تحقیق الاصول المجلد 4

اشارة

سرشناسه:حسینی میلانی، سیدعلی، 1326 -

عنوان و نام پدیدآور:تحقیق الاصول علی ضوء ابحاث شیخناالفقیه المحقق والاصولی المدقق آیةالله العظمی الوحیدالخراسانی/ تالیف علی الحسینی المیلانی.

مشخصات نشر:قم: مرکزالحقائق الاسلامیه، 1432 ق.= 1390 -

مشخصات ظاهری:ج.

شابک:دوره 978-964-2501-52-6 : ؛ ج.1 978-964-2501-93-9 : ؛ ج.2 978-964-2501-94-6 : ؛ ج.3 978-964-2501-39-7 : ؛ ج. 4 978-964-2501-54-0 : ؛ 70000 ریال : ج.5 978-964-2501-55-7 : ؛ 130000 ریال: ج.6 978-600-5348-78-1 : ؛ ج.7: 978-600-5348-91-0 ؛ ج.8 978-600-8518-02-0 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج. 2- 4 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390) .

یادداشت:ج.5 (چاپ اول: 1431ق.= 1389).

یادداشت:ج.6 (چاپ اول: 1435ق. = 1393).

یادداشت:ج.7 (چاپ اول: 1436ق. = 1393).

یادداشت:ج.8 (چاپ اول: 1437ق. = 1395) (فیپا).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:وحیدخراسانی، حسین، 1299 -

شناسه افزوده:مرکز الحقائق الاسلامیه

رده بندی کنگره:BP159/8/ح56ت3 1390

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:1093921

ص :1

اشارة

ص :1

ص :2

ص :3

ص :4

المقصد الثانی النواهی

اشارة

ص:5

ص:6

و الکلام فی جهات :

الجهة الاولی ( فی معنی مادّة النهی و صیغته )

کلام الکفایة

ذهب المحقق الخراسانی (1) و تبعه المیرزا النائینی (2) إلی أن النهی - بمادّته و صیغته - یدلّ علی الطلب ، کالأمر بمادّته و صیغته ، غیر أنّ متعلّق الطلب فی الأمر هو الوجود ، و متعلّقه فی النهی هو العدم ... .

قال : نعم هو : إنّ متعلّق الطلب فیه هل هو الکف أو مجرّد الترک و أن لا یفعل ؟

قال : و الظاهر هو الثانی .

قال : و توهّم أن الترک و مجرّد أن لا یفعل خارج عن تحت الاختیار ، فلا یصح أن یتعلّق به البعث و الطلب ، فاسد . فإنّ الترک أیضاً یکون مقدوراً ، و إلّا لما کان الفعل مقدوراً و صادراً بالإرادة و الاختیار . و کون العدم الأزلی لا بالاختیار ، لا یوجب أن یکون کذلک بحسب البقاء و الاستمرار الذی یکون بحسبه محلّاً للتکلیف .

ص:7


1- 1) کفایة الاصول: 149.
2- 2) أجود التقریرات 2 / 119.

فالمختار عنده ما علیه المشهور - کما قیل - من أن مدلولهما نفس مدلول المادّة و الصیغة فی الأمر ، و هو الطّلب ، غیر أنّ المتعلّق مختلف ، إذ النهی عبارة عن طلب ترک الشیء .

فإن قیل : إن الترک لا یتعلّق به الطلب ، لأنه أمر عدمی و العدم لا یتعلّق به غرض ، بل الصحیح هو القول بأن النهی طلب کفّ النفس .

فالجواب : أمّا علی القول بأن عدم الملکة له حظ من الوجود فواضح ، لتعلّق الغرض به . و أمّا علی القول بأنه لا حظّ له من الوجود عقلاً ، فالجواب : إن الأعدام المضافة إلی الوجود تتعلّق بها الأغراض عقلاءً .

فإن قیل : إنه إذا کان النهی طلب الترک و العدم ، فإنّ العدم غیر مقدور ، و لا یعقل طلب غیر المقدور ... و لذا یکون المتعلّق هو الکفّ لا الترک .

فأجاب : بأن العدم غیر المقدور هو العدم الأزلی لا العدم بحسب البقاء و الاستمرار فهو مقدور ، و التکالیف إنما هی بحسب البقاء و الاستمرار لا بحسب الأزل .

فالإشکالان مندفعان .

ما یرد علی مختار الکفایة

لکن یرد علیه :

أمّا ثبوتاً : فإن الطلب معلول للشوق ، و معلول معلول للمصلحة ، و ما لا تترتب علیه المصلحة لا یتعلّق به الشوق ، و أیّ مصلحة تترتب علی العدم ؟

و الحاصل : إنه لا یعقل بالنسبة إلی الترک إلّا الشوق بالعرض ، بمعنی أنّه لما یکون وجود الشیء غیر مشتاقٍ إلیه فعدمه یکون مطلوباً ، أمّا الترک أوّلاً و بالذات ، فلا یتعلّق به الشوق فلا یتعلّق به الطلب .

هذا أوّلاً .

ص:8

و ثانیاً : إنّ مدلول النهی عند هذا المحقق هو الطلب الإنشائی ، و لا بدّ من صدوره عن الإرادة الجدیّة ، لکن تعلّقها حقیقةً بالعدم غیر معقول ، لأنه - و إن کان مضافاً إلی الوجود - غیر قابلٍ للوجود .

و أمّا إثباتاً : فإن « لا تفعل » الذی هو طلب الترک ، یشتمل علی مادّةٍ و هیئة ، أمّا المادّة فمدلولها الفعل ، و أمّا الهیئة فمدلولها - علی الفرض - هو الطلب ، فأین الدالّ علی الترک ؟ بخلاف الأمر ، فإنّ مدلول الهیئة فی « صلّ » هو الطلب و المتعلّق هو مادّة الصّلاة ، فکان المدلول : طلب الصّلاة ، و هو یقتضی إیجادها .

فما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) مخدوش ثبوتاً و إثباتاً .

الأقوال الأُخری

و قد خالف سائر الأعلام المحقق الخراسانی فی هذا المقام ، و ذهبوا إلی أنّ مدلول النهی یغایر مدلول الأمر لکنّ المتعلّق واحد ، ثم اختلفوا علی أقوال :

القول الأول

إن مدلول النهی هو الکراهة و مدلول الأمر هو الإرادة .

و فیه : إنّ الإرادة و الکراهة هما المبدأ و العلّة للأمر و النهی ، و علّة الشیء لا تکون مدلولاً له .

القول الثانی

إنّ مدلول النهی عبارة عن حرمان المکلّف من الفعل ، و مدلول الأمر عبارة عن ثبوت الشیء فی ذمة المکلّف . و الأساس فی هذا القول هو : أن حقیقة الإنشاء عبارة عن الاعتبار و الإبراز أو إبراز الاعتبار . ( قال ) و نظیر ذلک ما ذکرناه فی بحث الإنشاء و الإخبار من أن العقود و الإیقاعات کالبیع و الإجارة و الطلاق و النکاح أسام لمجموع المرکب الاعتباری النفسانی و إبراز ذلک فی الخارج بمبرز ، فلا یصدق

ص:9

البیع - مثلاً - علی مجرّد ذلک الأمر الاعتباری أو علی مجرد ذلک الإبراز الخارجی .

و ذکر : أن ما ذهب إلیه جماعة من المحققین من أن حقیقة النهی هو الزجر ، من اشتباه المفهوم بالمصداق ، لأنّ « الحرمان » المبرز مصداق « الزجر » (1) .

و فیه : لا إشکال فی وجود « الحرمان » فی موارد « النهی » ، و أنه یصحّ أن یقال بأنّ المکلّف قد حُرم من الفعل الکذائی ، لکنّ محطّ البحث هو تعیین مفاد النهی مجرّداً عن لوازمه ، فنحن نعلم بأن لازم طلوع الشمس هو وجود النهار ، لکنّه خارج عن مدلول لفظ الشمس ... وعلیه ، فإن وجود الحرمان - عقلاءً - فی مورد النهی شیء و کونه مدلول النهی شیء آخر ، و کذلک الکلام فی طرف الأمر ، فثبوت الشیء فی الذمّة لا ینکر ، لکنّ کونه هو المدلول أوّل الکلام .

هذا ، و لو لم یکن لهیئة « لا تفعل » مدلول إلّا« الحرمان » الاعتباری ، کان اللّازم أن ینسبق إلی الذهن منها عین ما ینسبق من مادّة « الحرمان » ، و الحال أنه لیس کذلک کما هو واضح ، بل لا توجد بینهما المساوقة الموجودة بین لفظ « من » و« الابتداء » و نحوهما .

فظهر أن ما ذهب إلیه المحقق الخوئی خلطٌ بین المعنی و لازم المعنی .

الرأی المختار

و قد اختار شیخنا - فی کلتا الدورتین - ما ذهب إلیه جماعة من المحققین ، کالأصفهانی و العراقی و البروجردی ، من أنّ النهی عبارة عن الزجر ، کما أن الأمر عبارة البعث .

و توضیح ذلک : إنه کما فی الإرادة التکوینیّة یلحظ الإنسان الشیء - کالصّلاة مثلاً - فیری فیه المصلحة و یتعلّق به غرضه ، فیشتاق إلیه و یتحرّک نحوه أو یأمر

ص:10


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه 3 / 276 .

الغیر به فتکون إرادة تشریعیّة ، کذلک فی طرف النهی ، فإنّه یتصوّر الشیء و یری فیه المفسدة و ما ینافی الغرض ، فینزجر عنه تکویناً ، و یزجر غیره عنه تشریعاً ...

و هذا هو واقع الحال فی الأمر و النهی ، فهو لمّا یری وجود المفسدة فی شرب الخمر لا یُقدم علی ذلک ، و إذا أراد زجر الغیر یقول له : « لا تشرب الخمر » أو یشیر إلی هذا المعنی بیده إشارةً مفهمةً له ... فمعنی « النهی » هو « الزجر » عن الشیء المعبّر عنه بالفارسیة « بازداشتن » ، فهیئة « لا تفعل » مدلولها و النسبة الزجریّة ، « النّسبة » معنی حرفی ، کما أنّ مدلول هیئة « افعل » هو « النسبة البعثیّة » .

هذا تمام الکلام فی ... و قد ظهر أن الخلاف یرجع إلی أنّه هل المدلول فی الأمر و النهی واحد و المتعلّق متعدّد ، أو أن المعنی متعدّد و المتعلّق واحد ؟

قال المشهور بالأوّل ، وعلیه المحقق الخراسانی و المحقق النائینی .

و قال الآخرون بالثانی .

و اختلف المشهور علی قولین ، فمنهم من جعل المتعلّق أمراً عدمیّاً و هو الترک وعلیه صاحب ( الکفایة ) و المیرزا ، و منهم من جعله وجودیّاً و هو الکفّ .

و اختلف الآخرون علی أقوال ، و المختار هو « الزجر » وفاقاً للمحقق الأصفهانی و غیره .

هذا ، و فی ( منتقی الاصول ) أنّ التحقیق موافقة صاحب ( الکفایة ) فیما ذهب إلیه ، قال :

و التّحقیق : موافقة صاحب ( الکفایة ) فی ما ذهب إلیه من الرّأی .

و الّذی ندّعیه : أنّ المنشأ فی مورد النّهی لیس إلّا البعث نحو التّرک مع الالتزام بأنّ مفهوم النّهی یساوق عرفاً مفهوم المنع و الزّجر لا البعث و الطّلب .

و الوجه فیما ادّعیناه : هو أنّ التکلیف أعمّ من الوجوب و التّحریم - علی

ص:11

جمیع المبانی فی حقیقته - إنّما هو لجعل الدّاعی و للتحریک نحو المتعلّق بحیث یصدر المتعلّق عن إرادة المکلّف ، و من الواضح أنّ ما یقصد إعمال الارادة فیه فی باب النّهی هو التّرک و عدم الفعل ، و لا نظر إلی إعمال الإرادة فی الفعل کما لا یخفی جدّا ، و هذا یقتضی أن یکون المولی فی مقام تحریک المکلّف نحو ما یَتعلّق به اختیاره و هو التّرک ، و یکون فی مقام جعل ما یکون سبباً لإعمال إرادة المکلّف فی التّرک ، فواقع النّهی لیس إلّا هذا المعنی و هو قصد المولی و إرادته تحریک المکلّف و إعمال إرادته فی التّرک .

و هذا کما یمکن أن ینشأ بمدلوله المطابقی و هو طلب الترک ، کذلک یمکن أن ینشأ بمدلوله الالتزامی و هو الانزجار عن الفعل ، فإنّه لازم ارادة ترک العمل ، و هو فی باب النّهی منشأ بمدلوله الالتزامی بعکسه فی باب الأمر فإنّه منشأ بمدلوله المطابقی ، فالمنشأ فی باب النّهی إرادة الترک بمفهوم المنع و النّهی ، و لیس المنشأ هو نفس المنع عن الفعل ، لأنّه غیر المقصود الأوّلی و أجنبی عمّا علیه واقع المولی .

و أمّا دعوی : أنّه لیس فی الواقع سوی کراهة الفعل تبعاً لوجود المفسدة فیه دون إرادة التّرک ، فهی باطلة ، فإنه کما هناک کراهة للفعل کذلک هناک إرادة و محبوبیّة للتّرک ، و یشهد لذلک الأفعال المبغوضة بالبغض الشّدید ، فإنّ تعلّق المحبوبیّة بترکها ظاهر واضح لا إنکار فیه ، کمحبوبیّة الصحة التی هی فی الحقیقة عدم المرض و نحو ذلک .

و أمّا تمییز الواجب عن الحرام ، فلیس الضّابط فیه ما هو المنشأ و ما هو متعلّق الإرادة أو الکراهة ، بل الضّابط فیه ملاحظة ما فیه المفسدة و المصلحة ، فإن کان الفعل ذا مفسدة کان حراماً و إن کان المنشأ طلب الترک ، و إن کانت المصلحة

ص:12

فی الفعل أو فی الترک کان الفعل أو الترک واجباً ، و مثل الصّوم تکون المصلحة فی نفس التّرک فیکون واجباً (1) .

أقول :

إن موضوع البحث هو مفاد النهی ، و ما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) هو دلالة النهی علی طلب الترک ، و قد عرفت ما فیه . و أمّا ما ذهب إلیه السیّد الأُستاذ من أنّ النهی کما یمکن أن ینشأ بمدلوله المطابقی و هو طلب الترک ، کذلک یمکن أنْ ینشأ بمدلوله الالتزامی و هو الانزجار عن الفعل ، فإنه لازم إرادة ترک العمل ، ففیه : إنّ الانزجار عن الفعل حالة تحدث للمکلَّف عند إرادته ترک العمل امتثالاً للنهی کما ذکر ، لا أنّه مدلولٌ للنهی ، فکون الشیء مدلولاً للنهی - کما هو موضوع البحث - أمرٌ ، و کونه ملازماً للمدلول - کما نصّ علیه فی موضعٍ آخر (2) - أمر آخر ، بل إنّ التعبیر بالانزجار یناسب ما ذهب إلیه الجماعة - و تبعهم شیخنا الأُستاذ - من أن المدلول هو الزّجر ، للتضایف بینهما کما لا یخفی .

فما أفاده ، إمّا یرجع إلی ما ذکروه و إما هو خلط بین المعنی و لازمه ، کما تقدَّم فی الإشکال علی ( المحاضرات ) لو تمّ رأی صاحب ( الکفایة ) .

الجهة الثانی ( فی الفرق بین الأمر و النهی من جهة الاقتضاء )

اشارة

إنَّ الأمر یقتضی الإتیان بصرف وجود الطبیعة ، فلو أمر بالصّلاة حصل الامتثال بصرف وجودها من قبل المکلّف ، بخلاف النهی ، فإنه یقتضی الانزجار عن جمیع أفراد الطبیعة . فما هو المنشأ لهذا الفرق ؟

ص:13


1- 1) منتقی الاصول 3 / 6 - 7 .
2- 2) منتقی الاصول 3 / 11 .

رأی المحقق الخراسانی

قال فی ( الکفایة ) :

ثم إنه لا دلالة لصیغته علی الدوام و التکرار کما لا دلالة لصیغة الأمر ، و إن کان قضیّتهما عقلاً تختلف و لو مع وحدة متعلّقهما ، بأن تکون طبیعة واحدة بذاتها و قیدها تعلّق بها الأمر مرةً و النهی أُخری ، ضرورة أن وجودها یکون بوجود فردٍ واحدٍ ، و عدمها لا یکاد یکون إلّا بعدم الجمیع کما لا یخفی (1) ... .

فمنشأ الفرق عند المحقق الخراسانی هو حکم العقل ، و وافقه المیرزا - و إن کان هناک فرق بین کلامیهما ، و ما ذکره صاحب ( الکفایة ) أتقن - و حاصل هذا الوجه هو : إنّ وجود الطبیعة یتحقق بوجود فردها ، لکنّ عدمها لا یتحقّق إلّا بعدم جمیع الأفراد ، و إن کان فی نسبة التحقق و العدم إلی العدم مسامحة ... .

بیان السید الحکیم

و قد ذکر السید الحکیم برهاناً لهذا الوجه فقال : بأنه لمّا یوجد الفرد من طبیعةٍ ما فبوجوده توجد الطبیعة أیضاً ، فإذا کان المطلوب تتحقّق الطبیعة فإنّها تتحقّق بوجود الحصّة و یحصل الامتثال ، أمّا فی النهی ، فلا یکفی فی عدم الطبیعة عدم فردٍ بل لا بدّ من عدم جمیع الأفراد ، إذ لو وجد بعض أفرادها و عدم البعض الآخر فصدق وجود الطبیعة و عدمها ، لزم اجتماع النقیضین ، فلا بدّ إمّا أن لا یصدق علی وجود الفرد أنه وجود للطبیعة أو یصدق و لا یکون عدمها إلّا بعدم جمیع الأفراد ، و حیث أنه یصدق ضرورةً ، فلا یکون عدم الطبیعة إلّا بعدم تمام أفرادها .

فیکفی فی امتثال الأمر وجود واحد للطبیعة ، و لا یکفی فی امتثال النهی إلّا ترک جمیع الأفراد لیتحقق عدمها (2) .

ص:14


1- 1) کفایة الاصول : 149 .
2- 2) حقائق الأُصول 1 / 346 .

إشکال الأُستاذ

و قد أورد علیه شیخنا : بأنّه یستلزم أن یکون أحد النقیضین أعمّ من النقیض الآخر ، و ذلک : لأنّ وجود الطبیعة و عدمها متناقضان کما هو معلوم ، فإن قلنا بوجودها بوجود فردٍ ما من أفرادها أمّا عدمها فلا یصدق بعدمه بل بعدم تمام أفرادها ، لزم أن تکون دائرة العدم بالنسبة إلی هذه الطبیعة أوسع من دائرة الوجود ، و لازم ذلک ارتفاع النقیضین ، لأنه فی حال وجود الفرد الواحد فقط ، لا یصدق العدم علی الزائد عنه کما لا یصدق الوجود ، و هو محال .

و علی الجملة ، فإنه إذا کان وجود الطبیعة بصرف وجود فردٍ ما ، فإنّ نقیض صرف الوجود هو صِرف العدم لا عدم جمیع أفرادها ... و لو قیل : بأنّ الوجود المضاف إلی الطبیعة یقتضی صرف الوجود ، أما العدم المضاف إلیها فهو عدم صرف الوجود ، و هذا یلازم عدم جمیع الأفراد ، فهو توهم باطل ، لأنه یستلزم تحقّق المعصیة بالفرد الأوّل ، و أنه لا معصیة بارتکاب الأفراد الأُخری ، و هذا خلاف الضرورة ... .

و تلخّص : أن الفرق بین مقتضی الأمر و النهی لیس بحکم العقل .

رأی المحقق الأصفهانی

و ذهب المحقق الأصفهانی : إلی أن الفرق ناشئ من الاختلاف فی الإطلاق ، فإن مقتضاه فی الأمر هو صرف الوجود ، أمّا فی النهی فهو ترک جمیع الوجودات ... و قد أوضح ذلک : بأنه لمّا کان الأمر ناشئاً عن المصلحة ، فإنّها تتحقّق بصرف وجود المتعلّق ، و النهی لمّا کان ناشئاً من المفسدة فی المتعلّق ، فلا محالة یکون الإطلاق فیه مقتضیاً للانزجار عن جمیع وجودات المتعلّق ، لأن المصلحة تترتب تارةً : علی صرف الوجود ، و أُخری : علی مجموع الوجودات

ص:15

بنحو العام المجموعی ، و ثالثة : علی کلّ الوجود بنحو العام الاستغراقی ، و رابعة :

علی المسبب من الوجودات . هذا بحسب مقام الثبوت .

هذا فی الأمر ... و کذلک الحال فی النهی و تبعیّته للمفسدة .

و فی مرحلة الإثبات ، نری فی الأمر فی الصورة الأُولی حیث المصلحة قائمة بصرف الوجود ، لا یحتاج المولی إلی بیانٍ زائد ، فلو قال « صلّ » کفی ، و یتحقق الامتثال بصرف وجود الصّلاة ، بخلاف الصور الباقیة ، فیحتاج إلی بیان زائد ... أمّا فی النهی ، فإن المورد الذی لا یحتاج فیه إلی بیان زائد هو صورة ما إذا کانت المفسدة قائمةً بجمیع وجودات المتعلّق ، فإن مقتضی الإطلاق فیها هو الانزجار عن الجمیع کما فی « لا تشرب الخمر » ... بخلاف الصور الأُخری فهی محتاجة إلی البیان (1) .

إشکال المحاضرات

و أورد علیه فی ( المحاضرات ) :

أولاً : إن هذا الوجه أخصّ من المدّعی ، فإنه مبنی علی مسلک العدلیة - من تبعیّة الأحکام للمصالح و المفاسد - فقط ، و لا یحلّ المشکل علی جمیع المبانی .

و ثانیاً : إن هذا الوجه للفرق - و إن کان صحیحاً فی نفسه - إلّا أنه لا طریق لنا إلی إحراز کیفیة المصلحة و المفسدة ، إذ لا یوجد عندنا إلّا الأمر و النهی ، و هما لا یکشفان عن کیفیة المصلحة و المفسدة اللتین هما تبع لهما (2) .

نظر الأُستاذ فی الرأی و الإشکال علیه

و أفاد الأُستاذ : بأن الأساس فی رأی المحقق الأصفهانی هو الارتکاز ، فإن

ص:16


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 290 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 285 .

المرتکز فی الأذهان کون المصلحة مترتبةً علی صرف الوجود و المفسدة مترتّبة جمیع الوجودات ، و هذا الارتکاز المستند إلی الغلبة هو السبب فی انصراف الإطلاق فی طرف الأمر إلی صرف الوجود و فی طرف النهی إلی مطلق الوجود ...

فالإشکال مندفع و إن کان کلام المحقق المذکور غیر وافٍ بما ذکرناه .

لکنّ الإشکال الوارد هو عدم ثبوت هذه الغلبة ... و یشهد بذلک أن الأوامر الواردة فی المندوبات لیس المطلوب فیها صرف الوجود ، فلمّا یقول : اذکر اللّٰه ، فإنّ المطلوب ذکر اللّٰه بنحو الإطلاق ، و کذا : أکرم العالم ... و نحو ذلک .

رأی المحاضرات

و ذهب المحقق الخوئی إلی أنه لا فرق فی مقام الثبوت ، بل هو فی مقام الإثبات و یتلخّص فی أنه یستحیل تعلّق التکلیف بجمیع وجودات المتعلّق ، لأنّها غیر مقدور علیها ، و إذ لا معیّن و مرجّح لعدد منها بعد ذلک ، فإن الأمر یتنزّل إلی صرف وجود الطبیعة ، و یتحقق الامتثال بالإتیان به .

أمّا فی النهی ، فإن الحال بالعکس ، لأن صرف الترک حاصل بالضرورة ، لعدم القدرة علی ارتکاب کلّ أفراد المتعلَّق و طلبه تحصیل للحاصل ، فلا یعقل الزجر عنه ، و إذ لا معیّن لمرتبةٍ من المراتب ، فإنّ النهی یترقّی إلی مطلق وجود المتعلّق .

الإشکال علیه

و أورد علیه شیخنا بوجوه :

الأول : إنّ کلّ تعیّن محتاجٌ إلی معیّن بلحاظ خصوصیّةٍ ، وعلیه ، فما المعیّن لصرف الوجود عند العجز عن جمیع الوجودات ؟ و ما الدلیل علیه إثباتاً ؟

إن مجرّد عدم القدرة علی الجمیع لا یوجب التعیین ، بل فی هذه الحالة

ص:17

یلزم إجمال الدلیل و المرجع هو الأصل العملی .

و الثانی : إن کلامه منقوض بما ذکره فی الجهة الثانیة من أنّ المصلحة قد تکون فی الفعل و الترک ، و هی فی الترک تتصوّر علی أربعة أنحاء : فتکون المصلحة فی صرف الترک ، و فی تمام التروک بنحو الانحلال ، و فی مجموعها ، و فی المسبب عن جمیعها .

فإذا کانت المصلحة قائمة بصرف الترک ، فهو المتعلّق للطلب ، و الحال أنه ضروری الوجود و طلبه تحصیلٌ للحاصل .

و الثالث : إن معنی القدرة هی أنه إن شاء فعل و إن لم یشأ لم یفعل ، فهی القدرة علی الفعل و الترک ، و فی کلّ موردٍ یکون الفعل غیر مقدور فالترک کذلک ...

وعلیه ، فلو لم تکن قدرة علی جمیع الوجودات ، فلا قدرة علی ترک الجمیع ، و لو کان صرف الترک تحصیلاً للحاصل ، کذلک صرف الفعل ... .

و الحاصل : إنه إن کان أحد النقیضین مقدوراً علیه فالآخر کذلک ، و إن لم یکن فالآخر کذلک ... و قد ذکر المحقق الأصفهانی هذا المطلب ، و اعترف به فی ( المحاضرات ) وعلیه فلا یتم ما ذکره .

منشأ الفرق هو الارتکاز العرفی

و قد ذکر الأُستاذ فی الدّورتین : إنّه لمّا کان وجود الفرق بین مقتضی الأمر و النهی من الأُمور المسلّمة عند العرف ، و لم یمکن إقامة البرهان العقلی الصحیح علی ذلک بما تقدّم من الوجوه ، و لا بناءً علی ما ذهب إلیه المحقق الفشارکی - و تبعه المحقق الحائری (1) - من أن صرف الوجود ناقض للعدم الکلّی ، لأنّ کلّ وجودٍ فهو ناقضٌ لعدم نفسه ، فلا بدّ و أن یکون لفهم العرف منشأ غیر ما ذکر ... .

ص:18


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 76 .

و قد أفاد دام ظلّه ، بأن القضیة فی طرف الأمر و تحقق الامتثال بصرف وجود الطبیعة واضحة عقلاً و عقلاءً ، و أمّا فی طرف النهی ، فإنّ الارتکاز العقلائی منشؤه وجود الملازمة بین عدم صرف الوجود مع عدم الوجودات کلّها ، و هذا هو وجه الفرق .

ثم أجاب عمّا أورده المحقق الأصفهانی : من أنّ هذا من اللّوازم و لیس مقتضی النهی نفسه ، بأن المشکلة کانت فی وجه الفرق ، و لا أحدٌ یدّعی أنّ هذا الافتراق هو من ناحیة نفس النهی ... .

لکن یبقی الإشکال بأنّه : إذا کان النهی عن صرف الوجود فقط لا عن جمیع الوجودات ، فإنه یستلزم أنّه إن خالف النهی و ارتکب المنهیّ عنه ، تتحقق المعصیة مرّةً واحدةً و لا یکون ارتکابه فیما بعده معصیةً .

و سیأتی الجواب عنه - فی الجهة اللّاحقة - من کلام المحقق الخراسانی .

الجهة الثالثة ( هل یسقط النهی بالمعصیة ؟ )

قال فی الکفایة :

ثم إنه لا دلالة للنهی علی إرادة الترک لو خولف أو عدم إرادته ، بل لا بدّ فی تعیین ذلک من دلالة و لو کان إطلاق المتعلّق من هذه الجهة ، و لا یکفی إطلاقها من سائر الجهات (1) .

و توضیح ذلک : إن النواهی فی الشّریعة المقدّسة علی قسمین : فقد ینهی الشارع عن شیء ، و لا یبقی النهی لو خولف بصرف الوجود ، کما فی النهی عن التکلّم فی الصّلاة مثلاً ، فإنّه - علی مسلک صاحب ( الکفایة ) - طلب الترک ، فإذا تعلّق الغرض بعدم التکلّم فی الصّلاة و جاء النهی عنه ، فإن صرف وجوده فیها

ص:19


1- 1) کفایة الاصول: 150 .

یوجب عدم تحقق الغرض ، و حینئذٍ لا یبقی النهی لیکون التکلّم الثانی و الثالث مضرّاً بالصّلاة ، بل إنها بالأول بطلت .

و قد ینهی الشارع عن شیء و یکون کلّ واحدٍ من أفراد التروک مطلوباً برأسه ، کالمنع عن شرب الخمر ، فإنه بارتکابه مرةً لا یسقط النهی بل یبقی متوجّهاً إلی الأفراد الأُخری من هذا الفعل .

فهذا القسمان من النهی فی عالم الثبوت متحقّقان .

فإن ورد و شک فی أنه من أیّ القسمین فما هو مقتضی القاعدة ؟

ذهب المحقق الخراسانی إلی إنه یؤخذ بإطلاق الکلام من جهة المخالفة و عدمها ، فإنه لمّا لم یقیّد النهی بالمرّة و غیرها ، کان ظاهراً فی بقائه بعد المعصیة ، ( ثم قال ) : إنه لا بدّ من وجود الإطلاق من هذه الجهة ، و لا أثر لإطلاق الکلام من سائر الجهات ، من الزمان و المکان و غیر ذلک .

تقریب المیرزا

و قد اختار المیرزا هذا المبنی بتقریبٍ آخر فقال ما حاصله :

إن المطلوب فی النواهی تارةً : خلوّ صفحة الوجود عن الشیء ، و حینئذٍ یکون المتعلّق هو الطبیعة ، کالتکلّم فی الصّلاة ، فإنه قد لوحظت الطبیعة و تعلّق بها النهی ، أمّا ترک هذا الفرد أو ذاک منها ، فهو من لوازم المطلوب .

و أُخری : یکون علی العکس ، إذ یتعلّق بالفرد ، و خلوّ صفحة الوجود عن الطبیعة لازم المتعلّق ، کالنهی عن شرب الخمر ، فإنه متعلّق بکلّ فردٍ فردٍ ، فلو اطیع لزم خلوّ صفحة الوجود من شرب الخمر .

و غالب النواهی فی الشریعة من قبیل القسم الثانی ... أمّا موارد القسم الأوّل فقلیلة ، و مثاله تروک الإحرام و النهی عن المفطرات فی الصّوم .

ص:20

بیان المحاضرات

و فی ( المحاضرات ) بیان طویلٍ ، و ملخّصه :

إن للنهی - بحسب مقام الثبوت - أقساماً أربعة (1) ، و لا یخفی أنّه ینشأ عن المفسدة ، کما أنّ الأمر ینشأ عن المصلحة ، فالملحوظ هو المفسدة و المصلحة ، و لا یلحظ اللّفظ ، فلو قال « أطلب منک ترک شرب الخمر » کان نهیاً ، للمفسدة فی الشرب ، و لو قال : « لا تترک الصّلاة » کان أمراً بالصّلاة للمصلحة فیها .

فتارةً : المفسدة تکون فی صرف الترک .

و أُخری : فی کلّ واحدٍ واحدٍ من التروک بنحو العام الاستغراقی .

و ثالثة : فی مجموع الأفعال .

و رابعة : فی المسبب عن الأفعال .

( قال ) و کذلک الحال فی طرف الأمر .

( قال ) و تظهر الثمرة فی موردین (2) :

( أحدهما ) مورد الاضطرار ، فلو اضطرّ إلی الفعل أو الترک ، و کانت المصلحة فی صرف الفعل أو الترک ، فإنه بمجرّد حصول فردٍ من الفعل أو الترک ، یسقط الحکم . و أما إذا کان المطلوب بنحو العام الاستغراقی فإن الحکم ینحلُّ ، فإذا خولف فی مورد بقی بالنسبة إلی غیره من الموارد . أمّا إذا کان المطلوب مجموع الأفعال أو مجموع التروک ، فهذا الطلب شخصی - بخلاف الأول ، فإنه ینحلّ بحسب الأفراد - و الطلب الشخصی یسقط بترکٍ واحد ، لأنه قد کان بنحو العام المجموعی حاملاً للغرض ، فإذا عصی فلا یبقی حکم . و أمّا إذا کان متعلّق

ص:21


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 282 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 311 .

الغرض هو الشیء المسبب من الأفعال أو التروک ، فإنه بالمخالفة بموردٍ ینتفی حامل الغرض ، و بذلک یسقط الغرض ، فلا یبقی الحکم .

( و الثانی ) مورد الشک ، فإنه إن کان المطلوب صرف الترک و صدر منه ذلک ، ثم شکّ فی مطلوبیة الطبیعة و عدمها ، فلا أثر لهذا الشک ، لأنّه حتی لو تیقّن بمطلوبیة الطبیعة فإنّها بصرف المخالفة تبقی کما هو واضح .

و إن کان المطلوب کلّ واحدٍ من التروک بنحو العام الاستغراقی ، فإنه مع ارتکاب المخالفة فی موردٍ یشک فی بقاء التکلیف بالنسبة إلی غیره ، فیکون مجری الأصل ، لأنه من موارد دوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، و البراءة عقلاً و نقلاً جاریة .

و إن کان المطلوب هو العام المجموعی ، و ارتکب فرداً و شک فی أنه ترک للطبیعة أو لا ، کان من قبیل دوران الأمر بین الأقل و الأکثر الارتباطیین - کأجزاء الصّلاة مثلاً - فعلی المبنی ، إذ الأقوال هناک ثلاثة ، الاحتیاط ، و البراءة مطلقاً ، و التفصیل بین الشرعیة فتجری و العقلیة فلا تجری ، و هذا الثالث مختار ( الکفایة ) .

و إن کان المطلوب هو الشیء المحصّل من مجموع التروک ، فلو ارتکب فرداً منها و شک فی بقاء التکلیف بالنسبة إلی الطبیعة ، قیل : بالاشتغال و هو المشهور .

مناقشة الأُستاذ و رأیه

و خالف الأُستاذ ، فذکر أنّ الصحیح ثبوتاً صورتان فقط ، و هما أن یکون النهی متعلّقاً بالشیء بنحو العام المجموعی ، و بنحو العام الاستغراقی . و أمّا بحسب مقام الإثبات ، فالموانع فی الصلاة مأخوذة بنحو العام الاستغراقی ، و لا احتمال آخر .

ص:22

هذا مختاره بعد المناقشة مع ( المحاضرات ) ، و النظر فی الأدلة فی مقام الإثبات .

و لقد أورد علی کلام ( المحاضرات ) :

أولاً : قوله بترتب المصلحة علی الترک کترتّبها علی الفعل .

فیه : إن المصلحة أمرٌ وجودی ، و قیام الأمر الوجودی بالأمر العدمی غیر معقول ، فإنّه لا إشکال عقلاً و عقلاءً فی تعلّق التکلیف بالترک ، لکنّ قیام المصلحة بالترک غیر معقول ، بل الموارد التی تعلّق فیها الطلب بالترک تحتمل : أن تکون نهیاً فی صورة الأمر ، فقوله تعالی «وَاتْرُکِ الْبَحْرَ » (1)یمکن أن یکون من جهة وجود المفسدة فی دخول البحر لا وجود المصلحة فی ترک الدخول فی البحر ...

و یحتمل أیضاً : أن تکون المصلحة فی شیء ملازمٍ للترک لا فی نفس الترک ، و إن کنّا لا ندری ما هو الملازم .

و الحاصل : إنه متی قام البرهان علی امتناع ترتب الأمر الوجودی علی العدم ، فکلّ دلیلٍ کان ظاهراً فی الترتب لا بدّ من رفع الید عن ظهوره .

و ثانیاً : جعله « المسبب من الأفعال أو التروک هو المتعلّق للنهی » من « الأقسام الأربعة » .

و فیه نظر ، لأن کون التروک سبباً لوجود شیء غیر معقول .

و ثالثاً : إنه قد ذکر سابقاً بأن « صرف الترک » لا یقبل تعلّق التکلیف ، لأنه ضروری الحصول ، فلو تعلّق به الطلب کان من تحصیل الحاصل ... و لعلّه من هنا جعل الأقسام فی ( أجود التقریرات ) ثلاثة ، فلما ذا عدّ هذا القسم فی الأقسام الأربعة ؟

ص:23


1- 1) سورة الدخان : الآیة 24 .

و رابعاً : قوله بأنه إن کانت المصلحة فی الترک ، فإن الصورة و إن کانت صورة النهی لکنه لبّاً أمر ، و جعله تروک الإحرام من هذا القبیل قائلاً بأن المصلحة فی ترک تلک الأشیاء ، فکان الواجب ترک الصید ، ... لبس المخیط للرجال ...

و هکذا ... ( قال ) و إنّ الفقهاء قد تسامحوا حیث عبّروا عنها بمحرّمات الإحرام ... .

و فیه : إنّ النصوص ظاهرة فی أنها محرّمات ، و الحق مع الفقهاء فی تعبیرهم بذلک ، و رفع الید عن الظهور بلا دلیل غیر صحیح .

قال تعالی : «لا تَقْتُلُوا الصیْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ » (1)فإنها هیئة « لا تفعل » و ظاهرة فی الحرمة .

و قال : «أُحِلَّ لَکُمْ صیْدُ الْبَحْرِ ... وَحُرِّمَ عَلَیْکُمْ صیْدُ الْبرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً » (2)و هذا نصٌّ فی الحرمة .

و فی النصوص :

1 ) عن معاویة بن عمار عن أبی عبد الله علیه السلام : « إذا فرض علی نفسه الحج ثم أتی بالتلبیة فقد حرم علیه الصید و غیره ، و وجب علیه فی فعله ما لم یجب علی المحرم » (3) .

2 ) و عنه عن أبی عبد الله علیه السلام : قال : « لا تأکل شیئاً من الصید و أنت محرم و إنْ صاده حلال » (4).

3 ) عن الحلبی عن أبی عبد الله علیه السلام فی حدیثٍ : « فإذا أحرمت فقد حرم علیک الدهن حتّی تحل » (5) .

ص:24


1- 1) سورة المائدة : الآیة 95 .
2- 2) سورة المائدة : الآیة 96 .
3- 3) وسائل الشیعة 12 / 417 ، الباب 1 من أبواب تروک الإحرام ، رقم 7 .
4- 4) المصدر 12 / 419 ، الباب 2 رقم 2 .
5- 5) وسائل الشیعة 12 / 458 ، الباب 29 ، رقم 1 .

و الحاصل : النصوص جاءت بعنوان « الحرمة » و بهیئة « لا تفعل » و بعنوان جعل « الفِداء » و بعبارة « اجتنب » و کلّ ذلک ظاهراً و نصٌّ فی الحرمة .

و تلخّص : إن الصحیح هو حرمة تلک الأفعال ، و أنها محرّمات الإحرام لا تروک الإحرام ، و دعوی أنها نواهی ناشئة من المصلحة فی الترک ، لا دلیل علیها ... بل مفاد الأدلة کونها ناشئة عن مفسدة فی الفعل ... و لهذا البحث ثمرة مهمة فی الفقه .

ص:25

اجتماع الأمر و النّهی

اشارة

اختلفوا فی جواز اجتماع الأمر و النهی فی الشیء الواحد و امتناعه ، علی أقوال ثلاثة :

1 - الجواز مطلقاً .

2 - الامتناع مطلقاً .

3 - التفصیل ، و هو القول بالجواز عقلاً و الامتناع عرفاً ، لأنّ الحیثیّتین متعدّدان بالنظر العقلی ، و کلٌّ منهما مرکب لأحد الحکمین ، لکنّ العرف یری المجمع بینهما شیئاً واحداً ، و تعلّق الحکمین المختلفین بواحدٍ عرفی ممتنع ...

و هذا هو المحکیّ عن المحقق الأردبیلی فی شرح الإرشاد .

و قد ذکر المحقق الخراسانی قبل الخوض فی المقصود عشر مقدمات ، و المیرزا ذکر تسعاً ، و قد اشترکا فی بعضها ، و لا بدّ قبل التعرّض لها من تحریر محلّ البحث ، فنقول :

تحریر محلّ البحث

إن هنا کبری مسلّم بها ، هی عبارة عن أنّ الأمر و النهی - علی اختلاف الأقوال فی حقیقتهما ، من البعث و الزجر ، أو اعتبار اللابدّیة و الحرمان - ینشآن من الإرادة و الکراهیّة ، علی مذهب العدلیّة و الأشاعرة معاً ، و من المصلحة و المفسدة علی مذهب العدلیّة ، فبلحاظ مبدإ الحکم - و هو الإرادة و الکراهیّة - یمتنع تعلّق الحکمین - الوجوب و الحرمة - من الحاکم الواحد فی الزمان الواحد بالشیء

ص:26

الواحد ... علی جمیع المسالک ، لأنّ طلب الشیء یستلزم عدم الکراهیّة له ، و النهی عنه یستلزم عدم الإرادة له ، فکان تعلّقهما بالشیء الواحد مستلزماً لاجتماع النقیضین ، و کذا الحال بالنظر إلی مسلک العدلیّة من تبعیّة الحکم للمصلحة أو المفسدة ، فإنّ اجتماعهما فی الشیء الواحد محال .

