رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام المجلد 4

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام/ تاليف جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق (ع) ، 14ق. = 13 -

مشخصات ظاهري : 10ج.

يادداشت : عربي.

يادداشت : فهرست نويسي بر اساس جلد ششم: 1428ق. = 1386.

يادداشت : كتابنامه.

موضوع : اسلام -- بررسي و شناخت

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندي كنگره : BP11 /س2ر5 1300ي

رده بندي ديويي : 297

شماره كتابشناسي ملي : 1053076

ص :1

اشارة

ص :2

رسائل و مقالات (ج4)

مقدمة المؤلف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات،الحمد للّه على إكمال الدين و إتمام النعمة،و الصلاة و السلام على نبيّه الخاتم و على الأئمّة الهداة قادة الأُمم.

أمّا بعد فهذا هو الجزء الرابع من كتابنا«رسائل و مقالات»نقدّمه إلى القرّاء الكرام راجين أن يقع موقع القبول منهم.

و قد أوردنا فيه رسائل مستقلة و مقالات نشرت بين الحين و الآخر،و الغاية من الجميع هو الذب عن حياض الإسلام و إماطة الستر عن وجه العقيدة و الشريعة،و تدور هذه الرسائل و المقالات على محاور:

1.الفقه و يشتمل على أربع مسائل.

2.أُصول الفقه و فيه أربع مسائل.

3.مسائل كلامية يجمعها وجود التناقض المحال فيها و انّ المحدّثين التزموا بكلا الطرفين مع أنّ الالتزام بهما التزام بصحّة التناقض و هي أربع عشرة مسألة.

4.خمس محاضرات حول مسائل مختلفة كانت قد أُلقيت في جامعات المغرب الأقصى و كان لها دور إيجابي في التعرف على فقه الشيعة و أُصوله و المسائل العقلية.

5.التراجم و التعريف بالشخصيات العلمية الكبيرة كالمحقّق الكركي رجل العلم و السياسة و هو أوّل من طبق نظرية ولاية الفقيه على الصعيد السياسي،و صار

ص:3

ص:4

ص:5

هدفاً للنقد و الاعتراض؛كما وردت فيه ترجمة السيد عبد العظيم الحسني و ذكر فيها حياته و بيئته و حديثه.

6.رسائل و مكاتبات إلى بعض العلماء و الشخصيات الإسلامية كما تتضمن الإجابة عن بعض الفتاوى و المسائل الشرعية و توجيه النصائح إلى جيل الشباب.

7.حوار مع الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش القاضي بالمحكمة الكبرى بالقطيف حول كتابه«صحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم»،و كان قد انتقى أوراقاً تنسجم مع ما يتبنّاه من عدالة الصحابة جميعاً و ترك سائر الأوراق التي لا تنسجم مع هذه النظرية و نحن هنا نعرض الجميع.

هذا ما نقدّمه إلى القرّاء الكرام،طالبين منهم النقد البنّاء،كما نسأله سبحانه أن يوفّقنا لنشر بقية ما كتبناه من رسائل و مقالات لأهداف متعددة،و في ظروف مختلفة فإنّ المرء ب آرائه و أفكاره لا بصورته و سيماه.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

15محرم الحرام 1425ه

ص:6

الفصل الأوّل:الفقه

اشارة

1.دية الحرة المسلمة

2.إرث الزوج و الزوجة

3.دية الذمّيّ و المستأمن

4.مصافحة الأجنبية المسلمة

ص:7

ص:8

1

اشارة

دية الحرّة المسلمة

الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على نبيّه و آله الطاهرين.

أمّا بعد:لقد عادت دراسة دية الحرّة المسلمة إلى الساحة،و صارت نتيجتها هو التشكيك في الرأي السائد عبر القرون و هي انّ دية الحرة المسلمة نصف دية الحرّ المسلم.

و إنّما أُعيدت المسألة إلى الساحة،لأجل أنّ طابَع العصر الحاضر،هو طابَع العطف و الحنان على النساء،بزعم أنّهنّ كنّ مهضومات الحقوق في الأدوار السابقة.فقامت مؤسسات و تشكّلت جمعيات لإحياء حقوقهنّ،و إخراجهنّ من زي الرقيّة للرجال،إلى الاستقلال و الحرية، و ربّما يتصوّر أنّ في القول بأنّ ديتها،نصف دية الرجل،هضماً لحقوقهنّ و إضعافاً لهن.

و قد عزب عن هؤلاء انّ خالق المرأة أعرف بحالها،و مصالحها كما قال سبحانه: «أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» 1 ،و أرحم و أعطف بها من أصحاب هذه المؤسسات و الجمعيات التي تتبنّى إحياء حقوقها.

ص:9

و إذا قال سبحانه: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» 1 فلمصلحة هو أعرف بها.

و لو قال الصادق عليه السلام-حاكياً عن الشارع -:«دية المرأة نصف دية الرجل» (1)،فلملاك ثابت عبر الأدوار.

يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». 3

و المراد من التقدّم،هو رفض التشريع السماوي و إحلال التشريع الإنساني مكانه،بملاكات ظنّية لا يعتدّ بها.

ثمّ الكلام يقع في موارد ثلاثة:

1.دية النفس.

2.دية الأعضاء.

3.دية الجراح.

و الأصل المسلّم عند الفقهاء في المقام الأوّل هو انّ دية المرأة نصف دية الرجل،كما أنّ الأصل المتّفق عليه في الموردين الأخيرين ممّا فيه أرش مقدّر من الشارع،هو ما نقله الفريقان عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية،فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف».

و سيوافيك الكلام في المقامات الثلاثة على وجه الإيجاز خصوصاً فيما يرجع إلى الثاني و الثالث.

ص:10


1- 2) .الوسائل:18،الباب5 من أبواب ديات النفس،الحديث1. [1]

1

اشارة

في دية النفس

اتّفق فقهاء الإسلام-إلاّ من شذّ-على أنّ دية المرأة نصف دية الرجل،و لنذكر كلمات الفقهاء من الفريقين ليظهر ما هو الرأي العام في المسألة عبر القرون و موقف الفقهاء من الحكم المعروف فيها:

و لنذكر قبل نقل كلمات الفقهاء نصّ عبارة الشيخ الطوسي في«الخلاف»فإنّه ذكر موقف الصحابة و فقهاء السنّة في هذه المسألة،قائلاً:

دية المرأة نصف دية الرجل،و به قال جميع الفقهاء،و قال ابن عُلَيّة و الأصمّ:هما سواء في الدية.دليلنا:إجماع الفرقة،و أيضاً روى عمرو بن حزم انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:«دية المرأة على النصف من دية الرجل»،و روى معاذ نحو هذا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،و هو إجماع الأُمّة،و روي ذلك عن:علي عليه السلام،و عن عمر،و ابن عباس،و زيد بن ثابت و لا مخالف لهم. (1)

ص:11


1- 1) .الخلاف:254/5،المسألة 63.
أقوال العامة
1.شمس الدين السرخسي(المتوفّى490ه)

بلغنا عن علي عليه السلام أنّه قال:دية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس و ما دونها (الأعضاء و الجراح) و به نأخذ.

و كان زيد بن ثابت يقول:إنّها تعادل الرجل إلى ثلث ديتها.يعني إذا كان الأرش بقدر ثلث الدية أو دون ذلك فالرجل و المرأة فيه سواء، فإن زاد على الثلث،فحينئذٍ حالها فيه على النصف من حال الرجل. (1)و ما ذكره في الفقرة الثانية يرجع إلى دية الأعضاء و الجراحات،و سوف نرجع إليهما بعد إنهاء الكلام في دية النفس.

2.القرطبي(520- 595ه)

اتّفقوا على أنّ دية المرأة نصف دية الرجل في النفس. (2)

3.ابن قدامة(المتوفّى630ه)

قال الخرقي في متن المغني:«ودية الحرة المسلمة،نصف دية الحرّ المسلم».

قال ابن قدامة في شرحه:قال ابن المنذر و ابن عبد البرّ:أجمع أهل العلم على أنّ دية المرأة نصف دية الرجل.و حكى غيرهما عن ابن عُليَّة و الأصم أنّهما قالا:ديتها كدية الرجل لقوله عليه السلام:«في النفس المؤمنة مائة من الإبل»،و هذا قول شاذ يخالف إجماع الصحابة و سنّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فإنّ في كتاب عمرو بن حزم:«دية المرأة على النصف من دية الرجل»و هي أخصّ ممّا ذكروه و هما في كتاب

ص:12


1- 1) .المبسوط:79/26. [1]
2- 2) .بداية المجتهد:426/2.

واحد،فيكون ما ذكرنا مفسِّراً لما ذكروه،و مخصّصاً له.

ودية نساء كلّ أهل دين،على النصف من دية رجالهم على ما قدّمنا في موضعه. (1)

و المراجع إلى كتب فقه أهل السنّة يرى فيها نظير هذه الكلمات بوفرة فلا نطيل الكلام في نقل كلماتهم.

غير أنّ الذي يجب إلفات نظر القارئ إليه هو أنّه لم يخالف إجماع المسلمين إلاّ رجلان:

أحدهما:ابن عُليَّة:و هو إسماعيل بن إبراهيم البصري(110- 193ه) الذي كان مقيماً في بغداد و ولي المظالم فيها في آخر خلافة هارون الرشيد،و كفى في سقوط رأيه أنّه كان يشرب النبيذ إلى حدّ لا يستطيع أن يمشي،فيُحمل على الحمار و لا يعرف منزله لكثرة السكر.

و ثانيهما:أبو بكر الأصم عبد الرحمن بن كيسان المعتزلي صاحب المقالات في الأُصول،ذكره عبد الجبار الهمداني في طبقات المعتزلة،و هو أقدم من أبي الهذيل العلاّف(135- 235ه)،و المعتزلة يعتمدون على العقل أكثر ممّا يعتمدون على النقل،و لذلك لا يطلق عليهم أهل السنّة في اصطلاح المحدّثين و الأشاعرة.

و لنعطف عنان الكلام إلى نقل كلمات فقهائنا الأبرار.

أقوال الخاصة
1.الشيخ المفيد(336- 413ه)

و إذا قتل الرجل المرأة عمداً فاختار أولياؤها الدية كان على القاتل إن رضي بذلك أن يؤدّي إليهم خمسين من الإبل إن كان من أربابها،أو خمسمائة من الغنم،

ص:13


1- 1) .المغني:531/9- 532.

أو مائة من البقر،أو الحلل،أو خمسمائة دينار،أو خمسة آلاف درهم جياداً،و انّ دية الأُنثى على النصف من دية الذكر. (1)

2.أبو الصلاح الحلبي(374- 447ه)

ودية الحرّة المسلمة،النصف من جميع ديات الحرّ المسلم-إلى أن قال-ودية الحرّة الذمية نصف دية الحرّ الذمي. (2)

3.الطوسي (385- 460ه)

إذا قتل رجل امرأة عمداً و أراد أولياؤها قتله،كان لهم ذلك إذا ردّوا على أوليائه،ما يَفضل عن ديتها و هو نصف الرجل،خمسة آلاف درهم،أو خمسمائة دينار،أو خمسون من الإبل الخ. (3)

4.سلاّر الديلمي (المتوفّى 463ه)

فإن قتل رجل امرأة عمداً و اختار أولياؤها قتله،أدّوا إلى ورثته نصفَ ديته و إن اختاروا الدية فلهم نصف دية الرجل. (4)

5.عبد العزيز بن البرّاج القاضي (400- 481ه)

فهذه-إشارة إلى ما ذكره من قبل من أقسام الدية-دية الحرّ المسلم صغيراً

ص:14


1- 1) .المقنعة:739.
2- 2) .الكافي:391. [1]
3- 3) .النهاية:747. [2]
4- 4) .المراسم:236.

كان أو كبيراً،ودية الحرة المسلمة،النصف من ذلك صغيرة أو كبيرة. (1)

6.ابن زهرة الحلّي(511- 585ه)

ودية المرأة نصف دية الرجل بلا خلاف إلاّ من ابن عُليّة و الأصم فإنّهما قالا:هما سواء،و يحتجّ عليهما بما روي من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«دية المرأة على النصف من دية الرجل». (2)

7.محمد بن إدريس الحلي(543- 598ه)

إذا قتل رجل امرأة عمداً،و أراد أولياؤها قتله،كان لهم ذلك إذا ردّوا على الرجل ما يفضل عن ديتها،و هو نصف دية الرجل. (3)

8.قطب الدين الكيدري(المتوفّى600ه)

ودية المرأة،نصف دية الرجل. (4)

9.نجم الدين المحقّق الحلّي(602- 676ه)

ودية المرأة على النصف من جميع الأجناس. (5)

و في المختصر النافع له:ودية المرأة على النصف من الجميع:العمد،و شبه العمد،و الخطأ المحض. (6)

ص:15


1- 1) .المهذب:457/2.
2- 2) .الغنية:414. [1]
3- 3) .السرائر:350/3.
4- 4) .إصباح الشيعة:500. [2]
5- 5) .الشرائع:1018/4. [3]
6- 6) .المختصر النافع:303.
10.ابن سعيد الحلي(601- 690ه)

هذه دية الحرّ المسلم و من بحكمه،ودية المرأة نصف ذلك. (1)

و في موضع آخر:و يقاد المرأة بالرجل بلا ردّ،و الرجل بالمرأة بعد ردّ نصف الدية عليه. (2)

11.العلاّمة الحلّي (648- 726ه)

أمّا دية المرأة المسلمة الحرة فنصف دية الحر المسلم،سواء أ كانت صغيرة أو كبيرة،عاقلة أو مجنونة. (3)

إلى غير ذلك من الكلمات المتماثلة للأصحاب في باب الديات في المقام و لا أرى حاجة لنقل ما بقي منها.

و يظهر من المناظرة التي دارت بين ربيعة بن عبد الرحمن،و سعيد بن المسيب،انّ التنصيف كان أمراً مسلماً بين التابعين،يقول«ربيعة» حاكياً مناظرته.

قلت:كم في اصبع المرأة.

قال:عشر من الإبل.

قلت:كم في إصبعين؟

قال:عشرون.

قلت:كم في ثلاث؟

ص:16


1- 1) .الجامع للشرائع:574. [1]
2- 2) .الجامع للشرائع:572. [2]
3- 3) .قواعد الأحكام:668/3.

قال:ثلاثون.

قلت:كم في أربع.

قال:عشرون.

قلت:حين عظم جرحها و اشتدت مصيبتها نقص عقلها.

فقال سعيد:أعرابي أنت؟

قلت:بل عالم متثبت أو جاهل متعلم.

قال:هي السنّة يا ابن أخ. (1)

ص:17


1- 1) .كنز الفوائد:203/2. [1]
دليل التنصيف

قد تعرفت على إجماع الفقهاء-إلاّ من لا يعتدّ بقوله-على أنّ دية الحرة المسلمة نصف دية الحرّ المسلم،بلا كلام،إنّما الكلام فيما يدلّ عليه.

1.أخرج البيهقي بسندين في أحدهما ضعف دون الآخر،عن معاذ بن جبل قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«دية المرأة على النصف من دية الرجل». (1)

2.أخرج البيهقي بسنده،عن مكحول و عطاء قالوا:أدركنا الناس على أنّ دية المسلم الحرّ على عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم مائة من الإبل،فقوّم عمر بن الخطاب تلك الدية على أهل القرى ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم.ودية الحرة المسلمة إذا كانت من أهل القرى خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم،فإذا كان الذي أصابها من الأعراب فديتها خمسون من الإبل،ودية الأعرابية إذا أصابها الأعرابي خمسون من الإبل لا يُكلّف الأعرابي الذهب و لا الورق. (2)

3.أخرج البيهقي عن حمّاد،عن إبراهيم،عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال:«عقل المرأة على النصف من دية عقل الرجل من النفس و فيما دونها». (3)

و المراد بإبراهيم،هو إبراهيم النخعي(المتوفّى93ه) و هو لم يدرك عليّ بن أبي طالب،و السند منقطع.

ص:18


1- 1) .سنن البيهقي:95/8.
2- 2) .سنن البيهقي:95/8.
3- 3) .سنن البيهقي:95/8.

4.أخرج النسائي و الدارقطني،و صحّحه ابن خزيمة،عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«عقل المرأة مثل عقل الرجل حتّى يبلغ الثلث من ديته». (1)

و سوف يوافيك ما يؤيد ذلك في دية الأعضاء و الجراحات.

أحاديثنا في المسألة

الأحاديث الواردة في المسألة على طائفتين:

الأُولى:ما يدلّ بالدلالة المطابقيّة على أنّ دية الأُنثى نصف دية الذكر.

الثانية:ما يدلّ على المطلوب بالدلالة الالتزامية حيث يجوّز قتل الرجل بالمرأة بشرط ردّ فاضل ديته،و لو لا التفاوت بين الديتين لكان هذا الشرط لغواً.

و إليك قسماً من كلتا الطائفتين:

الطائفة الأُولى:ما يدلّ على أنّ ديتها النصف

5.صحيح عبد اللّه بن مسكان،عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث:«دية المرأة نصف دية الرجل». (2)و هذه الجملة جزء من حديث مفصّل يأتي في الطائفة الثانية.

6.صحيح أبي أيوب،عن الحلبي و أبي عبيدة،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:سئل عن رجل قتل امرأة خطأ و هي على رأس تمخض.قال:

«عليه الدية خمسة آلاف درهم،و عليه للذي في بطنها غرّة وصيف،أو وصيفة،أو أربعون ديناراً». (3)

7.روى صاحب الدعائم عن الصادق عليه السلام:«و الدية على أهل المذهب ألف

ص:19


1- 1) .التاج الجامع للأُصول:11/3؛بلوغ المرام،رقم 1212.
2- 2) .الوسائل:19،الباب5 من أبواب ديات النفس،الحديث1. [1]
3- 3) .الوسائل:19،الباب5 من أبواب ديات النفس،الحديث3. [2]

دينار-إلى أن قال:-و دية المرأة على النصف من ذلك على النفس و ما جاوز ثلث الدية». (1)

8.و في فقه الرضا عليه السلام:«المرأة ديتها نصف دية الرجل و هو خمسمائة دينار». (2)

الطائفة الثانية:قتل الرجل مع رد فاضل ديته

هناك روايات متضافرة أو متواترة تدلّ على أنّه يجوز قتل الرجل بالمرأة بشرط ردّ فاضل ديته،نظير:

9.صحيح عبد اللّه بن سنان قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:في رجل قتل امرأته متعمّداً،فقال:«إن شاء أهلها أن يقتلوه قتلوه،و يؤدّوا إلى أهله نصف الدية،و إن شاءوا أخذوا نصف الدية خمسة آلاف درهم». (3)

10.صحيح عبد اللّه بن مسكان،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«إذا قتلت المرأة الرجل قتلت به،و إذا قتل الرجل المرأة،فإن أرادوا القود أدّوا فضل دية الرجل على دية المرأة و أقادوه بها،و إن لم يفعلوا قبلوا الدية دية المرأة كاملة،ودية المرأة نصف دية الرجل». (4)

نعم في السند محمد بن عيسى العبيدي،و هو و إن ضعّفه أُستاذ الصدوق،و لكن النجاشي وثّقه و استغرب تضعيفه،و قال:و كان محمد بن الحسن بن الوليد يستثني من روايات محمد بن أحمد بن يحيى(صاحب نوادر الحكمة) ما رواه عن

ص:20


1- 1) .مستدرك الوسائل:18،الباب5 من أبواب ديات النفس،الحديث 1و2. [1]
2- 2) .مستدرك الوسائل:18،الباب5 من أبواب ديات النفس،الحديث 1و2. [2]
3- 3) .الوسائل:19،الباب33 من أبواب القصاص في النفس،الحديث1. [3]
4- 4) .الوسائل:19،الباب33 من أبواب القصاص في النفس،الحديث2. [4]

محمد بن موسى الحمداني...أو عن محمد بن عيسى بن عبيد،ثمّ نقل النجاشي عن أُستاذه أبي العباس بن نوح أنّه قال:و قد أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن الوليد في ذلك كلّه(استثناء طائفة من الرواة ممّن يروي عنهم مؤلف نوادر الحكمة)،و تبعه أبو جعفر بن بابويه على ذلك،إلاّ في محمد بن عيسى بن عبيد،فلا أدري ما را به فيه،لأنّه كان على ظاهر العدالة و الثقة. (1)

11.صحيح الحلبي،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:في الرجل يقتل المرأة متعمّداً فأراد أهل المرأة أن يقتلوه.قال:«ذلك لهم إن أدّوا إلى أهله نصف الدية.و إن قبلوا الدية،فلهم نصف دية الرجل،و إن قتلت المرأة الرجل قتلت به ليس لهم إلاّ نفسها». (2)

فقوله:«و إن قبلوا الدية فلهم نصف دية الرجل»راجع إلى الطائفة الأُولى و الباقي إلى الطائفة الثانية.

12.خبر علي بن أبي حمزة،عن أبي بصير قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الجراحات-إلى أن قال:-و قال:«إن قتل رجل امرأته عمداً فأراد أهل المرأة أن يقتلوا الرجل ردّوا إلى أهل الرجل نصف الدية و قتلوه»قال:و سألته عن امرأة قتلت رجلاً؟ قال:«تقتل و لا يغرم أهلها شيئاً». (3)

13.صحيح أبي مريم (عبد الغفار بن القاسم بن قيس الأنصاري)،عن أبي جعفر عليه السلام قال:«أُتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم برجل قد ضرب امرأة حاملاً بعمود الفسطاط فقتلها،فخيّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أولياءها أن يأخذوا الدية خمسة آلاف درهم

ص:21


1- 1) .رجال النجاشي:244/2،برقم 940.
2- 2) .الوسائل:19،الباب33 من أبواب القصاص في النفس،الحديث3. [1]
3- 3) .الوسائل:19،الباب33 من أبواب القصاص في النفس،الحديث 4. [2]

و غرّة وصيف أو وصيفة للذي في بطنها،أو يدفعوا إلى أولياء القاتل خمسة آلاف و يقتلوه». (1)

14.صحيح أبي بصير-يعني المرادي-عن أحدهما.قال:«إن قتل رجل امرأة و أراد أهل المرأة أن يقتلوه،أدّوا نصف الدية إلى أهل الرجل». (2)

15.موثّق أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام:قلت له:رجل قتل امرأة،فقال:«إن أراد أهل المرأة أن يقتلوه أدّوا نصف ديته و قتلوه،و إلاّ قبلوا الدية». (3)

16.خبر أبي مريم،قال:سألت أبا جعفر عليه السلام عن جراحة المرأة؟ قال:فقال:«على النصف من جراحة الرجل فما دونها».قلت:فامرأة قتلت رجلاً؟ قال:«يقتلونها»،قلت:فرجل قتل امرأة؟ قال:«إن شاءوا قتلوا و أعطوا نصف الدية». (4)

17.خبر أبي العباس،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«إن قتل رجل امرأة خيّر أولياء المرأة،إن شاءوا أن يقتلوا الرجل و يغرموا الدية لورثته و إن شاءوا أن يأخذوا نصف الدية». (5)

18.خبر محمد بن قيس،عن أبي جعفر عليه السلام في الرجل يقتل المرأة،قال:«إن شاء أولياؤها قتلوه،و غرموا خمسة آلاف درهم لأولياء المقتول،و إن شاءوا أخذوا خمسة آلاف درهم من القاتل». (6)

19.خبر زيد الشحام،عن أبي عبد اللّه عليه السلام:في رجل قتل امرأة متعمداً؟ قال:«إن شاء أهلها أن يقتلوه قتلوه و يؤدّوا إلى أهله نصف الدية». (7)

20.و في تفسير العياشي،عن أبي العباس،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:سألته

ص:22


1- 1) .الوسائل:19،الباب33 من أبواب القصاص في النفس،الحديث 5،6،7،8،9. [1]
2- 2) .الوسائل:19،الباب33 من أبواب القصاص في النفس،الحديث 5،6،7،8،9. [2]
3- 3) .الوسائل:19،الباب33 من أبواب القصاص في النفس،الحديث 5،6،7،8،9. [3]
4- 4) .الوسائل:19،الباب33 من أبواب القصاص في النفس،الحديث 5،6،7،8،9. [4]
5- 5) .الوسائل:19،الباب33 من أبواب القصاص في النفس،الحديث 5،6،7،8،9. [5]
6- 6) .الوسائل:19،الباب33 من أبواب القصاص في النفس،الحديث12،13. [6]
7- 7) .الوسائل:19،الباب33 من أبواب القصاص في النفس،الحديث12،13. [7]

عن رجلين قتلا رجلاً؟ قال عليه السلام:«يخيّر وليّه أن يقتل أيّهما شاء و يغرم الباقي نصف الدية،أعني:نصف دية المقتول فيردّ على ورثته».

و كذلك إن قتل رجل امرأة إن قبلوا دية المرأة فذاك،و إن أبى أولياؤها إلاّ قتل قاتلها غرموا نصف دية الرجل و قتلوه،و هو قول اللّه: «وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ» 1 ». (1)

هذه عشرون حديثاً أكثرها من الصحاح و الحسان و اتحاد بعضها مع بعض لا يضرّ بتواتر المضمون،و مع هذه الأحاديث الهائلة لا أظنّ أنّ فقيهاً جامعاً للشرائط يجترئ و يخالف حكم المسألة.

إلى هنا تمّت دراسة أدلّة المسألة في فقه الفريقين.

و حان حين البحث في المقام الثاني:

ص:23


1- 2) .الوسائل:19،الباب33 من أبواب القصاص في النفس،الحديث 21. [1]

2

اشارة

في دية الأعضاء و الجراحات

اتّفق الفقهاء على أنّ دية المرأة تساوي دية الرجل في الأُروش المقدرة إلى حدّ خاص،فإذا انتهت إليه فعلى النصف،و هذه الضابطة أمر متّفق عليه،غير أنّ الاختلاف في الحدّ الّذي إذا بلغته الدية،تكون على النصف.

و الضابطة نفسها تؤيد الكبرى الكلّية في أنّ دية المرأة،نصف دية الرجل،و الاختلاف في الحدّ الّذي إذا بلغته ترجع إلى النصف لا يضرّ بها.و قد أشار الشيخ الطوسي إلى الاختلاف الموجود في الحدّ،و قال:

المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها في الأُروش المقدّرة،فإذا بلغتها فعلى النصف.و به قال عمر بن الخطاب،و سعيد بن المسيب، و الزهري،و مالك،و أحمد،و إسحاق.

و قال ربيعة:تعاقله ما لم يزد على ثلث الدية أرش الجائفة و المأمومة،فإذا زاد فعلى النصف.

و ربيعة جعلها كالرجل في الجائفة،و جعلها على النصف فيما زاد عليها.و به قال الشافعي في القديم.

ص:24

و قال الحسن البصري:تعاقله ما لم تبلغ نصف الدية أرش اليد و الرجل،فإذا بلغتها فعلى النصف.

و قال الشافعي في الجديد:لا تعاقله في شيء منها بحال،بل معه على النصف فيما قلّ أو كثر،في أنملة الرجل ثلاثة أبعرة و ثلث،و في أنملتها نصف هذا بعير و ثلثان،و كذلك فيما زاد على هذا.

و رووا ذلك عن علي عليه السلام.و ذهب إليه الليث بن سعد من أهل مصر،و به قال أهل الكوفة:ابن أبي ليلى،و ابن شبرمة،و الثوري،و أبو حنيفة و أصحابه.و هو قول عبيد اللّه بن الحسن العنبري.

و قال قوم:تعاقله ما لم تبلغ نصف عشر الدية،أرش السن و الموضحة،فإذا بلغتها فعلى النصف.ذهب إليه ابن مسعود،و شريح.

و قال قوم:تعاقله ما لم تبلغ عشر أو نصف عشر الدية أرش المنقلة،فإذا بلغتها فعلى النصف.ذهب إليه زيد بن ثابت،و سليمان بن يسار.

دليلنا:إجماع الفرقة و أخبارهم.

و روى عمرو بن شعيب،عن أبيه،عن جدّه:أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:«المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها».

و قال ربيعة:قلت لسعيد بن المسيب:كم في إصبع المرأة؟ فقال:عشر،قلت:ففي إصبعين؟ قال:عشرون.قلت:ففي ثلاث؟ قال:ثلاثون، قلت:ففي أربع؟ قال:عشرون.قلت له:لمّا عظمت مصيبتها قلّ عقلها؟! قال:هكذا السنّة.

قوله:«هكذا السنّة»دالّ على أنّه أراد سنّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و إجماع الصحابة و التابعين. (1)

ص:25


1- 1) .الخلاف:254/5- 256،المسألة63.

هذا و قد صرّح بالضابطة كلّ من بحث في دية الأعضاء و الجراحات،و أشار إلى الحدّ الّذي تنقلب الدية عنده إلى النصف،و ذكره - بالتفصيل أيضاً-شمس الدين السرخسي في«المبسوط»و قال:

و بلغنا عن علي أنّه قال:في دية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس و ما دونها،و به نأخذ،و قال ابن مسعود هكذا إلاّ في أرش الموضحة و أرش السن فانّها تستوي في ذلك بالرجل،و كان زيد بن ثابت يقول:إنّها تعادل الرجل إلى ثلث ديتها،يعني:إذا كان الأرش بقدر ثلث الدية أو دون ذلك فالرجل و المرأة فيه سواء،فإن زاد على الثلث فحينئذٍ حالها فيه على النصف من حال الرجل. (1)

و لمّا كان الحكم بالتنصيف إذا تجاوز الثلث،أو غيره مضاداً للقياس الّذي هو أحد الأدلّة في الفقه السنّي،صار مورداً للسؤال و الاستغراب،فهذا هو البيهقي يروي بسنده عن ربيعة الرأي أنّه سأل سعيد بن المسيب-الّذي هو أحد الفقهاء الثمانية في المدينة-و قال:كم في اصبع المرأة؟ قال:عشرة،قال:كم في اثنين؟ قال:عشرون،قال:كم في ثلاث؟ قال:ثلاثون،قال:كم في أربع؟ قال:عشرون،قال ربيعة:حين عظم جراحها و اشتدت مصيبتها نقص عقلها؟!

قال:أ عراقي أنت(تدين اللّه بالقياس)؟! قال ربيعة:عالم متثبت أو جاهل متعلّم،قال:يا ابن أخي إنّها السنّة.

قال الشافعي:لمّا قال ابن المسيب هي السنّة،أشبه أن يكون عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو عن عامّة الصحابة. (2)

ص:26


1- 1) .المبسوط:79/26. [1]
2- 2) .سنن البيهقي:96/8.
دليل الضابطة

قد تعرّفت على الضابطة،و أمّا دليلها،فإليك ما ورد عن الفريقين:

1.أخرج البيهقي بسنده المتصل إلى الشعبي أنّ عليّاً عليه السلام كان يقول:«جراحات النساء على النصف من دية الرجل فيما قلّ و كثر». (1)

و إطلاقه يُقيد،بما في سائر الروايات.

2.أخرج البيهقي بسند موصول إلى زيد بن ثابت أنّه قال:جراحات الرجال و النساء سواء إلى الثلث،و ما زاد فعلى النصف.

و قال عبد اللّه بن مسعود:إلاّ السن و الموضحة فانّها سواء،و ما زاد فعلى النصف. (2)

3.أخرج البيهقي بسنده،عن عروة البارقي أنّه جاء من عند عمر إلى شريح:إنّ الأصابع سواء في الخنصر و الإبهام،و إنّ جروح الرجال و النساء سواء في السن و الموضحة،و ما خلا ذلك فعلى النصف. (3)

روى الشافعي و الدارقطني،و صحّحه ابن خزيمة،عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«عقل المرأة مثل عقل الرجل حتّى يبلغ الثلث من ديته». (4)

هذا ما لدى السنّة،و أمّا ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام فيكفي في ذلك:

1.ما رواه الكليني بسند صحيح،عن أبان بن تغلب قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:

ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة،كم فيها؟ قال:«عشرة من

ص:27


1- 1) .سنن البيهقي:96/8.
2- 2) .سنن البيهقي:96/8.
3- 3) .سنن البيهقي:97/8.
4- 4) .التاج الجامع للأُصول:11/3.

الإبل»،قلت:قطع اثنتين؟ قال:«عشرون»،قلت:قطع ثلاثاً؟ قال:«ثلاثون»،قلت:قطع أربعاً؟ قال:«عشرون»،قلت:سبحان اللّه يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون،و يقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! إنّ هذا كان يبلغنا و نحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله و نقول:الّذي جاء به شيطان،فقال:«مهلاً يا أبان هذا حكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية،فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف،يا أبان إنّك أخذتني بالقياس، و السنّة إذا قيست محق الدين». (1)

2.قال المفيد في«المقنعة»:المرأة تساوي الرجل في ديات الأعضاء و الجوارح حتّى تبلغ ثلث الدية،فإذا بلغتها رجعت إلى النصف من ديات الرجال،مثال ذلك أنّ في إصبع الرجل إذا قطعت عشراً من الإبل،و كذلك في إصبع المرأة سواء،و في إصبعين من أصابع الرجل عشرون من الإبل،و في إصبعين من أصابع المرأة كذلك،و في ثلاث أصابع الرجل ثلاثون،و في ثلاث أصابع من أصابع المرأة سواء،و في أربع أصابع من يد الرجل أو رجله أربعون من الإبل،و في أربع أصابع المرأة عشرون من الإبل لأنّها زادت على الثلث فرجعت بعد الزيادة إلى أصل دية المرأة و هي النصف من ديات الرجال،ثمّ على هذا الحساب كلّما زادت أصابعها و جراحها و أعضاؤها على الثلث رجعت إلى النصف،فيكون في قطع خمس أصابع لها خمس و عشرون من الإبل،و في خمس أصابع الرجل خمسون من الإبل،بذلك ثبتت السنّة عن نبيّ الهدى،و به تواترت الأخبار عن الأئمّة عليهم السلام. (2)

و أمّا خفاء الحكم على مثل أبان بن تغلب،مع ماله من المكانة و الجلالة

ص:28


1- 1) .وسائل الشيعة:19،كتاب الديات،الباب44،الحديث1. [1]
2- 2) .وسائل الشيعة:19،كتاب الديات،باب 44،الحديث3. [2]

حتّى أمره أبو جعفر بالجلوس في المسجد،و الإفتاء للناس (1)فليس أمراً بديعاً،و قد خفى على ربيعة الرأي الّذي هو من التابعين و يروي عن أنس،و قد توفّي 136ه كما توفّي أبان عام 141ه.

و قد استغرب كلّ من ربيعة و أبان أنّ الحكم بالنصف،و ذلك لأنّه كان على خلاف التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية من طريق العقل و جعلها مقياساً لصحة النصوص الشرعيّة فما وافقها يحكم عليه أنّه حكم اللّه الّذي يؤخذ به،و ما خالفها كان موضعاً للرفض أو التشكيك، و على هذا النوع من الاصطلاح تنزّل التعبيرات الشائعة:انّ هذا الحكم موافق للقياس و ذلك الحكم مخالف له.

و قد كان القياس بهذا المعنى-التماس العلل للأحكام من طريق العقل و استكشاف الحكم الشرعي بها مثارَ معركة فكرية واسعة النطاق على عهد الإمام الصادق عليه السلام و بعض فقهاء عصره.و على هذا الاصطلاح دارت المناظرة التالية بين الإمام و أبي حنيفة:روى أبو نعيم بسنده،عن عمرو بن جميع:دخلتُ على جعفر بن محمد أنا و ابن أبي ليلى و أبو حنيفة،فقال لابن أبي ليلى:«من هذا معك؟! قال:هذا رجل له بصر و نفاذ في أمر الدين،قال:«لعلّه يقيس أمر الدين برأيه»إلى أن قال:«يا نعمان،حدثني أبي عن جدّي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«أوّل من قاس أمر الدين برأيه إبليس،قال اللّه تعالى له:اسجد لآدم فقال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ،فمن قاس الدين برأيه قرنه اللّه تعالى يوم القيامة بإبليس،لأنّه اتّبعه بالقياس». (2)

فالقياس في هذه الرواية منصرف إلى هذا المصطلح حيث إنّ إبليس تمرّد عن

ص:29


1- 1) .رجال النجاشي:1برقم 6.
2- 2) .حلية الأولياء:197/3.

الأمر بالسجود،لأنّه على خلاف قياسه لتخيّله انّ الأمر بالسجود يقتضي أن يبتني على أساس التفاضل العنصري،و لأجل هذا خطّأ الحكم الشرعي لاعتقاده بأنّه أفضل في عنصره من آدم لكونه مخلوقاً من نار و هو مخلوق من طين. (1)

و يقول المحقّق الأردبيلي حول صحيح أبان:

و فيها بطلان القياس،بل يشكل أمر مفهوم الموافقة،فإنّ العقل يجد بحسب الظاهر أنّه إذا كان ثلاثون لازماً في الثلاث،فيكون لازماً في الأربع بالطريق الأولى،فعلم أنّه لا ينبغي الجرأة فيه أيضاً،إذ قد تخفى الحكمة،و لهذا شرطوا العلم بالعلّة في أصل المفهوم و وجودها في الفرع، فتأمّل. (2)

ص:30


1- 1) .الأُصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم:315.و هو أوّل من نبّه بوجود اصطلاحين في استعمال القياس.
2- 2) .مجمع الفائدة و البرهان:469/14.

3

اشارة

شبهات و ردود

لقد تجلّت الحقيقة بأجلى مظاهرها و تبيّن أنّ دية المرأة نصف دية الرجل في المقامات الثلاثة:النفس و الأعضاء و الجراحات.

بقي هنا دراسة بعض الشبهات التي عالقت بعض الأذهان.

1.التنصيف ينافي قوله سبحانه:

«النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» 1

إنّ القول بالتنصيف يخالف قوله سبحانه: «وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ». 2

يلاحظ على الاستدلال:بأنّ الكلام في دية المرأة و لا مساس للآية بها لأنّها في مورد القصاص و كلامنا في الدية،و حاصل مفاد الآية:أنّ الإنسان يُقتل بالإنسان،و يُقتص بالإنسان من الإنسان،و بالتالي بالمرأة من الرجل،و بالرجل من

ص:31

المرأة،و هذا ما تضافرت عليه الروايات،و قد مرّ أنّ الرجل يقتل بالمرأة و المرأة بالرجل،و لذا يقول سبحانه: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» .و أيّ مساس لها بدية المرأة و أنّها هل هي نصف دية الرجل أو مثلها؟!

فإن قلت:إنّ مقتضى إطلاق قوله تعالى: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» هو جواز الاقتصاص من كلّ نفس بإزاء نفس آخر،مطلقاً بلا شرط، فتجويز قتل الرجل بالمرأة بردّ فاضل ديته على خلاف إطلاق الآية.

قلت:أوّلاً:إنّ الأخذ بالإطلاق فرع انعقاده و هو فرع كون المتكلّم في مقام البيان حتّى بالنسبة إلى الجهة الّتي نحن بصدد رفع الشك فيها بالإطلاق،و لكن الظاهر انّ الآية،كنظائرها ليست في مقام البيان بالنسبة إلى تلك الجهة،بل هي بصدد بيان انّ النفس تعادل النفس،و أمّا أنّ في الاقتصاص شرطاً آخر أو لا،فليست هي بصدد بيانه حتّى يتمسّك بالإطلاق و تنفى شرطية رد فاضل الدية.

ثانياً:نفترض انعقاد الإطلاق في الآية إذ أقصى ما يلزم،هو أن يقيّد إطلاقها في مورد قتل الرجل بالمرأة برد فاضل الدية،و هو ليس بأمر مشكل،إذ كم من مطلق قرآني قُيّد بالحديث.

و ليس هذا التقييد أمراً بديعاً،فانّ إطلاق هذه الآية قد قيّد بأُمور أُخرى أيضاً نظير:

قتل الوالد بالولد.

قتل الحر بالعبد.

فانّ مقتضى إطلاق قوله: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» هو قتل الوالد بالولد،مع أنّه لا يقتص منه.

ص:32

لقوله صلى الله عليه و آله و سلم:«لا يقاد والد بولده». (1)

أو قتل الحرّ بالعبد،مع أنّ صريح قوله سبحانه خلافه قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى». 2

مضافاً إلى ما ورد من الروايات فيه. (2)

2.التنصيف ينافي قوله سبحانه:

«وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ...» 4

كيف تكون دية المرأة نصف دية الرجل مع أنّ الآية تحكم بوجود المماثلة في الحقوق،بين الزوجين و يقول: «وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» ؟!

يلاحظ عليه:أنّ الآية لا تمس مسألة دية الزوجة أبداً،لأنّها تركّز على بيان ما لهنّ من الحقوق على الأزواج و ما للأزواج عليهنّ من الحقوق،و أيّ صلة للآية بما إذا قتل الأجنبيّ الأُنثى؟! فالآية تحدّد حق الزوج على الزوجة و حقّ الزوجة على الزوج بما جرت عليه عادة الناس إلاّ ما كان منه محرّماً في الشريعة،فما يراه العرف حقاً لأحد الزوجين فهو كذلك عند اللّه،لأنّ الحياة متطوّرة و الحاجات متغيّرة،فربّما لا يعدّ الشيء من الحقوق في الأزمنة السابقة بخلاف العصر الحاضر و بالعكس،و للمفسّرين حول الآية كلمات و تفسيرات رائعة فراجعها. (3)

ص:33


1- 1) .الوسائل:19،الباب33 من أبواب القصاص في النفس،الحديث 1و غيره. [1]
2- 3) .الوسائل:19،الباب37 من أبواب القصاص في النفس.
3- 5) .تفسير المنار:375/2؛الميزان:232/2؛الكاشف:343/1.
3.التنصيف ينافي تحديد الدية بمائة من الإبل

إنّ القول بالتنصيف ينافي ما جاء في غير واحد من الروايات في تحديد الدية بألف دينار أو عشرة آلاف درهم أو مائة من الإبل،من غير فرق بين الذكر و الأُنثى.

ففي صحيح جميل بن درّاج في الدية،قال:«ألف دينار أو عشرة آلاف درهم». (1)

و في رواية الحلبي،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:«الدية عشرة آلاف درهم،أو ألف دينار». (2)

و في رواية جميل:«الدية مائة من الإبل»،إلى غير ذلك من الروايات (3)،فإنّ مقتضى هذه الروايات هو كون دية الأُنثى و الذكر على حدّ سواء.

يلاحظ عليه أوّلاً:بأنّ هذه الروايات بصدد بيان مقدار الدية لا بيان أحكامها باختلاف حالات القاتل و المقتول،فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى الطوارئ المختلفة في القاتل و المقتول.

و ثانياً:لو افترضنا وجود الإطلاق فلا مانع من تقييد إطلاقها بهذه الروايات المتضافرة.

4.هذا النوع من التشريع يناقض العدالة

إنّ جعل عقل المرأة نصف عقل الرجل على خلاف مقتضى العدل و الإحسان الذين أمرنا اللّه بهما في كتابه.

ص:34


1- 1) .الوسائل:19،الباب1 من أبواب ديات النفس،الحديث4،5. [1]
2- 2) .الوسائل:19،الباب1 من أبواب ديات النفس،الحديث4،5. [2]
3- 3) .الوسائل:19،الباب1 من أبواب ديات النفس،الحديث5،و لاحظ روايات الباب.

يلاحظ عليه:أنّه لا يصحّ لباحث دراسة أيّ حكم شرعي مجرّداً عن الإطار الذي شرع في ظله و بمنأى عن سائر الأحكام التي صيغت جميعاً كنظام شامل متكامل،و إلاّ لأصبح القضاء فاقداً لشرط الصحّة.

و على ضوء ذلك،نقول:إنّ الدية سواء أ كان القتل خطأ أم عن عمد،ليست بدلاً عن النفس المحترمة الّتي لا يعادلُها شيء،كيف؟ و قد قال سبحانه: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً». 1

فالرجل و المرأة في هذا المضمار سيّان،بل الدية نوع جبر للخسارة الماديّة و الاقتصادية الّتي تتحملها الأُسرة من أجل فقد المقتول.

و من المعلوم أنّ دور الرجل في الأُمور الاقتصادية،و إدارة الأُسرة أمر لا يُنكر،فهي بفقد الرجل تخسر مادّيّاً أكثر ممّا تخسره بفقد المرأة.

و بتعبير آخر،بما أنّ نفقة العائلة تقع على عاتق الرجل دون المرأة،فهي بفقده تتحمل خسارة أكبر ممّا تتحمله من فقد المرأة.

نعم ما ذكرناه في المقام يرجع إلى الأغلب،و لا ينافي هذا أن تكون هناك بعض الموارد الّتي تقوم فيها المرأة بدور كبير في إدارة الأُسرة و توفير الثروة لها.فإنّ حكم الشرع تابع للملاك الغالب.

5.هل الأردبيلي متوقّف في المسألة؟

يظهر من عبارة المحقّق الأردبيلي،أعني قوله:«فما أعرفه فكأنّه إجماع أو نصّ ما اطّلعت عليه»أنّه لم يطّلع على دليل صالح في المقام.

ص:35

يلاحظ عليه:أنّ موقف المحقّق الأردبيلي في المسألة هو نفس موقف المشهور،و العبارة المذكورة لا تمسّ هذه المسألة،و إنّما هي راجعة لمسألة أُخرى،و إليك نقل كلامه:

قال العلاّمة في«الإرشاد»:ودية الأُنثى نصف ذلك.

فقال المحقّق الأردبيلي في شرح هذه الجملة:كأنّ دليله الإجماع و الأخبار،و قد مرّت فتذكّر. (1)

ترى أنّه استدلّ في كلامه على التنصيف بالإجماع أوّلاً و بالأخبار التي مضت في كتابه؛و هو يشير إلى الروايات التي ذكرها في مسألة أُخرى،أعني:قتل الحرّ بالحرّة.

قال العلاّمة:و يقتل الحرّ بالحرّة مع ردّ فاضل ديته.

فقال المحقّق الأردبيلي في شرح العبارة:و كذا قتله بالحرّة إذا قتلها و لكن تردّ ورثتها فضل دية الحرّ عن الحرّة إليه و هو نصف دية كاملة، و هي دية الحرّة،فإنّها نصف الحر،كما سيجيء. (2)

ثمّ إنّه قدس سره استدلّ على التنصيف بحسنة الحلبي و صحيحة ابن مسكان و صحيحة عبد اللّه بن سنان و رواية أبي مريم. (3)

إلى غير ذلك من الروايات التي تعرّفت عليها عند ذكر الطائفة الثانية من روايات المسألة.

ثمّ إنّه قدس سره قال:و في هذه الأدلّة من الآيات و الأخبار دلالة على قتل الرجل

ص:36


1- 1) .مجمع الفائدة و البرهان:322/14.
2- 2) .يشير إلى ما ذكره في صفحة 322،أعني:مسألتنا الحاضرة.
3- 3) .قد مرّت هذه الروايات في الطائفة الثانية.

بالمرأة مع الردّ و بالعكس من غير غرم،و هو المشهور بين الأصحاب بحيث ما نقل الخلاف. (1)

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ المحقّق الأردبيلي جزم بالتنصيف في مسألتين و استدلّ بالأخبار،أعني:

1.دية المرأة نصف دية الرجل.

2.قتل الرجل بالمرأة مع ردّ فاضل الدية.

نعم ذكر قدس سره في مسألة ثالثة العبارة الماضية الّتي تُوهّم منها أنّ المحقّق لم يطّلع على الأخبار و تلك المسألة عبارة عن كون دية الطفل و الطفلة مثل دية الرجل و المرأة،ففي هذا المكان قال:فما أعرفه،فكأنّه إجماع أو نصّ ما اطّلعت عليه. (2)

و أين هذه المسألة ممّا نحن فيه؟!

تمّت الرسالة بيد مؤلّفها جعفر السبحاني

عصر يوم الخميس ثاني شهر جمادى الأُولى

من شهور عام 1424من الهجرة النبوية

على هاجرها آلاف التحيّة

ص:37


1- 1) .مجمع الفائدة و البرهان:48/14.
2- 2) .مجمع الفائدة و البرهان:313/14.

ص:38

2

اشارة

إرث الزوج و الزوجة

الحمد للّه ربّ العالمين،و الصلاة و السلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين.

أمّا بعد فقد سُئلت في هذه الأيّام عن مسألتين في مورد إرث الزوج و الزوجة،و قد ألقيت في سالف الأيام محاضرة موجزة حولهما ضمن سائر مسائل الإرث،و قد طبعت بعد ذلك باسم«نظام الإرث في الشريعة الإسلامية الغرّاء»و مع ذلك فقد خصّصتُ هذه الرسالة لبيانهما على وجه التفصيل،و المسألتان عبارة عن:

1.إذا ماتت الزوجة عن زوج و لم يكن هناك وارث مناسب و لا مسابب.

2.إذا مات الزوج عن زوجة و لم يكن هناك وارث مناسب و لا مسابب.

فلا شكّ أنّ الزوج في الصورة الأُولى يرث نصف المال بالفرض،إنّما الكلام في النصف الباقي،كذلك ترث الزوجة في الصورة الثانية الربع،و إنّما الكلام في الأرباع الثلاثة الباقية،و لنطرح كلّ مسألة على حدة.

ص:39

1

اشارة

إذا ماتت الزوجة عن زوج

بلا مناسب و لا مسابب

إذا ماتت الزوجة عن زوج و لم يكن هناك أيّ وارث بالنسب و السبب،حتّى مولى النعمة و ضامن الجريرة،فقد ذهبت عامّة أهل السنّة إلى أنّ الزوج يرث النصف،و الباقي لبيت المال.

قال السرخسي في«المبسوط»:قال علي بن أبي طالب عليه السلام:إذا فضل المال عن حقوق أصحاب الفرائض و ليس هناك عصبة من جهة النسب،و لا من جهة السبب،فإنّه يردّ ما بقي عليهم على قدر أنصبائهم إلاّ الزوج و الزوجة،و به أخذ علماؤنا رحمهمُ اللّه.

و قال عثمان بن عفّان:يُردّ على الزوج و الزوجة كما يردّ على غيرهم من أصحاب الفرائض،و هو قول جابر بن يزيد.

و قال عبد اللّه بن مسعود:الردّ على أصحاب الفرائض إلاّ على ستة نفر:الزوج،و الزوجة،و ابنة الابن مع ابنة الصلب،و الأُخت للأب مع الأُخت لأب و أُمّ،

ص:40

و أولاد الأُمّ مع الأُمّ،و الجدّ مع ذي سهم أيّاً كان و هو قول أحمد بن حنبل.

و قال زيد بن ثابت:لا يردّ على أحد من أصحاب الفرائض شيء بعد ما أخذوا فرائضهم و لكن نصيب الباقي لبيت المال،و هو رواية عن ابن عباس و به أخذ الشافعي.

و عن ابن عباس في رواية يردّ على أصحاب الفرائض إلاّ على ثلاثة نفر:الزوج،و الزوجة،و الجدّة. (1)

فيظهر منه أنّه لم يقل بالردّ إلاّ عثمان بن عفّان.

و نقل الشيخ في«الخلاف»اتّفاقهم على عدم الردّ و أنّ الباقي لبيت المال. (2)

هذا ما لدى السنّة،و أمّا أصحابنا فالمشهور الّذي كاد أن يكون إجماعاً هو أنّ الباقي يرد على الزوج،و إليك بعض كلماتهم فنذكر منها ما يلي:

1.قال الصدوق في«المقنع»:فإن تركت امرأة زوجها و لم تترك وارثاً غيره فللزوج النصف و الباقي يردّ عليه. (3)

2.قال الشيخ المفيد:اتّفقت الإمامية على أنّ المرأة إذا توفيّت و خلّفت زوجاً و لم تُخلّف وارثاً غيره من عصبتها و لا ذي رحم أنّ المال كلّه للزوج،النصف منه بالتسمية و النصف الآخر مردود عليه بالسنّة. (4)

3.و قال في«المقنعة»:إذا لم يوجد قريب و لا سبب للميّت ردّ باقي التركة على الأزواج. (5)

ص:41


1- 1) .المبسوط:193/15.
2- 2) .الخلاف:116/4،كتاب الفرائض،المسألة130.
3- 3) .الاعلام:55؛ [1]المطبوع ضمن مصنفات الشيخ المفيد:ج9.
4- 4) .المقنعة:691.
5- 5) .الخلاف:116/4،كتاب الفرائض،المسألة130.

و القدر المتيقّن من الأزواج هو الزوج،و يكون دالاّ على الردّ في مسألتنا،بخلاف المسألة الثانية،فشمول عبارته لها موضع تأمّل.

4.قال الشيخ في«الخلاف»:إذا خلّفت المرأة زوجها و لا وارث لها سواه فالنصف له بالفرض و الباقي يعطى إيّاه. (1)

5.و قال في«النهاية»:يردّ على الزوج،النصفُ الباقي بالصحيح من الأخبار عن أئمّة آل محمّد عليهم السلام. (2)

6.و قال السيد المرتضى:و ممّا انفردت به الإماميّة أنّ الزوج يرث المال كلّه إذا لم يكن وارث سواه،فالنصف بالتسمية،و النصف الآخر بالردّ،و هو أحقّ بذلك من بيت المال،و خالف باقي الفقهاء في ذلك،و ذهبوا إلى أنّ النصف الآخر لبيت المال. (3)

7.و يظهر من أبي الصلاح في«الكافي»اختياره حيث شرط في ميراث الإمام،عدم ذوي الأنساب و الزوج و مولى النعمة.قال:و خامس المستحقين سلطان الإسلام المفترض الطاعة على الأنام و فرضه ثابت بشرط عدم ذوي الأنساب و الزوج و مولى النعمة. (4)

8.و قال ابن البرّاج:فإن ماتت امرأة و تركت زوجها و لم تخلّف غيره،كان له النصف بالتسمية و الباقي يردّ عليه. (5)

ص:42


1- 1) .النهاية:642. [1]
2- 2) .المقنع:170.
3- 3) .الانتصار:300.
4- 4) .الكافي في الفقه:374. [2]
5- 5) .المهذّب:141/2.

9.و قال ابن إدريس:قال أصحابنا:إنّ الزوج وحده يردّ عليه الباقي بإجماع الفرقة على ذلك.ثمّ نقل كلام المفيد و السيد المرتضى و ردّ التفصيل الّذي استقربه الشيخ في«النهاية». (1)

10.و قال العلاّمة:و هذا (أي القول المشهور) هو الأقوى عندي،دليلنا في الردّ على الزوج الإجماع،فإنّ جلّة أصحابنا نقلوه و نقلهم حجة. (2)

11.و قال الشهيد في«الدروس»:أمّا لو لم يكن سوى الزوج أو الزوجة،فالمشهور الردّ على الزوج فيأخذ النصف تسمية و الباقي ردّاً، و نقل المفيد و المرتضى و الشيخ فيه الإجماع. (3)

و تبعهم المتأخرون في ذلك.قال النراقي في«المستند»:ذهب إليه معظم الطبقة الثالثة (4)،و مراده من الطبقة الثالثة:السبزواري في «الكفاية». (5)و الفيض في«المفاتيح» (6)،و دعوى الشهرة عليه متكرّرة،و ظاهر«الانتصار»و«السرائر»دعوى الإجماع عليه. (7)

و لعلّ هذا المقدار من النقول كافٍ في إثبات الشهرة القريبة من الإجماع،و مع ذلك كلّه فيظهر من بعض أصحابنا كالديلمي التردّد و عدم الترجيح.

قال سلاّر الديلمي في مراسمه حيث نقل الردّ على الزوج عن بعض

ص:43


1- 1) .السرائر:243/3.
2- 2) .المختلف:42/9.
3- 3) .الدروس:375/2،الدرس 192.
4- 4) .المستند:396/19. [1]
5- 5) .الكفاية:304. [2]
6- 6) .المفاتيح:304/3.
7- 7) .المستند:396/19. [3]

الأصحاب من دون أن يختار.قال:و من أصحابنا من قال:إذا ماتت زوجة و لم تُخلّف غير زوجها فالمال كلّه له بالتسمية و الردّ. (1)و منه يعلم أنّ ما نسب إليه من اختيار الردّ كما في«المستند»ليس بتامّ.

نعم يظهر من نسبة كون المال كلّه للزوج إلى بعض الأصحاب وجود القائل بعدم الردّ إلى الزوج و لازم ذلك هو الردّ على الإمام،إذ الأمر دائر بين الردّين:الردّ على الزوج،و الردّ على الإمام،فإذا انتفى الأوّل تعيّن الثاني،و إلى هذا يشير فخر المحقّقين في شرحه،قال:قال سلاّر:و من أصحابنا مَن قال:إذا ماتت امرأة و لم تخلّف غير زوجها فالمال كلّه له بالتسمية و الردّ. (2)و يلزم من القول بعدم الردّ على الزوج كون الباقي للإمام، إذ لا وارث حينئذٍ سواه.

و قال العلاّمة في قواعده:للزوج مع الولد-ذكراً كان أو أُنثى-أو ولد الولد و إن نزل-كذلك-الربع،و مع عدمهم-أجمع -،النصف مع جميع الورّاث،و الباقي للقريب إن وجد،فإن فقد فلمولى النعمة،فإن فقد فلضامن الجريرة،فإن فقد قيل:يردّ عليه،و قيل:يكون للإمام،سواء دخل أو لا. (3)

إلى هنا تبيّن أنّ المشهور هو الردّ على الزوج،و الظاهر من الديلمي التوقّف،و مثله العلاّمة في«القواعد»،و أمّا وجود القائل بوجوب الردّ على الإمام فهو لازم كلام الديلمي حيث نسب الردّ على الزوج إلى بعض أصحابنا،و صريح العلاّمة في«القواعد».

و لعلّ هذا المقدار من الكلمات كافٍ في تبيين نظر المشهور في

ص:44


1- 1) .المراسم:222.
2- 2) .إيضاح الفوائد في شرح القواعد:237/24.
3- 3) .قواعد الأحكام:375/3.

المسألة،غير أنّ الإجماع في المقام مدركي مستند إلى الروايات.

إذا عرفت ذلك فلندرس ما ورد من الروايات في المقام.

ما يدلّ على الردّ على الزوج

روى أصحاب الجوامع في المقام عن أبي بصير روايات،أربعة منها تنتهي إلى أبي جعفر الباقر عليه السلام،و الأربعة الباقية إلى أبي عبد اللّه عليه السلام .و يمكن إرجاع الجميع إلى روايتين أو ثلاث و أنّها نقلت بأسانيد مختلفة،و إليك نصوصها:

1.خبر علي،عن أبي بصير،عن أبي جعفر عليه السلام قال:سألته عن المرأة تموت و لا تترك وارثاً غير زوجها؟ قال:«الميراث له كلّه».

2.عن موثّقة مشمعل (1)،عن أبي بصير،قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن امرأة ماتت و تركت زوجها لا وارث لها غيره؟ قال:«إذا لم يكن غيره،فله المال».

3.صحيح يونس،أبي بصير،عن أبي جعفر عليه السلام،قال:سألته عن المرأة تموت و لا تترك وارثاً غير زوجها.قال:«الميراث له كلّه».

4.موثق وهيب،عن أبي بصير،عن أبي جعفر عليه السلام في امرأة توفّيت و تركت زوجها،قال:«المال كلّه للزوج»(يعني إذا لم يكن لها وارث غيره).

فهذه روايات أربع يرويها أصحاب الجوامع تنتهي أسانيدها إلى أبي بصير،عن أبي جعفر عليه السلام.و الظاهر كما تقدّم اتحاد الجميع،أو البعض مع الآخر.

ص:45


1- 1) .و في التهذيب و الوسائل: [1]إسماعيل و هو تصحيف«مشمعل»كما في الكافي و [2]الفقيه.

كما أنّ له روايات أربعاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام،و الظاهر اتّحاد أكثرها.

5.موثّق أبان بن عثمان،عن أبي بصير،قال:قرأ عليّ أبو عبد اللّه عليه السلام فرائض عليّ،فإذا فيها:«الزوج يحوز المال كلّه إذا لم يكن غيره».

6.صحيح أيّوب بن حرّ،عن أبي بصير،قال:كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فدعا بالجامعة فنظر فيها،فإذا امرأة ماتت و تركت زوجها لا وارث لها غيره،المال له كلّه.

7.صحيح ابن مسكان،عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث قال:قلت له:امرأة ماتت و تركت زوجها؟ قال:«المال له».

8.صحيح عنبسة بن بياع القصب،عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:قلت له:امرأة هلكت و تركت زوجها.قال:«المال كلّه للزوج».

و هذه روايات أربع عن أبي عبد اللّه عليه السلام يبدو اتّحاد أكثرها.

و هناك روايات أُخرى نذكرها تباعاً:

9.صحيحة محمد بن قيس،عن أبي جعفر عليه السلام في امرأة توفّيت و لم يعلم لها أحد و لها زوج؟ قال:«الميراث لزوجها».

10.موثّق أو حسن مثنى بن الوليد الحنّاط،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قلت:امرأة ماتت و تركت زوجها؟ قال:«المال كلّه له،إذا لم يكن لها وارث غيره».

11.موثق إسماعيل بن عبد اللّه الجعفي،عن أبي جعفر عليه السلام في امرأة ماتت و تركت زوجها؟ قال:«المال للزوج»يعني إذا لم يكن وارث غيره.

إنّ هذه الروايات المتضافرة (1)حجّة،و فيها الصحيح و الموثق و غيرهما.

ص:46


1- 1) .راجع الوسائل:18،الباب3 من أبواب ميراث الأزواج. [1]

و لا حاجة لدراسة أسانيد كلّ واحد منها على حدة.

و أمّا الطعن في سند رواية محمد بن قيس باشتراكه بين الثقة و غيره فمردود،بأنّه إذا روى عن عاصم بن حميد كما في المقام.فالمراد به هو محمد بن قيس البجلي الثقة راوية أقضية الإمام علي عليه السلام،لاحظ رجال النجاشي. (1)

كما أنّ اشتراك أبي بصير بين الثقة و غيره في غير محلّه،لأنّ أبا بصير:كنية يحيى ابن القاسم و ليث البختري و كلاهما ثقة،و عند الإطلاق ينصرف إلى الأوّل،و لا أقلّ يكون مردداً بينهما،و لا ينصرف إلى سواهما.

فإن قلت:إنّ قوله سبحانه: «وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ» 2 ،هو انّ له النصف مع عدم الولد مطلقاً،سواء كان وارث آخر أو لا؟

قلت:إنّ المطلق يقيّد،و العام يُخصّص،و هذه الروايات تقيد إطلاق الآية.

فإن قلت:إنّ في موثّقة جميل،عن أبي عبد اللّه عليه السلام:«لا يكون الرد على زوج و زوجة» (2)،و حديث العبدي عن علي عليه السلام قال:«لا يزاد الزوج على النصف و لا ينتقص عن الربع» (3)،فالحديثان يعارضان ما سبق من الروايات.

قلت:سيوافيك تفسير الروايتين في المسألة الثانية و أنّ موردهما ما إذا كان معهما وارث آخر فلا صلة لهما بالمقام.

و أمّا الاستدلال بأصالة عدم الردّ،فهو محكوم بالدليل الاجتهادي.

و يمكن أن تكون مسألة الردّ عند موت الزوجة دون موت الزوج،راجعة إلى

ص:47


1- 1) .رجال النجاشي:198/2برقم 882.
2- 3) .الوسائل:8،الباب3 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث8. [1]
3- 4) .الوسائل:8،الباب2 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث2. [2]

أنّ منتج الثروة و موفّرها هو الزوج،و هو الّذي جعلها في متناول الزوجة و ملّكها إيّاها بطرق مختلفة،فإذا ماتت الزوجة،فالأولى بها هو نفس الزوج الّذي عانى في سبيل تنميتها و توفيرها.

و هذا بخلاف ما إذا توفّي الزوج عن زوجة و ليس معها أيّ وارث،فإنّ الزوجة،تأخذ إرثها،أعني:الثمن أو الربع،و أمّا الباقي فالأولى به هو الزوج،و بما أنّه مات،فإنّ الإمام أو الحاكم الشرعي هو الّذي يتولّى صرفه في مصالحه و يتصدّق به عنه و يُهدي ثواب ذلك إلى الزوج،بخلاف ما إذا رُدّ إلى الزوجة،فإنّها تصرفه في مصالحها الشخصية،دون المصالح العامة الّتي تعود بالخير على الزوج الميت.

ص:48

2

إذا مات الزوج عن زوجة بلا مناسب و لا مسابب

إذا مات الزوج عن زوجة و ليس معها أيُّ وارث نسبي و لا سببي حتّى وليّ النعمة و لا ضامن الجريرة،فترث الزوجة الربع،و أمّا الباقي فأهل السنّة على أنّه يردّ على بيت المال،و قد مرّ كلام السرخسي في«المبسوط»،و نقله الشيخ الطوسي عنهم في«الخلاف»و سيوافيك بيانه.

و أمّا الشيعة فالمشهور عندهم انّه للإمام،و ينوب عنه في عصر الغيبة،الحاكم الشرعي و هما أعرف بمصارفه.و هناك من يقول بأنّه يردّ على الزوجة كالردّ على الزوج في الصورة السابقة،و ليس القول بالردّ على الزوجة في المقام،مثل القول بالردّ على الإمام في المسألة السابقة،لما عرفت من أنّ الردّ على الإمام فيها،شاذ لم يعرف قائله و إنّما استفيد من مفهوم كلام«سلاّر»في«المراسم»كما مرّ،بخلاف القول بالردّ على الزوجة في هذه المسألة.فقد قال به بعضهم و إن كان بالنسبة إلى القول الآخر،غير مشهور.و إليك كلمات الأصحاب:

1.قال في«الخلاف»:و في الزوجة الربع لها بلا خلاف،و الباقي لأصحابنا فيه روايتان.

ص:49

إحداهما:مثل الزوج يردّ عليها.

و الأُخرى:الباقي لبيت المال. (1)

2.و قال في«النهاية»:و إذا خلّف الرجل زوجة،و لم يخلّف غيرها من ذي رحم قريب أو بعيد،كان لها الربع بنص القرآن و الباقي للإمام.

و قد رُوي أنّ الباقي يردّ عليها،كما يردّ على الزوج.

و قال بعض أصحابنا في الجمع بين الخبرين:إنّ هذا الحكم (الردّ على الزوجة) مخصوص بحال غيبة الإمام و قصور يده،أمّا ما إذا كان ظاهراً ليس للمرأة أكثر من الربع و الباقي له على ما بيّناه،و هذا وجه قريب من الصواب. (2)

و قد أشار الشيخ في«الخلاف»إلى قولين،و في«النهاية»إلى أقوال ثلاثة؛اثنان منهما هو نفس ما في«الخلاف»،و الثالث التفصيل بين الحضور و الغيبة،فيردّ على الإمام في زمان الحضور،و على الزوجة في زمان الغيبة.

و القول الثالث للشيخ الصدوق في«من لا يحضره الفقيه»حيث إنّه بعد ما نقل رواية أبي بصير عن الباقر عليه السلام عن امرأة ماتت و تركت زوجها لا وارث لها غيره،قال:«إذا لم يكن غيره،فالمال له،و المرأة لها الربع و ما بقي للإمام». (3)

قال عقيب هذا الكلام:قال مصنّف هذا الكتاب:هذا في حال ظهور الإمام عليه السلام،فأمّا في حال غيبته فمتى مات الرجل و ترك امرأة لا وارث له غيرها،فالمال لها. (4)

ص:50


1- 1) .الخلاف:116/4،كتاب الفرائض،المسألة 130.
2- 2) .النهاية:642. [1]
3- 3) .ستوافيك الرواية عند نقل روايات المسألة.
4- 4) .الفقيه:262/4- 263،الحديث 5615؛وسائل الشيعة:16/17،الباب4 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث8.

و لكنّه في«المقنع»،و أباه في الرسالة،أفتيا بأنّ ما بقي للإمام المسلمين بلا تفصيل.

3.قال في«المقنع»:فإن ترك رجل امرأة و لم يترك وارثاً غيرها فللمرأة الربع،و ما بقي فللإمام المسلمين. (1)

4.و قال السيد المرتضى:أمّا الزوجة فقد وردت رواية شاذّة (2)بأنّها ترث المال كلّه إذا انفردت كالزوج،و لكن لا يعوّل على هذه الرواية، و لا تعمل الطائفة بها،و ليس يمتنع أن يكون للزوج مزيّة في هذا الكلام على الزوجة كما كانت له مزيّة عليها من تضاعف حقّه على حقّها. (3)

5.و قال الشيخ في«الإيجاز»:فإذا انفردوا كان لهم سهم المسمّى،إن كان زوجاً،النصف،و الربع إن كانت زوجة،و الباقي لبيت المال.

و قال أصحابنا:إنّ الزوج وحده يرد عليه الباقي بإجماع الفرقة على ذلك. (4)

6.و قال أبوا لصلاح الحلبي في«الكافي»:فإن كانت هناك زوجة فلها الربع و الباقي للإمام،فإن لم تكن زوجة فله المال كلّه. (5)

7.و قال ابن البراج:فإن مات رجل و خلّف زوجة و لم يخلّف غيرها كان لها الربع بالتسمية و الباقي للإمام عليه السلام،و قد روي أنّ الباقي يرد عليها مثل الزوج،و الظاهر ما ذكرناه.ثمّ ذكر التفصيل الذي اختاره الصدوق في«الفقيه»و استقربه

ص:51


1- 1) .المقنع:170،و [1]نظيره ما في رسالة أبيه إليه.
2- 2) .ستوافيك الرواية.
3- 3) .الانتصار:300.
4- 4) .الإيجاز:271،المطبوع ضمن الرسائل العشر فخصّ الردّ على الزوج.
5- 5) .الكافي:374. [2]

الشيخ في«النهاية»-كما مرّ-ثمّ قال:و الأولى عندي ألاّ يدفع إليها إلاّ الربع بغير زيادة عليه و الباقي للإمام. (1)

8.و قال ابن إدريس:و إذا خلّف الرجل زوجة و لم يُخلِّف غيرها من ذي رحم قريب أو بعيد،كان لها الربع بنص القرآن و الباقي للإمام.

و قد روي أنّ الباقي يرد عليها كما يردّ على الزوج.

ثمّ أشار إلى قول الصدوق و الفقيه الذي استقربه الشيخ في«النهاية»من التفصيل بين الحضور،فيرد على الإمام،و الغيبة فيرد عليها،و ردّه بحماس. (2)

9.و قال المحقّق:و لو لم يكن وارث سوى الزوج ردّ عليه الفاضل.و في الزوجة قولان:

أحدهما:لها الربع و الباقي للإمام.

و الآخر:يرد عليها الفاضل كالزوج.

و قال ثالث:الرد مع عدم الإمام.

و الأوّل أظهر. (3)

10.و قال العلاّمة في«المختلف»:و أمّا عدم الردّ على الزوجة مطلقاً فللأصل،لأنّه تعالى جعل لها الربع مع عدم الولد،و لا تأخذ ما زاد، لعدم دليل يقتضيه. (4)

و لعل هذه الكلمات العشر من أساتذة الفقه كافية في إثبات الشهرة.

ص:52


1- 1) .المهذب:141/2- 142.
2- 2) .السرائر:243/3.
3- 3) .النافع:271،طبع مصر.
4- 4) .المختلف:43/9.

و مع ذلك كلّه فالقول بالتفصيل بين الحضور و الغيبة،اختاره-وراء الصدوق و الشيخ-لفيف من الفقهاء،منهم:

1.ابن سعيد الحلي في الجامع،قال:و إن لم يُخلّف غيرها فلها الربع و الباقي للإمام،و إذا لم يتمكّن من سلطان العدل يردّ عليها. (1)

2.العلاّمة في التحرير حيث إنّه بعد ما ذكر القولين،الرد على الإمام،أو الزوجة،قال:الثالث إنّه يرد عليها حال غيبة الإمام لا وقت ظهوره، و هو الأقوى عندي. (2)

3.الشهيد في«اللمعة»قال:لا يرد على الزوج و الزوجة إلاّ مع عدم كلّ وارث عدا الإمام.و الأقرب إرثه مع الزوجة إن كان حاضراً. (3)

كما أنّ الظاهر من بعضهم التوقّف،منهم:

1.سلاّر الديلمي:و من أصحابنا من قال إذا ماتت امرأة و لم تُخلِّف غير زوجها،فالمال كلّه له بالتسمية و الردّ،فأمّا الزوجة فلا ردّ لها،بل ما يفضل من سهمها لبيت المال،و روي أنّه يرد عليها كما يرد على الزوج. (4)

2.العلاّمة في«القواعد»،قال في إرث الزوجة:فإن فقد الجميع قيل:يرد عليها،و قيل:للإمام،و قيل:يرد حال الغيبة دون الحضور. (5)

3.الشهيد في«الدروس»قال:أمّا الزوجة فثالث الأقوال للصدوق و الشيخ في«النهاية»،الرد عليها حال الغيبة لا حال حضور الإمام جمعاً بين الأخبار،

ص:53


1- 1) .الجامع:502.
2- 2) .التحرير:39/5. [1]
3- 3) .الروضة البهيّة [2]قسم المتن:297/2،طبعة عبد الرحيم.
4- 4) .المراسم:222.
5- 5) .القواعد:375/3.

و المشهور عدم الردّ مطلقاً. (1)

فتلخّص من جميع ما ذكرنا،أُمور ثلاثة:

1.انّ المشهور بين الأصحاب هو الردّ على الإمام مطلقاً.

2.التفصيل بين الحضور فيرد عليه،دون الغيبة فيرد على الزوجة،و هو خيرة الصدوق في«الفقيه»و الشيخ في«النهاية»،و الحلّي في «الجامع»و العلاّمة في«التحرير»،و الشهيد في«اللمعة».

3.التوقّف في المسألة و هو الظاهر من الديلمي،و«القواعد»و«الدروس».

هذه هي آراء الفقهاء من عصر الصدوق إلى ثامن القرون،و لنذكر أدلّة القول المشهور.

و يستدلّ على قول المشهور بإطلاق الروايتين التاليتين:

1.موثّقة جميل،عن الصادق عليه السلام قال:«لا يكون ردّ على زوج و لا على زوجة». (2)و إطلاق الحديث يشمل المقام.

يلاحظ عليه:أنّ القدر المتيقّن من الحديث،هو وجود وارث آخر،فالزوجان لا يردّ عليهما عندئذٍ،بخلاف سائر الورّاث،فهم ربّما يرثون فرضاً ثمّ ردّاً كالبنت الواحدة مع الأبوين،فالبنت ترث النصف،و يرث كلّ واحد من الأبوين،السدس،فما بقي من السدس ترثه البنت ردّاً.

و أمّا الزوجان فبما أنّ كلّ واحد منهما ذو فرضين فيرثون فرضاً لا ردّاً،و أين هو من المقام الّذي انفردت الزوجة فيه و ليس معها أيّ وارث؟! فالرواية منصرفة عمّا نحن فيه.

ص:54


1- 1) .الدروس:376/2.
2- 2) .الوسائل:17،الباب3 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث8.

2.خبر أبي عمر العبدي،عن علي بن أبي طالب في حديث أنّه قال:«و لا يزاد الزوج على النصف،و لا ينقص من الربع،و لا تزداد المرأة على الربع و لا تنقص من الثمن،و إن كن أربعاً أو دون ذلك فهن فيه سواء». (1)

و كيفية الاستدلال على عدم الردّ على الزوجة و الإجابة عنه مثل الرواية السابقة فلا نعيد.

و يدلّ على ما ذكرنا،أي أنّ موردها وجود وارث آخر:هو أنّ المفروض في الرواية تعدّد الزوجة و بلوغها إلى أربع.

و منه يظهر عدم صحّة الاستدلال بحديث موسى بن بكر عن زرارة ففيه:«و لا يردّ على الزوجة شيء» (2)،لأنّ مورده ما إذا كان معها وارث آخر،كما أنّه هو المورد أيضاً لقوله:«و لا يرد على الزوج شيء». (3)

فالأولى الاستدلال بالروايات الواردة في الموضوع.

1.صحيحة علي بن مهزيار قال:كتب محمد بن حمزة العلوي إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام:مولى لك أوصى بمائة درهم إليّ و كنتُ أسمعه يقول:كلّ شيء هو لي فهو لمولاي،فمات و تركها و لم يأمر فيها بشيء،و له امرأتان إحداهما ببغداد،و لا أعرف لها موضعاً الساعة،و الأُخرى بقم ما الّذي تأمرني في هذه المائة درهم؟

فكتب إليه:«انظر أن تدفع من هذه المائة درهم إلى زوجتي الرجل و حقّهما من ذلك الثمن،إن كان له ولد،و إن لم يكن له ولد فالربع، و تصدق بالباقي على من تعرف أنّ له إليه حاجة إن شاء اللّه». (4)

ص:55


1- 1) .الوسائل:17،الباب2 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث2. [1]
2- 2) .الوسائل:17،الباب18 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد،الحديث3.
3- 3) .الوسائل:17،الباب18 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد،الحديث3. [2]
4- 4) .الوسائل:17،الباب4 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث1. [3]

و قد أُورد على الاستدلال بوجهين:

1.انّ ظاهر قول:«كلّ شيء هو لي فهو لمولاي»،إنّ الثمن كان ملكاً للإمام،فيحكم فيه بما يشاء و لا يكون عمله عندئذٍ،حجّة في المسألة.

يلاحظ عليه:الظاهر انّ التحليل كان تمليكاً تشريفياً لا حقيقياً،نظير ما يقول الصديق للصديق الوفي:«كل ما لي فهو لك».و الشاهد على ذلك أنّ الإمام جعل للزوجة فيه حقاً شرعياً و هو الثمن،و لو كان التحليل حقيقياً كان تعليل كيفية التقسيم بقوله:«و حقّهما من ذلك الثمن إن كان له ولد»غير صحيح،لأنّه إنّما يتمّ لو كان المال ملكاً للميت و يدخل في ملك الوارث إرثاً من الزوج،لا هدية من الإمام.

2.إنّ الكلام إنّما هو فيما إذا لم يكن عدا الإمام وارث سوى الزوجة،و صريح الصحيحة انّ الإمام كان مولى للميت و عتيقه،فهي خارجة عن محل النزاع.

يلاحظ عليه:بمثل ما قلنا في جواب الإشكال الأوّل حيث إنّ المتبادر من المولى،أو الموالي في هذه الموارد،هو الولاية الفخرية،أو الولاية الشرعية لهم عليهم السلام،لا ولاء العتق،تعلم ذلك بالمراجعة إلى موارد استعمال لفظ«المولى»في الروايات.

2.خبر محمد بن نعيم الصحاف قال:مات محمد بن أبي عمير بياع السابري و أوصى إليّ و ترك امرأة لم يترك وارثاً غيرها،فكتبت إلى العبد الصالح عليه السلام فكتب إليّ:«أعط المرأة الربع،و احمل الباقي إلينا». (1)

3.موثّق أبي بصير،قال:قرأ عليّ أبو جعفر في الفرائض:«...رجل تُوفّي

ص:56


1- 1) .الوسائل:17،الباب4 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث 2. [1]

و ترك امرأته،قال:للمرأة الربع،و ما بقي للإمام». (1)

4.موثّق أبي بصير،عن أبي جعفر عليه السلام في رجل توفّي و ترك امرأته،قال:«للمرأة الربع،و ما بقي فللإمام». (2)

5.خبر محمد بن مسلم،عن أبي جعفر عليه السلام،في رجل مات و ترك امرأته قال:«لها الربع و يرفع الباقي إلينا». (3)

6.خبر محمد بن مروان،عن أبي جعفر عليه السلام في زوج مات و ترك امرأته؟ قال:«لها الربع و يدفع الباقي إلى الإمام». (4)

7.موثّق أبي بصير قال:سألت أبا جعفر عليه السلام عن امرأة ماتت و تركت زوجها لا وارث لها غيره؟ قال:«إذا لم يكن غيره فله المال،و المرأة لها الربع،و ما بقي فللإمام». (5)

8.و يؤيّده فقه الرضا:«فإذا ترك الرجل امرأة فللمرأة الربع،و ما بقي فللقرابة إن كان له قرابة،و إن لم يكن أحد جعل ما بقي لإمام المسلمين». (6)

و المجموع من حيث المجموع يفيد القطع بصدور الحكم عنهم عليهم السلام،و قد قلنا في محلّه:إنّ الحجّة،هو الخبر الموثوق الصدور لا خصوص خبر الثقة.

فإن قلت:إنّ القدر المتيقّن من الروايات صورة التمكّن من دفع المال إلى الإمام،فلا يعمّ صورة الغيبة،و الشاهد على ذلك ورود السؤال فيها بصيغة الماضي.

ص:57


1- 1) .الوسائل:17،الباب4 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث 3. [1]
2- 2) .الوسائل:17،الباب4 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث4. [2]
3- 3) .الوسائل:17،الباب4 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث 5و 7و [3] 8.
4- 4) .الوسائل:17،الباب4 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث 5و 7و [4] 8.
5- 5) .الوسائل:17،الباب4 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث 5و 7و [5] 8.
6- 6) .مستدرك الوسائل:194/17،الباب3 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث1. [6]

قلت:إنّ المتبادر من الأجوبة،انّ الإمام بصدد الحكم الكلّي،بشهادة أنّ الإمام أخرج الفرائض من كتاب عليّ و فيه:«للمرأة الربع و ما بقي للإمام»و إلاّ فيسري ذلك الاحتمال إلى أكثر الأجوبة الصادرة عنهم في مورد الخمس و جمع الزكوات.

فإن قلت:روى الشيخ بسند صحيح أو موثق عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن امرأة ماتت و تركت زوجها؟ قال:«المال كلّه له»، قلت:فالرجل يموت و يترك امرأته؟ قال:«المال لها». (1)

قلت:الرواية محمولة على ما إذا كانت الزوجة من أقرباء الزوج،بقرينة صحيح محمد بن القاسم بن الفضيل بن يسار البصري قال:

سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن رجل مات و ترك امرأة قرابة ليس له قرابة غيرها؟ قال:«يدفع المال كلّه إليها». (2)

قال الشيخ في«التهذيب»:إنّه محمول على ما إذا كانت المرأة قريبة له و لا قريب له أقرب منها،فتأخذ الربع بسبب الزوجية،و الباقي من جهة القرابة. (3)

و يؤيد ذلك أنّ وجود اللام في قوله:«المال لها»،للعهد،و ذكر لفظة«كلّه»في جانب الزوج دون جانب الزوجة.

و قد عرفت كلام السيد المرتضى حيث وصف الرواية بأنّها شاذة لا يعوّل عليها.

ص:58


1- 1) .الوسائل:17،الباب4 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث 6و 9.و [1]سند الثاني صحيح و الأوّل موثق.
2- 2) .الوسائل:17،الباب5 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث1. [2]
3- 3) .التهذيب:340/9.

و أمّا الجمع بينه و بين ما تضافر من أنّ الباقي للإمام،بحمل ما دلّ على الثاني على زمان الحضور،و الأوّل على حال الغيبة،فيكون الحكم الشرعي في ظروفنا هو ردّ الباقي على المرأة،فغير تام،لأنّه جمع تبرّعي بلا شاهد،و لذلك وصفه الحلّي في«السرائر»بقوله ما قرّبه شيخنا رحمه الله أبعد ممّا بين المشرق و المغرب،لأنّ تخصيص الجامع بين الخبرين بما قد ذهب إليه،يحتاج إلى دلالة قاهرة و براهين متضافرة،لأنّ أموال بني آدم و مستحقاتهم لا تحلّ بغيبتهم،لأنّ التصرّف في مال الغير بغير إذنه قبيح عقلاً و سمعاً. (1)

أضف إلى ذلك أنّ الجواب بأنّ المال لها،صدر عن الإمام الصادق عليه السلام،في حال الحضور و إمكان الوصول إليه،فكيف ترك الإمام جواب السائل،و أشار إلى جواب ما لم يُسأل عنه؟!

و الاعتبار أيضاً يساعد الرد على الإمام،لأنّه هو الذي اكتسب المال طيلة حياته،فلو ردّ على الزوجة،فلا يرجع على الزوج بخير بخلاف ما لو ردّ إلى الإمام،فإنّه يصرفه في مصالح الإسلام و المسلمين و يتصدّق به على المحتاجين فيعود ثوابه إليه.

و قد ورد في بعض الروايات:«و إن لم يكن له ولد فالربع،تصدّق بالباقي على من تعرف أنّ له إليه حاجة». (2)

نعم لو كانت الزوجة فقيرة جاز صرف الباقي في دفع عيلتها بإذن الإمام أو القائم مقامه.

ص:59


1- 1) .السرائر:242/3.
2- 2) .الوسائل:7،الباب4 من أبواب ميراث الأزواج،الحديث1. [1]

و الحاصل:انّ تضافر الروايات على الردّ على الإمام،و شذوذ ما دلّ على الردّ على الزوجة،و اشتهار الفتوى بذلك في الأعصار المختلفة، و كون الجمع بينهما بالحمل على الحضور،جمعاً تبرعيّاً،يشرف الفقيه على القطع بلزوم الردّ على الإمام.

***

تمّ الكلام في هاتين المسألتين صبيحة يوم الأحد

الحادي و العشرين من شهر ربيع الثاني

من شهور عام 1424ه.ق

حرّره المؤلف جعفر السبحاني

عُفي عنه

ص:60

3

اشارة

دية الذمّي و المستأمن

الحمد للّه،و الصّلاة و السّلام على رسوله و آله،الغرّ الميامين،صلاة دائمة.

أمّا بعد فهذه رسالة عملناها في بيان دية الذمّي و المستأمن لما قام به مجلس الشورى الإسلامي-في هذه الأيّام-من التصويب على أنّ دية الذمّيّ مثل دية المسلم و وافق عليه مجلس صيانة الدستور فأصبح قانوناً للقضاء في المحاكم الإيرانية.

و قد ألقينا محاضرات حول المسألة في أوائل الثورة الإسلامية في إيران،و الآن نرجع إلى المسألة بموضوعية و تجرّد عمّا ذكرناه، و حرّرناه،نسأله سبحانه أن يهدي كلّ مجاهد في سبيله إلى الصراط المستقيم.

أقوال الفقهاء في المسألة

إنّ لفقهاء السنّة فيها آراء أربعة:

1.دية الذمّيّ مثل دية المسلم لا يفترقان،ذهب إليه من الصحابة:ابن مسعود،و هو إحدى الروايتين عن عمر و عثمان،و من التابعين:

الزهري،و من الفقهاء:الثوري و أبو حنيفة و أصحابه.

ص:61

2.دية الذمّيّ على النصف من دية المسلم:ذهب إليه من التابعين:عمر بن عبد العزيز و عروة بن الزبير،و من الفقهاء:مالك بن أنس.

و الظاهر من الشيخ الطوسي في«الخلاف»انّ النصف عند أصحاب هذا القول حكم كلّ من الذمّي و الذمّيّة.فدية الذمّي نصف دية المسلم،ودية الذمّيّة نصف دية المسلمة.

لكن الظاهر من الفقيه المعاصر وهبة الزحيلي،انّ دية الذمّيّة مثل دية المسلمة حيث قال عند نقل هذا القول:دية الذمّيّ نصف دية المسلم،و نساؤهم نصف ديات المسلمين أي كالنساء المسلمات. (1)و سيوافيك أنّ القرطبي نقل خلاف ذلك.

3.دية الذمّي ثلث دية المسلم:و به قال من الصحابة عمر و عثمان،و من التابعين:سعيد بن المسيب و عطاء،و من الفقهاء:أبو ثور و إسحاق و الشافعي.فدية الذمّيّ عندهم أربعة آلاف درهم بناء على أنّ دية المسلم اثنا عشر ألف درهم.

4.التفريق بين العمد،و الخطأ:فلو كان القتل عمداً فدية المسلم،و إن كان خطأ فنصف دية المسلم،حكاه الشيخ الطوسي عن أحمد بن حنبل. (2)

قال شمس الدين السرخسي الحنفي:ودية أهل الذمّة و غيرهم مثل دية المسلمين رجالهم كرجالهم و نساؤهم كنسائهم،و كذلك جراحاتهم و جناياتهم بينهم و ما دون النفس من ذلك سواء.

و قال مالك:دية الكتابي على النصف من دية المسلم،ودية المجوسي

ص:62


1- 1) .لاحظ الفقه الإسلامي و أدلّته:311/6،تأليف الدكتور وهبة الزحيلي.
2- 2) .الخلاف:263/5،المسألة77.

ثمانمائة درهم(القول الثاني).

و حديث سعيد بن المسيب:انّ النبيّ قضى في دية الكتابي بثلث دية المسلم،و في رواية بنصف دية المسلم(القول الثالث).

و عن عمر أنّه قضى في دية المجوسي بثمانمائة درهم. (1)

و قال القرطبي:و أمّا دية أهل الذمّة إذا قُتلوا خطأ،فإنّ للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:

أحدها:أنّ ديتهم على النصف من دية المسلم،ذكرانهم على النصف من ذكران المسلمين،و نساؤهم على النصف من نسائهم. (2)و به قال:مالك و عمر بن عبد العزيز،و على هذا تكون دية جراحهم على النصف من دية المسلمين.

الثاني:أنّ ديتهم ثلث دية المسلم.و به قال الشافعي،و هو مرويّ عن:عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان،و قال به جماعة من التابعين.

الثالث:أنّ ديتهم مثل دية المسلمين.و به قال أبو حنيفة و الثوري و جماعة،و هو مروي عن ابن مسعود،و قد روي عن عمر و عثمان،و قال به جماعة من التابعين. (3)

و لندرس أدلّة أقوالهم.

دليل القول بالمساواة

اشارة

استدلّت الحنفية على مماثلة الديتين بوجوه:

ص:63


1- 1) .المبسوط:84/26.
2- 2) .هذا يؤيد انّ ما نقلنا من القول بالنصف مطلقاً ذكراناً و إناثاً،خلافاً لما نسبه إليهم الفقيه المعاصر.فلاحظ.
3- 3) .بداية المجتهد:414/2.
1.قوله تعالى: «وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ». 1
اشارة

و المراد منه ما هو المراد من قوله في قتل المؤمن: «وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ» ،و هو الدية الكاملة.

2.و في حديث ابن عباس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودي العامريين اللّذين قتلهما عمرو بن أُميّة الضمري و كانا مستأمنين عند رسول اللّه بدية حرّين مسلمين،و قال صلى الله عليه و آله و سلم:«دية كلّ ذي عمد في عمده ألف دينار».

3.و عن أبي بكر و عمر أنّهما قالا:دية الذمّيّ مثل دية الحر المسلم.

4.و قال علي عليه السلام:إنّما أعطيناهم الذمة و بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا و أموالهم كأموالنا.

5.و ما نقلوا فيه من الآثار بخلاف هذا لا يكاد يصحّ،فقد روي عن معمر قال:سألت الزهري عن دية الذمّيّ،فقال:مثل دية المسلم،فقلت:

إنّ سعيداً يروي بخلاف ذلك،قال:ارجع إلى قوله تعالى: «وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ» .فهذا بيان أنّ الرواية الشاذة لا تقبل فيما يدلّ على نسخ الكتاب،ثمّ تأويله:انّه قضى بثُلْث الدية في سنة واحدة فظن الراوي:أنّ ذلك جميع ما قضى به،و عند تعارض الأخبار يترجّح المثبت للزيادة.

6.و قوله:«المسلمون تتكافأ دماؤهم»لا يدلّ على أنّ دماء غيرهم لا تكافئهم،فتخصيص الشيء بالذكر لا يدلّ على نفي ما عداه،و المراد بالآثار:نفي المساواة بينهما في أحكام الآخرة دون أحكام الدنيا،فإنّا نرى المساواة بيننا و بينهم في بعض أحكام الدنيا،و لا يجوز أن يقع الخلف في خبر اللّه تعالى. (1)

هذه هي أدلّة القول بالمساواة الّتي ساقها السرخسي في كتابه،و إليك

ص:64


1- 2) .المبسوط:85/26.

دراستها.

أقول:لا صلة للآية بالمقام و ذلك لوجهين:

1.المقتول في الآية مؤمن لا ذمّيّ

إنّ الاستدلال بالآية على أنّ دية الذمّيّ تساوي دية المسلم نشأ عن الغفلة عن أنّ مرجع الضمير في قوله: «وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ...» هو المؤمن،لا الكافر،و عليه يكون المقتول مؤمناً من قوم كافرين،لا كافراً.و الدليل سياق الآية،و إليك لفظها في مقاطع ثلاثة:

1. «وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا».

2. «فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ».

3. «وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ».

و قد بُيِّن في هذه المقاطع الثلاثة أحكام قتل المؤمن.

إذا كان المقتول مؤمناً من قوم مؤمنين فتجب الكفّارة و الدية معاً.

و إن كان المقتول مؤمناً لكن من قوم محاربين،فتجب الكفّارة لقتل المؤمن خطأ،و لا تجب الدية،لأنّ المحارب لا يرث شيئاً من المؤمن.

و إن كان المقتول مؤمناً لكن لا من قوم محاربين،بل من قومٍ بينكم و بينهم ميثاق من الذمّة و الأمان،فيجب الأمران:الكفّارة و الدية.

و إن أردت توضيح مفاد الآية فاجعل الفقرات الثلاث كلاً تلو الأُخرى:

1. «مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ...».

ص:65

2. «فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ...».

3. «وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ...».

فالمقتول في الفقرتين الأُوليين مؤمن بتصريح الآية،فيكون المقتول في الثالثة أيضاً مؤمناً بحكم وحدة السياق،كما هو الظاهر.

2.إيجاب الكفّارة دليل على كون المقتول مؤمناً

ثمّ إنّ في نفس الآية دلالة واضحة على أنّ المقتول خطأ مؤمن لا كافر ذمّي،و هي إيجاب الكفّارة و التوبة على القاتل في الآية وراء الدية، قال سبحانه: «وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ». 1

و لا كفّارة في قتل الكافر خطأ،و لا توبة إجماعاً.

و قد خاض جماعة من المفسّرين في تفسير الآية فذكروا في مرجع الضمير وجهين دون أن يرجّحوا أحدهما على الآخر:

الأوّل:انّ المقتول كافر،إلاّ أنّه يلزم الدية على القاتل،لأنّ له و لقومه عهداً.

الثاني:انّه مؤمن،فعلى قاتله دية يؤديها إلى قومه من المشركين لأنّهم أهل ذمة. (1)

و قد أطنب الرازي في تفسير الآية (2)و رجّح كون المقتول،هو المؤمن فيما بين أهل العهد و الذمة و قال:

ص:66


1- 2) .التبيان:292/3؛ [1]مجمع البيان:91/2؛و تفسير القرطبي:325/5.
2- 3) .راجع التفسير الكبير:235/10. [2]

إنّ المراد منه المسلم،و ذلك لأنّه تعالى ذكر أوّلاً حال المسلم القاتل خطأ،ثمّ ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل الحرب، ثمّ ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل العهد و أهل الذمّة،و لا شكّ انّ هذا ترتيب حسن،فكان حمل اللفظ عليه جائزاً،و الّذي يؤكد صحّة هذا القول أنّ قوله: «وَ إِنْ كانَ» لا بدّ من إسناده إلى شيء جرى ذكره فيما تقدّم،و الّذي جرى ذكره فيما تقدّم هو المؤمن المقتول خطأ، فوجب حمل اللفظ عليه.

ثمّ إنّ القائلين بأنّ المقتول ذمّيّ،اعترضوا على أصحاب القول الآخر(المقتول مؤمن) بوجوه ثلاثة:

1.إنّ المسلم المقتول خطأ سواء أ كان من أهل الحرب أو كان من أهل الذمة فهو داخل تحت قوله: «وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ» ،فلو كان المراد من هذه الآية هو المؤمن لكان هذا عطفاً للشيء على نفسه و انّه لا يجوز،بخلاف ما إذا كان المؤمن المقتول خطأ من سكّان دار الحرب فانّه تعالى أعاده لبيان انّه لا تجب الدية في قتله.

حاصل الإشكال:لو كان المقتول خطأ هو المؤمن كان اللازم الاقتصار بالشق الأوّل،دون ذكر الشق الثالث لأنّه داخل تحته.

و لمّا كان لازم ذلك،هو ترك الشق الثاني أيضاً،لأنّ المقتول فيه أيضاً مؤمن،استدركه و قال بخلاف ما إذا كان المقتول خطأ من سكان دار الحرب فانّه تعالى أعاده لبيان انّه لا تجب الدية في قتله.

يلاحظ عليه:بأنّ المقتول في الشقوق الثلاثة هو المؤمن،لكن باختلاف في الدار و الأُسرة المنتمي إليها،فالمؤمن المقتول خطأ:

إمّا أن يكون من سكان دار الإسلام ففيه الدية و الكفّارة.

ص:67

أو من سكان دار الحرب ففيه الكفّارة دون الدية.أمّا الأوّل لأجل كون المقتول مؤمناً،و أمّا الثاني فلأنّه لا يرث الكافر المؤمن.

أو من سكان مواضع أهل الذمّة و العهد.

و إذا اختلفت القيود المؤثرة في الحكم،لا يكون القسم الثالث من قبيل عطف الشيء على نفسه.

الثاني:إذا كان المقتول مؤمناً،فكيف يرثه قومه الكفّار؟! لأنّ المفروض أنّه مؤمن و لكن قومه كفّار لا يرثون بخلاف ما إذا كان المقتول كافراً،حيث يرثه قومه الكافرون.

يلاحظ عليه:أنّه لو قلنا بشمول«لا توارث بين أهل ملّتين»للدية أيضاً يُقيّد إطلاقه بما إذا كان المقتول مؤمناً و قتله مسلم خطأ،فيرثه قومه و إن كانوا كافرين.

على أنّه يمكن أن يكون المراد انّ أهله المسلمين يرثونه منهم لا كلّهم.

الثالث:انّ قوله: «وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» يقتضي أن يكون من ذلك القوم في الوصف الّذي وقع التنصيص عليه و هو حصول الميثاق بينهما،فإنّ كونه منهم مجمل لا يدرى أنّه منهم في أي الأُمور،و إذا حملناه على كونه منهم في ذلك الوصف زال الإجمال فكان ذلك أولى،و إذا دلّت الآية على أنّه منهم في كونه معاهداً وجب أن يكون ذمياً أو معاهداً مثلهم.

يلاحظ عليه:بأنّ الإجمال كما يرتفع بكون المقتول أيضاً ممّن له الميثاق كقومه،يرتفع بكونه مؤمناً و لكن منهم،من حيث الدم و الوطن و العيش بينهم.

و بالجملة:هذه الوجوه،لا تضر بظهور الآية في أنّ المقتول مؤمن لا ذمّيّ كما لا يخفى.

ص:68

و الحاصل:أنّ الآية في عامّة مواضعها بصدد بيان حكم قتل المؤمن،و أنّه على صور ثلاث:إمّا أن يكون من أُمّة مسلمة،أو من قوم عدو محارب،أو من قوم لهم ذمّة،فيجب الأمران في الأُولى و الثالثة دون الثانية.بل فيها الكفّارة فقط.

و بذلك يظهر ضعف ما ذيّل به السرخسي كلامه،و قال:

إنّه لا يصحّ نسخ الكتاب بالرواية أوّلاً.

إنّ الرواية شاذة ثانياً.

يُردّ قول سعيد بن المسيب بالرجوع إلى الآية ثالثاً.

و ذلك لأنّ الجميع فرع كون المقتول ذمّيّاً،لا مؤمناً.

دراسة سائر الوجوه

قد عرفت عدم دلالة الآية على ما تبنّوه،و إليك دراسة سائر أدلّتهم.

2.رواية ابن عباس

أخرج الترمذي،عن عكرمة،عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ودي العامريّين بدية المسلمين و كان لهما عهد من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

قال أبو عيسى(مؤلف السنن) هذا حديث غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه. (1)

و يكفي في ضعف الرواية أنّ الراوي إباضي،تجنّبه مسلم و روى له قليلاً مقروناً بغيره،و أعرض عنه مالك،و تحايده،إلاّ من حديث أو حديثين قال عبد اللّه ابن الحارث:دخلت على علي بن عبد اللّه(بن عباس) فإذا عكرمة في وثاق عند

ص:69


1- 1) .سنن الترمذي:30/4،كتاب الديات،الباب12،رقم 1404؛سنن النسائي:44/4 باب ذكر الدية من الورق.

باب الحُشّ،فقلت:أ لا تتقي اللّه؟! فقال:إنّ هذا الخبيث يكذب على أبي. (1)

3.ما نقل عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم

ما نقل عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«دية كل ذي عمد في عمده ألف دينار».

أقول:لم نقف عليه مسنداً في الصحاح و السنن،و على فرض الثبوت،فهو منصرف إلى دية المسلم.

و على فرض العموم أو الإطلاق يقيّد بما دلّ على أنّه أقلّ من دية المسلم.

4.ما نقل عن علي عليه السلام

نقل عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال:«إنّما أعطيناهم الذمّة و بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا و أموالهم كأموالنا»،و الرواية على فرض صحّة النقل،فإنّما تدلّ على حقن دمائهم و حرمتها،و أمّا تكافؤ دمائهم و مساواتها مع المؤمنين فلا يدلّ عليه كلامه.

كيف؟! و هو الراوي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«المؤمنون تتكافأ دماؤهم،و هم يد على من سواهم،يسعى بذمّتهم أدناهم،ألا لا يقتل مؤمن بكافر و لا ذو عدو في عدوه». (2)

فتخصيص التكافؤ بالمؤمنين لا يخلو من دلالة على حصره بهم.و لو كان هنا تكافؤ في الدماء فلما ذا قال:«ألا لا يقتل مؤمن بكافر»؟

ص:70


1- 1) .ميزان الاعتدال:94/3،رقم الترجمة5716.
2- 2) .سنن أبي داود:181/4رقم 4520. [1]
5.ما نقله عن الشيخين

ما رواه عن أبي بكر و عمر أنّهما قالا:دية الذمّيّ في مثل دية الحرّ المسلم.

لكن قول الصحابي أو فتواه ليس حجّة على غيره ما لم يرفعه إلى الرسول.

مضافاً إلى أنّه معارض بما رواه ابن المسيب من أنّ عمر قضى في دية اليهودي و النصراني بأربعة آلاف درهم و في دية المجوسي بثمانمائة. (1)

و به يظهر ضعف الاستدلال بما روي عن عبد اللّه بن مسعود قال:من كان له عهد أو ذمة فديته دية المسلم. (2)إذ الحديث موقوف غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

و بالجملة:الروايات عن الصحابة مختلفة متعارضة أوّلاً،و موقوفات ثانياً.

دليل القول بالنصف

ذهبت المالكية و الحنابلة إلى أنّ دية الكتابي (اليهودي و النصراني) نصف دية المسلم.

و استدلّ عليه بما رواه أصحاب السنن بألفاظ مختلفة،تنتهي أسانيده إلى عمرو بن شعيب،عن أبيه عن جدّه،و إليك ما نقلوه.

1.أخرج الترمذي باسناده،عن أُسامة بن زيد،عن عمرو بن شعيب،عن أبيه،عن جده:«دية عقل الكافر نصف دية عقل المؤمن». (3)

2.أخرج النسائي،عن سليمان بن موسى-و ذكر كلمة معناها-عن عمرو ابن شعيب،عن أبيه،عن جدّه،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«عقل أهل الذمّة نصف عقل المسلمين و هم اليهود و النصارى».

ص:71


1- 1) .سنن البيهقي:100/8،باب دية أهل الذمّة.
2- 2) .سنن البيهقي:103/8.
3- 3) .سنن الترمذي:25/4،كتاب الديات برقم 1413. [1]

3.و أخرج بسند آخر،عن أُسامة بن زيد،عن عمرو بن شعيب،عن أبيه،عن عبد اللّه بن عمرو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:عقل الكافر نصف عقل المؤمن. (1)

4.أخرج ابن ماجة عن عبد الرحمن بن عياش،عن عمرو بن شعيب،عن أبيه،عن جدّه،انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قضى:«انّ عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين،و هم اليهود و النصارى». (2)

5.أخرج أبو داود،عن محمد بن إسحاق،عن عمرو بن شعيب،عن أبيه،عن جدّه،عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:«دية المعاهد نصف دية الحرّ». (3)

قلت:الأسانيد تنتهي في الجميع إلى عمرو بن شعيب،و هو مختلف فيه.

وثّقه ابن معين و ابن راهويه،و قال الأوزاعي:ما رأيت قرشياً أكمل من عمرو بن شعيب.

يقول الذهبي بعد نقل هذه الكلمات:

قلت:و مع هذا القول فما احتجّ به البخاري في جامعه،و قال أبو زرعة:إنّما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جدّه،قالوا:إنّما سمع أحاديث يسيرة و أخذ صحيفة كانت عنده فرواها.

و قال عبد الملك الميموني:سمعت أحمد بن حنبل يقول:عمرو بن شعيب له أشياء مناكير و انّما نكتب حديثه لنعتبر به،فأمّا أن يكون حجّة فلا.

و قال ابن شيبة:سألت ابن المديني،عن عمرو بن شعيب؟ فقال:...و ما

ص:72


1- 1) .سنن النسائي:45/4،باب حكم الدية.
2- 2) .سنن ابن ماجة:883/2،باب دية الكافر برقم 2644.
3- 3) .سنن أبي داود:194/4،باب 5 [1] دية الذمي برقم 4583.و لاحظ سنن البيهقي:101/8.

روى عمرو عن أبيه عن جدّه،فإنّما هو كتاب وجده فهو ضعيف. (1)إلى غير ذلك من الكلمات الّتي تسلب الاعتماد على حديثه.

دليل القول بالثلث

ذهبت الشافعية إلى أنّ دية اليهودي و النصراني و المعاهد،و المستأمن ثلث دية المسلم:

و استدلّ عليه بأمرين:

1.ما رواه البيهقي عن سعيد بن المسيب:انّ عمر بن الخطاب قضى في دية اليهودي و النصراني بأربعة آلاف و في دية المجوسي بثمانمائة درهم. (2)

و نقله الترمذي مرسلاً،و قال:و روي عن عمر بن الخطاب أنّه قال:دية اليهودي و النصراني أربعة آلاف درهم ودية المجوسي ثمانمائة درهم،و بهذا يقول مالك بن أنس و الشافعي و الحنفي. (3)

يلاحظ عليه:أنّ سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر،أوّلاً،و على فرض السماع إنّ فعل الصحابي ليس بحجّة ما لم يسنده إلى النبي.

2.ما رواه أيضاً عن عمرو بن شعيب:إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فرض على كلّ مسلم قتل رجلاً من أهل الكتاب أربعة آلاف(درهم). (4)

يلاحظ عليه:أنّ الحديث موقوف غير موصول،أضف إلى ما ذكرنا ما في عمرو بن شعيب-الّذي كان جدّه من الصحابة-من الضعف.

ص:73


1- 1) .لسان الميزان:3 برقم 6382،لاحظ بقية كلامه.
2- 2) .سنن البيهقي:100/8.
3- 3) .سنن الترمذي:26/4،كتاب الديات،ذيل حديث 1412. [1]
4- 4) .سنن البيهقي:101/8.

دليل القول بالتفصيل

نسب إلى أحمد أنّه قال:إن كان القتل عمداً فدية المسلم،و إن كان خطأ فنصف دية المسلم.حكاه الشيخ في«الخلاف»،و لعله لأجل حمل ما دلّ على أنّ ديته دية المسلم على العمد،و ما دلّ على النصف على الخطأ.

و حصيلة الكلام:إنّ ما رواه أهل السنّة في مورد دية الذمّيّ،و ما عمل به الخلفاء أو نقل عن الصحابة و التابعين مختلفة،مضطربة جدّاً،لا يمكن الجمع بين الروايات و الآثار،إلاّ جمعاً تبرعياً بلا شاهد كما في القول بالتفصيل،و من لاحظ سنن البيهقي يرى تضارب الروايات و الآثار بنحو واضح يسلب الاعتماد عليها.

دراسة المسألة على ضوء أحاديث الشيعة

اشارة

إلى هنا تمّت دراسة المسألة على ضوء أُصول أهل السنّة،و إليك دراستها على ضوء أُصولنا فنقول:

المشهور هو أنّ دية الذمّيّ هو ثمانمائة،و هناك قولان أو احتمالان آخران:

1.دية اليهودي و النصراني و المجوسي دية المسلم.

2.دية اليهودي و النصراني أربعة آلاف درهم.(ثلث الدية).

و نسبهما المحقّق إلى بعض الروايات دون أن يذكر لهما قائلاً.و سيوافيك الكلام فيهما بعد الفراغ من بيان أدلّة القول الأوّل.

ص:74

1
اشارة

دية الذمّيّ ثمانمائة درهم

اشتهر بين الأصحاب قديماً و حديثاً أنّ دية الحرّ الذمي هو ثمانمائة،ودية الحرّة الذمّيّة نصفها.

و لنذكر بعض الكلمات قبل الروايات:

1.قال المفيد:ودية أعضاء أهل الذمّة بحساب ديات أنفسهم،و هي ثمانمائة درهم للرجال منهم،و أربعمائة للنساء. (1)

2.قال المرتضى:و ممّا انفردت به الإمامية:القول بأنّ دية أهل الكتاب و المجوس،الذكر منهم ثمانمائة درهم و الأُنثى أربعمائة درهم. (2)

3.قال الشيخ:دية اليهودي و النصراني مثل دية المجوسي ثمانمائة درهم. (3)

4.و قال أيضاً:ودية الذمي ثمانمائة درهم جياداً،أو قيمتها من العين،ودية

ص:75


1- 1) .المقنعة:765.
2- 2) .الانتصار:545المسألة 306،كتاب الحدود و القصاص و الديات.
3- 3) .الخلاف:263/5،المسألة 77.

نسائهم على النصف من دية رجالهم. (1)

5.قال أبو الصلاح:ودية الحرّ الذمّيّ،ثمانمائة درهم وضحاً،ودية الحرة الذمية نصف دية الحرّ الذمي. (2)

6.قال سلاّر:دية الذمّيّ إن كان رجلاً ثمانمائة درهم،و إن كانت امرأة أربعمائة درهم. (3)

7.قال ابن البراج:ودية الكافر ثمانمائة درهم. (4)

8.قال ابن زهرة:ودية اليهودي و النصراني و المجوسي ثمانمائة درهم بدليل إجماع الطائفة. (5)

9.قال الكيدري:ودية اليهودي و النصراني و المجوسي ثمانمائة درهم. (6)

10.و قال ابن إدريس:ودية الرجل الذمّيّ ثمانمائة درهم جياداً أو قيمتها من الذهب،ودية نسائهم،على النصف من دية ذكرانهم،ودية المجوسي ودية الذمّي سواء،لأنّ حكمهم،حكم اليهود و النصارى. (7)

11.قال المحقّق:ودية الذمّيّ ثمانمائة درهم يهودياً كان أو نصرانياً أو مجوسياً،ودية نسائهم على النصف. (8)

ص:76


1- 1) .النهاية:749. [1]
2- 2) .الكافي:391. [2]
3- 3) .المراسم:236.
4- 4) .المهذب:486/2.
5- 5) .غنية النزوع:414/2. [3]
6- 6) .إصباح الشيعة:500. [4]
7- 7) .السرائر:352/3.
8- 8) .الشرائع:1018/4. [5]

12.و قال أيضاً:و في دية الذمّيّ روايات،و المشهور ثمانمائة درهم،و ديات نسائهم على النصف من ذلك. (1)

13.قال ابن سعيد الحلّي:ودية الحرّ الذمّيّ ثمانون ديناراً و الذمّيّة نصفها. (2)و ثمانون ديناراً يعادل ثمانمائة درهم تقريباً.

14.و قال العلاّمة الحلّيّ:و أمّا الذمّيّ الحرّ فديته ثمانمائة درهم،سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً،ودية المرأة الحرّة منهم أربعمائة درهم. (3)

15.و قال أيضاً:دية الذمّيّ من اليهود و النصارى و المجوس ثمانمائة درهم،ودية نسائهم على النصف. (4)

إلى غير ذلك من كلمات علمائنا المتماثلة في اللفظ و المعنى إلى العصر الحاضر.

و قال أخيرهم لا آخرهم الإمام الخميني قدس سره:دية الذمّيّ الحرّ ثمانمائة درهم،يهودياً كان أو نصرانياً أو مجوسياً،ودية المرأة الحرّة منهم نصف دية الرجل. (5)

و يدلّ على هذا القول الروايات المتضافرة

الّتي تناهز العشر أو تزيد عليها،و هي بين صحاح و حسان و هي على طوائف:

ص:77


1- 1) .المختصر النافع:306.
2- 2) .الجامع للشرائع:589. [1]
3- 3) .قواعد الأحكام:668/2.
4- 4) .التحرير:568/5،المسألة 722. [2]
5- 5) .تحرير الوسيلة:503/2- 504. [3]
الطائفة الأُولى:دية الذمّيّ ثمانمائة درهم

قد وردت روايات تدلّ على أنّ دية الذمّيّ،أو دية اليهودي و النصراني و المجوسي ثمانمائة درهم،دلالة مطابقية أو التزامية،نظير:

1.صحيحة أو حسنة ابن مسكان،عن أبي عبد اللّه عليه السلام:أنّه قال:«دية اليهودي و النصراني و المجوسي ثمانمائة درهم». (1)

2.موثّقة سماعة بن مهران،قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:كم دية الذّمّي؟ قال:«ثمانمائة درهم». (2)

3.صحيحة ليث المرادي قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن دية النصراني و اليهودي و المجوسي؟ فقال:«ديتهم جميعاً سواء،ثمانمائة درهم،ثمانمائة درهم». (3)

4.معتبر أبي بصير قال:سألت أبا عبد اللّه عن دية اليهود و النصارى و المجوس؟ قال:«هم سواء ثمانمائة درهم». (4)

ص:78


1- 1) .الوسائل:19،الباب 13 من أبواب ديات النفس،الحديث2،9. [1]
2- 2) .الوسائل:19،الباب 13 من أبواب ديات النفس،الحديث2،9. [2]
3- 3) .الوسائل:19،الباب 13 من أبواب ديات النفس،الحديث5،8. [3]
4- 4) .الوسائل:19،الباب 13 من أبواب ديات النفس،الحديث5،8. [4]

و في صدر السند إسماعيل بن مهران،و طريق الفقيه إليه صحيح،و في أثنائه درست بن أبي منصور،و هو ممّن يروي عنه ابن أبي عمير و البزنطي بطريق صحيح،و لذلك قلنا:«معتبر أبي بصير».

5.خبر محمد بن قيس،عن أبي جعفر في حديث قال:«دية الذمّيّ ثمانمائة درهم». (1)

و إنّما وصفناه بالخبر،لتردّد محمد بن قيس بين الثقة و الممدوح و المهمل و الضعيف.و الثقة منهم،هو محمد بن قيس البجلي،و يميّز عن غيره برواية عاصم بن حُميد عنه.

6.صحيح بريد العجلي قال:سألت أبا عبد اللّه عن رجل فقأ عين نصراني؟ قال:«إنّ دية عين النصراني أربعمائة درهم». (2)و هو يدلّ بالملازمة على أنّ دية النفس هو ثمانمائة،لأنّ في العينين دية كاملة.

7.خبر علي بن جعفر عن أخيه قال:سألته عن دية اليهودي و النصراني و المجوسي كم هي؟ سواء؟ قال:«ثمانمائة،ثمانمائة كلّ رجل منهم». (3)و يدلّ بالمفهوم على أنّ دية الأُنثى منهم،تنقص منه.

8.و في«دعائم الإسلام»عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال:«إذا قتل المسلم اليهودي،أو النصراني،أُدِّب أدباً بليغاً،و غرم ديته،و هي ثمانمائة درهم». (4)

9.فقه الرضا:«ودية الذمّيّ الرجل ثمانمائة درهم،و المرأة على هذا الحساب أربعمائة درهم». (5)

ص:79


1- 1) .الوسائل:19،الباب 13 من أبواب ديات النفس،الحديث3،4،6. [1]
2- 2) .الوسائل:19،الباب 13 من أبواب ديات النفس،الحديث3،4،6. [2]
3- 3) .الوسائل:19،الباب 13 من أبواب ديات النفس،الحديث3،4،6. [3]
4- 4) .مستدرك الوسائل:18،الباب11 من أبواب ديات النفس،الحديث 1،2. [4]
5- 5) .مستدرك الوسائل:18،الباب11 من أبواب ديات النفس،الحديث 1،2. [5]
الطائفة الثانية:المرتكز عند الصحابة هو ثمانمائة درهم

يستفاد من بعض الروايات أنّ المرتكز لدى الصحابة في دية اليهودي و النصراني هو ثمانمائة درهم،و كان الشك عالقاً بدية المجوسي،نظير:

10.صحيح سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«بعث النبي خالد ابن الوليد إلى البحرين فأصاب بها دماء قوم من اليهود و النصارى و المجوس،فكتب إلى النبي:إنّي أصبت دماء قوم من اليهود و النصارى فوديتهم ثمانمائة درهم،ثمانمائة،و أصبت دماء قوم من المجوس و لم تكن عهدت إليّ فيهم عهداً،فكتب إليه رسول اللّه:إنّ ديتهم مثل دية اليهود و النصارى،و قال:إنّهم أهل الكتاب». (1)

رواه الشيخ عن ابن أبي عمير و سنده إلى كتبه في«الفهرست»صحيح.

و ربّما تضعّف الرواية بأنّ التاريخ لم يسجّل بعث خالد بن الوليد إلى البحرين بينما بعث إلى أماكن أُخرى،و الإشكال مبني على تصوّر أنّ المراد من البحرين ما هو المتبادر في عصرنا هذا،و لكن الحقيقة غير ذلك حيث إنّ المتبادر

ص:80


1- 1) .الوسائل:19،الباب 13 من أبواب ديات النفس،الحديث7. [1]

من«البحرين»في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و بعده،غير المتبادر منه في الأعصار المتأخرة،فإنّه في أعصارنا عبارة عن الجزيرة الخاصة التي يحيطها الماء من كلّ جانب،و قد اعترفت إيران باستقلالها،كما اعترفت الأُمم المتحدة به،و لكنّه في عصر الرسول،كان يطلق على منطقة وسيعة.

يقول ياقوت الحموي:و هو اسم جامع لبلاد على ساحل بحر الهند بين البصرة و عمان-إلى أن قال:-البحرين من أعمال العراق و حدّه من عمان ناحية جُرّفار،و اليمامة على جبالها،و ربّما ضُمَّت اليمامة إلى المدينة و ربّما أُفردت.هذا كان أيّام بني أُميّة و لمّا ولي بنو العباس صيّروا عمان و البحرين و اليمامة عملاً واحداً. (1)

و قد أمدَّنا الجغرافيُّ الهمدانيّ بمعلومات قيّمة عن البحرين،فتحدث عن المدن و القرى و من يسكنها من القبائل،فمن ذلك قوله:مدينة البحرين العظمى هجر،و هي سوق بني محارب من عبد القيس،و منازلها ما دار بها من قرى البحرين،فالقطيف موضع نخل و قرية عظيمة الشأن و هي ساحل و سكانها جذيمة من عبد القيس سيدهم ابن مِسْمار و رهطه،ثمّ العُقير من دونه و هو ساحل و قرية دون القطيف من العَطف،و به نخل،و يسكنه العرب من بني محارب،ثمّ السِّيف سِيْفُ البحر،و هو من أوال،على يوم،و أوال جزيرة في وسط البحر مسيرة يوم في يوم،و فيها جميع الحيوان كلّه إلاّ السِّباع،ثمّ السَّتار و تعرف بستار البحرين،و هي منازل بني تميم فيه متصلة البيضاء و كان بها نخل و سكن،و الفطح و هو طريق بين الستار و البحر إلى البصرة،و من المياه المتصلات معقلات ثمّ خمس ثمّ معقلات طويلع و هو عن يمين سنام ثمّ كاظمة البحور...

فالأحساء منازل و دور

ص:81


1- 1) .معجم البلدان:346/1، [1]مادة بحرين.

لبني تميم،ثمّ لسعد من بني تميم،و كان سوقها على كثيب يسمى الجرعاء تتبايع عليه العرب،و عن يمين البحرين و دونها يبرين، و الخِنّ،موضع فيه نخل كثير لبني وَدَعة،و يبرين نخل و حصون و عيون جارية و غير جارية و سِبَاخ،و البحرين إنّما سمّيت البحرين من أجل نهرها مُحلِّم و لنهر«عين الجريب». (1)

و قد بعث النبي خالد بن الوليد إلى«بني جذيمة»من بني عامر بن لؤي. (2)و لعلّه أصاب في سفره هذا بما أصاب،و قد عرفت ما في كلام الهمداني من أنّ القطيف موضع نخل و قرية عظيمة الشأن و هي ساحل و ساكنها«جذيمة من عبد القيس».

ص:82


1- 1) .صفة جزيرة العرب:279- 281. [1]
2- 2) .السيرة النبوية:77/4،باب مسير خالد بن الوليد بعد الفتح إلى بني جذيمة. [2]
الطائفة الثالثة:ما يخصّ المجوس بالمساواة بهما

و قد وردت روايات تحكي عن أنّ السائل أو عامة الناس كانوا يعرفون مقدار دية اليهودي و النصراني،و لكن كانوا في شك في دية المجوسي و انّها هل تساوي دية الطائفتين أو لا؟ نظير:

11.صحيحة أبان بن تغلب قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:إبراهيم يزعم أنّ دية اليهودي و النصراني و المجوسي سواء؟ فقال:«نعم،قال الحق». (1)و المراد بإبراهيم هو إبراهيم الكرخي من فقهاء السنّة.

12.موثق زرارة قال:سألته عن المجوس ما حدّهم؟ فقال:«هم من أهل الكتاب و مجراهم مجرى اليهود و النصارى في الحدود و الديات». (2)

و الحديثان بصدد بيان التسوية،و أمّا ما هو مقدار الدية،فلا يدلاّن على شيء منه،فيحتمل أن يكون،ديتهم،دية المسلم،أو ثمانمائة،أو أربعة آلاف درهم.

و مع ذلك لا يخلو من إشعار لما هو المشهور،إذ لو كان المراد هو مماثلة ديتهم مع دية المسلم لقال ديتهم كدية المسلم،و يؤيد ما ذكر، صحيحي ابن مسكان و ليث المرادي الماضيين (الحديث الأوّل و الثالث) فانّ التعبير في الجميع واحد،و قد جاء التصريح بمقدار الدية في الأخيرين.

ص:83


1- 1) .الوسائل:19،الباب 13 من أبواب ديات النفس،الحديث1،11. [1]
2- 2) .الوسائل:19،الباب 13 من أبواب ديات النفس،الحديث1،11. [2]
الطائفة الرابعة:في أنّ العدول عن ثمانمائة لمصلحة

و قد وردت رواية تعرب عن كون ثمانمائة هو الحكم الشرعي،غير أنّ الإمام يحكم بتغريمه بأكثر منها لصيانة دماء الأبرياء من أهل الذمة،نظير:

13.موثّقة سماعة قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مسلم قتل ذمّياً؟ فقال:«هذا شيء شديد لا يحتمله النّاس فليعط أهله دية المسلم حتّى ينكل عن قتل أهل السّواد،و عن قتل الذمّي،ثمّ قال:لو أنّ مسلماً غضب على ذمّي فأراد أن يقتله و يأخذ أرضه و يؤدّي إلى أهله ثمانمائة درهم إذاً يكثر القتل في الذمّيّين،و من قتل ذميّاً ظلماً فانّه ليحرم على المسلم أن يقتل ذميّاً حراماً ما آمن بالجزية و أدّاها و لم يجحدها». (1)

و الحديث يدلّ على وجود التفاوت بين الديتين،أعني:قوله:«فليعط أهله،دية المسلم».كما أنّ قوله:«و يؤدّي إلى أهله ثمانمائة درهم» يدلّ على أنّ الحكم الأوّلي و المسلّم بين المسلمين في عصر النبيّ و بعده في دية الذميّ هو ثمانمائة،و إنّما عدل الإمام عنه إلى كونها دية المسلم، لمصلحة ملزمة و قد أُشير إليها بقوله:«حتى ينكل عن قتل أهل السواد و عن قتل الذمّيّ».و يكون الحكم عندئذٍ أشبه بالحكم الولائي لدَرء المفسدة لا حكماً شرعياً كليّاً و إن فقد ملاكه.

و سيوافيك فقه الحديث عند الكلام في أدلّة القائلين بالمساواة.

ص:84


1- 1) .الوسائل:19،الباب14 من أبواب ديات النفس،الحديث1. [1]
الطائفة الخامسة:قتل المسلم بكافر مع ردّ فاضل الديتين

استفاضت الروايات على جواز قتل المسلم بكافر إذا ردّ فضل دية المسلم،و هي تنفي المماثلة بين الديتين و تثبت وجود التفاوت بين الديتين،و إن لم يعيّن مقدارها،و بالتالي تصلح لردّ القول بالمساواة:

14.روى الكليني بسند صحيح فيه محمد بن عيسى العبيدي-و هو أيضاً ثقة على المشهور-عن ابن مسكان،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

«إذا قتل المسلم يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً فأرادوا أن يقيدوا،ردّوا فضل دية المسلم و أقادوه». (1)

15.موثّقة سماعة،عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجل قتل رجلاً من أهل الذمّة؟ فقال:«هذا حديث شديد لا يحتمله الناس و لكن يعطي الذمّي دية المسلم ثمّ يقتل به». (2)

و المراد فضل ما بين الديتين.

