رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام المجلد 2

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام/ تاليف جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق (ع) ، 14ق. = 13 -

مشخصات ظاهري : 10ج.

يادداشت : عربي.

يادداشت : فهرست نويسي بر اساس جلد ششم: 1428ق. = 1386.

يادداشت : كتابنامه.

موضوع : اسلام -- بررسي و شناخت

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندي كنگره : BP11 /س2ر5 1300ي

رده بندي ديويي : 297

شماره كتابشناسي ملي : 1053076

ص :1

اشارة

ص :2

ص :3

ص :4

رسائل و مقالات (ج2)

المقدمة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الّذي لا يبلغ مدحته الحامدون،و لا يحصي نعماءه العادون،و لا يقدر على إدراكه المجتهدون،الباقي بعد فناء كلّ شيء،نشكره على توالي نعمه و سوابغ أفضاله.

و نصلّي و نسلّم على أشرف النفوس الزكية،و أفضل الذوات القدسيّة،سيد البرية محمد المصطفى،و عترته المرضية،صلاة دائمة ما دامت السماوات ذات أبراج،و الأرض ذات فجاج.

أمّا بعد:فهذا هو الجزء الثاني من كتابنا«رسائل و مقالات»جادت به القريحة في مناسبات مختلفة،تناول موضوعات:فلسفية،كلامية، فقهية،حديثية،و رجالية،إلى غير ذلك.

و العنوان الجامع لأكثر هذه الرسائل و المقالات هو الذبُّ عن حياض الإسلام،و الإفصاح عن عقائد الشيعة الّتي طالما حيكت حولها نسيج من الخيال و الأوهام،و الدعوة إلى التقريب بين المسلمين،و عقد مؤتمرات حول التوحيد و الشرك،و الإيمان و الكفر،و تقييم بعض الكتب المنشورة.

و قد سلكنا في هذا الكتاب النهج الموضوعي الّذي يعتمد على الحوار بلغة

ص:5

هادئة،و على هذا الأساس بعثنا برسائل إلى بعض قادة السلطة و الفكر،تتضمن الدعوة إلى عقد مؤتمرات لحلِّ المشاكل العالقة بالمجتمع الإسلامي؛فإنّ فيه تقريبَ الخطى،و تلبية لما جاء به الكتاب و السنّة النبوية من الاعتصام بحبل اللّه المستحكم،و مسايرة لروح العصر الّذي هو عصر المنطق و الحوار و المذاكرة،و الانفتاح على أفكار الآخرين.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق صلى الله عليه و آله و سلم

29 رجب المرجب من شهور عام 1421 ه

ص:6

المقالات

اشارة

ص:7

ص:8

1

اشارة

الاجتهاد و تحديات العصر

تزامن القرن العشرون بقيام نهضة علميّة و صناعية كبيرة في الغرب،أعقبها ظهور العديد من المستجدّات التي كانت تطلب لنفسها حلولاً و لم يكن في الفقه الإسلامي أيُّ حل لها لحداثتها،فصار ذلك سبباً لسريان وهم في أذهان كثير ممّن أبهرتهم الحضارة الغربية،و هو عدم قدرة التشريع الإسلامي على مواكبة عصره و تخلفه عن ركب الحضارة،و قد كرس هذه الشبهة المستشرقون في البلاد الإسلامية بذريعة انّ النصوص الشرعية في الأحكام من القلة بمكان لا تفي بوضع حلول للمستجدات الطارئة على المجتمع.

و كان في الشرق آذان صاغية لسماع هذه الشبهة،فتجاوبوا مع هؤلاء المستشرقين متشبّثين بأنّ الحضارة الغربية أفرزت حقوقاً و عقوداً في مجالات مختلفة و موضوعات جديدة،لم يكن لها أي حلول في الفقه الإسلامي،كلّ ذلك صار سبباً لتوهم وجود النقص في التشريع الإسلامي و عجزه عن إدارة المجتمع بقوانينه و طقوسه،فلا محيص للمسلمين من التطفّل على موائد الغربيّين في هذه المجالات مثلاً:

1.التأمين بكافة أقسامه أمر جديد لا يوجد له أيّ حكم منصوص في التشريع الإسلامي.

ص:9

2.حقّ التأليف،و حق ثبت الاختراع،و حق الطبع،و حق الانتشار،هذه الحقوق لم يكن لها حكم في التشريع الإسلامي.

3.التلقيح الصناعي و زرع الأعضاء و بيعها و الاستنساخ البشري و التشريح و تغيير الجنسية و غيرها من الموضوعات الجديدة في عالم الطب.

4.الشركات التجارية كشركة التضامن و شركة التوصية و شركة المحاصة و شركة المساهمة و غيرها من الشركات.

5.البنوك التي لا محيص عنها في المجتمع المدني اليوم.

إلى غير ذلك من الموضوعات التي واجهت علماء الإسلام منذ مطلع القرن العشرين و كانت سبباً لإثارة شبهة النقص في التشريع الإسلامي.

و هذه الشبهة بالتقرير الذي عرفت تخالف مبادئ الإسلام من زاويتين:

الأُولى:مخالفتها لكمال الدين الذي جاء صريحاً في قوله سبحانه: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» 1 .فكيف أكمل دينه مع أنّ التشريع لا يفي بإدارة مجتمع متحضّر و متطوّر.

الثانية:مخالفتها لخاتمية الشريعة الإسلامية،فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم خاتم الأنبياء،و كتابه خاتمة الكتب،و شريعته خاتمة الشرائع،فكيف يمكن أن تكون شريعة خاتمة و المسلمون بعد متطفّلون على موائد الغربيّين لا سيما في حقل الحقوق و العقود و الأحكام؟

هذه هي الشبهة التي احتلّت مساحة شاسعة من اهتمام العلماء و المثقفين،و الإجابة عليها رهن بيان أُمور:

ص:10

الأوّل:دراسة ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم دون تحيّز

إنّ الحديث النبوي عدل القرآن في الحجّية فيجب التعبد به و تطبيق العمل عليه من دون تحيّز لأحاديث طائفة دون أُخرى،فانّ في اقتصار كلّ طائفة بما لديهم مع غض النظر عن الطائفة الأُخرى من الأحاديث المروية عن الصادع بالحق،يورث رسوخ هذه الشبهة،إذ لا شكّ انّ إخواننا أهل السنة كرّسوا جهودهم في جمع الأحاديث النبوية في صحاحهم و سننهم فيما يرجع إلى التشريع،كما أنّ شيعة أهل البيت بذلوا قصارى جهودهم في جمع ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق أئمّة أهل البيت،فجمعوا كمية هائلة ممّا أثر عنه صلى الله عليه و آله و سلم في تلك المجالات،فلو كان هناك مساهمة فقهية جامعة و وقف كلّ طائفة على ما عند الطائفة الأُخرى من الأحاديث المتضمنة للتشريع لتضاءلت الشبهة بشكل واضح.

مثلاً قد جمع ابن حجر العسقلاني(المتوفّى 852ه) ما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم في مجال التشريع في كتاب أسماه«بلوغ المرام في شريعة خير الأنام»فبلغ ما بلغ،كما أنّ محدّثي الشيعة جمعوا ما روي عن النبي عن طريق أئمّة أهل البيت في جوامع مختلفة ك«الوافي»للفيض الكاشاني (المتوفّى 1091ه) و«وسائل الشيعة»للحرّ العاملي (المتوفّى 1104ه)،فلو تضافرت الجهود في جمع كلّ ما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم لظهر انّ للشريعة الإسلامية مادة حيوية قادرة على الإجابة على كافة المستجدات بأوضح الوجوه و أحسن الطرق.

و قد صرح أئمّة أهل البيت كأبي جعفر الباقر عليه السلام بذلك و قال:«انّ اللّه تبارك و تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلاّ أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله و جعل شيء حدّاً،و جعل عليه دليلاً يدلّ عليه،و جعل على من تعدّى ذلك الحدّ

ص:11

حداً». (1)

و عنه أيضاً انّه قال:«ما من شيء إلاّ و فيه كتاب أو سنّة». (2)

و عن سماعة،عن الإمام أبي الحسن موسى عليه السلام قال:قلت له:أ كل شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه،أو تقولون فيه؟ قال:«بل كلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه». (3)

إنّ الأُمّة و إن اختلفت في أمر الخلافة،و انّها هل هي تنصيصية أو انتخابية،لكنّها-من حسن الحظ-لم تختلف في مرجعية أهل البيت عليهم السلام في العلم و الفقاهة أخذاً بالحديث المتواتر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّي تارك فيكم الثقلين:كتاب اللّه و عترتي،فما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا أبداً».

و لأجل ذلك يجب الأخذ بما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام من مجالات كثيرة من الأحكام و الحقوق حتى يستطيع المستنبط الإجابة على المستجدات و غيرها.

الثاني:الاجتهاد و مواكبة التشريع للزمان

إنّ الاجتهاد الذي هو عبارة عن استنباط الحكم الشرعي الفرعي عن أدلّته،موهبة إلهية لهذه الأُمّة و سبب لخلود التشريع الإسلامي و اقتداره للإجابة على كافة المسائل.

فهو يساير سنن الحياة و تطورها،و يجعل النصوص الشرعية حيّة متحركة نامية متطورة،تتمشى مع نواميس الزمان و المكان،فلا يُحمد الجمود الذي يباعد بين الدين و الدنيا،أو بين العقيدة و الحياة الذي نشاهده في إقفال الاجتهاد.

ص:12


1- 1) .راجع الكافي:59/1-62،باب الردّ إلى الكتاب و السنّة،الحديث 2 و 4 و [1] 10.
2- 2) .راجع الكافي:59/1-62،باب الردّ إلى الكتاب و السنّة،الحديث 2 و 4 و [2] 10.
3- 3) .راجع الكافي:59/1-62،باب الردّ إلى الكتاب و السنّة،الحديث 2 و 4 و [3] 10.

إنّ تجويز الاجتهاد في ظل الأُصول العامة الواردة في الشريعة،أغنى صاحبها عن ذكر التفاصيل و الجزئيات،و لو قام بذكرها لأعرض الناس عن هذه الدعوة لتعقّدها و لأنّها تضمنت أحكاماً عن جزئيات و مخترعات لا تقع تحت حسّهم و يصعب عليهم تصورها لأنّها لم تعرف في زمانهم،و كان اللازم عليه حينئذٍ بيان قوانين و قواعد عامة يقتدر معها المستنبط على استنباط الأحكام.

الثالث:جوامع التشريع في السنّة

اشتملت السنّة النبوية على جوامع التشريع فصارت مبدأ فياضاً لكثير من الأحكام،و مادةً حيويةً للإجابة على المستجدات الطارئة، و إليك نزراً يسيراً من هذه الجوامع.

1.كلّ قرض جرّ منفعة فهو ربا.

2.على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي.

3.ليس لعرق ظالم حقّ.

4.من أحيا أرضاً ميتة فهي له.

5.لا ضرر و لا ضرار.

6.انّ اللّه وضع عن أُمّتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه.

7.رفع القلم عن ثلاثة:عن النائم حتى يستيقظ،و عن الصغير حتى يكبر،و عن المجنون حتى يعقل.

8.المؤمنون عند شروطهم إلاّ شرطاً حرّم حلالاً،أو أحلّ حراماً.

9.البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر.

ص:13

10.الصلح جائز بين المسلمين إلاّ ما حرّم حلالاً،أو حلّل حراماًً.

فإذا أُضيفت إلى هذه الأُمور الثلاثة ما ورد في الكتاب العزيز من الأحكام و الحقوق يستطيع المستنبط الإجابة على كلّ ما أُلقي إليه من الأسئلة في مختلف الأزمنة.

التاريخ المرير أو إقفال باب الاجتهاد

لا شكّ انّ إقفال باب الاجتهاد كان خسارة كبيرة و سبباً لركود الحركة الفقهية و جمود العلماء و إضعاف روح الاستقلال الفكري،و طغيان فكرة التقليد حتى ساد في أذهان الناس انّ بلوغ درجة الاجتهاد أصبح متعذراً و مستحيلاً،و أنّ أقدارهم و مواهبهم لا تصل إلى ما وصل إليه أئمّة المذاهب الأربعة:أبو حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد،و التزم كلّ إنسان مذهباً معيناً،إمّا بدافع امتناعي ذاتي،أو لظروف معيشية أو مراعاة لأوضاع سياسية معينة. (1)

و يعزو الاستاذ أحمد أمين اقفال باب الاجتهاد إلى حالة نفسية سادت الأُمّة إبّان غزو المغول،و يقول:لم يكن مجردَ إغلاق باب الاجتهاد باجتماع بعض العلماء و إصدار قرار منهم،و إنّما كانت حالة نفسية و اجتماعية،و ذلك انّهم رأوا غزو التتار لبغداد و عسفهم بالمسلمين فخافوا على الإسلام و رأوا انّ أقصى ما يصبون إليه هو أن يصلوا إلى الاحتفاظ بتراث الأئمّة ممّا وضعوه و استنبطوه. (2)

إنّ التبرير المذكور لا يمكن أن يصمد أمام النقد،و ذلك لأنّ الاحتفاظ بتراث الأئمّة لا ينافي دراسة هذا التراث من خلال عرض أفكار الأئمّة و آرائهم

ص:14


1- 1) .وهبة الزحيلي،أُصول الفقه الإسلامي:1033/2.
2- 2) .أحمد أمين،رسالة الإسلام،العدد الثاني من السنة الثالثة.

و نقدها و تحليلها على ضوء الاجتهاد.

و هناك من برّر إقفال باب الاجتهاد بأنّ الفقهاء لأجل أن يوصدوا الباب أمام من ليس أهلاً للاجتهاد و النظر و يقطعوا الطريق على الفرق و المذاهب التي كثرت،و يحموا الأُمّة من الانقسام الديني،فأقفلوا باب الاجتهاد و قسموا المجتهدين إلى طبقات:

طبقة الاجتهاد المطلق،و طبقة مجتهدي المذاهب،و طبقة مجتهدي المسائل،ثمّ يأتي بعدهم المقلّدون. (1)

فسواء أصحّ التبرير المذكور أم لم يصحّ،فقد كان لإقفال الاجتهاد مضاعفات سلبية أهمها ركود الحركة الفقهية على وجه لم يكن للعلماء شأن سوى التصفّح في كتب أئمّة المذاهب و قد لمس الأُستاذ مصطفى أحمد الزرقا،خطورة الموقف،فأخذ يصف القرن السابع بأنّه قرن الانحطاط و الجمود و يقول:في هذا الدور أخذ الفقه بالانحطاط،فقد بدأ في أوائله بالركود و انتهى في أواخره إلى الجمود،و قد ساد في هذا العصر الفكر التقليدي المغلق و انصرفت الأفكار عن تلمس العلل و المقاصد الشرعية في فقه الأحكام إلى الحفظ الجاف و الاكتفاء بتقبل كلّ ما في الكتب المذهبية دون مناقشة،و طفق يتضاءل و يغيب ذلك النشاط الذي كان لحركة التخريج و الترجيح و التنظيم في فقه المذاهب و أصبح مريد الفقه يدرس كتاب فقيه معين من رجال مذهبه فلا ينظر إلى الشريعة و فقهها إلاّ من خلال سطوره بعد ان كان مريد الفقه قبلاً يدرس القرآن و السنّة و أُصول الشرع و مقاصده.

و قد أصبحت المؤلفات الفقهية إلاّ القليل أواخر هذا العصر اقتصاراً لما

ص:15


1- 1) .أُصول الفقه الإسلامي:1033/2.

وجد من المؤلفات السابقة أو شرحاً له،فانحصر العمل الفقهي في ترديد ما سبق و دراسة الألفاظ و حفظها و في أواخر هذا الدور حل الفكر العامي محل الفكر العلمي لدى كثير من متأخري رجال المذاهب الفقهية. (1)

و على كلّ حال فقد كان الإقفال بخساً لحق الأُمّة و عرقلة لتقدّمها.

نحن لا نتكلم فيما سبق-عفا اللّه عمّا سلف-و إنّما نتكلم في العصر الحاضر،و نقول لا محيص عن فتح باب الاجتهاد و انّه أمر ضروري لا سترة منه،لأنّ للفقيه في المسائل المستجدة انتهاج أحد الطرق التالية:

1.بذل الوسع في استنباط أحكامها على ضوء الكتاب و السنّة و سائر الأُصول الشرعية.

2.اتّباع المبادئ الغربية من دون نظر إلى مقاصد الشريعة.

3.الوقوف دون إعطاء حكم لها.

و من الواضح بمكان انّ الأوّل هو الذي يناسب المجتمع الإسلامي.

و من حسن الحظ انّ لفيفاً من المفكّرين من القدامى و الجدد قد دعوا إلى فتح باب الاجتهاد فمن القدامى العلاّمة الشوكاني حيث قال:

و من حصر فضل اللّه على بعض خلقه،و قصر فهم هذه الشريعة على ما تقدم عصره فقد تجرأ على اللّه عزّ و جلّ،ثمّ على شريعته الموضوعة لكلّ عباده،ثمّ على عباده الذين تعبدهم اللّه بالكتاب و السنّة. (2)

و أمّا من المتأخرين فقد دعا العديد منهم إلى ضرورة فتح باب الاجتهاد منهم:

ص:16


1- 1) .المدخل الفقهي العام:186/1-187.
2- 2) .إرشاد الفحول:224.

1.أحمد أمين الكاتب المصري نشر مقالة في مجلة رسالة الإسلام العدد الثالث.

2.الأُستاذ علي منصور المصري مستشار مجلس الدولة السابق لمحكمة القضاء الإداري،فقد نشر مقالاً حول فتح باب الاجتهاد نشرته مجلة رسالة الإسلام في عددها الأوّل من السنة الخامسة.

3.الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه«أُصول الفقه»،يقول:فمن الذي أقفل باب الاجتهاد؟ و ما هي أدلّته؟ و هل يستطيع أحد أن يزعم انّ مواهب اللّه و منحُه قاصرة على جيل دون جيل،أو إنسان دون إنسان؟ لهذا فانّ دعوى إقفال باب الاجتهاد غير مسموعة،لأنّ من مستلزمات ختم الشرائع السماوية بشريعة الإسلام فتح باب الاجتهاد على مصراعيه إلى ما شاء اللّه،و قد أحسن الشيعة و الحركات السلفية الحديثة إذ قرروا بقاء باب الاجتهاد مفتوحاً. (1)

و في الختام نقول تبعاً لما أفاده الدكتور-حفظه اللّه-:إذا كان الاجتهاد بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيلية،فلقد كان مفتوحاً منذ عصر النبي و أئمتهم عند الشيعة إلى يومنا هذا،و لم يزل الأئمّة يحرضون شيعتهم على الاجتهاد و التفريع و التخريج من الأُصول التي ألقوها على تلامذتهم.

قال الإمام الصادق عليه السلام:«إنّما علينا أن نلقي إليكم الأُصول و عليكم التفريع». (2)

و قال الإمام الرضا عليه السلام:«علينا إلقاء الأُصول و عليكم التفريع». (3)

و قد كان أئمّة أهل البيت عليهم السلام يعلمون كيفية استنباط الحكم الشرعي من

ص:17


1- 1) .أُصول الفقه الإسلامي:1034/2.
2- 2) .وسائل الشيعة:18،الباب 6 من أبواب صفات القاضي،الحديث 51 و 52. [1]
3- 3) .وسائل الشيعة:18،الباب 6 من أبواب صفات القاضي،الحديث 51 و 52. [2]

الآية،و كان موقفهم موقف المعلم بالنسبة إلى المتعلّم،فها نحن نكتفي بنقل رواية واحدة من روايات كثيرة في هذا المضمار.

روى عبد الأعلى مولى آل سام،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:عثرت فانقطع ظفري،فجعلت على إصبعي مرارة،فكيف أصنع بالوضوء؟ قال:«يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّه عزّ و جلّ،قال اللّه تعالى: «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» 1 ،امسح على المرارة». (1)

على أنّ للقرآن آفاقاً خفية لا يحيط بها إلاّ الراسخون في العلم،و قد أرشد أئمّة أهل البيت عليهم السلام إلى هذا النوع من الاستفادة و نقتصر على سرد هذه الحادثة التاريخية ليكون نموذجاً لما نروم إليه.

قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة،فأراد أن يقيم عليه الحدّ فأسلم،فقال يحيى بن أكثم:الإيمان يمحو ما قبله،و قال بعضهم:يضرب ثلاثة حدود،فكتب المتوكل إلى الإمام أبي الحسن الهادي عليه السلام يسأله،فلمّا قرأ الكتاب،كتب:

يضرب حتى يموت،فأنكر الفقهاء ذلك،فكتب إليه يسأله عن العلّة،فكتب: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

«فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ» 3 فأمر به المتوكل فضرب حتى مات. (2)

ص:18


1- 2) .وسائل الشيعة:1،الباب 39 من أبواب الوضوء،الحديث 5. [1]
2- 4) .ابن شهرآشوب:مناقب آل أبي طالب:403/4-405. [2]

و أمّا تاريخ إقفال باب الاجتهاد و كيفيته فقد ذكره المقريزي في خططه و قال:

إنّه تولّى القاضي أبو يوسف القضاء من قبل هارون الرشيد بعد سنة 170 إلى أن صار قاضي القضاة فكان لا يولّي إلاّ من أراده،و لمّا كان هو من أخصّ تلاميذ أبي حنيفة فكان لم ينصب للقضاء ببلاد خراسان و الشام و العراق و غيرها إلاّ من كان مقلّداً لأبي حنيفة،فهو الذي تسبب في نشر مذهب الحنفية في البلاد.

و في أوان انتشار مذهب الحنفية في المشرق نُشر مذهب مالك في إفريقية المغرب،بسبب زياد بن عبد الرحمن،فإنّه أوّل من حمل مذهب مالك إليها،و أوّل من حمل مذهب مالك إلى مصر سنة 160ه،هو عبد الرحمن بن القاسم.

قال:و نشر مذهب محمد بن إدريس الشافعي في مصر بعد قدومه إليها سنة 198ه،و كان المذهب في مصر لمالك و الشافعي إلى أن أتى القائد«جوهر»بجيوش مولاه«المعز لدين اللّه أبي تميم معد»الخليفة الفاطمي،إلى مصر سنة 358ه،فشاع بها مذهب الشيعة حتى لم يبق بها مذهب سواه(أي سوى مذهب الشيعة).

ثمّ إنّ المقريزي بيّن بدء انحصار المذاهب في أربعة فقال:

فاستمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 665ه،حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة و عُودي من تمذهب بغيرها،و أنكر عليه،و لم يول قاض و لا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب و أفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتّباع هذه المذاهب و تحريم ما عداها،و العمل على هذا إلى اليوم. (1)

ص:19


1- 1) .راجع الخطط المقريزية:333/2،334 و 344. [1]

و هذه الكلمة الأخيرة:«و تحريم ما عداها»تكشف عن أعظم المصائب على الإسلام حيث إنّه قد مضى على الإسلام ما يقرب من سبعة قرون و مات فيها على دين الإسلام ما لا يحصي عددهم إلاّ ربّهم و لم يسمع أحد من أهل القرنين الأوّلين اسم المذاهب أبداً،ثمّ فيما بعد القرنين كان المسلمون بالنسبة إلى الأحكام الفرعية في غاية من السعة و الحرية،كان يقلد عاميّهم من اعتمد عليه من المجتهدين،و كان المجتهدون يستنبطون الأحكام عن الكتاب و السنّة على موازينهم المقررة عندهم في العمل بالسنّة النبوية،فأي شيء أوجب في هذا التاريخ على عامة المسلمين:«العامي المقلّد و الفقيه المجتهد»أن لا يخرج أحد في الأحكام الشرعية عن حد تقليد الأئمّة الأربعة،و بأي دليل شرعي صار اتّباع أحد المذاهب الأربعة واجباً مخيراً،و الرجوع إلى ما ورائها حراماً معيّناً.

و العجب انّ الشيخ محمد زاهد الكوثري (1296- 1371ه) ممّن يهاجم فتح باب الاجتهاد و كسر حصر المذاهب الأربعة و يصفه بأنّ «اللامذهبية قنطرة اللادينية»و أنا أتعجب من هذا المحقّق كيف وصف هذه الموهبة الإلهية بما ذكره مع أنّ الالتزام بمذهب خاص و عدم التجاوز عنه كان أمراً مسلماً قبل الأئمّة الأربعة،فهل يمكن أن نقول إنّ:«اللامذهبية قنطرة اللادينية»؟!

و حقيقة الأمر انّ الإسلام لم يفرض على مكلف تقليد أحد الأئمة الأربعة،فلو قلنا بأنّه يجوز تقليد مجتهد،حيّاً كان أو ميتاً يجوز تقليد كلّ من أراد من المجتهدين الماضين إذا كان مذهبه الفقهي واصلاً إلى المكلف عن طريق معتبر،و إن قلنا بشرطية الحياة في المجتهد فعلى كلّ مكلف أن يقلّد أي مجتهد حي.

و أمّا على أُصول الإمامية فبما انّ تقليد الميت باطل من رأس،كما أنّ تقليد الأعلم فرض و معه لا يجوز تقليد غيره،فيجب على كلّ مكلّف تقليد المجتهد

ص:20

الحي الأعلم حتى تجتمع كلمة المسلمين على مجتهد واحد.

و في الختام نقول:إنّ من أراد أن يحيط بتاريخ الاجتهاد في الإسلام و تطوره و علل إيصاد بابه لدى المسلمين،فليرجع إلى المصادر التالية:

1.المواعظ و الاعتبار في الخطط و الآثار:تأليف الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد بن علي المعروف بالمقريزي المولود في بعلبك عام 766ه،و المتوفّى بالقاهرة عام 845ه.

2.تاريخ اليعقوبي في المائة السابعة لكمال الدين عبد الرزاق بن المروزي الفوطي البغدادي المتوفّى سنة 723.

4.الانصاف في بيان سبب الاختلاف.

5.عقد الجيد في أحكام الاجتهاد و التقليد:ألّفهما ولي اللّه الدهلوي،المولود سنة 1114 و المتوفّى 1180.

6.الإقليد لأدلّة الاجتهاد و التقليد.

7.الطريقة المثلى في الإشارة إلى ترك التقليد:ألّفهما صديق حسن خان القنوجي البخاري،المتوفّى سنة 1307،و طبع بالآستانة عام 1295.

8.حصول المأمول من علم الأُصول:له أيضاً طبع في الجوائب سنة 1296.

9.مقالة صاحب السعادة أحمد تيمور باشا ابن إسماعيل بن محمد،المولود في القاهرة سنة 1288ه،و هي تحت عنوان«نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة»طبعت مستقلة في القاهرة سنة 1344ه.

10.ما كتبه محمد فريد وجدي في دائرة معارفه في مادتي«جهد و ذهب»و ما كتبه يعد أبسط ما كتب في الموضوع.

ص:21

11.أعلام الموقعين عن ربّ العالمين:للحافظ ابن القيم.

12.تاريخ حصر الاجتهاد:لشيخنا العلاّمة الطهراني،المتوفّى يوم الجمعة

13 ذي الحجّة عام 1389ه.

إلى غير ذلك من المؤلفات.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

4 ربيع الأوّل 1421ه

ص:22

2

اشارة

مكانة العقل

في العقيدة و الشريعة

الإسلام عقيدة و شريعة،معارف و أحكام،فالعقيدة هي الرؤية الكونية التي ينبغي للمسلم الإذعان بها،كما أنّ الأحكام برامج عملية يسير على ضوئها.

و قد حاز العقل دوراً متميزاً على صعيد العقائد و المعارف و الأحكام ممّا يدعونا إلى تسليط المزيد من الضوء عليه،فنقول:

لقد حثَّ الإسلام منذ نشوئه على التفكير و التعقّل في الكون و باطنه الذي يعبّر عنه سبحانه بملكوت السماوات و الأرض،و قال: «أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللّهُ مِنْ شَيْءٍ» 1 و قد استأثر التفكير و التعقل مساحة شاسعة من اهتماماته،حتى بلغت الآيات التي زهت بألفاظ (الفكر)،(العقل) من الكثرة بمكان.فقد ورد لفظ(الفكر) في القرآن بمختلف صيغة ثماني عشرة مرّة،كما ورد لفظ (العقل) فيه كذلك تسع و أربعين مرّة.

إنّه سبحانه زوَّد الإنسان بالتفكير و التعقّل و أعطى له الأدوات المطلوبة و أفضلها السمع و البصر،قال سبحانه: «وَ اللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 2.

ص:23

و المراد من الشكر في ذيل الآية صرف النعمة في مواضعها،فشكر السمع و البصر هو إدراك المسموعات و المبصرات بهما،و شكر الفؤاد هو إدراك المعقولات و غير المشهودات به،فالآية كما تحرِّض على إعمال السمع و البصر في درك ظواهر الكون،تحرِّض أيضاً على استعمال الفؤاد و القلب و العقل فيما هو خارج عن إطار الحس و غير واقع تحت متناوله،فمن أراد قصر التعليم و التفكير على ظواهر الكون و حرمان الإنسان من التفكير فيما هو خارج عن نطاق الحس فقد خالف القرآن الكريم.

فهو أشبه بالطفل الذي يقتصر بما حوله من الأشباه و الصور،دون أن يستطلع ما وراءهما،فالإنسان بحاجة إلى الحس و العقل معاً بغية التحليق في سماء العلم و العرفان.

القرآن هو المنطلق الأوّل لتنمية الفكر الإنساني

إنّ القرآن هو المنطلق الأوّل لتنمية الفكر الإنساني و حثّه على التعقّل و التفكير،فمن أراد أن يخلص للّه في العبودية بلا تحليق العقل في سماء المعرفة،فقد تغافل عن آيات الذكر الحكيم و نظائرها.قال سبحانه: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ» 1 .

فلو فسرنا«الشيء»في الآية بالسبب و العلة،فالجزء الأوّل من الآية يشير إلى برهان الإمكان الذي يقوم على لزوم سبب موجب لخروج الشيء من العدم إلى الوجود،و الجزء الثاني منها يشير إلى بطلان كونهم خالقي أنفسهم،الذي يستقل العقل الصريح ببطلانه قبل أن يستقلّ العقل الفلسفي ببطلانه لأجل استلزامه

ص:24

الدور.

و من سبر غور هذه الآيات و تدبّر فيها يقف على عظمة قوله سبحانه: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» 1 .

فإذا كان التفكير هو جوهر الإسلام و أساسه و عليه أُقيم صَرْح الدين،فمع الأسف الشديد انّ جماعة من المسلمين عطّلوا العقول عن التفكير في المعارف بذريعة انّ كلّ ما وصف اللّه به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته و السكوت عليه. (1)

أقول:كيف يكون تفسير ما وصف اللّه به نفسه،بتلاوته و السكوت عليه،مع أنّ القرآن نزل للتدبّر في آياته من دون فرق بين آية و أُخرى، يقول سبحانه: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» 3.

و العجب انّ بعض هؤلاء راح يتفلسف في إثبات نظريته،و يقول:«إنّما أُعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية،فمن شغل ما أُعطي لإقامة العبودية بإدراك الربوبية،فاتته العبودية و لم يدرك الربوبية».

و قائل هذا الكلام يفسِّر العبودية بالقيام و القعود و الإمساك و الصيام التي هي من واجبات الأعضاء،و لكنّنا نقول:إنّ العبودية تقوم على ركنين:ركن منه يرجع إلى فرائض الأعضاء و واجباتها،و ركن آخر يرجع إلى العقل و اللب،فتعطيل العقول عن معرفة المعبود بالمقدار الذي يستطيع الإنسان الوصول إليها،تعطيل لإقامة العبودية أو لجزئها،و لو اقتصر الإنسان في إقامة العبودية بالقيام و القعود

ص:25


1- 2) .الرسائل الكبرى،لابن تيمية:32/1،نقله عن سفيان بن عيينة.

من دون إدراك للمعبود بصفات جماله و جلاله و أسمائه و صفاته،لكانت عبوديته كعبودية الحيوان و النبات و الجماد،بل ربما تكون عبوديته أدنى مرتبة من عبوديتهم،كيف و قد قال سبحانه:

«وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ» 1 .

فالحجر يستشعر عظمته سبحانه حسب وجوده،و لكن الإنسان تُفرض عليه تلاوة كتابه سبحانه و السكوت ثمّ السكوت عليه.

و لعمر الحقّ إذا كانت وظيفة الإنسان المسلم الواعي هو تلاوة ما يرجع إليه سبحانه،فمن المخاطب بالآيات التي تحمل دقائق البراهين على توحيده و نفي الندِّ عنه،و يقول: «وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ» 2 .

و لو كانت الدعوة الإسلامية منحصرة بما يدركه الإنسان بالحس و اللمس،فمن المخاطب يا تُرى! بقوله سبحانه: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ» 3.

المعطّلة بثوبها الجديد

و قد ظهر التعطيل-أي تعطيل العقول عن المعارف و الإلهيات-بثوبه الجديد في العصر الأخير،و قد حمل رايتها المغترّون بالعلوم الطبيعية.

ص:26

يقول فريد وجدى:

بما انّ خصومنا يعتمدون على الفلسفة الحسية و العلم الطبيعي في الدعوة إلى مذهبهم،فنجعلهما عمدتنا في هذه المباحث،بل لا مناص لنا من الاعتماد عليهما لأنّهما اللّذان أوصلا الإنسان إلى هذه المنصة من العهد الروحاني. (1)

و يقول بعض آخر:

كان الأنبياء عليهم السلام أخبروا الناس عن ذات اللّه و صفاته و أفعاله،و عن بداية هذا العالم و مصيره،و ما يهجم عليه الإنسان بعد موته،و آتاهم علم ذلك كلّه بواسطتهم عفواً بلا تعب،و كفوهم مئونة البحث و الفحص في علوم ليس عندهم مبادئها و لا مقدماتها التي يبنون عليها بحثهم ليتوصلوا إلى مجهول،لأنّ هذه العلوم وراء الحس و الطبيعة،لا تعمل فيها حواسهم،و لا يؤدي إليها نظرهم،و ليست عندهم معلوماتها الأوّلية.

إلى أن يقول:الذين خاضوا في الإلهيات من غير بصيرة،و على غير هدى،جاءوا في هذا العلم بآراء فجة،و معلومات ناقصة و خواطر سانحة،و نظريات مستعجلة،فضلّوا و أضلوا. (2)

لو صحّ قول القائل:إنّ هذه العلوم وراء الحس و التجربة لا تعمل فيها حواس،و لا يؤدي إليها النظر فلا تتوفر معلوماتها الأوّلية،لزم تعطيل التدبّر في المعارف القرآنية التي تقع مبادئها وراء الحسّ،و عندئذٍ يتوجه إليه السؤال بأنّه لما ذا يطرح الذكر الحكيم جملة من المعارف و يحرض على التدبر فيها،و هي ممّا تقع وراء الحس و الطبيعة،و ليست الغاية من طرحها هو التلاوة و السكوت حتى تصبح

ص:27


1- 1) .على إطلال المذهب المادي:16/1.
2- 2) .ما ذا خسر العالم:97.

الآيات لقلقة لسان لا تخرج عن تراقي القارئ بدل أن تنفذ إلى صميم الذهن و أعماق الروح.

و إن كنت في ريب من وجود هذه المعارف في الكتاب العزيز،فلاحظ الآيات التالية:

«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» 1.

«وَ لِلّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى» 2 .

«لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» 3 .

«فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ» 4.

«أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ» 5.

«وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» 6.

«ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» 7.

فهل يصح أن نعطّل عقولنا بحجّة إنّما أعطينا لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية...؟!

أو بذريعة انّ الوحي كفانا مئونة البحث و الفحص في علوم لا نملك مبادئها و لا مقدماتها.

ص:28

إنّ هناك أُصولاً عقلية مبرهنة يعتقد بها الإلهيون و في طليعتهم المسلمون،و لا يمكن للعلوم الطبيعية أن تساعدهم في فهمها و لا أن تهدي إليها البشر.كالبحث عن أنّ المصدر لهذا العالم و المبدئ له،أزلي أو حادث،واحد أو كثير،بسيط أو مركب،جامع لجميع صفات الجمال و الكمال،أم لا؟هل لعلمه حد ينتهي إليه أم لا؟هل لقدرته نهاية أم لا؟ هل هو أوّل الأشياء و آخرها،أم لا؟ هل هو ظاهر الأشياء و باطنها أم لا؟

فالاعتقاد بهذه المعارف عن طريق العلوم الطبيعية و الحسية غير ممكن،و الاعتماد على الوحي للتعرف عليها غير مقدور لكلّ إنسان، مضافاً إلى أنّه تجب معرفتها قبل معرفة النبي صلى الله عليه و آله و سلم فكيف يتعرّف عليها عن طريق النبي و الوحي المنزل؟

كلّ هذا يدفعنا إلى استخدام العقل في فهم هذه الحقائق التي لا تنال بالحس بل تنال بالعقل،فهل يمكن للشارع الحكيم الدعوة إلى هذه الحقائق و المنع من استخدام ما هو أداة فهمها و دركها.

إنكار التحسين و التقبيح العقليين و مضاعفاته

إنّ إهمال العقل في مضمار المعارف،جرّ المنكرون إلى إنكار التحسين و التقبيح العقليين،و قالوا:إنّه لا يمكن للعقل إنكار ما هو الحسن بالذات و القبيح كذلك،بل يرجع في ذلك إلى الشرع كله،و بالتالي ليس للعقل القضاء الباتّ بحسن العدل و الصدق،أو قبح الكذب و الظلم،و إنّما يتبع ذلك الوحي،فما حسّنه الشارع فهو حسن،و ما قبّحه الشارع فهو قبيح،و هذا الكلام و إن كان له بظاهره طلاوة،و لكن القول به ينتهي إلى عدم إمكان إثبات نبوة الأنبياء كافة.

1.إذا كان العقل عاجزاً عن درك حسن الأفعال و قبحها،فمن أين نعلم

ص:29

صدق مدّعي النبوة الذي زود بمعاجز تجذب القلوب و تورث الإيمان؟

فلو اعتمدنا على العقل فهو كفيل بإثبات نبوته،لأنّه يحكم بأنّه قبيح على الحكيم أن يزود المتنبئ الكاذب بمعاجز،فتمكينه من هذه المعاجز دليل على صدقه و كونه مبعوثاً من قبل اللّه سبحانه،و أمّا لو أنكرنا ذلك فمن أين نميّز الصادق عن الكاذب و نحن نحتمل أنّه سبحانه يزوّد الكاذب بالمعاجز،كما يزوّد الصادق بها،لأنّه لم يثبت قبح الأوّل،و لا حسن الثاني؟!

2.نفترض انّه ثبت نبوة نبيّ من الأنبياء،لكن من أين نعلم أنّ الشارع في حكمه و قضائه في مجال الصدق و الكذب صادق،لأنّه ما لم يثبت قبل السماع و الوحي،حسن الصدق و لا قبح الكذب،فمن أين نرفع احتمال الكذب في إخبار الشارع بحسن الصدق أو قبح الكذب،فلا يرفع ذلك إلاّ بقضية محرزة مفادها انّ العقل يحكم في صميم ذاته بأنّ الحكيم يقبح عليه الكذب و يحسن عليه الصدق.

و بالجملة إنكار التحسين و التقبيح العقليين ينتهي إلى إنكار التحسين و التقبيح الشرعيين.

إلى هنا تبيّن انّه لا بد من استخدام العقل في تبيين العقائد و المعارف و البرهنة عليها،فمن حاول أن يُقصي العقل عن مقامه فقد أقصى الشرع أيضاً.

مفاهيم لا بدّ أن تبحث من جديد

اشارة

فإذا كان العقل له الدور الكبير و الرصيد العظيم في تقييم المعارف و العقائد،فثمة مسائل تعدّ من العقائد و لكن لا يدعمها العقل و ليس لها من النقل رصيد قطعي،و ها نحن نشير إلى بعض هذه المسائل من دون أن نخوض في

ص:30

أغوارها فانّ لشرحها و بيان مفاهيمها مكاناً آخر لا يسع هذا المختصر.

1.جواز التكليف بما لا يطاق

و قد صرح به الإمام الأشعري في اللمع (1)مع أنّ العقل الصريح يحكم بامتناعه-يعني العقل الذي عرفناه به سبحانه-إذ كيف يمكن أن يطلب شيء على نحو الجدّ ممّن لا طاقة له به.

2.جواز إيلام الأطفال في الآخرة

يقول الإمام الأشعري:هل للّه تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة؟ قيل له:للّه تعالى ذلك و هو عادل ان فعل،و كذلك كلّ ما يفعله. (2)

و هذا شيء يناقض العقل الصريح،و ليس تنزيهه سبحانه عنه،بمعنى عدم استطاعته عليه،بل تنزيهه سبحانه بمعنى كونه مقتضى عدله و حكمته،فالعقل يدلّ على أنّه سبحانه عادل حكيم،و العادل الحكيم لا يأخذ البريء بذنب لم يرتكبه.

و ما ربما يقال من أنّ العالم كلّه ملك للّه سبحانه،و المالك يتصرف في ملكه كيفما شاء مغالطة محضة،بل المالك الحكيم يتصرف في ملكه حيث ما تقتضي حكمته.

3.القرآن ليس بمخلوق

يقول الإمام أحمد بن حنبل:القرآن كلام اللّه ليس بمخلوق،فمن زعم انّ

ص:31


1- 1) .اللمع:116. [1]
2- 2) .اللمع:116. [2]

القرآن مخلوق،فهو جهمي كافر،و من زعم انّ القرآن كلام اللّه عزّ و جلّ و وقف،فلم يقل مخلوق و لا غير مخلوق،فهو أخبث من الأوّل، و من زعم انّ الفاظنا بالقرآن و تلاوتنا له مخلوقة،و القرآن كلام اللّه فهو جهمي،و من لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. (1)

إنّ البحث عن قدم القرآن و حدوثه،و كونه مخلوقاً أو غير مخلوق ذو شجون،و قد جرّت تلك المسألة على المسلمين الويلات قد ضبطها التاريخ في عصر المأمون و الواثق و بعدهما،و قد شهرت المعتزلة هذه المسألة بوجه المحدّثين و الأشاعرة لمّا راج سوقهم،كما آل الأمر إلى العكس في عصر المتوكل و من أعقبه حيث شهرت الأشاعرة هذه المسألة بوجه المعتزلة،و أسفر ذلك عن وقوع ضحايا عديدة من الطرفين.

و بغض النظر عن ذلك،نعلق على ما ذكره و نقول:ما ذا يريد الإمام من قوله:«القرآن كلام اللّه ليس بمخلوق»؟ هل يريد انّه ليس بمختلق فقد صدق،لأنّ من يقول إنّه مختلق،فقد كفر برسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و معجزته و تبع كفّار قريش،حيث كانوا يقولون: «إِنْ هذا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ» 2 .

أو يريد انّ القرآن في مرتبة علمه سبحانه ليس بمخلوق فقد صدق أيضاً،فإنَّ علمه سبحانه قديم و القرآن أحد معلوماته سبحانه،و لكن لا يختص ذلك بالقرآن بل علمه كله على حد سواء.

و إن أراد أنّ القرآن الملفوظ و المكتوب بعد نزوله قديم كذاته سبحانه،فهو نفس الاعتراف بالقديم الثاني،و لا قديم عند المسلمين إلاّ اللّه سبحانه.

و القول بأنّه ليس بقديم،و لكنّه أيضاً ليس بمخلوق،تفكيك بين اللازم

ص:32


1- 1) . كتاب السنّة:49.

و الملزوم،فإذا لم يكن قديماً يكون حادثاً،و كلّ حادث مخلوق.

و بالجملة ليس على صفحة الوجود قديم إلاّ سبحانه و ما سواه حادث.

4.رؤيته سبحانه يوم القيامة بالأبصار المادية
اشارة

يقول الإمام الأشعري بجواز رؤية اللّه تعالى بهذه الأبصار المادية يوم القيامة،و يقول:و ليس في تجويز الرؤية إثبات أي حدث. (1)

و يقول أيضاً في«الإبانة»:و ندين بأنّ اللّه تعالى يرى في الآخرة بالأبصار،كما يرى القمر ليلة البدر،يراه المؤمنون. (2)

يترتب على القول بالرؤية مضاعفات كثيرة تجعلها في عداد المحالات،فمثلاً:

إنّ المرئي إمّا كلّه سبحانه أو بعضه،فعلى الأول يكون سبحانه محاطاً،و اللّه محيط،و على الثاني يلزم أن يكون مركباً ذا أجزاء و هو محال ،و لم يرد في صريح القرآن ما يدلّ على ذلك.

و أظهر ما استدلّ به على الرؤية هو قوله سبحانه: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» 3 .فخرج المستدلّ إلى أنّ المراد من الناظرة انّها رائية،ترى ربها عزّ و جلّ،و لكن المستدلّ غفل أنّه سبحانه يسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون،فلو أراد سبحانه الرؤية لقال عيون يومئذ ناضرة،و لم يقل وجوه يومئذٍ ناضرة.

على أنّ قوله: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» عِدْل لقوله سبحانه: «تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ» 4 و بالإمعان في مفهوم العدل،يعلم المقصود من قوله:

«إِلى رَبِّها

ص:33


1- 1) .اللمع في الردّ على أهل الزيغ و البدع:61. [1]
2- 2) .الإبانة:21.

ناظِرَةٌ».

توضيح ذلك:

إنّ الآية لا تدلّ على نظرية الرؤية حتى و لو قلنا بأنّ النظر في الآية بمعنى الرؤية،بل الآية تهدف إلى أمر آخر لا صلة له بمسألة الرؤية، و يعرف مفاد الآيات بمقارنة بعضها ببعض،و إليك بيانه:

إنّ الآية الثالثة تقابل الآية الأُولى،كما أنّ الرابعة تقابل الثانية،و عند المقابلة يرفع ابهام الثانية بالآية الرابعة،و إليك تنظيم الآيات حسب المقابلة:

1. «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ» يقابلها قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ» .

2. «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» يقابلها قوله: «تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ» .

و بما انّ المقابل للآية الثانية واضح المعنى،فيكون قرينة على المراد منها،فإذا كان المقصود من المقابل أنّ الطائفة العاصية تظن و تتوقع أن ينزل بها عذاب يَكسر فقارها،و يقصم ظهرها،يكون المراد من عدله و قرينه عكسه،و ليس هو إلاّ أنّ الطائفة المطيعة تكون مستبشرة برحمته و متوقعة لفضله و كرمه،لا النظر إلى ذاته و هويته و إلاّ لخرجت المقابلات عن التقابل،و هو خلف.

و بعبارة أُخرى:يجب أن تكون المقابلات متحدة المعنى و المفهوم،إلاّ في النفي و الإثبات،فلو كان المراد من المقابل الأوّل أعني: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» هو رؤية جماله سبحانه و ذاته،فيجب أن يكون الجزاء في قرينه أعني: «تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ» هو حرمان هؤلاء عن الرؤية أخذاً بحكم التقابل،و بما انّ تلك الجملة-أعني:القرين الثاني-لا تحتمل ذلك المعنى،أعني الحرمان من الرؤية،بل صريحة

ص:34

في انتظار العذاب الفاقر،يكون ذلك قرينة على المراد من القرين الأوّل و هو رجاء رحمته و انتظار فرجه و كرمه.

هذه نماذج مما يضاد العقل الصريح،و لها نظائر في السنة النبوية المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو صلى الله عليه و آله و سلم بريء منها.و من أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا«الحديث النبوي بين الرواية و الدراية».

فقد خرجنا بالنتيجة التالية:

إنّ الطريقة المثلى هي سلوك منهج لا يؤدّي إلى التشبيه و لا إلى التعطيل،فأهل التشبيه يصبّون المعارف العملية في قوالب جسمية و صفات مادية،و أهل التعطيل يوصدون نوافذ عقولهم و أفهامهم من التطلع إلى ما وراء الطبيعة،و لكن الطريق الوسط هو التعرف على ما وراء الطبيعة بما فيها من الجمال و الجلال عن طريق التدبّر و إمعان النظر بتنظيم الحجج العقلية أو بالنظر إلى آيات وجوده،فعند ذلك يخرج الإنسان عن مهلكة التشبيه و مغبَّة التعطيل و افراط المجسمة و تفريط المعطلة،و هذا هو الذي يدعو إليه القرآن الكريم و خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام و أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

قال الإمام علي عليه السلام:«لم يطلع العقول على تحديد صفته،و لم يحجبها عن واجب معرفته». (1)

و قال الإمام علي بن الحسين عليهما السلام:«إنّ اللّهَ عزّ و جلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان متعمقون،فأنزل اللّه تعالى سورة «قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ» و الآيات الستّ من سورة الحديد». (2)

ص:35


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 29. [1]
2- 2) .الكافي:91/1،باب النسبة،الحديث 3؛ [2]نور الثقلين:231/5. [3]

و كتب الإمام الصادق عليه السلام في جواب سؤال«عبد الرحيم بن عتيك القصير»-عند ما سأله عن قوم بالعراق يصفون اللّه بالصورة و بالتخطيط -:«سألت رحمك اللّه عن التوحيد و ما ذهب إليه من قبلك فتعالى اللّه الذي ليس كمثله شيء و هو السميع البصير،تعالى عمّا يصفه الواصفون المشبّهون اللّه بخلقه المفترون على اللّه.

فاعلم رحمك اللّه أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللّه عزّ و جلّ،فانفِ عن اللّه تعالى البطلان و التشبيه،فلا نفي و لا تشبيه هو اللّه الثابت الموجود،تعالى اللّه عمّا يصفه الواصفون و لا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان». (1)

مشكلة الصفات الخبريّة

الصفات الخبرية عبارة عما أخبر عنها النقل و لم يدلّ عليه العقل كاليد و اليدين،و العين،و الاستواء و ما ضاهاها.فقد شغلت بال المحدّثين و المتكلمين عبر القرون و احتدمت مساجلات و مشاجرات،لأنّها بظاهرها تحكي عن التشبيه و التجسيم،و لذلك اختار كلّ-غير المجسمة-مهربا.

و الآراء المشهورة فيها عبارة:

1.الإثبات مع التشبيه و التكييف.

2.الإثبات بلا تشبيه و لا تكييف.

3.تفويض معناها إلى اللّه و الإمرار على الآية.

4.التأويل و التصرف في ظاهر الآية حذراً من مخالفة العقل،و الجميع لا

ص:36


1- 1) .الكافي1،باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه،الحديث 1. [1]

يخلو من هن وهنات.

أمّا الأوّل،فهو عقيدة المشبهة و المجسمة،و هو مخالف لصريح الوحي،و اتفاق المسلمين،و بداهة العقل.

أمّا الثاني فلا يخفى انّ فيه استسلاماً للمتناقضين فانّ واقع اليد،حسب اللغة يتقوّم بالهيئة المخصوصة و الكيفية المعلومة،فإثبات اليد بالمعنى اللغوي،التزام بالهيئة،و الكيفية و إردافها بالبلكفة أي بلا كيف-جمع بين النقيضين.

و أمّا الثالث ففيه تعطيل العقول عن فهم الآيات و التدبّر فيها،كما سبق.

و أمّا الرابع أي تأويل ما ورد في القرآن من الصفات الخبرية،فإن أُريد به،حمل الآية على خلاف ظاهرها بحجّة انّ ظاهرها يخالف العقل، فهو باطل لأنّه من المستحيل أن يكون الوحي القطعي مخالفاً للعقل الصريح القطعي،فما اشتهر على الألسنة من أنّه إذا خالف النقل حكم العقل، يؤوّل النقل ممّا لا أساس له من الصحّة،إذا كان النقل أمراً قطعيّاً كالوحي،فانّ لازم ذلك الاستسلام للمتناقضين.

و إن أُريد بالتأويل،الإمعان في القرائن الحافّة بالآية أو ما ورد في سائر الآيات لتحصيل الظهور المستقر،فهو صحيح لكنّه ليس بتأويل، و تسميته تأويلاً إنّما هو بالنسبة إلى الظهور البدوي لا بالنسبة إلى الظهور المستقر.

توضيح ذلك انّ لبعض الجمل ظهورين:

1.ظهور بدوي.

2.ظهور مستقر.

فإذا قلت:«زيد كثير الرماد»أو«جبان الكلب»فالظهور البدوي يوحي بذم صاحب البيت و كلبه،فانّ البيت المملوء بالرماد يكون وسخاً منفّراً،كما أنّ

ص:37

أهمية الكلب تُكمن في ضراوته لا في جبنه.

و لكن بالنظر إلى الظهور المستقر،فالجملتان وردتا لمدح صاحب البيت و كلبه،حيث إنّ العرب تكني بهما عن سماحته و كثرة عطائه، و لو سُمّي هذا النوع من التفسير تأويلاً أي مخالفاً للظاهر،فإنّما هو بالنظر إلى الظهور البدوي دون الظهور المستقر،و التأويل الباطل هو صرف الظهور المستقر عن ظاهره،و هو غير متحقّق،و أمّا المتحقّق فهو رفع الظهور البدوي غير المستقرّ و هو ليس بمحذور.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير آية واحدة وردت فيها الصفة الخبرية حتى تكون مقياساً لتفسير سائر الآيات الواردة فيها،الصفات الخبرية،قال سبحانه: «يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» 1.

فالآية بظاهرها البدوي تثبت للّه سبحانه«يدين»،فللمخاطب أن يفسر الآية بأحد الطرق التالية:

1.الإثبات مع التكييف و هو نفس التجسيم.

2.الإثبات بلا تكييف،و هو استسلام للمتناقض.

3.التفويض و الإمرار عليها،و هو تعطيل للعقول.

4.التأويل،و حمل الآية خلاف ظاهرها و هو أمر باطل،إذ لو كان الظهور حجّة،فليس لنا التصرف فيه بحجّة انّ العقل يخالفه.

5.التفريق بين الظهور البدوي و الظهور المستقر،برفض الأوّل،و أخذ الثاني،لأنّ العبرة في كشف المقاصد هو الثاني دون الأوّل.

إذا عرفت ذلك فنقول:إنّ الإمعان في القرائن المحتفّة بالآية تعرب عن أنّ

ص:38

الإخبار بخلق آدم بيديه كناية عن اهتمامه سبحانه بخلقه،و انّه كان مصنوعاً له سبحانه دون غيره،فكأنّه سبحانه يقول لما ذا رفضت يا إبليس السجود لمن كان لي الاهتمام بمكانه؟

فَأُطلقت الخلقة باليد و كنّى بها عن قيامه سبحانه بخلقه،و عنايته بإيجاده،و تعليمه إيّاه أسماءه،لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد،يقول:هذا ما بنيته بيدي،أو ما صنعته بيدي،أو ربّيته بيدي،و يراد من الكلّ هو القيام المباشري بالعمل،و ربّما استعان فيه بعينه و سمعه و غيرهما من الأعضاء،لكنّه لا يذكرها و يكتفي باليد.و كأنّه سبحانه يندّد بالشيطان بأنّك تركت السجود لموجود اهتممت بخلقه و صنعه.

و نظير ذلك قوله سبحانه: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ» 1 فالأيدي كناية عن تفرّده تعالى بخلقها، لم يشركه أحد فيه.فهي مصنوعة للّه تعالى و الناس يتصرّفون فيها تصرف الملاّك كأنّها مصنوعة لهم،فبدل أن يشكروا يكفرون بنعمته.و أنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود هو المعنى الكنائي،و المدار في الموافقة و المخالفة هو الظهور المستقر لا البدوي.

و ما ذكرناه في تفسير الآية يكون اسوة لتفسير عامة الصفات الخبرية الواردة في القرآن من دون أن يستلزم التشبيه،أو الاستسلام للمتناقضين،أو التعطيل أو التأويل المرفوض.

و قس على ذلك قوله سبحانه:

1. «وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ» 2

ص:39

2. «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» 1 .

3. «وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» 2.

إلى غير ذلك من الآيات التي وردت فيها الصفات الخبرية،فانّ الحل الناجع،لتفسيرها،هو التفكيك بين الظهور البدوي و الظهور المستقر،و الاعتماد في كشف المراد على الثاني دون الأوّل،و ذلك بالإمعان بالقرائن الموجودة في نفس الآية و سياقها.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:40

قال الإمام الصادق عليه السلام:

«العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»

(الكافي:27/1)

3

اشارة

الإسلام و متطلّبات العصر

أو

دور الزمان و المكان في الاستنباط

تقديم

اشارة

دلّت الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية و اتّفاق المسلمين على أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم هو النبي الخاتم،و كتابه خاتم الكتب،و شريعته خاتمة الشرائع،و نبوته خاتمة النبوات،فما جاء على صعيد التشريع من قوانين و سنن تعدّ من صميم ثوابت هذا الدين لا تتطاول عليها يد التغيير،فأحكامه في العبادات و المعاملات و في العقود و الإيقاعات،و القضاء و السياسات أُصول خالدة مدى الدهر إلى يوم القيامة و قد تضافرت عليها الروايات:

1.روى أبو جعفر الباقر عليه السلام قال:قال جدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«أيّها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة،و حرامي حرام إلى يوم القيامة،ألا و قد بيّنهما اللّه عزّ و جلّ في الكتاب و بيّنتهما لكم في سنتي و سيرتي». (1)

ص:41


1- 1) .الوسائل:124/18. [1]

2.كما روى زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الحلال و الحرام،فقال:«حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة،لا يكون غيرَه و لا يجيء بعده». (1)

و الروايات في هذا الصدد عن النبي الأعظم و أهل بيته-صلوات اللّه عليهم-كثيرة،و قد جمعنا طائفة منها في كتابنا مفاهيم القرآن فبلغت 135 حديثاً،و بما انّ خلود شريعته أمر لم يشكّ فيه أحد من المسلمين،و هو من ضروريات الدين نقتصر على ذلك المقدار،و نطرح السؤال التالي:

إذا كانت الحياة الاجتماعية على وتيرة واحدة لصحّ أن يديرها تشريع خالد و دائم،و أمّا إذا كانت متغيرة تسودها التحوّلات و التغييرات الطارئة،فكيف يصحّ لقانون ثابت أن يسود جميع الظروف مهما اختلفت و تباينت؟

إنّ الحياة الاجتماعية التي يسودها الطابع البدوي و العشائري كيف تلتقي مع حياة بلغ التقدم العلمي فيها درجة هائلة،فكلّ ذلك شاهد على لزوم تغيير التشريع حسب تغيير الظروف.

هذا السؤال كثيراً ما يثار في الأوساط العلمية و يراد من ورائه أمر آخر،و هو التخلص من قيود الدين و القيم الأخلاقية،مع الغفلة انّ تغير ألوان الحياة لا يصادم ثبات التشريع و خلوده على النحو الذي بيّنه المحقّقون من علماء الإسلام.

و ذلك لأنّ السائل قد قصّر النظر على ما يحيط به من الظروف المختلفة المتبدلة،و ذهل عن أنّ للإنسان خُلقاً و غرائز ثابتة قد فطر عليها و هي لا تنفك عنه ما دام الإنسان إنساناً،و هذه الغرائز الثابتة تستدعي لنفسها تشريعاً ثابتاً يدوم بدوامها،و يثبت بثباتها عبر القرون و الأجيال، و إليك نماذج منها:

ص:42


1- 1) .الكافي:57/1. [1]

1.انّ الإنسان بما هو موجود اجتماعي يحتاج لحفظ نسله إلى الحياة العائلية،و هذه حقيقة ثابتة في حياة الإنسان و جاء التشريع وفقاً لها، يقول سبحانه: «وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ» 1.

2.العدالة الاجتماعية توفّر مصلحة المجتمع و تدرأ عنه الفساد و الانهيار و الفوضى،فليس للإنسان في حياته الاجتماعية إلاّ السير وفق نهج العدل و الابتعاد عن الظلم،قال سبحانه: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» 2.

3.انّ الفوارق الرئيسية بين الرجل و المرأة أمر طبيعي محسوس،فهما يختلفان في الخلقة على رغم كلّ الدعايات السخيفة التي تبغي إزالة كلّ تفاوت بينهما،و بما انّ هذا النوع من الاختلاف ثابت لا يتغير بمرور الزمان فهو يقتضي تشريعاً ثابتاً على شاكلة موضوعه،يقول سبحانه: «الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» 3.

4.الروابط العائلية هي روابط طبيعية،فالأحكام المنسِّقة لهذه الروابط من التوارث و لزوم التكريم ثابتة لا تتغير بتغير الزمان،يقول سبحانه: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ» 4 و المراد من الأولوية هي الأقربية.

5.انّ الحياة الاجتماعية رهن الحفاظ على الأخلاق،و ممّا لا شكّ فيه انّ الخمر و الميسر و الإباحة الجنسية تقوِّض أركان الأخلاق، فالخمر يزيل العقل،و الميسر يورث العداء في المجتمع،و الإباحة الجنسية تفسد النسل و الحرث فتتبعها أحكامها في الثبات و الدوام.

ص:43

هذه نماذج استعرضناها للحياة الاجتماعية التي لا تمسّها يد التغير،و هي ثابتة،فإذا كان التشريع على وفق الفطرة،و كان نظام التشريع قد وضع وفق ملاكات واقعية،فالموضوعات تلازم أحكامها،ملازمة العلة لمعلولها،و الأحكام تتبع موضوعاتها تبعيّة المعاليل لعللها.

هذا جواب إجمالي،و أمّا الجواب التفصيلي فهو رهن الوقوف على الدور الذي يلعبه الزمان و المكان في مرونة الأحكام الشرعية، و تطبيع الأحكام على متطلبات العصر،و هذا هو الذي سنقوم بدراسته.

دور الزمان و المكان في الاستنباط

قد يطلق الزمان و المكان و يراد منها المعنى الفلسفي،فيفسر الأوّل بمقدار الحركة،و الثاني بالبعد الذي يملأه الجسم،و الزمان و المكان بهذا المعنى خارج عن محط البحث،بل المراد هو المعنى الكنائي لهما،أعني:تطور أساليب الحياة و الظروف الاجتماعية حسب تقدم الزمان و توسع شبكة الاتصالات.و هذا المعنى هو الذي يهمّنا في هذا البحث،و دراسته تتم في ضمن فصول خمسة:

الأوّل:دراسة الروايات الواردة في ذلك المضمار.

الثاني:نقل مقتطفات من كلمات الفقهاء.

الثالث:تطبيقات عملية.

الرّابع:دور الزمان و المكان في الأحكام الحكوميّة.

الخامس:في دراسة العصرين في الفقه السني.

و إليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر.

ص:44

الفصل الأوّل استعراض الروايات الواردة

اشارة

في ذلك المضمار

قد أُشير في غير واحد من الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام إلى أنّ للزمان و المكان دوراً في تغير الأحكام إمّا لتبدّل موضوعه بتبدّل الزمان،أو لتغير ملاك الحكم إلى ملاك آخر،أو لكشف ملاك أوسع من الملاك الموجود في عصر التشريع أو غير ذلك ممّا سيوافيك تفسيره عند البحث في التطبيقات.

و أمّا ما وقفنا عليه في ذلك المجال من الأخبار،فنذكره على الترتيب التالي:

1.سئل علي عليه السلام عن قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم:«غيّروا الشيبَ و لا تشبَّهوا باليهود».

فقال عليه السلام:«إنّما قال صلى الله عليه و آله و سلم ذلك و الدين قلّ،فأما الآن و قد اتسع نطاقه و ضرب بجرانه فامرؤ و ما اختار». (1)

فأشار الإمام بقوله:إنّ عنوان التشبّه كان قائماً بقلّة المسلمين و كثرة اليهود،فلو لم يخضِّب أحد من المسلمين شيبته و كانوا في أقلية صار عملهم تشبهاً باليهود و تقوية لهم،و أمّا بعد انتشار الإسلام في أقطار الأرض على نحو صارت اليهود هم الأقلية فلا يصدق التشبّه بهم إذا ترك الخضاب.

ص:45


1- 1) .نهج البلاغة، [1]قسم الحكم،رقم 17.

2.روى محمد بن مسلم و زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام انّهما سألاه عن أكل لحوم الحمُر الأهلية،فقال:«نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن أكلها يوم خيبر،و إنّما نهى عن أكلها في ذلك الوقت لانّها كانت حمولة الناس،و إنّما الحرام ما حرّم اللّه في القرآن». (1)

و الحديث يشير إلى أنّ نهي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن أكل لحومها كان لأجل انّ ذبحها في ذلك الوقت يورث الحرج و المشقة،لأنّها كانت سبباً لحمل الناس و الأمتعة من مكان إلى آخر،فإذا ارتفعت الحاجة في الزمان الآخر ارتفع ملاك الحرمة.

3.روى محمد بن سنان،أنّ الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله:«كره أكل لحوم البغال و الحمر الأهلية لحاجة الناس إلى ظهورها و استعمالها و الخوف من فنائها و قلّتها لا لقذر خلقها و لا قذر غذائها». (2)

4.روى عبد الرحمن بن حجاج،عمّن سمعه،عن الإمام الصادق عليه السلام قال:سألته عن الزكاة ما يأخذ منها الرجل؟ و قلت له:إنّه بلغنا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:أيّما رجل ترك دينارين فهما كيّ بين عينيه،قال:فقال:«أُولئك قوم كانوا أضيافاً على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإذا أمسى،قال:يا فلان اذهب فعشّ هذا،فإذا أصبح قال:يا فلان اذهب فغدّ هذا،فلم يكونا يخافون أن يصبحوا بغير غذاء و لا بغير عشاء،فجمع الرّجل منهم دينارين،فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيه هذه المقالة،فانّ الناس إنما يُعطَون من السنة إلى السنة فللرّجل أن يأخذ ما يكفيه و يكفي عياله من السنة إلى السنة». (3)

ص:46


1- 1) .وسائل الشيعة:16،الباب 4 من كتاب الأطعمة و الأشربة،الحديث 1 و 8. [1]
2- 2) .وسائل الشيعة:16،الباب 4 من كتاب الأطعمة و الأشربة،الحديث 1 و 8. [2]
3- 3) .معاني الأخبار:152،باب معنى قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم«أيما رجل ترك دينارين».

5.روى حماد بن عثمان،قال:كنت حاضراً عن أبي عبد اللّه عليه السلام إذ قال له رجل:أصلحك اللّه،ذكرت أنت علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن،يلبس القميص بأربعة دراهم و ما أشبه ذلك،و نرى عليك اللباس الجيّد،قال:فقال له:«إنّ علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر،و لو لبس مثل ذلك اليوم لشُهّر به،فخير لباس كلّ زمان،لباس أهله». (1)

6.روى مسعدة بن صدقة:دخل سفيان الثوري على أبي عبد اللّه عليه السلام فرأى عليه ثياب بيض كأنّها غرقئ البيض،فقال:إنّ هذا اللباس ليس من لباسك،فقال الإمام-بعد كلام -:«إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان في زمان مُقْفر جدْب،فأمّا إذا أقبلت الدنيا فأحقّ أهلها بها أبرارها لا فجّارها، و مؤمنوها لا منافقوها،و مسلموها لا كفّارها». (2)

7.روى عبد اللّه بن سنان،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:«بينا أنا في الطواف و إذا برجل يجذب ثوبي،و إذا هو عباد بن كثير البصري»،فقال:يا جعفر ابن محمد تلبس مثل هذه الثياب و أنت في هذا الموضع مع المكان الذي أنت فيه من علي عليه السلام ؟! فقلتُ:«فرقبيّ اشتريته بدينار،و كان علي عليه السلام في زمان يستقيم له ما ليس فيه،و لو لبستُ مثل ذلك اللباس في زماننا لقال الناس هذا مراء مثل عباد». (3)

8.روى المعلى بن خنيس،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:إنّ عليّاً كان عندكم فأتى بني ديوان و اشترى ثلاثة أثواب بدينار،القميص إلى فوق الكعب و الإزار إلى نصف الساق،و الرداء من بين يديه إلى ثدييه و من خلفه إلى أليتيه،و قال:هذا اللباس الذي ينبغي للمسلمين أن يلبسوه،قال أبو عبد اللّه:«و لكن لا تقدرون أن

ص:47


1- 1) .الوسائل:3،الباب 7 من أبواب أحكام الملابس،الحديث 7 و 10. [1]
2- 2) .الوسائل:3،الباب 7 من أبواب أحكام الملابس،الحديث 7 و 10. [2]
3- 3) .الوسائل:3،الباب 7 من أبواب أحكام الملابس،الحديث 3. [3]

تلبسوا هذا اليوم و لو فعلناه لقالوا مجنون،و لقالوا مرائيّ». (1)

9.روى أبو بكر الحضرميّ،قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:«لسيرة علي عليه السلام في أهل البصرة كانت خيراً لشيعته ممّا طلعت عليه الشمس انّه علم انّ للقوم دولة،فلو سباهم تُسب شيعته». (2)

10.روى السراد،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:قلت له:أبيع السلاح،قال:«لا تبعه في فتنة». (3)

11.روى المعلى بن خنيس إذا جاء حديث عن أوّلكم و حديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ فقال:«خذوا به حتى يبلغكم عن الحي،فخذوا بقوله،أما و اللّه لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم». (4)فإنّ الحكم الثاني المخالف لما روى سابقاً رهن حدوث تغير في جانب الموضوع أو تبدل الملاك أو غير ذلك من العناوين المؤثرة لتبدّل الحكم.

12.روى محمد بن مسلم،عن أبي جعفر عليه السلام قال:قال:«إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم نهى أن تحبس لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام من أجل الحاجة،فأمّا اليوم فلا بأس به». (5)

13.روى محمد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:سألته عن إخراج لحوم الأضاحي من منى ؟ فقال:«كنّا نقول:لا يخرج منها بشيء لحاجة الناس إليه،و أمّا اليوم فقد كثر الناس فلا بأس بإخراجه». (6)

ص:48


1- 1) .الكافي:6،باب تشمير الثياب من كتاب الزي و التجمل،الحديث 2. [1]
2- 2) .الكافي:5،كتاب الجهاد:33 [2] باب (لم يذكر عنوان الباب) الحديث 4.
3- 3) .الكافي:5،باب بيع السلاح منهم الحديث 4 و [3]في الباب ما له صلة بالمقام.
4- 4) .الكافي:1، [4]باب اختلاف الحديث،الحديث 9.
5- 5) .الوسائل:10،الباب 41 من أبواب الذبح،الحديث 3. [5]
6- 6) .الوسائل:10،الباب 42 من أبواب الذبح،الحديث 5. [6]

14.روى الحكم بن عتيبة،عن أبي جعفر عليه السلام،قال:قلت له:إنّ الديات إنّما كانت تؤخذ قبل اليوم من الإبل و البقر و الغنم،قال:فقال:

«إنّما كان ذلك في البوادي قبل الإسلام،فلمّا ظهر الإسلام و كثرت الورق في الناس قسّمها أمير المؤمنين عليه السلام على الورق»قال الحكم:قلت:

أ رأيت من كان اليوم من أهل البوادي،ما الذي يؤخذ منهم في الدية اليوم؟إبل؟ أم ورق؟ فقال:«الإبل اليوم مثل الورق بل هي أفضل من الورق في الدية،انّهم كانوا يأخذون منهم في دية الخطأ مائة من الإبل يحسب لكلّ بعير،مائة درهم،فذلك عشرة آلاف».

قلت له:فما أسنان المائة بعير؟ فقال:«ما حال عليه الحول ذُكْران كلّها». (1)

إنّ المشكلة في المقرر من الديات الست من وجوه:

الأوّل:عدم وجود التعادل و التساوي بين الأُمور الست في بدء الأمر،الواردة في بعض الأحاديث.

15.روى عبد الرحمن بن الحجاج دية النفس بالشكل التالي:

أ:مائة إبل كانت في الجاهلية و أقرّها رسول اللّه.

ب:مائتا بقر على أهل البقر.

ج:ألف شاة ثنيّة على أهل الشاة.

د:ألف دينار على أهل الذهب.

ه:عشرة آلاف درهم على أهل الورق.

و:مائتا حلّة على أهل اليمن. (2)

ص:49


1- 1) .الوسائل:19،الباب 2 من أبواب ديات النفس،الحديث 8. [1]
2- 2) .الوسائل:19،الباب 2 من أبواب دية النفس،الحديث 1. [2]

فأين قيمة مائتي حلة من قيمة مائة إبل أو غيرها؟! فقد أوجد ذلك مشكلة في أداء الدية خصوصاً إذا قلنا بما هو المشهور من أنّ اختيار أي واحد منها بيد القاتل،فإذاً كيف يتصور التخيير بين الأقل و الأكثر؟!

و الجواب انّه من المحتمل أن تكون جميع هذه الموارد متقاربة القيمة،لأنّ الحلل اليمانية و إن كانت زهيدة الثمن إلاّ انّ صعوبة اقتنائها حال دون انخفاض قيمتها.

و على فرض انخفاض قيمتها لما كان للجاني اختيار الحلل أخذاً بالمتيقن من مورد النص للجاني.

الثاني:المراد من الورق الوارد في النصوص هو الدينار و الدرهم المسكوكين الرائجين،و هذا غير متوفر في غالب البلدان،لأنّ المعاملات تتم بالعملة الرائجة في كلّ بلد،و هي غير النقدين،و على فرض وجود النقدين في الأعصار السابقة،فليسا رائجين.

الثالث:لم ترد في النصوص الاجتزاء بالعملة الرائجة فما ورد من الدينار و الدرهم فغير رائجين و ما هو الرائج اليوم كالعملة الورقية فلم يرد فيها نصّ.

و الجواب عن الأخيرين هو انّ تقويم دية النفس بالأنعام أو الحلل،لم يكن لخصوصية فيها دون غيرها،بل لأجل انّ قلّة وجود النقدين كانت سبباً لتعامل الناس بالأجناس فكان الثمن أيضاً جنساً كالمثمن و لما كثر الورق،قسّمها الإمام على الورق.

و هذا يعرب عن أنّ الدية الواقعية هو قيمة هذه الأنعام و الحلل،لا أنفسها بما هي هي،بنحو لو أدى قيمتها لما أدّى الدية الواقعية.

و لو صحّ ذلك فلا فرق عندئذٍ بين النقدين و العملة الرائجة في البلاد هذه

ص:50

الأيام،إذ الغرض أداء قيمة النفس بأشكالها المختلفة.

16.روى الحلبي،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:سألت عن الوبا يكون في ناحية المصر فيتحول الرجل إلى ناحية أُخرى،أو يكون في مصر فيخرج منه إلى غيره.

فقال:«لا بأس إنّما نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن ذلك لمكان ربيئة كانت بحيال العدو فوقع فيهم الوبا فهربوا منه،فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

الفارّ منه كالفار من الزحف كراهية أن يخلو مراكزهم». (1)

فدلّ الحديث على أنّ النهي كان بملاك خاص،و هو انّ الخروج كان سبباً لضعف النظام الإسلامي و إلاّ فلا مانع من أن يخرجوا منه بغية السلامة.

17.روى علي بن المغيرة،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:القوم يكونون في البلد فيقع فيه الموت،ألهم أن يتحوّلوا عنها إلى غيرها،قال:

«نعم»،قلت:بلغنا انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عاب قوماً بذلك،فقال:«أُولئك كانوا ربيئة بازاء العدو فأمرهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يثبتوا في موضعهم و لا يتحولوا عنه إلى غيره،فلما وقع فيهم الموت تحولوا من ذلك المكان إلى غيره،فكان تحويلهم عن ذلك المكان إلى غيره كالفرار من الزحف». (2)

18.روى عبد اللّه بن بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السلام:لا ينبغي أن يتزوج الرجل الحرّ المملوكةَ اليوم،إنّما كان ذلك حيث قال اللّه عزّ و جلّ: «وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً» و الطول المهر،و مهر الحرة اليوم مثل مهر الأمة أو أقل. (3)

ص:51


1- 1) .الوسائل:2،الباب 20 من أبواب الاحتضار،الحديث 1. [1]
2- 2) .الوسائل:2،الباب 20 من أبواب الاحتضار،الحديث 2. [2]
3- 3) .الوسائل:14 الباب 45 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة،الحديث 5. [3]

فالحديث يهدف إلى تفسير قوله سبحانه:

«وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ» 1.

فالآية تعلّق جواز تزويج الأمة بعدم الاستطاعة على نكاح الحرة لأجل غلاء مهرها بخلاف مهر الأمة فانّها كانت زهيدة الثمن.

فإذا عاد الزمان إلى غير هذا الوضع و صار مهر الأمة و الحرة على حدّ سواء بل كان مهر الحرة أقل فلا ينبغي أن يتزوج المملوكة فقد غيّرت الظروف جواز الحكم إلى كراهته أو تحريمه.

19.روى بكير بن محمد،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال سأله رجل و أنا حاضر،فقال:يكون لي غلام فيشرب الخمر و يدخل في هذه الأُمور المكروهة فأُريد عتقه،فهل أُعتقه أحبّ إليك أم أبيعه و أتصدق بثمنه؟ فقال:«إنّ العتق في بعض الزمان أفضل،و في بعض الزمان الصدقة أفضل، فإن كان الناس حسنة حالُهم،فالعتق أفضل،و إذا كانوا شديدة حالُهم فالصدقة أفضل،و بيع هذا أحبّ إليّ إذا كان بهذه الحال». (1)

20.روى محمد بن سنان،عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام في حديث:«ليس بين الحلال و الحرام إلاّ شيء يسير،يحوله من شيء إلى شيء فيصير حلالاً و حراماً». (2)

هذه بعض ما وقفنا عليه،و لعلّ الباحث في غضون الجوامع الحديثيّة يقف على أكثر من ذلك.

ص:52


1- 2) .الوسائل:16،الباب 27 من أبواب العتق،الحديث 1. [1]
2- 3) .بحار الأنوار:94/6،الحديث 1،باب علل الشرائع و الأحكام. [2]
حصيلة الروايات

إنّ الإمعان في مضامين هذه الروايات يثبت انّ تغير الحكم إنّما كان لإحدى الجهات التالية:

1.كان الحكم،حكماً حكومياً و ولائياً نابعاً من ولاية النبي على إدارة المجتمع و حفظ مصالحه،و مثل هذا الحكم لا يكون حكماً شرعياً إلهياً نزل به أمين الوحي عن ربّ العالمين،بل حكماً مؤقّتاً يدور مدار المصالح و المفاسد التي أوجبت تشريع هذا النوع من الأحكام.

و من هذا القبيل النهي عن إخراج اللحم من منى قبل ثلاثة أيّام،أو النهي عن أكل لحوم الحمير،و لذلك قال الإمام بعد تبيين علّة النهي إنّما الحرام ما حرّم اللّه في القرآن،مشيراً إلى أنّه لم يكن هذا النهي كسائر النواهي النابعة من المصالح و المفاسد،الذاتية كالخمر و الميسر بل نجم عن مصالح و مفاسد مؤقتة.

و نظيرهما النهي من الخروج عن مكان ظهر فيه الطاعون،حيث إنّ النهي كان لأجل انّ تحوّلهم من ذلك المكان كان أشبه بالفرار من الزحف فوافاهم النهي فإذا انتفى هذا القيد فلا مانع حينئذٍ من خروجهم.

2.انّ تبدل الحكم كان لأجل انعدام الملاك السابق،و ظهور ملاك مباين،كما هو الحال في حديث الدينارين بخلاف عصر الإمام الصادق حيث كان يعطون من السنة إلى السنة.

و مثله جواز نكاح الأمة مع القدرة على الحرة،لأنّ ملاك الجواز هو غلاء مهر الحرة،و قد انتفى في ذلك العصر،بل صار الأمر على العكس كما في نفس الرواية.

ص:53

3.عروض عنوان محرم عليه،ككونه لباس الشهرة أو رمي اللابس بالجنون كما في أحاديث الألبسة،كما يمكن أن يكون من قبيل تبدّل الملاك،فقد ورد النهي في عصر مقفر،جدب،و أين هو من عصر الخصب و الرخاء؟!

4.كون الملاك أوسع كما هو الحال بالاكتفاء بالدرهم و الدينار في دية النفس،في عصر الإمام علي عليه السلام فانّ الملاك توفر ما يقوّم به دم المجني عليه،ففي أهل الإبل الإبل،و في أهل البقر و الغنم بهما،و في أهل الدرهم و الدينار بهما.

ص:54

الفصل الثاني نقل مقتطفات من كلمات الفقهاء

اشارة

إنّ تأثير الظروف في تفسير الروايات و الفتاوى في كلام الفقهاء أمر غير عزيز،و قد وقفوا على ذلك منذ أمد بعيد،و نذكر هنا مقتطفات من كلامهم:

1.الصدوق(306- 381ه)

1.روى الصدوق في الفقيه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم انّه قال:«الفرق بين المسلمين و المشركين التلحي بالعمائم».

ثمّ قال الصدوق في شرح الحديث:ذلك في أوّل الإسلام و ابتدائه،و قد نقل عنه صلى الله عليه و آله و سلم أيضاً انّه أمر بالتلحّي و نهى عن الاقتعاط. (1)

قال الفيض الكاشاني بعد نقل الحديث:التلحّي إدارة العمامة تحت الحنك،و الاقتعاط شدُّها من غير إدارة،و سُنّة التلحّي متروكة اليوم في أكثر بلاد الإسلام كقصر الثياب في زمان الأئمة،فصارت من لباس الشهرة المنهي عنها. (2)

ص:55


1- 1) .الفقيه:260/1 برقم 821.
2- 2) .الوافي:745/20. [1]
2.العلاّمة الحلّي (648- 726ه)

قال في مبحث تجويز النسخ:الأحكام منوطة بالمصالح،و المصالح تتغير بتغير الأوقات،و تختلف باختلاف المكلّفين،فجاز أن يكون الحكم المعين مصلحة لقوم في زمان فيؤمر به،و مفسدة لقوم في زمان آخر فينهى عنه. (1)

3.الشيخ الشهيد محمد بن مكي العاملي(المتوفّى عام 786ه)

قال:يجوز تغيير الأحكام بتغير العادات كما في النقود المتعاورة (2)و الأوزان المتداولة،و نفقات الزوجات و الأقارب فانّها تتبع عادة ذلك الزمان الذي وقعت فيه،و كذا تقدير العواري بالعوائد.

و منه الاختلاف بعد الدخول في قبض الصداق،فالمروي تقديم قول الزوج،عملاً بما كان عليه السلف من تقديم المهر على الدخول.

و منه:إذا قدّم بشيء قبل الدخول كان مهراً إذا لم يسم غيره،تبعاً لتلك العادة فالآن ينبغي تقديم قول الزوجة،و احتساب ذلك من مهر المثل. (3)

فقد أشار بقوله«ينبغي تقديم قول الزوجة»إلى مسألة التنازع بينهما فيما إذا ادّعت الزوجة بعد الدخول بعدم تسلم المهر،و ادّعى الرجل تسليمه إليها،فقد روى الحسن بن زياد،قال:إذا دخل الرجل بامرأته،ثمّ ادّعت المهر و قال:قد أعطيتك فعليها البيّنة و عليه اليمين. (4)

ص:56


1- 1) .كشف المراد:173،ط مؤسسة [1]الإمام الصادق عليه السلام.
2- 2) .المتعاورة أي المتداولة.
3- 3) .القواعد و الفوائد:152/1، [2]القاعدة الخامسة،ط النجف الأشرف.
4- 4) .الوسائل:الجزء 15،الباب 8 من أبواب المهور،الحديث 7. [3]

غير انّ لفيفاً من الفقهاء حملوا الرواية على ما إذا كانت العادة الإقباض قبل الدخول و إلاّ فالبيّنة على الزوج.

قال صاحب الجواهر:الظاهر انّ مبنى هذه النصوص على ما إذا كانت العادة الإقباض قبل الدخول،بل قيل إنّ الأمر كذلك كان قديماً، فيكون حينئذٍ ذلك من ترجيح الظاهر على الأصل. (1)

4.المحقّق الأردبيلي (المتوفّى993ه)

قال:و لا يمكن القول بكلية شيء بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيات و الأحوال و الأزمان و الأمكنة و الأشخاص و هو ظاهر، و باستخراج هذه الاختلافات و الانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف،امتياز أهل العلم و الفقهاء،شكر اللّه سعيهم و رفع درجاتهم. (2)

5.صاحب الجواهر(المتوفّى1266ه)

قال في مسألة بيع الموزون مكيلاً و بالعكس:إنّ الأقوى اعتبار التعارف في ذلك و هو مختلف باختلاف الأزمنة و الأمكنة. (3)

6.الشيخ الأنصاري(1214-1281ه)

و قال الشيخ الأنصاري في بحث ضمان المثلي و القيمي:بقي الكلام في أنّه

ص:57


1- 1) .الجواهر:133/31. [1]
2- 2) .مجمع الفائدة و البرهان:436/3.
3- 3) .الجواهر:375/23. [2]

هل يعد من تعذر المثل خروجه عن القيمة كالماء على الشاطئ إذا أتلفه في مفازة و الجمد في الشتاء إذا أتلفه في الصيف أم لا؟ الأقوى بل المتعيّن هو الأوّل بل حكي عن بعض نسبته إلى الأصحاب و غيرهم و المصرح به في محكي التذكرة و الإيضاح و الدروس قيمة المثل في تلك المفازة و يحتمل آخر مكان أو زمان يخرج المثل فيه عن المالية. (1)

7.الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(1294- 1373ه)

قال في تحرير المجلة في ذيل المادة39:«لا ينكر تغيير الأحكام بتغير الأزمان»قد عرفت أنّ من أُصول مذهب الإمامية عدم تغيير الأحكام إلاّ بتغيير الموضوعات امّا بالزمان و المكان و الأشخاص،فلا يتغير الحكم و دين اللّه واحد في حقّ الجميع لا تجد لسنّة اللّه تبديلاً، و حلال محمّد صلى الله عليه و آله و سلم حلال إلى يوم القيامة و حرامه كذلك.

نعم يختلف الحكم في حقّ الشخص الواحد باختلاف حالاته من بلوغ و رشد و حضر و سفر و فقر و غنى و ما إلى ذلك من الحالات المختلفة،و كلّها ترجع إلى تغيير الموضوع فيتغير الحكم فتدبر و لا يشتبه عليك الأمر. (2)

الظاهر انّه يريد من قوله:«امّا بالزمان و المكان و الأشخاص فلا يتغير الحكم»أنّ مرور الزمان لا يوجب تغيير الحكم الشرعي بنفسه، و أمّا إذا كان مرور الزمان سبباً لطروء عناوين موجبة لتغير الموضوع فلا شكّ انّه يوجب تغير الحكم و قد أشار إليه في ذيل كلامه.

ص:58


1- 1) .المكاسب:110. [1]
2- 2) .تحرير المجلة:34/1. [2]
8.السيد الإمام الخميني(1320-1409ه)
اشارة

قال:إنّي على اعتقاد بالفقه الدارج بين فقهائنا و بالاجتهاد على النهج الجواهري،و هذا أمر لا بدّ منه،لكن لا يعني ذلك انّ الفقه الإسلامي لا يواكب حاجات العصر،بل انّ لعنصري الزمان و المكان تأثيراً في الاجتهاد،فقد يكون لواقعة حكم لكنّها تتخذ حكماً آخر على ضوء الأُصول الحاكمة على المجتمع و سياسته و اقتصاده. (1)

و قد طرح هذه المسألة غير واحد من أعلام السنّة.

1.منهم ابن قيم الجوزية(المتوفّى751ه) فقد عقد في كتابه فصلاً تحت عنوان«تغيّر الفتوى و اختلافها بحسب تغير الأزمنة و الأمكنة و الأموال و النيات و العوائد».

يقول في ذيل هذا الفصل:

هذا فصل عظيم النفع،و وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج و المشقة،و تكليفِ ما لا سبيل إليه،ما يعلم انّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به،فانّ الشريعة مبناها و أساسها على الحِكَم و مصالح العباد في المعاش و المعاد،و هي عدل كلّها،و رحمة كلّها،و مصالح كلّها،و حكمة كلّها،فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور،و عن الرحمة إلى ضدها،و عن المصلحة إلى المفسدة،و عن الحكمة إلى العبث،فليست من الشريعة. (2)

2.و منهم:أبو إسحاق الشاطبي(المتوفّى 790ه) في الموافقات»قال:المسألة العاشرة:إنّا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد و الأحكام العادية تدور

ص:59


1- 1) .صحيفة النور:98/21.
2- 2) .اعلام الموقعين:14/3 و قد استغرق في هذا الكتاب 56 صفحة.

معه حيثما دار،فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة فإذا كان فيه مصلحة جاز. (1)

و قال في موضع آخر:النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً،كانت الأفعال موافقة أو مخالفة،و ذلك انّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلّفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل. (2)

3.و منهم:العلاّمة محمد أمين أفندي الشهير ب«ابن عابدين»مؤلف كتاب«مجموعة رسائل»قال ما هذا نصّه:

اعلم أنّ المسائل الفقهية إمّا أن تكون ثابتة بصريح النص،و إمّا أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد و رأي،و كثيراً منها ما يبينه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أوّلاً،و لهذا قالوا في شروط الاجتهاد انّه لا بدّ فيه من معرفة عادات الناس،فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيّر عرف أهله،أو لحدوث ضرورة،أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أوّلاً للزم منه المشقة و الضرر بالناس،و لخالف قواعد الشريعة المبنيّة على التخفيف و التيسير و دفع الضرر و الفساد لبقاء العالم على أتم مقام و أحسن أحكام،و لهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنّه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً في قواعد مذهبه. (3)

4.و منهم:الفقيه الأُستاذ أحمد مصطفى الزرقاء في كتابه«المدخل الفقهي

ص:60


1- 1) .الموافقات:305/2،ط دار المعرفة.
2- 2) .الموافقات:140/4،ط دار الكتب العلمية،و العبارة الأُولى أصرح في المقصود.
3- 3) .رسائل ابن عابدين:123/2.

العام»،قال:

الحقيقة ان الأحكام الشرعية التي تتبدّل بتبدّل الموضوعات مهما تغيرت باختلاف الزمان،فانّ المبدأ الشرعي فيها واحد و ليس تبدّل الأحكام إلاّ تبدّل الوسائل و الأساليب الموصلة إلى غاية الشارع،فانّ تلك الوسائل و الأساليب في الغالب لم تحدّد في الشريعة الإسلامية بل تركتها مطلقة لكي يختار منها في كلّ زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجاً و أنجح في التقويم علاجاً.

ثمّ إنّ الأُستاذ جعل المنشأ لتغيير الأحكام أحد أمرين:

أ:فساد الأخلاق و فقدان الورع و ضعف الوازع،و أسماه بفساد الزمان.

ب:حدوث أوضاع تنظيمية و وسائل فرضية و أساليب اقتصادية.

ثمّ إنّه مثّل لكلّ من النوعين بأمثلة مختلفة اقتبس بعضها من رسالة«نشر العرف»للشيخ ابن عابدين،و لكنّه صاغ الأمثلة في ثوب جديد. (1)

5.و منهم:الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه«أُصول الفقه الإسلامي»فقد لخص ما ذكره الأُستاذ السابق و قال في صدر البحث:تغير الأحكام بتغير الأزمان.

إنّ الأحكام قد تتغير بسبب تغير العرف أو تغير مصالح الناس أو لمراعاة الضرورة أو لفساد الأخلاق و ضعف الوازع الديني أو لتطور الزمن و تنظيماته المستحدثة،فيجب تغير الحكم الشرعي لتحقيق المصلحة و دفع المفسدة و إحقاق الحق و الخير،و هذا يجعل مبدأ تغير الأحكام أقرب إلى نظرية المصالح المرسلة منها إلى نظرية العرف. (2)

ص:61


1- 1) .المدخل الفقهي العام:924/2.
2- 2) .أُصول الفقه الإسلامي:1116/2.

و قبل تطبيق هذا الأصل على موارده نود أن نشير إلى أُمور يتبين بها حدّ هذا الأصل:

أمور
الأوّل:حصر التشريع في اللّه سبحانه

دلّت الآيات القرآنية على حصر التشريع في اللّه سبحانه و انّه ليس مشرع سواه،قال سبحانه: «إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ» 1.

و المراد من الحكم هو الحكم التشريعي بقرينة قوله: «أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ» و هذا أمر أوضحنا حاله في موسوعتنا«مفاهيم القرآن».

و ينبغي التأكيد على نكتة و هي انّ تغير الحكم وفق الزمان و المكان يجب أن لا يتنافى مع حصر التشريع باللّه سبحانه.

الثاني:خلود الشريعة

دلّ القرآن و السنّة على خلود الشريعة الإسلامية و انّ الرسول خاتم الأنبياء و كتابه خاتم الكتب،و شريعته خاتمة الشرائع،فحلاله حلال إلى يوم القيامة،و حرامه حرام إلى يوم القيامة و بذلك تضافرت الآيات و الروايات و قد تقدم.

فاللازم أيضاً أن لا يكون أيّ تناف بين خلود الشريعة و تأثير الزمان و المكان على الاستنباط.

و من حسن الحظ انّ الأُستاذ أحمد مصطفى الزرقاء قد صرح بهذا الشرط،و هو انّ عنصري الزمان و المكان لا تمسان كرامة الأحكام المنصوصة في الشريعة،و إنّما يؤثران في الأحكام المستنبطة عن طريق القياس و المصالح المرسلة و الاستحسان و قال ما هذا نصّه:

ص:62

قد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أنّ الأحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان و أخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية و مصلحية، أي التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة،و هي المقصودة من القاعدة المقررة«تغيير الأحكام بتغير الزمان».

أمّا الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها و توطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة،الناهية كحرمة المحرمات المطلقة و كوجوب التراضي في العقود،و التزام الإنسان بعقده،و ضمان الضرر الذي يلحقه بغيره و سريان إقراره على نفسه دون غيره،و وجوب منع الأذى و قمع الاجرام،وسد الذرائع إلى الفساد و حماية الحقوق المكتسبة،و مسئولية كلّ مكلّف عن عمله و تقصيره،و عدم مؤاخذة بريء بذنب غيره،إلى غير ذلك من الأحكام و المبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها و مقاومة خلافها،فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان،بل هي الأُصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان و الأجيال،و لكن وسائل تحقيقها و أساليب تطبيقها قد تتبدل باختلاف الأزمنة المحدثة. (1)

و كلامه صريح في أنّ المتغير عندهم هو الأحكام الاجتهادية لا الأحكام المنصوصة،و يريد من الأحكام الاجتهادية ما استنبطه المجتهد من القواعد الخاصة،كالقياس و المصالح المرسلة،و قد صرّح بذلك الدكتور وهبة الزحيلي حيث قال:و ذلك كائن بالنسبة للأحكام الاجتهادية - القياسية أو المصلحية-المتعلقة بالمعاملات أو الأحوال المدنية من كلّ ما له صلة بشئون الدنيا و حاجات التجارة و الاقتصاد و تغير الأحكام فيها في حدود المبدأ الشرعي،و هو إحقاق الحق و جلب المصالح و درء المفاسد.

ص:63


1- 1) .المدخل الفقهي العام:924/2-925.

أمّا الأحكام التعبدية و المقدرات الشرعية و أُصول الشريعة الدائمة،فلا تقبل التبديل مطلقاً،مهما تبدل المكان و تغير الزمان،كحرمة المحارم،و وجوب التراضي في العقود،و ضمان الضرر الذي يلحقه الإنسان بغيره،و سريان إقراره على نفسه،و عدم مؤاخذة بريء بذنب غيره. (1)

نعم،نقل تقديم بعض الأحكام الاجتهادية على النص عن أحمد بن إدريس المالكي،و نجم الدين أبو ربيع المعروف بالطوفي،و بما انّا لم نقف على نصوص كلامهم نتوقف عن القضاء في حقّهم.

و على أي تقدير يجب على من يقول بتأثير العاملين على استنباط الحكم الشرعي أن يحددهما بشكل لا تمس الأصلين المتقدمين أي نحترز أولاً عن تشريع الحكم،و ثانياً عن مس كرامة تأبيد الأحكام،و على ذلك فلا فرق بين الأحكام الاجتهادية و المنصوصة إذا كان الأصلان محفوظين.

الثالث:انّ المراد من تأثير الزمان و المكان على الاستنباط،هو أن يكون تغير الوضع موجباً لتبدل الحكم

من دون أن يكون في النص إشارة إلى هذا النوع من التغيير،و إلاّ فلو كان التشريع الأوّل متضمناً لتغير الحكم في الزمان الثاني فهو خارج عن موضوع بحثنا و إن كان يمكن الاستئناس به،و على ذلك تخرج الموارد التالية عن موضوع البحث.

أ:اختلاف الحكم الشرعي في دار الحرب مع غيرها،مثلاً لو ارتكب المسلم فعلاً يستتبع الحد فلا يقام عليه في دار الحرب،بخلاف ما لو كان في دار الإسلام.

قال أمير المؤمنين عليه السلام:«لا يقام على أحد حدّ بدار العدو». (2)

ص:64


1- 1) .أُصول الفقه:1116/2.
2- 2) .الوسائل:18،الباب 10 من أبواب مقدمات الحدود،الحديث 1. [1]لاحظ الخلاف:522/5 قال ابن قدامة في المغني:538/10.قال أبو حنيفة:لا حدّ و لا قصاص في دار الحرب و لا إذا رجع.

ب:من زنى في شهر رمضان نهاراً كان أو ليلاً عوقب على الحد لانتهاكه الحرمة،و كذا لو كان في مكان شريف أو زمان شريف. (1)

ج:اختلاف المجاهدين و المنفقين قبل الفتح و بعده،يقول سبحانه: «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» 2.

د:نسخ الحكم في الزمان الثاني،كما في قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً» 3 فقد نسخ بقوله سبحانه: «أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ...» 4.

ه:تغير الأحكام بطروء العناوين الثانوية كالضرر و الحرج و تقديم الأهم على المهم،و النذر و العهد و اليمين و ما أشبه ذلك.

و حصيلة الكلام أنّ محور البحث هو انّ الظروف المختلفة هي العامل الوحيد لتغير الأحكام بعد التشريع الأوّل،و هذه هي التي تبعث الفقيه على الإمعان في بقاء التشريع الأوّل أو زواله،و أمّا إذا قام الشارع بنفسه ببيان اختلاف الحكمين في الظرفين فهو خارج عن محط البحث و إن كان ربما يقرّب فكرة التأثير،و يستأنس بها المجتهد.أو كان التغيير لأجل طروء عناوين ثانوية كالاضطرار و الحرج فهو خارج عن محط البحث و بذلك يعلم انّ استناد بعض من نقلنا نصوصهم من أعلام السنّة إلى تلك العناوين،خروج عن مصب البحث.

ص:65


1- 1) .الشرائع:941/4،كتاب الحدود،المسألة العاشرة. [1]
الرابع:إذا قلنا بتأثير الزمان و المكان على الاستنباط،فالحكم المستنبط عندئذٍ حكم واقعي

و ليس حكماً ظاهرياً كما هو معلوم،لعدم أخذ عنوان الشكّ في موضوعه و لا حكماً واقعيّاً ثانوياً الذي يعتمد على عنواني الضرر و الحرج أو غير ذلك من العناوين الثانوية،فالمجتهد يبذل جهده في فهم الكتاب و السنّة لاستنباط الحكم الشرعي الواقعي في هذه الظروف،و يكون حكمه كسائر الأحكام التي يستنبطها المجتهد في غير هذا المقام،فالحكم بجواز بيع الدم أو المني أو سائر الأعيان النجسة التي ينتفع بها في هذه الأيام ليس حكماً ظاهرياً و لا مستخرجاً من باب الضرر و الحرج،و إنّما هو حكم واقعي كسابقه (أي التحريم) غير انّ الحكم السابق كان مبنياً على عدم الانتفاع بالأعيان النجسة انتفاعاً معتداً به،و هذا الحكم مبني على تبدل الموضوع.

و إن شئت قلت بتبدل مصداق الموضوع إلى مصداق موضوع آخر،تكون الحرمة و الجواز كلاهما حكمين شرعيين واقعيين.

ص:66

الفصل الثالث تطبيقات عملية

اشارة

إذا وقفت على الروايات الواردة حول تأثير الزمان و المكان،و على كلمات المحقّقين من الفريقين في ذلك المضمار فآن الأوان للبحث عن التطبيقات و الفروع المستنبطة على ضوء ذلك الأصل،و بما انّ تأثير الزمان و المكان على الاستنباط ليس تأثيراً عشوائياً بل هو خاضع لمنهاج خاص يسير على ضوئه،فلذلك نذكر الأمثلة تحت ضوابط معينة لئلا تقع ذريعة إلى إنكار ثبات الأحكام و دوامها:

الأوّل:تأثيرهما في تطبيق الموضوعات على مواردها

لا شكّ انّ هناك أُموراً وقعت موضوعاً لأحكام شرعية نظير:

1.الاستطاعة:قال سبحانه: «وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» 1.

2.الفقر:قال سبحانه: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ ... وَ ابْنِ السَّبِيلِ» 2.

3.الغنى:قال سبحانه: «وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ

ص:67

بِالْمَعْرُوفِ» 1.

4.بذل النفقة للزوجة:قال سبحانه: «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ» 2.

5.إمساك الزوجة بالمعروف:قال سبحانه: «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» 3.

و من الواضح انّ مصاديق هذه الموضوعات تتغير حسب تغير أساليب الحياة،فالإنسان المستطيع بالأمس للحجّ،لا يعد مستطيعاً اليوم، لكثرة حاجات الإنسان في الزمان الثاني دون الأوّل،و بذلك يتضح حال الفقر و الغنى،فربّ غني بالأمس فقير اليوم.