و علی الجملة ، فإنّ القول بالجواز یستلزم المحذور فی ناحیة منشأ الحکم و مبدئه و هو الحبّ للشیء و البغض له ، أو المصلحة و المفسدة فیه ، و کذا فی ناحیة المنتهی ، و هو مقام الامتثال ، لأنّ الأمر یقتضی الانبعاث و النهی یقتضی الانزجار أو الترک ... و لا یجتمعان .

هذا بناءً علی إنکار التضادّ بین الأحکام الخمسة ، کما علیه المحقق الأصفهانی . و أمّا علی القول بوجود التضادّ بینها کما علیه صاحب ( الکفایة ) ، فإن الاستحالة لازمة فی نفس الحکمین أیضاً .

فتلخّص : إنه من الناحیة الکبرویّة ، یستحیل أصل التکلیف بمثل ذلک ، بالنظر إلی المبدإ و المنتهی کما تقدّم ، و یلزم الجمع المحال بین التکلیفین . و أمّا بالنظر إلی خصوص مبنی المحقق الخراسانی من التضادّ بین الأحکام فالاستحالة تکون بالذات . و علی کلّ حالٍ ، فإن التکلیف کذلک محال ، و لیس من التکلیف بالمحال ، لأنّ مورد التکلیف بالمحال هو ما إذا کان هناک تکلیف واحد تعلّق بشیءٍ واحدٍ کالمجموع بین الضدّین ، فلا ینبغی الخلط بین الموردین .

و علی هذا ، فإنّ النزاع فی المسألة صغروی ، لأنه یدور حول لزوم الاجتماع و عدم لزومه ، بعد الوفاق علی الکبری کما تقدّم ، و مرجعه إلی أنّه هل یسری و یتعدّی الأمر من الصّلاة إلی الغصب ، و النهی من الغصب إلی الصّلاة أو لا ؟

ص:27

و قد أوضح المیرزا (1) رحمه اللّٰه أنّ هذا البحث یکون تارةً من صغریات باب التعارض ، و أُخری من صغریات باب التزاحم ، و ذلک لأنّه فی صورة تعدّی الحکم عن موضوعه إلی موضوع الحکم الآخر ، یلزم الاجتماع و یقع التنافی بین مدلولی الدلیلین بحسب مقام الجعل ، إذ الصّلاة إمّا واجبة و إمّا محرّمة ، فأحد الدلیلین علی خلاف الواقع ، و هذا هو التعارض . و أمّا فی صورة عدم التعدّی ، فلا اجتماع و لا مشکلة فی مقام الجعل ، بل لکلٍّ من الحکمین مرکبه و لا ربط له بالآخر ، و إنّما یقع التنافی فی مقام الامتثال ، و هذا هو التزاحم ، إذ لا قدرة علی امتثال کلا التکلیفین .

و هنا تفصیل ، و ذلک : لأنه تارة توجد المندوحة ، أیْ یتمکّن المکلّف من الصّلاة فی غیر المکان المغصوب ، و أُخری لا توجد ، فعلی التقدیر الأول ، إن قلنا بأنّ اعتبار القدرة علی الامتثال فی الخطاب هو بحکم العقل کما علیه المحقق الثانی ، خرج المورد عن التزاحم أیضاً ، لأنّه لمّا کان قادراً علی الصّلاة فی غیر هذا المکان ، صحّ تعلّق التکلیف بها علی نحو الإطلاق ، إذ القدرة علی الطبیعة حاصلة بالقدرة علی الفرد و هی الصّلاة فی غیر الغصب ، فلو صلّی فی المکان المغصوب و الحال هذه ، وقعت صحیحة ، غیر أنه فعل المعصیة بالتصرّف فی ملک الغیر . و إن قلنا بأن اعتبار القدرة علی الامتثال هو باقتضاء الخطاب - کما علیه المحقق النائینی - فالتکلیف من بدء الأمر موجّهٌ نحو الحصّة المقدورة من الصّلاة ، کان المورد من التزاحم ، لدوران الأمر بین صرف القدرة فیها فی المکان المغصوب ، و الخروج منه و الإتیان بها فی غیره ، و حینئذٍ تطبّق قواعد التزاحم ، و تلحظ المبانی فی الترتّب .

ص:28


1- 1) أجود التقریرات 2 / 126 .

أمّا علی التقدیر الثانی - أعنی عدم المندوحة - فالمورد من التزاحم ، سواء قلنا بکون القدرة معتبرةً باقتضاء الخطاب أو بحکم العقل .

مقدّمات البحث

اشارة

ذکر فی ( الکفایة ) لمسألة الاجتماع مقدّماتٍ ، و نحن نتعرّض لها و لما قیل فیها باختصار .

المقدمة الأُولی ( فی المراد بالواحد )
اشارة

إنه لمّا قلنا فی عنوان المسألة : هل یجوز اجتماع الأمر و النهی فی واحدٍ ؟ فما هو المراد من « الواحد » ؟

قال المحقق الخراسانی (1) : المراد بالواحد مطلق ما کان ذا وجهین و مندرجاً تحت عنوانین ، بأحدهما کان مورداً للأمر و بالآخر للنهی ، و إن کان کلیّاً مقولاً علی کثیرین کالصّلاة فی المغصوب .

و إنّما ذکر هذا ، لإخراج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر و النهی و لم یجتمعا وجوداً و لو جمعها واحد مفهوماً ، کالسجود للّه تعالی و السجود للصنم مثلاً ، لا لإخراج الواحد الجنسی أو النوعی ، کالحرکة و السکون الکلیّین المعنونین بالصّلاتیّة و الغصبیّة .

و توضیحه :

إن الواحد هنا إمّا هو الواحد الشخصی و إمّا الأعم ، فإن کان الأوّل ، خرج الجنسی و النوعی ، و الحال أن الحرکة المعنونة بعنوان الغصب و الصّلاة لیست واحداً شخصیّاً من الحرکة بل واحد جنسی ، فلو أُرید الشخصی خرج الفرض من دائرة البحث مع کونه وارداً .

ص:29


1- 1) کفایة الاصول: 150 .

و إن کان المراد هو الثانی ، شمل البحث مثل السجود لکونه جامعاً للسجود للّٰه و للصنم ، و الحال أنه لیس مورداً لاجتماع الأمر و النهی ، إذ لا مجمع بین السجود للّٰه و للصنم .

و إن کان هو الثالث ، جاء المحذور المذکور فی الثانی ، لأن الأعمّ مشتمل علی الأخصّ .

فذکر صاحب ( الکفایة ) : أنه لیس المراد من « الواحد » هو المقابل للکلّی لیکون شخصیّاً ، فیرد إشکال خروج الحرکة ، و لیس الجنس لیرد إشکال ورود السجود ، بل المراد من الواحد هو المقابل للمتعدّد وجوداً ، و المقصود أنه تارةً :

یکون لمتعلّق الأمر و النهی تعدّد وجودی ، فهذا خارج عن البحث ، کما فی الصلاة و النظر إلی الاجنبیة فی أثنائها ، و کما فی السجود للّٰه و للصنم ، و أُخری : یکون لمتعلّقهما وحدة وجودیة أعم من الواحد الشخصی أو الجنسی ، فالصلاة فی دار مغصوبة کلّی ، لکنْ فی مقام الوجود لها وجود واحد .

و علی الجملة : إن أمکن الإشارة إلی کلٍّ من العنوانین علی حدة ، خرج الواحد ذو العنوانین عن البحث ، کالصّلاة و النظر إلی الأجنبیة ، و إن کانت الإشارة إلی أحدهما الموجودین بوجود واحد عین الإشارة إلی الآخر ، کان وارداً فی البحث ، کالصّلاة فی الدار المغصوبة ، و حینئذٍ ، إن کانت وحدة الإشارة موجبةً لوحدة الوجود فی الخارج حقیقةً فالامتناع و إلّا فالجواز .

التعریض بصاحب الفصول

ثم إنّ المقصود من هذا الکلام هو التعریض بصاحب ( الفصول ) (1) ، حیث أنه قد خصّ الواحد بالواحد الشخصی ، لئلّا یدخل مثل السجود للّٰه و للصنم ممّا

ص:30


1- 1) الفصول الغرویّة : 123 .

اجتمع فیه الأمر و النهی فی واحدٍ جنسی أو نوعی فی محل البحث ، مع کونه خارجاً عنه قطعاً .

إشکال السید البروجردی

فقال السیّد البروجردی (1) : و فیما ذکره نظر ، فإنّ ضمّ عنوانٍ کلّیٍّ إلی عنوانٍ آخر لا یوجب الوحدة ، إذ الماهیّات و العناوین بأسرها متباینة بالعزلة ، فمفهوم الصّلاة یباین مفهوم الغصب و إن ضممنا أحدهما إلی الآخر ، و ما هو الجامع للشتات عبارة عن حقیقة الوجود التی هی عین التشخّص و الوحدة .

موافقة الإیروانی مع الفصول

أمّا المحقق الإیروانی ، فقد ذکر أنّ الحق مع صاحب ( الفصول ) و أنّه لا یتوجّه علیه ما توهّمه صاحب ( الکفایة ) . و أوضح ذلک (2) بأنه لیس مقصود صاحب ( الفصول ) من الحمل علی الواحد الشخصی أن یکون المجمع منحصراً فی الواحد الشخصی و الجزئی الحقیقی ، لیخرج مورد کون المجمع عنواناً کلیّاً کما فی مثال الصّلاة فی الدار المغصوبة ، بل مقصوده تلاقی العنوانین فی الأشخاص الخارجیة ، فیکون البحث فی اجتماع الأمر و النهی بعنوانین منحصراً بما إذا کان العنوانان متلازمین فی الوجود و التشخّص ، و هذا أعم من أن یکونا متلاقیین قبل الوصول إلی مقام التشخّص و فی مفهوم عام کما فی مثل الصّلاة فی الأرض المغصوبة ، و ما إذا لم یکونا متلاقیین إلّا فی الشخص ابتداءً ، فالصّلاة فی الأرض المغصوبة لا تخرج عن العنوان .

ص:31


1- 1) نهایة الاصول : 226 .
2- 2) نهایة النهایة 1 / 210 .
جواب الأُستاذ

و أجاب الأُستاذ دام بقاه : بأن جواز اجتماع الأمر و النهی فی الشیء الواحد ذی العنوانین و امتناعه ، فرع التزاحم و التعارض ، فإن کان التعارض فالامتناع و إن کان التزاحم فالجواز ، و من الواضح أن التعارض فی الأدلّة الشرعیة لا یکون إلّا فی القضایا الحقیقیّة ، و الموضوع فی هذه القضایا لیس الواحد الشخصی الخارجی ، بل إن الحکم فیها متوجّه إلی الطبیعة ، کقوله تعالی «أَقِیمُوا الصلَاةَ » (1)«وَللّٰهِ عَلی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ » (2)لا إلی الفرد من الصّلاة و الحج و غیرهما ، فالأوامر و النواهی غیر متعلقة بالواحد الشخصی . هذا أولاً .

و ثانیاً : إن الواحد الشخصی لا یعقل أن یکون متعلّقاً للأمر ، بل إنه مسقط له لکونه مصداق المأمور به .

و أمّا القول بأن ضمّ الکلّی إلی الکلّی لا ینتج الواحد . ففیه : إنه خلط بین الوحدة الشخصیة و النوعیة ، لأن الوحدة النوعیة کما فی انضمام الفصل إلی الجنس موجودة مع عدم کونها شخصیة ، إذن ، لا ملازمة بین الوحدة و الشخصیّة ، و المراد من الوحدة هی الوحدة فی مقابل التعدّد .

الأمر الثانی ( فی الفرق بین هذه المسألة و مسألة النهی فی العبادة )

قال فی الکفایة (3) ما ملخّصه : إن الجهة المبحوث عنها هنا هی : هل إن تعدّد العنوان فی الواحد ذی العنوانین ، یوجب تعدّد المتعلَّق بحیث ترتفع مشکلة استحالة الاجتماع أو لا ؟ ( قال ) : فالنزاع فی سرایة کلٍّ من الأمر و النهی إلی متعلّق الآخر لاتّحاد متعلَّقیهما وجوداً و عدم سرایته لتعدّدهما وجهاً .

ص:32


1- 1) سورة البقرة : الآیة 43 .
2- 2) سورة آل عمران : الآیة 97 .
3- 3) کفایة الاصول : 150 .

أمّا فی تلک المسألة ، فإن البحث فی أن النّهی هل یوجب فساد العبادة أو المعاملة بعد الفراغ عن توجّه النهی إلیها أو لا یوجبه ؟

( قال ) نعم ، لو قیل بالامتناع مع ترجیح جانب النهی فی مسألة الاجتماع ، یکون مثل الصّلاة فی الدار المغصوبة من صغریات تلک المسألة .

و حاصله کلامه : إن ما به الامتیاز بین المسألتین هو الجهة المبحوث عنها فی کلٍّ منهما ... و هذا لا ینافی أن یکون مورد البحث فی مسألتنا من صغریات المسألة الاخری ، علی بعض التقادیر ... فالفرق بین المسألتین فی غایة الوضوح .

هذا ، و فی بیان الفرق بین المسألتین أقوال اخری ، تعرّض فی ( الکفایة ) لاثنین منها :

أحدها : إن البحث هنا عقلی ، و هناک فی دلالة النهی لفظاً .

قال فی ( الکفایة ) بفساد هذا القول ، لأنّ البحث هناک أیضاً عقلی ، علی أن النهی فی العبادة غیر مختص باللّفظ .

و الثانی : ما ذهب إلیه المیرزا القمی (1) من أنّ الموضوع فی تلک المسألة هو العام و الخاص المطلق ، کالأمر بالصّلاة ، ثم النهی عن الصّلاة فی الحمام ، فیبحث عن دلالة هذا النهی علی فسادها و عدم دلالته ... أما فی مسألتنا ، فالنسبة هی العموم من وجهٍ ، کما هو الحال بین الأمر بالصّلاة و النهی عن الغصب .

و الثالث : ما ذهب إلیه صاحب ( الفصول ) (2) - بعد الإشکال فی کلام المیرزا القمی - و هو إن الموضوع فی مسألتنا مغایر تماماً للموضوع فی تلک المسألة ، بخلاف مثل الصّلاة و الصّلاة فی الحمام ، فإن الموضوع متّحد و إنْ کان بینهما عموم مطلق .

ص:33


1- 1) قوانین الاصول 1 / 140 .
2- 2) الفصول الغرویة : 140 .

فأجاب المحقق الخراسانی : بأنّ تعدّد الموضوعات أیضاً غیر موجب للتمایز بین المسائل ما لم یکن هناک اختلاف الجهات .

و الحق معه فیما قال .

الأمر الثالث ( هذا البحث من مسائل أیّ علمٍ من العلوم ؟ )

و اختلفت کلماتهم فی أنّ هذا البحث من المسائل أو المبادئ ، و من مسائل أیّ علم ؟

قال فی الکفایة (1) : إنه حیث کانت نتیجة هذه المسألة ممّا تقع فی طریق الاستنباط ، کانت المسألة من المسائل الاصولیة ، لا من مبادئها الأحکامیّة و لا التصدیقیة ، و لا من المسائل الکلامیّة ، و لا من المسائل الفرعیّة ، و إنْ کانت فیها جهاتها ... .

نعم ، یمکن تصویر الجهة الفقهیّة ، لأن العمل العبادی إن کان متعلَّقاً للنهی فهو باطل و إلّا فهو صحیح ، و الصحّة و الفساد من الأحکام الفقهیة . کما یمکن تصویر الجهة الکلامیّة ، بأنْ یبحث فیها عن جواز تکلیف اللّٰه سبحانه و تعالی بعملٍ اجتمع فیه جهة الأمر وجهة للنهی و عدم جوازه . و تصویر جهة اخری تجعلها من المبادئ الأحکامیّة ، لأنّه إذا تعلَّق الأمر و النهی بواحدٍ یقع البحث عن وجود التلازم بینهما فی المورد و عدم وجوده ، لأنّ المبادی الأحکامیة هی لوازم الأحکام و عوارضها و خصوصیّاتها ... .

لکنّ المحقق الخراسانی یری أن المسألة من علم الأصول لانطباق تعریف المسألة الاصولیة علیها ... خلافاً للشیخ ، حیث جعلها من المبادئ الأحکامیة ، کما أن المیرزا خالفه ، فجعلها من المبادئ التصدیقیّة للمسألة الاصولیّة .

ص:34


1- 1) کفایة الاصول : 152 .

و لکنَّ ذلک کلّه یتوقّف علی تغییر عنوان البحث ، حتی یمکن تحقق هذه الجهة أو تلک فیه ، أمّا مع عنوانه کما فی ( الکفایة ) و غیرها من کتب الأعلام ، فلا یصح البحث لأنْ یکون من مسائل هذا العلم أو ذاک ، بل هو من مسائل علم الاصول .

فالحق ما ذهب إلیه و إن کان کلامه مخدوشاً کما ذکرنا ، خلافاً للشیخ الأعظم (1) ، حیث جعلها من المبادئ الأحکامیّة ، لأنّا لا نبحث فی هذه المسألة عن خواص الأمر و النهی ، و عن أنه هل یوجد بینهما التضادّ أو لا لیکون من المبادی ، و إنما نبحث عن أنّ اجتماع الأمر و النهی فی الشیء الواحد ذی العنوانین هل ینتهی إلی اجتماع الضدّین أو لا ؟

و للمیرزا (2) القائل بأنها من المبادئ التصدیقیة للمسألة الاصولیّة ، و ذلک لأنّ المبدأ التصدیقی هو کلّ ما أوجب التصدیق بثبوت المحمول للموضوع ، مثلاً :

عند ما نقول : هل خبر الثقة حجة أو لا ؟ فإنّ ما یعرّف « خبر الثقة » و« الحجیّة » یسمّی ب« المبدإ التصوری » (3) و ما یدلّ علی ثبوت « الحجیة » ل« خبر الثقة » یسمی ب« المبدإ التصدیقی » . و نحن فی هذه المسألة نقول : هل یقع التعارض بین دلیلی الأمر و النهی فیما إذا تعلَّقا بالواحد ذی العنوانین أو لا ؟ و هذا مبدأ تصدیقی لتحقق موضوع المسألة الاصولیة ، و أمّا المبدأ التصدیقی للمسألة الاصولیة فهو الأدلّة علی الترجیح أو التخییر بناءً علی التعارض .

ص:35


1- 1) مطارح الأنظار : 125 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 128 .
3- 3) کفایة الاصول : 152 .
الأمر الرابع ( هل هذه المسألة عقلیة ؟ )

قال فی الکفایة (1) : قد ظهر من مطاوی ما ذکرناه أن المسألة عقلیّة ... .

أقول :

لا یخفی أن المسائل الاصولیة منها عقلیة و منها لفظیّة ، و لمّا لم یکن البحث فی مسألتنا عن مدلول الأمر و النهی ، فهو لیس من المسائل اللّفظیّة ، فیکون - لا محالة - من المسائل العقلیة .

و الأحکام العقلیّة تنقسم إلی المستقلة ، غیر المستقلة ، و القسم الثانی منه ما یقع فی طریق الاستنباط و منه ما لا یقع .

أمّا ما لا یقع فی طریق الاستنباط ، فمثل درک العقل وجود المصلحة أو المفسدة الملزمة فی شیء ، و لکنّه یفید الحکم الشرعی بضمیمة قاعدة الملازمة .

و أمّا الحکم العقلی غیر المستقل و غیر الواقع فی طریق الاستنباط ، فکحکم العقل بوجوب إطاعة المولی ، فإنه فی مرتبة معلول الحکم الشرعی بوجوب الصّلاة مثلاً ، فإنه یجب إثبات وجوبها شرعاً حتّی یتولّد منه الحکم العقلی بلزوم الإطاعة له .

و أمّا الحکم العقلی غیر المستقل الواقع فی طریق الاستنباط ، فکحکمه باستحالة اجتماع الضدّین .

و بما ذکرنا یتّضح : أنّ بحث الاجتماع من المباحث الاصولیة العقلیة من قبیل القسم الأخیر ، فإنه إذا ضمّ هذا الحکم العقلی إلی صغری اجتماع الأمر و النهی الشرعیین فی الواحد ذی العنوانین ، حصل الحکم الشرعی بصحّة الصّلاة أو فسادها ... .

ص:36


1- 1) کفایة الاصول : 152 .

ثم قال فی ( الکفایة ) :

و ذهاب البعض إلی الجواز عقلاً و الامتناع عرفاً ، لیس بمعنی دلالة اللّفظ ، بل بدعوی أن الواحد بالنظر الدقیق العقلی اثنین و أنه بالنظر المسامحی العرفی واحد ذو وجهین ، و إلّا فلا یبقیٰ معنی للامتناع العرفی .

الأمر الخامس ( فی سعة دائر البحث )
اشارة

قال فی الکفایة (1) : إن ملاک النزاع فی الاجتماع و الامتناع یعمّ جمیع أقسام الإیجاب و التحریم ، کما هو قضیة إطلاق لفظ الأمر و النهی ، و دعوی الانصراف إلی النفسیین التعیینیین العینیین فی مادّتها غیر خالیة عن الاعتساف ، و إنْ سلّم فی صیغتهما مع أنه فیهما ممنوع .

و علی الجملة ، فإن هذا البحث یعمّ الأمر و النهی النفسیین و الغیریین و التعیینیین و التخییریین و العینیین ... لعموم الملاک .

و قد قصد رحمه اللّٰه الردّ علی الشیخ القائل بعدم وجود ملاک البحث فیما لو کان الوجوب و الحرمة تخییریین ، لأن محذور البحث هو لزوم الجمع بین الضدّین ، و هو غیر لازم فیما لو أمره بنکاح احدی الاختین و نهاه عن الاخری ، لعدم اجتماع الحکمین فی موردٍ واحد ... فقال صاحب ( الکفایة ) : إنه لو أمر بالصّلاة و الصوم تخییراً بینهما و نهی عن التصرف فی الدّار و المجالسة مع الأغیار ، فصلّی فی الدار مع مجالستهم ، کان حال الصّلاة فیها حالها کما إذا أمر بها تعییناً و نهی عن التصرف فیها تعییناً فی جریان النزاع ، لوضوح أن النسبة بین أحد عدلی الحرام التخییری مع أحد عدلی الواجب التخییری هی العموم من وجه ، لأنّ الصّلاة ممکنة فی الدار و غیرها ، و الجلوس فی الدار یمکن فی حال الصّلاة و حال

ص:37


1- 1) کفایة الاصول : 152 .

غیرها ، فإذا اجتمعا لزم المحذور کما لو أمر بهما تعییناً .

تحقیق الأُستاذ

هذا ، و قد أوضح الأُستاذ رأی الشیخ و بیّنه بما یظهر به أن الحق معه ، فقال بأنّ الجامع فی الواجب و الحرام التخییری هو « الأحد » ، و من الواضح أنّ هذا العنوان لا یصدق علی کلا الفردین معاً ، و إنما یصدق علی کلٍّ منهما بشرط عدم الآخر ، و کذلک الحال فی جمیع موارد العلم الإجمالی ، فإن موضوع الحکم بنجاسة أحد الآنیة هو « الأحد » ، و لا ینطبق هذا العنوان علی کلّها معاً ، فالنجاسة حکم « أحدها » و إن کان الحکم العقلی بالاجتناب عن جمیعها فی عرضٍ واحدٍ ، لکنّ هذا أمر آخر ... .

و علی هذا ، ففی طرف الواجب ، جاء الحکم بوجوب هذا أو ذاک ، و فی طرف الحرام قد جاء الحکم بحرمة هذا أو ذاک ، و لا یسری الحکم بالوجوب أو الحرمة إلی کلا الفردین ، و لیس کلاهما واجباً أو حراماً ، بل « الأحد » .

و إذا کان متعلَّق الحکم فی کلا الطرفین هو « الأحد » بشرط لا عن الآخر ، و کان المبعوث إلیه فی طرف الوجوب هو « الأحد » و المبغوض فی طرف الحرمة هو « الأحد » ، لم یعقل حصول التمانع بین الأمر و النهی ، و ظهر أن الحق مع الشیخ .

و کلام المحقّق الخراسانی لا ربط له بمورد کلام الشیخ ، فقد جاء فی ( الکفایة ) « فصلّی فیها مع مجالستهم » و هذا معناه الجمع بین عدلی الحرام التخییری ، و فی هذه الصورة یلزم محذور الاجتماع بالضرورة ، لکن محطّ نظر الشیخ هو کون متعلَّق النهی أحد الأمرین ، کما أنّ متعلَّق الأمر أحد الأمرین ... و لذا نری أن کلام صاحب ( الکفایة ) فی حاشیة الرسائل فی ذکر المثال یختلف عن کلامه فیها ، فلیس فی الحاشیة کلمة « مع مجالستهم » .

ص:38

و تلخّص : أن الحق فی المقام مع الشیخ خلافاً للکفایة و المحقق الأصفهانی .

الأمر السادس ( فی اعتبار المندوحة و عدم اعتبارها )

ذهب صاحب ( الفصول ) (1) إلی اعتبار المندوحة فی صحة النزاع فی مسألة اجتماع الأمر و النهی ، فلولا وجودها لا یبقی مجال للبحث ... و قد وافقه المحقق الخراسانی فی حاشیة الرسائل . أمّا فی ( الکفایة ) (2) ، فقد ذهب إلی أن التحقیق عدم اعتبارها فیما هو المهم فی محلّ النزاع من لزوم المحال و هو اجتماع الحکمین المتضادّین .

أمّا وجه اعتبار المندوحة فهو : إنه مع عدم تمکّن المکلّف من الصّلاة فی غیر المکان المغصوب ، یکون تعلّق النهی بها فیه من التکلیف بغیر المقدور و هو محال ، إذن ، لا بدّ و أنْ یکون متمکناً من منها فی غیره حتی نعقل النهی و یصح البحث عن الجواز و الامتناع لو صلّی فیه .

و أمّا وجه عدم اعتبارها فی صحة البحث : فلأنّا نبحث فی مثل الصّلاة فی الدار المغصوبة عن أنه یلزم التکلیف المحال ، أی اجتماع الضدین ، أو لا یلزم ؟ و هذا البحث بهذه الصورة لا علاقة له بوجود المندوحة و عدمها .

و الحاصل : إنه اعتبر فی حاشیة الرسائل - تبعاً للفصول - عدم المندوحة حتی لا یلزم التکلیف بالمحال ، لکنّه فی ( الکفایة ) یقول : بأن البحث لیس فی التکلیف بالمحال ، و إنما فی أنه هل یلزم فی مفروض المسألة المحال - و هو اجتماع الضدین - أو لا ؟ و لا دخل للمندوحة فیه .

ص:39


1- 1) الفصول الغرویّة : 123 .
2- 2) کفایة الاصول : 153 .

و هذا هو الصّحیح ، لأنّا إن قلنا بالامتناع فلا أثر للمندوحة . و ان قلنا بالجواز و عدم لزوم اجتماع الضدّین ، فإن کان له مندوحة فلا مشکلة ، و إنْ لم تکن کان المورد من صغریات باب التزاحم ... فظهر أنّ وجود المندوحة إنّما یؤثر علی القول بالجواز ، و أمّا فی أصل البحث و طرح المسألة فلا دخل لوجود المندوحة و عدمها .

الأمر السابع ( بین هذه المسألة و مسألة تعلّق الأمر بالطبیعة أو الفرد )

ذکر فی الکفایة (1) توهّمین بالنظر إلی بحث تعلّق الأمر بالطبیعة أو الفرد و أجاب عنهما . الأول : إنّ النزاع فی مسألتنا یبتنی علی القول بتعلّق الأحکام بالطبائع ، فإنه علی هذا القول یقع النزاع فی الجواز و الامتناع ، و أمّا علی القول بتعلّقها بالأفراد فلا مجال للنزاع ، إذ لا یکاد یخفی الامتناع ، ضرورة لزوم تعلّق الحکمین بواحدٍ شخصی و لو کان ذا وجهین ، و هذا محال .

و التوهّم الثانی هو : إنّ القول بجواز الاجتماع هنا مبنی علی القول هناک بتعلّق الأوامر بالطبائع ، لکون متعلَّق الحکمین متعدداً ذاتاً و إنْ اتّحدا وجوداً ، و أن القول بامتناع الاجتماع مبنی علی القول بتعلّقها بالأفراد ، لکون متعلَّقهما شخصاً واحداً فی الخارج .

ثم قال فی الجواب :

و أنت خبیر بفساد کلا التوهّمین ، و حاصل کلامه جریان البحث هنا ، سواء قلنا هناک بتعلّق الأمر بالطبیعة أو بالفرد ، لأنه بناءً علی الأول لا یتعیّن القول بالجواز ، لأنه و إنْ تعدّدت الطبیعة ، لکون طبیعة الصّلاة غیر ذات الغصب ، لکنّ الطبیعتین فی مرحلة الوجود واردتان علی شیءٍ واحدٍ ، و حینئذٍ ، یتحقّق ملاک

ص:40


1- 1) کفایة الاصول : 154 .

القول بالامتناع ، لأن مدار البحث وحدة الوجود خارجاً و تعدّده ... و کذا الحال بناءً علی الثانی ، لأن المراد من الفرد هو الحصّة من الماهیّة ، و علی هذا ، فإن الفرد من ماهیّة الصّلاة غیر الفرد من ماهیّة الغصب ، فإذا حصل وجود الحصّتین من الماهیتین المختلفتین بوجودٍ واحدٍ جاء البحث عن الجواز و الامتناع ، لأنّ الترکّب بینهما إن کان اتحادیّاً فالامتناع و إن کان انضمامیّاً فالجواز .

نعم ، لو قلنا بتعلّق الأمر بالفرد بضمیمة أمارات التشخّص - من الزمان و المکان و سائر الخصوصیّات - لزم القول بالامتناع ، للتباین بین الأفراد حینئذٍ بالضرورة . لکنّ المبنی باطل کما تقرّر فی محلّه .

فظهر : أنه لا ارتباط بین هذه المسألة و المختار فی تلک المسألة أصلاً .

الأمر الثامن ( هل المسألة من باب التعارض بناءً علی الامتناع ؟)
اشارة

ربما یتوهّم أنه علی القول بالجواز تصحّ الصّلاة ، لانطباق الطبیعة المأمور بها علی هذا الفرد ، فالإجزاء عقلی و إنْ کان عاصیاً من جهة الغصب ، و أمّا علی القول بالامتناع ، فالبحث من صغریات باب التعارض لا التزاحم ، و یلزم الرجوع إلی قواعد التعارض من الترجیح أو التخییر أو التساقط ثم الرجوع إلی مقتضی الاصول .

فالمقصود هو الجواب عن توهّم کون المسألة - بناءً علی الامتناع - من صغریات التعارض .

و توضیح منشأ التوهّم هو : إن التعارض - کما لا یخفی - یکون تارةً بالتباین کما فی : أکرم العالم و لا تکرم العالم ، و اخری بالعموم من وجهٍ کما فی : أکرم العالم و لا تکرم الفاسق ... فمورد العموم من وجهٍ یعامل معه معاملة التعارض ، و النسبة بین « صلّ » و« لا تغصب » من هذا القبیل ، فلما ذا یرجع فیه إلی التزاحم ؟

ص:41

أجاب المحقق الخراسانی بما حاصله :

أمّا فی مقام الثبوت : بأنّ هذه الصّلاة یمکن أن تکون فاقدةً للملاک ، فلا یوجد فیها لا ملاک الصّلاتیة و لا ملاک الغصبیّة ، و یمکن أن تکون واجدةً لملاک الصّلاتیة فقط ، أو لملاک الغصبیة فقط ، أو للملاکین معاً .

فالوجوه الثبوتیة أربعة :

فإنْ کان کلاهما بلا ملاک ، فلا تعارض و لا تزاحم .

و إنْ کان أحدهما ذا ملاک و الآخر بلا ملاک ، فکذلک ، بل یؤخذ بماله ملاک .

و إن کان کلاهما ذا ملاک ، فإنْ قلنا بجواز الاجتماع أخذنا بکلا الملاکین ، و إن قلنا بالامتناع أخذنا بالأقوی منهما ، و إنْ لم یوجد الأقوی فی البین رجعنا إلی دلیلٍ آخر أو إلی مقتضی الأصل .

و أمّا بحسب مقام الإثبات ، فإنّ مورد التعارض عدم وجود الملاک لأحد الدلیلین ، و مورد اجتماع الأمر و النهی وجوده فی کلیهما ، فالقول بجریان قاعدة التعارض بناءً علی الامتناع غیر صحیح ، بل إن مجرّد احتمال أن یکون کلّ من الدلیلین ذا ملاک یوجب الأخذ بکلا الدلیلین ، فإن کانا فی مقام بیان الحکم الاقتضائی طبّق قاعدة التزاحم ، و إن کانا فی مقام بیان الحکم الفعلی ، فعلی الجواز یؤخذ بهما و علی الامتناع تطبّق قاعدة الامتناع .

فظهر اندفاع التوهّم .

الإشکال علی الکفایة

إنه لمّا جعل صاحب ( الکفایة ) مورد البحث ما إذا کان المجمع واجداً لملاک کلا الحکمین ، کالصّلاة فی الدار المغصوبة ، فقد أورد علیه : بأن بحث الاجتماع مسألة یطرحها الاصولیون العدلیّة القائلون بتبعیّة الأحکام للملاکات ،

ص:42

و الأشاعرة المنکرون لذلک ، فجعل النزاع فی المقام مبتنیاً علی کون المجمع واجداً لملاک الأمر و النهی فی غیر محلّه .

هذا أوّلاً (1) .

و ثانیاً : إن ما ذکره من أن مورد التعارض هو أن یکون لأحد الحکمین ملاک دون الآخر ، غیر صحیح ، لأنّ الأشاعرة المنکرین لتبعیّة الأحکام للملاکات قائلون بالتعارض بین الدلیلین ، لأنّ حقیقته امتناع ثبوتهما فی مقام الجعل و أن ثبوت کلّ منهما فیه ینفی الآخر و یکذّبه ، و حقیقة التزاحم کون المحذور فی مقام الامتثال ، و الحاصل : إنه إن کان المحذور فی مقام الجعل فهو التعارض و إن کان فی مقام الامتثال فهو التزاحم ، علی مسلک العدلیة و الأشاعرة معاً .

و ثالثاً : قوله بأنّه لو کان کلٌّ من الدلیلین متکفّلاً للحکم الفعلی لوقع التعارض بینهما ، فعندئذٍ لا بدّ من الرجوع إلی مرجّحات باب المعارضة ، إلّا إذا جمع بینهما بحمل أحدهما علی الحکم الاقتضائی بمرجّحات باب المزاحمة .

فیه : إن موارد التوفیق العرفی غیر موارد التعارض ، فإذا فرض التعارض بین الدلیلین کان معناه عدم إمکان الجمع العرفی بینهما ، و فیما إذا أمکن ذلک فلا تعارض . ففرض التعارض مع فرض إمکان الجمع العرفی لا یجتمعان . بل یجمع بینهما جمعاً عرفیّاً . أمّا فی مسألة الاجتماع ، فإنّ التنافی عقلی و لیس بعرفی ، و هذا هو الفارق بین المسألتین (2) .

النظر فی الإشکالات

فأمّا الإشکال الأوّل فوارد .

و أمّا الثانی ، فإنّه غیر واردٍ علی المحقق الخراسانی ، لأنّه یری - کما فی باب

ص:43


1- 1) أجود التقریرات 2 / 146 ، محاضرات فی اصول الفقه 3 / 402 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 205 و 206 .

التعادل و التراجیح من ( الکفایة ) (1) - أن التعارض عبارة عن تنافی الدلیلین بالتناقض أو بالتضاد ، إمّا بالذات و إمّا بالعرض .

و التنافی بالذات بالتناقض ، کأن یدلّ أحدهما علی الوجوب و الآخر علی عدم الوجوب .

و التنافی بالتضادّ ، کأن یدلّ أحدهما علی الوجوب و الآخر علی الحرمة .

و التنافی بالعرض ، کأن لا یکون بین الدلیلین أی تنافٍ بالذات ، لکنْ یحصل بینهما من جهة دلیلٍ من خارج ، کما لو دلّ أحدهما علی وجوب صلاة الظهر فی یوم الجمعة و الآخر علی وجوب الجمعة ، فلا تنافی و الجمع ممکن ، لکنّ الإجماع علی عدم الفریضتین ظهر یوم الجمعة یوجب التنافی بینهما .

و الحاصل : إنه إذا کان هذا رأی صاحب ( الکفایة ) فی حقیقة التعارض ، فالإشکال المذکور فی المبنی ... لأنّه لا یری أن قوام مسألة الاجتماع هو وجود الملاک للحکمین فی المجمع ، فلو کان أحدهما فاقداً له دخل فی باب التعارض ، و لیس مقصوده من هذا الکلام عدم وجود الملاک لأحدهما فی جمیع موارد التعارض حتی یرد علیه الإشکال .

و أمّا الثالث : فمندفع کذلک ، لعدم الدلیل علی حصر التعارض بمورد التعارض العرفی ، بل الملاک تنافی الدلیلین ، سواء کان بنظر العرف العام أو بحسب الدقّة العقلیة .

و تلخص : انحصار الإشکال علیٰ ( الکفایة ) بالإشکال الأوّل .

ص:44


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 404 و 405 .
الأمر التاسع ( فی الکاشف عن الملاک )
اشارة

قال فی الکفایة (1) : إنه قد عرفت أن المعتبر فی هذا الباب : أنْ یکون کلّ واحد من الطبیعة المأمور بها و المنهی عنها مشتملةً علی مناط الحکم مطلقاً حتی فی حال الاجتماع .

فلو کان هناک ما دلّ علی ذلک من إجماع أو غیره فلا إشکال ، و لو لم یکن إلّا إطلاق دلیلی الحکمین ففیه تفصیل ، و هو :

إن الإطلاق لو کان فی بیان الحکم الاقتضائی ، لکان دلیلاً علی ثبوت المقتضی و المناط فی مورد الاجتماع فیکون من هذا الباب . و لو کان بصدد الحکم الفعلی فلا إشکال فی استکشاف ثبوت المقتضی فی الحکمین علی القول بالجواز - إلّا إذا علم إجمالاً بکذب أحد الدلیلین ، فیعامل معهما معاملة المتعارضین - و أمّا علی القول بالامتناع ، فالإطلاقان متنافیان ، من غیر دلالة علی ثبوت المقتضی للحکمین فی مورد الاجتماع أصلاً ... .

و توضیح کلامه : إنّ الکاشف عن وجود الملاک تارةً : هو دلیل خارجی من إجماعٍ أو غیره ، و اخری : لا دلیل إلّا إطلاق دلیل وجوب الصّلاة و حرمة الغصب ، فإنهما بإطلاقهما یشملان مورد الاجتماع و یکشفان عن وجود الملاک لهما فیه .

فإن کان الأول ، فلا إشکال فی ثبوت الملاک ، و کون البحث من هذا الباب .

و إن کان الثانی ففیه تفصیل .

و قبل أن نبیّن ذلک ، نذکر رأی المحقق الخراسانی فی مراتب الحکم ، فإنّه یری أن للحکم أربع مراتب :

الاولی : مرتبة المقتضی ، و هی مرتبة وجود الملاک للحکم ، و أنّ الحکم

ص:45


1- 1) کفایة الاصول : 155 .

موجود فی مرتبة ملاکه ، لأنّ کلّ مقتضی فهو موجود فی مرتبة المقتضی له .

الثانیة : مرتبة الإنشاء ، فإنّه لمّا کان الملاک موجوداً ، فإنّ الحاکم ینشئ الحکم - علی طبق الملاک - بالنسبة إلی موضوعه المقدَّر الوجود ، فهذه مرتبة جعل الأحکام بنحو القضیة الحقیقیّة .

الثالثة : مرتبة الفعلیّة ، أی مرتبة وجود الموضوع بجمیع قیوده ، فإنه حینئذٍ تتحقّق الفعلیّة للحکم و یحصل البعث أو الزجر من قبل المولی علی المکلَّف .

الرابعة : مرتبة التنجّز و وصول الحکم إلی المکلّف .

فیقول المحقق الخراسانی : إنه إن کان الإطلاق فی مقام بیان الحکم الاقتضائی ، بأنْ کان کاشفاً عن المرتبة الاولی یعنی وجود الملاک لهذا الحکم فی مورد الاجتماع ، فإذا کشف الإطلاق عن ذلک فلا حالة منتظرة .

و أمّا إنْ کان الإطلاق فی مقام بیان وجود الحکم الفعلی ، یعنی وصول الحکم إلی مرتبة الفعلیّة ، فإنْ قلنا بجواز الاجتماع بین الأمر و النهی ، فلا إشکال فی استکشاف ثبوت الملاک فی الحکمین ، و الصّلاة صحیحة ، لوجود الملاک و قیام الدلیل علی جواز الاجتماع - کما هو المفروض - اللّهم إلّا إذا علم بکذب أحد الدلیلین ، فیعامل معهما معاملة المتعارضین . و إنْ قلنا بالامتناع فالإطلاقان متنافیان - لامتناع صدقهما معاً علی المورد - من غیر دلالةٍ لهما علی ثبوت الملاکین للحکمین ، لأنّ انتفاء أحد المتنافیین کما یمکن أن یکون لأجل المانع مع ثبوت المقتضی له ، کذلک یمکن أن یکون لأجل انتفاء المقتضی ، فلا کاشف عن وجود الملاک حتی یکون من هذا الباب . اللّهم إلّا أن یقال : إن مقتضی التوفیق العرفی بین الدلیلین هو حملهما علی الحکم الاقتضائی لو لم یکن أحدهما أظهر فی الدلالة علی الفعلیة ، و إلّا فخصوص الظاهر منهما ، فتتم الکاشفیة کذلک .

