراسة سند الأحاديث أمراً زائداً.

المؤلف و أبجدية رجال الشيعة

و ممّا يثير العجب انّ الرجل و هو بصدد تضعيف أحاديث الشيعة حول الإمامة أخذ ينقض و يبرم و هو لا يعرف مشاهير رجال الشيعة فضلاً عن غيرهم.

يقول حول رواية العلاء عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام:«و العلاء لم يصرح أحد بوثاقته و توثيق الخوئي له انّما لوروده في اسناد كامل الزيارات»(لاحظ

ص:807

ص 569).

أقول:انّ العلاء بن رزين من مشاهير رواة الشيعة و هو راوية محمد بن مسلم الثقفي و قد ورد في أسانيد الكتب الأربعة بهذا العنوان،(392) مورداً،يقول النجاشي:«روى عن أبي عبد اللّه،و صحب محمد بن مسلم و تفقه عليه و كان ثقة وجهاً»(رجال النجاشي،رقم 809)،و قال الشيخ الطوسي:«العلاء بن رزين القلاء،ثقة جليل القدر،له كتاب و هو أربع نسخ»(فهرس الشيخ،رقم 500).

و السيد المحقق الخوئي نقل هذه الكلمات و ليس في كلامه أي إشارة إلى أنّ توثيقه لوروده في أسانيد كامل الزيارات و ان ورد في أسانيده،لكن وثاقته أوضح من الشمس،و أبين من الأمس،هذا هو معجم رجال الحديث لسيدنا الأُستاذ الخوئي،لاحظ الجزء 11 ص 167،رقم الترجمة 7763.

و العجب أنّه أحال إلى الجزء 184/5 من معجم رجال الحديث للسيد الخوئي،و لم نجد أيّ أثرٍ ممّا ذكره هناك!!

اعتذار

إليك-أيّها الأخ في اللّه-أرفع آيات الاعتذار عمّا جرى به قلمي و لم يكن إلاّ نفثة مصدور،تجلّت على هذه الصحائف،و ما دفعني إلى كتابتها سوى حبّ الإصحار بالحقيقة و استعتاب الشاغب لئلا ينطلي عليه انّ ما نسجه حقائق راهنة.بل هو علبة السبّ و وعاء الشتم،يشبّه علماء الشيعة-الذين خدموا الحضارة الإسلامية في مختلف الأصعدة-بالذباب الّذي يتتبع مواضع الدم و الجروح!!...كبرت كلمة خرجت من فمه.

و قد تبيّن عندي طيلة حياتي:

ص:808

إنّ لكلّ شيء دليلاً إلاّ الافتراء على الشيعة.

و لكلّ شيء نهاية إلاّ الكذب على الشيعة.

و ليس في العالم الإسلامي-و فلسطين ترزح تحت العدوان الصهيوني - مشكلة سوى مشكلة الشيعة،و لذلك لم تزل تدور الردود و الاطروحات في الجامعات حول نقد عقائد الشيعة.

«قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَ مَنِ اهْتَدى». 1

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

23 شوال 1425ه

ص:809

5

طلب الشيخ صالح بتأليف كتاب يجمع الروايات الصحيحة عند الشيعة و جوابنا عن ذلك:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سماحة الشيخ آية اللّه العظمى جعفر السبحاني وفقه اللّه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

و بعد..

فقد وصلني كتابيكم الكريمين (1)الأوّل فيما يتعلق بالرد على رسالتي لكم، و مع كلّ أسف رأيت سماحتكم ترك صلب الموضوع و الفكرة التي طرحتها، و جعلتم محور رسالتكم للنقاش و الرد،و لست من أصحاب الجدل و استعراض القوى،و أسأل اللّه سبحانه و تعالى بأسمائه الحسنى و صفاته العلى أن يجعلني و إيّاك من الناصرين لسنّة نبيّه الكريم السائرين على خطاه، المتمسّكين بسنّته العاملين بهديه.

لذا تركت الرد حتّى في بيان المغالطات العلمية التي وردت في الرسالة و منها زعمكم ظهور النفاق قبل غزوة بدر حيث إنّكم ذكرتم قصة ابن أبي سلول

ص:810


1- 1) .كذا في أصل الرسالة بالبريد الالكتروني.

مستدلّين بها على وجود النفاق قبل بدر و الرجل في ذلك الوقت معلناً كفره و لم يعلن الإسلام بعد،و النبي صلى الله عليه و آله و سلم زاره ليدعوه للإسلام فلا نفاق قبل بدر لا من المهاجرين و لا من الأنصار!!!!!

هذا على سبيل المثال فقط و لا أُريد الإطالة في مثل هذا لسابق ما ذكرت لكم أنّي لست في صدد الجدل و النقاش.و مع هذا أطلب من سماحتكم لكي تشعر بأهمية الفكرة و الموضوع أطلب من سماحتكم أن تدلّني على كتاب جمع أقوال أئمة أو بعضهم اتفق الشيعة على صحتها و قطعوا بما فيها،لكي أقرأ فيها و يقرأ فيها غيري من المثقفين الشيعة ليتعبد بها و كله ثقة في صدورها عن الأئمّة عليهم السلام.