16.صحيح أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:«إذا قتل المسلم النصراني فأراد أهل النصراني أن يقتلوه،قتلوه،و أدّوا فضل ما بين الديتين». (3)

17.صحيح أبي بصير قال:سألته عن ذمّي قطع يد مسلم؟ قال:«تقطع يده إن شاء أولياؤه و يأخذون فضل ما بين الديتين،و إن قطع المسلم يد المعاهد

ص:85


1- 1) .الوسائل:19،الباب47 من أبواب قصاص النفس،الحديث2. [1]
2- 2) .الوسائل:19،الباب47 من أبواب قصاص النفس،الحديث3،4. [2]
3- 3) .الوسائل:19،الباب47 من أبواب قصاص النفس،الحديث3،4. [3]

خُيّر أولياء المعاهد فإن شاءوا أخذوا دية المسلم،و إن شاءوا قطعوا يد المسلم و أدّوا فضل ما بين الديتين،و إذا قتله المسلم صنع كذلك». (1)

و لما كانت هذه الروايات معارضة لما دلّ على أنّ المسلم لا يقاد بكافر (2)،صار فقهاء الإمامية أمام هذه الروايات على طوائف:

أ.منهم من ردّ العمل بها كابن إدريس قال:لا يجوز قتل المسلم به مطلقاً،سواء أ كان معتاداً لقتل أهل الذمّة أو لا. (3)

ب.منهم مَن عمل بها على وجه الإطلاق و لم يشترط شيئاً (الاعتياد) كالصدوق في«المقنع»قال:و إن قطع المسلم يد المعاهد،خُيّر أولياء المعاهد،فإن شاءوا أخذوا دية يده،و إن شاءوا قطعوا يد المسلم و أدّوا إليه فضل ما بين الديتين،و إذا قتله المسلم صحّ كذلك. (4)

ج.و منه من حملها على المتعوّد لقتل الذميّ،كالشيخ في«النهاية»قال:إذا قتل المسلم ذمّيّاً عمداً،وجب عليه ديته و لا يجب عليه القود، إلاّ أن يكون معتاداً لقتل أهل الذمّة،فإن كان كذلك و طلب أولياء المقتول القود كان على الإمام أن يقيّده به بعد أن يأخذ من أولياء الذمّي ما يفضل من دية المسلم فيردّه على ورثته،فإن لم يردّوا أو لم يكن معتاداً فلا يجوز قتله به على حال. (5)

و يدلّ على مختار الشيخ ما رواه إسماعيل بن الفضل عن الصادق عليه السلام قال:

ص:86


1- 1) .الوسائل:19،الباب2- من أبواب قصاص الطرف،الحديث1. [1]
2- 2) .الوسائل:19،الباب47 من أبواب قصاص النفس،الحديث1 و غيره.
3- 3) .السرائر:352/3.
4- 4) .المقنع:191. [2]
5- 5) .النهاية:749. [3]

سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن دماء اليهود و النصارى هل عليهم و على من قتلهم شيء إذا غشّوا المسلمين و أظهروا العداوة لهم؟ قال:«لا،إلاّ أن يكون متعوّداً لقتلهم»،قال:و سألته عن المسلم هل يقتل بأهل الذمّة و أهل الكتاب إذا قتلهم؟ قال:«لا،إلاّ أن يكون معتاداً لذلك لا يدع قتلهم، فيقتل و هو صاغر». (1)

و على كلّ تقدير فالروايات صالحة لردّ القول بالمساواة و إن لم تُقدِّر مقدار الدية.

و هذه الروايات المتضافرة مع الإجماع بين المتقدّمين و الشهرة من المتأخّرين يُشرف الفقيه على القطع بأنّ دية الذمّي لا تتجاوز عن ثمانمائة،و لأجل إيقاف القارئ على موقف المتأخّرين من الحكم المجمع عليه بين المتقدّمين،نذكر شيئاً من آرائهم.

موقف المتأخّرين من الحكم المشهور

قد عرفت أنّ الرأي السائد بين القدماء إلى عصر العلاّمة هو أنّ دية الذمّي ثمانمائة درهم،و يعلم ممّا ذكره الفقيه المتتبع السيّد العاملي اتّفاق المتأخرين عليه أيضاً.

قال في«مفتاح الكرامة»بعد قول العلاّمة«فديته ثمانمائة درهم»:إجماعاً كما في«الانتصار»و«الخلاف»و«الغنية»و«كنز العرفان»،و هو المشهور رواية و فتوى كما في«كشف اللثام»و أشهر فيهما كما في«الروضة»،و المشهور في عمل الأصحاب كما في«المقتصر»،و المشهور كما في«النافع»و«كشف الرموز»و«المهذب البارع»و«التنقيح»و«ملاذ الأخيار»،و عليه عامّة أصحابنا إلاّ النادر كما في«الرياض».

ص:87


1- 1) .الوسائل:19،الباب47 من أبواب قصاص النفس،الحديث1 و غيره. [1]

و الأخبار بذلك متضافرة و هي سبعة أخبار أو أكثر و فيها الصحيح و المعتبر،معتضدة بالأصل،و الشهرات،و الإجماعات،و مخالفة العامة لأنّهم أطبقوا في دية اليهودي و النصراني على خلافنا،و اختلفوا على أربعة أقوال:فمن قائل:إنّ ديته ثلث دية المسلم،و قائل بأنّها نصفها،و قائل:

بأنّها دية المسلم،و قائل:إن كان عمداً فديته و إن كان خطأ فنصف ديته.(نعم) وافقنا في المجوسي مالك و الشافعي. (1)

مقتضى الأصل العملي في المسألة

إنّ مقتضى الأصل العملي في المسألة هو البراءة من الزائد على ثمانمائة،لأنّه من قبيل دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الاستقلاليّين.

فإن قلت:إنّ المقام من قبيل الشك في المحصِّل،لأنّه يعلم باشتغال ذمّته بالدية و يشك في أنّ محقّق الدية هل هو الأقل أو الأكثر؟

قلت:إنّ عنوان الدية كالعنوان المشير إلى ما اشتغلت به ذمّته و ليست لها أصالة و موضوعية،و ما هو الأصل إنّما هو اشتغال الذمّة بما هو مردّد بين الأقل و الأكثر.

هذا نظير ما إذا علم أنّه مديون لزيد و قد سجّله في«مذكرة»لكنّه فقدها فانّه لا يُلزم إلاّ بالأقل لا بالأكثر،بتوهم أنّ ذمّته مشغولة بما في «المذكّرة»،و لا يحصل اليقين بأداء ما فيها إلاّ بالعمل بالأكثر.

ص:88


1- 1) .مفتاح الكرامة:368/10. [1]قد عرفت أنّ عدد الروايات يُناهز العشر أو يتجاوزها.
2

ديته دية المسلم

ورد في بعض الروايات إنّ ديته كدية المسلم،و لم نعثر على قائل به من عصر الشيخ إلى عصرنا الحاضر،و نسبه المحقّق في«الشرائع» إلى بعض الروايات و قال:

و في بعض الروايات:دية اليهودي و النصراني و المجوسي دية المسلم.و في بعضها:دية اليهودي و النصراني أربعة آلاف.و الشيخ رحمه الله نزّلهما على من يعتاد قتلهم فيغلِّظ الإمام الدية بما يراه عن ذلك حسماً للجرأة. (1)

و ظاهر ذلك أنّه لم يجد قائلاً به و نسبه إلى بعض الروايات.

و مثله العلاّمة في«التحرير»قال:و في رواية ديته دية المسلم،و في أُُخرى:أربعة آلاف،و حملها الشيخ على من يعتاد قتلهم فيغلظ الإمام بما يراه حسماً للجرأة عليهم. (2)

و ربّما يتصوّر أنّه نفس خيرة الصدوق في«الفقيه»،و سيوافيك أنّ مختاره في«الفقيه»غير هذا.

ص:89


1- 1) .الشرائع:1018/4. [1]
2- 2) .التحرير:565/5. [2]

و على كلّ تقدير فيدلّ عليه:

1.صحيحة أبان بن تغلب،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«دية اليهودي و النصراني و المجوسي،دية المسلم». (1)

و الشيخ أخذ الرواية من كتاب إسماعيل بن مهران و لم يذكر سنده إلى الكتاب في المشيخة،و طريقه إليه في«الفهرست»ضعيف؛و لكن نقلها في«الفقيه» (2)،و سند الصدوق إليه صحيح،إذ في سنده إليه محمد بن موسى المتوكل و علي بن الحسين السعدآبادي،و قد ادّعى ابن طاوس الإجماع على وثاقة الأوّل،و الثاني مؤدِّب أبي غالب الزراري و معلمه،و لذلك قال الأردبيلي:و الرواية بين حسنة في النهاية على ما قال العلاّمة و ابن داود،و صحيحة على ما رأيته في الفقيه. (3)

2.صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«من أعطاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذمّة فديته كاملة».قال زرارة:فهؤلاء؟ قال أبو عبد اللّه عليه السلام :«و هؤلاء من أعطاهم ذمّة».

و في نسخة«الاستبصار»:ممّن أعطاهم. (4)

وجه الدلالة:أنّ زرارة تلقّى قوله:«من أعطاه رسول اللّه ذمّة فديته كاملة»قضيّة خارجية تختص بمن أعطاه شخص الرسول تلك الذمّة، و لذلك عاد و سأله عن المتواجدين في عصره من اليهود و النصارى و المجوس،فأجاب الإمام بأنّهم

ص:90


1- 1) .الوسائل:19،الباب14 من أبواب ديات النفس،الحديث2. [1]
2- 2) .الفقيه:122/4 برقم 5257.
3- 3) .مجمع الفائدة و البرهان:306/14.
4- 4) .الوسائل:19،الباب 14 من أبواب ديات النفس،الحديث 3. [2]

أيضاً ممّن أعطاه الرسول ذمّة،لأنّه إنّما أعطى المتواجدين من أهل الكتاب في عصره ذمّة،بما هو رسوله سبحانه و تبيان شرعه و حامل وحيه،فلا يختص حكمه بعصر دون عصر.

و بعبارة أُخرى:انّ حكمه على المتواجدين في عصره كان من باب القضية الحقيقية الّتي يعم الحكم جميع أفراد الموضوع عبر القرون.

و يتجلّى ذلك المعنى بوضوح على نسخة«الاستبصار»حيث جاء فيها«ممّن أعطاهم»،و من المعلوم أنّ النبي أعطاهم لأجل أنّهم من مصاديق الضابطة الكلية في مورد الطوائف الثلاث.

3.ما رواه سماعة قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مسلم قتل ذمّياً؟ فقال:«هذا شيء شديد لا يحتمله الناس،فليعط أهله دية المسلم حتّى ينكل عن قتل أهل السواد»،و قد مضت الرواية فيما سبق. (1)

يلاحظ على الاستدلال بهذه الروايات:

أوّلاً:إعراض الأصحاب عنها،إذ لم نجد من أفتى بها،و سيوافيك أنّ الصدوق لم يعمل بها،و انّما أفتى بالتفصيل بين حالات الذمّي.

و ثانياً:كيف يمكن لنا طرح الروايات المتضافرة و قد اشتهر العمل بها عبر القرون،و الأخذ بروايتين لم يعمل أحد بهما؟!

و ثالثاً:احتمال التقية، لما عرفت من أنّه المروي عن ابن مسعود،و إحدى الروايتين عن عمر و عثمان،و من التابعين:الزهري،و من الفقهاء:الثوري و أبو حنيفة و أصحابه،كما مرّ.

و رابعاً:إنّ المهم في المقام،هو موثّقة سماعة حيث إنّ الإمام قام بتنفيذ

ص:91


1- 1) .الوسائل:19،الباب14 من أبواب ديات النفس،الحديث1.و [1]قد مضت الرواية برقم 14 القتل في الذميّين.

التسوية بين المسلم و غيره في زمانه قائلاً:بأنّ هذا شيء شديد لا يحتمله الناس.

و القائل بالتسوية يتمسّك بهذا التعليل و يقول:إنّ التعليل يعمّ زماننا حيث إنّ الناس لا يحتملون كون دية المسلم،عشرة آلاف درهم و الذمّي ثمانمائة،مضافاً إلى منظمة حقوق الإنسان الّتي اعترف بمنشورها أكثر البلاد الإسلامية،و هي تصر على التسوية في الحقوق من دون تمايز بين المتديّن و غيره،و في الأوّل بين المسلم و غيره.

يلاحظ عليه:

أنّ قوله«هذا شيء شديد لا يحتمله الناس»يحتمل وجهين:

1.انّ تقدير دية الذمّيّ بالأقل من دية المسلم ممّا لا يحتمله الناس مطلقاً،سواء كان القاتل عامداً أو خاطئاً،و سواء القتل بنيّة الإفساد و تملّك الأموال أو للتشفّي و استيلاء الغضب عليه.

2.انّ قتل الذمّي لغاية تملّك أراضيه و الاستيلاء على أمواله و الخروج من مغبّة هذا العمل بأداء ثمانمائة درهم،ممّا لا يحتمله الناس.

فلو كان المراد هو الأوّل،لكان الاستناد إليه صحيحاً،في الخاطئ و العامد،دون ما إذا كان المراد هو الثاني.

و لكن الظاهر غير الأوّل،و يشهد عليه ذيل الحديث:«لو أنّ مسلماً غضب على ذمّي فأراد أن يقتله و يأخذ أرضه و يؤدّي إلى أهله ثمانمائة درهم إذاً يكثر القتل في الذميّين».

حيث إنّ العبارة ظاهرة في أنّ الإمام يندّد بأُناس كانوا بصدد قتل الذميّين و تملّك أراضيهم،و الخروج عن مغبّة عملهم بدفع شيء رخيص،و من المعلوم أنّ

ص:92

هذا النوع من الأعمال يورث الفساد و الفوضى في المجتمع،و يسلب الأمان عنه،فالإمام يلزم القاتل في هذه الصورة بدفع الدية الكاملة، و أين هذا من الصورتين التاليتين:

1.القاتل الخاطئ الّذي يعلو عليه الحزن لعمله.

2.القاتل العامد،من دون أن يكون الداعي،سفك دمه،و تملّك أمواله و أراضيه،و إنّما قتله ضمن مناقشات انتهت إلى قتل الذمي.

و على هذا فليس للفقيه النابه إلاّ الاقتصار بالتسوية في صورة واحدة،أعني:إذا كان الداعي،هو الفساد و إشاعة الفوضى.

ثمّ إنّ الحكم بالتسوية ليس بمعنى نسخ الحكم الشرعي،فانّ النسخ بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم باطل بلا إشكال،بل من باب دَرء الفساد بتغريم القاتل بأكثر ممّا وجب عليه فيصبح حكماً ولائياً.

و خامساً:انّ هنا جمعاً آخر ذكره الشيخ الطوسي في«التهذيب»و هو:أنّ ما دلّ على المماثلة في مقدار الدية،أو على أربعة آلاف درهم - كما في بعض الروايات-محمول على مورد المتعوّد لقتل الأبرياء من الذميّين حيث قال:الوجه في هذه الأخبار أن نحملها على من يتعوّد قتل أهل الذمّة،فإنّ من كان كذلك فللإمام أن يلزمه دية المسلم كاملة تارة،و تارة أربعة آلاف بحسب ما يراه أصلح في الحال و أردع لكي ينكل عن قتلهم غيره،فأمّا من ندر ذلك منه فلا يلزمه أكثر من ثمانمائة درهم حسب ما قدّمناه. (1)

و يدلّ على هذا الجمع حديثان:

ص:93


1- 1) .التهذيب:188/10 تحت رقم 737.

1.صحيح إسماعيل بن الفضل،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن دماء المجوس و اليهود و النصارى،هل عليهم و على من قتلهم شيء،إذا غشّوا المسلمين و أظهروا العداوة لهم و الغش؟ قال:«لا،إلاّ أن يكون متعوّداً لقتلهم»،قال:و سألته عن المسلم هل يقتل بأهل الذمّة و أهل الكتاب إذا قتلهم؟ قال:«لا،إلاّ أن يكون معتاداً لذلك لا يدع قتلهم،فيقتل و هو صاغر». (1)

2.نفس موثّقة سماعة الّتي استدلّ بها على المماثلة،فقد جاء فيها قوله:«فليعط أهله دية المسلم حتّى ينكل عن قتل أهل السواد» (2)،أي حتّى يتراجع عن القتل مرّة أُخرى.

و حاصل الكلام:انّ الحكم بالمثل في رواية سماعة مختص بالعامد دون الخاطئ و ناظر إلى من هو بصدد قتل الأبرياء و أخذ أراضيهم، فلا محيص للإمام في ردعه عن القتل و تراجعه عن الظلم بالحكم عليه بأخذ دية المسلم،حتّى تنطفئ نائرة الفتنة.و التعليل ناظر إلى تلك الصورة.

من غير فرق بين كونه حكماً ولائياً أو واقعيّاً.و إن كان الحقّ هو الأوّل،لأنّ الثاني يلازم النسخ بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

فإن قلت:إنّ مورد التعليل و إن كان ما ذكر،لكنّه يعمّم،كما أنّه يخصّص،فالناس لا يحتملون التفرقة بين الديتين بهذا المقدار الهائل.

قلت:لو صحّ ما ذكر لزم الشطب على قسم من الأحكام السياسية

ص:94


1- 1) .الوسائل:19،الباب16 من أبواب ديات النفس،الحديث1. [1]
2- 2) .الوسائل:19،الباب14 من أبواب ديات النفس،الحديث1. [2]

و القضائية و الأحوال الشخصية،لأنّ الغربيّين و دعاتهم في الشرق لا يحتملون قطع يد السارق و حدّ الزاني-بالرضا-و رجم المحصن و المحصنة،و القضاء باليمين،و فصل الخصومة بعلم القاضي،أو كون الطلاق بيد الرجل فقط،فهؤلاء في منأى عن التفكير بمثل هذه الأُمور، أ فهل يصحّ لنا تعطيل تلك الأحكام لأجل رفض هؤلاء؟! كلا و لا.

ص:95

3

ديته أربعة آلاف درهم

و ربّما تقدّر ديته بأربعة آلاف درهم الّتي تساوي أربعمائة دينار،و لم نقف على من عمل به من الأصحاب،و ما نسبه العلاّمة إلى ابن الجنيد،غير هذا القول،بل هو كالصدوق يُفصِّل بين حالات الذمّيّ كما سيوافيك.

و يدلّ عليه خبر علي بن أبي حمزة،عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:«دية اليهودي و النصراني أربعة آلاف درهم،ودية المجوسي ثمانمائة درهم». (1)

قال الصدوق في«الفقيه»:قد روي أنّ دية اليهودي و النصراني أربعة آلاف درهم،لأنّهم أهل الكتاب. (2)

و في الفقه الرضوي:«و روي أنّ دية الذمّيّ أربعة آلاف درهم». (3)

و قال المرتضى:فإن احتج القائل بالمثل بما رواه عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في النفس مائة إبل؛قلنا:إنّه خبر واحد،و معارض بأخبار نرويها كثيرة عن

ص:96


1- 1) .الوسائل:19،الباب14 من أبواب دية النفس،الحديث 4. [1]
2- 2) .الفقيه:91/4.
3- 3) .مستدرك الوسائل:304/18،الباب11 من أبواب ديات النفس،الحديث2. [2]

النبي صلى الله عليه و آله و سلم يتضمّن بعضها أنّ الدية النصف،و بعضها أنّ الدية الثلث،فإذا تعارضت الأخبار سقطت. (1)

و هذه الأخبار الّتي أشار إليها السيّد المرتضى ليست في كتبنا،بل هي مبثوثة في«سنن البيهقي»و غيره على ما عرفت.

يلاحظ على الجميع أوّلاً:بإعراض الأصحاب عنه و ما أفتى أحد بمضمونه.

و ثانياً:احتمال التقيّة فيه لما عرفت من وجود نفس القول عند العامّة،و روى البيهقي عن سعيد بن المسيب أنّ عمر بن الخطاب قضى في دية اليهودي و النصراني بأربعة آلاف درهم،ودية المجوسي بثمانمائة درهم. (2)

و ثالثاً:أن يكون الحكم بالثلث ولائياً،لعدم تحمّل الناس الحكم الشرعي الواقعي-كما مرّ -.

و رابعاً:أن يكون الحكم بالثلث راجعاً إلى العامد و لا يعم الخاطئ.

و خامساً:أن يحمل على المتعوّد قتل الأبرياء من أهل الذمة،ليكون تغريمه هذا المقدار الباهظ رادعاً له عن العمل،كما مرّ.

إلى هنا تمّت دراسة الأقوال و الروايات،و عرفت أنّه لا قائل عندنا بالثاني و الثالث بصورة أنّه حكم شرعي واقعي.

ص:97


1- 1) .الانتصار:547.
2- 2) .سنن البيهقي:100/8.
4
اشارة

تفصيلان للصدوق و ابن الجنيد

ثمّ إنّ هنا تفصيلين:أحدهما للصدوق،و الآخر لابن الجنيد،و قد جنحا إلى هذا التفصيل لغاية الجمع بين الروايات.

1.لكلّ من المثل و الثلث و ثمانمائة مورد خاص

حاول الصدوق أن يجمع بين الأقسام الثلاثة من الروايات،بحمل كلّ على مورد خاص،و قال ما هذا لفظه:

قال مصنف هذا الكتاب رحمه الله:هذه الأخبار اختلفت لاختلاف الأحوال و ليست هي على اختلافها في حال واحدة،بل لهم أحوال ثلاثة:

1.متى كان اليهوديّ و النصرانيّ و المجوسيّ على ما عوهدوا عليه من ترك إظهار شرب الخمور و إتيان الزِّنا و أكل الرِّبا و الميتة و لحم الخنزير و نكاح الأخوات و إظهار الأكل و الشّرب بالنّهار في شهر رمضان و اجتناب صعود مساجد المسلمين و استعملوا الخروج باللّيل عن ظهراني المسلمين و الدّخول بالنّهار للتسوّق و قضاء الحوائج،فعلى من قتل واحداً منهم أربعة آلاف درهم،و مرّ

ص:98

المخالفون على ظاهر الحديث فأخذوا به و لم يعتبروا الحال.

2.و متى آمنهم الإمام و جعلهم في عهده و عقده و جعل لهم ذمّة و لم ينقضوا ما عاهدهم عليه من الشرائط الّتي ذكرناها و أقرّوا بالجزية و أدّوها فعلى من قتل واحداً منهم خطأ دية المسلم و تصديق ذلك.إلى أن قال:

3.و متى لم يكن اليهود و النّصارى و المجوس على ما عوهدوا عليه من الشّرائط الّتي ذكرناها،فعلى من قتل واحداً منهم ثمانمائة درهم، و لا يقاد لهم من مسلم في قتل و لا جراحة كما ذكرته في أوّل هذا الباب،و الخلاف على الإمام و الامتناع عليه يوجبان القتل فيما دون ذلك،كما جاء في المؤلى إذا وقف بعد أربعة أشهر أمره الإمام بأن يفيء أو يطلق،فمتى لم يفئ و امتنع من الطلاق ضربت عنقه لامتناعه على إمام المسلمين. (1)

يلاحظ عليه:أنّ ما ذكره الشيخ الطوسي في الجمع بين المتعوّد و غيره،المتعوّد على اختلاف درجاته،أولى ممّا ذكره فانّه جمع بلا شاهد حيث جعل ملاك الاختلاف في مقدار الدية،مقدار انضباط أهل الذمّة و مدى صلتهم بالإمام و عدمه،و هذا النوع من الجمع،جمع تبرّعي بلا شاهد.

2.لكلّ من الثلث و الثمانمائة مورد خاص

حاول ابن الجنيد الجمع بين ما دلّ على أنّ ديته،أربعة آلاف درهم أو ثمانمائة،يحمل كلّ على مورد خاص و يقرب كلامه من كلام الصدوق.

قال:فأمّا أهل الكتاب الذين كانت لهم ذمّة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و لم يغيّروا ما شرط عليهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فدية الرجل منهم أربعمائة دينار أو أربعة آلاف درهم.

ص:99


1- 1) .الفقيه:123/4- 124.

و أمّا الذين ملكهم المسلمون عنوة و منّوا عليهم باستحيائهم-كمجوس السواد و غيرهم من أهل الكتاب بالجبال و أرض الشام-فدية الرجل منهم ثمانمائة درهم،و المرأة من كلا الصنفين ديتها نصف دية نظيرها من الرجال. (1)

يلاحظ عليه:أنّه كالجمع السابق،جمع بلا شاهد،و لذلك يقول صاحب«مفتاح الكرامة»في حق هذا التفصيل:و هذا التفصيل كتفصيل الصدوق لا أثر له في الأخبار. (2)

فظهر من كلّ ما ذكرنا:انّ مقدار الدية في مورد الذمّي،هو المعروف،أعني:ثمانمائة درهم،و ليس للفقيه العدول عن ذلك،إلاّ إذا اقتضت المصلحة،تغريم القاتل بأكثر ممّا يستحقّ،لحسم مادة الفساد و صيانة دماء الأبرياء من القتل،و عند ذلك لا يتعيّن الأمران،بل يكون الميزان هو ما يراه الحاكم فيها من المصلحة و دفع المفسدة.

و بعبارة أُخرى:التفصيل بين العامد و الخاطئ عملاً برواية سماعة على ما مرّ،و لكن لا مطلق العامد،بل العامد الذي هو بصدد قتل الكتابي لأجل الاستيلاء على أراضيه و أمواله كلّ ذلك بالحكم الولائي.

و إن أردت العمل بمقتضى التعليل في عامّة الموارد فليكن ذلك من باب الولاء لا الإفتاء بالحكم الواقعي.

تمت الرسالة بيد مؤلّفها جعفر السبحاني في السابع و العشرين من شهر

ربيع الثاني من شهور عام ألف و أربعمائة و أربع و عشرين

نسأله سبحانه أن يقبلها بوجهه الكريم

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

ص:100


1- 1) .مختلف الشيعة:436/9.
2- 2) .مفتاح الكرامة:269/10.

4

اشارة

مصافحة الأجنبية المسلمة

قد طرحت في هذه الأيّام مسألة مصافحة الرجل الأجنبي،المرأةَ الأجنبية المسلمة بالشكل التالي:

مرأة مسلمة تربّت في بيئات غربية و تأثرت بثقافتها،و هي مسلمة معتقدة بأحكام الشرع و فروعه من الصلاة و الصوم و الحجاب،و لكن البيئة فرضت عليها الأمر الآتي:

إذا كان بين الرجل الأجنبي و المرأة الأجنبية صلة و تعارف فإذا تقابلا ينظر الرجل إلى المرأة و يصافحها،فلو غضّ الرجل البصر عنها و لم يصافحها،تتلقّى ذلك الأمر إهانة لها،فعلى ذلك الفرض هل يجوز للرجل الأجنبي النظر إليها و مصافحتها؟

هذا هو السؤال:و قد أجاب عنه بعض المعاصرين بالجواز قائلاً:بأنّ حرمة مسّ المرأة الأجنبية و النظر إليها لأجل تكريمها و حفظ حرمتها،فإذا افترضنا أنّ المرأة ترفض تلك الكرامة،و تتلقّى عدم النظر و المصافحة إهانة لها،فيجوز النظر و المصافحة بشرط عدم الالتذاذ و عدم قصده،و قد أثارت هذه الفتوى استغراب الآخرين،فعادوا يُفتون بالحرمة بجدّ و حماس.

ص:101

و من جانبنا فقد طرحنا المسألة على صعيد البحث متجرّداً عن رأي مسبق أو خضوع للعاطفة أو نزوع إلى فئة دون فئة،و غير ذلك من النوازع النفسانية،الّتي تحجز عن إصابة الحقّ.

أقول:يقع الكلام في محاور ثلاثة:

1.أقوال الفقهاء.

2.الروايات الواردة.

3.تحليل ما استند إليه المجيب.

المحور الأوّل:أقوال الفقهاء

و لنذكر أوّلاً آراء أهل السنّة:

1.ذهبت الحنفية و الحنابلة إلى حرمة مصافحة الرجل للمرأة إلاّ العجوز الّتي لا تشتهي و لا تُشتهى،و كذلك مصافحة المرأة للرجل العجوز الذي لا يشتهي و لا يُشتهى،و مصافحة الرجل العجوز للمرأة العجوز.

فاستدلّوا بأنّ الحرمة لخوف الفتنة،فإذا كان أحد المتصافحين ممّن لا يشتهي و لا يُشتهى،فخوف الفتنة معدوم أو نادر. (1)

2.ذهبت المالكية إلى تحريم مصافحة المرأة الأجنبية و إن كانت متجالّة و هي العجوز الفانية التي لا إرب للرجال فيها،أخذاً بعموم الأدلّة المثبتة للتحريم. (2)

3.و الظاهر من الشافعية هو نفس ما ذهب إليه مالك،لعدم استثنائه العجوز. (3)

ص:102


1- 1) .بدائع الصنائع:123.
2- 2) .كفاية الطالب:437/2.
3- 3) .مغني المحتاج:132/3؛انظر الموسوعة الكويتية:358/37-359،مادة«مصافحة».

و استدلّ أهل السنّة بحديث عائشة قالت:كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يُمحتن بقول اللّه عزّ و جلّ: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئاً وَ لا يَسْرِقْنَ وَ لا يَزْنِينَ» 1 قالت عائشة:فمن أقرّ بهذا من المؤمنات فقد أقرّ بالمحنة،و كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:انطلقن فقد بايعتكن،و لا و اللّه ما مسّت يد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يد امرأة قط غير أنّه يبايعهنّ بالكلام.قالت عائشة:و اللّه ما أخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم النساء قط إلاّ بما أمره اللّه تعالى،و ما مسّت كف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كف امرأة قط،و كان يقول لهنّ إذا أخذ عليهنّ:«قد بايعتكنّ»كلاماً. (1)

و أمّا فقهاء الشيعة فقد اتّفقوا على حرمة المسّ و المصافحة بقول مطلق،و إليك بعض كلماتهم:

قال العلاّمة:و أمّا مصافحة الرجل للمرأة فإن كانت أجنبية لم يجز إلاّ من وراء الثياب مع أمن الافتتان به و عدم الشهوة،لما رواه الصدوق عن أبي بصير أنّه سأل الصادق عليه السلام هل يصافح الرجل المرأة ليست له بذي محرم؟ قال:«لا إلاّ من وراء الثياب». (2)

و قال المحقّق الثاني:و أمّا مصافحة الرجل للمرأة فإن كانت أجنبية لم يجز،إلاّ من وراء الثياب مع أمن الافتتان و عدم الشهوة. (3)

و قال الشيخ النجفي:لا بأس بمصافحة الامرأة الأجنبية للرجل من وراء

ص:103


1- 2) .صحيح مسلم:29/6،دار الفكر،بيروت؛فتح الباري في شرح صحيح البخاري:312/5.
2- 3) .التذكرة:575/2،الطبعة الحجرية. [1]
3- 4) .جامع المقاصد:44/12. [2]

الثياب و بالعكس. (1)

و قال السيد الطباطبائي في«العروة الوثقى»:لا يجوز مصافحة الأجنبية،نعم لا بأس بها من وراء الثوب. (2)

و قال أيضاً في مسألة أُخرى:لا تلازم بين جواز النظر و جواز المسّ،فلو قلنا بجواز النظر إلى الوجه و الكفّين من الأجنبية لا يجوز مسّها إلاّ من وراء الثوب. (3)

و ليس للمعاصرين على كلام صاحب العروة أيّ تعليقة أو استثناء ممّا يدلّ على أنّ الحرمة أمر مسلّم بين الفقهاء،و قد اكتفينا بهذا المقدار القليل.

المحور الثاني:الروايات الواردة

1.روى الصدوق في حديث المناهي قال:و من صافح امرأة تحرم عليه فقد باء بسخط من اللّه عزّ و جلّ،و من التزم امرأة حراماً قرن في سلسلة من نار مع شيطان فيقذفان في النار. (4)

2.روى الكليني عن يزيد بن حمّاد و غيره،عن أبي جميلة،عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام قالا في حديث:«وزنا الفم القُبلة،وزنا اليدين اللمس». (5)

3.روى الكليني عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:قلت له:هل يصافح الرجل المرأة ليس بذات محرم؟ فقال:«لا إلاّ من وراء ثوب».

4.روى الكليني عن سماعة بن مهران قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مصافحة الرجل المرأة؟ قال:«لا يحلّ للرجل أن يصافح المرأة إلاّ امرأة يحرم عليه

ص:104


1- 1) .الجواهر:99/29. [1]
2- 2) .العروة الوثقى،كتاب النكاح،المسألة 40و 47. [2]
3- 3) .العروة الوثقى،كتاب النكاح،المسألة 40و 47. [3]
4- 4) .الوسائل:14،الباب105 من أبواب مقدّمات النكاح،ح1. [4]
5- 5) .الوسائل:14،الباب104 من أبواب مقدّمات النكاح،ح2. [5]

أن يتزوّجها.

و أمّا المرأة التي يحلّ له أن يتزوّجها فلا يصافحها إلاّ من وراء الثوب و لا يغمز يدها». (1)

5.روى الصدوق في«الفقيه»عن الصادق عليه السلام لمّا سُئل عن مصافحة المرأة الأجنبية:«لا إلاّ من وراء الثوب». (2)

6.روى المجلسي في«البحار»عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«لا يجوز للمرأة أن تصافح غير ذي محرم إلاّ من وراء ثوبها،و لا تبايع إلاّ من وراء ثوبها». (3)

7.و قد روى الفريقان كيفية بيعة النساء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعبارات مفصّلة ملخّصها ما جاء في رواية المفضّل بن عمر قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:كيف ماسح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم النساء حين بايعهنّ؟ فقال:«دعا بمركنه الّذي كان يتوضأ فيه فصب فيه ماء ثمّ غمس فيه يده اليمنى، فكلّما بايع واحدة منهن قال:اغمسي يدك فتغمس كما غمس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،فكان هذا مماسحته إياهن». (4)

إلى غير ذلك من الروايات الّتي يعثر عليها المتتبّع في مختلف الأبواب و فيها الصحيح و الموثّق،و لذلك لا ترى أيّ خلاف في المسألة بين الفقهاء لأجل هذه الروايات،و السيرة المستمرة بين المسلمين.

أضف إلى تلك الروايات أنّ الأصل الأوّلي في باب النظر إلى المرأة هو الحرمة و الجواز بحاجة إلى دليل،شأن كلّ موضوع يكون الحكم الأوّلي فيه الحرمة،و هذا

ص:105


1- 1) .الوسائل:14،الباب115 من أبواب مقدّمات النكاح،ح1 و ح2. [1]
2- 2) .الفقيه:469/3،الحديث 4635.
3- 3) .البحار:256/103،ح1. [2]
4- 4) .الوسائل:14،الباب115 من أبواب مقدّمات النكاح،ح4. [3]

كالدماء و الأعراض و الأموال الّتي نقل الشيخ الأنصاري إجماع الفقهاء على لزوم الاحتياط فيها،و ما ذلك إلاّ لأنّ الأصل الأوّلي فيها الحرمة،و لا يختص لزوم الاجتناب بالأُمور الثلاثة الواردة في كلامه،بل يعمّ اللحوم المشتبهة حكماً أو موضوعاً،و بيع الأوقاف،و غير ذلك.

و مورد البحث داخل تحت هذه القاعدة،و لذلك يقول العلاّمة الحلّي:المرأة كلّها عورة،و هذا قول كلّ من يُحفظ عنه العلم،و هو ما حكاه سيد المحقّقين في درسه الشريف عند البحث عن ستر المرأة في الصلاة،و مع ذلك فالروايات المذكورة تُدعِمُ القاعدة و تؤكدها.

المحور الثالث:تحليل ما استند إليه المجيب

المصافحة في اللغة:الأخذ باليد كالتصافح،قال في«تاج العروس»:الرجل يصافح الرجل:إذا وضع صفح كفه في صفح كفه.و هي مفاعلة من إلصاق صفح الكف بالكف،و إقبال الوجه بالوجه.

و قد عرفت تضافر الفتاوى و الروايات على حرمة مصافحة الرجل المرأة الأجنبية إنّما الكلام في استثناء المرأة المسلمة الّتي تتلقّى عدم التصافح إهانة الّذي ورد في السؤال،فقد جوّزه المجيب باستناد أنّ حرمة المسّ لأجل تكريمها و حفظ حرمتها،فإذا افترضنا أنّ المرأة ترفض تلك الكرامة و تتلقّى عدم النظر و المصافحة إهانة لها،فيجوز النظر و المصافحة،لأجل فقدان ملاك الحرمة،بشرط عدم الالتذاذ و عدم قصده.

أقول:الّذي يمكن أن يستند إليه القائل في تنقيح المناط،الأمران التاليان:

ص:106

الأمر الأوّل

قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً». 1

ذكر المفسرون أنّ أهل الريبة كانوا يمازحون الإماء،و ربّما يتجاوز المنافقون إلى ممازحة الحرائر،فإذا قيل لهم في ذلك قالوا حسبناهنّ إماءً،فقطع اللّه عذرهم فأُمر الحرائر بالستر حتى يُعرفن بذلك فلا يؤذين.

فلعلّ المجيب انتزع من هذا التعليل أنّ حرمة النظر إلى الأجنبية لأجل تكريمها،فإذا رفضت و ارتفعت العلّة ارتفع الحكم.

يلاحظ عليه بأُمور:

أوّلا:لم يكن في أذهان المسلمين يوم نزلت آية الغضّ شيء سوى أنّ تحريم النظر و إيجاب الغض لأجل صيانة الناظر عن المفاسد المختلفة الّتي تترتب عليه،كما جاء ذلك صريحاً في رواية سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه السلام قال:استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة و كان النساء يتقنعن خلف آذانهن،فنظر إليها و هي مقبلة،فلمّا جازت نظر إليها و دخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان فجعل ينظر خلفها و اعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه،فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه و صدره،فقال:و اللّه لآتينّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و لأخبرنّه،فأتاه فلمّا رآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيل عليه السلام بهذه الآية: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ» 2 . (1)

ص:107


1- 3) .الوسائل:14،الباب104 من أبواب مقدمات النكاح،ح4. [1]

ترى:أنّ إيجاب الغضّ لأجل صالح الناظر دون غيره و ما جاء في الرواية شيء من المضاعفات التي يستعقبها النظر و ليس فيها أيّ إيماء إلى أنّ إيجاب الغض لغاية صيانة كرامة المرأة.

و يؤيد ما ذكرنا،أي أنّ الملاك هو حفظ مصالح الناظر و منها تحديد شهوته و الحدّ عن فورانها،ما ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حيث قال:

«إذا جلست المرأة مجلساً فقامت عنه فلا يجلس في مجلسها رجل حتى يبرد». (1)

و لذلك نرى أنّ الشعراء الواعين قد لخّصوا هذه الحالات في شعرهم يقول الشاعر المصري: نظرة،فابتسامة،فسلام فكلام،فموعد،فلقاء

و كأنّه يشعر بأنّ النظر بعدها غمزة و بعد الغمزة ابتسامة و بعدها دنوّ و سلام،و بعدها كلام يُختم بالوعد و اللقاء،و هكذا ينفتح باب الفساد.

و سيوافيك في آخر المقال ما يدعم ما اخترناه فانتظر.

و أمّا حفظ كرامتهن فهو من الدواعي الجانبية للتشريع الإسلامي.

ثانياً:أنّ المتبادر من الآية أنّ صيانتهنّ عن أذى أهل الريبة و المنافقين و قطع العذر عنهم سبب لإيجاب الستر و الحجاب،حتّى يُعرفن بالستر أنّهنّ حرائر لا إماء،و أمّا كون الصيانة سبباً لحرمة النظر و المسّ فلا تدلّ عليه الآية،و بعبارة أُخرى:حفظ كرامتهنّ علّة لإيجاب الستر و ليس علّة لحرمة النظر و المس،حتّى ينتفيا بانتفائه.

ثالثاً:سلّمنا أنّ حفظ كرامتهنّ هو الملاك لحرمة النظر،و أمّا كونه هو الملاك لحرمة المسّ فلا يستفاد من الآية،لأنّ الكلام فيها يدور حول النظر،لا المسّ.

ص:108


1- 1) .الوسائل:14،الباب14 من أبواب مقدّمات النكاح،ح1. [1]

رابعاً:نفترض جواز النظر عند ارتفاع ملاكه و هو رفض المرأة كرامتها،و لكنّه لا يكون دليلاً على جواز المسّ،لأنّ النظر أضعف من المسّ،و الجواز في الأضعف لا يكون دليلاً على الجواز في الأقوى،و لذلك يقول العلاّمة في«التذكرة»:كلّ موضع يحرم فيه النظر فتحريم المسّ أولى،لأنّه أقوى و أشدّ في التلذذ و الاستمتاع من النظر. (1)

و قال في«الجواهر»:ثمّ لا يخفى عليك أنّ على موضع حكمنا فيه بتحريم النظر فتحريم اللمس فيه أولى كما صرّح به بعضهم،و لا أجد فيه خلافاً. (2)

و الغرض من نقل الكلمتين هو إثبات أنّ الحرمة في المسّ أغلظ و آكد،فلا يُستدل بالجواز في الأضعف على الجواز في الأقوى.

الأمر الثاني

الأمر الثاني الّذي يمكن أن يكون قد استند إليه المجيب هو الروايات الواردة في خصوص جواز النظر إلى شعور نساء أهل الذمّة و أيديهنّ و شعور نساء الأعراب.

1.روى الكليني عن السكوني،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«لا حرمة لنساء أهل الذمّة أن يُنظر إلى شعورهنّ و أيديهن». (3)

2.في«قرب الإسناد»ما رواه الحميري عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال:«لا بأس بالنظر إلى رءوس نساء أهل الذمّة». (4)

ص:109


1- 1) .التذكرة:575/2،الطبعة الحجرية. [1]
2- 2) .الجواهر:100/29. [2]
3- 3) .الوسائل:14،الباب112 من أبواب مقدّمات النكاح،ح1و 2. [3]
4- 4) .الوسائل:14،الباب112 من أبواب مقدّمات النكاح،ح1و 2. [4]

3.ما رواه الكليني عن عبّاد بن صهيب قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:«لا بأس بالنظر إلى رءوس أهل تهامة و الأعراب و أهل السواد و العلوج،لأنّهم إذا نُهوا لا ينتهون (1)-قال-:و المجنونة و المغلوبة على عقلها لا بأس بالنظر إلى شعرها و جسدها ما لم يتعمد ذلك». (2)

يلاحظ على الاستدلال بها أُمور:

1.أنّ الروايات و إن كانت تعلّل جواز النظر بعدم الحرمة لنساء أهل الذمّة تارةً و عدم انتهائهنّ بالنهي ثانياً،لكن لو أخذنا بعموم التعليل يلزم إسراء الحكم (جواز النظر) إلى غير الموارد المذكورة؛كالمسلمة السافرة الّتي إذا نهيت لا تنتهي.و أمّا إسراء الحكم إلى المسّ فلا،لأنّه من مقولة القياس و إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر.

2.من أين عُلِم أنّ ما ذكر في الآية و الرواية علّة الحكم،إذ من المحتمل أنّه حكمة للحكم،و إنّما يؤخذ بعموم العلّة لا بالحكمة،مثلاً:

«وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ...» 3 ،فالمتبادر من الآية أنّ سبب التربّص لأجل الاطمئنان على وجود أو عدم وجود الحمل في الرحم،و مع ذلك فالاطمئنان حكمة الحكم لا علّته،و لذلك يجب التربّص على المرأة العقيم،و الّتي لم يمسّها الزوج عدّة أشهر إلى غير ذلك.فإثبات أنّ ما ذكر علّة لا حكمة يحتاج إلى دليل.

3.لو سلمنا أنّه علّة لكن من أين ثبت أنّه تمام العلّة،إذ يحتمل أن يكون

ص:110


1- 1) .تذكير الضمائر باعتبار (أهل تهامة).
2- 2) .الوسائل:14،الباب113 من أبواب مقدّمات النكاح،ح1. [1]

جزء العلّة و الجزء الآخر لحرمة المسّ و النظر هو صيانة المصافح عن إثارة الشهوة و عدم الافتتان،كما هو الظاهر من قوله سبحانه: «وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ». 1

4.المتبادر من الروايات أنّ السبب الوحيد أو الجزء الأقوى لإيجاب الحجاب و الستر و حرمة النظر و المسّ هو صيانة المجتمع من فوران الشهوة،و إذا كنت في شكٍّ من ذلك فلاحظ الروايات التالية:

1.روى الكليني عن علي بن عقبة،عن أبيه،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:سمعته يقول:«النظرة سهم من سهام إبليس مسموم،و كم من نظرة أورثت حسرة طويلة». (1)

2.و روى في«الوسائل»عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«النظرة سهم من سهام إبليس مسموم،من تركها للّه عزّ و جلّ لا لغيره أعقبه اللّه أمناً و إيماناً يجد طعمه». (2)

إلى غير ذلك من الروايات في هذا المضمار.

هذا و نكمل المقال بذكر أمرين:

الأوّل:أنّ ما ذكره من التحليل لو صحّ فإنّما يتم في المجتمعات الغربية حيث إنّ المرأة لها تلك الذهنية،و أمّا المرأة المسلمة الّتي تعيش في المجتمعات الإسلامية فليس لها تلك الذهنية إلاّ الشاذة من النساء،و من المعلوم أنّ سلوك الشواذ لا يعطي للموضوع عرفيّة عامة حتّى يكون تلقّيها لعدم المصافحة إهانة

ص:111


1- 2) .الوسائل:14،الباب104 من أبواب مقدّمات النكاح،ح1. [1]
2- 3) .الوسائل:14،الباب104 من أبواب مقدمات النكاح،ح5. [2]

سبباً لانقلاب الحرمة إلى الجواز.

الثاني:الرجاء من المجيب المحترم التأمّل في ما كتبته و قدّمته إليه فإن وجد فيه هفوة فليعلمني به،و إن وجده حقّاً فليعمل على ضوء وظيفته بإخبار الآخرين بتبدّل رأيه.

و اللّه سبحانه هو الهادي إلى الصراط المستقيم

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الثامن عشر من شهر شوال المكرم من شهور عام 1424ه

ص:112

الفصل الثاني:أُصول الفقه

اشارة

1.دور العقل في استنباط الحكم الشرعي

2.مسلك حق الطاعة

3.الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري

4.دلالة الظواهر على معانيها قطعية أو ظنية

ص:113

ص:114

1

اشارة

دور العقل في استنباط

الحكم الشرعي

المشهور عند الأُصوليّين من أصحابنا انحصار الأدلّة في أربعة،أعني:الكتاب و السنّة و الإجماع و العقل،و يعبّر عنها في كلماتهم بالأدلّة الأربعة الّتي ربما يقال:إنّها الموضوع لعلم الأُصول و أنّه يبحث فيه عن عوارضها.

و لأجل ذلك تَرى أنّهم عقدوا لكلّ واحد منها باباً أو فصلاً مستقلاً بحثوا فيه عن عوارضه و خصوصيّاته.

فهذا هو المحقّق القمي (1151- 1231ه)،الّذي نهج في تأليف كتابه«القوانين المحكمة»منهج«مقدّمة معالم الدين»للشيخ حسن بن زين الدين العاملي (959- 1011ه)،قد عقد لكلّ من الأدلّة الأربعة باباً و استقصى الكلام عليها،و إليك الإشارة إلى عناوينها:

قال:«الباب السادس في الأدلّة الشرعية،و فيه مقاصد:

المقصد الأوّل:في الإجماع... (1)المقصد الثاني:في الكتاب... (2)،المقصد

ص:115


1- 1) .القوانين المحكمة:364/1،392. [1]
2- 2) .القوانين المحكمة:393/1- 408. [2]

الثالث:في السنّة،و هو قول المعصوم أو فعله (1)،المقصد الرابع:في الأدلّة العقلية،و المراد من الدليل العقلي هو حكم عقلي يتوصل به إلى الحكم الشرعي،و ينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى الحكم الشرعي».

و قد طرح فيه قاعدة التحسين و التقبيح العقليّين،و إن خلط بين الحكم العقلي القطعي كالقاعدة،و الحكم العقلي الظنّي كالاستصحاب على طريقة القدماء.

و هذا هو المحقّق محمد حسين المعروف بصاحب الفصول (المتوفّى 1255ه) قد مشى في كتابه في ضوء«القوانين المحكمة»، فخصّ كلاً من الأدلّة الأربعة بالبحث و أفرد لكلّ باباً،و إليك عناوينها:

«المقالة الثانية في الأدلّة السمعية:

القول في الكتاب. (2)القول في الإجماع. (3)الكلام في الخبر(السنّة). (4)المقالة الثالثة في الأدلّة العقلية». (5)

و قد خلط في المقالة الثالثة كصاحب القوانين الدليل العقلي القطعي بالعقلي الظني،و جعل الجميع في مصاف واحد،و لكنّه أشبع الكلام في القسم القطعي.

كما أنّ الشيخ الأنصاري (1214- 1281ه) خصّ الأدلّة العقلية في«مطارح الأنظار»بالبحث و أفردها عن غيرها،و أفاض في الكلام على التحسين

ص:116


1- 1) .القوانين المحكمة:409/1- 496. [1]
2- 2) .الفصول:240- 242. [2]
3- 3) .الفصول:242- 264. [3]
4- 4) .الفصول:264- 316. [4]
5- 5) .الفصول:317- 384. [5]

و التقبيح العقلي و غيرهما. (1)

هذا هو ديدن الأُصوليّين المتأخّرين و قريب منه ديدن القدماء.

مثلاً عقد الشيخ الطوسي (385- 460ه) باباً للأخبار. (2)كما عقد باباً خاصاً للإجماع. (3)و أفرد فصلاً لما يعلم بالعقل و السمع. (4)

و لمّا وصلت النوبة للمحقّق الخراساني (1255- 1329ه)،حاول تلخيص علم الأُصول،فغيّر إطار البحث،فلم يعقد لكلّ دليل من الأدلّة الأربعة باباً خاصاً واضحاً،فقد أدخل البحث عن حجّية الكتاب،في فصل حجّية الظواهر كتاباً كانت أو سنّة،كما أدرج البحث عن الإجماع في البحث عن حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد،و أدغم البحث عن السنّة في حجّية الخبر الواحد،و ترك البحث عن حجّية العقل بتاتاً،بل ركّز على نقد مقال الأخباريّين في عدم حجّية القطع الحاصل من الدليل العقلي،دون أن يبحث في حجّية العقل في مجال الاستنباط و تحديد مجاريه، و تمييز الصحيح عن الزائف،و صار هذا سبباً لاختفاء الموضوع على كثير من الدارسين.

و قد كان التركيز على الأدلّة الأربعة بما هي هي أمراً رائجاً بين الأُصوليّين،سواء أصحّ كونها موضوع علم الأُصول أم لا.

و هذا هو فقيه القرن السادس محمد بن إدريس الحلّي (543- 598ه) يذكر الأدلّة الأربعة في ديباجة كتابه و يحدّد موضع كلّ فيها، و يقول:فإنّ الحقّ لا يعدو أربع طرق:إمّا كتاب اللّه سبحانه،أو سنّة رسوله صلى الله عليه و آله و سلم المتواترة المتفق عليها،

ص:117


1- 1) .لاحظ مطارح الأنظار:233- 239. [1]
2- 2) .عدة الأُصول:63/1- 155.
3- 3) .عدة الأُصول:601/2- 639.
4- 4) .عدة الأُصول:759/2- 762. [2]

أو الإجماع،أو دليل العقل؛فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة،التمسّك بدليل العقل فيها،فإنّها مبقاة عليه و موكولة إليه،فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه،فيجب الاعتماد عليها و التمسّك بها،فمن تنكّب عنها عسف و خبط خبط عشواء و فارق قوله من المذهب. (1)

إذا عرفت ذلك فلنقدم أمام البحث عن حجّية العقل أُموراً تسلط الضوء على الموضوع.

ص:118


1- 1) .السرائر:46/1.

1

اشارة

العقل كاشف و ليس بمشرّع

إنّ الشيعة الإمامية أدخلت العقل في دائرة كشف الحكم،حيث يُستكشف به الحكم الشرعي في مجالات خاصة كما يُستكشف بسائر الأدلّة من الكتاب و السنّة و الإجماع.

و ليس معنى ذلك إطلاق سراحه في جميع المجالات بحيث يُستغنى به عن الشرع،بل للعقل مجالات خاصة لا يصلح له الكشف إلاّ فيها،و سيوافيك بيان تلك المجالات.

و يراد من حجّيّة العقل كونه كاشفاً لا مشرّعاً،فإنّ العقل حسب المعايير الّتي يقف عليها،يقطع بأنّ الحكم عند اللّه سبحانه هو ما أدركه، و أين هذا من التشريع أو من التحكُّم و التحتم على اللّه سبحانه،كما ربّما نسمعه من بعض الأشاعرة،حيث يزعمون أنّ القائلين بحجّية العقل في مجالات خاصة يُحكِّمون العقل على اللّه،و لكنّهم غفلوا عن الفرق بين الكشف و الحكم،فإنّ موقف العقل في هذه المسائل هو نفس موقفه في الإدراكات الكونية،فإذا حكم بأنّ زوايا المثلث تساوي مائة و ثمانين درجة،فمعناه:أنّه يكشف عن واقع محقّق و محتّم قبل حكم

ص:119

العقل،فهكذا المورد فلو حكم بأنّ العقاب بلا بيان قبيح،فليس معناه:أنّه يحكم على اللّه سبحانه بأن لا يُعذّب الجاهلَ غير المقصّر،بل المراد:أنّ العقل من خلال التدبّر في صفاته سبحانه-أعني:العدل و الحكمة-يستكشف أنّ لازم ذينك الوصفين الثابتين للّه سبحانه،هو عدم عقاب الجاهل.

و كنّا نسمع من روّاد منهج التفكيك بين العقل و الشرع أنّ روّاد الفلسفة يحتّمون على اللّه أن يحكم بالوجوب و اللزوم و...و أنّ عمل الفيلسوف هو الحكم على اللّه،غافلين عن أنّ عمله هو الاستكشاف،فلو قال:«واجب الوجود بالذات واجب من جميع الجهات»إنّما يخبر عن تلك الحقيقة بالبرهان الّذي أرشده إليها،فيستنتج من ذلك أنّه سبحانه واجب في علمه و قدرته كما أنّه واجب في فعله و خلقه.

و ليس الإشكال أمراً جديداً فقد سبقهم الرازي و قال:لا يجب على اللّه تعالى شيء عندنا-خلافاً للمعتزلة-فانّهم يوجبون اللطف و العوض و الثواب.و البغداديّون خاصّة يوجبون العقاب،و يوجبون الأصلح في الدنيا.

بين الإيجاب المولوي و الإيجاب الاستكشافي

لا شكّ أنّه ليس لأحد أن يكلّف اللّه سبحانه بشيء و يحكم عليه باللزوم و الوجوب،لأنّه سبحانه فوق كلّ مكلّف،و لا فوقه أحد،و مع ذلك كلّه فربما يأتي في كلام المتكلّمين بأنّه يجب على اللّه سبحانه أن لا يعذّب البريء.غير أنّ أهل الحديث و اتباع السلفية لم يفرّقوا بين الإيجاب المولوي و الإيجاب الاستكشافي،فالذي هو باطل لا يتفوّه به أيّ إنسان موحّد،هو الإيجاب المولوي،فإنّه سبحانه مولى الجميع و الناس عباد له،و أمّا الايجاب الاستكشافي بمعنى أنّ العقل

ص:120

يستكشف من خلال صفاته سبحانه ككونه حكيماً عادلاً قادراً،أنّه سبحانه لا يعذّب البريء فالقول بأنّه يجب على اللّه سبحانه بمعنى الملازمة بين حكمته و عدله و عدم تعذيب البريء،و ليس استكشاف العقل في المقام بأقلّ من استكشاف الأحكام الكونية حيث يحكم بأنّ زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين،فزوايا المثلث في الخارج موصوفة بهذا المقدار و الكميّة،و لكن العقل يستكشف ذلك.

و بذلك يظهر أنّ ما أطنب به أتباع السلفية حول الأحكام العقلية إطناب بلا طائل،و تفسير بما لا يرضى به صاحبه،فقالوا:

أوجب العدلية على اللّه تعالى أشياء بمحض عقولهم،و إن لم ترد بها الشريعة.

بل أوجبوا على اللّه أشياء مخالفة للصحيح الصريح من نصوص الكتاب و السنّة،و لا شكّ أنّ هذا الإيجاب العقلي من المعتزلي على اللّه باطل، لأنّه يلزم عليه أن يكون هناك موجب فوق اللّه أوجب عليه شيئاً،و لا موجب عليه سبحانه و تعالى،كما يلزم عليه أن يكون تعالى فاعلاً مختاراً،و هو باطل. (1)

و قد أجاب عنه المحقّق نصير الدين الطوسي و قال:ليس هذا الوجوب بمعنى الحكم الشرعي كما هو المصطلح عند الفقهاء،بل هذا الوجوب بمعنى كون الفعل بحيث يستحقّ تاركه الذمّ،كما أنّ القبيح بمعنى كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله الذمّ.و الكلام فيه هو الكلام في الحسن و القبح بعينه و يقولون إنّ القادر العالم الغني لا يترك الواجب ضرورة. (2)

ص:121


1- 1) .مدارج السالكين:66/1. [1]
2- 2) .نقد المحصل:342.

و العجب أنّ بعض أتباع السلفيّة يحكم على اللّه سبحانه بنفس ما يحكم به العدليّة و كأنّه غفل عمّا عليه سلفه.

قال:و الحقّ أنّ الظلم ممكن مقدور عليه و اللّه تعالى منزّه عنه،لا يفعله لعلمه و عدله،لا لكونه مستحيلاً عليه كما تقوله الأشاعرة،و لا لمجرّد القبح العقلي كما تقوله المعتزلة،فهو لا يحمل على أحد ذنب غيره،كما قال تعالى: «وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» 1 و قال: «وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً». 2

فعقوبة الإنسان بذنب غيره ظلم ينزّه عنه اللّه تعالى. (1)

ص:122


1- 3) .منهاج السنّة:309/2.

2

تضافر الروايات على حجّيّة العقل

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام على حجّيّة العقل،نأتي بنصّين و نحيل الباقي إلى مصادرها. (1)

قال الإمام الصادق عليه السلام:«حجة اللّه على العباد النبي،و الحجّة في ما بين العباد و بين اللّه العقل». (2)

و قال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام مخاطباً هشام بن الحكم:«يا هشام إنّ للّه على الناس حجّتين:حجّة ظاهرة،و حجّة باطنة؛فأمّا الظاهرة فالرسل و الأنبياء و الأئمّة،و أمّا الباطنة فالعقول» (3).و تخصيص ما دلّ على حجّية العقل بالمعارف و العقائد،تخصيص بلا وجه.

و أمّا الآيات الدالّة على حجّية العقل في مجالات خاصّة فسيوافيك نقل قسم منها عند البحث عن التحسين و التقبيح العقليّين.

ص:123


1- 1) .الكافي:10/1- 29،كتاب العقل و الجهل. [1]
2- 2) .الكافي:25/1،الحديث22. [2]
3- 3) .الكافي:16/1،الحديث12. [3]

3

اشارة

الإدراك النظري و الإدراك العملي

قسّم الحكماء الإدراك العقلي إلى:إدراك نظري،و إدراك عملي.

فالأوّل:إدراك ما ينبغي أن يُعلم،كإدراك وجود الصانع و صفاته و أفعاله.

و الثاني:إدراك ما ينبغي أن يُعمل،كإدراكه حسن العدل و قبح الظلم،و حسن رد الوديعة و قبح الخيانة فيها،و حسن العمل بالميثاق و قبح نقضه،إلى غير ذلك من العلوم الإدراكية الّتي يستعملها العقل في حياته و معاشه.

فبذلك يعلم أنّ المقسّم إلى قسمين(النظري و العملي) هو إدراك العقل لا نفس العقل،فليس لنا عقلان أحدهما نظري و الآخر عملي،بل عقل واحد تارة يدرك ما من شأنه أن يُعلم،و أُخرى ما من شأنه أن يعمل.

فالفيلسوف و المتكلّم يعتمدان على العقل النظري في المسائل النظرية الّتي يعبّر عنها بالإلهيّات،فبالعقل يَعرفُ العبدُ إلهه و صفاته و أفعاله،كما أنّ الفقيه و الأخلاقي يعتمدان على العقل العمليّ في موارد من الفقه و الأخلاق.

و من العجائب أنّ طائفة من المسلمين ألغوا دور العقل في العقائد و الأحكام و اعتمدوا في كلا الموردين على النقل،مع أنّه ما لم تثبت حجّية النقل عن

ص:124

طريق العقل كيف يمكن الاعتماد على النقل؟!

إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام أعطوا للعقل أهمية كبيرة،فهذا هو الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام يقول:«إنّ اللّه لمّا خلق العقل استنطقه-إلى أن قال:

- و عزّتي و جلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك،و لا أكملتك إلاّ في مَن أُحب،أما إنّي إيّاك آمر و إيّاك أنهى،و إيّاك أُعاقب و إيّاك أُثيب». (1)

إذا علمت هذه الأُمور الثلاثة فلندخل في صلب الموضوع و هو تحديد مساحة حجّية العقل و البرهنة على حجّيته فيها.

أقول:إنّ للعقل مجالات خاصة هو فيها حجّة بلا كلام.

ص:125


1- 1) .الكافي:10/1،كتاب العقل و الجهل،الحديث1. [1]
1
اشارة

مجال التحسين و التقبيح

إذا استقلّ العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه،و تجرّد في قضائه عن كلّ شيء (عن أمر الشارع و نهيه و حتّى الآثار الّتي تترتب على الشيء،كقوام النظام الإنساني بالعدل و انهياره بممارسة الظلم) إلاّ النظر إلى نفس الفعل،فهل يكون حكم العقل كاشفاً عن حكم الشرع؟ نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان،و حسنه معه،فهل يستكشف منه أنّ حكم الشرع كذلك؟ و الجواب:نعم،و ذلك لأنّ الحكم المزبور من الأحكام البديهيّة للعقل العملي.

فإذا عرض الإنسان العدلَ و الظلم على وجدانه و عقله،يجد في نفسه نزوعاً إلى العدل و تنفّراً من الظلم،و هكذا كلّ فعل يصدق عليه أحد العنوانين،و هذا من الأحكام العقلية النابعة من صميم العقل و ليس متأثراً بالجوانب اللاشعورية أو الغرائز الحيوانية أو العواطف الإنسانية،أو الآثار البنّاءة أو الهدامة لهما،يقول العلاّمة الحلّي:

«إنّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء و قبح بعضها من غير نظر إلى

ص:126

شرع،فإنّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان و يمدح عليه،و يُقبِّح الإساءة و الظلم و يذمّ عليه،و هذا حكم ضروري لا يقبل الشكّ و ليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة و الملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع».

و يقول (1)ايضاً في كتاب آخر:إنّ من الأفعال ما هو معلوم الحُسن و القبح بضرورة العقل،كعلمنا بحسن الصدق النافع،و قبح الكذب الضار،فكلّ عاقل لا يشكّ في ذلك،و ليس جزمه بهذا الحكم بأدون من الجزم بافتقار الممكن إلى السبب،و أنّ الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية. (2)

و من حسن الحظ انّ الذكر الحكيم يشير إلى موقف العقل من إدراك تحسين الأشياء و تقبيحها،فترى أنّه يحتج في موارد بقضاء فطرة الإنسان بحسن بعض الأفعال،و في الوقت نفسه يقبّح بعضها على وجه يسلِّم بأنّ الفطرة الإنسانية صالحة لهذين الإدراكين،و لذلك يتخذ وجدان الإنسان قاضياً صادقاً في قضائه و يقول:

1. «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ». 3

2. «أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ». 4

3. «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ». 5

ففي هذه الطائفة من الآيات يوكل الذكرُ الحكيم القضاءَ إلى وجدان

ص:127


1- 1) .كشف المراد المطبوع مع تعاليقنا:59.
2- 2) .نهج الحق و كشف الصدق:83. [1]

الإنسان،و انّه هل يسوّي بين المفسدين و المتّقين،و المسلمين و المجرمين،كما يتّخذ من الوجدان قاضياً،و يقول: «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» و يقول أيضاً: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ».

و هناك آيات أُخرى تأمر بالمعروف كالعدل و الإحسان،و إيتاء ذي القربى،و تنهى عن الفحشاء و المنكر و البغي على نحو تسلِّم أنّ المخاطب يعرفهما معرفة ذاتية،و لا يحتاج في تعرفهما إلى الشرع،و كأنّ الشرع يؤكد ما يجده الإنسان بفطرته.

و يقول سبحانه:

1. «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ». 1

2. «قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ». 2

3. «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ». 3

نظرية الأشاعرة

ثمّ إنّ الأشاعرة عطَّلوا دور العقل في درك لحسن و القبح،فقالوا:إنّ المرجع في الحسن و القبح هو الشرع،فما حسّنه الشارع فهو حسن، و ما أخبر عن قبحه فهو قبيح،و ليس للعقل المقدرة على تمييز الحسن عن القبيح.

هذا،و قد ذهلوا عن أنّ القول بكون الحسن و القبح شرعيين،و أنّهما لا يثبتان إلاّ بالشرع،يستلزم عدم ثبوتهما حتّى بالشرع أيضاً،و ذلك لأنّه إذا كان العقل عاجزاً عن درك محاسن الأفعال و مساوئها و من ثمّ«عن حسن الصدق»

ص:128

و«قبح الكذب»،فمن أين نعلم أنّ الشارع صادق في إخباره؟ لأنّه لم يثبت بعدُ حسن الصدق و لا قبح الكذب،فإذا أخبرنا عن شيء أنّه حسن،لم نجزم بحسنه حتّى عند الشرع،لتجويز الكذب عليه.

و الحاصل:أنّه لو لم نعرف حسن الأفعال و قبحها شرعاً إلاّ عن طريق إخبار الأنبياء،فإذا قالوا:الصدق حسن و الكذب قبيح،لا يحصل لنا العلم بصدق القضية،إذ نحتمل أن يكون المخبر كاذباً.

و لو قيل:إنّه سبحانه شهد على صدق مقالة أنبيائه،فنقول:إنّ شهادته سبحانه لم تصل إلينا إلاّ عن طريقهم،فمن أين نعلم صدقهم في كلامهم هذا؟

أضف إلى ذلك من أين نعلم أنّه سبحانه-و العياذ باللّه-لا يكذب؟

فهذه الاحتمالات لا تندفع إلاّ باستقلال العقل-قبل كلّ شيء-بحسن الصدق و قبح الكذب،و أنّه سبحانه منزّه عن القبح.... (1)

و ربّما يعترض عليه بأنّ ما ذكر من التالي (عدم ثبوت الحسن و القبح مطلقاً حتّى بالشرع لو كان الطريق منحصراً بالسماع من الشرع) إنّما يصحّ إذا انحصر الطريق بإخباره المحتمل فيه الصدق و الكذب،و أمّا لو كان الطريق هو أمره و نهيه فلا يتطرّق إليه احتمال الكذب،لأنّه و الصدق من أوصاف الإخبار لا الإنشاء.

و هذا هو ما ذكره القوشجي معترضاً به على المحقّق الطوسي و قال:إنّ الحسن و القبح عبارة عن كون الحسن متعلّق الأمر و المدح، و القبيح متعلق النهي و الذمّ. (2)

و يلاحظ عليه:أنّ احتمال الكذب في الإنشاء و إن كان منتفياً،لكنّ هنا

ص:129


1- 1) .لاحظ كشف المراد:59، [1]المطبوع مع تعاليقنا.
2- 2) .شرح التجريد للقوشجي:442،طبعة تبريز.

احتمالاً أو احتمالات تمنع من استكشاف الحسن و القبح،من مجرّد سماع الأمر بشيء و النهي عنه،إذ من المحتمل أن يكون الشارع عابثاً في أمره و نهيه،و لو قال:إنّه ليس بعابث،لا يثبت به نفي احتمال العبث عن فعله و كلامه؛لاحتمال كونه هازلاً أو كاذباً في كلامه.

فلأجل ذلك يجب أن يكون بين الإدراكات العقلية شيء لا يتوقّف درك حسنه و قبحه على شيء،و أن يكون العقل مستقلاً في دركه، و هو حسن العدل و قبح الظلم و حسن الصدق و قبح الكذب،حتّى يستقلّ العقل في ظلِّه بإدراك أنّ كلّ ما حكم به الشرع فهو صادق في إخباره أو مريد لا هازل في إنشائه،فيثبت عندئذٍ أنّ ما تعلّق به الأمر حسن شرعاً،و ما تعلّق به النهي قبيح شرعاً،و هذا ما يهدف إليه المحقّق الطوسي من أنّه لو لا استقلال العقل بإدراك حسن أو قبح بعض الأفعال ما ثبت حسن و لا قبح بتاتاً.

بعض الأحكام المستنبطة من هذا الأصل

إنّ هذا الأصل الّذي عليه العدلية،يحتجّ به في الأُصول في الموارد التالية:

1.البراءة من التكليف المحتمل؛لقبح العقاب بلا بيان.

2.الاشتغال بالتكليف عند العلم الإجمالي و تردّد المكلّف فيه بين أمرين،لحكمه بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية و حسن عقوبة من لم يخرج عن عهدة التكليف القطعي على وجه اليقين.

3.الإتيان بالمأمور به مُجزٍ عن الإعادة و القضاء،لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال.

4.مرجّحات باب التزاحم.

ص:130

إنّ مرجّحات باب التزاحم كلّها من باب تقديم الأهمّ على المهم،و إليك عناوينها:

أ.تقديم ما لا بدل له على ما له بدل.

ب.تقديم المضيّق على الموسّع.

ج.تقديم أحد المتزاحمين على الآخر لأهميته.

د.سبق امتثال أحد الحكمين زماناً.

ه.تقديم الواجب المطلق على المشروط.

إلى غير ذلك من الموارد الّتي يستقل العقل فيها بحسن الفعل و قبح ضدّه،فيستكشف منه كونه كذلك عند الشارع.

ثمّ إنّ الحكم الشرعي المستنبط من حسن الأفعال أو قبحها،يكون حكماً إلزامياً دائراً بين الإلزام بالفعل أو الإلزام بالترك،و لذلك تكون الأحكام المستنبطة بالعقل منحصرة في حكمين:الوجوب أو الحرمة.

و ذلك لأنّ العناوين المحسنة أو المقبحة-بحكم وجوب انتهاء كلّ ما بالعرض إلى ما بالذات-تنتهي إلى العدل و الظلم،فإذا كان الفعل حسناً عند العقل فانّما هو لانطباق عنوان العدل عليه،فيكون خلافه ظلماً،و معه كيف يكون جائز الترك (المستحب) أو كان الفعل قبيحاً،فإنّما هو لانطباق عنوان الظلم عليه،و معه كيف يكون جائز الفعل (المكروه) و لذلك حصر المتكلّمون الأحكام الشرعية المستنبطة من العقل في حكمين:الوجوب و الحرمة.

و أمّا تقسيم الأحكام الشرعية إلى أقسام خمسة،فهو و إن كان صحيحاً لكن لا بملاك الحسن و القبح،بل بملاك المصلحة أو المفسدة الملزمة و غيرها،و هذا لا يمنع أن يكون في مورد الوجوب و الحرمة ملاكان:الحسن العقلي و المصلحة الملزمة،

ص:131

أو القبح العقلي و المفسدة.

و هناك إجابة أُخرى نشير إليها و هي:

إنّ الأحكام المستنبطة من الحسن و القبح حسب الثبوت و إن كانت أربعة؛لاختلاف درجات الحسن و القبح،فالدرجة العالية من الحسن تقتضي الوجوب و المتوسطة تقتضي الاستحباب،و هكذا القبح فالدرجة القوية منه تلازم الحرمة و الدرجة الضعيفة تلازم الكراهة،إلاّ أنّ هذا صحيح حسب الثبوت،و أمّا حسب الإثبات فلا؛لأنّ الحسن و القبح من المستقلات العقلية،و العقل لا يدرك إلاّ ما كان لازم الفعل أو لازم الترك، و أمّا ما وراء ذلك فهو و إن صحّ واقعاً،لكن ليس للعقل إليه سبيل.

و الحاصل:أنّ الضيق:إنّما هو في إدراك العقل للحسن و القبح،و العقل لا يدرك إلاّ ما كان لازم الفعل أو لازم الترك،كالإحسان لمن أحسن و عدم الإساءة إليه،و العمل بالميثاق و عدم نقضه،إلى غير ذلك من العناوين التي يقف عليها العقل،فلا يستنبط منه إلاّ الحكم الإلزامي.

ص:132

2

في مجال الملازمات

إنّ باب الملازمات هو المجال الثاني لحكم العقل،فإذا أدرك العقل الملازمة بين الوجوبين أو الحرمتين و ورد أحد الوجوبين في الشرع دون الآخر،يحكم العقل بالوجوب الثاني بناء على وجود الملازمة بين الحكمين،فاستكشاف الحكم الشرعي رهن ثبوت الملازمة بين الحكمين،و إليك نماذج من هذا:

1.الملازمة بين الوجوبين،كوجوب الشيء و وجوب مقدّمته.

2.الملازمة بين الحرمتين،كحرمة الشيء و حرمة مقدّمته.

3.الملازمة بين وجوب الشيء و حرمة ضدّه،كوجوب المضيق و حرمة الموسّع عند التزاحم.

4.الملازمة بين النهي عن العبادة و فسادها.

5.الملازمة بين النهي عن المعاملة و فسادها.

6.الملازمة بين وجود الحكم لدى وجود الشرط و الوصف و...و الانتفاء لدى الانتفاء.

إلى غير ذلك ممّا يدخل أبواب الملازمة الموصوفة عندهم بالملازمات غير

ص:133

المستقلة،فانّ الحكم المستكشف في هذه الموارد عن طريق الملازمة،حكم شرعي نظير:

1.وجوب مقدّمة الواجب.

2.حرمة مقدّمة الحرام.

3.حرمة الضدّ الموسّع المزاحم للمضيق كالصلاة عند الابتلاء بإزالة النجاسة عن المسجد،أو أداء الدين الحال.

4.فساد العبادة المنهي عنها،كالصوم في السفر.

5.فساد المعاملات المنهي عنها كبيع الخمر.

إلى غير ذلك من الموارد الّتي توصف بباب الملازمات غير المستقلة،و في الفقه الشيعي و الأُصول دور كبير لباب الملازمات،فمن مثبت و نافٍ و مفصِّل.

قال المحقّق السيد علي القزويني معلّقاً على قول المحقّق القمي:«و منها ما يحكم به العقل بواسطة خطاب الشرع كالمفاهيم و الاستلزامات»:أي بملاحظته كحكمه بوجوب المقدّمة بملاحظة الخطاب بذي المقدّمة،و بحرمة الضد،بملاحظة الخطاب بالمأمور به المضيق،و بالانتفاء عند الانتفاء بملاحظة الخطاب المعلّق على شرط أو وصف أو غيرهما،لئلا يلغو التعليق و ذكر القيد و يسمّى بالاستلزامات العقلية كحكم العقل باستلزام إيجاب الشيء وجوب مقدّماته و استلزام الأمر بالشيء حرمة ضدّه،و استلزام الوجود عند الوجود،و الانتفاء عند الانتفاء،فالمفاهيم أيضاً مندرجة في الاستلزامات. (1)

إلى هنا تبيّن حجّية حكم العقل في المجالين:

1.مجال التحسين و التقبيح و يسمّى بالملازمات المستقلة.

ص:134


1- 1) .تعليقة السيد علي القزويني المطبوعة على هامش القوانين.لاحظ القوانين:1/2، [1]قسم الحواشي.

2.مجال الملازمات غير المستقلة.

و وجه تسمية الأوّل بالمستقلات و الثاني بغيرها،هو:انّ إدراك الموضوع و الحكم في الأوّل،راجع إلى العقل و لا يستعين في حكمه بالشرع،بل يدرك الموضوع و يصدر الحكم،كقولنا:العدل حسن و الظلم قبيح،بخلاف القسم الثاني،فإنّه في حكمه يستعين بالشرع،فإنّ الشارع هو المعيّن للموضوع،مثلاً يقول:إنّ الوضوء مقدمة للواجب،و العقل يُصدر الحكم و يقول:مقدمة الواجب واجبة،و مثله سائر الموارد.

ص:135

3

في مجال تنقيح المناط

إذا اقترن الموضوع في لسان الدليل بأوصاف و خصوصيات لا يراها العرف دخيلة في الموضوع و يعدّها من قبيل المثال،كما إذا ورد في السؤال:رجل شكّ في المسجد بين الثلاث و الأربع،فأُجيب بأنّه يبني على كذا،فإنّ السائل و إن سأل عن الرجل الّذي شكّ في المسجد،لكنّ العرف يعدّ تلك القيود مثالاً،لا قيداً للحكم،فيعمّم الحكم على الرجل و الأُنثى و من شكّ في المسجد و البيت.

إنّ تنقيح المناط الّذي يساعد عليه الفهم العرفي ممّا لا إشكال فيه،و لا صلة له بالقياس؛إذ لا أصل و لا فرع،بل الحكم في نظر المخاطب يعمّ الرجل و الأُنثى،و الشاك في المسجد و البيت،مرة واحدة.

و من هذا القبيل قصة الأعرابي الّذي قال:هلكتُ يا رسول اللّه،فقال له:ما صنعت؟ قال:وقعت على أهلي في نهار رمضان،قال:اعتق. (1)

و العرف ربما يساعد على إلغاء القيدين التاليين و عدم مدخليتهما في الحكم:

ص:136


1- 1) .صحيح مسلم:138/3- 140،كتاب الصيام،الحديث 187،و قد روي بطرق مختلفة مع اختلاف يسير في المتن.

1.كونه أعرابياً.

2.الوقوع على الأهل.

فيعمّ البدوي و القروي،و الوقوع على الأهل و غيره،و صيام شهر رمضان و غيره،فيكون الموضوع من واقع نهار شهر رمضان و هو صائم.

إنّ تنقيح المناط من المزالق للفقيه،إذ ربما يُلغي بعض القيود باستحسان أو غيره،مع عدم مساعدة العرف عليه،فعليه الاحتياط التام في تنقيح موضوع الحكم و الاقتصار على ما يساعد عليه فهم العرف من إلغاء القيد،و إن شكّ في مساعدة العرف على الإلغاء و عدمها،فليس له تعميم الحكم.

و على كلّ حال،فهذه التعميمات،لا صلة لها بالقياس،و إنّما هي استظهار من مفاد الدليل و استنطاقه حسب الفهم العرفي.

و هذا ما يعبر عنه في الفقه الإمامي،بإلغاء الخصوصية،أو مناسبة الحكم و الموضوع،مضافاً إلى التعبير عنه ب«تنقيح المناط». (1)

ص:137


1- 1) .الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف:441/2- 442. [1]
4
اشارة

في مجال تخريج المناط

إذا قضى الشارع بحكم في محل من دون أن ينصّ على مناطه،فهل للعقل أن يستحصل مناط الحكم غير المذكور في النص حتّى يُعمِّم الحكم في ضوء المناط؟

و هذا هو الأمر الرائج في فقه السنّة،الممنوع في فقه الشيعة،و قد ذكروا لاستخراج المناط طرقاً سبعة،و المهم منها هو استنباط العلة عن طريق السبر و التقسيم.

و السبر في اللغة هو الامتحان،و تقريره:أن تُحصر الأوصاف الّتي توجد في واقعة الحكم و تصلح لأن تكون العلّة واحدة منها،و يختبرها وصفاً وصفاً في ضوء الشروط الواجب توفّرها في العلّة،و أنواع الاعتبار الّذي تعتبر به،و بواسطة هذا الاختبار تستبعد الأوصاف الّتي لا يصحّ أن تكون علّة و تُستبقى الّتي يصحّ أن تكون علّة،و بهذا الاستبعاد و هذا الاستبقاء يتوصّل إلى أنّ هذا الوصف هو العلّة.

أقول:إنّ السبر و التقسيم إنّما يوجب القطع بالمناط في موردين:

1.إذا كان المورد في وضوح المناط من مقولة تحريم الخمر،فلو افترضنا أنّه

ص:138

لم يرد فيه نصّ على علّة الحكم،فأخذ المجتهد يردّد العلّة بين كونها من العنب،أو كونها سائلاً،أو كونها ذا لون خاص،أو كونها مسكراً، و عندئذٍ يستبعد كلّ واحدة من العلل إلاّ الأخيرة،فيحكم بأنّها العلّة،ثمّ يقيس كلّ مسكر عليها،و هذا النوع من المناط خاص بالخمر و ما هو نظيرها في الموضوع،لكن أكثر موارد القياس يفقد هذا النوع من الاطمئنان،و أكثر من يحتج على صحّة تخريج المناط يُمثل بالخمر الّذي لا يشكّ الإنسان بعد التأمّل في أنّ مناط تحريمها هو الإسكار،فأين هو من سائر الموارد المبهمة؟!

2.التقسيم إذا كان دائراً بين النفي و الإثبات يفيد اليقين،كقولك:العدد إمّا زوج أو فرد،و الحيوان إمّا ناطق أو غير ناطق،و أمّا إذا كان بشكل التقسيم و السبر،أي ملاحظة كلّ وصف خاص و صلاحيته للحكم،فما استحسنه الذوق الفقهي يجعله مناطاً للحكم،و ما استبعده يطرحه،فمثل هذا لا يكون مناطاً قطعياً بل ظنياً،و هذا شيء أطبق عليه مثبتو القياس.

و في ضوء ما ذكرنا فتنقيح المناط في الموردين المذكورين من الأدلّة العقلية القطعية،و أمّا في غيرهما فهو من الأدلّة العقلية الظنيّة، و يشبه أن يكون نفس القياس مستنبط العلّة الّذي يبحث عنه في باب القياس،و هو من الأدلّة الظنية،و لكنّا بصدد بيان الأدلّة القطعية.

و لأجل أن يقف القارئ على أنّ تخريج المناط دليل ظني لا قطعي نأتي بمثال:

قد ورد في الحديث:«لا يُزوّج البكرَ الصغير إلاّ وليُّها»،فقد ألحق بها بعض فقهاء السنّة الثيِّب الصغيرة،بل المجنونة و المعتوهة.

و ذلك بتخريج المناط،و انّه عبارة عن كون المزوّجة صغيرة ناقصة العقل،

ص:139

فيعمّ الحكم الثيِّب الصغيرة و المجنونة أو المعتوهة لاتّحاد المناط.

و أمّا استخراج المناط فهو بالبيان التالي:

إنّ الحديث اشتمل على و صفين كلّ منهما صالح للتعليل،و هما الصغر و البكارة،و بما أنّ الشارع قد اعتبر الصغر علّة للولاية في المال كما قال: «وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» 1 هذا من جانب،و من جانب آخر،الولاية على المال و الولاية على التزويج نوعان من جنس واحد و هو الولاية،فتكون النتيجة أنّ الشارع قد اعتبر الصغر علّة للولاية على التزويج بوجه من وجوه الاعتبار،فيقاس على البكر الصغيرة،من في حكمها من جهة نقص العقل،و هي المجنونة أو المعتوهة،كما تقاس عليها أيضاً الثيّب الصغيرة،و بذلك أسقطوا دلالة لفظ البكارة من الحديث على المدخلية في الحكم.

و يلاحظ عليه:أنّه من أين علم أنّ الصغر تمام الموضوع للحكم مع إمكان أن يكون جزءاً منه كما هو مقتضى اجتماعه مع البكر؟

إنّ قياس باب النكاح بباب التصرّف في الأموال،قياس مع الفارق،فإنّ العناية بصيانة مال الصغير تستدعي أن يكون الموضوع هو الصغير ذكراً كان أو أُنثى،بكراً كان أو ثيّباً،إذ لا دخالة لهذه القيود في أمر الصيانة،و لهذا يعمّ الحكم جميعَ أفراد الصغيرة،و هذا بخلاف باب النكاح فيحتمل فيها الفرق بين الصغيرة البكر و الثيب،نظير الفرق بين الكبيرة البكر و الثيب،حيث ذهب جماعة إلى أنّ الأُولى أيضاً لا تزوّج إلاّ بإذن الوليّ. (1)

ص:140


1- 2) .نظام النكاح في الشريعة الإسلامية الغراء،للمؤلف:172/1- 176.

و لأجل إيضاح المقام نأتي بأمثلة أُخرى الّتي أفتى فقهاء السنّة فيها بناءً على تخريج المناط:

1.قياس الولاية في النكاح بالميراث

يقدّم الأخ من الأب و الأُمّ على الأخ للأب في الميراث.المقيس عليه

فيقدّم الأخ من الأب و الأُمّ على الأخ للأب في ولاية النكاح.المقيس

امتزاج الإخوة.المناط

2.قياس الجهل في المهر بالبيع

إنّ الجهل بالعوض يفسد البيع بالاتفاق.المقيس عليه

فالجهل بالمهر يفسد النكاح.المقيس

وجود المعاوضة و الجهل فيها.المناط

3.قياس ضمان السارق بالغاصب

إنّ الغاصب يضمن إذا تلف المال تحت يده.المقيس عليه

فالسارق أيضاً يضمن و إن قطعت يده.المقيس

تلف المال تحت اليد العادية.المناط

فانّ تخريجات المناط في هذه الموارد و عشرات أمثالها تخريجات ظنية،و هي بحاجة إلى قيام الدليل،و إلاّ فيمكن أن يكون للميراث خصوصية غير موجودة في النكاح،أو يكون الجهل بالعوض مفسداً في البيع دون النكاح،لأنّ البيع مبادلة بين مالين،بخلاف النكاح فإنّه علاقة تجمع بين شخصين،فالعلّة هو الجهل بالعوض لا الجهل بالمهر،و المهر ليس عوضاً،و إن أطلق عليه العوض فإنّما هو

ص:141

بضرب من المجاز و الاستعارة.

التماس العلل و عوض النصوص عليها

إنّ التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية من طريق العقل و عرض النصوص على العلل المزعومة و جعلها مقياساً لصحّة النصوص الشرعية و بطلانها،كان أمراً رائجاً بين فقهاء السنّة في عصر الإمام الصادق عليه السلام،و على هذا النوع من الاصطلاح تنزّل التعبيرات الشائعة:«إنّ هذا الحكم موافق للقياس و ذلك الحكم مخالف له»،و ليس المراد من القياس فيها،القياس المعروف المؤلف من الأصل و الفرع و الجامع بينهما،بل المراد:تصحيح الأحكام حسب العلل الّتي استحسنها الفقيه حسب عقله و ذوقه،فيوصف الحكم الموافق بالصحّة و المخالف بالبطلان.

و قد كان القياس بهذا المعنى مثارَ معركة فكرية واسعة النطاق على عهد الإمام الصادق عليه السلام و بعض فقهاء عصره،و على هذا الاصطلاح دارت المناظرة التالية بين الإمام و أبي حنيفة:روى أبو نعيم بسنده عن عمرو بن عبيد:دخلت على جعفر بن محمد أنا و ابن أبي ليلى و أبو حنيفة، فقال لابن أبي ليلى:من هذا معك؟ قال:هذا رجل له بصر و نفاذ في أمر الدين،قال:«لعلّه يقيس أمر الدين برأيه»إلى أن قال:«يا نعمان،حدثني أبي عن جدّي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:أوّل من قاس أمر الدين برأيه إبليس،قال اللّه تعالى له:اسجد لآدم،فقال:أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين،فمن قاس الدين برأيه قرنه اللّه تعالى يوم القيامة بإبليس،لأنّه اتّبعه بالقياس». (1)

ص:142


1- 1) .حلية الأولياء:197/3.

فالقياس في هذه الرواية منصرف إلى هذا المصطلح؛لأنّ إبليس تمرّد على الأمر بالسجود،لأنّه على خلاف قياسه،لتخيّله أنّ الأمر بالسجود يقتضي أن يبتني على أساس التفاضل العنصري،و لأجل هذا خطّأ الحكم الشرعي؛لاعتقاده بأنّه أفضل في عنصره من آدم؛لكونه مخلوقاً من نار و هو مخلوق من طين.

و على هذا الاصطلاح يبتني ما رواه أبان بقوله:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع امرأة،كم فيها؟ قال:«عشرة من الإبل»،قلت:قطع اثنين؟ قال:«عشرون»، قلت:قطع ثلاثاً؟ قال:«ثلاثون»،قلت:قطع أربعاً؟ قال:عشرون».

قلت:سبحان اللّه! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون،و يقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! إنّ هذا كان يبلغنا و نحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله، و نقول:الّذي جاء به الشيطان،فقال عليه السلام:«مهلاً يا أبان! هذا حكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم انّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثُلث الدية،فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف،يا أبان إنّك أخذتني بالقياس،و السنّة إذا قيست محق الدين». (1)

إنّما صار أبان إلى تخطئة الخبر الّذي وصل إليه حتّى نسبه إلى الشيطان،لأجل أنّه وجده خلاف ما حصّله و أصّله،و هو انّه كلّما ازدادت الأصابع المقطوعة تزداد الدية،فلمّا سمع قوله«قطع أربعاً،قال:عشرون»قامت سورته،إذ وجده مخالفاً للأصل الأصيل عنده،فردعه الإمام بأنّ هذا هو حكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و انّ استنكارك قائم على الأخذ بالقياس،و السنّة إذا قيست محق الدين،و تصحيح الأحكام و تخطئتها حسب الموازين المتخيّلة سبب لمحق الدين،و أنّى للعقول أن تصل إليها؟

ص:143


1- 1) .الوسائل:18،الباب44 من أبواب ديات الأعضاء،الحديث1. [1]

هذا أحد المصطلحين في القياس،و قد صار هذا الاصطلاح مهجوراً في العصور المتأخرة،و الرائج هو الاصطلاح التالي:

استنباط حكم واقعة-لم يرد فيها نصّ-من حكم واقعة ورد فيها نصّ؛لتساويهما في علّة الحكم و مناطه و ملاكه،و هو دليل ظنّي خارج عن نطاق البحث،فافهم و اغتنم.

التنصيص بالعلّة ليس من تنقيح المناط و لا تخريجه

قد علمت أنّ تنقيح المناط غير تخريجه و أنّ الأوّل من المداليل العرفية دون الثاني،و مع ذلك هنا قسم آخر خارج عن كلا القسمين، و إليك البيان:

إذا كان مناط الحكم و ملاكه مذكوراً في نفس الدليل على نحو يعلم منه أنّه تمام علّة الحكم لا حكمته.

فاستكشاف أحكام سائر الموارد عن طريق هذه العلّة من المداليل اللفظية،مثلاً إذا قال:الخمر حرام لأنّه مسكر،فإلحاق غير الخمر من سائر المسكرات،به ليس عملاً بالقياس المصطلح،بل عمل بالسنّة الشريفة و الضابطة الّتي أدلى بها الشارع.

و في الحقيقة إذا كان استخراج الحكم غير متوقّف إلاّ على فهم النص بلا حاجة إلى اجتهاد،فهو عمل بالظاهر،بخلاف ما إذا كان متوقّفاً وراء فهم النص على بذل جهد،و الوقوف على المناط،ثمّ التسوية،ثمّ الحكم،قال سبحانه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ» 1 فلا نحتاج في حكم الخير الكثير إلاّ إلى فهم مدلول الآية.

ص:144

و لنذكر مثالاً من طريقنا:

روى محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الإمام الرضا عليه السلام،أنّه قال:«ماء البئر واسع لا يفسده شيء،إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فيُنزح حتّى يذهب الريح و يطيب طعمه،لأنّ له مادة». (1)

فإنّ قوله:«لأنّ له مادة»بما أنّه تعليل لقوله:«لا يفسده شيء»يكون حجّة في غير ماء البئر أيضاً،فيشمل التعليل بعمومه،ماءَ البئر،و ماء الحمام و العيون و صنبور الخزّان و غيرها،فلا ينجس الماء إذا كان له مادة،فالعمل عندئذٍ بظاهر السنّة و لا صلة له بتنقيح المناط و تخريجه،فليس هناك أصل و لا فرع و لا انتقال من حكم الأصل إلى الفرع،بل موضوع الحكم هو العلّة و الفروع بأجمعها داخلة تحته.

و في ضوء ما ذكرنا،يكون العمل بالملاك المنصوص،عملاً بظاهر السنّة لا بالقياس،و أمّا المجتهد فعمله تطبيق الضابطة-الّتي أعطاها الشارع-على جميع الموارد دفعة واحدة،فليس هناك أصل و لا فرع و لا انتقال من حكم الأصل إلى الفرع،بل موضوع الحكم هو العلّة و الفروع بأجمعها داخلة تحته،كما أنّه ليس من مقولة تنقيح المناط و تخريجه.

أولوية الحكم في الفرع

إذا كان ثبوت الحكم في الفرع أولى من ثبوته في الأصل؛لقوة العلّة المفهومة فيه بطريق النص،فهو حجّة على الإطلاق،و هو أيضاً عمل بالنص لا بالقياس،كما أنّه ليس من مقولة تنقيح المناط و تخريجه،و على فرض كونه قياساً فهو حجّة عند

ص:145


1- 1) .وسائل الشيعة:1،الباب14 من أبواب الماء المطلق،الحديث6. [1]

الجميع،نظير الاحتجاج بقوله سبحانه: «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ» 1 على تحريم الضرب،و لا شكّ في وجوب الأخذ بهذا الحكم،لأنّه مدلول عرفي يقف عليه كل من تدبّر الآية.

ص:146

5

في مجال درك مصالح الأفعال و مفاسدها

إنّ الأحكام الشرعية عند الإمامية تابعة للمصالح و المفاسد،فلا واجب إلاّ لمصلحة في فعله،و لا حرام إلاّ لمفسدة في اقترافه،و التشريع الإلهي منزّه عن التشريع بلا ملاك،و نصوص الكتاب و السنّة يشهدان على ذلك:

إنّه سبحانه يُعلّل وجوب الاجتناب عن الخمر و الميسر بأنّ اقترافهما يورث العداوة و البغضاء و الصدّ عن ذكر اللّه عموماً و الصلاة خصوصاً،يقول عزّ و جلّ: «إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ». 1

كما أنّه يعلّل وجوب الصلاة بأنّها تنهى عن الفحشاء و المنكر،يقول سبحانه: «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» 2 ، إلى غير ذلك من الآيات الّتي تشير إلى ملاكات التشريع في الذكر الحكيم.

و كذلك الروايات فقد أكد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في بعض كلماته

ص:147

ذلك،فقال:«إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يبح أكلاً و لا شرباً إلاّ لما فيه المنفعة و الصلاح،و لم يُحرِّم إلاّ ما فيه الضرر و التلف و الفساد». (1)

و قال عليه السلام في وجه حرمة الدم:«إنّه يسيء الخلق،و يورث القسوة للقلب،و قلّة الرأفة و الرحمة،و لا يؤمن أن يقتل ولده و والده». (2)

و قال أبو جعفر الباقر عليه السلام:«إنّ مُدْمِن الخمر كعابد الوثن،و يورث الارتعاش،و يهدم مروّته،و يحمل على التجسّر على المحارم من سفك الدماء و ركوب الزنا». (3)

هذا من حيث الثبوت ممّا لا شكّ فيه.

إنّما الكلام في إمكان وقوف الفقيه على مصالح الأحكام و مفاسدها التي تدور عليها الأحكام إذا لم يرد فيها نصّ صحيح،فالحقّ هو التفصيل بين ما اتّفق العقلاء على وجود المصلحة أو المفسدة في الموضوع،و ما إذا لم يكن هناك اتّفاق من عامّة العقلاء،بل انفرد فيه فقيه واحد، و إليك البيان:

إذا كان إدراك المصلحة إدراكاً عامّاً يتّفق فيه العقلاء،كوجود المفسدة في استعمال المخدّرات،و المصلحة في استعمال اللقاح لصيانة الطفل عن الجُدْري و الحصبة حيث أصبح العقلاء متفقين على وجود المفسدة و المصلحة الملزمة،في ذلك فلا مانع من أن يتّخذ ما أدركه العقل من المصالح و المفاسد ملاكاً لكشف حكم الشرع،و أمّا إذا لم يكن كذلك،بل أدرك فقيه واحد أو فقيهان وجود المصلحة في إنشاء حكم،فهل يصحّ لهما إنشاء حكم وفق ما أدركاه،ينسبونه إلى الشريعة الإسلاميّة؟ فالجواب هو النفي،إذ من أين للعقل القطع بأنّ ما أدركه

ص:148


1- 1) .مستدرك الوسائل:71/3. [1]
2- 2) .بحار الأنوار:165/62،ح3. [2]
3- 3) .بحار الأنوار:164/62،ح2. [3]

علّة،هي العلّة التامة التي يدور الحكم مدارها،إذ يحتمل أن يكون هناك مانع من حكم الشرع على وفق ما أدركه العقل.

يقول المحقّق الأصفهاني:إنّ مصالح الأحكام الشرعية المولوية التي هي ملاكات تلك الأحكام و مناطاتها،لا تدخل تحت ضابطة، و عليه لا سبيل للعقل بما هو إليها. (1)

و الحاصل:أنّه لا يصحّ للفقيه أن يتّخذ ما أدركه من المصالح و المفاسد ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي من الوجوب و الحرمة حتّى يكون من مصادر التشريع.

أضف إلى ذلك أنّ المصالح و المفاسد لمّا لم تكن على وزان واحد،بل ربّ واجب يسوغ في طريق إحرازه اقتراف بعض المحرمات، لاشتماله على مصلحة كثيرة لا يجوز تركها بحال،كإنقاذ الإنسان المتوقّف على استطراق أرض الغير،بلا إذنه،و ربّ حرام ذي مفسدة كبيرة لا يجوز اقترافه و إن استلزم ترك الواجب أو الواجبات،فأنّى للعقل درك درجة المصلحة و المفسدة حتّى يكون مصدراً للتشريع و الحكم بالوجوب و الحرمة في عامة الحالات؟

إلى هنا تمّ بيان المجالات التي للعقل فيها دور في استكشاف الحكم الشرعي.

إذا عرفت ذلك فلندخل في مقالة الأخباريّين التي صارت سبباً للغور في هذا البحث.

ص:149


1- 1) .نهاية الدراية:130/2،الطبعة الحجريّة. [1]
6
اشارة

الحركة الأخبارية

في مطلع القرن الحادي عشر

ظهرت الحركة الأخبارية في مطلع القرن الحادي عشر،و قد شطبت على العلوم العقلية بقلم عريض،و لم تر للعقل أي وزن و لا اعتبار في العلوم إلاّ ما كانت مادته قريبةً من الحس،كالحساب و الهندسة و أمثال ذلك،و أمّا ما وراء ذلك فذهبت إلى أنّ العقل عاجز عن الإدراك الصحيح.

و قد رفع رايتها الشيخ محمد أمين بن محمد شريف الأسترآبادي الأخباري(المتوفّى عام 1033ه) و ألّف عند مجاورته للبلدين مكة المكرّمة و المدينة المنورة،كتابين في هذا المجال،و هما:

1.الفوائد المكية.

2.الفوائد المدنية.

و الأُسس التي قامت عليها المدرسة الأخبارية لا تعدو خمسة أُسس،و أمّا ما وراء ذلك فإنّما هو أُمور جزئية أو راجع إليها،و أمّا تلك الأُسس فهي عبارة عن:

ص:150

1.عدم حجّية ظواهر الكتاب إلاّ بعد ورود التفسير عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام،لما ورد من الأحاديث الناهية عن تفسير القرآن بالرأي أوّلاً،و لطروّ مخصّصات و مقيّدات على عمومه و خصوصه ثانياً.

2.نفي حجّية حكم العقل في المسائل الأُصولية و عدم الملازمة بين حكم العقل و النقل،و انّ ما حكم به العقل حكم به الشرع،لا أساس له.

3.نفي حجّية الإجماع من دون فرق بين المحصّل و المنقول.

4.ادّعاء قطعية صدور كلّ ما ورد في الكتب الحديثية الأربعة من الروايات،لاهتمام أصحابها بتلك الروايات،فلا يحتاج الفقيه إلى دراسة أسنادها أو تقسيمها إلى الأقسام الأربعة المشهورة،كما قام به ابن طاوس و تبعه العلاّمة.

5.التوقّف عن الحكم إذا لم يدل دليل من السنّة على حكم الموضوع،و الاحتياط في مقام العمل،مثلاً التدخين الذي كان موضوعاً جديداً آنذاك يُتوقف عن الحكم فيه و يراعى الاحتياط في مقام العمل بتركه.

ثمّ إنّ المحدّث الشيخ عبد اللّه بن الحاج صالح السماهيجي الذي هو أحد الأخباريين في القرن الثاني عشر،ألّف رسالة في المسائل الضرورية التي لا غنى عنها في مرحلتي الأُصول و الفروع،و قد ذكر في تلك الرسالة الفروق بين الأُصوليين و الأخباريين،فبلغت الأربعين. (1)

و قد نقلها صاحب الروضات في ترجمة محمد أمين مؤسس الأخبارية. (2)

و كما قلنا:فإنّ الأُسس الفارقة المهمة هي ما ذكرنا،و إليك نقل بعض الفروق الأُخرى:

ص:151


1- 1) .روضات الجنّات:250/4. [1]
2- 2) .روضات الجنّات:127/1. [2]

قال:

1.إنّ الأدلّة عند الأُصوليّين أربعة:الكتاب و السنّة و الإجماع و دليل العقل،و لكنّها عند الأخباريين تختصر بالأوّلين،بل بعضهم يقتصر على الثاني.

2.الأُصوليون يجوزون العمل بالظنون في نفس الحكم الشرعي،و الأخباريون لا يعوّلون إلاّ على العلم.إلاّ أنّ العلم عندهم قطعي واقعي،و عادي و أصلي،و هما ما وصلا عن المعصوم،و لم يجز فيه الخطأ عادة.

3.الأُصوليون يقسّمون الأخبار إلى الأربعة المشهورة،و الأخباريون إلى صحيح و ضعيف.

4.الأُصوليون يفسّرون الأقسام الأربعة للحديث بما هو المعروف في علم الدراية،و الأخباريون يفسّرون الصحيح بالمحفوف بالقرائن التي توجب العلم بالصدور عن المعصوم،و الضعيف بما هو عارٍ عن ذلك.

5.الأُصوليون يحصرون الناس في صنفين:مجتهد و مقلّد،و الأخباريون يقولون:إنّ الناس كلّهم مقلّدون للمعصوم و لا يجوز لهم الرجوع إلى المجتهد بغير حديث صحيح صريح.

إلى غير ذلك من الفروق.

و قبل الخوض في مقالة الأخباريين لا بدّ من الإشارة إلى بعض العوامل الّتي سبّبت ظهور هذه الفرقة؛فإنّ تبيينها من أهمّ المسائل في الأدوار الفقهية التي تحتاج إلى دراسة مفصّلة حتّى تعكس الظروف التي نشأت فيها الفكرة.

و هناك فروض مختلفة نقلناها في«تاريخ الفقه الإسلامي و أدواره» (1)،و من أراد التفصيل فليرجع إليها.

ص:152


1- 1) .تاريخ الفقه الإسلامي و أدواره:386. [1]

و الذي نظنّ أن يكون هو السبب الواقعي لظهور تلك الفرقة هو ما يلي:

سبب ظهور الفكر الأخباري

إنّ أصحاب الصادقين عليهما السلام و من بعدهم كانوا على قسمين،فقد كانوا بين مُكبٍ على جمع الأخبار و قراءتها و تصحيحها و جمعها في أصل أو كتاب دون أن يستنطقوا العقل في المعارف و المسائل العقليّة و الأُصوليّة،و بين آخذ بالنقل و العقل معاً،و نذكر من النصف الثاني:زرارة بن أعين،و يونس بن عبد الرحمن،و الفضل بن شاذان،و غيرهم،و كان الأكثر على الخط الأوّل،و قد استمرّ الخطّان إلى عصر الغيبة،فابن الجنيد و ابن أبي عقيل و من تلاهم إلى عصر الشيخ المفيد و تلميذيه المرتضى و الطوسي كانوا على خط الجمع بين العقل و النقل،و عند التعارض كانوا يقدّمون العقل القطعي على النقل الظنّي.

و قد امتد الخط الأوّل إلى القرن الخامس،و بعده انحسر أمام ازدهار الخط الثاني و كانت القوة للمنهج الثاني إلى القرن العاشر.

و بهذا يُعلم المراد من«الأخباري»في لسان العلاّمة و من قبله؛و هو الخبير بالأخبار و المدوّن و الناشر لها،دون أن يكون هناك منهج باسم الأخبارية أمامَ منهج الآخرين،نعم كان للطائفة الأُولى عقائد خاصة في بعض المسائل اعتمدوا فيها على بعض الروايات،فنقلها الصدوق في كتاب العقائد و نقدها الشيخ المفيد في كتاب تصحيح العقائد.

إنّ الأمين الاسترآبادي تصور أنّ الخط الأوّل كان منهجاً منسجماً تام الأركان في عصر الأئمة و بعدهم،و لكن غلب عليهم عصر الاجتهاد و صار الأمين بصدد إحيائه و بسطه،و أسماه بالأخبارية،و ألقى فكرة الإحياء بصورة البرهان و نقد أُسس

ص:153

الأُصوليين،ثمّ إنّه تكاملت الفكرة الأخبارية بعد عصر الأمين بيد تلاميذ منهجه إلى أن عاد منهجاً متكاملاً يفارق الأُصوليين في أربعين مسألة أو بضع أُصول.

و ممّا نلفت إليه النظر أنّ الأمين مؤسس هذا المنهج ممّن يؤكّد على الحس و العلوم الّتي تكون مبادئها قريبة من الحس،و يندِّد بالعلوم النظرية الّتي تكون مبادئها بعيدة عنه،قائلاً:إنّ العلوم النظرية قسمان:

قسم ينتهي إلى مادّة قريبة من الإحساس،و من هذا القسم علم الهندسة و الحساب و أكثر أبواب المنطق،و هذا القسم لا يقع فيه الخلاف بين العلماء و الخطأ في نتائج الأفكار،و السبب في ذلك أنّ الخطأ في الفكر إمّا من جهة الصورة،أو من جهة المادة،و الخطأ من جهة الصورة لا يقع من العلماء،لأنّ معرفة الصورة من الأُمور الواضحة عند الأذهان المستقيمة،و الخطأ من جهة المادة لا يتصوّر في هذه العلوم لقرب الموارد فيها إلى الإحساس.

و قسم ينتهي إلى مادة بعيدة عن الإحساس؛و من هذا القسم الحكمة الإلهية و الطبيعية و علم الكلام و علم أُصول الفقه و المسائل النظرية و الفقهية و بعض القواعد المذكورة في كتب المنطق.

ثمّ استشهد بوقوع الاختلافات بين الفلاسفة. (1)

و العجب أنّ تلك الفكرة (الرجوع إلى الحس و الانكباب عليه) و الابتعاد عن النقل و النظر بدأت في الغرب قريباً من عصر الأمين،حيث رفع رايتها علماء تجريبيون،نظير ديكارت (1596- 1650م)،و من البعيد أن يكون هناك صلة بين الفريقين.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى توضيح مقالة الأخباريّين حول منع العمل

ص:154


1- 1) .الفوائد المدنية:130.

بالحكم المستنبط من غير الكتاب و السنّة و هي تحتمل أحد أمرين:

الأوّل:إنّهم يرفضون العمل بالمستنبط من غير المصدرين،لأجل أنّه لا يفيد القطع بالحكم،و أنّه لا يخرج عن دائرة الظن،و هذا يرجع إلى منع الصغرى.

الثاني:إنّهم يرفضون العمل بغيرهما و إن أفاد القطع بالحكم،و ذلك لعدم الملازمة بين حكم العقل و الشرع،و الظاهر من بعض كلمات المحدّث الاسترآبادي أنّه كان يركّز على منع الصغرى و هو منع إفادة القطع حيث يقول في كتابه:

الفصل الأوّل في إبطال التمسّك بالاستنباطات الظنيّة في نفس أحكامه تعالى،و يقول أيضاً في ذيل هذا الفصل:كلّ من قال بجواز التمسّك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى من محقّقي العامة و جمع من متأخري أصحابنا الخاصة اعترف بانحصار دليل جوازه بالإجماع. (1)

إلى غير ذلك من العبارات الّتي يجدها السابر لكتابه الدالّة على أنّه بصدد منع الصغرى.

و مع ذلك فاحتمال كون النزاع كبرويّاً و هو عدم حجّية القطع الحاصل من غير الكتاب و السنّة باقٍ بحاله،و ذلك لأجل نفي الملازمة بين الحكمين:العقلي و الشرعي.

لو افترضنا أنّ النزاع كبروي-أي في حجية القطع الحاصل من الأدلّة العقلية-فيقع الكلام في مقام الثبوت و الإثبات.

و المراد من الثبوت:إمكان النهي عن العمل به.

و المراد من مقام الإثبات:ورود النهي عنه شرعاً،بعد ثبوت الإمكان.

و إليك الكلام في كلا المقامين:

ص:155


1- 1) .الفوائد المدنية:90،الطبعة الحجرية.
المقام الأوّل:إمكان النهي عن العمل بالقطع

يظهر من بعض كلمات الشيخ الأعظم،امتناع النهي عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب و السنّة،لأنّه يعدّ تناقضاً في نظر القاطع مطلقاً،و في الواقع عند الإصابة.

لكن الحق جواز المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غيرهما،لأنّ للشارع التصرّف في موضوع إطاعته و امتثاله،بأن يطلب إطاعة الأحكام الّتي وصل إليها المكلّف عن طريق الكتاب و السنّة،فإنّ لزوم الإطاعة و إن كان عقلياً،لكن تحديد موضوعها سعة و ضيقاً بيد الشارع،فله أن يحدّد الموضوع و يخصّها بالأحكام المستنبطة من طريقيهما لا من الطرق الأُخرى.

هذا هو الوجه الذي اعتمدنا عليه،و لكن ذهب المحقّق النائيني إلى جواز التقييد بوجه آخر و هو قاعدة«نتيجة الإطلاق و التقييد»التي استفاد منها في غير مورد و منها:إمكان تخصيص الأحكام بالعالمين بالبيان التالي،و حاصله:إنّ العلم بالحكم لمّا كان من الانقسامات اللاحقة للحكم،فلا يمكن فيه التقييد؛لاستلزامه الدور،و إذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضاً،لأنّ التقابل بين الإطلاق و التقييد تقابل العدم و الملكة.

و من جانب آخر:أنّ الإهمال الثبوتي لا يعقل،بل لا بدّ إمّا من نتيجة الإطلاق أو من نتيجة التقييد،فإنّ الملاك الّذي اقتضى تشريع الحكم إمّا أن يكون محفوظاً في كلتا حالتي الجهل و العلم،فلا بدّ من نتيجة الإطلاق،و إمّا أن يكون محفوظاً في حالة العلم فقط،فلا بدّ من نتيجة التقييد، و حيث لم يمكن أن يكون الجعل الأوّلي متكفّلاً لبيان ذلك،فلا بدّ من جعل آخر يستفاد منه نتيجة الإطلاق و التقييد و هو المصطلح عليه ب(متمّم الجعل)،فاستكشاف كلّ من

ص:156

نتيجة الإطلاق و التقييد يكون من دليل آخر،و قد ادّعى تواتر الأدلّة على اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل،و أنّ الحكم مطلق في حقّ العالم و الجاهل،و لكن تلك الأدلّة قابلة للتخصيص،و قد خصّص في غير مورد،كما في مورد الجهر و الإخفات و القصر و الإتمام. (1)

و من هذه الموارد توجيه مقالة الأخباريين بأن يقال:إنّ الأحكام الواقعية قيّدت بنتيجة التقييد،و هي إنّ الأحكام الشرعية،إنّما تجب إطاعتها إذا وصلت إلى المكلّف عن طريق الكتاب و السنّة.

و يلاحظ عليه أوّلاً:بأنّ تقابل الإطلاق و التقييد اللحاظيّين تقابل الضدّين؛لفرض قيامهما بلحاظ السعة و الضيق،فكيف يكون تقابلهما تقابل العدم و الملكة؟

و ثانياً:سلّمنا أنّ التقابل بينهما تقابل العدم و الملكة،و لكن لا يصحّ ما رتب عليه،و هو أنّه إذا لم يصحّ تقييد الحكم بالعلم به يمتنع إطلاقه بالنسبة إلى العالم و الجاهل به،و ذلك لأنّ امتناع التقييد لأجل استلزامه الدور،و هو مختص بصورة التقييد بالعالم،فلا مانع من إطلاقه بالنسبة إلى كلتا الحالتين،فلا يلزم من امتناع التقييد امتناع الإطلاق.

و ثالثاً:أنّ المحذور-على فرض قبوله-إنّما هو في الإطلاق اللحاظي،بأن يلاحظ المكلّف في حالتي العلم و الجهل بالحكم،لا في الإطلاق الذاتي،و هو كون الطبيعة متعلّقة للحكم،أو كون ذات البالغ العاقل موضوعاً للحكم،و هذا متحقّق في كلتا الحالتين؛سواء أ كان هناك علم بالحكم أم لا.

فالمحذور المتصوّر في باب الإطلاق اللحاظي غير جارٍ في الإطلاق الذاتي فلا وجه لعدّهما من باب واحد.

ص:157


1- 1) .فوائد الأُصول:12/3.

هذا كلّه حول الثبوت،و قد عرفت إمكان المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب و السنّة.بقي الكلام في المقام الثاني:

المقام الثاني:في ورود المنع عن العمل أو عدمه

ذهبت الأخبارية إلى ورود المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب و السنّة،و قد استدلّوا بطوائف ثلاث من الروايات سيوافيك الكلام فيها.

و ربّما يستدلّ لهم بالدليل العقليّ و لنقدّم هذا القسم على الأدلّة النقلية.

الأوّل:احتمال سعة مناط الحكم عند العقل

إنّ العقل و إن كان يدرك الجهات المحسّنة و المقبّحة،إلاّ أنّه من الممكن أن تكون لتلك الجهات موانع و مزاحمات في الواقع و في نظر الشارع،و لم يصل العقل إليها؛إذ ليس من شأن العقل،الإحاطة بالواقع. (1)

يلاحظ عليه:أنّ ما ذكره خلاف المفروض،لأنّ الكلام فيما إذا حكم العقل بحكم قطعي على موضوع بما هو هو،كقبح الظلم و خيانة الأمانة،أو كقبح ترجيح المهم على الأهمّ،و عندئذٍ لا يحتمل أن يكون للحكم مانع في الواقع أو شرط عند الشارع،فما ذكره خارج عن محط البحث.

نعم لو احتمل العقل أحد هذه الأُمور لم يحكم بحكم باتّ.

الثاني:جواز خلو الواقعة من الحكم

يجوز أن لا يكون للشارع فيما حكم فيه العقل بالوجوب أو الحرمة،حكم

ص:158


1- 1) .فوائد الأُصول:60/3 ناقلاً عن كتاب الفصول.

أصلاً،لا موافقاً و لا مخالفاً،بأن تخلو الواقعة من الحكم رأساً،و على ذلك لا حكم للشرع في الموضوع وفاقاً أو خلافاً. (1)

يلاحظ عليه:أنّ احتمال خلو الواقعة من الحكم يخالف مع ما ورد عنهم عليهم السلام:«ما من شيء إلاّ و فيه كتاب أو سنّة».

و في حديث آخر:أ كلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه أو تقولون فيه؟ قال:«بل كلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه»أو«في الكتاب و السنّة». (2)

فكيف يمكن أن لا يكون للشارع حكم في الموضوعات الخطيرة،و قد قال صلى الله عليه و آله و سلم في خطبة حجّة الوداع:«يا أيّها الناس ما من شيء يقرّبكم من الجنّة و يباعدكم من النار،إلاّ و قد أمرتكم به،و ما من شيء يقربكم من النار و يباعدكم من الجنّة إلاّ و قد نهيتكم عنه». (3)

ثمّ إنّ الأخباريّين استدلّوا بطوائف من الروايات الّتي زعموا دلالتها على مدّعاهم،و إليك استعراضها تحت عناوين خاصة ليسهل للطالب الوقوف عليها،و لم نذكر جميع الروايات لأنّها غير خارجة عن تلك العناوين.

الطائفة الأُولى:لزوم توسيط الحجّة في بيان الحكم

قامت الأدلّة على لزوم العمل بحكم يتوسط الحجّة في تبليغه و بيانه،و لا عبرة بالحكم الواصل من غير تبليغ الحجّة.

و يدلّ على ذلك صحيح زرارة:«أما لو أنّ رجلاً صام نهاره،و قام ليله،و تصدّق بجميع ماله،و حجّ جميع دهره،و لم يعرف ولاية ولي اللّه فيواليه،و تكون

ص:159


1- 1) .الفصول في علم الأُصول:337. [1]
2- 2) .الكافي:59/1- 62،باب الردّ إلى الكتاب و السنّة. [2]
3- 3) .الوسائل:12،الباب12 من أبواب مقدّمات التجارة،الحديث2. [3]

جميع أعماله بدلالته إليه،ما كان له على اللّه ثواب،و لا كان من أهل الإيمان». (1)

و عن الرضا،عن آبائه عليهم السلام،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«من دان بغير سماع ألزمه اللّه البتة إلى الفناء». (2)

و قال أبو جعفر عليه السلام:«كلّ ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل». (3)إلى غير ذلك من الروايات.

و يلاحظ عليه:بما نوهنا به في محاضراتنا في غير مقام،و هو أنّه كما أنّ للآيات شأن نزول،فكذلك للروايات شأن صدور،و كما أنّ شأن النزول يرفع الإبهام الطارئ على الآية لأجل الفصل الزماني،فهكذا شأن الصدور بالنسبة للرواية.

و في ضوء تلك القاعدة فالرواية ناظرة إلى التابعين و الفقهاء،كأبي حنيفة و ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و غيرهم الذين أعرضوا عن أئمّة أهل البيت بتاتاً و لم يستضيئوا بنور علومهم،و إنّما اقتصروا على ما رواه الصحابة من المسانيد و المراسيل و الموقوفات غير الكافية في مجال الإجابة عن المسائل المستجدّة.

و أمّا فقهاء الشيعة الذين رجعوا في كلّ واقعة إلى الكتاب و السنّة و تمسّكوا بالثقلين،غاية الأمر أخذوا بالعقل في ماله شأن الحكم على وجه القطع و البت،فهؤلاء ليسوا من مصاديق الحديث،لأنّهم عرفوا ولاية ولي اللّه فوالوه في عامّة الموارد الّتي فيها لهم حكم و بيان و جعلوا أعمالهم بدلالة الولي،لكنّهم أخذوا في موارد بالحكم القاطع للعقل،لا لأجل الإعراض عن أبوابهم،بل من باب الأخذ بالحكم العقلي الّذي أيّده الأئمّة في غير واحد من رواياتهم.

ص:160


1- 1) .الوسائل:18،الباب6 من أبواب صفات القاضي،الحديث 13. [1]
2- 2) .الوسائل:18،الباب10 من أبواب صفات القاضي،الحديث 14،18. [2]
3- 3) .الوسائل:18،الباب10 من أبواب صفات القاضي،الحديث 14،18. [3]
الطائفة الثانية:ما يدلّ على عدم حجّية الرأي

و هناك طائفة أُخرى تدلّ على عدم حجّية الرأي،فقد روي عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال:«إنّ المؤمن أخذ دينه عن ربّه و لم يأخذه عن رأيه». (1)

و روى ابن مسكان،عن حبيب قال:قال لنا أبو عبد اللّه عليه السلام:«ما أحد أحبّ إليّ منكم،إنّ الناس سلكوا سبلاً شتّى،منهم من أخذ بهواه، و منهم من أخذ برأيه،و إنّكم أخذتم بأمر له أصل». (2)

يلاحظ عليه:أنّ المراد من الرأي هو الإفتاء بغير دليل قطعي أو سنّة صحيحة بشهادة قول أبي جعفر عليه السلام:«من أفتى الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم». (3)

و لذلك يوصف أصحاب القياس بأصحاب الرأي كأبي حنيفة و مدرسته.

روى الدميري عن بعض أصحاب أبي حنيفة أنّه سمع عن أبي حنيفة أنّه يقول:ما جاء عن رسول اللّه فعلى الرأس و العين،و ما جاء عن الصحابة اخترناه،و ما كان غير ذلك فهم رجال و نحن رجال.

و عن أبي حنيفة أنّه قال:علمنا هذا رأي و هو أحسن ما قدرنا عليه،فمن جاء بأحسن منه قبلناه. (4)

و على ذلك يحمل قوله عليه السلام:«من قال بالقرآن برأيه فقد أخطأ».

أي:قال فيه قولاً غير مستفاد من كتاب و لا سنّة و لا من دليل يعتمد عليه،بل قال برأيه حسب ما يقتضيه أمره و يذهب إليه وهمه بالظن و التخمين.

ص:161


1- 1) .الوسائل:18،الباب6 من أبواب صفات القاضي،الحديث 21،31،12. [1]
2- 2) .الوسائل:18،الباب6 من أبواب صفات القاضي،الحديث 21،31،12. [2]
3- 3) .الوسائل:18،الباب6 من أبواب صفات القاضي،الحديث 21،31،12. [3]
4- 4) .حياة الحيوان:103/2؛الملل و النحل للشهرستاني:338/1. [4]

و أين هذا من الإفتاء بالحكم العقلي القطعي الموافق للفطرة الإنسانية و الحكم الواضح عند العقلاء.

و الحاصل:إنّ هذه الرواية تندد بعمل أبي حنيفة؛فإنّه لم يثبت إلاّ سبعة عشر حديثاً من أحاديث النبي (1)و مع ذلك يبني على المقاييس و الآراء الّتي اعتمد عليها فقهه الّذي عمل به أغلبُ المسلمين.

و لذلك نرى أنّ الإمام الصادق عليه السلام يذمّ أبا حنيفة و ابن شبرمة،يقول الأخير:دخلت أنا و أبو حنيفة على جعفر بن محمد عليهما السلام فقال لأبي حنيفة:«اتّق اللّه و لا تقس في الدين برأيك،فإنّ أوّل من قاس إبليس». (2)

و كذلك قال أبو جعفر عليه السلام لسلمة بن كهيل و الحكم بن عتيبة:«شرّقا و غرّبا،فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا أهل البيت». (3)

الطائفة الثالثة:ما يدلّ على أنّ المرجع هو الكتاب و السنّة

هناك روايات تدلّ على أنّ المرجع في الأحكام هو الكتاب و السنّة،قال أمير المؤمنين عليه السلام:«من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال،و من أخذ دينه من الكتاب و السنّة زالت الجبال و لم يزل». (4)

و قال عليه السلام:«و إنّما الناس رجلان:متتبع شرعة،و مبتدع بدعة،ليس معه من اللّه برهان سنّة،و لا ضياء حجّة». (5)

يلاحظ عليه:أنّها بصدد ردّ علم من يعمل بكلّ ما اشتهر على ألسن الناس و إن لم يكن له دليل،مقابل من يرجع إلى الكتاب و السنّة،و لا صلة له بالبحث

ص:162


1- 1) .مقدّمة ابن خلدون:282،فصل الحديث،طبع دار و مكتبة الهلال.
2- 2) .الوسائل:18،الباب6 من أبواب صفات القاضي،الحديث 25 و 16. [1]
3- 3) .الوسائل:18،الباب6 من أبواب صفات القاضي،الحديث 25 و 16. [2]
4- 4) .الوسائل:18،الباب10 من أبواب صفات القاضي،الحديث 22و31. [3]
5- 5) .الوسائل:18،الباب10 من أبواب صفات القاضي،الحديث 22و31. [4]

أبداً.

و الحاصل:أنّ هذه الروايات الّتي حشدها صاحب الوسائل في الباب السادس و العاشر من أبواب صفات القاضي و غيرهما لا صلة لها بالمجتهدين الكبار الذين أخذوا الأُصول و الفروع عنهم عليهم السلام و أناخوا ركائبهم أمام أبوابهم عليهم السلام،بل هي راجعة إلى المعرضين عن أبوابهم.

و قد تقدّم أنّ قسماً من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام كزرارة و يونس بن عبد الرحمن و غيرهما كانوا على خط العقل مع العلم بالنقل و لم يعزلوا العقل عن منصة التشريع.

ثمّ إنّ للمحدّث الاسترآبادي مغالطة واضحة في بعض كلماته و طالما نسمعها من أصحاب التفكيك في عصرنا هذا.

قال:إن تمسّكنا بكلامهم فقد عصمنا عن الخطأ،و إن تمسّكنا بغيرهم لم نُعْصَم عنه،و من المعلوم أنّ العصمة من الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعاً و عقلاً.

يلاحظ عليه:أنّه مغالطة محضة،فإنّ المسلم الواعي لا يعوِّض كلامهم بشيء،إذ لا يعادله شيء،لكن الكلام في أنّه إذا لم يوجد عنهم نص صحيح،و لا ظاهر قويم،فهل هنا مرجع غير الشرع؟ فالأُصولي يجيب بالإثبات،لكن فيما إذا كان الموضوع ممّا يصحّ أن يرجع إليه، و الأخباري يجيب بالنفي.

بلغ الكلام إلى هنا ظهيرة يوم الأحد آخر

شهر شعبان المعظم من شهور عام 1424ه

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:163

ص:164

2

اشارة

مسلك حقّ الطاعة

بين الرفض و القبول

اتّفق الأُصوليون المتأخرون على أنّ المرجع في الشبهات الحكمية هو البراءة العقلية،فإذا شكّ الإنسان في وجوب شيء أو حرمته بعد الفحص عن مظان الدليل،يحكم العقل بعدم وجوبه و حرمته ظاهراً مستنداً إلى قبح العقاب بلا بيان.و لتوضيح مقصدهم نقول:

إنّ التمسك بالبراءة العقلية يتحدّد بأُمور:

الأوّل:عدم ورود البيان من المولى في المورد،سواء أ كان البيان بالعنوان الأوّلي أم بالعنوان الثانوي،مثلاً:إذا شككنا في حرمة شرب التتن،فالعقل لا يمنع من الارتكاب بشرط أن لا يرد في المقام بيان في حرمة شرب التتن إمّا بما هو هو كما إذا قال:لا تشرب التتن،أو بما هو مشكوك الحرمة كأن يقول:إذا شككت في حرمة شيء فعليك بالاحتياط،فالبراءة العقلية رهن عدم وجود أحد البيانين و إلاّ فيرتفع موضوعها.