کان هذا توضیح مطلب المحقق الخراسانی فی الأمر التاسع .

ص:46

الإشکال علی المحقق الخراسانی

فأشکل علیه فی المیرزا (1) : بأنّ کون الحکم فی محلّ الاجتماع فعلیّاً تارةً و اقتضائیاً اخری ، غیر معقول ، لأنّ الحکم قبل وجود موضوعه خارجاً یکون إنشائیاً ثابتاً لموضوعه المقدّر الوجود ، و بعد وجود موضوعه یستحیل أنْ لا یکون فعلیّاً . و تبعه المحقق الخوئی و شیخنا الأُستاذ فی هذا الإشکال .

و حاصل الکلام هو : إن بلوغ الحکم إلی مرتبة الفعلیّة - و هی المرتبة الثالثة بناءً علی نظریّة المحقق الخراسانی - یتوقف علی وجود موضوعه خارجاً بجمیع قیوده و شروطه ، وعلیه ، فلا یلازم أن یکون فعلیّاً حین الجعل و الإنشاء الحقیقیّة لما تقرّر من أن الأحکام الشرعیة مجعولة علی نحو القضایا الحقیقیّة ... فما فی ( الکفایة ) من أن إطلاق کلٍّ من الدلیلین قد یکون لبیان الحکم الفعلی ، غیر صحیح .

هذا بالنسبة إلی الدلالة علی الحکم الفعلی .

و أمّا بالنسبة إلی دلالة الدلیل علی الحکم الاقتضائی ، ففیه : إن الحکم الاقتضائی غیر معقول ، لأنّ الحکم - سواء کان مجعولاً اعتباریّاً من الحاکم کما هو التحقیق ، أو کان الإرادة أو الکراهة المبرزة - لا یمکن أن یتکفّل الملاک فی هذه المرتبة ، لأنّ مرتبة الاقتضاء هی مبدأ الحکم ، و مبدأ الشیء لیس من مراتبه ، إلّا فی الامور التکوینیة النار - مثلاً - مبدأ للحرارة و هی موجودة بوجود النار .

و السبب فی ذلک : أن تأثیر الملاک و کون الحکم تابعاً له هو بمعنی أن الصّورة العلمیة للملاک تکون علّةً فاعلیةً للحکم ، فالحاکم عند ما یری أن لهذا الفعل مصلحةً لزومیة ، فالصّورة العلمیّة لها تصیر علّةً للحکم فینشئ الحکم علی

ص:47


1- 1) أجود التقریرات 2 / 146 - 147 .

طبقها ، لا أنّ الحکم یترشح من الملاک حتّی یکون من قبیل المقتضی و المقتضی لیقال بوجود المقتضی مع المقتضی فی مرتبته .

هذا هو الإشکال الثبوتی .

و أمّا إثباتاً ، فلأنه لا دلیل علی کون « صلّ » و« لا تغصب » فی مقام بیان الملاک ، حتی یؤخذ بإطلاق الدلیل . نعم الدلیل الدالّ علی الحکم الفعلی یکشف إنّاً - علی مسلک العدلیّة - عن وجود الملاک ...

فتلخَّص : عدم تمامیّة کلام ( الکفایة ) فی کلا طرفیه .

الأمر العاشر ( فی ثمرة البحث )
اشارة

و قد ذکر فی هذا الأمر الصور المختلفة للبحث و ثمرته فی کلّ منها .

فقال ما ملخّصه:

أمّا علی القول بالجواز : فلا إشکال فی حصول الامتثال و سقوط الأمر بالإتیان بالمجمع بداعی الأمر المتعلّق بالطبیعة ، سواءً فی العبادات و التوصلیات ، أمّا فی التوصلیّات فواضح ، لتحقّق الغرض من الأمر التوصّلی بمجرّد تحقق المأمور به خارجاً ، و أمّا فی التعبدیّات ، فلأن انطباق الطبیعة علی هذا الفرد قهری ، فیکون الإجزاء عقلیّاً ... .

فلا إشکال حینئذٍ فی الصّلاة فی المکان المغصوب ، کما لا إشکال فی ارتکاب الحرام ، لمعصیة النهی عن التصرف فی مال الغیر بدون إذنٍ منه .

و أمّا علی القول بالامتناع :

تارةً یقال : بتقدّم جانب الوجوب . فلا إشکال فی حصول الامتثال و سقوط الأمر و عدم تحقق المعصیة ، لکون العمل مصداقاً للمأمور به دون المنهیّ عنه .

و تارةً یقال : بتقدّم جانب الحرمة ، و هنا صور :

ص:48

1 - أن یکون ملتفتاً إلی الحرمة ، و فی هذه الصورة لا یمتنع قصد القربة ، و لا یکون العمل مصداقاً للمأمور به ، فلا یحصل الامتثال به .

2 - أن یکون جاهلاً عن تقصیر ، و فی هذه الصورة یکون العمل باطلاً ، لأنّه - و إنْ کان المکلَّف یتقرَّب به ، لجهله بالحرمة - عملٌ مبغوضٌ للمولی ، و هو لا یصلح لأن یقع حسناً ویحکم بصحته .

3 - أن یکون جاهلاً عن قصور ، و فی هذه الصّورة یحکم بصحّة الصّلاة ، لکونها واجدةً للملاک ، فتصلح للتقرب ، و هو متمکن من القصد لأن جهله بالحرمة عن قصور لا تقصیر ، فلا یقع الفعل منه قبیحاً ، بل یکون مشتملاً علی المصلحة و محصّلاً لغرض المولی و إنْ لم یکن امتثالاً .

هذا کلّه إن کان العمل عبادیّاً کالصّلاة .

و أمّا إن کان توصلیّاً ، فإن الأمر یسقط بمجرّد حصول المأمور به فی الخارج .

ثم قال رحمه اللّٰه : مع أنه یمکن أن یقال بحصول الامتثال مع ذلک ، فإن العقل لا یری تفاوتاً ... .

و یقصد من ذلک استدراک ما تقدَّم منه من أنّ هذا العمل صحیح من جهة اشتماله علی المصلحة و إنْ لم یکن امتثالاً للأمر ، بناءً علی تبعیّة الأحکام لِما هو الأقوی من جهات المصالح و المفاسد واقعاً ، لا لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح ، لکونهما تابعین لما علم منهما کما حقق فی محلّه ... فیقول :

إنه یمکن أن یقال بحصول الامتثال - فی فرض الجهل بالحرمة قصوراً - حتی علی القول بتبعیّة الأحکام لجهات المصالح و المفاسد واقعاً ، لأن العقل لا یری تفاوتاً بین هذا الفرد من الفعل و بین سائر الأفراد فی الوفاء بالغرض من

ص:49

الطبیعة المأمور بها ( قال ) : و من هنا انقدح أنه یجزی و لو قیل باعتبار قصد الامتثال فی صحّة العبادة و عدم کفایة الإتیان بها بمجرَّد المحبوبیّة ( قال ) : و بالجملة ، مع الجهل قصوراً بالحرمة موضوعاً أو حکماً ، یکون الإتیان بالمجمع امتثالاً و بداعی الأمر بالطبیعة لا محالة .

ثم قال :

غایة الأمر ، أنّه لا یکون ممّا تسعه بما هی مأمور بها لو قیل بتزاحم الجهات فی مقام تأثیرها للأحکام الواقعیّة . و أمّا لو قیل بعدم التزاحم إلّا فی مقام فعلیّة الأحکام لکان ممّا تسعه و امتثالاً لأمرها بلا کلام .

و هذا منه استدراک آخر . یعنی : إنّ تصحیح العمل بالإتیان به بداعی الأمر بالطبیعة ، إنما هو علی القول بتزاحم الملاکات فی مقام تأثیرها فی الأحکام و وقوع الکسر و الانکسار فیما بینها ، فإنه بناءً علیه یکون المجمع مورداً للنهی ، لأن المفروض تقدّمه من جهة کون مناطه أقوی من مناط الأمر . و أمّا لو قیل بعدم التزاحم فیما بینهما إلّا فی مقام فعلیّة الأحکام ، لکان ممّا تسعه الطبیعة بما هی مأمور بها ، و لکان الإتیان بالمجمع امتثالاً للأمر المتعلَّق بالطبیعة بلا کلام ، إذ بناءً علیه ، لا تزاحم فی مقام الإنشاء بل هو فی مقام الفعلیّة ، و المفروض عدم فعلیة النهی ، لأنه مع الجهل به قصوراً لا داعویة له ، بل یکون الفعلی هو الأمر .

( قال ) : و قد انقدح بذلک الفرق بین ما إذا کان دلیلا الحرمة و الوجوب متعارضین و قُدّم دلیل الحرمة تخییراً أو ترجیحاً حیث لا یکون معه مجال للصحة أصلاً ، و ما إذا کانا من باب الاجتماع و قیل بالامتناع و تقدیم جانب الحرمة ، حیث یقع صحیحاً فی غیر موردٍ من موارد الجهل و النسیان ، لموافقته للغرض بل للأمر .

و قد أشار بقوله : « للغرض » إلی الوجه الأول . و بقوله : « بل للأمر » إلی الثانی .

ص:50

( قال ) : و من هنا علم أن الثواب علیه من قبیل الثواب علی الإطاعة لا الانقیاد و مجرّد اعتقاد الطاعة .

و الضّمیر علیه یعود إلی الإتیان بالمجمع .

( قال ) : و قد ظهر ممّا ذکرناه وجه حکم الأصحاب بصحّة الصّلاة فی الدّار المغصوبة مع النسیان أو الجهل بالموضوع بل أو الحکم ، إذا کان عن قصور . مع أن الجلّ لو لا الکلّ قائلون بالامتناع و تقدیم الحرمة ، و یحکمون بالبطلان فی غیر موارد العذر . فلتکن من ذلک علی ذکر » .

إشکال السید صاحب العروة علی القائلین بالجواز

و ذهب صاحب ( العروة ) فی رسالته فی ( اجتماع الأمر و النهی ) إلی أنّ بتصحیح العمل بناءً علی الجواز - من باب أن انطباق الکلّی علی الفرد قهری و الإجزاء عقلی - یرتفع التعارض فی مثال البحث بین « صلّ » و« لا تغصب » عقلاً ، لکنه موجود بینهما عرفاً و لا یرتفع بما ذکر .

و لعلّ الوجه فی هذا الإشکال هو : إن إطلاق النهی شمولی و إطلاق الأمر بدلی ، و البدلی مقدَّم فی مورد الاجتماع علی الشمولی ، فالصّلاة منهیٌّ عنها ...

و قد عبَّر فی موضعٍ آخر : بأنْ النهی فی « لا تغصب » تعیینی ، و الأمر فی « صلّ » تخییری ، فیجب الاجتناب فی مورد النهی عن جمیع الأفراد و المصادیق ، أمّا الأمر ، فلا یجب علیه إلّا الإتیان بأحد أفراد المتعلَّق ، و عند العرف یتقدّم الحکم التعیینی علی التخییری .

و هذا مقتضی عدّةٍ من النصوص من قبیل : « لا یطاع اللّٰه من حیث یعصی » و قوله علیه السلام : « لو أنّ الناس أخذوا ما أمرهم اللّٰه به فأنفقوه فیما نهاهم عنه ما قبله منهم ، و لو أنهم أخذوا ما نهاهم اللّٰه عنه و أنفذوه فیما أمرهم اللّٰه به ما قبله

ص:51

حتی یأخذوه من حق و ینفذوه فی حق » (1) و قال : « یا کمیل ، انظر فیمَ تصلّی و علی مَ تصلّی إنْ لم یکن مِن وَجهه و حلِّه فلا قبول »(2) .

جواب الأُستاذ

و قد تنظر الأُستاذ فی هذا الإشکال ، بأنه إن کان مراده : تقدّم الإطلاق الشمولی علی البدلی فی مورد التعارض ، ففیه : إنّه أوّل الکلام ، فمن العلماء من یقول فی مثله بعدم الترجیح بل التساقط ... و هذا علی فرض تحقق التعارض کما هو واضح ، و لکنْ لا تعارض هنا ، لأنه إنّما یکون مع وحدة الموضوع ، کما فی المجمع بین « أکرم عالماً » و« لا تکرم الفاسق » ، أمّا فی هذا المقام ، فإن الموضوع - علی القول بالجواز - متعدّد ، إذ « الصّلاة » غیر « الغصب » ، فلم یرد الإطلاقان علی الموضوع حتی یتحقق التعارض العرفی بینهما .

و إن کان مراده : کون أحدهما تعیینیّاً و الآخر تخییریاً ، و الأوّل هو المقدّم عرفاً . ففیه : إن التخییر فی متعلَّق الأمر أی« الصّلاة » عقلی لا شرعی ، فإنها واجبة بالوجوب التعیینی ، غیر أنّ العقل یری کون المکلَّف مخیّراً فی إیقاع هذا الفرد من الصلاة أو ذاک ، فی المسجد أو فی الدار ، لکون المتعلَّق للأمر هو الطبیعی ، و کلّ واحدٍ من أفراده مصداق له و محقّقٌ للامتثال ... فکبری دوران الأمر بین التعیین و التخییر و تقدّم الأوّل غیر منطبقة علی محلّ البحث ... .

هذا ، مضافاً إلی ما تقدَّم من تعدّد الموضوع بناءً علی الجواز ، و التعارض إنّما یکون مع وحدة الموضوع و المتعلّق لا تعدّده ... لأن المفروض أن الترکیب بین « الصّلاة » و« الغصبیة » انضمامی و لیس اتحادیّاً ... و کون المجمع بنظر العرف

ص:52


1- 1) ( و 2) وسائل الشیعة 5 / 119 ، کتاب الصّلاة ، الباب 2 من أبواب حکم الصّلاة فی المکان و الثوب المغصوب ، رقم 1 و 2 .

شیئاً واحداً مسامحة منه ، و قد تقرّر فی محلّه أنْ لا تسامح فی تطبیق موضوعات الأحکام الشرعیة و أنه لا مرجعیّة للعرف إلّا فی مفاهیم الألفاظ .

و علی الجملة ، فإن التعارض هو تنافی الدلیلین بالتضاد أو التناقض ، و هو فرع وحدة الموضوع ، فإذا تعدّد استحال التنافی .

و بما ذکرنا یظهر ما فی الاستدلال بمثل « لا یطاع اللّٰه من حیث یعصی » ، لأنّ مورده صورة اتّحاد الموضوع لا تعدّده ، و قد عرفت التعدّد بناءً علی القول بالجواز . و أمّا روایة خطاب کمیل فمن أخبار کتاب تحف العقول ، و هی فی کتاب بشارة المصطفی مسندة لکنها ضعیفة السند جدّاً ... .

و روایة الإنفاق مرسلة، أمّا من حیث الدلالة ، فهی دالّة علی مدّعی السیّد لو کان « القبول » بمعنی « الإجزاء » ، أمّا بناءً علی المغایرة بینهما و القول بسقوط الإعادة و القضاء رغم عدم قبول العمل ، فلا یتم استدلاله بها ... و مقتضی التتبّع و الدقة هو هذا الوجه ، لأنّ قوله تعالی «إِنَّمٰا یَتَقَبَّلُ اللّٰهُ مِنَ الْمُتَّقینَ » (1)- مثلاً - لا ینافی صحّة العمل من غیر المتّقی إنْ وقع علی وجه الصحّة ... و کذا فی الأخبار الواردة فی أبواب قواطع الصلاة ، کالخبر الدالّ علی عدم قبول صلاة المرأة الناشزة و العبد الآبق (2) ... مع أن الصّلاة الواجدة للأجزاء و الشرائط منهما صحیحة بلا کلام .

و تلخّص : أن الحقّ عدم ورود الإشکال بناءً علی الجواز کما فی ( الکفایة ) .

إشکال المحاضرات علی الکفایة

و قد أورد فی ( المحاضرات ) علی ( الکفایة ) بعدم صحّة قوله بالصحّة علی

ص:53


1- 1) سورة المائدة : الآیة 27 .
2- 2) وسائل الشیعة 8 / 348 ، الباب 27 باب استحباب تقدیم من یرضی به المأمومون ، الرقم : 1 .

القول بالجواز ، لعدم خلوّ الأمر من حالین ، فإمّا توجد مندوحة و إمّا لا ، فإنْ وجدت صحّت الصّلاة بلا إشکال علی الجواز ، و إنْ فقدت وقع التزاحم ، فإنْ رجّح جانب الأمر فالصحّة ، و إنْ رجّح جانب النهی فالفساد إلّا بناءً علی الترتب ، لکن صاحب ( الکفایة ) لا یری الترتّب ، أو بناءً علی قصد الملاک ، و تصحیح العمل عن هذا الطریق یتوقف علی وجود الأمر لیکشف عن الملاک ، و مع تقدّم النهی لا یوجد أمر فلا کاشف عنه ، فکیف یقصد ؟

إذن ، لا وجه لقول ( الکفایة ) بالصحة بناءً علی الجواز ، بصورةٍ مطلقة ، بل لا بدّ من التفصیل (1) .

جواب الأُستاذ

و قد دفع الأُستاذ الإشکال علی کلا التقدیرین فقال :

لقد أوضح المحقق الخراسانی فی الأمر الخامس - من هذه المقدّمات - أن مبنی البحث فی مسألة الاجتماع هو لزوم التکلیف المحال و عدم لزومه ، لا لزوم التکلیف بالمحال و عدم لزومه ... و اعتبار وجود المندوحة و عدم اعتبارها إنما یکون فیما لو کان المبنی هو الثانی .

و بعبارة اخری ، تارةً : یبحث عن جواز أصل التکلیف و عدم جوازه ، و اخری : یبحث عن فعلیة التکلیف و عدم فعلیّته ، و قضیة وجود المندوحة و عدم وجودها تطرح فی البحث عن الفعلیّة ، لأنّه مع عدم وجودها یکون تکلیفاً بالمحال ، لعدم القدرة علی الامتثال ... لکنّ موضوع البحث فی مسألة الاجتماع هو أصل التکلیف لا فعلیّته ... .

فهذا ما صرَّح به و غفل عنه المستشکل .

ص:54


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 431 .

کما أنّه قد غفل عن کلامه فی لزوم وجود الملاک لکلا الحکمین حتی یندرج البحث فی مسألة الاجتماع ، و أنه لو لا ذلک کان من التعارض ... فهو یؤکّد علی ضرورة وجوده لکلیهما و تطبیق قاعدة التزاحم علیهما ، و حینئذٍ ، فلو قدّم النهی علی الأمر لسقط الأمر علی أثر التزاحم ، لکنَّ مزاحمته للنهی ثم سقوطه لأقوائیة ملاک النهی فرع لوجود الملاک له - أی للأمر - ، فیکون الأمر کاشفاً عن وجود الملاک له ، و هذا لا ینافی سقوطه علی أثر التزاحم .

و علی الجملة ، فقد وقع الخلط علی المستشکل بین السقوط لعدم المقتضی و لوجود المانع ، و کلّما یکون السقوط لوجود المانع فإنه یکشف عن وجود الملاک له ، و إلّا لم تصل النوبة إلی التزاحم و السقوط علی أثر أقوائیة الملاک فی الطرف الآخر .

فظهر سقوط الإشکال علی المحقق الخراسانی .

وجه الفتوی بصحة الصّلاة مع القول بالامتناع
اشارة

ثم إنّ المحقق الخراسانی ، بعد أنْ بیّن الحکم علی القول بالجواز ، قسّم المکلّف - بناء علی الامتناع - إلی أقسامٍ ، و حاول توجیه فتوی المشهور بصحّة الصّلاة فی المکان المغصوب من الجاهل عن قصورٍ إذ قال : و قد ظهر بما ذکرناه وجه حکم الأصحاب بصحّة الصّلاة فی الدار المغصوبة مع النسیان أو الجهل بالموضوع بل أو الحکم ، إذا کان عن قصور ، مع أنّ الجلّ - لو لا الکلّ - قائلون بالامتناع و تقدیم الحرمة ... .

و قد صحّحها بثلاثة وجوه :

أحدها : عن طریق قصد الملاک ، لأن المفروض واجدیّتها ، بناءً علی کفایة قصده فی عبادیة العمل .

ص:55

و الثانی : عن طریق قصد الامتثال و الطاعة ، فإنّه یکفی لعبادیّة العمل و إنْ قیل بعدم کفایة قصد الملاک ، فکلّ عبادةٍ جامعةٍ للأجزاء و الشرائط المعتبرة فیها ، یصحّ التقرّب بها بقصد إطاعة الأمر المتعلّق بها ، و هذا القصد یتمشّی من الجاهل عن قصورٍ بالموضوع و الحکم .

و الثالث : عن طریق القول بأن لوصول الملاک إلی المکلّف دخلاً فی حسن الفعل أو قبحه ، فالمؤثر هو الملاک بوجوده العلمی لا الواقعی ، و علی هذا ، فلمّا کانت مصلحة الصّلاة واصلةً فهی مأمور بها ، أمّا مفسدة الغصب ، فالمفروض عدم وصولها - للجهل القصوری - فلا أثر لها و إنْ قدّم النهی ، لأنّ تقدیمه إنما هو بحسب الواقع ، و هو بلا أثر کما تقدم .

إشکال السید البروجردی علی الکفایة

و قد أشکل السید البروجردی (1) : بأنّ مقتضی التحقیق هو القول بدوران الأمر مدار الجهل و النسیان عن قصور ، فإنه إن کان کذلک حکم بصحة الصّلاة ، علی القول بالجواز و الامتناع معاً ، و إن کان عامداً أو جاهلاً مقصّراً حکم ببطلانها علی القولین معاً ... و ذلک : لأنّ الصّلاة فی المکان المغصوب قد ابتلی ملاکها بالمبغوضیّة ، و کلّ عملٍ مبغوض فهو غیر قابلٍ للمقربیّة ، إلّا إذا کان جاهلاً عن قصورٍ لکون صلاته صالحة للمقرّبیة ، سواء قلنا بالجواز أو بالامتناع ... ( قال ) و یشهد بذلک ذهاب القائلین بالجواز إلی بطلان العمل العبادی إلّا من الجاهل القاصر لأنه معذور .

مناقشة الأُستاذ

إنه لا بدَّ من تعیین الأساس فی وجه القول بالجواز ، فإنْ کان مجرّد تعدّد

ص:56


1- 1) الحاشیة علی الکفایة 1 / 401 .

العنوان و الوجه مع وحدة الوجود و الواقع ، صحّ ما ذکره من الابتلاء بالمبغوضیّة ، أمّا إن کان الأساس فی ذلک تعدّد الوجود ، بمعنی أنّ متعلَّق الأمر غیر متعلّق النهی - کما هو التحقیق - فلا مبغوضیة لمتعلَّق الأمر ، بل یبقی علی محبوبیّته و صلاحیّته للمقربیّة ، غیر أنّه جاء مقارناً للمبغوض و توأماً له ، کما لو وقع النظر إلی الأجنبیة فی أثناء الصّلاة ، و کما لو وقعت الصّلاة ملازمةً لترک الأهم - و هو إنقاذ الغریق مثلاً - فإنّها بناءً علی الترتّب صحیحة و صالحة للمقرّبیة . و الوجه فی جمیع هذه الموارد هو تعدّد الوجود .

هذا بناءً علی الجواز .

و أمّا علی الامتناع ، فإنّ القائلین به ینکرون التعدّد ، فمع تقدیم جانب النهی لا یکون العمل صالحاً للمقرّبیّة ، نعم ، الجاهل عن قصورٍ معذور ، إلّا أن معذوریّته أمر و صلاحیّة العمل للمقربیّة أمر آخر ، و قد تقرّر فی محلّه اشتراک الأحکام بین العالمین و الجاهلین ، و الجهل غیر رافع للمبغوضیة واقعاً بل ظاهراً - بخلاف النسیان ، فإن رفع الحکم معه واقعی ، إلّا أن الکلام لیس فی النسیان - فالمبغوضیّة موجودة ، فکیف یحکم بالصحّة ؟

و أما دعوی أنّ القائلین بالجواز أیضاً یقولون بالبطلان هنا ، فمردودة : بأنها خلاف صریح کلمات الفقهاء ... فلاحظ منها کلام الشهید الثانی فی روض الجنان فی هذه المسألة (1) .

هذا ، و الفرق بین الصّلاة فی المکان و الساتر المغصوب ، هو أنّ من شرائط صحة الصّلاة إباحة اللّباس ، فهی فی اللّباس المغصوب فاقدة للشرط ، أمّا فی المکان المغصوب ، فالتفصیل بین القول بالجواز و القول بالامتناع .

ص:57


1- 1) روض الجنان فی شرح إرشاد الأذهان 2 / 587 .
إشکال السید الخوئی علی الکفایة

و أشکل فی ( المحاضرات ) بعد الإشکال علی ما ذکر فی ( الکفایة ) بناءً علی الجواز ، بعدم تمامیة کلامه بناءً علی الامتناع أیضاً ، لأنه علی القول بذلک و تقدیم جانب النهی ، تدخل المسألة فی کبری باب التعارض و تجری علیه أحکامه و لا تکون من صغریات التزاحم کما ذهب إلیه . ( قال ) : و یمکن المناقشة علی وجهة نظره أیضاً ، لأنه یرید تصحیح العمل بقصد الملاک ، لکنّ قصد الملاک إنّما یکون مقرّباً فیما إذا لم یکن مزاحماً بشیء ، و لا سیّما إذا کان أقوی منه کما هو المفروض فی المقام ، و أما الملاک المزاحم فلا یترتب علیه أیّ أثر و لا یکون قصده مقرباً بناءً علی ما هو الصحیح من تبعیة الأحکام للجهات الواقعیة لا الجهات الواصلة ، و المفروض أن ملاک الوجوب مزاحم بملاک الحرمة فی مورد الاجتماع ، فلا یصلح للمقربیة ... فلا یمکن الحکم بصحة العبادة علی القول بالامتناع ، لا من ناحیة الأمر و انطباق المأمور به علی الفرد المأتی به ، و لا من ناحیة الملاک (1) .

جواب الأُستاذ

و أجاب الأُستاذ : بأنْ دخول المسألة علی الفرض المذکور فی کبری التعارض هو الصحیح وفاقاً للشیخ الأعظم ، کما سیأتی بالتفصیل . لکنّ الإیراد علی صاحب ( الکفایة ) بناءً علی مسلکه من کونها من باب التزاحم ، غیر وارد ، لأنه قد جعل قوام اجتماع الأمر و النهی وجود الملاک لکلٍّ من الدلیلین ، و قوام باب التعارض عدم وجوده فی أحدهما ، و علی هذا لا یتوجّه علیه الإشکال إلا من حیث المبنی .

ص:58


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 436 - 437 .
إشکال آخر

و أشکل فی ( المحاضرات ) ایضاً : بأنّه لمّا کان تصحیح العبادة - علی القول بالامتناع - من طریق قصد الأمر أو الملاک ، فإنّه مع تقدیم جانب النهی یسقط الأمر ، و إذا سقط فلا طریق لإحراز الملاک ، لوضوح أنّ عدم انطباق الطبیعة علی هذا الفرد کما یمکن أنْ یکون من ناحیة وجود المانع مع ثبوت المقتضی له ، یمکن أن یکون من ناحیة عدم المقتضی له ، فالعقل لا یحکم - حینئذٍ - بحصول الامتثال بالإتیان بالمجمع .

و الجواب

لقد تعرّض صاحب ( الکفایة ) فی المقدمة التاسعة لهذا المطلب و أوضحه ، بما حاصله : إنّ باب اجتماع الأمر و النهی متقوّم بوجود الملاک لکلا الدّلیلین ، فإن لم یحرز وجوده لأحدهما کانت المسألة من باب التعارض ، و الکاشف عن الملاک تارة دلیل من خارج و اخری هو الإطلاق ، فإن کان الإطلاقان فی مقام بیان الحکم الاقتضائی احرز الملاک ، و إن کانا فی مقام بیان الحکم الفعلی خرجت المسألة إلی باب التعارض - لعدم إمکان توجّه الحکمین الفعلیین إلی الشیء الواحد - و إذا رجّح طرف النهی و سقط الأمر ، أمکن أن یکون سقوطه من جهة عدم الملاک ، کما أمکن أن یکون من جهة الابتلاء بالمعارض .

فما جاء فی الإشکال مذکور فی ( الکفایة ) ، و لیس بشیء جدید .

إشکال الأُستاذ علی الکفایة

ثم قال الأُستاذ : بأن الصحیح فی الإشکال علی ( الکفایة ) هو أن یقال : إنّه مع تسلیم کون المسألة من باب الاجتماع ، فإنّ ملاک الوجوب - بناءً علی الامتناع و تقدیم النهی علی الأمر - یکون مغلوباً لملاک النهی ، و إذا تغلّب ملاک النهی کان

ص:59

العمل مبغوضاً ، و قد تقدّم أن العمل ما لم یکن محبوباً للمولی لا یصلح للمقربیّة ، و بما ذکرنا یظهر عدم إمکان تصحیحه بالإتیان به بقصد الملاک ، لأنّ مجرّد وجود المصلحة فی الصلاة لا یکفی للمقربیّة ، بل المقرّب هو العمل المأتی به بما هو محقق لغرض المولی ، و مع غلبة جانب الغصبیّة لا یکون ملاک الصّلاتیة المغلوب غرضاً ، لأن الغرض یتبع الملاک الغالب ، و إذا انعدم الغرض فلا ملاک للمقربیّة .

و مع التنزّل عمّا ذکرنا ، تصل النوبة إلی الشک ، فهل مثل هذا الملاک الذی أصبح مغلوباً للمفسدة صالحٌ للمقربیّة أو لا ؟

و أمّا تصحیحه بقصد الأمر ، فهو علی أساس أنّ التزاحم بین الملاکات إنما هو بحسب وصولها إلی المکلَّف و علمه بها و التفاته إلیها ، و المفروض هنا جهل المکلَّف بالنهی عن قصورٍ لا تقصیر ، فیتمشی منه قصد الأمر المتعلِّق بطبیعة الصّلاة ... لکن هذا الأساس باطل ، لأن الأحکام تابعة للملاکات الواقعیة ، و لا دخل لعلم المکلَّف و جهله فی تمامیة الملاک و عدمها ، تمامیّته و إلّا یلزم التصویب ، لأنه لو کانت الفعلیة تابعةً للوصول ، فعلی القول بالامتناع و تقدیم جانب النهی ، غیر و اصلٍ إلی الجاهل ، بل الأمر هو الواصل إلیه ، فالمجمع مأمور به ، و هذا هو التصویب .

و الحاصل : إن الملاکات الواقعیة مؤثرة ، و مع تقدیم جانب النهی - و إنْ لم یکن واصلاً - ینتفی الملاک عن الصّلاة ، و به ینتفی الأمر ، فلا یمکن تصحیحها بقصد الأمر ... و یکون العمل باطلاً .

ص:60

أدلّة القول بالامتناع

مقدّمات صاحب الکفایة
اشارة

إنّ المشهور هو القول بامتناع اجتماع الأمر و النهی ، قال فی ( الکفایة ) و هو الحق ، و قد ذکر لتحقیق هذا القول و إثباته مقدّمات :

المقدمة الاولی ( التضادّ بین الأحکام )

قال : لا ریب فی أنّ الأحکام الخمسة متضادّة فی مرتبة الفعلیّة و مرتبة التنجّز ، أمّا التی قبل التنجّز و الفعلیة فلا تضاد ...

و هو - و إنْ لم یتعرّض هنا إلّا لمرتبتین هما الإنشاء و الفعلیة - یری أنّ لکلٍّ حکمٍ من الأحکام الخمسة أربع مراتب :

1 - مرتبة الملاک ، و هی مرتبة المقتضی للحکم .

2 - مرتبة الإنشاء ، و هی مرتبة جعل الحکم بنحو القانون .

3 - مرتبة التنجّز ، و هی مرتبة البعث و الزجر .

4 - مرتبة الفعلیة ، و هی مرتبة وصول الحکم إلی المکلَّف و ترتب الثواب أو العقاب .

و قد ذکرنا ذلک سابقاً .

فالمقصود من هذه المقدّمة بیانُ وجود التضادّ فی المرتبتین : مرتبة التنجّز ، فهناک تضادّ بین الطلب الجدّی للفعل و الطلب أو الزجر الجدّی للترک ، و مرتبة الفعلیة و وصول الحکم إلی المکلَّف ، فإنه یستحیل فعلیّة کلا الحکمین بالنسبة

ص:61

إلیه ... فالقول بالجواز یستلزم اجتماع الضدّین ... فیکون الحکم کذلک تکلیفاً محالاً و لیس من التکلیف بالمحال ... و لذا یقول : بأن الاجتماع غیر جائز حتّی عند من یقول بجواز التکلیف بغیر المقدور و هم الأشاعرة ، لأنّ الاستحالة ترجع إلی مرحلة التکلیف و لیست فی مرحلة الامتثال ، و هذا هو الفرق بین التکلیف المحال و التکلیف بالمحال .

إشکال المحقق الأصفهانی علی المقدمة الاولی

و قد أشکل علیه المحقق الأصفهانی فقال (1) : إن حدیث تضادّ الأحکام التکلیفیة و إنْ کان مشهوراً لکنّه ممّا لا أصل له ، لما تقرّر فی محلّه من أن التضادّ و التماثل من أوصاف الأحوال الخارجیة للامور العینیّة ، و لیس الحکم بالإضافة إلی متعلّقه کذلک ، سواء ارید به البعث و الزجر الاعتباریّان العقلائیّان أو الإرادة و الکراهة النفسیّان .

ثم أوضح ما ذکره علی المسلکین المذکورین فی حقیقة الأمر و النهی .

و محصّل کلامه هو : إنّ حقیقة التضادّ عبارة عن التمانع بین الشیئین الموجودین المتعاقبین علی الموضوع الواحد ، الواقعین تحت جنسٍ قریب و بینهما غایة الاختلاف ، کالسواد و البیاض المتعاقبین علی المحلّ الواحد ، فإنّهما أمران وجودیان یجتمعان تحت مقولة الکیف المحسوس لکنْ بینهما الاختلاف فی الغایة .

و علی هذا ، فالتضادّ من أوصاف الموجودات الخارجیة ، و هی التی یتصوّر فیها التضادُّ ، دون الأحکام التکلیفیة :

أمّا علی القول : بأن الأمر و النهی هما البعث و الزجر الاعتباریّان ، فلأنّ البعث

ص:62


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 308 .

و الزجر عبارة عن المعنی الاعتباری المنتزع من قول المولی « صلّ » و قوله « لا تغصب » ، و من الواضح أن کلّاً منهما إنشاء خاص مرکّب من کیف مسموع - و هو لفظ « صلّ » و لفظ « لا تغصب » ، و من کیف نفسانی هو قصد ثبوت المعنی باللفظ ، و هما قائمان بالمولی المنشئ لا بالفعل الخارجی القائم بالغیر ، و الأمر الاعتباری المنتزع أیضاً قائم به لا بغیره ، و مقوّم هذا الأمر الاعتباری - و هو طرفه - لا یعقل أنْ یکون الهویة العینیة القائمة بالمکلَّف ، لأن البعث الحقیقی یوجد سواء وجدت الهویّة العینیّة من المکلَّف أو لا ، و یستحیل أن یتقوَّم الموجود و یتشخّص بالمعدوم بل ما لا یوجد أصلاً کما فی البعث إلی العصاة ، و حینئذٍ یکون المتعلَّق المقوِّم لهذا الأمر الاعتباری و المشخّص له هو الفعل بوجوده العنوانی الفرضی الموافق لاُفق الأمر الاعتباری و المسانخ له ( قال ) : فاتضح ممّا ذکرنا : أن البعث و الزجر لیسا من الأحوال الخارجیة ، بل من الامور الاعتباریة ، و أن متعلَّقهما لیس من الموجودات العینیة بل العنوانیة .

و أمّا علی القول : بأنّ الحکم عبارة عن الإرادة فی الوجوب و الکراهة فی الحرمة ، فقد ذکر وجوهاً لعدم التضادّ ، لأن الإرادة و الکراهة - سواء التکوینیة أو التشریعیة - قائمتان بالنفس ، لکنهما من الامور ذات التعلّق ، و المتعلّق لهما عین وجود الإرادة و الکراهة ، وعلیه : فإنّ متعلَّقهما هو الوجود النفسانی للمراد و المکروه ، لا الوجود الخارجی ، و إلّا یلزم وجودهما بلا طرفٍ ، و حینئذٍ ، یکون متعلَّق الإرادة و طرفها موجوداً بوجود الإرادة ، و کذا الکراهة ، و لمّا کانت الإرادة غیر الکراهة و بینهما تغایر ، فکذلک بین المتعلَّقین لهما ، فلا یجتمعان فی واحدٍ ، فلا تضاد ، و هذا هو الوجه الأوّل .

الوجه الثانی : إن الإرادة أمر نفسانی - و کذلک الکراهة - و لا یعقل تعلّقها بالموجود الخارجی و إلّا یلزم انقلاب النفسانی خارجیّاً و الخارجی نفسانیاً ، نعم ،

ص:63

الإرادة علّة لتحقّق الشیء فی الخارج ، و هذا غیر أنْ یکون الخارج متعلّقاً لها ، فلا ینبغی الخلط .

الوجه الثالث : إن طبیعة الشوق - بما هو شوق - لا تتعلَّق إلّا بالحاصل من وجهٍ و المفقود من وجه ، إذ الحاصل من جمیع الجهات لا جهة فقدان له کی یشتاق إلیه النفس ، و المفقود من جمیع الوجوه لا ثبوت له بوجهٍ کی یتعلَّق به الشوق ، فلا بدَّ من حصوله بوجوده العنوانی الفرضی لیتقوم به الشوق ، و لا بدّ من فقدانه بحسب وجوده التحقیقی کی یکون للنفس توقان إلی إخراجه من حدّ الفرض و التقدیر إلی حدّ الفعلیة ... و حاصل هذا : أن الموجود الخارجی یستحیل أن یکون هو المتعلَّق للإرادة و الکراهة ، لکونه موجوداً من جمیع الجهات .

و هذه الوجوه جاریة فی الإرادة التکوینیة و التشریعیة معاً ، غیر أنّ التکوینیة لا واسطة فیها بخلاف التشریعیة ، إذ المراد صدور الفعل من المکلَّف ، و التکوینیة لا تتعلَّق بالمعدوم کما تقدَّم ، بخلاف التشریعیة ، فإنّها تتعلَّق بالفعل الذی یراد صدوره من المکلف .

رأی السید الخوئی

و لِما ذهب إلیه المحقق الاصفهانی ، قال تلمیذه فی ( المحاضرات ) (1) بعدم وجود التضادّ بین الأحکام أنفسها ، بل هو فی مبدأ الحکم و فی منتهاه . أمّا عدم وجوده بینها ، فلأن البعث و الزجر أمران اعتباریان و لا تمانع بین الاعتباریین .

لکنه فی مبدإ الحکم و هو المحبوبیة و المبغوضیة ، فإنهما لا یجتمعان فی الشیء الواحد ، و کذا فی منتهی الحکم و هو مقام الامتثال ، لأن الفعل و الترک لا یجتمعان .

ص:64


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 413 .
نظر الشیخ الأُستاذ

ثم إن الشیخ الأُستاذ بعد أنْ شرح کلام المحقق الاصفهانی رحمه اللّٰه ، أشکل علیه بعد بیان امور :

أولاً : إنه لیس المقصود من التضادّ فی هذه المقدّمة هو التضادّ الفلسفی ، بل المراد التضادّ الاصولی ، أی: إن اجتماع الأمر و النهی فی الواحد ذی العنوانین مستحیل من جهة أنه بنفسه محالٌ ، لا من جهة أنه من باب التکلیف بالمحال ، و لیس البحث فی أن الوجوب و الحرمة هل یمکن اجتماعهما فی الموجود الخارجی أو لا یمکن .

و ثانیاً : إن الأقوال فی حقیقة الحکم مختلفة ، فقیل : الإرادة و الکراهة ، مع قید الإبراز و عدمه . و قیل : الطلب الإنشائی بالفعل أو بالترک ، أو الطلب و النهی الإنشائی ، أو البعث و الزجر الإنشائی ، أو البعث و الزجر الاعتباری ، و قیل : الاعتبار المبرز لثبوت الفعل فی الذمّة و لحرمان المکلّف من الشیء .

و مختار المحقق الأصفهانی : إن حقیقة الحکم عبارة عن الدّاعی و الزّاجر الإمکانی ، فالمولی یحکم بداعی جعل الدّاعی الإمکانی للفعل و بداعی جعل الزّاجر الإمکانی عن الفعل ، بخلاف الإنشاءات الامتحانیة و التعجیزیة و نحوها ، فإنّ مثل «کُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئینَ » (1)لیس بداعی جعل الدّاعی بل هو تعجیز .

فهو یری إن قوله « صلّ » دعوة العبد إلی الصّلاة و تحریک له نحوها ، و قوله « لا تغصب » زاجر له عن ذلک ، و هکذا إنشاء یسمّی بالحکم ، فالصّادر من المولی هو « الإنشاء » و هو فی مرحلة الإمکان ، فإن کانت نفس العبد خالیة من موانع العبودیة ، وصل الحکم إلی مرحلة الفعلیة بالامتثال ، و إلّا بقی فی مرحلة الإمکان و القوة .