- كما أنّ نفقة الزوجة في السابق كانت منحصرة في الملبس و المأكل و المسكن،و أمّا اليوم فقد ازدادت حاجاتها على نحو لو لم يقم الرجل ببعض تلك الحاجات يعد عمله بخساً لحقها،و امتناعاً من بذل نفقتها.

- إنّ المثلي و القيمي و المكيل و الموزون موضوعات للأحكام الشرعية،مثلاً:لا تجوز معاوضة المتماثلين إذا كان مكيلاً أو موزوناً إلاّ بمثله قدراً و وزناً،دون المعدود و الموزون،فيجوز تبديلهما بأكثر منهما فالمثلي يضمن بالمثلي،و القيمي بالقيمي،و قد عُرِّف المثلي بكثرة المماثل،و القيمي بقلّته،و لذلك عُدت الثياب و الأواني من القيميات،لكن صارا اليوم بفضل الصناعة الحديثة،مثليين.

ثمّ إنّ المتبع في كون شيء مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً هو عرف البلد الذي يتعامل فيه و هو يختلف حسب اختلاف الزمان و المكان.

ص:68

و بذلك اتضح انّ عنصري الزمان و المكان يؤثران في صدق المفاهيم في زمان دون زمان.

الثاني:تأثيرهما في تغير الحكم بتغيّر مناطه

لا شكّ انّ الأحكام الشرعية تابعة للملاكات و المصالح و المفاسد،فربما يكون مناط الحكم مجهولاً و مبهماً،و أُخرى يكون معلوماً بتصريح من قبل الشارع،و القسم الأوّل خارج عن محلّ البحث،و أمّا القسم الثاني فالحكم دائر مدار مناطه و ملاكه.

فلو كان المناط باقياً فالحكم ثابت،و أمّا إذا تغيّر المناط حسب تغير الظروف فيتغير الحكم قطعاً،مثلاً:

1.لا خلاف في حرمة بيع الدم بملاك عدم وجود منفعة محلّلة فيه،و لم يزل حكم الدم كذلك حتى اكتشف العلم له منفعة محلّلة تقوم عليها رحى الحياة،و أصبح التبرع بالدم إلى المرضى كإهداء الحياة لهم،و بذلك حاز الدم على ملاك آخر فحلّ بيعه و شراؤه. (1)

قال السيد الإمام الخميني:الأقوى جواز الانتفاع بالدم في غير الأكل و جواز بيعه لذلك،و على ذلك تعارف من بيع الدم من المرضى و غيرهم لا مانع منه فضلاً عمّا إذا صالح عليه أو نقل حق الاختصاص و يجوز نقل الدم من بدن إنسان إلى آخر،و أخذ ثمنه بعد تعيين وزنه بالآلات الحديثة،و مع الجهل لا مانع من الصلح عليه،و الأحوط أخذ المبلغ للتمكين على أخذ دمه مطلقاً،لا مقابل الدم و لا يترك الاحتياط ما أمكن.

ص:69


1- 1) .المكاسب المحرّمة:57/1.

2.انّ قطع أعضاء الميت أمر محرّم في الإسلام،قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«إيّاكم و المثلة و لو بالكلب العقور» (1)و من الواضح انّ ملاك التحريم هو قطع الأعضاء لغاية الانتقام و التشفّي،و لم يكن يومذاك أي فائدة تترتّب على قطع أعضاء الميت سوى تلبية للرغبة النفسية-الانتقام - و لكن اليوم ظهرت فوائد جمّة من وراء قطع أعضاء الميت،حيث صارت عملية زرع الأعضاء أمراً ضرورياً يستفاد منها لنجاة حياة المشرفين على الموت.و يمكن أن يكون من هذه المقولة المثال التالي:

3.لا شكّ انّ التوالد و التناسل أمر مرغوب في الشرع.روى محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:

«تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأُمم غداً يوم القيامة». (2)

و روى جابر عن أبي جعفر عليه السلام،قال:«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:ما يمنع المؤمن أن ينفذ أهلاً لعل اللّه يرزقه نسمة تثقل الأرض بلا إله إلاّ اللّه». (3)

حتى أنّه سبحانه يمن على عباده بكثرة المال و البنين،و يقول: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ» 4.

إلى غير ذلك من الآيات و الروايات الحاثّة على تكثير النسل،لكن ربما تعتري البلاد أزمة اقتصادية و ثقافية خانقة لا تتمكن من توفير الخدمات اللازمة لمواطنيها نتيجة كثافة سُكّانها،فعند ذلك ينقلب ملاك الحكم الاستحبابي إلى غيره،لأنّ هدف الشارع من تكثير النسل هو توفير العزّة و المنعة،فإذا تعسّر فحينها يكون تحديد النسل هو الحل المطلوب.

ص:70


1- 1) .لاحظ نهج البلاغة: [1]قسم الرسائل،برقم 47.
2- 2) .الوسائل:14،الباب الأوّل من أبواب مقدمات النكاح،الحديث 2 و 3. [2]
3- 3) .الوسائل:14،الباب الأوّل من أبواب مقدمات النكاح،الحديث 2 و 3. [3]

و هناك أمثلة أُخرى لم نستعرضها لعدم ثبوت تغيير الملاك عندنا،كصناعة التماثيل فربما يتصور انّ الملاك في التحريم هو كون صناعة التماثيل ذريعة لعبادة أصحابها،و أمّا اليوم فقد انتفى ذلك الملاك و عادت من الفنون الجميلة.

هذا بالنظر إلى البلاد الإسلامية،و أمّا بالنظر إلى دول جنوب آسيا فالتجسيم هناك رمز العبادة و الشرك و ذريعة إليه فهل يكفي في الحلية خلو العمل من الملاك في بلد خاص،أو يجب أن يكون كذلك في كافة البلدان أو أغلبها،و الثاني هو المتعيّن.

الثالث:تأثيرهما في كشف مصاديق جديدة للموضوع

إنّ الزمان و المكان كما يؤثران في تغيّر الملاك و تبدّله،كذلك يؤثران في إسراء الحكم إلى موضوع لم يكن موجوداً في عصر التشريع و ذلك بفضل الملاك المعلوم،و لنذكر هنا أمثلة:

1.انّ السبق و الرماية من التمارين العسكرية التي يكتسب بها المهارة اللازمة للدفاع عن النفس و للقتال و الظاهر من بعض الروايات حصرها في أُمور ثلاثة.

روى حفص بن غياث،عن الإمام الصادق عليه السلام قال:«لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو نصل-يعني:النضال». (1)

و روى عبد اللّه بن سنان عنه عليه السلام قال:سمعته يقول:«لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو نصل -يعني النضال». (2)

و روى الإمام الصادق عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه كان يقول:«إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخف و الحافر و الريش و ما سوى ذلك فهو قمار حرام». (3)

ص:71


1- 1) .الوسائل:13،الباب 3 من أبواب السبق و الرماية،الحديث 1،2،3،5. [1]
2- 2) .الوسائل:13،الباب 3 من أبواب السبق و الرماية،الحديث 1،2،3،5. [2]
3- 3) .الوسائل:13،الباب 3 من أبواب السبق و الرماية،الحديث 1،2،3،5. [3]

و من المعلوم انّ المناط للسبق بهذه الأُمور هو تقوية البنية الدفاعية،فتحصيل هذا الملاك في هذه الأعصار لا يقتصر على السبق بهذه الأُمور الثلاثة،بل يتطلب لنفسه وسائل أُخرى أكثر تطوراً.

قال الشهيد الثاني في«المسالك»:لا خلاف بين المسلمين في شرعية هذا العقد،بل أمر به النبي صلى الله عليه و آله و سلم في عدّة مواطن لما فيه من الفائدة المذكورة هي من أهمّ الفوائد الدينية لما يحصل بها من غلبة العدو في الجهاد لأعداء اللّه تعالى،الذي هو أعظم أركان الإسلام و لهذه الفائدة يخرج عن اللهو و اللعب المنهي عن المعاملة عليهما. (1)

فإذا كانت الغاية من تشريعها الاستعداد للقتال و التدرب للجهاد،فلا يفرق عندئذٍ بين الدارج في زمن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و غيره أخذاً بالملاك المتيقن.

و على ذلك فالحصر ناظر إلى السبق فيما يعد لهواً كاللعب بالحمام كما في رواية عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:«كلّ لهو...باطل إلاّ في ثلاث:في تأديبه الفرس،و رميه عن قوسه،و ملاعبته امرأته فانّهن حقّ». (2)

2.الدفاع عن بيضة الإسلام قانون ثابت لا يتغير،و إليه يرشد قوله سبحانه: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ» 3 ،فكان الدفاع في الصور السابقة بالسهم و النصل و السيف و ما أشبه ذلك.

و أمّا اليوم و في ظل التقدم العلمي الهائل،فقد أصبحت المعدات الحربية تدور حول الدبابات و المدرعات و الحافلات و الطائرات المقاتلة و البوارج البحريّة.

ص:72


1- 1) .المسالك:69/2. [1]
2- 2) .الوسائل: [2]13،الباب 1 من أحكام السبق و الرماية،الحديث 5.

3.أمر الإسلام بنشر الثقافة و التعليم و التربية و كانت الوسائل المستخدمة في هذا الصدد يوم ذاك لا تتعدى أُموراً بسيطة كالمداد و الدواة، و لكن اليوم في ظل التقدم العلمي فقد أصبحت وسائل التعليم متطورة للغاية حتى شملت الكامبيوتر و التلفزة و الاذاعة و شبكة المعلومات «الانترنت».

4.لقد ذهب المشهور إلى تخصيص الاحتكار بأجناس معدودة.

روى السكوني،عن الإمام الصادق عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:«الحكرة في ستة أشياء:في الحنطة و الشعير و التمر و الزيت و السمن و الزبيب». (1)

و روى غياث،عن الإمام الصادق عليه السلام،قال:«ليس الحكرة إلاّ في الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و السمن». (2)

و قد ذهب الشيخ الطوسي في النهاية بعد عدها إلى أنّه لا يكون الاحتكار في سوى هذه الأجناس و تبعه لفيف من الفقهاء. (3)

و ثمة احتمال آخر و هو انّ الأجناس الضرورية يومذاك كانت منحصرة بما ورد في الروايات على نحو ينجم عن احتكارها أزمة في المجتمع الإسلامي،دون سائر الأجناس،و أمّا اليوم فلا شكّ انّه اتسعت الحاجات و تغيرت فعاد ما لم يكن ضرورياً في الماضي أمراً ضرورياً في عصرنا هذا،فلو أوجد الحكرة في غير هذه الأجناس نفس الأزمة،يكون الجميع على حد سواء،خصوصاً و انّ الحلبي روى عن الإمام الصادق عليه السلام انّه قال:سألته عن الرجل يحتكر الطعام و يتربص به،هل يصلح ذلك،ثمّ قال:«إن كان الطعام كثيراً يسع الناس فلا بأس به و إن كان الطعام قليلاً لا يسع الناس فانّه يكره أن يحتكر الطعام و يترك الناس ليس لهم

ص:73


1- 1) .الوسائل:12،الباب 27 من أبواب آداب التجارة،الحديث 10 و 4. [1]
2- 2) .الوسائل:12،الباب 27 من أبواب آداب التجارة،الحديث 10 و 4. [2]
3- 3) .الحدائق الناضرة:62/18.

طعام». (1)

فإذا كان الميزان هو توفير السعة على الناس و عدمه فلا فرق بين الطعام و غيره فلا يبعد أن تعم حرمة الحكرة إلى غيره.

إنّ من المعلوم انّ الأحكام الشرعية تابعة للملاكات فانّها شرعت على أساس المصالح و المفاسد،و هذا يقتضي استيعاب الحكرة لغير ما نصّ عليه،و قد عرفت أنّ الروايات الحاصرة ناظرة إلى عمدة ما يحتاج إليه الناس في العصور الماضية.

و هذا هو خيرة صاحب الجواهر فانّه قال:بل هو كذلك في كلّ حبس لكلّ ما تحتاجه النفوس المحترمة و يضطرون إليه و لا مندوحة لهم عنه من مأكول أو مشروب أو ملبوس أو غيرها،من غير تقييد بزمان دون زمان،و لا أعيان دون أعيان،و لا انتقال بعقد،و لا تحديد بحدّ،بعد فرض حصول الاضطرار...بل لا يبعد حرمة قصد الاضطرار بحصول الغلاء و لو مع عدم حاجة الناس و وفور الأشياء،بل قد يقال بالتحريم بمجرد قصد الغلاء و حبه و إن لم يقصد الإضرار،و يمكن تنزيل القول بالتحريم على بعض ذلك. (2)

و قال أيضاً:لو اعتاد الناس طعاماً في أيّام القحط مبتدعاً جرى فيه الحكم لو بني فيه على العلة و في الأخبار ما ينادي بأنّ المدار على الاحتياج و هو مؤيد للتنزيل على المثال،و إن كان فيه ما لا يخفى. (3)

و إلى ذلك ذهب فقيه عصره السيد الاصفهاني،قال:الاحتكار و هو حبس

ص:74


1- 1) .وسائل الشيعة:12،الباب 27 من أبواب آداب التجارة،الحديث 2. [1]
2- 2) .جواهر الكلام:481/22. [2]
3- 3) .جواهر الكلام:483/22. [3]

الطعام و جمعه يتربص به الغلاء حرام مع ضرورة المسلمين و حاجتهم و عدم وجود من يبذلهم قدر كفاية...و إنّما يتحقّق الاحتكار بحبس الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الدهن،و كذا الزيت و الملح على الأحوط لو لم يكن الأقوى،بل لا يبعد تحققه في كلّ ما يحتاج إليه عامة أهالي البلد من الأطعمة كالارز و الذرّة بالنسبة إلى بعض البلاد. (1)

و قال المحقّق الحائري:إذا فرض الاحتياج إلى غير الطعام من الأُمور الضرورية للمسلمين كالدواء و الوقود في الشتاء بحيث استلزم من احتكارها الحرج و الضرر على المسلمين فمقتضى أدلة الحرج و الضرر حرمته و إن لم يصدق عليه لغة الاحتكار.

و يمكن التمسّك بالتذييل الذي هو في مقام التعليل بحسب الظاهر المتقدم في معتبر الحلبي،بناء على أنّه إذا كان الظاهر أنّ التعليل بأمر ارتكازي فيحكم بإلغاء قيد الطعام،لأنّه ليس بحسب الارتكاز إلاّ من جهة توقّف حفظ النفس عليه،فإذا وجد الملاك المذكور في الدواء مثلاً فلا ريب انّه بحكمه عرفاً،و هذا يوجب إلغاء الخصوصية المأخوذة في التعليل. (2)

أقول:إنّ صاحب الجواهر و المحقّق الحائري حكما بتحريم الاحتكار لأجل الاضطرار،فصارت الحرمة حكماً ثانوياً.

و لكن الحقّ انّ الحرمة حكم أوّلي لما عرفت من أنّ الملاك هو كون الناس في السعة و الضيق فيجوز الأوّل،و يحرم في الثاني،و لا أظن انّ الضيق الناجم عن احتكار الدواء للمرضى و الجرحى أقل وطأة من حكر الملح و السمن و الزيت. (3)

ص:75


1- 1) .وسيلة النجاة:8/2. [1]
2- 2) .ابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة:197/1.
3- 3) .و راجع في حكم الاحتكار،مفتاح الكرامة:107/4؛ [2]مصباح الفقاهة:498/5. [3]
الرابع:تأثيرهما في تغير أساليب تنفيذ الحكم

1.تضافرت النصوص على حلّية الأنفال للناس،و من الأنفال:الآجام و الأراضي الموات،و قد كان انتفاع الناس بها في الأزمنة الماضية لا يورث مشكلة في المجتمع،و ذلك لبساطة الأدوات التي تستخدم في الاستفادة المحدودة من الأنفال.فلم يكن هناك أيّ ملزم للحد من انتفاع الناس من الأنفال،و أمّا اليوم فقد تطورت أساليبُ الانتفاع من الأنفال و ازداد جشع الإنسان حيالها،فدعت الضرورة إلى وقف الاستغلال الجشع لهذه الأنفال من خلال وضع قوانين كفيلة بتحديد هذا الانتفاع صيانة للبيئة.

2.اتّفق الفقهاء على أنّ الغنائم الحربية تقسم بين المقاتلين على نسق خاص بعد إخراج خمسها لأصحابها،لكن الغنائم الحربية في عصر صدور الروايات كانت تدور حول السيف و الرمح و السهم و الفرس و غير ذلك،و من المعلوم انّ تقسيمها بين المقاتلين كان أمراً ميسراً آنذاك، و أمّا اليوم و في ظل التقدم العلمي الهائل فقد أصبحت الغنائم الحربية تدور حول الدبابات و المدرّعات و الحافلات و الطائرات المقاتلة و البوارج البحريّة،و من الواضح عدم إمكان تقسيمها بين المقاتلين بل هو أمر متعسّر،فعلى الفقيه أن يتخذ أُسلوباً في كيفية تطبيق الحكم على صعيد العمل ليجمع فيها بين العمل بأصل الحكم و الابتعاد عن المضاعفات الناجمة عنها.

3.انّ الناظر في فتاوى الفقهاء السابقين فيما يرجع إلى الحج من الطواف حول البيت و السعي بين الصفا و المروة و رمي الجمار و الذبح في منى يحس حرجاً شديداً في تطبيق عمل الحج على هذه الفتاوى،و لكن تزايد وفود حجاج بيت اللّه عبر الزمان يوماً بعد يوم أعطى للفقهاء رئي وسيعة في تنفيذ تلك الأحكام على

ص:76

موضوعاتها،فأفتوا بجواز التوسع في الموضوع لا من باب الضرورة و الحرج،بل لانفتاح آفاق جديدة أمامهم في الاستنباط.

كانت الفتاوى في الأعصار السابقة على تحديد المطاف ب26 ذراعاً و من المعلوم انّ هذا التحديد كان يرجع فيما إذا كان عدد الحجاج لا يزيد على 100ألف حاج،و أمّا اليوم فعدد الطائفين تجاوز عن هذا الحد بكثير حتى بلغ عددهم في هذه الأعصار إلى مليوني حاج بل أزيد،فإذا خوطب هؤلاء بالطواف على البيت فهل يفهم منه انّه يجب عليهم الطواف بين الحدين؟ إذ معنى ذلك أن يحرم الكثير من هذه الفريضة،أو يفهم إيجاد التناوب بين الطائفين حتى لا يطوف حاج طوافاً ندبياً إلى أن يفرغ الحجاج عن الفريضة،أو يفهم منه ما فهمه الآخرون من أنّهم يطوفون بالبيت بالأقرب فالأقرب؟و إلى تينك الحالتين تشير الروايتان التاليتان (1):

1.فقد روى محمد بن مسلم مضمراً،قال:سألته عن حدّ الطواف بالبيت الذي من خرج عنه لم يكن طائفاً بالبيت؟ قال:«كان النّاس على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يطوفون بالبيت و المقام و أنتم اليوم تطوفون ما بين المقام و بين البيت،فكان الحدّ موضع المقام اليوم،فمن جازه فليس بطائف،و الحدّ قبل اليوم و اليوم واحد قدر ما بين المقام و بين البيت من نواحي البيت كلّها،فمن طاف فتباعد من نواحيه أبعد من مقدار ذلك كان طائفاً بغير البيت بمنزلة من طاف بالمسجد لأنّه طاف في غير حدّ و لا طواف له».

2.محمّد بن علي الحلبيّ قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الطواف خلف المقام ؟ قال:«ما أحبّ ذلك و ما أرى به بأساً،فلا تفعله إلاّ أن لا تجد منه بداً».

ص:77


1- 1) .الوسائل:الجزء 9،الباب 28 من أبواب الطواف، [1]حج 1 و 2.

و الأُولى ناظرة إلى الحالة التي يتمكن الحاج من الطواف بين الحدين بلا مشقة كثيرة،و لعلّ الإمام المروي عنه هو أبو جعفر الباقر عليه السلام، و لم يكن يوم ذاك زحام كثير؛و الثانية منهما ناظرة إلى عصر الزحام بحيث يعسر للحاج أن يراعي ذلك الحدّ.

3.أفتى القدماء بأنّ الإنسان يملك المعادن المركوزة في أرضه تبعاً لها دون أي قيد أو شرط،و كان الداعي من وراء تلك الفتوى هو بساطة الوسائل المستخدمة لذلك،و لم يكن بمقدور الإنسان الانتفاع إلاّ بمقدار ما يعد تبعاً لأرضه،و لكن مع تطور الوسائل المستخدمة للاستخراج، استطاع أن يتسلط على أوسع مما يعدّ تبعاً لأرضه،فعلى ضوئه لا مجال للإفتاء بأنّ صاحب الأرض يملك المعدن المركوز تبعاً لأرضه بلا قيد أو شرط،بل يحدد بما يعد تبعاً لها عرفاً،و أمّا الخارج عنها فهو إمّا من الأنفال أو من المباحات التي يتوقف تملّكها على إجازة الإمام.

نعم لا ينبغي التأمل في قيام السيرة العقلائية بل و كذا الشرعية-و إن انتهت إليها-على دخولها في ملك صاحب الأرض بتبع ملكه للأرض فتلحق الطبقة السافلة بالعالية و الباطنة بمحتوياتها بالظاهرة أخذاً بقانون التبعية و إن لم يتم هذا الإلحاق من ناحية الإحياء حسبما عرفت و من ثمّ لو باع ملكه فاستخرج المشتري منه معدناً ملكه و ليس للبائع مطالبته بذلك،لأنّه باعه الأرض بتوابعها.

و لكن السيرة لا إطلاق لها و المتيقن من موردها ما يعد عرفاً من توابع الأرض و ملحقاتها كالسرداب و البئر و ما يكون عمقه بهذه المقادير التي لا تتجاوز عن حدود الصدق العرفي فما يوجد أو يتكون و يستخرج من خلال ذلك فهو ملك لصاحب الأرض بالتبعية كما ذكر.

و أمّا الخارج عن نطاق هذا الصدق غير المعدود من التوابع كآبار النفط

ص:78

العميقة جداً و ربما تبلغ الفرسخ أو الفرسخين،أو الآبار العميقة المستحدثة أخيراً لاستخراج المياه من عروق الأرض البالغة في العمق و البعد نحو ما ذكر أو أكثر،فلا سيرة في مثله و لا تبعية،و معه لا دليل على إلحاق نفس الأرض السافلة بالعالية في الملكية فضلاً عن محتوياتها من المعادن و نحوها.

نعم في خصوص المسجد الحرام ورد أنّ الكعبة من تخوم الأرض إلى عنان السماء.و لكن الرواية ضعيفة السند.و من ثمّ ذكرنا في محله لزوم استقبال عين الكعبة لجميع الأقطار لا ما يسامتها من شيء من الجانبين.

5.انّ روح القضاء الإسلامي هو حماية الحقوق و صيانتها،و كان الأُسلوب المتبع في العصور السابقة هو أُسلوب القاضي الفرد،و قضاؤه على درجة واحدة قطعية،و كان هذا النوع من القضاء مؤمّناً لهدف القضاء،و لكن اليوم لما دبّ الفساد في المحاكم،و قلّ الورع اقتضى الزمان أن يتبدل أُسلوب القضاء إلى أُسلوب محكمة القضاة الجمع،و تعدّد درجات المحاكم حسب المصلحة الزمانية التي أصبحت تقتضي زيادة الاحتياط.

الخامس:تأثيرهما في بلورة موضوعات جديدة

إنّ التطور الصناعي و العلمي أسفر عن موضوعات جديدة لم يكن لها وجود من ذي قبل،فعلى الفقيه دراسة هذه الموضوعات بدقة و إمعان و لو بالاستعانة بأهل الخبرة و التخصص في ذلك المجال،و ها نحن نشير إلى بعض العناوين المستجدة.

1.التأمين بكافة أقسامه،فهناك من يريد دراسة هذا الموضوع تحت أحد العناوين المعروفة في الفقه كالصلح و الضمان و غيره،مع أنّه عقد مستقل بين

ص:79

العقلاء،فعلى الفقيه دراسة ذلك العنوان كالموجود بين العقلاء.

2.لقد ظهرت حقوق عقلائية مستجدّة لم تكن مطروحة بين العقلاء،كحقّ التأليف،و حقّ براءة الاختراع،و حق الطبع،و حق الانتشار، و غيرها من الآثار الخلاّقة،و هذا ما يعبر عنه بالمالكية الفكرية و قد أقرّ بها الغرب و اعترف بها رسمياً،و يعدّ المتجاوز على هذه الحقوق متعدياً.

3.المسائل المستجدّة في عالم الطب كثيرة من التلقيح الصناعي،و زرع الأعضاء و بيعها،و الاستنساخ البشري،و التشريح،و تغيير الجنسية إلى غير ذلك من المسائل.

4.الشركات التجارية هي من المستجدات و التي تقوم بدور أساسي في الحياة الاقتصادية،و هي بين شركات الأشخاص و شركات الأموال.

أمّا الأُولى فهي عبارة عن شركة التضامن،و شركة التوصية،و شركة الخاصة.

و أمّا الثانية فأهم أقسامها هي شركة المساهمة،فعلى الفقيه استنباط حكم هذه الشركات على ضوء النصوص و القواعد.

***

إلى هنا تبين انّ تغيير الأحكام من خلال تبدّل الظروف خاضع لأُصول صحيحة لا تتنافى مع سائر الأُصول و ليس التغيير في ضوئها مصادماً لحصر التشريع أو لتأييد الأحكام أو سائر الأُصول.

السادس:تأثيرهما في تفسير القرآن الكريم

لا ينحصر تأثير الزمان و المكان على الاستنباط بل تعدّاه إلى حقل التفسير أيضاً،فإنّ للقرآن الكريم آفاقاً لا متناهية،يظهر واحد تلو الآخر،و هو كما قال

ص:80

الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام عند ما سأله سائل بقوله:ما بال القرآن لا يزداد عند النشر و الدرس إلاّ غضاضة؟

فأجاب عليه السلام:«إنّ اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان،و لا لناس دون ناس،فهو في كلّ زمان جديد و عند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة. (1)

نرى أنّ الإمام الرضا عليه السلام لا يشير في هذا الحديث إلى موضوع خلود القرآن فقط،بل يشير أيضاً إلى سرّ خلوده و بقائه غضاً جديداً لا يتطرق إليه البلى و الذبول.

فكأنّ القرآن هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الواسع الأطراف الذي لا يزيد البحث فيه و الكشف عن حقائقه و أسراره،إلاّ إذعان الإنسان بأنّه في الخطوات الأُولى من التوصل إلى مكامنه الخفية في أغواره،فانّ كتاب اللّه تعالى كذلك لا يتوصل إلى كلّ ما فيه من الحقائق و الأسرار، لأنّه منزل من عند اللّه الذي لا تتصور له نهاية،و لا يمكن تحديده بحدود و أبعاد،فيجب أن تكون في كتابه لمعة من لمعاته،و يُثبت بنفسه أنّه من عنده،و يتوفر فيه ما يدلّ على أنّه كتاب سماوي ليس من صنع البشر،و هو خالد إلى ما شاء اللّه تعالى.

إنّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم هو أوّل من لفت الأنظار إلى تلكم المزية و انّ هذه المزية من أهم خصائصه،حيث يقول في وصفه للقرآن:«له ظهر و بطن،و ظاهره حكم و باطنه علم،ظاهره أنيق و باطنه عميق،له تخوم و على تخومه تخوم،لا تحصى عجائبه و لا تبلى غرائبه،فيه مصابيح الهدى و منار الحكمة». (2)

فلنستعرض مثالاً نبين فيه دور الزمان في كشف اللثام عن مفهوم الآية.

إنّه سبحانه يصف عامة الموجودات بالزوجية من دون فرق بين ذي حياة

ص:81


1- 1) .البرهان في تفسير القرآن:28/1. [1]
2- 2) .الكافي:599/2،كتاب القرآن. [2]

و غيره،يقول: «وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» 1.

و قد شغلت الآية بال المفسرين و فسّروه بما وصلت إليه علومهم،قال الراغب في تفسير الآية:«و في الآية تنبيه على أنّ الأشياء كلّها مركبة من جوهر و عرض،و مادة و صورة،و ان لا شيء يتعرّى من تركيب يقتضي كونه مصنوعاً و أنّه لا بدّ له من صانع،تنبيهاً على أنّه تعالى هو الفرد،فبيّن أنّ كلّ ما في العالم زوج،حيث إنّ له ضداً أو مثلاً ما،أو تركيباً ما،بل لا ينفك بوجه من تركيب و إنّما ذكرها هنا زوجين،تنبيهاً على أنّ الشيء و إن لم يكن له ضد و لا مثل،فانّه لا ينفك من تركيب جوهر و عرض،و ذلك زوجان. (1)

غير انّ الزمان فسّر حقيقة هذه الزوجية العامة،بتركيب الذرّة (أتُم) من جزءين معروفين.

و قد عبّر القرآن عن هذين الجزءين الحاملين للشحنتين المختلفتين،بالزوجية،حتى لا يقع موقع التكذيب و الردّ،إلى أن يكشف الزمان مغزى الآية و مفادها.

و بذلك يعلم سرّ ما روي عن ابن عباس انّه قال:إنّ القرآن يفسره الزمان. (2)

فكما أنّ الزمان يفسر الحقائق الكونية الواردة في القرآن الكريم فكذلك يفسر إتقان تشريعه في مجال الفرد و المجتمع،كما هو أيضاً يفسر أخباره الغيبية الواردة فيه،و على ذلك فللزمان دور في الإفصاح عن معاني الآيات كدوره في استنباط الأحكام.

ص:82


1- 2) .مفردات الراغب،مادة زوج،ص 216.
2- 3) .راجع النبات في حقل الحياة،تأليف نقي الموصلي،الشيخ العبيدين.
السابع:تأثيرهما في تفسير السنّة

ربما يرى الباحث اختلافاً في السنة المروية عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته الطاهرين،فيعود إلى رفع الاختلاف بوجوه مختلفة مذكورة في الكتب الأُصولية،و لكن ثمة حل لطائفة من هذه السنن المتخالفة،و هو انّ لكلّ من الحكمين ظرفاً زمانياً خاصاً يستدعي الحكم على وفاقه فلو حارب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قريشاً في بدر و أحد فلمصلحة ملزمة في ذلك الزمان،و لو أظهر المرونة و تصالح معهم في الحديبية فلمصلحة ملزمة في ذلك و لم يصغ إلى مقالة من قال:«أ نعطي الدنيّة في ديننا»و تصور انّ في الصلح تنازلاً عن الرسالة الإلهية و الأهداف السامية و غفل عن آثاره البنّاءة التي كشف عنها سير الزمان كما هو مذكور في تاريخ النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

التفسير الخاطئ لتأثير الزمان و المكان

لا شكّ انّ الأحكام الشرعية تابعة لمصالح و مفاسد في متعلقاتها فلا واجب إلاّ لمصلحة في فعله،و لا حرام إلاّ لمفسدة في اقترافه،انّ للتشريع الإسلامي نظاماً لا تعتريه الفوضى،و هذا الأصل و إن خالف فيه بعض المتكلّمين،غير أنّ نظرهم محجوج بكتاب اللّه و سنّة نبيّه و نصوص خلفائه عليهم السلام.

ترى أنّه سبحانه يعلل حرمة الخمر و الميسر بقوله:

«إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» 1.

و يستدل على وجوب الصلاة بقوله سبحانه: «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» 2 إلى غير ذلك من الفرائض و المناهي التي أُشير إلى

ص:83

ملاكات تشريعهما في الذكر الحكيم.

و قد قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا عليهما السلام:«إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يبح أكلاً و لا شرباً إلاّ لما فيه المنفعة و الصلاح،و لم يحرّم إلاّ ما فيه الضرر و التلف و الفساد». (1)

و الآيات القرآنية تشهد بوضوح على ما قاله ذلك الإمام الطاهر حيث إنّها تعلّل تشريع الجهاد بقوله: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» 2 كما تعلّل القصاص بقوله: «وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» 3.

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على ذلك بوضوح،و مع أنّ المعروف من الإمام الأشعري هو عدم تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد بزعم انّ في القول بذلك تضييقاً للإرادة الإلهية،و لكن المحقّقين من أهل السنة على خلاف ذلك منهم الشاطبي في موافقاته قال:

و قد ثبت انّ الشريعة موضوعة لتحقيق مصالح الناس عاجلاً أم آجلاً،إمّا بجلب النفع لهم،أو لدفع الضرر و الفساد عنهم،كما دلّ عليه الاستقراء و تتبع مراد الأحكام. (2)

و على ضوء ذلك فالمصالح المستكشفة عبر الزمان إذا كانت مصالح عامة أو مفاسد كذلك و لم يرد في موردها أمر و لا نهي،فللفقيه أن يستكشف من المصلحة الملزمة أو المفسدة كون الشيء واجباً أم حراماً و ذلك،كتعاطي المخدرات في مورد المفاسد،و تزريق الأمصال فيما إذا انتشر الداء في المجتمع الذي لا ينقذه إلاّ التزريق،ففي هذه الموارد التي ليس للإسلام حكم إلزامي يمكن أن يستكشف الوجوب أو الحرمة ببركة إدراك العقل للمصلحة النوعية أو

ص:84


1- 1) .مستدرك الوسائل:71/3. [1]
2- 4) .الموافقات:6/2.

المفسدة كذلك.

إنّ استكشاف العقل المصالح و المفاسد إنّما يقع ذريعة للتشريع إذا كان المورد من قبيل«منطقة الفراغ»أي لم يكن للشارع هناك حكم بالإلزام بالفعل أو الترك،و أمّا إذا كان هناك حكم شرعي قطعي فلا يصح للمستنبط تغيير الحكم بالمصالح و المفاسد المزعومة،فانّه يكون من قبيل تقديم المصلحة على النص،و هو أمر غير جائز،و قد عرفت في صدر البحث انّ تأثير الزمان و المكان إنّما هو في الأحكام الاجتهادية دون الأحكام المنصوصة.

و الحاصل انّه إذا كان هناك نص من الشارع و لم يكن الموضوع من قبيل (منطقة الفراغ) فلا معنى لتقديم المصلحة على النص،فانّه تشريع محرّم يكون ذريعة للتخلص من الالتزام بالأحكام الشرعية.

و بذلك يعلم أنّ ما صدر من بعض السلف في بعض الموارد من تقديم المصالح على النصوص قد جانب الصواب بلا شكّ كالمثال التالي:

دلّ الكتاب و السنّة على بطلان الطلاق ثلاثاً،من دون أن يتخلّل بينها رجوع أو نكاح،فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة أو كرّر الصيغة فلا يحتسب إلاّ طلاقاً واحداً.و قد جرى عليه رسول اللّه و الخليفة الأوّل و كان صلى الله عليه و آله و سلم لا يمضي من الطلقات الثلاث إلاّ واحدة منها،و كان الأمر على هذا المنوال إلى سنتين من خلافة الخليفة الثاني،و سرعان ما عدل عن ذلك،قائلاً:إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة،فلو أمضيناه عليهم،فأمضاه عليهم. (1)

إنّ من المعلوم أنّ إعمال الرأي فيما فيه نصّ من كتاب أو سنّة،أمر خاطئ،و لو صحّ إعماله فإنّما هو فيما لا نصّ فيه،و مع ذلك جاء الآخرون يبرّرونه بتغيّر

ص:85


1- 1) .مسلم:الصحيح:183/4،باب الطلاق الثلاث،الحديث 1.

الأحكام بالمصالح و المفاسد،لا سيما ابن قيم الجوزية،فقال:لمّا رأى الخليفة الثاني انّ مفسدة تتابع النصّ في إيقاع الطلاق لا تندفع إلاّ بإمضائها على الناس،و رأى مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الإيقاع،أمضى عمل الناس،و جعل الطلاق ثلاثاً،ثلاثاً. (1)

يلاحظ عليه:أنّ إبطال الشريعة أمر محرّم لا يستباح بأي عنوان،فلا يصحّ لنا تغيير الشريعة بالمعايير الاجتماعية من الصلاح و الفساد، و أمّا مفسدة تتابع النص في إيقاع الطلاق الثلاث فيجب أن تدفع عن طريق آخر،لا عن طريق إمضاء ما ليس بمشروع مشروعاً.

و العجب انّ ابن قيم التفت إلى ذلك،و قال:كان أسهل من ذلك (تصويب الطلقات ثلاثاً) أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث،و يحرّمه عليهم، و يعاقب بالضرب و التأديب من فعله لئلاّ يقع المحذور الذي يترتّب عليه،ثمّ نقل عن عمر بن الخطاب ندامته على التصويب،قال:قال الخليفة الثاني:ما ندمت على شيء مثل ندامتي على ثلاث. (2)

و هنا كلمة للشيخ محمد شلتوت شيخ الأزهر حول عدّ الاجتهاد من مصادر التشريع حيث قال:

و يشمل الاجتهاد أيضاً،النظر في تعرف حكم الحادثة عن طريق القواعد العامة و روح التشريع،التي عرفت من جزئيات الكتاب و تعرفات الرسول،و أخذتْ في نظر الشريعة مكانة النصوص القطعية التي يرجع إليها في تعرف الحكم للحوادث الجديدة.

ص:86


1- 1) .أعلام الموقعين:48/3.
2- 2) .أعلام الموقعين:36/3،و أشار إليه في كتابه الآخر إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان:336/1.

و هذا النوع هو المعروف بالاجتهاد عن طريق الرأي و تقدير المصالح.و قد رفع الإسلام بهذا الوضع جماعة المسلمين عن أن يخضعوا في أحكامهم و تصرفاتهم لغير اللّه،و منحهم حق التفكير و النظر و الترجيح و اختيار الأصلح في دائرة ما رسمه من الأُصول التشريعية،فلم يترك العقل وراء الأهواء و الرغبات،و لم يقيده في كلّ شيء بمنصوص قد لا يتفق مع ما يجدّ من شئون الحياة،كما لم يلزم أهل أي عصر باجتهاد أهل عصر سابق دفعتهم اعتبارات خاصة إلى اختيار ما اختاروا. (1)

ما ذكره حقّ ليس وراءه شيء إلاّ انّي لا أوافق قوله:«و لم يقيده في كلّ شيء بمنصوص قد لا يتفق مع ما يجدّ من شئون الحياة»فانّه هفوة من الأُستاذ،إذ أي أصل و حكم شرعي منصوص لا يتفق مع ما يجدّ من شئون الحياة.و ليس ما ذكره إلاّ من قبيل تقديم المصلحة على النص،و هو تشريع محرم،و تقدّم على اللّه و رسوله،قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ» 2.

فالواجب على كلّ مسلم التجنب عن هذا النوع من الاستصلاح،نعم للاستصلاح صور متنوعة ذكرناها في الجزء الأوّل من تقديمنا على «موسوعة طبقات الفقهاء». (2)

ص:87


1- 1) .رسالة الإسلام،السنة الرابعة،العدد الأوّل،ص 5.
2- 3) .طبقات الفقهاء،المقدمة:القسم الأوّل:265.

الفصل الرابع:دور الزمان و المكان

في الأحكام الحكومية

ثمّ إنّ ما ذكرناه يرجع إلى دور الزمان و المكان في عملية الاجتهاد و الإفتاء،و أمّا دورهما في الأحكام الحكومية التي تدور مدار المصالح و المفاسد و ليست من قبيل الأحكام الواقعية و لا الظاهرية،فلها باب واسع نأتي بكلام موجز فيه.

إنّ تقدّم العناوين الثانوية على الأوّلية يحلّ العُقَد و المشاكل في مقامين:

الأوّل:إذا كان هناك تزاحم بين الحكم الواقعيّ الأوّلي و الحكم الثانوي،فيقدّم الثاني على الأوّل،إمّا من باب الحكومة أو من باب التوفيق العرفيّ،كتقدّم لا ضرر و لا حرج على الأحكام الضررية و الحرجية،و هذا النوع من التقدّم يرجع إلى باب الإفتاء و الاستنباط.

الثاني:إذا كان هناك تزاحم بين نفس الأحكام الواقعيّة بعضها مع بعض بحيث لو لم يُتدخل في فك العُقَد،و حفظ الحقوق لحصلت مفاسد،و هنا يأتي دور الحاكم و الفقيه الجامع للشرائط،المتصدي لمنصب الولاء،بتقديم بعض الأحكام الواقعيّة على بعض بمعنى تعيين أنّ المورد من صغريات أيّ واحد من الحكمين الواقعيين،و لا يحكم الحاكم في المقام إلاّ بعد دقة و إمعان و دراسة للظروف الزمانية

ص:88

و المكانية و مشاورة العقلاء و الخبراء.

و بعبارة أُخرى:إذا وقع التزاحم بين الأحكام الأوليّة فيقدّم بعضها على بعض في ظلّ هذه العناوين الثانوية (1)،و يقوم الحاكم الإسلاميّ بهذه المهام بفضل الولاية المعطاة له،فتصير هذه العناوين مفاتيح بيد الحاكم،يرفع بها التزاحم و التنافي،فمعنى مدخليّة الزمان و المكان في حكم الحاكم عبارة عن تأثيرهما في تعيين أنّ المقام صغرى لأي كبرى من الكبريات،و أيّ حكم من الأحكام الواقعية،فيكون حكمه بتقديم إحدى الكبريين شكلاً إجرائيّاً للأحكام الواقعية و مراعاة لحفظ الأهمّ و تخطيطاً لحفظ النظام و عدم اختلاله.

و بذلك يظهر أنّ حكم الحاكم الإسلامي يتمتّع بميزتين:

الأُولى:إنّ حكمه بتقديم إحدى الكبريين،ليس حكماً مستنبطاً من الكتاب و السنّة مباشرة و إن كان أساس الولاية و أصلها مستنبطاً و مستخرجاً منهما،إلاّ أنّ الحاكم لمّا اعتلى منصّة الحكم و وقف على أنّ المقام من صغريات ذلك الحكم الواقعيّ دون الآخر للمقاييس التي عرفتها،يصير حكمه حكوميّاً و ولائياً في طول الأحكام الأوّلية و الثانوية و ليس الهدف من وراء تسويغ الحكم له إلاّ الحفاظ على الأحكام الواقعيّة برفع التزاحم،و لذلك سمّيناه حكماً إجرائيّاً،ولائيّاً حكوميّاً لا شرعيّاً،لما عرفت من أنّ حكمه علاجيّ يعالج به تزاحم الأحكام الواقعية في ظلّ العناوين الثانوية،و ما يعالج به حكم لا من سنخ المعالَج،و لو جعلناه في عرض الحكمين لزم انخرام توحيد التقنين و التشريع.

ص:89


1- 1) .العناوين الثانوية عبارة عن:1.الضرورة و الاضطرار.2.الضرر و الضرار.3.العسر و الحرج.4.الأهم فالأهم.5.التقيّة.6.الذرائع للواجبات و المحرمات.7.المصالح العامّة للمسلمين. و هذه العناوين أدوات بيد الحاكم،يحل بها مشكلة التزاحم بين الأحكام الواقعية و الأزمات الاجتماعية.

الثانية:إنّ حكم الحاكم لمّا كان نابعاً عن المصالح العامّة و صيانة القوانين الإسلامية لا يخرج حكمه عن إطار الأحكام الأوّليّة و الثانويّة، و لأجل ذلك قلنا إنّه يعالج التزاحم فيها،في ظلّ العناوين الثانويّة.

و بالجملة الفقيه الحاكم بفضل الولاية الالهية يرفع جميع المشاكل الماثلة في حياتنا،فإنّ العناوين الثانوية التي تلوناها عليك أدوات بيد الفقيه يسد بها كل فراغ حاصل في المجتمع،و هي في الوقت نفسه تغيّر الصغريات و لا تمس كرامة الكبريات.

و لأجل توضيح المقام،نأتي بأمثلة نبين فيها مدخليّة المصالح الزمانية و المكانية في حكم الحاكم وراء دخالتهما في فتوى المفتي.

الأوّل:لا شكّ أنّ تقوية الإسلام و المسلمين من الوظائف الهامّة،و تضعيف و كسر شوكتهم من المحرّمات الموبقة،هذا من جانب،و من جانب آخر أنّ بيع و شراء التنباك أمر محلّل في الشرع،و الحكمان من الأحكام الأوّلية و لم يكن أيّ تزاحم بينهما إلاّ في فترة خاصة عند ما أعطى الحاكم العرفيّ امتيازاً للشركة الأجنبية،فصار بيعه و شراؤه بيدها،و لمّا أحسّ الحاكم الشرعي آنذاك-السيد الميرزا الشيرازي قدس سره-انّ استعماله يوجب انشباب أظفار الكفّار على هيكل المجتمع الإسلامي،حكم قدس سره بأنّ استعماله بجميع أنواع الاستعمال كمحاربة وليّ العصر عليه السلام (1)فلم يكن حكمه نابعاً إلاّ من تقديم الأهمّ على المهمّ أو من نظائره،و لم يكن الهدف من الحكم إلاّ بيان أنّ المورد من صغريات حفظ مصالح الإسلام و استقلال البلاد،و لا يحصل إلاّ بترك استعمال التنباك بيعاً و شراءً و تدخيناً و غيرها،فاضطرت الشركة

ص:90


1- 1) .عام 1891 م و حكمه كالتالي:بسم اللّه الرحمن الرحيم،«اليوم استعمال التنباك و التتن،بأي نحو كان،بمثابة محاربة إمام الزمان عجل اللّه تعالى فرجه الشريف».

حينئذ إلى فسخ العقد.

الثاني:إنّ حفظ النفوس من الأُمور الواجبة،و تسلّط الناس على أموالهم و حرمة التصرّف في أموالهم أمر مسلّم في الإسلام أيضاً،إلاّ أنّه على سبيل المثال ربّما يتوقّف فتح الشوارع في داخل البلاد و خارجها على التصرّف في الأراضي و الأملاك،فلو استعدّ مالكها بطيب نفس منه فهو و إلاّ فللحاكم ملاحظة الأهمّ بتقديمه على المهمّ،و يحكم بجواز التصرّف بلا إذن،غاية الأمر يضمن لصاحب الأراضي قيمتها السوقية.

الثالث:إنّ إشاعة القسط و العدل ممّا ندب إليه الإسلام و جعله غاية لبعث الرسل،قال سبحانه: «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ» 1

و من جانب إنّ الناس مسلّطون على أموالهم يتقلّبون فيها كيفما شاءوا،فإذا كان هناك تزاحم بين الحكمين الواقعيين،كما في احتكار المحتكر أيّام الغلاء أو إجحاف أصحاب الحرف و الصنعة و غيرهم،فللحاكم الإسلامي-حسب الولاية الإلهيّة-الإمعان و الدقة و الاستشارة و المشورة في حلّ الأزمة الاجتماعية حتى يتبيّن له أنّ المقام من صغريات أيّ حكم من الحكمين،فلو لم تحلّ العقد بالوعظ و النصيحة،فآخر الدواء الكيّ،أي:فتح المخازن و بيع ما احتكر بقيمة عادلة و تسعير الأجناس و غير ذلك.

الرابع:لا شكّ أنّ الناس أحرار في تجاراتهم مع الشركات الداخلية و الخارجية،إلاّ أنّ إجراء ذلك،إن كان موجباً لخلل في النظام الاقتصاديّ أو ضعف في البنية الماليّة للمسلمين،فللحاكم تقديم أهمّ الحكمين على الآخر

ص:91

حسب ما يرى من المصالح.

الخامس:لو رأى الحاكمُ أنّ بيع العنب إلى جماعة لا يستعملونه إلاّ لصنع الخمر و توزيعه بالخفاء،أورث فساداً عند بعض أفراد المجتمع و انحلالاً في شخصيّتهم،فله أن يمنع من بيع العنب إلى هؤلاء.

إلى غير ذلك من المواضع الكثيرة التي لا يمكن للفقيه الحاكم غضّ النظر عن الظروف المحيطة به،حتى يتضح له أنّ المجال مناسب لتقديم أي الحكمين على الآخر و تشخيص الصغرى كما لا يخفى.

هذا كلّه حول مدخلية الزمان و المكان في الاجتهاد في مقام الإفتاء أوّلاً و منصة الحكم ثانياً،و أمّا سائر ما يرجع إلى ولاية الفقيه فنتركه إلى محلّه.

ص:92

الفصل الخامس:دراسة في تأثير الزمان و المكان

اشارة

في الفقه السنّي

طرحت هذه المسألة من قبل بعض فقهاء السنّة قديماً و حديثاً،و إليك التنويه بأسمائهم و ببعض كلماتهم:

1.ابن القيم الحنبلي (المتوفّى 751 ه) يقول في فصل«تغيّر الفتوى و اختلافها بحسب تغيّر الأزمنة و الأمكنة و الأحوال و النيّات و العوائد»:

هذا فصل عظيم النفع،و قد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج و المشقّة،و تكليف ما لا سبيل إليه،ما يعلم انّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به،فإنّ الشريعة مبناها و أساسها على الحِكَم و مصالح العباد في المعاش و المعاد،و هي عدل كلّها،و رحمة كلّها،و مصالح كلّها،و حكمة كلّها،فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور،و عن الرحمة إلى ضدها،و عن المصلحة إلى المفسدة،و عن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة. (1)

ص:93


1- 1) .اعلام الموقعين:14/3 ط دار الفكر و قد استغرق بحثه 56 صفحة.فلاحظ.

2.السيد محمد أمين أفندي الشهير ب«ابن عابدين» (1)مؤلّف كتاب«مجموعة رسائل»قال ما نصّه:

اعلم أنّ المسائل الفقهية إمّا أن تكون ثابتة بصريح النص،و إمّا أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد و رأي،و كثيراً منها ما يُبيّنه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أوّلاً،و لهذا قالوا في شروط الاجتهاد انّه لا بدّ فيه من معرفة عادات الناس،فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيّر عرف أهله،أو لحدوث ضرورة،أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أوّلاً،للزم منه المشقة و الضرر بالناس،و لخالف قواعدَ الشريعة المبنيّة على التخفيف و التيسير و دفع الضرر و الفساد لبقاء العالم على أتم نظام و أحسن أحكام،و لهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نصّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمِهم بأنّه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً في قواعد مذهبه.

ثمّ إنّ ابن عابدين ذكر أمثلة كثيرة لما ذكره من الكبرى تستغرق عدّة صحائف (2)و لنذكر بعض الأمثلة:

أ.افتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن و نحوه لانقطاع عطايا المعلِّمين التي كانت في الصدر الأوّل،و لو اشتغل المعلِّمون بالتعليم بلا أُجرة يلزم ضياعهم و ضياع عيالهم،و لو اشتغلوا بالاكتساب في حرفة و صناعة،يلزم ضياع القرآن و الدين،فأفتوا بأخذ الأُجرة على التعليم و كذا على الإمامة و الأذان كذلك،مع أنّ ذلك مخالف لما اتّفق عليه أبو حنيفة و أبو يوسف و محمد بن الحسن

ص:94


1- 1) .هو محمد أمين الدمشقي،فقيه الديار الشامية و إمام الحنفية في عصره،ولد عام 1198 ه و توفي عام 1292 ه،له من الآثار«مجموعة رسائل»مطبوعة.
2- 2) .انظر رسائل ابن عابدين:123/2-145.

الشيباني من عدم جواز الاستئجار و أخذ الأُجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم و الصلاة و الحج و قراءة القرآن و نحو ذلك.

ب.قول الإمامين (1)بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفته لما نصّ عليه أبو حنيفة بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة،لأنّه كان في الزمن الذي شهد له رسول اللّه بالخيريّة،و هما أدركا الزمن الذي فشا فيه الكذب،و قد نصّ العلماء على أنّ هذا الاختلاف اختلاف عصر و أوان،لا اختلاف حجّة و برهان.

ج.تحقّق الإكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول الإمام«أبي حنيفة»بناء على ما كان في زمنه من أنّ غير السلطان لا يمكنه الإكراه ثمّ كثر الفساد فصار يتحقّق الإكراه من غيره،فقال محمد (ابن الحسن الشيباني) باعتباره،و أفتى به المتأخّرون لذلك.

و قد ساق الأمثلة على هذا النمط إلى آخر الرسالة.

3.و قد طرق هذا البحث أيضاً الأُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء في كتابه القيّم«المدخل الفقهي العام»و قال ما نصّه:

الحقيقة انّ الأحكام الشرعية التي تتبدّل بتبدّل الموضوعات مهما تغيرت باختلاف الزمن،فإنّ المبدأ الشرعي فيها واحد و ليس تبدّل الأحكام إلاّ تبدّل

ص:95


1- 1) .الظاهر انّه يريد تلميذي أبي حنيفة:أبي يوسف و محمد بن الحسن الشيباني و لم يكن الفصل بين الإمام أبي حنيفة و بينهم طويلاً،فقد توفّي أبو حنيفة عام 150 ه و توفّي أبو يوسف عام 182 ه و توفّي الشيباني عام 189 ه و إذا كان كذلك فلما ذا يعدّون القرون الثلاثة الأُولى خير القرون،و الحقّ انّ بين السلف و الخلف رجالاً صالحين و أشخاصاً طالحين،و لم يكن السلف خيراً من الخلف،و لا الخلف أكثر شرّاً من السلف و إنّما هي دعايات فارغة فقد شهد القرن الأوّل وقعة الطفّ و الحرّة في المدينة.

الوسائل و الأساليب الموصلة إلى غاية الشارع،فإنّ تلك الوسائل و الأساليب في الغالب لم تُحدَّد من الشريعة الإسلامية بل تركتها مطلقة لكي يُختار منها في كلّ زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجاً و أنجح في التقويم علاجاً.

ثمّ إنّ الأُستاذ جعل المنشأ لتغير الأحكام أحد أمرين:

أ.فساد الأخلاق،و فقدان الورع و ضعف الوازع،و أسماه بفساد الزمان.

ب.حدوث أوضاع تنظيمية،و وسائل فرضية،و أساليب اقتصادية.

ثمّ إنّه مثّل لكل من النوعين بأمثلة مختلفة اقتبس بعضها من رسالة«نشر العرف»للشيخ ابن عابدين،و لكنّه صاغ الأمثلة في ثوب جديد، و لنذكر كلا الأمرين و أمثلتهما.

أ.تغيير الأحكام الاجتهادية لفساد الزمان

1.من المقرر في أصل المذهب الحنفي انّ المدين تنفذ تصرفاته في أمواله بالهبة و الوقف و سائر وجوه التبرّع،و لو كانت ديونه مستغرقة أمواله كلّها،باعتبار انّ الديون تتعلّق بذمّته فتبقى أعيان أمواله حرة،فينفذ فيها تصرّفه،و هذا مقتضى القواعد القياسية.

ثمّ لما فسدت ذمم الناس و كثر الطمع و قلّ الورعُ و أصبح المدينون يعمدون إلى تهريب أموالهم من وجه الدائنين عن طريق وقفها،أو هبتها لمن يثقون به من قريب أو صديق،أفتى المتأخرون من فقهاء المذهبين الحنبلي و الحنفي بعدم نفاذ هذه التصرفات من المدين إلاّ فيما يزيد عن وفاء الدين من أمواله» (1).

ص:96


1- 1) .المدخل الفقهي العام:2،برقم 543.

هذا في الفقه السنّي،و لكن في الفقه الإمامي ليس هناك أي مشكلة حتى نتوسل بعنصر الزمان و نلتزم بتغيّر الأحكام في ظلّه،لأنّ للمحجور حالتين:

الأُولى:إذا حجر عليه الحاكم و حكم بإفلاسه فعند ذاك يتعلّق حقّ الغرماء بأمواله لا بذمَّته،نظير تعلّق حقّ المرتهن بالعين المرهونة فلا يجوز له التصرف فيها بعوض كالبيع و الإجارة،و بغير عوض كالوقف و الهبة إلاّ بإذنهم و إجازتهم.

الثانية:إذا لم يُحجر عليه فتصرفاته على قسمين:قسم لا يريد الفرار من أداء الديون و لا يلازم حرمان الديّان،فيجوز له التصرّف بأمواله كيفما شاء،و القسم الآخر يريد من الصلح أو الهبة الفرار من أداء الديون،فالحكم بصحة تصرفاته-فيما إذا لم يرج حصول مال آخر له باكتساب و نحوه-مشكل. (1)وجهه:انّ الحكم بلزوم تنفيذها حكم ضرري يلحق بأصحاب الديون فلا يكون نافذاً،أضف إلى ذلك انصراف عمومات الصلح و الهبة و سائر العقود عن مثل هذه العقود.و على ذلك فلا داعي لتبنّي تغير الحكم الشرعي بالعنصرين.بل الحكم الشرعي السائر مع الزمان موجود في أصل الشرع بلا حاجة إلى التوسل بعنصر«فساد الزمان».

2.في أصل المذهب الحنفي انّ الغاصب لا يضمن قيمة منافع المغصوب في مدة الغصب بل يضمن العين فقط إذا هلكت أو تعيَّبت،لأنّ المنافع عندهم ليست متقوّمة في ذاتها و إنّما تقوم بعقد الإجارة و لا عقد في الغصب.

و لكن المتأخرين من فقهاء المذهب الحنفي نظروا تجرّؤ الناس على الغصب و ضعف الوازع الديني في نفوسهم،فأفتوا بتضمين الغاصب أُجرة المثل عن منافع المغصوب إذا كان المغصوب مال وقف أو مال يتيم أو معداً للاستغلال على خلاف الأصل القياسي في المذهب زجراً للناس عن العدوان لفساد الزمان.

ص:97


1- 1) .لاحظ وسيلة النجاة:133،كتاب الحجر،المسألة الأُولى؛و [1]تحرير الوسيلة:16/2. [2]

ثمّ أضاف إليها في التعليقة بأنّ الأئمّة الثلاثة ذهبوا إلى عكس ما ذهب إليه الاجتهاد الحنفي،فاعتبروا المنافع متقوّمة في ذاتها،كالأعيان، و أوجبوا تضمين الغاصب أُجرة المثل عن المال المغصوب مدة الغصب،سواء استعرض الغاصب منافعه أو عطّلها ثمّ قال:و هذا الاجتهاد أوجه و أصلح. (1)

أقول:إنّ القول بعدم ضمان الغاصب المنافع المستوفاة مستند إلى ما تفرّد بنقله عروة بن الزبير عن عائشة أنّ رسول اللّه قضى أنّ الخراج بالضمان. (2)

فزعمت الحنفية انّ ضمان قيمة المغصوب لا يجتمع مع ضمان المنافع،و ذلك لأنّ ضمان العين في مقابل كون الخراج له،و لكن الاجتهاد غير صحيح جداً،لأنّ الحديث ناظر إلى البيوع الصحيحة،مثلاً:إذا اشترى عبداً أو غيره فيستغلّه زماناً ثمّ يعثر منه على عيب كان فيه عند البائع،فله ردّ العين المبيعة و أخذ الثمن،و يكون للمشتري ما استغله،لأنّ المبيع لو تلف في يده لكان في ضمانه و لم يكن له على البائع شيء، و الباء في قوله بالضمان متعلّق بمحذوف تقديره:الخراج مستحق بالضمان،أي في مقابلة الضمان،أي منافع المبيع بعد القبض تبقى للمشتري في مقابلة الضمان اللازم عليه بطرف المبيع.

هذا هو معنى الحديث،و عليه شرّاح الحديث (3)و لا صلة للحديث بغصب الغاصب مال الغير و استغلال منافعه.

و الذي يفسّر الحديث وراء فهم الشرّاح انّ عروة بن الزبير نقل عن عائشة أنّ رجلاً اشترى عبداً،فاستغلّه ثمّ وجد به عيباً فردّه،فقال:يا رسول اللّه إنّه قد

ص:98


1- 1) .المدخل الفقهي العام:2،برقم 544.
2- 2) .مسند أحمد بن حنبل:49/6؛و [1]سنن الترمذي:3،كتاب البيوع برقم 1286؛و [2]سنن النسائي:254/7،باب الخراج بالضمان.
3- 3) .لاحظ شرح الحافظ جلال الدين السيوطي و حاشية الإمام السندي على سنن النسائي و غيره.

استغلّ غلامي،فقال رسول اللّه:«الخراج بالضمان». (1)

و قد ورد من طرقنا أنّ الإمام الصادق عليه السلام لمّا سمع فتوى أبي حنيفة بعدم ضمان الغاصب قيمة المنافع التي استوفاها،قال:«في مثل هذا القضاء و شبهه تحبس السماء ماءَها و تمنع الأرضُ بركتها». (2)

ثمّ إنّه يدل على ضمان المنافع المستوفاة عموم قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«لا يحل مال امرئ مسلم لأخيه إلاّ عن طيب نفسه»و المنافع مال،و لأجل ذلك يجعل ثمناً في البيع و صداقاً في النكاح،مضافاً إلى السيرة العقلائية في تضمين الغاصب المنافع المستوفاة،و على ذلك فليس هاهنا مشكلة حتى تعالج بعنصر الزمان،و لم يكن الحكم المزعوم حكماً شرعيّاً حتى يتغير لأجل فساد أهل الزمان.

3.في أصل المذهب الحنفي انّ الزوجة إذا قبضت مؤجّل مهرها تُلْزم بمتابعة زوجها حيث شاء،و لكن المتأخّرين لحظوا انقلاب الأخلاق و غلبة الجور،و انّ كثيراً من الرجال يسافرون بزوجاتهم إلى بلاد نائية ليس لهنّ فيها أهل و لا نصير،فيسيئون معاملتهنّ و يجورون عليهنّ،فأفتى المتأخرون بأنّ المرأة لو قبضت مؤجل مهرها لا تجبر على متابعة زوجها،إلى مكان إلاّ إذا كان وطناً لها و قد جرى فيه عقد الزواج بينهما،و ذلك لفساد الزمان و أخلاق الناس،و على هذا استقرت الفتوى و القضاء في المذهب. (3)

أقول:إنّ لحلّ هذا النوع من المشاكل طريقاً شرعياً في باب النكاح،و هو اشتراط عدم إخراجها من وطنها أو أن يسكنها في بلد خاص،أو منزل مخصوص

ص:99


1- 1) .سنن ابن ماجة:2،برقم 2243.
2- 2) .وسائل الشيعة:الجزء 13،الباب 17 من أبواب أحكام الإجارة،الحديث 1 و [1]الحديث طويل جدير بالمطالعة.
3- 3) .المدخل الفقهي العام:2،برقم 546.

في عقد النكاح،فيجب على الزوج الالتزام به.و ليس مثل هذا الاشتراط مخالفاً للكتاب و السنّة.

و لو افترضنا غفلة أولياء العقد عن الاشتراط و أراد الزوج إخراجها إلى بلاد نائية يصعب عليها العيش فيها و يعد حرجيّاً لها،فللزوجة رفع الشكوى إلى الحاكم بغية عدم إخراجها من وطنها،فيحكم بعد تبيّن الحال بعدم الإخراج نتيجة طروء العناوين الثانوية كالحرج و الضرر،فليس للزمان هنا أي مدخلية في تغيير الحكم،بل يكمن الحكم الشرعي في نفس الشرع.

4.في أصل المذهب الحنفي و غيره انّ القاضي يقضي بعلمه الشخصي في الحوادث،أي أنّ علمه بالوقائع المتنازع فيها يصح مستنداً لقضائه،و يغني المدّعي عن إثبات مدّعاه بالبيّنة،فيكون علم القاضي بواقع الحال هو البيّنة،و في ذلك أقضية مأثورة عن عمر و غيره،و لكن لوحظ فيما بعد انّ القضاة قد غلب عليهم الفساد و السوء و أخذ الرشا،و لم يعد يختار للقضاء الأوفر ثقة و عفة و كفاية بل الأكثر تزلّفاً إلى الولاة و سعياً في استرضائهم و إلحافاً في الطلب.

لذلك أفتى المتأخّرون بأنّه لا يصحّ أن يقضي القاضي بعلمه الشخصي في القضاء بل لا بدّ أن يستند قضاؤه إلى البيّنات المثبتة في مجلس القضاء حتى لو شاهد القاضي بنفسه عقداً أو قرضاً أو واقعة ما بين اثنين خارج مجلس القضاء ثمّ ادّعى به أحدهما و جحدها الآخر،فليس للقاضي أن يقضي للمدّعي بلا بيّنة،إذ لو ساغ ذلك بعد ما فسدت ذمم كثير من القضاة،لزعموا العلم بالوقائع زوراً،و ميلاً إلى الأقوى وسيلة من الخصمين،فهذا المنع و إن أضاع بعض الحقوق لفقدان الإثبات لكنّه يدفع باطلاً كثيراً،و هكذا استقر عمل المتأخرين على عدم نفاذ قضاء القاضي بعلمه.

على أنّ للقاضي أن يعتمد على علمه في غير القضاء من أُمور الحسبة

ص:100

و التدابير الإدارية الاحتياطية،كما لو علم ببينونة امرأة مع استمرار الخلطة بينها و بين زوجها،أو علم بغصب مال؛فإنّ له أن يحول بين الرجل و مطلقته،و أن يضع المال المغصوب عند أمين إلى حين الإثبات. (1)

أقول:يشترط المذهب الإمامي في القاضي:العدالة و الاجتهاد المطلق،فالقاضي الجائر لا يستحق القضاء و لا ينفذ حكمه.

و على ضوء ذلك فلا يترتب على عمل القاضي بعلمه أي فساد،لأنّ العدالة تصدّه عن ارتكاب الآثام.

و لو افترضنا إشغال منصة القضاء بالفرد الجائر فليس للقاضي العمل بعلمه في حقوق اللّه سبحانه،كما إذا علم أنّ زيداً زنى أو شرب الخمر أو غير ذلك،فلا يصحّ له إقامة الدعوى و إجراء الحدود لاستلزامه وحدة القاضي و المدعي من غير فرق بين كونه عادلاً أو غيره.

و أمّا العمل بعلمه في حقوق الناس فلا يعمل بعلم غير قابل للانتقال إلى الغير بل يقتصر في العمل بعلمه بنحو لو طولب بالدليل لعرضه و إلاّ فلا يجوز،و قد حقّق ذلك في كتاب القضاء.

5.من المبادئ المقرّرة في أصل المذهب انّ العمل الواجب على شخص شرعاً لا يصحّ استئجاره فيه و لا يجوز له أخذ أُجرة عليه،و من فروع هذا المذهب الفقهي انّ القيام بالعبادات و الأعمال الدينية الواجبة كالإمامة و خطبة الجمعة و تعليم القرآن و العلم لا يجوز أخذ الأُجرة عليه في أصل المذهب بل على المقتدر أن يقوم بذلك مجاناً لأنّه واجب ديني.

غير انّ المتأخّرين من فقهاء المذهب لحظوا قعود الهمم عن هذه الواجبات،

ص:101


1- 1) .المدخل الفقهي العام:2،برقم 546.

و انقطاع الجرايات من بيت المال عن العلماء ممّا اضطرهم إلى التماس الكسب،حتى أصبح القيام بهذه الواجبات غير مضمون إلاّ بالأجر،و لذلك أفتى المتأخّرون بجواز أخذ الأُجور عليها حرصاً على تعليم القرآن و نشر العلم و إقامة الشعائر الدينية بين الناس. (1)

أمّا الفقه الإمامي،فالمشكلة فيه مرتفعة بوجهين:

الأوّل:إذا كان هناك بيت مال معدّاً لهذه الأغراض لا تبذل الأُجرة في مقابل العمل،بل الحاكم يؤمّن له وسائل الحياة حتى يتفرّغ للواجب.

الثاني:امّا إذا لم يكن هناك بيت مال فإذا كان أخذ الأُجرة حراماً منصوصاً عليه و كان من صلب الشريعة فلا يمسّه عنصر الزمان و لكن يمكن الجمع بين الأمرين و تحليله عن طريق آخر،و هو أن يجتمع أولياء الصبيان أو غيرهم ممّن لهم حاجة إلى إقامة القضاء و الأذان و الإفتاء فيشاركون في سد حاجة المفتي و القاضي و المؤذن و المعلم حتى يتفرّغوا لأعمالهم العبادية بلا هوادة و تقاعس،على أنّ ما يبذلون لا يعد أُجرة لهم و إنّما هو لتحسين وضعهم المعاشي.

و بعبارة أُخرى:القاضي و المفتي و المؤذّن و المعلم يمارس كلّ أعماله للّه سبحانه،و لكن بما انّ الاشتغال بهذه المهمة يتوقّف على سد عيلتهم و رفع حاجتهم فالمعنيّون من المؤمنين يسدّون عيلتهم حتى يقوموا بواجبهم و إلاّ فكما أنّ الإفتاء واجب،فكذلك تحصيل الضروريات لهم و لعيالهم أيضاً واجب.و عند التزاحم يقدّم الثاني على الأوّل إذ في خلافه،خوف هلاك النفوس و انحلال الأُسرة،و لكن يمكن الجمع بين الحكمين على الطريق الذي أشرنا إليه.

6.انّ الشهود الذين يقضى بشهادتهم في الحوادث يجب أن يكونوا عدولاً،

ص:102


1- 1) .المدخل الفقهي العام:2،برقم 547.

أي ثقات،و هم المحافظون على الواجبات الدينية المعروفون بالسرّ و الأمانة،و انّ عدالة الشهود شريطة اشترطها القرآن لقبول شهادتهم و أيّدتها السنّة و أجمع عليها فقهاء الإسلام.

غير أنّ المتأخّرين من فقهائنا لحظوا ندرة العدالة الكاملة التي فسّرت بها النصوص لفساد الزمن و ضعف الذمم و فتور الحس الديني الوازع،فإذا تطلب القضاة دائماً نصاب العدالة الشرعية في الشهود ضاعت الحقوق لامتناع الإثبات،فلذا أفتوا بقبول شهادة الأمثل فالأمثل من القوم حيث تقلّ العدالة الكاملة.

و معنى الأمثل فالأمثل:الأحسن فالأحسن حالاً بين الموجودين،و لو كان في ذاته غير كامل العدالة بحدها الشرعي،أي أنّهم تنازلوا عن اشتراط العدالة المطلقة إلى العدالة النسبية. (1)

أقول:إنّ القرآن-كما تفضّل به الكاتب-صريح في شريطة العدالة في تنفيذ شهادته،يقول سبحانه: «وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ» 2 و قال سبحانه: «وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» 3.

مضافاً إلى الروايات الواردة في ذلك المضمار،فتنفيذ شهادة غير العدل تنفيذ بلا دليل أو مخالف لصريح الكتاب،و لكن يمكن للقاضي تحصيل القرائن و الشواهد التي منها شهادة الأمثل فالأمثل التي تثبت أحد الطرفين على وجه يفيد العلم للقاضي،و يكون علمه قابلاً للانتقال إلى الآخرين من دون حاجة إلى العمل بقول الأمثل فالأمثل.

ثمّ إنّ ترك العمل بشهادة غير العدول كما هو مظنّة إضاعة الحقوق،

ص:103


1- 1) .المدخل الفقهي العام:933/2-934 برقم 551.

فكذلك هو مظنّة الإضرار على المحكوم عليه لعدم وجود العدالة في الشاهد حتّى تصونه عن الكذب عليه،فالأمر يدور بين المحذورين.

لو فسّر القائل العدالة بالتحرّز عن الكذب و إن كان فاسقاً في سائر الجوارح لكان أحسن من تفسيره بالعدالة المطلقة ثمّ العدول عنها لأجل فساد الزمان.

7.أفتى المتأخّرون في إثبات الأهلّة لصيام رمضان و للعيدين بقبول رؤية شخصين،و لو لم يكن في السماء علّة تمنع الرؤية من غيم أو ضباب أو غبار بعد أن كان في أصل المذهب الحنفي،لا يثبت إهلال الهلال عند صفاء السماء إلاّ برؤية جمع عظيم،لأنّ معظم الناس يلتمسون الرؤية،فانفراد اثنين بادّعاء الرؤية مظنّة الغلط أو الشبهة.

و قد علّل المتأخّرون قبول رؤية الاثنين بقعود الناس عن التماس رؤية الهلال،فلم تبق رؤية اثنين منهم مظنّة الغلط إذا لم يكن في شهادتهما شبهة أو تهمة تدعو إلى الشك و الريبة. (1)

و أمّا في الفقه الإمامي،فلا يعتبر قول العدلين عند الصحو و عدم العلّة في السماء إذا اجتمع الناس للرؤية و حصل الخلاف و التكاذب بينهم بحيث يقوى احتمال اشتباه العدلين.

و أمّا إذا لم يكن هناك اجتماع للرؤية-كما هو مورد نظر الكاتب-حيث قال:لقعود الناس عن التماس رؤية الهلال،فقبول قول العدلين - على وفاق القاعدة لا على خلافها،فليس للزمان هناك تأثير في الحكم الشرعي.

و بعبارة أُخرى:ليس في المقام دليل شرعي على وجه الإطلاق يدل على عدم

ص:104


1- 1) .المدخل الفقهي العام:934/2 برقم 549.

قول العدلين في الصحو و عدم العلّة في السماء حتّى يؤخذ بإطلاقه في كلتا الصورتين:كان هناك اجتماع للرؤية أم لم يكن،بل حجّية دليل البيّنة منصرف عن بعض الصور،و هو ما إذا كان هناك اجتماع من الناس للرؤية و حصل الخلاف و التكاذب بحيث قوى احتمال الاشتباه في العدلين،و أمّا في غير هذه الصورة فإطلاق حجّية أدلّة البيّنة باق بحالها،و منها ما إذا ادّعى العدلان و لم يكن اجتماع و لا تكاذب و لا مظنّة اشتباه.

هذه هي المسائل التي طرحها الأُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء مثالاً لتغيّر الآراء الفقهية و الفتاوى لأجل فساد الزمان،و قد عرفت أنّه لا حاجة لنا في العدول عن الحكم الشرعي،و ذلك لأحد الأمرين:

أ.إمّا لعدم ثبوت الحكم الأوّلي كما في عدم ضمان الغاصب للمنافع المستوفاة.

ب.أو لعدم الحاجة إلى العدول عن الحكم الشرعي،بل يمكن حل المشكل عن طريق آخر مع صيانة الحكم الأوّلي،كما في الأمثلة الباقية.

***

ب.تغيير الأحكام الاجتهادية لتطوّر الوسائل و الأوضاع

قد سبق من هذا الكاتب انّ عوامل التغيير على قسمين:

أحدهما:ما يكون ناشئاً من فساد الأخلاق،و فقدان الورع،و ضعف الوازع،و أسماه بفساد الزمان،و قد مرّ عليك أمثلته كما مرّت مناقشاتنا.

و الآخر:ما يكون ناشئاً عن أوضاع تنظيمية،و وسائل زمنية جديدة من أوامر قانونية مصلحية و ترتيبات إدارية،و أساليب اقتصادية و نحو ذلك،و هذا النوع-

ص:105

عند الكاتب-كالأوّل موجب لتغيير الأحكام الفقهية الاجتهادية المقرّرة قبله إذا أصبحت لا تتلاءم معه،لأنّها تصبح عندئذ عبثاً أو ضرراً، و الشريعة منزّهة عن ذلك،و قد قال الإمام الشاطبي(المتوفّى790 ه) في الموافقات:لا عبث في الشريعة.

ثمّ طرح لها أمثلة و إليك بيانها:

1.ثبت عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه نهى عن كتابة أحاديثه،و قال لأصحابه:«من كتب عني غير القرآن فليمحه»و استمر الصحابة و التابعون يتناقلون السنّة النبوية حفظاً و شفاهاً لا يكتبونها حتى آخر القرن الهجري الأول عملاً بهذا النهي.

ثمّ انصرف العلماء في مطلع القرن الثاني بأمر من الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز،إلى تدوين السنّة النبوية،لأنّهم خافوا ضياعها بموت حفظتها و رأوا أنّ سبب نهي النبي عليه السلام عن كتابتها إنّما هو خشية أن تختلط بالقرآن،إذ كان الصحابة يكتبون ما ينزل منه على رقاع،فلمّا عمَّ القرآن و شاع حفظاً و كتابة،و لم يبق هناك خشية من اختلاطه بالحديث النبوي،لم يبق موجب لعدم كتابة السنّة،بل أصبحت كتابتها واجبة لأنّها الطريقة الوحيدة لصيانتها من الضياع. (1)

أقول:إنّ ما ذكره من أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن كتابة حديثه غير صحيح من وجوه:

أوّلاً:روى البخاري أنّ رجلاً من أهل اليمن طلب من النبي أن يكتب له خطبته فقال:اكتب لي يا رسول اللّه،فقال:اكتبوا لأبي فلان إلى أن قال:كتبت له هذه الخطبة. (2)

ص:106


1- 1) .المدخل الفقهي العام:933/2،و في الطبعة العاشرة في ترقيم الصفحات في المقام تصحيف.
2- 2) .البخاري:الصحيح:29،باب كتابة العلم.

أضف إلى ذلك أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر في غير واحد من الموارد كتابة حديثه،يجدها المتفحص في مصادرها. (1)

و مع هذه الموارد الكثيرة التي رخّص النبيّ فيها كتابة الحديث،و العمل به،لا يبقى أيُّ شك في موضوعية ما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم:«من كتب عنّي غير القرآن فليمحه».

ثانياً:هل يصحّ أن يأمر اللّه سبحانه بكتابة الدين حفظاً له،و احتياطاً عليه،و في الوقت نفسه ينهى نبيّه عن كتابة الحديث الذي يعادل القرآن في الحجّية؟!

ثالثاً:العجب من الأُستاذ أنّه سلّم وجه المنع،و هو أن لا يختلط الحديث بالقرآن،و قد نحته الخطيب البغدادي (2)في كتاب«تقييد العلم» (3)مع انّه غير تام،لأنّ القرآن الكريم في أُسلوبه و بلاغته يغاير أُسلوب الحديث و بلاغته،فلا يخاف على القرآن الاختلاط بغيره مهما بلغ من الفصاحة و البلاغة،فقبول هذا التبرير يلازم إبطال إعجاز القرآن الكريم،و هدم أُصوله.

و الكلمة الفصل أنّ المنع عن كتابة الحديث كان منعاً سياسيّاً صدر عن الخلفاء لغايات و أهداف خاصّة،و الخسارة التي مُني الإسلام و المسلمون بها من جرّاء هذا المنع لا تجبر أبداً،و قد فصلنا الكلام في فصل خاص من كتابنا بحوث في الملل و النحل. (4)

ص:107


1- 1) .سنن الترمذي:39/5،باب كتابة العلم،الحديث 2666؛سنن الدارمي:125/1،باب من رخص في كتابة العلم؛سنن أبي داود:318/2،باب في كتابة العلم،و مسند أحمد:215/2 و ج:162/3.
2- 2) .أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (392-463 ه) مؤلّف تاريخ بغداد.
3- 3) .تقييد العلم:57.
4- 4) .لاحظ:الجزء الأوّل من الكتاب المذكور:60-76.

2.قبل انشاء السجلات العقارية الرسميّة التي تحدد العقارات،و تعطي كلاً منها رقماً خاصّاً،كان التعاقد على العقار الغائب عن مجلس العقد لا بدّ لصحّته من ذكر حدود العقار،أي ما يلاصقه من الجهات الأربع ليُتميّز العقار المعقود عليه عن غيره،وفقاً لما تقضي به القواعد العامة من معلومية محل العقد.

و لكن بعد إنشاء السجلات العقارية في كثير من الممالك و البلدان أصبح يكتفى قانوناً في العقود بذكر رقم محضر العقار،دون ذكر حدوده،و هذا ما يوجبه فقه الشريعة،لأنّ الأوضاع و التنظيمات الزمنية أوجدت وسيلة جديدة أسهل و أتم تعييناً و تمييزاً للعقار من ذكر الحدود في العقود العقارية،فأصبح اشتراط ذكر الحدود عبثاً،و قد قدّمنا أنّه لا عبث في الشريعة.

أقول:إنّ الحكم الشرعي الأوّلي هو معلومية المبيع،و هذا هو لُبُّ الشريعة،و أمّا الباقي فهو ثوب يتغير بتغير الأزمان،فلا تحديد العقارات من الجهات الأربع حكم أصلي،و لا ذكر رقم محضر العقار،فالجميع طريق إلى الحكم الشرعي و هو معلومية المبيع و خروجه عن كونه مجهولاً،و الشرط يحصل بكلا الوجهين و تغيير الثوب ليس له صلة بتغيير الحكم.

3.كذلك كان تسليم العقار المبيع إلى المشتري لا يتم إلاّ بتفريغ العقار و تسليمه فعلاً إلى المشتري،أو تمكينه منه بتسليم مفتاحه و نحو ذلك،فإذا لم يتمّ هذا التسليم يبقى العقار معتبراً في يد البائع،فيكون هلاكه على ضمانه هو و مسئوليته،وفقاً للأحكام الفقهية العامّة في ضمان المبيع قبل التسليم.

و لكن بعد وجود الأحكام القانونية التي تخضع العقود العقارية للتسجيل في السجل العقاري.استقر الاجتهاد القضائي أخيراً لدينا على اعتبار التسليم حاصلاً بمجرد تسجيل العقد في السجلّ العقاري،و من تاريخ التسجيل ينتقل ضمان هلاك المبيع من عهدة البائع إلى عهدة المشتري،لأنّ تسجيل المبيع فيه

ص:108

تمكين للمشتري أكثر ممّا في التسليم الفعلي،إذ العبرة في الملكية العقارية قانوناً،لقيود السجلّ العقاري،لا للأيدي و التصرفات، و بتسجيل المبيع لم يبق البائع متمكناً أن يتصرف في العقار المبيع بعقد آخر استناداً إلى وجوده في يده،و جميع الحقوق و الدعاوي المتفرعة عن الملكية،كطلب نزع اليد،و طلب الآخرة،و غير ذلك تنتقل إلى المشتري بمجرّد التسجيل.

فبناء على ذلك يصبح من الضروري في فقه الشريعة أن يعتبر لتسجيل العقد العقاري حكم التسليم الفعلي للعقار في ظل هذه الأوضاع القانونية التنظيمة الجديدة. (1)

أقول:اتّفق الفقهاء على أنّه إذا تلف المبيع الشخصي قبل قبضه بآفة سماوية فهو من مال بائعه،و الدليل عليه من طرقنا هو قوله صلى الله عليه و آله و سلم :«كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه». (2)

و روى عقبة بن خالد عن الإمام الصادق عليه السلام في رجل اشترى متاعاً من رجل و أوجبه غير أنّه ترك المتاع عنده و لم يقبضه،قال:آتيك غداً إن شاء اللّه فسرق المتاع،من مال من يكون؟ قال:«من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يُقبض المتاع و يخرجه من بيته،فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقّه حتى يرد ماله إليه». (3)

و أمّا من طرق أهل السنّة،روى البيهقي عن محمد بن عبيد اللّه الثقفي أنّه اشترى من رجل سلعة فنقده بعض الثمن و بقي بعض،فقال:

ادفعها إليّ فأبى البائع،فانطلق المشترى و تعجّل له بقية الثمن فدفعه إليه،فقال:ادخل و اقبض

ص:109


1- 1) .المدخل الفقهي العام:931/2.
2- 2) .مستدرك الوسائل:13،الباب 1 من أبواب الخيار،الحديث 1. [1]
3- 3) .الوسائل:12،الباب 10 من أبواب الخيار،الحديث 1. [2]

سلعتك،فوجدها ميتة،فقال له:رد عليَّ مالي،فأبى،فاختصما إلى شريح،فقال شريح:رد على الرجل ماله و ارجع إلى جيفتك فادفنها. (1)

و على هذا فالميزان في رفع الضمان على البائع هو تسليم المبيع و تسليم كلّ شيء بحسبه،و الجامع هو رفع المانع من تسليط المشتري على المبيع و إن كان مشغولاً بأموال البائع أيضاً إذ لم يكن هنا أي مانع من الاستيلاء و الاستغلال.

و على ضوء ذلك فتسليم البيت و الحانوت مثلاً بإعطاء مفتاحهما،و أمّا جعل مجرّد تسجيل العقد في السجل العقاري رافعاً للضمان بحجة انّ تسجيل البيع فيه تمكين للمشتري أكثر ممّا للتسليم الفعلي اجتهاد في مقابل النص بلا ضرورة ما لم يكن تسجيل العقد في السجل العقاري متزامناً مع رفع الموانع من تسلّط المشتري على المبيع،إذ في وسع المتبايعين تأخير التسجيل إلى رفع الموانع.

و بعبارة أُخرى:الميزان في رفع الضمان هو تحقّق التسليم بالمعنى العرفي،و هو قد يزامن التسجيل في السجل العقاري و قد لا يزامن، كما لو سجل العقد في السجل و لكن البائع أوجد موانع عاقت المشتري عن التسلّط على المبيع،فما لم يكن هناك إمكان التسلّط فلا يصدق التسليم.

على أنّ المشتري بالتسجيل و إن كان يستطيع أن يبيع العقار و لكنّه يعجز عن الانتفاع بالمبيع الذي هو المهم له ما لم يكن هناك تسليم فعلي.

4.أوجب الشرع الإسلامي على كلّ زوجة تطلّق من زوجها عدّة تعتدها،و هي أن تمكث مدة معيّنة يمنع فيها زواجها برجل آخر،و ذلك لمقاصد شرعية تعتبر من النظام العام في الإسلام،أهمها،تحقّق فراغ رحمها من الحمل منعاً لاختلاط الأنساب.

ص:110


1- 1) .البيهقي:السنن:334/5،باب المبيع يتلف في يد البائع قبل القبض.

و كان في الحالات التي يقضي فيها القاضي بالتطليق أو بفسخ النكاح،تعتبر المرأة داخلة في العدّة،و يُبدأ حساب عدّتها من فور قضاء القاضي بالفرقة،لأنّ حكم القاضي في الماضي كان يصدر مبرماً واجبَ التنفيذ فوراً،لأنّ القضاء كان مؤسساً شرعاً على درجة واحدة،و ليس فوق القاضي أحد له حق النظر في قضائه.

لكن اليوم قد أصبح النظام القضائي لدينا يجعل قضاء القاضي خاضعاً للطعن بطريق الاستئناف،أو بطريق النقض،أو بكليهما.و هذا التنظيم القضائي الجديد لا ينافي الشرع،لأنّه من الأُمور الاستصلاحية الخاضعة لقاعدة المصالح المرسلة،فإذا قضى القاضي اليوم بالفرقة بين الزوجين وجب أن لا تدخل المرأة في العدّة إلاّ بعد أن يصبح قضاؤه مبرماً غير خاضع لطريق من طرق الطعن القضائي.و ذلك إمّا بانقضاء المهل القانونية دون طعن من الخصم،أو بإبرام الحكم المطعون فيه لدى المحكمة المطعون لديها و رفضها للطعن حين ترى الحكم موافقاً للأُصول.

فمن هذا الوقت يجب اليوم أن تدخل المرأة في العدة و يبدأ حسابها لا من وقت صدور الحكم الابتدائي،لأنّها لو اعتدت منذ صدور الحكم الابتدائي لربما تنقضي عدتها و تتحرّر من آثار الزوجية قبل الفصل في الطعن المرفوع على حكم القاضي الأوّل بانحلال الزوجية ثمّ ينقض هذا الحكم لخلل تراه المحكمة العليا فيه،و هذا النقض يرفع الحكم السابق و يوجب عودة الزوجية. (1)

أقول:إنّ الحكم الأوّلي في الإسلام هو انّ الطلاق بيد من أخذ بالساق (2)،فللزوج أن يطلّق على الشروط المقرّرة قال سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ

ص:111


1- 1) .المدخل الفقهي العام:932/2.
2- 2) .مجمع الزوائد:334/4،باب لا طلاق قبل النكاح.

فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللّهَ رَبَّكُمْ» 1.

نعم لو اشترط الزوجان في سجل العقد أن يكون الطلاق بيد المحكمة بمعنى انّه إذا أدركت انّ الطلاق لصالح الزوجين فله أن يحكم بالفرقة و الانفصال،و المراد من الحكم بالفرقة أمران:

أوّلاً:انّ الطلاق لصالح الزوجين.

ثانياً:تولّي إجراء صيغة الطلاق.

فلو كان قضاء القاضي بالفرقة على درجة واحدة،و ليس فوقه أحد له حقّ النظر في قضائه فيقوم بكلا الأمرين:حق الانفصال و تنفيذه بإجراء صيغة الطلاق و يكون الحكم بالفرقة مبدأً للاعتداد.

و لو كان النظام القضائي يجعل قضاء القاضي خاضعاً للطعن بطريق الاستئناف،أو بطريق النقض أو بكليهما،فلأجل الاجتناب عن بعض المضاعفات التي أُشير إليها تقتصر المحكمة الأُولى على الأمر الأوّل-إنّ الطلاق لصالح الزوجين-و يؤخر الأمر الثاني إلى إبرامه،فعند ذلك تجرى صيغة الطلاق من قبل المحكمة الثانية و تدخل المرأة في العدة و يبدأ حسابها.

و بذلك يعلم أنّ ما ضربت من الأمثلة لتأثير الزمان و المكان بعيدة عمّا يروم إليه،سواء كان العامل للتأثير هو فساد الأخلاق و فقدان الورع و ضعف الوازع،أو حدوث أوضاع تنظيمية و وسائل زمنية،فليس لنا في هذه الأمثلة أيُّ حافز من العدول عمّا عليه الشرع.

و حصلة الكلام:أنّ الأُستاذ قد صرّح بأنّ العاملين-الانحلال الأخلاقي و الاختلاف في وسائل التنظيم-يجعلان من الأحكام التي أسّسها الاجتهاد في

ص:112

ظروف مختلفة خاضعة للتغيير،لأنّها صدرت في ظروف تختلف عن الظروف الجديدة.

و لكنّه في أثناء التطبيق تعدّى تارة إلى التصرّف في الأحكام الأساسية المؤبدة التي لا يصحّ للفقيه الاجتهاد فيها،و لا أن يحدث بها أيَّ خدشة،و أُخرى ضرب أمثلة لم يكن للزمان أيُّ تأثير في تغيير الحكم المستنبط.

هذا بعض الكلام في تأثير عنصري الزمان و المكان في الاستنباط.

تمّت الرسالة بيد مؤلّفها العبد الفقير جعفر السبحاني في صبيحة يوم الجمعة المصادف يوم العشرين من رجب المرجب من شهور عام 1418ه

حامداً مصلّياً على النبي و آله

في مدينة قم المقدسة

ص:113

4

اشارة

ملامح الجهاد الإسلامي

في الكتاب و السنّة

انّ الجهاد أحد الأُصول المهمّة في الفقه الإسلامي،و قد وقع في قفص الاتهام من قبل المستشرقين الذين يُفسرون تعاليم الإسلام حسب معاييرهم،و يزعمون انّ الهدف من تشريع الجهاد هو فرض الدين بالقوة على الناس،و مثل هذا الدين يفقد قيمته عند العقل،فها نحن في هذا المقال نُبين موقف الجهاد في الإسلام من منظار القرآن الكريم الذي هو من أوثق المصادر الفقهية.

نظرة عامة إلى آيات الجهاد

إنّ البحث عن آيات الجهاد و إن كان بحاجة إلى تأليف رسالة مفصلة تبحث عن هذه الآيات،و تبين خصوصياتها و نكاتها،غير انّنا،نقف عندها وقفة قصيرة سريعة حتى يتضح هدف الآيات،فنقول:

إنّ الآيات الواردة حول الجهاد و ما يرتبط بها من قريب أو بعيد تنقسم إلى طوائف خمس،لا بدّ لكلّ مفسّر أن يلاحظ مجموعَها قبل اتخاذ الموقف و تفسيرها و إظهار الرأي فيها.

ص:114

و إليك هذه الطوائف:

الأُولى:الآيات المطلقة التي تدعو إلى مطلق النضال و القتال،دون أن تقيِّد ذلك بقيد،كقوله سبحانه:

«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» 1 .

و قوله:

«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ». 2

فالآية الأُولى تدعو إلى مطلق النضال مع أهل الكتاب،و الثانية تدعو إلى مطلق النضال مع الكفّار و المنافقين،دون أن تقيِّد مقاتلة هذه الطوائف و الجماعات بقيد،بل توجب مقاتلتهم،سواء أ قاتلوا المسلمين أم لا،و سواء أ جحدوا الإسلام أم لا.

الثانية:الآيات المقيّدة التي توجب مقاتلة المشركين شريطة قتالهم للمسلمين و العدوان عليهم،كقوله سبحانه:

«وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» 3 .

فالقتال-حسب هذه الآية-يجب إذا تعرّض المسلمون لعدوان الكفّار و المشركين،و لا يجب قتالهم إذا لم يعتدوا،و ربما قُيّد القتال بقيد آخر،و هو الخوف

ص:115

من نقض العدو لعهوده التي قطعها مع المسلمين،و هو بمعنى الاستعداد لقتال المسلمين و العدوان عليهم،فلأجل ذلك تجب على المسلمين مقاتلتهم و محاربتهم.يقول سبحانه-بعد أمره بقتال المشركين في مطلع سورة التوبة-:

«كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً» 1 .

و يقول:

«لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» 2 .

و يقول:

«وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ» 3.

إلى غير ذلك من الآيات التي تحث على مقاتلة المشركين لنقضهم العهود المعقودة بينهم و بين المسلمين،لأنّ نقض العهد بمثابة إعلان الحرب،و إرادة العدوان.

إنّ ملاحظة هذه الآيات تفيد انّ القتال لم يُشرع على الإطلاق بل لأجل سبب،و هو إرادة قتال المسلمين و العدوان عليهم،إمّا بصورة مباشرة،و إمّا عن طريق نقض عهود السلم و الصلح الذي لا يعني إلاّ إرادة القتال،فيكون القتال هنا من باب الدفاع عن النفس.

و من هنا تكون هذه الآيات مقيّدة لإطلاق الطائفة الأُولى.

و من المعلوم انّ المطلق يحمل على المقيد و يؤخذ بكليهما حسب ما هو المقرر في أُصول الفقه.

ص:116

الثالثة:الآيات التي تدعو إلى إنقاذ المستضعفين و نجدة المظلومين و إخراجهم من ظلم الجائرين،و دفع الضيم و الحيف عنهم.

و هذا هو أيضاً نوع آخر من الدفاع،إذ هو دفاع عن الغير.

فالاعتداء لم يستهدف الإنسانَ نفسه أو الشعبَ الذي ينتمي إليه،بل استهدف شخصاً أو شعباً آخر هُضمَت حقوقه من قبل الجائرين، فعندئذٍ يجب-وفق معيار العقل-الدفاع عن حقوق الإنسان أو الشعب،و يُعد هذا الدفاع من أفضل درجات الجهاد،فانّ ذلك إيثار و بذل للدّم في سبيل حياة الآخرين،و أيّ عمل أقدس من هذا.و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يفرض على المسلمين إغاثة المضطهدين،و يقول:

«وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً» 1.

الرابعة:الآيات التي تدلّ على عدم الإكراه في الدين،لأنّ الدين عقيدة،و العقيدة لا توجد بالإكراه،كقوله سبحانه:

«لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» 2 .

قيل انّها نزلت في رجل من الأنصار يدعى«أبا الحصين»كان له ابنان فقدم تجار الشام إلى المدينة يحملون الزيت،فلما أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصّرا و مضيا إلى الشام،فأخبر أبو الحصين رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم،فأنزل اللّه تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» .

ص:117

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«أبعدهما اللّه،هما أوّل من كفر»،فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه و آله و سلم حيث لم يبعث في طلبهما، فأنزل اللّه: «فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ» 1 .

و قيل كانت امرأة من الأنصار تكون مقلاتاً (1)فترضع أولاد اليهود،فجاء الإسلام و فيهم جماعة منهم،فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم أُناس من الأنصار،فقالوا:يا رسول اللّه:أبناؤنا و إخواننا،فنزلت: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» .فقال:

«خيّروا أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم،و إن اختاروهم فأجلوهم». (2)

و كقوله سبحانه:

«ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» 4 .

و قوله:

«وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» 5 .

و قوله:

«وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» 6

و قوله:

«لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ* إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ» 7 .

ص:118


1- 2) .المقلاة:التي لا يعيش لها ولد.
2- 3) .مجمع البيان:363/2-364.

إلى غير ذلك من الآيات الكاشفة عن حرية الاعتقاد.

الخامسة:الآيات الداعية إلى الصلح و التعايش السلمي،كقوله سبحانه:

«وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ» 1 .

و قوله:

«وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها» 2 .

و قوله:

«فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً» 3 .

و من المعلوم انّ الصلح المذكور في الآية الأُولى هو التعايش السلمي،و ليس المراد الاستسلامَ و التسليم للظلم و العدوان.

إنّ للملاحظ و المتتبع لهذه الآيات التي تدور حول الجهاد و القتال،أن يتساءل:

إذا كان الإسلام ينشد الصلح و التعايش السلمي مع الطوائف الأُخرى.كما تشهد على ذلك الطائفة الخامسة.

و إذا كان الإسلام يحترم العقيدة الأُخرى،و يمنع من إكراه أحد على تقبُّل الإسلام و اعتناقه كما تشهد على ذلك الطائفة الرابعة...فكيف يمكن تفسير الآيات الحاثّة على القتال و المحاربة؟!

إنّ ملاحظة مجموع الآيات من الطوائف الخمس تهدينا إلى الجواب الصحيح.

فإنّ القتال-بملاحظة الطائفة الثانية و الثالثة-إنّما شرّع لأجل الدفاع،

ص:119

و هذا الدفاع ينقسم مصداقاً إلى ثلاثة أقسام:

1.الدفاع عن النفس فرداً أو شعباً.

2.الدفاع عن الغير (أي المستضعفين و المضطهدين) فرداً أو شعباً أيضاً.

3.الدفاع عن القيم الإنسانية،من خلال الجهاد ضدّ الحاكم المستبد المانع من نفوذ الدعوة الإسلامية.

توضيحه:إذا كان الحاكم يقف حائلاً أمام نفوذ دعوة الأنبياء و الأولياء،و نشر القيم الرفيعة التي جاءوا بها،بل يُساهم في بث العقائد الخرافية التي تعتبر سداً أمام السعادة الإنسانية،فعند ذلك يجب النضال ضد هذا الحاكم و طغمته لأمرين:

الأوّل:انّ الحاكم المستبدّ ظالم،و معتد على حقوق الشعب حيث سلب عنهم الحقوق الطبيعية و هي الحرية في الدعوة و الاستماع إليها، فعند ذلك يكون قتاله قتالاً ضد الظالم المعتدي.

الثاني:انّ الدفاع عن النفس و المال و الشرف يعد حسناً و جميلاً عند كافة شعوب العالم.

غير انّ الملاك في كونه حسناً إنّما هو لأجل كونه دفاعاً عن الحقّ و الحقيقة،و الدفاع عن الحرية دفاع عن الحقّ،فالحاكم المستبد الذي صادر الحريات العامّة يضاد عملُه الحقَّ و الحقيقة فيحسن قتاله لأجل تعزيز الحقّ و نصرته.

و من هنا يكون الجهاد التحريري في حقيقته جهاداً دفاعياً.لأنّ ذلك الجهاد إنّما هو لأجل إنقاذ المستضعفين من براثن الظالمين،أو لأجل إنقاذ القيم و الحقوق و المثل الإنسانية التي هدرت من قبل الظالم و طغمته،فأقاموا العراقيل في وجه الدعوة الإسلامية و سلبوا الناس حرّياتهم في اختيار العقيدة التي يريدون.

ص:120

و بهذا تبيّن انّ الجهاد بأقسامه المختلفة جهاد دفاعي جوهراً،و إن كان ينقسم حسب الاصطلاح الفقهي إلى الدفاعي و الابتدائي.

و هاهنا نكتة نلفت إليها نظر القارئ الكريم،و هي انّ الآيات الأُولى التي نزلت في تشريع الجهاد تدلّ بوضوح على أنّ الدافع من وراء تشريع الجهاد هو الدفاع عن المسلمين و حقوقهم،و لم يشرع لأجل التجاوز و الاعتداء على حقوق الآخرين،و إليك نصّ الآيات:

«إِنَّ اللّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفُورٍ* أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» 1 .

و تنطوي هذه الآيات على دلالات عدة:

1.قوله سبحانه: «لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفُورٍ» يدلّ بوضوح على أنّ الكافر المقاتل،خائن،و كلّ خائن معتد تجب محاربته.

2.قوله سبحانه: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ» يدلّ على أنّ المأذون في القتال مقاتَل (بالفتح) لا مقاتل (بالكسر)،فليس المسلم هو البادئ بالقتال،بل الكافر

ص:121

هو البادئ،فعند ذلك يعد قتال المسلم دفاعاً.

3.قوله سبحانه: «بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» يدلّ بوضوح على أنّ القتال لأجل رفع الظلم.

4.قوله سبحانه: «وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ» يدلّ على كونهم مشرّدين من ديارهم بغير سبب،و أيّ ظلم أعظم من إبعاد الإنسان عن موطنه.

5.قوله سبحانه: «لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ...» يدلّ على أنّ الكافر لو تُرِك بحاله لهدّم البيوت المقدسة و أماكن العبادة التي بنيت لعبادة اللّه سبحانه و تربية الناس و تزكيتهم،فيجب قتاله حتى لا يرتكب تلك الجريمة الأثيمة.

6.قوله سبحانه: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ...» يشير إلى أنّ الغاية من تمكين المسلمين في الأرض هو إحياء المثل الإنسانية،و هي عبارة عن إقامة الصلاة التي هي رمز لصلة الإنسان باللّه سبحانه،و إيتاء الزكاة التي هي رمز للتعاون الإنساني،و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هما كناية عن إقامة دعائم النظام الصالح و النضال ضد كلّ نظام فاسد.

و قد تجلّت في ضوء هذه الأبحاث حقيقة ناصعة،و هي انّ تشريع الجهاد الابتدائي أو ما يعبر عنه ب«التحريري»لم يكن لأجل الاعتداء على حقوق الآخرين،بل كان لأجل الدفاع عن حقوق المستضعفين.

