تحقیق الاصول المجلد 5

اشارة

سرشناسه:حسینی میلانی، سیدعلی، 1326 -

عنوان و نام پدیدآور:تحقیق الاصول علی ضوء ابحاث شیخناالفقیه المحقق والاصولی المدقق آیةالله العظمی الوحیدالخراسانی/ تالیف علی الحسینی المیلانی.

مشخصات نشر:قم: مرکزالحقائق الاسلامیه، 1432 ق.= 1390 -

مشخصات ظاهری:ج.

شابک:دوره 978-964-2501-52-6 : ؛ ج.1 978-964-2501-93-9 : ؛ ج.2 978-964-2501-94-6 : ؛ ج.3 978-964-2501-39-7 : ؛ ج. 4 978-964-2501-54-0 : ؛ 70000 ریال : ج.5 978-964-2501-55-7 : ؛ 130000 ریال: ج.6 978-600-5348-78-1 : ؛ ج.7: 978-600-5348-91-0 ؛ ج.8 978-600-8518-02-0 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج. 2- 4 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390) .

یادداشت:ج.5 (چاپ اول: 1431ق.= 1389).

یادداشت:ج.6 (چاپ اول: 1435ق. = 1393).

یادداشت:ج.7 (چاپ اول: 1436ق. = 1393).

یادداشت:ج.8 (چاپ اول: 1437ق. = 1395) (فیپا).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:وحیدخراسانی، حسین، 1299 -

شناسه افزوده:مرکز الحقائق الاسلامیه

رده بندی کنگره:BP159/8/ح56ت3 1390

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:1093921

ص :1

اشارة

ص :1

ص :2

ص :3

ص :4

کلمة المؤلّف

الحمد للّٰه رب العالمین ، و الصّلاة و السّلام علی خیر خلقه محمّد و آله الطیّبین الطاهرین ، و لعنة اللّٰه علی أعدائهم أجمعین من الأوّلین و الآخرین .

و بعد :

فهذا هو الجزء الخامس من کتابنا ( تحقیق الاصول ) الذی دوّنت فیه ما ألقیته علی ثلّة من الفضلاء فی الحوزة العلمیّة ( علی ضوء أبحاث شیخنا الاستاذ دام ظله ) ، و هو الجزء الأوّل من أبحاثنا فی الاصول العملیّة .

و إنی لأشکر اللّٰه کثیراً علی وقوع الأجزاء السّابقة من هذا الکتاب، لدی أهل الفضل الکرام، موقع القبول و الاستفادة و الإعجاب، و أنّهم ما زالوا یطالبون بنشر بقیّة أجزائه ، و ذلک من فضل اللّٰه و کرمه و هو ولیّ الإنعام .

ثم إنَّ جماعةً منهم قد اقترحوا علیّ الامور التالیة :

التفصیل الأکثر و تبسیط المطالب بقدر الإمکان .

و إیراد بعض نصوص عبارات الأعلام فی المسائل المهمّة بحسب الحاجة ،

ص:5

و عدم الاکتفاء بذکر مجمل آرائهم .

و التعرّض لآراء سیّدنا الاستاذ الرّوحانی أکثر من ذی قبل ، و لآراء السیّد الشهید الصّدر .

فنزلت عند رغبتهم فی هذا الجزء و الأجزاء اللّاحقة ، و أسأل اللّٰه التوفیق للإتمام بمحمّد و آله علیهم الصّلاة و السّلام.

علی الحسینی المیلانی

1430

ص:6

الأُصول العملیّة

اشارة

ص:7

ص:8

تمهید

اشارة

ص:9

ص:10

تقسّم المسائل الاصولیّة إلی قسمین :

مباحث الاصول اللفظیة ، و قد تقدّم الکلام علیها بالتفصیل :

مباحث الاصول العملیّة .

و المحور فی کلا القسمین هو «الأصل» .

لکنّ موضوع الأصل فی القسم الأول هو «الظهور» و فی الثانی هو «الشک» ، و المراد منه الأعم من الظن و الشک المتساوی الطرفین .

إلّا أن فی کلٍّ من القسمین مباحث استطرادیّة .

و البحث الاستطرادی العمدة فی القسم الثانی هو «القطع» کما سیظهر .

حالات المکلّف

قال الشیخ الأعظم :

اعلم أن المکلّف إذا التفت إلی حکمٍ شرعی ، فإمّا أنْ یحصل له الشک فیه أو القطع أو الظن (1) .

و من هنا، فقد وضع کتابه ( فرائد الاصول ) بثلاثة رسائل، لکلّ حالةٍ رسالة ،

ص:11


1- 1) فرائد الاصول 1 / 25 .

و لذا عرف کتابه ب( الرسائل ) أیضاً .

فالشیخ قسّم حالات المکلّف إلی ثلاثة أقسام .

لکنّ صاحب الکفایة غیّر التعبیر عن الموضوع و قسّمه بنحوٍ آخر فقال :

فاعلم : أن البالغ الذی وضع علیه القلم ، إذا التفت إلی حکم فعلی ، واقعی أو ظاهری ، متعلّق به أو بمقلّدیه ، فإمّا أن یحصل له القطع به أوْ لا ، و علی الثانی ، لا بدّ من انتهائه إلی ما استقلّ به العقل ، من اتّباع الظن لو حصل له و قد تمّت مقدمات الانسداد - علی تقدیر الحکومة - ، و إلّا فالرجوع إلی الاصول العقلیة من البراءة و الاشتغال و التخییر ، علی تفصیلٍ یأتی فی محلّه إن شاء اللّٰه تعالی (1) .

فهو قسّم حال المکلّف إلی قسمین : أن یحصل له القطع و أنْ لا یحصل .

المراد من المکلّف فی التقسیم

و قد وقع الإشکال فی المراد من « المکلّف » المجعول مقسماً فی هذا المقام ، لأن الالتفات معتبر فی التکلیف ، فلا وجه لأنْ یشترط ، فقال المحقق الخراسانی فی الحاشیة : مراده بالمکلّف من وضع علیه القلم من البالغ العاقل ، لا خصوص من تنجّز علیه التکلیف ، و إلّا لما صحّ جعله مقسماً (2) .

و لذا غیّره فی الکفایة إلی « البالغ الذی وضع علیه القلم » .

و علی الجملة ، فهو یری أنّ الشاکّ فی الحکم لیس بمکلّف فعلی لکنه بالغ وضع علیه القلم ، فیدخل فی المقسم .

ص:12


1- 1) کفایة الاصول : 257 .
2- 2) درر الفوائد فی حاشیة الفرائد : 21 .

أقول :

الظاهر أنّ منشأ الإشکال هو البناء علی شرطیّة « إذا » کما هو ظاهر شیخنا أیضاً ، و أمّا بناءً علی کونها ظرفیّةً ، فلا یلزم ، فالمکلّف حین یلحظ الحکم ، فإمّا یکون قاطعاً أو ظانّاً به أو شاکّاً فیه ، کما قال الشیخ قدّس سرّه ، و یکون قاطعاً أو غیر قاطع ، کما قال صاحب الکفایة قدّس سرّه ، کما سیأتی .

هل المراد خصوص المجتهد ؟

و وقع الاختلاف فی المراد من « المکلّف » من جهة أنّه خصوص المجتهد أو مطلق المکلّف ؟ فظاهر الشیخ هو الثانی ، و هو ما نصّ علیه تلمیذه فی شرحه إذ قال : المراد من المکلّف أعم من المجتهد و العامی ، کما هو قضیّة ظاهر اللّفظ (1) .

و صریح الکفایة هو الأوّل .

لکنّ المیرزا یری أنّ مراد الشیخ خصوص المجتهد (2) ثم اختار ذلک و أفاده لدی التقسیم ، إذ قال : اعلم أن البالغ الذی وضع علیه قلم التکلیف إذا التفت فی مقام الاستنباط إلی حکم شرعی ... (3) .

أقول :

إنه لا ریب فی أنّ الموضوعات المأخوذة فی المسائل هی للأعم من المجتهد و المقلّد ، ففی مسألة حجیّة خبر الثّقة ، لمّا یستدلّ بالکتاب و السنّة و غیرهما ، لا یفرّق بین المجتهد و غیره ، و هو مقتضی عموم قوله تعالی : «یٰا أَیُّهَا

ص:13


1- 1) بحر الفوائد 1 / 7 - 8 .
2- 2) فوائد الاصول 3 / 3 .
3- 3) أجود التقریرات 3 / 9 .

الَّذینَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَکُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ » (1)، و أدلّة الاستصحاب - مثلاً - ظاهرة فی العموم کقوله علیه السلام : « لا ینقض الیقین بالشکّ » (2) و کذا أدلّة البراءة مثل « الناس فی سعةٍ ما لم یعلموا » (3) .

أدلّة القول بالاختصاص

و لکنّ المهمَّ هو المقصود من قولهم « إذا التفت »، فإنه إن کان المراد هو الالتفات التفصیلی إلی خصوصیّات الأمارات و مجاری الاصول ، فلا شکّ فی عدم تحقّقه من العامی .

کلام المحقق النائینی

و لذا قال المیرزا :

و المراد من المکلّف هو خصوص المجتهد ، إذ المراد من الالتفات هو الالتفات التفصیلی الحاصل للمجتهد بحسب اطّلاعه علی مدارک الأحکام ، و لا عبرة بظنّ المقلّد و شکّه . و کون بعض مباحث القطع تعمّ المقلّد لا یوجب أن یکون المراد من المکلّف الأعم من المقلّد و المجتهد ، إذ البحث عن تلک المباحث وقع استطراداً و لیست من مسائل علم الاصول ، و مسائله تختص بالمجتهد و لا حظّ للمقلّد فیها . و لا سبیل إلی دعوی شمول أدلّة اعتبار الطرق و الاصول للمقلّد ، غایته أنّ المقلّد عاجز عن تشخیص مواردها و مجاریها ، و یکون المجتهد نائباً عنه فی ذلک ، فإنه کیف یمکن القول بشمول خطابٍ مثل :

ص:14


1- 1) سورة الحجرات : 6 .
2- 2) وسائل الشیعة 8 / 216 ، الباب 10 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة ، رقم : 3 .
3- 3) عوالی اللآلی 1 / 424 .

« لا تنقض الیقین بالشک » فی الشبهات الحکمیة للمقلّد ، مع أنه لا یکاد یحصل له الشک و الیقین ، بل لو فرض حصول الشک و الیقین له، فلا عبرة بهما ما لم یکن مجتهداً فی مسألة حجیّة الاستصحاب (1) .

و قد تعرّض المیرزا فی هذا الکلام لما ذکرناه من عموم الموضوع فی الأدلّة، و أشکل علی ذلک بما حاصله عدم شمول الأدلّة لغیر المجتهد، ثم ذکر أنّه لو فرض حصول الشک و الیقین له فلا عبرة بهما .

و الحاصل إنه یذهب إلی قصور الأدلّة عن الشمول لغیر المجتهد .

کلام المحقق العراقی

و یضاف إلی ذلک وجه آخر ذکره المحقق العراقی و هو :

إنه علی فرض الشمول و العموم ، فإنّ شرط الحجیّة غیر حاصلٍ لغیر المجتهد ، لأنّ شرط الأخذ بأیّ حجةٍ من الحجج أو أصلٍ من الاصول ، هو الفحص عن المعارض للخبر مثلاً أو الدلیل المانع من التمسّک بالأصل ، و الفحص عن ذلک عمل المجتهد لا غیره (2) .

المناقشة فیها

و قد نوقش فی الوجوه المذکورة .

أمّا أنّ المقصود هو الالتفات التفصیلی و هو یحصل للمجتهد .

ففیه : إن هذا قد یحصل لأهل العلم و الفضلاء غیر البالغین مرتبة الاجتهاد ، و یتمّم المطلب لغیر أهل العلم بعدم القول بالفصل . قاله المحقق العراقی(3) .

ص:15


1- 1) فوائد الاصول 3 / 3 - 4 .
2- 2) ( - 3) نهایة الأفکار، ق 1 ج 3 ص 2 .

و أشکل علیه شیخنا : بأنْ لا فائدة فی عدم القول بالفصل ، بل المفید هو القول بعدم الفصل و هو غیر موجود ، علی أنه لو کان فهو إجماع مدرکی . مضافاً إلی أن المسألة من المستحدثات فی القرون الأخیرة ، و لا حجیّة للإجماع المدّعی فیها .

بل الحق فی الجواب علی کلام المیرزا : حصول الالتفات التفصیلی لغیر المجتهد من المکلّفین موجبةً جزئیّة ، کما تقدّم .

و أمّا ما ذکره من عدم شمول دلیل الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة لغیر المجتهد ، فقد أجاب شیخنا :

أوّلاً : أنه ینتقض بإجراء المقلّد للاستصحاب فی الشبهات الموضوعیّة ، الجائز له ذلک بالاتّفاق ، فکما یحصل له الیقین و الشک ، فیها کذلک یحصلان له فی الشبهات الحکمیّة .

و کذا أجاب السیّد الصّدر إذ قال: إنّ غیر البالغ أیضاً ربما تحصل له شبهة حکمیّة ، و لا بدّ له عقلاً من تحصیل مؤمّن تجاهها (1) .

و ثانیاً : إن القول بعدم العبرة بالیقین و الشک ما لم یکن مجتهداً فی مسألة حجیة الاستصحاب ، یستلزم المحال ، لأن الیقین و الشک بالحکم موضوع للحجیّة ، و العلم بالحجیّة متأخر عنها رتبةً ، کما أنّ الحجیة متأخرة رتبةً عن الیقین و الشک ، فکان العلم بحجیّة الاستصحاب متأخراً عنها بمرتبتین ، فلو کانت موضوعیّتهما للحجیّة متوقّفة علی العلم بالحجیّة لزم الدور .

ص:16


1- 1) مباحث الاصول ، الجزء الأول من القسم الثانی : 178 .

و أمّا ما ذکره من اختصاص موضوعات أدلّة الطرق و الاصول بالمجتهد ، فالموضوع فی آیة النبأ هو المجتهد ، و هو الموضوع فی مثل : « من جاءه الخبران المختلفان » و فی أدلّة الاستصحاب ، و هکذا .

ففیه : إن الأمر لیس کذلک ، لأنّ الخطاب فی الآیة لعموم المسلمین ، و هل کان کلّهم فی صدر الإسلام من أهل النظر و الاجتهاد ؟ هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن أدلّة حجیة خبر الثقة إمضاء للسیرة العقلائیة ، و هی قائمة علی العموم و الشمول للمقلّد .

و أمّا الإشکال باشتراط الأخذ بالدلیل أو الرجوع إلی الأصل بعدم المعارض و الدلیل ، فقد أجاب عنه المحقق الخوئی (1) - و تبعه سیدنا الاستاذ (2) و شیخنا و غیرهما (3) - بما حاصله : أنّ عجز المقلّد عن الفحص لا یخرجه عن کونه مخاطباً بالأدلّة ، بل إنه یرجع إلی المجتهد فی الفحص و الیأس عن المعارض و الدلیل من باب الرجوع إلی أهل الخبرة ، فإذا أخبره بالیأس عن العثور ، أخذ المقلّد بالخبر أو بالأصل و عمل بمقتضاه .

و بعبارة اخری : إنّ الفحص إنما یلزم لإحراز عدم المانع من الأخذ بالدلیل أو الأصل ، و هذا الإحراز کما یمکن أنْ یکون بالوجدان، کذلک یمکن حصوله بالتعبّد ، کإخبار أهل الخبرة أو قیام البیّنة .

فظهر : أنْ لا وجه لتخصیص المکلّف فی موضوع التقسیم بالمجتهد ، بل

ص:17


1- 1) مصباح الاصول 2 / 9 .
2- 2) منتقی الاصول 4 / 16 .
3- 3) کالسیّد الصدر، بحوث فی علم الاصول 4 / 15 .

هو أعمّ منه و من غیره ... .

بل ذکر سیدنا الاستاذ رحمه اللّٰه أنه لا ظهور لقول صاحب الکفایة « متعلّق به أو بمقلّدیه » فی أخذه خصوص المجتهد فی موضوع التقسیم ، بل یمکن أنْ یکون نظره إلی تعمیم الآثار فی حالات المجتهد ، بالنسبة إلی نفسه و إلی مقلّدیه ، لا أنّ الموضوع هو خصوص المجتهد . إذ قد یشکل فی ثبوت الآثار لقطع المجتهد من جهتین :

إحداهما : إن بعض الأحکام التی یلتفت إلیها المجتهد ، موضوعها غیر المجتهد ، فلا علم له بالحکم الفعلی بالنسبة إلیه ، کأحکام الحیض بالنسبة إلی المجتهد الرجل .

و ثانیتهما : إن بعض الأحکام و إنْ کانت شاملةً للمجتهد بحسب موضوعها ، لکن لیست محلّ ابتلائه فعلاً ، فلا یتصوّر فی حقّه العمل کی یصحّ التعبّد فی حقّه ، إذ التعبّد بلحاظ الجری العملی .

و یجمع هاتین الجهتین عدم کون الحکم الملتفت إلیه فعلیّاً بالنسبة إلیه .

فنظر صاحب الکفایة إلی أنّ الحکم الذی یلتفت إلیه المجتهد لا یلزم أن یکون متعلّقاً به ، بل أعم مما یکون متعلّقاً به أو بمقلّدیه ، فهو ناظر إلی تعمیم الأثر فی حالة المجتهد ، و لا دلیل علی کون نظره إلی تخصیص الموضوع بالمجتهد (1) .

ص:18


1- 1) منتقی الاصول 4 / 13 .

توجّه الإشکال علی کلا القولین

أقول :

و سواء تمّ رفع الید عن ظاهر کلام الکفایة فی الاختصاص أوْ لا ، فإنّ الإشکال المذکور متوجّه علی القول بتخصیص الموضوع و بالتعمیم معاً ، - و إنْ کان قد یتوهّم وروده علی القول الأول خاصّةً - لأن من الأحکام ما لا علاقة له بالمجتهد الرجل ، کمسائل الحیض ، و منها ما هو مشترک بین عامّة المکلّفین کمسائل الخمس و الزکاة و الحج ، و لکنْ قد لا یتحقّق لها الفعلیّة بالنسبة إلی المجتهد ، فمن قامت عنده الأمارة علی الحکم فیها و هو المجتهد قد لا یرتبط به الحکم ، و من یرتبط به الحکم لم تقم عنده الأمارة . و کذا الحال فی الأصل ، فمن تحقّق عنده موضوع الاستصحاب و هو الیقین و الشک ، قد لا تکون له علاقة بالحکم ، و من له العلاقة به لم یتحقق عنده الموضوع ، فکیف یجری المجتهد الاستصحاب فی حقّ غیره ؟

وجوه الجواب عنه

و قد اجیب عن هذا الإشکال (1) :

بأنّ مقتضی أدلّة الإفتاء و الاستفتاء هو تنزیل المجتهد منزلة المقلّد ، فإذا قامت الأمارة عنده تحقق القیام لها عند المقلّد ، و کذلک الحال فی الشک و الیقین ، فیقین المجتهد و شکّه بمنزلة یقین المقلّد و شکّه ، و إلّا لکان الحکم بجواز الإفتاء و الاستفتاء لغواً .

ص:19


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 3 . نهایة الاصول 3 / 14 .

و قرّبه السیّد الصّدر بقوله :

أی : تنزیل حال المجتهد منزلة حال العامّی ، ففحصه بمنزلة فحص العامی ، و کذلک یقینه بالحالة السابقة أو بالمعلوم الإجمالی ینزّل منزلة یقین العامی ، فتشمله حینئذٍ الوظائف المقرّرة التی انتهی إلیها المجتهد لا محالة . نعم ، بالنسبة إلی الوظائف العقلیة کقاعدة قبح العقاب بلا بیان ، أو منجزیّة العلم الإجمالی ، لا بدّ و أنْ یفترض جعل حکم مماثل لحکم العقل ، بحیث ینتج البراءة و الاحتیاط الشرعیین فی حقّ العامی ، لأن التنزیل بلحاظ الحکم العقلی غیر معقول کما هو واضح .

و أمّا کیفیّة استفادة ذلک إثباتاً ، فببیان : أن المرکوز فی أذهان المتشرّعة و المتفاهم من أدلّة التقلید رجوع العامی إلی المجتهد ، لیطبّق علی نفسه نفس ما یطبّقه المجتهد علی نفسه ، بحیث یثبت فی حقّه نفس ما یثبت فی حقّ المجتهد من درجات إثبات الواقع أو التنجیز و التعذیر عنه لا أکثر ، و هذا لا یکون إلّا مع فرض التنزیل المذکور ، فیستکشف من دلیل التقلید - لا محالة - ثبوت هذا التنزیل و التوسعة فی موضوع من تلک الوظائف الظاهریة بالدلالة الالتزامیّة (1) .

أقول :

إلّا أنّ هذا الجواب غیر تام ، لعدم الدلیل علی التنزیل المذکور فی الیقین و الشک ، و اللّغویّة غیر لازمة ، لأنّ المجتهد قد یکون غنیّاً فیتوجّه علیه الحکم بالخمس ، و یکون مستطیعاً فیجب علیه الحج ، فما ذکر من أن لدلیل التنزیل دلالة

ص:20


1- 1) بحوث فی علم الاصول 4 / 13 - 14 .

اقتضائیّة کما فی قوله عزّ و جلّ «وَسْئَلِ الْقَرْیَةَ » (1)حیث یلزم تقدیر کلمة « الأهل » حتی لا تلزم اللّغویة فی الآیة ، غیر جارٍ فیما نحن فیه ، لأنّ اللّغویة فی الآیة لازمة لو لا التقدیر المذکور ، بخلاف أدلّة الإفتاء و الاستفتاء ، فإنه لا تلزم اللّغویة لها بنفی التنزیل ، لما ذکرنا من أن المجتهد قد یکون غنیّاً و مستطیعاً .

و أمّا دعوی قیام السیرة العقلائیّة علی ذلک ، فعهدتها علی مدّعیها ، و لا أقلّ من الشک ، و القدر المتیقن من التنزیل غیر ما نحن فیه .

و اجیب عنه أیضاً : (2)

بأنّه إن کان المقلّد ملتفتاً إلی الحکم فهو ذو یقین و شکٍ به ، کان المجتهد بالخیار فی إجراء الاستصحاب ، فله أن یجریه بلحاظ یقین و شک مقلّده أو یقین و شک نفسه ، فإذا علم بالحکم أفتی به و رجع إلیه المقلّد فیه ، إذ لا ینحصر رجوع الجاهل إلی العالم بحال کونه عالماً به عن قطعٍ أو أمارة .

و إنْ کان المقلّد غیر ملتفت إلی الحکم، أجری المجتهد الاستصحاب بلحاظ یقینه و شکّه بحال المرأة الحائض مثلاً ، إذ لا مانع من حصول الیقین لشخصٍ بحکم شخص آخر ، و هو یتابعه من باب رجوع الجاهل إلی العالم .

و قد أشکل علیه شیخنا دام بقاه :

بأنه یعتبر فی جریان الأصل وجود الموضوع - أی الیقین و الشک - و فعلیّة الحکم بالنسبة إلیه ، و المفروض هنا عدم ابتلاء المجتهد بالحکم أو عدم فعلیّته

ص:21


1- 1) سورة یوسف : 12 .
2- 2) مصباح الاصول 2 / 8 .

بالنسبة إلیه ، فلا یصحُّ له إجراء الاستصحاب و إنْ توفّر الموضوع لدیه ... و بعبارة اخری : فإنّ هذا الجواب مشتملٌ علی المصادرة ، لأن الإشکال کان من ناحیة عدم فعلیّة التکلیف للمجتهد أو عدم ابتلائه به .

و أجیب عنه أیضاً (1) :

قد یقرّب تخریج عملیّة الإفتاء فی موارد الوظائف الظاهریّة علی القاعدة حتی علی فرض اختصاصها بالمجتهد ، بأنّ الحکم الظاهری و إنْ کان مختصّاً بالمجتهد لتحقّق موضوعه فیه دون المقلّد ، و لکنه بذلک یصبح عالماً بالحکم الواقعی المشترک بین المجتهد و المقلّد تعبّداً ، فیکون حاکماً علی دلیل الإفتاء بالعلم و الخبرة بمقتضی دلیل التعبّدیة فیفتی المجتهد مقلّدیه بالحکم الواقعی المعلوم لدیه بهذا العلم ، و هذا أمر علی القاعدة لا یحتاج فیه إلی عنایة زائدة بعد فرض دلالة دلیل الحجیّة و العلمیة التعبّدیة .

أقول :

لکنّ هذا الجواب أیضاً لا یحلّ المشکلة فی الاستصحاب - کما مثّلنا - لو کان مجدیاً فی غیره .

التحقیق فی الجواب

و قد رأی شیخنا - و کذا السیّد الاستاذ (2) - أنّ التحقیق فی الکلام علی هذا الإشکال هو أنه :

إن قلنا : بأنّ المراد من الیقین و الشک فی أدلّة الاستصحاب هو المتیقّن

ص:22


1- 1) بحوث فی علم الاصول 4 / 11 .
2- 2) منتقی الاصول 4 / 18 - 19 .

و المشکوک ، و مفادها هو اعتبار بقاء الحادث أی: اعتبار الملازمة بین الحدوث و البقاء ، کما هو مختار صاحب الکفایة ، فلا موضوعیّة لصفة الیقین و الشک ، فالإشکال مندفع ، لأنّ المفروض إفادة الأدلّة للملازمة ، فإذا ثبت الحدوث لدی المجتهد ثبت البقاء لدیه ، فیحصل له الیقین بحکم المقلّد الظاهری .

و إنْ قلنا : بأن للیقین و الشک موضوعیةً و لهما دخالة فی ثبوت الحکم الاستصحابی ، کما هو الحق ، خلافاً لصاحب الکفایة ، فالإشکال باقٍ ، لأن المفروض تقوّم الحکم الاستصحابی بالیقین ، و هو حاصلٌ للمجتهد - إذا کان علی یقین بأنّ حکم المقلّد کان کذا ، و هو الآن یشک فی بقاء حکمه - و غیر حاصل للمقلّد ، فمن یرتبط الحکم به لا یقین عنده ، و من لا یرتبط به الحکم فهو ذو یقین ، فأیّ أثرٍ لهذا الاستصحاب ؟

و یمکن الجواب بتصوّر ترتّب الأثر العملی علی هذا الاستصحاب ، و هو جواز الإفتاء للمجتهد ، فیستصحب المجتهد حکم المقلّد الذی کان علی یقینٍ منه ، لیترتّب علیه جواز الإفتاء به ، و إذا أفتی به جاز لمقلّده الأخذ به . فتدبّر .

حالات المکلّف بین الرسائل و الکفایة

قد عرفت موارد الفرق بین کلامی الشیخ و الکفایة ، و یبقی أنّ الشیخ قائل بالتثلیث ، و قد اورد علیه بوجوهٍ:

عمدتها ما أشار إلیه صاحب الکفایة من لزوم تداخل الأقسام ، فقد یکون المکلّف شاکّاً فی الحکم إلّا أن عنده دلیلاً معتبراً علیه ، فمقتضی القاعدة الأخذ بالدلیل و عدم جریان الأصل فی حقّه ، و قد یکون ظانّاً به بظن غیر معتبر ، فهو حینئذٍ للأصل العملی . فیلزم أن یکون المکلّف فی بعض موارد الظنّ محکوماً

ص:23

بحکم الشک ، و فی بعض موارد الشک محکوماً بحکم الظن . و هذا هو التداخل .

و أیضاً ، فإنّ مقتضی تقسیم الشیخ أن تکون أحکام القطع مرتّبةً علی القطع الواقعی ، و الحال أنها غیر مختصّة به بل تعمّ الظاهری أیضاً ، فتدخل فیه مباحث الأمارات ، فخبر الثقة - مثلاً - یُفید الظن بالحکم الواقعی و القطع بالحکم الظاهری ، کالاستصحاب و غیره من الاصول الشرعیّة .

فظهر : أن المکلّف إمّا قاطع بالحکم ، أعمّ من الواقعی و الظاهری ، و إمّا هو غیر قاطع به ، فإن کان انسدادیاً - کالمیرزا القمی - فالمبنی حکومة العقل بحجیة الظن ، و إلّا فالمرجع هو الأصل .

و هذا مراد المحقق الخراسانی و وجه عدوله إلی التقسیم الثنائی .

و قد اورد علی هذا التقسیم (1) بأنّه لیس تقسیماً للمباحث الاصولیّة الواردة فی الکتاب ، بل هو تقسیمٌ بلحاظ ما یترتّب علیها أحیاناً - کما لو ترتّب الیقین علی البحث عن حجیّة الخبر أو ثبوت الاستصحاب - و المفروض کون النظر فی التقسیم إلی أنْ یکون إجمالاً لأبحاث الکتاب .

ثم قال فی الکفایة :

و إنْ أبیت إلّا عن ذلک ، فالأولی أن یقال: إنّ المکلّف إما أن یحصل له القطع أوْ لا ، و علی الثانی : إمّا أنْ یقوم عنده طریق معتبر أوْ لا ... (2) .

أی : و إنْ أبیت عن التثلیث ، فالأولی أن یقال فراراً من لزوم التداخل ... .

ص:24


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 17 ، نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 5 .
2- 2) کفایة الاصول : 257 .

أقول :

و هذا التقسیم أیضاً مخدوش فیه ، فإنه یرد علیه الإشکال - کما جاء فی حاشیة المحقق الأصفهانی أیضاً - بما حاصله :

إنّ هذا التقسیم یتناسب مع فهرست الکتاب الذی یذکر فی آخره للاطّلاع علی مطالبه ، و لا یتناسب مع بحوثه ، لأن المبحوث عنه فی الکتاب هو حجیّة الإمارة ، و أنّه هل هی حجّة أوْ لا ، لا الأمارة المعتبرة ، فقوله : « إمّا أن یقوم عنده طریق معتبر أوْ لا » أخذٌ للحکم فی الموضوع ، و هذا غیر صحیح (1) .

و یرد علیه أیضاً : إن الغرض من هذا التقسیم درج مباحث الحجج فی القطع بالحکم الظاهری، و لکنّ هذا ینافی ما ذهب إلیه من أن المجعول فی مواردها هو المنجزیّة و المعذریّة و لیس الحکم الظاهری .

و أمّا الإیراد: بأنّ الحکم الظاهری مورده عدم العلم بالحکم الواقعی ، فهو بطبعه فی طول الحکم الواقعی ، فلو جعل التقسیم ثنائیّاً لجَمَع بین العلم بالحکم الواقعی و عدم العلم به فی مقام التقسیم، و یصیر ما فی طول الحکم طبعاً فی عرضه وضعاً .

فیمکن دفعه : بأنّ قولنا : خبر الثقة حجة ، یعمّ الخبر بلا واسطة و الخبر مع الواسطة ، مع أنّ الثانی فی طول الأوّل ، و لا یصدق علیه العنوان إلّا بعد صدقه علیه .

ص:25


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 16 .

تقسیم المحقّق الأصفهانی

و قسّم المحقق الأصفهانی حالات المکلّف تقسیماً ثلاثیاً - و هو فی الحقیقة رباعی - قال : فحقّ التقسیم أن یقال :

إن الملتفت إلی حکمه الشرعی ، إمّا له طریق تام إلیه أوْ لا . و علی الثانی : إمّا أن یکون له طریق ناقص لوحظ لا بشرط - أی عن الاعتبار و عدمه - أوْ لا ، و علی الثانی : إمّا أن لا یکون له طریق أصلاً ، أو یکون له طریق بشرط عدم الاعتبار .

فالأوّل هو القطع و هو موضوع التنجّز . و الثانی هو الطریق المبحوث عن اعتباره و عدمه ، و الثالث موضوع الاصول (1) .

فالطریق التام موضوع للحجیة عقلاً ، و الطریق اللّابشرط موضوع للاعتبار و عدمه ، لأنّه فی مباحث الظن إنما یبحث عن اعتبار الطریق و عدمه ، فالاعتبار و عدم الاعتبار یردان علی الطریق اللّابشرط بالنسبة إلی کلٍّ منهما ، کالوجود حیث یعرض علی الماهیّة اللّابشرط بالنسبة إلی الوجود و العدم ، فالذی یطرأ علیه الوجود هو الماهیّة اللّابشرط عنهما ، و هکذا حال کلّ محمول بالنسبة إلی موضوعه ، فالحجیّة لا تحمل علی الطریق بشرط الاعتبار أو بشرط عدم الاعتبار ، بل اللّابشرط . و کذا الاعتبار، فإنه یحمل علی الموضوع اللّابشرط بالنسبة إلی الاعتبار و عدمه . و موضوع المقصد هو ما إذا عدم الطریق اللّابشرط ، و هذا العدم یکون تارةً : مع وجود الطریق غیر المعتبر کالقیاس، و اخری : یکون حیث لا طریق أصلاً .

فموضوع الاصول العملیّة عدم الطریق اللّابشرط .

ص:26


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 17 .

الکلام حوله

إن هذا التقسیم - و إنْ سلم عمّا ورد علی تقسیم الکفایة من الإشکال بأخذ الحکم فی الموضوع - قد أخذ فیه الحکم فی الموضوع فی طرف القطع ، إذ وصفه بالطریق التام ، و الحال أنه سیبحث عن کیفیة طریقیّة القطع و أنّها ذاتیّة أوْ لا .

قال الاستاذ فی الدورة اللّاحقة :

و الظاهر عدم تمامیّته ، لأنّ البحث عن کیفیّة الطریقیّة لا ینافی تمامیّة الطریق ، فإن القطع علی أیّ حالٍ موضوع التنجّز .

و الذی یرد علیه :

أوّلاً : إن التقسیم هو فهرست موضوعات المسائل المبحوث عنها ، و لا بدّ من لحاظ موضوع البحث فی کلّ مسألةٍ عند التقسیم ، فإن کان الموضوع عقلیّاً ، لزم تعیینه عن طریق العقل ، و إنْ کان شرعیّاً فمن طریق الشرع . و فی الاستصحاب الموضوع هو الشک الملحوظ معه الحالة السّابقة ، بخلاف البراءة فهو الشکّ مع عدم لحاظها ، فالموضوع فی المسألتین شرعی و هو الشک ، و هو مأخوذ فی الأولی من أدلّة الاستصحاب و فی الثانیة من « رفع ما لا یعلمون » . فظهر : أنّه لیس عدم الطریق اللّابشرط موضوع الاستصحاب و البراءة الشرعیة ، بل هو الشک، و أمّا فی العقلیّة، فالموضوع لحکم العقل عدم البیان .

و ثانیاً : إنّ جعل الموضوع عدم الطریق اللّابشرط، مخدوش من جهة اخری ، و ذلک : لأنه یلزم أن یکون وجود الطریق اللّابشرط رافعاً لموضوع الاصول العملیّة، لأنه نقیض عدم الطریق اللّابشرط، لأن نقیض کلّ شیء رفعه ، و الحال أن رافع موضوعها هو الطریق المعتبر ، أی الطریق بشرط الاعتبار .

ص:27

و علی الجملة ، فإن هذا التقسیم أیضاً مخدوش کغیره من التقسیمات ، لکنّه عند سیدنا الاستاذ أخفّها محذوراً (1) .

أمّا شیخنا ، فقد استوجه من بینها فی الدورتین تقسیم الشیخ و دافع عنه ، و إنْ خدش فیه من حیث أن الشیخ جعل موضوع الاعتبار فی المقصد الثانی هو الظن ، و الحال أن موضوع الاعتبار لیس الظن ، بل هو خبر الثقة و الشهرة و نحوهما ، سواء حصل الظن أوْ لا ، فلم یکن تقسیمه فهرساً للموضوعات فی المقاصد .

ثم قال دام بقاه - فی الدّورة السّابقة - إن الأحسن تغییر کلمة الظن فی التقسیم إلی : ما یمکن أن یکون معتبراً ، و هو ما قاله الشیخ فی أول بحث البراءة .

أقول :

و تلخّص : أن تقسیم الشیخ أحسن التقاسیم ، و المراد من المکلّف هو الأعمّ من المجتهد و المقلّد ، و المراد من الالتفات هو الأعم من التفصیلی و الإجمالی ، فإنّ الإجمالی حاصل لغیر المجتهد بل التفصیلی قد یحصل له . هذا إذا کان المقصود هو الالتفات إلی مجاری الاصول ، و أمّا إن کان المراد بیان أحوال المکلّف تجاه الأحکام الشرعیة من دون النظر فی مجاری الاصول ، فحالاته ثلاثة کما هو واضح .

ص:28


1- 1) منتقی الاصول 4 / 10 .

مباحث القطع

اشارة

ص:29

ص:30

هل القطع من المسائل الاصولیّة ؟

اشارة

قال فی الکفایة :

المقصد السادس . فی بیان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً . و قبل الخوض فی ذلک ، لا بأس بصرف الکلام إلی بیان بعض ما للقطع من الأحکام ، و إنْ کان خارجاً من مسائل الفن و کان أشبه بمسائل الکلام ، لشدة مناسبته للمقام (1) .

ففی هذا الکلام تصریح بأنّ أحکام القطع لیست من مسائل الاصول ، و أن البحث عنها أشبه بمسائل علم الکلام ، لکنّا نبحث عنها فی هذا العلم ، لشدّة مناسبة القطع للمقام .

و ذلک ، لأنّ الظنّ و الشک من حالات المکلّف ، و قد قرّر الشارع المقدّس الأحکام المتعلّقة بهذین الحالین ، إلّا أن للمکلّف حالاً آخر و هو القطع ، فما هی أحکام القطع بالحکم ؟

لکنّه لم یجعل البحث عن القطع من المسائل الکلامیّة ، و إنما قال : « أشبه » بمسائل الکلام ، و ذلک ، لأنّه العلم الذی یبحث فیه عن المبدأ و المعاد بالأدلّة العقلیّة و النقلیّة ، و لمّا کان المعتبر فیه هو الدلیل القطعی فقط و لا یکفی الظنُّ فضلاً

ص:31


1- 1) کفایة الاصول : 257 .

عن الشک ، احتیج إلی البحث عن حجیّة القطع ، فکان علم الکلام أولی بأنْ تطرح فیه هذه المسألة من علم الاصول ، و إنْ کان لطرحها فیه وجه من جهةٍ اخری ، کما أشرنا ، و سیأتی التفصیل .

و أیضاً : فإنه یبحث فی علم الکلام عمّا یجوز و لا یجوز علی اللّٰه ، فیکون من صغریاته البحث عن جواز عقاب المخالف للقطع و عدم جوازه .

وجه خروج القطع

و أمّا الوجه فی أنه خارج عن المسائل الاصولیّة ، فهو عدم انطباق تعریف (1) علم الاصول علیه ، فإنه ... .

إن کان « العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحکام الشرعیة أو ما ینتهی إلیه المجتهد بعد الفحص و الیأس عن الدلیل » ، کما عرّف صاحب الکفایة (2) ، فلیس شیء من مسائل القطع واسطة فی استخراج حکم شرعی ، و لا هو المرجع بعد الفحص و الیأس عن الدلیل ، بخلاف مثل مسألة حجیّة خبر الواحد ، فإنه بعد تطبیق هذه الکبری علی خبر زرارة و القول بحجیّته ، یستنبط من خبره حکم من الأحکام الشرعیّة .

و إنْ کان « العلم بالقواعد التی إذا انضمّت إلیها صغریاتها انتجت نتیجةً فقهیّة » کما قال المیرزا (3) و السیّد الخوئی (4) ، فالقطع بالحکم لا یقع فی طریق

ص:32


1- 1) لا یخفی أنّا قد أشبعنا الکلام فی تعریف علم الاصول فی أوّل الجزء الأول من کتابنا ، و لذا نکتفی هنا بالإشارة إلی الاقوال و أثر کلٍّ منها فی محلّ الکلام .
2- 2) کفایة الاصول : 9 .
3- 3) أجود التقریرات 1 / 5 .
4- 4) محاضرات فی علم الاصول 1 / 8 .

استنباط الحکم الشرعی ، بل هو بنفسه نتیجة .

و إنْ کان « العلم بالقواعد التی تقع فی طریق تعیین الوظیفة العملیّة » کما قال المحقق العراقی (1) ، فکذلک ، لأنّ الوظیفة العملیة تارةً : هی الحکم الواقعی کأن نقول : هذا ما قام علیه خبر الثقة ، و کلّما قام علیه خبر الثقة فهو واجب واقعاً ، فهذا واجب واقعاً . و اخری : هی الحکم الظاهری ، کأن نقول : هذا متیقّن الوجوب سابقاً و مشکوک البقاء لاحقاً ، و کلّما کان کذلک فهو واجب ظاهراً . و ثالثة : هی الحکم العقلی ، کأن نقول : هذا مما لم یقم علیه بیان من المولی ، و کلّما کان کذلک فهو مرخّص فیه منه عقلاً ، فهذا مرخّص فیه عقلاً .

و البحث عن حجیّة القطع و منجزیّته للواقع لا ینتج شیئاً من ذلک .

و هذا کلّه فی القطع الطریقی واضح .

و أمّا القطع الموضوعی فلا یفید إلّا ترتّب الحکم علی موضوعه ، کما هو الحال فی سائر الموضوعات بالنسبة إلی أحکامها ، کأن یجعل القطع بمجیء المسافر موضوعاً لوجوب التصدّق علی المسکین ، فوجوب التصدّق لیس مستفاداً من القطع ، بل هو حکم مستفاد من أدلّته .

و من هنا ، فقد ذکر الشّیخ (2) و صاحب الکفایة (3) و تبعهما غیرهما (4) أنّ القطع لیس بمسألةٍ اصولیّة ، و أنّ البحث عنه فی علم الاصول استطرادی ، لعدم

ص:33


1- 1) نهایة الأفکار 1 / 18 .
2- 2) فرائد الاصول 1 / 29 .
3- 3) کفایة الاصول : 257 .
4- 4) مصباح الاصول 2 / 5 ، منتقی الاصول 4 / 32 .

انطباق ضابط المسألة الاصولیّة علیه ... و لعلّه المشهور ، لضرورة الوسطیّة فی الإثبات عندهم کما عرفت من تعاریفهم، و القطع لا یقع کذلک .

و یبقی تعریف المحقق الأصفهانی ، فإنه قال : « ما یبحث فیه عن القواعد الممهّدة لتحصیل الحجة علی الحکم الشرعی » (1) .

فی المراد من « الحجّة »

و للحجّة مصطلحات ثلاثة :

الأوّل : المصطلح الاصولی ، و هو ما یقع فی کبری قیاس الاستنباط .

الثانی : المصطلح المنطقی ، و هو ما یقع وسطاً فی القیاس .

و الثالث : المفهوم اللّغوی ، و هو مطلق ما یحتجّ به المولی علی العبد أو یعتذر به العبد أمام المولی .

فإنْ کان المراد من « الحجة » فی التعریف هو الاصطلاح الاصولی ، فإنّ القطع حجّة و لیس بمقیم الحجة ، لأن القطع عین الانکشاف للحکم و لیس طریقاً لاستنباطه .

و إنْ کان المراد هو الاصطلاح المنطقی ، فکذلک ، لأنّ الوسط فی القیاس المنطقی ما هو العلّة أو المعلول للأکبر ، أو هما معلولان لعلّةٍ ثالثة ، و الحال أن القطع لیس بعلّةٍ للحکم و لا هو معلول له و لا هما معلولان لعلّة ثالثة .

و إنْ کان المراد هو المعنی اللّغوی ، فإنّ القطع حجةٌ بلا کلام .

ص:34


1- 1) نهایة الدرایة 1 / 42 .

و إلی ما ذکرنا أشار سیّدنا الاستاذ (1) و شیخنا فی الدورة اللّاحقة .

لکنّ کون مراد المحقق الأصفهانی من « الحجّة » فی تعریف مسائل علم الاصول هو المعنی اللّغوی ، أوّل الکلام ، و مما یؤیّد النّظر إشکال الاستاذ علی التعریف المذکور باستلزامه خروج کثیر من المسائل عن الاصول بوجهٍ و دخول علم الرّجال فی الاصول بوجهٍ آخر (2) . فلو کان المقصود من الحجّة هو المعنی اللّغوی لَما ورد علیه الإشکال أصلاً ، بل المحقق الأصفهانی نفسه غیر موافق علی ذلک . قال :

نعم ، إذا کان البحث فی التجرّی بحثاً عن تعنون الفعل المتجرّی به بعنوان قبیح ملازم ، بقاعدة الملازمة للحرمة شرعاً ، دخل فی مسائل الفن . لکنّه لم یحرّر بهذا العنوان فی الکتاب و غیره (3) .

أقول :

و لعلّ الوجه فی عدم تحریر التجرّی بهذا العنوان فی الکتب الاصولیّة ، لیکون من المسائل الاصولیّة هو : أنّ البحث عن قبح الشیء عقلاً بحث عن صغری قاعدة الملازمة ، فهو نظیر البحث عن صغری أدلّة حجیّة خبر الثقة ، و هو وثاقة زید مثلاً ، فإنّ موضعه علم الرجال ، فإذا تمّت وثاقته هناک و انضمّ ذلک إلی ما دلّ علی حجیّة خبر الثقة ، کانت المسألة اصولیّة .

و بعبارة اخری : إن المسألة الاصولیّة عبارة عن المسألة المستنبَط منها

ص:35


1- 1) منتقی الاصول 4 / 31 .
2- 2) تحقیق الاصول 1 / 44 .
3- 3) نهایة الدرایة 3 / 12 .

الحکم الشرعی من غیر حاجةٍ إلی ضمّ ضمیمة ، و لذا قال المیرزا بکونها کبری القیاس ، بل یعتبر علی تعریف المحقق الأصفهانی أیضاً إفادتها الحجّة علی حکم العمل بنفسها لا مع غیرها ، و قد عرفت أنّ التجری لا یستنبط منه الحکم إلّا بضمّ قاعدة الملازمة إلیه .

ص:36

مباحث القطع

و مباحث القطع کثیرة ، لأنه إذا التفت إلی الحکم الشرعی و حصل له القطع به ، فهل هو حجة أوْ لا ؟ و ما المراد من الحجیّة، هل هی الحجیة العقلیّة أو الشرعیّة ؟ و هل هی قابلة للجعل أوْ لا ؟

ثم إنّ القطع تارةً : یکون موافقاً للواقع ، و اخری : مخالفاً له ، فیطرح بحث التجرّی .

و أیضاً : تارةً : یحصل القطع من السبب المتعارف ، و اخری : من غیر المتعارف ، فیطرح بحث قطع القطّاع ، فهل هو حجة علی أیّ حالٍ ؟

و القطع تارةً : إجمالی ، و اخری : تفصیلی ، فیبحث حینئذٍ فی مسألة العلم الإجمالی و أحکامه ، و الإجمال تارة: فی مرحلة ثبوت التکلیف ، و اخری : فی مرحلة سقوطه .

و القطع الحاصل یکون تارةً : کاشفاً فقط عن الحکم ، و اخری : یکون موضوعاً له ، فیطرح بحث القطع الطریقی و الموضوعی .

ثم إنّه هل یلزم الالتزام القلبی علی طبق القطع علاوةً علی الالتزام العملی ،

ص:37

أوْ لا یلزم ؟ فیطرح بحث الموافقة العملیة و الموافقة الالتزامیة للقطع .

و هذا أوان الشّروع فی مباحث القطع و أحکامه علی طبق المنهج المرسوم فی ( رسائل الشیخ ) و( کفایة الاصول ) و باللّٰه التوفیق :

ص:38

أحکام القطع

اشارة

قال الشیخ الأعظم قدّس سرّه :

لا إشکال فی وجوب متابعة القطع و العمل علیه ما دام موجوداً ، لأنه بنفسه طریق إلی الواقع ، و لیست طریقیّته قابلة لجعل الشارع إثباتاً أو نفیاً (1) .

فهو یری وجوب متابعة القطع و العمل علی طبقه ، و یعلّل ذلک بکونه طریقاً إلی الواقع ، فوجوب العمل به ناشئ من طریقیّته الذاتیة . لکنه لم یوضّح أنّ الطریقیة له عین ذاته أو من لوازمها ؟

و قال صاحب الکفایة :

لا شبهة فی وجوب العمل علی وفق القطع عقلاً و لزوم الحرکة علی طبقه جزماً ، و کونه موجباً لتنجّز التکلیف الفعلی فیما أصاب باستحقاق الذم و العقاب علی مخالفته ، و عذراً فیما أخطأ قصوراً . و تأثیره فی ذلک لازم و صریح الوجدان به شاهد و حاکم ، فلا حاجة إلی مزید بیانٍ و إقامة برهان . و لا یخفی أنّ ذلک لا یکون بجعل جاعل، لعدم جعل تألیفی حقیقة بین الشیء و لوازمه بل عرضاً بتبع جعله بسیطاً (2) .

ص:39


1- 1) فرائد الاصول 1 / 29 .
2- 2) کفایة الاصول : 258 .

فأفاد رحمه اللّٰه وجوب العمل علی طبق القطع ، و أنه منجّز و معذّر ، و جعل الدلیل علی ذلک الوجدان ، فکأنّه بیَّن قول الشیخ « بأنّه طریق بنفسه » - بأنّ ذلک وجدانی و لا یحتاج إلی إقامة برهان .

فکلاهما یقولان بوجوب متابعة القطع ، لکن المحقق الخراسانی أضاف المنجزیة و المعذریة أیضاً ... .

فظهر مورد الاشتراک بین الکلامین و مورد الامتیاز .

فقال المحقق الاصفهانی بشرح الکفایة :

المراد بوجوب العمل عقلاً لیس إلّا إذعان العقل باستحقاق العقاب علی مخالفة ما تعلّق به القطع ، لا أن هناک بعثاً و تحریکاً من العقل أو العقلاء نحو ما تعلّق به ، ضرورة أنه لا بعث من القوة العاقلة ، و شأنها إدراک الأشیاء ، کما أنه لا بعث و لا تحریک اعتباری من العقلاء (1) .

أمّا المحقق العراقی فقال :

لا شبهة فی وجوب متابعة القطع عقلاً ، و الوجه فیه ظاهر ، فإن القطع من جهة کونه بذاته و حقیقته عین انکشاف الواقع بالکشف التام و الوصول إلیه ، بحیث یری القاطع نفسه واصلاً إلی الواقع ، إذا فرض تعلّقه بحکم من الأحکام یکون له السببیّة التامّة لحکم العقل تنجیزاً بوجوب المتابعة ، علی معنی حکمه بلزوم صرف الغرض و الإرادة نحو امتثال أمر المولی الراجع إلیه أیضاً حکمه بحسن الإطاعة و قبح المخالفة ... . (2)

ص:40


1- 1) نهایة الدرایة 17/3-18
2- 2) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 3

فأرجع الأمر إلی قضیّة حکم العقل بحسن الإطاعة و قبح المخالفة .

و وافق المیرزا الشیخ رحمه اللّٰه ، إلا أنه فی الدّورة الاولی جعل الطریقیّة من لوازم القطع ، (1) و فی الثانیة (2) جعلها عین القطع .

تفصیل الکلام فی المقام

و تفصیل الکلام هو :

إنّ فی القطع جهات عدیدة :

إحداها : کاشفیّة القطع عن الواقع و طریقیّته إلیه ، و أن وزانه وزان النور فی الإراءة و المظهریّة .

و الثانیة : حجیّة القطع ، فإنها غیر الطریقیّة ، إذ قد یحصل القطع بشیء و لا حجیّة هناک ، کالقطع بوجود مکّة مثلاً ، أمّا الحجیّة ، فهی المنجزیة من قبل المولی و المعذریّة من قبل العبد .

و الثالثة : وجوب العمل و الحرکة علی طبق القطع .

و الرابعة : إن طریقیّة القطع قابلةٌ للجعل أوْ لا ؟

و هنا نحتاج إلی فهم حقیقة الجعل ، و توضیحه هو :

مقدمة فی أقسام الجعل و أنحائه

إن الجعل علی قسمین ، بسیطٌ و مرکّب . فالأوّل : هو الإیجاد بمعنی کان التامّة ، و الثانی : هو الإیجاد بمعنی کان الناقصة ، أی الجعل بین الشیء و ما هو خارج عن ذاته .

ص:41


1- 1) فوائد الاصول 3 / 6 .
2- 2) أجود التقریرات 3 / 12 .

و الجعل المتعلّق بالذات أو الوجود - علی اختلاف المبنی فی أصالة الوجود أو الماهیّة - بسیطٌ ، و المتعلّق بالخارج عن ذات الشیء أو الوجود مرکب ، و قد یسمّی بالجعل التألیفی أیضاً .

ثم إنّ الجعل تارة : جعل بالذات ، و اخری : جعل بالعرض ، و المجعول إمّا بالذات و إمّا بالعرض ، و المجعول بالعرض خارج عن الذات - أعم من الوجود - و هو تارةً : متأصّل فی الخارج ، و اخری : غیر متأصّل بل هو اعتبار من العقل ، و المتأصّل تارةً : موجود بالغیر ، مثل الکمیّة للشیء ، و اخری : موجود بوجود المنشأ لانتزاعه ، مثل الفوقیة للسقف . و أمّا ما لا أصالة له فی الخارج أصلاً ، فهو کالماهیّة بالنسبة إلی الوجود - بناءً علی القول بأصالة الوجود - فهی أمر ینتزعه العقل و لیس له مطابق خارجاً .

فظهر أن المجعول بالعرض ثلاثة أقسام : جعل الکمیّة للشیء و الزوجیّة للأربعة ، و جعل الفوقیّة للسقف ، و جعل الماهیّة . و إسناد الجعل إلی الماهیّة مجاز لکنه فی الأول و الثانی حقیقة .

إذا عرفت هذا ، فإنّ الطریقیّة قابلة للجعل بالجعل البسیط کما هو واضح ، إمّا وجودها بناءً علی أصالة الوجود ، و إمّا ماهیّتها بناءً علی أصالة الماهیّة ، إنما الکلام فی جعل الطریقیّة للقطع أی الجعل التألیفی ، و هنا یأتی البحث :

فی کیفیّة الطریقیّة المجعولة للقطع

هل الطریقیّة خارجة عن ذات القطع أو داخلة ؟ و علی الثانی : هی جزء الذات أو کلّها ، و علی الأوّل، هی مفارقة أو لازمة ؟

فعلی القول بالخروج و أنها لازمة للقطع ، فالجعل التألیفی غیر ممکن ، لأن

ص:42

لوازم الذات مجعولة بجعلها بالجعل بالعرض ، فهل هی خارجة عن الذات ؟

إنه لا یعقل أن تکون النسبة بین الطریقیّة و القطع نسبة الزوجیّة للأربعة ، خلافاً لما جاء فی کلام المیرزا ، لأنّ کلّ خارج عن الذات - و إنْ کان لازماً لها - فهو فی مرتبة الذات فاقد للذات ، فالأربعة فی مرتبة ذاتها فاقدة للزوجیّة ، إذ اللّازم لا یکون فی مرتبة الملزوم ، فإذا کانت الطریقیّة لیست فی مرتبة ذات القطع ، فذات القطع فی مرتبة ذاتها لا طریق و لا کشف ، و هذا محال و خلف للفرض . إذن ، لیست الطریقیّة خارجة و من لوازم القطع ، بل هی نفس ذات القطع ، و الجعل التألیفی بین الشیء و نفسه غیر معقول کما ذکر صاحب الکفایة .

و علی الجملة ، فإن الکاشفیّة إن کانت من لوازم القطع ، فالجعل التألیفی بین الشیء و لازمه غیر معقول ، و إن کانت عین ذات القطع ، فجعل الذات للذات غیر معقول ، فهی - علی کلّ تقدیر - غیر قابلة للجعل ، فما فی کلام بعض المحققین من أنه جعل الذاتی للذات غیر صحیح .

و المختار - کما تقدّم - أن الکشف عین ذات القطع ، لِما تقدّم من أن اللّازم غیر الملزوم ، مع عدم الانفکاک بینهما ، و العلم نفس حضور المعلوم لدی النفس و لو لم یکن عین الکشف لزم الغیاب و هو محال . و لأن العلم من الامور الوجدانیة ، و لا یعقل خفاء الأمر الوجدانی علی الواجد له ، و لا یعقل أن یکون الکشف من اللّوازم و تکون الملازمة خافیة ، و الحال أنا لا نجد شیئاً آخر وراء الکشف و الحضور یکون لازماً للکشف ... .

فحقیقة العلم عین الکشف ، و جعل الکاشفیّة له جعل الذات للذات ، و هو محال .

ص:43

تنبیهان

اشارة

و هنا یلزم التنبیه علی أمرین :

أحدهما : قد یرد الإشکال علی القول بالطریقیّة الذاتیة للقطع - سواء القول بأنها عین الذات أو ملازمة لها - بأنه یستلزم إصابة الواقع دائماً و لا یکون هناک تخلّف عن الواقع ، و الحال أنه لیس کذلک ، بل القطع یحصل للجاهل بالجهل المرکّب .

و الجواب :

إن المراد من کون القطع عین الکشف عن الواقع هو انکشاف المعلوم بالذات ، لا انکشاف المعلوم بالعرض الذی یقبل التخلّف عن الواقع و لا یعقل أن یکون عین الذات . فالکشف فی قولهم : الکشف عین ذات القطع ، هو حضور المعلوم بالذات المشترک بین علم المصیب و المخطئ ، و الموجود فی الجهل المرکّب أیضاً .

و بعبارة أخری : إن الطریقیّة شیء و الإصابة شیء آخر ، و لا ینبغی الخلط بینهما ، و مرادهم من الکاشفیة هی الإراءة ، و إراءة الواقع موجودة فی الظنّ أیضاً ، إلّا أنّها إراءة ناقصة بمعنی وجود احتمال الخلاف ، بخلاف القطع حیث لا وجود لاحتمال الخلاف معه ، فالذی یراه القاطع هو رؤیة عقلیة للواقع کما یری البصیر الواقع بالرؤیة الحسیّة ، فهی إراءة و رؤیة ، أمّا المطابقة للواقع فهی أمر آخر خارج عن ذات الرؤیة و حقیقتها .

ص:44

الأمر الثانی : لا یخفی أنّ مورد البحث هو الطریقیّة و الکاشفیّة التکوینیّة للقطع ، لا الکشف الجعلی الاعتباری ، فالطریقیّة قد تکون اعتباریّة کما فی خبر الثقة حیث یُجعل له الطریقیّة و الکاشفیّة عن الواقع ، و قد تکون ذاتیة تکوینیّة ، و هی التی فی القطع ، و جعل الطریقیّة للقطع ممکن إلّا أنه لغو ، لکونه کاشفاً و طریقاً إلی الواقع تکویناً .

هذا بالنسبة إلی الطریقیّة و الکاشفیّة .

حجیّة القطع و لزوم الحرکة علی طبقه

و أمّا حجیّة القطع و لزوم الحرکة علی طبقه ، فیجوز للمولی أن یحتجّ علی العبد بالقطع الحاصل له ، و للعبد أن یحتج أمام المولی بذلک، و یعبّر عن ذلک بالمنجزیة و المعذریة ، فظهر أنّ الحجیّة و لزوم الحرکة إنما یطرحان فی مورد القطع بأحکام المولی ، بخلاف طریقیة القطع ، فلا اختصاص لها بالأحکام .

فهل یری العقل الحجیّة للقطع و لزوم الحرکة علی طبقه إذا تعلّق بأحکام المولی الحقیقی ؟

و إنما قیّدنا بالمولی الحقیقی ، لعدم دخالة العقل فی الامور العرفیة الجعلیّة .

و هل یرجع ذلک إلی استحقاق العقاب علی المخالفة ؟

و هل هذا الحکم العقلی تنجیزی أو تعلیقی، بأن یصحّ نفیه فی بعض الموارد أو الأحوال ؟

لقد تقدّم أن الطریقیّة و الکاشفیّة عین القطع ، أمّا الحجیّة ، فهی خارجة عن ذاته و حقیقته، لکنه یستلزم الحجیّة ، فإذا انکشف الواقع استلزم استحقاق العقاب علی المخالفة عند العقل .

ص:45

قالوا: بأنّ العقل یحکم بالحجیّة و المنجزیّة ، بأن یحکم بأنّ القطع یصحّ العقوبة علی مخالفته .

و خالف المحقق الأصفهانی ، و أنکر أن یکون العقل حاکماً ، لأن الحکم من شئون المولی ، قال : بل العقل مدرک فقط . و وافقه المتأخرون عنه ، و لو قیل بأنّ العقل یدرک الحکم ، لم یصح کذلک ، لأنه لغو ، إذ العقل یری أنّ القطع منشأ لاستحقاق العقاب ، فجعل الحکم من قبل الشارع بلزوم الحرکة علی وفق القطع لغو ، و لزوم الحرکة لیس إلّا الحجیّة .

هل حجیّة القطع من الأحکام العقلیّة أو المجعولات العقلائیة ؟

و قد وقع البحث فی أنّ حجیّة القطع من المجعولات العقلائیّة ، أی من أحکام العقل العملی ، أو من الأحکام العقلیة النظریّة غیر القابلة للسّلب عن القطع ؟

ذهب المحقق الأصفهانی - تبعاً للفلاسفة - إلی أنّ قضیّة الحسن و القبح من القضایا المشهورة ، أی القضایا التی لا یقام البرهان علیها ، فهی اعتبارات عقلائیّة من أجل حفظ النظام ، و حجیّة القطع من هذا القبیل ، فقد تطابقت علیها آراء العقلاء .

لکنّ المشکلة هی : أن حجیّة القطع - أی صحّة العقاب علی مخالفة المولی الحقیقی - موجودة ، سواء کانت المخالفة مستلزمة لاختلال النظام أو لا ، بل حتی لو لم یکن نظام فی العالم ، لا یجوز مخالفة أحکام المولی الحقیقی ، و هی موجبة لاستحقاق العقاب .

و إذا لم یکن فی حجیة القطع ملاک القضایا المشهورة ، فهل هی حکم عقلی

ص:46

أو أنها من لوازمه العقلیة ؟ الصحیح هو الثانی ، لِما تقدم من أن العقل مدرک و لیس بحاکم .

و علی الجملة ، فإن الحجیّة هی المنجزیة ، و وجوب الحرکة علی طبق القطع و استحقاق العقاب علی المخالفة ، من لوازم القطع بحکم المولی الحقیقی ، و هذا اللّزوم عقلی لا اعتباری ، وعلیه ، فجعل الحجیّة للقطع جعلٌ للوازم الشیء للشیء ، و هو غیر معقول ، نعم ، تجعل اللّوازم بجعل الشیء بالجعل البسیط ، فکما لا یمکن أن یجعل الجسم متشکّلاً أو متحیّزاً ، لا یمکن أن یجعل القطع حجّةً ، بل متی تحقق القطع کان لازمه الحجیّة .

الرّدع عن اتّباع القطع یستلزم التناقض

و هل یمکن الردع عن القطع ؟

إنه لمّا یقطع بحکم شرعی کوجوب الصّلاة ، فقد تعلّق القطع بوجوبها و حکم العقل بحجیّة القطع و لزوم الحرکة علی طبقه ، فکان الحکم الشرعی متقدّماً فی الرتبة علی القطع ، و الحکم العقلی متأخراً عن الحکم الشرعی المتعلّق به القطع ، فتقدم الحکم الشرعی علی الحکم العقلی بمرتبتین .

فقال الشیخ :

فإذا قطع بکون مائع بولاً من أی سبب کان ، فلا یجوز للشارع أن یحکم بعدم نجاسته أو عدم وجوب الاجتناب عنه ، لأن المفروض أنه بمجرّد القطع یحصل له صغری و کبری ، أعنی قوله : هذا بول ، و کلّ بول یجب الاجتناب عنه ، فهذا یجب الاجتناب عنه ، فحکم الشارع بأنه لا یجب الاجتناب عنه مناقض له (1) .

ص:47


1- 1) فرائد الاصول 1 / 31 .

و فی الکفایة :

و بذلک انقدح امتناع المنع عن تأثیره أیضاً ، مع أنه یلزم منه اجتماع الضدّین اعتقاداً مطلقاً و حقیقةً فی صورة الإصابة (1) .

و توضیح ذلک : إنه عند ما قطع بحرمة الخمر ، فقد یکون القطع موافقاً للواقع ، و قد یکون مخالفاً له ، فإن قال الشارع لا یجب الاجتناب عنه ، و کان القطع موافقاً للواقع ، لزم اجتماع الضدّین فی الواقع و فی اعتقاد القاطع ، و إن کان مخالفاً للواقع، لزم اجتماعهما فی اعتقاد القاطع ، دون الواقع لفرض عدم الحرمة .

و المراد من التضاد هنا هو المعنی الاصولی لا الفلسفی ، أی ما ینافی الشیء ، الأعم من التضاد و التناقض .

نظریّة المحقق العراقی

و للمحقق العراقی هنا کلام نتعرّض له بتوضیح منّا و له مقدّمتان :

الاولی : إن الأحکام العقلیة المرتبطة بالأعمال علی قسمین :

الحکم العقلی التنجیزی ، کحکمه بقبح معصیة المولی ، و المقصود من تنجیزیته عدم قبوله لأیّ تصرّف من الشارع .

و الحکم العقلی التعلیقی ، و هذا ما یقبل التصرّف منه ، کما فی صورة انسداد باب العلم ، حیث أن لنا علماً إجمالیاً بأحکام المولی لکنّ باب العلم بها منسدٌّ علینا ، فالعقل یحکم بمتابعة الظنّ من باب ترجیح الراجح علی المرجوح و هو الوهم ، فهو یحکم فی هذا الظرف بالامتثال الظنی إلّا أن حکمه بذلک معلّق علی

ص:48


1- 1) کفایة الاصول : 258 .

عدم الردع من الشارع ، فیجب علینا اتّباعه کما فی ردعه عن الظن القیاسی و إن قلنا بالحکومة .

و فی العلم الإجمالی مسلکان :

فقیل : بأنه موضوع لحکم العقل بالتنجیز و استحقاق العقاب فلا یقبل التصرّف من الشارع .

و قیل : بأن الحکم العقلی فی مورد العلم الإجمالی معلّق علی عدم التصرّف من الشارع بالترخیص فی الارتکاب بجعل الأصل فی أطراف الشبهة .

الثانیة : إن أساس امتناع اجتماع الضدّین فی الأحکام و عدم امکان جعل الحکمین المتضادّین ، هو امتناع اجتماع النقیضین ، لأنّ کلّاً من الضدّین ملازم لعدم الضدّ الآخر ، فلو اجتمع الضدّان حصل اجتماع الضدّ مع عدمه ، فکان أساس الاستحالة هو التناقض .

هذا ، و یعتبر فی التناقض وحدة المرتبة و إلّا فلا استحالة للاجتماع . مثلاً :

العلم بالشیء متأخر عن الشیء ، و کذا الظن ، و منشأ هذا التأخر هو تفرّع الکاشف علی المنکشف ، فذات الکشف متعلّقة بالمنکشف و لا عکس ، فکان العلم بالشیء متأخّراً عن الشیء برهاناً .

و إذا عرفت ذلک نقول : إنه بعد ثبوت الکاشفیّة و الطریقیّة الذاتیّة للقطع و سببیّته لحکم العقل التنجیزی بلزوم المتابعة و حسن الطاعة و لتحقّق الحرکة نحو المقصود فی ظرف تعلّق الغرض الفعلی بتحصیله ، یکون من المستحیل قابلیة مثله لتعلّق الردع به ، لأن الرّدع عنه إمّا أن یرجع إلی سلب طریقیته تکویناً، و إمّا أن یرجع إلی المنع عن متابعته و العمل علی وفقه تشریعاً .

ص:49

و الأوّل واضح الاستحالة ، لبداهة امتناع سلب ما هو ذاتی الشیء عن الشیء أو إثباته له ، بل و لا یظنّ توهّمه من أحد .

و أمّا الثانی ، فعدم إمکانه أیضاً بالمرحلة الأخیرة واضح ، لما عرفت من أنّ فی ظرف انکشاف الواقع و تعلّق الغرض الفعلی بتحصیل المقصود ، تکون الحرکة علی وفق المقصود قهریة ، بحیث لا یمکن الرّدع عنها إلّا بسلب جهة کشفه . و أمّا بالنسبة إلی المرحلة الاولی - أعنی حکم العقل بحسن صرف الإرادة بنحو الطاعة - فعدم إمکانه إنما هو من جهة منافاته لحکم العقل التنجیزی بوجوب المتابعة و حسن الطاعة ، لأن مرجع ردعه حینئذٍ إلی ترخیصه فی معصیته و هو - کما تری - مما یأبی عنه الوجدان و لا یکاد یصدّقه بعد تصدیقه بالخلاف ، لکونه من التناقض فی نظر القاطع و إنْ لم یکن کذلک بحسب الواقع .

وعلیه ، فلا مجال للمنع عن صحّة الردع بما افید من برهان المناقضة ، لأن المقصود من برهان المناقضة :

إن کان مناقضة ترخیصه مع الحکم الشرعی المحفوظ فی الرتبة السّابقة علی القطع .

ففیه : إنه لا مناقضة و لا تضادّ بینهما ، بعد کون مرجع ردعه إلی الترخیص فی الرتبة اللّاحقة عن القطع ، کیف ؟ و إنه بذلک تختلف الرتبة بین الحکمین ، فترتفع المناقضة و التضادّ من البین .

و إن کان المقصود مناقضته مع الحکم العقلی فی الرّتبة المتأخرة عن القطع .

ففیه : إنه مبنی علی ثبوت تنجیزیة حکم العقل بوجوب المتابعة ، لأنه من مبادی المناقضة المزبورة ، و إلّا فعلی فرض تعلیقیّته لا یکاد یبقی مع الردع عنه

ص:50

حکم للعقل بوجوب المتابعة ، کی ینتهی الأمر بینهما إلی مقام المضادّة و المناقضة .

فالعمدة فی المنع عن إمکان مجیء الردع هو: إثبات تنجیزیة حکم العقل ، و یکفی فی إثباته ما ذکرناه من الوجدان و إبائه بحسب الارتکاز عن إمکان مجیء ردع عن العمل بقطعه ، لکونه ترخیصاً من الشارع فی المعصیة و ترک الطاعة . (1)

نقد تلک النظریة

و قد أورد علیه الاستاذ فی الدّورتین بلزوم التناقض علی مسلک المحقق العراقی أیضاً .

و توضیح ذلک هو : إنه رحمه اللّٰه یری أنّ حقیقة الحکم عبارة عن الإرادة أو الکراهة المبرزة ، فالإرادة الشدیدة المبرزة منشأ لانتزاع الوجوب ، و الکراهة الشدیدة المبرزة منشأ لانتزاع الحرمة ، أمّا الإرادة أو الکراهة الضعیفة ، فمنشأ للاستحباب و الکراهة الشرعیة . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه یری أنّ متعلّق الإرادة - و کذا الکراهة - هی الصورة المرئیّة خارجاً ، لا الوجود الخارجی ، لأن الإرادة أمر نفسانی ، و تعلّقه بالخارج غیر ممکن - و قد برهن المحقق الأصفهانی علی ذلک بأنه یستلزم إمّا خارجیّة الذهن أو ذهنیة الخارج ، و کلاهما محال - فالمتعلّق هو الخارج، لعدم تعلّق الشوق و عدمه بالوجود الذهنی ، لکن لا الوجود الخارجی بل الصورة المرئیة خارجاً .

و بناءً علی ما ذهب إلیه فی حقیقة الحکم و متعلّقه : یرد علیه لزوم اجتماع

ص:51


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 7 - 8 .

النقیضین فیما ذکره فی المقام ، لأنّ تعلّق الوجوب بالصّورة المرئیّة خارجاً لدی القاطع ، هو إرادة وجوده ، فإذا تعلّق بها الترخیص کان غیر مراد ، و کون الشیء مراداً و غیر مراد اجتماعٌ للنقیضین .

هذا ، و لا یتوهّم اختلاف المرتبة حتی یندفع الإشکال .

لأنّ متعلّق الإرادة أو الکراهة هو الوجود لا المرتبة، فصحیحٌ أنّ الإرادة و المراد مختلفان فی المرتبة ، لتقدّم المراد علی الإرادة طبعاً ، لکنهما موجودان بوجودٍ واحد ، کما هو الحال بین الواحد و الاثنین ، إذ الاثنان متأخّر رتبةً عن الواحد طبعاً ، لکنهما موجودان بوجودٍ واحد .

و هذا هو الإشکال علی المحقق العراقی هنا بناءً علی مسلکه .

و أمّا علی مسلک القائلین باعتباریّة الحکم - علی اختلافٍ فیما بینهم فی حقیقته - إذ قال بعضهم بأنه الطلب الإنشائی ، و بعضهم بأنه عبارة عن البعث أو الزجر الاعتباری ، و بعضهم أنه الثبوت علی الذمّة اعتباراً و اعتبار الحرمان ...

- فالتناقض لازم بلا إشکال ، و ذلک : لأن کلّ حکمٍ یصدر من الحاکم فهو فعل اختیاری له ، و لا یعقل أن یکون مهملاً ، لأن المفروض أنه - لکونه حکیماً - یلحظ موضوع الحکم و انقساماته ، فإنْ کان غرضه متعلّقاً بالمقسم خرج الحکم مطلقاً ، و إن کان متعلّقاً بالقسم خرج مقیّداً ، و لا یعقل أنْ یکون الغرض مهملاً ، و الحکم معلول للغرض ، فلا إهمال فیه کذلک .

و علی هذا ، فإذا حکم الشارع بوجوب الصّلاة ، فتارة : یتعلّق القطع بالوجوب ، و اخری : لا ، فإن کان الغرض قائماً بالمقسم أطلق الوجوب و إلّا قیّده بوجود القطع أو عدمه ، لکنّ التقیید هناک محال ، إذ لا یعقل تقیید وجوبها بعدم

ص:52

القطع به ، لأنّ الغرض من الصّلاة - و هو النهی عن الفحشاء و المنکر مثلاً - أعمّ .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : فإنّ التقیید بعدم القطع بالوجوب لغوٌ لعدم الأثر ... .

فظهر أن التقیید محالٌ کما أنّ الإهمال محال ، فالإطلاق واجب ... أی:

الصّلاة واجبة سواء قطع بوجوبها أوْ لا ، فلو اعتبر عدم وجوبها فی مرتبة القطع بوجوبها ، لزم اجتماع النقیضین - أی الوجوب و عدمه - فی المتعلّق الواحد .

فالحق ، لزوم التناقض علی جمیع المسالک .

هذا ، و لا یخفی أنّ هذا التناقض یلزم فی الحکم الشرعی - کما تقدّم - و فی الحکم العقلی أیضاً ، لأن کلّ حکمٍ شرعی فهو بمجرّد وصوله موضوع لحکم العقل بلزوم الطاعة و الامتثال .

نظریّة المحقّق الأصفهانی

و قال المحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه :

بل التحقیق أن حدیث التضادّ و التماثل أجنبی عمّا نحن فیه ، لما فصّلناه فی مسألة اجتماع الأمر و النهی : أن الحکم - سواء کان بمعنی الإرادة و الکراهة أو البعث و الزجر الاعتباریین - لیس فیه تضادّ و تماثل ، فإنهما من صفات الأحوال الخارجیة للموجودات الخارجیة . فراجع .

بل المانع من اجتماع البعثین ، إمّا صدور الکثیر عن الواحد لو انبعث البعثان المستقلّان عن داع واحد ، أو صدور الواحد عن الکثیر لو انبعثا عن داعیین ، فإن الفعل الواحد عند انقیاد المکلّف لمولاه لو صدر عن بعثین مستقلّین ، لزم صدور الواحد عن الکثیر، کما أنّ صدور مقتضی البعث و الزجر لازمه اجتماع

ص:53

المتناقضین ، فیلغو البعث بداعی إیجاد الفعل و الزجر بداعی ترکه (1) .

و قد اشتمل کلامه علی نفی و إثبات .

أمّا ما أفاده فی جهة النفی ، فتوضیحه هو : إن المثلین عبارة عن الوجودین من الماهیّة الواحدة ، و الضدّان عبارة عن الأمرین الوجودیین المتعاقبین علی الموضوع الواحد ، الداخلین تحت جنس قریب و بینهما نهایة الخلاف . و علی هذا ، فالتماثل و المثلیة و کذا التضاد و الضدیّة من أحوال الموجودات الخارجیّة ، و الحکم إمّا هو الإرادة أو الکراهة التشریعیّة ، أو البعث و الزجر الاعتباریّان - علی الخلاف - من الاعتباریات ، و أحکام الموجودات الخارجیّة لا تجری فی الامور الاعتباریة ، فلا معنی لأن یقال : حکمان متماثلان أو متضادّان ، و لا یلزم اجتماع المثلین أو الضدّین .

و أمّا ما أفاده فی جهة الإثبات ، فتوضیحه : إنّ المانع من تصرّف الشارع هو صدور الکثیر من الواحد و بالعکس ، أو لزوم اجتماع المتناقضین فی مقام الامتثال ، فالقطع بوجوب شیء بعث ، فإذا جاء ببعثٍ آخر نحوه ، کان البعثان حاصلین من داعٍ واحد لکون المصلحة واحدة ، و صدور الکثیر من الواحد محال . أمّا فی مقام امتثال التکلیف ، فالحاصل انبعاث واحد عن البعثین ، و صدور الواحد من الکثیر محال کذلک . و إنْ کان الحکم غیر مماثل ، یلزم اجتماع المتناقضین فی مقام الامتثال .

إذن ، لا یمکن التصرّف لا بالمماثل و لا بالمخالف ، للزوم ما ذکر من

ص:54


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 20 .

المحذور ، و هذا هو المانع لا ما ذکره الشیخ و صاحب الکفایة و العراقی رحمهم اللّٰه .

أقول :

إنّ ما ذکره فی جهة النفی مبنیّ علی الاصطلاح الفلسفی فی التضادّ و التماثل ، لکنّ التضادّ عند الاصولیین عبارة عن عدم اجتماع الأمرین ، سواء اطلق علیه التضادّ فلسفیّاً أوْ لا ، ثم إنّ الاعتبار فی مورد القطع ناشئ عن المصالح و المفاسد ، و هو أیضاً منشأ للانبعاث و الانزجار ، و هکذا اعتبار یجری فیه برهان التضاد و التماثل ، فلیس المحذور لزوم صدور الکثیر من الواحد ، بل هو استحالة اجتماع الوجوبین مثلاً و الوجوب و الحرمة ، فی متعلّق واحد ، لکونهما ناشئین من الملاک و هما منشأ للانبعاث کما تقدم . نعم ، هذه الاستحالة هی بالعرض .

وجوب الحرکة عملاً طبق القطع

بعد أن ثبت کاشفیة القطع ، و حجیّته ، و لابدیّة العمل علی طبقه عقلاً ، یجب الحرکة عملاً علی طبقه ، فإذا قطع بوجوب الصّلاة - مثلاً - حکم العقل باستحقاق العقاب علی المعصیة و المخالفة بترکها ، فحینئذ ، یحکم بلزوم الحرکة عملاً علی طبق القطع بالإتیان بالصّلاة .

لکنّ المقطوع به إذا کان من الاُمور النفسانیّة الملاءمة للغرائز ، یکون العمل به غریزیّاً طبعیاً ، کما فی الحیوانات ، أمّا إذا کان من الامور العقلائیّة ، فالعمل به من الأحکام العقلیّة ، و هذا هو الفرق بین الإنسان و الحیوان .

و قد ذهب السید الحکیم فی مباحث الاجتهاد و التقلید (1) إلی أنّ وجوب

ص:55


1- 1) مستمسک العروة الوثقی 1 / 6 .

العمل بالتکالیف الشرعیة حکم عقلی من باب وجوب شکر النعم ، ثم أضاف : بل فطری ، من جهة أنه إذا أدرک النعمة ، و أنها من منعم ، و أنّه یجب شکر النعم ، یتحرک نحو الطاعة بفطرته .

و قد نوقش فی هذا الاستدلال فی ذلک الموضع (1) .

تنبیهان

بقی التنبیه علی أمرین :

الأول :

قد أنکر المحقق الإیروانی أن یکون وجوب العمل علی طبق القطع بالحکم الشرعی من المدرکات العقلیّة ، و إنما یدرک العقل حسن الطاعة و قبح المعصیة ، فإذا أدرک ذلک تحرّک عملاً علی الطّاعة و استخدم قواه فی سبیل تحقّقها ، فالحرکة الخارجیة أثر لدرکه حسن الطاعة و قبح المعصیة ، و لو قلنا بأن له درکاً آخر - علاوةً علی درک حسن الطاعة - هو عبارة عن وجوب العمل خارجاً علی طبق القطع ، لزم التسلسل ، لأنّ وجوب العمل علی طبق القطع حکمٌ ، فیقال : هل هو حکم مشکوک فیه أو مظنون أو مقطوع به ؟ المفروض کونه مقطوعاً به ، فیتولّد حکم عقلی بوجوب العمل علی طبق هذا الحکم المقطوع به ، و هل هذا الوجوب مشکوک فیه أو مظنون أو مقطوع به ؟ و هکذا .

و الحاصل : إنه لیس إلّا درک العقل حسن الطّاعة و قبح المعصیة ، أمّا وجوب

ص:56


1- 1) و تعرّضنا لذلک فی الجزء الأوّل من کتابنا ( إرشاد الطالبین إلی منهاج الصالحین ) الماثل للطبع إنْ شاء اللّٰه .

العمل علی طبق المقطوع به فلا (1) .

و لهذا الرأی أثر فی المباحث ، فقد تقرّر - مثلاً - أنّ الأمر بالطاعة فی قوله تعالی «أَطیعُوا اللّٰهَ وَأَطیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی اْلأَمْرِ مِنْکُمْ » (2)و أمثاله إرشاد إلی حکم العقل بوجوب إطاعة المولی ، فالعلماء یقولون بوجود الحکم العقلی بوجوب الطاعة ، أمّا بناءً علی نظریة هذا المحقق ، فلا حکم للعقل إلّا بحُسن الطّاعة ، فتکون الآیة إرشاداً إلی هذا المعنی فقط ، فلا تدلّ هیئة افعل علی الأمر .

فنقول :

قد ذکر جماعة من الأعلام أن لا مُدرَک من العقل إلّا حسن الطّاعة و قبح المعصیة ، و مجرّد ذلک لا یکفی لحمل الإنسان علی الحرکة خارجاً ، لأنّ العمل الحسن فی العالم کثیر ، و مجرّد درک حسن العمل لا یکفی للحکم بوجوبه علی طبق المدرک ، إلّا إذا وصل إلی حدّ المنجّزیة - أی استحقاق العقاب علی المخالفة - ففی هذه الحالة یوجد الحکم العقلی بلزوم الحرکة ، فتلخّص : أن الصحیح تفرّع الحرکة الخارجیة علی احتمال استحقاق العقاب و المؤاخذة علی المخالفة ، و من هنا جاء الحکم العقلی الارتکازی بوجوب دفع الضرر المحتمل .

و أمّا ما ذکره من استلزام القول بوجود الحکم العقلی بوجوب الطاعة للتسلسل ، ففیه :

إنه إن کان موضوع استحقاق العقاب مطلق الحکم - أی سواء کان الحکم العقلی أو الشرعی بعد قیام القطع - تمّ کلامه ، لأنّ وجوب العمل بالقطع حکمٌ

ص:57


1- 1) حاشیة الکفایة 2 / 410 .
2- 2) سورة النساء : 59 .

عقلی تعلّق به القطع ، فهو موضوع للزوم الحرکة قطعاً بحکم العقل ، فیلزم التسلسل ، لکنّ الصحیح أنّ الموضوع له هو حکم المولی الحقیقی ، و العقل یدرک استحقاق العقاب علی مخالفته و لا حکم للعقل بذلک ، فلا یلزم التسلسل ، لأنّ موضوع وجوب العمل هو حکم المولی و کلّ حکمٍ من بعده بذلک فهو من العقل ، و المفروض أنه لیس بحکمٍ بل هو درک بلزوم استحقاق العقاب علی مخالفة حکم المولی المقطوع به .