ص:65


1- 1) سورة البقرة : الآیة 65 .

و ثالثاً : إنه لا إهمال فی الواقع فی متعلَّقات التکالیف المولویة ، بل المتعلَّق إما مطلق و إما مقیَّد ، نعم ، یمکن الإهمال فی مرحلة البیان و الإثبات ، بأنْ لا یذکر المولی کلّ الخصوصیّات المقصودة فی المتعلَّق .

و بعد المقدّمات نقول بناءً علی مختاره فی حقیقة الحکم :

إن متعلَّق الأمر فی « صلّ » هو صرف وجود الصّلاة ، و متعلَّق النهی فی « لا تغصب » هو مطلق وجود الغصب ، فهل إنّ متعلَّق الأمر - بعد استحالة الإهمال - بالنسبة إلی الغصب مطلق أو مقیّد ؟ لا ریب فی عدم تقیّد الصّلاة بالغصب لا بوجوده و لا بعدمه ، أمّا عدم تقیّدها بوجوده فواضح ، و أمّا عدم تقیّدها بعدمه فلأنه لا بیان عن ذلک فی مقام الإثبات ، إذ لم یقل صلّ فی غیر المکان المغصوب ... فالصّلاة بالضرورة مطلقة بالنسبة إلی الغصب ، و حینئذٍ ، لا بدّ و أن یکون لمثل هذا الأمر المطلق إمکان الداعویة فی نفس المکلَّف ، لینبعث نحو الإطاعة و الامتثال لصرف وجود طبیعة الصّلاة ، و إلّا یلزم الخلف .

هذا فی جهة الأمر .

و کذلک الکلام فی جهة النهی و تحریم الغصب ، فلا بد و أنْ یکون مطلقاً و أن یکون لهذا الإطلاق الشمولی إمکان إیجاد الداعی فی نفس المکلَّف للانزجار ، أی یکون له إمکان الزاجریة عن الغصب .

ثم إنه یقول : إنّ وحدة متعلَّق الأمر و متعلَّق النهی لیست شخصیة بل هی وحدة طبیعیة ، فالصّلاة طبیعة واحدة لا شخص واحد ، و کذلک الغصب ... لکنّ السؤال هو : هل لهذه الطبیعة الواحدة - التی هی لا بشرط بالنسبة إلی الطبیعة الواحدة الاخری - إمکان الداعویّة نحو جمیع مصادیقها أو لا ؟ إنه لا بدّ أنْ یکون للطبیعة المتعلَّق بها الحکم بنحو لا بشرط ، إمکان الداعویّة إلی کلّ واحدٍ من

ص:66

مصادیقها ، و إلّا لم یعقل أن یجعل المطلق داعیاً أو زاجراً ، لکنّ فعلیة إمکان داعویته بالنسبة إلی هذا الفرد - أی الصّلاة فی المکان المغصوب - مستحیلٌ ، و إذا استحالت فعلیّته بسبب وحدة الوجود ، استحال جعله ، لأنّه فی مثل هذه الحالة یستحیل تحقق الداعی للمولی للجعل ... .

و علی الجملة ، فإنه لا مجال للمحقّق الأصفهانی لإنکار الإطلاق، و اشکاله علی ( الکفایة ) مندفع بناءً علی مختاره فی حقیقة الحکم ... و بهذا یظهر أنّ المورد من التکلیف المحال لا التکلیف بالمحال .

و هذا کلّه بناءً علی مختاره ، و أمّا علی سائر المبانی فالأمر سهل .

أمّا علی القول ، بأنَّ حقیقة الحکم هو الاعتبار المبرز و هو مختار ( المحاضرات ) ، فالسؤال هو : هل المراد من الاعتبار المبرز مطلق الاعتبار أو خصوص الاعتبار بداعی تحریک العبد نحو الفعل أو زجره ؟ إن کان الأول ، تمّ ما ذکره فی ( المحاضرات ) ، لا سیّما و أن الاعتبار حفیف المئونة ، لکنّ محلّ الکلام هو الحکم الوجوبی أو التحریمی ، و الحکم لیس مطلق الاعتبار بل إنه الاعتبار المبرز بداعی تحریک المکلّف نحو الامتثال أو بداعی زجره ... و إذا کان کذلک توجّه علیه ما توجّه علی المحقق الاصفهانی .

ثم لا یخفی أنه إذا کان متعلَّق التکلیف صرف وجود الطبیعة ، ففی ترخیص المکلَّف فی علی الفرد قولان ، فقیل : إنه بحکم العقل ، و قیل : إنه بحکم الشرع ، فلمّا قال المولی « صلّ » فقد أفاد أن المطلوب من المکلّف صرف وجود الصّلاة و أنه مخیّر فی الإتیان بأیّ فردٍ من أفرادها ... و السید الخوئی من القائلین بهذا القول ، وعلیه ، فإن الإشکال یکون آکد ... لأنه أصبح مرخّصاً فی تطبیق الأمر بالصّلاة علی الفرد المتّحد منها مع الغصب ، و کذا فی تطبیق النهی عن الغصب ،

ص:67

لکنّ الترخیص فی التطبیق مع النهی عن الغصب محال ... فاستحال أصل التکلیف ، و أنّ التمانع موجود بین الحکمین .

و بما ذکرنا ظهر وجود التضادّ بین الحکمین ، و أنه لیس فی المبدإ و المنتهی فحسب .

إشکال السید البروجردی علی المقدمة الاولی

و قال المحقق البروجردی ما حاصله (1) : إنّه و إنْ تسالموا علی التضاد بین الأحکام الخمسة لکنّ التحقیق خلافه ، لأنّ الوجوب و الحرمة و غیرهما من الأحکام لیست من العوارض لفعل المکلّف ، بل هی بحسب الحقیقة من عوارض المولی ، لقیامها به قیاماً صدوریّاً .

نعم ، للأحکام ثلاث إضافات لا یعقل تحقّقها بدونها ، فإضافة إلی المولی ، بالآمر و الناهی ، و إضافة إلی المکلَّف ، و یتّصف بها بعنوان المأمور و المنهی ، و إضافة إلی المتعلَّق و یتّصف بها بعنوان المکلَّف به ... .

لکنّ الإضافة شیء و العروض شیء آخر ، إذ لیس کلّ إضافة مساوقاً للعروض ، فالحکم من عوارض المولی فقط ، لصدوره عنه و قیامه به قیام العرض بمعروضه ، أمّا إضافته إلی المکلَّف و المتعلَّق فلیس من هذا القبیل ، لعدم کونه ممّا یعرض علیهما خارجاً و عدم کونهما موضوعین للأمر و النهی ، بداهة أن العرض الواحد لیس له إلّا موضوع واحد ... کیف ، و لو کانا من عوارض المتعلَّق - و هو فعل المکلَّف - لم یعقل تحقق العصیان أبداً ، لأنه متوقف علی ثبوت الأمر و النهی ، و لو کانا من عوارض الفعل الخارجی توقف تحقّقهما علی ثبوت الفعل فی الخارج - و لو فی ظرفه لو سلّم کفایة ذلک فی تحقق العروض - و حینئذٍ ، فکیف یعقل

ص:68


1- 1) نهایة الاصول : 228 - 230 .

العصیان ، إذ وجود المأمور به امتثال للأمر لا عصیان ، فمن هنا یعلم أنهما لیسا من عوارض الفعل ، بل من عوارض المولی و قد صدرا عنه متوجّهین إلی الجمیع حتی العصاة ، غایة الأمر أن لهما نحو إضافة إلی الفعل الخارجی أیضاً ، إضافة العلم إلی المعلوم بالعرض .

فتلخّص : إنه لا یکون الوجوب و الحرمة عرضاً للمتعلَّق حتی یلزم بالنسبة إلی الجمع اجتماع الضدّین ، إذ التضاد إنما یکون بین الامور الحقیقیّة ، و العروض إنما یکون فی ناحیة المولی ، و حینئذٍ ، علی القائل بالامتناع إثبات امتناع أن ینقدح فی نفس المولی إرادة البعث بالنسبة إلی حیثیّةٍ حینئذٍ و إرادة الزجر بالنسبة إلی حیثیّة اخری متصادقة مع الاولی فی بعض الأفراد ، و أنّی له بإثبات ذلک .

نظر الشیخ الأُستاذ

و قد تعرّض شیخنا لهذا بعد النظر فی کلام المحقق الأصفهانی و قال : إنه بما ذکرنا یظهر ما فیه ، لأن المقصود هو أن اجتماع الأمر و النهی من التکلیف المحال لا التکلیف بالمحال ، و إذا کان الحکم من عوارض المولی المکلِّف و أنه لا مانع من انقداح إرادة البعث و الزجر فی نفس المولی ، فإنّ « البعث » و« الزجر » من الامور ذات الإضافة ، فلا ینفکّان عن المبعوث و المبعوث إلیه ، و عن المزجور عنه ، و حینئذٍ ، کیف یجتمع الأمر و النهی ؟

مضافاً إلی ما فی قوله من أن الحکم من عوارض المولی فقط ، لکنْ له ثلاث إضافات و أنه یجوز أن یکون طرف الإضافة معدوماً کما فی تکلیف العاصین .

و بیان الإشکال :

أولاً : إنه کما لا یمتنع کون الفعل المعدوم معروضاً للوجوب ، کذلک لا یمکن کونه طرفاً للإضافة ، و لو جاز وقوعه طرفاً لها جاز کونه معروضاً له .

ص:69

و ثانیاً : إن الإضافة متقوّمة بالطرفین ، فإن کان طرف الإضافة هو الفعل بوجوده العنوانی الذی فی الذهن ، ففیه : إنه غیر صالح لأن یکون طرفاً لها ، لأنه موجود بعین وجود الحکم و مقوّم له . و إن کان الفعل الخارجی - کما صرّح به - ففیه : إنّ الخارج ظرف سقوط الحکم فیستحیل أن یکون طرفاً للحکم .

هذا تمام الکلام فی المقدمة الاولی .

المقدمة الثانیة ( فی تعیین متعلَّق الحکم )

قال : إنه لا شبهة فی أنّ متعلّق الحکم هو فعل المکلّف و ما هو فی الخارج یصدر عنه و هو فاعله و جاعله ، لا ما هو اسمه کما هو واضح و لا ما هو عنوانه ممّا قد انتزع عنه ، ضرورة أن البعث لیس نحوه و الزجر لا یکون عنه .

و توضیح ذلک :

إن العنوان عبارة عن المفهوم المنتزع من الشیء و المحمول علیه ، و هو علی ثلاثة أقسام ، لأنّه ینتزع تارةً : من الذات کالإنسانیة المنتزعة من ذات الإنسان ذی الجنس و الفصل ، و اخری : ینتزع من خارج الذات ، و هذا علی قسمین ، لأنّه تارةً : من الامور الخارجیة کالبیاض ، فإنه ینتزع منه الأبیض و یحمل علی الشیء ، و اخری : من الامور التی لا خارجیة لها ، کالزوجیة المنتزعة من الزوج و الرقیّة المنتزعة من الرق و المغصوبیة المنتزعة من الغصب ... .

یقول المحقق الخراسانی : إنه لا شیء من هذه الأقسام بمتعلَّق للحکم ، لأنَّ موطنها هو الذهن فقط ، و لیس له وجود خارجی حتی یکون حاملاً للغرض فیکون مطلوباً مبعوثاً إلیه .

کما أنّ متعلَّق الحکم لیس اسم الصّلاة ، لعدم کونه المطلوب المبعوث إلیه ، کما هو واضح .

إذن ... لیس المتعلَّق إلّا الفعل الصادر من المکلَّف ، و هو الصّلاة الخارجیة

ص:70

و الغصب ، هما لا یجتمعان بعد ثبوت التضادّ بینهما .

فظهر أن کلامه یشتمل علی جهة نفی وجهة إثبات .

إشکال المحقق الاصفهانی

فأشکل علیه المحقق الأصفهانی قائلاً (1) : قد مرّ فی مبحث تعلّق الأمر بالطبیعة أن الموجود الخارجی لا یقوم به الطلب ، و الإیجاد عین الوجود ذاتاً و غیره اعتباراً ، فلا فرق بینهما فی استحالة تعلّق الطلب بهما .

یقول رحمه اللّٰه : إن الطلب أمر نفسانی ، و الأمر النفسانی لا یتعلَّق بالخارج ، فما صدر خارجاً لا یتعلَّق به الطلب .

و أیضاً ، فإنّه إذا کان متعلَّق الطلب إیجاد الطبیعة ، فإن الإیجاد و الوجود واحد حقیقةً ، فالموجود الخارجی لا یقوم به الطلب .

و حاصل کلامه : عدم صلاحیّة ما صدر لأنْ یکون متعلَّق الطلب .

ثم بیّن مختاره فی المتعلَّق فقال :

إنّ القوّة العاقلة کما لها قوّة ملاحظة الشیء و تصوّره بالحمل الأوّلی ، بأنْ تدرک مفهوم الإنسان و هو الحیوان الناطق ، کذلک لها قوة ملاحظة الشیء بالحمل الشائع ، فتلاحظ الصّلاة الخارجیة التی حیثیة ذاتها حیثیة طرد العدم و هی التی یترتب علیها الغرض ، فیطلبها و یبعث نحوها .

و حاصل کلامه : إن القوة العاقلة کما لها درک المفاهیم ، کذلک لها درک الوجودات قبل وجودها ، فالصّلاة الملحوظة قبل الوجود هی متعلَّق الأمر ، لا مفهومها و لا الوجود الخارجی لها .

و تلخّص : إن المتعلَّق هو الوجود التقدیری للصّلاة ، و لیس الوجود

ص:71


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 313 .

الخارجی کما ذکر فی ( الکفایة ) ، بل هو معلول للطلب الذی تعلَّق بالوجود التقدیری .

إشکال السید الحکیم

و أشکل السید الحکیم (1) فقال : قد تکرّر بیان أن الأفعال الخارجیّة لیست موضوعةً للأحکام ، فإن ظرف الفعل ظرف سقوط الحکم لا ثبوته ، بل موضوعها الصّور الذهنیة الحاکیة عن الخارج بنحو لا تری إلّا خارجیة ، فلذا یسری إلی کلٍّ منهما ما للاخری ، فتری الصّور الذهنیة موضوعات للغرض مع أن موضوعه حقیقةً هو الخارجی ، و یری الخارجی موضوعاً للحکم و الإرادة و الکراهة مع أنّ موضوعها حقیقةً هو نفس الصّورة .

دفاع الأُستاذ عن الکفایة

و قد دافع الأُستاذ عن کلام صاحب ( الکفایة ) : بأن محطّ الإشکال قوله :

« فعل المکلَّف و ما هو فی الخارج یصدر عنه » حیث توهّم أن المتعلَّق هو الفعل الصّادر ، لکنّ کلامه فی بحث متعلَّق الأوامر و النواهی یوضّح المراد و یرفع الإشکال ، إذ ذکر هناک أنّ المتعلّق لیس : الطبیعة بما هی هی ، لأنها لیست إلّا هی ، فلا یعقل أن یتعلّق بها طلب لتوجد أو تترک ، و لیس المتعلَّق : ما هو صادر و ثابت فی الخارج کی یلزم تحصیل الحاصل کما توهّم ، بل إنه لا بدّ فی تعلّق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم مع الطبیعة ، فیلاحظ وجودها فیطلبه و یبعث إلیه کی یکون و یصدر منه ... .

فما ذکره هناک صریح فی عدم إرادة أنّ المتعلَّق هو الفعل الخارجی الحاصل حتی یرد الإشکال ، بل المتعلَّق هو ما یلحظ قبل الطلب ، فیکون للفعل

ص:72


1- 1) حقائق الاصول 1 / 370 .

وجود لحاظی عند المولی ، ثم یطلب و یراد صدوره من المکلَّف و إیجاده منه خارجاً ... فلا مجال للإشکال المذکور بل مراده نفس مراد المحقق الأصفهانی .

أقول :

بل یمکن أن یقال باندفاع الإشکال بالتأمّل فی نفس کلامه فی المقام ، لأنّه یقول : « هو فعل المکلَّف و ما هو فی الخارج یصدر عنه ... » فإنّ تعبیره بالفعل المضارع ظاهر فی عدم کون المتعلَّق هو الفعل الصّادر و أن المراد طلب صدوره منه فیما بعد ، و ظهور الکلمة فی هذا المعنی یکفی لعدم ورود الإشکال ، و هذا هو الذی نصّ علیه - فی تلک المسألة - بقوله : « بمعنی أن الطالب یرید صدور الوجود من العبد » .

فتحصّل تمامیّة المقدمة الثانیة کذلک .

المقدمة الثالثة ( تعدّد العنوان لا یوجب تعدّد المعنون )

قال: لا یوجب تعدّد الوجه و العنوان تعدّد المعنون و لا ینثلم به وحدته ... .

توضیحه : هناک عنوان و معنون لا یمکن اتّحادهما أبداً ، مثل العلّة و المعلول ، فلا یعقل الاتحاد بین النار و الحرارة ، و لا یعقل صدقهما علی الشیء الواحد ... و هناک تعدّد للعنوان لکن یمکن الاتحاد فی المعنون لهما ، کما فی المحبّ و المحبوب ، فإنّ الإنسان یحبّ نفسه ، فیقع الاتحاد بین العنوانین ، و هناک مورد تکون العناوین متعدّدة لکن المعنون واحد ... و هو الباری عزّ و جلّ ، حیث المفاهیم المتعددة و العناوین الکثیرة تصدق علیه و تحکی عنه و هو بسیط من جمیع الجهات ... .

إذن ... لا یوجب تعدّد العنوان تعدّد المعنون ... فیمکن تعدّد العنوان مع وحدة المعنون .

و هذه المقدمة لا بحث فیها .

ص:73

المقدمة الرابعة ( لکلّ موجود بوجود واحد ماهیّة واحدة)

قال : إنه لا یکاد یکون للوجود بوجود واحد إلّا ماهیّة واحدة و حقیقة فاردة ، فالمجمع و إنْ تصادق علیه متعلَّقا الأمر و النهی إلّا أنه کما یکون واحداً وجوداً یکون واحداً ذاتاً ( قال ) : و لا یتفاوت فیه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهیّة . و منه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز و الامتناع فی المسألة علی القولین فی تلک المسألة کما توهّم فی ( الفصول ) .

قال : کما ظهر عدم الابتناء علی تعدّد وجود الجنس و الفصل فی الخارج و عدم تعدّده ، ضرورة عدم کون العنوانین المتصادقین علیه من قبیل الجنس و الفصل له .

توضیح ذلک : لقد نسب المحقق الخراسانی إلی صاحب ( الفصول ) القولَ بأنّ مقتضی مبنی أصالة الوجود هو الالتزام ، لأنه بناءً علیه یمکن أن توجد ماهیّة الصّلاة و ماهیّة الغصب بوجود واحد ، و إذا کان کذلک لزم أن یکون الشیء الواحد متعلَّقاً للوجوب و الحرمة معاً ، و أما بناءً علی أصالة الماهیّة ، فإنّ وجود کلّ ماهیّة فی الخارج غیر وجود الاخری ، و إذا حصل ماهیّتان جاز أن تکون احداهما متعلَّق الوجوب و الاخری متعلَّق الحرمة و لا یلزم الاجتماع .

فأشکل علیه : بأنّ الوجود الواحد یستحیل أن یکون له ماهیّتان ، و کذا العکس ، فسواء قلنا بأصالة الوجود أو الماهیّة ، فإنّ وحدة الوجود تقتضی وحدة الماهیّة و هکذا بالعکس ، و لا یتوهّم تنظیر ما نحن فیه بوحدة وجود الجنس و الفصل ، لأنّ نسبة الجنس إلی الفصل هو نسبة القوّة إلی الفعل و الماهیّة التامة إلی الناقصة ، بخلاف ما نحن فیه ، حیث الماهیّتان تامّتان و یستحیل تحقّقهما بوجودٍ واحد .

ص:74

( قال ) و لیس الصّلاة و الغصب - مثلاً - من قبیل الجنس و الفصل حتی تبتنی هذه المسألة علی وحدة وجودهما فی الخارج فیقال بالامتناع أو تعدّدهما فیقال بالجواز ، و ذلک : لأنا نمنع القول بتعدّد وجودهما ، لأنهما فی الحقیقة شیء واحد ، و الفرق بینهما لیس إلّا من حیث التحصّل و عدم التحصّل . هذا أوّلاً . و ثانیاً : لو سلّمنا التعدّد فیهما ، فإنّ نسبة الصّلاة إلیٰ الغصب لیس نسبة الجنس إلی الفصل ، و إلّا لزم أنْ لا توجد الصّلاة إلّا مع الغصب کما لا یتحقق الجنس إلّا مع الفصل .

نتیجة المقدمات

قال فی ( الکفایة ) : إذا عرفت ما مهّدناه ، عرفت أنّ المجمع حیث کان واحداً - وجوداً و ذاتاً - کان تعلّق الأمر و النهی به محالاً و لو کان تعلّقهما به بعنوانین ... .

و حاصل کلامه بالنظر إلی المقدّمات المذکورة : إنّ المرکب لکلٍّ من الحکمین هو المعنون لا العنوان ، و هو واحد مع تعدّد العنوان ، و وحدة المعنون هی فی الوجود و الماهیّة معاً ، هذا کلّه مع التضاد بین الأحکام ... فیکون الشیء الواحد ذو الوجود الواحد و الماهیة الواحدة متعلَّقاً للأمر و النهی معاً ، و یلزم اجتماع الضدّین ، و هو محال ، و ما یلزم من المحال محال ، فالاجتماع محال ، و النتیجة هی الامتناع .

نظر الأُستاذ

لکنّ المهمّ فی البحث هو قضیة وحدة المعنون و تعدّده ، و النتیجة المطلوبة - أعنی الامتناع - موقوفة علی وجود الملازمة بین تعدّد العنوان و المعنون ، و قد تقدَّم فی بیان المقدّمات أنْ لا ملازمة ، فقد یتعدّد العنوان و یستحیل تعدّد المعنون کما فی ذات الباری عز و جلّ ، و کما فی الجنس و الفصل حیث أن الحیوان و الناطق

ص:75

مثلاً عنوانان ذاتیّان لکنّ المعنون لهما واحد و هو الإنسان ... و لذا کان الترکیب بین الجنس و الفصل اتحادیاً - علی التحقیق - لا انضمامیّاً ، و قد یکون أحدهما ذاتیّاً و الآخر عرضیّاً ، مثل الأکل و الإفطار ، لکنّ المعنون - و هو ازدراد الشیء - متّحد غیر متعدّد ... و قد یکون العنوانان أمرین انتزاعیین قد انتزعا من أمرین ذاتیین ، کما إذا انطبق عنوان النور علی العلم و الظلمة علی الجهل ... فالمعنون متعدّد ... .

و الحاصل : إن الموارد مختلفة ، فإنْ کان هناک ماهیّتان و وجودان بینهما تلازم اتفاقی لا دائمی و قلنا بعدم سرایة حکم أحد المتلازمین إلی الآخر ، کان القول بعدم الامتناع ضروریّاً .

هذا هو کبریٰ المطلب ، و یبقی الکلام فی الغصب و الصّلاة و أنهما من أیّ قسمٍ من الأقسام ، و سیأتی إن شاء اللّٰه ، بعد ذکر أدلّة الجواز ، تبعاً لشیخنا فی الدورة اللّاحقة .

أدلّة القول بالجواز

اشارة

و قد استدلّ القائلون بالجواز بوجوه منها :

الوجه الأوّل

قال المحقق القمی (1) و الشیخ الأعظم (2) ما حاصله :

إن متعلَّق الأمر هو طبیعی الصّلاة و متعلَّق النهی هو طبیعی الغصب ،

ص:76


1- 1) قوانین الاصول 1 / 141 .
2- 2) مطارح الأنظار : 144 .

و الطبائع متباینة ، و یکون أفرادها مقدمة لتحقّقها . أمّا علی القول بعدم وجوب المقدّمة ، فالأمر واضح ، و أمّا علی القول بوجوبها ، فإنّ وجوب الفرد غیری و لا محذور فی اجتماع الواجب الغیری مع الحرمة الغیریّة .

و فیه :

أوّلاً : إنه سیأتی أن الغَصب عنوان انتزاعی من التصرّف فی مال الغیر بدون إذنه ، فقد ینتزع من نفس الصّلاة حالکونها فی ملک الغیر ، فلم یغایر متعلَّق الأمر متعلَّق النهی .

و ثانیاً : إن نسبة الفرد إلی الطبیعة لیست نسبة المقدّمة إلی ذیها ، بل إن الطبیعی موجود بوجود الفرد .

و ثالثاً : لو سلّمنا ، فإنّ محذور اجتماع الضدّین موجود فی الواجب و الحرام الغیریین کما هو فی النفسیین .

الوجه الثانی

ذکره بعض المتقدمین ، و نقّحه فی ( المحاضرات ) (1) ضمن أربع مقدمات :

الاولی : إنّ الأمر - و کذا النهی - إذا تعلَّق بشیء فإنّه لا یتجاوز عن الشیء إلی ما یقارنه أو یلازمه ، لأن المتعلَّق هو الذی یقوم به الغرض من الأمر و النهی .

الثانیة : إن المتعلَّق هو الطبیعی ، إلّا أن مقتضی ذات الطبیعة هو سرایة الحکم منها إلی الفرد ، و لا علاقة لهذه السرایة بإرادة الآمر أو الناهی ، فلو تعلَّقت إرادته بذلک لزم علیه الإتیان بما یدلّ علیه فی مقام الإثبات ، کأن یقول : أکرم کلّ عالمٍ ، فیأتی بلفظ « کلّ » الدالّ علی عموم الأفراد ، لإفادة أن الحکم متوجّه إلیهم لا إلی طبیعی العالم .

ص:77


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 365 - 366 .

الثالثة : إن الطبیعة اللّابشرط تتّحد مع البشرط ، إلّا أنّ هذا الاتّحاد لا یوجب سرایة الحکم من الطبیعة إلی الشرط و کاشفیّتها عنه ، فالرقبة و هی لا بشرط عن الإیمان و الکفر تتّحد مع الإیمان و لا تکون کاشفةً و حاکیةً عنه ، کما أنّ الحکم المتعلَّق بالرقبة لا یسری إلی الإیمان ، فلا سرایة و لا حکایة ، بل کلّ لفظٍ یکون حاکیاً عن مفهومه فقط ... .

الرابعة : إن متعلّق الحکم هو نفس الطبیعة - لا ما یصدر من المکلّف کما فی ( الکفایة ) - فلا دخل للوجود الذهنی و لا الخارجی فی المتعلَّق ، و الطبائع متباینة کما تقدّم .

و نتیجة هذه الامور :

إنّه لمّا کان المتعلَّق هو ما یقوم به الغرض و لا یتجاوزه إلی غیره ، فالصّلاة متعلَّق الأمر و لا یتجاوز الأمر إلی ما قارنها کالغصب ، و کذا العکس ، و لمّا کان المتعلَّق هو الطبیعی و لا یسری الحکم عنه إلی أفراده ، فإذا أمر بالصّلاة فلا لحاظ لأفرادها حتی یتوجّه إلی منها الواقع فی الدار المغصوبة . نعم ، هذا السریان موجود بحکم العقل ، و ذاک أمر آخر . و لمّا کان الاتّحاد غیر موجب لسرایة الحکم من طبیعةٍ إلی اخری ، و لا للکشف عنها ، فلا حکایة للصّلاة المأمور بها عن الغصب المنهی عنه و بالعکس ... فأین یکون الاجتماع بین متعلَّق الأمر و متعلَّق النهی

و فیه :

إنّه لا یخفی أنّ ملاک الامتناع هو التعارض بین الدلیلین ، و إذا انتفی تحقّق ملاک الاجتماع ، لکنّ التعارض قد یکون بالدلالة المطابقیّة و بالدلالة الالتزامیة ، و اللازم قد یکون عقلیّاً فلا یقبل الانفکاک عن الملزوم ، و إذا ثبتت هذه النقاط ، فإنّ

ص:78

الإطلاق ، و لو فرض عدم لحاظ خصوصیّات الأفراد ، لازمه - عقلاً - الترخیص فی التطبیق علی أیّ فردٍ یکون مصداقاً للطبیعة ، هذا فی جانب الأمر . أمّا فی جانب النهی ، فإنّه الزجر عن جمیع الأفراد ... فالخصوصیّات موردٌ للتعرّض عقلاً و إنْ لم تکن مورداً لتعلّق الأمر و النهی شرعاً ، و حینئذٍ ، یقع التمانع بین المدلولین العقلیین الالتزامیین اللذین لا یمکن الانفکاک بینهما و بین الملزومین لهما ، فیمتنع الاجتماع .

و بعبارةٍ اخری :

صحیح أنّ الإطلاق عبارة عن کون تمام الموضوع هو الطبیعة بلا لحاظٍ للأفراد و الخصوصیّات و أنّه لا کاشفیة لها عنها ، لکنّ جعل الإطلاق البدلی - و هو الذی فی طرف الأمر - لا ینفک عقلاً عن لازمٍ هو الترخیص فی التطبیق ، و جعل الإطلاقی الشمولی ، و هو فی طرف النهی ، لا ینفکّ عقلاً عن لازم ، هو الزجر عن جمیع مصادیق الغصب مثلاً ، و حینئذٍ ، یلزم التمانع بین اللّازمین فی محلّ الاجتماع بینهما ، و ذلک یستلزم التمانع بین الملزومین ، و قد تقدّم استحالة الانفکاک بین اللّوازم و الملزومات العقلیّة ، فلا بدّ من رفع الید عن أحد الإطلاقین أو کلیهما ، و هذا یساوق الامتناع .

و ما ذکر (1) من أنّ الوجوب و الحرمة عرضان قائمان بالنفس ، و أن الخارج لیس بمعروضٍ للإرادة و الکراهة و الوجوب و الحرمة ، نظیر تعلّق العلم و الجهل معاً بالحیثیتین المتصادقین ، فإنه أیضاً ممکن و لا یلزم منه محذور اجتماع الضدّین . فإذا تعلّق العلم بمجیء عالم غداً و الجهل بمجیء عادل ، فاتفق مجیء عالم عادل ، فوجود هذا المجیء من حیث أنه مجیء العالم معلوم ، و من حیث أنه

ص:79


1- 1) نهایة الاصول : 232 .

مجیء العادل مجهول ، و من المعلوم أنّ المعلومیة و المجهولیّة لیستا إلّا کالمحبوبیّة و المبغوضیّة و الوجوب و الحرمة ، فلو کان اجتماع عنوانی الوجوب و الحرام فی مجمع الحیثیّتین موجباً لاجتماع الضدّین ، کان اجتماع عنوانی المعلومیة و المجهولیة فی مجیء العالم العادل أیضاً کذلک . و الحاصل : إن الوجوب و الحرمة لم یجتمعا فی المتعلَّق کی یلزم المحذور ، بل محلّ اجتماعهما هو نفس المولی ، و لا محذور ، کما یجتمع فیها العلم و الجهل ، و قد اضیف الحکمان إلی الخارج کلٌّ إلی جهةٍ کما فی العلم و الجهل ، و مع اختلاف الجهتین لا یلزم محذور اجتماع الضدّین .

فقد تقدّم الإشکال فیه . و أمّا التنظیر بالعلم و الجهل علی ما ذکر ، فیرد علیه النقض : بأن لازمه أن یکون مثل : « أکرم العالم و لا تکرم الفاسق » من باب اجتماع الأمر و النهی ، فیما لو کان الرجل الواحد عالماً و فاسقاً معاً ، لاختلاف متعلّقی الأمر و النهی ، و الحال أنه من باب التعارض .

و أمّا حلّ المطلب فهو : أن العلم و الجهل وصفان لهما متعلَّقان متغایران ، إذْ تعلّق أحدهما بعنوان « العالم » و الآخر بعنوان « العادل » ، أمّا فی باب الأمر و النهی ، فإن المفروض أن السید البروجردی یقول بوحدة المتعلّق ، و هو الوجود الذهنی الحاکی عن الخارج و المرآة له ، فکیف یجتمع فیه الأمر و النّهی ؟ و بعبارة اخری :

إن المفروض فی الأمر و النهی وحدة المتعلَّق و هو الوجود ، بخلاف الحال فی العلم و الجهل ، فإنّ متعلَّق الأوّل حیثیّة علم زید و متعلَّق الثانی حیثیّة عدالته ، فقیاس ما نحن فیه بالعلم و الجهل مع الفارق .

و أمّا ما ذکره (1) من أنّ قضیّة الوجدان کون جواز الاجتماع من أبده

ص:80


1- 1) نهایة الاصول : 233 .

البدیهیات ، فإذا أمرت عبدک بخیاطة ثوبک و نهیته عن التصرّف فی فضاء دار الغیر ، فخاط العبد ثوبک فی فضاء الغیر ، فهل یکون لک أن تقول له : أنت لا تستحق الاجرة لعدم إتیانک بما أمرتک ؟ و لو قلت هذا ، فهل لا تکون مذموماً عند العقلاء ؟ لا و اللّٰه ، بل تراه ممتثلاً من جهة الخیاطة و عاصیاً من جهة التصرّف فی فضاء الغیر ... .

فقد نقله صاحب ( الکفایة ) عن الحاجبی و العضدی (1) فی وجوه الاستدلال للقول بالجواز ، و أجاب عنه - بعد المناقشة بأنه لیس من باب الاجتماع ، ضرورة أن الکون المنهی عنه غیر متّحد مع الخیاطة وجوداً أصلاً - بأنّه لا یصدق إلّا أحد العنوانین ، إمّا الإطاعة و إمّا العصیان ، و دعوی قیام السیرة من العقلاء علی استحقاق الاجرة مع تحقق المعصیة ، أوّل الکلام .

الوجه الثالث
اشارة

و ذهب المیرزا إلی الجواز (2) ، قائلاً بأن الترکیب بین المتعلّقین انضمامی - خلافاً لِما تقدَّم من أنه ترکیب اتحادی ، إذ أنه یلزم الاجتماع بینهما فی الوجود - فهو یری أنّ متعلَّق الأمر یختلف ماهیّة و وجوداً عن متعلَّق النهی ، غیر أنّ أحدهما منضمّ إلی الآخر فی الوجود .

و قد عقد لمسلکه مقدماتٍ ، نتعرّض لما له دخل فی المطلب مع رعایة الاختصار :

الاولی :

ص:81


1- 1) کفایة الاصول : 166 عن شرح المختصر فی الاصول 92 - 93 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 157 - 160 .

إن المعانی التی تفهم من الألفاظ - و بهذا الاعتبار تسمّی بالمفاهیم - تارةً تلحظ بما أنها مدرکات عقلیّة ، و اخری : تلحظ بما أنها منطبقة علی مصادیقها فی الخارج ، فاللّحاظ الأوّل موضوعی و الثانی طریقی ، و هی باعتبار الثانی معروضة لاحدی النسب الأربع .

و المفاهیم علی أربعة أقسام ، لأن منها ما له بإزاء و منها ما یکون انتزاعیّاً ، و الأول : إمّا یکون ما بإزائه فی الخارج کالسّماء و الأرض ، و إمّا یکون فی عالم الاعتبار کالملکیّة و الزوجیّة ، و الثانی : إمّا یکون منشأ انتزاعه فی الخارج کسببیّة النار للحرارة ، و إمّا یکون فی عالم الاعتبار ، کسببیّة الحیازة للملکیّة .

فإن لوحظت هذه المفاهیم باللّحاظ الموضوعی ، کانت النسبة فیما بینهما نسبة التباین ، و إنْ لوحظت باللحاظ الطریقی و بما هی فانیة فی الخارج ، عرضت علیها النسب الأربع .

و المقصود من هذه المقدّمة هو : التعریض بنظریّة المحقق شریف العلماء ، إذ قال بجواز الاجتماع بین الأمر بالصّلاة و النهی عن الغصب اجتماعاً آمریّاً ، لأنَّ الآمر یوجّه الأمر إلی الصّلاة و النهی إلی الغصب ، فلا یلزم أیّ محذور فی مرحلة الأمر ، و إنما الاجتماع یأتی فی عمل المأمور و هناک یحصل المحذور ... فیقول المیرزا : بأنّ الاجتماع الآمری إنما لا یلزم حیث ینظر إلی « الصّلاة » و« الغصب » بالنظر الموضوعی ، أمّا إذا لوحظا باللّحاظ الطریقی ، تحقّق بینهما العموم من وجهٍ فی مرحلة الجعل و کان المحذور آمریّاً .

الثانیة :

إنّ الترکیب بین المبادئ انضمامی و بین المشتقات اتّحادی ، و ذلک لأن مبادئ المشتقات مأخوذة بشرط لا ، و لذلک لا یصح الحمل بینها ، مثلاً : العلم و العدالة لا یصح حمل أحدهما علی الآخر ، و لا علی الذات المعروضة لهما ،

ص:82

فلا یقال زید علم ، بخلاف عنوان العالم و العادل ... إذن ... المشتقات قابلة للحمل و الاتحاد بخلاف المبادئ .

و بعبارة اخری : إنه یشترط فی الترکیب الاتحادی وجود جهة اشتراکٍ وجهة افتراق ، و هذه الخصوصیّة موجودة فی المشتقات دون المبادئ ، و ذلک لوجود العالم غیر الفاسق ، و الفاسق غیر العالم ، و العالم الفاسق ... هذا فی المشتقات ، أمّا فی المبادی فلا ، لکونها مقولات ، و المقولات بسائط و لا یعقل الترکیب فیها حتی یکون فیما بینها جهة اشتراک وجهة افتراق ... بل إنّ العلم مباینٌ بتمام ذاته للعدالة و بالعکس ... و لذا لا یقال : العلم عدل ، لکنْ یقال : العالم عادلٌ ... إذن : لا یصحّ حمل « الصّلاة » علی « الغصب » و بالعکس ، فلا یصح الاتحاد بینهما .

و بعبارةٍ ثالثة : إن ماهیّة کلّ مبدإٍ من المبادی یمکن تحقّقها بتمام ماهیّتها معزولةً عن غیرها ، فماهیّة الصّلاة فی المکان المغصوب نفس الماهیّة فی المکان المباح ، و الغصب فی غیر مورد الصّلاة هو الغصب فی موردها ، فلو کان الاتحاد بین « الصّلاة » و« الغصب » - فی حال الاتیان بها فی المکان المغصوب - اتحادیّاً لما کان للصّلاة تحقّق فی غیر المکان المغصوب ، کما هو الحال فی الحیوان الناطق ، فإنه مع الاتحاد بینهما لا یعقل وجود أحدهما بمعزلٍ عن وجود الآخر ... فإذن ...

لیس الترکیب بین « الصّلاة » و« الغصب » اتحادیّاً بل هو فی الدار المغصوبة انضمامی .

و حاصل الکلام هو أنْ لا اتّحاد بین الصّلاة و الغصب ، بل الترکیب بینهما انضمامی ، و علی هذا ، تخرج المسألة من باب التعارض ، فإنْ عجز عن امتثال کلا الحکمین ، کانت من صغریات باب التزاحم و لزم الرجوع إلی قواعد ذلک الباب .

ص:83

موافقة الأُستاذ فی الکبریٰ

أمّا ما ذکره أوّلاً من أنّ المبدأ مأخوذ بشرط لا و المشتق مأخوذ لا بشرط ، فموضع التحقیق فیه هو مبحث المشتق ... و نحن نتکلَّم هنا علی سائر کلماته فی المقام .

فأمّا أن المبادئ لیس فیما بینها جهة اشتراک و امتیاز ، فالکلام تارةً فی الکبری و اخری فی الصغری .

أما من الناحیة الکبرویّة فلا إشکال ، لأنّه إذا کان هذا المبدأ من مقولةٍ و ذاک من مقولةٍ اخری ، فالاتحاد بینهما محال ، لأن المقولات متباینات بتمام الذات ، فإذا حصلتا ، کان لکلٍّ منهما وجود غیر وجود الاخری ، و الترکیب بینهما انضمامی . بخلاف المشتقّات ، لأن المشتق إن کان هو المبدأ لا بشرط - کما علیه المیرزا - فهو قابل للاتّحاد ، و إن کان الذات و المبدأ ، فمن الجائز قیام المبدءین بذاتٍ واحدةٍ ، کقیام العدل و العلم بزید .

اشکال السید الخوئی

و قد اشکل علی هذه الکبری : بأن الترکیب بین المبادئ قد یکون اتحادیّاً ، لأنَّ المقصود بالبحث فی اجتماع الأمر و النهی هو الأفعال الخارجیة ، لا الأوصاف کالعلم و العدل و نحوهما ، فإن کان الفعل الخارجی من العناوین المنتزعة من ذات خارجیة و کان العنوان ذا معنونٍ هو من المقولات ، مثل الرکوع ، ممّا هو من مقولة الوضع ، و التکلّم ، ممّا هو من مقولة الکیف المحسوس ، فلا یقبل الاتحاد . و أمّا إنْ کان فعلاً لا واقعیّة له خارجاً ، مثل التصرّف فی مال الغیر و نحوه ممّا لیس من المقولات بل هو عنوان منتزعٌ منها ، فلا یتم ما ذکره ، فلو أمر بالتکلّم و نهی عن التصرف فی مال الغیر لکون التکلّم أمراً واقعیّاً و التصرف المنهی عنه منتزع من

ص:84

نفس التکلّم الواقع فی فضاء ملک الغیر ، تحقّق الاتّحاد .