و مما ينبغي الإشارة إليه هو بيان فلسفه الجهاد الإسلامي بكلا شقيه:الدفاعي و الابتدائي،و الدوافع من وراء تشريعه،و ما يجب على المجاهد من رعاية أُصول و قيم في الجهاد.

ص:122

الجهاد ضرورة حيويّة

يعتبر الجهاد في منطق الدين الإسلامي وسيلة فعّالة من وسائل ديمومة الدين و بقائه بل و بقاء الأُمّة الإسلامية،و صيانة كيانها من السقوط و الانهيار.

و لا بدّ للوقوف على هذه الحقيقة من تقديم مقدمة ضرورية،فنقول:

عند ما نطالع حياة الموجودات الحيّة،نجد أنّها تقوم بثلاثة نشاطات تكفل بقاءها،و حياتها.

أوّلاً:التنفس و جذب الغذاء المناسب.

ثانياً:التوالد و التكاثر،و هي صفة كلّ خليّة من خلايا الكائنات الحية.

ثالثاً:إزاحة الموانع،و طرد المواد الزائدة و المضرّة.

و لما كان الإسلام ظاهرة حيويّة-و إن لم يكن ظاهرة مادية بل ظاهرة إلهية-فانّه لا يخلو بدوره من هذه النشاطات الثلاثة و لا يستغني عنها في بقائه و استمراره،لا سيما النشاط الثالث.

فإنّ الإسلام،لكونه رسالة إلهية منزلة لهداية البشرية،يسعى إلى تغيير العادات و التقاليد البالية،و الأوضاع الفاسدة و النُّظُم الباطلة...

و لذلك من الطبيعي أن يواجه معارضة شرسة ممن يخالف هذا التغيير مصالحهم،و يتعارض مع أهدافهم و مطامعهم...و عندئذٍ يجب على هذا الدين أن يقوم بإزاحة هذه الموانع و يكتسح تلكم الحواجز،ليمضي قدماً في أداء رسالته،و تحقيق أهدافه.

ص:123

إنّ هناك فرقاً واضحاً بين (المذهب الفلسفي) و (الدين الإلهي).

فالفيلسوف،يكتفي ببحث الأُمور الفلسفية،لمجرد التوضيح،أو النقد و ينشر أفكاره،و تحليلاته بين الناس ليقفوا عليها و يعرفوها دون أن يرى إلزامهم بشيء منها.

فهو لا يهمّه سوى طرح أفكاره و الدفاع عنها بقاطع البرهان،و واضح الدليل.

و أمّا (الدين الإلهي) فليس مذهباً فلسفياً ليكتفي بمجرد البيان و التوضيح و يُحصِرَ همَّتَه في النقد و الإشكال،إنّما هو ثورة إصلاحية، و عملية تغييرية تهدف إلى إقامة نظام صالح عادل فوق ركام الأنظمة الفاسدة،و الأوضاع المنحطة.

و بديهي انّه لا يتحقّق ذلك دون مواجهة الموانع،و قيام الصراعات و الحروب،مع الجهات و القوى المعارضة لهذا التغيير.

فهل في العالم حركة تغييرية استطاعت تحقيق أهدافها دون خوض الصراعات الحامية،و دون نشوب الحروب و سقوط الضحايا،أو إراقة محجمة دم؟!

فهل استطاعت (الثورة الفرنسية) أن تتجنب إراقة الدماء؟!

و هل نجحت (الثورة الروسية) إلاّ بعد سقوط الملايين من القتلى؟!

و هل حقّقت (الثورة الهندية) أهدافها إلاّ عبر المئات من القرابين البشرية؟!

نعم إنّ ما يفارق به (الجهاد الإسلامي) عن الحروب التي تفرضها الحركات التغييرية الأُخرى،هو:تجنب الإسلام للحروب،و إراقة الدماء قدر الإمكان،و القيام بكلّ ذلك من باب الضرورة و في حدود الإنسانية و الرحمة.

هذا مضافاً إلى بقية الفوارق التي تتجسد في أحكام (الجهاد الإسلامي) كما

ص:124

سيأتي تفصيلها.

و صفوة القول:إنّ أية ثورة إصلاحية و حركة تغييرية تتطلب-بحكم الضرورة-هذه المواجهات الساخنة،دفعاً للموانع و الحواجز،و إلاّ لأُخمدت هذه الثورة في المهد،كما تموت الخليّة الحيّة إذا تركت كذلك.

و لهذا وصفه القرآن بأنّه وسيلة للحياة و البقاء و الاستمرار،إذ قال:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» 1 .

و بعبارة واضحة،انّ الإسلام نظام اجتماعي ثوري،لم ير العالم نظيره قط،فهو بما انّه رسالة إلهية،تضمن سعادة البشر،يرى لنفسه حقّ التوسعة و التعميم.

و لأجل ذلك يسعى لرفع الموانع و الحواجز عن طريقه بأسهل الطرق و أعدلها.

فيبتدئ بالتبليغ و التعليم و البحث و المجادلة و التوجيه و الإرشاد،فإذا رأى أنّ المانع لا يرتفع إلاّ بقوة قاهرة يسعى لرفع الموانع بتلك القوة،و إليه يشير قوله سبحانه:

«وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» 2 .

و لم يكن هذا ليختص بالدين الإسلامي،بل كان هذا هو نهج الأنبياء في الدعوة إلى الحقّ.

و في ذلك يقول سبحانه:

«لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ

ص:125

لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ» 1 .

و الكتاب و الميزان إشارة إلى أنّهم كانوا يتوصلون في بدء الأمر بأسهل الطرق،و هو تنوير الأفكار و إقناعهم بمنطق العقل.

و أمّا إذا رأوا انّ ذلك المنطق لا يجدي في دفع الموانع يتوصّلون بمنطق القوة،فالحديد في الآية كناية عن ذلك المنطق،و سيرة الأنبياء و تاريخهم خير شاهد على ذلك.

و هاهنا نقطة أُخرى ينبغي الإشارة إليها،و هي:انّ الإسلام سعى و منذ البداية إلى نشر العدالة الاجتماعية في جميع مناحي الحياة.

و من الطبيعي انّ كلّ ثورة-من هذا القبيل-لا تكفل منافع جميع الطبقات بل ربما تهدِّد مصالح الطغاة و المستثمرين و المترفين،و لأجل ذلك وقف المترفون بوجه كافَّة الحركات الإصلاحية التي دعت إلى الحقّ،كما قال القرآن:

«وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» 2.

فكان اللازم على صاحب الرسالة التوسل بمنطق القوة-حين لا تُجدي قوة المنطق-في رفع الحواجز و الموانع،و التخلص ممن يقف حجر عثرة أمام الحقّ و العدالة.

هذه هي خلاصة فلسفة الجهاد الإسلامي و تشريعه.

ثمّ إنّ الجهاد الذي دعا إليه الإسلام و حثّ عليه المسلمين ينقسم إلى

ص:126

نوعين:

1.الجهاد الدفاعي.

2.الجهاد الابتدائي.

و إليك لمحة سريعة عن حقيقة هذين النوعين من الجهاد و خصائصهما و أحكامهما على نحو الإيجاز و الإجمال.

الجهاد الدفاعي

و المراد من هذا الجهاد هو مقاتلة الأعداء المعتدين،دفاعاً عن النفس و المال،و ذبّاً عن الوطن و الحرية،و ذوداً عن الشرف و الاستقلال.

إنّ الدفاع المذكور على قسمين:

أوّلاً:الدفاع عن حوزة الإسلام.

ثانياً:الدفاع عن النفس و المال و ما شابه ذلك.

و أمّا البحث عن القسم الثاني فموكول إلى الكتب الفقهية المعدّة لتفصيل ذلك.راجع شرائع الإسلام الباب السادس في حدود المحارب من كتاب الحدود و التعزيرات،تجد فيه فروع و تفاصيل هذا المبحث.

و أمّا القسم الأوّل فمنه ما إذا غشي بلاد المسلمين أو ثغورها عدوٌّ يُخشى منه على بيضة الإسلام،فيجب عليهم الدفاع بأية وسيلة ممكنة من بذل الأموال و النفوس.

و لو خيف من الاستيلاء على بلاد المسلمين،وجب الدفاع بأية وسيلة ممكنة،كما لو خيف على حوزة الإسلام من الاستيلاء السياسي، و الاقتصادي المؤدي إلى التبعية السياسية و الاقتصادية،و وهن الإسلام و المسلمين حينها يجب

ص:127

الدفاع بالوسائل المشابهة و المقاومة السلبية،كمقاطعة أمتعتهم و بضائعهم،و ترك استعمالها و ترك المعاملة و المراودة معهم مطلقاً إلى غير ذلك من أنواع المقاومة التي تختلف مع اختلاف ألوان الاستيلاء،و اختلاف الظروف و المقتضيات.

هذا و قد وردت حول الدفاع عن النفس روايات و أحاديث منها:

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«من قتل دون عقاله (أو عياله) فهو شهيد».

و قال صلى الله عليه و آله و سلم:«من قتل دون ماله فهو شهيد».

و قال صلى الله عليه و آله و سلم:«يبغض اللّه تعالى رجلاً يدخل عليه في بيته فلا يقاتل».

و قال صلى الله عليه و آله و سلم:«من قتل دون مظلمته فهو شهيد». (1)

و قد وردت روايات مماثلة في المفاد أو النص عن أهل البيت عليهم السلام في المقام تركناها اختصاراً،فراجع وسائل الشيعة.

و على كلّ تقدير فالجهاد الدفاعي جهاد شرّعه الإسلام عند ما تَتعرض الأُمّة الإسلامية لمهاجمة الأعداء،و عدوانهم و تصبح غرضاً لأطماعهم و مؤامراتهم.

و هذا ممّا تقتضيه طبيعة الحياة،و تحكم به الفطرة،و يحكم بحسنه و ضرورته العقل السليم،كما تؤيده كافة المدارس و المذاهب الحقوقية و السياسية و الاجتماعية.

و قد أشار القرآن الكريم إلى هذه الجهة الموجبة للجهاد و القتال،بقوله:

«وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ» 2 .

و قوله سبحانه:

«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ*

ص:128


1- 1) .الوسائل الجزء11،الباب 45 من أبواب جهاد العدو. [1]

اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» 1.

و على هذا الأساس كانت أغلب الحروب و الغزوات التي قام بها النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و نشبت في حياته مثل«بدر»و«أُحد»و«الخندق»كانت حروباً دفاعية قام بها المسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أمره دفاعاً عن حوزة الدين.

كما أنّ (السرايا) التي بعثها النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانت لأجل إطفاء نيران الفتن و إحباط المؤامرات التي كان يحيكها أعداء الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية للقضاء على الدين الجديد،و استئصال جذوره و هدم بنيانه.

***

خصائص الجهاد الدفاعي

اشارة

إنّ للجهاد الدفاعي في الإسلام حدوداً و أحكاماً تميّزه عن الحروب التي يقوم بها الآخرون في عالمنا المعاصر.

و لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الخصائص-في آية واحدة-إذ قال سبحانه:

«وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» 2 .

ص:129

و الخصائص التي ذكرتها هذه الآية هي باختصار:

أ.الجهاد في سبيل اللّه (الهدف)

إنّ الجهاد و القتال يجب أن يكون للّه تعالى،و لكسب رضاه سبحانه،لا لنشر النفوذ،و ضمِّ بلد إلى بلد.

و هذه هي أهمّ خصيصة في الجهاد الإسلامي.

و نظراً لأهميتها القصوى أكّد عليها القرآن الكريم في آيات متعددة،و اعتبرها الفرق الجوهري بين الحروب الإسلامية و الحروب غير الإسلامية،و بين الجهاد الذي يقوم به المسلمون،و القتال الذي تمارسه دول العالم،و الجماعات غير المسلمة،إذ يقول:

«الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ» 1.

و لأجل ذلك يذم اللّه سبحانه كلّ قتال أو قيام يراد به التسلط على حطام الدنيا و متاعها،و يقول سبحانه:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ» 2.

و يقول سبحانه:

«ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ

ص:130

عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» 1 .

و يقول سبحانه:

«لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لاَتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» 2.

ب.القتال ضد المعتدي

و هي:انّ القتال لا يجوز إلاّ مع الذين يقاتلون المسلمين،و يبدءونهم بالعدوان،و هو شرط في هذا النوع من الجهاد دون الجهاد الابتدائي، الذي سيوافيك تفصيله.

فالقتال أساساً شُرع لصد العدوان و ردّ المعتدي،و إيقاف المتجاوز عند حدوده،و لهذا يأمر الإسلام أتباعه أن يكفّوا عن القتال إذا كفّ العدو عنه.

قال سبحانه:

«...فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً» 3 .

و يقول في آية لاحقة:

«...فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» 4.

ص:131

على أنّ الجهاد الدفاعي ربما يُشرع أيضاً عند ما يقوم العدو بنكث المواثيق،و نقض المعاهدات،و تعريض السلام المتفق عليه للخطر،أو يقوم بطرد الشخصيات الإسلامية من مواطنهم،و تشريدهم ظلماً،و عدواناً.

فعن الأوّل،يقول سبحانه:

«وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» 1.

و في آية لاحقة يشير سبحانه إلى الأمر الثاني و يقول:

«أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» 2.

كما و يندرج تحت هذا مكافحة الاستعمار بكلّ أشكاله و ألوانه...

ج.حدّ الجهاد

إنّ القتال يجب أن يكون في إطار الحقّ و العدل و لا يتجاوز حدودهما.و هو شرط مشترك بين الدفاعي و الابتدائي.

و لما كان الإسلام دين الحقّ و العدل فانّه أكّد على هذا الشرط أشدّ و أبلغ تأكيد،و صرح-مثلاً-بأنّ القتال و العدوان يجب أن يماثل العدوان الواقع على المسلمين و لا يتجاوز مقداره،و إلاّ عاد انتقاماً و خروجاً عن سنة العدل،فقال-في نفس الآية-:

«فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ

ص:132

وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» 1.

و يجدر بالذكر انّ إرداف الأمر بالجهاد بالحث على التقوى يوحي إلى ضرورة وجود صفة التقوى،و تقارنه مع الجهاد منعاً من تجاوز الحقّ و العدل،فانّ المقاتل غالباً ما تدفعه سورة الغضب إلى ارتكاب الجرائم و التعدي عن الحقّ إلاّ إذا خاف اللّه تعالى.

و قد أشار القرآن إلى ضرورة رعاية الحقّ في جميع الأحوال فقال سبحانه:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» 2.

هذا و قد دلّت-على تشريع هذا الجهاد-مضافاً إلى ما ذكر من الآيات،أحاديث و روايات متضافرة نأتي ببعضها:

قال الإمام علي عليه السلام:

«الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه...هو لباس التقوى،و درع اللّه الحصينة،و جُنته الوثيقة». (1)

و قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام في رسالته إلى بعض خلفاء بني أُميّة:

«الجهاد الذي فضّله اللّه على الأعمال و فضّل عامله على العمال تفضيلاً في الدرجات و المغفرة،لأنّه ظهر به الدين،و به يُدفع عن الدين». (2)

ص:133


1- 3) .نهج البلاغة:الخطبة 27. [1]
2- 4) .الوسائل:الجزء 11،الباب 1من أبواب جهاد العدو،الحديث 8. [2]في هذا الحديث إشارة إلى كلا النوعين من الجهاد (الدفاعي و الابتدائي) فقوله عليه السلام:«لأنّه ظهر به الدين»إشارة إلى الثاني،و قوله عليه السلام:«و به يدفع عن الدين»إشارة إلى الأوّل.

إلى غير ذلك من الأحاديث المذكورة في المصادر المعتبرة.

ثمّ إنّ من يجب جهادهم الدفاعي ثلاث طوائف:

1.البغاة على الإمام من المسلمين،كالخوارج الذين خرجوا على الإمام علي عليه السلام.

2.أهل الذمّة،و هم اليهود و النصارى و المجوس إذا أخلوا بشرائط الذمة.

3.من ليس لهم كتاب إذا تآمروا على المسلمين.

هذه هي لمحة خاطفة عن حقيقة الجهاد الدفاعي و دوافعه و خصائصه،و أمّا معرفة مسائله و فروعه و أحكامه التفصيلية فمتروكة إلى الكتب الفقهية المفصلة.

***

الجهاد التحريري (الابتدائي)

اشارة

لقد شرّع الإسلام-إلى جانب الجهاد الدفاعي-نوعاً آخر من الجهاد،هو الجهاد الابتدائي الذي يجدر أن يسمّى بالجهاد التحريري.

و تتلخص دوافع هذا النوع من الجهاد في أُمور عديدة نشير إلى ثلاثة منها،تاركين للقارئ الكريم مراجعة الكتب الفقهية المفصلة لمعرفة بقية هذه الدوافع و الأسباب:

1.تحرير البشرية من الشرك
اشارة

إنّ من أهمّ دوافع الجهاد التحريري هو مقارعة الوثنية و الشرك،و تحرير البشرية من اتخاذ أيّ معبود سوى اللّه،فالإسلام يأمر بعبادة اللّه وحده،و ينهى عن اتخاذ أيّ معبود سواه.

ص:134

يقول اللّه سبحانه:

«وَ لا تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ» 1.

و هذه حقيقة تدركها الفطرة البشرية السليمة،و لكن هذه الفطرة قد تنحرف و تحيد عن مسيرها الصحيح بفعل المؤثّرات و الدعايات و تضليل المضلّلين.

و هنا يفرض الدين على أتباعه أن يجاهدوا لتحرير العقول من قيودها،و تخليص الفطرة الإنسانية المنحرفة من براثن الوثنية بكلّ وسيلة ممكنة.

و ليس هذا ممّا يخالف حرية الإنسان في اتخاذ المعتقد الذي يريد،لأنّ الحرية ليست مطلوبة على إطلاقها.

ثمّ إنّ تخليص البشرية من براثن الوثنية إنّما هو خدمة و إكرام لها من الخضوع للموجودات الوضيعة.

و هذا أمر ضروري حتى إذا لم يدرك البشر أهميته،أو امتنع من قبوله تمشياً مع هواه.

فلو انّ وزارة الصحة-مثلاً-أرادت تلقيح الناس باللّقاح الصحي ضدّ مرض داهم،أو وباء قادم،لزم على الجميع القبول بهذا الأمر،و لم يكن لأحد الامتناع عن ذلك بحجة انّه حرّ لا يجوز إكراهه على شيء.

فلا تسمع منه هذه الحجّة،و لا يُقبل منه هذا الرفض،حفاظاً على الصحة العامة و صيانة للمجتمع من العَدْوى.

و يعتبر هذا الإكراه و الإلزام بهذا الأمر العقلائي رحمة له،و لطفاً به لا ظلماً و عدواناً.

إنّ عبادة الوثن تجعل عابد الوثن أذلّ من الصنم الذي نحته بيديه...و إلى ذلك يشير سبحانه-مستنكراً- «أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ» 2 ؟!!.

ص:135

ثمّ إنّ الخضوع للوثن يوجب انحطاط الفكر الإنساني،و وقوعه في الخرافات التي هي بمثابة القيود التي تكبِّل الفكر البشري،و تمنعه عن الانطلاق في مدارج الرقي و التكامل،و تحجز النفس الإنسانية من نيل الفضائل و السجايا الخلقية الكريمة.

هذا مضافاً إلى أنّ عبادة الأوثان و الأصنام توجد اختلافاً و تحزباً بين البشر،و تُفرّق وحدته،و تمزّق صفَّه،إذ كلّ جماعة تتخذ وثناً خاصاً تعبده و تتمسك به،و تنفي سواه،و في ذلك ضرر عظيم على حياة البشرية لا يقل عن خطر الطاعون و الوباء.يقول سبحانه حاكياً عن لسان يوسف:

«يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ» 1.

و لهذا يرى الإسلام محاربة هذا الوباء الفكري،و اقتلاعه من الجذور.

و من هنا أقدم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عند فتحه (مكة) على كسر الأصنام الموضوعة على البيت الحرام،و أمر كلّ صاحب وثن أن يحطِّم وثنه، و كان صلى الله عليه و آله و سلم يفعل ذلك كلّما فتح منطقة من مناطق الجزيرة. (1)

نعم صحيح انّ للتبليغ و الدعوة أثراً لا ينكر في إيقاظ الأفكار،و فكّها من إسارها،بيد انّه أثر محدود لا يعرفه إلاّ الزمرة الواعية،المثقَّفة، القادرة على استيعاب التوجيهات و المواعظ.

و لأجل ذلك يجب على إمام المسلمين قبل نشوب الحرب أن يدعو الكفّار و الأعداء إلى الإسلام،بالحكمة و الموعظة الحسنة،و يبالغ في إيقاظهم و توعيتهم و دعوتهم،و إتمام الحجّة عليهم.

ص:136


1- 2) .سيرة ابن هشام:143/2.

قال صاحب شرائع الإسلام:

«و لا يُبدءون إلاّ بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام و يكون الداعي الإمام أو من نصبه». (1)

و قد دلّت على ذلك من السنّة روايات متضافرة،منها ما عن السكوني عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام:قال:قال أمير المؤمنين عليه السلام:

«بعثني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى اليمن فقال:يا علي أ لا لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام،و أيم اللّه لئن يهدي اللّه عزّ و جلّ على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس و غربت و لك ولاؤه يا علي». (2)

و قد سئل الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام عن كيفية الدعوة إلى الدين،فقال:«تقول:(بسم اللّه الرحمن الرحيم أدعوك إلى اللّه عزّ و جلّ و إلى دينه و جُماعه أمران:

أحدهما:معرفة اللّه عزّ و جلّ.

و الآخر:العمل برضوانه،و انّ معرفة اللّه عزّ و جلّ أن يُعرف بالوحدانية و الرأفة و الرحمة و العزة،و العلم و القدرة و العلو على كلّ شيء، و انّه النافع الضار القاهر لكلّ شيء الذي لا تدركه الأبصار،و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير،و انّ محمّداً عبده و رسوله،و انّ ما جاء به هو الحقّ من عند اللّه عزّ و جلّ و ما سواه هو الباطل).

فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين،و عليهم ما على المسلمين». (3)

ص:137


1- 1) .شرائع الإسلام،كتاب الجهاد، [1]الركن الثاني.
2- 2) .وسائل الشيعة:الجزء11،الباب 10 من أبواب جهاد العدو،الحديث 1. [2]
3- 3) .وسائل الشيعة:الجزء11،الباب 11 من أبواب جهاد العدو،الحديث 1. [3]

بل و لو أنّ أحداً من المشركين استأمن و أراد أن يسمع كلام الحاكم الإسلامي أُعطي له الأمان ثمّ أُعيد إلى مأمنه،سواء كان قبل نشوب الحرب أو في أثنائه.

قال اللّه سبحانه:

«وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» 1.

غير انّ الدعوة و التبليغ ربما تؤثر في بعض الأشخاص و لا تؤثر في آخرين،خصوصاً إذا كان الدين يهدد مصالحهم و مطامعهم،و لذلك وجب محاربتهم...،إذ لا يكون الخير و الإصلاح حينئذٍ إلاّ بالسيف و منطق القوة.

و إلى هذا أشار النبي صلى الله عليه و آله و سلم،بقوله:

«الخير كلّه في السيف،و تحت ظلّ السيف،و لا يقيم الناس إلاّ السيف». (1)

فرض العقيدة ممنوع

قد يتوهم الجاهل بمعالم الدين الإسلامي و أحكامه انّ الهدف من الجهاد التحريري إنّما هو فرض العقيدة الإسلامية على الناس فرضاً.

و لكن هذا ظن واضح البطلان،معلوم الضعف لمن له أدنى معرفة بطبيعة الدعوة الإسلامية.

فانّ الإسلام الذي يشجب و يستنكر على بعض الناس اتّباعهم لعقائد آبائهم و أجدادهم الباطلة،و تقليدهم تقليداً أعمى دون أن يسمحوا لهم بأن

ص:138


1- 2) .وسائل الشيعة:الجزء11،الباب 1 من أبواب جهاد العدو،الحديث1. [1]

يفكِّروا،و يحقّقوا،و يفتشوا عن المعتقد الحقّ،ليعتنقوه بالبرهان،و الدليل؟

إنّ اعتناق عقيدة ما يجب أن يكون قائماً على أساس البحث و الفحص و التحقيق،و مرتكزاً على البرهان و الدليل،و لذلك فهو يقبّح اتّباع السلف دون مراجعة لعقائدهم،و تحقيق في صحتها أو بطلانها،إذ قال:

«وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [أي طريقة] وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ* قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ* فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» 1.

و قال سبحانه:

«وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ» 2.

و بتعبير آخر:انّ الإسلام ذمّ التقليد في الأَصول و العقائد و الجري على سنن الآباء و الأجداد بلا تأمل و لا تدبّر،و طالب بالتفكّر،و التعقّل، فكيف يأمر أتباعه بأن يفرضوا العقيدة الإسلامية على الآخرين بقوة النار و الحديد؟!

كيف؟! و قد صرح بحرية الاعتقاد،بقوله سبحانه:

«لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» 3.

إنّ القرآن الكريم يصرح بأنّ الاختلاف الفكري،و التنافس الإيديولوجي أمر غريزي طبيعي،و لذلك فهو باق إلى يوم القيامة و لا يمكن إزالته من رأس،و لا يصحّ إلغاؤه بالمرة.

ص:139

قال سبحانه:

«وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ» 1.

إنّ القرآن الكريم ينهى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم عن فرض العقيدة الإسلامية على الناس،لأنّ اللّه شاء لهم أن يكونوا أحراراً في ذلك،و هو في الوقت نفسه يعطينا درساً في مجال التبليغ و الدعوة يجب أن نسير على ضوئه،فيقول:

«وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» 2.

إذن فلم يشرع الجهاد الابتدائي لفرض العقيدة على الناس أو حملهم على الخضوع لمنهج الدين دون اختيار منهم أو إرادة حرة.

2.كسر الأطواق المفروضة على الشعوب

إنّ هناك داعياً آخر لتشريع الجهاد الابتدائي و هو كسر الأطواق المفروضة على الشعوب،و إسقاط الحكومات التي تمنع من وصول الإسلام إلى الناس و تسلب حرياتهم،و تكرههم على اتخاذ عقيدة خاصة،و المشي على حسب منهج خاص و إن كانوا لا يرتضونه.

و بهذا يكون الجهاد الابتدائي لرفع الموانع و الحواجز التي تحيل دون وصول العقيدة الحقّة إلى الناس،و تحريرهم من تلك القيود التي تكبّلهم.

3.تخليص المستضعفين من براثن الظالمين

إنّ الهدف الثالث من أهداف الجهاد التحريري أو الابتدائي هو إنقاذ

ص:140

الشعوب المستضعفة من اضطهاد الحكام الجائرين،و استبدادهم و ظلمهم،و حيث إنّ هذا الهدف لا يتحقّق إلاّ باستخدام القوّة و حمل السلاح،اتخذ القرآن طريق الجهاد،و قال:

«وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً» 1.

و قد وردت الإشارة إلى هذا الهدف في تصريحات مبعوث عسكر المسلمين الذي أرسل إلى قائد جحافل الشرك حينما سأله:ما حملك على هذا،فقال:«اللّه جاء بنا،و هو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها،و من جور الأديان إلى عدل الإسلام».

و ورد في نص آخر:«و في إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة اللّه». (1)

إذن لم يكن تشريع هذا الجهاد لغرض الاستيلاء على الأراضي،أو بهدف السيطرة على منابع الثروة،أو استعمار الشعوب،كما هو هدف الحروب غير الإسلامية في الماضي و الحاضر.

كما أنّ الإسلام ينهى عن العدوان لبعض الأسباب التي تعود إلى المسائل الشخصية،و القضايا الفردية،التي لا تنطوى على مصلحة الإسلام و المسلمين الكلية...و في هذا الصدد يقول القرآن الكريم:

«وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ

ص:141


1- 2) .الكامل في التاريخ:462/2- 463 [1] من حوادث سنة 14.

تَعْتَدُوا» 1.

و بما انّ الجهاد التحريري ينطوي على أحكام دقيقة،و ظريفة،لا يعرفها إلاّ الإمام العادل العارف بالدين،و العالم بالظروف،لم يجز أن يقوم المسلمون بهذا الجهاد إلاّ بقيادة (إمام معصوم) أو من ينوب منابه في السلطة الدينية و الزمنية.

نعم في مشروعية الجهاد التحريري في غياب الإمام المعصوم بحث مفصل في الكتب الفقهية.

و إلى هذا أشار الإمام الصادق عليه السلام بقوله:

«و الجهاد واجب مع إمام عادل». (1)

نعم هناك كلمة أخيرة على هامش البحث،و هي:

إنّه يجب على الدولة الإسلامية-قبل نشوب أي حرب-إعداد المسلمين و تجهيزهم بكلّ ما تستطيع من قوة في كلّ زمان بحسبه،على أن يكون القصد الأوّل من ذلك هو إرهاب العدو،و إخافته من عاقبة التعدّي على بلاد المسلمين كي ينعم المواطنون بالطمأنينة و الاستقرار في بلادهم،إذ يقول القرآن الكريم:

«وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ» 3.

و يبقى أن نقول إنّ القتال و النضال بما هو هو ليس أمراً قبيحاً،و إنّما يصطبغ بالحسن أو القبح نتيجة الغايات المترتبة على القتال.

ص:142


1- 2) .وسائل الشيعة:الجزء11،الباب 12 من أبواب جهاد العدو،الحديث 9و10. [1]

فلو كان القتال بهدف الاعتداء و التجاوز على النفوس و الأعراض و الأموال و الحرمات فيكون القتال أمراً منكراً،و يعدّ وحشية همجية، و يكون المباشر له حيواناً ضارياً تلبس بالإنسانية.

و إذا كان القتال لحفظ الشرف و الإنسانية و منع المعتدين عن الاعتداء،و غير ذلك من الأهداف المشروعة المذكورة سلفاً فلا يكون قبيحاً بل يعتبر وظيفة إنسانية.

هذه دراسة عابرة للجهاد التحريري حقيقة و هدفاً و فلسفة،و التفصيل موكول إلى محلّه في الكتب الفقهية المطوّلة.

رعاية الأخلاق في الحرب

اشارة

إنّ وقائع الحروب تشهد بأنّ الجبابرة و الطواغيت ينسون-عند نشوب الحروب-كلّ القيم الإنسانية و الأُصول الأخلاقية،فيرتكبون كلّ جريمة،و يقترفون كلّ جناية دون أن يردعهم عن ذلك رادع،أو يتقيدوا في القتال بقانون.

و ليس هذا أمراً يتصل بالماضي،فساحات المعارك اليوم،و ما تشهده من فظائع خير دليل على ما ذكرناه.

صحيح انّ هناك أعرافاً دولية،و قوانين عالمية للحروب،و لكن رعاية هذه القوانين و الأعراف ضئيلة،أو كادت أن تكون مفقودة أصلاً.

هذا مضافاً إلى أنّ هذه القوانين و الأعراف لا تكون-في الأغلب-شاملة،أو كافية.

غير انّ الإسلام سنَّ للحرب و القتال حدوداً دقيقة من شأنها أن تجعل الحرب في إطار الأخلاق و القواعد الإنسانية.و لم يكتف بمجرد تشريعها و وضعها،

ص:143

بل عمل بها في كافة حروبه و وقائعه.

من هنا يجب علينا أن نقف على هذه الحدود،لنتعرف على مدى رحمة الإسلام و إنسانيته و عدالته حتى في الحروب،حيث يفقد المتقاتلون توازنهم عادة،فلا يتورّعون عن ارتكاب كلّ كبيرة و صغيرة،و تشهد على ذلك الحرب العالمية الأُولى و الثانية،و كذا الحروب التي شنها الغرب على الشرق في مختلف المناطق في القرن الحاضر،و نخص بالذكر المعارك الدامية بين الاستعمار الفرنسي و الشعب الجزائري البطل،و الاستعمار الأمريكي و الشعب الفيتنامي،و الاستعمار الإسرائيلي و الشعب الفلسطيني،و ما جرى في هذه الحروب من الممارسات الوحشية المروعة على يد هذه القوى الاستعمارية.

1.الآمنون في الحرب

لمّا كانت العدالة الاجتماعية هي المطلب الأقصى للإسلام،و لم تكن للحرب أصالة في منطقه،و لم تكن بنفسها هدفاً بل شرعت لدفع المعتدين و إزالتهم عن طريق الدعوة الحقّة،اقتضى ذلك كلّه أن لا يحمل إلاّ على الظالمين،و لذا قال القرآن الكريم:

«فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ» 1.

و لأجل ذلك نهى الإسلام عن قتل طائفة من الناس إذا لم يساندوا الأعداء الظالمين و لم يمارسوا القتال معهم،و هؤلاء هم:

1.النساء.

2.الولدان.

ص:144

3.المجانين.

4.الأعمى.

5.الشيخ الفاني.

6.المقعد.

و قد دلّت على ذلك أحاديث متضافرة،منها ما عن الإمام الصادق عليه السلام انّه قال:

«نهى رسول اللّه عن قتل المقعد و الأعمى و الشيخ الفاني و المرأة و الولدان في دار الحرب». (1)

2.السيطرة على النفس

لا ريب انّ الحرب سبب قوي لغليان المشاعر و ارتفاع سورة الغضب إلى أقصاها،و لهذا ربما يؤدي إلى ارتكاب أقسى ألوان الجريمة في حقّ الخصم.

و من هنا يجب أن يعطى زمام الحرب للعقل لا للمشاعر الملتهبة،و الأحاسيس المشتعلة.

و لقد أعطى النبي صلى الله عليه و آله و سلم تعاليماً عامة في الحرب،و كان يوصي بها كلّ جيش يبعثه،و كلّ سرية يرسلها.

و إليك فيما يأتي نموذجاً من الآداب التي أدّب فيها النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو الإمام علي عليه السلام المجاهدين و المقاتلين و التي تكفل إنسانية الحروب و عدالتها.

عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام انّه قال:

«كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا أراد أن يبعث سرية،دعاهم فأجلسهم بين يديه،ثمّ

ص:145


1- 1) .الكافي:28/5 ح6،كتاب الجهاد. [1]

يقول:

سيروابسم اللّه و باللّه و في سبيل اللّه و على ملّة رسول اللّه،لا تغلوا،و لا تغدروا،و لا تقتلوا شيخاً فانياً،و لا صبياً،و لا امرأة،و لا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطروا إليها.

و أيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام اللّه،فان تبعكم فأخوكم في الدين،و إن أبى فأبلغوه مأمنه،و استعينوا باللّه».

و عنه عليه (1)السَّلام أيضاً انّه قال:

«إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان إذا بعث أميراً له على سرية أمره بتقوى اللّه عزّ و جلّ في خاصة نفسه،ثمّ في أصحابه عامة،ثمّ يقول:

اغز باسم اللّه،و في سبيل اللّه.

قاتلوا من كفر باللّه،لا تغدروا و لا تغلوا،و لا تمثلوا،و لا تقتلوا وليداً،و لا متبتلاً في شاهق و لا تحرقوا النخل و لا تغرقوه بالماء و لا تقطعوا شجرة مثمرة،و لا تحرقوا زرعاً،لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه.

و لا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلاّ ما لا بدّ لكم من أكله،و إذا لقيتم عدواً للمسلمين فادعوهم...». (2)

بل و نصّ بعض الفقهاء على أنّ المرأة لا تُقتل حتى لو كانت تعاون الأعداء،لأنّ النساء مستضعفات غالباً،و هنّ يُرغمنَ على القيام بمثل هذا التعاون إرغاماً.

ص:146


1- 1) .الوسائل:الجزء11،الباب 15 من أبواب جهاد العدو،الحديث 2. [1]
2- 2) .الوسائل:الجزء11،الباب 15 من أبواب جهاد العدو،الحديث 3. [2]

قال المحقّق الحلي في المختصر النافع:

«و لا يُقتل نساؤهم و لو عاونّ إلاّ مع الاضطرار». (1)

و هذا يجسد منتهى الرحمة و الإنسانية التي يتحلى بها الدين الإسلامي.

و قد جاء في بدر انّ عمر بن الخطاب،قال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

يا رسول اللّه دعني انزع[اقلع] ثنيتي سهيل بن عمرو،و يدلع لسانه [و كان سهيل خطيباً يهرّج ضد النبي] فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا أُمثّل به فيمثّل اللّه بي و إن كنت نبياً». (2)

إنّ مقارنة بين هذه التعاليم و المواقف الإسلامية و الجنايات و الجرائم الوحشية التي ارتكبتها الدول الكبرى في مستعمراتها كالجزائر و فيتنام و غيرهما توقفنا على إنسانية الدين الإسلامي و رحمته في الحروب.

3.منع ممارسة الأساليب الوحشية

إنّ الإسلام يحرّم إهلاك العدو بالطرق غير الإنسانية مثل إلقاء السمّ في الماء،أو قطعه عنهم،أو إرساله على مخيمهم لغرقهم،أو حرقهم بالنار.

و في ذلك يقول المحقّق الحلي في المختصر النافع:

«و يجوز المحاربة بكلّ ما يرجى به الفتح...».

ثمّ قال:

«و يكره بإلقاء النار و يحرم بإلقاء السم». (3)

ص:147


1- 1) .المختصر النافع:112،كتاب الجهاد،طبعة القاهرة.
2- 2) .سيرة ابن هشام:642/2. [1]
3- 3) .المختصر النافع:112،كتاب الجهاد.

و قال العلاّمة الحلّي في تبصرة المتعلمين:

«و يجوز المحاربة بسائر أنواع الحرب،إلاّ القاء السمّ في بلادهم». (1)

ثمّ ها هو الإمام علي عليه السلام في صفين بعد الاستيلاء على المشرعة لا يمنع جيش معاوية عن الماء و إن كان معاوية قد فعل ذلك قبل ذلك. (2)

إلى هذه الدرجة الرفيعة من الرحمة و الشفقة تبلغ رحمة الإسلام،بينما لا تتورع الدول الكبرى عن قصف الشعوب المقهورة،بقنابل النابالم،و غيرها من أسلحة الدمار الشامل.

و من الذي يمكن أن ينسى ما فعلته الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية حينما قصفت«هيروشيما»،و«ناكازاكي»بالقنابل الذرية،فأبادت ما يقارب نصف مليون نسمة و حذف ذينك البلدين من الخارطة الجغرافية،بذريعة التعجيل في إنهاء الحرب،كما قال«ترومن» رئيس الجمهورية الأمريكي الأسبق عام 1945م.

4.إعطاء الأمان للكفّار

إنّ الإسلام-بحكم كونه رسالة إلهية و دعوة سماوية لهداية الإنسان يحرص على الانضواء تحت لوائه عن رغبة و إرادة.

و لتحقيق هذا الهدف الأسمى نجد انّ الإسلام يسمح بإعطاء الأمان لكلّ من يطلب ذلك من الكفّار لكي يسمع منطق الإسلام،و يقف على تعاليمه،سواء كان ذلك عند نشوب الحرب،أو في غير الحرب.

ص:148


1- 1) .تبصرة المتعلمين:81،كتاب الجهاد. [1]
2- 2) .راجع وقعة صفين لابن مزاحم:166- 167،طبعة مصر.

بل انّ الإسلام يعطي الحقّ لكلّ مسلم أن يمنح الأمان لمن شاء،و لو كان لغير الهدف المذكور.

قال المحقّق الحلي في الشرائع:

«و يجوز أن يذم الواحد من المسلمين لآحاد من أهل الحرب». (1)

و قال في المختصر النافع:

«و يذم الواحد من المسلمين للواحد و يمضي ذمامه على الجماعة و لو كان أدونهم». (2)

ثمّ إنّ ما يدلّ على مدى عناية الإسلام و حرصه على الدماء انّه يجير حتى من دخل في حوزة المسلمين بشبهة الأمان و ظنه،فهو مأمون حتى يرد إلى مأمنه دون أن يصيبه أذى.

قال المحقّق في الشرائع:

«و كذا كلّ حربي دخل في دار الإسلام بشبهة الأمان،كأن يسمع لفظاً فيعتقده أماناً،أو يصحب رفقة فيتوهمها أماناً». (3)

و قال في المختصر النافع:

«و من دخل بشبهة الأمان فهو آمن حتى يردّ إلى مأمنه». (4)

و تدل على هذا،أحاديث منها:

ما عن الإمام الصادق عليه السلام انّه قال:

«لو انّ قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان،فقالوا:لا،فظنوا انّهم قالوا:

ص:149


1- 1) .شرائع الإسلام:313/1،كتاب الجهاد، [1]في الذمام،طبعة البقال؛و راجع الجواهر:96/21. [2]
2- 2) .المختصر النافع:112،كتاب الجهاد.
3- 3) .الشرائع:313/1- 314،كتاب الجهاد. [3]
4- 4) .المختصر النافع:112،كتاب الجهاد.

نعم،فنزلوا إليهم كانوا آمنين». (1)

و من مظاهر العدل و المساواة انّ الإسلام يجيز أمان العبد المسلم،كما يجيز أمان الحرّ المسلم سواء بسواء.

و تدلّ على هذا الحكم الإسلامي العظيم،روايات عديدة،منها:

ما عن الإمام الصادق عليه السلام لمّا سأله السكوني عن معنى قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم يسعى بذمتهم أدناهم،قال عليه السلام:

«لو انّ جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين فأشرف رجل،فقال:أعطوني الأمان حتى صاحبكم و أناظره،فأعطاه أدناهم الأمان،وجب على أفضلهم الوفاء به». (2)

و عن الصادق عليه السلام أيضاً انّه قال:

إنّ علياً عليه السلام أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون،و قال:هو من المؤمنين». (3)

و لقد روى ابن الأثير في تاريخه الكامل:انّ المسلمين نزلوا بجنديسابور فأقاموا عليها يقاتلونهم،فرمى إلى من بها من عسكر المسلمين بالأمان.فلم يفجأ المسلمين إلاّ و قد فتحت أبوابها،و أخرجوا أسواقهم و خرج أهلها،فسألهم المسلمون،فقالوا:رميتم بالأمان،فقبلناه،و أقررنا بالجزية على أن تمنعونا.

فقال المسلمون:ما فعلنا....

و سأل المسلمون فيما بينهم،فإذا عبد يدعى كثيفاً كان أصله منهم،فعل

ص:150


1- 1) .الوسائل:الجزء11،الباب 20 من أبواب جهاد العدو،الحديث 4. [1]
2- 2) .الوسائل:الجزء 11،الباب 20 من أبواب جهاد العدو،الحديث 1،2. [2]
3- 3) .الوسائل:الجزء 11،الباب 20 من أبواب جهاد العدو،الحديث 1،2. [3]

هذا.

فقالوا:هذا عبد.

فقال أهلها:لا نعرف العبد من الحرّ،و قد قبلنا الجزية،و...فإن شئتم فاغدروا.فكتبوا لعمر فأجاز أمانهم،فآمنوهم،و انصرفوا عنهم». (1)

و هذا هو نموذج واحد من سلوك المسلمين في هذا المجال و يجد نظائره كلّ من راجع التاريخ الإسلامي.

هذه إلمامة عابرة بملامح الجهاد في القرآن الكريم و فلسفته و غايته.

ص:151


1- 1) .الكامل في التاريخ:553/2. [1]

5

اشارة

شخصية النبي صلى الله عليه و آله و سلم و سيرته

في القرآن الكريم

تمر علينا هذه الأيّام،ذكرى عطرة هي ذكرى مولد النبي صلى الله عليه و آله و سلم،هذه الولادة التي دخلت التاريخَ من أوسع بابه و استطاعت أن تُنقذ البشرية من براثن الإلحاد و الشرك إلى التوحيد و العدل.فإقامة الاحتفال في هذه المناسبة العظيمة،و إلقاء الخطب و القصائد في مدحه،و ذكر جهوده في إنقاذ الأُمّة كلُّها من مظاهر حبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم الذي هو أصل من أُصول الإسلام،و من دعا إلى الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله و سلم عبر القرون فقد انطلق من هذا المبدأ،و جسّد حبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم الذي أمر به القرآن و السنة و على ذلك جرى علماؤنا السابقون.

يقول الديار بكري في هذا الصدد:لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده،و يعملون الولائم،و يتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، و يُظهرون السرور،و يزيدون في المبرات،و يعنون بقراءة مولده الشريف،و يظهر عليهم من كراماته كلّ فضل عظيم. (1)

و قال ابن حجر القسطلاني:و لا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السلام

ص:152


1- 1) .تاريخ الخميس:323/1. [1]

يعملون الولائم،و يتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات،و يظهرون السرور،و يزيدون المبرّات،و يعتنون بقراءة مولده الكريم،و يظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عميم...فرحم اللّه امرئ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً،ليكون أشدّ علة على من في قلبه مرض و أعياه داء. (1)

إنّ حبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أصل من أُصول الإسلام و تكفي في ذلك الآيتان التاليتان:

قال سبحانه:

«قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» 2.

و قال سبحانه: «وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» 3.

و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ماله و أهله و الناس أجمعين». (2)

فالاحتفاء بميلاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذا كان مجرداً عن كلّ ما يخالف الإسلام فإنّما هو تجسيد للحب الذي فرض علينا،و لا أقول إنّه المظهر المنحصر لا غير و إنّما أقول إنّ الاحتفال من أحد مظاهر الحبّ.

ص:153


1- 1) .المواهب اللدنية:27/1. [1]
2- 4) .جامع الأُصول:238/1.

و هذا هو كعب بن زهير ينشد قصيدة طويلة في مدح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منطلقاً من حبه له و رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يستمع إليه،قال: بانت سعادُ فقلبي اليوم مَتْبُول

إلى آخر ما ذكره.

و ما ربما يتوهم انّ الاحتفال بدعة لم يرد في القرآن و السنّة،فإنّما هو غفلة عن حقيقة البدعة و تحديدها،فهي عبارة عمّا لم يرد في السنة بخصوصه و عمومه،و أمّا إذا ورد بصورة عامة و تركت التفاصيل و الجزئيات إلى الأجيال فهذا ليس بدعة،فقد أُمر الناس بحبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم و تركت مظاهره إلى مقتضيات العصر.

هذا إلى جانب انّه سبحانه يصف النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» 2 و هذا يدلّ على أنّ رفع ذكر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر مطلوب قام به سبحانه بإعطائه النبوة،و تكريمه بالرسالة،فنحن أيضاً نقتفي أثره و نرفع ذكراه بإقامة المجالس و الاحتفالات ليكون رفعاً لذكره و ذكر أهل بيته.

فلما ذا لا نقتدي بالقرآن؟

أ ليس القرآن قدوة و أُسوة لنا؟

هذا...و ليس لأحد أن يقول:إنّ رفع ذكره صلى الله عليه و آله و سلم خاص باللّه سبحانه و لا يشمل غيره،لأنّ ذلك يشبه أن يقول:إنّ نصر النبي خاص باللّه سبحانه،و لا يجوز لأحد من المسلمين أن ينصره،و قد قال تعالى: «وَ يَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْراً عَزِيزاً» 3 .

ص:154

فعلى ذلك نحتفل بذكر النبي صلى الله عليه و آله و سلم ببيان سيرته و شخصيته في القرآن الكريم،فنقول:

لقد استأثرت حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم باهتمام عدد كبير من المفكّرين الإسلاميين و غيرهم على مرّ العصور،فكتبوا حول هذه الشخصية العظيمة،موسوعات و كتباً و رسائل كل يتناول جانباً من جوانب حياة هذه الشخصية بنحو قلما تجد له مثيلاً في التاريخ البشري،و لو جمعت هذه الدراسات بمختلف اللغات لشكّلت مكتبة عامرة و ضخمة يجد فيها الإنسان بغيته في التاريخ النبوي و ما يمت إليه بصلة.

إنّ أوثق المصادر في دراسة سيرته هو القرآن،فقد وردت آيات مختلفة،تشير إلى شخصيته و سيرته،و إلى أخذ الميثاق من النبيّين على الإيمان به،و إلى ثقافة قومه و حضارة بيئته،و إلى العراقيل و الموانع الموجودة حيال دعوته و معراجه و إسرائه،و هجرته إلى يثرب و اشتباكه المسلح مع اليهود،و غزواته و براءته من المشركين و جهاده في الإسلام و تبليغ رسالته إلى ملوك عصره،إلى غير ذلك ممّا يجده الباحث في غضون آيات القرآن.

فإذا كان القرآن هو كلام اللّه سبحانه الموحى إلى عبده الذي لا يتطرق إليه الخطأ و السهو و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، فالقرآن هو أفضل محك لمعرفة صحيح سيرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم،عن سقيمها فعلى ضوء ذلك يجب أن يطبق ما ورد في كتب السير و التاريخ حول حياته،على القرآن الكريم كي يرد ما خالفه و يقبل ما لم يخالفه.

فالقرآن الكريم يتتبع سيرة حياته في فصول ثلاثة:

أ:من ولادته إلى بعثته.

ب:من بعثته إلى هجرته.

ص:155

ج:من هجرته إلى رحلته.

و بما انّ دراسة هذه الفصول الثلاثة في ظل الكتاب العزيز و نقد ما خالفه من الروايات يحوجنا إلى تأليف مفرد أو محاضرات عدة، فنكتفي بالفصل الأوّل من فصول حياته الثلاثة و نحيل الباقي إلى كتابنا«سيد المرسلين».

أ:من ولادته إلى بعثته

اشارة

نجد في القرآن الكريم إشارات عدّة إلى حياته في هذا المقطع الزماني.

1.عاش يتيماً فآواه.

2.كان ضالاً فهداه.

3.كان عائلاً فأغناه.

4.كان أُمّياً لا يجيد القراءة و الكتابة.

إليك دراسة هذه الجوانب في أوّليات حياته أي من الولادة إلى البعثة.

الأوّل:الإيواء بعد اليتم

قال سبحانه: «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى* وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى* وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى» 1 .

فما هو السر في أنّه عاش يتيماً،؟!

و يمكن أن يكون وجهه هو انّ هذا الطفل سيلقى عليه في مستقبل حياته قول ثقيل،كما قال سبحانه: «إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً» 2.

ص:156

و أي قول أثقل من هداية الأُمّة الأُمية إلى معالم السعادة،و الّتي لا يقوم بهذا العبء الثقيل إلاّ الأمثل فالأمثل من الشخصيات التي ملأ روحها الصمود و الثبات،و لا تحصل تلك الحالة إلاّ بعد تذوق مرارة الدهور و مآسي الأيام حتى يقع في بوتقة الأحداث و يخرج مؤهلاً لحمل عبأ الرسالة و هداية الناس و قد صار كزبر الحديد،عركته المحن و حنّكته التجارب.

كما يمكن أن يكون وجهه انّه ولد يتيماً و نشأ يتيماً حتى يقف على الوضع المأساوي السائد على الأيتام في عامة الأجيال،و لذلك يقول:

«أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى» ثمّ يرتب عليه «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ» .

و روي عن الإمام الصادق عليه السلام وجه ثالث لتولده يتيماً و عيشه كذلك،فقال:«إنّ اللّه عزّ و جلّ أيتم نبيّه لكي لا يكون لأحد عليه طاعة». (1)

و من غرائب التفسير،تفسير اليتيم في الآية بالوحيد،كما يقال«الدرّة اليتيمة»،و لكنّه تفسير بالرأي لا يناسب قوله «فَآوى» كما لا يناسب مع ما رتب عليه من النهي عن قهر اليتيم.

الثاني:الهداية بعد الضلالة

و يشير إلى هذه الحقبة من حياته،قوله سبحانه: «وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى» فالمهم تفسير هذه الضلالة التي أعقبتها الهداية،فانّ الضلالة تطلق على معنيين يجمعها فقد الهداية.

الأوّل:هيئة نفسانية تحيط بالقلب فيكفر باللّه سبحانه و آياته و حججه الباهرة و أنبيائه و رسله،فالضلالة بهذا المعنى هي الهيئة الراسخة في قلوب الكفّار

ص:157


1- 1) .علل الشرائع:31/1. [1]

و المنافقين فهم منحرفون في التصورات و العقائد،كما أنّهم منحرفون في الخلق و السير.

الثاني:الضلالة بمعنى فقد الهداية في مورد يقبلها،كما هو الحال في الاطفال و الاحداث فهم يفقدون الهداية التفصيليّة لا الفطرية، فتشملهم هداية العقل و الشرع.

فاللّه سبحانه يصف النبي صلى الله عليه و آله و سلم بكونه ضالاً،ثمّ شملته الهداية،فيريد من الضلالة فقد الهداية الذاتية لا الهيئة النفسية الوجودية،و هذا شأن كلّ موجود امكاني لا يملك الكمال من صميم ذاته و إنّما يُفاض إليه من جانب علته،فقد كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم فاقداً لتلك الهداية الذاتية،ثمّ أُفيضت إليه من لدن ان كان فطيماً.

كما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:«و لقد قرن اللّه من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليلاً و نهاراً». (1)

و على ذلك فوزان قوله «وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى» وزان قوله سبحانه:

«أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» 2 .

و قوله سبحانه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ» 3.

فالخسران في الآية لا يشير إلى ولادة الإنسان كافراً باللّه سبحانه،بل يهدف إلى عدم حيازته لهداية ذاتية.

نعم لو عاش و اكتمل رشده و رفض دعوة الرسل و أنكر آيات اللّه لتبدّل الخسران الذاتي إلى هيئة ظلمانية تحدق بالقلب و الروح، فالضلالة بالمعنى الأوّل

ص:158


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 193. [1]

ذاتية،و بالمعنى الثاني:مكتسبة.

و بما ذكرنا يتضح معنى الآية الأُخرى التي اتخذ منها المخطئة ذريعة لنفي عصمته قبل أن يُبعث،أعني قوله سبحانه: «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 1.

فقد وقعت الآية ذريعة لنفي العصمة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و تمسكوا في ذلك بأمرين:

1.ما تدري ما الكتاب.

2.و(ما كنت تدري) الإيمان.

لكن الاستدلال مخدوش من جهتين:

الأُولى:انّ حياته المشرقة بالتوحيد و الإيمان-قبل البعثة -تدلّ على أنّه كان مؤمناً باللّه،متعبّداً إياه،لم يسجد لصنم،و لم يقترف سيئة، فهل يمكن أن يكون مثله مجانباً عن الإيمان بوجوده سبحانه أو توحيده،و قد كان-صلوات اللّه عليه-يعتكف قبل البعثة في غار حراء شهر رمضان،و لو أردنا أن نذكر جلّ ما ورد في التاريخ حول تلك الحقبة من حياته لطال بنا الكلام،و لخرجنا عمّا هو المقصود.

الثانية:ليست في الآية المباركة أية إشارة إلى ادّعاء المخطّئة فضلاً عن الدلالة،لأنّه سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بقوله: «كَذلِكَ» أي كما قد أوحينا إلى من تقدم من الأنبياء،كذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا،و المراد من الروح،هو القرآن الموحى إليه،و سمّي روحاً لأنّه قوام الحياة الأُخروية كما أنّ الروح قوام الحياة الدنيوية.

ص:159

ثمّ يقول: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ» أي لو لا الوحي ما كان من شأنك الوقوف على تفاصيل ما في الكتاب،و لا على تفاصيل ما يجب الإيمان به،فالعلم التفصيلي بمضامين الكتاب و ما فيه من الأُصول و التعاليم و القصص ثمّ الإذعان و الإيمان بتلك التفاصيل حصل عند نزول الوحي،و لولاه لما كان هناك علم و لا إيمان.

و بما انّ القرآن يفسر بعضه بعضاً،فهناك آيتان تفسّران كلاً من الأمرين.

أمّا قوله: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ» ،فيفسره قوله «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» 1 فالآية صريحة في أنّ النبي لم يكن عالماً بتفاصيل الأنباء و إنّما وقف عليها عن طريق الوحي،فعبر عن عدم وقوفه عليها في هذه الآية،بقوله: «ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ» .

و أمّا قوله: «وَ لاَ الْإِيمانُ» فيفسره قوله: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ» 2 فقوله: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ» صريح في أنّ متعلّق الإيمان الحاصل بعد الوحي،الإيمان بما أُنزل إليه من تفاصيل الكتاب،لا الإيمان باللّه و توحيده.

و جميع هذه الآيات تشير إلى تكريمه سبحانه نبيّه و إنعامه عليه الذي جاء في الآية التالية: «وَ أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» (1).

ص:160


1- 3) .النساء:113. [1]

3.

الثالث الإغناء بعد العيلولة

يذكر سبحانه من مننه الكبرى على النبي صلى الله عليه و آله و سلم انّه كان فقيراً فأغناه اللّه بالكسب،و هذا أمر واضح لمن طالع سيرته حتى انّ عمّه أبا طالب حينما خطب خديجة لابن أخيه،فوصفه بالقول التالي:

هذا محمد بن عبد اللّه لا يوازى برجل من قريش إلاّ رجح عليه،و لا يقاس بأحد منهم إلاّ عظم عنه،و إن كان في المال مُقلاًّ،فانّ المال ورق حائل،و ظلّ زائل. (1)

و حصيلة البحث:انّ هذه الآيات الثلاث،أعني:قوله سبحانه: «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى* وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى* وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى» تعرب عن الود و الحبّ و الرحمة و الإيناس التي عمَّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بها في أوان حياته.

الرابع:أُمية النبي صلى الله عليه و آله و سلم
اشارة

القرآن الكريم يصف النبي صلى الله عليه و آله و سلم بكونه أُمّياً في آيتين،و يقول: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» 2.

فهذه الآية تصف النبي صلى الله عليه و آله و سلم بصفات عشر:

1.رسول،2.نبي،3.أُمّي،4.مكتوب اسمه في التوراة و الإنجيل،5.منعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف،6.و ينهى عن المنكر،7.و يحلّ لهم الطيّبات،8.

ص:161


1- 1) .بحار الأنوار:6/16 [1]نقلاً عن مناقب ابن شهرآشوب:26/1. [2]

و يحرّم عليهم الخبائث،9.و يضع عنهم إصرهم،10.و يضع عنهم الأغلال التي كانت عليهم.

كما أنّه سبحانه يصرح بكونه أُمّياً في آية ثانية،و يقول:

«فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» 1 .

إنّما الكلام فيما هو المراد من الأُمّي.

و الأُمّي هو المنسوب إلى الأُمّ،و يراد منه بقاء الإنسان على ما ولدته أُمّه،و بما انّ الإنسان الذي لا يجيد القراءة و الكتابة فهو باقٍ على ما ولدته أُمّه يطلق عليه الأُمّي،و على ذلك فتفسير الأُمّي بمن لا يقرأ و لا يكتب تفسير باللازم.

كما أنّ تفسير الأُمّة العربيّة يوم نزول القرآن بالأُميّة بهذا المعنى أي الباقون على ما ولدتهم أُمّهاتهم،قال الرازي:إنّه تعالى وصف محمداً صلى الله عليه و آله و سلم في هذه الآية بصفات تسع (1)،إلى أن قال:الصفة الثالثة كونه أُمّياً،قال الزجاج:معنى الأُمّي الذي هو على صفة أُمّة العرب،قال عليه الصلاة و السلام:إنّا أُمّة أُمية لا نكتب و لا نحسب،فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون و لا يقرءون،و النبي كان كذلك،فلهذا السبب وصفه بكونه أُمّياً. (2)

هذا هو المعنى المعروف للأُمّي بين المفسرين،غير انّ ثمة رأياً آخر يخالف ما عليه مشاهير المفسرين و هو:

الأُمّي منسوب إلى أُمّ القرى

و هذا القول يفسر الأُمّي بالمنسوب إلى أُمّ القرى التي هي من أعلام مكة،

ص:162


1- 2) .لا بل عشر كما عرفت.
2- 3) .مفاتيح الغيب:309/4. [1]

يقول سبحانه:

«وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها» 1

و على ذلك فالآيتان تهدفان إلى بيان موطن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و مولده و انّه مكّي،و على ذلك فلا دلالة في هذا الوصف على أنّه لم يكن يقرأ و يكتب.

لكن هذا القول يخالف الصواب،لوجهين:

الأوّل:انّ أُمّ القرى ليست من أعلام مكة و إن كان يطلق عليها،لكنّه من قبيل إطلاق الكلي على مصداقه،و لذلك يقول ابن فارس:«كلّ مدينة هي أُمّ ما حولها من القرى»،و يدل على ذلك قوله سبحانه: «وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً» 2 ،و الضمير يرجع إلى القرى،فهي صريحة في أنّ أُمّ القرى ليست علماً لموضع خاص،و ذلك لأنّ مشيئته سبحانه في إهلاك الأُمم و إبادتهم بعد إنذارهم ببعث الرسل،تعمُّ الأُمم جميعاً و لا تختص بمكان خاص دون مكان.

الثاني:لو افترضنا انّها من أعلام مكة،فالصحيح عند النسبة إليها هو القروي لا الأُمّي،يقول ابن مالك في ألفيّته: و انسِب لصدر جملة و صدر ما

و حاصل كلام ابن مالك هو انّ الاسم المركب إن كان مركباً تركيبَ جملة أو تركيبَ مزج حذف عجزه و أُلحق صدره ياء النسبة،فتقول في تأبط شراً،تأبطي،

ص:163

و في بعلبك بعلي.

و إن كان مركب إضافة فإن كان صدره ابناً أو أباً أو كان معروفاً بعجزه حذف صدره و الحق عجزه ياءُ النسبة فتقول في ابن الزبير،زبيري، و في أبي بكر،بكري و في غلام زيد زيدي. (1)

و أُمّ القرى من قبيل الثاني أي المركب إضافة مصدراً بأُمّ،ففي مثله يقال قروي لا أُمّي فتلحق ياء النسبة بعجزها و يقال:قروي لا بصدرها حتى يقال:أُمّي.

على أنّ وصف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في الآية المباركة بكونه أُمّياً بمعنى منسوباً إلى مكة لا يتناسب مع سائر الصفات،أعني كونه رسولاً نبيّاً آمراً بالمعروف،ناهياً عن المنكر،محلاً لهم الطيبات،و محرّماً عليهم الخبائث،و واضعاً عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم،بخلاف ما إذا فسرناه بمن لا يقرأ و لا يكتب،إذ يكون عندئذٍ مشيراً إلى برهان رسالته فهو مع أنّه لا يقرأ و لا يكتب،أتى بشريعة كافلة لسعادة الناس.

الرأي الآخر في تفسير الأُمّي

و هناك رأي آخر في تفسير الأُمّي لا يقل في الضعف عن الرأي الماضي،و هو خيرة الدكتور عبد اللطيف الهندي في مقال كتبه حول أُمية النبي صلى الله عليه و آله و سلم باللغة الانكليزية،و قال:الأُمّي من لم يعرف المتون العتيقة السامية و لم ينتحل ملة أو كتاباً من الكتب السماوية،و الشاهد عليه انّ اللّه جعل الأُمّي في الكتاب العزيز مقابل أهل الكتاب و يستظهر منه بحكم المقابلة انّ المراد منه هي الأُمّة العربية الجاهلية

ص:164


1- 1) .شرح ابن عقيل:391/2.

بما في زبر الأوّلين من التوراة و الإنجيل لا من لا يقدر على التلاوة و الكتابة.

أقول:المتبادر من الأُمّي حسب تصريح علماء اللغة من لا يعرف القراءة و الكتابة على الإطلاق حيث بقي على ما ولدته أُمّه لا من يجيد قراءة لغته و كتابتها و في الوقت نفسه لا يجيد سائر اللغات و إلاّ يلزم وصف قاطبة الناس بالأُميّة،لأنّ السائد عليهم هو اتقانهم لغتهم أو لغتين أو ثلاث مع الجهل بسائر اللغات.

و بعبارة أُخرى:ليست الأُمّية أمراً نسبياً حتى يكون الواقف على لغة العرب أُمّياً بالنسبة إلى سائر اللغات،فتفسير الأُمّي بخصوص الجاهل بالمتون السامية تفسير بالرأي.

و أمّا ما استدلّ به من أنّه سبحانه جعل الأُمّي في مقابل أهل الكتاب،فهو ناظر إلى قوله سبحانه: «وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» 1 .

و لكن الآية لا تدلّ على مقصود المستدل،فإنّ الأُمّيين في الآية هم العاجزون عن القراءة و الكتابة على الإطلاق،و ذلك لأنّ القاطنين بيثرب و ما حولها كانوا يقسمون إلى طائفتين:

أهل الكتاب و كان السائد عليهم معرفة القراءة و الكتابة.

طوائف عربية و كان السائد عليها الجهل بالقراءة و الكتابة.

و هذا هو التاريخ يوقفنا على عدد الذين يعرفون مجرد القراءة و الكتابة في الجزيرة العربية في عصر الرسالة،و قد أتى الإمام البلاذري في فتوح بلدانه بأسماء العارفين بالقراءة و الكتابة في العهد الجاهلي فما تجاوز عدتهم عن17 رجلاً في مكة و 11 رجلاً في يثرب. (1)

ص:165


1- 2) .فتوح البلدان:257.

و على هذا فالمراد من الأُمّيين المقابل لأهل الكتاب من لا يجيدون القراءة و الكتابة بشهادة سريان الأُمية إلى قاطبة العرب في عصر الرسالة لا من يجيد القراءة و الكتابة و لكنّه لا يعرف العبري و لا السرياني.

من وراء الكواليس

قد أكرم اللّه نبيّه و أعظمه و أنعم عليه ما لم ينعم على غيره،و لكنّه سلب عنه موهبة القراءة و الكتابة،و ما ذلك إلاّ لهدف سامٍ و هو نفي ريب المبطلين و شك المشككين،إذ لو كان الرسول في برهة من عمره تالياً للكتب و ممارساً لها لصار للبسطاء من أُمّته و المعاندين أن يرتابوا في رسالته و قرآنه،و يتوهموا انّ ما جاء به من السور و الآيات فإنّما تلقاها من الصحف الدينية و صاغها و سبكها في قوالب فصيحة تهتز منها النفوس و ترتاح إليها القلوب.

فلإزاحة هذه التهمة و سدّ باب هذا الوهم سلب عنه سبحانه هذه الموهبة،و لذلك كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يحتج على أنّ كتابه،رسالة سماوية و ليس من صنيع نفسه و فكره بما أمره اللّه إليه أن يقول:

«قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» 1 .

كما أنّه سبحانه يذكر ما ذكرناه من حكمة السلب بقوله: «وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ» 2 .

و من المعلوم انّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم،حيث يقول: «وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ» .

ص:166

و مع أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يقرأ و لم يكتب قبل بعثته و لو مرّة واحدة،و مع ذلك كان المعاندون يتهمونه بوضع الكتاب و نسبته إلى اللّه،كما يحكيه سبحانه عنهم: «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً* وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً» 1 .

فهو على رغم انّه لم يقرأ و لم يكتب،اتّهموه-ظلماً-بوضع الكتاب و دسّه و نسبته إلى اللّه،فكيف إذا كان ممارساً للقراءة و الكتابة أمام الناس منذ طفولته إلى شبابه ثمّ كهولته؟!

إنّ سلب نعمة الكتابة و القراءة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كسلب نضد الشعر عنه،يقول سبحانه: «وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ» 2 .

و ينبغي الإشارة إلى أنّ سلب القراءة و الكتابة لا يعني عدم علمه بأسرار الكون و رموزه و ما يسود عليه من نظام و قوانين،بل انّ اللّه سبحانه قد أوقفه على حقائق الموجودات من طريق آخر غير الكتابة و القراءة،و بذلك انتفت الحاجة إليهما،و قد عرفت ما في كلام أمير المؤمنين عليه السلام في حقّه صلى الله عليه و آله و سلم لما قال:«و لقد قرن اللّه من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره». (1)

و كفى في علم النبي صلى الله عليه و آله و سلم انّه سبحانه وصف علمه بالعظمة،و قال:

«وَ أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» 4.

ص:167


1- 3) .نهج البلاغة،الخطبة 192. [1]

فالمراد من الفضل في الآية هو علمه،و كفى في عظمة علمه انّه عاين آيات اللّه بأُمّ عينيه حينما عرج إلى السماء،و قال سبحانه: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» 1.

و قال سبحانه: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى -إلى أن قال - لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» 2.

إنّ القراءة و الكتابة أداة من ليس له سبيل إلى معرفة ما في الكون من الأسرار إلاّ التعلّم و الإمساك بالقلم و الدواة للكتابة،أمّا من كان له سبيل إلى معرفة حقائق الكون أوسع من ذلك فلا يضره عدم التمكن من القراءة و الكتابة.

كلّ ما ذكرنا من حديث الأُمّية،ليرجع إلى قبل البعثة،و أمّا بعدها فهو خارج عن موضوع بحثنا فلنطو الكلام عنه.

و في الختام نأتي بكلمة قصيرة و هي انّ سورة«الضحى»كانت هي المصدر الوحيد للتعرف على أوصاف النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعثة، و لأجل ذلك نشير إلى ما في تلك السورة من النكتة،و هي انّه سبحانه حلف بالضحى و الليل،و ذلك لغاية ما جاء في جواب القسم،أعني:

قوله: «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى* وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى* وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» فيقع السؤال ما هي الصلة بين المقسم به أعني الضحى و الليل إذا انتشر و بين الجواب،فانّ من الأُمور الدقيقة في أقسام القرآن،هو كشف الصلة بين المقسم به و المقسم عليه و قد ترك أكثر المفسرين بيان النكتة من أقسام القرآن.

ص:168

و يمكن أن يقال انّ الوجه هو:

1.انّ نزول الوحي يناسب الضحى كما أنّ انقطاعه يناسب الليل.

2.انّ عماد الحياة هو مجيء الليل عقب النهار،لا استدامة النهار و لا استدامة الليل،فهكذا الحال في عماد الحياة النبوية الذي هو نزول الوحي نجوماً تثبيتاً لقلب النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

3.انّ الضحى و الليل نعمة من نعم اللّه سبحانه منّ بها على عباده لما لهما من تأثير مباشر في استقرار الحياة،و هكذا الحال في نزول الوحي نجوماً.

جعفر السبحاني

ص:169

6

اشارة

عليٌّ عليه السلام

في الكتاب و السنّة

(1)

اللّهمّ لك الحمد و الثناء،و لك المجد و البهاء،و الصلاة على سيّد رسلك،و على الأصفياء من عترة نبيك،محمّد و آله الطاهرين:الذين أذهبت عنهم الرجس و طهّرتهم تطهيراً.

أمّا بعد،لقد كانت دعوة الرسول الأعظم،دعوة عالميّة،و رسالته خاتمة الرسالات التي اختصه بها من بين سائر الرسل،فهو خاتم الأنبياء،و كتابه خاتم الكتب،و شريعته خاتمة الشرائع.

كانت دعوة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في بدء البعثة،خاصة بأهله و عشيرته غالباً ممتثلاً لأمره سبحانه: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ». 2

و لمّا نزل قوله: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» 3 جهر بدعوته بين الناس و ناداهم باتّباع شريعته،و بدأت الدعوة تخطو خطوات حثيثة،تجذب قلوب الشبّان و تستهوي أفئدتهم،غير أنّ المناوئين لرسالات اللّه عامّة،و رسالة الرسول الأعظم خاصّة،عقدوا العزم على الإطاحة بدعوته بمختلف

ص:170


1- 1) .طبع هذا المقال كمقدمة لكتاب المناقب للخوارزمي.

الأساليب و السبل،من اتهام صاحب الرسالة بالسحر و الجنون،إلى تعذيب المعتنقين و المؤمنين بها،إلى ضرب الحصار الاقتصادي عليهم،للحيلولة دون وصول الوافدين إلى مكّة لسماع دعوته،إلى أن أجمعوا أمرهم على إنهاء حياته و إطفاء نوره بقتله في داره غيلة،لكنّ اللّه سبحانه حال بينهم و بين أُمنيّتهم الخبيثة،و ردّ كيدهم إلى نحورهم،فخيّب رجاءهم بإخبار الرسول بالمؤامرة و المكيدة،فلم ير النبي الأعظم بدّاً من مغادرة مكّة متوجّهاً إلى يثرب،و لمّا نزل دار مهجره،اجتمع حوله رجال من الأوس و الخزرج فبايعوه و وعدوه بالنصر و المؤازرة،تأكيداً للبيعة التي أجراها نقباؤهم مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم في«منى»أيّام إقامته في مكّة فصار النصر حليفه،و التقدم في مسير الدعوة أليفه.

و لكنّ خصماءه الألدّاء ما تركوه حتى بعد مغادرة موطنه،فأخذوا يشنّون عليه الغارة المرة بعد الأُخرى،و يحزبون الأحزاب عليه، و يستعينون باليهود و بمشركي الجزيرة عامّة ليطفئوا نور اللّه،و اللّه متم نوره و لو كره الكافرون،فهم أرادوا شيئاً،و اللّه سبحانه أراد شيئاً آخر،فإذا قضى أمراً إنّما يقول له كن فيكون.

و عندئذٍ أخذت الدعوة الإلهية بالتقدم و الانتشار في أكثر الأصقاع و الربوع من الجزيرة العربية،بعونه و مشيئته سبحانه،و بهمّة أصحابه و أتباعه و تضحياتهم فبدت بوادر اليأس على الأعداء و أذعنوا إلى حدّ ما بأنّهم ليسوا قادرين على إيقاف ركب الدعوة و عرقلة مسيرها إلاّ أنّه بقيت لهم نافذة رجاء هي أنّ صاحب الدعوة-على حدّ زعمهم-ليس له عقب يخلفه،فهو يموت و تموت معه دعوته،و يعود الأمر على ما كان عليه،و تصبح الأرض خالصة للوثن و الوثنيين فكانوا ينتظرون ذلك اليوم،و إليه يشير سبحانه: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ* قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ* أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ

ص:171

طاغُونَ» . (1)

كان المشركون يحلمون بتحقق هذه الأُمنية الشيطانية،و يتربّصون به ريب المنون لا يشكّون في أنّ دعوته ستموت بموته،لأنّه في نظرهم ملك في صورة نبي،و سلطته سلطة في صورة دعوة إلهية،فلئن مات أو قتل انقطع أثره و خمد ذكره،كما هو المشهود من حال الملوك و الجبابرة مهما تعالى أمرهم،و بلغوا في التكبّر و التجبّر و ركوب رقاب الناس،مبلغاً عظيماً و كانوا على هذه الحالة حتى جاء أمين الوحي فأدهشهم و طارت عقولهم،إذ أمر النبي بتنصيب علي عليه السلام لمقام الولاية الإلهية،و استخلافه في أمر المسلمين بعده،مخاطباً إياه بقوله: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ». 2

فقام النبي صلى الله عليه و آله و سلم في محتشد عظيم من الناس التفّ حوله وجوه المهاجرين و الأنصار و أخذ بيد عليّ عليه السلام و رفعها،و قال:أ لست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا:اللهم بلى.فقال:من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه.اللّهم وال من والاه،و عاد من عاداه،و انصر من نصره،و اخذل من خذله. (2)

فصار عمل النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قيامه بواجبه في تنصيب عليّ عليه السلام مقام القيادة بعد وفاته،سبباً ليأس المشركين قاطبة فأذعنوا أنّ النبيّ نور لا يُطفأ،و سراج لا يخبو،و أنّ كتابه فرقان لا يخمد برهانه،و تبيان لا تهدم أركانه،و عزّ لا تهزم أنصاره،و حقّ لا تخذل أعوانه.و قد نزل أمين الوحي يبشِّر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم عن قنوط المشركين

ص:172


1- 1) .الطور:30- 32. [1]
2- 3) .لاحظ مصادر حديث الغدير [2]في موسوعة«الغدير»ج1،ص 14- 151. [3]

و يأسهم.إذ قال سبحانه: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» . (1)

و حيث إنّ هذه الواقعة التاريخية الكبرى وقعت-عند منصرف النبي من حجّة الوداع-في مكان يسمّى بغدير خمّ،سمّيت بواقعة الغدير و اشتهرت بين الأجيال بهذا الاسم،و جاء ذكرها في أغلب القصائد و الأشعار.

لم يكن يوم الغدير أوّل يوم نوّه فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بمقام عليّ عليه السلام و فضله و منقبته،و لا آخره،بل كانت النبوّة و الإمامة منذ فجر الدعوة الإلهية صنوين.فقد أصحر النبي بإمامة وصيه و وزارة وزيره يوم جهر بدعوته بين قومه و أُسرته في السنة الثالثة من بعثته،يوم أمره سبحانه بإنذار الأقربين من عشيرته.فدعا الأقربين إلى داره فخاطبهم بقوله:«و اللّه الذي لا إله إلاّ هو إنّي رسول اللّه إليكم خاصّة و إلى الناس عامّة...فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيي و خليفتي فيكم،فأحجم القوم عنها جميعاً،و قلت و إنّي لأحدثهم سنّاً،و أرمصهم عيناً...أنا يا نبي اللّه...فأخذ برقبتي،ثمّ قال:إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم». (2)

كان النبي الأعظم واقفاً على خطورة الموقف و عظم مقام القيادة فكان يهيّئ زعيم الأُمّة و القائم بعده بأعباء الخلافة حيناً بعد حين، بأساليب مختلفة،فتارة يشبّهه بهارون (3)،و أُخرى بأنّه و أولاده أحد الثقلين (4)،و ثالثة بأنّهم كسفينة نوح (5)

ص:173


1- 1) .المائدة:3. [1]
2- 2) .تاريخ الطبري:63/2، [2]مسند الإمام أحمد:159/1.
3- 3) .مستدرك الحاكم:109/3،و صحّحه الذهبي في تلخيصه على شرط مسلم.
4- 4) .مسند الإمام أحمد:182/5و 189.من حديث زيد بن ثابت بطريقين صحيحين.
5- 5) .مستدرك الحاكم:151/3،من حديث أبي ذر.

إلى غير ذلك من نصوصه المباركة حول إمام المتقين و أولاده المعصومين.

كلّ ذلك يعرب عن أنّ النبي لم يترك مسألة الوصاية سدى،و لم يفوضها إلى شورى الأمّة و مفاوضاتها أو منافساتها،أو إلى بيعة رجل أو رجلين أو بيعة عدّة من المهاجرين و الأنصار،بل عالج مسألة الخلافة في حياته بأحسن الوجوه و الأساليب و عرّف الأُمّة زعيمها و قائدها من بعده في أُخريات أيّامه الشريفة في محتشد عظيم لم يكن له نظير في تاريخ الرسالة حتى ينقله الحاضرون-عند وصولهم إلى أوطانهم-إلى الغائبين و ينتشر خبر الولاية بين الأُمّة جمعاء حتى لا يبقى لمريب ريب.

الأُمّة الإسلامية و الخطر الثلاثي

هذا ما قادتنا إليه دراسة النصوص النبوية التي رواها الحفّاظ من الأُمّة،و لك أن تستشف الحقيقة من طريق آخر،و هو تحليل الأوضاع السائدة على الأُمّة قُبيل وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم فانّها تقضي بأنّ المصلحة العامّة كانت في تنصيب القائد لا في تفويض أمر الزعامة إلى الأُمّة أو تركه سدى و عدم النبس فيه بكلمة.

إنّ الدولة الإسلامية الفتيّة يوم ذاك كانت محاصرة من جهتي الشمال و الغرب بأكبر امبراطوريتين عرفهما التاريخ-آنذاك-و كانتا على جانب كبير من القوّة و العدة و هما الامبراطوريتان الرومية و الساسانية.

هذا من الخارج،و أمّا من الداخل فكان الإسلام و المسلمون مهدّدين من جانب المنافقين الذين يشكّلون العدوّ الداخلي المبطن،بنحو ما يسمّى الآن بالطابور الخامس،و خطر العدوّ الداخلي لم يكن بأقلّ من خطر العدوّ الخارجي من الروم و الفرس،و هذا الخطر الثلاثي الرهيب، كان يفرض على النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن

ص:174

يقف موقف قائد يحبط بتدبيره الرصين،كلّ مؤامرة محتملة ضد الدعوة الناشئة و أُمّته الفتيّة،إذ كان من المحتمل جدّاً أن يتّفق العدوّ الخارجي مع الداخلي و يتحد هذا الثلاثي الناقم على الإسلام على محو الدين و هدم كلّ ما بناه الرسول الأكرم طيلة ثلاثة و عشرين عاماً و يُضيع كلّ ما قدمه المسلمون من تضحيات غالية في سبيل إقامة صرح الدين.

أ فيصحّ عند ذاك ترك أمر الزعامة إلى الأُمّة الفتية التي لم تمرّ عليها إلاّ عدّة أعوام قليلة و لم تكتسب فيها تجارب كافية و لم تتدرع أمام الأخطار المحدقة؟ و هو يعلم أنّه لو توفّر للأُمّة قائد محنّك متفق عليه لقامت في وجه الأعداء قيام رجل واحد،و صدّت جميع محاولاتهم العدوانية بنجاح،و بالتالي ستنجو الأُمّة من التفرّق و التشرذم و السقوط و الفشل بعد غياب رسول اللّه.

النزعة القبلية و مشكلة القيادة

لقد برزت في حياة المسلمين مشكلة أُخرى كانت تصدّ النبي عن تفويض القيادة إلى رأي الأُمّة،و هي مشكلة النزعة القبلية التي كانت سائدة على المجتمع الإسلامي يومذاك و التي تتميز بالخضوع المطلق لسيد القبيلة و زعيمها و رفض سلطة الآخرين.

فهل يسوغ للنبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يترك مصير الخلافة لأُمّة هذه حالها،خصوصاً بعد ما كان النبي واقفاً على ما بين الأوس و الخزرج من نزاع و ما بين المهاجرين و الأنصار من خلاف،و قد شهد خلافهم بأُمّ عينيه في غزوة بني المصطلق، (1)كما شاهد نزاع الحيّين(الأوس و الخزرج) في قصة الإفك (2)إلى غير ذلك من المشاجرات

ص:175


1- 1) .السيرة النبوية:91/2. [1]
2- 2) .صحيح البخاري:101/5.

المعاصرة لحياة النبي و بعده ممّا سجلها التاريخ.

و لا أظن أنّ قائداً يقيم لدعوته وزناً،و يضحّي في سبيلها بالنفس و النفيس يقف على تلك المشاكل و يرحل إلى ربّه من دون أن يفكّر في قيادة أُمّته بعد رحيله.

فضائل الإمام و مناقبه في كتب الحديث

هذا ممّا دعا النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم إلى تنصيب القائد المحنّك لمسند الخلافة،كما دفعه إلى التعريف بفضائله و مناقبه في مواطن شتّى ليقطع بذلك عذر المتعلّلين و يتم الحجّة على الجميع و للّه الحجّة البالغة.

و مع هذه الجهود الجبّارة التي بذلها النبي صلى الله عليه و آله و سلم في سبيل التعريف بخليفته و الإشادة بفضائله،عمدت السلطات الجائرة من أُمويّة و عباسيّة في مختلف القرون إلى إخفاء فضائله و مناقبه،و لم يكتفوا بذلك بل عمدوا إلى جعل الحديث،و نسبة تلك الفضائل و المناقب إلى الآخرين،كلّ ذلك بالترغيب و الترهيب و بذل الأموال الطائلة للمرتزقة من وعّاظ السلاطين و تجّار الحديث.

و من قرأ تاريخ الدولتين و ما بذل أصحاب السلطة فيهما من الأموال في تشويه سمعة أمير المؤمنين علي عليه السلام و الحطّ من مكانته و تبجيل خصومه عرف أنّ ما ذكرناه بعض الحقيقة لا كلّها،و أذعن أنّ انتشار فضائله و مناقبه بهذا الحجم،معجزة من معاجز اللّه،حيث أراد أن يبطل كيد الأعداء و يخيّب آمالهم حتى انتشرت فضائله في عاصمة الأُمويّين و بين أعدائه الغاشمين و اللّه غالب على أمره.

قيّض سبحانه ثلّة من المحدّثين الحفّاظ في كلّ عصر ممّن يطلبون الحقّ و الحقيقة و لا يعتنون برضا الناس و سخطهم،فألّفوا كتباً و رسائل في مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام و فضائله حتى زخرت المكتبة العربية بهذه الكتب،بل

ص:176

المكتبة الإسلامية عامّة على اختلاف لغاتها و ألسنتها،فانتشرت مناقبه بطرق صحيحة لم يكن خصومه يحلمون بها،حتّى قال الإمام الحافظ أحمد بن حنبل و الشيخ النسائي و أضرابهما بأنّه ما جاء لأحد من أصحاب رسول اللّه من الفضائل بطرق صحيحة ما جاء لعلي بن أبي طالب. (1)

و قد أحس بعض المحدّثين بمسئوليته الدينية أمام اللّه سبحانه و أمام أُمّته،فقام بنشر فضائله و إن بلغ الأمر ما بلغ و إن انجرّ إلى استشهاده و قتله في سبيل نشر فضائل المرتضى.

هذا و التاريخ يوقفنا على لفيف من المحدثين الذين استشهدوا في هذا السبيل نذكر ما يلي:

1.أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب المعروف بالحافظ النسائي (المتوفّى عام 303ه) أحد أصحاب الصحاح و السنن غادر مصر في أُخريات عمره نازلاً مدينة دمشق،فوجد الكثير من أهلها منحرفين عن الإمام فأخذ ينشر مناقبه و فضائله،فألقى محاضرات متواصلة في فضائل الوصي،و بعد أن فرغ من تأليف كتابه و نشره،سئل عن معاوية و ما روي من فضائله فقال:أما يرضى معاوية أن يخرج رأساً برأس حتى يفضل؟!

و في رواية أُخرى:لا أعرف له فضيلة إلاّ،لا أشبع اللّه بطنه.فهجموا عليه.يضربونه بأرجلهم في خصييه حتى أخرجوه من المسجد فقال:

احملوني إلى مكّة،فحمل إليها و توفّي بها. (2)

2.الحافظ فخر الدين أبو عبد اللّه محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي

ص:177


1- 1) .الاستيعاب:466/2، [1]الصواعق المحرقة:118 و [2]غيرهما من المصادر.
2- 2) .خصائص النسائي:ص 24- 25 طبع النجف،و [3]قد طبع أيضاً بمصر عام 1348ه.ق بمطبعة التقدم؛صحيح النسائي،المقدمة،صفحة ه بشرح جلال الدين السيوطي.

الشافعي.فقد قتل عام 658ه في سبيل نشر فضائل أمير المؤمنين.فألّف كتاباً باسم«كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب»،و كتاباً آخر باسم«البيان في أخبار صاحب الزمان»فنشرهما في دمشق الشام،فقتل في جامعه بلا مبرّر و لا مسوّغ،سوى أنّه قام بواجبه في نشر فضائل علي عليه السلام.

قال في أوّل كتابه:«لمّا جلست يوم الخميس لستّ بقين من جمادى الآخرة سنة 647ه بالمشهد الشريف بالحصباء من مدينة الموصل و دار الحديث المهاجرية،حضر المجلس صدور البلد من النقباء و المدرسين و الفقهاء و أرباب الحديث،فذكرت بعد الدرس أحاديث و ختمت المجلس بفصل في مناقب أهل البيت،فطعن بعض الحاضرين لعدم معرفته بعلم النقل في حديث زيد بن أرقم في غدير خمّ و في حديث عمّار في قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«طوبى لمن أحبّك و صدق فيك»،فدعتني الحميّة لمحبتهم على إملاء كتاب يشتمل على بعض ما رويناه من مشايخنا في البلدان من أحاديث صحيحة من كتب الأئمّة و الحفّاظ في مناقب أمير المؤمنين علي كرم اللّه وجهه. (1)

***

سيرة مؤلّف الكتاب

و ممّن قام بالتأليف في هذا المجال الحافظ الموفّق بن أحمد بن أبي سعيد إسحاق بن المؤيد المكّي الحنفي المعروف بأخطب خوارزم، فقد سجل له كتابه هذا ذكراً خالداً فترجمه أصحاب المعاجم،و إن لم يستوفوا حقّه،و لكن فيما نذكره من أقوالهم في حقّ الرجل تسليط لبعض الضوء على شخصيته العلمية و الأدبية

ص:178


1- 1) .كفاية الطالب:12،طبع النجف، [1]تحقيق محمّد هادي الأميني.

و الحديثية و مشايخه و تلامذته،و نذكر نصوصهم حسب الترتيب التاريخي:

1.قال ابن عساكر(المتوفّى 571ه) في ترجمة الحسن بن سعيد بن عبد اللّه بن بندار أبي علي الديار بكري:

فمما أنشدني لنفسه ممّا كتب به إلى خطيب خوارزم أحمد بن مكي و كان مشهوراً بالفضل،جواباً له عن أبيات كتبها إليه ثمّ ذكر جواب الحسن أوّلاً و أبيات الخطيب ثانياً،و إليك أبيات الخطيب: هدى علم الدين المفخّم شأنه

و يظهر ممّا أجاب به الحسن بن سعيد (1)،كون المجيب مقراً لفضله و مقامه،فقد عرّفه بقوله: إمام له في الفضل أشرف رتبة

2.قال جمال الدين القفطي (المتوفّى 646ه):

«الموفّق بن أحمد بن محمّد المكّي الأصل،أبو المؤيّد خطيب خوارزم،أديب

ص:179


1- 1) .و للشاعر (الحسن بن سعيد) ترجمة في«مجمع الآداب في معجم الألقاب»الجزء الرابع،القسم الأوّل لابن الفوطي،ص 575.

فاضل،له معرفة تامّة بالأدب و الفقه،يخطب بجامع خوارزم سنين كثيرة و ينشئ الخطب به.أقرأ الناس علم العربية و غيره،و تخرج به عالم في الآداب.منهم أبو الفتح ناصر بن أبي المكارم المطرّزي الخوارزمي،و توفّي الموفق بخوارزم في حادي عشر صفر سنة ثمان و ستين و خمسمائة». (1)

3.و نقل«ابن الفوطي كمال الدين أبو الفضل عبد الرّزّاق الشيباني الحنبلي (642-723ه)»نثراً للمؤلّف في وصف أُستاذه الزمخشري:

«قال صدر الأئمّة الموفق بن أحمد المكّي في وصفه:خوارزم كانت قبل فخرها بأبي بكرها،صادقة في زهوها به سنّ بكرها،تعدّه لغرائبه من رغائبها و تعدّه لرغائبه عن غرائبها». (2)

4.و قال عبد القادر بن أبي الوفاء القرشي (696-775ه):

«الموفّق بن أحمد بن محمّد المكّي خطيب خوارزم أُستاذ ناصر بن عبد السيّد صاحب المغرب أو المؤيّد المطرّزي مولده في حدود سنة أربع و ثمانين و أربعمائة ذكره القفطي في«أخبار النحاة».ثمّ ذكر عبارة القفطي التي نقلناها آنفاً. (3)

5.روى الذهبي عن هذا الكتاب في«ميزان الاعتدال»في ترجمة«الحسن بن غفير المصري العطّار»كما روى عنه في لسان الميزان في ترجمة الحسن أيضاً. (4)

6.«و قال تقي الدين محمد بن أحمد الحسيني الفاسي المكي الموفق بن أحمد

ص:180


1- 1) .إنباه الرواة [1]على أنباء النحاة:232/3،رقم الترجمة 779،طبع القاهرة عام 1377ه.
2- 2) .تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب: [2]تحقيق الدكتور مصطفى جواد،و في التعليقة ترجمة للخطيب على نحو الإجمال.
3- 3) .الجواهر المضية في طبقات الحنفيّة:188/2،طبع الهند،عام 1335ه.
4- 4) .ميزان الاعتدال:517/1،طبع الحلبي،مصر؛لسان الميزان:243/2،طبع الهند.

ابن محمّد المكّي أبو المؤيّد العلاّمة خطيب خوارزم كان أديباً فصيحاً مفوّهاً،خطب بخوارزم دهراً و أنشأ الخطب و أقرأ الناس،و توفّي بخوارزم في صفر سنة ثمان و ستين و خمسمائة،و ذكره هكذا الذهبي في تاريخ الإسلام (1)و ذكره الشيخ محيي الدين عبد القادر الحنفي في «طبقات الحنفية»،ثمّ نقل،ما ذكره القفطي في«أخبار النحاة»و أضاف في آخره:من مؤلفاته«مناقب الإمام أبي حنيفة». (2)

7.و قال الحافظ جلال الدين السيوطي (المتوفّى 911ه) في بغية الوُعاة:

«الموفق بن أحمد بن أبي سعيد إسحاق أبو المؤيّد المعروف بأخطب خوارزم.قال الصفدي:كان متمكناً في العربية،غزير العلم،فقيهاً، فاضلاً،أديباً،شاعراً،قرأ على الزمخشري و له خطب و شعر.

قال القفطي:و قرأ عليه ناصر المطرّزي.ولد في حدود سنة أربع و ثمانين و أربعمائة،و مات سنة ثمان و ستين و خمسمائة». (3)

8.و قال محمّد بن عبد الحي اللكنوي الهندي في فوائده البهيّة:

«أحمد بن محمّد موفّق الدين خطيب خوارزم مولده في حدود سنة أربع و ثمانين و أربعمائة،و كان أديباً فاضلاً،له معرفة تامّة بالفقه، أخذ عن نجم الدين عمر النسفي،و أخذ علم العربية عن جار اللّه محمود الزمخشري،و أخذ عنه ناصر الدين صاحب المغرب.مات سنة ثمان و تسعين و خمسمائة،(قال الجامع) ذكره السيوطي في«بغية الوعاة»في طبقات النُّحاة في من اسمه الموفّق و قال:«ثمّ ذكر

ص:181


1- 1) .قال محقّق الكتاب:هذه السنة من السنوات الساقطة من نسخة تاريخ الإسلام للذهبي المخطوطة بدار الكتب المصريّة.
2- 2) .العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين:310/7 تحقيق فؤاد سيد- [1]القاهرة-طبع 1387.
3- 3) .بغية الوعاة في طبقات اللغويين و النحاة:308/2،تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، [2]طبع مصر.

نص السيوطي الذي عرفت. (1)

9.و قال«الخوانساري»في روضات الجنّات:

و أمّا الأخطب فهو لقب الشيخ المحدّث المتقن المتبحّر صدر الأئمّة عند العامة أخطب خوارزم،و الخوارزمي أو ابن خوارزم موفّق بن أحمد المكّي و غيره. (2)

10.و قال العلاّمة«الأميني»:

«الحافظ أبو المؤيد و أبو محمّد موفّق بن أحمد بن أبي سعيد إسحاق بن المؤيد المكّي الحنفي المعروف بأخطب خوارزم،كان فقيهاً غزير العلم،حافظاً طائل الشهرة محدّثاً كثير الطرق،خطيباً طائر الصيت متمكّناً في العربية خبيراً على السيرة و التاريخ،أديباً شاعراً له خطب و شعر مدوّن. (3)

11.و قال السيد محمّد رضا الموسوي الخرسان في مقدمته على المناقب للخوارزمي:

«الإمام الأجل الصدر ضياء الدين شمس الإسلام،ناصح الخلفاء مفتي الأُمّة مقتدى الفريقين،صدر الأئمّة،وفّاء بالوعد،أخطب الخطباء الحافظ الموفق ابن أحمد بن محمّد البكري المكي الحنفي فروعاً و الأشعري أُصولاً المعروف بأخطب،إلى أن قال:تخرّج به عالم في الآداب من الأفاضل الأكابر فقهاً و أدباً و الأماثل الأكارم حسباً و نسباً». (4)

ص:182


1- 1) .«الفوائد البهية في تراجم الحنفية:41،ألّفه عام 1219ه.
2- 2) .روضات الجنات في أحوال العلماء و السادات:64/1، [1]في التعليقة و289- 290 في المتن،نشر مكتبة إسماعيليان،قم-إيران.
3- 3) .الغدير:398/1،الطبعة الثالثة- [2]بيروت.
4- 4) .المناقب للخوارزمي:16،المقدمة،طبع النجف.

هذا بعض ما وقفت عليه من النصوص حول المترجم له،و قد خصّه غير هؤلاء من أصحاب المعاجم بالثناء و الإطراء،و لا أرى حاجة لنقل كلماتهم و من أراد التوسع فليرجع إلى المصادر المذكورة في الهامش. (1)

تسليط الأضواء على جوانب من حياة المؤلّف

اشارة

و لأجل تسليط الضوء على بعض خصوصيات المؤلّف و مشايخه في الرواية و الرواة عنه،نأتي بما يلي:

أ:الاختلاف في اسمه

يلاحظ الاختلاف في اسمه بين أصحاب المعاجم،فعرّفه«ابن عساكر»و محمّد بن عبد الحي اللكنوي الهندي-كما عرفت-ب«أحمد بن مكي»،لكن غيرهم عرّفوه ب«موفق بن أحمد»،و الظاهر المتضافر هو الثاني و أكثر المعاجم عليه،و ذكر العلاّمة الأميني في تعليقته أنّ الشاعر اسمه في شعره موفّقاً،و لكن لم يذكر شعره الذي جاء فيه اسمه. (2)

ب:الاختلاف في اسم جدّه

و يلاحظ الاختلاف أيضاً في اسم جدّه،فهل هو«محمّد»كما عليه القفطي،

ص:183


1- 1) .هدية العارفين:482/2؛ريحانة الأدب:47/1؛دائرة المعارف للأعلمي:311/3،معجم المطبوعات:1817/2؛العبقات:578/6.نقلاً عن العماد الاصفهاني و المجلّد الثاني من مجموعة رسائل رشيد الدين الوطواط ففيها قصيدتان في مدح المؤلف كل ذلك يعرب عن مكانة المؤلّف العلمية و سمو مقامه و شهرته الطائلة التي دفع أصحاب المعاجم إلى التنويه باسمه و كتبه و مشايخه و تلامذته و إن لم يستوفوا حقّه،و سيوافيك أسماء مشايخه و الرواة عنه.
2- 2) .الغدير:398/4. [1]

و القرشي و الفاسي،أو أنّ اسمه أبو سعيد إسحاق،كما عليه جلال الدين السيوطي،و العلاّمة الأميني؟ و الظاهر هو الأوّل.

ج:عام وفاته

تضافرت نصوص أصحاب المعاجم على أنّ وفاته كان عام 568،و لكن صاحب«الفوائد البهية»أرّخه ب«598»،و الظاهر أنّه تصحيف و قد نقل هو نفسه عن السيوطي عام وفاته كما ذكرناه.

د:ما هو لقبه؟ خطيب خوارزم أو أخطب خوارزم؟

عرفه«القرشي»و«الفاسي»كما عرفت بخطيب خوارزم،و السيوطي بأخطب خوارزم،و المرمى واحد و من عبّر عنه بصيغة التفضيل يريد تبجيله و يعرب عن تضلّعه في إنشاء الخطب.

ه:مشايخه في الرواية

قام الشيخ الأميني-قدّس اللّه سرّه-باستخراج مشايخه من كتبه فأنهاهم إلى خمسة و ثلاثين شيخاً،كما قام بعده السيّد محمّد رضا الخرسان باستدراك ما فات من شيخنا الأميني فأنهاهم إلى خمسة و ستين شيخاً،و فيما تحمّلوه من الجهود في استخراج مشايخه كفاية في التعرّف على مكانة المؤلّف و موقفه من الحديث و الرواية،و أنّ ما أسبغ عليه من نعوت و ألقاب،لم يكن على وجه التبرّع بل كان الرجل حقيقاً بها.

و إليك فهرس مشايخه حسب ما ذكره الباحثان الكبيران و استخرجاه من

ص:184

خلال السبر في المعاجم،و كتب المؤلف،و غيرهما:

1.إبراهيم بن علي الرازي نزيل همدان.

2.أبو الحسن بن بشران العدل،لقيه ببغداد و أخذ عنه الحديث.

3.أبو علي الحدّاد.

4.أبو الفضل بن عبد الرحمن الحفر بندي إجازة.

5.أبو القمر حمزة بن أبي طاهر مكاتبة من همدان.

6.أبو المعالي المصري.

7.أبوه أحمد بن محمّد بن المؤيد المكّي الحنفي.

8.أحمد بن أبي مسعود محمّد الحافظ الاصفهاني مكاتبة من أصفهان.

9.أحمد بن إسماعيل سماعاً منه بجرجان.

10.أحمد بن محمّد بن بندار. (1)

11.أحمد بن محمّد بن أحمد القمّي المدني سمع منه في طريق الحجّ.

12.بكر بن محمّد بن علي الزرنجري مكاتبة من بخارى.

13.جار اللّه محمود بن عمر الزمخشري،سمع منه و قرأ عليه بخوارزم.

14.الحسن بن علي بن الحسن العماري،إجازة.

15.حماد بن إبراهيم بن إسماعيل الصفار الوائلي البخاري،مكاتبة من بخارى.

ص:185


1- 1) .هكذا ذكره السيد الخرسان في قائمة مشايخه،و لكن المؤلّف نفسه عبّر عنه في الفصل التاسع عشر ب«كمال الدين أبو ذر أحمد بن محمد بن أحمد بن علي بن بندار».

16.الحسن بن علي بن عبد العزيز المرغيناني،مكاتبة من بخارى.

17.الحسن بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن محمّد العطّار الهمداني المقري،إجازة.

18.سعيد بن عبد اللّه بن الحسن المروزي الثقفي الشافعي الهمداني مكاتبة من همدان.

19.سعيد بن محمّد بن أبي بكر الفقيمي،إجازة.

20.شهردار بن شيرويه الديلمي،إجازة و مكاتبة من همدان.

21.العباس بن محمّد بن أبي منصور الغضاري الطوسي،مكاتبة من نيسابور.

22.عبد الحميد بن ميكائيل بن أحمد البراتقيني،قراءة عليه بخوارزم.

23.عبد الرحمن بن أميرويه الكرماني،قراءة عليه بخوارزم.