الثاني:عدم احتمال وجود غرض مهم للمولى في المورد بخصوصه على نحو

ص:165

لا يرضى بتركه حتّى في صورة الظن و الشكّ،كما إذا شاهدنا غريقاً نحتمل أنّه ولد المولى،فالعقل يحكم بالاحتياط لافتراض انّ التكليف فعلي منجز في صورة الاحتمال أيضاً،كما هو كذلك في صورتي الظن و القطع.

الثالث:إذا تمكّن المولى من البيان،على نحو يكون قادراً على بيان مقاصده،و أغراضه بأحد الوجهين،و مع ذلك ترك البيان،و لم يُلزم العبدَ بالإيجاب و الترك فعندئذٍ يستقل العقل بعدم مسئولية العبد أمام مولاه،إذ لو كان له غرض لازم الاستيفاء لأبانه و بيّنه و لما سكت عنده.

نعم يمنع عن إجراء البراءة،انتفاء أحد الأُمور الثلاثة الماضية و ذلك بتحقّق أحد الأُمور التالية:

أ:ورود البيان من المولى إمّا بالعنوان الأوّلي أو بالعنوان الثانوي.

ب:احتمال وجود غرض مطلوب للمولى في المورد على نحو يكون الحكم فعلياً حتّى في صورة الشكّ أيضاً.

ج:كون المولى غير متمكّن من البيان،عاجزاً عن تقرير مقاصده،و ممنوعاً من التكلّم على نحو تنقطع منه صلته بالمكلَّف.

و المفروض وجود الشرائط الثلاثة و عدم انتفائها فتجري البراءة العقلية،لعدم تمامية الحجّة على العبد،لو لم نقل بالعكس.

إنّ استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان لا يتوقّف على إدخاله تحت عنوان الظلم بأن يكون العقاب مع عدم البيان ظلماً بالنسبة إلى العبد، لما قلنا في محلّه من أنّ المستقلات العقلية في الحكمة العمليّة أكثر من القضيتين المعروفتين:ب:«حسن العدل و قبح الظلم»،بل ربما يستقل العقل بأُمور،و إن لم ينطبق عليها عنوان الظلم أو العدل،كاستقلاله بحسن الوفاء بالميثاق و قبح نقضه،

ص:166

و كاستقلاله بحسن جزاء الإحسان بالإحسان و قبح جزائه بالسوء،و المقام أيضاً من هذا القبيل فالعقل مستقلّ بقبح العقاب مع تمكّن المولى من البيان،سواء أ كان العقاب في هذه الحالة من مصاديق الظلم أم لا.

ثمّ إنّ الأُمور الثلاثة التالية تؤيّد كون موقف العقل،عند الشكّ في الحكم الشرعي الإيجابي أو التحريمي،هو البراءة:

1.انّ النظام السائد بين العقلاء فيما يرجع إلى أمر الطاعة،هو البراءة ما لم يكن بيان في المقام،فالرئيس لا يحتج على من دونه في الرتبة و الدرجة،إلاّ بما بيّنه و شرحه له و أمره باتّباعه،و لو قام أحد الموظّفين،بكلّ ما أُمر به و بُيّن له،على نحو لم يفته شيء منه،و لكنّه ترك ما شكّ في مطلوبيته ممّا لم يكن موجوداً في برنامجه،يعدّ مطيعاً غير عاص،و لا يحتجّ الرئيس عليه بالشكّ و الترديد،مع أنّه كان متمكناً من البيان،و ما هو إلاّ لقضاء فطرتهم بذلك و عقولهم عليه لا أنّهم اتّفقوا على هذا التحديد،فاتّفاقهم على تلك الضابطة من وحي الفطرة،و لأجل ذلك صارت القاعدة عالمية لا تختص بقطر دون قطر أو شعب دون شعب،و السعة و العمومية-كما قلنا في محلّه-آية كون الحكم فطريّاً نابعاً من صميم ذات الإنسان لا أمراً اتّفق عليه العقلاء لمصالح و أغراض خاصّة.

2.انّه سبحانه يصرّح في غير واحد من آياته،بأنّ الغاية من إرسال الرسل،هو قطع عذر العباد،و إبطال حجّتهم على اللّه على نحو لو لا إرسال الرسل،لكانت الحجّة للعباد على اللّه تعالى.

يقول سبحانه: «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» 1 ،فالآية صريحة في أنّه سبحانه أبطل

ص:167

حجّتهم،بإرسال الرسل و أتم الحجّة عليهم به،مكان احتجاج العباد على اللّه إن لم يبعث الرسل.و الآية خير دليل على أنّه لا يحتج عليهم إلاّ بالبيان الواصل،و إلاّ لاحتجّ العباد على اللّه سبحانه بأنّه أهمل بيان مقاصده و أغراضه بترك إرسال الرسل.

و ليست الآية،هي الآية الفريدة في المقام بل تعزّزها آيات أُخرى يشهد الكلّ على أنّ الاحتجاج لا يتمّ إلاّ ببيان واصل،لا بالشكّ في التكليف،يقول سبحانه: «وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى» 1 ،فالآية كنظيرتها،صريحة في أنّ احتجاجه سبحانه على العباد،أو احتجاجهم عليه،يدور مدار البيان الواصل و عدمه،فلو صدر البيان من المولى،لصحّ الاحتجاج على العباد،و إلاّ لصحّ العكس،و اللّه سبحانه لإيصاد باب احتجاجهم عليه،بعث الأنبياء مبشرين و منذرين ليكون للّه سبحانه عليهم الحجّة،دون أن يكون لهم الحجّة عليه.

3.انّ سبحانه يتبرّأ في كثير من آياته من التعذيب قبل البيان،و يراه أمراً غير ممكن أو غير لائق بشأنه تعالى و ما هذا إلاّ لقبحه و يقول:

«وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً». 2

«ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً». 3

إنّ«كان»الناقصة إذا استعملت مع«ما»النافية يراد بها أحد المعنيين:

ص:168

1.نفي الشأنية و انّه غير لائق بمقامه سبحانه،مثل قوله: «وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ». 1 و المراد من الإيمان الصلاة إلى البيت المقدس،فأطلق الإيمان و أُريد به العمل.

2.نفي الإمكان،مثل قوله سبحانه: «وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ». 2 و المراد نفي الإمكان الذاتي لاستحالة وجود الممكن (الموت) بلا علّته التامة و هي إرادته سبحانه.

و على ضوء ذلك فالمراد من قوله «ما كُنّا مُعَذِّبِينَ» و قوله: «وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى» إمّا نفي الشأنية و انّه أجلّ من أن يرتكب هذا الأمر القبيح،(التعذيب بلا بيان).

أو نفي الإمكان الوقوعي لا الذاتي،فانّ التعذيب قبل البيان بملاحظة ما للّه سبحانه من صفات الحكمة أو العدل،لا يصدر منه و لا يقع.

و إن أردت إرجاع المعنيين إلى معنى واحد فلا مشاحّة.

فبهذه الأُمور الثلاثة،يتّضح أنّ ملاك الاحتجاج عند العقل على العباد،هو البيان الواصل،لا البيان المشكوك،و تكون البراءة العقلية في الشبهات الوجوبية أو التحريميّة أصلاً راسخاً لا تحركه العواصف.

فإن قلت:سلّمنا انّه لا يجوز العقاب إلاّ عند البيان،و لكنّه لا ينحصر البيان بالقسم القطعي،بل يعمّ الظنّي و الاحتمالي،فالظن بالتكليف أو احتماله،نوع بيان له.

ص:169

قلت:إنّ الموضوع لوجوب الطاعة،أو حرمة التمرّد هو البيان الواصل،فلا يصدقان إلاّ مع وصوله،أمّا الظن بالحكم و احتماله،فهما موضوعان لحسن الاحتياط،فلا يحسن إلاّ إذا كان هناك أحد الأمرين فيجب تمييز ما هو موضوع لوجوب الطاعة عمّا هو موضوع لحسن الاحتياط،فالبيان الظني أو الاحتمالي موضوعان للثاني دون الأوّل.و لو كان البيان الاحتمالي كافياً في إتمام الحجّة لما تبرّأ منه سبحانه لوجوده في أكثر الناس قبل بعث الرسل.

فإن قلت:ما الفرق بين مقاصد العبد و أغراضه،و مقاصد المولى و أغراضه،فانّ سعي العبد لا يتحدد بصورة القطع بها بل يعمّ صورتي الظن و الاحتمال،فليكن سعي العبد وراء مقاصد المولى و أغراضه كذلك،أ فهل يمكن أن تكون مقاصد الشريعة،أقل قيمة من أغراض العبد،و لا يجب تحصيلها عند الظن و الشك؟

قلت:لا شكّ انّ مقاصد الشريعة أولى و أفضل من المقاصد الدنيوية للعبد لكن الكلام في حد دائرة مسئولية العبد عند العقل،فهل هو مسئول عن عامة مقاصد المولى و أغراضه سواء أ كانت مقطوعة أم مظنونة أم مشكوكة،أو هو مسئول عمّا قامت الحجّة عليه،سواء أ كان هناك غرض أم لا،إنّ العقل الفطري يحكم بالثاني.

و إن شئت قلت:الواجب على العبد طاعة المولى فيما أمر و نهى،و عدم التمرد،حتى يدور في فلك العبودية و لا يخرج عن زيّ الرقية، و صدق الطاعة أو التمرد،فرع وجود موضوع لهما و لا موضوع إلاّ إذا تمّ البيان من المولى.

نعم ربما يكون الاحتمال منجّزاً للواقع،و باعثاً إلى الحركة نحو المحتمل،فيما لو احتمل انّه لو كان للمولى غرض في المقام،لما رضى بتركه-كما مرّ-و هو

ص:170

خارج عن محط البحث.

ثمّ إنّ لغير واحد من المحقّقين بياناً آخر لتقرير البراءة العقلية نذكره مشفوعاً بالنقد و التحليل.

1.البيان الواقعي غير محرّك

ذكر المحقّق النائيني قدس سره وجهاً لحكم العقل بالبراءة عند الشكّ في التكليف،حاصله:انّ مجرد البيان الواقعي،مع عدم وصوله إلى المكلّف،لا يكفي في صحّة المؤاخذة و استحقاق العقوبة،لأنّ وجود البيان الواقعي كعدمه،غير قابل لأن يكون باعثاً و محركاً لإرادة العبد ما لم يصل إليه الأمر و يكون له وجود علمي. (1)

يلاحظ عليه:أنّ الأمر مطلقاً،-بوجوده الواقعي و بوجوده العلمي-ليس محركاً للعبد نحو المطلوب و ليس له أثر-حتّى بعد الوصول - سوى بيان موضوع الطاعة،و إنّما المحرك لإرادة العبد هو الخوف من العقاب،أو الطمع في الثواب،و نسبة التحرك إلى الأمر،نسبة مجازية باعتبار كونه موضوعاً لما يترتّب على مخالفته،العقاب،و على موافقته الثواب.

فإذا لم يكن للأمر تأثير سوى بيان موضوع الطاعة،فلا بدّ من نقل الكلام،إلى تحديد مسئولية العبد-عند العقل-أمام المولى،فلو كان مسئولاً فيما تُعدّ موافقته طاعة،و مخالفته تمرّداً فلا يجب الاحتياط في صورة الظن بالتكليف أو احتماله،و لو كان مسئولاً أمام المولى مطلقاً في عامة الحالات،فلا بدّ من الاحتياط،فكون الأمر محركاً في صورة الوصول و غير محرّك عن غير هذه الصورة كأنّه أجنبيّ عمّا هو المقصود.و لا بدّ من التركيز على مقدار مسئولية العبد أمام مولاه كما عرفت

ص:171


1- 1) .فوائد الأُصول:365/3.

و العقل الفطري يحدد كمّية المسئولية،بما لو خرج عنه لعدّ متمرّداً،و لا يصدق التمرّد إلاّ إذا كان البيان واصلاً.

2.الحكم الحقيقي متقوّم بالبيان

و هنا بيان آخر لتبيين قبح العقاب بلا بيان و هو ما أفاده المحقّق الاصفهاني فقال:إنّ مدار الإطاعة و العصيان على الحكم الحقيقي، و الحكم الحقيقي متقوم بنحو من أنحاء الوصول لعدم معقولية تأثير الإنشاء الواقعي في انقداح الداعي،و حينئذٍ لا تكليف حقيقي مع عدم الوصول فلا مخالفة للتكليف الحقيقي،فلا عقاب،فانّه على مخالفة التكليف الحقيقي. (1)

يلاحظ عليه:أوّلاً:المنع من عدم كون الحكم الإنشائي،حكماً،بشهادة صحّة تقسيمه إلى الإنشائي و الفعلي،تقسيماً حقيقياً،لا مجازياً.

و ثانياً:أنّ الحكم الحقيقي أعمّ من الحكم الواصل إلى المكلّف،كما إذا تمّ البيان من المولى و لكن حالت الموانع بينه و بين المكلّف، فالحكم عندئذٍ فعليّ حقيقيّ غير منجّز،فلو كان المدار في وجوب الطاعة،هو الحكم الحقيقي فيجب الاحتياط إذا احتمل تمامية البيان من المولى أو ظن بها مع أنّه مجرى البراءة لدى القائل.

و الأولى تحديد موضوع وجوب الطاعة و حرمة التمرّد،فهل موضوع الوجوب هو انكشاف الواقع انكشافاً علميّاً،أو يعمّ مطلق الانكشاف و لو كان احتمالياً؟ فمن قال بعدم وجوب الاحتياط قال بالوجه الأوّل،و من قال بوجوبه قال بالوجه الثاني،فالواجب علينا تحرير موضوع وجوب الطاعة لا إحراز صدق الحكم و عدم

ص:172


1- 1) .نهاية الدراية:190/2. [1]

صدقه.

و قد عرفت أنّ العبد مسئول أمام المولى فيما أمر و نهى،إذ عندئذٍ يصدق أنّه مطيع لمولاه،غير متمرد و لا خارج زي الرقية،و ليس مسئولاً عمّا ظن و احتمل كما مرّ.

3.قبح العقاب بلا بيان عقلائي لا عقلي

اشارة

و ربّما يتصوّر انّ قبح العقاب بلا بيان،أمر عقلائي أمضاه الشارع،و ليس له من حكم العقل رصيد.

يلاحظ عليه:أنّه لو صحّ ما ذكر-و أغمضنا عمّا قلناه من قضاء العقل الفطري به بشهادة كونه عالمياً-لانقلبت البراءة العقلية عندئذٍ إلى البراءة الشرعية و هو خلف،لأنّ بناء العقلاء لا يحتجّ به إلاّ إذا أمضاه الشارع،و بعد الإمضاء يصير أصلاً شرعياً،لا عقلياً مع أنّ القائل يرى البراءة العقلية،غير البراءة الشرعية.

حقّ الطاعة للمولى

لا شكّ انّ للمولى،حقّ الطاعة على عبده و لكنّه يتحدّد-بقضاء العقل الفطري-بما إذا تمّت الحجّة عليه من جانب المولى ببيان ما وظيفته بأحد الوجهين،و بالتالي يتحدد بصورة القطع بالوظيفة الواقعية أو الظاهرية،و لا يشمل صور الظن بالحكم أو الشكّ فيه.

و ليس تحديد العقل موضوعَ الطاعة في المقام بمعنى حكومته على المولى سبحانه و تحديد مولويته بصورة العلم بالحكم بل هو كاشف عن واقعية ثابتة،

ص:173

و ذلك بالنظر إلى ما للمولى سبحانه من صفات ككونه حكيماً عادلاً،إلى غير ذلك من الصفات الكمالية نظير حكم العقل بعدم صدور القبيح منه فحكم العقل بعدم الصدور بمعنى استكشافه ذلك منه بالنظر إلى ما للمولى سبحانه من صفات تستلزم ذلك.

و قد وقفت على كلام للسيد الشهيد الصدر قدس سره و هو ينكر هذه القاعدة-أي قبح العقاب بلا بيان-و يعتمد على قضية حقّ الطاعة و يقول:

إنّ للمولى حقّ الطاعة في المجالات الثلاثة:القطع بالحكم،و الظن،و الاحتمال به.

ثمّ إنّه أوضح ذلك بما ألّفه بقلمه الشريف كالحلقات و بما قرره تلامذته،و نحن نذكر ما وقفنا عليه من كلماته أوّلاً ثمّ نردفه بنقل ما ذكره في محاضراته،و قد أسماه ب«مسلك حق الطاعة»،و ذكره في غير موضع من حلقاته كما ذكر ثمار المسلكين في الحلقة الثانية. (1)و إليك مقتطفات من كلامه.

حقّ الطاعة أوسع من العلم بالتكليف

قال:إنّ دائرة حقّ الطاعة أوسع من التكاليف المعلومة،بل يعمّ المظنونة و المحتملة،فحكم العقل بحقّ الطاعة للمولى غير محدّد بصورة العلم بالتكليف،و ذلك لأنّ مرجعه إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة في التكاليف المعلومة،خاصة فيما يرجع حكم العقل بمنجزية التكاليف المحتملة عندنا،إلى توسعة دائرة حقّ الطاعة و هكذا. (2)

ثمّ إنّه قدس سره بيّن ما يتبنّاه تحت عنوان«مسلك حقّ الطاعة»و قال:

ص:174


1- 1) .الحلقة الثانية:46- 51.
2- 2) .الحلقة الثالثة:13/2. [1]

نحن نؤمن في هذا المسلك بأنّ المولوية الذاتية الثابتة للّه سبحانه و تعالى لا تختص بالتكاليف المقطوعة،بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة و لو احتمالاً،و هذا من مدركات العقل العملي و هي غير مبرهنة،فكما أنّ أصل حقّ الطاعة للمنعِم و الخالق مدرك أوّلي للعقل العملي غير مبرهن،كذلك حدوده سعة و ضيقاً،و عليه فالقاعدة العملية الأوّلية هي أصالة الاشتغال بحكم العقل ما لم يثبت الترخيص الجادّ في ترك التحفظ، فلا بدّ من الكلام على هذا الترخيص و إمكان إثباته شرعاً و هو ما يسمّى بالبراءة الشرعية. (1)

يلاحظ عليه بوجهين:أمّا أوّلاً:فإنّ ما أفاده«انّ أصل حقّ الطاعة للمنعم و الخالق مدرك أوّلي للعقل العملي غير مبرهن كذلك حدوده سعة و ضيقاً»منظور فيه،فإن أراد بالبرهان،البراهين الفلسفية الّتي يستلزم فرض نقيض المطلوب فيها اجتماعَ النقيضين أو ارتفاعهما فهو صحيح لكن هذا النوع من البرهان يختصّ بمسائل الحكمة النظرية لا الحكمة العملية و المفروض انّ المقام من القسم الثاني،و عدم وجود هذا النوع من البرهان في المقام لا يضرّ بقطعية القضية لاستقلال العقل العملي بالبراءة عندئذٍ.

و إن أراد من عدم كونه برهانيّاً انّ العقل العملي لا يدرك دركاً وجدانياً ما هو حكمه في مورد حقّ الطاعة و لا موضوعه سعة و ضيقاً فهو مرفوض،إذ لا معنى لأن يتوقّف العقل في الموضوعات الّتي له فيها حقّ القضاء،و قد عرفت أنّ العقل في الشبهات الحكمية البدوية يحكم بحكمين:

1.إذا احتمل العبد انّ للمولى غرضاً لازم الاستيفاء في عامة المجالات و إن كان مشكوكاً،فعندئذٍ يستقلّ بالاشتغال و اعمال الاحتياط و مورد هذا النوع من

ص:175


1- 1) .الحلقة الثالثة:33/2. [1]

الشكّ متوفّر في الشبهات الموضوعية غالباً.

2.إذا شكّ في حرمة شيء أو وجوبه و لم يكن المورد من قبيل القسم الأوّل فالعقل يستقلّ بالبراءة لافتراض انّ المولى متمكن من بيان وظيفة العبد بأحد النحوين الماضيين،فإذا سكت،يستكشف العقل عدم حكم إلزامي في المقام و إلاّ لأعرب و أبان.

ثانياً:فلو افترضنا قضاء العقل الدقيق بلزوم الاحتياط في المشكوكات،فإنّما يصحّ الاعتماد عليه إذا كان الحكم (لزوم إطاعة المولى في المظنونات و المشكوكات) أمراً واضحاً عند أكثر العقول،فعلى المولى أن يعتمد على قضاء عقل العبد في ذلك المجال،و أمّا إذا كان حكمه مغفولاً عنه عند العامّة حيث اعتاد الناس أنّ الامتثال رهن البيان و قد عرفت أنّ السائد بين العقلاء فيما يرجع إلى الرئيس و المرءوس هو ذاك، فاعتماد المولى على هذا الحكم الخفيّ على أكثر الناس،غير صحيح.

هذا تحليل ما وقفنا عليه في الحلقة الثالثة من حلقاته الّتي ألّفها بقلمه الشريف.

ثمّ إنّه قدس سره بسط الكلام فيما تبنّاه من تقدّم حقّ الطاعة على قبح العقاب بلا بيان في محاضراته و جاء فيها ما يميط الستر عن مرامه،و نحن نذكر نصّ التقرير لكن بتلخيص.

التبعيض في التنجيز تبعيض في المولوية

يقول قدس سره:إنّ المولوية و حقّ الطاعة ينقسم إلى أقسام ثلاثة:

1.المولوية الذاتية الثابتة بلا جعل و اعتبار و الّتي هي أمر واقعي على حدّ

ص:176

واقعيات لوح الواقع و هذه مخصوصة باللّه تعالى بحكم مالكيته لنا،الثابتة بملاك خالقيته.

2.المولوية المجعولة من قبل المولى الحقيقي،كما في المولوية المجعولة للنبيّ أو الوليّ،و هذه تتبع في السعة و الضيق مقدار جعلها لا محالة.

3.المولوية المجعولة من قبل العقلاء أنفسهم بالتوافق على أنفسهم،كما في الموالي و السلطات الاجتماعية و هذه أيضاً تتبع مقدار الجعل و الاتّفاق العقلائي.

ثمّ قال:إنّ المشهور ميّزوا بين أمرين:مولوية المولى و منجزية أحكامه فكأنّه يوجد عندهم بابان:

أحدهما باب مولوية المولى الواقعية و هي عندهم أمر واقعي مفروغ عنه لا نزاع فيه و لا يكون للبحث عن حجّية القطع و منجزيته مساس به.

و الباب الآخر هو منجزية القطع و أنّه متى يكون تكليف المولى منجزاً؟!،و في هذا الباب ذكروا أنّ التكليف يتنجز بالوصول و القطع و لا يتنجز بلا وصول،و لهذا حكموا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

و يقولون هذا و كأنّهم لا يفترضون أنّه تفصيل بحسب روحه في الباب الأوّل و في حدود مولوية المولى و حق طاعته.

لكن هذا المنهج غير صحيح و انّ المنجزية الّتي جعلوها باباً ثانياً إنّما هي من لوازم أن يكون للمولى حقّ الطاعة على العبد في مورد التنجيز و أيَّ تبعيض عقلي في المنجزية بحسب الحقيقة،تبعيض في المولوية،فلا بدّ من جعل منهج البحث ابتداءً عن دائرة مولوية المولى و انّها بأيّ مقدار،و هنا فرضيات:

1.أن تكون مولوية المولى أمراً واقعياً موضوعها واقع التكليف بقطع النظر عن الانكشاف و درجته،و هذا باطل جزماً،لأنّه يستلزم أن يكون التكليف في موارد

ص:177

الجهل المركب منجزاً و مخالفته عصياناً،و هو خلف لمعذّرية القطع.

2.أن يكون حقّ الطاعة في خصوص ما يقطع به و يصل إلى المكلّفين من تكاليف المولى،و هذا هو روح موقف المشهور الّذي يعني التبعيض في المولوية بين موارد القطع و الوصول و موارد الشكّ،و لكنّا نرى بطلان هذه الفرضية أيضاً لأنّا نرى أنّ مولوية المولى من أتمّ مراتب المولوية على حدّ سائر صفاته،و حقّه في الطاعة على العباد أكبر حقّ،لأنّه ناشئ من المملوكية و العبودية الحقيقية.

3.المولوية في حدود ما لم يقطع بالعدم،و هذه هي التي ندّعيها و على أساسها ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان التي على أساسها ذهب المشهور إلى التبعيض في المولوية،و كأنّهم قاسوا ذلك ببعض المولويات العقلائية التي لا تثبت في غير موارد وصول التكليف،نعم لو قيل بأنّ الشارع أمضى السيرة و الطريقة المعتادة في المولويات الثابتة عند العقلاء و بمقدار ما تستوجبه من الحقّ فلا بأس به و يكون مرجع هذا بحسب الحقيقة إلى البراءة الشرعية المستكشفة عن طريق إمضاء السيرة العقلائية. (1)

يلاحظ عليه أوّلاً:أنّ تخصيص المشهور التنجزَ بصورة البيان الواصل ليس لغاية التبعيض في حق الطاعة،لافتراض انّه أمر واقعي نابع من خالقيته أو منعميته بل تخصيصه بصورة وجود البيان لأجل وجود القصور في ناحية المطيع،لجهله بالحكم و عدم علمه بالوظيفة، فالمقتضي للطاعة و إن كان موجوداً،لكن المانع غير مفقود.

و ثانياً:لو كان تخصيص التنجيز بصورة البيان الواصل،تخصيصاً في مولوية المولى،يلزم تخصيص التنجيز بصورة ما لم يقطع بالعدم تبعيضاً في حقّ الطاعة

ص:178


1- 1) .بحوث في علم الأُصول:30/4، [1]مبحث القطع.

أيضاً لاستلزامه خروج صورة القطع بالخلاف من تحت حقّ الطاعة فلو كان حقّ الطاعة غير قابل للتبعيض يكون الملاك هو الصورة الأُولى التي ليس فيها أي تحديد للتنجيز و بالتالي لمولويته،و قد اعترف قدس سره ببطلانه.

ثمّ إنّ له قدس سره كلاماً آخر،في مبحث البراءة يتحد مضمونه مع ما سبق قال:

إنّ هناك خطأ أساسياً في هذا الطرز من التفكير،حيث فُصِّل بين الحجّية و المولوية مع أنّه لا فصل بينهما بل البحث عن الحجّية بحث عن حدود المولوية بحسب الحقيقة،لأنّ المولوية عبارة عن حقّ الطاعة،و حق الطاعة يدركه العقل بملاك من الملاكات،كملاك شكر المنعم أو ملاك الخالقية أو المالكية،و لكن حقّ الطاعة له مراتب و كلّما كان الملاك آكد كان حقّ الطاعة أوسع.

فقد يُفرض بعضُ المراتب من منعمية المنعم لا يترتب عليه حقّ الطاعة إلاّ في بعض التكاليف المهمة في كلّها،و قد تكون المنعمية أوسع بنحو يترتّب حقّ الطاعة في خصوص التكاليف المعلومة،و قد تكون مولوية المولى أوسع دائرة من ذلك بأنْ كانت منعميته بدرجة يترتّب عليه حقّ الطاعة حتّى في المشكوكات و المحتملات من التكاليف،فهذا بحسب الحقيقة سعة في دائرة المولوية،إذن فالحجّية ليست شيئاً منفصلاً عن المولوية و حق الطاعة.

و مرجع البحث في قاعدة قبح العقاب بلا بيان إلى البحث عن أنّ مولوية المولى هل تشمل التكاليف المحتملة أم لا.و لا شكّ انّه في التكاليف العقلائية عادة تكون المولوية ضيّقة و محدودة بموارد العلم بالتكليف،و أمّا في المولى الحقيقي فسعة المولوية و ضيقها يرجع فيهما إلى حكم العقل العملي تجاه الخالق سبحانه،و مظنوني انّه بعد الالتفات إلى ما بيّناه لا يبقى من لا يقول بسعة مولوية المولى الحقيقي بنحو تشمل حتّى التكاليف الموهومة.و من هنا نحن لا نرى جريان

ص:179

البراءة العقلية. (1)

يلاحظ عليه:بأنّه أي صلة بين كون المولوية ذاتية غير مجعولة نابعة من خالقيته و منعميّته و بين سعة الاحتجاج في صورة الشكّ في التكليف و عدم قيام الحجّة على العبد.فيمكن أن تكون مولويته وسيعة،لكن يكون حقّ الطاعة مضيّقاً،و ذلك لأنّ سعة المولوية،تابعة،لسعة ملاكها و هو كونه سبحانه في عامة الحالات خالقاً موجداً للعبد من العدم إلى الوجود فهو مولى العباد في جميع الأحوال.

و أمّا سعة الطاعة و ضيقها فليسا تابعين لسعة المولوية و ضيقها،بل تابعة لصحّة الاحتجاج على العبد عقلاً و عدمها.و قد عرفت اختصاصها بصورة وجود موضوع الطاعة.

و بعبارة ثانية:انّ جعل سعة الطاعة و ضيقها،مترتبين على سعة المولوية و عدمها غير صحيح،فإنّ السعة و الضيق في مجال الطاعة تابعان لصحّة الاحتجاج و عدمها،فإن قلنا بأنّه يصحّ الاحتجاج على العبد في كلّ الأحوال الثلاثة:القطع و الظن و الشك،وجب على العبد الطاعة من دون حاجة إلى ملاحظة سعة مولويته أو ضيقها.

و أمّا لو قلنا بعدم صحّة الاحتجاج على العبد إلاّ فيما تمت الحجّة فيه على العبد،فلا يصحّ الاحتجاج في صورة الظن و الشكّ،و إن كانت مولويته وسيعة.

و الشاهد على ذلك أنّه ربما تفترق المولوية،عن حقّ الطاعة و التنجيز في صورة القطع بالخلاف،فالمولوية ثابتة حتّى مع الجهل المركب و لا يمكن سلبها

ص:180


1- 1) .بحوث في علم الأُصول:24/5، [1]مباحث الأُصول العملية.

عن العباد لكونها نابعة من أمر تكويني ذاتي،دون حقّ الطاعة أو التنجيز،بل هو مرتفع لكون القطع بالخلاف مانعاً من التنجز،و ليكن الجهل بالواقع كالقطع بالخلاف مانعاً،لا لقصور في المقتضي بل لوجود المانع.

و بعبارة ثالثة هاهنا أمران:

أحدهما:ملاك الطاعة و منشؤها.

ثانيهما:موضوع الطاعة.فملاك الطاعة ليس إلاّ المولوية،لكن موضوعها هو حكم المولى،و الوصول شرط لوجوب الطاعة،و هذا هو الوجه في كون دائرة المولوية أوسع من وجوب الطاعة،إذ الطاعة متفرعة على حكم المولى الواصل إلى العبد،و إن كان منشؤها هو مولوية المولى.

ص:181

تحليل الاعتراض على قاعدة مسلك الطاعة
خاتمة المطاف

قد تعرّفت على مغزى قاعدة«قبح العقاب بلا بيان»و انّها قاعدة محكمة،رصينة تعدّ من أحكام العقل العملي في الحكمة العملية،كما تعرّفت على مفاد قاعدة«حق الطاعة»و انّها كسابقتها،رصينة محكمة لكنّها محدّدة بما إذا قام الدليل على وجود التكليف و لا يكفي الظن بالتكليف و لا احتماله.

و قد اعترض على مسلك«حق الطاعة»بأُمور أهمّها وجود التزاحم بين الإلزام المستفاد من قاعدة حقّ الطاعة عند الشكّ في الوجوب، و ملاك الإباحة الاقتضائية الّتي تقتضي الترخيص و الحرية في العمل،و إليك بيان الاعتراض كما في بعض الرسائل:

«إنّنا في موارد الشكّ في التكليف كما نحتمل أن يكون الحكم الواقعي حكماً تكليفياً مشتملاً على ملاك اقتضائي للإلزام،كذلك نحتمل أن يكون حكماً ترخيصياً مشتملاً على ملاك اقتضائي للإباحة،فلو كان الاحتمال الأوّل مقتضياً لحكم العقل بالبناء على الإلزام،لضمان الحفاظ على الملاك الإلزامي المحتمل على فرض وجوده،لكان الاحتمال الثاني أيضاً مقتضياً لحكم العقل بالبناء على الترخيص لضمان الحفاظ على الملاك الترخيصي المحتمل على فرض وجوده،لأنّ

ص:182

كليهما من الملاكات ذات الأهمية عند المولى على فرض وجودها،و لا وجه لترجيح الأوّل على الثاني ما لم نحرز كونه أهمّ منه عند المولى إلى درجة تقتضي تقديم ضمان حفظه على ضمان حفظ الثاني عند التزاحم بينهما في مقام الحفظ».

نقد الاعتراض

الظاهر انّ الاعتراض غير وارد على مسلك حق الطاعة على فرض صحته،و شموله لحالتي الظن بالتكليف و احتماله،و يظهر ذلك من خلال بيان أمرين:

الأوّل:الفرق بين الحكم و التكليف

لا شكّ انّ الحكم مشترك بين الأحكام الخمسة،فالترخيص الاقتضائي رهن إنشاء إباحة ناشئة عن ملاك الترخيص الموجود في الشيء المباح،المقتضي الحكم بالتساوي بين الفعل و الترك،و شأن هذا الإنشاء كشأن سائر الأحكام الأربعة:الوجوب و الحرمة و الاستحباب و الكراهة، فالجميع رهن الإنشاء و نتاجه كما هو واضح.

و أمّا التكليف فهو و إن كان من أقسام الحكم لكن يتميّز عن مطلق الحكم بالسمات التالية:

أ.انّ التكليف يشتمل على طلب و بعث أو نهي و زجر،سواء أ كان الزامياً أم لم يكن.

ب.انّ امتثال التكليف يتّصف بالمشقة و العناء غالباً.

ج.انّ التكليف يتصوّر فيه الإطاعة و العصيان كما في الوجوب و الحرمة،أو الموافقة و المخالفة كما في الاستحباب و الكراهة،و بالتالي يكون المكلّف بالنسبة إليه

ص:183

إمّا مطيعاً أو عاصياً أو موافقاً أو مخالفاً.

د.انّ حقيقة التكليف تُلقي مسئولية على عاتق المكلّف سواء أ كانت بنحو الإلزام أم لا.

و هذه كلّها من سمات التكليف و هي متوفرة في الأحكام الأربعة دون الإباحة الاقتضائية فهي حكم و لكن ليس بتكليف.

فليس فيها طلب و لا بعث أو نهي أو زجر،و لا يستلزم العمل بها أي تعب و عناء،و لا يتصوّر فيها الطاعة و العصيان و لا الموافقة و المخالفة،و لا يثقل كاهل المكلّف بالحكم بالإباحة كلّ ذلك واضح عند التدبّر.

فإن قلت:كيف تكون الإباحة من مقولة الحكم دون التكليف مع أنّ الحكم منحصر في التكليفي و الوضعي،و على هذا فالإباحة الاقتضائية من مقولة التكليف أخذاً بحصر الحكم فيهما.

قلت:إنّ تسمية الأحكام الخمسة بالأحكام التكليفية من باب الغلبة،لأنّ الأربعة الباقية من مقولته.

نعم الإباحة الوضعية-كما في قوله سبحانه: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ» بمعنى إمضاء البيع و جعله ماضياً إمّا من مقولة التكليف،أو موضوع للتكليف و لعلّ الثاني أظهر.

فخرجنا بالنتيجة التالية:انّ في مورد الإباحة الذاتية حكم شرعي نابع من ملاك ذاتي في الفعل تقتضي إنشاء التسوية و الترخيص و ليس هناك من جانب المولى تكليف ملقى على عاتق العبد.

نعم الإباحة من الأحكام الشرعية فلو قلنا بالموافقة الالتزامية يجب الاعتقاد

ص:184

بها تفصيلاً و إن لم نقل بكفاية الاعتقاد بصحّة ما جاء به النبي فليس في موردها تكليف و بالتالي امتثال.

الثاني:مصب حق الطاعة هو التكليف لا مطلق الحكم

إنّ حقّ الطاعة عبارة عن تحمّل العبد مسئولية أمام المولى،و لزوم مثوله بين يديه فيما أمر به أو نهى عنه،فتختص بالطبع بموارد التكليف و لا تعمّ مطلق الحكم و بالتالي لا تشمل الإباحة الاقتضائية المعلومة تفصيلاً فضلاً عن الإباحة المحتملة.

كلّ ذلك لا لأجل التمسّك بلفظ الطاعة و الجمود عليه،بل لأنّ واقع الطاعة الذي هو عبارة عن مثول العبد أمام المولى يُحدِّد حقيقة الطاعة بما إذا كان العبد مسئولاً عمّا كُلِّف به.و أمّا الأحكام الإباحيّة الّتي ليس للمولى فيها طلب و لا بعث للعبد فلا موضوع هناك للطاعة و لا للمسئولية.

و عندئذٍ فإذا دار الأمر بين كون الحكم الواقعي حكماً تكليفياً مشتملاً على ملاك مقتض للإلزام أو حكماً ترخيصياً مشتملاً على ملاك يقتضي الترخيص و التسوية بين الفعل و الترك.

فإن قلنا:إنّ حقّ الطاعة يختصّ بالتكاليف المبيّنة من جانب المولى-كما هو المختار-لم يكن في مورد الشبهة أيّ موضوع لحقّ الطاعة.

أمّا بالنسبة إلى الوجوب المحتمل فلأجل اختصاص القاعدة بالوجوب المعلوم لا المحتمل.

و أمّا بالنسبة إلى الإباحة الاقتضائية فلأجل عدم وجود موضوع للطاعة حتّى يحكم العقل بوجوب الطاعة.

و أمّا إذا قلنا:إنّ حقّ الطاعة يسع التكاليف المعلومة و المظنونة و المحتملة

ص:185

فلا يزاحمه احتمال كون الحكم الواقعي إباحة اقتضائية.لعدم وجود موضوع للطاعة فيها و يتفرَّد الحكم الإلزامي المحتمل بالطاعة.

فإن قلت:هب:انّ الإباحة الاقتضائية ليست من أقسام التكليف و لا يتصوّر فيها الامتثال و العصيان لكن الغرض من إنشائها هو تيسير الأمر على المكلّف و إطلاق العنان له بين الفعل و الترك.

و على هذا فلو كان الأمر دائراً بين كونه واجباً أو مباحاً اقتضائياً،فإيجاب الاحتياط بمقتضى قاعدة حقّ الطاعة و إلزام المكلّف بالأخذ بالفعل ينافي ملاك الإباحة الاقتضائية الّتي مدارها إعطاء المكلّف كامل الحرية بين الفعل و الترك،فكون الفعل محتمل الوجوب يقتضي الإلزام و الضيق،كما أنّ كونه محتمل الإباحة يقتضي التيسير و السهولة و إطلاق العنان،فشمول القاعدة لهذه الصورة يوجد التزاحم بين الملاكين المحتملين.

قلت:إنّ الغرض من جعل الإباحة الاقتضائية يتلخّص في أمرين:

الأوّل:اعتقاد المكلّف بكون حكم اللّه في هذا المورد هي الإباحة لا غير،و هذا هو المسمّى بالموافقة الالتزامية،فلو كان الحكم أي الإباحة معلومة بالتفصيل وجب الاعتقاد بإباحتها تفصيلاً،و إن لم تكن معلومة بالتفصيل كما في المقام كفى الاعتقاد بصحّة ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم في هذا المورد إجمالاً،كلّ ذلك بناء على وجوب الموافقة الالتزامية.

الثاني:ترخيص المكلّف على الصعيد العملي من جانب الشارع دون أن يكون هناك إلزام.فإذا كان المطلوب من جعل الإباحة الاقتضائية،هو الترخيص بما هو هو فهذا حاصل غير منتف،إذ ليس من جانب المولى أي إيجاب أو تحريم

ص:186

بل حكم بالتسوية بين الفعل و الترك،و لكنّه لا ينافي أن يتعلّق إلزام بالفعل المباح القطعي،فضلاً عن المحتمل،لأجل انطباق عنوان آخر.

و يشهد على صحّة ما ذكرنا الأمران التاليان:

1.انّ الفعل المباح،إذا صار مبدأ للضرر و الحرج،يعرض عليه اللزوم دون أن يتصوّر وجود التزاحم بين ملاك الإباحة الاقتضائية، و ملاك حرمة الضرر و الحرج حتّى يكون تقديم حكمهما على الأُولى من باب الأولوية و الأحقية،لأنّ اقتضاء التسوية بما هو هو لا ينافي ترجيح أحد الطرفين لأجل عامل خارجي،فاقتضاء الميزان،تساوي الكفّتين،لا ينافي ترجيح أحد الطرفين بعامل خارجي،فلا موضوع للتزاحم حتّى يرجح أثر العامل الخارجي على التساوي الداخلي.

2.انّ الفعل المباح ربّما يقع مقدّمة للواجب و الحرام فإذا قلنا بالملازمة بين حكمي المقدّمة و ذيها،فعندئذٍ يعرض عليها الإلزام بالفعل و الترك،و لا يتصوّر فيه أي تزاحم بين ملاك الحكمين،حتّى يكون تقديم الإلزام على الإباحة من باب الأهميّة و الأولوية.

و ما ربما يقال:من أنّ العبد في الإباحة الاقتضائية مكلّف بحفظ غرض الشارع و مقصده،و هو الترخيص و التسهيل،فغير مفيد فإن أُريد انّه مكلّف في مرحلة الاعتقاد،فهو صحيح فأيّ اعتقاد بحكم الفعل يضاد الإباحة فهو تشريع محرم.

و إن أُريد انّه مكلّف به في مرحلة العمل فهو لازم الاتّباع لكن لو لم يحمله عامل خارجي على الأخذ بأحد الطرفين إلزاماً.

***

ص:187

تمّ الكلام حول القاعدتين يوم اندلعت نار الحرب بين الحكومة العراقية و قوات الاحتلال:البريطانيّة و الامريكيّة-خذلهما اللّه و ذلك في يوم الخميس،السادس عشر من شهر محرم الحرام من شهور عام 1424ه.

اللّهم احفظ الإسلام و المسلمين،و ردّ كيد الظالمين إلى نحورهم و بلادهم.

ص:188

3

اشارة

الجمع بين الحكم

الواقعي و الظاهري

إنّ العنوان الواقعي لهذه المسألة عند القدماء هو:جواز التعبّد بخبر الواحد عقلاً،و لكنه تغيّر عنوانها في الأعصار المتأخرة من عصر المحقّق البهبهاني (1118- 1206ه) إلى الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري و بقي إلى يومنا هذا.و إليك بعض كلمات القدماء:

قال المرتضى(355- 436ه):إنّ شبهة من أحال التعبّد بالعمل بالخبر الواحد في تخصيص أو غيره،التي عليها المدار و منها تتفرع جميع الشبه أنّ العموم طريقة العلم فلا يجوز أن يُخصّ بما طريق إثباته غالب العلم.ثمّ قام بقلع الشبهة. (1)

و قال الشيخ الطوسي(385- 460ه) في فصل خاص بذكر الخبر الواحد:اختلف الناس في خبر الواحد-إلى أن قال:-فقال قوم لا:يجوز العمل به عقلاً. (2)

ص:189


1- 1) .الذريعة:281/1.
2- 2) .العدّة:98/1. [1]

و قال المحقّق الحلّيّ(602- 676ه) في المعارج:يجوز التعبّد بخبر الواحد عقلاً خلافاً لابن قبة(قبل 317ه). (1)

و قال في المعالم:(965- 1011ه):و ما عُري من الخبر الواحد عن القرائن المفيدة للعلم يجوز التعبّد به عقلاً،و لا نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفاً سوى ما حكاه المحقّق عن ابن قبة،و يعزى إلى جماعة من أهل الخلاف. (2)

و في الجملة عنوان المسألة هو جواز التعبّد و إمكانه و عدمه.كما أنّ عنوان المسألة يختلف عن عنوان المتأخّرين لأجل اختلاف أدلّتهم على امتناع التعبّد.

ذكر المحقّق في المعارج استدلال القائلين بمنع التعبّد،قال:احتجّ الخصم بوجهين:

أحدهما:أنّ خبر الواحد لا يوجب العلم فيجب أن لا يعمل به،و[المقدمة] الأُولى ظاهرة و لأنّا لا نتكلم إلاّ ما في هذا شأنه من الأخبار، و أمّا الثانية فلأنّه عمل بما لا يؤمن كونه مفسدة.

ثانيهما:ثبت أنّه لا يقبل خبر النبي إلاّ بعد قيام المعجزة على صدقه ففي من عداه أولى. (3)

و أين هذا الاستدلال ممّا في كلام المتأخّرين من اجتماع المثلين أو الضدّين أو الإلقاء في المفسدة أو تفويت المصلحة،إلى غير ذلك ممّا سيمر عليك.

هذا هو العنوان عند القدماء،و أمّا عنوان المتأخّرين فهو الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري،سواء أ كان الحكم الظاهري موافقاً للواقع أم مخالفاً،لأنّ الحكم الظاهري إن كان مماثلاً للحكم الواقعي يلزم اجتماع المثلين و إن كان مخالفاً

ص:190


1- 1) .المعارج:80.
2- 2) .المعالم:340.
3- 3) .المعارج:81.

له يلزم اجتماع الضدّين.

و أيضاً ففي الصورة الأُولى يلزم اجتماع الإرادتين في موضوع واحد،و في الصورة الثانية يلزم اجتماع مصلحة و مفسدة أو إرادة و كراهة في موضوع واحد.

هذا مع فرض حفظ الحكمين و الملاكين دون أن يكون هناك كسر و انكسار،و إلاّ فلو غلب ملاك الحكم الظاهري الملاكَ الواقعي و لم يكن في الساحة إلاّ الحكم الظاهري يلزم التصويب و اختصاص الحكم الواقعي بالعالمين و خروج الجاهلين من تحته،و هو تصويب باطل لاتّفاق الإمامية على أنّ أحكامه سبحانه مشتركة بين العالم و الجاهل.

و هذا ما دعا المحقّقين إلى الغور في هذا المقام حتّى يرفعوا بذلك مشكلة الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري.

و إذا أردت تصوير المحاذير بصورة واضحة فنقول:إنّ المحذور إمّا ملاكيّ و إمّا خطابيّ و إمّا مبادئيّ.

المحذور الملاكي

المراد بالمحذور الملاكي هو التزاحم في ملاكات الحكم كالمصلحة و المفسدة،حيث اتّفقت الإمامية على أنّ أحكام اللّه سبحانه تابعة للمصالح و المفاسد،فإذا كان الحكم الواقعي هو الحرمة و ملاكها المفسدة و كان الحكم الظاهري هو الوجوب و ملاكه هو المصلحة،يلزم اجتماع المصلحة و المفسدة،و هذا ما يعبر عنه بالمحذور الملاكي.و لا يختص المحذور الملاكي بهذه الصورة،و ربّما يتجلّى بصورة أُخرى و هي تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة؛كما إذا كان الحكم الواقعي هو الوجوب و الظاهري هو الإباحة،فالعمل بالثاني يفوّت مصلحة الحكم الواقعي؛كما أنّه إذا كان الحكم الواقعي هو الحرمة و الظاهري هو

ص:191

الوجوب فهو يوقع المكلّف في المفسدة.

هذا هو المحذور الملاكي،سواء أتجلّى بصورة اجتماع المصلحة و المفسدة أو بصورة تفويت المصلحة أو بصورة الإلقاء بالمفسدة.

المحذور الخطابي

المحذور الخطابي عبارة عن اجتماع المثلين أو الضدين،فعند الموافقة يلزم الأوّل،أي تشريع حكمين متماثلين لموضوع واحد؛و عند المخالفة يلزم الثاني،أي تشريع حكمين ضدّين لموضوع واحد.

المحذور المبادئي

المحذور المبادئي عبارة عن تواجد الإشكال في مبادئ الأحكام،أعني:الإرادة و الكراهة فانّ البعث و الزجر ينشئان منهما،فلو وافق الظاهري الحكم الواقعي يلزم اجتماع الإرادتين في شيء واحد،و إن خالفه يلزم اجتماع الإرادة و الكراهة.

هذا كلّه إذا لم يكن هناك كسر و انكسار بين الملاكين،و إلاّ فلو غلب ملاك الظاهري على ملاك الواقعي يلزم اختصاص الأحكام الواقعية بغير من قامت الأمارة عنده على خلاف الواقع،و هذا هو التصويب و تخصيص الأحكام بالعالمين و إخراج الجاهل عنها.

فعلى من يريد الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري و الالتزام بحكمين أحدهما ظاهري و الآخر واقعي السعي في حلّ المشاكل المتجلّية في ملاكات الأحكام تارة و في نفس الأحكام و خطاباته أُخرى و في مبادئ الأحكام من الإرادة

ص:192

و الكراهة و الحب و البغض ثالثاً.

1.المحذور الملاكي

اشارة

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أتى في«الكفاية»بأجوبة خمسة و كأنّه اختار الثلاثة الأُول و رفض الجواب الرابع و الخامس.

و نحن نذكر تلك الأجوبة مقرونة بالتحليل و التوضيح:

الأوّل:المجعول في الأحكام الظاهرية هو الحجيّة
اشارة

اختلفت كلمتهم فيما هو المجعول في باب الأمارات و الأُصول إلى أقوال،منها أنّ المجعول في الجميع هو الحجّية المنجلية في التنجز عند الإصابة و التعذير عند المخالفة،و على ذلك ليس هنا حكم ظاهري وراء الحكم الواقعي،بل ليس للشارع إلاّ حكم واحد باسم الحكم الواقعي،و أمّا الحكم الظاهري فليس له حقيقة سوى أنّ الشارع جعل الأمارة حجة فقط،لتكون منجّزة إذا أصابت و معذرة إذا أخطأت،و ليس جعل الحجيّة أمارة كخبر الواحد ملازماً لجعل المؤدّى و المحتوى.

هذا خلاصة الجواب:و إليك نص المحقّق الخراساني في هذا الصدد،قال:إنّ التعبّد بطريق غير علمي إنّما هو بجعله حجة و الحجّية المجعولة غير مستتبعة لانشاء أحكام تكليفية حسب ما أدّى إليه الطريق،بل إنّما تكون موجبة لتنجّز التكليف به إذا أصاب و صحة الاعتذار إليه إذا أخطأ،و تكون مخالفته و موافقته تجرّياً و انقياداً مع عدم إصابته كما هو شأن الحجّة غير المجعولة (العلم و القطع) فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدين،و لا طلب الضدين و لا اجتماع المفسدة و المصلحة و الكراهة و الإرادة. (1)

ص:193


1- 1) .الكفاية:48/2- 49. [1]

و هو قدس سره بإنكار الحكم الظاهري بتاتاً و أنّه ليس هناك حكم وراء الواقع أجاب عن جميع الإشكالات،إذ ليس هناك وراء الحكم الواقعي حكم حتّى يلزم الاجتماع-أي اجتماع حكمين ضدين أو مثلين-و لا الإرادة و لا الكراهة و لا المصلحة و لا المفسدة،لأنّ الاجتماع في أي مرتبة من المراتب من شئون وجود حكمين فإذا لم يكن هناك حكم ثانٍ لم يكن هناك ما يُعدّ من شئون الحكم الثاني أي الاجتماع في المظاهر الثلاثة.

نعم ما ذكره من الجواب لا يدفع محذور تفويت المصلحة،أو الإلقاء في المفسدة،فإنّ الأمر بالعمل بالأمارة بنفسه مفوّت لمصلحة الواقع أو موقع في المفسدة الواقعية و إن لم يتضمّن حكماً شرعياً،و قد أجاب عنه قدس سره بأنّه مدفوع بوجود مصلحة غالبة على مصلحة التفويت أو الإلقاء.

و لعلّ مراده من تلك المصلحة هو المصلحة السلوكية في منهج الشيخ الأنصاري،و المراد بها تسهيل الأمر على المسلمين،حيث إنّ الأمر بتحصيل الواقع يورث العسر و الحرج في أكثر الأزمنة بخلاف العمل بالأمارة،فإنّ فيه تسهيلاً للأمر و لو خالف الواقع بنسبة قليلة لكنّه يوافقه بنسبة كثيرة،و هذا المقدار من الخير الكثير يُجبر الشر القليل.

تحليل الجواب

و هذا الجواب غير خالٍ من الإشكال حيث إنّ القول بأنّ المجعول في باب الأمارات هو الحجّية خلاف التحقيق،فإنّه ليس للشارع أيّ جعل في باب الأمارات،بل أقصى ما قام به،انّه أمضى ما عليه العقلاء من العمل بقول الثقة،بالسكوت أو بإخراج الفاسق و إبقاء العادل بالروايات الإرجاعية و غيرها،فما ورد في الروايات إمّا إرشاد إلى الصغرى أو إمضاء لما في يد العقلاء حتّى أنّ ما ورد في

ص:194

التوقيع عن الناحية المقدسة،أعني قوله:«و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فانّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللّه»ليس بصدد إنشاء الحجّية،بل إخبار عن كونهم حجج اللّه كما يخبر عن نفسه بأنّه حجّة من اللّه،إذ لا معنى لإنشاء الحجّية على نفسه.

الثاني:أحد الحكمين حقيقي و الآخر طريقي
اشارة

هذا الجواب مبني على أنّ جعل الحجّية لا يفارق جعل المؤدّى،أي جعل الحكم الظاهري فلا يمكن لنا الالتزام بجعل الحجّية من دون الالتزام بلازمه،أي جعل الحكم الشرعي على وفق الأمارة،بل يمكن أن يقال أنّه لا معنى لجعل الحجّية سوى جعل تلك الأحكام.

و على ضوء هذا أجاب عن المحاذير بأنّ أحد الحكمين حقيقي و الآخر طريقي،و المراد من الحكم الحقيقي ما صدر عن مصلحة أو مفسدة في متعلّقه موجبة لإرادته و كراهته،مستلزمة لإنشائه زجراً أو بعثاً،كما أنّ المراد من الحكم الطريقي هو الحكم المنشأ عن مصلحة في نفس الحكم لا في المتعلّق،موجبة لإنشائه الذي هو سبب التنجز إن صادف الواقع و الاعتذار إن خالف الواقع و عندئذٍ ترتفع المحاذير.

أمّا المحذور الملاكي فلاختلاف متعلّق المصلحة و المفسدة،فحامل الملاك في الحكم الواقعي هو المتعلّق و الآخر هو نفس الحكم

أمّا الخطابي فهو مندفع باختلاف الحكمين جوهراً و ذاتاً،لأنّ أحدهما طريقي و الآخر حقيقي فلا يلزم من اجتماعهما (اجتماع المثلين) المحال،أو اجتماع الضدّين؛و أمّا المحذور المبادئي-أعني:الإرادة و الكراهة-فقد تعلّقا في الحكم

ص:195

الواقعي بالمتعلّق،و أمّا في الحكم الظاهري فليس هناك إرادة و كراهة بالنسبة إلى المتعلّق،نعم تعلّقت الإرادة في الثاني بنفس الإنشاء، و لا مانع من اجتماع الإرادتين إذا اختلفا في المتعلّق حيث إنّها في الواقعي تعلّقت بالمتعلّق و في الظاهري بالإنشاء.

تحليل الجواب

يلاحظ على هذا الجواب:أنّ القول بوجود حكمين أحدهما نفسي و الآخر طريقي قول بلا دليل،فإنّ المجعول هو الحكم الواقعي النفسي و لا دليل على جعل حكم طريقي في مقابل الحكم الواقعي،بل أقصى ما هناك هو الأمر بالعمل بالطرق ليتوصل بها المكلّف إلى الواقع، فإن أوصلته إليه فليس هنا إلاّ مؤدّى الأمارة الذي هو حكم واقعي،و إلاّ فتكون أُكذوبة نسبت إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الإمام عليه السلام.

و بالجملة:حكم نقلة الأحاديث و الروايات عن اللّه سبحانه بواسطة أنبيائه و أئمته،حكم الناطق في الأجهزة الإعلامية عن جانب الدولة، فلو أصاب خبره الواقع يكون المؤدّى نفس الواقع،و إن أخطأ يكون كلاماً مكذوباً على لسانها.

أضف إلى ذلك أنّ القول بتعلّق الإرادة في الحكم الحقيقي بالمتعلّق و في الحكم الطريقي بنفس الإنشاء خلطٌ بين الإرادة و الكراهة و الحب و البغض،فإنّ الأخيرين يتعلّقان في الحكم الواقعي بالمتعلّق و لا أثر منهما في الحكم الظاهري،و أمّا الإرادة التي تعدّ من مبادئ الحكم فالواقعي و الطريقي في ذلك المضمار سيّان في تعلّقها بالطلب الإنشائي مطلقاً كان واقعياً أو ظاهرياً.

ص:196

الثالث:تقسيم الفعلي إلى منجز و غير منجز

كان الجواب الثاني مبنيّاً على أنّ الحكم الظاهري ليس حكماً حقيقياً بل حكم طريقي للتنجيز و التعذير،و لكنّه ربّما لا يتماشى هذا الجواب في الأُصول العملية غير المحرزة كقوله:«كلّ شيء حلال حتّى تعلم أنّه حرام»فإنّ ظاهره جعل الحكم الحقيقي في صورة الشك في الحلية و الحرمة،و عند ذلك يعود المحذور عند ما كان الحكم الواقعي هو الحرمة و الظاهري هو الحليّة،حيث إنّ الإذن في الإقدام و الاقتحام ينافي المنع واقعاً و فعلاً،و ذلك لأنّ الإباحة على قسمين:

الأوّل:أن تكون ناشئة عن عدم مصلحة أو مفسدة ملزمتين أو غير ملزمتين.

الثاني:أن تكون ناشئة عن مصلحة في نفس الإباحة.

و من المعلوم أنّ الإباحة بالمعنى الثاني لا تجتمع مع النهي و عند ذلك التجأ المحقّق الخراساني إلى جواب ثالث و هو:

أنّ الأحكام الواقعية كلّها فعلية لكنّها على قسمين:

أ.فعلي منجز،و هو إذا علم به المكلّف أو أصابته الأمارة.

ب.فعلي غير منجز،و هو ما إذا خالفته الأمارة.

ففي مجرى الأُصول غير المحرزة نلتزم بأنّ الواقع فعلي غير منجز و الحكم المنجّز عبارة عن محتوى الأُصول غير المحرزة.

و بعبارة أُخرى الأحكام الواقعية فعلية إذا لم يكن هناك إذن في الترك لأجل المصلحة.

ص:197

الرابع:الحكم الواقعي إنشائي
اشارة

قد نسب المحقّق الخراساني هذا الجواب إلى الشيخ الأنصاري،و حاصله:أنّ الأحكام الواقعية أحكام إنشائية،و الأحكام الظاهرية أحكام فعلية.

و بعبارة أُخرى:الحكم الواقعي في مورد الأُصول و الأمارات عند ما كانت مخالفة له،ليس بفعلي.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين:
1.لو كانت الأحكام الواقعية أحكاماً إنشائية يلزم عدم وجوب امتثالها لو قامت الأمارة عليها،

و ذلك لأنّ جوهر الحكم الواقعي لمّا كان إنشائياً فقيام الأمارة لا يغيّر الواقع و لا يخرجه عن الإنشائية،لأنّها قامت على حكم إنشائي غير واجب الامتثال.

ثمّ أورد على نفسه و قال:لا مجال لهذا الإشكال،لأنّ الحكم الواقعي قبل قيام الأمارة عليه إنشائي و بقيامها عليه يصير فعلياً بالغاً تلك المرتبة.

ثمّ أجاب عنه ما هذا توضيحه:

إنّ الأمارة إنّما تخرج الحكم الإنشائي إلى مرتبة الفعلية إذا أدّت إلى الحكم الواقعي و قامت على الحكم الإنشائي الواقعي ففي هذه المرحلة ينقلب الحكم الواقعي الإنشائي إلى الفعلية.

و أمّا المقام فقد قامت على الحكم الانشائي التعبدي،لأنّ المفروض انّه لم يُحرز الحكم الواقعي الإنشائي بعدُ لعدم العلم بصدق الأمارة حتّى يصدق عليها انّها قامت على حكم واقعي إنشائي.

و بعبارة أُخرى:الموضوع لوجوب الامتثال هو الحكم الإنشائي الواقعي

ص:198

الذي قامت عليه الأمارة،و هذا فرع العلم بوجود الحكم الواقعي في مورد الأمارة،و المفروض عدمه،و الذي قامت عليه الأمارة هو الحكم الإنشائي التعبديّ أو التنزيلي الذي قامت عليه الأمارة و هو غير الموضوع.

و إلى هذا الجواب أشار بقوله:فانّه يقال لا يكاد يُحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي لا حقيقة و لا تعبداً إلاّ حكم إنشائي تعبداً لا حكم [واقعي] إنشائي أدت إليه الأمارة.أمّا حقيقة فواضح،و أمّا تعبّداً فلأنّ قصارى ما هو قضية حجية الأمارة كون مؤداه هو الواقع تعبّداً لا الواقع[الحقيقي] الذي أدّت إليه الأمارة.

ثمّ إنّه ضعّف الجواب عمّا أورده على نفسه و استسلم أمام الإشكال على مرامه،و ذلك بالبيان التالي:

نفترض أنّ الأثر الشرعي مترتّب على الحكم الواقعي الإنشائي إذا أدّت إليه الأمارة،فالموضوع مركّب من جزءين:

أ.الحكم الواقعي الإنشائي.

ب.الذي قامت عليه الأمارة.

فإذا قام الدليل على أنّ الأمارة حجّة،فهذا التنزيل فعل الحكيم لا بدّ من وجود الأثر له و لا يترتّب عليه الأثر إلاّ بتنزيل الجزء الأوّل،و هو أنّ مؤدّى الأمارة هو مؤدّى الواقع فصار الجزء الأوّل أيضاً محرزاً،فتنزيل الأمارة منزلة الحجة الشرعية يدلّ بالدلالة الاقتضائية على أنّ مؤدّى الأمارة نازل منزلة الواقع.و هذا هو المفهوم من عبارته في«الكفاية»في المقام حيث قال:

اللّهمّ إلاّ أن يقال أنّ الدليل على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع الذي صار مؤدّى لها،هو دليل الحجّية بدلالة الاقتضاء.

ص:199

و بالجملة إفاضة الحجّية على الأمارة فعل الحكيم،و هو بما هو هو لا يترتّب عليه الأثر إلاّ أن يصان عن اللغويّة بدلالة الاقتضاء بتنزيل آخر و هو جعل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع،فإذا قامت الأمارة على حكم فكأنّ الأمارة قامت على حكم واقعي إنشائي،فيتبدّل إلى الفعلية لتمام الموضوع.

و لكن الظاهر أنّ مراده من قوله:«لكنّه لا يكاد يتم إلاّ إذا لم يكن الأحكام بمرتبتها الإنشائية أثر أصلاً و إلاّ لم يكن لتلك الدلالة مجال كما لا يخفى»،هو انّ جعل الحجّية على الأحكام الإنشائية لا بدّ أن يحمل على بيان كون الأحكام الإنشائية تكون فعلية إذا قامت الأمارة عليها،و إلاّ-إذ لم يلازم قيام الأمارة فعلية الأحكام الواقعية-يكون جعل الحجّية على الأمارة أمراً لغواً،و يصون كلام الحكيم عن اللغو،يستدلّ بإفاضة الحجية عليها،على صيرورة الأحكام الإنشائية فعلية.

و على هذا التقرير يصحّ ما ذكره أخيراً-لا على التقرير المتقدم-«من أنّه لا يكاد يتمّ إلاّ إذا لم تكن الأحكام بمرتبتها الإنشائية أثر أصلاً و إلاّ لم يكن لتلك الدلالة مجال كما لا يخفى»،فلا يستكشف من جعل الحجّية للأمارة،صيرورة الأحكام الإنشائية فعلية،و ذلك لترتّب الأثر و إن لم تصر فعلية-كما في مورد النذر-كما إذا نذر للّه أن يصلّي ركعتين إذا قامت الأمارة على حكم إنشائي،فيجب العمل بالنذر و إن لم يصر فعلياً.

إلى هنا تمّ الكلام حول الإشكال الأوّل الذي أورده المحقّق الخراساني على الشيخ الأنصاري.و إليك الإشكال الثاني.

ص:200

2.وجود أحكام واقعية فعلية

و حاصل الإشكال هو:كيف يلتزم الشيخ بكون الأحكام الواقعية إنشائية مع أنّا نعلم وجود أحكام فعلية بعثية و زجرية في موارد الطرق و الأُصول العملية المتكفّلة لأحكام فعلية،فإذا قامت الأمارة على حكم فعلي و احتملنا مخالفتها للواقع يلزم منه احتمال اجتماع حكمين فعليين متنافيين فكما أنّ القطع بالمتنافي محال فهكذا احتماله.

ثمّ خرج المحقّق الخراساني بالنتيجة التالية و قال:فلا يصحّ التوفيق بين الحكمين بالتزام كون الحكم الفعلي الواقعي-الذي يكون مورد الطرق إنشائياً-غير فعلي.

أقول:ما نسبه المحقّق الخراساني إلى الشيخ لا يصدّقه كلامه في المقام،فيكون ما ساقه من الإشكالات أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع، لأنّ ظاهر كلامه في«الفرائد»أنّ الأحكام الواقعية فعلية،فإذا قامت الأمارة على وفقها فالمؤدّى هو نفس الحكم الواقعي،و أمّا إذا خالفها فالمكلّف معذور في مخالفة الحكم الواقعي غير أنّ المصلحة الفائتة أو المفسدة الواقعة،بالمصلحة السلوكية.و إليك بيان مرامه في ضمن أُمور:

1.الحكم الواقعي عند الشيخ هو الحكم المتعيّن المتعلّق بالعباد الذي تحكي عنه الأمارة و يتعلّق به العلم لا الظنّ،و قد أُمر السفراء بتبليغه و إن لم يلزم امتثاله فعلاً في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه إلاّ أنّه يكفي في كونه الحكم الواقعي،أنّه لا يُعذر فيه إذا كان عالماً به أو جاهلاً مقصّراً و الرخصة في تركه عقلاً كما في الجاهل القاصر أو شرعاً كمن قامت عنده أمارة معتبرة على خلافه. (1)

ص:201


1- 1) .الفرائد:30،طبعة رحمة [1]اللّه.

2.إنّه قدس سره دفع محذور تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة بالمصلحة السلوكية،و حاصل ما أفاد أنّ الإشكال إنّما يتوجّه إذا لم تتدارك المصلحة الفائتة أو المفسدة الواردة،بمصلحة في نفس التعبّد بالظن بمعنى انّه لا مانع أن يكون في سلوك الأمارة و تطبيق العمل عليها مصلحة يجبر بها الفائتة منها أو الواردة من المفسدة،و ذلك لأنّ في بعث الناس إلى تحصيل العلم مفسدة العسر و الحرج و بالتالي خروجهم عن الدين بخلاف الأمر بالعمل بالأمارة و الأُصول ففيها تسهيل للمكلّفين في سلوكهم الاجتماعي و الفردي،و المصلحة السلوكية لا تمسّ كرامة الواقع و لا تغيره غير أنّه إذا صادفت الأمارة الواقع يكون نفس الواقع و إلاّ يكون كاذباً،و لكن نفس العمل بالأمارة لما كان ذا مصلحة سلوكية يتدارك به ما فات من المصالح أو ابتلى به من المفاسد. (1)

و المتبادر من هذه العبارة أنّ العمل بالأمارة ذو مصلحة سلوكية،و هو مصلحة اليسر في العمل بالدين،لأنّ في بعث الناس إلى تحصيل العلم مفسدة العسر و الحرج.

و أمّا في مورد الأمارات فليس هنا جعل للحكم الشرعي،سواء أوافق الواقع أو خالف،و انّما تتضمن الأمارة وجوب العمل عليها لا وجوب إيجاد عمل«على طبقها». (2)

3.ثمّ إنّه قدس سره دفع بالأمرين السابقين كلّ المحاذير.

أمّا تفويت المصلحة و الإلقاء بالمفسدة فيتدارك بالمصلحة السلوكية.

و أمّا اجتماع المصلحة و المفسدة فأحد الأمرين قائم بموضوع الحكم

ص:202


1- 1) .الفرائد:30.
2- 2) .الفرائد:27،طبعة رحمة [1]اللّه.

الواقعي و الآخر بالعمل بالأمارة و نفس السلوك.

و أمّا محذور مبادئ الأحكام-أعني:الإرادة و الكراهة-فمتعلّق بأحدها الحكم الواقعي و الآخر العمل بالأمارة.

و أمّا محذور التضادّ الخطابي فهو مرفوع بإنكار الحكم الظاهري و أنّه ليس هنا حكم وراء الواقع.نعم أمر بالعمل بالأمارة لحيازة المصلحة السلوكية و بذلك تُعلم الأُمور التالية:

1.أنّ ما نسب المحقّق الخراساني إلى القائل بأنّ الأحكام الواقعية إنشائية ثمّ أورد عليه إشكالين بقوله تارة و أُخرى ثانياً أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع،لما عرفت من أنّ الشيخ يعتقد بأنّ الأحكام الواقعية لها خصائص أربع:

أ.لا يُعذر إذا كان عالماً.

ب.لا يُعذر إذا كان جاهلاً مقصّراً.

ج.يُعذر إذا كان جاهلاً قاصراً.

د.إذا كان معذوراً شرعاً.

و من له هذه الشئون الأربعة يكون (الحكم) فعلياً لا إنشائياً.

2.أنّ مرجع جواب الشيخ إلى الجواب الأوّل للمحقّق الخراساني من أنّ المجعول هو الحجّية لا الحكم الشرعي،غاية الأمر أنّ المحقّق الخراساني عبّر عن نظريته بأنّ المجعول هو الحجّية،و الشيخ الأنصاري عبّر عنها بأنّ المجعول وجوب العمل على الأمارة لا جعل مؤدّاها حكماً شرعياً.

3.إنّ الشيخ الأنصاري دفع عامّة المحاذير من غير فرق بين المحذور الملاكي(المفسدة و المصلحة) و المحذور المبادئي(الإرادة و الكراهة) و المحذور

ص:203

الخطابي(كاجتماع الضدين أو المثلين).

هذا ما فهمناه من التدبّر في كلام الشيخ و لكلّ فهمه و دليله.

الخامس:الحكمان ليسا في رتبة واحدة

قد أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله:إنّ الحكمين ليسا في مرتبة واحدة،بل في مرتبتين ضرورة تأخّر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين.

و الجواب منسوب إلى السيد محمد الفشاركي (المتوفّى 1315ه) و قد ذكره شيخ مشايخنا المحقّق الحائري في درره. (1)

و حاصل الجواب:أنّ صلاة الجمعة بما هي هي موضوع للوجوب،و أمّا الموضوع لعدم الوجوب أو الحرمة عبارة عن صلاة الجمعة التي تعلّق بها الحكم الواقعي و شك فيه،فهو موضوع للحرمة أو عدم الوجوب،و أمّا تأخّر الثاني عن الواقعي بمرتبتين فظاهر،لأنّ موضوع عدم الوجوب أو الحرمة مركب من أُمور ثلاثة:

أ.صلاة الجمعة.

ب.تعلّق الحكم الواقعي به.

ج.الشكّ فيه.

د.فعندئذٍ يترتّب عليه عدم الوجوب.

و عدم الوجوب متأخّر عن الحكم الواقعي برتبتين،لأنّ الحكم الواقعي في رتبة ثانية و الظاهري في رتبة رابعة.

ص:204


1- 1) .لاحظ درر الأُصول:25/2- 26. [1]

ثمّ أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ الحكم الظاهري و إن لم يكن في رتبة الحكم الواقعي لكن الحكم الواقعي-لأجل إطلاقه و شموله للحالات الثلاثة-أعني:العلم بالحكم الواقعي،أو الجهل به،أو الشكّ فيه-واقع في مرتبة الحكم الظاهري،و هذا الإشكال هو الذي ذكره المحقّق الخراساني في نقد القائلين بالترتب.

إلى هنا تمت الأجوبة الخمسة التي ذكرها الخراساني مع التفصيل و البيان.

جولتنا في المقام

قد عرفت مقالات القوم في الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي،غير أنّ هنا بياناً آخر و إن شئت فاجعله سادس الأجوبة و ربّما توجد جذوره في الأجوبة السابقة،و حاصله مبني على أمرين:

أ.أنّ حجّية الأمارة ليس إلاّ إمضاءً للسيرة العقلائية في حياتهم و معاشهم حيث يعتمدون على قول الثقة في مختلف المجالات لكن أخبار الثقة ليس إلاّ لغاية الإيصال إلى الواقع،فلو صادف ينجِّز و إلاّ يعذِّر دون أن يكون له دور في إنشاء الحكم وفق مؤدّاه،مثلاً إذا أخبرنا الناطق الرسمي للدولة عن حكم مصوّب فلا يحدث خبره إنشاء حكم،سواء أ كان موافقاً للواقع أو لا،بل لو صدق فقد أخبر بالواقع،و لو كذب فيكون المؤدّى كاذباً دون أن يكون هناك حكم خاطئ مجعول من جانب الدولة.

و على ضوء ذلك ليس في موارد الأمارات أي حكم مجعول و إنّما يؤخذ لأجل كونه طريقاً موصلاً.

ب.أنّ إيجاب العمل بالعلم موجب للعسر و الحرج و ربّما يكون سبباً لخروج

ص:205

الناس عن الدين،و لذلك قام الشارع بإمضاء ما بيد العقلاء من حجّية قول الثقة و غيره الذي يوافق الواقع 90%و يخالفه 10%،ففي تجويز العمل بالأمارة خير كثير و إن كان ينتهي إلى شر قليل على عكس إيجاب تحصيل العلم،ففيه الشر الكثير،فقدّم الأوّل على الثاني لتلك الغاية.

إذا عرفت ذلك فنقول:لا محذور بالتعبّد بالأمارة الظنيّة لا ملاكاً و لا خطاباً و لا مبادئياً.

أمّا الأوّل فله صورتان:

الأُولى:ما يتجلّى بصورة تفويت المصلحة و الإلقاء في المفسدة،كما إذا كان الشيء واجباً أو حراماً و دلّت الأمارة على حلّيته،ففيه تفويت المصلحة إذا كان واجباً،أو الإلقاء في المفسدة إذا كان حراماً.

الثانية:ما يتجلّى بصورة تدافع الملاكات كما إذا قامت الأمارة على وجوب ما كان حراماً في نفس الأمر،و إليك دراسة الصورتين:

أمّا الصورة الأُولى فإنّ في العمل بالأمارة و إن كان فوت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة في بعض الموارد،لكن في إيجاب العمل بتحصيل العلم و الاحتياط مفسدة كبرى و هي لزوم العسر و الحرج الشديدين اللّذين ربما يسببان رغبة الناس عن الدين و خروجهم عنه، زرافات و وحداناً،ففي هذا المأزق،يحكم العقل،بتقديم الأوّل على الثاني.

لا أقول:إنّ المصلحة الفائتة أو المفسدة الواردة تتدارك؛بل أقول:إنّ الأمارات حجّة من باب الطريقية المحضة،و إنّ قيام الأمارة لا يحدث مصلحة في المتعلّق،و لكن إذا دار الأمر بين الشرّ القليل و الشر الكثير يحكم العقل بتقديم الأوّل على الثاني.

ص:206

و أمّا الصورة الثانية،أعني:محذور تدافع الملاكات فدفعه واضح،لأنّه إنّما يلزم لو كانت الأمارة محدثة للمصلحة أو المفسدة في المتعلّق فيلزم التدافع و قد عرفت عدم دور للأمارة سوى الطريقية.

و بعبارة أُخرى:إذا كانت الأمارة تمس كرامة الواقع و تحدث مصلحة أو مفسدة في المتعلّق،كان للتدافع وجه،و أمّا لو قلنا بالطريقية المحضة كما هو الحق،فلا مصلحة و لا مفسدة في الحكم الظاهري حتى يتحقق التدافع.

حتى و لو قلنا بالمصلحة السلوكية لا يلزم التدافع،لأنّ المصلحة السلوكية مصلحة نوعية قائمة بنفس الأمر بالعمل بالأمارة لغاية إيجاد الرغبة في الدين فلا صلة لها بالمتعلّق الذي قامت به المصلحة و المفسدة.

و من هنا تبيّن انّه لا يكون في الأمر بالعمل بالأمارة أيُّ محذور ملاكي.

2.المحذور الخطابي

المحذور الخطابي يتلخّص في اجتماع المثلين أو اجتماع الضدّين.

و الجواب عنه بوجهين:

1.أنّ التماثل و التضادّ من أقسام التقابل،و كلاهما من الأعراض الخارجية التي توصف بها الأُمور الحقيقية.و أمّا البعث و الزجر الإنشائيّان فهما من الأُمور الاعتبارية التي لا توصف بالتضاد و التماثل إلاّ اعتباراً،و الاعتبار خفيف المئونة فلا مانع من إنشاء البعث و الزجر في شيء واحد.

و بعبارة أُخرى:انّ دلالة الألفاظ على المعاني بالوضع و الاعتبار،فإذا كان الوضع كذلك فالبعث و الزجر المفهومان من اللفظين أولى أن يكونا اعتباريين.

فإن قلت:إنّ إنشاء الإيجاب و الزجر مسبوقان بإرادتين متضادتين فكيف

ص:207

يمكن أن تتعلّق إرادتان بشيء واحد في آن واحد.

قلت:هذا محذور آخر سيوافيك بيانه في المحذور المبادئي و الكلام في المقام في المحذور الخطابي.

2.أنّ الإشكال مبني على أن يكون في مورد الأمارات و الأُصول حكم شرعي طبق المؤدّى،و هو خلاف التحقيق،إذ ليس للأمارة و الأُصول المحرزة دور سوى الطريقية و الإيصال إلى الواقع،فإن وافق الواقع فالمتحقّق هو الواقع و إلاّ فقد تضمّن خبراً كاذباً.

نعم يمكن القول بجعل الحكم الظاهري في الأُصول غير المحرزة كالحليّة في قوله:كلّ شيء حلال حتّى تعلم أنّه حرام،و كالطهارة في قوله:كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر،ففي هذه الصورة يدفع المحذور الخطابي بالجواب الأوّل و هو اعتبارية إنشاء الحليّة أو الطهارة.

3.المحذور المبادئي

إذا تعلّقت الإرادة القطعية بالأحكام الواقعية و في الوقت نفسه تعلّقت بالأحكام الظاهرية لزم ظهور الإرادتين المتماثلتين عند التوافق، أو المتضادتين عند التقارن،و يقرب منهما مشكلة الحب و البغض إذا كان هناك تخالف بين الحكم الظاهري و الحكم الواقعي.

و الجواب ما عرفت من أنّه ليس لنا في مورد الأمارات و الأُصول المحرزة حكم مجعول باسم الحكم الظاهري حتّى تتعلق به الإرادة و الكراهة،و لو كانت هناك إرادة أو كراهة فقد تعلّقتا بالحكم الواقعي فحديث اجتماع الإرادتين أو الإرادة و الكراهة أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

ص:208

نعم تعلّقت إرادة المولى بالعمل بالأمارة على الوجه الكلي تيسيراً و تسهيلاً للأمر،و أين هو من تعلّقها بالمتعلّق؟

و إن أبيت إلاّ عن القول بامتناع اجتماع الإرادتين حتى بهذا النحو بمعنى تعلّق الإرادة الذاتية بالمتعلّق و تعلّق إرادة أُخرى بالعمل بالأمارة المخالفة للواقع فلا محيص عن القول برفع الشارع اليد عن الحكم الواقعي،و إرادته للمصلحة العليا و هو ترغيب إلى الدين،و هذا لا يلازم التصويب،لأنّ الحكم الإنشائي المشترك بين العالم و الجاهل موجود غير مرفوع،بينما اللازم هو تعليق فعلية الحكم الواقعي أو تنجزه على عدم قيام الأمارة على خلافه،و بهذا اندفعت المحاذير الثلاثة:الملاكية و الخطابية و المبادئية.

ص:209

4

اشارة

دلالة الظواهر على معانيها

قطعية أو ظنّية؟

اشتهر بين الأُصوليّين أنّ دلالة الظواهر على معانيها ظنيّة لا قطعية،و بذلك جوّزوا تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد بحجّة أنّ ظواهر الكتاب ظنية.

و إليك سرد بعض الكلمات.

احتجّ القائل بعدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد،بأنّ الكتاب قطعي،و الخبر الواحد ظني،و الظني لا يعارض القطعي.

و ردّ عليه صاحب المعالم بأنّ مورد التخصيص هو الدلالة و هي ظنيّة و إن كان المتن قطعيّاً فلم يلزم ترك القطعي بالظني بل هو ترك الظنّي بالظنّي.

و بتقرير آخر:و هو انّ عام الكتاب و إن كان قطعي النقل لكنّه ظنّي الدلالة،و خاص الخبر و إن كان ظنّي النقل لكنّه قطعي الدلالة،فصار لكلّ،قوة من وجه،و ضعف من وجه فتساويا،فتعارضا،فوجب الجمع بينهما. (1)

ص:210


1- 1) .معالم الدين:306.

و قال المحقّق القمي في مسألة تخصيص الكتاب بالخبر الواحد:إنّ الكتاب و إن كان قطعي الصدور و لكنّه ظني الدلالة،و خاص الخبر و إن كان ظني الصدور و لكنّه قطعي الدلالة،فصار لكلّ،قوة من وجه،فتساويا فتعارضا،فوجب الجمع بينهما.

ثمّ ردّ عليه بأنّ الخاص أيضاً ليس بقطعي الدلالة-إلى أن انتهى إلى قوله:-بأنّ كليهما ظنيان تعارضا و تساويا،و لأجل أنّ التخصيص أرجح أنواع المجاز رجحنا التخصيص. (1)

نعم ذهب السيد المرتضى في«الذريعة»و الشيخ في«العدّة»إلى عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد،لا بملاك أنّ ظواهر الكتاب قطعيّة،بل لوجود القصور في حجّية خبر الواحد.

قال المرتضى:و الذي نذهب إليه أنّ أخبار الآحاد لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال و قد كان جائزاً أن يتعبد اللّه تعالى بذلك فيكون واجباً غير أنّه ما تعبّدنا به. (2)

و قال الشيخ في«العدّة»:لو سلّم لهم العمل بخبر الواحد على غاية اقتراحهم لم يجز تخصيص العموم به لأنّه ليس ما دلّ على وجوب العمل بها،يدلّ على جواز التخصيص كما أنّ ما دلّ على وجوب العمل بها،لا يدلّ على وجوب النسخ بها،بل احتاج ذلك إلى دليل غير ذلك فكذلك التخصيص فلا فرق بينهما. (3)

ص:211


1- 1) .القوانين المحكمة:309/1. [1]
2- 2) .الذريعة:280/1.
3- 3) .عدة الأُصول:345/1. [2]

نعم يظهر من بعض كلماته أنّ عموم الكتاب يفيد العلم و خبر الواحد يوجب غلبة الظن و لا يجوز أن يترك العلم للظن على حال،فوجب لذلك أن لا يُخص العموم به. (1)

و الظاهر أنّ مراده هو كون الكتاب قطعي الصدور و خبر الواحد ظنّي الصدور،فلا يترك القطعي بالظنّي،و إلاّ فلو أُريد العلم لأجل الدلالة فالخبر الواحد-مع قطع النظر عن الصدور-مثله.

الرازي و كون الظواهر ظنيّة

إنّ الرازي ممّن شرح هذا الموضوع و أثبت-حسب ظنّه-بأنّ الدلائل اللفظية ظنيّة،لأنّ التمسّك بالدلائل اللفظية موقوف على عشرة أُمور ظنّية،و الموقوف على الظنّي ظنّي.

و هذه الأُمور العشرة موجزها عبارة عن:

عصمة رواة مفردات تلك الألفاظ،و إعرابها،و تصريفها،و عدم الاشتراك،و المجاز،و النقل،و التخصيص بالأشخاص و الأزمنة،عدم الإضمار،و التأخير،و التقديم،و النسخ،و عدم المعارض العقلي،الذي لو كان لرجح عليه. (2)

ثمّ إنّه شرح الأُمور العشرة في غير واحد من كتبه و يتلخّص بالنحو التالي:

1.أنّ التمسّك بالدلائل اللفظية يتوقّف على نقل مفردات اللغة،و نقل النحو و التصريف،لكن رواية هذه الأشياء منقولة بالآحاد،لأنّها تنتهي إلى أشخاص قليلين،غير معصومين،و لا يمنع إقدامهم على الكذب،أو وقوعهم في

ص:212


1- 1) .عدة الأُصول:344/1. [1]
2- 2) .محصل [2]أفكار المتقدّمين و المتأخّرين للرازي:71.

الخطأ،و مثل هذه الرواية لا تفيد إلاّ الظن. (1)

2.و يتوقف على عدم الاشتراك،فإنّه بتقدير الاشتراك يجوز أن يكون مراد اللّه تعالى من هذا الكلام غير هذا المعنى الذي اعتقدناه، لكن نفي الاشتراك ظني. (2)

3.و يتوقف على المجاز،فإنّ حمل اللفظ على حقيقته إنّما يتعيّن لو لم يكن محمولاً على مجاز،لكن عدم المجاز مظنون. (3)

4.و يتوقف على عدم الحذف و الإضمار،لأنّ تجويزه يفضي إلى انقلاب النفي إثباتاً،و الإثبات نفياً،لكن عدم الحذف و الإضمار مظنون. (4)

5.و يتوقف على عدم التقديم و التأخير،لأنّ بسببهما يتغيّر المعنى،لكن عدمهما مظنون. (5)

6.و يتوقّف على عدم التخصيص،و عدمه مظنون. (6)

7.و يتوقّف على عدم الناسخ،و عدمه مظنون. (7)

8.و يتوقف على عدم النقل،بتقدير أن يقال:الشرع أو العرف نقله من معناه اللغوي إلى معنى آخر،كان المراد هو المنقول إليه لا ذلك الأصل. (8)

9.و يتوقّف على عدم المعارض النقلي،لأنّ الدلائل اللفظيّة قد يقع فيها التعارض،و يصار فيها إلى الترجيحات التي لا تفيد إلاّ الظن. (9)

ص:213


1- 1) .الأربعين:424. [1]
2- 2) .الأربعين:425. [2]
3- 3) .المطالب العالية:114/9. [3]
4- 4) .المطالب العالية:114/9. [4]
5- 5) .المطالب العالية:116/9. [5]
6- 6) .الأربعين:425. [6]
7- 7) .الأربعين:425.
8- 8) .المحصول:571/1. [7]
9- 9) .الأربعين:426. [8]

10.و يتوقف على سلامتها عن المعارض العقلي القاطع،لأنّ بتقدير وجوده يجب صرف الظاهر السمعي إلى التأويل،لكن عدم هذا المعارض القطعي مظنون لا معلوم،لأنّ أقصى ما في الباب أنّ الإنسان لا يعرف ذلك المعارض،لكن عدم العلم لا يفيد العلم بالعدم. (1)

ثمّ قال:«فثبت أنّ الدلائل النقلية موقوفة على هذه المقدرات العشرة،و كلّها ظنّية،و الموقوف على الظني أولى أن يكون ظنياً،فالدلائل النقلية ظنيّة». (2)

و قد تبعه غير واحد من المتكلّمين كالإيجي في مواقفه فنقل ما ذكره الرازي بحرفيته لكن على وجه الإيجاز.و لم يذكر أي مصدر لكلامه. (3)

و قد شرح السيد الشريف الجرجاني المواقف شرحاً مزجياً،و نحن نأتي بكلام الشارح،الممزوج بكلام الإيجي،لأنّ فيه إيضاحاً لمقاصده قال:

المقصد الثامن:الدلائل النقلية هل تفيد اليقين بما يستدل بها عليه من المطالب؟ قيل:لا لا تفيد،و هو مذهب المعتزلة و جمهور الأشاعرة.(لتوقّفه) أي توقّف كونها مفيدة لليقين(على العلم بالوضع) أي وضع الألفاظ المنقولة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم بازاء معان مخصوصة(و الإرادة) أي و على العلم بأنّ تلك المعاني مرادة منه(و الأوّل) و هو العلم بالوضع (إنّما يثبت بنقل اللغة) حتّى يتعيّن مدلولات جواهر الألفاظ(و) نقل (النحو) حتّى يتحقّق مدلولات الهيئات التركيبية (و) نقل(الصرف) حتّى يعرف مدلولات هيئات المفردات (و أُصولها) أي أُصول هذه العلوم الثلاثة(تثبت برواية الآحاد)،لأنّ مرجعها إلى أشعار العرب و أمثالها و أقوالها التي يرويها عنهم آحاد من الناس كالأصمعي و الخليل و سيبويه و على تقدير صحّة

ص:214


1- 1) .الأربعين:426. [1]
2- 2) .الأربعين:426. [2]
3- 3) .المواقف:40. [3]

الرواية يجوز الخطأ من العرب،فإنّ امرأ القيس قد خطئ في مواضع عديدة مع كونه من أكابر شعراء الجاهلية (و فروعها) تثبت (بالأقيسة و كلاهما) يعني رواية الآحاد و القياس دليلان (ظنيان) بلا شبهة.

(و الثاني) و هو العلم بالإرادة.

(يتوقّف على عدم النقل) أي نقل تلك الألفاظ عن معانيها المخصوصة التي كانت موضوعة بازائها في زمن النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى معان أُخرى،إذ على تقدير النقل يكون المراد بها تلك المعاني الأُولى لا المعاني الأُخرى التي نفهمها الآن منها.

(و) على عدم (الاشتراك)،إذ مع وجوده جاز أن يكون المراد معنى آخر مغايراً لما فهمناه.

(و) عدم (المجاز) إذ على تقدير التجوّز يكون المراد المعنى المجازي لا الحقيقي الذي تبادر إلى أذهاننا.

(و) عدم (الإضمار) إذ لو أضمر في الكلام شيء تغيّر معناه عن حاله.

(و) عدم (التخصيص) إذ على تقدير التخصيص كان المراد بعض ما تناوله اللفظ لا جميعه كما اعتقدناه.

(و) عدم (التقديم و التأخير) فانّه إذا فرض هناك تقديم و تأخير كان المراد معنى آخر لا ما أدركناه.

(و الكل) أي كلّ واحد من النقل و اخواته (لجوازه) في الكلام بحسب نفس الأمر(لا يجزم بانتفائه بل غايته الظن).

و اعلم أنّ بعضهم أسقط الإضمار بناء على دخوله في المجاز بالنقصان و ذكر النسخ و كأنّ المصنّف أدرجه في التخصيص،لأنّ النسخ على ما قيل تخصيص بحسب الأزمان.

ص:215

(ثمّ بعد) هذين (الأمرين) أعني:العلم بالوضع و العلم بالإرادة (لا بدّ من العلم بعدم المعارض العقلي). (1)

هذه كلمات الرازي و الايجي و الجرجاني،غير أنّ هنا نكتة نلفت إليها نظر القارئ،و هي:

دراسة أدلّة الرازي على أنّ دلالة الظواهر ظنيّة

إنّ هنا بحثاً صغروياً و بحثاً كبروياً.

فلو كان البحث مركّزاً على الفحص عن انعقاد الظهور للجملة و عدمه-و بعبارة أُخرى:هل للكلام ظهور أو لا-يكون البحث صغروياً، كما إذا كان البحث مركّزاً-على ظهور الكلام الذي فرغنا من ثبوته-هل يكشف عن المعاني،كشفاً قطعياً أو ظنيّاً أو لا؟ يكون البحث كبرويّاً.

و الكلام في المقام يدور حول الثاني،أي بعد ما ثبت للجملة ظهور،و صار الكلام ذا ظهور مستقر على نحو يُعد خلافه مرجوحاً أو غير ملتفت إليه.

و أمّا ما طرحه الرازي فإنّما يرجع إلى المقام الأوّل و هو الشكّ في وجود الظهور أو استقراره،فجعل-مثلاً-عدم الاشتراك سبباً لظنيّة الدلالة،إذ لو كان هناك اشتراك أو احتماله،لم ينعقد للكلام ظهور.

و هكذا كسائر الشكوك فإنّ الشكّ في كون اللفظ مستعملاً في المعنى المجازي أو كون الجملة مشتملة على الحذف و الإضمار كلّها يرجع إلى الشكّ في وجود الصغرى(وجود الظهور) و لا شكّ أنّ الشكّ فيه كافٍ في كون الدلالة ظنيّة.

ص:216


1- 1) .شرح المواقف:51/2- 52.

إنّما الكلام إذا تمّت دلالة الكلام و استقرّ ظهوره في معنى معيّن على نحو يُعد خلافه مرجوحاً أو غير ملتفت إليه فهل توصف دلالته حينئذٍ ظنيّة؟

و بذلك تعرف الفرق بين الظاهر و النصّ،فقد عرفا بوجوه مختلفة،و لكن أوجز التعاريف للنص و الظاهر هي ما يلي:

النص:ما لا يحتمل إلاّ معنىً واحداً.

الظاهر:ما يحتمل معنيين:أحدهما راجح ملتفت إليه،و الثاني مرجوح لا يلتفت إليه العرف.

و إن شئت قلت:إنّ النصّ ما لا يمكن صرفه إلاّ إلى معنى واحد و لو صرفه إلى معنى آخر لعُدّ المتكلّم متناقضاً و هذا بخلاف الظاهر،فإنّ صرفه إلى غير المعنى الظاهر أمر مرجوح و لكن لا يُعدّ تناقضاً،فالأوّل كقوله سبحانه: «قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ» فإنّ لفظة«أحد»نصّ في التوحيد و القول بالتثليث يناقضه أو قوله سبحانه: «فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً» 1 ،فإنّ الألف و كذا لفظ الخمسين و هكذا سائر ألفاظ الآية لا تحتمل إلاّ معنى واحداً.

و أمّا الثاني فكقوله:أكرم العلماء فإنّه ظاهر في عامة العلماء،و لكن لو قال بأنّ مقصودي منهم هو قسم العدول،فهذا يُعدّ خلافاً للظاهر و لا يعدّ الرجل مناقضاً إذا كان بصدد التشريع و التقنين،فإنّ المخصص في البيئات التقنينية يأتي متأخّراً غالباً لا مقارناً.

و لذلك لا يقبل من الإنسان-الذي ليس له شأن التقنين-إلقاء العام و إرادة الخاص إذا لم يذكر المخصّص في جنب العام.

ص:217

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ دلالة الظواهر على معانيها التي وضعت لها دلالة قطعيّة و ليست بظنية و من يصف دلالة الظواهر بالظنيّة يطلب منها ما لا يتوفر فيها،و سيتّضح ذلك بعد بيان مقدّمة.

تقسم الإرادة إلى استعمالية أو جدّية

اشارة

لا شكّ أنّ للمتكلّم الذي هو بصدد الإفادة و الاستفادة،إرادتين:

1.إرادة استعمالية.

2.إرادة جدّية.

و المراد من الإرادة الاستعمالية هو استعمال اللفظ في معناه،أو إحضار المعاني في ذهن المخاطب،سواء كان المتكلّم جادّاً أو هازلاً أو مورّياً أو غير ذلك،سواء كان المعنى حقيقياً أو مجازياً.

و المراد من الإرادة الجدية هو أن يكون ما استعمل فيه اللفظ مراداً له جدّاً،و ما هذا إلاّ لأنّه ربما يفارق المرادان:الاستعمالي،و الجدّي، كما في الهازل و المورّي و المقنّن الذي يُعلّق الحكم على العام و المطلق مع أنّ المراد الجدّي هو الخاص و المقيد،ففي هذه الموارد تغاير الإرادة الجدية الإرادة الاستعمالية،إمّا تغايراً تامّاً كما في الهازل و المورّي و اللاغي،أو تغايراً جزئياً كما في العام الذي أُريد منه الخاص،أو المطلق الذي أُريد منه المقيد بالإرادة الجدية.

إذا عرفت ذلك فنحن على القول بأنّ دلالة الظواهر على معانيها دلالة قطعية لا ظنّية و ذلك بوجوه من الأدلّة.

ص:218

الأوّل:المفاهمة على أساس القطع بالمراد

لا شكّ أنّ المفاهمة بين الناس في أصعدة الحياة المختلفة على أساس القطع و اليقين بمراد المتكلّم،فعند ما يخاطب الزوجُ الزوجةَ و الوالدُ الولدَ و المعلمُ المتعلّمَ و السوقيُ البائع المشتريَ و الموظف من راجعه،فلا يتردّد المخاطب في مقاصد المتكلّم،و ليس كلّ كلام يُلقى في هذه الأصعدة نصّاً اصطلاحياً و إنّما الغالب هو ما يسمّيه الأُصوليون بالظواهر،و إلاّ فلو كانت دلالة الجمل في الحياة العامة للإنسان ظنية، لانهارت الحياة و امتنع التفاهم.

إنّ الأساتذة في الجامعات،و المدرسين في الثانويات،يربّون جيلاً كبيراً بالظواهر التي زعم الرازي و غيره أنّها ظنيّة الدلالة باحتمال تطرق أحد أُمور عشرة مع أنّا نرى أنّ هذه الاحتمالات لا تنقدح في ذهن تلاميذهم،بل يتلقّون كلامهم و جملهم قاطعة الدلالة واضحة المراد.

و ممّا يرشد إلى ذلك أنّه سبحانه يصف الإنسان بقوله: «الرَّحْمنُ * خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ» فالإنسان بكلامه يبين مراده بالنص و الظاهر معاً فالقدح في دلالة الظواهر على المعاني كأنّه قدح في أبرز صفات الإنسان التي أشار إليها اللّه سبحانه في الآية المتقدّمة.

نعم دفع الأُصوليون الاحتمالات التي ذكرها الرازي و الإيجي و الجرجاني و من تقدّم عليهم أو تأخّر عنهم بأُصول عقلائية اختراعية، كدفع احتمال المجاز بأصالة الحقيقة،و دفع احتمال النقل و الإضمار بأصالة عدمهما،إلى غير ذلك من الأُصول اللفظية التي دفعوا بها تلك الاحتمالات الطارئة على الذهن.

و لكنّك خبير بأنّ المفاهمة تتحقّق بين الناس مع الغفلة عن هذه الأُصول،

ص:219

لأنّ هذه الشكوك لا تظهر في الأذهان حتّى تعالج بهذه الأُصول،و المخاطب يتلقّى دلالة الظواهر دلالة قطعية دون أن يحتمل إرادة المجاز أو وجود الإضمار و النقل حتّى يعالج تلك الشكوك بتلك الأُصول اللفظية.

الثاني:هداية الأنبياء على أساس القطع

لا شكّ أنّه سبحانه بعث أنبياؤه لهداية الناس كما أمر أولياؤه و علماء الأُمّة بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،و كلّ ذلك يتحقّق بمخاطبة الناس بما لديهم من النصوص و الظواهر،فلو كانت دلالة الظواهر على المقاصد دلالة ظنيّة لعرقلت خُطى الهداية و الإرشاد،و أصبح عندئذٍ تعليم الناس و إرشادهم كأُمنية غير محقّقة.يقول سبحانه: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ». 1

الثالث:صيرورة القرآن معجزة ظنّية

لو كانت دلالة الظواهر ظنيّة لزم أن يكون القرآن معجزة ظنّية،لأنّ الإعجاز أمر قائم باللفظ و المعنى،فلو كان ما يفهمه من ظواهر آياته مفهوماً ظنّياً يكون إعجازه مبنياً على أساس ظنّي،و النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين،و من المعلوم أنّ الإعجاز الظنّي لا يكون عماداً للنبوة التي تطلب لنفسها دليلاً قطعياً.

و على هذه الوجوه الثلاثة تكشف الظواهر عن المراد الجدّي-فضلاً عن الاستعمالي-كشفاً قطعياً،لا ظنيّاً،لما عرفت من أنّ المخاطبين لا يلتفتون إلى هذه الشكوك التي أبدعها إمام المشكّكين،بخلاف الوجه الرابع الآتي فإنّ الظواهر-على ذاك الوجه-تكشف عن المراد الاستعمالي كشفاً قطعياً،لا المراد الجدّي.

ص:220

الرابع:ما هي الرسالة الموضوعة على عاتق الظواهر؟
اشارة

ما نذكره في هذا المقام هو بيت القصيد بين الأدلّة و هو أنّ الذين يصفون الظواهر بظنية الدلالة لم يحقّقوا-تحقيقاً علمياً-المهمة التي أُلقيت على عاتق الظواهر فزعموا أنّ كشف الظواهر عن المراد الجدّي ظنّي لا قطعي،و لو كان هذا هو الأمر المهم على عاتق الظواهر كان لوصف دلالتها بالظنّية وجه،و لكن الوظيفة التي أُلقيت على عاتقها شيء آخر و هي بالنسبة إليها قطعية الدلالة.

توضيحه:أنّ الوظيفة الملقاة على عاتق الظواهر عبارة عن إحضار المعاني في ذهن المخاطب،سواء أ كانت المعاني حقائق أو مجازات، فلو قال:رأيت أسداً،فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى الحيوان المفترس،و إذا قال:رأيت أسداً في الحمام،فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى رجلاً شجاعاً فيه،فدلالة الجملة في كلا الموردين على المراد الاستعمالي قطعية و ليست بظنية،و قد أدّى اللفظ رسالته بأحسن وجه.و على ذلك لا تصحّ تسميته كشفاً ظنّياً،اللّهم إلاّ إذا كان الكلام مجملاً أو متشابهاً،فالكلام عندئذٍ يكون قاصراً عن إحضار المعنى الاستعمالي مشخصاً،لكنّهما خارجان عن محطّ البحث و الكلام في الظواهر لا في المجملات و المتشابهات.

سؤال و جواب

إنّ السبب لعدّ الظواهر من الظنون هو تطرق احتمالات إليها،و هي:

1.يحتمل أنّ المتكلم لم يستعمل اللفظ في معنى من المعاني.

2.أو استعمل في المعنى المجازي و لم ينصب قرينة.

ص:221

3.أو كان هازلاً في كلامه.

4.أو كان مورّياً في خطابه.

5.أو كان لاغياً فيما يلقيه.

6.أو أطلق العام و أراد الخاص.

7.أو أطلق المطلق و أراد المقيّد.

فمع تطرق هذه الاحتمالات إلى الظواهر،تسلب عنها القطعيةُ و تسبّب الاضطراب في كشف الإرادة الاستعمالية عن الإرادة الجدية على وجه القطع.

هذا هو السؤال و إليك الجواب بوجهين:

أوّلاً:إنّ الاحتمالات الخمسة الأُولى موجودة في النصوص أيضاً،فيحتمل فيها كون المتكلّم لاغياً أو هازلاً أو مورّياً أو متّقياً،إلى غير ذلك من الاحتمالات و مع ذلك نرى أنّ الأُصوليين يعدّونها من القطعيات.

ثانياً:إنّك قد عرفت أنّ الوظيفة الملقاة على عاتق الظواهر هي احضار المعاني المرادة استعمالاً في ذهن المخاطب و ليس لها دور في مجال المفاهمة إلاّ ذلك،و أمّا هذه الاحتمالات و دفعها و علاجها فليس على عاتق الظواهر حتّى توسم لأجل وجودها بوسم الظنّية،و لذلك قلنا إنّ النصوص و الظواهر أمام هذه الاحتمالات سواسية.

فمؤاخذة الظواهر بوسم الظنية أشبه بقول القائل: غيري جنى و أنا المعاقب فيكم فكأنّني سبابة المتندّم

و أمّا الاحتمالان الأخيران-أعني:احتمال استعمال العام و إرادة الخاص،أو المطلق و إرادة المقيّد-فهما و إن كانا من خصائص الظواهر و لا يوجدان في

ص:222

النصوص لكنّهما لا يضران بقطعية الدلالة،لما عرفت من أنّ المراد هو دلالتها على ما هو المراد استعمالاً لا ما هو المراد جدّاً،بل تعيين المراد الجدّي-عند طروء الشكّ و الريب-على عاتق أُصول عقلائية،تدور عليها رحى الحياة،و هي أنّ مقتضى كون المتكلّم حكيماً التحرز عما يُعدّ لغواً أو هزلاً.نعم في الموارد التي يحتمل فيها التقية أو التخصيص و التقييد،فكشف الظواهر عن المراد الجدّي فرع إحراز كون المتكلّم بصدد بيان المراد الواقعي أو عدم العثور على المخصص و المقيّد في مظانها.

فتلخص من هذا البحث الضافي أُمور:

الأوّل:إنّ البحث في المقام كبروي و ليس صغروياً بمعنى أنّ الكلام-بعد ثبوت ظهور للكلام-في أنّ دلالته على المعاني المرادة قطعية أو ظنية.

الثاني:ما جاء به الرازي من التشكيكات-على فرض صحتها يرجع إلى منع الصغرى،أي عدم وجود الظاهر لا إلى منع الكبرى.

الثالث:إنّ المفاهمة بين الناس على أساس القطع بالمراد الجدّي من غير فرق بين النصوص و الظواهر.

الرابع:ما عالج به الأُصوليون بعض الاحتمالات المضرّة بالظهور إنّما يحتاج إليها إذا كان هناك ريب و شك.

و المفروض صفاء ذهن المخاطبين في الأصعدة المختلفة عن هذه الشكوك حتّى تزال بها.

نعم على فرض طروء الشكوك فأصالة الحقيقة و عدم الاشتراك أو عدم النقل و الإضمار محكمة مفيدة.

ص:223

الخامس:المهمة الموضوعة على عاتق الظواهر هي دلالة المتكلّم على المراد الاستعمالي،و أمّا المراد الجدّي فليس على عاتق الظواهر بشهادة طروء الشكوك الخمسة على النصوص أيضاً.

السادس:بما أنّ المفاهمة في الأصعدة المختلفة على القطع بالمراد فالإرادة الاستعمالية تكشف عن المراد الجدي قطعياً،لما عرفت من أنّ الشكوك التي أثارها الأُصوليون من أصحابنا أو ما أثاره الرازي ممّا يغفل عنها المتكلّم و المخاطب.نعم لو طرأ شكٌّ-على فرض طروئه - فيعالج بالأُصول العقلائية.

السابع:لمّا جرت السيرة على فصل المخصص و المقيد عن العام و المطلق في صعيد التقنين و التشريع،فكشف الإرادة الاستعمالية عن الإرادة الجدّية يتوقف على الفحص عن المخصص و المقيّد.و كون المتكلّم على حالة التقنين يدفعنا إلى الفحص عنهما.

و لذلك لو لم يكن المتكلّم جالساً على منصة التشريع يتلقّى العام دليلاً على الجدّ و لا يلزم الفحص عن مخصّصه،و هكذا المطلق،يؤخذ به و لا يلتفت إلى مقيده.

جعفر السبحاني

/1ذو القعدة الحرام من شهور عام 1424ه

ص:224

الفصل الثالث:الكلام

اشارة

مسائل كلامية تجمعها وجود التناقض المحال فيها،و هي كما نذكر:

1.الاستغناء عن سنّة الرسول؟!

2.أُفكر فأنا موجود.

3.ماتت بلا بيعة.

4.عشرة في الجنة.

5.اللجنة السداسية لتعيين الخليفة.

6.السيرتان المتناقضتان في نقل حديث الرسول.

7.مات النبي بلا وصية في أمر الخلافة.

8.بين الجبر و الاختيار.

9.إنّما الأعمال بالنيات.

10.رؤية اللّه بين الرفض و القبول.

11.لا يكلّف اللّه نفساً إلّا وسعها.

12.عادل لا يجوز.

13.الطلاق مرّتان.

14.إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين.

ص:225

ص:226

تمهيد

كلّ إنسان يعرف بالفطرة أنّ الجمع بين الوجود و العدم أمر محال،و هذا ما يعبّر عنه الفلاسفة ب«امتناع اجتماع النقيضين»،فافتراض كون شخص موجوداً في زمان و مكان خاصّين و في الوقت نفسه كونه معدوماً فيهما يستحيله العقل السليم،و لذلك يقول الفلاسفة:إنّ أصحَّ الأقاويل و أصدق القضايا التي لا يشكّ فيها إنسان هو مسألة امتناع اجتماع الوجود و العدم و الصحّة و البطلان في شيء واحد من جهة واحدة،إلى غير ذلك من الشرائط الثمانية التي ذكرها المنطقيّون في كتبهم.

و لكنّ السابر في غضون التاريخ و الحديث يقف على تسليم المؤرّخين و المحدّثين بأُمور متناقضة،و إيمانهم بالمتناقضين و الركون إليهما.و هذا ما يحدونا إلى نقد التاريخ و الحديث و قراءتهما من جديد،حتّى نأخذ بالنقي الصافي و نترك المشوب بالكدر.

و لعلّ القارئ الكريم يتصوّر ما ذكرناه دعوى بلا برهان،و أنّ النوازع النفسانية خمّرت تلك الفكرة في أذهاننا،و أنّ المحقّقين من المؤرّخين و المحدّثين قد بذلوا جهدهم في تمييز الصواب عن الخطأ و الصحيح عن الزائف،فكيف يمكن أن يحدّثوا بالمتناقضين،و يؤمنوا بهما؟!

ص:227

لكنّي-شخصياً-لا أقبل تلك الفكرة،لأنّي عثرت لهم على موارد متناقضة في مجال الأفعال و الأقوال و ربّما بين الأقوال و الأفعال، و لإثبات ذلك نأتي ببعض الأمثلة حتّى يتبيّن لبغاة الحق أنّ التاريخ و الحديث يجب أن يُدرسا من جديد.

ص:228

1

اشارة

الاستغناء عن سنّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم

يظهر ممّا رواه البخاري في صحيحه-و الذي يعتبره أهل السنّة أصحّ الكتب بعد القرآن الكريم -:«أنّه لما اشتد بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وَجَعُهُ،قال:

«ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده».قال عمر:إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم غلبه الوجع و عندنا كتاب اللّه حسبنا،فاختلفوا و كثر اللغظ،فقال صلى الله عليه و آله و سلم :«قوموا عنّي و لا ينبغي عندي التنازع»؛فخرج ابن عباس يقول:إنّ الرزية كلُّ الرزيّة،ما حال بين رسول اللّه و بين كتابه». (1)؛و قد نقله أيضاً في مواضع أُخرى سيوافيك بيانها.

و حول هذا الحديث نقاط من البحث سيظهر من خلالها ما ذكرناه من الإيمان بالمتناقضين.

1.إنّه سبحانه يصف كلام نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» 2 ،فمن كان لا ينطق عن الهوى في حياته و رسالته،كيف يصفه الخليفة بقوله:«إنّ النبي غلبه الوجع»؟! فإنّ الناطق عن غلبة الداء ينطق عن الهوى و القرآن يصفه صلى الله عليه و آله و سلم بأنّه

ص:229


1- 1) .صحيح البخاري:1،الحديث114.

لا ينطق عن الهوى،فكيف نجمع بين المتناقضين؟!

على أنّ الخطب سهل في هذا التعبير بالنسبة إلى التعابير الأُخرى،لأنّ البخاري نقل الحديث في مواضع مختلفة،الوطء فيها أشدّ،و إليك ما نقله فيها:

- قالوا:هجر رسول اللّه. (1)

- فقالوا:ما له؟! أهجر استفهموه. (2)

- فقالوا:ما شأنه أهجر استفهموه فذهبوا يردّون عليه. (3)

- فقال بعضهم:إنّ رسول اللّه قد غلبه الوجع و عندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه. (4)

- فقال عمر:إنّ النبي قد غلبه الوجع و عندكم القرآن. (5)

- و قال عمر:إنّ النبي قد غلبه الوجع. (6)

2.إنّه سبحانه ينهى المسلمين عن رفع أصواتهم فوق صوت النبي مراعاة للأدب و يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» 7 ،و لكنّنا نرى أنّ الصحابة الحضور في مجلس النبي يختلفون فيما بينهم و يكثرون اللغط«أو ليس اللغط إلاّ الجلبة و الأصوات المبهمة التي لا تفهم»؟ فأين عملهم من نهيه سبحانه عن رفع الأصوات فوق صوت النبي صلى الله عليه و آله و سلم ؟!

3.إنّه سبحانه ينهى عن إيذاء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و يوعدهم بالعذاب الأليم

ص:230


1- 1) .الحديث رقم 3053.
2- 2) .الحديث رقم 3168.
3- 3) .الحديث رقم 4431.
4- 4) .الحديث رقم 4432.
5- 5) .الحديث رقم 5669.
6- 6) .الحديث رقم 7366.

و يقول: «وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 1 ،و لكنّ الحضّار حول فراش النبي آذوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى خاطبهم بقوله:

«قوموا عنّي،و لا ينبغي عندي التنازع»و هذا كلام مَن استاء من حضورهم و اختلافهم حتّى أمرهم بترك البيت.

4.أنّ الخطب الجلل الذي حاق بالمسلمين في ذلك اليوم كان متمثّلاً في قول ابن عباس:إنّ الرزية كلّ الرزية،ما حال بين رسول اللّه و بين كتابه.

5.انّ سنّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم عِدْل القرآن الكريم في الحجّية فهي بلفظها و إن لم تكن وحياً لكنّها بمعناها و مضمونها وحي كالقرآن المجيد،فالقرآن و السنّة توأمان لا ينفكان إلى يوم القيامة،و لأجل ذلك قام المسلمون بجمع سنّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد حياته،إلى حد صار«السنّيّ» لقباً لطائفة كبيرة من المسلمين.

و ما هذا إلاّ لأنّ السنّة تتكفّل ببيان ما أُجمل في القرآن الكريم كالصلاة و الزكاة أو الصوم،أو ما جاء أصله في القرآن دون تفصيله،فلو رفضنا السنّة،لأصبح الإسلام أبتر غير كاف و لا ناجع لبيان ما يحتاج إليه المسلم إلى يوم القيامة.

فإذا كانت هذه مكانة السنّة و قيمتها،فكيف يقول الخليفة:«حسبنا كتاب اللّه»؟!

كيف يقول الخليفة حسبنا كتاب اللّه مع أنّ القرآن الكريم يقول: «وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا». 2

هذه الأسئلة الخمس تعرب عن وجود تناقض في حياة لفيف من الصحابة،فتظاهروا على خلاف الأُصول و الأُسس التي قام عليها الإسلام.

ص:231

غاية النبي صلى الله عليه و آله و سلم من الكتابة

قد حيل بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و كتابته،و ربّما يجد الإنسان في نفسه تعطّشاً إلى معرفة ما كان يضمره النبي صلى الله عليه و آله و سلم من طلب الورق و القلم لكن يمكن معرفته من خلال تصريحات الخليفة بعد رحلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و إليك كلامه بعد زمن استُتبَّ له فيه الأمر و جلس على منصة الرئاسة.

روى ابن عباس(رض) قال:دخلت على عمر في أوّل خلافته،و قد أُلقي له صاعٌ من تمر على خَصَفة،فدعاني إلى الأكل،فأكلت تمرة واحدة،و أقبل يأكل حتّى أتى عليه،ثمّ شرب من جَرٍّ كان عنده،و استلقى على مِرفقة له،و طفق يحمد اللّه،يكرر ذلك،ثمّ قال:من أين جئت يا عبد اللّه؟ قلت:من المسجد،قال:كيف خلّفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد اللّه بن جعفر،قلت:خلّفته يلعب مع أترابه،قال:لم أعنِ ذلك،إنّما عَنيتُ عظيمَكم أهلَ البيت،قلت:خلّفته يمتح بالغَرْب على نخيلات من فلان،و هو يقرأ القرآن،قال:يا عبد اللّه،عليك دماء البُدن إن كتمتنيها! هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قلت:نعم،قال:أ يزعم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نصّ عليه؟ قلت:نعم،و أزيدك،سألت أبي عمّا يدّعيه،فقال:صدق، فقال عمر:لقد كان من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أمره ذَرْوٌ من قول لا يثبت حُجّة،و لا يقطع عذراً،و لقد كان يربع في أمره وقتاً ما،و لقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً و حيطة على الإسلام،لا و ربّ هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبداً! و لو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها،فعلم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّي علمت ما في نفسه،فأمسك،و أبى اللّه إلاّ إمضاء ما حتم. (1)

ص:232


1- 1) .شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:20/12- 21 [1] نقله عن أبي طاهر صاحب كتاب«تاريخ بغداد»في كتابه مسنداً.

التفكيك بين الرسالة و الخلافة

و قد نقل ابن أبي الحديد في مكان آخر نظرية الخليفة في مسألة اجتماع النبوة و الخلافة في بيت واحد،فخاطب ابن عباس بقوله:يا ابن عباس،أ تدري ما منع الناس منكم؟ قال:لا يا أمير المؤمنين،قال:لكنّي أدري،قال:ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال:كرهتْ قريش أن تجتمع لكم النبوة و الخلافة،فيجخِفوا جخفاً،فنظرتْ قريش لنفسها فاختارت،و وفقت فأصابت.

هذا التعبير يعرب عن أنّ الخليفة لا يرى اجتماع النبوة و الخلافة في بيت واحد،و في مقابل هذا الرأي يحكي الذكر الحكيم عن اجتماع النبوة و الإمامة في آل إبراهيم،يقول سبحانه: «أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» 1 ،فالملك العظيم هو الإمامة و الخلافة الراشدة التي أعطاها اللّه سبحانه لآل إبراهيم مع ما آتاهم من النبوّة و خصهم بالوصاية، و هذا تناقض آخر في هذا المورد حيث يحكم سبحانه بصحّة الجمع بين المقامين في بيت واحد و الخليفة يردّه و يعتقد بالتفريق.

التعرف على هدف النبي من طريق آخر

إنّ لفيفاً من الصحابة و على رأسهم عمر بن الخطاب و إن حالوا بين النبي و الكتابة لنوايا كشف عنها الخليفة كما مرّ عليك في محادثته مع ابن عباس،إلاّ أنّه يمكن التعرف على مقصد النبي من الكتابة من خلال حديث الثقلين لاشتراكهما في التعبير،حيث قال في المقام:و هو طريح الفراش«أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده»،و هو بنفسه جاء قريباً منه في حديث الثقلين قال:«إنّي تارك فيكم الثقلين

ص:233

ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا:كتاب اللّه،و عترتي أهل بيتي»،و هذا يدلّ على أنّ النبي كان بصدد إيصاء الأُمّة بالتمسّك بالثقلين كتاب اللّه و عترته اللّذين لا يفترقان أبداً حتّى يردا عليه الحوض،و على رأس العترة علي أمير المؤمنين عليه السلام الذي نصّ على خلافته و ولايته في منصرفه عن حجة الوداع على صعيد ضفاف غدير خم في ذلك الحشد الكبير،فقال:«من كنت مولاه فهذا علي مولاه».

هذه هي التناقضات و التهافتات الكثيرة التي تلحّ على الباحث أن يقرأ التاريخ قراءة جديدة.

ص:234

2

اشارة

...أُفكّر فأنا موجود

جعل«ديكارت»-ذلك الفيلسوف الطائر الصيت-قوله:«أفكر فأنا موجود»حجر الأساس و نقطة الانطلاق لتحصيل«يقين ما»-بعد أن شكّ في كلّ شيء حتّى في وجوده،فحاول أن يخرج به عن إطار الشك المطلق الذي استولى عليه و جعله شاكّاً في كلّ ما يعتقد به،فقال (و هو في تلك الحالة):لو كنت أنا شاكّاً في كلّ شيء لما كنت شاكّاً في:

«أنّي أفكر فأنا موجود».

و لكن غاب عنه أنّ هذه القضية المتيقّنة مسبوقة بقضية يقينية أُخرى له،و لولاها لما خرج بهذه الجملة عن إطار الشكّ،و هو أنّه عند ما يفكّر هل يصحّ أن يصف نفسه بأنّه لا يفكّر أو لا؟

فعلى الأوّل:يهوي حجر الزاوية،و لا يجد مستقراً مكيناً،لزوال يقينه بأنّه يفكّر.

و على الثاني:يجد في نفسه معرفة قطعية سابقة على ما توهّمه أوّل المعارف،و هي امتناع أن يوصف شخص واحد،في آن واحد،بأنّه يفكّر و لا يفكّر.و هذا ما

ص:235

نسمّيه«امتناع اجتماع النقيضين»،الذي يُطلق عليه«أُمّ المعارف»و«أُمّ القضايا».

فإذا كان امتناع اجتماع النقيضين بهذه المرتبة،كان على قادة المسلمين رفض كلّ قضية تستلزم التناقض في الرأي و العمل،و مع ذلك ترى أنّهم قد جمعوا بين المتناقضين في القضايا التي تمتُّ إلى آل البيت عليهم السلام،و إليك البيان:

المكانة الرفيعة لبنت المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم

إنّ لبنت المصطفى فاطمة الزهراء عليها السلام مكانة مرموقة في قلوب المؤمنين عامّة،حتّى الخوارج و النواصب فهم أيضاً يحترمونها و يصفونها بالعظمة و الكرامة،كيف و قد روى المحدثون أنّه نزل قوله سبحانه: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» 1 ،على قلب سيد المرسلين و هو في المسجد فتلا هذه الآية على أصحابه الملتفين حوله،و لمّا انتهى من تلاوة الآية قام إليه رجل فقال:أي بيوت هذه يا رسول اللّه؟ قال:بيوت الأنبياء،فقام إليه أبو بكر،فقال:يا رسول اللّه أ هذا البيت منها؟-مشيراً إلى بيت علي و فاطمه عليهما السلام-قال:«نعم،من أفاضلها». (1)

و قد أفرد المحدّثون باباً في فضائل السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في صحاحهم و مسانيدهم،و التي لا يسعنا نقل معشار ما حدّثوا به في موسوعاتهم و إنّما اقتصرنا منها على ما ذكرناه.

و لكن نرى في حياة الخلفاء تناقضاً في علاقتهم مع بنت المصطفى عليها السلام !!

هذا هو البخاري قد أخرج في صحيحه عن المسور بن مخرمة أنّ رسول

ص:236


1- 2) .الدر المنثور:203/6، [1]تفسير سورة النور؛روح المعاني:174/18. [2]

اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«فاطمة بَضْعة منّي،فمن أغضبها أغضبني». (1)و البضعة بفتح الباء هي القطعة من الشيء،فإذن أنّ فاطمة هي جزء من النبي صلى الله عليه و آله و سلم،فمن أغضبها فقد أغضب النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

و«الغضب»كما يصفه علماء الأخلاق ردُّ فعل للإيذاء الوارد على الإنسان،فالإنسان يُؤذى فيَغضب،فمن أغضب رسول اللّه فقد آذاه من ذي قبل.

و أمّا جزاء من آذاه فالذكر الحكيم يتوعّده بقوله: «وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ». 2

فهلمّ معي نتعرّف على من آذى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

روى البخاري في كتاب فرض الخمس عن عروة بن الزبير أنّ عائشة أُمّ المؤمنين أخبرته أنّ فاطمة عليها السلام ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول اللّه أن يقسم لها ميراثها،ما ترك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ممّا أفاء عليه.

فقال لها أبو بكر:إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«لا نُورث ما تركنا صدقة»فغضبت فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فهجرت أبا بكر،فلم تزل مهاجرته حتى توفّيت،و عاشت بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ستة أشهر. (2)

فهنا قضايا ثلاث يستحيل الإذعان بها معاً،لأنّها متناقضات.

فمن جانب أنّ الخليفة أغضب فاطمة و آذاها،و من آذاها و أغضبها فقد آذى و أغضب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،فتكون النتيجة أنّ الخليفة آذى رسول اللّه بلا كلام.

ص:237


1- 1) .صحيح البخاري:2،الحديث رقم 3714.
2- 3) .البخاري:2،رقم الحديث 3093.

و من جانب آخر إنّ اللّه سبحانه توعّد من آذى رسول اللّه بعذاب أليم،و هو نصّ الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.

فهاتان القضيتان تعضد كلّ منها الأُخرى.

و من جانب ثالث إنّ البخاري و من يعتبر كتابه أصحّ الكتب يصف أبا بكر بالخلافة و الإمامة و الأُسوة و القدوة للمسلمين،أ فيمكن أن يكون خليفة المسلمين ممّن آذى رسول اللّه و أغضبه فاستحقّ ما استحق؟!

فلا محيص في حلّ العقدة و رفع التناقض إلاّ باختيار أحد أمرين:

أ.رفع اليد عن حديث البضعة أو الآية الكريمة.

ب.رفض كون الخليفة أُسوة و قدوة و إماماً و خليفة.

فأيّهما الصحيح؟ نحيل ذلك إلى اختيار القارئ الكريم.

و على كلّ تقدير:الجمع بين الأمرين مستحيل و «ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» . (1)

ص:238


1- 1) .الأحزاب:4. [1]

3

ماتت بلا بيعة

.........و أحق الأقاويل ما كان صدقه دائماً،و أحقّ من ذلك ما كان صدقه أوّليّاً،و أوّل الأقاويل الحقّة الأولية الذي إنكاره مبنى كلّ سفسطة هو القول بأنّه لا واسطة بين الإيجاب و السلب فإنّه إليه ينتهي جميع الأقوال عند التحليل،و إنكاره إنكار لجميع المقدّمات و النتائج. (1)

ما ذكره حكيم الإسلام و صدر المتألّهين هو الحقّ الذي لا غبار عليه و لا يشك في صحّته ذو مسكة،و كلّ إنسان بفطرته واقف على بطلان اجتماع النقيضين

و للأسف ربّما نجد أنّ جماعة كبيرة من المحدّثين جمعوا بين النقيضين و آمنوا بهما.

فمن جانب فتحوا باباً لفضائل بنت المصطفى و قالوا:إنّها سيّدة نساء العالمين.

ص:239


1- 1) .صدر المتألهين،الأسفار:89/1- 90. [1]

أخرج الحاكم في مستدركه عن عائشة أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال و هو في مرضه الذي توفّي فيه:«يا فاطمة أ لا ترضي أن تكوني سيدة نساء العالمين،و سيدة نساء هذه الأُمّة،و سيدة نساء المؤمنين». (1)قال الحاكم-بعد إخراج الحديث-هذا إسناد صحيح و لم يخرجاه هكذا،و صحّحه الذهبي في تعليقته على المستدرك.

و أخرج الحاكم أيضاً عن ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان إذا سافر،كان آخر الناس عهداً به؛فاطمة،و إذا قدم من سفره كان أوّل الناس به، فاطمة(رض). (2)

هذه هي مكانة بنت المصطفى فاطمة عليها السلام.