الأمر الثانی :

قد عرفت أن «الحجة» فی اصطلاح الاصولی یختلف عنه فی الاصطلاح المنطقی ، و قد أفاد الشیخ رحمه اللّٰه أنه لا یطلق « الحجة » علی « القطع » بالاصطلاح المنطقی ، لعدم وقوعه بهذا المعنی وسطاً فی القیاس ، فلیس لمن قطع بوجوب الصّلاة إلّا أن یقول : الصّلاة واجبة ، و أمّا أن یقول : الصّلاة مقطوع بوجوبها ، و کلّ ما قطع بوجوبه فهو واجب ، فالصلاة واجبة ، فلا ، بخلاف باب الأمارات ، فإنّ « الحجة » بالاصطلاح المنطقی یقع وسطاً فیها ، فیقال مثلاً : هذا ما قام خبر الثقة علی وجوبه ، و کلّ ما قامت الحجة علی وجوبه فهو واجب ، فهذا واجب .

ص:58

التجرّی

اشارة

و یقع البحث فی :

موضوع التجرّی

و أحکام التجرّی

ص:59

ص:60

التجرّی موضوعاً

اشارة

إن القطع تارة : طریقی ، و اخری : موضوعی ، و هو إمّا جزء الموضوع و إمّا تمام الموضوع .

أمّا القطع الطریقی، فالبحث جارٍ فیه بلا کلام . و أمّا إن کان جزء الموضوع فکذلک ، لأنّه لما کان جزءاً و الجزء الآخر هو الواقع ، فقد یصادف الواقع و قد یتخلّف عنه ، و مورد التخلّف هو موضوع التجرّی .

و أمّا القطع الموضوعی ، إذا کان تمام الموضوع للحکم ، فلیس بموردٍ لمبحث التجرّی - و کذا الظن المأخوذ موضوعاً تامّاً للحکم - لعدم التخلّف عن الواقع ، فإذا تحقق القطع لدی المکلّف و خالفه فقد عصی ، و لذا یفتی فی السفر المظنون فیه الخطر بکونه سفر معصیة و یجب فیه التمام ، و لا موضوع هناک للتجرّی ، لفرض کون هذا الظن تمام الموضوع لوجوب إتمام الصلاة ، فمع وجود الظن بالضرر أو الخطر یکون السفر معصیةً ، و لا تجری أصلاً .

وعلیه ، فمتی کان القطع أو الظنّ أو الاحتمال تمام الموضوع للحکم ، فإنّ المخالفة هناک معصیة ، و لا مجال لبحث التجرّی فیه .

ص:61

فموضوع مبحث التجرّی هو کون القطع أو الظن طریقاً إلی الواقع أو جزءاً للموضوع .

و بما ذکرنا یظهر عدم اختصاص البحث بالقطع ، و أنه جارٍ فی مطلق الحجّة القائمة علی الواقع ، سواء کانت حجةً ذاتیةً کالقطع أو جعلیّة کالأمارات ، فلو قام خبر الثقة علی حکم و خالفه المکلّف ثم ظهر عدم مطابقة الخبر للواقع ، فقد تجرّأ علی المولی .

توهّمٌ و دفع

و ذکر المیرزا أنه قد توهّم بعضهم أن النزاع فی المقام إنما یجری فی خصوص مخالفة القطع بالواقع المفروض عدم إصابته ، و أمّا مخالفة الطرق الشرعیّة ، فلا یجری فیها النزاع ؛ لعدم الإشکال و الریب فی استحقاق العقاب علی مخالفتها ، و إن کانت غیر مصیبة للواقع .

و منشأ هذا التوهّم هو تخیّل أنّ مخالفة الطرق الشرعیّة إنّما هی مخالفة الأحکام الظاهریّة المجعولة من قِبَل المولیٰ ، فلا محالة یترتّب علیها استحقاق العقاب و إن لم یکن هناک أحکام واقعیّة فی مواردها ، و هذا بخلاف القطع ؛ فإنّ مخالفته فی صورة عدم المصادفة لا یکون مخالفةً لحکم واقعی و لا ظاهری ، فیقع النزاع فی أنّ المخالفة الاعتقادیّة التخیّلیة هل یترتّب علیها ما یترتّب علی المخالفة الواقعیّة أم لا ؟

و أنت بعد ما عرفت أنّ المجعول فی موارد الطرق الشرعیّة لیس هی الأحکام البعثیّة أو الزجریّة ، و إنّما هو نفس صفة الطریقیّة و الکاشفیّة من دون استتباعها لحکمٍ شرعیّ ، تعرف أنّ حال مخالفة الطریق الوجدانی حال الطریق

ص:62

الجعلی بعینها ، من دون فرقٍ بینهما أصلاً ، وعلیه ، یکون محلّ النزاع فی المقام أعمّ من مخالفة القطع الوجدانی و الأمارات أو الاُصول ، حتی أصالة الاحتیاط فی موارد العلم الإجمالی أو غیرها .

و بالجملة ، مخالفة مطلق المنجّز للحکم - علی تقدیر انکشاف عدم ثبوته فی الواقع - یکون محلّ الکلام فی المقام (1) .

و قال السیّد الخوئی :

إن بحث التجری لا یختصّ بالقطع ، بل یعمُّ جمیع الأمارات المعتبرة و الاصول العملیّة ، بل یعمّ کلّ منجز للتکلیف و لو کان مجرّد احتمال ، کما فی موارد العلم الإجمالی بالتکلیف ... .

فإن الاقتحام فی بعض الأطراف داخل فی التجرّی ، و إن لم یکن فیه إلّا احتمال المخالفة للتکلیف ، و کذا الحال فی الشبهات البدویة قبل الفحص .

و الجامع بین الجمیع هو مخالفة الحجة ، أی ما یحتج به المولی علی العبد ، فلو ثبت کون مائع خمراً بالبینة أو الاستصحاب ، و شربه ، و لم یکن فی الواقع خمراً ، کان متجرّیاً . و لو احتمل کون شیء حراماً و ارتکبه قبل الفحص ، و انکشف عدم کونه حراماً ، کان متجرّیاً ، و هکذا . فذکر القطع لیس لاختصاص التجری به ، بل إنما هو لکونه أظهر الحجج و أوضح المنجزات .

و ربما یتوهم عدم جریان التجرّی فی موارد الأمارات و الاصول العملیة الشرعیة ، و الجامع هو الحکم الظاهری ، بدعوی أن الأحکام الظاهریة مجعولة فی

ص:63


1- 1) أجود التقریرات 3 / 42 .

ظرف الجهل بالواقع ، فبکشف الخلاف ینتهی أمدها و تنتفی بانتفاء موضوعها ، لا أنه یستکشف به عدم ثبوت الحکم من الأول ، فیکون بمنزلة انقلاب الخمر خلّاً ، فکما أنه إذا انقلبت الخمر خلّاً تنتفی الحرمة من حین الانقلاب بانتفاء موضوعها، لا أنه بعد الانقلاب یستکشف أنه لم یکن حراماً من الأول ، کذلک الحال فی الأحکام الظاهریة ، حیث أن موضوعها الجهل بالواقع ، فبکشف الواقع تنتفی بانتفاء موضوعها ، فلا یتصور کشف الخلاف فی نفس الحکم الظاهری ، فتکون مخالفته العصیان دائماً لا التجرّی .

و هذا التوهم فاسد من أساسه ، إذ هو مبنی علی القول بالسّببیة ، و أن المجعول فی مورد الطرق و الأمارات هی الأحکام ، و هو فاسد ، لاستلزامه التصویب الباطل . و الصحیح أن المجعول فی باب الطرق و الأمارات هو الحجیّة و الطریقیّة فقط ، علی ما سیجیء الکلام فیه إن شاء اللّٰه تعالی (1) .

و کذا جاء فی کلام السیّد الصدر ، قال :

موضوع هذا البحث أن أیّ تکلیفٍ یتنجّز علی المکلّف ، سواء کان بمنجّز عقلی کما فی موارد القطع و الاحتمال المنجز ، أو شرعی ، کما فی الأمارات و الاصول المنجزة ... و قد یتوهّم عدم شمول هذا البحث موارد الحکم الظاهری ...

و لکنّ هذا التوهّم باطل ... (2) .

نظر الشیخ الاستاذ

و بالجملة ، فهم یتعرّضون للتوهّم المذکور و یردّون علیه ، لکنّهم یصرّحون

ص:64


1- 1) مصباح الاصول: 18 - 19 .
2- 2) بحوث فی علم الاصول 4 / 35 .

بشمول البحث للاصول العملیّة أیضاً ، و قد تنظّر فی ذلک شیخنا دام بقاه فی الدورة اللّاحقة ، فقال ما حاصله :

إنّ الأصل منه عقلی ، کالاحتیاط و البراءة العقلیّة ، و منه شرعی ، کالطهارة الظاهریة المجعولة فی الشبهات الحکمیّة و الموضوعیّة ، و الحلیّة المجعولة ب «کلّ شیء لک حلال » ، و کذا فی موارد الاحتیاط الشرعی ، بناءً علی دلالة نصوص الاحتیاط علی الحکم المولوی الشرعی ، فمقتضی القاعدة فی مثل هذه الموارد ، بناءً علی أنّ المجعول فیها هو الحکم الشرعی - و إنْ کان ظاهریاً - المولوی المستتبع لاستحقاق العقاب ، هو عدم جریان بحث التجرّی .

و ملخّص الکلام : أنه فی کلّ مورد لا یوجد جعلٌ شرعی ، بل المجعول هو الطریقیّة أو المنجزیة و المعذریّة ، فالبحث جارٍ فیه ، و کلّ موردٍ فیه مجعول شرعی - و لو ظاهری - فالمخالفة معصیة ، و لا مجال لبحث التجرّی فیه .

ص:65

أحکام التجرّی

اشارة

قال فی الکفایة :

قد عرفت أنه لا شبهة فی أنّ القطع یوجب استحقاق العقوبة علی المخالفة و المثوبة علی الموافقة فی صورة الإصابة ، فهل یوجب استحقاقها فی صورة عدم الإصابة علی التجرّی بمخالفته ، و استحقاق المثوبة علی الانقیاد بموافقته ، أوْ لا یوجب شیئاً ؟

الحق : أنه یوجبه ، لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته و ذمّه علی تجرّیه ... (1) .

أقول :

هل الحکم المترتّب علی التجرّی هو القبح العقلی ، فیستحقُّ الذم و اللّوم فقط ، أو استحقاق العقاب عقلاً أیضاً ، أو الحرمة الشرعیّة بالإضافة إلیهما ؟

التجرّی قبیح عقلاً

أمّا القبح العقلی ، و استحقاق الذمّ و اللّوم ، فلا ینبغی الرّیب فی ثبوته ، فقد ذکرنا فی مباحث المعرفة الدینیة و بیان مقامات أئمة الهدی علیهم السلام ، بالاستفادة ممّا ورد عنهم بعد الکتاب المجید : أنّ المدار فی القرب و البعد من اللّٰه عزوجلّ هو الانقیاد و الطاعة و التمرّد و المعصیة له ، فقد ورد عنهم علیهم السّلام أنه إنما بلغ أمیر المؤمنین علیه السلام المقام الذی لا یتقدّم علیه فیه أحد من

ص:66


1- 1) کفایة الاصول : 259 .

الأوّلین و الآخرین - سوی رسول اللّٰه - إلّا بطاعته للّٰه و رسوله ، فهذا ما دلّت علیه الأدلّة النقلیّة (1) .

و لا شک أن العقل یدرک حسن الانقیاد للمولی الحقیقی و قبح المخالفة لأوامره و نواهیه ، لکونها خروجاً عن رسم العبودیة و هتکاً لحرمته ، و من هنا یحکم بقبح الفعل المتجرّیٰ به و أنّ فاعله یستحقّ الذمّ و اللّوم .

و لیس لأحدٍ أنْ یقیس التجرّی علی المولی الحقیقی بالتجرّی علی أحدٍ من الناس ، بأنْ یجعل تعدّی حدوده علی حدّ التصرّف فی مالٍ بتخیّل أنه لزیدٍ ثم تبیّن کونه مالاً لنفسه ، فکما لا یکون فی هذه الصّورة ظالماً لزید ، کذلک لا یکون هاتکاً للمولی إذا شرب المائع بقصد کونه خمراً و تبیّن کونه ماءً ، فإنّ هذا قیاس مع الفارق ، کما لا یخفی علی أهل المعرفة .

و علی الجملة ، فإنه لا ینبغی الریب فی ترتّب الذمّ و اللّوم ، و إنّما الکلام فی ترتّب الأزید من ذلک .

هذا ، و قد نسب إلی الشیخ انحصار التجرّی بهذه المرحلة فقط ، لکنّ الاستاذ - فی الدّورة اللّاحقة - تنظّر فی هذه النسبة ، و أفاد بأنّ الشیخ غیر جازم بعدم ترتب غیر اللّوم و الذم .

هل یستحقّ العقاب ؟

و أمّا استحقاق العقاب - بالإضافة إلی اللّوم - .

فقیل : بأنّ التجری یوجب قبح الفعل من حیث الصّدور ، و استحقاق العقاب یکون فیما لو کان الفعل قبیحاً من حیث الذات .

ص:67


1- 1) بحار الأنوار 25 / 286 - 287 .

و قیل : باستحقاق العقاب من حیث الصّدور أیضاً ، فقال صاحب الکفایة باستحقاقه علی نفس العزم علی الفعل ، و قال جماعة - منهم المحقق العراقی - بأنّ الفعل الخارجی مورد القبح و استحقاق العقاب .

هل هو حرام شرعاً ؟

و فی ترتب الحرمة الشرعیّة أیضاً خلاف .

فقیل : بعدمها بل الحکم بالاستحقاق عقلی .

و قیل : بوجودها ، فقیل : بأنه حکم شرعی لا یقبل التخلّف و التغیّر بالعناوین ، و قیل : یتغیّر بها ، و هو رأی صاحب الفصول .

أمّا المیرزا ، فقد ذکر (1) أن المسألة ربما تحرّر فقهیّةً ، و اخری اصولیّة ، و ثالثةً کلامیّة .

أمّا تحریرها فرعیّةً ، فباعتبار أنْ یقع الکلام فی اتّصاف المخالفة القطعیّة - و لو کان القطع غیر مصادف للواقع - بالحرمة و عدمه .

و أمّا تحریرها اصولیّةً ، فمن جهة دعوی شمول الأدلّة الأولیّة بإطلاقها لصورة التجرّی ، و وقوع النتیجة فی طریق استنباط الحکم الشّرعی ، أو من جهة قانون الملازمة بعد ثبوت الحکم العقلی بالقبح .

و أمّا تحریرها کلامیّةً ، فمن حیث استحقاق العقاب علی المخالفة و الثواب علی الانقیاد .

و تبعه سیدنا الاستاذ قدّس سرّه و تکلّم علی ذلک بالتفصیل (2) .

ص:68


1- 1) أجود التقریرات 3 / 42 .
2- 2) منتقی الاصول 4 / 36 .
رأی الشیخ فی استحقاق العقاب

ذکر الشیخ : أن القاطع لا یحتاج فی العمل بقطعه إلی أزید من الأدلّة المثبتة لأحکام مقطوعه ، فیجعل ذلک کبری لصغری قطع بها ، فیقطع بالنتیجة ... لکنّ الکلام فی أن قطعه هذا هل حجة علیه ... فیعاقب علی مخالفته ... ؟

الإشکال علیه

و قد وقع الإشکال فی موردین من هذا الکلام :

أحدهما فی قوله : فیقطع بالنتیجة .

من جهة أنّ هذا الحکم المقطوع به ، هل هو حکم واقعی أو ظاهری ؟ فإن ارید الواقعی ، فیستحیل القطع به إلّا إذا کان الدلیل المثبت له قطعیّاً ، و من المعلوم أن أکثر الأدلة المثبتة للأحکام ظنیة لا قطعیة ، و إن ارید الظاهری ، فإنّه لا قطع بالحکم الظاهری فی غیر موارد الاصول الشرعیّة .

و الثانی فی قوله : فیعاقب علی مخالفته .

من جهة أنّ موضوع البحث هو أن المخالفة مستتبعة لاستحقاق العقاب أوْ لا ، و ظاهر عبارته العقاب لا استحقاق العقاب .

ثم إنه یرد علیه : وقوع الخلط فی کلامه بین الحکم العقلی و الحکم الشرعی ، لأنّ مناط البحث فی استحقاق العقاب و عدمه هو حکم العقل ، لکنّه فی مقام الاستدلال ینقل الاتفاق من الفقهاء علی الأوّل ، و هو الاستحقاق .

کلام الشهید الأوّل

هذا ، و الأصل فی کلام الشیخ هو ما ذکره الشهید رحمه اللّٰه فی قواعده حیث قال ما نصّه :

ص:69

لا تؤثّر نیّة المعصیة عقاباً و لا ذمّاً ما لم یتلبّس بها ، و هو ما ثبت فی الأخبار العفو عنه ، و لو نوی المعصیة و تلبّس بما یراه معصیة فظهر بخلافها، ففی تأثیر هذه النیّة نظر :

من أنها لمّا لم تصادف المعصیّ فیه ، صارت کنیّةٍ مجرّدة ، و هو غیر مؤاخذ بها .

و من دلالتها علی انتهاک الحرمة و جرأته علی المعاصی .

و قد ذکر بعض الأصحاب : إنه لو شرب المباح متشبّهاً بشارب المسکر ، فعل حراماً .

و لعلّه لیس بمجرّد النیّة بل بانضمام فعل الجوارح إلیها .

و یتصوّر محلّ النظر فی صور :

منها : لو وجد امرأةً فی منزل غیره فظنّها أجنبیّة فأصابها ، فظهرت أنها زوجته أو أمته .

و منها : لو وطئ زوجته لظنّها حائضاً ، فبانت طاهراً .

و منها : لو هجم علی طعام بید غیره و أکل منه ، فتبیّن أنه ملک الآکل .

منها : لو ذبح شاةً یظنّها للغیر بقصد العدوان ، فظهرت ملکه .

و منها : ما إذا قتل نفساً بظنّها معصومة ، فبانت مهدرة .

و قد قال بعض العامّة : یحکم بفسق متعاطی ذلک ، لدلالته علی عدم المبالات بالمعاصی ، و یعاقب فی الآخرة - ما لم یتب - عقاباً متوسّطاً بین عقاب الکبیرة و الصغیرة .

ص:70

و کلاهما تحکّم و تخرّص علی الغیب (1) .

و حاصل کلامه عدم ترتّب الفسق و عدم استحقاق العقاب .

بقیّة کلام الشیخ و النظر فیه

ثم إنّ الشیخ أورد أدلّة القول بالاستحقاق .

فذکر الإجماع ، ثم قال : و یؤیّده بناء العقلاء و حکم العقل بقبح التجری .

قال : و قد یقرّر دلالة العقل علی ذلک : بأنا إذا فرضنا شخصین قاطعین ، بأنْ قطع أحدهما بکون مائع معین خمراً ، و قطع الآخر بکون مائع آخر خمراً ، فشرباها ، فاتفق مصادفة أحدهما للواقع و مخالفة الآخر ، فإمّا أن یستحقّا العقاب أو لا یستحقّه أحدهما أو یستحقّه من صادف قطعه الواقع دون الآخر أو العکس ... .

ثم قال : و یمکن الخدشة فی الکلّ .

أمّا الإجماع ، فالمحصّل منه غیر حاصل ، و المسألة عقلیّة ، خصوصاً مع مخالفة غیر واحد کما عرفت من النهایة ، و ستعرف من قواعد الشهید ، و المنقول منه لیس بحجّة فی المقام .

أقول :

الإشکال علی الإجماع المدّعی من جهة الکبری أو الصغری ، له مجال ، لکن قوله « و المسألة عقلیّة » غیر تام ، لأنّ معقد الإجماع هو « المعصیة » ، فقد تقدّم قوله : « کما یظهر من دعوی جماعة الإجماع علی أنّ ظانّ ضیق الوقت إذا أخّر الصّلاة عصی و إنْ انکشف بقاء الوقت ... » و المعصیة و عدمها حکم شرعی لا عقلی ... .

ص:71


1- 1) القواعد و الفوائد: 44 - 45 . الفائدة 20 .

قال :

و أمّا بناءً العقلاء ، فلو سلّم ، فإنّما هو علی مذمّة الشخص من حیث أن هذا الفعل یکشف عن وجود صفة الشقاوة فیه ، لا علی نفس فعله ، کمن انکشف لهم من حاله أنه بحیث لو قدر علی قتل سیّده لقتله ، فإنّ المذمّة علی المنکشف لا الکاشف .

قال : و من هنا یظهر الجواب عن قبح التجری ... .

أقول :

لقد نزّل الشیخ حکم العقل و بناء العقلاء علی اللّوم و المذمّة ، لخبث الباطن و السریرة ، إلّا أنه لا شک عقلاً و عقلاءً فی صدق عنوان « الهتک » علی هذا الفعل ، و هتک المولی قبیح بلا ریب ، لأنه ظلم کما لا یخفی .

و هذا محصّل الکلام علی مسلک الشیخ الأعظم فی مسألة استحقاق المتجرّی للعقاب ، و قد ظهر أنه لا یمکن المساعدة علیه .

رأی السیّد الاستاذ تبعاً للشیخ

و قد تبع سیدنا الاستاذ قدس سرّه الشیخ الأعظم ، فقال ما نصّه :

الذی یذهب إلیه الشیخ هو أنه لیس فی مورد التجرّی سوی سوء السریرة ، و هو غیر ملازم للعقاب ، لأن العقاب یترتّب علی القبح الفعلی لا الفاعلی ، و فی قباله ذهب صاحب الکفایة إلی ثبوت العقاب ... .

و الذی نراه أنّ الحق مع الشیخ ، و أنّ القبح الفاعلی الموجود فی صورة التجرّی لا یلازم العقاب ، و إنما الذی یلازمه هو القبح الفعلی ، فلا وجه لما ذکره صاحب الکفایة من ثبوت العقاب علی فعل النفس ، و یدلّ علی ما ندّعیه وجهان :

ص:72

الأول : إنه لا إشکال فی ثبوت العقاب علی المعصیة الحقیقیّة بحکم العقلاء ، فلو کان القصد إلی المعصیة مستلزماً للعقاب ، للزم أن یحکم العقل فی مورد المعصیة الحقیقیة باستحقاق عقابین لحصول سببین له و هما القصد إلی المعصیة و نفس المعصیة . و هذا مما لا یقول به أحد .

الثانی : ما ورد فی الآیات و الروایات من إثبات العقاب علی المعصیة الحقیقیّة و مخالفة المولی ، فیلزم ثبوت عقابین فی موردها ، بناءً علی أنّ التجرّی موضوع العقاب ، لتعدد سببه .

و بالجملة : ما ذهب إلیه صاحب الکفایة مستلزم لدعوی تعدّد العقاب فی مورد المعصیة الحقیقیّة ، و هو مما لا یلتزم به هو و لا غیره ... فالحق مع الشیخ (1) .

أقول :

سنتعرّض فیما بعد إلی ما قد یورد به علی مذهب صاحب الکفایة فی المقام بعد توضیحه ، و من ذلک الإشکال بلزوم تعدّد العقاب و التمسّک بالنصوص ، فانتظر .

رأی صاحب الکفایة فی قبال الشیخ

و ذهب صاحب الکفایة إلی استحقاق العقاب - مضافاً إلی المذمّة - لکنّه إنما یستحقّه لفعلٍ قلبی و هو « العزم » ، لا للصّفة النفسانیّة و هی خبث السریرة کما قال الشیخ ، و لا من أجل وقوع الفعل خارجاً ، کما علیه المحقق الأصفهانی و غیره ... .

فیظهر أن لکلامه جهة إثبات وجهة نفی .

أمّا فی جهة الإثبات ، فاستدلّ بالوجدان قائلاً :

ص:73


1- 1) منتقی الاصول 4 / 57 - 58 .

لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته و ذمّه علی تجرّیه و هتکه لحرمة مولاه و خروجه عن رسوم عبودیّته و کونه بصدد الطغیان و عزمه علی العصیان ، و صحة مثوبته و مدحه علی قیامه بما هو قضیة عبودیّته ، من العزم علی موافقته و البناء علی إطاعته ، و إنْ قلنا بأنه لا یستحق مؤاخذةً أو مثوبةً ما لم یعزم علی المخالفة أو الموافقة ، بمجرد سوء سریرته أو حسنها ، و إنْ کان مستحقّاً للوم أو المدح بما یستتبعانه ... .

ثم قال : و لا یخفی أنّ فی الآیات و الروایات شهادةً علی صحة ما حکم به الوجدان الحاکم علی الإطلاق فی باب الاستحقاق للعقوبة و المثوبة . (1)

أقول :

فهو یری أنّ للعقل هنا حکمین .

أحدهما : استحقاق الذم و المدح علی خبث السریرة و طهارتها ، فإنه یمدح صاحب السریرة الصّافیة علی هذه الصفة کما یمدح اللؤلؤ علی صفائه ، و یذم صاحب السریرة الخبیثة .

و الحکم الثانی : هو استحقاق المؤاخذة و العقاب من المولی علی العزم علی المعصیة ، و کونه فی مقام صدور الفعل المستلزم لهتک المولی ، و العزم فعلٌ قلبی اختیاری یستحقُّ علیه العقاب و الثواب .

فهذا ما یشهد به الوجدان ، و النصوص الشرعیّة شاهدة بذلک ، کقوله تعالی :

« إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤٰادَ کُلُّ أُولٰئِکَ کٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً » (2)و قوله علیه السلام « نیّة

ص:74


1- 1) کفایة الاصول : 259 .
2- 2) سورة الإسراء : 36 .

الکافر شرّ من عمله » (1) .

و أمّا فی جهة النفی ، فذکر أربعة وجوه ، و ملخّص کلامه فیها :

1 - کون الشیء مقطوع الخمریة - مثلاً - لا یوجب تعنونه بعنوانٍ من العناوین المقبّحة کالظلم .

2 - کونه قابلاً للتعنون بالقبح - مثلاً - موقوف علی الالتفات إلی العنوان ، و الحال أن کون الشیء مقطوع الخمریة غیر ملتفت إلیه عند الارتکاب ، و الحکم العقلی متوقف علی صدق هذا العنوان .

3 - إن موضوعات الأحکام العقلیة یجب تعلّق القصد بها بالإضافة إلی الالتفات ، و لیس هذا المائع قد قصد شربه بعنوان کونه مقطوع الخمریة .

4 - إنه یعتبر اختیاریة الفعل ، و فی موارد القطع بالموضوع المخالف للواقع لا تحقق للفعل الاختیاری ، فلا موضوع لحکم العقل بالقبح . أی: إنّه لمّا قطع بأنّ هذا خمر - و کان ماءً فی الواقع - أقدم علی شربه بعنوان الخمریة ، إلّا أن شرب الخمر لم یصدر منه اختیاراً ، لعدم کونه خمراً ، و لم یشرب الماء عن اختیار ، لأنه لم یکن من قصده ، فهو لم یحصل منه عمل اختیاری مقصود .

إشکالات المحقق الأصفهانی

و قد ناقش المحقق الأصفهانی فی ما ذکره فی الجهة الاولی (2) :

أوّلاً : بأن العزم لا یمکن أن یتعنون بعنوان القبح ، لأن القبیح فی نظر العقل هو الظلم ، و العزم علی الظلم لیس بظلم ، فلا یعقل أن یکون موضوع حکم العقل

ص:75


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 50 ، الباب 6 من أبواب مقدمات العبادات ، رقم : 3 .
2- 2) نهایة الدرایة 3 / 29 .

بالقبح . و بعبارة اخری : الظلم یصدر عن عزم و إرادةٍ للظلم ، فالعزم لیس بظلم . و إذْ لا قبح فلا استحقاق للعقاب ، لأن العقل یحکم بالاستحقاق إن کان ظلماً ، و هنا عزم علی الظلم و هو لیس بظلم ، لأنّ ملاک قبح الظلم هو لزوم المفسدة النوعیة و اختلال النظام العام ، و هو منتف عن مجرّد العزم .

و ثانیاً : إنّه لا شبهة فی أن الهتک أمر اختیاری ، و لو لا القصد لم یتحقق الهتک ، وعلیه ، فلا یمکن أن یکون مجرد القصد هتکاً ، و إلّا لزم التسلسل ، لأن کونه هتکاً متقوّم بالقصد . إلّا أن یقال بأن قصدیّة القصد یتحقّق بنفس القصد ، لکن هذا یستلزم انحصار الاستحقاق بمورد الالتفات إلی قصد الهتک بالقصد ، فمن شرب المائع بعنوان أنه خمر لا یقصد بشربه هتک حرمة المولی ، و إنما یتحقق الهتک إن قصد الهتک ، و بذلک یکون متجرّیاً . و الحال أن صاحب الکفایة یری أن مجرّد القصد و العزم هو الموضوع فی جمیع الموارد .

مناقشة الاستاذ

و أجاب الاستاذ :

أمّا عن الأوّل ، فبأنّه إشکال مبنائی ، لأن المحقق الخراسانی یذهب إلی ذاتیّة قبح الظلم لا عقلائیّته ، و المحقق الأصفهانی یری أن قبح الظلم من القضایا المشهورة ، لأجل حفظ النظام . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : لو سلّمنا أنّ ملاک قبح الظلم هو المفسدة النوعیة و اختلال النظام کما ذکره ، فلا بدّ أن یکون المراد هو المفسدة الشأنیّة لا الفعلیة ، و إلّا لزم القول بعدم قبح المعصیة غیر الموجبة لاختلال النظام ، و لا یلتزم بذلک أحد ، و مع الالتزام بالشأنیّة ، فلا ریب فی وجودها فی العزم .

ص:76

و أمّا عن الثانی ، فبأنه یبتنی علی القول بتقوّم الهتک و التعظیم - مطلقاً - بالقصد ، و لیس الأمر کذلک ، فمن الهتک - و کذا التعظیم - ما یتقوّم بالقصد ، و منه ما لا یتقوّم به . و توضیح ذلک :

إن الهتک و التعظیم من القضایا العقلائیّة ، و کلّ قضیّة عقلائیّة فلا بدّ من الفحص عنها فی الوجدان العقلائی ، فنقول : إذا کان العمل یحتمل الوجهین، فلا یتعنون بأحدهما إلّا بالقصد ، کالقیام مثلاً ، أمّا ما کان ذا عنوانٍ واحدٍ - کالسّجود مثلاً ، إذ لا یکون إلّا للتعظیم - فلا یتقوّم بالقصد ، بل یعتبر فی دلالته عدم قصد المنافی ، و هل الخروج علی المولی و هتکه من قبیل الأول أو الثانی ؟

الظاهر أنه من قبیل الثانی لا الأوّل ، و هو یتحقّق بفعل القلب کما یتحقق بفعل الجوارح ، فقصد الخروج عن رسم العبودیة هتک، و لا یتوقف تحققه علی قصد آخر، و إنما یتوقف علی عدم قصد المنافی کما ذکرنا فی السجود .

فما ذهب إلیه صاحب الکفایة فی کمال المتانة .

إشکال آخر

و قد یورد علیه أیضاً : بأن العزم علی الظلم من مقدّمات الظلم ، و المقدّمة خارجة عن ذی المقدّمة دائماً ، فلا ینطبق علیه عنوان الظلم ، فلا قبح له و لا استحقاق للعقاب علیه .

الجواب عنه

و یمکن الجواب عنه :

أمّا نقضاً ، فبحرمة الإعانة أو التعاون - علی القولین - علی الإثم ، کحرمة الإثم ، مع خروج الإعانة أو التعاون عنه ، فکما یقال هناک بالحرمة یقال هنا ،

ص:77

و الجواب الجواب .

و أمّا حلّاً ، فإنّ القصد یضاف تارةً : إلی العنوان و هو الظلم ، فیکون خارجاً عنه قطعاً ، و اخری : یضاف إلی معنون الظلم - و هو المعصیة - فیکون القصد من مصادیق الظلم . و الأمر فی التجری من القسم الثانی ، إذ العزم علی الظلم مصداق لمعنون الظلم و هو المعصیة ، فهو ظلم وقع مقدّمة لظلم آخر .

إشکال المحقق الحائری و الجواب عنه

و أورد المحقق الحائری علی کلام صاحب الکفایة من أن الفعل المتجرّی به لا یکون اختیاریاً أصلاً حتی بملاحظة العام الشامل للفرد المقصود و غیره ، بأنّه لعلّه من سهو القلم ، فقال ما حاصله : (1)

إنه لمّا تجرأ - فشرب المائع بقصد الخمریة فظهر کونه ماءً - تحقّقت عدّة عناوین ، منها : أن الواقع هو شرب الماء ، و منها : أن المائع مقطوع الخمریة ، و منها أنه مقطوع الحرمة ، و منها : انه قد شرب المائع - و هو عنوان جامع بین الخمر و الماء - و منها أنه قد تجرّأ علی مولاه . فهذه کلّها عناوین منتزعة من فعله . أمّا عنوان شرب الماء فهو غیر اختیاری کما هو واضح ، و کذا عنوان التجرّی ، لأنه لو التفت إلیه لما قصد ارتکاب الحرام و المفروض أنه قصده . و الباقی من العناوین کلّه اختیاری ، فقد قصد شرب المائع المقطوع الخمریة و الحرمة . فقول صاحب الکفایة بعدم تحقق الفعل الاختیاری فی الشبهات المصداقیة للتجرّی ، لأن ما قصد لم یقع و ما وقع لم یقصد ، غیر صحیح .

ص:78


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 335 .

أقول :

و قد تعرّض المحقق الخراسانی لهذا الإشکال و أجاب عنه فی حاشیة الرسائل (1) ، و أجاب عنه المحقق الأصفهانی (2) أیضاً ، و ملخّص الجواب هو:

أن المفروض قصده شرب الخمر بخصوصیّة الخمریة ، و معه کیف یمکن تعلّق القصد بالحصّة المتحقّقة ضمن الماء من المائع ؟ فهو من أوّل الأمر قاصد للحصّة الخمریة من الطبیعة ، فلا یمکن تعلّق القصد بالطبیعة الجامعة بین الخمر و الماء و هو المائع .

و أضاف شیخنا - بعد أن ذکره - وجهاً آخر و هو : إنه بعد العلم بامتناع الإهمال فی متعلّق القصد و الإرادة ، و أنّه لا بدّ من تعیّن المقصود و المراد ، فإنّه لا یخلو المتعلّق من احدی حالتین ، فإمّا یکون قد تناول المائع لا بشرط عن الخمریة ، فهذا خلاف الفرض ، و إمّا یکون قد تناوله بشرط الخمریة ، فلم تتعلّق الإرادة بالجامع .

إشکال المحقق الإیروانی و نقده

و ذکر المحقق الإیروانی ما حاصله (3) الفرق بین دواعی الإرادة و قیود المراد ، فخصوصیّة الخمریة، إن کانت قیداً للمراد تمّ ما ذکره صاحب الکفایة ، إذْ لا واقعیّة للخمریّة و المائیّة غیر ملتفت إلیها أصلاً ، أما إن کانت الداعی للإرادة ، فالفعل صادر عن اختیار .

ص:79


1- 1) درر الفوائد فی الحاشیة علی الفرائد : 37 .
2- 2) نهایة الدرایة 3 / 34 .
3- 3) حاشیة الکفایة 2 / 417 .

و یظهر الجواب عنه مما تقدّم ، لأن خصوصیّة الخمریّة إن لم تکن قیداً للمراد ، فالمراد إمّا مهمل و إمّا مطلق ، أمّا الإهمال فغیر معقول ، و أمّا الإطلاق فالمفروض عدمه ، فالتقیید ضروری لا محالة .

إشکال المیرزا

و أشکل المیرزا (1) علی قول الکفایة - بأنّ القطع بالخمریّة غیر ملتفت إلیه ، فهو غیر اختیاری - بالنقض علیه، بأخذ القطع فی موضوع الحکم ، فکیف یؤخذ فی الموضوع لو لم یکن مورداً للالتفات ؟

و أمّا حلّاً ، فإنه لا ریب فی کون المقطوع به ملتفتاً إلیه لکنْ بالعرض لا بالذات - لأنّ متعلّق الالتفات لیس الخارج بل الصّورة - لکنّ کلّ ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذات ، فالقطع بالشیء مورد للالتفات ، و إذا کان القطع ملتفتاً إلیه ارتکازاً ، فالقول بأنه غیر ملتفت إلیه باطل .

الجواب عنه

و قد اجیب عنه: بأنّ عبارة الکفایة هی عدم الالتفات غالباً .

لکنّ هذا لا یکفی جواباً عن النقض بالقطع الموضوعی ، ضرورة وجود الالتفات هناک ، فلو کان الالتفات نادراً یلزم تقیید الحکم بالفرد النّادر ، و هذا لغو - کما لو لم یکن مورداً للالتفات أصلاً - و یستلزم القول باختصاص جواز الشهادة - مثلاً - بموارد نادرة فقط ، و لا یلتزم بهذا أحد .

بل التحقیق فی الجواب أنْ یقال : بأنّ الالتفات الارتکازی یجتمع مع الغفلة و الغافل غیر مؤاخذ ، فلا استحقاق للعقاب مع الغفلة . و توضیح ذلک :

ص:80


1- 1) أجود التقریرات 3 / 50 .

إن استحقاق العقاب و عدمه یدوران مدار الالتفات و عدمه ، و القطع بالخمریة و إنْ کان مورداً للالتفات ارتکازاً ، إلّا أنه قد یغفل عنه فعلاً ، و مع الغفلة فهو معذور ، بمعنی أنه لا یستحقّ العقاب ، غیر أنّ الفرق بین مورد الالتفات الارتکازی و غیره هو ارتفاع الغفلة فیه بأدنی مناسبة ، بخلاف غیره ، فحال القطع حال النور ، فکما أنا نری الأشیاء بواسطة النور و مع ذلک نغفل عنه لاستغراقنا فی الأشیاء المستنیرة ، غیر أنا نلتفت إلیه بمجرّد التنبیه إلیه ، کذلک القطع ، فإنا نغفل عنه لاستغراقنا فی الأشیاء المقطوع بها مع کونه فی ارتکازنا ، و ترتفع الغفلة بأدنی التفات .

فما ذکره المیرزا من الارتکازیة صحیح ، إلّا أنه لا ینافی الغفلة - و إن کانت ترتفع بأدنی التفات - و قد تقدّم أن استحقاق العقاب یدور مدار الالتفات ، و مع الغفلة فلا استحقاق .

و هذا معنی قول صاحب الکفایة « بل لا یکون غالباً بهذا العنوان مما یلتفت إلیه » .

المختار فی المسألة

و المختار - تبعاً للاستاد دام بقاه - هو القول باستحقاق العقاب علی العزم ، وفاقاً لصاحب الکفایة ، و الاستحقاق علی الفعل ، خلافاً له . فههنا دعویان ، الاُولیٰ :

الاستحقاق علی العزم

و یستدلُّ له بالعقل و النقل :

أمّا عقلاً ، فلما تقدّم من أن العزم علی المعصیة أمر اختیاری ، للمکلّف القدرة علی إیجاده و إعدامه ، و کلّ عمل اختیاری یُستحق العقاب أو الثواب علیه ...

ص:81

و من الواضح أن العزم علی المعصیة طغیان علی المولی و هتک له ، فالعقل حاکم باستحقاق العقاب علیه ، و العقلاء یرون ذلک بلا کلام ، و إنْ لم یقع الفعل علی ما عزم علیه .

و أمّا نقلاً ، فالأخبار الواردة فی الموضوع کثیرة ، و بعضها معتبر سنداً :

کالخبر عن علی بن إبراهیم ، عن أبیه ، عن ابن أبی عمیر ، عن جمیل ، عن ابن بکیر ، عن أحدهما علیهما السلام قال :

« إنّ اللّٰه تعالی قال لآدم : یا آدم جعلت لک أنّ من همّ من ذریّتک بسیّئةٍ لم تکتب علیه ، فإنْ عملها کتبت علیه سیّئة . و من همّ منهم بحسنةٍ ، فإنْ لم یعملها کتبت له حسنة ، و إنْ هو عملها کتبت له عشراً » (1) .

و فی روایةٍ اخری :

« إنما خُلّد أهل النار فی النار ، لأنّ نیّاتهم کانت فی الدنیا أنْ لو خُلّدوا فیها أن یعصوا اللّٰه أبداً .

و إنّما خُلّد أهل الجنّة فی الجنّة ، لأنّ نیّاتهم کانت فی الدنیا أنْ لو بقوا فیها أن یطیعوا اللّٰه أبداً .

فبالنیّات خلّد هؤلاء و هؤلاء ... » (2) .

هذا کلّه فی المقتضی لاستحقاق العقاب ، و هل من مانع ؟

أمّا عقلاً ، فسیأتی .

و أما نقلاً ، فما فی النصوص ، ممّا یدلّ علی عدم الاستحقاق ، ففی الخبر

ص:82


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 51 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، رقم : 8 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 50 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، رقم : 4 .

عن الإمام أبی عبد الله علیه السلام قال :

« لو کانت النیّات من أهل الفسق یؤخذ بها أهلها ، إذاً ، لأخذ کلّ من نوی الزنا بالزنا ، و کلّ من نوی السّرقة بالسرقة ، و کلّ من نوی القتل بالقتل ، و لکنّ اللّٰه عدلٌ کریم لیس الجور من شأنه ، و لکنه یثیب علی نیّات الخیر أهلها و إضمارهم علیها ، و لا یؤاخذ أهل الفسق حتی یفعلوا » (1) .

یفید هذا الخبر أنّ المؤاخذة علی النیّات ینافی العدل ، إذن ، لیس هناک استحقاق حتّی یکون العفو ... .

لکنّ قوله علیه السلام : « لکنه یثیب ... » و إنْ دلّ علی التفضّل - إذ لا حقّ لأحدٍ علی اللّٰه - فیه دلالة علی أن للنیّة أثراً . و کذلک الحال فی طرف نیّة أهل الفسق ، فله أثر و هو استحقاق العقاب ، إلّا أنهم لا یؤاخذون حتی یفعلوا ... .

فکان أثر نیّة الخیر استحقاق التفضّل بالثواب من اللّٰه ، و أثر نیّة أهل الفسق هو المؤاخذة ، لکنهم یعفون حتی یفعلوا .

فتقع المعارضة فی الروایة صدراً و ذیلاً ، فهی حینئذٍ مجملة لا تصلح لمعارضة الأخبار السّابقة .

علی أنّ سنده لا یخلو عن کلامٍ ، فهو فی قرب الإسناد عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة ... و فی مسعدة کلام للعلّامة فی الخلاصة ، إذ أورده فی القسم الثانی ، و هم من لا یعتمد علیهم ، قال : قال الشیخ رحمه اللّٰه : إنه عامی .

و قال الکشی : إنه بتری (2) .

ص:83


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 55 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، رقم : 21 .
2- 2) رجال العلّامة الحلی : 260 .

إلّا أنه قد تقرّر فی محلّه أنّ العمدة هی وثاقة الرّاوی و إن کان علی مذهب باطل .

و ذهب الوحید البهبهانی (1) إلی الأخذ بروایاته ، لکونها موافقةً لروایات الثقات .

و هذا غایة ما یفیده هو الظن بالوثاقة ، و هو لا یغنی من الحق شیئاً .

و ذهب السید الخوئی (2) إلی وثاقته ، لکونه من رجال تفسیر علی بن إبراهیم و کتاب کامل الزیارات .

علی أنّ هذا الخبر شاذ بالنسبة إلی الأخبار المتقدّمة ، و قد قال علیه السّلام :

« خذ بما اشتهر بین أصحابک ودع الشاذ النادر » (3) ، فمقتضی القاعدة هو الأخذ بتلک الأخبار و ترک هذا الخبر ... .

و هذا تمام الکلام فی الدعوی الاولی .

الدعوی الثانیة :

الاستحقاق علی الفعل

فنقول :

إنه و إن لم یترتب المفسدة علی الفعل خارجاً فلم یکن لما قصده واقعیّة ، و الذی وقع لم یکن مقصوداً له ، إلّا أنه یتعنون بعنوان التمرّد و الخروج علی المولی و الإهانة له ، فیتمّ المقتضی لاستحقاق العقاب ، و یقع الکلام فی المانع عنه .

ص:84


1- 1) انظر : تنقیح المقال فی علم الرجال 3 / 212 .
2- 2) معجم رجال الحدیث 19 / 151 .
3- 3) مستدرک الوسائل 17 / 303 .
الإشکال بعدم اختیاریة الفعل

و أمّا المانع ، فوجوه :

الأول : إن هذا الفعل لم یصدر عن اختیار ، و کلّ فعل غیر اختیاری فلیس بموضوع لاستحقاق العقاب . قاله صاحب الکفایة (1) .

و الجواب :

أمّا نقضاً ، فقد التزم هو استحقاق العقاب علی العزم ، و فی العزم علی المعصیة تجریاً ، قد وقع ما لم یقصد و ما قصد لم یقع ، فما هو جوابه فی مرحلة العزم یکون جوابنا فی مرحلة الفعل .

و أمّا حلّاً ، فقد ذکر هو رحمه اللّٰه لاختیاریة العزم أنه مسبوق بالتصوّر و التصدیق ، و کلّ فعل کان کذلک فهو اختیاری ، و لا فرق فیه بین العزم و الفعل الخارجی . فالإشکال مندفع .

الإشکال بعدم کونه ملتفتاً إلیه

الثانی : إن عنوان « مقطوع الخمریّة » و« مقطوع الحرمة » غیر ملتفت إلیه ، و کلّ ما یکون غیر ملتفت إلیه فهو غیر اختیاری ، و کلّ فعل غیر اختیاری فلا یستحق علیه العقاب .

و الجواب :

لیس العنوان المستحقّ علیه العقاب هو المقطوع الخمریّة أو الحرمة ، بل هو « الهتک » ، و فی التجری هذا العنوان متحقّق و ملتفت إلیه لدی ارتکاب الفعل و إن لم یکن خمراً .

ص:85


1- 1) کفایة الاصول : 260 .

و قال السیّد الصدر :

الالتفات المرآتی الآلی إلی القطع کاف فی الاختیار ، لأن المقصود من الالتفات ما یقابل الغفلة المطلقة التی لا تنافی السلطنة و الاختیار ، لا خصوص الالتفات التفصیلی (1) .

الإشکال بلزوم تعدّد العقاب

الثالث : استلزام القول باستحقاق العقاب علی الفعل لتعدّد العقاب ، لأنّ المفروض استحقاقه علی العزم أیضاً ، و تعدّد العقاب باطل .

أجیب عنه بوجوه :

جواب المحقق العراقی

فقال المحقق العراقی (2) :

إنّ العمل الخارجی استمرار لنفس ذاک الطّغیان ، فلا تعدّد لموجب العقاب حتی یتعدّد .

و أیضاً :

فإن ملاک استحقاق الثواب و العقاب أمر ، و ملاک وحدة العقوبة و تعدّدها أمر آخر ، بجعل مناط أصل الاستحقاق عنوان التسلیم و الطغیان علی المولی المتحقّق و لو بالإقدام علی المقدّمة ، لا نفس العصیان و تفویت الغرض الأصلی ، و مناط وحدة العقوبة و تعدّدها وحدة الغرض الفائت و تعدّده ، و لازم ذلک عدم استحقاقه بتفویت غرض أصلی واحد ، إلّا عقوبة واحدة و لو مع مخالفته لواجبات

ص:86


1- 1) بحوث فی علم الاصول 4 / 51 .
2- 2) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 36 .

غیریّة متعددة . فتدبّر .

ففی کلامه جوابان عن الإشکال .

لکن یرد علی الأوّل : إن هنا وجودین من مقولتین ، کلّ واحدٍ منهما من صقعٍ و عالمٍ مستقلّ عن الآخر ، و یستحیل استمرار الوجود فی نشأتین ، لأن العزم من الکیفیّات النفسانیّة ، و العمل الخارجی کیف خارجی محسوس أو مقولة اخری ، و اتّحادهما محال ، فلا استمرار ، و أمّا أنْ ینطبق علی کلیهما عنوان « الطغیان » انتزاعاً منهما ، فذاک أمر آخر ، لأن الملاک فی التعدّد هو المعنون .

و مما ذکرنا یظهر الإشکال فی الجواب الثانی ، لأنّ موضوع حکم العقل بالاستحقاق هو الطغیان ، فإذا تعدّد تعدّد الحکم ، و قد عرفت أن العزم مصداق للطغیان و الفعل مصداق آخر . و بالجملة ، فإنّ موضوع حکم العقل بالاستحقاق هو الطغیان لا الغرض ، و إذا تعدد الموضوع تعدّد الحکم کما هو واضح .

جواب صاحب الکفایة

و قال فی الکفایة :

لا یذهب علیک إنه لیس فی المعصیة الحقیقیّة إلّا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة و هو هتک واحد ، فلا وجه لاستحقاق عقابین متداخلین کما توهّم ، مع ضرورة أن المعصیة الواحدة لا توجب إلّا عقوبة واحدة . کما لا وجه لتداخلهما علی تقدیر استحقاقهما کما لا یخفی ، و لا منشأ لتوهّمه إلّا بداهة أنه لیس فی معصیة واحدة إلّا عقوبة واحدة ، مع الغفلة عن أنّ وحدة المسبب تکشف بنحو الإن عن وحدة السبب (1) .

ص:87


1- 1) کفایة الاصول : 262 - 263 .

و قال فی تعلیقة الفرائد :

إنما یکون تعدّد العقوبة أو المثوبة استحقاقاً بتعدد إظهار الطغیان و الکفران ، أو الموافقة و الطّاعة ، و وحدتها بوحدته ، و لیس فی کلّ واحدٍ من المعصیة و التجرّی بمجرد القصد أو مع العمل أو الإطاعة و الانقیاد کذلک ، إلّا إظهار واحد ، فالإنسان من أوّل ما صار بصدد طاعة أو معصیة ، إلی أنْ فرغ منها أو یرجع بفسخ عزمه مطلقاً ، فلم یظهر الانقیاد له تعالی أو التجرّی علیه تعالی ، إلّا إظهاراً واحداً و إنْ اختلف ما به الإظهار فیهما طولاً و قصراً ، کما هو الشأن أیضاً فی أفراد ما أمر به أو نهی عنه إذا اختلفت کذلک ، فلا یکون الطول فیهما بموجب لتعدّد الطویل منها و لو کان بمقدار أفراد کثیرة قصیرة ، فلا یکون شرب القدح من الخمر إذا کان فی مجلس واحد بحیث یعدّ شرباً واحداً إلّا کشرب جرعةٍ منها .

و بالجملة ، ملاک العقوبة و المثوبة عن استحقاق هو : إظهار المخالفة و الشقاق و إظهار الانقیاد له و الوفاق ، و هو فی کلّ واحدٍ من المعصیة و الإطاعة و التجرّی و الانقیاد بأنحائهما واحد . و لا ینافی ذلک تفاوت مقدار المثوبة و العقوبة فی المعاصی و الطّاعات ، و کذا فی أنحاء التجرّی و الانقیاد ، فإنه بحسب تفاوت ما قصده فی الصغر و العظم (1) .

أقول :

لا یخفی أنّ هذا البحث عقلی ، و أنه عن استحقاق العقاب علی الفعل المتجرّیٰ به و عدم استحقاقه عقلاً ، أمّا نفس العقاب فهو واحد بالضرورة ... .

و ما ذکره المحقق الخراسانی ففیه نظر ، لأنّ ما نحن فیه یفترق عمّا ذکره من

ص:88


1- 1) درر الفوائد فی الحاشیة علی الفرائد : 39 - 40 .

الطول و القصر ، و هو کلام صحیح ، ففی مثل الخط الواحد ، لا یضرّ بوحدته طوله و قصره ، لکن فیما نحن فیه عزمٌ علی المعصیة ثمّ فعلٌ خارجی ، فهو و إنْ کان صادراً عن العزم إلّا أنه غیر العزم ، فإنه مقدّمة و الفعل ذو المقدّمة . و بعبارة اخری :

لیس الفعل الخارجی استمراراً للعزم ، بخلاف الخطّ الطویل فإنه استمرار للقصیر ، فالقیاس مع الفارق . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ العزم من الامور النفسانیّة ، و لا یعقل الاتّحاد بین النفسانیّات و الخارجیّات .

فإن قلت : المناط هو الوحدة العرفیّة .

قلنا : لا اتّحاد عند العرف بین المقدّمة وذی المقدّمة . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ الرجوع إلی الفهم العرفی فی أمثال المقام لا وجه له ، إذ البحث - کما ذکرنا - عقلی ، و موضوع حکم العقل بالقبح و استحقاق العقاب هو الطغیان علی المولی ، فإذا تعدّد تعدّد حکمه ، و لا دخل للعرف فی ذلک .

هذا کلّه عقلاً .

و أمّا شرعاً ، فظاهر النصوص - کصحیحة جمیل المتقدّمة - هو استحقاق العذاب المتعدّد ، و إلّا لما کان للامتنان بالعفو معنیً .

و تلخّص :

إن الحق استحقاق العقاب علی العزم و الفعل معاً ، و العقل لا یری مانعاً عن ذلک .

نعم ، لا تعدّد فی السّیرة العقلائیّة ، لکنّ السرّ فی عدم التعدّد هنا شیء آخر ، و هو : إن المناط فی استحقاق العقاب فی بناء العقلاء هو تفویت غرض المولی ،

ص:89

فإذا کان الغرض المترتب علی المقدّمة و ذیها واحداً استحق العقاب الواحد ، و إن کانت المقدمة و ذیها من مقولتین . فتدبّر .

مشکلة اجتماع العصیان و الانقیاد

بقی الکلام فی مشکلة اجتماع الحسن و القبح ، و الحبّ و البغض ، و الإطاعة و العصیان ، فی بعض موارد التجرّی ، فلو ارتکب عملاً بعنوان التجرّی و انکشف کونه محبوباً عند المولی ، فإنه من حیث التجرّی قبیح و مبغوض ، و من حیث الواقع حسن و محبوب ، فکیف الحلّ ؟

و هذا من وجوه الإشکال علی القول باستحقاق العقاب علی الفعل المتجرّی به .

أمّا بناءً علی القول بعدم قبح الفعل المتجرّی به ، فلا إشکال .

و الإشکال فی المقام من جهتین :

إحداهما : اجتماع الحسن و القبح فی الشیء الواحد .

و الآخر : اجتماع المحبوبیة و المبغوضیة بالنسبة إلی الشیء الواحد .

و لکنه یرتفع من الجهة الاولی ، بأنّ الحکم العقلی بالحسن و القبح منوط بالالتفات إلی الموضوع ، و حیث أنّ المتجرّی بالمعصیة قاصدٌ للإتیان بالعمل المبغوض ، فهو فی تلک الحالة غیر ملتفت إلی محبوبیّة العمل ، فلا حسن لعمله المأتی به أصلاً ، حتی یلزم الاجتماع .

و هذا الجواب من الشیخ ، ذکره فی ذیل کلام الفصول (1) .

إنما الإشکال فی اجتماع الحبّ و البغض ، المحبوبیّة و المبغوضیّة ، کأنْ

ص:90


1- 1) فرائد الاصول 1 / 45 .

یُقدم علی قتل شخص علی أنه صدیق المولی فینکشف کونه عدوّاً له .

بیان المحقّق العراقی

و قد أتعب المحقق العراقی نفسه فی حلّ الإشکال ، و محصّل کلامه (1) هو :

إنَّ ما یتعلّق به الصفات النفسانیة هو الصّور الذهنیّة و لیس الخارج . فهذه هی المقدّمة الاولی .

و المقدّمة الثانیة : إن الصّور متباینة ، و لا یعقل الاتحاد فی الصور الذهنیة .

و المقدّمة الثالثة : هی التضادّ بین الحبّ و البغض ، و من المعلوم أنه یعتبر فی اجتماع الضدین وحدة الموضوع ، و وحدة المرتبة بین الضدّین ، فمع تعدّد الموضوع أو اختلاف المرتبة لا یلزم الاجتماع .

و المقدّمة الرابعة : إن متعلّق الحکم هو الصّورة قبل الإرادة و المعصیة ، فمرتبة الصّلاة - و هی متعلّق الوجوب - متقدّمة علی مرتبة إرادة المکلّف لها ...

و یشهد بذلک تخلّل الفاء ، فنقول : کانت الصّلاة واجبةً علیّ فأردت الإطاعة .

و بعد ، فإنّ التجرّی و الانقیاد عنوانان منتزعان من إرادة المکلّف للعمل بعنوان المبغوضیّة أو المحبوبیّة للمولی ، فالتجرّی متأخّر عن مبغوضیّة قتل الصدّیق و عن محبوبیّة قتل العدو ، لکنّ متعلّق الحبّ هو الصّورة ، کما أن متعلّق البغض هو الصّورة ، و الصور متباینة لا یعقل الاتحاد فیها ، فلا یلزم اجتماع المحبوبیّة و المبغوضیّة ، و لا الحبّ و البغض .

الإشکال علیه

و أورد علیه الاستاذ بعد التسلیم بأنّ المتعلّق هو الصّورة ، و أن الصّور

ص:91


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 35 .

متباینة ، لکن الصّورة فانیة فی الخارج - حسب تعبیر القوم - أو مرئیّة خارجاً - حسب تعبیره هو - فکان متعلّق الحبّ و البغض ما یراه الإنسان موجوداً فی الخارج و إنْ لم یکن موجوداً فیه حقیقةً ، و حینئذٍ یعود الإشکال ، لأنّ هذا الفعل الواحد المرئی خارجاً ، قد أصبح مجمعاً للعنوانین ، لکونه مصداقاً لقتل الصدیق و لقتل العدو ، فاجتمعت المحبوبیّة و المبغوضیّة فیه ، کما اجتمع الحبّ و البغض فی نفس المولی لهذا الفعل ... فیلزم اجتماع الضدّین .

بل یلزم اجتماع النقیضین ، لأن قتل العدوّ ذو مصلحة ملزمة ، فهو واجب ، و المولی یرید تحقّقه ، لکنّ العمل الصادر من المکلّف مصداق لهتک المولی ، و هو یرید عدمه ، فاجتمع إرادة الوجود و العدم فی الشیء الواحد .

لا یقال : یرتفع الإشکال بتعدّد الحیثیّة ، کما فی باب اجتماع الأمر و النهی بناءً علی الجواز .

للفرق بین المسألتین ، لأنّ تعدّد الحیثیّة هناک أفاد تعدّد الوجود ، فکان وجود الصّلاة غیر وجود الغصب مثلاً ، أمّا هنا ، فإنّ القتل الواحد اجتمع فیه العنوانان ، فهو هو مبغوض و محبوب ، و هو بنفسه مجمع المحبوبیّة و المبغوضیّة .

حلّ الإشکال

لکنّ الإشکال ینحلُّ من جهة الفرق بین المولی العرفی و المولی الحقیقی ، و توضیح ذلک هو :

إنّ الحبّ و البغض لدی المولی العرفی ینشآن من الدّواعی النفسانیّة ، فلذا یلزم اجتماعهما لمّا رأی أنّ المقتول هو عدوّه ، إذ یسرّه ما وقع و إنْ کان العبد متجرّیاً علیه ، و لیس الأمر کذلک فی المولی الحقیقی ، فإنّ الحبّ و البغض تابعان للحسن و القبح الواقعیین ، فإنْ کان الفعل حسناً واقعاً استتبع الحبّ ، و إنْ کان

ص:92

مبغوضاً استتبع البغض ، بناءً علی أن الحسن و القبح أمران ذاتیّان ، و لیسا من القضایا المشهورة التی تطابقت علیها آراء العقلاء حفظاً للنظام . هذا من جهة .

و من جهة اخری : فإنّ القضایا العقلیّة إنْ کانت نظریة ، فکلّها ترجع إلی استحالة اجتماع النقیضین و ارتفاعهما ، و کلّ ما بالعرض ینتهی إلی ما بالذات ، و إن کانت عملیّةً ، فکلّها ترجع إلی حسن العدل و قبح الظلم .

و من جهةٍ ثالثة : إن تأثیر المصلحة للحسن و المفسدة للقبح ، إنّما هو علی وجه الاقتضاء لا العلیّة التامة ، فلا یقدّم أحدهما علی الآخر لدی التزاحم ، نظیر باب الصّدق و الکذب ، فإنّ الصّدق حسن لوجود المصلحة فیه ، و لکنْ یتقدّم علیه الکذب إن کانت مصلحته أهم أو ترتبت المفسدة علی الصّدق .

و إذا تبیّن هذه الامور ، فکلّ حسن أو قبیح ینشأ من المصلحة أو المفسدة ، فیکون محبوباً عند المولی الحقیقی أو مبغوضاً ، لا بدّ و أنْ ینتهی إلی ما بالذات و هو العدل و الظلم ، و ما لم ینقلب عنوان العدل إلی الظلم أو بالعکس ، لا ینقلب عن کونه محبوباً أو مبغوضاً .

و التجرّی إنْ خرج عن کونه ظلماً فهو ، و إلّا فإنّه لا یترتب علیه مصلحةٌ توجب له المحبوبیّة أصلاً ، لأنّ دخل الظلم فی قبح الفعل و العدل فی حسنه ، لیس بنحو الاقتضاء بل هو العلیّة التامّة .

فظهر أن ما دام التجرّی ظلماً علی المولی یستحیل اتّصافه بالمحبوبیّة و إنْ اشتمل علی مصلحةٍ ، إذ المصلحة تلک یستحیل أن تقلب العمل و تخرجه عن المبغوضیّة ... و کذا الحال فیما لو کان الفعل انقیاداً للمولی ، فإنه فی الحقیقة عدلٌ ، و کلّما یکون عدلاً یستحیل أن ینقلب عمّا هو علیه فیکون ظلماً .

و تلخّص : عدم لزوم اجتماع الضدّین أصلاً .

ص:93

حکم التجرّی شرعاً

اشارة

و بعد الفراغ عن البحث عن حکم العقل ، تصل النوبة إلی حکم الشّرع ، فهل هناک من دلیلٍ علی حرمة الفعل المتجرّی به فیستحقّ مرتکبه العقاب شرعاً ، أوْ لا دلیل علی ذلک ؟

قد نسب إلی المشهور القول بالحرمة ، و استدلّ لذلک بوجهین :

الاستدلال بالإطلاقات علی الحرمة

الوجه الأول : إطلاقات أدلّة الحرمة ، فدلیل حرمة شرب الخمر مثلاً یعمّ بإطلاقه صورة التجرّی .

و یتوقف تمامیّة هذا الوجه علی بیان امور :

الأول : إنّ الأوامر و النواهی المولویّة إنما هی بداعی جعل الداعی و التأثیر فی إرادة العبد نحو الانبعاث أو الانزجار .

الثانی : إنّ الواقع بما هو واقع لا یقبل الانبعاث إلیه و الانزجار عنه إلّا بوجوده الإدراکی ، و الإنسان إنما یتحرّک بدافع الصّورة النفسیّة للشیء لا وجوده الواقعی ، و لو لم تتحقق تلک الصّورة فلا تحرّک و لا انزجار من الإنسان . و لا یخفی عدم انحصار ذلک بالعلم ، بل اللّازم وجود الصّورة سواء کانت علمیّة أو ظنیّة أو احتمالیة ، لأنّ المحرّک أو الزاجر هو درک الواقع أعم من أن یکون علمیّاً أو ظنیّاً أو احتمالیّاً ... .

ص:94

الثالث : إنّ مطابقة هذه الصّورة و مخالفتها للواقع خارجة عن اختیار الإنسان ، فقد تکون مطابقة و قد لا تکون ، و لا اختیار للإنسان فی ذلک .

و بالنظر إلی هذه الامور ... .

فإنّ متعلّق التکلیف القابل للانبعاث و الانزجار هو ما احرز أنه خمر ، لما تقدّم من أن المؤثر فی الإرادة هو الإحراز ، فکان متعلّق التکلیف هو ما احرز ، و هو مطابق للواقع تارة و اخری غیر مطابق له ، و قد تقدّم أن المطابقة و المخالفة لیسا باختیاریین للمکلّف ، فکان موضوع الحرمة : ما احرز أنه شرب للخمر ، فهذا هو الموضوع ، و لا دخل فیه للواقع و لا المطابقة للواقع ، بل هو الموضوع للحکم بالحرمة سواء طابقه أو خالفه .

فالفعل الصادر من المکلّف حرام و إنْ لم یکن شرب الخمر فی الواقع .

الجواب عن الاستدلال المذکور

و قد أورد المحققون علی هذا الاستدلال وجوهاً من الإشکال :

أولاً : إنّ إحراز الواقع و تحقّق الصّورة الإدراکیّة منه فی الذهن ، إنما یؤثّر فی مرحلة فاعلیّة الحکم و محرکیّته للمکلّف ، لا فی مرحلة فعلیّة الحکم و وجوده حتی یکون أعم من المطابق و المخالف ، و قد وقع الخلط فی الاستدلال بین شرط وجود المقتضی و شرط تأثیره فی الإرادة ، و الإحراز شرط تأثیره لا وجوده .

و ثانیاً : إنّ الأحکام الشرعیّة معلولة للمصالح و المفاسد ، فلو جُعل الإحراز موضوعاً للحکم الشرعی لزم انتفاء الحکم حیث لا إحراز ، فیلزم تخلّفه عن المصلحة و المفسدة . و کذا لو کان إحرازٌ بلا واقع ، کما لو أحرزت الخمریّة و لا خمر واقعاً ، فإنّه یلزم تحقّق الحکم بالحرمة بلا مفسدة ... و الحال أنّ الأحکام

ص:95

تابعة للمصالح و المفاسد مطلقاً .

و ثالثاً : لو سلّمنا أن للإحراز دخلاً فی الحکم ، فإنّ متعلّق الحکم هو الواقع المحرز لا إحراز الواقع و إنْ لم یکن الواقع ، و الحال أنه فی مورد التجرّی لا یوجد الواقع ، لأن المرتکب هو الماء و لیس خمراً ، و إطلاق أدلّة حرمة شرب الخمر یقتضی ترتّب الحکم حیث یکون المرتکب خمراً .

و رابعاً إنّ هذا الدلیل منتقض بالواجبات ، فلو أحرز وجوب شیء و أتی به بقصد الوجوب هل یکون واجباً ؟ و هل یکون الإتیان به مجزیاً و إنْ انکشف الخلاف ؟ هذا لا یقول به أحدٌ ... فظهر أنّ موضوع الأدلّة الشرعیة لیس إحراز الواقع .

و خامساً لو کان الموضوع هو الإحراز ، لزم أنْ یکون المتجرّی عاصیاً ، لأنه قد ارتکب الحرام و هو ما احرز کونه خمراً ، و الحال أنّ التجرّی غیر العصیان .

الاستدلال للحرمة بقاعدة الملازمة

الوجه الثانی : قاعدة الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع .

أمّا حکم العقل بقبح التجری بأنْ یکون مستتبعاً لاستحقاق العقاب ، فقد قال الشیخ (1) :

إنه قد یقرّر دلالة العقل علی ذلک ، بأنا إذا فرضنا شخصین قاطعین ، بأنْ قطع أحدهما بکون مائع معیّن خمراً ، و قطع الآخر بکون مائع آخر خمراً ، فشرباهما ، فاتفق مصادفة أحدهما للواقع و مخالفة الآخر ، فإمّا أنْ یستحقّا

ص:96


1- 1) فرائد الاصول 1 / 38 .

العقاب ، أوْ لا یستحقه أحدهما ، أو یستحقّه من صادف قطعه الواقع دون الآخر ، أو بالعکس .

لا سبیل إلی الثانی و الرابع ، و الثالث مستلزم لإناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختیار ، و هو مناف لما یقتضیه العدل . فتعیّن الأول .

و أمّا حکم الشرع ، فبقاعدة : کلّ ما حکم به العقل حکم به الشّرع .

فإذا ثبت قبح التجری - قبحاً مستتبعاً لاستحقاق العقاب - کان ملازماً للحرمة و یترتّب العقاب .

لکن لا یخفی أنّ العقاب إنما یترتّب علی « هتک المولی » ، هذا العنوان الجامع بین التجرّی و العصیان ، لا علی العصیان ، لأنا لو قلنا بحرمة المعصیة حرمةً شرعیّة ، لزم التسلسل ، لأنّ المعصیة محرّمة ، و ارتکاب الحرام معصیة اخری و هکذا .

و أیضاً : فإن المعصیة عبارة عن مخالفة الحکم الواقعی ، و هی خارجة عن الاختیار ، و ما کان کذلک فلا یکون موضوعاً للقبح و استحقاق العقاب ... .

فالموضوع هو الهتک و الخروج عن زیّ العبودیّة ، و هو عنوان جامع بین المعصیة و التجرّی .

هذا محصّل ما قیل فی وجه الاستدلال .

لکنْ یرد علی ما ذکر قبل الإشکال فی الاستدلال بقاعدة الملازمة :

أنه لا ریب فی أنّ متعلّق الحرمة هو مطلق الوجود ، فإذا قال : یحرم الخمر ، توجّهت الحرمة إلی جمیع أفراد الخمر و انحلّت الحرمة بعددها ، - بخلاف الوجوب ، فإن متعلّقه صرف الوجود ، و یحصل الامتثال بتحقق فردٍ ما من أفراد

ص:97

الواجب - فلو کان متعلّق القبح و الحرمة هو العنوان الجامع بین التجری و المعصیة ، کانت المعصیة - لا محالة - مصداقاً للجامع کالتجری ، و توجّهت الحرمة إلیها ، لأنّ الحرمة تسری من الجامع إلی الحصّة کما لا یخفی ، و إلّا لزم عدم انحلال الحرمة ، و حینئذٍ ، یأتی إشکال التسلسل .

و أمّا الکلام فی أصل الاستدلال ، فقد عرفت أنه یتکون من مقدّمتین :

احداهما : قبح التجری .

و الاخری : انطباق قاعدة الملازمة .

الإشکال علی المقدمة الاولی

أمّا المقدّمة الاولی ، فقد یقال (1) بأنّ التجرّی إنما یکون قبیحاً لو صدر عن استخفافٍ بالمولی و أحکامه ، أمّا المخالفة للأحکام بالدواعی النفسانیة - کما هو حال کثیر من الفسّاق - فلا یصدق علیها عنوان التجری .

و فیه :

أوّلاً : إنّ الالتزام بعدم قبح ما صدر عن الدواعی النفسانیّة لا بقصد هتک المولی و الاستخفاف به ، غیر ممکن .

و ثانیاً : إنه مخالف لظواهر الأدلّة و ما ورد فی الأدعیة .

و ثالثاً : إنه ینافی ظاهر قوله تعالی «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ ... » (2)فإنّه دالٌّ علی أن کلّ مخالفة ظلم ، سواء کانت بقصد إهانة المولی أوْ لا .

و أمّا المقدمة الثانیة ،

فقد اشکل علیها بوجوه :

ص:98


1- 1) درر الاصول (1 - 2) 337 .
2- 2) سورة الأنبیاء : 87 .
الاشکال الأول علی المقدمة الثانیة
اشارة

إن الغرض من جعل الحکم التحریمی الشرعی هو ارتداع العبد ، و لمّا کان هذا الغرض حاصلاً بحکم العقل باستحقاق العقاب علی التجری ، کان جعل الحکم الشّرعی فی مورده لغواً . قاله المحقق العراقی (1) .

الجواب عنه بوجوه

لکنّ هذا الاشکال إنما یتمّ علی القول بأنّ العقاب یترتب علی مخالفة الحکم العقلی . و أمّا علی القول بأن العقاب یدور مدار الحکم الشرعی و لا أثر لحکم العقل باستحقاق العقاب فی المقام بل لا بدّ من الحکم الشرعی ، فلا یتم الاشکال . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن ما ذکر إنما یتم لو کان جعل الحکم الشرعی لبیان استحقاق العقاب علی المخالفة ، بل إنّ من الناس من لا ینبعث إلّا ببعث المولی و لا ینزجر إلّا بزجره ، و جعل الحرمة لمثل هؤلاء مفیدٌ ، و بذلک یخرج الجعل عن اللّغویة .

و ثالثاً : إنه یکفی للخروج عن اللّغویة استناد ترک التجرّی إلی نهی المولی .

الإشکال الثانی
اشارة

إن القاعدة إنما تجری فی الأحکام الإلزامیة ، لأنّ الأحکام تابعة للمصالح و المفاسد ، و من کلّ حکمٍ الزامی نستکشف المصلحة أو المفسدة اللّزومیّة . و فی موارد التجرّی لا تقع مفسدةٌ و لم یتبدّل حکم من الأحکام الشرعیّة ، فلا تجری القاعدة فیها . (2)

ص:99


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 37 .
2- 2) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 37 .
الجواب عنه :

إنّ الأحکام الشرعیة ألطاف فی الواجبات العقلیّة ، فجعلها فی موارد الأحکام العقلیّة لطف من اللّٰه سبحانه ، فهو یجعل الحکم الشرعی حتی یتقرّب العبد إلیه و ینقاد ، و إنْ لم یکن للحکم ملاک .

الإشکال الثالث
اشارة

إنه یستحیل أنْ یکون هذا القبح فی المقام مستتبعاً للحکم الشرعی ، و ذلک :

لأنّ القبح الذی یتوهّم استتباعه للحکم الشرعی :

لو کان خصوص القبح الثابت لعنوان التجرّی ، أی مخالفة القطع المخالف للواقع بهذا العنوان . ففیه :

أوّلاً : إنه لا وجه لهذا الاختصاص ، لما عرفت من أنّ حکم العقل بالقبح بالقیاس إلی صورة مصادفة القطع للواقع و مخالفته یکون علی حدّ سواء ، و ملاکه - و هو الهتک و الجرأة علی المولی - یکون موجوداً فی کلتا الصورتین .

و ثانیاً : لازم هذا أن یکون المحرّم مخالفة القطع بعنوان کونه مخالفاً للواقع ، و هذا الحکم غیر قابل للمحرکیّة أصلاً ، لأن من مبادئ قدرة المکلّف علی الامتثال المعتبرة عندهم فی صحة التکلیف ، هو الالتفات إلی الموضوع ، و الالتفات إلی هذا العنوان یکون مساوقاً لزواله ، نظیر الالتفات إلی النسیان ، فکما لا یمکن تکلیف الناسی بهذا العنوان ، کذلک لا یمکن تکلیف القاطع بعنوان مخالفة قطعه للواقع ، فعلی مسلک المشهور لا یصح هذا التکلیف .

و أمّا لو کان القبح المستتبع للحکم المولوی الشرعی القبح الجامع الثابت فی التجری و المعصیة الواقعیة ، فلازمه التسلسل و أن یکون هناک أحکام غیر

ص:100

متناهیة و عصیانات غیر متناهیة و عقوبات غیر متناهیة ، و ذلک .

لأن العصیان لو کان حراماً شرعاً فحرمته أیضاً حکم شرعی فعصیانها أیضاً قبیح ، فلا بدّ و أن یکون حراماً ، و هکذا إلی ما لا نهایة له ، و التجری قبیح فلا بدّ و أن یکون حراماً ، فعصیانه أیضاً کذلک و هکذا إلی أن یتسلسل ، و من البدیهی أنا إذا راجعنا وجداننا لا نری فی أنفسنا إرادات أو کراهات عدیدة فی البعث نحو شیء واحد أو الزجر عنه .

هذا مضافاً إلی أنه لا یبعد أن یکون ذلک مستلزماً لعدم الفرق بین المعاصی من حیث العقوبة ، فإنها فی جمیعها غیر متناهیة علی الفرض . (1)

الجواب

و هذا الإشکال إنما یتمّ فی صورة القطع ، کما لو قطع بأنّ المائع خمر ، و أنّ الشارع قد حرّم الخمر ، و فی صورة قیام الحجة ، کما لو قامت البیّنة علی أنه خمرٌ و مع ذلک أقدم علی الشّرب ، ففی هاتین الصّورتین قد قام الطریق عنده علی الحرمة الشرعیّة ، و یکون جعل الحرمة له مع ذلک لغواً ، لعدم تأثیره فی نفس المکلّف مع وجود قیام الدلیل عنده .

أمّا حیث لا قطع و لا حجة شرعیّة ، و إنما کان یحتمل کون المائع خمراً فیحتمل الحرمة ، فإنّ جعل الحرمة له حینئذٍ یکون مؤثّراً بلا ریب و لا تلزم اللّغویة .

لا یقال : إنّ الاحتمال الموجود عنده منجّز ، فیستحق العقاب .

ص:101


1- 1) دراسات فی علم الاصول 3 / 33 .

لأن استحقاقه العقاب حینئذٍ حکم عقلی ، و الکلام فی ثبوت الحکم الشرعی .

و علی الجملة ، فإنّ هذا الإشکال أخصّ من المدّعی .

و أمّا الإشکال بلزوم التسلسل ، و الذی جاء فی التقریر الآخر أیضاً حیث قال :

و إن کان القبح للأعم من التجرّی و المعصیة ، أی عنوان الهتک الجامع بینهما . ففیه : إن جعل الحکم الشرعی مستلزم للتسلسل ، لأن التجرّی أو العصیان قبیح عقلاً علی الفرض ، و القبح یستتبع الحرمة الشرعیّة ، و عصیان هذه الحرمة أو التجرّی فیها قبیح عقلاً أیضاً ، و القبح العقلی مستلزم للحرمة الشرعیّة کذلک ، و هکذا إلی ما لا نهایة له (1) .

فقد أجاب شیخنا عنه - فی الدّورتین - بأنّ الأساس فی بطلان التسلسل وجود المعالیل بلا انتهاء إلی علّةٍ موجبة ، و أمّا مع وجود العلّة ، فلا محذور فی تعاقب المعالیل . و فیما نحن فیه : العلّة للحکم هو اعتبار الشارع ، و معه فلا محذور فی المعالیل . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ مورد الکلام هو الحکم الشرعی ، و الحکم أمر اعتباری ، و التسلسل فی الاعتباریات ینقطع بانقطاع الاعتبار .

و قال السیّد الصّدر : استحالة التسلسل إنما هو فی الوجودات الخارجیّة لا الاعتباریّة ، فلتکنْ هناک مجعولات عدیدة متسلسلة بعدد الالتفات إلی العناوین

ص:102


1- 1) مصباح الاصول : 26 / 27 .

الثانویّة المترتبة و التی یعتبرها العقل قبیحة کلّما توجّه و التفت إلیها (1) .

إلّا أنّ التسلسل فیما نحن فیه محال من جهةٍ اخری و هی : إنّ جعل الحکم إنما یکون بداعی جعل الداعی للانبعاث أو الانزجار ، و لکن الانبعاث أو الانزجار اللّامتناهی محال ، فجعل الأحکام غیر المتناهیة محال .

الإشکال الرابع
اشارة

إن جعل الحرمة الشرعیّة هنا یستلزم اجتماع المثلین فی نظر القاطع ، فإنّه لما قطع بکون المائع خمراً ، ثبتت له حرمةٌ و إن لم یکن فی الواقع خمراً ، فإذا جرت قاعدة الملازمة و جاءت بحرمةٍ شرعیّة ، اجتمع الحکمان ، و اجتماع المثلین قطعاً أو احتمالاً محال .

لا یقال : یجمع بین الحکمین من باب التأکّد ، کما فی أکرم العالم و أکرم الهاشمی ، فاجتمع الحکمان فی العالم الهاشمی و تأکّد الوجوب .

لأنّ هذا إنما یصحّ فیما یقبل التأکّد مثل الإکرام ، و لا یتمُّ فی مثل البعث و طلب الترک الاعتباریین . (2)

و الحق ورود هذا الإشکال ، بناءً علی أن حقیقة الحکم عبارة عن طلب الفعل أو الترک إنشاءً .

جواب السید الخوئی

و أمّا ما أفاده تلمیذه المحقق جواباً عن محذور لزوم اجتماع المثلین من الوجهین ، إذ قال :

ص:103


1- 1) بحوث فی علم الاصول 4 / 61 .
2- 2) فوائد الاصول 3 / 45 .

أمّا أوّلاً : فلأن فی القطع بالموضوع یمکن تصویر مورد الافتراق من الطرفین . مثلاً : لو قال المولی : لا تشرب الخمر و قال أیضاً : « لا تشرب معلوم الخمریة » و فرضنا أن المکلّف قطع بخمریّة شیء و هو غیر عالم بحرمة الخمر الواقعی ، و لم یصل إلیه دلیله ، و إنما علم حکم مقطوع الخمریّة فقط ، یکون حینئذ حکم مقطوع الخمریة فعلیّاً علیه من غیر أن یستلزم اجتماع المثلین حتی فی نظره ، و هکذا عکسه ، نعم ، فی مورد العلم بالحکمین معاً یلزم ذلک ، فلا بدّ من الالتزام هناک بالتأکید ، کما فی جمیع موارد اجتماع العامّین من وجه ، فما أفاده مختص بالقطع بالحکم .

و ثانیاً : لا ملزم لأن یکون بین موضوعی الحکمین المتماثلین عموماً من وجه ، بل یمکن أن یکون بینهما عموم مطلق ، نظیر ما إذا تعلق النذر أو الشرط فی ضمن العقد اللّازم بالواجبات ، کالصّلاة المفروضة ، فإنها حینئذ تکون واجبة من جهتین ، من جهة الأمر الصّلاتی و من جهة الأمر النذری ، و یکون فیها ملاکهما ، غایة الأمر نلتزم فیها بالتأکد فی مقام الفعلیّة ، و أما فی مرحلة الإنشاء و الملاک فالتعدد ثابت ، و المقام من هذا القبیل ، فإنّ القطع بالحکم و إنْ کان فی نظر القاطع لا ینفک عن ثبوته واقعاً ، و لا یمکننا تصویر مورد الافتراق من ناحیة القطع ، بأن یکون هناک قطع بالحکم و لم یکن حکم حتی فی نظر القاطع ، و إنما الافتراق یکون من طرف الحکم فقط فیما إذا ثبت بغیر القطع من الطرق و الأمارات ، و لکن قد عرفت أنه لا یعتبر أن یکون بین الموضوعین عموم من وجه ، و بالالتزام بالتأکد فی أمثال المقام یندفع إشکال اجتماع المثلین (1) .

ص:104


1- 1) دراسات فی علم الاصول 3 / 36 .
إشکال السیّد الصدر

فقد أورد علیه تلمیذه المحقق السیّد الصدر بقوله :

و کلا هذین الجوابین غریب فی بابهما .

أما الأوّل ، فلأنه لا یرفع مشکلة لزوم اجتماع المثلین بحسب نظر القاطع المحال ، إلّا أن یدّعی اختصاص حرمة شرب مقطوع الخمریّة بمن لا یعلم بحرمة شرب الخمر ، و هذا غیر محتمل و خروج عن محلّ الکلام .

هذا مضافاً : إلی أنّ هذا الجواب خلاف مبنی الإشکال ، إذ المفروض أنّ حرمة معلوم الخمریة ناشئة من القبح الناشئ من التجرّی الذی لا یکون إلّا بفرض وصول الحرمة الواقعیة ، فمع عدم وصولها لا قبح و لا تجری ، فلا موضوع للحرمة بالعنوان الثانوی .

و أما الثانی ، فلأنّ مورد النقض تکون النسبة فیه بین الحکمین العموم من وجه لا المطلق ، فإن وجوب الصّلاة مع وجوب الوفاء بالنذر من الواضح أنّ النسبة بینهما عموم من وجه . اللهم إلّا أن یکون المقصود إنکار أصل استحالة اجتماع حکمین مثلین فی مورد واحد بعنوانین إذا کان أحدهما أعم من الآخر ، إلّا أنّ ما ذکر لیس مصداقاً له ، و إنما الصحیح التمثیل بموارد الأمر بالجامع و الأمر بالفرد و الحصّة فإنه لا محذور فیه .

هذا مضافاً : إلی أنّ النسبة بین الخمر الواقعی و معلوم الخمریّة فی المقام أیضاً العموم من وجه بحسب نظر القاطع ، لأنه یعلم أنه ربما یکون شیء معلوم الخمریة و لو عند غیره أو فی مرّة اخری مع عدم کونه فی الواقع خمراً ، فیکون جعل حکمین معقولاً من زاویة نظره أیضاً (1) .

ص:105


1- 1) بحوث فی علم الاصول 4 / 60 - 61 .