فأنت أعلم مني بالمكتبة الشيعية و يكفي من مئات المجلدات مجلدين (1)أو مجلد في جمع الصحيح المقطوع صدوره من الأئمّة عليهم سلام اللّه فيها الكلام الخاص المصفى و لعل الفكرة وصلتكم و لا تحتاج إلى مزيد توضيح أو بيان.

و قد أعجبني كلام سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد حسين فضل اللّه وفقه اللّه عند زيارتي له خلال الصيف الماضي حينما ذكر أنّ طرح هذه الأفكار و مناقشتها من الضرورة و الأهمية بمكان و يجب العمل عليها و إخراجها للواقع لترى النور فيتميز الحق من الباطل و الصحيح من السقيم و المتصل من المنقطع.

كما أشار جمع من الفضلاء من علماء الحوزة العلمية بأهمية هذا الموضوع و ضرورته،و أنّ الموقف السلبي من التراث و الجمود أمامه لا يخدم إلاّ أصحاب المصالح الشخصية،و سماحتكم فيما سمعنا عنكم أنّكم من أبعد الناس عن هذه النظرة الجامدة.

ص:811


1- 1) .الفتاوى الحديثية:86.

و ما يدلك على بعد كبار المحققين و المراجع العلمية من تحقيق التراث عملياً مع دعوتهم إليه نظرياً ما تجده في كتب سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد الشيرازي فهو في كتاباته و أطروحاته الفكرية يدعو بقوة إلى إعمال العقل و النظر في التراث كما يدعو للتجديد،و إذا ما نظرت إلى مؤلفاته الفقهية و العقدية تجده يستدل بالروايات دون تمييز!!!

أمّا خطابكم الثاني المتعلق بالنص و الإمامة لمؤلفه فيصل نور فقد قمت بإيصال ملاحظاتكم إلى صاحب المصنف و هو من الشباب الجادين في البحث و التحقيق،و عنده طموحات كبيرة في إخراج مجموعة من المصنفات حول الموضوع،و هذا يعد أوّل نتاجه العلمي و هو باكورة إنتاجه في التصنيف،و ميزته وفقه اللّه الحرص على اتباع الحق و تواضعه في قبول كلّ نقد و توجيه،و من خلال معرفتي به فانّه لا يضيره أن يعترف بالخطإ و الرجوع عنه هذا ما نحسبه و اللّه حسيبه و لا نزكي على اللّه أحداً.

و قد رد على كتابكم المحتوي على الملاحظات حول مؤلفه و التي تجدونها مرفقة مع رسالتي لكم و ليس لي من الأمر إلاّ أنّي ناقل لكم منه و منه لكم وفقكم اللّه تعالى لمرضاته و أحسن لنا و لكم الختام.

أخوكم

صالح بن عبد اللّه الدرويش

ص:812

بسم اللّه الرحمن الرحيم

عنوان الفضل و الفضيلة و رمز الأدب و الأخلاق

الأخ في اللّه الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش

- دامت معاليه و تواترت بيض أياديه -

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

نسأل اللّه لكم التوفيق في خدمة الدين و إصلاح المجتمع و لمّ الشعث و توحيد الكلمة....

وصلني كتابكم الكريم مرفقاً برسالة من الشاب الجادّ في البحث و التحقيق - كما ذكرتم-فأشكر اللّه سبحانه على هذا التواصل و هذه العلاقات العلمية التي ستثمر في نهاية الأمر،و إن كانت في بدايتها مقترنة بالصعوبة.

أمرتم-و إليكم الأمر و النهي-ان أدلّكم على كتاب يجمع أقوال الأئمّة عليهم السلام أو بعضهم،اتّفق الشيعة على صحة هذه الأقوال و قطعوا بما فيها لكي تقرءوا فيها...الخ.

أنار اللّه برهانكم؛فقد اعتذرنا عن ذلك في رسالتنا المؤرخة 3رمضان المبارك 1424ه،و كنا قد قلنا هناك انّه لا يوجد عند الشيعة كتاب اتّفق علماؤهم على صحته من أوّله إلى آخره،سوى القرآن الكريم.

و الضابطة عندهم هي:

ص:813

إنّ العقائد و المعارف لا يحتج فيها إلاّ بخبر مفيد للعلم الجازم نظير:الخبر المتواتر أو الخبر الواحد المحفوف بالقرائن المفيدة للقطع و اليقين.

و أمّا الأحكام العملية فيحتج فيها بهما و بالخبر الصحيح،و إن لم يفد العلم.

و وجه الفرق هو:انّ المطلوب في العقائد هو تحصيل اليقين،و هو رهن القسمين الأوّلين أو حكم العقل الحصيف.