و من جانب آخر روى مسلم في صحيحه عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:«من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية». (3)

و أخرج أحمد في مسنده عن معاوية قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية». (4)

و من جانب ثالث نقل البخاري في صحيحه أنّ بنت المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم ماتت و لم تبايع أبا بكر.

روى عن عائشة أُمّ المؤمنين أنّ فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول اللّه أن يقسم لها ميراثها،ممّا ترك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ممّا أفاء اللّه عليه.

فقال لها أبو بكر:إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«لا نُورَثُ،ما تركنا صدقة»،فغضبت فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،فهجرت أبا بكر،فلم تزل مهاجرته حتّى

ص:240


1- 1) .المستدرك:156/3. [1]
2- 2) .المستدرك:156/3.
3- 3) .صحيح مسلم:4،باب الأمارة،ص 58،الحديث 88.
4- 4) .مسند أحمد:96/4. [2]

توفّيت،و عاشت بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ستة أشهر. (1)

هذه أُمور ثلاثة لو أذعن بها المحدّث،بل أيّ إنسان واع لأدرك أنّ الالتزام بها،يضطرّه إلى الإذعان بالمتناقضين،و إلاّ فهو واقع بين محذورين:

1.رفض شرعية خلافة الخليفة بشهادة أنّ سيدة نساء العالمين،و مَن يكون غضبها،غضب الرسول،و إيذاؤها إيذاءً له،رفضته و هجرته و لم تبايع حتى لفظت آخر أنفاسها.

2.رمي بنت المصطفى،المطهّرة بنصّ الكتاب بأنّها-نستجير باللّه-ماتت...،لأنّها لم تبايع إمام عصرها و خليفة زمانها،فعلى القارئ الكريم الأخذ بأحد الأمرين لحل التناقض.

و لا أظن أنّ مسلماً يتردّد في طهارة الزهراء عليها السلام و نزاهتها و عظمتها عند اللّه و عند رسوله،اللّهمّ إلاّ أن يكون أمويّ النزعة لا يقيم للإسلام و لا للنبي وزناً و لا قيمة.

و من عجيب الأمر أنّ المحدّثين أخذوا بالأمرين معاً،لا بأحدهما.

ص:241


1- 1) .صحيح البخاري:539/2- 541،كتاب فرض الخمس،باب فرض الخمس،الحديث رقم 3092.

4

عشرة في الجنة

.........رحم اللّه الإمام السيد الخميني-ذلك الرجل المجاهد الذي أنفق عمره الشريف في مكافحة الكفر و الطغيان،و رفع راية الإسلام في ربوع إيران،و أقام جمهورية إسلامية،و قد واجه في طريقه ما واجه و كابد ما كابد-كان قدس اللّه نفسه يقول:إذا وصل سند التوثيق إلى نفس الإنسان بأن يقول قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو الوصي عليه السلام في حقّي كذا و كذا،فهو أحقّ الأقاويل بالشك و الترديد.

فلو كان امتناع اجتماع النقيضين أحقَّ الأقاويل بالإذعان كان التوثيق الواصل بسنده إلى شخص الإنسان أحقَّ الأقاويل بالشك و الترديد.

و ذلك لأنّ الإنسان المؤمن الكيّس،بل كلّ عاقل لا يمدح نفسه و لو بلسان الغير و لا ينبس بذلك ببنت شفة،و إنّما يدع الآخرين لنقل ذلك،ليكون أوقع في القلوب.

هذه سيرة العقلاء و العلماء الواعين.

فلو كان هذا معياراً كلّياً أو غالبياً،فكلّ مدح و توثيق في حقّ الراوي في علم الرجال إذا انتهى سنده إلى شخص المترجم له،لا عبرة به.

ص:242

و على ضوء ذلك نتناول حديث العشرة المبشّرة حيث نرى أنّ سند الحديث ينتهي إلى شخص يعدّ نفسه منهم.

أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه أنّ سعيد بن زيد-بن عمرو بن نفيل-حدّثه في نفر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:عشرَةٌ في الجنة:أبو بكر في الجنة،و عمر في الجنة،و عثمان،و عليُّ،و الزبير،و طلحة،و عبد الرحمن،و أبو عبيدة،و سعد بن أبي وقاص.قال:فعدَّ هؤلاء التسعة و سكت عن العاشر،فقال القوم:ننشدك اللّه يا أبا الأعور مَنِ العاشر؟ قال:نشدتموني باللّه،أبو الأعور في الجنة. (1)

أخرج أحمد في مسنده عن رباح بن حرب بن مغيرة قال:إنّ شعبة كان في المسجد الأكبر و عنده أهل الكوفة عن يمينه و عن يساره، فجاءه رجل يدعى سعيد بن زيد فحيّاه المغيرة و أجلسه عند رجليه على السرير،فجاء رجل من أهل الكوفة فاستقبل المغيرة فسبّ و سبّ،فقال:

مَن يسب هذا يا مغيرة؟ قال:يسب علي بن أبي طالب(رض)،قال:يا مغيرة بن شعبة يا مغيرة بن شعبة-ثلاثاً-أ لا أسمع أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يسبّون عندك لا تنكر و لا تغيّر،فأنا أشهد على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بما سمعت أُذناي و وعاه قلبي من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإن لم أكن أروى عنه كذباً يسألني عنه إذا لقيته انّه قال:أبو بكر في الجنة و عمر في الجنة و علي في الجنة و عثمان في الجنة و طلحة في الجنّة و الزبير في الجنة و عبد الرحمن في الجنة و سعد بن مالك في الجنة و تاسع المؤمنين في الجنة لو شئت أن أُسمّيه لسمّيته،قال:فصيح أهل المسجد يناشدونه يا صاحب رسول اللّه من التاسع؟ قال:ناشدتموني باللّه و اللّه العظيم أنا تاسع المؤمنين و رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم العاشر. (2)

ص:243


1- 1) .سنن الترمذي:648/5، [1]رقم الحديث 3748.
2- 2) .مسند أحمد:187/1. [2]

نحن لا نناقش في سند الحديث و لا في دلالته مع وجود الاختلاف في أسماء المبشّرين،و إنّما أُلفت نظر القارئ إلى نكتة لها أهمية خاصة في تقييم الحديث،و هي أنّ قسماً من هؤلاء العشرة المبشّرين بالجنة قد قاتل بعضهم بعضاً،فهذا هو التاريخ يحدّثنا أنّ عثمان ثالث الخلفاء قد قُتل بأمر طلحة و الزبير.

و قد قُتلا-هما-في حرب الجمل،التي أشعلت نارها أُمّ المؤمنين عائشة و قادت جيشاً جرّاراً و على رأسه الزبير و طلحة،فلم تزل المناشدة و الحجاج قائماً على قدم و ساق بين علي عليه السلام وقادة جيش الجمل إلى أن تأجّجت نار الحرب و أُريقت دماء المسلمين و قتلا في نفس الحرب.

أخرج البخاري في صحيحه عن الحسن:خرجت بسلاحي ليالي الفتنة فاستقبلني أبو بكرة،قال:أين تريد؟ قال:أُريد نصرة ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:إذا تواجه المسلمان بسيفهما فكلاهما من أهل النار،قيل:فهذا القاتل فما بال المقتول؟ قال:إنّه أراد قتل صاحبه. (1)

لا شكّ أنّ تطبيق أبي بكرة الحديث على حرب الجمل تفسير خاطئ،فأين المسلم الذي بايعه جمهور الصحابة من المهاجرين و الأنصار و بايعوه بيعة شرعية و انتخبوه إماماً لأنفسهم!!-أين هو ممّن نقض البيعة و نكث؟!،فقد نقض الزبير و طلحة ببيعتهما للإمام عليه السلام و الحديث-لو صحّ-فإنّما يراد به من يقاتلا لا عن مبدأ ديني و أساس شرعي.

نحن نمرّ على ذلك و نقول:كيف يمكن عدّ هؤلاء جميعاً-و بلا استثناء-من أهل الجنّة؟ و هل يمكن أن يكون القاتل و المقتول على الحق؟ و هل يصحّ أن يعدّ من نقض البيعة و نكث و أخرج حبيس رسول اللّه و زوجه عن بيتها و قد أُمرت

ص:244


1- 1) .صحيح البخاري:509/4،الباب إذا التقى المسلمان بسيفهما من كتاب الفتن،رقم 7083.

بالإقرار فيه،قال تعالى: «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ» 1 ،هل يصحّ عدّ هؤلاء من أهل الجنة؟!

لا أدري و لا القارئ يدري و لا المنجم يدري!!

و لكن أدري أنّ المتناقضين لا يجتمعان و لا يرتفعان.

ص:245

5

اشارة

اللجنة السداسية لتعيين الخليفة

أو

اللعبة السياسيّة

...خرج عمر بن الخطاب يوماً يطوف في السوق فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة و كان نصرانياً،فقال:يا أمير المؤمنين أعدني على المغيرة بن شعبة فإنّ عليّ خراجاً كثيراً،قال:و كم خراجك؟ قال:درهمان في كلّ يوم،قال:و ايش صناعتك؟ قال:نجار،نقاش،حدّاد،قال:فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال قد بلغني انّك تقول:لو أردتُ أن أعمل رحى تطحن بالريح لفعلتُ،قال:نعم،قال:فاعمل لي رحى،قال:لئن سلمت لأعملنّ لك رحى يتحدّث بها مَن بالمشرق و المغرب،ثمّ انصرف عنه،فقال عمر:لقد توعّدني العبد آنفاً،ثمّ انصرف عمر إلى منزله.

(و بعد مضي يومين و دخل اليوم الثالث)،دخل أبو لؤلؤة في الناس و بيده

ص:246

خنجر له رأسان نصابه في وسطه،فضرب عمر ست ضربات إحداهنّ تحت سُرّته،و هي التي قتلته.

فلمّا وجد عمر حرّ السلاح سقط و قال:أ في الناس عبد الرحمن بن عوف؟ قالوا:نعم يا أمير المؤمنين،هو ذا،قال:تقدّم فصلّ بالناس،قال:

فصلّى عبد الرحمن بن عوف و عمر طريح ثمّ احتمل فأُدخل داره. (1)

روى الطبري في تاريخه قال:فلمّا يئس من الحياة،قيل له:لو استخلفت،قال:مَن استخلف؟

لو كان أبو عبيدة ابن الجراح حيّاً استخلفته،فإن سألني ربي،قلت:سمعتُ نبيّك يقول إنّه أمين هذه الأُمّة.

و لو كان سالم مولى ابن حذيفة حيّاً استخلفته،فإن سألني ربي قلتُ:سمعتُ نبيك يقول:إن سالماً شديد الحبّ للّه.

فقال له رجل:أدلّك عليه عبد اللّه بن عمر،فقال:قاتلك اللّه ما أردتَ اللّهَ بهذا،ويحك كيف استخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته...إلى أن قال:فإن استخلفتُ فقد استخلف من هو خير مني(يريد أبا بكر)،و إن أترك فقد ترك من هو خير مني(يريد النبي صلى الله عليه و آله و سلم)و لن يضيع اللّه دينه - إلى أن قال-فلمّا أصبح عمر دعا علياً و عثمان و سعداً و عبد الرحمن بن عوف و الزبير بن العوام فقال:إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس و قادتهم و لا يكون هذا الأمر إلاّ فيكم و قد قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و هو عنكم راض،إنّي لا أخاف الناس عليكم إذا استقمتم و لكن أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم،فيختلف الناس...

فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام و ليصلّ بالناس صهيب و لا يأتين اليوم الرابع

ص:247


1- 1) .تاريخ الطبري:263/3- 264؛ [1]الكامل:36/3. [2]

إلاّ و عليكم أمير منكم،و يحضر عبد اللّه بن عمر مشيراً و لا شيء له من الأمر-و طلحة شريككم في الأمر.

فقال لأبي طلحة الأنصاري:يا أبا طلحة إنّ اللّه عزّ و جلّ طالما أعز الإسلام بكم فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحثّ هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم،و قال للمقداد بن الأسود:إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم،و قال لصهيب:صلّ بالناس ثلاثة أيام،و أدخل علياً و عثمان و الزبير و سعداً و عبد الرحمن بن عوف و طلحة-إن قدم-و أحضر عبد اللّه بن عمر-و لا شيء له من الأمر-و قم على رءوسهم،فإن اجتمع خمسة و رضوا رجلاً و أبى واحد فاشدخ رأسه-أو اضرب رأسه-بالسيف،و إن اتّفق أربعة فرضوا رجلاً منهم و أبى اثنان فاضرب رءوسهما،فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم و ثلاثة رجلاً منهم،فحكّموا عبد اللّه بن عمر فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم،فإن لم يرضوا بحكم عبد اللّه بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف و اقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس.

فلمّا مات عمر و أخرجت جنازته فصلّى عليه صهيب،و لمّا دفن عمر جمع مقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة،فتنافس القوم في الأمر و كثر بينهم الكلام،فقال الزبير:نصيبي في هذا الأمر لعليّ،و قال عبد الرحمن لسعد:أنا و أنت كلالة فاجعل نصيبك لي.ثمّ التفت إلى علي و عثمان فقال:إني قد سألت عنكما و عن غيركما فلم أجد الناس يعدلون بكما،هل أنت يا علي مبايعي على كتاب اللّه و سنّة نبيه و فعل أبي بكر و عمر؟ فقال:اللّهم لا و لكن على جهدي من ذلك و طاقتي،فالتفت إلى عثمان فقال:هل أنت مبايعي على كتاب اللّه و سنّة نبيه و فعل أبي بكر و عمر؟ قال:اللّهم نعم! فأشار بيده إلى كتفيه

ص:248

فقال:إذا شئتما فانهضا. (1)

و في تاريخ المدينة لأبي زيد عمر بن شبّة النميري البصري (و هو من مشايخ الطبري و يروي عنه في تاريخه كثيراً) دعا عبد الرحمن علياً فقال:عليك عهد اللّه و ميثاقه لتعملنّ بكتاب اللّه و سنّة رسوله و سيرة الخليفتين من بعده.قال:أرجو أن أفعل و أعمل بمبلغ علمي و طاقتي.

و دعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي.قال:نعم،فبايعه.فقال علي:(حبوتَه حبو دهر) ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» 2 و اللّه ما ولّيت عثمان إلاّ ليردّ الأمر إليك،و اللّه «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» 3 فقال عبد الرحمن:يا عليّ لا تجعل على نفسك سبيلاً،فإنّي قد نظرت و شاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان،فخرج علي و هو يقول:سيبلغ الكتاب أجله (2).

و قال ابن كثير:صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول اللّه ثمّ تكلّم فقال:أيّها الناس،إنّي سألتكم سراً و جهراً بأمانيكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إمّا علي و إمّا عثمان،فقم إليّ يا علي،فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال:هل أنت مبايعي على كتاب اللّه و سنة نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم و فعل أبي بكر و عمر؟ قال:اللّهم لا و لكن على جهدي من ذلك و طاقتي،قال:قال:فأرسل يده و قال:قم إليّ يا عثمان، فأخذ بيده فقال:هل أنت مبايعي على كتاب اللّه و سنّة نبيه صلى الله عليه و آله و سلم و فعل أبي بكر و عمر؟ قال:اللّهم نعم! فقال:فرفع رأسه إلى السقف و يده بيد عثمان فقال:اللّهم اسمع و أشهد.

ص:249


1- 1) .تاريخ الطبري:292/3- 301 [1]بتلخيص.
2- 4) .تاريخ المدينة المنورة:925/3- 930.

ثمّ نقل عن المؤرّخين أنّ علياً قال لعبد الرحمن:خدعتني و إنّك إنّما وليته لأنّه صهرك و ليشاورك كلّ يوم في شأنه. (1)

و يظهر ممّا نقله الذهبي في«تاريخ الإسلام»أنّ عبد الرحمن اشترط طاعة نفسه.قال:فخلا بعلي و قال:لك من القدم في الإسلام و القرابة ما قد علمت،اللّه عليك لئن أمرتك لتعدلن و إن أمرت عليك لتسمعنّ و لتطيعن،و قال:ثمّ خلا بالآخر فقال له كذلك،فلمّا أخذ ميثاقهما بايع عثمان.

و قد تبعه (2)السيوطي في ذلك،فإنّه قال-بعد ما ذكر أنّ كلاً من الزبير و سعد و طلحة قد وهبا حقوقهم لعلي و عبد الرحمن و عثمان على الترتيب-فقال عبد الرحمن لعلي و عثمان:اجعلوه إليّ،فخلا بعلي و قال:لك من القدم في الإسلام و القرابة من النبي ما قد علمت،اللّه عليك لئن أمّرتك لتعدلنّ،و لئن أمّرت عليك لتسمعنّ و لتطيعنّ؟ (3)قال:نعم،ثمّ خلا بالآخر فقال له كذلك،فلما أخذ ميثاقهما بايع عثمان. (4)

هذه قصة الشورى و هذه مصادرها،و هناك مصادر أُخرى أعرضنا عنها،و اقتصرنا على ما ذكرنا،فمن أراد التفصيل فليرجع إلى المصادر المذكورة في الهامش. (5)

ص:250


1- 1) .البداية و النهاية:152/4. [1]
2- 2) .تاريخ الإسلام:280/3 [2] أظن أنّ ما ذكره الذهبي تحريف لما تضافر في التاريخ من أنّه شرط متابعة سيرة الشيخين إذ من البعيد أن يشترط على الإمام،إطاعة نفسه.
3- 3) .و ليس التصديق في نقل الذهبي.
4- 4) .تاريخ الخلفاء،للسيوطي:158. [3]
5- 5) .الإمامة و السياسة:23/1؛ [4]شرح نهج البلاغة:185/1- 190؛الكامل في التاريخ:26/3- 27؛تاريخ اليعقوبي:160/2،إلى غير ذلك من المصادر الجمّة التي تعرضت لقصة الشورى السداسيّة و كيفية إقصاء علي عليه السلام عن الخلافة بلعبة سياسية على ما سيتبيّن لك.

تحليل قصة الشورى

هذا المقطع من تاريخ الإسلام من المقاطع المهمة التي فتحت باب الفتنة في وجه الأُمّة،و أبرز هذه الفتن اغتيال الخلفاء واحداً بعد الآخر الأمر الذي أزال الأُبّهة عن الخليفة و الخلافة الإسلامية،و هذا ما يدفعنا إلى أن نحلّله بأسلوب لا ننزع فيه إلى عاطفة و لا نتحيّز إلى فئة، و نطرح ما حوله من الآراء و الأسئلة.

1.إنّ شكوى أبي لؤلؤة من المغيرة لم تكن حادثة خاصة له بل كانت لها جذور في تاريخ الخلافة بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

إنّ الخط الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و ورثه المسلمون بعده هو إقامة العدل و القسط بين الناس و المساواة أمام القانون و رفض العنصرية،قال سبحانه: «يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». 1

فإذا كان الميزان في الرفعة و السموّ هو التقوى فلا فرق بين عربي و أعجمي و مسلم و معاهد لا سيّما إذا كان الأخير يتفيّأ ظلال الإسلام، و هذا هو الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم قال:«من ظلم معاهداً و كلّفه فوق طاقته فأنا حجيجه يوم القيامة». (1)

و في رواية أُخرى قال صلى الله عليه و آله و سلم:«من آذى ذمياً فأنا خصمه،و من كنت خصمه خصمته يوم القيامة». (2)

و أين هذا ممّا يرويه مالك في«الموطأ»عن الثقة عنده أنّه سمع سعيد بن المسيب يقول:أبى عمر بن الخطاب أن يُورِّث أحداً من الأعاجم إلاّ أحداً وُلد في

ص:251


1- 2) .فتوح البلدان:167،ط مصر. [1]
2- 3) .روح الدين الإسلامي:274.

العرب.قال مالك:و إن جاءت امرأة حامل من أرض العدو فوضعته في أرض العرب فهو ولدها يرثها إن ماتت،و ترثه إن مات،ميراثها في كتاب اللّه. (1)

كلّ ذلك يحكي عن وجود خط مشئوم بحق الموالي و هضم حقوقهم،و كانت ظلامة أبي لؤلؤة من هذه المقولة.

«انّ الجامعة الكبرى إنّما هي الإسلام و لكنّهم كانوا يجعلون للعرب مزية على سواهم من الأُمم،لأنّهم قوام الإسلام،و قد أوصى عمر بن الخطاب بأهل البادية خيراً،لأنّهم أصل العرب و مادة الإسلام،و قال:«إيّاكم و أخلاق العجم»و الإسلام نهضة عربية جمعت العرب على العجم، و عمر أوّل خليفة فضّل العرب و جعل لهم مزية على سواهم و منع من سبيهم و من أقواله:«قبيح بالعرب أن يملك بعضهم بعضاً و قد وسع اللّه عزّ و جلّ و فتح الأعاجم»و فدى سبايا العرب من الجاهلية و الإسلام إلى أيّامه عملاً بالحديث«لا سبأ في الإسلام».

«و كان عمر لا يدع أحداً من العجم يدخل المدينة،و هو الذي قسّم خيبر بين المسلمين و أخرج اليهود منها،و قسّم وادي القرى و أجلى يهود نجران إلى الكوفة لتخلو جزيرة العرب من غير العرب.و كان كثير العناية بالجامعة العربية يوصي العرب بحفظ أنسابهم لئلا تضيع عصبيتهم،و من وصاياه«تعلّموا النسب و لا تكونوا كنبط السواد إذا سئل أحدكم عن أصله قال من قرية كذا». (2)

2.اتّفقت كلمة المؤرّخين على أنّ أبا لؤلؤة رفع شكواه إلى عمر ليقضي بينه و بين مولاه ابن شعبة و قال:إنّ عليه خراجاً كثيراً و إنّه يدفع كلّ يوم إلى المغيرة درهمين،فالخليفة بدل أن يحضر المشتكى عليه ليقضي بينهما بالحق و العدل سأل

ص:252


1- 1) .الموطأ:520/2،كتاب الفرائض،تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. [1]
2- 2) .تاريخ التمدن الإسلامي:31/4- 32. [2]

أبا لؤلؤة عن مهاراته،فلمّا وقف عليها أصدر حكمه:فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال!! و هذا كلام مَن لا يقيم لشكوى المشتكي وزناً و لا قيمة،و يجنح إلى تفضيل المشتكى عليه،فأصبح عمر ضحيّة هذا الحكم.

3.إنّه-لما طولب بالاستخلاف-تردّد بين القيام به و عدمه،فمن جانب أنّ أبا بكر اختاره لمنصب الخلافة،حيث استخلفه شخصياً بلا مشاورة،و من جانب آخر انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم-حسب زعمه-مات و لم يستخلف.و في النهاية استخلف اقتداءً بسيرة أبي بكر،تاركاً سيرة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم كما يدّعي!!

و عند ذلك يُطرح هذا السؤال:أ كانت سيرة أبي بكر أفضل من سيرة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ؟! و قد عرّفه الذكر الحكيم بأنّه الأُسوة و القدوة،إذ قال تعالى: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً». 1

و بعبارة أُخرى:هل الخلافة عن النبي منصب تنصيصي أو منصب انتخابي؟ فعلى الأوّل يلزم على النبي و على من خلفه أن ينصّ على الخليفة من بعده،و على الثاني يحرم عليه التنصيص لأنّ فيه هضماً لحقوق الأُمّة حيث إنّ انتخاب القائد من حقوقهم و باختيارهم،فحكم اللّه سبحانه في مسألة الإمامة لا يخرج عن أحد الاحتمالين،فعلى الأوّل وجب عليه الاستخلاف و على الثاني حرم عليه،فكيف استنتج الخليفة بأنّه يجوز له الاستخلاف اقتداءً بأبي بكر،و عدمه اقتداءً بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم ؟!

4.اختار عمر من الصحابة الحضور ستة أشخاص،و ظن أنّهم القادة و أنّ رسول اللّه توفّي و هو عنهم راض،و لكنّه في الوقت نفسه كان في الصحابة من هو

ص:253

أفضل من بعضهم بكثير.

فهذا هو أبو ذر شبيه عيسى في أُمّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم الذي قال في حقّه الرسول:«ما أظلّت الخضراء و لا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ». (1)

و هذا هو عمار بن ياسر الذي قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حقّه:«إنّ عمّار بن ياسر جلدة ما بين عيني و أنفي». (2)

و قد رآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند بناء المسجد و قد حمّلوه ثلاث لبن أو أحجار ثقيلة فشكا إليهم عملهم و قال:يا رسول اللّه قتلوني يحملون عليّ ما لا يحملون،فنفض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفرته و كان رجلاً جعداً و هو يقول قولته التاريخية:«ويح ابن سمّية ليسوا بالذين يقتلونك،إنّما تقتلك الفئة الباغية». (3)

و مع ذلك نرى أنّه قدّم عليهما و على غيرهما أناساً لا يبلغون مرتبتهما في التقوى و الجهاد و العزوف عن الدنيا.

5.إن تشكيلة اللجنة كانت تنبئ منذ تشكيلها عن حرمان علي عليه السلام من الخلافة،إذ لم يكن له في هذه اللجنة إلاّ رأيان:رأي نفسه و رأي ابن عمته-أعني:الزبير بن العوام-و إلاّ فالأربعة الباقون كان هواهم مع غير علي و أثبت المستقبل ذلك،حيث وهب سعد رأيه إلى عبد الرحمن بن عوف لأنّهما من قبيلة واحدة(بني زهرة)،كما وهب طلحة رأيه لعثمان لأنّهما تيميان.

فلو أراد الإنسان القضاء في التاريخ و قراءة صحائفه من جديد،فلا يشكّ

ص:254


1- 1) .المستدرك:342/3؛مسند أحمد:163/2. [1]
2- 2) .تاريخ الخميس:345/1؛ [2]السيرة الحلبية:71/2. [3]
3- 3) .الجمع الصحيحين:461/2،رقم 1794؛مستدرك الحاكم:386/3،387،391؛الاستيعاب:436/2. [4]

في أنّ تأسيس الشورى كان لعبة سياسية تاريخية لحرمان علي،لكن بصورة قانونية.

6.لقد كانت رغبة الخليفة أوّلاً و بالذات إلى أبي عبيدة و سالم،و لذلك قال:لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته و لو كان سالم حيّاً لاستخلفته؛ فقد فضّلهما على الستة و فيهم علي:أخو النبي،و هارون هذه الأُمّة،و أقضاها،و باب مدينة العلم،و من جاهد في سبيل اللّه في كلّ معارك الإسلام و أبلى فيها أحسن البلاء.

7.إنّ هذه الشورى قد أنشأت بين رجالها الستة من التنافس و الفتن ما فرق جماعة المسلمين و شقّ عصاهم،إذ رأى كلّ واحد من رجالها نفسه كفوءاً للخلافة،و رأى أنّه نظير الآخرين منها،و لم يكونوا قبل الشورى على هذا الرأي،بل كان عبد الرحمن تبعاً لعثمان،و سعد كان تبعاً لعبد الرحمن،و الزبير إنّما كان من شيعة علي و المتفانين في نصرته يوم السقيفة،لكن الشورى سوّلت له الطمع بالخلافة ففارق علياً مع المفارقين.

فلمّا قتل عثمان و بايع الناس علياً،كان طلحة و الزبير أوّل من بايع،لكنّ مكانتهما في الشورى أطمعتهما في الخلافة و حملتهما على نكث البيعة و الخروج على الإمام،فخرجا عليه و خرجت معهما عائشة طمعاً في استخلاف أحد الشيخين:الزبير و طلحة.

8.و العجب العجاب هو التناقض الواضح بين قولي الخليفة،فهو من جانب انتخب هؤلاء الستة قائلاً بأنّ رسول اللّه مات و هو عنهم راض،و من جانب آخر يأمر أبا طلحة أو غيره بقتلهم و قال:«فإن اجتمع خمسة و رضوا رجلاً و أبى واحد فاشدخ رأسه أو اضرب رأسه بالسيف، و إن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم و أبى اثنان فاضرب رءوسهما فإن رضوا ثلاثة رجلاً...».فكيف يضرب رأس

ص:255

من رضى عنه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ؟!!

9.إنّ طبيعة التشاور إظهار النظر و إبداء الرأي و طلب المصلحة للأُمّة،فإذا كان المنتخَب غير مرضي عند المستشارين أ فيصحّ أن يشدخ رأسه أو يضرب عنقه بمجرد أنّه أعرب عن رأيه و أظهر ما في ضميره دون أن يطرق باب النفاق؟!

10.جعل الخليفة رأي عبد الرحمن هو الحاسم للاختلاف و كأنّه مثابة الحق و محور تمييزه عن الباطل مع أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قال في حق علي:«عليٌّ مع الحقّ و الحقّ مع علي،لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة». (1)

أ فيصحّ مع هذا الوصف تقديم عبد الرحمن بن عوف على من يدور الحقّ مداره؟!

و القارئ إذا اطّلع على ترجمة عبد الرحمن بن عوف و انكبابه على الدنيا و اغتراره بزخارفها يمتلئ عجباً من حرصه و طمعه.و هذا هو التاريخ يحدّثنا عن الثروة التي تركها عبد الرحمن بعد وفاته.

قال ابن سعد:ترك عبد الرحمن ألف بعير،و ثلاثة آلاف شاة،و مائة فرس ترعى بالبقيع،و كان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً.

و قال:و كان فيما خلّفه ذهبٌ قطّع بالفئوس حتّى مجلت أيدي الرجال منه،و ترك أربع نسوة فأصاب كلّ امرأة ثمانون ألفاً.و عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن قال:صالحنا امرأة عبد الرحمن التي طلّقها في مرضه من ربع الثُّمن بثلاثة و ثمانين ألفاً.

و قال اليعقوبي:ورّثها عثمان فصولحت عن ربع الثُّمن على مائة ألف دينار،و قيل:ثمانين ألف.

ص:256


1- 1) .مجمع الزوائد:236/7 و غيره.

و قال المسعودي:ابتنى داره و وسَّعها و كان على مربطه مائة فرس،و له ألف بعير،و عشرة آلاف من الغنم،و بلغ عند وفاته ثمن ماله أربعة و ثمانين ألفاً. (1)

11.و إن تعجب فعجب شرط عبد الرحمن للمبايعة حيث قال:هل أنت يا علي مبايعي على كتاب اللّه و سنة نبيه و فعل أبي بكر و عمر؟! فضم إلى الكتاب و السنّة سيرة الشيخين،فلو كانت سيرتهما مطابقة للكتاب و السنّة فلا حاجة لاشتراطها،و إن كانت مجانبة لهما فما قيمتها!!

و لكن عبد الرحمن كان على ثقة بأنّ علياً لا يقبل هذا الشرط،فجاء به لإبعاده عن قبول بيعته،و لذلك قدّم علياً لتصفو الساحة أمام عثمان،فلما عرضها عليه قبلها برحابة صدر.

و هنا تقف على عمق المؤامرة من أوّل تأسيس الشورى إلى انقضائها،كما تقف على قيمة كلام الإمام عليه السلام الذي خاطب به عبد الرحمن:«خدعتني و إنّما وليته لأنّه صهرك و ليشاورك كلّ يوم في شأنه».

12.فلمّا ظهر حرمان الإمام عليه السلام من الخلافة قال عليه السلام لعبد الرحمن:«حبوته حبو دهر»و ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ».

إنّ عبد الرحمن بن عوف بايع عثمان لأُمنية دنيوية،و لكن الدنيا ما وفت له،فقد اتّسعت الشقة بين الخليفة و عبد الرحمن.

يقول المؤرّخون:إنّ عبد الرحمن ندم أشدّ الندم لمّا رأى عثمان أعطى

ص:257


1- 1) .راجع طبقات ابن سعد:96/3،ط ليدن؛مروج الذهب:434/1؛ [1]تاريخ اليعقوبي:146/2؛ [2]صفة الصفوة لابن الجوزي:138/1؛ [3]الرياض النضرة لمحبّ الطبري:291/2. [4]

المناصب و الولايات إلى أقاربه و حاباهم بالأموال الطائلة،فدخل عليه و عاتبه،و بالغ في الإنكار عليه،و هجره و حلف أن لا يكلّمه أبداً حتّى أنّه حوّل وجهه إلى الحائط لمّا جاءه عثمان عائداً له في مرضه،و أوصى أن لا يصلّي عليه عند وفاته،فصلّى عليه الزبير. (1)

ص:258


1- 1) .انظر:العقد الفريد لابن عبد ربه:350/4؛و [1]شرح نهج البلاغة:30/1؛و تاريخ أبي الفداء:166/1. [2]

6

اشارة

السيرتان المتناقضتان

في

نقل حديث الرسول

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها،ثمّ أدّاها إلى من لم يسمعها،فربّ حامل فقه لا فقه له،و ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه». (1)

و في حديث:احفظوهن،و أخبروا بهن مَن وراءكم. (2)

إلى غير ذلك من النصوص النبوية الدالّة على وجوب رواية الحديث و نقله و نشره.

و هذه سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم و هذه جمله و كلماته.

ص:259


1- 1) .مستدرك الحاكم:87/1،88؛مسند أحمد:437/1. [1]
2- 2) .مسند أحمد:228/1. [2]

و أمّا سيرة الخلفاء فحدّث عنها و لا حرج.

...انّ الصديق[أبا بكر] جمع الناس بعد وفاة نبيّهم فقال:إنّكم تحدّثُون عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أحاديث تختلفون فيها،و الناس بعدكم أشدّ اختلافاً،فلا تحدّثوا عن رسول اللّه شيئاً،فَمَن سألكم فقولوا بيننا و بينكم كتاب اللّه فاستحلّوا حلاله و حرّموا حرامه. (1)

بعث عمر إلى أبي مسعود،و ابن مسعود فقال:ما هذا الحديث الذي تكثرونه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. (2)

بعث عمر بن الخطاب إلى عبد اللّه بن مسعود و إلى أبي الدرداء،و إلى أبي مسعود الأنصاري فقال:ما هذا الحديث الذي تكثرونه عن رسول اللّه،فحبسهم بالمدينة حتى استشهد. (3)

و قال عمر لقرظة بن كعب عند ما شيّعه إلى موضع قرب المدينة:...فأقلّوا الرواية عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أنا شريككم(سيوافيك الحديث بتفصيله و مصدره).

هاتان السيرتان،سيرتان متناقضتان،فأيّهما أحق بالاتّباع؟! و إليك التفصيل و التبيين:

السنّة هي المصدر الثاني للشريعة

إنّ السنّة النبوية عدل القرآن الكريم،و المصدر الثاني للعقيدة و الشريعة،و قد خصّ اللّه بها المسلمين دون سائر الأُمم.

ص:260


1- 1) .تذكرة الحفاظ:2/1-3.
2- 2) .ابن عساكر،تاريخ دمشق:159/33.
3- 3) .الكامل لابن عدي:18/1.

و اهتمّ المسلمون بنقل ما أُثر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و تحرّوا في نقله الدقّة.

و كفى في مكانة الحديث قوله سبحانه: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى» 1 .و الآية و إن كانت ناظرة إلى الوحي القرآني لكن قوله: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» غير قابل للتخصيص،فهي بصدد وضع قاعدة كلية في كلّ ما يصدر منه و يصدق عليه أنّه ممّا نطق به النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

فهذه الآية و نظائرها تبعث المسلمين إلى اقتفاء أثر النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيما يأمر و ما ينهى.يقول سبحانه: «وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا». 2

فقوله: «ما نَهاكُمْ عَنْهُ» قرينة على أنّ المراد من قوله: «آتاكُمُ» أي ما أمركم.

إنّ السنّة النبوية تارة تكون ناظرة إلى القرآن الكريم فتبيّن مجملاته كالزكاة و الصلاة و الصوم،أو تخصّص عموماته،أو تقيّد مطلقاته، و أُخرى تكون ناظرة إلى بيان العقيدة و الشريعة فحسب،و في كلا القسمين تكون الصياغة و التعبير للرسول صلى الله عليه و آله و سلم و لكن المحتوى و المضمون وحي من اللّه سبحانه،و لذلك تُعدّ السنّة عِدلاً للقرآن الكريم،فالصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ أُمور توقيفية لا تُعلم إلاّ من قبل سنّة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،فهو المبيّن لحقائقها و شروطها و موانعها،و قد صلّى و قال:«صلّوا كما رأيتموني أُصلي»و بذلك رفع الإجمال عن ماهية الصلاة المأمور بها،و مثلها في باب الزكاة و الحجّ و غيرهما من أبواب الفقه،فإذا كانت هذه مكانة السنّة النبوية و منزلتها العظيمة عند اللّه و عند المسلمين،كان اللازم صيانتها

ص:261

و حفظها كحفظ القرآن الكريم،لكونهما قد صدرا عن الوحي غير أنّ القرآن وحي بلفظه و معناه بخلاف السنّة فهي وحي بمعناها لا بلفظها.انّ الوحي من اللّه عزّ و جلّ إلى رسوله ينقسم على قسمين:

أحدهما:وحي متلوّ،مؤلّف تأليفاً معجز النظام و هو القرآن.

و الثاني:وحي مرويّ منقول،غير مؤلف و لا معجز النظام و لا متلوّ لكنّه مقروء،و هو الخبر الوارد من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و هو المبيّن عن اللّه عز و جلّ مراده. (1)

قد كان النبي يرخّص لرواة الحديث من أصحابه،بل ربّما يرغّبهم في كتابة حديثه.

1.أخرج البخاري عن أبي هريرة أنّ خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه،فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه و آله و سلم،فركب راحلته فخطب،فقال:إنّ اللّه حبس على مكة القتل أو الفيل (شك أبو عبد اللّه) و سلّط عليهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و المؤمنين ألا و إنّها لم تحل لأحد قبلي و لم تحل لأحد بعدي-إلى أن قال:-فجاء رجل من أهل اليمن فقال:اكتب لي يا رسول اللّه؟ فقال:اكتبوا لأبي فلان،إلى أن قال:كتب له هذه الخطبة. (2)

2.أخرج البخاري عن وهب بن منبّه،عن أخيه قال:سمعت أبا هريرة يقول:ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثاً عنه منّي،إلاّ ما كان من عبد اللّه بن عمرو،فانّه كان يكتُب و لا أكتُب. (3)

ص:262


1- 1) .الإحكام في أُصول الأحكام:93/1.
2- 2) .صحيح البخاري:76/1،ح112،باب كتابة العلم.
3- 3) .صحيح البخاري:38/1،ح113.

و قد قام ابن عمرو بكتابة الحديث بإذن من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أمره.

3.روى الدارمي و ابن داود في سننهما و أحمد في مسنده عن عبد اللّه بن عمرو،قال:كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أريد حفظه فنهتني قريش و قالوا:تكتب كلّ شيء سمعته من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بشر يتكلّم في الغضب و الرضا،فأمسكتُ عن الكتابة.

فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أومأ بإصبعه إلى فيه و قال:«اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ». (1)

4.روى أحمد في مسنده عن عمرو بن شعيب،عن أبيه،عن جدّه قال:قلت يا رسول اللّه:إنّا نسمع منك أحاديث فلا نحفظها أ فلا نكتبها؟ قال:«بلى،فاكتبوها». (2)

الاستعانة باليمين

5.أخرج الحافظ الخطيب البغدادي أنّ رجلاً اشتكى قلّة حفظه إلى رسول اللّه فقال له النبي:«استعن على حفظك بيمينك-يعني اكتب -».

و قد أخرج الخطيب هذا الحديث بطرق كثيرة،و في قسم منها قال:إنّ رجلاً من الأنصار كان يسمع من النبي أشياءً تعجبه كان لا يقدر على حفظها فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«استعن بيمينك».

و في بعض الطرق قال:يا رسول اللّه إنّي أسمع منك أحاديث و أخاف أن

ص:263


1- 1) .سنن الدارمي:125/1،باب من رخّص في كتابة العلم؛ [1]سنن أبي داود:318/2،باب في كتابة العلم؛ [2]مسند أحمد:162/2. [3]
2- 2) .مسند أحمد:215/2. [4]

تفلت مني،فقال:«استعن بيمينك». (1)

تقييد العلم بالكتابة

6.سأل عبد اللّه بن عمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن تقييد العلم و المنع عن فراره قال:قلت:يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أقيد العلم؟ قال:«نعم»، قلت:و ما تقييده؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم:«الكتاب». (2)

و لا أظنّ علماً نافعاً صادقاً مطابقاً للواقع-بعد كتاب اللّه أهمّ من حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

عدم الحرج في الكتابة

7.أخرج الحافظ الخطيب البغدادي عن رافع بن خديج قال:قلنا:يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:إنّا نسمع منك أ شياءً أ فنكتبها؟ قال:«اكتبوا و لا حرج». (3)

ختامه مسك

و لنختم المقام بكلام رب العزّة حيث أمر بكتابة الدَّيْن،فلا أدري هل الدَّيْن أهم أم حديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،فالدَّيْن يكتب و لا يكتب حديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ؟!

إنّ اللّه سبحانه يأمر عباده بكتابة الدَّيْن صغيراً و كبيراً و يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ

ص:264


1- 1) .تقييد العلم:65-67.
2- 2) .تقييد العلم:68-70.
3- 3) .تقييد العلم:72.

بِالْعَدْلِ ...- إلى أن يقول:- وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ». 1

فإذا كان هذا حال الدَّيْن الذي هو متاع الدنيا الزائل،فما بال حديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم الذي هو عِدْل القرآن و حجته سبحانه على الناس إلى يوم القيامة مع أنّه في مظنة النسيان و التحريف و الزيادة و النقيصة فكتابته أوجب بكثير من كتابة الدّين.

يقول الخطيب البغدادي في هذا الصدد:فلمّا أمر اللّه تعالى بكتابة الدَّيْن حفظاً له،و احتياطاً عليه و إشفاقاً من دخول الريب فيه،كان العلم الذي حفظه أصعب من حفظ الدَّيْن،أحرى أن تباح كتابته خوفاً من دخول الريب و الشكّ فيه.بل كتاب العلم في هذا الزمان مع طول الاسناد و اختلاف أسباب الرواية،أحجّ من الحفظ،أ لا ترى أنّ اللّه عز و جل جعل كتب الشهادة فيما يتعاطاه الناس من الحقوق بينهم،عوناً عند الجحود، و تذكرة عند النسيان،و جعل في عدمها عند المموّهين بها أوكد الحجج ببطلان ما ادّعوه فيها،فمن ذلك أنّ المشركين لما ادّعوا بهتاً اتّخاذ اللّه سبحانه بنات من الملائكة أمر اللّه نبينا صلى الله عليه و آله و سلم أن يقول لهم: «فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 2

أقول:إنّه سبحانه افتتح آي قرآنه بالأمر بالقراءة مبيّناً أهمية القلم في التعليم و التعلم حيث قال عزّ من قائل: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ * اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ». 3

بل عظّم سبحانه القلم و الكتابة تعظيماً،حتّى جعلها بمرتبة استحقاق

ص:265

القسم بها فهو جلّ و علا يقول: «ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ» 1

أ فهل يقبل معه أن ينهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن إمساك القلم لكتابة ما هو قرين القرآن و تاليه في الحجية،أعني:السنّة الشريفة؟! كلا و لا.

فكرة الاكتفاء بالقرآن

أدرك الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم أنّ بين الصحابة مَن قد يرفع شعار الاكتفاء بكتاب اللّه سبحانه،فيصدّ عن نشر الحديث و تدوينه و كتابته، كيف و قد سمع ذلك من بعضهم يوم الخميس عند ما طلب كتاباً يكتب للأُمّة لئلاّ تضل بعده قال عمر:إنّ النبي غلبه الوجع و عندنا كتاب اللّه حسبنا. (1)

و قد تنبّأ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بنور اللّه سبحانه و قال في حديث كما يرويه المقدام بن معديكرب الكندي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:يوشِكُ الرجل متكئاً على أريكته يُحدَّث بحديث من حديثي فيقول:بيننا و بينكم كتاب اللّه عزّ و جلّ فما وجدنا فيه من حلال استحللناه و ما وجدنا فيه من حرام حرّمناه،ألا و إنّما حرّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مثل ما حرّم اللّه. (2)

روى عبيد اللّه بن أبي رافع عن أبيه:أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«لا ألفينّ أحدكم متكئاً على أريكته،يأتيه الأمر ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول:لا أدري.ما وجدنا في كتاب اللّه اتّبعناه». (3)

ص:266


1- 2) .صحيح البخاري:38/1،ح110.
2- 3) .سنن ابن ماجة:6/1،ح12.
3- 4) .سنن ابن ماجة:7/1،ح13.

و في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:لا أعرفنّ ما يحدَّث أحدكم عنّي الحديث و هو متكئ على أريكته فيقول:اقرأ قرآناً.ما قيل من قول حسن فأنا قلته. (1)

و نحن نرى مصاديق ذلك التنبّؤ في حياة الخليفة-غير ما مرّ عليك في عهد النبي-فهذا هو قرظة بن كعب يحدّث قائلاً:بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة و شيّعنا فمشى معنا إلى موضع يقال له صِرار،فقال:أ تدرون لم مشيت معكم؟ قال:قلنا:لحقّ صحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و لحقّ الأنصار.قال:لكنّي مشيت معكم لحديث أردت أن أُحدِّثكم به،فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم،إنّكم تقدمون على قومٍ للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز المِرْجل.فإذا رأوكم مدّوا إليكم أعناقهم و قالوا:أصحاب محمد.فأقِلُّوا الرواية عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،ثمّ أنا شريككم. (2)

ثمّ إنّ الخليفة قد تمادى كثيراً في منع نشر الحديث و كتابته،و كان المنع عن التحدث بحديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هي الفكرة التي خامرت ذهنه قبيل وفاة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،و لكي يعطيها صبغة قانونية استشار في ذلك جمعاً من صحابة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

يقول عروة بن الزبير:إنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن،فاستشار في ذلك أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير اللّه فيها شهراً،ثمّ أصبح يوماً و قد عزم اللّه له،فقال:إنّي كنت أردت أن أكتب السنن؛و إنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً، فأكبّوا عليها،و تركوا كتاب اللّه تعالى،و إنّي

ص:267


1- 1) .سنن أبي داود:9/1،ح21؛كنز العمال:173/1،برقم 878.
2- 2) .سنن ابن ماجة:12/1،ح 28.

و اللّه لا أُلبس كتاب اللّه بشيء أبداً. (1)

إنّ الغاية من الاستشارة هي الوصول إلى الواقع و رفع الستر عن وجه الحقيقة،فإذا كان المستشارون هم أصحاب رسول اللّه،و قد اتّفقوا على كتابة الحديث،فلما ذا استبدّ الخليفة برأيه و منع من كتابة الحديث بسبب باطل سنوضحه؟!

و يا ليت أنّ أُمنية الخليفة قد توقّفت عند هذا الحدّ و لكنّه أقدم على إحراق الصحف التي كانت تتضمن حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بتمويه خاص و هو النظر فيها حتى يأخذ أعدلها و أقومها فجاء كُتّابُ الأحاديث بما لديهم من الصحف.

أخرج الخطيب عن القاسم بن محمد أنّ عمر بن الخطاب بلغه أنّه قد ظهر في أيدي الناس كتب،فاستنكرها و كرهها،و قال:«أيّها الناس، انّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتب،فأحبها إلى اللّه أعدلها و أقومها،فلا يبقين أحد عنده كتاب،إلاّ أتاني به،فأرى فيه رأيي»قال:فظنّوا أنّه يريد ينظر فيها،و يقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف؛فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار،ثمّ قال:«أُمنيّة كأُمنية أهل الكتاب». (2)

و لم يقتصر على ذلك بل كتب إلى الأمصار بمحو ما كتبوه.أخرج الخطيب عن يحيى بن جعدة:انّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنّة ثمّ بدا له أن لا يكتبها ثمّ كتب في الأمصار:من كان عنده شيء فليمحه. (3)

و قد صار المنع عن التدوين سنّة بعد الخليفة لكن بصورة محدودة،حيث قال عثمان على المنبر:لا يحل لأحد أن يروي حديثاً لم يُسمع به في عهد أبي بكر و لا

ص:268


1- 1) .تقييد العلم:49.
2- 2) .تقييد العلم:52.
3- 3) .تقييد العلم:53.

في عهد عمر. (1)

كما أنّ معاوية اتّبع طريقة الخلفاء الثلاث فخطب و قال:يا أيّها الناس أقلّوا الرواية عن رسول اللّه،و إن كنتم تتحدّثون فتحدّثوا بما كان يتحدّث به في عهد عمر. (2)

حتّى أنّ عبيد اللّه بن زياد عامل يزيد بن معاوية على الكوفة نهى زيد بن أرقم الصحابي عن التحدّث بأحاديث رسول اللّه. (3)

و بذلك أصبح ترك كتابة الحديث سنّة إسلامية،و عدّت الكتابة شيئاً منكراً مخالفاً لها!!

بأي السنّتين نقتدي

قد عرفت سنّة النبي و أنّه كان يأمر بكتابة الحديث،و قد أمر في أواخر عمره بإحضار كتاب يكتب للأُمّة ما يتضمّن هدايتها،فعلى ذلك كان اللازم على المسلمين في مختلف العصور التحدّث بسنّة الرسول و تدوينها و كتابتها.

هذا من جانب و من جانب آخر يروي ابن ماجة عن العرباض:أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قام فينا ذات يوم فوعظنا موعظة بليغة وجلت منها القلوب،و ذرفت منها العيون،فقيل يا رسول اللّه:وعظتنا موعظة مودِّع فاعهد إلينا بعهد.فقال:«عليكم بتقوى اللّه و السمع و الطاعة،و إن عبداً حبشياً،و سترون من بعدي اختلافاً شديداً فعليكم بسُنّتي و سنّة الخلفاء الراشدين المهديّين...». (4)

ص:269


1- 1) .كنز العمال:295/10،ح29490.
2- 2) .كنز العمال:291/10،ح 29473.
3- 3) .فرقة السلفية:14 نقلاً عن مسند أحمد.
4- 4) .سنن ابن ماجة:16/1،ح 42.

فعلى ضوء هذا العهد يلزم على علماء الأُمّة و محدّثيهم جمع كتب الحديث و شروحها و ما علّق عليها على صعيد واحد و إحراقها اقتداءً بسنّة الخلفاء الراشدين حتّى تبقى الساحة للذكر الحكيم.

فكيف نجمع بين السنّتين؟! و العجب أنّ المحدّثين يروون كلتا السنّتين،و ليس هذا إلاّ تعبيراً عن ظاهرة التناقض التي تحكم حياتهم العلمية و الاجتماعية!!

الأعذار المفتعلة

اشارة

لمّا كان المنع عن كتابة الحديث و نشره على خلاف الكتاب و السنّة النبوية،حاول غير واحد من الباحثين تبرير هذا المنع بوجوه غير مقنعة،و ها نحن نشير إلى هذه الوجوه بما يلي:

1.صيانة القرآن من الاختلاط بالحديث

ذهب غير واحد ممّن تكلّم حول منع كتابة الحديث إلى أنّ المنع كان لغاية صيانة القرآن من الاختلاط بالحديث،و استدلّوا على ذلك بقول الخليفة:«لا ألبس كتاب اللّه بشيء أبداً».

روى الخطيب باسناده عن عروة بن الزبير أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن،فاستشار في ذلك أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،إلى أن قال:...إنّي أردت أن أكتب السنن و انّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبُّوا عليها و تركوا كتاب اللّه و إنّي و اللّه لا ألبس كتاب اللّه بشيء أبداً. (1)

ما ذا يريد الخليفة من كلمته؟ هل يريد النهي عن كتابة غير القرآن مع

ص:270


1- 1) .تقييد العلم:49.

القرآن في صفحة واحدة كما عليه بعض؟ (1)،فلو كان هذا المراد،لكان عليه أن يأمرهم بفصل الحديث عن القرآن في الكتابة لا إحراق الحديث و لا النهي عن بثّه بين الناس.

و قد سعى الخطيب البغدادي في تبيين هذا الوجه،فقال:

قد ثبت أنّ كراهة من كره الكتاب من الصدر الأوّل،إنّما هي لئلاّ يضاهي بكتاب اللّه غيره،أو يشتغل عن القرآن بسواه،-إلى أن قال:- و نُهي عن كتب العلم في صدر الإسلام و جدَّته لقلّة الفقهاء في ذلك الوقت،و المميّزين بين الوحي و غيره،لأنّ أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين،و لا جالسوا العلماء العارفين،فلم يؤمن أن يُلحقوا ما يجدون من الصحف،بالقرآن،و يعتقدوا أنّ ما اشتملت عليه كلام الرحمن. (2)

أقول:إنّ تبرير المنع عن كتابة الحديث لمخافة اختلاط القرآن به أشبه بدفع الفاسد بالأفسد،سواء أُريد الكتابة في صفحة واحدة أو في صحائف متعدّدة،و ذلك:

أوّلاً:انّ العناية بحفظ القرآن و نشره و بسطه بين المسلمين،تمنع من اختلاطه بأي شيء غيره،و قد أثبتت التجربة صحّة هذا،حيث أكبّ المسلمون على كتابة الحديث من القرن الثاني إلى يومنا هذا و لم يتطرق الحديث إلى آي القرآن و سوره.

ثانياً:انّ القرآن متميز بأُسلوبه و بلاغته عن أُسلوب الحديث و بلاغته،فإنّ

ص:271


1- 1) .تيسير الوصول:177/3.
2- 2) .تقييد العلم:57.

القرآن لبلاغته و فصاحته يصل إلى حد يتميز عن كلّ كلام بشري،سواء أ كان كلام النبي أم غيره،فلا يحصل الاختلاط حتّى لو كتبا في صفحة واحدة.

إنّ هذا العذر-كما مرّ-أقبح من نفس العمل فإنّه يحطّ من مكانة القرآن و إعجازه و يهبط به إلى درجة ربّما يشتبه فيها غير القرآن بالقرآن لدى العرب الأقحاح!!

2.الاشتغال بغير القرآن

هذا هو الوجه الثاني لتبرير منع الخليفة من كتابة الحديث،و حاصله:انّ تجويز كتابة الحديث كان يلازم ترك كتاب اللّه العزيز،و الشاهد عليه ما رواه عروة ابن الزبير قال:أراد عمر أن يكتب السنن،فاستخار اللّه تعالى شهراً،ثمّ أصبح و قد عُزم له،فقال:

«ذكرت قوماً كتبوا كتاباً،فأقبلوا عليه،و تركوا كتاب اللّه عزّ و جلّ». (1)

و سيوافيك أنّ هذا هو السبب الذي حدا بعبد اللّه بن مسعود إلى أن يدعو بالطست و الماء،لمحو الأحاديث المكتوبة في الصحيفة،قائلاً بأنّ هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن و لا تشغلوها بغيره. (2)

يلاحظ عليه:أنّه لو صحّ ذلك لوجب ترك تحصيل العلم في عامة المجالات من غير فرق بين العلوم الكونية و النفسية و الاجتماعية،لأنّ كلّ ذلك يوجب الاشتغال بغير القرآن.

ثمّ إنّ عطف سائر الكتب على الحديث و جعلهما على درجة واحدة جرأة

ص:272


1- 1) .تقييد العلم:49.
2- 2) .تقييد العلم:53- 54.

على الرسول و كلامه،فإنّ كلام غير الرسول فيه الحق و الباطل،و أين هو من حديث الرسول الذي كلّه حقّ و صواب و لا يخرج من فيه إلاّ ما هو الحقّ؟!

إنّ هذين العذرين و ما يشبههما من الأعذار التي ذكرها الخطيب في تقييد العلم،إنّما هي تبريرات لعمل الخليفة و غيره ممّن يرى رأيه، و لا يصغي إليها من له إلمام بمنزلة الكتاب و مكانة الحديث النبوي.

السبب الواقعي:صرف الناس عن آل البيت

اشارة

أظن انّ السبب الذي يختفي وراء ذلك هو نفس السبب الذي يكمن وراء منع كتابة الصحيفة يوم الخميس بمرأى و مسمع من النبي صلى الله عليه و آله و سلم،فالغاية بداية و نهاية و قبل رحلته صلى الله عليه و آله و سلم و بعدها،واحدة لم تتغير.

و ليس هذا ادّعاء محضاً نابعاً من الخضوع للعاطفة،إذ في المقام شواهد تاريخية تدلّ على أنّ السبب الواقعي هو صرف الناس عن استماع فضائل أهل البيت و مناقبهم و ما لهم من المكانة المرموقة في الإسلام و علو الشأن بين المسلمين،و هي كما يلي:

1.محو صحيفة فيها فضائل

روى الخطيب البغدادي بسنده عن عبد الرحمن بن الأسود،عن أبيه قال:

جاء علقمة بكتاب من مكة-أو اليمن-صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت.- بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم فاستأذنا على عبد اللّه،فدخلنا عليه،قال:

فدفعنا إليه الصحيفة.

قال:فدعا الجارية،ثمّ دعا بطست فيها ماء.

فقلنا له:يا أبا عبد الرحمن،انظر فيها،فإنّ فيها أحاديث حساناً،فجعل

ص:273

يميثها فيها و يقول: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ» 1 ،القلوب أوعية،فاشغلوها بالقرآن،و لا تشغلوها بما سواه. (1)

و كانت الصحيفة تشتمل على أحاديث حسان في أهل بيت النبي تشيد بفضائلهم،و تشير إلى مقاماتهم التي تجذب القلوب إليهم،و كان بثّ تلك الأحاديث يوم ذاك يضرّ السلطة التي كانت تصرف الناس عن أهل بيت النبي،فلذلك قام ابن مسعود الذي كان يؤيد الخلافة الحاكمة، بتمييثها في الماء،مموِّّهاً بأنّ قراءتها تورث الاشتغال عن القرآن!!

2.خرق كتاب فيه فضائل الأنصار

روى الزبير بن بكار بسنده عن عبد الرحمن بن يزيد قال قدم علينا سليمان بن عبد الملك حاجّاً سنة (82ه)،و هو وليّ عهد،فمرّ بالمدينة،فدخل عليه الناس،فسلّموا عليه،و ركب إلى مشاهد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم،التي صلّى فيها،و حيث أُصيب أصحابه بأُحد،و معه أبان بن عثمان، و عمرو بن عثمان،و أبو بكر بن عبد اللّه،فأتوا به قباء،و مسجد الفضيخ،و مشربة أُمّ إبراهيم،و أُحد،و كلّ ذلك يسألهم؟ و يخبرونه عمّا كان.

ثمّ أمر أبان بن عثمان أن يكتب له سِيَر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و مغازيه.

فقال أبان:هي عندي،قد أخذتها مصحّحة،ممّن أثِق به.

فأمر بنسخها،و ألقى فيها إلى عشرة من الكُتّاب،فكتبوها في رقٍّ،فلمّا صارت إليه،نظر،فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين،و ذكر الأنصار في بدر.

ص:274


1- 2) .تقييد العلم:53- 54.

فقال [سليمان بن عبد الملك]:ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل،فإمّا أن يكون أهل بيتي غمضوا عليهم،و إمّا أن يكونوا ليس هكذا.

فقال أبان بن عثمان:أيّها الأمير،لا يمنعنا ما صنعوا...أن نقول بالحقّ،هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا.

قال[سليمان]:ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتّى أذكره لأمير المؤمنين،لعلّه يخالفه،فأمر بذلك الكتاب،فخُرق،و قال:أسأل أمير المؤمنين إذا رجعت،فإن يوافقه فما أيسر نسخه.

فرجع سليمان بن عبد الملك،فأخبر أباه بالذي كان من قول أبان،فقال عبد الملك:و ما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل؟ تُعرِّفُ أهل الشام أُموراً لا نُريد أن يعرفوها!

قال سليمان:فلذلك-يا أمير المؤمنين-أمرتُ بتخريق ما كنتُ نسخته حتّى أستطلع رأي أمير المؤمنين.

فصوّب رأيه. (1)

فإذا كانت السلطة لا تتحمل نشر فضائل الأنصار،فكيف تتحمل نشر فضائل آل البيت عليهم السلام ؟!

3.الترخيص في نقل الأحكام

و هناك ما يدلّ على أنّ الخليفة رخّص في رواية الحديث الذي يتعلّق بالأحكام و الفرائض،فقد نقل ابن كثير عن عمر أنّه قال:«أقلّوا الرواية عن رسول اللّه إلاّ فيما يعمل». (2)و هذا يعرب عن أنّ الممنوع من كتب الأحاديث،هو ما

ص:275


1- 1) .الموفقيات للزبير بن بكار:222- 223. [1]
2- 2) .البداية و النهاية:107/8. [2]

يتعلّق بغير ما يعمل و ليس هو إلاّ ما يتعلّق بالسياسة و الخلافة،أو بفضائل الأشخاص،و قد سمع الأصم و الأبكم أحاديث الرسول في آل البيت و كان رسول اللّه منذ صدع بالدعوة و جهر بها،ينصّ على فضائل علي و مناقبه في مناسبات شتّى،فقد عرّفه في يوم الدار الذي ضم أكابر بني هاشم و شيوخهم،بقوله:«إنّ هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا».

و في يوم الأحزاب بقوله:«ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين».

و في اليوم الذي غادر فيه المدينة متوجهاً إلى تبوك،و قد ترك علياً خليفته على المدينة،عرّفه بقوله:«أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي».

إلى أن عرّفه في حجة الوداع في غدير خم بقوله:«من كنت مولاه،فهذا علي مولاه».

و غير ذلك من المناقب و الفضائل المتواترة،و قد سمعها كثير من الصحابة فوعوها.

فكتابة حديث رسول اللّه بمعناها الحقيقي،لا تنفك عن ضبط ما أثر عنه صلى الله عليه و آله و سلم في حقّ أوّل المؤمنين به،و أخلص المناصرين له في المواقف الحاسمة،و ليس هذا بالشيء الذي يلائم شئون الخلافة التي تصدّرها المانع عن الكتابة.

و هناك وجه آخر للمنع عنها،هو أنّ علياً كان أحد المهتمين بكتابة حديث رسول اللّه و ضبطه،كما كان مولعاً بضبط الوحي و كتابته،و قد كتب ما أملاه عليه رسول اللّه من أحاديث فكان أُذناً واعية،و هو عليه السلام،يصف لنا ذلك بقوله:«إنّي كنت إذا سألته أنبأني و إذا سكت ابتدأني».و هو أوّل من ألف

ص:276

أحاديث رسول اللّه و كتبها،و هذه منقبة سامية لأمير المؤمنين دون غيره،إلاّ أقلّ القليل.فجدّ مخالفوه في إخفاء هذه الفضيلة،باختلاق حديث منع الكتابة.

الآثار السلبية لمنع كتابة الحديث

قد كان لمنع كتابة الحديث آثار سلبية سيئة،نذكر بعضها:

1.ذهاب قسم كبير من أحاديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم التي كان لها صلة قوية بصميم الدين:أُصوله و فروعه.ذلك لأنّ فترة المنع تجاوزت قرناً كاملاً،بل زادت عليه و في تلك الفترة مات حملة الحديث من الصحابة و أكثر التابعين فذهبوا بالأحاديث التي كانت في صدورهم.

يقول الشيخ محمد أبو زهرة:كاد القرن الأوّل ينتهي،و لم يُصدر أحد من الخلفاء أمره إلى العلماء بجمع الحديث بل تركوه موكولاً إلى حفظهم،و مرور هذا الزمن الطويل كفيل بأن يذهب بكثير من حملة الحديث من الصحابة و التابعين. (1)

2.فسح المجال للدجّالين و الوضّاعين لوضع الحديث و جعله و نشره بين الناس و الاحتجاج به دون أن يكون له سند في صحيفة أو غيرها.و يعرب عن ذلك كثرة الموضوعات في عصر تدوين الحديث،فإنّ أئمّة الحديث أخرجوا صحاحهم و سننهم من أحاديث كثيرة،فهذا أبو داود قد أتى في سننه بأربعة آلاف و ثمانمائة حديث،و قال:انتخبته من خمسمائة ألف حديث.و يحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار ألفي حديث و سبعمائة و واحد و ستين حديثاً اختارها من زهاء ستمائة ألف حديث.و في صحيح مسلم أربعة آلاف حديث أُصول،دون

ص:277


1- 1) .الحديث و المحدثون:127.

المكررات صنفها من ثلاثمائة ألف.و ذكر أحمد بن حنبل في سنده ثلاثين ألف حديث،و قد انتخبها من أكثر من سبعمائة و خمسين ألف حديث،و كان يحفظ ألف ألف حديث.و كتب أحمد بن الفرات(المتوفّى 258ه) ألف ألف و خمسمائة ألف حديث،فأخذ من ذلك ثلاثمائة ألف في التفسير و الأحكام و القواعد و غيرها. (1)

3.فسح المجال للأحبار و الرهبان للتحدّث عن العهدين،و كان التحدّث بحديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في مسجد النبي أمراً ممنوعاً و في الوقت نفسه نرى أنّ المستسلمة من الأحبار و الرهبان استغلوا تلك الفرصة و نشروا ما عندهم من الأساطير.

هذا هو تميم بن أوس الداري هو أوّل من قصّ بين المسلمين و استأذن عمر أن يقصّ على الناس قائماً فأذن له. (2)

يقول الكوثري:إنّ عدة من أحبار اليهود و رهبان النصارى و مؤابذة المجوس أظهروا الإسلام في عهد الراشدين ثمّ أخذوا بعدهم فيما ما عندهم من الأساطير. (3)

«إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ» . (4)

ص:278


1- 1) .الغدير:292/5- 293. [1]
2- 2) .كنز العمال،رقم الحديث 20448.
3- 3) .مقدمة تبيين المفتري:30.
4- 4) .ق:37.

7

اشارة

مات النبي بلا وصية في أمر الخلافة

و

لا يبيت مسلم إلاّ و وصيته مكتوبة

دلّت السنّة النبوية على أنّه لا ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين أو ثلاث إلاّ و وصيته مكتوبة عنده.

روى ابن الأثير عن الصحيحين(البخاري و مسلم) و السنن(أبي داود،الترمذي،النسائي) مضافاً إلى الموطأ لمالك:أنّ رسول اللّه قال:ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به-و في رواية:له شيء و يريد أن يوصي به-أن يبيت ليلتين-و في رواية:ثلاث ليال-إلاّ و وصيته مكتوبة عنده».

قال نافع:سمعت عبد اللّه بن عمر يقول:ما مرّت عليّ ليلة منذ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول ذلك إلاّ و عندي وصيتي مكتوبة». (1)

ص:279


1- 1) .جامع الأُصول:625/11،حرف الواو،رقم الحديث 9245 و لاحظ سنن البيهقي:271/6،باب الحزم لمن له شيء.

و قد ورد في غير واحد من الأحاديث،الأمر بالوصية بالاعتكاف و الحج و الجهاد في سبيل اللّه إلى غير ذلك من الموارد التي ينبغي الإيصاء فيها.

و هذا هو الدستور العام للمسلمين ليكونوا على حذر من أن يفاجئهم الموت قبل أن يتداركوا حوائجهم.

هذا من جانب و من جانب آخر فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تكلّم في أبسط الأشياء و أوصى فيها بأُمور نظير آداب التخلّي و الجنائز،فقد جاء فيها:

1.أخرج البخاري عن عبد العزيز بن صهيب قال:سمعت أنساً يقول:كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذا دخل الخلاء قال:«اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث و الخبائث». (1)

2.أخرج البخاري عن أبي أيوب الأنصاري قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة و لا يولّيها ظهره،شرِّقوا أو غرِّبوا». (2)

3.أخرج البخاري عن عبد اللّه بن أبي قتادة،عن أبيه قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الماء،و إذا أتى الخلاء فلا يمسّ ذكره باليمين و لا يتمسّح بيمينه». (3)

4.أخرج البخاري عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال:إنّه سمع عبد اللّه يقول:أتى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الغائط،فأمرني أن آتيه بثلاث أحجار فوجدت حجرين و التمست الثالث فلم أجده فأخذت روثة فأتيته بها،فأخذ الحجرين و ألقى الروثة فقال:«هذا ركس». (4)

و إليك ما ورد حول الجنائز.

5.أخرج البخاري عن عامر بن ربيعة،عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:«إذا رأيتم

ص:280


1- 1) .صحيح البخاري:1،الحديث 142،144،153،156.
2- 2) .صحيح البخاري:1،الحديث 142،144،153،156.
3- 3) .صحيح البخاري:1،الحديث 142،144،153،156.
4- 4) .صحيح البخاري:1،الحديث 142،144،153،156.

الجنازة فقوموا حتّى تخلّفكم،أو توضعوا». (1)

6.أخرج البخاري عن عامر بن ربيعة،عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال:«إذا رأى أحدكم جنازة فإن لم يكن ماشياً معها فليقم حتّى يُخَلِّفها،أو تخلِّفه، أو توضع من قبل أن تخلفه». (2)

7.أخرج البخاري عن سعيد المقبري،عن أبيه قال:كنا في جنازة،فأخذ أبو هريرة بيد مروان،فجلسا قبل أن توضع،فجاء أبو سعيد فأخذ بيد مروان فقال:قم،فو الله لقد علم هذا أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم نهانا عن ذلك،فقال أبو هريرة:صدق. (3)

8.أخرج البخاري عن أبي هريرة،عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:«اسرعوا بالجنازة فإن تكن صالحة فخير تقدّموها،و إن يكن سوى ذلك فشرٌ تضعوه عن رقابكم». (4)

9.أخرج البخاري عن أبي هريرة قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«من شهد الجنازة حتّى يصلّي فله قيراط،و من شهد حتّى تدفن قال له قيراطان». (5)

10.أخرج البخاري عن أبي هريرة:أنّ أسود،رجلاً أو امرأة،كان يقُمّ المسجد فمات و لم يعلم النبي صلى الله عليه و آله و سلم بموته،فذكره ذات يوم فقال:

«ما فعل ذلك الإنسان»؟ قالوا:مات يا رسول اللّه.قال:«أ فلا آذنتموني».فقالوا:إنّه كان كذا و كذا قصته.قال:فحقّروا شأنه،قال:«فدُلّوني على قبره».

فأتى قبره فصلّى عليه. (6)

هذه عشرة كاملة التقطناها من بابين:آداب التخلّي و الجنائز،و لو سبر الباحث كتب الحديث و الفقه المختلفة لعثر فيها على أحاديث اهتمّ النبي فيها

ص:281


1- 1) .صحيح البخاري،الحديث 1307،1308و 1309.
2- 2) .صحيح البخاري،الحديث 1307،1308و 1309.
3- 3) .صحيح البخاري،الحديث 1307،1308و 1309.
4- 4) .صحيح البخاري،الحديث رقم 1315.
5- 5) .صحيح البخاري،الحديث رقم 1325.
6- 6) .صحيح البخاري،الحديث رقم 1337.

بأبسط الأشياء و أدناها من المكروهات و المستحبات ممّا لا يبلغ شأو الوصاية و الزعامة.

و مع ذلك فإنّه صلى الله عليه و آله و سلم-على رأي أهل السنّة-أهمل بيان مسألة خطيرة لها تأثير كبير في حياة المجتمع الإسلامي عاجلاً و آجلاً و هي:

بيان أُسلوب تولّي الزعامة الدينية بعد رحيله و إيضاح صيغة الحكومة الإسلامية،فهل هي مقام انتصابي يقوم فيه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأمر من اللّه سبحانه بنصب الوصي،أو مقام انتخابي تقوم به الأُمّة أو لفيف منهم على انتخابه؟

و الشيعة الإمامية على أنّ الإمامة استمرار لوظائف النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أنّ الإمام يقوم مقام النبي صلى الله عليه و آله و سلم و يحقّق ما كان يحقّق سوى أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم يوحى إليه و لا يوحى إلى الإمام،و قد استدلّوا على ذلك بروايات التنصيب كحديث الغدير و حديث المنزلة و حديث الثقلين و السفينة، و غير ذلك من الأحاديث التي حفلت بها المسانيد،و لا نطيل المقام بنقلها،فقد كفانا مئونة ذلك الموسوعات المعيّنة بهذا الشأن.

و إنّا نلفت نظر القارئ إلى الأمر الثاني الذي تبنّاه أهل السنّة و نسأل:

إذا كان أمر الإمامة مفوضاً إلى الأُمّة فلما ذا لم يصرّح النبي صلى الله عليه و آله و سلم بهذه الضابطة الكلية التي لها تأثير في وحدة الكلمة و تقارب الخطى و تماسك القوى؟

و على فرض تسليم الضابطة فما هي مؤهلات الخليفة التي بها يستحق الزعامة؟

و ما هي مؤهّلات المنتخبين؟ فهل تنتخبه الأُمة الإسلامية كلّها،أو خصوص الصحابة من المهاجرين و الأنصار،أو أهل الحلّ و العقد منهم،أو خصوص القرّاء و العلماء أو غير ذلك؟

و المسألة مبهمة جدّاً،و ما ذكره أرباب المقالات و العلماء الأعلام في هذا

ص:282

الصعيد إنّما أخذوه من الخلافات السائدة بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم،فجعلوه مقياساً لضابطة الإمامة و الخلافة و مؤهّلات الخليفة و شرائط المنتخبين.

و مع ذلك كلّه لم يتّفقوا على شروط واحدة.

الاختلاف في مؤهّلات الحاكم

قال عبد القاهر البغدادي:قال أصحابنا:إنّ الذي يصلح للإمامة ينبغي أن يكون فيه أربعة أوصاف:

أحدها:العلم.و أقلّ ما يكفيه منه،أن يبلغ فيه مبلغ المجتهدين في الحلال و الحرام،و في سائر الأحكام.

الثاني:العدالة و الورع.و أقلّ ما يجب له من هذه الخصلة،أن يكون ممّن يجوز قبول شهادته تحمّلاً و أداءً.

و الثالث:الاهتداء إلى وجوه السياسة و حسن التدبير،و أن يعرف مراتب الناس،فيحفظهم عليها و لا يستعين على الأعمال الكبار، بالخصال الصغار،و يكون عارفاً بتدبير الحروب.

الرابع:النسب من قريش. (1)

و قال أبو الحسن البغدادي الماوردي:الشروط المعتبرة في الإمامة سبعة:

أحدها:العدالة على شروطها الجامعة.

الثاني:العلم المؤدّي إلى الاجتهاد في النوازل و الأحكام.

الثالث:سلامة الحواس من السمع و البصر و اللسان.

ص:283


1- 1) .أُصول الدين:277. [1]

الرابع:سلامة الأعضاء.

الخامس:الرأي المفضي إلى سياسة الرعية و تدبير المصالح.

السادس:الشجاعة و النجدة.

السابع:النسب،و هو أن يكون من قريش. (1)

و قال ابن حزم:يشترط فيه أُمور(ثمانية):

1.أن يكون صلبه من قريش.

2.أن يكون بالغاً مميزاً.

3.أن يكون رجلاً.

ص:284


1- 1) .الأحكام السلطانية:6.

4.أن يكون مسلماً.

5.أن يكون متقدماً لأمره.

6.عالماً بما يلزمه من فرائض الدين.

7.متقياً للّه بالجملة،غير معلن الفساد في الأرض.

8.أن لا يكون مولّى عليه». (1)

و قال القاضي سراج الدين الأرموي:صفات الأئمة تسع:

1.أن يكون مجتهداً في أُصول الدين و فروعه.

2.أن يكون ذا رأي و تدبير.

3.أن يكون شجاعاً.

4.أن يكون عدلاً.

5.أن يكون عاقلاً.

6.أن يكون بالغاً.

7.أن يكون مذكراً.

8.أن يكون حرّاً.

9.أن يكون قرشياً. (2)

و جعلها التفتازاني ثلاثة عشر. (3).و هكذا دواليك.

فالاختلاف في مؤهّلات الخليفة ناشئ عن اعتقادهم بكون الخلافة مقاماً انتخابياً و انّ النبيّ ارتحل و لم ينبس بها ببنت شفة.

و ليس الاختلاف منحصراً في مؤهّلات الخليفة و إنّما هو قائم في كيفية استلام الحكم.

الاختلاف في كيفية استلام الحكم و انعقاد الإمامة

قال الإسفرائيني(344-406ه):و تنعقد الإمامة بالقهر و الاستيلاء و لو كان فاسقاً أو جاهلاً أو أعجمياً. (4)

و قال الماوردي:اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتّى فقالت طائفة:

ص:285


1- 1) .الفِصَل:186/4.
2- 2) .مطالع الأنوار:470.
3- 3) .شرح المقاصد:271/2. [1]
4- 4) .كتاب الجنايات كما في إحقاق الحق للسيد التستري:317/2.

لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل العقد و الحل من كلّ بلد.

و قالت طائفة أُخرى:أقلّ ما تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة.

و قال آخرون:تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضى الاثنين ليكون حاكماً و شاهدين كما يصح عقد النكاح بوليّ و شاهدين.

و قالت طائفة:تنعقد بواحد. (1)

و قال التفتازاني:تنعقد بطرق:

أحدها:بيعة أهل الحلّ و العقد.

الثاني:استخلاف الإمام و عهده.

الثالث:القهر و الاستيلاء.فإذا مات الإمام و تصدى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة و استخلاف و قهر الناس بشوكته،انعقدت الخلافة له،و كذا إذا كان فاسقاً أو جاهلاً على الأظهر. (2)

و العجب أنّ الزعامة الإسلامية أسفّت و هبطت إلى حد عقد النكاح فيكفي فيها ثلاثة حتى يكون أحدهم بمنزلة الولي و الآخران بمنزلة الشاهدين،و صارت رمية لكلّ رام يحفظها كلّ فاسق و جاهل،و يدعى ب«أمير المؤمنين»،فإذا كانت الخلافة الإسلامية هذا شأنها،و الفاسق و الجاهل ممارسها،و التشريع على منصّتها،فعلى الإسلام السلام!!

هذا هو التناقض الواضح في أحاديثهم و عقائدهم،فمن جانب يوصي

ص:286


1- 1) .الأحكام السلطانية:6-7،طبعة مصر.
2- 2) .شرح المقاصد:272/2،طبعة استنبول. [1]

النبي صلى الله عليه و آله و سلم كلّ مسلم بكتابة وصيته و لكنّه سلام اللّه عليه يرحل و لا يوصي في ما يلمّ به شعث الأُمّة!!!

و جملة القول:إنّ اختلافهم في شرائط الإمام و طرق تنصيبه،جعل الخلافة وبالاً على المسلمين،حتّى أخذت لنفسها شكلاً يختلف كلّ الاختلاف عن الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه.فقد أصبحت الخلافة الإسلامية،إمبراطورية،و ملكاً عضوضاً،يتناقلها رجال العَيْث و الفساد، فمن يد فاسق،إلى آخر فاجر غارق في الهوى،إلى ثالث سفّاك متعصّب.و قد أعانهم في تسنّم ذروة تلك العروش،مرتزقة من رجال متظاهرين باسم الدين،فبرروا أفعالهم،و وجّهوا أعمالهم توجيهاً ملائماً للظروف السائدة،و صحّحوا اتّجاهاتهم السياسية الخاصة،باختلاق أحاديث و ابتداع سنن،فاصطنعوا لهذا و ذاك فضائل و مناقب،لدعم مواقفهم السياسية،و يكفيك النموذج التالي،لتقف على حقيقة تلك الأحاديث المفتراة:

رووا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:«يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهُدايَ،و لا يَسْتَنّون بسُنّتي،و سيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس.قال الراوي:قلت:كيف أصنع يا رسول اللّه إن أدركت ذلك؟ قال:«تسمع و تطيع للأمير،و إن ضَرَبَ ظهرَك،و أخذَ مالَك،فاسمع و أطع». (1)

فإذا كان هذا حال صحيح الكتب أو أصحّها فما حال غيره من المسانيد و السنن؟!!

ص:287


1- 1) .صحيح مسلم:20/6- 24،باب الأمر بلزوم الجماعة،و باب حكم من فرق أمر المسلمين،و في البابين نظائر كثيرة لهذا الحديث.

8

بين الجبر و الاختيار

التأمّل في عقائد العرب في العصر الجاهلي يثبت أنّهم (أو طائفة منهم) كانوا معتقدين بالجبر،بمعنى أنّ الإنسان يعمل بلا اختيار و حرية، و كأنّ عامل التقدير قد خط مصيره فلا يمكن له تجاوزه.

و الذكر الحكيم يعكس عقيدتهم في العديد من آياته،نقتصر على آيتين منها:

قال سبحانه: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ». 1

و قال سبحانه: «وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ». 2

ص:288

فقولهم: «وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها» يشير إلى عقيدتهم في عبادة الأوثان و الأصنام و أنّه سبحانه شاء عبادتها و قدّرها،و ليس لنا الفرار ممّا قُدِّر.

و اللّه سبحانه يرد على عقيدتهم بقوله: «قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» فلا يقدِّر سبحانه الشرك و عبادة من سواه.

هذا هو شعار المشركين،و أمّا شعار الإسلام و المسلمين فهو شعار الاختيار و الحرية و أنّ الإنسان ليس مسلوب الاختيار،و لا كالريشة في مهبّ الريح،و اللّه سبحانه خلقه و وهب له قدرة الاختيار و الانتخاب،فيقول:

1. «وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ». 1

2. «إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً» 2

3. «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ» 3

4. «كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ» 4

5. «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ» 5

6. «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى» 6

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ الإنسان خُلِق مختاراً في ما يفعل و يترك،و ليس هناك أي ضغط و جبر مادي أو معنوي يدفع الإنسان إلى ما لا يريده

ص:289

و يختاره.

و لسنا في مقام بيان مضاعفات الجبر و أنّ القول به ينتهي إلى انتفاء الغرض من بعثة الأنبياء كما ينتهي إلى انتفاء الغرض من المناهج التربوية،لأنّ المفروض أن ليس للإنسان إلاّ طريق واحد و لا مناص له من السير عليه.

إنّما الهدف بيان التناقض بين مضامين الآيات و ما رواه المحدّثون في أصحّ الكتب عندهم،و التي ليس بعد كتاب اللّه تعالى كتب أفضل و أصحّ منها.

روى مسلم في صحيحه عن زيد بن وهب عن عبد اللّه:قال:«حدّثنا رسول اللّه و هو الصادق:إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أُمّه أربعين يوماً،ثمّ يكون في ذلك علقة مثل ذلك،ثمّ يكون في ذلك مضغة مثل ذلك،ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الروح و يؤمر بأربع كلمات:يكتب رزقه و أجله و عمله و شقي أو سعيد،فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع،فيسبق عليه الكتابُ فيعملُ بعمل أهل النار فيدخلها،و إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع،فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها». (1)

هذه الرواية لا تفارق الجبر قيد شعرة،فهي صريحة في أنّ الإنسان لا يملك نفسه في مجال الضلالة و الهداية و إنّما مصيره فيهما بيد الكتاب،فربّ إنسان مؤمن مهتد يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الضلال فيدخل النار،و رب إنسان ضال شقي،له مصيره الخاص،لكن يسبق الكتاب عليه فيعمل بعمل أهل الهداية فيدخل الجنّة.

فالمصير النهائي ليس بيد الإنسان:المهتدي و الضال و إنّما هو بيد الكتاب

ص:290


1- 1) .صحيح مسلم:44/8،كتاب القدر.

المقدّر لكلّ شيء.

و ليس هذا الحديث وحيد نسجه في هذا الباب،بل الصحاح مليئة بهذه الروايات التي لا تنفك عن الجبر.

روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن أُسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة و أربعين ليلة فيقول:يا ربّ أ شقي أو سعيد؟ فيكتبان،فيقول:أي رب أذكر أو أُنثى؟ فيكتبان،و يكتب عمله و أثره و أجله و رزقه،ثمّ تطوى الصحف فلا يزاد فيها و لا ينقص. (1)

و هذا الحديث يدلّ على أنّ الإنسان لا يستطيع تغيير مصيره بالأعمال الصالحة و الأدعية و الصدقات و أنّ الكتاب حاكم على مصير الإنسان فلا يزداد و لا ينقص.

مع أنّ القرآن الكريم يصرح بإمكان تغيير المصير بالعمل الصالح و الطالح فيقول سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ». 2

و هذا الذكر الحكيم يدعو إلى الاستغفار الذي يغير المصير و يقول: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً». 3

إنّ شعار المحدّثين خصوصاً السلفية منهم هو الصحيحان،و هما من أصحّ الكتب بعد القرآن الكريم فلا يقبلان نقاشاً و لا خدشاً،و بالتالي آمنوا

ص:291


1- 1) .صحيح مسلم:45/8،كتاب القدر.

بالمتناقضين،فمن جانب يثير الكتاب في الإنسان روح الاختيار و الحرية و من جانب تورث هذه الأحاديث في الإنسان روح الكبت و الركود في الحياة.

و أظن أنّ هذه الروايات المتناقضة مع صريح الذكر الحكيم قد اختلقت في عصر الأمويين لدعم خلافتهم،و دعوة الناس للسكوت و الرضا بما يحيطهم من الفقر و البؤس و الجوع و الظلم.

قال الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه«نظرية الإمامة»:«إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب،و لكن ب إيديولوجية تمسّ العقيدة في الصميم،و لقد كان يعلن في الناس أنّ الخلافة بينه و بين علي قد احتكما فيها إلى اللّه فقضى اللّه له على علي،و كذلك حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز أعلن أنّ اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من القضاء و ليس للعباد خيرة في أمرهم،و هكذا كاد أن يستقرّ في أذهان المسلمين،أنّ كلّ ما يأمر به الخليفة حتى و لو كانت طاعة اللّه في خلافه فهو قضاء من اللّه قد قدّر على العباد». (1)

و في الختام نأتي بما جادت به قريحة الفقيه المحقّق الشهيد السعيد زين الدين العاملي(911- 965ه) حيث أنشأ و قال: لقد جاء في القرآن آية حكمة

ص:292


1- 1) .نظرية الإمامة:334.

9

إنّما الأعمال بالنيّات

و

الحيل الشرعية

روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب أنّه قال:سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:إنّما الأعمال بالنيّات،و إنّما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه. (1)

و بما أنّ لهذا الحديث مكانة عالية عند البخاري جعله خطبة لكتابه دون أن يضع للصحيح خطبة غيره.

قال ابن حجر:و قد قيل أنّه أراد أن يقيمه مقام الخطبة للكتاب،لأنّ في سياقه أن عمر قاله على المنبر بمحضر الصحابة،فإذا صلح أن يكون في خطبة

ص:293


1- 1) .صحيح البخاري:1،رقم الحديث1.

المنبر صلح أن يكون في خطبة الكتاب.

و قد أورده في غير واحد من أبواب كتابه. (1)هذا و الكتاب المجيد يعزز مفاد الحديث حيث يحكي محاولة بني إسرائيل لتحليل الصيد يوم السبت في سورة الأعراف و يقول: «وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» 2

فإنّ الغرض من تحريم الاصطياد في السبت هو امتحانهم في أُمور الدنيا،و لكنّهم توصّلوا بحيلة مبطلة لغرضه سبحانه،و هي حيازة الحيتان و حبسها عن الخروج إلى البحر يوم السبت،لغاية الاصطياد يوم الأحد،فكيف يمكن أن يكون مثل هذا التحيّل أمراً جائزاً،فاللّه سبحانه عاقبهم بنيّاتهم الفاسدة الخفية،لا بظاهر أعمالهم.

و مع ذلك نرى أنّ الحنفية أخذوا بالذكر الحكيم،و في الوقت نفسه أجازوا الحيل الشرعية المبطلة لأغراض الشرع و مقاصده.

و لعلّ الشيخ البخاري افتتح كتابه بحديث النيّة بقصد الإطاحة بأبي حنيفة و من على رأيه حيث إنّهم أباحوا الميل لتحليل ما حرّمه الشارع تحت عنوان«فتح الذرائع»،و لذلك يردّ عليه في كتاب الحيل دون أن يذكر اسمه و يقول:

باب إذا غصب جارية فزعم أنّها ماتت،فقضي بقيمة الجارية الميتة،ثمّ وجدها صاحبها فهي له،و يرد القيمة و لا تكون القيمة ثمناً...

ص:294


1- 1) .لاحظ رقم 54 و 2529 و 3898 و 5070 و 6679و 6953.

هذا هو الحق الصراح الذي جاء به البخاري في عنوان الفصل،لكنّه حكى بعده عن بعض الناس-و المراد به أبو حنيفة-ما يخالفه و قال:

قال بعض الناس:الجارية للغاصب،لأخذه القيمة،و في هذا احتيال لمن اشتهى جارية رجل لا يبيعها،فغصبها و اعتل أنّها ماتت،حتّى يأخذ ربها قيمتها،فيطيب للغاصب جارية غيره.قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:أموالكم عليكم حرام،و لكلّ غادر لواء يوم القيامة. (1)

و نقول إيضاحاً لكلام البخاري:إنّ فتح الذرائع لو قيل به فإنّما يقال فيما إذا كان السبب مؤثراً في حصول النتيجة دون ما لم يكن غير مؤثر،و به يظهر بطلان ما أفتى به أبو حنيفة،و ذلك لأنّ زعم الغاصب موت الجارية لا يخرجها عن ملك صاحبها،و لا يوجب اشتغال ذمة الغاصب بقيمتها،بل تبقى الجارية على ملكية المالك،فلو ظهر حياتها انكشف انّ القضاء بردّ القيمة كان باطلاً من أصله.

و من خلاله ظهر انّ السبب (زعم الغاصب موت الجارية) غير مؤثر في الانتقال فلا تقع ذريعة لتملّكها،و لذلك ردّ البخاري على أبي حنيفة و قال:«و في هذا احتيال لمن اشتهى جارية رجل لا يبيعها،فغصبها و اعتلّ بأنّها ماتت حتّى يأخذ ربها قيمتها،فيطيب للغاصب جارية غيره»،لما عرفت من أنّ اعتقاد الغاصب بموت الجارية جازماً لا يكون سبباً لخروج الجارية عن ملك صاحبها و خروج قيمتها عن ملك الغاصب،فكيف إذا كان عالماً بالخلاف و كاذباً في الإخبار؟ فعدم جواز التحيّل في هذه المسألة لأجل انّ السبب حلالاً كان أو حراماً غير مؤثر فيه.

و جملة القول في إعمال الحيل:إنّه إنّما يجوز إذا كان السبب مؤثراً في إثبات

ص:295


1- 1) .صحيح البخاري:4،كتاب الحيل،الباب التاسع،الحديث رقم 6966.

المقصود،و كانت الغاية إثبات حق أو دفع باطل،و أمّا إذا كانت الغاية إبطال الحق أو إثبات الباطل فهو محرّم و إثم و عدوان.

و ما اشتهر من قولهم:«و في الحيل مخارج من المضائق»ليس كلام المعصوم ليؤخذ بإطلاقه،حتّى فيما إذا كانت الغاية إبطال حقّ،أو إثبات باطل و إلاّ يكون فيه خروج عن مضيق و دخول في مضيق آخر،مثل من نوى بعقد البيع،الربا،فقد وقع في الربا.

و لأجل التوسع في فتح الذرائع،صار ذلك سبباً لتحليل الربا و الرشوة بأفظع أنواعهما على وجه لا ترى فيه فرقاً بين الربا الظاهر و بين الربا الخفي،و مثله الرشوة.

فكيف يمكن لمسلم أن يستمع إلى قوله سبحانه: «وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ...» و قول الرسول:إنّما الأعمال...و يفتي بتحليل الفائض أو الرشوة و لكن بطريق خفي؟!

ثمّ إنّ البخاري في صحيحه أشار إلى بعض الحيل التي سوّغتها الحنفية و فيها إبطال للحقوق-حسب زعمه-،و نحن نشير إلى بعضها:

1.أخرج عن أنس أنّ أبا بكر كتب له فريضة الصدقة التي فرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«و لا يُجمع بين متفرق و لا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة». (1)

ثمّ قال:قال بعض الناس:في عشرين و مائة بعير،حِقّتان،فإن أهلكها متعمداً أو وهبها أو احتال فيها فراراً من الزكاة،فلا شيء عليه. (2)

2.و أخرج عن أبي هريرة قال،قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«إذا ما ربّ النعم لم يعط

ص:296


1- 1) .صحيح البخاري:464/4،كتاب الحيل،رقم 6955.
2- 2) .صحيح البخاري:465/4،كتاب الحيل،رقم 6956.

حقّها،تُسلّط عليه يوم القيامة فتخبط وجهه بأخفافها».

ثمّ قال:و قال بعض الناس في رجل له إبل فخاف أن تجب عليه الصدقة فباعها بإبل مثلها أو بغنم أو ببقر أو بدراهم فراراً من الصدقة بيوم احتيالاً،فلا بأس عليه. (1)

3.و أخرج عن ابن عباس أنّه قال:استفتى سعد بن عبادة الأنصاري رسول اللّه في نذر كان على أُمّه توفّيت قبل أن تقضيه،فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«اقضه عنها».

و قال بعض الناس:إذا بلغت الإبل عشرين ففيها أربع شياه،فإن وهبها قبل الحول أو باعها فراراً أو احتيالاً لإسقاط الزكاة فلا شيء عليه، و كذلك إن أتلفها فمات فلا شيء في ماله. (2)

4.و أخرج عن نافع عن عبد اللّه-رضي اللّه عنه-أنّ رسول اللّه نهى عن الشغار قلت لنافع:ما الشغار؟ قال:ينكح ابنة الرجل و ينكحه ابنته بغير صداق،و ينكح أُخت الرجل و ينكحه أُخته بغير صداق.

و قال بعض الناس:إن احتال حتّى تُزوج على الشغار،فهو جائز و الشرط باطل. (3)

إنّ البحث عن فتح الذرائع،و الحيل الشرعية رهن بحث مسهب،و القضاء في الموارد الّتي زعم البخاري كونها على خلاف القواعد و الأُصول،موكول إلى محلّه.و القوم بين تحليل الذرائع أو سدّها،بين مفرط و مفرّط و الطريق الوسط،هو المختار،و قد ذكرنا شيئاً في أثناء البحث.

ص:297


1- 1) .صحيح البخاري:465/4،كتاب الحيل،رقم 6958.
2- 2) .صحيح البخاري:465/4،كتاب الحيل،رقم 6959.
3- 3) .صحيح البخاري:466/4،كتاب الحيل،رقم 6960.

10

اشارة

«لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» وَ

إنّكم ترون ربّكم كما ترون هذا القمر

إنّ الرؤية،فكرة يهودية مستوردة،أدخلها مستسلمة أهل الكتاب في أوساط المسلمين و نشروها بينهم إلى أن صارت رؤية اللّه يوم القيامة عقيدة إسلامية يكفّر من ينكرها.

و السابر في العهد القديم يقف على تصريحه برؤية اللّه في الدنيا فضلاً عن الآخرة.

ففي سفر إشعيا:«رأيت السيد جالساً على كرسي عال فقلت ويل لي لأنّ عينيّ رأتا الملك رب الجنود». (1)

و في سفر الخروج و قال (الرب) لا تقدر أن ترى وجهي لأنّ الإنسان لا يراني و يعيش.قال الرب هو ذا عندي مكان،فتقف على الصخرة، و يكون من اجتاز

ص:298


1- 1) .سفر إشعيا الإصحاح 16،الفقرة 1-6.

مجدي أنّي أضعك في نقرة من الصخرة و أترك بيدي حتى اجتاز مجدي،ثمّ أرفع يدي فتنظر ورائي و أمّا وجهي فلا يُرى). (1)

هذه النصوص و غيرها ممّا لم ننقله لغرض الاختصار تعرب عن عقيدة اليهود في اللّه سبحانه،و هو أنّه جسم قابل للرؤية الحسيّة.

إنّ الذكر الحكيم يؤكد على نفي الرؤية الحسيّة بتعبيرات مختلفة حيث قال سبحانه: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ». 2

الدرك في اللغة:اللحوق و الوصل و ليس بمعنى الرؤية،و لو أُريد منه الرؤية فإنّما هو باعتبار قرينية المتعلّق.

قال ابن فارس:الدرك له أصل واحد(أي معنى واحد) و هو لحوق الشيء بالشيء و وصوله إليه،يقال:أدرك الغلام و الجارية إذا بلغا، و تدارك القوم:لحق آخرهم أوّلهم. (2)

و ذكر ابن منظور نحو ما ذكره ابن فارس و أضاف:ففي الحديث:أعوذ بك من درك الشقاء،أي لحوقه،يقال:مشيت حتّى أدركته،و عشت حتّى أدركته،و أدركته ببصري أي رأيته. (3)

و منه قوله سبحانه: «حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ» 5 ؛أي حتّى إذا لحقهم الغرق فأظهروا الإيمان و لات حين مناص.

ص:299


1- 1) .سفر الخروج آخر الإصحاح الثالث و الثلاثين.
2- 3) .مقاييس اللغة:369/2. [1]
3- 4) .لسان العرب:419/10، [2]نفس المادّة.

إذا كان الدرك بمعنى اللحوق و الوصول،فدرك كلّ شيء و وصوله بحسبه،فالإدراك بالبصر،التحاق من الرائي بالمرئي بالبصر، و الإدراك بالمشي كما في قول ابن منظور:مشيت حتى أدركته،التحاق الماشي المتأخّر بالمتقدّم بالمشي،و هكذا.

فإذا قال سبحانه: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» يتعين ذلك المعنى الكلّي،أي اللحوق و الوصول بالرؤية،و يكون المعنى أنّ الأبصار لا تلحق باللّه بالرؤية،فإنّ لحوق البصر يتحقّق عن طريق الرؤية،و هذا الوصف: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» ممّا تفرّد به سبحانه.

إنّ القرآن الكريم كلّما يطرح مسألة الرؤية يطرحها بشكل يؤكّد فيه عجز الإنسان عن نيلها و يعتبر سؤالها و تمنّيها أمراً فظيعاً و قبيحاً و تطلّعاً إلى أمر هو دونه.

1.قال سبحانه: «وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» . (1)

2. «يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ». 2

إلى غير ذلك من الآيات التي تندّد بالإنسان المتمنّي رؤيته سبحانه،و عند ما طلب موسى رؤيته سبحانه-و ذلك بعد إصرار من قومه لتقوم رؤيته مكان رؤية القوم-خوطب بقوله تعالى: «لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي» . (2)

ص:300


1- 1) .البقرة:55. [1]
2- 3) .الأعراف:143. [2]

حديث قيس بن أبي حازم حول الرؤية

مع أنّ القرآن صريح في نفي الرؤية نرى أنّهم يروون عن قيس بن أبي حازم أنّه حدّثه جرير فقال:خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليلة البدر فقال:«إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا،لا تضامّون في رؤيته». (1)

فهذا الحديث مناقض تماماً لما ورد في هذه الآيات،فكيف صار الإنسان غير القادر على رؤيته سبحانه قادراً على ذلك يوم القيامة، فحديثه معارض للكتاب لا قيمة له أمام الوحي،على أنّه ضعيف سنداً و إن رواه الشيخان،و يكفي في ضعفه وقوع قيس بن أبي حازم في سنده، فقد ترجمه ابن عبد البر و قال:قيس بن أبي حازم الأحمسي جاهلي إسلامي لم ير النبي صلى الله عليه و آله و سلم في عهده،و صدق إلى مصدِّقه،و هو من كبار التابعين،مات سنة ثمان أو سبع و تسعين و كان عثمانياً. (2)

و قال الذهبي:قيس بن أبي حازم عن أبي بكر و عمر ثقة حجة كاد أن يكون صحابياً،وثّقه ابن معين و الناس،و قال عليّ بن عبد اللّه بن يحيى بن سعيد:منكر الحديث ثمّ سمّى له أحاديث استنكرها،و قال يعقوب الدوسي:تكلّم فيه أصحابنا فمنهم من حمل عليه،و قال:له مناكير، فالّذين أطروه عدّوها غرائب،و قيل:كان يحمل على عليّ(رض)،إلى أن قال:و المشهور أنّه كان يقدّم عثمان،و قال إسماعيل:كان ثبتاً،قال:و قد كبر حتّى جاوز المائة و خرف. (3)

و لا أنسى أنّي كنت قد حللت ضيفاً في أحد المؤتمرات المنعقدة في تركيا،و كان يرافقني فيه أحد خريجي كلية الشريعة،فدار البحث بيني و بينه حول

ص:301


1- 1) .صحيح البخاري:1،الباب27 من مواقيت الصلاة،ح 576.
2- 2) .الاستيعاب:3 برقم 2126. [1]
3- 3) .ميزان الاعتدال بتلخيص:3 برقم 6908.

الرؤية و كان يجيد اللغة العربية لأنّه كان من أهل الاسكندرونة،فقلت له-حاسماً للنزاع:

أنتم تدّعون رؤية اللّه سبحانه في القيامة.

فأجاب:نعم.

قلت:هل يُرى كلّه سبحانه أو بعضه.فإن قلت يُرى كلّه،فيصير سبحانه محاطاً لمن هو في السماوات و الأرض مع أنّه سبحانه محيط بهما،يقول سبحانه: «وَ كانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً». 1

و إن قلت:يرى بعضه يلزم أن يكون مركباً،و التركيب آية العجز،لحاجة الكلّ إلى الجزء،و الحاجة تُضاد وجوب وجوده،فبَهُت و سكت.

لقد أخبر سبحانه و تعالى موسى بشكل قاطع،قائلاً: «لَنْ تَرانِي» و كلمة«لن»لنفي التأبيد،أي لن تراني في الدنيا و الآخرة،و لم يستعمل في الذكر الحكيم إلاّ في هذا المعنى.

قال سبحانه:

1. «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ». 2

2. «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ». 3

ص:302

3. «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ». 1

4. «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ». 2

5. «وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لاَ النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ». 3

6. «فَإِنْ رَجَعَكَ اللّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا». 4

إلى غير ذلك من الآيات،فتخصيص قوله: «لَنْ تَرانِي» بالدنيا،تفسير بالرأي الذي هو ضلال و وبال.و قال صلى الله عليه و آله و سلم:«من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النّار». (1)

ص:303


1- 5) .أُصول السرخسي:121/2؛المنخول من تعليقات الأُصول:427. و رواه الترمذي في سننه:199/5 برقم 2950 و 2951 بلفظ:من قال في القرآن بغير علم-و في رواية أُخرى:برأيه-فليتبوأ مقعده من النار.

11

اشارة

«لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها»

و

يجوز التكليف بما لا يطاق

الوجدان السليم و العقل الفطري-غير المشوب بشبه المجوّزين للتكليف بما لا يطاق -،يحكم حكماً باتّاً بقبح التكليف بما لا يطاق،بل بامتناع صدوره من الحكيم المريد،و ذلك لأنّ الإنسان إذا وقف على أنّ المخاطب عاجز عن إتيان ما يؤمر به،يمتنع حينئذٍ ظهور الإرادة الجدّية في لوح نفسه و ضمير روحه،و يكون طلبه من الإنسان العاجز أشبه بطلب شيء من الجماد.

و لذلك يقول المحقّقون:إنّ مرجع التكليف بما لا يطاق إلى كون التكليف محالاً.

و قد أيّد اللّه سبحانه حكم العقل في غير واحد من آياته فقال: «لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها» 1 ،و قال أيضاً: «لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها» 2 ،و قال:

ص:304

«وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها» 1 ،و قال سبحانه: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها» 2 ،و قال تبارك و تعالى: «وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ». 3

هذا و قد اتّفق العقلاء على قبحه و امتناعه.

و مع هذه الدلالة الفطرية الواضحة و الآيات المشرقة نرى أنّ جماعة يُعدُّون من الباحثين في المسائل العقائدية يجوِّزون التكليف بما لا يطاق اغتراراً بظواهر بعض الآيات التي لو تدبّروا فيها لظهر المقصود منها.

هذا هو حجّة الإسلام الغزالي يقول:الأصل الخامس أنّه يجوز على اللّه سبحانه أن يكلّف الخلق ما لا يطيقونه. (1)

و قد كرر ذلك في كتابه«الاقتصاد في الاعتقاد»و قال:إنّ للّه تعالى أن يكلف العباد ما يطيقونه و ما لا يطيقونه. (2)و على ذلك درج كلّ أشعري كتب شيئاً في العقائد.

و هذا هو فخر الدين الرازي يقول:الفصل الثامن في إثبات أنّ التكليف بما لا يطاق واقع،و أنّه متى كان الأمر كذلك امتنع أن يقال أنّه تعالى يراعي مصالح العباد. (3)

يقول التفتازاني في المقاصد:لا يمتنع تكليف ما لا يطاق و لا تُعلَّل أفعاله

ص:305


1- 4) .قواعد العقائد:203.
2- 5) .الاقتصاد:112. [1]
3- 6) .المطالب العالية:305/3. [2]

بالأغراض.

و قال في شرحه:جعل أصحابنا جواز تكليف ما لا يطاق و عدم تعليل أفعال اللّه تعالى بالأغراض من فروع مسألة الحسن و القبح و بطلان القول بأنّه يقبح منه شيء،و يجب عليه فعل و ترك. (1)

ثمّ إنّه قسّم ما لا يطاق إلى ثلاث مراتب:

أدناها:ما يمتنع العلم،بعلم اللّه تعالى بعدم وقوعه أو لإرادته ذلك أو لإخباره بذلك،فلا نزاع في وقوع التكليف به فضلاً عن الجواز.

و المرتبة الوسطى:ما أمكن في نفسه لكن لم يقع متعلّقاً بقدرة العبد أصلاً كخلق الجسم أو عادة كالصعود إلى السماء،و هذا هو الذي وقع النزاع في جواز التكليف به.

و أقصاها:ما يمتنع لذاته كقلب الحقائق و جمع الضدين أو النقيضين،و في جواز التكليف به تردد. (2)

أقول:أمّا المرتبة الدنيا-أعني:ما يمتنع العلم،بعلم اللّه تعالى بعدم وقوعه-فعدّه ممّا لا يطاق مبني على أنّ علمه سبحانه بعدم الوقوع أو الوقوع يخرج شيء عن دائرة الإمكان،و لكنّه غير تام،بل تارك الصلاة كفاعلها مسبوقان بعلمه سبحانه بترك الأوّل و فعل الثاني،و لو كان سبق العلم من اللّه موجباً لكون الشيء واجباً أو ممتنعاً لما صح تعلّق التكليف بأيّ شيء مطلقاً،لأنّ الأشياء في علمه سبحانه لا تخلو من حالتين:إمّا يعلم بوقوعها من العبد،أو يعلم بعدم وقوعها.

ص:306


1- 1) .شرح المقاصد:296/4. [1]
2- 2) .شرح المقاصد:298/4 [2]بتصرف منّا.

و في كلتا الحالتين يخرج عن دائرة الإمكان و يدخل في دائرة الإيجاب.

فالمدّعى-أعني:صيرورة الشيء ممتنعاً بسبق علمه تعالى على عدم صدوره من العبد-باطل،و قد أوضحنا حاله في كتابنا«الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف»،الجزء 3.

نعم مصب البحث هو المرتبة الوسطى و القصوى،و العقل النظري يحكم بقبحه أوّلاً،بل بامتناعه ثانياً.

الاستدلال على جواز التكليف بما لا يطاق

و قد استدلّت الأشاعرة على جواز التكليف بما لا يطاق ب آيات نظروا إليها نظرة بدائية دون تعمّق و تفكير،و قد أوضحنا حال هذه الآيات في موسوعتنا«بحوث في الملل و النحل»،ج2،ص 185-190.و لا بأس بذكر استدلالهم بما لم نحم حوله في الموسوعة،و هو أنّ اللّه تعالى أخبر نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم بأنّ أبا جهل لا يصدّقه ثمّ أمره بأن يأمره بأن يصدقه في جميع أقواله. (1)

أظن أنّ الغزالي غفل عن مورد الاستدلال فمثّل بأبي جهل مع أنّه لم يخبره النبي بعدم إيمانه،فكان عليه أن يستدلّ بما استدلّ به غيره.

ففي«محجة الحق»لأبي الخير القزويني:إن اللّه تعالى كلّف أبا لهب الإيمان بالقرآن،و من جملة ما أنزل في القرآن أنّه لا يؤمن قوله تعالى: «سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ» فكأنّه كلّفه الإيمان بأنّه لا يؤمن. (2)

يلاحظ عليه:بأنّه سبحانه أمر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بدعوة أبي لهب إلى الإيمان به فقط،

ص:307


1- 1) .قواعد العقائد:204.
2- 2) .لاحظ هوامش قواعد العقائد للغزالي:ص 204.

و أمّا أنّه أمره أن يؤمن بما ورد في سورة المسد فلا،فإن هذه السورة نزلت بعد ما يئس النبي من إيمانه و دلّت القرائن على لجاجته و عناده، و عندئذٍ سقط التكليف عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بدعوته مجدّداً إلى الإيمان بما في السورة.

و حصيلة الكلام:أنّ القائلين بجواز التكليف بما لا يطاق قد شوّهوا سمعة الإسلام بين الغربيّين حيث عرّفوه مناقضاً للفطرة الإنسانية و حكم العقل و العقلاء.

و هؤلاء مكان أن يتمسّكوا بمحكمات الكتاب تمسّكوا ب آيات يظهر مفادها بمحكمات القرآن،بل لا تحتاج إلى التفسير إذا أمعنوا النظر فيها؛و مثال ذلك أنّهم استدلّوا على ما تبنّوه من جواز التكليف بما لا يطاق،بأنّه سبحانه أمر الملائكة بالإنباء بالأسماء و قال : «أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ» 1 ،أو أمر الناس بتحدّي القرآن و قال: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» 2 مع عدم قدرة الملائكة بالإنباء و الإنسان على التحدي.

و لكنّهم غفلوا عن أنّ الغاية من الأمر هي التعجيز لا طلب شيء بصورة جديّة.

ص:308

12

عادل لا يجور

و

للّه تعالى أن يؤلم الأطفال

(1)

الحجر الأساس لوصفه سبحانه بالعدل هو القول بقدرة العقل على التحسين و التقبيح العقليين.

و بعبارة أُخرى:أنّ إثبات عدله سبحانه مبني على أُمور ثلاثة:

الأوّل:إنّ هناك أفعالاً تتّصف بذاتها بالحسن و القبح.

الثاني:إنّ اللّه تعالى عالم بحسن الأشياء و قبحها.

الثالث:إنّه سبحانه لا يصدر منه القبيح.

و المهم من هذه المقدّمات هو المقدّمة الأُولى و هي انّ العقل يدرك حسن

ص:309


1- 1) .اللمع:116، [1]للأشعري.

الأفعال و قبحها،و لا يتوقّف دركه على تعلق الأمر و النهي من الشارع بشيء حتّى يستدل بالأمر على حسن المتعلّق و بالنهي على قبحه، و ذلك لأنّ اللّه سبحانه خلق الإنسان على فطرة خاصة حيث ألهمه سبحانه قبل أن يتدين بدين،حسن الأفعال و قبحها،فقال سبحانه: «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها». 1

و أوضح دليل على أنّ الإنسان يعرف حسن الأفعال و قبحها قبل الشرع هو قوله سبحانه: «وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ* قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ». 2

و قال تعالى: «قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ». 3

فالآيتان الأُولى و الثالثة تدلان بوضوح على أنّ الفاحشة صارت متعلّقة للنهي لكونها بذاتها فاحشة،لا أنّها صارت فاحشة لأجل النهي، و نظير ذلك قوله: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» فهو ظاهر في أنّ القسط يتميز عن ضده بذاته،قبل أن يتعلّق حكم من الشرع به.

و يؤيد ذلك قوله سبحانه: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً». 4

قال ابن قيّم الجوزية:و القرآن مملوء من أوّله إلى آخره بذكر حِكَم الخلق،و الأمر و مصالحهما و منافعهما و ما تضمّناه من الآيات الشاهدة الدالّة عليه،و لا يمكن من له أدنى اطّلاع على معاني القرآن،إنكار ذلك.و هل جعل اللّه سبحانه

ص:310

في فِطَر العباد استواء العدل و الظلم،و الصدق و الكذب،و الفجور و العفة،و الإحسان و الإساءة،و الصبر و العفو،و الاحتمال و الطيش، و الانتقام و الحدة،و الكرم و السماحة،و البذل و البخل،و الشح و الإمساك؟ بل الفطرة على الفرقان بين ذلك،كالفطرة على قبول الأغذية النافعة، و ترك ما لا ينفع و لا يغذي،و لا فرق في الفطرة بينهما أصلاً.

و لكن (1)في مقابل ذلك نرى من يتحكّم في حقّه سبحانه و يقول:إنّ العدل و الظلم و الحسن و القبح أمامه سبحانه سيّان،فلو أمر بإدخال البريء النار فهو حسن،كما أنّه لو أمر بإدخال المجرم الجنة فهو حسن!!

و ربما لا يصدّقني القارئ فيما حكيت و إليك كلمات الأشاعرة.

فإن قال قائل:هل للّه تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة؟ قيل له:للّه تعالى ذلك،و هو عادل إن فعله.و كذلك كلّ ما يفعله على جرم متناه بعقاب لا يتناهى،و تسخير الحيوان بعضهم لبعض،و الإنعام على بعضهم دون بعض،و خلقه إيّاهم مع علمه بأنّهم يكفرون،كلّ ذلك عدل منه و لا يقبح من اللّه لو ابتدأهم بالعذاب الأليم و إدامته،و لا يقبح منه أن يعذب المؤمنين و يدخل الكافرين الجنان،و إنّما نقول إنّه لا يفعل ذلك؛لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين و هو لا يجوز عليه الكذب في خبره.

و الدليل على أنّ كلّ ما فعله،فله فعله:أنّه المالك القاهر الذي ليس بمملوك و لا فوقه مبيح و لا آمر و لا زاجر و لا حاظر و لا من رُسِم له الرسوم وحُدَّ له الحدود؛فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء؛إذ كان الشيء إنّما يقبح منّا لأنّا تجاوزنا ما حد و رسم لنا و أتينا ما لم نملك إتيانه؛ فلما لم يكن الباري مملَّكاً و لا تحت

ص:311


1- 1) .مفتاح السعادة:39/2.

أمر لم يقبح منه شيء. (1)

يقول الغزالي:إنّ للّه عزّ و جلّ إيلام الخلق و تعذيبهم من غير جرم سابق،و من غير ثواب لاحق،خلافاً للمعتزلة،لأنّه متصرّف في ملكه، و لا يتصور أن يعدو تصرفه ملكه،و الظلم عبارة عن التصرّف في ملك الغير بغير إذنه،و هو محال على اللّه تعالى،فإنّه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً. (2)

و يقول محقّق الكتاب:فلو أدخل جميعهم الجنة من غير طاعة سابقة منهم كان له ذلك،و لو أورد الكل منهم النار من غير زلّة منهم كان له ذاك،لأنّه تصرّف مالك الأعيان في ملكه و ليس عليه استحقاق إن أثاب فبفضله يثيب و إن عذب فلحق ملكه يعذب. (3)

و قد عزب عن الإمام و المأموم أنّ العدل ليس مجرد التصرّف في ملك النفس حتى يعرف الظلم بالتصرف في ملك الغير حتّى يصح قول القائل أنّ العالم و ما فيه ملك للّه سبحانه و للمالك التصرف في ملكه كيف ما شاء.

بل العدل عبارة عن وضع الشيء في موضعه و الظلم وضع الشيء في غير موضعه.

و اللّه سبحانه منزّه عن الظلم بنفس المعنى و الشاهد عليه هو العقل حيث يُحسن الأوّل و يقبح الثاني،و إن أنكر القائل حكم العقل أو حجيته،فنقول:إنّه سبحانه يفسّر الظلم بقوله: «وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً» 4 ،أي لا يخاف أن يُحمَّل شطحات غيره،أو ينقص من حسناته

ص:312


1- 1) .اللمع للشيخ الأشعري:117. [1]
2- 2) .قواعد العقائد للغزالي:204.
3- 3) .قواعد العقائد:205،الهامش.

و لا يعذب بما لا تكسب يداه،يقول سبحانه: «الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ». 1

و جملة القول:تعذيب البريء بما لم يفعله،وضع للشيء في غير موضعه،و بخس حق المطيع،بإدخاله النار،و ظلم و وضع للشيء في غير موضوعه،فكيف يجوز للّه سبحانه ما هو منزّه عنه عقلاً و نقلاً؟!!

ص:313

13

«الطَّلاقُ مَرَّتانِ»

و

أنت طالق ثلاثاً،تطليقات ثلاث

كان الحكم السائد من عهد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى سنين من عهد عمر،هو احتساب الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد،طلاقاً واحداً اتّباعاً لقوله سبحانه: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ». 1

و«المرة»بمعنى الدفعة للدلالة على الواحد في الفعل.و«الإمساك»خلاف الإطلاق.و«التسريح»مأخوذ من السرح و هو الإطلاق، و المقصود منه هو عدم التعرض لها لتنقضي عدّتها في الطلاق الثالث الذي هو أيضاً نوع من التسريح.

فقوله سبحانه: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ» ظاهر في أمرين:

أ.إنّ هذا الحكم يشمل كافة أقسام الطلاق و أنّ التفريق بين الطلقات ليس من خصيصة طلاق دون طلاق،بل طبيعة الطلاق تلازم ذلك بشهادة أنّ«اللام»

ص:314

في الطلاق للجنس أو الاستغراق.

ب.إنّه يلزم أن يقع كلّ طلاق مرّة بعد أُخرى لا دفعة واحدة و إلاّ يصير مرّة و دفعة،و لذلك عبّر سبحانه بلفظ المرّة ليدلّ على كيفية الفعل و أنّه الواحد منه فالدفعة،و الكرّة،و النزلة،مثل المرّة وزناً و معنى و اعتباراً.

و على ضوء ما ذكرنا لو قال المطلق:أنت طالق ثلاثاً لم يطلق زوجته مرة بعد أُخرى و لم يطلق مرّتين،بل طلّق مرة واحدة،و لا يكون قوله:«ثلاثاً»سبباً لتكرره،و على ذلك فرع الفقهاء فروعاً،مثلاً:

1.اعتبر في اللعان شهادات أربع،فلا تجزي عنها شهادة واحدة مشفوعة بقوله:«أربعاً».

2.فصول الأذان المأخوذ،في التثنية،لا يتأتّى التكرار فيها بقراءة واحدة و إردافها بقوله:«مرتين».

3.و لو حلف في القسامة و قال:«أقسم باللّه خمسين يميناً أنّ هذا قاتله»كان هذا يميناً واحداً.

4.و لو قال المقرّ بالزنا:«أنا أُقرّ أربع مرّات أنّي زنيت»كان إقراراً واحداً و يحتاج إلى إقرارات ثلاثة.

هذا هو المقياس الكلّي في كلّ مورد اعتبر فيه العدد.

فإن قلت:ربّما تستعمل لفظة«مرتين»بمعنى المضاعف كما في قوله في حق نساء النبي: «وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً». 1

قلت:الأصل في المرة و المرتين هو ما ذكرنا،و قد يعدل عنه بالقرينة كما في

ص:315

الآية حيث إنّ المراد هو المضاعف و الشاهد على ذلك الآية المتقدمة عليها قال سبحانه: «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً». 1

فقوله في الآية الأُولى «يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» قرينة على أنّ المراد من قوله: «نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ» إيتاء الأجر المضاعف لا الأجر بعد الأجر،فلا يكون استعماله مرّتين في المضاعف فيها دليلاً على سائر المقامات.

و أمّا قوله: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» ففيه وجهان؛المعروف إنّ الجملة تشير إلى وضع المرأة بعد التطليقتين،فإمّا أن يمسكها الزوج بمعروف و الاستمرار معها فلا يطلقها طلاقاً ثالثاً بل يعيش معها عيشة مستمرة،أو يسرحها بالتطليقة الثالثة التي لا رجوع بعدها أبداً إلاّ بعد التحليل.

هذا هو التفسير المعروف لهذا المقطع من الآية و هناك وجه آخر يُطلب من التفاسير،و الاختلاف في تفسير هذا المقطع لا يضر بالمقصود.

هذا هو مفاد الآية و عليه كان عمل المسلمين في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر،و لكن الأخير قد جعل الطلاق الثلاث في مجلس واحد-من دون رجوع بينها-تطليقات ثلاث تحرم المطلقة بعدها،و لا تحلّ عليه إلاّ على الزوج بمحلل،و قد تواتر ذلك عنه:

1.روى مسلم عن طاوس عن ابن عباس،قال:كان الطلاق على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر:طلاق الثلاث واحدة،فقال عمر بن الخطاب:إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة،فلو أمضيناه عليهم،فأمضاه عليهم.

ص:316

2.و روى مسلم عن ابن طاوس عن أبيه:أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس:أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أبي بكر و ثلاثاً من (خلافة) عمر؟ فقال:نعم. (1)

3.و روى مسلم عن طاوس أيضاً:أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس:هات من هناتك،أ لم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللّه و أبي بكر واحدة؟ قال:قد كان ذلك فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم. (2)

و على هذا فبأيّ القولين نعمل و على أيّ المصدرين نعتمد!

هل الكتاب العزيز الذي يحكم بتفريق التطليقات أو حكم الحاكم النابع عن اجتهاده تجاه النص؟!و كم للخليفة الثاني من هذا النوع من الاجتهادات أمام النص.

و العجب أنّ كثيراً من الفقهاء أخذوا بالمتناقضين

يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» . (3)

ص:317


1- 1) .صحيح مسلم:184/4،باب الطلاق الثلاث،الحديث 1-3،التتابع بمعنى التتابع في الشر.
2- 2) .صحيح مسلم:184/4،باب الطلاق الثلاث،الحديث 1-3،التتابع بمعنى التتابع في الشر.
3- 3) .الحجرات:1. [1]

14

«إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ»

و

لا وصية لوارث

يقول سبحانه: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ». 1

إنّ تبيين مفهوم الآية رهن بيان أُمور:

1.المراد من حضور الموت:ظهور أماراته من المرض و الهرم و غيره،و لم يرد إذا عاين ملك الموت،لأنّ تلك الحالة تشغل الإنسان عن الوصيّة.

2.تدلّ الآية على أنّ الموصي ينبغي أن يراعي جانب المعروف في مقدار الوصية و الموصى له،فمن يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف،كما أنّ الإيصاء للغني دون الفقير خارج عن المعروف،فإنّ المعروف هو العدل الذي لا ينكر،و لا حيف فيه و لا جور.

ص:318

3.انّ الآية صريحة في الوصية للوالدين،و لا وارث أقرب للإنسان من والديه،و قد خصّهما بالذكر لأولويتهما بالوصية ثمّ عمّم الموضوع و قال: «وَ الْأَقْرَبِينَ» ليعم كلّ قريب،وارثاً كان أم لا.

و العجب أنّ كثيراً من فقهاء السنّة تركوا الآية التي تعدّ الوصية للوارث حقّاً على المتقين،للخبر الواحد الذي لا يقاوم نص الكتاب؛قال الخرقي في متن المغني:«و لا وصية لوارث إلاّ أن يجيز الورثة ذلك».و قال ابن قدامة في شرحه:إنّ الإنسان إذا أوصى لوارثه بوصية فلم يجزها سائر الورثة،لم تصح،بغير خلاف بين العلماء. (1)

إنّ القوم بدل أن يعملوا بالكتاب أخذوا بالتفلسف للإعراض عنه.

قال ابن قدامة:إنّ في الوصية للوارث إيقاع العداوة و الحسد بينهم،و قال بعضهم:إنّ في إيثار بعض الورثة من غير رضى الآخرين ما يؤدي إلى الشقاق و النزاع و قطع الرحم و إثارة البغضاء و الحسد بين الورثة. (2)

سبحان اللّه كيف تركوا كتاب اللّه وراء ظهورهم بهذه الأعذار الواهية؟!

و قد غفل القوم أنّ في مقابل هذه الأعذار ما يبرر الوصية للوارث بل يلزمها عند العقل،فلو افترضنا أنّ الموصى له عاجز مقعد مستحق للإيصاء فهل يثير الإيصاء البغضاء و الحسد؟

و ربّما يكون مورد الوصية لا يليق إلاّ بأحدهم،كما إذا كتب كتاباً بخطه و قلمه و أولاده بين عالم و جاهل فلا يستفيد منه إلاّ العالم.فله الوصية لعالمهم حتى يقدر كتابه.

و قال صاحب المنار:الآية صريحة في جواز الوصية للوالدين و لا وارث أقرب

ص:319


1- 1) .المغني:79/6.
2- 2) .المغني:79/6.

للإنسان من والديه،و قد خصّهما بالذكر لأولويتهما بالوصية،ثمّ عمّم الموضوع و قال:«و الأقربين»ليعم كلّ قريب وارثاً كان أم لا،غير أنّ جمهور الفقهاء من أهل السنّة رفضوا الآية و قالوا بأنّ الآية منسوخة ب آية المواريث،و لكنّ الإمام عبده خالف رأي الجمهور و قال:لا دليل على أنّ آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا،فإنّ السياق ينافي النسخ،فإنّ اللّه تعالى إذا شرع للناس حكماً و علم أنّه مؤقت و انّه سينسخه بعد زمن قريب فانّه لا يؤكّده و لا يوثّقه بمثل ما أكّد به أمر الوصية هنا من كونه حقّاً على المتّقين و من وعيد لمن بدله. (1)

و لكنّهم انتبهوا بعد لأي من الدهر حيث إنّ قانون الوصية في مصر أخذ برأي الشيعة الإمامية في سنة 1946م،فأجاز الوصية للوارث في حدود الثلث من غير إجازة الورثة،نعم التزم القانون السوري برأي الجمهور و هي انّ الوصية لا تنفذ إلاّ إذا أجازها الورثة.

و آخر كلام عند القوم:إنّ الآية منسوخة بخبر الواحد و هو«و لا وصية لوارث»،و لا أدري هل ينسخ الكتاب العزيز بخبر الواحد؟! و هل يصحّ رفع اليد عن القطعي بالظنّ؟! فإذا كانت الوصية للوارث،توجب الشقاق و النزاع و قطع الرحم و تؤجّج نار الشحناء،فلما ذا أمر بها سبحانه في كتابه-و لو لبرهة من الزمن-قبل نسخه بخبر الواحد،و وصف ما فيه المفسدة الكبيرة،حقّاً على المتقين؟!