و الحاصل : إن ما ذهب إلیه المیرزا إنما یتمُّ فی ما إذا کان المبدءان مقولتین موجودتین فی الخارج بوجودین . أمّا فیما لو کان أحدهما منتزعاً من الآخر کالمثال المذکور ، فلا یتم ما ذکره ... بل لا بدَّ من التفصیل بین المبادئ .

نظر الأُستاذ

فقال الأُستاذ : بأنْ هذا الإیراد المتّخذ من کلمات المحقق الاصفهانی - علی دقّته - یندفع بالتأمّل فی کلمات المیرزا ، فإنه لمّا قسَّم المفاهیم (1) - فی المقدّمة الثانیة - إلی الأقسام التی ذکرناها عنه ، جَعَلَ المفاهیم الانتزاعیة ممّا لیس له ما بإزاء خارجاً ، و معنی ذلک : قیام الأمر الانتزاعی بمنشإ انتزاعه ، و هذا هو الاتحاد وجوداً .

و أیضاً ، فإنّه قد أخرج (2) من بحث الاجتماع موارد العموم من وجه ، و موارد العنوانین التولیدیین الموجودین بوجودٍ واحد ، کما لو وقف تعظیماً للعادل و الفاسق ، و موارد ما إذا وجد متعلَّق الأمر و النهی بوجود واحد ، کما لو قال اشرب و لا تغصب ، فشرب الماء المغصوب ... .

فالمیرزا غیر قائل بأن مبادئ الأفعال علی الإطلاق لا تقبل الترکیب الاتحادی حتی یرد علیه الإشکال المزبور .

الکلام فی الصغریٰ

أما من ناحیة الصغرویّة ، فلا یمکن المساعدة مع المیرزا ، فإنّ ظاهر کلامه أن الترکیب بین الصّلاة و الغصب انضمامی لکونهما من مقولتین ، و أنّ القول ببطلان تلک الصّلاة مستند إلی کونها مقرونةً بالقبح الفاعلی ، فلا تصلح للتقرّب ، لا إلی المبنی فی مسألة اجتماع الأمر و النهی .

ص:85


1- 1) فوائد الاصول (1 - 2) 401 .
2- 2) فوائد الاصول (1 - 2) 412 .

لکنّ التحقیق هو : أنّ الصّلاة من مقولاتٍ مختلفة ، لأنها مرکّبة من أجزاء بعضها من الکیف النفسانی کالنیّة ، و بعضها من الکیف المحسوس کالتکبیر و القراءة ، و بعضها کالقیام و الرکوع و السجود هیئة حاصلة من نسبة بعض أجزاء البدن إلی البعض الآخر ... و أمّا الهویّ إلی الرکوع و السجود ، فقد وقع الکلام فی کونه من أجزاء الصّلاة أو لا ... هذا بالنسبة إلی الصّلاة .

و أمّا الغصب ، فهو الاستیلاء العدوانی علی ملک الغیر ، و هل « الغصب » و« التصرف فی مال الغیر بلا إذن » - و هما العنوانان الواردان فی الأدلّة - واحد مفهوماً کما هو ظاهر الفقهاء أو لا ؟ فیه بحث لیس هذا محلّه .

و علی هذا ، فإن کان کلّ من « الصّلاة » و« الغصب » مبدأً غیر الآخر ، و الترکیب بینهما انضمامی ، و قلنا بعدم سرایة کلٍّ من الأمر و النهی إلی متعلَّق الآخر ، کانت الصّلاة فی ملک الغیر صحیحةً ، غیر أنه قد عصی من جهة التصرف فی ملک الغیر بدون إذنه ، و هذا هو المقصود من الجواز ... و هو مدّعی المیرزا .

لکن التحقیق خلافه ، لأنّ « الغصب » مفهوم انتزاعی ینشأ من التصرّف فی مال الغیر ، فلیس له ما بإزاء فی الخارج ، و التصرف تارةً یکون بالأکل و اخری بالشرب و ثالثةً بالمشی ، فهو ینتزع من امور مختلفة ، و من المعلوم أنّ المعنی الانتزاعی قائم بمنشإ انتزاعه و متّحد معه ، فإنْ انتزع عنوان « التصرف » من أجزاء « الصّلاة » حصل الاتحاد و کان الحق هو الامتناع ... و قد عرفنا أن الصّلاة مرکّبة من أجزاء هی من مقولات مختلفة .

فأمّا « النیة » فی ملک الغیر ، فلا یصدق علیها عنوان « التصرف » بلا کلام .

و أمّا التکبیر و القراءة و نحوهما فی فضاء ملک الغیر ، فلا ریب فی أنها تصرّف عقلاً ، إنما الکلام فی الصّدق العرفی ، و مع الشک فیه یکون التمسّک بقوله

ص:86

« لا یحلّ لأحدٍ أن یتصرّف ... » تمسّکاً بالدلیل فی الشبهة الموضوعیة لنفس الدلیل ... و مع وصول النوبة إلی الأصل العملی فالمرجع هو البراءة .

و أمّا الرکوع و السجود ، فإنّ التصرّف لا یصدق علی نفس الهیئة ، و صدقه علی « الهوی » إلیهما واضحٌ ، لکنّ کون « الهوی » جزءاً من أجزاء « الصّلاة » أو أنّه مقدّمة لتحقق الرکوع و السجود و هما الجزءان ؟ فیه خلاف .

و بعد ، فإنّ القدر المتیقن من أجزاء الصّلاة الحاصل فی ملک الغیر و الصادق علیه عنوان الغصب هو : الاعتماد علی ملک الغیر فی حال القیام ، فإنّه لولاه لم یتحقق القیام شرعاً ، و الاعتماد علی ملک الغیر فی حال السجود - بناءً علی اعتباره فیه و عدم کفایة مماسّة الجبهة للأرض - فإنّ هذین الاعتمادین تصرّف عرفاً ، و لمّا کان التصرّف عنوان انتزاعیّاً ، فإنّه یتحقق الاتّحاد بینه و بینهما ، و إذا حصل ثبت الامتناع ، و کانت الصّلاة باطلة .

فالنتیجة هی بطلان الصّلاة ... إلّا أن یخدش فی شیء من مقدّماتها .

هذا هو التحقیق من الناحیة الصغرویّة ... و بذلک یتبیّن صحّة صلاة المیّت فی ملک الغیر بدون إذنه ، لأنّها لیست إلّا التکبیرات و الأذکار و الأدعیة ... و کذا صلاة من لا یقدر علی القیام ، إلّا أن یقال بکونه معتمداً علی الأرض فی جلوسه .

و بعد ذلک کلّه ... یرد علی المیرزا النقض بما ذکره (1) من خروج مثل « اشرب الماء و لا تغصب » عن محلّ الکلام ، لوقوع الشرب مصداقاً للغصب ، لعدم الفرق بینه و بین « صلّ و لا تغصب » لوجود الملاک الذی ذکره - و هو استحالة اتّحاد المبادئ - فی « الصلاة » و« الشرب » معاً بلا فرق .

و أیضاً ، فإنّه فی الفقه - فی مسألة الصّلاة فی المغصوب - قال ببطلانها فی

ص:87


1- 1) أجود التقریرات 2 / 141 ، فوائد الاصول (1 - 2) 412 .

اللّباس أو المکان المغصوب ، لتحقّق الاتّحاد فی الحرکة الصّلاتیة فیه بین الصّلاة و الغصب ؛ فکان دلیله علی البطلان مسألة امتناع اجتماع الأمر و النهی ، لا الإجماع و غیره من وجوه الاستدلال ... هذه عبارته هناک :

« السابع ممّا یشترط فی اللّباس : أن لا یکون مغصوباً ... و الذی یدل علی ذلک - مضافاً إلی الإجماع فی الجملة - هو کون المسألة من صغریات باب اجتماع الأمر و النهی ... بمعنی کون الحرکة الخاصة مأموراً بها لکونها من أفعال الصّلاة و منهیّاً عنها لکونها تصرّفاً فی الغصب ... » (1) .

و تلخّص :

إن الترکیب بین المشتقات اتحادی بلا ریب ، و التعارض فی محلّ الاجتماع بین « أکرم العالم » و« لا تکرم الفاسق » موجود بلا إشکال . و أمّا بین المبادئ ، فمتی کان لمبدءین وجود واحد فی الخارج ، فلا مناص من الترکیب الاتحادی و القول بالامتناع .

تنبیه ( فی حقیقة الغصب )

قد اختلفت أنظار الأکابر فی بیان حقیقة الغصب و أنه بأیّ جزءٍ من أجزاء الصّلاة یتحقق ؟

فالمیرزا علی أن الرکوع و السجود من مقولة الوضع ، و الغصب من مقولة الأین ، و إذا اختلفت المقولات کان الترکیب انضمامیاً لا اتحادیاً .

و المحقق العراقی (2) علی أن الغصب عبارة عن الفعل الشاغل لمحلّ الغیر فی حال عدم رضاه لا أنه إشغال ملک الغیر ، و هذا العنوان ینطبق علی الأجزاء

ص:88


1- 1) کتاب الصلاة 1 / 285 ، 318 - 320 .
2- 2) نهایة الأفکار (1 - 2) 417 .

الصّلاتیة لکونها أفعالاً ، فیکون الرکوع فعلاً شاغلاً للمکان و هکذا غیره من الأفعال .

و المحقق الأصفهانی (1) ذهب إلی أن الأجزاء الصّلاتیة من مقولات متعدّدة ، لأنّ الرکوع من مقولة الوضع و لا یصدق علیه التصرف فی ملک الغیر ، لکن السجود وضع الجبهة علی أرض الغیر و بوضعها علیها یصدق عنوان التصرف و یلزم الامتناع ، و کذلک القیام ، لتحقق التصرّف فی أرض الغیر فیه بالاعتماد علیها .

و المحقق الخوئی (2) ، ذهب إلی أنّ مفهوم السّجود لا یتحقق إلّا بالاعتماد و هو تصرّف ، أمّا وضع الجبهة بدون الاعتماد علی الأرض ، فلیس بسجود و لا یصدق علیه التصرف فی ملک الغیر .

و أفاد شیخنا دام ظلّه : بأن هذا القول مخالفٌ لتصریحات أهل اللّغة ، - إذ السجود عندهم وضع الجبهة علی الأرض (3) - و للنصوص ، ففی صحیحة زرارة :

« قلت : الرجل یسجد وعلیه قلنسوة أو عمامة ؟

فقال : إذ مسّ جبهته الأرض فیما بین حاجبه و قصاص شعره فقد أجزأ عنه » (4) .

و کذلک غیرها .

فالصحیح ما ذهب إلیه المحقق الاصفهانی فی مفهوم السجود ، لکنّ صدق التصرّف علی مجرّد وضع الجبهة علی الأرض مشکل ، فالشبهة مفهومیة لو لم

ص:89


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 316 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 3 / 491 .
3- 3) انظر: تاج العروس فی شرح القاموس 2 / 371 .
4- 4) وسائل الشیعة 5 / 137 ، الباب 12 ، باب استحباب جعل المصلّی بین یدیه ... .

نقل بانصراف دلیل « لا یحلّ لامرئ أن یتصرّف ... » عنه .

و تلخّص : إن مفهوم السجود غیر متقوّم بالاعتماد خلافاً للسیّد الخوئی بل هو مجرّد وضع الجبهة وفاقاً للمحقق الاصفهانی ، لکنّ الکلام فی صدق التصرف علی ذلک ... .

إلّا أن الشارع اعتبر فی السجود « التمکّن من الأرض » و لا ریب فی صدق التصرّف علیه ، و من هنا اختار الأُستاذ الامتناع ، فوافق القائلین به فی القول و خالفهم فی الدلیل ، و الدلیل عنده هو النصّ :

« عن علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیهما السلام قال : « سألته عن الرجل یسجد علی الحصی فلا یمکّن جبهته من الأرض . قال : یحرّک جبهته حتی یتمکّن فینحّی الحصی عن جبهته و لا یرفع رأسه » (1) .

و أمّا ما ذهب إلیه المحقق العراقی من أن الرکوع و السجود نفس الفعل ، ففیه : إنهما عبارة عن الهیئة الحاصلة من نسبة أجزاء البدن بعضها إلی بعضٍ ، و لا یصدق « التصرف » علی « الهیئة » .

و بقی القیام ، و المستفاد من النصوص کصحیحة ابن سنان (2) أن یکون المصلّی فی حال القیام معتمداً علی رجلیه ، فلا یستند إلی الجدار و نحوه ، و من الواضح أنّ الاعتماد علی الرجل اعتماد علی الأرض ، فیلزم الاجتماع و الامتناع .

الوجه الرابع
اشارة

من أدلّة القائلین بالجواز : وقوع الاجتماع فی الشریعة بین الحکمین من الوجوب و الکراهة ، و الاستحباب و الکراهة ، و الوجوب و الاباحة ، و الاستحباب

ص:90


1- 1) وسائل الشیعة 6 / 353 ، الباب 8 من أبواب السجود ، الرقم 3 .
2- 2) وسائل الشیعة 5 / 500 ، الباب 10 من أبواب القیام ، الرقم 2 .

و الإباحة ... و أدلّ دلیل علی إمکان الشیء وقوعه .

و قد قدّم صاحب ( الکفایة ) (1) هذا الوجه علی غیره فی الذکر ، إذ قال فی تقریره : إنه لو لم یجز اجتماع الأمر و النهی لما وقع نظیره ، و قد وقع ، کما فی العبادات المکروهة ، کالصّلاة فی مواضع التهمة و فی الحمام و الصیام فی السفر و فی بعض الأحکام . بیان الملازمة : إنه لو لم یکن تعدد الجهة مجدیاً فی إمکان اجتماعهما ، لما جاز اجتماع حکمین آخرین فی موردٍ مع تعدّدهما ، لعدم اختصاصهما من بین الأحکام بما یوجب الامتناع من التضاد ، بداهة تضادّها بأسرها . و التالی باطل ، لوقوع اجتماع الکراهة و الایجاب أو الاستحباب فی مثل الصّلاة فی الحمام و الصیام فی السفر و فی عاشوراء و لو فی الحضر ، و اجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الاباحة أو الاستحباب فی مثل الصّلاة فی المسجد أو الدار .

الجواب الإجمالی

و قد اجیب فی ( الکفایة ) و غیرها عن هذا الاستدلال بالإجمال ، بوجوه :

الأول : إنه لمّا قام البرهان العقلی علی امتناع شیء ، فلا بدّ من ارتکاب التأویل فیما ظاهره جواز ذلک الشیء ، ضرورة أن الظهور لا یصادم البرهان ، و هنا کذلک ، فإنّ البرهان قام علی امتناع الاجتماع بین الضدّین ، و الأحکام الخمسة متضادّة .

و الثانی : إنّ اجتماع الحکمین فی الموارد المذکورة کما یتوجّه علی الامتناعی کذلک یتوجّه علی الجوازی ، لأن القائل بجواز الاجتماع إنما یقول به حیث یکون الشیء الواحد ذا عنوانین ، أمّا ما یکون بعنوانٍ واحدٍ کالصّلاة فی

ص:91


1- 1) کفایة الاصول : 161 .

الحمّام مثلاً فلا یقول الجوازی أیضاً بالاجتماع فیه .

و ثالثاً : إنّ الموارد المذکورة لا مندوحة فیها ، بخلاف محلّ البحث کالصّلاة فی المکان المغصوب فله مندوحة .

الکلام فی العبادات المکروهة

اشارة

و أجاب المحقق الخراسانی بالتفصیل فقال : إن العبادات المکروهة علی ثلاثة أقسام :

الأول : ما تعلَّق به النهی بعنوانه و ذاته و لا بدل له ، کصوم یوم عاشوراء و النوافل المبتدئة فی بعض الأوقات .

و الثانی : ما تعلَّق به النهی کذلک و یکون له البدل ، کالنهی عن الصلاة فی الحمام .

و الثالث : ما تعلَّق النهی به لا بذاته بل بما هو مجامع معه وجوداً أو ملازم له خارجاً ، کالصلاة فی مواضع التهمة ، بناءً علی کون النهی عنها لأجل اتّحادها مع الکون فی مواضعها .

القسم الأوّل کصوم عاشوراء :
رأی صاحب الکفایة

ثم أجاب عن الاستدلال فی القسم الأوّل - الذی هو أهمّ الأقسام - بما حاصله :

لقد قام الإجماع علی وقوع صوم یوم عاشوراء صحیحاً ، و مع ذلک یکون

ص:92

ترکه أرجح کما یظهر من مداومة الأئمة - علیهم السلام - علی الترک ، فیکون صوم عاشوراء من قبیل المستحبّین المتزاحمین ، لا من قبیل تعلّق الأمر و النهی بشیء واحد ، و ذلک ، لأن الأمر قد تعلَّق بفعل هذا الصوم ، لکونه عبادةً ، و تعلّق بترکه ، لکونه عملاً قد التزم به بنو امیّة بعد قتل سید الشهداء الحسین علیه السلام ، و إذا کان من صغریات باب التزاحم ، فإنه یحکم بالتخییر بین الفعل و الترک لو لم یکن أهم فی البین ، و إلّا فیتعیّن الأهم و إنْ کان الآخر یقع صحیحاً ، حیث أنه کان راجحاً و واجداً للملاک و موافقاً للغرض .

إذن ، لیس هذا المورد من قبیل اجتماع الاستحباب و الکراهة لیتمّ الاستدلال به للقول بالجواز ، بل من قبیل التزاحم بین المستحبین ، و هما فعل الصوم و ترکه .

هذا ما أفاده صاحب ( الکفایة ) تبعاً للشیخ الأعظم (1) .

إشکال المیرزا

فأشکل علیه المیرزا قائلاً : إن الفعل و الترک إذا کان کلّ منهما مشتملاً علی مقدارٍ من المصلحة ، فبما أنه یستحیل تعلّق الأمر بکلٍّ من النقیضین فی زمانٍ واحدٍ ، یکون المؤثّر فی نظر الآمر احدی المصلحتین علی تقدیر کونها أقوی من الاخری ، و یسقط کلتاهما عن التأثیر علی تقدیر التساوی ، لاستحالة تعلّق الطلب التخییری بالنقیضین ، لأنه من طلب الحاصل ، وعلیه ، یستحیل کون کلٍّ من الفعل و الترک مطلوباً بالفعل .

و بالجملة ، اشتمال کلّ من الفعل و الترک علی المصلحة ، یوجب تزاحم الملاکین فی تأثیرها فی جعل الحکم علی طبق کلٍّ منهما ، لاستحالة تأثیرهما فی

ص:93


1- 1) مطارح الأنظار : 130 ، کفایة الاصول : 163 .

زمانٍ واحدٍ فی طلب النقیضین تعییناً أو تخییراً ، وعلیه یتفرّع وقوع التزاحم فی التأثیر فیما کان کلّ من الضدین اللذین لا ثالث لهما مشتملاً علی المصلحة أو المفسدة الداعیة إلی جعل الحکم علی طبقها ، و فیما إذا کان أحد المتلازمین دائماً مشتملاً علی مصلحة و الآخر مشتملاً علی مفسدة ، فإنه فی جمیع ذلک یستحیل جعل الحکم علی طبق کلٍّ من الملاکین تعییناً أو تخییراً ، لرجوعه إلی طلب النقیضین المفروض استحالته ، فلا بدّ من جعل الحکم علی طبق أحد الملاکین إنْ کان أحدهما أقوی من الآخر ، و إلّا فلا یؤثّر شیء منهما فی حمل الحکم علی طبقه (1) .

و حاصل کلامه : إنه لا یعقل التزاحم ، لأنه إن کان فی مرحلة الامتثال - الراجع إلی عدم قدرة المکلّف علی امتثال کلا التکلیفین - فالفعل و الترک متناقضان ، فجعل الاستحباب لکلیهما تعییناً طلب للنقیضین ، و تخییراً تحصیل للحاصل .

و إن کان فی مرحلة الجعل ، فإنه یقع الکسر و الانکسار بین الملاکین و یصدر الحکم طبق الملاک الغالب منهما ، فإنْ لم یکن فالإباحة ... فأین التزاحم بین استحباب الفعل و استحباب الترک ؟

دفاع السید الخوئی

و قد أجاب السید الخوئی - فی هامش الأجود - بما حاصله : أنه لو کان متعلَّق الأمر حصّة من الطبیعة ، و کان لنقیض تلک الحصّة فردان ، فلا مانع من تعلّق الأمر بالحصّة و بأحد النقیضین لها . و ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأنَّ الأمر بصوم عاشوراء قد تعلَّق بالإمساک فیه بقصد القربة - لا بمطلق الإمساک - و لنقیض هذا المتعلَّق فردان ، أحدهما : ترک الإمساک رأساً ، و الآخر الإمساک لا بقصد القربة ،

ص:94


1- 1) أجود التقریرات 2 / 173 .

لکنّ ترک الصوم هو المأمور به لمصلحة مخالفة بنی امیّة ، و أما الإمساک بلا قصدٍ فلیس بمأمورٍ به ، فما ذکره المیرزا من استحالة تعلّق الأمر بکلا الطرفین لکونه طلباً للنقیضین ، غیر صحیح ... بل المورد من باب التزاحم - کما هو الحال فی کلّ موردٍ یکون للضدّین ثالث - و حینئذٍ ، یکون المرجع قاعدة باب التزاحم .

جواب الأُستاذ عن هذا الدفاع

و قد أجاب الشیخ الأُستاذ عمّا ذکر بوجهین :

أحدهما : إنه کان بنو امیّة یصومون فی یوم عاشوراء بقصد القربة ، و المخالفة معهم تتحقّق بترکه بقصد القربة و بترکه رأساً ، نعم ، الإفطار إعلانٌ للمخالفة ، و هذا أمر آخر .

و ثانیاً : إنّه - بعد التنزّل عمّا ذکرناه - غیر متناسب مع مقام الإثبات ، لأنّ فی الأخبار ما هو صریحٌ فی استحباب صوم یوم عاشوراء بحیث لا یلائم مداومة أهل البیت علیهم السلام علی الترک ، ففیها : « صام رسول اللّٰه یوم عاشوراء » (1) و فیها أیضاً ما لا یتناسب مع القول بأرجحیّة الترک من الفعل ، کقوله علیهم السلام « فَإنَّه یکفّر ذنوب سنة »(2) .

فما ذکره المیرزا وارد .

هذا تمام الکلام فی جواب الشیخ و المحقق الخراسانی .

رأی المیرزا

ثم إن المیرزا بعد أن أورد علی کلام ( الکفایة ) - تبعاً للشیخ - بما تقدَّم قال :

و التحقیق فی الجواب عن هذا القسم یتّضح برسم مقدّمةٍ نافعة فی جملةٍ من الموارد ، و هی : إنه لا شبهة فی أنّ النذر إذا تعلَّق بعبادةٍ مستحبّة ، فالأمر الناشئ

ص:95


1- 1) ( و 2) وسائل الشیعة 10 / 457 ، الباب 20 ، رقم 1 و 2 .

من النذر یتعلّق بذات العبادة التی کانت متعلّقة للأمر الاستحبابی فی نفسها ، فیندکّ الأمر الاستحبابی فی الأمر الوجوبی و یتّحد به ، فیکتسب الأمر الوجوبی جهة التعبّد من الأمر الاستحبابی ، کما أنّ الأمر الاستحبابی یکتسب جهة اللّزوم من الأمر الوجوبی ، فیتولّد من اندکاک أحد الأمرین فی الآخر أمر واحد وجوبی عبادة ، و السرّ فی ذلک : أنه إذا کان متعلّق کلٍّ من الأمرین عین ما تعلَّق به الآخر ، فلا بدّ من اندکاک أحدهما فی الآخر و إلّا لزم اجتماع الضدّین فی شیء واحد .

و أما إذا کانت العبادة المستحبة متعلَّقة للإجارة فی موارد النیابة عن الغیر ، کان متعلَّق الأمر الاستحبابی مغایراً لما تعلَّق به الأمر الوجوبی ، لأن الأمر الاستحبابی علی الفرض تعلَّق بذات العبادة ، و أما الأمر الناشئ من الإجارة فهو لم یتعلّق بها بل تعلَّق بإتیان العبادة بداعی الأمر المتوجّه إلی المنوب عنه ، و علی ذلک یستحیل تداخل الأمرین باندکاک أحدهما فی الآخر فی موارد الإجارة علی العبادة ، إذ التداخل فرع وحدة المتعلَّق ، و المفروض عدم وحدته فی تلک الموارد ، فلا یلزم اجتماع الضدّین فی شیء واحد .

( ثم قال ) ما حاصله : إن ما نحن فیه من قبیل الإجارة لا من قبیل النذر ، فالأمر بصوم عاشوراء متعلِّق بذات العبادة ، لکنّ النهی متعلِّق بالتعبّد بهذه العبادة لِما فیه من المشابهة للأعداء ، فاختلف المتعلَّق ، لکنّ النهی لمّا کان تنزیهیّاً ، فإنّه لا یکون مانعاً من التعبّد بمتعلّقه ، بل یجوز الإتیان بتلک العبادة بداعی الأمر المتعلّق بذاتها ... فارتفع إشکال اجتماع الضدّین فی هذا القسم من العبادات المکروهة (1) .

ص:96


1- 1) أجود التقریرات 2 / 174 - 177 .
الإشکال علی المیرزا

و یرد علی الجواب المذکور وجوه :

أوّلاً : إنه لا یعقل الاندکاک فی مورد البحث ، لأن الاندکاک یکون فی الحقیقة ذات المرتبة ، فإذا حصلت المرتبة الشدیدة للشیء اندکّت فیها المرتبة الضعیفة منه ، کما فی النور مثلاً ... فما ذکره یتم فی الملاکات و الأغراض حیث المناط الضعیف یندکّ فی القوی ، أمّا فی الأمر أو النهی التابع للملاک فلا یعقل الاندکاک ، لأن الأمر عبارة الإنشاء ، سواء کان حقیقته الإیجاد أو إبراز الاعتبار . و النهی کذلک ، سواء کان طلب الترک کما علیه صاحب ( الکفایة ) و المیرزا أو هو الزجر کما علیه غیرهما - و اندکاک الإنشاء فی إنشاءٍ آخر غیر معقول .

و ثانیاً : لو سلّمنا الاندکاک ، فلا وجه لکون المرتبة الشدیدة عبادةً و واجبة ، لأنّ دلیل الوجوب هو الأمر بالوفاء بالنذر ، و هو وجوب توصّلی لا ینقلب إلی عبادی ، کما أن الاستحباب التعبّدی لا ینقلب إلی التوصّلی ، فمن أین ما ذکره المیرزا ؟

و ثالثاً : إن قیاسه ما نحن فیه علی باب الإجارة ، مخدوش بأنّ متعلّق الأمر فی صوم عاشوراء لیس مطلق الإمساک ، بل هو الإمساک قربةً إلی اللّٰه ، و متعلّق النهی إن کان نفس الصوم کذلک ، فالاجتماع حاصل ، و إن کان هو التعبّد بهذا الصّوم کما ذکر المیرزا ، فإنّ التعبّد یعنی الإتیان به قربة إلی اللّٰه ، فیکون نفس متعلَّق الأمر ، و یلزم الاجتماع .

و رابعاً : إن طریق الحلّ الذی ذکره غیر مناسب لمقام الإثبات ، لأن محصّل کلامه هو تعدّد المتعلّق ، و أنّ متعلّق الأمر هو نفس الصوم و متعلَّق النهی هو التعبّد بهذا الصّوم ، لکنّ الروایات الواردة فی صوم یوم عاشوراء تدلّ علی مبغوضیّة الصوم نفسه :

ص:97

« عن عبد الله بن سنان قال : دخلت علی أبی عبد الله علیه السلام یوم عاشوراء و دموعه تنحدر علی عینیه کاللؤلؤ المتساقط ، فقلت : ممّ بکاؤک ؟ فقال :

أ فی غفلةٍ أنت ! أما علمت أن الحسین - علیه السلام - أصیب فی مثل هذا الیوم ؟ فقلت : ما قولک فی صومه ؟ فقال لی : صمه من غیر تبییت و أفطره من غیر تشمیت ، و لا تجعله یوم صوم کملاً ، و لیکن إفطارک بعد صلاة العصر بساعةٍ علی شربة من ماء ، فإنه فی مثل ذلک الوقت من ذلک الیوم تجلّت الهیجاء عن آل رسول اللّٰه . الحدیث » (1) .

لقد أمر علیه السلام بالإمساک بلا نیّةٍ ، إذنْ ، لا عبادیّة لصوم عاشوراء .

و عن عبد الملک : « سألت أبا عبد الله علیه السلام عن صوم تاسوعاء و عاشوراء من شهر المحرم ... ثم قال :

و أما یوم عاشورا ، فیوم اصیب فیه الحسین صریعاً بین أصحابه و أصحابه صرعی حوله ، أ فصوم یکون فی ذلک الیوم ؟ کلّا و ربّ البیت الحرام ، ما هو یوم صوم ، و ما هو إلّا یوم حزن و مصیبة دخلت علی أهل السماء و أهل الأرض و جمیع المؤمنین ، و یوم فرح و سرور لابن مرجانة و آل زیاد و أهل الشام ... فمن صام أو تبرّک به حشره اللّٰه مع آل زیاد ... »( (2)) .

و عن جعفر بن عیسی قال : « سألت الرضا علیه السلام عن صوم یوم عاشوراء و ما یقول الناس فیه . فقال : عن صوم ابن مرجانة تسألنی ؟ ذلک یوم صامه الأدعیاء من آل زیاد لقتل الحسین ، و هو یوم یتشاءم به آل محمّد و یتشاءم به أهل الاسلام ، و الیوم الذی یتشاءم به أهل الاسلام لا یصام و لا یتبرّک به ... »(3) .

و عن عبید بن زرارة عن أبی عبد الله : « من صامه کان حظّه من صیام ذلک

ص:98


1- 1) وسائل الشیعة 10 / 458 ، الباب 20 من أبواب الصوم المندوب ، الرقم : 7 .
2- 2) ( و 3) وسائل الشیعة 10 / 459 ، الباب 21 ، رقم 2 و 3 .

الیوم حظّ ابن مرجانة و آل زیاد . قال قلت : و ما کان حظّهم من ذلک الیوم ؟ قال :

النار . أعاذنا اللّٰه من النار و من عمل یقرّب من النار ... » (1) .

فالأخبار صریحةٌ بمبغوضیة صوم عاشوراء . فلا وجه لما ذکره المیرزا .

رأی المحقق العراقی

و أجاب المحقق العراقی عن الاستدلال بالعبادات المکروهة بوجهین :

الأول : إن صوم یوم عاشوراء مستحب ، و النهی عنه یدل علی أقلیّة الثواب .

و الثانی : إن الأمر قد تعلَّق بالصوم ، و النهی متعلَّق بإیقاعه فی هذا الظرف الخاص .

و هذا نصّ کلامه فی العبادات المکروهة : نعم ، فیما لا بدل لها من العبادات ... فلا بدّ فیها إمّا من الحمل علی أقلیة الثواب و الرجحان أو صرف النهی عن ظاهره إلی إیقاع العبادة فی الأوقات المخصوصة ، نظیر النهی عن إیقاع جوهر نفیس فی مکان قذر ، بجعل المبغوض کینونة العبادة فی وقت کذا لا نفسها حتی لا ینافی المبغوضیة مع محبوبیة العمل و رجحانه المقوّم لعبادیته( (2)) .

و فیه :

أما الأول ، فقد عرفت منافاته للنصوص .

و أمّا الثانی ، فإنّ الأمر و النهی کلیهما واردان علی هذه الحصّة من الصّوم أی الصّوم المقیّد بیوم عاشوراء ، فلا وجه لما ذکره . نعم ، لو کان متعلَّق الأمر طبیعی الصّوم و متعلَّق النهی هو الحصّة لتمّ ما ذکره ، لکنّ الروایة جاءت آمرةً بصوم یوم عاشوراء ، و ناهیةً عن صوم یوم عاشوراء .

ص:99


1- 1) وسائل الشیعة 10 / 461 ، الباب 21 ، رقم 4 .
2- 2) نهایة الأفکار (1 - 2) 428 .
رأی السید الفشارکی کما فی الدرر

و أجاب السید المحقق الفشارکی - علی ما نقل عنه تلمیذه الشیخ الحائری - :

بأن یقال برجحان الفعل من جهة أنه عبادة ، و رجحان الترک من حیث انطباق عنوان راجح علیه ، و لکون رجحان الترک أشدّ من رجحان الفعل ، غلب جانب الکراهة و زال وصف الاستحباب ، و لکنّ الفعل لمّا کان مشتملاً علی الجهة الراجحة لو أتی به یکون عبادة ، إذْ لا یشترط فی صیرورة الفعل عبادةً وجود الأمر بل یکفی تحقق الجهة فیه علی ما هو التحقیق ، فهذا الفعل مکروه فعلاً لکون ترکه أرجح من فعله ، و إذا أتی به یقع عبادةً لاشتماله علی الجهة .

إشکال الشیخ الیزدی

ثم أشکل علیه تلمیذه المحقق فقال : و یشکل بأنّ العنوان الوجودی لا یمکن أن ینطبق علیه العدم ، لأنّ معنی الانطباق هو الاتحاد فی الوجود الخارجی ، و العدم لیس له وجود (1) .

نظر الأُستاذ

فقال شیخنا الأُستاذ : بأنّ کبری کلام المستشکل تامّة ، إذ الانطباق لا یتحقق إلّا مع الاتّحاد ، و الاتحاد بین الوجود و العدم محال - و المسألة عقلیّة لا ینفع فیها النقض بالأمثلة العرفیة کما فی کلام البعض - فما ذکره حق . لکنّ الإشکال فی الصغری ، فإن المجعول عنواناً فی النصوص أمر عدمی مثل « عدم موافقة بنی امیّة » و لا محذور فی اتّحاده مع ترک الصوم . و علی الجملة ، فإن صوم عاشوراء مبغوض لموافقته لآل امیّة ، فیکون ترکه مطلوباً من جهة انطباق عنوان عدم الموافقة معهم له . فالإشکال مندفع .

ص:100


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 169 .

لکن یرد علی السیّد المحقّق بعد أن یکون العنوان عدمیّاً : بأنّ الأمر العدمی لا یتصوّر فیه المصلحة الموجبة للرّجحان ، لأن المصالح امور وجودیّة و الأمر الوجودی لا یقوم بالعدم و العدمی ، فالعنوان الأرجح إذا کان عدمیّاً فإنه لا یکون ذا مصلحة ، و من هنا تکون مطلوبیته بالعرض ، من جهة الحزازة فی الوجود ، و إذا کان الوجود مبغوضاً کان ترکه محبوباً بالمحبوبیّة العرضیة ، و لذا لا یکون ترک صوم عاشوراء مستحبّاً بل الفعل ذو حزازة ، فیکون ترکه محبوباً ، و علی هذا ، فلا مناص من القول بوجود حزازة فی نفس الصّوم ، و حینئذٍ ، لا یجتمع مع الرجحان و الاستحباب . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إذا کان الفعل مستحبّاً و الترک کذلک و الترک أرجح ، فما هو الموجب لکراهة الفعل ؟ إنه لا موجب له إلّا أرجحیّة الترک ، و هذا موقوفٌ علی أنْ یکون الأمر بالشیء مستلزماً للنهی عن ضدّه العام ، لکنّ هذا المبنی باطل .

و ثالثاً : إنه لا مناسبة بین هذا الوجه و روایات المسألة ، فمقام الإثبات غیر مساعدٍ له ، لأن النصوص واضحة الدلالة فی مبغوضیّة هذا الصوم و کونه مبعّداً عن اللّٰه و موجباً لاستحقاق النار ، فکیف یصح الإتیان به عبادةً ؟

الجواب الثانی فی الدرر

ثم جاء فی ( الدرر ) : الثانی أن یقال : إن فعل الصّوم راجح و ترکه مرجوح ، و أرجح منه تحقق عنوانٍ آخر لا یمکن أن یجتمع مع الصوم و یلازم عدمه ، و لمّا کان الشارع عالماً بتلازم ذلک العنوان الأرجح مع عدم الصّوم ، نهی عن الصّوم للوصلة إلی ذلک العنوان ، فالنهی عن هذا لیس إلّا للإرشاد و لا یکون للکراهة ، إذ مجرّد کون الضدّ أرجح لا یوجب تعلّق النهی بضدّه الآخر ، بناءً علی عدم کون ترک الضدّ مقدّمة کما هو التحقیق . و لعلّ السرّ فی الاکتفاء بالنهی عن الصّوم بدلاً

ص:101

عن الأمر بذلک العنوان الأرجح، عدم إمکان إظهار استحباب بذلک العنوان . و مما ذکرنا یظهر الجواب عن النقض بالواجبات التی تعرض علیها جهة الاستحباب ، کالصّلاة فی المسجد و نحوها .

و فیه

أوّلاً : إن هذه الکبری - و إنْ کانت مسلّمةً - غیر منطبقةٍ هنا ، فإن الشارع قد بیَّن ذلک العنوان و صرَّح بسبب النهی عن الصوم و هو المخالفة لبنی امیّة .

و ثانیاً : إنّ النهی إذا حمل علی الإرشاد ، بقی حکم الصوم علی الاستحباب بلا کراهةٍ ، و هذا ینافی النصوص المذکورة و غیرها ، و لفتاوی الفقهاء بکراهة هذا الصّوم .

فما ذکره لا یتناسب مع النصوص و الفتاوی .

رأی الشیخ الأُستاذ

و قد رأی شیخنا أنّ الأفضل هو النظر فی النصوص و حلّ المشکل علی أساس ذلک مع لحاظ الفتاوی ، فمن الفقهاء - کصاحب الحدائق - من یقول بالحرمة ، و منهم من یقول بالکراهة، و منهم من یقول بالاستحباب، إمّا مطلقاً و إمّا علی وجه الحزن کما علیه صاحب ( الجواهر ) .

أمّا القول بالحرمة فللروایة التالیة : « عن صوم یوم عاشوراء . فقال : صوم متروک بنزول شهر رمضان ، و المتروک بدعة » (1) یعنی : إنّ هذا الصوم منسوخ بصوم شهر رمضان فهو غیر مشروع .

و فیه :

أوّلاً : هذه الروایة ضعیفة سنداً .

ص:102


1- 1) وسائل الشیعة 10 / 461 ، الباب 21 ، رقم 5 .

و ثانیاً : إن کونه متروکاً لا یدل علی النسخ ، فقد یکون المراد متروکیّة أصل الوجوب .

و ثالثاً : إن النسخ لا یتلائم مع الروایة عن الإمام الباقر و التی فیها صدور الأمر بصوم عاشوراء عن أمیر المؤمنین علیه الصّلاة و السلام .

و اختار السید الخوئی الاستحباب بلا کراهیّة ، و طرح جمیع ما دلّ علی المنع بالإشکال فی أسانیدها ، و أمّا روایة عبد الله بن سنان ، فهی فی مصباح المتهجّد عن کتاب ابن سنان ، و نحن لا علم لنا بحال سند الشیخ إلی کتاب عبد الله بن سنان ... و لو کان سنده إلیه صحیحاً لأورد الخبر فی التهذیب و الاستبصار .

فتبقی روایات الاستحباب - کخبر عبد الله بن میمون القداح و نحوه - بلا معارض (1) .

و قد ناقشه الأُستاذ : بأنْ هذا الخبر أسنده الشیخ فی المصباح إلی ابن سنان ، و لو لا ثبوت السند عنده لما أسنده إلیه . هذا أولاً . و ثانیاً : إنه قد عمل بهذه الروایة من لا یعمل بالأخبار الآحاد ، کابن إدریس و ابن زهرة . و ثالثاً : إن للخبر سنداً معتبراً ، فهو عن عماد الدین المشهدی الطبری - صاحب المزار - عن ابن الشیخ عن الشیخ عن المفید عن ابن قولویه عن الصدوق عن الکلینی عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن عبد الله بن سنان .

و تلخّص : وجود روایة معتبرة مانعة ، و لعلّه لذا أفتی فی رسالته العملیة بالکراهة ، و إنْ کان کتاب ( مستند العروة ) متأخراً عنها ... و ظهر وجود التعارض بین أخبار المسألة ، لأنّ بعضها یأمر و بعضها ینهی .

ص:103


1- 1) مستند العروة الوثقی 22 / 317 .

و أمّا القول بالاستحباب علی وجه الحزن ، فقد ذهب إلیه صاحب (الجواهر ) (1) تبعاً للشیخ و ابن إدریس و المحقق ، جمعاً بین النصوص .

لکنّ هذا الوجه لا یصلح للجمع بل هو تبرّعی ... فالتعارض مستقر .

و مقتضی القاعدة حمل الأخبار الآمرة بالصّوم علی التقیّة ، لکونها موافقةً لنصوص العامّة و فتاواهم ، کما لا یخفی علی من یراجع ( سنن الترمذی ) و( المغنی لابن قدامة ) (2) و تبقی الناهیة بلا معارض . و دعوی الإجماع علی الاستحباب - إن تمّت - لا تضرّ ، لکونه مدرکیّاً ، فالأحوط وجوباً ترک صوم یوم عاشوراء .

القسم الثانی کالصلاة فی الحمام :
اشارة

و أمّا القسم الثانی من العبادات المکروهة کالصّلاة فی الحمام :

رأی صاحب الکفایة

فقد أجاب فی ( الکفایة ) (3) بوجهین :

الأول : إن وجه النهی فیه یمکن أنْ یکون ما ذکر فی القسم الأول طابق النعل بالنعل .