بخلاف المطلوب في الأحكام فالمطلوب فيها هو العمل،وِفْقَ حجة شرعية، و الخبر الصحيح أحد الحجج الشرعية.

و مع ذلك فقد بلغ فقهاء الشيعة النهاية في حقل الفقه فميّزوا الصحيح عن غيره.

فهذا هو المحقّق الشيخ حسن بن الشهيد الثاني(959- 1011ه) قد ألف كتابه«منتقى الجمان في الصحاح و الحسان».

كما ألف العلاّمة المجلسي(1037- 1110ه) كتابه«مرآة العقول»فميز فيه بين الروايات بالتقسيم الرباعي الموجود في علم الدراية عند الشيعة من الصحيح و الموثق و الحسن و الضعيف،و كذلك تجد في سائر الكتب الفقهية الإشارة عند الاستدلال بالرواية إلى صحّة السند و ضعفه.

فإن كنتم تريدون قسم الصحيح و غيره في الفقه فهذا أمر ميسر،و إن أردتم القسم الصحيح فيما ورد حول العقائد فليس عندنا كتاب جامع لهذا الموضوع.

و مع ذلك كلّه فكاتب هذه السطور يفتخر بتلبية طلباتكم في حقل العقائد و الأحكام و أدلتهما من الكتاب و السنة المتواترة أو المحفوفة بالقرائن أو الخبر الصحيح....

انّ باب الحوار الذي فتحتموه باب نافع للأُمّة الإسلامية إذ به يرتفع

ص:814

حجاب الجهل عن البصر و البصيرة،و يقف المسلمون على ما عند الطوائف الأُخرى من ثقافة و علم و أدب بشرط أن يكون هذا الحوار واجداً لشرائطه و أن يكون الهدف منه تحري الواقع و كشف الحقيقة.

و بعين الحق انّ أكثر الطوائف-بالنسبة إلى عقائد الإمامية-أُمّيون لا يعرفون منها شيئاً،هذا هو القصيمي صاحب كتاب«الصراع بين الإسلام و الوثنية» يصف شيعة آل البيت عليهم السلام بالوثنية؛و يأتي آخر فيقرّض هذا الكتاب بشعره لا بشعوره قائلاً: فما للقوم دين أو حياءٌ و يكفيهم من الخزي«الصراع»

و من أعجب التهم-و ما عشت أراك الدهر عجباً-اتهام شيعة آل البيت عليهم السلام بمهزلة«خان الأمين»مع أنّ هذا هو شعار اليهود بالنسبة للمسلمين لا شعار الشيعة.

فاليهود خذلهم اللّه هم القائلون بخان الأمين،و يعتقدون أنّ أمين الوحي نزل بالوحي إلى أولاد إسماعيل و كان مأموراً بحفظه في عقب إسحاق و يعقوب كما حكاه الرازي في تفسيره...انظر كيف حرّفوا الكلم!!

و لا أزيدك بياناً سوى أنّي أذكر ما لاقيته عام 1375ه-عُقْب وفاة الملك عبد العزيز بسنة-في مكّة المعظمة و كنا قد استأجرنا دار أحد المدرسين في الحرم الشريف و قد سألني عند زيارته لنا في منزلنا،فقال:شيخنا السبحاني هل للشيعة تأليف؟ قلت في نفسي يا سبحان اللّه هذا هو مدرس الحرم الشريف و يعيش في أُمّ القرى،و في كلّ سنة يزور الكعبة آلاف من الشيعة و وفود عديدة منهم من أقطار الأرض كيف لا يعلم أنّ للشيعة جامعات و مكتبات و مدارس علمية و مؤلفات!!

ص:815

عند ما أرجع إلى نفسي و أتذكر هذه الذكريات المرة،فأني أثمّن الحوار الذي فتحتم بابه و ولجتم منه إلى فسيح العلم و المعرفة.

هذا ما يتعلّق برسالتكم،أمّا ما يرجع إلى رسالة مؤلف كتاب«الإمامة و النص» فسنرفقها مع هذه الرسالة إن شاء اللّه.

حفظكم اللّه من كلّ سوء و رعاكم و جعلكم مصباحاً منيراً للدرب و أخاً رءوفاً لي و أباً عطوفاً لعامة المسلمين.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

السبت رابع ذي الحجة الحرام عام 1425ه

ص:816

6

بعد أن وصلت رسالتنا في نقد كتاب«الإمامة و النص»إلى يد المؤلف عن

طريق العلاّمة الشيخ صالح الدرويش كتب المؤلف رسالة مطوّلة خرج فيها

عن موضوع الحوار

و تطرق إلى مواضيع لا صلة لها بالمقام،و لذا نعتذر عن نشرها كاملة و نكتفي بذكر ما له صلة بموضوع الحوار،ضمن جوابنا عليه، و قد قام الشيخ صالح الدرويش مشكوراً بإرسال رسالة المؤلف إلينا و كتب ما هذا لفظه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سماحة آية اللّه العظمى جعفر السبحاني وفقه اللّه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

و بعد:

فتجدون برفقه مرفقين حول الإجابة على رسالتكم كما تجدون مرفقاً آخر حول ملاحظاتكم على كتاب الإمامة و النص نسأل المولى أن يوفقنا و إياكم للحق و السداد و دمتم بخير و عافية.