هذه المضاعفات ناتجة من الدفاع عن الصحيحين و القول بأنّهما أصح الكتب بعد كتاب اللّه و لا يخضعان للنقاش و الرد،و لو لا ذلك لما خطر ببال أحد،انّ الإيصاء للوارث عن حق و عدل،يثير الفساد،و الحق انّ ما تمسّكوا به تجاه القرآن الكريم خبر واحد مخالف للكتاب العزيز مردود.

ص:320


1- 1) .تفسير المنار:136/2- 137.

الفصل الرابع:المحاضرات

اشارة

1.علم الكلام و التحديات المعاصرة

2.اقصاء العقل عن ساحة العقائد و المعارف الإلهية خسارة فادحة

3.تطور أُصول الفقه عند الإمامية

4.الفلسفة الإسلامية بعد ابن رشد

5.الفقه الإسلامي و أدواره التاريخية

ص:321

ص:322

1

اشارة

علم الكلام

و التحدّيات المعاصرة

(1)

لم تكن الغاية من تشريع الجهاد في سبيل اللّه،و فتح البلاد و اجتيازها،هي فرض العقيدة الإسلامية على الأُمم المغلوبة لكي ينضمّوا إلى صفوف الموحّدين شاءوا أم كرهوا،و ذلك لأنّ العقيدة،بمعنى الإيمان القلبي،لا تخضع للجبر و الإكراه،كما قال سبحانه: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» 2 ،فالذي تضطمّ عليه الجوانح يختلف حكمه عن الاعمال المتعلّقة بالجوارح،حيث يمكن فرض عمل خارجي على الإنسان ليقوم به خوفاً ممّا أُوعد به،و لكن لا يمكن فرض الإيمان على القلب ما لم تكن هناك مبادئ و مقدّمات نفسية أو علمية تورث التصديق و تنتهي إلى إيمان الإنسان به.

لقد كانت الغاية من الجهاد في سبيل اللّه هي تحرير البلاد من حكم الطواغيت الذين كانوا يقفون سدّاً منيعاً يحول بين الناس و الدعوة الإلهية العالمية،و تلاوة آياتها و توضيح معالمها.و بعد حصول الهدف و إزالة القيود المفروضة على

ص:323


1- 1) .أُلقيت في قاعة كلية الآداب و العلوم الإنسانية التابعة لجامعة القاضي عياض في محافظة مراكش1425/1/9ه.ق.

الأُمم،كانوا مختارين بين القبول و الرفض «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ». 1

و من حسن الحظ أنّ النتيجة كانت إيجابية لا سلبية،و كان الناس يدخلون في دين اللّه زرافات و وحداناً بإخلاص و رضى من دون عنف، إذ كانوا يجدون ضالّتهم في الشريعة الإسلامية التي تتماشى و فطرتهم السليمة و عقولهم الحصيفة.

و لم تمض مدة طويلة على بزوغ شمس الإسلام حتّى رفرفت راياته على ربوع الأرض شرقها و غربها فتشكّلت أُمّة واحدة من أعراق و عناصر مختلفة جسّدت قوله سبحانه: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ». 2

إنّ مقتضى تشكيل الأُمّة من عناصر و فئات مختلفة،هو احتكاك الثقافات و توسع المعارف و تلاقح الأفكار المختلفة،فصار ذلك سبباً لانتقال كثير من العلوم الكونية و الرياضية الرائجة في الأُمم المتحضرة إلى الجزيرة العربية و غيرها.

و أعان على ذلك حركة الترجمة التي بدأت تظهر في أواخر القرن الأوّل،فازدهرت العلوم و الفلسفة في المشرق الإسلامي و رفع رايتها عباقرة من المسلمين في كل صقع و زمان.

إن تأثّر المسلمين بما لدى الأُمم الأُخرى من العلوم،و إن كان فيه الكثير من الإيجابيات،لكنّه لم يكن منفكّاً عن بعض السلبيات و المضاعفات حيث بذر شبهاً و طرح أسئلة حول العقيدة الإسلامية و شريعتها،إذ كان فيما بين الكتب المترجمة أُصول ربما لا توافق ظاهر الشريعة و روحها.

كما أنّ الأسرى الذين نُقلوا إلى الحواضر و المدن الإسلامية قد بثّوا بعض

ص:324

الشبه بين السذّج من المسلمين من غير وعي،فصار ذلك سبباً للنزاع و الجدال فانتهز أعداء الدين هذه الفرصة بإثارة عجاجة الشبهات على أُصول الإسلام و فروعه بين حين و آخر،لغاية الاصطياد في الماء العكر.

و بسبب خطورة الموقف قام الغيارى من علماء الإسلام بالدفاع عن حياضه بنفس المنطق الذي كان الخصم متدرعاً به،فقاموا بوظيفتهم الرسالية في عصورهم و حياتهم،فصار ذلك نواة لعلم الكلام و نموه و تطوّره بين المسلمين.

لم يزل علماء الكلام في مقدّم خط الدفاع عن الإسلام بمختلف مشاربهم و مسالكهم و الذي كان يجمعهم الإيمان بما جاء به نبيهم الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم.

و من قرأ تاريخ علم الكلام يقف على مدى الجهود التي بذلتها كلّ فئة،و النتائج الباهرة التي توصّلوا إليها.

رحم اللّه الماضين من علمائنا حيث لم يغفلوا ساعة عن صيانة الدين و حفظ الشريعة ببيانهم و بنانهم،و تربية جيل متحصن بالمنطق و البرهان أمام المهاجمين،بمنطقهم و برهانهم،فقد طوّروا علم الكلام أحسن تطوير في كلّ قرن حسب تلبية حاجات ذلك الزمان.

نعم كان بين المسلمين من ينكر لزوم ذلك،و ربّما يهاجمه بمنطق واه،لكن ذلك لم يثن عزيمة المحقّقين و لم يعتنوا بهذه الفكرة الرجعية الشاذة عن منطق القرآن و السنّة و سيرة أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

فهذا هو القرآن الكريم ينطق بأفضل البراهين في مجال العقائد:التوحيد و أقسامه،و المعاد و غيرهما.

و هذا هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لم تزل سيرته تدعو إلى التفكير في الأُصول و الفروع فقد فتح أمام الأُمّة باب التفكير الصحيح في المعارف الإلهية و المسائل

ص:325

العقلية،فإنّه صلوات اللّه عليه يذكر في خطبه و رسائله و كلماته القصار،كثيراً ممّا يرجع إلى أسمائه و صفاته،و العوالم الغيبية مقروناً بالبرهان و الدليل،و كفاك في هذا الباب ما ذكره في كيفيّة وصفه سبحانه التي شغلت بال المتكلّمين على مر العصور،فإذا كانت هذه هي مكانة علم الكلام و منزلته في الدفاع عن العقيدة،فعلى المسلمين تنميته في كلّ عصر حسب ما تقتضيه حاجات المجتمع.

و لو تردّد باحث في لزوم دراسة المذاهب و المدارس العقائدية في الحقب الغابرة،فلا يرتاب في لزومه في العصر الراهن الذي تطورت فيه أجهزة الإعلام و الاتصالات اللاسلكية،و توفّر فيه البثّ المباشر عبر الأقمار الصناعية،فتحاك الشبهة في الغرب في ساعة و تُبثّ بعد دقيقة في الشرق و تعمّ العالم كلّه.

و قد استغل غير واحد من النصارى و اليهود ضعف المسلمين في مجال الصناعة و العلوم الطبيعية فصاروا يبثّون الشبهات التي لو تركت بحالها لزعزعت العقيدة الإسلامية في نفوس الشباب.

و هذا ما يدعو علماء الإسلام إلى بذل الجهود في قسم العقيدة و دراسة الشبه أو المسائل الكلامية الجديدة في ضوء الدليل و البرهان.

و ها نحن نذكر بعض ما يجب دراسته في جامعتنا الدينية على وجه مفصّل،و نحن نعتقد أنّ أُصول الكلام الإسلامي التي وصلت إلينا عن مشايخنا و محقّقينا كافية في إعانتنا على تفنيد هذه الشبه،و لكن الذي نحتاج إليه هو عرضها على نحو يوافق روح العصر و لغة الشباب.

1.سبب نشأة الدين

لم يزل المادّيون و دعاتهم يثيرون هذا السؤال بين الناس و يجيبون عنه بأنّ

ص:326

نشوء الدين في المجتمعات لم يكن عن تعقّل فلسفي أو قانون علمي،بل أنّ ثمّة عوامل مادية سبّبت تولّد فكرة الدين و التوجّه إلى العوالم الغيبيّة في العقل البشري،و هي:

إمّا خوف الإنسان من الحوادث الطبيعية المرعبة،فتخيّل وجود قوة عليا ليلوذ بها عند الزلازل و الآفات.

و إمّا الجهل بالعلل الطبيعية،فنسب الظواهر الكونية إلى قوة غير طبيعية.

أو غير ذلك من العوامل المتخيّلة.

و هذا يناقض ما عليه الإلهيّون من أنّ للدين جذوراً في الفطرة و الإنسان يميل إليها ميلاً فطرياً،مضافاً إلى أنّ الإلهيين كانوا حاملي راية العلم و كشف العلل الطبيعية،فكيف يمكن رميهم بهذه التهم الواهية؟!

2.ما هي الحاجة إلى الدين؟

إنّ الماركسية قبل انهيار الاتحاد السوفياتي كانت تثير هذه الشبهة و تنكر حاجة الإنسان إلى الدين،و إنّ المجتمع الإنساني قد بلغ في العلم و الوعي مستوى يغنيه عن التعلّق بمبادئ غيبيّة غير مرئية.

و هذا ما يدعو عباقرة المسلمين إلى دراسة الدين و ماله من الآثار البنّاءة التي لا يغني عنها العلم و المعرفة المادية.

بشهادة أنّ المجتمع البشري قد بلغ درجة عالية من العلم لكنّا نراه على شفا حفرة من الهلاك و الدمار بسبب هذا التطور المادي فقط.

ص:327

3.شمولية الدين

إنّ الليبرالية تحدّد دور الدين بأنّه علاقة روحية بين الخالق و المخلوق،فالدين أمر فردي يقوم به الإنسان في بيته و كنيسته و مسجده و ما للدين و التدخل في الأُمور الاجتماعية و السياسية!!

و هذا يناقض ما جاء به نبينا الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم تماماً فإنّ الشريعة الإسلامية قد جاءت لإنقاذ البشر على الصعيدين الروحي و المادي.

فحصر دور الدين بالأُمور المعنوية إنكار للشريعة الإسلامية التي تلبّي حاجات الإنسان في كافة الجوانب.

4.النبوة موهبة إلهية أو نبوغ اجتماعي

إنّ هؤلاء الذين يريدون القضاء على الشرائع السماوية قد فسّروا النبوة بأنّها نبوغ اجتماعي،و يصوّرون النبي نابغة عصره في إصلاح بيئته،و بذلك يقطعون صلة الأنبياء بعالم الغيب و يصورون النبي كأنّه نابغة اجتماعية أظهر أفكاره بصورة أنّه مبعوث من اللّه حتّى تأخذ مكانها بين الناس.

هذا التفسير يُعدّ أكبر افتراء على الدين،و أين هؤلاء من المصلحين العاديين الذين يلعبون في حياتهم على حبلين؟!

5.خلود الشريعة و استمرارها

الشريعة الإسلامية باعتبارها خاتمة الشرائع و نبيها خاتم الأنبياء و كتابه خاتم الكتب،شريعة خالدة لا تمسّها يد التغيير و التبديل،و لكن الليبرالية تتهم

ص:328

الشريعة الإسلامية بأنّ قوانينها كانت رد فعل للوضع السائد آنذاك و لا خلود لها بعد تغير الظروف.

6.الوحدة أو التعدّدية الدينية

التعدّدية الدينية تريد إضفاء الصحة على كافة الشرائع في عامة الأزمنة،و تقول يكفي في سعادة الإنسان أن يلتزم بإحدى الشرائع من غير فرق بين المنسوخة و الناسخة،و عدّوا منها البوذية و الهندوسية.و أين هذا من قوله سبحانه: «فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا». 1

7.تعارض الدين و العلم

إنّ هذه الفكرة و إن لم تكن فكرة حديثة بل لها جذور في التاريخ،و لكنّها أصبحت في هذه الأزمنة مسألة عويصة جرّت الشك و التزلزل إلى بعض أُصولنا و فروعنا،حيث زعموا أنّ طريق الدين غير طريق العلم،فتارة يتّحدان و أُخرى يتفارقان،و قد أشعلت فتيلة هذه المسألة نظرية تكامل الأنواع التي رفع رايتها«دارون»الذي أنكر أصالة الإنسان و خلقته من طين و عرفه بأنّه موجود مشتق عن شيء يشبه القردة.

إنّ للحق دولة و للباطل جولة،و هذه الفكرة الباطلة قد جالت وصالت في الأوساط العلمية مدة يسيرة حتّى قضت عليها التجارب المتأخرة فجعلتها في مدحرة البطلان.و مع ذلك لم تزل الفكرة تتجلّى في مسائل بصور أُخرى.

ص:329

8.صلة الدين بالأخلاق

الأخلاق جزء من الدين و هي تستمد منه،و لو لا الاعتقاد بيوم الحساب و العقاب لما قام للأخلاق عمود و لا اخضرّ لها عود،فالدين عماد الأخلاق،خلافاً لكثير من المادّيين الذين يفصلون الأخلاق عن الدين و يعتقدون أنّه يمكن أن يكون الإنسان رجل الأخلاق و في الوقت نفسه منكراً للعوالم الغيبية.

9.الدين يضادّ الحرية

إنّ الوجوديين و على رأسهم الفيلسوف الطائر الصيت (سارتر) يحمل راية هذه الفكرة،و أنّ الحرية الكاملة للإنسان في سلوكه الفردي و الاجتماعي رهن رفض أي عقيدة تحدد حريته.

و لكنّه غفل عن أنّ حرية الإنسان محددة بإطار خاص،سواء أشاء أم لم يشأ،فهل يمكن له أكل كلّ ما شاء أو فعل كلّ ما يشاء؟ فلا محيص من تحديد لحرياته.ففي إعطاء زمام الحياة للحرية الكاملة،هدم للحضارة و انحلال عن الإنسانية.

10.الهرمونيتيك و تفسير النصوص

هذه النظرية تعرف النصوص الدينية بأنّها مجموعة رموز و ألغاز كلّ يفسّره حسب ذوقه و ما يحيط به من فكر و وعي فلا يمكن لأحد أن يصف قراءته للدين هي القراءة الصحيحة،فلذلك أعادوا السفسطة الجديدة إلى الساحة.

هذه نماذج من المسائل الجديدة أو الشبهات التي أخذت لنفسها دوراً في إغراء الشباب بالابتعاد عن الدين،و هذا ما يدفع كلّ عالم إلى بذل الجهود لدراستها وحل عقدها و نشر ذلك في الملأ الإسلامي على ضوء التفكير الصحيح.

ص:330

2

اشارة

إقصاء العقل عن ساحة العقائد و المعارف الإلهيّة

خسارة فادحة

(1)

التفكير هو العامل المميّز للإنسان عن سائر الحيوانات،فهو يشاركها في الغرائز و الميول،و لكن يفارقها بأنّه موجود مفكّر،و في ظلّ التفكير بسط نفوذه،و بلغ حدّاً حيّر فيه العقول،و أدهش الألباب،و لم يزل دءوباً في تسخير ما خُلق له.

و قد حاز الفكر على عناية كبيرة في القرآن الكريم حتّى نوّه به ثماني عشرة مرّة بصور مختلفة،إلى أن عاد و جعله من سمات أُولي الألباب،و قال: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ* اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ». 2

إنّ القرآن الكريم لم يزل يدفع الإنسان إلى التعقّل و التفكير و التدبّر و يختم كثيراً من آياته بقوله: «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» أو «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ» ،و كفاك قوله سبحانه: «وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا

ص:331


1- 1) .القيت في قاعة كلية الطب التابعة لجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء في 1425/1/5ه.ق.

يَعْقِلُونَ» 1 ،فيحكي عن جعل الرجس على الطائفة غير المتعقّلة.

و يقول سبحانه: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» 2 ،فشرّ الدّواب عنده سبحانه هو من لا يعقل.

إنّ القرآن الكريم لا يقتصر على مجرد الدعوة إلى التعقّل و التفكّر،بل كثيراً ما يطرح الموضوعات و يبرهن عليها بدلائل عقلية،و يُقنع بذلك الطرف الآخر،و نذكر لذلك

أمثلة من الذكر الحكيم.

1.التوحيد في الخالقية

إنّ التوحيد في الخالقية بمعنى أنّه لا خالق سواه و أنّ صحيفة الكون مخلوقة لخالق واحد،من العقائد الحقّة التي ركّز عليها الذكر الحكيم، و لكنّه سبحانه يطرح هذا القسم من التوحيد مقروناً بالبرهان،و بالتالي يطلب التفكير و التأمّل فيه،فيقول سبحانه: «وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ». 3

و حاصل البرهان:أنّ تعدّد الخالق يقتضي تعدّد المخلوق و هو يلازم تعدّد التدبير،و تعدّد التدبير في الكون المنسجم الواحد المتصل، ينتهي إلى الفساد.

و بتعبير آخر:إذا حاول كلّ من الخالقين تدبير قسم من الكون الذي خلقه يجب عندئذٍ أن يكون لكلّ جانب من الجانبين،نظام خاص مغاير لنظام الجانب الآخر و غير مرتبط به أصلاً،لأنّ تعدّد الخالق و اختلافهما جوهراً يقتضي اختلاف

ص:332

تدبيرهما،و عندئذٍ يلزم انقطاع الارتباط و ذهاب الانسجام المشهود في الكون،في حين أنّنا لا نرى في الكون إلاّ نوعاً واحداً من النظام يسود كلّ جوانبه من الذرّة إلى المجرّة،و إلى هذا الشق أشار بقوله في الآية الثانية: «إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ».

2.التوحيد في الربوبية

التوحيد في الربوبية بمعنى التوحيد في التدبير من العقائد الحقّة التي دان بها المسلمون قاطبة و خالفهم الوثنية.

و عند ما يطرح القرآن الكريم هذه العقيدة فانّه يطرحها مقرونةً بالبرهان،فيقول سبحانه: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ». 1

فإذا حاول كل واحد من الآلهة تدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كلّ واحد ما يريده في الكون دون ما منازع،ففي هذه الصورة يلزم تعدّد التدبير،لأنّ المدبّر متعدّد و مختلف في الذات،و نتيجة الاختلاف في الذات هو تعدّد التدبير،و هذا يستلزم طروء الفساد على العالم.

3.حدوث الإنسان و المادة

ذهب الإلهيون قاطبة إلى حدوث الإنسان و المادة و أنّ ما في الكون حادث مسبوق وجوده بالعدم،فحدوثها رهن وجود محدث يخرجها عن كتم العدم إلى ساحة الوجود،و هذا هو الأصل الصحيح.

ص:333

و لو طرحنا هذا الأصل،ففي مقابله نظريتان باطلتان بحكم صميم العقل ألا و هما:

أ.حدوث الإنسان و وجوده من غير سبب.

ب.حدوث الإنسان بنفسه.

فالأوّل أي حدوثه بلا سبب يعارض الحكم البديهي الفطري بأنّ لكلّ حادث علّة،فكيف يمكن ظهور الإنسان و الكون إلى ساحة الوجود بلا سبب؟

و الثاني كونه موجداً لنفسه يعارض أيضاً الحكم الفطري للعقل أيضاً،فهو بما أنّه علّة يجب أن يكون متقدّماً في الوجود،و بما أنّه معلول يجب أن يكون متأخّراً،فيلزم أن يكون شيء واحداً متقدّماً و متأخّراً.

هذه نماذج من العقائد الحقّة التي يطرحها الذكر الحكيم مقرونة بالبرهان الذي لا يفارق التفكير الصحيح.

4.معارف قرآنية لا تدرك إلاّ بالتفكير

و في الذكر الحكيم آيات حول العقائد الحقّة التي لا يُدرك مغزاها إلاّ بالتفكير و التعقّل.

أ.يقول سبحانه: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» :لا نظير له.

لما ذا ليس له مثيل و نظير؟

ب. «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ». 1

كيف يكون شيء واحد معنا في عامة القرون و الأزمنة؟

ص:334

ج. «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ». 1

كيف يكون جميع العالم وجه اللّه؟ فكأنّ العالم لا يخلو من ذاته فأينما تولّى الإنسان فهو يستقبل ذاته.

د. «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ». 2

إنّ الآية المباركة تصف الباري بصفات أربع:

فهو الأوّل،و في الوقت نفسه هو الآخر.

كما أنّه هو الظاهر،و في الوقت نفسه هو الباطن.

هذه حقائق و معارف علمية لا يُدرك كنهها و لا حقائقها إلاّ بالتعقّل و التفكير،فمن عزل العقل عن ساحة العقائد و اكتفى بأخبار الآحاد حول المعارف فقد جعل هذه الآيات مبهمة مجملة كأنّها نزلت للتلاوة و التبرّك دون التدبّر و التفكير.

5.سنّة اللّه في المجتمع الإنساني

و ليست الآيات النازلة حول العقائد نسيجة وحدها في ضرورة التدبّر و التفكّر فيها،بل هناك قسم كبير من الآيات تدور حول سنن اللّه تبارك و تعالى في حق الأُمم السالفة حتى تكون عبرة للحاضر.

فقد كشف فيها عن وجود صلة بين فعل الإنسان و ما يحيق به من ألوان العذاب،و دعا إلى السير في الأرض و التفكير فيها،و نشير هنا إلى شيء يسير منها،يقول سبحانه:

ص:335

«وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً». 1

فقد نبّه بقوله: «فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً» بوجود الصلة بين الفسق و التوغّل في الشهوات و بين العقاب و الهلاك، و إنّ الأوّل علّة للثاني،فلم يكن عقابهم جزافاً و بلا سبب.

يقول سبحانه: «فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ». 2

فالآية تدلّ على السببية التامّة بين هلاك الأُُمم و ظلمها،ثمّ تشير الآية التالية إلى أنّها سنّة إلهية لا تتبدّل و لا تتغيّر،و إنّما يفهمها ذوو القلوب الواعية و الآذان الصاغية،يقول سبحانه: «أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ». 3

إنّ المتدبّر في الآيات التي تشرح لنا سنن اللّه تبارك و تعالى و المجتمع يقف على أنّ القرآن يعترف بقانون العلّية في المجتمعات الإنسانية،و في الوقت نفسه يدعو الإنسان إلى التدبّر و التفكّر في تلك السنن،فكثيراً ما يقول: «وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً». 4

و قال سبحانه: «وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً». 5

ص:336

و يشير بهذه الآيات إلى أنّ سنّة اللّه سبحانه في من سبق و غبر و في من يأتي مستقبلاً هي سنة واحدة: «سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً». 1

6.سنّة اللّه في الكون

كما أنّ للّه سبحانه سنناً قطعية لا تتغيّر في أفعال الإنسان و نتائجها و مضاعفاتها،فله سبحانه أيضاً سنن في الكون و الطبيعة،فقد خلق العالم على نظام خاص و أجرى فيه قانون السببية و العلّية فيه،فكلّ ظاهرة طبيعية لها علّة من سنخها،كلّ يؤثر بإذنه سبحانه و تقديره.

و ليست تأثير العلل في معلولاتها إلاّ مظاهر لسننه و إرادته و مشيئته و ليس لها أي استقلال في التأثير،و كفانا في ذلك قوله سبحانه: «وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ» 2 ،فالآية صريحة في تأثير الماء في إخراج الثمرات اليانعة،كآية أُخرى صريحة في تأثير الماء في خروج الزرع يقول سبحانه: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ». 3

فالاعتقاد بمثل هذا النوع من السنّة يثير شعور الإنسان إلى التفكّر و التعقّل في الكون و كشف أسراره و رموزه،حتى لا يكون الإنسان الشرقي متطفّلاً على موائد الغربيين في الإحاطة بأسرار العالم.

***

ص:337

المسيحية و رفض العقل في مجال العقائد

بالرغم من إيماننا بأنّ شريعة المسيح من الشرائع السماوية،و لها من المزايا ما لسائر الشرائع،إلاّ أنّنا نرى أنّ رجال الدين المسيحيين قد رفضوا العقل في مجال العقائد و استغنوا بالإلهام و الإشراق،فاعتقدوا بالتثليث و أنّه سبحانه واحد و في الوقت نفسه ثلاثة،فجمعوا بين الوحدة و الكثرة الحقيقيين،مع أنّ بداهة العقل تحكم بأنّ الشيء إمّا واحد و ليس بكثير أو كثير ليس بواحد.فإذا سئلوا عن هذا التناقض أجابوا بأنّ التثليث و ما شابهه،من العقائد التي لا يُدرَك كنهُها بالعقل و البرهان و إنّما يجب الإيمان بها.

و بذلك أوجدوا فاصلاً كبيراً بين العقل و الدين أو بين العلم و الدين،و رفعوا راية التضاد بين هذين المبدأين،مع أنّ خاتم الشرائع-القرآن الكريم-يؤكد على تلازمهما و عدم انفكاكهما،و يقول: «وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ». 1

نعم الدعوة إلى العقل و التفكير ليس بمعنى رفض سائر الطرق إلى معرفة اللّه سبحانه كالإلهام و الإشراق،فإنّ الفتوحات الباطنية من المكاشفات و المشاهدات الروحية و الإلقاءات في الروع غير مسدودة بنص الكتاب العزيز:

1.قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً» 2 ،أي يجعل في قلوبكم نوراً تفرّقون به بين الحق و الباطل و تميّزون به بين الصحيح و الزائف،لا بالبرهنة و الاستدلال،بل بالشهود و المكاشفة.

ص:338

2.و قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ». 1

إنّ صاحب الكشّاف و من تبعه و إن فسره بقوله:«و يجعل لكم يوم القيامة نوراً تمشون به»إلاّ أنّ الظاهر خلافه،و أنّ المراد النور الذي يمشي المؤمن في ضوئه طيلة حياته،في معاشه و معاده،في دينه و دنياه،و هذا النور الذي يحيط به و يضيء قلبه،نتيجة إيمانه و تقاه و يوضّحه قوله سبحانه: «أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ». 2

3.و قال سبحانه: «وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا». 3

4.و قال تعالى: «وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ». 4

فإنّ عطف الجملة الثانية على الأُولى يكشف عن صلة بين التقي و تعليمه سبحانه.

5.و قال سبحانه: «كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ». 5

فإنّ الظاهر أنّ المراد رؤيتها قبل يوم القيامة،رؤية البصيرة،و هي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه قوله تعالى: «وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ». 6

ص:339

و هذه الرؤية القلبية غير محقّقة قبل يوم القيامة لمن ألهاه التكاثر،بل ممتنعة في حقه لامتناع اليقين عليهم.

و المراد من قوله: «ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ» هو مشاهدتها يوم القيامة بقرينة قوله سبحانه بعد ذلك: «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» فالمراد بالرؤية الأُولى رؤيتها قبل يوم القيامة،و بالثانية رؤيتها يوم القيامة. (1)

و مع الاعتراف بانفتاح باب المكاشفات نركّز على أمرين:

1.أنّ العقل و العلم و الإيمان و الكشف و الشهود جميعاً تصبُّ في مصب واحد،و ليس بينهما تضادّ أو تباين أو منافاة.

2.انّ الكشف و الشهود إذا كان صادقاً،أمر فردي لا يتجاوزه و لا يهتدي به الغير و لكن التعقّل و البرهان أمر يغطي المجتمع كلّه و الحكيم الإلهي ببرهانه القويم،يهدي الأُمّة إلى الصراط المستقيم.

حدود العقل في مجالات العقائد

اشارة

قد عرفت أنّ القرآن الكريم أعطى للعقل مكانة خاصة و عدّ التفكير الصحيح من صفات أُولي الألباب.

و هذا لا يعني أنّ العقل يغني الإنسان عن النقل-أي الكتاب و السنّة القطعيين-و إنّما يقصد أنّ العقل أحد أدوات المعرفة فيما له صلاحية للإدراك و الحكم،و لذلك لا يحوم العقل حول الموضوعات الخارجة عن شأنه.مثلاً:

1.التفكّر في ذات اللّه سبحانه و كنهه.فالعقول الجبارة فضلاً عن العقول

ص:340


1- 1) .الميزان:496/20- 497. [1]

المتعارفة عجزت عن درك كُنه ذاته،كيف و إنّ الدرك نوع إحاطة للمدرَك و اللّه سبحانه لا حدّ لوجوده و هو محيط بكلّ شيء و لا يحيط به شيء، «وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً». 1

2.التوغّل في واقع علمه و إرادته و حياته،فإنّ صفاته سبحانه و إن كانت غير ذاته مفهوماً،و لكنّها عين ذاته تعالى حقيقة و واقعاً.فكما أنّ العقل لا يدرك حقيقة ذاته،فانّه لا يدرك حقيقة صفاته سبحانه.

و بكلمة مختصرة الأُمور الغيبية يجب الإيمان بها،يقول سبحانه: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ». 2

و مع ذلك كلّه فللعقل دور كامل في قسم من المعارف الإلهية الواردة في الكتاب و السنّة و قد خسر أقوام كانوا قد أقصوا العقل عن مجال العقائد و فسحوا المجال لأخبار الآحاد و كلمات مستسلمة اليهود و النصارى،«فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير»و من نماذج هذا الإقصاء:

1.وجوب معرفة اللّه

اتّفق علماء الإسلام على وجوب معرفته سبحانه،و لكنّهم اختلفوا في طريقها،فهل الحاكم به هو العقل أو النقل؟ فمن أعطى للعقل سهماً في باب المعارف يقول:إنّ الحاكم به هو العقل،لأنّ في ترك المعرفة ضرراً محتملاً في الدنيا أو بعدها.و دفع مثل هذا الضرر«العقاب» واجب.

غير أنّ المخالف يقول واجب بالشرع و الحاكم به هو النقل و لكن كيف يمكن أن يحكم به الشرع و تجب إطاعته و هو بعد غير ثابت.

ص:341

2.قبح التكليف بما لا يطاق

من نتائج إدخال العقل في باب المعارف هو الحكم بقبح التكليف بما لا يطاق،فهو إمّا أمر ممتنع أو أمر قبيح،و مع ذلك نرى أنّ الرافضين للعقل جعلوا جواز التكليف بما لا يطاق أصلاً من أُصولهم.

3.قبح العقاب بلا بيان

إنّ من نتائج حكم العقل هو أنّه سبحانه لا يعاقب عباده دون أن يبين لهم تكليفهم.و لذلك قالوا:الأصل هو البراءة عن التكليف حتّى يدلّ عليه دليل،و من حسن الحظ انّ الشرع عزّزه أيضاً،قال سبحانه: «وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً». 1

4.إيلام الطفل في الآخرة

إنّ الذين أعطوا العقل سهما واسعاً في معرفة أفعاله سبحانه حكموا بأنّ إيلام الطفل يوم القيامة ظلم لا يحوم حوله الحكيم،و في الوقت نفسه نرى أنّ بعض الطوائف يجوّزون ذلك قائلين بأنّ العالم ملك له و للمالك أن يتقلّب في ملكه كيف يشاء،غافلين عن أنّ عدله و حكمته يصدّه عن أن يتقلّب في ملكه بما يعدّ ظلماً و خروجاً عن العدل.

التحسين و التقبيح العقليان

إنّ للعقل قابلية في معرفة حسن الأفعال و قبحها جميعاً أو قسماً منها،فهو

ص:342

بنفسه يدرك حسن الإحسان و حسن مجازاة الإحسان بالإحسان و حسن العمل بالميثاق و هكذا،كما يدرك من صميم ذاته قبح الظلم و قبح مجازاة الإحسان بالإساءة و نقض الميثاق إلى غير ذلك،و هناك من رفضوا مقدرة العقل على درك حسن الأشياء و قبحها مع أنّ الذكر الحكيم يقول: «وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ». 1 و الآية أوضح شاهد على أنّ الإنسان يعرف الفحشاء قبل الشرع و يدرك قبحها،لا انّه لا يعرفها إلاّ بتعريفه،فالآية التي تنزّه اللّه سبحانه عن الفحشاء، تسلّم قدرة الإنسان على درك حسن الأفعال و قبحها و منها الفحشاء.

و نظيره قوله سبحانه: «أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ». 2

و قوله سبحانه: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ». 3

و قوله سبحانه: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ». 4

و هذه الآيات تتخذ من وجدان الإنسان شاهداً على عدم التسوية،و يدلّ بالتالي على أنّ الإنسان قادر بفطرته الإلهية على درك حسن الأفعال و قبحها،و لمّا كانت التسوية بين الطائفتين قبيحة،تقدّست ساحته عنها.

ص:343

ثمرات القاعدة

تترتّب على تلك القاعدة ثمرات كثيرة رفعت مستوى العقائد الإسلامية إلى درجة يقتنع بها كلّ ذي فطرة سليمة،و ها نحن نشير إلى عناوين تلك الثمرات و نحيل التفصيل إلى الكتب الكلامية:

1.وجوب معرفة اللّه على كلّ إنسان وجوباً عقلياً.

2.وجوب تنزيه فعله سبحانه عن العبث و اقترانه بالغايات و الأغراض.

3.لزوم تكليف العباد،و ذلك لأنّه إذا كان فعله سبحانه منزّهاً عن العبث،يستقل العقل بالحكم بلزوم إيصال كلّ مكلّف إلى الغايات التي خلق لها،و تكليف العباد من مبادئ هذه الغاية.

4.لزوم بعث الأنبياء حتى يصل الإنسان في ظلّ هدايتهم إلى الغاية التي خُلق لها.

5.لزوم النظر في برهان مدّعي النبوة،لأنّ العقل يستقل في دفع الضرر المحتمل،فاحتمال صدق مدّعي النبوة مقارن لاحتمال الضرر، فيجب عليه النظر حتّى يتبيّن صدقه أو كذبه.

6.الخاتمية و استمرار أحكام الإسلام،حيث إنّ خلود أحكام الإسلام و تشريعاته إلى يوم القيامة رهن كونها مطابقة للفطرة العلوية للإنسان حتّى تبقى مستمرة ما دامت الفطرة باقية،و لذلك لا تتبدّل الأحكام مع تبدّل الحضارات و تطور المدنيات،فإنّ تبدلها لا تبدل فطرة الإنسان.

7.ثبات الأخلاق و دوامها في جميع الأُصول و الحضارات،و ما ذلك إلاّ لأنّ

ص:344

الأخلاق الإسلامية مبتنية على وفق الفطرة و هي ثابتة فتكون الأخلاق ثابتة،خذ على ذلك مثلاً«إكرام المحسن»،فإنّه أمر يستحسنه العقل،و لا يتغيّر حكم العقل هذا أبداً،و إنّما الذي يتغير بمرور الزمن،وسائل الإكرام و كيفياته،فإذاً الأُصول ثابتة،و العادات و التقاليد-التي ليست إلاّ لباساً للأُصول-هي المتغيّرة.

8.اللّه عادل لا يجور،و هذا من أبرز مصاديق القول بالتحسين و التقبيح و أنّه لا يجور و لا يظلم،إلى غير ذلك من الثمرات التي ذكرت في محلّها.

بين الإيجاب المولوي و الإيجاب الاستكشافي

لا شكّ أنّه ليس لأحد أن يكلّف اللّه سبحانه بشيء و يحكم عليه باللزوم و الوجوب،لأنّه سبحانه فوق كلّ مكلّف،و ليس فوقه أحد،و مع ذلك كلّه فربّما يأتي في كلام المتكلّمين بأنّه يجب على اللّه سبحانه أن لا يعذب البريء،و الذين لا يرون للعقل دوراً يستوحشون من قول العدلية،يجب على اللّه كذا أو يمنع عليه هذا،و لكنّهم لم يفرّقوا بين الإيجاب المولوي و الإيجاب الاستكشافي،فالذي هو باطل لا يتفوّه به أيّ إنسان موحّد،هو الإيجاب المولوي،فإنّه سبحانه مولى الجميع و الناس عباد له؛و أمّا الإيجاب الاستكشافي بمعنى أنّ العقل يستكشف من خلال صفاته سبحانه ككونه حكيماً عادلاً قديراً،أنّه سبحانه لا يعذّب البريء،فالقول بأنّه يجب على اللّه سبحانه بمعنى الملازمة بين حكمته و عدله و عدم تعذيب البريء،و ليس استكشاف العقل في المقام بأقلّ من استكشاف الأحكام الكونية حيث يحكم بأنّ زوايا المثلث تكون قائمتين، فزوايا المثلث في الخارج موصوفة بهذا المقدار،و لكن العقل يستكشف ذلك.

***

ص:345

دور العقل في الشريعة

ما مرّ من البحث الموجز يعرب عن دور العقل في العقائد و المعارف،و أمّا دور العقل في الشريعة فليس بمعنى أنّ الشرع أعطى زمام التشريع بيد العقل فله أن يشرّع حسب المعايير،كلا فإنّ هذه الفكرة خاطئة جداً،و ليس دين اللّه و شريعته يصاب بالعقول،و مع ذلك فله دور في تأسيس ضوابط ربّما يبتنى عليها استنباط قسم من الأحكام.و قد حدّد أصحابنا صلاحيته في ذلك المضمار في كتبهم الأُصولية.

ص:346

3

اشارة

تطور أُصول الفقه عند الإمامية

(1)

الإسلام عقيدة و شريعة.فالعقيدة هي الإيمان باللّه سبحانه و صفاته و التعرّف على أفعاله.

و الشريعة هي الأحكام و القوانين الكفيلة ببيان وظيفة الفرد و المجتمع في حقول مختلفة،تجمعها العناوين التالية:العبادات، و المعاملات،و الإيقاعات و السياسات.

فالمتكلّم الإسلامي مَنْ تكفّل ببيان العقيدة،و برهن على الإيمان باللّه سبحانه و صفاته الجمالية و الجلالية،و أفعاله من لزوم بعث الأنبياء و نصب الأوصياء لهداية الناس و حشرهم يوم المعاد.

كما أنّ الفقيه من قام ببيان الأحكام الشرعيّة الكفيلة بإدارة الفرد و المجتمع،و التنويه بوظيفتهما أمام اللّه سبحانه و وظيفة كلّ منهما بالنسبة إلى الآخر.

بيد أنّ لفيفاً من العلماء أخذوا على عاتقهم بكلتا الوظيفتين،فهم في مجال العقيدة أبطال الفكر و سنامه،و في مجال التشريع أساطين الفقه و أعلامه،و لهم الرئاسة التامّة في فهم الدين على مختلف الأصعدة.

ص:347


1- 1) .أُلقيت في جامعة القرويين في مدينة فاس 1425/1/4 ه.ق.

فإذا كانت الشريعة جزءاً من الدين ففهمها و استخراجها من الكتاب و السنّة رهن أُمور،أهمها:العلم بأُصول الفقه،و هو العلم الذي يُرشد إلى كيفية الاجتهاد و الاستنباط و يذلّل للفقيه استخراج الحكم الشرعي من مصادره الشرعية.

قام بتدوين علم الأُصول في أوّل الأمر طائفتان،هما:المتكلّمون و الفقهاء.

فالطائفة الأُولى كانت تمثِّل مذهب الإمام الشافعي الذي ألّف في أُصول الفقه رسالته المعروفة.

و الطائفة الثانية:كانت تمثّل المذهب الحنفي في الفقه.

و لأجل ذلك تميّز تأليف كلّ طائفة عن الأُخرى ببعض الوجوه،و إليك بعض الميزات التي تمتعت بها طريقة المتكلّمين:

أ.النظر إلى أُصول الفقه نظرة استقلالية حتّى تكون ذريعة لاستنباط الفروع الفقهية،و بذلك صار أُصول الفقه علماً مستقلاً غير خاضع للفروع التي ربّما يستنبطها الفقيه من دون رعاية الأُصول،بخلاف الطائفة الأُخرى فهؤلاء يقتنصون القواعد من الفروع الفقهية المستفادة من الكتاب و السنّة.

ب.تميّزت كتب هذه الطريقة بطابع عقلي و استدلالي استخدمت فيها أُصول مسلّمة في علم الكلام،فترى فيها البحث عن الحسن و القبح العقليين،و جواز التكليف بما لا يطاق و عدمه إلى غير ذلك،بخلاف الطائفة الأُخرى.

ج.ظهر التأليف على هذه الطريقة في أوّل القرن الرابع.

و لكلّ من الطائفتين تآليف ذكرنا تفصيلها في كتابنا. (1)

ص:348


1- 1) .مصادر الفقه الإسلامي و منابعه:400- 467.

و الذي نبحثه هنا هو اهتمام فقهاء الإمامية بتطوير علم الأُصول منذ تأسيسه إلى عصرنا هذا،الذي لا تمضي فيه سنة أو سنتان إلاّ و نحن نشاهد صدور كتاب أو كتابين،بل أكثر في أُصول الفقه.

ما هو موضوع أُصول الفقه؟

المشهور أنّ موضوع أُصول الفقه هو الأدلّة الأربعة،أو الحجة في الفقه؛و الثاني هو الأظهر لاختلاف الفقهاء في تحديد الأدلّة،بالأربعة، و هناك مَن يحتج بالعقل و منهم من لا يحتج به.

و بما أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية،فللأُصولي أن يبحث في أُصول الفقه عن عوارض«الحجة في الفقه»،عندئذٍ يقع الكلام في العوارض التي تعرض على«الحجّة في الفقه»و الأُصولي يبحث عنها؟ و هذا ما يحتاج إلى بيان زائد،و هو:

إنّ العارض على قسمين:

أ.عارض خارجي يخبر عن عروض شيء على المعروض خارجاً،كالبحث عن عوارض الأجسام الخارجية كما في الفيزياء،أو الداخلية كما في الكيمياء،إلى غير ذلك من الأعراض.

ب.عارض تحليلي و عقلي،و هذا نظير ما يبحث عنه الحكيم في الفلسفة عن تعيّنات الموجود بما هو موجود حيث إنّ الموضوع لهذا العلم هو الوجود المطلق العاري عن كلّ قيد،فالحكيم يبحث عن تعيّناته و تشخّصاته،فصار يقسّمه إلى واجب و ممكن،و علّة و معلول،و مادّي و مجرّد،و واحد و كثير.

و على ضوء هذا فالموضوع في علم أُصول الفقه هو الحجة في الفقه،فإنّ

ص:349

الفقيه يعلم وجداناً بأنّ بينه و بين ربّه حججاً تتضمن بيان الشريعة و الأحكام العملية.فيبحث عن تعيّنات هذه الحجج المعلومة بالإجمال،و انّها هل تتشخّص بخبر الواحد أو لا؟ و بالقياس و عدمه،إلى غير ذلك.فقولنا:خبر الواحد حجة أو القياس حجّة يرجع واقعهما إلى تعيّن الحجّة الكليّة غير المتشخّصة في خبر الواحد و القياس و غيرهما،حتّى أنّ البحث عن كون الأمر ظاهراً في الوجوب و النهي في الحرمة يرجع لبّ البحث فيه إلى وجود الحجة على لزوم إتيان الأمر الفلاني أو وجود الحجّة على تركه.

جذور علم الأُصول في أحاديث أهل البيت عليهم السلام

اشارة

إنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام لا سيّما الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام أملوا على أصحابهم قواعد كلية في الاستنباط يقتنص منها قواعد أُصولية أوّلاً و قواعد فقهية ثانياً على الفرق المقرّر بينهما،و قد قام غير واحد من علماء الإمامية بتأليف كتاب في جمع القواعد الأُصولية و الفقهيّة الواردة في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام،و نخص بالذكر الكتب الثلاث التالية:

أ.الفصول المهمة في أُصول الأئمّة:للمحدّث الحرّ العاملي (المتوفّى 1104ه).

ب.الأُصول الأصليّة للعلاّمة السيد عبد اللّه شبر الحسيني الغروي(المتوفّى1242ه).

ج.أُصول آل الرسول،للسيد هاشم بن زين العابدين الخوانساري الاصفهاني (المتوفّى 1318ه).

إنّ أوّل من دوّن أُصول الفقه عند أهل السنّة هو الإمام المطلبي محمد بن

ص:350

إدريس الشافعي(150- 204ه)،فقد أملى في ذلك رسالته التي جعلت كمقدمة لما أملاه في الفقه في كتابه الموسوم ب«الأُم»ثمّ توالى بعده التأليف على طريقة المتكلّمين تارة و الفقهاء أُخرى.

و بمحاذاة تلك الحركة بدأ نشاط علم أُصول الفقه عند الإمامية على ضوء القواعد الكلية الواردة في أحاديث أئمتهم،مضافاً إلى ما جادت به أفكارهم.

فألّف يونس بن عبد الرحمن (المتوفّى208ه) كتابه«اختلاف الحديث و مسائله»و هو نفس باب التعادل و الترجيح في الكتب الأُصولية.

كما ألّف أبو سهل النوبختي إسماعيل بن علي (237- 311ه) كتاب:الخصوص و العموم،و الأسماء و الأحكام،و إبطال القياس؛إلى أن وصلت النوبة إلى الحسن بن موسى النوبختي فألّف كتاب«خبر الواحد و العمل به»،و هذه هي المرحلة الأُولى لنشوء علم أُصول الفقه عند الشيعة القدماء.

إلى أن ظهر في القرن الرابع شيخ الأُمّة محمد بن محمد بن النعمان المفيد(336- 413ه) فألّف كتابه«التذكرة في أُصول الفقه»المطبوع.

و أعقبه تلميذه الكبير السيد المرتضى(355- 436ه) فألّف كتابه المعروف«الذريعة»المطبوع في جزءين.

و أعقبه تلميذه الجليل الشيخ الطوسي(385- 460ه) فألّف كتاب«العدّة»في أُصول الفقه في جزءين.

كما ألّف زميله سلاّر الديلمي (المتوفّى 448ه) كتابه المعروف«التقريب في أُصول الفقه».

هذا إلمام موجز بنشوء علم الأُصول و نموه إلى القرن الخامس عند الإماميّة،و لا نطيل الكلام ببيان سائر الأدوار من عصر سلاّر إلى نهاية القرن الرابع عشر،

ص:351

فإنّ بيانه رهن كتاب مفرد.

إنّما المهم هو بيان التطوير الذي أحدثه علماء الإمامية في ذلك العلم على نحو لا يُرى نظيره في كتب الآخرين.

نحن نقدّر ما كابده علماء الفريقين في سبيل هذا العلم إبداعاً و ابتكاراً،أو بياناً و إيضاحاً حتى أوصلوه إلى القمة،و مع ذلك كلّه لا نرى مانعاً من بيان ما يختصّ بالإمامية من تنشيط و تصعيد الحركة الأُصولية عبر القرون و قد تمّ تحقيق هذا التنشيط بإحداث قواعد و ضوابط تُمِدُّ المستنبط في مختلف الأبواب،و ها نحن نشير إلى بعضها:

1.تقسيم الواجب إلى مشروط و معلّق

إنّ تقسيم الواجب إلى مطلق كمعرفة اللّه،و مشروط كالصلاة بدخول الوقت،تقسيم معروف.

و أمّا تقسيم الواجب إلى مشروط و معلّق فهو من خصائص أُصول الفقه للإمامية.

و الفرق بينهما أنّ القيد في الأوّل يرجع إلى الهيئة،و في الثاني يرجع إلى المادة.

و بعبارة أُخرى:كلا الواجبين مقيّدان،إلاّ أنّ القيد في الواجب المشروط قيد للوجوب كالوقت بالنسبة إلى الصلاة،فما لم يدخل الوقت لا وجوب أصلاً.و لكنّه في الواجب المعلّق قيد للواجب،فالوجوب حالي لكن الواجب مقيد بوقت متأخر.

و هذا نظير مَن استطاع الحج،فوجوب الحج مشروط بالاستطاعة،فلا وجوب قبلها و بحصولها يكون الوجوب فعلياً و لكن الواجب استقبالي مقيّد

ص:352

بظرفه،أعني:أيّام الحجّ.

و يترتّب على التقسيم ثمرات مذكورة في محلّها،و نقتصر على ذكر ثمرة واحدة.

إنّ تحصيل مقدّمة الواجب المشروط غير لازم،لأنّ وجوب المقدّمة ينشأ من وجوب ذيها،فإذا كان ذو المقدّمة غير واجب فلا تجب مقدّمته شرعاً فلا يجب تحصيلها.

هذا بخلاف مقدّمة الواجب المعلّق،فبما أنّ الوجوب فعلي-بحصول الاستطاعة-يجب تحصيل مقدّمات الحج و إن كان الواجب استقبالياً.

2.دلالة الأمر و النهي على الوجوب و الحرمة

لقد بذل الأُصوليون جهودهم في إثبات دلالة الأمر و النهي على الوجوب و الحرمة،دلالة تضمنيّة أو التزامية،و طال النقاش بين الموافق و المخالف،و لكن المحقّقين المتأخّرين من الإمامية دخلوا من باب آخر،و هو أنّ السيرة المستمرة بين العقلاء هي:أنّ أمر المولى و نهيه لا يترك بدون جواب-رغم عدم دلالتهما على الوجوب و الحرمة لفظاً-و كيفية الجواب عبارة عن لزوم الإتيان في الأوّل و الترك في الثاني.و هو عبارة عن الوجوب و الحرمة.

كما أنّ العقل يدعم موقف العقلاء فيؤكد على متابعة الأمر و النهي حذراً من احتمال المخالفة.

و بالرغم من أنّ أمر المولى على قسمين:واجب و مندوب كما أنّ نهيه كذلك:حرام و مكروه،و مع ذلك يلزم العقل العبد المكلّف على الامتثال حذراً من المخالفة الاحتمالية.

ص:353

3.الإطلاق فرع كون المتكلّم في مقام البيان

إذا وقع لفظ كلّي تحت دائرة الحكم-كما إذا قال:أعتق رقبة-يحكم الفقهاء بأنّ الموضوع مطلق،فلا فرق في مقام الامتثال بين كونها مؤمنة أو كافرة.فجعلوا دلالة المطلق على الاجتزاء بكلّ فرد منه،دلالة عقلية بمعنى أنّ الموضوع عند المشرّع هو ذات المطلق،فلو كان الموضوع مركباً من شيئين:المطلق و قيده،لزم أن يركّز عليه المشرّع،فسكوته دليل على عدم مدخليته.

لكن الركن الركين في جواز التمسّك بالمطلق-عند الإمامية-كون المتكلّم في مقام بيان للموضوع من جزء أو شرط و لو لا إحرازه لم يتم التمسّك بالمطلق،و على هذا فلو قال:الغنم حلال،لا يصحّ التمسك بإطلاقه لإثبات حليّة مطلق الغنم (مملوكه و مغصوبه،الجلاّل و غيره،)و بحجّة انّ المتكلّم اتّخذ الغنم موضوعاً لحكمه و هو صادق على القسمين،ذلك لأنّ المتكلّم بصدد بيان حكم الغنم بما هو هو،لا بما إذا اقترن مع العوارض.

نرى أنّ بعض الفقهاء أفتوا بجواز أكل ما أمسكته كلاب الصيد دون وجوب أن يغسل مواضع عضّها،تمسّكاً بقوله سبحانه: «فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ» 1 و لم يقل فكلوا بعد غسل مواضع العض.

و لكن التمسّك بإطلاق الآية غفلة عن الشرط اللازم للمطلق،أعني:كون المتكلّم في مقام البيان فليست الآية إلاّ بصدد بيان حلّية ما اصطادته الجوارح،و أنّه ليس من مقولة الميتة،و أمّا أنّه يؤكل بغير غسل،أو معه فليست الآية في مقام بيانه حتّى يستدلّ سكوته على عدم شرطيّته.

ص:354

و بالتدبّر في هذا الأصل يظهر بطلان كثير من التمسّكات بالإطلاق في كثير من أبواب الفقه و هو غير صالح للتمسّك.

4.الملازمات العقلية

لقد طال البحث في دلالة الأمر على وجوب المقدّمة و النهي على حرمة مقدّمته و حاول كثير من الأُصوليين إثبات الدلالة اللفظية بنحو من الأنحاء الثلاثة،و لكن الإمامية طرقوا باباً آخر في ذلك المجال و انتهوا إلى نفس النتيجة لكن من طريق أوضح،و هو:وجود الملازمة العقلية بين إرادة الشيء و إرادة مقدّمته،من غير فرق بين الإرادة التكوينية و الإرادة التشريعية،فكما أنّ إرادة الصعود إلى السطح لا تفارق إرادة تهيئة السلّم و استخدامه،فهكذا الإرادة التشريعية بمعنى تعلّق إرادته بصعود الغير إلى السطح.

و قد استفاد الأُصوليّون من هذه القاعدة-الملازمة العقلية-في غير واحد من أبواب أُصول الفقه،كالملازمة بين الأمر بالشيء و إجزائه عن الإتيان به ثانياً،و النهي عن العبادات و فسادها،و النهي عن المعاملات و فسادها عند تعلّق النهي بما لا يجتمع مع صحتها،كالنهي عن أكل ثمنها،كما إذا قال:ثمن الميتة سحت،أو ثمن المغنّية سحت.

5.التعارض و التزاحم و الفرق بينهما

إنّ التنافي بين الدليلين إذا كان راجعاً إلى مقام الجعل و الإنشاء بأن يستحيل من المقنّن الحكيم،صدورُ حكمين حقيقيين لغاية الامتثال فهو المسمّى بالتعارض،مثلاً يستحيل جعل حكمين باسم:«ثمن العذرة سحت،و لا بأس ببيع العذرة»،فلو كان تنافي الخبرين من تلك المقولة، فهذا ما يبحث عنه في باب

ص:355

التعادل و الترجيح و يرجّح أحد الخبرين على الآخر بمرجّحات منصوصة أو مستنبطة.

و أمّا إذا كان التنافي راجعاً إلى مقام الامتثال دون مقام الجعل و الإنشاء،و هذا كما إذا ابتلي الإنسان بغريقين،فالتنافي في المقام يرجع إلى عجز المكلّف عن الجمع بينهما،لأنّ صرف القدرة في أحدهما يمنع المكلّف عن صرفها في الآخر،فهذا ما يعبّر عنه بالتزاحم.و إلاّ فلا تنافي في مقام التشريع بأن يجب إنقاذ كلّ غريق فضلاً عن غريقين.

و بذلك ظهر الفرق بين التعارض و التزاحم بوجه آخر،و هو أنّ ملاك التشريع و المصلحة موجود في أحد المتعارضين دون الآخر، بخلاف المتزاحمين فالملاك موجود في كل من الطرفين كإنقاذ كلّ من الغريقين و لكن المانع هو عجز المكلّف،و عند ذلك يجب رفع التزاحم بالتخيير إذا كانا متساويين،أو بالترجيح كما إذا كان أحدهما أهمّ من الآخر.

و بذلك يستطيع الفقيه رفع التنافي بين كثير من الأدلّة التي يظهر فيها التنافي لعجز قدرة المكلّف مع كون الحكمين ذا ملاك.و رفع التنافي رهن إعمال مرجّحات خاصة بباب التزاحم،و ها نحن نذكر رءوسها دون تفصيل:

1.تقديم ما لا بدل له على ما له بدل.

2.تقديم المضيّق على الموسّع.

3.تقديم الأهمّ بالذات على المهم.

4.سبق أحد الحكمين زماناً.

5.تقديم الواجب المطلق على المشروط.

و التفصيل موكول إلى محله.

ص:356

و لنمثل لإعمال الترجيح مثالاً يوضح المقصود:

قد أصبح تشريح بدن الإنسان في المختبرات من الضروريات الحيوية التي يتوقّف عليها نظام الطب الحديث،فلا يتسنّى تعلم الطب إلاّ بالتشريح و الاطّلاع على خفايا أجهزة الجسم و أمراضها.

غير أنّ هذه المصلحة تصادمها،مصلحة احترام المؤمن حيّهِ و ميّتهِ،إلى حدّ أوجب الشارع،الإسراع في تغسيله و تكفينه و تجهيزه للدفن،و لا يجوز نبش قبره إذا دفن،و لا يجوز التمثيل به و تقطيع أعضائه،بل هو من المحرّمات الكبيرة،و الذي لم يجوّزه الشارع حتى بالنسبة إلى الكلب العقور،غير أنّ عناية الشارع بالصحّة العامّة و تقدّم العلوم جعلته يسوّغ ممارسة هذا العمل لتلك الغاية،مقدّماً بدن الكافر على المسلم،و المسلم غير المعروف على المعروف منه،و هكذا....

6.تقسيم حالات المكلّف إلى أقسام
اشارة

إنّ تقسيم حالات المكلّف إلى أقسام ثلاثة-أعني:كونه قاطعاً بالحكم،أو ظانّاً،أو شاكّاً فيه-تقسيم طبيعي في مورد الحكم الشرعي،بل بالنسبة إلى كلّ شيء يفكر الإنسان فيه و يلتفت إليه فهو بين قاطع و ظان و شاك.

لا شكّ أنّ القاطع يعمل بقطعه و لا يمكن نهيه عن العمل بالقطع،لأنّه يرى نفسه مصيباً للواقع،إنّما الكلام في الشقين الأخيرين، فالإمامية لا يعتقدون بحجّية الظنون في مورد استنباط الأحكام إلاّ ما قام الدليل القطعي على حجّيته،و يستدلّون على ذلك بأنّ الشكّ في حجّية الظن يوجب القطع بعدم الحجّية،و لعلّ بعض الناس يتلقاه لُغزاً،إذ كيف يتولّد من الظن بالحجّية،القطع بعدمها،و لكنّه تظهر صحته بأدنى تأمّل، و ذلك لأنّ المراد من الظن هو الظن

ص:357

بالحكم الشرعي،هذا من جانب،و من جانب آخر،العمل به مع التردد في الحجّية مصداق للبدعة و البدعة حرام قطعي لا مزية فيه.

و بعبارة أُخرى:إذا كانت البدعة عبارة عن إدخال ما لم يعلم كونه من الدين في الدين،فإذا عمل المكلّف بالظن،مع الشك في حجّيته و إذن الشارع بالعمل به فقد أدخل بعمله هذا،ما لم يعلم كونه من الدين،في الدين،فإذا قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و هو غير عالم بأنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال، فقد نسب إليه حكماً ما لم يعلم كونه منه،و لذلك أصبحت الضابطة الأُولى عند الإمامية حرمة العمل بالظن إلاّ ما قام الدليل القطعي على حجّته، كخبر الثقة الضابط،و البيّنة،و قول أهل الخبرة،إلى غير ذلك من الظنون التي ثبتت حجّيتها من جانب الشرع.

و أمّا حكم الشاك فهذا هو بيت القصيد في المقام.أقول:الشكّ على أقسام أربعة:

1.الشكّ في شيء له حالة سابقة

إذا شككنا في بقاء حكم أو بقاء موضوع كنّا جازمين به سابقاً و إنّما نشك في بقائه،فهنا يؤخذ بالحالة السابقة و يسمّى باصطلاح الأُصوليين بالاستصحاب عملاً بالسنّة:«لا تنقض اليقين بالشك».

2.الشكّ في أصل تشريع الحكم

إذا شككنا في حرمة شيء أو وجوبه و ليس له حالة سابقة،كالشك في حرمة التدخين أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال،و أمثال ذلك، فالمرجع هنا هو البراءة،لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان،و يعضده ما ورد في الشرع من قوله

ص:358

سبحانه: «وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً» 1 و بعث الرسول كناية عن بيان الوظائف في العقائد و الأحكام و قول النبيّ الأكرم:«رفع عن أُمّتي تسع:ما لا يعلمون...».

و هذا(الشكّ في أصل الحكم) يسمّى في مصطلح الأُصوليّين بالشبهة البدويّة.

3.إذا كان عالماً بالحكم و جاهلاً بالمكلّف به

إذا كان المكلّف عالماً بالحكم الشرعي و جاهلاً بالمكلّف به،كما إذا علم بوجوب صلاة الظهر و لم يعرف القبلة،فيحكم العقل بالاشتغال و لزوم تحصيل البراءة اليقينية و هو الصلاة إلى أربع جوانب ليعلم أنّه صلّى إلى القبلة.

من غير فرق بين كون الجهل متعلّقاً بالموضوعات الخارجية كالمثال المذكور أو بمتعلقات الأحكام كما إذا علم بأنّه فات منه صلاة واحدة مردّدة بين المغرب و العشاء،فالعقل يحكم بوجوب الجمع بينهما،لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية،و على هذا الأصل فرّعوا فروعاً كثيرة.

4.تلك الصورة و لكن لم يكن الاحتياط ممكناً

كما إذا دار أمر الشيء بين كونه واجباً أو حراماً،فالمرجع هاهنا هو التخيير.

و بذلك ظهر أنّ علاج الشكّ في الموضوع،أو الحكم الشرعيين،يتحقّق بإعمال القواعد الأربع حسب مظانها و هي:

أ.الاستصحاب،عند ما كانت هناك حالة سابقة.

ص:359

ب.البراءة،إذا كان الشكّ في الحكم الشرعي و لم يكن هناك حالة سابقة بالنسبة إليه.

ج.قاعدة الاشتغال،عند الشكّ في المكلّف به مع إمكان الاحتياط.

د.التخيير،فيما إذا لم يمكن الاحتياط.

إنّ بعض هذه القواعد و إن كان يتواجد في أُصول الآخرين و لكن بيان أحكام القاطع و الظان و الشاك بهذا المنوال من خصائص أُصول الإمامية.

7.أدلّة اجتهادية و أُصول عملية

إنّ تقسيم ما يحتجّ به المستنبط إلى دليل اجتهادي،و أصل عملي من خصائص أُصول الفقه عند الإمامية،لأنّ ما يحتجّ به المجتهد ينقسم إلى قسمين:

أ.ما جُعِلَ حجّة لأجل كون الدليل بطبعه طريقاً و مرآة إلى الواقع،و إن لم يكن طريقاً قطعياً بشكل كامل،و هذا كالعمل بقول الثقة و البيّنة و أهل الخبرة و غير ذلك،فإنّها حجج شرعية لأجل كونها مرايا للواقع و تسمّى بالأدلّة الاجتهادية.

و هذا بخلاف الأُصول العملية كالاستصحاب،و البراءة،و التخيير،و الاشتغال،فالمجتهد و إن كان يحتج بها،و لكن لا بما أنّها طرق إلى الواقع و مرايا له،و إنّما يحتجّ بها لأجل الضرورة و رفع الحيرة،حيث انتهى المستنبط إلى طريق مسدود.

و يترتّب على ذلك تقدم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي،فلا يحتج بأصل البراءة مع وجود الدليل كقول الثقة على وجوب الشيء أو حرمته،و لا بالاستصحاب إذا كان هناك دليل اجتهادي كالبيّنة على ارتفاع المستصحب.

ص:360

و بذلك يظهر الخلط بين كلمات الفقهاء فلم يميّزوا بين الأدلّة الاجتهادية و الأُصول العملية فربّما جعلوا الأصل معارضاً للدليل الاجتهادي.

8.تقديم أحد الدليلين على الآخر بملاكات

لا شكّ أنّ بعض الأدلّة يتقدّم على الآخر و لكن المذكور في كلمات الأُصوليين ملاك واحد،و هو أنّ المخصص يتقدّم على العام،و ربّما يضاف إليه تقدّم الناسخ على المنسوخ،و هذا ممّا لا ريب فيه،و لكن هناك موجبات أُخرى توجب تقدّم أحد الدليلين الاجتهاديين على الآخر، و هي عبارة عن العنوانين التاليين:

أ.كون الدليل حاكماً على دليل آخر.

ب.كونه وارداً على الآخر.

أمّا الحاكم فهو عبارة عن:أن يكون لسان أحد الدليلين بالنسبة إلى الدليل الآخر لسان التفسير فيقدّم المفسِّر على المفسَّر،مثلاً:قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ» 1 ،فالآية صريحة في الطهارة المائية و أنّ شرط صحة الصلاة هو تحصيل الطهارة المائية قبلها.

و إذا قيس قوله:«التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين»إلى الآية،يأخذ لنفسه طابَع التفسير و يوسّع الشرط اللازم تحصيله قبل الصلاة،فتكون النتيجة شرطية مطلق الطهارة:المائية و الترابية،غاية الأمر أنّ الاجتزاء بالثانية رهن فقدان الأُولى.

و نظير ذلك قوله:«الطواف بالبيت صلاة فيستدلّ به على وجوب تحصيل

ص:361

الطهارة قبل الطواف،و ذلك لأنّ الدليل الثاني يجعل الطواف من مصاديق الصلاة ادّعاءً و تشريعاً فيكون الطواف محكوماً بالصلاة من أحكام.

و أمّا الوارد فهو أن يكون أحد الدليلين مزيلاً و رافعاً لموضوع الدليل الآخر،و هذا نظير قول الثقة بالنسبة إلى أصل البراءة العقلية،فإنّ موضوع البراءة هو قبح العقاب بلا بيان،أي بلا بيان من الشارع،فإذا أخبر الشارع بحجّية قول الثقة فيكون قوله في مورد الشك بياناً من الشارع، فيكون رافعاً له.

9.تقدّم الأصل السببي على المسببي

كثيراً ما يتصوّر أنّ أحد الأصلين معارض للأصل الآخر،و هذا صحيح إذا كان الأصلان في درجة و رتبة واحدة،و أمّا إذا كان أحد الأصلين متقدّماً رتبة على الآخر و كان الأخذ بأحدهما رافعاً للشكّ في الجانب الآخر فيؤخذ بالمتقدّم و يطرح الآخر،و ملاك التقدّم هو كون الشكّ في أحد الأصلين ناشئاً عن الشكّ في الأصل الآخر،فإذا عملنا بالأصل في جانب السبب يرتفع الشك عن الجانب المسبب حقيقة،و لنذكر مثالاً:

إذا كان هناك ماء طاهر شككنا في طروء النجاسة عليه،ثمّ غسلنا به الثوب النجس قطعاً،فربّما يتصوّر تعارض الأصلين،فإنّ مقتضى استصحاب طهارة الماء هو كون الثوب المغسول به طاهراً،و مقتضى استصحاب نجاسة الثوب كون الماء نجساً فيقال:تعارض الاستصحابان.

و لكن الأُصولي الإمامي يقدّم استصحاب طهارة الماء على استصحاب نجاسة الثوب،و ذلك لأنّ الشكّ في بقاء نجاسة الثوب بعد الغسل بالماء،نابع عن كون الماء طاهراً و عدمه،فإذا قلنا بحكم الشارع:«لا تنقض اليقين

ص:362

بالشكّ»بطهارة الماء و قال إنّه طاهر،فيزول الشك في جانب الثاني و يحكم عليه بالطهارة،و ذلك لأنّ كلّ نجس،غسل بماء محكوم بالطهارة فهو طاهر.

و من هنا ينفتح أمام الفقيه باب واسع لرفع التعارض بين الأُصول العملية.

10.الأقل و الأكثر و الشكّ في المحصّل

إذا تعلّق الحكم الشرعي بمركب ذي أجزاء،و شككنا في قلّة أجزائه و كثرته،كما إذا شككنا في أنّ الجلسة بعد السجدتين واجبة أو مستحبة،فالمرجع هو البراءة عن وجوبها،لأنّ الأجزاء الباقية معلومة الوجوب و هذا الجزء مشكوك وجوبه،فيرجع فيه إلى أصل البراءة،أخذاً بقوله صلى الله عليه و آله و سلم:«رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون»حيث إنّ وجوب هذا الجزء ممّا لا يُعلم.

و هذا ما يعبّر عنه في مصطلح الأُصوليّين من الإمامية«بالأقل و الأكثر الارتباطيين».

و لكنّهم استثنوا صورة أُخرى ربّما تسمّى بالشكّ في المحصّل تارة،و الشكّ بالسقوط ثانياً،و مورده ما إذا كان المكلّف به أمراً بسيطاً لا كثرة فيه،و لكن محقَّقه و محصّله في الخارج كان كثيراً ذا أجزاء،فشككنا في جزئية شيء لمحصِّله و عدمه،مثلاً لو قلنا بأنّ الطهور في قوله:«لا صلاة إلاّ بطهور»اسم للطهارة النفسانية الحاصلة للنفس الإنسانية لا للغسلات و المسحات،و لكن نشكّ في جزئية شيء كالمضمضة و الاستنشاق و عدمه للمحصِّل،فيحكم هنا بالاشتغال و لزوم ضم الاستنشاق أو المضمضة إلى الوضوء،و ذلك لأنّ المحصِّل و إن كان مركّباً ذا أجزاء منحلاًّ إلى ما علم وجوبه كالغسلات و المسحات و إلى ما شكّ في وجوبه كالمضمضة و الاستنشاق،و هو في حدّ نفسه قابل لإجراء البراءة عن وجوده،و لكن

ص:363

بما أنّ تعلّق الوجوب بالطهور بمعنى الطهارة النفسانية و هو أمر بسيط لا يتجزأ و لا يتكثر،فلا تقع مجرى للبراءة،بل العقل يبعث المكلّف إلى تحصيلها بالقطع و الجزم،لأنّ الاشتغال اليقيني بهذا الأمر البسيط يقتضي البراءة اليقينية،و لا تحصل البراءة القطعية إلاّ بضمّ الاستنشاق و المضمضة إلى سائر الواجبات و الإتيان بهما رجاءً و احتمالاً.

هذه نماذج من التطبيقات التي قدمتها لحضراتكم و هناك أُمور أُخرى لها تأثير خاص في استنباط الأحكام و مذكورة في كتبهم.

غفر اللّه لعلمائنا الماضين و حفظ اللّه الباقين منهم

ص:364

4

اشارة

الفلسفة الإسلامية

بعد ابن رشد(520-595ه)

(1)

الفلسفة-بمعنى البحث عن الوجود المطلق و أقسامه و سننه-قرينة الإنسان المفكّر سواء أ كان شرقياً أم غربياً،صينيّاً أم إفريقياً، فتخصيص مكان معين لتولّدها فكرة خاطئة.فمنذ كان الإنسان يفكّر و يعي،يبحث و يستطلع،وقع عالم الوجود،مرتعاً لتفكيره و تأملاته.

فالإنسان منذ أن عرف يمينه من يساره،ما زال يفكر في أُمور ثلاثة:

أ.من أين جئتُ؟

ب.لما ذا جئتُ؟

ج.و إلى أين أذهبُ؟

و قد أخذت هذه المسائل و نظائرها تطَّرد و تتكامل عبر القرون،بتكامل الإنسان و نمو فكره.

ص:365


1- 1) .أُلقيت في كلية الآداب و العلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس في الرباط1425/1/2.

و ممّا لا شكّ فيه أنّ مناطق خاصة-لأجل ظروف توفرت فيها-صارت مهداً لنضوج المسائل الفلسفية حتّى توالت فيها تيارات فكرية مختلفة،فمن صينية إلى إغريقية،و من هندوسية إلى فهلوية،إلى غير ذلك من المشارب و المسالك.

لم يزل تاريخ الثقافة البشرية يحتفل برجال كبار من فلاسفة و علماء،و كلتا الطائفتين تشتركان في بذل الجهود لفهم أسرار الكون و حلّ مشاكله غير أنّ هناك فارقاً واضحاً بينهما،و هو أنّ الفيلسوف يجعل الوجود محوراً لبحثه من دون أن يخصص دراسته بموضوع دون موضوع، بخلاف الآخر فإنّه يأخذ جزءاً من الكون للبحث و التحليل.مثلاً انّ الأوّل يبحث عن النظام السائد على صحيفة الوجود،سواء أ كان مجرداً أم ماديّاً،عرضاً أم جوهراً،و بكلمة جامعة يتخذ الوجود موضوعاً...و الآخر يبذل جهوده لتحليل جزء من الكون دون جميعه،فالعدد هو مصب اهتمام الرياضي كما أنّ النجوم و الكواكب هي ساحة عمل الفلكي إلى غير ذلك من العلوم.

و بذلك ظهر الفرق بين الفلسفة و العلم،و إن أردت مزيد توضيح فنقول:الفلسفة تتّخذ الوجود المطلق موضوعاً للبحث،فتبحث عن تعييناته ككونه واجباً أو ممكناً مجرداً أو ماديّاً،عرضاً أو جوهراً،كماً أو كيفاً،واحداً أو كثيراً،حادثاً أو قديماً،علّة أو معلولاً،كلياً أو جزئياً،هذا هو شأن الفلسفة؛و أمّا العلم فهو يبحث عن أحكام موضوعات خاصة و التي كانت محمولات في تقسيم الوجود.

و لذلك عرّفوا الفلسفة بتعاريف،كلّها ترمي إلى هدف واحد:

1.خروج النفس إلى كمالها في جانبي العلم و العمل.

2.العلم بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر

ص:366

الطاقة البشرية.

3.استكمال النفس الإنسانية بمعرفة الحقائق،الحكم بوجودها تحقيقاً بالبراهين لا أخذاً بالظن و التقليد بقدر الوسع الإنساني.

4.نظم العالم نظماً عقلياً حسب الطاقة البشرية لغاية التشبّه بالباري تعالى.

5.صيرورة الإنسان عالماً عقلياً مضاهياً للعالم العيني لا في المادة،بل في صورته و هيئته.

و أين هذه التعاريف من عالم رياضي بذل جهوده في فهم ما للعدد من الآثار و العوارض؟! و أين هو أيضاً من العالم الفيزيائي الذي أفنى عمره في فهم ما للفلز من الخصائص و المواصفات؟!

و في ضوء هذا الفرق بين العلم و الفلسفة و بالتالي بين الفيلسوف و العالم،تتميز مسائل الفنّين بجوهرهما فلا يختلط أحدهما بالآخر.

مثلاً:قولنا الفلز يتمدّد بالحرارة من قوانين الفيزياء و ليس بحثاً فلسفياً،بخلاف قولنا:كلّ ممكن يحتاج إلى علّة.كما أنّ القول بأنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين مسألة رياضية،و أين هو من قول الفيلسوف بأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد؟

حاجة العلوم إلى الفلسفة

و بهذا ظهرت حاجة العلوم إلى الفلسفة،لأنّ موضوعات العلوم التي يبحث فيها عن عوارضها،هي مسائل فلسفية فما لم يثبت في الفلسفة انقسام الوجود إلى

ص:367

مجرد و مادّة،و المادة إلى جوهر و عرض،و العرض إلى كم و كيف،لم يتسنّ للباحث الرياضي دراسة أحكام الكم المنفصل كالأعداد،أو دراسة أحكام الكم المتصل كالسطوح في الهندسة السطحية.

هذا إلمام إجمالي بتفسير الفلسفة أوّلاً،و الفرق بينها و بين العلوم ثانياً،و حاجة الأخيرة إلى الفلسفة ثالثاً.

لكن الذي نتوخّاه في هذا المقام هو النظرة إلى الفلسفة الإسلامية إلى ظهور ابن رشد و تكاملها بعده بيد الآخرين،و هو الأمر الذي أهمله كُتّابُ تاريخ الفلسفة،فقد تصوّروا أنّ حركة الفلسفة الإسلامية قد توقّفت بموت ابن رشد و تعرقلت خطاها،و هذا هو الذي اشتهر بين المستشرقين،و أخذه عنهم بعضُ كُتّاب المسلمين الجدد كحقيقة راهنة،دون أن يتعمّقوا في دراستها.

فقد ذهب ت.ج.دي بور الأُستاذ في جامعة امستردام في كتابه«تاريخ الفلسفة في الإسلام»،و الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريده أُستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الكويت في تعليقه على الكتاب المذكور (بعد أن نقله إلى العربية)،ذهبا إلى تعرقل عجلة الفلسفة بموت ابن رشد، حيث تمّ استعراض حياة عدد من فلاسفة الإسلام الذين اقتفوا منهج أرسطو متأثرين بالأفلاطونية،و منهم:

الكندي فقد بحث في حياته و موقفه من علم الكلام و الرياضيات و آرائه حول اللّه،و حول العالم،و النفس و العقل.

ثمّ تعرّض بعده لحياة الفارابي و موقفه إزاء أفلاطون و أرسطو و فلسفته و المنطق الذي كان يعتمد عليه و آرائه حول العالم العلوي و السفلي و النفس الإنسانية و الأخلاق و السياسة و الحياة الآخرة.

ص:368

ثمّ ذكر أبا علي بن مسكويه(المتوفّى عام 420ه) و بيّن آراءه في ماهية النفس و الأخلاق،ثمّ انتقل إلى ذكر حياة ابن سينا(المتوفّى عام 425ه) و جهوده في الفلسفة و المنطق و الإلهيات و الطبيعيات.ثمّ ذكر ابن الهيثم و حياته و مؤلّفاته.

ثمّ إنّ المؤلف جعل عنوان الباب الخامس«نهاية الفلسفة في المشرق»،و لذلك أورد فيه الغزالي باعتبار أنّ موقفه بالنسبة إلى الفلسفة كان موقفاً سلبياً،و كأنّه يشير إلى انتهاء دور الفلسفة في الشرق الإسلامي ثمّ يرجع إلى الفلسفة في الغرب الإسلامي،فيذكر ابن باجة و آراءه في المنطق و ما وراء الطبيعة،كما يذكر ابن طُفَيْل القيسي،ففي الفصل الرابع يستعرض حياة ابن رشد و آراءه في الجسم و العقل و غير ذلك،و كأنّ ابن رشد كان آخر ناصر للفلسفة الإسلامية حيث تولّد عام 520و توفّي في 595ه،و ليس بعد ذلك شيء و لا قرية وراء عبادان!!

و هذا بعين الحق بخس لتاريخ الفلسفة الإسلامية في المشرق الإسلامي،فقد ظهر-بعد رحيل ابن رشد-رجالات كبار تكاملت الفلسفة الإسلامية بأيديهم و وصلت إلى القمة و حفلت بذكرهم كتب التراجم و المعاجم،و ها نحن نذكر أسماءهم و نشير إلى مواقفهم إشارة عابرة، و نقتصر على أسماء كبار الفلاسفة إلى نهاية القرن العاشر أو شيء قليل بعده و نحيل التفصيل إلى كتب المعاجم.

1.سديد الدين الحمصي الرازي (المتوفّى 585تقديراً):من آثاره التعليق الوافي الكبير،و المنقذ من التقليد،و المرشد إلى التوحيد،إلى غير ذلك من الآثار.

2.نصير الدين الطوسي (المتوفّى 672ه):هو من الأدمغة الكبيرة العالمية،و من العباقرة الذين لم تلد الدنيا منهم إلاّ القليل في العلم و الفلسفة و الفلكيات و الرياضيات و غيرها.هو (كما يقول الأُستاذ طوقان:) أحد الأفذاذ القليلين الذين ظهروا في القرن السادس للهجرة،و أحد حكماء الإسلام،المشار إليهم بالبنان.

ص:369

و من آثاره:شرح الإشارات لابن سينا،تجريد الاعتقاد،التذكرة في علم الهيئة،اختيارات المهمات،اختبارات النجوم،و غيرها.

و له دور في حفظ الثقافة الإسلامية من تطاول المغول.

3.كمال الدين البحراني ميثم بن علي بن ميثم البحراني(المتوفّى سنة 699ه):من أكبر رجالات الفلسفة و الكلام و العرفان في عصره، يصفه السيد علي خان المدني في (السلافة) بقوله:بأنّه الفيلسوف الحكيم،و انّه يشهد له بالتفوّق كلّ من الشريف الجرجاني و صدر الدين الشيرازي،الذي أكثر النقل عنه في حاشية شرح التجريد،و خاصة في مباحث الجواهر و الأعراض.

و من آثاره شرح نهج البلاغة،و فيه من المباحث الفلسفية و العرفانية الشيء الكثير،و غير ذلك من التأليفات.

4.العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهر(المتوفّى عام 726ه):ولد في بيت عريق بالعلم و الدين،و من أُسرة عربية صحيحة،و في جوّ فيه حركة علمية عارمة،درس العلوم العقلية و الفلسفية عند الفيلسوف نصير الدين الطوسي.

و من كتبه الفلسفية:نهاية المرام،و كشف الغطاء من كتاب الشفاء لابن سينا في الفلسفة،القواعد و المقاصد في المنطق،الطبيعي، و الإلهي،إلى غير ذلك من الآثار.

5.قطب الدين أبو جعفر محمد بن محمد الرازي (الذي توفّي في دمشق عام 766ه):و هو من أئمّة المنطق و الفلسفة و غيرهما.و من أشهر من ظهر في القرن الثامن من العلماء،و اشتهر بشرحه على كتاب«الشمسية»و على كتاب«المطالع»في المنطق،كما اشتهر بكتابه (المحاكمات) بين شارحي (الإشارات) في الفلسفة

ص:370

و الشرحان هما:لنصير الدين الطوسي و الإمام فخر الدين الرازي.

6.غياث الدين الشيرازي الأمير منصور بن صدر الدين الشيرازي الحسين الدشتكي،توفّي في شيراز عام 941ه.

و هو من العلماء الذين ظهروا في القرن العاشر الهجري و اشتهر بالفلسفة و الكلام و المنطق و الفلك و الرياضيات و غيرها،و من الذين خلفوا آثاراً قيمة،و مؤلّفات عديدة في أنواع المعرفة.

7.الداماد،السيد محمد باقر الحسيني الاسترآبادي المعروف بالداماد (المتوفّى 1040ه):شخصية علمية مرموقة في جوانب الفلسفة و المنطق،و قد تخرج على يديه جملة من الفلاسفة الكبار،منهم:

الفيلسوف صدر المتألّهين الشيرازي صاحب الأسفار.

و الفيلسوف عبد الرزاق اللاهيجي.

و الحكيم ملا محسن الفيض الكاشاني.

و من آثاره:القبسات،الصراط المستقيم،الحبل المتين،كتاب خلسة الملكوت،تقويم الإيمان،الأُفق المبين....

8.صدر الدين الشيرازي محمد بن إبراهيم المعروف بصدر المتألّهين(المتوفّى عام 1050ه):أعظم فيلسوف إسلامي ظهر في القرن الحادي عشر للهجرة،و أكبر حكيم إشراقي،أوضح طرق الفلسفة الإشراقية،و المشائيّة،و أزال كثيراً من الفروق الماثلة بين الفلسفتين.و أسّس فلسفة اشتهرت بالحكمة المتعالية.و إليك شيئاً من خصائصها و أفكارها الابكار.

1.و إنّ من أياديه على أبناء الفلسفة أنّه أتى بنظام بديع في المسائل

ص:371

الفلسفية،فقدّم ما حقّه التقديم و أخّر ما حقّه التأخير،فأصبحت المسائل الفلسفية،كالمسائل الرياضية يستمد البحث الثاني من ماضيه.

2.و لقد توفّق رحمه الله كل التوفيق في الجمع بين الآراء الباقية من أفلاطون (مؤسّس مدرسة الإشراق) و تلميذه الجليل أرسطو (مبتكر منهج المشاء) و كان الأوّل من المعلمين داعياً إلى تهذيب النفس و تصفية الباطن،قائلاً بأنّ الطريق الوحيد إلى اقتناص شوارد الحقائق و اكتشاف دقائق الكون هو هذا المنهج ليس غير،و كان الثاني منهما مخالفاً له في أساس منهجه،قائلاً بأنّ الدليل للوصول إلى الحقائق المكنونة،و الدقائق المجهولة،هو التفكير و الاستدلال و البرهنة الصحيحة،فكان يخطو على ضوء البرهان العقلي من مقدمة إلى أُخرى،إلى أن يصل إلى الحقيقة التي يتوخّاها بسيره النظري.

و لم يزل التشاجر قائماً على ساقيه بين العلمين و أتباعهما في اليونان و الاسكندرية و أوربا في القرون الوسطى،إلى أن سرى هذا الاختلاف إلى الفلاسفة الإسلاميين،و هم بين مشائي لا يقيم للإشراق وزناً،و إشراقي لا يجنح إلى فلسفة المشاء.

و قد قضى مؤسّسنا الشيرازي على هذا التشاجر و النقاش الذي أشغل أعمار الفلاسفة من الأغارقة و المسلمين طوال هذه القرون و الأجيال البالغة إلى ألفي سنة،فختم بأفكاره و أسلوبه،و نهجه،على هذه المناظرات،و من كان له إلمام بأساسه الرصين يعرف كيف رفع هذا المبتكر الفذّ تلك المشاجرات،و كيف ألغى بالأُصول المحرّرة تقابل المسلكين،و تضاربهما،بحيث لا يكاد يصحّ بعد هذه الأُصول أن يعد أحدهما مقابلاً للآخر.

3.و إنّه قد حاز قصب السبق في ميدان الابتكار على فلاسفة الأغارقة من

ص:372

اليونانيين،و أُمّة كبيرة من المسلمين،فجاء بأفكار عالية جديدة على عهده لا توجد في زبر الأوّلين و لا في خواطر الآخرين،و ضمّ إلى تلك الأنظار نتائج جهود أُمّة كبيرة من الأُمّة الإسلامية و خلاصة دروسهم العالية و محاضراتهم القيّمة،و لباب مجاهداتهم طوال القرون الثمانية منذ ظهور الفلسفة في البيئات الإسلامية إلى عصر المؤسّس.

إنّ الأُصول التي اعتمد عليها الفيلسوف الشيرازي في صياغة فلسفته و التي أوجدت تحوّلاً جذرياً في الفلسفة أسفرت عن نتائج باهرة في حقل العقائد،و هي كالتالي:

1.أصالة الوجود.

2.اشتراك الوجود.

3.اتّحاد جوهر العاقل و المعقول.

4.بسيط الحقيقة كلّ الأشياء.

5.الحركة الجوهرية.

6.فعلية كلّ مركب بصورته لا بمادته.

7.النفس جسمانية الحدوث روحانية البقاء.

8.اتّحاد العلّة مع المعلول بالحمل الحقيقي و الرقيقي.

9.النفس في وحدتها كلّ القوى.

10.انّ العلم لا جوهر و لا عرض و إنّما هو نحو من الوجود.

ص:373

آثاره و مؤلفاته

لسيدنا صدر المتألهين آثار و مؤلفات نشير إلى عناوينها:

1.الأسفار الأربعة:و ربّما يطلق عليها:الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية،و هذا الكتاب هو المرجع لباقي مؤلفاته لا سيما:كتابيه المبدأ و المعاد،و المشاعر،و قد طبع في إيران على الحجر في أربعة مجلّدات كبار سنة 1282ه،يقع مجموعها في 926 صفحة بالقطع الكبير، و على الأجزاء الثلاثة تعاليق المحقّق السبزواري،و الأسفار جمع سفر-بفتح السين و الفاء-و يراد به السياحة العقليّة الأربعة التي نوّه إليها في مقدّمة الكتاب،و هي:

الأوّل:السفر من الخلق إلى الخلق.

الثاني:السفر بالحقّ في الحقّ.

الثالث:السفر من الحقّ إلى الخلق بالحقّ.

الرابع:السفر بالحقّ في الخلق.

و قد أُعيد طبعه بصف جديد في تسعة أجزاء عام 1384ه مزيّناً بتعليقات المحقّق السبزواري و أُستاذنا الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي (1321- 1402ه)،و عليها تقديم بقلم الشيخ العلاّمة محمد رضا المظفر.

2.المبدأ و المعاد:طبع عام 1314ه و هو في الفنّين:الربوبيات و المعاد،جمع فيه بين مسلكي أهل البحث و العرفان.

3.الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية:لخّص فيه آراءه في المسائل الحكمية،طبع عام 1286ه.

4.المشاعر:طبع عام 1315ه و فيه حصيلة ما أسّسه من الأُصول في

ص:374

الفلسفة.

5.الحكمة العرشية على الطريقة العرفانية:طبع مع المشاعر.

6.أسرار الآيات و أنوار البيّنات في معرفة أسرار آيات اللّه تعالى و صنائعه و حكمه على الطريقة العرفانية مع تطبيق الآيات القرآنية على أكثر،بحوثه مرتّبة على مقدّمة و ثلاثة أطراف كلّ طرف ذو مشاهد،الطرف الأوّل في علم الربوبية،و الثاني في أفعاله تعالى،و الثالث في المعاد، طبعت في إيران مكرراً.

7.شرح الهداية الأثيرية:طبع عام 1313ه.

8.شرح إلهيات الشفاء:نهج فيه منهج المتن،طبع بالقطع الكبير عام 1303 ه مع إلهيات الشفاء في مجلّد واحد.

9.رسالة الحدوث:رسالة مبسوطة في مسألة حدوث العالم،طبع عام 1302ه.

10.كتاب مفاتيح الغيب:طبع مع شرح أُصول الكافي.

إلى غير ذلك من الآثار و المؤلّفات إلى أن لقى ربّه في سفره إلى الحجّ،و دفن في مقابر النجف الأشرف.

يصفه السيد حسين البروجردي في أُرجوزته الرجالية بقوله: ثمّ ابن إبراهيم صدر الأجلّ

ص:375

ص:376

5

اشارة

الفقه الإسلامي

و

أدواره التاريخية

(1)

التشريع الإسلامي ثمرة ناضجة لجهود العلماء عبر القرون من عصر الصحابة إلى يومنا هذا،و قد مرّ الفقه الإسلامي بأدوار مختلفة يمكن تلخيصها فيما يلي:

1.الدور الأوّل:عصر الصحابة و التابعين

امتدّ هذا الدور من رحلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى أوائل القرن الثاني،و كان الصحابة و التابعون فيه يصدرون عن الكتاب و السنّة،و إذا لم يجدوا حلولاً شرعية للحوادث المستجدة اجتهدوا في حلول مناسبة،صارت فيما بعد النواة الأُولى لنموّ الفقه و تكامله.

2.الدور الثاني:عصر ظهور المذاهب الفقهية

أثمرت الجهود المضنية في هذا الدور عن تأسيس مذاهب فقهيّة اتّسم كلّ

ص:377


1- 1) .أُلقيت في آكادمية العلوم المغربية في الرباط في 1425/1/3 ه.ق.

منها بأُسلوب خاص،و قد كتب لبعضها البقاء إلى يومنا هذا.

و قد استمرّ هذا الدور إلى نهاية القرن الثالث و شيئاً من الرابع.

3.الدور الثالث:عصر التخريج و التفريع

لمّا ظهرت المذاهب الفقهية في العراق و الشام و مصر و غيرها،و حظي بعضها بانتشار واسع،كرّس خريجو هذه المذاهب جهودَهم للتخريج و التفريع إلى حدٍّ لم يكن له مثيل في العصور السابقة.و أُلّفت في هذه الفترة موسوعات فقهية تحمل ذلك الطابعَ.

فمن الأحناف:أبو بكر الجصّاص صاحب تفسير آيات الأحكام(المتوفّى عام 370ه)،و أبو الحسن القدوري البغدادي(المتوفّى428ه) صاحب كتاب التجريد و هو يشتمل على الخلاف بين أبي حنيفة و الشافعي.

و من المالكية:أبو الوليد محمد بن رشد القرطبي زعيم فقهاء وقته بالأندلس و المغرب(المتوفّى سنة 520ه)،و القاضي أبو الفضل عباس بن موسى(المتوفّى سنة 541ه) له كتاب ترتيب المدارك و تقريب المسالك.

و من الشافعية:القاضي أبو حامد المروزي صاحب كتاب الجامع و شرح مختصر المزني (المتوفّى عام 363ه)،و أبو المعالي عبد الملك بن عبد اللّه الجويني(المتوفّى عام 478ه) مؤلف النهاية في الفقه،و البرهان.

و من الحنابلة:أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي(المتوفّى عام 431ه) مؤلف الفصول المسمى ب«كفاية المفتي»،و محمد بن عبد اللّه السامري(المتوفّى عام 616ه) مؤلف«المستوعب».

ص:378

إلى غير ذلك من أعلام و فطاحل و أقطاب في الفقه،و كلّ برع في التخريج على مذهب إمامه.

4.الدور الرابع:عصر الجمود و الانحطاط

بدأ هذا الدور أواسط القرن السابع عقب إقفال باب الاجتهاد و حصر المذاهب الفقهيّة في الأربعة المعروفة.

يقول العلاّمة المقريزي و هو يصف هذا الوضع المأساويّ:فاستمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 665ه،حتّى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة،و عودي من تمذهب بغيرها،و أنكر عليه،و لم يولَّ قاض و لا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلّداً لأحد هذه المذاهب،و أفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتّباع هذه المذاهب و تحريم ما عداها، و العمل على هذا إلى اليوم. (1)

فقد أخذ الفقه في هذا الدور بالضمور و الجمود و الاكتفاء بنقل ما كان موجوداً في الكتب الفقهية للمذاهب دون ما مناقشة،و كانت وظيفة الفقيه تدريس المتون الفقهية و التحشية و التعليق عليها،دون أن يخرج عن إطار المذهب الذي ينتحله،و قد استمر هذا الدور إلى أواخر القرن الثالث عشر.

و يصف الأُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء القرن السابع و ما بعده،بقوله:في هذا الدور أخذ الفقه بالانحطاط،فقد بدأ في أوائله بالركود و انتهى في أواخره إلى الجمود،و قد ساد في هذا العصر الفكر التقليدي المغلق و انصرفت الأفكار عن تلمّس العلل و المقاصد الشرعية في فقه الأحكام إلى الحفظ الجاف

ص:379


1- 1) .الخطط المقريزية:344/2. [1]

و الاكتفاء بتقبل كلّ ما في الكتب المذهبية دون مناقشة،و طفق يتضاءل و ينضب ذلك النشاط الذي كان لحركة التخريج و الترجيح و التنظيم في فقه المذاهب،و أصبح مريد الفقه يدرس كتاب فقيه معين من رجال مذهبه فلا ينظر إلى الشريعة و فقهها إلاّ من خلال سطوره بعد أن كان مريد الفقه قبلاً يدرس القرآن و السنّة و أُصول الشرع و مقاصده.و قد أصبحت المؤلّفات الفقهية-إلاّ القليل-أواخر هذا العصر اقتصاراً لما وجد من المؤلفات السابقة أو شرحاً له فانحصر العمل الفقهي في ترديد ما سبق و دراسة الألفاظ و حفظها و في أواخر هذا الدور حل الفكر العامي محل الفكر العلمي لدى كثير من متأخّري رجال المذاهب الفقهية. (1)

إنّ إقفال باب الاجتهاد في أواسط القرن السابع ليس معناه انّ المجتمع الإسلامي قد خلا من أي مجتهد مطلق،و إنّما المراد أنّ الطابع السائد على المجتمع الإسلامي هو تقليد الفقهاء الأربعة،و إلاّ فقد وجد خلال هذه القرون من اتّسم اجتهاده بالاجتهاد المطلق،مثل:

1.تقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي،القاضي السبكي (683- 756ه).

2.عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي،القاضي السبكي(727- 771ه).

3.أحمد بن علي بن حجر العسقلاني(773- 852ه).

4.جلال الدين السيوطي (848- 911ه).

ص:380


1- 1) .المدخل الفقهي العام:197/1- 198.

5.شيخ الإسلام أبي يحيى زكريا بن محمد الأنصاري(823- 926ه).

6.أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي(909- 974ه).

5.الدور الخامس:عصر عودة النشاط الفقهي

اشارة

لقد كان للحضارة و التقدّم الصناعي الذي ارتجّت بها البلدان الأُوروبية و تأثّر بها الشرق،خصوصاً فيما يرجع إلى العلاقات الاجتماعية و السياسية،بل الأحوال الشخصية،فواجه المجتمع الإسلامي مسائل مستجدة لم يكن لها مثيل أو سابقة في المذاهب و الكتب المدوّنة،و هذا ما دعا بعض الفقهاء إلى تجديد نشاطهم و خلع ثوب الركود عن أنفسهم بفتح فروع فقهية في الجامعات و المؤسسات التعليمية و عقد المؤتمرات.

و كان من ثمرات ذلك أنّ اللجنة الفقهية في الدولة العثمانية أصدرت في سنة 1286ه مجلة الأحكام العدلية بصفة قانون مدني عام من الفقه الحنفي،و قسّمتها إلى كتب و كلّ كتاب إلى أبواب أوّلها البيوع و آخرها القضاء،و كان هذا هو النواة الأُولى لتطوير الفقه في هذا العصر و ما بعده، و تبعه إنشاء المجامع الفقهية و مجالس الإفتاء و قيام العلماء بالاجتهاد في المسائل المستحدثة و الوقائع الجديدة،التي تشمل موضوعات متعدّدة مثل:التأمين،و الشركات،و الأسهم،و زكاة الأسهم،و أطفال الأنابيب،و موت الدماغ،و التشريح،و قامت الدعوة إلى الاجتهاد الجماعي مقام الاجتهاد الفردي.

إلى هنا خرجنا ببيان الأدوار التي مر بها الفقه السنّي بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا.

و أمّا الأدوار التي مرّ بها الفقه الشيعي فالحديث فيها ذو شجون،و قد ألّفتُ

ص:381

في هذا الموضوع كتاباً خاصاً باسم«أدوار الفقه الإمامي»و هو مطبوع و منتشر.

اقتراحات
اشارة

نحن في هذا الوقت السعيد و أمام أصحاب الفضيلة و الأساتذة نقترح أُموراً هامة لعلّها تقع موقع القبول،و إذا كان للأساتذة ملاحظات عليها فنحن على استعداد لسماعها و دراستها،و هي:

1.فتح باب الاجتهاد المطلق

إذا كان الاجتهاد هو بذل الجهد في استنباط الأحكام عن أدلّته الشرعية فهذا لا يختص بزمان دون زمان و لا بفئة دون فئة،و ليس فهم الكتاب و السنّة ممّا وهبه اللّه سبحانه للسلف دون الخلف،فالكلّ أمام اللّه سواء،فكلّ من بلغ مرتبة يستطيع بها استخراج الحكم الشرعي من أُصوله فعليه العمل بما استنبط و يحرم عليه تقليد الآخرين و إن بلغ المقلَّد ما بلغ من العلم و الفقاهة،لأنّه حسب اجتهاده يخطّئ الطرف الآخر، فكيف يمكنه ترك ما يعتقده صحيحاً و الأخذ بما يعتقده غير صحيح.

إنّ الاجتهاد المطلق يعطي للدين خلوداً،و لقوانينه دواماً و يجعله صالحاً لعامّة الظروف و البيئات،فهل يصح لنا الإعراض عن استثمار هذه الموهبة الإلهية؟

إنّ الاجتهاد المطلق يجعل النصوص الشرعية حيّة متحرّكة نامية متطورة تتماشى مع نواميس الزمان و المكان،فهل يجوز في منطق العقل ترك هذه الإيجابيات؟! و قد كان المسلمون الأوائل يعملون بفقه الآخرين كالصحابة و التابعين و لم يكن يومذاك أي أثر من المذاهب الأربعة،و لا محيص إلاّ أن نقول:إنّ

ص:382

الواجب هو العمل بالأحكام الشرعية و الاجتهاد طريق إليها و لا فرق بين طريق و طريق.و نحن نشكره سبحانه و نحمده على تواجد طائفة من العلماء قد تبنّوا في الفترة الأخيرة فتح باب الاجتهاد المطلق و الخروج عن نطاق المذاهب المحدودة و قد كتبوا في ذلك رسائل و كتيبات. (1)

و هناك كلمة قيمة لابن قيّم الجوزية أماطت الستر عن وجه الحقيقة،قال:

«لا واجب إلاّ ما أوجبه اللّه و رسوله،و لم يوجب اللّه و لا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأُمّة فيقلّده دينه دون غيره،و قد انطوت القرون الفاضلة مبرّأة مبرأ أهلها من هذه النسبة-إلى أن قال:-و هذه بدعة قبيحة حدثت في الأُمّة لم يقل بها أحد من أئمّة الإسلام،و هم أعلى رتبة و أجل قدراً،و اعلم باللّه و رسوله من أن يُلزموا الناس بذلك،و أبعد منه قول من قال:يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء،و أبعد منه قول من قال:يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة».

2.تدريس الفقه المقارن في الجامعات

بذل فقهاء الإسلام جهداً كبيراً في تنمية بذرة الفقه و رعايتها حتى صارت شجرة طيبة تؤتي أُكلها كلّ حين،من غير فرق بين فقهاء طائفة و أُخرى،فعلى ضوء ذلك لا محيص من التعاون العلمي و استضاءة كلّ طائفة بما لدى الطوائف الأُخرى.و قد قيل:إنّ الحقيقة بنت البحث، و هذا المثل السائر يوضّح أنّ الوقوف على الحقيقة و إماطة الستر عن وجهها رهن النقاش العلمي و تبادل الآراء،لأنّ

ص:383


1- 1) .لاحظ مجلة رسالة الإسلام لجماعة دار التقريب،العدد الأوّل من السنة الخامسة،و دائرة معارف القرن الرابع عشر لفريد وجدي،مادة(جهد)،و لاحظ كتابنا مفاهيم القرآن:280/6. [1]

ذلك أشبه بالتقاء الأسلاك الكهربائية،فكما أنّ الضوء يتفجّر حينما يلتقي قطبي الكهرباء السالب و الموجب،فكذلك نور الحقيقة يتّسع أمامنا بشكل أبهج و أنور عند تبادل الأفكار و الآراء.

و على ضوء ذلك،نقترح دراسة الفقه الإمامي في جامعات المغرب دراسة معمّقة بيد أساتذته،و قد قمنا بتنفيذ هذا الاقتراح في الجمهورية الإسلامية الإيرانية حيث يدرس هناك فقه بعض المذاهب في جامعاتنا جنباً إلى جنب مع الفقه الإمامي.

إنّ الفقه الإمامي يستمد في استنباط الأحكام من الكتاب و السنّة التي وصلت إليهم عن طريق رجال صادقين و على رأسهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام الذين هم قرناء الكتاب في حديث النبي المتواتر -:«إنّي تارك فيكم الثقلين:كتاب اللّه و عترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا»فالعترة الطاهرة عند الإمامية عيبة علم الرسول و حفظة سنّته.

ففي ظل التعاون الفقهي المقترح يتمكّن فقهاء السنّة من رفد بحوثهم الفقهية بالزاخر الطيب من السنن النبوية الواردة عن طريق أئمّة أهل البيت،و هي ليست بقليلة.

3.الرجوع إلى المجتهد الحي

إنّ فقهاء الإسلام أعلام الهدى و مصابيح الدجى،لا فرق بين من مات منهم،و من هو حيٌ يُرزق.غير أنّ المجتهد الحي أعرف بالظروف السائدة في المجتمع،و انطلاقاً من قول القائل:«الشاهد يرى ما لا يراه الغائب»،فهو يعرف مقتضيات الزمان و المكان،على نحو لو كان الفقيه الفقيد حاضراً في ذلك الزمان لربما عدل عن رأيه و أفتى بغير ما أفتى به سابقاً،و هذا ما يدفع الفقهاء إلى ترويج

ص:384

تقليد المجتهد الحي أو اللجنة الفقهية المتشكّلة من الأحياء.

نعم هذا الاقتراح ربما يكون ثقيلاً على من اعتاد تقليد غير الأحياء و لكنّه ينسجم مع الفطرة الإنسانية التي بُنيت عليها أُسس الدين الإسلامي،و ليس ذلك أمراً بعيداً عن حياة البشر،فإنّ المجتمع في حاجاته يرجع إلى الأطباء و المهندسين الأحياء،لأنّهم أعرف بحاجات العصر و بالدواء و الداء.

رحم اللّه الماضين من علمائنا و حفظ اللّه الباقين منهم

ص:385

ص:386

الفصل الخامس:التراجم

اشارة

1.المحقّق الكركي

2.عبد العظيم الحسني

ص:387

ص:388

1

اشارة

المحقّق الكركي

رجل العلم و السياسة

العلماء حصون الإسلام و قلاعه المنيعة و عزّ الدين،فلم يزل الدين مصوناً ببيانهم و بنانهم من هجمات الأعداء و دسائس الأغيار.

العلماء هم البدور المنيرة،و المصابيح الزاهرة،و الأنجم الساطعة في غياهب الدُّجى و متاهات البيداء.

العلماء هم الذين ينفون عن الدين تأويل المبطلين و تحريف الغالين و انتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد.

و بالتالي العالم في المجتمع كالشمعة المضيئة،ينير الدرب بإذابة ذاته و شخصه و يعبِّد الطريق للسالكين.

هكذا شأن العلماء و وصفهم.و حياتهم طافحة بالتوضيحات و بذل النفس و النفيس في طريق هداية الأُمّة.

و قد زخر تاريخ أُمّتنا المجيدة بعلماء كبار أخذوا على عاتقهم صيانة الشريعة عن الدس و الانحراف و هداية المجتمع إلى الحقّ اللباب، و قد بذلوا في سبيل ذلك كلّ ما يملكون حتّى أنّ قسماً منهم خاض غمار الشهادة لغاية حفظ

ص:389

الدين.

نعم التاريخ مليء بذكر الحوادث الحلوة و المرة،فالحلوة منها هي حياة العلماء و المصلحين المحنكين الذين تركوا آثاراً و مواقف في بيئتهم و ثنايا أُمّتهم.

و لسنا غالين إذا قلنا:إنّ حياة هذه الجماعة هي الّتي تمثل السطور الذهبية للتاريخ،فعلى الناشئة الاهتمام بتراجمهم و الوقوف على ما تركوا من بصمات في حياة أُمّتهم.

***

إنّ الزعيم الكبير أُستاذ الفقهاء و المحقّقين الشيخ علي بن عبد العالي الكركي (عليه سحائب الرحمة و الرضوان) الّذي نحن بصدد الإشارة إلى جانب من جوانب حياته،أحد هؤلاء الأفذاذ الذين كتبوا صحائف تاريخهم بخدماتهم الجليلة في المجالات المختلفة:العلمية و الاجتماعية و السياسية.

و ليس هذا من العجب،إذ هو نبغ في أرض خصبة بالعلم و الثقافة و عرفت بالصمود و الكفاح منذ أمد بعيد،فهو وليد جبل عامل الّذي أطل على العالم بعلمائه و مفكريه و أبطاله و مجاهديه الذين نذروا أنفسهم للحقّ و وقفوا حياتهم على إعلاء كلمة اللّه في الأرض،و لهم في كلّ زمان زعيم يُقتدى به.

لو افترضنا انّ جبل عامل كان جبلاً من ذهب أو فضة أو سائر الأحجار الكريمة لما كان له تلك القيمة الّتي يثمنها التاريخ،و ذلك لأنّ الذهب و الفضة زهرتا الحياة الدنيا «وَ الْباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً».

و قد شهد غير واحد من المؤرّخين بدوره في ضخّ الأُمّة بالعلماء و الفقهاء الأعلام،و هذا هو القاضي الشهيد التستري يقول في«مجالس المؤمنين»:

ص:390

ما من قرية هناك إلاّ و قد خرج منها جماعة من علماء الإمامية و فقهائهم. (1)

و قد نقل الشيخ الحر العاملي أنّه سمع من بعض مشايخه:

اجتمع في جنازة في قرية من قرى جبل عامل سبعون مجتهداً في عصر الشهيد و ما قاربه.

ثمّ يقول:إنّ عدد علمائهم يقارب خمس عدد علماء المتأخّرين،و كذا مؤلفاتهم بالنسبة إلى مؤلفات الآخرين مع أنّ بلادهم بالنسبة إلى باقي البلدان أقلّ من عُشر العشر،أعني:جزءاً من مائة جزء من البلدان. (2)

و ما عساني أقول في بلاد ذكرها الإمام الصادق عليه السلام حيث إنّه سئل كيف يكون حال الناس في حال قيام القائم عليه السلام،و في حال غيبته،و مَن أولياؤه و شيعته المصابين منهم،المتمثلين أمر أئمّتهم و المقتفين لآثارهم و الآخذين بأقوالهم؟

قال عليه السلام:«بلدة بالشام».

قيل:يا ابن رسول اللّه إنّ أعمال الشام متسعة؟ قال:«بلدة بأعمال الشقيف أو تون و بيوت و ربوع تعرف بسواحل البحار و أوطئة الجبال».

قيل يا ابن رسول اللّه هؤلاء شيعتكم؟ قال عليه السلام:«هؤلاء شيعتنا حقاً،و هم أنصارنا و إخواننا و المواسون لغريبنا و الحافظون لسرنا،و اللينة قلوبهم لنا و القاسية قلوبهم على أعدائنا،و هم كسكان السفينة في حال غيبتنا،تمحل البلاد دون بلادهم،و لا يصابون بالصواعق،يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر،و يعرفون حقوق اللّه و يساوون بين إخوانهم،أُولئك المرحومون المغفور لحيهم و ميتهم

ص:391


1- 1) .مجالس المؤمنين:31.
2- 2) .أمل الآمل،القسم الأوّل:15.

و ذكرهم و أنثاهم،و لأسودهم و أبيضهم و حرّهم و عبدهم و انّ فيهم رجالاً ينتظرون،و اللّه يحبّ المنتظرين».

ثمّ يقول شيخنا الحرّ العاملي بعد نقل هذا الحديث:

و إن لم أجده في كتابٍ معتمد لكنّه لم يتضمن حكماً شرعياً و هناك قرائن على ثبوت مضمونه و الصفات المذكورة صفات أكثرهم و أغلبهم. (1)

العامليون في إيران

حمل لواء الدولة الشيعية في إبّان ظهورها لفيف من علماء جبل عامل الذين لم يدّخروا جهداً في تعزيز كيانها و تقويمها و تثقيفها بالثقافة الشيعية و لولاهم لما كان لها حظّ من الرقي و التقدّم في مجال الدين و الثقافة،فأوّل من هاجر إليها الشيخ المحقّق الكركي الذي أُقيم لتكريمه هذا المؤتمر الكبير.

و هو بهذه الهجرة قد فتح الباب للآخرين،فاقتفوا أثره و يمّموا وجهوهم شطر إيران،و إليك أسماء بعض المهاجرين الذين كان لهم دور في تطوير الدولة و تثقيف الشعب الإيراني و نشر الولاء بينهم:

1.الشيخ حسين بن عبد الصمد الجباعي (918- 984ه) والد الشيخ البهائي،هاجر إلى إيران بعد شهادة أُستاذه الشهيد الثاني عام (966ه)،و عيّن شيخاً للإسلام في قزوين و نُقل إلى مشهد ثمّ إلى هراة ثمّ غادر إيران عام 983ه إلى البحرين و توفّي هناك بعد سنة.

2.الشيخ محمد بن الحسين بن عبد الصمد(953- 1030ه) المشتهر ببهاء الدين العاملي،و هو أحد نوابغ العالم فقد عُين شيخاً للإسلام في اصفهان

ص:392


1- 1) .أمل الآمل:16/1.

أيّام حكم الشاه عباس الكبير أعظم ملوك الصفوية فأقام فيها منشآت و مساجد و مدارس.

و يشهد على علو كعبه،آثاره و مصنفاته،كما تشهد على تبحره في العرفان،منظومته الّتي يصف فيها الحب الإلهي بقوله: عشاق جمالك قد غرقوا

3.الشيخ لطف اللّه بن عبد الكريم الميسي(المتوفّى عام 1032ه).

حيث بنى له الشاه عباس الكبير المسجد المعروف بمسجد الشيخ لطف اللّه.و هو يعدّ من آثار اصفهان الجميلة.

4.الحرّ العاملي محمد بن الحسن(1030- 1104ه).

المحدّث الإمامي الشهير صاحب وسائل الشيعة،و أحد كبار علماء الإمامية.و لم يزل كتابه«وسائل الشيعة»مرجعاً للعلماء و الفقهاء إلى يومنا هذا.

إلى غير ذلك من فطاحل العلماء الذين كان لهم مواقف مشهودة في تسيير الدولة الصفوية في طريق الكمال.

و لا يظنّ القارئ الكريم انّ عدد المهاجرين يقف على ما ذكرنا،بل انّ عددهم أكثر من ذلك و هذا هو الشيخ جعفر المهاجر«حفظه اللّه» قد ذكر في كتابه«الهجرة العاملية إلى إيران في العصر الصفوي»أسماء سبع و تسعين عالماً

ص:393

هاجروا إلى إيران و غذّوا بعلومهم الشعب الإيراني.

و بحقٍّ أنّ الأُمّة الإيرانية بعامة طبقاتها مرهونة في ولائها و ثقافتها الدينيّة لهؤلاء المهاجرين الذين تركوا بلادهم و أوطانهم حبّاً للمبادئ و رغبة في إقامة دولة الحق.

البلاء للولاء

و بما أنّ«البلاء للولاء»فقد شهدت تلك المنطقة-منطقة جبل عامل-الموالية لأئمّة أهل البيت عليهم السلام اضطهاداً و سياسةً دموية في العهدين:العثماني و الفرنسي و قد أُريقت فيها دماءٌ طاهرة و هتكت حرمات كثيرة و قد سبب ذلك مهاجرة لفيف منهم إلى ديارٍ بعيدة.

و هذا هو العالم الشاعر إبراهيم يحيى يصف مظالم«الجزار»و فظائعه على الشيعة في جبل عامل تلك المنطقة الخصبة بالعلم و الفضل، و جمال الطبيعة و كانت و لم تزل داراً للشيعة منذ عصور،تلمع كشقيقتها«حلب»في خريطة الشامات،و قد صوّر الشاعر ما جرى عليهم في قصيدته على وجه يدمي الأفئدة و القلوب،و قد هاجر من موطنه إلى دمشق و نظم فيها القصيدة الميميّة نقتطف منها ما يلي: يعزّ علينا أن نروحَ و مصرنا

ص:394

و كم علم في عامل طُوّحت به

و مع ذلك كلّه نرى الصمود و الكفاح مكتوباً على جباه العامليين حيث إنّ سيطرة أمثال الجزّار و أشباهه لم يثن عزمهم عن الاستمرار في الدفاع عن مبدئهم و شرفهم و كيانهم.كما أنّهم لم يغترّوا أخيراً بوعود الأعداء،و تلقوها في كلّ عصر و زمان و عوداً جوفاء و خدعاً فارغة،و هذا هو علاّمة العلماء و سيّد المؤرخين السيّد محسن الأمين قدس سره يصف خداعهم و وعودهم في هذين البيتين: قالوا الشعوب نَفُكّها من رقِّها

هكذا كان الأجداد في الدفاع عن العز و الشرف و قد ورثه الأبناء كابراً عن كابر.

ص:395

و كفانا في البرهنة على ذلك مشاهدة المقاومة الإسلامية الّتي يقودها أبناء هذه التربة الطيبة،و ما يبثّه منارها من روح الجهاد و عزم الكفاح.

نعم هذا العطاء الثرّ للعاملين في كلّ عصر و زمان،إنّما هو ثمرة اقتفائهم لفقهائهم و علمائهم الواعين بالظروف و العارفين بمسئولياتهم الملقاة على عاتقهم في كلّ زمان،قال الإمام الصادق عليه السلام:«العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس».

و على رأس هؤلاء و مقدّمهم زعيم الإمامية و محقّقها و مروّج مذهبها في زمانه علي بن الحسين بن علي بن محمد بن عبد العالي الكركي العاملي المعروف بالمحقّق الكركي و بالمحقّق الثاني،و يقال له علي بن عبد العالي اختصاراً،المولود عام 868ه و المتوفّى 940ه.

و تدلّ آثاره و تآليفه و مواقفه السياسية و الاجتماعية على أنّه كعبة العلم و مناره،و لجّة الفضل و تيّاره،عالم محقّق،و فاضل مضطلع،حاز قصب السبق في حلبات مختلفة،و ما من علمٍ من علوم الشريعة إلاّ و قد شرب من عذبه،و ما من فنٍ إلاّ خاض في أعماقه،فهو ذو همة قعساء تناطح السماء.

ففي مجال الكلام متكلم بارع له أفكاره و آراءه،و في مجال الفقه متخصص قليل النظير بل مبتكر في قواعده و أُصوله،و في مجال الدراية و الرجال فارس حلبتهما و مرتكز لوائهما،و في دور السياسة و قيادة الأُمّة قائد محنّك عارفٌ بزمانه و ظروفه،فلا غرو إذا وصفناه بقول الشاعر: هو البحر من أي النواحي أتيته فلجّته المعروف و الجود ساحله

كما لا عتب على اليراع إذا وقف عن تعريف شخصيته و تبيين مواقفه و تقييم آثاره.

إنّ الإلمام بحياة الشيخ الكركي بكافة جوانبها رهن كتابٍ مفرد،غير أنّا

ص:396

نشير في هذا المقال إلى زوايا خاصة من حياته العلمية و السياسية ليقف القارئ عن كثب على ما للشيخ من فضائل و مناقب و آثار و مؤلفات فتأتي ترجمته الإجمالية ضمن فصول:

الفصل الأوّل:في حياته الشخصية منذ ولادته إلى وفاته.

الفصل الثاني:كلمات الثناء في حقّ المحقّق.

الفصل الثالث:تصانيفه و مؤلفاته.

الفصل الرابع:آراؤه الفقهية.

الفصل الخامس:تلاميذه و المستجيزون منه.

الفصل السادس:حياته السياسية و الخدمات الّتي قدّمها للمجتمع.

ص:397

الفصل الأوّل:حياته الشخصيّة منذ ولادته إلى وفاته

اشارة

هو علي بن الحسين بن علي بن محمد بن عبد العالي العاملي،زعيم الإماميّة و مفتيها و مروّج مذهبها في عصره،المعروف بالمحقّق الكركي،و بالمحقّق الثاني،و يقال له علي بن عبد العالي اختصاراً،و ربما يشتبه بعلي بن عبد العالي بن محمد بن أحمد بن علي بن مفلح الميسي العاملي الشهير بابن مفلح(المتوفّى 938ه) أحد كبار فقهاء الإمامية و علمائها الربانيّين و هو والد زوجة الشهيد الثاني.

مولده،و تجواله في البلاد طلباً للعلم و الحديث

ولد في«كرك نوح»سنة 868ه،و بعد ما درس في مسقط رأسه الفقه الشيعي على يد كبار علمائها آنذاك،لم تقتنع نفسه الطموحة بما أخذ فشدّ الرحال إلى سائر البلدان الإسلاميّة،يقول الأفندي التبريزي:قد سافر إلى بلاد الشام ثمّ

ص:398

إلى بلاد مصر و أخذ عن علمائها. (1)

و قد صرح في بعض إجازاته لتلاميذه بذلك،يقول في إجازته المفصّلة للشيخ إبراهيم الخانيساريّ:و أمّا كتب أهل السنّة في الفقه،فإنّي أروي الكثير منها عن مشايخنا-رضوان اللّه عليهم-و عن مشايخ أهل السنّة،خصوصاً«الصحاح الستّة»و خصوصاً«الجامع الصحيح»للبخاريّ، و«صحيح أبي الحسن بن الحجّاج القشيريّ النيسابوريّ».

فأمّا روايتي لذلك عن أصحابنا فإنّما هي بالإجازة،و أمّا عن مشايخ أهل السنّة فبالقراءة لبعض المكمّلة بالمناولة،و بالسماع لبعض، و بالإجارة لبعض،فقرأت بعض«صحيح البخاري»على عدّة:

منهم:الشيخ الأجلّ العلاّمة،أبو يحيى زكريا الأنصاريّ،و ناولني مجموعة مناولة مقرونة بالإجازة،و أخبرني أنّه يرويه عن جمع من العلماء،منهم:قدوة الحفّاظ و محقّق الوقت أبو الفضل أحمد بن عليّ بن حجر،قال:

أنبأنا به العفيف أبو محمّد عبد اللّه بن محمّد بن محمّد بن سليمان النيسابوريّ،سماعاً لمعظمه،و إجازة لسائره،قال:

أنبأنا به الرضي أبو إبراهيم بن محمّد الطبريّ،أنبأنا به أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي حرقي،سماعاً إلاّ شيئاً يسيراً،قال:

أنبأنا به أبو الحسن عليّ بن حميد بن عمّار الطرابلسيّ،أنبأنا به أبو مكتوم عيسى بن الحافظ أبي ذرّ عبد بن أحمد الهرويّ،قال:

أنبأنا به أبي،قال:أنبأنا به أبو العبّاس أحمد بن أبي طالب ابن أبي النعم

ص:399


1- 1) .رياض العلماء:441/6. [1]

نعمة بن حسن بن عليّ بن بيان الصالحيّ الحجّار،عرف بابن الشحنة،سماعاً لجميعه،قال أيضاً:

و أنبأتنا به أُمّ محمّد ستّ الوزراء،وزيرة ابنة عمر بن أسعد بن المنجا التنوخيّة،سماعاً لجميعه إلاّ يسيراً مجبوراً بالإجازة،قالت:

أنبأنا به أبو عبد اللّه الحسين بن أبي بكر المبارك بن محمّد بن يحيى الزبيديّ،سماعاً،قال:

أنبأنا به أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعبة الشجريّ الهرويّ،سماعاً عليه لجميعه،قال:

أخبرنا به أبو الحسن عبد الرحمن بن محمّد بن المظفّر بن داود الداوديّ،قال:

أنبأنا به أبو محمّد عبد اللّه بن حمويه،أنبأنا أبو عبد اللّه محمّد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الغريريّ،قال:

أنبأنا به مؤلّفه الحافظ الناقد أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاريّ.

و أمّا«صحيح مسلم»فإنّي قرأت بعضه على الشيخ العلاّمة الرحلة عبد الرحمن بن الإبانة الأنصاريّ،بمصر في ثاني عشري من شعبان من سنة خمس و تسعمائة،و ناولني باقيه مناولة مقرونة بالإجازة.و له إسناد عالٍ مشهور بالصحيح المذكور،و سمعته إلاّ مواضع بدمشق بالجامع الأمويّ على العلاّمة الشيخ علاء الدين البصرويّ،و أجازني روايته و رواية جميع مروياته،و كذا سمعت عليه معظم مسند الفقيه الرئيس الأعظم محمّد بن إدريس الشافعيّ المطّلبيّ.

و أمّا موطأ الإمام العالم مالك بن أنس،نزيل دار الهجرة المقدّسة،فإنّي أرويه بعدّة طرق عن أشياخ علماء الخاصّة و العامّة،و كذا«مسند الإمام المحدّث الجليل

ص:400

أحمد بن حنبل»و«مسند أبي يعلى»و«سنن البيهقي»و«سنن الدارقطنيّ»و غير ذلك من المصنّفات الكثيرة الشهيرة،و قد اشتمل عليها مواضع و مظانّ هي معادنها،فليرجع إليها عند الحاجة. (1)

كما صرح بذلك أيضاً في إجازته للشيخ أحمد بن محمد خاتون العاملي قال:و قد أخذتُ عن علماء العامّة كثيراً من مشاهير كتبهم.

ففي الفقه مثل«المنهاج»للشيخ الإمام محيي الدين النواويّ،و مثل«الحاوي الصغير»للإمام عبد الغفّار القزوينيّ،و مثل«الشرحين الكبير و الصغير على الوجيز»للشيخ المحقّق الإمام عبد الكريم القزوينيّ،و غير ذلك.

و في الحديث مثل«الصحيحين»للإمامين الحافظين الناقدين البخاريّ و مسلم،و غيرهما من الصحاح،و مثل«المصابيح»للبغويّ،و «مسند الشافعي»و«مسند أحمد بن حنبل».

و في التفسير مثل«معالم التنزيل»للبغوي أيضاً،و«تفسير العلاّمة القرطبيّ»و«تفسير القاضي البيضاويّ»،و غير ذلك.

فبعض هذه بالقراءة،و بعضها بالسماع،و بعضها بالإجازة،و ربّما كان في بعض مع الإجازة مناولة.

و أسانيد هذه موجودة في متون الإجازات الّتي لي من أشياخ أهل السنّة،و بعضها مكتوبة بخطّي و عليها تصحيح من أخذتُ عنه،منهم بخطّه. (2)

ص:401


1- 1) .كشف الغمّة،مخطوط،نسخة مدرسة النمازيّ في خوي،رقم 161.كما في حياة المحقّق الكركي و آثاره:268/2.
2- 2) .أعيان الشيعة:137/6. [1]

كلّ ذلك يدلّ على أنّ المحقّق الكركي قد تحمل مشاق السفر إلى البلدان لتحمّل الحديث و غيره عن أساتذة الوقت.

عودته إلى كرك

ثمّ إنّه بعد ما طاف البلاد و أخذ ما احتاج إليه من العلوم عاد إلى كرك و بقي فيها فترة قصيرة،و قد شهد على اجتهاده و توسّعه في العلوم عالمان كبيران من أعيان العصر،هما:

1.علي بن أحمد بن محمد هلال الكركي العاملي الشهير بعلي بن هلال الجزائري(المتوفّى نحو عام 910ه)،أجازه عام 909ه قبل هجرته إلى العراق.و سيوافيك نصّ الإجازة في الفصل القادم.

2.إبراهيم بن الحسن الدراق الّذي هو أوثق مشايخ الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي-أحد المعارضين للمحقّق الكركي في بعض المسائل الفقهية الّتي لها طابع سياسي،كالخراج و صلاة الجمعة-،و أمّا اجازة الدرّاق للمحقّق الكركي فقد ذكر صاحب«الروضات»أنّه رأى هذه الإجازة،و تاريخها شهر رمضان سنة (909ه). (1)

و لم يكتفِ صاحبنا بذلك،بل قرّر الذهاب إلى النجف الأشرف المدرسة الكبرى للشيعة،فسار إليها و هو يحمل الإجازتين اللّتين تشهدان على علوّ كعبه و مكانته.

و لكن لم نجد في مصادر ترجمته ما يدلّ على حضوره أبحاث أحد من مشايخ النجف الأشرف،بل لعلّه غادر كرك لأجل نشر ما أخذه على طلاب تلك

ص:402


1- 1) .لاحظ:الذريعة:133/10. [1]

المدرسة.

نزل المحقّق الكركي على النجف الأشرف مدينة العلم و هو يدرِّس،و يفيض و يربي إلى أن احتلت جيوش الدولة الصفوية العراق، و دخل سلطانها بغداد في الخامس و العشرين من شهر جمادى الآخرة(عام 914ه)،و زار العتبات المقدّسة في كربلاء و النجف الأشرف ثمّ عاد إلى إيران.

و طبع الحال يقتضي انّه تعرّف في تلك الفترة على المحقّق الكركي،لأنّه الفقيه البارز المشار إليه بالبنان.