24.عبد الرحيم بن محمّد بن أحمد الاصفهاني،مكاتبة من مرو.

25.عبد الكريم بن محمّد السمعاني مكاتبة من مرو.

26.عبد الملك بن أبي القاسم بن أبي سهل الكروخي الهروي،فقد لقيه و سمع منه بداره على شط دجلة ببغداد عند منصرفه من مكّة المكرّمة.

27.عبد الملك بن علي بن محمّد الهمداني نزيل بغداد،إجازة.

28.عبد الواحد بن الحسن الباقرجي.

29.عثمان بن أحمد الاسفرايني،مكاتبة.

30.عثمان بن أحمد الصرام الخوارزمي،سماعاً منه بخوارزم.

31.علي بن أحمد بن حمويه الجويني البزدي.

ص:186

32.علي بن أحمد الكرباسي الخوارزمي،إملاء عليه بخوارزم.

33.علي بن الحسن الغزنوي الملقب بالبرهان،فقد لقيه و سمع منه بداره ببغداد في رباط الميمون بمشرعة باب الأزج سلخ ربيع الأوّل سنة 544 ه راجعاً من الحجّ.

34.علي بن أحمد العاصمي.

35.علي بن عمر بن إبراهيم العلوي الزيدي،فقد لقيه بالكوفة،كان يقرأ عليه و هو يسمع.

36.عمر بن أبي بكر الزرنجري،مكاتبة من بخارى.

37.عمر بن بكر بن علي ابن الفضل الزرنجري،مكاتبة من بخارى.

38.عمر بن محمّد بن أحمد النسفي،مكاتبة من سمرقند.

39.الفضل بن سهل بن بشر الحلبي الاسفرايني،إجازة ببغداد.

40.فضل بن محمّد الاسترآبادي.

41.الفضل بن محمّد الزيادي،إجازة.

42.المبارك بن محمّد السقطي،قراءة عليه بدير العاقول.

43.محمّد بن إبراهيم الوبري الخوارزمي.

44.أخوه محمّد بن أحمد الملكي،قراءة عليه و إملاء.

45.محمّد بن إسحاق السراجي الخوارزمي،قراءة عليه بخوارزم.

46.محمّد بن الحسن البخاري،مكاتبة من بخارى.

47.محمّد بن الحافظ أبي مسعود الاصبهاني مكاتبة من اصبهان.

48.محمّد بن الحسن بن أبي جعفر بن أبي سهل الزورقي-الزورني خ ل-،

ص:187

مكاتبة من مرو.

49.محمّد بن أبي الربيع المازني المقري،قرأ عليه بخوارزم كتاب«العالم و المتعلم»لأبي حنيفة.

50.محمّد بن الحسن الختني البخاري،مكاتبة من بخارى.

51.محمّد بن الحسين الاسترآبادي،سماعاً منه بمدينة الري.

52.محمّد بن الحسين بن محمّد البغدادي،مكاتبة من همدان.

53.محمّد بن أبي جعفر الطائي مكاتبة من همدان.

54.محمّد بن جامع بن أبي نصر الصيرفي مكاتبة من نيسابور.

55.محمّد بن سمان بن يوسف الهمداني مكاتبة.

56.محمّد بن عبد الملك بن الشعار.

57.محمّد بن عبيد اللّه بن نصر الزاغوني،لقيه ببغداد و سمع منه عند منصرفه من حجّ بيت اللّه الحرام.

58.محمّد بن علي بن محمّد بن المطهر بن المرتضى الحسيني مكاتبة من الري.

59.محمّد بن عمر بن أبي علي الجمحي مكاتبة.

60.محمّد بن محمّد الشيخي الخطيب بمرو،مكاتبة من مرو.

61.محمّد بن ناصر بن محمّد بن علي السلامي لقيه ببغداد و سمع منه هناك.

62.محمّد بن منصور بن علي المقري المعروف بالديواني لقيه بالري و سمع منه بداره في محلّة نصرآباد.

ص:188

63.محمود بن سليمان بن محمّد الخيام الهمداني،مكاتبة من همدان.

64.مسعود بن أحمد الدهستاني مكاتبة من دهستان.

65.منصور بن نوح الشهرستاني لقيه بشهرستان و سمع منه منصرفه من الحجّ غرّة جمادى الآخرة سنة 544ه.

و هذا العدد الغفير من مشايخ الرواية يعرب عن انكباب الرجل على علم الحديث و صرف شطر كبير من عمره فيه،و لا يقاس بمن سمع حديثاً أو كتاباً أو نقل أحاديث ارتجالاً دون أن يمت إلى علم الحديث بصلة.

و:تلامذته و الرواة عنه

أطبقت النصوص الماضية على أنّ«برهان الدين بن أبي المكارم المطرّزي الخوارزمي»صاحب كتاب«المغرّب في ترتيب المعرب» (المتوفّى عام 610ه) من تلامذته،و لكنّهم قصّروا القول في المقام،و قد نهض شيخنا العلاّمة الأميني و بعده السيد الخرسان باستخراج أسماء من قرأ عليه أو أخذ عنه من غضون الكتب لا سيما«المناقب»للشيخ«ابن شهرآشوب»و بعض الإجازات،و إليك أسماؤهم:

1.برهان الدين أبو المكارم ناصر بن عبد السيد المطرّزي الخوارزمي،المولود سنة 538 و المتوفّى في 21 جمادى الأُولى سنة 610 أو 611،كما عرفت النص عليه عن غير واحد.

2.مسلم بن علي بن الأُخت فقد روى عنه كتاب«المناقب»كما في إجازة (1)أحد تلامذة الشيخ«نجيب الدين يحيى بن سعيد الحلي» (المتوفّى سنة 689ه)

ص:189


1- 1) .الإجازة للسيد محمّد بن الحسن بن محمّد بن أبي الرضاء العلوي،على ما ذكره العلاّمة المجلسي في كتاب إجازات البحار،ص 30.

للشيخ«شمس الدين محمّد بن جمال الدين أحمد»أُستاذ الشهيد الأوّل.

3.طاهر بن أبي المكارم عبد السيد بن علي الخوارزمي،فانّه يروي عنه كتابه«المناقب»كما في إجازة تلميذ الحلّي آنف الذكر.

4.عبد اللّه بن جعفر بن محمّد الحسني.فقد روى عنه كتابه«المناقب»كما في الإجازة آنفة الذكر.

5.محمّد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (488- 588ه) و كانت بينه و بين المؤلف مكاتبات،فقد كاتبه«الموفق»بأربعينه كما في صريح ابن شهرآشوب في مناقبه،ج1،ص 12.

6.جمال الدين بن معين،فإنّه روى عنه مقتله كما في«فرائد السمطين».

7.ناصر بن أحمد بن بكر النحوي (المتوفّى سنة 607ه) فقد قرأ على المترجم له كما في«بغية الوعاة»،ص 2-4.

8.أبو القاسم بن أبي الفضل بن عبد الكريم،فقد روى عنه إجازة،و عن أبي القاسم هذا و عن المطرّزي يروي الجويني بواسطة أو واسطتين أو أزيد و بهذا يكون«الموفّق»من مشايخ الإجازة،ذكر ذلك«البهاري»في مقدّمة الطبعة الأُولى من كتاب المناقب،ص 3.

9.ولده أحمد المؤيّد ذكره السماوي في مقدمة مقتل الخوارزمي ص 2 من الجزء الأوّل.

هذا ما تيسّر لنا الاطلاع عليه من أسماء تلامذة الموفّق و الرواة عنه (1)و سيوافيك أسماء خصوص من رووا عنه كتاب الفضائل.

ص:190


1- 1) .لاحظ الغدير:401/4،و مقدمة الطبعة الثانية،ص 21،22.
ز:تآليفه

إنّ للموفّق تآليف في الفضائل و التاريخ وردت أسماؤها في المعاجم و الكتب،و قد قضى الدهر على أكثرها:

1.مناقب الإمام أبي حنيفة طبع في حيدرآباد سنة 1321ه.

2.ردّ الشمس لأمير المؤمنين:نقل عنه ابن شهرآشوب في المناقب ج1ص 484.

3.الأربعون في مناقب النبي الأمين و وصيّه أمير المؤمنين عليه السلام:يروي عنه ابن شهرآشوب و ينقل عنه في مقتله.

4.كتاب قضايا أمير المؤمنين:ينقل عنه ابن شهرآشوب في مناقبه،ج1-2،ص 484.

5.مقتل أمير المؤمنين:ينقل عنه الميرزا عبد اللّه الأفندي في«رياضه»و«الجواهر»في دائرة المعارف على ما في مقدّمة الطبعة الثانية.

6.مقتل الإمام السبط الشهيد:المطبوع في النجف الأشرف سنة 1367 في جزءين.

7.المسانيد على البخاري:ذكره السماوي في مقدّمة مقتل الحسين،و توجد منه نسخة في مكتبة جامعة طهران.

8.ديوان شعره:ذكره الچلبي في كشف الظنون ج1،ص 524.قال:ديوانه جيّد،و كان في الشعر في طبقة معاصريه.

9.«الكفاية»في علم الإعراب:على نهج«المفصل»للزمخشري في الأسماء و الأفعال و الحروف،ذكره في«كشف الظنون»ج1498/2، منه نسخة في جامعة طهران برقم 6967 يستظهر أنّها من نسخ القرن التاسع و العاشر،و منها أيضاً

ص:191

نسخة في مكتبة مدرسة الفيضية بقم.

10.فضائل الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام:المعروف ب«المناقب»طبع مرّة على الحجر في«تبريز»سنة 1313،و على الحروف في النجف الأشرف مع تقديم«محمد رضا الموسوي الخرسان».

و ينبغي إبداء بعض التوضيحات حول هذا الكتاب:

1.إنّ كتاب«الفضائل»اكتسب شهرة عظيمة بين المحدّثين،فرواه لفيف من الأعلام عن المؤلف بلا واسطة،كما نقله عنه لفيف آخر مع الواسطة.

أمّا الّذين رووه عن المؤلّف بلا واسطة،فمنهم:

1.الشيخ مسلم بن علي بن الأخت.

2.الشيخ أبو الرضا طاهر بن أبي المكارم عبد السيد الخوارزمي.

3.السيد أبو محمّد عبد اللّه بن جعفر الحسيني.

4.الشيخ نجيب الدين يحيى بن سعيد الحلّي (المتوفّى 989ه).قال:قرأت كتاب«المناقب»للخوارزمي على الشيخ أبي محمّد عبد اللّه بن جعفر بن محمّد الحسيني في سنة 593. (1)

5.برهان الدين أبو المكارم ناصر بن أبي المكارم المطرّزي.

6.محمّد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (المتوفّى 588ه).

و أمّا الذين نقلوا عن الكتاب أو رووه عن المؤلف مع الواسطة فحدّث عنهم و لا حرج،و قد عرفت نصّ الذهبي في«ميزان الاعتدال»في ما سبق،و ذكره«الچلبي»في«كشف الظنون»،و ينقل عنه مفتي الحرمين صاحب«كفاية

ص:192


1- 1) .الظاهر أنّه تصحيف لأنّ الحلي ولد عام 600 أو 601.

الطالب»في غير واحد من فصول كتابه،كما ينقل عنه رضي الدين ابن طاوس (المتوفّى 664ه) في كتابه«علي أمير المؤمنين»إلى غير ذلك من الشخصيات البارزة في الحديث و التاريخ،و قد ذكر أسماء شطر منهم شيخنا الأميني في غديره،ج4،ص 405.

2.و ربما يحتمل أنّ كتاب الفضائل الذي نحن بصدد نشره هو نفس الكتاب الثالث أي الأربعون في مناقب النبي الأمين و وصيه أمير المؤمنين،و الذي نقل عنه كثيراً أبو جعفر ابن شهرآشوب في كتابه«مناقب آل أبي طالب».

غير أنّ العلاّمة الأميني ذهب إلى خلاف ذلك،و قال:نحن راجعنا في الأحاديث المنقولة عنه في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام كتاب مناقبه الدائر السائر فما وجدناها فيها،فاحتمال اتحاد الكتابين في غير محلّه.

أقول:إنّ اتحاد كتاب المناقب مع الأربعين من الوهن بمكان،لأنّ عدد روايات المناقب تزيد على الأربعين،و لكن هناك احتمال آخر و هو أنّ كتاب«المناقب»المطبوع كان أوسع ممّا بأيدينا،و كان الكتاب موسوعة كبيرة تشمل فضائل النبي،و وصيّه و آله،و إنّما بقي في أيدينا هذا المقدار الموجود،و يؤيّد ذلك أمران:

الأوّل:إنّ المؤلّف يقول في الفصل الثاني من كتابه عند سرد نسب علي بن أبي طالب:«و قد ذكرنا نسب عبد المطلب في باب فضائل النبي»مع أنّه لم يذكر قبل هذا الفصل شيئاً من نسب عبد المطلب كما لم يذكر فيه فضائل النبي فكيف يحيل إليه؟

الثاني:إنّ النسخة المخطوطة في مكتبة وزيري في مدينة يزد،تشتمل على قسم من فضائل النبي.

ص:193

و هذان الأمران يعربان عن أنّ الكتاب كان أوسع من الموجود بين أيدينا،و على هذا فإماطة اللثام عن وجه الحقيقة بحاجة ماسة إلى التتبع في المكتبات العامّة في العالم و جمع كلّ ما يرجع إلى المؤلّف في باب الفضائل حتى يتبيّن الحقّ،و لعلّ اللّه يقيض بعض أصحاب الهمم العالية للقيام بهذه المهمّة و يسدي إلى الأُمّة خدمة جليلة في سبيل إشاعة فضائل النبي و آله الطاهرين.

3.قد طبع الكتاب على الحجر لأوّل مرّة بصورة غير مرغوبة،و كان المترقب من الطبعة الثانية،التي قوبلت مع نسخ صحيحة مخطوطة و التي طبعت على الحروف،أن تكون مصحّحة غير مغلوطة،و لكن يا للأسف لم تكن الطبعة الثانية بأصحّ من الطبعة الأُولى لو لم نقل أنّ الأمر كان على العكس،و المزيّة التي نالتها الطبعة الثانية هي اشتمالها على مقدمة مبسوطة حول كتب المناقب في الإسلام،و ترجمة مفصّلة عن المؤلف، و أمّا الاهتمام بالمتن و تطبيق نصوصه على النسخ و المراجعة إلى المصادر الحديثية فلم يظهر لنا منه شيء.و لعلّ الملابسات و الظروف الحرجة يوم ذاك في النجف الأشرف لم تسمح للسيد الخرسان بذلك،و لأجل ذلك أصبحت الطبعة الثانية كالطبعة الأُولى مشتملة على سقطات كثيرة.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة سيد الشهداء عليه السلام

يوم العشرين من صفر المظفر سنة 1410ه.ق

ص:194

7

اشارة

نظرة عامة في حديث

لا تجتمع أُمّتي على الضلالة

دليل حجّية الإجماع عند أهل السنّة

استدلّ الأُصوليون من أهل السنّة على حجّية الإجماع بما هو هو،بأُمور نذكر منها أمرين:

الأمر الأوّل:قوله سبحانه: «وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً» 1 حيث إنّ الآية توجب اتباع سبيل المؤمنين،فإذا أجمع المؤمنون على حكم،فهو سبيلهم،فيجب اتّباعه.

يلاحظ عليه بوجهين:

أوّلاً: أنّ الآية بمنطوقها و مفهومها تقسِّم الأُمّة إلى قسمين:

أ.من يشاقق الرسول و يخالفه و يعاديه من بعد ما تبيّن له الهدى و ظهر له

ص:195

الحقّ و الإسلام و قامت له الحجّة على نبوته و رسالته،و يتبع طريقاً غير سبيل المؤمنين (سبيلهم هو الإيمان به و نصرته و مؤازرته) فجزاؤه انّه سبحانه يكله إلى من تولّى له و اتّكل عليه من الأوثان و الأصنام و يلزمه بدخول جهنم عقوبة له.

ب.من يطيع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و لا يعاديه من بعد ما تبيّن له اعلام الحق و يتّبع سبيل المؤمنين في الإيمان بالنبي و مؤازرته في المواقف، فمصيره إلى الجنّة،و أين هذا من حجّية اتّفاق فقهاء الأُمّة على حكم شرعي؟!

و المستدلّ أخذ جزءاً من الآية و هو قوله: «وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ» و قطع النظر عن أنّه عطف على قوله: «وَ مَنْ يُشاقِقِ» و الآية تندّد بالمعاند و التابع لغير سبيل المؤمنين،و تمدح مقابله و ليس المراد من سبيل المؤمنين في هذه الآية شيء سوى الإيمان بالنبي و مناصرته و مؤازرته.و أين هو من حجّية اتفاق العلماء على حكم شرعي لعامة الناس؟!

ثانياً:أنّ الآية لا تشير إلى حجّية إجماع الأُمّة بعد عصر الرسول و إنّما توجب تبعية سبيل المؤمنين في عصره،لأجل انّ سبيلهم في ذلك العصر هو سبيل نفس الرسول،فكان الرسول و المؤمنون في جانب و المنافقون و المشركون في جانب آخر،و من المعلوم انّ تبعية غير ذلك السبيل ضلال و وبال و تبعية مقابله هداية و سعادة،و أين ذلك من كون نفس سبيل المؤمنين مجرّداً عن الرسول حجّة،و الآية ناظرة إلى عصره و هي بحكم القضية الخارجية بقرينة قوله: «وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ» لا الحقيقية.

الأمر الثاني:ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«انّ أُمّتي لا تجتمع على ضلالة»رواه أصحاب السنن و لكن في طرق الجميع ضعف صرح به المحقّقون.

قال الشيخ العراقي (1)في تخريج أحاديث البيضاوي:جاء الحديث بطرق في كلها نظر.

ص:196


1- 1) .لاحظ تعليقة محققي سنن ابن ماجة:1303/2.

و بما انّ الرواية تعد مصدراً في باب الإمامة لخلافة الخلفاء كما عد مصدراً بعد الإجماع من مصادر التشريع،نبحث عنها من كلتا الجهتين سنداً و دلالة و إن طال بنا المقام.

أسانيد الحديث

اشارة

قد روي هذا الحديث في السنن و المسانيد،و غيرهما من كتب الحديث،و الأُصول،و الاستدلال فرع ثبوت الحديث سنداً،و دلالة، فلنتطرق إلى الحديث من كلا الجانبين.

1.سنن ابن ماجة

روى الحديث الحافظ أبو عبد اللّه محمد بن يزيد القزويني(207-275ه) في«سننه»،قال:حدثنا العباس بن عثمان الدمشقي،حدثنا الوليد بن مسلم،حدثنا مُعان بن رفاعة السلامي،حدثني أبو خلف الأعمى،قال:سمعت أنس ابن مالك،يقول:سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:«إنّ أُمّتي لا تجتمع على ضلالة،فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم».

و ينقل محقّق الكتاب عن كتاب«مجمع الزوائد»للهيثمي:في إسناده أبو خلف الأعمى،و اسمه حازم بن عطا،و هو ضعيف.و قد جاء الحديث بطرق في كلّها نظر.قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي. (1)

أقول:أبو خلف الأعمى،قال عنه الذهبي:يروي عن أنس بن مالك،كذّبه يحيى بن معين،و قال أبو حاتم:منكر الحديث. (2)

ص:197


1- 1) .ابن ماجة:السنن:1303/2،الحديث 3950.
2- 2) .ميزان الاعتدال:521/4،برقم 10156.

و أمّا السواد الأعظم في متن الرواية هو الجماعة الكثيرة،و إنّما أمر بالتمسّك بهم باعتبار أنّ اتّفاقهم أقرب إلى الإجماع.

قال السيوطي في تفسير السواد الأعظم:أي جماعة الناس و معظمهم.

و قد استعمل الإمام علي عليه السلام هذا المعنى في بعض خطبه،و قال:

«ألزموا السواد الأعظم،فإنّ يد اللّه مع الجماعة،و إيّاكم و الفرقة،فإنّ الشاذ من الناس للشيطان،كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب،ألا مَن دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه و لو كان تحت عمامتي هذه». (1)

2.سنن الترمذي

روى الترمذي(209-297ه) في«سننه»،قال:حدثنا أبو بكر بن نافع البصري،حدثني المعتمر بن سليمان،حدثنا سليمان المدني،عن عبد اللّه بن دينار،عن ابن عمر،عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،قال:«إنّ اللّه لا يجمع أُمتي،أو قال:أُمّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم على ضلالة،و يد اللّه مع الجماعة،و من شذَّ شذَّ إلى النار».

قال أبو عيسى(الترمذي):هذا حديث غريب من هذا الوجه،و سليمان المدني هو عندي سليمان بن سفيان،و قد روى عنه أبو داود الطيالسي،و أبو عامر العقدي،و غير واحد من أهل العلم.

ثمّ أضاف و قال:و تفسير الجماعة عند أهل العلم،هم أهل الفقه و العلم و الحديث،قال:و سمعت الجارود بن معاذ،يقول:سمعت علي بن الحسن،يقول:سألت عبد اللّه بن المبارك،مَن الجماعة؟ قال:أبو بكر و عمر،قيل له:قد مات أبو بكر و عمر؟ قال:فلان و فلان،قيل له:قد مات فلان و فلان؟ فقال عبد اللّه بن

ص:198


1- 1) .نهج البلاغة، [1]ط عبدة،الخطبة برقم 123؛و في طبعة صبحي الصالح برقم 127.

المبارك:أبو حمزة السّكري جماعة.

ثمّ أضاف:أبو حمزة،هو محمّد بن ميمون،و كان شيخاً صالحاً،و إنّما قال هذا في حياته عندنا. (1)

أقول:فيما ذكره تأمل واضح.

أوّلاً:إنّ سليمان بن سفيان المدني قد عرّفه الذهبي قائلاً:قال ابن معين:ليس بشيء،و قال مرّة:ليس بثقة،و كذا قال النسائي.

و قال أبو حاتم،و الدار قطني:ضعيف،و ليس له في السنن و المسانيد غير حديثين. (2)

ثانياً:كيف يفسر الأُمّة بأهل الفقه و العلم و الحديث،مع أنّ الأُمّة تشمل جميع من آمن برسالة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ؟!

و أعجب منه تفسير عبد اللّه بن المبارك بالخليفتين أبي بكر و عمر،ثمّ تفسيره بفلان و فلان،و لم يعلم أنّه ما ذا أراد منهما؟ و أشدّ عجباً تطبيقه على أبي حمزة السكري،و هل هذا إلاّ الغلو؟!

و قد صار الحديث ذريعة لتصويب خلافة الخلفاء.

3.سنن أبي داود

روى أبو داود(202-275ه) قال:حدثنا محمد بن عوف الطائي،حدثنا محمد بن إسماعيل،حدثني أبي،قال ابن عوف:و قرأت في أصل إسماعيل،قال حدثني ضمضم عن شريح،عن أبي مالك-يعني الأشعري-قال:قال

ص:199


1- 1) .الترمذي:السنن:466/4 برقم2167،كتاب الفتن.
2- 2) .ميزان الاعتدال:209/2،الحديث 3469.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّ اللّه أجاركم من ثلاث خلال:أن لا يدعوا عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً،و أن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحقّ، و أن لا تجتمعوا على ضلالة». (1)

و في السند محمد بن عوف الطائي،ذكره الذهبي،قال:محمد بن عوف،عن سليمان بن عثمان،مجهول الحال. (2)

و أيضاً فيه ضمضم،ذكره الذهبي،و قال:ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد.وثّقه يحيى بن معين،و ضعّفه أبو حاتم،روى عنه جماعة. (3)

و قد اتّفقت السنن الثلاث على لفظ«ضلالة»دون لفظ خطأ.

4.مسند أحمد بن حنبل

روى أحمد بن حنبل (164-241ه) في مسنده،قال:حدثنا أبو اليمان،حدثنا ابن عياش،عن البختري بن عبيد بن سليمان،عن أبيه،عن أبي ذر،عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم،أنّه قال:«اثنان خير من واحد،و ثلاثة خير من اثنين،و أربعة خير من ثلاثة،فعليكم بالجماعة،فإنّ اللّه عزّ و جلّ لن يجمع أُمّتي إلاّ على هدى». (4)

و في السند ابن عياش الحميري،قال عنه الذهبي:مجهول. (5)

و في السند أيضاً البختري،و هو البختري بن عبيد،ذكره الذهبي،و قال:ضعّفه أبو حاتم،و غيره تركه،فأمّا أبو حاتم فأنصف فيه،و أمّا أبو نعيم الحافظ

ص:200


1- 1) .سنن أبي داود:98/4 برقم 4253. [1]
2- 2) .ميزان الاعتدال:676/3 برقم 8030.
3- 3) .ميزان الاعتدال:331/2 برقم 3960.
4- 4) .مسند أحمد بن حنبل:145/5. [2]
5- 5) .ميزان الاعتدال:594/4 برقم 10821.

فقال:روى عن أبيه موضوعات.

و قال ابن عدي:روى عن أبيه قدر عشرين حديثاً عامّتها مناكير،منها:اشربوا أعينكم الماء،و منها:الأُذنان من الرأس،ثمّ قال:و له عند ابن ماجة حديث عن أبيه عن أبي هريرة:صلوا على أولادكم. (1)

و لعلّ الرواية منقولة بالمعنى،و قد عرفت اتّفاق السنن الثلاث على لفظ«الضلالة»و عبّر عنها ب:لن يجمع أُمّتي إلاّ على هدى.

5.مستدرك الحاكم

روى الحاكم النيسابوري(321-405ه)،في مستدركه على الصحيحين هذا الحديث،بمسانيد تشترك في المعتمر بن سليمان قال:

فيما احتجّ به العلماء على أنّ الإجماع حجّة،حديث مختلفٌ فيه على المعتمر ابن سليمان قال:حدثنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن تميم الأصم ببغداد،حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر،حدثنا خالد بن يزيد القرني،حدثنا المعتمر بن سليمان،عن أبيه،عن عبد اللّه بن دينار،عن ابن عمر،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«لا يجمع اللّه هذه الأُمّة على الضلالة أبداً،و قال:يد اللّه على الجماعة،فاتّبعوا السواد الأعظم،فانّه مَن شذّ شذَّ في النار». (2)

قال الحاكم-بعد نقله للحديث بأسانيده السبعة:فقد استقر الخلاف في إسناد هذا الحديث على المعتمر بن سليمان،و هو أحد أركان الحديث من سبعة أوجه،لا يسعنا أن نحكم انّ كلّها محمولة على الخطأ بحكم الصواب،لقول من

ص:201


1- 1) .ميزان الاعتدال:299/1 برقم 1133.
2- 2) .المستدرك:115/1. [1]

قال عن المعتمر عن سليمان بن سفيان المدني،عن عبد اللّه بن دينار،و نحن إذا قلنا هذا القول،نسبنا الراوي إلى الجهالة فوهن به الحديث،و لكنّا نقول:إنّ المعتمر بن سليمان،أحد أئمّة الحديث،و قد روي عنه هذا الحديث بأسانيد يصحّ بمثلها الحديث،فلا بدّ من أن يكون له أصل بأحد هذه الأسانيد،ثمّ وجدنا للحديث شواهد من غير حديث المعتمر لا ادّعي صحتها و لا أحكم بتوهينها،بل يلزمني ذكرها لإجماع أهل السنّة على هذه القاعدة من قواعد الإسلام.

فمن روي عنه هذا الحديث من الصحابة:عبد اللّه بن عباس،ثمّ ذكر حديث ابن عباس.

و أمّا معتمر الذي وقع في سند الحديث،ذكره الذهبي،و قال:معتمر بن سليمان التيمي البصري أحد الثقات الأعلام.

قال ابن خراش:صدوق يخطئ من حفظه،و إذا حدّث من كتابه فهو ثقة.

قلت:هو ثقة مطلقاً.و نقل ابن دحية،عن ابن معين:ليس بحجّة. (1)

هذا ما لدى أهل السنّة إذا اقتصرنا من الحديث على صورة المسند منه،و أمّا نقله مرسلاً فقد تضافر نقله في كتبهم و أرسلوه إرسالاً مسلماً.

1.رواه الغزالي (450- 505ه) في ا«المستصفى»،قال:تضافرت الرواية عن رسول اللّه بألفاظ مختلفة مع اتّفاق المعنى في عصمة هذه الأُمّة من الخطأ. (2)

2.و قال في«المنخول»:و ممّا تمسّك به الأُصوليون،قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«لا تجتمع أُمّتي على ضلالة»و روي«على خطأ»و لا طريق إلى ردّه بكونه من أخبار الآحاد،فانّ القواعد القطعية يجوز إثباتها بها،و إن كانت مظنونة.

ص:202


1- 1) .ميزان الاعتدال:143/4 برقم 8648.
2- 2) .المستصفى:111/1. [1]

فإن قيل:فما المختار عندكم في إثبات الإجماع؟

قلنا:لا مطمع في مسلك عقلي إذ ليس فيه ما يدل عليه،و لم يشهد له من جهة السمع خبر متواتر و لا نص كتاب،و إثبات الإجماع بالإجماع تهافت،و القياس المظنون لا مجال له في القطعيات. (1)

يلاحظ على ما ذكره:

أوّلاً:أنّ الوارد في السنن و المسانيد هو لفظ«ضلالة»و لم نقف على لفظ«على خطأ»و على ذلك فالرواية ترجع إلى الأُصول و العقائد التي تدور عليها الهداية و الضلالة،لا المسائل الفقهية التي لا يعدّ المخالف للحكم الواقعي ضالاً،فالتمسك به في إثبات حجّية الإجماع كما ترى.

و ثانياً:وجود التناقض في كلامه حيث قال:«إنّ القواعد القطعية يجوز إثباتها بأخبار الآحاد و إن كانت مظنونة»و هذا ينافي ما قاله أخيراً:«القياس المظنون لا مجال له في القطعيات».

وجه التناقض أنّ الخبر الواحد و القياس من حيث إفادة الظن سيّان،فكيف تثبت القواعد القطعية بالظن مستنداً إلى خبر الواحد،و لا يثبت بالقياس؟!

و أعجب منه ثبوت القواعد القطعية بالظن،مع أنّ النتيجة تابعة لأخس المقدمتين.

3.و قال تاج الدين السبكي عبد الوهاب بن علي (المتوفّى771ه) في كتابه«رفع الحاجب عن ابن الحاجب»،فانّه بعد ذكر طرق الحديث و رواته قال:

ص:203


1- 1) .المنخول:305- 306،طبع دار الفكر.

أمّا الحديث فلا أشك انّه اليوم غير متواتر،بل لا يصحّ،أعني لم يصح منه طريق على السبيل الذي يرتضيه جهابذة الحفاظ،و لكني اعتقد صحّة القدر المشترك من كلّ طرقه،و الأغلب على الظن أنّه«عدم اجتماعها على الخطأ».و أقول:مع ذلك جاز أن يكون متواتراً في سالف الزمان ثمّ انقلب آحاداً. (1)

***

الحديث في كتب الشيعة

اشارة

أمّا الشيعة فلم تنقله مسنداً،إلاّ الصدوق في خصاله،و منه أخذ صاحب الاحتجاج و نقله فيه.

و روي أيضاً في رسالة الإمام الهادي عليه السلام التي كتبها في الرد على أهل الجبر و التفويض،نقلها ابن شعبة الحراني في«تحف العقول»، مرسلاً لا مسنداً؛و نقله أيضاً الأُصوليون من الشيعة عند البحث في الإجماع،و إليك ما وقفنا على نصوصهم بصدد هذا الحديث:

1. خصال الصدوق

روى الصدوق(306-381ه) في«الخصال»قال:حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال:حدثنا عبد الرحمن بن محمد الحسني،قال:حدثنا أبو جعفر محمد بن حفص الخثعمي،قال:حدثنا الحسن بن عبد الواحد،قال حدثني أحمد بن التغلبي (2)،قال:حدثني أحمد بن عبد الحميد، قال:حدثني حفص بن منصور العطار،قال:حدثنا أبو سعيد الورّاق،عن أبيه،عن جعفر بن محمد،عن أبيه،

ص:204


1- 1) .رفع الحاجب عن ابن الحاجب،ورقة 176 ب المخطوط في الأزهر.
2- 2) .هو أحمد بن عبد اللّه بن ميمون التغلبي،قال ابن حجر:ثقة زاهد.

عن جدّه،قال:«لمّا كان من أمر أبي بكر و بيعة الناس له،و فعلهم بعليّ بن أبي طالب عليه السلام لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط،و يرى منه انقباضاً،فكبر ذلك على أبي بكر،فأحب لقاءَه و استخراج ما عنده و المعذرة إليه لما اجتمع الناس عليه و تقليدهم إياه أمر الأُمّة،و قلة رغبته و زهده فيه.

أتاه في وقت غفلة،و طلب منه الخلوة-ثمّ نقل بعض ما دار بينهما من الكلام-إلى أن قال:فقال له علي عليه السلام:«فما حملك عليه إذا لم ترغب فيه،و لا حرصت عليه،و لا وثقت بنفسك في القيام به،و بما يحتاج منك فيه؟».

فقال أبو بكر:حديث سمعته من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّ اللّه لا يجمع أُمتي على ضلال»و لما رأيت اجتماعهم اتبعت حديث النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أحلت أن يكون اجتماعهم على خلاف الهدى و أعطيتهم قود الإجابة،و لو علمت أنّ أحداً يتخلّف لامتنعت.

فقال علي عليه السلام:«أمّا ما ذكرت من حديث النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّ اللّه لا يجمع أُمّتي على ضلال»أ فكنت من الأُمّة أو لم أكن؟»قال:بلى، قال:«و كذلك العصابة الممتنعة عليك من سلمان و عمار و أبي ذر و المقداد و ابن عبادة و من معه من الأنصار؟»قال:كلّ من الأُمّة.

فقال علي عليه السلام:«فكيف تحتج بحديث النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أمثال هؤلاء قد تخلّفوا عنك،و ليس للأُمّة فيهم طعن،و لا في صحبة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و نصيحته منهم تقصير؟!». (1)

يلاحظ عليه:أنّ السند مشتمل على رجال مجهولين،أو مهملين،فلا يمكن الاحتجاج بهذا الحديث على صحّة ما ورد فيه.

أضف إلى ذلك أنّه من المحتمل أن يكون قبول الإمام للحديث من باب

ص:205


1- 1) .الخصال:548/2-549،أبواب الأربعين،الحديث 30.

الجدل و الرد على الخليفة من الطريق الذي سلكه.

2.تحف العقول لابن شعبة الحراني

إنّ الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني من أعلام الشيعة في القرن الرابع الهجري،يروي عن أبي علي محمد بن همام، (المتوفى سنة 336ه) المعاصر للصدوق (المتوفّى381ه)،أُستاذ الشيخ المفيد (336- 413ه) قد روى في كتابه القيّم«تحف العقول»رسالة الإمام الهادي إلى الأهوازيين في الردّ على أهل الجبر و التفويض،و جاء فيه ما نصّه:و قد اجتمعت الأُمّة قاطبة لا اختلاف بينهم أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق،و في حال اجتماعهم مقرون بتصديق الكتاب و تحقيقه،مصيبون،مهتدون،و ذلك بقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«لا تجتمع أُمّتي على ضلالة»فأخبر أنّ جميع ما اجتمعت عليه الأُمّة كلّها حق،هذا إذا لم يخالف بعضها بعضاً. (1)

و الرسالة مرسلة لم نجد لها سنداً،و نقلها الشيخ الطبرسي في«الاحتجاج» (2)بلا اسناد أيضاً،كما رواها المجلسي في«البحار»مرسلاً. (3)

هذا ما يرجع إلى تلك الرواية في كتب الشيعة الحديثية،و قد عرفت أنّ السند في«الخصال»مشتمل على مجاهيل و مهملين،و المرسل منها لا ينفع ما لم يحرز ثبوت الرسالة إلى الإمام.

و أمّا غير الكتب الحديثية فقد نقلها غير واحد منهم في كتبه،منهم:

أ.الشيخ الطوسي (385-460ه) فقد نقل الحديث عند البحث عن حجّية الإجماع في نظر أهل السنّة،فقال:و استدلوا أيضاً على صحّة الإجماع بما

ص:206


1- 1) .تحف العقول:458،باب ما روي عن الإمام الهادي عليه السلام.
2- 2) .الاحتجاج:478/2 برقم 328.
3- 3) .البحار:15/4.

روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:«لا تجتمع أُمّتي على خطأ»و بلفظ آخر:«لم يكن اللّه ليجمع أُمّتي على الخطأ»و بقوله:«كونوا مع الجماعة»و بقوله:«يد اللّه على الجماعة»و ما أشبه ذلك من الألفاظ.

ثمّ أجاب عن الاستدلال بهذه الأحاديث و قال:

و هذه الأخبار لا يصحّ التعلّق بها لأنّها كلّها أخبار آحاد لا توجب علماً،و هذه مسألة طريقها العلم.

و ليس لهم أن يقولوا إنّ الأُمّة قد تلقّتها بالقبول و عملت بها.

لأنّا أوّلاً:لا نسلّم أنّ الأُمّة كلّها تلقّتها بالقبول.

و لو سلمنا ذلك لم يكن أيضاً فيها حجّة،لأنّ كلامنا في صحّة الإجماع الذي لا يثبت إلاّ بعد ثبوت الخبر،و الخبر لا يصحّ حتى يثبت أنّهم لا يجمعون على خطأ.

إلى أن قال:و لو سلم من جميع ذلك،لجاز أن يحمل على طائفة من الأُمّة،و هم الأئمة من آل محمد صلى الله عليه و آله و سلم،لأنّ لفظ الأُمّة لا يفيد الاستغراق على ما مضى القول فيه،و ذلك أولى من حيث دلّت الدلالة على عصمتهم من القبائح.

و إن قالوا:يجب حمله على جميع الأُمّة لفقد الدلالة على أنّ المراد بعض الأُمّة.

كان لغيرهم أن يقولوا:أنا أحمل الخبر على جميع الأُمّة من لدن النبي إلى أن تقوم الساعة،حيث إنّ لفظ الأُمّة يشملهم و يتناولهم،فأين هو من أنّ إجماع كلّ عصر حجّة؟

و أمّا الخبر الثاني من قوله:«لم يكن اللّه ليجمع أُمّتي على خطأ»فصحيح و لا يجيء من ذلك أنّه لا يجمعون على خطأ.

و ليس لهم أن يقولوا:إنّ هذا لا اختصاص فيه لأُمّتنا بذلك دون سائر

ص:207

الأُمم،لأنّ اللّه تعالى لا يجمع سائر الأُمم على الخطأ.

و ذلك أنّه و إن كان الأمر على ما قالوه،فلا يمتنع أن يخص هؤلاء بالذكر و من عداهم يعلم أنّ حالهم كحالهم بدليل آخر،و لذلك نظائر كثيرة في القرآن و الأخبار.

على أنّ هذا هو القول بدليل الخطاب الذي لا يعتمده أكثر من خالفنا. (1)

و قد عدّ العلاّمة في فصل خصائص النبي من كتاب النكاح،أنّ من خصائصه أنّ أُمّته لا تجتمع على الضلالة. (2)

و قد نقل المحقّق التستري أنّ العلاّمة نقل الحديث في كتابيه«الألفين»و«المنتهى».

أقول:أمّا كتاب الألفين فقد ذكر أنّ من فوائد الإمام عصمة الأُمة،قال ما نصه:امتناع الخطأ و الإمامة (3)مع تمكن الإمام من المكلف...إلى آخر ما ذكره. (4)

فهو يعدّ الأُمّة معصومة لأجل وجود الإمام من دون إشارة إلى الحديث.

و أمّا«المنتهى»فلم نعثر فيه على الحديث.

و قال المحقّق التستري:و أقوى ما ينبغي أن يُعتمد عليه من النقل حديث:«لا تجتمع أُمّتي على الخطأ»و ما في معناه لاشتهاره و قوّة دلالته.

و تعويل معظمهم و لا سيما أوائلهم عليه،و تلقّيهم له بالقبول لفظاً و معنى و ادعاء جماعة منهم تواتره معنى...،إلى أن قال:حكى بعض المحدّثين من التحف مرسلاً عنه عليه السلام انّه قال أيضاً:«إنّ اللّه قد احتج على العباد بأُمور ثلاثة:الكتاب،و السنّة،و ما أجمع عليه

ص:208


1- 1) .الطوسي:العدّة:625/2-626، [1]نقلناه بتلخيص،طبع عام 1417ه.
2- 2) .التذكرة:568/2، [2]رقم الخصيصة ه17/.
3- 3) .كذا في النسخة المطبوعة في مؤسسة دار الهجرة،و لعلّ الصحيح:(على الأُمّة).
4- 4) .الألفين:211. [3]

المسلمون»،و قد روي في هذا الباب أخبار أُخر من طرقنا تقتضي حجّية الإجماع الواقع على الحكم بنفسه،و وجوب العمل بخبر أجمع على العمل به أو على روايته مع قبوله كما تقتضي إمكان وقوع الإجماع و العلم به و هي أخبار شتى،إلى أن قال:مؤيدة بما ورد في المنع من فراق الجماعة و غيره،و لتطلب جميعاً من كتاب المناهج،وفّق اللّه سبحانه لإتمامه. (1)

هذا ما وقفنا عليه في كتب أصحابنا إلى أواخر القرن الثالث عشر.

نعم جاء ذكر هذا الحديث في الكتب الأُصولية الاستدلالية لكلا الفريقين،و لا داعي للإطالة بالنقل عنها.

حصيلة البحث:

إنّ للقارئ أن يستنتج من هذا البحث الضافي حول الرواية الأُمور التالية:

الأوّل:أنّ الرواية من أخبار الآحاد،لم تنقل بسند صحيح في كتب الفريقين،و قد عرفت وجه الضعف عند نقلها عن كتب الصحاح و المسانيد.

الثاني:أنّ المنقول مسنداً هو لفظ«الضلالة»لا لفظ«الخطأ»،أو«على غير هدى»كما في مسند الإمام أحمد،و إنّما جاء الخطأ في غير الكتب الحديثية.

الثالث:أنّ الحديث على فرض ثبوته يرجع إلى المسائل العقائدية التي عليها مدار الهداية و الضلالة،أو ما يرجع إلى صلاح الأُمّة من وحدة الكلمة و الاجتناب عن التشتّت فيما يمسّ وحدة المسلمين.

و أمّا المسائل الفقهية فلا يوصف المصيب و المخطئ فيها بالهداية و الضلالة،كما لا يكون مصير الشاذ فيها مصير النار،أو نصيب الشيطان.

ص:209


1- 1) .كشف القناع:6- 7،طبع عام 1316ه. [1]

و على ذلك فالاستدلال به على حجية الإجماع في المسائل الفقهية غير تام.

الرابع:لو سلّمنا سعة دلالة الحديث فالمصون من الضلالة هو الأُمّة بما هي أُمة،لا الفقهاء فقط،و لا أهل العلم،و لا أهل الحل و العقد، و على ذلك ينحصر مفاد الحديث بما اتفقت عليه جميع الأُمّة في العقائد و الأُصول.

الخامس:أنّ مصونية الأُمّة كما يمكن أن يكون لكمال عقلها،يمكن أن يكون لوجود معصوم فيهم،و الرواية ساكتة عنه فلا يمكن أن يستدل بالرواية على أنّ الأُمّة مع قطع النظر عن المعصوم مصونة عن الخطأ،بل لما ثبت في محلّه أنّ الزمان لا يخلو عن إمام معصوم تكون عصمة الأُمّة بعصمة الإمام.

قال أمير المؤمنين عليه السلام:«اللّهم بلى،لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً،و إمّا خائفاً مغموراً لئلاّ تبطل حجج اللّه و بيّناته». (1)

روى الكشّي باسناده إلى إسماعيل بن جابر عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين،و تحريف الغالين،و انتحال الجاهلين،كما ينفي الكير (2)خبث الحديد. (3)

تمّت الرسالة بيد الفقير إلى رحمة اللّه جعفر السبحاني ابن الفقيه

محمد حسين الخياباني التبريزي،غفر اللّه له و لوالديه

حرّرت في 13 رجب المرجب ميلاد وليد الكعبة

علي عليه الصلاة و السلام

من شهور عام 1418ه

ص:210


1- 1) .نهج البلاغة: [1]قسم الحكم برقم 147.
2- 2) .الكير:جلد غليظ ذو حافات ينفخ فيه الحداد.
3- 3) .الكشي:الرجال:10 برقم 5،فصل فضل الرواية و الحديث.

8

اشارة

أبو بصير

شخصيّته و ثقافته

السُّنّة الشريفة هي الحجّة الثانية التي استأثرت باهتمام المسلمين بعد الكتاب العزيز،و هي وحي بمعناها لا بلفظها،خلافاً للقرآن فهو وحي بلفظه و معناه،و قد أمر سبحانه الأخذ بكلّ ما أمر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أو نهى عنه،و قال: «وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» . (1)

السنَّة هي الحدّ المائز بين الحقّ و الباطل،و المصباح المنير لرواد الحقّ و الحقيقة لا يعادلها شيء بعد القرآن الكريم.

السنَّةُ هي المرجع لبيان مجملات الكتاب و الموضحة لعموماته و مطلقاته،فلو تُركت السُّنّةُ و أُهملت على الإطلاق أو اقتصرت على السُّنَّة المتواترة لاندثرت الشريعة و مُحيت أحكامها.

السنّة هي فصل الخطاب و الحجّة القاطعة في مقام التشريع و القضاء،و تبيين شروط العبادات و موانعها،فلا غنى لمسلم عن السُّنّة،كما لا غنى له عن الكتاب.

و هناك كلمات مأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تكشف بوضوح عن المقام

ص:211


1- 1) .الحشر:7. [1]

السامي الذي حازته السُّنّة نقتطف منها ما يلي:

1.قال الإمام الباقر عليه السلام:«كلّ من تعدّى السُّنّة رد إلى السُّنّة».

2.و قال الإمام الصادق عليه السلام:«ما من شيء إلاّ فيه كتاب أو سنّة».

3.و قال عليه السلام أيضاً في شأن السُّنّة:«فيها كل ما يحتاج الناس إليه،و ليس من قضية إلاّ فيها حتى أرش الخدش».

فقد دوّن حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بإملاء منه صلى الله عليه و آله و سلم و قد سمعها من فَلق فمه.و هي المسمّاة ب«الجامعة».

ارتحل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و لبَّى دعوة ربّه و خلّف بين الأُمّة كنزين ثمينين،و قال:«إنّي تارك فيكم الثقلين:كتاب اللّه،و عترتي»فالعترة هم حفّاظ السُّنّة و مبيِّنيها عبر القرون و الأجيال،و قد تلقّاها منهم الأمثل فالأمثل من تلاميذهم و خريجي مدرستهم ما لا يحصيه إلاّ اللّه سبحانه، و قد ذكر الحسن بن الوشّاء انّه أدرك في مسجد الكوفة تسعمائة شيخ،كلّ يقول:حدّثني جعفر بن محمد. (1)

و ممّن تخرّج على يدي الإمامين الهمامين الباقر و الصادق عليهما السلام هو الراوية المعروف ب«أبي بصير»و قد وقع في أسناد كثير من الروايات تناهز 2275 مورداً أو أكثر،و هو يروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام و أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام و أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام.

فإذا كانت هذه مكانة الرجل و منزلته،فيجب أن نقف على أحواله من خلال كلمات الرجاليين و الروايات المأثورة عنه.

فنقول:

ادُّعي أنّ أبا بصير كنية مشتركة بين رجال خمسة:

اشارة

1.يحيى بن أبي القاسم الأسدي.

ص:212


1- 1) .رجال النجاشي:139/1 برقم 79.

2.ليث بن البختري المرادي الكوفي.

3.يوسف بن الحارث.

4.عبد اللّه بن محمد الأسدي.

5.حمّاد بن عبد اللّه بن أسيد الهروي.

فلو صحّ اشتراك لفظ«أبي بصير»بين هؤلاء لصار مشتركاً بين الثقة و غيره،و عندئذ تسقط أكثر الروايات المرويّة عنه بلفظة«أبي بصير» من دون أن يقترن بلقب يميّزه عن غيره.فإنّ الأوّلين ثقتان بلا كلام دون الثلاثة الأخيرة،فلم تحرز وثاقتهم غير انّ بعض المحقّقين ذهب إلى انصراف لفظة«أبي بصير»عند إطلاقه إلى الأوّلين فحسب،و على هذا كلّما أُطلق أبو بصير،فإن تبيّن المراد فهو،و إلاّ فالأمر يتردّد بين يحيى بن أبي القاسم الثقة،و ليث بن البختري المرادي الثقة،فلا أثر للتردّد. (1)

و لأجل تحقيق هذا الكلام،نستعرض كلمات الرجاليّين في هذا الصدد.

1.أبو بصير يوسف بن الحارث

لقد عدّ الشيخ الطوسي يوسف بن الحارث من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام و كنّاه بأبي بصير،و قال:يوسف بن الحارث،بتري يكنّى أبا بصير. (2)

و قد تبعه العلاّمة في«الخلاصة» (3)،و ابن داود في رجاله (4)،و الميرزا الاسترآبادي في«منهج المقال». (5)

ص:213


1- 1) .معجم رجال الحديث:47/21 برقم 13959. [1]
2- 2) .رجال الشيخ:150،أصحاب الباقر عليه السلام،باب الياء برقم 17.
3- 3) .الخلاصة:265 برقم 1.
4- 4) .رجال ابن داود:285 برقم 557.
5- 5) .منهج المقال:384، [2]قسم الكنى.

و الظاهر انّ مصدر الشيخ هو رجال الكشي،فانّه ذكره في عداد البتريّين،و قال:و قيس بن الربيع بتري،كانت له محبة،فامّا مسعدة بن صدقة بتري-إلى أن قال:و أبو نصر بن يوسف بن الحارث بتري.

و على هذا فقد تطرق التحريف إلى كلام الشيخ من وجهين:

أ:تصحيف«أبي نصر»ب«أبي بصير».

ب:اسقاط لفظة«ابن»على وجه صار«أبو بصير»كنية يوسف،مع أنّه في كلام الكشي كنية ابن يوسف.

و أوّل من تنبّه إلى ذلك هو المحقّق القهبائي،و اعتذر عن وقوع التحريف في كلام الشيخ بأنّ عجلته الدينيّة صارت سبباً لهذا التحريف، ثمّ قال:و على هذا التحريف اشتهر عند الطائفة ضعف حديث أبي بصير،لاعتقادهم أنّ أبا بصير مشترك بين أربعة،منهم هذا البتري،فاشترك الحديث بينه و بين غيره. (1)

و قال أيضاً في ترجمة محمد بن إسحاق بن يسار المدني الذي جاء في ترجمته ذكر أبو نصر بن يوسف بن الحارث البتري:«هكذا في نسخ هذا الكتاب (رجال الكشي) و هي متعددة عندنا،و اشتبه على الشيخ قدس سره في أصحاب الباقر عليه السلام و تبعه غيره،مثل العلاّمة في الخلاصة، و ابن داود في رجاله،و غيرهما،فقرءوا هكذا:أبو بصير يوسف بن الحارث بتري،فصار حينئذٍ أبو بصير في مرتبة من يروي عن الإمام الصادق عليه السلام،و هذا خلاف الواقع». (2)

و احتمال تطرّق الاشتباه إلى نسخة الكشي بعيد جداً،و قد قام بتصحيحه المحقّق الشيخ حسن المصطفوي بعرضها على سبع نسخ مصححة و غير مصححة

ص:214


1- 1) .مجمع الرجال:279/6،قسم التعليقة.
2- 2) .مجمع الرجال:149/5،قسم التعليقة بتصرّف يسير.

و التي يرجع تاريخ كتابة بعضها إلى سنة 577ه. (1)

و بذلك تبيّن انّ ما يظهر من الشيخ و غيره من كون يوسف بن الحارث من المكنّين بأبي بصير،ممّا لا وجه له.

2.أبو بصير عبد اللّه بن محمد الأسدي

و ممّن كُنّي بأبي بصير من الرواة هو عبد اللّه بن محمد الأسدي،و هذا ما نراه في عنوان رجال الكشي،بهذه الصورة:في أبي بصير عبد اللّه بن محمد الأسدي.

طاهر بن عيسى،قال:حدثني جعفر بن أحمد الشجاعي،عن محمد بن الحسين،عن أحمد بن الحسن الميثمي،عن عبد اللّه بن وضاح، عن أبي بصير،سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مسألة في القرآن... (2)

هذا و لكنّ في صحته نظراً.

أوّلاً:أنّ من المحتمل كون العنوان راجعاً إلى النُّسّاخ لا إلى المؤلف أي الكشّي.

ثانياً:لو كان العنوان من المؤلف نفسه،فقد اشتبه الأمر على الكشّي،لأنّ المراد من أبي بصير في السند هو يحيى بن أبي القاسم،لا عبد اللّه بن محمد الأسدي،و ذلك لأنّ عبد اللّه بن وضاح ممّن يروي عن يحيى بن أبي القاسم كثيراً،بشهادة قول النجاشي:عبد اللّه بن وضاح،أبو محمد،كوفي،ثقة،من الموالي صاحَبَ أبا بصير يحيى بن القاسم كثيراً و عرف به،له كتب يعرف منها:كتاب الصلاة،أكثره عن أبي بصير. (3)

ص:215


1- 1) .رجال الكشي:ص 20، [1]قسم التعليقة.
2- 2) .رجال الكشي:174 برقم 299.
3- 3) .رجال النجاشي:10/2 برقم 558.

فالعنوان لا ينطبق على السند الذي نقل بعده.

و يؤيد ذلك ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره في آخر سورة الكهف عن جماعة،منهم:الحسين بن أبي العلاء،و عبد اللّه بن وضاح، و شعيب العقرقوفي،جميعاً عن أبي بصير،عن مولانا أبي عبد اللّه عليه السلام. (1)

فإنّ شعيباً العقرقوفي ابن أُخت أبي بصير يحيى بن أبي القاسم،كما ذكره النجاشي. (2)

و يؤيده أيضاً كون الحسين بن أبي العلاء في تلك الجماعة،فإنّ الشيخ يروي مناسك الحجّ لأبي بصير عن طريقه.

قال في الفهرست:يحيى بن القاسم يكنّى أبا بصير،له مناسك الحجّ،رواه علي بن أبي حمزة،و الحسين بن أبي العلاء. (3)

و على هذا فلم نجد دليلاً على إطلاق أبي بصير على عبد اللّه بن محمد الأسدي غير وجود لفظ«أبي بصير»في العنوان فقط.

نعم كنّاه الشيخ الطوسي بأبي بصير،و قال:«عبد اللّه بن محمد الأسدي»كوفي،يكنّى أبا بصير. (4)

و لعلّ الشيخ تبع ما وجده من العنوان في رجال الكشي،فكنّاه به.

ثمّ إنّ عبد اللّه بن محمد الأسدي غير عبد اللّه بن محمد الحجّال الذي يصفه النجاشي،بقوله:عبد اللّه بن محمد الأسدي،مولاهم، كوفي،الحجّال،المزخرف«أبو محمد»،و قيل:إنّه من موالي بني تيم،ثقة ثقة،ثبت،له كتاب يرويه عدّة من

ص:216


1- 1) .تفسير القمي:47/2. [1]
2- 2) .رجال النجاشي:435/1 برقم 518.
3- 3) .الفهرست:178 برقم 776. [2]
4- 4) .رجال الشيخ129،أصحاب الإمام الباقر عليه السلام برقم 26. [3]

أصحابنا. (1)

و عدّه البرقي من أصحاب الرضا عليه السلام،قائلاً:عبد اللّه بن محمد الحجّال أخو عبد اللّه،و من ولده أحمد بن عبد اللّه الكرخي. (2)

كما عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام،و قال:عبد اللّه بن محمد الحجّال،مولى«بني تيم اللّه»ثقة. (3)

فأين الحجّال من الأسديّ الذي هو من أصحاب الباقرين عليهما السلام.

و بذلك ظهر أمران:

الأوّل:عدم صحّة تكنية عبد اللّه بن محمد الأسدي بأبي بصير.

الثاني:عدم ثبوت وثاقة عبد اللّه بن محمد الأسدي،و أمّا الموثّق في كلام النجاشي و الشيخ،فهو الحجّال من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام .

3.أبو بصير حماد بن عبيد اللّه بن أسيد الهروي

(4)

و الأصل في وصفه ب«أبي بصير»ما نقله الكشي في ترجمة يونس بن عبد الرحمن،قال:روى عن أبي بصير حماد بن عبيد اللّه بن أسيد الهروي،عن داود بن القاسم،أنّ أبا جعفر الجعفري،قال:أدخلت كتاب يوم و ليلة الذي ألّفه يونس ابن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكري عليه السلام فنظر فيه و تصفّحه كلّه ثمّ قال:«هذا ديني و دين آبائي و هو الحقّ كلّه». (5)

ص:217


1- 1) .رجال النجاشي:30/2 برقم 593.
2- 2) .رجال البرقي:55.
3- 3) .رجال الشيخ:باب أصحاب الرضا،باب العين،برقم 18.و قد جاءت لفظة:«مولى بني تيم اللّه»في رجال البرقي في موارد لاحظ ص 54.
4- 4) .من النسخة المصحّحة المحقّقة في النسخة القديمة«عبد اللّه».
5- 5) .رجال الكشي:484 برقم 915.

و الظاهر تطرّق التصحيف إلى العبارة،فانّ هذه الفقرة من متمّمات الجمل السابقة،و إليك نصها:

«سمعت الفضل يقول:ما نشأ في الإسلام رجل من سائر الناس كان أفقه من سلمان الفارسي و لا نشأ رجل بعده أفقه من يونس بن عبد الرحمن رحمه الله [روى عن أبي بصير].و أمّا ما بعده،أعني:حماد بن عبيد اللّه بن أسيد الهروي،عن داود بن القاسم إلى أبي جعفر الجعفري،قال:

أدخلت كتاب يوم و ليلة...»فهو جملة مستقلة لا صلة لها بما سبق،و إنّما تطرق الخطأ من قبل النسّاخ حيث جعلوا قوله:«روى أبو بصير»مقطوعاً عمّا قبله و راجعاً إلى ما بعده.

مضافاً إلى أنّ في بعض النسخ«أبو نصر»مكان أبو بصير،و على فرض الصحة فهو من مشايخ الكشي،الذي كان من علماء النصف الأوّل من القرن الرابع،و لا صلة له بمن يروي عن الإمامين مباشرة و بلا واسطة.

إلى هنا تبيّن انّه لم يثبت كون أبي بصير كنية أحد من الرواة غير:يحيى بن أبي القاسم،و ليث البختري،و بما انّ الرجاليين اتفقوا على توثيقهما،فإذا صح السند إليه يحكم عليه بالصحّة سواء علمنا انّ المراد من هو أم لم نعلم.

***

إنّ الكتاب الماثل بين يديك هو مسند أبي بصير المشترك بين شخصين ثقتين،فيلزم علينا تسليط المزيد من الأضواء على ترجمتهما و بيان شيء من أقوال الرجاليين في حقّهما،و الإشارة إلى من تخرّج عليهما في الحديث.

1.

4. أبو بصير:يحيى بن أبي القاسم الأسدي
اشارة

عرّفه الرجاليون بالوثاقة تماماً،قال النجاشي:يحيى بن القاسم أبو بصير

ص:218

الأسدي،و قيل:أبو محمد،ثقة،وجيه،روى عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام،و قيل:يحيى بن أبي القاسم،و اسم أبي القاسم إسحاق، و روى عن أبي الحسن موسى عليه السلام،له كتاب يوم و ليلة،أخبرنا محمد بن جعفر،قال:حدثنا أحمد بن محمد ابن سعيد،قال:حدثنا يحيى بن زكريا بن شيبان،قال:حدثنا الحسن بن علي بن أبي حمزة،عن أبي بصير بكتابه،و مات أبو بصير سنة خمسين و مائة. (1)

و عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام قائلاً:يحيى بن القاسم أبو محمد،يعرف بأبي بصير الأسدي مولاهم،كوفي، تابعي،مات سنة خمسين و مائة بعد أبي عبد اللّه عليه السلام. (2)

و قال في الفهرست:يحيى بن القاسم،يُكنّى أبا بصير،له كتاب مناسك الحجّ،رواه علي بن أبي حمزة،و الحسين بن أبي العلاء،عنه. (3)

و قال العقيقي:يحيى بن القاسم الأسدي،مولاهم،ولد مكفوفاً رأى الدنيا مرتين،مسح أبو عبد اللّه عليه السلام على عينيه،و قال أُنظر ما ترى، قال:أرى كوّة في البيت و قد أرانيها أبوك من قبلك. (4)

و عدّه الكشي من أصحاب الإجماع،و قال:اجتمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر عليه السلام و أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام،و انقادوا لهم بالفقه،فقالوا:أفقه الأوّلين ستة:زرارة،و معروف بن خرّبوذ،و بريد،و أبو بصير الأسدي،و الفضيل بن يسار،و محمد بن مسلم الطائفي،قالوا:أفقه الستة زرارة،و قال بعضهم:مكان أبي بصير الأسدي:أبو بصير المرادي،و هو ليث بن

ص:219


1- 1) .رجال النجاشي:411/2،برقم 1188.
2- 2) .رجال الطوسي:333،أصحاب الصادق عليه السلام،باب الياء،برقم 9.
3- 3) .الفهرست:362 برقم 787. [1]
4- 4) .الخلاصة:264،القسم الثاني برقم 1687.

البختري. (1)

فقد تبيّن من ذلك منزلة الرجل و مكانته و هو ممّن اتفقت العصابة على تصديقه.

غير انّ هناك إبهامات تحوم حول شخصيته،و هي:

الأوّل:هل اسم والده:القاسم أو أبو القاسم؟

قد وقفت على أنّ الشيخ في الرجال و الفهرست و هكذا العقيقي،عبّروا عنه بالقاسم، و هكذا النجاشي،غير انّه نقل قولاً بأنّ كنية أبيه أبو القاسم و اسمه إسحاق.و الظاهر هو صحة الثاني،لوجوه:

1.انّ الشيخ سمّاه بأبي القاسم عند ذكره في أصحاب الإمام الباقر عليه السلام قال:يحيى بن أبي القاسم،يكنّى أبا بصير،مكفوف،و اسم أبي القاسم:إسحاق.

2.و عدّه الشيخ المفيد من أصحاب أبي جعفر عليه السلام قائلاً:و أبو بصير يحيى ابن أبي القاسم،مكفوف،مولى لبني أسد،و اسم أبي القاسم إسحاق،و أبو بصير كان يكنّى بأبي محمد. (2)

3.و قال الكشي في ترجمة ليث بن البختري:محمد بن مسعود(العياشي) قال:سألت علي بن الحسن بن فضال عن أبي بصير،قال:كان اسمه يحيى بن أبي القاسم فقال:أبو بصير،كان يكنّى أبا محمد،و كان مولى لبني أسد. (3)

4.و قد ورد في اسناد الفقيه يحيى بن أبي القاسم،روى الصدوق بسنده

ص:220


1- 1) .رجال الكشي:206. [1]
2- 2) .الاختصاص:83.
3- 3) .رجال الكشي:173 برقم 296.

الصحيح،عن أبان الأحمري،عن أبي بصير يحيى بن أبي القاسم الأسدي،عن أبي جعفر عليه السلام. (1)

5.و روى بسنده الصحيح عن الحسن بن علي بن أبي حمزة،عن أبيه،عن يحيى بن أبي القاسم،عن جعفر بن محمد عليه السلام. (2)

و هذه الوجوه تثبت انّ اسم أبيه إسحاق،و كنيته أبو القاسم،فهو يحيى بن أبي القاسم لا يحيى بن القاسم.

6.و قد عبر عنه البرقي في رجاله،بقوله:أبو بصير يحيى بن أبي القاسم الأسدي. (3)

الثاني:هل يحيى بن أبي القاسم هو يحيى الحذّاء أو غيره؟

قد وقفت على منزلة أبي بصير عند الأصحاب و أئمّة الحديث،و ربما يحكم على حديثه بالضعف بتصور أنّه هو يحيى بن أبي القاسم الحذّاء الذي عدّه الشيخ من أصحاب الكاظم،و قال:يحيى بن القاسم الحذاء واقفي. (4)

و قال الكشي:حمدويه ذكر عن بعض أشياخه يحيى بن القاسم الحذاء الأزدي،واقفي.

و لأجل ذلك نرى أنّ الشهيد الثاني يذكر بأنّ أبا بصير الذي روى عن

ص:221


1- 1) .الفقيه:4،باب ما يجب من إحياء القصاص،الحديث 221.
2- 2) .الفقيه:4،باب الوصية من لدن آدم،الحديث 457.
3- 3) .رجال البرقي:11.نعم ورد بعد الجملة التي أشرنا إليها قوله:و اسم أبي القاسم:يحيى بن القاسم،و لعلّه من تصحيف النساخ،و لعلّ الصحيح اسم أبي القاسم إسحاق ثمّ ابتدأ بترجمة شخص آخر،و هو يحيى بن القاسم،و لا صلة له بأبي بصير المتقدم عليه.
4- 4) .رجال الشيخ:346،أصحاب الكاظم عليه السلام،باب الياء،برقم 16.

الصادق عليه السلام مشترك بين اثنين:ليث بن البختري المرادي،و هو المشهور بالثقة،و ليث بن القاسم الأسدي و هو واقفي،ضعيف، مخلط. (1)

و لكن الحقّ تعدّدهما،و ذلك للوجوه التالية:

الأوّل:ما يظهر من عبارة الكشي انّهما متعدّدان حيث قال في عنوان بحثه.

(في يحيى بن أبي القاسم أبي بصير و يحيى بن القاسم الحذّاء) ثمّ ذكر الأحاديث. (2)

فإنّ مقتضى سياق الكلام تعدّد المعنون،لظهور العطف في المغايرة أوّلاً،و تكنية الأوّل بأبي بصير دون الآخر ثانياً،و تخصيص الرواية التي نقلها عن حمدويه بالحذاء،حيث قال:حمدويه ذكره عن بعض أشياخه:يحيى بن القاسم الحذاء الأزدي،واقفي ثالثاً،و تقييد الثاني بالحذاء دون الأوّل رابعاً.

كلّ ذلك يشعر بتعدّد المعنونين.

الثاني:كلام الشيخ في رجاله،فقد جاء فيه:

يحيى بن القاسم الحذاء،واقفي.

يوسف بن يعقوب،واقفي.

يحيى بن أبي القاسم،يكنّى أبا بصير. (3)

فانّ الفصل بينهما بأجنبي،أي يوسف بن يعقوب دليل التعدّد،مضافاً إلى تكنية الثاني بأبي بصير دون الأوّل.

الثالث:انّ أبا بصير مات سنة خمسين و مائة،و الوقف إنّما حصل بعد زمان

ص:222


1- 1) .المسالك:413/2. [1]
2- 2) .رجال الكشي:474،برقم 901.
3- 3) .رجال الشيخ:346 أصحاب الكاظم عليه السلام،برقم 16،17،18.

وفاة الإمام موسى الكاظم عليه السلام و قد استشهد عليه السلام سنة 183ه،فعلى ذلك فلا يمكن أن يوصف من مات على رأس خمسين بعد المائة بالوقف.

كلّ ذلك يدعم بأنّ أبا بصير الأسدي غير يحيى بن القاسم الحذّاء.

الرابع:قد عرفت أنّ النجاشي عنون أبا بصير الأسدي و وصفه بأنّه ثقة وجيه،و لكن الشيخ وصف يحيى بن القاسم الحذّاء بالوقف،و من طبيعة الحال انّ النجاشي كان واقفاً على حكم الشيخ بالوقف على الحذّاء،فلو كان المعنونان متحدين كان على النجاشي أن يشير إلى نظر الشيخ، مع أنّه سكت عن ذلك.

هذه الوجوه و غيرها ممّا ذكرها المحقّق الكلباسي (المتوفّى 1356ه) في كتابه يثبت تعدد المعنونين و انّ هذا لا يوجب الشك في صحة رواية أبي بصير الأسدي.

و هناك وجه آخر و هو انّ أبا بصير أدرك عصر أبي جعفر الباقر عليه السلام الذي توفّي عام 114ه و أدرك عصر الإمام الصادق عليه السلام و بعده بسنتين،و توفّي سنة 150ه.ق.

فلو كان يحيى بن القاسم الحذّاء هو نفسَ أبي بصير الأسدي كان على الشيخ أن يذكره في عداد أصحاب الإمام أبي جعفر الباقر و الصادق عليه السلام،و لا يخصّه بأصحاب الإمام الكاظم عليه السلام.

نعم ذكر في أصحاب الإمام الباقر يحيى بن القاسم الحذّاء،و لكنّه لم يصفه بالوقف،و هو يعرب انّ الحذّاء المطلق غير الحذّاء الموصوف بالوقف.

و قد حقّق الموضوع غاية التحقيق الشيخ الكلباسي (المتوفّى عام 1356ه) في كتابه حيث (1)اثبت تعدّد المعنونين و انّ هذا لا يوجب الشك في صحة رواية أبي بصير الأسدي.و قد صدرنا في هذا البحث عن تحقيقاته الشافية قدس سره

ص:223


1- 1) .سماء المقال:317/1- 330.

،مع المراجعة إلى المصادر و المدارك.

***

2.

5. أبو بصير ليث بن البختري

ليث بن البختري المرادي،أحد الثقات المخبتين.

قال الكشي بعد عنوانه بالنحو التالي:

في أبي بصير ليث بن البختري المرادي. (1)

ثمّ نقل عن جميل بن دراج،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:«بشّر المخبتين بالجنة:بريد بن معاوية العجلي،و أبا بصير ليث بن البختري،و محمد بن مسلم،و زرارة؛أربعة نجباء،أُمناء اللّه على حلاله و حرامه،لو لا هؤلاء انقطعت آثار النبوة و اندرست». (2)

و قال النجاشي:ليث بن البختري المرادي(أبو محمد) و قيل أبو بصير الأصغر،يروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام.له كتاب،يرويه جماعة منهم:أبو جميلة المفضل بن صالح. (3)

و قال الشيخ في الفهرست:ليث المرادي،يكنّى أبا بصير،روى عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن موسى عليهما السلام له كتاب. (4)

و قال في أصحاب الإمام الباقر عليه السلام:ليث بن البختري المرادي،يكنّى أبا

ص:224


1- 1) .انّ العنوان و إن كان خاصاً بليث بن البختري و لكن الروايات التي أوردها تحت ذلك العنوان تعمّه و أبا بصير الأسدي،و هذا يدلّ على سقوط الأسدي من العنوان.
2- 2) .رجال الكشي:169،برقم 285- 286.
3- 3) .رجال النجاشي:193/2 برقم 874.
4- 4) .الفهرست:130 برقم 574. [1]

بصير،كوفي.

و قال في أصحاب الإمام الصادق عليه السلام:ليث بن البختري المرادي،أبو يحيى،و يكنّى أبا بصير،أسند عنه.

و ذكر في أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام:ليث،يكنّى أبا بصير.

و قد ذكر الكشي روايات في مدحه منها ما عرفت،و منها ما سنذكر.

قال:روى عن سليمان بن خالد الأقطع،قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:ما أحد أحيا ذكرنا و أحاديث أبي عليه السلام،إلاّ زرارة،و أبو بصير ليث المرادي،و محمد بن مسلم،و بريد بن معاوية العجلي،و لو لا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا،هؤلاء حفاظ الدين و أُمناء أبي عليه السلام على حلال اللّه و حرامه،و هم السابقون إلينا في الدنيا و السابقون إلينا في الآخرة. (1)

مميزات المحدِّثَيْن:الأسدي و المرادي

قد عرفت أنّ أبا بصير المذكور في الأسانيد كنية مشتركة بين يحيى الأسدي و ليث المرادي و لا يتجاوز عنهما،و انّ كلاً منهما ثقة بلا كلام،و لذلك لا فائدة مهمة تنطوي على تميز أحدهما عن الآخر.و لكن ثمة قرائن يُستشفّ منها تعيين المراد منه فيما إذا أطلق لفظة أبي بصير.

فيما يميز به الأسدي عن المرادي

اشارة

إنّ الطريق الواضح لتعيين المراد من أبي بصير عند الإطلاق هو التعرف

ص:225


1- 1) .رجال الكشي:136 برقم 219.

على الذي ينقل عنه الرواية،فانّ طائفة من الرواة تخرّجوا على يدي يحيى الأسدي،و أُخرى على يدي ليث المرادي.و ها نحن نذكر أسماء من تخرّج على الأسدي:

1.علي بن حمزة البطائني

إنّ علي بن حمزة البطائني كان قائد أبي بصير،و قد أكثر الرواية عنه مصرّحاً باسمه.

يقول النجاشي:علي بن أبي حمزة«و اسم أبي حمزة سالم البطائني»كوفي،و كان قائدَ أبي بصير يحيى بن القاسم،و له أخ يسمّى جعفر بن أبي حمزة. (1)

و قد روى الصدوق في«كمال الدين»روايات أبي حمزة عن يحيى بن أبي القاسم (2)،كما صرح باسمه فيما رواه الصدوق عن ابن أبي حمزة في الخصال. (3)

2.شعيب العقرقوفي

إنّ شعيباً العقرقوفي ابن أُخت أبي بصير يحيى بن أبي القاسم،قال النجاشي:شعيب العقرقوفي،أبو يعقوب ابن أُخت أبي بصير يحيى بن القاسم،روى عن أبي عبد اللّه عليه السلام و أبي الحسن عليه السلام،ثقة،عين. (4)

3.الحسين بن أبي العلاء

ذكر الشيخ في ترجمة يحيى بن القاسم،قال:يكنّى أبا بصير،له كتاب

ص:226


1- 1) .رجال النجاشي:69/2،برقم 654.
2- 2) .لاحظ كمال الدين:259/1،الحديث 4؛و ج 340/2،الحديث 20. [1]
3- 3) .الخصال:443/2،الحديث 36.
4- 4) .رجال النجاشي:435/1،برقم 518.

مناسك الحجّ،رواه علي بن أبي حمزة و الحسين بن أبي العلاء عنه. (1)

4.الحسن بن علي بن أبي حمزة

ذكر النجاشي انّه يروي عن أبي بصير عن طريق الحسن بن علي بن أبي حمزة،قال في بيان طريقه إلى يحيى بن القاسم الأسدي:أخبرنا محمد بن جعفر،قال:حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد،قال:حدثنا يحيى بن زكريا بن شيبان،قال:حدثنا الحسن بن علي بن أبي حمزة،عن أبي بصير بكتابه. (2)

5.المعلّى بن عثمان

روى الكليني في الكافي في باب«الثوب يصيبه الدم»بسند ينتهي إلى المعلّى ابن عثمان عن أبي بصير،قال:دخلت على أبي جعفر عليه السلام و هو يصلّي،فقال قائدي:إنّ في ثوبه دماً،فلمّا انصرف،قلت له:إنّ قائدي أخبرني أنّ بثوبك دماً،فقال لي:إنّ لي دماميل و لست أغسل ثوبي حتى تبرأ.فإنّ الظاهر أنّه الأسدي،لأنّه المحتاج إلى القائد فتأمّل. (3)

فيما يميّز به المرادي عن الأسدي

اشارة

ليس هناك قرينة خاصة يميّز بها المرادي عن الأسدي سوى ذكر الراوي اسم أبي بصير بعد كنيته،و ها نحن نذكر كلّ من روى عن أبي بصير المرادي

ص:227


1- 1) .الفهرست:207 برقم 797.
2- 2) .رجال النجاشي:411/2 برقم 1188.
3- 3) .سماء المقال:384/1.

مصرحاً باسمه و إليك قائمة بأسمائهم:

الأوّل:عبد اللّه بن مسكان

روى عبد اللّه بن مسكان عن أبي بصير 21 حديثاً مصرحاً باسمه و هي مبثوثة في أبواب كثيرة:

1.عن عبد اللّه بن مسكان عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

الكافي:60/2،باب الرضا بالقضاء من كتاب الإيمان،الحديث 2.

2.عن ابن مسكان عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

بحار الأنوار:333/72،باب ذم الشكاية من اللّه تعالى من أبواب الإيمان و الكفر،ح19.

3.عن عبد اللّه بن مسكان عن أبي بصير يعني ليث بن البختري المرادي،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:26/1،الباب 2 من أبواب مقدمات العبادات،ح20 نقله عن المحاسن.

4.عن عبد اللّه بن مسكان عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:899/2،الباب 75 من أبواب الدفن،ح3،نقله عن الكافي.

5.عن ابن مسكان عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

التهذيب:209/1،باب صفة التيمم،ح11.

6.عن عبد اللّه بن مسكان عن ليث المرادي،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام.

ص:228

التهذيب:258/1،باب تطهير الثياب،ح37.

7.عن عبد اللّه بن مسكان عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

التهذيب:209/1،باب التيمم،ح11.

8.عن ابن مسكان،عن ليث عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:138/3،باب 18 من أبواب المواقيت،ح9،نقله عن علل الشرائع.

9.عن عبد اللّه بن مسكان عن ليث المرادي قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:181/3،الباب 44 من أبواب المواقيت،ح1.

10.عن ابن مسكان عن ليث،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

التهذيب:168/2،باب تفسير ما تقدم ذكره في الصلاة من المفروض و المسنون،ح125.

11.عن عبد اللّه بن مسكان عن ليث المرادي،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام.

الكافي:468/6،باب الخواتيم من كتاب الزي و التجمل،ح6.

12.عن ابن مسكان عن ليث المرادي،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:909/4،الباب 7 من أبواب السجود،ح6 نقله عن علل الشرائع.

13.عن عبد اللّه بن مسكان عن أبي بصير المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:119/5،الباب 18 من أبواب صلاة العيد،ح1،نقله عن كتاب الإقبال.

ص:229

14.عن ابن مسكان عن ليث المرادي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

الكافي:110/4،باب الصائم يسعط و يصيب في أُذنه الدخن أو يحتقن،ح4.

15.عن عبد اللّه بن مسكان عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

الكافي:128/4،باب من صام في السفر بجهالة،ح3.

16.عن ابن مسكان عن أبي بصير يعني المرادي،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام.

الفقيه:300/2،باب الحلق و التقصير،ح1.

17.عن ابن مسكان عن ليث المرادي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

التهذيب:490/5،باب الزيادات في فقه الحج،ح401.

18.عن ابن مسكان عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

التهذيب:47/7،باب البيع بالنقد و النسيئة،ح9.

19.عن ابن مسكان عن أبي بصير يعني المرادي،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام.

الفقيه:207/4،باب ميراث الأجداد و الجدات،ح20.

20.عن ابن مسكان عن ليث المرادي،و عبد الأعلى بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

التهذيب:187/10،باب القود بين الرجال و النساء من كتاب الديات،ح1.

21.عن عبد اللّه بن مسكان عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

ص:230

الكافي:60/2،باب الرضا بالقضاء،ح2.

الثاني:المفضل بن صالح(أبو جميلة)

روى أبو جميلة المفضل بن صالح عن أبي بصير المرادي 16 حديثاً مصرحاً باسمه و هي مبثوثة في أبواب مختلفة:

1.عن المفضل بن صالح عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

التهذيب:349/1،باب الأحداث الموجبة للطهارة،ح22.

2.عن المفضل بن صالح عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:251/1،الباب 35 من أبواب أحكام الخلوة،ح1.

3.عن المفضل بن صالح عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:611/2،الباب 2 من أبواب النفاس،ح1.

4.عن المفضل بن صالح عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:976/4،الباب 20 من أبواب السجود،ح3.

5.عن المفضل بن صالح عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

الكافي:460/3،باب صلاة العيدين و الخطبة،ح4.

6.عن المفضل بن صالح عن ليث المرادي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

الكافي:342/4،باب ما يلبس المحرم من الثياب و ما يكره له لباسه من كتاب الحج،ح16.

7.عن المفضل بن صالح عن ليث المرادي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

التهذيب:339/5،باب الكفارة من خطأ المحرم من كتاب الحج،ح88.

ص:231

8.عن المفضل بن صالح عن ليث المرادي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

الكافي:208/6،باب صيد البزاة و الصقور من كتاب الصيد،ح10.

9.عن المفضل بن صالح عن ليث المرادي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

التهذيب:252/10،باب ديات الأعضاء و الجوارح و القصاص فيها من كتاب الديات،ح31.

10.عن المفضل بن صالح عن ليث المرادي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

الكافي:168/6،كتاب الطلاق،باب العبد إذا تزوج بإذن مولاه،ح2.

11.عن المفضل بن صالح عن ليث المرادي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:189/19،باب 16 من أبواب موجبات الضمان،ح2.

12.عن أبي جميلة عن ليث المرادي،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السلام.

البحار:129/22،تاريخ نبينا صلى الله عليه و آله و سلم،باب ما جرى بينه و بين أهل الكتاب،ح105 نقله عن الكافي.

13.عن أبي جميلة عن ليث المرادي،عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

البحار:72،باب الكبر من كتاب الإيمان و الكفر،ح5،نقله عن الكافي.

14.عن أبي جميلة عن ليث المرادي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

التهذيب:165/1،باب حكم الحيض و الاستحاضة و النفاس و الطهارة،ح45.

15.عن أبي جميلة عن ليث المرادي،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السلام.

ص:232

الكافي:403/6،باب لبس الحرير و الديباج من كتاب الزي و التجمّل،ح2.

16.عن أبي جميلة عن ليث المرادي،عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

الكافي:309/2،باب الكبر من كتاب الإيمان و الكفر،ح5.

الثالث:عاصم بن حميد

روى عاصم بن حميد روايات مختلفة عن أبي بصير المرادي مصرحاً باسمه:

1.عن عاصم بن حميد عن أبي بصير يعني المرادي عن أبي جعفر عليه السلام.

الوسائل:569/15،الباب 15 من أبواب الكفارات،ح4،نقله عن فقه الرضا عليه السلام.

2.عن عاصم بن حميد عن أبي بصير يعني المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:41/18،الباب 7 من أبواب صفات القاضي،ح10.

3.عن عاصم بن حميد عن أبي بصير يعني المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

البحار:311/64،باب الذباب و البق و الزنبور من كتاب السماء و العالم،ح3 نقله عن التهذيب.

4.عن عاصم بن حميد عن أبي بصير ليث المرادي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

التهذيب:185/4،باب علاقة وقت فرض الصيام و أيّام الشهر،ح3.

5.عن عاصم بن حميد عن أبي بصير يعني ليث المرادي عن أبي جعفر عليه السلام.

الوسائل:55/6،الباب 1من أبواب من تجب عليه الزكاة و من لا تجب

ص:233

عليه،ح6.

6.عن عاصم بن حميد عن أبي بصير يعني المرادي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:129/9،الباب 47 من أبواب تروك الإحرام،ح6،نقله عن علل الشرائع.

7.عن عاصم بن حميد عن أبي بصير يعني المرادي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:185/13،الباب 2 من أحكام المضاربة،ح1،نقله عن الفقيه.

هؤلاء هم الذين أكثروا النقل عن أبي بصير المرادي مصرحين باسمه،و هناك من نقل رواية أو روايتين مصرحين باسمه.

الرابع:حميد بن المثنى العجلي المعروف بأبي المعزا

1.عن أبي المعزا حميد بن المثنى عن أبي بصير يعني المرادي قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:14/3،الباب 5 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها،ح2،نقله عن معاني الأخبار.

2.عن أبي المعزا عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

الوسائل:173/8،الباب 3 من أبواب أقسام الحجّ،ح7.

الخامس:أبان بن عثمان

عن أبان عن ليث المرادي عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

ص:234

الوسائل:669/1،الباب 40 من أبواب الاحتضار،ح4.

السادس:رفاعة بن موسى الأسدي النخاس

عن رفاعة بن موسى عن ليث المرادي عن أبي بصير (1)،قال سمعته يقول:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

المحاسن:37،ثواب ما جاء في التسبيح،ح40.

السابع:أبو أيّوب الخزاز و عبد اللّه بن بكير

أبو أيّوب الخزاز و عبد اللّه بن بكير عن ليث المرادي قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

الكافي:310/7،باب المسلم يقتل الذمي أو يجرحه و الذمي يقتل المسلم أو يجرحه من كتاب الديات،ح11.

التهذيب:186/10،باب القود بين الرجال و النساء من كتاب الديات،ح27.

و نستخلص ممّا سبق أمرين:

الأوّل:هؤلاء هم الذين رووا عن أبي بصير مصرّحين باسمه في بعض الأحيان،و ليكن هذا قرينة على أنّ المراد هو ليث البختري عند الإطلاق فيما إذا انتهت سلسلة السند إليهم.

الثاني:انّ السبر في المسانيد المنتهية إلى أبي بصير يكشف عن حقيقة،و هي

ص:235


1- 1) .هكذا في النسخة و لعلّ لفظة«عن»زائدة أو مصحف يعني.

أنّهم يطلقون أبا بصير و لا يصرحون باسمه إلاّ إذا كان المراد منه هو ليث المرادي.

و لعلّ هذا قرينة على أنّ المطلق ينصرف إلى الأسدي،و كأنّه غني عن التصريح بالاسم لشهرته بين الرواة،دون المرادي فهو بحاجة إلى ذكر الاسم،و يؤيد ذلك تسمية الأسدي بأبي بصير الكبير و المرادي بأبي بصير الصغير،و لعلّ ملاكهما هو كبر السن و صغره أو كثرة نقل الروايات أو قلّتها.و اللّه العالم.

***

و لما كان أبو بصير ممن أكثر الرواية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام و يعد راوية كبيرة و قد أُثيرت حوله إبهامات قام غير واحد من المحقّقين بتأليف رسائل أو تدوين بحوث نفيسة حوله،و إليك بعض أسماء تلك الرسائل و البحوث:

1.عديمة النظير في ترجمة أبي بصير:للعلاّمة السيد مهدي الخوانساري (المتوفّى عام 1246ه) ألّفه عام 1230 ه. (1)طبعت في آخر الجوامع الفقهية.

2.رسالة في المكنّين بأبي بصير:تأليف المحقّق الخبير الشيخ محمد تقي التستري(1320-1416ه).

3.سماء المقال في علم الرجال:تأليف المحقّق أبو الهدى الكلباسي (المتوفّى سنة 1356ه)،و قد أفاض بالبحث في الجزء الأوّل من كتابه. (2)

4.معجم رجال الحديث:تأليف المرجع الأعلى السيد أبو القاسم الخوئي (1317- 1413ه) فقد عالج في موسوعته الروايات الواردة في حقّ أبي بصير المشعرة بالذم و المدح. (3)

ص:236


1- 1) .الذريعة:148/4. [1]
2- 2) .لاحظ سماء المقال:298/1- 392.
3- 3) .لاحظ معجم رجال الحديث:140/14- 151.

كما أكمل بحوثه في أجزاء أُخر. (1)

و لأجل ذلك لم نستعرض حال الأحاديث التي وردت في حقّ أبي بصير التي نقلها الكشي في ترجمته.

و يشبه أن تكون هذه الروايات مثل ما ورد في حقّ زرارة من الذم صوناً لنفسه و نفيسه،أو من وضع الوضّاعين الحاقدين على شيعة أهل البيت.

و في الختام نتقدم بالشكر إلى الفاضل الجليل ولدنا الخبير بالحديث الشيخ بشير المحمدي المازندراني الذي شمَّر عن ساعد الجد بإحياء المسانيد المأثورة عن أصحاب الأئمّة عليهم السلام شكر اللّه سعيه و أجزل أجره.و هو حفظه اللّه دءوب في عمله،مقبل على شأنه،و قد أتحف المكتبة الإسلامية بمسند يضم في طياته قرابة (3000) حديث من أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

و هذا العدد الهائل من الروايات الذي هو ضعف ما روي عن زرارة بن أعين و محمد بن مسلم،فإنّما هو لأجل أنّ المسند جمع أحاديث محدّثَين كبيرَين،هما:يحيى بن أبي القاسم الأسدي،و ليث بن البختري المرادي رضوان اللّه عليهما.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

في ظهيرة 27 من شعبان المعظم عام 1420ه

ص:237


1- 1) .معجم رجال الحديث:44/21- 64.

9

اشارة

ترجمة العلاّمة المجلسي رحمه الله

مجدّد المذهب في القرن الحادي عشر

الحمد للّه و الصلاة و السلام على خير رسله،و أفضل بريّته،محمّد و آله الذين هم حفظة سننه،و عيبة علمه،صلاة دائمة ما دامت السماوات و الأرض.

أمّا بعد،

فهذه كلمة موجزة في ترجمة الإمام العلاّمة شيخ الإسلام المولى محمد باقر المجلسي رحمه الله (1037- 1110ه).

و لا تعني الكلمة بترجمة سيرته و آثاره العلمية التي تركها،فانّ ذلك يحوجنا إلى تأليف مفرد،بل تعني بتسليط الأضواء على جانب خاص من جوانب حياته كما يتّضح فيما بعد.

و قد قام غير واحد من أعلام الطائفة بتأليف كتاب أو مقال أو ترجمة مفصّلة حول حياته.

فقد ألّف شيخنا العلاّمة النوري (1254- 1320ه) كتاباً باسم«الفيض القدسي في ترجمة العلاّمة المجلسي»ألّفه عام 1302ه،ذكر فيها ترجمته و تصانيفه،كما ذكر ترجمة مشايخه و تلاميذه و جملة من أقربائه،و قد طبع في الجزء

ص:238

الأوّل من أجزاء البحار ذي الطبعة القديمة.

كما قام زميلنا الشيخ عبد الرحيم الرّبّاني الشيرازي بترجمته ترجمة وافية،و طبع مع الجزء الأوّل من البحار ذي الطبعة الحديثة.

و قد كفانا هذان التأليفان،مضافاً إلى ما ذكره أصحاب المعاجم و التراجم في حقّه.

و لذلك فقد كرّسنا البحث على جانب خاص بقي مغمور الذكر عند معظم أصحاب التراجم و إن أشاروا إليه على وجه الإجمال في ثنايا كلامهم.ألا و هو الجانب الإبداعي و الابتكاري من شخصية العلاّمة المجلسي قدّس اللّه نفسه الزكيّة.

و قبل استعراض هذا الجانب،لا بدّ من الإشارة إلى نكتة و هي:انّ العبقري هو من تمتّع بذكاء مفرط و حدّة في الذهن جعله متفوّقاً على الآخرين بكماله و حذقه و براعته،و يعلم ذلك من خلال منجزاته العلمية.

فلو كان هذا هو الملاك لوصف المرء بالعبقرية،فشيخنا المجلسي يعدُّ في طليعتهم،فقد نال إعجاب العلماء بموسوعته الكبيرة المسمّاة ب«بحار الأنوار»وفاق الآخرين بآثاره التي قلّما يوجد لها نظير.

و ناهيك عن ذلك فانّ الإبداعات و الابتكارات العلمية التي قام بها و التي خلّدته في التاريخ جعلته من النوادر الذين يُشار إليهم بالبنان، ها و نحن نشير إلى أهمّها:

1.ابتكار دائرة معارف شيعيّة

إنّ كتاب البحار دائرة معارف إسلامية بصبغة شيعية جمع فيها و لأوّل مرّة

ص:239

ما يرجع إلى الكتاب و السنّة من فنون الفقه و التفسير و الحديث و الرجال و أُصول العقائد و الكلام و أُصول الفقه و التاريخ إلى غير ذلك من فنون رائجة بين المسلمين إلى عصره.

لقد ظهر هذا النمط من تدوين العلوم و ضمّها في دوائر المعارف عند اليونانيين،ثمّ أعقبهم المسلمون حيث قاموا بتأليف دوائر معارف مختلفة ضمّوا فيها جميع العلوم الرائجة،و نذكر منها ما يلي:

1.رسائل إخوان الصفا:و هي مجموعة تشتمل على إحدى و خمسين رسالة في علوم مختلفة ألّفتها جمعيّة إخوان الصفا أواسط القرن الرابع.

2.إحصاء العلوم للمعلم الثاني أبو نصر محمد بن طارخان الفارابي (المتوفّى عام 339ه).

3.«شمس العلوم»لنشوان بن سعيد بن نشوان الحميري (المتوفّى 573ه) في 18 مجلداً.

4.«نفائس الفنون في عرائس العيون»لمحمد بن محمود الآملي (المتوفّى 753ه).

5.«لسان الخواص»لآقا رضي القزويني محمد بن الحسن(المتوفى 1096ه) في عدّة أجزاء. (1)

إلى غير ذلك من موسوعات كبيرة بين ما يختص بقسم من العلوم كالفلسفة و الآداب و بين ما يعم أغلب العلوم.

غير انّ جميع دوائر المعارف تلك تتمحور حول العلوم و الأفكار البشرية التي لها قيمتها الخاصة،إلاّ انّ شيخنا المجلسي اتخذ طريقاً آخر،و هو جمع ما ورد

ص:240


1- 1) .لاحظ الذريعة:3/8-15 [1] حيث ذكر فيها لمحة تاريخية عن دوائر المعارف.

في دائرة الوحي من الآيات و الروايات،و التحقيق حولها و بسط الكلام في مضامينها و معضلاتها.

و على كلّ تقدير فالموسوعة صورة ناطقة عن عبقريّة مؤلِّفها و طول باعه و قوة تفكيره و علوّ همته،و قد استسهل في سبيل تأليفها كل المشاقّ و المصاعب.

فها هو شيخنا المؤلف يصف جهوده المبذولة في ترصيف هذا الأثر يقول:فطفقت أسأل عنها-عن الكتب-في شرق البلاد و غربها حيناً،و ألحّ في الطلب لدى كلّ من أظن عنده شيئاً من ذلك،و إن كان به ضنينا،و قد ساعدني على ذلك جماعة من الإخوان،ضربوا في البلاد لتحصيلها،و طلبوها في الأصقاع و الأقطار طلباً حثيثاً حتى اجتمع عندي بفضل ربّي كثير من الأُصول المعتبرة التي كان عليها معوّل العلماء في الأعصار الماضية،و إليها رجوع الأفاضل في القرون الخالية،فألفيتها مشتملة على فوائد جمة خلت عنها الكتب المشهورة المتداولة،و اطّلعت فيها على مدارك كثير من الأحكام،اعترف الأكثرون بخلو كلّ منها عما يصلح أن يكون مأخذاً له،فبذلت غاية جهدي في ترويجها و تصحيحها و تنسيقها و تنقيحها. (1)

2.ابتكاره للتفسير الموضوعي

كان التفسير الرائج بين المفسرين هو تفسير القرآن الكريم حسبَ ترتيب السور،فيبادر المفسر إلى تفسير سورة الحمد ثمّ سورة البقرة و هكذا.فمنهم من يحالفه النجاح و ينهي تفسيره إلى نهاية القرآن الكريم،و منهم من يَخفق في إتمام هذه المهمة.

ص:241


1- 1) .بحار الأنوار:4/1. [1]

و على كلّ حال فقد كان هذا هو التفسير المتداول بين معظم المفسرين إلى عصر المجلسي.إلاّ أنّ المجلسي ابتكر أُسلوباً جديداً في التفسير،و هو تفسير القرآن حسب الموضوعات التي يطرحها من خلال جمع آيات كلّ موضوع في محل واحد،ثمّ تفسيرها دفعة واحدة،و حلّ إبهام الآيات بعضها ببعض.

و هذا النمط من التفسير له مزيّته الخاصة كما أنّ للتفسير الترتيبي مزية،غير انّ الوقوف على الهدف المنشود من الآيات التي تحوم حول موضوع واحد إنّما يتبيّن من خلال التفسير الموضوعي،حيث يقف المفسِّر على ما هو المقصود دفعة واحدة،بعرض الآيات بعضها على بعض و الخروج بحصيلة معينة.

هذا هو الذي قام به شيخنا المجلسي على وجه موجز حيث صنف الآيات القرآنية حسب الموضوعات و بثّها في أبواب بحار الأنوار، و فسرها على وجه الإيجاز حسب ما سمح به الوقت،و قد اعتمد في ذلك على تفسير«مجمع البيان»للطبرسي (المتوفّى 548ه) و تفسير«أنوار التنزيل و أسرار التأويل»للبيضاوي (المتوفّى 685ه) و غيرهما من التفاسير.

نعم التفسير الموضوعي في إطار ضيّق قد سبقه إليه الفقهاء في تفسير خصوص آيات الأحكام،فقد ألّف جمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري الحلي (المتوفّى 826ه) كتاب«كنز العرفان في فقه القرآن»فهو يتعرض لآيات الأحكام فقط،و لا يفسر الآيات سورة فسورة على حسب ترتيب المصحف ذاكراً ما لكلّ سورة من آيات الأحكام،كما فعل الجصاص و ابن العربي،بل طريقته في تفسيره انّه يعقد أبواباً كأبواب الفقه،و يدرج في كلّ باب منها الآيات التي تدخل تحت موضوع واحد،فمثلاً يقول:باب الطهارة ثمّ يذكر ما ورد في الطهارة من الآيات القرآنية، شارحاً كلّ آية منها على حدة،مبيّناً ما فيها من الأحكام،على

ص:242

حسب ما تذهب إليه الإمامية الاثنا عشرية في فروعهم مع تعرضه للمذاهب الأُخرى،و ردّه على من يخالف ما يذهب إليه الإمامية الاثنا عشرية. (1)

و جاء بعده المحقّق الأردبيلي فألّف«زبدة البيان في أحكام القرآن»على غرار«كنز العرفان».

و على كلّ حال فهذا النمط من التفسير الموضوعي كان في إطار خاص،كما قام بعض علماء الأخلاق بهذا النوع في التفسير الموضوعي،لكن في إطار الموضوعات الأخلاقية،كما فعله الغزالي (المتوفّى 505ه) في«إحياء العلوم».

و أمّا المنهج الذي سلكه الشيخ المجلسي فقد استوعب جميع الموضوعات الواردة في القرآن الكريم،حسب نظره و حسب ما ورد فيه الروايات،فصدر كلّ باب بآياته و تفسيره ثمّ نقل رواياتهم،فهذا النوع ابتكار منه في هذا المضمار،و لو قام باحث بإخراج ما في بحار الأنوار من التفسير الموضوعي لجاء بموسوعة كبيرة و إن كان تفسيره على وجه الإيجاز.

3.ابتكار العمل الجَماعيّ في التأليف

إنّ الرائج بين العلماء في التأليف و التصنيف هو العمل الفردي،فيتصدّى كلّ واحد منهم بهمة قعساء لتأليف موسوعة كبيرة و ربما ينجح فيها بعض النجاح،و لكن العمل الفردي مهما كابد فيه المؤلف لا يخلو من نقص.

و أمّا إذا أشرف على هذا العمل فريق من المحقّقين ذوي اختصاصات مختلفة فربما يكون أقلّ نقصاً و أكثر فائدة،و قد تقدم انّ جماعة إخوان الصفا شاركوا في تأليف موسوعة فلسفية كبيرة،و تسربت تلك الفكرة إلى الغرب و راجت بينهم

ص:243


1- 1) .التفسير و المفسرون:465/2. [1]

المشاركة في تأليف الموسوعات كما في دوائر المعارف،و قد جسّد شيخنا المجلسي تلك الفكرة في موسوعته«بحار الأنوار»، فاستعان بلفيف من تلامذته الذين ناهز عددهم المائتين بين مجتهد،و محدث،و مفسر،و لغوي،و مؤرخ،و ناسخ،و مصحح،إلى غير ذلك، و انفرد هو بتفسير معضلات الأحاديث و مشكلاتها،و لذلك نرى في النسخ الأصلية انّ الحديث كتب بخط،و شرحه بخط آخر هو خطّ المجلسي نفسه،و هذا يعرب عن وجود برنامج منسَّق للتأليف يبين فيه مسئولية كلّ واحد في ترصيف هذه الموسوعة الإسلامية الكبيرة.

4.إبداع التأليف باللغة الفارسية

لا شكّ انّ اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم و الحديث النبوي و حديث الأئمّة الطاهرين عليهم السلام،و هي إحدى الأواصر التي تجمع المسلمين،و لذلك انبرى علماء الإسلام على اختلاف ألسنتهم على التأليف بلغة الضاد،و هيمنت اللغةُ العربية على معظم مصنّفاتهم و تآليفهم.

و هناك من لم يقتصر على التأليف باللغة العربية فحسب،بل صنف بلغة أبناء جلدته غير العرب،لماّ أحسَّ من أنّ كثيراً من المسلمين لا يجيدون اللغة العربية و هم بحاجة ماسّة إلى فهم مقاصد الشريعة و تعاليمها،و لذلك عادوا يؤلّفون كتباً كثيرة بلغة قومهم خدمة لهم.

و شيخنا المجلسي أحد من شارك في هذا المضمار،فقد ألف كتباً باللغة الفارسية يناهز عددها 53 بين كتاب و رسالة منها«عين الحياة» و«حقّ اليقين»و«حلية المتقين»و«حياة القلوب»و«جلاء العيون»إلى غير ذلك من الكتب و الرسائل التي ذكرت في ترجمته. (1)

ص:244


1- 1) .مقدمة بحار الأنوار:13/1- 14. [1]

5.الاهتمام بشرح الأحاديث

إنّ مقاصد الشريعة تتجلّى في القرآن الكريم و الحديث الشريف،و قد قام المسلمون بتفسير القرآن الكريم،و جمع الحديث،و لكن لم يكن اهتمامهم بتفسير الحديث كاهتمامهم بتفسير القرآن الكريم.

نعم قام غير واحد من أهل السنة بتبيين غوامض أحاديث البخاري،منهم أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773- 852ه) حيث قام بشرح صحيح البخاري أسماه«فتح الباري»،و قد طبع في عشرة أجزاء.