تنبیهات التجرّی

الأول : فی القول بأن الحسن و القبح من القضایا المشهورة
اشارة

قد عرفت أن المحقّق الأصفهانی قد خالف صاحب الکفایة فی قوله باستحقاق العقوبة علی العزم علی المعصیة ، و أشکل علی ذلک بما تقدم نقله مع الجواب عنه .

و قد کان ممّا ذکره هناک : أن حکم العقل باستحقاق العقاب - من جهة کونه هتکاً لحرمة المولی و جرأةً علیه - هو من الأحکام العقلیّة الداخلة فی القضایا المشهورة التی تطابقت علیها آراء العقلاء ، لعموم مصالحها و حفظ النظام و بقاء النوع بها ، ثم قال :

و أمّا عدم کون قضیّة حسن العدل و قبح الظلم - بمعنی کونه یستحقّ علیه المدح أو الذم - من القضایا البرهانیة ، فالوجه فیه :

إنّ موادّ البرهانیات منحصرة فی الضروریات الست . فإنّها :

إمّا أولیّات : ککون الکلّ أعظم من الجزء .

أو حسیّات ، سواء کانت بالحواسّ الظاهرة المسمّاة بالمشاهدات ، ککون هذا الجسم أبیض ، أو هذا الشیء حلواً ، أو بالحواسّ الباطنة المسمّاة بالوجدانیّات ، و هی الامور الحاضرة بنفسها للنفس ، کحکمنا بأنّ لنا علماً و شوقاً و شجاعة .

ص:106

أو فطریّات ، و هی القضایا التی قیاساتها معها ، ککون الأربعة زوجاً ، لأنها منقسمة بالمتساویین ، و کلّ منقسم بالمتساویین زوج .

أو تجربیّات ، و هی الحاصلة بتکرر المشاهدة ، کحکمنا بأن سقمونیا مسهل .

أو متواترات ، کحکمنا بوجود مکة .

أو حدسیّات موجبة للیقین ، کحکمنا بأنّ نور القمر مستفاد من الشمس .

قال :

و من الواضح أنّ استحقاق المدح و الذم بالإضافة إلی العدل و الظلم ، لیس من الأوّلیّات ، بحیث یکفی تصوّر الطرفین فی الحکم بثبوت النسبة ، کیف ، و قد وقع النزاع فیه من العقلاء . و کذا لیس من الحسیّات بمعنییها ، و لیس من الفطریات ، إذ لیس لازمها قیاس یدلّ علی ثبوت النسبة .

قال : و أما عدم کونه من التجربیات و المتواترات و الحدسیّات ، ففی غایة الوضوح .

فثبت أن أمثال هذه القضایا غیر داخلة فی القضایا البرهانیة ، بل من القضایا المشهورة .

و أمّا حدیث کون حسن العدل و قبح الظلم ذاتیّاً ، فلیس المراد من الذاتی ما هو المصطلح علیه فی کتاب الکلیّات ، لوضوح أن استحقاق المدح و الذم لیس جنساً و لا فصلاً للعدل و الظلم ، و لیس المراد منه ما هو المصطلح علیه فی کتاب البرهان ، لأنّ الذاتی هناک ما یکفی وضع نفس الشیء فی صحة انتزاعه منه ، کالإمکان بالإضافة إلی الإنسان مثلاً ، و الاستحقاق المزبور لیس کذلک ، لأنّ سلب

ص:107

مال الغیر - مثلاً - مقولة خاصّة بحسب أنحاء التصرّف ، و بالإضافة إلی کراهة المالک الخارجة عن ذات التصرّف ینتزع منه أنه غصب ، و بالإضافة إلی ترتب اختلال النظام علیه بنوعه - و هو أیضاً خارج عن مقام ذاته - ینتزع منه أنه مخلّ بالنظام و ذو مفسدة عامة ، فکیف ینتزع الاستحقاق - المتفرع علی کونه غصباً و کونه مخلاًّ بالنظام - عن مقام ذات التصرف فی مال الغیر ؟

بل المراد بذاتیّة الحسن و القبح : کون الحکمین عرضاً ذاتیّاً ، بمعنی أنّ العدل بعنوانه و الظلم بعنوانه یحکم علیهما باستحقاق المدح و الذم من دون لحاظ اندراجه تحت عنوان آخر ، بخلاف سائر العناوین ، فإنها ربما تکون مع حفظها معروضاً لغیر ما یترتب علیه لو خلّی و نفسه ، کالصّدق و الکذب ، فإنهما مع حفظ عنوانهما فی الصّدق المهلک للمؤمن تحت الظلم و الکذب المنجی للمؤمن یترتب استحقاق الذم علی الأول بلحاظ اندراجه تحت الظلم علی المؤمن ، و یترتب استحقاق المدح علی الثانی لاندراجه تحت عنوان الإحسان إلی المؤمن ، و إنْ کان لو خلّی الصّدق و الکذب و نفسهما ، یندرج الأوّل تحت عنوان العدل فی القول ، و الثانی تحت عنوان الجور (1) .

مناقشة القول المذکور

و أورد علیه شیخنا بوجوه :

الأول إن کان حسن العدل و قبح الظلم من القضایا المشهورة التی تطابقت علیها آراء العقلاء ، فإن هذا التطابق لا یکون بلا ملاک ، و الملاک هو المنشأ للحسن

ص:108


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 29 - 32 .

و القبح ، و قد ذکر أنّ الملاک هو المصلحة المترتبة علی العدل و المفسدة المترتبة علی الظلم ، إلّا أنه یأتی السؤال مرةً اخری عن تلک المصالح و المفاسد ، فیجاب بحفظ النظام و اختلاله ، فکان موضوع الحسن هو حفظ النظام و موضوع القبح هو اختلاله ، و هذا خلف ما فرض من أن الموضوع فی القضیتین هو العدل و الظلم .

الثانی : إن القول بکون الحسن و القبح من القضایا الجعلیة العقلائیّة ، یستتبع أمراً فاسداً مهمّاً لا نظنّ أن یلتزم به هذا المحقق و لا غیره ، و ذلک : لأنّ البحث عن المبدأ و المعاد و النبوّة و غیر ذلک من اصول الدین ینتهی إلی الحسن العقلی ، کما أن ترکه ینتهی إلی القبح العقلی ، فلو کان الحسن و القبح من القضایا العقلائیة ، لم یبق ملزمٌ للفحص و البحث فی اصول الدین .

الثالث : إن القول المذکور یستلزم أمراً فاسداً آخر ، و هو انتفاء القبح عن الظلم حیث لا تترتب المفسدة النوعیة علیه ، و کذا الحسن عن العدل حیث لا تترتب علیه المصلحة النوعیة ... و الحال أن کثیراً من الأحکام الشرعیة لا یترتب علیها المفسدة أو المصلحة النوعیة ، فلو أنّ شخصاً ترک صلاة الصبح و لم یطّلع علی ذلک أحد ، فأیّ مفسدة نوعیة تترتب ؟ و هل یمکن القول بعدم استحقاق العقاب حینئذٍ ؟

إن مخالفة أیّ حکم من الأحکام الشرعیّة الإلزامیة - سواء النظامیة منها و غیر النظامیة - یوجب استحقاق العقاب بلا إشکال .

الرابع : إن الامور الاعتباریة تدور مدار الاعتبار و وجود المعتبر ، فلو فقد المعتبر أو وجد من دون أن یعتبر ، لانتفی الأمر الاعتباری ، هذا من جهةٍ . و من جهةٍ اخری : إن للعقل القدرة علی تصوّر جمیع الفروض .

ص:109

و علی ما ذکر ، فلو فرض انتفاء النظام و المصالح و المفاسد النوعیة بعدم وجود العاقل و العقلاء فی العالم ، فإنّ العقل فی ذلک الفرض یدرک حسن العدل و قبح الظلم کما یدرک أن الکلّ أعظم من الجزء ، و بذلک ینکشف أن هاتین القضیتین - أی حسن العدل و قبح الظلم - لیستا من الامور الاعتباریة العقلائیة .

فتلخص : إن الحقّ ما علیه المشهور من الفقهاء و الاصولیین ، من أن حسن العدل و قبح الظلم من ذاتیّات العدل و الظلم ، و لیسا معلولین للمصالح و المفاسد النوعیّة .

الثانی : فی الاستدلال بالأخبار لاستحقاق العقاب علی القصد

ذکر فی دراسات فی علم الاصول ، أنه ربما یستدلّ لحرمة التجرّی بالروایات الواردة فی ترتب العقاب علی قصد السوء و أنه یحاسب علیه ، و هناک روایات اخر دالّة علی عدم ترتب العقاب علی القصد و أنَّ نیة السوء لا تکتب ، فتقع المعارضة بین الطائفتین .

و الشیخ قدّس سرّه جمع بینهما بحمل الطائفة الاولی علی القصد المستتبع للاشتغال ببعض المقدمات و الثانیة علی القصد المجرد عن ذلک ، و لکنه لا شاهد علیه ، فیکون جمعاً تبرعیاً .

و الصحیح أنْ یجمع بینهما بحمل الطائفة الثانیة علی القصد الذی ارتدع الإنسان بنفسه عنه ، و الاولی علی ما إذا لم یرتدع حتی إذا شغله شاغل خارجی .

و الشاهد علی هذا الجمع هو : النبوی المشهور من أنه « إذا التقی المسلمان بسیفهما ، فالقائل و المقتول فی النار ، قیل : یا رسول اللّٰه هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال صلّی اللّٰه علیه و آله : لأنه أراد قتل صاحبه » (1) .

ص:110


1- 1) وسائل الشیعة 15 / 148 ، الباب 67 من أبواب جهاد العدو ، رقم : 1 . و فیه اختلاف فی اللّفظ .

فإنّ ظاهر التعلیل هو إرادة القتل مع عدم حصول الرادع له عن نفسه ، و أنّ عدم تحقق القتل منه کان لعدم تمکنه علی ذلک .

و بعبارة اخری : حیث إن کلّ روایة تکون نصاً فی موردها ، و مورد النبوی إنما هو قصد القتل مع عدم انقداح رادع له عن نفسه فیکون نسبته مع الطائفة الثانیة من الروایات نسبة الخاص إلی العام فیه تخصص تلک الأخبار ، و تختص بصورة تحقق الرادع له عن نفسه ، فتنقلب النسبة بینها و بین الطائفة الاولی من الروایات من العموم من وجه إلی العموم المطلق ، فتخصص الطائفة الاولی بالطائفة الثانیة فیخرج صورة وجود الرادع عن قصد السوء عن الروایات الدالّة علی المؤاخذة علی القصد و تبقی الصورة الاخری تحتها ، فالمقام من صغریات مبحث انقلاب النسبة ، و نتعرض له فی محلّه .

و کیف کان ، فهذه الروایة تکون شاهدة للجمع الذی ذکرناه .

و أما الجمع الذی ذکره الشیخ رحمه اللّٰه فلا شاهد علیه .

و لا یخفی أنه لا یحتمل فی النبوی أن یکون لإرادة القتل خصوصیة فی الحرمة للقطع بعدم الفرق بین القتل و غیره من المعاصی من هذه الجهة ، فتأمل .

و علی أی تقدیر ، الاستدلال بما یدلّ علی المؤاخذة علی قصد المعصیة و لو بعد الاشتغال بمقدماتها علی حرمة التجری ، غیر صحیح .

أما أولاً : فلأنّ مورد النبوی المتقدم الذی جعلناه شاهداً للجمع و خصصنا به ما دلّ علی ثبوت المحاسبة و المؤاخذة علی نیة السوء من جهة کونه نصّاً فی مورده ، إنما هو إرادة القتل الواقعی و الاشتغال بمقدماته و عدم ارتداعه عنه بنفسه ، و لا ربط له بالحرام الخیالی أی ما یعتقده حراماً .

ص:111

و ثانیاً : لو سلمنا أن مورده أعم من ذلک و من قصد الإتیان بما قطع بحرمته ، فلیس فی الروایات ما یدلّ علی حرمة ذلک القصد ، بل غایة ما فیها إنه یحاسب علیه أو یعاقب ، و هذا التعبیر لا یدلّ علی أزید مما کان العقل مستقلاً به من استحقاق المتجری للعقاب ، و لا یستفاد منها الحرمة المولویة (1) .

أقول

أوّلاً : لقد اعتمد علی النبوی ، و جعله شاهداً للجمع بین الأخبار .

و ثانیاً : إنه لم یناقش فی الأخبار الدالّة علی الاستحقاق سنداً ، و لذا سلّم بالتعارض و جمع بین الطرفین بشهادة النبوی .

و لکنْ فی مصباح الاصول ، بعد الإشارة إلی اختلاف الأخبار و ذکر النبوی :

لکنّ التحقیق عدم صحّة الاستدلال بالروایات الدالّة علی ترتّب العقاب علی قصد المعصیة لحرمة التجرّی ، مع قطع النظر عن ابتلائها بالمعارض ، لوجوه :

الأوّل : إنها قاصرة من حیث السند ، فإنا راجعناها بتمامها ، و رأینا أنّ ما یدلّ علی المقصود ضعیف السند کالنبویّ المذکور ، و ما هو تام سنداً قاصر من حیث الدلالة، راجع الوسائل : أبواب مقدّمة العبادات ... (2) .

فبین التقریرین بونٌ بعید !! و ما جاء فی الدراسات هو المتقن کما سیظهر .

و ثالثاً : ما ذکره من وجه الجمع ، یرد علیه :

1 - إنّ مسألة انقلاب النسبة محلّ بحثٍ بین الأعلام .

ص:112


1- 1) دراسات فی علم الاصول 3 / 37 - 39 .
2- 2) مصباح الاصول 2 / 29 .

2 - إنّ دعوی اختصاص النبویّ بما إذا لم یرتدع عن قصد القتل ، لیکون شاهداً للجمع ، دعوی بلا دلیل ، نعم ، هو القدر المتیقّن ، لکن الأخذ به مقام الجمع أوّل الکلام .

و رابعاً : إنّ فی الروایات ما هو معتبر سنداً ، فقد روی الشیخ الکلینی عن علی بن إبراهیم ، عن أبیه ، عن ابن أبی عمیر ، عن جمیل ، عن أحدهما علیهما السّلام قال :

« إنّ اللّٰه تعالی قال لآدم : یا آدم ، جعلت لک أنّ من همّ من ذریّتک بسیّئةٍ لم تکتب علیه ... » (1) .

فإن لسانه لسان الامتنان ، و لو لا وجود المقتضی للعقوبة لما کان للامتنان وجه .

فالتحقیق : صحّة الاستدلال بالأخبار ، لکنّ مقتضی الجمع هو عدم فعلیّة العقاب منّةً منه اللّٰه الجواد الکریم .

الثالث : فی کلام صاحب الفصول
اشارة

إنّ لصاحب الفصول (2) نظریة فی باب التجرّی تعرّض لها الشیخ و غیره ، و تتلخّص فی نقطتین :

الاُولی : إن قبح التجرّی لیس ذاتیّاً بل یختلف بالوجوه و الاعتبار ، فمن اشتبه علیه مؤمن ورع عالم بکافر واجب القتل ، فحسب أنه ذلک الکافر و تجرّی بترک قتله ، فإنه لا یستحق الذم علی هذا الفعل عقلاً عند من انکشف له الواقع و إنْ

ص:113


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 52 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، رقم : 8 .
2- 2) الفصول الغرویة ، مبحث الاجتهاد و التقلید : 431 .

کان معذوراً لو فعل . و أظهر من ذلک ما لو جزم بوجوب قتل نبی أو وصی ، فتجرّی و لم یقتله .

قال :

أ لا تری أن المولی الحکیم إذا أمر عبده بقتل عدوٍّ له ، فصادف العبد ابنه و زعمه ذلک العدو ، فتجرّی و لم یقتله ، أن المولی إذا اطّلع علی حاله لا یذمّه علی هذا التجرّی ، بل یرضی به و إنْ کان معذوراً لو فعل .

قال :

و من هنا یظهر أن التجری علی الحرام فی المکروهات الواقعیّة أشدّ منه فی مباحاتها ، و هو فیها أشدّ منه فی مندوباتها ، و یختلف باختلافها ضعفاً و شدّة کالمکروهات ... .

إشکال الشیخ علی النقطة الاولی

و قد أورد علیه الشیخ (1) :

أولاً : بمنع ما ذکره من عدم کون قبح التجری ذاتیّاً ، لأنّ التجرّی علی المولی قبیح ذاتاً ، سواء کان لنفس الفعل أو لکشفه عن کونه جریئاً کالظلم بل هو قسم من الظلم . فیمتنع عروض الصفة المحسّنة له . و فی مقابله الانقیاد للّٰه سبحانه ، فإنه یمتنع أن یعرض له جهة مقبّحة .

و حاصله : إن التجری علّة تامّة للقبح کالظلم ، و کیف یمکن أن یکون کالظلم أو ظلماً حقیقةً و لا یکون قبیحاً ، و لا یستحق علیه العقاب ؟

ص:114


1- 1) فرائد الاصول 1 / 43 .

أقول :

و لا یرد علیه ما ذکره المحقق العراقی (1) من أنه یمکن أن یجاب عنه بإمکان أهمیة مصلحة الواقع بالنسبة إلی مفسدة التجری فی نظر المولی ، بنحو یمنع عن تأثیر التجری فی المبغوضیّة الفعلیّة .

وجه عدم الورود : إن الکلام فی الحسن و القبح لا فی المصالح و المفاسد ، ففی باب الحسن و القبح تارةً : یکون الموضوع اقتضائیاً کالصّدق و الکذب ، و اخری : یکون علةً تامّة کالعدل و الظلم ، فلو کان العنوان قبیحاً بالذات فلا یزول قبحه بترتب مصلحةٍ علیه ، إلّا إذا ارتفع الموضوع و تغیّر ، فإذا کان التجری قبیحاً ذاتاً فمع حفظ قبحه لا یکون طاعةً للمولی و لا یتّصف بالحسن .

هذا مراد الشیخ و هو متین .

نعم ، قد یقع التزاحم فی المصالح و المفاسد ، و یکون أحد الطرفین أهم من الآخر فیتقدّم و یکون هو المؤثّر کما ذکر المحقق العراقی ، لکنه بحث آخر لا ربط له بما نحن فیه .

هذا فی الجواب الأوّل .

و أجاب الشیخ عن کلام الفصول ثانیاً فقال :

لو سلّمنا عدم کونه علّةً تامّةً للقبح کالظلم ، فلا شک فی کونه مقتضیاً له کالکذب ، و لیس من قبیل الأفعال التی لا یدرک العقل بملاحظتها فی أنفسها حسنها و لا قبحها . و حینئذٍ فیتوقف ارتفاع قبحه علی انضمام جهة یتدارک بها

ص:115


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 39 .

قبحه ، کالکذب المتضمّن لإنجاء نبی .

و من المعلوم أن ترک قتل المؤمن بوصف أن مؤمن فی المثال الذی ذکره - کفعله - لیس من الامور التی تتّصف بحسن أو قبح ، للجهل بکونه قتل مؤمن ، و لذا اعترف فی کلامه بأنه لو قتله کان معذوراً ، فإذا لم یکن هذا الفعل الذی تحقق التجرّی فی ضمنه ممّا یتّصف بحسنٍ أو قبح ، لم یؤثر فی اقتضاء ما یقتضی القبح ، کما لا یؤثر فی اقتضاء ما یقتضی الحسن لو فرض أمره بقتل کافر فقتل مؤمناً معتقداً کفره ، فإنه لا إشکال فی مدحه من حیث الانقیاد و عدم مزاحمة حسنه بکونه فی الواقع قتل مؤمن (1) .

و حاصل الکلام :

إن الأحکام العقلیّة تفارق الأحکام الشرعیّة ، من حیث أنّ الأحکام الشرعیة تابعة للملاکات ، فالواجب واجب سواء احرز أوْ لا ، و کذا الحرام ، بخلاف الأحکام العقلیة ، فإنّ الإحراز دخیل فیها ، فلولا الاحراز و الالتفات لم یتحقّق موضوع الحکم العقلی ، فلا بدّ من الالتفات و القصد حتی یتحقّق ، وعلیه ، فإنّ المحبوبیّة الواقعیة للفعل إمّا تقع مورداً للالتفات و إمّا لا تقع ، فعلی الأوّل یرتفع القبح الاقتضائی للتجرّی ، و أمّا علی الثانی فلا ، بل الفعل باقٍ علی قبحه و لا ینقلب حَسَناً ، لما تقدَّم من اعتبار الالتفات فی حکم العقل بالحسن و القبح ، و إذا لم یتّصف الفعل بالحسن لم یصلح للمانعیة عن اقتضاء التجرّی للقبح .

و هذا مراد الشیخ قدس سره و هو متین کذلک ... .

ص:116


1- 1) فرائد الاصول 1 / 43 - 44 .

و علی هذا ، فإن إشکال المحقق العراقی : بأنّ غفلة المکلّف عن مصلحة الواقع إنما تمنع عن تأثیرها فی المصلحة بحسب نظره الذی به قوام حکم عقله بالقبح ، و إلّا فبالنسبة إلی نظر المولی العالم بالواقع و الملتفت إلی الجهتین ، فلا تمنع غفلة المکلّف عن تأثیر المصلحة التی هی أهم فی نظره فی المحبوبیة الفعلیة المانعة عن تأثیر التجری فی المبغوضیة الفعلیة و الحرمة ... (1).

غیر وارد علی الشّیخ ، لأنّ کلام الشیخ غیر ناظر إلی المصالح و المفاسد ، بل کلامه هو أنّ القبح المضاف إلی التجرّی بنحو الاقتضاء - علی فرض التنزّل - إنما یرتفع بالحُسن ، و هو إنما یتحقّق فی صورة الالتفات و القصد من الفاعل ، و المفروض انتفاؤهما ، فلا حسن حتی یزاحم القبح ... .

هذا کلام الشیخ ، و لا یرد علیه ما ذکره العراقی .

إشکال المحقق العراقی

ثم إن المحقق العراقی - بعد أن أشکل علی الشیخ بما عرفت - قال فی الإشکال علی الفصول :

فالأولی هو الإشکال علیه بما ذکرنا من منع المزاحمة بین تلک الجهات بعد تعدّد الموضوع لها و طولیّته (2) .

و حاصل کلامه :

إن التزاحم إنما یکون فی حال اجتماع الملاکین ، أی ملاک الحسن و ملاک القبح فی الشیء الواحد ، لکنّ الاجتماع هنا محال ، لأنّ موضوع المحبوبیّة و ما

ص:117


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 39 .
2- 2) المصدر نفسه .

تقوم به المصلحة هو الفعل فی مرتبة قبل الإرادة ، و موضوع المفسدة هو الفعل فی مرتبة الإرادة ، و إذا کانا فی مرتبتین لم تتحقق المبغوضیة و المحبوبیة فی الشیء الواحد .

إلّا أنّ التحقیق هو أنّ الحبّ و البغض لا یقومان بالصّور النفسیّة بما هی موجودات ذهنیّة ، بل هما قائمان بالصّور المرئیة فی الخارج ، لأنّ المصالح و المفاسد التی هی مناشئ الحب و البغض قائمة بالموجودات الخارجیّة ، فکان الأمر دائراً مدار وحدة الوجود و تعدّده خارجاً ، لا وحدة المرتبة و تعدّدها .

النقطة الثانیة

فی کلام الفصول :

إن التجری إذا صادف المعصیة الواقعیّة تداخل عقابهما .

إشکال الشیخ علی النقطة الثانیة

قال الشیخ :

و لم یعلم معنی محصّل لهذا الکلام ، إذ مع کون التجرّی عنواناً مستقلّاً فی استحقاق العقاب ، لا وجه للتداخل إنْ ارید به وحدة العقاب ، فإنه ترجیح بلا مرجح ، و سیجیء فی الروایة : « إن علی الراضی إثماً و علی الداخل إثمین » . و إنْ ارید به عقاب زائد علی عقاب محض التجری ، فهذا لیس تداخلاً ، لأنّ کلّ فعل اجتمع فیه عنوانان من القبح ، یزید عقابه علی ما کان فیه أحدهما (1) .

و حاصل ذلک : الإشکال علیه عقلاً و نقلاً .

أمّا عقلاً ، فلأنه ترجیح بلا مرجّح .

ص:118


1- 1) فرائد الاصول 1 / 45 .

و أمّا نقلاً فللخبر : « الراضی بفعل قوم کالداخل فیه معهم ، و علی کلّ داخل فی باطل اثمان : إثم العمل به و إثم الرّضا به » (1) .

و إنْ ارید به عقاب زائد علی عقاب التجرّی کان من قبیل اجتماع عنوان الهاشمی و العالم فی الشخص الواحد المأمور بإکرامه ، فإنّه إکرام واحد مؤکّد .

و تلخص :

أن الشیخ یری اجتماع التجری و المعصیة ، و ینکر تداخل العقابین .

إشکال صاحب الکفایة

و یری صاحب الکفایة : إن مقتضی القاعدة هو النظر فی تعدّد ملاک استحقاق العقاب فی مورد التجرّی و وحدته ، و قد تقدّم أن الملاک هو هتک المولی . فإنْ کان فی صورة مصادفة الواقع هتکان ، وقع البحث فی تداخل العقوبتین و عدمه ، أما إذا کان هتک واحد فلا موضوع للبحث ... لکنّ وحدة العقاب تکشف عن وحدة ملاک الاستحقاق (2) .

إشکال المیرزا

لکنّ المیرزا (3) یری أنّ البحث عن تداخل العقابین و تعدّدهما فرعٌ للبحث عن إمکان الاتّحاد بین التجرّی و المعصیة ، لکنّ التجرّی نقیض المعصیة ، فوقوعه فی موردها غیر ممکن و لا یجتمعان ، فلا تصل النوبة إلی البحث عن تداخل العقابین و عدمه .

ص:119


1- 1) وسائل الشیعة 16 / 141 ، الباب 5 من أبواب الأمر و النهی ، رقم : 12 .
2- 2) کفایة الاصول : 262 .
3- 3) أجود التقریرات 3 / 65 .
کلام المحقق العراقی

إلّا أنّ المحقق العراقی (1) اعترض علی المیرزا بإمکان الاجتماع فی بعض الموارد ، کما لو ترک مقدّمة الواجب من باب التجری و أدّی ذلک إلی ترک الواجب ، فقد استحق العقاب علی ترک المقدّمة و علی المعصیة بترک الواجب ، فاجتمع العقابان ... .

و کذا فی مقدّمة الحرام ، فلو ارتکب المقدّمة من باب التجری و فعل ذا المقدمة الحرام ، فقد استحق العقابین .

و أمّا المورد الذی ذکره المیرزا للاجتماع ، و هو ما إذا تیقّن بخمریّة المائع و شربه و ظهر أنه ماء مغصوب ، حیث أنه مع یقینه بالخمریّة یحصل له الیقین بالحرمة ، فإذا خالف فقد ارتکب الحرام من جهة التجرّی و من جهة الغصب ، لأنه قد تصرّف فی مال الغیر إذْ شرب الماء ، فاجتمع التجری و المعصیة .

فقد أشکل علیه العراقی بما حاصله : إن العلم بجنس الالزام منجّز لنوع الإلزام ، لکنْ لا علم بالجنس فی المثال ، بل هو علم بنوع الإلزام - و هو العلم بالحرمة الخمریة - و هو لا ینجّز الحرمة من جهة الغصبیة ، لأن العلم بنوعٍ لا ینجّز العلم بنوع آخر .

رأی السیّد الاستاذ

و ذهب السیّد الاستاذ قدس سرّه إلی القول بالتداخل فی سبب العقاب ، و قد ذکر لذلک ثلاثة مقدماتٍ :

ص:120


1- 1) فرائد الاصول 3 / 55 - 56 . الهامش .

الاولی : إنه لا إشکال فی کون التجرّی من أوصاف و عناوین التصدّی و العزم .

و الثانیة : إنه لا إشکال فی کون العقاب و الثواب فی مورد المعصیة و الطاعة علی نفس ما به المخالفة و ما به الموافقة ، فیعاقبه و یؤنّبه علی عدم سفره لو أمره بالسفر و لم یسافر ، کما یشکره علی سفره لو سافر .

و الثالثة : إنه لا اشکال فی عدم تعدّد العقاب و الثواب فی مورد المعصیة و الإطاعة ، إذ المرجع هو الارتکاز العقلائی فی هذا الباب ، و هو قاض بما ذکرناه ، إذ لا نری أنّ السید یعاقب العبد عقابین إذا خالف أمره أو نهیه و یثیبه ثوابین إذا وافق أحدهما ، ثواب علی قصد الطاعة و ثواب علی نفس الطاعة .

قال : فنستکشف من مجموع ذلک أنّ التجری إنما یکون سبباً و موضوعاً للعقاب علی تقدیر عدم المصادفة ، و إلّا فهو یندک فی المعصیة الحقیقیّة و یکون التأثیر لها لا له .

قال : و لعلّ هذا مراد الفصول (1) .

أقول :

و ما أفاده رحمه اللّٰه غیر واضح .

فإن المفروض أنّ للقصد أثراً ، و لیس تمام الأثر للفعل کما أفاد فی المقدّمة الثانیة ، و حینئذٍ ، یقع البحث فی التداخل و عدمه ، و موضوع البحث عن ذلک هو صورة المصادفة للواقع ، فلا یقاس ما ذکره فی المقدّمة الثالثة .

ص:121


1- 1) منتقی الاصول 4 / 66 .

بل إنّ کلامه لا یخلو من تهافت ، لأنه إنْ لم یکن للتجری أثر أصلاً ، فما معنی الاندکاک فی المعصیة الحقیقیّة و أنه یکون التأثیر لها لا له ؟

و لعلّ السّهو من المقرّر ، و اللّٰه العالم .

الرأی المختار

و قد وافق الشیخ الاستاذ علی ما ذکره المحقّق العراقی فی الردّ علی المیرزا ، و اختار نظر صاحب الکفایة فی البحث ، و أنّ العرف یری وحدة الهتک فی موارد الاجتماع المذکورة ، فهم لا یرون التعدّد بین المقدّمة وذی المقدّمة .

إلّا أن یقال بأنّ البحث عقلی و لا مجال فیه لمراجعة أهل العرف ، و وجود المقدّمة غیر وجود ذی المقدّمة عقلاً ، و العقل هو المرجع لمعرفة الوحدة و التعدّد ... فاستحقاق العقابین علی القاعدة ، إلّا أنّ الضرورة قائمة علی عدم التعدّد . فتدبّر .

الرابع : فی ما أفاده السید المجدّد الشیرازی
اشارة

قد استدلّ السیّد المجدّد الشیرازی قدّس سرّه لاستحقاق المتجرّی العقاب ، بنفس ملاک استحقاق العاصی للعقاب ، بوجهٍ یترکّب من امور أربعة ، و هذا ملخّص ما حکی (1) عنه :

الأمر الأوّل

إنّ وظیفة المولی هو جعل الحکم و إیصاله إلی المکلّف بالطرق المتعارفة کإرسال الرسل ، فهو یرسل الرسول و یأمره بأن یبلّغ الحکم إلی وصیّه و هو یبلّغه

ص:122


1- 1) انظر : أجود التقریرات 3 / 51 - 54 .

إلی أصحابه و تلامذته ، و هکذا حتی یصل إلی عموم المکلّفین ، فإذا وصل إلیهم تحقق البعث . و حینئذٍ ، یحکم العقل بوجوب الانبعاث و الامتثال .

و الحکم العقلی بوجوب امتثال الحکم الشرعی و الانبعاث عنه ، حکم استقلالی یستحیل وجود حکم شرعی و بعث مولوی فی مورده ، لأن مرتبة البعث مقدّمة علی مرتبة الانبعاث تقدّم العلّة علی المعلول ، فلو وجد بعث فی مرتبته انقلب المعلول علّةً و هو خلف، فالحاکم بوجوب الإطاعة للمولی و حرمة المعصیة له هو العقل لا المولی ، و هو وجوب ذاتی ینتهی إلیه وجوب کلّ واجب ، کما أنّ طریقیّة القطع کانت ذاتیة و إلیها تنتهی طریقیّة کلّ طریق .

هذا ، و لو کان وجوب الطاعة و حرمة المعصیة حکماً مجعولاً من المولی ، لا ذاتیّاً من العقل ، لما وجب امتثال حکم من الأحکام الإلهیة ، ضرورة أن وجوب الانبعاث عنها لو کان مجعولاً غیر ذاتی ، کان وجوب الانبعاث عن هذا الوجوب محتاجاً إلی جعل آخر ، و هکذا . فیدور أو یتسلسل . و هذا بخلاف ما إذا کان غیر مجعول و کان ذاتیّاً ، فیکون وجوب کلّ واجب شرعی بعد وصوله إلی المکلّف داخلاً فی هذه الکبری العقلیّة و تجب إطاعته بحکم العقل .

الأمر الثانی

إنّ الأحکام العقلیّة علی قسمین ، فالحکم العقلی بحسن الطاعة و قبح المعصیة فی مرتبة المعلول للحکم الشرعی ، لأنّه حکمٌ بالانبعاث عن الحکم الشرعی المتقدّم علیه ، کما تقدّم . فهذا قسمٌ .

و القسم الآخر من الأحکام العقلیّة : ما هو فی مرتبة العلّة - و هو بقیة الأحکام العقلیّة عدا الحکم بحسن الطاعة و قبح المعصیة - کحکمه بقبح التشریع و قبح

ص:123

التصرّف فی مال الغیر و نحوهما ، فإنّ حکم العقل بقبح التشریع و قبح التصرّف فی مال الغیر ، یکون - بضمیمة قاعدة الملازمة - مثبتاً للحکم الشرعی ، فیکون فی مرتبة العلّة للحکم الشرعی بحرمة التشریع و بحرمة التصرّف فی مال الغیر .

و بین القسمین فرق من جهة اخری أیضاً هی : أن الحکم العقلی بوجوب الطاعة و الانبعاث یدور مدار وصول الحکم الشرعی کما تقدّم ، بخلاف الأحکام العقلیة الاخری کحرمة التشریع ، فالتشریع حرامٌ و لو ظنّاً أو مع الشک ، فإنّ قبح التشریع إنما هو لکونه تصرّفاً فی سلطان المولی بغیر إذنه ، و هو مشترک بین موارد العلم و الظن و الشک ... فالحرمة ثابتة ، أمّا فی باب الإطاعة و المعصیة ، فإنّه مع الشک لا حرمة ، بل المرجع قاعدة قبح العقاب بلا بیان .

الأمر الثالث

إنّ العلم المعتبَر فی حکم العقل بوجوب الانبعاث ، أی وجوب الطاعة و حرمة المعصیة ، لا بدّ و أنْ یکون تمام الموضوع ، صادف الواقع أو لا ، ضرورة أنه لو کان موضوعه خصوص العلم المصادف للواقع ، لکان إحراز المصادفة التی هی الجزء الآخر للموضوع لازماً فی حکمه بوجوب الانبعاث ، وعلیه ، فلا یجب امتثال التکلیف الواصل من قبل المولی أصلاً ، لأن کلّ تکلیفٍ واصل فیحتمل کونه مخالفاً للواقع ، و هذا یستلزم أنْ لا یحکم العقل بالانبعاث أصلاً ... فالموضوع للحکم العقلی لیس إلّا العلم و الإحراز .

الأمر الرابع

إنّ الملاک لاستحقاق العقاب علی المعصیة ، إمّا هو القبح الفعلی و إمّا هو القبح الفاعلی . فإنْ کان الملاک هو الأوّل ، لزم ثبوت الاستحقاق فی موارد الحرمة

ص:124

الواقعیّة مع عدم العلم و الإحراز . فالملاک هو الثانی ، أی القبح الفاعلی ، و إذا کان الملاک للاستحقاق فی المعصیة هو القبح الفاعلی ، فإنّ هذا الملاک موجود فی موارد التجرّی کذلک .

فثبت استحقاق العقاب فی مورد التجرّی بنفس ملاک استحقاقه فی مورد المعصیة .

إشکال المیرزا النائینی

قال المیرزا :

و لا یخفی علیک أنّ لازم هذه المقدّمات و إنْ کان هو استحقاق المتجرّی للعقاب بملاک استحقاق العاصی له ، إلّا أنّ المقدّمة الثالثة و الرابعة منها محلّ نظر بل منع .

قال :

أمّا المقدّمة الثالثة ، فلأنّ العلم و انکشاف الواقع و إنْ کان هو الموضوع فی هذا الحکم العقلی - کما عرفت فی المقدمة الثانیة - إلّا أنه غیر متحقّق فی باب التجرّی ، و المتحقّق فی مورده هو الجهل المرکّب ، و أنّی لهم بإثبات سرایة أحکام العلم للجهل .

و بالجملة ، إنّ ما یقتضیه وظیفة العبودیّة هو لزوم انبعاث العبد عن البعث الواصل إلیه ، و أمّا لزوم انبعاثه عن البعث التخیّلی ، فلا یحکم به العقل أصلاً ، لعدم کون ترک هذا الانبعاث ظلماً للمولی . و الحاصل : إن حکم العقل بوجوب الطاعة و حرمة المعصیة ، إنما هو بملاک العبودیّة و المولویّة ، و هذا الملاک غیر متحقّق فی موارد التجرّی قطعاً .

ص:125

قال :

و أمّا المقدّمة الرابعة ، فلأن ملاک استحقاق العقاب و إنْ لم یکن هو القبح الفعلی کما أفاده ، إلّا أنّ ذلک لا یستلزم کون القبح الفاعلی الموجود فی صورة التجری ملاکاً له أیضاً .

بیان ذلک : إن القبح الفاعلی المتحقّق فی فرض العصیان لیس أمراً مغایراً للقبح الفعلی الواصل إلی المکلّف ، بل نفس القبح الفعلی - بعد فرض علم المکلّف به - یوجب اتّصاف الفعل بالقبح الفعلی ، و هذا هو الملاک فی استحقاق العقاب . و أمّا القبح الفاعلی الموجود فی التجرّی فهو مغایر لهذا المعنی من القبح الفاعلی ، و إنما هو مجرد کشف الفعل عن سوء السریرة و شقاء الفاعل ، و أین ذلک من القبح الفاعلی الموجود فی فرض العصیان ؟ (1)

جواب الاستاذ عن الإشکال

و قد أجاب الاستاذ عن کلا الإشکالین :

أمّا ما ذکره فی المقدّمة الثالثة .

ففیه : إن محصّل کلام المیرزا الکبیر هو أنّه إنْ لم یکن العلم تمام الموضوع لاستحقاق العقاب ، فإنه لا محالة یکون جزء الموضوع له ، و یکون الجزء الآخر هو المصادفة للواقع ، لکنّ المصادفة له لا تحصل دائماً ، و لازم ذلک أنْ لا یحکم العقل بالانبعاث أصلاً ، و هذا خلفٌ ، فالعلم تمام الموضوع للاستحقاق . و کأنّ المحقق النائینی قد غفل عن هذه النکتة .

ص:126


1- 1) أجود التقریرات 3 / 54 - 55 .

و أمّا ما ذکره فی المقدّمة الرابعة .

ففیه : لقد ذکر المیرزا الکبیر مستشکلاً قول الشیخ الأعظم : « و أمّا بناء العقلاء ، فلو سلّم ... کمن انکشف لهم من حاله أنه بحیث لو قدر علی قتل سیّده لقتله ... » أنّا سلّمنا ذمّهم للعبد فی المقیس علیه أیضاً ، و لأنه لأجل انکشاف سوء سریرته ، لکنّ اختصاص الذم فی المقیس بتلک الجهة ممنوع ، بل المتجرّی مذموم من تلک الجهة و من جهة کون فعله هتکاً لحرمة السیّد أیضاً ، فهو مذموم علی سوء سریرته و علی هتکه المتّحد مع الفعل المتجرّی به ، فالمذمّة علی الفعل و الفاعل کلیهما (1) .

و حاصل کلامه : إن القبح الموجود فی التجرّی هو من جهتین .

إحداهما : القبح الفاعلی الناشئ من خبث الباطن و سوء السریرة .

و الاخری : القبح الفاعلی الناشئ من قبح الفعل الصادر المنطبق علیه عنوان الهتک للمولی و إنْ لم یکن معصیةً له .

فظهر : عدم تمامیّة إشکال المیرزا النائینی ، و أنّ الحق استحقاق العقاب کما تقدّم سابقاً ، خلافاً للشیخ و المیرزا النائینی .

ص:127


1- 1) تقریر بحث المجدّد الشیرازی : 3 / 287 .

ثمرة البحث

بقی الکلام فی ثمرة البحث ، و هی تظهر فی الفتوی ، فإنّه بناءً علی حرمة التجرّی قصداً أو قصداً و فعلاً ، یفتی بالحرمة ، و بناءً علی عدمها لا یفتی .

و ذکر المحقق العراقی أنه تظهر الثمرة فیما لو قامت الأمارة علی حرمة عملٍ و لکنّا نحتمل مطلوبیته عند المولی - لوضوح عدم المنافاة بین وجود هذا الاحتمال الوجدانی و قیام الأمارة علی الحرمة - فعلی القول بقبح الفعل المتجرّی به و استحقاق العقاب علیه لم یکن الإتیان بالعمل برجاء المطلوبیّة ، لأنّ القبیح غیر صالح للمقربیّة ، أمّا علی القول بعدم القبح - کما علیه الشیخ و صاحب الکفایة - فیجوز ، فلو انکشف الخلاف و ظهر عدم اعتبار الإمارة ، وقع العمل صحیحاً و مسقطاً للأمر .

و فیه : إنه یعتبر فی عبادیة العمل قابلیّته لأنْ یصدر مقرّباً ، و تمشّی قصد القربة به و لو رجاءً ... و مع وجود الأمارة المعتبرة علی الحرمة ، لا یکون العمل صالحاً للمقرّبیة إلی المولی ، لأنها تفید المبغوضیة عنده ، و المبغوض کیف یکون مقرّباً ؟

هذا تمام الکلام فی التجرّی ، و الحمد للّٰه .

ص:128

أقسام القطع و أحکامها

اشارة

ص:129

ص:130

القطع - کما عبّر صاحب الکفایة : یکشف عن متعلّقه تمام الانکشاف (1) - فهو کالنور ، و هو أقوی الحجج علی الأحکام الشرعیّة ، و قد تقدم الکلام علی حجیّته ، ثم ذکرنا أنه تارةً یکون مطابقاً للواقع و اخری مخالفاً له ، فتعرضنا لمسألة التجرّی بهذه المناسبة .

القطع الطریقی و الموضوعی
اشارة

و ینقسم القطع إلی الموضوعی و الطریقی ، و یترتّب علی ذلک البحث عن قیام الطرق و الأمارات و الاصول مقام القطع و عدم قیامها ، و فی صورة القیام ، فأیّ قسم ؟

القطع الطریقی ، هو القطع الذی لیس له إلّا جهة الطریقیّة إلی الواقع و حیثیّة إراءة الواقع ، من دون دخلٍ له فی أمرٍ واقعی أو اعتباری ، فإذا قطع بالخمر ، لا یکون لقطعه أثر لا فی خمریة الخمر و لا فی حرمته .

و القطع الموضوعی ، هو القطع الذی یکون - بالإضافة إلی ما ذکر - مورد أخذ الشارع فی حکمه أو موضوع حکمه ، کأن یجعل القطع باجتهاد زید موضوعاً لجواز تقلیده ، و بعدالته موضوعاً لجواز الصّلاة خلفه ... و هکذا .

ص:131


1- 1) درر الفوائد فی حاشیة الفرائد : 5 .
الفرق بین القسمین

و أفاد الشّیخ (1) وجود ثلاثة فروق بین القسمین :

الأول : إن القطع الموضوعی یقع وسطاً فی الثبوت ، و الطریقی لا یکون کذلک . أی: لو لا القطع بعدالة زید مثلاً لم یترتب جواز الصلاة خلفه ، أمّا الطریقی ، فلا یقع واسطةً فی ثبوت الخمر و لا حرمته ، کما تقدم .

و الثانی : إنه لا یفرّق بین أسباب حصول القطع الطریقی و خصوصیّاته و متعلّقاته ، أمّا الموضوعی فیتبع نظر المولی و کیفیّة أخذه القطع موضوعاً لحکمه .

فتارةً : یرتّب الحکم علی الموضوع علی نحو الإطلاق فیکون کالطریقی ، مثل موضوعیّة القطع لوجوب الإطاعة و استحقاق المؤاخذة علی المخالفة فی نظر العقل ، فهو قطع موضوعی عند العقل ، و لا دخل لخصوصیةٍ من الخصوصیّات فی کونه موضوعاً لهذا الحکم العقلی .

و اخری : یکون للخصوصیّة دخل ، کأنْ یقول : إن کان الحکم الذی قطع به المجتهد مستنبطاً من الکتاب و السنّة ، فتقلیده فیه جائز ، فقد أخذت خصوصیّة « من الکتاب و السنّة » فی القطع الموضوعی .

و الثالث : إن القطع الطریقی تقوم جمیع الأمارات - بأدلّة اعتبارها - مقامه ، و أمّا الموضوعی ، ففیه تفصیل ، فهی تقوم مقامه إنْ کان بنحو الکاشفیة ، أمّا إن کان بنحو الصفتیّة فلا .

و من هنا ظهر انقسام الموضوعی إلی قسمین ، و سیأتی توضیحه .

و هذا ملخّص کلام الشیخ قدس سرّه .

ص:132


1- 1) فرائد الاصول 1 / 31 - 35 .
أنحاء دخل القطع الموضوعی فی الحکم

ثم إنّ القطع الذی اخذ فی الموضوع ، یقبل أنواعاً من الأخذ و المدخلیّة فی الحکم ، فتارةً : یکون کلّ الدخل للقطع و لا أثر للواقع أصلاً ، و اخری : یکون للواقع دخل أیضاً ، و القطع إمّا جزء أو قید . مثال الأوّل : أن یکون الحکم مترتباً علی محرز الخمریّة ، فالإحراز هو الموضوع فقط . و مثال الثانی : أن یکون الحکم مترتباً علی الخمر المحرز ، فللإحراز جزء من الدخل ، و مثال الثالث : أن یکون الحکم مترتباً علی الخمر المقیّد بالإحراز .

و إذا کان للقطع تمام الموضوعیّة و الدخل ، فإنّ الحکم یترتّب و إنْ کان جهلاً مرکّباً ، و إلّا کان للمطابق الخارجی مدخلیّة ، جزءاً أو قیداً کما فی المثالین .

و إذا تعلّق القطع بالموضوع ، أمکن أخذه فی موضوع حکمٍ آخر ، کأن یقول : إذا قطعت بالخمریّة وجب علیک التصدّق بکذا .

و أمّا إذا تعلّق بحکمٍ ، فهل یمکن أخذه موضوعاً لحکم آخر ؟ فیه تفصیل :

إنْ کان الحکم الآخر مماثلاً لهذا الحکم - کأن یکون القطع بحرمة الخمر مأخوذاً فی موضوع حکم آخر مثله - أو یکون القطع بوجوب الصلاة موضوعاً لوجوبها بوجوب آخر ، فلا یمکن ، للزوم اجتماع المثلین .

و إن کان ضدّاً ، فکذلک ، کأن یقول : إذا قطعت بوجوب الصلاة حرمت علیک الصلاة . للزوم اجتماع الضدّین .

و إنْ کان مخالفاً له ، فلا مانع ، کأن یقول : إذا قطعت بوجوب الصلاة وجب علیک التصدّق بکذا . فإنه لا مماثلة و لا تضاد بین وجوب التصدّق و وجوب الصلاة ، بل هما متغایران .

ص:133

أقسام القطع الموضوعی فی الکفایة

و قد جعل صاحب الکفایة (1) القطع الموضوعی علی أربعة أقسام ، فذکر أنّه :

تارةً : یکون تمام الموضوع . و اخری : بنحو یکون جزءه أو قیده . و فی کلٍّ منهما یؤخذ طوراً : بما هو کاشف و حاک عن متعلّقه ، و آخر : بما هو صفة خاصّة للقاطع أو المقطوع به .

ثم شرع فی بیان انقسام القطع الموضوعی إلی الکشفی و الوصفی ، فقال :

و ذلک ، لأن القطع لمّا کان من الصفات الحقیقیّة ذات الإضافة - و لذا کان العلم نوراً لنفسه و نوراً لغیره - صحّ أنْ یؤخذ فیه بما هو صفة خاصّة و حالة مخصوصة ، بإلغاء جهة کشفه أو اعتبار خصوصیة اخری فیه معها ، کما صحّ أن یؤخذ بما هو کاشف عن متعلّقه و حاک عنه . فیکون أقسامه أربعة .

فکانت الأقسام عنده أربعة ، لأنّه جعل حالة کونه ( جزءه أو قیده ) واحداً .

أقسام القطع الموضوعی فی الدرر

و قال المحقق الحائری :

اعلم أن القطع المأخوذ فی الموضوع یتصوّر علی أقسام :

أحدها : أنْ یکون تمام الموضوع للحکم .

و الثانی : أنْ یکون جزءاً للموضوع ، بمعنی أن الموضوع المتعلّق للحکم هو الشیء مع کونه مقطوعاً به .

و علی أیّ حالٍ.

ص:134


1- 1) کفایة الاصول : 263 .

إمّا أن یکون القطع المأخوذ فی الموضوع ملحوظاً علی أنه صفة خاصّة .

و إمّا أن یکون ملحوظاً علی أنه طریق إلی متعلّقه .

و المراد من کونه ملحوظاً علی أنه صفة خاصّة ، ملاحظته من حیث أنه کشف تام ، و من کونه ملحوظاً علی أنه طریق ملاحظته من حیث أنه أحد مصادیق الطریق المعتبر ، و بعبارة اخری : ملاحظة الجامع بین القطع و سائر الطرق المعتبرة .

فعلی هذا ، یصح أنْ یقال فی الثمرة بینهما :

إنه علی الأوّل لا تقوم سایر الأمارات و الاصول مقامه بواسطة الأدلّة العامة لحجیّتها ، أمّا غیر الاستصحاب من الاصول ، فواضح ، و أمّا الاستصحاب و سائر الأمارات المعتبرة ، فلأنها بواسطة أدلّة اعتبارها توجب إثبات الواقع تعبّداً ، و لا یکفی مجرد الواقع فیما نحن فیه ، لأن للقطع بمعنی الکشف التام دخلاً فی الحکم ، إمّا لکونه تمام الملاک ، و إمّا لکونه ممّا یتم به الموضوع .

و علی الثانی ، فقیام الأمارات المعتبرة و کذا مثل الاستصحاب لکونه ناظراً إلی الواقع فی الجملة مقامه ، مما لا مانع منه ... (1) .

و ما ذکره یختلف عمّا تقدّم اختلافاً بسیطاً .

و علی الجملة ، فقد أوضح صاحب الکفایة معنی القطع الموضوعی الکشفی و القطع الموضوعی الصفتی أی الوصفی ، لأن القطع من الصفات القائمة بالنفس کسائر الصفات من الشجاعة و الجود و غیرهما ، لکنه صفة ذات تعلّق و إضافة ، و الصفات ذات التعلّق منها ما فیه جهة الکشف أیضاً کالقطع ، و منها ما لیس فیه جهة الکشف کالشوق مثلاً ... فالقطع صفة ذات تعلّق و لها جهة

ص:135


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 330 - 331 .

الکاشفیّة ، و هذه الکاشفیة ذاتیّة - بخلاف کاشفیة الظنّ فإنها لیست بالذات - و کاشفیّة تامّة فی أعلی المراتب بحیث لا یحتمل الخلاف فی القطع ، خلافاً لصاحب الدرر ، إذ تصوّر القطع بلا کاشفیّة تامّة .

و هذا القطع قد لا یؤخذ فی لسان الخطاب أصلاً ، فهو القطع الطریقی ، و قد یؤخذ ، فهو القطع الموضوعی ، و قد تقدّم ذکر أقسامه ... .

فکان مجموع أقسام القطع - بناءً علی جعل الموضوعی المأخوذ جزءاً أو قیداً قسماً واحداً - خمسة أقسام .

رأی المیرزا و الکلام حوله

و لکن المیرزا قدّس سرّه أنکر القطع المأخوذ تمام الموضوع علی نحو الطریقیّة ، فالأقسام عنده ثلاثة ، فقد جاء فی تقریر بحثه :

نعم ، فی إمکان أخذه تمام الموضوع علی وجه الطریقیّة إشکال ، بل الظاهر أنه لا یمکن ، من جهة أنّ أخذه تمام الموضوع یستدعی عدم لحاظ الواقع وذی الصورة بوجه من الوجوه ، و أخذه علی وجه الطریقیّة یستدعی لحاظ ذی الطریق وذی الصورة ... و لحاظ العلم کذلک ینافی أخذه تمام الموضوع . فالإنصاف أن أخذه تمام الموضوع لا یمکن إلّا بأخذه علی وجه الصفتیّة (1) .

و قد استفید من هذا الکلام أن المحذور فی نظره اجتماع اللّحاظین الاستقلالی و الآلی فی الشیء الواحد ، و هو محال .

فأجاب عنه المحقق العراقی (2) بما حاصله :

ص:136


1- 1) فوائد الاصول 3 / 11 .
2- 2) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 15 .

النقض بما إذا اخذ القطع بعدالة زید موضوعاً لجواز الاقتداء به ، و باجتهاده موضوعاً لجواز تقلیده کما تقدم ، فإن هذا الأخذ إنما هو علی نحو الکاشفیة لا الصفتیّة .

و أمّا حلّاً ، فإنّ الشیء الواحد الذی لا یجتمع فیه اللّحاظان هو المصداق الخارجی ، و أمّا مفهوم القطع ، فلا مانع من أخذه موضوعاً لحکمٍ مع کاشفیّته عن الواقع .

أقول :

و هذا الجواب صحیح إنْ کان مراد المیرزا ما ذکر ، لکنّ الظاهر من کلامه أنّ المحذور لیس اجتماع اللّحاظین ، و إنما هو أن أخذ القطع بنحو الکاشفیّة یستلزم ثبوت الواقع ، و أخذه موضوعاً علی نحو تمام الموضوع یستلزم سقوطه ، فاجتمع الثبوت و السقوط بالنسبة إلی الواقع ، و هذا هو الذی فهمه سیّدنا الاستاذ قدّس سرّه إذ قال :

أنکر المحقّق النائینی أخذ القطع تمام الموضوع بنحو الطریقیة ، فذهب إلی أنه لا بدّ أن یکون مأخوذاً جزء الموضوع ، فالأقسام لدیه ثلاثة ، و علّل ذلک بأن النظر الاستقلالی فی القطع الطریقی یتعلق بمتعلقه و بالواقع المنکشف به و بذی الطریق ، أما القطع فهو مغفول عنه و ملحوظ مرآة للغیر شأن کلّ کاشف و طریق ، و أخذه فی تمام الموضوع یلازم غض النظر عن الواقع و ملاحظته القطع مستقلاً و هذا خلف .

ثم أجاب عن ذلک بقوله :

و لکن هذا التعلیل علیل ، و هو ناش من الخلط بین مقام الجعل و مقام تعلّق

ص:137

القطع بشیء ، بیان ذلک : إن من ینظر إلی الکتاب بواسطة نظارته یغفل عن نظارته و إنما نظره المستقلّ متعلّق بالکتاب الذی جعل النظارة طریقاً إلیه ، و لکن الشخص الذی ینظر إلی هذا الناظر و یری کاشفیة و آلیة النظارة ، یستطیع أن یتعلّق نظره مستقلّاً و غرضه بالنظارة ذاتها من دون أن یکون للکتاب أی دخل فیه .

و فی ما نحن فیه من هذا القبیل ، فإن من یتعلق نظره الاستقلالی بالمقطوع و یغفل عن القطع هو القاطع نفسه ، إذ کون القطع طریقاً لدیه یلازم لحاظه آلة و بنحو المرآتیة ، أما الجاعل الذی یرید أن یجعل حکماً علی هذا القطع له أن یقصره نظره علی القطع ، بمعنی أنه یرتب الحکم علی القطع بلحاظ کشفه لکن من دون أن یکون لوجود المتعلق فی الخارج أی أثر ، لتمکنه من لحاظ القطع بنحو الاستقلال لا الآلیة و المرآتیة ، نظیر من ینظر إلی المرآة لا لیری صورته بها ، بل لیری جودتها و جنسها . فظهر لک الخلط بین المقامین (1) .

أقول :

و الإنصاف أن ما ذکره خلاف الظاهر جدّاً .

إلّا أن یقال فی مقام الدفاع عن صاحب الکفایة : إن نظره إلی أن المقصود من القطع المجعول موضوعاً للأحکام کالحجیّة الذاتیة و الطریقیّة ، هو الأعم من العلم أی الصّورة الذهنیة المطابقة للواقع و من الجهل المرکب ، و هذا القطع الأعم ، له حیثیّتان ، هما الصفة القائمة بالنفس و حیثیة عدم احتمال الخلاف ، و هناک حیثیة ثالثة هی الطریقیة و الکاشفیة . فالقطع کرؤیة الإنسان للشیء ، حیث أن الرؤیة صفة قائمة بالرّائی ، تریه الشیء و لا یحتمل الإنسان الخلاف فیها ، لکن قد تتخلّف

ص:138


1- 1) منتقی الاصول 4 / 69 - 70 .

الرؤیة عن الواقع .

وعلیه ، ففی الجهل المرکب أیضاً إراءة و طریقیة و کشف ، لکنْ عن الواقع الخیالی لا الحقیقی ، فإذا کان هذا مراد المحقق الخراسانی ، فالإشکال یندفع .

هکذا أفاد شیخنا دام بقاه .

لکنّ السید الخوئی قد أورد الإشکال علی الکفایة بنفس التقریب الذی ذکره الاستاذ ، و هذا نص عبارته :

و أمّا القطع المأخوذ فی الموضوع بنحو الطریقیة فلا یمکن أخذه تمام الموضوع ، إذ معنی کونه تمام الموضوع أنه لا دخل للواقع فی الحکم أصلاً ، بل الحکم مترتب علی نفس القطع و لو کان مخالفاً للواقع ، و معنی کونه مأخوذاً بنحو الطریقیة أن للواقع دخلاً فی الحکم و أخذ القطع طریقاً إلیه ، فیکون الجمع بین أخذه فی الموضوع بنحو الطریقیة و کونه تمام الموضوع من قبیل الجمع بین المتنافیین . فالصحیح هو تثلیث الأقسام ... (1) .

فقد أورد الإشکال بلحاظ الواقع ثبوتاً و سقوطاً ، و أشار بکلمة « و لو کان مخالفاً للواقع » إلی صورة الجهل المرکب الذی ذکره الاستاذ .

فالذی نراه ورود إشکال المیرزا و من تبعه ، و أنّ دفاع المحقّق العراقی و سیّدنا الاستاذ و شیخنا دام بقاه عن الکفایة لا یجدی .

ص:139


1- 1) مصباح الاصول 2 / 33 .
مبحث قیام الأمارات و الأُصول مقام القطع
اشارة

إنّ أدلّة اعتبار الأمارة - کخبر الواحد و البیّنة و نحوهما - تفید حجیّتها و تقتضی کشفها عن الواقع ، فهل تدلّ علی قیامها مقام القطع فی الحجیّة و الکشف ؟

و أیضاً ، فإنّ عندنا أصولاً هی وظائف عملیّة فی ظرف الشک ، و منها ما یکون لسان دلیله تنزیل مؤدّاه منزلة الواقع أو الاحتمال منزلة الیقین ، و هو المسمّی بالأصل المحرز کالاستصحاب ، و یقابله غیر المحرز کالبراءة ، فهل یدلّ دلیله علی قیامه مقام القطع أوْ لا ؟ و إنْ قلنا بالقیام فی الأمارات و الاصول ، فهی تقوم مقام أیّ قسم من أقسام القطع ؟ و قد عرفنا أن المراد من القیام مقامه هو ترتیب أثر القطع علیه .

الکلام فی الأمارات

أمّا الأمارات ، ففیها ثلاثة أقوال :

1 - قیامها مقام القطع مطلقاً .

2 - قیامها مقام القطع الطریقی دون المأخوذ فی الموضوع مطلقاً . و هو مسلک صاحب الکفایة .

3 - قیامها مقام القطع المأخوذ فی الموضوع بنحو الکشف فقط . وعلیه

ص:140

الشیخ و المیرزا و جماعة .

وضوح قیامها مقام القطع الطریقی المحض

و المهم هو النظر فی الخلاف بین الشیخ و صاحب الکفایة و أتباعهما ، لوضوح قیام الأمارة مقام القطع الطریقی المحض ، لأن أدلّة الأمارة مفادها لا یخلو عن أحد امور :

إمّا تنزیل مؤدّی الأمارة بمنزلة الواقع .

و إمّا هو جعل الطریقیّة و الکاشفیة له عن الواقع تعبّداً .

و إمّا هو جعل المنجزیّة و المعذریّة لها .

فسواء قلنا بهذا أو ذاک أو الثالث ، فإنّ الأمارة تقوم مقام القطع الطریقی ، لأن المطلوب فیه هو العثور علی الواقع ، و قد جعل الشارع الأمارة بمنزلة الواقع بناءً علی الأوّل ، أو جعلها طریقاً إلیه بناءً علی الثانی ، أو جعلها منجّزة و معذّرة بالنسبة إلیه بناءً علی الثالث . و لذا قال السیّد الخوئی : لا کلام فی أنّ الطرق و الأمارات و الاصول المحرزة تقوم مقام القطع الطریقی المحض ، بنفس أدلّة حجیّتها ، و یترتّب علیها جمیع الآثار المترتّبة علیه من تنجیز الواقع به إذا أصاب ، و کونه عذراً إذا أخطأ ، و کون مخالفته تجریاً ، و موجباً لاستحقاق العقاب ، إلی غیر ذلک من الآثار المترتبة علی القطع الطریقی . (1)

و قال السید الاستاذ :

لا إشکال بین الأعلام فی قیام الأمارة بدلیل اعتبارها مقام القطع الطریقی ،

ص:141


1- 1) دراسات فی علم الاصول 3 / 52 .

بمعنی أن نفس ما یترتب علی القطع من المنجزیّة و المعذّریة یترتب علی الأمارة (1) .

وضوح عدم قیامها مقام الطریقی الوصفی

و أما قیامها مقام القطع الوصفی ، فعدم إمکانه واضح ، لأن معنی أخذ القطع فی الموضوع بما هو صفة هو اعتبار دخل الصفة الخاصّة فی الحکم ، و لکنّ الأمارة لا تصیر بأدلّتها صفةً خاصّةً ، فلا تقوم مقام القطع بهذا المعنی .

الاختلاف بین الشیخ و صاحب الکفایة

فکان المهم هو النظر فی الاختلاف بین الشیخ القائل بقیام الأمارة مقام القطع الموضوعی الکشفی و صاحب الکفایة المنکر لقیامها مقام القطع الموضوعی مطلقاً .

رأی الشیخ

و قد تبع المیرزا الشیخ و قرّب ما ذهب إلیه قائلاً :

أمّا علی المختار من أنّ المجعول فی باب الطّرق و الأمارات هو نفس الکاشفیة و المحرزیّة و الوسطیّة فی الإثبات ، فیکون الواقع لدی من قامت عنده الطرق محرزاً کما کان فی صورة العلم ، و المفروض أنّ الأمر مترتّب علی الواقع المحرز ، فإن ذلک هو لازم أخذ العلم من حیث الکاشفیّة موضوعاً ، و بنفس دلیل حجیّة الأمارات و الاصول یکون الواقع محرزاً ، فتقوم مقامه بلا التماس دلیل آخر (2) .

ص:142


1- 1) منتقی الاصول 4 / 70 .
2- 2) فوائد الاصول 3 / 21 .
رأی صاحب الکفایة

قال فی الکفایة :

لا ریب فی قیام الطرق و الأمارات المعتبرة بدلیل حجیّتها و اعتبارها مقام هذا القسم .

یعنی : القطع الطریقی المحض الذی تقدّم بیان وضوح قیامها مقامه ، و لذا قال : « لا ریب ... » .

قال :

کما لا ریب فی عدم قیامها بمجرّد ذلک الدلیل مقام ما اخذ فی الموضوع علی نحو الصفتیّة من تلک الأقسام ، بل لا بدّ من دلیلٍ آخر علی التنزیل ، فإنّ قضیة الحجیّة و الاعتبار ترتیب ما للقطع بما هو حجة من الآثار لا ما له بما هو صفة و موضوع ، ضرورة أنه کذلک یکون کسائر الموضوعات و الصّفات .

و هذا بیان ما ذکرناه بالنسبة إلی القطع الوصفی .

قال :

و منه قد انقدح عدم قیامها بذلک الدلیل مقام ما اخذ فی الموضوع علی نحو الکشف ، فإن القطع المأخوذ بهذا النحو فی الموضوع شرعاً کسائر ما له دخل فی الموضوعات أیضاً ، فلا یقوم مقامه شیء بمجرّد حجیّته أو قیام دلیل اعتباره ، ما لم یقم دلیل علی تنزیله و دخله فی الموضوع کدخله (1) .

أقول :

و هذا المقطع الأخیر هو مورد النظر ، فإنّه یری أنْ لا فرق بین القطع

ص:143


1- 1) کفایة الاصول : 263 .

الموضوعی الوصفی و القطع الموضوعی الکشفی فی عدم قیام الأمارة مقامه ، لعدم وجود الفرق فی وجه عدم القیام .

ثم تعرّض رحمه اللّٰه لکلام الشیخ قدّس سرّه فقال :

و توهّم کفایة دلیل الاعتبار الدالّ علی إلغاء احتمال خلافه و جعله بمنزلة القطع من جهة کونه موضوعاً و من جهة کونه طریقاً ، فیقوم مقامه ، طریقاً کان أو موضوعاً .

فاسد جدّاً .

فإنّ الدلیل الدالّ علی إلغاء الاحتمال لا یکاد یکفی إلّا بأحد التنزیلین ، حیث لا بدّ فی کلّ تنزیل منهما من لحاظ المنزّل و المنزّل علیه ، و لحاظهما فی أحدهما آلیّ و فی الآخر استقلالی ، بداهة أن النظر فی حجیّته و تنزیله منزلة القطع فی طریقیّته فی الحقیقة إلی الواقع و مؤدّی الطریق ، و فی کونه بمنزلته فی دخله فی الموضوع إلی أنفسهما ، و لا یکاد یمکن الجمع بینهما ... .

ثم تعرّض فی الأخیر لکلامه فی حاشیة الرّسائل فقال : بأنّه لا یخلو من تکلّف بل تعسّف .

و سیأتی الکلام علی ذلک إن شاء اللّٰه .

أقول :

و محصّل ما ذهب إلیه هو : أن المستفاد من أدلّة اعتبار الأمارة هو تنزیلها بمنزلة الواقع ، لکن القاعدة العامة فی تنزیل شیء بمنزلة شیء هی لحاظ الشیء المنزّل و الشیء المنزّل علیه وجهة التنزیل ، کما فی تنزیل الطواف بمنزلة الصّلاة ، فإنهما یلحظان و یلحظ الأثر و الحکم الثابت للصّلاة المراد إثباته للطواف ، فلا بدّ

ص:144

من لحاظ کلّ ذلک باللّحاظ الموضوعی حتی یتم التنزیل .

وعلیه ، فلو وقع القطع بشیء موضوعاً لحکمٍ یکون لا محالة ملحوظاً باللّحاظ الاستقلالی و ینعزل عن الطریقیّة تماماً ، کما فی : إذا قطعت بوجوب الصّلاة وجب علیک التصدق بکذا ، فإنّ وجوب التصدّق یترتب علی القطع و یکون هو موضوع الأثر ، فلو ارید تنزیل الأمارة - بدلیل اعتبارها - بمنزلة الواقع لم یمکن إلّا بلحاظهما علی نحو الطریقیّة ، مثلاً : إذا قامت البیّنة علی خمریّة المائع ، دلّ دلیل حجیّتها علی وجوب الاجتناب عنه و تنزیله بمنزلة الخمر الواقعی فی ذلک ، و لو لا لحاظ المؤدّی - و هو الخمریّة - و لحاظ الواقع الذی تحقق القطع به ، لما أمکن التنزیل ، و من الواضح أن هذین اللّحاظین آلیّان ... فکان الملحوظ استقلالیّاً و آلیّاً معاً ، و الاستقلالیّة و الآلیّة لا یجتمعان .

إشکال المحقق الأصفهانی

قال فی التعلیق علی قول الکفایة : و لحاظهما فی أحدهما آلیّ و فی الآخر استقلالی :

لا یذهب علیک أنّ القطع و الظن حین تعلّقهما بشیء طریق صرف ، و لیس الملحوظ فی تلک الحال علی وجه الأصالة و الاستقلال إلّا ذلک الشیء ، و القطع مثلاً نحو حضور المعنی عند النفس ، و هو معنی لحاظه . و لیس للقطع لحاظ لا آلیّاً و لا استقلالیاً ، بل هو عین لحاظ الغیر ، فلیس کالمرآة حتی یعقل أنْ ینظر فیها إلی شیء فتکون منظورةً بالتبع ، بل القطع عین لحاظ الذهن و نظره إلی المعلوم .

بل القطع کما لا یکون ملحوظاً آلیّاً ، کذلک لیس آلةً ، لعدم تعقّل کون لحاظ الشیء آلة للحاظه ، کما لا یعقل أنْ یکون آلةً لذات الشیء أو لوجوده الخارجی .

ص:145

قال :

إذا عرفت ذلک فاعلم : أن القطع إنما یتّصف بالطریقیة و المرآتیة عند تعلّقه حقیقةً بالشیء ، و فی غیر تلک الحال لا یعقل أن یلاحظ إلّا استقلالاً . و لیس القطع بما هو من وجوه متعلّقه و عناوینه حتی یعقل لحاظه تارةً بنحو الفناء فی المعنون وذی الوجه ، و اخری بنفسه ، بمعنی أنْ یکون تارةً ما به ینظر و اخری ما فیه ینظر ، و کیف یعقل لحاظ صفة القطع علی الوجه الذی هو علیه حال تعلّقه بشیء حقیقةً فی مقام تنزیل شیء منزلته ، إذ الآلة لا یعقل أن تکون طرفاً ؟ (1)

أقول :

و یتلخّص هذا الکلام فی نقاط :

1 - إن القطع حضور المعنی عند النفس ، و هذا معنی لحاظه .

2 - لیس نسبة القطع إلی متعلّقه نسبة المرآة إلی المرئی ، فإنّ المرآة قد تُلحظ باللّحاظ الاستقلالی و بقطع النظر عن المرئی ، فتکون ما فیه ینظر ، و قد تلحظ باللّحاظ الآلی طریقاً إلی المرئی ، فتکون ما به ینظر ، فلیس للقطع لحاظ لا آلیّاً و لا استقلالیّاً .

3 - لا یکون القطع آلةً ، لعدم تعقّل کون لحاظ الشیء آلةً للحاظه .

4 - لیس نسبة القطع إلی المتعلّق نسبة الوجه إلی ذی الوجه و العنوان إلی المعنون ، فلیس مثل عنوان الفقیه مثلاً حیث یمکن النظر إلیه بعنوانه فیکون اللّحاظ استقلالیاً ، و یمکن النظر إلیه فانیاً فی مصادیقه فیکون اللّحاظ آلیّاً .

ص:146


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 51 .

و الحاصل : عدم تعقّل اللّحاظین فی القطع ، حتی یلزم محذور الاجتماع .

قال :

نعم ، یمکن تقریب الإشکال بوجهٍ آخر و هو :

إن القطع و الظن حیث أنهما متقوّمان بذات المقطوع و المظنون ، فثبوت أحدهما یستلزم ثبوت الآخر ، فالأمر بترتیب الأثر علی الظن یمکن أن یکون علی وجه الکنایة أمراً بترتیب الأثر علی لازمه و هو ذات المظنون ، کما یمکن أن یکون علی وجه الأصالة و الحقیقة أمراً بترتیب الأثر علی نفسه ، و لا یعقل ملاحظة الظن قنطرةً للانتقال إلی لازمه و هو ذات المظنون ، و ملاحظته لا علی هذا الوجه بل علی وجه الحقیقة و الأصالة ، فلا یعقل أن یکون القضیة الواحدة کنائیة و حقیقیّة ، فیکون نظیر الجمع بین اللّحاظ الآلی و اللّحاظ الاستقلالی فی الاستحالة (1) .

أقول :

توضیحه :

إن القطع من الامور ذات التعلّق ، فهو متقوّم بذات المقطوع ، فإذا قطعت بعدالة زید ، کان قوام مفهوم القطع عدالته ، و کذلک الظن ، فإذا قامت البیّنة علی عدالة زید ، حصل لک الظنُّ بعدالته ، و هی قوام الظن ، فلا تحقّق للقطع و الظن بدون المتعلّق ، فهناک تلازم بین القطع و متعلّقه و الظن و متعلّقه ، فإذا أمر الحاکم بترتیب الأثر علی الظنّ و تنزیله بمنزلة الواقع ، أمکن أن یکون - علی وجه الکنایة - أمراً بترتیب الأثر علی لازمه و هو ذات المظنون ، أی عدالة زید ، بتنزیلها منزلة

ص:147


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 52 .

الواقع ، و أمکن أن یکون - علی وجه الحقیقة - أمراً بترتیب الأثر علی نفس الظن ، فیجتمع فی الخطاب الواحد أن تکون القضیة کنائیة و حقیقیة ، فیکون نظیر الجمع بین اللحاظ الآلی و اللحاظ الاستقلالی فی الاستحالة . و مثاله : قولهم : زید کثیر الرماد ، فإنّ هذا الکلام عندهم کنایة عن جود زید ، فلو ارید مع ذلک المعنی الحقیقی منه ، اجتمع الکنائیّة و الحقیقة ، و هو محال .

لأن الکنایة هی عدم لحاظ الحقیقة ، و الحقیقة هی عدم لحاظ المعنی المجازی ، فلا یجتمعان ... .

و بعبارة اخری : إنْ لوحظ المعنی الحقیقی لم یکن القطع أو الظن قنطرة للانتقال إلی اللّازم ، و إنْ لم یلحظ کان قنطرةً ، و الجمع بین کونه قنطرة و عدم کونه قنطرةً جمع بین النقیضین و هو محال .

مناقشة هذا الإشکال

و قد ناقش الاستاذ هذا الکلام فی جمیع جهاته :

أمّا قوله : القطع لیس کالمرآة حتی یعقل أن یلحظ باللّحاظین .

فهو أوّل الکلام ، فقد ذکر هذا المحقق - فی حقیقة القطع - أنّ حقیقته هی النوریّة ، فهی عین القطع لا من لوازمه ، و النور - کما هو معروف - ظاهر بذاته و مظهرٌ لغیره ، فیمکن لحاظه و لحاظ الغیر به ، کذلک القطع . فما ذکره هنا ینافی کلامه هناک .

هذا نقضاً .

و أمّا حلّاً ، فإنّ القطع لحاظٌ ، و لکلّ لحاظ ملحوظ ، کالرؤیة حیث لها مرئی ، فکما تلحظ الرّؤیة بنفسها و تلحظ فانیةً فی المرئی ، کذلک القطع یلحظ بنفسه

ص:148

و یلحظ فانیاً فی المتعلّق المقطوع به ، غیر أنّ اللّحاظ رؤیة نفسانیة ، و الرؤیة رؤیة جسمانیّة .

و أمّا قوله : لیس القطع بما هو من وجوه متعلّقه و عناوینه .

فهذا صحیح ، و لکنّ اللّحاظ الآلی و الاستقلالی غیر منحصرین بالعناوین و الوجوه ، فإنّ الرؤیة لیست عنواناً للمرئی و وجهاً له ، و النور لیس وجهاً و عنواناً للمستنیر ، إلّا أنه یلحظ بنفسه و یلحظ فانیاً فی المستنیر .

و أمّا تقریبه الإشکال بما ذکره ، ففیه :

أوّلاً : إنّ مورد الکنایة هو ما إذا کان أمران بینهما ملازمة ، فینتقل من أحدهما إلی الآخر ، کما فی مثل زید کثیر الرماد ، فإنْ ذلک من لوازم الجود ، فإذا قیل کذلک ، انتقل الذهن إلی جود زید ، لوجود الملازمة بین الأمرین ، و لکن التحقیق عدم وجود الملازمة بین القطع أو الظنّ و متعلّقه ، لأنّ المتعلّق هو المقطوع بالذات و موطنهما الذّهن ، و المنطبَق علیه المتعلّق خارجاً هو المقطوع بالعرض ، أمّا المقطوع بالذات ، فإنّه قوام مفهوم القطع ، و القطع محتاج إلیه فی أصل وجوده ، لکنهما موجودان بوجودٍ واحدٍ و لیسا متلازمین . و أمّا المقطوع بالعرض ، فوجوده غیر وجود القطع کما هو واضح ، لکن لا تلازم بینهما قطعاً کذلک ، و إلّا یلزم أنْ لا یتحقق الجهل المرکب أصلاً ، لاستحالة التفکیک بین المتلازمین .

فما ذکره من کون حال القطع و متعلّقه - و کذا الظن - من قبیل الکنایة ، غیر صحیح ، إذ لا یوجد التلازم بین القطع و متعلّقه - و کذلک الظن - کما یوجد فی باب الکنایة ، بل الأثر یترتب علی الوجود الخارجی للمقطوع کالخمر مثلاً و حکمه الحرمة .

ص:149

و ثانیاً إنه لا یلزم - فیما نحن فیه - محذور الاجتماع بین الحقیقة و الکنایة .

و ذلک : لأن المتلازمین علی نحوین ، فقد لا یکون بینهما نسبة الحکایة و الدلالة ، کما فی الجود و کثرة الرماد ، حیث أنهما متلازمان لکنْ لا توجد بینهما نسبة الحکایة و الدلالة و الکشف ، و لذا یکون أثر کلٍّ منهما مختصّاً به و لا یترتب علی الآخر ، فلو ارید ترتیبه احتیج إلی جعل أحدهما کنایةً عن الآخر ، کما فی المثال ، حیث تجعل کثرة الرماد کنایة عن الجود .

و قد یکون بین المتلازمین نسبة الحکایة و الکشف و الدلالة ، و فی هذه الحالة یرتَّب عرفاً أثر أحدهما علی الآخر بلا حاجةٍ إلی الکنایة ، کما هو الحال بین الیقین و المتیقّن ، فإنّ کلّ یقینٍ یستلزم المتیقّن ، فإذا قال : إذا تیقّنت بعدالة زید فصلّ خلفه ، کانت الصّلاة خلفه أثراً للیقین بحسب ظاهر العبارة ، لکن العرف یرتّبون هذا الأثر علی المتیقّن ، هو العدالة ، لأن الیقین کاشف عن المتیقّن و دالّ علیه ، فقول المولی : رتّب الأثر علی یقینک ، معناه : رتّب الأثر علی المتیقّن .

فما ذکره المحقّق الاصفهانی من الکنائیة ، إنما یکون حیث لا کاشفیة لأحد المتلازمین عن الآخر ، و إلّا فإنّ أهل العرف یرتّبون الأثر و لا یلزم استحالة الجمع .

و تلخّص : اندفاع الاشکال علی الکفایة ، و عدم تمامیّة التقریب المذکور کذلک .

و التحقیق

و التحقیق هو : إنه إنْ کان مدلول أدلّة اعتبار الأمارات هو تنزیل مؤدّاها بمنزلة الواقع ، بأنْ یکون المقصود أن ما أخبر به زرارة من وجوب صلاة الجمعة - مثلاً - هو الواقع ، فالحق مع صاحب الکفایة ، لما ذکره رحمه اللّٰه ... .

ص:150

لکن الکلام فی أصل المبنی ، و لا بدّ من النظر فی دلیل القول بذلک .

لقد استدلّ للقول المذکور .

أمّا ثبوتاً ، فلأنّ مقصود المولی حفظ الواقع ، و لأجل ذلک جعل الأمارات و الطرق ، حتی یحصل التحفّظ علی الأغراض و الأحکام الواقعیّة فی ظرف الجهل بها ، فیعتبر خبر زرارة بمنزلة الواقع حتّی یُعمل به فیحفظ الواقع .

و أمّا إثباتاً ، فقد استدلّ ببعض الروایات ، کقوله علیه السّلام : « العمری و ابنه ثقتان ، فما أدّیا فعنّی یؤدّیان ، و ما قالا لک فعنّی یقولان » (1) لظهوره فی تنزیل المؤدّی بمنزلة الواقع .

و فیه نظر .

أمّا ثبوتاً ، فلأنّ حفظ الواقع غیر متوقّف علی تنزیل مؤدّی الأمارة بمنزلة الواقع ، بل مقتضی الحکمة أن یجعل فی ظرف الشک فیه طریقاً موصلاً إلیه ، کما هو الحال فی الأغراض و المقاصد التکوینیّة ، فإنه یجعل فیها الطریق الموصل إلیها ، و هذا هو طبع المطلب ، فإنّه یقتضی جعل الطریق الموصل إلیه ، لا جعل غیر الواقع بمنزلة الواقع .

و أمّا إثباتاً ، فإنّ الأدلّة علی اعتبار الطرق و الأمارات علی قسمین :

فمنها : الدلیل اللبّی ، و هو عبارة عن السّیرة العقلائیة ، فهل السّیرة القائمة علی العمل بخبر الثقة هی باعتبار کونه هو الواقع التعبدی ، أو أنه طریق إلی الواقع ؟ الحق هو الثانی .

ص:151


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 138 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 4 .

و منها : الدلیل اللّفظی ، و هو دلیل إمضاء السیرة العقلائیة المذکورة .

علی أنّ لسانها لسان جعل الطریق الکاشف عن الواقع ، فمفهوم قوله تعالی « إِنْ جٰاءَکُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا ... » (1)عدم وجوب التبیّن إنْ کان المخبر غیر فاسق ، أی : إنْ کان المخبر غیر فاسق فخبره بیانٌ ، أمّا إنْ کان فاسقاً فیجب تحصیل البیان .

و فی قوله علیه السلام : « العمری و ابنه ثقتان ... » نجد الفاء للتفریع ، فإنّه قد وثّقهما ثم فرّع علی ذلک ترتیب الأثر علی قولهما ، أی: إنهما ثقتان عندی فما قالاه فهو طریق إلی قولی ، و هذا معنی الروایة لا ما ذکر من أنه تنزیل المؤدّیٰ بمنزلة الواقع .

و بالجملة ، فإنّ لسان الأدلّة اللفظیة و مفادها : جعل الطرق إلی الواقع ، و هو المراد من قول العلماء بتتمیم الکشف و إسقاط احتمال الخلاف .

فظهر : أن کلّ أمارة عمل بها العقلاء و أسقطوا معها احتمال الخلاف ، فهی تقوم مقام القطع ، کخبر الثقة ، لا ما کان منها مورداً للعمل و ترتیب الأثر - مع عدم إلغاء احتمال الخلاف - کما فی الید ، فإنّها أمارة علی الملکیة عند العقلاء ، لکنّ أماریّتها لیست بإسقاط احتمال الخلاف ، بل هو یحتملون فی موردها عدم الملکیة ، لکنّهم یرتّبون أثر الملکیة علیها من جهة أنه « لو لم یجز هذا لم یستقم للمسلمین سوق » کما فی الروایة (2) .

ص:152


1- 1) سورة الحجرات : 6 .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 292 ، الباب 25 من أبواب کیفیّة الحکم ، رقم : 2 .
القول المختار فی الأمارات

فالحق هو التفصیل فی الأمارات ... .

فمن الأمارات ما یلغی معه احتمال الخلاف و یرتب علیه أثر الواقع عقلاءً .

و منها : ما یرتّب علیه أثر الواقع لجهةٍ من الجهات مع وجود احتمال الخلاف .

أمّا القسم الأوّل ، فیقوم مقام القطع الموضوعی الکشفی .

و أمّا القسم الثانی ، فلا یقوم مقامه .