فلما عاد الملك إلى إيران أمر بإرسال الهدايا و الصلات إلى المحقّق الكركي حتّى أنّ المصادر تؤكد على أنّه كان يصل إليه في كلّ سنة سبعون ألف دينار شرعي لينفقها على الطلاب و المشتغلين. (1)

كان المحقّق الكركي يدرّس و يؤلف إلى أن وصلت إليه الدعوة من ملك الدولة الصفوية للتوجّه إلى إيران،فلبى دعوته لنوايا دينية، و بقصد تغيير مسيرة الدولة و السعي إلى إقامتها على أساس الموازين الشرعية،و بجعل الحوار الديني بديلاً عن منطق القوة و التسلّط،فأعدّ العدّة للهجرة إلى إيران في أواخر عام (916ه).

دخل المحقّق الكركي على الشاه إسماعيل بعد فتحه مدينة«هراة»،ثمّ استقر في مدينة مشهد المقدسة فألّف فيها الرسالة الجعفرية الّتي أتمّها في العاشر من جمادى الآخرة،كما انتهى من تأليف«نفحات اللاهوت»في السادس عشر من شهر ذي الحجّة سنة (917ه).

ص:403


1- 1) .روضات الجنات:360/4؛ [1]أعيان الشيعة:209/8. [2]

و ظل يرافق الملك في تجواله في البلاد،و تدلّ المصادر على وجوده في منطقة«سلطانية»التابعة لزنجان عام 918ه.و مع ذلك كلّه لم يكن النجاح حليفاً للمحقّق في جميع خطواته،و لم تحقّق له رحلته هذه ما كان ينشده من أهداف،لأنّ النوازع النفسية للملك و أخلاقه الخاصة عاقته عن التطوير الّذي كان يتوخّاه في ركائز الدولة،فلم يجد بدّاً من الرجوع إلى العراق في أواخر عام (919ه) أو عام (920ه).

الهجرة الثانية إلى إيران

عاد المحقّق إلى العراق بقلب موجَع و نفس حزينة،و مع ذلك كلّه كان يشعر بالارتياح،لأنّه أدى وظيفته الشرعية،فاستقر في النجف الأشرف مشتغلاً بالتدريس و التأليف و تربية الجيل كما يظهر من الإجازات الّتي أصدرها في تلك المرحلة لكثير من العلماء.

و قد توفّي الملك إسماعيل عام (930ه) و فُوِّض الأمر إلى ولده طهماسب الّذي كان صغيراً عند وفاة والده و لما بلغ استلم الحكم عام (936ه).و أوّل ما كان يحلم به الملك الجديد هو إعادة العراق لسيطرة الدولة الصفوية بعد ما انتزعه منها العثمانيون،فاحتل بغداد في الرابع و العشرين من شهر جمادى الأُولى سنة 936ه. (1)

ثمّ زار العتبات المقدسة في مدينة كربلاء و النجف و طلب من المحقّق الكركي صحبته،فهاجر إلى إيران في نفس السنة،و بقي فيها ثلاث سنوات و قد وصل الكركي في هذه المرحلة إلى قمة الهرم و حقّق ما كان يطلبه.

ص:404


1- 1) .أحسن التواريخ:153.

و كان الملك طهماسب على خلاف والده ذا صدر رحب،يحترم آراء و توجيهات المحقّق الكركي،و في ضوء ذلك أصدر الملك عام (936ه) بلاغاً أمر فيه كافة الأمراء و القادة بامتثال أوامره،و تطبيق إرشاداته.

و في هذا الجو الهادئ و القدرة غير المنازع عليها وجد الكركي أُمنيته فأخذ يوجه إلى حكّام الولايات رسائل مباشرة تتضمّن قوانين العدل و كيفيّة سلوك العمّال مع الرعيّة في أخذ الخراج و كميّته و مدّته،و أخذ يتجول في أنحاء المدن الإيرانية الواسعة،فيعزل من الولاة من لا يراه صالحاً لذلك،و يولي من يراه صالحاً للولاية.

و أمر بإنشاء المدارس و تقوية الحوزات العلميّة،و عيّن في كلّ مدرسة معلّماً يعلّمهم أحكام دينهم،كما أخذ هو على نفسه تعليم كبار رجال الدولة من الأمراء و القادة.

و تشهد الإجازات الّتي منحها لكثير من العلماء على أنّه كان يتجول في البلاد،حيث نرى أنّه أجاز للسيد محمد مهدي ابن السيد محسن الرضوي المشهدي في مدينة قم،كما أنّه أجاز لكمال الدين درويش محمد بن الحسن العاملي في مدينة أصفهان.

و مع أنّه أحرز نجاحاً باهراً في هذه المرّة،إلاّ أنّه-و بسبب بعض القلاقل-عاد إلى العراق عام (939ه)،قائماً بوظائفه إلى أن وافته المنية في مدينة النجف بعد سنة و نصف من عودته،و ذلك في عام (940ه).و أرخ عام وفاته بمادة«مقتداى شيعة»المساوية لعام 940ه.

يقول السيد حسين البروجردي في منظومته الرجالية:

ثمّ علي بن عبد العالي

ما ذكرناه،ترجمة موجزة لحياة فقيه كبير،كرّس نفسه للعلم و أهله،و تحمل مشاق الأسفار لإقامة لواء العدل و بسط القسط.

فسلام اللّه عليه يوم ولد،و يوم مات،و يوم يبعث حيّاً.

ص:405

ص:406

الفصل الثاني:كلمات الثناء في حقّ المحقّق

اشارة

اعتقد انّ المحقّق الكركي غني عن نقل أي مدح و ثناء في حقّه من غير فرق بين ما صدر عن أساتذته أو معاصريه أو المتأخّرين عنه.

غير أنّ إيقاف القارئ على مكانته العلمية و الاجتماعية عن كثب،يقتضي ذكر بعض ما قيل في حقّه من المدح و الثناء،و قد جمع الفاضل المعاصر الشيخ محمد الحسون كلمات العلماء في حقّه فبلغت أربعين كلمة لأربعين شخصاً،نقتطف منها ما يلي:

1.ثناء أُستاذه محمد بن علي العاملي

يُعتبر الشيخ محمد بن علي بن خاتون العاملي من أعلام أواخر القرن التاسع و أوائل القرن العاشر و قد أجاز للمحقّق الكركي و ممّا جاء في إجازته:

أمّا بعد فإنّ العلم لا يخفى شرفه و سموّه و مقداره،و لمّا كانت الرواية هي أكبر الوصلة إليه و السبيل إليه.و كان ممّن يشمّ أعلى ذراه،و أحاط بصريحه و فحواه،و هو أهل أن يؤخذ منه،و ينقل عنه،ذلك الشيخ الفاضل،و العالم العامل،و الرئيس الكامل،زين الإسلام،الشيخ زين الدين علي ولد الشيخ الورع التقي النقي

ص:407

الزاهد العابد عزّ الدين حسين بن عبد العالي،أعلى اللّه شأنه و صانه عمّا شانه. (1)

2.ثناء أُستاذه علي بن هلال الجزائري

لما استجاز المحقّق أُستاذه عليّ بن هلال الجزائري،أجازه بالتكريم و الاجلال،و قال:

و كان بتوفيق اللّه العظيم،و فضل منحه الجسيم،من طلاب هذه الإفادة،و الراغبين في نيل هذه السعادة،الشيخ العالم العامل،الفاضل الكامل،المؤيد بالنفس الزكية،و الأخلاق المرضية،من منحه اللّه العظيم،بالعقل السليم،و النظر الصائب،و الحدس الثاقب،المولى الشيخ زين الدين علي-أعلى اللّه مجده-،ابن الشيخ عزّ الدين حسين بن الشيخ زين الدين علي بن عبد العالي،التمس من المملوك إجازة،و لم أكن لذلك أهلاً،لو لا خلوّ الزمان من أهل الفضل و الكمال،لقلّة البضاعة،و قصور باعي في هذه الصناعة،فأنشدت عند ذلك ما قاله المعلّى و قد مدحه بعض الفضلاء: لعمر أبيك ما نسب المعلّى

و لكنّي لم أجد المنع جميلاً،و لا إلى ترك الإجابة سبيلاً لتحريم منع العلم عن الطالبين و وجوب بذله لأهله المستحقّين،فأجبت ما التمس بالسمع و الطاعة،مع قصور باعي في الصناعة،و قلّة ما معي من البضاعة،و أجزت له أدام اللّه أيّامه و فضائله و أسبغ عليه نعمه و فواضله، و مدّ له في العمر السعيد

ص:408


1- 1) .بحار الأنوار:20/105،ط بيروت. [1]

و متّعه بالعيش الرغيد،و رفع ذكره في الخافقين،و بلّغه اللّه بمنّه سعادة الدارين،إنّه خير موفّق و معين،أن يروي عنّي عن شيخي المولى الشيخ الأعظم العالم العامل الفاضل الكامل الشيخ عزّ الدين حسن بن يوسف الشهير بابن العشرة،و عن شيخي المولى الإمام الأعظم البارز على أقرانه في زمانه ذي النفس القدسيّة،و الأخلاق المرضية الشيخ عز الدّين حسن بن الشيخ عزّ الدين حسين الشهير بابن مطر،و عن شيخي المولى الإمام الأجل الأعظم الأفضل الأكمل الأعلم علاّمة علماء الإسلام و خلاصة فضلاء الزمان في زمانه المبرّز على أقرانه أبي العباس جمال الملّة و الحقّ و الدّنيا و الدين،أحمد بن فهد تغمّده اللّه بسوابغ رحمته و أسكنه بأعلى منازل جنّته كتاب قواعد الأحكام في معرفة الحلال و الحرام من تصانيف الشيخ المولى الإمام الأعظم الأفضل الأكمل الأعلم الشيخ جمال الملّة و الحقّ و الدّنيا و الدين الشيخ الإمام سديد الدين يوسف ابن المطهّر عن والده عن ولده الشيخ فخر الدين. (1)

و في آخر الإجازة و كتب العبد الفقير إلى رحمة ربّه الغني عليّ بن هلال الجزائري مولداً العراقي أصلاً و محتداً يوم الثلاثاء منتصف شهر رمضان من شهور سنة تسع و تسعمائة و الحمد للّه وحده،و صلّى اللّه على سيّدنا محمّد المصطفى و آله الطاهرين. (2)

و تعبّر الإجازة عن مكانته السامية عند أُستاذه و عن إحرازه مرتبة الاجتهاد.

3.ثناء الشهيد الثاني (المتوفّى 965ه)

قال الشهيد الثاني-الغني عن التعريف-في إجازته للشيخ حسين بن عبد

ص:409


1- 1) .بحار الأنوار:28/105 و 34. [1]
2- 2) .بحار الأنوار:28/105 و 34. [2]

الصمد الحارثي الجبعي الصادرة له في ليلة الخميس الثالث من جمادى الآخر سنة 941ه:و عن الشيخ جمال الدين أحمد و جماعة من الأصحاب الأخيار،عن الشيخ الإمام المحقّق نادرة الزمان و يتيمة الأوان،الشيخ نور الدين علي بن عبد العالي قدس سره.

و في مكان آخر من الإجازة قال:و منها عن شيخنا الجليل المتقن الفاضل جمال الدين أحمد...عن الشيخ الإمام ملك العلماء و المحقّقين نور الدين علي بن عبد العالي الكركي المولد الغروي الخاتمة. (1)

الشيخ الإمام ملك العلماء و المحقّقين. (2)

4.ثناء المجلسي الثاني (المتوفّى 1110ه)

وصف محمد باقر المجلسي المحقّق الكركي في أوّل كتابه«بحار الأنوار»-بعد ذكر مؤلفاته-و بقوله:

أفضل المحقّقين،مروّج مذهب الأئمّة الطاهرين نور الدين علي بن عبد العالي الكركي أجزل اللّه تشريفه.

و قال في موضع آخر منه:و الشيخ مروّج المذهب نور الدين-حشره اللّه مع الأئمّة الطاهرين-حقوقه على الإيمان و أهله أكثر من أن تُشكر على أقله و تصانيفه في نهاية الرزانة و المتانة. (3)

5.ثناء الأفندي التبريزي(المتوفّى 1134ه)

و قال الميرزا عبد اللّه أفندي التبريزي حجة التاريخ في عصره في كتابه

ص:410


1- 1) .بحار الأنوار:156/105. [1]
2- 2) .بحار الأنوار:151/105 و 156. [2]
3- 3) .بحار الأنوار:21/1و 41. [3]

«رياض العلماء»:

الفقيه المجتهد الكبير العالم العلاّمة شيخ المذهب و مدمّر دين أهل النصب و النواصب. (1)

6.ثناء المحدِّث البحراني(المتوفّى 1186ه)

أمّا الشيخ يوسف البحراني فقيه الأخباريّين في عصره،فقد وصفه في كتابه«لؤلؤة البحرين»بقوله:

هو في الفضل و التحقيق و جودة التحبير و التدقيق أشهر من أن يكن و كفاك اشتهاره بالمحقّق الثاني و كان مجتهداً صرفاً أُصولياً بحتاً. (2)

7.ثناء شيخ الشريعة الاصفهاني (المتوفّى 1339ه)

يعدّ شيخ الشريعة الاصفهاني أحد النوابغ القلائل في القرن الرابع عشر (3)و قد جمع من العلوم ما سارت به الركبان و انتشر ذكره في البلدان،و قد تخرّج عليه أكثر من تأخّر عنه ممّن تسنّم منصة المرجعية للشيعة.

حكى الوالد قدس سره و هو ممّن عكف على دروس الشيخ عشر سنين و كتب شيئاً كثيراً من محاضراته الّتي كان يلقيها على تلاميذه في مسجد الطوسي أحد المساجد المعروفة في النجف الأشرف.

حكى عن أُستاذه أنّه قال و هو على منبر التدريس:إنّ لعلمين جليلين،

ص:411


1- 1) .رياض العلماء:441/3. [1]
2- 2) .لؤلؤة البحرين:151. [2]
3- 3) .أفرد ترجمته في موسوعة طبقات الفقهاء:القرن الرابع عشر:483/14.

حقاً عظيماً في بيان مذهب الشيعة في حقلي العقيدة و الشريعة ألا و هما:الشيخ المفيد (336- 413ه)،و المحقّق الكركي.

أمّا الأوّل فقد بذل جهوده في تنقيح عقائد الشيعة،و تهذيبها ممّا ألصقه بها الغلاة عبر الزمان،حيث قام بتصحيح عقائد الصدوق و ناقش بعض أُصوله،فبجهوده ازدهر المذهب في حقل العقيدة و عنه صدر من تأخّر عنه.

و أمّا الثاني،فهو برسائله الّتي ألّفها حول مسائل فقهية مختلفة،و بشرحه على القواعد،المسمّى بجامع المقاصد قد أكمل الأُسس و المباني الّتي يرتكز عليها قسم من المسائل الفقهية.فهو و الشيخ المفيد،صنوان على أصل واحد تكاملت بهما مباني المذهب في كلا المجالين. (1)

إلى غير ذلك من كلمات الثناء و التقدير و التبجيل في حقّ شيخنا المحقّق على نحو يتبين للقارئ انّ العلماء على اختلاف مسالكهم و مشاربهم في الفقه اتّفقوا على جلالة قدره و علوّ كعبه في الفقه و أُصوله،و خدماته الصادقة على الدين و أهله.

ص:412


1- 1) .سمعته عن الوالد الشيخ محمد حسين السبحاني قدس سره.

الفصل الثالث:جولة في آثاره و تصانيفه

اشارة

حقيقة الإنسان هي آراؤه و أفكاره فهي التي تمثِّل شخصيته و ثقافته،فالآثار الّتي يتركها العلماء و المحقّقون خير دليل على مدى ما يتمتعون به من اطّلاع و وعي.

إنّ علماءنا الماضين-رضوان اللّه عليهم-على أصناف:

فمنهم من بلغ القمة في التفكير و المعرفة و لكن قل أثره و نَدَر تأليفه،فهؤلاء هم المتوغلون في المطالعة و الدراسة،الحائدون عن الكتابة و الضبط.

و منهم من توغل في التصنيف و التآليف دون تحقيق و تحليل و كان همّه جمع الكلمات من هنا و هناك،فلا يوجد فيها شيء يعد من منتجاته الفكرية،و هذا كأكثر من كتب في التاريخ و التراجم.

و منهم من جمع بين المنقبتين و صار ذا رئاستين فجمع بين الفكر و القلم فأودع أفكاره في قوالب تآليف تنير الدرب للجيل الآتي،و هم اللامعون بين العلماء لمعان النجوم في الليالي المظلمة كالشيخ المفيد و المرتضى و الرضي (الكوكبان في سماء العلم و الأدب) و الشيخ الطوسي و الطبرسي إلى غير ذلك من الشهب الثاقبة.

ص:413

إنّ شيخنا المحقّق الكركي في الرعيل الأوّل من الصنف الثالث،فألّف و حقّق فبلغ في التحقيق إلى درجة عالية حتّى سمّي بالمحقّق الثاني،فلم يترك ما جاد به ذهنه الوقّاد للضياع،بل أودعه في قالب التأليف و إن كان أكثر تآليفه يدور حول الفقه و الأُصول.

و الحقّ أنّ الشيخ الكركي هو الرجل الأمثل في سماء التحقيق،قلّما يسمح الدهر بمثله إلاّ في فترات يسيرة،فهلمّ معي نقف على بعض أسماء كتبه،ممّا له دور في فتاوى الفقهاء المتأخرين و نقدّم الأهم على المهم في الذكر:

1.جامع المقاصد

هذا الكتاب هو بيت القصيد بين مؤلفاته،ألفه في النجف الأشرف أيّام الدولة الصفوية كما أشار إليه في مقدمة الكتاب،و هو شرح لكتاب قواعد الأحكام للعلاّمة الحلّي(المتوفّى سنة 726ه).

و قد وصل فيه إلى بحث تفويض البضع من كتاب النكاح.و فرغ من هذا الجزء عام 935ه.و لم يحالفه التوفيق لإكماله،و لعلّ من أحد أسبابه هو مغادرة العراق متوجهاً إلى إيران لإصلاح دفّة الحكم و تطبيقه على صعيد الشريعة.

و الكتاب غني عن كلّ تعريف و عن كلّ إطراء و ثناء،فهو من أوثق المراجع الفقهية للفقهاء العظام حيث جمع بين العمق و الوضوح في التعبير،و قد حكي عن الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر أنّه قال:من كان عنده«جامع المقاصد»و«الوسائل»و«الجواهر»فلا يحتاج إلى كتاب آخر للخروج عن عهدة الفحص الواجب على الفقيه في آحاد المسائل الفرعيّة». (1)

ص:414


1- 1) .جواهر الكلام(المقدّمة):14/1.

و كفى في فضله أنّ شيخنا الشهيد الثاني الّذي يضرب به المثل في الفقه و الأُصول،صدّر في كتابه«المسالك»عن هذا الكتاب كثيراً.

و بما أنّ«جامع المقاصد»لم يتجاوز عن كتاب النكاح،فقد قام الفاضل الاصفهاني(1136ه) بإتمامه بتأليف كتاب أسماه«كشف اللثام و الإبهام عن قواعد الأحكام»،فابتدأ فيه من حيث انتهى إليه الكركي و أنهاه إلى آخر«القواعد»ثمّ ابتدأ من أوّله،فخرج منه الطهارة و الصلاة و الحجّ.

2.قاطعة اللجاج في حلّ الخراج

و قد نسبها إليه غير واحد ممّن ترجم للشيخ المحقّق (1)،و هي و إن كانت رسالة صغيرة في حجمها لكنّها كبيرة في محتواها،تعرّض فيها مصنّفها لمسألة مهمة جدّاً و هي مسألة الخراج و حليّة أخذه من السلطان الجائر،و تعيين الأراضي الخراجية عن غيرها.

انتهى من تأليفه سنة 916ه،و لعلّ شيخنا المحقّق أوّل فقيه تكلّم عن الخراج على وجه مبسوط،و لما ثقل حكمه بالحليّة على بعض معاصريه-أعني:الشيخ إبراهيم القطيفي المتوفّى عام (945ه)-قام بنقضه بشكل عنيف و أسمى كتابه«السراج الوهّاج لدفع قاطعة اللجاج»،فرغ منه عام 924ه،و أسلوبه لا يناسب أسلوب التحقيق،البعيد عن التعصب،و سيوافيك التفصيل عن الكتاب في الفصل الخاص بالإشارة إلى آراء المحقّق و أفكاره.

ص:415


1- 1) .أمل الآمل:121/1؛رياض العلماء:444/2 إلى غير ذلك.
3.صلاة الجمعة
اشارة

و هي رسالة لطيفة تتّسم بالعمق و الشمولية تبحث عن صلاة الجمعة في ثلاث أبواب و خاتمة،و قد انتهى من تأليفها عام 921ه.

و قد نال الكتاب مكانة عالية بين الفقهاء و قد قام بترجمته من العربية إلى الفارسية الأُستاذ محمد صادق سركاني الّذي كان حيّاً عام 1033ه.

ثمّ إنّ لشيخنا المحقّق ألواناً من التآليف يتخذها خطوة لما يتبنّاه،فتارة يؤلّف رسائل في مجال الإجابة عن الأسئلة،و أُخرى يُعلِّق على الكتب،و ثالثة يفرّد بعض المسائل المهمة بالتأليف فنذكر من كلّ قسم بعضه.

أمّا الأجوبة فكالتالي:

1.جواب السؤال عن إثبات المعدوم.

2.جواب السؤال عن أبي مسلم الخراساني.

3.جواب الشيخ حسين الصيمري.

4.جوابات الشيخ يوسف المازندراني

5.جوابات المسائل الفقهية الأُولى.

6.جوابات المسائل الفقهية الثانية.

و أمّا القسم الثاني فهذه حواشيه و تعاليقه على الكتب الفقهية نكتفي بذكر أسمائها:

7.حاشية الألفية،8.حاشية تحرير الأحكام،9.حاشية الجعفرية،10.حاشية شرائع الإسلام،11.حاشية قواعد الأحكام،12.حاشية اللمعة الدمشقية،13.حاشية المختصر النافع،14.حاشية مختلف الشيعة،15.

ص:416

حاشية ميراث المختصر النافع.

و أمّا اللون الثالث-أعني:إفراد بعض المسائل بالتأليف-فكالتالي:

16.السجود على التربة المشوية،17.شروط النكاح،18.ملاقي الشبهة المحصورة.

إلى غير ذلك من التآليف الّتي أنهاها المحقّق الشيخ محمد الحسون إلى 82 تأليفاً. (1)

ثمرة ناضجة لحوزة الشهيد الأوّل

إنّ المحقّق الكركي ثمرة ناضجة للحوزة العلمية التي أرساها الشهيد الأوّل محمد مكي العاملي(734- 786ه) و خرّجت جيلاً كبيراً من الفقهاء و المحقّقين و في طليعتهم:

1.السيد أبو طالب أحمد بن قاسم بن زهرة الحسيني.

2.الشيخ جمال الدين أحمد بن النجار صاحب التعليقة على قواعد العلاّمة الحلّي.

3.الشيخ جمال الدين أبو منصور حسن بن محمد المكي،و هو ابنه و المجاز منه.

4.الشيخ ضياء الدين أبو القاسم علي بن الشهيد (الأوسط).

5.الشيخ رضي الدين أبو طالب محمد (و هو أكبر أولاده).

6.و لم يقتصر على تربية الرجال بل ربّى ابنته فاطمة التي اشتهرت فيما بعد

ص:417


1- 1) .آثار المحقّق الكركي:525/2.

بلقب ست المشايخ و لما توفيت شارك في تشييع جثمانها سبعون مجتهداً.

7.و أخيرهم لا آخرهم شرف الدين أبو عبد اللّه مقداد بن عبد اللّه (المتوفّى سنة 826 ه)،صاحب المؤلّفات الممتعة.

إلى غير ذلك من عباقرة العصر و أساطين الفقه،و قد أنهاهم محمد رضا شمس الدين في كتابه إلى 32 عالماً كبيراً،و يدلّ هذا العدد على كثرة التلاميذ الكبار الذين تربّوا على يديه.

كانت الحوزة العلمية التي أسّسها الشهيد كشجرة مثمرة تؤتي أُكلها كلّ حين و من ثمراتها الشيخ المحقّق الكركي.

فقد صار في فقهه و أُصوله على ضوء ما تلقّاه من مشايخه الكبار الذين تربّوا في أحضان تلك الحوزة.

و قد كانت الحوزة تتسع و تفيض قرناً بعد قرن إلى أن قضى عليها (الجزار) في أواخر القرن الثاني عشر،الذي قام بأعمال يندى لها الجبين،و هو أخو الحجاج في السفك و القتل.

يحكي الشيخ محمد جواد مغنية تلك الحالة المأساوية التي حلّت بجبل عامل و علمائها و آثارها فيقول:

«و فعل الجزار والي عكا بجبل عامل فعل الحجاج في العراق،فبعد أن قتل الشيخ ناصيف النصار رئيس البلاد العاملية قبض الجزار على عدد من العلماء و الرؤساء،و قتل جماعة،منهم العالم السيد هبة الدين الموسى،و السيد محمد آل شكر،و الشيخ محمد العسيلي،و منهم الشيخ علي خاتون الفقيه الطبيب،قال صاحب«أعيان الشيعة»ج41:

«كان عالماً فاضلاً فقيهاً جليلاً متبحراً في علم الطب،و هو من علماء عصر

ص:418

الشيخ ناصيف النصار الوائلي،شيخ مشايخ جبل عامل،قبض عليه أحمد باشا الجزار فيمن قبض من علماء و وجوه جبل عامل،و حبسه في عكا،و عذبه،ثمّ قتله،و كان يحمي له الساج حتى يحمر،ثمّ يضعه على رأسه».

و انتهب الجزار أموال العامليين،و مكتباتهم،و كان في مكتبة آل خاتون خمسة آلاف مجلد،و بقيت أفران عكا توقد اسبوعاً كاملاً من كتب العامليين،و لم يسلم من ظلم الجزار إلاّ من استطاع الفرار،و في عهده هاجر علماء جبل عامل مشردين في الأقطار،و من هؤلاء العالم الشاعر الشيخ إبراهيم يحيى هرب من الجزار إلى دمشق،و في نفسه لوعة و حسرة،و ذكر فظائع الجزار لا تفارقه بحال،و قد صورها،و هو شاهد عيان،في قصائد تدمي الأفئدة و القلوب». (1)

ص:419


1- 1) .الشيعة و الحاكمون:195- 196. [1]

الفصل الرابع:تلاميذه و المستجيزون منه

اشارة

إنّ تربية جيل كبير في مجال من المجالات العلمية،دليل على أنّ المربي ذو كفاءة عالية و مواهب فذة تتجلّى في مقدرته على النهوض بهذه المهمة و تخريج الجمّاء الغفير في حقل من الحقول.

و لا أنسى قول الشيخ المصلح محمد حسين كاشف الغطاء (1295- 1373ه) حينما سُئل عن الأعلم بعد رحيل السيّد الاصفهاني في النجف الأشرف قال:إنّ الموفق في مجال التعليم و التأليف في مجال الفقه و الأُصول هو الأعلم.

و لعلّ القارئ يتصوّر واهماً أنّ بيان الشيخ بيان خطابي،و الحقّ أنّه بيان موضوعي مطابق للقوانين العلمية نعم ليست القاعدة هي ضابطة كلية بل غالبية.

و ممّا حباه اللّه سبحانه للمحقّق الكركي انّ التوفيق حالفه في كلا المجالين:مجال التأليف و التصنيف و مجال التعليم و التربية،فقد تخرّج من مدرسته جمع كبير،يعدون من الرعيل الأوّل من فقهاء القرن العاشر و ممّن يشار إليهم بالبنان.

و انبرى هؤلاء التلامذة لنقل آراء شيخهم و أُستاذهم إلى الآخرين،و قد

ص:420

تصدّى الفاضل المحقّق محمد الحسون في موسوعته لاستخراج أسماء تلاميذ شيخنا،فأحصى56 شخصية علمية انتهلت من معين علمه،و نحن نذكر بعض مشاهيرهم،و لعلّ هناك شخصيات أُخرى تتلمذت عليه و لكن أهمل التاريخ أسماءهم.

1.الشيخ عبد اللّه اليزدي(المتوفّى 981ه)

هو عبد اللّه بن حسين اليزدي نزيل النجف الأشرف العالم الإمامي المنطقي صاحب الحاشية على تهذيب المنطق المعروفة بحاشية ملاّ عبد اللّه،و يلقب ب«نجم الدين».

وصفه المحبّي في«خلاصة الأثر»بعلاّمة زمانه و قال:كان منهمكاً على المطالعة و الاشتغال بالعلم و منحه لمستحقيه،و كان مبارك التدريس ما اشتغل عليه أحد إلاّ انتفع به.

و قال الأفندي التبريزي:العلاّمة المتكلّم الفقيه المنطقي.و كانت له مدرسة دينية في النجف الأشرف. (1)

2.عبد العلي بن علي الاسترآبادي(كان حيّاً 929ه)

ضياء الدين عبد العلي بن نور الدين علي الاسترآبادي.صحب المحقّق الكركي-لما ورد عليهم أستراباد-مدّة من الزمان.

ثمّ ارتحل إلى النجف الأشرف،و جاور بها مدّة،عاكفاً على الخوض في علوم الشريعة،فلازم الكركي المذكور،و قرأ عليه بعض الكتب الفقهية،و سمع بقراءة

ص:421


1- 1) .انظر ترجمته في موسوعة طبقات الفقهاء:133/10. [1]

غيره جملة كثيرة،فممّا سمعه كتاب«إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان»للعلاّمة الحلّي،و حواشي أُستاذه على الكتاب المذكور،و الجزء الأوّل من كتاب شرائع الإسلام في مسائل الحلال و الحرام للمحقّق الحلّي و غير ذلك.

ثمّ أجاز له في شهر رمضان سنة (929ه) بالتدريس و الإفادة و رواية جميع ما للرواية فيه مدخل من معقول و منقول و فروع و أُصول وفقه و حديث و تفسير،واصفاً إياه بالشيخ الأجل...قدوة الفضلاء،زبدة العلماء. (1)

3.أسد اللّه التستري(المتوفّى 966ه)

هو أسد اللّه بن زين الدين المرعشي التستري الفقيه الإمامي المعروف بشاه مير.أخذ عن المحقّق علي بن عبد العالي الكركي و برز في العلوم،ثمّ تقلد منصب الصدارة في البلاد الإيرانية في عهد طهماسب الصفوي في حدود سنة 946ه.

و كان فقيهاً متكلّماً محدثاً زاهداً،شاعراً.

كتب حواشي على عدة كتب منها:قواعد الأحكام للعلاّمة الحلّي،و شرائع الإسلام للمحقّق الحلّي،الكافي للكليني،شرح تجريد الاعتقاد و شرح الجغميني في الهيئة. (2)

4.ابن خاتون(كان حيّاً عام 934ه)

أحمد بن محمد بن خاتون العاملي العيناثي،وصفه الشهيد الثاني بالإمام

ص:422


1- 1) .انظر ترجمته في موسوعة طبقات الفقهاء:129/10. [1]
2- 2) .موسوعة طبقات الفقهاء:65/10. [2]

الحافظ المتقن،خلاصة الأتقياء و الفضلاء و النبلاء. (1)

قرأ على المحقّق الكركي و أجاز له و لولديه نعمة اللّه علي،و زين الدين جعفر في الخامس عشر من شهر جمادى الأُولى سنة (931ه).

نذكر من الإجازة ما يلي:و بعد:فإنّ الأخ في اللّه المرتضى للأُخوّة الشيخ العالم الفاضل الكامل بقية العلماء و مرجع الفضلاء جامع الكمالات،حاوي محاسن الصفات،بركة المسلمين،عمدة المحصّلين،ملاذ الطالبين،جمال الملّة و الدين أبي عبد اللّه أحمد بن محمّد،الشهير بابن أبي خاتون العاملي،أدام اللّه تعالى أيّام الخلف الكريم،و تغمّد بمراحمه السلف البرّ الرحيم.

التمس من هذا الضعيف،كاتب هذه الأحرف بيده الجانية،علي بن عبد العالي-تجاوز اللّه عن ذنوبه،و أسبل ستره الضافي على سيّئاته و عيوبه-أن أُجيزه مع ولديه السعيدين النجيبين،المؤيّدين من اللّه سبحانه بكمال عنايته:الشيخ نعمة اللّه علي،و الشيخ زين الدين جعفر - أبقاهما اللّه بقاء جميلاً في ظل والدهما،لا زال ظلّه ظليلاً-برواية جميع ما يجوز لي و عنّي روايته،ممّا للرواية فيه مدخل،من معقول و منقول، خصوصاً ما أملاه خاطري الفاتر على قلم العجز و التقصير من مؤلّف اقتفيت به أثر مَن تقدّمني،و مصنّف،حاولت فيه سلوك من سبقني،على ما أنا فيه من قصور الهمّة،و سكون الفكرة،و فتور العزيمة،و تباعد الرواية،و كثرة الشواغل،و مضادة الزمان.

فلم أجد بدّاً من مقابلة التماسه بالإجابة؛لأُمور عديدة توجب عليّ ذلك و إن كنت حريّاً بأن لا أفعل. (2)

ص:423


1- 1) .بحار الأنوار:151/105 [1] ضمن الإجازة 53.
2- 2) .موسوعة طبقات الفقهاء:52/10؛ [2]أعيان الشيعة:137/3. [3]
5.علي بن عبد الصمد(كان حيّاً 935ه)

ابن محمد بن علي الحارثي الهمداني،نور الدين أبو القاسم الجبعي العاملي،عمّ العالم الشهير بهاء الدين العاملي.

قرأ على المحقّق الكركي بالنجف الأشرف جملة من رسالته«الجعفرية»في فقه الصلاة و سمع معظمها،فأجاز له في سنة (935ه) روايتها و رخّصه بالعمل بما تضمنته من الفتاوى.

و أخذ أيضاً عن الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي (المتوفّى966ه).

و كان فقيهاً محدثاً شاعراً،من جلّة علماء الإمامية.

صنّف كتاب الدرة الصفية في نظم«الألفية»في فقه الصلاة للشهيد الأوّل.

و لم نظفر بتاريخ وفاته.

و هو أكبر من أخيه الحسين (المتوفّى 984ه) والد بهاء الدين،لكنّه أقلّ شهرة منه.

و قد أجاز له المحقّق الكركي و إليك نصّ الإجازة:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

و بعد،فقد قرأ عليّ جملة من الرسالة الموسومة ب«الجعفريّة»في فقه الصلاة و سمع معظمها،الصالح الفاضل الشيخ نور الدين ابن الشيخ الفاضل عمدة الأخيار ضياء الدين عبد الصمد،ابن المرحوم المقدّس،قدوة الأجلاّء في العالمين،شمس الدين محمّد الجبعيّ،أدام اللّه تعالى له التوفيق و سلك به الطريق.

و قد أجزتُ له روايتها عنّي،و رخّصته بالعمل بما تضمّنته من الفتاوى الّتي

ص:424

استقرّ عليها رأيي و قوي عليها اعتمادي،فليروها كما شاء و أحبّ موفّقاً.

و كَتَبَ هذه الأحرف بيده الفانية،مؤلّفها الفقير إلى اللّه،عليّ بن عبد العالي،بالمشهد المقدّس الغرويّ،في خامس شهر رجب سنة خمس و ثلاثين و تسعمائة. (1)

هذه نماذج من تلاميذ شيخنا المحقّق الكركي و من أراد التوسع فليرجع إلى موسوعة طبقات الفقهاء في القرن العاشر ليرى أنّ قسماً كبيراً من فقهاء الشيعة تتلمذوا عليه،و تخرّجوا من مدرسته.

و نحن إكمالاً للموضوع نستخرج أسماء من تخرج عليه:

1.إبراهيم الميسي،2.إبراهيم الخوانساري (الخانيساري)،3.أبو البركات،4.أبو المعالي الاسترآبادي،5.أسد اللّه التُّستري،6.أحمد الجامعي،7.أحمد بن خاتون،8.أحمد الخوانساري(الخانيساري)،9.بابا شيخ علي،10.باختيار،11.جابر العاملي،12.جعفر بن خاتون،13.

حسن العزيزي،14.حسن الاسترآبادي الجرجاني،15.حسن الموسوي الكركي،16.حسن الجامعي،17.حسين الموسوي الكركي،18.

حسين بن عدار،19.حسين الهجري،20.حسين الحرّ،21.درويش محمّد العاملي،22.رحمة الفتّال،23.زين الدّين الفقعاني،24.عبد الحيّ الاسترآبادي،25.عبد العالي الكركي،26.عبد العباس الجزائري،27.عبد العلي بن أحمد الاسترآبادي،28.عبد اللّه اليزدي،29.عطاء اللّه الآملي،30.علي بن خاتون،31.علي الجزائري،32.علي الزواري،33.علي الاسترآبادي،34.علي الجبعي،35.علي الميسي،36.علي البسطامي،37.علي بن هلال الكركي،38.القاضي صفي الدين عيسى،39.فخر الدّين

ص:425


1- 1) .رياض العلماء:115/4. [1]

الاسترآبادي،40.قاسم عذافة،41.محمّد الاسترآبادي،42.محمّد الأبهري الحموي،43.محمّد الحسيني الاسترآبادي،44.محمّد الجزائري،45.محمّد الكاشاني،46.محمّد الرلاس،47.محمّد بن خاتون،48.محمّد الاسترآبادي،49.محمّد الحافظ الزواري،50.محمّد علي بن مقصود علي،51.محمّد مهدي الرضوي،52.محمود الجابلقي،53.محمود الميبدي،54.نعمة اللّه الحلّي،55.يحيى البحراني المفتي.

«أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» . (1)

ص:426


1- 1) .الأنعام:90. [1]

الفصل الخامس:آراؤه الكلامية و الأُصولية و الفقهية

اشارة

إنّ شيخنا الكركي قدس سره و إن كان من أكابر الفقهاء و أعاظم المجتهدين،و لكنّه في شبابه و مقتبل عمره طوى مسافات شاسعة لتحصيل شتى العلوم العقلية و النقلية،و جدّ حتّى ضرب في كلّ علم بسهم وافر.فلا عجب-إذن-أن نجد له آراء في الكلام و الأُصول و الرجال،و في الأدب العربي أيضاً،إلاّ أنّنا نقتصر هنا على بيان بعض آرائه في الحقول التالية:

1.الكلام.

2.أُصول الفقه.

3.الفقه.

و إليك البيان:

ص:427

آراؤه الكلامية
1.موضوع علم الكلام

اختلفت كلمة المتكلّمين في تحديد موضوع علم الكلام و بالتالي في تعريفه.تجد كلماتهم في بداية كتبهم،و قد عرّف المحقّق الكركي علم الكلام و أوضح في ثناياه موضوعه و قال:علم الكلام هو الباحث عن وجوب وجود اللّه تعالى و صفاته و عدله و النبوة و الإمامة و المعاد على قانون الإسلام.

و بعبارة (1)أُخرى:هو العلم الباحث عن وجوب وجود اللّه سبحانه و صفاته و أفعاله.

فالبحث عن وجود الواجب و صفاته و أفعاله هو موضوع علم الكلام،و النبوة و الإمامة و إن ذكرتا مستقلتين لكنّهما من شعب أفعاله، حيث إنّ النبوة عبارة عن بعث الأنبياء للتبشير و الإنذار،و الإمامة عبارة عن نصب الإمام من جانبه تعالى أو تنفيذ ما نصبته الأُمّة في مجال رئاسة الدين و الدنيا.

كما أنّ المعاد شعبة من شعب أفعاله و هو إحياء الموتى يوم الحشر و النشر لأجل الحساب و الجزاء،فاللّه سبحانه بما له من الصفات و الأفعال موضوع الفقه الأكبر.

ص:428


1- 1) .حاشية الألفية:25.

و قد جاء بهذا التعريف في مكان آخر و قال:علم الكلام هو العلم الباحث عن الذات الإلهية و صفاتها و أفعالها و النبوة و الإمامة و المعاد على قانون الإسلام (1)،و من سبر الكتب الكلامية و اختلاف المتكلّمين في تبيين (2)الموضوع في ذلك المجال يقف على أنّ المحقّق الكركي أتى بالتعبير الواضح مع الإدلاء بموضوع العلم.

و أمّا البحث في الطبيعيات أو الأُمور العامّة فهما خارجان عن علم الكلام و إنّما يبحث عنهما المتكلّم استطراداً،أو لغرض المجاراة مع الحكماء،حيث إنّ الحكمة تنقسم إلى أقسام ثلاثة:

1.الأُمور العامة:و هي نعوت كلّيّة تعرض الموجود من حيث هو موجود،ككونه واجباً أو ممكناً،أو علّة أو معلولاً،و هكذا.

2.الطبيعيات و الفلكيات.

3.الإلهيات.

فهذا القسم الأخير،يشكّل علم الكلام.

2.كونه سبحانه عادلاً مع الإلماع إلى دليله

العدلية من المتكلّمين كالإمامية و المعتزلة يصفونه سبحانه بالعدل،كما يصفون أفعاله بالحكمة،و غيرهم كالسلفية و الأشاعرة يقولون:

إنّ كلّ ما يصدر منه عدل و حكمة و إن كان عند العقل ظلماً و عبثاً،فلو عذّب البريء فهو عدل و حكمة،و لو أثاب الجاني و أدخله الجنة فهو أيضاً عدل و حكمة،و ليس للإنسان

ص:429


1- 1) .شرح الألفية:26.
2- 2) .لاحظ شرح المواقف للسيد الشريف الجرجاني،و شرح المقاصد للتفتازاني. [1]

أن يحكم على اللّه بشيء.

و لكنّهم لا يفرّقون بين الحكم على اللّه و بين استكشاف حال أفعاله من التدبّر في صفاته؛و العدلية لا يحكمون على اللّه سبحانه بشيء، إذ «لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ» و لكن يستكشفون حال أعماله من خلال صفاته،فهو بما أنّه حكيم لا يصدر منه العبث،و بما أنّه غني لا يصدر منه الظلم.

و قد عرّف المحقّق الثاني العدلَ بأوضح الوجوه مع الإشارة إلى دليله،قال:العدل هو العلم بكونه لا يفعل القبيح،و لا يرضى به،و لا يأمر بالقبائح،و لا يُخلّ بواجب تقتضيه حكمته،و لا يكلّف بما ليس بمقدور،لأنّ فاعل القبيح:إمّا جاهل بقبحه،أو محتاج إليه،و اللّه سبحانه منزّه عن الجهل و الحاجة.

و بأنّ الطاعات و المعاصي الصادرة عن العباد باختيارهم،و لهذا استحقّ المطيع الثواب و العاصي العقاب. (1)

فقوله:«لأنّ فاعل القبيح...»برهان كونه عادلاً،فلاحظ.

3.الغرض للفعل لا للفاعل

اختلف المتكلّمون في أنّ أفعاله سبحانه معلّلة بالأغراض أو لا؟ فالأشاعرة على الثاني قائلين بأنّ إثبات الغرض لفعله سبحانه آية الحاجة،و هو الغني المطلق،و فعله غنيّ عن الغرض.

و قد غاب عنهم أنّ نفي الغرض عن فعله سبحانه على الإطلاق،يستلزم أن يكون فعله عبثاً،و سدى،مع أنّه سبحانه حكيم و فعله نزيه من العبث،يقول

ص:430


1- 1) .الرسالة النجمية:7.

سبحانه: «أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ». 1

إنّ الغرض الّذي تثبته العدلية هو الغرض المترتّب على الفعل لا الغرض العائد إلى الفاعل.و كم هو الفارق بين أن نقول:للفاعل غرض يطلبه من خلال إيجاد الفعل و أن نقول:للفعل غاية،تترتّب عليه،دون أن يطلبها الفاعل لنفسه و إذا أردنا أن نصبّ الفكرة في صورة المثال،نقول:

الإنسان الثريّ يقوم بتأسيس مستشفى لعلاج الفقراء و المساكين،فالفاعل غنيّ عن هذا العمل،لأنّه ثريّ يقوم الأطباء بعلاجه كلّما مرض،و لا يدخل ذلك المستشفى طيلة عمره،و مع ذلك كلّه فليس لنا أن نشبّه عمله بعمل الصبيان الفارغ عن الغرض و الهدف،بل لفعله غرض عقلائي يترتّب عليه،و إنّما الفارق أنّ النفع في العمل لا يعود إليه شخصياً،بل يعود إلى غيره.

و قد أشار إلى تفسير ما ذكرنا شيخنا المحقّق بقوله:العقل يحكم بأنّ المختار لا بدّ من فعله للغرض (1)،و إن لم يكن لفاعله غرض.

4.الإمامة من الأُصول

اختلفت كلمة المتكلّمين في أنّ الإمامة هل هي من الأُصول أو من الفروع؟

ذهب أهل السنّة إلى أنّها من الفروع،لأنّها من أقسام الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حيث يجب على الأُمّة القيام بهذين الواجبين، و لا يتم إلاّ بنصب الإمام؛و ذهبت الشيعة إلى أنّها من الأُصول،و ذلك لأنّ الإمامة عبارة عن استمرار وظائف النبوة(لا استمرار النبوّة) فيقوم الإمام مقام النبي في أداء ما كان يجب على النبيّ

ص:431


1- 2) .اثنتا عشرة مسألة:60.

في مجال تبيين الشريعة و هداية الأُمّة و تأمين البلاد و سدّ ثغورها،سوى الوحي فإنّه ينقطع بموته صلى الله عليه و آله و سلم،فإذا كان واجب الإمام نفس واجب النبي صلى الله عليه و آله و سلم فليكن البدل بحكم المبدل.

قال المحقّق:«إنّها خلافة عن النبوة الّتي هي من الأُصول فتكون الإمامة كالنبوّة». (1)

ثمّ استدلّ على أنّها من الأُصول بوجه آخر-أعني الحديث المعروف:من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»-حيث قال:إنّه صريح في الدلالة على أنّ الإمامة من الأُصول،لأنّ الجاهل بشيء من فروع الدين-و إن كان واجباً-لا تكون ميتته ميتة جاهلية،إذ لا يقدح ذلك في إسلامه و إيمانه. (2)

5.عدالة الصحابة بين العاطفة و البرهان

ذهب أهل السنّة إلى عدالة الصحابة كلّهم أجمعين،و ذهبت الإمامية إلى أنّ حكم الصحابة حكم التابعين،ففيهم الصالح و الطالح و العادل و الفاسق.فلو كان أخذ الدين عن الصحابة دليلاً على عدالتهم فليكن أخذه عن التابعين دليلاً على عدالتهم.

و قد استدلّ شيخنا المحقّق على إبطال القضيّة الكلّية (عدالة الصحابة كلّهم بلا استثناء) بالعلم الإجمالي بوجود المنافقين المندسّين بين الصحابة و لم يكن عددهم قليلاً كما أنّهم لم يكونوا معروفين و لا متميّزين،لقوله تعالى: «وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ». 3

ص:432


1- 1) .نفحات اللاهوت:46- 50.
2- 2) .نفس المصدر.

و قوله سبحانه: «وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ». 1

و مع تواجد المنافقين بينهم بكثرة،يمتنع الحكم بعدالة كلّ مَن يُدْعى صحابيّاً إلاّ أن يقوم عليها دليل من الخارج.

فإن قيل:كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عارفاً بهم،لقوله تعالى: «فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ». 2

قلنا:ليس كلامنا في معرفته،بل في معرفة باقي الخلق.

و قد استدلّ أهل السنّة ب آيات الترضّي على السابقين الأوّلين من المهاجرين و الأنصار،و قد أجاب عنها المحقّق بأنّه لو افترضنا دلالتها على ثبوت العدالة،لكنّها إذا ثبتت في زمان لا يمتنع زوالها،بل لا يمتنع زوال الإسلام،كما في صاحب موسى.قال اللّه تعالى: «وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ * وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ». 3

و كان قد أُوتي علم بعض كتب اللّه،و قيل:كان يعرف اسم اللّه الأعظم،ثمّ كفر ب آيات اللّه،و إذا كان كذلك فلا بدّ من تتبع أحوال الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و بعد موته ليعلم من مات منهم على العدالة،و لا طريق لذلك إلاّ ما ورد في السير و التواريخ.

ثمّ إنّه قدس سره أيّد كلامه بما أخرجه البخاري من حديث الزهري عن سعيد بن

ص:433

المسيّب أنّه كان يحدّث عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:

«يرد عليّ الحوض رجال من أُمّتي فيحلئون عنه فأقول:يا ربّ أصحابي!! فيقول:إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك،إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى».

قال:و أخرجه أيضاً تعليقاً من حديث ابن شهاب مثله. (1)

قلت:قال في الصحاح:حلأت الإبل عن الماء تحلئة و تحليئاً:إذا طرحتها عنه و منعتها أن تروى.قال الشاعر:

محلا عن سبيل الماء مطرود. (2)

ص:434


1- 1) .صحيح مسلم:2194/4- 58/2195.
2- 2) .الصحاح:45/1، [1]مادة حلأ.
آراؤه الأُصولية

لشيخنا المحقّق آراء أُصولية،نذكر منها ما يلي:

6.من علامات الوضع،حسن الاستفهام

ذكر الأُصوليون علامات للوضع و بالتالي لكون اللفظ حقيقة في المعنى المستعمل فيه،و تلك العلائم عبارة عن:

1.التبادر،2.صحة الحمل،3.الاطراد.

و قد بسطوا الكلام في تبيين هذه العلامات.

و قد أضاف شيخنا المحقّق علامة أُخرى و هو حسن الاستفهام،و إن شئت قلت:حسن التقسيم.

و قال في توضيحه:حسن الاستفهام عن كلّ من الأمرين آية كون اللفظ حقيقة في كلّ منهما،مثلاً إذا قال القائل:هذه تربة فإنّه يحسن أن يقال:هي تربة مشوية أو غير مشوية؟! و حسن الاستفهام دليل الحقيقة. (1)

و لك أن تقول:إنّ حسن التقسيم آية الحقيقة،و كلا التعبيرين يهدفان إلى أمر واحد.

ص:435


1- 1) .السجود على التربة المشوية:19.

و قد طبّق شيخنا المحقّق تلك القاعدة على كون صيغة الأمر حقيقة في الواجب العيني و الكفائي و التعييني و التخييري و قال:و يؤيّده أنّه يقبل القسمة إلى الأقسام كلّها،و مورد القسمة يجب اشتراكه بين الأقسام.

7.الأصل يقدّم على الظاهر

إذا كان مقتضى الأصل مخالفاً لمقتضى الظاهر فالضابطة عند شيخنا المحقّق هو تقديم الأصل على الظاهر و إنّما يعدل عنها في مواضع نادرة كغسالة الحمام-على القول بنجاستها-و نظيرها حيث إنّ مقتضى الأصل هو الطهارة و مقتضى الظاهر هو النجاسة،و أمّا في غير هذا المورد فالأمر على العكس.

يقول شيخنا المحقّق في تبيين تلك الضابطة:إنّ العمل بالظاهر في الحقيقة رجوع إلى قرائن الأحوال و ما استفيد من العادات المتكررة فينبغي لذلك أن يكون بينه و بين جنس الحكم-الذي يطلب جعله دليلاً عليه-ملائمة....

مثلاً:لمّا لم يعتبر الشارع الظاهر بالنسبة إلى النجاسات في غالب الأحوال حكم بطهارة ثياب مدمني الخمر،و طهارة سؤر الحائض المتّهمة،و طهارة أواني المشركين و ما بأيديهم،و طين الطريق و استحباب إزالته بعد ثلاثة أيام من انقطاع المطر،و الحكم بنجاسة البئر بالجيفة حين الوجدان لا قبله،و طهارة ما تناله أيدي الناس على اختلاف فرقهم و تباين آرائهم في الطهارات و النجاسات،و طهارة ما لا يكاد ينفك من النجاسات كحافّات البئر،و الرِّشا و حافات العين،و غير ذلك من الأُمور التي تقتضي الظاهر،بل يكاد يحصل اليقين عادةً بعدم انفكاكها من النجاسة.

و قد بلغ عمله بالأصل إلى درجة أخذ به أمام الظاهر في المثالين التاليين:

ص:436

أ.لو وجدنا حيواناً غير مأكول اللحم قد بال في ماء كثير،و وجدنا متغيّراً و لم نقطع باسناد التغيّر إلى هذه النجاسة،يُحكم بالطهارة و لا يلتفت إلى الظاهر.

ب.لو وجدنا كلباً خارجاً من مكانٍ فيه إناء ماء و هو يضطرب و رشراش الماء حوله،لا نحكم بالنجاسة،و لا نلتفت إلى الظاهر.

و على ضوء ذلك حمل فتوى الأصحاب في زوجة المفقود إذا انقطع خبره فإنّها إذا رفعت أمرها إلى الحاكم أجلها أربع سنين للبحث عنه،و ظاهره عدم الفرق بين من شهدت القرائن بموته أو غيره،و يكون إجماعاً،بل الرواية الواردة في ذلك-و هي رواية بُريد بن معاوية العجليّ في الصحيح عن الصادق عليه السلام،و قد سأله عن المفقود كيف تصنع امرأته؟ قال:«ما سكتت عنه و صبرت يخلّى عنها،فإن رفعت أمرها إلى الحاكم أجلها أربع سنين»الحديث (1)-دالّة بعمومها على عدم الفرق في الحكم المذكور بين وجود الظاهر الدالّ على موته و عدمه،لأنّ ترك الاستفصال في حكاية الحال عن الاحتمال،فإنّ ما حكاه السائل-و هو فقدان الزوج و طلب الحكم فيه-يحتمل هذا الفرد،فإذا أجاب و لم يستفصل كان ذلك دليل (2)العموم.

8.الفرق بين الحكم و الإفتاء

قد ذكر المحقّق الكركي الفرق بين الحكم و الإفتاء بأنّ الثاني حكم كلّي و الأوّل حكم جزئيّ مستمد من حكم كلّي و يقول في توضيح ذلك:

ص:437


1- 1) .الكافي:147/6 ح2؛ [1]الفقيه:354/3،الحديث 1696؛التهذيب:479/7،الحديث 1922.
2- 2) .جوابات الشيخ حسين الصيمري:11.و المراد من الأصل في المقام،هو الأصل اللفظي الذي هو دليل اجتهاديّ،بخلاف الأُصول في المسائل السابقة.

إنّ الحكم إنشاء قولٍ في حكم شرعيّ يتعلّق بواقعة شخصية،كالحكم على زيد بثبوت دين عمرو في ذمّته. (1)

هذا و نزيد بياناً و نقول:إنّ الفتوى إخبار عن الحكم الكلي،و ليس لها أثر إلاّ تنجّز الواقع،و أمّا القضاء فهو إنشاء حكم جزئي مطابق للحكم الكلّي الصادر من اللّه.

و إن شئت قلت:إنّه حكم جزئي في مورد شخصيّ و يفترق حكم القاضي عن حكم الحاكم باشتراط سبق النزاع في حكم الأوّل دون حكم الحاكم في الأُمور العامّة.

و الحكم الصادر من القاضي له أحكام مثل عدم جواز نقضه إلاّ في موارد جزئية،و وجوب تنفيذ حكمه على الآخرين،و إن خالف اجتهاده ما لم يخالف دليلاً قطعياً،و عدم ضمانه إذا لم يكن مقصّراً،و كون الضرر على بيت المال،و له ولاية على كلّ مولّى عليه إذا لم يكن له وليّ إلى غير ذلك من الشئون. (2)

9.تأسيس قاعدة الترتّب

إنّ قاعدة الترتّب من القواعد الّتي اكتشفها شيخنا المحقّق و هي بين آرائه كبيت القصيد،و قد أشار إليها في كتاب الدين الّذي هو جزء من موسوعته الفقهية المسمّاة ب«جامع المقاصد في شرح القواعد»،و الّتي قيل في حقّها:لم يؤلف مثلها.

و الكتاب دليل بارز على جودة ذهنه و نبوغ فكره و أنّه من المؤسّسين

ص:438


1- 1) .طريق استنباط الأحكام:14-17.
2- 2) .نظام القضاء و الشهادة، [1]للمؤلف:14/1.

و المحقّقين لا الناقلين و الشارحين،و قد فرض الكتاب نفسه منذ برز إلى الساحة في أوساط الدراسات العليا في كافة الحوزات الفقهية، ألّفه في مدينة النجف الأشرف في العقد الثالث من القرن العاشر و قد فرغ من بعض أبوابه عام 935ه.

و في وسع القارئ أن يسأل عن ماهية قاعدة الترتب،و هي كالتالي:

ما هي قاعدة الترتّب؟

لو افترضنا واجباً فورياً و واجباً موسعاً كالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد إذا صادف دخول الوقت لصلاة الظهر.فالأمر الأوّل فوريّ و الثاني موسع،فعندئذٍ يقع الكلام في أنّ الأمر بالواجب المضيق هل يقتضي النهي عن الواجب الموسّع (الصلاة) لكي تكون منهياً عنها أو لا؟

هنا قولان فمنهم من ذهب إلى الاقتضاء و منهم من نفاه.

و تظهر ثمرة البحث في بطلان الصلاة على القول بالاقتضاء،و صحّتها على القول بعدم الاقتضاء.

هذا ما كان عليه العلماء منذ قرون،و ربما يقال بأنّ النزاع عديم الثمرة،و أنّ الصلاة باطلة سواء أقلنا بالاقتضاء أم لا.

أمّا إذا قلنا بالاقتضاء فواضح،لأنّ النهي عن العبادة يقتضي فسادها.

و أمّا إذا قلنا بعدم الاقتضاء،فغايته عدم تعلّق النهي بالصلاة،غير أنّ عدم تعلّقه بها لا يكفي في الصحة،بل الصحة رهن الأمر بها، و المفروض عدمه،إذ لا يمكن الأمر بواجبين في وقت لا يسع إلاّ لأحدهما،فظهر بطلان الصلاة إمّا لأجل النهي أو لعدم تعلّق الأمر.

لكن شيخنا المحقّق قام في وجه هذا الإشكال و أحيا الثمرة المذكرة قائلاً:لو

ص:439

لم نقل بالاقتضاء جاز لنا القول بتوجّه الأمر إلى الصلاة و لكن مترتّباً على عصيان الأمر الأوّل،كما إذا قال:أزل النجاسة و إن عصيتَ فصلِّ، و على ذلك فالصلاة يتعلّق بها الأمر الترتّبي و إنّما سمّي به لترتّب الأمر بالصلاة على عصيان الأمر الأوّل.

و إلى هذه القاعدة يشير المحقّق الكركي في العبارة التالية:

قلنا:لا نسلم لزوم تكليف ما لا يطاق،إذ لا يمتنع أن يقول الشارع:أوجبت عليك كلاً من الأمرين،لكن أحدهما مضيق،و الآخر موسع، فإن قدّمت المضيق فقد امتثلت و سلمت من الإثم،و إن قدّمت الموسع فقد امتثلت و أثمت بالمخالفة في التقديم. (1)

ثمّ إنّ المتأخرين من الأُصوليين بسطوا الكلام في قاعدة الترتب بين مثبت و ناف.و قد ألفت في هذا المضمار رسائل و مقالات،و من أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب«إرشاد العقول إلى مباحث الأُصول» (2)الّذي هو محاضراتنا في أُصول الفقه،و قد قام بتقريره ولدنا الروحاني الشيخ محمد حسين الحاج العاملي-حفظه اللّه -.

10.لا يُنسخ الكتاب بخبر الواحد

إنّ للكتاب العزيز مكانة خاصة عند المسلمين،لا يعدلُ عنه إلى غيره إلاّ بدليل قطعيّ و على ضوء ذلك،ذهب المحقّق الكركي إلى عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد،لأنّه دليل ظنّي،لا تُرفع به اليد،عن الكتاب القطعي،و لنأت بمثال:

ص:440


1- 1) .جامع المقاصد:14/5. [1]
2- 2) .الجزء الثاني:فصل الترتّب.

قال سبحانه: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ». 1

و يدلّ لحن الآية على أنّ الوصية أمر قطعي لا تزول عبر الزمان،بشهادة قوله: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ» الحاكي عن الثبوت و اللزوم،كما أنّ تذييل الآية بقوله: «حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» دليل على أنّه حقّ ثابت على خصوص المتَّقين.

و مع ذلك فقد ذهب أكثر فقهاء السنّة إلى أنّه منسوخ بخبر الواحد،أي ما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم:«لا وصية لوارث»،و قد أوضحنا حال الرواية سنداً و دلالة في محاضراتنا الفقهية. (1)

ص:441


1- 2) .الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف:157/2- 180. [1]
آراؤه الفقهية

إنّ شيخنا المحقّق،أحد أئمّة الفقه،و فارس حلبته لا يسمح به الزمان إلاّ في فترات خاصة،و ها نحن نذكر بعض آرائه الفقهية ليكون نموذجاً لما لم نذكر.

11.لا يجوز تقليد الميّت

إنّ ازدهار فقه الشيعة عبر العصور و استعداده في كلّ زمان للإجابة عن الحوادث المستجدّة،رهن أُمور منها:تحريم تقليد الميت، و إيجاب الرجوع إلى المجتهد الحيّ،فأوجد ذلك رغبة ملحّة لدى طلاب العلوم الدينية في تحصيل ملكة الاجتهاد،و وضع ربقة التقليد عن الأعناق و بذلك حفظوا للفقه نضارته،و أضفوا على الشريعة استعداداً للبقاء،و أصبح العلماء في غنى عن التطفّل على موائد الآخرين.

و ممّن خاض غمار هذا البحث شيخنا المحقّق،فقد حقّق الموضوع في غير واحدة من رسائله،و نحن نذكر موجز ما ذكره في بعض رسائله،قال:

لا يجوز العمل بقول المجتهد بعد موته لوجوه:

1.إنّ المجتهد إذا مات سقط بموته اعتبار قوله شرعاً بحيث لا يُعتد به،و ما هذا شأنه لا يجوز الاستناد إليه شرعاً.

ص:442

أمّا الأُولى فللإجماع على أنّ خلاف الفقيه الواحد لسائر أهل عصره يمنع من انعقاد الإجماع،اعتداداً بقوله و اعتباراً لخلافه إذا مات و انحصر أهل العصر في المخالفين له انعقد الإجماع،و صار قوله غير منظور إليه شرعاً و لا يُعتدّ به.

و أمّا الثانية فظاهرة.

2.لو جاز العمل بقول الفقيه بعد موته امتنع في زماننا هذا للإجماع على وجوب تقليد الأعلم و الأورع من المجتهدين و الوقوف لأهل هذا العصر على الأعلم و الأورع بالنسبة إلى الأعصار السابقة كاد يكون ممتنعاً.

ثمّ إنّه إذا وجد للفقيه في مسألة قولان،إنّما يجوز تقليده و الرجوع إليه في القول الأخير؛لوجوب رجوعه هو عن الأوّل إليه،و وجوب إعلامه لمن كان قد قلّده في الأوّل برجوعه عنه.و أكثر المسائل يختلف قول الفقيه الواحد فيها،و لا يكاد يفرّق بين القول الأوّل و الأخير إلاّ نادراً، فيتعذّر الرجوع من هذا الوجه أيضاً.

و لنقتصر على هذين الوجهين،و من أراد التفصيل فليرجع إلى رسائله. (1)

12.وجوب تقليد الأعلم

من العوامل الّتي سبّبت تطور الفقه الإمامي و نضوجه هو إيجاب تقليد الأعلم،فإن مثل هذا الإلزام يثير همّة الآخرين لحيازة ذلك المقام بالبحث و الدراسة المضنية.

و ممّن ركّز على لزوم تقليد الأعلم شيخنا المحقّق الكركي قال في رسالته الجعفرية:«و طريقة معرفة أحكام الصلاة لمن كان بعيداً عن الإمام،الأخذ بالأدلّة التفصيلية في أعيان المسائل إن كان مجتهداً،و الرجوع إلى المجتهد و لو بواسطة و إن

ص:443


1- 1) .شرح الألفية:29؛جامع المقاصد:491/3.

تعددت،إن كان مقلداً،و اشترط الأكثر كونه حيّاً و مع التعدّد يرجع إلى الأعلم ثمّ الأورع». (1)

و قال في حاشية الشرائع:«و قد صرح جمع من الأُصوليين و الفقهاء باشتراط كون المجتهد حيّاً،ليجوز العمل بفتياه...و لو جاز العمل بقول الفقيه بعد موته،امتنع في زماننا هذا؛للإجماع على وجوب الأعلم و الأورع من المجتهدين،و الوقوف لأهل هذا العصر على الأعلم و الأورع بالنسبة إلى الأعصار السابقة كاد يكون ممتنعاً». (2)

13.المعاطاة مفيدة للملكية المتزلزلة

المعاطاة مفاعلة من الإعطاء،و تتمحض في إعطاء الثمن و أخذ المثمن من دون أن يكون هناك إيجاب و قبول،و قد اختلفت كلمة الفقهاء في حكمها،إلى أقوال ستة:

1.اللزوم مطلقاً و هو ظاهر المفيد.

2.اللزوم بشرط وجود اللفظ الدالّ على التراضي.

3.الملك غير اللازم.

4.عدم الملك مع إباحة جميع التصرفات حتّى المتوقفة على الملك.

5.إباحة ما لا يتوقف على الملك.

6.عدم إباحة التصرف مطلقاً.

و قد كان الحكم السائد عند فقهائنا إلى زمان المحقّق الثاني عدم إفادة

ص:444


1- 1) .الرسالة الجعفرية:17.
2- 2) .حاشية الشرائع:113/11.

المعاطاة الملكية و أوّل من أفتى بكونها مفيدة للملكية هو شيخنا المحقّق الكركي،لكنّها ملكية متزلزلة،كالبيع مع الخيار.و هناك نكتة نذكرها:

إنّ فقهاءنا جعلوا البيع بالصيغة أصلاً و المعاطاة فرعاً فاتّفقوا على أنّ البيع بالصيغة مفيد للملكية اللازمة،و اختلفوا في البيع بالمعاطاة إلى أقوال مختلفة مرّ ذكرها.

و لكن دراسة الحضارة البشرية و معرفة أنّ الإنسان بلغ إلى هذا المبلغ شيئاً فشيئاً-بعد أن كانت حياته بسيطة جدّاً و هو لا يعرف من القانون شيئاً-تقضي أنّ الحقّ هو العكس يعني:إنّ البيع بالمعاطاة أصل و البيع بالصيغة فرع،لما عرفت من أنّ مقتضى بساطة الحياة هو اكتفاء الإنسان في مقام المبادلة و رفع الحاجة بالمعاطاة،و لمّا تقدّم في معترك الحياة تمسك بالقانون،و اقتصر على البيع بالصيغة دون العمل الكثير و هو المعاطاة فقامت الصيغة مكان المعاطاة.

فإذا كان الفرع مفيداً للزوم فكيف يقصر عنه الأصل؟

و القول بأنّ المعاطاة مفيدة للملكية اللازمة كان قولاً شاذاً منسوباً إلى المفيد،و كان الرأي السائد هو إفادة المعاطاة الإباحة،و أوّل من أخرج القول بالملكية عن الشذوذ هو شيخنا المحقّق فأفتى بإفادتها الملكية غير أنّ الإجماع على عدم اللزوم صدّه عن الإفتاء بالملكية اللازمة.

قال:إنّ المعروف بين الأصحاب أنّها بيع و إن لم تكن كالعقد في اللزوم خلافاً لظاهر المفيد و لا يقول أحدٌ من الأصحاب بأنّها بيع فاسد سوى العلاّمة في نهايته و قد رجع عنه.

ثمّ استدلّ على إفادة الملكية بأنّ قوله تعالى: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ» 1 يتناولها

ص:445

لأنّها بيع بالاتفاق كما أنّ قوله: «إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» 1 يتناولها.

ثمّ إنّه أوّل قول القائلين بالإباحة إلى ما ذهب إليه من الملكية غير اللازمة،قال:و ما يوجد في عبارة جمع من متأخري الأصحاب:من أنّها تفيد الإباحة و تلزم بذهاب إحدى العينين،يريدون به عدم اللزوم في أوّل الأمر و بالذهاب يتحقّق اللزوم. (1)

و في ظل إظهار المحقّق الكركي القول بالملكية خرج القول بها عن الشذوذ،بل صار ذلك سبباً لإفتاء بعض المتأخرين عنه بالملكية اللازمة.

هذا هو الشهيد الثاني يقول:انعقاد البيع بكلّ ما دلّ على التراضي و عدّه الناس بيعاً فهو قريب من قول المفيد،و ما أحسنه و أمتن دليله إن لم ينعقد الإجماع على خلافه. (2)

و أنت خبير بأنّ مثل هذا الإجماع لا ينبغي أن يصدّ الفقيه عن الإفتاء بما استنبطه من الكتاب،لأنّه إجماع مدركي يعتمد على الأدلّة.

و الإجماع المستند إلى الأدلّة الشرعية لا يكون دليلاً برأسه،بل يكون هو تعبير آخر عمّا استند إليه المجمعون،فإذا تبيّن لنا فساد استنباطهم،لا يعتد بإجماعهم.

14.نقد عموم المنزلة في الرضاع

اتّفق الفقهاء-تبعاً للنصوص-على أنّه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

ص:446


1- 2) .جامع المقاصد:58/4. [1]
2- 3) .المسالك:152/3. [2]

ثمّ إنّ ما يحرم من النسب عبارة عن العناوين السبعة الواردة في الآية الكريمة،أعني قوله سبحانه: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ». 1

و المستفاد من عمومات الرضاع هو نشر الحرمة بتحقق أحد العناوين المذكورة-في الكتاب العزيز-بالرضاع مثلاً.

البنت في الرضاع كلّ أُنثى رضعت من لبنك أو لبن من ولدته أو أرضعتها امرأة ولدتها،و كذا بناتها من النسب و الرضاع.

و العمات و الخالات أخوات الفحل و المرضعة و هكذا،فلو تحقّق بالرضاع أحد هذه العناوين السبعة يحكم بالحرمة.

و أمّا إذا لم يحصل هو بنفسه بل حصل عنوان ملازم له،بحيث لو حصل في النسب لنشر الحرمة،لما كان محرّماً،لأنّ المتيقن من التنزيل هو ما عرفت،و غيره يحتاج إلى دليل.

و يظهر من الرسالة الرضاعية للمحقّق الكركي انّه شاع في عصره على ألسنة الطلبة،القول بالتعميم و انّ الملازمات النسبية كالعناوين تنشر الحرمة فقال:

اعلم وفّقك اللّه،أنّه قد اشتهر على ألسنة الطلبة في هذا العصر تحريم المرأة على بعلها بإرضاع بعض ما سنذكره،و لا نعرف لهم في ذلك أصلاً يرجعون إليه من كتاب،أو سنّة،أو إجماع،أو قول لأحد من المعتبرين،أو عبارة يُعتدّ بها تُشعر بذلك،أو دليل مستنبط في الجملة يعوّل على مثله بين الفقهاء.

و إنّما الّذين شاهدناهم من الطلبة وجدناهم يزعمون أنّه من فتاوى شيخنا

ص:447

الشهيد قدس سره،و نحن لأجل مباينة هذه الفتوى لأُصول المذهب،استبعدنا كونها مقالة لمثل شيخنا على غزارة علمه و ثقوب فهمه،لا سيّما و لا نجد لهؤلاء المدّعين لذلك إسناداً يتّصل بشيخنا في هذه الفتوى يُعتدّ به،و لا مرجعاً يركن إليه.

و لسنا نافين لهذه النسبة عنه قدس سره؛استعانة على القول بفساد هذه الفتوى،فإنّ الأدلّة على ما هو الحقّ اليقين و اختيارنا المبين بحمد اللّه كثيرة جدّاً،لا يستوحش معها من قلّة الرفيق.

ثمّ إنّه قدس سره أبطل القاعدة المسمّاة بعموم المنزلة في هذه الرسالة بذكر ثلاث عشرة صورة،و ها نحن نذكر بعض الصور ليكون كالنموذج لما لم نذكره.

الصورة الأُولى

إذا أرضعت المرضعة أخاها و أُختها،تحرم على فحلها،لأنّها عندئذٍ صارت أُخت الولد و هو محرم في النسب،لأنّ أُخت الولد بنت.

أمّا كونها أُختاً،فلفرض انّها أرضعت أُختها؛و أمّا كون المرتضع ولداً،فلافتراض انّه ارتضع بلبن الفحل،فالمرتضع يُعد ولداً لأجل الرضاع،و المرتضعة أُخت بالنسب،فبإرضاعها إيّاه تصير أُخت الولد،و من المعلوم أنّ أُخت الولد حرام للإنسان لأنّها بنته.

يلاحظ عليه:بأنّ أُخت الولد في النسب لا تخلو من حالتين:

أ.أمّا أنّها بنت حقيقة،و لكن المرضعة في المقام ليست بنتاً للفحل،لا تكويناً و لا اعتباراً.

ب.ربيبة و لكن تحرم الربيبة على الزوج إذا دخل بأُمّها فيحتاج إلى المصاهرة و المفروض انتفاؤها.

ص:448

الصورة الثانية

إذا أرضعت المرضعة ولد أخيها فتحرم على فحلها،لأنّها تصير عندئذٍ عمّة الولد.

أمّا كونها عمّة فهو حاصل بالنسب و إنّما حصل بالرضاع كونه ولداً للفحل.

يلاحظ عليه:أنّ المحرّم إنّما هو أُخت الرجل نسباً أو رضاعاً و ليست المرضعة أحدهما،و هكذا سائر الصور.

و مع أنّه ألّف رسالة في الموضوع،طرح المسألة أيضاً في«جامع المقاصد»نقتطف منه ما يلي:

قال قدس سره:و قد شاهدنا بعض من عاصرناه يروي عن بعض الأصحاب:أنّ المرأة إذا أرضعت ابن أخيها تحرم على زوجها صاحب اللبن، لأنّها عمة ابنه،و هي بمنزلة أُخته،و نحو ذلك.

و هذا من الأوهام الفاسدة قطعاً،لأنّ هذه ليست بينها و بين زوجها بسبب الرضاع علاقة نسب و لا علاقة مصاهرة،لأنّ المحرّم صيرورتها أُختاً و نحو ذلك،أمّا صيرورتها كالأُخت فلا دليل يدلّ عليه.

و لو تخيّل متخيّل أنّ التعليل في الروايات لتحريم أولاد الفحل على أب المرتضع:بأنّهم بمنزلة أولاده،يشعر بأنّ من كان بمنزلة إحدى المحرمات نسباً يحرم،فتحرم المرأة إذا صارت بمنزلة الأُخت و العمة و الخالة.

لقلنا:إنّ هذا من الخيالات الفاسدة و الأوهام الباطلة،لأنّ الّذي يعتبر العلّة المنصوصة و يحكم بتعديتها،إنّما يعتبر نفس المعلّل به، فيرتب عليه الحكم إن

ص:449

وجد،لا على ما شابهه.

و لا شكّ أنّ هذا من المجازفات في الدين،و العدول عن صريح الكتاب و السنّة و الدلائل القاطعة عند أهل الشرع،مثل الاستصحاب،إلى القول بالرأي من غير دليل و لا إثارة علم.

و قد أفردنا لهذه المسألة رسالة حسنة تسمّى«الرضاعية»،من أراد تحقيقها فليطالع تلك الرسالة. (1)

15.حلية الخراج

هذه المسألة التي طرحها شيخنا المحقّق على صعيد البحث،من المسائل التي أثارت نزالاً و جدالاً كثيراً بينه و بين معاصره الشيخ إبراهيم القطيفي و لم يقف الجدال بموت الشيخ المحقّق بل دام بعده عن طريق غيرهم.

هكذا كانت سيرة علمائنا في البحث و التنقيب،فيؤلف الشيخ الكركي رسالة في حل الخراج في عصر الغيبة يسميها«قاطعة اللجاج في تحقيق حل الخراج»عام 916ه،و يأتي بعده الفاضل القطيفي فيؤلف في ردها رسالة أسماها«السراج الوهّاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج»،ثمّ إنّ البحث دام بعد وفاة المتعاصرين-الكركي و القطيفي-فقام المحقّق الأردبيلي بتأليف رسالة في الخراج أيّد فيها موقف الشيخ القطيفي،ثمّ ألّف الفاضل الشيباني رسالة انتصر فيها للشيخ الكركي ورد مناقشات القطيفي و ناصره الأردبيلي.

اتّفق العلماء على حل الخراج في عصر ظهور الإمام،لأنّ إدارتها جزء من

ص:450


1- 1) .جامع المقاصد:244/12- 245. [1]

شئون الولاية و الحكومة التي يتحمّلها الإمام المعصوم في عصره،و إنّما الكلام في حكم الخراج في زمان الغيبة و أنّه هل يحلّ للفقيه الجامع للشرائط أخذ الخراج أو المقاسمة من هذه الأراضي و صرفها في الموارد الّتي كان الإمام يصرفه فيها،أو أنّها تترك سدى و ليس للفقيه فيها شأن؟

فالمحقّق الكركي على الرأي الأوّل و مخالفوه على الرأي الثاني،و لا بأس أن نتحدث عن رسالة المحقّق الكركي الخراجية على وجه الإجمال:

يقول في المقدّمة الأُولى إنّ الأراضي على قسمين:

أحدهما:أرض بلاد الإسلام و هي على قسمين أيضاً:عامر،و موات.

فالعامر ملك لأهله،لا يجوز التصرّف فيه إلاّ بإذن مُلاّكه.

و الموات إن لم يجر عليه ملك مسلم فهو لإمام المسلمين يفعل به ما يشاء،و ليس هذا القسم من محلّ البحث المقصود.

القسم الثاني:ما ليس كذلك،و هو أربعة أقسام:

أحدها:ما يملك بالاستغنام و يؤخذ قهراً بالسيف،و هو المسمّى بالمفتوح عنوة.

و هذه الأراضي للمسلمين قاطبة،لا يختصّ بها المقاتلة عند أصحابنا كافة،و يقبلها الإمام لمن يقوم بعمارتها بما يراه

ص:451

من النصف أو الثلث أو غير ذلك.

ثانيها:أرض من أسلم أهلها عليها طوعاً من غير قتال و حكمها أن تترك في أيديهم ملكاً لهم يتصرفون فيها بالبيع و الشراء و الوقف و سائر أنواع التصرّف إذا قاموا بعمارتها و يؤخذ منهم العشر أو نصفه زكاةً بالشرائط،نعم لو تركوا عمارتها و تركوها خراباً كانت للمسلمين قاطبة، و جاز للإمام أن يقبلها ممّن يعمرها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع.

ثالثها:أرض الصلح و هي كل أرض صالح أهلها عليها و هي أرض الجزية،فيلزمهم ما يصالحهم الإمام عليه من نصف أو ثلث أو ربع.

رابعها:أرض الأنفال و هي كلّ أرض انجلى أهلها عنها و تركوها أو كانت مواتاً لغير ذلك فأُحييت أو كانت آجاماً أو غيرها ممّا لا يزرع فاستحدثت مزارع فإنّها كلّها للإمام خاصة.

و الفرق بين المقاسمة و الخراج هو:

ما يؤخذ من هذه الأراضي إمّا مقاسمة بالحصة أو ضريبة تسمّى الخراج.

فلو أُخذ من نفس الحاصل يسمّى مقاسمة،و إن أخذ القيمة مكان العين فهو خراج،و ربما يطلق الخراج و يراد المعنى الأعمّ من القيمة و غيرها.

فالخراج هو المأخوذ من أحد الأراضي الثلاثة:

أ.المأخوذ عنوة.

ب.الأرض الّتي أسلم أهلها عليها من غير قتال ثمّ تركوها فقبلها الإمام لغيرهم بالثلث و نحوه.

ج.أرض الصلح و هي كلّ أرض صالح أهلها عليها بالجزية،من نصف أو ثلث أو ربع.

ثمّ إنّ الشيخ أفاض في آخر الرسالة في حكم الخراج في زمان الغيبة و قال:و أمّا في حال الغيبة فهو موضوع الكلام و مطرح النظر و لو تأمل المنصف لوجد الأمر فيه أيضاً بيّناً جلياً،فإنّ هذا النوع من المال مصرفه ما ذكر و ليس للإمام عليه السلام

ص:452

قليل و لا كثير،و هذه المصارف (1)الّتي عدّدنا لم تتعطل كلّها في حال الغيبة و إن تعطل بعضها.

و كون ضرب الخراج و تقبيل الأرضين و أخذه و صرفه موكولاً إلى نظره عليه السلام لا يقتضي تحريمه حال الغيبة؛لبقاء الحقّ و وجود المستحق.مع تضافر الأخبار عن الأئمّة الأطهار،و تطابق كلام أجلّة الأصحاب،و متقدّمي السلف و متأخّريهم،بالترخيص لشيعة أهل البيت عليهم السلام في تناول ذلك حال الغيبة بأمر الجائر.

ثمّ إنّه استدلّ على ما رامه من حلّ الخراج بروايات كثيرة:

1.رواية الشيخ الطوسي عن أبي بكر الحضرمي.

2.ما رواه أيضاً عن عبد الرحمن بن الحجاج.

3.ما رواه الشيخ أيضاً عن أبي المعزى.

إلى غير ذلك من الروايات المتعدّدة.

ثمّ استدلّ بفتاوى الأصحاب كشيخ الطائفة في النهاية(ص:358)،و المحقّق في الشرائع(ج2،ص 13)،و العلاّمة في المنتهى:(ج2،ص 1027)،ثمّ استدل أيضاً بسيرة العلماء في أدوار مختلفة كالشريفين في عصر البويهيين،و نصير الدين الطوسي أيام التتر.

ثمّ قال قدس سره:ثمّ انظر إلى ما اشتهر من أحوال آية اللّه في المتأخّرين،بحر العلوم،مفتي الفرق،جمال الملّة و الدين أبي منصور الحسن المطهّر قدس سره،و كيف كان ملازمته للسلطان المقدّس المبرور محمّد خدابنده،و أنّه كان له عدّة قُرى،و كانت

ص:453


1- 1) .ذكر أصحابنا مصرف الخراج انّ الإمام يجعل منه أرزاق الغزاة و الولاة و الحكام و سائر وجوه الولايات.لاحظ المبسوط:75/2. [1]

نفقات السلطان و جوائزه واصلة إليه،و غير ذلك ممّا لو عدّد لطال.

و لو شئت أن أحكي من أحوال عبد اللّه بن عباس،و عبد اللّه بن جعفر،و كيف كانت أحوالهما في دول زمانهما،لحكيت شيئاً عظيماً.

بل لو تأمّل الخالي من المرض قلبه،لوَجَدَ المربّي للعلماء و المروّج لأحوالهم إنّما هم الملوك و أركان دولهم.

و لهذا لمّا قلّت العناية بهم،و انقطع توجّههم بالتربية إليهم،ضعفت أحوالهم،و تضعضعت أركانهم،و خلت أندية العلم و محافله في جميع الأرض. (1)

و يظهر من صدر الرسالة،أنّ المحقّق الكركي صار في حرج و قلق شديد عند ما أفتى بحل الخراج بحيث صار غرضاً للمخالف،يقول قدس سره :

فإنّي لما توالى على سمعي تصدّي جماعة من المتسمّين بسمة الصلاح،و لُمّة من غوغاء الهمج الرُّعاع،أتباع كلّ ناعق،الذين أخذوا من الجهالة بحظٍّ وافر،و استولى عليهم الشيطان،فحلّ منهم في سويداء الخاطر،لتقريض العرض و تمزيق الأديم،و القدح بمخالفة الشرع الكريم، و الخروج عن سواء المنهج القويم. (2)

فتوى الكركي في قفص الاتّهام

و لعلّ هناك من يتوهم أنّ الحافز لهذه الفتيا و الدفاع عن حلية الخراج هو تولّيه شيخوخة الإسلام في الدولة الصفوية و لم يكن له بُدّ إلاّ الإفتاء بحلّيته،لأنّ الخراج كان يوم ذاك من أهمّ المنابع المالية للدولة الصفوية.

لكنّه توهّم باطل،لأنّ الشيخ فرغ من تأليف هذه الرسالة في الحادي عشر

ص:454


1- 1) .قاطعة اللجاج في تحقيق حل الخراج التي طبعت ضمن مجموع مؤلفاته:490/4- 493.
2- 2) .المصدر السابق:447- 448.

من شهر ربيع الثاني من شهور عام 916ه و هو بعد في العراق لم يهاجر إلى إيران،و إنّما هاجر إليها في أواخر هذه السنة.و الشاهد على هذا أنّه يقول في بدء الرسالة:

حيث إنّنا ألزمنا الإقامة ببلاد العراق،و تعذّر علينا الانتشار في الآفاق،لأسباب ليس هذا محلّ ذكرها،... (1).نعم تصل إليه من الحاكم الصفوي صلات و أموال يصرفها في حاجات الحوزة و لعلّها كانت من الخراج.

16.الإفتاء بوجوب صلاة الجمعة التخييري

عند إطلالة القرن العاشر سادت الربوع الإسلامية دولتان عظيمتان و هما:الدولة الصفوية و الدولة العثمانية.

و قد حكمت الأُولى أصقاعاً من الشرق الإسلامي من عام 950- 1135ه،كما حكمت الثانية رقعة كبيرة من الغرب الإسلامي و غالب البلاد العربية.

و قد اهتمت الدولتان بإضفاء الشرعية على حكمهما لكسب قلوب الناس.

و كانت الدولة الصفوية تتبنّى المذهب الشيعي،كما أنّ العثمانيين كانوا يتبنّون المذهب السنّي.و مع ذلك فالدولتان كانتا واقفتين على أنّ إقامة الدولة الشرعية رهن سيادة العلماء عليها.و أن لا تصدر الدولة الإسلامية في الأُمور السياسية و الاجتماعية إلاّ عن رأيهم و إفتائهم،و لذلك ازدهر الفقه و الفتيا بل العلوم الإسلامية في عهد الدولتين إلى حدّ بعيد.

و لما كانت الأُمور السياسية و الاجتماعية-الّتي كان الإمام المعصوم يتولاّها

ص:455


1- 1) .الرسالة الخراجية:448،ضمن مجموعة آثار المحقّق.

في عصر الحضور-فوّضت في عصر الغيبة إلى الفقيه الجامع للشرائط،و كانت إقامة صلاة الجمعة في عامة العصور داخلة في هذا الإطار،لم يكن بدّ للدولة الشيعية من إقامتها بإذن فقيه جامع للشرائط،و من سوء الحظ اختلاف كلمة فقهاء الشيعة في عصر الغيبة في إقامتها إلى حدّ بعيد.

فمنهم من ذهب إلى حرمتها و رأى أنّ إقامتها منوط بإذن الإمام المعصوم من غير فرق بين العصرين:عصر الظهور،و عصر الغيبة.

و في قبال ذلك ذهب بعضهم إلى وجوبها العيني و انّه لا فرق بين الزمانين،انّها تقام بإذن الفقيه الجامع للشرائط.

لكن شيخنا المحقّق اختار المذهب الوسط فأفتى بوجوبها التخييري،و ألف في هذا المضمار رسالة عام 921ه،بعد رجوعه من الهجرة الأُولى من بلاد فارس،و إقامته في النجف الأشرف.

و قد كان لهذه الرسالة تأثير في رجوع المسألة إلى ساحة الدراسة و التأليف،فقد قام لفيف من الفقهاء بتأليف رسائل حول الموضوع في القرون الثلاثة:العاشر و الحادي عشر و الثاني عشر،ربما تناهز الثلاثين. (1)

و بما انّ الرسالة من أهمّ رسائله،و تقع في عداد رسالته حول الخراج حيث أثارت حفيظة الآخرين عليه،فإنّنا نودّ أن نذكر خلاصتها، و كان قد رتّبها على مقدمات.

الأُولى:إذا رفع الوجوب في عصر الغيبة،فالمرفوع هو اللزوم،و أمّا الجنس-أعني:الجواز-فهو باق بحاله.

ص:456


1- 1) .ذكر أسماءها الشيخ محمد الحسون في موسوعته حياة المحقّق الكركي و آثاره:62/2- 70.

الثانية:انّ الفقيه الجامع للشرائط يمارس ما كان الإمام المعصوم يمارسه إلاّ ما خرج بالدليل كما تدلّ عليه مقبولة عمر بن حنظلة.

الثالثة:يشترط في إقامة صلاة الجمعة وجود الإمام المعصوم أو نائبه،ثمّ ذكر كلمات العلماء.

و تعرّض في آخر الرسالة لصفات الفقه الجامع للشرائط،فذكر ثلاث عشرة صفة،أعني:

الإيمان،العدالة،العلم بالكتاب،و السنّة،و الإجماع،و القواعد الكلاميّة،و شرائط الحدود و البرهان،و اللغة و النحو و الصرف،و الناسخ و المنسوخ و أحكامهما،و التعارض و الترجيح،و الجرح و التعديل و أحوال الرواة،و أنّ له نفساً قدسيّة و ملكة نفسانية يقتدر معها على اقتناص الفروع من الأُصول،و أن يكون حافظاً بحيث لا يغلب عليه النسيان.

و لا يتوهّم القارئ:«انّ المحقّق الكركي في إفتائه بالوجوب التخييري و الدعوة إلى إقامتها في البلاد و القرى،نزل على رغبة الدولة الفتية التي أقامتها الصفوية في إيران و حواليها،و لو لا توليه لشيخوخة الإسلام،لما قام بهذا الأمر».

كلا هذا توهّم فاسد،و إنّما صدرت الفتوى،عن صميم رغبته،ببيان ما أدّى إليه اجتهاده.

و يشهد على ذلك أنّه ألّف الرسالة،بعد رجوعه من إيران،بقلب مكمد و حزن كبير لمّا واجه تيارات في البلاط الصفوية معادية لما يتبنّاه من التطوير في الدولة.

فرجع من إيران أوائل 920ه،ثمّ ألف الرسالة.

و المحقّق الكركي عالم رباني لا يصدر إلاّ عن الكتاب و السنّة و لا يفتي إلاّ

ص:457

بما استنبطه من المصادر،سواء أوافق رأي الحكام أم خالفه.

و على هذا الخط،مشى عامة فقهاء الشيعة حتّى أنّ الشهيد الثاني،هو ممّن رفض دعوة الصفوية إلى إيران،و مع ذلك ألّف رسالة في صلاة الجمعة قائلاً بوجوبها العيني.

17.ولاية الفقيه في مدرسة المحقّق الكركي

إنّ البحث في ولاية الفقيه و توضيح حقيقتها و أدلّتها رهن تأليف مفرد لا يسعه المقام و إنّما نشير إليها على وجه الإيجاز،ثمّ نذكر نظرية المحقّق حول هذا الأصل في الحكومة الإسلامية.و الّذي أدهش الغربيّين و تلقوه عنصراً جديداً في الحقوق السياسية.

ممّا يجدر ذكره أنّه زارني في بدايات الثورة الإسلامية في إيران في مكتبي شابّ من فرنسا كان يدرس الحقوق السياسية في إحدى جامعاتها،و قال ما هذا خلاصته:

بعثني أساتذة الجامعة لدراسة«ولاية الفقيه»دراسة معمّقة مع أدلّتها،و ما ذلك لأنّ هذا الأصل أدهش أساتذتنا،إذ لم يقرع سمعهم إلى الآن.

و كان الشابّ ملمّاً باللغة العربية و أظن أنّه كان وليد لبنان أو من أُسرة لبنانية.ثمّ إنّي شرحت له ماهية ولاية الفقيه،و انّها زعامة الفقيه وفق القوانين الإسلامية.و بعبارة أُخرى:يشترط في الحاكم الأعلى أن يكون فقيهاً عارفاً بالأحكام مستنبطاً إيّاها من الكتاب و السنّة إلى غير ذلك من الشروط،و أمّا كيفية ممارسة الحكم فهو لا يمت إلى الاستبداد بصلة أبداً،كما لا يمت إلى القيمومة على الأُمّة بصلة.

إنّ للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة مناصب ثلاثة:

ص:458

الأوّل:منصب الإفتاء:فإنّ الأحكام الشرعية لما كانت أمراً نظرياً لا يتمكن كلّ أحد من معرفتها،عمد الإسلام إلى إرجاع نظام الإفتاء إلى فقيه عالم بشرائع دينه،و هذا هو الّذي يطلق عليه في اصطلاح المتشرعة ب«المفتي»ليكون مرجعاً لأخذ الأحكام.

الثاني:القضاء:فإنّ من مقتضى القوى و الغرائز النفسانيّة و الطبيعيّة التوجّه إلى المنافع،و التباعد عن المضارّ،و هو بدوره يوجب نزاعاً على المنافع الّذي قد ينجرّ إلى الحروب،فلدفع هذه المفسدة ترك أمر القضاء إلى الفقيه الجامع للشرائط.

الثالث:الحكومة:فإنّ من أهمّ ما يحتاج إليه البشر في حفظ نواميسه،و نفوسه و اجتماع أمره؛وجود قائد بينهم يجب على الجميع إطاعة قوله و اتّباع فعله،و هو الّذي يعبّر عنه في لسان الشرع و المتشرعة بالحاكم و السائس.

فالأوّلان من هذه المناصب الثلاثة ثابتان للفقيه باتّفاق الكلمة،و أمّا الولاية و الحكومة-أعني القيام بنظم البلاد و الدعوة إلى الجهاد و الدفاع و سدّ الثغور و إجراء الحدود و جباية الزكاة و إقامة الجمعة إلى غير ذلك-فهي في نظر مشاهير الفقهاء ثابتة للفقيه الجامع للشرائط،غير أنّه ينهض بممارسة ذلك المنصب بأحد وجهين:

أ.تارة يقوم بتشكيل الحكومة فيجب على الناس إطاعته.

ب.إذا نهض الناس بتشكيل الحكومة تحت الضوابط الإسلامية فللفقيه العادل أن يراقب سلوك الحكومة و تصرفاتها فيصحّح سيرتها إذا انحرفت و يُعدِّل سلوكها إذا شذ.

إنّ الفقيه بحكم مسئوليّته تجاه الإسلام و المسلمين يتحرّى في جميع الظروف مصالح الأُمّة،فإذا كانت الحكومة الّتي أقامتها الأُمّة الإسلامية موافقةً للمعايير

ص:459

الإسلامية،و مطابقةً للمصلحة الاجتماعية العليا وجب عليه إمضاؤها،و إقرارها،و ليس له أن يردّها،و لأجل ذلك لا يترتّب على (ولاية الفقيه) إلاّ استقرار الحكومة الإسلامية الصالحة،و لا يتغير بولايته أيّ من الأركان و المؤسسات الحكوميّة،و لا تتعارض مع حريّة الأُمّة و اختيارها.

ذلك هو مجمل حقيقة ولاية الفقيه،و هذه هي كيفيّة ممارستها.

ولاية الفقيه في كلمات المحقّق الكركي
اشارة

إنّ استنباط رأي المحقّق الكركي في ولاية الفقيه رهن دراسة أمرين:

الأوّل:إنّ المحقّق هاجر إلى إيران و تعاون مع الدولة الصفوية،على وجه سيوافيك بيانه.

الثاني:دراسة آرائه في غير موضع من كتبه،و من حاول أن يقف على رأيه فليلاحظ بحوثه في الجهاد و القضاء و إقامة الحدود و التعزيرات و تولّي أموال القُصّر إلى غير ذلك،و ها نحن نذكر موجزاً من كلماته ليقف القارئ على أنّه ممّن جهر بولاية الفقيه مستنداً إلى الأدلّة.

1.كلامه في صلاة الجمعة

قال:«اتّفق أصحابنا-رضوان اللّه عليهم-على أنّ الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى،المعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية،نائب من قبل أئمّة الهدى صلوات اللّه و سلامه عليهم في حال الغيبة،في جميع ما للنيابة فيه مدخل،و ربّما استثنى الأصحاب القتلَ و الحدود مطلقاً.

فيجب التحاكم إليه،و الانقياد إلى حكمه،و له أن يبيع مال الممتنع من أداء

ص:460

الحقّ إن احتيج إليه،و يلي أموال الغيّاب و الأطفال و السُّفهاء و المفلسين،و يتصرّف على المحجور عليهم،إلى آخر ما يثبت للحاكم المنصوب من قبل الإمام عليه السلام.

و الأصل فيه ما رواه الشيخ في«التهذيب»باسناد إلى عمر بن حنظلة عن مولانا الصادق جعفر بن محمد عليه السلام أنّه قال:«انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا،و نظر في حلالنا و حرامنا،و عرف أحكامنا،فارضوا به حكماً،فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً.فإذا حكم بحكمنا و لم يقبله منه،فإنّما بحكم اللّه استخفّ،و علينا ردّ و الرادّ علينا رادّ على اللّه،و هو على حدّ الشرك باللّه».

و في معناه أحاديث كثيرة.

و المقصود من هذا الحديث هنا:أنّ الفقيه الموصوف بالأوصاف المعيّنة،منصوب من قبل أئمّتنا عليهم السلام،نائب عنهم في جميع ما للنيابة فيه مدخل بمقتضى قوله:«فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»،و هذه استنابة على وجه كلّي.

و لا يقدح كون ذلك في زمن الصادق عليه السلام؛لأنّ حكمهم و أمرهم عليهم السلام واحد،كما دلّت عليه أخبار أُخرى.

و لا كون الخطاب لأهل ذلك العصر؛لأنّ حكم النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الإمام عليه السلام على الواحد حكم على الجماعة بغير تفاوت،كما ورد في حديث آخر». (1)

2.قال في الرسالة الخراجية:

«فإن قلت:»فهل يجوز أن يتولى من له النيابة حال الغيبة ذلك،أعني الفقيه الجامع للشرائط؟

قلنا:لا نعرف للأصحاب في ذلك تصريحاً،و لكن من جوّز للفقهاء حال

ص:461


1- 1) .صلاة الجمعة المطبوع في ضمن رسائله:263/4- 264.

الغيبة تولّي استيفاء الحدود،و غير ذلك من توابع منصب الإمامة،ينبغي تجويزه لهذا بالطريق الأولى؛لأنّ هذا أقلّ منه خطراً،لا سيّما و المستحقون لذلك موجودون في كلّ عصر،إذ ليس هذا الحقّ مقصوراً على الغزاة و المجاهدين كما يأتي.

و من تأمّل في كثير من أحوال كبراء علمائنا السالفين،مثل السيّد الشريف المرتضى علم الهدى،و أعلم المحقّقين من المتقدّمين و المتأخّرين نصير الحقّ و الدين الطوسي،و بحر العلوم مفتي الفرق جمال الملة و الدين الحسن بن مطهر و غيرهم رضوان اللّه عليهم،نظر متأمّل منصف لم يعترضه الشكّ في أنّهم كانوا يسلكون هذا المنهج و يبيحون هذا السبيل،و ما كانوا ليودعوا بطون كتبهم إلاّ ما يعتقدون صحته. (1)

و ما زلنا نسمع خلال المذاكرة في مجالس التحصيل من أخبار علمائنا الماضين و سلفنا الصالحين،ما هو من جملة الشواهد على ما ندّعيه،و الدلائل الدالّة على حقيقة ما ننتحيه.

فمن ذلك ما تكرّر سماعنا له من أحوال الشريف المرتضى علم الهدى ذي المجدين،أعظم العلماء في زمانه،الفائز بعلوّ المرتبتين في أوانه،علي بن الحسين الموسوي قدس سره،فإنّه مع ما اشتهر من جلالة قدره في العلوم،و أنّه في المرتبة الّتي تنقطع أنفاس العلماء على أثرها،و قد اقتدى به كلّ من تأخّر عنه من علماء أصحابنا،بلغنا أنّه كان في بعض دول الجور ذا حشمة عظيمة و ثروة جسيمة و صورة معجبة،و أنّه قد كان له ثمانون قرية،و قد وجدنا في بعض كتب الآثار ذكر بعضها.

و هذا أخوه ذو الفضل الشهير،و العلم الغزير،و العفّة الهاشميّة،و النخوة

ص:462


1- 1) .آثار المحقّق الكركي:489/4- 490،قسم الرسائل.

القرشيّة،السيّد الشريف الرضيّ المرضيّ روّح اللّه روحه،كان له ثلاث ولايات.

و لم يبلغنا عن أحد من صلحاء ذلك العصر الإنكار عليهما،و لا الغض منهما،و لا نسبتهما إلى فعل حرام أو مكروه أو خلاف الأولى،مع أنّ الّذين في هذا العصر ممّن يزاحم بدعواه الصلحاء،لا يبلغون درجات أتباع أُولئك و المقتدين بهم.

و متى خفي شيء،فلا يخفى حال أُستاذ العلماء و المحقّقين،و السابق في الفضل على المتقدّمين و المتأخّرين،العلاّمة نصير الملّة و الحقّ و الدين،محمّد بن محمّد بن الحسن الطوسي قدّس اللّه نفسه و طهّر رمسه،و أنّه كان المتولّي لأحوال الملك و القائم بأعباء السلطنة،و هذا و أمثاله إنّما يصدر عن أوامره و نواهيه.

ثمّ انظر إلى ما اشتهر من أحوال آية اللّه في المتأخّرين،بحر العلوم،مفتي الفرق،جمال الملّة و الدين أبي منصور الحسن بن المطهّر قدس سره، و كيف كانت ملازمته للسلطان المقدّس المبرور محمّد خدابنده،و أنّه كان له عدّة قُرى،و كانت نفقات السلطان و جوائزه واصلة إليه،و غير ذلك ممّا لو عدّد لطال.

و لو شئتُ أن أحكي من أحوال عبد اللّه بن عباس،و عبد اللّه بن جعفر،و كيف كانت أحوالهما في دول زمانهما،لحكيت شيئاً عظيماً. (1)

3.ولاية الفقيه في جامع المقاصد

قال:الفقيه المأمون الجامع لشرائط الفتوى منصوب من قبل الإمام،و لهذا تمضي أحكامه و تجب مساعدته على إقامة الحدود و القضاء.

لا يقال:الفقيه منصوب للحكم و الإفتاء،و الصلاة أمر خارج عنهما.

ص:463


1- 1) .آثار المحقّق الكركي:503/4-504،قسم الرسائل.

لأنّا نقول:هذا في غاية السقوط؛لأنّ الفقيه منصوب من قبلهم عليهم السلام حاكماً كما نطقت به الأخبار،و قريباً من هذا أجاب المصنّف و غيره. (1)

أقول:ما ذكره هنا هو قريب ممّا نقلناه عنه في رسالة صلاة الجمعة،و على الجملة فكونه معتقداً بولاية الفقيه و مفتياً و ممارساً لها في إقامته في النجف الأشرف و في رحلته إلى إيران و تعاونه مع الدولة،من الأُمور الواضحة،و سيوافيك بعض الكلام عند البحث عن آرائه السياسية.

ص:464


1- 1) .جامع المقاصد:374/2. [1]

الفصل السادس:حياته السياسية و الخدمات الّتي قدمها للمجتمع

اشارة

أسّس النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم أوّل حكومة إسلامية و أقامها في المدينة المنورة،و هي و إن لم تكن من حيث التنظيمات الإدارية على النحو المتعارف الآن إلاّ أنّها كانت تمثِّل-آنذاك-حكومة كاملة الأركان،واضحة السمات و الملامح،و هذا يُعلم من دراسة حياة النبي من هذا المنظار.

إنّ الإسلام ليس مجرّد طقوس و مراسيم فردية يقوم بها كلّ فرد في بيته و معبده،بل هو نظام اجتماعي،حقوقي،اقتصادي،و سياسي.فما سنّه في هذه الحقول رهن سلطة تنفيذية تتعهد بإجرائها.

و لقد بلغت أهمية الدولة و الحكومة في نظر نبي الإسلام حداً،أن جُعلت هي السبب الأساس في فساد أو صلاح الأُمّة،حيث قال:«صنفان من أُمّتي إذا صلحا صلحت الأُمّة،و إذا فسدا فسدت الأُمّة».

قيل يا رسول اللّه:و من هم؟ قال:

«الفقهاء و الأُمراء». (1)

ص:465


1- 1) .علل الشرائع:253.

إنّ دراسة فقه الإسلام من بدايته إلى نهايته تكشف للدارس الحقيقة التالية،و هي أنّ تنفيذ هذه الأحكام يتطلّب بنفسه حكومة متكاملة الجوانب من حيث التقنين و التشريع أوّلاً،و القضاء و فصل الخصومات ثانياً،و الإجراء و التنفيذ ثالثاً.

و قد ذكر سبحانه القوة التنفيذية و ملامحها في قوله: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ». 1

الحكومة حق للّه سبحانه
اشارة

إنّ من مراتب التوحيد تخصيص الحكومة للّه سبحانه و أنّه لا حكم إلاّ للّه و لا حاكم سواه،يقول سبحانه: «إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ». 2

و ذلك لأنّ الحكومة تستدعي التصرّف في النفوس و الأموال و غيرها و ليس لأحد حقّ على أحد إلاّ اللّه سبحانه الّذي هو خالق النفوس.

و بما أنّه سبحانه لا يحكم في الأرض مباشرة فقد اقتضى الحال أن يعيّن الحاكم من البشر إمّا بالاسم و الشخص أو من خلال توفّر الصفات و الشروط اللازمة فيه.

أمّا التصريح بالاسم و الشخص فهذا كالنبي و أئمّة أهل البيت الاثني عشر عليهم السلام،و أمّا الثاني فهذا فيما إذا لم يكن هناك تصريح بالاسم فيؤخذ بالمواصفات أينما وجدت،و هذا يختص بعصر الغيبة فإنّ الحاكم منصوب من جانبه سبحانه لكن لا بالاسم،بل من جانب المواصفات فعلى الأُمّة الإسلامية

ص:466

إطاعة من وجدت فيه مواصفات الحاكم الأعلى.

أمّا صفات الحاكم الإسلامي فهي إجمالاً عبارة عن:

1.الإيمان.

2.حسن الولاية و القدرة على الإدارة.

3.التفوّق في الإدارة السياسية.

4.العدالة.

5.الرجولة.

6.أن يكون فقيهاً في الدين عالماً بالشريعة عن اجتهاد.

هذه هي عمدة الصفات اللازمة في الفقيه و هي توجد في الفقيه المجتهد الجامع للشرائط،فللفقيه مناصب ثلاثة:

1.منصب الإفتاء.

2.منصب القضاء.

3.منصب الحكومة.

نعم ليست حكومة الفقيه و ولايتها بمعنى استصغار الأُمّة و لا الاستبداد بمقدراتها،و إنّما هي ممارسة الحكم على ضوء ما أقره الإسلام للناس من الحقوق،و ذلك بالبيان التالي:

إذا نهض الفقيه بتشكيل الحكومة وجب على الناس أن يسمعوا له و يطيعوه،إذ كلّ ما يشترط من المواصفات في الحاكم الّتي مرّ بيانها؛ موجود في الفقيه العادل.

كما أنّه إذا نهض الناس بتشكيل الحكومة تحت الضوابط الإسلامية،فللفقيه العادل حينئذٍ أن يراقب سلوك الحكومة و تصرّفاتها؛ فيصحّح سيرتها إذا

ص:467

انحرفت و يعدّل سلوكها إذا شذّ...و عندئذٍ تكون ولاية الفقيه ضمانة لاستقامة الدولة و مانعاً عن عدولها عن جادّة الحقّ و سنن الدين، فهو بما انّه متخصص في الشريعة،أعرف بالأحكام و الحدود،و بما أنّه ورع يتّقي اللّه و يخشاه أكثر من سواه،كما يقول اللّه سبحانه: «إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» 1 ،فولايته تمنع الحكومة عن الخروج عن المعايير الإسلامية.و ارتكاب ما يخالف مصالح الإسلام و المسلمين دون أن ينحرف هو عن صراط الحقّ المستقيم.

***

لقد أُقصي أهل البيت عليهم السلام عن الحكم يوم السقيفة و بعده،حيث تولى الحكم بعد خلافة الخلفاء،الأمويون و العباسيون،يتلقّفونه كالكرة،و يتوارثه الأبناء عن الآباء،و مع ذلك كلّه أقام الشيعة لهم كيانات سياسية خلال هذه الحكومات لا بصورة الخلافة بل بصورة الملوكية، و ربما اتخذ بعضها لنفسه طابع الخلافة،و أبرز هذه الكيانات:

1.الحمدانيون

بنو حمدان أُمراء حلب و الموصل و العواصم،منهم:سيف الدولة علي بن حمدان و ابنه سعد الدولة و أخوه ناصر الدولة و ابن عمّه أبو فراس الشاعر الطائر الصيت.

2.بنو مزيد

أُمراء الحلة منهم:الأمير سيف الدولة(صدقة بن دبيس الأسدي) صاحب الحلة السيفية،المنسوبة له،و ابنه دبيس،و أخوه بدران بن صدقة.

ص:468

3.أئمّة الزيدية و دولتهم في اليمن

أسّس يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي بن إبراهيم طباطبا حكومة شيعية زيدية في اليمن،استمرت قائمة حوالي 12قرناً و آخر أئمتهم هو بدر بن الإمام يحيى،و قد انقرضت هذه الدولة بقيام ثورة داخلية ساندتها دول خارجية.

4.الدولة الزيدية في المغرب

أسّس إدريس بن محمد بن عبد اللّه الحسني،دولة في المغرب عرفت بدولة الأدارسة حكمها نحو (18) شخصاً،و دام ملكهم نحو (70) سنة.

5.الدولة الزيدية في طبرستان

أسّسها الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المتوفّى سنة (270ه).

و دام حكمها إلى سنة (360ه).

6.الفاطميّون

أسّسها الإمام عبيد اللّه الملقّب بالمهدي،بويع بالخلافة سنة (296ه)،و توفّي عام (322ه)و دامت خلافة الفاطميين إلى أن قضى عليهم صلاح الدين سنة (567ه).

7.دولة البويهيين

آل بويه أُسرة إيرانية خرجت من الديلم،و حكمت إيران و العراق من عام

ص:469

320- 448ه،و مؤسسها علي(عماد الدولة)،و حسن (ركن الدولة) و أحمد(عز الدولة) و هم أبناء بويه الديلمي،و قد شمل حكمهم فارس و العراق و الأهواز و كرمان و الري و همدان و أصفهان.

إلى غير ذلك من الحكومات التي أسّسها الشيعة في أكثر من قطر،للتخلّص من ظلم الحكام الذين كانوا يحكمون باسم الإسلام و لا يحترمون لشيعة أهل البيت دماءهم و لا نفوسهم و أعراضهم.

و من تلك الحكومات حكومة (السربدارية) و هي حكومة شيعية استولت على الحكم في خراسان بعد وفاة (محمد خدابنده) في سنة(716ه) و هو من ملوك المغول،و استقرت حكومتهم بعد معارك دامية سنة 738ه.و استمرت إلى سنة 783ه،و اندمجت في حكومة التتر الّتي كانت تغطي سلطتهم أكثر الرقعة الإسلامية.

و ممّن تولى الحكم من السربداريين علي بن محمد بن المؤيد،المعروف بالعدل و الإحسان إلى الضعفاء و الاهتمام بنشر التشيّع و ولاء أهل البيت،و ذلك عام 766ه،إلى أن وافته المنيّة سنة 795ه.

و كان لأخبار حكومته دويٌ في ربوع جبل عامل،و كان الملك المذكور يُكنّ احتراماً كبيراً للشهيد الأوّل و كانت العلاقات بينهم قائمة عن طريق الرسائل و الرسل.

كان الملك يرغب في أن يغادر الشهيد الأوّل موطنه إلى خراسان ليكون مرجعاً فقهياً للفقهاء في تلك المنطقة،و قد كتب في ذلك الموضوع رسالة إلى الشهيد الأوّل.

و بما أنّ تلك الرسالة تعتبر من الوثائق التاريخية الّتي تعرب عن مكانة

ص:470

الشهيد الأوّل و عمّا بلغت إليه منطقة جبل عامل من الشهرة في الفقه و الفقاهة،نورد هنا نصّ الرسالة:

بسم اللّه الرحمن الرحيم سلامٌ كنشر العنبر المتضوعِ

أدام اللّه تعالى مجلس المولى الهمام العالم العامل الفاضل الكامل السالك الناسك،رضيّ الأخلاق،وفيّ الأعراق،علامة العالم،مرشد الأُمم،قدوة العلماء الراسخين،أُسوة الفضلاء و المحقّقين،مفتي الفرق،الفارق بالحق،حاوي الفضائل و المعالي،حائز قصب السبق في حلبة الأعاظم و الأعالي،وارث علوم الأنبياء و المرسلين،محيي مراسم الأئمّة الطاهرين،سرّ اللّه في الأرضين،مولانا شمس الملة و الدين،مدّ اللّه أطناب ظلاله بمحمد و آله من دولة راسية الأوتاد و نعمة متصلة الأمداد إلى يوم التناد.

و بعد:فالمحب المشتاق،مشتاق إلى كريم لقائه غاية الاشتياق و أن يمنَّ بعد البُعد بقرب التلاق: حرم الطرف من محياك لكن حظي القلب من محياك ريّا

ينهي إلى ذلك الجناب-لا زال مرجعاً لأُولي الألباب-انّ (شيعة خراسان) صانها اللّه عن الحدثان متعطشون إلى زلال وصاله،و الاغتراف من بحر فضائله و أفضاله،و أفاضل هذه الديار قد مزقت شملهم أيدي الأدوار،و فرَّقت جلهم أو

ص:471

كلّهم صنوف صروف الليل و النهار،قال أمير المؤمنين عليه سلام ربّ العالمين:«ثلمة الدين موت العلماء»و إنّا لا نجد فينا من يوثق بعلمه في فتياه،و يهتدي الناس برشده و هداه،فهم يسألون اللّه تعالى شرف حضوره،و الاستضاءة بأشعة نوره،و الاقتداء بعلومه الشريفة، و الاهتداء برسومه المنيفة،و اليقين بكرمه العميم و فضله الجسيم أن لا يخيب رجاءهم،و لا يرد دعاءهم،بل يُسعف مسئولهم،و ينجح مأمولهم، قال اللّه تعالى: «وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ».

و لا شكّ أنّ أُولي الأرحام أولى بصلة الرحم الإسلامية الروحانية،و أحرى القرابات بالرعاية القرابة الإيمانية.ثمّ الجسمانية،فهما عُقدتان لا تحلهما الأدوار و الأطوار،بل شعبتان لا يهدمهما إعصار الأعصار.

و نحن نخاف غضب اللّه على هذه البلاد لفقدان الرشد و عدم الإرشاد و المأمول من انعامه العام و إكرامه التام أن يتفضّل علينا و يتوجّه إلينا متوكلاً على اللّه القدير،غير متعلل بنوع من المعاذير إن شاء اللّه تعالى.

و المتوقع من مكارم صفاته و محاسن ذاته إسبال ذيل العفو على هذا الهفو،و السلام على أهل الإسلام.

المحب المشتاق

علي بن مؤيّد (1)

إنّ الشهيد الأوّل و إن لم يجب دعوة الملك لكنّه زود الرسول بكتاب اللمعة الدمشقية ليكون مرجعاً لفقهاء المنطقة فيما يعرض لهم من مسائل الفقه.

هكذا يجب أن يكون العلماء مهتمين بأُمور الأُمّة فإن سنحت الفرصة

ص:472


1- 1) .روضات الجنات:2/3،الطبعة الحجرية نقلاً عن الدروس:61/1- 62،المقدمة.

شاركوا في تأسيس الحكومة و إدارتها و إلاّ دعموها بقدر المستطاع،و لذلك نرى أنّ الشهيد أجاب دعوة الملك بتأليف رسالة فقهية كاملة أرسلها إليه لتكون مبنى لعمل المفتين و القضاة.

و هذه هي الضابطة الكلية و السيرة المتعارفة لفقهاء الشيعة،و من هذا المنطلق نرى أنّ المحقّق الكركي أجاب دعوة الملك إسماعيل عند ما قام بتأسيس الحكومة العلوية في إيران،و إليك شرح هذا المقطع من تاريخ حياة المحقّق.

المحقّق الكركي و التدخل في شئون الحكم

إنّ المحقّق الكركي لما رأى أنّ أُمّة كبيرة نهضت بتشكيل حكومة إسلامية،و اتخذت منهج التشيع الإمامي طابعاً لها،أحسّ بمسئوليته تجاه هذه الدولة الفتية الّتي رفعت راية التشيع بعد ما غابت عن مسرح الحياة (منذ شهادة الوصيّ في محرابه) قرابة تسعة قرون.

و هذه الدولة قامت على يد إسماعيل الصفوي الّذي ولد عام 892ه،و بدأ بالتحرك في شهر محرم الحرام سنة 905ه من آذربايجان، معتمداً على سبع قبائل تركية و هي:(استاجلو،و شاملو،و روملو،و توكلو،و ذو القدر،و أفشار،و قاجار)،و في سنة 906ه احتلّ باكو كما أنّه في سنة 907ه استولى على تبريز و جعلها عاصمة له،و في سنة 910ه استولى على أصفهان و يزد و كرمان و جنوبي خراسان،و في سنة 914ه في اليوم الخامس و العشرين من شهر جمادى الآخرة احتل بغداد و قضى على حكم أُسرة (آق قيونلو) قضاءً نهائياً،و ذهب في أوائل رجب لزيارة العتبات المقدّسة في مدينتي النجف و كربلاء المقدّستين.و هناك تعرّف على المحقّق الكركي،و أدرك أنّه هو الرجل الوحيد الّذي يمكن أن يساعده في تطبيق الشريعة في مملكته.

ص:473

و في ضوء ذلك استقدمه الشاه إسماعيل إلى إيران في أواخر 916ه،و قد دخل عليه في مدينة (هراة) و لكنه لم تطل اقامته في إيران أزيد من ثلاث سنين.لأنّه لم يجد بغيته لدى الشاه،لأنّ لكلّ ثقافته الخاصة،فالصفوي كان رجلاً عسكرياً لا يعرف إلاّ منطق القوة فلا يفكر إلاّ في الفتح و نشر القدرة،و لكن المحقّق الكركي ولد في عائلة علمية في أحضان العلم و المعرفة و كان والده عالماً فاضلاً و نشأ نشأة هادئة محباً للسلام داعياً لمذهب أهل البيت عليهم السلام بالحكمة و الموعظة الحسنة،و لا يُفكر بشيء سوى مرضاة اللّه تعالى.و الدعوة بأخذ الطرق الثلاثة:1.الحكمة،2.

الموعظة الحسنة،3.المجادلة بالتي هي أحسن.

و بما انّ طريق الحاكم الّذي كان بيده القوة و القدرة كان غير ذلك.لم يجد بداً من العودة إلى العراق.

نعم كان هنا عامل أو عوامل أُخرى لمغادرة إيران يأتي تفصيلها في الهجرة الثانية.

الهجرة الثانية إلى إيران

لقد غادر المحقّق الكركي إيران-لبعض ما ذكرنا-متوجّهاً إلى النجف الأشرف و عاش فيها إلى عام 936ه و قد توفّي في أثناء هذه الفترة أيّ سنة 930ه شاه إسماعيل و تغلّب العثمانيون على الصفويين في العراق.

مات الملك الأوّل و استلم الحكم ولده الصغير طهماسب فلما بلغ و أخذ بزمام الحكم،و كان أوّل شيء حَلُم به هو تحرير العراق من سلطة العثمانيين و استردادها منهم،فأعدّ العدّة لذلك عام 936ه.فتحقّق حلمه في ذلك العام و طرد العثمانيين عن أرض العراق وصفا بلاد ما بين النهرين لحكمه،و قد زار في

ص:474

سفره هذا الأعتاب المقدسة،و اجتمع مع المحقّق الكركي في النجف الأشرف و رأى أنّ آماله معقودة بناصية المحقّق فدعاه إلى مغادرة العراق و التوجّه إلى إيران بصحبته.

و قد أحسّ المحقّق أنّه يتمكّن من إجراء إصلاحات في السياسة و الحكم،فلبّى دعوة الملك و قد أصدر الملك مرسوماً في نفس النجف الأشرف تعضيداً له و هذه هي ترجمة نص المرسوم من الفارسية إلى العربية.

المرسوم الملكي الأوّل:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

حيث يبدو و يتّضح من الحديث صحيح النسبة إلى الإمام الصادق عليه السلام:«انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا،و نظر في حلالنا و حرامنا،و عرف أحكامنا،فارضوا به حكماً،فإنّي قد جعلته حاكماً.فإذا حكم بحكمٍ فمَن لم يقبله منه فإنّما بحكم اللّه استخفّ،و علينا ردّ،و هو رادّ على اللّه،و هو على حدّ الشرك».

و واضح أنّ مخالفة حكم المجتهدين،الحافظين لشرع سيّد المرسلين،هو و الشرك في درجة واحدة.لذلك فإنّ كلّ من يخالف حكم خاتم المجتهدين،و وارث علوم سيّد المرسلين،و نائب الأئمّة المعصومين عليهم السلام،لا يزال كاسمه العلي عليّاً عالياً،و من لا يتابعه،فإنّه لا محالة مردود،و عن مهبط الملائكة مطرود،و سيؤاخذ بالتأديبات البليغة و التدبيرات العظيمة.

كتبه طهماسب ابن شاه إسماعيل الصفويّ الموسويّ (1)

ص:475


1- 1) .رياض العلماء:455/3؛و [1]روضات الجنات:364/4. [2]

و يلاحظ أنّ التعابير الواردة في المرسوم هي تعابير فقهية و ليست بسياسية،و هذا يعرب عن أنّ الكاتب هو أحد الفقهاء البارزين في الفقه.

و هذا المرسوم الملكي يفقد التاريخ و لعل النسّاخ تصرفوا فيه و لكن يظهر من المرسوم الملكي الثاني أنّ الأوّل كان مؤرّخاً عام 936ه. (1)

نزل المحقّق الكركي إيران و معه المرسوم السلطاني الّذي أمر به السلطان أتباعه بإطاعته و أنّ من خالفه فهو مردود و عن مهبط الملائكة مطرود و سيؤاخذ بالتأديبات البليغة...فاستغل المحقّق هذا المرسوم و أجرى ما كان يتوخّاه في السلطة الصفوية من الإصلاحات،و صار المناخ صالحاً لأن يلقّب بواضع الأُسس الدستورية للدولة الصفوية.

و إليك ما قدّم من الخدمات في هذه العودة الّتي طالت حوالي ثلاث سنين:

الأُولى:نشر الأحكام الشرعية و ترويجها على مذهب أهل البيت عليهم السلام و ذلك بواسطة مجموعة من العلماء،حيث عيّن في كلّ مدينة رجل دين يعلّمهم مسائل الشرع الحنيف،و يقوم بكافة ما يتعلّق بالأُمور الشرعية كصلاة الجمعة و الجماعة،و النظر في مشاكلهم الاجتماعية، و الفصل في خلافاتهم الدنيويّة.

الثانية:تأسيس حوزات علمية مبنية على أُسس و قواعد مذهب أهل البيت،فقد أسّس عدّة حوزات أهمّها كانت في كاشان و اصفهان، و عين رواتب للدارسين فيها ليتفرغوا لطلب العلم.

الثالثة:العناية بالحكام و المسئولين بتثقيفهم بأحكام الشرع و عدم الخروج عنها عند المعاملة مع الناس.

الرابعة:عزل المتخلّفين عن العمل بالأحكام الشرعية عن مناصبهم فعزل الأمير غياث الدين منصور الدشتكي الشيرازي (المتوفّى 946ه) من منصب

ص:476


1- 1) .لاحظ رياض العلماء:459/3،ذيل المرسوم الثاني.

الصدارة،و نصب بدله تلميذه الأمير معز الدين الأصفهاني (المتوفّى 952ه)،ثمّ عزل هذا أيضاً و نصب بدله الأمير أسد اللّه الشوشتري (المتوفّى 963ه).

الخامسة:الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في أوساط الناس،فقد كان الغناء مباحاً عند الصوفية و أماكن القمار و اللهو منتشرة.فقد وضع المحقّق الكركي خطةً لمحاربة الفساد و قد حظى بدعم الملك الّذي كان يُعد أكثر تديّناً بين الصفويين،فأمر بإغلاق أماكن اللهو و الفساد، و كسر آلات الغناء و الموسيقى.و في ذلك أصدر الملك مرسومين (الثاني و الثالث) نأتي بنصيهما.

المرسوم الثاني:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي أمر بالمعروف و نهى عن المنكر،و الصلاة و السّلام على سيّد البشر،و الأئمّة الاثني عشر،المبعوثين لترويج الشرع الأطهر إلى يوم الحشر.

و بعد،لا يخفى على الضمير الأنور،ذي الجوهرة الكبريائية،بأنّ الجميع...لا يزال اعتناء الملك باسط الفيض،حاكم أهل الإيمان-المهنّا - و ماحي معالم الفسق و العصيان،المؤيّد أسعد السعداء،حاكم الربع المسكون،بتأييد اللّه الملك المنّان أبو المظفر السلطان شاه طهماسب بهادر خان-خلّد اللّه ملكه و سلطانه و أفاض على العالمين برّه و عدله و إحسانه-الّذي لا تزال شجرة إقباله و رفعته تروى من منهل شريعة سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم و منهج الأئمّة المعصومين عليهم السلام من غير توان،لا زال منصباً على ترويج الدين المبين و الشرع المستبين.

و في هذا البلد،و بميامن توفيقات اللّه الأزليّة،و بركات تقبيل العتبة الرضيّة الرضويّة-على صاحبها آلاف التحيّة و الثناء-و بما تقتضيه دعوة مبشّر الهداية

ص:477

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات العنايات اللامتناهية و الّتي تُفرح القلوب و هي «تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً» 1 ،و الآية الكريمة: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» 2 ،فقد طرقت المسامع المعزّزة،و أصغى إليها بكلّ إخلاص،حيث أدّى هذا الأمر إلى ترك المناهي و المنكرات و إلى التوبة النصوحة.

فقد صدر حكم واجب الاتّباع في كافّة الممالك المحروسة بغلق أماكن شرب الخمر و الترياق،و محلّ اجتماع القصاصين،و دور الدعارة،و أماكن اللعب بالطيور.

و الجباة المكرّمون يأخذون رواتبهم الشهريّة من ديوان الجباية،و الأُمور المذكورة-المنهيّات-لا بدّ أن تُلغى في جميع البلاد لا سيّما دار الإيمان كاشان،و أن لا يسمح للناس بارتكاب هذه المناهي من هذا الوقت،و كذلك سائر اللامشروعات مثل حلق اللحية،و العزف على الطنبور و غير ذلك من آلات اللهو.