كما قام أبو زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي(631-676ه) بشرح صحيح مسلم.

إلى غير ذلك من الشروح على الصحاح و السنن التي يطول ذكرها.

و أمّا الشيعة الإمامية فقد كان الرائج في أوساطهم هو تدوين الحديث دون شرحه،و قد راج تفسير الحديث و شرحه بصورة موسوعات كبيرة في القرن العاشر الذي نشطت فيه الحركة الاخبارية،فقد قام والد الشيخ المجلسي محمد تقي بن مقصود علي المجلسي (1003- 1070ه) بشرح«من لا يحضره الفقيه»و أسماه«روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه»في 12 جزءاً.

كما قام نجله محمد باقر المجلسي بشرح أُصول الكافي أسماه«مرآة العقول»في 26جزءاً،كما شرح«تهذيب الأحكام»للشيخ الطوسي و اسماه«ملاذ الأخيار في شرح تهذيب الأخبار»و قد طبع في عشرة أجزاء.

كما و سار على نفس المنهج أيضاً في موسوعته«بحار الأنوار»و بذلك أسدى للشيعة خدمة كبيرة في حلّ معضلات الأخبار و مشاكلها، و تمييز صحيحها عن سقيمها خصوصاً في كتاب«مرآة العقول».

ص:245

فمن راجع ذلك الكتاب الذي طبع في 26 جزءاً يرى أنّه تحمل عبئاً ثقيلاً في تفسير لغات الأحاديث و تبيين غوامضها إلى غير ذلك من المباحث الهامة التي يزخر بها الكتاب الذي يعد من أنفس ما تركه المجلسي في حقل الحديث.

نعم،كتابه الآخر،أعني:«ملاذ الأخيار في شرح تهذيب الأخبار»دون هذا الكتاب في الشرح و البسط،و التوضيح و التحقيق و إن كان له قيمته الخاصة.

و قد سبق العلاّمة المجلسي والده كما أشرنا إليه،و المحدث الفيض الكاشاني(1007- 1091ه) في كتابه«الوافي»حيث جمع أحاديث الكتب الأربعة،فكان لا يمرّ بحديث إذا كان فيه إعضال إلاّ و قد أحلّه،و لا إبهام إلاّ رفعه.

و هذا النهج الذي سلكه هؤلاء الأعلام الثلاثة لو اختطّه من أعقبهم من المحدثين و استمروا على ضوئه،لاتّضح كثير من المعضلات و المشاكل التي تواجه الأحاديث،و لزاد التراث الحديثي غنى.

6.إحياء التراث الحديثي

كان مطلع القرن الحادي عشر مسرحاً للتيارات الفكرية المختلفة،فمن مكب على العلوم الطبيعية كالنجوم و الرياضيات و الطب،إلى آخر متوغّل في الحكمة و العرفان و المعارف العقلية التي لا تدرك إلاّ بقسطاس العقل،إلى ثالث مقبل على علم الشريعة من خلال نافذة العقل مع يسير من النقل.

هذا و ذاك صار سبباً إلى ظهور الحركة الاخبارية التي كانت تعارض هذه العلوم و مبادئها،و بالرغم من ذلك كان لها دور مهم في تفعيل النشاط الحديثي،و قد ربّت تلك الحركة محدّثين كبار،أمثال:الفيض الكاشاني،الشيخ محمد تقي

ص:246

المجلسي،الشيخ الحرّ العاملي،السيد هاشم البحراني.و في مطلع الأكمة شيخنا المجلسي قدس سره،فقد أحيا التراث الديني بمنجزاته الحديثية و راج سوق الحديث و مدارسته و كتابته،حتى ألّف بعض تلاميذه،أعني:الشيخ عبد اللّه بن نور الدين البحراني موسوعة«عوالم العلوم» الّتي تبلغ مائة مجلد،و قد سلك منهج أُستاذه في البحار،إلاّ أنّ هذه الموسوعة لم تر النور إلاّ بعض أجزائها عسى أن يقيض اللّه سبحانه ذوي الهمم العالية بإخراجها بحلة قشيبة.

لم يقتصر العلاّمة المجلسي على التأليف و التصنيف فحسب بل أكبَّ على التدريس و تربية جيل من رواد العلم،و الإجازات الموجودة تكشف عن أنّه كان مدرساً معروفاً سنة (1070ه) أي قبل أربعين سنة من وفاته،و بقي مكبّاً على الدرس و التدريس حتى أيّامه الأخيرة على الرغم من كثرة مسئولياته بسبب زعامته الدينية التي غطت دنيا الشيعة في ذلك العصر،فلم تمنعه الشواغل الاجتماعية عن تربية جيل ممتاز من العلماء و المحدّثين ناهز عددهم حسب ما ذكره المحدّث النوري في كتابه المعروف«الفيض القدسي»29 تلميذاً و سرد أسماءهم و ترجم لهم.

و أعقبه شيخنا المجيز الطهراني في كتابه«طبقات أعلام الشيعة»فذكر ما كتبه النوري،و أضاف عليه ما وجده من المعلومات في المصادر المتوفرة لديه.

و كان السيد مصلح الدين الاصبهاني أكثر استيعاباً في كتابه الفارسي«زندگينامۀ علاّمۀ مجلسى» فانّه ترجم لمائة و واحد و ثمانين تلميذاً بالإضافة إلى عدد ممن احتمل أنّهم من تلامذته.

كما قام السيد أحمد الحسيني الأشكوري بترجمة مائتين و أحد عشر تلميذاً في كتابه«تلامذة العلاّمة المجلسي و المجازون منه».

و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّه بذل جهوداً جبّارة في تنشيط الحركة

ص:247

العلمية الحديثية فتركت بصمات واضحة على التراث الشيعي برمّته.

كلمة ختامية

و قبل أن نختم البحث نود الإشارة إلى أمرين:

الأوّل:ربما يثار سؤال حول كتاب بحار الأنوار و سائر كتبه و هو انّ كتاب البحار يضمّ في طيّاته أخباراً ضعافاً مخالفة لأكثر الموازين العلمية،فلِمَ نقلها الشيخ المجلسي في كتابه؟

و الإجابة عن هذا السؤال واضح،و هي انّ المؤلف قبل كلّ شيء كان بصدد الجمع و النظم و صيانة التراث الشيعي من الضياع،و لم يكن بصدد النقد،و قد جمع مكتبات كثيرة في موسوعة كبيرة،و ترك التحقيق للأجيال التي تعقبه.

مضافاً إلى أنّه لم يترك التعرض إلى ضعف الخبر أو نقده كلّما سمح له الوقت،و لذلك ترى أنّ منهج بحثه في«البحار»غير منهجه في «مرآة العقول»،فقد صار في الكتاب الأخير بصدد التحقيق و النقد فلا يمرَ بحديث إلاّ و يوضح سنده و متنه و مدى اعتباره و مقدار دلالته و موافقته أو مخالفته للموازين العلمية.

فعلى القارئ الكريم أن ينشد الغرض المتوخّى من تأليف الكتاب،فالغرض من تأليف البحار غالباً هو النضد و الجمع،و لكن الهدف من تأليف مرآة العقول هو النقد و التحقيق.

الثاني:انّ بعض المستشرقين ك«ادوارد برون»مؤلف تاريخ«أدبيات إيران»و الكتّاب الجُددَ الذين لا يروق لهم نشر مآثر أهل البيت عليهم السلام استهدفوا المجلسي بسهام النقد،و لم يكن في كنانتهم إلاّ رميه بسباب مقذع،بعيداً عن روح النقد الموضوعي،و ما هذا إلاّ لأنّهم لم يجدوا ثغرة ينفذون من خلالها إلى شخصية

ص:248

المجلسي،فعادوا يقرعونه بالترهات و السفاسف دون جدوى،و كلّ ذلك لا يحطّ من منزلة شيخ الإسلام المجلسي فقد قيل:«من ألّف فقد استهدف».

و لو كان شيخنا المؤلف بصدد جلب رضا هؤلاء لكان عليه أن يعزف عن كلّ جهوده،و لكن لم يكن رائده في هذا السبيل إلاّ رضا اللّه سبحانه و رسوله و رضا الأئمّة المعصومين عليهم السلام،و لسان حاله: إذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضبان عليّ لئامها

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

28 شهر رمضان المبارك

من شهور عام 1420ه

ص:249

10

اشارة

زيارة النساء للقبور

في الشريعة الإسلامية

لقد أسعفني الحظ هذا العام (1421ه) بزيارة بيت اللّه الحرام لأداء العمرة المفردة،و التشرّف بزيارة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أئمّة البقيع عليهم السلام و بقية المشاهد المباركة،و قد استرعى انتباهي عند زيارتي البقيع منع النساء من دخولها من قبل السلطات السعودية،و ذلك بفتوى بعض فقهاء الحنابلة مع أنّ الأدلة الشرعية على خلافها،و هي تدلّ على كون الرجال و النساء في ذلك سواسية،و من حسن الحظ فقد التقيت بأحد الآمرين بالمعروف في البقيع و دار حوار بيني و بينه حول زيارة النساء للقبور،و قد تبادلنا فيه بعض الرسائل،و لذلك عزمت على كتابة رسالة مفصلة في هذا الموضوع استعرض فيها أدلّة الموافق و المخالف على وجه لا يبقى لمشكّك شك،و لا لمرتاب ريب.

هذه هي الرسالة التي أُقدّمها لطلاّب الفقه في الجامعة الإسلامية في المدينة المنوّرة عسى أن تنال رضاهم.

المؤلف

ص:250

زيارة القبور في الشريعة الإسلامية

اشارة

اتّفق المسلمون على استحباب زيارة القبور تأسّياً بالنّبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في قوله و فعله.

«قال النووي تبعاً للعبدري و الحازمي و غيرهما:اتّفقوا على أنّ زيارة القبور للرجال جائزة.

نعم حكي عن ابن أبي شيبة و ابن سيرين و إبراهيم النخعي و الشَّعبي،الكراهة،حتّى قال الشعبي:لو لا نهي النبي صلى الله عليه و آله و سلم لزرت قبر ابنتي...

و كأنّ هؤلاء لم يبلغهم الناسخ». (1)

و سيوافيك تضافر الأدلّة على استحبابها لما فيها من الأمر و البعث و الأثر البنّاء،أعني تذكّر الآخرة،و الزهد في الدنيا.و ما أبعد هذا القول عما حكي عن ابن حزم أنّ زيارة القبور واجبة و لو مرّة واحدة،لورود الأمر بها،و بما أنّ استحبابها للرجال أمر متّفق عليه إلاّ من شذّ من الذين لم يبلغهم قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم و فعله،فلا نطيل الكلام فيها.

إنّما الكلام في استحبابها أو جوازها للنساء،فأكثر أهل السنّة على الاستحباب.

قال ابن حجر:و اختلف في النساء،فقيل دُخلن في عموم الإذن،و هو قول

ص:251


1- 1) .ابن حجر،فتح الباري:148/3.

الأكثر،و قيل الإذن خاص بالرجال،و لا يجوز للنساء زيارة القبور،و به قال الشيخ أبو إسحاق في المهذب. (1)

و قال السندي في شرحه على سنن النسائي عند شرح قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها».فيه جمع بين الناسخ و المنسوخ،و الإذن بقوله«فزوروها»،قيل:يعمّ الرجال و النساء،و قيل:مخصوص بالرجال،كما هو ظاهر الخطاب،لكن عموم علّة التذكير الواردة في الأحاديث قد يؤيد عموم الحكم،إلاّ أن يمنع شمول قوله«و تذكر الآخرة»للنساء لكثرة غفلتهن. (2)

و نقل النووي في شرحه على«صحيح مسلم»أقوالاً ثلاثة:

أ.الحرمة،ب.الكراهة،ج.الجواز. (3)

هذه الكلمات تعرب عن اختلاف الآراء و إن كان الأكثر على الجواز،و هو الحقّ المتعيّن للأدلة التالية:

1.حديث عائشة

أخرج النسائي في سننه عن عائشة،انّها قالت:أ لا أُحدِّثكم عنّي و عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ؟ قلنا:بلى،قالت:لما كانت ليلتي التي هو عندي - تعني النبي صلى الله عليه و آله و سلم-انقلب فوضع نعليه عند رجليه،و بسط طرف إزاره على فراشه،فلم يلبث إلاّ ريثما ظن قد رقدتُ،ثمّ انتعل رويداً،و أخذ رداءه رويداً،ثمّ فتح الباب رويداً،و خرج رويداً،و جعلت درعي في رأسي و اختمرت و تقنعت إزاري،و انطلقت في أثره،

ص:252


1- 1) .ابن حجر،فتح الباري:148/3.
2- 2) .النسائي،السنن،بشرح السيوطي و السندي:89/4.
3- 3) .النووي،شرح صحيح مسلم:49/7.

حتّى جاء البقيع،فرفع يديه ثلاث مرات فأطال،ثمّ انحرف فانحرفت،فأسرع فأسرعت،فهرولَ فهرولتُ،فأحضرَ فأحضرتُ،و سبقته فدخلتُ فليس إلاّ أن اضطجعتُ،فدخل فقال:ما لك يا عائشة حشيا رابية؟.

قالت:لا،قال:لِتُخْبِرَنِّي أو لِيُخْبِرَنِّي اللطيف الخبير،قلت يا رسول اللّه:بأبي أنت و أُمّي فأخبرته الخبر،قال:فأنتِ السواد الذي رأيت إمامي،قالت:نعم.فلهزني في صدري لهزة أوجعتني،ثمّ قال:أ ظننت أن يحيف اللّه عليك و رسوله،قلت:مهما يكتم الناس فقد علمه اللّه.

قال:فانّ جبرئيل أتاني حين رأيت و لم يدخل عليَّ،و قد وضعت ثيابك فناداني فأخفى منك،فأجبته فأخفيته منك،فظننت ان قد رقدتِ و كرهتُ أن أُوقظك و خشيتُ أن تستوحشي،فأمرني أن آتي البقيع فأستغفر لهم،قلت:كيف أقول يا رسول اللّه؟

قال:قولي:السّلام على أهل الدّيار من المؤمنين و المسلمين،يرحم اللّه المستقدمين منّا و المستأخرين،و إنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون. (1)

وجه الدلالة:انّ تعليم الزيارة آية جواز العمل بها.

مضافاً إلى أنّ قوله:«و كرهت أن أُوقظك»مشيراً إلى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كره إيقاظها لتشاركه في زيارة البقيع.

نعم ليس في الرواية ما يدلّ على دخولها البقيع،و إنّما خرجت من بيتها للاطلاع على حال الرسول،و انّه إلى أين ذهب،لكن الاستدلال ليس منصبّاً على دخولها البقيع و زيارتها مع النبي،بل هو منصبّ على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم علّمها الزيارة،

ص:253


1- 1) .سنن النسائي:91/4،الأمر بالاستغفار للمؤمنين؛صحيح مسلم:64/3،باب ما يقال عند دخول القبور و الدعاء لأهلها.و اللفظ في المتن للنسائي،و بين النقلين اختلاف طفيف.قوله«حَشْيا»:مرتفعة النفس.

و عندئذٍ لا يخلو الحال من صورتين:

الصورة الأُولى:علّمها و كانت الزيارة للنساء مستحبة أو جائزة.

الصورة الثانية:علّمها و كانت الزيارة لهنّ محرمة.

فعلى الأُولى يثبت المطلوب،و على الثانية يلزم اللغوية كما هو واضح،لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم كيف يعلمها الزيارة المحرمة،و هذا أشبه بتعليم الحرام؟!

و ربما يتصور:انّما تعلّمت لتزور البقيع من بعيد،و لكن هذا التصوّر من السخافة بمكان،لأنّ الزيارة عبارة عن حضور الزائر لدى المزور،فما معنى الزيارة من بعيد؟! و لو كانت الغاية من التعليم هو ذاك النوع من الزيارة كان عليه صلى الله عليه و آله و سلم أن ينبهها و يأمرها بذلك.

على أنّ معنى قولها:«كيف أقول؟»أي:كيف أقول عند زيارتي البقيع كزيارتك إيّاه؟ فعلّمها الرسول نفس ما كان يقوله عند زيارته.

2.حديث بريدة

أخرج مسلم في صحيحه،عن بريدة،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها. (1)

و أخرجه النسائي في سننه عنه مثل ذلك،و زاد:فمن أراد فليزر و لا تقولوا هجراً. (2)

3.حديث أبي هريرة

و أخرج ابن ماجة في سننه،عن أبي هريرة،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«زوروا

ص:254


1- 1) .صحيح مسلم:65/3،باب استئذان النبي ربّه في زيارة قبر أُمّه.
2- 2) .سنن النسائي:89/4،باب زيارة القبور.

القبور فانّها تذكّركُم الآخرة».

و في نقل آخر:فزوروا القبور فإنّها تذكّركم الموت. (1)

4.حديث ابن مسعود

أخرج ابن ماجة في سننه،عن ابن مسعود،انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فانّها تُزهّد في الدّنيا و تذكّر الآخرة». (2)

قال ابن حجر:و قد أخرج مسلم حديث بريدة،و فيه نسخ النهي عن ذلك،و لفظة:«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»و زاد أبو داود و النسائي في حديث أنس:«فانّها تذكر الآخرة»،و للحاكم من حديث فيه:«و ترقُّ القلب و تدمع العين،فلا تقولوا هجراً»أي كلاماً فاحشاً.

و له من حديث ابن مسعود:«فانّها تزهد في الدّنيا»،و لمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً:«زوروا القبور فانّها تذكّر الموت». (3)

وجه الاستدلال هو عموم الخطاب للرجال و النساء و لا يضرّ تذكير الضمير،لما ثبت في محلّه من أنّ خطابات القرآن و السنّة تعمّ الصنفين إلاّ ما خرج بالدليل،و قوله سبحانه: «وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ» 4 ؛ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» 5 ؛ « أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» 6 إلى عشرات الأمثال،يعم الصنفين بلا ريب و منه هذا الحديث.

ص:255


1- 1) .سنن ابن ماجة:501/1،حديث 1572.
2- 2) .سنن ابن ماجة:501/1،حديث 1571.
3- 3) .فتح الباري:148/3.

أضف إلى ذلك انّ التعليل في الحديث آية الشمول،لأنّ قوله:«فإنّها تذكّركم الآخرة»لا يقبل التخصيص،و قد قرر في علم الأُصول انّ العلّة تعمم و تخصّص،و هل يصحّ في منطق العقل الصريح،اختصاص ما يذكّر الآخرة بالرجال و حرمان النساء منه؟!

5.حديث أنس بن مالك

أخرج البخاري في صحيحه،عن أنس بن مالك،قال:امرَّ النبي بامرأة تبكي عند قبر،فقال:اتقي اللّه و اصبري،قالت:إليك عنّي فانّك لم تُصب بمصيبتي و لم تعرفه.

فقيل لها:إنّه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم،فأتت باب النبي صلى الله عليه و آله و سلم فلم تجد عنده بوابين،فقالت:لم أعرفك،فقال:إنّما الصبر عند الصدمة الأُولى. (1)

قال ابن حجر في تفسيره:قوله:الصدمة الأُولى:«و في رواية الأحكام عند أوّل صدمة»و نحوه لمسلم،و المعنى إذا وقع الثبات أوّل شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع،فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر،و أصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله،فاستعير للمصيبة الواردة على القلب. (2)

وجه الدلالة:انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أوصاها بالتقوى و الصبر،و كأنّها قالت في كلامها شيئاً يخالف التقوى.

قال القرطبي:الظاهر انّه كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره،و لهذا

ص:256


1- 1) .صحيح البخاري:79/2،باب زيارة القبور
2- 2) .فتح الباري:149/3،باب زيارة القبور.

أمرها بالتقوى.

قال ابن حجر:و يؤيده انّ في مرسل يحيى بن كثير:«سمع منها ما يكره فوقف عليها»فلو كان وقوفها على القبر و زيارتها له أمراً محرماً كان عليه أن يردعها عنه،مع أنّه صلى الله عليه و آله و سلم أمرها في كلا اللقاءين بالصبر.

6.زيارة عائشة قبر أخيها

أخرج الترمذي في سننه،عن عبد اللّه بن أبي مليكة،قال:توفّي عبد الرحمن بن أبي بكر ب«حبشى»،قال:فحمل إلى مكة فدفن فيها، فلمّا قدمتْ عائشة،أتت قبر عبد الرحمن بن أبي بكر،فقالت: و كنّا كندماني جذيمة حِقْبةً

ثمّ قالت:و اللّه لو حضرتك ما دفنت إلاّ حيث مت،و لو شهدتك ما زرتك. (1)

و المتبادر من العبارة انّها لما قدمت مكة ذهبت إلى زيارة قبر أخيها لا انّها مرّت عليه عفواً في طريقها إلى مكة.

و أمّا قولها:«و لو شهدتك لما زرتك»فهو بمعنى انّي بما ان لم أؤدّي حقّك في حال حياتك،فلذلك أزورك بعد مماتك و لو كنت مؤدية لحقّك لما تحملت عبء زيارتك.

ص:257


1- 1) .سنن الترمذي:371/3،باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور،حديث 1055. [1]
7.زيارة السيدة فاطمة عليها السلام قبر حمزة

أخرج الحاكم في مستدركه،عن علي بن الحسين،عن أبيه:انّ فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانت تزور قبر عمّها حمزة كلّ جمعة و تبكي عنده.

قال الحاكم بعد نقل هذا الحديث:«رواته عن آخرهم ثقات». (1)

هذه الروايات العديدة الصحيحة تدل بوضوح على جواز الزيارة للنساء،و من أمعن النظر فيها يقف على أنّ المسألة من الوضوح بمكان غير انّه إكمالاً للبحث نذكر دليل المخالف،و هي ليست إلاّ شبهاً طارئة.

دليل من لم يجوّز زيارة القبور للنساء

احتجّ المخالف بوجوه:

الأوّل:بما أخرجه الترمذي،عن أبي هريرة انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعن زوّارات القبور. (2)

و أخرجه ابن ماجة عن حسّان بن ثابت،و عن ابن عباس و اللفظ في الجميع واحد.

قال الترمذي صاحب السنن:و قد رأى بعض أهل العلم انّ هذا كان قبل أن يرخّص النبي في زيارة القبور،فلمّا رخّص دخل في رخصته الرجال و النساء.

و قال بعضهم:إنّما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهنّ و كثرة جزعهنّ. (3)

ص:258


1- 1) .الحاكم:المستدرك:377/1،كتاب الجنائز.
2- 2) .سنن الترمذي:371/3،باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء من كتاب الجنائز،حديث 1056. [1]
3- 3) .المصدر نفسه. [2]

و قال القرطبي:لم يلعن النبي كلّ امرأة تزور القبور بل لعن المرأة التي تزور القبور دوماً،و الدليل على ذلك قوله صلى الله عليه و آله و سلم:زوّارات القبور، و كلمة«زوار»هي صيغة المبالغة و تدلّ على الكثرة و التكرار. (1)

أقول:إنّ أمر هذا الحديث دائر بين كونه منسوخاً أو مخصصاً،فلو ورد قبل الترخيص كان عموم الترخيص«فزوروا»ناسخاً و الحديث منسوخاً و إن ورد بعد الترخيص يكون مخصصاً،فإذا دار أمره بين كونه متروكاً أو معمولاً به فلا يحتج به.

الثاني:ما أخرجه ابن ماجة عن أبي الحنفية بن علي،قال:خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فإذا نسوة جلوس،فقال:ما يجلسكنَّ؟ قلنَ:ننتظر الجنازة.

قال:هل تغسلن؟ قلن:لا،قال:هل تحملن؟ قلن:لا.

قال:هل تدلين فيمن يدلي؟ قلن:لا.

قال:فأرجعنَ مأزورات غير مأجورات. (2)

انّ الحديث قاصر سنداً و دلالة.

أمّا السند ففيه دينار بن عمر (أبو عمر).

قال أبو حاتم في حقّه:إنّه ليس بالمشهور،و قال الأزدي:متروك،و قال الخليل في الإرشاد:كذّاب،و قال ابن حبان:يخطئ.

فهل يمكن أن يستدل بحديث كهذا.

و أمّا الدلالة ففيها أوّلاً:أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يذم النسوة اللواتي لم يكن لهنّ أيّة مسئولية في تجهيز الميّت،و إنّما جلسنَ للنظر و المشاهدة، و إلاّ فلو كان لهنّ مهمة

ص:259


1- 1) .القرطبي.
2- 2) .سنن ابن ماجة:502/1،باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز،الحديث 1578.

معينة فتنعكس القضية،و يكنّ مأجورات لا مأزورات،و لذلك سألهن النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن وجه جلوسهن فلمّا علم حالهنّ ندد بهنّ.

و ثانياً:أنّ غاية ما يمكن حمل الرواية عليها هو النهي عن اتّباع النساء الجنائز،و قد نقله الترمذي أيضاً تحت هذا العنوان و هو أمر مكروه بالاتّفاق،و يدلّ عليه حديث أُمّ عطية حيث قالت:«نهينا عن اتّباع الجنائز،و لم يعزم علينا». (1)

قوله:«و لم يُعزم علينا»أي و لم يوجب علينا،و المراد انّه لم يقطع علينا بالنهي ليكون حراماً فهو مكروه تنزيهاً. (2)

و أين هذا ممّا نحن فيه من زيارة القبور للنساء حيناً بعد حين؟!

و ختاماً نلفت نظر القارئ إلى نكتة،و هي:انّ الإسلام دين الفطرة،و الشريعة السهلة السمحة.

قال صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّ هذا الدين لمتين فأوغلوا فيه برفق».

فمنع المرأة المؤمنة الصالحة التي دفنت فلذة كبدها تحت ركام من التراب عن زيارة قبر ولدها على طرف النقيض من الشريعة السهلة السمحة،التي لا تجبر أحداً على كبت أحاسيسه و عواطفه في قلبه دون إظهارها.

الآن حصحص الحقّ و بان بأجلى مظاهره و تبين انّ القول بالجواز هو القول الحقّ المتعيّن.

أرجو من اللّه سبحانه أن يحقّ الحقّ و يبطل الباطل و يجمع شمل المسلمين،و يرزقهم توحيد الكلمة كما رزقهم كلمة التوحيد، و المسلمون-مع تفرّقهم في الفروع و الأحكام-تجمعهم مشتركات عديدة.

ص:260


1- 1) .سنن ابن ماجة:502/1،باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز،الحديث 1578.
2- 2) .سنن ابن ماجة:502/1،باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز،الحديث 1578.

و لنعم ما قال شاعر الأهرام: إنّا لتجمعنا العقيدة أُمّة

و في الختام نعكس رأي الإمامية في مسألة زيارة القبور للنساء و نكتفي بكلمة العلاّمة الحلي في كتاب«منتهى المطلب»الذي ألّفه في الفقه المقارن،قال:

الرابع:يجوز للنساء زيارة القبور،و عن أحمد روايتان:إحداهما:الكراهة.

لنا:ما رواه الجمهور عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»و هو بعمومه يتناول النساء.

و عن ابن أبي مليكة انّه قال لعائشة:يا أُمّ المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت:من قبر أخي عبد الرحمن،فقلت لها:قد نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن زيارة القبور؟ قالت:نعم،قد نهى ثمّ أمر بزيارتها. (1)

و من طريق الخاصة:ما رواه الشيخ عن يونس،عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:إنّ فاطمة عليها السلام كانت تأتي قبور الشهداء في كلّ غداة سبت، فتأتي قبر حمزة و تترحم عليه و تستغفر له (2). (3)

ص:261


1- 1) .المستدرك:للحاكم:376/1؛سنن البيهقي:78/4.
2- 2) .مرّ مصدر الرواية و لاحظ التهذيب للشيخ الطوسي:465/1 برقم 1523.
3- 3) .منتهى المطلب:430/7. [1]

11

معجم المصطلحات

لكلّ علم مصطلحاتٌ خاصّة يستعين بها الأُستاذ و المدرّس عند ما يريد أداء المعنى الكثير باللفظ القليل...و هذا هو في الحقيقة دور «الاصطلاح و المصطَلَح»في جميع المعارف و العلوم،و لأجل ذلك لا ترى علماً إلاّ و فيه مصطلحات خاصة لمفاهيم معيّنة قام بوضعها البارعون في ذلك العلم بهدف التسهيل و التيسير في مقام الإفادة و التعليم.

و من هنا ينبغي أن يقوم المعلّم و المدرس بتبيين المصطلحات المهمة قبل تدريس المادّة العلمية،ليكون ذلك وسيلةً فعّالةً و ناجعةً لفهم ما سيمرّ على المتعلّم في أثناء الدرس بسهولة و يسر.

من هذا المنطلق نَهضَ ثلّةٌ من العلماء بجمع و نضد المصطلحات الموضوعة في العلوم خدمة لهذا الهدف العظيم.

غير أنّ بين المؤلّفين من جمع مصطلحات العلوم الدارجة في كتاب واحد،و هناك من اقتصر على تبيين مصطلحات علم أو علمين بينهما صلة.

و ممّا أُلِّف في المجال الأوّل:

1-«كشّاف اصطلاحات الفنون»تأليف:محمد أعلى بن علي التهانوي،من

ص:262

منشورات الخيام،و قد طبع بالأُوفست على طبعة كلكتا عام 1862 م.

2-«مصباح السعادة و مفتاح السيادة»تأليف:طاش كبرى زاده (المتوفّى962م).

3-«جامع العلوم و الحِكم»المعروف ب«دستور العلماء»تأليف:أحمد نگريبك.

4-«التعريفات»تأليف:السيد شريف الجرجاني (المتوفّى 816ه).

و ممّا أُلِّف في المجال الثاني:

1-«رسالة الحدود و الحقائق»تأليف:الشريف المرتضى،و هي مطبوعة ضمن رسائل الشريف نفسه.

2-«المقدمة للألفاظ المتداولة بين المتكلّمين»تأليف الشيخ الطوسي رحمه الله (المتوفّى460 ه).

3-«الحدود و الحقائق في شرح الألفاظ المصطلحة بين متكلّمي الإمامية»تأليف القاضي أشرف الدين صاعد البريدي الآبي،ذكره الشيخ منتجب الدين في الفهرست،و قال عنه:«فاضل متبحّر،له تصانيف» (1).

و قد طبع بتحقيق الدكتور حسين علي محفوظ ببغداد مطبعة المعارف عام 1970م.

4-«الحدود»تأليف الشيخ معين الدين،أُستاذ الشيخ رشيد الدين عبد الجليل الرازي الذي هو من مشايخ الشيخ منتجب الدين الذي كان حيّاً في سنة 585ه،و توفّي بعد ذلك بقليل فيكون المؤلّف من مشايخ أواخر القرن الخامس (2).

ص:263


1- 1) .منتجب الدين:الفهرست،ص 100 برقم 202. [1]
2- 2) .المصدر نفسه:ص 15 برقم 15. [2]

5-«الحدود»تأليف:الشيخ زين الدين أبي الحسن علي بن عبد الجليل البياضي،المتكلّم،نزيل دار الرقابة في الريّ،ذكره الشيخ منتجب الدين في فهرسته (1).

6-«الحدود»تأليف النقيب أبي طالب الاسترآبادي ترجمه ابن شهرآشوب في«معالم العلماء»و ذكر من تصانيفه:المقدمة،و الحدود، و الأبواب،و الفصول لذوي الألباب و العقول (2).

7-«اصطلاحات الصوفيّة»تأليف:الشيخ كمال الدين أبي الغنائم عبد الرزاق بن جمال الدين الكاشي (المتوفّى سنة 730 ه) (3).

8-«الحدود»تأليف:الشيخ الإمام قطب الدين المقري النيسابوري من مشايخ السيد ضياء الدين أبي الرضا فضل اللّه الراوندي (المتوفّى حدود 547 ه) ذكره الشيخ منتجب الدين في فهرسته (4).

و هذا هو الكتاب الذي يزفّه الطبع الآن إلى القرّاء الكرام.

و قد كاد هذا الكتاب أن تعصف به عواصف الزمان و تؤدي به طوارق الحدثان لو لا أنّ شيخنا المحقّق الدكتور محمود«يزدي فاضل»دام علاه،شمّر عن ساعد الجد،فقام-بعد العثور على نسخة فريدة في بابها منه-بتحقيقه و التعليق عليه و تصحيحه بعناية فائقة،جديرة بالتقدير، و سيقف القارئ بنفسه على خصوصيّة تلك النسخة و ميزاتها في مقدمته كما يقف على ترجمة المصنّف فيها على

ص:264


1- 1) .المصدر نفسه:ص 114 برقم 236. [1]
2- 2) .معالم العلماء:136 برقم 932. [2]
3- 3) .الچلبي:كشف الظنون 11/1. [3]
4- 4) .الفهرست:157 برقم 363. [4]

حد ما وقف عليه المحقّق في المعاجم.

و ممّا تجدر الإشارة إليه أنّ هذه الكتب و أمثالها المؤلفة في مختلف المجالات كانت النواة الأُولى لتأليف دائرة المعارف الرائجة في هذه العصور.

فإنّ مؤلّفي دائرة المعارف استمدّوا و يستمدّون من تلك الكتب و المصنّفات في تبيين مصطلحات العلوم من دون عناء و بذل جهد كبير.

و في الختام نتقدم بالشكر للأُستاذ الفاضل المحقّق إذ سدّ فراغاً موجوداً في المكتبة الكلامية بتحقيق و نشر هذا الكتاب،فإنّ بعض ما أُلّف في هذا المجال قد عفا عليه الدهر،و لم يبق منه إلاّ الاسم في معاجم الكتب و المؤلّفين،بل إنّ قسماً منها لم يدخل حتى في هذه المعاجم، فللّهِ درّ المؤلف،حيث قد أوضح في كتابه القيّم هذا (444) مصطلحاً كلاميّاً مبثوثاً في كتب المنطق و الكلام و الفلسفة.

فسلام اللّه على المؤلّف،و المحقق و لهما منّا جميعاً الشكر الجزيل و التقدير الصادق الخالص.

جعفر السبحاني

/28محرم الحرام1414/ ه

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:265

12

اشارة

المدرّس الخياباني

رائد العلم و الأدب

الحمد للّه ربّ العالمين،و الصلاة و السلام على خير خلقه محمد و آله الطاهرين،الغرّ الميامين

أمّا بعد،فانّه سبحانه-بمقتضى حكمته-لم يخلق الإنسان سدى،و هو القائل: «أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً» 1 و «ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ». 2

ثمّ إنّه سبحانه عزّز تحقيق تلك الغاية السامية ببعث أنبيائه و رسله،و إنزال الكتب معهم ليُري معالم الحق و مزالق الباطل عبر القرون و الأجيال،إلى أن بعث اللّه سبحانه محمداً-نذيراً و بشيراً بالحق-لإنجاز عدته و إتمام نبوته،مأخوذاً على النبيين ميثاقه،مشهورة سماته،كريماً ميلاده،و أهل الأرض يومئذ ملل متفرقة،و أهواء منتشرة،و طرائق متشتتة،بين مشبّه للّه بخلقه،أو ملحد في أسمائه،أو مشير إلى غيره،فهداهم به من الضلالة،و أنقذهم بمكانه من الجلالة.

بعثه سبحانه بدلائل ساطعة،و معاجز باهرة،يحتج بها على الناس،و من معاجزه الخالدة شريعته المتبلورة في الواجبات و المندوبات و المكروهات

ص:266

و المحرمات على مختلف الأصعدة.

إنّ شريعة كشريعة الإسلام و التي تلبِّي كافة متطلبات الإنسان في ماضيه و حاضره و مستقبله لا يمكن أن تصدر عن إنسان مهما بلغ من الفكر و التعقّل ما لم تدعمه السماء،و يتجلّى ذلك بوضوح في شموليتها للأحكام الفردية و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و غيرها من جوانب حياة الإنسان.

لا شكّ انّ القرآن هو معجزة النبي صلى الله عليه و آله و سلم الخالدة بيد انّ هناك معاجز أُخرى غير القرآن و من أبرزها تشريعات الإسلام و أحكامه الواردة في الكتاب و السنّة لا سيما المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام،فإنّ تلك الثمار اليانعة التي تتجاوب مع فطرة الإنسان و لا تختلف عنها قيد شعرة، لدليل واضح على أنّها ليست ثمرة تؤتي أُكلها في حين دون حين،بل هي ثمرة شجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء.

ثمّ إنّ الفقهاء على مرّ العصور تداولوا أمر هذه الشريعة بالبحث و الدراسة و التحليل حتى خرجوا بنتائج باهرة في مجال الفقه و الأحكام فكتبوا موسوعات و كتباً و رسائل لغايات شتى.

فالموسوعة لمن رام خوض غمار الفقه و اقتحام لُجَّته،و الكتب الفقهية للمتوسطين في هذا الفن،و أمّا الرسائل و المتون الفقهية فقد وضعوها للمبتدئين.

و من حسن الحظ انّ مؤلفنا الكبير-الذي نحن بصدد تسليط الأضواء على جانب من سيرته-أعني:الإمام جمال الدين أبا منصور الحسن بن يوسف بن المطهر المعروف بالعلاّمة الحلّي (648- 726ه) قد برع في هذا الفن براعة لا يدانيه أحد،فألف موسوعات فقهية ذات مجلدات ضخمة ك«تذكرة الفقهاء»،و«منتهى المطلب»و غيرها.

كما ألف كتباً متوسطة في الفقه بين الاختصار و الاستيعاب ك«قواعد

ص:267

الأحكام في معرفة الحلال»،و«تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية»،و«نهاية الأحكام في معرفة الاحكام».

كما قام بتأليف متون مختصرة للمبتدئين ك«إرشاد الأذهان إلى أحكام الإسلام»و«تبصرة المتعلمين».

و هذا الكتاب الأخير الذي نحن بصدد التقديم لشرح من شروحه قد استأثر باهتمام واسع حيث أكبّ عليه العلماء بالدراسة و التعليقة و الشرح حتى تجاوزت الشروح و التعاليق عليه 30 شرحاً،أورد أسماء طائفة كبيرة منها الشيخ الطهراني في ذريعته (1)،كما تجد أسماء 31 شرحاً في مقدمة محقق كتاب شرح التبصرة للشيخ ضياء الدين العراقي. (2)

كما ذكر قسماً منها زميلنا المغفور له السيد عبد العزيز الطباطبائي (3).

و هذا الإقبال الواسع من قبل العلماء و الفقهاء دليل على أنّ الكتاب قد حاز شهرة واسعة في الأوساط العلمية.

هذا و يعرفه مؤلّفه العلاّمة الحلي بقوله:هذا الكتاب الموسوم بتبصرة المتعلمين في أحكام الدين وضعناه لإرشاد المبتدءين و إفادة الطالبين مستمدين من اللّه المعونة و التوفيق فانّه أكرم المعطين. (4)

تزامن الجمود و الازدهار في عصر واحد

انتاب الفقه في البيئات الشيعية في القرن السادس و السابع موجة من

ص:268


1- 1) .الذريعة:321/3-322. [1]
2- 2) .شرح التبصرة:للشيخ ضياء الدين العراقي:11/1،قسم المقدمة.
3- 3) .مكتبة العلامة الحلي:76.
4- 4) .تبصرة المتعلمين:خطبة الكتاب. [2]

الازدهار و النضوج على يد فقهاء كبار.

كالشيخ نجيب الدين محمد بن جعفر بن هبة اللّه بن نما المشتهر بابن نما (المتوفّى عام 645ه).

و جعفر بن حسن بن عيسى المشتهر بالمحقّق الحلي(602- 676ه) صاحب كتاب الشرائع و هو غني عن الإطراء و التعريف.

و نجيب الدين يحيى بن سعيد الهذليّ(601- 690ه).

إلى غير ذلك من مشايخ الفقه و الاجتهاد.

و قد تربى العلامة على يد الأخيرين من مشايخه في الحلة التي بلغ عدد الفقهاء فيها يومذاك ما يربو على 440 فقيهاً. (1)فكان عصره عصر الازدهار الفقهي حيث تم فيه تخريج حجم هائل من الفروع على وجه لا نجد له مثيلاً من بين سائر العصور.

و هذا كتابه«تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية»مشحون بتخريج الفروع و استنباط الأحكام من الأُصول.

في حين انّ الفقه السنّي في ذينك القرنين دخل مرحلة الخمود و الجمود و ضمور الإبداع،يقول مصطفى أحمد الزرقاء في معرض حديثه عن القرن السابع:و في هذا الدور أخذ الفقه بالانحطاط،فقد بدأ في أوائله بالركود و انتهى في أواخره إلى الجمود،و قد ساد في هذا العصر الفكر التقليدي المغلق،و انصرفت الأفكار عن تلمس العلل و المقاصد الشرعية في فقه الأحكام إلى الحفظ الجاف،و الاكتفاء بتقبل كلّ ما في الكتب المذهبية دون مناقشة،و طفق يتضاءل و يغيب ذلك النشاط الذي كان لحركة التخريج و الترجيح و التنظيم في فقه المذاهب،و أصبح مريد الفقه

ص:269


1- 1) .رياض العلماء:361/1.

يدرس كتاب فقيه معين من رجال مذهبه فلا ينظر إلى الشريعة و فقهها إلاّ من خلال سطوره،بعد أن كان مريد الفقه قبلاً يدرس القرآن و السنة،و أُصول الشرع و مقاصده.

و قد أصبحت المؤلفات الفقهية-إلاّ القليل-أواخر هذا العصر اختصاراً لما وجد من المؤلفات السابقة أو شرحاً له،فانحصر العمل الفقهي في ترديد ما سبق،و دراسة الألفاظ و حفظها،و في أواخر هذا الدور حلّ الفكر العامي محل الفكر العلمي لدى كثير من متأخري رجال المذاهب الفقهية. (1)

المصنف في سطور

إنّ العلاّمة الحلّي غني عن الإطراء و التعريف،فقد ذكره غير واحد من كبار علماء الفريقين.

فهذا هو الصفدي يعرفه بقوله:الإمام العلاّمة ذو الفنون،عالم الشيعة و فقيههم،صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته،إلى أن قال:و كان إماماً في الكلام و المعقولات. (2)

و عرّفه ابن حجر في لسان الميزان بقوله:عالم الشيعة و إمامهم،و مصنفهم،و كان آية في الذكاء،و كان مشتهر الذكر،حسن الأخلاق. (3)

لقد كان العلاّمة الحلي ملماً بشتى العلوم الإسلامية المعروفة آنذاك دراسة و تدريساً و تأليفاً و كان أثره واضحاً على جميع من تلمذ عنده، أمثال:

1.فخر المحقّقين(682- 771ه)،و كفى في جلالة قدره و طول باعه ما

ص:270


1- 1) .المدخل الفقهي العام:186/1-187،ط دار الفكر.
2- 2) .الوافي بالوفيات:85/13،برقم 79. [1]
3- 3) .لسان الميزان:317/2.

ذكره الفيروزآبادى (729- 817ه) صاحب«القاموس المحيط»في حقه،حيث قال:...عن شيخي و مولاي،علاّمة الدنيا،بحر العلوم، و طود العلى،فخر الدين،أبي طالب،محمد بن الشيخ الإمام الأعظم،برهان علماء الأُمم،جمال الدين أبي منصور،الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي. (1)

2.مجد الدين أبو الفوارس محمد بن علي بن الأعرج الحسيني،يعرفه ابن الفوطي بقوله:اجتمعت به عند النقيب علي بن موسى بن طاوس،و قال:رأيته جميل السمة،وقوراً،ديّناً،عالماً بالفقه. (2)

ورثاه صفي الدين الحلي بقصيدة مطلعها:

صروف الليالي لا يدوم لها عهد و أيد المنايا لا يطاق لها ردّ (3)

3.ولد أبي الفوارس عميد الدين بن عبد المطلب(681- 754ه).

4.نجله الآخر ضياء الدين بن عبد المطلب (كان حيّاً 740ه).

5.مهنّا بن سنان بن عبد الوهاب الحسيني المدني (المتوفّى عام 754ه).

و قد ألّف كتاباً أجاب فيه على عدّة مسائل،أسماه«المسائل المهنائية».

إلى غير ذلك من الشخصيات اللامعة في سماء الفقه و الأُصول و الكلام.

لا شكّ انّ العلاّمة الحلّي قد خلّف تراثاً علمياً ضخماً أغنى المكتبة الشيعية،تمثل في مؤلفاته و تصانيفه فقد خاض في أكثر العلوم الإسلامية من فقه و كلام و أُصول و رجال و تفسير و فلسفة و منطق إلى غير ذلك.

و كفى انّه ألّف في حقل المعقول و الكلام ما يربو على 20 كتاباً و رسالة،كما

ص:271


1- 1) .الجاسوس على القاموس،تأليف أحمد فارسي أفندي:130.
2- 2) .مجمع الآداب في معجم الألقاب:519/4. [1]
3- 3) .ديوان صفي الدين الحلي:371.

أنّه ألّف في حقل الفقه عدة دورات بين موسوعة و كتاب و مختصر.

فآثاره المتنوعة تنم عن نبوغه و نظره الثاقب و استيعابه كافة العلوم.

و قد سردنا أسماء مصنفاته في المعقول عند تقديمنا لكتاب«نهاية المرام في علم الكلام»كما ذكرنا أسماء مصنفاته في الفقه في كتابنا «تذكرة الأعيان». (1)

و من آثاره الفقهية المختصرة كتاب«تبصرة المتعلمين في أحكام الدين».و الكتاب بوجازته و سلاسة ألفاظه صار موضع اهتمام الفقهاء منذ عصر مؤلفه إلى يومنا هذا فتولوه بالشرح و التعليق،و الذي منها شرح أُستاذنا الكبير،العلاّمة المحقّق الشيخ محمد علي بن محمد طاهر الخياباني التبريزي المشهور بالمدرس (1296- 1373ه).

و بما انّ الشارح أحد أساتذتي الكبار و كان قدوة لي،و إرشاده معيناً لي على شقّ طريقي الحافل بالأشواك،فيسرني أن أكتب شيئاً عن سيرته و ترجمته و ما عاناه من الظروف الحالكة التي مرّت به،و زادت عليه انّه بقي مغمور الذكر،مجهول القدر رغم تضلّعه و براعته في أغلب العلوم الإسلامية.

ترجمة الشارح و سيرته الذاتية

ولد قدس سره في مدينة تبريز عام 1296ه،فقرأ الأدب الفارسي و العربي في مسقط رأسه على مشايخ عصره،فبلغ في الأدب العربي مقاماً شامخاً حيث درس المعلّقات السبع و المقامات الحريرية و غيرها من كتب الأدب،و من فرط شغفه بها انّه راح يحفظ عن ظهر قلب كلّ ما وقع عليه بصره،من المتون،كتهذيب المنطق،

ص:272


1- 1) .تذكرة الأعيان:251-262. [1]

و ألفية بن مالك و غيرهما.

و في ظل اختماره بالأدب العربي ألف كتاب«غاية المنى في تحقيق الكنى»فقد جمع في ذلك الكنى الرائجة في لغة العرب المستعملة في غير الإنسان.

كما قام بجمع ما آثر من الأشعار عن أئمة أهل البيت عليهم السلام و جمعها في 12 باباً على عدد الأئمة الاثني عشر،فشرح لغاتها المشكلة.

و الحق انّه كان أُستاذاً بارعاً في الأدب العربي بالمعنى الرائج في ذلك الزمان،و لم يكتف بذلك بل انّه راح يتردد على أندية دروس الفقه و الأُصول لمراجع عصره و فطاحل دهره،أمثال:

1.المرجع الديني الفقيه السيد أبو الحسن المعروف بالأنگجي(1282- 1357ه).

2.المرجع الديني المحقّق الآغا ميرزا صادق التبريزي(1274- 1351ه).

فقد طوى عليهما من عمره الشريف أعواماً لا يستهان بها فألف في مجال الفقه طيلة تتلمذه على العلمين الجليلين كتاب«حياض الزلائل في رياض المسائل»تعليقة على الشرح الكبير المعروف ب«رياض المسائل»،ألفه عام 1324 و قد ناهز من العمر 28 عاماً.

إنّ شيخنا الأُستاذ مع أنّه كان فقيهاً أُصولياً و لكن شغفه بتعلّم ما راج من العلوم دفع به إلى الحضور في دروس المعقول و الكلام على يد الشيخ ميرزا علي اللنكراني الذي كان من تلاميذ الفيلسوف الكبير المعروف ب«جلوة»،كما برع في الرياضيات و الهيئة على يد الأُستاذ ميرزا علي المعروف ب«المنجم»و قد بلغ ولعه بالعلوم الإسلامية بمكان انّه قام بمفرده بكتابة دائرة معارف أسماها«قاموس

ص:273

المعارف»و سيوافيك شرحها.

كلمات العلماء في حقّه

1.يعرّفه معاصره المؤرّخ الحاج ميرزا علي الواعظ الخياباني بقوله:

عالم،محقق،نحرير،و فاضل مضطلع خبير،حبر أديب أعلم،و بحر زاخر عيلم،جامع فنون الفضائل و الكمالات،حائز قصب السبق في مضامير السعادات،عالم،بارع،جامع،ما من علم من العلوم إلاّ قد حلّ في أعماقه،و ما من فنّ من الفنون إلاّ و قد شرب من عذبه و زعافه،كانت له في اقتناء العلم و الأدب همة تزاحم الأفلاك و تزاعم بعلوّ قدرها الأملاك. (1)

2.و يعرّفه أيضاً سيدنا الجليل السيد محمد الحجة في إجازته له بقوله:لقد استجاز منّي في الرواية و نقل أحاديث أهل بيت العصمة العالم العامل،و الفاضل الكامل أبو الفواضل و الفضائل،قرة عين الفضل و الكمال،و قرة جبين العلم و الإفضال،صاحب المقامات العلمية و العملية و حاوي المكارم الصورية و المعنوية. (2)

3.كما يعرّفه العلاّمة الحجة السيد هبة الدين الشهرستاني بقوله:شيخنا الأجل الأفضل انموذج عصابتنا البحّاثة في العصر الأوّل،حضرة العالم الفاضل و المحدث المحقّق الكامل،صفوة المؤلفين الأماثل،وليّنا الصفي الروحاني،المولى محمد علي التبريزي الخياباني(حياه اللّه و حباه بنيل الرغائب و الأماني). (3)

ص:274


1- 1) .العلماء المعاصرون:405.
2- 2) .ريحانة الأدب: [1]مقدمة الجزء الثامن.
3- 3) .المصدر نفسه.

مشايخ روايته

لقد استجاز قدس سره من مشايخ عصره فأجازوا له الرواية بأسانيدهم المذكورة في إجازاتهم،منهم:

1.العلاّمة الحجّة السيد محمد الحجّة الكوهكمري (1301- 1372ه) فقد أجازه و صرّح بكونه ممّن ارتقى من حضيرة التقليد إلى أوج الاجتهاد.

2.السيد السند آية اللّه السيد صدر الدين الموسوي العاملي(1299-1373ه)،فقد أجازه أن يروي عنه كما صرح في اجتهاده.

3.المرجع الديني السيد محسن الحكيم (1306- 1389ه) فقد أجاز له أن يروى عنه كلّما صحت روايته عنه.

4.الشيخ و المصلح الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (1294- 1373ه) فقد أجازه أن يروي عنه.

5.العلاّمة الحجّة الشيخ عبد الحسين الرشتي.

إلى غير ذلك من مشايخ إجازته الذين أجازوا للمؤلف و أطروه و قدروا جهوده و ثمّنوا كتبه.

و قد طبعت صور الإجازات في مقدمة الجزء الثامن من كتابه ريحانة الأدب.

آثاره العلمية

لقد كان شيخنا الفقيد يضنُّ بوقته الثمين منذ أوان شبابه إلى أن وافته المنيّة.فلم يكن يهتم إلاّ بالتدريس و المطالعة و الكتابة،و قلما تجده يغادر داره إلاّ لحاجات ضرورية،و بلغ به الأمر انّه كان يعقد أندية دروسه في داره،و لأجل ذلك

ص:275

خلَّف آثاراً جليلة في مختلف العلوم،و كان بعض تآليفه بمفرده يستوعب عمر كاتب،و إليك الإشارة إلى تلك الآثار وفقاً لتسلسلها الزمني:

1.«حياض الزلائل في رياض المسائل»تعليقة على قسم الطهارة من رياض المسائل،الذي كان كتاباً دراسياً في أكثر الجامعات الإسلامية نظراً لعمقه و دقته.و هو مشحون بالأمر بالتأمّل في أكثر مسائله،و قد فرغ شيخنا الأُستاذ من تعليقته عام 1324 ه،و يقع في 428 صفحة من القطع الوزيري،و هو بعدُ لم ير النور.

2.«غاية المنى في تحقيق الكنى»و الكتاب لبيان الكنى العربية المستعملة في غير الإنسان،فرغ منه عام 1331ه.

3.«قاموس المعارف»و هو بيت القصيد في تآليفه،و يعد دائرة معارف باللغة الفارسية يحتوي على 45000 عنوان دارجاً في اللغة الفارسية سواء أ كان أصيلاً أم دخيلاً،فقد قام بشرح ما يرجع إلى الكلام و الفلسفة،و الملل و النحل،و النجوم،و الرياضيات،و العروض،و التاريخ، و الأدب و غير ذلك،و فرغ منه عام 1345ه.

و قد سمعت منه قدس سره انّه استغرق تأليفه 17 عاماً و اشتملت مقدمتُه على قواعد اللغة الفارسية،و هي جديرة بطبعها على حدة،و الكتاب يقع في ستة مجلدات ضخام،يبلغ عدد صفحاتها 4007 صفحات.و الكتاب لم ير النور عسى أن يقيِّض اللّه له الهمم العالية لنشره و تحقيقه.

و هو قدس سره يصف الظروف الصعبة التي قام بتأليف هذا الكتاب فيها بقوله:

«و شرعت بعد الاستمداد من العناية الإلهية في تأليف كتاب«قاموس المعارف»الذي يحكي لفظه عن معناه و اسمه عن مسمّاه حتى انتهت

ص:276

أيّام حياتي إلى سنة ست و ثلاثين من هجرة سيد البشر(1336ه) التي وقائعها انموذج من وقائع المحشر،فابتليت بحوادث جمَّة و فجائع عمة،و اختلت الأحوال بحيث صار الفؤاد في غشاء من نبال،و ذلك لتلاطم أمواج الفتن،و تراكم سحائب المحن في كافة بلاد إيران و لا سيما آذربايجان و خصوصاً،و الاخوان،فلقد جرّد الدهر عليهم سيف العدوان،فطرحت الأوراق في زوايا الهجران متلهفاً على فراق الأحبة، و متأسفاً على مفارقة الأعزّة.

مضافاً إلى القحط الشديد و الغلاء الأكيد مع شيوع مرض الحصبة فهلك جمع كثير وجم غفير بين الوباء و الجوع،فبقيت على تلك الحال غريقاً في لجج الملال،بحيث لا أعرف اليمين من اليسار،و لا الليل من النهار.

ثمّ يذكر انّه عاد إليه شغفه و شوقه بالدراسة و الكتابة،فرجع إلى ما جمع و أكمل الكتاب بفضل من اللّه سبحانه. (1)

و يشير شيخنا الأُستاذ إلى الظروف الصعبة التي مرّ بها،و تتلخص في النقاط التالية:

1.نشوب الحرب العالمية الأُولى و تطاير شررها من الغرب إلى الشرق حتى وصلت إيران،فأصبحت ميداناً تجول فيه القوات الغازية كالقوات العثمانية و التزارية و الانكليزية في ظروف مختلفة.

2.تفشّي الوباء و الجوع في المنطقة.

3.نشوب الفتن و الحروب الداخلية بين مؤيدي ثورة الدستور و مخالفيهم،و كان لآذربايجان السهم الأوفر من هذه الفتن و المحن حيث دارت الحروب الأهلية في مدينة تبريز شهوراً بل أعواماً على قدم و ساق.

ص:277


1- 1) .ترجمة المؤلف في آخر التحفة المهدوية بقلمه:114.

ففي خضمِّ هذه الأوضاع الصعبة للغاية قام المؤلف بتأليف«قاموس المعارف»بعد نكسة ألّمت به إبّان تأليفه،مما ينم عن شغفه بالعلم، و تفانيه في التأليف.

4.«فرهنگ نوبهار»معجم باللغة الفارسية يحتوي على 19 ألف كلمة،طبع عام 1348ه في تبريز في جزءين.

5.«فرهنگ بهارستان»جمع فيه الكلمات المترادفة في اللغة الفارسية على غرار«سرّ الأدب»للثعالبي في اللغة العربية،فرغ منه عام 1348ه.

6.«الدر الثمين أو ديوان المعصومين»جمع فيه الأشعار المنسوبة إلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام و بيّن لغاتها و أوضح معانيها،و الكتاب بديع في بابه و هو ينمّ عن تضلّعه بالأدب العربي،و قد طبع الجزء الثاني منه تحت عنوان«التحفة المهدوية»عام 1354ه دون الجزء الأوّل.

7.«نثر اللآلي في شرح نظم اللآلي»و المتن للسيد أبي القاسم المقرئ المعروف في عهد شاه عباس الثاني،فرغ من تأليفه 1363ه و قد طبع على الحجر بخط الكاتب طاهر خوشنويس،و قد قرأت المتن على يد شيخنا الأُستاذ و كان يبيّض في ذلك الحين شرحه.

8.«فرهنگ نگارستان»معجم كبير باللغة الفارسية في 5 مجلدات كبار من القطع الوزيري يحتوي على 55 ألف لغة بين مفرد و مركب، و قد بلغ عدد صفحاته 3315 صفحة،فرغ منه عام 1359ه،و الكتاب نفيس في بابه لم ير النور.

9.«الأمثال و الحكم»الدارجة في اللغة التركية الآذرية،يقع في 307 صفحات أورد فيه الأمثال و الحكم الشائعة بين الآذريين جمعها من الكتب و أفواه

ص:278

الرجال.

10.«ريحانة الأدب في تراجم المعروفين بالكنية أو اللقب»،و الكتاب يحتوي على تراجم العلماء و الفقهاء و الفلاسفة و الحكماء، و العرفاء و الأطباء و الشعراء و الأُدباء و المحدثين و أصحاب أئمّة أهل البيت الذين اشتهروا بالكنية أو اللقب،و الكتاب باللغة الفارسية فريد في بابه،طبع عدة مرات.

و هو من أهم المصادر في التراجم اعتمد عليه-منذ نشر-العديد من المحقّقين و الكتاّب،يقع في ثمانية أجزاء من القطع الوزيري،فرغ من تأليفه عام 1364ه،و مع ذلك فكان يملأ ما تخلله من نقص بإضافات هامة.

و الناظر في الكتاب يقف على مدى ما كابد و عانى في سبيل تأليف هذا الكتاب و جمع شوارده،و قد ضمَّ إلى ترجمته ما وقف على صور المترجمين و خطوطهم و قد كان هذا النوع من التأليف جديداً في بابه يوم ذاك،و كان يتمثل في التعريف بهذا الكتاب بقول القائل: و قد اهديت ريحاناً ظريفاً

11.«كفاية المحصلين في تبصرة أحكام الدين»و هو شرح مزجي لتبصرة العلاّمة الحلّي في جزءين فرغ من تأليفه عام 1349ه.

و هو قدس سره يبيّن ملامح شرحه لهذا الكتاب،و يقول:

إنّي رأيت كتاب«تبصرة المتعلمين في أحكام الدين»للعالم البارع،و النور الساطع،حافظ ناموس الهداية،و كاسر ناقوس الغواية،مكسّر شوكة المخالفين جمال الملة و الدين آية اللّه في العالمين،العلاّمة على الإطلاق المشتهر في الآفاق

ص:279

أبي منصور حسن بن الشيخ صدر الدين يوسف بن علي بن مطهر الحلي قدس سره مع إيجازه محتوياً على رءوس الأحكام الدينية و أُمّهاتها، مع اختصاره مشتملاً على جلّ الفروعات الفقهيّة و مهمّاتها،و لم يكن له شرح يكشف الحجاب عن معضلاته،و يرفع النقاب عن مشكلاته، فحداني ذلك إلى كتابة وجيزة فاتحة لمغلقه،و مقيّدة لمطلقه.فاستعنت اللّه و توكلت عليه،و أضفت هذه الفوائد إليه،مراعياً فيه شريطة الاختصار،و متجافياً عن وصمة الإطالة و الإكثار،فإنّ الإيجاز قد يُخلّ،و الإطناب قد يُملّ،و لم أعتمد في الأغلب إلاّ على تنقيح مقاصده و مبانيه، و توضيح ألفاظه و معانيه،فانّ التفسير غير الرد،و التقرير غير النقد. (1)

و قد طبع الجزء الأوّل منه عام 1354ه بالطبعة الحجرية،و منذ ذاك الحين تداولته الأيدي بالمطالعة و الدراسة،و بقي الجزء الثاني مغموراً،محفوظاً في مكتبته قدس سره كسائر آثاره التي لم تر النور.

و لما كان لهذا الكتاب عناية خاصة بتبيين مقاصد الماتن على وجه يزيل كلّ إبهام و غموض،و ذلك بجعل الشرح ممزوجاً في المتن كانّهما صدرا من كاتب واحد،طلب غير واحد من أساتذة الجامعات الإسلامية من نجله الفاضل الأُستاذ علي أصغر مدرس طبع الجزءين بصورة تتلاءم مع روح العصر.و قد أوكل-حفظه اللّه-هذه المهمة إليّ فبعث بالكتاب مع الجزء المخطوط،و بقي عندي إلى أن اقترحت على زميلنا العزيز الدكتور مهدي محقق أُستاذ جامعة طهران،و رئيس قسم صيانة الآثار الوطنية،أن يقوم بنشر هذا الكتاب لما للمؤلف من حقوق على العلم و أهله عامة،و عليه خاصة.و قد استجاب لطلبي مشكوراً على أن يطبع الكتاب تحت إشرافي بحلة قشيبة.

ص:280


1- 1) .مقدمة كفاية المحصلين في تبصرة أحكام الدين. [1]

فقامت لجنة التحقيق في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام بتحقيق الكتاب و تشكيل ما أُبهم من الكلم،و فصل المتون عن الشرح بأقواس خاصة مع تخريج مصادره،و جعل عناوين في الكتاب للمسائل الهامة إلى غير ذلك من المهام الرائجة في تحقيق الآثار الخطية.

و مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام تقدم باقة الزهور هذه لروّاد الفقه في الجامعة الإسلامية على أمل أن تعطِّر مشامّهم برياحينها شاكرة للأُستاذ الدكتور مهدي محقق مساهمته في سبيل نشر الكتاب على وجه لولاه لبقي الكتاب رهين الرفوف كسائر آثار المؤلف المخطوطة.

ملامح من سيرته

كان لشيخنا الفقيد ملامح خاصة في حياته،تعد من أبرز سمات خُلقه و سلوكه،و نحن نشير إلى ما لمسناه منه طيلة مصاحبتنا و تتلمذنا عليه.

1.كان قدس سره مولعاً بالعلم،مشغوفاً بالمطالعة و الكتابة،و كان يثمِّن وقته و لا يضيعه و لا يصرفه إلاّ فيما هو ضروري،و قد لازمته عدة سنين فما رأيته إلاّ بين مطالع و كاتب و حافظ للمتون و الأسفار،أو محاضر يلقي محاضراته على تلامذته،و يكفي في شغفه بالعلم انّه إذا وقف على نكتة علمية أو كشف مجهولاً يلتذُّ به أكثر مما يلتذّ به الملوك عند فتح البلدان و الاستحواذ على كنوزها،و كان لسان حاله في تلك اللحظات السعيدة، قول القائل:أين الملوك و أبناء الملوك.

2.شارك قدس سره في أكثر العلوم الرائجة المتداولة في ذلك الزمان فكان متضلِّعاً في بعضها و مشاركاً في البعض الآخر،فهو في الأدب العربيّ أديب ماهر،و في الفقه فقيه بارع،و في الرياضيات و النجوم أُستاذ محنَّك،و في التاريخ أُستاذ بلا منازع،

ص:281

و في الأدب الفارسي ذا باع طويل قلّما يدانيه أحد.

إلى غير ذلك من العلوم و الفنون التي حازها و حفظ نكاتها و استجلى غوامضها،فكنت أتعجب من إحاطته بشوارد العلوم و غوامضها.

و من الجميل أن نتمثل في حقه بقول شاعر المعرّة حينما زار بغداد و عاد إلى موطنه و سُئل عن الشريف المرتضى بعد عودته فقال: يا سائلي عنه فيما جئت تسأله

3.غادر المترجم قدس سره موطنه عام 1364ه و نزل العاصمة«طهران»و سكن في إحدى المدارس القديمة بغية طبع كتابه«ريحانة الأدب»، و قد قارب عمره السبعين فكان لا يعرف الغربة و لا العزلة و لا الحرمان من الطعام و الشراب و لا مفارقة الأهل و العيال،و قد تحمل العناء المُضني في سبيل نشر كتابه و قام بمفرده بتقديم ملازم الكتاب إلى المطبعة و تصحيح أخطائه مرة بعد أُخرى،و تنظيمه و ترتيبه إلى أن خرج آخر جزء منه من المطبعة،و قد استغرق من عمره سنين.

و في الوقت نفسه كان يلقي محاضرات لطلاب المدرسة كي يستحلّ بذلك السكن فيها.

و قلّما نجد إنساناً طاعناً في السن يترك الأهل و العيال و يغادر موطنه و يعيش غريباً وحيداً في زاوية من زوايا المدرسة لغاية علميّة إلاّ الأمثل فالأمثل من الرجال الذين لهم همم عالية تسمو على هذه العلائق و الرغبات،و تُقدم الأُمنية على الراحة،و كان شيخنا الأُستاذ من أبرز هؤلاء.

4.كان رحمه الله مثالاً بارزاً لإباء النفس،و إظهار الغنى،و كان ذلك سبباً

ص:282

لقضاء معظم حياته بالفقر من دون أن يطّلع عليه أحد من جيرانه و لا أقربائه.

و كان يتموّل بما يرجع إليه الناس في تحرير ما يحتاجون إليه في مجال الزواج و النكاح و الأقارير و الوصايا إلى غير ذلك ممّا كان دارجاً في عصره،و كان المرجع في ذلك عالم البلد من دون أن يكون هناك مؤسسة خاصة تتبنّى هذه الأعمال.

و لم يكن يستفد من ذلك إلاّ الشيء القليل الذي يسدُّ به رمقه و حياته،لأنّه كان يرى ذلك سبباً لتضييع الوقت.

5.انّه تمتَّع بذهنية منفتحة،و كان يرحِّب بالوسائل و الأساليب الجديدة في عالم التعليم و التربية أو سائر مظاهر الحياة،إذا لم يكن مخالفاً للدين،و يرى الرغبة عنها جهلاً بالمصالح،و قد لاقى في ذلك قدس سره من المحن و الكوارث ما لا يروقني ذكرها.

6.كان قدس سره يتمتع بذاكرة وقّادة لا ينسى ما حفظ،و لأجل ذلك يقرأ عن ظهر قلب كلّ ما حفظه أوان شبابه و كهولته و شيخوخته من دون أن ينسى كلمة أو يقرأ آية أو شعراً خطأ،و بذلك كنّا نسمع منه غرائب الأمثال و عجائب الحكايات و بدائع الأشعار في جميع الأبواب.

7.بما انّ شخصيته كانت ذائبة في العلم و العرفان و الكتابة و التدريس فكانت سائر الأُمور عنده أمراً هامشياً،لذلك كان زاهداً في لباسه و مسكنه و مأكله فلا يظهر الرغبة في شيء من زخارف الدنيا إلاّ إذا كان سبباً لنيل بغيته.

و من عجيب الأمر انّ المترجم عاش في بيئة زخرت بالعلم و العلماء و مراجع التقليد،و على الرغم من ذلك فقد شاءت الأقدار أن يغمر ذكر العديد منهم و يجهل قدرهم دون أن يعلم بهم الناس،أمثال:

أ:العلاّمة الأوحد الشيخ موسى بن جعفر بن أحمد التبريزي من تلاميذ

ص:283

شيخنا الأنصاري و المرجع الكبير السيد حسين الكوهكمري مؤلف«أوثق الوسائل في شرح الرسائل»فقد كان بحراً عليماً في الفقه و الأُصول،و مع ذلك كان مغمور الذكر إلاّ شيئاً لا يذكر.

ب:السيد الجليل ميرزا محمود بن شيخ الإسلام ميرزا علي أصغر الطباطبائي (المتوفّى 1310ه) أحد الأوحديين في الأدب و التفسير و الفقه،المعروف بشيخ الإسلام،و قد رأيت له كتاباً في اللغة على غرار«النهاية»لابن الأثير في جزءين كبيرين قدّمه أحد أحفاده إلى السيد الجليل السيد حسين البروجردي قدس سره ليقوم بطبعه،و لكن حالت الأقدار بينه و بين ما يرمي إليه،و كان رحمه الله كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات: تبريز دار لأهل الجهل مُكْرِمة

ج:الشيخ العلاّمة علي بن عبد اللّه العلياري(1236- 1327ه) أحد تلاميذ شيخنا الأنصاري كان فقيهاً،أُصولياً،متكلماً،رياضياً،طبيباً، ماهراً جامعاً للمعقول و المنقول مؤلف«إيضاح الغوامض في تقسيم الفرائض»الذي طبع عام 1318ه.

و كتابه الكبير في الرجال،أعني:«بهجة الآمال في شرح زبدة المقال»يعرب عن تضلّعه في علم الرجال إلى غير ذلك من الآثار التي خلّفها.و المذكورة في مقدمة كتابه«بهجة الآمال».

ص:284

و هو قدس سره يصف موطنه و ما لاقى فيه من المصائب و المتاعب،بقوله: فسكنت في أقصاه حتى لا أرى

و المصرع الأخير يعرب عن أنّ البلد مع سعته قد ضاق عليه كسَمِّ الابرة.

د:الفقيه البارع الشيخ محمد إسماعيل المعروف ب«الفقيه»صاحب الآثار الجليلة في الفقه و الهيئة و النجوم(1294- 1360ه) كان أحد أقطاب العلم في تبريز و على الرغم من ذلك فقد جُهل قدره كسائر أقرانه.

و العجب انّه أيضاً كتب شرحاً للتبصرة أسماه«التكملة في شرح التبصرة»و قال في مقدمته:«و لم يكن له شرح يكشف حجابه» (1)و قد ذكر تلك الجملة شيخنا المدرس في مقدمة شرحه مما يعرب عن عدم اطّلاعه على ما كتبه الآخر من الشرح بالرغم من معاصرته له و إقامتهما في نفس البلدة،و قد طبع الجزء الأوّل من شرح الفقيه عام 1338ه.

إلى غير ذلك من علماء فطاحل أهملهم الناس،و لكنّهم على مضض الزمان كانوا بين التأليف و التدريس و التحقيق و لم يكن بخس الناس حقّهم مانعاً عن أداء الواجب و دفعهم عجلة العلم نحو الامام.

هذا نزر يسير من أسماء هذه الطبقة الذين جاد بهم الزمان و أنكرت العامة فضلهم و حقوقهم،فعاشوا في زوايا الخمول دون أن يقدّر جهودهم و لعلّها سيرة سائدة في أكثر البلاد،و لذلك نرى أنّ أكثر العلماء يشتكون في كتبهم من مواطنهم

ص:285


1- 1) .التكملة الصفحة الأُولى.

و مواطينهم،و نعم ما قال الشاعر: لو كان للمرء من عزّ و مكرمة في داره لم يهاجر سيد الرسل

أُسرته

لقد أعقب شيخنا المدرس ولدين بارّين كالكوكبين في سماء العلم و الأخلاق،أحدهما صديقنا الأُستاذ علي أصغر (1331-...) أحد خريجي جامعة طهران قسم الحقوق و العلوم السياسية و له آثار،منها:

1.الأحوال الاجتماعية للعرب قبل الإسلام.

2.تاريخ القضاء في إيران من العهد القديم إلى عهد الدولة القاجارية.

3.تاريخ اليابان.

4.التعاليم الإسلامية.

5.الحق و القانون.

و هو بعدُ كاتب قدير و محاضر يجذب القلوب،و له في الأدب العربي يد غير قصيرة،و قد سألته مرّة عند ما زار قم المشرفة في الحرم الشريف عن شعر الزمخشري،فقلت:ما ذا يعني صاحب الكشاف من هذا البيت. و مذ أفلح الجهال أيقنت انّني أنا الميم و الأيام أفلح أعلم (1)

فقال ما هذا مثاله:

إنّ الزمخشري يشتكي زمانه،و يقول:فمن زمن بعيد تصدّر الجهّال منصَّة الأُمور،أيقنت انّ مثلي و الأيام كمثل الميم و الأفلح و الأعلم.

ص:286


1- 1) .الكشاف:376/3.

و الأفلح من شُقَّت شفته العليا،و الأعلم من شُقَّت شفته السفلى،فمن كان كذلك فلا يتمكن من التفوّه بالميم لأنّها من الحروف الشفوية، فبينهما مضادة،فهكذا الحال بيني و بين الأيام.

و الأُستاذ بعد حي يُرزق مدّ الله في عمره.

و النجل الآخر الحاج محمد الشاعر البارع باللغتين الفارسية و التركية.

و من نماذج شعره ما رثى به والده قدس سره. سحرگاه تيرى پريد از كمانى

ص:287

«مدرس نمرده است هرگز»نميرد «كه ماندست آثار وى جاودانى» (1)

هكذا كانت أيّام شيخنا المدرس و هكذا مضت و هكذا طُويت أوراق عمره فقد عاش سعيداً و مات سعيداً،و قد اختطفته المنية عام 1373ه،و دفن في أحد مقابر تبريز ثمّ نُقل إلى قم المشرفة فدفن في مقبرة«شيخان»و قد حك على صخرة قبره،هاتان البيتان: إنّ الذي صنع الجميل مخلّد

فسلام اللّه عليه يوم ولد و يوم مات و يوم يبعث حيّاً.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

15 ربيع الثاني من شهور عام 1421ه

ص:288


1- 1) .ريحانة الأدب:14/8-15. [1]

13

اشارة

التعدّدية الدينية

نقد و تحليل

(1)

التعدّدية الدينية msilarulP suoigileR من المسائل الكلامية حديثة الظهور،و قد جرت مؤخراً على الألسن،و صدرت حولها كتب و مقالات مختلفة في بيانها أو نقدها.يتكون عنوان (البيلوراليزم الديني) من كلمتين،هما:«بيلوراليزم»و«ديني»و المفهوم الثاني واضح نوعاً ما، إلاّ انّ المفهوم الأوّل يحتاج إلى بيان.

تستخدم كلمة LARULP اسماً أو صفة،و كذلك تأتي بمعنى«الجمع أو الكثرة». (2)و الحقيقة انّ الكلمة المذكورة تشير إلى«الكثرة» و«التعدد».و تكملتها msi تعني تياراً،من هنا استخدمت في مجالات مختلفة أعمّ من الدين،الفلسفة،الأخلاق،الحقوق و السياسة.فمثلاً:

(البيلوراليزم السياسي) نوع من التعددية السياسية.كما تشير إلى تعدّد الأحزاب و التشكيلات.و المقصود من«التعدّدية الدينية»ما يقابل الوحدانية و التفرد،أو ما يصطلح عليه«الانحصارية في الدين»في مقابل«الشمولية».

من الضروري قبل تناول المصطلح الإشارة إلى جملة قضايا تعتبر مقدمات

ص:289


1- 1) .كان هذا المقال باللّغة الفارسيّة و نقلته إلى العربيّة مجلة«التوحيد»و نشر في العدد 105،السنة التاسعة عشرة،خريف 1421 ه2000/ م.
2- 2) .لغتنامه.

للموضوع:

1.ولادة التعددية و مراحلها التاريخية.

2.تفسير مصطلحي الدين و الشريعة.

3.الهدف من إثارة الموضوع.

4.استعراض الموضوع في ضوء خطابات الأنبياء.

المسار التاريخي للتعدّدية

علينا أوّلاً أن نحدّد مكان ولادة التعدّدية،و هل المتكلّمون الغربيون هم أوّل من أثاروا الموضوع ثمّ دخل دائرة علم الكلام،أو أنّ للمسألة جذوراً في الفلسفة أو الكلام الإسلامي أيضاً،أو كلاهما أثار المسألة دون أن يقتبس أحدهما من الآخر،و من غير«توارد خواطر»؟

هناك قراءات و تفاسير متعددة«للبيلوراليزم الديني»،فلا يمكن أن يكون جميعها ذا جذر في الكلام أو الفلسفة الإسلاميّين.و قد نُقشت البيلوراليزم تحت عناوين أُخرى و بنفس المواصفات.و هناك من يتصوّر انّ المسألة قد تناولتها الأوساط العلمية في الشرق،و قد ذكر أسماء من نُسب إليهم الموضوع كما يلي:

1.كان يوحنا الدمشقي مبتكر هذه المسألة،و قد كتب رسالة فيها.و يوحنا الدمشقي-كما تجدر الإشارة-كان من المسيحيين المقربين للخلفاء العباسيين،مثل المأمون و المعتصم و الواثق و المتوكل،و قد استرعى اهتمام الخلفاء به معلوماته الباهرة في الطب،و هو الذي أثار فتنة «قدم القرآن»و«عدم حدوث كلام اللّه»،لكي يثبت ب«قِدم كلام اللّه»قِدم المسيح«كلمة اللّه»،و قد توفّي الرجل في سامراء

ص:290

عام 248ه. (1)

و لما كانت رسالته مفقودة فلا يمكننا محاكمتها،و مع فرض صحّة نسبتها له.فربما كان يهدف منها الدعوة إلى حياة مسالمة،ليعيش المسيحيون الساكنون في البلاد الإسلامية في ظلها بعزة و كرامة.و من الممكن أن يكون هدفه مشابهاً لهدفه في مسألة«خلق القرآن»إذ أراد من خلال قوله:(إنّ اتباع جميع الأديان موجب للسعادة) أراد أن يخفّف من حدة تعصّب المسلمين،و أن يجعل أتباع الأديان الأُخرى في مستوى المسلمين.

هكذا قيل،و كلّه مجرد حدس،و لا يعلم الواقع إلاّ اللّه تعالى.

2.تعرض إخوان الصفا في رسائلهم إلى مسألة التعددية الدينية،إذ قالوا:الحقّ موجود في كلّ دين،و الحقّ يجري على كلّ لسان،و من الممكن أن تعرض الشبهة على كلّ إنسان.

أخي:انّ بيان الحقّ لصاحب الدين و المذهب،أو من هو متعلّق به و إزالة الشبهة العارضة على ذهنه،مشروط بأن تكون قادراً على هذا العمل،و إلاّ فتخلّ عنه،و لا تدّعي القدرة عليه،و إذا احتملت وجود دين أفضل ممّا أنت عليه عليه فلا تقتنع،و الأفضل لك أن تبحث،فمتى وجدته فلا تصرّ على الدين المفضول و عليك أن تدين بالدين الأفضل و تحبه،و لا تنشغل بعيوب الناس،بل انظر إلى دينك بعيداً عن العيوب.

انّ العبارة الأساسية التي تفيد وجود نوع من الحقّ لجميع الأديان هي قولهم:ليس الحقّ منحصراً بدين واحد من بين جميع الأديان، و ليست الأديان الأُخرى لا

ص:291


1- 1) .الأعلام:211/8؛ [1]ابن زهرة:تاريخ المذاهب الإسلامية:394/2؛لغتنامه دهخدا:21112/141.

تمتلك نصيباً من الحقّ،و إنّما هناك قدر مشترك بين جميع الأديان السماوية.و هذا الكلام ليس جديداً و إنّما نادى به الإسلام.إذ دعا القرآن أهل الكتاب إلى القدر المشترك،و هو«التوحيد في العبادة».

ثمّ إنّ كلامهم اللاحق يفرض على كلّ إنسان اتّباع القانون الأفضل،و السعي للتعرف عليه،و هذا الكلام يؤكد انّ هؤلاء من دعاة الانحصارية في الدين و ليس التعدّدية الدينية.

3.ذكر الغزالي في بعض كتبه انّ جميع الفرق الإسلامية ناجية ما عدا واحدة.و اعتبر القراءتين اللّتين وردتا في ذيل حديث (ثلاث و سبعين فرقة) صحيحتين.قال في ذيل حديث:«ستفترق أُمّتي إلى ثلاث و سبعين فرقة»:و هنا عبارتان كلاهما صحيح:

أ.الناجية منها واحدة.

ب.الهالكة منها واحدة.

و الجملة الأُولى تحصر الحقّ في فرقة واحدة،بينما الثانية تعتبر الجميع على حقّ،و الهالكة واحدة. (1)

يتضح انّ الغزالي يؤمن بنوع معين من«التعدّدية المذهبية»بخصوص (72) فرقة إسلامية.لكن في كلامه ما يدلّ على أنّه يعتبر إحدى الفرق على الحقّ،و هي الفرقة التي ستدخل الجنة من غير حاجة إلى شفاعة أو عذاب مؤقت في النار.و أمّا الفرق الأُخرى فانّها ستطرد لقصور في عقيدتها،و لا تدخل الجنّة إلاّ في ظل شفاعة الشفعاء،أو بعد أن تعذب في النار بشكل مؤقت و تتطهر من الرجس. (2)

هذا الكلام ليس جديداً و ليس له علاقة بالتعدّدية الدينية،لأنّه لا يُخلّد

ص:292


1- 1) .فيصل التفرقة بين الإسلام و الزندقة:106. [1]
2- 2) .المصدر نفسه:107. [2]

في النار،من وجهة نظر الكلام الإسلامي،إلاّ الكافر،و غير الكافر-على اختلافه-سيخرج من النار و يدخل الجنة.

يقول الغزالي في كتاب:«المنقذ من الضلال»:انّ اختلاف الناس على الأرض في الدين،أو اختلاف الأُمّة الإسلامية في المذهب،مع كثرتها تشبه بحراً عميقاً يغرق فيه أكثر الناس،و لا ينجو منه إلاّ القليل،و كلّ فرقة تتصوّر انّها الناجية منه،و كلّ حزب فرح بما عنده. (1)

و هذا الكلام ينافي التعدّدية الدينية،لأنّ أكثر الناس،في رأي الغزالي،سيغرقون في بحر الضلالة،و لا تنجو إلاّ مجاميع صغيرة جدّاً.

و لم نشاهد قبل عام 1950م أي إشارة لهذه القضية في صحف بلادنا،ممّا يؤكّد انّ البيلوراليزم فكرة غربية بشكل كامل،ثمّ تسللت إلى الفكر الشرقي.كما أنّ تعدد التفاسير و كثرة القراءات أبعد القضية عن الأصالة الإسلامية،و إلاّ لو كانت ذات جذر إسلامي لتناولها المسلمون خلال 14 قرناً و لكانت أكثر وضوحاً.

إنّ أوّل من أثار التعددية الدينية في إيران هو الدكتور ميمندي نجاد في النصف الثاني من القرن العشرين.و استدل بالآية الآتية على نجاة جميع أتباع الديانات السماوية،و كانت الآية أهمّ دليل لديه:

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» . (2)

و الاستدلال بالآية ليس من ابتكاراته،بل أشار إليه المفسرون المسلمون خلال تفسيرهم للآية،التي جاء مضمونها أيضاً في سور أُخرى (3)،كما أشاروا

ص:293


1- 1) .المنقذ من الضلال:17- 18،مكتبة طه.
2- 2) .البقرة:62. [1]
3- 3) .المائدة:169؛الحج:17.

تصريحاً أو تلميحاً انّ هذا الفهم هو فهم خاطئ للآية،حتى وصفه أبو الأعلى المودودي بأنّه أكبر افتراء على القرآن. (1)كما أنّ كاتب هذه السطور قد تحدّث في كتابه«مفاهيم القرآن» (2)عن العالم و خاتمية الشريعة المحمدية،و جاء بالآية كدليل للمخالفين،ثمّ حللها و ناقشها.

لقد افتتح في طهران في عام 1966(مركز التوحيد العالمي)،الذي أداره شخص كان صاحب امتياز لإحدى المجلات الدينية ثمّ انقلب على عقبه.و كانت المؤسسة ذات طابع سياسي،و هدفها تضعيف عقائد الشباب الثوريين،الذين كانوا في حرب مع النظام.أمّا اليوم فهناك كتابان سادا وسطنا الفكري هما:

1.فلسفة الدين ل(جون هيك) و هو مسيحي من مواليد عام 1922،و قد طرح المسألة في كتابه كفهم جديد للكتب السماوية الموحاة، ثمّ سعى إلى إثبات كلامه بقوة.

2.صراطهاى مستقيم«السرط المستقيمة جمع صراط».تأليف الدكتور عبد الكريم سروش،الذي تبنى رأي جون هيك و أعاد صياغة أفكاره على شكل حكايات و تمثيلات.

و هذا الكتاب لو تجاوزنا محتواه فانّ عنوانه يتعارض مع القرآن الكريم الذي حصر النجاة و السعادة بطريق واحد.يقول تعالى: «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» . (3)

و كان من الأفضل للمؤلّف المحترم أن لا يسمّي كتابه بهذا الاسم كي لا يقع في تعارض صريح مع القرآن الكريم.

ص:294


1- 1) .الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة:190- 206.
2- 2) .مفاهيم القرآن:200/3- 214.
3- 3) .الأنعام:153. [1]

هذان الكتابان إضافة إلى الكتب الكلامية المترجمة و صيرورة الثقافة ثقافة عالمية،كلّ ذلك كان وراء انتشار هذه القضية،و كان السبب أيضاً وراء كتابة رسائل و مقالات مختلفة حول الموضوع نفسه.

الدين و الشريعة

من المصطلحات التي ينبغي تحديد معانيها أوّلاً:(الدين) و (الشريعة) و ما لم يتضح مفهومهما الواقعي لا نستطيع أن نقرر شيئاً بشأن «وحدانية الدين»أو تعدّده.فمن تحدث عن«التعدّدية الدينية»لم يفرّق بين الدين و الشريعة،و لم يوضح بأيّهما يختص الحديث حول الوحدة و الكثرة.

لقد اعتبر القرآن الكريم،و هو أوثق وثيقة لتفسير هذين المصطلحين،اعتبر الدين واحداً و الشريعة متعددة،و أكد(أي القرآن) انّ جوهر الدين واحد في جميع العصور،و قد أمر جميع الأنبياء بتبليغه،و لم يحدث مجيء الأنبياء-واحداً بعد الآخر-أي تغيير أو اختلاف فيه،و ظل شامخاً و ثابتاً و محكماً على مدى العصور و لا يطاله النسخ،لهذا لم يرد لفظ الدين في القرآن إلاّ بصيغة المفرد،و لم يرد قط بصيغة الجمع.فالدين واحد و لا يقبل الكثرة و حقيقته:«التسليم للّه تعالى»صاحب السلطة و الحاكمية و الخلق و الربوبية،و كلّ أُمّة قد دعيت لهذه الحقيقة،كلّ حسب قدرتها و استعدادها.و يمكننا التأكد من ذلك من خلال الإمعان بالآيات الكريمة،و نحن سنشير لها فيما بعد بإيجاز.

التوحيد:الدين القيم

وصفت بعض الآيات التوحيد بالدين القيم،أي الدين الذي لا يتزلزل و لا

ص:295

يتخلخل.فمثلاً يقول يوسف عليه السلام إلى رفيقيه في السجن: «إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ» ثمّ يقول: «ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ». 1

فإذا كان التسليم للحقّ تعالى و نفي التسليم لغيره هو الدين القيم،إذاً فيجب أن يبقى بالقوّة نفسها في جميع العصور.

و يعتبر القرآن التوحيد في آية أُخرى أمراً فطرياً فطره خالق البشر و أودعه فيهم «فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها» ثمّ أردفها بقوله:

«ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» . (1)و يتلخّص الدين القيّم الثابت بالتوحيد في العبادة.

الدِّين دين الإسلام فقط

حصرت بعض الآيات الدين بالإسلام «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ» . (2)و الآية ليست ناظرة إلى عصر الرسول الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم فقط،بل هي حقيقة مستمرة في جميع العصور،و إذا كان الدين واحداً و الشرائع و المذاهب السماوية،متعددة فسيكون معنى الدين-إذاً-هو العقائد التوحيدية أو المعارف الإلهية التي دعي جميع الأنبياء،إلى تبليغها،و سيكون محورها التسليم للّه تعالى،و عدم عبادة أو إطاعة غيره.

و جاء في آية أُخرى: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» 4 ،و هذا الحكم لا يقتصر على عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و إنّما يسري إلى جميع العصور،لذا أكد القرآن انّ إبراهيم عليه السلام كان شخصاً مسلماً و لم يكن يهودياً أو نصرانياً و لا مشركاً. (3)

ص:296


1- 2) .الروم:30. [1]
2- 3) .آل عمران:19. [2]
3- 5) .آل عمران:67. [3]

فإذا كان الدين واحداً،و الشرائع متعددة فسيكون معنى الدين هو الاعتقاد بالتوحيد و التسليم للّه تعالى،على أن تشكّل طاعته و عبادته البنية التحتية لجميع الشرائع.و جميع الأنبياء مكلّفون بالدعوة لذلك: «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ» . (1)

الدين الحقّ هو دين التوحيد

فسّرت بعض الآيات الدين الحقّ بالتوحيد،و ذكرت انّ هدف إرسال النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم هو تغليب دين التوحيد على الشرك،و أكدت الآيات انّ هذا الأمر جزمي و إن كره المشركون. (2)

و ربما نزل هذا النوع من الآيات لبيان معنى الدين،و لتأكيد انّ الدين نمط من التعاليم العقيدية يقع التوحيد في مقدّمتها.و بما انّ النصوص العقائدية و المعرفية تعكس واقعيتها،فلا يمكن أن تكون مختلفة،و إنّما هي ثابتة و واحدة.

ما هي الشريعة؟

«الشريعة»و«الشرعة»يقال للطريق الموصل إلى الماء.و القرآن الكريم بعد ما يؤكد وحدة الدين يشير إلى تعدّد الشرائع و وجود الشرعات و المناهج،و المراد بها:التعاليم العملية و الأخلاقية التي تنظم علاقات الإنسان الفردية و الاجتماعية و تحدد مسئوليته أمام اللّه و الناس.

و السبب في اختلاف الشرائع هو الاختلاف في الاستعدادات و القدرات و الظروف المختلفة الحاكمة فيهم،لهذا نجد الشيء حراماً في هذه الشريعة و حلالاً في الشريعة الأُخرى.و على هذا الأساس تنسخ الشرائع،

ص:297


1- 1) .النحل:36. [1]
2- 2) .النور:11.

لكن النسخ لا يطال جميع التعاليم العملية و الأخلاقية للشريعة،و إنّما ينسخ القسم الملازم لتطور الزمان و الإمكانيات و اختلاف الظروف.

و قد صرح القرآن الكريم باختلاف الشرائع: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً» 1 ، «ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها». 2

ممّا تقدم نخلص إلى أنّ الدين المتعلّق بعقيدة الإنسان حول اللّه و صفاته و أفعاله واحد،لا يقبل الاختلاف،و قد أرسل جميع الأنبياء لتبليغه.

بينما الشريعة،التي هي تعاليم عملية،مختلفة رغم وجود المشتركات بين جميعها.و لا يطال النسخ جميع أحكامها و إنّما ينسخ القسم الملازم لمقتضيات الزمان و تفاوت القدرات الفكرية و العقلية للأُمم.

أهداف إثارة موضوع التعدّدية

اشارة

ليس الهدف من إثارة مسألة التعدّدية الدينية،مع تعدّد تفسيراتها،واحداً بل يحتمل أن يكون لكلّ قراءة أو تفسير هدف خاص،و هنا سنشير إلى بعضها:

1.هدف علم الاجتماع

كلّما فُسّرت التعدّدية الدينية تفسيراً سلوكياً(أي أن يعيش أتباع الديانات المختلفة بعضهم مع بعض حياة مسالمة،و يتحمل بعضهم الآخر) فسيكون هدفها من زاوية علم الاجتماع،هو تحجيم التعصب الديني لدى اتباع الديانات المختلفة.

ص:298

و الشاهد على ذلك تحركات البابا من أجل استئصال التعصّب الديني،إذ سعى البابا إلى تبرئة ساحة اليهود من قتل عيسى عليه السلام،و قد جاء في بيان شورى الفاتيكان الثاني الصادر سنة 1963م بشأن التعايش السلمي بين المسيحيين و المسلمين:

«تطلب هذه الشورى المقدسة من كلا الطرفين نسيان الماضي،و على المسيحيين و المسلمين أن يسعوا من الآن إلى إقرار صيغ للتفاهم، و التعاون على تحمّل مسئولية المحافظة على مصالح جميع الأفراد في طريق العدالة الاجتماعية و الأخلاق،و الصلح و الحرية». (1)

بعد ان اتسعت العلاقات بين المجتمعات-و لا سيما بعد الحروب الدينية القاسية،أعمّ من الحروب الصليبية بين المسلمين و المسيحيين،و الحروب التي وقعت بين المذاهب المسيحية و ما زالت مشتعلة بين الكاثوليك و البروتستانت بالأخص في الآونة الأخيرة في ايرلندة،و ما خلّفته تلك الحروب-تبلورت فكرة مفادها الاعتراف بالأديان الأُخرى و التصالح معها،لأنّ من صالح المجتمع أن تعيش جميع الأديان و المذاهب بعضها مع بعض.فكانت الحروب هي السبب وراء قبول التصالح بين الأديان من أجل تحجيم الأرضية المؤجّجة لها. (2)

2.توجيه ما جاء في الكتاب المقدس

انّ إحدى أزمات المتكلّمين المسيحيين هي تعاليم الكتاب المقدس

ص:299


1- 1) .برخورد آراى مسلمانان و مسيحيان:251.و قد نقل«جون هيك»هذا البيان بصيغة أُخرى.انظر:فلسفة الدين:242- 243.
2- 2) .كتاب نقد(4) المقالة الأُولى.

المخالفة للعقل،فهي تعاليم تستعصي على التوجيه بأي معيار،بالأخص ما يتعلّق بصفات و أفعال اللّه تعالى،و قد استخدم معارضو الكنيسة من العلمانيين و غيرهم هذا السلاح ضد الدين الكنسي،و اعتبروا الكتاب المقدس مجموعة من الأساطير و الخرافات.

و عند ما أثارت التعدّدية الدينية مسألة جوهر الدين و صدف الدين،لم تعتبر الاختلافات شيئاً مهماً،لأنّ المسئول عن التحول في شخصية الإنسان هو جوهر الدين و تبقى النصوص الدينية أحكاماً لإثبات صدقيته من أجل الحفاظ على جوهره،لأنّ أهمية الدين في جوهره،لا في صدفه.لذا ينبغي الكفّ عن مراجعة و نقد التعاليم الدينية،و عدم اعتبارها نظريات علمية،و قطع التحدّث عن صدقها و كذبها،و يجب أن تحظى هذه التعاليم بالاحترام ما دامت تؤثر فينا.

يقول مؤلّف كتاب (العقل و الاعتقاد الديني) حول بيان التعدّدية من وجهة نظر هيك:«يعتقد هيك انّ التعاليم لا تمثل جوهر الدين، المسئول عن إيجاد التحوّل في شخصية الإنسان،و يؤكد انّنا لا نتجاوز الحدود عند مراجعة التعاليم الدينية مثل (التجسيد)،لأنّها ليست كالنظريات العلمية إمّا أن تكون صادقة أو كاذبة.و ما دام للإنسان أسئلة حول الحياة و الأوامر الإلهية،فعلى العقيدة الدينية الإجابة عن هذه الأسئلة.

و ما دامت هذه العقائد و التعاليم تؤثر في رؤيتنا للحياة فهي صادقة.

و بعبارة أُخرى،اعتقد انّ هيك قد ارتكز إلى الأبعاد الوجودية و التحوّل الذاتي للدين قبل الاعتماد على الحقائق الكلامية (المبينة على شكل قضايا).و تكمن أهميته انّه استبدل الحياة التي محورها الإنسان بحياة محورها اللّه.

و على هذا فليس المهم عقائد الإنسان فقط،لأنّ عقيدة كلّ فرد هي خلاصة تجاربه و ثقافته و مقولاته المصاغة بشكل أُسطوري و المكتسبة من الواقع،و على هذا

ص:300

فالدعوة إلى دين واحد و التزام الناس بدين واحد لا معنى له،و ما هو مهم أن يتأثّر واقعنا لكي يتغيّر. (1)

فالخلاصة انّ المهم هو جوهر الدين و تحول شخصية الإنسان إلى شخصية محورها اللّه،و أمّا تعاليم و نصوص الكتاب المقدّسة في مجال العقيدة و الأحكام العملية و الأخلاقية فجميعها هدف للدين،و إنّما هي مهمة بالنسبة لنا لأنّها تحافظ على جوهر الدين،و أمّا كونها صادقة أو كاذبة،ضدّ أو نقيض،فليست مهمة بالنسبة لنا.

3.مبرِّرات التعدّدية الدينية

ليس هدف هذه المسألة هو إثبات ما هو الحقّ أو الباطل أو بيان ضلال و نجاة الإنسان،و إنّما هدف المسألة هو إيجاد طريق لتصحيح تعدّد الأديان أو الشرائع،لأنّ مصدر الدين واحد،و شهوده«أمر مطلق»و يتعالى على التعبير عنه ب«التجربة الدينية»،لكن فهم هذا الشهود متعدد و مختلف،و سببه انّه كلما كانت التجربة الدينية قادرة على التعبير عن نفسها بصيغة معبرة فهي لا بدّ أن تتأثّر بالظروف التاريخية و اللغوية و الاجتماعية و الجسمانية،لهذا تختلف النصوص الدينية،فبعضها يدعو إلى التوحيد و بعضها يدعو إلى التثليث.

و هذه الفكرة قد اعتمدت على مبدأ«كانت»المعروف (انّ الشيء في نفسه يغاير ما هو موجود لدينا).و الأشياء التي ترد الذهن عن طريق الحس تتأثر بالقوالب الذهنية السابقة،و سيكون هناك اختلاف بين الواقع و ما ندركه منه.

يقول جون هيك في إحدى مقالاته:انّ التعددية،من زاوية علم الظواهر،

ص:301


1- 1) .عقل و اعتقاد ديني:408- 409.

هي الواقع الذي يعبر عنه تاريخ الأديان بتعدّد المذاهب و كثرة ما يترشّح عن كلّ واحد منها.و هذا المصطلح ناظر،من زاوية فلسفية،إلى قسم خاص من العلاقة بين المذاهب و ما تدّعيه و نقائضها.

و هذا المصطلح يعكس النظرية التي تقول إنّ للأديان العالمية تفسيرات مختلفة حول الحقائق الإلهية الخافية. (1)

و يقول:الأديان المختلفة عبارة عن تيارات مختلفة للتجربة الدينية،و كلّ واحد منها قد بدأ في إحدى مراحل التاريخ البشري،و تفتّح وعيه العقلي داخل فضائه الثقافي. (2)

لكن هيك لم يستطع في نقده إلاّ أن يفسّر اختلاف الأديان في قضايا العقيدة فقط،دون التعاليم العملية و الأخلاقية،لأنّ الاختلاف في الأحكام لا يمكن أن يكون معلولاً للعوامل الأربعة التي تؤثر في التعبير عن شهود الأمر المطلق.

التعاليم الدينية و أقوال الأنبياء

حاولت التعددية الدينية أن تناقش قضية الرسل و رسالاتهم في مجال العقيدة و العمل و اعتبرت (شهود الحقيقة المطلقة) مصدر الدين، و اعتبرت رسالات الأنبياء انعكاساً للفهم المختلف من الحقيقة الغائية،الإلهية الخافية.كلّ ذلك من دون الرجوع إلى الرسل و محاورتهم و الاستماع إلى أحاديثهم و أقوالهم.

التعددية ليست مسألة فلسفية خالصة يمكن دراستها و نقدها في غرف

ص:302


1- 1) .دين پژوهى،ترجمة بهاء الدين خرمشاهي:301.
2- 2) .جون هيك:فلسفة الدين:238.

مغلقة دون الرجوع إلى أقوال الرسل و حفّاظها،و إنّما ينبغي الاستماع إلى أقوالهم بدقة،و من ثمّ نجلس للقضاء.

إنّ ما يقوله التعدّديون في تحليلاتهم لا يعدو كونه قضايا حدسية،لا تدعمها أي وثائق تاريخية.

و اليوم قد استبدلوا البرهان و الدليل بالحدس و الظن و فسّروا حركة الأنبياء و كتبهم و تعاليمهم بالتجربة الدينية (شهود الموجود المطلق)،و اعتبروا تعاليمهم انعكاساً لما يفهمونه من الحقيقة،و ليس لها علاقة بذات الموجود المطلق،بينما يقول الأنبياء:انّ ما نقوله ليس له علاقة بنا،و مهمتنا فقط نقل الأوامر و الخطابات،و شعارنا: «إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ» 1 و «اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ» . (1)

و عند ما طلب إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أن يبدل أوامر اللّه أجاب: «ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي» . (2)

إلى هنا انتهينا من بيان المقدسات و نبدأ بمعالجة موضوع التعدّدية و القراءات المتعدّدة لها:

القراءة الأُولى للتعدّدية الدينية

ذكرنا سابقاً انّ نظرية التعدّدية الدينية«البيلوراليزم»تحمل تفسيرات و قراءات متعددة،و ما لم نتناولها واحدة واحدة لا يمكننا أن نحكم لها أو ضدّها.