و مما یؤکّد التفصیل المذکور بالنظر إلی السّیرة العقلائیّة التی هی العمدة فی الدلالة علی حجیّة الأمارات : التأمّل فی بعض روایات المقام ، مثلاً : قول الراوی :

« أ فیونس بن عبد الرحمان ثقة آخذ عنه ما أحتاج إلیه من معالم دینی ؟ » (1) ظاهر فی المفروغیّة عن ترتیب الأثر علی قول الثقة ، فیسأل عن وثاقة یونس . بخلاف روایة حفص مثلاً - فإنه یقول : « أشهد أنّه له ؟ » فیجیب الإمام علیه السلام : أشهد أنه له » (2) فإنه ظاهر فی أنّ المرتکز عند العقلاء عدم کفایة کون الشیء فی الید للدلالة علی الملکیة ، فلذا یسأل عن هذه الجهة ... بخلاف الروایة السابقة ، فإنها ظاهرة فی کفایة الوثاقة عندهم للأخذ بقوله ، و لذا لا یسأل هناک عن جواز الأخذ بقول یونس ، و إنما یسأل عن وثاقته عند الإمام .

و تلخص : أن مثل البیّنة و خبر الثقة یکشف عن الواقع فیقوم مقام القطع ، و أمّا مثل الید ، فلا کاشفیّة له فلا یقوم مقامه ، و إنّما جاز ترتیب الأثر علیها بدلیل

ص:153


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 147 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 33 .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 292 ، الباب 25 من أبواب کیفیّة الحکم ، رقم : 2 .

خاصٍ لجهةٍ معیّنة .

فالحق هو التفصیل .

ثم إنه یرد علی صاحب الکفایة القائل بتنزیل المؤدّی بمنزلة الواقع ، التهافت بین کلامه هنا و ما ذهب إلیه فی مسألة الجمع بین الحکم الظاهری و الواقعی من أنّ المجعول فی باب الأمارات هو المنجزیّة و المعذّریة ... و لا یخفی عدم قیامها مقام القطع الموضوعی الکشفی علی هذا المبنی ، لأن المنجزیّة لا تفید الکاشفیة ، إلّا إذا اخذ القطع فی الموضوع بما هو منجّز .

و هذا تمام الکلام علی قیام الأمارات مقام القطع الموضوعی الکشفی .

الکلام فی الاصول

و أمّا الاُصول و هی علی قسمین .

الاصول المحرزة ، و هی المجعولة وظیفةً عملیّةً فی ظرف الشک بلسان إحراز الواقع ، کقاعدة الفراغ ، بناءً علی کونها من الاصول المحرزة ، فإنّها تجری لدی الشک فی عدد الرکعات ، حیث یقول علیه السلام : « بلی قد رکعت » (1) أی: إن الواقع ثابت . و فی الاستصحاب - علی القول بکونه من الاصول - یقول علیه السّلام : « لأنک کنت علی یقین ... » (2) فیفید إحراز الیقین و بقائه إلی الزّمان اللّاحق .

و تقابلها الاصول غیر المحرزة ، کالبراءة مثلاً ، حیث أن قوله علیه السلام :

ص:154


1- 1) وسائل الشیعة 6 / 317 ، الباب 13 من أبواب الرکوع ، رقم : 3 .
2- 2) وسائل الشیعة 3 / 466 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، رقم : 1 .

« رفع ما لا یعلمون » (1) لیس له نظر إلی الواقع و لا یحرزه أصلاً .

و تلخّص : أن الاصول العملیّة علی قسمین ، و قد ظهر الفرق بینهما إجمالاً .

وعلیه ، فإنّ موضوع البحث عن قیام الأصل مقام القطع ، هو الأصل المحرز للواقع ، کما هو واضح .

إلّا أن الکلام فی مفاد أدلّة اعتبار الأصل المحرز ، فإنّه علی القول بإفادتها تنزیل المؤدّی بمنزلة الواقع ، یتوجّه إشکال الکفایة کما تقدّم .

قیامه مقام القطع الطریقی دون الموضوعی الصفتی

لکن التحقیق هو الطریقیّة - کما فی الأمارات - فالأصل المحرز یقوم - بدلیل اعتباره - مقام القطع الطریقی ، کما لو قام الاستصحاب علی خمریّة المائع ، فإنّه یقوم مقام القطع الطریقی فی الأثر و هو المنجزیّة ، إذ الخمر المستصحب الخمریّة کالخمر المعلوم خمریّته بالعلم الطریقی ، فکما یکون العلم حجةً علی الاجتناب کذلک الاستصحاب ، و هکذا لو قام الاستصحاب علی حرمة الخمر ، بلا فرق .

فالأصل المحرز یقوم مقام القطع الطریقی موضوعاً و حکماً ، فلو لم یکن حجةً علی الواقع کان جعله لغواً .

و أمّا القطع الموضوعی المأخوذ علی وجه الصفتیّة ، فلا یقوم الأصل المحرز مقامه ، لأن مفاد دلیل الاستصحاب - مثلاً - هو جعله و تشریعه فی ظرف الشک ، لا حصول صفة القطع ، فإنّه لا یفید ذلک لا وجداناً و لا تعبّداً ، فعدم قیامه مقام القطع الوصفی واضح بلا کلام .

ص:155


1- 1) وسائل الشیعة 15 / 369 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، رقم : 1 .
الخلاف فی قیامه مقام الموضوعی الکشفی

إنما الکلام فی قیامه مقام القطع المأخوذ فی الموضوع علی وجه الکاشفیة :

فالشیخ و المیرزا و جماعة یقولون بالقیام ، و المحقق الخراسانی یقول بالعدم ، و للعراقی فی المقام تفصیل ، و سیأتی الکلام علیه .

دلیل القول بالقیام

و قد استدلّ (1) للقول بقیام الاصول المحرزة مقام القطع الموضوعی الکشفی ، کالاستصحاب و قاعدة الفراغ و التجاوز - بناءً علی عدم کونها من الأمارات - و قاعدة عدم اعتبار الشک من الإمام و المأموم مع حفظ الآخر ، و قاعدة عدم اعتبار الشک ممّن کثر شکّه و خرج عن التعارف ... .

بأنّ الشارع قد اعتبر موارد جریان هذه القواعد علماً ، فتترتّب علیها آثار العلم عقلیّةً و شرعیّةً ، و من ذلک هو الحکم المأخوذ فی موضوعه القطع .

فإنْ قیل : کیف تعتبر علماً و قد اخذ الشکّ فی موضوع الاصول ، فإنّ اعتبارها علماً - مع التحفّظ علی الشک المأخوذ فی موضوعها - اعتبارٌ للجمع بین النقیضین ؟

قلنا :

أمّا نقضاً ، فإنّ الأمارات أیضاً مأخوذٌ فی موضوعها الشک ، و قد تقرّر قیامها مقام القطع ، غایة الأمر أن الاصول قد اخذ الشک فی موضوعها فی لسان الدلیل اللّفظی ، و فی الأمارات قد ثبت ذلک بالدلیل اللبّی ، بل لقد اخذ الشک فی موضوع

ص:156


1- 1) مصباح الاصول 2 / 38 - 39 .

بعض الأمارات فی لسان الدلیل اللّفظی أیضاً ، کقوله تعالی «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لٰاتَعْلَمُونَ » (1).

و أمّا حلّاً : فإنّ الشک المأخوذ فی موضوع الاصول هو الشکّ الوجدانی ، و العلم تعبّد من الشارع ، و لا تنافی بین الشک الوجدانی و العلم التعبّدی ، و لو کان منافاة لما صحّ التنزیل فی مثل « الطواف بالبیت صلاة » (2) و« الفقّاع خمر استصغره الناس » (3) و نحوهما ، لکنّ التنزیل صحیح ، لأنه تعبد من الشارع مع کون الفقّاع غیر الخمر وجداناً ، و الطواف غیر الصّلاة .

الإشکال علیه

و یردّه : أنّ قیام الأصل مقام القطع الکشفی یحتاج إلی ثبوت الطریقیّة و الکاشفیّة للأصل ، إمّا بالسیرة العقلائیة الممضاة من الشارع ، أو من ظاهر الأدلّة المعتبرة له ، فإذا حصل ذلک ترتّب علی الأصل جمیع آثار القطع ، کما کان الحال فی الأمارات ، حیث أن الارتکاز العقلائی قائم علی کون خبر الثقة طریقاً ، و لذا یرتّبون علیه جمیع آثار العلم ، و قد ذکرنا أنّ ذلک مقتضی دلیل اعتبار خبر الثقة أیضاً .

و علی الجملة ، فلو تمّ ذلک بالسّیرة أو بالدلیل اللّفظی للاستصحاب - مثلاً - کان مقتضی القاعدة ترتب آثار العلم و الیقین علیه ، کجواز الشهادة بالاستناد إلیه ، و إذا لم یکن أحد الأمرین ، کان مقتضی القاعدة العدم ، و علی هذا نقول :

ص:157


1- 1) سورة الأنبیاء : 7 .
2- 2) أرسله العلّامة فی التذکرة 8 / 85 ، و هو عامّی کما فی الهامش عن عدّةٍ من مصادرهم .
3- 3) وسائل الشیعة 25 / 365 ، الباب 28 من أبواب الأشربة المحرّمة .

إنّ السیرة العقلائیّة قائمة علی الأخذ بالاستصحاب ، لکن لا من جهة إلقاء الشک بقاءً ، کما کان فی الأمارة ، بل إنهم یأخذون بالحالة السابقة و یبقونها من باب الاطمینان ببقائها أو برجائها أو من باب الاحتیاط ، فلیس عملهم علی طبق الحالة السّابقة استصحاباً للیقین السّابق ، فأخذهم بمقتضی الاستصحاب یختلف عن أخذهم بمفاد خبر الثقة .

و أمّا الأدلّة اللّفظیة فی الاستصحاب التی هی أدلّة اعتباره ، فلا دلالة لها علی إلغاء الشک أصلاً ، فهی لا تدلُّ إلّا علی وجوب العمل بالحالة السّابقة ، ففی الصحیحة الاولی لزرارة - و هی أظهر الأدلّة - : « فإنّه علی یقینٍ من وضوئه » (1) و هو غیر ظاهر فی کونه علی یقین فعلاً ، بل الظاهر منه کونه علی یقینٍ من وضوئه ، و یشهد بذلک قوله بعده : « فلیس ینبغی أن ینقض الیقین بالشک » . فیکون المعنی :

لا تنقض الیقین السابق بالشک اللّاحق فی العمل ، فلا دلالة للروایة علی : إنک الآن علی یقین ... و لا أقلّ من الشک ، فتکون مجملةً .

و فی الصحیحة الثانیة : « لأنک کنت علی یقین من طهارتک فشککت ، و لیس ینبغی ... » (2) ، فإن ظاهرها : أنّ الیقین الحاصل بشیء حدوثاً لا ینقض فیما بعد عملاً ، و لیس المراد منها : أنت الآن علی یقینٍ تعبّداً .

و کذا قوله علیه السلام : « من کان علی یقین فشکَّ ، فلیمض علی یقینه » أی:

عملاً .

فظهر : أنه لا دلیل - لا من السّیرة و لا من الأدلّة اللّفظیّة - علی إلغاء الشکّ فی

ص:158


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 174 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، رقم : 1 .
2- 2) وسائل الشیعة 3 / 466 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، رقم : 1 .

الاستصحاب ، فلا یمکن المساعدة مع الاستدلال المذکور ، و ستأتی بقیّة الکلام فی النظر فی استدلال المحقق النائینی .

هذا بالنسبة إلی الاستصحاب .

و أمّا قاعدة الفراغ ، فظواهر أدلّتها کذلک ، فظاهر قوله علیه السلام : « کلّما شککت فیه ممّا قد مضی فامضه کما هو » (1) « بلی قد رکعت » (2) هو المضیُّ عملاً علی الیقین السّابق ، و لا تدلّ القاعدة علی جعل الیقین الآن ، قال علیه السلام فی حدیثٍ : « لأنه حین یتوضّأ أذکر منه حین یشک » (3) أی: فیجب العمل علی ما کان متیقّناً به متذکّراً له ، لا أنه متذکر الآن .

و علی فرض التنزّل عمّا ذکرنا ، فهی ظاهرة فی جعل المؤدّیٰ .

و أمّا النصوص فی کثیر الشک مثل « لا شکّ لکثیر الشک » (4) ، فللقول بظهورها فی إلغاء احتمال الخلاف و نفی الشک وجه ، إلّا أنّ الکلام فی أنه إلغاء له من جمیع الجهات - کأن یجوز له الإخبار عن عدم الشک مثلاً - أو من جهة العمل فقط ؟

لقد ذکر المیرزا وجود جهاتٍ عدیدة فی القطع ، منها جهة العمل ، و ذکر أنّ الاصول المحرزة تنزل بمنزلة القطع فی جهة العمل ، و سیأتی نقل کلامه بالتفصیل .

ص:159


1- 1) وسائل الشیعة 8 / 237 ، الباب 23 ، من أبواب الخلل ، رقم : 3 .
2- 2) وسائل الشیعة 6 / 317 ، الباب 13 ، من أبواب الرکوع ، رقم : 3 .
3- 3) وسائل الشیعة 1 / 471 ، الباب 42 ، من أبواب الوضوء، رقم : 7 .
4- 4) فی منیة الطالب 3 / 386 : کقوله صلّی اللّٰه علیه و آله : «لا شکّ لکثیر الشکّ و لا شکّ فی النافلة » . و انظر الباب 16 من أبواب الخلل الواقع فی الصّلاة .

وعلیه ، فلا ینزّل بمنزلته فی جهة الکشف و الطریقیة ، فلا یقوم مقام القطع الموضوعی الکشفی ، فظهر ما فی الاستدلال المتقدّم علی القیام .

هذا کلّه بالنظر إلی الدلیل اللّفظی .

و أمّا بالنظر إلی السیرة العقلائیة ، فالظاهر قیامها علی الطریقیّة .

فالحق هو قیام قاعدة الفراغ و التجاوز ، و قاعدة لا شک لکثیر الشک ، و قاعدة حفظ الإمام أو المأموم ، مقام القطع الموضوعی الکشفی .

و أمّا ما تقدّم - عن مصباح الاصول - فی قوله تعالی «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ » (1)، فغریب من مثله ، لِما تقرّر فی مباحث الاجتهاد و التقلید من أن الآیة إرشاد إلی حسن السؤال بقصد التعلّم ، فهی فی مقام الحثّ علی الرجوع إلی أهل العلم و الأخذ منهم ، و لا دلالة لها علی حجیّة الفتوی ، و یشهد بذلک استدلال الإمام بها فی إمامتهم علیهم السلام (2) .

ص:160


1- 1) سورة الأنبیاء : 7 .
2- 2) انظر : البرهان فی تفسیر القرآن 3 / 423 .
تنبیهات
الأول : فی ما ذکره المحقق الخراسانی فی حاشیة الرسائل

قد ذکر المحقق الخراسانی فی حاشیة الرسائل وجهاً لقیام الأمارات و الاستصحاب مقام القطع الموضوعی الکشفی ، بناءً علی تنزیل المؤدّیٰ بمنزلة الواقع .

و خلاصة ما ذکره هو :

إنّ دلیل الأمارة و الاستصحاب و إنْ تکفّلا جعل المؤدّی و المستصحب و تنزیلهما منزلة الواقع ، لکنّ مقتضی الملازمة کون القطع بهما - بلحاظ أنهما منزَّلان منزلة الواقع - بمنزلة القطع بالواقع ، فثبت أحد جزئی الموضوع بنفس دلیل الاعتبار و الآخر بالملازمة و تمّ المدّعی (1) .

و قد وقع الکلام بین الأعلام فی مراده من هذا الوجه و الملازمة المذکورة فیه :

فقیل : المقصود هو الملازمة العقلیّة و بنحو دلالة الاقتضاء ، إذ التعبّد بأحد الجزءین لا یصح من دون التعبّد بالجزء الآخر ، لأنّ الدلیل الدالّ علی التعبد بأحدهما یدلّ بدلالة الاقتضاء و صوناً لکلام الحکیم عن اللغویّة ، علی التعبّد

ص:161


1- 1) درر الفوائد فی حاشیة الفرائد : 7 .

بالجزء الآخر (1) .

و قیل : المقصود هو الملازمة العرفیّة ، لأن الدلیل الدالّ علی التعبّد بالواقع و تنزیل المؤدّی منزلته ، یدلّ عرفاً بالالتزام علی تنزیل القطع بالواقع الجعلی منزلة القطع بالواقع الحقیقی (2) .

و قیل : المقصود هو الملازمة العرفیّة و العقلیّة معاً ، توضیحه :

إنّ وفاء خطابٍ واحد و إنشاء واحد بتنزیلین و إنْ کان مستحیلاً ، إلّا أن تنزیلین بإنشاءین فی عرضٍ واحدٍ یدلّ دلیل الاعتبار علی أحدهما بالمطابقة و علی الآخر بالالتزام ، لیس محالاً . و هنا کذلک ، لدلالة دلیل الأمارة مثلاً علی ترتیب آثار الواقع مطلقاً و منها الأثر المترتّب علی الواقع عند تعلّق القطع به حتی فی صورة کون القطع تمام الموضوع ، إذ لمتعلّقه دخل شرعا و لو بنحو العنوانیة فی جمیع المراتب .

و هذا التنزیل و إنْ کان یقتضی عقلاً تنزیلاً آخر ، حیث أن الواقع لم یکن له فی المقام أثر بنفسه حتی یعقل التعبّد به هنا و تنزیل المؤدّی منزلة الواقع بلحاظه ، لکنه لا یقتضی عقلاً أنْ یکون المنزل منزلة الجزء الآخر هو القطع بالواقع الجعلی ، لإمکان جعل شیء آخر مکانه ، إلّا أنه لا یبعد عرفاً أنْ یکون هو القطع بالواقع الجعلی .

فصون الکلام عن اللغویّة بضمّ الملازمة العرفیّة یدلّ علی تنزیل آخر فی عرض هذا التنزیل للجزء الآخر (3) .

ص:162


1- 1) حاشیة الشیخ عبد الحسین الرّشتی علی الکفایة 2 / 20 .
2- 2) مصباح الاصول : 41 .
3- 3) نهایة الدرایة 3 / 64 .

أمّا شیخنا الاستاذ دام بقاه ، فقرّب الوجه بقوله :

إنّ الدلیل القائم علی اعتبار الأمارة و الاستصحاب له دلالتان .

إحداهما : الدلالة المطابقیّة ، حیث أنه یدلّ بالمطابقة علی تنزیل مؤدّیٰ الأمارة و المستصحب منزلة الواقع ، لأنّ أثر القطع هو الکشف عن الواقع و الطریقیّة إلیه ، فإذا نُزّل المؤدّی بمنزلة الواقع ، کان التنزیل بحسب الکاشفیة و الطریقیّة فیکون المنزّل علیه هو الواقع و المنزّل هو المؤدیٰ و المستصحب .

و الثانیة هی : الدلالة الالتزامیّة ، بأنْ یکون دلیل الاعتبار دالّاً علی التنزیل بمنزلة القطع الذی له دخل فی موضوع الحکم ، من جهة الملازمة العرفیّة بین تنزیل المؤدّی و المستصحب منزلة الواقع و بین تنزیل الأمارة و الشکّ منزلة الواقع ، لأنّ المفروض کون التنزیل من أجل الأثر الشّرعی ، فلا بدّ من الالتزام بدلالة دلیل تنزیل المؤدّی و المستصحب منزلة الواقع علی تنزیل الأمارة و الشک فی البقاء منزلة القطع بالواقعی الحقیقی ، دلالةً التزامیّةً من باب دلالة الاقتضاء ، إذْ لو لا هذه الدلالة یلزم لغویة دلیل التنزیل .

و مثاله - کما تقدّم سابقاً - ما لو ورد فی الخطاب : إذا علمت بوجوب الصّلاة وجب علیک التصدّق بدینار ، فالموضوع لوجوب التصدق مرکّب من جزءین هما العلم و وجوب الصلاة ، فإذا أخبر العادل بوجوب الصّلاة نزّل ما أخبر به منزلة الوجوب الواقعی و یکون هذا التنزیل مستلزماً لتنزیل خبر العادل به بمنزلة القطع بالوجوب الواقعی ، فتحقق تنزیلان أحدهما فی ناحیة وجوب الصّلاة و الآخر فی ناحیة العلم ، و ذاک تنزیل مطابقی و هذا التزامی ، و لو لم یتم التنزیل الثانی لزم لغویّة التنزیل الأول ، لأن المفروض ترکّب الموضوع من العلم و وجوب الصلاة ،

ص:163

و لا یترتب الأثر الشرعی إلّا بتمامیّة التنزیلین .

و إذا تعدّدت الدلالة - علی ما ذکر - لم یلزم اجتماع اللحاظین ، لوضوح أن لزوم ذلک مبنی علی وحدة الدلالة .

عدوله عنه فی الکفایة

قال فی الکفایة :

و ما ذکرنا فی الحاشیة... لا یخلو من تکلّف بل تعسّف (1) .

أقول :

أمّا التکلّف ، فلأنّ دعوی الملازمة بین تنزیل المؤدی بمنزلة الواقع و تنزیل الیقین التعبّدی بمنزلة الیقین الواقعی ، تحتاج إلی دلیلٍ فی مقام الإثبات ، و لا یوجد علیها دلیل ، إذ الملازمة التکوینیة منتفیة ، و کذا الشرعیّة ، و تبقی العرفیّة ، و المرجع فیها أهل العرف ، و لیس عند العرف هکذا تلازم .

و أمّا التعسّف ، فإشارة إلی مقام الثبوت ، ففی المثال المذکور ، لمّا کان موضوع وجوب التصدق مرکباً من « القطع » و« وجوب صلاة الجمعة » ، فجاء الخبر بوجوب صلاة الجمعة و نزّلنا المؤدی بمنزلة الواقع بدلیل اعتبار خبر الثقة ، فهل یتمکّن دلیل الاعتبار من إحراز القطع أیضاً ؟ إنه لا یمکن ، للزوم الدور ، من جهة أنّ تنزیل الأمارة بمنزلة القطع - بإلغاء احتمال الخلاف - یتوقف علی ترتّب الأثر الشرعی - و هو وجوب التصدّق علیه ، و إلّا یکون التنزیل لغواً ، لکنْ ترتّب هذا الأثر علیه یتوقف علی إحراز الموضوع - أی موضوع وجوب التصدّق - و المفروض ترکّبه من جزءین أحدهما هو القطع ، و إحراز القطع و تحقّقه یتوقف

ص:164


1- 1) کفایة الاصول : 266 .

علی تنزیل الأمارة بمنزلة القطع بإلغاء احتمال الخلاف ، فکان تنزیل الأمارة بمنزلة القطع موقوفاً علی نفسه .

فالقول بأن دلیل الاعتبار یفید کلا التنزیلین بدلالتین - احداهما مطابقیة و الاخری التزامیّة - باطل ، بل یحتاج لتمامیّة التنزیل الثانی - و هو تنزیل الأمارة بمنزلة القطع ، و إلغاء احتمال الخلاف - إلی دلیلٍ آخر ، أمّا بنفس دلیل الاعتبار فیستلزم الدور .

هذا بیان ما ذکره الأعلام (1) .

و حاصله : أن « التکلّف » ناظر إلی مقام الإثبات ، و« التعسّف » ناظر إلی مقام الثبوت .

لکنّ السید الاستاذ قدّس سرّه بعد أنْ نقل عن الأعلام الوجه المذکور قال :

و لکنْ لا صراحة بل لا ظهور فی کلام صاحب الکفایة فیما حمل علیه ، نعم فی تعبیره بالتوقّف مجرّد إشعار ، و لکنه کما یمکن أن یرید به ذلک ، یمکن أن یرید به التوقف بمعنی التلازم ، کما یقال : أحد الضدّین یتوقف علی عدم الآخر ، مع أنه لا علیّة و لا معلولیّة بینهما .

ثم ذکر أنه یمکن أن یکون مراد صاحب الکفایة محذور آخر غیر الدّور ، - و هو ما أفاده شیخنا أیضاً فی الدورة اللّاحقة - و هو :

إنّ التعبّد بأحد الجزءین فیما نحن فیه لمّا کان فی طول الآخر ، کان التعبّد بالآخر فی ظرفه ممتنعاً ، لعدم ترتب الأثر علیه وحده ، و الفرض أن الجزء الآخر لا یتحقّق إلّا بعد التعبد به ، فملخّص الإشکال : إن التعبّد بالمؤدّی لا أثر له شرعاً

ص:165


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 1 ص 26 ، فوائد الاصول 3 / 28 .

و هو یمنع من صحّة التعبّد ، إذ التعبّد بالموضوع لا معنی له إلّا التعبّد بالحکم .

فمرجع کلام الکفایة إلی أنه لا بدّ أنْ یکون التعبّد بأحد الجزءین فی حین التعبّد بالجزء الآخر ، لا أنّ التعبّد بأحدهما یتوقف علی التعبد بالآخر و إلّا لزم الدور حتی فی مورد التعبد بالجزءین فی عرض واحد کما لا یخفی (1) .

الثانی : فی تفصیل المحقّق العراقی

قد فصّل المحقق العراقی قیام الاستصحاب مقام القطع الموضوعی الکشفی ، بین ما لو اخذ القطع فی لسان الدلیل علی وجه الکاشفیة ، فیقوم الاستصحاب بأدلّته مقام القطع ، و ما لو کان المأخوذ نفی الشک ، فلا تفید أدلّة الاستصحاب قیامه مقامه ، قال :

و أمّا الاصول المحرزة کالاستصحاب ، فقیامه مقام القطع الموضوعی ، مبنی علی أنّ التنزیل فی « لا تنقض » ناظر إلی « المتیقّن » أو إلی « الیقین » . فعلی الأوّل ، لا یقوم مقام القطع الموضوعی ، لعین ما ذکرناه فی الأمارات . و علی الثانی ، یقوم مقام القطع الموضوعی تماماً أو جزءاً ، نظر إلی اقتضائه بتلک العنایة لإثبات العلم بالواقع ، و مرجعه - علی ما عرفت - إلی إیجاب ترتیب آثار العلم بالواقع فی ظرف الشک به .

نعم ، حیث إنه لوحظ فی موضوعه الجهل بالواقع و الشک فیه ، یحتاج فی قیام مثله مقام القطع الموضوعی إلی استظهار کون موضوع الأثر فی الدلیل هو صرف انکشاف الواقع محضاً بلا نظر إلی نفی الشک فیه ، و إلّا فلا مجال لقیام الاستصحاب مقامه ، نظراً إلی ما عرفت من انحفاظ الشک بالواقع فی

ص:166


1- 1) منتقی الاصول 4 / 84 .

موضوعه ... (1) .

و حاصله : الفرق بین دلیل الاستصحاب و دلیل عدم اعتبار الشک من کثیر الشک ، و عدم اعتبار السهو من المأموم مع حفظ الامام ، و نحوهما ، فتلک الأدلة تقوم مقام القطع ، لأنه ینفی الشکّ ، بخلاف دلیل الاستصحاب ، لکونه یأتی بالیقین فی ظرف الشک مع حفظ الشک لا نفیه .

أقول :

و الظاهر عدم تمامیّة هذا التفصیل ، لأن دلیل الاستصحاب و إنْ أفاد حفظ الشکّ ، لکنه الشک الوجدانی ، و قد احتفظ علیه فی الآن اللّاحق لیکون مع الیقین السابق موضوعاً لحرمة النقض عملاً ، و قد تقرّر أنْ لا تنافی بین الیقین التعبدی و الشک الوجدانی . و أمّا الشک الاعتباری، فینفیه إثبات الیقین ، لوجود الملازمة العرفیة بین « أنت متیقّن » و « إنک لست بشاک » نعم ، نفی الشک لا یستلزم الیقین .

و لکنْ ، إذا کان کذلک ، فلما ذا لا یقال بحجیّة الأصل المثبت ؟ فتدبّر .

الثالث : فی ما ذکره المحقق النائینی

اختار المیرزا (2) قیام الأمارات و الاصول المحرزة مقام القطع الموضوعی الکشفی ، و ملخّص کلامه هو :

إن فی العلم أربع جهات :

الاولی : قبول النفس للصّورة العلمیّة . و هی مرتبة الانفعال .

و الثانیة : حصول الصّورة العلمیّة فیها . و هی مرتبة الفعل .

ص:167


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 26 - 27 .
2- 2) أجود التقریرات 3 / 20 .

و الثالثة : الصّورة العلمیّة کیفیة قائمة بالنفس ، و هی مرتبة الکیف .

و الرابعة النسبة بین الصّورة و المعلوم بالعرض ، و هی مرتبة الإضافة .

و فی المرتبة الرابعة جهتان ، جهة العقد القلبی ، حیث الإنسان عالم و قاطعٌ و متیقّن ، وجهة الکشف عن المعلوم بالعرض .

قال :

إن الإمارة تفید جهة الکشف بأدلّة اعتبارها ، و أمّا الأصول المحرزة ، فأدلّة اعتبارها تفید عقد القلب ، أی البناء العملی .

فکانت الأمارة و الاصول قائمة مقام القطع الموضوعی الکشفی ، غیر أنّ المجعول فی الأمارات هو الکاشفیّة و الطریقیة ، و المجعول فی الاصول هو البناء العملی .

ثم إنه ذهب إلی أنّ هذا القیام هو من باب حکومة أدلّة اعتبار الأمارة و الأصل علی الأدلّة الواقعیّة حکومةً ظاهریة ، لأنّ الحکومة علی قسمین ، واقعیة ، کحکومة « الطواف بالبیت صلاة » علی الأدلّة الواقعیة للصّلاة ، و کحکومة « لا ربابین الوالد و الولد » علی الأدلّة الواقعیة للربا ، حیث أنّ الحاکم و المحکوم فی عرضٍ واحدٍ و یتصرّف الحاکم فی المحکوم توسعةً کما فی المثال الأول ، أو تضییقاً کما فی الثانی ، و لا احتمال للخلاف .

أمّا فی باب الأمارات و الاصول بالنسبة إلی الأدلّة الواقعیة ، فالطرفان فی الطّول و لیسا فی العرض ، فإذا قامت البیّنة علی خمریة مائع ، دلّت علی التوسعة فی دائرة الخمر ، و أنه أعمّ من الخمر الواقعی و الخمر الذی قامت علیه البیّنة ، و هی حکومة ظاهریّة ، بحیث أن الأثر یترتب ما لم ینکشف الخلاف ، فإذا

ص:168

انکشف سقط .

و تظهر النتیجة فی مسألة الإجزاء ، ففی الحکومة الواقعیّة حیث لا یتحقق الخلاف یثبت الإجزاء ، و فی الظاهریّة یکون الحکم عدم الإجزاء بمجرد انکشاف الخلاف .

الإشکال علیه

و قد أورد علیه الاستاذ بوجوه :

الأول : قد وقع الخلط فی کلامه بین انفعال النفس و مقولة الانفعال التی هی من الأعراض التسعة ، ففی مورد حصول العلم تکون النفس مستعدّة لقبول المعلوم بالذات ، و هی الصورة ، و تنفعل بحصولها فیها ، و أهل الفن یعبّرون عن هذا الإمکان الاستعدادی بالعقل الهیولائی ، و هذا غیر مقولة الانفعال ، فإنها عبارة عن التأثر التدریجی مثل تسخّن الماء بالحرارة ، کما أن تأثیر النهار تدریجاً فی سخونة الماء من مقولة الفعل ... .

الثانی : ما ذکره فی المرتبة الرابعة من أنها مرتبة الإضافة .

فیه : أنّ قوام مقولة الإضافة کون المتضائفین متکافئین قوةً و فعلاً ، و فی العلم قد لا یکون للمعلوم بالعرض واقعیّة أصلاً کما فی الجهل المرکب ، فیلزم وجود أحد المتضایفین دون الآخر . فإذن ، لیس العلم من مقولة الإضافة .

الثالث : ما ذکره من وجود الجهتین فی المرتبة الرابعة .

فیه : إن البناء القلبی من أفعال القلب ، و لذا یتعلّق به التکلیف من الوجوب و الحرمة ، کما هو الحال فی المسائل الاعتقادیة ، و أمّا العلم ، فلا یتوجّه إلیه التکلیف من الوجوب و الحرمة ، نعم ، یتّصف طلب العلم بهما ، فیقال : طلب العلم

ص:169

الحق واجب و طلب العلم الباطل حرام .

الرابع : إنه بناءً علی ما ذکره من وجود جهة الکشف ، فإنّ المجعول فی باب الأصل المحرز هو جهة البناء القلبی لا جهة الکشف و الطریقیة ، و هذا هو الفارق بینه و بین الأمارة - علی مسلک المیرزا - وعلیه ، فکیف یقوم الأصل المحرز مقام القطع المأخوذ موضوعاً علی نحو الطریقیّة ؟

الخامس : إن ما ذکره فی الحکومة الظاهریة صحیح ، فمع قیام الأمارة أو الأصل المحرز لا تتحقّق التوسعة حقیقة فی الموضوع بل الحکومة ظاهریة ، لکون الأمارة أو الأصل فی طول الموضوع لا فی عرضه ... لکنّ الأمر بالنسبة إلی القطع المأخوذ فی الموضوع علی وجه الطریقیّة لیس کذلک ، بل هما فی العرض ، فالدلیل القائم علی أنه إذا قطعت فاشهد ، قد اخذ فیه القطع موضوعاً لجواز الشهادة ، ثم أفاد دلیل اعتبار خبر الثقة کاشفیّة الخبر و طریقیّته إلی الواقع ، و النسبة بین الدلیلین هی العرضیة لا الطولیّة ، بل هما مثل : الخمر حرام ، و الفقاع خمر ، و حینئذٍ تکون الحکومة واقعیّةً .

فالتحقیق : إن الحکومة الظاهریّة تکون بین القطع الطریقی و الأمارة و الأصل لکونهما فی الطول ، أمّا القطع المأخوذ فی الموضوع کلّاً أو جزءاً ، فالحکومة بینه و بین الأصل و الأمارة واقعیة ، لکونهما فی عرضٍ واحد .

السادس : إنّ الشک المأخوذ فی الأمارة و الأصل المحرز موضوعٌ عندنا ثبوتاً فی الأمارات و إثباتاً فی الاصول ، أمّا عند المیرزا ، فهو فی الأمارات ظرف ، و علی کلّ حالٍ ، فإنّ الدلیل فی کلٍّ من الأصل و الأمارة قد اعتبر فیه الشکّ فی الواقع ، وعلیه ، فإنّ دلیل الأصل أو الأمارة یکون فی عرض دلیل الواقع ، فلا

ص:170

یتحقّق مناط الحکومة الظاهریّة و هو الطولیّة .

و بعد

فالتحقیق هو قیام الأمارة و الأصل المحرز مقام القطع الموضوعی الکشفی ، بناءً علی أنّ المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة و الکاشفیّة کما هو التحقیق .

و هذا تمام الکلام فی هذا المبحث .

ص:171

أحکام القطع بلحاظ المتعلّق
اشارة

قال فی الکفایة

لا یکاد یمکن أن یؤخذ القطع بحکم فی موضوع نفس هذا الحکم ، للزوم الدور ، و لا مثله ، للزوم اجتماع المثلین ، و لا ضدّه ، للزوم اجتماع الضدّین (1) .

هل یمکن أخذ القطع بالحکم فی موضوع الحکم ؟

أمّا أخذ القطع بالحکم موضوعاً للحکم نفسه ، کأن یقول : إذا قطعت بوجوب الصّلاة فالصّلاة واجبة علیک ، فیستلزم الدور کما ذکر ، لأنّ القطع بالحکم متوقف علی الحکم ، توقف المتعلّق علی المتعلّق به ، لکنّ الحکم متوقف علی القطع توقف الحکم علی موضوعه ، فیلزم توقف الحکم علی نفسه .

هذا أحد تقریبات الدّور فی المقام .

و قد أورد علیه المحقق الأصفهانی (2) بما حاصله : إنّ الموقوف علی القطع غیر ما یتوقف علیه القطع ، لأنّ ما یتوقف علیه القطع هو الصّورة الذهنیة للقطع ، ضرورة أنّ القطع لا یتعلّق بالموجودات الخارجیة و إلّا یلزم انقلاب الذهن خارجاً أو الخارج ذهناً ، وعلیه ، فالقطع عارض علی الوجود الذهنی للحکم ، و ما یتوقف علیه القطع هو الوجود الخارجی للحکم ، فحصل التغایر ، فلا دور .

ص:172


1- 1) کفایة الاصول : 266 .
2- 2) نهایة الدرایة 3 / 68 .

قال سیّدنا الاستاذ : و بنظیر هذا البیان یندفع محذور الدّور الذی ذکره فی الکفایة (1) فی أخذ قصد الأمر فی متعلّق الأمر ، و قد ذکره صاحب الکفایة هناک و قرّره و لم یدفعه ، و لأجل ذلک ، لا یمکننا إسناد هذا البیان للدور إلی صاحب الکفایة (2) .

ثم أورد رحمه اللّٰه (3) تقریبین آخرین و لم یدفعهما :

أحدهما: ما ذکره المحقق الأصفهانی ، و ملخّصه : إن الحکم معلّقاً علی القطع تارةً یکون بنحو القضیّة الخارجیّة و اخری بنحو القضیّة الحقیقیّة ، فعلی الأول : بأنْ یحکم المولی علی من حصل لدیه العلم بالحکم ، و لکن لازمه اللغویّة، لأن الحکم إنما هو لجعل الدّاعی ، و مع علم المکلّف بالحکم لا یکون جعل الحکم فی حقّه ذا أثر من هذه الجهة . و علی الثانی: یلزم الخلف ، إذ مع جعل المولی هذه القضیّة ، أعنی ثبوت الحکم عند تحقق العلم به و وصوله إلی المکلّف ، یستحیل أن یتحقّق العلم بالحکم . و ما یبتنی علی أمرٍ محال محال .

و الثانی : إن تعلیق الحکم فی الذهن علی العلم به ، یستلزم عدم محرکیّته و داعویّته ، و ذلک ، لأن المکلّف إذا فرض أنه جزم بثبوت الحکم خارجاً و اعتقد بتحقّقه ، فهو یری أن الحکم موجود فی الخارج ، و الموجود لا یقبل الوجود و التّحقیق ثانیاً . وعلیه ، فهو یری أن ثبوت الحکم عند علمه به محال ، و معه لا یکون الحکم محرّکاً و داعیاً ، إذ الداعویّة تتقوّم بالوصول ، و المفروض أن

ص:173


1- 1) کفایة الاصول : 73 .
2- 2) منتقی الاصول 4 / 87 .
3- 3) منتقی الاصول 4 / 88 .

المکلّف یری محالیّة ثبوته ، فیستحیل جعله حینئذٍ . و نتیجة ذلک : إن تعلیق الحکم علی العلم به أمر ممتنع عقلاً و لا یمکن الالتزام به .

قال : و هذا وجه بسیط لا التواء فیه .

و أیضاً ، یستلزم اجتماع المتقابلین ، لأن الحکم متقدّم طبعاً علی القطع المتعلّق به ، لکنه متأخّر عنه لأن المفروض کونه أی القطع - موضوعاً له ، فیلزم اجتماع التقدّم و التأخّر فی الحکم ، و اجتماعهما فی الشیء الواحد محال .

ثم إنّ القطع فی المثال تارةً مطابق للواقع و اخری مخالفٌ ، فإنْ کان مطابقاً ، لزم المحذوران فی الواقع و فی ذهن القاطع ، و إن کان مخالفاً لزم المحذوران فی ذهن القاطع الذی هو جاهل بالجهل المرکب .

هل یمکن أخذ القطع بالحکم فی موضوع مثله ؟

و أمّا أخذ القطع بالحکم فی موضوع مثل هذا الحکم ، کأن یقول : إذا قطعت بوجوب الصّلاة فالصلاة واجبة علیک بمثل ذلک الوجوب . فیستلزم اجتماع المثلین . فإنْ کان القطع مطابقاً للواقع ، فالمحذور لازم واقعاً و فی ذهن القاطع ، و إنْ کان مخالفاً له ، ففی ذهنه فقط .

هذا ما ذهب إلیه صاحب الکفایة .

القول بالجواز

و قال المیرزا : ربما یقال فیه بالجواز ، نظراً إلی عدم ترتّب محذور علی ذلک إلّا ما یتوهّم من استلزامه لاجتماع المثلین ، و هو لا یکون بمحذور فی أمثال المقام أصلاً ، فإن اجتماع عنوانین فی شیء واحد یوجب تأکّد الطلب ، و أین ذلک من اجتماع الحکمین المتماثلین ؟ و قد وقع نظیر ذلک فی جملة من الموارد ، کما فی

ص:174

موارد النذر علی الواجب و أمثاله (1) .

و إلی الجواز ذهب السید الخوئی ، إذ قال :

و أمّا أخذ القطع بحکمٍ فی موضوع حکم آخر مثله ، کما إذا قال المولی إذا قطعت بوجوب الصّلاة تجب علیک الصّلاة بوجوب آخر ، فالصحیح إمکانه ، و یرجع إلی التأکد ، و ذلک :

لأن الحکمین إذا کان بین موضوعیهما عموم من وجه ، کان ملاک الحکم فی مورد الاجتماع أقوی منه فی مورد الافتراق ، و یوجب التأکد ، و لا یلزم اجتماع المثلین أصلا ، کما إذا قال المولی : أکرم کل عالم ، ثم قال : أکرم کلّ عادل ، فلا محالة یکون وجوب الإکرام فی عالم عادل آکد منه فی عالم غیر عادل أو عادل غیر عالم ، و لیس هناک اجتماع المثلین ، لتعدّد موضوع الحکمین فی مقام الجعل .

و کذا الحال لو کانت النسبة بین الموضوعین هی العموم المطلق ، فیکون الحکم فی مورد الاجتماع آکد منه فی مورد الافتراق ، کما إذا تعلّق النذر بواجب مثلاً ، فإنه موجب للتأکد لا إجماع المثلین ، و المقام من هذا القبیل بلحاظ الموضوعین ، فإن النسبة بین الصّلاة بما هی ، و الصّلاة بما هی مقطوعة الوجوب هی العموم المطلق ، فیکون الحکم فی مورد الاجتماع آکد منه فی مورد الافتراق ، و من قبیل العموم من وجه بلحاظ الوجوب و القطع به ، إذ قد لا یتعلّق القطع بوجوب الصّلاة مع کونها واجبة فی الواقع ، و القطع المتعلق بوجوبها قد یکون مخالفاً للواقع ، و قد یجتمع وجوب الصلاة واقعاً مع تعلق القطع به ، و یکون الملاک فیه أقوی فیکون الوجوب بنحو آکد (2) .

ص:175


1- 1) أجود التقریرات 3 / 34 .
2- 2) مصباح الاصول 2 / 45 - 46 .

و تبعه سیّدنا الاستاذ حیث قال :

یمکن اجتماع حکمین بنحو التأکّد بمعنی بمعنی أن یکون هناک حکم واحد مؤکّد ، لإمکان اجتماع مصلحتین توجبان تأکد الإرادة و هی توجب تأکد البعث ، بمعنی أنها توجب إنشاء البعث المؤکد ، فإن الحکم هو التسبیب للبعث الاعتباری العقلائی ، و بما أن البعث یتصف خارجاً بالشدة و الضعف أمکن اعتبار البعث الأکید ، کما أمکن اعتبار البعث الضعیف .

و مما یشهد لصحّة ما ذکرناه صحة تعلّق النذر بواجب و انعقاده ، و لازمه تأکد الحکم ، و لم یتوهم أحد أن وجوب الوفاء بالنذر فی المقام یستلزم اجتماع المثلین المحال ، کما یشهد له شمول الحکمین الاستغراقیین لما ینطبق علیه موضوعاهما ، نظیر العالم الهاشمی الذی ینطبق علیه : « أکرم العالم » و « أکرم الهاشمی » ، و لم یتوهم خروج المورد عن کلا الحکمین لاستلزامه اجتماع المثلین .

و مما یقرب ما نقوله أیضاً فی اجتماع المثلین ، أنه لم یرد فی العبارات بیان امتناع وجوب الإطاعة شرعاً من باب أنه یستلزم اجتماع المثلین ، مع أن البعض یری أن الإطاعة عبارة عن نفس العمل ، أو أنها و إن کانت من العناوین الانتزاعیّة ، لکن الأمر بالأمر الانتزاعی یرجع إلی الأمر بمنشإ انتزاعه - کما علیه المحقق النائینی - ، بل ادّعی کون محذوره التسلسل و نحوه مما یظهر منه أن اجتماع المثلین بالنحو الذی ذکرناه أمر صحیح ارتکازاً .

و بالجملة : التماثل بمعنی التأکد و وجود واقع الحکمین لا مانع منه . و امّا اجتماع حکمین مستقلین متماثلین ، فلا نقول به لامتناعه مبدأ و منتهی .

ص:176

وعلیه ، فلا مانع من تعلیق حکم مماثل علی القطع بالحکم إذا کان بنحو التأکد (1) .

القول بعدم الجواز

لکنْ قال المیرزا :

و لکنّ التحقیق هو استحالة ذلک أیضاً ؛ فإنّ القاطع بالخمریّة - مثلاً - إنّما یری الخمر الواقعی ، و لا یری الزجر عمّا قطع بخمریّته إلّا زجراً عن الواقع ، فلیس عنوان مقطوع الخمریّة عنده عنواناً آخر منفکّاً عن الخمر الواقعی و مجتمعاً معه أحیاناً حتی یمکن تعلّق حکمٍ آخر علیه فی قبال الواقع ، کما فی موارد اجتماع وجوب الشیء فی حدّ نفسه مع وجوب الوفاء بالنذر و أمثاله ، و مع عدم قابلیّة هذا العنوان لعروض حکمٍ علیه فی نظر القاطع لا یمکن جَعْله له حتی یلتزم بالتأکّد فی موارد الاجتماع (2) .

و اختار شیخنا عدم الجواز و ذکر فی بیان ذلک بالنظر إلی کلام السیّد الخوئی :

ما ذکره یتمّ فی موارد نسبة العموم من وجه مثل : أکرم العالم و أکرم الهاشمی ، فیتأکّد الحکم فی المجمع ، و نسبة العموم و الخصوص المطلق ، کما إذا نذر صلاةً واجبةً ، و لا یتمّ فیما نحن فیه ، و السرّ فی ذلک أنّ الحکمین فی تلک الموارد عرضیّان ، و لیس معنی التأکّد حدوث الحکمین ثم اندکاک أحدهما فی الآخر ، لأن اجتماع المثلین حدوثاً غیر معقول کذلک ، بل المراد أنه مع ثبوت

ص:177


1- 1) منتقی الاصول 4 / 92 .
2- 2) أجود التقریرات 3 / 35 .

الدلیلین و کون کلّ واحد منهما ذا اقتضاء تام ، یکشف عن جعل الحکم الواحد فی المجمع من أوّل الأمر . أمّا فیما نحن فیه فالحکمان طولیّان ، فلا بدّ من الحکم المجعول حتّی یتحقّق القطع به لیکون موضوعاً للحکم الثانی ، و بمجرّد تحقق الحکم الأوّل ، یمتنع تحقق الحکم الثانی للزوم اجتماع المثلین آناً ما ، و مع الطولیة لا معنی للتأکّد .

هل یمکن أخذ القطع بالحکم فی موضوع ضدّه ؟

و أمّا أخذ القطع بالحکم فی موضوع ضدّ هذا الحکم ، کأن یقول : إذا قطعت بوجوب الصّلاة فالصّلاة محرّمة علیک ، فیستلزم اجتماع الضدّین ، و الکلام کالکلام فی سابقه .

رأی المحقق العراقی

هذا ، و ذهب المحقّق العراقی (1) إلی أنّه لا یلزم اجتماع الضدّین ، لأنّ الوجوب قد تعلّق بالصّلاة بما هی ، و الحرمة قد تعلّقت بالصّلاة بما هی مقطوعة الوجوب ، فتعدّد موضوع الحکمین بحسب الجعل .

إشکال المحقق الخوئی

أجاب عنه السید الخوئی قائلاً :

لکن التحقیق لزوم اجتماع الضدّین ، إذ الحرمة و إنْ تعلّقت بالصّلاة بما هی مقطوعة الوجوب فی مفروض المثال ، إلّا أن الوجوب قد تعلّق بها بما هی ، و إطلاقه یشمل ما لو تعلّق القطع بوجوبها ، فلزم اجتماع المثلین ، فإن مقتضی إطلاق الوجوب کون الصّلاة واجبةً و لو حین تعلّق القطع بوجوبها ، و القطع طریق

ص:178


1- 1) نهایة الأفکار ج 1 ق 3 ص 28 .

محض ، و مقتضی کون القطع بالوجوب مأخوذاً فی موضوع الحرمة کون الصّلاة حراماً فی هذا الحین ، و هذا هو اجتماع الضدّین (1) .

النظر فیه

لکنّ هذا الجواب لا یدفع الإشکال المبنیّ علی اختلاف المرتبة ، لأن الحکم الذی موضوع القطع متأخّر عن القطع ، أمّا الحکم الذی تعلّق به القطع فمتقدّم علیه ، و یستحیل أن یکون فی مرتبة القطع فضلاً عن التأخّر عنه ، فکلٌّ منها فی مرتبةٍ ، و مع اختلاف المرتبة لا اجتماع للضدّین .

إذن ، ینحصر الجواب بلزوم اجتماع الضدّین فی ذهن القاطع و لحاظه ، لأنّ من قطع بالوجوب یری عدم الحرمة ، لکن المفروض کونه قاطعاً بالحرمة هو یراها ، فیلزم اجتماع الحرمة و عدم الحرمة فی افق ذهنه ، فالمحذور لازم بحسب مقام الفعلیّة و ان لم یلزم بحسب مقام الجعل لتعذّر المرتبة علی المبنی .

هل یمکن أخذ القطع بمرتبةٍ من الحکم

ثم قال صاحب الکفایة :

نعم ، یصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحکم فی مرتبة اخری منه أو مثله أو ضدّه (2) .

أقول :

و مثال ذلک :

إذا علمت بوجوب الصّلاة إنشاءً ، وجبت علیک فعلاً بنفس ذاک الوجوب

ص:179


1- 1) مصباح الاصول 2 / 45 .
2- 2) کفایة الاصول : 267 .

أو مثله أو حرمت علیک فعلاً .

أقول :

و هذا مبنیٌّ علی ما ذهب إلیه ، من أنّ للحکم أربع مراتب :

مرتبة الاقتضاء ، و هی مرتبة الملاکات .

ثمّ مرتبة إنشاء الحکم .

ثم مرتبة الفعلیة ، و هی مرتبة تحقّق القیود و الشرائط .

ثم مرتبة التنجّز و الوصول و ترتب الأثر من الثواب و العقاب .

و فی المقابل هو القول بأن للحکم مرتبتین فقط هما : مرتبة الإنشاء و مرتبة الفعلیّة ، و قد یستفاد هذا الرأی من کلمات الشیخ .

و هذا القول هو الصحیح .

فإنّ الخطابات الشرعیّة کلّها بنحو القضایا الحقیقیّة ، فمعنی قوله تعالی « وَلِلّٰهِ عَلَی النّٰاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَیْهِ سَبیلاً » (1)هو : کلّما تحقّق المکلّف و اتصف بالاستطاعة فعلیه الحج ، فهذا إنشاءٌ للحکم ، سواء کان فی العالم شخصٌ أوْ لا . فإن تحقّق وجوده خارجاً و اتصف بالاستطاعة ، حصلت الفعلیّة للحکم .

أمّا مرحلة الملاکات ، فلا علاقة لها بالحکم ، بل لو لا الملاک من المصلحة و المفسدة لما تحققت الحاکمیّة و الحکم من الحاکم ، فإنّه لمّا یلحظ الملاک یجعل الحکم و ینشئه .

و کذلک مرحلة التنجز ، فإنها لا علاقة لها بالحکم ، لأنّ الحکم إذا تحقّق

ص:180


1- 1) سورة آل عمران : 97 .

یأتی البحث عن أثره ، إذ المکلّف إن کان مطیعاً للحکم استحق الثواب ، و إن کان عاصیاً له استحق العقاب .

و من هنا قال المحقق الأصفهانی : بأن الإنشاء بداعی جعل الداعی مصداق حقیقی للحکم ، لأنّ الإنشاء قد یکون بداعی الامتحان - مثلاً - فهذا لیس بحکم ، أمّا الحکم ما کان بداعی جعل الداعی فی نفس المکلّف إلی الامتثال .

فی المسألة قولان

و بعد ، فهل یجوز أخذ القطع بمرتبة من الحکم موضوعاً لمرتبة اخری ؟ قولان .

ذهب المحقق الخراسانی و تبعه المحقق الإیروانی إلی الجواز ، و خالفه المحقق الأصفهانی و تبعه السیّد الخوئی .

دفاع السید الخوئی عن رأی الأصفهانی

و وجه القول الثانی ما ذکره السیّد الخوئی ، إذ قال :

أمّا علی المبنی المختار من أنه لیس للحکم إلّا مرتبتان ، الاولی : مرتبة الفعل ... و الثانیة مرتبة الفعلیّة ... فلا یمکن أخذ القطع بمرتبة الجعل من حکم فی مرتبة الفعلی منه ، إذ لیس المراد من القطع المأخوذ فی مرتبة الفعلیّة من الحکم هو القطع بالحکم الثابت لغیر القاطع ، و إلّا فإمکانه بمکان من الوضوح بلا حاجة إلی فرض تعدّد المرتبة ، لصحّة ذلک و لو مع وحدة المرتبة ، کما لو فرض أنّ القطع بوجوب الحج علی زید قد اخذ فی موضوع وجوبه علی عمرو ، بل المراد هو القطع بالحکم الثابت لنفس القاطع ، و حینئذٍ ، لا یمکن أخذ القطع بمرتبة الجعل من حکم فی موضوع مرتبة الفعلی منه ، إذ ثبوت الحکم لشخص القاطع جعلاً

ص:181

ملازم لفعلیّة ، فلا محالة یتعلّق القطع بالحکم الفعلی ، و حیث أن المفروض دخل القطع فی فعلیة الحکم ، لزم الدور (1) .

توضیحه علی المثال المذکور و هو الحج :

إن شمول خطاب وجوب الحج - المنشأ بالآیة المبارکة و معناه : کلّ من وجد و اتّصف بالاستطاعة فالحج واجب علیه - لهذا المکلّف ، موقوفٌ علی حصول الاستطاعة له خارجاً ، و إلّا فلیس حکماً مجعولاً له ، و إذا تحقّقت الاستطاعة ، فالحکم فی حقّه فعلی ، فلو أنّ القطع بالحکم المجعول قد اخذ فی مرتبة الفعلیّة ، فلا ثبوت للحکم و جَعله بالنسبة إلیه إلّا بعد القطع ، لکن حصول القطع موقوف علی ثبوته له جعلاً ، لأنّ القطع طریق إلی الحکم ، فلا بدّ فی تعلّقه به من تحقق الحکم و ثبوته فی المرتبة السّابقة . و هذا هو الدور .

دفاع الإیروانی عن رأی الکفایة

و لکنّ المحقق الإیروانی قرّب کلام الکفایة بقوله :

المختار صحّة أخذ القطع بمرتبةٍ من الحکم فی موضوع مرتبة اخری منه ، فیؤثّر القطع المتعلّق بالمصلحة فی بلوغها إلی درجة التأثیر فی الفعلیّة ، و ذلک لأن مرتبة الفعلیّة إنما تقوم بما قامت به مرتبة الإنشاء إذا کانت مرتبة الإنشاء علّة تامّة لفعلیّته ، أما إذا کانت من مجرّد الاقتضاء فلا محیص من دخل عدم المانع فی الفعلیّة مع عدم دخله فی الاقتضاء ، و لیکن المقام من ذلک ، فیکون القطع مزیلاً للمانع المتمّم لفعلیّة التأثیر (2) .

ص:182


1- 1) مصباح الاصول 2 / 46 - 47 .
2- 2) حاشیة الکفایة 2 / 447 .

توضیحه : إن مرتبة الإنشاء هی مرتبة الاقتضاء ، و حینئذٍ ، یکون من المعقول حصول ما یمنع الحکم من الوصول إلی الفعلیّة ، لکنّ القطع رافع للمانع ، فیجوز أخذه موضوعاً للفعلیّة و لا دور . نعم ، لو کانت الفعلیّة قائمة بالإنشاء لم یعقل أخذ القطع بالإنشاء موضوعاً للفعلیّة ، لکنّ مرتبة الإنشاء مرتبة الاقتضاء ، و هی متقدّمة علی مرتبة الفعلیّة ، و القطع بها یوجب فعلیّة الحکم ، فلا مانع من أخذ القطع بمرتبةٍ موضوعاً لمرتبة اخری .

الإشکال علیه

و فیه : ما هو المانع عن فعلیّة الحکم المرفوع بالقطع ؟ إنه لا یخلو من أنْ یکون الجهل بالحکم أو مانع آخر غیر الجهل به ، فإن کان غیر الجهل فهو لا یرتفع بالقطع بالإنشاء ، مثلاً : الحج واجب علی المکلّف المستطیع ، و المانع عن فعلیّة هذا الوجوب هو الحرج ، فهل یرتفع الحرج بالقطع بإنشاء وجوب الحج ؟ کلّا ، لا یرتفع ، و کذا کلّ ما فرض مانعاً غیر الجهل بالحکم . و إنْ کان الجهل به ، فإنّ ارتفاع هذا المانع بالقطع یستلزم التصویب ، إذ سیکون الحکم مقیّداً بالعلم ، و تقیّده بالعلم و اختصاصه بالعالمین باطل .

فسقط دفاع المحقق الإیروانی و بقی الإشکال علی حاله .

ص:183

هل تجب الموافقة الالتزامیة ؟
اشارة

قد تقدّم أنّ الإنسان لا یخلو من احدی حالات ، هی العلم و الظن و الشکّ ، و حصول العلم له فی کلّ موردٍ توفّرت فیه شروط العلم و مقدماته من الضروریّات ، لکنّ حصوله له لا یلازم تصدیقه به و انقیاده له و ترتیبه الأثر علیه ، فکم من موردٍ یتحقّق فیه العلم للإنسان و لا یرتّب الأثر علی علمه لسببٍ من الأسباب .

و لمّا تقرّر کون القطع منجّزاً للتکلیف ، و أنّ علی المکلّف أن یتحرّک نحو الامتثال و تحقیق المأمور به خارجاً و حصول الموافقة العملیّة ، وقع البحث بینهم فی وجوب الموافقة الالتزامیّة أیضاً و عدم وجوبها .

و بعبارةٍ اخری : هل هناک تکلیف جوانجی بالإضافة إلی التکلیف الجوارحی أوْ لا ؟

تحریر محلّ البحث

إنه لیس المراد من وجوب الموافقة الالتزامیّة هو العلم بالتکلیف ، و لا الرضا بجعله ، و لا العزم علی العمل و الامتثال ، و لا قصد القربة ، مع کونه مختصّاً بالعبادات و البحث أعم منها و من التوصّلیات .

بل المراد من الموافقة الالتزامیّة للتکلیف الشرعی : أنْ یعقد القلب علیه و ینقاد بالنسبة إلیه ، کما هو الحال فی الامور الاعتقادیة .

ص:184

إنه لا ریب فی أنّ الالتزام القلبی - بالإضافة إلی العمل - یوجب القرب من المولی و ارتقاء درجة العبد عنده ، لکنّ الکلام فی استحقاق العقاب علی عدم الالتزام ، فهل یجب الالتزام القلبی ؟ و هل یحرم ترکه ؟

هل یوجد فرق بین وجوب الموافقة و حرمة المخالفة ؟

قد نسب إلی المحقق المشکینی (1) القول بالتفصیل ، فقال بعدم وجوب الموافقة الالتزامیّة ، لکن المخالفة محرّمة .

الأدلّة فی المسألة

قال المحقق النائینی :

ربما یقال بتأثیر العلم الإجمالی فی دوران الأمر بین المحذورین من جهة الالتزام ، حیث أن فی الأخذ بالفعل أو الترک من دون الالتزام بالوجوب أو الحرمة ، مخالفة للتکلیف المعلوم إجمالاً التزاماً .

و أنت خبیر بفساد هذا القول ، فإن المراد من الموافقة الالتزامیّة ... .

إنْ کان هو التصدیق و التدیّن بما جاء به النّبی صلّی اللّٰه علیه و آله من الأحکام الفرعیّة ، فمرجع ذلک إلی تصدیق نبوّته و أن ما جاء به فهو من عند اللّٰه ، و هو لا یستلزم الالتزام بکلّ واحدٍ واحدٍ من الأحکام تفصیلاً .

و إنْ کان المراد منها هو الالتزام بکلّ واحدٍ واحدٍ من الأحکام علی التفصیل .

فإنْ أراد القائل بلزومه حرمة التشریع و الالتزام بخلاف الحکم الواقعی مسنداً له إلی الشارع ، فهو حق ، لکنه أجنبی عن لزوم الالتزام بکلّ حکم علی التفصیل .

ص:185


1- 1) حاشیة الکفایة 2 / 27 .

و إنْ أراد لزومه بنفسه ، بحیث یکون لکلّ واجب مثلاً إطاعتان و معصیتان ، إحداهما : من حیث العمل ، و الاخری : من حیث الالتزام ، فلا دلیل علیه لا عقلاً و لا نقلاً .

و إنْ کان المراد من لزومها ، هو وجوب الإتیان بالعبادات بقصد التعبّد و الامتثال ، بأنْ یؤتی بها بداعی الأمر مثلاً ، فهو و إنْ کان حقّاً ، إلّا أنه أجنبی عن محلّ الکلام أیضاً .

و بالجملة ، لا دلیل علی لزوم الموافقة الالتزامیّة ، بالمعنی الذی یکون مربوطاً بالمقام... (1) .

و جاء فی الکفایة :

هل تنجز التکلیف بالقطع - کما یقتضی موافقته عملاً - یقتضی موافقته التزاماً و التسلیم له اعتقاداً و انقیاداً ، کما هو اللّازم فی الاصول الدینیّة و الامور الاعتقادیّة ، بحیث کان له امتثالان و طاعتان ، احداهما : بحسب القلب و الجنان ، و الاخری : بحسب العمل بالأرکان ، فیستحق العقوبة علی عدم الموافقة التزاماً و لو مع الموافقة عملاً ، أو لا یقتضی ، فلا یستحق العقوبة علیه ، بل إنما یستحقها علی المخالفة العملیّة ؟

الحق : هو الثانی ، لشهادة الوجدان الحاکم فی باب الإطاعة و العصیان بذلک و استقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سیّده إلّا المثوبة دون العقوبة و لو لم یکن متسلّماً و ملتزماً به و معتقداً و منقاداً له ، و إنْ کان ذلک یوجب تنقیصه و انحطاط درجته لدی سیّده ، لعدم اتّصافه بما یلیق أنْ یتّصف العبد به من الاعتقاد

ص:186


1- 1) أجود التقریرات 3 / 95.

بأحکام مولاه و الانقیاد لها ، و هذا غیر استحقاق العقوبة علی مخالفته لأمره أو نهیه التزاماً مع موافقته عملاً (1) .

و قال السید الخوئی :

التحقیق : عدم وجوب الموافقة الالتزامیّة ، إذ لم یدل علیه دلیل من الشرع و لا من العقل . أمّا الأدلّة الشرعیة ، فظاهرها البعث نحو العمل و الإتیان به خارجاً، لا الالتزام به قلباً . و أمّا العقل ، فلا یدلّ علی أزید من وجوب امتثال أمر المولی ، فلیس هناک ما یدلّ علی لزوم الالتزام قلباً (2) .

أقول :

و علی الجملة ، فإنه إذا قام الدلیل علی التکلیف و ثبت ، فإنّ العقل حاکم بلزوم إطاعة المولی بامتثال التکلیف الوجوبی أو التحریمی ، أمّا أن یأمر بالالتزام القلبی أیضاً ، فلا دلیل علیه .

و بعبارة اخری : إن العقل یحرک العبد المکلّف نحو امتثال متعلّق التکلیف ، و لا یتجاوز بعثه و تحریکه دائرة المتعلّق ، بأن یبعث إلی شیء زائد عنه ، بل إنه یرید من المکلّف الإتیان بالمتعلّق فحسب .

هذا بالنسبة إلی الحکم العقلی .

و أمّا الحکم الشرعی ، فإنه لمّا جاء الخطاب بالصّلاة مثلاً و أمر بها المولی ، فإن « صلّ » یشتمل علی مادّة و هیئة ، أمّا المادّة ، فهی الصّلاة ، و أمّا الهیئة ، فمدلولها البعث و الطلب أو اعتبار اللابدیة ، فلا دلیل من الخطاب الشرعی بالصّلاة - لا مادةً

ص:187


1- 1) کفایة الاصول : 268 .
2- 2) مصباح الاصول 2 / 52 .

و لا هیئة - علی وجوب الموافقة .

و أمّا أن یکون هناک دلیلٌ من خارج الخطاب الشرعی بوجوب الصّلاة ، یدلّ علی وجوب الموافقة الالتزامیّة مضافاً إلی الصّلاة ، فلا یوجد هکذا دلیل .

نعم ، توجد روایات کثیرة فی وجوب التصدیق و الإقرار بما جاء به النبیّ صلّی اللّٰه علیه و آله ، کقوله علیه السّلام - فی جواب السؤال عمّا بنیت علیه دعائم الإسلام - : « ... و الإقرار بما جاء به من عند اللّٰه ... » (1) .

و لکنْ فی دلالتها علی المدّعی بحث ، کما لا یخفی .

و قد یقال : بأنّ هذه النصوص ناظرة إلی اصول الدین أو منصرفة إلیها .

و لکنّ هذا غیر واضح ، و العهدة فی إثباته علی مدّعیه ، لأنّ النصوص مطلقة و عبارتها « الإقرار بما جاء به » النبیّ ، سواء فی الاصول أو الفروع ، و ما هو منشأ الانصراف ؟

و قد یقال (2) : بدلالتها علی وجوب الموافقة الالتزامیّة ، لکنْ یکفی الموافقة إجمالاً .

و فیه : إن کانت دالّةً علی الوجوب ، فمقتضی القاعدة انحلالها علی کلّ واحدٍ واحدٍ ممّا جاء به النبی صلّی اللّٰه علیه و آله ، فهو إطلاق شمولی ، فالقول بالالتزام الإجمالی فی غیر محلّه .

فإنْ قلت : القول بوجوب الموافقة الالتزامیّة مخالف للمشهور .

قلنا : هذا المشهور لیس مشهور القدماء بل المتأخرین ، و مخالفتهم لا تضرّ ،

ص:188


1- 1) الکافی 2 / 19 و 21 - 22 و 38 .
2- 2) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 54 .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إعراض المشهور و إن کان موهناً عندنا ، لکنْ عن السّند لا الدلالة ، و ما نحن فیه من قبیل الثانی لا الأوّل .

هذا کلّه ، اللهم إلّا أن یقال بأن « الإقرار » أمر و« الالتزام » أمر آخر . فتدبّر .

ثمرة البحث و وجه الحاجة إلیه

نحتاج إلی هذا البحث من جهتین :

جهة فقهیّة ، و هی وجوب و عدم وجوب الموافقة الالتزامیّة ، و حرمة و عدم حرمة المخالفة الالتزامیّة .

وجهة اصولیّة ، و هی : أنه علی القول بوجوبها ، لا مجال لإجراء الاصول العملیّة . مثلاً : لو دار الأمر بین المحذورین ، فهل تجری الاصول العملیّة ؟ فیه خمسة أقوال ، أحدها : جریان أصالة البراءة عن الوجوب و الحرمة معاً ، فبناءً علی وجوب الموافقة الالتزامیّة ، لا یمکن جریان الأصل فی الطرفین ، و یسقط هذا القول فی تلک المسألة .

و قال المحقق الأصفهانی (1) : إنه بناءً علی وجوب الموافقة الالتزامیّة ، لا بدّ من القول بها فی التعبدیّات و التوصلیّات معاً ، و لکنْ بالنظر إلی المانعیّة عن جریان الاصول ، فلا مورد للبحث فی التعبدیّات ، إذ مع عدم الموافقة الالتزامیّة یزول قصد القربة ، لأنْ قصد القربة غیر الموافقة الالتزامیّة کما تقدّم ، لکنّهما فی التعبدیّات متلازمان .

و الحاصل : أنه بین التعبدیّات و التوصلیّات من جهة المانعیّة عن جریان

ص:189


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 78 .

الاصول فرق ، فإذا دار الأمر بین المحذورین فی الواقعة الواحدة و کانا توصّلیین ، حصلت المخالفة الالتزامیّة ، و أمّا العملیّة فلا ، لأنه إمّا فاعل و إمّا تارک . أمّا فی التعبدیّات ، فتحصل المخالفة العملیّة أیضاً ، فإنه یمکن الإتیان بالعمل بدون قصد القربة ، فإن کان واجباً لم یمتثل و إن کان حراماً فقد خولف بالإتیان ... فهذا الفرق بین القسمین - التوصلیّات و التعبدیّات - موجود بلا إشکال .

جریان الاصول العملیّة و عدم جریانها

و هذا تفصیل الکلام فی ذلک ، علی القول بوجوب الموافقة الالتزامیّة ، و أنّه یمنع من جریان الاصول العملیّة أو لا یمنع ؟

أمّا إذا لزم من جریانها المخالفة العملیّة ، فلا إشکال فی عدم جریانها .

فنقول :

الشبهة تارة : حکمیّة کلیّة ، کصلاة الجمعة ، إذا دار حکمها بین الوجوب و الحرمة .

و اخری : موضوعیّة ، و هی :

تارة : فی العمل الواحد ، کالمرأة المحلوف علی وطیها أو ترک وطیها .

و اخری : فی موضوعین ، کما لو ارید إجراء قاعدة الفراغ فی الصّلاة و استصحاب بقاء الحدث ، فإنه إن کان محدثاً فالصّلاة التی فرغ منها باطلة ، و إنْ کان علی طهارة فلا حدث بالنسبة إلی الصّلاة المتأخرة .

تحریر محلّ الکلام

فهل یجری الأصل فی هذه الموارد مع القول بوجوب الموافقة الالتزامیّة ؟

أمّا علی القول بأنْ لا مقتضی لجریان الأصل فی أطراف العلم الإجمالی ، کما

ص:190

علیه الشیخ ، فلا مجال لهذا البحث أصلاً ، لأنه مع عدم المقتضی لا تصل النوبة إلی البحث عن المانع .

فالبحث عن مانعیّة وجوب الموافقة ، مبنی علی القول بوجود المقتضی لجریان الأصل فی أطراف الشبهة . هذا من جهة .

و من جهة اخری : إنه لا بدّ من أنْ یکون للأصل موضوع یقتضی جریانه و إلّا فلا تصل النوبة إلی البحث عن مانعیة وجوب الموافقة . مثلاً : إذا دار الأمر بین الوجوب و الحرمة ، فلا مقتضی لجریان أصالة الإباحة ، لعدم الشک فی عدمها ، فلا موضوع لهذا الأصل حتی یقال : هل وجوب الالتزام یمنع عن جریان أصالة الإباحة فی مورد دوران الأمر بین المحذورین أوْ لا ؟

فتلخص : إن البحث یبتنی علی القول بوجود المقتضی لجریان الأصل فی أطراف الشبهة ، و علی أنْ یکون للأصل موضوع حتی یبحث عن جریانه و عدم جریانه فی المورد .

و حینئذٍ نقول - مثلاً - : لو توضّأ بماء مردد بین الطّاهر و المتنجّس ، فهل یجری الأصل فی الطرفین مع العلم الإجمالی بأحد الحکمین .

و لو صلّی و فرغ ثم شکّ فی طهارته جری استصحاب الحدث و جرت قاعدة الفراغ مع العلم بمخالفة أحدهما للواقع ؟

وجه عدم الجریان

یمکن تقریب مانعیّة الموافقة الالتزامیّة عن جریان الاصول فی أطراف العلم بما حاصله : إنه إذا وجب الالتزام القلبی بالحکم الواقعی الموجود فی البین لا یجتمع مع جریان الأصل الموجب للحکم المنافی له عملاً ، و إلّا یلزم الالتزام

ص:191

بالمتنافیین .

و إنْ شئت فقل : إنّ بإجراء الأصل فی جمیع الأطراف ینتفی موضوع وجوب الالتزام ، مع کونه محقّقاً علی وجه الإجمال ، و یکون ترخیصاً فی المخالفة ، و لا فرق فی تحقق المخالفة الممنوعة ، بأنْ تکون مخالفةً لفعل خارجی أو أمرٍ قلبیّ باطنی .

وجه الجریان

و قد ذکر لعدم مانعیّة وجوب الموافقة الالتزامیة عن جریان الاصول وجوه :

الأوّل : ما جاء فی الکفایة

منها : ما قاله صاحب الکفایة من : أنّ استقلال العقل بالمحذور فیه إنّما یکون فیما إذا لم یکن هناک ترخیص فی الإقدام و الاقتحام فی الأطراف ، و معه لا محذور فیه بل و لا فی الالتزام بحکمٍ آخر (1) .

و توضیحه :

إن دلیل وجوب الموافقة الالتزامیّة قاصر عن الشمول للمورد الذی وجد فیه أصلٌ من ناحیة الشارع علی الخلاف ، فإذا قائم الأصل من ناحیته مؤمّناً للمکلّف ، فلا وجوب ، لأنّ العقل لا یستقل بوجوبها فی موردٍ لا یریدها الشارع من المکلّف ، و الأدلة النقلیّة التی استدلّ بها للوجوب لا یعمّ إطلاقها مثل هذا المورد .

الإشکال علیه

ص:192


1- 1) کفایة الاصول : 269 .

إلّا أنه یمکن الجواب ، بأنّ الدلیل القائم عقلاً و نقلاً علی وجوب الموافقة الالتزامیّة قائم علی الحکم الواقعی الإلهی ، و الأصل القائم فی المورد حکم ظاهری ، و لا منافاة بین الحکم الواقعی و الظاهری .

الثانی : ما ذکره الشیخ

و منها : إنّ وجوب الموافقة الالتزامیّة إنما هو فی مورد الحکم ، فلا بدّ من وجود الحکم حتی تجب الموافقة علیه التزاماً ، و الأصل العملی الجاری فی المورد یرفع الحکم ، فلا یبقی موضوع لوجوب الموافقة . و هذا ما یستفاد من کلام الشیخ (1) .

إشکال المحقق الخراسانی

و قد أشکل علیه فی الکفایة بأنه یستلزم الدور ، لأن جریان الأصل موقوف علی عدم المانع ، و هو عبارة عن عدم وجوب الموافقة ، لأنّ عدم المانع متقدّم رتبةً علی الممنوع ، لأنه من أجزاء العلة ، و هی مقدّمة علی المعلول أی الممنوع .

لکنّ عدم المانع متوقف علی جریان الأصل . و هذا دور (2) .

دفاع المحقق الأصفهانی

و قد دافع المحقق الأصفهانی و أجاب عن إشکال الدور بقوله :

و یندفع الدور : بأن مفاد الأصل بنفسه رفع الحکم من الوجوب أو الحرمة ، لا أنه یتوقف علی رفعه .

و لیس لازم رفع الحکم الإذن فی المخالفة الالتزامیّة المحرّمة فإنها لا تحرم ،

ص:193


1- 1) فرائد الاصول 1 / 84 .
2- 2) کفایة الاصول : 268 .

بل لا تتحقّق إلا مع ثبوت الحکم و لا مانعیّة لحرمة المخالفة الالتزامیّة أو قبح الإذن فیها إلّا علی تقدیر ثبوت موضوعها ، و ما لا مانعیّة له إلّا علی تقدیر ثبوت موضوعه کیف یمنع عن رفع موضوعه ؟

فإن قلت : هذا بالإضافة إلی الحکم الفعلی، فإنه مرفوع بالأصل ، و أمّا الحکم الواقعی ، فلو وجب الالتزام بالحکم الواقعی المعلوم بالإجمال مع ثبوته حتی مع جریان الأصل یلزم من جریانه الإذن فی المخالفة الالتزامیّة .

قلت :

أوّلاً : لا نسلّم حرمة المخالفة الالتزامیّة للواقعی المحکوم بعدمه تنزیلاً ، و مفاد الأصل رفعه تنزیلاً ، فلا یمنع إلا حرمة المخالفة الالتزامیّة لما له ثبوت و لم یکن منفیّاً و لو تنزیلاً .

و ثانیاً : حیث إن مفاد الأصل رفع الوجوب الفعلی أو الحرمة الفعلیّة ، فلازمه عدم الالتزام بالوجوب الفعلی أو الحرمة الفعلیّة ، لا عدم الالتزام بالوجوب الواقعی أو الحرمة الواقعیة حتی یکون بلحاظ هذا اللّازم قبیحاً .

لکنه یناسب ما سلکناه فی عدم المانعیّة ، لا ما سلکه « قدس سره » فی عدمها بلحاظ عدم الموضوع لوجوب الموافقة الالتزامیّة .

و بناء علی هذا الجواب ، لا حاجة إلی قصر وجوب الموافقة الالتزامیّة علی الحکم الفعلی الذی لم یرفع تنزیلاً ، بل یجتمع مع وجوب الالتزام بکلّ ما ثبت من الشارع علی حسب مرتبته من الثبوت ، فتدبّر (1) .

و توضیحه :

ص:194


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 83 - 84 .

إن مانعیّة وجوب الالتزام القلبی أیضاً موقوف علی تحقق موضوعه ، و الموضوع هو « الحکم » أی« الوجوب » ، و إذا جری الأصل انتفی الوجوب ، و حیث لا موضوع ، فلا یمکن للموافقة الالتزامیّة المانعیّة عن جریان الأصل .

و علی الجملة ، فإنه فی مثل الوضوء بالماء المردّد بین الطهارة و النجاسة ، بناءً علی وجوب الموافقة الالتزامیّة ، یرتفع هذا الوجوب بقوله علیه و آله السلام :

« رفع ما لا یعلمون » (1) ، فمع جریان البراءة لا یبقی وجوب ، فلا موضوع للموافقة .

و هذا مقصود الشیخ ، و لا یرد علیه الإشکال المزبور .

الردّ علیه

لکنْ یرد علیه - کما أشار إلیه هو فی طیّ کلامه - : إنّ الأصل الرافع للحکم أصل تنزیلی ، أی هو حکم ظاهری ، فهو یقول : إن هذا الأصل التنزیلی یرفع جمیع آثار الحکم المرفوع و منها وجوب الموافقة الالتزامیة ، لکنّ المعلوم بالإجمال الموجود فی البین فی الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی کما فی المثال ، و فی دوران الأمر فی المرأة المحلوف علی وطیها أو ترکه ، هو الملتزم به قلباً ، و لا أصل یرفعه ، و وجوده یمنع من جریان الأصل فی الأطراف .

و تلخص : عدم تمامیّة هذا الجواب .

الجواب الصحیح

ص:195


1- 1) وسائل الشیعة 15 / 369 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، رقم : 1 .

بل الجواب الصحیح ما ذکره الشیخ نفسه ، و هو أنه لا تمانع بین الأصل و موضوع وجوب الموافقة القطعیّة ، لأنّ الأصل إنما یجری فی خصوص الوجوب و فی خصوص الحرمة ، و لکنْ لا یجب الالتزام بخصوصهما ، بل الملتزم به هو الجامع بینهما الموجود فی البین ، و هذا لا یرتفع بالأصل ، فالذی یرتفع بالأصل لا تجب الموافقة معه ، و الذی تجب الموافقة معه لا یرتفع بالأصل ... و إذْ لا تمانع بینهما . فلا دور .

ص:196

قطع القطّاع
اشارة

بعد أنْ ثبت حجیّة القطع و لزوم ترتیب الأثر علیه عقلاً ، فهل حکمه بذلک مطلق أو أنه مقیّد بما إذا حصل القطع بنحوٍ متعارف و من سببٍ ینبغی حصوله منه ، أو القطع الحاصل من السبب غیر المتعارف حصوله منه ، کما هو الحال فی القطّاع ؟

قول کاشف الغطاء بعدم حجیّة قطع القطّاع

قال الشّیخ قدّس سرّه :

قد اشتهر فی ألسنة المعاصرین أنّ قطع القطّاع لا اعتبار به ، و لعلّ الأصل فی ذلک ما صرّح به کاشف الغطاء (1) قدّس سرّه بعد الحکم بأنّ کثیر الشک لا اعتبار بشکّه ، قال : و کذا من خرج عن العادة فی قطعه أو ظنّه فیلغو اعتبارهما فی حقّه .

قال الشّیخ :

ثم إنّ بعض المعاصرین وجّه الحکم بعدم اعتبار قطع القطّاع - بعد تقییده بما إذا علم القطّاع أو احتمل أنْ یکون حجیّة قطعه مشروطة بعدم کونه قطّاعاً - بأنه یشترط فی حجیّة القطع عدم منع الشارع عنه ، و إنْ کان العقل أیضاً قد یقطع بعدم المنع إلّا أنه إذا احتمل المنع یحکم . بحجیّة القطع ظاهراً ما لم یثبت المنع .

ص:197


1- 1) کشف الغطاء : 64 .
مناقشة الشّیخ

و قد ناقش الشیخ القول المذکور بأنه :

إنْ ارید بعدم اعتباره عدم اعتباره فی مورد یکون القطع موضوعاً للحکم فلا بأس به ، لانصراف القطع المأخوذ فی الموضوع إلی الحاصل من الأسباب التی یتعارف حصول القطع منها ، نظیر انصراف الظن و الشک فی موارد أخذهما فی الموضوع إلی المتعارف منهما .

و إن ارید نفی اعتباره فی مقام یکون القطع طریقیاً ، فإن ارید نفی إجزاء ما قطع به عن الواقع لو انکشف الخلاف ، فهو حق أیضاً ، لکنه لا یختص بقطع القطاع ، بل یعم غیره ، لعدم إجزاء الأمر التخیّلی - کما حقق فی مبحث الإجزاء - و إن ارید وجوب ردعه عن قطعه و رفعه عنه و تنبیهه علی مرضه أو یقال له : إن اللّٰه لا یرید منک الواقع إذا کان غافلاً عن القطع بحیث تلتبس علیه المغالطة ، فهو حق أیضاً فی موارد القطع بخلاف الواقع ، مما یرتبط بالنفوس و الأعراض و الأموال التی تجب المحافظة علیها ، لکنه لا یختص بقطع القطّاع بل یعم مطلق القطع المخالف للواقع و لو کان متعارفاً .

و إن ارید أنه حال العلم بحکم الشاک ، فهو ممنوع ، إذ القاطع بالحکم لا یمکن إرجاعه إلی أحکام الشک من الاصول العملیّة لعدم شمولها له ، فنفی حجیّة قطعه یعنی ترکه متحیّراً متخبّطاً لا یعرف ما یقوم به (1) .

ص:198


1- 1) فرائد الاصول 1 / 65 - 67 .
مناقشة المحقق الخراسانی

و قال المحقق الخراسانی:

لا تفاوت فی نظر العقل أصلاً فیما یترتب علی القطع من الآثار عقلاً ، بین أنْ یکون حاصلاً بنحو متعارف و من سببٍ ینبغی حصوله منه ، أو غیر متعارف لا ینبغی حصوله منه کما هو الحال غالباً فی القطّاع ... و بالجملة ، القطع فیما کان موضوعاً عقلاً ، لا یتفاوت من حیث القاطع و لا من حیث المورد و لا من حیث السّبب . لا عقلاً - و هو واضح - و لا شرعاً ، لما عرفت من أنه لا تناله ید الجعل نفیاً و لا إثباتاً ... (1) .

مناقشة المحقق النائینی

و قال المحقق النائینی :

حکی عن الشیخ الکبیر عدم اعتبار قطع القطّاع .

و هو بظاهره فاسد ، فإنّه إن أراد من قطع القطاع القطع الطریقی الذی لم یؤخذ فی موضوع الدلیل ، فهو مما لا یفرق فیه بین القطاع و غیره ، لعدم اختلاف الأشخاص و الأسباب و الموارد فی نظر العقل فی طریقیّة القطع و کونه منجّزاً للواقع عند المصادفة و عذراً عند المخالفة .