و حاصل ذلک : أن من النهی عن الصّلاة فی الحمام مع الأمر بها ، یستکشف انطباق عنوانٍ علی ترک الصّلاة فی الحمام أو ملازمة لترکها فیه یجعله - أی الترک - أرجح من الفعل .

الثانی : إنّ الأمر بالصّلاة دالٌّ علی الوجوب ، و النهی عن الصّلاة فی الحمام تنزیهی لا تحریمی ، و لمّا کان الأمر بها ملازماً للترخیص العقلی فی تطبیق الصّلاة

ص:104


1- 1) جواهر الکلام 17 / 105 .
2- 2) المغنی فی الفقه الحنبلی 3 / 133 .
3- 3) کفایة الاصول : 164 .

علی أیّة حصّةٍ منها بمقتضی الإطلاق فی « صلّ » ، کانت الصّلاة فی الحمّام مصداقاً للصّلاة الواجبة ، إلّا أنّ النهی عن هذه الصّلاة یفید مرجوحیة تطبیق الطبیعة علی هذه الحصّة ، کما أنَّ الأمر بتطبیقها علی حصّة الکون فی المسجد یفید الرجحان و المحبوبیّة ، و ذلک ، لأنّ الطبیعة المأمور بها فی حدّ نفسها إذا کانت مع تشخصٍ لا یکون له شدّة الملاءمة و لا عدم الملاءمة ، یکون لها مقدار من المصلحة و المزیة ، کالصّلاة فی الدار مثلاً ، و تزداد تلک المزیّة فیما لو کان تشخّصها بماله شدّة الملاءمة ، و تنقص فیما إذا لم تکن له ملاءمة ، و لذلک ینقص ثوابها تارةً و یزید اخری ، و یکون النهی فیه لحدوث نقصانٍ فی مزیّتها فیه إرشاداً إلی ما لا نقصان فیه من سائر الأفراد و یکون أکثر ثواباً منه ، و لیکن هذا مراد من قال إن الکراهة فی العبادة بمعنی أنها تکون أقل ثواباً .

هذا ، و قد وافق شیخنا علی هذین الجوابین .

القسم الثالث کالصلاة فی موضع التهمة :
اشارة

و أمّا القسم الثالث من العبادات المکروهة ، کالصّلاة فی مواضع التهمة :

رأی صاحب الکفایة

فقد أجاب فی ( الکفایة ) : بأنْ حال هذا القسم حال القسم الثانی ، فیحمل علی ما حمل علیه فیه طابق النعل بالنعل ، حیث أنه بالدقّة یرجع إلیه ، إذ علی الامتناع لیس الاتحاد مع العنوان الآخر إلّا من مخصّصاته و مشخّصاته التی تختلف الطبیعة المأمور بها فی المزیّة زیادةً و نقیصةً بحسب اختلافها فی الملاءمة کما عرفت . و حاصل ذلک هو کون النهی ارشاداً إلی أقلیّة الثواب کما تقدّم (1) .

ص:105


1- 1) کفایة الاصول : 165 .
رأی المیرزا

و قد أجاب المیرزا (1) عن هذا القسم - و القسم السابق - بما حاصله : إن العبادة علی القول بالامتناع و إن کانت منهیّاً عنها إلّا أن النهی عن حصّةٍ خاصّةٍ لا یوجب تقیید المأمور به بغیرها ما لم یکن تحریمیّاً أو کان مسوقاً لبیان المانعیّة ...

و من المعلوم أنَّ النهی هنا مولوی تنزیهی لا تحریمی ، و لا هو إرشاد إلی بیان المانعیة ، و هو لا ینافی رخصة تطبیق المأمور به علی تلک الحصّة ، غایة الأمر ، یکون هذا التطبیق مرجوحاً ، فکان الأمر بطبیعة الصّلاة متعلّقاً بصرف وجودها ، و النهی التنزیهی متعلَّقاً بحصّةٍ خاصّة من حصصها ، و لمّا کان تنزیهیّاً فهو متضمّن للترخیص فی هذا التطبیق ، إلّا أنّه یکون مرجوحاً بالإضافة إلی غیر هذه الحصّة .

هذا ، و قد وافقه تلمیذه المحقق فی ( المحاضرات ) و سکت علیه فی هامش ( الأجود ) .

إشکال الأُستاذ

و لکنْ قد أشکل علیه شیخنا : بأن المیرزا قد اعترف فی کلامه بوجود التضادّ بین الأمر الوجوبی و النهی التنزیهی ، فیتوجّه علیه أن الضدّین متقابلان ، فلا یجتمعان ، و لا یکون أحدهما مصداقاً للآخر ... و إذا کانت الطبیعة متعلَّقة للأمر و الحصّة منها متعلَّقة للنهی و کلّ حصّةٍ مصداق للطبیعة ، کان اللّازم کون أحد الضدّین مصداقاً للآخر ، و هو محال .

فالحق مع القائلین بأنّ هذا النهی لیس مولویاً ، بل هو إرشاد إلی أقلیّة الثواب .

ص:106


1- 1) اجود التقریرات 2 / 169 .
و خلاصة البحث

أمّا فی القسم الأول ، فالمختار إسقاط الأخبار الدالّة علی استحباب صوم عاشوراء ، لموافقها للعامّة . و فی النوافل المبتدئة جواب الشیخ و( الکفایة ) هو الصحیح .

و أمّا فی القسمین الثانی و الثالث ، فالمختار حمل النهی علی الإرشاد إلی أقلیّة الثواب .

هذا تمام الکلام فی العبادات المکروهة .

الدلیل الآخر للقول بالجواز

و ذکر فی ( الکفایة ) عن القائلین بالجواز مسألة ما لو أمر بخیاطة الثوب و نهی عن الکون فی ملک الغیر ... و قد تقدّم الکلام علیه فی البحث مع السید البروجردی ، فلا نعید .

ص:107

الاضطرار إلی الحرام

اشارة

إن المکلّف قد لا یکون مضطرّاً إلی الکون فی ملک الغیر بلا إذنٍ منه ، و قد یکون مضطرّاً إلی ذلک ، فإن لم یکن مضطرّاً و أراد الصّلاة هناک ، فإمّا له مندوحة و إمّا لا ، فعلی الأول یندرج فی مسألة جواز الاجتماع و الامتناع ، و علی الثانی کذلک و إنْ قیل بکونه من صغریات باب التزاحم .

و الحاصل : إنه فی صورة عدم الاضطرار مطلقاً ، یدور حکم الصّلاة فی ملک الغیر مدار وحدة المتعلَّق و تعدّده ، علی التفصیل المتقدّم .

و قد یکون مضطراً إلی التصرّف أو الکون فی ملک الغیر ، کما لو حبس هناک ، و لا یمکنه الصّلاة فی خارجه ، و هنا أیضاً صورتان ، لأن هذا الاضطرار قد یکون بسوء الاختیار من المکلّف و قد لا یکون ... و الکلام الآن فی الصورة الثّانیة .

حکم الاضطرار لا بسوء الاختیار و لا یمکنه الخروج
اشارة

أمّا علی القول بجواز الاجتماع ، فالحکم واضح ، لأنّ تصرّفه فی ملک الغیر حاصل بالاضطرار فلا حرمة ، و الصّلاة کانت صحیحةً فی حال عدم الاضطرار ، فهی صحیحة فی حال الاضطرار بالأولویة .

إنما الإشکال فی الحکم بناءً علی القول بالامتناع ، و المشهور هو الصحّة ، و المیرزا علی البطلان .

دلیل المشهور

و دلیل القول المشهور هو أنه فی هذا الفرض یسقط النهی شرعاً و عقلاً .

أمّا عقلاً ، فلأن النهی حینئذٍ تکلیفٌ بما لا یطاق .

ص:108

و أمّا شرعاً ، فلحدیث الرفع ، لأنّ الرفع بالنسبة إلی الاضطرار و الإکراه و النسیان واقعی - و إنْ کان بالنسبة إلی الجهل ظاهریاً لئلّا یلزم التصویب - فالتکلیف مرفوع واقعاً عن المکلَّف المضطر ، و إذا سقط النهی بقی الأمر بالصّلاة علی إطلاقه بلا مانعٍ .

و بعبارة اخری : إطلاق الأمر بالصّلاة بدلی ، و إطلاق النهی عن الغصب شمولی ، لکنّه قاصر عن الشمول لمورد الاضطرار ، فیبقی الإطلاق البدلی للأمر مع حکم العقل بالترخیص فی تطبیقه ، و تکون الصّلاة صحیحة .

دلیل المیرزا

و یقول المیرزا رحمه اللّٰه (1) : بأنّ تقیید متعلَّق الأمر - کالصّلاة - بالقید العدمی یکون علی ثلاثة أنحاء :

الأول : التقیید الحاصل ممّا یکون إرشاداً إلی المانعیة ، کتقییدها بعدم کونها فیما لا یؤکل لحمه ، فإن معنی ذلک أن ما لا یؤکل لحمه مانع عن صحّة الصّلاة ، فصحّتها مشروطة بعدمه ... و هذا التقیید واقعی ، فلو صلّی فیما لا یؤکل لحمه عن جهلٍ أو اضطرار أو نسیانٍ بطلت ، إلّا إذا قام دلیل آخر علی الصحّة ... إذن ، حدیث الرفع لا یرفع الحکم الوضعی فی حال الاضطرار ... إلّا إذا قام دلیل آخر .

الثانی : التقیید الحاصل من التزاحم بین المأمور به و المنهی عنه مع کون النهی أهم ، کأنْ تتقیّد الصّلاة بعدم المنهی عنه ، فلو أتی بها مع المنهیّ عنه عامداً مختاراً بطلت إلّا علی القول بالترتّب أو الإتیان بها بقصد الملاک بناءً علی إنکاره ...

أمّا لو اضطرّ إلی الإتیان بها بالمنهی عنه ، فإن النهی یسقط و تصحّ الصلاة .

الثالث : التقیید الحاصل من النهی النفسی ، کالأمر بالصّلاة و تقییدها بعدم

ص:109


1- 1) أجود التقریرات 2 / 182 - 184 .

کونها فی المغصوب ، للنهی النفسی عن الغصب ... فإنّ هذا النهی یقیّد الإطلاق البدلی فی الأمر بالصّلاة بغیر هذه الحصّة .

و ما نحن فیه من هذا القسم .

إنما الکلام فی أنّه : هل حرمة التصرّف فی مال الغیر هی العلّة لتقیید الصّلاة بغیر المغصوب ، أو أنه لا علیّة و معلولیة بینها و بین التقیید ؟

إن کان الأوّل ، فالحق مع المشهور ، لأنّه فی حال الاضطرار ترتفع الحرمة و المفروض کونها العلّة للتقیید ، فإذا انتفت انتفی المعلول ، و بقی الأمر علی إطلاقه .

لکنّ المیرزا یری أنْ لا علیّة ، و نتیجة ذلک أن الحرمة إذا ارتفعت علی أثر الاضطرار ، بقی التقیید علی حاله و یکون الأمر بالصلاة مقیَّداً بعدم وقوعها فی المغصوب ، فلو صلّی فیه لم یأتِ بمصداق المأمور به ، فهی باطلة .

و وجه عدم العلیّة عنده هو : إنّ منشأ هذا التقیید هو التضادّ بین الوجوب و الحرمة ، و حینئذٍ تکون الحرمة ملازمة لعدم الوجوب ، و لیس بین الضدّین علیّة و معلولیّة لا وجوداً و لا عدماً ، فالطولیّة بین الحرمة و التقیید مستحیلة ، و لیس ارتفاع الحرمة علةً لارتفاع التقیید .

الإشکال علی المیرزا

و قد أورد علی المیرزا : بأنّه و إنْ لم یکن اختلافٌ فی المرتبة بین الحرمة و التقیید ، لکنّ الکاشف - فی مقام الإثبات - عن التقیید لیس إلّا الحرمة ، فقوله صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم : « لا یحلّ لأحدٍ أن یتصرف فی مال غیره بغیر بإذنه » (1)کما یدلّ بالمطابقة علی الحکم الشرعی ، یدلّ بالالتزام علی عدم وجوب الصّلاة

ص:110


1- 1) وسائل الشیعة 24 / 234 الباب 63 رقم : 3 .

فی الدار المغصوبة ، فکان تقیید الأمر بها بغیر هذا المورد مدلولاً التزامیّاً لهذه الحرمة ، و الدلالة الالتزامیة معلولة للمطابقیة ، فإذا سقطت سقطت الالتزامیة .

و الحاصل : إنّه و إنْ لم تکن طولیّة بین المدلولین - أی الحرمة و التقیید - لکنّها بین الدالّین موجودة ، فإذا سقط دلیل حرمة الغصب بسبب الاضطرار ، انتفت الدلالة علی التقیید ، و بقی دلیل الوجوب شاملاً للمورد بإطلاقه ، و یتم رأی المشهور .

نظر الأُستاذ

و قد دفع الأُستاذ هذا الإشکال : بأنّه مبنی علی تبعیّة الدلالة الالتزامیة للمطابقیة فی الحجیّة - کما هو الصحیح - لکنّ المیرزا غیر قائل بذلک ... إذن ، لا بدّ من نقد کلامه من طریقٍ آخر فنقول :

إن حاصل کلامه فی الدورة الثانیة کون النهی علّةً للحرمة و لتقیید الأمر معاً ، و حینئذٍ یرد علیه : بأنْ لا بقاء للنهی فی حال الاضطرار ، و إذا ارتفع انتفی التقیید ، لفرض کونه معلولاً للنهی ، فیثبت رأی المشهور .

و لکنّ المهمّ هو کلامه فی الدورة الاولی (1) إذ قال بأنّ العلّة للنهی و التقیید هی الملاک ، و من الواضح أنّ الاضطرار یرفع النهی ، أمّا الملاک فلا ، لأنه لا یغیّر المصالح و المفاسد ، و إذا کان الملاک باقیاً بقی التقیید و إنْ انتفت الحرمة بالاضطرار .

و یردّه : إنّ الکاشف عن التقیید لا بدّ و أنْ یکون الملاک البالغ إلی حدّ الغرضیة للمولی حتّی یؤثّر فی الحرمة و التقیید ، و أمّا صرف وجود الملاک فلا یترتب علیه ذلک الأثر ، و علی هذا ، ففی صورة الاضطرار - حیث تکون

ص:111


1- 1) فوائد الاصول (1 - 2) 445 .

المفسدة مزاحمةً بالمصلحة کما فی مورد أکل المیتة مثلاً للضرورة - لا تکون تلک المفسدة متعلّقةً لغرض المولی ، فلا تصلح لأنْ تکون منشأً للتقیید ... فالحق مع المشهور .

حکم صلاة المضطرّ لا بسوء الاختیار

نعم ، فی خصوص الصّلاة بحثٌ من جهةٍ اخری ، و ذلک أنّه بناءً علی وجوب الصّلاة علی المضطر غیر المتمکّن من الخروج فی جمیع الوقت ، و صحّة صلاته ، فهل الواجب الإتیان بها صلاةً اختیاریّةً تامّة الأجزاء و الشرائط ، أو یصلّی إیماءً بدلاً عن الرکوع و السجود ؟

قولان ، قال بالأوّل صاحب ( الجواهر ) و تبعه المیرزا (1) . و بالثانی : بعض مشایخ صاحب ( الجواهر ) قدّس سرّهم .

و قد استدلّ للثانی : بأنّ الرکوع و السجود یستلزم الحرکة ، و هی تصرّف فی ملک الغیر ، فلیأت بالصّلاة بالإیماء لئلّا یلزم التصرف الزائد .

للأول : بأنّ من یکون فی ملک الغیر لا ینفکّ عن وضعٍ من الأوضاع ، و الغصب صادق علی کلّ الأوضاع و فی کلّ آن من الآنات ، و اختلاف الأوضاع - بأنْ یرکع أو یسجد مثلاً - لا یعتبر زیادةً فی التصرف حتی تکون معصیةً إضافیّة .

و قد فصّل الشیخ الأُستاذ فی هذا المقام فقال : بأنْ مقتضی القاعدة الأولیّة هو الصّلاة الإیمائیة ، لأن تبدّل الأوضاع یستلزم الحرکة بالضرورة و هی أمر زائد ، علی أنّ فی السجود اعتماداً علی الأرض و هو تصرّف زائد . لکنّ مقتضی القواعد الثانویة من رفع العسر و الحرج و سهولة الشریعة و سماحتها هو ارتفاع الحرمة عن هذا القدر من التصرّف لمن اضطرّ بالصّلاة فی المکان المغصوب کالمحبوس

ص:112


1- 1) فوائد الاصول (1 - 2) 445 - 446 .

فیه ... و هذا هو الجواب الثانی لصاحب (الجواهر ) (1) و هو الصحیح .

غیر أنّ مقتضی القاعدة هو التفصیل علی المبنی فی العسر و الحرج ، فإنه بناءً علی المختار من کونهما شخصیین لا نوعیین ، یختلف الحکم باختلاف الأشخاص ، فمن کان متمکّناً من البقاء علی حالٍ واحدةٍ زمناً طویلاً ، فهذا لا یجوّز له أن یصلّی صلاة المختار ، بل یصلّی ایماءً .

هذا کلّه فیمن لا یمکنه الخروج عن المکان المغصوب أصلاً .

حکمه مع التمکّن من الخروج

و أمّا المتمکّن من الخروج ، فتارةً : هو متمکّن من الأوّل من الإتیان بالصّلاة کاملةً فی خارجه ، فلا ریب فی وجوب ذلک و الإتیان بها فی المکان المباح ، فلو عصی و بقی فی ملک الغیر و صلّی هناک ، کانت صلاة باطلة علی القول بالامتناع ، و صحیحة علی القول بالجواز مع العصیان .

و اخری : هو متمکّن من الخروج فی بعض الوقت ، فلو صلّی هناک فی الوقت المضطرّ إلی الکون فیه ، جاء الخلاف المذکور سابقاً من أنّ الرکوع و السجود منه یعتبر تصرّفاً زائداً فتبطل أو لا ؟ فعلی القول بالعدم و أنّه تبدّل وضعٍ بوضع فالصّلاة صحیحة ، لکونه مضطراً إلی التصرف فلا نهی ، فلا مانع عن إطلاق الدلیل الآمر بالصّلاة و إنْ کان قادراً علی الخروج فی الساعة الآتیة حسب الفرض .

و علی قول المیرزا : هذه الصّلاة باطلة ، لفرض التمکّن من صلاةٍ تامّةٍ ... و هذا هو المختار عندنا ، لعدم انطباق القاعدة الثانویة هنا ، لأن المفروض تمکّنه بعد ساعةٍ من أدائها فی مکان مباحٍ تامّة الأجزاء و الشرائط ، فما ذهب إلیه السید الخوئی من صحّة صلاته هذه حتی بناءً علی الامتناع مخدوش .

ص:113


1- 1) جواهر الکلام 8 / 287 .

و ثالثة : إنه متمکّن من الخروج لکنْ فی آخر الوقت ، بحیث لا یمکنه القیام بصلاة المختار فی الخارج ، فیدور أمره بین الصّلاة التامّة فی المکان المغصوب و غیر التامة فی خارجه .

أمّا علی مسلک المیرزا ، فیأتی بها فی حال الخروج إیماءً ، و کذا علی مسلک صاحب ( الجواهر ) ، و قد وافقهم السیّد الخوئی فی هذه الصورة ، لأنّ السجود تصرّف زائد - لکونه اعتماداً علی الأرض - فیومی بدله ، و الرکوع مستلزم للحرکة فی ملک الغیر و هی تصرّف ، فیکون مورداً للتزاحم بین الأمر و النهی ، و لا ریب فی تقدم النهی فلیس له أن یرکع الرکوع الاختیاری .

فأشکل علیه شیخنا : بأنکم فی الصّورة السّابقة قلتم بجواز الرکوع و السجود الاختیاریین لکونه مضطرّاً ، فما الفرق بین هذه و تلک ؟

إن الأحکام العقلیة لا تقبل التخصیص ، و القاعدة الأوّلیة تقتضی المنع عن کلّ تصرّف فی ملک الغیر ، و إذا کان السجود اعتماداً علی الأرض فهو فی کلتا الصورتین ، و الرکوع إن کان حرکةً ، و الحرکة تصرّفٌ ، فهو فی کلتیهما کذلک ، فلا وجه للفرق فی حکم الرکوع و السجود ، نعم ، بینهما فرق من حیث أنّه فی تلک الصورة کان باقیاً فی ملک الغیر - مع قدرته علی الخروج - فهو عاصٍ ، و فی هذه الصّورة تصدر منه معصیتان ، لأن خروجه من المکان تصرّف آخر ، لکنّ زیادة المعصیة کذلک لا أثر لها فی حکم الرکوع و السجود ، و قد عرفت عدم الفرق بالنسبة إلیهما .

و علی الجملة ، فالصحیح بناءً علی الامتناع و بحسب القاعدة الأولیة هو البطلان ، لکن القاعدة الثانویة تقتضی الصحة و جواز الإتیان بصلاة المختار .

هذا کلّه ، فیما لو لم یکن اضطراره إلی التصرّف فی مال الغیر بسوء الاختیار .

ص:114

حکم الاضطرار بسوء الاختیار
اشارة

أمّا لو کان هو السبب فی هذا الاضطرار ، قال فی (الکفایة) (1) :

إنما الإشکال فیما إذا کان ما اضطرّ إلیه بسوء اختیاره ، مما ینحصر به التخلّص عن محذور الحرام کالخروج عن الدار المغصوبة فیما إذا توسّطها بالاختیار ، فی کونه منهیّاً عنه أو مأموراً به ، مع جریان حکم المعصیة علیه أو بدونه ، فیه أقوال ، هذا علی الامتناع .

و أمّا علی القول بالجواز ، فعن أبی هاشم أنه مأمور به و منهی عنه ، و اختاره الفاضل القمی ناسباً له إلی أکثر المتأخرین و ظاهر الفقهاء .

و الحق : أنه منهی عنه بالنهی السابق الساقط بحدوث الاضطرار إلیه و عصیانه له بسوء الاختیار ، و لا یکاد یکون مأموراً به کما إذا لم یکن هناک توقف علیه أو بلا انحصار به ... .

الأقوال فی هذه الصورة

و الحاصل : أن فی حکم هذا الاضطرار خمسة أقوال ، ذکرها صاحب ( الکفایة ) و تکلّم علیها ، و أثبت مختاره فی المسألة ، و إلیک البیان بقدر الحاجة :

القول الأول : إن خروجه من هذا المکان حرام شرعاً ، لأنّه تصرف فی ملک الغیر .

و فیه : إنّ الکون فیه أیضاً حرام شرعاً ، فلو حرم علیه الخروج ، لزم حکم الشارع بالمتناقضین .

القول الثانی : إن الخروج واجب و حرام ، و کلا الحکمین فعلی . أمّا وجوب الخروج ، فلأنه تخلّص من الغصب ، و هو واجب بنفسه أو مقدمة لواجبٍ هو

ص:115


1- 1) کفایة الاصول: 168 .

الکون فی خارج ملک الغیر ، و أمّا حرمة الخروج ، فلأنه تصرّف ... و قد تقرّر أن الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار عقاباً و خطاباً (1) .

و فیه : أن کلتا المقدّمتین غیر صحیح . أمّا وجوب التخلّص من الحرام ، فأوّل الکلام ، لأنّ الأدلّة أفادت حرمة الغصب ، أمّا وجوب تخلیة المکان المغصوب فیحتاج إلی دلیل ، نظیر شرب الخمر ، فإنه حرام لا أن ترکه واجب . و أمّا صحّة تکلیف هذا المکلّف فکذلک ، لأن الحاکم فی المسألة هو العقل ، و هو یری امتناع أو قبح توجّه الخطاب إلی العاجز عن الامتثال ، فمن ألقی نفسه من شاهق کیف یخاطب فی حال سقوطه بالکفّ عن السّقوط و حفظ النفس و هو غیر قادر ؟

و علی الجملة ، فإنّ المقتضی للحکم بالوجوب هو المصلحة الملزمة ، و للحکم بالحرمة هو المفسدة کذلک ، فکیف یجتمعان فی الشیء الواحد فی الآن الواحد ؟

القول الثالث : إنّ الخروج واجب بالوجوب الفعلی ، و هو حرام لکن بالنهی السابق ، وعلیه صاحب ( الفصول ) (2) ... و الوجه فی ذلک هو : إنه کان قد تعلَّق النهی - قبل الدخول - بالخروج ، لأنه أحد التصرّفات المنهی عنها فی مال الغیر بدون إذنه ، إلّا أن هذا النهی قد سقط بعد الدخول ، و هو الآن مأمور بالخروج و تخلیة المکان ، و هو وجوبٌ فعلیّ نفسیّ أو غیری مقدمةً للکون فی خارج ملک الغیر .

و فیه : أمّا الوجوب النفسی ، فممنوع لعدم الدلیل علی وجوب تخلیة

ص:116


1- 1) هذا أحد الأنظار الثلاثة فی المسألة ، و هذا هو مبنی رأی أبی هاشم الجبائی المذکور ، فیصحّ خطابه و عقابه ، و قال جماعة : لا یصحّ خطابه و عقابه ، و قال آخرون : لا یصح خطابه و یصح عقابه و هو الحق .
2- 2) الفصول الغرویّة : 137 .

الغصب . و أمّا الوجوب المقدّمی ، فموقوفٌ علی وجوب المقدّمة شرعاً و هو أوّل الکلام ، و علی وجوب الکون فی خارج ملک الغیر ، و لا دلیل علیه کما تقدّم .

هذا بالنسبة إلی وجوب الخروج .

و أمّا ما ذکره من شمول دلیل النهی عن التصرّف فی مال الغیر للتصرف الخروجی قبل الدخول فی ملک الغیر ، ففیه : إنّ النهی عن الشیء لا یکون إلّا عن مفسدةٍ فیه غیر مزاحمة بمصلحةٍ ، لکنّ مفسدة التصرّف الخروجی قبل الدخول مزاحمة بالمصلحة الملزمة المترتبة علی الخروج من ملک الغیر بعد الدخول فیه ... و سبق النهی عن التصرف الخروجی علی الأمر بالخروج من ملک الغیر لا یرفع مشکلة اجتماع المتناقضین .

القول الرابع : ما اختاره الشیخ قدّس سره ، من أنّ الخروج واجب بالوجوب الشرعی ، و القول بکون جمیع أنحاء التصرّف حراماً قبل الدخول ممنوع .

و اختار المیرزا هذا القول و جعل یردّ علی رأی صاحب ( الکفایة ) و هو :

القول الخامس : و هو أنّ الخروج منهی عنه بالنهی السابق ، لکنّ هذا النهی قد سقط بحدوث الاضطرار إلیه ، فیکون الخروج معصیةً للنهی السّابق ، لکنّه لازم بحکم العقل من باب الأخذ بأقل المحذورین ... أمّا کونه معصیةً ، فلأنّ الاضطرار - و إنْ أسقط الخطاب - لا یرفع استحقاق العقاب ، لأن الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار عقاباً .

ردّ المیرزا علی الکفایة :

قال : إنّ المقام یندرج فی کبری قاعدة وجوب ردّ المال إلی مالکه ، و لا ربط له بقاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختیار للاختیار من جهة العقاب أو الخطاب أو

ص:117

العقاب فقط ( قال ) نعم ، بناءً علی دخول المقام فی ذیل کبری قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختیار للاختیار ، فالحق ما اختاره صاحب ( الکفایة ) . فلنا دعویان ... .

( ثم قال ) بعد إبطال سائر الأقوال فی الدعوی الاولی : « أما الدعوی الثانیة - أعنی بها دعوی عدم دخول المقام فی کبری قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختیار للاختیار ، فیدلّ علیها امور » . فذکر أربعة امور هذا ملخّصها :

الأول : إن ما یکون داخلاً فی موضوع کبری تلک القاعدة ، لا بدّ من أن یکون قد عرضه الامتناع ، و أن یکون ذلک مستنداً إلی اختیار المکلّف ، کأنْ یترک السیر إلی الحج ، و الخروج من الدار المغصوبة لیس کذلک ، بل هو مقدور له بعد دخوله فیها .

و الثانی : إن محلّ الکلام فی تلک القاعدة إنما هو ما إذا کان ملاک الحکم مطلقاً ، سواء وجدت مقدّمته الإعدادیة أم لم توجد ، و کان الحکم بنفسه مشروطاً بمجیء زمان متعلَّقه ، کخطاب الحج ، فإنّه واجب متوقف علی طیّ الطریق ، فإن ترک امتنع الحج و کان امتناعه بالاختیار ، لکنّ ملاک هذا الحکم قبل السفر تام ، فعلی القول بإمکان الواجب المعلَّق ، یکون الوجوب فعلیّاً قبل أشهر الحج و الواجب استقبالی و موضوعه الاستطاعة ، و علی القول بامتناعه - وعلیه المیرزا - یکون الملاک تامّاً بتحقق الاستطاعة ، فمن ترک المسیر إلی الحج بعدها یستحق العقاب علی ترکه و إنْ امتنع علیه الفعل فی وقته ، لأن الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار ( قال ) : و هذا بخلاف المقام ، فإن التصرف بالدخول من المقدّمات التی لها دخل فی تحقق القدرة علی الخروج و تحقق ملاک الحکم فیه ، فإن الداخل هو الذی یمکن توجیه الخطاب إلیه بفعل الخروج أو بترکه دون غیره ، و إذا کان کذلک امتنع کون الخروج داخلاً فی موضوع تلک القاعدة .

ص:118

الثالث : إنه علی مختار صاحب ( الکفایة ) من أن الخروج من الدار المغصوبة هو بحکم العقل ، من باب الأخذ بأخف المحذورین ، یکون هذا الحکم العقلی کاشفاً عن إمکان الخروج ، فکیف یمکن أن یکون الخروج من صغریات تلک القاعدة ؟

الرابع : إن ما نحن فیه و مورد القاعدة متعاکسان ، لأن موردها ما إذا تحقّقت المقدّمة ثبت الخطاب و کان فعلیّاً ، کما فی الحج ، فإنه إذا سافر و أدرک یوم عرفة صار الحکم بوجوب الحج فعلیّاً ، فلو ترک انطبقت القاعدة ، بخلاف ما نحن فیه ، فإنّه إذ وجدت المقدّمة - و أعنی بها الدخول - یسقط الخطاب بترک الخروج ، أی النهی السابق عن التصرّف الخروجی بعد الدخول .

( قال ) فتبیّن من هذه الأدلّة بطلان دخول المقام تحت قاعدة : الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار ، فلا مناص عن الالتزام بکونه داخلاً تحت قاعدة وجوب ردّ مال الغیر إلی مالکه ، و الخروج بما أنه محقّق لذلک یکون واجباً (1) .

إشکال الأُستاذ

و بالتأمّل فی الامور المذکورة یظهر أنّ وجهة النظر فی ثلاثةٍ منها إلی إنکار صغری قاعدة الامتناع ، إلّا أنه قد وقعت الغفلة عن نکتةٍ هی : إنّ الامتناع عن الانبعاث أو الانزجار قد یکون عقلیّاً ، کما أنه قد یکون تکوینیاً و قد یکون شرعیّاً ، و امتناع انزجار المکلّف فیما نحن فیه عقلی ، و إلّا فإنه بعد الدخول فی ملک الغیر متمکّن من الخروج تکویناً ، کما أنه لا امتناع للانزجار شرعاً ، لأنّ الشارع لیس له هنا أمر و لا نهی - کما علیه صاحب ( الکفایة ) - بل الحاکم بالخروج و الناهی عن البقاء هو العقل ، فإنه یلزمه بالخروج لکونه أخفّ المحذورین ، فقد وقع هذا

ص:119


1- 1) أجود التقریرات 2 / 187 - 193 .

المکلّف فی الامتناع لکنْ بسوء اختیاره و عصیانه للنهی السابق ، فالصغری للقاعدة متحققة ، لأن موضوعها غیر منحصر بالامتناع التکوینی لیتوجه الامور المذکورة .

و یبقی الأمر الثانی منها و هو اعتبار وجود الملاک للحکم ، سواء وجدت المقدمة أو لا ، لکنّ ما نحن فیه لیس کذلک ، لأن الحکم بالخروج قبل الدخول غیر معقول ، و أمّا بعده ، فلا یوجد حکم شرعی بالخروج ، إذ المفروض أنه ملزم به بحکم العقل ، و إذ لا حکم و لا ملاک له ، فلا یکون المورد من موارد قاعدة الامتناع .

و الجواب عن هذا هو :

أمّا إنکاره الملاک ، ففیه : إنّ الخروج من ملک الغیر تصرّف فیه ، فهو مبغوض و ذو مفسدة بلا ریب ، سواء دخل أو لا ، نعم ، مفسدة الخروج کذلک أقلّ من مفسدة البقاء ، فکانت أقلیّة المفسدة هی المنشأ للّابدیّة العقلیة .

و أمّا عدم معقولیة الخطاب بالخروج قبل الدخول ، ففیه : إنّ ذلک غیر معقول لو کان بعنوان « اخرج » و نحوه ، لکنّ النهی لیس کذلک ، بل هو متعلَّق بجمیع أنحاء التصرف فی ملک الغیر ، و هذا صحیح بلا ریب ، و التصرّف الخروجی بعد الدخول أحد المصادیق له ، فلا موضوعیة للخروج ، بل إنه مأمور به و منهی عن البقاء لکونه أحد مصادیق الغصب .

و القول بعدم معقولیة الحکم بالخروج قبل الدخول لکونه غیر مقدورٍ للمکلَّف ، یردّه : أنه مقدورٌ له بالواسطة ، و هذا کافٍ لمعقولیة الخطاب ، فإنّ هذا المکلّف قادر علی ترک التصرف الخروجی بترک الدخول فی ملک الغیر ...

فالخطاب بالنهی عن هذا التصرف معقول .

و تلخّص : عدم تمامیة شیء من وجوه المیرزا رحمه اللّٰه ، بل المورد من

ص:120

موارد قاعدة الامتناع ، و قد اعترف بأنه إذا کان مورداً لها فالحق مع صاحب ( الکفایة ) ، فالمکلّف ملزم بالخروج عقلاً ، و هو مستحق للعقاب لقاعدة الامتناع .

نظریّة للسید البروجردی تبعاً لصاحب الجواهر

و تبقی نظریةٌ : بأنّ هذا المتوسّط فی ملک الغیر بسوء اختیاره ، إنْ ندم من عمله و تاب فإنّ تصرّفه الخروجی حینئذٍ لیس مبغوضاً معاقباً علیه ، لأن التائب من الذنب کمن لا ذنب له ، ذکرها السید البروجردی و قال : و قد أشار إلی هذا المعنی صاحب ( الجواهر ) . و لا یخلو عن وجهٍ قوی (1) .

قال الأُستاذ

قد ذکر صاحب ( الجواهر ) هذا الاحتمال فی مبحث مکان المصلی و لم یوافق علیه ، و الحق معه ، لأن التوبة ترفع العقاب بلا إشکال ، و لکنّ استحقاق العقاب بالمعصیة کترتّب بعض الآثار الوضعیة باقٍ و لا یرتفع بالتوبة ، بل العقل یری الاستحقاق و لذا یقال : عصی و استحق العقاب لکنّ اللّٰه لم یعاقبه لأنه تاب ...

إذن ، لا مانع من انطباق القاعدة العقلیة ، إلّا أن اللّٰه بفضله و کرمه و رحمته لا یعاقب بعد التوبة .

و هذا تمام الکلام فی حکم الاضطرار .

حکم صلاة المضطر بسوء الاختیار

و أمّا صلاة المضطر بسوء الاختیار ، الذی وجب علیه الخروج ، إمّا أخذاً بأخفّ المحذورین کما علیه الشیخ و صاحب ( الکفایة ) ، و إمّا امتثالاً للحکم الشرعی بوجوب الخروج من باب ردّ مال الغیر إلی مالکه ... فلها صور :

الصورة الاولی : أن یکون الوقت ضیّقاً بحیث لا یمکنه الصّلاة فی خارج

ص:121


1- 1) نهایة الاصول : 249 ، الحجة فی الفقه : 261 .

المکان ، لا الاختیاریة و لا الاضطراریّة ، فعلی القول بجواز الاجتماع ، یأتی بالاضطراریّة فی حال الخروج ، و هی صحیحة بلا کلام ، لکون الترکیب انضمامیّاً ، غیر أنها تتّصف بالقبح الفاعلی ، لکون الاضطرار بسوء اختیارٍ منه ، لکنّ مقتضی القول بوجوب الخروج من باب ردّ المال إلی صاحبه هو عدم الاقتران بذلک .

و أمّا علی القول بالامتناع :

فإنَّ قلنا : بعدم شمول قاعدة الامتناع للمقام و أنه من صغریات وجوب ردّ المال إلی مالکه ، کانت الصّلاة صحیحة - و إن کان الترکیب اتحادیّاً - لأنّ المفروض بناءً علی هذا القول وجوب الخروج بحکم الشارع و لا نهی عن هذا التصرّف أصلاً .

و إنْ قلنا : بأنّ الخروج منهیّ عنه بالنهی السّابق ، لکونه تصرّفاً فی مال الغیر ، لکنّ الأجزاء الصّلاتیة لا یصدق علیها عنوان التصرّف عرفاً ، فهی صحیحة کذلک .

و إنْ قلنا : بحرمة التصرف الخروجی ، و أنّ الأجزاء فی هذه الصّلاة الاضطراریة یصدق علیها عنوان الغصب ... کانت باطلة ، لأن المفروض تحقق الترکیب الاتحادی بین الغصب و الصّلاة ، فتکون التصرّفات الصّلاتیة منهیّاً عنها ، و المنهی عنه لا یصلح للمقربیّة ... نعم ، بناءً علی القاعدة الثانویة ، من أن الصّلاة لا تسقط بحالٍ و نحو ذلک ، یحکم بصحّتها .

الصورة الثانیة : أنْ یتمکن من الصّلاة الاضطراریة خارج المکان . فعلی مسلک الشیخ و المیرزا ، یصلّی کذلک فی حال الخروج و تکون صحیحةً ، لأنَّ المفروض وجوب الخروج علیه شرعاً فهو ممتثلٌ للحکم الشرعی ، و إطلاق الأمر بالصّلاة شامل لها ، فالمقتضی للصحّة موجود و المانع مفقود .

و أمّا علی القول بالامتناع و أن هذا الخروج منهی عنه بالنهی السابق ، لکونه

ص:122

نحواً من أنحاء التصرف فی مال الغیر و قد اضطرّ إلیه بسوء اختیاره ، فالتفصیل المتقدّم ، من صدق عنوان الغصب علی أجزاء الصّلاة الإیمائیة و عدم صدقه ، و المفروض هو الاتّحاد بین الأجزاء و الغصب بناءً علی الصّدق ... فإنْ صدق و غلب جانب النهی فالصّلاة باطلة ... بل علیه أن یخرج و یصلّی الصّلاة الاضطراریة فی خارج المکان المغصوب ... و فی هذا الفرض ، لا تصل النوبة إلی القاعدة الثانویة ... و أمّا مع عدم صدق عنوان الغصب ، فالصّلاة صحیحة و إنْ کان متمکّناً منها فی الخارج .

الصورة الثالثة : أن یتمکّن من الصّلاة الاختیاریة فی خارج المکان ، فهی باطلة فیه علی جمیع الأقوال . أمّا علی القول بالجواز و الترکیب الانضمامی ، فلأنّه إن أراد الصّلاة فی المکان المغصوب فلا یجوز له إلّا الاضطراریة فی حال الخروج ، و مثل هذه الصّلاة لا تجزی عن الاختیاریة فی المکان المباح مع القدرة علیها و التمکن منها حسب الفرض . و أمّا علی القول بالامتناع ، فالأمر أوضح حتی لو قلنا بکون الخروج واجباً شرعیاً من باب ردّ المال إلی صاحبه ، لأن المفروض تمکّنه من الصّلاة الاختیاریة فی خارج المکان المغصوب .

و هذا تمام الکلام فی مسألة اجتماع الأمر و النهی .

ص:123

هل النهی عن الشیء یقتضی فساده ؟

مقدّمات
الاولی : ( فی الفرق بین هذه المسألة و سابقتها )

لقد کان موضوع البحث - فی مسألة اجتماع الأمر و النهی - هو سرایة النهی إلی متعلَّق الأمر و بالعکس و عدم سرایته ، أما هنا ، فالبحث عن اقتضاء النهی للفساد بناءً علی السریان . و بعبارةٍ اخری : کان البحث هناک عن کون مورد الاجتماع من قبیل التعارض أو التزاحم . و هنا نقول : إنه بناءً علی التعارض و تقدّم النهی هل یکون النهی موجباً للفساد أو لا ؟ إذن ، یکون البحث فی المسألة السابقة محقّقاً للصغری فی هذه المسألة .

و من هنا ذهب المیرزا (1) إلی خروج مسألة الاجتماع عن المسألة الاصولیة ، لعدم انطباق ضابطتها علیها ، إذ المسألة الاصولیة عبارة عن المسألة التی تقع فی طریق استنباط الحکم الشرعی بلا ضمّ ضمیمةٍ إلیها ، و وقوع مسألة الاجتماع فی الطریق لا تحقّق له إلّا بضمّ مسألة اقتضاء النهی فی العبادة للفساد ، فهی لیست اصولیةً .