و من مارس هذه الأعمال يُزجر و يؤدّب بزجر و تأديب بليغين حسب ما قرّره الشرع الشريف.

و أيضاً يُمنع استخدام النقّارة في البقاع المتبرّكة،و تُمنع مراودة الغلمان،و أيضاً يُمنع عمل المُرد في الحمامات.

و على الغزاة العظام و العساكر-ختم اللّه مآلهم بالظفر-و عامّة السكان،و عموم الرعايا في تلك البلاد،أن يعتبروا كلّ من قام بالأعمال المذكورة من المطرودين و المرجومين و من عليه لعنة اللّه و سخطه «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما

ص:478

إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» 1 عليه لعنة اللّه و لعنة اللاعنين من الإنس و الجنّ أجمعين.

فإذا انصبت جهود القوة التنفيذية و القوة التشريعية على نشر الأمر بالمعروف و مكافحة الفساد،لأصبح المجتمع كمدينة فاضلة يسوده الأمن و السلام،و يصل كلّ فرد إلى كماله الّذي خُلق له،بخلاف ما إذا ساد بينهما التناحر،انعكس ذلك المجتمع بالفوضى و الفساد.

و لأجل تلك النتائج الباهرة الملموسة،عزز الملك المرسوم،بثالث،و هذا نصه:

المرسوم الثالث:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

لمّا منحنا اللّه الحكم حسب الآيات «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (1)«وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ» (2)«لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ». 4 صدر هذا المرسوم عن دار الخلافة الرفيعة المختوم بختم السلطان،الموشّح باسم دار الخلافة الساميّة.

و أداءً لشكر هذه الموهبة العليّة السنيّة ألزمنا ذمّتنا أن ننصب في جميع الأقطار وكلاء ملتزمين بالدين و الشريعة،متوسّمين بوسام «أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ

ص:479


1- 2) .البقرة:30. [1]
2- 3) .الأنعام:165. [2]

تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (1) «وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ» 2 ،-إلى أن قال:-

و أنّ السلطان قد كلّف كلّ من يريد الولاية بدوام ذكر اللّه،و إحياء الليالي الشريفة،و الترغيب في الصلاة،الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،و تنسيق أُمور المساجد و المدارس و التكايا و الزوايات و بقاع الخير،و كسر الآلات المحرّمة،و منع الفسقة و الفجرة و أهل البدع و زجرهم،و كسر الأواني و الآلات المحرّمة،و تحريض الناس على ذلك،و التمسّك بالطاعات و العبادات،و منع الأجانب من رؤية النساء،و هدم الدور الّتي تُعمل فيها المعاصي،و أن لا يتهاون لحظة في السعي في الأُمور المذكورة.

لما ذا ترك إيران؟
اشارة

هذا هو السؤال المهم في حياة المحقّق الكركي حيث إنّه عاد إلى العراق عام 939ه،مع أنّه كان قد احتل موقعاً مهماً عند الملك حتّى صار الملك بيده أداة طيّعة.

و الّذي يستفاد من التاريخ انّه لم يترك إيران مختاراً و هو يرى بأُمّ عينيه ثمرة جهاده و دؤوب عمله.

و الّذي صار سبباً لمغادرته إيران ظهور معارضة له في داخل البلاط و خارجه كانوا يحسدونه لخضوع البلاط له بعامّة وجوده،و هؤلاء شكّلوا جبهة قوية ضد الكركي،فلم يجد الشيخ بداً من ترك إيران.

ص:480


1- 1) .آل عمران:110. [1]

و تتلخص القوى المعادية للمحقّق في ما يلي: (1)

1.رجال الفرقة الصوفية المعروفة ب«القزلباش»

كان لرجال الفرقة الصوفية المعروفة ب«قزلباش»دور مهم في إنجاح ثورة الشاه إسماعيل و إيصال العائلة الصفويّة إلى الحكم،حيث خاضوا معارك ضارية ضدّ أعدائهم،و قدّموا أعداداً كبيرة من الضحايا،و ضربوا أروع آيات الفداء و التضحية و الإخلاص لقائدهم الشاه إسماعيل، و قد كان المحقّق يعارض الصوفية و يكافحهم.

2.أتباع مدرسة الخلفاء الذين أظهروا التشيّع

قد وقف بعض رجا ل الدين (الذين كانوا من أتباع مدرسة الخلفاء و عند إعلان الشاه إسماعيل الصفوي رسميّة مذهب أهل البيت عليهم السلام في البلاد،استجابوا لدعوته و أعلنوا تأييدهم للشاه و المذهب الجديد).

و وقف بعض هؤلاء موقف المعادي و المعاند للكركي،حيث يعتبرون أنفسهم أصحاب البلاد،و أحقّ بمناصبها السياسية و الدينية من الأجانب الذين جاءوا من وراء الحدود،كالمحقّق الكركي الرجل العربي الغريب الّذي جاء من قرية صغيرة من لبنان و احتلّ أعلى المناصب في الدولة الصفوية و استطاع الحصول على صلاحيات كبيرة من الشاه طهماسب.

لذلك نُشاهدهم يحاولون الوقوف أمام إصلاحات الكركيّ الاجتماعية

ص:481


1- 1) .و قد استفدنا في هذا البحث ممّا كتبه محقّق آثار الكركي الشيخ محمد الحسون التبريزي،حفظه اللّه و إليه يرجع الفضل.

كتغيير القبلة حيث أعلن الأمير غياث الدين منصور الدشتكي-الّذي كان يحتل منصب الصدارة في زمن الشاه طهماسب-معارضته للكركي في هذا التغيير،و أدّى الأمر إلى إجراء المناقشات الحادّة بينه و بين الكركي بحضور الشاه،و الّتي كانت الغلبة فيها للكركيّ،إلاّ أنّ الدشتكي أصرّ على رأيه و عناده،ممّا أدّى إلى قيام الشاه طهماسب بعزله من منصب الصدارة. (1)

يقول الأفندي التبريزي ما هذا مثاله:إنّ الأمير غياث الدين منصور الدشتكي ممّن يجادله في بعض الإصلاحات الّتي كان الشيخ يجريها على المجتمع و منها تغيير قبلة البلاد،حيث أراد الشيخ علي أن يصلح قبلة بلاد إيران و كان الأمير يسكن شيراز حيث اغتاظ من أن يقوم غيره و يتدخل في الأُمور الدينية بالبلد الّذي يسكن فيه خصوصاً أنّ في تغيير القبلة تجهيلاً للأمير غياث الدين منصور،و لذلك خالف إصلاحه و لم يمكنه ممّا أراد،و احتج بأنّ تعيين القبلة منوط بالدائرة الهندية الّتي لا يقوم باعمالها إلاّ الرياضيون لا الفقهاء.

و لمّا وقف الشيخ على معارضته كتب إليه الآية التالية: «سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ». 2

و لمّا وصل الكتاب إلى الأمير أجابه بالآية التالية: «وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ». 3

ص:482


1- 1) .آثار المحقّق الكركي:463/1.

و كان هذا هو أحد الأسباب لمغادرة المحقّق إيران في المرة الأُولى عام 919ه.

و لما جاء للمرة الثانية إيران عام 936ه ثار عليه الأمير غياث الدين منصور ثانية،و قد كانت رواسب الكدورة باقية في زوايا نفسه.و قد صارت في الهجرة الثانية رقعة الشيخ أوسع حيث عيّن كثيراً من العلماء العامليين لقطع الأُمور الشرعية و فصلها دون أن يتوقفوا في ذلك على تأييد ديوان الصدارة و الّذي كان الأمير يرأسه صار ذلك سبباً لنشوب العداء بينهما حتّى آل الأمر إلى المناقشة في مجلس السلطان و ظهرت أمارات الغلبة العلمية للمحقّق على الأمير،فعزله السلطان عن الصدارة و مع ذلك لم ينكر السلطان جهود غياث الدين،فلمّا توجّه الأمير إلى شيراز كتب إليه أحكاماً مشتملة على الشفقة و العناية و أرسلها مع الحُلل النادرة و قلّده حكومة الشرعيات في رقعة فارس،كما فوّض إليه عزل القضاة و المتصدّين للشرعيات في تلك البلاد. (1)

3.مخالفة رجال الدين الشيعة

و قد اختلف مع المحقّق بعض رجال الدين الشيعة في بعض المسائل الفقهية،كصلاة الجمعة و أخذ الخراج حال غيبة الإمام عليه السلام و التعامل مع السلاطين و قبول جوائزهم و هداياهم.

هؤلاء شكّلوا جبهة علمائية قوّية ضدّ الكركي و بدءوا بردّ مبانيه و آرائه في مجالس البحث،و ألفوا رسائل ناقشوا فيها أقواله في تلك المسائل الّتي يعتبر بعضها جديداً على الحوزة العلمية،و في مقدّمتهم الشيخ إبراهيم القطيفي (المتوفّى

ص:483


1- 1) .رياض العلماء:454/3-455. [1]

945ه)،و الشيخ نعمة اللّه الحلّي (المتوفّى 940ه) و مع أنّه كان من تلاميذ المحقّق الكركي إلاّ أنّه اتّصل أخيراً بالشيخ القطيفي و صار من أعوانه.

4.بعض رجال البلاط

هذه القوى المعادية أوجدت جرأةً لبعض أهل البلاط لحياكة مؤامرات تستهدف حياة المحقّق،و هناك نصوص تاريخية تؤيد ذلك.

يقول حسن بك روملو:و كان من جملة الكرامات الّتي ظهرت في شأن الشيخ علي،أنّ محمود بيك«مهردار» (1)كان من ألدّ الخصام و أشدّ الأعداء للشيخ علي،فكان يوماً بتبريز في ميدان صاحب آباد يلعب بالصولجان بحضرة ذلك السلطان يوم الجمعة وقت العصر.

و كان الشيخ علي في ذلك العصر-حيث إنّ الدعاء فيه مستجاب-يشتغل لدفع شرّه و فتنته و فساده بالدعاء السيفي و دعاء الانتصاف للمظلوم من الظالم المنسوب إلى الحسين عليه السلام،و لم يتمّ الدعاء الثاني بعد،و كان على لسانه قوله عليه السلام:«قرّب أجله و أيتم ولده»حتّى وقع محمود بيك المذكور عن فرسه في أثناء ملاعبته بالصولجان و اضمحل رأسه بعون اللّه تعالى.

و قال ميرزا عبد اللّه الأفندي التبريزي بعد نقل هذا الكلام:

قد رأيت في بعض التواريخ الفارسيّة المؤلفة في ذلك العصر أيضاً،أنّ محمود بيك المخذول المذكور كان قد خمر في خاطره المشئوم في عصر ذلك اليوم أن يذهب إلى بيت الشيخ علي بعد ما فرغ السلطان من لعب الصولجان و يقتل

ص:484


1- 1) .أي من بيده خاتم الملك و هو كان مقاماً سامياً يطلب لنفسه أمانة الحامل و ثقة الملك به.

الشيخ علي بسيفه في ذلك الوقت بعينه،و واضع في ذلك مع جماعة من الأُمراء المعادين للشيخ علي،فاتّفق بكرامة الشيخ علي أن ذهب يد فرس محمود بيك في بئر كانت في عرض الطريق بعد الفراغ من تلك الملاعبة و التوجّه إلى جانب بيت الشيخ علي،فطاح هو مع فرسه في تلك البئر و انكسر رأسه و عنقه و مات في ساعته. (1)

هذه القوى المعادية شكلت سبباً تامّاً لمغادرة إيران متوجّهاً إلى العراق عام 939ه و ظل فيها قرابة سنة و نصف حتّى لبى دعوة ربّه عام 940ه،،و صحيفة أعماله مكتظة بالحسنات و الخدمات الجليلة للمذهب و المجتمع الّتي شملت كافة الجوانب المهمة في حياة الناس و إدارة المجتمع.

فسلام اللّه عليه يوم ولد و يوم مات و يوم يبعث حيّاً

جعفر السبحاني

ص:485


1- 1) .رياض العلماء:453/3. [1]

ص:486

2

اشارة

السيد عبد العظيم الحسني

حياته و حديثه و بيئته

و مشايخه،و الراوون عنه

(1)

كنت أزور سيدنا عبد العظيم الحسني عليه السلام-كلّ ما أسعفني الحظ-حيناً بعد حين،بما أنّه حفيد من أحفاد السبط الأكبر الحسن بن علي عليهما السلام و فرع من تلك الدوحة المباركة المنتشرة فروعها في إيران و العراق و الشام و اليمن و غيرها.

و لكن بعد ما أوغلتُ في دراسته،و اطّلعت على كلمات أصحاب المعاجم في حقّه،و ما في غضون الرسالة الّتي ألّفها الصاحب بن عباد، في ترجمته من التكريم و الإجلال،علاني الخجل و وقفت على قصوري أو تقصيري في حقّه،و انّ سيّدنا عبد العظيم الحسني كان أحد الذابّين عن العقيدة الحقّة ببيانه و يراعه و أنّه أحد المراجع في الفتيا،فقد أمر الإمام شيعته بالرجوع إليه فيما أشكل عليهم من أُمور الدين-كما سيوافيك نصّه -.

ص:487


1- 1) .أُلقيت هذه المقالة في مؤتمر تكريم السيد عبد العظيم الحسني،المنعقد ببلدة (الريّ) في شهر ربيع الثاني عام 1424ه.

1.

نسبه

عبد العظيم بن عبد اللّه بن علي بن حسن بن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام و هذا هو الصحيح في نسبه و لكن النجاشي-مع أنّه كتب نسبه في صدر الترجمة على هذا النحو-قال في ذيل ترجمته:مات رحمه الله فلمّا جُرّد ليُغسل،وجد في جيبه رقعة فيها ذكر نسبه فإذا فيها:أنا أبو القاسم عبد العظيم بن عبد اللّه بن علي بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام،و الأوّل هو الصحيح لانّ الإمام الحسن عليه السلام لم يُعقِّب إلاّ من ولدين:

زيد بن الحسن.

الحسن المثنّى.

و لم يكن له ولد باسم علي.

و على ما ذكرنا فهو يتّصل بالمعصوم بأربع وسائط.

و كأنّ الشاعر يقول على لسان السيد الحسني: ليس ما بيني و بين المجتبى غير عينين و حاء ثمّ زاي

فما في المنشور الأوّل للمؤتمر من أنّه يتّصل بالإمام بست وسائط غير صحيح حتّى على القول بوجود علي بين زيد و الحسن المجتبى عليه السلام.

هل أدرك الرضا عليه السلام أو لا؟

عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الهادي و العسكري عليهما السلام.

و عدّه السيّد التفريشي و الميرزا الاسترآبادي و القهبائي من أصحاب الجواد و الهادي عليهما السلام.

ص:488

لا شكّ أنّه من أصحاب الجواد و الهادي عليهما السلام لكثرة رواياته عنهما،و أمّا كونه من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام في أيّام إمامته فمورد تأمّل،لأنّ الإمام الهادي توفّي في 254ه،و قام الإمام العسكري عليه السلام بالأمر بعد وفاة أبيه في هذه السنة في شهر رجب و قد توفّي عبد العظيم عام 252ه.

نعم أدرك شخصه أيام إمامة والده.

إنّما الكلام:هل أدرك الرضا عليه السلام أو لا؟ و ربما يستدلّ على ذلك بروايته عن هشام بن الحكم المتوفّى (199ه،و قيل قبل ذلك).

روى الكليني عن أحمد عن عبد العظيم عن هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:هذا صراط عليّ مستقيم. (1)

فلو كان عمره عند أخذ الرواية عشرين سنة يكون من مواليد نحو 180ه و قد توفّي الرضا عليه السلام في 203ه إنّما الكلام في صحّة هذا السند،ففي النفس منه شيء،لأنّ سيّدنا عبد العظيم يروي كثيراً عمّن توفي في العقدين الثاني و الثالث من القرن الثالث،و أمّا هشام فقد توفّي قبل المائتين،و هذا يعرب عن سقوط الواسطة بين السيد و بين هشام.

أضف إلى ذلك أنّ السيّد يروي كثيراً عن الرضا عليه السلام بالواسطة. (2)

و ربما يستدلّ بما رواه الشيخ المفيد في كتاب الاختصاص،و قال:و روي عن عبد العظيم عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال:«يا عبد العظيم أبلغ عني أوليائي السلام،و قل لهم أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً،و مُرْهم بالصدق في

ص:489


1- 1) .الكافي:224/1. [1]
2- 2) .نظير:إبراهيم بن أبي محمود كما في عيون أخبار الرضا:113/2 و 27/1؛مستدرك الوسائل:614/3؛و [2]التوحيد:176.و سهل بن سعد كما في فضائل الأشهر الثلاثة للصدوق:63. [3]

الحديث و أداء الأمانة،و مُرْهم بالسكوت و ترك الجدال فيما لا يَعنيهم،و إقبال بعضهم على بعض و المزاورة فإنّ ذلك قربة إليّ...و لا يشتغلوا بتمزيق بعضهم بعضاً فانّي آليت على نفسي أنّه من فعل ذلك و أسخط وليّاً من أوليائي دعوتُ اللّه ليعذّبه في الدنيا أشدّ العذاب و كان في الآخرة من الخاسرين،و عرّفهم أنّ اللّه قد غفر لمحسنهم و تجاوز عن سيئهم إلاّ من أشرك به أو آذى وليّاً من أوليائي،أو أضمر له سوءاً فإنّ اللّه لا يغفر له حتّى يرجع عنه فإن رجع،و إلاّ نزع روح الإيمان عن قلبه و خرج عن ولايتي و لم يكن له نصيبٌ في الدنيا و أعوذ باللّه من ذلك». (1)

و لكن الظاهر وقوع التصحيف في السند،و أنّ المراد من أبي الحسن هو أبو الحسن الثالث عليه السلام فكتب الرضا عليه السلام مكان الهادي عليه السلام، و الشاهد على ذلك،هو أنّ عبد العظيم أيام حياة الرضا عليه السلام حتّى في أواخر حياته كان شاباً مترعرعاً،و هو لا يصلح لأن يكون حاملاً لبلاغ الإمام إلى شيعته و أوليائه،بل لا يصلح لذلك إلاّ من طعن في السن و اشتهر بين الناس بالولاء.

مشايخه

النظرة العابرة لأحاديث السيد عبد العظيم تحكي عن اتّصاله الوثيق بالإمامين محمد بن علي الجواد و علي الهادي عليهما السلام أوّلاً و مشايخ الحديث ثانياً،و فيما يلي نستعرض أسماء مشايخه الذين روى عنهم في الكتب الأربعة و غيرها و هم 33 شيخاً مع الإشارة إلى مصادر الرواية.

1.علي بن أسباط (الكافي:118/1).

2.علي بن جعفر(مسائل علي بن جعفر:343).

ص:490


1- 1) .الاختصاص للشيخ المفيد:247.

3.الحسين بن ميّاح(الكافي:424/1).

4.بكّار(الكافي:424/1).

5.ابن أُذينة(الكافي:424/1).

6.محمد بن الفضيل(الكافي:423/1).

7.إبراهيم بن أبي محمود(عيون أخبار الرضا:113/2).

8.يحيى بن سالم(الكافي:423/1).

9.موسى بن محمد(الكافي:220/1).

10.محمد بن أبي عمير(الكافي:218/1).

11.موسى بن محمد العجلي(الكافي:207/1).

12.هشام بن الحكم(الكافي:424/1).و قد سبق منّا التعليق على ذلك.

13.والده عبد اللّه بن علي (الأمالي،للطوسي:652).

14.الحسن بن محبوب(معاني الأخبار:339).

15.جدّه علي بن الحسن(كمال الدين:312،باب 28،ح3).

16.مالك بن عامر(الكافي:377/1).

17.محمود بن أبي البلاد(عيون أخبار الرضا:27/1).

18.الحسن بن حسين(علل الشرائع:599/2).

19.سليمان بن جعفر الجعفري(الأمالي،للصدوق:85).

20.محمد بن عمر بن يزيد(علل الشرائع:598/2).

21.حرب (علل الشرائع:599/2).

ص:491

22.سليمان بن شعبان (علل الشرائع:598/2).

23.الحسن بن حسين العرني (الكافي:369/3،و كامل الزيارات:164،و فيه العمري،و هو-كما يبدو-تصحيف).

24.الحسين بن علي (الكافي:563/3).

25.إبراهيم بن هاشم(عيون الأخبار:286/1).

26.الحسن بن الحكم النخعي(كامل الزيارات:256).

27.الحسن بن عبد اللّه بن يونس بن ظبيان(علل الشرائع:178/1).

28.سليمان بن حفص المروزي(عيون أخبار الرضا:22/2).

29.صفوان بن يحيى(كمال الدين و تمام النعمة:319).

30.محمد بن علي بن محمد بن كثير(التحصين،ابن طاوس:576).

31.عبد السلام بن صالح الهروي(عيون أخبار الرضا:188/1).

32.إسحاق الناصح مولى جعفر (بحار الأنوار:214/57).

33.أحمد بن عيسى العلوي(بحار الأنوار:453/75).

هؤلاء هم مشايخه و أساتذته.

الراوون عنه

و أمّا الذين رووا عنه فهم ثلة من المحدّثين الكبار و فيهم البرقي و إبراهيم ابن هاشم و سهل بن زياد الآدمي و غيرهم ممّن لهم أقدام راسخة في نقل الحديث.

و إليك فيما يلي أسماءهم:

ص:492

1.سهل بن زياد الآدمي المتوفّى بعد عام 255(الفقيه،ج3،الرواية رقم 343).

2.أحمد بن مهران(الكافي:118/1).

3.أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي صاحب«المحاسن»المتوفّى عام 274ه(مسائل علي بن جعفر:343).

4.عبيد اللّه بن موسى الروياني،أبو تراب (الأمالي،للطوسي:589).

5.إبراهيم بن علي(معاني الأخبار:339).

6.محمد بن فيض العجلي،أبو صالح(الأمالي،للطوسي:136).

7.الحسين بن إبراهيم العلوي النصيبي(مصباح المتهجد،ج2 و الأمالي،للطوسي:602).

8.سهل بن سعد(فضائل الأشهر الثلاثة للصدوق:63).

9.النوفلي(الكافي:661/2).

10.سهل بن جمهور(الكافي:669/3).

11.أحمد بن الحسن(الاختصاص:96).

12.عبد اللّه بن محمد العجلي(الأمالي،للصدوق:388).

13.بكر بن صالح الضبي(مختصر بصائر الدرجات:94).

14.حمزة بن قاسم العلوي(الأمالي،للمفيد:319).

15.محمد العلوي العريضي(بحار الأنوار:453/75).

16.عبد اللّه بن حسين العلوي(بحار الأنوار:236/60).

ص:493

المسند و ما يراد به

قد يطلق المسند في مقابل المرسل،فإذا روى الحديث بالسند إلى المعصوم فهو مسند،و إلاّ فهو مرسل.

عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:قال أمير المؤمنين عليه السلام:إذا حدّثتم فأسندوه إلى الّذي حدّثكم،فإن كان حقّاً فلكم و إن كان كذباً فعليه. (1)

و قد يطلق و يراد به بما يقابل المصنّف،و الفرق بينهما أنّ تدوين الروايات في الأوّل حسب الأبواب بخلاف الثاني فإنّ التدوين فيه حسب الرواة الذين ينتهي السند إليهم،فمسند ابن عبّاس عبارة عن الروايات الموصولة إليه في أبواب مختلفة.

و في تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين:227/1:«أنّه بدأ المحدثون كتابة الحديث على نحو المسند في أواخر القرن الثاني»،و هو صحيح في مسانيد أهل السنّة و أمّا الشيعة فقد سبقوا في هذه الحلبة،فإنّ الأُصول الأربعمائة كلّها مسانيد بهذا الاصطلاح،فمسند زرارة عبارة عن كلّ ما يرويه زرارة في أبواب مختلفة،و قد بدأ الشيعة بالتأليف في هذا اللون في عصر الإمام الباقر عليه السلام.

و يا للأسف أنّ مسانيد الشيعة قد لعب بها التاريخ خصوصاً بعد تأليف الجوامع الأوّلية و الثانوية،فرأت الشيعة أنّها استغنت بها عن المسانيد فتركوها.

عدد رواياته

و أمّا عدد الروايات الّتي رواها السيد عبد العظيم الحسني فقد اختلفت

ص:494


1- 1) .وسائل الشيعة:56/18،الحديث14. [1]

كلمتهم في إحصائها:

فقد أنهاها الشيخ إسماعيل الكزازي(المتوفّى 1136ه) في كتاب«جنات النعيم»إلى ستين حديثاً.

كما أنهاها الشيخ محمد باقر الكجوري(المتوفّى 1313ه) في كتابه«روح و ريحان»إلى سبعة و خمسين حديثاً.

و روى له محمد بن إبراهيم الكلباسي (المتوفّى 1262ه) في«التذكرة العظيمية»أربعين حديثاً.

و نقل المحقّق الشيخ عزيز اللّه العطاردي في كتابه:«عبد العظيم الحسني حياته و مسنده»عنه 78 حديثاً.

و قد صدر أخيراً«مسند حضرت عبد العظيم حسني عليه السلام»الّذي قام بتأليفه الشيخ العطاردي و علي رضا الهزاري أثبتا له 120حديثاً،و قد قام بنشره مؤتمر تكريم السيد عبد العظيم الحسني في مدينة«الري»بطهران في عام 1424ه.

و لعلّ الأخير هو غاية الجهد الّذي يمكن بذله في هذه الأيام عن طريق الحاسب الآلي،و لو فاتهم شيء فليس شيئاً معتدّاً به.

و هناك سؤال يطرح نفسه،و هو أنّ رجلاً فذّاً أدرك الإمامين الهمامين،و روى عن ثلاثة و ثلاثين شيخاً كما روى عنه ستة عشر شخصاً، يجب أن يكون في القمة في نقل الأحاديث و أن تصل رواياته إلى مئات أو أكثر،فما هو وجه هذه القِلّة؟

و هناك جوابان على نحو مانعة الخلو:

1.إنّ أكثر المصادر و الكتب الحديثية للشيعة ذهب أدراج الرياح عبر التدمير و التخريب و الإحراق و سائر الحوادث المدمّرة،فإنّ الشيعة كانت تعيش في أحضان التقيّة و الستر إلاّ في مواطن خاصّة،و هذا هو الفقيه ابن أبي عمير الّذي

ص:495

يروي عن أربعمائة و أربعة عشر شيخاً،قد دفنت أُخته آثاره في البيت لئلاّ يؤخذ بها.يقول النجاشي:

إنّ أُخته دفنت كتبه في حالة استتارها و كونه في الحبس أربع سنين،فهلكت الكتب،و قيل بل تركتها في غرفة فسال عليها المطر، فهلكت،فحدّث من حفظه،و ممّا كان سلف له في أيدي الناس،فلهذا أصحابنا يسكنون إلى مراسيله،و قد صنّف كتباً كثيرة. (1)

2.إنّ السيد عبد العظيم الحسني كان مطارداً من قِبَل الظلمة،الأمر الّذي اضطره إلى أن يلتجئ إلى الرّي،و يسكن في سرب بعيداً عن أعين الناس،و لعلّه استغرق هذا قسماً كبيراً من عمره،ففي هذه الأجواء القاسية،تقل الرواية عن أية شخصية حديثية.

هذا هو النجاشي يذكره و ينقل عن تلميذه أحمد بن محمد بن خالد البرقي،قال:كان عبد العظيم ورد الرّي هارباً من السلطان،و سكن سرباً في دار رجل من الشيعة،في سكّة الموالي،فكان يعبد اللّه في ذلك السرب و يصوم نهاره و يقوم ليله،فكان يخرج مستتراً و يزور القبر المقابل قبره،و بينهما طريق،و يقول هو رجل من ولد موسى بن جعفر عليهما السلام،فلم يزل يأوي إلى ذلك السرب،و يقع خبره إلى الواحد بعد الواحد من شيعة آل محمد عليهم السلام،حتّى عرفه أكثرهم،فرأى رجل من الشيعة في المنام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال له:«إنّ رجلاً من ولده يحمل من سكة الموالي و يدفن عند شجرة التفاح،في باغ عبد الجبار بن عبد الوهاب»و أشار إلى المكان الّذي دفن فيه فذهب الرجل يشتري الشجرة و مكانها من صاحبها،فقال له لأي شيء تطلب الشجرة و مكانها،فأخبره بالرؤيا،و أنّه قد جعل موضع الشجرة مع جميع الباغ وقفاً

ص:496


1- 1) .رجال النجاشي:206/2،برقم 888.

على الشريف،و الشيعة يدفنون فيه،فمرض عبد العظيم و مات رحمه الله،فلمّا جرّد ليغسل وجد في جيبه رقعة ذكر فيها نسبه فإذا فيها«أنا أبو القاسم عبد العظيم بن عبد اللّه بن علي بن الحسن بن زيد بن(علي بن) الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام». (1)و مع ذلك فقد ذكر له أصحاب المعاجم بعض المؤلفات.

آثاره العلمية

ذكر المترجمون لسيدنا عبد العظيم الحسني،كتابين:

1.خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام،ذكره النجاشي في ترجمته برقم 651.

2.اليوم و الليلة،ذكره الصاحب بن عباد في رسالته الخاصة لترجمة المترجم كما يأتي و نسبه إليه في الذريعة.ناقلاً عن رجال النجاشي و لم نعثر عليه فيه.

منزلته عند أئمّة أهل البيت عليهم السلام

تتجلّى مكانة السيد عبد العظيم عند أئمّة أهل البيت من خلال كلماتهم عليهم السلام،فهو محدّث بارع و مرجع و ملجأ في الأحكام و ثقة في الدين.و ها نحن نذكر بعض كلماتهم:

1.روى الصدوق عن السيد الجليل عبد العظيم الحسني،قال:دخلت على سيّدي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.فلمّا بصر بي قال لي:«مرحباً بك يا أبا القاسم أنت وليّنا حقّاً»،فقلت له:يا ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّي أريد أن أعرض عليك ديني،فإن كان مرضيّاً أثبت عليه حتّى ألقى اللّه عزّ و جلّ.فقال:«هاتها يا أبا القاسم».

ص:497


1- 1) .رجال النجاشي:65/2 برقم651.

فقلت:إنّي أقول:إنّ اللّه تبارك و تعالى واحد ليس كمثله شيء،خارج من الحدّين:حدّ الإبطال،و حدّ التشبيه،و انّه ليس بجسم و لا صورة و لا عرض و لا جوهر،بل هو مجسّم الأجسام و مصوّر الصور،و خالق الأعراض و الجواهر،و ربُّ كلّ شيء و مالكه و جاعله و محدثه؛و أنّ محمّداً عبده و رسوله خاتم النّبيّين،فلا نبيّ بعده إلى يوم القيامة؛و أقول:إنّ الإمام و الخليفة و وليّ الأمر بعده أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب،ثمّ الحسن،ثمّ الحسين،ثمّ علي بن الحسين،ثمّ محمّد بن علي،ثمّ جعفر بن محمّد،ثمّ موسى بن جعفر،ثمّ علي بن موسى،ثمّ محمّد بن علي،ثمّ أنت يا مولاي.

فقال عليه السلام:«و من بعدي الحسن ابني،فكيف للناس بالخلف من بعده؟»قال:فقلت:و كيف ذلك يا مولاي؟ قال:«لأنّه لا يرى شخصه و لا يحل ذكره باسمه حتّى يخرج فيملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً».

قال:فقلت:أقررت و أقول:إنّ وليّهم وليّ اللّه،و عدوّهم عدوّ اللّه،و طاعتهم طاعة اللّه،و معصيتهم معصية اللّه،و أقول:إنّ المعراج حقّ، و المساءلة في القبر حقّ،و انّ الجنة حقّ،و النار حقّ،و الميزان حقّ،و إنّ الساعة آتية لا ريب فيها،و انّ اللّه يبعث من في القبور،و أقول:إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية:الصلاة و الزكاة،و الصوم،و الحجّ و الجهاد،و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

فقال علي بن محمّد عليه السلام:«يا أبا القاسم هذا و اللّه دين اللّه الّذي ارتضاه لعباده،فأثبت عليه ثبّتك اللّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة». (1)

2.روى ابن قولويه عن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه عن محمد بن

ص:498


1- 1) .التوحيد:باب التوحيد و التشبيه81،رقم الحديث37.

يحيى العطار عن بعض أهل الري قال:دخلت على أبي الحسن العسكري عليه السلام فقال:«أين كنت؟»فقلت:زرت الحسين بن علي عليه السلام فقال:«أما إنّك لو زرت قبر عبد العظيم عندكم لكنت كمن زار الحسين عليه السلام». (1)

و ربّما نوقش في الرواية لأجل جهالة الراوي عن الإمام،و يمكن الذب عنه بأنّ محمد بن يحيى العطار شيخ الكليني لا يعتمد في ذلك الموضوع المهمّ قول من لا يعرفه و لا يثق به،فهو-بما أنّه قمّي-يعرف شيعة الرّي.

نعم ربما يثار السؤال التالي:كيف تكون زيارة قبر السيد الحسني مثل زيارة الحسين عليه السلام ؟ و يمكن الجواب عنه بأنّ الإمام إنّما أدلى بهذه الكلمة في ظروف قاسية أبّان خلافة المتوكل و أذنابه الذين كانوا يقتلون الشيعة بكلّ ظنّه و تهمة،و قد ولي المتوكل الخلافة سنة 234ه و قُتل بيد ابنه سنة 247ه و لم تدم خلافة الابن حتّى تولّى الخلافة واحد بعد آخر كالمستعين (248- 252ه)،ثمّ المعتز باللّه المعروف بالنصب (خلع255ه) و المهتدي(255- 256ه) و المعتمد(256- 279ه) و كان الخط السائد على بلاط الحكم هو النصب و العداء و التشديد على العلويين و الشيعة،ففي هذا العهد،ينصح الإمام الشيعة بالاقتناع بزيارة عبد العظيم لصيانة أنفسهم و نفيسهم من الهلاك و الضياع من دون أن يكون هناك انتقاص لمنزلة الحسين أو غلوّ في منزلة السيد الحسني.

و يظهر ممّا رواه الصاحب بن عبّاد أنّه كان مرجعاً للحلال و الحرام مفتياً للشيعة فيما يشكل عليهم.قال:روى أبو تراب الروياني.قال:

سمعت أبا حماد الرازي يقول:دخلت على عليّ بن محمد عليه السلام بسرّمن رأى فسألته عن أشياء من الحلال و الحرام فأجابني فيها،فلمّا ودّعته قال:

«يا حمّاد إذا أشكل عليك شيء من

ص:499


1- 1) .كامل الزيارات:537،الباب107،الحديث1. [1]

أمر دينك بناحيتك فأسأل عنه عبد العظيم و اقرأه عنّي السلام». (1)

و الحديث يعرب عن كونه ذا ملكة اجتهادية شأن زرارة بن أعين و محمد بن مسلم و يونس بن عبد الرحمن و زكريا بن آدم الّذي أثنى عليه الإمام الرضا عليه السلام في جواب من سأله بقوله:شُقّتي بعيدة،فقال:«عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدين و الدنيا». (2)

مكانته عند العلماء

قد ذكر غير واحد من أصحاب المعاجم في حقّه كلمات درّية تعرب عن جلالته،و قد أشرنا إلى بعضها،فلا حاجة لذكرها.

و ممّا يدلّ على جلالته هو أنّ شيخ المحدّثين محمد بن علي بن بابويه الصدوق ألّف كتاباً خاصّاً في أخبار سيدنا عبد العظيم،حيث ذكر في فهرس تآليفه،أنّ له كتاب جامع أخبار عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني. (3)

و لعلّ هذا الكتاب راجع إلى حياته و سيرته و غير ذلك،و من المؤسف أنّه لم يصل إلينا.

نعم ألّف الصاحب بن عبّاد رسالة في ترجمة سيدنا عبد العظيم و قد وقف عليها المحدّث النوري و ذكرها برمّتها في الفائدة الخامسة من الخاتمة عند البحث عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني،فقال:و أمّا عبد العظيم فهو من أجلاّء السادات وسادة الأجلاّء،نقتصر في ذكر حاله على نقل رسالة من الصاحب بن عبّاد.

ص:500


1- 1) .مستدرك الوسائل:3، [1]الفائدة الخامسة:614.
2- 2) .رجال الكشي:496برقم 487. [2]
3- 3) .رجال النجاشي:316/2، رقم الترجمة1050.

وصلت إلينا بخط بعض بني بابويه تاريخ الخط سنة ست عشرة و خمسمائة صورتها:قال الصاحب رحمه الله:سُئلت عن نسب عبد العظيم الحسني المدفون بالشجرة صاحب المشهد قدّس اللّه روحه،و[عن] حاله و اعتقاده و قدر علمه و زهده و أنا ذاكر ذلك على اختصار و باللّه التوفيق.

هو أبو القاسم عبد العظيم بن عبد اللّه بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب-عليه و على آبائه السلام-ذو ورع و دين،عابد معروف بالأمانة و صدق اللهجة،عالم بأُمور الدين قائل بالتوحيد و العدل،كثير الحديث و الرواية،يروي عن أبي جعفر محمّد بن علي بن موسى و عن ابنه أبي الحسن صاحب العسكر عليهم السلام و لهما إليه الرسائل،و يروي عن جماعة من أصحاب موسى بن جعفر و علي بن موسى عليهما السلام له كتاب يسميه كتاب يوم و ليلة كتب ترجمتها [عنوانها] روايات عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني.

و قد روى عنه من رجالات الشيعة خلق كأحمد بن أبي عبد اللّه البرقي و أبو تراب الروياني،و خاف من السلطان فطاف البلدان على أنّه قيج«معرب بيك»،ثمّ ورد الري،و سكن بساربانان في دار رجل من الشيعة في سكة الموالي،و كان يعبد اللّه عزّ و جلّ في ذلك السرب يصوم النهار و يقوم الليل و يخرج مستتراً فيزور القبر الّذي يقابل الآن قبره و بينهما الطريق و يقول هو قبر رجل من ولد موسى بن جعفر عليهما السلام،و كان يقع خبره إلى الواحد بعد الواحد من الشيعة حتّى عرفه أكثرهم،فرأى رجل من الشيعة في المنام كأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:إنّ رجلاً من ولدي يُحمل غداً من سكة الموالي فيدفن عند شجرة التفاح في باغ عبد الجبار بن عبد الوهاب،فذهب الرجل ليشتري الشجرة،و كان صاحب الباغ رأى أيضاً رؤيا في ذلك،فجعل موضع الشجرة مع جميع الباغ وقفاً على

ص:501

أهل الشرف و التشيع يدفنون فيه،فمرض عبد العظيم رحمه الله و مات،فحمل في ذلك اليوم إلى حيث المشهد.

فضل زيارته

دخل بعض أهل الرّي على أبي الحسن صاحب العسكر فقال:أين كنت فقال:زرتُ الحسين عليه السلام فقال:«أما إنّك لو زرت قبر عبد العظيم عندكم لكنت كمن زار الحسين عليه السلام».

وصف علمه

روى أبو تراب الروياني قال:سمعت أبا حماد الرازي يقول:دخلت على عليّ بن محمد عليه السلام بسرّمن رأى فسألته عن أشياء من الحلال و الحرام فأجابني فيها،فلمّا ودّعته قال لي:«يا حمّاد إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك فسَل عنه عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني و اقرأه منّي السلام».

ما روي عنه في التوحيد

روى علي بن الحسين السعدآبادي عن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي قال:حدثني عبد العظيم الحسني في خبر طويل يقول:إنّ اللّه تبارك و تعالى واحد ليس كمثله شيء،و ليس بجسم و لا صورة و لا عرض و لا جوهر،بل هو مجسّم الأجسام و مصوّر الصور،خالق الأعراض و الجواهر.

روى عبيد اللّه بن موسى الروياني عن عبد العظيم عن إبراهيم بن أبي محمود قال:قلت للرضا عليه السلام:ما تقول في الحديث الّذي يروي الناس بأنّ اللّه ينزل إلى السماء الدنيا فقال:«لعن اللّه المحرفين الكلم عن مواضعه و اللّه ما قال رسول اللّه

ص:502

صلى الله عليه و آله و سلم ذلك انّما قال:إنّ اللّه عزّ و جلّ يُنزل ملكاً إلى سماء الدنيا ليلة الجمعة فينادي هل من سائل فأعطيه»و ذكر الحديث.

و بهذا الاسناد عن الرضا عليه السلام في قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» 1 .قال:«مشرقة منتظرة ثواب ربّها عزّ و جلّ».

ما روي عنه في العدل و الكبائر

روى علي بن الحسين البغدادي عن أحمد بن أبي عبد اللّه[البرقي]،عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني،عن علي بن محمد،عن أبيه محمد بن علي،عن أبيه علي بن موسى الرضا عليه السلام قال:خرج أبو حنيفة من عند الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام فاستقبله موسى عليه السلام فقال:يا غلام ممّن المعصية فقال:«لا تخلو من ثلاثة:إمّا أن تكون من اللّه عزّ و جلّ و ليس منه فلا ينبغي للكريم أن يعذّب عبده بما لم يكتسبه؛و إمّا أن تكون من اللّه و من العبد،فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف؛و إمّا أن تكون من العبد و هي منه،فإن عاقبه فبذنبه،و إن عفا عنه فبكرمه وجوده».

و روى عبيد اللّه بن موسى عن عبد العظيم عن إبراهيم بن أبي محمود قال:قال الرضا عليه السلام:«ثمانية أشياء لا تكون إلاّ بقضاء اللّه و قدره:

النوم و اليقظة و القوّة و الضعف و الصحّة و المرض و الموت و الحياة،ثبّتنا اللّه بالقول الثابت من موالاة محمّد و آله و صلّى اللّه على سيّدنا رسوله محمّد و آله أجمعين». (1)

ص:503


1- 2) .المستدرك:614/3- 615الطبعة الحجرية و [1]خاتمة المستدرك:404/4،الطبعة الحديثة.و قد قابلنا ما نقله صاحب المستدرك [2]مع نسخة خطية في مكتبة كاشف الغطاء في النجف الأشرف التي السيد حسن الخرسان عام 1351ه.

و من طريق ما رواه السيد عبد العظيم عن طريق أبي جعفر الثاني عليه السلام،عن أبيه الرضا عليه السلام،قال:سمعت أبي موسى بن جعفر عليه السلام يقول:

دخل عمرو بن عبيد البصريُّ على أبي عبد اللّه عليه السلام فلما سلّم و جلس تلا هذه الآية: «وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ» 1 ،ثمّ أمسك فقال أبو عبد اللّه عليه السلام:ما أسكتك؟ قال:أُحبُّ أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه عزّ و جلّ فقال:نعم يا عمرو.

أكبر الكبائر الشرك باللّه يقول اللّه تبارك و تعالى: «إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» 2 و يقول اللّه عزّ و جلّ: «إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النّارُ وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ». 3

و بعده اليأس من روح اللّه لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ». 4

ثمّ الأمن من مكر اللّه لأنّ اللّه تعالى يقول: «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ». 5

و منها عقوق الوالدين لأنّ اللّه عزّ و جلّ جعل العاقّ جبّاراً شقيّاً في قوله تعالى: «وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا». 6

و قتل النفس الّتي حرّم اللّه تعالى إلاّ بالحقّ لأنّه عزّ و جلّ يقول: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها...». 7

ص:504

و قذف المحصنات لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ». 1

و أكل مال اليتيم ظلماً لقول اللّه عزّ و جلّ: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً». 2

و الفرار من الزَّحف لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ». 3

و أكل الرّبا لأنّ اللّه تعالى يقول: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ». 4 و يقول اللّه عزّ و جلّ:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ». 5

و السحر لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ». 6

و الزِّنا لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً * يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً * إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ...». 7

و اليمين الغموس لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ

ص:505

وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ». 1

و الغلول قال اللّه تعالى: «وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ». 2

و منع الزكاة المفروضة لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ». 3

و شهادة الزُّور (1)و كتمان الشهادة لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ». 5

و شرب الخمر لأنّ اللّه عزّ و جلّ عدل بها عبادة الأوثان.

و ترك الصلاة متعمّداً أو شيئاً ممّا فرض اللّه عز و جلّ لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«من ترك الصلاة متعمّداً فقد برئ من ذمّة اللّه عزّ و جلّ و ذمّة رسوله صلى الله عليه و آله و سلم و نقض العهد.

و قطيعة الرَّحم لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّارِ». 6

قال:فخرج عمرو بن عبيد و له صراخ من بكائه و هو يقول:هلك من قال برأيه و نازعكم في الفضل و العلم.

ص:506


1- 4) .لم يذكر عقوبته إمّا لأنّه أيضاً كاتم للشهادة،و إمّا بالطريق الأولى أو الظهور،و تقدّمت الأخبار في عقابه.

الظروف القاسية المحدقة به

جلس المأمون-بعد قتل أخيه الأمين-على منصّة الحكم و كان الخط السائد على الساحة،هو الحرية النسبية للشيعة و المعتزلة،دعاة التوحيد و العدل،و لما توفّي عام 218 ه بويع المعتصم بالخلافة و قد فتح الساحة لأهل التفكير و الكلام،و لما توفّي عام 227ه،أخذ الواثق زمام الحكم،مقتفياً الخط الموروث من سابقيه.

و بوجود هؤلاء،تألّق نجم العدلية،و عقدت مجالس للمناظرة مع أصحاب الديانات و المقالات.

و لما مات الواثق باللّه،و تولّى المتوكل الأمر من عام 232ه إلى عام 247ه،اتخذ موقفاً متشدّداً من الشيعة و المعتزلة،لصالح الحشوية، و أشاع فكرة التجسيم و التشبيه و الرؤية أوّلاً و النصب و عداء أهل البيت ثانياً إلى حد شتمه البغداديون و هجاه الشعراء و كتب على حيطان بغداد: باللّه إن كانت أمية قد أتت

و كفى في عدائه لأهل البيت انّه قتل يعقوب ابن السكيت الإمام في العربية عند ما ندبه إلى تعليم أولاده فنظر المتوكّل يوماً إلى ولديه:

المعتز،و المؤيّد.فقال لابن السكيت:من أحبُّ إليك هما،أو الحسن و الحسين؟ فقال:قنبر مولى عليّ،خير منهما.فأمر بسلّ لسانه.

ص:507

لا يظهر من التاريخ عام انتقال السيد الحسني إلى الري،و لجوئه إلى السرداب الّذي عاش فيه،و لم تُعرف السنة الّتي هاجر فيها من الحجاز،أو العراق إلى الري،و ربما يظن انّه هاجر لزيارة الإمام الرضا و بقى في فارس،طيلة حياته إلى أن اخترمته المنيّة حوالي عام 252ه، و لكنّه بعيد للغاية،لأنّ الإمام قدم طوس عام 199ه بإصرار من المأمون،و بقاء السيد الحسني في فارس إلى عام 252ه بعيد جدّاً خصوصاً انّ المناخ كان للشيعة عبر خلافة الخلفاء الثلاث مريحاً.و أظنّ انّ المترجم غادر الحجاز أو العراق أيّام المتوكّل،حيث ضاقت الأرض برحبها على شيعة آل البيت.

و قد قام المتوكّل بترويج فكرتين باطلتين:

1.إشاعة النصب و العداء لأهل البيت و تدمير الحائر الحسيني و منع الناس عن زيارته.

2.إشاعة فكرة التجسيم و التشبيه و تسخير المحدّثين لنقل الروايات الدالّة عليهما.

ففي هذه الظروف القاسية الّتي استعدت فيها الخلافة للقضاء على الشيعة و رجالها،التجأ السيد عبد العظيم الحسني إلى الري و عاش بعيداً عن أعين الناس.

يقول الذهبي:إنّ المتوكّل أشخص الفقهاء و المحدّثين و كان فيهم:مصعب الزبيري و إسحاق بن أبي إسرائيل و إبراهيم بن عبد اللّه الهروي،و عبد اللّه و عثمان ابني محمد بن أبي شيبة،فقسّمت بينهم الجوائز،و أجريت عليهم الأرزاق،و أمرهم المتوكّل أن يجلسوا للناس و يحدّثوا بالأحاديث الّتي فيها الرد على المعتزلة و الجهمية

ص:508

و أن يحدّثوا بالأحاديث في الرؤية.

فجلس عثمان بن محمد بن أبي شيبة في مدينة أبي جعفر المنصور،و وضع له منبر و اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألف من الناس، و جلس أبو بكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة،و كان أشدّ تقدّماً من أخيه عثمان،و اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألف. (1)

***

و لأجل انّ المحدّثين كانوا يبثّون فكرة التجسم و التشبيه ترى أنّ سيدنا عبد العظيم يصف اللّه سبحانه و يقول:ليس كمثله شيء و ليس بجسم و لا صورة و لا عرض و لا جوهر بل هو مجسّم الأجسام و مصوّر الصور،خالق الأعراض و الجواهر.... (2)

كما فسر حديث الرسول حول النزول و أنّ النازل هو الملك،لا هو سبحانه و تقدّس.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

4ربيع الثاني من شهور عام 1424ه

ص:509


1- 1) .تاريخ الإسلام، [1]وفيات عام 230- 240؛تاريخ بغداد:66/10. [2]
2- 2) .الأمالي للصدوق:419؛و رسالة صاحب ابن عبّاد. [3]

ص:510

الفصل السادس:تقاريظ

اشارة

1.الإمام المهدي عجّل اللّه فرجه الشريف-الّذي وعد اللّه به الأُمم

2.الزواج المؤقّت و الأزمة الجنسية الجامحة

ص:511

ص:512

1

الإمام المهدي عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف الذي وعد اللّه به الأُمم

...اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً،

و إمّا خائفاً مغموراً لئلاّ تبطل حجج اللّه و بيّناته.... (1)

على ذلك جرت سنّة اللّه سبحانه في الأُمم السالفة،فبعث اللّه فيهم النبيّين مبشّرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب و الميزان و أيّدهم بالمعاجز و البيّنات،فعاشوا بين الناس و عرفوهم فمنهم من آمن و منهم من كفر.

ثمّ إنّه سبحانه أرفقهم بأولياء مغمورين و غير معروفين آتاهم من عنده رحمةً و علّمهم من لدنه علماً،يعيشون بين الناس،يستضيئون من أنوار علومهم و هم لا يعرفونهم.

إنّ القرآن الكريم يبيّن لنا تقارن السنّتين في عصر موسى الكليم عليه السلام،فقد كان هناك وليّ ظاهر كموسى عليه السلام و وليّ مغمور رافقه الكليم في أحد أسفاره،فقد كان وليّاً من أوليائه آتاه اللّه رحمة من عنده و علّمه من لدنه علماً.كان يعيش

ص:513


1- 1) .نهج البلاغة، [1]قسم الحكم،رقم147.

بين الناس و يعينهم و ينجدهم و لا يعرفه الناس حتّى الوليّ الظاهر و هو الكليم عليه السلام.

يقول سبحانه حاكياً عن هذا الوليّ: «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً * قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً». 1

ثمّ إنّ الذكر الحكيم يقدّم شرحاً مفصّلاً عمّا قام به هذا الوليّ الإلهي من أعمال خيرية للمساكين و غيرهم استغرب وليّ اللّه الظاهر أفعاله، و لمّا رفع الستار عن حكمة أفعاله اقتنع موسى عليه السلام.

إنّ غيبة الإمام المهدي-عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف-من الأسرار الإلهية،لا نستطيع الوقوف على حقيقتها و كنهها و إن كنّا نقف على بعض أسرارها.

إنّ الإمام المهدي-عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف-هو الذي وعد اللّه به الأُمم ليجمع به الكلم و يلمّ به الشعث و ينجز به وعد المؤمنين.

و قد روى الفريقان في أوصافه و غيبته و طول عمره و دولته الكريمة و بسطه العدل بعد ظهوره،روايات كثيرة تناهز الألف،و قلّما يتّفق لموضوع إسلامي أن يرد فيه هذا القدر الهائل من الروايات حتّى أنّ بعض الجدد من الكتّاب و إن قلّل من رواياته لكنّه يقول في حقّه:إنّ المشكلة ليست مشكلة حديث أو حديثين،أو راوٍ أو راويين،إنّها مجموعة من الأحاديث و الآثار تبلغ الثمانين تقريباً،اجتمع على تناقلها مئات الرواة، و أكثر من صاحب كتاب صحيح.

ص:514

فلما ذا نردّ كلّ هذه الكميّة؟ أكلها فاسدة؟...لو صحّ هذا الحكم لانهار الدين-و العياذ باللّه-نتيجة تطرّق الشك و الظنّ الفاسد إلى ما عداها من سنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ثمّ إنّي لا أجد خلافاً حول ظهور المهدي،أو حول حاجة العالم إليه.

و يضيف قائلاً في ردّ قول من يرفض المهدي لعدم ورود خبره في صحيحي البخاري و مسلم:«لا أرى لزاماً علينا نحن المسلمين أن نربط ديننا بهما-صحيح البخاري و مسلم -،فلنفرض أنّهما لم يكونا،فهل تشلّ حركتنا و تتوقّف دورتنا؟ لا،فالأُمّة بخير و الحمد للّه،و الذين جاءوا بعد البخاري و مسلم استدركوا عليهما،و استكملوا جهدهما،و وزنوا عملهما،و كشفوا بعض الخلاف في صحيحيهما،و ما زال المحدّثون في تقدّم علمي،و بحث و تحقيق،و دراسة و جمع،و مقارنة و تمحيص،حتّى يغمر الضوء كلّ مجهول،و يظهر كلّ خفيّ. (1)

هذا و قد أُلّف حول الإمام المهدي و عامّة شئونه موسوعات و كتب و رسائل يعسر إحصاؤها،و لو جُمعتْ،لكوّنت مكتبة كبيرة،فشكر اللّه مساعيهم.

و من أحدث ما رأيته حول المهدي كتاب«المنتظر و المنتظِرون»للكاتبة الفاضلة التقيّة«أُمّ مهدي»فهي ممّن وفّقها اللّه سبحانه لدراسة المسائل العقائدية في ضوء الكتاب و السنّة و العقل الحصيف و من نتاجاتها هذا الكتاب الماثل بين يدي القرّاء،فقد درست الموضوع دراسة نقلية و عقلية،فقارنت ما جاء في التراث

ص:515


1- 1) .بين يدي الساعة،الدكتور عبد الباقي،ص 123- 125.و قد فات الكاتب إنّ في صحيحي البخاري و مسلم إلماعات و إشارات بل في الثاني تصريحات إلى الإمام المهدي يقف عليها من سبر الكتابين.

الإسلامي حول المهدي عليه السلام بما في الشرائع السماوية في ثنايا التوراة و الإنجيل،فلم تقتصر على الجانب النقلي بل أرفقته بالتحاليل العقلية التي تُعبّد الموضوع و تيسّره للدراسة،كما أنّها عقدت فصولاً لغاية الإجابة عن الأسئلة المطروحة حول الإمام عليه السلام إلى غير ذلك من المباحث المهمّة.

و في خاتمة المطاف أقترح عليها أن تعقد فصلاً لذكر من رأى المهدي في أحضان أبيه الإمام العسكري عليه السلام،فإنّ هذا أحد المواضيع التي قد تثار حوله الأسئلة،فالرجاء من الباحثة الفاضلة أن تتدارك هذا الجانب في الطبعات القادمة،و أرجو اللّه سبحانه أن يوفّقها لما فيه رضاه و يأخذ بيدها و ليسدِّد خطاها إنّه سميع مجيب.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

آخر شهر شوال1423ه

ص:516

2

اشارة

الزواج المؤقّت

و

الأزمة الجنسيّة الجامحة

......هو دواء لا طعام،نكاح لا سفاح،علاج لضروريات مقطعية طارئة على الإنسان في فترات يمرّ بها،خاض في تحليله العدو للطعن به،و ناقش فيه الصديق للجهل بحقيقته،فحامت حوله شبهات،فما ننتظر من موضوع نظر إليه الأعداء بعين الحقد فصوّروا محاسنه معايب،كما نظر إليها الأخلاّء غير العارفين بحدوده فأكثروا فيه اللغط و التشويش فخفيت حقيقته.

و إليك التبيين:

قد عالج الإسلام مشكلة الغريزة الجنسية بالدعوة إلى النكاح الدائم و جعله أساساً في حياة الإنسان.

و على الرغم من ذلك ربّما يُواجه الإنسان ظروفاً خاصة لا يتمكّن من سلوك الطريق العام:النكاح الدائم،فهو عندئذٍ أمام أُمور ثلاثة:

1.كبت جماح الشهوة.

ص:517

2.التردد على بيوت الدعارة و الفساد.

3.النكاح المؤقّت بالشروط الّتي وضعها الإسلام.

أمّا الأوّل فلو صحّ اقتراحه فلا يستفيد منه إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس دون عامّة الناس.

و أمّا الثاني ففيه إهانة لكرامة الإنسان و شيوع الفساد و الأمراض و تداخل الأنساب.

فلم يبق هناك إلاّ الطريق الثالث و هو الزواج المؤقت الّذي يشارك النكاح الدائم في الأركان و المقوّمات و يفترق عنه في بعض الأحكام.

و في الوقت نفسه-كما قلنا-هو دواء و ليس بطعام،يعالج ضروريات مقطعية ليحول دون انتشار الفساد في المجتمع الإسلامي.

و أمّا واقع هذا الزواج؟!

فالزواج المؤقت عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها و بين الزوج مانع-من نسب أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية-بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا و الاتّفاق،فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق،و يجب عليها-إذا لم تكن يائسة-أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض،و إلاّ فبخمسة و أربعين يوماً.

و قد جاء تشريعه في الذكر الحكيم،أعني قوله سبحانه: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً». 1

ص:518

و ذُكر نزولها في المتعة في أوثق مصادر الحديث و التفسير،فقد ذكرها البخاري في صحيحه (1)،و مسلم في صحيحه (2)،و القرطبي في تفسيره حيث قال:قال الجمهور أنّها في المتعة (3)،و الجصّاص في«أحكام القرآن»حكى نزولها في المتعة عن عدّة، (4)إلى غير ذلك من التفاسير المتوفرة.

و قد عمل بها المسلمون في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و الخليفة الأوّل و فترة من خلافة الخليفة الثاني.

و روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد اللّه قال:كنّا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق الأيام على عهد رسول اللّه و أبي بكر ثمّ نهى عنها عمر في شأن عمر بن الحريث. (5)

و قد شقّ نهي الخليفة اتّفاق المسلمين على القول بحليّة المتعة و أنّها لم تُنسخ و لن تُنسخ،لكن شرذمة قليلة قدّموا المصلحة الزمنية على النص،إلى أن زادت الفجوة بين المسلمين:فقهائهم و مفسّريهم،و دام النقاش و الحجاج إلى حدّ كبير.

روى ابن خلكان أنّه ذكر عُمر بن شبّة في كتاب«أخبار البصرة»أنّ يحيى عزل عن قضاء البصرة في سنة عشرين و مائتين،و تولّى إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة.و حدّث محمد بن منصور قال:كنا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة،فقال يحيى بن أكثم لي و لأبي العيناء:بكرا غداً إليه،فإن رأيتما للقول

ص:519


1- 1) .صحيح البخاري:1642/4،الحديث 4246.
2- 2) .صحيح مسلم:71/3،كتاب الحجّ،ح172.
3- 3) .تفسير القرطبي:130/5. [1]
4- 4) .أحكام القرآن:178/2. [2]
5- 5) .صحيح مسلم:194/3،باب نكاح المتعة من كتاب النكاح،ح16.

وجهاً فقولا،و إلاّ فاسكتا إلى أن أدخل،قال:فدخلنا عليه و هو يستاك و يقول و هو مغتاظ:مُتْعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و على عهد أبي بكر و أنا أنهى عنهما؛و من أنت يا جُعَل حتّى تنهى عمّا فعله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أبو بكر؟ فأومأ أبو العيناء إلى محمد بن منصور و قال:

رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول،نكلّمه نحن؟! فأمسكنا،فجاء يحيى بن أكثم فجلس و جلسنا،فقال المأمون ليحيى:مالي أراك متغيراً؟ فقال:هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام،قال:و ما حدث فيه؟ قال:النداء بتحليل الزنا.قال:الزنا؟! قال:نعم،المتعة زنا،قال:و من أين قلت هذا؟ قال:من كتاب اللّه عزّ و جلّ،و حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،قال اللّه تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ * وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ* وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ». 1

يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال:لا،قال:فهي الزوجة الّتي عند اللّه ترث و تورث و تلحق الولد و لها شرائطها؟ قال:لا،قال:

فقد صار متجاوز هذين من العادين. (1)

سبحان اللّه ما أجرأ القاضي على المغالطة و تحريف الكلم عن مواضعه،فمن أين علم أنّ المتمتع بها ليست بزوجة؟! و ما استدلّ به على ذلك ليس إلاّ مغالطة محضة،لأنّ التوارث من أحكام الزوجية لا من مقوّماتها،و رُبّ و زوجة لا ترث كما إذا كانت قاتلة أو مرتدة.

و أمّا الولد فهو يُلحق بالزوجين و له ما لولد الزوجة الدائمة.

ص:520


1- 2) .وفيات الأعيان:149/6- 150. [1]

أُطروحات مقابل التشريع الإسلامي

اشارة

إنّ الطلاب يبدءون التخصّص العلمي بعد سن الثامنة عشر أو العشرين،و يحتاجون بعد التخرج من الجامعات إلى زمن يستعدّون فيه لكسب الرزق من التجارة أو الأعمال الاقتصادية أو الصناعية و لا يتسنّى لهم الزواج و تكوين الأُسرة قبل عمر الثلاثين،فهناك فترة طويلة يقضيها الشاب بين سن البلوغ و سن الزواج،و هذه الفترة فترة النمو الجنسي و الشهوة الجامحة و صعوبة المقاومة،فهل يصحّ لمشرّع أن يُهمل هذه الفترة من نظام المجتمع الإسلامي؟!

فعندئذٍ فما هي الأُطروحة لحلّ هذه الأزمة؟

فقد عرفت أنّ التشريع الإسلامي الخاتم،الذي أخبر اللّه سبحانه عن كماله و تمامه (1)وضع الزواج المؤقت كحلّ مؤقت لهذه الفترة،و ما أشبهها من سائر الأوقات.

أمّا الغربيون فقد لمسوا حاجة المجتمع إلى حلّ يتكفّل-حسب نظرهم-سعادة الطلاب و الطالبات فاقترحوا:

الزواج بغير أطفال
اشارة

و حاصله أن تسمح القوانين في هذه السنين بضرب من الزواج بين الشباب و الشابات لا يرهقهم بتكاليف الأُسرة و لا يتركهم لعبث الشهوات الموبقات و ما يعقبه من العلل و المحرجات،و هذا ما سمّوه«الزواج بغير أطفال»،و أرادوا أن يكون عاصماً من الابتذال،و مدرباً على المعيشة المزدوجة قبل السن الذي تسمح

ص:521


1- 1) .المائدة:3.

بتأسيس البيوت. (1)

و مراده من الزواج بغير أطفال هو استعمال موانع الحمل.

و لما اقترحه الغربيون مسحة من الزواج المؤقت،و ليس هو نفسه،لأنّ الإسلام جعله في إطار تقنيني أو تشريعي أضفى عليه مزيداً من الروعة و الجمال،و كمالاً من حيث القيود و الشروط.و ما اقترحه خال عن الحدود الّتي حدّد بها الزواج المؤقت من لحوق الولد-لو كان-و العدّة و سائر آثار المصاهرة.

و أمّا مقدّمو المصلحة الزمنيّة أو كرامة الخليفة على التشريع الإسلامي،فلهم هناك أُطروحات نعرضها على وجه الإجمال.

1.الزواج بنية الطلاق

الزواج بنية الطلاق-بعد مضيّ سنة أو سنتين -،أحد الحلول للأزمة الجنسية فللزوج أن يتزوج نكاح دوام ظاهراً و لكن ينوي أو ينويان الفراق بالطلاق بعد فترة.يقول صاحب المنار:إنّ تشديد علماء السلف و الخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق،و إن كان الفقهاء يقولون:إنّ عقد النكاح يكون صحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت و لم يشترطه في صيغة العقد و لكن كتمانه إيّاه يعد خداعاً و غشّاً و هو أجدر بالبطلان من العقد الّذي يشترط فيه التوقيت. (2)

2.الزواج العرفي

و هو عبارة عن إنشاء علاقة زوجية بين رجل و امرأة خالية من الموانع حتّى

ص:522


1- 1) .الفلسفة القرآنية،لعباس العقاد:87- 88.
2- 2) .المنار:17/5.

يصحّ العقد بينهما،مع إيجاد الشرائط اللازمة في حقيقة العقد الإسلامي إلاّ أنّه لا يتم تدوينه في الدوائر الحكومية.

و أين هذه الأُطروحة من الزواج المؤقت؟! فإنّ الزوجة في الثاني تمتلك وثيقة مقبولة في المحاكم تصون بها سمعتها و تلحق بها أولادها.

أضف إلى ذلك أنّ الزوجة التي تزوّجت بالزواج العرفي تبقى على زوجية الرجل حتّى عند إعراضه عنها و تركه لها،فهي عندئذٍ لا مطلقة و لا مزوّجة،و هذا بخلاف الزواج المؤقت فإنّها تخرج عن حبالة الزوج بعد انقضاء المدة،سواء أشاء الزوج أم لا.

3.زواج المسيار

و هو أن يتزوّج الرجل المرأة على شريطة أن تتنازل عن جميع حقوقها من النفقة و السكن و المبيت،و ليس لها من الزوج إلاّ أن يأتيها وقت ما يشاء ثمّ ينصرف.و بعضهم لم يشترط الشرط في العقد،بل تكفي القرائن و الأحوال على هذا الشرط.أي الشرط الضمني،فهو عند ما يُقبل على هذا الزواج كأنّه اشترط على المرأة أن تتنازل عن حقوقها و إن لم يذكرها.

و هذا النوع من الزواج قد أخذت المجلات العربية بشرحه و تفسيره و الحديث عنه،و بما أنّ هذا الكتاب الماثل بين يدي القارئ و الذي نحن بصدد التقديم له قد تكفّل البحث عنه في الفصل الخامس عشر بحثاً جامعاً،فنحن نجعجع بالقلم عن الإفاضة في الموضوع و نحيل القارئ الكريم إلى ذلك الفصل.

و أخيراً نضيف:أنّ المؤلّف الجليل و الكاتب القدير الشيخ توفيق بو خضر«دامت إفاضاته»قد قدّم إلى المكتبة العربية رسالة حول الزواج المؤقت مزدانة

ص:523

بالأُسلوب العلمي،أوضح فيها دلائل حليّته من الكتاب و السنّة،فنسب كلّ قول إلى صاحبه،و نقد الآراء و الأُطروحات التي استحدثت كبديل عن زواج المتعة.

و نحن إذ نبارك له هذه الخطوة القيمة،نرجو أن يكون مرجعاً لكلّ من أراد حلّ الأزمّة التي طرأت على المجتمع الإسلامي دون فرق بين بلد و بلد،كما نرجو من المحقّقين في الأحوال الشخصية التدبّر في الكتاب و السنّة للوقوف على ما جاءت به الشريعة الخاتمة لحلّها،و إن كان عبور هذه العراقيل التي أوجدتها القرون أمراً مشكلاً،و أنّ خلافاً دام عصوراً لا يُحلّ بيوم أو أسبوع أو شهر.

و اللّه من وراء القصد

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الخامس عشر من شهر شوال المكرم من شهور عام 1424ه

ص:524

الفصل السابع:رسائل و مكاتبات

اشارة

1.رسالة إلى الشيخ صالح بن عبد الرحمن

2.رسالة إلى السيد الجليل

3.رسالة إلى السيد محمد باقر الحكيم

4.رسالة جوابية إلى جمع من أهالي البحرين

5.باقة أزاهير

6.رسالة إلى الأُستاذ عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان أُستاذ جامعة أُم القرى

ص:525

ص:526

بسم اللّه الرحمن الرحيم

1

سماحة العالم الجليل الشيخ صالح بن عبد الرحمن المحترم-دامت معاليه-

رئاسة شئون الحرمين الشريفين

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن يوفّقكم لما فيه مرضاته،و يسدّد خطاكم في سبيل تحقيق الوحدة الإسلامية إنّه على ذلك قدير.

كان للقائي بفضيلتكم في مكة المكرمة-زادها اللّه شرفاً-تأثير بالغ في نفسي إذ وجدت فيكم الوعي و الانفتاح و بالتالي حمل هموم الأُمّة الإسلامية،فلم أزل أذكركم بين الزملاء و الأساتذة بالخير.

الّذي دعاني إلى كتابة هذه الرسالة،هو التأكد ممّا نُقل عن بعض المحاضرين في الحرم الشريف،ليلة الثالث عشر من رجب 1424ه أنّه أجاب عن حلّية ذبيحة من يزور القبور أوّلاً،و يذبح لها ثانياً:

«إنّ هذا الشخص مشرك و لا تحلّ ذبيحته».

لا أظنّ أنّ الجواب كان على هذا الوجه،و انّ فضيلتكم-بحمد اللّه-أعلم

ص:527

بحدود التوحيد و الشرك و الإيمان و الكفر،و لعل السامع اشتبه لفظ المحاضر،و على كلّ تقدير فالجواب خاضع للردّ.

و ذلك أوّلاً:إنّ زيارة القبور أمر مستحب أجمع عليه العلماء،و إن اختلفوا في زيارة النساء لها.و نحن لا نناقش في الاستثناء.

و أمّا الذّبح لأصحاب القبور و الضرائح أو الأنبياء و الأئمّة،فله صورتان:

1.أن يكون الذبح باسم أصحاب القبور،فلا شكّ في أنّه من الشرك،لأنّ الذبح لغيره سبحانه أمر محرّم يشمله قوله سبحانه: «وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ». 1

لكن،لا أظن أنّ أحداً من المسلمين يذبح لأصحاب القبور و الضرائح بهذا المعنى.

2.أن يكون الذبح للّه سبحانه و الغاية منه انتفاع الأموات بثوابه.و هذا لا مانع فيه،و مثال ذلك أن يقول الشخص مثلاً:ان عوفيتُ من هذا المرض،فللّه عليّ أن أذبح شاة للنبي،فالنذر للّه،و المنتفع منه هو النبي.

و هذا هو سعد بن عبادة سأل النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:يا نبي اللّه إن أُمّي قد افتلتت و أعلم أنّها لو عاشت لتصدقت أ فإن تصدّقت عنها أ ينفعها ذلك؟

قال صلى الله عليه و آله و سلم:«نعم».فسأل النبي صلى الله عليه و آله و سلم:أيّ الصدقة أنفع يا رسول اللّه؟ قال:«الماء».فحفر بئراً،و قال:هذه لأُمّ سعد.

و اللام في قوله:«هذه لأُمّ سعد»لبيان من يهدي إليه الثواب،كاللام في قول الناذر:للنبيّ أي ثوابه له.

ص:528

و ليست من قبيل اللام الداخلة على المعبود المتقرب إليه،مثل قولنا:«نذرت للّه»،بل اللام في قوله«لأُمّ سعد»للانتفاع أو الاختصاص مثل اللام الواردة في قوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ». 1

فاتّضح انّ اللام في قوله:«هذا للنبي أو للوليّ»كاللام في قوله:هذه لأُمّ سعد،فالقوم-على ضوء هذا الحديث-سعديون لا وثنيون، فالذبح مطلقاً للّه و المنتفع به من ذبح له لأجل انتفاعه بثوابه.و الرائج عند من ينذر للنبي أو الوليّ هو هذا الصنف لا غير.

و الروايات (1)في هذا المضمار أكثر من أن تُذكر في هذه الرسالة.

سبحان اللّه!! تؤكل ذبيحة اليهودي و النصراني في الحرمين الشريفين،مع أنّها ذبيحة لم يذكر عليها اسم اللّه «وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ» ،لكن لا تباح ذبيحة من آمن باللّه رباً،و بمحمد رسولاً،و بالإسلام ديناً،و بالقرآن كتاباً و بالكعبة قبلة؟! أ حرام على بلابله الدو ح و حلال للطير من كل جنس

و أنتم يا صاحب الفضيلة تعلمون أنّ هذه الأسئلة مدروسة و ذات أغراض سياسية مريضة تطرح لغاية التفريق بين المسلمين في وقت، نحن أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة و التآلف و الوئام.

و نحن نعتقد أنّكم تنطوون على رغبة صادقة في تعزيز العلاقات بين البلدين

ص:529


1- 2) .للوقوف على مصادر هذه الروايات:يلاحظ صحيح مسلم،كتاب النذر:73/5 و 78؛كنز العمال:15/15؛جامع الأُصول:8؛و الموطأ؛و التوسّل و الزيارة في الشريعة الإسلامية للشيخ الفقي:229 و غيرها.

فليقتد سائر المحاضرين بكم.فالحذر الحذر من الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة الّذي يثير الخلاف،و يعكّر الصفو.

إنّ المنقول عن هذا المحاضر،هو نفس ما أفتى به عبد اللّه بن جبرين اثر استفتاء مدروس،و قد قمنا بدراسته في رسالة طبعت ضمن كتاب«الإيمان و الكفر»نقدّمه إليكم مع هذه الرسالة المتواضعة.

فالرجاء الأكيد،مذاكرة المحاضر في الموضوع و دعوته إلى اتخاذ موقف صحيح،حول هذه المسائل الحسّاسة التي تثير الحفائظ، و تشتت الشمل.

و دمتم للمسلمين

جعفر السبحاني

قم-22 رجب 1424ه

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:530

2

إلى السيد الجليل

آية اللّه العظمى...دامت معاليه و تواترت بيض أياديه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرجو من اللّه سبحانه لسيدي العزيز الصحة و العافية في هذا الشهر المبارك و ما يتلوه من سائر الشهور،إنّه على ذلك قدير و بالإجابة جدير.

أمّا بعد؛فقد بلغني أنّ سماحتكم قد قرأتم ما قدّمتُه لكتاب«معالم الدين في فقه آل ياسين»لابن قطّان الحلّي قدس سره،ثمّ إنّكم أبديتم فيه ملاحظات أربع هي جديرة بالدراسة،و قد وقفنا على ذلك من خلال سماع صوتكم على شريط المسجِّل الّذي أتى به السيّد الجليل...حفظه اللّه، و كانت الآراء على النحو التالي:

الأوّل:في عنوان مسألة التحسين و التقبيح حيث جاء في التقديم:

«إذا استقل العقل بحسن شيء أو قبحه مع قطع النظر عن كلّ شيء يترتّب عليه من المصالح و المفاسد».

تفضّلتم:أنّ الصحيح أن يقال:«إذا استقلّ العقل بحسن شيء أو قبحه مع قطع النظر عن أمر الشارع به أو نهيه عنه،لأنّ النزاع بين الأشاعرة و العدلية يدور على هذا المحور،فالأشاعرة تقول:الحسن ما حسّنه الشارع أو أمر به،

ص:531

و القبيح ما قبّحه الشارع أو نهى عنه،و لا يدور على محور المصالح و المفاسد».

الثاني:جاء في المقدمة بعد الجملة المتقدمة:«فالشيعة على أنّه حجّة في الكشف عن حكم الشارع عليه بالوجوب و الحرمة»فظاهر هذا الكلام انّ التحسين يلازم الوجوب و التقبيح يلازم الحرمة مع أنّ التحسين و التقبيح لا يلازمان الوجوب و الحرمة،بل ربّما يتصادقان مع الاستحباب و الكراهة.

الثالث:جاء في السيرة الذاتية لابن قطّان:إنّا لم نظفر بترجمة وافية في حقّه و اقتصر في المقدمة بما ذكر،صاحب أمل الآمل مع أنّ الشيخ الطهراني ترجمه في طبقات أعلام الشيعة في الجزء الرابع(ص 118).

الرابع:أنّه جاء في المقدّمة لفظة ابن زولان و الصحيح«زولاق»و احتملتم أنّه من خطأ الطبّاع.

هذه جملة ما تلقّيناه من كلام المسجَّل،على الرغم من أنّ الصوت كان منخفضاً.

و أستجيز من سماحة سيدنا العزيز أن أقدم إليه بعض الأعذار الّتي ربما تُخفِّف الوطء و تسلط ضوءاً على الموضوع:

أمّا الأوّل:فلا شكّ أنّ محط النزاع بين الأشاعرة و العدلية في أنّ الحسن و القبح هل هو عقلي-أي يدركه العقل بلا حاجة إلى الشرع-أو شرعي رهن السماع عن الشرع؟ فلم يكن هذا الأمر مغفولاً عنه،كيف و هو جوهر النزاع و أساسه؟! و مع ذلك نحن ركّزنا على شيء آخر،و هو أنّ قضاء العقل بالحسن و القبح إنّما هو بالنظر إلى ذات الشيء لا بالنظر إلى المصالح و المفاسد المترتّبة عليه،و إنّما ركّزنا على الثاني مع أنّ المحور في الكتب الكلامية هو الأوّل،و ذلك للأمر التالي.

ص:532

اختلفت كلمتهم في ما هو الملاك للتحسين و التقبيح العقليّين،إلى أقوال:

1.موافقة الفعل للطبع و عدمها،فالأوّل يوصف بالحسن،و الثاني بالقبح.

و أمّا ما هو المراد من الطبع،فهل المراد الطبع الحيواني أو الإنساني،السافل منه أو العالي؟!

2.موافقة الأغراض و المصالح،فالعاقل يفعل لأغراض و مصالح،فكلّ فعل يؤمن مصلحة الفاعل فهو حسن،و ما ليس كذلك فهو قبيح، و المراد من المصالح هو المصالح النوعية لا الشخصية،و هذا هو الّذي يظهر من كلام الشيخ الرئيس و المحقّق الطوسي و المحقّق الاصفهاني في تعليقته على«الكفاية»و تلميذه الجليل الشيخ المظفر في«أُصول الفقه».

3.موافقة العادات و التقاليد.فموافقة الفعل للعادات ملاك الحسن و خلافها ملاك القبح.إلى غير ذلك من الأقوال.

و لكنّ المختار عند المحقّق اللاهيجي و تبعه الحكيم السبزواري أنّ ملاك التحسين و التقبيح هو ذات الفعل مع قطع النظر عن كلّ شيء، سواء أ كان أمر الشارع أو نهيه،أو الأغراض الأعم من المصالح و المفاسد و التقاليد و العادات،قائلين بأنّ العقل إذا لاحظ ذات العدل و الظلم بما هي هي مع قطع النظر عن كون الفاعل كان واجباً أو ممكناً،يستقل بحسن الأوّل و قبح الثاني و يحكم بهما حكماً باتاً غير متردد،فالتحسين و التقبيح العقليان في العقل العملي كالبديهيات في العقل النظري.

و أمّا الآخرون فقد مرّ أنّ قسماً منهم جعلوا معيار التحسين و التقبيح العقليين

ص:533

هو الأغراض و المصالح،يقول المحقق الأصفهاني:إنّ التحسين و التقبيح العقليين ممّا تتوافق عليه آراء العقلاء للمصلحة العامّة و للمفسدة العامّة،فلا محالة لا يعقل الحكم على خلافه من الشارع،إذ المفروض أنّه من لا يختص به عاقل دون عاقل و أنّه بادي رأي الجميع لعموم مصلحته و الشارع من العقلاء بل رئيس العقلاء. (1)

إنّ اتخاذ المصالح و الأغراض النوعية ملاكاً للقضاء بأحد الوصفين و إن كانت تصلح أن تكون ملاكاً للحسن و القبح في أفعال الإنسان و لكنّها لا تصلح لوصف أفعاله سبحانه بالحسن و القبح،و المحرر في محله إنّ السبب من وراء طرح هذه المسألة في المسائل الكلامية هو الوقوف على أفعاله سبحانه و ما يجوز عليه أو ما لا يجوز،و من الواضح أنّ فعله سبحانه فوق المصالح و الأغراض التي لا تكون ملاكاً لوصف فعله بالحسن و القبح (2)،مثلاً أخذه سبحانه البريء بذنب المجرم يوم القيامة فعل قبيح و لا صلة له بالمصالح و المفاسد،و لأجل ذلك يجب أن يكون الملاك شاملاً لأفعال الواجب و الممكن.و ليس إلاّ كون الفعل بما هو هو-مع قطع النظر عن كلّ شيء-حسناً أو قبيحاً.

و بعبارة أُخرى:انّ البحث عن الحسن و القبح العقليّين هو فوق مستوى البحث عن الحسن و القبح العقلائيين،فالملاك في الثاني هو ما مرّ آنفاً من موافقة الفعل للمصالح النوعية و مخالفتها،و هذا النوع من البحث بحث أخلاقي و يصلح أن تكون المصالح و الأغراض رصيداً للحكم بالحسن و القبح في ذلك الإطار.

ص:534


1- 1) .نهاية الدراية:128/2،الطبعة الحجرية،و [1]في ذيل كلامه ما ينافيه.يُلاحظ النجاة،قسم المنطق:63؛و شرح الإشارات:220/1.
2- 2) .و هذا لا يعني أنّ أحكامه سبحانه ليست تابعة للمصالح و المفاسد.

و أمّا الملاك في الأوّل الذي يعمّ الممكن و الواجب،فهو ملاك أوسع من سابقه،لما اتّضح من أنّ فعل البارئ هو فوق مستوى المصالح و المفاسد النوعية.

و على كلّ تقدير فالتركيز على هذا المطلب لا يعني الغفلة عمّا هو أساس البحث،و هو أنّ الحسن و القبح ليس رهن أمر الشارع و نهيه على خلاف ما زعمه الأشاعرة.

أمّا الثاني:فإنّ العقل في مجال إدراكاته يحكم بأحد الحكمين على وجه القطع و البت،فإذا أدرك حسن العدل يحكم بلزوم إتيانه،و إذا أدرك قبح الظلم يحكم بالانتهاء عنه،و ليس عند العقل شيء حسن يجوز تركه،أو قبيح يجوز اقترافه،و لأجل ذلك ذكر المتكلّمون انّ الأحكام عند العقل منحصرة في الوجوب و الحرمة،و أمّا انقسام الأحكام إلى الخمسة فإنّه تقسيم شرعي صحيح في مقامه و هو خارج عن مجال إدراك العقل.

إنّ تقسيم الأحكام إلى الاستحباب و الكراهة ليس بمناط الحسن و القبح بل بمناط آخر يختص بالشرع و هو وجود المصلحة غير الملزمة أو المفسدة غير الملزمة...و لو كان التقسيم بملاك الحسن و القبح فلا يتجاوز الاثنين،شريطة أن يكون الحسن و القبح عقليين لا عرفيين، و لا بملاك المصالح و المفاسد.

و على ضوء ما ذكرنا فإدراك العقل يدور حول الحسن و القبح و ليس له إلاّ حكمان،و هذا لا ينافي أن يكون للشرع أحكام خمسة لكن لا بمناط الحسن و القبح بل بمناط آخر ليس للعقل إليه سبيل.

و أمّا الثالث:فليس الغرض أنّه لم يترجمه سوى الشيخ الحرّ العاملي،كيف و قد ترجمه لفيف من العلماء و قد أشرنا إلى مصادر الترجمة في ذيل المقدمة بالنحو التالي:تنقيح المقال في علم الرجال:131/3 برقم 10846؛إيضاح

ص:535

المكنون:694/2؛أعيان الشيعة:363/9؛طبقات أعلام الشيعة:118/4؛معجم المؤلفين:64/10؛فهرست نسخه هاى خطى:414/1برقم 399؛ريحانة الأدب:157/8؛فرهنگ بزرگان:5/4؛معجم دهخدا:340/2.

بل الغرض أنّ المترجمين لم يستوفوا حقه حتّى أنّ شيخنا الطهراني-أعلى اللّه مقامه-لم يذكر في حقّه إلاّ بعض الكلمات مقرونة بالإشارة إلى بعض كتبه.

و أمّا الرابع:فالأفضل أن يقال أنّه من هفوات القلم.

و في الختام نقدّم الرسالة مرفقة بكتاب«التحسين و التقبيح»ربما يجد سيدي الجليل فيه شواهد على صدق المقال.

و نحن نتقدّم إليكم بهذه الأعذار فإن قبلت فمن حُسن أخلاقكم و شريف أعراقكم،و إن رُدّت فمن قصوري أو تقصيري،و أسأل اللّه تبارك و تعالى أن يصوننا من الزلل في البيان و القلم،و العصمة للّه و لأهلها.

جعفر السبحاني

قم المقدسة-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

1 رمضان المبارك1424ه

ص:536

رسالة بعثناها إلى العالم المجاهد آية اللّه السيد محمد باقر الحكيم قدس سره قبل استشهاده بقليل،و قد أخبرني بعض أرحامه،بأنّ الرسالة قد وصلت إليه،و لكن الظروف القاسية لم تمهله لإنجاز ما اقترح عليه حيث استشهد بيد جلاوزة الكفر و العدوان،و لقى ربّه مضمّخاً بدمه،أمام حرم جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

3

سماحة آية اللّه السيد محمد باقر الحكيم حفظه اللّه و رعاه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

و بعد:نلفت نظركم الكريم إلى الأُمور التالية:

1.لقد سبق ان طلبتم منّا كتابة كتاب حول«التوحيد و الشرك»،و قد وفقنا اللّه لذلك و ها نحن نرسل نسخة منه لنشره في العراق،لأنّنا سمعنا بوجود حاجة إلى مثله.

2.سمعنا أنّ قبر المرحوم الكليني رحمه الله مؤلف الكافي،في معرض الاندراس،فيرجى التحقيق في ذلك و الاهتمام بتجديده و إبرازه،لما في ذلك من إحياء لرموز الشيعة و تراثهم.

3.يرجى الاهتمام بقبور السفراء (النواب) الأربعة في بغداد،و الظروف اليوم

ص:537

كما نعتقد مناسبة لذلك.

4.لقد قام سماحة الإمام الحكيم والدكم المعظم-طاب ثراه-بتأسيس مكتبات في العراق،فالمأمول أن تهتموا بتفعيل دور هذه المكتبات و اتخاذها مراكز للتحقيقات الدينية و بخاصة المكتبة الأُم في النجف الأشرف.

جعفر السبحاني

27ربيع الثاني،1424ه

ص:538

بسم اللّه الرحمن الرحيم

4

سماحة آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

و بعد:

نواجه في كلّ عام و في أيّام العشرة من المحرم بالتحديد مشاكل من جراء خروج النساء لمشاهدة مواكب عزاء الرجال،إذ أنّ من بين من يخرجن لا يلتزمنّ الستر و العفاف إلى حدّ يكنّ فيه مصدر لفتنة الشباب،و لقد حاولت عدد من المناطق توجيه هذه الظاهرة من خلال المنابر و المساجد و إصدار البيانات التي تدعوا النساء إلى الالتزام بالبيوت أثناء خروج المواكب،و لمّا لم ينفع ذلك معهنّ قام البعض بتشكيل هيئات تنظم أماكن خاصة للنساء كي لا يختلطنّ بالرجال و ذلك أيضاً لم ينفع،و تتكرر هذه المأساة كلّ عام و من أجل أن نعيش إحياءً صادقاً و طاهراً لذكرى سيد الشهداء عليه السلام نتوجه لكم بطلب بيان الموقف الشرعي تجاه خروج النساء من بيوتهنّ لمشاهدة الرجال و هم يعزون...أفتونا مأجورين...و دمتم لخدمة الإسلام و المسلمين.

جمع من أهالي البحرين

12ذو الحجة 1414ه

ص:539

بسم اللّه الرّحمن الرحيم

الإسلام محمّدي الحدوث،حسيني البقاء،فتكريم المواكب الحسينيّة تكريم لصاحبها،و تقدير لجهاده العظيم،و نهضته الخالدة.

غير أنّ أبا الشهداء لم يُضرَّج بدمه الطاهر إلاّ لصيانة الإسلام من الاندثار و الاندراس،فعلى المؤمنين و المؤمنات إحياء ذكرى سيد الشهداء بنحو يطابق الكتاب العزيز و السنّة الشريفة،و الاجتناب عن الاختلاط ليُضفوا بذلك على المواكب هيبة و جلالاً و عظمة و وقاراً.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

1414/12/20هجرية

قم المقدسة

ص:540

بسم اللّه الرحمن الرحيم

5

باقة أزاهير

قال الإمام علي:«إنّما قلب الحَدَث كالأرض الخالية،ما أُلقي فيها من شيءٍ قَبِلَتْه».

فالشاب الناشئ ثمرة الحياة،يعتز به والده و يحبّه أكثر ممّا يحبّ نفسه،و يراه استمراراً لحياته. و إنّما أولادنا بيننا

و هذا الاعتزاز يسمو و يبلغ الذروة،فيما إذا أصبح الناشئ عنصر خير في المجتمع،و تحلّى بالأخلاق و المعاني الإنسانية.

و انطلاقاً من ذلك،تتأكد مسئولية الأُسرة لا سيما الأب في تربية الأبناء و تنمية قدراتهم العقلية و الخلقية و الروحية.

و أودّ هنا أن أُعرب عن ارتياحي لدور بعض الأُسر في توجيه أبنائهم نحو الاهتمام بقضايا الإسلام و مسائل العقيدة،حيث انبرى عدد من الناشئين في

ص:541

منطقة الأحساء و هم في عمر الورود إلى تلخيص كتابنا«الأئمّة الاثنا عشر»إيماناً منهم بأهمية التعريف بأئمّة أهل البيت عليهم السلام للاقتداء بهم في مسيرتهم العطرة.

و إننّي إذ أُقدّر لهم هذه الخطوة المباركة على طريق تعزيز الإيمان بالعقيدة،أدعو اللّه تعالى أن يزيّنهم بالتقوى،و أن يسدّدهم و يجعلهم أهلاً لنشر رسالة الإسلام الخالدة و ولاء أئمّة أهل البيت عليهم السلام،و لخدمة أُمّتنا الكريمة.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق

22 جمادى الأُولى 1424ه

ص:542

بسم اللّه الرحمن الرحيم

6

اشارة

فضيلة الشيخ العلاّمة الفقيه عبد الوهاب

إبراهيم أبو سليمان دامت معاليه و تواترت بيض أياديه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد:

فقد وصلت رسالتكم الميمونة(و المؤرخة 1424/12/7ه)،معربة عن طيب اعراقكم و شريف أخلاقكم،فسررت بها كثيراً. وصلت رسالتكم و فيها نَشرُكم متضوِّعاً يحكي أريج الزَّنبقِ

كما وصلتنا هديتكم الثمينة المسماة ب«جمهرة القواعد الفقهية في المعاملات المالية»تأليف تلميذكم النابه الدكتور علي أحمد الندوي،و لعلّه من أقارب الشيخ أبو الحسن الندوي الحسني مؤلف كتاب«ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»،فلو صحّ ظني فهو: من بيت علم شُيّدت أركانه بمعالم موروثة من أحمد

و على كلّ تقدير فقد بذل المؤلف تحت رعايتكم جهوداً كبيرة في تأليف هذه

ص:543

الموسوعة و جمع شوارد القواعد من شتى الأبواب فيها،فنحن نبارك له و لأُستاذه المشرِف هذه الخطوة الفقهية القيّمة،فمرحباً بهمته القعساء و عزيمته الّتي لا تثنى و لولاهما لما خرجت هذه الموسوعة بهذا الشكل القشيب إلى عالم الوجود.

و لكن ثناءنا العاطر للمؤلّف و المؤلَّف لا يمنعنا من تسجيل بعض الملاحظات الّتي لا تنقص من قيمة الكتاب شيئاً،و هي كما يلي:

الملاحظة الأُولى

كان على المؤلّف تعريف القواعد الفقهية و إيضاح الفرق بينها و بين المسائل الأُصولية،ثمّ الفرق بينها و بين المسائل الفقهية،فهناك أُمور ثلاثة يجب أن تحدد و تميز:

1.المسائل الأُصولية.

2.القواعد الفقهية.

3.المسائل الفقهية.

ففيما أتى في فهرس الجمهرة الّتي تناهز عددها 2503 خلط بين هذه الأُمور الثلاثة و المؤلف بصدد بيان القواعد الفقهية فقط،لا المسائل الأُصولية و الفقهية.و قد عطف الأخيرتين على الأُولى فجاء بالجميع في موسوعته المباركة.

الملاحظة الثانية

انّه ذكر من القواعد الفقهية-الّتي وردت نصوصها في كلام النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم-شيئاً يسيراً مع أنّه لو كان قد راجع ما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق أئمّة أهل البيت عليهم السلام لوقف على كثيرٍ من النصوص الّتي تشتمل على قواعد فقهية أُخرى،و نشير هنا إلى نماذج من ذلك:

ص:544

1.حرمة مال المؤمن كحرمة دمه.

2.كلّ ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب.

3.لا بيع إلاّ في ما تملك.

4.البيّعان بالخيار حتّى يفترقا.

5.ليس على المؤتمن ضمان.

6.الصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً.

7.رفع القلم عن ثلاثة:عن الصبي حتّى يبلغ،و عن النائم حتّى يستيقظ و عن المعتوه حتّى يبرأ.

8.حلال محمّد صلى الله عليه و آله و سلم حلال أبداً إلى يوم القيامة،و حرامه حرام إلى يوم القيامة.

9.كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.

10.كلّ مجهول ففيه القرعة.

11.الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها.

12.لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن.

13.رفع عن أُمّتي تسعة:الخطأ و النسيان،و ما أُكرهوا عليه،و ما لا يُطيقون،و ما لا يعلمون،و ما اضطروا إليه،و الحسد،و الطيرة،و التفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة.

14.ليس شيئاً ممّا حرم اللّه إلاّ أحله لمن اضطرّ إليه.

15.كلّ أجير يعطى الأجر على أن يصلح فيفسد و هو ضامن.

هذه نماذج من النصوص النبوية الّتي رواها أئمّة أهل البيت كعلي و أبنائه الطاهرين عليهم السلام و هي مذكورة في الجوامع الحديثية عندنا بأسانيدها.

ص:545

و كان على المؤلف الّذي هو غصن من الدوحة الحسنية-حسب ما استظهرناه-،أن يرجع إلى ما رواه أجداده عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من النصوص الّتي تتعلق بالمعاملات المالية تعلّقاً قريباً أو غير قريب.

و في قاموس الخلقة أن يرث الأبناء ما ورثه الآباء،و حقيق له-لا لمثلي-أن يترنم بقول الفرزدق: أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ

أو بقول البحتري: شرف تتابع كابراً عن كابرٍ كالرمح أُنبوباً عليش أُنبوب

الملاحظة الثالثة

لقد طرح الولد البارّ قاعدة«الخراج بالضمان»،و حاصل القاعدة كما هو المعروف:انّ منافع العين المضمونة هي للضامن فالخراج في مقابل الضمان.

و هل هذه القاعدة تعمّ كلّ ضمان سواء أ كان بسبب مشروع كالبيع،أم غير مشروع كالغصب و السرقة؟ أو تختص بالأسباب الصحيحة فقط مثلاً:لو غصب رجل دابة شخص فانتفع بها مدّة شهر فهل يمكن أن يقال أنّ منافع الدابة للغاصب؟ فلو قلنا بذلك فهذا يعني إعطاء الضوء الأخضر للغاصبين و السارقين،ليستثمروا أموال الناس في مقابل ضمانهم لقيمة الأعيان.

و بمثل هذه الفتيا تمنع السماء ماءها و الأرض بقلها؟

الملاحظة الرابعة

إنّ المؤلّف نقل النصّ النبوي«لا ضرر و لا ضرار»مبتوراً و لم يرشد إلى سبب

ص:546

صدوره من النبي الخاتم،فكان عليه الإلماع إلى ما نقله الحافظ أبو داود السجستاني في سننه في ذلك الصدد عن واصل مولى أبي عيينة قال:«سمعت أبا جعفر محمّد بن علي يحدّث عن سمرة بن جندب أنّه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار قال:و مع أهله قال:

فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذّى به و يشق عليه،فطلب إليه أن يبيعه،فأبى و طلب إليه أن يناقله،فأبى فأتى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فذكر [ذلك] له،فطلب إليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يبيعه،فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى،قال:«فهبه له و لك كذا و كذا»أمراً رغبة فيه،فأبى،فقال:«أنت مضار».فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم للأنصاري:«اذهب فاقلع نخله». (1)

هذه لمحة خاطفة قدّمناها للمؤلف القدير،و كفى له فخراً أنّه ثمرة من ثمار عمركم،و أنّه اتبع الخط الّذي رسمتموه.

و في الختام نتقدم إليكم ببالغ الشكر لما أسديتموه لمكتبتنا (مكتبة الإمام الصادق عليه السلام).

فشكراً للوالد و الولد و للأُستاذ و التلميذ شكراً يناطح السماء.

و السلام عليكم و على من حولكم من الأحبّة و الأعزّة و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

قم المقدسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

1424/12/25ه

ص:547


1- 1) .سنن أبي داود:315/3،أبواب القضاء. [1]

ص:548

خاتمة المطاف:حوار مع الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش حول الصحبة و الصحابة

اشارة

ص:549

ص:550

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين،و الصلاة و السّلام على سيّد الأنبياء و المرسلين أبي القاسم محمد الذي بعثه سبحانه و الناس ضُلالٌ في حَيْرَة و حاطِبون في فِتنَةٍ،قد استهوتهم الأهواء،و استزلّتهم الكبرياء،و استخفّتهم الجاهليّة الجَهلاء،حَيارى في زلزال من الأمر و بلاء من الجهل،فبالغ صلى الله عليه و آله و سلم في النصيحة،و مضى على الطريقة،و دعا إلى الحكمة و الموعظة الحسنة (1)،و على آله و عترته الذين طهّرهم اللّه تعالى من الرجس و الدنس،صلاة دائمة ما دامت السماء ذات أبراج،و الأرض ذات فجاج.

أمّا بعد،فإنّ من دواعي الخير و بواعث الغبطة ظهور فئة من العلماء الواعين،الذين لمسوا خطورة الحملة الشرسة التي يقودها أعداء الإسلام ضدّ الإسلام و المسلمين،فتصدّوا لها بفكرهم و يراعهم بتجرّد و موضوعية،بعيداً عن التعصّب المقيت و بروح منفتحة،و أخصّ بالذكر فضيلة الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش القاضي بالمحكمة الكبرى بالقطيف فقد قرأت من آثاره كرّاستين.

إحداهما:تأمّلات حول نهج البلاغة.

الثانية:صحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فلو كان الأثر دليلاً على ما يحمل الكاتب من أفكار فالأثران يدلاّن على أنّ الكاتب إنسان مؤدّب بأخلاق الإسلام،يعرض آراءه و أفكاره بأُسلوب واضح مراعياً

ص:551


1- 1) .اقتباس من خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من كتاب نهج البلاغة،الخطبة95.

أدب الكتابة،و نحن نرحِّبُ بهذا الأدب الرفيع الذي قلّما يوجد عند سائر الكُتّاب الوهابيين.

و قد علّقنا على الأثر الأوّل ببعض ما جال في الذهن و نشرناه باسم«حوار مع الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش في كتابه تأمّلات حول نهج البلاغة»و لعلّ الكتاب وصل إليه.

ثمّ وقفنا على أثر ثان و وجدناه مثل الأوّل في الأُسلوب.

و لكن الكتاب-مع هذا التثمين-لا يخلو من هن وهنات،بل من هفوات و زلاّت،و بما انّ المؤلّف طلب من القرّاء أن يناقشوا أثره لكي يتدارك ما فات في الطبعة الثانية،فقال:أخي الكريم لا تعجل اصبر معي قليلاً،و بعد التأمّل أحكم،و من معروفك أن ترسل لي كلّ ما يخطر ببالك من ملاحظات فأنا مستعد للرجوع و الزيادة و الحذف في الطبعات القادمة إن شاء اللّه،المهم واصل معي القراءة في تأمّل و احكم بعد ذلك. (1)

و انطلاقاً ممّا دعا إليه المؤلّف نذكر ملاحظاتنا على تلك الكراسة في فصول ثلاثة:

الفصل الأوّل:تبيين الخطوط العريضة التي سار على ضوئها الكاتب.

الفصل الثاني:في بيان الأُصول التي لا مناص للباحث عنها في تقييم عدالة الصحابة و تزكيتهم.

الفصل الثالث:إزاحة الستار عمّا فات الكاتب من مواقف الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مع أصحابه.

و أظن-و ظن الألمعي صواب-انّ فضيلة الشيخ لو رجع إلى تلك المذكّرات ربّما غيّر موقفه فيما تبنّاه من عدالة كلّ صحابي بلا استثناء.

المؤلّف

ص:552


1- 1) .صحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:13.

الفصل الأوّل:الخطوط العريضة التي سار على ضوئها الكاتب

اشارة

لا يستغني أيُّ باحث عن اتخاذ أُصول موضوعية يبدي فكرته على ضوئها،حتّى يكون لدراسته قيمة علمية.

و قد تصفّحنا تلك الرسالة الموجزة فوقفنا على الخطوط التي سار عليها المؤلف و هي تتلخّص في الأُمور التالية:

1.الأُسلوب الخطابي

اقتفى فضيلة الشيخ في رسالته،الأُسلوبَ الخطابي الذي كثيراً ما يُنتفع به في المسائل التربوية لا سيّما في تربية الجيل الجديد،و قد دعا إليه القرآن الكريم أيضاً بقوله تعالى: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» 1 و لعلّ الموعظة الحسنة هي الأسلوب الخطابي الذي ينفذ في قلوب الناشئين أكثر من غيره.

ص:553

و كان على فضيلة الشيخ-خاصة في البحوث التاريخية أن يستخدم الأُسلوب البرهاني بدل الأُسلوب الخطابي،إذ لكلّ أُسلوب مجاله الخاص و لكنّه-يا للأسف-استخدم إثارة العواطف و المشاعر مكان الاستدلال بالوثائق التاريخية.

و لإراءة نموذج من أُسلوبه نأتي بكلامه في تنزيه أصحاب النبي من أوّلهم إلى آخرهم و تعديلهم و تزكيتهم عامّة:

إنّ الذين يحبّون الرسول و به يقتدون،يعتقدون بأنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أدّى الأمانة و بلّغ الرسالة و قام بما أمره اللّه به،و من ذلك انّه بلغ أصحابه العلم و زكّاهم،و هم الذين أخذوا القرآن و السنّة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مباشرة،و عنهم أخذ التابعون،و الحكم بعدالتهم من الدين،و من الشهادة بأنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قام بما أمره اللّه به.

و الطعن فيهم يعني الطعن بإمامهم و قائدهم و معلّمهم سيد المرسلين.و لا حول و لا قوة إلاّ باللّه. (1)

ترى أنّه كيف يحاول اثارة مشاعر القارئ بشيء لا يتجاوز عن بيان أصل المدّعى،من دون إقرانه بدليل،إذ لا شكّ انّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أدّى الأمانة و بلّغ الرسالة و قام بما أمر اللّه به،لكن أداء الأمانة و الرسالة لا يلازم مثالية الصحابة و نزاهتهم من كلّ عيب و شين و اتّصافهم بالعدالة و الوثاقة من أوّلهم إلى آخرهم.

لاحظ قوله:«و الطعن فيهم يعني الطعن بإمامهم و قائدهم».

أي تلازم بين الطعن في المدعو،و الطعن في الداعي،فالقرآن يطعن في قوم نوح و عاد و ثمود،فهل معنى هذا أنّه يطعن في الدعاة «فَما لَكُمْ كَيْفَ

ص:554


1- 1) .صحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:8.

تَحْكُمُونَ» ؟!

هذا و قد استخدم المؤلف هذا الأُسلوب بكثرة اقتصرنا على هذا المورد تجنباً للاطناب.

2.انطباعات شخصية خاطئة

تجد انّ فضيلة الشيخ يستدلّ على تزكية عامّة الصحابة و تعلّمهم أحكام الشريعة بقوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ». 1

فقال في تفسير الآية:

«وَ يُزَكِّيهِمْ» و هم من خيرة الناس و قد قام الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بتربيتهم و تزكيتهم،فهل يعقل الطعن فيهم؟ و تأمّل في تقديم التزكية على التعليم! فهي لفتة لغوية لها دلالاتها.

و قال اللّه تعالى: «وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» و قد فعل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم الواجب عليه،فهل يمكن لعاقل منصف يخاف اللّه أن يصف طلاّب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالجهل؟ (1)

أقول:إنّه سبحانه و تعالى إنّما يذكر شئون النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» و انّه صلى الله عليه و آله و سلم مأمور بكلتا المهمتين،و أمّا انّ الأُمّة التي عاشرت النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد تزكّى جميع أفرادها و تَعلّموا بعد قيام النبي بالمهمتين فلا

ص:555


1- 2) .صحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:7. [1]

ملازمة بينهما،بشهادة انّ التزكية و التعليم من شئون عامّة الأنبياء و لا تختصّان بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم الخليل «رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». 1

و الآية كما هو المتبادر بصدد بيان شئون مطلق الرسول حتّى و لو قيل بأنّ المراد من قوله:«رسولاً»هو النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم إذ ليس للأنبياء شأن في مجال التربية إلاّ التزكية و التعليم.

و يدلّ على أنّ المهمّتين من خصائص الرسل قوله سبحانه:

«لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ». 2

فالغاية من تأييد الرسل بالبيّنات و إنزال الكتب و الميزان معهم هي إقامة القسط في المجتمع في عامّة مجالاته،و هذا هو نفس التزكية التي أُمر بها الرسول كما أمر بها عامّة الرسل.

و هذا النوع من التزكية لا يفارق التعليم يقول سبحانه: «جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ» . (1)

و يقول سبحانه: «وَ لَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ

ص:556


1- 3) .فاطر:25. [1]

وَ أَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ...». 1

فإذا كان التعليم و التزكية من شئون الرسل،فهل يصحّ لفضيلة الشيخ أن يقول إنّ الأُمم السالفة الذين قام رسلهم بتزكيتهم و تعليمهم صاروا كلّهم نموذجاً للمثل العليا و الفضائل الكبرى و صار الكل عدولاً ثقاتاً من أوّلهم إلى آخرهم مع أنّ القرآن الكريم يحكي عن إبادة الأُمم السالفة لأجل الإعراض عن أنبيائهم؟!

فهذا النوع من الانطباعات الشخصية عن آيات الذكر الحكيم يحكي عن اتّخاذ الشيخ لموقف مسبق،محاولاً إثباته بأيّة وسيلة و إن كانت فاقدة للدلالة.

3.قراءة صفحات معدودة من ملف الصحابة

إنّ فضيلة الشيخ حاول قراءة حياة الصحابة على ضوء الصفحات التي انتخبها من ملف حياة الصحابة و اكتفى بما يرجع إليهم في غزوة «بدر»و«أُحد»و غيرهما بما يتم لصالح الصحابة،و غضّ النظر عمّا ورد في تلك الوقائع من ذمّ بعضهم و التنديد بالبعض الآخر مع الإشارة بطهارة قسم ثالث منهم.

و بتعبير آخر:نصادف عند معالجة موضوعٍ ما منهجين:

الأوّل:ينظر إليه من زاوية واحدة يحشّد الباحث من خلاله،ما يدعم رؤيته و وجهة نظره،من دون أن يلتفت إلى زواياه و أبعاده الأُخرى.

و هذا المنهج الانتقائي،منهج خاطئ،لا يرتكز على أُسس علمية رصينة،و النتائج التي ينتهي إليها،تأتي ناقصة مشوّهة،لا تعبّر عن واقع، و لا تمثّل حقيقة.

و المنهج الثاني:ينظر إلى الموضوع من زوايا مختلفة،يقرأ الباحث من خلاله كلّ ما يرتبط به و ما يمت إليه بصلة في محاولة منه للكشف عن صورته الحقيقية،

ص:557

و بالتالي خلق تصوّر واضح و صحيح عنه.

و لا ريب في أنّ ثمار هذا المنهج،ستكون ناضجة يانعة،يستسيغها طلاب الحقّ و الحقيقة.

و لأجل بيان ما تقدّم،نتوجه للشيخ الدرويش-القاضي بالمحكمة الكبرى-بهذا الكلام:

إنّ القاضي العادل إذا ما رُفعت إليه قضية،فإنّه ينظر في ملفّ صاحبها بدقّة،و يقرأ ما ورد فيه على وجه التفصيل،و لا يغفل عن جانب من جوانبه،لكي تبدو له القضية بأجلى صورها،و يكون حكمه فيها قائماً على موازين القسط و العدل،بعيداً عن الحيف و الظلم.

و ليس من الإنصاف في شيء،أن يطالع بعض فصول الملفّ،و يغضّ الطرف عن سائر فصوله،بقصد إخفاء بعض الحقائق أو طمسها لدوافع معيّنة،أو بدون قصد.

و أنت إذا ما طالعت أثر الشيخ الدرويش،فإنّك تجد أنّه اعتمد بشكل صارم على المنهج الأوّل،و أقحم القارئ في درب ضيق ذي اتجاه واحد،و راح يسوقه فيه بدون هوادة،بما يختار من وسائل تنسجم و دوافعه المتمثّلة في إيصاله إلى الهدف المرسوم سلفاً،ثمّ يطلب منه-أي من القارئ-أن يتأمّل و يفكّر،و أن يسير-مع ذلك الضغط و الإكراه-في الطريق التي يحبّ!!!

لقد عرض سماحة الشيخ سيرة الصحابة من خلال اعتماد هذا المنهج،و على قاعدة (و عين الرضا عن كلّ عيب كليلة)،و ذلك بانتقاء النصوص التي تتفق و ما يرمي إليه،و ليس على أساس تقرير الحقائق،و إجلاء الواقع كما هو لا كما يتصوّره و يتمنّاه.

ص:558

وليته و هو يورد النصوص القرآنية في حقّ الصحابة-كلّ الصحابة-أن يورد كلّ ما جاء عنهم في القرآن،و لكنّه أبى إلاّ أن يسير في منهجه حتّى النهاية،فيقتطع منها ما يخدم أغراضه المحددة.

ثمّ إنّ دراسة حياة الصحابة لا تكتمل إلاّ من خلال مراجعة السنّة النبوية الشريفة و التاريخ الصحيح،و أمّا الاقتصار على بعض الآيات من الكتاب المجيد و إهمال ما سواه من المصادر،فهو أيضاً أمر مرفوض،و لا تقرّه طبيعة القضاء الصحيح.

ص:559

الفصل الثاني:الخطوط العريضة للقضاء في المسألة

1

اشارة

حبّ الصحابة من مظاهر حبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم

و كرامة للمحبّ

الحب و البغض خُلّتان تتواردان على قلب الإنسان،تشتدّان و تضعفان،و لنشوءهما و اشتدادهما أو انحلالهما و ضعفهما عوامل و أسباب، و لا شكّ انّ حبّ الإنسان لذاته من أبرز مصاديق الحبّ،و هو أمر بديهي لا يحتاج إلى بيان،و جبليّ لا يخلو منه إنسان،و من هذا المنطلق حبُّ الإنسان لما يرتبط به أيضاً،فهو كما يحبّ نفسه يحبُّ كذلك كلّ ما يمتُّ إليه بصلة،سواء كان اتّصاله به جسمانياً كالأولاد و العشيرة،أو معنوياً كالعقائد و الأفكار و الآراء و النظريات التي يتبنّاها؛و ربّما يكون حبّه للعقيدة أشدّ من حبّه لأبيه و أُمّه،فيذبُّ عن حياض العقيدة بنفسه و نفيسه، و تكون العقيدة عنده أغلى من كلّ شيء حتّى نفسه التي بين جنبيه.

فإذا كان للعقيدة هذه المنزلة العظيمة يكون لمؤسِّسها و مُغذّيها،و الدعاة

ص:560

إليها منزلة لا تقلّ عنها،إذ لولاهم لما قام للعقيدة عمود،و لا اخضرّ لها عود،و لأجل ذلك كان الأنبياء و الأولياء،بل جميع الدعاة إلى الأُمور المعنوية و الروحية،معزّزين لدى جميع الأجيال،من غير فرق بين نبيّ و آخر،و مصلح و آخر،فالإنسان يجد من صميم ذاته خضوعاً تجاههم،و إقبالاً عليهم.

و لهذا لم يكن عجيباً ان تحترم بل تعشق النفوس الطيبة طبقةَ الأنبياء و الرسل منذ ان شرع اللّه الشرائع و بعث الرسل،فترى أصحابها يقدِّمونهم على أنفسهم بقدر ما أُوتوا من المعرفة و الكمال.

و لوجود هذه الأرضية في النفس الإنسانية و الفطرة البشرية،تضافرت الآيات و الأحاديث على لزوم حب النبي و كلّ ما يرتبط به،و ليست الآيات إلاّ إرشاداً إلى ما توحيه إليه فطرته،قال سبحانه: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ». 1

و قال سبحانه: «وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ». 2

و ليست الآيات الحاثّة على حبّ الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم منحصرة في ذلك،و بما انّ حبّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من الأُصول المسلّمة عند المسلمين اتّباعاً للكتاب و السنّة نقتصر على هذا المقدار.

ص:561

مظاهر حبّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

إنّ لهذا الحب مظاهر و مجالي،إذ ليس الحب شيئاً يستقرّ في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الإنسان و تصرّفاته،بل من خصائص الحب ظهور أثره في نفس الإنسان و على قوله و فعله بصورة مشهودة ملموسة.

إنّ لحبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم مظاهر كثيرة أهمّها اتّباع دينه و الاستنان بسنّته و الإتيان بأوامره و الانتهاء عن نواهيه،و هذا شيء لم يختلف فيه اثنان.

و من مظاهر حبُّ النبي حب ذوي القربى الذين جعل الوحيُ الإلهي مودّتَهم شبه أجر الرسالة و قال: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى». 1

و من تلك المظاهر حبّ أصحابه،و لا أظن انّ أحداً يؤمن باللّه و رسوله و يحبّ اللّه و رسوله و في الوقت نفسه يبغض الصحابة و يسبّهم، (بما أنّهم صحابة نبيّه) لأنّ الإيمان بالرسول و الحبّ له لا يجتمع مع بغض من أعانه و فدّاه بنفسه و نفيسه قبل الهجرة و بعدها،من غير فرق بين من آمن بمكة و عذّب و قُتل أو مات،و بين من هاجر إلى المدينة و شارك النبي صلى الله عليه و آله و سلم في غزواته و شايعه في ساعة العسرة،كالبدريّين و الأُحديّين و غيرهم من الصحابة الذين حفل القرآن الكريم و التاريخ بذكرهم و ذكر تضحياتهم،و هذا شيء لا يختلف فيه اثنان من المسلمين.

هذا شيء تميل إليه النفس و يدعو إليه حبُّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم و حبُّ دينه و حبُّ من عاضده،من غير فرق بين من استشهد في غزواته أو حضر فيها و قاتل لا سيما في بدر و أُحد،فإنّ للبدريّين و الأُحديين مكانة خاصة في قلوب المسلمين و كثيراً ما

ص:562

يتمنّى المرء أن يحشر في عدادهم.

و هذا شيء اتّفق عليه المسلمون و لا يبغض الصحابيّ بما انّه صحب النبي و عاضده و عاونه و نشر الإسلام إلاّ الجاهل غير العارف بالإسلام الخارج عن عداد المسلمين.

فخرجنا بالنتيجة التالية،و هي:انّ حبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لا ينفك عن حبّ أصحابه و المتعلّمين عنده و ناشري دينه و حملة لوائه.

ص:563

2

من هو الصحابي؟

اختلف في تعريف الصحابي،و نذكر هنا بعض التعاريف:

1.قال سعيد بن المسيب:الصحابي،و لا نعدّه إلاّ من أقام مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سنة أو سنتين و غزا معه غزوة أو غزوتين.

2.قال الواقدي:رأينا أهل العلم يقولون:كلّ من رأى رسول اللّه و قد أدرك فأسلم و عقل أمر الدين و رضيه فهو عندنا ممّن صحب رسول اللّه،و لو ساعة من نهار،و لكن أصحابه على طبقاتهم و تقدّمهم في الإسلام.

3.قال أحمد بن حنبل:أصحاب رسول اللّه كلّ من صحبه شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه.

4.قال البخاري:من صحب رسول اللّه أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه.

5.و قال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب:لا خلاف بين أهل اللغة في أنّ الصحابي مشتق من الصحبة،قليلاً كان أو كثيراً،ثمّ قال:و مع هذا فقد تقرر للأُمّة عرف فإنّهم لا يستعملون هذه التسمية إلاّ فيمن كثرت صحبته،و لا

ص:564

يجيزون ذلك إلاّ فيمن كثرت صحبته لا على من لقيه ساعة أو مشى معه خطى،أو سمع منه حديثاً،فوجب ذلك أن لا يجري هذا الاسم على من هذه حاله،و مع هذا فإنّ خبر الثقة الأمين عنه مقبول و معمول به و إن لم تطل صحبته و لا سمع عنه إلاّ حديثاً واحداً.

6.و قال صاحب الغوالي:لا يطلق اسم الصحبة إلاّ على من صحبه ثمّ يكفي في الاسم من حيث الوضع،الصحبة و لو ساعة و لكن العرف يخصصه بمن كثرت صحبته.

قال الجزري بعد ذكر هذه النقول،قلت:و أصحاب رسول اللّه على ما شرطوه كثيرون،فإنّ رسول اللّه شهد حنيناً و معه اثنا عشر ألف سوى الأتباع و النساء،و جاء إليه«هوازن»مسلمين فاستنقذوا حريمهم و أولادهم،و ترك مكة مملوءة ناساً و كذلك المدينة أيضاً،و كلّ من اجتاز به من قبائل العرب كانوا مسلمين فهؤلاء كلّهم لهم صحبة،و قد شهد معه تبوك من الخلق الكثير ما لا يحصيهم ديوان،و كذلك حجة الوداع، و كلّهم له صحبة. (1)

إنّ التوسع في مفهوم الصحابي على الوجه الذي عرفته في كلماتهم ممّا لا تساعد عليه اللغة و العرف العام،فإنّ صحابة الرجل عبارة عن جماعة تكون لهم خلطة و معاشرة معه مدّة مديدة،فلا تصدق على من ليس له حظ إلاّ الرؤية من بعيد،أو سماع الكلام أو المكالمة أو المحادثة فترة يسيرة،أو الإقامة معه زمناً قليلاً.

و أظن أنّ في هذا التبسيط و التوسّع غاية سياسية،لما سيوافيك أنّ النبي قد تنبّأ بارتداد ثلّة من أصحابه بعد رحلته فأرادوا بهذا التبسيط، صرف هذه النصوص إلى الأعراب و أهل البوادي،الذين لم يكن لهم حظ من الصحبة إلّا لقاء قصيراً،

ص:565


1- 1) .أُسد الغابة:11/1-12،طبع مصر. [1]

و ستعلم أنّ هذه النصوص راجعة إلى الملتفِّين حوله الذين كانوا مع النبي ليلاً و نهاراً،صباحاً و مساءً إلى حدّ كان النبي يعرفهم بأعيانهم و أشخاصهم و أسمائهم،فكيف يصحّ صرفها إلى أهل البوادي و الصحاري من الأعراب؟! فتربّص حتى تأتيك النصوص.

و على كلّ تقدير فلسنا في هذا البحث بصدد تعريف الصحابة و تحقيق الحقّ بين هذه التعاريف غير أنّا نركّز الكلام على عدالة هذا الجم الغفير من الصحابة،و سيوافيك انّ الكتاب و السنّة و حياة الصحابة لا تدعم هذا الزعم بل أنّ الحكم على الصحابي،كالحكم على التابعي،فهما صنوان على أصل واحد،ففيهما الصالح و الطالح و العادل و الفاسق،فانتظر حتّى يأتيك دليله.

ص:566

3

ثناء القرآن على طوائف من الصحابة

لا على جميعهم

أثنى القرآن الكريم على الصابرين في العهد المكي الثابتين على الإسلام،و تكرر الثناء منه في العهد المدني،على المهاجرين و الأنصار فقط لما بذلوه من إنفاق و جهاد و هجرة و نصرة و حسن اتّباع و ما لقوه من محن و مصائب،يقول سبحانه:

1. «لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ». 1

ترى أنّ الآية تُثني على فريق خاص من الصحابة و هم المهاجرون و الأنصار،و قد نزلت في شأن غزوة تبوك التي كانت في السنّة التاسعة من الهجرة،و كان عدد جيش المسلمين قرابة ثلاثين ألفاً،و مع ذلك أثنى على فريق خاص لا على الأعراب و لا على الطلقاء و لا على الطوائف الأُخرى الذين أسلموا بعد بيعة

ص:567

الرضوان أو بعد فتح مكة.

و الآية لا تهدف إلى تعديلهم و توثيقهم،بل تدلّ على رجوع اللّه إليهم بالمغفرة (1)لأجل «ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» ،فطهّر قلوبهم منه،و أين ذلك من صيرورتهم عدولاً إلى آخر حياتهم؟!

2. «وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ». 2

فقد أثنى سبحانه في هذه الآية على طوائف ثلاث:

الأُولى:السابقون الأوّلون من المهاجرين،و هم الذين هاجروا أيّام هجرة النبيّ أو بعدها بقليل،و بما انّ لفظة«من»من المهاجرين للتبعيض فهو يخرج المتأخرين من المهاجرين.

و على كلّ تقدير فالآية تثني على السابقين من المهاجرين لا على عامة المهاجرين.

الثانية:السابقون من الأنصار و هم الذين سبقوا في نصرة النبيّ بالإنفاق و الإيواء،و لا يدخل مطلق الأنصار و لا أبناؤهم و حلفاؤهم.

و ذلك لأنّ تقدير الآية:و السابقون الأوّلون من الأنصار.

فالآية تثني على السابقين الأوّلين من الأنصار لا على عامّتهم.

و قد اختلفت كلمة المفسّرين في تطبيق السابقين الأوّلين من المهاجرة

ص:568


1- 1) .يقال:تاب اللّه عليه،أي رجع إليه بالرحمة و المغفرة

و الأنصار إلى وجوه لا دليل عليها.

و بما انّ الموضوع هو السبق في الهجرة،و السبق في النصرة فلا ينطبق العنوانان إلاّ على الذين أسّسوا أساس الدين،و رفعوا قواعده،قبل أن يشيّد بنيانه،و تهتزّ راياته،و هم على أصناف،منهم من آمن بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و صبر على الفتنة و البلاء،و مفارقة الديار و الأموال بالهجرة إلى الحبشة أو إلى المدينة،و منهم من آمن به صلى الله عليه و آله و سلم و نصره و آواه و آوى أصحابه من المهاجرين،و استعدّ للدفاع عن الدين قبل وقوع الوقائع.

و هذا ينطبق على من آمن بالنبي قبل الهجرة ثمّ هاجر قبل وقعة بدر التي منها ابتدأ ظهور الإسلام على الكفر،أو آمن بالنبي و آواه و تهيّأ لنصرته عند ما هاجر إلى المدينة.

فالمبدأ هو ظهور أمر النبيّ من الفترة المكية،و المنتهى هو قبل ظهور الإسلام و غلبته على أقوى مظاهر الشرك في المنطقة،أعني:غزوة بدر.

و على ضوء ذلك يتبيّن المراد من الصنف الثالث،أعني:

الثالثة:الذين اتّبعوا السابقين الأوّلين من المهاجرين و الأنصار بإحسان،و هذه الطائفة عبارة عمّن أسلم بعد بدر إلى بيعة الرضوان أو إلى فتح مكة،فلا تشمل الوافدين من العرب في العام التاسع الذي يطلق عليه عام الوفود.

و أمّا وجه الثناء على التابعين مع أنّهم ربّما لم ينصروا النبي الأكرم في مغازيه،فلكونهم تضرروا و كابدوا المصاعب بفقد أقربائهم في المعارك،و ربّما لحقهم بعض الأذى،و المراد من التابعين بإحسان هم الذين صلحت سيرتهم و سلوكهم فصاروا بعيدين عن اقتراف الذنوب و مساوئ الأخلاق.

ص:569

و قد جاء ذكر الطوائف الثلاث في سورة الحشر،بلفظ آخر،و المضمون في السورتين واحد قال سبحانه:

3. «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ * وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ». 1

فهذه الآيات الثلاث نظير ما تقدّم من الآيتين لا تثني على عامّة الصحابة بل على فريق منهم.

أمّا المهاجرون فتثني على من تمتّع منهم بالصفات التالية:

أ. «أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ».

ب. «يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً».

ج. «يَنْصُرُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ».

فمن تمتع بهذه الصفات الثلاث من المهاجرين فقد أثنى القرآن عليه،و بما انّ من أبرز صفاتهم،كونهم مشرّدين من ديارهم و أموالهم، فيكون المقصود هم الذين هاجروا قبل وقعة«بدر».

و أمّا الأنصار فإنّما تثني على من تمتّع منهم بالصفات التالية:

أ. «تَبَوَّؤُا الدّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أي آمنوا باللّه و رسوله،فخرج بذلك

ص:570

من اتّهم بالنّفاق و كان في الواقع منافقاً.

ب. «يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا».

ج. «وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ».

و بما انّ من أبرز صفاتهم،هو إيواء المهاجرين و الأنصار و إيثارهم على الأنفس،فيكون المراد من آمنوا بالنبيّ و آووه و آووا المهاجرين، فينطبق على من آمن و آوى قبل غزوة بدر لانتفاء الإيواء بعدها خصوصاً بعد إجلاء«بني قينقاع»غبَّ معركة«بدر»حيث خرجوا تاركين قلاعهم و أموالهم و أسلحتهم،فوقعت بأيدي المسلمين.

و أمّا التابعون لهم،أعني:الذين جاءوا بعدهم فإنّما أثنى على من تمتع منهم بالصفات التالية:

أ. «يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ».

ب. «وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا».

فالآيات الواردة في سورة الحشر،تتّحد مضموناً مع ما ورد في سورة التوبة و لا تختلف قيد شعرة.