أخوكم

صالح بن عبد اللّه الدرويش

ص:817

و قد أجبنا على ملاحظات المؤلف،و كان خطابنا في هذا الجواب موجهاً للشيخ صالح الدرويش باعتباره هو المرسل إلينا.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الأخ الوجيه سماحة الشيخ صالح الدرويش حفظه اللّه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

تهنئة عطرة،بمناسبة عيد الأضحى ذلك اليوم الّذي جعله اللّه سبحانه عيداً للمسلمين.

نسأل اللّه لكم التوفيق لما يرضاه.

أرجو أن تصل رسالتي هذه إلى من تتعلق،و سماحتكم أعرف به منّي.

أمّا بعد:

فقد وصلتني رسالته المفصلة و المؤرخة 23شوال 1425ه،المرفقة مع رسالة سماحة الشيخ صالح الدرويش حفظه اللّه تعالى.

و كانت الرسالة جواباً عما ذكرتُ من المآخذ و الإشكالات على فصل واحد من كتابه المسمّى بالإمامة و النصّ.

و ما قرأت من هذا الكتاب إلاّ ذلك الفصل و كلّ ما ذكرته يرجع إليه دون سائر الفصول و ذلك لأنّي لم أوفق لقراءة غيره إلاّ عابراً.

ص:818

و قبل أن أُشير إلى الأُمور و النكات التي ترفع الستار عمّا قلت،أُذكّره بضابطة كلية حول الحوار.

فالحوار المفيد عبارة عن التركيز على الموضوع المطروح و الاجتناب عمّا لا علاقة له بالموضوع،و إلاّ فيعود الحوار غير مفيد و لا ناجع و يشبه المحاضرات الّتي ينتقل المتكلم فيها من موضوع إلى موضوع و يصير الحوار مظهراً للمثل السائر (الكلام يجر الكلام) و على ضوء تلك الضابطة في رسالتي السابقة ألفتنا نظره إلى أُمور:

1.وجود التناقض بين التقريظ و محتويات الكتاب

إنّ التقريظ يعرب عن أنّ المقرّظ يحمل هموم المسلمين و ينفر عن التفرقة، و يحب لَمّ الشعث و وحدة الكلمة،و لكنّه في الوقت نفسه يقرّض كتاباً يؤدّي إلى خلاف ذلك.

هذا هو الإشكال الّذي أخذت على المقرِّظ فقط.و ليس في رسالتي أيّ شيء ممّا نسبَه المؤلف إليّ،أعني«إظهاركم الحرص على التقريب»و«جمع كلمة المسلمين و نبذ الفرقة»....

و بعبارة أوضح:انّ مصب الإشكال هو وجود التناقض بين الأمرين، و الإشكال إمّا وارد أو غير وارد،فكان عليه بيان تلك النقطة لا توجيه الإشكال إلى الكاتب،فانّه غير مطروح.

و أمّا وصفه كتبي بأنّها«ممّا يفرّق و لا يجمع»فهو ادّعاء على الغائب«و الغائب على حجّته»(الأصل المسلم في القضاء) لا يحكم عليه بشيء حتّى يحضر.

ص:819

2.تعظيم الشيعة لليهود

انّ ما نقله من الروايات في الفصل الخاص المعنون ب«تعظيم الشيعة لليهود و النصارى»لا يدلّ على ذلك العنوان،فالروايات أصحّت أم لم تصحّ إنّما تشير إلى سعة علم الإمام عليه السلام و قوة منطقه حتّى أسلَمَ في ظل بيانه جماعة من اليهود و النصارى كما أسلَمَ بيد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و بفضل رصانة منطقه،جموع من المشركين و غيرهم،فتأثير الدعوة و البيان من الإمام لا صلة له بهذا العنوان.

إنّ في وسع المحقّق،نقد هذه المرويات سنداً و مضموناً لكن ليس له ذلك الاستنتاج الخاطئ إلاّ إذا كان ذا رأي مسبق.

و لكنّه زعم أنّي أردت ان ارميه بالطعن في أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

و لكنّي لم أكن بصدد هذا الطعن،إذ من الواضحات انّ أهل السنة من محبي أهل البيت عليهم السلام من غير حاجة إلى دليل و برهان.