و إن أراد القطع الموضوعی ، فهو و إن کان له وجه ، لأنّ العناوین التی تؤخذ فی ظاهر الدلیل تنصرف إلی ما هو المتعارف ، من غیر فرق فی ذلک بین الشک و الظن و القطع ، فالشک المأخوذ فی باب الرکعات ینصرف إلی ما هو المتعارف ،

ص:199


1- 1) کفایة الاصول : 269 .

و لا عبرة بشک کثیر الشک و لو فرض أنّه لم یرد قوله علیه السّلام « لا شک لکثیر الشک » ، غایته أنّه لو لم یرد ذلک کان شک کثیر الشک مبطلاً للصّلاة و لو تعلّق فی الأخیرتین ، لأنّه لا یندرج فی أدلة البناء علی الأکثر ، فلا یکون له طریق إلی إتمام الصلاة ، فتبطل ؛ و لکن بعد ورود قوله علیه السّلام « لا شک لکثیر الشک » یلزمه البناء علی الأقل أو الأکثر ، أی هو فی الخیار بین ذلک .

و کذا الحال فی الظن الذی اخذ موضوعاً فی عدد الرکعات ، فإنّه أیضاً ینصرف إلی المتعارف و لا یعمّ کثیر الظن ، فیکون حکم ظن کثیر الظن حکم الشک .

و کذا الحال فی القطع المأخوذ موضوعاً ینصرف إلی المتعارف و لا یعم قطع القطاع ، إلّا أنّ الشأن فی إمکان التفات القاطع حال قطعه إلی أنّه قطاع ، فإنّه یمکن أن یقال بعدم التفاته إلی ذلک .

نعم : تظهر الثمرة بالنسبة إلی غیر القاطع ، کما لو فرض أنّ الحاکم علم أنّ الشاهد قطاع ، فیمکن أن یقال بعدم قبول شهادته ؛ و لکن المحکی عن « الشیخ الکبیر » هو عدم اعتبار قطع القطاع فی القطع الطریقی المحض ؛ و قد عرفت أنّ ذلک مما لا سبیل إلیه .

قول المحقّق العراقی بعدم الحجیّة فی المعذوریّة

و ذهب المحقق العراقی إلی أنّه إذا کان کلام الشیخ الکبیر ناظراً إلی جهة معذوریّة القطع ، بأنّ العقل لا یعتبر قطع القطّاع معذراً له ، فالحقّ معه ، و لا یندفع بما ذکروه جواباً عنه (1) .

ص:200


1- 1) فوائد الاصول 3 / 64 ، الهامش .

و جاء فی تقریر بحثه ما نصّه بعد کلامٍ له :

و لعلّه إلی ما ذکرنا نظر القائل بعدم اعتبار قطع القطّاع ، فیراد من ذلک عدم اعتباره فی مقام العذریّة ، و لو بملاحظة تقصیره فی مقدّمات قطعه من الأوّل ، الناشئ من جهة قلّة مبالاته و عدم تدبّره الموجب لخروجه بذلک عمّا علیه متعارف الناس من الاستقامة إلی الاعوجاج فی السلیقة ، بنحو یحصل له القطع من کلّ شیء ممّا لا یکون مثله سبباً عادیّاً لحصول الظن بل الشکّ لمتعارف الناس ، لا عدم اعتباره فی مقام المنجزیّة و مرحلة إثبات التکلیف و الاشتغال به .

بل و یمکن أن یحمل علیه أیضاً مقالة الأخباریین ... (1) .

موافقة السید الاستاذ للمحقّق العراقی

و وافقه سیّدنا الاستاذ قدّس سرّه ، إذ قال :

و أمّا مناقشة الشیخ ، فیمکن أن یقال فی دفعها :

أولاً : بالنقض بمورد الجاهل المرکّب المقصر ، فإنه فی حال علمه لا یمکن ثبوت احکام الشک له ، و لکنه لا یکون معذوراً فی مخالفته للواقع مع أنه قاطع .

و ثانیاً : بأنه و إن سلّم أن القاطع فی حال قطعه لا یمکن إرجاعه إلی أحکام غیر القاطع بما هی أحکام لغیر القاطع ، لکننا یمکننا أن ندّعی هذا القاطع لا یکون معذوراً لو خالف قطعه الواقع ، و هذا هو المراد من نفی حجیّة قطعه .

بیان ذلک : إن حجیّة القطع ترجع إلی وجوب متابعته و منجزیّته للواقع لو صادفه ، و معذریّته لو خالف قطعه الواقع .

فالذی ندّعیه : إن العقل لا یحکم بمعذریة قطع القطاع لو خالف الواقع .

ص:201


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 44 .

و هذا لا محذور فیه أصلاً ، و لا یتنافی مع لزوم متابعة القطع الحاصل بنظر القاطع .

وعلیه ، فیکون الکلام فی أن الحکم العقلی بمعذریة القطع و عدم استحقاق العقاب علی مخالفة الواقع الذی تعلّق القطع بخلافه ، هل هو ثابت لجمیع أفراد القطع أم إنه ثابت لبعض الأفراد دون بعض ؟

و لا یخفی أن التشکیک فی ذلک یکفی فی عدم ثبوت المعذریّة و لا نحتاج إلی إثبات العدم ، و إنما الذی یحتاج إلی الإثبات هو القول بالحجیّة .

و لکن الإنصاف عند ملاحظة حال العقلاء و معاملاتهم فیما بینهم و مع عبیدهم - التی هی الطریق لتشخیص أصل حجیّة القطع فی الجملة - هو عدم معذوریّة القاطع إذا کان قطعه من غیر طریق متعارف ، فمن أمر وکیله بشراء حاجةٍ له بالقیمة السّوقیة ، فاشتراها الوکیل بأزید منها استناداً إلی قطعه بأن الثمن یساوی القیمة السوقیة ، لکنه ملتفت إلی أن قطعه غیر ناش عن سبب متعارف ، فللموکّل أن لا یعذر وکیله و یعاتبه کما لا یخفی .

و لیس هذا أمراً بعیداً بعد التزام الفقهاء بمعاقبة الجاهل المرکّب المقصّر فی اصوله و فروعه ، و لیس ذلک إلا لعدم کون قطعه معذراً ، بعد تقصیره فی المقدّمات التی تسبب القطع .

و بعد التزام الشیخ بأن التقصیر المسبب للنسیان یمکن أن یستلزم العقاب علی المنسی لو لا حدیث الرفع الراجع إلی نفی وجوب التحفظ ، مع أنه لا حکم للناسی فی حال نسیانه ، و لا یمکن مخاطبته بأحکام الملتفت .

و بالجملة : عدم إمکان إثبات حکم للقاطع ینافی ما قطع به فی حال قطعه ، لا یتنافی مع عدم حجیّة القطع ، بمعنی عدم کونه معذوراً لو انکشف أن قطعه

ص:202

مخالف للواقع ، إذ عدم المعذوریة إنما یحکم به بعد زوال القطع ، فلا محذور فیه .

و من هنا یظهر : أنه یمکن تصحیح دعوی الأخباریین الراجعة إلی نفی حجیّة القطع - هذا مما احتمله الشیخ فی مراد الأخباریین ، فراجع صدر کلامه - بإرجاعها إلی نفی معذوریة القطع الحاصل من غیر الکتاب و السنّة ، و هی دعوی لا بأس بها ، إذ بعد ورود الروایات الکثیرة الدالّة علی أن الدّین لا یصاب بالعقول ، و کثرة وقوع الخطأ فی الأحکام إذا کانت مدرکة من طریق العقل ، لا یحکم العقل و العقلاء بمعذوریّة القاطع من غیر طریق الکتاب و السنّة ، بل یعدّونه مقصّراً فی المقدمات فیصح عقابه . و إن لم یمکن نفی وجوب الإطاعة فی حال قطعه .

فالتفت و تدبر .

و إلی ما ذکرناه من نفی معذوریّة القطع أشار المحقق العراقی ، کما فی نهایة الأفکار ، فلاحظ (1) .

أقول :

لا یخفی أن الکلام هنا فی القاطع و السبب ، دون المورد .

و أیضاً ، فالکلام فی القطع الطریقی المحض ، فلو کان القطع مأخوذاً فی موضوع الحکم الشرعی ، فلا ریب فی جواز تقییده من قبل الحکم من الحیثیّات الثلاثة ، لأنّه اعتبار من المولی ، فله أن یجعل الموضوع مقیّداً من حیث القاطع بأنْ لا یکون قطّاعاً ، و له أن یجعله مطلقاً . و من حیث السبب ، له أنْ یقیّد السبب بأنْ یکون القطع حاصلاً من الکتاب و السنّة فقط مثلاً ، و له أنْ لا یقیّد ، أو یقیّد بأنْ

ص:203


1- 1) منتقی الاصول 4 / 118 - 119 .

لا یکون السبب غیر المقدّمة العقلیّة من الجفر و الرّمل ، أو لا یکون من غیر المستقلّات العقلیّة ، و له أن یطلق .

و السبب فی طرح هذا البحث - کما عرفت - هو إلحاق الشیخ جعفر کاشف الغطاء رحمه اللّٰه قطع القطّاع بشکّ کثیر الشک فی عدم الاعتبار .

لکنّ الفرق بین القطع و الشک واضح ، لأن حجیّة القطع عقلیّة ، إذ العقل یحکم بوجوب متابعة القطع و یراه منجّزاً و معذّراً ، و أمّا کاشفیّة قطع القطّاع عن الواقع و إنْ لم تکن حاصلةً ، إلّا أنها موجودة عند القطّاع نفسه ، فإنه عنده طریق إلی الواقع و کاشف عنه .

و علی الجملة : إنّ هذه أحکام عقلیّة ، یرتّبها العقل علی القطع ، سواء کان القاطع قطّاعاً أوْ لا ، و لو لم یرتّبها یلزم تخلّف الحکم عن موضوعه ، و هو محال .

ص:204

حجیّة القطع الحاصل من المقدّمات العقلیّة
تحریر محلّ النزاع

إنّ القطع من الحوادث ، فله سبب ، فهل یمکن تقییده بسببٍ خاصّ أوْ لا؟

السّبب تارةً : هو المقدّمات الشرعیّة ، الکتاب و السنّة . و لا کلام و لا خلاف فی حجیّة القطع الحاصل منهما . و اخری : هو غیر المقدّمات الشرعیّة ، و هی تارةً :

غیر عقلیّة أیضاً ، کما لو حصل القطع بالحکم الشرعی من الرمل و الجفر و نحوهما ، و اخری : عقلیّة .

و المقدّمات العقلیّة تارةً : مستقلّة ، کقاعدة قبح العقاب بلا بیان ، و اخری :

غیر مستقلّة ، و هو عبارة عن الحکم العقلی فی المورد الشرعی ، مثل حکم العقل بالملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذیها ، فإنه حکم عقلی متفرّع علی حکمٍ شرعی .

فلو حصل القطع بالحکم الشرعی من المقدّمات العقلیة المستقلّة ، کحکمه بعدم اجتماع الأمر و النهی مثلاً أو غیر المستقلّة ، کوجوب الإطاعة علی المبنی ، فهل هذا القطع حجّة ، أوْ لا بدّ من تقیید القطع بالحاصل من غیر هذه المقدّمات ؟

حول قول بعض الأخباریین بعدم الحجیّة

و کما ذهب الشیخ الکبیر کاشف الغطاء إلی عدم اعتبار القطع الحاصل من الأسباب غیر المتعارفة العقلائیّة ، و ظهر عدم تمامیّة ما ذهب إلیه ، فقد نُسب إلی

ص:205

بعض الأخباریّین القول بعدم اعتبار القطع بالحکم الشرعی الحاصل من غیر الأدلّة السمعیّة ، أی المقدّمات العقلیّة .

قال الشیخ:

ینسب إلی غیر واحدٍ من أصحابنا الأخباریین عدم الاعتماد علی القطع الحاصل من المقدّمات العقلیّة القطعیّة غیر الضروریّة ، لکثرة وقوع الاشتباه و الغلط فیها ، فلا یمکن الرکون إلی شیء منها (1) .

و قال صاحب الکفایة :

نسب إلی بعض الأخباریین أنه لا اعتبار بما إذا کان بمقدمات عقلیة ، إلّا أن مراجعة کلماتهم لا تساعد علی هذه النسبة ، بل تشهد بکذبها ، و أنها إنما تکون إمّا فی مقام منع الملازمة بین حکم العقل بوجوب شیء و حکم الشرع بوجوبه ، کما ینادی به بأعلی صوته ما حکی عن السیّد الصدر فی باب الملازمة ، و إمّا فی مقام عدم جواز الاعتماد علی المقدمات العقلیة ، لأنها لا تفید إلّا الظن ، کما هو صریح الشیخ المحدّث الأمین الاسترابادی ... .

و کیف کان ، فلزوم اتّباع القطع مطلقاً و صحّة المؤاخذة علی مخالفته عند إصابته ، و کذا ترتیب سائر آثاره علیه عقلاً ، مما لا یکاد یخفی علی عاقل فضلاً عن فاضل ... (2) .

ص:206


1- 1) فرائد الاصول 1 / 51 .
2- 2) کفایة الاصول : 270 .
کلام الأمین الاسترابادی

أقول :

و الأولی نقل کلام المحدّث الاسترابادی لیتّضح الحال ، فإنه قال :

الدلیل التاسع مبنیّ علی مقدّمة دقیقة شریفة تفطّنت لها بتوفیق اللّٰه تعالی ، و هی :

أنّ العلوم النظریّة قسمان :

قسمٌ ینتهی إلی مادّةٍ هی قریبة من الإحساس ، و من هذا القسم علم الهندسة و الحساب و أکثر أبواب المنطق ، و هذا القسم لا یقع فیه الخلاف بین العلماء و الخطأ فی نتائج الأفکار ؛ و السبب فی ذلک أنّ الخطأ فی الفکر ، إمّا من جهة الصّورة أو من جهة المادّة ، و الخطأ من جهة الصّورة لا یقع من العلماء ؛ لأنّ معرفة الصّورة من الاُمور الواضحة عند الأذهان المستقیمة ، و الخطأ من جهة المادّة لا یتصوّر فی هذه العلوم ؛ لقرب الموادّ فیها إلی الإحساس .

و قسمٌ ینتهی إلی مادّةٍ هی بعیدة عن الإحساس ، و من هذا القسم الحکمة الإلهیّة و الطبیعیة و علم الکلام و علم اصول الفقه و المسائل النظریة الفقهیّة و بعض القواعد المذکورة فی کتب المنطق ؛ و من ثمّ وقع الاختلافات و المشاجرات بین الفلاسفة فی الحکمة الإلهیّة و الطبیعیّة ، و بین علماء الإسلام فی اصول الفقه و المسائل الفقهیّة و علم الکلام ، و غیر ذلک .

و السبب فی ذلک : أنّ القواعد المنطقیّة إنّما هی عاصمةٌ من الخطأ من جهة الصّورة لا من جهة المادّة ، و لیست فی المنطق قاعدةٌ بها یُعلم أنّ کل مادّةٍ مخصوصةٍ داخلةٌ فی أیّ قسم من الأقسام ، و من المعلوم امتناع وضع قاعدةٍ

ص:207

تکفل بذلک .

قال :

فإن قلت : لا فرق فی ذلک بین العقلیّات و الشرعیّات ؛ و الشاهد علی ذلک ما نشاهد من کثرة الاختلافات الواقعة بین أهل الشرع فی اصول الدین و فی الفروع الفقهیّة .

قلت : إنّما نشأ ذلک من ضمّ مقدّمةٍ عقلیّة باطلة بالمقدّمة النقلیّة الظنیّة أو القطعیّة .

و من الموضِحات لما ذکرناه - من أنّه لیس فی المنطق قانونٌ یعصم عن الخطأ فی مادّة الفکر - : أنّ المشّائیین ادّعوا البداهة فی أنّ تفریق ماء کوزٍ إلی کوزین إعدامٌ لشخصه و إحداثٌ لشخصین آخرین ، و علی هذه المقدّمة بنوا إثبات الهیولی ، و الإشراقیین ادّعوا البداهة فی أنّه لیس إعداماً للشخص الأوّل و إنّما انعدمت صفةٌ من صفاته ، و هو الاتصال .

ثمّ قال :

إذا عرفت ما مهّدناه من الدقیقة الشریفة ، فنقول :

إن تمسّکنا بکلامهم علیهم السّلام فقد عُصِمنا من الخطأ ، و إن تمسّکنا بغیرهم لم نُعصم عنه ، (1) انتهی کلامه .

قال الشیخ :

و المستفاد من کلامه عدم حجیّة إدراکات العقل ، فی غیر المحسوسات و ما یکون مبادیه قریبةً من الإحساس ، إذا لم تتوافق علیها العقول .

ص:208


1- 1) الفوائد المدنیّة : 129 - 131 .

قال :

و قد استحسن ما ذکره غیر واحدٍ ممن تأخّر عنه :

منهم السیّد المحدّث الجزائری فی أوائل شرح التهذیب علی ما حکی عنه ... .

و ممن وافقهما علی ذلک فی الجملة : المحدّث البحرانی فی مقدّمات الحدائق ... .

و مما یشیر إلی ما ذکرنا من قبل هؤلاء ما ذکره السید الصّدر فی شرح الوافیة فی جملة کلامٍ له ... (1) .

تکذیب ما نسب إلیهم

أقول :

و لکنّ المحقق الخراسانی یری أن النسبة کاذبة (2) ، و أنّ الخلاف منهم لیس فی کبری حجیّة الدلیل العقلی و إنما فی الصغری .

و هذا ما نصَّ علیه المحدّث النوری أیضاً ، فقد قال فی جملة کلام له طویل :

إنّ ما نسب إلی أصحابنا الأخباریین من إنکارهم حجیّة القطع الحاصل من العقل ، خلاف ما یظهر من کلماتهم . و قد اشتهرت هذه النسبة فی عصرنا بین طبقات أهل العلم ، و الأصل فی هذا الاشتهار کلام الشیخ الأعظم الأنصاری ... .

قال :

و لکنّه معذور ، لأنه لم یکن عنده کتاب الفوائد ، و إنما نقله عن حاشیة فخر

ص:209


1- 1) فرائد الاصول 1 / 54 - 55 .
2- 2) کفایة الاصول : 270 .

المحققین محمّد تقی الأصفهانی علی المعالم ، و کذا ما نقله عن السیّد الجزائری کما لا یخفی علی من راجعهما (1) .

أقول :

لکنّ عبارة الاسترابادی فی بدایة الفصل هی :

الفصل الثانی : فی بیان انحصار مدرک ما لیس من ضروریّات الدین من المسائل الشّرعیة ، أصلیةً کانت أو فرعیّة ، فی السماع عن الصادقین علیهم السلام (2).

و عبارة صاحب الحدائق هی :

لا مدخل للعقل فی شیء من الأحکام الفقهیّة ، من عبادات و غیرها ، و لا سبیل إلیها إلّا السّماع عن المعصوم علیه السلام ، لقصور العقل المذکور عن الاطّلاع علیها (3) .

فالظاهر أنّ الحق مع الشّیخ .

الأقوال فی المقام

و بالجملة ، ففی المسألة قولان و تفصیلان :

القول الأوّل : ما ذهب إلیه الاصولیّون ، من حجیة القطع مطلقاً ، و أنّ الأحکام العقلیّة غیر قابلة للتخصیص من ناحیة الشّارع .

القول الثانی : رأی الأخباریین ، فإنه و إنْ کان السیّد الصدر فی مقام نفی

ص:210


1- 1) مستدرک الوسائل 9 / 303 - 318.
2- 2) الفوائد المدنیة : 254 .
3- 3) الحدائق الناضرة 1 / 131 .

قاعدة الملازمة کما ذکر صاحب الکفایة ، لکنّ کلمات الأمین و صاحب الحدائق ظاهرة فی عدم حجیّة القطع بالحکم الشرعی من الدلیل العقلی .

دلیل الأخباریین

إنّ الصحیح - کما علیه الاصولیّون - هو أن الحکم الشّرعی یستنبط من المقدّمات المستعملة فی الاستلزامات العقلیّة مثل باب اجتماع الأمر و النهی ، و المقدمة وذی المقدمة ، و من قاعدة الملازمة ... .

و ما یمکن أنْ یکون وجهاً للقول بعدم الجواز هو العقل و النقل .

الدّلیل الأوّل : العقل

إنّ کثرة وقوع الغلط و الاشتباه فی المقدّمات العقلیّة أمرٌ لا ینکر ، و قد ذکر الأمین الأسترآبادی أنه لا یوجد عندنا میزان لتشخیص موادّ القضایا ، وعلیه ، فلا یمکن الاعتماد علی تلک المقدّمات فی استنباط الأحکام الشرعیّة .

الجواب

و فیه:

أوّلاً : إن هذا الدلیل مرکّب من امور :

أحدها : کثرة الخطأ . و هذا أمر حسّی ، و لا کلام فیه .

و الثانی : إنه لا میزان للتشخیص بالنسبة إلی المواد . و هذا أیضاً أمر حسّی أو قریب من الحسّ . و لا کلام فیه .

و الثالث : إنه کلّ ما کثر فیه الخطأ سقط عن الدلیلیّة . و هذه کبری عقلیّة ، و هی من المسائل التی لا تقبل النیل ، لکثرة الخطأ فیها ، کما ذکر الأمین .

و بعبارة اخری : کلّ ما یحتاج إلی الموادّ فی مقام التحقّق الخارجی و التحقّق

ص:211

الذهنی ، فهو خارج من مسائل الطبیعیّات و الریاضیّات و داخل فی الإلهیّات ، و« الدلیلیّة » من هذا القبیل ، و هی من موادّ القضایا ، و قد ذکر الأمین أنه لا میزان للتشخیص فیها .

و ثانیاً إن السبب لکلّ خطأ یقع فی الأدلّة العقلیّة هو عدم درک الارتباط بین مقدمة الدلیل و نتیجته ، إذ لیس کلّ نتیجةٍ تحصل من کلّ مقدّمة ، بل لا بدّ من تشخیص الارتباط بینهما ، فعدم التشخیص هو سبب الخطأ ، و إذا حصل التشخیص زال .

و ثالثاً : إنه لا میزان لتشخیص الموادّ و تمییز الیقینیّات عن الظنیّات إلّا الوجدان ، لأنّ الیقین و الظن أمران وجدانیّان ، وعلیه ، فإنّ الخطأ یرتفع بالتضلّع فی الامور و التأمّل فیها ، و هذا ضروری فی جمیع العلوم التجربیّة ، فلولا التضلّع فی معرفة المواد و القدرة علی التطبیق الصحیح ، لما حصل التوصّل إلی نتیجةٍ فی مسألةٍ من المسائل ، و لو تمّ کلام الأمین للزم انسداد باب جمیع تلک العلوم .

و رابعاً إن کثرة الخطأ فی المقدّمات العقلیّة لو سلّم بها ، لیست بأکثر منه فی المقدّمات الشرعیّة .

الدلیل الثانی : النصوص

قال الشیخ :

فإن قلت : لعلّ نظر هؤلاء فی ذلک إلی ما یستفاد من الأخبار - مثل قولهم علیهم السّلام : « حرامٌ علیکم أن تقولوا بشیءٍ ما لم تسمعوه منّا » ، و قولهم علیهم السّلام : « لو أنّ رجلاً قام لیله ، و صام نهاره ، و حجّ دهره ، و تصدّق بجمیع ماله ، و لم یعرف ولایة ولیّ اللّٰه ؛ فیکون أعماله بدلالته فیوالیه ، ما کان له علی اللّٰه

ص:212

ثواب » ، و قولهم علیهم السّلام : « من دان اللّٰه بغیر سماعٍ من صادقٍ فهو کذا و کذا ... » ، إلی غیر ذلک ... : من أنّ الواجب علینا هو امتثال أحکام اللّٰه تعالی التی بلّغها حججه علیهم السّلام ، فکلّ حکمٍ لم یکن الحجّة واسطةً فی تبلیغه لم یجب امتثاله ، بل یکون من قبیل : «اسکتوا عمّا سکت اللّٰه عنه » ؛ فإنّ معنی سکوته عنه عدم أمر أولیائه بتبلیغه ، و حینئذٍ ، فالحکم المستکشف بغیر واسطة الحجّة مُلغی فی نظر الشارع و إن کان مطابقاً للواقع ؛ کما یشهد به تصریح الإمام علیه السّلام بنفی الثواب علی التصدّق بجمیع المال ، مع القطع بکونه محبوباً و مرضیّاً عند اللّٰه .

و وجه الاستشکال فی تقدیم النقلی علی العقلی الفطری السلیم : ما ورد من النقل المتواتر علی حجّیة العقل ، و أنّه حجّة باطنة ، و أنّه ممّا یُعبد به الرحمن و یُکتسب به الجنان ، و نحوها ممّا یستفاد منه کون العقل السلیم أیضاً حجّة من الحجج ، فالحکم المستکشف به حکمٌ بلّغه الرسول الباطنی ، الذی هو شرعٌ من داخل ، کما أنّ الشرع عقلٌ من خارج .

و مما یشیر إلی ما ذکرنا من قِبَل هؤلاء: ما ذکره السیّد الصّدر رحمه اللّٰه فی شرح الوافیة - فی جملة کلامٍ له فی حکم ما یستقلّ به العقل - ما لفظه :

إنّ المعلوم هو أنّه یجب فعل شیءٍ أو ترکه أو لا یجب إذا حصل الظنّ أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غیرهما من جهة نقل قول المعصوم علیه السّلام أو فعله أو تقریره ، لا أنّه یجب فعله أو ترکه أو لا یجب ، مع حصولهما من أیّ طریقٍ کان (1) ، انتهی موضع الحاجة .

ص:213


1- 1) فرائد الاصول 1 / 58 - 60 .

و الجواب

و قد اجیب عن هذا الاستدلال بوجوه :

الأوّل : إنّ هذه النصوص تنهیٰ عن الرّکون إلی القطع الحاصل من تلک المقدّمات ، و هذا غیر معقول .

و فیه : إنّ محلّ الکلام الآن هو جواز الرکون إلی العقل لاستنباط الحکم الشرعی و عدم جوازه .

الثانی : إنها ناظرة إلی المنع عن العمل بالقیاس و الاستحسان و نحوهما مما یفید الظنّ بالحکم الشرعی .

و فیه : إنّ هذا الجواب یتمّ بالنسبة إلی بعض النّصوص ، و لعلّ أظهرها فی الدلالة علی المنع من الأخذ بالمقدّمات العقلیّة قبل حصول القطع و المقصود منها . هو النهی عن القیاس ما :

عن أبی بصیر ، قال قلت : لأبی عبد الله علیه السّلام : ترد علینا أشیاء لیس نعرفها فی کتاب اللّٰه و لا سنّته ، فننظر فیها ؟

« قال : لا ، أما أنک إنْ أصبت لم تؤجر و إنْ أخطأت کذبت علی اللّٰه » (1) .

و هذه الروایة لم یوردها الشیخ .

أمّا سنداً ، فهی معتبرة .

و أمّا دلالةً ، فظاهر قوله علیه السلام : « لا » هو أنه إن کان الشیء فی الکتاب و السنّة رجع إلیهما فیه ، و أمّا ما لا یوجد فیهما فلا ینظر فیه . و قوله : « أما أنّک ... » ظاهر فی إلغاء طریقیّة غیر الکتاب و السنّة ، و إلّا لم یعقل عدم الأجر عند الإصابة

ص:214


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 40 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 6 .

و الکذب علی اللّٰه عند الخطأ .

لکن الاستدلال بها لما ذهب إلیه الأخباریون یتوقّف علی ثبوت الإطلاق فیها ، بأنْ یکون قوله : « فننظر فیها » أعمّ من النظر العقلی القطعی ، فیکون قول الإمام : « لا » مطلقاً من باب ترک الاستفصال ، و یتفرّع علیه قوله : « أما أنک ... » ، إلّا أن ثبوته أوّل الکلام ، لإمکان دعوی کون السؤال محفوفاً بما یصلح للصّارفیّة عن النّظر العقلی القطعیّ ، و هو شیوع النظر القیاسی الظنّی فی تلک الأزمنة ، و حینئذٍ ، لا ینعقد الإطلاق فی السؤال حتی ینعقد فی الجواب .

و هناک نصٌّ آخر و دلالته قویّة ، و قد ذکره الشیخ ، و هو ما :

عن زرارة عن أبی جعفر علیه السّلام فی خبرٍ : « لو أنّ رجلاً قام لیله و صام نهاره و تصدّق بجمیع ماله و حج جمیع دهره و لم یعرف ولایة ولیّ اللّٰه فیوالیه و تکون جمیع أعماله بدلالته إلیه ، ما کان له علی اللّٰه حق فی ثوابه و لا کان من أهل الایمان » (1) .

و السند معتبر کذلک .

و یمکن الجواب عنه : بأنّ ما ورد عنهم علیهم السّلام ممّا یدلّ علی حجیّة العقل ، من دلالة ولیّ اللّٰه کذلک .

هذا ، و أمّا استطراق الرمل و الجفر للوصول إلی الأحکام الشرعیّة ، فممنوع ، لأنه مخالف للسّیرة الاستنکاریة المستمرة القطعیّة .

ص:215


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 119 ، الباب 29 من أبواب مقدمة العبادات ، رقم : 2 .
تفصیل المحقق النائینی

و فصّل المیرزا بین التصرّف فی نفس القطع و التصرّف فی متعلّقه ، فمنع الأوّل و أجاز الثانی ... فإنه لیس للشارع أنْ یقول : لا ترتّب الأثر علی قطعک ، و لکنْ له أن یقول : إنّ أحکامی محدودة بما یستفاد من الکتاب و السنّة ، و أمّا ما یستدلّ به علیها من خارجهما فلا أثر له .

و بعبارة اخری : للشارع أن یقیّد المراد لا القطع بالمراد ، فلیس له أن یقول :

لا ترتّب الأثر علی القطع بالحکم الحاصل من غیر الکتاب و السنّة ، لأنّ حجیّة القطع ذاتیّة ، و لکنّ یمکن أن یقول : کلّ حکمٍ من أحکام الکتاب و السنّة قطعت به ، وجب علیک ترتیب الأثر علی قطعک به .

و قد ذکر لتقریب مراده فی المقام مقدّماتٍ ثلاث (1) .

المقدّمة الاولی : إنّه لا یمکن أخذ القطع بحکمٍ فی موضوع نفس ذلک الحکم لاستلزامه الدور ، لأنّ القطع طریق إلی متعلّقه بالذات ، فالقطع بحکم متوقف علی تحقّق الحکم توقف الانکشاف علی المنکشف ، فالحکم متقدّم فی الرتبة علی القطع ، فلو أخذ القطع فی موضوع الحکم لزم تأخر الحکم عن القطع ، و هذا هو الدور .

المقدّمة الثانیة : إنه قد تقرّر - فی بحث التعبّدی و التوصّلی - أن استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق ، لأن التقابل بینهما من قبیل العدم و الملکة ، فکلّ موردٍ لا یکون قابلاً للتقیید فهو غیر قابل للإطلاق ، فلا یکون هناک تقیید

ص:216


1- 1) انظر : مصباح الاصول : 57 .

و لا إطلاق .

و نتیجة المقدّمتین : إنّ الأحکام الشرعیّة مهملة بالإضافة إلی علم المکلّف و جهله ، لأنّ تقییدها بالعلم بها غیر ممکن بمقتضی المقدّمة الاولی ، و إطلاقها بالنسبة إلی العلم و الجهل بها غیر ممکن بمقتضی المقدمة الثانیة . فتکون مهملة ، لأنّ الملاک إمّا أن یکون فی جعل الحکم لخصوص العالم به ، فلا بدّ من تقییده به ، و إمّا أنْ یکون فی الأعم من العالم و الجاهل ، فلا بدّ من تعمیمه ، لکنْ تقدّم فی المقدّمتین عدم إمکان التقیید و الإطلاق ، و لمّا کان الإهمال فی مقام الثبوت غیر معقول ، فلا بدّ من علاج ، و هو ما ذکره فی :

المقدّمة الثالثة : من أنّ للشارع فی مثل هذه الموارد جعلاً ثانویّاً یعبّر عنه بمتمّم الجعل ، فإمّا أنْ یقیّد به الحکم بالعلم ، فیسمّی بنتیجة التقیید ، أو یعمّم به الحکم ، فیسمّی بنتیجة الإطلاق ... و حینئذٍ ، لا یلزم الدّور ، لأنّ متعلّق الجعل الأوّل هو الحکم علی نحو الإهمال ، و متعلّق الثانی هو التقیید بالعالم أو الإطلاق ، و مع تغایر المتعلّقین لا یلزم الدور .

و قد وقع فی الشریعة تخصیص الحکم و تقییده بالعلم فی مورد الجهر و الإخفات و القصر و الإتمام ، و نلتزم فیهما بنتیجة التقیید - بمقتضی الأدلّة الشرعیّة - أمّا فی غیرهما فیؤخذ بنتیجة الإطلاق ، بمقتضی العمومات الدالّة علی أنّ الأحکام الشرعیّة مشترکة بین العالم و الجاهل .

فظهر : أنّ من الممکن تقیید الحکم بالقطع الحاصل من سبب خاصّ - کالکتاب و السنّة - عن طریق متمّم الجعل ، و المنع من العمل بالقطع بالحکم الحاصل من غیر ذلک ... .

ص:217

إلّا أنّ الکلام فی وقوع ذلک فی الشریعة ، فإن مورده قلیل جدّاً ، کالقطع الحاصل من القیاس ، علی ما یظهر من روایة أبان .

إشکال السید الخوئی

قال السیّد الخوئی : أمّا ما ذکره من المقدّمة الاولی فهو تام .

و أمّا ما ذکره فی المقدّمة الثانیة من أنّ : استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق ، فهو غیر تام ، لأنّ التقابل بینهما و إن کان من تقابل العدم و الملکة ، لأن الإطلاق عبارة عن عدم التقیید فیما کان قابلاً له ، إلّا أنه لا یعتبر فی التقابل المذکور القابلیّة فی کلّ مورد بشخصه ، بل تکفی القابلیّة فی الجملة . أ لا تری : أن الإنسان غیر قابل للاتصاف بالقدرة علی الطیران مثلاً ، و مع ذلک یصح اتصافه بالعجز عنه فیقال : هو عاجز عن الطیران ، و لیس ذلک إلّا لکفایة القابلیّة فی الجملة ، و أن الإنسان قابل للاتصاف بالقدرة فی الجملة و بالنسبة إلی بعض الأشیاء ، و إنْ لم یکن قادراً علی خصوص الطیران .

و فی المقام ، حیث أن تقیید الحکم بالعلم به مستحیل ، لما عرفت من استلزامه الدور ، و تقییده بالجهل به أیضاً محال ، لاستلزامه الدور کذلک ، فیکون مطلقاً بالنسبة إلی العلم و الجهل لا محالة فی الجعل الأوّلی ، بلا حاجة إلی متمّم الجعل ، و إذا کان کذلک و قطع به المکلّف ، یستحیل منعه عن العمل بقطعه ، لاستلزامه اجتماع الضدّین اعتقاداً مطلقاً ، و مطلقاً فی صورة الإصابة .

قال :

و قد ظهر بما ذکرناه فساد ما ذکره من صحّة أخذ القطع بالحکم فی موضوعه شرطاً أو مانعاً بتتمیم الجعل ، لأنه متوقف علی کون الجعل الأولی بنحو

ص:218

الإهمال . و قد عرفت کونه بنحو الإطلاق .

و أمّا ما ذکره من أن العلم مأخوذ فی الحکم فی موارد الجهر و الإخفات و القصر و التمام .

ففیه : إن الأمر لیس کذلک ، إذ غایة ما یستفاد من الأدلّة هو إجزاء أحدهما عن الآخر ، و إجزاء التمام عن القصر عند الجهل بالحکم ، لا اختصاص الحکم بالعالم ، فإن اجتزاء الشارع - فی مقام الامتثال بالجهر فی موضع الإخفات أو العکس - لا یدلّ علی اختصاص الحکم بالعالم . و یدلّ علیه أن العنوان المذکور فی الروایة هو الجهر فیما ینبغی فیه الإخفات أو الإخفات فیما ینبغی فیه الجهر . و هذا التعبیر ظاهر فی ثبوت الحکم الأوّلی للجاهل أیضاً . و یؤیّده تسالم الفقهاء علی أن الجاهل بالحکمین مستحق للعقاب عند المخالفة فیما إذا کان جهله عن تقصیر ، فإنه علی تقدیر اختصاص الحکم بالعالم ، لا معنی لکون الجاهل مستحقّاً للعقاب .

و أما ما ذکره من ثبوت المنع عن العمل بالقطع الحاصل من القیاس بروایة أبان ، ففیه :

أولاً : إن روایة أبان ضعیفة السند ، فلا یصح الاعتماد علیها .

و ثانیاً : إنه لا دلالة لها علی کونه قاطعاً بالحکم . نعم یظهر منها کونه مطمئناً به ، حیث قال : « کنا نسمع ذلک بالکوفة ، و نقول إن الذی جاء به شیطان » .

و ثالثاً : إنه لیس فیها دلالة علی المنع عن العمل بالقطع علی تقدیر حصوله لأبان ، فإن الإمام علیه السّلام قد أزال قطعه ببیان الواقع ، و أن قطعه مخالف له ، و ذلک یتفق کثیراً فی المحاورات العرفیّة أیضاً ، فربما یحصل القطع بشیء لأحد ،

ص:219

و یری صاحبه أن قطعه مخالف للواقع ، فیبین له الواقع ، و یذکر الدلیل علیه ، لیزول قطعه أی جهله المرکب ، لا للمنع عن العمل بالقطع علی تقدیر بقائه (1) .

مناقشة الإشکال

و قد ذکرنا فی مبحث التعبّدی و التوصّلی : أنّ الحق مع المیرزا فی هذا المقام ، و ملخّص الکلام هو : إن المقصود من الإطلاق هو الإطلاق الحجّة الکاشف عن غرض المولی ، و مثل هذا الإطلاق إنما یتحقّق فیما إذا کان المولی متمکّناً من التقیید ، فلو لم یکن متمکناً منه ثبوتاً کما فی موردنا أو إثباتاً لخوف و نحوه ، فلا یکون الإطلاق حجة .

و فیما نحن فیه : المفروض - بحکم المقدّمة الاولی - عدم تمکّن المولی من التقیید ، للزوم الدور ، و المفروض أن النسبة بینه و بین الإطلاق هو العدم و الملکة ، و حینئذٍ ، فهو غیر متمکن من الإطلاق ، و مثله لا یکون حجةً ... و هذا هو مقصود المیرزا ، فلا مجال للردّ علیه بکفایة القابلیّة فی الجملة .

و إذا سقط الإطلاق ، و لزم الإهمال - و هو محال - فلا مناص من متمّم الجعل .

و هذا هو الجواب عن الإشکال علی المیرزا ثبوتاً .

و أمّا الإشکال علیه إثباتاً - بالمناقشة فی روایة أبان سنداً و دلالة . أمّا دلالةً فلأن أبان قد حصل علی الاطمئنان من القیاس ، و بحثنا فی القطع . و أمّا سنداً ، فبضعف الروایة - فهو مردود .

ص:220


1- 1) مصباح الاصول 2 / 59 - 60 .

أمّا دلالةً ، ففی الرّوایة قوله : « کنا نقول : الذی جاء به شیطان » و هذه الکلمة لا تقال إلّا فی مورد القطع بالبطلان .

و أمّا سنداً ، فالمناقشة فی سند الروایة سهوٌ من قلم المقرّر ، إذ لیس فی السّند أحد یتأمّل فی وثاقته . فالکلینی رواها عن علی بن إبراهیم ، عن أبیه و محمّد بن إسماعیل ، عن إبراهیم بن هاشم ، عن ابن أبی عمیر ، عن عبد الرحمان بن الحجاج ، عن أبان بن تغلب . و الشیخ رواها بإسناده عن الحسین بن سعید عن ابن أبی عمیر عن عبد الرحمان عن أبان .

و« محمّد بن إسماعیل » مشترک بین ثلاثة أحدهم ضعیف ، لکنّ هذا - بالقرینة - هو البندقی النیسابوری الراوی عن الفضل بن شاذان ، و هو ثقة . و مع التنزّل ، فإنّ معه إبراهیم بن هاشم .

التحقیق فی الجواب

و التحقیق أنْ یقال فی الجواب عن هذا التفصیل بأنّ : الانقسامات الثانویّة علی قسمین : أحدهما : ما یمکن تقییده بالدلیل الثانی ، و الآخر : ما لا یمکن تقییده أصلاً ، و ما نحن فیه من القسم الأوّل .

توضیحه : إنّ الانقسام الثانوی تارةً : من قبیل قصد الأمر ، إذ لا یمکن أخذه فی المتعلّق بالدلیل الأوّل ، لأنه لا یمکن أن یقول - علی المبنی - : الصّلاة واجبة علیک بقصد هذا الأمر ، فیحتاج إلی الأمر الثانی . لکنّ التقیید بالعلم و الجهل لیس عدم إمکانه مختصّاً بالدلیل الأوّل ، بل إنه ناشئ من تقدّم الموضوع علی حکمه فی أیّ مقام . بیانه :

إن الحکم دائماً متأخر عن موضوعه ، فلو أراد أخذ العلم بالدلیل الثانی فی

ص:221

الموضوع ، أفاد أخذ العلم بنفس هذا الحکم فی موضوعه ، کأنه قال : هذا الحکم هو للعالم بحکمه فی هذه الواقعة ، و حینئذٍ ، یلزم الاحتلال فی قانون تأخّر الحکم عن الموضوع ، فالمحذور هو عدم قابلیّة تقیید الموضوع بالحکم ، و هذا المحذور موجود دائماً ، فلا یمکن التقیید لا بالدلیل الأوّل و لا الثانی أبداً .

و ببیانٍ آخر : تقیید الحکم بالعلم یتوقف علی العلم بالحکم ، فیکون العلم متقدّماً و متأخراً معاً . و هو محال .

و أمّا دلیل الإخفات ، فیدلُّ علی الإجزاء فی مقام الامتثال ، و لا دلالة له علی التقیید بالعلم ، و لو فرض ظهوره فی هذا التقیید ، فلا بدّ من تأویله بمقتضی ما ذکر من البرهان القطعی ، فلا ینتقض ما ذکرنا بمسألة الجهر و الإخفات .

تفصیل المحقق العراقی

و فصّل المحقق العراقی بین التنجیز و التعذیر ، بأنْ لا یکون القطع الحاصل من المقدّمات العقلیة معذّراً ، قال ما نصّه :

یمکن أنْ یفرّق بین القطع الناشئ عن تقصیر المکلّف فی مقدّمات حصول قطعه و بین غیره ، فی جهة معذریّته عند مخالفة قطعه للواقع ، بدعوی عدم معذوریّة من یقصّر فی مقدّمات قطعه ، خصوصاً إذا کان کذلک من جهة الخوض فی المقدّمات العقلیّة التی نهی عن الخوض فیها ، و لکن مثل هذه الجهة غیر مرتبطة بجهة منجّزیّته و علیّته لحکم العقل بوجوب الحرکة علی وفقه ، إذ لا تلازم بین عدم معذوریّة قطعه ذلک عند تحقّقه عن الواقع و بین عدم منجّزیّته فی مقام إثبات الاشتغال بالتکلیف و صحّة الردع عن العمل علی وفقه، و لا بأس أیضاً بالالتزام بهذا المقدار... و لعلّه إلی ما ذکرنا نظر القائل بعدم اعتبار قطع القطّاع... بل

ص:222

و یمکن أن یحمل علیه أیضاً مقالة الأخباریین... . (1)

و حاصله :

إنه لیس للشارع التصرّف فی القطع من حیث المنجزیّة ، أمّا من حیث المعذریّة فیمکنه ذلک ، بأنْ یمنع من استطراق شیء معیّن ، کما نهی عن استطراق القیاس ، و حینئذٍ ، لا یکون القطع الحاصل عن طریقٍ قد نهی عن استطراقه عذراً .

و هذا التفصیل لا غبار علیه ، و قد وافقه علیه سیّدنا الاستاذ قدّس سرّه (2) و شیخنا دام بقاه فی الدّورة السّابقة .

ص:223


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 44 .
2- 2) منتقی الاصول 4 / 119 .
العلم الإجمالی
اشارة

إنه لمّا تقرّر حجیّة القطع و لزوم ترتیب الآثار علیه عقلاً ، فهل یفرّق بین القطع التفصیلی و الإجمالی ؟

قال فی الکفایة :

إنه قد عرفت کون القطع التفصیلی بالتکلیف الفعلی علّةً تامّة لتنجّزه ، لا تکاد تنال ید الجعل إثباتاً و نفیاً ، فهل القطع الإجمالی کذلک ؟ فیه إشکال (1) .

حقیقة العلم الإجمالی

للعلم الإجمالی اصطلاحات :

منها : إنه یطلق فی مقابل الکشف التفصیلی ، کوجود المطالب العلمیّة المفصّلة فی الملکة العلمیّة للإنسان .

و منها : إنه العلم بالشیء بوجهه العام ، کالعلم بالنتیجة فی ضمن العلم بالکبری .

و منها : العلم بالشیء بوجهه الخاص ، و هو علم به بوجهٍ ، کالعلم بالوجودات الخارجیّة .

و منها : العلم الإجمالی الارتکازی ، فی مقابل العلم الارتکازی التفصیلی ،

ص:224


1- 1) کفایة الاصول : 272 .

کما فی مسألة التبادر ، حیث یعلم بمعنی اللّفظ إجمالاً ، و عن طریق التبادر یعلم به تفصیلاً .

و منها : العلم المشوب بجهلٍ ما .

و هذا الأخیر هو المقصود هنا .

فعن صاحب الکفایة : إنه العلم بالمردّد .

و عن المحقق العراقی : إنه الصّورة الإجمالیّة .

فإنْ کان مراده من الصّورة الإجمالیّة : وجود الإجمال فی متعلّق العلم ، رجع کلامه إلی نظر المحقّق الخراسانی ، و إن کان مراده وجود الإجمال فی العلم نفسه - کما هو ظاهر کلامه - ففیه : إنه غیر قابل للتعقّل ، إذ کیف یکون العلم و هو مشوبٌ بالجهل ؟

و أمّا ما ذهب إلیه صاحب الکفایة ، ففیه : إنّ تعلّق الأمر الاعتباری بالمردّد بل بالمعدوم جائز ، لکنّ بحثنا فی العلم و هو من الاُمور الحقیقیّة .

و لا یخفی أن الامور الحقیقیّة منها ما هو متقوّم فی ذاته بالغیر ، و منها ما لیس کذلک ، فمن الثانی : الشجاعة ، و من الأول : العلم ، فإنه أمر حقیقی متقوّم بالغیر ، و إذا کان کذلک ، کیف یکون ذلک الغیر المتقوّم به مردّداً ، مع أنّ المردّد لا حقیقة له و لا وجود ؟

و بما ذکرنا أشکل المحقق الأصفهانی علی الرأیین المذکورین ، و ذهب إلی أنّ العلم الإجمالی لیس إلّا العلم التفصیلی المنضمّ إلیه الجهل ، فالفرق بینه و بین التفصیلی هو فی ناحیة المتعلّق ، حیث أنه فی التفصیلی هو الخصوصیّة ، و فی الإجمالی هو الجامع الانتزاعی ، و هو عنوان « أحدهما » المنطبق علی هذا و ذاک .

ص:225

و قد اختار الاستاذ هذا الرأی .

فهذا مطلب .

مراتب الحکم

و مطلب آخر : ذهب المحقق الخراسانی إلی أنّ للحکم أربع مراتب ، مرتبة الملاک ، و مرتبة الإنشاء ، و مرتبة الفعلیة ، و مرتبة التنجز .

و خالفه الآخرون و قالوا : لیس له إلّا مرتبتان : الإنشاء و الفعلیّة ، لأنّ الملاک علّة للحکم ، و علّة الشیء غیر الشیء ، و التنجّز . أثر الحکم ، و أثر الحکم غیر الحکم .

و هذا هو الحق .

حقیقة الفعلیّة

إلّا أنهم اختلفوا فی حقیقة الفعلیّة .

فذهب الشیخ و صاحب الکفایة و المیرزا إلی أنّ فعلیّة الحکم متقوّمة بفعلیّة موضوعه ، أی: تحقق الموضوع بقیوده و شرائطه و انتفاء موانعه .

و ذهب المحقق الأصفهانی : إلی تقوّم الفعلیّة بالوصول ، فهو یقول بوحدة مرتبتی التنجّز و الفعلیّة ، و الوصول ، إمّا وجدانی و إمّا تعبّدی ، فما لم یصل الحکم فلا وجود له ، لأنّ الفعلیّة عین الوجود .

قال : إن حقیقة الحکم عبارة عن الإنشاء بداعی جعل الدّاعی للفعل أو للزجر ، و ما لم یصل إلی المکلّف ، فلا داعویّة له ، فإمکان الداعویة متقوّم بالوصول ، و لولاه فلا إمکان للداعویّة ، و ما لم یکن کذلک فلیس بحکم .

لکنّ الإشکال المتوجّه علیه هو : أنه یصحّ حقیقةً أن یقال : هذا الحکم

ص:226

واصل و هذا الحکم غیر واصل ، فانقسام الحکم إلی الواصل و غیر الواصل برهان علی عدم تقوّم الحکم بالوصول .

فالحق ما ذهب إلیه الجماعة ، خلافاً له .

وصول الحکم عقلاً و عقلاءً

لکنّهم متّفقون علی وصول الحکم إلی المکلّف فی مورد العلم الإجمالی - و إنْ اختلفوا فی کیفیّة وصوله - و إذا وصل الحکم فالعقل حاکم بتنجّزه ، لأنّ المعتبر عنده وصول الحکم و لا ینظر إلی کیفیّة وصوله ، فالعلم الإجمالی مؤثر و لیس بحکم الجهل و الشک ، و موضوع حکمه باستحقاق العقاب هو مخالفة التکلیف الواصل بنحوٍ من الوصول ، فتوهّم أن العلم الذی جعل موضوعاً عند العقل فی باب الإطاعة و المعصیة یختصُّ بالعلم التفصیلی ، و أنّ العلم الإجمالی مساوق للجهل فی عدم التأثیر ، باطل قطعاً .

هذا بالنسبة إلی حکم العقل .

و کذلک الحال فی السیرة العقلائیّة ، فإنه لا یعتبر فی المؤاخذات بین الموالی و العبید ، أن یکون التکلیف واصلاً إلی العبد بالوصول التفصیلی ، بل یکفی العلم الإجمالی به ، و إذا کان کذلک ، ففی أحکام المولی الحقیقی بالأولویّة ، إذ « ما کان اللّٰه لیخاطب خلقه بما لا یعلمون » کما فی الخبر (1) و ما کان للشارع بیانٌ مغایر لما هو المرتکز عند العقلاء فی کیفیة المؤاخذة علی مخالفة أحکامه .

ص:227


1- 1) وسائل الشیعة 17 / 167 ، الباب 35 من أبواب ما یکتسب به ، رقم : 13 .
الکلام فی منجزیّة العلم الإجمالی
اشارة

و بعد ، فلمّا ظهر بطلان القول بعدم مؤثریة العلم الإجمالی ، و أنّ القدر المتیقن وجود الاقتضاء له للتنجیز ، فیقع البحث فی أنه یقتضی تنجیز الحکم بوجوب موافقته قطعاً و حرمة مخالفته قطعاً ، إلّا أن یقوم مانعٌ کما لو تمّ الإطلاق فی أدلّة الاُصول لتشمل أطراف العلم الإجمالی ، و حینئذٍ لا یتحقّق التنجیز ، أو أنه علّة تامّة له ؟ و علی الثانی قولان ، أحدهما : أن العلم الإجمالی علّة لتنجیز الحکم المعلوم بالإجمال مطلقاً ، أی سواء فی الموافقة القطعیّة و المخالفة القطعیّة ، و الآخر : إنه علّة تامّة فی حرمة المخالفة القطعیّة ، أما بالنسبة إلی الموافقة ، فهو باقٍ علی حدّ الاقتضاء .

فظهر موارد الاختلاف فی المقام ، فهناک قولٌ بعدم الاقتضاء أصلاً ، و علی الاقتضاء ، فهل هو ذو اقتضاء أو علّة تامّة ، و علی العلیّة قولٌ بالعلیّة المطلقة و قولٌ بالتفصیل .

الاقتضاء أو العلیّة التامّة ؟

ذهب الشیخ و المیرزا (1) و غیرهما إلی التفصیل ، أی العلیّة التامّة بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیّة ، و الاقتضاء بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة .

ص:228


1- 1) فرائد الاصول 1 / 93 ، أجود التقریرات 3 / 86 .

و ذهب المحققان الأصفهانی و العراقی (1) إلی العلیّة التامّة فی الجهتین .

و کلمات صاحب الکفایة مختلفة ، فهنا یقول بالأوّل ، و فی مبحث الاشتغال بالثانی ، و کذلک فی حاشیته علی الکفایة فی هذا المقام کما لا یخفی علی من راجعها .

لکنّ السیّد الاستاذ قدّس سره أصرّ علی عدم عدول المحقق الخراسانی ، إذْ قال رحمه اللّٰه فی أوائل مباحث الاشتغال بعد بیان ما جاء فی الکفایة هناک :

و قد اورد علیه : بأن ظاهره کون العلم الإجمالی علّةً تامّةً للتنجیز کالعلم التفصیلی ، و أن الفرق بینهما من ناحیة المعلوم ، و هذا یتنافی مع ما تقدّم منه فی مباحث القطع من کونه مقتضیاً للتنجیز و تأثیره فیه بنحو الاقتضاء لا العلیّة التامّة .

قال :

و التحقیق : إنه لا تنافی بین ما أفاده فی الموردین بل هما متّفقان ، بیان ذلک ... (2) .

فراجعه و تدبّر .

رأی الشیخ

لقد أفاد رحمه اللّٰه ما ملخّصه : إذا تحقّق العلم بالتّکلیف إجمالاً ، سواء فی الشبهة الموضوعیّة کتردّد الخمر بین الإناءین ، أو فی الشبهة الحکمیة کتردّد الوجوب بین الظهر و الجمعة ، فإنّ المخالفة القطعیّة للتکلیف المعلوم بالإجمال حرام بحکم العقل ، لأنها معصیة ، و الترخیص فی المعصیة محال .

ص:229


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 88 ، نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 46 .
2- 2) منتقی الاصول 5 / 47 .

فإنْ قلت : إنّ المعصیة محرّمة بحکم العقل ، و لکنّ مقتضی الاُصول ارتفاعها ، و إذا انتفی موضوع حکم العقل انتفی الحکم بتبعه ، فإذا جرت أصالة الإباحة فی کلّ من الإناءین لم تبق الحرمة ، فلا معصیة ، فلا حکم من العقل .

قلت : إن کان الأصل جاریاً فی کلّ من الطرفین ، فإنّ الحکم المعلوم بالاجمال الموجود فی البین موجود و لا رافع له . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن جری الأصل فی الطرفین ، أنتج رفع الحکم بوجوب الاجتناب ، لکنه یناقض دلیل وجوب الاجتناب عن النجس فی البین .

ثم أمر الشیخ بالتأمّل کما فی نسخة ، و بالفهم کما فی نسخة .

و کأنه - کما ذکر المحشّون - للإشارة إلی عدم تمامیّة الوجه الثانی ، و ذلک للمنع من کون مرجع أصالة الطّهارة إلی عدم وجوب الاجتناب المخالف لقول الشارع : اجتنب عن النجس ، من جهة کونها حاکمةً علی أدلّة وجوب الاجتناب عن النّجس (1) .

رأی صاحب الکفایة

و ذهب المحقق الخراسانی إلی أن العلم الإجمالی مؤثّر ، لکن بنحو الاقتضاء بالنسبة إلی الموافقة و المخالفة کلیهما - فهو موافق للشیخ فی الموافقة و مخالف له فی المخالفة - فهذا مدّعاه ، و معنی ذلک أن للشارع الترخیص فی جمیع أطراف الشبهة ، و تجوز المخالفة العملیّة للتکلیف المعلوم بالإجمال . فقال :

ربما یقال : إنّ التکلیف حیث لم ینکشف به تمام الانکشاف و کانت مرتبة

ص:230


1- 1) قلائد الفرائد 1 / 88 ، بحر الفوائد 1 / 289 .

الحکم الظاهری معه محفوظة ، جاز الإذن من الشارع بمخالفته احتمالاً بل قطعاً ، و لیس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالاً إلّا محذور مناقضة الحکم الظاهری مع الواقعی فی الشبهة غیر المحصورة بل الشبهة البدویّة ، ضرورة عدم تفاوت فی المناقضة بین التکلیف الواقعی و الإذن بالاقتحام فی مخالفته بین الشبهات أصلاً ، فما به التفصّی عن المحذور فیهما ، کان به التفصّی عنه فی القطع به فی الأطراف المحصورة أیضاً کما لا یخفی .

نعم ، کان العلم الإجمالی کالتفصیلی فی مجرّد الاقتضاء لا فی العلیّة التامّة ، فیوجب تنجّز التکلیف أیضاً لو لم یمنع عنه مانع عقلاً ، کما کان فی أطرافٍ کثیرة غیر محصورة أو شرعاً کما فی إذن الشارع فی الاقتحام فیها ، کما هو ظاهر « کلّ شیء فیه حلال و حرام فهو لک حلال حتی تعرف الحرام منه بعینه » .

و بالجملة : قضیّة صحّة المؤاخذة علی مخالفته مع القطع به بین أطراف محصورة ، و عدم صحّتها مع عدم حصرها أو مع الإذن فی الاقتحام ، هو کون القطع الإجمالی مقتضیاً للتنجّز لا علّة تامّة .

ثم تعرّض لرأی الشیخ و قال عنه بأنه ضعیف جدّاً (1) .

أقول :

أمّا دلیله علی جواز المخالفة ، فتوضیحه : إن الحکم :

تارةً : فعلیّ من جمیع الجهات ، أی: إنّ الشارع لا یرضی بمخالفته أصلاً ، و مثل هذا الحکم لا یمکن الترخیص فیه ، بل المجعول هناک وجوب الاحتیاط ، فله علیّةٌ تامّة لحرمة المخالفة العملیّة .

ص:231


1- 1) کفایة الاصول : 272 - 273 .

و اخری : لیس فعلیّاً من جمیع الجهات ، و هناک یمکن الترخیص فی المخالفة .

و الحاصل : إنه فی القسم الأوّل لا یمکن جریان الأصل فی الأطراف ، و فی الثانی یمکن ، فالأمر یدور مدار غرض المولی من الحکم .

و بتقریب آخر : إن الأصل لا یجری فی أطراف الشبهة إلّا مع وجود المقتضی لجریانه و عدم المانع عنه ، و لمّا کان موضوع الأصل - أی الشک - متحقّقاً فی کلّ واحدٍ من أطراف الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی ، کان المقتضی موجوداً .

و أمّا المانع ، فإمّا هو عقلی أو شرعی ، أمّا المانع العقلیّ من اندراج أطراف الشبهة تحت إطلاقات أدلّة الاصول فهو العلم ، و توضیح ذلک :

إنّ أدلّة الاصول العملیّة علی قسمین .

فمنها : ما هو غیر مغیّا بالعلم و الیقین و هو منطوق بلا مفهوم ، مثل قوله علیه السلام : « رفع ما لا یعلمون » ، فإنه یرفع الحکم المجهول ، و هو بإطلاقه یشمل الشبهة البدویّة و المقرونة بالعلم ، و لا مفهوم له . فلا مانعیّة لهذا القسم .

و منها : ما هو مغیّا بالعلم مثل : « لا تنقض الیقین بالشک بل انقضه بیقین آخر » ، و« کلّ شیء لک حلال حتی تعرف أنه حرام » ... و من المعلوم أنه إذا حصل العلم ارتفع الشک فلا موضوع لجریان الأصل ، و إلّا لزم التناقض أو التضاد بین مفاد الأصل و الحکم الواقعی .

یقول المحقق الخراسانی : إنّ هذا القسم أیضاً یشمل موارد العلم الإجمالی ، و لا محذور ، لأنّ شرط التضادّ أو التناقض أنْ یکون الحکم الظّاهری المدلول علیه بالأصل فی مرتبةٍ واحدة مع الحکم الواقعی حتی یلزم اجتماع

ص:232

الضدّین أو النقیضین ، لأنّ الحکم الظاهری فعلی علی جمیع التقادیر ، و الواقعی غیر فعلی کذلک .

هذا حلّاً .

و أمّا نقضاً : فإنه لو کان العلم مانعاً ، لزم منع الاحتمال الموجود فی الشبهات البدویّة عن جریان الأصل ، لأنّ احتمال اجتماع الضدّین أو النقیضین محال کالقطع بذلک ، و الحال أنّ الاصول تجری فی موارد الشبهات البدویّة ، فما به التفصّی عن المحذور هناک ، کان به التفصّی عنه فی القطع به فی الأطراف المحصورة .

و الحاصل : إن العلم الإجمالی کالتفصیلی فی مجرّد الاقتضاء لا فی العلیّة التامّة ، فیوجب تنجّز التکلیف لو لم یمنع عنه مانع عقلاً ، کما حصل المانع العقلی عن الاقتضاء فی الشبهة غیر المحصورة ، و المانع الشرعی فیما أذن الشارع فی الاقتحام فیه کما هو ظاهر الخبر : « کلّ شیء لک حلال » .

مناقشة المحقق الخراسانی

و یرد الإشکال علی المحقق الخراسانی فی حلّه و نقضه :

أمّا ما ذکره فی مرحلة الحلّ ، و یتلخّص فی :

أنّ الحکم الواقعی المعلوم بالإجمال غیر واصل إلی مرحلة الفعلیّة بل باقٍ فی مرحلة الاقتضاء ، لکن الأصل العملی موضوعه هو الشکّ فی الحکم الواقعی و هو فی مرحلة الفعلیّة ، فلا تضادّ و لا تناقض بینه و بین الحکم الواقعی .

فالجواب :

إنّ فعلیّة الحکم عند المحقّق الخراسانی تدور مدار وجود الموضوع

ص:233

و قیوده - لا بوصول الحکم إلی المکلّف کما تقدم - وعلیه ، فعدم کون الحکم المعلوم بالإجمال فعلیّاً هو من أجل عدم العلم به بالتفصیل ، فما لم یکن علم تفصیلی بالحکم فذاک الحکم غیر فعلی ، و معنی هذا الکلام أن یکون للعلم التفصیلی بالحکم دخلٌ فی موضوع نفس الحکم ، و هل یعقل أخذ العلم بالحکم فی موضوع نفس الحکم ؟

قد تقدّم استحالة أخذ العلم بالحکم فی موضوع نفس الحکم .

و لو قیل : بأنّ المقصود هو أنّ العلم التفصیلی بالحکم فی مرتبة الإنشاء دخیل فی الحکم فی مرتبة الفعلیّة له . و هذا ممکنٌ عند صاحب الکفایة و جماعة .

قلنا : هذا فی عالم الثبوت ، و أین الدلیل علیه فی عالم الإثبات ؟ إنه لا یوجد دلیلٌ علی أخذ العلم التفصیلی بالحکم إنشاءً فی موضوع نفس الحکم فی مرحلة الفعلیّة .

هذا ، علی أنّ موضوع البحث - کما ذکر المحقق الأصفهانی - هو العلم الطریقی لا المأخوذ فی الموضوع .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : هل العلم الإجمالی بیانٌ للحکم أوْ لا ؟ و علی الأول ، تارةً یطابق الواقع و اخری یخالفه .

أمّا إن لم یکن للعلم الإجمالی بیانیةٌ أصلاً ، فهذا خلاف الفرض ، لأنّ المحقق الخراسانی قد قرّر أنّ للعلم الإجمالی اقتضاءً - و لیس کالشک و الجهل - و لذا لا تجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی مورد العلم الإجمالی .

فالعلم الإجمالی بیانٌ علی التکلیف من قبل المولی ، و إذا قام البیان علی

ص:234

التکلیف ، استحق العقاب علی مخالفته إن کان البیان مطابقاً للواقع ، لأن الارتکاب معصیة ، و إنْ کان مخالفاً للواقع ، فالارتکاب تجرٍّ من العبد ، و قد قرّر هذا المحقّق أن التجری هتک للمولی .

وعلیه ، فإنّ جریان الأصل فی طرفی الشبهة المحصورة ، یستلزم إمّا الإذن فی المعصیة ، و إمّا الإذن فی هتک المولی الحقیقی ، و کلاهما باطل .

و أمّا ما ذکره فی مرحلة النقض ، فالجواب :

أمّا عن الشبهة البدویّة ، فإن صاحب الکفایة نفسه ذهب إلی البراءة فی الشبهة البدویّة . و علی الجملة : إنه لا بیان فیها ، و مع عدم البیان فالعقاب قبیح .

بخلاف مورد العلم الإجمالی ، فإنه بیان ، و معه لا یجری الأصل . فبین المسألتین فرق واضح ، فالنقض غیر وارد .

نعم ، تبقی مشکلة جریان البراءة الشرعیّة ، إذ کیف یجمع بین الرفع و الوجوب المحتمل أو الحرمة المحتملة ، و قضیّة کیفیّة الجمع بین الحکم الظاهری و الحکم الواقعی ممّا تعرّض له العلماء ، و لکلٍّ منهم مسلک کما سیأتی .

و أمّا عن الشبهة غیر المحصورة ، فکلامه صریحٌ فی أنه قیاس مع الفارق ، لأنّه قد صرّح هناک بأن بقاء التکلیف فی مورد الشبهة غیر المحصورة ، یستلزم العسر و الحرج و الضرر ، و عمومات نفیها ترفعه ... فمن یقول هذا هناک ، کیف یعترض علی الشیخ هنا ؟

خلاصة البحث

إنّ العلم الإجمالی علّة تامة بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیّة :

أوّلاً : لأن الترخیص فی أطراف الشبهة المحصورة یستلزم التناقض فی

ص:235

حکم العقل .

و ثانیاً : إنّه یستلزم التناقض فی حکم الشرع أیضاً . و لا یرتفع ذلک باختلاف مرتبة الحکم الظاهری مع مرتبة الحکم الواقعی .

و وجه عدم الارتفاع هو : إنّ کلّاً من الحکمین مجعول شرعی ، و الحکم هو الإنشاء بداعی جعل الداعی ، و هل یعقل جعل الداعی إلی الفعل و عدم الترک ، و جعل الداعی إلی الترک و الترخیص ؟ إنه لا یعقل جعل الداعی إلی المتناقضین أو المتضادّین .

و بعبارة اخری : إنّ الحکم الواقعی یتعلّق به الغرض ، و جعل الترخیص فی مورده نقض للغرض ، و هو محال .

و تلخّص :

إن الحق مع الشّیخ ، و أنّ المخالفة القطعیّة للحکم المعلوم بالإجمال حرام .

بقی شیء یتعلّق بکلام الشیخ ، و ذلک أنه قال : بوجود المقتضی لجریان الأصل فی کلّ طرفٍ بخصوصه ، إلّا أنه لا أصل یرفع النجاسة أو الوجوب و الحرمة المعلومة بالإجمال الموجودة فی البین .

و هذا الکلام إنما یتمّ فیما إذا اجری الأصل بعنوان صلاة الظهر مثلاً بخصوصها أو الإناء الکذائی بخصوصه ... و لکنّ الأمر لیس کذلک ، بل المقصود إجراؤه بعنوان الصّلاة المحتمل وجوبها ، و الإناء المحتمل نجاسته أو خمریّته ، فإذا جری فی کلّ طرفٍ انتفی الوجوب أو النجس الموجود فی البین ، و یلزم التناقض .

و لا بأس - بعد ذلک - بذکر استدلال بعض أتباع الشّیخ فی المقام :

ص:236

کلام المیرزا

فمنهم : المحقق النائینی ، فإنه قال :

جریان الاصول العملیّة فی کلّ واحدٍ من الأطراف ، یستلزم الجمع فی الترخیص بین جمیع الأطراف ، و الترخیص فی الجمیع یضادّ التکلیف المعلوم بالإجمال ، فلا یمکن أنْ تکون رتبة الحکم الظّاهری محفوظة فی جمیع الأطراف ، نعم ، یمکن الترخیص فی بعض الأطراف و الاکتفاء عن الواقع بترک الآخر أو فعله .

و دعوی الملازمة بین حرمة المخالفة القطعیّة و وجوب الموافقة القطعیّة ، و أن العلم الاجمالی إمّا أنْ یکون علّةً تامّةً بالنسبة إلی کلا المرحلتین ، و إمّا أن لا یکون ، فهی ممّا لا شاهد علیها و لا سبیل إلیها ... (1) .

کلام العراقی

و منهم : المحقق العراقی ، إذ قال :

لا ینبغی الإشکال فی أنّ العلم الاجمالی کالعلم التفصیلی فی کونه علّةً تامّةً لإثبات الاشتغال بالتکلیف و تنجیزه ، علی وجهٍ یأبی العقل عن الترخیص علی خلافه ، و یشهد لذلک ارتکاز المناقضة هنا کما فی العلم التفصیلی ، فإنها من تبعات علّیة العلم الإجمالی و تنجیزیّة حکم العقل بالاشتغال ، و لو لا علیّته لما تحقّقت المناقضة المزبورة .

و بذلک یتّضح فساد القول بالاقتضاء ، فضلاً عن القول بعدم الاقتضاء رأساً و أنّه کالشک البدوی . (2)

ص:237


1- 1) فوائد الاصول 3 / 77 .
2- 2) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 46 .
کلام السیّد الخوئی

و منهم : السیّد الخوئی ، قال :

قد منع الشیخ قدّس سرّه عن ذلک ، لکونه مستلزماً لوقوع المناقضة بین صدر الروایات و ذیلها ، و ذلک لأن مقتضی إطلاق صدر الروایات کقوله علیه السلام فی روایة مسعدة بن صدقة « کلّ شیء هو لک حلال » و قوله علیه السلام فی حدیث عبد الله بن سنان « کلّ شیء فیه حلال و حرام فهو لک حلال » و أمثال ذلک ثبوت الحکم الظاهری فی أطراف العلم الإجمالی ، إذ کلّ واحد من الأطراف یشک فی حلیّته ، فیصدق علیه هذا العنوان ، و مقتضی إطلاق ذیلها و الغایة المذکورة فیها - أعنی بها العلم بالحکم الواقعی أو معرفته الشامل للعلم الإجمالی - هو عدم ثبوت الحکم الظاهری فی بعض الأطراف ، و هذا معنی المناقضة بین الصّدر و الذیل ، فإن نقیض الموجبة الکلیة هی السالبة الجزئیة ، فلا بدّ من رفع الید عن إطلاق صدر الروایات و تقییده بالشبهات البدویة ، أو عن إطلاق ذیلها و تقییده بالعلم التفصیلی ، و لا مرجح لأحدهما علی الآخر ، فلا محالة تکون الروایات من هذه الجهة مجملة ، فلا بدّ من الرجوع فی مورد العلم الإجمالی إلی حکم العقل ، و قد عرفت أن العقل لا یفرّق بین العلم الإجمالی و التفصیلی فی المنجزیة ، بعد ما لم یکن فی موارد العلم و لو کان إجمالیاً مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بیان .

ثم إنه قدّس سرّه ذکر شبهة لإثبات اختصاص الغایة بالعلم التفصیلی و حاصلها : أن کلمة « بعینه » المذکورة فی ذیل بعض الأخبار الواردة فی المقام ، دالّة علی اعتبار العلم التفصیلی فی حصول الغایة .

و أجاب عنها : بأنه لا یستفاد من هذه الکلمة إلّا التأکید ، فإنه یصح عرفاً أن

ص:238

یقال : أعرف نجاسة إناء زید بعینه ، فیما إذا علم بنجاسته و تردد بین إناءین و لم یکن إناء زید متمیزاً عن غیره .

أقول : یرد علی ما أفاده .

أولاً : إن العلم أو ما هو بمعناه المأخوذ غایة فی هذه الروایات ظاهر عرفاً فی خصوص ما یکون منافیاً للشک فی کلّ من الأطراف ، و بعبارة اخری : ظاهر قوله علیه السلام : « لا تنقض الیقین أبداً بالشک و إنما تنقضه بیقین آخر » هو أن الغایة إنما هو الیقین المتعلق بعین ما تعلق به الشک بحیث یکون رافعاً له ، لا مطلق الیقین و لو تعلق بغیر ما کان الشک متعلقاً به ، و هذا واضح جداً ، وعلیه ، فالغایة لا تحصل بالعلم الإجمالی ، و لا یشمله ذیل هذه الأخبار ، فالإطلاق فی صدرها بلا معارض .

و ثانیاً : إن الشیخ رحمه اللّٰه لا یلتزم بهذا ، إذ لازمه عدم جریان الاصول فی أطراف العلم الاجمالی و لو لم یکن منجزاً بخروج بعض أطرافه عن محلّ الابتلاء أو بغیر ذلک ، فإذا علم المقلد إجمالاً بموت أحد شخصین مردد بین مقلّده و شخص آخر أجنبی عنه ، فإن لازم ذلک أن لا یتمکن من إجراء الاستصحاب فی حیاة مقلّده .

و ثالثاً : إن ما أفاده من أن کلمة « بعینه » لا تدلّ علی اعتبار التمییز بل تکون للتأکید ، و إن کان متیناً فی الجملة ، و لکنه لا یتم فی جمیع الروایات الثلاثة التی ذکرت فیها هذه الکلمة ، فإن فی روایة عبد الله بن سنان عن الصادق علیه السلام :

« کلّ شیءٍ فیه حلال و حرام فهو لک حلال حتی تعرف الحرام منه بعینه فتدعه » ، و من الواضح أن معرفة الحرام من الشیء بعینه فرع تمییزه عن غیره ، و هکذا معرفة

ص:239

النجس من الشیء ، و هذا بخلاف معرفة أن الشیء نجس بعینه الذی مثّل به الشیخ قدّس سرّه ، و کم فرق بین التعبیرین بحسب الظهور العرفی ، فذیل هذه الروایة غیر شامل لأطراف العلم الإجمالی ، فلا مانع من التمسک باطلاق صدرها و إن قلنا بإجمال غیرها من الروایات ، و سیأتی تفصیل الکلام إن شاء اللّٰه فی خاتمة الاستصحاب .

فالصحیح : أن المانع عن إجراء الاصول فی المقام ثبوتی لا إثباتی . (1)

کلامٌ للسید البروجردی و مناقشته

و ذکر السیّد البروجردی (2) : أن ما ذکر - من عدم إمکان جعل المرخّص فی الأطراف - تامٌّ فی موارد قیام العلم الإجمالی کما تقدّم ، و أمّا إنْ کان القائم علی الموضوع أو التکلیف هو الحجة الشرعیّة غیر العلم فلا . مثلاً : لو قامت البیّنة علی نجاسة أحد الإناءین ، فالشبهة موضوعیّة و الحجة هی البیّنة ، أو کانت الشبهة حکمیة ، کأنْ یقوم خبر الواحد علی الوجوب المردّد بین الظهر و الجمعة ، فإنه یحتمل کذب البیّنة و اشتباه المخبر ، و حینئذٍ ، یمکن جعل الأصل المرخّص ، لإمکان رجحان مصلحة الترخیص علی مصلحة العمل بالحجة . فظهر الفرق بین العلم و الحجّة .

و فیه :

إن جعل المرخّص فی الأطراف معلّق - بحکم العقل - علی أنْ لا یکون ترخیصاً فی القبیح ، و لزوم الترخیص فی القبیح الممنوع عقلاً حاصل فی موارد

ص:240


1- 1) دراسات فی علم الاصول 3 / 90 - 91 .
2- 2) حاشیة الکفایة 2 / 39 .

قیام الحجّة کموارد العلم الإجمالی بلا فرق .

لقد تقدّم أنّ العقل یحکم بحرمة المخالفة القطعیّة لتکلیف المولی من باب أنّ مخالفته هتک له ، و حکمه بحرمة هتکه تنجیزی یمنع من جعل الترخیص ، و حکمه بذلک لیس من جهة قیام العلم بما هو علم ، بل لأن العلم أحد مصادیق الحجّة ، فالملاک عند العقل هو قیام البیان علی التکلیف الشرعی ، فإذا قام بأیّ حجةٍ من الحجج لم یجز الخلاف لأنه هتک له ، فلا یجوز جعل المرخّص .

و هذا تمام الکلام فی مرحلة ثبوت التکلیف بالعلم الإجمالی و حرمة مخالفته .

ص:241

الکلام فی سقوط التکلیف بامتثاله إجمالاً
اشارة

فهل یسقط التکلیف بالعلم الاجمالی بالامتثال ، و تحصل الإطاعة و یسقط التکلیف بذلک ؟

هنا جهات من البحث:

الجهة الاولی هل یکفی الامتثال العلمی الإجمالی مع التمکن من الامتثال التفصیلی ؟

الجهة الثانیة هل یکفی الامتثال الظنّی مع التمکن من الامتثال العلمی الإجمالی ؟

و الجهة الثالثة هل یمکن الاکتفاء بالامتثال الإجمالی مع التمکن من الامتثال التفصیلیّ الظنّی بالظن المطلق بناءً علی الانسداد ؟

وجوه الإشکال فی کفایة الامتثال الإجمالی

وجه الإشکال فی الاکتفاء فی هذه الموارد امور :

1 - اعتبار قصد الوجه فی الواجبات ، و قد ادّعی الإجماع علی ذلک ، کما یظهر بالتتبّع فی کلمات المحقق فی الشرائع و العلامة فی التذکرة و المنتهی ، و الشهید الأوّل فی الدروس و الثانی فی المسالک و المحقق الثانی و غیرهم (1) .

ص:242


1- 1) انظر : مفتاح الکرامة فی شرح قواعد العلّامة 6 / 625 .

کما اقیم الدلیل أیضاً علی اعتبار قصد الوجه و التمییز .

2 - أخبار وجوب التعلّم . فإن إطلاقها یشمل الأحکام الشرعیّة .

3 - لزوم التکرار فی العبادة ، و هو ینافی العبادیّة ، لاستلزامه العبث بأمر المولی .

4 - ضرورة رعایة مراتب الامتثال ، فمع التمکن من المرتبة السّابقة لا تجزی المرتبة اللّاحقة .

الکلام علی اعتبار قصد الوجه فی العبادات

أمّا الإجماع علی اعتبار قصد الوجه ، فدعوی تحصیله مشکلٌ ، و علی فرضه ، فإنه غیر کاشف عن رأی المعصوم أو الدلیل المعتبر ، لکونه محتمل الاستناد إلی بعض الوجوه العقلیّة ، کقولهم : بأن الأحکام الشرعیّة ألطاف فی الواجبات العقلیّة ، فالموضوع للحکم هو الواجب العقلی ، و حینئذٍ ، یکون الحکم بالحسن و القبح مترتّباً علی الموضوع ، فإذا لم یقع العمل بعنوان الموضوع و بقصده بالخصوص ، لم یترتب علیه الأثر .

و هذا هو الوجه الأوّل فی الاستدلال علی اعتبار قصد الوجه فی العبادات .

و هو باطلٌ ، لاستلزامه کون أوامر الشارع فی العبادات إرشادیّةً إلی الأحکام العقلیّة ، فیسقط الشارع عن المولویّة ، و قد تقرّر أن العقل لا مولویّة له بل هو مدرکٌ فقط ... و سقوط أحکام الشارع عن المولویّة باطل .

و حلّ المطلب هو : إن الأحکام الشرعیّة معلّلة بالأغراض المتعلّقة بالملاکات ، فالأحکام تابعة للملاکات ، هذا صحیح ، و لکنْ لا دلیل علی أن یکون

ص:243

الملاک هو الموضوع للحکم حتی یُقصد ... فإنّ الشارع یقول «أَقِمِ الصَّلٰاةَ » (1)، و یقول «إِنَّ الصَّلٰاةَ تَنْهیٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَالْمُنْکَرِ » (2)فهل یقصد الناهی عن الفحشاء و المنکر لدی إقامة الصّلاة ؟ بأی دلیلٍ ؟ إنه قال : الصلاة واجبة ، و لم یقل : النهی عن الفحشاء واجب ، فمقام الإثبات لا یساعد علی ما ذکر .

الوجه الثانی : إنه مقتضی قاعدة الاشتغال ، و ذلک :

لأنا نحتمل مدخلیّة قصد الوجه فی تحقق الإطاعة ، و هذا الاحتمال کافٍ لوجوب الإتیان بالعمل بقصد الوجه و عدم کفایة الامتثال الإجمالی ، لأن قصد الوجه فرع وجود الحکم ، لأنه من شئون الحکم ، و لا یمکن أخذ الفرع فی الحکم ، لِما تقرّر - فی بحث التعبّدی و التوصّلی - من عدم إمکان أخذ قصد الأمر فی متعلّق الأمر ، وعلیه ، فإنْ أمکن رفع هذا الوجوب بأصلٍ لفظی أو عملی فهو ، و إلّا وجب التحقیق عن الوجه اجتهاداً أو تقلیداً و الإتیان بالعمل بقصده ... و لا أصل فیما نحن فیه ، أمّا اللّفظی ، فلا یجری الإطلاق ، لعدم إمکان التقیید ، سواء قلنا بأن النسبة بینهما هو نسبة السلب و الإیجاب أو العدم و الملکة . و أمّا العملی ، فلیس إلّا البراءة ، لکنّ قصد الوجه لا یمکن رفع وجوبه بها ، لأنه لا یمکن أخذه فی متعلّق التکلیف کما تقدم ، فما لا یمکن وضعه لا یمکن رفعه .

و إذا کنّا نحتمل دخل قصد الوجه و نشکّ فی تحقق الامتثال بدونه ، و لا أصل رافع للحکم ، فلا یحصل الامتثال إلّا بقصد الوجه . کما أن قاعدة الاشتغال بالغرض من التکلیف أیضاً تقتضی وجوب تحصیل قصد الوجه .

ص:244


1- 1) سورة الإسراء : 78 .
2- 2) سورة العنکبوت : 45 .

و الجواب

إنّ هذا الوجه یبتنی علی مقدّمتین .

الاُولی احتمال دخل الوجه فی الغرض وجداناً ، و أنه لا یمکن أخذه فی المتعلّق .

و الثانیة إنّ کلّ ما یحتمل دخله فی الغرض الذی لا یتمکّن المولی من البیان له یحکم العقل بلزوم الإتیان به .

لکنّ الکلام فی المقدّمة الثانیة .

أمّا علی القول بأنه : لا یمکن أخذ قصد الوجه لا بالأمر الأوّل و لا بالأمر الثانی - کما علیه المحقق الخراسانی - ، فإنه تجری قاعدة الاشتغال و لا مجال للبراءة ، لأن الأمر یکشف إنّاً عن الغرض فهو علّة للأمر ، و ما لم یحصّل الغرض لم یسقط الأمر ، و مع الشک فی تحصیل الغرض بلا قصدٍ للوجه ، فالمحکّم قاعدة الاشتغال .

و ما قیل - من جریان البراءة العقلیّة ، لأن الغرض یمکن أن یکون قائماً فی الواقع بالصّلاة مع قصد الوجه ، لکن المولی غیر قادر علی بیان ذلک ، و الأمر غیر کاشف عن هذه الخصوصیّة ، و إذْ لا بیان عن الغرض ، فهو مجری قاعدة البراءة - .

فیه : إن قاعدة قبح العقاب بلا بیان إنما تجری حیث یکون البیان مقدوراً ، و المفروض أن المولی غیر متمکّن من بیان دخل القصد فی الغرض مع احتماله واقعاً ، وعلیه ، فلا یجری البراءة بل الجاری أصالة الاحتیاط ، بمقتضی وظیفة العبودیة . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه بمجرّد عدم الجزم بحکم العقل بقبح العقاب ، و احتمال

ص:245

استحقاقه ، یتمُّ الموضوع لقاعدة الاحتیاط ، لأن دخل القصد فی الغرض الواجب تحصیله منجّز عقلاً کالقطع به ، و قد ظهر أنْ لا دافع لهذا الاحتمال .