انّ أوّل تفسير لها هو التعددية السلوكية،و تعني انّ جميع أتباع الأديان (حسب تعبير المنظّرين) أو الشرائع(في ضوء تعبيرنا)،قادرون على العيش

ص:303


1- 2) .الأنعام:106. [1]
2- 3) .يونس:15. [2]

بعضهم إلى البعض الآخر على أساس ما لديهم من مشتركات،و أن يتحمل أحدهم الآخر،أو باصطلاح السياسيين إيجاد حياة مسالمة، و قد يندفعون أكثر فيعتبرون العلمانيين نوعاً من أصحاب الديانات المتوهمة،و لهم أن يعيشوا مع الآخرين عيشة مسالمة.

و نحن لا ننكر وجود المشتركات بين الشرائع،و بتعبير الآخرين بين الأديان،و كما قال«وليم ألنسون»هناك تقارب واضح بين الأديان، إلاّ أنّه يكون أكثر وضوحاً بين الأديان التوحيدية الكبرى،أي اليهودية و المسيحية و الإسلام،كما هناك اختلافات بينها،و لا سيما في نظرتها إلى فعل اللّه في التاريخ.لكن الاختلاف لا يقتضي التضاد بشكل كامل أو انّ أحدها ينفي الآخر.بل هناك اشتراك أيضاً بين أديان الشرق الأقصى التي تختلف فيما بينها،و بينها و بين الأديان التوحيدية.فالتأكيد أكثر من القدر اللازم على الفوارق بين الأديان سيفضي إلى تجاهل المشتركات التي يمكن للأديان الاتّفاق عليها.و جميع هؤلاء يرفضون الفكر الطبيعي الذي يقول:«لا توجد حقيقة ممتدة في أبعاد الزمان و المكان». (1)

إنّ التعددية بهذه القراءة يقبلها العقل و الدين و الشريعة،و قد دعا القرآن أهل الكتاب إلى حياة مسالمة تحت خيمة التوحيد،لأنّه أصل مشترك بين جميع الشرائع السماوية،يقول: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ» . (2)

و قد اعترف الفقه الإسلامي،الذي يرتكز إلى الكتاب و الحديث،بأهل

ص:304


1- 1) .مجلة كيان،العدد:50،ص 7.
2- 2) .آل عمران:64. [1]

الكتاب و دعا إلى احترام حقوقهم،بما لا مزيد عليه،ففي كتب الفقه فصل خاص عن أهل الذمة و شروطهم،يعكس مدى تعاطف الإسلام مع هذه الشرائح الاجتماعية.

عند ما كان الإمام علي عليه السلام يتجول في شوارع المدينة رأى رجلاً أعمى يستعطي الناس،فسأل:ما هذا؟ فقيل:رجل نصراني،فأجاب الإمام:«عجباً،استعملتموه حتى إذا كبر و عجز منعتموه!اصرفوا عليه من بيت اللّه لتصونوا وجهه». (1)

انّ الحياة المسالمة لا تختص بأهل الكتاب بل جوّز القرآن ذلك للمشركين أيضاً،شريطة عدم اشتراكهم في حرب ضدّ المسلمين،و عدم خروجهم من بيوتهم،و حينها يجب معاملتهم بالحسنى و العدل و القسط،لأنّ اللّه يحبّ المقسطين. (2)

و هذا السلوك لا ينطوي على شيء من النفاق،و إنّما هو من صميم الدين الإسلامي،بل كان هذا أحد الأسباب المشجعة على اعتناق الإسلام.و ليس أجمل من كلام الإمام علي و هو يخاطب واليه على مصر،إذ يقول:«و اشعر قلبك الرحمة للرعية و المحبة لهم،و اللطف بهم،و لا تكون عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فانّهم صنفان:

أ.إمّا أخ لك في الدين.

ب.أو نظير لك في الخلق». (3)

ص:305


1- 1) .وسائل الشيعة،ج11،باب 19،من أبواب الجهاد،ص 49، [1]الحديث1.
2- 2) .الممتحنة:8. [2]
3- 3) .نهج البلاغة، [3]تنظيم صبحي الصالح،قم،دار الأُسوة،الكتاب 53،ص 590.

لكن بعض دعاة البيلوراليزم يرفضون هذه القراءة،و يعتبرونها خارجة عن الموضوع،و يقولون:ليست المسألة أن نجد حلاً يساعد على وجود الأديان المختلفة جنباً إلى جنب.و إذا أردنا أن نصل إلى حلّ عملي من أجل حياة مشتركة مسالمة،فعلينا أن نرتكز إلى مبدأ التسامح ( ecnareloT )،و هو مغاير للبيلوراليزم.ففي التسامح يحترم الإنسان و الحرية و حقوق الآخرين،و رغم انّ الجميع يعتقد انّ الحقيقة معه. (1)

و لكن لا يمكن للواقعين فرض تفسير آخر للتعدّدية و لا سيما بالنسبة إلى المؤمنين بمبادئهم الدينية إيماناً كاملاً،سواء سُمّي المفهوم بالتساهل أو التعددية.

و المهم انّ التساهل أو الحياة المسالمة،أو الاعتراف بحقوق أهل الكتاب لا يعني الجزم بفوزهم و نجاتهم،لأنّ مسألة التساهل و التغاضي و مواجهة الخلافات قضية مرتبطة بالحياة الدنيا من أجل الحفاظ على كرامة الإنسانية،أما كيف يكون مستقبل الإنسانية فليس له علاقة بهذه المسألة.

و هنا أُضيف شيئاً إلى هذا التفسير:على الرغم من حرص زعماء الشرائع السماوية و علماء الدين على توفير حياة مسالمة إلاّ أنّهم تناولوا الأُصول المختلف عليها،ارتكازاً إلى المبادئ المسلمة و المنطق الصحيح،و فصلوا بعيداً عن التعصب بين ما هو صحيح و ما هو غير صحيح.

و جاء في القرآن الكريم بعد أن دعانا إلى التعددية: «فَبَشِّرْ عِبادِ* اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» 2 .و هذا هو فقط منطق حوار الحضارات و الأديان و الشرائع.

ص:306


1- 1) .مجلة كيان،العدد2،ص 11-12.

القراءة الثانية للتعدّدية الدينية

التفسير الثاني للتعددية«البيلوراليزم»،هي التعددية المخلّصة،و فيها أُثيرت مسألة الخلاص و السعادة التي توفرها جميع الشرائع في جميع العصور،فيقولون يكفي في سعادة الإنسان أن يؤمن باللّه،و أن يلتزم في حياته بإحدى تعاليم الشرائع-أو كما يعبرون الأديان-و الظاهر انّ الشهيد مطهري يفهم التعدّدية-كما جاء في بعض خطبه-بهذا الشكل.

يقول بعض المثقفين:إنّ جميع الأديان السماوية واحدة في جميع الأوقاف من حيث اعتبارها،و مفاد ذلك هناك عدد من الأديان الحقّة في كلّ زمان،و يستطيع الإنسان في أيّ زمان أن يدين بأيّ دين يريد.

و يقولون في كلام آخر:يكفي للإنسان أن يعبد اللّه،و أن ينتسب لأحد الأديان السماوية النازلة منه تعالى،و أن يعمل بأوامرها،أمّا شكل هذه الأوامر فلا أهمية لها،و يتبنّى هذه الفكرة كل من جورج جرداق صاحب كتاب الإمام علي عليه السلام،و جبران خليل جبران الكاتب اللبناني المسيحي المعروف،و آخرون.

و هذا الادّعاء الكبير،لا انّه عار فقط من الدليل،بل هناك شواهد كثيرة على ضعفه،نشير لها:

أوّلاً:هل انّ أصحاب الشرائع يعترفون بوجود حدود معينة لشرائعهم،أم يقولون انّها شرائع عالمية و توفّر السعادة للإنسان في جميع العصور؟

إنّ جوابهم سيضع حداً للنزاع.لكن الغريب انّ التعدديين يقررون أشياء لشرائع الأنبياء و ينسبون لهم أُخرى دون الرجوع إليهم!

ثانياً:هناك خمسة محاور يذكرها تاريخ الشرائع،يقع على رأس كلّ واحد منها رسول صاحب شريعة،يرافقه حتى ظهور المحور الثاني عدد كبير من

ص:307

الأنبياء،تنحصر مهمتهم بالتبليغ،و ليس لهم أحكام جديدة.و المحاور الخمسة هم:نوح،إبراهيم،موسى،عيسى،محمد صلى الله عليه و آله و سلم.و كلّ واحد منهم صاحب شريعة.و بدأ نزول الكتب و الشرائع منذ نوح،و ختمت ببعثة نبي الإسلام،و قد تعرض القرآن لهذه القضية بشكل واضح، يقول: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...». 1

فالآية ذكرت محاور تاريخ النبوّات الخمس،و لم تذكر أسماء الأنبياء الآخرين،لأنّهم ليسوا أصحاب شرائع و لا محاور أساسية،و تنحصر وظيفتهم بالتبليغ.

إنّ اختلاف الاستعدادات و القابليات هو السبب وراء تعدّد الشرائع.و لم يبعث اللّه الكامل المطلق في يوم ما شريعة ناقصة،بل كلّ دين هو في غاية الكمال بالنسبة إلى أتباعه،حتى ينتهي الفيض المعنوي بالحلقة الأخيرة،لكي تتمكن الشريعة المرسلة أن تدير المجتمع الإنساني إلى يوم البعث،و أن تجيب على جميع الحاجات المادية و المعنوية،و من هنا اختتم باب النبوة و انقطع الوحي.

في ضوء هذا التفسير،و من خلال المسار التاريخي للنبوات،نستطيع أن نشير إلى أخطاء هذه النظرية.(أي نظرية التعددية بالتفسير الثاني).

1.انّ القول بخلود و استمرار كلّ شريعة يفضي إلى إلغاء فائدة تشريع الشرائع المتعدّدة و إرسال الرسل المحوريين،و سوف لا نجني من ذلك شيئاً سوى التشويش و بث الفرقة.

2.إذا قلنا يكفي في تحقيق السعادة اتّباع أية شريعة،فلما ذا تحدد مسئولية

ص:308

كلّ نبي بمجيء النبي الآخر بل و التبشير به.

3.إذا كانت كل الشرائع خالدة فلا موجب لنسخ الأحكام،و لو بشكل إجمالي،و لما قال المسيح: «وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» . 1

4.إذا كانت شريعة عيسى صالحة و معترفاً بها رسمياً حين نزول الشريعة اللاحقة فلا وجه لدعوة اليهود و النصارى لاتّباع دين محمّد صلى الله عليه و آله و سلم،مع أنّ القرآن يصرّح بكفر أهل الكتاب ما لم يؤمنوا بالدين الجديد: «فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا» . (1)

5.عند ما نراجع نصوص الكتاب المقدّس و القرآن الكريم و أقوال و رسائل النبي صلى الله عليه و آله و سلم نجد انّ هذه النظرية من الهشاشة إلى درجة لا يصدقها إلاّ من يطلق الأحكام جزافاً ثمّ يبحث عن الدليل و يتشبّث من أجل نجاته بكلّ غث فيؤمن بهذه النظرية.

6.تتوقّف حياة الإنسان في الآخرة على عقيدة صحيحة و عمل صالح،و تحقّقهما موجب للثواب.و هنا نسأل:كيف يمكن للتضاد في العقيدة أو العمل بحكمين متضادين أن يضمن الحياة المعنوية للإنسان؟ و كيف يُسعد الإنسان في الدارين بتبني التوحيد على جميع الأصعدة مع الإيمان بالتثليث و بتثليث الرب،أو تجنّب الشراب و الربا مع الإدمان و أكل الربا؟

7.لو أعرضنا عن هذا،فانّ واقعية السعادة التي ستوفرها هذه الأديان ستكون مشروطة بعدم تحريفها،فهل هذا الشرط صادق في الأديان السابقة؟ مع أنّ الإنجيل سجل لتاريخ حياة المسيح و ليس الإنجيل الحالي كتابه أو خطاباته،و قد

ص:309


1- 2) .البقرة:137. [1]

كتبه بعض تلامذته،فكلّ واحد من الأناجيل الأربعة ضبط حياة المسيح بشكل خاص،و ذكر صلبه و دفنه و عروجه إلى السماء.

فهل يمكن للإنجيل الذي خطّته يد البشر أن يسعد جميع الإنسانية على وجه الأرض؟ و التوراة أيضاً حامت حول مستقبل الإنجيل، فالتوراة الحالية قُرئت و كتبت على يد أحد حفّاظ التوراة في زمان نبوخذنصر بعد اختفاء النسخة الأصلية،و هذه النسخة تعرضت بعد مرور سبعين سنة للتحريف،و اشتملت على أحكام و نصوص تخالف العقل،و قد انتقدها القرآن باعتبارها عاجزة عن توفير السعادة و الهداية.

8.و لو أعرضنا عن كلّ ما تقدم نقول:«إنّ الأديان التاريخية الكبيرة هي بمنزلة مجموعة معرفية تتشكل من منظومة عقيدية واحدة»إلاّ أنّنا متى شخصنا الأكمل من بينها فعلينا بحكم العقل اتّباعها،و هذه الحقيقة صرّح بها بعض أنصار البيلوراليزم.يقول«ويليم الستون»:أنا لا اعتقد انّ جميع الأديان التي امتدت على طول التاريخ ستستمر حتى اليوم،و هي متساوية بذلك من منظار معرفي.

و يقول:و من الممكن أن نرجّح ملاحظات الآخرين على قسم من هذه المنظومة على البعض الآخر. (1)

سؤال و جواب

إنّ البعض ينبهر بالواقعية و يحاول أن يجد دليلاً مؤيداً لما يدّعيه،فيطرح قضايا،بمعزل عن أدلّة الآخرين،ليؤثر في الناس البسطاء،و من هذا المنطلق

ص:310


1- 1) .كيان،العدد:50،ص 7.

يتشبث دعاة السعادة الشمولية ببعض الآيات ليتأثر بها الآخرون،منها:

1.يتساوى المؤمنون و اليهود و النصارى أمام اللّه تعالى:

اعتبر القرآن (المؤمن و اليهودي و النصراني و الصابئي) متساوين أمام اللّه تعالى،و جعل نجاة الجميع متوقفة على الإيمان باللّه و العمل الصالح: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» . (1)

إذاً يكفي شيئان في تحقّق السعادة:الإيمان باللّه و العمل الصالح،و كلا الأمرين ثابت في جميع الشرائع.لكن ينبغي الانتباه،انّ الآية المذكورة تهدف إلى شيء لا علاقة له بالتعدّدية،و عند ما نراجع الآيات الواردة في النصارى و اليهود نضع أيدينا على هدف هذه الآية:

أوّلاً:ادّعى اليهود و النصارى انّهم أبناء و أحباء اللّه: «وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ». 2

ثانياً:ادّعوا انّ النار لا تمسّ المجرمين منهم إلاّ أيّاماً قلائل:

«وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً» . (2)

ثالثاً:حصروا الهداية بالنصارى و اليهود،و قالوا يكفي فيها الانتساب إلى إحدى الفرقتين،كما نسبوا إبراهيم عليه السلام إلى إحداهما: «وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا» . (3)

و هنا يؤكد الباري عزّ و جلّ أمام هذه الدعاوي الأنانية،انّ السعادة ليست

ص:311


1- 1) .البقرة:62. [1]
2- 3) .البقرة:80. [2]
3- 4) .البقرة:135. [3]

منحصرة بهما،و ليس اليهود و لا النصارى أبناء اللّه و أحباءه،و الهداية لا تحوم حول اليهودية و النصرانية،و إنّما تتوقف على الإيمان باللّه و العمل الصالح،لا على شروطهم و تمنّياتهم: «تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» . (1)

فهدف الآية ليس الاعتراف ببعض هذه الأديان،بل هدفها تأكيد شرطي السعادة في جميع الشرائع،بالإيمان و العمل الصالح،و ليس الانتساب إلى اليهودية و النصرانية أو أي فصيل آخر،لأنّ الإيمان لا يجدي نفعاً ما لم يكن مصحوباً بالعمل الصالح.

بل انّ اليهود المتكبّرين يعتقدون انّهم الشعب المختار و أحباء اللّه،و عليهم أن يستعبدوا الآخرين.و تصوّر النصارى،في ضوء عقيدتهم - بأنّ المسيح فدى نفسه لتفادي الذنوب،و قضية العشاء الرباني و صكوك الغفران التي يمنحها القساوسة-انّهم مصانون.و النتيجة انّ كلا الفريقين قد جانب التعاليم الإلهية من الناحية العملية،لذا حذّر القرآن من هذا النمط من الفكر الذي يعيق التغيير في الروح الإنسانية،و أكّد انّ ما تقدّم ليس ملاكاً في النجاة و إنّما النجاة مشروطة بالإيمان و العمل الصالح.

فليس للآية الكريمة أدنى ارتباط بالاعتراف بهذه الشرائع على مدى الازمان،بل تريد الآية أن تؤكد أصلاً واحداً معتبراً في جميع الشرائع،و هو انّ الأسماء و الألقاب و الأنساب ليست دواعي للنجاة،بل على الجميع أن يتسلّحوا بالإيمان و العمل الصالح،و الآية ليست بصدد بيان خصائص الشريعة التي يجب أن نتبعها في حياتنا و لا خصوصيات العمل الصالح،و ما هو مصدره من بين الشرائع.

ص:312


1- 1) .البقرة:111- 112. [1]

2.التوراة و الإنجيل هدى و نور:

إنّ أحد أوهام هذا الفريق قوله إنّ القرآن قد اعتبر التوراة و الإنجيل هدى و نوراً،يقول تعالى: «إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ» . (1)

«آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ». 2 فكلا الآيتين تشير إلى أنّ كلا الكتابين لم يتجرّدا،في عصر الرسول،من النور و الهداية،و ما زالا إلى يومنا هذا.و هذا نمط استدلال في مقابل استدلال اليهود و النصارى الذين رفعوا في حياتهم شعار:نؤمن ببعض الكتاب و نكفر ببعض»و قالوا«نؤمن بموسى و نكفر بعيسى و محمد». (2)و هذا الفريق (دعاة التعدّدية) لم يعتنوا بالآيات الواردة في هذا الموضوع و تعلّقوا باشعار ضعيف فيها، سيزول سريعاً لو راجعنا سياق الآيات و أسباب النزول.

هناك مجموعة من الآيات في القرآن الكريم تبدأ من الآية (41) من سورة المائدة و تنتهي في الآية (50)،و كلّها تنتقد سلوك اليهود الذين غيّروا الأحكام الإلهية و أخفوها.فمثلاً بدّلوا حكم الزانية المحصنة،التي حكمت التوراة برجمها،بدّلوه بتسويد الوجه،و كانت الدية عندهم على شكلين،فإذا قتل شخص من (بني النضير) أخذوا دية كاملة،و إذا قتل شخص من (بني قريظة) أخذوا نصف دية،لأنّ القبيلة الأُولى قوية و الثانية ضعيفة،بينما دية الإنسان في التوراة واحدة للجميع.ففي عصر الرسول وقع رجل في زنى امرأة محصنة منهم،فجاءوا إلى الرسول ليحاكمهما في ضوء التوراة،فسألهم الرسول ما حكم التوراة في هذا الموضوع؟ قالوا:«تسويد الوجه»فقال:كذبتم،بل حكمكم الرجم.فقال أتوني بالتوراة،فجاءوا بها فقرأها رجل اسمه (ابن صوريا)،فلما وصل إلى حكم الزنا

ص:313


1- 1) .المائدة:44. [1]
2- 3) .تفسير المنار:8/6.

وضع يده عليه،و بعد الإصرار رفع يده فأقر الجميع انّ حكم الزنا في التوراة هو الرجم،لكنّهم أخفوه،و قد أمر اللّه تعالى نبيّه أن ينفذ حكم اللّه بينهم.

بهذا الشكل يكون القرآن و التوراة و الإنجيل سبباً للهداية.يقول تعالى: «إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا» .فهذه الآية و نظائرها ناظرة إلى الآيات التي لم تحرّف في هذين الكتابين،و قد اعترف بها شريعة الإسلام،و ليس كلّ ما هو موجود في ذلك اليوم أو هذا اليوم.و الملاحظ انّ القرآن يفرّق بين هذين الكتابين باعتبارهما محرّفين،و بين القرآن،فيقول في خصوص التوراة و الإنجيل:«فيها هدى و نور»أو«فيه هدى و نور»و ليس جميعه هدى و نوراً.بينما يعبر عن نفسه «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً» . (1)

و هنا نخلص إلى أنّ التوراة و الإنجيل ينطويان على حقائق نورانية رغم تحريفهما،و قد انتقل قسم منهما إلى الشريعة الإسلامية، و تسمّى بالمشتركات و هي تشكل جزءاً يسيراً من أحكام الكتابين،لكن هذا لا يعني الاعتراف بالشرائع السابقة أو انّها غير محرفة.

و هناك سؤال آخري يقول:إذا كانت الهداية منحصرة بالشريعة الأخيرة فيلزم أن يعاقب و يعذب أغلب الناس يوم القيامة،و سيحرمون من رحمة اللّه،بينما رحمته أوسع من أن يلقي جميع الناس في العذاب.

و الجواب:إذا كانت الرسالة الخاتمة تعترف للشرائع السابقة بالهداية،و تلبس الأديان السابقة لباس الحقّ،فكيف يقول:تؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض؟

لكن القرآن يصرّح بوضوح: «وَ ما أَكْثَرُ النّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» 2 ،

ص:314


1- 1) .النساء:174. [1]

و بيّن جزاء الكافر و المؤمن المعاند،فلم يبق إلاّ أن نجرد الشريعة من الحقّ،أو نسلم لهؤلاء.

و قد أجاب القرآن عن هذا السؤال بوضوح،لأنّ العذاب للكافر المقصر،الذي يعرف الحقيقة لكنه يستسلم للهوى و لا يأتمر بأوامر اللّه.و أمّا الإنسان القاصر،الذي لا يحتمل وجود حق آخر،أو ليس لديه ما يساعده للوصول إليه،فلا شكّ انّه مستثنى من عذاب اللّه.

و قد أشار القرآن و الأحاديث إلى«المستضعفين»،و درس الباحثون المسلمون هذا الموضوع بالتفصيل،فهؤلاء الذين يشكل الكافرون أغلبيتهم مستثنون.و طالما استثناهم القرآن خلال تأكيده دخول الكافرين النار،فيقول: «إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً» 1 ،و في آية أُخرى انّهم مرجون لرحمة اللّه: «وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» . (1)

فالمستضعفون إذاً على أقسام:

1.لا يوجد في الأرض التي بصر بها العالم ما يؤهّله للتعرّف على الدين الصحيح.

2.لا يمكن أن يقوم بوظيفته لعدم وجود فقيه عالم في بلاده يهديه.

3.يعتقد بسبب أجوائه التربوية انّ شريعته محكمة إلى درجة لا يتسرب إليها الشكّ،كما في بعض مناطق شرق آسيا،حيث لا يحتملون انّ الشريعة الحقّة خارجة عن دائرتهم.

ص:315


1- 2) .التوبة:106. [1]

4.و كذلك من المستضعفين من لا تسعفه قواه العقلية على التفكير. (1)

القراءة الثالثة للتعدّدية

القراءة الثالثة للتعددية في المجال المعرفي،و التي سيكون الدين،في ضوئها،واحداً واقعاً.و يعود السبب في تعدّده إلى الفهم المختلف للأنبياء الإلهيّين.

و هذا التفسير هو آخر قراءة للتعدّدية«البيلوراليزم»،و الظاهر انّه المقصود من قبل مؤسسي هذه النظرية،التي ارتكزت إلى مبدأ الفيلسوف الألماني كانت (1724- 1804ه) الذي يقول:«إنّ الشيء في نفسه غير الشيء عندنا»،لذا لا يمكن أن نصل إلى الحقائق التي لم تقع بأيدينا و إنّما نعي ما ندركه وفق قوالب ذهنية سابقة،لهذا لا يمكن للإنسان أن يصيب الحقيقة.

و هذا الحكم يسري إلى الأنبياء،لأنّهم سيتأثرون خلال بيانهم لما يتلقونه من شهود الوجود المطلق،سيتأثر بعوامل أربعة،و بالتالي سيكون فهم أحدهما يغاير فهم الآخر.من هنا تتعدد الأديان،و لا يمكن إلباس أحدهم لباس الحقّ أو الباطل،لأنّ كلّ واحد يطرح ما يفهمه وفق تجربته الدينية.

يقول«جون هيك»هنا:لقد استطاع كانت (و إن لم يقصد ذلك) أن يطور الفلسفة،لأنّها اتّسعت و تكاملت في ضوء هذه الفرضية،و هو يفرّق بين العالم الموجود في نفسه (و يسمّيه العالم المعقول) و بين العالم الذي يتجلّى لوعي و شعور الإنسان (و يسمّيه العالم الظاهر). (2)

و قبل أن نبدأ بنقد هذه النظرية سنتناول أوّلاً الأساس الذي ترتكز إليه هذه

ص:316


1- 1) .للمزيد راجع:بحار الأنوار:69،الباب 162 من أبواب المستضعفين.
2- 2) .جون هيك:فلسفة الدين:245.

القراءة ثمّ نعود لأصل القراءة.

إنّ نظرية«كانت»التي تعدّ إحدى مفاخر هذا الفيلسوف الألماني لا تعدو كونها جزءاً من التشكيك.و رغم انّ«كانت»شخص واقعي إلاّ انّه وضع مبدأ لا ينتج إلاّ الشكّ،لأنّه يقول:«الشيء في الخارج غير الشيء في إدراكنا».فإذا كان هذا المبدأ صحيحاً فكيف ندعي انّ الحقائق في العالم الخارجي موجودة،ثمّ نقول إنّ معرفتنا بها نسبية؟ و إذا كنّا نعي جميع إدراكاتنا بواسطة قوالب ذهنية،مسبقة فكيف نقول:ما هو عندنا-و لو بشكل نسبي-هو نفسه الذي في الخارج؟

لقد أحيا«كانت»بنظريته شك«بيرهون»،فعلى الرغم من أنّه لم ينفِ الوجود الخارجي إلاّ أنّه يقول من الممكن أن تكون الأشياء في الخارج شيئاً و ما ندركه شيئاً آخر.و بيرهون كان متردداً في طرحه،بينما طرح«كانت»نظريته بشكل نهائي و جزمي.

لا شكّ انّ فلسفة«كانت»عجزت عن إثبات الشيء في نفسه،فانسحبت إلى المثالية،و قد أشكل عليه من جاء بعده من المثاليين، ك«نيتشه»و«هيجل»،و قالوا:إنّ فلسفة«كانت»فلسفة مثالية و ليست واقعية.و«كانت»كان يعتقد بالشيء في نفسه،و يحكم بوجوده،لكنّه يقول:

إنّه غير قابل للمعرفة،و هذه قضية متناقضة لأنّ الحكم بوجود الشيء في نفسه نوع من معرفة الشيء في نفسه.

كانت و كوبرنيك

يشبّه«كانت»،منهجه بمنهج«كوبرنيك»،و يقول:إنّ كلانا استطاع بقلب الفرضيات السابقة أن ينجح في إزالة مشاكل كثيرة.لكن ينبغي أن يعلم أنّ«كوبرنيك»استطاع بنظريته الجديدة أن يقصي ما سببه علماء الفلك السابقين من

ص:317

إشكالات،بينما واجه«كانت»بنظريته سيلاً من الإشكالات،التي كان ينزعج منها لكنّه وجّهها بشكل منطقي.

من المؤسف انّ فلسفة الغرب اليوم،التي تشكل البحوث المعرفية أغلب موضوعاتها-و قد انتقلت إلى الشرق كهدية فكرية-لا تفضي إلاّ إلى الشكّ و التزوير.و لو أُتيح للغربيين أن يطّلعوا على بحوث الفلاسفة المسلمين في موضوع الوجود الذهني،لحصلت ثورة كوبرنيكية أُخرى في فلسفتهم. (1)

و أمّا حول نقد نظرية«كانت»فنقول:هناك نوع من المعارف الإنسانية،لم تؤخذ من الخارج،و لو فرض انّها أخذت من الخارج،فلم تتأثر بأيّ قالب فكري سابق،مثل:

1.امتناع اجتماع النقيضين.

2.امتناع اجتماع الضدّين.

3.بطلان الدور و التسلسل.

4.احتياج كلّ ممكن إلى علّة.

فهذا النوع من المعارف في الحكمة النظرية لم يُصَغْ وفق قوالب ذهنية،لذا هي قضايا مطلقة و صادقة في كلّ زمان.

و هنا نسأل«كانت»:قيل هناك اختلاف بين (نومن) و (فنومن)،و لا يمكن للأشياء الخارجية أن ترد إحساسنا دون أن تتغير،فهل القانون يشمل هذه النظرية أم لا؟ لأنّه يؤكد في نظريته الواقع الخارجي،الذي لا شكّ انّه يرد الحسّ عن طريق الجهاز الفكري،فيكون حينئذٍ محكوماً لقانون (نومن) و (فنومن)،و في هذه الصورة سوف لا يكون هذا الفكر واقعياً،فإذا كان نسبياً،فلا يمكن أن نقول إنّ

ص:318


1- 1) .المعرفة في الفلسفة الإسلامية:105- 111.

باقي إدراكات الإنسان نسبية،إذ لو كان هذا الفكر مطلقاً لاستطعنا أن نحكم بنسبية الكل،لكنّه ليس فكراً مطلقاً بل نسبيّ فحينئذٍ لا يتضرّر إطلاق النظريات الأُخرى. (1)

أمّا بالنسبة إلى القراءة الثالثة لهذه النظرية،فخلاصتها انّ هناك حقيقة اسمها الإشراق و الاتصال بالوجود المطلق،و شهود و إدراك اللّه بدون واسطة.و يعبرون عن هذه العملية بالتجربة الدينية،غير انّ التعدّدية الدينية لها علاقة بفهم الأنبياء،و هناك أربعة عوامل لوجود الاختلاف في الفهم بينهم.

و بعبارة أُخرى:«انّ اتصال الأنبياء بهذا الموجود المجهول،أو الشعور بالارتكاز مطلقاً إلى موجود متعال حقيقة واحدة و لا تستبطن الكثرة،لكن يحصل الاختلاف عند ما يراد التعبير عن هذه الحقيقة و صبها في قالب لغوي».يقول جون هيك (و هو أكثر المهتمين بهذا الموضوع):

1.التعدّدية الدينية،من زاوية معرفية،هي هذه الحقيقة،و هي انّ تاريخ الأديان هو استعراض لتعدّد المذاهب و كثرة ما بها من تشعّبات، و هذا الإصلاح ناظر،من زاوية فلسفية،إلى نظرية خاصة في العلاقة بين المذاهب و ما تدّعيه و نقائضها.و هو يعادل النظرية التي تدّعي انّ مقوّم الأديان العالمية الكبيرة هو الفهم المختلف للحقيقة الغائية،الإلهية المجهولة. (2)

2.الأديان المختلفة تيارات متباينة للتجربة الدينية،و قد بدأ كلّ واحد منها في مرحلة معينة من التاريخ البشرى،و الوعي العقلي لها يتفتح داخل فضائها الثقافي. (3)

ص:319


1- 1) .نقدنا هذه النظرية بشكل واضح في كتاب المعرفة،فيمكن مراجعته.
2- 2) .تعدد الأديان عند جون هيك:301.
3- 3) .فلسفة الدين:338.

3.و هذا يعني انّنا واقعاً لا نستطيع أن نتحدث عن صحّة أو خطأ أحد الأديان،فكيف نتحدث عن صحّة و خطأ إحدى الحضارات،لأنّ الأديان،كتيارات دينية ثقافية متمايزة في تاريخ البشرية،تعكس تنوع البشرية و طبائع الأفكار،و هذا الاختلاف الذي يتجلّى بين الذهنية الشرقية و الغربية في الصور العقلية و اللغوية و الاجتماعية و السياسية و الفنية المختلفة،يحتمل أن يكون نابعاً من الاختلاف بين الدين الشرقي و الغربي. (1)

4.هناك تفاوت بين المذاهب الدينية الكبرى،و لا سيما بين التيارات العرفانية،حول فهم الحقيقة المحضة أو الغاية المطلقة أو هيكل الربوبية،تلك الحقيقة التي جرّبها أفراد البشر.

و الاحتمال القوي انّ الحقيقة الغائية لا متناهية و من هنا فهي أسمى من إدراك و تفكير و لغة البشر.

و لو فرضنا انّ الحقيقة المطلقة واحدة،إلاّ أنّ إدراكنا و تصوّرنا لهذه الحقيقة متعدّد و مختلف،فهذا يقوّي الفرضية التي تقول إنّ التيارات المختلفة للتجربة الدينية تؤكد انّ الاختلاف في إدراكنا للحقيقة المتعالية اللامحدودة هو انعكاس لما يدركه الإنسان منها في ضوء التاريخ الثقافي المختلف،الذي يتأثر به و يؤثر فيه. (2)

نقد و تحليل للقراءة الثالثة

1.إذا لم يتمكّن أحد من الوصول إلى الحقيقة،و كلّ شخص ينظر إليها بمنظار خاص،فيجب أن نقول:إنّ جميع الشرائع أو الأديان ستكون (طرقاً) غير

ص:320


1- 1) .المصدر نفسه:234.
2- 2) .المصدر نفسه:243- 245.

مستقيمة و معارف غير ثابتة و تفاسير قلقة من شهود الحقيقة المطلقة،و لم يعثر الإنسان على الحقيقة منذ ولادته،و هو يتخبط دائماً في بحر الجهل،و سيبقى في ضلاله إلى يوم يبعثون.

و إذا كانت جميع الشرائع أو الأديان في صف واحد،و جميع الرسالات مختلفة بسبب العوامل،فينبغي أن نقول:لا فرق حينئذٍ بين اليهودية و المسيحية و الإسلام و الأديان الأُخرى مثل البوذية و الهندوسية،بل حتى المذاهب الإلحادية مثل المادية و الواقعية الحديثة،لأنّ الجميع يشتركون في رسم صورة خطأ للوجود،و عليه سيكون الإنسان مخيراً في اختيار تثليث المسيحية و توحيد الإسلام و ألوهية براهما و بوذا.و هذا التفسير يعكس وجود أزمة فكرية لدى صاحب هذه النظرية.

2.لو فرضنا صحّة هذه النظرية،فانّ التعدّدية ستختص في التعاليم العقيدية كالتوحيد و التثليث،و الجبر و الاختيار،و التنزيه و التجسيم، و لا تشمل الأحكام العملية و الأخلاقية،لأنّ من الممكن أن يستوحي الإشراق و الارتباط بالوجود المطلق،إيحاءات مختلفة من العلاقة بهذا الوجود المطلق.أي من الممكن أن يكون إدراك كلّ واحد من هؤلاء المرسلين (كما يعبر هيك) لذات و صفات و أفعال الحقيقة المتعالية اللامحدودة يختلف بشكل كامل،لكنّهم لم يختلفوا في فهم الأحكام العملية المتعلّقة بشئون المجتمع و إصلاح أخلاق الإنسان.

و بتعبير آخر انّ النصوص العقائدية تشتمل على جنبة خبرية،و تقول:اللّه واحد،أو اللّه ثلاثة،و هكذا القضايا الأُخرى في العقيدة،إلاّ أنّ النصوص في التعاليم العملية و الأخلاقية إنشائية،و بلا فاصلة يقول الأنبياء:افعل أو لا تفعل.مثلاً:صلّ،صم،اعط الزكاة،لا تظلم،لا تراء،لا تغتب.فكيف يمكن لهذه النصوص المختلفة أن ترتبط بالتجربة الدينية،و يكون ارتباط الأنبياء بالوجود المطلق؟ و هل يمكن للّغة أو الثقافة أن تؤثرا في هذه التعاليم؟ و إذ كنا لا نفهم

ص:321

شيئاً من هذه النصوص (حتى يصبح انّ الشيء في نفسه غير الشيء عندنا) فكيف يطالب المجتمع بأشياء؟

3.لو افترضنا انّ القضايا العقائدية انعكاس لما يفهمه الأنبياء من التجربة الدينية،فكيف يكون للإشراق و العلاقة بالوجود المطلق نتائج متناقضة،أحد الأنبياء يدعو إلى التوحيد و الآخر إلى التثليث؟

إنّ أحد دعاة التعدّدية ينسب التضاد إلى اللّه و يقول:«إنّ أوّل من بذر بذور التعدّدية في العالم هو اللّه،و اللّه هو الذي أرسل أنبياء مختلفين، فتجلى لكلّ واحد بشكل،و أرسل كلّ واحد إلى مجتمع،و جعل على كلّ لسان و ذهن تفسيراً خاصاً،و بهذا الشكل أجّج بودقة التعدّدية». (1)

و لازم هذا الكلام انّ اللّه أوحى إلى أحدهم التوحيد و أوحى إلى الآخر الشرك،بينما نجد جميع الأنبياء قد عبّئوا أنفسهم لدعوة التوحيد، فهل يمكن أن ننسب هذا الكلام إلى فاعل هادف؟

إنّ إحدى مشكلات البيلوراليزم هي وجود التناقض في دعوات الأنبياء (لانّهم يعتقدون أنّ المسيح دعا إلى التثليث)،و طالماً أخفقوا في حل هذه الأزمة.

يقول«ويليم الستون»في حوار أجرته معه مجلة كيان الإيرانية رداً على سؤال أثاره مراسل المجلة عن وجود التناقض بين الدعوة إلى التوحيد في الإسلام،و دعوة التثليث في المسيحية،يقول:إذا كان هناك نصان متناقضان فيما بينهما فلا يمكن أن يكون كلاهما صادقاً بشكل كامل،و هذا الحد الأدنى الذي نفهمه من مفهوم الصدق،أمّا المثال الذي ذكرته فانّه مهم،إذ طالعت أخيراً كتاباً يتكون من خمسة أجزاء لأحد الباحثين البريطانيين،و هو كتاب ذو أجزاء كبيرة،فالجزء الثاني من

ص:322


1- 1) .د.عبد الكريم سروش:صراطهاى مستقيم:18،طهران،مؤسسة فرهنگ صراط.

الكتاب جاء تحت عنوان (المسيح المقدّس و الفتح الإلهي)،حيث استدلّ المؤلف بقوة،و هو باحث انجليزي،انّ المسيح قد عرّف نفسه لمعاصريه باعتباره رسول اللّه و من سلسلة أنبياء بني إسرائيل.و قد عرض رسالة بديعة و مختلفة بالقياس إلى أسلافه،و لما قدّم نفسه رسولاً من قبل اللّه تعامل معه مخاطبوه في ذلك الزمان على هذا الأساس.و هذا الكلام كان قبل الصلب و ما تعلّق به من قضايا.

بناء على هذا ليس خطأ أن نعبر ب(المسيح النبي).و أنا لا أقول إنّ هذه النظرية مقبولة من قبل جميع المسيحيّين،لكن لو قلنا ذلك من زاوية تاريخية فلا يعد بدعة،و ليس خطأ أن نقول عنه رسول اللّه.فالنظرة التاريخية،طبقاً لعقائد المسيحيّين في الوقت الحاضر،لا تحكي تمام الحقيقة حول المسيح.و إذا ادّعى أحد انّ الرسالة قد انتهت فانّه سيعارض بذلك تعاليم المسيحية. (1)

و الهدف من نقل هذا الكلام هو التأكيد انّ دعاة التعدّدية قلقون أيضاً من قضية التضاد و التناقض.

و أمّا قولهم:«إنّ الرؤية التاريخية لا تعكس تمام الحقيقة حول المسيح...»فهي محاولة فاشلة لإثبات انّ المسيح،بنظر الإنسان و من زاوية أُخرى،هو نفس اللّه.بينما المسيح لا يعدو كونه حقيقة تاريخية،و لا يمكن للشيء الموجود في ظرف الزمان و المكان أن ينسلخ عن حقيقته و ينتقل إلى مقام الألوهية.

4.تقول البيلوراليزم:«الحقيقة الدينية واحدة في مقام الشهود و الشعور بالارتكاز المطلق إلى الموجود المتعال،لكنّها تتأثر بالثقافة السائدة أثناء التعبير عنها»بينما نحن نلاحظ خلاف ذلك بالنسبة لاثنين من الأنبياء:

أ.رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم:إذ بعث الرسول في قوم كان دينهم وثنية و شركاً،لكنّه

ص:323


1- 1) .مجلة كيان،العدد:50،ص 7.

دعاهم إلى التوحيد على خلاف الثقافة السائدة في المجتمع.

ب.المسيح عليه السلام:الذي عاش وسط بني إسرائيل الموحدين،لكنّه (حسب عقيدة البيلوراليزم) دعاهم إلى تثليث اللّه.فكلا النبيين، أحدهم بنظر الجميع و الآخر بنظر هؤلاء،دعا قومه إلى خلاف الثقافة السائدة.

5.إذا اعتبرنا فهم كلا النبيّين في مقام الإشراق واحداً،لكن العوامل الأربعة:(الثقافة،اللغة،التاريخ،الوضع الجسمي) هي التي تسبب الاختلاف حينما تؤثر خلال التعبير عن الموجود،إذا اعتبرنا ذلك فيجب أن تكون مذاهب الأنبياء السابقين في خصوص العقائد مختلفة،بينما نجد جميع الأنبياء،ما عدا المسيح (كما يدّعي بعض أتباعه) قد حاربوا عبادة الأصنام،و كان هدفهم التوحيد،و لم يكن للعوامل الأربعة أي مدخلية في دعواهم.

6.لازم هذا الكلام أن لا يوجد أي أصل قطعي و جزمي في أي دين،و هذا ناتج عن العوامل الأربعة،بينما ينطوي الدين الإسلامي على سلسلة من القضايا الجزمية التي لا يمكن أن تكون قلقة أو متأثرة بالعوامل الأربعة،و هي:

وجود اللّه،صفاته الجمالية و الجلالية،إرسال الأنبياء،الدعوة إلى التوحيد،الدعوة إلى حياة أُخرى بعد الموت،محاربة الظلم،الدعوة إلى مكارم الأخلاق و النهي عن المنكرات،الواجبات الفردية و الاجتماعية،النواهي الفردية و الاجتماعية،خاتمية الشريعة الإسلامية،و عشرات التعاليم الأُخرى.

فهل صحيح أن نقول:إنّ هذه الأحكام و التعاليم هي انعكاسات لتنوّع الإنسان و الطبائع و الصور الفكرية المختلفة؟ أو نقول:وعي مختلف للحقيقة اللامحدودة و المتعالية،فتدركها أذهان البشر بأشكال متفاوتة،و تتأثر بالتواريخ المختلفة و الثقافات المختلفة ثمّ تردنا على هيئة نصوص؟

ص:324

إنّ جون هيك اعتبر الأديان واحدة لبعده عن تعاليم الإسلام و قطعياته و متواتراته،فكلامه يمكن أن يصدق على الكنيسة أو أحد الأديان الشائعة في الشرق،مثل البراهماتية و البوذية و الهندوسية،لكنّه لا يمكن أن يصدق على الإسلام الذي هو مجموعة تعاليم مقسّمة إلى قطعيات و ظنيات،و التاريخ لا يؤثر على القطعيات أبداً.

7.من الغريب انّ هذا الباحث المسيحي،الذي ابتعد عن المسيحية أيضاً،قد جلس في غرفة مغلقة و أخذ يتحدّث عن الأديان السماوية دون أن يعرض نظريته على كلامهم،أو يقرأها لهم ليتأكد من موافقتهم على آرائه.

انّ الأنبياء ينسبون تعاليمهم في جميع المجالات إلى الوحي،و ليس للعوامل،بما فيها إرادة النبي،أي تأثير.فعند ما ذهب رسول الإسلام إلى دكان أحد الحدادين الروم و جلس هناك قليلاً،اتّهمه مشركو قريش بأخذ الوحي منه،فنزل الوحي و دفع الشبهة و قال: «وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» . (1)

فكيف يمكن مع هذه الأدلة الجازمة أن نحكم على كتب الأنبياء و نقول إنّها مخلوقة للعوامل السائدة في حياتهم؟

دراسة تمثيلين

استعان دعاة البيلوراليزم بتمثيلين هما:

1.التمثيل الذي ورد في ال«مثنوي»و نقله«جون هيك»بتصرف يقول:جيء بفيل إلى مجموعة من المكفوفين لم يرو الفيل قط فأحدهم لمس رجل الفيل

ص:325


1- 1) .النحل:103. [1]

و قال:الفيل عمود كبير وحي.

و الآخر لمس خرطوم الحيوان،فقال:الفيل أفعى عظيمة الجسم.و الثالث لمس عاج الفيل،فقال:الفيل يشبه شفرة المحراث،و إلى آخره.و بالطبع انّ جميع هؤلاء على حقّ،لكن كلّ واحد أشار إلى جزء الحقيقة،و أراد أن يعبّر عنها بتشبيه ناقص. (1)لكن الواقع ليس مع أحد منهم.

و هنا قد افترض«جون هيك»هؤلاء الأفراد مكفوفين و افترض الغرفة مضيئة،لكن ال«مثنوي»افترضهم مبصرين و افترض الغرفة مظلمة. (2)

و يضيف«هيك»،بعد نقله القصة،نحن لا نستطيع أن نقول أي الآراء صحيحة،لعدم وجود رأي نهائي يمكننا أن نستنتجه من الرجال المكفوفين و الفيل.و الحقيقة انّنا جميعاً مكفوفون و واقعون تحت سلطة مجموعة مفاهيم شخصية و ثقافية. (3)

إذاً فواقع جميع الأنبياء و أتباعهم هو واقع لمس هؤلاء الرجال للفيل،فكلّ زاوية من زواياه لا تمثل الواقع.

نقول يمكننا،إذا كنا أشخاصاً واقعيين أن نخلص إلى نتيجة أُخرى من هذا التمثيل و هي:انّ كلّ شيء يدرك بأداة حسٍ خاصة به،فلا يمكننا مثلاً أن نميز الرائحة الطيبة عن الكريهة أو نميز الشيء الجميل عن الشيء القبيح بالحس،لأنّ الحاسة الحقيقية لهما هي حاسة الشم و البصر،و إلاّ سوف لا نضع أيدينا على الحقيقة إلى يوم يبعثون.

ص:326


1- 1) .عقل و اعتقاد:407.
2- 2) .مثنوي:3:32.
3- 3) .مجلة كيان،مصدر سابق،العدد:28،ص 28.

فإدراك الفيل لا يتحقّق إلاّ باستخدام البصر و في فضاء منير،بينما هؤلاء كانوا إمّا يفتقرون لحاسة البصر أو عدم تحقّق شرط الانارة،لأنّهم إمّا مكفوفون أو كان الفضاء مظلماً.

كما أنّ هناك حاسة خاصة لإدراك المعارف الإلهية و صفات اللّه الجلالية و الجمالية،و بشكل عام إدراك القضايا الماورائية و هي العقل و البرهان،و لا يمكن الابتعاد عن العقل و الاعتماد على الحس في إدراكها.فالنتيجة التي خلصنا لها من هذا المثال هي النتيجة نفسها التي أكدها الشاعر مولوي،إذ قال:إنّ جهل هؤلاء بحقيقة الفيل يعود إلى فقدان شرط الإدراك الحسي و هو الشمعة و النور،و إلاّ فمع تحقّق الشرط المذكور سنكشف الواقع لهم،و باستخدام العقل و المنطق سيتمكن المتدينون أيضاً من تمييز الحقّ عن الباطل و الصحيح من الفاسد.

يقول العلاّمة محمد تقي جعفري في بيان مراد جلال الدين:الرؤيا هي الحاسة الطبيعية للحكم على الأشياء المتجسمة التي لا تعرف حقيقتها إلاّ باللمس،و لا تستطيع العين أن تثبت وجود حقيقة شيء آخر.فالعين التي تبصر البحر تختلف عن العين التي تبصر رغوة الماء.فأنت الذي خطوت خطوة للتعرف على الحقيقة اترك الثانية و استخدم الأُولى،فما تراه من رغو على سطح بحر الحقيقة يستمد حركته من البحر. (1)

إذاً فما يقولونه:«لا نعلم أي الرؤى صحيحة،لعدم وجود رؤية نهائية،يستطيع من خلالها الرجل المكفوف أن يتعرف على الفيل» صحيح،لأنّهم استخدموا القوة اللامسة،و هي أداة للأشياء الناعمة و الملموسة و ليست للتعرف على الحقيقة.

ص:327


1- 1) .تفسير و نقد و تحليل مولوي:141/2.

فهؤلاء يريدون أيضاً أن يدركوا ما وراء الطبيعة بالحس و التجربة،مع أنّ الأداة الخاصة لمعرفة اللّه و صفاته الجمالية و الجلالية هي العقل و البرهان و الدليل،و بها فقط نستطيع أن نرفع الغطاء عن وجه الحقيقة.فتشبيه الإنسان المجهز بالمنطق و الدليل،بالإنسان الذي يفتقر إلى الأدوات العلمية،قياس مع الفارق.

و هناك من يطرح تشبيهاً آخر مستفاداً أيضاً من بيت شعر لمولوي،يقول: من المنظار يا عقل الوجود اختلاف المؤمن و المجوس و اليهود (1)

يقول مولوي-كما قيل-إنّ الاختلاف بين الثلاثة:(المؤمن،المجوسي،و اليهودي) ليس اختلافاً بين الحقّ و الباطل،و إنّما الاختلاف في الرؤية،و هي ليست رؤية اتباع الأديان و إنّما رؤية أنبيائهم إلى الحقيقة،فثلاثة أنبياء نظروا إليها من ثلاث زوايا،أو انّها تجلّت للأنبياء الثلاثة من ثلاث زوايا،لهذا عرضوا ثلاثة أديان،فاختلاف الأديان-إذاً-ليس نابعاً فقط من اختلاف الظروف الاجتماعية أو تحريف الدين أو مجيء دين آخر يحل محله،و إنّما اختلاف منظار اللّه تعالى للعالم،فكما جعل الطبيعة متنوعة فكذلك جعل الشريعة متنوعة». (2)

انّ تشبيه عمل الأنبياء بشيء ينظر إليه من ثلاثة زوايا،سيكون صحيحاً عند ما تشكل كلّ نظرة جزءاً من الحقيقة،بحيث لو جمعنا جميع تلك النظرات في نقطة دائرية لتوفرنا على معرفة كاملة بالشيء،فمثلاً عند ما ينظر إنسان إلى آخر من منظار فكري و يعرّفه بأنّه إنسان مفكّر، يقول إنّما حكمت عليه من منظار فكري.و إذا كان من علماء الأخلاق و نظر إليه من منظار غريزي و يعرّفه بأنّه إنسان

ص:328


1- 1) .مثنوي،الدفتر الثالث،البيت:1258.
2- 2) .صراطهاى مستقيم:14.

غريزي و مرهف الحس،سيقول إنّما حكمت عليه من منظار غريزي.فعند ما تجتمع هذه الصفات في دائرة واحدة ستكمّل إحداهما الأُخرى.

بينما هذا الشرط غير موجود في نظرة الأنبياء،كما ذكر شارح البيت الشعري،فواحد يقول انّ اللّه واحد أحد،و الآخر يقول واحد بسيط، و ثالث يقول متعدّد و مركب.فلا شكّ انّ أحد هذه الآراء باطل و غير قابل للجمع.و هذا الكلام جار في التعاليم العملية،فواحد يقول هذا العمل حرام في شريعته،و الآخر يقول حلال،فلا يمكن أن نوعز هذا الاختلاف إلى تباين الرؤية،لأنّ اختلاف الرؤى يكمل أحدهما الآخر،لا أن تتباين.

ثمّ إنّ هذا التفسير لشعر مولوي لا ينسجم مع الأبيات السابقة و اللاحقة للبيت.ففي الأبيات الأُولى يقول مولوي إنّ هناك من ينظر إلى زجاجة المصباح و الآخر ينظر إلى النور نفسه،فمن ينظر إلى الزجاجة يتصوّر انّ النور ينبعث منها،فيكون ضالاً،أمّا من ينظر إلى النور نفسه فسيسلك طريق الحقيقة و يدرك عين النور.فالاختلاف في الرؤية يعني عدم الاستفادة من الأداة الصحيحة،كالعقل الذي يهدي إلى الحقيقة،و لا يعني تصويب كلّ الرؤى التي بمجموعها يكمل بعضها الآخر.

يقول العلاّمة محمد تقي جعفري في شرح هذا البيت:ما نشاهده من خزف و فتائل مختلفة موجب للتعدّد و الكثرة،و لكن النور الموجود في الخزف و الفتائل كإشعاعات لأبدان الإنسان هو من ما وراء الطبيعة،و هو حقيقة،فلا تنظر إلى الزجاجات الحجرية الملونة التي هي منشأ التعدد و التنوّع،لأنّك سوف تضل. (1)

ص:329


1- 1) .تفسير و نقد و تحليل مولوي:118/2.

من هنا انّا ندعو إلى التأنّي في ولوج هذا اللغز المحيّر،لأنّ التفسير الثالث للبيلوراليزم يقضي إلى إنكار الوحي الذي يشكل مثلث الشرائع السماوية:العقائد،الأحكام،و الأخلاق،فهم يقولون:إنّ رسالات الأنبياء هي نتاج جهازهم الإدراكي،و هم يتأثّرون بالعوامل التاريخية و اللغوية و الاجتماعية و الجسمانية،و لا علاقة لهم بمقام الربوبية.و إذا أنكرنا الوحي سينتفي الدين و الشريعة.

المباني الفلسفية للبيلوراليزم

هناك عدة قضايا تشكل أساس هذه النظرية،التي جرى الحديث عنها في موضوع فلسفة الدين،و التي يشكّل الكلام المسيحي أُسس بعضها و هي:

1.«انّ الجهاز المعرفي لا يستطيع إيصال الحقيقة إلى أيّ شخص كما هي بحيث تكون مطابقة للواقع،و حتى الأنبياء لا يستطيعون الوصول إلى الحقيقة المطلقة،لأنّهم مشمولون بهذا القانون،فإذا سلّمنا بذلك ستتهيّأ الأرضية اللازمة للبيلوراليزم،و سوف لا يبقى فرق بين الكليم و المسيح و محمد صلى الله عليه و آله و سلم في أي عصر من العصور،لأنّ ما يمنع تحقّق البيلوراليزم هو الاعتقاد بأنّ المعرفة مطلقة». (1)

2.اللغة الدينية لغة رمزية،و النصوص الدينية لا تنظر إلى الواقع و لا تعكس الخارج،و لا يمكننا أبداً أن نتعامل معها و كأنّها إخبارات،لذا ليس هناك فرق بين الأديان،و الاعتراف بهذا الأمر سيهيّئ المقدّمات اللازمة لقبول البيلوراليزم بشكل تلقائي.

إنّ قضية اللغة الدينية من القضايا الحساسة جدّاً،و إذا لم تفسر بشكل

ص:330


1- 1) .مؤسس هذه النظرية هو الفيلسوف الآلماني«كانت».

صحيح سوف لا تكون المعرفة الدينية جزمية،و ستفقد المقولات الدينية معانيها،و تغمرها الحالة الشاعرية.و كان لنا حديث سابقاً عن هذا الموضوع.

3.«الوحي تجربة دينية،و تستخلص حقيقتها من شهود و إدراك اللّه مباشرة و تجلّيه لأنبيائه،و ليس ضرورياً أن يصاحب ذلك تلقي رسالة أو أوامر.و تعاليم الأنبياء،أعمّ من التعاليم الخبرية كالعقائد،أو الإنشائية كالأحكام،هي انعكاس لما يفهمونه منها،و حتى لو فرضنا انّ محتوى الرسالات نازل من اللّه لكن ألفاظها ليست منه،و عليه الأنبياء ما يتلقّونه في قوالب لفظية طبقاً لذهنياتهم،و حينئذٍ سيكون من السهل أن يتأثروا في مقام التعبير بظروفهم الخاصة،و سوف لا يكون هناك ما يضمن صحّة فهمهم،إذاً فهؤلاء بشر،و يتأثرون كغيرهم بالظروف السائدة.

إنّ اقتصار الوحي على شهود و إدراك اللّه من غير واسطة إنكار للوحي الذي هو أساس الشرائع السماوية،و كلّما اقتصر الوحي في الشهود فيكون حقيقة قائمة في شخص الرسول،فلا يمكنه أن يكون أُسوة و قدوة،و إنّما نصل إلى الفوز و السعادة من خلال النصوص التي تتجلى للأنبياء على هيئة تعاليم دينية.و كلّما اشتملت هذه التعاليم على أبعاد بشرية،بما فيها نتاج الرسول،فستأخذ صيغة بشرية و ستنخفض قيمتها،و لا يبقى ما يوجب الالتزام بها.و هذا النمط من التفسير للوحي مخالف للكتاب،يقول تعالى: «وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» 1 .و هذه الآية تأكّد بوضوح انّ القرآن-المحتوى و اللفظ-وحي إلهي و ليس نتاجاً لذهنية الرسول.

ص:331

و يقول في سورة الإسراء بعد بيان مجموعة من المعارف و الأحكام ابتداء من الآية 21 إلى آخر الآيات: «ذلِكَ مِمّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ» . (1)و عند ما ذهب موسى عليه السلام إلى طور ليتلقى رسالة ربّه أقام هناك أربعين يوماً تمكن بعدها من الحصول على الرسائل التي كتبت على الألواح،يقول: «وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً» . (2)و هذه الآية تنسب بوضوح تلك الرسائل إلى اللّه و ليس إلى ذهنية موسى عليه السلام.

و يقول في آية أُخرى:إنّ جميع رسالات الأنبياء صحيحة،و إذا نسب الرسول شيئاً إلى اللّه كذباً فسنؤاخذه: «وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» . (3)

عند ما ندقّق في الكتب السماوية و القرآن الكريم سيتضح انّ للوحي معنى واسعاً،و هو ما يتلقّاه الأنبياء من رسائل مسموعة أو مكتوبة في ظروف خاصة،فتصرّف أذهان الأنبياء إذاً يتنافى مع عصمتهم،بل ربما يستأصل جذر العصمة عندهم.و العصمة في تلقي الوحي و حفظه و تبليغه من الأُمور المتّفق عليها بين المسلمين،و قد أكّدها القرآن الكريم: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً». 4

و الآية تؤكد انّ اللّه قد سخّر ملائكته لصيانة الوحي من كلّ تغيير،ابتداء من مرحلة التلقي إلى مرحلة الإبلاغ،و ذلك من أجل الحيلولة دون أي تصرّف في

ص:332


1- 1) .الإسراء:39. [1]
2- 2) .الأعراف:145. [2]
3- 3) .الحاقة:44-46. [3]

الوحي.

4.من مباني البيلوراليزم فصل الدين عن الشريعة،فالدين بنظر البيلوراليزم أمر إيحائي،بينما الشريعة (تعاليم الأنبياء) في مثلث العقيدة،الأخلاق،و الأحكام العملية فهي نتاج ذهن الأنبياء،و حينما تطبق البيلوراليزم سيكون المحور هو الإيمان و ليس الشريعة،و إذا كان الإيمان أساس العمل فسيصان من كلّ اختلاف،أمّا إذا كان الأساس هو الشريعة،فلا شكّ سنواجه تعاليم متضادة ستكون نواة للتشدّد و الصراع و التنافس.

الإيمان يعني ارتباط النظام العالمي،مهما كانت قيمته عالية بعالم آخر هذا من جهة،و من جهة أُخرى فإنّ الإنسان لا يلتزم بتعاليم الأنبياء ما لم تؤثر به.و الكمال المعنوي يتحقّق عن طريق العقيدة و العمل،فمن يقول:«محورية الإيمان نواة للوحدة و التوحد،و محورية الشريعة سبب للتفرقة و الانقسام»كمن يعيّن المدّعى مسبقاً في كلامه،ثمّ يسعى لإثباته.فتجريد الدين من الشريعة إنهاء للدين و إنهاء للحياة الدينية،و ما لم يترافق الإيمان باللّه و العمل الصالح فلا يؤثر الإيمان شيئاً في تحقيق سعادة الإنسان.

إلى هنا استعرضنا المباني الفلسفية للبيلوراليزم،لكن بعض دعاة هذه الفكرة في بلادنا يحاولون التشبّث ببعض الأفكار القرآنية لدعم التعدّدية الدينية،فلا بدّ أن نشير إلى بعضها:

أ.«يعتقد المسلمون انّ اللّه تعالى هو الهادي،فإذا كانت هذه الدعوى صادقة فهو يهدي جميع أو أغلب البشرية،و إذا كان القسم الأعظم من البشرية ضالين فهذا يتنافى مع كونه هادياً،و ربما يعني هذا غلبة الشيطان على الرحمن و خذلان أنبياء اللّه،فكون اللّه هادياً لا يصدق إلاّ أن تكون أكثرية بني آدم على

ص:333

الحقّ و صواب الفكر».

لقد اختار المستدلّ التفسير الثاني للبيلوراليزم (فوز أتباع جميع الشرائع)،لكنّه لم يفرّق بين الهداية التكوينية و الهداية التشريعية، و اعتبر الاثنين واحدة رغم انّ اللّه هادي الاثنين معاً.

الهداية التكوينية الجبرية التي تشمل العالم تعني انّ اللّه يهدي كلّ موجود يخلقه و يهبه الحياة،فتناول الطفل لحليب الأُمّ يحتاج إلى هداية و هكذا،يقول: «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» . (1)و هذه الهداية التكوينية خارجة عن إرادة المخلوقات،و سواء أراد المخلوق أم لا فهو يتمتع بهذه الهداية،و لا فرق فيها بين المسلم و الكافر و المسلم و المسيحي.

و في مقابل هذه الهداية هناك الهداية التشريعية التي لا تتحقّق إلاّ بإرسال الأنبياء و الأئمّة و أمثالهم،و يكون الإنسان في هذه الهداية مختاراً و مريداً،بل يفتخر انّه قد اهتدى بهذه الهداية بمحض حريته.لكن كون اللّه تعالى هادياً لا يلزم منه أن يستثمر الإنسان هذه الهداية جزماً و يكون مهتدياً،و إنّما يكفي أن يعرض اللّه هدايته و يضعها بين يديه،سواء استفاد منها الإنسان أم لا.و نحن لم نر و لم نسمع باستثمار البشرية للهداية التشريعية بشكل كامل بل يقول تعالى: «وَ ما أَكْثَرُ النّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» . (2)

ب:«يعتقد المسلمون انّ التوحيد فطري،لكن هذا الادّعاء لم يثبت لا بالدليل العقلي و لا بالدليل التجريبي رغم انّ المتدينين يعتقدون به،و على أساس

ص:334


1- 1) .طه:50. [1]
2- 2) .يوسف:103. [2]

اعتقادهم يجب أن نلتزم انّ أكثرية أو جميع البشرية،في أي دين أو عقيدة،على الحقّ ما دامت لهم فطرة».

و للجواب عن هذا الاستدلال نقول:

أوّلاً:عند ما نقول الدين أمر فطري فالمقصود هو الجذور الأساسية للدين،و ليس جميع تعاليم الأنبياء،و هداية الجميع في العمل إلى جميع التعاليم أو قسم منها.و لو فرضنا انّ جميع من على الأرض يعتقدون باللّه،و يمارسون ما هو محبب من الأعمال الفطرية و يتركون ما ترفضه الفطرة،فهذا الاتجاه لا يحقّق سوى نصف السعادة،لكنّها لا تقتصر على الاعتقاد باللّه أو على مجموعة من المبادئ الأخلاقية،لأنّ الإسلام بحر عظيم من الحقوق و الفقه و العقائد لا بدّ أن نتعلمها من نبي الإسلام،و لا يمكننا الاكتفاء بالفطرة.

ثانياً: الفطرة اتجاه باطني يحث الإنسان على عمل الخير،لكنّها سرعان ما تتحطم في ظل ظروف خاصة.فكثير ما يرجّح الناس الظلم على العدل رغم انّ الفطرة تحكم بقبح الظلم،و عليه فليس جميع أو أغلب أفراد المجتمع على المسار الصحيح.

ج:المقوم الأساسي للخاتمية انّ البشرية قد وصلت إلى مرحلة التكامل التي يكون الدين فيها محفوظاً بشكل طبيعي.أي انّ البشرية سوف لن تخالف دين اللّه و لا تريد هدمه حتى تحتاج إلى رقيب إلهي أعلى.المسلمون و غيرهم هم بأنفسهم دعاة حقّ،و الجميع متساوون في هذا الشيء المعادل للفردية.

لكن الفهم المتقدم للخاتمية ليس صحيحاً،لأنّ الخاتمية-خلافاً لهم-تعني انّ البشرية ما دامت حية فهي تحتاج إلى الشريعة و ما ورد فيها.

ص:335

و الشريعة الإلهية الأخيرة،الجامعة المانعة إنّما أرسلت نوراً.و أمّا كون البشرية على طريق الصلاح و الفلاح فلا علاقة له بالخاتمية.

و الشيء الوحيد الذي له علاقة بها هو أن تصل البشرية إلى مرحلة،من حيث الاستعداد و الإدراك،تستوجب نزول الشريعة الخاتمة،و لا تدلّ الخاتمية على أنّ جميع البشرية متأثرون بهذا الشعور.

ص:336

بسم اللّه الرحمن الرحيم

14

مع الإمام البخاري في صحيحه

صحيح البخاري أحد الصحاح الذي حاز على منزلة كبيرة لدى أهل السنّة،و قد نقلوا عن البخاري انّه قال:لم أخرج في هذا الكتاب إلاّ صحيحاً و ما تركت من الصحيح أكثر. (1)

و قال ابن حجر الهيتمي بأنّ صحيح البخاري و صحيح مسلم هما أصحّ الكتب بعد كتاب اللّه و إجماع من يعتد به. (2)

إلى غير ذلك من كلمات الإطراء المبثوثة في المعاجم و كتب التراجم،و لسنا الآن في مقام البحث و النقاش في مدى صحّة هذه الكلمات، و كفانا في ذلك الكتاب الماثل بين يديك الذي يوقفك على حقيقة الأمر،غير انّ ثمة أُموراً نقف عندها قليلاً:

الأوّل:يوجد في صحيح البخاري روايات التجسيم و التشبيه بوفرة و إن حاول شُرّاح الصحيح تأويلها غير انّها فشلت جميعاً،لأنّ ظهورها بمكان يحد

ص:337


1- 1) .ابن حجر العسقلاني:هدى الساري:ص 7؛مقدمة صحيح البخاري:10/1.
2- 2) .الصواعق المحرقة:18. [1]

من تأويلها و التلاعب بها،و السبب وراء هذه الكثرة من روايات التجسيم يعود إلى أنّ البخاري عاش في عصر المتوكل العباسي الذي استخدم طبقة من المحدّثين و منحهم الجوائز في نقل الأحاديث التي تؤيد موقف المحدّثين أمام أهل التنزيه من العدلية و المعتزلة.

يقول الذهبي:إنّ المتوكّل أشخص الفقهاء و المحدّثين؛و كان فيهم:مصعب الزبيري،و إسحاق بن أبي إسرائيل،و إبراهيم بن عبد اللّه الهروي،و عبد اللّه و عثمان ابني محمد بن أبي شيبة؛فقسّمت بينهم الجوائز،و أُجريت عليهم الأرزاق،و أمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس و يُحدِّثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة و الجهمية،و أن يحدّثوا بالأحاديث في الرؤية.

فجلس عثمان بن محمد بن أبي شيبة في مدينة أبي جعفر المنصور،و وُضِع له منبر و اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألف من الناس؛و جلس أبو بكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة،و كان أشدّ تقدّماً من أخيه عثمان،و اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألف. (1)

و لذلك فلا تعجب من كثرة روايات التجسيم و التشبيه في الصحيح،لأنّ بعض هؤلاء من رجال صحيح البخاري.

الثاني:انّ البخاري و إن ذكر شيئاً من فضائل علي و أهل بيته إلاّ أنّ قلمه يرتعش عند ما يصل إلى فضائلهم فيعبث بالحديث مهما أمكن، و إليك نموذجاً:

إنّ حديث الولاية يعني قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حقّ علي عليه السلام:«علي منّي و أنا من علي،و هو وليّكم من بعدي»من الأحاديث المتضافرة الذي أخرجه غير واحد من

ص:338


1- 1) .تاريخ الإسلام، [1]وفيات عام 230- 240؛تاريخ بغداد:66/10. [2]

أئمّة الصحاح و السنن و حفّاظ الحديث،و قد نقله جمّ غفير من كبار أئمّة الحديث في كتبهم،ربما يبلغ عددهم حسب ما استخرجه المحقّق المتتبع السيد حامد حسين اللكهنوي(المتوفّى1306ه) في كتابه«عبقات الأنوار»إلى 65،و على رأسهم:

1.سليمان بن داود الطيالسي(المتوفّى204ه).

2.أبو بكر عبد اللّه بن محمد بن أبي شيبة(المتوفّى239ه).

3.أحمد بن حنبل(المتوفّى241ه).

4.محمد بن عيسى الترمذي(المتوفّى279ه).

5.أحمد بن شعيب النسائي (المتوفّى303ه)

إلى غير ذلك من أئمّة الحفّاظ و المحدّثين (1)،و إليك نصّ الحديث:

1.أخرج النسائي في سننه قائلاً:حدثنا واصل بن عبد الأعلى،عن ابن فضيل،عن الأعرج،عن عبد اللّه بن بريدة،عن أبيه،قال:بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى اليمن مع خالد بن الوليد و بعث علياً على آخر،و قال:إن التقيتما فعليٌّ على الناس،و إن تفرّقتما فكلّ واحدٍ منكما على جنده،فلقينا بني زبيد من أهل اليمن،و ظفر المسلمون على المشركين،فقاتلنا المقاتلة و سبينا الذرية،فاصطفى علي جاريةً لنفسه من السبي، فكتب بذلك خالد بن الوليد إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أمرني أن أنال منه.قال:فدفعت الكتاب إليه و نلت من عليّ،فتغيّر وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقلت:

هذا مكان العائذ،بعثتني مع رجلٍ و ألزمتني بطاعته فبلّغت ما أُرسلت به.فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لي:«لا تقعنَّ يا بريدة في عليّ،فإنّ عليّاً منّي و أنا منه و هو وليّكم

ص:339


1- 1) .لاحظ نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار:51/15-54. [1]

بعدي». (1)

2.و أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس،عن بريدة،قال:غزوت مع عليّ اليمن فرأيت منه جفوة،فلمّا قدمتُ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذكرت عليّاً فتنقصته فرأيت وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتغيّر،فقال:«يا بريدة أ لست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»،قلت:بلى يا رسول اللّه،قال:«من كنت مولاه فعليّ مولاه». (2)

و ما جاء في الحديث الذي أخرجه النسائي من قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«عليّ منّي و أنا من علي و هو وليكم بعدي»لا ينافي المنقول في مسند أحمد و لعلّ الرسول جمع بين الكلمتين،أو انّ الراوي نقل بالمعنى فقال:من كنت مولاه فهذا علي مولاه.

و على كلّ حال فالحديث كان مذيّلاً بما يدلّ على ولايته بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

و يؤيد ذلك انّ الإمام أحمد أخرج الحديث عن عمران بن حصين بالشكل التالي:

3.قال:بعث رسول اللّه سرية و أمرّ عليهم علي بن أبي طالب (رض) فتعاقد أربعة من أصحاب محمد أن يذكروا أمره لرسول اللّه،قال عمران:و كنّا إذا أقدمنا من سفرنا بدأنا برسول اللّه،فسلّمنا عليه،قال:فدخلوا عليه،فقام رجل منهم،فقال يا رسول اللّه:إنّ عليّاً فعل كذا و كذا فأعرض عنه.

ثمّ نقل قيام الثلاثة الباقين و تكرارهم ذلك القول و إعراض الرسول عنهم،حتى انتهى إلى قوله:فأقبل رسول اللّه على الرابع و قد تغيّر وجهه،فقال:«دعوا عليّاً،إنّ عليّاً مني و أنا منه،و هو وليّ كلّ مؤمن بعدي». (3)

ص:340


1- 1) .خصائص علي بن أبي طالب:75. [1]
2- 2) .مسند أحمد بن حنبل:347/5. [2]
3- 3) .مسند أحمد:438/4. [3]

4.و أخرج الترمذي عن عمران بن حصين و نقل الحديث مثل ما نقل أحمد ابن حنبل إلى أن قال:فقام الرابع،فقال مثل ما قالوا،فأقبل إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم-و الغضب يُعرف في وجهه-فقال:«ما تريدون من عليّ! ما تريدون من عليّ! ما تريدون من عليّ! إنّ عليّاً مني و أنا منه و هو ولي كلّ مؤمن بعدي». (1)

ترى أنّ الرواية تنص على الولاية الدالّة على أنّه الإمام بعد رحيل الرسول لكن البخاري كعادته أخرج الحديث عن بريدة،فذكر شيئاً من الحديث و حذف بيت القصيد منه،فأخرج الحديث عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه بالنحو التالي:

قال:بعث النبي صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً إلى خالد ليقبض الخمس و كنت أبغض علياً،و قد اغتسل،فقلت لخالد:أ لا ترى إلى هذا،فلما قدمنا على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ذكرت ذلك له.

فقال:يا بريدة أتبغض عليّاً،فقلت:نعم،قال:«لا تبغضه فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك». (2)

ترى أنّه حذف الفقرة الأخيرة من الحديث التي هي بمنزلة بيت القصيد منه و هي:«انّ علياً منّي و أنا منه،و هو وليّكم بعدي».

هذان الأمران اللّذين نوّهنا إليهما يعربان عن موقف البخاري حيال روايات التجسيم و التشبيه،كما يعربان عن مدى بخسه لأحاديث أهل البيت عليهم السلام و فضائلهم.كيف لا و هو لم يرو حديث الغدير بتاتاً،كما لم يرو عن الإمام الصادق عليه السلام حديثاً واحداً مع أنّه نقل عن الخوارج و المجبّرة و المشبّهة؟!!

فهذا الكتاب الذي يعد أصح الكتب عند أهل السنّة بعد كتاب اللّه

ص:341


1- 1) .سنن الترمذي:632/5. [1]
2- 2) .صحيح البخاري:163/5،باب بعث علي بن أبي طالب و خالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع.

بحاجة إلى تنقيب و بحث و دراسة رجاله و دراسة مضمون الأحاديث الواردة فيه.و قد قام بهذا الأمر المهم غير واحد من أعلام الفريقين.

فمن أهل السنّة الحافظ ابن الجوزي (510-597ه) حيث ألّف كتاب باسم«مشكل الحديثين أو مشكل الصحاح»و لم يزل مخطوطاً في أربعة أجزاء.

و أمّا من الشيعة،فقد قام فقيه الطائفة و المتتبع المتضلّع الشيخ فتح اللّه النمازي الاصفهاني المشهور ب«شيخ الشريعة»(1266- 1339ه) بدراسة صحيح البخاري في كتاب هو ماثل بين يديك و قد ألفه قدس سره و لم يسمّه باسم،غير انّ تلميذه المتتبّع الشيخ آقا بزرك الطهراني(1293- 1389ه) استكتبه لنفسه و أسماه ب«القول الصراح في نقد الصحاح»،و قد كانت النسخة منحصرة بما استكتب،فاستدعيت من صديقنا العزيز المجاهد في سبيل اللّه آية اللّه الشهيد ميرزا علي الغروي قدس سره مؤلف الموسوعة الفقهية باسم«التنقيح في شرح العروة الوثقى»أن يرسل لي صورة من نسخة الشيخ آقا بزرك الطهراني المتوفرة في مكتبته،و قد لبّى قدس سره طلبي هذا.

و قد قام بتحقيق الكتاب و التعليق عليه و إخراج مصادره الباحث المحقّق الشيخ حسين غيب غلامي السهرساوي،فعلق عليه تعاليق ثمينة،شكر اللّه مساعيه الجميلة،و هو ممّن قد خاض في عبارات هذه المباحث في غير واحد من تآليفه.

و لعلّ هناك من يعيب على هذا النوع من التأليف بأنّه يثير حفيظة البعض،لأنّ كثيراً من أهل السنّة تلقّوا صحيح البخاري كتاباً صحيحاً برمّته يسمو عن البحث و النقد،و لكن الحقّ انّ كلّ كتاب غير كتاب اللّه خاضع للبحث و النقاش.

ص:342

إنّ السنّة النبوية تراث خالد للأُمّة الإسلامية تعد المصدر الثاني للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم في مجالي العقيدة و الشريعة.

فالسنّة المحكية أي قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم و فعله و تقريره من الحجج القطعية التي لا تخضع للتمحيص،كيف لا و هو كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

و إنّما الخاضع للتحقيق و التنقيب هو السنّة الحاكية عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،فلا عتب على باحث أن يقوم بدراسة الحديث دراسة موضوعية قائمة على أُسس علمية و بلغة هادئة.

فهذا النمط من البحث لجدير بالاهتمام و العناية من قبل الباحثين و المحقّقين لما فيه من تقرير للسنّة النبوية،و تمحيصها عمّا ليس منها.

و ها نحن بحمد اللّه لم نختلف فيما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و لو كان هناك اختلاف فإنّما هو في ما روي عنه،و هذا هو الذي أرشدنا إليه الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام،عند ما قال له بعض اليهود:

ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فيه!!

فقال عليه السلام له:إنّما اختلفنا عنه،لا فيه،و لكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم:«اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة،فقال:إنّكم قوم تجهلون». (1)

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

22 رجب المرجب 1421 ه

ص:343


1- 1) .نهج البلاغة،قصار الكلمات،برقم 317. [1]

ص:344

الرسائل

اشارة

ص:345

ص:346

بسم اللّه الرحمن الرحيم

1

اشارة

السيد الدكتور محمد الكايد

رئيس تحرير صحيفة الرأي المحترم

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد،فقد طالعنا على صفحات الرأي مقالاً يحمل عنوان«إشكالية الاعتقاد و التاريخ لدى الشيعة»بقلم ذياب شقيرات بتاريخ 2000/2/20م،و هو يحاول في مقاله هذا أن يعطي انطباعاً بأنّ عقائد الشيعة ليست متأصلة بل مستحدثة صنعها التاريخ و لم تكن موجودة من ذي قبل.و قد ساق شواهد على مدّعاه هذا،و هي كالتالي:

1.معتقد التقية 2.معتقد عصمة الأئمّة

3.معتقد الإمامة 4.معتقد الرجعة

و قام بتحليلها حتى خرج بحصيلة انّ هذه المعتقدات لم تكن من عقائد الشيعة الإمامية،و إنّما دفعتهم الظروف الحرجة إلى الاعتقاد بها عبر التاريخ،و بما انّ القرّاء الكرام لصحيفة الرأي قد طالعوا هذه المقالة،فنحن نرى أنفسنا في غنى عن إعادة ما ذكره بنصه،و نكتفي بتحليل هذه المعتقدات الأربعة كي يتضح انّها من صميم عقائد الشيعة الإمامية من دون أن يستحدثها التاريخ.

ص:347

و قبل أن ندخل في صلب الموضوع نودّ أن نشير إلى أمرين:

1.انّ صحيفة الرأي صحيفة سياسية و الطابع العام الذي يسودها هو الطابع السياسي،فما هو الحافز لطرح هذه البحوث الكلامية أو التاريخية في هذه الصحيفة...يا ترى؟

2.انّ الكاتب يرمي من مقاله تحليل عقائد طائفة كبيرة أطلَّت على العالم بتاريخها و حضارتها و علمائها و مشاهيرها،و خدمت الحضارة الإنسانية خدمة جليلة،و هو لم يذكر في مجموع ما كتب أيّ مصدر لما ينقل عنه أو يرميهم به،و هذا يحطّ بطبيعة الحال من القيمة العلمية للمقال المذكور.

إنّ المذهب الإمامي كسائر المذاهب أُقيمت دعائمه على أمرين:

الأوّل:العقائد و المعارف الإلهية و هي ثوابت لا تمسّ كرامتها الأحداث و المستجدّات،لأنّها نتاج الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه،و السنة النبوية و البراهين العقلية و بذلك لا يمكن أن يتطرق إلى معتقد قد صيغ على هذه الأسس الثلاثة أيُّ تغيّر و تبدّل.

الثاني:الأحكام الشرعية العملية و هي بين ثوابت لا تتغير عبر التاريخ،و مقررات موضوعة حسب الحاجات،و الأحكام الثابتة هي رمز خلود الإسلام و خاتمية الشريعة المحمدية و المقررات المتغيرة هي رمز تفاعلها مع مستجدات الأحداث و متطوراتها،و قد فصّلنا الكلام في ذلك في موسوعتنا القرآنية المنتشرة باسم«مفاهيم القرآن»فليرجع إلى الجزء الرابع.

هذه هي عقيدة الشيعة الإمامية في الثوابت و المتغيّرات،فلو كان هنا معتقد فإنّما هو نتاج الدليل القطعي لا نتاج التاريخ و الأحداث المريرة التي مرّت بها هذه الطائفة،و من أراد أن يقف على عقائد الشيعة الإمامية في القرنين الأوّلين

ص:348

فليرجع إلى كتبهم.

و بعد ان فرغنا من هذه المقدمة الموجزة،فلنتناول الشواهد التي سردها الكاتب تأييداً لمدّعاه،و هي أربعة:

1.معتقد التقية

شرِّعت التقية بنص القرآن الكريم حيث وردت في جملة من الآيات،أعني:قوله سبحانه: «مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» 1 ،و قوله سبحانه: «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» 2 .و قوله سبحانه: «وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ» 3 .

و هذا ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين و لكن الكاتب رأى أنّ الشيعة تمارس هذا الأصل في مقابل أهل السنّة،مع أنّ مورد الآيات هم الكفّار،و يقول:«لم يستخدم الشيعة هذا المعتقد و يمارسوه إلاّ مع أهل السنّة و الجماعة».

و ممّا يؤخذ عليه انّ مورد الآيات و إن كان هم الكفّار،و لكن المورد ليس بمخصص،و قد قال بالتعميم لفيف من محقّقي أهل السنّة،و هذا هو الرازي يقول:

ظاهر الآية: «إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» على أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار إلاّ انّ مذهب الشافعي رضى الله عنه انّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين

ص:349

المسلمين و الكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس (1).

و بما انّ التقية سلاح الضعيف أمام القوي فلا فرق بين قوي كافر و بين مسلم ظالم متسلط.

الشيعة لم تمارس هذا الأصل مع إخوانهم أهل السنّة،بل مارسته مع الخلفاء الجائرين من الأمويين و العباسيين الذين قتلوا الشيعة تحت كل حجر و مدر،و يكفيك شاهداً على ما نقول ذلك البيان الذي أصدره معاوية بن أبي سفيان في حقّ شيعة علي:

انظروا من قامت عليه البينة انّه يحب عليّاً و أهل بيته،فامحوه من الديوان،و اسقطوا عطاءه و رزقه ثمّ شفع ذلك البيان ببيان آخر و هو من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكِّلوا به و أهدموا داره... (2)

ثمّ إنّ الكاتب أضاف قائلاً:فإخواننا الشيعة يبررون قبول علي بن أبي طالب عليه السلام بخلافة الثلاثة الذين سبقوه بأنّها على سبيل التقية.و في هذا طعن مزدوج بعلي نفسه و بالخلفاء الثلاثة...

لكن فات الكاتب انّ عليّاً لم يبايع الخلفاء طيلة عمره لما كان يرى نفسه أحقّ بهذا الأمر من غيره بتنصيص من الرسول في غير موقف من المواقف سواء أ كان في بدء الدعوة،عند نزول قوله سبحانه: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» 3 أم في غزوة تبوك عند ما خاطبه،بقوله:أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» (3)

ص:350


1- 1) .الرازي:مفاتيح الغيب:13/2 [1] في تفسير الآية؛و على ذلك جرى جمال الدين القاسمي في محاسن التأويل:108/4،و المراغي في تفسيره:136/3.
2- 2) .شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:400/11-446. [2]
3- 4) .صحيح مسلم:120/7،باب من فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام.

أم في محتشد عظيم عند منصرف النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم من حجّة الوداع حيث أدلى بخطابه إلى عامة المسلمين،و قال:«من كنت مولاه فهذا علي مولاه»(حديث متواتر رواه من الصحابة ما يربو على 120 صحابيّاً) إلى غير ذلك من المواقف،و لكنّه لما رأى أنّ الأمر قد تم للآخرين و رأى أنّ الشر قد أحاط بالإسلام و المسلمين،من جانب أهل الردة و غيرهم رأى أنّ المصلحة تكمن في معاضدة القوم،و ها هو يصرح بذلك في كتابه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاّه إمارتها،حيث قال:«فو الله ما كان يُلْقى في روعي،و لا يخطر ببالي انّ العرب تُزعِج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه و آله و سلم عن أهل بيته،و لا أنّهم مُنَحُّوهُ عني من بعده،فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه،فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد،فخشيت ان لم أنصر الإسلام و أهله ان أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاعُ أيامٍ قلائل»إلى أن يقول:فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل و زهق،و اطمأنّ الدِّين و تنهنه». (1)

و هذا هو موقف علي من البيعة لا ما نسبه الكاتب إلى عليّ عليه السلام و إن كان في شكّ ممّا نقلناه فليقرأ ما رواه ابن قُتيبة في تاريخ الخلفاء، حيث يقول:

إنّ علياً كرم اللّه وجهه أُتي به إلى أبي بكر،و هو يقول:أنا عبد اللّه أخو رسول اللّه،فقيل له:بايع،فقال:أنا أحق بهذا الأمر منكم،لا أبايع و أنتم أولى بالبيعة لي...إلى أن يقول:فقال له عمر:أنت لست متروكاً حتى تبايع،فقال له علي:احلب حلباً لك شطره،و شُدّ له اليوم يرده عليك غداً، ثمّ قال:و اللّه يا عمر لا أقبل قولك و لا أبايعه،فقال له أبو بكر:فإن لم تبايع فلا أكرهك (2).

ص:351


1- 1) .نهج البلاغة، [1]قسم الرسائل:62.
2- 2) .تاريخ الخلفاء الراشدين،لابن قتيبة:11/1.

نعم اشتهر بين أهل السنّة انّ الإمام بايع الخلفاء بعد وفاة بضعة المصطفى فاطمة الزهراء عليها السلام.و لكن هذه الشهرة من الوهن بمكان و أقل ما يمكن أن يقال فيها انّ فيها طعناً مزدوجاً بعلي نفسه و بالخلفاء الثلاثة.

أمّا بعلي نفسه فلأنّه إذا تمت الخلافة لواحد من الصحابة و كانت خلافة شرعية،فلما ذا تخلّف علي،و أمّا بالخلفاء فهو غني عن البيان.

و لعمري انّ الخوض في هذه المباحث يجرح العواطف و يشتّت الصفوف،فهي أحداث شرب عليها الدهر و أكل،و لو لا أنّ الكاتب نبش هذه القضايا لم نكن نستعرض هذه الأحداث التاريخية المريرة.

ثمّ قال صاحب المقالة:«إنّ التقية مبدأ فرضه التاريخ على جملة المبادئ و الثوابت لتفسير و تبرير صحة تسلسل الأئمة و تعارض آرائهم في بعض القضايا المتشابهة».

و ملخص كلامه انّ الشيعة اتخذت التقية ذريعة لأمرين:

1.صحّة تسلسل الأئمّة.

2.تعارض آرائهم في بعض القضايا المتشابهة.

أمّا الأمر الأوّل فقد أجمل فيه الكلام و لم يبيّن ما هي الصلة بين التقية و صحة تسلسل الأئمة،و كان عليه أن يوضح ذلك غير انّ تسلسل الأئمة إلى اثني عشر خليفة منصوص في صحاح السنة.

فقد أخبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن عددهم و تسلسلهم إلى اثني عشر خليفة فيما أخرجه مسلم عن جابر بن سمرة،قال:سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة،ثمّ قال كلمة لم أفهمها،قال:قلت لأبي،ما قال؟ قال:كلّهم من قريش (1).

ص:352


1- 1) .صحيح مسلم:3/6،باب الناس تبع لقريش.

و قد أخرج مسلم هذه الرواية بأسانيد مختلفة،و للقارئ الكريم أن يتدبر في معنى الحديث حتى يظهر له المراد من هؤلاء الخلفاء الاثني عشر الذين أُنيطت بهم عزة الإسلام،و قد جاءوا واحداً تلو الآخر عبر الزمان،و هو لا ينطبق إلاّ على الأئمّة الاثني عشر،أوّلهم علي بن أبي طالب عليه السلام و آخرهم القائم المهدي عليه السلام.

فهل يتصور الكاتب أنّ هؤلاء هم الأمويون أو العباسيون الذين ضرّجوا الأرض بدماء الأولياء و الصلحاء،و هل يزيد بن معاوية أحد من انيط به عزّ الإسلام و هو الذي يشرب الخمر و يرفع عقيرته،و يقول: ليت أشياخي ببدر شهدوا

و أمّا الأمر الثاني أي تعارض آراء الأئمّة عليهم السلام،فنقول:نعم كان للتقية دور في الإفتاء وفق هوى الجهاز الحاكم صيانة لأنفسهم و أنفس شيعتهم،حيث إنّ الجهاز الحاكم قد مارس ضغوطاً على الأئمّة عليهم السلام و شيعتهم للحد من نشاطهم،و قد أعمل فيهم السيف بغية صهر هويتهم،و في مثل هذه الظروف العصيبة و القاسية يبيح العقل و النقل الإفتاء على وجه التقية،و قد كان الضغط على أئمّة أهل البيت عليهم السلام بمكان يفرض عليهم بعض الأحيان الانصياع لحكم الحاكم في يوم الشكّ من شوال،فقد أفطر الإمام الصادق عليه السلام و هو يعلم أنّه يوم من شهر رمضان،فسئل عن إفطاره،فقال:«إفطاري يوماً و قضاؤه،أيسر عليَّ من أن تضرب عنقي» (1).

ص:353


1- 1) .الوسائل:95/7. [1]

2.معتقد عصمة الأئمّة عليهم السلام

هذا هو الشاهد الثاني الذي زعم الكاتب انّ التاريخ فرضه على الشيعة و لم يكن من صلب عقائدهم.

إنّ الاعتقاد بعصمة الإمام و عدم عصمته،نابع من اختلاف التفكير في ماهية الإمامة و الخلافة،فذهبت السنّة إلى أنّ الإمام كرئيس دولة ينتخبه الشعب أو نواب الأُمّة أو يتسلّط على رقابهم بانقلاب عسكري،فالإمام وفق هذه النظرية لا يشترط فيه سوى الكفاءة الاجتماعية،و لذلك لا ينخلع بفسقه و ظلمه و غصب الأموال و ضرب الأبشار و تناول النفوس المحرمة و تضييع الحقوق و تعطيل الحدود و لا يجب عليه الخروج. (1)

فالإمام عند أهل السنة كرئيس الدولة،و الذي يصفه التفتازاني،بقوله:و لا ينعزل الإمام بالفسق أو بالخروج عن طاعة اللّه،و الظلم على عباد اللّه،لأنّه قد ظهر الفسق و انتشر الجور من الأئمة،و السلف كانوا ينقادون لهم و يقيمون الجمعة و الأعياد بإذنه و لا يرون الخروج عليه (2).

و في هذه النظرة لا يشترط في الإمام العصمة و لا العدالة و لا العلم و لا سائر المواصفات إلاّ الكفاءة على إدارة البلد و عمرانه و توزيع الأرزاق و الذب عن الحدود.

و أمّا الإمامة عند الشيعة فهي استمرار لوظائف الرسالة (لا نفس الرسالة) التي كانت على عاتق النبي صلى الله عليه و آله و سلم من تفسير القرآن الكريم، و الإجابة على المستجدات،و الدفاع عن حياض العقائد،مضافاً إلى الكفاءة على إدارة البلد،

ص:354


1- 1) .التمهيد للقاضي أبي بكر الباقلاني:108.
2- 2) .شرح العقائد النسفية:185. [1]

فالإمام في هذه النظرة بحكم انّه يقوم بوظائف النبي صلى الله عليه و آله و سلم يجب أن يكون معصوماً كنفس النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

دلت الآيات على عصمة الإمام،كآية الابتلاء في قوله سبحانه: «وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ» 1.

و أمّا دلالتها على عصمة الإمام،فإليك بيانها موجزاً.

إنّ الناس بالنسبة إلى الظلم على طوائف أربع:

1.من كان طيلة عمره ظالماً.

2.من كان طاهراً و نقياً طيلة عمره.

3.من كان ظالماً في بداية عمره و تائباً في آخره.

4.من كان طاهراً في بداية عمره و ظالماً في آخره.

عند ذلك يجب أن نقف على أنّ إبراهيم عليه السلام الذي سأل الإمامة لبعض ذريته،أي طائفة منها أراد.

حاشا إبراهيم أن يسأل الإمامة للطائفة الأُولى أو الرابعة من ذريته،لوضوح أنّ الغارق في الظلم من بداية عمره إلى آخره أو الموصوف به أيّام تصدّيه للإمامة لا يصلح لأن يؤتمن عليها.

فبقيت الطائفتان الثانية و الثالثة،و قد نص سبحانه على أنّه لا ينال عهده الظالم،و الظالم في هذه العبارة لا ينطبق إلاّ على الطائفة الثالثة، أعني من كان ظالماً في بداية عمره و كان تائباً حين التصدي.

ص:355

فإذا خرجت هذه الطائفة بقيت الطائفة الثانية و هي من كان نقي الصحيفة طيلة عمره لم ير منه لا قبل التصدي لمنصب الإمامة و لا بعده أي انحراف عن جادة الحقّ و مجاوزة للصراط السوي و هو يلازم العصمة.

إنّ الدليل على عصمة الإمام لا ينحصر بالآية،بل آية التطهير أوضح دليل على عصمة أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم من الدنس،قال سبحانه: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» 1.

و الآية بحكم تذكير الضمائر لا صلة لها بنساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم،بل هي راجعة إلى الذين عيّنهم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في حديثه المتواتر بالكساء حيث ألقى الكساء على علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام و قال:اللّهمّ لكلّ نبي أهل بيت،و هؤلاء أهل بيتي (1)و المراد من الرجس،هو الذنب كما لا يخفى.و إذهاب الرجس كناية عن عصمتهم،و إرادته سبحانه في الآية تكوينية خاصة بأهل البيت لا تشريعية عامة لجميع الناس.

على أنّ حديث الثقلين المتواتر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم جعل العترة أعدال القرآن و قرناءه،و قال:«إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي»كاف في إثبات عصمتهم.

لأنّه إذا كانت العترة عدل القرآن،و القرآن معصوم من الزلل،فالعترة مثله،و إلاّ لم تكن جديرة بأن تصبح عدل القرآن و تكون هادية بعده إلى يوم القيامة.

و منه يتضح انّ الذي فرض العصمة على الإمام هو القرآن أوّلاً و الحديث

ص:356


1- 2) .تفسير الطبري:5/22-7، [1]الدر المنثور:198/5-199. [2]

النبوي ثانياً،لا التاريخ،كما زعم الكاتب.

و الظاهر انّ الكاتب تأثر إلى حد بعيد بالأفكار التي بثّها بعض المستشرقين أمثال«دونالدسن»الذي احتمل أن تكون فكرة العصمة قد ظهرت في عصر الصادق عليه السلام (1).

3.معتقد الإمامة

إنّ الإمامة عند الشيعة الإمامية ليست وراثية،سواء أُريد منها وراثة الابن عن الأب،أو الأخ الأصغر عن أخيه الأكبر،و إنّما هي بالتنصيص من اللّه سبحانه عن طريق نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم فملاك الإمامة هو المؤهلات الذاتية؟

فإمامة الحسن عليه السلام ليست وراثة عن أبيه،و إنّما هو بتنصيص النبي صلى الله عليه و آله و سلم،كما أنّ إمامة الحسين عليه السلام ليست وراثة عن أخيه،و إنّما هو تنصيص لقوله صلى الله عليه و آله و سلم:الحسن و الحسين ابناي إمامان سواء قعدا أو قاما،و هكذا إمامة سائر الأئمّة عليهم السلام.

نعم تعلّقت إرادته سبحانه بتسلسل الإمامة في عترة النبي صلى الله عليه و آله و سلم على النحو المألوف.

و على أيّة حال فقد بدت محاولة الكاتب عقيمة لما سرد الحالات في تسلسل الإمامة التي خرجت عن المألوف كي يخرج بحصيلة انّ الإمامة معتقد استحدثه التاريخ فقال:

«انتقاض التسلسل في إمامة الحسين بعد أخيه الحسن رغم انّ إمامة الحسن جاءت بعد إمامة أبيه و كان مقتضى الضابطة تسلسل الإمامة في أعقاب الحسن عليه السلام و لكنّها تحوّلت إلى أخيه الحسين عليه السلام».

و الإشكال نابع عن فكر مسبق و هو انّ الإمامة أمر وراثي كخلافة الأمويين

ص:357


1- 1) .عقيدة الشيعة،دونادسن:328.

و العباسيين فكيف انتقلت الخلافة من الحسن إلى أخيه دون أعقاب الأوّل؟!

و منه يظهر خلل آخر في كلامه لما قال:

«إمامة الإمام موسى الكاظم عليه السلام بعد أبيه رغم انّ الإمامة كانت لأخيه عبد اللّه الأفطح،و قيل لأخيه إسماعيل و لكن وفاة عبد اللّه الأفطح في حياة أبيه خلقت إشكالية في سلسلة الأئمّة».

«فالإمام بعد الإمام الصادق عليه السلام-حسب وجهة نظر الكاتب-هو ابنه الأكبر عبد اللّه الأفطح أو ابنه إسماعيل و مع ذلك تولى الإمامة نجله الأصغر الإمام موسى الكاظم عليه السلام».

و الحقيقة انّ النص كان من الإمام الصادق عليه السلام على شخص معين،و هو موسى الكاظم عليه السلام دون أيّ شخص آخر و كانت بطانته عارفة بذلك،و إنّما اشتبه الأمر على السُّذّج من الناس و اجتمعوا حول عبد اللّه الأفطح،إلاّ أنّه سرعان ما تبيّن الحق فرجع أكثر القائلين بإمامة الأفطح إلى إمامة موسى الكاظم عليه السلام.

و نود أن نشير إلى خطأ وقع فيه الكاتب،و هو قوله:«إنّ عبد اللّه الأفطح مات في حياة أبيه الصادق عليه السلام»مع أنّ الذي مات في حياة أبيه هو إسماعيل بن جعفر لا عبد اللّه الأفطح،فإنّه مات بعد أبيه بمضي 70 يوماً باتّفاق المؤرّخين و أصحاب المقالات.

ثمّ إنّ الكاتب رأى غيبة الإمام الثاني عشر عند الشيعة أمراً لا ينسجم مع الإمامة،و نحن نكشف الستر عن وجه الحقيقة بوجه موجز و نقول:

إنّ الإمام المهدي عليه السلام قضية إسلامية اتّفقت الشيعة و السنّة على خروجه في آخر الزمان،و ليس لأحد إنكارها بعد ورود روايات متواترة من الفريقين،و إنّما الكلام في الأُمور التالية:

ص:358

الأوّل:هل ولد الإمام المهدي عليه السلام و هو اليوم ممّن يرزق بأمر اللّه سبحانه كما عليه الشيعة الإمامية و لفيف من محقّقي السنّة أو هو لم يولد؟

و هذه قضية تاريخية لا يسع المجال لطرحها و استقصاء دلائل الولادة إلاّ انّنا نحيل الكاتب إلى الكتب التي أُلّفت في هذا المضمار.

و أقول باختصار:إنّ هناك 140 عالماً سنّياً نص على ولادته في بيت الإمام العسكري عليه السلام،فلو حاول الكاتب أن يقف على نصوصهم و كلماتهم،فعليه الرجوع إلى كتاب«موسوعة الإمام المهدي»،فقد جاء مؤلفه بنفس النصوص معيناً اسم الكتاب و المؤلف و رقم الصفحة.

الثاني:زعم الكاتب انّ القول بحياة الإمام الثاني عشر يشكل إشكالية يستحيل تفسيرها،فهل أراد اللّه للعالم أن يمكث ردحاً من الزمان دون إمام و لما ذا؟ و هل ينسجم هذا مع كون الإسلام خاتم الأديان و الرسالة الخالدة إلى جميع البشر و لما ذا؟

حاصل كلامه يرجع إلى أمرين:

الأوّل:انّ الغيبة لا تنسجم مع الإمامة

و الجواب انّ للّه سبحانه أولياء فهم بين ظاهر في أوساط الناس يقومون بما خوّل إليهم من أمر الهداية،و غائب عن الأنظار بمعنى انّ الناس لا يعرفوه و لكنّه يقوم بما خول إليه حسب الإمكان.

و هذا كمصاحب موسى فقد كان ولياً من أوليائه سبحانه رُزق من العلم ما لم يرزقه موسى الكليم عليه السلام فأراد أن ينهل من نمير علم مصاحبه،فقال: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً» 1 .

ص:359

فصاحَبَه فترة فعرف انّه ولي مستور،و لكنّه يقوم بوظائفه بأحسن ما يرام.و قد ذكر القرآن الكريم من أعماله ما يحير العقول،و الإمام الثاني عشر كهذا الولي المستور فهو إمام بين الأُمّة و قد فوّضت إليه وظائف يقوم بها في أوساط الناس دون أن يعلموا به.

و الكاتب لبعده عن عقائد الشيعة و كتبهم،تصور انّ الإمام الغائب يعيش بعيداً عن الناس أو في عالم آخر غير عالمنا لا يمت إلينا بصلة، فقال:هل أراد اللّه للعالم أن يمكث ردحاً من الزمان دون إمام و لما ذا؟!

فنقول:ما أراد اللّه ذلك،بل أراد أن يكون للأُمة إمام يمكث معهم و يقوم بما فوض إليه من وظائف الإمامة من دون أن يعرفه الناس.