و ما ذكرت حول مستسلمة أهل الكتاب نظراء«كعب الأحبار»فقد خفي عليه صلته بالمقام،فهؤلاء هم الكافرون حقاً و المظهرون للإسلام خداعاً لعقولنا، فقد لعبوا في التاريخ و الحديث،فأدخلوا الإسرائيليات و المسيحيات،بل المجوسيات،في الحديث و التاريخ إلى حدّ شوهوا كتبنا،و لذا قام غير واحد من الباحثين بإخراجها عن كتب الحديث.

فهذا ابن كثير قد أظهر أسفه من إدخال هذه الأكاذيب في المصادر الإسلامية، و مع ذلك فقد تضافر المدح من علماء الرجال في حقّهم غافلين عن مقاصدهم الفاسدة،فهل يصحّ أن نصف أهل السنّة بتعظيم اليهود!!

ص:820

3.الخطأ في ترجمة العلاء بن رزين

و ممّا الفت نظره إليه هو الخطأ في ترجمة العلاء بن رزين فقد سلّم بما ذكرت،و نعم ما فعل فالنسيان رفيق الإنسان،و المعصوم هو من عصمه اللّه سبحانه: «وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي».

4.نقد الأخبار المتواترة

و ممّا ذكرتُ في الرسالة أنّ الروايات المتواترة المتضافرة لا تخضع للنقد، و هذا أمر واضح لمن له أدنى إلمام بأُصول الحديث و أحكامه،و لكنّه بدل تصديق الإشكال أو نقده؛ذكره في جوابه (هل يرى الشيخ ذلك في روايات تحريف القرآن عن طرق الشيعة التي أورد الطبرسي منها في فصل الخطاب أكثر من 1112رواية).

و بما أنّ روايات التحريف وقعت ذريعة للإطاحة بالشيعة-و إن نادوا و صرخوا بملء أفواههم بالبراءة من هذه الوصمة،و أنّ رأي واحد من علمائهم ليس دليلاً على رأي الطائفة و لا يُعبّر عن موقفهم في المسألة-نلفت نظره إلى أنّ قسماً كبيراً من هذه الأحاديث-و أكثرها مراسيل-أُخذت من تفاسير السنّة،و أمّا القسم الآخر فأكثره مأخوذ من كتب لا قيمة لها عند أهل العلم و الحديث،و هاك أسماء بعض هذه الكتب:

1.رسالة مجهولة النسب نسبت إلى أُناس؛كسعد بن عبد اللّه الأشعري (المتوفّى301ه) أو محمد بن إبراهيم النعماني (المتوفّى360ه) أو السيد المرتضى (المتوفّى 436ه).

2.كتاب القراءات لأحمد بن محمد السياري(المتوفّى 268ه) و هو ضعيف

ص:821

الحديث،فاسد المذهب،مجفو الرواية،كثير المراسيل.

3.تفسير أبي الجارود زياد بن المنذر السّرحوب (المتوفّى150ه)،و الّذي ورد لعنه على لسان الإمام الصادق عليه السلام.

4.كتاب الاستغاثة لعلي بن أحمد الكوفي (المتوفّى 322ه) الّذي قال عنه النجاشي:غلا في آخر عمره و فسد مذهبه،و صنف كتباً كثيرة أكثرها على الفساد.

5.التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام،الّذي هو ليس منه و إنّما نسب إليه.

فإذا كانت الروايات الهائلة منقولة من هذه الكتب و نظائرها فلا قيمة لها و لا يصدق عليها وصف التواتر للعلم بضعف المصدر و انتهاء الروايات إلى أُناس لا عبرة بكتبهم.

و نحن لا نريد المقابلة بالمثل فإنّ اتهام كلّ طائفة،الأُخرى،بمعنى انعقاد الإجماع المركب من الطائفتين على تحريف القرآن و هو يتم لصالح الأعداء لا لصالح المسلمين،و لكن أُريد أن أُوقفه شخصياً بأنّه لو كان وجود الروايات دليلاً على التحريف فليكن وجود روايات التحريف عند السنّة دليلاً على عقيدتهم بالتحريف،و إن كان في شك فليطالع الموارد الموجودة في هذه القائمة في المعاجم الحديثية(الصحاح و السنن) و التفاسير لأهل السنّة.

1.آية الرجم.

2.آية الرغبة.

3.آية الجهاد.

4.آية الفراش.

5.القرآن (1027000) حرف.

6.قد ذهب منه قرآن كثير.

ص:822

7.ذهاب القرآن بذهاب حملته يوم اليمامة.

8.زيادة كانت في مصحف عائشة.

9.آية الرضعات أكلها داجن البيت.

10.آيتان من سورة البيّنة.

11.آيتان لم تكتبا في المصحف.

12.سورة كانت تعادل براءة و أُخرى تشبه المسبحات.

13.سورة الأحزاب كانت أطول من البقرة.

14.دعاء القنوت.

و هكذا و دواليك.

و انّي أجلّ علماء السنة و فطاحلهم من القول بالتحريف.