إلّا أنّ الکلام فی صغری المقام ، و هو عبارة عن عدم تمکّن المولی من بیان الغرض ، أمّا علی القول بإمکان قصد الوجه فی المتعلّق - کما علیه المحقق العراقی - فواضحٌ ، لأن المولی بناءً علیه متمکّن من البیان و لم یبیّن ، فیؤخذ بأصالة الإطلاق . و أمّا علی القول بإمکان ذلک بالأمر الثانی - کما علیه المیرزا - فإنه یؤخذ بنتیجة الإطلاق .

و أمّا المحقق الخراسانی - القائل بعدم الإمکان لا بالأمر الأوّل و لا بالأمر الثانی - فجوابه عن هذا الدلیل هو : التمسّک بالإطلاق المقامی ، بأنه : لو کان قصد الوجه دخیلاً فی الغرض ، فلا یخلو إمّا أنّ دخله فیه ممّا لا یغفل عنه المکلّفون عموماً ، فلا یجب علیه البیان ، و إمّا أنّه ممّا یغفلون عنه و هو فی مقام البیان ، فالواجب علیه البیان لئلّا یلزم الإغراء بالجهل ، و إذ لم یأت البیان و التنبیه علی الغرض ، فالإطلاق المقامی ثابت .

فظهر سقوط الاستدلال علی جمیع الأقوال .

وعلیه ، فلا مانع من الامتثال الإجمالی من ناحیة قصد الوجه .

تفصیل المیرزا

و ذهب المیرزا إلی التفصیل بین موارد الامتثال الإجمالی . و حاصل کلامه (1) :

ص:246


1- 1) أجود التقریرات 3 / 75 .

أمّا فی الشبهة الموضوعیّة ، فلا کلام فی کفایة الامتثال الإجمالی و جواز الاحتیاط ، و لا حاجة إلی الإتیان بالعمل عن اجتهاد أو تقلید .

و فی الشبهة الحکمیّة بعد الفحص أیضاً ، لا ریب فی حسن الاحتیاط .

إنما الکلام فی الشبهة الحکمیّة قبل الفحص ، حیث أنّ التکلیف منجّز ، فهل یکفی الامتثال الإجمالی أوْ لا ؟

و کذلک فی مورد دوران الأمر بین المتباینین ، حیث أن التکلیف منجّز بالعلم الإجمالی ، کدوران الأمر بین الظهر و الجمعة ، فهل یجب تحصیل العلم التفصیلی أو یکفی الامتثال الإجمالی ؟

و لو دار الأمر بین الأقلّ و الأکثر ، کما فی السّورة فی الصلاة هل هی واجبة أو مستحبّة ، جاز الامتثال الإجمالی ، و مثله الشک فی وجوب جلسة الاستراحة و عدم وجوبها .

و قد یدور الأمر بین الأقل و الأکثر إلّا أن مورد الشک مردّد بین المتباینین ، کما لو شک فی حکم القراءة فی صلاة الجمعة أنّها عن جهرٍ أو إخفات ، فبین الجهر و الإخفات تباین ... و قد ذهب فیه إلی إمکان الامتثال الإجمالی .

و لما ذهب إلیه المیرزا من التفصیل مقدّمات :

الاولی : إن الحاکم فی باب الإطاعة و العصیان هو العقل ، و الأوامر الشرعیّة فی هذا الباب کلّها إرشاد إلی حکم العقل ، و إنْ کان للشارع أن یعتبر خصوصیّة أو یشترط شرطاً مثلاً فی حال قدرته علی ذلک ... و إذا کان الحاکم هو العقل ، فمن أمکنه الإطاعة عن اجتهاد أو تقلید ، فلا یکفی الاحتیاط ... إلّا إذا أذن المولی بذلک ، و إلّا فمقتضی قاعدة الاشتغال عدم براءة الذمّة .

ص:247

الثانیة : إن العقل یری للامتثال مراتب .

فالاولی : الامتثال التفصیلی ، و هو الامتثال عن حجةٍ ، سواء کان هو العلم أو الظن خاصّ أو الظن المطلق عند تمامیّة مقدمات الانسداد .

و الثانیة : الإطاعة الإجمالیّة ، فإنها مقدّمة علی الظنیّة ، لأنه بعد الفراغ یعلم بحصول الامتثال للأمر و إنْ جاهلاً بالخصوصیّة ، کما لو صلّی الظهر و الجمعة کلتیهما .

و الثالثة : الامتثال الظنی .

و الرابعة : الامتثال الاحتمالی .

الثالثة إنه لا ریب فی تقدّم الظنی علی الاحتمالی . قال : و الامتثال التفصیلی مقدّم علی الإجمالی ، لأنه یکون منبعثاً عن أمر المولی و بعثه ، و العقل حاکم بضرورة تحرّک العبد بأمر مولاه ، مع التمکّن من ذلک ، فإن الإطاعة الإجمالیّة لیست إطاعةً لأمر المولی ، و لو شکّ فی کفایة الامتثال الإجمالی عن التفصیلی ، فإن مقتضی الأصل هو التعیین .

المناقشة مع المیرزا

أوّلاً : إن الانبعاث فی جمیع الموارد من البعث ، و الدّاعی للإطاعة فیها هو أمر المولی ، نعم ، للعلم و الاحتمال دخل فی الدّاعویّة ، لکنّ الدّاعی و المحرّک هو الأمر ، فإذا أتی بالعمل بداعی الأمر فقد امتثل ، و لا فرق بین الموارد .

و فیه : إنّ الأمر - و کذا النهی - له وجود قائم بنفس الآمر و الناهی ، فتارةً :

یتحقّق له صورة ذهنیّة ، و اخری : لا ، و إذا تحقّقت فتارةً : لا یحتمل معها الخلاف و اخری : یحتمل ، و علی الأوّل ، فتارةً : تکون الصّورة مطابقةً للواقع ، و اخری :

ص:248

مخالفةً له .

و علی کلّ حالٍ ، فإن التحرّک یکون دائماً من الصّورة الخارجیّة .

إنّ حکم الأمر و النهی حکم سائر الأشیاء ، فإنّ الذی یحرّک العطشان ، لیس الوجود الخارجی للماء ، بل الصّورة الذهنیّة له .

و الحاصل : إنه لیس الداعی هو الأمر بنفسه ، بل الدّاعی هو الصّورة النفسانیّة ، و إلّا یلزم خارجیّة النفسانی أو نفسانیّة الخارج ، و کلاهما غیر معقول .

فما أفاده صاحب المستمسک (1) مردود .

ثانیاً : إن الانقیاد للمولی حسن ، إلّا إذا طرأ علیه عنوان آخر ، فهو کالصّدق فإنّه حسن عقلاً إلّا إذا استلزم هلاک المؤمن مثلاً ، فإنّه مع طرو هذا العنوان یصیر قبیحاً .

وعلیه ، فإن العمل الاحتیاطی لمّا کان انقیاداً للمولی فهو حسن ، فإنْ کان التمکن من الإطاعة التفصیلیّة موجباً لقبح الإطاعة الإجمالیّة ، تمّ الاستدلال المذکور ، لکنّ ذلک باطل قطعاً ، فإنّ التمکن من الامتثال التفصیلی لیس مثل لزوم هلاک المؤمن لیکون الامتثال الإجمالی قبیحاً ... کما أنّ حسن الاحتیاط لیس متقوّماً بعدم التمکن من الامتثال التفصیلی ... و حینئذٍ ، یکون حسنه و الانقیاد به بلا مزاحم ، فیتحقق به الامتثال ، سواء أمکن الامتثال التفصیلی أوْ لا . قاله المحقق الأصفهانی (2) .

و فیه : إن هذا سهو من قلمه ، لأن الانقیاد یقابله التجرّی ، و قد ذکر سابقاً أن

ص:249


1- 1) حقائق الاصول 2 / 57 .
2- 2) نهایة الدرایة 3 / 114 .

قبح التجرّی هو من باب لزوم هتک المولی ، و الهتک ظلمٌ ، فیکون الانقیاد له حسناً و هو عدل ، و حسن العدل ذاتیّ له و قبح الظلم ذاتی له کذلک . فقیاس الانقیاد علی الصّدق غیر صحیح ، و قد قرّر هو رحمه اللّٰه أن حسن الصّدق اقتضائی و قبح الکذب اقتضائی ، بخلاف العدل و الظلم ، فإن الحسن و القبح ذاتیّان .

هذا بالنسبة إلی القیاس المذکور فی کلامه .

و أمّا أصل المطلب ، فإن الانقیاد - مثل الإطاعة - موضوع لحکم العقل بالحسن و هو حسن ذاتی ، لأن الانقیاد عدل فی العبودیّة ، کما أنّ التجرّی ظلم فی العبودیّة . هذا من جهة .

و من جهةٍ اخری : فإنّ العمل تارةً : توصّلی ، و اخری : تعبدی . أمّا التوصّلی فخارج عن البحث ، و أمّا التعبّدی ، فإنّ العقل - الحاکم فی الباب - یحکم بلزوم الإتیان بالعمل مضافاً إلی المولی ، و إذا کان العقل یکتفی فی تحقق العبادیّة بإضافة العمل إلی المولی ، فلا فرق بین الإضافة التفصیلیة و الإجمالیة ، إن لم یکن الإتیان بالعمل بداعی احتمال أمر المولی أقوی فی المقربیّة .

و هذا هو الجواب الصحیح عن کلام المیرزا .

ثالثاً : إنه إنْ احتمل دخل الامتثال التفصیلی فی حصول الغرض ، فإنّ هذا الاحتمال یرتفع بحدیث الرفع ، توضیحه :

إنّ المولی إذا کان غیر متمکّن من البیان بالأمر الأوّل ، لکون الامتثال التفصیلی متأخّراً فی الرتبة عن مرتبة تعلّق الأمر ، فقد کان بإمکانه بیان ذلک بالأمر الثانوی ، فیکون مجری حدیث الرفع ، لأن ذلک کان ممّا یمکن وضعه ، فهل هو موضوع أوْ لا ؟ رفع ما لا یعلمون .

ص:250

و هذا الإشکال من المحقق الأصفهانی أیضاً (1) .

و فیه : هذا الإشکال نشأ من عدم التدبر فی کلام المیرزا . لقد قاس الأصفهانی اعتبار الامتثال التفصیلی علی اعتبار قصد الوجه ، و أنّ البراءة تجری هنا کما جرت هناک . و ذهب الأصفهانی إلی إمکان اعتبار الامتثال التفصیلی بالأمر الثانوی .

لکن المیرزا قال فی الدّورة الاولی : بأنه لا یقاس الامتثال التفصیلی بمسألة اعتبار قصد الوجه ، للفرق بینهما ، لأنّ قصد الوجه یمکن أخذه فی المتعلّق بالأمر الثانوی ، أی بنتیجة التقیید یمکن تقیید العمل بقصد الوجه ، و إنْ کان قصد الوجه متأخّراً رتبةً ، و مع الشک تجری البراءة ، لدوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، لکنّ هذا لا یجری فی اعتبار الامتثال التفصیلی ، لأنّ الأمر فیه دائر بین التعیین و التخییر ، و مقتضی القاعدة الأوّل .

هذا کلامه فی الدّورة الاولی (2) .

أمّا فی الثانیة (3) ، فقد طرح هذه المسألة ، و ذهب إلی عدم جواز البراءة من جهة أنها إنما تجری فیما یکون وضعه بید الشّارع ، و قضیّة الامتثال التفصیلی ترجع إلی کیفیة الطّاعة و الحاکم فیها هو العقل ، فلا وضع فیها للشارع ، لا تأسیساً و لا إمضاءً ، و ما کان کذلک فلا یرفع .

فالإشکال علی المیرزا مندفع بما ذکره فی الدّورتین .

ص:251


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 114 .
2- 2) فوائد الاصول 3 / 67 .
3- 3) أجود التقریرات 3 / 80 - 81 .

و رابعاً : أشکل المحقق العراقی (1) : بأنّ قول المیرزا إن تقیید المتعلّق بمرتبة الامتثال عقلی ، غیر صحیح ، بل هو شرعی ، لأنّ غرض المولی إنْ کان قائماً فی الواقع بکیفیةٍ معیّنة من العمل ، فإنّ کون غرضه بالنسبة إلی الامتثال التفصیلی مهملاً محال ، فإنْ کان للامتثال التفصیلی دخل فی الغرض فهو مقیّد و إلّا فمطلق .

و الحاصل رجوع الأمر إلی مرحلة الاشتغال ، لأنه یتعلّق بکیفیة اشتغال الذمّة بالتکلیف ، خلافاً للمیرزا ، إذ أرجعه إلی مرحلة الإطاعة و الامتثال ، حیث الحاکم هو العقل ... و إذا کان راجعاً إلی مرحلة الاشتغال ، فإنّه من الممکن أن یبیّن الشارع أنه یرید العمل عن اجتهادٍ أو تقلیدٍ ، و إذْ لم یبیّن ، فقاعدة قبح العقاب بلا بیان جاریة .

و هذا الإشکال قوی .

خامساً : و أشکل الاستاذ دام بقاه علی المیرزا : بأنّه إذا کان الحاکم فی مرحلة الامتثال و الفراغ هو العقل ، إلّا أن للشارع التصرّف فی حکم العقل ، بأنْ تجعل البدل و ینزّل الفرد المشکوک الصحّة بمنزلة الصحیح ، أو العمل المشکوک المقربیّة و المحقّق للامتثال حقیقةً ... فإنا نقول : أمّا الواجب التوصّلی إنما یتحقّق الامتثال فیه بالإتیان بما تعلّق به الطلب بلا شیء زائد علیه فهو خارج عن البحث ، و أمّا الواجب التعبّدی ، فیعتبر فیه أنْ یکون الإتیان به علی وجهٍ قربی ، لکنّ العقل یکتفی فی المقربیّة إلی المولی بمجرّد کون العمل مضافاً إلیه ، و أنه تحقّق الطّاعة بالإتیان بالعمل بداعی الغرض ، أو بداعی الأمر ، أو بداعی احتمال الغرض أو

ص:252


1- 1) فوائد الاصول 3 / 68 - 69 . الهامش .

الأمر ... لأنّه تتحقّق الإضافة إلی بأی داعٍ من هذه الدواعی ، و مجرّد الإضافة کاف فی تحقق الفراغ و الامتثال .

و حینئذٍ ، فلا یبقی ریب فی کفایة الامتثال الإجمالی حتی مع التمکّن من الامتثال التفصیلی .

الاحتیاط عبث و لعب بأمر المولی ؟

و من الإشکالات علی الامتثال الإجمالی مع التمکن من التفصیلی هو : إنه لعبٌ بأمر المولی و عبث ، و الفعل العبث لا یحقّق الامتثال و الطاعة بل بینهما تضادّ .

و قد تعرّض الشیخ لهذا المطلب هنا (1) - و فی شرائط جریان الاصول - و ملخّص کلامه فی المقام هو : إن العقل یدعو إلی الطاعة ، و لا یفرّق بین الطاعة التفصیلیّة و الإجمالیّة ، فالمهم أن یری المکلّف نفسه بعد العمل مطیعاً للمولی ، و إنْ استلزم تکرار العمل ، فإن المهم إحراز الطاعة و الامتثال للتکلیف .

و هذا الکلام متین .

لکنّ الشیخ قد طرح إشکالات :

أوّلها : قد یقال : بأنّ تحقق الطّاعة بالامتثال التفصیلی قطعی ، و أمّا تحققها بالامتثال الإجمالی بتکرار العمل ، فمشکوک فیه .

و الثانی : إن تکرار العمل خلاف سیرة المتشرعة .

و الثالث : إنّه یعتبر الآتی بالعمل علی وجه التکرار لاعباً بأمر المولی .

و الرابع : الاتفاق علی بطلان هکذا عمل . إدّعاه صاحب الحدائق .

و الخامس : السیرة العقلائیّة .

ص:253


1- 1) فرائد الاصول 1 / 71 .
النظر فی الاشکالات المطروحة فی کلام الشیخ

أمّا السیرة العقلائیة ، فهی بناءً علی تمامیّتها هنا دلیل لبّی ، و القدر المتیقّن منها أنْ یکثر التکرار بحیث یخرج العمل عن العقلائیّة ... فلیس مطلق التکرار علی خلاف سیرة العقلاء .

و أمّا سیرة المتشرّعة ، فکذلک ، لأنّهم یستنکرون التکرار الکثیر ، أمّا استنکارهم مطلق التکرار فأوّل الکلام . هذا أوّلاً . و ثانیاً : إن سیرة المتشرعة هی الإجماع العملی من أهل الشرع ، و متی احتمل استناد إجماعهم إلی دلیلٍ - کالاتفاق الذی ادّعاه صاحب الحدائق أو الشک فی تحقق الطاعة - سقط عن الاعتبار .

و أمّا الاتّفاق - و الظاهر من کلماته المختلفة اهتمامه به - ففیه : إنّ المسألة غیر مطروحة فی کلمات قدماء الأصحاب . و علی فرض تحقّقه ، فإنه إجماع منقول و هو لیس بحجّة عند الشیخ و غیره ... علی أنه محتمل الاستناد .

و أمّا الشک فی تحقق الطاعة بالتکرار مع التمکن من الامتثال التفصیلی .

فالجواب عنه : إن حقیقة الطاعة هی الإتیان بما تعلّق به التکلیف ، و المفروض تحقّقها بعد العمل یقیناً ، و قد تقدّم أنْ لا یدخل للخصوصیّة فی تحقّقها .

و أمّا أنّ التکرار لعبٌ ، فقد أجاب صاحب الکفایة (1) : بأنه لا لعب مع الغرض العقلائی .

لکنْ فیه : إن المطلوب مقربیّة العمل إلی المولی ، و لیس الغرض العقلائی

ص:254


1- 1) کفایة الاصول : 274 .

ممّا یتحقّق به القرب .

و الصحیح فی الجواب : إن اللّعب إنّما یصدق مع کثرة التکرار . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : اللّعب إنْ کان ، فهو فی کیفیة الطّاعة لا فی نفسها .

منافاة الاحتیاط مع روایات التعلّم

و الإشکال الأخیر علی القول بکفایة الامتثال الإجمالی عن التفصیلی هو :

منافاته مع الروایات الکثیرة الآمرة بالتعلّم ، فإنّها تقتضی وجوب الإتیان بالعمل عن الاجتهاد أو التقلید ، لأنه یکون عن علمٍ ، فالقول بکفایة الامتثال الإجمالی طرح لجمیع هذه الروایات .

و الجواب

إن الوجوب فی الشریعة علی أقسام :

أحدها : الوجوب النفسی فإنْ کانت الروایات دالّةً علی وجوب التعلّم وجوباً نفسیّاً ، بأن یکون الغرض من جعل التکلیف قائماً بنفس العمل ، فالإشکال وارد .

و الثانی : الوجوب الإرشادی ، بأنْ یکون ارشاداً إلی حکم العقل .

و الثالث : الوجوب الغیری ، بأنْ تکون المصلحة غیر قائمة بالعمل بل بما یراد الوصول إلیه بالعمل .

و الرابع : الوجوب الطریقی ، بأنْ یکون الداعی إلی الجعل هو التحفّظ علی الواقع کما فی موارد جعل الاحتیاط ، و قد یجعل الاحتیاط بملاک أنه یقوّی العزم علی الإطاعة و حصول الملکة ، فیکون وجوبه نفسیّاً .

أمّا حمل روایات التعلّم علی الإرشاد ، فغیر صحیح ، لإمکان حملها علی

ص:255

المولویّة ثبوتاً ، و الأصل فی الخطابات الشرعیّة هو المولویّة .

و أمّا حملها علی الوجوب الغیری ، بأنْ یکون التعلّم واجباً شرعاً من باب المقدّمة ، فهذا أوّل الکلام ، للاختلاف فی وجوب مقدّمة الواجب بالوجوب الشرعی . هذا أوّلاً . و ثانیاً : إن مورد الوجوب الغیری المقدّمی هو ما یکون ذو المقدّمة موقوفاً علی المقدمة فی الوجود ، و لیس التعلّم ما یتوقف وجود ذی المقدّمة علیه ، بل التعلّم مقدّمة علمیّة لذی المقدّمة ، و الفرق بین المقدّمة الوجودیّة و المقدّمة العلمیّة واضح .

فیدور أمر وجوب التعلّم بین أن یکون نفسیّاً أو طریقیّاً ، لکنّه لیس وجوباً نفسیّاً ، لوجهین :

أحدهما : ما اشتملت تلک الروایات علیه من القرینة علی عدم النفسیّة ، مثل الخبر : «إن اللّٰه تعالی یقول للعبد یوم القیامة :

عبدی ، أ کنت عالماً ؟

فإنْ قال : نعم ، قال له : أ فلا عملت بما علمت ؟

و إنْ قال : کنت جاهلاً ، قال له : أ فلا تعلّمت حتی تعمل ؟ فیخصمه .

فتلک الحجة البالغة » (1) .

فیظهر أن التعلّم لیس مطلوباً بنفسه .

و الثانی : إنه یستلزم تعدّد العقاب إذا ترک العمل ، و هذا خلاف الإجماع بالضرورة .

فتعیّن أن یکون الوجوب فی هذه الروایات طریقیّاً ، و الوجوب الطریقی

ص:256


1- 1) تفسیر کنز الدقائق 3 / 479 .

یجتمع مع الاحتیاط و لا یمنع عنه ، لأنّ الوجوب الطریقی إنّما هو لحفظ الواقع ، و وجوب التعلّم لحفظ الواقع کذلک .

تنبیهات
اشارة

بعد الفراغ عن کفایة الامتثال الإجمالی عن التفصیلی ، تبقی امور :

حکم الاحتیاط فی العقود

الأول : هل یمکن الاحتیاط فی العقود و الإیقاعات ، أو یعتبر الجزم فی النیّة ؟

العقد أو الإیقاع إنشاء ، و فی حقیقة الإنشاء أقوال :

أحدها : إنّه إیجاد للمنشإ فی عالم الاعتبار ، و هذا هو المعروف .

و الثانی : إنه اعتبار و إبراز . وعلیه المحقّقان العراقی و الخوئی .

و الثالث : إنه إیجاد اعتباری ، و هو للمحقق الأصفهانی .

و علی کلّ الأقوال : یعتبر أن لا یکون المنشئ متردّداً أو شاکّاً فی مقام الإنشاء ، و الاحتیاط ینافی الجزم .

فهذا وجه الإشکال .

و الجواب : إنه لدی الاحتیاط لا تردید للمنشئ فی النیّة ، بل هو جازم بوقوع الزوجیّة أو البینونة ، نعم ، التردّد موجود فی ما به تعلّق الإمضاء ممّن یعتبر إمضاؤه فیه ، فلذا یکرّر، و یجمع بین « أنکحت » و« زوّجت » و هذا أمر آخر .

حکم الاحتیاط بناءً علی الانسداد

الثانی : إنه إذا کفی الامتثال العملی الإجمالی عن الامتثال العلمی التفصیلی

ص:257

مع التمکن منه ، فهو یکفی عن الامتثال الظنی التفصیلی بالأولویّة - القطعیّة - ، فلو قام خبر الواحد علی شیء ، فلا مانع من الاحتیاط فی مورده .

إنما الکلام فی الظن المطلق بناءً علی الانسداد ، و یختلف الأمر علی الخلاف فی نتیجة المقدمات من حیث الکشف و الحکومة .

إن مقدّمات الانسداد هی : أنّا نعلم بأن فی الشریعة أحکاماً مطلوبةً منّا لسنا مهملین تجاهها . لکنّ طریق العلم بها و کذا طریق العلمی - أی الظن الخاصّ - منسدٌّ ، و الرجوع إلی الأصل النافی للحکم باطلٌ ، و کذا الرجوع إلی الفقیه القائل بالانفتاح ، و کذا الرجوع إلی القرعة للکشف عن الأحکام الشرعیة ، لأنها إنما تجری فی الشبهات الموضوعیة ، فلا یبقی طریق إلا « الاحتیاط » . فقیل : بعدم جواز العمل بالاحتیاط ، و تکون النتیجة « الکشف » . و قیل : بعدم وجوب الاحتیاط و تکون النتیجة « الحکومة » .

توضیحه : إنّه علی القول باعتبار قصد الوجه فی العبادات ، فإن الاحتیاط غیر جائز ، و حینئذٍ ، یکشف عن حکم الشارع بحجیة الظن المطلق ، و إلّا یلزم العمل بالاحتمال والوهم ، و هو مرجوح بالنسبة إلی الظن ، و ترجیح المرجوح قبیح .

إذنْ ، یُعمل بالظن المطلق ، و الاحتیاط باطل .

و أمّا علی القول بعدم اعتبار قصد الوجه ، فالاحتیاط جائز لکنْ غیر واجب ، نعم ، إن استلزم اختلال النظم أو العسر و الحرج ، فغیر جائز ، لکنّ عدم الجواز - هذا - حکم عرضی ثانوی ... فهنا یقول العقل بالاحتیاط من باب أنّ الضرورات تتقدّر بقدرها ، و مقتضی ذلک هو الأخذ بالمظنونات و ترک الموهومات .

ص:258

حکم الاحتیاط مع وجود الظنّ الخاص

الثالث : هل هناک مع وجود الظن الخاص تخییرٌ للمکلّف فی مقام العمل ، بأنْ یعمل أوّلاً بمقتضی الظن ثم یأتی بالاحتیاط ، أو بالعکس ، أو علیه أوّلاً الإطاعة الظنیّة ثم له أن یأتی بالاطاعة الاحتمالیة ؟

قال الشیخ و المیرزا الشیرازی بعدم التخییر و تعیّن تقدیم الإطاعة الظنیة .

و خالف الاستاذ ، لأنه مع قیام خبر الثقة - مثلاً - یلغی احتمال الخلاف تعبّداً أمّا وجداناً فلا ، و مع وجود احتمال الخلاف بالوجدان ، فالاحتیاط حسن ، و لکنْ لا دلیل علی تقدیم العمل بمقتضی الظن الخاص ، و المحققان المذکوران لم یذکرا دلیلاً .

هذا تمام الکلام فی مباحث القطع .

ص:259

ص:260

مباحث الظّن

اشارة

ص:261

ص:262

مقدّمات

بعد الفراغ من مباحث القطع ... .

تصل النوبة إلی مباحث الظّن ، و عمدتها ( الأمارات ) .

و قد ذکروا قبل الورود فی تلک المباحث اموراً :

الأمر الأوّل أنّ الأمارة لا تقتضی الحجیّة ذاتاً
اشارة

إنّ الأمارة علی قسمین ، منها : علمیّة ، و منها : غیر علمیّة .

و القسم الثانی لیس بحجّة ذاتاً ، لکنْ یمکن ثبوت الحجیّة لها ... .

کلام المحقّق الخراسانی

قال فی الکفایة :

إنه لا ریب فی أنّ الامارة غیر العلمیة لیس کالقطع فی کون الحجیّة من لوازمها و مقتضیاتها بنحو العلیّة بل مطلقاً ، و أن ثبوتها لها محتاج إلی جعلٍ أو ثبوت

ص:263

مقدمات و طروّ حالات موجبة لاقتضائها الحجیة عقلاً ، بناءً علی تقریر مقدّمات الانسداد بنحو الحکومة . و ذلک : لوضوح عدم اقتضاء غیر القطع للحجیّة بدون ذلک ثبوتاً بلا خلاف ، و لا سقوطاً ، و إنْ کان ربما یظهر فیه من بعض المحققین الخلاف و الاکتفاء بالظن بالفراغ ، و لعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل .

فتأمل (1) .

توضیحه :

لقد کان القطع علّةً تامّةً للحجیّة ، فکانت الحجیّة من لوازم القطع ، و لیس الظن کذلک ، بل لا اقتضاء له بالنسبة إلیها ... و إنما یکون الظن حجةً إمّا بجعلٍ من الشارع ، و ذلک کما فی الظنون الخاصّة ، أو بناءً علی الکشف فی قانون الانسداد ، و إمّا بحکمٍ من العقل ، و بقانون الانسداد بناءً علی الحکومة .

و قد جَعَل هذا المطلب مما لا ریب فیه لوضوحه .

ثم أشار فی آخر کلامه إلی أنّ حجیّة الظن فی مقام ثبوت الحکم الشرعی محتاج إلی جعلٍ من الشارع أو حکمٍ من العقل کما تقدم .

قال : و هذا لا خلاف فیه .

إشکال السید الخوئی علی الکفایة

و لا یخفی أنّ المراد من حکم العقل هو إدراکه ، لکنّ السیّد الخوئی أشکل علی ظاهر عبارة الکفایة : « إنّ ثبوتها لها محتاج إلی جعلٍ أو ثبوت مقدّمات و طروّ حالاتٍ موجبة لاقتضائها الحجیّة عقلاً » .

ص:264


1- 1) کفایة الاصول : 275 .

بأنّ حکم العقل عبارة عن إدراکه و لیس له حکم سوی الإدراک ، لعدم کونه مشرّعاً لیحکم بشیء ، إذ علی تقدیر الکشف کان العقل کاشفاً عن حجیّته الشرعیّة لا حاکماً . بحجیّته ، و أمّا علی تقدیر الحکومة ، فلا یحکم العقل بحجیّة الظنّ أصلاً ، و إنما یحکم بتضییق دائرة الاحتیاط فی مقام الامتثال فی المظنونات و رفع الید عنه فی المشکوکات و الموهومات (1) .

و قد یشهد بما ذکرنا أن الجملة فی بعض نسخ الکفایة : « لاقتضائها الحجیّة بنحو الحکومة ، و ذلک لوضوح ... » .

و أمّا فی مقام سقوط التکلیف ، فکذلک ، إلّا ما یظهر من المحقق الخونساری فی مباحث الاستصحاب حیث ذکر : أنه لو جاء أمر أو نهی معلّق علی غایةٍ ثم شک فی تحقق الغایة ، وجب الإتیان بالمأمور به و ترک المنهیّ عنه ، للظن بالضرر ، فیلزم تحصیل المظنّة بعدمه (2) .

فاستظهر صاحب الکفایة من کلام هذا المحقق القول بأنّ للظن فی مقام سقوط التّکلیف اقتضاء للحجیّة ، و إلّا لقال بوجوب امتثال الأمر أو النهی حتی یحصل القطع بسقوط التکلیف .

قال : و لعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل . فتأمل .

أقول:

و لعلّ الأمر بالتأمّل ، للإشارة إلی بطلان المبنی ، فإن دفع الضرر المحتمل لازم .

ص:265


1- 1) مصباح الاصول 2 / 88 .
2- 2) مشارق الشموس فی شرح الدروس : 147 .

و حاصل الکلام : إنّ الظنّ له کاشفیّة ناقصة عن الواقع ، و لیس کالشک حیث لا کاشفیّة له أصلاً و له قابلیّة لأنْ تجعل له الکاشفیّة التامّة بإلغاء احتمال الخلاف تعبّداً ... وعلیه ، فإنّ الظنّ لا اقتضاء له للحجیّة ذاتاً ، و لکنْ فیه اقتضاء جعل الحجیّة له .

أمّا جعلها فقد ذکرناه .

و أمّا عدم الاقتضاء الذاتی فیه لها ، فلأنّ الحجیّة إن کانت بمعنی الطریقیّة ، فإن الظنّ ملازم لاحتمال الخلاف ، فلا یصلح للطریقیّة . و إنْ کانت بمعنی المنجزیّة و المعذریّة ، فإنّ التنجیز و الإعذار من الأحکام العقلیّة ، و مع عدم کاشفیة الظن عن الواقع کیف یتمّ به ذلک ؟

إشکال الإیروانی فی قابلیّة الظنّ للحجیّة الشرعیّة

و للمحقق الإیروانی شبهةٌ فی أصل قابلیّة الظنّ للحجیّة الشرعیّة ، قال :

لا تثبت الحجّیّة بالجعل کی یکون غیر الحجّة حجّة بإنشاء حجّیّته ، بل ما هو حجّة حجّة بحکم العقل ؛ إمّا مطلقاً أو فی حال الانسداد ، و ما لیس بحجّة لا یکون حجّة أبداً ، لا لأنّ الحجّیّة غیر قابلة للجعل ، و إن کان الأمر کذلک ، بل لأنّ الحجّیّة إن کانت بالجعل لزم التسلسل إلی حجّة أخری مثبتة للحجّة الأولی ، و هی إن کانت عقلیّة کانت الحجّة فی الحقیقة هی تلک الحجّة العقلیّة لا هذه الشرعیّة ، و إن کانت حجّة جعلیّة شرعیّة عادة ذکرناه أوّلاً ، و هکذا .

و بالجملة : لا بدّ أن تکون الحجّیّة صادرة من باب العقل ، و لا محیص عن أن یکون مناخ رحال التکلیف ببابه ، فصحّ أن یقال : لیست الحجّة إلا القطع ، أو الظنّ

ص:266

علی الحکومة . (1)

أقول :

حاصله : إنه إن أنشأ الشارع الحجیّة للظنّ وقع السؤال عن الملاک لها ، فلو استدلّ علیها بالجعل ، سئل عن الملاک لذاک الجعل ، و هکذا یتسلسل .

و إذا تمت هذه الشبهة ، کانت الحجیّة منحصرةً بالقطع و بالظنّ الانسدادی بناءً علی الحکومة ، و لا تبقی حجیّة شرعیّة للأمارات .

لکنّ الشبهة تندفع :

أمّا نقضاً ، فبأنّ الحجیّة مجعولة من قبل الشارع فی موارد ، کما فی الروایات و الأدعیة و الزیارات ، یقول صاحب الزمان علیه السلام فی التوقیع المرویّ عنه :

« و أمّا الحوادث الواقعة ، فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا ، فإنهم حجتی علیکم و أنا حجة اللّٰه » (2) إذ مدلول الروایة جعل الحجیّة ، کما أنه فی المقبولة ، إذ قال علیه السلام : « فإنی قد جعلته علیکم حاکماً » (3) قد جعل الحکومة .

و أمّا حلّاً ، فقد تقرّر أن کلّ ما بالعرض لا بدّ و أنْ ینتهی إلی ما بالذات ، و هذا القانون ملاکه بطلان التسلسل ، فلولا انتهاء ما بالعرض إلی ما بالذات للزم التسلسل . . . وعلیه ، فالحجیّة العرضیّة لا بدّ و أنْ تنتهی إلی الحجّة بالذات ، و منه یظهر أنّه الحجّة علی قسمین ، ذاتیّة و عرضیّة ، و العرضیة هی الجعلیّة . فالانحصار الذی ادّعاه المحقق المذکور باطل ، و أن الظن یصلح لتعلّق الحجیّة به .

ص:267


1- 1) حاشیة الکفایة 2 / 478 .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 140 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 9 .
3- 3) وسائل الشیعة 27 / 137 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 1 .

و حینئذٍ ، لا فرق بین ثبوت التکلیف و سقوطه بالظن ، و الترجیح بلا مرجح باطل ، و ما احتمله صاحب الکفایة فی کلام الخونساری لا یناسب شأنه ، لأن الضّرر المحتمل الذی لا یلزم دفعه - علی القول به - غیر الضرر الاخروی .

و لذا جاء فی مصباح الاصول أنّ ما ذکره فی الکفایة أجنبی عن المقام ، إذ الخلاف فی لزوم دفع الضرر المحتمل و عدمه إنما هو فی الضرر الدنیوی لا فی الضرر الاخروی ، فإنه لم یخالف أحد فی لزوم دفع الضرر المحتمل الاخروی مع تنجّز التکلیف ... (1) .

و علی الجملة : إنه مع تنجّز التکلیف یکون قاعدة لزوم دفع الضّرر المحتمل محکّماً ، و إلّا جرت قاعدة قبح العقاب بلا بیانٍ ، لتقدّمها علی تلک القاعدة .

أمّا بناءً علی القول بحکم العقل بحقّ الطّاعة للمولی فی موارد الشک فی ثبوت التکلیف ، و تقدّم ذلک علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان ، فإنّه یحکم به فی موارد الشک فی السقوط مع العلم بأصل الثبوت ... .

لکنّ قاعدة قبح العقاب بلا بیان متقدّمة علی قانون حقّ الطاعة و قانون لزوم دفع الضّرر المحتمل ، کما سیأتی بالتفصیل فی محلّه إن شاء اللّٰه ، فلا مجال لما ذکره السیّد الصّدر (2) فی هذا المقام .

ص:268


1- 1) مصباح الاصول 2 / 89 .
2- 2) بحوث فی علم الاصول 4 / 187 - 188 .
الأمر الثانی فی إمکان التعبّد بالظنّ
اشارة

ذهب المشهور إلی إمکان التعبّد بالظن ، و خالف ابن قبة لشبهةٍ له ، سیأتی الکلام علیها .

دلیل المشهور کما ذکر الشیخ

و ذکر الشیخ قدّس سرّه دلیل المشهور : بأنا نقطع بأنّه لا یلزم من التعبّد به محال .

قال :

و فی هذا التقریر نظر ، إذ القطع بعدم لزوم المحال فی الواقع ، موقوف علی إحاطة العقل بجمیع الجهات المحسّنة و المقبّحة و علمه بانتفائها ، و هو غیر حاصل فیما نحن فیه .

ثم قال :

فالأولی : أن یقرّر هکذا ، إنّا لا نجد فی عقولنا بعد التأمّل ما یوجب الاستحالة ، و هذا طریق یسلکه العقلاء فی الحکم بالإمکان (1) .

و قال المحقق الخراسانی :

فی بیان إمکان التعبّد بالأمارة غیر العلمیّة شرعاً و عدم لزوم محال منه عقلاً ،

ص:269


1- 1) فرائد الاصول 1 / 106 .

فی قبال دعوی استحالته للزومه (1) .

ثم تعرّض لمعنی الإمکان ، و أشکل علی کلام الشّیخ ، و قال بأنّ الدلیل علی إمکان التعبّد بالظن هو وقوعه . و سیأتی توضیح ما ذهب إلیه فی المقام .

المراد من الإمکان

و قبل الورود فی المطلب نقول :

قد وقع الکلام بین الأعلام فی المراد من الإمکان فی هذا المقام ، لأن الإمکان تارةً : هو الاحتمال ، و هذا مراد الشیخ الرئیس من کلمته المشهورة .

و اخری : هو الإمکان الذاتی ، بأن تلحظ الماهیة إلی الوجود و العدم ، فلا تکون آبیةً عنهما ، و ثالثةً : هو الإمکان الوقوعی ، أی: عدم ترتب المحال من وقوع الشیء .

و رابعةً : هو الإمکان الاستعدادی ، و هو یکون فی المواد . و خامسةً : هو الإمکان بالقیاس .

الأکثر علی أنه الإمکان الوقوعی

و الإمکان فیما نحن فیه ، إمّا الذاتی و إمّا الوقوعی .

فقال الأکثر : أن مورد البحث هو الإمکان الوقوعی ، إذ لا شک فی عدم إباء التعبّد بالظنّ من الوجود و العدم ، فالمبحوث عنه هو الإمکان الوقوعی ، فیبحث عن أنه یستلزم التعبّد بذلک محالاً من المحالات کتفویت المصلحة أو الإلقاء فی المفسدة أو اجتماع الضدین أو النقیضین ... أوْ لا .

و ذکر السیّد الاستاذ رحمه اللّٰه ما نصّه :

و یقصد من الإمکان المبحوث عنه هو الإمکان الوقوعی الذی یرجع إلی

ص:270


1- 1) کفایة الاصول : 275 .

نفی استلزام التعبّد بالظن المحال ، فی قبال دعوی الامتناع الرّاجعة إلی دعوی استلزامه المحال کما ستعرف .

لا الإمکان الذاتی ، و هو کون الشیء بحسب ذاته ممکن الوقوع ، فی قبال الامتناع الذاتی ، و هو کون الشیء بحسب ذاته ممتنع الوقوع کاجتماع النقیضین ، إذ لا إشکال فی عدم کون التعبّد بالظن ممتنع التحقّق ذاتاً و بالنظر إلی نفسه بلا لحاظ مستلزماته (1) .

رأی المحقق الأصفهانی

و لکنّ المحقق الأصفهانی قال :

اعلم أنّ المعروف أن الإمکان المتنازع فیه هنا هو الإمکان الوقوعی ، نظراً إلی أنه لا یتوهّم أحد من العقلاء أن التعبّد بالظن بذاته یأبی عن الوجود کاجتماع النقیضین .

إلّا أنه لیس بذلک الوضوح ، فإن التعبّد بالظنّ إذا کان معناه جعل الحکم المماثل ، فجعل المثل فی مورد وجود المثل أو الضدّ واقعا عین الجمع بین المثلین أو الضدّین فی موضوع واحد ، لا أنه یلزم من إیجاد المثل فی مورد الابتلاء بالمثل جمع بین المثلین غیر إیجاد المثل فی موضوع مبتلی بمثله .

نعم ، إن کان التعبّد بالظن معنیً لازمه جعل حکم مماثل لا عینه ، فحینئذٍ لازمه الجمع بین المثلین ، کما سیجیء فی تحقیق حقیقة دلیل التعبّد (2) .

و حاصله :

ص:271


1- 1) منتقی الاصول 4 / 140 .
2- 2) نهایة الدرایة 3 / 119 - 120 .

إن القول بأنّ المراد هو الإمکان الوقوعی ، إنما یتمّ بناءً علی أنّ حقیقة التعبّد بالأمارة هو جعل الطریقیّة لها ، و کذا علی القول بأنها جعل الحجیّة لها . أمّا علی القول بأنّ حقیقة التعبّد بالأمارة هی : جعل الحکم المماثل ، فإنه یستلزم المحال الذاتی ، لأن جعل الحکم المماثل اجتماع المثلین ، و اجتماع المثلین لیس من المحالات الوقوعیة بل هو من المحالات الذاتیّة ، و لو جعل الحکم المضاد لزم اجتماع الضدّین ، و هو من المحالات الذاتیّة .

فعلی هذا المبنی فی حقیقة التعبّد بالأمارة ، یکون موضوع البحث هو الإمکان الذاتی .

مناقشة المحقق العراقی

فأشکل المحقق العراقی (1) :

بأنّ لازم جعل الحکم المماثل أو المضاد اجتماع المثلین أو الضدّین ، فالمحذور لازم الجعل و لیس هو الجعل ، و إذا کان لازماً له ، کان البحث عن الإمکان الوقوعی لا الذاتی .

أقول :

و لکنّ الحق مع الأصفهانی ، لأن عنوان اجتماع المثلین أو الضدّین ، من العناوین الانتزاعیة ، و العنوان الانتزاعی قائم بمنشإ انتزاعه ، و نفس وجود المثل مع حفظ وجود مماثله اجتماع للمثلین ، کما أن نفس وجود الشیء مع حفظ وجود ضدّه اجتماع للضدّین ، و کلٌّ منهما مستحیل ذاتاً .

ص:272


1- 1) نهایة الأفکار ، ق 1 ج 3 ص 56 .
رأی المحقق النائینی

و ذهب المحقق النائینی (1) : إلی أن الإمکان المبحوث عنه هنا هو الإمکان التشریعی و أنّ البحث هو : هل یلزم من التعبّد بالظن محذور فی عالم التشریع أوْ لا ؟

مناقشة السیّد الاستاذ

و قد اعترضه السید الاستاذ بقوله : و أمّا ما ذکره المحقّق النائینی... فهو مما لا نکاد نفهمه بأکثر من صورته اللّفظیة ، و ذلک ، فإن التشریع و جعل الحکم فعل تکوینی للمولی کسائر الأفعال التکوینیّة له و إنْ اختصّ باسم التشریع ، فیقع البحث فی أنه یستلزم المحال أوْ لا ، و مع الشک ، ما هو الأصل و القاعدة ؟ و بالجملة ، التعبیر بالإمکان التشریعی و التکوینی لا یرجع إلی اختلاف واقع الإمکان ، بل هو تقسیم بلحاظ متعلّقه (2) .

و أقول :

بعبارة اخری : إن المفاهیم علی ثلاثة أقسام ، فمنها : ما هو واقعی ، و منها : ما هو اعتباری ، و منها : ما ینقسم إلی الاعتباری و الواقعی ، کالولایة ، و الملکیة ، و الدلالة ... .

و لکنّ « الإمکان » لیس من المفاهیم القابلة للانقسام إلی التکوینی الواقعی و التشریعی الاعتباری ، فالجعل فی قولنا : هل جعل الظن حجةً أوْ لا ؟ أمر تکوینی ، یدور أمره بین الوجود و العدم ، نعم المجعول قد یکون تشریعیّاً و هو الحجیّة .

فما ذکره هذا المحقق لا یمکن المساعدة علیه .

ص:273


1- 1) أجود التقریرات 3 / 109 .
2- 2) منتقی الاصول 4 / 142 .
قول المحقق الأصفهانی بعدم الحاجة إلی هذا البحث

ثم إن المحقق الأصفهانی ذکر (1) أنْ لا حاجة إلی البحث عن الإمکان أصلاً ، لأنّ المطالب علی قسمین ، منها : ما یعتبر فیه الجزم و الیقین ، کمسائل اصول الدین ، و منها : ما لا یعتبر فیه ذلک ، و هی الأحکام الشرعیّة العملیّة ، بل یعتبر فیها الحجّة ، و الحجة تجتمع مع احتمال الاستحالة ، و بها یسقط الاحتمال ، فلا حاجة إلی تأسیس أصالة الإمکان کما ذکر الشیخ .

أقول :

و فیه : إنّ تمامیّة الحجة موقوفة علی تمامیة المقتضی و عدم المانع ، فإن اندفع احتمال الاستحالة تمّ المقتضی ، و إلّا فلا تعقل تمامیّته و لا تتم الحجة ، و الدافع للاحتمال ، إمّا عقلی و إمّا شرعی ، و المفروض انتفاؤهما ، فینحصر بالعقلائی و هو أصالة الإمکان .

الإشکالات علی الشیخ

قد تقدّم کلام الشیخ رحمه اللّٰه ، و حاصله هو القول بأصالة الإمکان اعتماداً علی بناء العقلاء .

و قد اورد علیه بوجوه من الإشکال :

الأوّل : منع کون سیرة العقلاء علی ترتیب آثار الإمکان عند الشکّ فیه .

و الثانی : منع حجیّة هذه السیرة لو سلّم ثبوتها ، لعدم قیام دلیل قطعی علی اعتبارها ، و الظن بها لو کان حاصلاً غیر مفید ، لأنّ الکلام الآن فی إمکان التعبّد بالظن ، فکیف یمکن إثباته بالظن ؟

ص:274


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 120 .

و الثالث : إنه علی تقدیر التسلیم بالسّیرة و حجیّتها ، لا فائدة فی هذا البحث أصلاً ، لأنه مع قیام الدلیل علی وقوع التعبّد لا معنی للبحث عن إمکانه ، لوضوح أنّ الوقوع أخصّ من الإمکان ، فثبوته کافٍ لثبوته .

و هذه الإشکالات من المحقق الخراسانی (1) .

و الرّابع - و هو من المحقق النائینی (2) - إنه لو سلّم بالسّیرة العقلائیة المذکورة فهی فی الإمکان التکوینی دون الإمکان التشریعی، و محلّ الکلام هو الثانی .

أقول :

أمّا الإشکال الأخیر ، فقد تقدّم منّا ما فیه ، فی المراد من الإمکان .

و أمّا الإشکالات المتقدّمة فنقول :

إن کان المراد أنه إذا قام دلیلٌ تامٌّ سنداً و دلالةً علی الحکم الشرعی ، فإن السیرة العقلائیة قائمة علی عدم الاعتناء باحتمال الاستحالة ، - و هذا ما احتمله السیّد الاستاذ (3) و السیّد الصّدر (4) - فی غایة المتانة و لا یرد علیه الإشکال ، لأنّ هذه السّیرة ثابتة ، و هی جاریة من العقلاء فی مطلق الاحتجاجات ، فإذا وصلهم الدلیل علی حکمٍ من المولی یحتجّون به و لا یجعلون احتمال الاستحالة عذراً لترک العمل .

و إنْ کان المراد قیام السیرة العملیّة منهم فی موارد الشک فی الإمکان الذاتی أو الوقوعی علی الإمکان ، فهذا غیر تام و الإشکال وارد ، و لعلّ هذا هو ظاهر عبارة

ص:275


1- 1) کفایة الاصول : 276 .
2- 2) أجود التقریرات 3 / 109 .
3- 3) منتقی الاصول 4 / 141 .
4- 4) بحوث فی علم الاصول 4 / 193 .

الشیخ بأنه عند عدم وجدان موجب الاستحالة ، فإنّ السیرة قائمة علی الإمکان ، إذْ أنّ هذا الإطلاق بظاهره غیر صحیح ، و لذا نقول بأنّ مراد الشیخ هو صورة کون الدلیل تامّاً فی باب الحجج و الأدلّة علی المقاصد و المرادات ، وعلیه ، فلا یرد الإشکال .

و علی الجملة ، فإنّ إطلاق کلامه غیر صحیح ، و لا بدّ من الحمل علی ما ذکرناه .

علی أنه یرد علیه : أن عدم وجدان الموجب للاستحالة لا یکون منشأً للحکم حتی فی الأحکام العقلائیة ، لأن الحکم عبارة عن الإذعان و التصدیق بوجود الرابط بین المحمول و الموضوع ، و هذا أمر وجودی نفسانی ، و لیس عدم الوجدان بدلیل علی وجود الرابط ، و الحکم بالإمکان عبارة عن قضیّة ثلاثیة فی الماهیات و الاعتباریات ، فقولنا : التعبّد بالظن ممکن ، هو مثل قولنا : زید قائم ، فیحتاج وجود الرابط إلی إقامة الدلیل علیه و لا یکفی للدلالة عدم الوجدان ، و القول بأن عدم الوجدان دلیل العدم ، باطل شرعاً و عقلاً و عقلاءً .

هذا بالنسبة إلی ما ذکره الشیخ .

و لکنّ التحقیق أنْ یقال : إن العقلاء إذا لم یجدوا موجب الاستحالة ، یعملون بالدلیل الحجة الواصل و لا یرتّبون أثر الامتناع ، و هذا ما قامت علیه السیرة ، و هو غیر الحکم بالإمکان .

و علی الجملة ، فإن السیرة العقلائیّة قائمة علی أصالة الإمکان ، لکن بالمعنی الذی ذکرناه .

ص:276

وجوه استحالة التعبّد

و تصل النوبة حینئذٍ إلی ما قیل فی وجه استحالة التعبّد بالظن ، و قبل الورود فی ذلک نقول :

إنّ عمدة ما یتوقف علیه الاستنباط و تحصیل الحکم الشرعی به هو الأدلّة الظنیة ، و عمدتها هو خبر الثقة ، فلا بدّ من إقامة الدلیل القطعی علی الحجیّة ، و لا تتمّ إلا باندفاع جمیع ما یحتمل مانعیّته عنها ، و إلّا احتجنا إلی قانون الانسداد ، وعلیه ، فلا یکفی مجرّد أصالة الإمکان . نعم ، نحتاج إلیها فی بعض الموارد ، فمثلاً : قیل : إن التعبد بالخبر یستلزم تحلیل الحرام و تحریم الحلال ، فاُجیب :

بإمکان وجود مصلحة فی التعبّد به کمصلحة التسهیل . لکنّ هذا الجواب لا یکفی لأن یحصل القطع بوجود المصلحة الراجحة ، بل یفید الاحتمال فقط ، فنحتاج إلی أصالة الإمکان لدفع احتمال وجود شیء من المحذورات .

و من هنا یظهر : إن من الأجوبة علی الإشکال ما یفید القطع بعدم المانع عن التعبد فلا حاجة إلی الأصل ، و قد نحتاج إلی الأصل حیث لا یفید الجواب القطع و یبقی الاحتمال الوجدانی ، کالجواب عن شبهة ابن قبة کما سیأتی ، فإنه محتاج إلی أصالة الإمکان .

و تلخص : ضرورة البحث عن أصالة الإمکان ، إمّا عن طریق الشیخ أو صاحب الکفایة و هو الاستعانة بوقوع التعبّد ، أو ما ذکره المحقّق الأصفهانی من أنّ اللّاحجة لا یصلح لمعارضة الحجة .

هذا ، و قد ذکر لاستحالة التعبّد بالظن وجوه :

ص:277

الوجه الأوّل : لزوم جواز التعبّد بالخبر عن اللّٰه

ذکر الشیخ عن ابن قبة (1) قوله :

بأنه إذا جاز التعبّد بخبر الواحد عند المعصوم جاز التعبّد به عن اللّٰه ، و لکنّ التالی باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله .

بیان الملازمة : إنّ الخبر فی کلا الموردین واحد ، و حکم الأمثال فی ما یجوز و ما لا یجوز واحد .

جواب الشیخ

أجاب الشیخ :

أولاً : لقد قام الإجماع علی عدم وقوع التعبّد بالخبر عن اللّٰه ، و لم یقم علی امتناع التعبّد ، فاللّازم غیر ممتنع ، فالملزوم کذلک .

و ثانیاً : إن محلّ الکلام یفترق عن الخبر عن اللّٰه ، أمّا أن التعبّد بالخبر عن اللّٰه غیر جائز ، فلأنه یستلزم ابتناء اصول الدین و فروعه علی الدلیل غیر القطعی ، و أمّا الخبر عن المعصوم ، فهو فی ظرف تمامیة الاصول و الفروع و ابتنائها علی الأدلّة القطعیة ، لکن قد خفیت الحقائق الدینیة عن الناس بفعل الظالمین (2) .

أشکل علیه المحقق الخراسانی بما محصّله :

إنّ الاصول و الأحکام لم تکن کلّها ثابتةً فی زمن الأئمة حتی یکون خبر الواحد بعد تمامیّتها ، فما ذکره الشیخ دعوی جزافیّة (3) .

ص:278


1- 1) هو : الشیخ أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازی ، فقیه ، متکلّم ، من عیون الأصحاب ، له کتاب الإنصاف فی الإمامة .
2- 2) فرائد الاصول 1 / 106 - 107 .
3- 3) درر الفوائد فی حاشیة الفرائد : 33 .
الدفاع عن الجواب و ذکر وجوه اخری

أقول :

إن کان مراد الشیخ أنّ ابتناء الدین فی اصوله و فروعه علی خبر الواحد باطل ، بل إنّ هذا الدین قائم بالنّبی و الإمام ، فهو بوجوده تام اصولاً و فروعاً قبل خبر الواحد ، فلا غبار علیه .

و یشهد بما ذکرنا قول الشیخ : « لکنْ عرض اختفاؤها من جهة العوارض و إخفاء الظالمین للحق » ، فیکون کلامه نظیر قول المحقق الطوسی : « ... و عدمه منّا » (1) .

و الحاصل : إن الدین تام بنصب النبی و الإمام ، ثمّ وقع التعبّد بالخبر عن النبی و الإمام ، و هذا التعبّد بعد فتح الباب من اللّٰه و إنْ حاول الظالمون سدّ هذا الباب أو الحیلولة دون دخول الناس منه أو الوصول إلیه .

و علی الجملة ، فإن جواب الشیخ تام و لا إشکال فیه .

و یضاف إلی جوابیه :

الجواب الثالث و هو الإشکال فی المماثلة بین الخبر عند اللّٰه و عن المعصوم . فإنّ الخبر عن اللّٰه یکون بالوحی ، و لیس الخبر عن المعصوم کذلک .

و الجواب الرابع : إن دعوی الإجماع فی مثل هذه المسألة غیر مسموعة ، لأنها مسألة عقلیّة .

و الخامس : إن المسألة غیر معنونة فی کتب قدماء الأصحاب .

هذا بالنسبة إلی الوجه الأوّل . و لا یخفی اختصاصه بالخبر .

ص:279


1- 1) شرح التجرید : 490 - 491 .

و أمّا غیره من الوجوه ، فهو متوجّه إلی الخبر و غیر الخبر من الأمارات و الحجج و الاصول و القواعد ، فلا یخفی حینئذٍ أهمیّة هذا البحث و ضرورة الجواب عن الإشکالات ، فالبحث یعم کلّ ما لم یکن علمیّاً ممّا تعبد به الشارع المقدّس ، و لذا نری عنوان البحث فی الکفایة أعم منه فی الرسائل . فالشیخ قال :

فی إمکان التعبد بالظن ، و المحقق الخراسانی قال : فی إمکان التعبّد بالأمارات غیر العلمیّة شرعاً .

الوجه الثانی : لزوم المحذور من ناحیة الملاک

ففی مرحلة الملاک یلزم محذور مهمّ جدّاً ، و قد اختلفت کلمات الأعلام فی تقریب هذا المحذور ، نتعرّض لجملةٍ منها و ننظر فیها :

تقریب الشیخ

و قد قرّبه الشیخ بقوله :

إن العمل به موجب لتحلیل الحرام و تحریم الحلال ، إذ لا یؤمن أنْ یکون ما أخبر بحلیّته حراماً و بالعکس (1) .

و توضیحه :

إنّ الأحکام الشرعیّة - بناءً علی الحق - تابعة للمصالح و المفاسد الواقعیّة ، فنسبتها إلی الملاکات نسبة المعالیل إلی العلل ، فبناءً علی التعبّد بالظن ، یلزم تحلیل الحرام و تحریم الحلال ، و خروج الأحکام عن التبعیّة للملاکات ، و یلزم تفویت المصلحة أو الإلقاء فی المفسدة ، و کلّ ذلک ممتنع علی المولی الحکیم .

ص:280


1- 1) فرائد الاصول 1 / 105 - 106 .
تقریب المیرزا النائینی

و قال المیرزا فی تقریبه ما نصّه :

و أمّا توهّم المحذور من ناحیة الملاک ، فغایة ما یمکن أن یقال فی تقریبه هو : أنّ الأحکام الشرعیّة لا محالة تکون تابعةً لملاکاتها ، نظیر تبعیّة المعالیل لعِلَلها علی ما أوضحنا الحال فی ذلک سابقاً ، و حیث إنّ الأمارة غیر العلمیّة ربما تکون مصیبةً و اخریٰ مخطئةً ، فإذا قامت علی حکمٍ غیر إلزامیّ و فرضنا کون الحکم الواقعی إلزامیّاً وجوبیّاً کان أو تحریمیّاً ، فیلزم من التعبّد بها و جَعْلها حجّةً تفویتُ الملاک الواقعی الملزم ؛ إذ لو لم یکن مُلزماً لما أمکن استتباعه لحکمٍ إلزامیّ ، کما هو واضح ، و مع فرض کونه مُلزماً ، کیف یمکن للشارع تفویته بجَعْل أمارةٍ علی خلافه!؟

و بالجملة ، فرض جَعْل الأمارة حجّةً مع فرض کون الحکم الواقعی إلزامیّاً ناشئاً عن ملاکٍ ملزم ، نقضٌ للغرض ، و هو قبیح بالضرورة ، و إلی هذا یشیر ما نُقل عن الخصم من أنّ التعبّد بالأمارة غیر العلمیّة مستلزم لتحلیل الحرام و هو قبیح ، کما أنّ الأمارة إذا قامت علی حکمٍ إلزامیّ وجوبیّ أو تحریمی و فرضنا الحکم الواقعی غیر إلزامیّ ، یلزم من التعبّد بها و إیجاب العمل علی طبقها ، کون الحکم الإلزامیّ من دون ملاکٍ یقتضیه ؛ إذ المفروض أنّ الفعل الذی أدّیٰ الأمارة إلی وجوبه أو تحریمه عارٍ عن الملاک المُلزم ، فجَعْل الحکم الإلزامی له بجَعْل الأمارة حجّةً ، یستلزم عدم تبعیّة الأحکام للمصالح أو المفاسد ، و هذا غیر معقول ، کما عرفت ، و إلیه یشیر ما نُقل عنه من أنّ التعبّد بالأمارة غیر العلمیّة مستلزم لتحریم الحلال و هو قبیح .

ص:281

و الحاصل : أنّ الأمارة إذا کانت مخالفةً للحکم الواقعی ، یلزم من جَعْلها حجّةً یجب العمل علی طبقها ، إمّا کونُ الحکم الإلزامی مجعولاً من دون ملاک ، و إمّا تفویت الملاک الملزم ، و کلاهما قبیح (1) .

النّظر فی التقریب المذکور

و فی هذا التقریب نظر ، ففی تحریم الحلال بالأمارة لیس المحذور هو الإلقاء فی المفسدة أو تفویت المصلحة ، بل هو جعل الحکم بلا ملاک ، أمّا فی تحلیل الحرام بها ، فهو الإلقاء فی المفسدة من حیث الواقع ، و الحکم بلا ملاک من حیث الحلیّة . و أمّا محذور نقض الغرض ، فإن قوام الغرضیّة هو الإرادة القطعیّة و لابدیّة الوجود ، فإذا تعلّقت هذه الإرادة بالشیء استحال نقضها .

و لا یخفی الفرق بین محذور نقض الغرض و محذور الإلقاء فی المفسدة ، فإنّ الأول لا یکون من أیّ أحدٍ حتی لو لم یکن حکیماً ، و الثانی إنما لا یصدر من الحکیم .

وعلیه ، فإنّ القبیح هو تحلیل الحرام و تحریم الحلال ، و لکنّ نقض الغرض محال ، و بعبارة اخری : المحذور علی تقدیرٍ هو لزوم الامتناع علی الحکیم ، و لزوم الامتناع بقولٍ مطلقٍ علی تقدیر آخر . و قد وقع الخلط بینهما فی کلام المیرزا کما لا یخفی .

تقریب المیرزا الشیرازی

و جاء فی تقریر بحث السیّد المیرزا الشیرازی الکبیر رحمه اللّٰه ما نصّه :

أقول قبل الخوض فی المقام : ینبغی تمهید مقال ، فاعلم :

ص:282


1- 1) أجود التقریرات 3 / 110 - 111 .

إن المراد بالإمکان المتنازع فیه إنما هو الإمکان العام و هو المقابل للامتناع ، إذ النزاع إنما هو مع من یدّعی الامتناع ، فالغرض إنّما هو مجرّد نفی الامتناع الأعمّ من وجوب التعبّد بالظنّ فی بعض الموارد ، و مرجع القولین إلی دعوی حسن التعبّد به و قبحه ، لا إلی قدرة الشارع علی التعبّد به و عدمها ، فیرجع النزاع إلی أنه هل یحسن من الشارع التعبّد به أو یقبح ، کما یظهر من دلیل مدّعی الامتناع ؟

و الظاهر أنّه إنّما یدّعی الامتناع العرضیّ لا الذاتیّ ، کما یظهر من احتجاجه علیه بلزوم تحلیل الحرام و تحریم الحلال ، فإنه ظاهر - بل صریحٍ - فی أنّ القبح التعبّد بالظنّ إنّما هو من جهة استلزامه لذلک المحذور ، لا مطلقاً ، فعلی هذا لا ینفع مدّعی إمکانه إثباته بالنظر إلی ذاته ، بل علیه إمّا دفع ذلک الاستلزام ، أو منع قبح اللّازم .

ثمّ المراد بالتعبّد بالظن هنا ، لیس اعتباره و الحکم بالأخذ به من باب الموضوعیّة ؛ لأنه بهذا المعنی لا یرتاب أحد فی إمکانه ، فإنه - حینئذ - کسائر الأوصاف المأخوذة کذلک ، و هو لا یقصر عن الشکّ من هذه الجهة ، بل إنّما هو اعتباره علی وجه الطریقیة لمتعلّقه ؛ بمعنی جعله حجّة فی مؤدّاه کالعلم و تنزیله منزلته ، بإلغاء احتمال خلافه فی جمیع الآثار العقلیّة للعلم من حیث الطریقیّة .

و بعبارة اخری جعله طریقاً إلی متعلّقه کالعلم الذی هو طریق عقلیّ إلی متعلّقه ، و المعاملة معه معاملة العلم الطریقیّ و ترتیب آثار طریقیّة علیه ، من معذوریّة المکلّف معه فی مخالفة التکلیف الواقعیّ علی تقدیر اتّفاقها بسبب العمل به ، کما إذا کان مؤدّاه نفی التکلیف مع ثبوته فی مورده واقعاً ، فلم یأت المکلّف بذلک المحتمل التکلیف استناداً إلیه ، و من المعلوم معذوریّته و صحّة

ص:283

مؤاخذته و عقابه علیها إذا کان مؤدّاه ثبوت التکلیف ، و کان الواقع ثبوته - أیضاً - و لم یأت المکلّف بذلک الذی قام هو علی التکلیف به .

فیکون هو علی تقدیر اعتباره حجّة قاطعة للعذر فیها بین الشارع و العباد علی الوجه المذکور کالعلم ، و یکون الفرق بینهما مجرّد کون حجّیّة العلم بهذا المعنی بحکم العقل ، و کون حجیته بحکم الشارع و جعله ، فیکون کالعلم قاطعاً لقاعدتی الاشتغال و البراءة العقلیّتین إذا قام علی خلافهما ، فإنّ العقل إنّما یحکم فی الاُولی بلزوم الاحتیاط تحصیلاً للأمن من عقاب مخالفة الواقع بعد ثبوت التکلیف به ، و فی الثانیة بجواز ترکه ؛ نظراً إلی قبح العقاب بلا بیان الذی هو الواقع لاحتمال العقاب ، و کلّ واحد من حکمیه ذینک تعلیقیّ بالنسبة إلی جعل الشارع للظنّ المسبب المشکوک فی الموردین طریقاً و حجّة فی إثباته ، إذ معه یرتفع موضوعا القاعدتین ؛ لأنه بعد اعتباره یکون حجّة فی إثبات التکلیف بمحتمله فی الثانیة ، و بیاناً له فلا یعذر ( معه ) المکلّف فی مخالفته علی تقدیرها و فی کون الواقع هو خصوص مؤدّاه فی الاُولی ، فیعذر المکلف فی مخالفته علی تقدیر کونه مع إتیانه بمؤدّاه ، فمع إتیانه بمؤدّاه - حینئذ - لا یحتمل العقاب علی مخالفة الواقع ؛ حتی یحکم العقل بلزوم تحصیل الأمن منه .

و بالجملة : النزاع فی المقام إنّما هو فی إمکان التعبّد بالظنّ علی ( وجه ) الطریقیة بالمعنی الذی عرفت .

و یظهر ذلک - أیضاً - من احتجاج منکره باستلزامه لتحلیل الحرام و تحریم الحلال ؛ لأنه - علی تقدیر اعتباره من باب الموضوعیّة - لا حرمة واقعاً فیما إذا کان مؤدّاه هو الإباحة ، و لا إباحة فیه إذا کان مؤدّاه هو الحرمة ، و إنّما یبقی الواقع علی

ص:284

حاله التی کان علیها بدونه علی تقدیر اعتباره من باب الطریقیة المحضة .

و من هنا ظهر : أنه لا مجال لردّ المنکر بإمکان التعبّد بالظن علی وجه التصویب ، لأنه معنی اعتباره من باب الموضوعیة ، و لا کلام فیه .

إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّ المعروف هو الإمکان ، و هو الحق الذی ینبغی المصیر إلیه .

لنا : عدم القبح فی التعبّد بالظن علی الوجه المذکور ، حتّی مع تمکّن المکلّف من تحصیل نفس الواقع علی ما هو علیه ؛ لأنّ غایة ما یتصوّر منشأ للقبح أحد امور علی سبیل منع الخلوّ ، و الذی یقتضیه النظر عدم صلاحیّة شیء منها لذلک .

توضیح توهّم قبح التعبّد به : أنه لا ریب فی أنّ الظنّ لیس مصادفاً للواقع دائماً ، و إلّا لم یکن ظنّاً ، فحینئذ إذا تعبّدنا الشارع به و السلوک علی طبقه علی الإطلاق - کما هو المفروض - یلزم فیه فیما إذا خالف الواقع ، أحد امور ثلاثة - لا محالة - إن لم یلزم کلّها :

أحدها : نقض غرضه من التکلیف الواقعی الموجود فی محلّه الذی أدّی هو إلی نفیه و تفویت العمل علی طبقه ، فإنّ الغرض منه : إما إیجاد خصوص الفعل ، فالمفروض تفویته بترخیصه العمل بما أدّی إلی عدمه ، و إما وصول مصلحة إلی المکلّف ، فالمفروض - أیضاً - تفویتها علیه .

و ثانیها : تفویت مصلحة الواقع علی المکلّف ، کما إذا کان الفعل فی الواقع واجباً أو مندوباً ، و أدّی الظنّ إلی إباحته أو کراهته أو حرمته أو إیقاعه فی مفسدة الواقع ، کما إذا کان الفعل واقعاً حراماً ، و أدّی الطریق إلی إباحته أو وجوبه أو

ص:285

استحبابه ، و کلاهما خلاف اللّطف ، فیکونان قبیحین ، و النسبة بینهما و بین الأمر الأوّل هو العموم من وجه ، إذ قد ( لا ) یکون الغرض خصوص إیجاد الفعل ، بل یکون الغرض إیصال المکلّف إلی مصلحته أو صونه عن مفسدته .

و ثالثها : التناقض ، فإنه إذا کان الظنّ مخالفاً للواقع ، فیجتمع فی مورده حکمان متناقضان ، أحدهما : مؤدی الظن ، و الآخر : مؤدّی الخطاب الواقعی ، من غیر فرق فی ذلک بین أن یکون مؤدّی الظنّ هو الوجوب ، مع کون الحکم الواقعی هو الحرمة ، أو العکس ، و بین أن یکون مؤدّاه الإباحة أو الاستحباب ، مع کون الحکم الواقعیّ هو الحرمة ، أو العکس ؛ لأنّ الأحکام الخمسة بأسرها متناقضة ، یمتنع اجتماع اثنین منها فی مورد واحد و لو مع تعدّد الجهة ، کما هو الحال فی المقام ؛ نظراً إلی أنّ الحکم الظاهری فی محلّ الفرض إنما جاء من جهة قیام الظنّ فیه علیه ... (1) .

النظر فی التقریب المذکور

و فی هذا التقریب نظر کذلک ، مع غضّ النظر عمّا فیه من بعض التعبیرات ، کقوله بالتناقض فی الأحکام الخمسة ، إذ الأحکام لیست متناقضة بل هی متضادّة ، و لعلّه - إن کان الکلام منه لا من المقرّر - یرید أنّ کلّ تناقض فإنه یؤول إلی التضادّ .

و وجه النظر هو : أنّه أرجع البحث - بین المثبت لإمکان التعبّد بالأمارة غیر العلمیّة و المنکر له - إلی الحسن و القبح ، فالمدّعی للإمکان یدّعی الحسن و المنکر یدّعی القبح فیه .

فیرد علیه : إن اجتماع النقیضین و الضدّین و المثلین لا ربط له بحکم العقل

ص:286


1- 1) تقریرات بحث المیرزا الشیرازی 3 / 351 - 354 .

العملی ، بل هو من أحکام العقل النظری ، و لیست ممّا تتعلّق به القدرة ، فکیف یُجعل وجه الإنکار أحد الوجوه الثلاثة علی نحو منع الخلوّ ، و مع ذلک یدّعی أن البحث بین الطرفین یدور مدار الحسن و القبح ؟

هذا ، مضافاً إلی تعرّضه لنقض الغرض ، فیرد علیه ما ورد علی المیرزا النائینی .

فظهر :

إنّ المحذور ، أمّا بالنسبة إلی الإلقاء فی المفسدة و تفویت المصلحة من الحکیم ، فهو من أحکام العقل العملی ، و أمّا بالنسبة إلی اجتماع الضدّین أو النقیضین أو المثلین أو نقض الغرض ، فمن أحکام العقل النظری .

و هذا هو الصحیح فی تقریب الإشکال .

و بعد ، فقد اجیب عن الوجه الثانی بوجوه :

جواب المحقق الفشارکی عن الوجه الثانی

فالأول ، ما أفاده السید المحقق الفشارکی و تبعه الشیخ الحائری ، و هو :

إنّ الأوامر الظّاهریّة لیست بأوامر حقیقیة ، بل هی إرشاد إلی ما هو أقرب إلی الواقعیات ، و توضیح ذلک - علی نحو یصح فی صورة انفتاح باب العلم و لا یستلزم تفویت الواقع من دون جهة - أن نقول : إن انسداد باب العلم کما أنه قد یکون عقلیّاً ، کذلک قد یکون شرعیّاً ، بمعنی أنه و إن أمکن للمکلّف تحصیل الواقعیات علی وجه التفصیل ، لکن یری الشارع العالم بالواقعیّات أن فی التزامه بتحصیل الیقین مفسدة ، فیجب بمقتضی الحکمة دفع هذا الالتزام عنه ، ثم بعد دفعه عنه لو أحاله إلی نفسه یعمل بکلّ ظن فعلیّ من أی سبب حصل ، فلو رأی

ص:287

الشارع بعد أن صار مآل أمر المکلّف إلی العمل بالظن ، أن سلوک بعض الطرق أقرب إلی الواقع من بعض آخر ، فلا محذور فی إرشاده إلیه ، فحینئذٍ نقول :

أما اجتماع الضدّین ، فغیر لازم ، لأنه مبنی علی کون الأوامر الطرقیّة حکماً مولویّاً ، و أما الإلقاء فی المفسدة و تفویت المصلحة ، فلیس بمحذور بعد ما دار أمر المکلّف بینه و بین الوقوع فی مفسدة أعظم (1) .

أقول:

و حاصله : إنه قد یلزم من الإلزام بالیقین مفسدة أعظم من التعبّد بالظن ، فیتعبّد الشارع بالظن حتی لا تفوت مصلحة الظنّ ، کما لو یلزم من الإلزام بالعلم و الیقین بالأخذ من الإمام ، مفسدة إراقة الدماء من ناحیة امراء الجور مثلاً ، فحینئذٍ :

لا مناص من التعبّد بالظن و الأخذ بمفاده دفعاً لتلک المفسدة التی هی أعظم .

لکن یرد علیه :

إنه أخصّ من المدّعی ، کأن یفرض البحث فی زمن النّبی صلّی اللّٰه علیه و آله حیث لا مفسدة للإلزام بالعلم و الیقین . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنّ هذا خلاف الضرورة ، إذ لا ریب فی أنه لا یوجد فی الشریعة مورد یکون تحصیل الیقین و العمل به محرّماً بأصل التشریع و بالعنوان الأوّلی .

و ثالثاً : لو فرض وجود المفسدة الأهم فی الإلزام بالیقین فی مورد ، فإنه یکون من صغریات التزاحم فی مرحلة الملاکات ، و حینئذٍ ، ترفع الید عن الحکم المترتب علیه المفسدة العظیمة ، و إنْ کان الملاکان متساویین ، فالحکم هو التخییر .

ص:288


1- 1) درر الفوائد ( 1 - 2 ) 354 - 355 .
جواب المحقق النائینی

و الثانی : ما ذکره المیرزا (1) من أنه لا مفسدة فی التعبّد بالظن ، و لا یلزم تحلیل الحرام و تحریم الحلال .

فالصغری غیر تامّة .

جواب المحقق الخراسانی

و الثالث : إنه علی فرض لزوم ذلک ، فإن مقتضی تقدیم مصلحة التسهیل علی المکلّفین هو عدم الإلزام بالیقین ، و جعل الطرق و الأمارات ، و حینئذٍ ، لا قبح للإلقاء فی المفسدة أو تفویت المصلحة .

و إلی هذا یرجع کلام صاحب الکفایة (2) .

تفصیل الکلام فی الجواب عن الوجه الثانی

أقول :

حاصل الجوابین : إنکار الصغری أو إنکار الکبری بعد التسلیم بالصغری ، و تحقیق المرام فی المقام یکون بالبحث تفصیلاً فی الجهتین ، فنقول :

الجهة الاُولی : فی الصغری

و هی : هل یلزم من التعبّد بالظن تفویت المصلحة و الإلقاء فی المفسدة أوْ لا ؟

و هل یلزم ذلک بناءً علی جعل السببیّة للأمارات ، أو علی جعل الطریقیّة ؟

و بناءً علی القول الثانی ، یطرح البحث تارة : فی صورة انفتاح باب العلم ،

ص:289


1- 1) فوائد الاصول 3 / 190 .
2- 2) کفایة الاصول : 277 .

و اخری : فی صورة الانسداد .

و لا یخفی الفرق بین المحاذیر ، لأنّ تحریم الحلال إشکاله هو عدم التبعیّة للملاک ، إذ لیس فیه إلقاء فی المفسدة و لا تفویت للمصلحة . أمّا تحلیل الحرام ، فالإشکال فیه هو الإلقاء فی المفسدة و هو من المولی قبیح .

أمّا بناءً علی السببیّة

فعلی قول الأشاعرة من أنّ الأحکام الشرعیّة تابعة للأمارات ، و أنّ قیام الأمارة هو تمام الموضوع للملاک ، فلا یوجد فی الواقع ملاک ، فلا یلزم أیّ محذور أصلاً ، لعدم لزوم مفسدة من التعبّد بالظن .

لکن هذا القول باطل ، کما ثبت فی محلّه .

و علی قول المعتزلة ، من أن قیام الأمارة عنوان ثانوی یوجب انقلاب المصلحة أو المفسدة فی العنوان الأوّلی ، فالمحذور غیر لازم کذلک .

لکنّه قول باطل ، لأن قیام الأمارة لیس من العناوین الثانویة الموجبة لتغیّر الحکم کالحرج و الاضطرار ، کما بُیّن فی محلّه .

إنما الإشکال فی ما ذهب إلیه الشیخ ، و هو : الالتزام بوجود المصلحة فی السّلوک علی طبق الأمارة ، فبمقدار الوقوع فی خلاف الواقع من الالتزام بمقتضی الطریق و تفویت المصلحة من ذلک ، یکون التدارک من الشارع بجعل المصلحة فی نفس سلوک الطریق ، و لا یبقی محذور .

هکذا قالوا .

و لکنّ التحقیق ورود المحذور علی هذا المبنی ، لأنّ التدارک لا یرفع القبح ، و لذا لو أتلف الإنسان مالاً لغیره ، ثم أدّی مثله أو قیمته و حصل التدارک للمال

ص:290

المتلف ، کان قبح التصرّف فی مال الغیر باقیاً علی حاله حتی لو لم یفوّت بذلک غرضاً من أغراضه .

و علی الجملة ، فإنّ التدارک مثبت و محقّق لموضوع القبح و لیس رافعاً له عند العقل ، إلّا أن یقال بأنّ موضوع الحکم بالقبح هو المصلحة غیر المتدارکة ، فیرتفع الإشکال فی ناحیة المصلحة و لکنّه یبقی فی ناحیة المفسدة .

و لکنّ المبنی من أصله باطلٌ ، کما تقرّر فی محلّه .

هذا کلّه بناءً علی السببیّة .

و أمّا بناءً علی الطریقیّة

بمعنی أن الشارع یجعل الطریق ، فإنْ أدّی إلی الواقع فهو ، و إلّا فالمکلّف معذور من قبله .

فیقع البحث بین الأعاظم قدّس اللّٰه أسرارهم تارةً : فی ظرف الانسداد ، و اخری : فی ظرف الانفتاح .

أمّا فی ظرف الانسداد

بأن یجعل الشارع طریقاً یلزم منه الإلقاء فی المفسدة أو تفویت المصلحة أو تفویت مصلحة الترخیص فی المباح ، فنقول :

إنْ لزم تفویت مصلحة الترخیص ، فالمفروض عدم لزوم الاحتیاط ، لاستلزامه اختلال النظام ، و یکون المرجع حینئذٍ قاعدة قبح العقاب بلا بیان ، و لا یلزم تفویت المصلحة .

و أمّا تفویت مصلحة الواجب و الإلقاء فی المفسدة ، فکذلک ، لأن الشارع لمّا لم یجعل الاحتیاط ، فالمرجع هو القاعدة المذکورة .

ص:291

فلا محذور فی ظرف الانسداد .

و تفصیل ذلک :

أمّا فی تحریم الحلال عند الانسداد ، فإنّ منشأ الحلیّة تارة : هو اللّااقتضاء ، و تحریم هکذا حلال لا إشکال فیه ، لا بالنسبة إلی المتعلّق و لا بالنسبة إلی الحکم ، فإنه لا مانع من أنْ یمنع عن جائزٍ ، من أجل التحفّظ علی الواقع . و اخری : هو الاقتضاء ، أی المصلحة فی الترخیص ، فهنا أیضاً لا یلزم الإشکال من جهة الإلقاء فی المفسدة بالنسبة إلی المتعلّق أو تفویت مصلحته .

و یبقی فقط الإشکال بلزوم تفویت المصلحة الخاصة القائمة فی الترخیص علی أثر جعل الأمارة . و سیأتی حلّ هذا الإشکال .

و أمّا فی تحلیل الحرام ، بأنْ یلزم من جعل الأمارة الإلقاء فی المفسدة و فوت المصلحة الملزمة ، فللإشکال جهتان :

الاولی : من جهة نفس المتعلّق ، فإنه فی ظرف الانسداد إنْ جعل الشارع الطریقیّة لخبر الثقة مثلاً و قام علی إباحة حرامٍ ، یلزم الإلقاء فی مفسدة الحرام من ناحیة هذا الجعل ، و إن قام علی إباحة واجب ، لزم تفویت مصلحة الواقع .

و الثانیة : من جهة أن إیجاب الواجب و تحریم الحرام الواقعی ، لا یکون بلا غرضٍ ، و هذا الغرض ینتقض علی أثر جعل الإمارة .

و الجواب عن الإشکال فی الجهة الاولی - و کذا الإشکال الباقی فی تحریم الحلال - هو :

أنّ المرجع فی مفروض الکلام لیس إلّا البراءة العقلیّة ، فلو لم یجعل الشارع الحجیّة للطرق ، کانت البراءة هی السبب لوقوع المکلّف فی المفسدة أو تفویت

ص:292

المصلحة ، و القبیح بحکم العقل هو إیقاع الشارع المکلّف فی المفسدة ، أمّا المکلّف فهو واقع فیها علی کلّ حالٍ ، و الإلقاء غیر منتسب إلی الشارع ، و یکفی لرجحان جعل الأمارة أن یکون الوقوع فی المفسدة أو تفویت المصلحة أقلّ ، فلم یتحقّق من الشارع قبیح ، بل الصّادر منه لیس إلّا الخیر .

نعم ، لو کانت الوظیفة فی ظرف الانسداد هو الاحتیاط عقلاً ، کان جعل الأمارة من الشارع قبیحاً .

و أمّا فی ظرف الانفتاح

و هو العمدة ، فلحلّ المشکل طریقان :

أحدهما : إنّه لا إلقاء فی المفسدة . قاله المیرزا .

و الثانی : إنّ الإلقاء فی المفسدة لیس قبیحاً ذاتاً . قاله صاحب الکفایة .

أمّا أنه لیس فی المورد إلقاء فی المفسدة ، و هو إنکار الصغری ، کما ذکرنا من قبل فتوضیحه :

إن فی جعل الطرق و الأمارات مصلحةً نوعیّة ، هی مصلحة التسهیل ، و هذه المصلحة قد تتقدّم فی نظر الشارع علی الملاکات الواقعیّة ، و لا یری العقل فی ذلک قبحاً ، و من ذلک : حکم الشارع بطهارة الحدید تسهیلاً علی العباد لابتلائهم غالباً باستعماله فی شئونهم المختلفة ، و إلّا فالنصوص المعتبرة دالّة علی نجاسته، فکما لا یکون الحکم بالطّهارة هناک إلقاءً فی المفسدة أو تفویتاً لمصلحةٍ حتی یحکم العقل بالقبح ، کذلک الحال فی التعبّد بالأمارات بناءً علی الطریقیّة ، و من هذا الباب : إرجاع الأئمة علیهم السلام فی زمن حضورهم إلی بعض الأصحاب ، کإرجاع الإمام الرضا علیه السّلام عبد العزیز بن المهتدی إلی یونس بن

ص:293

عبد الرحمان ، مع کون باب العلم - و خاصّةً الواقعی - بالرجوع إلی الإمام ممکناً ، لکنّه أرجعه إلی یونس تسهیلاً له ، لأنّه قال : « إنّ شقّتی بعیدة فلست أصل إلیک فی کلّ وقت » (1) .