و ليس الاختفاء عن الناس أمراً بديعاً في أوليائه سبحانه،فقد اختفى موسى عن أعين الأُمّة نازلاً في ميقاته أربعين ليلة فكان هو نبياً رسولاً،قال سبحانه: «وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» 1.

الثاني:انّ القول بغيبة الإمام الثاني عشر لا ينسجم مع كون الإسلام خاتم الأديان و الرسالة الخالدة إلى جميع البشر.

لا شكّ انّ الكلام المذكور يكتنفه كثير من الغموض،لأنّه لم يبين وجه الملازمة بين غيبة الإمام الثاني عشر و عدم كون الإسلام خاتم الأديان و الرسالة الخالدة إلى جميع البشر،فأي صلة بين الأمرين،فلا شكّ انّ الإسلام خاتم الشرائع و انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم خاتم الأنبياء،و انّ القرآن خاتم الكتب،فأيّ ملازمة بين القول بذلك و كون الإمام ظاهراً بين الناس و قائماً بينهم،فليس الإمام الثاني عشر رسولاً

ص:360

و لا نبياً،و إنّما هو خليفة رسول اللّه بعد أحد عشر خليفة،و لم تكن البيئة آنذاك مستعدة لظهوره بين الناس و كان الجهاز العباسي الحاكم يتحين الفرص للانقضاض عليه و قتله،فاقتضت المصلحة الإلهية أن تخفيه عن الأنظار رغم وجوده بينهم.

و بذلك يعلم انّ الاعتقاد بإمامة الإمام الثاني عشر أمر موافق للقرآن الكريم و السنن الإلهية في الأُمم السابقة و ليس هذا أمراً استحدثه التاريخ بل كانت أئمّة أهل البيت عليهم السلام متنبئين بولادته ثمّ غيبته ثمّ ظهوره قبل أن يولد الإمام بسنين كثيرة و هذا مذكور في العديد من الكتب التي أُلّفت حول الإمام المهدي عليه السلام.

4.معتقد الرجعة

قام الكاتب بتفسير الرجعة بالنحو التالي:و هو الإيمان بعودة الأئمّة عليهم السلام في آخر الزمان ليتمكنوا من تولي السلطة و الخلافة التي حرموا منها.

إنّ القول بالرجعة أي رجوع طائفة من الناس بعد موتهم إلى الدنيا قبل يوم القيامة ممّا نصّ به القرآن الكريم،يقول سبحانه: «وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ» 1 فهذا الحشر غير الحشر يوم القيامة،فانّ الحشر الثاني يعم الناس جميعاً: «وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» 2

غير انّ الوارد في هذه الآية هو حشر خصوص المكذبين،و الوارد في الروايات هو حشر قليل من المؤمنين،و في طليعتهم بعض أئمّة أهل البيت عليهم السلام كالحسين عليه السلام،هذا هو واقع الرجعة عند الشيعة و ليس أمراً بديعاً،فقد جرت

ص:361

سنّته سبحانه على إعادة لفيف من الناس إلى الدنيا قبل يوم القيامة،يقول سبحانه: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 1

و قال سبحانه: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ» 2

و العجب انّ الكاتب يستخفّ فكرة الرجعة مع أنّ الخليفة الثاني هو أوّل من طرح فكرة الرجعة بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

روى ابن هشام و غيره لما توفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قام عمر بن الخطاب،فقال:إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد توفي،و إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ما مات،و لكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران،فقد غاب عن قومه أربعين ليلة،ثمّ رجع إليهم بعد ان قيل قد مات،و و اللّه ليرجعنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما رجع موسى،فليقطعن أيدي رجال و أرجلهم زعموا انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مات.

و لا (1)يسعني في هذا المختصر سرد أسماء المصادر التاريخية و الكلامية التي تتناول تاريخ تلك المعتقدات بالتفصيل إلاّ أنّني على استعداد للدخول في مناظرة

ص:362


1- 3) .السيرة النبويّة:655/4. [1]

مع الكاتب في أي قاعة يرغب بها من قاعات الأُردن الكبيرة و أمام محتشد غفير من الناس لكي أنقل له ما ذكرناه في هذه المقالة بالتفصيل من مصادرها و قد ألقيت محاضرتين حول عقائد الشيعة في سالف الزمان في مؤسسة«عبد الحميد شومان».

ثمّ إنّ الكاتب قد نحا نفس المنحى في مقال آخر له تحت عنوان«الشيعة و التجديد»و خرج منه بنفس النتيجة التي خرج بها في هذا المقال،و انّ هناك معتقدات للشيعة استحدثها التاريخ تلبية للمستجدات و التطورات.تظهر الحال فيه ممّا ذكرناه في المقام.كلّ ذلك يعرب عن قصور باع الكاتب في الإحاطة بعقائد الشيعة من مصادرها،و دلائلها و عذره انّه لم يتعرّف على دخائل الشيعة و لم يجالس علماءهم و لم يستبطن ثقافتهم.و في الختام،تقبلوا منّا خالص التحية و الثناء.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

6 ذي الحجة الحرام 1420ه

ص:363

بسم اللّه الرحمن الرحيم

2

حضرات السادة الأعزّاء المشاركين

في هذا المهرجان الأدبي

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

لقد وافتنا رسالة تدعونا للمشاركة في المهرجان الأدبي الذي يقام في اليومين الأوّل و الثاني من شهر جمادى الأُولى 1409ه في دمشق تحت عنوان«أهل البيت في الشعر العربي و العالمي».

و يتناول بشكل خاص صدور«ملحمة أهل البيت الكبرى»للشاعر الكبير الشيخ عبد المنعم الفرطوسي رحمه الله.

و جاء في نصّ الرسالة انّ المركز يتولّى طبع جميع النتاجات التي تلقى في المهرجان أو التي تقدّم له على شكل بحوث و دراسات مستقلة.

و نحن نقدّر هذه الخطوة المباركة التي فيها إحياء لذكرى أهل البيت عليهم السلام و ذكرى محبّيهم في أقطار العالم.و يؤسفنا انّ الموسم الدراسي في جامعة قم حال بيننا و بين الحضور في المهرجان غير انّا نشارك الإخوة الكرام ببعث هذه الرسالة مرفقة بقصيدة في مدح النبي صلى الله عليه و آله و سلم،من البحر الكامل من البحور العروضية.لأحد

ص:364

الأفذاذ من علماء إيران ألا و هو الشيخ عبد الصمد التبريزي«الخامنه اي»المتوفى عام 1311ه.ق،و له ديوان فيه قصائد كثيرة في مدح أهل البيت عليهم السلام و ذكر مصائبهم و ما ألمّ بهم من كوارث و محن.

و اقتبسنا من ذلك الديوان لاميته المعروفة ب«لامية الترك»،لأنّ الشاعر تركي اللسان وُلد و نشأ في آذربيجان إحدى محافظات إيران الغربية.قرأ الأوليات من العلوم في مسقط رأسه و بعد ما وصل إلى مرتبة من العلم و الفضل هاجر إلى النجف الأشرف و أخذ يتردد على أندية دروس أساتذتها العظام.و قد اتصل في تلك البلدة الزاخرة بالعلم و الأدب بأدبائها و شعرائها المعروفين في القرن الثالث عشر،فانقدح بذلك كامن شعوره و تفجرت قريحته و طاقاته الأدبية،فأخذ ينظم قصائده الباهرة و يجاري أُدباءها و شعراءها.حتى أنّه ما نسي تلك المعاهد بعد ما هبط موطنه و عاد يتشوق لها و يقول مخاطباً صاحب البلدة. يا سَيّداً فاقَ أربابَ النُّهى شَرفاً

ص:365

فها أنا ذا أبعث إليكم قصيدته اللامية في مدح النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يجاري فيها اللاميتين المعروفتين بين الأُدباء و الشعراء.

لامية العرب للشنفري ابن الأوس اليماني (المتوفّى عام 510 م) و مطلعها: أقيموا بني أُمي صدور مطيكم فإنّي إلى قوم سواكم لأميل

و قد شرحها الزمخشري و أسماه:اعجب العجب في شرح لامية العرب. (1)

و قد روي في المجامع الأدبية عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم انّه قال:علّموا أولادكم لامية العرب فإنّها تعلّمهم مكارم الأخلاق».

و لامية العجم لمؤيد الدين الاصفهاني المعروف بالطغرائي:يقول ابن خلّكان:كان غزير الفضل،لطيف الطبع،فاق أهل عصره بصنعة النظم و النثر.قتل عام 515ه.ق،و من محاسن شعره قصيدته المعروفة بلامية العجم،و قد عملها ببغداد يشكو زمانه و هي التي أوّلها: أصالة الرأي صانتني عن الخطل

و جاء بعض الحكم في هذه القصيدة: 1.حب السلامة يثني هم صاحبه عن المعالي و يغرى المرء بالكسل

ص:366


1- 1) .كشف الظنون:349/2. [1]

فإن جنحت إليه فاتخذ نفقاً

2.لو انّ في شرف المأوى بلوغ مُنًى

5.ترجوا البقاء،بدار لا ثبات لها فهل سمعت بظل غير منتقل (1)

***

ص:367


1- 1) .وفيات الأعيان:185/2 [1] رقم الترجمة 197

و أمّا لامية شاعرنا المترجم،فإليك نقلها من ديوانه المخطوط المحفوظ بين أُسرة الشاعر. (1)نقدمها للمحتفلين الكرام حتى تكون انموذجاً واضحاً لازدهار الأدب العربي في تلك البلدة منذ أواخر القرن الثالث عشر و بداية الرابع عشر،و القصيدة من بحر الكامل:

ص:368


1- 1) .طبع هذا الديوان و نشر من قبل مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام سنة 1414 ه ق تحت عنوان«مقتطفات من ديوان أديب العلماء الشيخ عبد الصمد الخامنه اي و مختارات من أشعار معاصريه».

في مدح النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم

[بحر الكامل] أمَروا بِسُلواني غَداةَ تَرحَّلوا

و العينُ تَهمي مِنْ مآقيها دَماً أسفاً و نيرانُ الجوانِحِ تُشعلُ

سَلْ مَن أراقَ دمي بصارمِ جَفنِهِ هَلاّ يَرقُّ و قدْ بَكتني العُذَّل

ظبيٌ يَصيدُ بدَلِّهِ أُسدَ الشرى (1)بدرٌ بطَلعتهِ الكواكبُ تَخجل (2)

فالوجهُ منهُ رواهُ صبحٌ مُسفرٌ و الصدغُ (3)منهُ حكاهُ ليلٌ ألْيَل

إنْ رامَ قتلي في الغَرامِ فأنّ لي بغرامِهِ قسماً يَطيبُ المقتلُ

يا مُخجِلاً بَدرَ التَّمامِ بحُسنِهِ ما لي أراكَ مِنَ النَّواظِر تَخجَلُ

ص:369


1- 2) .الشرى:محل للأُسود في جانب الفرات،يضرب به المثل في قوة أُسوده.
2- 3) .و في نسخة على الهامش بدل الشطر الأخير يقول:(يحيي القلوب بمقلتيه و يقتل).
3- 4) .الصدغ:ما بين العين و أصل الأُذن.و الشعر المتدلي على هذا المحل يسمّى صدغاً.

و مِنَ العَجائبِ أنّني لكَ باذِلٌ نفسي و أنتَ برَشفِ ثغرِكَ تَبخلُ

جُدْ لي بوصلِ هُنَيهةٍ أ فلا ترى قَلبي لوصلِ هُنَيهةٍ يَتغلغلُ

ويلٌ لمن شربَ المُدامَ محرماً و مدامُ فيكَ لشاربيهِ مُحلّلُ

يا بابليَّ الطرفِ هل بكَ علّةٌ أمْ طرفكَ الفتّانُ لي يتعلّلُ

كم علّلَتني فيكَ أحلامُ الكَرى فإلام بالأحلامِ فيكَ أُعلّلُ

أحرِقْ بنارِ الشوقِ كلَّ جوارحي إلاّ الفؤادَ فإنّهُ لكَ منزلُ

تسري كبدرِ التمِّ سبحانَ الّذي أسرى ببدرٍ في سناهُ يضللُ

صيَّرتَ لي طيبَ الرقادِ مُحرماً و دمي تُبيحُ لقاتلي و تحلِّلُ

يا أيُّها الحادي رويدكَ راجلاً يَسعى وراءَ حبيبهِ و يُهرولُ

قد شابَ في شرخِ الهوى لمْ يدّخرْ زاداً ليومِ غدٍ عَلَيهِ يُعوَّلُ

إلاّ مديحَ محمدٍ خيرِ الورى نِعمَ المزادُ و خيرُ زادٍ يُحملُ

أنشأتُهُ مُستجدياً أرجو بهِ في النشأتينِ جَوائزاً و أؤمِّل

إنْ كنتُ أعجمَ في اللسانِ فإنّما لقريحتي قسٌّ يَدينُ و جرولُ (1)

فالطبعُ يُعربُ عن فصاحةِ كلمةٍ عربيةٍ لا في التحاورِ مقول

يا لابساً ثوبَ الحدادِ محرّماً انزعْ فقدْ وافى الربيعُ الأوّل

شهرٌ تولّدَ فيه مَنْ كُسرَتْ به إيوانُ كسرى و الملوكُ تذلّلوا

ص:370


1- 1) .جرول:اسم الحطيئة الشاعر المعروف.

و انكبَّ أصنامٌ و غاضَتْ ساوةٌ و سماوةٌ فاضتْ و ريعَ المُشْعِل

مَنْ كانَ محموداً حقيقتهُ و ما كانتْ حقائقُ ما سواهُ تُبجَّل

ليثٌ إذا ما احمرَّ أطرافُ القَنا غيثٌ إذا ما اغبرَّ عام مُمحل

اللّهُ كلَّلهُ بتشريفٍ و لا فلكٌ بإكليلٍ هناكَ مُكلَّل

للّهِ سرٌّ في طويةِ كنهِهِ بابٌ لهُ للشارحينَ مقفَّلُ

لولاهُ لم تُقبلْ لآدمَ توبةٌ و بهِ ندامةُ كلِّ عاصٍ تُقبل

هو كعبةُ الأملاكِ و الملأُ الّذي طوعاً بكعبتهِ يطوفُ و يرملُ (1)

بأبي نبيٌّ لا يفوقُ مقامَهُ مَلَكٌ مقرّب أو نبيٌّ مرسل

لولاهُ ما خُلِقَ الثُّريا و الثَّرى حاشا و لا ماضي و لا مستقبل

يا مَن بيُمنِ قدومهِ وجهُ الثرى متكرّمٌ.مُتمجّدٌ.متهلّل

ظلّت بكَ الأبصارُ خاشعةً كما كلَّ (2)النجاشي منطقاً أو هرقل

فالعرشُ حيثُ رأى الثَّرى لكَ موطأ يا ليتَ شِعري كيفَ لا يتهبلُ (3)

فأمرْ بما شئتَ الزمانَ فإنّهُ عبدٌ يطيعُ لما تَشاءُ و يفعل

أنتَ الذي جُبتَ السماواتِ العُلى في ليلةِ الأسرا كبدرٍ يكمل

ص:371


1- 1) .رَمَل هنا من رَملَ رَمَلاً رَمَلاناً:هَرْوَلَ في مَشْيِهِ.
2- 2) .كلَّ عجز.
3- 3) .يتهبل:يفقد مشاعره من الإعجاب.

هذا الهلالُ مثالُ نَعلكَ في السما في عالمِ الملكوتِ باتَ يُمثل

لولاكَ ما أحدٌ تدثَّرَ بالتُّقى يا أيُّها المدَّثّر المتزمّل

هلَّلتَ حيث لا خلاءُ و لا ملا علَّمتَ سكانَ السماءِ فهلّلوا

تُؤتى غداً بلواءِ حمدٍ لم تزلْ رسلُ الإلهِ بظلّهِ تَتظلّل

أنتَ المدينةُ للعلومِ و بابها المأتيُّ منهُ...المرتضى و المدخل

هو شافعٌ يومَ الحسابِ مشفَّعٌ هو موئلٌ للخاطئينَ مُعوَّلُ

يا مَخْزَنَ الأسرارِ و الحِكمِ الّتي معشارها بعقولنا لا يُعقلُ

قَدْ غالني صَرفُ الزمانِ و ليس لي غوثٌ يُساعدني عليهِ و مَعقِلُ

ما لي إليكَ وسيلةٌ تُجدى بها فإليكَ لا أدري بما ذا أسألُ

و المزنُ دونَ نداكَ تؤتى نعمةً و البحرُ عندَ نوالِ كفِّكَ جدولُ

ما مِدحَتي إلاّ كرِجلِ جَرادةٍ قدراً و حاشا أن تليقكَ أرجلُ

لكنّها منّي إليكَ هديّةٌ و أراكَ مِنْ مثلي الهدايا تَقبلُ

صَلّى عليكَ و آلِكَ الرحمنُ ما لاحَ الثُّريا و السِّماكُ الأعزلُ

ص:372

بسم اللّه الرحمن الرحيم

3

اشارة

إلى فضيلة الأُستاذ قيس ظبيان المحترم

مدير تحرير مجلّة الشريعة الغرّاء

السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد،فلقد وصلني العدد 339 من مجلة الشريعة،فتصفّحت مواضيعها،و استرعى انتباهي ما أجاب به فضيلة الشيخ عبد اللّه بن منيع عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية،حينما وجهت إليه مجموعة من الأسئلة،إلاّ أنّني لا أُشاطره الرأي في جواب السؤال التاسع و الحادي عشر،و إليك نصّ كلامه:

السؤال التاسع:لما ذا سمّيت حجّته بحجّة الوداع؟

فأجاب بأنّه صلى الله عليه و آله و سلم تُوفي بعد أربعة أشهر من هذا الحجّ فكانت وداعاً منه صلى الله عليه و آله و سلم لأُمّته.

أقول:الصحيح أن يقول ثلاثة أشهر لا أربعة أشهر،لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم توفّي في الثاني عشر من ربيع الأوّل حسب رأي أهل السنّة،و الفترة بين الثاني عشر من ذي الحجّة الذي تنتهي فيه أعمال الحجّ،إلى الثاني عشر من ربيع الأوّل،لا تتجاوز عن ثلاثة أشهر.

ص:373

السؤال الحادي عشر:هل زيارة المسجد النبوي الشريف من مكمِّلات الحجّ؟

اشارة

فأجاب (حفظه اللّه):بأنّ من استكمل في حجّه أركان الحجّ و واجباته و لم يقم بزيارة المسجد النبوي،فحجّه صحيح و قد فاته فضل الزيارة.

ألفت نظر فضيلة الشيخ و القرّاء إلى أمرين:

الأمر الأوّل:انّ زيارة المسجد النبوي مستحبة في جميع أيّام السنة،و إقامة ركعة فيه تعادل ألف ركعة أو أزيد من غير فرق بين أيّام الحجّ و غيرها،و هذا ممّا لا خفاء فيه و لا تحوم حوله الشكوك.

الأمر الثاني:تضافرت الروايات على استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم مطلقاً،بالأخص عند شدّ الرحال إلى الحجّ و يبلغ عدد الروايات ما يربو على العشرين،و نذكر منها ما يلي:

1.روى عبد اللّه بن عمر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم:من زار قبري وجبت له شفاعتي.

2.روى عبد اللّه بن عمر مرفوعاً:من جاءني زائراً لا تحمله إلاّ زيارتي كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة.

3.روى عبد اللّه بن عمر مرفوعاً:من زار قبري بعد وفاتي كمن زارني في حياتي.

4.عن عبد اللّه بن عمر مرفوعاً:من حجّ البيت و لم يزرني فقد جفاني.

5.عن عبد اللّه بن عمر:من حجّ حجّة الإسلام،و زار قبري،و غزا غزوة،و صلّى عليَّ في بيت المقدس لم يسأله اللّه عزّ و جلّ فيما افترض عليه.

إلى غير ذلك من الروايات الحاثّة على زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مطلقاً أو عند حجّ بيت اللّه الحرام.

ص:374

و قد أخرج هذه الروايات،الأثبات من أئمّة الحديث و حفاظه و صحّحوا أسنادها،و على رأسهم تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي(المتوفّى756ه) و قد ذكر طرق هذه الأحاديث في«شفاء السقام»في أوائل الكتاب،كما تكلم فيها السيد نور الدين عبد اللّه الشافعي القاهري السمهودي (المتوفّى 911ه) في كتاب«وفاء الوفا»إلى غير ذلك،كما ألّفت رسائل خاصّة في هذا المضمار.

و نحن لا نحوم حول هذه الأحاديث و أسانيدها و مصادرها،و إنّما نلفت نظر القارئ إلى نكتة مهمة و هي:

إنّ هذه الأحاديث و الفتاوى المتضافرة على زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خصوصاً ما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم:«من حجّ البيت و لم يزرني فقد جفاني» صار سبباً لإثارة هذا السؤال عند بعض الناس:و هو هل زيارة قبر النبي من مكمّلات الحجّ؟

فهذا السّؤال هو الذي يتبادر إلى الأذهان-من هذه الأحاديث-و تتناوله الألسن،لا انّ زيارة مسجد النبي من مكمِّلات الحجّ،إذ لا يتبادر منها انّ مجرّد زيارة المسجد من مكملات الحجّ حتى يجيب عليه فضيلة الشيخ،لأنّ لسان الروايات هو زيارة قبر النبي في أيّام الحجّ لا زيارة مسجده،فلو كان ثمة سؤال فإنّما يتعلّق بزيارة قبر النبي لا بمسجده،و سيوافيك تصريح بعض الأعلام أنّ زيارة قبره صلى الله عليه و آله و سلم من كمالات الحجّ.

و الذي أظن انّ السؤال كان على النحو الذي طرحناه،و لكن لما كانت زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و شدّ الرحال إليه لا تنسجم مع وجهة نظر المجيب بدّل السؤال من«زيارة قبر النبي»ب«زيارة مسجد النبي».

و على أيّة حال فإذا كان السؤال هو الدارج بين بعض الناس فالجواب عنه

ص:375

كالتالي:

إنّ زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم ليست من مكمّلات الحجّ،و من حجّ البيت و استكمل أركانه و واجباته و لم يقم بزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم فحجّه صحيح،و لكن فاتته فضيلة كبيرة حثّت عليها السنّة النبويّة و السيرة العملية للمسلمين.

أمّا السنّة النبوية فقد وقفت على شيء قليل منها،و قد بلغ ما روي حول زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم ما يربو على عشرين حديثاً حتى أنّ الأئمّة الأربعة أفتوا باستحباب زيارته،حيث اتّفقت عليه كلمات أعلام فقهاء المذاهب الأربعة (1)و قالوا:إنّ زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أفضل المندوبات، و قد ورد فيها أحاديث ثمّ ذكروا ستة منها،و جملة من أدب الزّائر و زيارة للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أُخرى للشيخين. (2)

و أمّا السيرة:فقد حكاها غير واحد من أئمّة الفقه و الحديث نقتصر على النزر اليسير منها.

1.قال أبو الحسن الماوردي(المتوفّى 450ه):

فإذا عاد وليّ الحاج،سار به على طريق المدينة لزيارة قبر رسول اللّه ليجمع لهم بين حجِّ بيت اللّه عزّ و جلّ،و زيارة قبرِ رسول اللّه رعايةً لحرمته و قياماً بحقوق طاعته،و ذلك و إن لم يكن من فروضِ الحجّ،فهو من مندوبات الشرع المستحبّة و عبادات الحجيج المستحبة. (3)

ص:376


1- 1) .انظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة:590/1.
2- 2) .انظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة:590/1.
3- 3) .الأحكام السلطانية:105. [1]
2.يقول الإمام النووي (631- 676ه):

فصل في زيارة قبر رسول اللّه و أذكاره

اعلم أنّه ينبغي لكلّ من حجّ أن يتوجّه إلى زيارة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سواء كان ذلك في طريقه أو لم يكن،فانّ زيارته صلى الله عليه و آله و سلم من أهمّ القربات و أربحِ المساعي و أفضلِ الطلبات،فإذا توجّه للزيارة أكثر من الصلاة عليه صلى الله عليه و آله و سلم،فإذا وقع بصره على أشجار المدينة و حرمها و ما يُعرف بها،زاد من الصلاة و التسليم عليه صلى الله عليه و آله و سلم و سأل اللّه أن ينفعه بزيارته صلى الله عليه و آله و سلم و أن يُسعِدَه بها في الدارين،و ليقل:«اللّهمّ افتح عليّ أبواب رحمتك و ارزقني في زيارة قبر نبيّك صلى الله عليه و آله و سلم ما رزقته أولياءك و أهل طاعتك و اغفر لي و ارحمني يا خير مسئول». (1)

3.و قال ابن الحاج محمد بن محمد العبدوي القيرواني المالكي (المتوفّى 737ه):

و أمّا عظيم جناب الأنبياء و الرسل صلى الله عليه و آله و سلم فيأتي إليهم الزائر ويتعيّن عليه قصدهم من الأماكن البعيدة،فإذا جاء إليهم فليقف بالذلِّ و الانكسار،و المسكنة و الفقر،و الفاقة و الحاجة،و الاضطرار و الخضوع،و يُحضر قلبَه و خاطره إليهم و إلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره، لأنّهم لا يبلون و لا يتغيرون. (2)

4.قال شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي (المتوفّى 925ه):

يستحبّ لمن حجّ أن يزور قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و يسلم عليه،و على صاحبيه بالمدينة المشرّفة. (3)

ص:377


1- 1) .الأذكار النووية:333،طبعة دار ابن كثير،1407ه.ق.
2- 2) .المدخل:257/1،فضل زيارة القبور.
3- 3) .أسنى المطالب في شرح روض الطالب:501/1.
5.قال الشيخ زين الدين عبد الرءوف المناوي (المتوفّى 1031ه):

و زيارة قبره الشريف من كمالات الحجّ. (1)

و هو يعدُّه من كمالات الحجّ لا من مكمّلات الحجّ و شتان بينهما.

6.قال الشيخ علاء الدين الحصكفي الحنفي (المتوفّى 1088ه):

و زيارة قبره صلى الله عليه و آله و سلم مندوبة بل قيل واجبة لمن له سعة،و يبدأ بالحجّ لو فرضاً،و يُخيّر لو نفلاً ما لم يمرّ به،فيبدأ بزيارته لا محالة، و لينو معه زيارة مسجده صلى الله عليه و آله و سلم. (2)

7.قال الشيخ إبراهيم الباجوري الشافعي (المتوفّى 1277ه):

و يُسنّ زيارة قبره صلى الله عليه و آله و سلم و لو لغير حاج و معتمر كالذي قبله،و يُسن لمن قصد المدينة الشريفة لزيارته صلى الله عليه و آله و سلم أن يُكثر من الصلاة و السلام عليه في طريقه،و يزيد في ذلك إذا رأى حرم المدينة و أشجارها،و يسأل اللّه أن ينفعه بهذه الزيارة و يتقبلها منه. (3)

8.و قال الشيخ عبد الباسط بن الشيخ علي الفاخوري مفتي بيروت:

و هي (زيارة النبي) متأكدة مطلوبة و مستحبة و محبوبة-إلى أن قال:-و تحصل الزيارة في أي وقت و كونها بعد تمام الحجّ أحب. (4)

ص:378


1- 1) .شرح الجامع الصغير:140/6.
2- 2) .الدر المختار في شرح تنوير الأبصار:آخر كتاب الحجّ.
3- 3) .في حاشية على شرح ابن الغزي على متن الشيخ أبي شجاع في الفقه الشافعي:347/1.
4- 4) .الكفاية لذوي العناية:125.
9.قال الشيخ عبد المعطي السقافي:

زيارة النّبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذا أراد الحاج أو المعتمر الانصراف من مكة-أدام اللّه تشريفها و تعظيمها-طلب منه أن يتوجّه إلى المدينة المنورة للفوز بزيارته عليه الصلاة و السلام،فانّها من أعظم القربات و أفضل الطاعات،و أنجح المساعي المشكورة،و لا يختص طلب الزيارة بالحاج غير انّها في حقّه آكد.

و الأولى تقديم الزيارة على الحجّ إذا اتّسع الوقت،فانه ربما يعوقه عنها عائق،و قد ورد في فضل زيارته صلى الله عليه و آله و سلم أحاديث كثيرة. (1)

10.قال السيد محمد بن عبد اللّه الجرداني الدمياطي الشافعي (المتوفّى 1307ه):

فزيارة قبره صلى الله عليه و آله و سلم من أعظم الطاعات و أفضل القربات فينبغي أن يُحرص عليها و ليحذر كلّ الحذر من التخلّف عنها مع القدرة خصوصاً بعد حجّة الإسلام،لأنّ حقّه صلى الله عليه و آله و سلم على أُمّته عظيم. (2)

هذه كلمات الأثبات الحفّاظ أتينا بها كنموذج لما لم نذكر و ما تركناه أكثر ممّا نقلناه،و قد انتقينا هذه الكلمات لأنّها تركّز على زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم لمن أراد الحجّ.

إنّ هذه الكلمات تعرب عن اتّفاق الأُمّة بكافة مذاهبها على استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم لمن زار البيت،و تؤكد-في الوقت نفسه - على أنّها ليست من مكمّلات الحجّ،فكان اللازم على الشيخ المجيب طرح السؤال و الجواب على النحو الذي قررناه.

ص:379


1- 1) .الإرشادات السنية:260.
2- 2) .مصباح الظلام:145/2.

و ممّا ينبغي الإشارة إليه هو انّ الذي دعاني إلى تعقيب هذه الفتوى سؤالاً و جواباً،هو ما لمست من التحريف الذي تطرق إلى كتاب «الأذكار»للإمام يحيى النووي لا سيما فيما يرجع إلى استحباب زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم للحاج،فقد حرّف بعضُ من ينتمي إلى السلفية عنوان الفصل و محتواه،و لمزيد الإيضاح أقول:

طبع هذا الكتاب مرّة في القاهرة عام 1375ه،ثمّ أُعيد طبعه ثانياً في دار ابن كثير عام 1407ه،و لما أُعيد طبعه ثالثاً في دار الهدى للنشر و التوزيع حرّف عنوان الفصل فقد كان العنوان في الطبعتين الأُوليين هكذا:«فصل في زيارة قبر رسول اللّه و أذكارها»،و جاء في الطبعة الثالثة مكانه:«فصل في زيارة مسجد رسول الله».

كما حرّف مضمون الفصل و محتواه حيث جاء في الطبعتين الأُوليين-بعد العنوان-قوله:«اعلم أنّه ينبغي لكلّ من حجّ أن يتوجّه إلى زيارة رسول اللّه سواء كان ذلك في طريقه أو لم يكن،فإنّ زيارته من أهمّ القربات و أربح المساعي و أفضل الطلبات،فإذا توجّه للزيارة أكثر من الصلاة عليه في طريقه،فإذا وقع بصره على أشجار المدينة...»

لكن جاء في الطبعة الثالثة مكان تلك العبارة ما يلي:«يستحبّ من أراد زيارة مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يكثر الصلاة عليه في طريقه، فإذا وقع بصره على أشجار المدينة».

و المختلق المسكين مع أنّه خان الأمانة العلمية لم يستطع أن يسدل الستار على خيانته،فانّ ما جاء به عقب العنوان،حتى بصورته المحرّفة،لا يناسب عنوان الفصل المجعول.

فانّ العنوان حسب جعله منصبّ على زيارة المسجد،و ما أعقبه-مع

ص:380

تحريفه-يركز على الصلاة على الرسول و يقول:«من أراد زيارة مسجد رسول اللّه أن يكثر من الصلاة عليه في طريقه»،فانّ هذه العبارة تناسب حال من أراد زيارة قبره لا مسجده.

و ها أنا أُهيب بالأحرار من المثقّفين في البلاد العربية أن لا يسمحوا لأهل التحريف أن يتلاعبوا بالتراث الذي خلفه السلف الصالح.

و ممّا أدهشني أنّ محقّق الكتاب-في الطبعة الثالثة-هو عبد القادر الأرناءوط السوري،و هو معروف بأمانته العلمية و لا أدري لما ذا سمح بطروء التحريف إلى ما حقّقه،و لا أظن انّه قام بهذا التحريف.

«وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمّا كانُوا يَفْتَرُونَ» 1.

و اللّه من وراء القصد

جعفر السبحاني

قم.الجامعة الإسلامية

ص:381

بسم اللّه الرحمن الرحيم

4

إلى أبناء منطقة الإحساء

(حفظهم اللّه)

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد،فقد وافتنا رسالتكم المؤرخة بتاريخ 6 صفر 1421ه.ق تضم في طياتها مجموعة من الاستفسارات،و قد انتابني الحزن و القلق حيال ما جاء فيها من الإجراءات التعسفية للحد من الشعائر الحسينية،و نجيب على تلك الاستفسارات بالنحو التالي:

1.يلزم الحفاظ على هذه الشعائر،لأنّ فيها إحياءً لذكرى الإمام الحسين عليه السلام التي فيها دروس و عبر للأُمّة الإسلامية،و هو-سلام اللّه عليه - مثال للصمود و الإباء أمام الطغاة كما يقول ابن أبي الحديد البغدادي:

«سيد أهل الإباء الذي علّم الناس الحميّة،و الموت تحت ظلال السيوف،اختياراً له على الدنيّة،أبو عبد اللّه الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام،عرض عليه الأمان،فأنِفَ من الذُّل،و خاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان إن لم يقتله،فاختار الموت على ذلك». (1)

ص:382


1- 1) .شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:249/3. [1]

ففي إقامة المجالس لاستشهاد سيد أهل الإباء،إحياء للحميّة الإسلامية،و ترجيح الموت في عزّة على الحياة الدنيّة مع الطغاة،و هل هناك شيء معروف أكثر من ذلك؟!

2.انّ حبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أصل من أُصول الإسلام،و كفى في ذلك:

ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده و ولده و الناس أجمعين. (1)

و هكذا حبّ أهل بيته عليهم السلام فقد تضافرت الروايات على ذلك.

روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم انّه قال في حقّ ولديه«الحسن و الحسين»:«من أحبَّهما فقد أحبني،و من أبغضهما فقد أبغضني-يعني الحسنين».

أخرج الترمذي عن أنس بن مالك،قال:سئل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أيّ أهل بيتك أحبّ إليك؟ قال:الحسن،الحسين،و كان يقول لفاطمة:

ادعي ابني فيشمهما،فيضمهما إليه. (2)

هذا و لا يخفى على أحد انّ للحبّ مظاهر:

الأوّل:الاتّباع و أخذهم أُسوة في الحياة.

الثاني:مشاركتهم في الأفراح و الأحزان،فالاحتفالات و إقامة مجالس العزاء كلّها من مظاهر الحبّ عبر الزمان،و منعها بخس لحقوقهم و ردّ لوصية الرسول في حقّهم،و ليس هذه الشعائر إلاّ تجسيداً لحبهم و مودتهم التي جعلها اللّه أجر الرسالة و قال: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» 3.

ص:383


1- 1) .صحيح البخاري:9/1؛صحيح مسلم:49/1؛مسند أحمد:177/3،207،275؛11/4. [1]
2- 2) .سنن الترمذي:657/5 برقم 2772.

على أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو أوّل من بكى على الحسين عليه السلام و أبّنه.

3.أخرج الحافظ الحاكم النيسابوري في مستدركه على الصحيحين عن أُم الفضل بنت الحارث انّها دخلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقالت:يا رسول اللّه إنّي رأيت حلماً منكراً الليلة،قال:و ما هو؟ قالت:إنّه شديد،قال و ما هو؟ قالت:رأيت كأنّ قطعة من جسدك قطعت و وضعت في حجري! فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:رأيت خيراً،تلد فاطمة-إن شاء اللّه-غلاماً فيكون في حجرك،فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري - كما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فدخلت يوماً إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فوضعتَه في حجره،ثمّ حانت منّي التفاتة فإذا عينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تهريقان من الدموع! قالت:

فقلت:يا نبيّ اللّه بأبي أنت و أُمّي ما لك؟ قال:أتاني جبرئيل عليه الصلاة و السلام فأخبرني أنّ أُمّتي ستقتل ابني هذا،فقلت:هذا؟ فقال:نعم،و أتاني تربة من تربته حمراء.

فقال الحاكم:هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه. (1)

هذا قليل من كثير حول حبّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لأهل بيته عليهم السلام،فالواجب يحتم على المسلمين إحياء أمرهم،و أمّا من يمنع عن إقامة الشعائر،فعليه أن يرجع إلى كتاب اللّه و سنّة رسوله،قال سبحانه: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ» 2 فمن حال بين الأُمة و عترته الطاهرة فقد حرم من شفاعة النبي صلى الله عليه و آله و سلم يوم القيامة.

و أمّا مهمة المؤمنين و الخطباء هو التمسك بأهداب ولاية العترة الطاهرة الذين جعلهم الرسول أعدال الكتاب،و قال:«إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي»و إشاعة الشعائر الحسينية بين الشباب الواعي و الغيور كي يستلهموا

ص:384


1- 1) .مستدرك الحاكم:176/3.

الدروس و العبر من ملحمة الطف الخالدة.

أسأل اللّه سبحانه أن يمنّ عليكم بالخير و البركة و العافية و أن يحلّلكم بثوب التقوى و أنتم المرحومون بدعاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عترته الطاهرة حيث أحييتم أمرهم.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

1 ربيع الأوّل من شهور عام 1421ه

ص:385

بسم اللّه الرحمن الرحيم

5

اشارة

إلى الإخوة المؤمنين

في دار الزهراء في الكويت

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد؛

فقد وافتني رسالتكم الميمونة،معربة عن طيب أعراقكم،و شريف أخلاقكم،و اهتمامكم البالغ بتربية الشباب تربية دينيّة واعية تصونهم عن الزلل في العقيدة و العمل.و هذه وظيفة ثقيلة ملقاة على عاتق الأولياء لا سيما الأبوين.

هذا هو لقمان الحكيم،المربِّي النموذجي،الذي يعرّفه القرآن الكريم بقوله: «وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» 1 .

و الآية تعرب عن إفاضة الحكمة عليه،و طلب الشكر حيالها،فقام هو ببذل النُُّصح التامّ لولده و تعليمه الحكمة،و بادر إلى دعوته إلى التوحيد و نبذ الشرك،كما يحكيه سبحانه عنه،و يقول: «وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ

ص:386

إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» 1 .

فيا بشرى لكم لقد اتخذتم ذلك الحكيم الإلهي أُسوة في حياتكم،حينما طرحتم تلك الأسئلة التي تنمّ عن مدى سعيكم الحثيث لتربية الشباب تربية إسلامية صحيحة.

فها نحن نقوم بالإجابة عليها واحداً تلو الآخر على وجه الإيجاز:

السؤال الأوّل

اشارة

يعيش الشباب من حيث يشعرون أو لا يشعرون غزواً فكرياً و ثقافيّاً لمحو هويّتهم الإسلامية،فما هي نصيحتكم في هذا المجال؟

الجواب:

لا شكّ انّ لتطور شبكة الاتصال أثراً بالغاً في حياة الإنسان لا سيما و انّها أوجدت تحولاً جذرياً في سلوكه و تدبير أُموره و كيفية تعامله مع الناس.

و بات واضحاً انّ وسائل الاتصال،كالتلفزة،و الأقمار الصناعية،و الانترنت،قد غمرت العالم بأفكارها،و ساهمت في ترويج فكرة العولمة الثقافية و الاقتصادية.

ففي هذه الظروف الخطيرة التي تزداد فيها الهجمة الثقافية شراسة على المسلمين بغية مسخ هويتهم و ذوبها تتضاعف مسئولية المسلمين،عملاً بقوله صلى الله عليه و آله و سلم:«كلّكم راع و كلّكم مسئول عن رعيّته».

و من هنا فانّ انطلاقة أي وعي إسلامي في المجتمع يتم عبر عدة قنوات:

ص:387

الأُولى:الأُسرة باعتبارها اللبنة الأُولى في بناء شخصية الإنسان المسلم،فالمسئولية الأُولى تقع على عاتق الوالدين في تربية أبنائهم تربية إسلامية بنّاءة.

الثانية:أجهزة التربية و التعليم فهي التي تنمي طاقات الإنسان الفكرية و المعنوية من خلال عرض برامج تثقيفية و إسلامية تتناسب مع أعمارهم و يا للأسف فانّ تلك الأجهزة تتقاعس عن القيام بهذه المهمة الكبرى.

الثالثة:إقامة المهرجانات و الأعياد الدينيّة و الشعائر الحسينية و إلقاء الخطب و دعوة رجال العلم و الصلاح لإلقاء المحاضرات التي تتجاوب مع روح الشباب لها من الأهمية في بث الروح الدينية و توثيق أواصر الصلة بين الإخوة المؤمنين و تعزيزها.

الرابعة:تنظيم الرحلات العلمية و إقامة المخيّمات بين الشبيبة و التعرّف على بعضهم البعض بغية ملء أوقات فراغهم.

و فوق هذا كلّه فلا بدّ للجهات المعيّنة بالجانب الثقافي من انتاج برامج إسلامية بديلة عن البرامج التي يبثّها الغرب.

السؤال الثاني

اشارة

ما هي مقوّمات الشخصية الإيمانية ذات التقوى؟

الجواب:

الإيمان هو أمر راسخ في القلب و يتبلور في الإيمان باللّه الخالق القادر المتعال،العالم بالسرّ و الخفايا،الذي لم يخلق الإنسان سدى.

و في الإيمان برسالاته و رسله الذين بعثوا لهداية الإنسان إلى ما فيه سعادته و صلاحه،و أناروا الدرْب له إلى يوم القيامة.

ص:388

و في الإيمان باليوم الآخر الذي يجمع اللّه فيه الناس قاطبة على صعيد واحد ليجزيهم بما عملوا.

و هذه الأُصول الثلاثة هي الحجر الأساس للإيمان و التقوى.

و الإيمان الصادق ينعكس على سلوك الفرد المؤمن في حِلّه و ترحاله و سفره و حضره،فيرى نفسه مسئولاً أمام اللّه و أمام المجتمع و أمام نفسه،فيؤدّي حق اللّه سبحانه في حلاله و حرامه،كما يؤدي حقوق الناس في معاشرته معهم.و يؤدّي حقّ نفسه بالتفكّر في صلاحه و فلاحه.

و بكلمة مختصرة:انّ المؤمن يعيش حالة الانصياع للّه سبحانه في كلّ أُموره و أحواله،و يبعثه هذا إلى احترام الحقوق في كافة المجالات.

و قد سأل همام-ذلك الرجل العابد-أمير المؤمنين عليه السلام عن صفات المتّقين،فقال:صف لي المتّقين فكأنّي أنظر إليهم،فخطب الإمام عليه السلام خطبته المعروفة حيث وصف فيها المتّقين بقوله:«فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل:منطقهم الصواب،و ملبسهم الاقتصاد،و مشيهم التواضع، غضُّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم،و وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم...». (1)

و يا حبَّذا لو قام الأولياء بتحفيظ أبنائهم هذه الخطبة التي جمعت بين روعة اللفظ و جمال المعنى.

السؤال الثالث

اشارة

كيف يمكن للمربّين المؤمنين تنمية و تحفيز حالة التقوى لدى الشباب؟

الجواب:

إنّ الناشئ كفسيلة بحاجة إلى مراقبة مستمرّة لكي تنمو حتى تُصبح

ص:389


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة 193. [1]

شجرة تضرب بجذورها في الأرض على وجه لا تزعزعها العواصف المدمِّرة،و هكذا حال الناشئ فهو بحاجة ماسة إلى توعية و تربية إسلامية بنّاءة غير منقطعة حتى تكتمل شخصيته الإيمانية للحيلولة دون تسرّب الشيطان إلى قلبه.

و من أهم الأساليب التي تؤثر في تنمية حالة التقوى لدى الشباب هو ان لا يجد الشاب فراغاً في أوقاته ليملأها بما فيه الضرر و الضلال على نفسه أوّلاً،و على مجتمعه ثانياً.

و لقد قالوا: انّ الفراغ و الشباب و الجدة مفسدة للمرء أيّ مفسدة

و قد مرّ من خلال استعراض الإجابة على السؤال الأوّل كيفية ملء أوقات فراغ الشباب،و بهذا يتضح أيضاً جواب السؤال الرابع.

و في الختام أرجو من اللّه سبحانه أن يسدِّد خطاكم في سبيل أهدافكم المقدسة بحقّ نبيّه و آله.

و لكم منّا بالغ التحية و السلام.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

تحريراً في 21 من شهر رمضان المبارك

من شهور عام 1420ه

ص:390

بسم اللّه الرحمن الرحيم

6

اشارة

إلى الإخوة المؤمنين

في دار الزهراء

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد،لقد وافتنا رسالتكم المؤرّخة بتاريخ 11 محرم الحرام عام 1421ه،التي طرحتم فيها أسئلة تمت إلى الشباب بصلة،و سنقوم بالإجابة عنها بنحو موجز:

1.على ضوء وصايا لقمان لابنه و هو يعظه كم هي قيمة التربية المباشرة في الإرشاد و التسديد و النصيحة؟

إنّ التربية المباشرة لها تأثير بالغ في تكوين شخصية الإنسان و تربيته و من أبرز مصاديقها التربية داخل محيط الأُسرة،فانّ الأبناء ينظرون إلى الآباء نظرة إجلال و إكبار حيث إنّهم يتربّون في أحضانهم،كما أنّ الآباء ينظرون إلى أبنائهم نظرة الناصح المشفق فيكون لتربيتهم المباشرة أثرٌ بارز في نفوسهم،و لكن شريطة أن يكون الإرشاد جامعاً لما هو شرط التأثير الذي منه إحياء شخصية الطفل لكي يعي و يفهم و يدرك ما يصلح أمره أو يفسده،كما نرى أنّ الإمام الحسن عليه السلام

ص:391

يخاطب بنيه و بني أخيه،بقوله:«إنّكم صغار قوم و يوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين،فتعلّموا العلم،فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه و ليضعه في بيته». (1)

ترى أنّه ينفثُ في روعهم العظمة،و يقول:«إنّكم صغار قوم و يوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين»،فهذا النوع من التوعية يحقق أرضية صالحة لقبول ما يعقبه من النصائح.

و أمّا خطاب الأولاد مرفقاً بالغلظة و الشدة فلا يترك وقعاً في نفوسهم إلاّ قليلاً بل يزيدهم لجاجاً.

2.نريد شباباً قرآنياً...جيلاً قرآنياً كيف يتسنّى لنا ذلك؟

الجيل القرآني عبارة عمّن يخالط القرآن لحمه و دمه،و هو رهن أمرين:

1.تعليم القرآن من لدن صباه،و الدعوة إلى حفظ ما أمكن منه،و الترغيب بالمشاركة في المهرجانات التي تقام لأجل تكريم حفظة القرآن.

2.أن يعيش في أحضان أبوين يقرآن القرآن،و يلتزمان بتعاليمه،و إلاّ فالشاب البعيد عن الأجواء القرآنية لفظاً و معنى،و صورة و مادة،لا يكون شاباً قرآنياً.

3.هل للإسلام إرشادات توجيهية في ضبط حركة المراهقة و صونها من الوقوع في المزالق؟

إنّ الشاب المراهق في خطر من جهتين:من جهة العقيدة و من جهة العمل.

ص:392


1- 1) .بحار الأنوار:110/1. [1]

أمّا الأُولى:فصيانته عن المزالق رهن توعيته،إمّا عن طريق إلقاء الدروس الدينية على مسامعهم،أو بإقامة ندوات علمية تربوية يشارك فيها الشاب بغية الوقوف على مضاعفات الانحلال الخُلقي

و أمّا الثاني فهو رهن المراقبة التامة كي لا يختلط برفاق السوء،يقول سبحانه: «يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً» 1 ،فالخلّة أمر لا محيص عنها لكن يجب انتخاب الخليل الصالح لا الطالح،مضافاً إلى ضرورة التسريع في زواجه،قال عليه السلام:من تزوج فقد أحرز نصف دينه.

4.المعلم أو المربي ما هي خصاله و ما هي مسئولياته؟

إنّ من أهمّ خصال المعلم هي:

1.أن يكون ممن يعرف الحقّ و يلتزم به في حياته العملية.

2.أن تكون له رغبة بعمله سواء على صعيد التربية أو التعليم.

5.ما هي أصناف الإخوان مع بيان منهج التعاون مع كلّ صنف؟

إنّ الإخوان على قسمين حسب ما قسمهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام،فقال:

الإخوان صنفان:إخوان الثقة،و إخوان المكاشرة.فأمّا إخوان الثقة فهم كالكف و الجناح و الأهل و المال،فإذا كنت من أخيك على ثقة فابذل له مالك و يدك،وصاف من صافاه،و عاد من عاداه و أكتم سرّه و أعنه و أظهر منه الحسن.

و اعلم أيّها السائل انّهم أعز من الكبريت الأحمر.

ص:393

و أمّا إخوان المكاشرة فانّك تصيب منهم لذتك،فلا تقطعنّ ذلك منهم،و لا تطلبنّ ما وراء ذلك من ضميرهم،و أبذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه،و حلاوة اللسان.

و قد بين الإمام كيفية المعاشرة و التعامل معهم.

6.كلمة أخيرة توجّهونها للشباب؟

الكلمة الأخيرة التي أود أن أُقدّمها إلى الشباب المسلم هي انّ المجتمع الإنساني صار كالقرية الكونية،و ازدادت فيه الحملات المسعورة على الدين و أهله،فالواجب يحتم على الشباب الواعي أن يتمسّك بأهداب دينه و يلتزم به في سلوكه،لأنّ فيه حفظ هويتهم الثقافية و الاجتماعية لا سيما في عصر العولمة الثقافية التي تبغي من وراء بث أفكارها المسمومة طمسَ الهوية الدينية،و أن لا ينجرّ إلى المؤامرات التي يحيكها الغرب بغية النيل من الدين و الإطاحة به.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

2ربيع الأوّل1421ه.ق

ص:394

بسم اللّه الرحمن الرحيم

7

رسالة مفتوحة

إلى خادم الحرمين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود

سلام عليكم

أمّا بعد،فإنّ الوهابيّة مُنذُ أن سيطرت على الحرمين الشريفين لم تأْلُ جهداً في إزالة آثار النبوّة و الرسالة،و محو كلّ ما هو من علائم الأصالة الإسلامية،من خلال هدم بيوت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و حُجرات و بيوت زوجاته أُمّهات المؤمنين و قبور صحابته و أهل بيته المطهَّرين و بيوتهم و محالّهم في مكة المكرّمة و المدينة المنورة و ما حولهما!! مع أنّ هذه الآثار التاريخية هي في الحقيقة معالم الأصالة الإسلامية،و هي إلى جانب ما تركه رسول الإسلام العظيم من تراث فكريّ و ثقافيّ تدلّ على واقعيّة الرسالة المحمديّة المباركة،و تجذرها في التاريخ.

و من هنا تسعى الأُمم المتحضرة المُعتزَّة و المهتمّة بماضيها و تاريخها بما فيه من شخصيات و مواقف و أفكار إلى الإبقاء على كلّ أثر تاريخي يبقى من ذلك الماضي لتدلِّل على واقعيّة ماضيها و تُبقي على أمجادها و أشخاصها في القلوب و الأذهان.

و لا شكّ أنّ لهدم الآثار و المعالم التاريخية الإسلامية و خاصّة في مهد الإسلام:

ص:395

مكة،و مهجر النبيّ الأكرم:المدينة المنورة،نتائج و آثاراً سيّئة على الأجيال اللاحقة التي سوف لا تجد أثراً بعد عين،و ربما تنتهي-في المآل-إلى الاعتقاد بأنّ الإسلام قضية مفتعلة،و فكرة مبتدعة ليس لها أيُّ واقعيّة تاريخيّة،تماماً كما أصبحت قضية السيد المسيح في نظر الغرب الذي بات جُلّ أهله يعتقدون بأنّ المسيح ليس إلاّ قضية أُسطورية حاكتها أيدي القساوسة،لعدم وجود أية آثار مادية ملموسة تدلّ على أصالة هذه القضية،و وجودها التاريخي.

هذا مضافاً إلى أنّ الوهابية جلَبت بفعلها هذا،و بأفكارها إلى الأُمّة الإسلامية،التفرقة و التمزيق و الاختلاف في وقت أحوج ما تكون فيه الأُمّة الإسلامية إلى التضامن و الاتحاد لمواجهة التحدّيات الكبرى و الهجمة الاستعمارية الحاقدة.

و لذلك لا بدّ من تقييم الأفكار و الأفعال التي ورثتها هذه الفرقة من محمد ابن عبد الوهاب،و سلفه ابن تيمية الحراني الدمشقي،على ضوء القرآن الكريم و السنّة المطهَّرة ليتضح الحقّ،و تزول أسباب التفرقة و الخلاف.

و نحن بالمناسبة نقترح أُموراً ثلاثة:

أوّلاً:أن تُكوّنوا لجنة من العلماء و ذوي الاختصاص للمحافظة على الآثار الإسلامية و بخاصة الآثار النبوية الشريفة و آثار أهل بيته الطاهرين،و العناية بها،و صيانتها من الاندثار لما لذلك من تكريم لأمجاد الإسلام،و حفظ لذكرياتها في القلوب و العقول،و إثبات لأصالة هذا الدين.

ثانياً:حثّ علماء الوهابية و كتّابها على مطالعة ما ألّفه علماء الإسلام و التي تثبت في ضوء الكتاب و السنّة و سيرة السلف جواز ما ذهبت الوهابية إلى تحريمه،و رمي فاعله بوصمة الشرك و الكفر،و قراءتها قراءة تفهّم و إنصاف،و إبداء رأيهم

ص:396

في ما جاء فيها.

ثالثاً:أن تأمروا بإقامة مؤتمرٍ عالمىٍّ يحضره علماء الإسلام و علماء الوهابية ليتحاوروا في هذه المسائل المختلف فيها التي طالما سُفِكت من أجلها الدماء،و زهقت الأرواح،و انتهكت الأعراض و فُرّقت الصفوف،و بعد الوصول إلى النتائج المبرهنة يعلنوا تلكم النتائج على الملأ الإسلامي،خدمة للتضامن و الأُخوة الإسلامية.

و نحن انطلاقاً من الحرص على الوحدة الإسلامية على أتم الاستعداد للحضور في ذلك المؤتمر و الاشتراك في هذا النقاش العلمي البنّاء.

و لا شكّ أنّ هذا هو أفضل خطوة لتحقيق التضامن الإسلامي المنشود.و نحن بانتظار ردكم و اللّه الموفق و هو نعم المولى و نعم النصير.

جعفر السبحاني

قم-ايران

1407/3/1ه

ص:397

بسم اللّه الرحمن الرحيم

8

حضرة الأخ الماجد

فضيلة السيد طاهر هاشمي

دام مجده

بعد السلام و التحيّة أرجو أن تكونوا بخير و فلاح.

لقد وافتني رسالتكم التي قمتم فيها بنقل ما ذكره ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب حول أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية،و فيه من الإطراء و الثناء عليه.

و لكن نود أن نلفت نظركم السامي إلى أنّ الوقوف على شخصته و حقيقته لا يمكن إلاّ بأحد أمرين:

الأوّل:الرجوع إلى الآثار العلمية التي تركها.

الثاني:الرجوع إلى ما ذكره الآخرون من معاصريه في حقّه.و لا يصحّ الاكتفاء بإطراء واحدٍ،و ثنائه عليه.

أمّا الأوّل فيكفي فيه الرجوع إلى كتابه«منهاج السنة»و هو كتاب فيه تحكّمات فظيعة و إنكار للمسلّمات و أكاذيب واضحة،و يكفي في ذلك الرجوع إلى المواضع التالية:

1.قوله:من حماقات الشيعة انّهم يكرهون التكلّم بلفظ العشرة و ذلك

ص:398

لبغضهم العشرة المبشرة إلاّ علي بن أبي طالب،و من العجب انّهم يوالون لفظ التسعة و هم يبغضون التسعة من العشرة(راجع ج1،ص 9).

فهل هو كذلك؟ أيّها السيد الجليل و أنت تعيش في أحضان الشيعة و بين ظهرانيهم؟

2.قوله:تجد الرافضة يعطلون المساجد التي أمر اللّه أن ترفع و يذكر فيها اسمه (راجع ج1،ص 131).

فهل هو كذلك أيّها السيّد الجليل؟

3.قوله:قد وضع بعض الكذّابين حديثاً مفترىً،انّ هذه الآية «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ» إلى آخرها،نزلت في علي عليه السلام لما تصدّق بخاتمه في الصَّلاة و هذا كذب بإجماع أهل العلم.(لاحظ ج1،ص 156).

فهل هو كذلك يا صاحب الفضيلة،و قد رواها ستة و ستون من أعلام السنّة آخرهم على ما نعلم الشيخ عبد القادر بن محمد السعيد الكردستاني (المتوفّى عام 1304ه) في«تقريب المرام في شرح تهذيب الكلام للتفتازاني»،ج2،ص 329 طبعة مصر،و تكلم فيه كبقية المتكلّمين،مخبتاً إلى اتّفاق المفسرين،على أنّها نزلت في حقّ أمير المؤمنين علي عليه السلام.

هذه بعض أكاذيبه أيّها السيد الجليل.

و أمّا عقائده الباطلة فيكفي للوقوف عليها مراجعة رسائله الكبرى المطبوعة بمصر،و إلى غيرها.

و أمّا الطريق الثاني فيكفي في ذلك كلمة الحافظ ابن حجر حوله،في كتابه«الفتاوى الحديثية»حيث قال في صفحة 86:ابن تيمية عبد خذله اللّه و أضلّه،و أعماه و أصمّه و أذلّه،و بذلك صرح الأئمة الذين بيّنوا فساد أحواله،و كذب أقواله،و من أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتّفق على

ص:399

إمامته و جلالته و بلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي و ولده التاج و الشيخ الإمام الغر ابن جماعة،و غيرهم من الشافعية و المالكية و الحنفية،و لم يقصر اعتراضه على متأخري الصوفية بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب-رضي اللّه عنهما-.(إلى أن قال:) انّه قائل بالجهة و له في إثباتها جزءٌ،و يلزم أهل هذا المذهب،الجسميةُ و المحاذاة و الاستقرار...إلى آخر ما أفاده.

و ليس ابن حجر بالوحيد في اعتراضه هذا على ابن تيمية،بل نقل مؤلف«دفع الشبَه»(ص 45- 47) و الشيخ محمد زاهد الكوثري في «تكملة السيف الصقيل»(ص 190) ما أصدره الشاميون من الفتوى حول ابن تيمية التي تتضمن تكفيره،و يكفي في ذلك ما كتبه معاصره:

الذهبي في خطابه إيّاه،و قد نقل الخطاب الكوثري في تكملته ففيها من التعبيرات ما يوقف الباحث على ما انطوى عليه ذلك الشيخ من الجهل و الضلال،و فيه بعد ملامته:أما آن لك أن ترعوي؟ أما حان لك أن تتوب و تنيب؟ أما أنت في عشر السبعين و قد قرب الرحيل؟ فإذا كان هذا حالك عندي و انا الشفوق المحب الوادّ فكيف حالك عند أعدائك؟ و أعداؤك-و اللّه-فيهم صلحاء و عقلاء و فضلاء،كما أنّ أولياءك فيهم فَجَرَة،و كَذَبة و جَهَلَة،و بَطَلَة،و عُورٌ،و بُقْر؟!

هذا بعض ما حضرني عاجلاً حول هذا الشيخ،شيخ البدَع و الضلال،و كنت أودّ لو سَمَح لي الوقت بأن أُؤلِّف رسالة كاملة تتضمن بدعه، و مخاريقه،و قد أودعنا كلمات المحقّقين في حقّه في موسوعتنا«بحوث في الملل و النحل»الجزء الرابع،فلاحظ.

و في الختام أرجو أن لا تنساني من الدعاء

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:400

بسم اللّه الرحمن الرحيم

9

الزهراء عليها السلام

اللؤلؤة البيضاء في حضن المصطفى

لقد كثر التأليف حول بنت المصطفى،الوردة المُتفتحة في روضة الوحي،فاطمة الزهراء عليها السلام و كلٌّ قد أخذ بجانب من شخصيتها و تناول بُعداً من أبعاد حياتها،فمن مشير إلى عبادتها و تهجّدها و إخباتها أمام ربّها،إلى متحدث عن زهدها و عزوفها عن زبارج الدنيا رغم كونها امرأة شابّة في مقتبل العمر،إلى ثالث جامع لخطبها المدوّية و كلماتها الغرّاء المعبرة عن فصاحتها و بلاغتها،و إحاطتها بمعارف الدين...إلى رابع و خامس....

غير انّ هذه الدرّة المكنونة لا يعرف جوهرتها القدسية،إلاّ خالقها الذي أنزل في شأنها قوله: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» 1 .

كما أنزل في شأن بيتها قوله: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ...» 2 .

ص:401

و إلاّ والدها العظيم الذي تربّت في حضنه،و ترعرعت في حجره،فهو خير معرّف لها،و هو الذي لا يقصر و لا يغالي في قول أو فعل.

و نحن لا يسعنا في هذا التقديم العاجل أن ندرج ما قاله النبي الكريم صلى الله عليه و آله و سلم في حقّها،إنّما نحيل ذلك إلى هذا الكتاب الذي يزفّه الطبع إلى القرّاء الكرام،الذي تكفل بجمع بعض ما صدر عن النبي الكريم صلى الله عليه و آله و سلم حولها.

فالكتاب الحاضر يضمّ ما تناثر من مناقبها و فضائلها في كتاب«الجامع الصغير»تأليف المحدث الخبير و المتتبع الجليل الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي رضى الله عنه المتوفّى عام 911ه.

و قد وفق اللّه المؤلف الفاضل الشيخ حبيب اللّه الصادقي أن يجمع هذه الأحاديث التي تناثرت في أبواب ذلك الكتاب،و ينظمها على الأبجدية،ليسهل الاطّلاع عليها،و الاستفادة منها،و بذلك أقرّ عيون محبي أهل البيت و شيعتهم و بخاصة السيدة فاطمة-سلام اللّه عليها-،سيدة نساء العالمين من الأوّلين و الآخرين تلك السيدة التي رسمت الفخر على جبين الدهر و سطّرت آيات الشرف على صفحة الخلود.

و نحن إذ نتقدم بالتقدير و الشكر للمؤلّف الكريم نرجو أن يكون عمله هذا خطوة أُولى تتبعها خطوات أُخرى في سبيل نشر فضائل آل الرسول تقوية لقلوب شيعتهم،و إرشاداً لغيرهم من المسلمين،و اللّه وليّ التوفيق.

جعفر السبحاني

غرة جمادى الآخرة1414ه

ص:402

بسم اللّه الرحمن الرحيم

10

اشارة

صاحب السعادة:

سفير المملكة العربية السعودية المحترم

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

بعد تقديم فائق الاحترام:يؤسفنا جدّاً أن نبلغكم توزيع رسائل و كتيبات ضدّ الشيعة الإمامية في موسم الحجّ عامنا هذا،و قد وصلت إلينا عدّة نسخ منها و نخص بالذكر رسالة:«الخطوط العريضة للأُسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثني عشرية،لكاتبها محب الدين الخطيب».و قد حاول مؤلّفها فيها الحط من سمعة الشيعة،بافتعالات و أكاذيب بيّنة،كأنّه يحدث عن أُمة بائدة ليس لها من يدافع عن كيانها أو يكتب عن جماعة تعيش في أقاصى العالم،لا تصل إليهم اليد،و قد أوجد ذلك العمل استياء و قلقاً شديداً في الأوساط الدينية و غيرها لأنّه:

أوّلاً:هذه الرسائل مليئة بافتراءات و أكاذيب ألصقها المؤلّف بالشيعة الإمامية بلا تنقيب و لا اكتراث و هم بريئون من هذه التهم و الموضوعات،شهدت بذلك كتبهم حول عقائدهم،و نستطيع الآن أن نقدّم إليكم الدلائل على بطلان

ص:403

تلكم النسب المفتعلة و الموضوعات الشائنة.

ثانياً:انّ المسلمين اليوم في أشدّ حاجة إلى الاتحاد و الترابط و التآخي من أيّ وقت مضى،لأنّهم اليوم يواجهون الصهاينة المعتدية و الاستعمار الغاشم.فلا شكّ انّ نشر هذه الرسائل المكذوبة،يجلب النفاق و الافتراق،و يضر بمصالح الإسلام و المسلمين،و لا يبعد انّ يد الاستعمار الغاشم،تلعب خلف الستار في نشر هذه الأوراق.

ثالثاً:انّ المملكة العربية السعودية ما زالت مهتمة بالدعوة إلى الاتحاد و الترابط الإسلامي و التآخي بين الأُمّة المسلمة،و نشر مثل هذه الكتب ينافي تلك الخطة التي درجت عليها مملكتكم الشقيقة،فإنّها-بلا شكّ-تضرّ بالاتحاد و الوحدة الإسلامية،و تميت روح التآخي،و تفرق صفوف المسلمين و تشق عصاهم.

رابعاً:انّ الحكمة في تشريع الحجّ هو إيجاد التجاوب و التقارب و إزالة أسباب التفرق و سوء التفاهم بين الأُمّة الإسلامية و محو التخطيطات العدوانية المضرة بوحدة المسلمين و توحيد كلمتهم.

فهذا العمل في حرم اللّه الذي سواء العاكف فيه و الباد و الذي من دخله كان آمناً يضادّ هذه الحكمة.

أو ما كان في وسع ناشري هذه الأوراق لا سيما في هذه الأيّام التي اشتدت فيها الروابط بين شعوب العالم،أن يتصلوا بأحد المراكز و الجامعات الدينية الشيعية و يطّلعوا على أوضاعهم عن كثب،ليعرفوا انّه لا قرآن للشيعي غير هذا القرآن،و انّ الشيعة الإمامية براء من تلكم التهم و الافتراءات التي رموهم بها،بدل تسويد صحائف و نشرها بين الناس.و مع ذلك فنحن على استعداد لذلك

ص:404

في كلّ موطن و زمان.و نرحب بكلّ من أراد الاستطلاع على حقيقة الأمر.

و ختاماً نرجو من سماحتكم إبلاغ المراجع المسئولة في المملكة العربية السعودية نصّ هذا الكتاب،فلعلّ في ذلك تلافياً لما أحدثه ذلك العمل من أثر سيئ في الأوساط الإسلامية.

و انّ السيرة المحمودة من الدولة العربية السعودية في تكريم حجاج حرم اللّه سبحانه عامة و الإيرانيين خاصة ترخص لنا أن نطلب من الدولة الشقيقة الإسلامية إصدار أوامر مؤكدة لسدّ مثل هذا العمل في مستقبل الأيّام.

و تفضّلوا بقبول فائق الاحترام

مجلة مكتب إسلام

حرر في تاريخ 26 من ذي الحجة الحرام 89

ص:405

بسم اللّه الرحمن الرحيم

اقتراح عقد مؤتمرين

حول التوحيد و الشرك

و

الإيمان و الكفر

يعاني المسلمون عامة و الشيعة الإمامية خاصة من أمرين:

الأوّل:تدمير الآثار الإسلامية بعناوين مختلفة،فتارة باسم الشرك و البدعة،و أُخرى باسم توسعة الحرمين الشريفين،مع أنّ الآثار الإسلامية تحتضن هوية إسلامية لأُمّة عريقة في الحضارة،فتدميرها و هدمها طمس لهويتها و أصالتها.

الثاني:تكفير بعض السلفيين لبعض الطوائف الإسلامية و في طليعتهم الشيعة الإمامية الذين لا ذنب لهم سوى حبّ أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم-الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً و عدّهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم عِدْلَ القرآن و قرينه،و قال:«إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي-و اعتناق مذهبهم و الاقتداء بهم و أخذ الأُصول و الفروع عنهم.

و حرصاً على تقريب الخطى و الحط من المضاعفات السيئة التي يمكن أن يتركها كلا الأمرين فقد بذلنا الوسع في الإفصاح عن التوحيد و الإيمان و ما

ص:406

يقابلهما عبر كتابين أحدهما يحمل عنوان«التوحيد و الشرك في القرآن الكريم»و الآخر تحت عنوان«الإيمان و الكفر في القرآن و السنّة».

هذا و إكمالاً للمهمة التي شرعنا بها فقد قمنا بزيارة الحرمين الشريفين و الالتقاء بعدد من الشخصيات منهم الدكتور محمد عبده يماني و دار بيني و بينه حوار حول هذا الموضوع و اتفقنا على أن أكتب شيئاً في هذا الموضوع إلى المعنيين بالأمر في المملكة العربية السعوديّة لعل اللّه يحدث بعد ذلك أمراً.

و حيث إنّ هذه الرسائل تعد وثائق تاريخية مهمة توخّينا نشرها على صفحات الكتاب لتبقى أثراً خالداً،و لتكون دليلاً ساطعاً على انفتاح الشيعة في كلّ عصر على كلّ حوار علمي هادئ.

ص:407

بسم اللّه الرحمن الرحيم

11

سعادة الأخ الدكتور

محمد عبده يماني (دامت معاليه)

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد،فأرجو من اللّه سبحانه أن يوفّقكم لمرضاته،و أن يسدّد خطاكم في سبيل تحقيق الوحدة الإسلامية المنشودة.

بالإشارة إلى ما دار بيننا و بينكم في اللقاء الأخير عند تشرفي للعمرة في شهر جمادى الأُولى من أنّ الوضع السائد على البقيع يؤلم قلوب المسلمين لا سيما الشيعة المحبين لأهل بيت النبوة عليهم السلام الذين يقصدون هذه البقاع المباركة من أقصى نقاط العالم و يشهدون مثوى العديد من الصحابة و التابعين و أئمّة أهل البيت بوضع مؤسف للغاية في حين انّ نظيرتها«المعلى»في مكة المكرمة تتميز بوضع مناسب.

فالرجاء الوافر أن تحظى مقبرة البقيع بنفس العناية و الاهتمام التي تحظى بها نظيرتها المعلى.

فنحن نقترح على الحكومة الراشدة في العربية السعودية أن تبذل مزيداً

ص:408

من الاهتمام بالبقيع من خلال رصفه بالأحجار و نصب لوحات للوقوف على أسماء أصحاب القبور،و بناء مظلة لزوار هذه البقعة المباركة.

كلّ ذلك خدمة لصحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و التابعين و أئمّة أهل البيت،و حفظاً للهوية الإسلامية من الاندثار و الاندراس علماً بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أقام حجراً كبيراً على قبر عثمان بن مظعون للتعرّف عليه.

هذا هو اقتراحنا و اقتراح عامة المسلمين،على أمل أن يصل اقتراحنا هذا إلى أيدي المسئولين في البلدة المباركة كي يلاقوا اللّه سبحانه و تعالى بوجوه مشرقة و يرضى عنهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم و المسلمون كافة.

مع تقديم فائق الاحترام

جعفر السبحاني

7 جمادي الآخرة1421/ه

ص:409

بسم اللّه الرحمن الرحيم

12

سعادة الأخ الدكتور

محمد عبده يماني (دامت معاليه)

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد،فقد أعجبني كتابك حول فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة عليها السلام سيّدة نساء العالمين التي يجب أن يحتذى بها.

و قد وقفت على أنّكم بصدد البحث و الكتابة حول أُمّها خديجة الكبرى عليها السلام التي هي أوّل من آمنت بالرسول صلى الله عليه و آله و سلم من النساء.

و أود أن أزيدكم اطلاعاً انّه ثمة بحوث هامة حول السيدة خديجة عليها السلام استللناها من كتاب سيّد المرسلين نرسلها إليكم عسى أن تنتفعوا بها.

و بما انّا لمسنا من ثنايا كتبكم انّكم تهتمون بوحدة الكلمة و لمِّ شمل المسلمين،فأخبركم بأنّا قد بعثنا إلى صاحب السمو الملكي معالي وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل رسالة في هذا الموضوع عن طريق السفارة في الرياض عند ما كان السيد النوري سفيراً للجمهورية الإسلامية هناك،و قد قام

ص:410

السفير مشكوراً بتسليمها إلى الأمير،و على الرغم من ذلك لم يصل جوابها لحدّ الآن.

و نحن نبعث إليكم نسخة ثانية من هذه الرسالة عسى أن تثمر عن نتائج إيجابية و تتحقق الأمنية الكبرى ألا و هي عقد مؤتمر يتبنى مسودة عمل تتضمن الموضوعات التالية:

1.الإيمان و الكفر في الكتاب و السنّة.

2.التوحيد و الشرك في القرآن الكريم.

مع جزيل الشكر

جعفر السبحاني

7 جمادى الآخرة1421/ه

ص:411

بسم اللّه الرحمن الرحيم

13

فضيلة الأُستاذ

الدكتور محمد عبده يماني

(دامت معاليه)

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد؛لقد وصلتني رسالتكم الكريمة مرفقة بكتاب«فاطمة الزهراء عليها السلام»ريحانة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،و وجدته دليلاً ساطعاً على ولائك الصادق،و الكتاب جدير بالترجمة إلى سائر اللغات.

بيد انّ هناك وقفات جديرة بالتأمّل.

هي ما نقلتم حول إيمان أبي طالب و ربما يلوح من الكتاب انّه مات كافراً و لم يؤمن،و ان ذكرتم انّه قال:أموت على دين عبد المطلب، و في هذا بلاغ لمن ألقى السمع و هو شهيد؛و قد ذكرتم-أنار اللّه برهانكم-في ص 138 إيمان عبد المطلب باللّه و أنّه كان يعبد اللّه على دين إبراهيم عليه السلام،فلو مات على دينه،فقد مات موحداً غير مشرك باللّه.

الوقوف على سيرة الرجل رهن الرجوع إلى ما ترك من تراث،ففيما تركه شيخ

ص:412

الأباطح ناصر الإسلام و حامي نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم خير شاهد على إيمانه،كيف و قد صرح بصحّة الرسالة المحمدية و صدق الدعوة النبوية الخاتمة في قصائده و أشعاره،و ترجم إيمانه من خلال دعمه الصريح-هو و أبناؤه الغر-لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،حيث يقول: كَذَبتُم و بيتِ اللّه نبزي محمّداً

نقل ابن هشام في سيرته(272/1-280) أربعة و تسعين بيتاً من هذه القصيدة،فيما أورد ابن كثير الشامي في تاريخه«اثنين و تسعين بيتاً»، و أورد أبو هفان العبدي الجامع لديوان«أبي طالب»مائة و واحداً و عشرين بيتاً منها في ذلك الديوان،و لعلّها تمام القصيدة و هي في غاية العذوبة و الروعة،و في منتهى القوة و الجمال،و تفوقُ في هذه الجهات كلَّ المعلّقات السبع التي كان عرب الجاهلية

ص:413

يفتخرون بها و يعدّونها من أرقى ما قيل في مجال الشعر.

و له وراء هذه اللامية،قصيدة أُخرى ميميّة،فهو-سلام اللّه عليه-يصرح فيها بنبوّة ابن أخيه و أنّه نبي كموسى و عيسى عليهما السلام،إذ يقول: لِيعلم خيارُ الناس أنّ محمّداً

و نظيرها قصيدته البائيّة و فيها: أ لم تعلموا أنّا وجدنا محمداً نبيّاً كموسى خط في أوّل الكتب (1)

أ فيصحّ لأحد بعد كلّ هذه البلاغات و التصريحات أن يكفّر سيد الأباطح أو يشكّ في إيمانه؟!

و للمزيد نذكر ما يلي:

إنّكم بحمد اللّه ممّن يحيطون علماً انّ من رمى أبا طالب-شيخ الأباطح-مؤمن قريش بالشرك،فإنّما تبع الروايات التي حاكها أبناء البيت الأموي بغية التحامل على أبي تراب-سلام اللّه عليه-من خلال تكفير والده.

فهل يكون أبو طالب مشركاً مع كلّ تلكم المواقف المشرفة و مع كلّ تلك الإشارات الصريحة الكاشفة عن عمق إيمانه بالرسالة المحمديّة،و أبو سفيان الذي أشعل نائرة الفتن و حاك مؤامرات عديدة هو و أبناؤه الذين كانوا أساس المشكلة و مبدأ الانحراف عن المسار الإسلامي،مسلمين موحدين يستحقون كلّ

ص:414


1- 2) .سيرة ابن هشام:352/1 [1]

تقدير و تبجيل؟!!!

هذا قليل من كثير.

و في الختام تقبلوا منّا أطيب التحيات و أجمل الأُمنيات راجين لكم من اللّه أن يسدد خطاكم في سبيل خدمة الإسلام و المسلمين.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

22 رجب المرجّب من شهور عام 1420ه

ص:415

بسم اللّه الرحمن الرحيم

14

صاحب السمو الملكي معالي

وزير الخارجية الأمير«سعود الفيصل»

(حفظه اللّه و رعاه)

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد،أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا بخير و صلاح و أن يسدد خطاكم في سبيل خدمة الإسلام و يلمّ بكم شعث المسلمين و يوحد كلمتهم و يجعلهم صفاً واحداً أمام أعدائهم.

غير خفي على سموكم انّ المسلمين في الأقطار الإسلامية يعانون من التشتّت و التفرّق،و ما هذا إلاّ لعدم الإلمام بالمشتركات التي تجمعهم في الأُصول و الفروع ممّا حدا إلى تكفير بعضهم البعض و اتهام طائفة أُخرى بالشّرك،كلّ ذلك نتيجة عدم وقوفهم على حدّ الإيمان و الكفر أو حدّ التوحيد و الشرك بدقة.

ص:416

و انطلاقاً من الحرص على وحدة المسلمين،أتقدّم إليكم بأُطروحة كانت تخامرني منذ سنوات عديدة و الأمل يحدوني في أنّها سوف تجد أُذناً صاغية لها.و هي إقامة مؤتمر يضم كافة أكابر علماء الإسلام من مختلف الفرق و النحل بغية البحث و التشاور حول موضوعين:

الأوّل:الإيمان و الكفر في الكتاب و السنّة.

الثاني:التوحيد و الشرك في القرآن الكريم.

و يكون هدف المؤتمر صياغة أُطر محددة للإيمان و الكفر و الشرك و التوحيد.

فالمسلمون بحمد اللّه على نحو ما يصفهم شاعر الأهرام بقوله: انّا لتجمعنا العقيدة أُمة

و في الختام تقبلوا منّا أسمى آيات التحيّة و الثناء.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

12 شعبان المعظم 1420ه

ص:417

هذا نصّ الرسالة التي بعثناها إلى فضيلة الشيخ محمود شلتوت شيخ«الأزهر»حينما داهمت طغمة الشاه الحاكمة الجامعة الإسلامية في مدينة قم المقدسة عام 1383ه،و قد أبرق فضيلته ببرقية إلى علماء قم عبر فيها عن انزعاجه لما اقترف من انتهاكات صارخة في حقّ الجامعة الإسلامية و لا سيما مراجعها و علمائها،كما عبر عن تضامنه معهم.

و قد بادرت شخصياً ببعث رسالة شكرته فيها على عواطفه حيال علماء الإسلام،و مع الأسف الشديد لم احتفظ بنص البرقية التي بعثها الشيخ شلتوت.

ص:418

بسم اللّه الرحمن الرحيم

15

فضيلة الأُستاذ الأكبر

الشيخ محمود شلتوت

شيخ«الأزهر»الشريف (دام عزّه)

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد،فانّي أتقدّم إليكم بأسنى التحيات لما أبديتم فيه من تضامن مع علماء قم و مراجع الحوزة حيال ما يجري في إيران خصوصاً مداهمة طغمة الشاه الحاكمة الجامعة الإسلامية.

و أنا بدوري كأحد أعضاء الجامعة الإسلامية في مدينة قم المقدسة أشكركم على نواياكم الحسنة.

و أودّ أن أُطلعكم إلى أنّ رجال الدين و علماء الحوزة ما زالوا يتعرضون لضغط شديد من قبل جهاز الشاه و قد أودع بعضهم السجن،و لم يزل الجهاز الحاكم يمارس الكبت و الاضطهاد و الارهاب ضد المؤسسة الدينية بكلّ ما أُتيح له من وسائل إعلامية و عسكرية كي يوفر لنفسه البقاء على سدة الحكم لفترة أطول.

و في الختام أرجو أن توصلوا نداء استغاثتنا للعالم كي يطلع على ما يمارس من

ص:419

جرائم وحشية في حقّ الشعب الإيراني المسلم الذي ينشد تطبيق الإسلام على صعيد واقعه العملي،كما أرجو أن تكون على اتصال وثيق بما يجري في إيران من حوادث مريرة.

جزاكم اللّه عن الإسلام و أهله خير الجزاء

جعفر السبحاني

قم-الجامعة الإسلامية

7 جمادى الأُولى من شهور عام 1383ه

ص:420

16

اشارة

تقييم كتاب

«أُصول مذهب الشيعة الإمامية»

للدكتور ناصر القفاري

لقد وقفت على كتاب«أُصول مذهب الشيعة الإمامية»للدكتور ناصر بن عبد اللّه بن علي القفاري،و الكتاب رسالة تقدّم بها المؤلّف لنيل درجة الدكتوراة من قسم العقيدة و المذاهب المعاصرة لجامعة محمد بن سعود الإسلامية.

و قد أُجيزت هذه الرسالة بمرتبة الشرف الأُولى مع التوصية بطبعها و تبادلها بين الجامعات.

طبع الكتاب في أجزاء ثلاثة،رجع فيها المؤلّف أو فريق عمله إلى كثير من مصادر الشيعة لتتم الحجّة على الشيعة على زعمه،لكن الكتاب بحاجة إلى تصحيح و تنقيب و هو رهن تأليف مفرد،لكنّا نقتصر في هذه العجالة على تقييم الكتاب على وجه كلّي كي يتضح انّه لم يؤلّف بقلم نزيه،و بأُسلوب علمي و فكر موضوعي،و

لأوّل وهلة تبدو للعيان النقاط التالية:

1.بذاءة لسانه و قلمه

إنّ الكتاب مليء بالسب اللاّذع الذي لو جمع لشكّل رسالة كبيرة،و إليك

ص:421

هذه النماذج:

1.إذا لم تستح فاصنع ما شئت. (1)

2.قد ركب مطية التشيع كلّ من أراد الكيد للإسلام و أهله،و كلّ من احتال ليعيش في ظل عقيدته السابقة باسم الإسلام من يهودي، و نصراني،و مجوسي،و غيرهم. (2)

3.انّ دين الشيعة سداه و لحمته الكذب،و الكيد للإسلام بمحاربة ركنه العظيم،و أصله الذي يقوم عليه و هو القرآن. (3)

4.فهؤلاء يشايعون الشيطان. (4)

إلى غير ذلك من مئات الكلمات البذيئة و مسلسل السبّ و الفحش،إذ ما من صفحة إلاّ و فيها لذع و لدغ،و سبّ و طعن.

و كأنّ الرجل لم يسمع قوله سبحانه: «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» 5 أو لم يسمع قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«سباب المؤمن فسق و قتاله كفر». (5)

و في مسند أحمد لم يكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سبّاباً و لا لعّاناً و لا فحّاشاً. (6)

2.عدم مراعاة الأمانة العلمية

إنّ المؤلّف و إن اعتمد على مصادر شيعية و لكنّه لم يراع الأمانة العلمية في

ص:422


1- 1) .أُصول مذهب الشيعة:962/2.
2- 2) .أُصول مذهب الشيعة:89/1.
3- 3) .أُصول مذهب الشيعة:1039/3.
4- 4) .أُصول مذهب الشيعة:1010/3.
5- 6) .الوسائل:الجزء 8،الباب 158 من أبواب أحكاما لعشرة،الحديث3. [1]
6- 7) .مسند أحمد:126/3 و 144 و 158. [2]

مواقف كثيرة،فأخذ ما يدعم موقفه من حديث أو نصّ كلام و ترك ذيله الذي يوضح المقصود،و ها نحن نذكر موارد كنموذج لما لم نذكر،فإنّ استيعاب ذلك بحاجة إلى تأليف مفرد.

التحريف في نقل الحديث

رؤية اللّه تبارك و تعالى في الدنيا أو الآخرة من العقائد المستوردة عن طريق أهل الكتاب خصوصاً اليهود منهم،و العهد العتيق يزخر بذلك.

و أمّا الشيعة الإمامية فهم أهل التنزيه،الذين ذهبوا إلى امتناع رؤيته سبحانه و تعاليه من النظر و المشاهدة و كتبهم مشحونة بإقامة البرهان على ذلك.

غير انّ أهل الحديث و تبعهم الأشاعرة جنحوا إلى القول برؤية اللّه تبارك و تعالى تبعاً لما روي في الصحاح و السنن من أنّ المؤمنين يرون اللّه سبحانه يوم القيامة.

و مؤلّف الكتاب يحاول أن يدعم القول بالرؤية من خلال الاعتماد على نصوص شيعية فينقل رواية في هذا الصدد من كتاب توحيد الصدوق،و يقول:

«روى ابن بابويه القمي عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:قلت له:أخبرني عن اللّه عزّ و جلّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة،قال:«نعم».

فقد اقتصر على هذا المقدار من اللّفظ الذي هو ظاهر فيما يدّعيه الكاتب و لو كان المروي هو هذا،لدلّ على أنّ الإمام الصادق عليه السلام قائل برؤية اللّه يوم القيامة.

و لكن المؤلف لم يراع الأمانة و خدع في نقل الحديث فحذف ذيل الحديث الذي يدلّ على عكس ما يرتئيه المؤلف،و هو انّ المراد من الرؤية هي الرؤية القلبية

ص:423

التي لا تختص بالدنيا و لا بالآخرة،و إليك ذيل الحديث.

قال:«نعم،و قد رأوه قبل يوم القيامة؟»فقلت:متى؟ قال:«حين قال لهم «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى» »ثمّ سكت ساعة،ثمّ قال:«و إنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة،أ لست تراه في وقتك هذا؟»قال أبو بصير:فقلت له:جعلت فداك فاحدِّث بهذا عنك؟ فقال:«لا،فإنّك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثمّ قدّر أنّ ذلك تشبيه كافر،و ليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين،تعالى اللّه عمّا يصفه المشبّهون و الملحدون». (1)

حيا اللّه الأمانة ترى كيف جزّأ الحديث و قطعه،و الحديث صريح في نفي الرؤية بالعين و تبديل الرؤية بالقلب.

هذا نموذج من إنصاف الرجل و أمانته.

التحريف في نقل كلام الشيخ المفيد

إنّ الكاتب بصدد بيان التناقض بين كلام الشيخ الصدوق القائل بعدم التحريف،و كلام المفيد القائل (بزعمه) به،فنقل كلام المفيد بالنحو التالي.

يقول المفيد:إنّ الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمّة الهدى من آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم باختلاف القرآن و ما أحدثه بعض الطاعنين فيه من الحذف و النقصان. (2)

هذا ما نقله الكاتب عن كتاب الشيخ«أوائل المقالات و أوائل المختارات»و لكنّه حرّف كلامه و ذكر صدر كلامه و ترك ذيله الذي لا يمكن القضاء إلاّ بنقل الجميع و الإمعان فيه،و إليك نصّ كلام المفيد:

ص:424


1- 1) .توحيد الصدوق:117،باب ما جاء في الرؤية،الحديث 20. [1]
2- 2) .أوائل المقالات:54. [2]

إنّ الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمّة الهدى من آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم باختلاف القرآن و ما أحدثه بعض الظالمين فيه من الحذف و النقصان.

فأمّا القول في التأليف فالموجود يقضي فيه بتقديم المتأخر و تأخير المتقدّم،و من عرف الناسخ و المنسوخ،و المكي و المدني،لم يرتب فيما ذكرناه.

و أمّا النقصان فانّ العقول لا تحيله و لا تمنع وقوعه،و قد قال جماعة من أهل الإمامة:إنّه لم ينقص من كلمة و لا من آية و لا من سورة و لكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام من تأويله و تفسير معانيه على حقيقة تنزيله،و ذلك كان ثابتاً منزلاً و إن لم يكن من جملة كلام اللّه تعالى الذي هو القرآن المعجز.

و عندي انّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل،و إليه أميل،و اللّه أسأل توفيقه للصواب. (1)

هذا نصّ كلام الشيخ المفيد،و قد صرح فيه بأنّ النقصان و إن كان لا تحيله العقول و لكنّه غير واقع،بل الواقع انّ المحذوف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين بعنوان تفسير معاني القرآن،و لم يكن من جملة كلام اللّه تعالى الذي هو المعجز،و انّ هذا القول هو أشبه بالحقّ من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن.

و مع هذا التصريح كيف يرميه الكاتب بتحريف القرآن و انّ كلامه مناقض لكلام شيخه الصدوق؟!

و أمّا قوله:«فأمّا القول بالتأليف فالموجود يقضي فيه بتقديم المتأخر و تأخير المتقدّم»فهو لا يشير إلى وقوع التحريف بمعنى النقصان في القرآن الكريم بل يشير إلى أنّ القرآن جُمع لا على نحو ترتيب نزوله فقدم ما نزل مؤخراً،و أُخر ما نزل

ص:425


1- 1) .أوائل المقالات:80-81. [1]

مقدماً،و هذا ليس أمراً منكراً بل أمر يكاد أن يكون متفقاً عليه.فكم من سورة مدنية كسورة البقرة و آل عمران جاءت في صدر القرآن و كم من سورة مكية جاءت في مؤخره،بل ربما ذكر الناسخ في سورة البقرة قبل المنسوخ،فالكاتب جعل التأليف معادلاً للتحريف.

إنّ القضاء الحاسم في حقّ زعيم كالشيخ المفيد إنّما يتم إذا رجع إلى عامة كلماته في الموضوع الذي يراد القضاء فيه،فانّ للشيخ كلاماً في المسائل السروية يدلّ على أنّ القرآن المنزل هو الموجود ما بين الدفّتين،و هذا نصّ كلامه في كتاب المسائل السروية:

فإن قال قائل:كيف يصحّ القول بأنّ الذي بين الدفّتين هو كلام اللّه تعالى على الحقيقة من غير زيادة فيه و لا نقصان و أنتم تروون عن الأئمّة عليهم السلام انّهم قرءوا«كنتم خير أئمّة أُخرجت للناس»و«كذلك جعلناكم أئمة وسطاً».

و قرءوا«يسألونك الأنفال»و هذا بخلاف ما في المصحف الذي في أيدي الناس.

قيل له:قد مضى الجواب عن هذا،و هو انّ الأخبار التي جاءت بذلك،أخبار آحاد لا يقطع على اللّه تعالى بصحتها،فلذلك وقفنا فيها و لم نعدل عمّا في المصحف الظاهر على ما أمرنا به حسب ما بيّناه مع أنّه لا ينكر أن تأتي القراءة (يأتي بالقرآن) على وجهين منزلين:

أحدهما:ما تضمّنه المصحف.

الثاني:ما جاء به الخبر،كما يعترف مخالفونا به من نزول القرآن على أوجه شتى. (1)

ص:426


1- 1) .المسائل السروية:83- 84. [1]

التحريف في نقل كلام السيد الخوئي

ذكر الكاتب انّ السيد الخوئي من القائلين بصدور بعض روايات التحريف عن المعصومين،يقول:و الخوئي مرجع الشيعة في العراق و غيره اليوم،يقول:إنّ كثرة الروايات (روايات في تحريف القرآن) من طريق أهل البيت تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين،و لا أقلّ من الاطمئنان بذلك ففيها ما روي بطريق معتبر. (1)

و لكن الكاتب كعادته في سائر الموارد نقل من كلام السيد الخوئي ما يؤيد موقفه،و لكنّه لم ينقل ما في ذيل كلامه الذي يقسّم التحريف إلى أقسام و يخرج بحصيلة هي انّ التحريف في القرآن بالنقيصة أمر باطل،و إليك نص كلام السيد الخوئي:

إنّ هذه الروايات لا دلالة فيها على وقوع التحريف في القرآن بالمعنى المتنازع فيه،توضيح ذلك:انّ كثيراً من الروايات و إن كانت ضعيفة السند فانّ جملة منها نقلت من كتاب أحمد بن محمد السياري الذي اتّفق علماء الرجال على فساد مذهبه و انّه يقول بالتناسخ،و من علي بن أحمد الكوفي الذي ذكر علماء الرجال انّه كذاب و انّه فاسد المذهب،إلاّ أنّ كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين عليهم السلام و لا أقلّ من الاطمئنان بذلك و فيها ما روي بطريق معتبر،و علينا أن نبحث عن مداليل هذه الروايات و إيضاح انّها ليست متحدة في المفاد و انّها على طوائف:

الأُولى:المراد من التحريف هو اختلاف القراءة و إعمال اجتهاداتهم في

ص:427


1- 1) .أُصول مذهب الشيعة:274/1،نقلاً عن البيان للسيد الخوئي:226. [1]

القراءات،و مرجع ذلك إلى الاختلاف في كيفية القراءة مع التحفظ على جوهر القرآن و أصله و التحريف بهذا المعنى ممّا لا ريب في وقوعه بناء على ما هو الحقّ من عدم تواتر القراءات السبع.

الثانية:ما يدلّ على أنّ المراد من التحريف حمل الآيات على غير معانيها الذي يلازم إنكار فضل أهل البيت و نصب العداوة لهم و قتالهم، و يشهد على ذلك قول الإمام الباقر عليه السلام:«و كان من عندهم انّهم أقاموا حروفه و حرّفوا حدوده».

الثالثة:ما يدلّ على أنّ بعض التنزيل كان من قبيل التفسير للقرآن و ليس من القرآن نفسه.

الرابعة:ما يدلّ على وقوع التحريف في القرآن بالزيادة و النقصان و هذه الطائفة بعد الإغضاء عمّا في سندها من الضعف،انّها مخالفة للكتاب و السنّة و لإجماع المسلمين على عدم الزيادة في القرآن.

الخامسة:ما دلّ على التحريف بمعنى خصوص النقيصة لكن أكثر هذه الروايات بل كثيرها ضعيفة السند و بعضها لا يحتمل صدقها،و قد صرّح جماعة من الأعلام بلزوم تأويل هذه الأحاديث أو لزوم طرحها. (1)

و بذلك يعلم أنّ السيد الخوئي و إن ادّعى القطع بصدور بعضها لكن لا في خصوص الطائفة الأخيرة بل في مجموع الطوائف الخمس و هو غير مضر و لا ملازم للقول بالتحريف مثلاً إنّ ادّعاء القطع بالتحريف عن طريق إيجاد قراءات لم يقرأها النبي لا يضر بصيانة القرآن من التحريف،لأنّ الواصل إلينا بالتواتر نفس قراءة النبي و غيرها قراءات تترك إلى أصحابها.

هذه نماذج من تحريفات الكاتب و قس عليه سائر تحريفاته في الكتاب

ص:428


1- 1) .البيان:226- 233. [1]

الذي يتجاوز رقم صفحاته 1380.

اضحوكة

و ممّا يُضحك الثكلى قوله:«إنّ الخميني أدخل اسمه في أذان الصلاة و قدّمه على الشهادتين». (1)

نحن لا نعلق عليه شيئاً فانّ العيان لا يحتاج إلى البيان،هذا أذان الشيعة يذاع من آلاف المآذن في المحافظات و المدن و الإذاعات ليس من هذه الفرية فيها أثر.و السيد الخميني كان إنساناً مثالياً أفنى عمره في الذبّ عن الإسلام و حفظ حياضه،و هو أجلّ و أرفع من أن يأمر بالإتيان باسمه في الأذان و كأنّ الرجل يتكلّم عن أُمّة بائدة أكل عليها الدهر و شرب.و إلى اللّه المشتكى.

حدس خاطئ

إنّ الكاتب يستند في بعض ما يقضي و يبرم على حدس خاطئ-يجرّه إليه بغضه لشيعة آل البيت-حيث يعتقد انّ حجم الروايات الدالة على التحريف تزايد في عصر الصفوية و لم يكن قبل دولتهم بهذا الحجم و يقول:إنّ الوضع لهذه الأُسطورة (التحريف) لم يتسع و يصل إلى هذا المستوى الموجود اليوم إلاّ في ظل الحكم الصفوي. (2)

أقول:إنّ الحجم المتوفر من الروايات في عصر الصفوية هو نفسه الموجود في

ص:429


1- 1) .أُصول مذهب الشيعة:1154/3 نقله عن موسى الموسوي و القفاري يعرف موسى الموسوي و منزلته بين الشيعة و مبلغ علمه و أمانته،و مع ذلك نقل عنه تلك الفرية الواضحة و لا غرو،«فكلّ إناء بالذي فيه ينضح»و«لا تكشفنَّ مغطياً فلربما..».
2- 2) .أُصول مذهب الشيعة:271/1.

عصور سابقة عليه،و لم يكن لقيام الدولة الصفوية أي تأثير في تضخيمها،فانّ العلاّمة المجلسي قد أودع عدداً هائلاً من كتب الشيعة في موسوعة«بحار الأنوار»و قد اعتمد فيها على مصادر متعدّدة،و هذه المصادر متوفرة اليوم.هذا إلى جانب انّ ظهور الدولة الصفوية على المسرح السياسي لم يكن له أي دور في إحياء فكرة التحريف،بل نرى أنّ كثيراً من علماء و مفكّري ذلك العصر ذهبوا إلى عدم التحريف،و قد قام ولدنا الدكتور فتح اللّه المحمدي في كتابه«سلامة القرآن من التحريف»بسرد أسمائهم،و إليك نصّ كلامه مع تثمين الجهود التي بذلها على هذا الصعيد:

1.قاضي القضاة علي بن عبد العالي المعروف بالمحقّق الكركي (المتوفّى940ه) في رسالة نفي النقيصة.

2.محمد بن إبراهيم صدر الدين الشيرازي المعروف بملا صدرا (المتوفّى950ه) في شرح أُصول الكافي و تفسير القرآن الكريم.

3.ملا فتح اللّه الكاشاني في تفسيره«منهج الصادقين».

4.المحقّق أحمد الأردبيلي(المتوفّى993ه) في«مجمع الفائدة و البرهان».

5.أبو الفيض الناكوري(المتوفّى1004ه) في«سواطع الإلهام».

6.السيد نور اللّه التستري (المتوفّى1019ه) في«مصائب النواصب».

7.محمد بن الحسين الشهير ببهاء الدين العاملي(المتوفّى1030ه).

8.الفاضل التوني (المتوفّى1071ه) في«الوافية في الأُصول».

9.اللاهيجي (المتوفّى1097ه) في تفسيره«تفسير شريف لاهيجي».

10.الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي (المتوفّى1104ه) في رسالة«تواتر القرآن».

ص:430

11.نور الدين محمد بن مرتضى الكاشاني (المتوفّى 1115ه) في«تفسير المعين».

هذا (1)معشار ما يمكن أن يقال في هذا الكتاب من التحريف و الحدس الخاطئ،و لأجل ذلك قمنا ببعث رسالة إلى المؤلف مرفقة بكتاب«العقيدة الإسلامية من منظار أئمّة أهل البيت».أكدنا فيها بأنّ عقيدة الشيعة هي ما جاء في هذا الكتاب لا ما نسبه إليهم ثمّ عرضنا عليه المناظرة في الأُصول التي حررناها.

و قد أرسلنا الرسالة مع الكتاب إلى الملحق الثقافي في سفارة الجمهورية الإسلامية في الرياض الذي قام مشكوراً بالاتصال بالدكتور ناصر القفاري هاتفياً مرات عديدة،و في كلّ مرّة يعتذر عن الحضور لبعد المكان إلى أن اضطر أخيراً لاستلام الكتاب و الرسالة عن طريق شخص ثالث.

و قد مرت على بعث الرسالة 3 سنوات و هو إلى الآن لم يرد علينا بجواب،و ها إليك نصّ الرسالة التي بعثناها إليه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الدكتور ناصر القفاري

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد؛فقد وصلني كتاب«أُصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية»فقرأته حسب ما سمح لي الوقت،و ها أنا ذا أذكر

ص:431


1- 1) .سلامة القرآن من التحريف: [1]تأليف الدكتور فتح اللّه المحمدي:294/1- 295.

انطباعاتي حول هذا الكتاب.

إنّ المؤلّف لم يستخدم الأُسلوب الصحيح في نقد عقائد هذه الطائفة و ذلك من جهات:

الأُولى:زعم انّ الرواية في كتب المحدّثين دليل على العقيدة،مع أنّ العقيدة تطلب لنفسها دليلاً مفيداً لليقين،و خبر الواحد لا يفيد علماً، و هذا هو أساس الزلّة التي وقع بها في هذا الكتاب،فإنّ العقيدة شيء،و الرواية شيء آخر،و بينهما من النسبة عموم و خصوص من وجه.

الثانية:انّي لا أتّهم المؤلّف شخصياً و لكن أُسلوب الكتابة ينمّ عن تحامل شديد على الشيعة و عدم نزاهة في البحث.

و هذا الأُسلوب منبوذ عند العقلاء شرعاً و عقلاً،و القرّاء يستهجنون هذا النوع من الكتابة.و لا يؤثر في العقول الحرّة،لأنّ السبّ و الهجو آية العجز عندهم.

الثالثة:لو قام القارئ بجمع الشتائم الموجودة في هذا الكتاب لخرج بصحائف سوداء.

و لهذا و ذاك قمت بتأليف كتاب جمعت فيه أُصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية،التي هي نفس أُصول العقيدة الإسلامية، بعبارات موجزة،و أشرت إلى دلائلها فلو كان لديكم نقد على تلك الأُصول فنحن مستعدون للمناقشة و المناظرة في أيّ مدينة شئتم،سواء أ كان في«الرياض»أو«المدينة المنورة»أو«مكّة المكرمة»أو«جدّة».