فالاستدلال بهذه الآيات و ما تقدّمها على أنّ القرآن أثنى على الصحابة جميعهم من أوّلهم إلى آخرهم-الذين ربّما جاوز عددهم المائة ألف-غفلة عن مفاد الآيات؛فأين الدعاء و الثناء على لفيف من المهاجرين و الأنصار و التابعين لهم المتمتّعين بخصوصيات معيّنة،من الثناء على الطلقاء و الأعراب و أبناء الطلقاء و المتّهمين بالنفاق؟!

و أين هذه الآيات من مدح خمسة عشر ألف صحابي سجلت أسماؤهم في

ص:571

المعاجم أو مائة ألف صحابي صحبوا النبي في مواقف مختلفة و رأوه و عاشروه؟!

4. «لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً». 1

فالآية تثني على مَن صحب النبي في الحديبية و بايعوه تحت الشجرة،و كان ذلك في السنّة السادسة من الهجرة،و قد رافقه حوالي ألف و أربعمائة أو ألف و ستمائة أو ألف و ثمانمائة. (1)

و الثناء على هذا العدد القليل لا يكون دليلاً على الثناء على جميع الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم!!

كما أنّ الرضا محدّد بزمان البيعة حيث قال: «إِذْ يُبايِعُونَكَ» و لا يشمل الفترات المتأخرة عنها.

5. «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً». 3

فهذه الآية بظاهرها أوسع دلالة ممّا سبق لأنّها تثني على النبي و من معه،و لكن مدلول الآية-في الحقيقة ليس بأوسع ممّا سبق،و ذلك للقرائن التالية:

الأُولى:الصفات التالية لم تكن متوفرة في عامّة الصحابة،أعني بها:

ص:572


1- 2) .السيرة النبوية:309/2؛ [1]مجمع البيان:288/2.

أ. «أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ».

ب. «رُحَماءُ بَيْنَهُمْ».

ج. «تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً»

د. «يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً».

ه. «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ».

و من المعلوم أنّه لم تكن هذه الصفات متوفّرة في عامّة صحابة النبيّ،فهل كان في وجوه الأعراب و الطلقاء و أبنائهم و الذين آمنوا بعد الفتح أثر للسجود؟!

الثانية:انّ ذيل الآية يشهد بأنّ الثناء على قسم منهم يقول: «وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً» فانّ لفظة«من»في قوله:«منهم»للتبعيض،و ما يقال من أنّ«من»بيانية غير صحيح،لأنّها لا تدخل على الضمير مطلقاً في كلامهم و إنّما تدخل على الاسم الظاهر،كما في قولك: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» 1. 2

الثالثة:انّ الآية نزلت قبل فتح مكة و بعد الحديبية،و المراد من قوله سبحانه في هذه الآية «إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» هو الفتح في صلح الحديبية،و فيه إخبار عن فتح مكة في المستقبل بقوله: «لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما

ص:573

لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً». 1

فالآية تتضمن الإخبار عن فتحين آخرين:

1.عمرة القضاء و أشار إليه بقوله: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ».

2.فتح مكة و أشار إليه بقوله: «فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً».

فإذا كانت الآية ممّا نزلت في السنّة السادسة و حواليها،فلا تكون أوسع دلالة من الآيات النازلة بعدها في السنّة التاسعة كما نقلناه،فالثناء المطلق في الآية على مَن كان مع النبي «وَ الَّذِينَ مَعَهُ» يحمل و يخصص بما خصصه القرآن في آيات أُخرى كالآيات المتقدّمة.

و على ضوء ما تقدّم،نصل إلى النتيجة التالية:انّ ما اشتهر على الألسن من ثناء القرآن على صحابة الرسول قاطبة و تعديله إياهم ممّا لا أساس له،و إنّما وقع الثناء-بعد ضمّ بعضها إلى بعض-على لفيف منهم و طائفة خاصّة.

ص:574

4

اشارة

الثناء على الصحابة،ثناء جمعي لا أُحادي

لا شكّ أنّ هذه الآيات تثني على طائفة خاصّة من الصحابة،و المهم-الآن-هو الدّقة في استجلاء مفاهيم الآيات،فهل إنّ الآيات في معرض الثناء على كلّ فرد من أفراد هذه الطوائف؟ أم إنّها بصدد الثناء على المجموع في فترات خاصّة ؟ حيث لا ينافي ذلك خروج بعض الأفراد إذا ثبت صدور عمل منه لا يتّفق مع عدالته.و للثناء الجمعيّ نظائر في القرآن الكريم و الأدب العربي.فأمّا القرآن فنشير إلى الآيات التالية:

1.انّه سبحانه أثنى على بني إسرائيل في غير واحدة من الآيات،و قال: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» . (1)

2.و قال تعالى: «وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» . (2)

ص:575


1- 1) .البقرة:47. [1]
2- 2) .الجاثية:16. [2]

أ فيصح لأحد أن يستدلّ بهذه الآيات على تنزيه كلّ فرد من بني إسرائيل؟!

3.و قال تعالى في حق أُمّة نبيّنا: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» . (1)

فالآية تصف الأُمّة المرحومة بأنّها خير أُمّة و لكنّها ليست بصالحة للاستدلال على صلاح كلّ مسلم و فلاحه.

إذا وقفت على نماذج من الثناء الجمعيّ في القرآن فلا محيص عن حمل الآيات المادحة للصحابة عليه بوجوه:

أوّلاً:انّ القرآن الكريم يصنّف صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى أصناف مختلفة من غير فرق بين البدري و غيره،و من غير فرق بين من آمن قبل الحديبية أو بعده،التحق بالمسلمين قبل الفتح أو بعده،و إليك رءوس هذه الطوائف مع الإشارة إلى مواضعها في القرآن الكريم،و هم:

1.المنافقون المعروفون.(المنافقون:1)

2.المنافقون المندسّون.(التوبة:101)

3.مرضى القلوب.(الأحزاب:12).

4.السمّاعون.(التوبة:45-47).

5.خالطوا العمل الصالح بغيره.(التوبة:102).

6.المشرفون على الارتداد.(آل عمران:154).

7.الفاسق.(الحجرات:6).

8.المسلمون غير المؤمنين(الحجرات:14).

ص:576


1- 1) .آل عمران:110. [1]

9.المؤلّفة قلوبهم(التوبة:60).

10.المولّون أمام الكفّار.(الأنفال:15- 16).

فهذه الأصناف العشرة من صحابة النبيّ لا يمكن وصفها بالعدالة و التقوى كما لا يمكن القول بشمول الآيات المادحة لهؤلاء،و إلاّ يلزم التناقض في مدلول الآيات.

ثانياً:انّ القرآن الكريم يتنبّأ بارتداد لفيف من الصحابة بعد رحيل الرسول كما في قوله: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ». 1

و الآية و إن كانت قضية شرطية،و القضية الشرطية لا تدلّ على وقوع طرفيها،و لكنّها تدلّ بمضمونها على أنّ في صحابة الرسول في عصر نزول الآية-أعني:السنة الثالثة (غزوة أُحد)-مَن كانت سيرته و أعماله تدلّ على إمكان ارتداده بعد رحيل الرسول،و عند ذلك كيف يمكن أن نكيل جميع الصحابة بمكيال واحد حتّى الأُحديين؟ فكيف بمن آمن بعدهم و يعدّ دونهم؟!

فهذه الآيات إذا انضمت إلى الآيات المادحة يخرج المفسر بنتيجة واحدة،و هي انّ مَن صحب النبي كان بين صالح و طالح،و بين من يُستدر به الغمام و من لا يساوي إيمانه شيئاً.

ثالثاً:انّ التاريخ سجّل أسماء جماعة من صحابة النبي لم يحسنوا الصحبة،و نحن نأتي بأسماء لفيف منهم،و هم ليسوا من المنافقين قطعاً إلاّ واحد منهم و مع ذلك ساءت سيرتهم و لا يمكن غض النظر عن هذا التاريخ:

ص:577

1.الجد بن قيس الأنصاري،الذي قال النبيُّ في حقّه كلكم مغفور له إلاّ صاحب الجمل الأحمر. (1)

2.عبد اللّه بن أبيّ بن سلّول،كان من المبايعين تحت الشجرة في بيعة الرضوان (و إن كان منافقاً).

3.الحرقوص بن زهير السعدي،شهد بيعة الرضوان و صار رأس الخوارج،و هو الذي قال للنبيّ:اعدل يا محمد!!

4.حارث بن سويد بن الصامت،شهد بدراً لكنّه قتل المجذر بن زياد يوم أُحد لثأر جاهلي،فأمر النبيّ بقتل الحارث بالمجذر.

5.العرنيون،الذين قتلهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم جزاءً على فعلهم بقتل بعض الرعاة و سرقة الإبل،كانوا قد صحبوا قبل الحديبية.

6.محلم بن جثامة،قال فيه النبي:«اللهم لا تغفر لمحلم بن جثامة»لأنّه قتل صحابياً متعمداً.

7.مقيس بن صبابة،قتل نفساً مؤمنة فأهدر النبيّ دمه،فقتل في فتح مكة.

8.عبد اللّه بن خطل،كان صحابياً ثمّ ارتد و لحق بمكة و قتل يوم فتحها.

9.المغيرة بن شعبة،ساءت سيرته بعد النبي كما هو واضح.

10.مدعم،مولى النبي صلى الله عليه و آله و سلم الذي غلّ من غنائم خيبر.

11.كركرة،مولى النبي غلّ من غنائم خيبر.

12.سمرة بن جندب،أساء السيرة بعد النبي فكان يبيع الخمر و يقتل البشر و يُرضي معاوية.

ص:578


1- 1) .صحيح مسلم:123/8،طبعة محمد علي صبيح و أولاده.

13.عبيد اللّه بن جحش الأسدي،كان من السابقين إلى الإسلام و من مهاجرة الحبشة لكنّه تنصّر بالحبشة.

14.الحارث بن ربيعة بن الأسود القرشي،افتتن و ارتد بمكة.

15.أبو قيس بن الوليد بن المغيرة،افتتن بمكة.

16.علي بن أُمية بن خلف افتتن بمكة.

17.العاص بن منبه بن الحجاج،افتتن بمكة و قتل ببدر مع المشركين. (1)

أضف إلى ذلك:انّه كيف يمكن للذكر الحكيم أن يُثني على الأفراد التالية أسماؤهم:

1.معاوية بن أبي سفيان،2.الوليد بن عقبة(الفاسق بنصّ القرآن)،3.بُسر بن أبي أرطأة،4.أبو الأعور السلمي و غيرهم.

فهؤلاء حاربوا عليّاً و عماراً و عشرات البدريّين و مئات الرضوانيين الذين كانوا مع علي في خلافته،و شتموهم،فهؤلاء و أمثالهم خارجون عن الآيات المادحة على فرض شمولها لهم.

مدح الإمام عليّ مدح جمعيّ

لقد أثنى الإمام علي بن أبي طالب على أصحاب النبيّ في بعض خطبه و قال:«لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه و آله و سلم فما أرى أحداً منكم يشبههم،لقد كانوا يصبحون شُعثاً غبراً،و قد باتوا سجّداً و قياماً،يراوحون بين جباههم و خدودهم،

ص:579


1- 1) .و قد عقد الكاتب المعاصر حسن فرحان المالكي فصلاً تحت عنوان«أُناس لم يحسنوا الصحبة»و جاء فيها بأسماء 71 صحابياً اتّسموا بعدم حسن الصحبة،و قد أخذنا هذه الأسماء من تلك القائمة[لاحظ كتاب الصحبة و الصحابة:180- 184].

و يقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم،كأنّ بين أعينهم رُكَب المعزى من طول سجودهم،إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتى تَبُلَّ جيوبهم، و مادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف،خوفاً من العقاب و رجاءً للثواب». (1)

و قال أيضاً مادحاً أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه،و قرءوا القرآن فأحكموه،و هيجُوا إلى القتال فَوَلهوا وَلَهَ اللقاح إلى أولادها،و سلبوا السيوف أغمادها،و أخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً،وصفاً صفاً،بعضٌ هلك،و بعض نجا،لا يُبَشَّرون بالأحياء،و لا يُعَزَّوْنَ بالموتى،مُرْهُ العيون من البكاء،خُمصُ البطون من الصيام،ذُبَّل الشفاه من الدعاء،صُفرُ الألوان من السَّهَر،على وجوههم غبرة الخاشعين،أُولئك إخواني الذاهبون،فحقَّ لنا أن نظمأ إليهم،و نَعضَّ الأيدي على فراقهم». (2)

فالإطراء لا يشمل كلّ فرد من أفراد الصحابة،و إنّما يتعلّق بمجموعهم،و يُراد بهم أُولئك الّذين آمنوا و صبروا و جاهدوا و زهدوا في الدنيا و انقطعوا إلى العبادة و الجهاد في سبيل اللّه،نظراء:

مصعب بن عمير القرشي،من بني عبد الدار.

سعد بن معاذ الأنصاري من الأوس.

جعفر بن أبي طالب.

عبد اللّه بن رواحة الأنصاري،من الخزرج.

عمّار بن ياسر.

ص:580


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة97. [1]
2- 2) .نهج البلاغة:الخطبة 121؛ [2]شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:291/7.و [3]لاحظ تأمّلات في كتاب نهج البلاغة:21. [4]

أبي ذر الغفاري.

المقداد الكندي.

سلمان الفارسي.

خَبّاب بن الأرت.

و جماعة من أصحاب الصُّفَّة و فقراء المسلمين أرباب العبادة الذين قد جمعوا بين الزهد و الشجاعة.

فإطراء هؤلاء و هذه سماتهم و صفاتهم لا يكون دليلاً على إطراء صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قاطبة.

ص:581

5

تعزيز السنّة

لما أخبر عنه الوحي

انّ الذكر الحكيم قد تنبّأ بارتداد لفيف من المحدقين بالنبي في غزوة«أُحد»،التي وقعت في السنة الثالثة من هجرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم،قال سبحانه:« وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ» 1 .و التنبّؤ و إن كان بصورة القضية الشرطية و لكنّه كان إنذاراً لهم و إخباراً عن وجود أرضية لهذه الطارئة.

و قد أخبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حديثه بصورة الجزم عن ارتداد قسم كثير من أصحابه على نحو يعمّ كافّة الطوائف من الصحابة و لا يختصّ بالطلقاء و الوافدين في العام التاسع،و هذا ممّا لا يشكّ فيه أحد إذا تدبّر في الأحاديث التالية،و نحن نذكر ما جمعه الجزري في«جامع الأُصول» و المتأمّل في هذه الروايات يقف على أنّ مسألة عدالة الصحابة و الدعوة إلى الاقتداء بهم و حجّية قولهم بلا تحقيق في

ص:582

أحوالهم،فكرة طارئة على المجتمع الإسلامي روّجتها السلطة الأموية و بعدها العباسية للحدّ من الرجوع إلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام،فانّ الناس كانوا بعد رحيل الرسول بين أمرين،إمّا الرجوع إلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام أحد الثقلين في حديث الرسول،أو الرجوع إلى الصحابة،فلم يكن بد للسلطة إلاّ إرجاع الناس إلى الصحابة و ترفيع مكانتهم و الثناء عليهم و تقديسهم على نحو يتجلّى للناس انّهم معصومون من العصيان و الخطأ،بل لهم حقّ التشريع و التقنين،فأقوالهم و آثارهم و آراؤهم حجّة للأُمّة بلا كلام،و إليك ما نقله ابن الأثير في جامعه:

1.روى عبد اللّه بن مسعود،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«أنا فرطكم على الحوض،و ليُرفعنَّ إليَّ رجال منكم،حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني،فأقول:أي ربّ،أصحابي،فيقال:إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك».أخرجه البخاري و مسلم.

2.روى أنس بن مالك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«ليردنَّ عليَّ الحوض رجال ممّن صاحبني،حتى إذا رأيتهم،و رفعوا إليَّ اختلجوا دوني،فلأقولنَّ:أي ربّ،أصحابي أصحابي،فليُقالنّ لي:إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك».

و في رواية:ليردنّ عليّ أُناس من أُمتي-الحديث-و في آخره،فأقول:«سحقاً لمن بدّل بعدي».أخرجه البخاري و مسلم.

3.روى أبو حازم،عن سهل بن سعد،قال:سمعت النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول:«أنا فرطكم على الحوض من ورد شرب،و من شرب لم يظمأ أبداً، و ليردنّ عليَّ أقوام أعرفهم و يعرفونني،ثمّ يُحال بيني و بينهم»،قال أبو حازم:فسمع النعمان بن أبي عياش،و أنا أُحدِّثهم هذا الحديث،فقال:هكذا سمعتَ سهلاً يقول؟ فقلت:نعم،قال:و أنا أشهد على أبي سعيد الخدري:لسمعته يزيد،فيقول:«إنّهم منّي،

ص:583

فيقال:إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك،فأقول:سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي».أخرجه البخاري و مسلم.

4.و للبخاري:أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،قال:«بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة،حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينهم،فقال:هلمّ.

فقلت:أين؟ فقال:إلى النار و اللّه.

فقلت:ما شأنهم؟ قال:إنّهم قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى.ثمّ إذا زمرة أُخرى،حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينهم،فقال لهم:

هلمّ،قلت:إلى أين؟ قال:إلى النار و اللّه،قلت:ما شأنهم؟ قال:إنّهم قد ارتدوا على أدبارهم.فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل هَمَل النعم».

5.و لمسلم:انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«ترد عليّ أُمّتي الحَوض و أنا أذود الناس عنه،كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله.قالوا:يا نبيّ اللّه تعرفنا؟ قال:نعم.لكم سيما ليست لأحد غيركم.تردون عليَّ غرّاً محجّلين من آثار الوضوء،و ليصدَّن عنّي طائفة منكم فلا يصلون.

فأقول:يا رب،هؤلاء من أصحابي،فيجيبني ملك،فيقول:و هل تدري ما أحدثوا بعدك؟!».

6.روت عائشة،قالت:سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،يقول-و هو بين ظهراني أصحابه-:«إنّي على الحوض أنتظر من يرد عليَّ منكم.

فو الله ليُقطعنّ دوني رجال،فلأقولنَّ:أي ربِّ،منّي و من أُمّتي! فيقول:إنّك لا تدري ما عملوا بعدك.ما زالوا يرجعون على أعقابهم».أخرجه مسلم.

7.روت أسماء بنت أبي بكر،قالت:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّي على الحوض،أنظر من يرد عليَّ و سيُؤخذ ناس دوني،فأقول:يا رب، مني و من أُمّتي-و في

ص:584

رواية،فأقول:أصحابي-فيقال:هل شعرت ما عملوا بعدك؟ و اللّه ما برحوا يرجعون على أعقابهم».أخرجه البخاري و مسلم.

8.روت أُمّ سلمة،قالت:كنت أسمع الناس يذكرون الحوض.و لم أسمع ذلك من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلمّا كان يوماً من ذلك و الجارية تمشطني،سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:«أيّها الناس»،فقلت للجارية،استأخري عنّي.قالت:إنّما دعا الرجال و لم يدع النساء فقلت:إنّي من الناس.فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّي لكم فرط على الحوض،فإيّاي لا يأتينّ أحدكم،فيُذبُّ عني كما يذب البعير الضال،فأقول:فيم هذا؟ فيقال:

إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك،فأقول:سحقاً».أخرجه مسلم.

9.روى سعيد بن المسيب انّه كان يحدّث عن أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:«يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي،فيحلئون عنه.فأقول:

يا رب،أصحابي،فيقول:إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك.انّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى».أخرجه البخاري.

10.روى أبو هريرة،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«و الذي نفسي بيده،لأذودنّ رجالاً عن حوضي.كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض.

أخرجه البخاري و مسلم.

11.روى حذيفة بن اليمان:انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«إنّ حوضي لأبعد من أيلة إلى عدن.و الذي نفسي بيده:لأذودنّ عنه الرجال،كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن حوضه.قالوا:يا رسول اللّه،و تعرفنا؟ قال:نعم.تردون عليَّ غرّاً محجّلين من آثار الوضوء ليست لأحد غيركم.

أخرجه مسلم. (1)

ص:585


1- 1) .جامع الأُصول:119/11- 123 برقم 7969-7979،كتاب القيامة،الفرع الأوّل في الحوض.

و هذه الأحاديث تعرب عن موقف محدِّثي أهل السنّة بالنسبة إلى الصحابة،مع أنّ بعضهم يتجاهلون هذه الروايات،و ربّما ينسبون مفادها إلى الشيعة،فأيّهما أحقّ بهذه النسبة،أ هؤلاء الذين رووا تلك الروايات و دوّنوها في صحاحهم و أسموها بأصحّ الكتب بعد كتاب اللّه؟ أم الشيعة؟

ص:586

6

اشارة

قداسة الصحابة

حالة طارئة

لم يكن جيل الصحابة ليتخلّف عن سنّة الصراع و التدافع التي حكمت تاريخَ الإنسانية،و ليس من منطق التاريخ أن يرتقي جيل كامل إلى مستوى الكمال دفعة واحدة،بحيث تذوب في ذلك الجيل كلّ الأنانيات و الأهواء و المصالح الشخصية،فيصير جميعُهم مظاهرَ للمثل العليا و محاسن الأخلاق،و هذا أمر لا توافقه سنّة التاريخ.

و أنت إذا تصفّحت التاريخ تجد انّ النزاع و التخاصم و حتى تبادل التُّهم و الشتائم كان قائماً بين الصحابة على قدم و ساق،بل تجد فيه أحداثاً مريرة بينهم أُريقت فيها الدماء و انتهكت فيها الحرمات و الكرامات.

و هذه الهالة القدسية التي يضفيها جمهور السنّة على الصحابة-جميع الصحابة من دون استثناء-ليست إلاّ وليدة عصر متأخّر عنهم،و لم تزل هذه الهالة تزداد و تتسع-و لأهداف شخصية واضحة-حتّى أصبحنا في عصر لا يمكن فيه

ص:587

لأحد أن يبحث في ممارسات الصحابة و سلوكياتهم،و لا أن يشير إلى مواضع الألم في تاريخ تلك الحُقبة،حتّى روى الخطيب بسنده إلى أبي زرعة الرازي،قال:إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول اللّه فاعلم أنّه زنديق،و ذلك أنّ الرسول حقّ و القرآن حقّ و ما جاء به حقّ و انّما أدى إلينا ذلك كلّه،الصحابة،و هؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب و السنّة،و الجرح بهم أولى و هم زنادقة. (1)

و قد عزب عن الرجل انّ الغاية ليست هي تنقيص الصحابة و إنّما هي التأكد من عدالة مَنْ نأخذ ديننا عنهم،فلو قام الرجل بالتحقيق في حياة الصحابة و تحمّل العبء الثقيل فإنّما هو لفرط الاحتياط في أخذ معالم الدين،و لو قال أبو زرعة-مكان قوله الآنف-هذا القول:إذا رأيت الرجل يتفحّص عن أحد أصحاب الرسول لغاية العلم بصدقه أو كذبه،أو خيره أو شره،حتّى يأخذ دينه عن الخيرة الصادقين،و يحترز عن الآخرين،فاعلم أنّه من جملة المحقّقين في الدين و المتحرّين للحقيقة،لكان حقّاً متعيّناً.

و من غير الصحيح أن يتهم العالم أحداً،يريد التثبّت في أُمور الدين،و التحقيق في مطالب الشريعة بالزندقة،و أنّه يريد جرح شهود المسلمين لإبطال الكتاب و السنّة،و ما شهود المسلمين إلاّ الآلاف المؤلّفة من أصحابه صلى الله عليه و آله و سلم،فلا يضرّ بالكتاب و السنّة جرح لفيف منهم و تعديل قسم منهم،و ليس الدين القيم قائماً بهذا الصنف من المجروحين،«ما هكذا تورد يا سعد الإبل»!!

إنّ هذه النظرية تكوّنت و نشأت من العاطفة الدينية التي حملها المسلمون تجاه الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و جرّتهم إلى تبنّي تلك الفكرة، و قد قيل:«من عشق شيئاً،

ص:588


1- 1) .الإصابة:17/1. [1]

عشق لوازمه و آثاره».و استغلّتها السلطةُ الأمويّة لإبعاد الناس عن أئمّة أهل البيت (أحد الثقلين).

إنّ صحبة الصحابة لم تكن بأكثر و لا أقوى من صحبة امرأة نوح و امرأة لوط فما أغنتهما من اللّه شيئاً،قال سبحانه: «ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ».

إنّ التشرف (1)بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازاً و تأثيراً من التشرّف بالزواج من النبي،و قد قال سبحانه في شأن أزواجه:« يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً». 2

إنّ الدعاية و الأبواق الإعلامية ربّما تصنع من شخصيات سيّئة أُناساً عدولاً يستدرّ بهم الغمام،كما أنّها ربما تعكس الحالة فتصوّر بعض الصالحين بصورة شوهاء و تعدّهم من الطالحين!!

إنّ الحاكم النيسابوري عند ما يبحث في أنواع التدليس و ذكر موارده،يقول:

«قد ذكرت في هذه الأجناس الستة أنواع التدليس،ليتأمّله طالب هذا العلم،فيقيس بالأقل على الأكثر،و لم أستحسن ذكر أسامي من كان من أئمّة المسلمين صيانة للحديث و رواته». (2)

و يقول الذهبي في«المغني في الضعفاء»:

«قد احتوى[كتابه] على ذكر الكذّابين الوضّاعين،ثمّ على ذكر المتروكين

ص:589


1- 1) .التحريم:10. [1]
2- 3) .معرفة علوم الحديث:111.

الهالكين،ثمّ على الضعفاء من المحدّثين الناقلين،و لم أعتن بمن ضعف من الشيوخ ممّن كان في المائة الرابعة و بعدها،و لو فتحت هذا الباب لما سلم أحد إلاّ النادر من رواة الكتب و الأجزاء». (1)

و يقول أيضاً في مقدّمة ميزانه:

«ثمّ من المعلوم أنّه لا بدّ من صون الراوي و ستره،و الحد الفاصل بين المتقدم و المتأخر هو رأس سنة ثلاثمائة،و لو فتحتُ على نفسي تليين هذا الباب ما سلم معي إلاّ القليل». (2)

فهذه النصوص الواضحة تكشف عن حقيقة مرّة،و هي انّ أئمّة المسلمين الذين أضفى عليهم التاريخ هالة من القداسة كانوا مدلسين، و لم يجرأ رجال الجرح و التعديل عن الإفصاح بهذه الحقيقة لأجل صيانة الحديث و رواته!!

و لو كان هذا حال أئمّة المسلمين في رجال الحديث و الرواية فما بال غيرهم!! و عليك أن تتخذه مقياساً لحال من تقدّمهم.

فانّ القداسة التي أحاطت بالصحابة أمر طارئ صنعتها السياسة لأغراض خاصة،و ليست الصحابة إلاّ كالتابعين ففيهم الصالح و الطالح و العادل و الفاسق،و إن كنت في شكّ ممّا تلوناه عليك فاستمع لخرّيت فنّ الجرح و التعديل الشيخ الذهبي في«معرفة الرواة»حيث يقول:

«لو فتحنا هذا الباب (الجرح و التعديل) على نفوسنا لدخل فيه عدّة من الصحابة و التابعين و الأئمّة،فبعض الصحابة كفّر بعضهم بعضاً بتأويل ما». (3)

ص:590


1- 1) .المغني في الضعفاء:4/1.
2- 2) .ميزان الاعتدال:4/1.
3- 3) .معرفة الرواة:45.

و ليس الذهبي من رماة القول على عواهنه،بل يشهد على ما ذكره،حديث صحيح البخاري الذي نتلوه عليك و غيره.

1.صحابي يتّهم صحابياً آخر بالنفاق

أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التفسير في مسألة الإفك:

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و هو على المنبر:يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل [المراد منه عبد اللّه بن سلول] قد بلغني أذاه في أهل بيتي،فو الله ما علمت على أهلي إلاّ خيراً،و لقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً و ما كان يدخل على أهلي إلاّ معي.

فقام سعد بن معاذ الأنصاري،فقال:يا رسول اللّه أنا أعذرك منه ان كان من الأوس ضربتُ عنقه و إن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك،قالت[عائشة]:فقام سعد بن عبادة و هو سيد الخزرج و كان قبل ذلك رجلاً صالحاً و لكن احتملته الحميّة،فقال لسعد:كذبت لعمر اللّه لا تقتله و لا تقدر على قتله،فقام أُسيد بن حُضير و هو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة:كذبت لعمر اللّه لنقتلنّه فإنّك منافق،تجادل عن المنافقين.فتثاور الحيّان الأوس و الخزرج حتّى همّوا أن يقتتلوا و رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائم على المنبر،فلم يزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يُخفّضهم حتّى سكتوا و سكت. (1)

ترى أنّ سعد بن عبادة يصف الصحابي الجليل سعد بن معاذ الأنصاري بالكذب!! و يصف أُسيد بن حضير و هو ابن عم سعد بن معاذ، سعد بن عبادة بمثله،بل يتجاوزه و يصفه بالنفاق و الدفاع عن المنافقين!! حتّى بلغ النزاع بين

ص:591


1- 1) .صحيح البخاري بشرح الكرماني:14/17- 15.

الحيّين الذروة و كادا أن يقتتلا في محضر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

أ فيمكن وصف الحيّين من أوّلهما إلى آخرهما بالعدالة و الوثاقة و هما على هذا الحدّ من الأدب و العصبية و عدم ضبط النفس في مجلس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ؟!

و ليست هذه القصة فريدة في بابها،فلها نظائر في الصحاح و السنن و في غضون التاريخ لا نطيل الكلام بذكرها.

2.قصّة السقيفة المأساويّة

و تكفيك قراءة تاريخ السقيفة و ما جرى فيها من اللغط و الشتم و الضرب،و نحن نقتصر على مقطع خاص يرويه عمر بن الخطاب.

روى الطبري و غيره،قام واحد من الأنصار فخطب فانتهى إلى قوله:منّا أمير و منكم-أي المهاجرين-أمير يا معشر قريش.و عندئذٍ ارتفعت الأصوات و كثر اللّغط،فلمّا أشفقت الاختلاف،قال عمر لأبي بكر:أبسط يدك لأُبايعك،فبسط يده فبايعته،و بايعه المهاجرون و بايعه الأنصار،ثمّ نزونا على سعد حتّى قال قائلهم:قتلتم سعد بن عبادة فقلت:قتل اللّه سعداً،و أنّا و اللّه ما وجدنا أمراً هو أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم و لم تكن بيعة أن يُحدِثوا بيعة،فإمّا أن نتابعهم على ما نرضى أو نخالفهم فيكون فساد. (1)

و في نص آخر للطبري:فأقبل الناس من كلّ جانب يبايعون أبا بكر و كانوا يطئون سعد بن عبادة،فقال ناس من أصحاب سعد:اتقوا سعداً لا تطئوه،فقال عمر:اقتلوه قتله اللّه،ثمّ قام على رأسه،فقال:لقد هممت أن أطأك حتّى تندر عضوك،فأخذ سعد بلحية عمر،فقال:و اللّه لو حصصت منه شعرة ما رجعت

ص:592


1- 1) .تاريخ الطبري:446/2 [1] حوادث السنة 11.

و في فيك واضحة،فقال أبو بكر:مهلاً يا عمر الرفق هاهنا أبلغ،فأعرض عنه عمر،و قال سعد:أما و اللّه لو انّ بي قوّة ما أقوى على النهوض،لسمعت منّي في أقطارها و سككها زئيراً يُحجرك و أصحابك،أما و اللّه إذاً لألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع،احملوني من هذا المكان،فحملوه فأدخلوه في داره. (1)

3.تهجم الخليفة على عبد اللّه بن مسعود

أخرج البلاذري في«الأنساب»ما هذا خلاصته:

كان سعد بن أبي وقاص والياً على الكوفة فعزله عثمان و ولّى عليها الوليد بن عقبة،و كان عبد اللّه بن مسعود خازن بيت المال،فلمّا ورد الوليدُ الكوفةَ طلب منه مفاتيح بيت المال،فألقى إليه عبد اللّه بن مسعود مفاتيحه و هو يقول:من غيّر غيّر اللّه ما به،و من بدل أسخط اللّه عليه،و ما أرى صاحبكم إلاّ و قد غيّر و بدّل،أ يُعزل مثل سعد بن أبي وقاص و يولّى الوليد؟!

فكتب الوليد إلى عثمان بذلك،و قال:إنّه يعيبك،و يطعن عليك.فكتب إليه عثمان يأمره بإشخاصه،فلمّا غادر الكوفة و قدم المدينة و عثمان يخطب على منبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلمّا رآه قال:

ألا إنّه قد قدمت عليكم دويبة سوء،من يمشي على طعامه يقيء و يسلح.

فقال ابن مسعود:

لست كذلك و لكنّي صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم بدر و يوم بيعة الرضوان.

و نادت عائشة:

ص:593


1- 1) .تاريخ الطبري:458/2- 459 و [1]اقرأ تاريخ السقيفة في كامل ابن الجزري و غيره.

أي عثمان أ تقول هذا لصاحب رسول اللّه؟! ثمّ أمر عثمان به فأخرج من المسجد إخراجاً عنيفاً،و ضرب به عبد اللّه ابن زمعة الأرض، و يقال:بل احتمله«يحموم»غلام عثمان و رجلاه تختلفان على عنقه حتّى ضرب به الأرض فدُقّ ضلعه.فقال علي:«يا عثمان أ تفعل هذا بصاحب رسول اللّه بقول الوليد بن عقبة»،فقال:ما بقول الوليد فعلت هذا و لكن وجهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة،فقال له ابن مسعود:إنّ دم عثمان حلال،فقال علي:«أحلت عن زبيد على غير ثقة. (1)

ترى أنّ عبد اللّه يُشتم على رءوس الأشهاد و يُخرج من مسجد رسول اللّه إخراجاً عنيفاً و يضرب به الأرض،فتدق أضلاعه،و قد بطشوا به بطش الجبارين!!

هذا مبلغ حلمهم و أدبهم في مسجد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم !! أ هؤلاء كلّهم من أوّلهم إلى آخرهم،عدول لا يشق غبارهم،و لا يصل إلى مرتبتهم لاحق؟!

4.تهجّم الخليفة على عمّار بن ياسر

أخرج البلاذري في«الأنساب»قال:كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حليّ و جوهر،فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله،فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك و كلّموه فيه بكلام شديد حتّى أغضبوه،فخطب فقال:لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيء و إن رغمت أنوف أقوام!! فقال له علي:«إذاً تُمنع من ذلك و يحال بينك و بينه».

و قال عمّار بن ياسر:أشهد اللّه أنّ أنفي أوّل راغم من ذلك.

فقال عثمان:أ عليّ يا ابن المتكإ تجترئ؟ خذوه،فأخذ و دخل عثمان و دعا به

ص:594


1- 1) .أنساب الأشراف:147/6.و [1]لاحظ أيضاً تاريخ ابن كثير:163/7و 183 حوادث سنة 32.

فضربه حتّى غشي عليه،ثمّ أُخرج فحمل حتّى أُتي به منزل أُمّ سلمة زوج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلم يصلّ الظهر و العصر و المغرب،فلمّا أفاق توضّأ و صلّى و قال:الحمد للّه ليس هذا أوّل يوم أُوذينا فيه في اللّه. (1)

و المغالي في حق الصحابة يبرر كلّ هذه الفظائع بالاجتهاد المصحح للأباطيل و المبرّر للشنائع،و هو الوسيلة الوحيدة لإغراء البسطاء من الأُمّة.أي اجتهاد يبرّر كسر ضلع عبد اللّه بن مسعود،و ضرب عمّار الذي ملئ بالإيمان من قرنه إلى قدمه كما في حديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ؟! إلى غير ذلك من سيّئات أعمالهم التي حفل بذكرها تاريخ الصحابة الصحيح!! و نشير إلى قليل من كثير:

1.كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخطب بالجمعة إذا أقبلت عير تحمل طعاماً فتركوه و ذهبوا إليها حتّى لم يبق معه إلاّ اثنا عشر رجلاً. (2)

2.حرم على الصائم إذا نام الأكل و الشرب و نكاح النساء فكان جماعة ينكحون سرّاً و هو محرم عليهم فعاتبهم اللّه بقوله: «عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ» . (3)

ص:595


1- 1) .أنساب الاشراف:161/6. [1]
2- 2) .المعجم الكبير:99/19.
3- 3) .صحيح البخاري:1639/4.و الآية 187 من سورة البقرة.

7

أُسلوب النبي صلى الله عليه و آله و سلم التربوي

إنّ الأُسلوب التربوي للنبي صلى الله عليه و آله و سلم كان كأُسلوب سائر الأنبياء عليهم السلام،فقد حكاه اللّه سبحانه بقوله: «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ».

« وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ». 1

فهذا الأُسلوب الوارد في الآية الكريمة كان سائداً على جميع الأنبياء من غير فرق بين خاتمهم و غيرهم،فكان الناس بين مَن يستضيء بهدى الأنبياء و بين مَن يعرض عنه،و يشير في آية أُخرى إلى أُسلوب النبي صلى الله عليه و آله و سلم بوجه خاص و يقول:

«ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ». 2

ص:596

و هذه الآية تكشف انّ أُسلوب النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان أُسلوباً مؤثراً في حقّ فريق دون فريق آخر.و انّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يستعن بأُسلوب غيبي في هداية الناس،بل كان يمارس الأُسلوب الدارج بين العقلاء في التربية و التعليم.

و لأجل ذلك اختلفت درجات المهتدين،فمنهم مَن بلغ القمة في الهداية حتّى صار مثالاً يُحتذى به،و منهم مَن بلغ دون ذلك،و منهم مَن رسب حتى صار رئيس الفئة الباغية حسب اختلاف قابلياتهم،فهل يصحّ لعاقل أن يدّعي بأنّ صحبة ما،قلعت ما في نفوسهم من جذور غير صالحة و ملكات ردية و كوّنت منهم شخصيات مثالية أعلى و أجل من أن يقعوا في إطار التعديل و الجرح؟!

إنّ تأثير الصحبة عند مَن يعتقد بعدالة الصحابة كلّهم أشبه شيء بمادة كيمياوية تستعمل في تحليل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب،فكأنّ الصحبة-عند القوم-قلبت كلّ مصاحب إلى إنسان مثالي يتحلّى بالعدالة،و هذا ممّا يرده المنطق و البرهان،و ذلك لأنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم لم يقم بتربية الناس و تعليمهم عن طريق الإعجاز «فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» 1 ،بل قام بإرشاد الناس و دعوتهم إلى الحقّ و صبّهم في بوتقات الكمال مستعيناً بالأساليب الطبيعية و الإمكانيات الموجودة،كتلاوة القرآن الكريم و النصيحة بكلماته النافذة و سلوكه القويم و بعث رسله و دعاة دينه إلى الأقطار و نحو ذلك،و الدعوة القائمة على هذا الأساس يختلف أثرها في النفوس حسب اختلاف استعدادها و قابلياتها،فلا يصح لنا أن نزن الجميع بميزان واحد.

و يقول بعض المعاصرين تحت عنوان:«هل للصحابي خصوصية مسألة العدالة»:

ص:597

و أرى أنّ أوّل الخلل يكون عند ما نتعامل مع الصحابة و كأنّهم جنس آخر غير البشر،و القرآن الكريم و السنّة المطهرة لم يوجد فيها أبداً هذا التفريق بين الصحابة و غيرهم إلاّ ميزة الفضل للمهاجرين و الأنصار الذين كانت لهم ميزة الجهاد و الإنفاق أيّام ضعف الإسلام و ذلّة أهله،أمّا بقية الأُمور كطروء النسيان والوهم و الخطأ و ارتكاب بعض الكبائر،فهذه وجدت و حصل من بعض السابقين و من كثير من اللاحقين.

و لم أجد دليلاً مقنعاً صحيحاً صريحاً يفرق بين شروط العدالة بين جيل و آخر،لا استثني من ذلك صحابة و لا تابعين. (1)

ص:598


1- 1) .الصحبة و الصحابة:218.

8

بين سبّ الصحابة و نقدهم

يحاول بعضهم أن يسلب النقد مشروعيته،و يطعن في أهدافه السامية من خلال عدّه لوناً من ألوان السبّ و الشتم و الانتقاص،و هذا في الحقيقة التفاف على مفهوم النقد،و تشويه لوجهه المشرق.

فالنقد القائم على أُسس صحيحة و موازين سليمة،هو قبلة الطالبين للحقيقة،و الساعين إلى الفضيلة.

أمّا أُسلوب السبّ و الشتم،فهو وليد العصبية،و نتاج الغيظ و الحقد و الهوى.

و بتعبير آخر:السبّ هو النيل من كرامة الشخص بكلمات مبتذلة و لسان بذيء لغاية التشفّي و هدم كرامته.

و أمّا النقد،فهو دراسة حياة الشخص من منظار موضوعي،و بيان ما له من الفضيلة و الكرامة أو ما اقترف من المآثم و الخطايا،فيثني عليه تارة،و يجرحه أُخرى كما جرى عليها القرآن الكريم حيث قصّ حياة الماضين صالحهم و طالحهم لغايات صحيحة،قال سبحانه: «لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ

ص:599

لِلسّائِلِينَ». 1 و قال سبحانه: «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ» 2 ،إلى غير ذلك من الآيات الحاثّة على دراسة سيرة الماضين ففيها عبر و عظات للخلف،و لم أقف على دليل يفرق بين جيل و جيل.

و على ضوء ذلك فدراسة حياة الصحابة و نقدها على ضوء الكتاب و السنّة و التاريخ الصحيح،كدراسة حال التابعين و تابعي التابعين و من جاء بعدهم من خلف.

و من هنا يعلم أنّ دراسة حياة الصحابة بنيّة النقد و التقييم،و الوقوف على ما فيها من محاسن و مساوئ،أمر مرغوب فيه،و ليس هو من قبيل السب و الشتم فانّهما من مقولتين مختلفتين.

قال ابن منظور في«لسان العرب»:السب:الشتم،و في الحديث:سباب المسلم فسوق و قتاله كفر.

قال ابن الأثير:و في حديث أبي هريرة:لا تمشينّ أمام أبيك و لا تجلس قبلَه و لا تَدْعُه باسمه لا تستبّ له أي لا تعرّضه للسب و تجره إليه، بأن تسبّ أبا غيرك فيسبّ أباك مجازاة لك.و قد جاء مفصلاً في الحديث الآخر:انّ من أكبر الكبائر أن يسبّ الرجل والديه،قيل:و كيف يسبّ والديه؟ قال:يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه و أُمّه. (1)

فعلى ذلك فالسب هو أُسلوب الأراذل و الأوباش و سفلَة الناس و أخلاطهم تأخذهم الحمية الجاهلية فينثرون ركائك الألفاظ على مخالفيهم و مناوئيهم كما هو واضح،و أين هذا من نقد حياة فئة أو عشيرة أو شخص على ضوء الروايات

ص:600


1- 3) .لسان العرب، [1]مادة سب،النهاية:2، [2]مادة سب.

الصحيحة إن خيراً فخير و إن شراً فشرّ فيصف أعمالهم الحسنة،إلى جانب أعمالهم السيّئة؟!

و أوضح دليل على أنّ دراسة أحوال الصحابة يفارق السب،انّ الصحاح و السنن و السير و التاريخ مليئة بذكر محاسن أعمالهم و مساويها.

نعم صارت لفظة«سب الصحابة»واجهة للصد عن دراسة حياتهم و نقدها،فكلّ من يذكر شيئاً من حالاتهم المزرية يتّهم بسبّهم و شتمهم،و الغاية من ذلك إخفاء الحقائق و الستر عليها.

فلو درس الباحث حياة صحابي في ضوء الوثائق التاريخية و أثبت أنّه ظلم-في برهة-شخصاً؛فنتيجة الدراسة تكون أنّه ظالم،فهذا ليس سبّاً و إنّما هو حصيلة الدراسة التي وصل إليها.

و لو دلّت الوثائق التاريخية على أنّ صحابياً قتل مالك ابن نويرة و نزا على زوجته،فنتيجة هذه الدراسة هو انّه قاتل وزان،و هذا ليس سبّاً و إنّما هو من نتائج الأدلّة القطعية التي تعضدها الوثائق التاريخية.

و ذلك لأنّ السب هو إطلاق الكلام البذيء،لشخص تشفّياً منه و إخماداً لسورة غضبه،فيقول:يا فاسق،يا ظالم،يا زاني.

و أمّا الدارس لحياة أُمّة أو طائفة أو شخص بالوثائق التاريخية من دون أن تأخذه الحمية و الغضب إنّما يرفع الستر عن حقيقة تاريخية أُسدل عليها الستر فيصل إلى النتائج الماضية فهذا لا يعدّ سبّاً،لأنّ مقوّم السب هو التشفّي و الغضب،و هو مفقود في مثل هذه الدراسات الموضوعية التي لغتها لغة العلم و التحقيق.

و بذلك يعلم أنّ كلمة سبّ الصحابة صارت ذريعة لحظر الدراسات في سير الصحابة و التابعين بموضوعية و تجرّد.

ص:601

9

الإمساك عمّا شجر

بين الصحابة من الخلاف

لقد شاع على الألسن ما نسب إلى عمر بن عبد العزيز و أحياناً إلى الإمام أحمد بن حنبل من لزوم الإمساك عمّا شجر بين الصحابة من الاختلاف،و كثيراً ما يقولون حول الدماء التي أُريقت بيد الصحابة-حيث قتل بعضهم بعضاً-تلك دماء طهّر اللّه منها أيدينا فلا نلوّث بها ألسنتنا.

غير أنّ هذه الكلمة من أيّ شخص صدرت تخالف القرآن الكريم و السنّة النبوية و العقل الصريح.

أمّا القرآن الكريم فقد وصف طوائف من الصحابة بالأوصاف التي وقفت عليها عند تصنيف الصحابة و قال فيما قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ». 1

و أمّا السنّة النبوية فهي تصف قتلة عمار بالفئة الباغية حيث قال صلى الله عليه و آله و سلم:

ص:602

«تقتلك الفئة الباغية،تدعوهم إلى الجنّة و يدعونك إلى النار». (1)

و يقول صلى الله عليه و آله و سلم في حقّ الخوارج:«تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق». (2)

و هذه الأحاديث و أمثالها كثيرة مبثوثة في الصحاح و المسانيد،فإذا كان الإمساك أمراً واجباً و الإطلاق أمراً محرماً،فلما ذا أطلق الوحي الإلهي و النبي صلى الله عليه و آله و سلم لسانهما بوصف هؤلاء بالأوصاف الماضية؟!

و أمّا العقل فلا يجوّز لنا أن نلبس الحق بالباطل و نكتم الحقّ و نكيل للظالم و العادل بمكيال واحد،أمّا ما روي عن الإمام أحمد فلعلّه يريد به الإمساك عن الكلام فيهم بالباطل و الهوى،و أمّا الكلام فيهم بما اشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار و نقله المحدّثون و المؤرخون في كتبهم و أُشير إليه في الذكر الحكيم فلا معنى للزوم الإمساك عنه.

ثمّ إنّه يُستشفّ من هذا الكلام أنّ الدماء التي أُريقت في وقائع الجمل و صفين و النهروان،كانت قد سُفكت بغير حق،و هذا-و أيم الحق - عين النصب،و قضاء بالباطل،و إلاّ فأي ضمير حرّ يحكم بأنّ قتال الناكثين و القاسطين و المارقين،كان قتالاً بغير حقّ؟! و كلّنا يعلم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان على بيّنة من ربّه و بصيرة من دينه،يدور معه الحقّ حيثما دار،و هو الذي يقول:و اللّه لو أُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصيَ اللّهَ في نملةٍ أسلبُها جِلْبَ شعيرة ما فعلتُ.

يقول بعض المعاصرين:

ص:603


1- 1) .الجمع بين الصحيحين:461/2،رقم1794.
2- 2) .السنة لابن حنبل،رقم 41.

نقول لأصحاب هذا القول:إنّ الشريعة التي نقلها هؤلاء الصحابة فيها كلّ ما نقول من تخطئة بعضهم،ففيها قصة ماعز الأسلمي و المخزومية و حاطب بن أبي بلتعة،و حديث عمّار،و فرار بعضهم يوم أُحد،و افتخارهم يوم حنين،و حديث الزبير و الحوأب،و حديث قاتل عمّار في النار،و حديث الخلافة و الملك،و غير ذلك من الأحاديث النبوية الصحيحة الكثيرة التي فيها تخطئة لأفراد أو جماعات منهم، فالشريعة التي نقلوها لم تأمرنا أن نجعلهم معصومين و إنّما أمرتنا بالأخذ بما أصابوا فيه أو أجمعوا عليه،أمّا ما اختلفوا فيه فينظر أقواها دليلاً.

ثمّ إنّ خطأ الأفراد لا يعني الجميع و لا يعني القدح في حملة الشريعة،بل انّ ردّ الأحاديث السابقة عن أخبار الصحابة فيها قدح غير مباشر في حملة الشريعة،و إلاّ فما ذا يعني تضعيف الأحاديث الصحيحة أو صرفها عن معانيها الصحيحة؟! (1)

ص:604


1- 1) .مع الشيخ عبد اللّه السعد في الصحبة و الصحابة،لحسن بن فرحان المالكي:222.

10

نجاح النبي صلى الله عليه و آله و سلم

في إعداد أُمّة رسالية

إنّه سبحانه بعث نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم نذيراً للعالمين و أميناً على التنزيل،و أنتم معشر العرب على شرّ دين و في شرّ دار،منيخون بين حجارة خشن،و حيّات صمٍّ،تشربون الكدر،و تأكلون الجشب،و تسفكون دماءكم،و تقطعون أرحامكم،الأصنام فيكم منصوبة،و الآثام بكم معصوبة.

إنّ اللّه بعث محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم و ليس أحد من العرب يقرأ كتاباً و لا يدّعي نبوّة،فساق الناسَ حتّى بوّأهم محلّتهم و بلّغهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم،و اطمأنت صفاتهم.

إنّه سبحانه أضاء بنبيه صلى الله عليه و آله و سلم البلاد بعد الضلالة المظلمة،و الجهالة الغالبة،و الجفوة الجافية.

هذه الكلمات المشرقة هي كلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (1)

ص:605


1- 1) .راجع نهج البلاغة:37/2،طبعة عبده؛شرح نهج البلاغة:19/2.

يصف فيها أوضاع العرب قبل البعثة و ما أنجزه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد البعثة حتّى أنزل الناس منزلتهم السامية و بلغهم منجاتهم،فاستقامت قناتهم،و اطمأنت صفاتهم،و مع هذا التغيير الشامل،كيف يمكن رمي النبي بالإخفاق في دعوته؟ بل لا شكّ في نجاحه في ميدان الدعوة و التبليغ.

لكن ثمة نكتة نلفت إليها نظر القارئ الكريم،و هي انّ معنى نجاح دعوته شيء،و عدالة كلّ من رآه أو سمع منه شيئاً أو صحبه يوماً أو أيّاماً أو سنة أو سنتين شيء آخر،إذ لا ملازمة بين نجاح الدعوة و عدالة من صحبه،فالمراد من نجاحه هو تأثيرها في أُمم العالم،معاصرة كانت أم لاحقة،و لا ريب في أنّ الدعوة المحمدية أثرت في أُمم العالم و شعوبها و أصحابه و التابعين لهم بإحسان حتّى المنافقين من أصحابه،و هم-أي أصحابه-قد أخذوا منه كلٌّ حسب قابليته و استعداده؛فقد بلغت عدّة من أصحابه إلى القمة،كعلي بن أبي طالب،و سلمان،و أبي ذر،و المقداد، و خزيمة بن ثابت،إلى غير ذلك من أصحابه الكرام؛كما بلغت عدّة منهم درجة متوسطة في الإيمان و العمل،في حين أخلدت عدّة أُخرى إلى الأرض،و أخفقت في كلا المجالين،و مَن قرأ تاريخ الصحابة يعلم أنّهم لم يكونوا على مستوى واحد في الإيمان و العمل.

إنّ فضيلة الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش-حفظه اللّه-من المتحمّسين لعدالة كلّ الصحابة،فيتصور انّ نقد حياة بعض الصحابة بمعنى جرح الكلّ تغافلاً عن أنّ الصحابة كالتابعين،فكما أنّ جرح بعض التابعين لا يعني جرحهم جميعاً،فهكذا جرح بعض الصحابة.

و العجب أنّ الشيخ-حفظه اللّه-يتمسّك في إثبات ما يتبنّاه بالعواطف دون البرهان و يقول:

ص:606

أ رأيتم لو أنّ رئيساً أو رمزاً لبلد أو لقومية من القوميات ثمّ جاء من أتباعه الذين ينسبون أنفسهم له من يزعم أو يقرر بأنّ هذا الزعيم أحاط به ناس من الانتهازيين،لا بل من الخونة و ممّن يحارب فكر المعلم. (1)

إنّ فضيلة الشيخ استعان بالخطابة مكان البرهان،فاتّهم المخالف بأنّه يصف عامّة الصحابة بالانتهازية و الخيانة و محاربة فكر المعلِّم، كلاّ،انّ المخالف إنّما يجرح لفيفاً من الصحابة و لعلّه لا يتجاوز عددهم العشرين شخصاً،فأين هذه الفئة القليلة من خمسة عشر ألف صحابي سجّل التاريخ أسماءَهم و أثنى على بعضهم و سكت عن الآخرين؟!

فها نحن نضع أمام الشيخ قائمة بأسماء لفيف من الصحابة الذين شهدت أعمالهم على أوصافهم،و أفعالهم على نيّاتهم،و أثنى أصحاب الرجال و التراجم عليهم أو على أقل سكت عنهم التاريخ،و لنكتف بذكر القليل منهم عن الكثير،و هم:

جندب بن جنادة (أبو ذرّ الغفاري)،عمار بن ياسر،سلمان الفارسي،المقداد بن عمرو بن ثعلبة الكندي،حذيفة بن اليمان صاحب سرّ النبي،خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين،الخباب بن الأرت التميمي أحد المعذبين في اللّه،سعد بن مالك أبو سعيد الخدري،أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري،قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري،أنس بن الحرث بن منبه أحد شهداء كربلاء،أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد الذي استضاف النبي صلى الله عليه و آله و سلم عند دخوله للمدينة،جابر بن عبد اللّه الأنصاري أحد أصحاب بيعة العقبة،هاشم ابن عتبة بن أبي وقاص المرقال فاتح جلولاء،مالك بن الحارث الأشتر النخعي،مالك بن نويرة ردف

ص:607


1- 1) .صحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:9.

الملوك الذي قتله خالد بن الوليد،البراء بن عازب الأنصاري،أُبيّ بن كعب سيد القرّاء،عبادة بن الصامت الأنصاري،عبد اللّه بن مسعود صاحب وضوء النبي صلى الله عليه و آله و سلم و من سادات القرّاء،أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عمير واضع أُسس النحو بأمر الإمام عليّ،خالد بن سعيد بن أبي عامر بن أُمية بن عبد شمس خامس من أسلم،أُسيد بن ثعلبة الأنصاري من أهل بدر،الأسود بن عيسى بن وهب من أهل بدر،بشير بن مسعود الأنصاري من أهل بدر و من القتلى بواقعة الحرة بالمدينة،ثابت أبو فضالة الأنصاري من أهل بدر،الحارث بن النعمان بن أُمية الأنصاري من أهل بدر،رافع بن خديج الأنصاري ممّن شهد أُحداً و لم يبلغ و أجازه النبي صلى الله عليه و آله و سلم،كعب بن عمير بن عبادة الأنصاري من أهل بدر،سماك بن خرشة أبو دجانة الأنصاري من أهل بدر،سهيل بن عمرو الأنصاري من أهل بدر،عتيك بن التيهان من أهل بدر،ثابت بن عبيد الأنصاري من أهل بدر، ثابت بن حطيم بن عدي الأنصاري من أهل بدر،سهل بن حنيف الأنصاري من أهل بدر،أبو مسعود عقبة بن عمرو من أهل بدر،أبو رافع مولى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الذي شهد مشاهده كلّها مع مشاهد عليّ عليه السلام و ممّن بايع البيعتين:العقبة و الرضوان و هاجر الهجرتين:للحبشة مع جعفر و للمدينة مع المسلمين،أبو بردة بن دينار الأنصاري من أهل بدر،أبو عمر الأنصاري من أهل بدر،أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري من أهل بدر،عقبة بن عمر بن ثعلبة الأنصاري من أهل بدر،قرظة بن كعب الأنصاري،بشير بن عبد المنذر الأنصاري أحد النقباء ببيعة العقبة،يزيد بن نويرة بن الحارث الأنصاري ممّن شهد له النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالجنة،ثابت بن عبد اللّه الأنصاري،جبلة بن ثعلبة الأنصاري،جبلة بن عمير بن أوس الأنصاري،حبيب بن بديل بن ورقاء الخزاعي،زيد بن أرقم الأنصاري شهد مع

ص:608

النبي صلى الله عليه و آله و سلم بضعة عشر وقعة،أعين بن ضبيعة بن ناجية التميمي،يزيد الأسلمي من أهل بيعة الرضوان،تميم بن خزام،جندب بن زهير الأزدي،جعدة بن هبيرة المخزومي،جارية بن قدامة التميمي السعدي،جبير بن الحباب الأنصاري،حبيب بن مظاهر الأسدي،حكيم بن جبلة العبدي،خالد بن أبي دجانة الأنصاري،خالد بن الوليد الأنصاري،زيد بن صوحان العبدي،الحجاج بن عمرو بن غزية الأنصاري،زيد بن شرحبيل الأنصاري،زيد بن جبلة التميمي،بديل بن ورقاء الخزاعي،أبو عثمان الأنصاري،مسعود بن مالك الأسدي،ثعلبة أبو عمرة الأنصاري، أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي،عبد اللّه بن حزام الأنصاري شهيد أُحد،سعد بن منصور الثقفي،سعد بن الحارث ابن الصمد الأنصاري، الحارث بن عمر الأنصاري،سليمان بن صرد الخزاعي،شرحبيل بن مرّة الهمداني،شبيب بن رت النميري،سهل بن عمر صاحب المربد،سهيل بن عمر أخو سهل المار ذكره،عبد الرحمن الخزاعي،عبد اللّه بن خراش،عبد اللّه بن سهيل الأنصاري،عبيد اللّه بن العازر،عدي بن حاتم الطائي،عروة بن مالك الأسلمي،عقبة بن عامر السلمي،عمر بن هلال الأنصاري،عمر بن أنس بن عون الأنصاري من أهل بدر،هند بن أبي هالة الأسدي،وهب بن عبد اللّه بن مسلم بن جنادة،هاني بن عروة المذحجي،هبيرة بن النعمان الجعفي،يزيد بن قيس بن عبد اللّه،يزيد بن حوثرة الأنصاري،يعلى بن عمير النهدي،أنس بن مدرك الخثعمي،عمرو العبدي الليثي،عميرة الليثي،عليم بن سلمة الفهمي،عمير بن حارث السلمي،علباء بن الهيثم بن جرير و أبوه الهيثم من قواد الحملة في قتال الفرس بواقعة ذي قار،عون بن عبد اللّه الأزدي،علاء بن عمر الأنصاري،نهشل بن ضمرة الحنظلي،المهاجر بن خالد المخزومي،مخنف بن سليم الأزدي،

ص:609

محمد بن عمير التميمي،حازم بن أبي حازم البجلي،عبيد بن التيهان الأنصاري و هو أوّل المبايعين للنبي ليلة العقبة،أبو فضالة الأنصاري،أويس القرني الأنصاري،زياد بن النضر الحارثي،عوض بن علاط السلمي،معاذ بن عفراء الأنصاري،علاء بن عروة الأزدي، الحارث بن حسان الذهلي صاحب راية بكر بن وائل،بجير بن دلجة،يزيد بن حجية التميمي،عامر بن قيس الطائي،رافع الغطفاني الأشجعي، و أبان بن سعيد بن العاص بن أُمية بن عبد شمس من أُمراء السرايا أيّام النبي صلى الله عليه و آله و سلم و من خلّص أصحاب الإمام علي عليه السلام و أمثالهم من الصحابة الكرام.

فهؤلاء هم طليعة الصحابة و سنام العرب من المهاجرين و الأنصار،قد استضاءوا بنور النبوّة و الوحي و استقامت أُمورهم و كانوا على الصراط المستقيم في حياتهم،و كم لهم من نظائر في صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أعرضنا عن ذكرهم مخافة الإطناب.

و أخيراً نوصي الشيخ-حفظه اللّه-أن يستند على البرهان في إثبات دعواه و يعرض عن الخطابة و يتركها لأهلها و محلها،و قد قال سبحانه: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».

هذا و لعلّ هذه المقدّمات تسلّط الأضواء على جوانب البحث و الحوار مع فضيلة الشيخ في كتابه«صحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم»و أسأل اللّه سبحانه أن يهدينا إلى الحق المهيع و أن يعصم أفكارنا و أقلامنا عن الخطأ و الزلل،إنّه بذلك قدير و بالإجابة جدير.

ص:610

11

حسن العاقبة

هو معيار القضاء الحاسم

اتّفق المسلمون على أنّ من آمن بعد الكفر و المعاصي،فهو من أهل الجنّة بمنزلة من لا معصية له؛و من كفر بعد الإيمان و العمل الصالح، فهو من أهل النار بمنزلة من لا حسنة له،إنّما الكلام في من آمن و عمل عملاً صالحاً و آخر سيّئاً و استمر على الطاعات و الكبائر كما يشاهَد من الناس فمآله إلى الجنة و لو بعد النار،و استحقاقه للثواب و العقاب بمقتضى الوعد و الوعيد من غير حبوط. (1)

إنّ القضاء الحاسم في عدالة الشخص هو دراسة عامّة صفحات تاريخ حياته،و إلاّ فلو حسنت حياته في فترة من فترات عمره ثمّ تبدّلت حاله و جنح إلى الفسق و الفجور،فلا يستدلّ بحسن حاله في أوائل عمره على كونه من أهل السعادة،بل المعيار هو دراسة أُخريات عمره.

إنّ مسألة الإحباط و التكفير من المسائل العقائدية التي دام فيها التشاجر

ص:611


1- 1) .شرح المقاصد:232/2. [1]

بين الأشاعرة و المعتزلة،و نحن لا نحوم حولها،و قد بسطنا الكلام فيها في محاضراتنا العقائدية. (1)

و لكن الآيات القرآنية تشهد على أنّ بعض الأعمال السيّئة ربّما تُبطل ما حصّله الإنسان عبر حياته،يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» 2 و قد ذكر المفسرون في أسباب نزول الآية انّ بعض الصحابة كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي،و كانوا يقفون وراء بيته و يقولون:أُخرج يا محمّد!! فنزلت الآية و حذّرتهم من ذلك الأُسلوب المشين.

كلّ ذلك يدلّ على أنّ القضاء البات في حقّ الشخص هو دراسة سيرته طيلة حياته،و لذلك نرى أنّ أُناساً كانوا من الصالحين و لكن اقترفوا في أُخريات حياتهم أعمالاً قبيحة،فهبطوا عمّا كانوا عليه من المنزلة و المكانة.

و القرآن الكريم يحدِّثنا عن نماذج نذكر منهم:

1.من وصفه بقوله:«الذي آتيناه آياتنا»حيث يقول سبحانه: «وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ». 3

روى السيوطي في«الدر المنثور»عن عبد اللّه بن عباس أنّه كان ممّن تعلّم اسم اللّه الأكبر.

و عنه أيضاً:أنّه كان رجلاً أُعطي له ثلاث دعوات يُستجاب له فيهن.

و عن كعب أنّه كان يعلم اسم اللّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب،و مع

ص:612


1- 1) .لاحظ الإلهيات:336/4- 377. [1]

هذه المكانة انسلخ من هذه الآيات فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين. (1)

قال ابن كثير في تفسير قوله: «فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ» أي استحوذ عليه و على أمره فمهما أمره امتثل و أطاع،و لهذا قال: «فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ» أي من الهالكين الحائرين البائرين.

ثمّ روى عن حذيفة بن اليمان أنّه قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:إنّ ممّا أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا روئيت بهجته عليه و كان رداؤه الإسلام،اعتراه إلى ما شاء اللّه انسلخ منه و نبذه وراء ظهره.... (2)

و لأجل أخذ العبرة من حياة هذا الرجل يقول سبحانه في الآية التالية بعد إتمام القصّة: «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ».

2.مصير قارون فقد كان-حسب ما تنقله الآثار-ابن عم موسى و كان يسمّى المنظر لحسن صوته بالتوراة،و لكنّه بغى على بني إسرائيل، يقول سبحانه: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» 3 فقد جزاه اللّه سبحانه بالخسف به و بداره حيث قال: «فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ» 4. 5

و لأجل أن نعتبر بسيرة هؤلاء يقول سبحانه بعد إتمام القصة: «تِلْكَ الدّارُ

ص:613


1- 1) .الدر المنثور:608/3- 611.
2- 2) .تفسير ابن كثير:252/3. [1]

اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ». 1

يقول ابن كثير في تفسير الآية:يخبر تعالى انّ الدار الآخرة و نعيمها المقيم الذي لا يحول و لا يزول جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين الذين لا يريدون علوّاً في الأرض،أي ترفّعاً على خلق اللّه،و تعاظماً عليهم،و تجبراً بهم،و لا فساداً عليهم. (1)

و لعلّ ما أخرجه مسلم في صحيحه يهدف إلى بيان حال هذه الطبقة حيث روى عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال:حدّثنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و هو الصادق المصدوق:«انّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أُمّه أربعين يوماً،ثمّ يكون في ذلك علقة مثل ذلك،ثمّ يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الروح و يؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه و أجله و عمله و شقي أو سعيد،فوالذي لا إله غيره انّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها،و انّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها». (2)

و قال الإمام النووي عند شرحه لهذا الحديث:و يدخل في هذا من انقلب إلى عمل النار بكفر أو معصية،لكن يختلفان في التخليد و عدمه،فالكافر يخلّد في النار و العامي الذي مات موحداً لا يخلّد فيها،و في هذا الحديث تصريح بإثبات القدر و انّ التوبة تهدم الذنوب قبلها، و انّ من مات على شيء حكم له به من خير

ص:614


1- 2) .تفسير ابن كثير:303/5. [1]
2- 3) .صحيح مسلم:44/8،باب كيفية خلق الآدمي في بطن أُمّه من كتاب القدر.

أو شر إلاّ أنّ أصحاب المعاصي غير الكفر في المشيئة. (1)

و على ضوء ذلك فما دلّ من الآيات و الروايات على أنّه سبحانه رضي عن طوائف من الصحابة في ساعات خاصّة و أزمنة مختلفة،فلا يمكن الاستدلال بها على كونهم موصوفين بالحسن و الوجاهة عند اللّه إلاّ إذا داموا على الحالة السابقة،و أمّا إذا بطلت بالأدلّة القطعية على اقتراف بعضهم السيئات و انحرافهم عن الحقّ المهيع،فإنّما يؤخذ بالدليل الأخير.

و ممّا لا شكّ فيه وقوع التشاجر و القتال بين الصحابة بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم حتّى خاضوا معارك دامية،فقتل من البدريّين و الأُحديّين بيد بعض الصحابة،فهل يمكن أن يكون القاتل و المقتول من الطبقة المثلى؟!

ثمّ إنّ بعض الذين وقفوا على الأدلّة القاطعة الدالّة على اقتراف المعاصي و الكبائر من قِبَل لفيف من الصحابة،حاولوا أن يبرّروا أعمالهم من خلال التشبّث بالاجتهاد!! و لكن عزب عنهم أنّ الاجتهاد أمام النص و الضرورة،اجتهاد باطل لا يحوم حوله أيُّ مسلم واع.

ص:615


1- 1) .شرح صحيح مسلم للنووي:434/16-435.

12

اشارة

النجاح و الفشل في الدعوة

ليسا معيارين للحقّ و الباطل

إنّ كمال الدعوة و صحّتها يتمثّل في قوّة المحتوى و رصانة حجّتها،بحيث تكون الدعوة مطابقة للفطرة،و موافقة لحكم العقل السليم، و متماشية مع الحياة الإنسانية الفردية و الاجتماعية،عند ذلك تتم الحجّة من اللّه سبحانه على العباد،و أمّا اشتراط كون الداعي ناجحاً في دعوته، و تربية جيله،فلم يدلّ عليه شيء من العقل و الشرع،إذ النجاح و الفوز ليس دليلاً على صحّة الدعوة،و لا تولّي الناس و عدم استجابتهم برهاناً لبطلانها،و العجب انّ المنطق الذي اعتمده صالح بن عبد اللّه الدرويش في بيانه مما تكرّسه الملاحدة من أتباع الماركسية و البهائية و غيرهم من الأحزاب الباطلة،فهم يستدلون على صحّة خططهم في مجال الحياة بالنفوذ و الاستيلاء على الأفكار في مختلف الأقطار،و يقولون إنّه لم يمض على موت ماركس و انجلس مدة حتّى غطت فلسفتهما ربع المعمورة و اعتنقها ملايين الناس،و هذه البهائية البغيضة تشترط في صحّة دعوى النبوة أُموراً أربعة:

ص:616

1.ادّعاء النبوّة 2.النفوذ و النجاح في الدعوة 3.ثبات المدّعي في طريقها،4.و كونه صاحب شريعة و برنامج.

هذه هي الأُمور التي نسمعها من الماركسية و البهائية،و ما يدعو إلى الحيرة و الدهشة هو كيفية تسرّب هذه الأفكار المنحرفة إلى ذهن الكاتب،فقام بادّعاء لا يفترق عن ادّعائهم قيد شعره؟!!

ما أشبه الليلة بالبارحة

و العجب انّ يهود أبناء قريظة و النضير و قينقاع،تمسكوا بهذا العذر عند ما دعاهم النبي إلى الطريق المهيع.

فقالوا:يا محمد إلام تدعو؟ قال:«إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أنّي رسول اللّه،و أنّي الذي تجدونني مكتوباً في التوراة،و الذي أخبركم به علماؤكم ان مَخْرجي بمكة و مهاجري بهذه الحرة،يبلغ سلطاني منقطع الخفّ و الحافر».فقالوا له:قد سمعنا ما تقول،و قد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لا نكون لك و لا عليك و لا نعين عليك أحداً،و لا نتعرض لأحد من أصحابك،و لا تتعرض لنا و لا لأحد من أصحابنا حتّى ننظر إلى ما يصير أمرك. (1)

قدّمنا إليك موجزاً عن هذه النظرية التي تعتبر النفوذ دليلاً على كون الدعوة حقاً،و انحسار الدعوة على خلافه،و ليس هذا إلاّ منطقاً باطلاً لا يدعمه القرآن و لا العقل،فهذا هو الذكر الحكيم يصف لفيفاً من أنبيائه بأنّهم لم ينجحوا في دعوتهم طيلة حياتهم،فيقول في دعوة نوح:

«وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ» 2 و قد قام بالدعوة و إرشاد الناس« فَلَبِثَ فِيهِمْ

ص:617


1- 1) .إعلام الورى بأعلام الهدى:76. [1]

أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً» 1 ،فما آمن به إلاّ عدّة قليلة حملهم على الفلك.

إنّ الاعتماد على الكثرة هو منطق الفراعنة،و قد كان فرعون يصف أتباع موسى بقوله: «إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ» 2 ،و على العكس يصف سبحانه أتباع الحق،و يقول: «إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ». 3

ففي منطق العقل الحصيف لا ملازمة بين صحّة دعوة الداعي و إجابة المدعوين،فربّما يكون الداعي كاملاً في دعوته قويّاً في منطقه، رصيناً في بيانه،إلاّ أنّ الظروف لا تسمح للتجاوب معه و الإقبال عليه،أو يكون المدعوون أُسراء شهوة و طلاّب لذّة و حينئذٍ لا يحالف الداعي - مهما بالغ في النصيحة-النجاح.

إنّ فضيلة الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش قد تأثر بهذا المنطق من غير وعي،فزعم انّ سلب العدالة عن بعض الصحابة و جرحهم يكون طعناً في الداعي و المربّي و صدق الدعوة حيث يقول بعد كلام طويل:

«فهل يعقل بعد ذلك وصف هؤلاء(صحابة الرسول) بأنّهم نكصوا على أعقابهم إلاّ النادر منهم؟ يعني الغالبية لم تنتفع بالتربية و التوحيد،كلّ ذلك الجهد ذهب سدى،و باعوا دينهم لأجل مال،من أخذه؟ و من الذي دفعه؟

تقول:لا بل لأجل جاه و شرف ما هو ذلك؟ و هل يعادل شرف صحبة الإمام و خدمته؟ لما ذا نكصوا؟ لا أدري.

المهم انّ الناقد يطعن في عدالتهم و انّهم غير ثقاة،و أقل ما يصف الطاعن هؤلاء الذين تربوا على يد الإمام القدوة بأنّهم ضعاف الإيمان، نعم هذا أضعف وصف.

ص:618

قل...بربك العيب في الإمام المربّي،أم في الذين بَذل جَهْده في تربيتهم و مدحهم و زكّاهم و علّمهم؟ أم العيب في الناقد الطاعن»؟ (1)

يلاحظ عليه:أنّ هذا التساؤل لا يختص بدعوة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بل يعمّ دعوة سائر الأنبياء،فانّ نجاحهم في مجال دعوتهم كان شيئاً لا يذكر.

فهذا هو شيخ الأنبياء نوح قد لبث في قومه «أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ» و مع ذلك «وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ» ،و عندئذٍ نخاطب الشيخ و نسأله و نقول:

قل لي بربك هل العيب في الإمام المربي أم في الذين بذل جهده في تربيتهم و مدحهم و زكّاهم و علّمهم؟

أم في الناقد الطاعن؟!

ص:619


1- 1) .صحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:12.

هذا هو نبي اللّه الكليم موسى بن عمران،قد تحمل العبء الكبير في هدايتهم و إنقاذهم من مخالب آل فرعون و عبر بهم البحر،فلمّا جاوزوه مالوا إلى الوثنية و طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة،يقول سبحانه: «فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ». 1

فنسأل فضيلة الشيخ:

هل كان العيب في الإمام المربي؟ أم في الذين بذل جهده في تربيتهم و مدحهم و زكاهم و علمهم؟

أم العيب في الناقد الطاعن؟!

و قد ابتلى الكليم بنفس تلك البلية في فترة أُخرى من فترات حياته،عند ما ذهب إلى ميقات ربّه،ارتد قومه و لجئوا إلى الوثنية،و أخبره سبحانه بذلك و قال: «فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ». 2

فنسأل فضيلة الشيخ ما هو سبب هذا النكوص و الارتداد مع وجود المربي الكبير موسى بن عمران؟

هل كان العيب في الإمام المربي،أم في الذين بذل جهده في تربيتهم و مدحهم و زكاهم و علمهم،أم العيب في الناقد الطاعن؟!

و هكذا سائر الأنبياء الذين لم يكن لهم نجاح باهر في دعوتهم و لم يلتف حولهم إلاّ القليل من المستضعفين،فجواب فضيلة الشيخ في حقّهم هو جوابنا في موقف نبينا الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم.

و بما انّ الشيخ يضع وزر هذه الفكرة على الشق الثالث و يعبّر عنه بقوله أم العيب في الناقد الطاعن؟ فنحن نلفت نظر الشيخ إلى أنّ الناقد الطاعن في أُمّة نوح و الكليم هو اللّه سبحانه،فهل يرضى الشيخ بهذه النتيجة؟!

و لكن الإجابة الواضحة عن تلك الاستفسارات هو انّ العيب في موضع آخر وراء ما ذكره،و هو اختلاف قابليات نفس الأُمة و خصيصة تربية الجيل العظيم،فانّ الأساليب التربوية تقتضي بطبيعتها أن تؤمن به فئة دون فئة،و يصلح حال فئة دون فئة،و ما سمعت أذن التاريخ انّ مصلحاً حمل رسالة إلى قومه،و كُتب له النجاح التام و لم يتخلّف عن دعوته أحد من قومه.

لقد التف حول النبي صلى الله عليه و آله و سلم من المهاجرين و الأنصار و الأعراب و غيرهم ما

ص:620

ربّما ينوف على مائة ألف،فلا ضير من أن يجيب دعوته أُلوف و يتخلّف عنها أُلوف أُخرى،و هذا أمر لا غبار عليه،بخلاف قول الشيخ:إنّ دعوة النبي صلى الله عليه و آله و سلم جعلت كلّ من رآه و صحبه إنساناً مثالياً عادلاً قائماً بوظائفه طيلة عمره خير قيام و إن كان قبل الدعوة من المتوغّلين في الرذائل و مساوئ الأخلاق.

ص:621

الفصل الثالث:في دراسة أدلّة الشيخ

اشارة

تقدّم أنّ الشيخ استخدم الأُسلوب الخطابي في إثبات مدّعاه بدلَ الأُسلوب البرهاني،و لعلّه استشعر بأنّ ما استعرضه في الفصل الأوّل خطابيات لا تُقنع إلاّ السذّج من الناس،فحاول أن يستدرك هذه النقيصة بفتح ملفّ جديد من حياة الصحابة ذكر فيه الأدلّة القرآنيّة على تزكيتهم و عدالتهم عامة،و لكنّه-مع الأسف-انتقى من أوراق هذا الملفّ ما يدعم مطلبه و أهمل دراسة أوراق أُخرى لا تخدم مدّعاه،بل تضادّه و تنافيه،و على كلّ تقدير فقد انتقى آيات خاصة ممّا ورد في حقّ الصحابة في الغزوات التالية:

1.غزوة بدر،2.غزوة أُحد،3.غزوة الخندق،4.صلح الحديبية.

و نحن نذكر ما استعرضه من الآيات في دعم موقفه،ثمّ نعقبه بسرد الآيات التي تفسر الآيات الأُولى و توضحها.

يقول الشيخ:

ص:622

1

اشارة

غزوة بدر

منازعة البدريين في الغنائم و الأسرى

يقول الشيخ:

أنزل اللّه عزّ و جلّ في أحداث غزوة بدر سورة الأنفال،و قد تضمنت لطائف و دلالات على ما ذكرناه و هي كثيرة نقف مع ثلاث آيات منها:

قال اللّه تعالى: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ». 1

تأمّل في الآية و تدبّر معانيها،فكّر في معنى التطهير و إذهاب رجس الشيطان،و الآية التي بعدها شهد اللّه لهم بالإيمان «فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا» لذا قال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم:«و لعلّ اللّه اطّلع على أهل بدر،فقال:اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». (1)

ص:623


1- 2) .صحيح البخاري:140/7،كتاب المغازي،باب فتح مكة؛صحيح مسلم:168/7،باب فضائل أهل بدر..

فاللّه سبحانه حكم بأنّ المهاجرين و الأنصار بعضهم أولياء بعض،و قال أيضاً: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ * وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ». 1

اللّه أكبر،هنيئاً لهم،أي و ربّي انّها و اللّه الشهادة عن المولى سبحانه للسابقين الأوّلين من المهاجرين و الأنصار بالإيمان لهم مغفرة و رزق كريم،فهل لمؤمن أن يطعن بهم مع هذه الشهادات و التأكيدات؟ (1)

المناقشة

إنّ ما استعرضه الشيخ من الآيات لا يثبت مدّعاه من تزكية كلّ من حضر في غزوة بدر من أوّلهم إلى آخرهم،و ذلك لأنّ القضاء الحاسم في الموضوع رهن استعراض جميع الآيات النازلة في تلك الغزوة،و عند ذلك يخرج الباحث بنتيجة قطعية،فنقول:

إنّ الحاضرين في غزوة بدر،تنازعوا و تشاجروا في أمرين،و نزل الوحي في ذمّهم و قدحهم،و إليك الأمرين:

الأوّل:تنازعهم في الغنائم الحربية

إنّ صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد انتصارهم على المشركين في غزوة بدر استولوا على أموال المشركين و تنازعوا في أمر الغنائم إلى حد التخاصم،كما يحكيه سبحانه

ص:624


1- 2) .صحبة الرسول:24- 25.

و يقول: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ». 1

إنّ ظاهر الآية بسياقها يدلّ على أنّه كان بين هؤلاء المشار إليهم بقوله: «يَسْئَلُونَكَ» تخاصم،حيث خاصم بعضهم بعضاً فأخذ كلّ جانباً من القول،لا يرضى به خصمه.

و التفريع الذي في قوله: «فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» يدلّ على أنّ الخصومة كانت في أمر الأنفال،و لازم ذلك أن يكون السؤال الواقع منهم إنّما وقع لقطع الخصومة كأنّهم تخاصموا في أمر الأنفال ثمّ راجعوا رسول اللّه يسألونه عن حكمها لرفع الخصومة.

و المراد من الأنفال في هذه الآية هي غنائم غزوة بدر،أو مطلق الغنائم-لأنّ المورد لا يخصص-فعند ذلك نزل قوله سبحانه: «قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» فالآية تخطّئهم فيما زعموا أنّهم يملكون الأنفال.

و يؤيد ذلك الروايات الصحيحة التي رواها أصحاب الصحاح و السنن في كتبهم.

أخرج أحمد و عبد بن حميد و ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و البيهقي في سننه عن أبي أمامة،قال:سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال؟ فقال:فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقُنا،فانتزعه اللّه من أيدينا و جعله إلى رسول اللّه، فقسّمه رسول اللّه بين المسلمين.

و أخرج سعيد بن منصور و أحمد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و أبو الشيخ و الحاكم و صححه و البيهقي و ابن مردويه عن عبادة بن الصامت،قال:

ص:625

خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فشهدتُ معه بدراً،فالتقى الناس فهزم اللّه العدو،فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون،و اكبّت طائفة على العسكر يحوزونه و يجمعونه،و أحدقت طائفة برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يصيب العدو منه غرة،حتّى إذا كان الليل،وفاء الناس بعضهم إلى بعض.

قال الذين جمعوا الغنائم:نحن حويناها و جمعناها فليس لأحد فيها نصيب.

و قال الذين خرجوا في طلب العدو:لستم أحقّ بها منّا،نحن نفينا عنها العدو و هزمناهم.

و قال الذين أحدقوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:لستم بأحق بها منّا نحن أحدقنا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و خفنا أن يصيب العدو منه غرة و اشتغلنا به، فنزل «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ». 1 و أبطل منطق المتنازعين و جعل الأنفال للّه و للرسول، لا للغزاة،و الرسول يضعها حيث يشاء وفق المصالح العامة الإسلامية.

و أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و الترمذي و صححه و النسائي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و مردويه و البيهقي في سننه من طريق أبي صالح عن أبي هريرة قال:لمّا كان يوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها قبل أن تحلّ لهم،فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّ الغنيمة لا تحل لأحد سود الرءوس قبلكم. (1)

ثمّ إنّه سبحانه يعظ هؤلاء السائلين و يأمرهم بأُمور ثلاثة بقوله:

1. «فَاتَّقُوا اللّهَ»

2. «وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ»

ص:626


1- 2) .الدر المنثور:108/4. [1]

3. «وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ».

ثمّ يذكر سبحانه ما يتميز به المؤمن عن غيره و يقول: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ...». 1 مشيراً إلى أنّ بعض هؤلاء غير موصوفين بهذه السمات.

فالإمعان في الآيات النازلة حول هؤلاء المتنازعين و الروايات الواردة في تفسير الآية،لا تدع مجالاً للشكّ في أنّ لفيفاً من الحاضرين في غزوة بدر لم يبلغوا في التقوى مرتبة عالية تميزهم عن غيرهم،بل كانوا كسائر الناس الذين يتنازعون على حطام الدنيا و زبرجها دون أن يستشيروا النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أمرها،و يسألونه عن حكمها،أ فهؤلاء الذين كانوا يتنازعون على حطام الدنيا،يصبحون مُثلاً للفضيلة و كرامة النفس و الطهارة ؟!!

الثاني:تنازعهم في الأسرى

يقول سبحانه: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». 2

الآيات عتاب من اللّه سبحانه لأهل بدر حين أخذوا الأسرى من المشركين قبل الإثخان في الأرض،ثمّ اقترحوا على رسول اللّه أن لا يقتلهم و يأخذ منهم الفداء ليصلح به حالهم و يتقوّوا بذلك على أعداء الدين،و قد شدّد سبحانه في العتاب.

ص:627

و ظاهر قوله سبحانه: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» هو انّ السنّة الجارية في الأنبياء الماضين انّهم كانوا إذا حاربوا أعداءهم و ظفروا بهم،ينكلونهم بالقتل ليعتبر به مَنْ وراءهم حتّى يكفّوا عن عدائهم للّه و رسوله،و كانوا لا يأخذون أسرى حتى يُثخنوا في الأرض و يستقر دينهم بين الناس،فعند ذلك لم يكن مانع من الأسر،ثمّ يعقبه المنّ أو الفداء.

يقول سبحانه في آية أُخرى: «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً» 1 .

فأجاز أخذ الأسر،لكن بعد الإثخان في الأرض و استتباب الأمر.

ثمّ إنّه يستفاد من الآيات الماضية أمران:

الأوّل:انّ الحافز لأكثرهم أو لفئة منهم هو الاستيلاء على عرض الدنيا دون الآخرة كما يشير إليه سبحانه بقوله: «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ». 2

الثاني:لقد بلغ عملهم من الشناعة درجةً،بحيث استحقّوا مسَّ عذابٍ عظيم،غير أنّه سبحانه دفع عنهم العذاب لما سبق منه في الكتاب، قال سبحانه: «لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ» -أخذ الأسرى- «عَذابٌ عَظِيمٌ».

فقوله: «عَذابٌ عَظِيمٌ» يعرب عن عِظَم المعصية حتّى استحقّوا العذاب العظيم.

فإذا ضمّت الآياتُ بعضُها إلى بعض،نخرج بالنتيجة التالية:

1.انّ أكثر المسلمين في غزوة بدر تخاصموا في أمر الغنائم و استولوا عليها بلا استشارة من النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و هذا يحكي عن رغبتهم في الدنيا على نحو يجعلهم

ص:628

من المتوسطين في الإيمان.

2.تنازعوا في الأسرى على نحو استحقوا مسّ عذابٍ عظيم لعظم المعصية.

و لا يمكن لباحث أن يصف قاطبةَ البدريين بهذين الوصفين بل يرجعان إلى فئات منهم.

و من هنا يعلم مدى صحة ما ورد في الصحيحين من أنّ عمر استأذن النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقتل حاطب بن أبي بلتعة فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم:أ ليس من أهل بدر؟ لعل اللّه اطّلع على أهل بدر،فقال:اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة،أو فقد غفرت لكم.

و في رواية:و ما يدريك؟ لعلّ اللّه اطّلع على أهل بدر. (1)

فهل يصحّ للنبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يعطي الضوء الأخضر لطائفة أرادوا عرض الدنيا بدل الآخرة و استحقّوا مسّ عذاب عظيم،و يقول:اعملوا ما شئتم؟! و ما ذلك إلاّ لأنّكم شاركتم في غزوة من الغزوات إبّان ضعف الإسلام و إن تنازعتم إلى حد صرتم مستحقين لنزول العذاب،و مع ذلك لا عتب عليكم،فاقترفوا المعاصي؟!!

و هل يصحّ هذا التكريم و التقدير لكلّ من حضر غزوة بدر و فيهم من عرفت؟و لا منتدح من أن يقال:أنّ شأن البدريّين كشأن غيرهم من البشر،فيهم الصالح و الطالح،و طالب الدنيا و مبتغي الآخرة من دون أن تكون لهم ميزة في الطبيعة و الخلقة،و لا يختلفون عن غيرهم في الإيمان و الإخلاص.

ص:629


1- 1) .صحيح البخاري:40/7،المغازي،باب فتح مكة؛ [1]صحيح مسلم:168/7،باب فضائل أهل بدر.

2

اشارة

غزوة أُحد

يقول الشيخ:أنزل اللّه سبحانه و تعالى على نبيّه ستين آية من سورة آل عمران في أحداث غزوة أُحد و ما تضمّنته السورة من الثناء على الصحابة يستحق دراسة واسعة مفردة.

و من أوّل آية تجد الترابط بين الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و جنده و الشهادة لهم من اللّه تعالى بالإيمان،قال اللّه تعالى: «وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ...» ثمّ تمضي الآيات و فيها بيان لما حصل،و حتّى في آية العتاب التي فيها ذكر أسباب الهزيمة تجد قوله سبحانه «عَفا عَنْكُمْ» العفو من اللّه لهم،و تأمّل في وصف حالهم بعد نهاية المعركة،بل النصر المبين الذي حصل لهم (1)و هروب قريش منهم،و رجع المؤمنون بفضل اللّه.

قال اللّه تعالى: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ

ص:630


1- 1) .نعم بعد ما بلغ السيل الزبى و استشهد سبعون صحابياً جليلاً لابتغاء البعض عرض الحياة الدنيا!!

يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللّهِ وَ اللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ» 1 شهادة المولى لهم بزيادة الإيمان،و انّهم اتبعوا رضوان اللّه،و لا يخفى عليك بأنّ جميع الذين شهدوا غزوة أحد ساروا مع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى حمراء الأسد هم الذين نزلت فيهم الآيات،و تأمّل فيما ذكره اللّه في ختام الآية ممّا يدل على سعة رحمة اللّه. (1)

المناقشة

إنّ فضيلة الشيخ كعادته السابقة انتقى من ستين آية من سورة آل عمران التي تتحدث عن غزوة«أُحد»ما يدعم مدّعاه و يؤيّد ما يتبنّاه، و لكنّه أهمل دراسة الآيات الأُخرى التي إذا ضمّت إلى الآيات السابقة لحصلت نتيجة أُخرى،تختلف عمّا ذهب إليه،و نحن نذكر شيئاً من تلك الآيات.

صفحات من ملف غزوة أُحد

«وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ* وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَ سَنَجْزِي الشّاكِرِينَ* وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ* وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ* فَآتاهُمُ اللّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ». 3

ص:631


1- 2) .صحبة الرسول:25- 26.

إنّ تفسير هذه الآيات على وجه التفصيل لا يناسب وضع الرسالة،فلنذكر خلاصة الآيات:

إنّ قوله سبحانه: «وَ ما مُحَمَّدٌ» يشتمل على العتاب و التوبيخ لمن شهد غزوة أُحد،و يهدف إلى أنّ محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم ليس إلاّ رسولاً من اللّه مثل سائر الرسل،ليس شأنه إلاّ تبليغ رسالة ربّه،لا يملك من الأمر شيئاً،و إنّما الأمر للّه،و الدين دين اللّه باق ببقائه؛فما معنى اتّكاء إيمانكم على حياته حيث يظهر منكم أنّه لو مات أو قتل،تركتم القيام بالدين،و رجعتم القهقرى،و اتّخذتم الغواية بعد الهداية؟!

و هذا السياق أقوى شاهد على أنّهم عند ما شاع خبر مقتله صلى الله عليه و آله و سلم يوم أُحد،انسلّوا عند ذلك و تولّوا عن القتال،و سيوافيك بيانه عند عرض ما ورد في شأن الآيات،و معنى ذلك أنّ إيمانهم كان قائماً بالنبي يبقى ببقائه و يزول بموته.

ثمّ إنّه سبحانه يستثني من هذا السياق الشاكرين الذين لم يظهر منهم هذا الانقلاب،أو لم يظهر منهم التولّي و الانسلال حيث قال:

«وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ».

كما أنّه سبحانه يذكر بقوله: «وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ...» قصة من مضى من أصحاب الأنبياء،و في الآية وعظ مشوب بعتاب و تشويق للمؤمنين بأن يأتمّوا بهؤلاء الربيّين،فيعطيهم اللّه ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة كما آتاهم.

قال ابن قيّم الجوزية:إنّ وقعة أُحد كانت مقدّمة و إرهاصاً-أي لوماً-بين يدي موت محمّد صلى الله عليه و آله و سلم و نبّأهم و وبّخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أو قُتل. (1)

ص:632


1- 1) .زاد المعاد:253. [1]

و نقل صاحبُ تفسير المنار عن أُستاذه الشيخ محمد عبده انّ كلمة «انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» من قبيل المثل تضرب لمن رجع عن الشيء بعد الإقبال عليه،و الأحسن أن تكون عامّة تشمل الارتداد عن الدين الذي جاهر بالدعوة إليه بعض المنافقين،و الارتداد عن العمل كالجهاد و مكافحة الأعداء و تأييد الحق،و هذا هو الصواب». (1)

و على ضوء ما ذكره فالانقلاب المقصود بالآية لا ينحصر بترك كلمة التوحيد،بل يشمل ترك العمل بالحقّ الذي أوصى به النبي صلى الله عليه و آله و سلم ...و يعزز ذلك ما جاء في الجزء التاسع من صحيح البخاري،كتاب الفتن،انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول يوم القيامة:أي ربي أصحابي،فيقول له:لا تدري ما أحدثوا بعدك...و في حديث ثان من أحاديث البخاري:إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك؟ فأقول:سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي...و ليس في شك انّ المراد بهذا التبديل الإعراض عن سنّته و وصيّته،و مخالفة أقواله و شريعته. (2)

فخرجنا بهذه النتيجة:

1.أنّ القوم الذين شهدوا غزوة أُحد قد شارف بعضهم على التقهقر و الانقلاب على الأعقاب،و كانوا لا يريدون إلاّ متاع الدنيا و ثوابها دون ثواب الآخرة.

2.أنّ اللّه سبحانه أمر الصحابة بأن يأتموا بالربيّين الذين قاتلوا مع أنبيائهم فما وهنوا لما أصابهم في سبيل اللّه و ما ضعفوا و ما استكانوا، بخلاف من حضر«أُحد»فقد وهنوا و ضعفوا و استكانوا.

ص:633


1- 1) .تفسير المنار:161/4.
2- 2) .تفسير الكاشف:171/2. [1]

فتكون النتيجة:انّ الحاضرين في تلك الغزوة لم يكونوا على درجة واحدة في الإيمان و الإخلاص و الثبات و رباطة الجأش كما هو واضح.

صفحة ثانية من ملف«أُحد»

و هنا صفحة من ملف«أُحد»أهمل الشيخ دراستها،لأنّها لا تدعم ما تبنّاه،بل تهدمه،و هي قوله سبحانه في شأن الرماة المستقرين فوق الجبل و كانوا يرشقون المشركين و بقية الأصحاب يضربونهم بالسيوف،يقول سبحانه:

«وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ». 1

إنّ الآية تقسّم أصحاب النبي إلى قسمين:

1.منهم من يريد الدنيا و زخارفها و زبرجها.

2.منهم من يريد الآخرة و درجاتها و رضوانه سبحانه.

فعندئذٍ كيف يصحّ لنا ان نزن الجميع بكيل واحد؟! فهل يساوى طالب الدنيا،بطالب الآخرة؟! «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ».

و أمّا تفسير الآية فقد ذكرت كتب السير،و التفاسير،ما حدث في غزوة«أُحد»و نحن نأتي بملخّص ما قالوه:

إنّ الرسول أقام الرماة عند الجبل صيانة لمؤخّر المسلمين،و أوصاهم أن لا يبرحوا مكانهم،حتّى و لو رأوا أنّ العدو تخطفه الطير،و كان الرماة خمسين رجلاً.

ص:634

و لمّا ابتدأت المعركة قام كلٌّ من الطائفتين بما خُوِّل إليهم من الأعمال،فمن كان في مقدّم الصفوف يقاتل المشركين بسيفه و من كان على الجبل يرشق العدو بسهامه،حتّى انهزم العدو و تولّى و خرج عن ساحة الحرب و كانوا ثلاثة آلاف،و عند ذاك امتلأ الوادي بما خلّفوه من الغنائم،و حينما رآها الرماة و رأوا أنّ إخوانهم المسلمين يحوزونها دونهم،عصف بهم ريح الطمع و اختلفوا فيما بينهم و قال بعضهم:ما بقاؤنا هنا،و تجاهلوا وصية الرسول و تشديده عليهم بالبقاء،فقال لهم أميرهم عبد اللّه بن جبير:امكُثوا و لا تُخالفوا أمر الرسول،و لكنّ أكثرهم غادروا مواقعهم لانتهاب الأسلاب و الأموال،و تاركين أميرهم عبد اللّه في نفر دون العشرة.

و اللّه سبحانه يشير إلى هذا التنازع و العصيان بقوله: «حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ».

كما أنّه سبحانه يشير إلى طمعهم في جمع الأموال و الأسلاب،بقوله: «مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ».

كما أنّه يشير إلى أنّ الرماة المستقرين على الجبل كانوا على قسمين بقوله:

الف:«منهُم مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا» و هم الذين تركوا مقاعدهم طمعاً بالغنيمة.

ب:«منهم مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» و هم الذين ثبتوا في مواقعهم مع أميرهم عبد اللّه بن جبير و استشهدوا-رضوان اللّه تعالى عليهم-على يد خالد بن الوليد و من معه.و ذلك لأنّ خالداً لمّا رأى أنّ مؤخّرة المسلمين مكشوفة حيث أخلاها الرماة،اغتنم الفرصة،فهاجم مع جماعة من المشركين،البقية الباقيةَ من الرماة،و قاتل هؤلاء بشجاعة و حرارة حتّى استشهدوا جميعاً،و لمّا انكشف ظهر المسلمين،رجع المشركون - المنهزمون-إلى الميدان من وراء المسلمين و أحاطوا بهم من الخلف و الأمام و أكثروا فيهم القتل و الجراح،و دارت الدائرة عليهم بعد أن كانت لهم.

ص:635

و هذه هي النتيجة القطعية للتخاصم و التنازع أوّلاً،و مخالفة أمر الرسول ثانياً.

صفحة ثالثة من ملف أُحد

و هناك صفحة ثالثة أهمل قراءتها الشيخ،كعادته فيما سبق و هو قاض بالمحكمة الكبرى بالقطيف،و كان الأولى به أن لا يُصدر رأيه إلاّ بعد دراسة عامة الصفحات التي يحتويها الملف،و لكنّه-يا للأسف-اقتفى أثر«الانتقاء»،و إليك تلك الصفحة الذي تصف هزيمة المسلمين بعد الانتصار و لجوئهم إلى الجبل،غير مكترثين بدعوة الرسول إلى نصرته.

يقول سبحانه: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ وَ اللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ». 1

الخطاب للّذين انهزموا يوم أُحد و هو يصف خوفهم من المشركين و فرارهم يوم الزحف،غير ملتفتين إلى أحد،و لا مستجيبين إلى دعوة الرسول،حين كان يناديهم من ورائهم و يقول:هلم إليّ عباد اللّه أنا رسول اللّه...و مع ذلك لم يُجبْهُ أحد من المولّين.

و الآية تصف تفرّقهم و تولّيهم على طوائف أُولاهم مبتعدون عنه،و أُخراهم قريبون منه،و الرسول يدعوهم و لا يجيبه أحد لا أوّلهم و لا آخرهم،فتركوا النبي بين جموع المشركين غير مكترثين بما يصيبه من القتل أو الأسر أو الجرح.

نعم كان هذا وصف طوائف منهم و كانت هناك طائفة أُخرى،التفُّوا حول

ص:636

النبي و دفعوا عنه شر الأعداء،و هم الذين أُشير إليهم بقوله سبحانه: «وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ». 1

صفحة رابعة من ملف أُحد

ثمّ إنّه سبحانه يصف بعض من حضر الواقعة بأنّهم-عند الانهزام و القنوط من انتصار المسلمين-ظنّوا باللّه ظنّ الجاهلية،يقول سبحانه:

«...وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ...». 2

الآية تخبر عن اقتراب بعض من حضر الواقعة من الردة حيث ظنّوا باللّه ظنّ الجاهلية،فقالوا:لو كان محمّد نبيّاً لما تسلّط عليه المشركون،جاهلين أو متجاهلين بأنّ الحرب سجال،و انّ الأُمور بخواتيمها،و لكنّهم ظنّوا أنّ دين الحق لا يُغلب،لأنّ اللّه وعد أن ينصره من غير قيد و شرط.

ثمّ يشير بقوله سبحانه: «يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ» ،إلى طروء الشك،بل الإنكار عليهم،و من الخطأ تفسير الآية بالمنافقين و على رأسهم عبد اللّه بن أُبيّ،فإنّهم قد رفضوا المشاركة في القتال و رجعوا و هم في وسط الطريق،كما هو واضح لمن سبر كتب السير.

ص:637

صفحة خامسة من ملف أُحد

و هذه الصفحة تخبر عن سيّئ عملهم و هو تولّيهم يوم التقى الجمعان و يصفه بأنّ الشيطان استزلّهم،قال سبحانه:

«إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ». 1

و الآية تشير إلى ما اقترفوا من عمل سيِّئ و هو الفرار من الزحف،و الآية تعمّ الرماة و غيرهم،و لا تشمل المنافقين لقوله تعالى: «وَ لَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ» ،لأنّ اللّه لا يعفو عن المنافق المصرّ على النفاق الذي هو أعظم من الشرك الواضح.

و نحن نقتصر بهذا المقدار من الآيات التي تبيّن لنا،مواقف عدّة من الصحابة في غزوة أُحد،بحيث لا يترك لنا شكّاً في أنّ صحابة الرسول على طوائف منهم بلغ قمة الإيمان،فلا يهمه سوى رضا اللّه سبحانه غير مكترث بحياته الدنيوية،و منهم من استزله الشيطان ببعض ما اكتسب،فتولّى يوم التقى الجمعان،مضافاً إلى بعض الأعمال السيّئة التي أدت إلى شهادة جم غفير من أصحاب الرسول.

أ فيصح أن نكيل الجميع بكيل واحد و نتّخذهم قدوة و أُسوة،و نأخذ معالم ديننا من هؤلاء جميعاً؟ كلاّ و لا.

موجز ما ورد في الأحاديث و الآثار

قد تعرّفت قضاء القرآن الكريم في مَن حضر غزوة أُحد،فهلمّ معي ندرس ما ورد في كتب الحديث و الآثار حول من حضر فيها،و هو كثير لا يسعنا نقله،

ص:638

و لكن نشير إلى بعضه:

1.ذكر الحافظ السيوطي في تفسير قوله سبحانه: «وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ». 1

قال:أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس انّ رجالاً من أصحاب النبي كانوا يقولون ليتنا نُقْتَل كما قتل أصحاب بدر و نستشهد،فأشهدهم اللّه أُحداً،فلم يلبثوا إلاّ من شاء اللّه منهم،فقال اللّه: «وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ...».

2.نقل السيوطي في تفسير قوله سبحانه: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ...». 2

3.نقل السيوطي و قال:أخرج أبو جرير و ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال:ذلك يوم أُحد حين أصابهم ما أصابهم من القتل و القرح، و تداعوا نبي اللّه...؟ قالوا:قد قُتِلَ.و قال أُناس منهم:لو كان نبياً ما قتل.و قال أُناس من علية أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم:قاتلوا على ما قتل عليه نبيكم حتّى يفتح اللّه عليكم أو تلحقوا به،و ذكر لنا انّ رجلاً من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار و هو يتخبط في دمه،فقال:يا فلان أشعرت انّ محمّداً قد قتل؟ فقال الأنصاري:إن كان محمد قد قتل فقد بلغ،فقاتلوا عن دينكم،فأنزل اللّه: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» يقول:ارتددتم كفاراً بعد إيمانكم. (1)

ص:639


1- 3) .الدر المنثور:335/2. [1]

ثمّ إنّ هذه الرواية لم تصرح بأسماء بعض من مرّ يوم الزحف و لكن ابن هشام أفصح عن اسمه حيث قال:

قال ابن إسحاق:و حدّثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عدي بن النجار،قال:انتهى أنس بن النضر،عمّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب،و طلحة بن عبيد اللّه،في رجال من المهاجرين و الأنصار،و قد ألقوا بأيديهم،فقال:ما يجلسكم؟ قالوا:قتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، قال:فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،ثمّ استقبل القوم،فقاتل حتّى قتل،و به سمّي أنس بن مالك.

قال ابن إسحاق:فحدّثني حميد الطويل،عن أنس بن مالك،قال:لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذٍ سبعين ضربة،فما عرفه إلاّ أُخته، عرفته ببنانه. (1)

إنّ في أحداث معركة أُحد و وقائعها تجارب مُرّة و أُخرى حلوة،فهذه الحوادث و الوقائع تثبت بجلاء صمود و استقامة جماعة،و ضعف و هزيمة آخرين.

كما أنّه يستفاد من ملاحظة الحوادث التاريخية انّه لا يمكن اعتبار جميع المسلمين الذين عاصروا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أتقياء عدولاً بحجّة انّهم صحبوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم،لأنّ الذين أخلوا مراكزهم على الجبل،يوم أُحد و عصوا أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم في تلك اللحظات الخطيرة،و جرّوا على المسلمين تلك المحنة الكبرى،كانوا أيضاً ممّن صحبوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

يقول المؤرخ الإسلامي الكبير الواقدي في هذا الصدد:بايع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم أُحد ثمانية على الموت ثلاثة من المهاجرين علي و طلحة و الزبير و خمسة من الأنصار فثبتوا و هرب الآخرون. (2)

ص:640


1- 1) .سيرة ابن هشام:83/2. [1]
2- 2) .المغازي:240/2. [2]

و كتب العلاّمة ابن أبي الحديد المعتزلي أيضاً:حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه على رأي الشيعة الإمامية في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة 608ه،و قارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي،فقرأ:حدّثنا الواقدي عن ابن أبي سبرة،عن خالد بن رياح،عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد،عن محمد بن مسلمة،قال:سمعتْ أُذناي،و أبصرتْ عيناي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول يوم أُحد،و قد انكشف الناس إلى الجبل و هو يدعوهم و هم لا يلوون عليه،سمعته يقول:

إليّ يا فلان،إليّ يا فلان أنا رسول اللّه.

فما عرّج عليه واحد منهما،و مضيا فأشار ابن معد إليّ أي اسمع.

فقلت:و ما في هذا؟ قال:هذه كناية عنهما.

فقلت:و يجوز أن لا يكون عنهما لعلّه عن غيرهما.

قال:ليس في الصحابة من يُحتشم من ذكره بالفرار،و ما شابهه من العيب،فيضطر القائل إلى الكناية إلاّ هما.

قلت له:هذا ممنوع.

فقال:دعنا من جدلك و منعك،ثمّ حلف انّه ما عنى الواقدي غيرهما و انّه لو كان غيرهما لذكر صريحاً. (1)

ص:641


1- 1) .شرح نهج البلاغة:23/15- 24.

3

اشارة

غزوة الخندق

يقول فضيلة الشيخ:نزلت فيها آيات من سورة الأحزاب و مع قصرها إلاّ أنّ فيها تصويراً بليغاً للترابط بين الصحابة-رضي اللّه عنهم-مع الوصف الدقيق لحالتهم النفسية،و ما أصابهم من جهد و جوع و خوف و حرصهم على ملازمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

أخي القارئ تأمّل في الآيات من الآية التاسعة من سورة الأحزاب التي نادى اللّه بها المؤمنين و ذكر نعمته عليهم في تلك المواقف «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها» الآيات،ثمّ ذكر المولى نعمته عليهم مرّة أُخرى بكفّ يد العدو عن القتال و شهد لهم بالإيمان بقوله سبحانه: «وَ كَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» ثمّ ذكر اللّه آيتين فيهما بيان لما حصل لبني قريظة القبيلة اليهودية المشهورة.

فتأمّل في الآيات و تلاوتها بتدبّر و قِفْ عند قوله تعالى: «وَ لَمّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً» و فضل اللّه سبحانه و تعالى واسع لا يمكن أن يقال بأنّ هذا

ص:642

خاص بأفراد مع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم. (1)

المناقشة

جرى فضيلة الشيخ في هذا المقام على عادته السابقة،فانتقى من الآيات ما يدعم مدعاه،و أعرض عن الآيات التي تندد ببعض الحاضرين في غزوة الخندق،و هم على طائفتين:

الأُولى:المنافقون،و لا كلام لنا فيهم لأنّهم ليسوا من الصحابة حقيقة،و ان استتروا في أوساطهم.

الثانية:الذين في قلوبهم مرض،و هم من الصحابة قطعاً بلا شكّ،و الناس أخذوا دينهم من الصحابة عامّة من دون فرق بين مرضى القلوب و غيرهم.

و إليك هذه الآيات:

انّه سبحانه تبارك و تعالى ابتدأ ببيان ما حدث في غزوة بدر بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ...».

ثمّ إنّه سبحانه شرح حال بعض من حضر واقعة الخندق بقوله:

«إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا».

« هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً».

« وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً».

« وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ

ص:643


1- 1) .صحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:26- 27. [1]

مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِراراً».

« وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلاّ يَسِيراً».

« وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُلاً». 1

انّه سبحانه يسمّي طائفة من صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بمرضى القلوب و يصفهم بأوصاف لا تجتمع مع عدالتهم،و إليك بيانها:

1. «وَ تَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا» و الجملة و إن كانت ظاهرة في عامّة من حضر،لكنّها و بحسب القرائن ترجع إلى طائفتين سابقتين،فقد ظن المنافقون و الذين في قلوبهم مرض الظنونَ:انّ الكفّار سيغلبون و يستولون على المدينة.

و يقول البعض الآخر:إنّ الإسلام سيُمحق و الدين سيضيّع،و الثالث منهم يقول:الجاهلية ستعود،إلى آخر ما قالوا.

و بإمكان القارئ تفسير قوله: «وَ تَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا» بما مرّ في سورة آل عمران التي وردت في غزوة أُحد حيث حكى عنهم سبحانه قوله: «وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ». 2

2. «وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً» فضعفاء الإيمان من المؤمنين كانوا يظنون باللّه انّه وعدهم وعداً غروراً،فهل يصحّ وصف هؤلاء بالعدالة و التزكية و هم غير المنافقين الذين يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر.

ص:644

3. «وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ» و الضمير في«منهم»يرجع إلى كلتا الطائفتين.

فالطائفة الثانية كالطائفة الأُولى تخذِّل المسلمين و تخوّفهم من الأحزاب،فكانت تقول:لا طاقة لنا بالجيش الجرّار و لا نجاة منه إلاّ بالفرار و الاستسلام،و لأجل ذلك كان يستأذن فريق منهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقولون:إنّ بيوتنا عورة،أي منكشفة للّصوص فأذن لنا لحمايتها،فأكذبهم اللّه و كشف عن نفاقهم بقوله:«و ما هي بعورة ان يريدون إلاّ الفرار من الجهاد و نصرة الحقّ».

3. «وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلاّ يَسِيراً» و الآية تحكي حالة الطائفتين،أعني:المنافقين و أصحاب الإيمان المستودع الذي لا قرار له،و المراد من الفتنة الارتداد عن الدين،و المعنى أي إذا دخلت جيوش الشرك المدينة و أحاطت بها من كلّ جانب و طلب المشركون من المنافقين و مرضى القلوب الارتداد عن دينهم،ارتدّوا عنه و أعلنوا الشرك و استجابوا على الفور من غير تردّد،أو ترددوا قليلاً ثمّ استسلموا للقوّة.

و من الواضح انّ المؤمن الحق لا يرتدّ عن عقيدته،بل يقتل عليها،و هذا شأن شهداء العقيدة الذين يستقبلون السيوف برحابة صدر.

4. «وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ» و هؤلاء تذرّعوا بالأكاذيب للفرار من عسكر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد ما أعطوه المواثيق و العهود على أن يثبتوا في الجهاد بين يديه حتّى الموت.

روى الطبري في تفسيره انّ بني حارثة و هم الّذين همّوا أن يفشلوا يوم أُحد مع بني سلمة حين هما بالفشل ثمّ عاهدوا اللّه أن لا يعودون لمثلها أبداً فذكرهم اللّه

ص:645

الآن بهذا العهد الذي أعطوه و إن نكثوا. (1)

ثمّ إنّ مرضى القلوب لم يكتفوا بالفرار فحسب،بل كانوا يثبّطون عزائم الناس،و يقول بعضهم لبعض تعالوا إلى الراحة و الدعة مالنا و للقتال.

يقول سبحانه: «قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا...». 2

و ربّما يتوهم القارئ انّ مرضى القلوب كانوا ثلة قليلة لا يعبأ بهم أمام الجم الغفير من الصحابة،و لكنّه و هم خاطئ إذ لو كانوا بهذا الوصف لما ركّز عليهم القرآن في أكثر من آية،فترى سبحانه يذكرهم في غير مرّة و يقول:

«فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ». 3

«إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ». 4

«وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ». 5

«أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا». 6

«لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ». 7

«رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ

ص:646


1- 1) .تفسير الطبري:87/11. [1]

اَلْمَوْتِ». 1

إلى غير ذلك من الآيات التي تذكر تلك الطائفة بهذا العنوان. (1)

فإذا ضُمَّت هذه الآيات إلى ما ذكره فضيلة الشيخ من الآيات المادحة نخرج بدراسة متكاملة حول مَن حضر الأحزاب.

فمنهم من بلغ في الإيمان و الإخلاص و التضحية شأواً بعيداً لا يدرك مداه،و هم الذين يصفهم سبحانه بقوله:

«وَ لَمّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً». 3

و منهم من ضعف إيمانهم و قل إخلاصهم و أهمّتهم أنفسهم فظنوا باللّه ظن الجاهلية،و تلقّوا وعد اللّه سبحانه غروراً،و كانوا يستأذنون النبي و يقولون إنّ بيوتهم عورة و لكنهم لا يريدون إلاّ فراراً،و لو غلب المشركون و استولوا على المدينة،لأعلنوا الشرك و استجابوا على الفور من غير تردّد أو بعد تردد قليل إلى غير ذلك من الأوصاف التي ذكرها سبحانه في حقّ هذه الطائفة.

و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الرأي الصائب الذي يدعمه القرآن و السنّة،و التاريخ الصحيح هو ما عليه الإمامية من أنّ حكمهم حكم التابعين بلا مدخلية للصحبة.

ص:647


1- 2) .لاحظ سورة محمّد:29؛المدثر:31.

4

اشارة

صلح الحديبية

ذكر الشيخ في صلح الحديبية كلاماً ما هذا ملخصه:انّ النبيّ سار بالسابقين و الأنصار،و عددهم ألف و أربعمائة مقاتل و قامت قريش بالاستعداد لمنعهم من دخول مكة.

و في أرض الحديبية بايع المهاجرون و الأنصار رسول اللّه و هي بيعة الرضوان ذكرها المولى سبحانه،قال تعالى: «لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً». 1 فقد رضي اللّه عن كلّ فرد منهم بايع تحت الشجرة مكان البيعة،و الطاعنون في أصحاب رسول اللّه حاروا فيها،و عجز خيالهم و لكن المراء و الجدال و اتّباع الهوى منع الناس من اتّباع الحقّ. (1)

المناقشة

قد سبق منّا تفسير الآية فقلنا:

ص:648


1- 2) .صحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:31.

1.انّ المدح،جمعي لا آحاديّ،كيف و قد شارك فيها عبد اللّه بن أُبيّ رأس النفاق و أذنابه!!

2.انّ رضاه سبحانه محدد بزمان البيعة حيث قال: «لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ» ،فلا يستدل به على الفترات التالية التي عاشوا فيها،فإنّ الأُمور بخواتيمها،لا بأوائلها.

إنّ هؤلاء الذين أخذ الشيخ يمدحهم لبلوغهم الغاية في الصدق و الإخلاص،صاروا من المعترضين على النبي في الصلح مع قريش في أرض الحديبية،و إن كنت في شكّ من ذلك فاقرأ ما كتبه ابن هشام و غيره حول صلح الحديبية قال:

فلمّا التأم الأمر و لم يبق إلاّ الكتاب،وثب عمر بن الخطاب،فأتى أبا بكر فقال:يا أبا بكر،أ ليس برسول اللّه؟ قال:بلى،قال:أ و لسنا بالمسلمين؟ قال:بلى؛قال:أو ليسوا بالمشركين؟ قال:بلى؛قال:فعلام نُعطي الدّنيّة في ديننا؟ قال أبو بكر:يا عمر،الزم غرزه (1)،فإنّي أشهد أنّه رسول اللّه؛قال عمر:و أنا أشهد أنّه رسول اللّه؛ثمّ أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال:يا رسول اللّه أ لست برسول اللّه؟ قال:بلى؛قال:أ و لسنا بالمسلمين؟ قال:بلى؛قال:أو ليسوا بالمشركين؟ قال:بلى؛قال:فعلام نُعطي الدنية في ديننا؟ قال:أنا عبد اللّه و رسوله،و لن أُخالف أمره،و لن يضيّعني! قال:

فكان عمر يقول:ما زلت أتصدق و أصوم و أُصلّي و أُعتق،من الذي صنعتُ يومئذٍ! مخافة كلامي الذي تكلمت به،حتّى رجوت أن يكون خيراً. (2)

ص:649


1- 1) .أي ألزم أمره،و الغرز للرجل بمنزلة الركاب للسرج.
2- 2) .سيرة ابن هشام:316/2،طبعة مصر [1]الطبعة الثانية 1375ه 1955م

هؤلاء هم الذين حضروا صلح الحديبية،و هذا مبلغ تسليمهم لرسول اللّه و قد قال سبحانه: «فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً». 1

فمن يصف عمل الرسول بإعطاء الدنيّة في الدين،كيف يعدّ من المسلِّمين لأمره و نهيه؟!

ثمّ إنّ الشيخ يستدلّ على ما تبنّاه من عدالة الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم ببعض الآيات التي أوضحنا حالها في الفصل الثاني الذي عقدناه في بيان الخطوط العريضة للقضاء الحاسم في المسألة،و هذه الآيات عبارة عن قوله سبحانه:

1. «وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ...». 2

2. «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ». 3

و قد أوضحنا حال الآيتين و قلنا بعدم دلالتهما على ما يدّعيه من تزكية الصحابة و عدالتهم من أوّلهم إلى آخرهم فلا نعود إليه روماً للاختصار.

ص:650

5

اشارة

استقبال الوفود

يقول الشيخ:

سورة الحجرات فيها آيات في غاية الوضوح على فضل الصحابة،و قد اشتملت السورة على كليات في الاعتقاد و الشريعة،و حقائق الوجود الإنساني و فيها بيان لمعالم المجتمع المسلم و تقرير الأُخوّة الإيمانية و محاربة كلّ ما يضادّها و يضعف كيانها.

ثمّ إنّه استدلّ على عدالة الصحابة و تزكيتهم بقوله سبحانه: «وَ لكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ» 1 و قال:نعم الفضل من اللّه جعل الإيمان في قلوبهم راسخاً فطرياً،و محبتهم له أشدّ من محبتهم للشهوات،و تأمّل في التأكيد، «وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» ،و ذكر ما يضاده و ينقص منه، «وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ» ،فقد فطر اللّه الصحابة رضوان اللّه عليهم على كراهية كلّ ما ينقص الإيمان.اللّه أكبر تأمّل في الآية و ختامها «أُولئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ» ،و فضل اللّه على هذه الفئة أن اختارهم اللّه

ص:651

لصحبة نبيّه عليه السلام و هداهم للإيمان،و زيّنه في قلوبهم،و جعلهم أهلاً لصحبة الرسول عليه السلام،فهم يَكرهون الكفرَ،و الفسوقَ،و العصيان، و لحكمة بالغة جاء النصّ مشتملاً على الأسماء الثلاثة:الكفر،الفسوق،العصيان،فلم يترك شيئاً. (1)

المناقشة

قد ذكرنا كلام الشيخ على طوله و لكن نلفت نظره إلى الأُمور التالية،و لو تدبّر فيها لرجع عمّا يصرّ عليه:

1.إنّ الآيات الواردة في بدأ السورة تحكي عن أنّ طائفة من الصحابة كانوا يتعاملون مع النبي بما لا يناسب شخصية النبيّ الأكرم حيث كانوا يتسارعون إلى قولٍ أو فعل يتصل بالدين و المصالح العامّة قبل أن يقضي النبي أو يتكلم فيه فنهاهم اللّه سبحانه،بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». 2

2.ثمّ إنّه سبحانه يؤدّبهم بأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي فإنّ رفع الصوت في محضر العظماء يعد إهانة لهم،و هذا يعرب عن مبلغ أدبهم في عام الوفود و هو العام التاسع،يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ».

و قد ذكر ابن جرير في تفسيره أسماء الذين كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي،و لا حاجة لنا لذكرها،فمن أراد التفصيل فليرجع إليه. (2)

ص:652


1- 1) .صحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:38- 39.
2- 3) .تفسير الطبري:74/26- 77،طبع دار [1]المعرفة.

3.ثمّ إنّه سبحانه يصف المؤمنين بالتثبت عند سماع خبر الفاسق،و هذا يعرب عن ابتلائهم بأخبار الفاسق بينهم و هو الوليد بن عقبة - حسب نظر أكثر المفسرين-فيقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا». 1

4.كما أنّه يأمر المؤمنين بإطاعة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بدلَ إطاعة الرسول لهم قال سبحانه: «وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ». 2

و هذا الأمر موجّه من اللّه إلى المؤمنين في العام التاسع بأن يطيعوا الرسول و يسمعوا له و لا يشيروا عليه لما يَعْلم من اللّه ما لا يعلمون، و لو استجاب إلى الكثير ممّا يدعونه إليه لتعبوا و وقعوا في الجهد و الإثم.

و الإمعان في الآية يثبت مدى مبلغ طائفة من الصحابة في الوعي،حيث إنّهم كانوا يرجون أن يتّبعهم الرسول،كما يحكي عن مدى أدبهم و كيفية معاشرتهم للرسول،أ فهل يمكن بعد هذا أن نكيل الجميع بكيل واحد أو أن نصفهم جميعاً بالعدالة و التقوى و الأدب؟!

أ هؤلاء الذين كادت أعمالهم أن تحبط،-كما هو صريح قوله سبحانه «أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ» -هم القدوة و الأُسوة للأُمّة جميعاً؟!

5.طالما نسمع من خطبائهم،و تبعهم الشيخ-عفا اللّه عنّا و عنه-الاستدلال بقوله سبحانه: «وَ لكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» على أنّ اللّه تعالى جعل الإيمان راسخاً في قلوب الصحابة و أنّه تعالى فطر الصحابة على كراهية ما ينقص الإيمان...الخ.

ص:653

و لكنّه غفلة عن أنّ الخطاب و إن كان متوجّهاً إليهم،لكن المقصود الإنسان كلّه،و الآية إشارة إلى قانون اللطف،أعني:اللطف التكويني الداعي إلى الطاعة و الاجتناب عن المعصية،و هذا النوع من اللطف يشمل حال كلّ إنسان،فإنّ الجميع مفطورون على حب الإيمان و الطهارة و التقوى،و البراءة من الكفر و الذنب من غير فرق بين الصحابة و التابعين و من بعدهم إلى يوم البعث.

و بعبارة أُخرى:الميل إلى الإيمان و الانزجار عن الكفر،من خصائص طبيعة الإنسان ما لم تتلوث بعوامل قاهرة،تغطّي الفطرة الإنسانية، بأهوائها كالبيت الذي نشأ فيه وبيئة التعليم و غيرهما من العوامل المفسدة.

فمفاد الآية كمفاد قوله سبحانه: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ». 1

ففي هذه الآية لم تجعل مسألة«معرفة اللّه و الإيمان به»فقط أمراً فطرياً،بل وصف الدين بأُصوله(الأُصول و الكليات التي تؤلّف أساس الدين الإلهي) بكونه فطرياً جبلياً.

و يشهد الواقع على ذلك إذ نرى أنّ أُصول التعاليم التي جاء بها الدين من عقيدة و عمل،تنطبق على مجموع الاحتياجات الفطرية سواء بسواء.و الإمعان في الآية المذكورة يفيدنا أنّ الدين عجن بفطرة البشر عجناً،فإذا هو منها و إذا هي منه،و جزء من كيانه.و ما يعنى من الدين سوى حب الإيمان و كراهة الكفر و الفسق و العصيان.

ص:654

و نظراً للأهمية التي تتمتع بها فطرية الحس الديني تتحدّث بعض الأحاديث الصادرة من النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم عن ذلك.روى البخاري عن أبي هريرة في تفسير الآية «فِطْرَتَ اللّهِ...» قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة ثمّ أبواه يهوّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه...»ثمّ يقول أبو هريرة: «فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها». 1

و ممّا يرشدنا إلى أنّ المقصود هو عامّة المكلّفين على وجه البسيطة إلى يوم البعث،و انّه لا يختص-تحبيب الإيمان و إكراه الكفر-بجيل خاص،هو ما جاء في ذيل الآية من الجملتين:

1.انّ الجمل في الآية كلّها بصيغة الخطاب،غير أنّه سبحانه عدل في الذيل إلى صيغة الغائب و قال «أُولئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ» مكان أن يقول:«و أنتم الراشدون»،ليدلّ على أنّ هذا الحكم غير مختص بالمخاطبين في مجلس الخطاب أو بمطلق من عاصر الرسول و صحبه،بل هو قانون عام يعمّ الناس كلّهم،فحكمته و لطفه يوجبان أن يخلق في الإنسان عوامل الرشد و السعادة،ثمّ يكملها بدعوة الأنبياء.

و مع هذا اللطف فالناس في جميع الأجيال على طائفتين منهم مؤمن و منهم كافر،منهم من تبع الفطرة الإلهية و آمن و اتقى،و منهم من أعرض عنها و نسيها و اتّبع هواه فكفر و عصى.

2.قوله سبحانه في ذيل الآية: «فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ نِعْمَةً وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» 2 فهو ظاهر في عموم فيضه،و شمول نعمته دون اختصاص بجيل

ص:655

دون جيل.

و تخصيص مفاد الآية بمن صحب النبي،تخصيص بلا دليل،بل اتّباع للهوى و الرأي المسبق،فهو من مصاديق قوله سبحانه: «تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى».

بلغ الكلام إلى هنا عشية

يوم الخميس آخر شهر رمضان المبارك

من شهور عام 1423ه.ق

و الحمد للّه الّذي بنعمته تتم الصالحات

ص:656

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.