و أمّا أنّ الإلقاء فی المفسدة لیس من القبیح الذاتی ، و هذه هی :

الجهة الثانیة : فی الکبری

فتقریب ذلک هو :

إنه لیس للشارع فی موارد الأمارات و الطّرق جعلٌ تأسیسی ، بل إنه إمضاء للسّیرة العقلائیة ، لأنّ العقلاء یرون الطریقیّة للأمارات إلی الواقع و یرتّبون الأثر علیها ، و لم یرد من الشارع ردعٌ عن هذه السیرة ، فلو کان لا یرضی بترتیب الأثر علیها لردع عنها الرّدع القویّ کما فعل بالنسبة إلی القیاس ، إذ ورد عنه فی النهی عن القیاس مئات الأخبار بالألسنة المختلفة ، لوجود المفسدة العظیمة فی الأخذ به فی الدین ، و حیث أنه لا مفسدة فی العمل طبق الأمارات ، و لو کانت فهی مندکّة فی مصلحة التسهیل ، مضافاً إلی کونها فی الأغلب مطابقةً للواقع و تخلّفها عنه قلیل جدّاً ، فإنه لا محالة یکون الرّدع عن ترتیب الأثر علیها بلا ملاک ، کما لا یمکن الرّدع فی صورة عدم إمکان الوصول إلی الواقع ، لأنه ینافی مصلحة التسهیل .

مناقشة ما ذکر فی الجهتین

و لکنْ فی ما ذکر فی کلتا الجهتین نظر .

أمّا ما ذکر فی جهة الصغری ، فإنّ الملاک لنجاسة الحدید قد اندکّ فی مصلحة التسهیل علی أثر المزاحمة معها ، فکان الحکم الفعلی للحدید هو

ص:294


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 148 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 35 .

الطهارة ، لکنّ غلبة المصلحة المذکورة فی موارد مخالفة الطّرق للواقع علی ملاکات الأحکام الواقعیّة ، تستلزم تقیید إطلاق أدلّة تلک الأحکام ، و ذلک یستلزم التصویب ، فما ذکره الأعلام فی دفع شبهة ابن قبة یوقعهم فی إشکالٍ أقوی و آکد .

و أمّا ما ذکر فی جهة الکبری ، فإنه و إنْ کان تامّاً من النّاحیة الکبرویّة ، لکنّ هذا التقریب یتوقف علی کفایة عدم الردع للإمضاء الکاشف عن الرضا ، و هو أوّل الکلام .

ثم إنّ موضوع الاعتبار هو الطریق العقلائی مع عدم الردع الکاشف عن الرضا و الإمضاء ، و إمضاء الطریق العقلائی یکون بالاعتبار المماثل من الشارع ، بأن یجعل الشارع الطریقیّة للطریق کما هو عند العقلاء ، و إذا تمّ هذا الإمضاء و الجعل ، لزم وقوع التزاحم بین مصلحة هذا الإمضاء و مصلحة الواقع الملزم للأحکام الشرعیة ، و یعود الإشکال .

مضافاً إلی أنّ الالتزام بعدم القبح فی تفویت مصلحة الواقع و الإلقاء فی المفسدة - لعدم التمکّن من التحفّظ علی الأغراض و الملاکات فی متعلّقات الأحکام - ینتهی إلی نحوٍ من التصویب .

حلّ المشکلة

لکنّ المشکلة تنحلّ بنفی لزوم التزاحم من أصله ، بأن نقول :

إن تحقق التزاحم بین الملاکات و الأغراض ، فرع کونها فی العَرض ، لأن التزاحم هو التمانع - فإنْ کان بین الملاکات اصطلح علیه بالتزاحم ، و إن کان بین الحجج و الأدلّة اصطلح علیه بالتعارض - و التمانع إنما هو إذا کان الطرفان فی مرتبةٍ واحدة ، و مصلحة التسهیل لیست مع مصلحة الواقع فی مرتبةٍ واحدة ، لأنّ الطریق

ص:295

دائماً متقوّم بذی الطریق - و لیس ذو الطریق متقوماً بالطریق - و لذا ورد الإشکال علی الأشاعرة باستلزام ما ذهبوا إلیه للدور ، لأنّ الأمارة فرع لذی الأمارة ، فإن کان ذو الأمارة فرعاً لها لزم الدور .

وعلیه ، فإن مصلحة التسهیل قائمة بالطریق ، و الطریق قائم بذی الطریق و هو الواقع ، فکانت مصلحة التسهیل فی طول الواقع لا فی عرضه ، فلا تمانع ، فلا یلزم الإلقاء فی المفسدة و لا یلزم التصویب .

نعم ، یتحقّق التمانع فیما إذا کان غرضیّة الغرض یستدعی جعل الاحتیاط بالإضافة إلی الحکم المجعول ، فیکون مصلحة جعل الاحتیاط فی مرتبة مصلحة التسهیل و یقع التزاحم ، لکنّ هذا أمر آخر .

فشبهة ابن قبة مندفعة و الحمد للّٰه .

الوجه الثالث : لزوم المحذور من ناحیة الخطاب

و قد جمعوا تحت هذا العنوان لزوم المحذور فی ثلاثة مراحل :

1 - مرحلة الإرادة و الکراهة ، کما لو کان الحاکم مریداً للفعل ، فکان الحکم الواقعی هو الوجوب ، فهل یجوز التعبّد بالأمارة القائمة علی الحرمة ؟ أ لا یلزم الإرادة و الکراهة فی نفس الحاکم ؟

2 - مرحلة الحکم ، کما لو کان الحکم الواقعی هو الوجوب ، فقامت الأمارة علی الترخیص فیه ، فکیف یجتمع الترخیص و عدم الترخیص فی الشیء ؟

3 - مرحلة الامتثال ، فلو کان الحکم الواقعی هو الوجوب ، فیقتضی الإتیان بالعمل ، ثم قامت الأمارة الدالّة علی الحرمة ، و تقتضی الترک ، فکیف یجتمع الفعل و الترک ؟ و هذه مشکلة :

ص:296

الجمع بین الحکم الواقعی و الحکم الظّاهری

و تقریرها بإیجاز هو : إنّ الأحکام الخمسة متضادّة ، فإذا کان الحکم الواقعی هو الوجوب و قامت الأمارة علی طبقه ، لزم اجتماع المثلین ، أو علی نفی الوجوب ، لزم اجتماع النقیضین ، أو علی الحرمة ، لزم اجتماع الضدّین ، و هذا هو المحذور الخطابی .

و قد حاول المحقّقون الأعلام حلّ هذه المشکلة و رفع المحذور بجمیع جهاته ، بالجمع بین الحکمین ، و ذکروا لذلک عدّة طرق :

طریق الشیخ

قد ذکر الشیخ رحمه اللّٰه الإشکال بقوله :

إذا فرضنا الشیء فی الواقع واجباً و قامت أمارة علی تحریمه ، فإن لم یحرم ذلک الفعل ، لم یجب العمل بالأمارة ، و إنْ حرم ، فإنْ بقی الوجوب لزم اجتماع الحکمین المتضادّین ، و إنْ انتفی ثبت انتفاء الحکم الواقعی .

ثم أجاب عن ذلک قائلاً :

أنّ المراد بالحکم الواقعیّ الذی یلزم بقاؤه ، هو الحکم المتعیّن المتعلّق بالعباد الذی یحکی عنه الأمارة و یتعلّق به العلمُ أو الظنّ و أُمر السفراء بتبلیغه ، و إن لم یلزم امتثاله فعلاً فی حقّ من قامت عنده أمارةٌ علی خلافه ، إلّا أنّه یکفی فی کونه حکمه الواقعی : أنّه لا یعذر فیه إذا کان عالماً به أو جاهلاً مقصّراً ، و الرخصة

ص:297

فی ترکه عقلاً کما فی الجاهل القاصر ، أو شرعاً کمن قامت عنده أمارةٌ معتبرة علی خلافه .

و مما ذکرنا یظهر حال الأمارة علی الموضوعات الخارجیّة ؛ فإنّها من هذا القسم الثالث .

و الحاصل : أنّ المراد بالحکم الواقعی ، هی : مدلولات الخطابات الواقعیّة الغیر المقیّدة بعلم المکلّفین و لا بعدم قیام الأمارة علی خلافها ، و لها آثارٌ عقلیّة و شرعیّة تترتّب علیها عند العلم بها أو قیام أمارةٍ حکم الشارع بوجوب البناء علی کون مؤدّاها هو الواقع ، نعم هذه لیست أحکاماً فعلیّة بمجرّد وجودها الواقعی .

و تلخّص من جمیع ما ذکرنا : أنّ ما ذکره ابنُ قبة - من استحالة التعبّد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة الغیر العلمیّة - ممنوع علی إطلاقه ، و إنّما یقبح إذا ورد التعبّد علی بعض الوجوه ، کما تقدّم تفصیل ذلک (1) .

مناقشة هذا الطریق

و قد وقع النظر فی کلامه قدّس سرّه من جهات :

أمّا قوله : إنّ المراد بالحکم الواقعی ... .

فهو حق ، لکنّه خارج عن محلّ البحث .

و أمّا قوله : و الرّخصة فی ترکه عقلاً کما فی الجاهل القاصر أو شرعاً کمن قامت عنده أمارة معتبرة علی خلافه .

ففیه : إنّ الرخصة الشرعیّة حکم من الأحکام الخمسة التکلیفیّة ، فهی بحاجة إلی جعل ، و أین الدلیل علی جعل الرخصة مع وجود الأمارة

ص:298


1- 1) فرائد الاصول 1 / 122 - 123 .

علی الخلاف ؟

و أیضاً : إنه إذا قامت الأمارة علی الرخصة مع کون الحکم الواقعی هو الوجوب ، فمع القول بالتضادّ بین الأحکام أنفسها ، یعود الإشکال ، و أمّا علی القول بعدمها فیها ، یقع التضادّ فی مرحلة الإرادة .

و أمّا قوله : و الحاصل ... .

ففیه : إنّ الحکم إنما هو الاعتبار الشّرعی ، غیر أن المعتَبر من الشارع إنْ کان من حیث الاقتضاء و الترخیص ، فهو حکم تکلیفی ، و إلّا فوضعی ، و الحکم التکلیفی تارةً : تکلیفی من الأوّل ، و اخری : هو حکم تکلیفی یستتبعه الحکم الوضعی ، کما فی باب الضمان . و أیضاً : فإنّ الحکم الشرعی قد یترتّب علیه أثر شرعی و قد لا یترتب ، مثلاً : إنّ اعتبار النجاسة أثره شرعاً نجاسة الملاقی له ، و اعتبار صحّة البیع یترتّب علیه شرعاً وجوب تسلیم العوضین .

و أمّا الأثر العقلی المترتّب علی الحکم الشرعی ، فهو وجوب الإطاعة و حرمة المعصیة .

لکنّ الآثار العقلیّة تدور مدار العلم و الأمارة ، أمّا الآثار الشرعیة فهی تابعة للواقع ، سواء کان هناک علم أو أمارة أوْ لم یکن .

و أمّا قوله : حکم الشارع بوجوب البناء علی کون مؤدّاها هو الواقع .

ففیه : إنّ أدلّة اعتبار الأمارات غیر العلمیّة - و عمدتها هو خبر الثقة فی الأحکام ، و البیّنة فی الموضوعات الخارجیّة و کذا خبر الثقة بناءً علی حجیّته فیها - إنّما هی إمضاء للسّیرة العقلائیّة فیها ، و أین « وجوب البناء علی کون مؤدّاها هو الواقع » فی السیرة العقلائیة ؟

ص:299

و لو کان نظر الشیخ فی هذا الکلام إلی قوله علیه السّلام : « فما أدّیا عنّی فعنّی یؤدّیان » (1) ، فإن هذه الروایة بعد تسلیم دلالتها علی حجیّة خبر الثقة ، ظاهرة فی جعل المؤدّی لا وجوب البناء علی کون مؤدّاها هو الواقع .

و أمّا قوله : نعم ، هذه لیست أحکاماً فعلیّةً بمجرّد وجودها الواقعی .

ففیه : أنّ الظاهر أن مراده من الفعلیّة - کما ذکر عند بیان السببیّة علی مسلک المعتزلة - هو ما یقابل الشأنیّة ، فیرید أنّ الأحکام الواقعیة تصیر فعلیّة بقیام الأمارة علیها ، لکنّ هذا هو تصویب المعتزلی الذی ثبت بطلانه بالضرورة .

و إنْ أراد من « الفعلیة » معنیً آخر غیر ما ذکر ، کأنْ یکون المراد منها « وجوب الامتثال » : أی إن الأحکام الواقعیّة ما لم تقم علیها الأمارة لا یجب فیها الامتثال ، وقع الإشکال فی مرحلة الإرادة .

فظهر : أن طریق الشیخ قدّس سرّه لا یحلّ المشکلة .

طریق آخر للشیخ ذکره المیرزا

قال : و هو منقول عن جماعة اخری أیضاً ، و هو :

اختلاف موضوعی الحکم الظاهری و الواقعی ؛ فإنّ موضوع الأوّل منهما هو الشیء بعنوان کونه مشکوکاً ، و هذا بخلاف موضوع الحکم الواقعی ؛ فإنّ موضوعه نفس الفعل و ذاته ، و اشتراط وحدة الموضوع فی التضادّ - کما فی التناقض - ربما یکون من الواضحات (2) .

ص:300


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 138 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 4 .
2- 2) أجود التقریرات 3 / 124 .
الإشکال علیه

ثم أشکل علیه بقوله : و فیه :

أوّلاً : أنّ هذا الجواب علی تقدیر تمامیّته إنّما یختصّ بخصوص موارد الاُصول من جهة أخذ الشکّ فی موضوعها ، و أمّا الأمارات فموضوعها نفس الفعل من غیر تقیید بالجهل بالحکم الواقعی ، و کونها حجّةً حال الجهل غیر أخذ الجهل فی موضوعها ، و إلّا لما بقی فرق بین الأمارة و الأصل ، و لا یکون لها حکومة علیه ، کما هو ظاهر .

و ثانیاً : أنّ الأحکام الواقعیّة و إن کانت ثابتةً لنفس الأفعال من دون تقییدها بحال الجهل ، إلّا أنّها لا تخلو فی نفس الأمر من اختصاصها بخصوص العالمین من باب نتیجة التقیید أو ثبوتها للجاهلین أیضاً بنتیجة الإطلاق ، و حیث أنّ الأوّل منهما مستلزم للتصویب المجمع علی بطلانه ، فلا محالة یتعیّن الثانی ، و یلزم منه کون الجاهل محکوماً بحکمین متضادّین (1) .

النظر فیه

أقول :

إنّ الذی أفاده الشّیخ فی باب التعادل و التراجیح هو أنه : لا تعارض بین الاصول و الأمارات ، لأن موضوع الأصل عبارة عن الشکّ فی الواقع ، فالدلیل الاجتهادی و هو الأمارة لا یعارضه الأصل ، فالشک غیر مأخوذ فی موضوع الأمارة .

فما نسبه إلیه المیرزا غیر واضح .

نعم ، المستفاد من کلام الشیخ عدم حصول الإشکال من جعل الأصل فی

ص:301


1- 1) أجود التقریرات 3 / 124 .

قبال الحکم الواقعی ، لأن الموضوع هناک نفس الواقع لا الشک ، و موضوع الأصل عبارة عن الشک ، فلا یلزم الاجتماع أصلاً . أمّا فی الأمارة ، فلا یوجد فی کلام الشیخ ما یفید أخذ الشک فی موضوعها ، حتی یکون الجمع بین الحکمین بتعدّد الموضوع .

فما أورده علیه المیرزا من أنّ الجهل مأخوذ فی موضوع الأصل دون الأمارة ، فی غیر محلّه .

نعم ، ما أشکل به علیه ثانیاً - بناءً علی صحّة ما نسبه إلیه - صحیح ، و هو أنّ اختلاف الموضوع لا یحلّ المشکل ، لأنه إنْ قلنا بإطلاق الأحکام بالإضافة إلی العلم و الجهل ، فالأدلّة موجودة فی ظرف الجهل و الاشکال لازم ، و إن قلنا بالعدم ، فالإهمال الثبوتی محال ، فإمّا التقیید بنتیجة التقیید بصورة عدم الجهل ، و هذا یستلزم التصویب ، فبقی الإطلاق بنتیجة الإطلاق فیعمّ صورة الجهل و یلزم الإشکال کذلک .

طریق المحقق الخراسانی

و أجاب المحقق الخراسانی عن الإشکال فی کتاب الکفایة و فی حاشیته علی الرّسائل ، و قد اشترک الجوابان فی بعض الجهات و افترقا فی البعض الآخر ، و نحن نذکر کلا الجوابین :

فی حاشیة الرسائل

أمّا فی حاشیة الرسائل فقال :

التحقیق فی الجواب أنْ یقال : إنها بین ما لا یلزم و ما لیس بمحال ، و لنمهّد لذلک مقدمةً :

ص:302

فاعلم أن الحکم بعد ما لم یکن شیئاً مذکوراً ، یکون له مراتب من الوجود :

أوّلها : أن یکون له شأنه من دون أن یکون بالفعل بموجود أصلاً .

ثانیها : أن یکون له وجود إنشاء من دون أن یکون له بعثاً و زجراً و ترخیصاً فعلاً .

ثالثها : أن کون له ذلک مع کونه کان فعلاً من دون أن یکون منجزاً بحیث یعاقب علیه .

رابعها : أن یکون له ذلک کالسّابقة مع تنجّزه فعلاً ، و ذلک لوضوح إمکان اجتماع المقتضی لإنشائه و جعله مع وجود مانع أو فقد شرط ، کما لا یبعد أن یکون کذلک قبل بعثته و اجتماع العلّة التامة له ، مع وجود المانع من أن ینقدح فی نفسه البعث أو الزّجر ، لعدم استعداد الأنام لذلک ، کما فی صدر الإسلام بالنّسبة إلی غالب الأحکام .

و لا یخفی أن التضادّ بین الأحکام إنما هو فی ما إذا صارت فعلیّة و وصلت إلی المرتبة الثالثة ، و لا تضادّ بینها فی المرتبة الاولی و الثانیة ، بمعنی أنه لا یزاحم إنشاء الإیجاب لاحقاً بإنشاء التّحریم سابقا أو فی زمان واحد بسببین ، کالکتابة و اللفظ أو الإشارة .

و من هنا ظهر أنّ اجتماع إنشاء الإیجاب أو التحریم مرّتین بلفظین متلاحقین أو بغیرهما ، لیس من اجتماع المثلین ، و إنما یکون منه إذا اجتمع فردان من المرتبة الثالثة و ما بعدها ، کما لا یخفی .

إذا عرفت ما مهّدنا فنقول :

أمّا الإشکال بلزوم اجتماع المثلین فیما إذا أصابت الأمارة ، فإن ارید منه

ص:303

اجتماع الإنشاءین للإیجاب أو التحریم ، فهو لیس بمحال ، و إن ارید اجتماع البعثین ، فهو غیر لازم ، بل یوجب إصابتها أن یصیر إنشاء الإیجاب أو التحریم واقعاً بعثاً و زجراً فعلیّین .

و منه یظهر حال الإشکال بلزوم اجتماع الضدّین فیما إذا أخطات ، حیث أن الاجتماع المحال غیر لازم ، و اللّازم لیس بمحال ، إذ البعث أو الزّجر الفعلی لیس إلّا بما أدّت إلیه لا بما أخطأت عنه من الحکم الواقعی ، و لا تضادّ إلّا بین البعث و الزّجر الفعلیّین .

فإن قلت : لا محیص إمّا من لزوم الاجتماع المحال أو لزوم التّصویب الباطل بالإجماع ، إذ لا یرتفع غائلة الاجتماع إلّا إذا لم یکن فی الواقع بعث و زجر ، و معه لا حقیقة و لا واقعیّة للحکم .

قلت : التّصویب الّذی قام علی بطلانه الإجماع بل تواترت علی خلافه الرّوایات ، إنما هو بمعنی أنْ لا یکون له تعالی فی الوقائع حکم مجعول أصلاً یتتبع عنه و یشترک فیه العالم و الجاهل و من قامت الأمارة عنده علی وفاقه و علی خلافه ، بل حکمه تعالی یتبع الآراء أو کان متعدّدا حسبما یعلم تبارک و تعالی من عدد الآراء ، و کما یکون بالإجماع بل الضّرورة من المذهب فی کلّ واقعة حکم یشترک فیه الامّة لا یختلف باختلاف الآراء ، کذلک یمکن دعوی الإجماع بل الضّرورة علی عدم کونه فعلیّاً بالنّسبة إلی کلّ من یشترک فیه ، بمعنی أن یکون بالفعل بعثاً أو زجراً و ترخیصاً ، بل یختلف بحسب الأزمان و الأحوال ، فربّما بصیر کذلک فی حق واحد فی زمان أو حال دون آخر ، کما أنه بالبداهة کذلک فی المرتبة الرابعة .

ص:304

و بالجملة ، المسلّم أنه بحسب المرتبتین الأولیّین لا یختلف حسب اختلاف الآراء و الأزمان و غیرهما ، دون المرتبتین الأخیرتین ، فیختلف حسب اختلاف الآراء و غیرها .

إن قلت : إذا کان الحکم الواقعی الذی یقول به أهل الصّواب بهذا المعنی ، فإذا علم به بحکم العقل من باب الملازمة بین الحکم الشرعی و حکمه بحسن شیء أو قبحه لا یجب اتباعه ، ضرورة عدم لزوم اتباع الخطاب بتحریم أو إیجاب ما لم یصل إلی حدّ الزّجر و البعث الفعلیّین ، بل و کذا الحال فی العلم به من غیر هذا الباب .

قلت : مضافاً إلی أنّ العلم به مطلقاً لو خلّی و نفسه یوجب بلوغه إلی حدّ الفعلیّة ، إنه إنما یکون ذلک لو کان طرف الملازمة المدّعاة بین الحکمین هو الحکم الشّرعی بهذا المعنی ، فلا ضیر فی القول بعدم لزوم الاتباع ، و ذلک کما لو منع مانع من اتباع العلم الناشی من العقل ، کما یظهر ممّا نقله قدّس سرّه من السیّد الصّدر فی تنبیهات القطع ، و لا ینافی ذلک ما أوضحنا برهانه و شیّدنا بنیانه من لزوم اتباع القطع بالحکم الشّرعی علی نحو الفعلیّة التامة ، فإنه فی القطع بالحکم الفعلی کما أشرنا إلیه فی توجیه کلام الأخباریّین ، لا ما لو کان الطرف هو الحکم الفعلی الشّرعی ، بأن یدّعی أنّ استقلال العقل بحسن شیء أو قبحه فعلاً ، یستلزم الحکم الشّرعیّ به کذلک. نعم ، لو لم یستقل إلّا علی جهة حسن أو قبح لا حسنه أو قبحه مطلقاً ، لم یستکشف به إلّا حکماً ذاتیاً اقتضائیاً یمکن أن یکون حکمه الفعلی علی خلافه ، لمزاحمة تلک الجهة بما هو أقوی منها . فتفطنّ .

و أمّا حدیث لزوم اتصاف الفعل بالمحبوبیّة و المبغوضیّة ، و کونه ذا مصلحة

ص:305

و مفسدة - من دون وقوع الکسر و الانکسار بینهما ، فیما إذا أدّت الأمارة إلی حرمة واجب أو وجوب حرام - فلا أصل له أصلاً ، و إنما یلزم لو کانت الأحکام مطلقاً و لو کانت ظاهریّة ، تابعة للمصالح و المفاسد فی المأمور بها و المنهیّ عنها ، و أمّا إذا لم یکن کذلک ، بل کانت تابعة للمصالح فی أنفسها و الحکم فی تشریعها ، سواء کانت کلّها کذلک أو خصوص الأحکام الظاهریّة منها ، فلا ، کما لا یخفی ، و لیست قضیّة قواعد العدلیة ، إلّا أنّ تشریع الأحکام إنما هو لأجل الحکم و المصالح التی قضت بتشریعها ، بخلاف ما علیه الأشاعرة .

مع أنه لو کانت الأحکام مطلقاً تابعة للمصالح و المفاسد فی المأمور بها و المنهیّ عنها ، فذلک غیر لازم أیضاً ، فإن الکسر و الانکسار إنما یکون لا بدّ منه بین الجهات مطلقاً فی مقام تأثیرها الأحکام الفعلیّة لا فی مجرّد الإنشاء ، و قد عرفت أن الحکم الواقعی فیما أخطأت الأمارة لیس یتحقق إلّا بالوجوب الإنشائی ، فیکون الجهة الواقعیة التی یکون فی الواقعة مقتضیةً لإنشاء حکم لها من إیجاب أو تحریم أو غیرهما ، فینشئ علی وفقها من دون أن یصیر فعلیّاً إلّا بامور ، منها : عدم قیام أمارة معتبرة علی خلافه المحدث فیها جهة اخری غالبة علی تلک الجهة ، یکون موجبة لحکم آخر فیها بالفعل ، فالکسر و الانکسار إنّما یقع بین الجهات فیما أدّت إلیه الأمارة من الحکم فی صورة الخطاء ، لکونه حکماً فعلیّاً ، لا فی الحکم الواقعی الّذی أخطأت عنه الأمارة ، بل إنّما هو إنشاء بمجرّد ما فی الواقعة بما هی من الجهة الواقعیّة ، کما هو الحال فی جمیع الأحکام الذّاتیّة الاقتضائیّة المجعولة للأشیاء بما هی علیها من العناوین الأوّلیّة ، و إن کانت أحکامها الفعلیّة بسبب ما طرأت علیها من العناوین الثّانویّة علی خلافها .

ص:306

و من هنا ظهر أنّ المحبوبیّة أو المبغوضیّة تابعة لغالب الجهات کالحکم الفعلی ، فلا یلزم أن یکون الفعل الواحد محبوباً و مبغوضاً بالفعل .

و قد ظهر ممّا ذکرنا هاهنا ما به یذبّ عن إشکال التّفویت و الإلقاء ، لأنّهما لا یلزمان من إباحة الواجب أو الحرام ، لإمکان أن یکون الإیجاب أو التّحریم واقعاً عن الحکم فی التّشریع ، لا عن مصلحة فی الواجب أو عن المفسدة فی الحرام ، مع إمکان منع أن یکون تلک الجهة الموجبة لتشریع الوجوب أو التحریم لازم الاستیفاء أو لازم التحرّز کی یلزم ذلک .

هذا ، مع أنّه لو سلّم کونها لازم الاستیفاء ، لا یکون تشریع التّرخیص و الإباحة ظاهراً للمفوّت له قبیحاً مطلقاً ، بل إذا لم یکن عن مصلحة و حکمة کائنة فیه و راجحة علی ما فیه من جهة القبح ، و من المعلوم أنّ الفعل لا یکون قبیحاً أو حسناً فعلاً بمجرّد أن یکون فیه جهة قبح أو حسن ، بل إذا لم یکن مزاحمة بما یساویها أو أقوی کما لا یخفی .

هذا کلّه إذا کانت الأحکام الظّاهریّة لمصالح فی تشریعها لا لمصالح فی سلوکها . و أمّا بناء علی ذلک ، فالمصلحة المفوّتة علیه أو المفسدة الملقی فیها ، متدارکة بمصلحة سلوک الأمارة ، و معه لا قبح فی التّفویت و الإلقاء کما لا یخفی ، حیث أنّهما کلا تفویت و لا إلقاء .

فتلخّص من جمیع ما ذکرنا ، أنه لا یلزمُ التّصویب من الالتزام بجعل الأحکام و إنشائها للأفعال بما هی علیها من العناوین ، و قد جعل علیها أمارات تخطئ عنها تارة و تصیب اخری ، و لا اجتماع المثلین فی صورة الإصابة ، لعدم لزوم البعثین أو الزّجرین ، بل یصیر الحکم الواقعی فعلیّاً بسبب إصابتها ، و لا

ص:307

اجتماع الضّدّین فی صورة الخطاء ، لعدم اجتماع البعث و الزّجر الفعلیّین ، بل لیس البعث أو الزّجر الفعلی إلّا فی مؤدّی الأمارة ، و لا التّفویت و الإلقاء القبیحین ، إمّا لأجل التّدارک بمصلحة السّلوک ، و إمّا لعدم کون المصلحة أم المفسدة الواقعیّة لازم الاستیفاء و التحرّز ، أو لأجل کون الفعل الموجب لهما مشتملاً علی ما هو أقوی و أرجح من جهات الحُسن من هذه الجهة المقبّحة لو سلّم .

ثُمّ لا یخفی إنّه قد ظهر من مطاوی ما ذکر أنّ التّضاد و التّماثل المانعین عن اجتماع الحکمین ، إنّما هو فی المرتبتین الأخیرتین مطلقاً ، سواء کانا واقعیّین أو ظاهریّین أو مختلفین ، فلو بلغ حکم إلیهما واقعاً فی موضوع ، لم یمکن أن یحکم علیه فعلاً و لو ظاهراً بحکم آخر مطلقاً و لو کان مثله ، هذا إن لم یعلم به أصلاً فضلاً عمّا إذا علم به تفصیلاً أو إجمالاً .

فما ذکرناه سابقاً من التّفاوت بین العلمین ، و أن مرتبة الحکم الظّاهری محفوظة مع الإجمالی دون التّفصیلی ، إنّما هو فی المعلوم فی غیر هاتین المرتبتین ، حیث أنّه لا یکون مع التّفصیلی مرتبة غیر مرتبة الحکم الواقعیّ ، فلا معنی لجعل حکم آخر إلّا بعد نسخه و رفع الید عنه بالمرّة ، إذ لا یمکن أن یکون فی فعل واحد من شخص واحد علّتان لإنشاء حکمین فی عرض واحد فی زمان واحد کما لا یخفی ، بخلاف الإجمالی ، حیث یعقل فیه مع بقائه علی حاله و عدم رفع الید عنه ، أن یجعل فی هذه المرتبة و مع الجهل به تفصیلاً حکم فعلی یعمل علی وفقه علی خلافه .

فظهر أنّ مع الفعلیّ من الواقعیّ لا مجال للظاهریّ أصلاً و لو مع الجهل به رأساً ، غایة الأمر کون المکلّف معذوراً معه لو کان من قصور عقلاً ، و مع الشأنی

ص:308

منه المتحقّق بمجرّد الوجود الإنشائی یکون له المجال مطلقاً ، و لو کان معلوماً بالإجمال ، و یترتّب علیه آثاره إذا انکشف الحال (1) .

خلاصته

و یتلخّص ما أفاده فی أنه لا یتحقق التضادّ بین الحکمین الإنشائیین ، و لا بین حکمین أحدهما فعلی و الآخر إنشائی ، و إنما یتحقق بین الفعلیین ، و الحکم الواقعی فی مرتبة الإنشاء ، و مورد الأمارة فی مرتبة الفعلیّة ، فبینهما اختلافٌ فی المرتبة ، و معه لا یتحقق التضادّ .

و أمّا عدم لزوم التصویب ، فلأنّ الدلیل علی بطلان التصویب هو الإجماع ، و هو دلیلٌ لبّیٌّ یؤخذ منه بالمتیقّن ، و هو هنا وجود الأحکام فی مرتبة الإنشاء لعامّة المکلّفین ، لا وجود الأحکام الفعلیّة .

مناقشته

لکن یرد علیه :

أوّلاً : إنّ مقتضی ما ذکره من « أن الحکم الواقعی فیما أخطأت الأمارة لیس بمتحقّق إلّا بالوجوب الإنشائی ... کما هو الحال فی جمیع الأحکام الذاتیّة الاقتضائیة المجعولة للأشیاء بما هی علیها من العناوین الأوّلیة ، و إنْ کانت أحکامها الفعلیّة بسبب ما طرأت علیها من العناوین الثانویة علی خلافها ... » هو أنْ یکون الحکم الواقعی فی المرتبة الاُولی من مراتب الحکم و هو مرتبة الشأنیّة و الاقتضاء ، و أنْ یکون باقیاً فی هذه المرتبة ، لوجود المانع عن الملاک ، کما هو الحال فی مثل الوضوء الضرری ، حیث أن مقتضی الدلیل الأوّلی جعل الوضوء

ص:309


1- 1) درر الفوائد فی حاشیة الفرائد : 36 - 39 .

لکلّ المکلّفین ، لکنّه عند طروّ الضّرر علی أحدهم یتبدّلُ الحکم إلی التیمّم ، و یتقدّم دلیل نفی الضرر علی الدلیل الأوّلی بالحکومة ، و مقتضاها تخصیص الدلیل الأوّلی ، لکونها حکومةً واقعیّة .

لکنّ الالتزام بکون الحکم الواقعی فی مرتبة الشأنیّة ، هو القول بالتصویب المعتزلی ، و هو باطل .

و ثانیاً : إنّ مقتضی ما ذکره من أنّ فعلیّة الحکم الإنشائی تکون بتحقّق البعث إلیه أو الزجر عنه ، لکنّ هذه الفعلیّة تختلف عن الفعلیّة بالوصول ، لکون الوصول شرطاً للتنجّز لا الفعلیّة ، فما لم یصل الحکم الذی قامت علیه الأمارة لا وجداناً و لا تعبّداً فهو باقٍ فی مرتبة الإنشاء ، و حینئذٍ یرد علیه :

إنّ کون الحکم فی مرتبة الإنشاء - و هی المرتبة الثانیة - لا معنی له إلّا عدم تمامیة الموضوع بجمیع خصوصیّاته ، کما یکون قوله تعالی : «وَلِلّٰهِ عَلَی النّٰاسِ حِجُّ الْبَیْتِ ... » (1)إنشاءً و لا مستطیع ، و لا موجب لعدم تمامیّة الموضوع هنا إلّا الجهل ، فیلزم أنْ یکون العلم جزءاً لموضوع الحکم ، فیختصّ الحکم بالعالِمین ، و هو باطل .

فی الکفایة

و أمّا فی الکفایة ، فقد قال :

إنّ ما ادّعی لزومه إمّا غیر لازم أو غیر باطل ... (2) .

و توضیحه : أنّ المجعول فی باب الأمارات لا یخلو عن وجوه :

ص:310


1- 1) سورة آل عمران : 97 .
2- 2) کفایة الاصول : 277 .

1 - أن یکون المجعول نفس « الحجیّة » .

2 - أن یکون المجعول هو الحکم النفسی .

3 - أن یکون المجعول هو الحکم الطریقی .

4 - أن یکون المجعول هو الحجیّة المستتبعة للحکم الطّریقی .

أمّا أن الشارع قد جعل فی مورد الأمارة حکماً نفسیاً ذا مصلحةٍ ، کما هو الحال فی الأحکام الشرعیة ، فإن الإشکال بلزوم اجتماع المثلین أو الضدّین لازم .

لکنّ المبنی باطل ، لأن المجعول فی مورد الأمارة لیس هو الحکم التکلیفی ، بل هو حکم وضعی ، و لو کان تکلیفیّاً فهو طریقی لا نفسی .

و أمّا أن یکون المجعول هو الحجیّة المستتبعة للحکم التکلیفی ، مثل الملکیّة المستتبعة لجواز التصرّف ، فلا یلزم المحذور ، لأنّ الحکم طریقی ، و هو لا یضادّ و لا یماثل الحکم الواقعی النفسی .

و المراد من الحکم الطریقی هو الحکم الذی یجعله المولی بلحاظ الواقعیّة من أجل المحافظة علیها ، و هکذا حکمٍ لا سنخیّة له مع الحکم الواقعی حتی یماثله أو یضادّه .

و لو قیل : یجعل الحکم التکلیفی ثم ینتزع منه الحکم الوضعی ، کأن یقول :

اعمل بقول زرارة ، فإنه ینتزع منه حجیّة قوله ، کما هو مسلک الشیخ فی الأحکام الوضعیة .

فعلی هذا المبنی أیضاً لا یلزم المحذور أصلاً ، لکون مثل هذا الحکم طریقیّاً کذلک ، لعدم کونه ناشئاً من المصلحة أو المفسدة فی المتعلّق .

هذا ، و المختار عنده أنّ المجعول فی باب الأمارة هو « الحجیّة » .

ص:311

أی : کما أنّ القطع کاشف حقیقی عن الواقع ، و هو حجّة للعبد علی المولی ، و عذر له إذا حصلت المخالفة ، و هو حجة عند العقلاء جمیعاً ، و هذا المعنی من لوازم القطع ذاتاً ، کذلک الأمارة ، فإن لها جمیع هذه الآثار و الأحکام ، غیر أنّ هذا بجعلٍ من المولی ، فالأمارة کالقطع مع فرقٍ واحدٍ هو أن الحجیّة هناک ذاتیّة و هنا اعتباریة .

وعلیه ، فإن متعلّق الأمارة نفس هذا الأمر الوضعی ، أعنی الحجیّة ، و المصلحة قائمة بها ، و حینئذٍ ، یتّضح عدم لزوم محذور اجتماع المثلین أو الضدّین ، لأن المصلحة قائمة فی الأمارة بنفس هذا الأمر الوضعی ، أمّا فی الحکم الواقعی ، فهی قائمة بالمتعلّق .

فلا محذور فی مرحلة الملاک .

و کذا فی مرحلة الإرادة و الکراهة .

و أمّا فی مرحلة الحکم - و هو یری التضادّ فی الأحکام - فالمفروض أنّ الحکم الواقعی تکلیفی مثل وجوب صلاة الجمعة ، و الحکم الظاهری القائم علیها الأمارة وضعی و هو الحجیّة ، أی: حجیّة خبر الثقة علی الواقع ، فهما لیسا من سنخٍ واحد حتی یلزم التضاد أو المماثلة .

و أمّا فی مرحلة الامتثال ، فإنْ تعلّق العلم بالحکم الواقعی ، أو کانت الأمارة مطابقةً له ، فالواجب امتثال الحکم الواقعی ، و أمّا فی صورة المخالفة ، فالأمارة عذر للعبد أمام المولی ، و لا یقتضی الحکم الواقعی الامتثال .

و هکذا ینحلّ المشکل علی جمیع المبانی .

ص:312

إلّا أن المحقق الخراسانی یری بقاء المشکلة فی « أصالة الإباحة » (1) ، لأن المجعول فی موردها بنظره هو الإذن و الترخیص ، فکان الشارع قد جعل الإباحة مع وجود الحکم الواقعی ، فتارةً تضادُّ الإباحة الحکم الواقعی ، و اخری تماثله .

و هذا الإشکال یلزم بناءً علی جعل الحکم الظاهری فی مورد الاستصحاب .

و قد حلّ المشکل فی أصالة الإباحة ، بأنّ الحکم الواقعی فی مورد أصالة الإباحة غیر فعلی .

و الظاهر أنّ مراده من عدم الفعلیّة هنا هو : أن الحکم الواقعی مجعول ، بحیث لو علم به لتنجّز ، فلا باعثیّة و زاجریة له فی ظرف الجهل به ، و حینئذٍ ، لا یلزم المحذور ، لأنّ المکلّف فی هذه الحالة ینبعث أو ینزجر من الإباحة الظاهریة المجعولة فعلیّته لا من الحکم الواقعی .

موارد الفرق بین الحاشیة و الکفایة

و علی الجملة ، فقد ظهر الفرق بین کلامی المحقق الخراسانی فی کتابیه ... .

لأنه جعل الحکم الواقعی فی الحاشیة فی المرتبة الثانیة من مراتب الحکم التی ذهب إلیها ، و الحکم الظّاهری فی المرتبة الثالثة و الرابعة ، و فی الکفایة ، جعله فی المرتبة الثالثة ، و جعل الظاهری فی الرابعة .

و أیضاً ، کلامه فی الحاشیة ناظر إلی الحکم بصورةٍ عامّة ، أمّا فی الکفایة ، فقد استثنی أصالة الإباحة .

ثم إنه فی الحاشیة لا یری الحکم الواقعی فعلیّاً ، و فی الکفایة یراه فعلیّاً ،

ص:313


1- 1) کفایة الاصول : 278 .

فیقع فی الإشکال و یحاول رفعه بقوله : « بمعنی کونه علی صفةٍ و نحوٍ لو علم به المکلّف لتنجّز علیه ... » .

هذا ، و قد عرفت أنه لا یمکن المساعدة علی ما ذکره فی حاشیة الرسائل .

و أمّا ما ذهب إلیه فی کفایة الاصول ، فقد تکلّم علیه جماعة ، کما نری :

الکلام علی الکفایة

و هو یقع فی جهتین :

الاُولی : فیما ذکره فی حلّ المشکل .

فإنّه یرد علیه : أنه إذا کان الحکم الواقعی بحیث لو علم به لتنجّز - أی: لیس فیه جهة نقص إلّا عدم العلم الوجدانی به - فلازمه أن تعود جمیع المحاذیر بمجرّد تحقّق العلم به .

و الثانیة فی أصل مبناه ، من أنّ مدلول الأدلّة فی الأمارات أن المجعول فی موردها هو « الحجیّة » ، فقد اورد علیه بوجوه :

الأوّل :

ما ذکره المحقق الأصفهانی (1) من أنّ ظاهر عبارة الکفایة أنّ المجعول هو الحجیّة بمعنی التنجّز ، فأشکل علی ظاهر العبارة - و إنْ احتمل فیما بعد أنْ یکون مراده منها حیثیّة اخری یترتّب علیها التنجّز - بأنّ التنجّز عبارة عن حسن العقاب عند الموافقة ، و التعذیر عند المخالفة ، و هذا المعنی متوقّف علی الحجیّة و بدونها یستحیل ذلک ، و حینئذٍ لو کانت الحجیّة بجعل حسن العقاب یلزم الدور .

و قد تبعه المحقّق الخوئی فقال بعد الإشکال علی المحقق النائینی :

ص:314


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 124 .

و بما ذکرنا ظهر ما فی کلام صاحب الکفایة من أن المجعول فی باب الأمارات هی الحجیّة ، بمعنی التنجیز عند المصادفة و التعذیر عند المخالفة ، إذ التنجیز و التعذیر بمعنی حسن العقاب علی مخالفة التکلیف مع قیام الحجّة علیه و عدمه مع عدمه ، من الأحکام العقلیة غیر القابلة للتخصیص ، فالتصرّف من الشارع لا بدّ و أنْ یکون فی الموضوع ، بأنْ یجعل شیئاً طریقاً و یعتبره علماً تعبّداً ، و بعد قیام ما اعتبره الشارع علماً علی التکلیف ، یترتب علیه التنجیز و التعذیر عقلاً لا محالة ، و کذا الحال فی الاصول المحرزة الناظرة إلی الواقع بإلغاء جهة الشک ... (1) .

الجواب

و یجاب عن هذا الإشکال بأنه مع التأمّل فی عبارة الکفایة مندفع ، فإنه إنما یرد إن کان یقول بجعل حسن العقاب و المنجزیّة ، لکنّه یقول بأنّ المجعول أمر اعتباری یوجب التنجّز .

و توضیحه : إنّ « الحجیة » هی کون الشیء بحیث یصحّ أن یحتجّ به ، و هذا غیر حسن العقاب کما لا یخفی . یقول رحمه اللّٰه : کون الشیء بحیث یصحّ أن یحتجّ به تارةً ذاتیٌّ للشیء کما فی القطع ، فإنّ الحجیّة ذاتیّ له ، و اخری : لیس کذلک کما فی الأمارات و الطّرق ، فإنّ ذلک مجعولٌ لما ثبت حجیّته منها ، و هو سواء فی القطع أو خبر الثقة و نحوه یوجب حسن العقاب عند المخالفة . فهذا هو مراده ، و هو ظاهر کلامه إذ قال : و ذلک لأن التعبّد بطریق غیر علمی إنما هو بجعل حجیّته ، و الحجیة المجعولة غیر مستتبعة لإنشاء أحکامٍ تکلیفیّة بحسب ما أدّی

ص:315


1- 1) مصباح الاصول 2 / 104 - 105 .

إلیه الطریق ، بل إنما تکون موجبةً لتنجّز التکلیف به .

الثانی :

إن الحجیّة عند المحقق الخراسانی هی المنجزیّة ، و المنجزیّة هی السببیّة لاستحقاق العقاب ، لکن السببیّة غیر قابلة للجعل لکونها من الامور التکوینیّة ، کما ذکر هو فی الاستصحاب .

و الجواب :

إنّ السببیة عنده ممّا لا یقبل الجعل ، و الحجیة ممّا یقبل الجعل ، فهی غیر السببیّة .

الثالث :

إنه یرد علی کلامه بناءً علی أن الحجیّة قابلة للجعل : إن المفروض ثبوت أحکام القطع کلّها للأمارات ، إلّا أنها ثابتة للقطع بالذات و للأمارات بالجعل ، و الحال أنْ الشیء الثابت للقطع هو الکاشفیة عن الواقع ، و من هنا یؤاخذ العقلاء علی أساس القطع ، و لیس فی ارتکازهم بین « الکاشفیة » و« صحّة المؤاخذة » واسطة اسمها « الحجیّة » . و إذ لیس للقطع ذلک فلیس فی الطرق .

و الجواب

إن هذا خلاف الارتکاز العقلائی ، فإنّهم یرون للقطع الحجیّة و الکاشفیّة ، و قد عرفت أن المقصود من الحجیّة کونه بحیث یصحّ أنْ یحتجّ به ، و یشهد بذلک ما یستفاد من الروایات - کما قال الوحید البهبهانی - من أن « العقل حجة » (1) .

ص:316


1- 1) الفوائد الحائریّة : 96 .
مناقشته

و بعد أنْ ظهر عدم تمامیّة شیء مما اورد به علیه ، خاصّةً الإشکال الأوّل و ما اشتهر عن المحقق الخراسانی من أنه قائل بمجعولیّة استحقاق العقاب و التعذیر ، فإنّ التأمّل فی کلماته فی الموارد المختلفة یفید عدم صحّة هذه النسبة ، بل إنه یری أنّ التنجیز و التعذیر من مقتضیات الحجیّة لا نفس الحجیّة المجعولة ، و أنّ المستفاد من أدلّة الحجیّة و الاعتبار فی باب الأمارات إلغاء احتمال الخلاف و جعل الطریقیّة .

إلّا أنه یرد الإشکال علی کلامه فی الکفایة بالنسبة إلی الاصول المرخّصة کقاعدة الحلّ ، من الجمع بین الحکمین بأنّ الحکم الواقعی غیر فعلیّ و الحکم الظاهری فعلی ، إذ فیه :

إنّه لا ریب فی فعلیّة الحکم الواقعی مع العلم بالخلاف ، فلو علم بحلیّة شیء هو حرام فی الواقع ، فإنّ هذا العلم غیر مؤثر فی فعلیّة الحکم الواقعی ، لکون الموضوع محقَّقاً بجمیع قیوده و لیس للعلم دخل فی ذلک ، و حکم الأمارة القائمة علی الخلاف حکم العلم بالخلاف ، وعلیه ، فلا بدّ إمّا من تقیید الحکم بعدم قیام الأمارة علی خلافه ، و هذا هو التصویب ، و إمّا من الالتزام بعدم الفعلیّة له مع تمامیّة موضوعه من جمیع الجهات ، و هو محال ، للزوم تخلّف الحکم عن موضوعه ، و مع عدم التقیید أو الالتزام المذکورین ، فالإشکال ثابت ، لأنه یلزم اجتماع المثلین فی صورة الموافقة و اجتماع الضدّین فی صورة المخالفة .

و أیضاً ، فإنّ کلامه فی هذا المقام یشتمل علی التهافت ، لأنه قال بأنّ الحکم الواقعی هو بحیث لو علم به لتنجّز ، و معنی هذا الکلام کونه فی المرتبة الثالثة من

ص:317

مراتب الحکم ، لکنّ المفروض کون الحکم الظاهری أیضاً فی هذه المرتبة بضمیمة وصوله ، فإذن ، قد اجتمع الحکمان فی هذه المرتبة ، إلّا أن هذا الکلام ینافی قوله بأنّ الحکم الواقعی هو بحیث لو اذن بالمخالفة له فلا فعلیّة له ، لأن معنی ذلک کونه فی مرتبة الإنشاء و عدم وصوله إلی مرحلة أنه لو علم به لتنجّز .

فتدبّر .

طریق المحقق الفشارکی و الیزدی

و سلک المحقّق السیّد الفشارکی طریقاً آخر ، و تبعه تلمیذه المحقّق الحائری الیزدی ، و قرّره فی الدرر حیث قال :

إنه لا إشکال فی أن الأحکام لا تتعلق ابتداء بالموضوعات الخارجیّة ، بل إنما تتعلق بالمفاهیم المتصورة فی الذهن ، لکن لا من حیث کونها موجودة فی الذهن ، بل من حیث إنها حاکیة عن الخارج ، فالشیء ما لم یتصور فی الذهن لا یتصف بالمحبوبیة و المبغوضیة ، و هذا واضح .

ثم إن المفهوم المتصوّر تارة : یکون مطلوباً علی نحو الإطلاق ، و اخری :

علی نحو التقیید ، و علی الثانی ، فقد یکون لعدم المقتضی فی ذلک المقید ، و قد یکون لوجود المانع ؛ مثلاً قد یکون عتق الرقبة مطلوباً علی سبیل الإطلاق ، و قد یکون الغرض فی عتق الرقبة المؤمنة خاصة ، و قد یکون فی المطلق ، إلا أن عتق الرقبة الکافرة مناف لغرضه الآخر ، و لکونه منافیاً لذلک الغرض لا بد أن یقید العتق المطلوب بما إذا تحقق فی الرقبة المؤمنة ، فتقیید المطلوب فی القسم الأخیر إنما هو من جهة الکسر و الانکسار ، لا لتضییق دائرة المقتضی ، و ذلک موقوف علی تصور العنوان المطلوب أوّلاً مع العنوان الآخر المتحد معه فی الوجود المخرج له

ص:318

عن المطلوبیّة الفعلیة ، فلو فرضنا عنوانین غیر مجتمعین فی الذهن ، بحیث یکون المتعقل أحدهما لا مع الآخر ، فلا یعقل تحقق الکسر و الانکسار بین جهتیهما ، فاللّازم من ذلک أنه متی تصور العنوان الذی فیه جهة المطلوبیة یکون مطلوباً صرفاً من دون تقیید ، لعدم تعقّل منافیه ، و متی تصور العنوان الذی فیه جهة المبغوضیّة یکون مبغوضاً کذلک ، لعدم تعقل منافیه ، کما هو المفروض .

و العنوان المتعلّق للأحکام الواقعیة مع العنوان المتعلق للأحکام الظاهریّة مما لا یجتمعان فی الوجود الذهنی أبداً ، مثلاً : إذا تصور الآمر صلاة الجمعة ، فلا یمکن أن یتصور معها إلّا الحالات التی یمکن أن تتصف بها فی هذه الرتبة ، مثل کونها فی المسجد أو الدار و أمثال ذلک ، و أما اتصافها بکون حکمها الواقعی مشکوکاً ، فلیس مما یتصور فی هذه الرتبة ، لأن هذا الوصف مما یعرض الموضوع بعد تحقق الحکم ، و الأوصاف المتأخرة عن الحکم لا یمکن إدراجها فی موضوعه ، فلو فرضنا أن صلاة الجمعة فی کلّ حال أو وصف یتصور معها فی هذه الرتبة مطلوبة بلا مناف و مزاحم ، فإرادة المرید تتعلّق بها فعلاً ، و بعد تعلّق الإرادة بها تتصف بأوصاف اخر لم تتصف بها قبل الحکم ، مثل أن تصیر معلوم الحکم تارة و مشکوک الحکم اخری ، فلو فرضنا بعد ملاحظة اتصاف الموضوع بکونه مشکوک الحکم تحقق جهة المبغوضیة فیه ، یصیر مبغوضاً بهذه الملاحظة لا محالة ، و لا یزاحمها جهة المطلوبیة الملحوظة فی ذاته ، لأن الموضوع بتلک الملاحظة لا یکون متعقلاً فعلاً ، لأن تلک الملاحظة ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحکم ، و هذه ملاحظته مع الحکم .

فإن قلت : العنوان المتأخر و إن لم یکن متعقلاً فی مرتبة تعقل الذات ، و لکن

ص:319

الذات ملحوظة فی مرتبة تعقل العنوان المتأخر ، فعند ملاحظة العنوان المتأخر یجتمع العنوانان فی اللّحاظ ، فلا یعقل المبغوضیة فی الرتبة الثانیة مع محبوبیة الذات .

قلت : تصوّر ما یکون موضوعاً للحکم الواقعی الأوّلی مبنی علی قطع النظر عن الحکم ، لأن المفروض کون الموضوع موضوعاً للحکم ، فتصوّره یلزم أن یکون مجرّداً عن الحکم ، و تصوره بعنوان کونه مشکوک الحکم لا بدّ و أن یکون بلحاظ الحکم .

و لا یمکن الجمع بین لحاظ التجرّد عن الحکم و لحاظ ثبوته ، و بعبارة اخری : صلاة الجمعة التی کانت متصورة فی مرتبة کونها موضوعة للوجوب الواقعی ، لم تکن مقسماً لمشکوک الحکم و معلومه ، و التی تتصور فی ضمن مشکوک الحکم تکون مقسماً لهما ، فتصور ما کان موضوعاً للحکم الواقعی و الظاهری معاً ، یتوقف علی تصور العنوان علی نحو لا ینقسم إلی قسمین ، و علی نحو ینقسم إلیهما ، و هذا مستحیل فی لحاظ واحد . فحینئذٍ نقول : متی تصوّر الآمر صلاة الجمعة بملاحظة ذاتها ، تکون مطلوبة ، و متی تصورها بملاحظة کونها مشکوک الحکم ، تکون متعلقة لحکم آخر . فافهم و تدبّر فإنه لا یخلو من دقة (1) .

خلاصة هذا الطریق

و یتلخّص هذا الطّریق فی المقدّمتین و النتیجة :

المقدّمة الاولی : إنّ متعلّق الحکم هو الصّورة الذهنیّة لا الخارج ، غیر أنها تارةً : تلحظ ذهنیّةً ، و اخری : بما هی حاکیة عن الخارج .

ص:320


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 350 - 354 .

و المقدّمة الثانیة : إنّ الصّورة قد تجتمع مع انقساماتها ، و قد لا تجتمع ، فالرقبة مثلاً تقبل الاجتماع مع الإیمان و مع الکفر ، فقد لا یکون للکافرة مقتض ، و قد یکون الکفر مانعاً ، لکنّ الانقسامات الطارئة علی الحکم لا تقبل الاجتماع معه ، فلا یمکن أنْ یلحظ ما یطرأ علی الموضوع فی مرتبة لحاظه ، لأن قوام لحاظ الموضوع بعدم لحاظ الحکم .

و یستنتج من ذلک : إن موضوع الحکم الواقعی لا یجتمع مع مشکوک الحکم و لا یتّحد معه . هذا من جهة .

و من جهةٍ اخری : مرکب الحکم هو الصّورة الملحوظة خارجیّةً .

فموضوع الحکم الواقعی هو الموضوع الذی لا یقبل الاتّحاد مع مشکوک الحکم ، و موضوع الحکم الظاهری هو الحصة المشکوک فیها .

و إذا تعدّد الموضوع ، فلا یعقل الاتّحاد بینهما أصلاً .

فلا یلزم أیّ محذورٍ من جعل الحکمین .

و الحاصل : إن قوام لحاظ الموضوع للحکم الواقعی أنْ یُری مجرّداً عن الحکم و انقساماته و أمّا موضوع الحکم الظاهری فهو الحصّة المشکوک فیها من الموضوع ، و من الواضح أن الشکّ لا یتعدّی إلی مرتبة موضوع الحکم الواقعی ، و موضوع الحکم الواقعی لا یأتی إلی مرتبة الحکم الظاهری .

مناقشته

أمّا فی المقدّمة الاولی ، فصحیح ما ذکروه فی الحبّ و البغض ، فإن المحبوب هو الصّورة الملحوظة خارجیّةً ، إذْ لیس الخارج هو المتعلّق للحکم ، حتی و لو قلنا بتعلّق الحکم بنفس الخارج کما علیه شیخ الإشراق ، لأنّ الخارج

ص:321

ظرف سقوط الحکم لا ثبوته ، لکنّ المهمّ هو الفرق بین « العلم » و« الحب » .

فالمعلوم بالذات هو الصّورة و المعلوم بالعرض هو الخارج ، علی عکس الحبّ ، حیث أنّ المحبوب بالذات هو الخارج ، و بالعرض هو الصورة ، فالمصدر للحبّ هو الخارج ، أمّا العلم فهو عبارة عن الکشف ، و الصّورة هی الکشف لمن حصل له العلم ، و یشهد بما ذکرنا صحّة قولک : احبّ الحسین الخارجی و أکره یزید الخارجی ، و لا یصح أن تقول : بما أن الشیء الفلانی فی الخارج فأنا عالم به .

و إذْ ظهر الفرق بین العلم و الحبّ ، فإن من یلحظ المقسم باللّحاظ الثانوی فی الانقسامات اللّاحقة للحکم من حیث غرضه ، یکون حبّه تابعاً للغرض لکونه معلولاً له ، و حینئذٍ یجتمع الحکمان و یعود المحذور .

فإنْ قلتم : لا یتبعه .

قلنا : فإذن ، یوجد الغرض . و هذا هو التصویب .

و الحاصل : عدم تمامیّة المقدمة الاولی ، للزوم الاجتماع فی مشکوک الحکم ، فی مرحلة الإرادة و الکراهة ، و من المعلوم أن الوجوب و الحرمة ظلّان للإرادة و الکراهة فیلزم الاجتماع بین الحکمین .

هذا فی المقدّمة الاولی .

و أمّا المقدّمة الثانیة ، و ملخّص ما ذکر هو : أنّ مرکب الحکم فی الواقع مجرّد عن العلم و الشکّ ، و أمّا فی الظاهر فمخلوط من العلم و الشک ، فلا یلزم الاجتماع بینهما لکونهما متباینین .

و فیه : إنّ هذا التباین صحیح فی اللّحاظ ، أمّا فی الملحوظ فلا .

و توضیحه : إنّ اللّحاظات متباینة بالضرورة ، فالمولی یلحظ الخمر و یرتّب

ص:322

الحکم الواقعی و هو الحرمة علیه ، لکنّه لمّا یأتی بحکم الإباحة ، فإنه یراه مشکوک الخمریّة ، فاللحاظ مختلف و الحکم کذلک ، و إذْ یوجد التباین فلا یلزم الاجتماع أصلاً .

لکنّ الأمر بالنسبة إلی الملحوظین لیس کذلک ، فإنّ موضوع الحکم الواقعی إذا کان مجرّداً عن العلم و الشک ، فهو لا بشرط ، أی لا بشرط حتی بالنسبة إلی التجرّد ، فیکون من اللّابشرط المقسمی ، و من المعلوم أن اللّابشرط المقسمی یجتمع مع القسم بحکم البرهان .

مثلاً : عند ما یری الخمر و یعلم أن فی الخمر مفسدة ، فهل یری المفسدة فی حال کون المائع مشکوک الخمریّة ؟ یقول : نعم . إذن یوجد الغرض فی مشکوک الخمر ، وعلیه ، فالحکم بالحرمة موجود فی الواقع بالنسبة إلی الخمر المجرّد عن کلّ قید حتی التجرّد ، و الخمر المجرد عن القید و التجرّد یجتمع مع القید ، فیلزم الاجتماع ، لأن اللّابشرط القسمی أو المقسمی یجتمع مع القسم .

هذا ، و مع وجود الغرض الواقعی فی المشکوک ، یترتّب الحکم لکونه معلولاً للغرض ، و لکنّ هذا الحکم لا یأتی بالدلیل الأوّلی ، فلا بدّ من الدلیل الثانوی ، لأنّ الإهمال محال ، و التقیید بحال العلم غیر صحیح لاشتراک الأحکام بین العالمین و الجاهلین - فالحکم موجود فی حال الشک ، غیر أن مصلحة التسهیل تزاحم جعل الحرمة فی حال الشک علی مبنی المحقق الفشارکی - فیجعل الحکم الظاهری .

و بعبارة اخری : فإنّ العلم و الإرادة و الحبّ و البغض و الوجوب و الحرمة ...

کلّ هذه مفاهیم ذات تعلّق ، و کلّ مفهوم کذلک - سواء کان حقیقیاً أو اعتباریّاً - لا

ص:323

یتحقّق إلّا بمتعلّقه ، إلّا أنّ بین « العلم » و« الحبّ » فرقاً فی کیفیّة التعلّق کما عرفت .

هذا من جهة .

و من جهةٍ ، فإنّ الموضوع عند ما یلحظ باللّحاظ الأوّلی ، فلا بدّ أن یکون مجرّداً عن الحکم ، إذ الحاکم یلحظ صلاة الجمعة مثلاً مجرّدةً من کلّ شیء ، ثمّ یحکم بوجوبها ، فالصّلاة و الوجوب مثلاً لیسا فی مرتبة واحدة و إنْ کانا معاً زماناً ، أمّا باللّحاظ الثانوی ، فیراها منقسمةً مثلاً إلی صلاة الجمعة الواجبة و المشکوکة .

إلّا أنّ لحاظ الصّلاة مجرّدة عن الحکم فی اللّحاظ الأوّل ، لا یعنی عدم لحاظ الغرض من الحکم ، لأن الحکم فعل اختیاری یدور مدار التصوّر و التصدیق بفائدته ، و ذلک یکون فی المرتبة السابقة علی الحکم ، فالغرض ملحوظ فی تلک المرتبة ، و لمّا کان من الامور التکوینیّة فلا یعقل کونه مهملاً ، فإمّا هو قائم بصلاة الجمعة حتی مع الشک فی وجوبها ، فالحکم یکون مطلقاً ، و إمّا هو قائم بالصّلاة حتی مع الشک فی وجوبها ، فالحکم یکون مطلقاً ، و إمّا هو قائم بالصّلاة غیر المشکوک فی وجوبها ، فالإطلاق محال ، غیر أنّ إفادة الإطلاق و التقیید هنا یکون بنتیجة الإطلاق و نتیجة التقیید .

و إذا ثبت وجوب صلاة الجمعة ، و لکنّ الغرض یستحیل أنْ یکون مهملاً ، و هو قائم بطبیعة صلاة الجمعة ، فلا محالة یلزم اجتماع الضدّین فی الصّلاة المشکوک فی وجوبها ، فإمّا یتقیّد الغرض ، و هذا تصویب ، و إمّا لا یتقیّد فیلزم الاجتماع .

فالحاصل : إنه لو قیل بعدم الإطلاق فی الغرض ، فالحکم کذلک غیر مطلق ، فهو مقیّد بغیر مشکوک الحکم ، و هذا تصویب ، و إن قیل بإطلاق الغرض و لا

ص:324

إطلاق للحکم ، لزم تخلّف المعلول عن العلّة و هو محال ، فیبقی الشق الثالث :

و هو تبعیّة الحکم للغرض ، فمع تبعیّته له و إطلاقه یلزم اجتماع الحرمة الواقعیّة مع الحلیّة الظاهریة ، و هذا اجتماع للضدّین .

هذا کلّه أوّلاً .

و ثانیاً : التباین بین لحاظ صلاة الجمعة المعلومة الوجوب و لحاظ صلاة الجمعة المشکوک وجوبها متحقّق ، فیجتمع الحکمان ، و لکنّ النسبة بین الملحوظین هی العموم المطلق ، فیلزم اجتماع الإرادة و الکراهة بحسب الملحوظ فی الشیء الواحد ، فیعود الإشکال .

طریق المحقق العراقی

و قد أجاب المحقق العراقی عن الإشکال بعد تمهید مقدماتٍ أربع نلخّصها فیما یلی :

فالمقدّمة الاولی هی : إن الأحکام الشرعیة لا تکون قائمةً إلّا بنفس العناوین المنتزعة عن الجهة التی قامت بها المصلحة الخارجیّة بما أنها ملحوظة خارجیّةً ... .

و المقدّمة الثانیة هی : إنه کما ینتزع من وجود واحد عنوانان عرضیّان ، کذلک یمکن أن ینتزع منه عنوان طولیّان ، علی وجهٍ یکون انتزاع أحد العنوانین فی طول الحکم المتعلّق بالعنوان الآخر . و فی هذا القسم ، تارة : تکون طولیّة العنوانین من جهة طولیّة الوصف المأخوذ فی أحد العنوانین ، بلا طولیّة فی طرف الذات المعروضة للوصف ، کما فی الخمر و الخمر المشکوک حکمها . و اخری :

تکون طولیّة العنوانین حتی من جهة الذات المحفوظة فیهما المستلزمة لاعتبار

ص:325

الذات فی رتبتین ، تارة : فی الرتبة السّابقة علی الوصف التی رتبة معروضیّتها له .

و اخری : فی الرتبة اللّاحقة عن الوصف ، نظیر الذات المعروضة للأمر و الذات المعلومة لدعوته المنتزع عنها عنوان الإطاعة .

و المقدّمة الثالثة هی : إنّ لوجود المراد و تحقّقه فی الخارج مقدّمات اختیاریة من قبل المأمور ، نظیر الستر و الطهور و غیرهما بالنسبة إلی الصّلاة ، و مقدّمات اختیاریة من قبل الآمر ، کخطابه الموجب لعلم المأمور بإرادته الباعث علی إیجاده و خطابه الآخر فی طول ذلک عند جهل المأمور بالخطاب الأوّل ، و هکذا ، و لا شبهة فی أن الإرادة التشریعیّة التی یتضمّنها الخطاب المتعلّق بعنوان الذات ، إنما یقتضی حفظ وجود المتعلّق من قبل خصوص المقدّمات المحفوظة فی الرتبة السّابقة علی تلک الإرادة ، و هی المقدّمات الاختیاریة المتمشّیة من قبل المأمور ... .

و المقدمة الرّابعة هی : إنه لا شبهة فی اختلاف مراتب الاهتمام بحفظ المرام بالنسبة إلی المقدّمات المتأخّرة المتمشّیة من قبل الآمر حسب اختلاف المصالح الواقعیّة فی الأهمیّة ... .

قال :

بعد أن عرفت ما مهّدناه من المقدّمات ، یظهر لک اندفاع الشبهة المذکورة فی إمکان جعل الطّریق علی خلاف الواقع بتقاریرها ، حتی علی الموضوعیّة فضلاً عن الطریقیّة فی حال الانفتاح و الانسداد ... (1) .

ص:326


1- 1) نهایة الأفکار ق 1 ج 3 ص 60 - 69 .

أقول :

إنّ المهمّ من المقدّمات هو المقدّمتان الاولی و الثانیة .

أمّا الاولی ، فقد تقدّمت فی طریق السیّد الفشارکی ، فلا نعید الکلام حولها .

و أمّا الثانیة ، فهی لبیان الطولیّة بین موضوعی الحکمین ، و توضیحها هو :

إنه قد ینتزع من الوجود الواحد عنوانان أو أکثر ، و لکنْ قد تکون العناوین المنتزعة فی عرضٍ واحد ، کما ینتزع « العالم » و« العادل » من الوجود الواحد و هما فی عرضٍ واحد ، و قد تکون فی الطول ، و الطولیة تارة تکون فی الوصف ، و اخری فی الذات .

مثال الطّولیة فی الوصف : الخمر ، و الخمر المشکوک الحرمة ، فإنهما عنوانان منتزعان من الوجود الخارجی للخمر و هما متّحدان فی الذات و لکنهما فی الوصف طولیّان ، لأن « مشکوک الحرمة » فی طول « الحرمة » لکون الحرمة متفرعة علی الخمریّة و متأخرة عنها تأخر الحکم عن الموضوع ، و الشک فی الشیء متأخّر طبعاً عن الشیء .

و مثال الطولیّة فی الذات هو : معروض الحکم و معلول الأمر ، فإنهما عنوانان طولیّان بینهما اختلاف فی الرتبة ، فالصّلاة إذا تعلّق بها الوجوب ، کانت مقدّمةً فی الرتبة علی الوجوب ، و هو الحکم ، و هی إذا أتی بها بداعی الوجوب أصبحت معلولة لهذا الوجوب ، فکانت الصلاة بکونها معروضةً للوجوب مقدّمةً رتبةً عند کونها معلولةً للوجوب .

و هذه هی المقدّمة الثانیة .

و ما نحن فیه من قبیل المثال الثانی ، أی توجد الطولیّة بین الخمر و الخمر

ص:327

المشکوک الحرمة ، و ذلک :

تارةً : یلحظ الشکّ بنحو الحیثیّة التقییدیّة لموضوع الحکم .

و اخری : بنحو الحیثیة التعلیلیّة .

فإنْ کان الأوّل ، فلا یلزم اختلاف الرتبة فی الذات ، لأنّه وصف .

أمّا علی الثانی ، فإنه یکون الشکّ علّةً ، و هو ظاهر الأدلّة فی موارد الأحکام الظاهریّة .

و حینئذٍ ، فإنّ « الخمر » موضوع للحرمة الواقعیّة ، و« الخمر المشکوک الحرمة » حلال ، فصار الشک علةً للحکم .

وعلیه : فإنّ الخمر الذی هو موضوع الخمر الواقعی متقدّم رتبةً علی الحرمة ، و هو الحکم العارض علیه ، و لکنّ الخمر الذی هو موضوع الحکم الظاهری متأخر رتبةً عن الشک فی الحرمة ، فتأخر موضوع الحکم الظاهری عن موضوع الحکم الواقعی .

و مع التأخر الرتبی لا یلزم أیّ اجتماع .

مناقشته

و یمکن المناقشة فی هذا الکلام إثباتاً و ثبوتاً :

أمّا إثباتاً ، فقد ذکر : أن الشکّ قد یکون قیداً ، و قد یکون علّةً ، و قد جعله هنا علّة .

و فیه : إن کونه علّةً یحتاج إلی کاشف ککونه قیداً ، و لم یؤخذ فی لسان الأدلّة الشرعیة للأحکام الظاهریة علّةً ، لا فی حدیث الرفع (1) ، و لا فی : « کلّ شیء

ص:328


1- 1) وسائل الشیعة 15 / 369 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، رقم : 1 .

مطلق » (1) « الناس فی سعة ما لم یعلموا » (2) و« ما حجب اللّٰه علمه علی العباد ، ... » (3) إذ أنّ اللّسان فی جمیع هذه الأدلّة لسان القید لا العلّة . هذا فی الاصول العملیة .

و أمّا فی الطّرق ، فإن الشک موردٌ لها ، و فی جملةٍ من أدلّتها لم یؤخذ الشک أصلاً . نعم ، قد ورد فی الأدلّة : « إذا شککت فابن علی الیقین » (4) ، و قد وقع الکلام فی المراد من ذلک ، هل هو الاحتیاط أو الاستصحاب .

و أمّا فی أدلّة الاستصحاب ، فلم یؤخذ الشک فی روایة تامّة سنداً .

و علی الجملة ، فلا ظهور لشیء من الأدلّة فی علیّة الشک ، لأنه لو کان مأخوذاً فی دلیل فهو مجملٌ .

و أمّا ثبوتاً : فإنّ النسبة بین کلّ عنوانین لا تخلو عن احدی النسب الأربع ، و لیس بین موضوعی الحکمین نسبة التساوی ، فهی إمّا العموم من وجه أو المطلق أو التباین .

فإن کانت النسبة هی التباین ، و لا مجمع بینهما کما هو ظاهر کلام المحقق العراقی ، فهذا یستلزم التصویب ، أی: عدم وجود الحکم الواقعی فی مورد الحکم الظاهری .

فحلّ المشکل فی عالم الثبوت ، یتوقف علی التباین ، و هو یستلزم التصویب .

ص:329


1- 1) وسائل الشیعة 6 / 289 ، الباب 19 من أبواب القنوت ، رقم : 3 .
2- 2) مستدرک الوسائل 18 / 20 .
3- 3) جامع الأحادیث 1 / 327 .
4- 4) وسائل الشیعة 8 / 212 ، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع فی الصّلاة .

أمّا مع کون النسبة هی العموم من وجه أو المطلق ، فلا یلزم التصویب ، لکنّ المشکلة لا تنحلّ .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه علی فرض تمامیّة ما ذکره من تعدّد الموضوعین من جهة اختلاف المرتبة ، فإنّ الغرض المترتّب علی الموضوع الحامل له لا تعدّد فیه ، و مع حفظ الموضوع فی مورد الحکم الظاهری ، یتحقق الإرادة و الکراهة ، فیجتمعان علی أثر اجتماع الموضوعین الحاملین للغرض ، فیعود الإشکال .

طریق المحقق النائینی

و جعل المیرزا الموارد التی توهّم وقوع التضادّ بین الحکمین فیها علی ثلاثة أنحاء :

موارد الطرق .

موارد الاصول المحرزة .

موارد الاصول غیر المحرزة .

فالکلام فی مقامات :

المقام الأول ( فی الطرق و الأمارات )

قال ما ملخّصه بلفظه :

أمّا فی باب الطرق و الأمارات ، فلیس المجعول فیها حکماً تکلیفیاً حتی یتوهّم التضادّ بینه و بین الحکم الواقعی ، بناءً علی ما هو الحق عندنا من أنّ الحجیّة و الطریقیّة من الأحکام الوضعیّة المتأصّلة بالجعل و مما تنالها ید الوضع و الرفع ابتداءً ، - ما عدا الجزئیّة و الشرطیّة و المانعیّة و السببیّة - لما تقدّمت الإشارة إلیه من

ص:330

أنه لیس فیما بأیدینا من الطرق و الأمارات ما لا یعتمد علیه العقلاء فی محاوراتهم و إثبات مقاصدهم ، لمکان أن الطرق عندهم من حیث الإتقان و الاستحکام کالأسباب المفیدة للعلم ، و إذ قد عرفت حقیقة المجعول فی باب الطرق و الأمارات ، و أن المجعول فیها نفس الوسطیّة فی الإثبات ، ظهر لک أنه لیس فی باب الطرق و الأمارات حکم حتی ینافی الواقعی لیقع فی إشکال التضادّ أو التصویب ، فلا یکون فی البین إلّا الحکم الواقعی فقط مطلقاً ، أصاب الطریق الواقع أو أخطأ .

هذا بناءً علی ما هو المختار من تأصّل الحجیّة و الطّریقیّة فی الجعل (1) .

أقول :

و توضیحه ملخّصاً :

أنّ المحذور إنما یلزم فی حال وجود التماثل أو التضاد أو التناقض جوهراً و أثراً ، و إلّا فلا یلزم ، لکنّ المجعول الشّرعی فی الطرق و الأمارات یختلف فی جوهره و حقیقته مع المجعول الشرعی فی الحکم الواقعی ، لأنّ المجعول فیه هو الوجوب و الحرمة ، أمّا فی الطرق و الأمارات فالمجعول الطریقیة و الکاشفیة ، إذنْ ، لا سنخیّة حتی یلزم اجتماع المثلین ، و لا یلزم اجتماع الضدّین ، لجواز الاجتماع بین الکاشفیة و الوجوب أو الحرمة و إنْ اختلفا فی جوهرهما . و أمّا من حیث الأمر ، فلا تضاد و لا تباین بینهما .

ثم إنّ المجعول فی باب الطرق و الأمارات لیس تأسیسیّاً ، بل هو إمضاء لما علیه العقلاء ، و عملهم بخبر الواحد مثلاً لا یخلو أنْ یکون من باب الرجاء ، أو

ص:331


1- 1) فوائد الاصول 3 / 105 - 110 .

إفادة الخبر للعلم ، أو لوجود حکم عندهم یکون منشأً لانتزاع الطریقیّة للخبر ، أو لأنّ الخبر طریق إلی الواقع و کاشف عنه .

إن الثلاثة الاولی منتفیة یقیناً ، و الرابع و هو الطریقیة و الکاشفیة ، هو المتعیّن .

فإنهم یرتبون الأثر علی الخبر و یلغون احتمال مخالفته للواقع ، و هذا المعنی هو الذی أمضاه الشارع و جعل للخبر الکاشفیّة کذلک ، و الکاشفیة من الامور الوضعیّة القابلة للجعل و الاعتبار کما لا یخفی .

الکلام علی الإشکالات فی هذا المقام

و اورد علیه بوجوه :

الأول :

إنّ الطریقیّة غیر قابلة للجعل ، لأنّ الأمارة إنْ کانت طریقاً فجعل الطریقیة لها تحصیل للحاصل ، و إنْ لم تکن ، فلا یمکن أنْ یصیّر ما لیس بطریقٍ طریقاً . کما أن الطریقیة لیست من الامور الاعتباریّة ، فلا تقبل الجعل و الاعتبار .

بل إنه من العمل علی طبق الأمارة ینتزع لها الطریقیّة . کما أنّ الحجیّة کذلک ، فهی غیر قابلة للجعل ، بل بعد العمل و ترتیب الأثر ینتزع الحجیّة للخبر مثلاً .

و الجواب

أمّا أن « ما لیس بطریق لا یمکن جعله طریقاً » فدعوی بلا دلیل . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : لا یقول المیرزا بجعل الطریقیّة ، بل یقول : إن طریقیة الخبر - مثلاً - و کاشفیّته ناقصة ، لاحتمال الخلاف ، لکنّ العقلاء یلغون الاحتمال ، و تتمّ کاشفیّته ، لأنّ الخبر عندهم کاشف غالباً عن الواقع و موصل إلیه ، و هذا هو الأساس عندهم

ص:332

لقاعدة : الشیء یُلحق بالأعمّ الأغلب .

و أمّا أن الطریقیّة لیست من الامور الاعتباریّة .

ففیه : هناک امور اعتباریة بالذات ، و أمور حقیقیّة لا اعتباریة فیها ، و أمور لها الوجود الاعتباری و الوجود التکوینی ، و الطریقیّة من القسم الثالث ، فالقطع طریق حقیقةً ، و خبر الثقة طریق اعتباراً ، و مثلها : الملکیّة ، فملکیّة الباری و أولیائه حقیقیّة و ملکیّة سائر الناس اعتباریّة .

و أمّا قول بعضهم : بأنّ الحجیّة أیضاً غیر قابلة للجعل ، بل إذا جعل التکلیف فإنه ینتزع منه الحجیّة ، فهی أمر انتزاعی ، و مثلها الطریقیّة .

ففیه : إنه إنْ لم تکن الطریقیة قابلةً للجعل و الاعتبار ، فلا معنی لانتزاعها من جعل التکلیف ، لکونها إمّا من الانتزاعیّات التکوینیّة أو الاعتباریّة ، لکنّها لیست من التکوینیات من قبیل الفوقیّة للفوق ، فهی من الانتزاعیات الاعتباریّة من قبیل الملکیّة المنتزعة من « من حاز ملک » حیث تکون الحیازة سبباً للملکیّة ، و الشرطیّة للوضوء المنتزعة من « لا صلاة إلّا بطهور » (1) .

و الحاصل : إنه إنْ لم تکن الطریقیّة من الاعتباریات ، فلا یعقل کونها من الانتزاعیّات الاعتباریّة .

و القول : بأنّ الحجیّة منتزعة من وجوب العمل .

فمردود : بالدلیل فی مقام الإثبات ، حیث فرّع وجوب العمل علی الحجیّة ، و لم تفرّع الحجیّة علی وجوب العمل ، فلاحظ ما روی عن الإمام علیه السلام :

«و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها ... فإنهم حجّتی علیکم و أنا حجّة اللّٰه » (2) .

ص:333


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 315 ، الباب 9 من أبواب أحکام الخلوة .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 137 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 1 .

و الثانی :

إن ظاهر الأدلّة فی باب الطرق و الأمارات هو عدم الرّدع عن بناء العقلاء ، و عدم الرّدع شیء و جعل الطریقیّة شیء آخر .

و الجواب

صحیح أنْ لا تأسیس للشارع هنا ، و لکنْ دعوی أنه مجرّد عدم الرّدع ، غیر مسموعة ، بل الواقع هو الإمضاء و هو أمر وجودی یکشف عنه عدم الردع ، و معنی الإمضاء جعل المماثل لاعتبار العقلاء ، فللشارع جعل . . . و هذا ظاهر الأدلّة فی مقام الإثبات مثل قوله تعالی «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (1)و قوله علیه السّلام : « لا عذر لأحدٍ من موالینا فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا » (2) .

و الثالث :

لزوم نقض الغرض ، لأنّ للشارع غرضاً من الحکم الواقعی ، فإذا جعل الطریقیّة للطریق و الأمارة انتقض غرضه ، و قد أوردتم علی الشیخ هذا الإشکال - لزوم نقض الغرض - فهو یتوجّه علی القول بأنّ المجعول هو الطریقیّة أیضاً .

و الجواب

إنه غفلة عن کلام المیرزا ، فإنه یری أن الغرض تارةً : یتعلّق بما لا یمکن رفع الید عنه لأهمیّته کالدّماء ، فهنا یجعل الاحتیاط للتحفّظ علیه ، و اخری : لیس کذلک ، بل الغرض یحصل بالجعل و الاعتبار ، فإنْ وصل بطریقٍ متعارف فهو و إلّا فلا یقتضی لزوم التحفّظ علیه - حتی فی ظرف الشک - بجعل الاحتیاط . و الطرق

ص:334


1- 1) سورة البقرة : 275 .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 150 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 40 .

من هذا القبیل ، و من هذا القبیل أیضاً : الاصول غیر المحرزة ، فإنّ الغرض المترتّب علی الواقع لیس بحیث یریده الشارع حتّی فی ظرف الشک .

و الرابع

لزوم تفویت مصلحة الواقع .

و الجواب

إن هذا أیضاً ناشئ من عدم التأمّل ، لأن المیرزا یری تقدّم مصلحة التسهیل من جعل الطرق علی الأغراض ، و قد حلّ العراقی نفسه المشکل بهذا المسلک .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إن المیرزا قد وافق الشیخ علی القول بالمصلحة السّلوکیة ، فلا یلزم تفویت المصلحة .

لقد ظهر عدم ورود شیء من الإشکالات ، و أنّ الذی علیه بناء العقلاء فی الطرق هو عملهم بها من جهة کونها طریقاً و کاشفاً ، و الأصل فی ذلک هو غلبة إصابة الطّرق للواقع و حصول الظنّ القویّ به بواسطتها ، بحیث أنّهم یلغون احتمال الخلاف ، فإذا قام خبر الثقة - مثلاً - رأوا الواقع و الحقیقة ... و الشارع قد أمضی هذا البناء العملی من العقلاء .

أقول :

لکنّ المهمّ هو مساعدة مقام الإثبات ، فلیس فی الأدلّة ما یفید بصراحةٍ أنّ الشارع جَعَل الطریقیة فی مورد الطّرق و الأمارات ، بل الذی جاء فی النصوص وجوب « الأخذ » بخبر الثقة ، و هو غیر جعل الطریقیة ، کما فی الأخبار الواردة فی:

« عمّن أخذ معالم دینی » (1) . و فیها جعل « المؤدّی » کقوله علیه السّلام : « العمری

ص:335


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 148 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 34 .

و ابنه ثقتان فما أدّیا إلیک فعنّی یؤدّیان » (1) لکن جعل المؤدیٰ غیر جعل الطریقیة إلّا بالدّلالة الالتزامیّة ، أی: بما أنه طریقٌ کاشف عن الواقع یؤدّیان عن الإمام ، فلولا الطریقیّة لم یکن قولهما مؤدّیاً عن قول الإمام ، بل إنّ هذه الروایة واردة فی مورد السّیرة العقلائیّة القائمة علی کاشفیّة قول الثقة عن الواقع .

نعم ، الخبر الظاهر فی الطریقیة هو قوله : « لا عذر لأحدٍ ... » (2) . لکنْ فی السند « إبراهیم المراغی » و هو غیر موثّق .

و قد یمکن استفادة الطریقیّة من مفهوم آیة النبأ - بعد تسلیم الدلالة - علی تأمّل فیه .

و علی الجملة ، فما ذهب إلیه المیرزا فی الطرق و الأمارات من أنّ المجعول فیها هو الطریقیة ، تام ثبوتاً و إثباتاً .

المقام الثانی ( فی الاصول المحرزة )

و هی المعبّر عنها بعرش الاصول و فرش الأمارات ، و لذا تکون محکومة بالأمارات و حاکمةً علی الاصول ، و قد قال المیرزا فیها ما ملخّصه بلفظه :

و أمّا الأصول المحرزة ، فالأمر فیها أشکل ، و أشکل منها الاصول غیر المحرزة کأصالة الحلّ و البراءة ، فإنّ الاصول بأسرها فاقدة للطّریقیّة ، لأخذ الشک فی موضوعها ، و الشک لیس فیه جهة إراءة و کشف عن الواقع حتّی یقال : إن المجعول فیها تتمیم الکشف ، فلا بدّ و أن یکون فی مورد حکم مجعول شرعی ، و یلزمه التضادّ بینه و بین الحکم الواقعی عند مخالفة الأصل له .