و لا یرد علیه الإشکال من المحقق العراقی (2) من أن مسألة تعلّق النهی بالعبادة واقعیّة، إذ البحث فیها عن اقتضائه للفساد سواء علم بذلک أو لا ، بخلاف

ص:124


1- 1) أجود التقریرات 2 / 199 .
2- 2) نهایة الأفکار (1 - 2) 450 .

مسألة الاجتماع ، فإنّه بحث علمی لا واقعی ، و لذا لو صلّی فی المکان المغصوب عن جهلٍ کانت صلاته صحیحةً علی المشهور ، و حینئذٍ ، لا یعقل أن یکون البحث هناک عن صغری هذه المسألة .

وجه عدم الورود هو : أنه إن قلنا بجواز الاجتماع ، فلا موضوع للنهی عن العبادة کما هو واضح ، و إنْ قلنا بالامتناع أی کون متعلّق الأمر و النهی شیئاً واحداً ، فإنّ وحدة المتعلّق أمر واقعی لا دخل للعلم و الجهل به ، فإنْ سقط لم یبق الموضوع لمسألة النهی عن العبادة ، إنْ سقط و کذلک الأمر و النهی کلاهما ، و إنْ سقط الأمر و بقی النهی فلا شک فی اقتضائه للفساد ... فما ذکره المیرزا سالم من الإشکال . و إنْ توجّه الإشکال علی المشهور القائلین بالصحّة فی صورة الجهل بالغصبیة مع قولهم بالامتناع ، و ذاک أمر آخر .

الثانیة : ( هل یعتبر وجود مقتضی الصحة ؟ )

ذهب المحقق القمی (1) إلی أنه یعتبر فی هذا البحث وجود المقتضی لصحّة العبادة من عموم دلیلٍ أو إطلاق حتی یصحّ ورود النهی عن عبادةٍ خاصّة ، کالنهی عن الصلاة فی موضع التهمة مثلاً ، فلو لم یکن المقتضی للصحّة کانت العبادة باطلةً سواء ورد النهی أو لا ، فلا ثمرة للبحث .

و فیه : إنه لا ریب فی توقیفیّة العبادات ، و کلّما شک فی عبادیّته فالأصل العدم ، إلّا أنّه بحثٌ مستقل لا ربط له بمسألتنا فی أنّ النهی عن شیء هل یجتمع مع القول بصحّة ذلک الشیء أو لا ، لأنّ البحث عن وجود الملازمة بین النهی و الفساد غیر متفرّع علی وجود مقتضی الصحّة للعمل من عموم أو إطلاقٍ ، و ترتّب الثمرة علی بحثنا واضح جدّاً . فما ذکره لا یمکن المساعدة علیه .

ص:125


1- 1) قوانین الاصول 1 / 154 .
الثالثة :( هل هذه المسألة عقلیّة أو لفظیّة ؟ )

لا خلاف فی أنّها اصولیة ، فذهب الشیخ الأعظم إلی الأول ، و خالفه صاحب الکفایة فقال بأنّها لفظیّة (1) .

و وجه القول الأول هو أنّ البحث فی المسألة عن وجود الملازمة و عدمها بین الحرمة و الفساد ، سواء کان الدلیل علی الحرمة لفظیّاً أو عقلیّاً أو کان هو الإجماع ، و هذا بحث عقلی .

و تقریبه هو : إنّ دلالة النهی علی الفساد التزامیّة و لیست بالمطابقة و لا بالتضمّن ، لکنّها متوقّفة علی کون هذا اللّزوم بیّناً بالمعنی الأخصّ ، ضرورة احتیاجها إلی الإثبات بالبرهان ، فالمسألة من مباحث الاستلزامات العقلیّة فی علم الاصول ، نعم ، هی مسألة عقلیّة غیر مستقلّة ، إذْ المعتبر ورود النهی الشرعی حتی یتحقّق الموضوع لحکم العقل بالفساد .

و بعبارةٍ اخری : إنّه بناءً علی ما هو الصحیح من کفایة قصد الملاک فی تحقق العبادیّة ، لیس للنهی دلالة علی عدم الملاک ، و إنْ دلّ علی عدم الأمر ، فالعقل هو المرجع فی ثبوت الملازمة بینه و بین الفساد و عدم ثبوته .

نعم ، یتمُّ القول الثانی بناءً علی اعتبار خصوص قصد الأمر فی عبادیّة العبادة، لأنّ النهی یلازم عدم الأمر ، للتضادّ بینهما ، فنفس وجوده دلیلٌ علی عدم الأمر ، بالدلالة الالتزامیّة ، و هذا بحثٌ لفظی .

الرابعة : ( فی المراد من النهی ؟ )

إنه ینقسم النهی إلی التشریعی و الذاتی ، و الثانی إلی الإرشادی و المولوی ، و الثانی إلی التبعی و النفسی ، و الثانی إلی التنزیهی و التحریمی .

ص:126


1- 1) کفایة الاصول : 180 .

أمّا النهی التشریعی ، فداخل فی البحث ، سواء کان التشریع معاملةً أو عبادةً ، فلو أدخل فی الدین عبادةً لیست منه أو معاملةً ، فلا ریب فی شمول البحث له - بناءً علی أنّ التشریع هو نفس العبادة أو المعاملة و لیس بأمرٍ قلبی - لأنه یکون مبغوضاً للمولی ، فلا یترتب علیه الأثر .

و أمّا النهی الذاتی الإرشادی ، کقوله : لا تصلّ فیما لا یؤکل لحمه ، فإنّه إرشاد إلی المانعیّة ، إذ معناه أنّ الصلاة قد اعتبرت بشرط لا عن وقوعها فیما لا یؤکل لحمه ، فلو اتی بها فیه لم تقع کما اعتبر المولی فهی فاسدةٌ ، کما لو اتی بها فاقدةً لجزءٍ وجودی کالسجود مثلاً ... اللّهم إلّا فی الموارد الخاصّة بدلیلٍ ثانوی مثل :

لا تعاد الصّلاة إلّا... .

و أمّا النهی الذاتی المولوی :

فهو تارةً : تبعی کما فی موارد دلالة الأمر بالشیء علی النّهی عن ضدّه بناءً علی القول بها ، فإن هذا النهی إنّما جاء علی الضدّ علی أثر المزاحمة بینه و بین الضدّ المأمور به ، لا لوجود مفسدةٍ فی نفس المتعلَّق للنهی . و قد وقع الخلاف فی دخول هذا القسم فی البحث ، فقال المیرزا و جماعة (1) بعدم دخوله ، لعدم اقتضاء هذا النهی للفساد ، أمّا علی القول بالترتب فواضح ، حتی علی مسلک صاحب ( الجواهر ) و هو اعتبار خصوص قصد الأمر فی عبادیة العمل ، لأنّ الترتب یحقّق الأمر ، و أمّا بناءً علی إنکاره ، فلأن المفروض وجود الملاک للعمل و النهی لیس بمزاحمٍ له ... و الحاصل : أنّ العمل غیر مبغوضٍ و أنه لا نقص فی ملاکه ، فمقتضی القاعدة هو الصحّة .

و المختار عند الأُستاذ - فی الدورتین - دخول هذا القسم فی البحث ، لأنّه

ص:127


1- 1) أجود التقریرات 2 / 202 .

بناءً علی أنّ الأمر بالشیء ملازم عقلاً مع النهی عن ضدّه ، یکون العمل منهیّاً عنه حقیقةً - و إنْ کان ملاک النهی هو المزاحمة - ، و کلّ عملٍ ینهی المولی عنه فالعقل یحکم بعدم صلاحیته للمقربیّة ، و لا أقل من الشک فی ذلک ، فهو فاسد .

و اخری : نفسی ، و هو علی قسمین ، أحدهما : التحریمی ، و هذا لا کلام فی دخوله ، لأنه منشأ للفساد بلا إشکال . و الثانی هو التنزیهی .

و فی دخول النهی المولوی التنزیهی مثل : لا تصلّ فی الحمام و نحوه ، بحث و خلاف ، فصاحب ( الکفایة ) أدخله و المیرزا أخرجه ، و الوجه فی ذلک هو : أنّه إنْ کان النهی تحریمیّاً فالترخیص فی التطبیق مرتفع ، أمّا مع التنزیهی ، فالترخیص فی التطبیق موجود فلا ملاک للفساد .

و المختار عند الأُستاذ - فی الدّورتین - هو الأوّل ، لأن موضوع البحث هو اقتضاء النهی للفساد و عدم اقتضائه له ، سواء کان دلیل العبادة أو المعاملة - و هو الإطلاق - بدلیّاً أو شمولیّاً ، فإنْ کان بنحو الإطلاق البدلی - کما فی صلّ و لا تصلّ فی الحمام - فلا منافاة بین النهی التنزیهی و الترخیص فی التطبیق ، و أمّا إن کان بنحو الإطلاق الشمولی ، کما لو قال أکرم کلّ عالمٍ ثم قال : لا تکرم النحویین ، فإنّ النهی عن إکرام النحویین و إن کان تنزیهیاً ، لا یجتمع مع الأمر بإکرام العلماء بنحو الشمول ، فیکون داخلاً فی البحث ... فالحق هو القول الأوّل ... إلّا إذا کان النهی التنزیهی إرشاداً إلی قلّة الثواب فی العبادة ، فهو غیر داخلٍ فی البحث ، لأن قلّة الثواب علیها ملازمٌ لصحّتها .

الخامسة :( فی المراد من « العبادة » و« المعاملة » فی عنوان البحث )

ذکر صاحب ( الکفایة ) قدس سره (1) أن المراد بالعبادة هاهنا : ما یکون

ص:128


1- 1) کفایة الاصول : 181 .

بنفسه و بعنوانه عبادةً له تعالی ، موجباً بذاته التقرّب من حضرته لو لا حرمته ، کالسجود و الخضوع و الخشوع له و تسبیحه و تقدیسه . أو : ما لو تعلَّق الأمر به کان أمره أمراً عبادیّاً لا یکاد یسقط إلّا إذا اتی به بنحوٍ قربی کسائر أمثاله ، نحو صوم العیدین و الصّلاة فی أیام العادة .

فهذان معنیان للعبادة فی کلام المحقق الخراسانی . أمّا الأوّل ، فلا إشکال فیه إلّا أنه تضییق لدائرة البحث ، لأنّ العبادة الذاتیة فی الشریعة نادرة جدّاً ، فیکون موضوع البحث منحصراً بما ذکره من السجود و الخضوع ... و أمّا الثانی ، فالمقصود منه ما یقابل التوصّلی ، فیکون المراد من العبادة فی عنوان البحث هو الأعمّ من العبادة الذاتیة و العبادة الشأنیة ، أی ما لو تعلّق الأمر به ... .

ثم إنه تعرّض لتعاریف فقال :

لا ما أمر به لأجل التعبّد به ، و لا ما یتوقف صحّته علی النیّة ، و لا ما لا یعلم انحصار المصلحة فیها فی شیء .

و التعریف الأول للشیخ (1) و الثانی و الثالث للمیرزا القمی (2) .

فأشکل علیها بقوله :

ضرورة أنها بواحدٍ منها لا یکاد یمکن أن یتعلَّق بها النهی ، مع ما أورد علیها بالانتقاض طرداً أو عکساً أو بغیره .

و الحاصل عدم تمامیّة التعریفات المذکورة ، لورود الإشکال علیها بالنقض طرداً أو عکساً أو بالدور کما فی التعریف الأول ، لأخذ « التعبد » فی تعریف « العبادة » .

ص:129


1- 1) مطارح الأنظار : 157 .
2- 2) قوانین الاصول : 154 .

إلّا أنه ذکر أن هذه التعریفات لیست بحدٍّ و لا رسم بل هی من قبیل شرح الاسم ، فلا وجه للإطالة .

و أمّا « المعاملة » ، فقد اختلف المراد منها فی الکتب الفقهیّة ، فقد تطلق فی مقابل العبادة ، فتکون أعم من العقود و الإیقاعات و الأحکام ، لکنّ هذا الاصطلاح غیر مراد هنا ، لعدم تمشّی الصحّة و الفساد فی الأحکام . و قد تطلق فی مقابل العبادة و یراد منها الإنشائیات ، فتعمّ العقود و الإیقاعات . و قد تطلق و یراد منها العقود فقط ، لأنّ « المعاملة » ظاهرة فی اعتبار الطرفین و هو فی العقد دون الإیقاع ... لکن الصّحیح أن یکون المراد هنا هو العقود و الإیقاعات معاً ، لجریان الصحّة و الفساد و وقوع النهی فی کلا القسمین .

السادسة : ( فی المراد من الصحة و الفساد )

ذکر فی ( الکفایة ) (1) : إن الصحّة و الفساد وصفان إضافیّان یختلفان بحسب الآثار و الأنظار ، فربّما یکون شیء واحد صحیحاً بحسب أثر أو نظر و فاسداً بحسب آخر ، و من هنا صحّ أن یقال : إن الصحة فی العبادة و المعاملة لا تختلف بل هما فیهما بمعنی واحد و هو التمامیّة ، و إنما الاختلاف فیما هو المرغوب فیهما من الآثار التی بالقیاس علیها تتصف بالتمامیّة و عدمها ، و هکذا الاختلاف بین الفقیه و المتکلّم فی صحة العبادة ، فلمّا کان غرض الفقیه هو وجوب القضاء أو الإعادة أو عدم الوجوب ، فسّر صحة العبادة بسقوطهما ، و کان غرض المتکلّم هو حصول الامتثال الموجب عقلاً لاستحقاق المثوبة ، فسّرها بما یوافق الأمر تارة و بما یوافق الشریعة اخری .

ثم إنه نبّه علی أنّ الصحّة و الفساد عند المتکلّم وصفان اعتباریان ینتزعان

ص:130


1- 1) کفایة الاصول : 182 .

من مطابقة المأتی به للمأمور به و عدمها ، و أمّا الصحّة - بمعنی سقوط الإعادة و القضاء - عند الفقیه ، فهی من لوازم الإتیان بالمأمور به بالأمر الأوّلی عقلاً ، فالصحّة هذه حکم یستقل به العقل و لیس بمنتزع کما توهّم الشیخ .

و علی الجملة ، حیث أن الأمر فی الشریعة یکون علی أقسامٍ من الواقعی الأوّلی و الثانوی و الظاهریّ ، فإنّ الصحة فی الإتیان بالمأمور به بالأمر الأوّلی الواقعی لیس بحکم وضعی مجعول من قبل الشارع ، أمّا سقوط الإعادة و القضاء فی الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی الثانوی و بالأمر الظاهری ربّما یکون مجعولاً ، فیکون السقوط تخفیفاً و منّةً علی العباد مع ثبوت المقتضی لثبوتها ، کما ربما یحکم بثبوتهما ، فیکون الصحة و الفساد - فی هذا القسمین - حکمین مجعولین لا وصفین انتزاعیین .

هذا فی العبادات .

و أمّا الصحّة فی المعاملات ، فمجعولة ، حیث أنّ ترتب الأثر علی المعاملة إنما هو بجعل الشارع و لو إمضاءً ، إذ لو لا جعله لما ترتب الأثر ، لأصالة الفساد ...

هذا فی کلّی المعاملة . ثم قال : نعم : صحّة کلّ معاملة شخصیّة و فسادها لیس إلّا لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سبباً و عدم انطباقها .

و تلخص :

إن المحقق الخراسانی تعرّض فی هذه المقدّمة لأمرین :

أحدهما : تعریف الصحّة و الفساد ، و أنه لا خلاف فیه بین المتکلّم و الفقیه ، و إنما الاختلاف بحسب الأثر .

و الآخر : إنهما مجعولان أوْ لا ؟ و ملخّص کلامه التفصیل فی العبادات بین الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی و غیره . و فی المعاملات بین الکلیّة و الجزئیّة ، خلافاً لمن قال بأنهما مجعولان مطلقاً ، و من قال بعدم الجعل مطلقاً ، و غیر ذلک .

ص:131

و قال المیرزا رحمه اللّٰه (1) ما حاصله : إنّ الصحّة الظاهریة قابلة للجعل ، أمّا الواقعیة التی هی انطباق المعتبر و الممضی شرعاً علی الفرد و الحصّة من المعاملة ، فهی غیر قابلة للجعل .

و فی ( المحاضرات ) (2) ما حاصله : إن الصحة و الفساد من الامور العارضة علی الموجودات الخارجیة ، أمّا نفس ماهیّة المعاملة فلا تتّصف بهما ، فلا بدّ من التفصیل بین العبادات و المعاملات : بأن یقال بالجعل فی المعاملات دون العبادات ، و السرّ فی ذلک هو أن العبادة متعلَّق الحکم کما فی «فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ » (3)و« صوم الفطر حرام » (4) مثلاً ، و أمّا المعاملة فهی موضوع للحکم و ترتیب الأثر کقوله تعالی «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (5)فالبیع موضوع للنفوذ ، أی کلّما وجد شیء و اتّصف بکونه بیعاً فهو نافذ مؤثر ، و کذا «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (6)و« الصلح جائز » (7) و نحوها . فکانت الصحّة فی المعاملة قابلةً للجعل دون العبادة .

إشکال الأُستاذ

و قد أورد علیه الأُستاذ : بأنّ الوضع للموجود محال ، بل الموضوع له اللفظ هو المعنی المجرّد عن الوجود الذهنی أو الخارجی ، لأن الغرض من وضع اللّفظ هو انتقال المعنی به إلی ذهن السامع ، فإذا کان المعنی موجوداً - و لو ذهناً - لم یقبل الوجود ثانیاً .

ص:132


1- 1) أجود التقریرات 2 / 209 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 142 .
3- 3) سورة البقرة : الآیة 185 .
4- 4) وسائل الشیعة 10 / 514 ، الباب 1 تحریم صوم العیدین ، الرقم : 3 .
5- 5) سورة البقرة : الآیة 275 .
6- 6) سورة المائدة: الآیة 1.
7- 7) وسائل الشیعة 18 / 443 ، الباب 3 : إن الصّلح جائز بین الناس .

علی أن الالتزام بالقول المذکور یستلزم سقوط البحث عن وضع ألفاظ المعاملات و العبادات للصّحیح أو الأعمّ .

و أیضاً : لازمه الالتزام بکون وضع الألفاظ فی العبادات و المعاملات من قبیل الموضوع له الخاص أی الصحیح ، لأنَّ الموضوع له الصحیح الجزئی هو الموجود ، لکنْ الموضوع له الخاص - و إنْ کان هو الجزئی - إلّا أنه لیس الجزئی بوصف الوجود ، لأن الجزئی هو الماهیة ، و هی قد تکون موجودةً و قد تکون غیر موجودة .

فالصحیح ما ذهب إلیه المیرزا و غیره من التفصیل بین الصحة الظاهریة و الواقعیة .

السابعة :( فی الأصل فی المسألة لو شک فی دلالة النهی علی الفساد )

تارةً : نبحث عن مقتضی الأصل فی المسألة الاصولیّة ، و اخری : عن مقتضی الاصل فی المسألة الفرعیّة . هذا فی المعاملة . و أمّا فی العبادة ، فالأصل هو الفساد لعدم الأمر بها مع النهی عنها .

قالوا : لا أصل یعوّل علیه فی المسألة الاصولیة ، لأنّ البحث إن کان عقلیاً ، فهو یعود إلی وجود الملازمة بین النهی و الفساد و عدم وجودها ، لکن الملازمة وجوداً و عدماً أزلیّة ، و لا حالة سابقة حتی تستصحب ... و إن کان لفظیاً ، فیعود إلی دلالة النهی التزاماً علی الفساد و عدم دلالته ، و الدلالة الالتزامیة فرع للملازمة بین الأمرین ، و هی وجوداً و عدماً أزلیة و لا حالة سابقة .

قال الأُستاذ : لکن الحق هو التفصیل ، فقد یقال بأنّ النهی فی المعاملة إرشاد إلی الفساد و أنه ظاهر فی ذلک ، و علی هذا ، فللأصل مجال ، لأنَّ ظهور اللّفظ فی المعنی تابع للوضع و هو من الامور الحادثة المسبوقة بالعدم ، فمع الشک یستصحب العدم .

ص:133

و علی الجملة ، فإنه علی القول بکون النهی فی المعاملة ظاهراً فی الفساد ، فمع الشک یکون المرجع هو الأصل ، اللهم إلّا أن لا یجری الأصل لعدم الأثر ، و هذا أمر آخر ... فما ذهب إلیه المحقق الأصفهانی من عدم الأصل حتی علی مبنی ظهور النهی فی الإرشاد إلی الفساد ، فی غیر محلّه (1) .

و أمّا فی المسألة الفرعیّة ، فقد أفاد المیرزا (2) أنّ الأصل فی المعاملة هو الفساد ، لأنه مع الشک فی صحة المعاملة یشکّ فی ترتّب الأثر علیها ، و حینئذٍ فالأصل بقاء کلٍّ من العوضین علی ملک مالکه . و أمّا فی العبادات ، فإنّ الأصل الجاری فیها لدی الشک فی الصحة هو قاعدة الاشتغال ، إلّا فی موارد الأصل الثانوی کقاعدة الفراغ مثلاً ، کما أنه یمکن وجود القاعدة الثانویة المقتضیة للصحة فی المعاملة کذلک ، کأصالة الصحة فی عمل الغیر ... هذا فی الشبهة الموضوعیّة .

و أمّا فی الشبهات الحکمیة الکلیّة فی المعاملات فقد قالوا بأصالة الفساد .

قال الأُستاذ : جریان هذا الاستدلال منوط بعدم کون الشک فی المورد من قبیل الشک بین السبب و المسبب . مثلاً : لو شک فی أنه هل الفصل الطویل بین الإیجاب و القبول مبطل للصیغة أو لا ؟ فقد یقال برجوعه إلی الشک فی اعتبار الاتصال ، و مع جریان البراءة من اعتباره تصحّ المعاملة و یرتب علیها الأثر ...

لحکومة البراءة عن شرطیة الاتصال علی أصالة الفساد فی المعاملة ، فتأمّل .

ثم إن المحقق الإیروانی علَّق علی کلام ( الکفایة ) هنا بما حاصله (3) : إنما یحتاج إلی الأصل العملی حیث لم یتّضح دلالة النهی علی الفساد ، فیحتمل الصحة و احتمالها احتمالٌ لوجود الأمر مع الشک فی مانعیّة النهی ، و حینئذٍ یحکّم

ص:134


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 391 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 212 .
3- 3) نهایة النهایة 1 / 246 - 247 .

إطلاق الأمر .

لکن فیه : إنه یناقض کلامه فی أوّل مبحث اجتماع الأمر و النهی إذ قال : ما له معنیً محصّل هو أن للأمر دلالةً علی عدم النهی و للنهی دلالة علی عدم الأمر .

فیقال له : لا ریب فی تعلُّق النهی بالعمل و معه فلا أمر کما ذکر حتی یتمسّک بإطلاقه ؟

علی أنّ صاحب ( الکفایة ) یری التضادّ بین الأحکام الخمسة ، فمع وجود النهی یستحیل وجود الأمر ، فأین الأمر حتی یتمسّک بإطلاقه ؟

أمّا فی العبادات ، فقد أفاد المیرزا : بأنْ الرجوع إلی الأصل یبتنی علی الخلاف فی جریان الأصل فی موارد الشک بین الأقل و الأکثر ، فعلی القول بالبراءة تکون العبادة صحیحة ، و هی فاسدة علی القول بالاشتغال .

و أشکل علیه الأُستاذ : بأنْ مقتضی القاعدة هو الفساد مطلقاً ، لأنه مع وجود النهی لا أمر حتی یقصد ، و أمّا الصحّة بقصد الملاک فموقوفة علی إحرازه و هو فی مثل ما نحن فیه أوّل الکلام .

و أمّا المحقق الأصفهانی (1) فملخّص ما أفاده فی المقام :

أمّا فی المسألة الاصولیة ، فلا أصل یعوّل علیه ، لأنّ الصحّة إن کانت عبارةً عن موافقة الأمر ، فالمفروض عدم الأمر ، و إنْ کانت مطابقة المأتی به للمأمور به فی الملاک ، فالمفروض واجدیة العمل لجمیع الأجزاء و الشرائط ، فالمطابقة حاصلة فلا شک حتی یرجع إلی الأصل .

و أمّا فی المسألة الفرعیة ، فقد بنی المسألة علی الخلاف فی أنّ اقتضاء النهی عقلی أو لفظی ، فعلی القول الأول یکون الأصل هو الفساد ، إذْ کونها عقلیة معناه

ص:135


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 391 .

ملازمة النهی لمبغوضیة العمل ، و إذا کان مبغوضاً فالعمل فاسد بلا کلام ، و إلّا فلا ... و مع الشک فی عدم المبغوضیة لا یکون صالحاً للمقربیة ، فهو فاسد . أمّا علی القول الثانی ، بأنْ یکون البحث فی الدلالة اللفظیة للنهی و أنه إرشاد إلی المانعیّة أو لا ؟ فإن الشک یرجع إلی وجود المانع و الأصل عدمه .

إشکال الأُستاذ

و ناقشه الأُستاذ : بأنّه لو لا وجود الحزازة أو النقص فی العبادة لما تعلَّق بها النهی ، فصلاة الحائض فیها نقص و إلّا فلما ذا النهی ؟ و مع الحزازة و النقص کیف تکون واجدةً لملاک صلاة غیر الحائض ؟ فدعوی موافقة المأتی به للمأمور به غیر واضحة ... هذا فی المسألة الاصولیة .

و أمّا ما ذکره فی المسألة الفرعیة ، فصحیح بناءً علی کونها عقلیّة ، لأنّه مع احتمال المبغوضیة یشکُّ فی المقربیّة ، و النتیجة هی الفساد . و أمّا بناءً علی کونها لفظیّة ، فما ذکره هو - و غیره من الأعلام - مخدوش ، لأن أرکان الاستصحاب مع الشک فی ظهور النهی فی المانعیة تامّة ، لأن ظهور الألفاظ فی معانیها من الامور الحادثة المسبوقة بالعدم ، أمّا العدم الأزلی فواضح ، و أمّا النعتی ، فلأنّ ظهور اللفظ فی المعنی لیس ممّا لا ینفک عن المعنی بل هو وصف متأخر عن وجود اللفظ ، فالأرکان تامة . و یبقی الکلام فی أثر هذا الاستصحاب ، فقد تقرّر عندهم أن المستصحب إمّا یکون حکماً شرعیاً أو موضوعاً لحکم شرعی ، لکنّ التحقیق عدم انحصار الأثر فی ذلک ، فقد یکون الاستصحاب مثبتاً للحکم الشرعی أو موضوعه أو یکون نافیاً له ، و الحکم الشرعی الذی یجری فیه الاستصحاب أعم من الفرعی کالوجوب و الحرمة و الأصولی کالحجیّة ، و فیما نحن فیه : الظهور موضوع للحجیّة الشرعیة ، فیجری الاستصحاب فیه لإثبات هذا الأثر أو نفیه .

ص:136

لکنْ یبقی إشکال آخر و هو لغویّة هذا الاستصحاب ، لأن مجرّد الشک فی الظهور کافٍ لعدمه ، و إذ لا ظهور فلا حجیّة .

و یمکن الجواب عنه : بأنْ فائدة هذا الاستصحاب هو نفی الملازمة العقلیة بین النهی و الفساد ، و علی الجملة ، فإن أثر هذا الاستصحاب هو رفع موضوع الأصل العقلی ، لأنّ کلّ أصل عقلیّ فإن جریانه معلّق علی عدم وجود تعبّد شرعی فی موضوعه نفیاً أو إثباتاً .

و أمّا التمسّک بالأصل لرفع المانعیة ، فإن کان المقصود التمسک بالبراءة ففیه : إنها إنما تجری فی موارد الشک فی المانعیة ، حیث یکون الأقل متیقّناً و یشک فی اعتبار شیء زائداً علیه ، کما فی الشک فی أجزاء الصلاة مثلاً ، و أمّا النهی فی العبادة الذی هو إرشادٌ إلی المانعیّة فلا یبقی معه أمرٌ بها ، فکیف تجری البراءة ؟ و إنْ کان المقصود هو التمسّک بالأصل اللفظی - کما هو ظاهر کلامه - ففیه : إنّه لیس هنا إلّا الإطلاق ، و التمسک به علی مبنی المحقق الخراسانی غیر تام ، لأنه یری التضادّ بین الأحکام أنفسها ، و أمّا علی مبنی المحقق الأصفهانی - و هو التضاد بینها فی المبدإ و المنتهی - فلا ریب فی وقوعه فی المنتهی و هو مرحلة الامتثال ، لأنّ النهی یقتضی انزجار المکلّف و الأمر یقتضی انبعاثه ، و کون المکلّف منزجراً و منبعثاً محال ، فشمول إطلاق الأمر لمثل المقام محال . هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه إن کان النهی إرشاداً إلی المانعیّة ، کان الحاصل تقیّد الأمر بالصّلاة بعدم الحیض مثلاً ، و إن لم یکن فالإطلاق علی حاله ، و مع الشک فی کونه إرشاداً یتحقّق الشک فی وجود الأمر بها - و المفروض وجود النهی ، و إذا احتمل الأمر احتمل اجتماع الضدّین ، و اجتماعهما احتمالاً محال کاجتماعهما واقعاً ، فسقط التمسک بالإطلاق .

ص:137

رأی الأُستاذ فی هذه المقدّمة

هذا ، و یظهر المختار فی المقام ممّا تقدّم فی الکلام علی آراء الأعلام ، و حاصل ذلک فی المسألة الاصولیة هو ضرورة التفصیل ، فعلی القول بکون البحث عقلیاً ، فلا أصل ، و علی القول بکونه لفظیّاً ، فإنْ کان من جهة الدلالة الالتزامیة ، فالتمسّک به مشکل و إن کان لا یخلو عن وجه ، و إن کان من جهة الإرشاد إلی المانعیة ، فأرکان الاستصحاب تامة .

و أمّا فی المسألة الفرعیة .

أمّا فی المعاملات ، فمقتضی الأصل هو الفساد مطلقاً .

و أمّا فی العبادات ، فالفساد - سواء قلنا بکون المسألة عقلیّة أو لفظیة - لأنه لا أمر مع وجود النهی ، و لا أصل محرز للصحّة لا لفظاً و لا عقلاً .

الثامنة( فی أقسام متعلَّق النهی )

قد قسّمنا النهی سابقاً إلی أقسام و ذکرنا أن أیّ قسمٍ منها داخل فی البحث .

و هنا نذکر أقسام متعلَّق النهی .

قال فی الکفایة : إن متعلَّق النهی ، إمّا أنْ یکون نفس العبادة أو جزأها أو شرطها الخارج أو وصفها الملازم لها کالجهر و الإخفات للقراءة أو وصفها غیر الملازم کالغصبیة لأکوان الصلاة المنفکّة عنها (1) .

توضیحه :

تارةً : یتعلَّق النهی بنفس العبادة بذاتها . و اخری لا بذاتها ، فإنّ النهی عن صلاة الحائض قد یکون نهیاً عن ذات هذه الصلاة ، و قد یکون نهیاً عنها فیما إذا جیء بها قربةً إلی اللّٰه فهو تشریع .

ص:138


1- 1) کفایة الاصول : 184 .

و مثال النهی عن الجزء هو النهی عن قراءة العزائم فی الصلاة .

و مثال النهی عن شرط خارج عن العبادة ، النهی عن تطهیر الثوب بالماء المغصوب .

و النهی عن الوصف یکون علی نحوین و سیذکر فیما بعد انقسام النهی المتعلَّق بجزء العبادة أو شرطها إلی ما یکون بنحو الواسطة فی العروض و ما یکون بنحو الواسطة فی الثبوت .

( قال ) : و مما ذکرنا فی بیان أقسام النهی فی العبادة یظهر حال الأقسام فی المعاملة .

الإشکالات علی الکفایة

و أشکل المحققان الأصفهانی و الإیروانی (1) : بأنْ الجزء و الشرط و الوصف إن کان عبادةً فلا فرق بینه و بین الصّلاة ، فالتقسیم بهذه الصورة بلا فائدة ، و لو قیل بأنّ فائدته من جهة أنه هل إذا فَسَد الجزء أو الشرط أو الوصف فالصّلاة باطلة أو لا ، فإنّ هذا بحثٌ آخر لا علاقة له بمسألة تعلُّق النهی بالعبادة .

و کذا الإشکال فیما ذکره من انقسام النهی عن الجزء أو الشرط إلی ما یکون بنحو الواسطة فی العروض أو الثبوت ، لأنّ المنهی عنه حقیقة ، إنْ کان العبادة بنفسها ، فهذا هو موضوع المسألة ، و إنْ کان هو الجزء أو الشرط - و کان تعلّقه بالعبادة مسامحةً - عاد الکلام السابق بأنّه إن کان الجزء أو الشرط عبادةً فهو داخل فی موضوع البحث ، و إنْ لم یکن عبادة فلا وجه للبحث عنه .

و هذا هو الإشکال الأول .

و أشکل المحقق الأصفهانی ثانیاً فی قول ( الکفایة ) : بأنّ النهی عن الجزء

ص:139


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 293 ، نهایة النهایة 1 / 247 .

یوجب فساده و لا یوجب فساد العبادة ، فقال : لا دلیل علی کون جزء العبادة عبادةً ، لأنّ العبادة إن کانت ما له حسنٌ ذاتی ، فقد لا یکون لجزء العبادة حسن ذاتی مع کون المرکّب منه و من غیره عبادةً لها حسن ذاتی . و إنْ کانت ما امر بها بأمرٍ لا یسقط إلّا بالإتیان بالعمل بقصد القربة - بخلاف التوصّلی - فقد یکون الأمر المتعلّق بالجزء - بما هو جزء - غیر عبادی بل المتعلّق بالمرکب لا یسقط إلّا بوجهٍ قربی ... .

و علی الجملة ، فقد لا یکون جزء العبادة عبادة ، فلا یتمُّ کلام ( الکفایة ) .

الإشکال الثالث : ما أورده بعض أهل النظر ، و حاصله بطلان تقسیم الوصف إلی القسمین المذکورین ، لأنّه کما لا ینفک القراءة عن الجهر و الإخفات ، کذلک لا تنفک عن الإباحة أو الغصبیّة فی المکان .

الإشکال الرابع : ما أورده المحقق الإیروانی ، و حاصله بطلان جمع ( الکفایة ) بین « الغصب » و« الصلاة » ، لأنه قد جعل « الغصب » وصفاً للصّلاة ، فهو مغایرٌ لها ، و الاتحاد بین الوصف و الموصوف محالٌ ، فقوله باجتماع الغصب و الصّلاة جمع بین الضدّین .

دفاع الأُستاذ عن الکفایة

و أجاب شیخنا عن هذه الإشکالات :

أمّا الأوّل ، فإن تقسیم ( الکفایة ) کذلک لیس بلا أثر ، لأنّ تعلّق النهی بجزء العبادة أو شرطها أو وصفها مفسدٌ أو لا ، هو ممّا وقع فیه الخلاف ، فالمحقق النائینی یقول باقتضاء النهی عن الجزء لفساد العبادة خلافاً للکفایة . و أیضاً ، فإنّ النهی عن الوصف الملازم أو المفارق فی صورة الاتحاد الوجودی ، یسری إلی العبادة أو لا یسری ؟ فصاحب ( الکفایة ) یری السرایة ، و فی ذلک بحثٌ .

ص:140

إذنْ ، لیس ذکر هذه التقسیمات فی المقام بلا أثر .

و أمّا الثانی ففیه : إنّ هذا الکلام إنما یتم لو کان للمرکب وجود غیر وجود الأجزاء کما فی المرکبات الحقیقیّة ، لکنّ المرکب الاعتباری - کالصّلاة - لیس إلّا نفس الأجزاء من التکبیر و القیام و الرکوع و السجود ، و علی هذا ، فإنْ کانت العبادة ما له حسن ذاتی ، فإنْ هذا المرکب حسن ذاتاً ، و لو کان بعض أجزائه لیس عبادةً لم یتّصف بالحسن ، لأن المرکب من الحسن و غیر الحسن یستحیل أن یکون حسناً بذاته . و إن کانت العبادة ما لا یسقط الأمر به إلّا بالإتیان به بقصد القربة ، فإن المرکّب لیس له إلّا أمر واحد لا عدّة أوامر بعدد الأجزاء ، و قد ذکر المحقق الأصفهانی فی مبحث الاشتغال أنّ الأمر المتعلّق بالمرکّب واحد بالوحدة الحقیقیّة و بسیط بالبساطة الحقیقیة ، غیر أنّ المتعلَّق مرکَّب ، و علی ذلک یقال له : کیف یکون البسیط توصّلیاً و تعبدیّاً معاً ؟

و أمّا الثالث ففیه : إنْ وجه التفریق بین الغصب و الجهر و الإخفات هو تعلّق النهی فی الجهر و الإخفات بنفس الوصف ، قال تعالی «وَلٰا تَجْهَرْ بِصَلٰاتِکَ وَلٰا تُخٰافِتْ بِهٰا » (1)و فی الخبر : « رجل جهر فیما لا ینبغی الإجهارُ فیه ... » (2) فکان الوصف لازماً للقراءة غیر منفک عنه . أمّا فی الغصب ، فإن المتعلَّق للنهی هو الغصب لا الغصب فی الصّلاة ، فکان وصفاً مفارقاً ، و بهذا السبب قسّم فی ( الکفایة ) الوصف إلی القسمین ... و الإشکال مندفع .

و أمّا الرابع ، فالجواب : إن الوصف علی قسمین ، فهو تارةً : ینضمّ إلی الموصوف کما فی البیاض بالنسبة إلی الجدار ، و لا اتّحاد فی هذا القسم بین

ص:141


1- 1) سورة الإسراء : الآیة 110 .
2- 2) وسائل الشیعة 6 / 86 ، الباب 26 ، الرقم : 2 .

الوصف و الموصوف ، و اخری : هو وصف انتزاعی کما فی الفوقیة و التحتیة مثلاً ، فإنّ الاتحاد ثابت بینه و بین الموصوف ، إذ لیس الفوقیة منضمّة إلی السقف بل هی مفهوم متّحد معه وجوداً ... و الغصبیة من هذا القبیل ، لأنها عنوان منتزع من التصرف فی مال الغیر بلا إذنٍ منه . فمنشأ الإشکال هو الخلط بین القسمین من الوصف .

الإشکال الوارد علی الکفایة

و أورد المحققان - الأصفهانی و الإیروانی - علی ما ذکره صاحب ( الکفایة ) فی الوصف الملازم بما حاصله : لو کان الجهر بالقراءة غیر القراءة ، بمعنی أن یکون هذا الکیف المسموع ذا مراتب ، کما هو الحال فی النور مثلاً ، فیکون القراءة الجهریّة هی المرتبة الشدیدة من القراءة ، لکان بحثاً آخر . لکنَّ المحقق الخراسانی یری أنَّ الجهر وصف للقراءة ، فلکلٍّ منهما وجود إلّا أن بینهما ملازمةً ، هذا من جهة . و من جهةٍ اخری : فإنّه یری اشتراط أنْ لا یختلف المتلازمان فی الحکم و إنْ لم یقم دلیلٌ علی ضرورة اتحادهما فیه ، و علی ما تقدَّم ، فإنّ قوله هنا بسرایة النهی من اللّازم إلی الملزوم مردود و مخالف لمسلکه .

و علی الجملة ، فإنّ مفاد کلام ( الکفایة ) هنا إثبات بطلان العبادة بسبب ورود النهی عن الوصف الملازم ، و هذا یتوقّف علی رفع الید عمّا ذکرناه عنه من المبنی .

قال شیخنا : و هذا الإشکال وارد علی ( الکفایة ) .

هذا تمام الکلام علی المقدّمات .

و یقع البحث فی مقامین :
اشارة

ص:142

[المقام] الأول : فی النهی عن العبادة

هل النهی عن العبادة یقتضی الفساد أو لا ؟ قولان .

دلیل القول بالفساد : إنه یعتبر فی العبادة قصد القربة ، أمّا علی القول باعتبار قصد الأمر - کما علیه صاحب ( الجواهر ) قدس سرّه - فمع النهی لا یوجد الأمر لضرورة التضادّ بین الأمر و النهی ، فالعبادیّة منتفیة . و أمّا علی القول بکفایة قصد الملاک - کما هو المختار - فتارةً : یکون ملاک العبادة مزاحماً بملاکٍ أهم ، فیوجب سقوط الأمر أو تحقق النهی التبعی ، و فی هذه الحالة یمکن التقرّب قصده ، لأن المفروض عدم وجود أیّ نقصٍ فی ملاک الصّلاة ، فإن قلنا بأنّ الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضدّه ، فلا اقتضاء للأمر بالإزالة للنهی عن الصّلاة ، فنحن فی راحة ، و إنْ قلنا بالاقتضاء فقولان ، لأن المشهور أنّ النهی عنها فی المثال تبعیٌّ ناشئ عن المزاحمة ، و مثل هذا النهی لا ینافی قصد القربة بملاک الأمر ، فنحن فی راحةٍ کذلک ، لکن المختار عند الأُستاذ أنه بناءً علی الاقتضاء یکون النهی التبعی أیضاً رافعاً لصلاحیّة العمل للتقرّب ، إذْ لا یفرق فی کونه منهیّاً عنه بین النهی التبعی و غیره .