و أمّا تفسير هذه الروايات الواردة في كتب السنّة بوفرة عن طريق منسوخ التلاوة فهو مهزلة،أشبه بمنطق الصبيان،إذ لسائل يسأل لما ذا نسخت؟ هل كان الإشكال في المحتوى فالمفروض أنّ الحكم باق كآية الرجم و غيرها،أو كان الإشكال في التعبير و الركاكة في اللفظ فالمصيبة أعظم،و اللّه سبحانه مبدأ الكمال و الجمال،أجل من أن ينزل آية فيها ركاكة.

و كلّ من كتب حول عقيدة الشيعة-في السعودية-بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران،استمات لإثبات انّ«تحريف الكتاب العزيز من عقائد الشيعة، معتمداً في ذلك على كتاب الشيخ النوري»و هؤلاء يرون القذى في عين الغير،و لا يرون الجذع في عيونهم،غافلين عن وجود أمثال هذا الكتاب في كتب أهل نحلتهم.

و إن كنت في شكّ ممّا ذكرت فاستمع إلى قول الشيخ محمد المدني رضي اللّه

ص:823

عنه عميد كلية الشريعة في الأزهر الشريف يقول:

«و أمّا الإمامية فمعاذ اللّه أن يعتقدوا نقص القرآن،و إنّما هي روايات رُويت في كتبهم كما رُوي مثلها في كتبنا،و أهل التحقيق من الفريقين قد زيّفوها و بيّنوا بطلانها،و ليس في الشيعة الإمامية أو الزيدية من يعتقد ذلك كما أنّه ليس في السنّة من يعتقده.

و يستطيع من شاء أن يرجع إلى مثل كتاب الإتقان للسيوطي ليرى فيه أمثال هذه الرّوايات الّتي نضرب عنها صفحاً.

و قد ألّف أحد المصريين في سنة 1948م كتاباً اسمه«الفرقان»ملأه بكثير من أمثال هذه الروايات السقيمة المدخولة المرفوضة،ناقلاً إيّاها عن الكتب و المصادر عند أهل السنّة،و قد طلب الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب بعد أن بيّن بالدليل و البحث العلمي أوجه البطلان و الفساد فيه، فاستجابت الحكومة لهذا الطلب و صادرت الكتاب،فرفع صاحبه دعوى يطلب فيها تعويضاً،فحكم القضاء الإداري في مجلس الدولة برفضها.

أ فيقال:إنّ أهل السنّة ينكرون قداسة القرآن؟ أو يعتقدون نقص القرآن لرواية رواها فلان؟ أو لكتاب ألّفه فلان؟ فكذلك الشيعة الإمامية،إنّما هي روايات في بعض كتبهم كالرّوايات الّتي في بعض كتبنا...».

و مع أنّ الكتاب صودر،يوم ذاك،فقد انتشرت نسخه في المكتبات.

و أمّا انتقاده كلامي بتعريف ابن تيمية بما نقلت فأُحيل جوابه إلى كلام الحافظ ابن حجر الّذي يقول في كتابه«الفتاوى الحديثية»:

«ابن تيميّة عبدٌ خذله اللّه و أضلّه و أعماه و أصمّه،و بذلك صرّح الأئمة الذين بيّنوا فساد أحواله و كذب أقواله،و من أراد فعليه بمطالعة كلام الإمام

ص:824

المجتهد المتّفق على إمامته و جلالته و بلوغه مرتبة الاجتهاد أبو الحسن السبكي و ولده التاج و الشيخ الإمام العز بن جماعة و أهل عصرهم من الشافعية و المالكية و الحنفية،و لم يقصر اعتراضه-ابن تيميّة-على متأخّري الصوفية بل اعترض على مثل عمر بن الخطّاب و عليّ بن أبي طالب-رضي اللّه عنهما -.

و الحاصل:أنّه لا يقام لكلامه وزن،يرمي في كلّ وعر و حَزَن،و يعتقد فيه أنّه مبتدع ضالّ مضلّ غال عامَله اللّه بعدله و أجارنا من مثل طريقته و عقيدته و فعله-آمين-». (1)

و كم للفطاحل من علماء السنّة كلمات تعرب عمّا ذكرنا و ليس المقام مناسباً لنقلها.

و نشير في الختام إلى أمرين:

1.كانت في رسالته إشارة إلى أنّ بعض ما تكتبه الشيعة ينطلق من باب التقية.

و هذه فكرة خاطئة جداً،لأنّ التقية من الأُمور الشخصية و هي سلاح الضعيف أمام العدو الغاشم الذي صادر حريّاته فيتدرع بالتقية فيظهر الموافقة،فإذا انتهت الظروف الحرجة فالرجل على حالته الأُولى.

هذه هي التقية التي وردت في الكتاب و نص عليها أئمّة الفقه في غير واحد من الموارد.