ص:336


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 138 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 4 .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 150 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 40 .

و لکنّ الخطاب فی الاصول التنزیلیّة هیّن ، لأن المجعول فیها هو البناء العملی علی أحد طرفی الشک علی أنه هو الواقع و إلغاء الطرف الآخر و جعله کالعدم ، و لأجل ذلک قامت مقام القطع المأخوذ فی الموضوع علی وجه الطریقیّة ، لکونها متکفّلة للجهة الثالثة التی یکون القطع واحداً لها ، و هو الجری علی وفق القطع ، فالمجعول فی الاصول التنزیلیّة لیس أمراً مغایراً للواقع ، بل الجعل الشرعی إنما تعلّق بالجری العملی علی المؤدّی علی أنه هو الواقع .

و بالجملة ، لیس فی الاصول التنزیلیّة حکم مخالف لحکم الواقع ، بل إذا کان المجعول فیها هو البناء العملی علی أنّ المؤدّی هو الواقع ، فلا یکون ما وراء الواقع حکم آخر حتی یناقضه و یضادّه (1) .

خلاصة الکلام فی المقام

إنه قد أخذ الشارع الشکّ فی موضوع الاصول المحرزة ، غیر أنه ألغاه بوجهٍ من الوجوه ، کقوله : « لا تنقض الیقین بالشک بل انقضه بیقین « آخر » و« من کان علی یقین فشک فلیمض علی یقینه » و« بلی قد رکعت » ، بخلاف الاصول غیر المحرزة حیث الشک فیها محفوظ .

یقول المیرزا : إنّ المجعول فی الاصول المحرزة هو عبارة عن الجهة الثالثة من جهات القطع (2) ، فإنه لا بدّ من العمل علی طبق الأصل المحرز و البناء العملی

ص:337


1- 1) فوائد الاصول 3 / 110 - 112 .
2- 2) جهات القطع (1) إنه صفة نفسانیة خاصّة (2) إنه کاشف عن الواقع (3) إنّه یلزم العمل علی طبقه بحساب الواقع . قال بعض تلامذته بوجود جهة رابعة هی نفس العمل ، و هی موجودة فی الاصول غیر المحرزة أیضاً . لکنّ الکاظمی لم یذکر هذه الجهة عن المیرزا .

علی أنه هو الواقع .

و إذا کان کذلک ، فلا یلزم المحذور ، لأنّ الواقع علی حاله ، و لیس فی مورد الأصل المحرز حکم مجعول ، لیکون مماثلاً للواقع أو مضادّاً أو مناقضاً .

إشکال المحقّق العراقی

فأشکل المحقق العراقی: بأنّ البناء العملی تکوینی غیر قابل للجعل التشریعی (1) .

قال الاستاذ :

هذا الإشکال وارد . فلا بدّ من بیانٍ آخر ، فقال :

إنّ الأصل المحرز عبارة عن الاستصحاب و قاعدة الفراغ و قاعدة التجاوز - بناءً علی التعدّد - و قاعدة الید - بناءً علی عدم کونها من الأمارات ، کما أن فی القاعدتین أیضاً قولاً بذلک - و قاعدة أصالة الصحّة .

أمّا الاستصحاب ، فدلیله : « لا تنقض ... » ظاهر فی أن المجعول فی مورده عبارة عن النهی عن النقض ، فالشارع اعتبر بقاء الحالة السّابقة عملاً .

و لا تنافی بین هذا الاعتبار ، و الحکم الواقعی ، فلا محذور ، فی مورد الاستصحاب .

و أمّا قاعدتا الفراغ و التجاوز ، فلسان الدلیل اعتبار وجود الشک ، فأنت عند الشک فی الرکوع بعد الفراغ أو التجاوز قد رکعت ... (2) .

و لا محذور فی هذا الجعل بالنسبة إلی الواقع .

ص:338


1- 1) فوائد الاصول 3 / 110 . الهامش .
2- 2) انظر : وسائل الشیعة 1 / 471 ، 6 / 317 ، 8 / 237 .

و أمّا قاعدة إلیه ، فالمعتبر وجود المشکوک ، فمع الشکّ فی أنّ هذا الشیء ملک لزید أوْ لا ، جُعلت الملکیّة له لکونه فی بیده ، قال علیه السلام « و لو لم یجز هذا لم یستقم للمسلمین سوق » (1) فلا یُعتنی بالشک و یلغیٰ . و لذا فالأقوی کون هذه القاعدة أمارة ، کما أنّ الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة من المسائل الاصولیّة ، و فی الموضوعیة من المسائل الفقهیّة .

و أمّا أصالة الصحّة ، فکذلک .

المقام الثالث ( فی الاصول غیر المحرزة )

قال ما ملخّصه بلفظه :

و أمّا الاصول غیر المحرزة کأصالة الاحتیاط و الحلّ و البراءة ، فقد عرفت أن الأمر فیها أشکل ، فإن المجعول فیها لیس الهوهویّة و الجری العملی ، بل مع حفظ الشک یحکم علی أحد طرفیه بالوضع أو الرفع ، فالحرمة المجعولة فی أصالة الاحتیاط و الحلیّة المجعولة فی أصالة الحلّ ، تناقض الحلیّة و الحرمة الواقعیّة علی تقدیر تخلّف الأصل عن الواقع .

و قد تصدّی بعض الأعلام لرفع غائلة التضاد بین الحکمین باختلاف الرتبة ، و أنت خبیر بفساد هذا التوهّم ، فإن الحکم الظاهری و إنْ لم یکن فی رتبة الحکم الواقعی ، إلّا أن الحکم الواقعی یکون فی رتبة الحکم الظاهری ، لانحفاظ الحکم الواقعی فی مرتبة الشک فیه و لو بنتیجة الإطلاق فیجتمع الحکمان فی رتبة الشکّ ، فتأخّر رتبة الحکم الظّاهری عن الحکم الواقعی لا یرفع غائلة التضادّ

ص:339


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 292 ، الباب 25 من أبواب کیفیّة الحکم ، رقم : 2 .

بینهما إلّا بضمّ مقدّمة اخری إلی ذلک ، و هی :

إنّ الأحکام الواقعیّة بوجوداتها النفس الأمریّة لا تصلح للدّاعویّة ، و قاصرة عن أن تکون محرّکةً لإرادة العبد نحو امتثالها فی صورة الشک فی وجودها ، فإنّ الحکم لا یمکن أن یتکفّل لأزمنة وجوده التی زمان الشک فیه ، و یتعرّض لوجود نفسه فی حال الشکّ و إنْ کان محفوظاً فی ذلک الحال علی تقدیر وجوده الواقعی ، إلّا أنّ انحفاظه فی ذلک الحال غیر کونه بنفسه مبیّناً لوجوده فیه ، بل لا بدّ فی ذلک من مبیّن آخر و جعل ثانوی یتکفل لبیان وجود الحکم فی أزمنة وجوده ، - و منها زمان الشک فیه - و یکون هذا الجعل الثانوی من متممات الجعل الأوّلی و یتحد الجعلان فی صورة وجود الحکم الواقعی فی زمان الشک .

و لا یخفی : أنّ متمم الجعل علی أقسام : فإنّ ما دلّ علی وجوب قصد التعبّد فی العبادات یکون من متممات الجعل ، و ما دلّ علی وجوب السیر للحج قبل الموسم یکون من متممات الجعل ، و ما دلّ علی وجوب الغسل علی المستحاضة قبل الفجر فی الیوم الذی یجب صومه من متممات الجعل ، و غیر ذلک من الموارد التی لا بدّ فیها من متمم الجعل ، و هی کثیرة فی أبواب متفرقة و لیست بملاک واحد ، بل لکلّ ملاک یخصّه ، و إن کان یجمعها قصور الجعل الأوّلی عن أن یستوفی جمیع ما یعتبر استیفائه فی عالم التشریع ؛ و لاستقصاء الکلام فی ذلک محلّ آخر . و الغرض فی المقام : بیان أنّ من أحد أقسام متمم الجعل هو الذی یتکفل لبیان وجود الحکم فی زمان الشک فیه إذا کان الحکم الواقعی علی وجه یقتضی المتمم ، و إلّا فقد یکون الحکم لا یقتضی جعل المتمم فی زمان الشک .

و توضیح ذلک : هو أنّ للشک فی الحکم الواقعی اعتبارین :

ص:340

أحدهما : کونه من الحالات و الطوارئ اللّاحقة للحکم الواقعی أو موضوعه - کحالة العلم و الظن - و هو بهذا الاعتبار لا یمکن أخذه موضوعاً لحکم یضاد الحکم الواقعی ، لانحفاظ الحکم الواقعی عنده .

ثانیهما : اعتبار کونه موجباً للحیرة فی الواقع و عدم کونه موصلاً إلیه و منجزاً له ، و هو بهذا الاعتبار یمکن أخذه موضوعاً لما یکون متمماً للجعل و منجزاً للواقع و موصلاً إلیه ؛ کما أنّه یمکن أخذه موضوعاً لما یکون مؤمّناً عن الواقع - حسب اختلاف مراتب الملاکات النفس الأمریة و مناطات الأحکام الشرعیة - فلو کانت مصلحة الواقع مهمّة فی نظر الشارع ، کان علیه جعل المتمم - کمصلحة احترام المؤمن و حفظ نفسه - فإنّه لما کان حفظ نفس المؤمن أولی بالرعایة و أهمّ فی نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الکافر ، اقتضی ذلک تشریع حکم ظاهری طریقی بوجوب الاحتیاط فی موارد الشک حفظاً للحمی و تحرّزاً عن الوقوع فی مفسدة قتل المؤمن ؛ و هذا الحکم الطریقی إنّما یکون فی طول الحکم للواقع ، نشأ عن أهمیة المصلحة الواقعیة ، و لذا کان الخطاب بالاحتیاط خطاباً نفسیّاً و إن کان المقصود منه عدم الوقوع فی مخالفة الواقع ، إلّا أنّ هذا لا یقتضی أن یکون خطابه مقدّمیاً ، لأنّ الخطاب المقدّمی هوما لا مصلحة فیه أصلاً ، و الاحتیاط لیس کذلک ، لأنّ أهمیّة مصلحة الواقع دعت إلی وجوبه ؛ فالاحتیاط إنّما یکون واجباً نفسیاً للغیر لا واجباً بالغیر ، و لذا کان العقاب علی مخالفة التکلیف بالاحتیاط عند ترکه و أدائه إلی مخالفة الحکم الواقعی ؛ لا علی مخالفة الواقع ، لقبح العقاب علیه مع عدم العلم به ، کما أوضحناه بما لا مزید علیه فی خاتمة الاشتغال .

و من ذلک یظهر : أنّه لا مضادّة بین ایجاب الاحتیاط و بین الحکم الواقعی ،

ص:341

فإنّ المشتبه إن کان ممّا یجب حفظ نفسه واقعاً فوجوب الاحتیاط یتحد مع الوجوب الواقعی و یکون هو هو ؛ و إن لم یکن المشتبه ممّا یجب حفظ نفسه فلا یجب الاحتیاط ، لانتفاء علّته ؛ و إنّما المکلف یتخیل وجوبه لعدم علمه بحال المشتبه ؛ فوجوب الاحتیاط من هذه الجهة یشبه الوجوب المقدّمی ، و إن کان من جهة اخری یغایره .

و الحاصل : أنّه لمّا کان إیجاب الاحتیاط متمماً للجعل الأوّلی من وجوب حفظ نفس المؤمن ، فوجوبه یدور مدار الوجوب الواقعی ، و لا یعقل بقاء المتمم ( بالکسر ) مع عدم وجود المتمم ( بالفتح ) ، فإذا کان وجوب الاحتیاط یدور مدار الوجوب الواقعی ، فلا یعقل أن یقع بینهما التضاد ، لاتحادهما فی مورد المصادفة و عدم وجوب الاحتیاط فی مورد المخالفة ، فأین التضادّ ؟

هذا کلّه إذا کانت مصلحة الواقع تقتضی جعل المتمم ، من إیجاب الاحتیاط .

و إن لم تکن المصلحة الواقعیّة تقتضی ذلک ، و لم تکن بتلک المثابة من الأهمیة بحیث یلزم للشارع رعایتها کیفما اتفق ، فللشارع جعل المؤمّن ، کان بلسان الرفع ، کقوله - صلّی اللّٰه علیه و آله - « رفع ما لا یعلمون » ، أو بلسان الوضع کقوله - صلّی اللّٰه علیه و آله - « کلّ شیء لک حلال » فإنّ المراد من الرفع فی قوله - صلّی اللّٰه علیه و آله - « رفع ما لا یعلمون » لیس رفع التکلیف عن موطنه حتی یلزم التناقض ، بل رفع التکلیف عمّا یستتبعه من التبعات و إیجاب الاحتیاط ؛ فالرّخصة المستفادة من قوله - صلّی اللّٰه علیه و آله - : « رفع ما لا یعلمون »نظیر الرّخصة المستفادة من حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ؛ فکما أنّ الرّخصة التی

ص:342

تستفاد من حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ، لا تنافی الحکم الواقعی و لا تضادّه ، کذلک الرّخصة التی تستفاد من قوله - علیه السّلام - « رفع ما لا یعلمون » . و السرّ فی ذلک : هو أنّ هذه الرخصة تکون فی طول الحکم الواقعی و متأخر رتبتها عنه ، لأنّ الموضوع فیها هو الشک فی الحکم من حیث کونه موجباً للحیرة فی الواقع و غیر موصل إلیه و لا منجّز له ؛ فقد لوحظ فی الرخصة وجود الحکم الواقعی ، و معه کیف یعقل أن تضاد الحکم الواقعی ؟

و بالجملة : الرخصة و الحلیّة المستفادة من « حدیث الرفع » و« أصالة الحل » تکون فی عرض المنع و الحرمة المستفادة من إیجاب الاحتیاط ؛ و قد عرفت : أنّ إیجاب الاحتیاط یکون فی طول الواقع و متفرّعاً علیه ؛ فما یکون فی عرضه یکون فی طول الواقع أیضاً ، و إلّا یلزم أن یکون ما فی طول الشیء فی عرضه ، فتأمّل (1) .

أقول :

و ملخّص کلامه فی هذا المقام :

أنه لا یلزم محذور بجعل الاصول غیر المحرزة ، لأن بین الحکم الواقعی و الظاهری فی موردها اختلافاً فی المرتبة ، لأن موضوع هذه الاصول هو الشک فی الحکم الواقعی .

لکنّ اختلاف المرتبة غیر کاف لحلّ المشکل ، لوجود الحکم الواقعی فی مرتبة الحکم الظاهری ، فیلزم المحذور ، و لذا قال :

إنّ الشک المأخوذ فی موضوع هذه الاصول یتعلّق بالواقع ، فمعنی الخبر

ص:343


1- 1) فوائد الاصول 3 / 112 - 119 .

« رفع ما لا یعلمون » . أی: رفع ما یوجب الحیرة فی الواقع . فهذا هو المراد من الشک . هذا من جهة .

و من جهة اخری : إن دلیل الحکم الواقعی لا یتکفّل وجود الحکم الواقعی فی ظرف الشک فیه ، فتقع الحاجة إلی متمّم الجعل ، فهو الدلیل علی وجود الحکم فی ظرف الشک فیه .

و من جهة ثالثة : إن مصلحة الحکم الواقعی تارةً : توجب أنْ یجعل متمّم الجعل فی ظرف الشک ، فیجب امتثال الحکم الواقعی مع الشکّ فیه ، و اخری :

توجب جعله بحیث ینتج عدم الحکم ، و الأول هو الاحتیاط ، و الثانی هو البراءة .

قال : أمّا جعل الاحتیاط فلا یستتبع محذوراً ، لأنّ الاحتیاط الواجب معلول للحکم الواقعی و مجعول من أجل المحافظة علیه ، فلیس الاحتیاط شیئاً غیر الحکم الواقعی .

و أمّا البراءة ، فکما أن قاعدة قبح العقاب بلا بیان تدلّ علی الترخیص العقلی و هو لا ینافی الحکم الواقعی ، کذلک البراءة الشّرعیة ، لأنّ الترخیص متقوّم بالحکم الواقعی لأن موضوعه الشک فی الحکم المذکور ، و المتقوّم بالحکم الواقعی لا یعقل أن یکون منافیاً له .

إشکال السیّد الخوئی

و قد أشکل علیه تلمیذه المحقق بقوله :

و أمّا ما ذکره فی الاصول غیر المحرزة ، فغیر مفید فی دفع الإشکال ، لأن اختلاف المرتبة لا یرفع التضاد بین الحکمین ، و لذا یستحیل أن یحکم المولی بوجوب شیء ، ثم یرخص فی ترکه إذا علم بوجوبه ، مع أن الترخیص متأخر عن

ص:344

الوجوب بمرتبتین . و السرّ فیه أن المضادّة إنما هی فی فعلیّة حکمین فی زمان واحد ، سواء کانا من حیث الجعل فی مرتبة واحدة أو فی مرتبتین .

و أما ما ذکره فی الاحتیاط من أن وجوبه طریقی ، و إنما هو للتحفظ علی الملاک الواقعی ، فهو و إن کان صحیحاً ، إلا أن تخصیصه وجوب الاحتیاط بصورة مصادفة الواقع غیر تام ، لأن وجوب الاحتیاط لیس تابعاً للملاک الشخصی ، کی یکون مختصاً بصورة مصادفة الواقع ، بل تابع للملاک النوعی ، بمعنی أنه حیث لا یتمیّز فی الشبهات مورد وجود الملاک الواقعی عن مورد عدم وجوده ، فأوجب الشارع الاحتیاط کلیّة تحفظاً علی الملاک فی مورد وجوده ، إذ مع ترک الاحتیاط قد یفوت الملاک ، و لذا کان لسان أدلة الاحتیاط مطلقاً غیر مقید بموافقة الواقع ، کقوله علیه السلام : « ... فإذا ... إذا کان ذلک فأرجئه حتی تلقی إمامک ، فإن الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات » (1) .

هذا ، مضافاً إلی أن تقیید الاحتیاط بصورة مصادفة الواقع غیر معقول ، لعدم قابلیته للوصول إلی المکلف ، لعدم إحرازه الواقع علی الفرض ، و إلا کان الاحتیاط منتفیاً بانتفاء موضوعه ، و هو عدم وصول الواقع إلی المکلّف ، فیکون إیجاب الاحتیاط لغواً محضاً لا یترتب علیه أثر ، إذ مع عدم إحراز مصادفته للواقع لا یحرز وجوب الاحتیاط ، لاحتمال کونه غیر مطابق للواقع ، فتجری البراءة عنه ، و مع إحراز الواقع ینتفی الاحتیاط بانتفاء موضوعه ، و هو عدم إحراز الواقع (2) .

ص:345


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 207 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 1 .
2- 2) مصباح الاصول 2 / 107 .

أقول :

و الظاهر ورود الإشکال فی الاحتیاط .

و أمّا فی البراءة ، فما ذکره مخدوش ، لأنّ المیرزا قد ذکر تقوّم الحکم الظاهری بالحکم الواقعی ، فلا یلزم المحذور . نعم ، المشکلة موجودة بنتیجة الإطلاق .

لکن الإشکال العمدة فی البراءة هو فی قوله :

بأن وزان البراءة الشرعیّة وزان العقلیّة ، لأنه لا حکم فی البراءة العقلیّة ، إذ العقل لیس حاکماً ، لکنْ فی البراءة الشرعیّة حکم و هو الترخیص ، فیقع المحذور .

و لو سلّم کلامه فی أنّ البراءة ترفع الاحتیاط ، فإن المشکل یبقی فی : « کلّ شیء لک حلال حتی تعرف الحرام بعینه » ، فهو یجعل الحلیّة من طرفٍ ، و من طرفٍ آخر یجعل الحرمة ، فکیف الجمع ؟

فظهر أنّ طریق المیرزا لا یحلّ المشکلة فی الاصول غیر المحرزة .

طریق المحقق الأصفهانی

و ذهب المحقق الأصفهانی ، أمّا فی الطرق و الأمارات ، فإلی أنّ المجعول فیها هو « الحجیّة » ، و لمّا کانت الحجیّة المجعولة بالاعتبار أمراً وضعیّاً ، فلیس بینها و بین الحکم الواقعی تماثل و لا تضادٌّ . و قد قال بتوضیح مختاره هذا :

إنّ الحجیة مفهوماً لیست إلا کون الشیء بحیث یصح الاحتجاج به .

و هذه الحیثیة : تارة تکون ذاتیّة غیر جعلیة کما فی القطع ، فإنه فی نفسه بحیث یصح به الاحتجاج للمولی علی عبده .

و أخری : تکون جعلیة إما انتزاعیّة کحجّیة الظاهر عند العرف و حجّیة خبر

ص:346

الثقة عند العقلاء ، فإنه بملاحظة بنائهم العملی علی اتباع الظاهر و خبر الثقة و الاحتجاج بهما یصح انتزاع هذه الحیثیّة من الظاهر و الخبر .

و إمّا اعتباریّة ، کقوله علیه السلام : « فإنّهم حجّتی علیکم و أنا حجة اللّٰه » (1) فإنه جعل الحجیة بالاعتبار .

و الوجه فی تقدیم هذا الوجه علی سائر الوجوه - مع موافقته لمفهوم الحجّیة ، فلا داعی إلی اعتبار أمر آخر غیر هذا المفهوم - هو أن المولی إذا کانت له أغراض واقعیّة و علی طبقها أحکام مولویة ، و کان إیکال الأمر إلی علوم العبید موجباً لفوات أغراضه الواقعیّة ، إما لقلّة علومهم ، أو لکثرة خطئهم ، و کان إیجاب الاحتیاط تصعیباً للأمر منافیاً للحکمة ، و کان خبر الثقة غالب المطابقة ، فلا محالة یعتبر الخبر بحیث یصح الاحتجاج به .

و کلّ تکلیف قام علیه ما یصح الاحتجاج به اعتباراً من المولی ، کان مخالفته خروجاً عن زیّ الرقیّة و رسم العبودیّة ، و هو ظلم علی المولی ، و الظلم مما یذمّ علیه فاعله .

و لا حاجة بعد تلک المقدمات إلی اعتبار الخبر وصولاً و إحرازاً : إذ لو لم تکن تلک المقدمات لم یجد اعتبار الوصول ، إذ کل اعتبار لا بد من أن ینتهی إلی حقیقة تقتضی ذلک الاعتبار .

و إذا کانت هذه المقدّمات ، کفی اعتبار الخبر بحیث یحتج به من دون لزوم توسط اعتبار آخر .

ص:347


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 137 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 1 .

و کفی بهذا شاهداً ملاحظة حجیّة الظاهر و خبر الثقة عند العرف و العقلاء ، فإن تلک المقدّمات تبعثهم علی العمل بالظاهر و الخبر ، لا أنها تقتضی اعتبار الوصول و الإحراز منهم جزافاً للعمل بالظاهر و الخبر . هذا کلّه فی الحجیّة المجعولة بالاستقلال .

و أما المجعولة بالتبع ، فتارة : یراد بها الوساطة فی إثبات الواقع عنواناً ، و أخری : الوساطة فی إثبات الواقع بعنوان آخر ، و ثالثة : الوساطة فی تنجز الواقع :

فنقول : أمّا الوساطة فی إثبات الواقع عنواناً ، فهی بجعل الحکم علی طبق المؤدی بعنوان أنه الواقع کما هو مقتضی ظاهر التصدیق و أنه الواقع ، فهو حکم مماثل للواقع الذی قام علیه الخبر ، لکنه لا بما هو هو بل بما هو الواقع ، فوصوله بالذات وصول الواقع عنواناً و عرضاً .

و أما الوساطة فی إثبات الواقع بعنوان آخر ، فهی بجعل الحکم المماثل بداعی إیصال الواقع بعنوان آخر ، بمعنی أن وجوب صلاة الجمعة و إن لم یصل بعنوانه ، لکنه وصل بعنوان کونه مما قام علیه الخبر ، نظیر ما إذا قیل : أکرم زیداً و حیث لم یعرفه یقال له أیضاً بداعی جعل الداعی : أکرم جارک ، فالغرض من جعل الداعی إیصال الجعل الأول بعنوان آخر .

و أما الوساطة فی تنجز الواقع ، فهی کما إذا قال صدق العادل ، بداعی تنجیز الواقع بالخبر .

فالأوّلان إنشاء بداعی جعل الداعی ، و الثالث إنشاء بداعی تنجیز الواقع ، و سیأتی إن شاء اللّٰه تعالی الإشکال فی الثالث .

و أما الأوّلان ، فربما یشکل بأن الحجیة إذا کانت منتزعة من جعل الحکم

ص:348

التکلیفی نظیر الجزئیة و الشرطیة المنتزعة من تعلق الحکم بالمرکب و المقید ، لزم دوران الحجیة مدار بقاء الحکم التکلیفی کما هو شأن الأمر الانتزاعی و منشأ انتزاعه ، مع أن الحکم التکلیفی یسقط بالعصیان و الخبر لا یسقط عن الحجیة ، کما أن الجزئیة بمعنی کون الشیء بعض المطلوب یدور مدار بقاء المطلوبیّة ، فإذا سقط الطلب لیس ذات الجزء موصوفاً بالجزئیة للمطلوب فعلاً .

و یندفع بأنه :

إن لوحظ الدلیل المتکفل للحکم الکلی المرتب علی الموضوع الکلی فهو باق ما لم ینسخ ، کما هو شأن القضایا الحقیقیة ، فالحجیة المنتزعة من هذا الجعل الکلی الذی لا یزول بالعصیان کذلک .

و إن لوحظ الحکم الفعلی بفعلیة موضوعه ، فهو و إن کان یسقط بالعصیان ، إلّا أن الإشکال لا یختص بالحجیة المنتزعة من الحکم التکلیفی ، بل الحجیّة الفعلیة بمعنی الوصول الاعتباری کذلک ، إذ مع سقوط الحکم علی أی حال ، لا معنی لفعلیة اعتبار وصول الواقع ، کما لا معنی لاعتبار منجزیة الخبر فعلاً .

نعم ، ما لا یسقط أصلاً ، سواء لوحظ الحکم الکلی أو الفعلی هی الحجیة بمعنی کونه مما یحتج به المولی ، فإن مورد الاحتجاج فعلاً هو فی وعاه العصیان ، فالخبر ، من أول قیامه علی الحکم مما یصح الاحتجاج به عند المخالفة و لا یسقط عن هذا الشأن ، و هذا من الشواهد علی أن الحجیة بهذا المعنی الصالح للبقاء ، فتدبر جیداً .

إذا عرفت ما ذکرناه فی معنی الحجیة الاعتباریة و الانتزاعیة ، فاعلم :

أن الحجیة المجعولة بالاعتبار حیث إنها أمر وضعی ، لیس بینه و بین الحکم

ص:349

الواقعی تماثل و لا تضاد .

و أما الحجیة المجعولة بجعل الإنشاء الطلبی ، فالإنشاء بداعی تنجیز الواقع علی فرض معقولیته أیضاً ، لیس مماثلاً و لا مضاداً للحکم الحقیقی ، أی البعث و الزجر بالحمل الشائع و إن اشترکا فی مفهوم البعث النسبی الإنشائی ، إلا أن أحدهما بعث بالحمل الشائع و الآخر تنجیز بالحمل الشائع .

و أما الإنشاء بداعی جعل الداعی ، سواء کان علی طبق المؤدی بعنوان أنه الواقع أو علی طبق المؤدی بداعی إیصال الواقع بعنوان آخر ، فنفی المماثلة و المضادّة مبنی علی ما قدمناه فی الحاشیة المتقدمة ، من عدم اتصاف الحکم الواقعی بکونه بعثاً و زجراً بالحمل الشائع إلا بعد وصوله ، و لا تماثل و لا تضاد إلا بین البعثین بالحمل الشائع أو بین بعث و زجر بالحمل الشائع ، لا بینهما بالوجود الإنشائی ، و سیأتی إن شاء اللّٰه تعالی بقیة الکلام (1) .

و أمّا فی الاصول غیر المحرزة ، فقد ذکر ما نصّه :

الإباحة إنما تنافی الإرادة و الکراهة النفسانیّتین بالعرض لا بالذات ، إذ لا مقابلة بینهما ، بل الإرادة حیث إنها ملزومة للبعث ، و هو مناف بالذات للترخیص فینافی ملزومه بالعرض .

و کذا تنافیها من حیث المبدأ ، فإن الإرادة منبعثة عن کمال الملاءمة للطبع ، و الکراهة عن کمال المنافرة للطبع ، و الإباحة تنبعث غالباً عن عدم کون المباح ملائماً و منافراً ، و بین الملاءمة و عدمها و المنافرة و عدمها منافاة بالذات ، و بین لازمهما بالعرض .

ص:350


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 123 - 129 .

نعم ، حیث إن الإباحة هنا منبعثة عن مصلحة موجبة لها لا عن عدم المصلحة و المفسدة فی الفعل ، و إلّا لم یعقل مزاحمة بین اللّااقتضاء و المقتضی ، فلذا ینحصر وجه المنافاة فی الجهة الأولی ، فلو أمکن انفکاک الإرادة عن البعث الفعلی لم یکن الإباحة هنا منافیة للإرادة أو الکراهة الواقعیّة بوجه لا ذاتاً و لا عرضاً ، بمعنی أنه لو لم یکن هناک تکلیف فعلی من جمیع الجهات و المفروض أنه المنافی للإباحة ، فلا منافاة للإباحة مع الإرادة حتی لا تنقدح بسببها ، فتدبّر جیّداً (1) .

مناقشته

و یرد الإشکال علیه فیما ذکره من کون حجیّة الظواهر و خبر الثقة منتزعة من بناء العقلاء ، و ذلک :

أوّلاً : إنه یستحیل أنْ یکون نفس بناء العقلاء علّةً لحجیّة الظاهر و خبر الثقة ، بل إنّ العقلاء یستکشفون مراد المتکلّم من ظاهر کلامه ، و یرون ما أخبر به المخبر محقّقاً فی الخارج فیعتمدون علیه و یرتبُون الأثر ، لا أنّ الحجیّة تنتزع من بنائهم العملی علی اتّباع الظاهر و خبر الثقة ، إذ لیس فی بناء العقلاء تعبّد کما هو الحال بین الموالی و العبید .

و ثانیاً : إن بناء العقلاء علی العمل ، إمّا هو الإسناد أو الاستناد ، و لا یعقل فیه الإهمال ، فإمّا هو بشرط لا عن الحجیّة أو لا بشرط بالنسبة إلیها أو بشرطها ، أمّا الإسناد و الاستناد بشرط عدم الحجیّة ، فباطل بالضّرورة ، و کذا اللّابشرط ، فلا محالة ینحصران بصورة الحجیّة ، وعلیه ، فلا بدّ و أنْ تکون الحجیّة متقدّمة علی

ص:351


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 148 .

العمل تقدّم الشرط علی المشروط ، فلو کانت الحجیّة منتزعةً من بناء العقلاء لزم أنْ تکون متأخرةً عن العمل تأخّر الأمر المنتزع عن منشأ انتزاعه ، فیلزم اجتماع التقدّم و التأخّر فی الشیء الواحد ، و هو محال .

و أمّا ما ذکره فی نفی الطریقیّة و الوسطیّة فی الإثبات و اعتبار الوصول فی الأمارات ، ففیه :

أوّلاً : إنا نختار الشقّ الثانی ، و قد أشرنا إلی أنه لیس للشارع تأسیسٌ فی جعل الطریقیّة للظّاهر و الخبر ، و إنّما فعله الإمضاء لما هو عند العقلاء ، فلیس له أیّ اعتبارٍ فی ناحیة الکبری ، و لذا یقع السؤال من الإمام علیه السلام عن الصغری فی :

« أ فیونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إلیه من معالم دینی ؟ » (1) و نحو ذلک ، و العقلاء إنما یرتّبون الأثر فی حال وصول الواقع ، سواء کان الوصول عقلیّاً أو عقلائیّاً ، و إذا کان الشارع ممضیاً طریقة العقلاء ، فإنّ من المعقول حینئذٍ جعل الطریقیّة .

و ثانیاً : إنه قال فی الصفحة السّابقة :

« لیس ترتّب الأثر علی الوصول من باب ترتّب الحکم الکلّی علی الموضوع الکلّی بنحو القضایا الحقیقیّة ، حتی یکون القطع من أفرادها المحقّقة الوجود و الظن مثلاً من أفرادها المقدّرة الوجود التی یحقّقها الشارع باعتباره وصولاً ، بل هذا الأثر إنما استفید من بناء العقلاء عملاً علی المؤاخذة علی التکلیف الواصل قطعاً أو الواصل بخبر الثقة » .

فمن هذا الکلام یظهر : أن ما ذکرنا من أنّ اعتبار خبر الثقة من المرتکزات

ص:352


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 141 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 33 .

العقلائیة موجود فی ذهنه هو أیضاً ، و حینئذٍ نقول : لا ریب أنّ الوصول بخبر الثقة عقلائی و لیس بعقلی ، و ذلک لا یکون إلّا باعتبار العقلاء خبره وصولاً للواقع و کاشفاً عنه بإلغائهم احتمال الخلاف فیه.

فما ذکره هنا منقوضٌ بما ذکره من قبل .

و الحق فی الطرق و الأمارات هو : مجعولیّة طریقیّتها من قبل الشارع ، بمعنی إمضائه للسیرة العقلائیة فیها ، و الحجیّة متفرّعة علی الطریقیّة .

و أمّا ما ذهب إلیه فی الاصول غیر المحرزة ، فهو أمتن الوجوه المذکورة فیها ، و توضیحه بتقریب منّا هو :

إن الإباحة تارةً : تنشأ من عدم الملاءمة مع طبع المولی ، و اخری : من مصلحة فی نفسها ، و کلاهما ممکن ثبوتاً و إثباتاً ، و الفرق أنّ الاولی تنشأ من أمر عدمی ، و الثانیة من أمر وجودی . فهذه مقدّمة .

و المقدّمة الثانیة هی : إنّ الأحکام تلحظ فی أنفسها و مبادیها و نتائجها ، فهو ینشأ من الإرادة و الکراهة و یترتب علیه الإطاعة و العصیان ، و بعبارة اخری : إنّ الحکم ینشأ من إرادة المولی و کراهیة المولی ، ثمّ له الفاعلیة فی إرادة العبد و کراهیّته .

و الحکم اعتبار ، و الاعتبار لیس بموضوع للتناقض و التماثل ، و لذا یمکن البعث الاعتباری و الزجر الاعتباری فی الآن الواحد للشیء الواحد ، و إنما المحذور یکون فی المنشأ و فی النتیجة ، أمّا فی الأحکام أنفسها ، فلا یوجد التضادّ أصلاً .

ثم إنّ الإرادة و الکراهة أمران تکوینیان ، و الإباحة أمر اعتباری ، و الاعتباری

ص:353

لا ینافی التکوینی ، وعلیه ، فإن المحذور لیس إلّا فی الأثر و النتیجة ، لأن الإرادة لازمها البعث و لازم الکراهة هو الزجر ، و هما لا یجتمعان مع الإباحة و الترخیص ؟

فالتنافی - إن کان - هو فی مرحلة تأثیر الإرادة و الکراهة ، لکن المفروض عدم وصول الزجر الواقعی إلی ظرف الشک ، فلا مؤثّریة له ، و یبقی المؤثّر هو الحکم الظاهری .

و علی الجملة ، فإن الاباحة فی الحکم الظاهری ناشئة من المصلحة فی نفس الإباحة و التنافی إنما یحصل لو کان للحکم الواقعی مؤثریّة فی مرحلة الشک ، و المفروض عدمها ، فتؤثّر الإباحة و الترخیص و البراءة .

لکنْ لا بدّ من التأمّل فیما ذکر ، لأنّ المصلحة التی نشأت منها الإباحة إمّا هی مصلحة التسهیل ، و إمّا هی المصلحة فی نفس الإباحة ، بحیث یرخّص العبد حتی فی محتمل الوجوب و الحرمة . و علی کلّ حالٍ ، فإن العبد یرخّص فی الفعل الذی هو حرام فی متن الواقع و یکون ارتکاب الخمر الواقعی - المشکوک الخمریّة - محبوباً ، و کیف یجتمع الحبّ و البغض فی الشیء الواحد ؟

إن هذا الطریق یحلّ المشکلة فی الاصول غیر المحرزة .

و تبقی مشکلة اجتماع الإرادة و الکراهة ، و قد قال فی حلّها :

تحقیق الجواب أن حقیقة الحکم خصوصاً فی الأحکام الشرعیّة عبارة عن البعث و الزجر أعنی الانشاء بداعی جعل الداعی من دون لزوم ارادة أو کراهة بالنسبة إلی فعل المکلف فی المبدأ الأعلی ، و لا فی سائر المبادی العالیة ، بل فی مطلق من کان بعثه أو زجره لأجل صلاح الغیر .

بداهة أن الشوق النفسانی لا یکون إلا لأجل فائدة عائدة إلی جوهر ذات

ص:354

الفاعل أو إلی قوة من قواه ، و إلا فحصول الشوق الأکید بالإضافة إلی الفعل علی حد المعلول بلا علّة ، و إنما یتصور الشوق الأکید إلی فعل الغیر إذا کان ذا فائدة عائدة إلی المرید إیاه .

و حیث إن أفعال المکلفین لا یعود صلاحها و فسادها إلا إلیهم ، فلذا لا معنی لانقداح الإرادة فی النفس النبویّة و الولویة فضلاً عن المبدأ الأعلی .

مع اختصاصه تعالی بعدم الإرادة التشریعیة من جهة أخری تعرّضنا لها فی مبحث الطلب و الإرادة مستوفی ، و لعلّنا نشیر إلیها عما قریب إن شاء اللّٰه تعالی .

و أما الإرادة المتعلّقة بنفس البعث و الزجر ، فهی إرادة تکوینیة لتعلّقها بفعل المرید لا بفعل المراد منه ، و لا ترد علی ما ورد علیه البعث ، کما لا یخفی .

وعلیه ، فلیس بالنسبة إلی فعل المکلف إرادة أصلاً فضلاً عن الإرادتین ، بل لو فرضنا انبعاث الإرادة التشریعیة عن فائدة عائدة إلی المراد منه ، لم یلزم ثبوت إرادتین تشریعیتین ، لما مرّ مراراً من أن الشوق ما لم یصل إلی حدّ ینبعث عنه العضلات أو ینبعث منه البعث الحقیقی لا یکاد یکون مصداقاً للإرادة التکوینیة أو التشریعیّة ، و سیأتی إن شاء اللّٰه تعالی عدم مصداقیة الإنشاء الواقعی للبعث الحقیقی ، فکما لا بعث حقیقی واقعاً لا إرادة تشریعیة واقعاً (1) .

لکنْ یرد علیه :

أوّلاً : إنه لا یوجد برهانٌ علی ضرورة وجود المنفعة و المضرّة لشخص المرید و الکاره فی جمیع موارد الإرادة و الکراهة ، بل «وَاللّٰهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنینَ » (2)،

ص:355


1- 1) نهایة الدرایة 3 / 121 - 122 .
2- 2) سورة آل عمران : 134 .

و « یُحِبُّ الْمُتَّقینَ » (1)، «وَاللّٰهُ لٰایُحِبُّ الظّٰالِمینَ » (2)و « یُحِبُّ الصّٰابِرینَ » (3)فی حین یدلّ مثل قول أمیر المؤمنین علیه السّلام : «إن اللّٰه سبحانه و تعالی خلق الخلق حین خَلقَهم غنیّاً عن طاعتهم ... » (4) علی عدم عود نفعٍ إلیه أو دفع ضرر عنه .

و ثانیاً : إنه و إنْ لم یعُد نفع إلی النفس النبویّة و الولویّة من طاعة العباد أو ضررٌ من معصیتهم ، إلّا أنه لا ریب فی ملائمة الطاعة و منافرة المعصیة لتلک النفوس المقدّسة الفانیة فی حبّ اللّٰه و طاعته ، و علی هذا ، فلا ریب فی انقداح الحبّ و البغض و الإرادة و الکراهة فیها ، فیعود الإشکال .

طریق السیّد الخوئی

و أمّا ما ذکره المحقق الخوئی - من الطریق المؤلّف من طریقی صاحب الکفایة و المحقق الأصفهانی کما قال السیّد الاستاذ - (5) فخلاصته :

إنّ الأحکام الشرعیّة لا مضادّة بینها فی أنفسها ، إذ الحکم لیس إلّا الاعتبار ، إنّما التنافی بینها فی موردین : المبدأ و المنتهی ، أی مرحلة الملاکات و مرحلة الامتثال ، و هو منتف فی کلتا المرحلتین .

أمّا الاولی ، فلأن المصلحة فی الحکم الظاهری ، إنما تکون فی نفس جعل الحکم لا فی متعلّقه کما فی الحکم الواقعی ، فلا یلزم من مخالفتهما اجتماع المصلحة و المفسدة أو وجود المصلحة و عدمه أو وجود المفسدة و عدمه فی

ص:356


1- 1) سورة آل عمران : 76 .
2- 2) سورة آل عمران : 140 .
3- 3) سورة آل عمران : 146 .
4- 4) نهج البلاغة 2 / 160 .
5- 5) منتقی الاصول 4 / 159 .

شیء واحد ، إذ الأحکام الواقعیّة ناشئة من المصالح و المفاسد فی متعلّقاتها ، و الأحکام الظاهریّة لیست تابعةً لما فی متعلّقاتها من المصالح ، بل تابعة للمصالح فی أنفسها .

و أمّا فی الثانیة ، فلأن الحکم الظاهری موضوعه الشکّ فی الحکم الواقعی و عدم تنجّزه لعدم وصوله إلی المکلّف ، فهو ثابت فی حال الجهل بالحکم الواقعی ، و لیس لهذا الحکم داعویّة فی هذا الحال . و بعبارة اخری : حکم العقل بلزوم الامتثال إنما هو بعد وصول الحکم إلی المکلّف ، و الواصل فی حال الجهل بالحکم الواقعی هو الحکم الظّاهری ، فیلزم امتثاله ، و لو وصل الحکم الواقعی لزم امتثاله دون الحکم الظّاهری لانتفاء موضوعه .

إشکال السیّد الاستاذ

و قد أشکل علیه سیّدنا الاستاذ قدّس سرّه بأنّ الحکم التکلیفی یتقوّم بإمکان داعویّته ، ففی المورد الذی لا یمکن الانبعاث یلغو حکم الحکم ، فإذا قامت الأمارة علی خلاف الواقع و کان مفادها حکماً إلزامیّاً ، یمتنع بقاء الواقع ، لعدم قابلیّته للدعوة (1) .

أقول :

إنّ ما أفاده للجمع بین الحکمین تام ، و الإشکال بلزوم لغویّة الحکم الواقعی غیر وارد ، لوجود إمکان الدّاعویّة له ، فلو وصل لأثّر أثره ، لکنّه لم یصل و قد وصل الحکم الظّاهری فکان هو المؤثّر ، و هذا ما جاء التصریح به فی عبارته المنقولة عنه

ص:357


1- 1) منتقی الاصول 4 / 160 .

و فی تقریره الآخر کذلک (1) .

هذا ، و فی کلام السیّد الاستاذ - فی الصفحة السّابقة فی الإشکال علی المحقق الأصفهانی - ما یتراءی منه المنافاة للإشکال علی مصباح الاصول فتدبّر .

إلّا أنّ مشکلة اجتماع الإرادة و الکراهة و الحبّ و البغض موجودة .

طریق الشّیخ الاستاذ

ثمّ إنّ الشیخ الاستاذ دام بقاه بعد أنْ حلّ مشکلة الأمارات و الطرق عن طریق « الطریقیّة » تبعاً للمیرزا ، و مشکلة الاصول غیر المحرزة بطریق المحقّق الأصفهانی ، أفاد فی حلّ مشکلة اجتماع الحبّ و البغض و الإرادة و الکراهة ، أن متعلّق الکراهة مثلاً هو « شرب الخمر » و متعلّق الإرادة هو « ما شک فی خمریّته » فالمتعلّق مختلف ، و لا یلزم الاجتماع مع اختلاف المتعلّق .

ثم إنه أشار فی الدورة اللّاحقة بأنّ له طریقاً آخر لم یذکره توفیراً للوقت .

و کأنّه أراد ما أفاده فی الدّورة السّابقة ، من أنّ المشکلة فی الاصول المحرزة و فی اجتماع الإرادة و الکراهة ، إنما تنشأ من الالتزام بأنّ للشارع فی موارد الإباحة حکماً ، فیقع الکلام فی کیفیة الجمع بینه و بین الحکم الواقعی ، و لکنْ یمکن القول بعدم جعل الحکم فی تلک الموارد ، و توضیحه :

إنه لا بدّ من الدقّة و التأمّل لمعرفة الفرق بین لسان قوله علیه السّلام : « کلّ شیء اضطرّ إلیه ابن آدم أحلّه اللّٰه » (2) و لسان قوله علیه السّلام : « کلّ شیء هو لک

ص:358


1- 1) دراسات فی علم الاصول 3 / 121 .
2- 2) جامع أحادیث الشیعة 14 / 516 .

حلال حتی تعلم أنه حرام ... » (1) .

قالوا : الحلیّة فی الأوّل واقعیة ، لأن الاضطرار أمر واقعی ، و فی الثانی ظاهریّة ، لأن الشک من العوارض النفسانیة الطارئة .

فنقول : کما أنّ الاضطرار هناک یتقدّم علی مصلحة الواقع من باب التسهیل ، فکذلک فی الثانی .

لکن فیه : أنه یستلزم التصویب .

و التحقیق أن یقال : بأنه لیس للشارع فی مورد البراءة حکم أصلاً ، بل المراد من دلیلها عدم الحکم ، فإذا کان : « کلّ شیء لک حلال ... » ظاهراً فی جعل الإباحة ، فلا بدّ من رفع الید عن هذا الظهور .

و ذلک : لأنه إذا علمنا بالغرض الواقعی و المصلحة الواقعیة فهو ، و إن وقع الشک فی ذلک ، فتارة : تکون المصلحة بحیث یوجب المولی الاحتیاط ، کما فی الدماء ، و اخری : لا ، و فی هذه الحالة الأخیرة لا حکم بالاباحة من قبل الشارع .

و هذا فی عالم الثبوت ممکن و إنْ کان مخالفاً لظواهر الأدلّة .

و فی عالم الإثبات ، عندنا روایة تفید أنّ الشارع قد جعل الجهل عذراً ، فهی تصلح قرینةً لرفع الید عن ظواهر أدلّة البراءة فی ظرف الجهل و الشک ، و هی :

عن أبی علی الأشعری عن محمّد بن عبد الجبار و محمّد بن إسماعیل عن الفضل بن شاذان جمیعاً عن صفوان عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبی إبراهیم علیه السّلام قال :

ص:359


1- 1) وسائل الشیعة 17 / 89 ، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به ، رقم : 4 .

سألت عن الرجل یتزوّج المرأة فی عدّتها بجهالة ، أ هی ممّن لا تحلّ له أبداً ؟

فقال : لا .

أما إذا کان بجهالةٍ فلیتزوّجها بعد ما تنقضی عدّتها ، و قد یعذر الناس فی الجهالة بما هو أعظم من ذلک . فقلت : ... » (1) .

فمدلولها أنه جعل الجهل عذراً للمکلّف ، سواء فی الشبهات الحکمیّة و الموضوعیّة .

فإنْ قلت : لعلّها فی جعل الجهل عذراً من حیث جواز أو عدم جواز النکاح بعد انقضاء العدّة ، لا العذر من حیث العقاب ، فلا ربط لها بباب البراءة .

قلت : هذا ظاهر الذیل ، لکن الصّدر مطلق : « قد یعذر فی الجهالة بما هو أعظم منه » فیعمّ العقاب .

فإنْ قلت : لا وجه للاستدلال بها فی المقام ، لأنه یتوقف علی أن یندرج فیها مورد من موارد البراءة ، لأنّ هذا الرجل الجاهل إن کان شاکّاً فی أنّ علی المرأة المتوفی عنها زوجها أو المطلقة عدّة أوْ لا ، فحکمه عدم نفوذ النکاح للاستصحاب . فلا مورد للبراءة . و إنْ کان شاکّاً فی مقدار العدّة ، فیستصحب بقائها . فلا مورد للبراءة . و إنْ کانت الشبهة موضوعیة ، فلا یدری هی عدّة الطّلاق و قد انقضت أو عدّة الوفاء و لم تقض ؟ فیرجع الشک إلی خروجها عن العدّة .

وعلیه إجراء استصحاب العدّة ، و کذا یجری الاستصحاب لو علم بأنها عدّة الوفاة أو الطلاق و جهل بکونها فی العِدّة أو خرجت منها .

ص:360


1- 1) الکافی 5 / 427 .

فعلی کلّ تقدیر ، لا علاقة للروایة بباب البراءة حتی یستدلّ بها علیها .

قلت : هناک مورد ، و هو توارد الحالتین علی المرأة ، بأن یقع علیها الطلاق لکنه طلاق غیر المدخول بها ، ثم یقع علیها طلاق آخر هو طلاق المدخول بها ، فیقع الشک فی التاریخ ، و علیها العدّة فی طلاقٍ دون الآخر ، فیتعارض الاستصحابان و یکون من موارد البراءة .

بل یکون من موارد البراءة بناءً علی عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة ، کما علیه النراقی و السید الخوئی .

و علی الجملة : فإنّا ندّعی أنّ الحلیّة المستفادة من حدیث الرفع و نحوه هو :

عدم إیجاب الشارع الاحتیاط ، لا الحلیّة التی هی أحد الأحکام الخمسة .

و عدم جعل الاحتیاط لا ینافی وجود الحکم الواقعی .

و بعد ، فإنه لا ریب فی وجود احتمال عدم جعل الشارع حکماً بعنوان الترخیص و الحلّ فی مورد قاعدة الحلّ ، و هذا الاحتمال یرفع المحذور ، لعدم الضرر فی احتمال التضاد .

ص:361

الأمر الثالث فی مقتضی الأصل عند الشکّ فی حجیّة الأمارة
اشارة

لا یخفی أنّ من الأمارات ما قام الدلیل علی اعتباره کالبیّنة ، و منها ما قام الدلیل علی عدم اعتباره کالقیاس ، و منها ما اختلف فی اعتباره کخبر الواحد الثقة .

قالوا : و لا بدّ من تأسیس الأصل لیکون هو المرجع عند الشک فی حجیّة شیء من الأمارات ، ثم اختلفت کلماتهم فی المراد من « الحجیّة » کما سیظهر .

کلام الشیخ

قال الشیخ رحمه اللّٰه :

التعبّد بالظن الذی لم یدل علی التعبّد به دلیل ، محرّم بالأدلّة الأربعة :

و یکفی من الکتاب : قوله تعالی «قُلْ ء اللّٰهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللّٰهِ تَفْتَرُونَ» (1) .

دلّ علی أنّ ما لیس بإذنٍ من اللّٰه من إسناد الحکم إلی الشارع فهو افتراء .

و من السنّة : قوله علیه السّلام - فی عداد القضاة من أهل النار - : « و رجلٌ قضی بالحق و هو لا یعلم » (2) .

و من الإجماع : ما ادّعاه الفرید البهبهانی فی بعض رسائله ، من کون عدم الجواز بدیهیّاً عند العوام فضلاً عن العلماء (3) .

ص:362


1- 1) سورة یونس : 59 .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 22 ، الباب 4 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 6 .
3- 3) الرسائل الاصولیة : 12 .

و من العقل : تقبیح العقلاء من یتکلّف من قبل مولاه بما لا یعلم بوروده عن المولی و لو کان جاهلاً مع التقصیر .

قال : و الحاصل : إن المحرّم هو العمل بغیر العلم متعبّداً به و متدیّناً به (1) .

فهو یری عدم جواز ترتیب أثر الحجیّة مع الشک فیها ، بالأدلّة الأربعة ، بمعنی عدم جواز إسناد مؤدّی ما یشک فی حجیّته من الأمارات إلی الشارع ، و عدم جواز الاستناد إلیه فی مقام العمل .

کلام صاحب الکفایة

و قال المحقق الخراسانی رحمه اللّٰه :

إنّ الأصل فیما لا یعلم اعتباره بالخصوص شرعاً و لا یحرز التعبّد به واقعاً عدم حجیّته جزماً ، بمعنی : عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجة علیه قطعاً . فإنها لا تکاد تترتّب إلّا علی ما اتّصف بالحجیّة فعلاً ، و لا یکاد یکون الاتصاف بها إلّا إذا احرز التعبّد به و جعله طریقاً متّبعاً ، ضرورة أنه بدونه لا یصح المؤاخذة علی مخالفة التکلیف بمجرّد إصابته ، و لا یکون عذراً لدی مخالفته مع عدمها ، و لا یکون مخالفته تجریاً ، و لا یکون موافقته بما هی موافقة انقیاداً و إنْ کانت بما هی محتملة لموافقة الواقع کذلک إذا وقعت برجاء إصابته ، فمع الشک فی التعبّد به یقطع بعدم حجیّته و عدم ترتّب شیء من الآثار علیه ، للقطع بانتفاء الموضوع معه .

و لعمری ، هذا واضح لا یحتاج إلی مزید بیان أو إقامة برهان .

ص:363


1- 1) فرائد الاصول 1 / 125 - 126 .

ثم اعترض علی قول الشیخ بأنّ الحجیّة هی جواز الإسناد و الاستناد بقوله :

و أمّا صحّة الالتزام بما أدّی إلیه من الأحکام و صحة نسبته إلیه تعالی ، فلیسا من آثارها .

ضرورة أن حجیّة الظن عقلاً علی تقریر الحکومة فی حال الانسداد لا توجب صحّتهما ، فلو فرض صحتهما شرعاً مع الشکّ فی التعبد به لما کان یجدی فی الحجیّة شیئاً ما لم یترتب علیه ما ذکر من آثارها ، و معه لَما کان یضرّ عدم صحّتهما أصلاً ، کما أشرنا إلیه آنفاً ، فبیان عدم صحة الالتزام مع الشک فی التعبّد ، و عدم جواز إسناده إلیه تعالی غیر مرتبط بالمقام ، فلا یکون الاستدلال علیه بمهم ، کما أتعب به شیخنا العلّامة نفسه الزکیّة ... (1) .

و محصّل کلامه :

إنّ آثار الحجیّة هی المنجّزیة و المعذریّة و التجرّی و الانقیاد ، و هی آثار عقلیّة تدور مدار وصول الحجّة و تحقّق التعبّد به ، و مع الشکّ فی التعبّد بمؤدّی الظن یقال بعدم ترتب تلک الآثار ، و لا حاجة إلی الاستدلال لعدم جواز التعبّد بالأدلّة اللّفظیة من الکتاب و السنّة کما فعل الشیخ .

و أیضاً : ففی الاستدلال بذلک علی عدم اعتبار الأمارة المشکوک فی صحّتها بأنّ الالتزام بمثل تلک الأمارة و إسناد مؤداها إلی اللّٰه افتراء علیه ، إشکال آخر ، من جهة أن عدم جواز الإسناد و الاستناد لا یکشف دائماً عن عدم الحجیّة ، لأن الحجیّة فی ظرف الانسداد ثابتة للظنّ عقلاً بناءً علی الحکومة ، و الحال أنه

ص:364


1- 1) کفایة الاصول: 279 - 280 .

لا یجوز الإسناد .

فظهر أن صاحب الکفایة یخالف الشیخ فی نقطتین :

الاولی : فی آثار الحجیّة .

و الثانیة : فی کیفیّة الاستدلال لأصالة عدم الحجیّة .

رأی السید الخوئی

و قد تبع السید الخوئی الشیخ قدّس سرّهما ، قال :

إن الحجیّة لها أثران ، صحّة الاستناد إلیها فی مقام العمل و صحّة إسناد مؤدّاها إلی الشّارع .

ثم قال مستشکلاً علی الکفایة :

و أمّا تنجیز الواقع فلا یتوقّف علی الحجیّة ، لأنه ثابت بالعلم الإجمالی الکبیر ، أی العلم الإجمالی بالتکالیف الواقعیة أو بالعلم الإجمالی الصغیر ، کما فی دوران الأمر بین وجوب الظهر و الجمعة أو دوران الأمر بین وجوب القصر و التمام ، بلا فرق فی ذلک بین الشبهات الحکمیّة و الموضوعیة ، بل قد یکون التنجیز ثابتاً بمجرّد الاحتمال کما فی الشبهات قبل الفحص . ففی جمیع هذه الموارد کان التنجیز ثابتاً قبل قیام الأمارة علی التکلیف ، و مع قیامها علیه لا یجئ بتنجیز آخر .

قال : نعم ، کان قیام الأمارة المعتبرة علی أحد طرفی العلم الإجمالی مسقطاً لوجوب الاحتیاط و کان معذّراً علی تقدیر مخالفة الواقع ، کما إذا دلّت الأمارة علی وجوب صلاة الظهر و عمل بها المکلّف و کان الواجب فی الواقع هو صلاة الجمعة ، فکان المکلّف حینئذٍ معذوراً غیر مستحقٍّ للعقاب لا محالة .

ص:365

ثم ذکر إشکال الکفایة علی الشیخ و أجاب عنه فقال :

ما ذکره صاحب الکفایة من أنه لا یمکن أن لا یکون الشیء حجةً و صحّ إسناد مؤدّاه إلی الشارع ، لا یتصوّر له وجه معقول إلّا مع الالتزام بجواز التشریع .

و کذا ما ذکره من أنه یمکن أنْ یکون الشیء حجةً و لا یصحّ إسناد مؤدّاه إلی الشارع ، فإنه أیضاً مجرّد تخیّل لا یتعقّل له وجه صحیح .

و أمّا ما ذکره من أنّ الظنّ علی تقریر الحکومة حجة و لا یصح إسناد المظنون إلی الشارع ، ففیه : إنّ مقدّمات الانسداد علی تقریر الحکومة ، لا تنتج حجیّة الظنّ ، بل نتیجتها التبعیض فی الاحتیاط ، بالأخذ بالمظنونات دون المشکوکات و الموهومات .

قال : فتحصّل أن الصحیح ما ذکره الشیخ ... (1) .

أقول :

و یمکن الجواب : بأنه إذا کان عندنا علم إجمالی بحرمة أحد الإناءین مثلاً ، و أثّر العلم استحقاق العقاب علی ارتکابهما معاً ، فإذا قام خبر الواحد علی کون أحدهما المعیّن هو المحرّم ، لا یکون أثره التنجّز مرّةً ثانیةً ، لأن المنجّز لا یتنجّز ثانیاً ، لکنْ تصحّ مؤاخذة المکلّف علی مخالفته للخبر القائم و الاعتذار ، فالقول بأنّ المنجزیّة أثر العلم لا الحجیّة ، لا یمکن المساعدة علیه ، فکانت صحّة المؤاخذة مستندة إلی الحجّة و إنْ کانت هناک حجّة أخری ، و لا أقلّ من أن تکون الحجّة الثانیة مؤکّدة للاُولی ، فلم یکن جعلها فی ظرف وجود الاولی بلا أثر ، فیتمّ ما ذکره

ص:366


1- 1) مصباح الاصول 2 / 111 - 113 .

صاحب الکفایة .

ثم إنّ الحجیّة مباینة مفهوماً مع جواز الإسناد و الاستناد ، و أمّا من حیث المصداق ، فکلّ مورد جاز فیه الإسناد و الاستناد وجدت الحجیّة هناک و لا عکس .

وعلیه ، فجواز الإسناد قبل الفحص إلی الشارع و إنْ کان الاحتمال حجةً ، و العلم الإجمالی بوجوب الظهر أو الجمعة حجة بالنسبة إلی کلیهما ، و لکنْ لا یجوز إسناد وجوبهما إلی الشارع ، و کذا حجیّة الظن الانسدادی بناءً علی الحکومة ، فإنها موجودة و لکنْ لا یجوز إسناد المظنون إلی الشارع .

فظهر : أن الحجیّة أعم من جواز الإسناد و الاستناد .

و تحصّل : أن الأثر لیس ما ذکره الشیخ فقط ، بل هو المنجزیّة أیضاً ، بمعنی المصححیّة لجواز الاستناد إلیه فی المؤاخذة ، لا بمعنی استحقاق المؤاخذة .

هذا ، و لا یخفی أنه إن کانت الحجیّة بمعنی الطریقیّة ، فهی غیر منفکّة عن جواز الإسناد ، و أمّا إن کانت بمعنی یُحتجّ به بین المولی و العبد ، وقع التفکیک بینهما و بین جواز الاستناد ، و هذه نکتة مهمّة .

الأصل العقلی

و إذا کان الشارع قد جعل الطریقیّة لخبر الثقة مثلاً ، فإنّه ما لم یصل إلی المکلّف لم یجز إسناد مؤدّاه إلی الشارع ، فیکون جواز الإسناد من آثار الحجیّة - بمعنی الطریقیّة - لدی الوصول ، و هذا معنی کلام الشیخ بأنه مع الشک فی الحجیّة الأصل عدم الحجیّة بحکم العقل قطعاً . و أمّا بالنسبة إلی المعذریّة و المنجزیة ، فإنّه مع الشک فی الحجیّة یقطع بعدمها ، ضرورة أن الوصول لا بدّ منه .

و بما ذکرنا ظهر الأصل العقلی فی المسألة ، إذْ لمّا کان کلّ من المنجزیّة

ص:367

و جواز الاستناد و الإسناد موقوفاً علی الوصول ، فما لم یتحقق الوصول تکون الحجیّة مشکوکاً فیها ، و مع الشک فی الحجیّة یقطع بعدمها .

الأصل اللّفظی

و أسّس الشیخ قدس سرّه الأصل اللّفظی أیضاً ، لأنّ مقتضی عمومات النهی عن العمل بالظنّ هو : عدم التعبّد بکلّ ظن من الظنون إلا ما خرج بالدلیل ، فإذا شک فی جواز التعبّد بطنٍ یکون مرجع الشک إلی التّخصیص الزائد ، و فی مثله یتمسّک بعموم «وَلٰا تَقْفُ مٰا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ » (1)و نحوه . فالأصل فیما شک فی حجیّته هو العدم .

و قد أورد علیه السید الخوئی و المیرزا النائینی ، کلّ بوجه :

إشکال السیّد الخوئی

أمّا السیّد الخوئی فملخّص کلامه :

إن الأخذ بأصالة العموم إنما یکون فیما إذا کان الحکم مولویّاً ، و أمّا إذا کان إرشادیاً ، فلا عموم حتی یتمسّک بأصالة العموم فی موارد الشک فی التخصیص الزائد ، و أدلّة النهی عن الظنّ إرشاد إلی حکم العقل بعدم جواز المتابعة للظن (2) .

مناقشته

و فیه : إن الأصل فی الخطابات الشرعیّة هو المولویّة ، و لا یخرج عن هذا الأصل إلّا بدلیل ، و الحمل علی الإرشادیة إنما یکون حیث لا یصحّ عمل الخطاب علی التعبّد کما إذا کان الدلیل الصادر وارداً مورد الإطاعة و المعصیة کقوله تعالی :

ص:368


1- 1) سورة الإسراء : 36 .
2- 2) مصباح الاصول 2 / 114 .

« أَطیعُوا اللّٰهَ وَأَطیعُوا الرَّسُولَ » (1)، فإن هذه الآیة فی طول الأحکام الشرعیة المتقدّم علیها ، و لا یمکن حملها علی المولویّة ، للزوم التسلسل ، فلا بدّ من حملها علی الإرشادیة . أمّا مع إمکان إبقائها علی المولویّة فلا تحمل علی الإرشادیة .

و ما نحن فیه ممّا یمکن حمله علی المولویّة ، فلا وجه لحمله علی الإرشادیة ، و لذا لا یحمل ما ورد فی النهی عن الظلم علی الإرشادیة مع أنّ العقل حاکم بذلک أیضاً ، فکذلک نهیه عن اتّباع الظنّ لا یکفی لحمل ما ورد فی الشریعة فی الباب علی الإرشادیّة ، لإمکان حمله علی المولویة و جواز التعبّد به .

و قوله رحمه اللّٰه : بأنْ قوله تعالی : «إِنَّ الظَّنَّ لٰایُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا » آب عن التخصیص .

فیه : إن صِرف عدم القابلیّة للتخصیص لا یوجب الحمل علی الإرشادیة ، بدلیل أن حرمة الظلم لا تقبل التخصیص ، و مع ذلک لا تحمل الأدلة الناهیة عنه علی الإرشادیة ، و کذا الأدلة فی حرمة الإعانة علی الإثم علی القول بذلک ، و کذا قوله تعالی : «لٰاتَأْکُلُوا أَمْوٰالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبٰاطِلِ » . فعدم القابلیة للتخصیص لازم أعم .

فالتحقیق حمل قوله تعالی : «إِنَّ الظَّنَّ لٰایُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا » علی المولویة - و إن کان لا یقبل التخصیص قطعاً - لأنّ دلیل اعتبار الظن فی موردٍ ، یلغی احتمال الخلاف ، وعلیه السیرة العقلائیة ، فیکون حاکماً علی الآیة ، و الحکومة هی التخصیص لبّاً غیر أنها إخراج بلسان نفی الموضوع ، و فی التخصیص إخراج مع حفظه ، و متی شکّ فی الإخراج الزائد - سواء بلسان الحکومة أو التخصیص - کان

ص:369


1- 1) سورة النساء : 59 .

عموم الآیة هو المرجع .

إشکال المیرزا النائینی

و أمّا المیرزا ، فملخّص إشکاله هو :

إنّ التمسّک بالأدلّة الناهیة عن العمل بالظن لدی الشک فی حجیة ظنٍّ من الظنون ، من التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیة له ، ببیان : إن المستفاد من دلیل الاعتبار للظنّ هو التعبّد به و اعتباره علماً بإلغاء احتمال الخلاف ، و مع اعتباره کذلک یکون دلیله حاکماً علی أدلّة النهی عن اتّباع الظنّ ، فإنْ شک فی اعتبار ظن رجع الشک إلی جعل الشارع إیّاه علماً ، فیکون الموضوع لأدلّة النهی عن اتّباع الظن مشکوکاً فیه ، فلو ارید التمسّک بها کان من التمسّک بالعام فی الشبهة الموضوعیّة (1) .

مناقشته

و قد أجاب عنه فی مصباح الاصول : بأنّا نسلّم بهذه الحکومة ، لکنّها متوقّفة علی الوصول ، و ما دام اعتبار الظنّ غیر واصل فلا حکومة ، و یکون موضوع أدلّة النهی - و هو عدم العلم لا باقیاً ، وعلیه ، ففی کلّ ظن شک فی اعتباره ، بمعنی عدم الوصول ، یتمسّک بالعام ، لعدم الحکومة ، و لا إشکال . (2)

أقول :

و فیه تأمّل ، و الوجه فی ذلک : عدم مدخلیّة الوصول ، لأنّ الحکومة هی التصرّف فی موضوع الدلیل ، إمّا بالنفی و إمّا بالإثبات ، فإنْ کان الثانی أنتج التوسعة

ص:370


1- 1) أجود التقریرات 3 / 148 .
2- 2) مصباح الاصول 2 / 115 .

فی الموضوع مثل : الطواف بالبیت صلاة ، و إنْ کان الأول أنتج فیه التضییق و کان فی قوّة التخصیص مثل : لا ربا بین الوالد و الولد ... فالحکومة تصرّف من الشارع فی موضوع المحکوم ، و لا یکون فعل الشارع متقوّماً بالوصول إلی المکلّف .

و فیما نحن فیه : یعتبر المولی خبر الثقة علماً لیخرج من تحت الآیة المبارکة :

« وَلٰا تَقْفُ مٰا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ » (1)، فهی حکومة جاءت من جعل المولی و اعتباره ، و لا معنی لتقوّم جعله بالوصول .

و بعبارة اخری : إنّ الوصول متقوّم بالواصل ، و لو لا وجوده قبل الوصول لم یتحقق الوصول ، و لیس الواصل إلّا اعتبار الشارع ، فکان اعتبار الشارع - و هو تصرّفه فی الموضوع کما مرّ - متقدّماً علی الوصول ، فیستحیل أنْ یکون دخیلاً فی اعتبار الشارع .

فالإشکال علی المیرزا مندفع .

لکنّ التحقیق : أن ما نحن فیه لیس من التمسّک بالدلیل فی الشبهة الموضوعیة ، لأنّ الدلیل هو قوله تعالی «وَلٰا تَقْفُ مٰا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ » و الحکومة مسلّمة و لا تقوّم لها بالوصول ، غیر أنّه قد اعتبر فی الدلیل الوصول إلی المکلّف قیداً لارتفاع الموضوع ، لقوله تعالی «لَکَ بِهِ عِلْمٌ » . فکأنه یقول : لا یجوز العمل بغیر العلم الواصل إلیک ، فلم یکن المعتبر هو العلم وحده ، بل العلم الواصل ، و حینئذٍ ، لا یکون التمسّک بالعامّ من التمسّک به فی الشبهة الموضوعیة له ، لأنه مع الشک لا یتحقق الموضوع المقیّد .

ص:371


1- 1) سورة الإسراء : 36 .

فظهر أنه لا حاجة إلی التمحّل و القول بتوقف الحکومة علی الوصول ، بل نقول بأنّ ما اخذ فی موضوع الدلیل هو بلسانٍ قاصرٍ فی موارد الشک .

فثبت الأصل اللّفظی .

الأصل العملی

قد تقدّم أنّ أثر الحجیّة هو المنجزیّة و المعذریّة و جواز الإسناد و الاستناد ، مع دفع الإیراد بالعلم الإجمالی علی کلام الکفایة ، و لنا فی دفع الإیراد المذکور بیانٌ آخر هو :

إنه مع وجود العلم الإجمالی یمکن جعل الحجیّة ، بل هو واقع ، لأنّ العلم الإجمالی بیانٌ للجامع ، و ما یکون بیاناً للجامع یستحیل أن یکون بیاناً للخصوصیّة ، و إذا استحال ذلک ، کان منجزیّة العلم للخصوصیّة من جهة احتمال انطباق الجامع علی الخصوصیّة ، فالمنجزیّة بالنسبة إلی الأطراف هو من جهة المقدمیّة لفراغ الذمّة و من باب أصالة الاحتیاط ، وعلیه ، فالشارع یجعل الخبر حجةً علی الخصوصیّة کخصوص صلاة الجمعة ، و یحصل المنجّز لها خاصّة ، وعلیه ، فالإشکال بتحقّق الحجیّة بالعلم الإجمالی مندفع .

و بعد هذه المقدّمة :

قال الشیخ : لا یجری استصحاب عدم جعل الحجیّة ، لعدم ترتّب أثر علی الوجود الواقعی للحجیّة .

قال : فإن حرمة العمل بالظن یکفی فی موضوعها عدم العلم بورود التعبّد ، من غیر حاجةٍ إلی إحراز عدم ورود التعبد به لیحتاج فی ذلک إلی الأصل ثم إثبات الحرمة .

ص:372

و الحاصل : إن أصالة عدم الحادث إنما یحتاج إلیها فی الأحکام المترتبة علی عدم ذلک الحادث ، و أما الحکم المترتب علی عدم العلم بذلک الحادث فیکفی فیه الشک و لا یحتاج إلی إحراز عدمه بحکم الأصل ... (1) .

أقول :

حاصل کلام الشیخ : إن الاستصحاب لا بدّ و أن یکون ذا أثر ، فإنْ کان مترتباً علی العدم أو الوجود جری الاستصحاب و ابقی الوجود أو العدم تعبّداً ، أما إذا کان مترتباً علی عدم الإحراز فلا ، لأنّ عدم الإحراز حاصل بالوجدان ، و حینئذٍ ، لا معنی للتعبد بعدم الإحراز . و قد استفاد المیرزا من هذا الکلام قاعدةً هی : أنه متی کان الموضوع حاصلاً بالوجدان فإحرازه بالتعبّد تحصیل للحاصل .

و فی ما نحن فیه : الأثر هو للشکّ فی الحجیّة ، و هو أی الشک حاصل بالوجدان ، فلا معنی للاستصحاب .

إشکال المحقق الخراسانی علی الشیخ

أشکل المحقق الخراسانی بوجهین (2) :

الوجه الأول

إنه قد وقع الخلط بین الاستصحاب فی الموضوعات و الاستصحاب فی الاحکام ، لأن الشیخ قال بأنْ لا أثر لاستصحاب عدم الحجیّة ، بل الأثر لعدم إحراز الحجیّة ، فالإشکال هو : إنّ الکلام عن الأثر إنما یکون فی استصحاب الموضوع ، و أمّا فی الحکم فلا ، إن الموضوع أمرٌ تکوینی و لا بدّ للحکم و التعبد فیه من أثر ،

ص:373


1- 1) فرائد الاصول 1 / 127 - 128 .
2- 2) درر الفوائد فی حاشیة الفرائد : 43 .

بخلاف الحکم فإنه مجعول شرعیّ ، و الذی نرید استصحابه هنا هو عدم الحجیّة ، و هذا من الأحکام الشرعیة لا الموضوعات ، نعم ، هو من الأحکام الشرعیة الوضعیة لا التکلیفیّة .

الوجه الثانی

تارةً : الأثر أثر الشیء فی وجوده أو عدمه ، و تارة : هو أثر الشک فی وجود الشیء و عدمه ، و ثالثة : یکون الأثر أثراً للشیء و للشکّ فیه .

فإنْ کان من قبیل الأوّل ، فالمرجع هو القاعدة العقلیة و لا یجری الاستصحاب . و إنْ کان من قبیل الثانی ، جری الاستصحاب و لا مجال للقاعدة ، و إن کان من قبیل الثالث ، جری الاستصحاب و القاعدة معاً .

و ما نحن فیه من قبیل الثالث ، لأنّ الشیء المشکوک فی حجیّته ، إنْ لم یکن حجةً لم یجز الإسناد و الاستناد علی قول الشیخ و لم یتحقّق الحجیّة .

و علی الإجمال ، إنه علی فرض التسلیم بالحاجة إلی الأثر ، فإن الاستصحاب هنا ذا أثر ، و هو الحکومة علی حکم العقل بعدم الحجیّة الفعلیة عند الشک فی الحجیّة ، و مع الشک فیها فلا منجزیة و معذریّة ، لکنّ الاستصحاب یرفع الشک فی الحجیّة و یکون حاکماً علی الحکم العقلی .

فالمقتضی لجریان الاستصحاب موجود و المانع مفقود .

تأیید المیرزا الشیخ

( الوجه الأوّل )

و قال المیرزا (1) مؤیّداً الشیخ :

أوّلاً : إن الاستصحاب من الاصول العملیّة ، و یشترط فی جریانه أن یکون

ص:374


1- 1) فوائد الاصول 3 / 127 .

للمتیقّن السابق الذی یراد إبقاؤه أثر عملی فیتعبّد ببقائه ، فإنْ لم یکن للواقع أثر ، بل لو کان الأثر مترتباً علی الجهل به أو مشترکاً بین الواقع و الجهل به ، لم یجر الاستصحاب ، لأنه بمجرّد الشک فی الواقع یترتب الأثر و یلغو الاستصحاب ، لکونه تحصیلاً للحاصل ، لأن المفروض ترتب الأثر علی عدم الحجیّة و هو عدم صحة الإسناد و الاستناد ، بمجرّد الشکّ فی الحجیّة .

إشکال السید الخوئی

أشکل علیه فی مصباح الاصول :

بأنّ المقام لیس من قبیل تحصیل الحاصل ، لأنّ ما یحکم به العقل بمجرد الشک فی الحجیّة هو عدم الحجیّة الفعلیة ، و ما هو مورد التعبد الاستصحابی هو عدم إنشاء الحجیّة و عدم جعلها من قبل الشارع ، فما هو حاصل بالوجدان غیر ما یحصل بالتعبد (1) .

مناقشته

و فیه :

أوّلاً : إنّ هذا مردود بما جاء فی بحثه فی مسألة جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة ، فقد اختار عدم جریانه فیها ، و ذکر فی وجه ذلک : وقوع التعارض بین استصحاب المجعول مع استصحاب عدم الجعل ، و نقل هناک رأی المیرزا من عدم جریان عدم الجعل حتی یقع التعارض ، لعدم الأثر لإنشاء الشارع عدم الجعل ، بل الأثر دائماً للمنشإ .

فإذا کان هذا رأی المیرزا ، فالإشکال علیه هنا بما ذکره إشکالٌ مبنائی .

ص:375


1- 1) مصباح الاصول 2 / 117 .

و ثانیاً : إنه لیس الکلام فی مغایرة موضوع الحکم العقلی مع موضوع التعبد الشرعی بالاستصحاب ، بل إن الإشکال هو ضرورة الأثر العملی و إن کان المستصحب حکماً شرعیّاً ، و الأثر هنا لیس إلّا المنجزیة و المعذریة - علی مبنی صاحب الکفایة - و الاسناد و الاستناد علی مبنی الشیخ . و کلّ ذلک أثر إنشاء الحجیّة الواصلة إلی المکلّف ، و لو لا الوصول فلا أثر من تلک الآثار . فما ذکره غیر دافع الإشکال .

الحقّ فی الإشکال

بل الحق فی الإشکال علی المیرزا :

أوّلاً : بالنقض بجریان الاستصحاب فی الوجوب و الحرمة ، و هل للوجوب أو الحرمة فی الواقع أثر عملی أو أن الأثر فرع الوصول ؟ من الواضح أن أثر الوجوب هو الانبعاث و أثر الحرمة هو الانزجار ، و کلاهما متوقّف علی الوصول .

فما هو الجواب عن استصحاب الوجوب و الحرمة هو الجواب عن استصحاب الحجیّة و عدمها .

و ثانیاً : بالحلّ ، بأنْ یقال : إنه یعتبر فی جمیع الأحکام الشرعیة أن یکون الوجود الواقعی ذا اقتضاءٍ للتأثیر بشرط الوصول ، فالمقتضی هو الإنشاء من الشارع ، و شرط التأثیر العملی هو الوصول إلی المکلف ، کما ذکرنا فی استصحاب الوجوب و الحرمة ، إذ مجرّد الإنشاء ما لم یصل لا یؤثّر فی الانبعاث و الانزجار ، ففعلیة الأثر بالوصول . و الحجیّة کذلک ، فإنْ جعلها الشارع تحقق المقتضی للتنجیز و الإعذار ، فإذا وصل الجعل إلی المکلف حصلت الفعلیة .

و الحاصل : إن الحال فی جمیع الأحکام الشرعیّة هکذا ، فالأثر الوجود

ص:376

الواقعی فی مرحلة الاقتضاء و الفعلیة للأثر تدور مدار وصولها ، سواء کان الحکم تکلیفیّاً أو وضعیّاً .

إن الشارع یجعل الحکومة للفقیه فیقول : جعلته حاکماً ، لکنّ هذا الجعل ما لم یصل إلیه و إلی المکلّفین یکون بلا أثر ، کذلک الحجیّة ، فإن جعلها یفید الاقتضاء للمنجزیّة و المعذریّة و الإسناد و الاستناد ، و فعلیّة هذا المقتضی یکون بالوصول .

إذاً ، الأثر الاقتضائی حاصل لهذا الاستصحاب . فکلام المیرزا تبعاً للشیخ مردود .

تأیید المیرزا الشیخ ( الوجه الثانی )

و قال المیرزا :

ثانیاً بأن التمسّک بالاستصحاب المذکور لغو محض ، لأنّ الأثر یترتب علی نفس الشک فی الحجیّة ، فإحراز عدم الحجیّة بالتعبّد الاستصحابی لا یترتب علیه فائدة ، فیکون لغواً (1) .

توضیحه : إنه بمجرّد الشک فی الحجیّة یحکم العقل بعدم جواز الإسناد و الاستناد ، فکان الشک هو الموضوع و عدم جواز الإسناد و الاستناد - و کذا عدم المنجزیة و المعذریّة - هو المحمول ، فلا ریب فی ترتب هذه الآثار بمجرّد تحقق الموضوع . و أمّا الاستصحاب ، فموضوعه هو الشک و المحمول عدم جواز النقض ، و بعد ذلک یعتبر بقاء الیقین و عدمه ، ثم یرتّب عدم جواز الإسناد و الاستناد ، و بذلک یظهر أنّ الحکم العقلی بعدم جواز الاسناد و الاستناد مترتب

ص:377


1- 1) فوائد الاصول 3 / 128 .

علی نفس الشک ، فلو ارید تحصیل عدم جواز ذلک بالاستصحاب کان تحصیلاً للحاصل وجداناً بالتعبّد ، و هو لغو .

هذا ، و لا یخفی أنّ تحصیل الحاصل وجداناً بالتعبّد لیس له استحالة ذاتیّة ، بل هو محالٌ لأنّ اللّغو علی الحکیم محال .

جواب المحقق العراقی

و قد أجاب المحقق العراقی بما حاصله (1) :

إنّ حکم العقل مع وجود الحکم الشرعی عن طریق الاستصحاب ، سالبة بانتفاء الموضوع .

جواب المحقق الأصفهانی

و أجاب المحقق الأصفهانی بما حاصله (2) :

إن رفع الید عن حکم العقل هنا تخصّصی ، و رفعها عنه حکم الشارع تخصیص بلا دلیل ، و إذا دار الأمر بین التخصّص و التخصیص تقدّم الأول .

توضیح الأول : إنّ الأحکام العقلیة علی قسمین ، قسم منها تنجیزی و قسم تعلیقی ، فإنْ کان ما نحن فیه من قبیل الأوّل ، تمّ ما ذکره ، لکنه من قبیل الثانی ، فإنّ موضوع حکم العقل عدم جواز إسناد « ما لا یعلم » - أی المشکوک فیه - إلی الشارع ، و هذا هو الموضوع لحکمه ، فإنْ ارتفع الشکّ وجداناً أو بالتعبّد ، انتفی الموضوع و کان الحکم منتفیاً بانتفائه ، و علی الجملة ، فإن حکم العقل متوقف علی وجود الشک عقلاً و شرعاً ، لکنّ دلیل الاستصحاب رافع للشک .

ص:378


1- 1) فوائد الاصول 3 / 131 ، الهامش .
2- 2) نهایة الدرایة 3 / 163 .

و توضیح الثانی : إن سقوط دلیل الاستصحاب هنا بحکم العقل و رفع الید عن جریانه یستلزم التخصیص فی أدلّة الاستصحاب ، لأن المفروض وجود موضوعه - و هو الشک - بالوجدان ، و الیقین السابق بعدم الحجیّة أیضاً موجود ، فأرکانه تامة ، فإذا لم یجر یلزم التخصیص فی أدلّته من غیر مخصّص ، لأنّ ما یحتمل أن یکون مخصّصاً لیس إلّا حکم العقل ، لکنّ مخصصیّة حکم العقل موقوفة علی وجود المقتضی لجریانه ، و وجوده موقوف علی عدم جریان عمومات الاستصحاب ، لکنّ عدم جریانها موقوف علی تخصیص حکم العقل ، و هذا دور .

و هکذا یندفع إشکال المیرزا و یتمّ الأصل العملی الشرعی .

إلّا أن یقال :

إن ما ذکر مبنی علی أن یکون الشکّ هو الموضوع لحکم العقل ، فیتقدم علیه دلیل الاستصحاب کما تقدّم . أمّا إن کان الموضوع له هو عدم وصول الحجیّة ، الملازم للشک ، فإنّ عدم وصولها یساوی وصول عدمها ، لکنّ نتیجة التعبّد الشّرعی بالاستصحاب إنه : و اصلٌ إلیک عدم الحجیّة ، و هذا غیر رافع ل« عدم وصول الحجیّة » فیکون موضوع حکم العقل باقیاً و الاستصحاب غیر رافعٍ له . فتأمّل .

هذا تمام الکلام فی مقتضی الأصل فی حجیة الظن ، و مقتضی القاعدة أن یتمسّک أوّلاً بالأصل اللّفظی ثم علی فرض التنزّل بالأصل العملی ، ثم بالأصل العقلی .

و یقع البحث فی الأمارات بعون اللّٰه .

ص:379

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.