ص:432

و نعلن انّ أُصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية هي ما جاء في هذا الكتاب و هي واضحة المعالم،مشرقة البراهين لا ما جاء في الكتاب السابق ذكره.

و نرجو أن ينال هذا الاقتراح موضع القبول شريطة أن يسود الحوار روح الموضوعية و التجرد و الحرية و ترأسه لجنة من علماء الإسلام، و نحن بفارغ الصبر في انتظار تلبية هذا الاقتراح.

جعفر السبحاني

قم-الجامعة الإسلامية

ص:433

ص:434

17

اشارة

حياة السيد الحميري

و ثقافته و اخلاصه

بسم اللّه الرحمن الرحيم

يتميّز الإنسان عن سائر الموجودات بالتفكير و هو موهبة عظيمة،كرّمه اللّه بها،و راح يعكس تفكيره من خلال الكلام إمّا منثوراً أو منظوماً،فالكلام المنثور هو ما يتكلّم به ارتجالاً،و الثاني عبارة عن الكلام الموزون المقفّى الذي لا يحصل إلاّ بالتروّي و الأناة.

ثمّ إنّ للإنسان نزوعاً إلى هذا النوع من الكلام قد يبلغ به تهييج العواطف و التذاذ الأسماع بمكان أنّه ربما يفقد وعيه.و الشعر في الوقت نفسه سلاح شديد الوقع،فإن استعمله الشاعر في الحماسة هاجت النفس لاقتحام الردى و الهلكة،و إن استغله في الاستعطاف و الاستعطاء حرك العواطف و هيّجها،و إن استعان به في التشبيب أغرى الأفئدة بالهوى و المجون،إلى غير ذلك من غايات خاصّة للشعر على وجه الإطلاق،كما أنّه سلاح ذو حدين،فالشعر الهادف هو ما يبني المجتمع و يوقظ الشعب و يسوقه نحو العلم و الصلاح و الفلاح،و غير الهادف منه هو ما يكرّس النزعات الأنانية في المجتمع و يسير به نحو هاوية الانحطاط،و يبعثه نحو الانحلال الخلقي،و للّه در الشيخ محمد رضا الشبيبي شاعر العراق الفحل إذ

ص:435

يقول: كفى الشعر ذمّاً إنّ للشعر قائلاً

إذا قلت انّ الشعر بحر غبنته متى يستقيم البحر من غير ساحل

قرائحنا منها بحور خضارم و منها إذا جربت رشحُ الجداول

و أجمعُ أقوال الرجال أسدُّها معان كبار في حروف قلائل (1)

فالحقّ كما قال الشبيبي انّ قيمة الشعر بمعناه و بتأثيره الخطير في إيقاظ المجتمع،فربَّ قصيدة كثيرة الأبيات لا تجد فيها كلمة حكيمة تُسعد الإنسان في حياته أو تصدّه عن مزالقه.

و رب بيت واحد يفضَّل على قصيدة،لأنّه ينشد إلى حكمة بالغة يأخذ بيد الإنسان في مزالق الحياة،و قد أشار إلى ذلك الشاعر المذكور.

ص:436


1- 2) .محمد جمال الهاشمي:الأدب الجديد:1-2،طبعة النجف الأشرف.

و قد يبلغ البيت البليغ قصيدة

و يا للأسف انّ الشعراء لم يجروا على حلبة واحدة،فهم بين مصلح بنّاء،و مفسد هدّام مثير للميوعات:

يقول امرؤ القيس في معلّقته: أ فاطم مَهْلاً بَعْضَ هذا التَّدلُّل

ص:437

و هناك من يبعث روح الشجاعة و التضحية و الفداء في المجتمع و يحثّه في المضي قُدماً في سلالم العز و الكمال،و هذا ما نلمسه بوضوح في الأبيات التالية لعميد الدين المعروف بالطغرائي (المتوفّى عام 510ه) في لاميته المعروفة بلامية العجم: حبّ السلامة يُثني همّ صاحبه

و ما نرى في الذكر الحكيم من ذم للشعراء،يقول سبحانه: «وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ* أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ* وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» 1

ص:438

فهو راجع إلى الشعراء الذين لا همّ لهم سوى الحصول على المزيد من حطام الدنيا من خلال مدح ذوي الجاه و المقام أملاً في نيل عطائهم،أو إثارة شهواته الجامحة التي تعصف بالمجتمع في ورطة الانحلال الاخلاقي.

ثمّ إنّه سبحانه لا ينظر إلى الجميع على حدّ سواء بل يستثني منهم طائفة،بقوله: «إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللّهَ كَثِيراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» 1.

و بذلك يتبين موقف الأحاديث الواردة في هذا المضمار،فهي بين مندِّدة بالشعر و بين مادحة له،كما في قوله:

إنّ من الشعر لحكمة،و إنّ من البيان لسحرا. (1)

و قد كان الشعر هو الوسيلة الوحيدة للإعلام و إثارة العواطف و الأحاسيس و بثّ الأفكار من خلاله،و كان للشعر و الشعراء في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و بعده مقام شامخ،و كان أئمّة أهل البيت عليهم السلام يغدقون عليهم بالعطايا و الصلات.

قال البراء بن عازب:إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قيل له:إنّ أبا سفيان بن حارث بن عبد المطلب يهجوك،فقام عبد اللّه بن رواحة فقال:يا رسول اللّه:ائذن لي فيه،فقال:«أنت الذي تقول ثبَّت اللّه»،قال:نعم،قلت يا رسول اللّه. فثبت اللّه ما أعطاك من حسن تثبيت موسى و نصراً مثل ما نصروا

قال صلى الله عليه و آله و سلم:«و أنت يفعل اللّه بك خيراً مثل ذلك». (2)

ص:439


1- 2) .مسند أحمد:269/1،273؛سنن الدارمي:296/2.
2- 3) .مستدرك الحاكم:488/3.

و قد أنشد كعب بن زهير قصيدته التي قالها في مدح النبي في مسجده الشريف،و التي مطلعها: بانت سُعادُ فقلبي اليوم متبول تيّم إثرَها لم يفد مكْبولُ

قال الحاكم:لما أنشد كعب قصيدته هذه لرسول اللّه،و بلغ قوله: إنّ الرسول لسيفٌ يُستضاء به و صارمٌ من سيوف اللّه مسلول

أشار صلى الله عليه و آله و سلم بكمه إلى الخلق ليسمعوا منه. (1)

و يروى أنّ كعباً أنشد«من سيوف الهند»فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:من سيوف اللّه.

قال المقريزي في حوادث السنة الثامنة من الهجرة:ففي هذه السنة كان إسلام كعب بن زهير بن أبي سلمى،فأسلم و قدم على رسول اللّه المدينة و أنشده القصيدة فكساه بُردة كانت عليه،و قال ابن قتيبة:أعطى رسول اللّه كعب بن زهير راحلة و بُردًا،فباع البُرد من معاوية بعشرين ألفاً، فهو عند الخلفاء إلى اليوم. (2)

و قد تأسّى أئمّة العترة الطاهرة بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم في تكريم الشعراء المجاهرين بولائهم،المخلصين من الذين كانوا ينظمون القريض لغايات دينيّة،معرضين عن التردّد على بلاط الخلفاء الأمويين و العباسيين،و قد كان لشعرهم يومذاك تأثير بالغ في قلوب الناس،و إيقاظ ضمائرهم،و لهذا الهدف الأسمى كان أئمّة أهل البيت يبجّلون بشعرهم و يدعون لهم و يغدقون عليهم بالصلات،و لهذه الغاية راجت بين شيعة أئمّة أهل البيت ميميّة الفرزدق،و هاشميّات الكميت،و عينية الحميري،و تائية دعبل الخزاعي،و ميميّة الأمير أبي فراس،و كانوا يحفظونها

ص:440


1- 1) .مستدرك الحاكم:580/3.
2- 2) .المقريزي:الإمتاع:356/1،ط عام 1401ه.

و ينشدونها في مجالسهم و محافلهم،فصارت هذه القصائد كالسيف الصارم بيد الموالين.

و من هذه الطليعة الشاعر المفلق المكْثر لثناء أهل البيت السيد الحميري الذي نحن بصدد التقديم له و للشرح الذي قام به نابغة عصره الشيخ بهاء الدين الاصبهاني المعروف ب«الفاضل الهندي»،فيلزم علينا الإلمام بترجمة الشاعر أوّلاً،ثمّ الشارح ثانياً حسب ما تقتضيه الحال.

السيد الحميري

هو إسماعيل،و كنيته أبو هاشم،بن محمد بن يزيد بن وداع الحِمْيري الملقب بالسيد،و انّه من بني حدّان تزوّج بها أبوه،لأنّه كان نازلاً فيهم،ولد عام 105ه (1)،بعُمان و نشأ في البصرة في حضانة والديه الإباضيّين إلى أن عقل و شعر فهاجرهما و اتصل بالأمير عقبة بن مسلم و تزلّف لديه حتى مات والداه،فورثهما-كما سيوافيك خبره-ثمّ غادر البصرة إلى الكوفة و أخذ فيها الحديث عن الأعمش و عاش متردّداً بينهما. (2)و مات عام 173ه.

ترجمه غير واحد من رجال الفريقين نذكر نصوصهم:

1.فقد ذكره الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب الإمام الصادق عليه السلام،قال:إسماعيل بن محمد الحميري،السيد الشاعر يكنّى أبا عامر. (3)

2.و ذكر في الفهرست،و قال:السيد بن محمد،أخباره تأليف الصولي،

ص:441


1- 1) .أخبار السيد للمرزباني:151- 152.
2- 2) .لسان الميزان:383/1.
3- 3) .رجال الطوسي برقم 108.

أخبرنا بها ابن عبدون عن أبي بكر الدوري عن الصولي. (1)

3.و لم يترجمه النجاشي مستقلاً،و إنّما ذكر من جمع أخباره و سيوافيك أسماء من جمع أخبار السيد.

4.و قال ابن شهرآشوب في المعالم في فصل الشعراء المجاهدين:

السيد أبو هاشم إسماعيل بن محمد بن يزيد (2)[بن محمد] (3)بن وداع بن مفرغ الحميري.

من أصحاب الصادق عليه السلام و لقي الكاظم عليه السلام و كان في بدء الأمر خارجياً ثمّ كيسانيّاً ثمّ إمامياً. (4)

5.و قال العلاّمة في الخلاصة في القسم الأوّل من الباب الثاني من فصل الهمزة.

إسماعيل بن محمد الحميري:ثقة،جليل القدر،عظيم الشأن و المنزلة رحمه الله. (5)

إلى غير ذلك من كلمات الإطراء في حقّه في معاجم أصحابنا،و أمّا ما ذكره غيرهم،فإليك نصوص بعضها:

6.قال ابن عبد ربّه:السيد الحميري و هو رأس الشيعة،و كانت الشيعة من تعظيمها له تلقي له الوسادة في مسجد الكوفة. (6)

7.و قال أبو الفرج الاصفهاني (المتوفّى عام 356ه):كان السيد شاعراً

ص:442


1- 1) .الفهرست برقم 350. [1]
2- 2) .و في المصدر مزيد و لعله مصحف يزيد كما في اخبار السيد للمرزباني.
3- 3) .هذه الزيادة ليست في أخبار السيد المرزباني.
4- 4) .معالم العلماء:146. [2]
5- 5) .الخلاصة،باب الهمزة،برقم 22.
6- 6) .العقد الفريد:289/2. [3]

متقدماً مطبوعاً،يقال له انّ أكثر الناس شعراً في الجاهلية و الإسلام ثلاثة:بشّار،أبو العتاهية،و السيد،فانّه لا يعلم انّ أحداً قدر على تحصيل شعر أحد منهم أجمع. (1)

كان السيد أسمر،تامّ القامة،أشنب (2)،ذا وفرة،حسن الألفاظ،جميل الخطاب،إذا تحدث في محل قوم أعطى كلّ رجل في المجلس نصيبه من حديثه. (3)

8.و نقل عن التوزي،أنّه قال:رأى الأصمعي جزءاً فيه من شعر السيد،فسترته عنه لعلمي بما عنده فيه،فأقسم عليّ ان أخبره فأخبرته، فقال:أنشدني قصيدة منه،فأنشدته قصيدة ثمّ أُخرى،و هو يستزيدني،ثمّ قال: قبّحه اللّه ما أسلكه لطريق الفحول! لو لا مذهبه،و لو لا ما في شعره ما قدمت عليه أحداً من طبقته. (4)

أقول:«كلّ إناء بالّذي فيه ينضح» (5)،انّ الاصمعي ناصبي عنيد يبغض علي بن أبي طالب عليه السلام و العترة الطاهرة عليهم السلام فلا غرو في أن يدعو على السيد بما عرفت،و لكن مع ذلك لم يستطع أن يُسدل الستار على عظمة السيد في مجال الشعر،و انّه سلك طريق الفحول في عالم القريض، و يتلوه في المذهب و الإطراء أبو عبيدة،و مع ذلك يقول في حقّ السيد أشعر المُحْدَثِين السيّد الحميري و بشار. (6)

9.و روى عمر بن شبّة،قال:أتيت أبا عبيدة معمر بن المثنى يوماً و عنده رجل من بني هاشم يقرأ عليه كتاباً،فلمّا رآني أطبقه،فقال له أبو عبيدة:إنّ أبا

ص:443


1- 1) .الأغاني:229/7. [1]
2- 2) .الشنب:البياض و البريق و التحديد في الاسنان.
3- 3) .الأغاني:231/7. [2]
4- 4) .الأغاني:232/7. [3]
5- 5) .«مثل يُضرب».
6- 6) .الأغاني:232/7. [4]

زيد ليس ممن يحتشم منه فأقرأ،فأخذ الكتاب و جعل يقرأه،فإذا هو شعر السيد،فجعل أبو عبيدة يُعجب منه و يستحسنه،قال أبو زيد:

و كان أبو عبيدة يرويه،قال:و سمعت محمد بن أبي بكر المقدمي،سمعت جعفر بن سليمان الضُّبعي ينشد شعر السيد. (1)

10.و حكى عن الموصلي عن عمِّه،قال:جمعت للسيد في بني هاشم الفين و ثلاثمائة قصيدة فخِلْتُ أن قد استوعبت شعره حتى جلس إليّ يوماً رجل ذو أطمار رثّة،فسمعني أنشد شيئاً من شعره فأنشدني له ثلاث قصائد لم تكن عندي،فقلت في نفسي لو كان هذا يعلم ما عندي كلّه،ثمّ أنشدني بعده ما ليس عندي،لكان عجيباً،فكيف و هو لا يعلم و إنّما أنشد ما حضره،و عرفت حينئذٍ انّ شعره ممّا لا يدرك و لا يمكن جمعه كلّه. (2)

11.قال غانم الوراق:خرجت إلى بادية البصرة فصرت إلى عمر بن تميم،فأثبتني بعضهم،فقال:هذا الشيخ و اللّه راوية،فجلسوا إليّ و أنسوا بي و أنشدتهم و بدأت بشعر ذي الرمة،فعرفوه،و بشعر جرير فعرفوهما ثمّ أنشدتهم للسيد.

قال:فجعلوا يمرقون لإنشادي و يطربون،و قالوا:لمن هذا،فأعلمتهم،فقالوا:هو و اللّه أحد المطبوعين،لا و اللّه ما بقي في هذا الزمان مثله. (3)

12.قال الزبير بن بكار:سمعت عمي يقول:لو انّ قصيدة السيد التي يقول فيها: انّ يوم التطهير يوم عظيم خصَّ بالفضل فيه أهل الكسا

ص:444


1- 1) .الأغاني:236/7. [1]
2- 2) .الأغاني:237/7. [2]
3- 3) .الأغاني:239/7. [3]

قرأت على منبر ما كان فيها بأس و لو انّ شعره كله كان مثله لرويناه و ما عيّبناه. (1)

13.حدث الحسين بن ثابت،قال:قدم علينا بدويّ،و كان أروى الناس لجرير،فكان ينشدني الشيء من شعره،فأُنشد في معناه للسيد حتى أكثرتُ،فقال لي:ويحك! من هذا؟ هو و اللّه،أشعر من صاحبنا. (2)

و هذه الكلمات التي نقلها أبو الفرج الاصفهاني تعرب عن تضلّع السيد في الأدب العربي و بلوغه الذروة في القريض بحيث لا يجاريه فيه أحد،و قد نال اعجاب عباقرة الشعر و جهابذة الأدب،و لو لا كفاحه و نضاله و تهالكه في حب أهل البيت،و مناهضته للجهاز الأموي و العباسي، لحظي بمكانة مرموقة في بلاط الخلفاء،و على الرغم من ذلك،فقد شهدت بفضله الأعداء،و الفضل ما شهدت به الأعداء،و قد أتاح سبحانه لسان أعدائه على تمجيده و تعظيمه.

أُسرة السيد

و العجب انّ أُسرة السيد الحميري كانت من بني حمير الذين قطنوا عمان و كانوا أباضية المذهب يكنُّون العداء لعلي بن أبي طالب عليه السلام.

و على الرغم من كلّ ذلك فقد ظهر من هذا المنبت السوء،موال لأهل البيت عليهم السلام،مخلص في حبهم،ذابّ عن حريم ولايتهم بشعره و بيانه و جسمه و روحه،على نحو لم يُر له مثيل فيمن غبر.

روى سليمان بن أبي شيخ عن أبيه:انّ أبوي السيد كانا إباضيّين،و كان منزلهما بالبصرة في غرفة بني ضبّة،و كان السيد يقول:طالما سُبّ أمير المؤمنين في

ص:445


1- 1) .الأغاني:239/7. [1]
2- 2) .الأغاني:239/7. [2]

هذه الغرفة،فإذا سئل عن التشيّع من أين وقع له،قال:غاصت عليَّ الرحمة غوصاً.

و روي عن السيد انّ أبويه لما علما بمذهبه همّا بقتله،فأتى عقبة بن سلم الهنائي،فأخبره بذلك فأجاره و بوأه منزلاً وهبه له فكان فيه حتى ماتا فورثهما. (1)

و قال إسماعيل بن الساحر راوية السيد:كنت عنده يوماً في جناح له،فأجال بصره فيه،ثمّ قال:يا إسماعيل طال و اللّه ما شُتم أمير المؤمنين عليّ في هذا الجناح،قلت و من كان يفعل؟ قال:أبواي. (2)

و قال المرزباني بسنده عن العباسة بنت السيد،قالت:قال لي أبي:كنت و أنا صبيّ أسمع أبويّ يثلبان أمير المؤمنين عليه السلام فأخرج عنهما و أبقى جائعاً،و أوثر ذلك على الرجوع إليهما فأبيت في المساجد جائعاً لحبّي فراقهما و بغضي إياهما حتى إذا أجهدني الجوع رجعت فأكلت ثمّ خرجت،فلمّا كبرت قليلاً و عقلت و بدأت أقول الشعر.

قلت لأبويّ:إنّ لي عليكما حقاً يصغر عند حقّكما عليّ فجنِّباني إذا حضرتكما ذكر أمير المؤمنين عليه السلام،بسوء،فإنّ ذلك يزعجني و أكره عقوقكما بمقالتكما،فتماديا في غيّهما،فانتقلت عنهما،و كتبت إليهما شعراً،و هو: خف يا محمّد فالق الاصباح و أزل فساد الدين بالإصلاح

ص:446


1- 1) .الأغاني:230/7. [1]
2- 2) .الأغاني:235/7. [2]

أ تسبّ صنو محمّد و وصيه ترجو بذلك الفوز بالإنجاح

هيهات قد بعدت عليك و قرّبا

فتواعداني بالقتل،فأتيت الأمير عقبة بن مسلم فأخبرته خبري،فقال لي:لا تقربهما،و أعدّ لي منزلاً أمر لي فيه بما أحتاج إليه و أجرى عليَّ جراية تفضل عن مئونتي. (1)

تفانيه في حبّ أهل البيت عليهم السلام و نشر مناقبهم

إنّ الأثر البارز في حياة السيد هو تفانيه في حبّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام و نشر مناقبهم بقريظه و شعره و بيانه و لسانه،و نقده اللاذع لأعداء العترة الطاهرة و مناوئيهم،على نحو لا يرضى أن يتبوّأ مجلساً ليس فيه ذكر لأحمد و لا لوصيه عليه السلام.

روى أبو الفرج الاصبهاني،عن الحسن بن علي بن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي:كنا جلوساً عند أبي عمرو بن العلا فتذاكرنا السيد، فجاء فجلس

ص:447


1- 1) .أخبار شعراء الشيعة:154- 155،ط عام 1413ه.

و خضنا في ذكر الزرع و النخل ساعة فنهض،فقلنا:يا أبا هاشم،مِمّ القيام؟ فقال: انّي لأكره ان أطيل بمجلس

و هناك وثائق تاريخية تعرب عن إخلاص السيد و ولائه المنقطع النظير للعترة الطاهرة،نقتطف منها هذه الشذرات،فانّ الاستيعاب يطيل بنا الكلام.

1.ذكر التميمي-و هو علي بن إسماعيل-عن أبيه،قال:كنت عند أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام إذ استأذنه آذنه للسيد،فأمر بايصاله،و أقعد حرمه خلف ستر،و دخل فسلم و جلس،فاستنشده،فأنشده قوله: امْرُر على جدث الحسي

ص:448

و إذا مررت بقبره فأطل به وَقف المطيّة

و ابكِ المطهَّر للمط هّر و المطهَّرة النقيّة

كبُكاء مُعولة أتت يوماً لواحدها المنيّة

قال:فرأيت دموع جعفر بن محمد تنحدر على خديه،و ارتفع الصراخ و البكاء من داره،حتى أمره بالإمساك فأمسك. (1)

2.روى الشيخ ابن قولويه(المتوفّى عام 367ه) بسنده عن أبي هارون المكفوف:قال:دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام،فقال لي:أنشدني، فأنشدته،فقال:لا،كما تنشدون،و كما ترثيه عند قبره،قال فأنشدته. امرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزكيّة

قال:فلما بكى أمسكت أنا،فقال:مر،فمررت،قال:ثمّ قال:زدني زدني،قال:فأنشدته: يا مريم قومي فاندبي مولاك و على الحسين فاسعدي ببكاك

قال:فبكى و تهايج النساء (2)

3.روى أبو سليمان الناجي،و محمد بن حليم الأعرج،قالا:

ص:449


1- 1) .الأغاني:240/7- 241. [1]
2- 2) .كامل الزيارات:105- 106،ط النجف [2]الأشرف؛ثواب الأعمال:109،ط عام 1391ه.

كان السيد إذا استنشد شيئاً من شعره لم يبدأ بشيء إلاّ بقوله: أجَدّ بآل فاطمةَ البكورُ فدمعُ العين منهمر غزير

و هناك منام صادق ينمُّ عن أنّ البيت المزبور حظى بإعجاب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

حدث إبراهيم بن هاشم العبدي البصري،قال:رأيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم في المنام و بين يديه السيد الشاعر و هو ينشد: أجدّ بآل فاطمة البكور فدمع العين منهمر غزير

حتى أنشده إيّاها على آخرها و هو يسمع:

قال:فحدثت هذا الحديث رجلاً جمعتني و إيّاه طوس عند قبر علي بن موسى الرضا،فقال لي:و اللّه لقد كنت على خلاف فرأيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم في المنام و بين يديه رجل ينشد:أجدّ بآل فاطمة البكور..

إلى آخرها،فاستيقظت من نومي و قد رسخ في قلبي من حبّ علي بن أبي طالب رضى الله عنه ما كنت أعتقده. (1)

قال إسحاق:و سمعت العتبي،يقول:ليس في عصرنا هذا أحسن مذهباً في شعره و لا أنقى ألفاظاً من السيد،ثمّ قال لبعض من حضر:

أنشدنا قصيدته اللامية التي أنشدتناها اليوم،فأنشده قوله: هل عند من أحببت تنويل أم لا فانّ اللوم تضليل

ص:450


1- 1) .الأغاني:246/7. [1]

يقول فيها: أقسم باللّه و آلائه

فقال العتبي:

أحسن و اللّه ما شاء،هذا و اللّه الشعر الذي يهجم على القلب بلا حجاب. (1)

4.سمع السيد محدّثاً يحدِّث أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان ساجداً فركب الحسن و الحسين على ظهره،فقال عمر:نعم المطيّ مطيّكما،فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:و نعم الراكبان هما.

فانصرف السيد من فوره،و قال في ذلك: أتى حسناً و الحسين النبي

و أنّ عَمَى الشكّ بعد اليقين

ص:451


1- 1) .الأغاني:258/7- 259. [1]

و يُرجى ابنُ حربٍ و أشياعه

إلى غير ذلك من قصائد جمة ذكر فيها فضائل الإمام علي و أهل بيته عليهم السلام.

و يكفيك في ذلك ما ذكره المعتز في طبقاته:

كان السيد أحذق الناس بسوق الأحاديث و الأخبار و المناقب في الشعر لم يترك لعلي بن أبي طالب فضيلة معروفة إلاّ نقلها إلى الشعر، و كان يملّه الحضور في محتشد لا يذكر فيه آل محمّد صلوات اللّه عليهم،و لم يأنس بحفلة تخلو عن ذكرهم. (1)

و ممّا تجدر الإشارة إليه انّ أكثر شعراء العصر الأموي و العباسي قد انكبّوا على عتبة بلاط الجهاز الحاكم رغبة منهم في الصلة و العطايا، و لكن السيد تنزّه عن هذه الوصمة و أناخ راحلته على عتبة أئمّة أهل البيت عليهم السلام فلم يمدح شخصاً إلاّ لضرورة،و لذلك تجد انّه يعيب البشار في شعره لما مدح من ليس أهلاً له،فأقبل عليه،و قال: أيّها المادح العباد ليُعطى

قال بشار:من هذا؟ فعرفَه،فقال لو لا أنّ هذا الرجل قد شُغل عنّا بمدح

ص:452


1- 2) .طبقات الشعراء:7.

بني هاشم لشغلنا،و لو شاركنا في مذهبنا لأتعبنا. (1)

كما نقل انّ السيد دخل على المهدي لما بايع لابنيه موسى و هارون،فانشأ يقول: ما بال مجرى دمعك الساجم

و قد بلغ السيد في إخلاصه لأهل البيت انّه كان يجاهر بعقيدته و مودته لهم في مجلس الخلفاء و إن وُشي عليه ما وشي و لم يكن يتقي في ذلك أبداً.

ص:453


1- 1) .الأغاني:237/7. [1]

روى عبد اللّه بن أبي بكر العتكي انّ أبا الخلاّل العتكي دخل على عقبة بن مسلم و السيد عنده،و قد أمر له بجائزة،و كان أبو الخلاّل شيخ العشيرة و كبيرها،فقال له:أيُّها الأمير،أ تعطي هذه العطايا رجلاً ما يَفتُرُ عن سبّ أبي بكر و عمر!،فقال له عقبة:ما علمت ذاك و لا أعطيته إلاّ على العشرة و المودة القديمة و ما يُوجبه حقُّه و جواره مع ما هو عليه من موالاة قوم يلزمنا حقُّهم و رعايتهم.

فقال له أبو الخلاّل:فمره إن كان صادقاً أن يمدح أبا بكر و عمر حتى نعرف براءته مما ينسب إليه من الرفض،فقال:قد سمعك،فإن شاء فعل،فقال السيد: إذا أنا لم أحفظ وصاة محمد و لا عهده يوم الغدير المؤكّدا

فإنّي كمن يشري الضّلالة بالهدى

ثمّ نهض مغضباً،فقام أبو الخلاّل إلى عُقبة،فقال:أعِذْني من شرِّه،أعاذك اللّه من السوء أيّها الأمير.

قال:قد فعلت على ألاّ تعْرضَ له بعدها. (1)

ص:454


1- 1) .الأغاني:262/7-263. [1]

ارتجاله في إنشاء الشعر

روى أبو الفرج الاصبهاني:كان السيد يأتي الأعمش فيكتب عنه فضائل علي رضى الله عنه و يخرج من عنده،و يقول في تلك المعاني شعراً، فخرج ذات يوم من عند بعض أُمراء الكوفة و قد حمله على فرس و خلع عليه،فوقف بالكُناسة،ثمّ قال:يا معشر الكوفيّين،من جاءني منكم بفضيلة لعلي بن أبي طالب لم أقل فيها شعراً أعطيته فرسي هذا و ما عليَّ.فجعلوا يحدّثونه و ينشدهم،حتى أتاه رجل منهم،و قال:إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب-رضي اللّه تعالى عنه-عزم على الركوب،فلبس ثيابه و أراد لُبس الخُفّ فلبس أحد خُفّيه،ثمّ أهوى إلى الآخر ليأخذه فانقضّ عقاب من السماء فحلّق به ثمّ ألقاه فسقط منه أسود و انساب فدخل حُجراً،فلبس عليّ رضى الله عنه الخُفّ قال:و لم يكن قال في ذلك شيئاً،ففكّر هنيهة،ثمّ قال: ألا يا قوم للعجب العجاب

ص:455

و زاد المرزباني بعد نقل القصة:ثمّ حرك فرسه و ثناها و أعطى ما كان معه من المال و الفرس للذي روى له الخبر،و قال:إنّي لم أكن قلت في هذا شيئاً. (1)

صلته الوثيقة بالإمام الصادق عليه السلام

إنّ أئمّة أهل البيت كانوا يُثمِّنون جهود الشعراء المخلصين المجاهرين بالولاء الذين نذروا أنفسهم في هذا السبيل،و لبسوا في ذلك جلباب البلايا،منهم شاعرنا المفلق السيد إسماعيل فكان الإمام الصادق يتفقده حيناً بعد حين.

روي أنّ أبا عبد اللّه عليه السلام لقي السيد بن محمد الحميري،و قال:سمّتك أُمّك سيّداً،وفِّقت في ذلك،و أنت سيّد الشعراء،ثمّ أنشد السيّد في ذلك. و لقد عجبت لقائل لي مرّة

مذهبه

كان السيد أباضي المنبت،ثمّ صار شيعياً كيسانياً،يقول بإمامة محمد بن

ص:456


1- 1) .أخبار شعراء الشيعة:171،ط عام 1413ه.

الحنفية،لكنّه عدل عنه إلى الإمامية على يد الإمام الصادق عليه السلام،و عليه أكثر المؤرّخين.

يقول السيد الحميري عن نفسه:كنت أقول بالغلو و اعتقد غيبة محمد بن علي الملقب بابن الحنفية،قد ضللت في ذلك زماناً،فمنَّ اللّه عليَّ بالصادق جعفر ابن محمد عليهما السلام و أنقذني به من النار و هداني إلى سواء الصراط...و تبت إلى اللّه تعالى ذكره على يديه و قلت قصيدتي التي أوّلها: و لمّا رأيت الناس في الدين قد غووا

و ها نحن نذكر بعض الكلمات،التي أشارت إلى مذهبه:

1.قال المرزباني:كان السيد بلا شكّ كيسانياً يذهب إلى أنّ محمد بن الحنفية هو القائم المهدي و انّه مقيم في جبال رضوى،و شعره في ذلك يدل على أنّه

ص:457

كما ذكرنا كيسانياً فمن قوله: يا شعب رضوى ما لمن بك لا يرى

غير انّه رحمه الله رجع عن ذلك و ذهب إلى إمامة الصادق عليه السلام و قال: تجعفرت باسم اللّه و اللّه أكبر

و من زعم انّ السيد أقام على الكيسانية فهو بذلك كاذب عليه و طاعن فيه،و من أوضح ما دل على بطلان ذلك،دعاء الصادق عليه السلام و ثناؤه عليه. (1)

2.و قال المعتز في طبقات الشعراء:حدّثني محمد بن عبد اللّه،قال:قال السدري راوية السيّد:كان السيّد أوّل زمانه كيسانياً يقول برجعة محمد الحنفيّة،و أنشدني في ذلك: حتى متى؟ و إلى متى؟ و متى المدى يا ابن الوصيِّ و أنت حيٌّ ترزق

ص:458


1- 2) .أخبار شعراء الشيعة:165.

و القصيدة مشهورة،و حدّثني محمد بن عبد اللّه،قال:قال السدري:ما زال السيّد يقول بذلك حتى لقي الصّادق عليه السلام بمكّة أيّام الحجّ فناظره و ألزمه الحجّة،فرجع عن ذلك،فذلك قوله في تركه تلك المقالة و رجوعه عمّا كان عليه و يذكر الصادق: تجعفرت باسم اللّه و اللّه أكبر

3.و قال الصدوق:فلم يزل السيد ضالاً في أمر الغيبة يعتقدها في محمد بن الحنفية،حتى لقي الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام و رأى منه علامات الإمامة و شاهد منه دلالات الوصية،فسأله عن الغيبة،فذكر له انّها حقٌّ،و لكنّها تقع بالثاني عشر من الأئمة عليهم السلام،و أخبره بموت محمد بن الحنفية و انّ أباه محمد بن علي ابن الحسين بن علي عليه السلام شاهد دفنه،فرجع السيد عن مقالته،و استغفر من اعتقاده و رجع إلى الحقّ عند اتضاحه له ودان بالإمامة. (1)

4.و قال المفيد:و كان من الكيسانية أبو هاشم إسماعيل بن محمد الحميري الشاعر رحمه الله،و له في مذهبهم أشعار كثيرة،ثمّ رجع عن القول بالكيسانية و تبرّأ منه ودان بالحقّ،لأنّ أبا عبد اللّه جعفر بن محمد عليهما السلام دعاه إلى إمامته،و أبان له عن فرض طاعته،فاستجاب له فقال بنظام الإمامة و فارق ما كان عليه. (2)

ص:459


1- 2) .كمال الدين:20. [1]
2- 3) .الفصول المختارة:93. [2]

5.و قال الإربلي:السيد الحميري رحمه الله كان كيسانياً يقول برجعة أبي القاسم محمد بن الحنفية فلما عرّفه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام الحق و القول بمذهب الإمامية الاثني عشرية ترك ما كان عليه و رجع إلى الحقّ و قال به:

و ينبئك عن مذهب الحقّ الصحيح قوله: على آل الرسول و أقربيه

رسول اللّه يوم غدير خمّ

ص:460

و خامسهم محمد ارتضاه

ص:461

وفاته

أثار نبأ وفاة السيد ضجة كبيرة في المجتمع الكوفي،فقد توفّي السيد عام 173ه،و قيل 178ه (1).

روى المرزباني باسناده عن ابن أبي حودان،قال:حضرت السيد ببغداد عند موته،فقال لغلام له:إذا متُّ فأت مجمع البصريين و أعلمهم بموتي و ما أظنه يجيء منهم إلاّ رجل أو رجلان،ثمّ اذهب إلى مجمع الكوفيين فأعلمهم بموتي أنشدهم: يا أهل كوفان إنّي وامق لكم

إلى أن قال: و كفّنوني بياضاً لا يخالطه

ص:462


1- 1) .لسان الميزان:438/1.

عسى الإله ينجِّيني برحمته و مدحي الغرر الزاكين من سقر

فانّهم ليسارعون إليَّ و يكبرون،فلما مات فعل الغلام ذلك،فما أتى من البصريين إلاّ ثلاثة معهم ثلاثة أكفان و عطر،و أتى من الكوفيين خلق عظيم و معهم سبعون كفناً و وجّه الرشيد بأخيه علي و بأكفان و طيب،فردت أكفان العامة عليهم و كفن في أكفان الرشيد،و صلّى عليه علي بن المهدي و كبّر خمساً،و وقف على قبره إلى أن سطح و مضى كلّ ذلك بأمر الرشيد. (1)

و نقل أبو الفرج الاصبهاني،عن بشير بن عمّار،قال:حضرت وفاة السيد في الرُّميلة ببغداد،فوجه رسولاً إلى صفّ الجزّارين الكوفيين يُعلمهم بحاله و وفاته،فغلط الرسول فذهب إلى صف السموسين فشتموه و لعنوه،فعلم أنّه قد غلط،فعاد إلى الكوفيين يُعلمهم بحاله و وفاته، فوافاه سبعون كفناً،قال:و حضرناه جميعاً،و انّه ليتحسّر تحسراً شديداً و إن وجهه لأسود كالقار و ما يتكلم،إلى أن أفاق إفاقة،و فتح عينيه،فنظر إلى ناحية القبلة،ثمّ قال:يا أمير المؤمنين،أ تفعل هذا بوليك! قالها ثلاث مرات،مرة بعد أُخرى.

قال:فتجلّى و اللّه في جبهته عرق بياض،فما زال يتسع و يلبس وجهه حتى صار كلّه كالبدر،و توفي فأخذناه في جهازه و دفناه في الجنينة ببغداد،و ذلك في خلافة الرشيد.

نعم ثمة (2)أوهام حيكت حول وفاة السيد نشير إلى بعضها:

ص:463


1- 1) .أخبار شعراء الشيعة:170.
2- 2) .الأغاني:278/7. [1]

قال أبو الفرج الاصبهاني:كنت عند جعفر بن محمد،فأتاه نعي السيد،فدعا له و ترحّم عليه،فقال رجل:يا ابن رسول اللّه،تدعو له و هو يشرب الخمر و يؤمن بالرَّجعة،فقال:حدثني أبي عن جدّي،انّ محبِّي آل محمّد لا يموتون إلاّ تائبين و قد تاب،و رفع مُصلّى كانت تحته،فأخرج كتاباً من السيد يعرِّفه فيه انّه قد تاب و يسأله الدعاء له. (1)

أقول:إنّ ما ذكره صاحب الأغاني لا يوافق التاريخ القطعي،فانّ الإمام توفي عام 148ه،و توفّي السيد عام 173ه و على قول178ه، فكيف يصحّ ما ذكره ؟!

و يقرب من ذلك ما ذكره الكشي بسنده عن محمد بن النعمان،قال:دخلت على السيد بن محمد،و هو لما به قد اسود وجهه و ازرقت عيناه و عطش كبده و سلب الكلام،و هو يومئذٍ يقول بمحمد بن الحنفية،و هو من حشمه،و كان ممّن يشرب المسكر فجئت،و كان قد قدم أبو عبد اللّه عليه السلام الكوفة،لأنّه كان انصرف من عند أبي جعفر المنصور،فدخلت على أبي عبد اللّه،فقلت:جعلت فداك انّي فارقت السيد بن محمد الحميري،و هو لما به قد اسودّ وجهه و ازرقت عيناه و عطش كبده و سلب الكلام فانّه كان يشرب المسكر.

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام:اسرجوا حماري،فاسرج له فركب و مضى،و مضيت معه،حتى دخلنا على السيد و انّ جماعة محدقون به، فجلس أبو عبد اللّه عليه السلام عند رأسه،و قال:يا سيد،ففتح عينه ينظر إلى أبي عبد اللّه عليه السلام و لا يمكنه الكلام و قد اسودّ وجهه،فجعل يبكي و عينه إلى أبي عبد اللّه،و لا يمكنه الكلام،و انا لنتبين فيه انّه يريد الكلام و لا يمكنه،فرأينا أبا عبد اللّه عليه السلام حرك شفتيه فنطق السيد،

ص:464


1- 1) .الأغاني:277/7. [1]

فقال:جعلني اللّه فداك،أ بأوليائك يفعل هذا؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام:يا سيد قل بالحقّ يكشف اللّه ما بك و يرحمك و يدخلك جنته التي وعد أولياءه،فقال في ذلك: تجعفرت باسم اللّه و اللّه أكبر و أيقنت انّ اللّه يعفو و يغفر

فلم يبرح أبو عبد اللّه عليه السلام حتى قعد السيد على استه. (1)

إنّ المتبادر من الخبر انّ السيد كان في حالة الاحتضار،و انّه اعتنق المذهب الإمامي في ذلك الوقت،مع أنّك عرفت انّ السيد قد توفّي بعد وفاة الإمام الصادق بسنوات طويلة.

و ليس من البعيد أن يُتّهم السيد بشرب النبيذ للحط من مكانته،و من كان محبّاً للوصي عليه السلام و متفانياً في حبه،كيف يخالفه،و انّه ليعلم أنّ شرب النبيذ أبشع منكر عنده.

و يظهر من الحجاج الذي دار بينه و بين شاعر أهل البيت الكميت الأسدي،انّ السيد كان عارفاً بالكتاب و السنّة و إقامة الحجج الدامغة و إفحام الخصم،فمن تنوّر قلبه بالكتاب و السنّة،كيف يشرب النبيذ أواخر عمره،و نكتفي هنا بسرد هذه الواقعة التاريخية التي تكشف بوضوح عن تضلّعه في العلم و الفقه و التاريخ.

قال المرزباني:قيل إنّ السيد حجّ في أيّام هشام،فلقي الكميت فسلّم عليه،و قال:أنت القائل:

ص:465


1- 1) .رجال الكشي:244- 245،ط النجف [1]الأشرف.

و لا أقول إذا لم يعطيا فدكا بنت الرسول و لا ميراثه كفرا

اللّه يعلم ما ذا تأتيان به يوم القيامة من عذر إذا حضرا

قال:نعم،قلته تقية من بني أُميّة،و في مضمون قولي شهادة عليهما إنّهما أخذا ما كان في يدها.

فقال السيد:لو لا إقامة الحجّة لوسعني السكوت لقد ضعفت يا هذا عن الحق،يقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:فاطمة بضعة منّي يريبني ما رابها، و انّ اللّه يغضب لغضبها و يرضى لرضاها،فخالفت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهب لها فدكاً بأمر اللّه له،و شهد لها أمير المؤمنين و الحسن و الحسين و أُمّ أيمن بأنّ رسول اللّه أقطع فاطمة فدكاً فلم يحكما لها بذلك،و اللّه تعالى يقول: «يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» 1 و يقول: «وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» 2 .و هم يجعلون سبب مصير الخلافة إليهم،الصلاة و شهادة المرأة لأبيها انّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:مروا فلاناً بالصلاة بالناس،فصدقت المرأة لأبيها،و لم تصدق فاطمة و الحسن و الحسين و أُم أيمن في مثل فدك،و تطالب مثل فاطمة بالبيّنة على ما ادّعت لأبيها.

و تقول أنت مثل هذا القول و بعد فما تقول في رجل حلف بالطلاق انّ الذي طلبت فاطمة عليها السلام هو حق و إنّ عليّاً و الحسن و الحسين و أُمّ أيمن ما شهدوا إلاّ بحق ما تقول في طلاقه؟ قال:ما عليه طلاق.

قال:فإن حلف بالطلاق إنّهم قالوا غير الحقّ؟

قال:يقع الطلاق،لأنّهم لا يقولون إلاّ الحقّ،قال:فانظر في أمرك،فقال

ص:466

الكميت:أنا تائب إلى اللّه مما قلت،و أنت أبا هاشم أعلم و أفقه منّا. (1)

و من تتبع شعره الطافح بالكتاب و السنّة،و ثباته على المبدأ و تحمل المصائب و المشاق في سبيل عقيدته،لوقف على سخافة ما اتّهم به من شرب الخمر و النبيذ.

و أين الصامد في سبيل الحق من المخمور الذي لا يبالي بما يدور حوله؟!

هذه نبذة مختصرة من سيرة السيد الحميري و أخباره و شعره،و من أراد التفصيل فليرجع إلى المصادر التي تعرضت لبيان اخبار السيد و أخص بالذكر منها:

أ:الأغاني (2)لأبي الفرج الاصبهاني المتوفّى عام 356ه.

ب:أخبار السيد الحميري،تأليف أبي عبد اللّه محمد بن عمران المرزباني الخراساني المتوفّى عام 384ه،تحقيق الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني.

مضافاً إلى ما في المعاجم و التراجم حول السيد،كأعيان الشيعة للسيد الأمين،و الغدير للشيخ الأميني،و قد بلغوا الغاية،شكر اللّه مساعيهم.

ثمّ إنّ هناك من جمع أخبار السيد في كتب خاصة من أصحابنا و غيرهم.

فقد ذكر النجاشي من جمع أخبار السيد،و قال:

أحمد بن عبد الواحد بن أحمد البزاز أبو عبد اللّه شيخنا المعروف بابن عبدون،له كتب منها اخبار السيد بن محمد. (3)

و قال:إسحاق بن محمد بن أحمد بن أبان له كتاب أخبار السيد،و كتاب

ص:467


1- 1) .الأغاني:229/7- 278 و 2/4 و 206/6و 276/8 و254/18.
2- 2) .أخبار شعراء الشيعة:178- 179.
3- 3) .رجال النجاشي برقم 209.

مجالس هشام.

و قال: (1)عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى الجلودي،شيخ البصرة و اخباريّها،ثمّ ذكر تآليفه الكثيرة،منها:اخبار السيد بن محمد. (2)

و قد عقد الدكتور الشيخ هادي الأميني محقق كتاب اخبار السيد للمرزباني عنواناً لمن ألف في أخباره و ذكر منهم:

1.أحمد بن محمد بن عبيد اللّه بن الحسن بن عباس بن إبراهيم بن أيّوب الجوهري (المتوفّى عام 401ه).

2.أحمد بن إبراهيم بن المعلّى بن العمي ينسب إلى العم،و هو مرة بن مالك ابن حنظلة بن زيد مناة بني تميم. (3)

3.صالح بن محمد الصرابي شيخ أبي الحسن الجندي. (4)

4.كاظم بن الشيخ باقر بن حسين مظفر له أخبار و شعر السيد. (5)

قصيدته العينيّة

لقد نالت قصيدتان من قصائد السيد إقبالاً واسعاً من قبل الأُدباء و الشعراء،و أكبّ غير واحد من المحقّقين على شرحهما و هما:

1.القصيدة المذهَّبة التي مستهلها:

ص:468


1- 1) .رجال النجاشي برقم 175.
2- 2) .رجال النجاشي برقم 638.
3- 3) .رجال الطوسي برقم 30؛رجال النجاشي برقم 70.
4- 4) .رجال النجاشي برقم 141.
5- 5) .معجم رجال الفكر و الأدب:419.

هلا وقعت على المكان المُعْشب بين الطويلع فاللوى من كُبكُب

و تناهز القصيدة 112بيتاً،شرحها السيد الشريف المرتضى (المتوفّى عام 436) و طبع في مصر عام 313ه،كما شرحها الحافظ النسابة المعروف بتاج العلى الحسيني (المتوفّى عام 610ه).

2.القصيدة العينية التي مستهلّها: لأُمّ عمر باللوى مربع طامسة أعلامه بلقع

التي تناهز 54 بيتاً شرحها غير واحد من المحقّقين و الأُدباء،كما اعتنى بها أئمّة أهل البيت عليهم السلام بالسماع،و دعوة الآخرين الى سماعها و حفظها كما سيوافيك،و قد شرحها أعلام الطائفة،و قد ناهزت شروح القصيدة 15 شرحاً.و قد وقفنا على بعضها و ذكر قسماً منها شيخنا المجيز الطهراني،و بعضاً منها شيخنا المحقّق الأميني و إليك أسماؤهم:

1.الشيخ حسين بن جمال الدين الخوانساري(المتوفّى عام 1099ه).

2.ميرزا علي خان الكلبايكاني تلميذ العلاّمة المجلسي.

3.المولى محمد قاسم الهزار جريبي(المتوفّى عام 1112ه) و قد صنّف فيها التحفة الأحمدية.

4.بهاء الدين محمد بن تاج الدين الحسن الاصبهاني الشهير بالفاضل الهندي(1062-1135ه) و هذا هو الذي يزفّه الطبع إلى القرّاء الكرام،و سنقوم بترجمة الشارح عن قريب.

5.الحاج المولى محمّد حسين القزويني المتوفّى في القرن الثاني عشر.

6.الحاج المولى صالح بن محمّد البرغاني.

ص:469

7.الحاج ميرزا محمد رضا القراجةداغي التبريزي،فرغ منه سنة 1289ه و طبع في تبريز سنة 1301ه.

8.السيّد محمّد عبّاس بن السيِّد علي أكبر الموسوي (المتوفّى 1306ه)،أحد شعراء الغدير في القرن الرابع عشر.

9.الحاج المولى حسن بن الحاج محمّد إبراهيم بن الحاج محتشم الأردكاني (المتوفّى عام1315ه).

10.الشيخ بخشعلي اليزدي الحائري (المتوفّى 1320ه).

11.ميرزا فضل علي بن المولى عبد الكريم الارواني التبريزي (المتوفّى سنة 1337ه) مؤلِّف«حدائق العارفين».

12.الشيخ علي بن علي رضا الخوئي (المتوفّى 1350ه).

13.السيد أنور حسين الهندي (المتوفّى 1350ه).

14.السيّد علي أكبر بن السيِّد رضي الرضوي القمي.

15.الحاج المولى علي التبريزي مؤلِّف (وقائع الأيّام) المطبوع. (1)

قد كان لقصيدته العينية التي نحن بصدد التقديم لها دويّ واسع في المجتمع الإسلامي،و هذا هو الإمام الصادق عليه السلام يُشيد بهذه القصيدة و يضرب ستراً لتسمعها النساء.

روى في الأغاني عن فُضيل الرسان،قال:دخلت على جعفر بن محمد أُعزيه عن عمّه زيد،ثمّ قلت له:أ لا أنشدك شعر السيد؟ فقال:

أنشد،فأنشدته قصيدة يقول فيها:

ص:470


1- 1) .الغدير:224/2. [1]

فالناس يوم البعث رايتهم

فسمعت مجيباً من وراء الستور،فقال:من قائل هذا الشعر؟ فقلت:السيّد! فقال:رحمه الله. (1)

روى المرزباني،قال:حدثني فضيل بن عمر الحبال،قال:دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام بعد قتل زيد عليه السلام فجعل يبكي،و يقول:رحم اللّه زيداً انّه العالم الصدوق،و لو ملك أمراً لعرف أين يضعه.

فقلت:أنشدك شعر السيد؟ فقال:امهل قليلاً،و أمر بستور،فسدلت،و فتحت أبواب غير الأُولى،ثمّ قال:هات ما عندك فأنشدته: لأُمّ عمرو باللوى مربع دارسة أعلامه بلقع (2)

ص:471


1- 1) .الأغاني:252/7،و [1]ما في ذيله من العبارة المشعرة بوفاة السيد حين إنشاء الشعر فموضوعة،لأنّ السيد توفي بعد وفاة الإمام الصادق عليه السلام.
2- 2) .أخبار شعراء الشيعة:159

و ظاهر هذين النصين انّ المجلس انعقد بعد وفاة زيد الشهيد بقليل.لأنّ فُضيل الرسان دخل على جعفر بن محمد الصادق ليعزِّيه عن عمه،و قد استشهد زيد في صفر عام 122ه أو 123ه و على ذلك،فقد انشأ السيد القصيدة في هذه السنة أو قريبة منها و بما انّه ولد عام 105ه فقد كان في ريعان شبابه حين قتل زيد و انشأ القصيدة في تلك الأيّام.

و لا غرو في ذلك،و قد نقل المرزباني عن العباسة بنت السيد،انّها قالت:قال لي أبي:كنت و أنا صبي أسمع أبويَّ يثلبان أمير المؤمنين عليه السلام فأخرج عنهما و أبقى جائعاً،و اوثر ذلك على الرجوع إليهما،فأبيت في المساجد جائعاً لحبّي فراقهما و بغضي إيّاهما حتى إذا أجهدني الجوع رجعت فأكلت ثمّ خرجت،فلمّا كبرت قليلاً و عقلت و بدأت أقول الشعر.... (1)

و نقل المرزباني عن أبي إسماعيل إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن بن طباطبا،قال:سمعت زيد بن موسى بن جعفر، يقول:رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في النوم و قدّامه رجل جالس عليه ثياب بيض،فنظرت إليه فلم أعرفه،إذ التفت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،فقال له:يا سيد،أنشدني قولك:«لأُمِّ عمرو في اللِّوى مَرْبَعُ».

فأنشده إيّاها كلّها ما غادر منها بيتاً واحداً،فحفظتها عنه كلّها في النوم.قال أبو إسماعيل:و كان زيد بن موسى لحّاناً رديّ الانشاد،فكان إذا أنشد هذه القصيدة لم يتعتع فيها و لم يلحن. (2)

و قد نقل العلاّمة المجلسي مناماً عن علي بن موسى الرضا،نقله عنه سهل

ص:472


1- 1) .أخبار شعراء الشيعة:154.
2- 2) .المصدر نفسه:161-162،و قريب منه ما نقله الشريف الرضي في حقائق الأئمّة.

ابن ظبيان يتعلق بهذه القصيدة و قائلها. (1)

إلى هنا تم ما كنّا نرمي إليه من ترجمة سيد الشعراء السيد إسماعيل الحميري،و ما يرجع إلى قصيدته العينيّة.

و لا يفوتنا أن نعرج على سيرة شارح هذه القصيدة،أعني:الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسن الاصفهاني المعروف ب«الفاضل الهندي»(1062- 1137ه).

بما انّه طال بنا الكلام في المقام نذكر شيئاً مختصراً عن حياته و نحيل التفصيل إلى كتب السير و المعاجم لا سيما الترجمة الوافية التي قدمت له في مستهل كتابه«كشف اللثام عن قواعد الأحكام».

ترجمة الشارح

قد قام بشرح القصيدة العينية نابغة عصره و فريد دهره أبو الفضل بهاء الدين محمد بن الحسن الاصفهاني المشهور بالفاضل الهندي(1062- 1137ه) مؤلف الموسوعة الفقهية الضخمة المسماة ب«كشف اللثام عن قواعد الأحكام»إلى غير ذلك من الآثار العلمية.

يحدّثنا التاريخ انّ لفيفاً من نوابغ المجتهدين،قد نالوا درجة الاجتهاد و هم بعدُ في سن مبكر لم يبلغوا الحلم.

منهم على سبيل المثال:العلاّمة الحلّي.

قال سيدنا الأمين في أعيان الشيعة:برع في المعقول و المنقول و تقدم و هو في عصر الصبا على العلماء الفحول. (2)

ص:473


1- 1) .بحار الأنوار:328/47- 332. [1]
2- 2) .أعيان الشيعة:279/24. [2]

و منهم نجله محمد بن الحسن المعروف بفخر المحقّقين(683- 772) و ذلك لأنّ والده ألّف كتاب القواعد باستدعاء ولده فخر المحقّقين.

و قال العلاّمة في خطبة القواعد:فهذا كتاب«قواعد الأحكام في معرفة الحلال و الحرام»لخصت فيه لبّ الفتاوى خاصة،و بينت فيه قواعد أحكام الخاصة،إجابة لالتماس أحبّ الناس إليّ و أعزّهم عليّ،و هو الولد العزيز محمد الذي أرجو من اللّه طول عمره بعدي. (1)

و ذكر ذلك أيضاً نفس فخر المحقّقين في شرحه لهذا الكتاب،قال في شرح خطبة القواعد:

إنّي لما اشتغلت على والدي قدّس اللّه سرّه في المعقول و المنقول و قرأت عليه كثيراً من كتب أصحابنا،فالتمست منه أن يعمل لي كتاباً في الفقه جامعاً لقواعده حاوياً لفرائده،مشتملاً على غوامضه و دقائقه،جامعاً لأسراره و حقائقه،يبني مسائله على علم الأُصولين و على علم البرهان. (2)

هذا من جانب،و من جانب آخر فانّ العلاّمة يصرّح في خاتمة كتاب القواعد انّه فرغ منه بعد ان بلغ من العمر الخمسين و دخل في عشرة الستين.

و بما انّ العلاّمة من مواليد عام 648 ه فقد فرغ عنه عام 698ه فيكون عمر ولده فخر المحقّقين عند إتمام الكتاب 15 سنة أو 16 سنة، فلو استغرق تأليف هذا الكتاب سنتين فقد ألفه لولده و هو ابن 14 سنة.

و يؤيد ذلك انّ العلاّمة فهرس أسماء كتبه في«خلاصة الأقوال في معرفة

ص:474


1- 1) .قواعد الأحكام:2،الطبعة الحجرية.
2- 2) .إيضاح الفوائد:9/1.

الرجال»،و ذكر منها«قواعد الاحكام في معرفة الحلال و الحرام»،و قد ألّف الخلاصة عام 693،فلولده (1)فخر المحقّقين من العمر يومذاك 11 سنة.

و منهم شيخنا المترجم شارح القصيدة فانّه بعد ما ذكر قصة تأليف العلاّمة كتابه القواعد لولده،قال:و قد يستبعد ذلك،ثمّ شرع في رفع الاستبعاد،و قال:و قد فرغت من تحصيل العلوم معقولها و منقولها و لم أكمل ثلاث عشرة سنة،و شرعت في التصنيف و لم أكمل احدى عشرة، و صنفت«منية الحريص على فهم شرح التلخيص»و لم أكمل تسع عشرة سنة.و قد كنت عملت قبله من كتبي ما ينيف على عشرة من متون و شروح و حواشي،ك«التلخيص في البلاغة»و توابعها،و«الزبدة في أُصول الدين»،و«الخود البريعة في أُصول الشريعة»و شروحها و«الكاشف»، و حواشي شرح عقائد النسفية،و كنت ألقي من الدروس و أنا ابن عشر سنين شرحي التلخيص للتفتازاني مختصره و مطوله. (2)

هذا و لكن الذي يدل على نبوغ مؤلفنا الشارح هي الآثار العلمية التي تركها للأجيال الآتية،فانّ كتابه«كشف اللثام»آية نبوغه في الفقه و براعته في الاستنباط.

و يكفي في قيمة هذا الكتاب ما نقله المحدّث القمي،عن أُستاذه المحدث النوري،عن شيخه الشيخ عبد الحسين انّ صاحب الجواهر كان يعتمد على كتاب«كشف اللثام»على نحو لا يكتب شيئاً من موسوعته إلاّ بعد الرجوع إلى ذلك الكتاب.

و من لاحظ كتاب الجواهر أيقن انّه اعتمد على كشف اللثام في موارد

ص:475


1- 1) .خلاصة الأقوال:برقم 274. [1]
2- 2) .كشف اللثام:المقدمة:112/1.

كثيرة،كما اعتمد هو على موسوعات أُخرى أبرزها كتاب«الرياض»للسيد علي الطباطبائي،و«مجمع الفائدة»للأردبيلي و«المسالك» للشهيد الثاني،و في الحقيقة كتاب الجواهر يشكل عصارة هذه الموسوعات مضافاً إلى تحقيقاته الرشيقة.

و قد برز نبوغ الفاضل الهندي و راح يشق طريقه وسط أجواء سادتها الحركة الاخبارية و هيمنت على معظم الأفكار،و كان هو أحد القلائل الذين ظلّوا أوفياء للحركة الفقهية الموروثة من المحقّقين الكبار نظير:المحقّق الكركي(المتوفّى عام 940ه)،و زين الدين الشهيد الثاني(المتوفّى عام 965ه)،و المحقّق الأردبيلي(المتوفّى عام 993ه)،و صاحب المدارك السيد محمد بن علي الموسوي (المتوفى عام 1009ه)،و نجل الشهيد الثاني الشيخ حسن بن زين الدين (المتوفى عام 1111ه)،و المحقّق السبزواري صاحب كفاية الأحكام (المتوفى عام 1090ه)،الآقا حسين الخوانساري (المتوفى عام 1098ه)،و المحقّق الشيرواني (المتوفى عام 1099ه) إلى أن وصلت النوبة إلى الشارح تاج المحقّقين و الفقهاء فخر المدققين و العلماء الفاضل الهندي،و بكتابه هذا حفظ التراث الفقهي الاجتهادي.

المرء بأفكاره و آرائه

إنّ الآثار الجلائل التي تركها شيخنا المؤلف تعرب عن تضلعه في أكثر العلوم الإسلامية،لا سيما في الفقه و الأُصول و الأدب العربي،و قد امتاز بالتنوع في الموضوع،و قد برز من قلمه ما يناهز 80 كتاباً. (1)

و لو أضيف إليه ما ألّفه من رسائل و كتيبات ربما ناهز المائة و الخمسين بين

ص:476


1- 1) .الفوائد الرضوية:487.

كتاب و رسالة،و قد استقصى صديقنا الجليل الشيخ عبد الرسول جعفريان أسماء تآليفه في تقديمه لكتاب كشف اللثام فوقف منها على42 كتاباً. (1)

و قد لعب الزمان بآثاره كما لعب بآثار الآخرين.فاللازم تركيز البحث على كتابه الذي نحن بصدد التقديم له و هو:«اللآلئ العبقرية في شرح العينية الحميرية»و قبل أن ننوه بهذا الشرح و مميزاته أود أن أُشير إلى بعض الكلمات التي قيلت في حقّه من قبل العلماء:

1.يقول المحقق الشيخ أسد اللّه التستري (المتوفّى عام 1237ه):

و منهم الاصفهاني المحقّق المدقق،النحرير الفقيه،الحكيم المتكلم،المولى بهاء الدين محمد بن الحسن الاصفهاني الشهير بالفاضل الهندي...و كان مولده سنة 62 بعد الألف و نشؤه في بدو حاله و صغره في بلاد الهند و لذا نسب إليها و جرت له فيها مع المخالفين مناظرة في الإمامة معروفة على الألسنة.

و صنف من أوائل دخوله في العشر الثاني كتباً و رسائل و تعليقات في العلوم الأدبية و الأُصول الدينية و الفقهية أيضاً.

منها ملخص التلخيص و شرحه،كلاهما في مجلد صغير جداً،و هو موجود عندي،و لعلّه أوّل مصنّفاته،و فرغ من المعقول و المنقول و لم يكمل ثلاث عشرة سنة كما صرح نفسه به،و هو صاحب المناهج السوية في شرح الروضة البهية،رأيت جملة من مجلداتها في العبادات و هي مبسوطة و مشحونة بالفوائد و التحقيقات و تاريخ ختام كتاب الصلاة منها سنة الثماني و ثمانين بعد الألف،فيكون عمره خمساً و عشرين سنة.

ص:477


1- 1) .كشف اللثام،قسم التقديم:46- 65.

و له أيضاً كشف اللثام عن قواعد الأحكام شرع فيه أوّلاً من النكاح و أنهاه إلى الختام و سلك فيه النمط الأوسط الذي هو أقرب إلى الاختصار،ثمّ بدأ من الأوّل مع استيفاء للمهم من الأدلّة و الأقوال و لا سيما أقوال القدماء الأبرار،و لم يبرز منه قيماً وجدنا و نقل إلاّ الطهارة و الحج و كذا الصلاة إلاّ انّها ناقصة.

و له ملخص الشفاء لابن سينا. (1)

2.يقول الخوانساري:إنّ المستفاد من بعض خطوطه التي ألقيناها بالعيان كونه في سنة سبع و سبعين بعد الألف في عداد فضلائنا الأعيان،و المشار إليهم بين الطائفة و غيرها بالبنان. (2)

3.يقول السيد جلال الدين الآشتياني:إنّي عثرت على عبارة في الماضي منقولة عن شخص كان يعيش في أواخر الدولة الصفوية كتب:

فيها:إنّي رأيت في المدرسة صبياً مراهقاً،ماهراً في الأبحاث العلمية،و حائزاً لمرتبة عالية في العلوم العصرية،و آثار النبوغ تلوح من ناصيته بوضوح،فسألت عن نسبه،فقالوا:هو ابن الملا تاج الدين،اسمه محمد بهاء الدين. (3)

و قبل أن أذكر انطباعي عن هذا الكتاب،أود أن أشير إلى ما كتبه صاحب الروضات تعليقاً على ذلك الكتاب،قال:إنّ هذا الكتاب أقوى دليل على كون الرجل قد وجد من كلّ فنّ من فنون العربية كنزه. (4)

فرغ منها سنة 1089ه.

ص:478


1- 1) .مقابس الأنوار:18،الطبعة الحجرية. [1]
2- 2) .روضات الجنات:116/7. [2]
3- 3) .منتخبات آثار الحكماء:544/3 في الهامش.
4- 4) .روضات الجنات:112/7،برقم 608. [3]

ملامح الكتاب و مميّزاته

اشارة

من ألقى نظرة على ذلك الكتاب،و لو نظرة عابرة يذعن بأنّ الشارح كاتب قدير له إحاطة تامة بمفردات اللغة العربية،و قواعدها، و معانيها،و يكفيك في ذلك قراءة خطبة الكتاب،فانّ النص الموجود فيه و إن كان على نظام السجع الرائج في القرن الثاني عشر،لكنّه يستخدم غريب الألفاظ بشكل يعرب عن إلمامه باللغة العربية بشكل واسع.

هذا هو أوّل ما يظهر للإنسان من قراءة صفحات من الكتاب،و أمّا إذا قرأه بدقة و إمعان حينها تنكشف له مميزات الكتاب و ملامحه التي تتلخص في النقاط التالية:

1.بيان معاني المفردات

لما كانت القصيدة الحميرية لشاعر عربي صميم و قد أخذ بناصية اللغة العربية،فأودع فيها الاصطلاحات الرائجة في البادية،راح الشارح إلى بيان مفردات البيت و معانيها اللغوية،و ما يشتق منها من الأسماء و الأفعال و في كلّ ذلك يشبع الموضوع على وجه لا يترك شاردة و لا واردة إلاّ و يخوض فيها.

ثمّ يشرع ببيان إعراب الكلمات الواردة في البيت،فيذكر جميع الوجوه المحتملة مشيراً إلى آراء أكابر العلماء،ثمّ يذكر رأيه بعد ذلك مع ذكر الدليل الذي دعاه إلى تبنّي هذا الرأي أو ذاك.

و النكتة الجديرة بالذكر انّه ربما يوافق رأي القائل الذي لا يتفق معه في العقيدة،و يرفض قول الآخر و إن كانت ينسجم معه في المبدأ.

ص:479

ثمّ بعد أن ينهي اعراب البيت يأخذ ببيان النكات الأدبية و البلاغية في القصيدة تحت عنوان (مسائل) أو البيان و يتمتع كلّ ذلك بدقة الملاحظة و جودة التفكير.

2.استعراض التفاسير المطروحة و تقييمها

و من المميزات البارزة أيضاً في هذا الشرح أنّ القارئ يلتقي فيه مع ذهن وقاد و عقلية كبيرة،قادرة على التحليق في سماء المعاني و ذكر الفروض المحتملة التي يمكن أن تكون مرادة للشاعر،مما يضفي على الشرح جمالية أكبر وقعة للقارئ،فعلى سبيل المثال:نرى انّه يتطرق إلى سبب تسمية القصيدة بالعينية يذكر لها احتمالات ستة،و يذكر لكلّ وجهه العلمي و الأدبي،و بالتالي يعلم انّ المؤلف ليس ناقلاً للآراء و مدوِّناً لها، بل نراه ناقلاً و محقّقاً للآراء المطروحة فلا يختار إلاّ عن حجة و لا يرفض إلاّ كذلك.

3.الأمانة في النقل

و من المميزات البارزة هي الأمانة في النقل،و هذه ميزة شاخصة عند المؤلف حيث حاول الإشارة إلى جميع المصادر التي اعتمدها، و يستنبط منها خاصية أُخرى و هي رجوعه إلى مصادر كثيرة و ما يرافقه من جهود كبيرة و مضنية.

4.محاولة ربط القصيدة بالواقع الموضوعي

و من ميزات هذا الشرح هو محاولة الشارح الربط بين القصيدة و الواقع الموضوعي السياسي و الاجتماعي الذي عاشه أمير المؤمنين عليه السلام مما يُضفي على

ص:480

القصيدة صفة كونها وثيقة تاريخية و اجتماعية تحكي عن تلك الفترة التي عاشها الإمام عليه السلام و عن طبيعة المجتمع الذي كان يحيط به عليه السلام.

5.دعم موقفه بآيات الذكر الحكيم

و من المميزات الأُخرى هي قدرة المؤلف على دعم آرائه بآيات الذكر الحكيم،و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على تبحر الشارح في فهم القرآن الكريم،و لذلك تراه في أكثر البحوث التي يوردها يستنجد بالقرآن الكريم لدعم حجته و تأييد رأيه.

إلى غير ذلك من المميزات التي يقف عليها القارئ حين مطالعته.

نسخ الكتاب

توجد نسخ خطية من هذا الكتاب في المكتبات:

1.نسخة مكتبة الجامعة برقم 1870 (1)،و كتب صاحب الروضات عليها تعليقته التي نقلناه من كتابه.

2.نسخة مؤلفة من 224 (2)ورقة في مكتبة السيد المرعشي تحت رقم 479،و على ظهر النسخة تملكات لأشخاص مختلفين سقط من آخرها سبع ورقات.

3.نسخة في مكتبة السيد المرعشي تحت رقم 1814 في 232 ورقة كتبها ابن علي محمد علي و فرغ من استنساخها عام 1233.

و قد اتخذ محقّق الكتاب هاتين النسختين الأخيرتين أصلاً،و راجع في

ص:481


1- 1) .الذريعة:259/18 رقم 17. [1]
2- 2) .و قد كتب في فهرس النسخة انّها ذات 211 ورقة و لكنّه خطأ و قد سقط من آخرها سبع ورقات.

استخراج ما نقل فيه إلى المصادر،و تحمل في ذلك جهداً كبيراً و ذلك لأنّ الشارح عكف على جمع النسخ من هنا و هناك،و بذلك صار ذا مكتبة عظيمة نوّه بها صاحب رياض العلماء في مواضع كثيرة من كتابه.

نحمده سبحانه على إنجاز هذا المشروع و نشره في الأوساط الإسلامية.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

شوال المكرم من شهور عام 1420

ص:482

18

اشارة

آية اللّه البروجردي

و الخطوط العريضة لتراثه الفكري

(1)

أشعر انّ للسيد الإمام البروجردي حقّاً كبيراً عليَّ يتجاوز حدود القاء محاضرة قصيرة في هذا الحفل الكريم،و قد طويت من عمري لديه سنين متمادية،فارتويت من علمه الغزير،و أدبه الجم،و أخلاقه العالية.

و بما انّي لا أتمكن من أداء هذا الحقّ الكبير،فاكتفي بالميسور آخذاً بقول الإمام علي عليه السلام:«الميسور لا يسقط بالمعسور».

تزامنت حياة الأُمّة الإسلامية بعلماء و عباقرة كانوا كالنجوم اللامعة في سماء العلم و العمل،و قد استضاءت بهم الأُمّة الإسلامية في مسيرها التكاملي،فانتعشت بهم حياة العلم و الدين فصاروا بحق مصاديق للحديث المأثور عن سيّد الرسل صلى الله عليه و آله و سلم حيث قال:

«يحمل هذا الدين في كلّ قرن،عدول يَنفون عنه تأويل المبطلين،و تحريف الغالين،و انتحال الجاهلين،كما ينفي الكيرُ خبث الحديد». (2)

و مع الاعتراف بفضل الجميع إلاّ أنّ مواقفهم كانت مختلفة.

ص:483


1- 1) .القيت هذه المحاضرة في الملتقى الدولي لتكريم الإمام البروجردي و الإمام محمود شلتوت عام 1421،شوال المكرّم في قم المشرفة.
2- 2) .رجال الكشي،باب فضل [1]الرواية و الحديث،ص 10.

فمنهم من سار على المنهج السائد في حياته في مجال العلم،فخدم الإسلام برأيه و فكره،و قلمه و بنانه.

و منهم من أحاط إحاطة تامة بالمنهج السائد و لم يكتف بذلك،بل طفق يبتكر أُسساً تلبّي حاجات العصر،و هم في كلّ عصر و مصر نزر قليل.و لو أردنا استعراض أسماء بعضهم نذكر على سبيل المثال:شيخنا المفيد في إبداعاته الكلامية و مناظراته العلمية،و السيد المرتضى - مضافاً إلى أدبه الجم-في انتاجاته الأُصولية،و تلميذهما شيخ الطائفة الطوسي في الحديث و الفقه المقارن و التفسير،إلى غير هؤلاء من العباقرة الذين خاضوا عُباب بحار العلوم فأثاروا أمواجاً هائلة،و حالوا دون خمول العلم و ركوده،فخرجوا بدرر و جواهر ثمينة اهدوها بكلّ تواضع إلى الأُمة الإسلامية.

و هكذا كانت سيرة فقيدنا الراحل السيد البروجردي (1292-1380ه ق) في حياته التي ناهزت قرابة تسعين عاماً،فلو غضضنا النظر عن مقتبل عمره و ايام دراسته على مشايخه و أساتذته حتى استقلاله بالتدريس،نرى أنّ حياته العلمية حفلت بابتكارات قيّمة،سواء قبل تسنُّمه المرجعية و الزعامة الدينية أم بعدها،و ها نحن نذكر الخطوط العريضة لتراثه الفكري.

ابتكاراته و خدماته العلمية

اشارة

إنّه قدس سره تمتع بمواهب خارقة،فقد جمع بين الحفظ و الفهم،و التصرف في الأفكار و الآراء،و الأخيرة منها عزيزة الوجود بين أوساط العلماء،فالسيد الراحل بفضل هذه الموهبة-أي موهبة التصرف في الأفكار و الآراء -،جاء بإبداعات تركت بصمات واضحة على العلوم الإسلامية لا سيما في الرجال و الفقه و الحديث.

ص:484

الف.ابتكاراته الرجالية

كان السيد البروجردي متضلّعاً في رجال الفريقين يعرف أسماءهم و أسماء آبائهم و تلاميذهم و مشايخهم،و قد لمس النقائص الفنية في الجوامع الرجالية للشيعة الإمامية مع ما لها من الأهمية البالغة،و إليك الإشارة إليها:

1.انّ الخطة التي رسمها القدماء و تبعها المتأخّرون في التوثيق و الجرح لا تخرج عن إطار التقليد لأئمّة الرجال،و ليس طريقاً مباشراً للمستنبط بُغية التعرف على أحوال الراوي بأن يلمس بفهمه و ذكائه و يقف عن كثب على كلّ ما يرجع إلى الراوي من حيث الطبقة و العصر أوّلاً، و مدى الضبط و الإتقان ثانياً،و كمية روايته كثرة و قلة ثالثاً،و مقدار فضله و علمه و كماله رابعاً،و هذا ممّا لا تفي به الكتب الرجالية الدارجة.

2.لا شكّ انّ التحريف و التصحيف تطرق إلى قسم من اسناد الأحاديث المروية في الكتب الأربعة و غيرها،و ربما سقط الراوي من السند من دون أن يكون هناك دليل يدلّنا عليه،و ليست الكتب الرجالية بصورة توقفنا على طبقات الرواة من حيث المشايخ و التلاميذ حتى يقف الباحث ببركة التعرّف على الطبقات على نقصان السند و كماله،لأنّها كتبت وفق حروف المعجم مبتدأة بالألف و منتهية بالياء،لا يُعرف أصل الراوي و طبقته في الحديث و لا أساتذته و تلامذته.

3.انّ أسماء كثير من الرواة مشتركة بين عدّة أشخاص،بين ثقة يُركن إليه،و ضعيف ترد روايته،فعند ما يلاحظ المستنبط الأسماء المشتركة في الاسناد لا يقدر على تعيين المراد.

و لأجل رفع هذه النقيصة التجأ العلماء إلى تأسيس فرع آخر لعلم الرجال باسم«تمييز المشتركات».

ص:485

4.انّ هناك رواة جاءت أسماؤهم في اسناد الأحاديث و لا نرى أثراً لهم في الكتب الرجالية،و صار هذا سبباً لوصف كثير من الروايات بالضعف للجهل بالراوي.

5.انّ التصحيف و التقليب طرأ على الأسانيد عبر القرون،فكثيراً ما جاء محمد بن مسلم بصورة محمد بن سالم فأوجد غموضاً في الحديث،كما قلب الحسين بن خالد عن يعقوب بن شعيب،إلى يعقوب بن شعيب عن الحسين بن خالد.

6.توجد إضافات بين الأسماء ف«أبو علي الأشعري»المعروف بابن إدريس،يروي عن علي بن الحسن الكوفي،و لكن ورد في بعض الأسانيد أبو علي الأشعري،عن (محمد بن) الحسن بن علي الكوفي،فما هو الميزان في التعرّف على زيادة (محمد بن)؟

7.ربما نرى أنّ الراوي يروي عمّن لم يدركه،و لكن في روايات أُخرى نرى أنّه يروي عنه بواسطة شخص خاص.

كلّ هذه المشاكل كان يعاني منها السيد البروجردي،فعاد إلى معالجة هذه النقائص الفنية في كتب الرجال بتأليف يعبّر عنه تارة بتجريد الأسانيد،و أُخرى بترتيب الأسانيد،و ثالثة بتنقيح الأسانيد.

و يتلخّص عمله في أنّه قام بتجريد أسانيد كلّ من الكتب الأربعة و سمّاها:تجريد أسانيد الكافي،و تجريد أسانيد الفقيه،و تجريد أسانيد التهذيب،و تجريد أسانيد الاستبصار،ثمّ انصرف إلى تجريد أسانيد الأمالي و الخصال و علل الشرائع للشيخ الصدوق،و تجريد أسانيد الفهرست للطوسي،و أسانيد رجال الكشي و النجاشي و غيرها من الكتب،مراعياً فيها ترتيب الحروف،فباستيفاء

ص:486

الأسانيد و قياس بعضها مع بعض قام بحلّ كافة المشاكل التي كان يُعاني منها.

بالنظر إلى هذه الأسانيد المجرّدة،يتسنّى الحصول على الفوائد التالية:

1.يعلم مشايخ الراوي و تلاميذه،و من هو مشاركه في نقل الحديث و كان في طبقته.

2.يعرف مشايخ كلّ من هؤلاء الرواة و طرقهم إلى الإمام.

3.يعرف الفقيه وجود الواسطة الساقطة بين الراوي و المروي عنه.

4.يعرف المصحّف عن الصحيح،و المقلوب عن غيره.

لا أقول إنّ السيد هو الوحيد الذي اختط هذا السبيل؛بل سبقه المحقّق الأردبيلي المعاصر للعلاّمة المجلسي مؤلّف«جامع الرواة»،فانّه يلتقط في ترجمة الرواة،جملة من الأسانيد عن الكتب الأربعة و غيرها و يجعلها دليلاً على التعرّف على شيوخ الراوي؛كما تبعه السيد محمد شفيع في كتابه:«طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال»فإنّهما بذلا جهدهما في رفع النقائص الفنية الطارئة على رجال الحديث،و لكن الذي قام به المحقّق البروجردي يعدّ من أبرز الأعمال و أعظمها في هذا الحقل.

كما تبع السيد البروجردي في هذا المشروع،الزعيم الديني السيد الخوئي قدس سره،فقد رفع بعض النقائص في كتابه الضخم«معجم رجال الحديث و تفسير طبقات الرواة»حيث إنّ من خصائص و مزايا هذا الكتاب انّه ذكر في ترجمة كلّ شخص أسماء من يروي عنه و من روى هو عنهم في الكتب الأربعة،و قد يذكر ما في غيرها،و لا سيّما رجال الكشي فقد ذكر أكثر ما فيه من الرواة و المروي عنهم،و بذلك خدم علم الرجال خدمة كبيرة (شكر اللّه مساعي الجميع).

ص:487

ب.منهجه الفقهي

إنّ الوقوف على الأحكام الشرعية من الكتاب و السنّة و سائر أدلّتها،هو الفقه الذي كان يمارسه السيد البروجردي منذ شبابه إلى رحيله، فقد قام بتدريس كثير من أبواب الفقه طيلة حياته،كما درس سائر الأبواب بنفسه مرّة بعد أُخرى،و كان يتمتع بذاكرة حادّة بالنسبة إلى المسائل الفقهية و الآراء التي دارت حولها من قبل الفريقين.و هو حين إلقائه المحاضرات الفقهية يتّبع النهج التالي:

1.إذا كانت المسألة ذات تاريخ عريق في الفقه الإسلامي من عصر الصحابة و التابعين و الأئمّة المعصومين إلى يومنا هذا،درج في بيان سيرها التاريخي و ما مرّت عليه من مراحل تاريخية،و لم يكن ذلك من خصائصه في الفقه فحسب،بل كان يدخل من هذا الباب في المسائل الأُصولية أيضاً.مثلاً كان قدس سره يدرّس مبحث«العام و الخاص»و كانت المسألة المعنونة هي:صيرورة العام مجازاً بعد التخصيص و عدمها، فخاض في لباب تاريخ المسألة حتى وصل إلى النتيجة التالية:بأنّ المسألة عنونت في أوائل القرن الرابع،ثمّ ذكر الآراء من ذلك العصر إلى يومنا هذا.و هذه من خصائصه فكان يرى أنّ الإحاطة بالأقوال من أركان الاستنباط،و مع أنّه كان يمتلك أكثر الكتب الفقهية للفريقين مخطوطها و مطبوعها،و لكنّه كان يعتمد في نقل الآراء على كتاب«الخلاف»للطوسي و«تذكرة الفقهاء»و«منتهى المطلب»للعلاّمة الحلّي.

و كثيراً ما ينقل الآراء الفقهية لأصحابها حسب تدرّجها الزماني حتى يعلم تطور المسألة،و ربما يشير إلى مباني الآراء عند ذكرها إشارة عابرة.

2.ثمّ إنّه بفضل التركيز على نقل آراء فقهاء الفريقين و الإشارة إلى بعض الأدلّة،كان لمنهج فقهه صبغة الفقه المقارَن،فيذكر آراء الفقهاء و بعض أدلّتهم

ص:488

و ربّما يصحّح و أُخرى يناقش بصدر رحب،و كثيراً ما يعتمد على كتاب«الأُم»للشافعي و«الموطّأ»لمالك،و عند ما يجلس على منصة التدريس يحس الطالب أنّه فقيه متضلّع خبير بكافة الآراء الفقهية لجميع المذاهب الإسلامية،و هذا كان من أبرز سمات منهجه،و لم يكن استيعابه للصحاح و المسانيد بأقل من استيعابه للكتب الأربعة.

3.انّ السيد البروجردي كان يقيم للشهرة الفتوائية أو العملية-على الفرق الواضح بينهما-قيمة كبيرة،فإذا كانت الرواية ممّن أفتى بها القدماء من الفقهاء لم يكن يعدل عنها،بل انّه كان يتبع هذا الأُسلوب فيما لو كانت هناك فتوى مشهورة بين القدماء و إن لم تعضد بالدليل،و كان يقيم الأدلّة على حجّية الشهرة الفتوائية للقدماء بما لا مجال لبيانه.

4.انّه قدس سره يذكر حول الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام كلمة معروفة،مضمونها كالتالي:كما أنّ للآيات القرآنية شأن نزول، فهكذا لروايات أئمّة أهل البيت أسباب ورود،و لا يعلم إلاّ بالرجوع إلى فتاوى الفقهاء المعاصرين لهم،فبالتعرف على فتاواهم تعرف إشارات الإمام في كلامه و لطائف مقاله،كما تعرف بها الرواية الصادرة عن مصلحة الراوي من الرواية الواردة لبيان الواقع،و كان تلاميذ الأئمة على اطّلاع بكلا النوعين من الفتيا؛فإذا وصل إليهم فتاوى الصادقين يعرفون ما هو الوارد لبيان الواقع،فيصفونه بأنّه أعطاه من عين صافية.و ما هو الوارد على وفق الواقع لمصالح اقتضت ذلك،فيصفونه بأنّه أعطاه من جراب النورة.

5.و من مميّزات منهجه الفقهي في استنباط الأحكام هو انّه كان يلتزم بقراءة كلّ رواية وردت حول المسألة في و مسائل الشيعة و المستدرك و ما في الصحاح

ص:489

و السنن،و كان يقرأ كلّ رواية بسندها التام،و يذكر خصوصية أكثر الرواة غير المعروفين و انّه من أي طبقة من الطبقات،و كثيراً ما ينبّه على سقوط الواسطة،أو طروء تقليب،أو تصحيف على الرواية أو يشير إلى عدد رواياته قلّة و كثرة.

و في ظل الإحاطة بالأسانيد كان يجهد في توحيد الروايات،فيُرجع الروايات المتعدّدة ظاهراً إلى أصل واحد،قائلاً:بأنّ التكثّر طرأ عليها من قبل الوسائط.و هذا كان من اختصاصاته في الفقه.

6.كان قدس سره يجهد في أن يذكر لكلّ مسألة الدليل المهم الذي يمكن أن يستند إليه المجتهد،و ينأى بنفسه عن ذكر الأدلّة الضعيفة و مناقشاتها صيانة لوقت الطالب.

هكذا كانت محاضرات سيدنا الأُستاذ الراحل و منهجه الفقهي الذي أصبح فيما بعدُ المنهجَ الرسمي السائد على الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة،و أمّا الكلام في منهجه الحديثي و الخدمات التي أسداها في هذا المضمار،فنحيله إلى وقت آخر.

ج.نشاطاته الاجتماعية
اشارة

إنّ الإمام الراحل السيد البروجردي كان من أرومة عريقة ضربت بجرانها عبر العصور و القرون،فهو سليل الشجرة الطيّبة التي أصلها ثابت و فرعها في السماء،فلا عتب على اليراع إن وقف عن سرد محاسنه و فضائله،فإنّ سيدنا المترجم فذّ في كلّ نواحيها.و نسبة الفضائل إليه كأسنان المشط لا تفاضل بينها،لأنّه واقع في نقطة المركز من الدائرة،فخطوط الفضائل إليه متساوية،و مع ذلك نشير إلى بعض ما للسيد من نشاطات و مواقف كريمة،و ما كان يحمل من هموم الأُمّة و ما قدّم لها من خدمات.

ص:490

أ.دعوته إلى التقريب

كان السيد الراحل من دعاة التقريب و عماده،و قد ورث فكره التقريب عن أُستاذه السيد محمد باقر الاصفهاني (المتوفّى عام 1342ه)، و يعلم مدى دعمه لمسألة التقريب انّه قد كان للسيد مساهمة فعالة في تأسيس دار التقريب بين المذاهب،و دعم المعنيّين بتأسيسها من دون فرق بين السنّة و الشيعة،و قد كان على صلة وثيقة بأخبار دار التقريب عن طريق مندوبه،أعني:الأمين العام لجماعة دار التقريب،الشيخ محمد تقي القمي،كلّ ذلك يدلّ على شدة اهتمامه بأمر التقريب و لمِّ شمل الأُمّة كسائر روّاده من معاصريه،نظير:الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(المتوفّى1373ه) و السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي(المتوفّى 1377ه) و غيرهم من أقطاب التقريب.

و لم يقتصر نشاطه على متابعة اخبار دار التقريب فحسب،بل انّه قدس سره راح يراسل شيخ الأزهر عبد المجيد سليم.لمّا بعث إليه برسالة يستفسر فيها عن صحّته بعد ما سمع من المذياع انّ صحته قد تدهورت،و قد اغتنم السيد الفرصة و بعث بجواب إليه،و إليك نصّ رسالة شيخ الأزهر:

حضرة صاحب السماحة آية اللّه الحاج آقا حسين البروجردي

سلام اللّه عليكم و رحمته

أمّا بعد:فقد بلغنا-عن طريق المذياع-أنّ صحتكم الغالية قد ألم بها طارئ من المرض،فأسفنا لذلك أشدّ الأسف لما نعرفه فيكم من العلم و الفضل و الإخلاص للحق،و إنّا لنسأل اللّه جلّت قدرته أن يعجل بشفائكم،و يلبسكم لباس العافية،حتى تتمكّنوا

ص:491

من العود الحميد إلى نشاطكم المعهود في خدمة الإسلام و المسلمين.

و لقد شاءت إرادة اللّه أن أكون أنا أيضاً في هذه الفترة مريضاً معتكفاً في بيتي أحمل همّين ممضين:همّ نفسي و همّ قومي،و أطيل التفكير حالياً في حال أُمّتنا العزيزة،فيأخذني من القلق و الحزن ما اللّه به عليم،فأرجو أن تسألوا اللّه لي العافية كما أسأله لكم،و اللّه يتولاّنا جميعاً برحمته.

إنّ الأُمّة الإسلامية الآن،أحوج ما تكون إلى رجال صادقي العزم،راجحي الوزن،يجاهدون في اللّه حقّ جهاده،ليدرأوا عنها غوائل الفتن،و نوازل المحن،فقد تألّبت قوى الشر،و تجمّعت عناصر الفساد،و زلزل المؤمنون في كلّ قطر من أقطارهم زلزالاً شديداً،و كأن قد أتى الزمان الذي أنبأ الصادق الأمين-صلوات اللّه و سلامه عليه و على آله و صحبه:أنّ القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر،و إنّما مثل أهل العلم من المؤمنين الصادقين كأطواد راسية أو حصون منيعة ألقاها اللّه في الناس أن تميد بهم الأرض من فتنة أو جهالة،أو كنجوم ثاقبة في ليل داج،ترشد السارين،و تهدي الحائرين.فادع اللّه معي أن يحفظ هؤلاء و يكثر في الأُمّة منهم،و ينشر عليهم رحمته،و ينزل عليهم سكينته،و يؤيد بهم الحقّ و الدين،و يهزم بهم المبطلين و الملحدين و المفسدين،إنّه على ما يشاء قدير،و بالإجابة جدير. (1)

و السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

14 من شعبان سنة 1370ه

ص:492


1- 1) .رسالة الإسلام:العدد الثالث من السنة الثالثة.و ليست هذه الرسالة،الرسالة الوحيدة التي تم تبادلها بين شيخي السنّة و الشيعة،بل ثمّة رسالة أُخرى كتبها الشيخ عبد المجيد سليم إلى السيد في جواب رسالة شفوية حملها إليه الأمين العام لدار التقريب،و قد نُشر الجواب على صفحات مجلة رسالة الإسلام العدد الثاني من السنة الرابعة عام 1371ه.

و لمّا وصلت رسالة شيخ الأزهر إلى السيد الراحل قام بكتاب جواب يشكر فيه عواطفه تجاهه،و قال:

حضرة صاحب الفضيلة الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم

شيخ الجامع الأزهر-دامت إفاضاته-

السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد-فقد بلغنا كتابكم الكريم الحاوي للعواطف الإسلامية السامية،يحكى لنا أنّه لمّا بلغكم عن طريق المذياع أنّ صحّة هذا العبد قد ألمّ بها طارئ من المرض،أسفتم لذلك،و دعوتم اللّه تعالى أن يعيد له الصحة.

فأشكركم على ذلك،و أسأل اللّه تعالى أن يبدّل التعارف و التعاطف بين المسلمين،ممّا كان بينهم من التناكر و التدابر و التقاطع،إنّه على ما يشاء قدير..

و يحكي كتابكم أيضاً،أنّه قد ألم بصحتكم الغالية طارئ من المرض،كما ألمّ بي،فاعتكفتم في البيت حاملين لهمين ممضين:همّ نفسكم،و همّ قومكم،و أنّ إطالة التفكير في حالة الأُمّة،توجب لكم من القلق و الحزن،ما اللّه به عليم.

هكذا ينبغي أن يكون رجال العلم و رجال الإسلام،مهما حاقت بالمسلمين زلازل الفتن،و أحاطت بهم نوازل المحن،فأسأل اللّه عزّ سلطانه،أن يلبسكم لباس العافية،و يوفقكم لخدمة الإسلام و المسلمين،و لما يوجبه الاهتمام بأمر الأُمّة في مثل هذا الزمان،من أمثال جنابكم الذين وقفوا أنفسهم لخدمة هذه الأُمّة،و درء عوادي المفسدين و الملحدين عنها،إنّه قريب مجيب.

إنّ هنا أُموراً كنت أحب إبداءها لكم،لكن حالي لا تساعدني على ذلك.

ص:493

و السلام عليكم و على من أحاط بكم من المؤمنين الصادقين و رحمة اللّه و بركاته.

17 من رمضان سنة 1370ه. (1)

كان السيد يترصّد الفرص بين حين و حين لأن يُدعم موقف التقريب و من نماذج ذلك:

إنّ الملك سعود بن عبد العزيز زار إيران و أرسل بهدية سنية للسيد البروجردي،و قام السيد ببعث كتاب إلى سفير المملكة السعودية في طهران كإجابة لما أُهدي إليه،و قد أشار في ذلك الكتاب إلى أنّ مسألة الحجّ من أهم مظاهر الوحدة،فللمسلمين أن يؤدّوا مناسك الحج وفق الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام،و إليك نصّ رسالته إلى السفير:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

سلام اللّه عليكم و رحمته

أمّا بعد:فقد بلغنا كتابكم مع السيد يوسف بو علي،و معه حقيبة كبيرة ذكرتم أنّها تحتوي على خمس عشرة نسخة من القرآن الكريم، و على قطع من حزام ستار الكعبة الشريفة،و على...و أنّ جلالة الملك أمر بإرسالها إليّ،فتحيّرتُ في الأمر،لأنّ سيرتي عدم قبول الهدايا من الملوك و العظماء،و لكن اشتمال هذه الهدية على القرآن الكريم و ستار الكعبة الشريفة؛ألزمني قبولها،فأخذت نسخ القرآن الكريم و القطع من حزام ستار الكعبة الشريفة،و أرسلت الحقيبة«بما بقي فيها»إلى جنابكم هدية مني إلى شخصكم،لأكون على ذكر منكم في أوقات الصلوات و الدعوات،و لمّا كان أمر الحجّ في هذه السنين بيد جلالة الملك؛أرسلت حديثاً طويلاً في صفة حج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،رواها

ص:494


1- 1) .رسالة الإسلام:العدد الثالث من السنة الثالثة.

مسلم في صحيحه،و أبو داود في سننه و يستفاد منه أكثر أحكام الحجّ إن لم يكن كلّها،لترسله إلى جلالة الملك هدية منّي إليه،و تبلغه سلامي و تحياتي،و أسأل اللّه عزّ شأنه أن يؤلِّف بين قلوب المسلمين،و يجعلهم يداً واحدة على من سواهم،و يوجههم إلى أن يعملوا بقول اللّه تعالى: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» 1 و أن يجتنبوا التدابر و التباغض و اتّباع الشهوات الموجبة لافتراق الكلمة،و أن يلتزموا بقول اللّه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» 2.

و السلام عليكم و رحمة اللّه (1)

ب.مواقفه السياسية

كان السيد الراحل منذ أوان شبابه إلى أواخر حياته ملمّا بالأوضاع السياسية التي تمرّ على المسلمين في أنحاء العالم،و قد ابتلي المسلمون في أواسط القرن الماضي بفتنة اليهود و إنشائهم لدويلتهم الغاصبة في قلب الأُمّة الإسلامية و على مقربة من أُولى القبلتين،و قد كانت هذه الفكرة تراود اليهود منذ عصر الامبراطورية العثمانية إلى أن أُتيحت لهم الفرصة في مختتم الحرب العالمية الثانية حيث أعانتهم القوى الكافرة بتأسيس تلك الدولة الغاصبة،فأخذوا يقتلون المسلمين رجالهم و نسائهم و أطفالهم و يشرّدونهم من أراضيهم إلى أن أُستتبّ لهم الأمر بإنشاء دويلتهم عام 1947م،و قد ضبط التاريخ جرائمهم في دير ياسين و غيره ممّا يندى لها جبين البشرية،و ليست جرائمهم هذه الأيام غائبة عن أعيننا فقد أعادوا

ص:495


1- 3) .رسالة الإسلام،العدد الأوّل من السنة الثامنة.

التاريخ بنفسه.

و قد قام السيد البروجردي يومذاك بإصدار بيان يندّد فيه بتلك الجرائم النكراء،و احتفلت بسماع بيانه الحوزة العلمية و شارك هو قدس سره ذلك الاحتفال،و قرأ البيان الخطيب المصقع الشيخ محمد تقي الاشراقي (1313- 1368ه) و إليك نصّ ذلك البيان:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

نحمد اللّه تعالى في السّراء و الضّرّاء و على كلّ حال،و نشكو إليه ما لقيه إخواننا المسلمون في زماننا هذا من المشركين بباكستان و من اليهود بفلسطين،و لقد صدق عملهم بالمسلمين ما أخبرنا اللّه تعالى به في كتابه الكريم: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ». 1

و لكن العجب و الأسف كلّه من صنع اليهود،فانّهم بعد ما كانوا تحت حماية الإسلام و المسلمين قريباً من أربعة عشر قرناً،محفوظين بنفوسهم و أعراضهم و أموالهم و شعائرهم الدينية،قد أصبحوا في هذا الزمان ينتقمون من المسلمين ما صنعوه إليهم في تلك المدّة المديدة من الإحسان،فجعلوا يقتلون رجالهم الصالحين بالفتك و الغيلة و القتال،و يقتلون ذراريهم،و يهتكون أعراضهم،و يخرّبون معابدهم و بيوتهم و لا يرقبون فيهم إلاّ و لا ذمّة و أُولئك هم المعتدون.

فنسأل اللّه تعالى أن ينصر المسلمين نصراً عزيزاً،و يجعل لهم من لدنه

ص:496

سلطاناً نصيراً،و أن يخذِّل هذا القوم الذين لم يراعوا حقّ المسلمين،و يضرب عليهم الذلّة و المسكنة،و يجعلهم أذلّ الأُمم،و نرجو من إخواننا المؤمنين ببلاد إيران و غيرها أن يجتمعوا في الدعاء عليهم بالخذلان،و لإخوانهم المسلمين بالنصر و الغلبة.

اللّهمّ انصر جيوش المسلمين و سراياهم و مرابطيهم في مشارق الأرض و مغاربها،و اخذل أعداءهم و فرِّق بين كلمتهم،والق الرعب في قلوبهم،و أنزل عليهم بأسك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين،و صلّ على أشرف أنبيائك محمّد و آله المنتجبين.

حسين الطباطبائي

ج.مشاريعه الخيرية

كان السيد البروجردي بحقّ من مصاديق قوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» 1 فقد كانت له في القلوب محبة عريقة و ود أصيل،و في الوقت نفسه عظمة و مهابة،و كانت مهابته تملأ القلوب،و قد اكتسب ذلك الحب بخدماته الجليلة طيلة عمره لا سيما مشاريعه الخيرية،فقد بُنيت بأمره و تحت إشرافه مساجد في إيران و خارجها و مدارس علمية و مستوصفات،حتى أنّه قدس سره في عام المجاعة في بروجرد بذل جلّ ما يملك للفقراء.

و من أهمّ مشاريعه العمرانية مسجد«هامبورغ»الذي هو ملجأ لعامّة

ص:497

المسلمين في تلك البلاد النائية يقام فيه الجمعة و الجماعة،و تحضره عامة الطوائف في مختلف الأوقات.

د.نشر الإسلام

كان السيد البروجردي على إيمان بأنّ الغرب لو اطّلع على حقيقة الإسلام لرغب إليه بشوق،فانّ الغرب و إن كان نهض ضد القيم الأخلاقية،إلاّ أنّ فيه رجالاً واعين لو وقفوا على الإسلام لاعتنقوه،و في ظل تلك العقيدة بعث نخبة من فضلاء الحوزة إلى ألمانيا،فصار ذلك سبباً لتوثيق الصلة بين جامعة قم الإسلامية و المراكز العلمية فيها،كما بعث دعاة إلى سائر نقاط العالم.

ه.احياؤه للتراث الشيعي

إنّ علماء الإمامية قاموا بخدمات جبّارة من خلال تأليف موسوعات و كتب و رسائل في مختلف العلوم،لكن ممّا يؤسف له انّ أكثر هذه الكتب رهينة محبسين: رداءة الطباعة،و عدم اطّلاع المحقّقين على هذه الكتب؛فشمّر قدس سره عن ساعد الجد و قام بنشر كثير من المخطوطات التي لم تر النور،و يمكن أن تعدّ الكتب التالية من ثمرات جهوده على هذا الصعيد:

-«الخلاف»للشيخ الطوسي فقد طبع في جزءين في مجلد واحد.

-«قرب الإسناد»للحميري.

-«مفتاح الكرامة»للسيد محمد جواد العاملي:الجزء التاسع و العاشر.

-«جامع الرواة»للأردبيلي.

-«النصّ و الاجتهاد»للسيد عبد الحسين شرف الدين العاملي.

ص:498

و من أهمّ ما قام به هو انّه أشار إلى الشيخ محمد تقي القمي الأمين العام لجماعة دار التقريب أن يقوم بنشر«المختصر النافع»للمحقّق الحلّي،فقد كان لنشر هذا الكتاب صدى عظيم في الأوساط العلمية في القاهرة،حتى نفذت نسخه الناهزة ستة آلاف خلال شهرين. (1)

و.خلقه

كان السيد الراحل بحق إنساناً أخلاقياً،أبي النفسي،متواضعاً،خائفاً من اللّه سبحانه و كان في نهاية العام الدراسي يعظ الحاضرين في مجلس درسه و يبتدأ كلامه بتلاوة الآية المباركة: «يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ وَ اللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» 2 فإذاً عيناه تمتلئ بالدموع و تسيل على وجهه،و هو بعد لم ينبس ببنت شفة.

و قد بلغ من شعفه بأهل البيت عليهم السلام لا سيما الإمام الحسين عليه السلام انّ دموعه كانت تتقاطر دون انقطاع كلما ذكر.

ز.حبه للعلم و العلماء

كان السيد البروجردي يحب العلم و العلماء من كافة الطبقات،و كان يقدّم الحوار العلمي على سائر الحوارات،و مع كبر سنه إذا دخل مجلسه كبير من العلماء يقوم له احتراماً و لو بمعونة الآخرين.

ص:499


1- 1) .انظر كيفية نشره و مدى تأثيره في الأوساط العلمية في مصر،رسالة الإسلام،العدد الثالث من السنة التاسعة.

و بما انّ كاتب هذه السطور أدرك من حياة السيد قرابة خمسة عشر سنة،و تتلمذ عليه سنين عديدة،فإنّه يحتفظ بذكريات عطرة عنه يضيق بنقلها المجال.

هكذا كانت حياة سيدنا الراحل،فسلام اللّه عليه يوم ولد،و يوم مات،و يوم يبعث حيّاً.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

21 رمضان المبارك من شهور عام 1421ه ق

ص:500

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.