فلو كانت التقيّة أمراً مرغوباً عنه،فالوزر على من حمل الشيعة عليها،فلو لم يصادر حرياتهم،و لم يهدد حياتهم،لما رأيت أثراً من التقية في قاموس حياة الشيعة.

و أمّا تأليف كتاب على نسق التقية فهذا كذب و فرية،و عطف الباطنية على

ص:825


1- 1) .الفتاوى الحديثية:86.

الإمامية خطأ بعد خطأ،فالشيعة الإمامية بفضل اللّه تبارك و تعالى و بجهادهم العلمي لم يكتبوا كتاباً واحداً على هذا المنوال.

فلو نص علماء الشيعة على عدم التحريف فهو نابع من صميم فكرهم لا من باب التقية،و هذه التهمة شنشنة أعرفها من كلّ من لم يعرف معنى التقية و حدودها.

2.إنّ التعرف على وثاقة الشخص تارة يحصل من تقليد علماء الرجال كما هو الرائج بين الفريقين،و أُخرى من جمع القرائن و الشواهد الحاكية على نفسية الشخص و وثاقته و ضبطه و مدى اهتمامه بالحديث و غير ذلك.

فقد فتح ذلك الباب منذ أربعة قرون عدد من العلماء منهم:

1.الشيخ محمد الأردبيلي مؤلف كتاب«جامع الرواة»المطبوع في مجلدين ضخمين.

2.السيد المحقّق البروجردي أُستاذنا الكبير البارع في الفقه و الرجال،فقد أكمل ما بدأ به الرجالي الأردبيلي بموسوعة كبيرة.

و بذلك يُعلم أنّ وثاقة المشايخ كإبراهيم بن هاشم الكوفي ثمّ القمي ثابتة من هذا الطريق و التفصيل في محله.

و الطريق الثاني طريق اجتهادي و الأوّل طريق تقليدي و لكلّ أهل.

و السلام على عباد اللّه الصالحين و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

العاشر من ذي الحجة الحرام عام 1425ه

ص:826

بسم اللّه الرحمن الرحيم

7

رسالة أحد المحققين في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

إلى سماحة الشيخ صالح الدرويش-حفظه اللّه تعالى-

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أسعد اللّه أيامكم و متعكم بالصحة و العافية و أطال عمركم في خدمة الإسلام و المسلمين.

نستميحكم العذر لما قد تقرءون في خطابنا هذا لكم ممّا يعكر مزاجكم و يزعج خاطركم المبارك.

منذ أن وجدنا كتاب«الإمامة و النص»في أحد رفوف مكتبة مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام و وجدنا أنّكم قد أرسلتموه إلى سماحة شيخنا آية اللّه جعفر السبحاني،خطر في بالنا أن نكتب لكم و نستفسر هل انّ لكم علماً بموقع مؤلف هذا الكتاب على شبكة المعلومات العالمية (الانترنيت) و الموقع هو moc.roonf.www

و لكن احترامنا لسماحة العلاّمة السبحاني و حبنا له و لكم و للعلاقة الأخوية التي عرفناها من خلال خطابات الشيخ لكم و عبارات الود التي تتبادلونها،كلّ هذا منعنا من الكتابة لكي لا نؤثر على الجو العلمي السائد على ما يتبادل من

ص:827

حوار بين قم و القطيف و الذي نعلم بإخلاص نيّة الطرفين فيه.

لذا تخلينا عن فكرة الكتابة حول هذا الموقع و الذي هو أحد مئات المواقع المنكرة و المشينة و المسيئة للإسلام و أهله،و الذي يستخدمه أعداء الدين للاستشهاد به على سذاجة المسلمين و تفاهة أفكارهم و أساليبهم-كما يصورون لأتباعهم لعنهم اللّه-و هذا ما لمسناه من خلال تصفح المواقع اللادينية الكثيرة،الذين يقولون:هؤلاء هم المسلمون كلّ يسقط الآخر و يتّهمه بأنّه ليس على حق،فيخرجون بنتيجة أنّ الكل(الإسلام و المسلمون و بكافة طوائفهم) على باطل،و على العاقل عدم اتّباعهم.

إنّ الانترنيت يجب أن يستغل للدفاع عن الدين و تنوير الأذهان و نشر الحقيقة و الفضيلة،و الذب عن المسلمين و علمائهم،و إزالة الشبهات و التحريف عن حقائق الإسلام الناصعة،كذلك يُنتظر من المشرفين على هذه المواقع أن يكرموا علماء الإسلام و يبرزون دورهم الإيجابي في بناء الحضارة و الفكر و حثّ الشباب على التمسك بالأخلاق الإسلامية و كسب المعارف الإسلامية و الاعتقاد بالمعتقدات الحقة التي يدعمها الدليل القرآني و النبوي و يسندها العقل الحصيف.

و نحن يا سماحة الشيخ العزيز قد تصفحنا نوافذ موقع الكاتب فيصل نور فلم نجد فيه شيئاً ممّا ذكرناه،بل-و للأسف الشديد-وجدنا العكس تماماً.

فهو يجمع كلّ شاردة و واردة فيها تهجّم على الشيعة أو أحد علمائهم،و كلّ مقال أو أسطر فيها اعتداء أو سباب،أو رد لاذع أو نقد وقح،إلاّ و وضعه في طيّة مقالات موقعه.و لو أنّه قد اقتصر على تنزيل كتبه في الموقع لكان الأمر هيّناً،و لكن ما هو الهدف من نشر هذا الكم الهائل من مقالات نشرت هنا و هناك،

ص:828

و الكثير منها كتب بإقلام حاقدة على الإسلام و طوائفه كلّها،و بأيدي من لا يروق لهم التفاف الشباب حول علماء الدين،أو لا يعلم فيصل نور بأنّ بعض الذين يكتبون في عدد المواقع السنية ضد الشيعة هم أنفسهم الذين يكتبون في بعض المواقع الشيعية ضد السنة،و يهدفون من عملهم الخئون هذا إيقاع الفرقة و تأجيج نار البغضاء و العداوة؟!

وجدنا كثيراً من المقالات قد استقاها من أحد المواقع الحاقدة و السيئة الصيت و من يكتب فيه هم علمانيون لا تهمهم حرمة عالم و لا احترام حقيقة، فلما ذا هذا التعامي عن الحق،و اتباع الباطل؟ ما هي المصلحة في نشر أكاذيب و أباطيل في موقع تصرف عليه أموال طاهرة طيبة؟! ما هي المصلحة من نشر هذه الترّهات التي جمعها عنوان«صور و حقائق و وثائق»ضمن نافذة «مع الشيعة الإمامية»،و التي تحمل ثمانية فصول أحدها حول المرجعية الشيعية-الوجه الآخر،و الآخر حول الشيعة و القرآن،و حول إيران،و حول العراق و صدام،و غير ذلك؟!

ما هو الهدف من نشر أحد المقالات التي وصف كاتبها سماحة العلاّمة جعفر السبحاني بأنّه أحد دجاجلة الروافض المسمّى جعفر السبحاني،و يكرر هذا اللفظ مرة ثانية فيقول:فيبدأ هذا الدجال كما هي عادتهم دائماً بالتباكي...[راجع مقال:الرد على السبحاني الذي طعن في فتوى ابن جبرين، كذلك انظر مقال:إمام العصر يرد على الرافضي صاحب كتاب السجود على التربة الحسينية،فهو يشتمل على ألفاظ و قحة مماثلة].

و ما هو الغرض من عرض قصائد شعرية (بالصوت) و هي مراثي الإمام الحسين عليه السلام و ادّعاء انّها تحمل كفراً أو خروجاً عن الدين و هل أنّ المذهب الشيعي يعرف من خلال قصائد شعرية كتبت من قبل عوام الناس؟!

ص:829

و هل انّ موقف الشيعة الإمامية من القرآن يتمثل في كتاب«فصل الخطاب» الذي خصّص صاحب الموقع صفحة كاملة لعرض صور بعض صفحاته،لو كان يتبع الإنصاف و يريد أن يحق الحق لكان عليه أن يذكر رأي علماء الشيعة في هذا الكتاب و موقفهم من قضية التحريف،هذا هو الحكم الصحيح لمن يريد أن يعطي انطباعاً صحيحاً عن عقيدة فرقة من الفرق و مذهب من المذاهب.

نحن نسأل ما هي الفائدة التي يحصل عليها القارئ فيما لو قرأ هذه المقالات؟! و هل يظن صاحب الموقع أنّ الشيعي يترك مذهبه و يتسنّن بقراءته لهذه المقالات؟ أو أنّها تساعد السنّي في ترسيخ اعتقاده بعقيدته أكثر؟ كلا و لا.

و ما يهدف مَنْ يسعى لجمعها و إنزالها على صفحات الانترنت بهذا الشكل المبوب إلاّ بث الفرقة و التناحر و بيان المثالب؟!

و لو أراد أحدنا جمع أمثالها ممّا عند الطرف الآخر فانّه سوف يجمع أضعاف مضاعفة لعدد هذه المقالات،و لكن تأنف نفوسنا أن نقابل السيئة بأمثالها، و نحن نعرض مذهبنا و من مصادره الصحيحة الواضحة،و نهدف لتعريف الناس عليه،ورد الشبهات عنه بالطرق الصحيحة و بالوسائل العلمية المؤدبة.

نرجو يا سماحة الشيخ تذكير صاحب هذا الموقع بهذه النقاط الأساسية و نكون لكم شاكرين،و لا يعتذر بأنّه يجمع هذه المقالات و هو لم يكتبها فإنّ من يجمعها و ينزلها في موقعه فهو مسئول عنها أيضاً.

و الحمد للّه ربّ العالمين.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أحد محققي مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

ص:830

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.