لکنّ المهمّ فی المقام : أنّ النهی عن العبادة - کالنهی عن صلاة الحائض - لیس نهیاً عرضیاً ناشئاً من المزاحمة ، بل هو ناشئ عن المفسدة فی نفس العمل ، و مثل هذا الملاک المبتلیٰ بمفسدةٍ ملزمة ، غیر صالح للتقرّب به بحکم العقل ، فیکون العمل باطلاً بناءً کفایة قصد الملاک کذلک .

قول المحقق العراقی بعدم الفساد

و ذهب المحقق العراقی إلی عدم اقتضاء النهی المولوی التحریمی المتعلّق

ص:143

بالعبادة لفسادها (1) قال : إلّا من جهة قضیة الإخلال بالقربة الموقوفة علی العلم به ، و إلّا فمن جهة فقدانها للملاک و المصلحة لا دلالة علیه بوجهٍ من الوجوه ، لأن غایة ما یقتضیه النهی المزبور بما أنه نهی مولوی تحریمی إنما هو الدلالة علی قیام المفسدة فی متعلّقه ، و أمّا الدلالة علی عدم وجود ملاک الأمر و المصلحة فیه و لو من جهةٍ اخری فلا . نعم ، مع الشک فی الملاک کان مقتضی الأصل هو الفساد ، و لکنه غیر مرتبط باقتضاء النهی المولوی لذلک .

و حاصل کلامه : إن المنشأ لفساد العبادة منحصرٌ بأمرین ، فإمّا هو عدم الملاک ، و إمّا عدم تمشّی قصد القربة بالعبادة مع وجود النهی عنها ، و من الواضح اعتبار قصد القربة فیها إمّا جزءاً أو شرطاً ، فإذا انتفی انتفی الکلّ أو المشروط .

لکنّ النهی لا دلالة له علی عدم الملاک ، لأن غایة مدلوله وجود المفسدة فی العمل ، أما الدلالة علی عدم المصلحة فلا ، لعدم التضاد بین المصلحة و المفسدة ، بل التضاد هو بین المحبوبیّة و المبغوضیّة ، و علی هذا ، یمکن اجتماع المصلحة و المفسدة فی الشیء الواحد ، کما فی استعمال الدواء لعلاج مرضٍ ، فإنّه « لیس مِنْ دواء إلّا و یُهیّجُ داءً » کما فی الخبر (2) .

و أمّا قضیّة قصد القربة ، فإنّه یتمشّی مع وجود النهی فی حال جهل المکلّف بالنّهی و إنْ کان موجوداً فی الواقع .

الجواب

و الجواب عمّا ذکره :

أمّا فی القسم الأول من کلامه و هو کون العمل ذا مصلحة مع تعلّق النهی به .

ص:144


1- 1) نهایة الافکار ج (1 - 2) 456 .
2- 2) وسائل الشیعة 2 / 408 ، الباب 4 ، الرقم : 1 .

ففیه : إن مجرّد وجود المصلحة فی العمل غیر کافٍ لصلاحیته للمقربیّة ، لحکم العقل - و هو الحاکم فی باب المقربیّة و المبعّدیة - بأنها إنّما تصلح للمقربیّة فی حال کونها غرضاً للمولی ، بأنْ تکون منشأً لأمره بالعمل أو یتعلّق بها غرضه ، و إلّا ، فإن مجرّد واجدیّة العمل للمصلحة لا تصیّره مقرّباً من العمل . هذه هی الکبری . و فی مقامنا : لا شکّ فی أنه مع وجود النهی التحریمی عن العمل تکون المصلحة الموجودة فیه ساقطة عن کونها غرضاً للمولی ، بل یکون النهی کاشفاً عن وصول المفسدة إلی حدّ الغرضیة ، فیکون غرضه هو الانزجار عنه لا الانبعاث إلیه ... .

و الحاصل : إنه مع تسلیم ما ذکره من عدم المنافاة بین المصلحة و النهی نقول : عند ما یقوم النهی عن العمل تکون الفعلیة للمفسدة ، و المصلحة من حیث الغرض علی حدّ الشأنیة ، و إذا وصلت المفسدة إلی الفعلیة کان غرض المولی هو الانزجار عن العمل المنهی عنه ، و ما یکون کذلک فلا یصلح للمقربیّة .

و أمّا فی القسم الثانی من کلامه ، و هو تمشی قصد القربة من المکلَّف مع جهله بالنهی ، فیتّضح ما فیه مما ذکرناه فی القسم الأوّل ، لأنّ مجرّد قصد القربة و تمشّیه غیر کافٍ ، بل لا بدّ قبل ذلک من صلاحیة العمل للمقربیّة ، و العمل الذی تعلَّق به النهی و کان الانزجار عنه هو الغرض من المولی ، غیر صالح للمقربیّة ، فلا یکون عبادةً ، إذ کیف یکون عبادةً و هو مبغوض فعلاً و إن کان محبوباً فی عالم الشأنیة ؟

و علی هذا الأساس نقول ببطلان العبادة فی باب اجتماع الأمر و النهی بناءً علی الامتناع ، و أنّ الجهل بالنهی لا یکون مناطاً للصحّة ، لأنه قد قصد التقرب إلی المولی بما هو مبغوض عنده ، غایة الأمر یکون معذوراً بسبب الجهل ، نظیر ما إذا قتل ابن المولی بقصد القربة إلیه جاهلاً بکونه ابنه و زاعماً أنه عدوّ له ، فإنّ العمل مبغوض للمولی و إن کان ذا حسنٍ فاعلی .

ص:145

قول المحقق الحائری بعدم الفساد

قال رحمه اللّٰه : الحق أنه لا یقتضی الفساد . أمّا فی العبادات ، فلأن ما یتوهّم کونه مانعاً عن الصحّة کون العمل مبغوضاً ، فلا یحصل القرب المعتبر فی العبادات به . ( قال ) و فیه : إنه من الممکن أن یکون العمل المشتمل علی الخصوصیة موجباً للقرب من حیث ذات العمل ، و إنْ کان إیجاده فی تلک الخصوصیة مبغوضاً للمولی . و بعبارة اخری : فکما أنّا قلنا فی مسألة اجتماع الأمر و النهی بإمکان أنْ یتّحد العنوان المبغوض مع العنوان المقرب ، کذلک هنا من دون تفاوت ، فإن أصل الصّلاة شیء و خصوصیّة إیقاعها فی مکان مخصوصٍ - مثلاً - شیء آخر مفهوماً و إن کانا متحدین فی الخارج . نعم ، لو تعلّق النهی بنفس المقیَّد - و هی الصّلاة المخصوصة - فلازمه الفساد ، من جهة عدم امکان کون الطبیعة من دون تقیید ذات مصلحةٍ توجب المطلوبیة ، و الطبیعة المقیدة بقید خاص ذات مفسدة توجب المبغوضیّة .

و الحاصل : إنه کلّما تعلّق النهی بأمر آخر یتّحد مع الطبیعة المأمور بها ، فالصحة و الفساد یبتنیان علی کفایة تعدد الجهة فی تعدّد الأمر و النهی و لوازمها من القرب و البعد و الإطاعة و العصیان و المثوبة و العقوبة ، و حیث اخترنا کفایة تعدّد الجهة فی ذلک ، فالحق فی المقام الصحة . هذا کلامه فی المتن (1) .

و قد علّق فی الحاشیة علی ما ذکره فی حاصل المقام بقوله :

فیه : إن الجهتین المتغایرتین مفهوماً المتّحدین وجوداً فی باب الاجتماع کان اتحادهما مصحّحاً للحمل ، فلهذا وقع اجتماع الأمر و النهی فی مورد تصادقهما محلّاً للنزاع المتقدم . و أمّا إذا کان أحد المفهومین منطبقاً علی ذات

ص:146


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 187 .

الفعل و الآخر کان من قبیل الخصوصیّة ، فمن الواضح عدم صحة حمل أحدهما علی الآخر ، و إنْ کان الحدّ الواحد من الوجود محیطاً بکلیهما ، فالقائل بالامتناع فی الفرض الأول لا یلزم أن یقول به فی الثانی لعدم الاتحاد الحملی . نعم ، حیث أن المتخصّص و الخصوصیّة متلازمان فی الوجود لا یمکن اختلافهما فی الحکم ، بأنْ یتعلق الأمر بالذات مثلاً و النهی بالخصوصیّة ، بناءً علی ما هو المفروض من سرایة الأمر من الطبیعة إلی الأفراد ، فلا بدّ من تقیید الأمر بغیر هذا المورد ، و لکن هذا لا یوجب فساد العبادة ، لقیام الملاک فی ذات الفعل ، فیکون الفاعل متقرّباً بنفس فعل الصّلاة مثلاً و مسخوطاً علیه لوصف کینونته فی الحمام .

فتحصّل مما ذکرنا هنا و ما ذکرنا فی المتن أنه متی تعلّق النهی بالخصوصیّة ، فالحق ، صحّة العبادة حتی علی القول بالامتناع فی المسألة السابقة ، و متی تعلّق بالخاص البطلان حتی علی القول بالجواز هناک .

و توضیح إشکاله علی المتن هو : وجود الفرق بین محلّ الکلام و مسألة اجتماع الأمر و النهی ، لأنَّ متعلَّقی الأمر و النهی هناک - و هما الصّلاة و الغصب - متّحدان فی الوجود ، و إن کانا متغایرین مفهوماً ، و لذا یحمل أحدهما علی الآخر فیقال : هذه الصّلاة تصرّف فی مال الغیر ، بخلاف مسألتنا هذه ، فإنّه لا اتحاد بینهما من جهة الحمل ، فهما متغایران مفهوماً ، إذ الصّلاة غیر الکینونة فی الحمام و لا یصح حمل أحدهما علی الآخر ... فهذا الفرق موجودٌ ، لکنّ المبنی - و هو صحّة الصلاة فی کلتا المسألتین - واحد ، أمّا هناک فلکفایة تعدد الجهة ، و أمّا هنا ، فلأن المفروض تعلّق النهی بالخصوصیّة و هو الکینونة فی الحمام ، و هو لا یتعدّی إلی المتخصّص أی الصّلاة ، فیکون الملاک فی الصّلاة محفوظاً و الأمر به باقیاً ، فهو علی محبوبیّته و إن کانت الخصوصیة مبغوضةً ، فلا وجه لبطلانها .

ص:147

الجواب

إنه لا یخفی الاضطراب فی کلام هذا المحقق ، فهو یقول بأنّ المتخصّص و الخصوصیّة لهما حدّ واحدٌ من الوجود ، و بعد فاصلٍ قلیل یقول : نعم حیث أن المتخصّص و الخصوصیة متلازمان فی الوجود . فإنّ هذا یستلزم تعدّد وجودهما ، لأن النسبة اللزومیّة بین شیئین لا یتحقق إلّا بوجودهما ، و لا یعقل اتحادهما فی الوجود لکون النسبة بینهما نسبة العلّة إلی المعلول ... .

و مع غضّ النظر عن ذلک نقول : إنّ البحث فی المسألة هو عن تعلّق النهی بالعبادة ، لا تعلّقه بلازمها ، فجعل خصوصیّة الکینونة فی الحمام من لوازم الصّلاة خلف لفرض البحث ، و إن کانت موجودةً مع الصّلاة ، فمن المستحیل أن یکون الوجود الواحد محبوباً و مبغوضاً آنٍ واحدٍ ، بأنْ یکون ذا مصلحةٍ فعلیّةٍ و مفسدةٍ فعلیّةٍ معاً .

و مما ذکرنا ظهر ما فی کلامه أخیراً من أن الصّلاة محبوبة و لکنّ کینونتها فی الحمّام مبغوض . ففیه : إن طبیعة الصّلاة لیست غیر الکینونة فی الحمام ، لکونها کذلک حصّة من الصّلاة ، فهما موجودان بوجود واحد ، و وجودها کذلک عین وجود الطبیعة ، و حینئذٍ ، لا یعقل مع تعلّق النهی بوجود الصّلاة فی الحمام أنّ تکون الصّلاة هذه صالحةً للتقرّب . و الطبیعة بما هی لا تصلح للمقربیّة ، لعدم ترتب الأثر علی الطبیعة ما لم یتحقق خارجاً فی حصّةٍ من حصصها .

لو تعلّق النهی بجزء العبادة

و من الصور التی ذکرها المحقق الخراسانی فی المسألة : تعلّق النهی بجزء من أجزاء العبادة ، کالنهی عن قراءة العزائم فی الصّلاة ، فهل یقتضی فساد الجزء أو العبادة ؟

قال فی ( الکفایة ) بالأول ، و قال المیرزا بالثانی .

ص:148

دلیل المیرزا علی فساد العبادة

و استدل المیرزا رحمه اللّٰه لدعواه بما حاصله (1) : إن جزء العبادة إمّا أن یؤخذ فیه عدد خاص ، کالوحدة المعتبرة فی السورة بناءً علی حرمة القِران ، و إمّا أن لا یؤخذ ذلک . أمّا الأوّل : فالنهی المتعلّق به یقتضی فساد العبادة ، لأن الآتی به فی ضمنها ، إمّا أن یقتصر علیه فیها أو یأتی بعده بما هو غیر منهی عنه ، و علی کلا التقدیرین ، لا ینبغی الإشکال فی بطلان العبادة المشتملة علیه ، لأن الجزء المنهی عنه یکون خارجاً عن إطلاق دلیل الجزئیة أو عمومه ، فیکون وجوده کعدمه ، فإنّ اقتصر المکلّف علیه فی مقام الامتثال بطلت العبادة لفقدها للجزء ، و إن لم یقتصر علیه بطلت ، من جهة الاخلال بالوحدة المعتبرة فی الجزء کما هو الفرض . و من هنا تبطل صلاة من قرأ احدی العزائم فی الفریضة ، سواء اقتصر علیها أم لم یقتصر ، لأن قراءتها تستلزم الإخلال بالفریضة من جهة ترک السورة أو لزوم القِران ، بل لو بنینا علی جواز القران لفسدت الصّلاة فی الفرض أیضاً ، لأن دلیل الحرمة قد خصص دلیل الجواز بغیر الفرد المنهی عنه ، فیحرم القِران بالإضافة إلیه . هذا مضافاً إلی أن تحریم الجزء یستلزم أخذ العبادة بالإضافة إلیه بشرط لا ... فالعبادة المذکورة تبطل من جهات :

1 - کونها مقیدةً بعدم ذلک المنهی عنه ، فیکون وجوده مانعاً عن صحتها ، و ذلک یستلزم بطلانها عند اقترانها بوجوده .

2 - کونه زیادة فی الفریضة ، فتبطل الصلاة بسبب الزیادة العمدیة المعتبر عدمها فی صحّتها .

3 - کون هذه الزیادة من مصادیق التکلّم العمدی ، إذ الخارج عن عمومها

ص:149


1- 1) أجود التقریرات 2 / 217 .

هو الذکر غیر المحرّم .

و أمّا الثانی - أعنی ما لم یؤخذ فیه عدد خاص - فقد اتّضح الحال فیه ممّا تقدّم ، لأن جمیع الوجوه المذکورة المقتضیة لفساد العبادة المشتملة علی الجزء المنهی عنه جاریة فی هذا القسم أیضاً . و إنما یختصّ القسم الأوّل بالوجه الأوّل منها .

نقد السیّد الخوئی و موافقة الأُستاذ

و قد ذهب السید الخوئی و الشیخ الأُستاذ إلی عدم فساد العبادة وفاقاً لصاحب ( الکفایة ) ، فأشکل السیّد علی المیرزا - فی حاشیة الأجود - و وافقه الأُستاذ بما حاصله :

إن النهی عن قراءة العزائم فی الفریضة نهی تکلیفی یکشف عن المبغوضیة بلا کلام ، فإنْ کان بین هذا النهی و المانعیة عن صحّة الصّلاة ملازمة ، فالحق مع المیرزا ، و لکنْ لا ملازمة بینهما ، بل النسبة عموم و خصوص من وجه .

توضیحه :

إنه تارةً : یکون النهی إرشاداً إلی المانعیة ابتداءً ، کالنهی عن الضّحک فی الصّلاة أو البکاء من أجل الدنیا فیها ، و لا ریب فی اقتضائه للفساد من جهة ابتلاء الصّلاة بالمانع عن الصحة لها . و اخری : لا یکون کذلک ، کما فیما نحن فیه ، إذ غایة ما یدلّ علیه النهی عن قراءة العزائم فی الصّلاة مبغوضیّة ذلک عند المولی ، فیکون دلیله مخصّصاً لعموم دلیل القراءة فی الصّلاة ... فلا تکون السورة من العزائم جزءاً من أجزائها ، لکنّ الکلام فی اقتضاء سقوطها عن الجزئیة أن تکون الصّلاة بشرط لا ، فإنّ القول بذلک غیر صحیح ، و إلّا لکانت حرمة کلّ شیء موجبةً لذلک أیضاً ، فلا بدّ من الالتزام ببطلان کلّ عبادةٍ اتی فی ضمنها بفعلٍ محرّم

ص:150

خارجی کالنظر إلی الأجنبیة فی الصّلاة ، مع أنه واضح البطلان .

فالحق : أن حرمة قراءة العزائم فی الفریضة لا یقتضی اعتبارها بالإضافة إلی العزائم بشرط لا ، لعدم الملازمة بین الحرمة و المانعیة ، فقد یکون الشیء حراماً و لیس بمانع عن الصحة کالمثال المذکور ، و قد یکون مانعاً و لیس بحرامٍ ، کالبیع وقت النداء یوم الجمعة ، فالنسبة عموم من وجه .

و علی هذا ، فلو اقتصر علی قراءة العزائم فی الصّلاة بطلت من جهة فقدها لجزئها ، لکنّ هذا غیر اقتضاء النهی عن الجزء لفساد العبادة ، و أمّا إذا لم یقتصر علی السورة بل قرأ سورةً اخری أیضاً من غیر العزائم ، فهل تبطل أو لا ؟ فیه بحث .

و کذا الکلام من جهة شمول دلیل مبطلیّة التکلّم فی الصّلاة ، لوجود الخلاف فی شموله لمثل الذکر الممنوع أو السّورة الممنوعة .

فالعمدة فی الإشکال علی المیرزا هو : عدم وجود الملازمة بین المبغوضیّة و المانعیّة علی ما تقدّم .

لو تعلّق النّهی بشرط العبادة

قال فی ( الکفایة ) : لا یکون حرمة الشرط و النهی عنه موجباً لفساد العبادة ، إلّا فیما کان عبادةً کی تکون حرمته موجبةً لفساده المستلزم لفساد المشروط به .

یعنی : إذا کانت العبادة مشروطة بشرطٍ هو عبادة ، کالصّلاة المشروطة بالطّهارة ، فإذا وقع النهی عن شیء یتعلَّق بالوضوء ، کالنهی عن الوضوء بالماء النجس أو المغصوب ، اقتضی فساده إن وقع بذلک الماء ، و حینئذٍ ، یفسد شرط الصلاة ، فیفسد المشروط .

و أضاف الأُستاذ وفاقاً للسید الخوئی صورةً اخری و ذلک : ما إذا کان ستر العورة شرطاً لصحّة الصّلاة ، و تعلّق النهی بلبس الحریر فیها ، فکان الشرط مقیّداً

ص:151

بعدم الحریر ، فلو ستر العورة بالحریر أصبحت الصّلاة فاقدةً للشرط ، لأنّ « الستر » عین « التستّر » و الاختلاف بالاعتبار ، فالصّلاة فاسدة ... .

إذن ، لا یفرّق فی ذلک بین کون الشرط عبادیاً أو غیر عبادی .

نعم ، لو کان الشرط عبارةً عن الأثر الحاصل من فعلٍ ، کاشتراط الصّلاة بطهارة اللّباس و هی تحصل بغسل الثوب ، فالشرط هو الطهارة لا الغسل ، فلو تعلّق النهی بالغسل لم تفسد الصلاة ، لأن ما تعلّق به النهی لیس شرطاً للعبادة ، و ما هو شرط لها لم یتعلّق به النهی .

لو تعلّق النهی بالوصف

و الوصف تارةً لازم و اخری مفارق .

فإن تعلّق النهی بوصف لازم لعبادةٍ ، کالجهر الذی هو وصف لازم للقراءة کما مثّلوا ، فهل تفسد العبادة أو لا ؟

الحق : إن العبادة لا تفسد ، لأن النهی لا یتعدّی متعلَّقه و هو الجهر إلی الموصوف و هو القراءة ، و معنی ذلک أنه مع اتّصافها بالجهر المنهی عنه ، یسقط الأمر بها لا أنّ النهی عن الجهر یسری إلیها .

إلّا أن الکلام فی صغری المسألة و هی : هل أنّ الجهر بالقراءة وصف لازم لها أو أنه مرتبةٌ من مراتبها ... فإنْ کان الأول فقد تقدم ، و إنْ کان الثانی کان النهی عن الجهر بالقراءة نهیاً عن القراءة نفسها ... ؟

و المرجع فی تشخیص هذا الموضوع هو العقل ، إذ لیس المورد من موارد الاستظهار من اللّفظ حتی یرجع الی العرف ، فما فی ( المحاضرات ) - من أنّ الجهر لازم القراءة ، و قوله - مع ذلک - بأنّ النّهی عن الجهر بها نهی عنها - مخدوش جدّاً ، لأنهما إن کانا من المتلازمین ، فإن النهی لا یسری من اللّازم إلی الملزوم ... .

و التحقیق : إنه نفسها عقلاً ، و النهی عنه نهی عنها .

ص:152

و إنْ تعلَّق النهی بوصف مفارق ، کالأمر بالصّلاة و النهی عن الغصب ، و النسبة بینهما عموم من وجهٍ کما هو واضح ، فیندرج تحت مسألة اجتماع الأمر و النهی ، فإنْ قلنا بالجواز و کون الترکیب انضمامیّاً فلا فساد ، و إن قلنا بالامتناع و کون الترکیب اتّحادیاً کان النهی و المفسدة هو الغالب ... فیکون البحث عن مفسدیّة النهی عن الوصف المفارق بحثاً عن الکبری المنطبقة علی مورد اجتماع الأمر و النهی .

المقام الثانی : فی النهی عن المعاملة

و یقع البحث فی جهتین :

الجهة الاولی : فی مقتضی القاعدة

و لا بدّ من ذکر امور :

(الأول) إنه بین النهی التکلیفی عن المعاملة و النهی الوضعی عنها عموم من وجه ، مثلاً : النهی عن شرب الخمر حکم تکلیفی ، و عن الغرر فی البیع حکم وضعی ، و عن بیع الخمر تکلیفی و وضعی معاً .

(الثانی) تارةً یتعلَّق النهی بالأثر المترتب علی المعاملة ، کما فی الخبر (1) :

« ثمن العذرة مِنَ السّحت » فالحرمة تعلَّقت بالأثر و هو الثمن فلا یجوز التصرف فی المال المأخوذ فی مقابلها ، فیدلّ علی الفساد .

فهذا القسم من النهی یدلّ علی الفساد ، فهو خارج عن محلّ الکلام .

و اخری : یتعلّق النهی بشیءٍ بحیث لا یجتمع مع نفوذ المعاملة ، کما لو نهی الشارع عن منفعةٍ خاصّةٍ للشیء ، فهنا تکون الحرمة ملازمةً لفساد المعاملة علی

ص:153


1- 1) وسائل الشیعة 17 / 175 ، الباب 40 حکم بیع عذرة الانسان و غیره ، الرقم : 1 .

تلک المنفعة الخاصّة بإجارة أو غیرها ، للتمانع بین مقتضی النهی و مقتضی الآیة « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (1).

و هذا القسم لا خلاف فی دلالته علی الفساد ، فهو خارج عن محلّ الکلام .

و ثالثة : یتعلَّق النهی بشیء و یکون إرشاداً إلی المانعیة ، کما فی النهی عن بیع المجهول ، فإنه یدلّ علی مانعیّة الجهالة فی العوضین عن صحّة المعاملة ، فیکون دلیل صحة البیع بشرط لا عن الجهالة .

و هذا القسم کذلک لا خلاف فیه ، فهو خارج .

و رابعة : یکون النهی إرشاداً إلی الفساد من أوّل الأمر ، فهو دالٌّ علی الفساد بالمطابقة ، کما فی الخبر : « لا تبع ما لیس عندک » (2) .

و هذا القسم کذلک .

و خامسةً : أن یرد النهی عن معاملةٍ فیکشف عن المبغوضیّة ، فهل یقتضی الفساد أو لا ؟

و هذا هو مورد البحث .

(الثالث) إن النهی یتعلَّق تارةً بالسبب و اخری بالمسبب و ثالثة بالتسبّب .

فالأول : مثل النهی عن البیع وقت النداء یوم الجمعة ، فالمنهی عنه إنشاء المعاملة حینذاک . و الثانی : مثل النهی عن تملیک الکافر القرآن ، فالمنهی عنه هو المسبب أی تسلّطه علی القرآن . و الثالث : مثل تملیک الزیادة فی الربویّات عن طریق البیع ، فتسبّب البیع مبغوض ، فلو کان ذلک عن طریق الصلح مثلاً فلا نهی .

(الرابع) إن هنا بحثاً أساسه التحقیق عن حقیقة الإنشاء ، ففیها مسلکان أساسیّان :

ص:154


1- 1) سورة المائدة : الآیة 1 .
2- 2) وسائل الشیعة 17 / 357 ، الباب 12 ، الرقم 12 بلفظ « نهی عن بیع ما لیس عندک » .

أحدهما : إن صیغ العقود و الإیقاعات لها السببیّة لتحقق عنوان المعاملة .

و الثانی : إنّ حقیقة الإنشاء هو الاعتبار و الإبراز .

إن العقد هو العنوان المحصَّل من بعت و اشتریت ، أنکحت و قبلت ... فهل الصیغة سبب موجد له کما علیه صاحب ( الکفایة ) ، أو أنه آلةٌ و المعنی الاعتباری ذو الآلة کما علیه المیرزا ؟ و حاصل القولین : مدخلیة الصیغة و سببیّتها فی الأمر الاعتباری .

و فی المقابل هو القول الثانی ، و أن الصیغة کاشفة فقط و مبرزةٌ عن المعنی الاعتباری ... و علی هذا المبنی یعنون البحث هکذا : تارةً النهی بعنوان المبرِز و اخری بالمبرَز و ثالثةً بالإبراز بهذه الصیغة .

و بعد :

ففی المسألة أقوال ، أحدها : الصحّة مطلقاً ، و الثانی : الفساد مطلقاً ، و الثالث :

التفصیل بین النهی المتعلِّق بالسبب و النهی المتعلّق بالمسبب ، و فی التفصیل تفصیل .

القول بالدلالة علی الفساد
1 - رأی المحقق النائینی

ذهب المحقق النائینی (1) إلی أنّ النهی إذا تعلّق بالمسبّب اقتضی فساد المعاملة ، و أمّا النهی المتعلَّق بالسبب ، فقد اتفقوا علی عدم اقتضائه له ، لعدم التلازم بین مبغوضیة الإنشاء و فساد المنشأ .

و استدلّ المیرزا لما ذهب إلیه : بأنّ صحّة المعاملة متوقّفة علی امور :

أحدها : أن یکون المنشئ هو المالک أو ولیّه أو وکیله . و الثانی : أنْ یکون ذا سلطنةٍ

ص:155


1- 1) أجود التقریرات 2 / 226 .

علی ما یجری علیه العقد أو الإیقاع ، بأنْ لا یکون محجوراً علیه . و الثالث : أنْ تقع المعاملة بالسبب الخاص الذی عیّنه الشارع لها .

( قال ) : و لمّا کان النهی التحریمی یفید ممنوعیّة وقوع هذه المعاملة و سلب قدرة المالک علی إجراء الصّیغة ، فهو مسلوب السّلطنة علی الشیء ، فینتفی الشرط الثانی من شروط صحّة المعاملة ، و یکون کبیع المحجور علیه لما یملکه فی عدم التأثیر .

ثم إنه فرَّع علی ذلک فروعاً فقهیة ، فأفاد أنه علی هذا الأساس لا تقبل الواجبات المجانیة کالصلوات الیومیة للاستیجار للغیر ، لعدم سلطنة المصلّی علی صلاته ، لکونها ملکاً للّٰه . و أنّ ما نذر التصدّق به لا یجوز التصرف فیه بالبیع و الشراء و نحو ذلک ، لعدم السلطنة علیه و خروجه عن الملک بالنذر . و کذا موارد الشروط ، فإنّ السلطنة فیها محدودة بمقتضی الشرط ، فلو أوقع المعاملة علی خلاف الشرط کانت باطلةً .

هذه خلاصة کلامه رحمه اللّٰه فی هذا المقام .

نقد رأی المیرزا

و یتلخّص الردّ علیه : بأنّ المنع من التصرّف أمر وضعی ، و قد وضع لهذا الغرض کتاب الحجر فی الفقه ، و لا ریب فی أن الحجر یوجب بطلان المعاملة من المحجور علیه ، و إنّما الکلام فی وجود الملازمة بین المنع التکلیفی و الحجر الوضعی ، فإنْ ثبتت هذه الملازمة تمّ کلامه و إلّا فلا وجه له ، و هو لم یذکر أیّ دلیل علی ما ذهب إلیه ... بل التحقیق أن المبغوضیّة لا تلازم الفساد و أنّ النسبة بینهما العموم من وجه کما تقدم .

هذا ، و قد نوقش رحمه اللّٰه علی الموارد التی ذکرها ، و لا نطیل المقام بالتعرّض لذلک .

ص:156

2 - رأی السیّد البروجردی

و رأی السید البروجردی : إن الظاهر من النواهی المتعلّقة بالمعاملات هو المنع عن ترتیب الأثر ، و ذلک لأن للمعاملة ثلاث مراتب : مرتبة الأسباب ، أی الصیغة ، و مرتبة المسبّبات ، أی الملکیة و الزوجیة و نحوهما . و مرتبة الآثار الشرعیة و العقلائیة المترتبة علی المسببات ، من جواز التصرف فی الثمن و المثمن ، و الوطی ، و نحو ذلک .

( قال ) : و لا یخفی أن الأسباب لا نفسیة لها عند العرف و لیست مقصودةً بالذات ، بل هی آلات ، و کذا المسبّبات فإنها امور اعتباریة غیر مقصودة بالأصالة ، بل المطلوب بالذات و المقصود لهم هو الأثر ، فإذا جاء النهی عن المعاملة دلّ علی المنع عن ترتیب الأثر ، و هذا هو الفساد (1) .

نقد هذا الرأی

أوّلاً : إنه خلاف مقتضی الأصل الأوّلی و الظهور ، فإنّ النهی لما تعلَّق ب« البیع » کان مقتضی الأصل و القاعدة کون المتعلّق هو هذا العنوان ، فله الموضوعیة ، و إرجاعه إلی « أکل الثمن » خلاف الأصل و القاعدة ، اللّهم إلّا بدلیل .

و ثانیاً : هناک فی بعض الموارد النّهی عن المعاملة و عن ترتیب الأثر علیها ، فلو کان النهی عنها عبارةً عن النهی عن ترتیب الأثر ، لزم اللغویة . و مثاله : النص الصحیح فی الخمر : « لعن رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله الخمر . . . و آکل ثمنها . . . » (2) .

و ثالثاً : إذا کان المنهی عنه هو ترتیب الأثر ، کانت الفتوی بحرمة نفس

ص:157


1- 1) نهایة الاصول : 260 .
2- 2) وسائل الشیعة 17 / 224 ، الباب 55 من أبواب ما یکتسب به ، الرقم : 3 .

المعاملة بلا دلیلٍ ، کما فی حرمة بیع المیتة علی المشهور بل المجمع علیه ، لأنّ المستند لحرمة بیعها الإجماع أو النص ، أمّا النص ، فقد جاء ناهیاً عن البیع و هو ظاهر فی المنع عن البیع نفسه تکلیفاً . و أمّا الإجماع ، فقد ادعاه الشیخ فی الخلاف و العلّامة فی المنتهی و التذکرة (1) ، و عبارته فی التذکرة « لا یجوز » و هو أعمّ من التکلیف و الوضع ، و فی المنتهی : « لا یصح » ، و هو غیر الإجماع علی الحرمة ، و الشیخ فی الخلاف فی کتاب الرهن المسألة 35 : الإجماع علی عدم ملکیّة المیتة ، و لیس بیع المیتة . فلا إجماع علی الحرمة ... علی أنه لو کان فهو مدرکی . فالدلیل هو إمّا إطلاق الآیة «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ » (2). و فیه : إنه ظاهر فی الأکل فلا إطلاق .

و إمّا خبر البزنطی (3) ، و هذا هو الصحیح .

و تلخّص : قیام الدلیل علی حرمة البیع ، و لا یمکن الالتزام بعدمه ، بل السید نفسه من القائلین بذلک ، مضافاً إلی البطلان .

و رابعاً : لا إشکال فی کراهیة بعض المعاملات کبیع الأکفان ، و هل یصح أن یقال بکراهة ترتیب الأثر ؟

هذا کلّه ، بالإضافة إلی ما فی دعواه من کون المسبّب لا یتعلّق به الغرض و لا یکون مقصوداً للعقلاء ، فإنّه قد یکون نفس المسبّب مورداً للغرض ... فلیس الأمر کذلک دائماً .

و تلخص : سقوط هذا الطریق للدلالة علی الفساد فی المعاملات .

3 - رأی المحقق الایروانی

و ذهب المحقق الإیروانی إلی أنه لمّا کانت الأدلّة فی أبواب المعاملات

ص:158


1- 1) تذکرة الفقهاء 10 / 31 .
2- 2) سورة المائدة : الآیة 3 .
3- 3) وسائل الشیعة 24 / 39 ، الباب 19 من أبواب الذبائح ، الرقم : 7 .

إمضائیةً لا تأسیسیّة ، و أن مثل «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (1)و « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (2)و نحوهما تفید حلیّة المعاملات تکلیفاً و وضعاً بنحو العام المجموعی - لا الاستغراقی - فإنّه إذا ورد النهی عن معاملةٍ و دلّ علی حرمتها و سقطت حلیّتها التکلیفیة ، لم تبق الحلیّة الوضعیّة و لم تکن مورداً للإمضاء من قبل الشارع ... فالنهی عن المعاملة یفید فسادها من جهة دلالته علی عدم کونها مورداً للإمضاء (3) .

هذا ما أفاده ، و لا یخفی الفرق بین کلامه و کلام غیره .

نقد هذا الرأی

و یرد علیه : أنّ فی مدلول «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (4)و نحوه مسلکین ، فقیل : إن هذه الحلیّة لمّا تعلّقت بالبیع کانت ظاهرة عرفاً فی خصوص الحکم الوضعی له و هو الصحّة . و إلیه ذهب جماعة . و قیل : إنّها باقیة علی ظهورها الأوّلی - و هو الجواز - فیکون ملائماً للحکم التکلیفی و الوضعی معاً .

أمّا علی الأوّل ، فلا مجال لما ذکره ، لأن غایة ما یدل علیه النهی هو المبغوضیة ، فإذا تعلّق بمعاملة أفاد کونها مبغوضةً ، أما الفساد فلا ، لما تقدَّم من أن النسبة بین المبغوضیة و الفساد هی العموم من وجه .

و أمّا علی الثانی ، فإنّ دلالة الآیة علی الحلیتین فی کلّ معاملة ، إنّما هی بالإطلاق ، و هو فی قوة الاستغراق ، فلو قال : « أکرم العالم » و لم یقیّد ، أفاد وجوب إکرام کلّ عالمٍ بنحو الاستغراق لا بنحو المجموع ، فإذا ورد النهی عن معاملةٍ و أفاد حرمتها رفع الحلیة التکلیفیّة ، أمّا الوضعیّة فهی باقیة و لا دلیل علی زوالها .

ص:159


1- 1) سورة البقرة : الآیة 275 .
2- 2) سورة المائدة : الآیة 1 .
3- 3) نهایة النهایة 1 / 253 .
4- 4) سورة البقرة : الآیة 275 .

هذا أولاً .

و ثانیاً : حمل الآیة المبارکة علی العموم المجموعی أوّل الکلام ، لما سیجیء فی بحث العام و الخاص من أنّ حمل العموم علی هذا القسم منه یحتاج إلی مئونة إضافیة ، بخلاف العموم الاستغراقی ، فإنه هو مقتضی الظهور الأوّلی ، و ذلک لأن العموم المجموعی هو جعل الوحدة فی عالم الاعتبار بین امورٍ متفرقةٍ حقیقةً ثم الحکم علیها بحکمٍ واحد ، و أین الدلیل علی اعتبار الشارع الوحدة فی الآیة بین الحلیّتین ؟

القول بالصحّة

و ذهب المحقق الخراسانی إلی دلالة النهی المتعلّق بالمسبب و التسبّب علی صحة المعاملة ، بتقریب : إنّ النهی المتعلّق بالمسبب کالنهی عن بیع المصحف للکفار ، و المتعلّق بالتسبّب کالنهی عن الزیادة بسبب البیع ، یستلزمان أن یکون المنهیّ عنه فیهما مقدوراً ، لأنّ غیر المقدور لا یتعلّق به النهی و لا الأمر ، لا سیّما و أن الأمر طلب الفعل و النهی هو طلب الترک ، علی مبنی هذا المحقق . إذن ، لا بدّ من أن یکون متعلّق النهی مقدوراً للمکلّف کی یصحّ طلب ترکه و إلّا لم یتعلّق به النهی ، فإذن ، یکون النهی المتعلّق بالعنوان المعاملی دلیلاً علی وقوعه علی وجه الصحة فی عالم الاعتبار (1) .

إیراد و دفع

و لا یرد علیه الإشکال : بأنّ النسبة بین التملیک و الملکیّة کنسبة الإیجاد إلی الوجود ، فیکون الأمر دائراً بین الوجود و العدم و لا یعقل فیه الصحة و الفساد . لأنه مناقشة لفظیة ، لأن صاحب ( الکفایة ) - و إنْ عبّر ب« الصحة » فکان الإشکال علی

ص:160


1- 1) کفایة الاصول : 189 .

تعبیره وارداً - یرید « الوقوع » من « الصحة » فهو یقول : بأن تعلّق النهی بالمسبّب أو التسبّب یدلّ علی وقوع الملکیة ، و إلّا ، فإن الملکیّة أمر بسیط یدور بین الوجود و العدم و لا یتصف بالصحّة و الفساد .

و حاصل کلامه : إن النهی کذلک یکشف عن مقدوریّة متعلّقه و حصوله ...

و ما ذکره المحقق الأصفهانی (1) غیر وارد علیه .

تحقیق الأُستاذ

قال الأُستاذ دام بقاه : لا بدّ من التحقیق فی نظریّة صاحب ( الکفایة ) هذه علی کلا المسلکین فی باب حقیقة الإنشاء : مسلک المشهور من أن الصیغ أسبابٌ موجدة للعناوین المعاملیّة من الزوجیّة و الملکیّة و غیرها فی عالم الاعتبار . و قال الأصفهانی : بل بالوجود اللفظی . و قال النائینی : بل هی آلات و المعاملة ذو الآلة .

و مسلک الاعتبار و الإبراز و أنّه لا سببیّة و مسببیّة مطلقاً ، وعلیه السید الخوئی (2) ...

و کلام ( الکفایة ) مردود علی کلا المسلکین .

أما علی الثانی ، فإن الصیغة المعیّنة للمعاملة ، إذا صدرت من البائع مثلاً واجدةً للشرائط المعتبرة شرعاً ، تصبح موضوعاً لاعتبار الشارع بتبع اعتباره ، ثم إن العقلاء یرتّبون الأثر ، فلا یوجد فی البین سببٌ و تسبّب ، بل إن الاعتبار و إبرازه مقدوران للمکلّف و لا مانع من تعلّق النهی به ، و بعد تعلّقه یبتنی الحکم علی المختار فی دلالة النهی عن المعاملة علی الفساد و عدم دلالته .

لکنّ المحقق الخراسانی من القائلین بالمسلک الأوّل فنقول : إن کان

ص:161


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 407 .
2- 2) ذهب إلی أنّ الاوامر و النواهی الشرعیة اعتبارٌ للّابدیّة فی الوجوب و الحرمان فی الحرمة ، و إبراز لذلک بالأمر و النهی . أمّا صیغ العقود ففی البیع مثلاً : اعتبار للملکیة و إبراز بالصیغة . و فصّل الأُستاذ ، فقال فی الأوامر و النواهی بالبعث أو الزجر النسبی ، و أمّا فی الصیغ فوافق هذا المبنی .

المسبّب للصیغة هو الاعتبار الشرعی تمّ کلامه قدس سره ، لأنّه لا یعقل النهی عن المسبب إلّا أن یکون مقدوراً ، و ذلک لا یتحقّق إلا أن یعتبر الشارع وقوع المعاملة و تحقّقها ، و هو مستلزم للصحة . و أمّا إن کان المسبّب هو الاعتبار العقلائی ، بأنْ یعتبر العقلاء الزوجیّة إذا تحقق عقد النکاح ، فإنّ هذا الاعتبار یحصل حتی مع نهی الشارع ، فلا یکون النهی دالاً علی الصحّة .

الجهة الثانیة : فی مقتضی النص

و هو صحیحة زرارة عن أبی جعفر الباقر علیه السلام : « سأله عن مملوک تزوّج بغیر إذن سیده . فقال : ذلک إلی سیّده إن شاء أجازه و إن شاء فرّق بینهما .

قلت : أصلحک اللّٰه تعالی : إن الحکم بن عتیبة و إبراهیم النخعی و أصحابهما یقولون : إن أصل النکاح فاسد و لا یحلّ إجازة السید له . فقال أبو جعفر علیه السلام : إنه لم یعص اللّٰه ، إنما عصی سیّده ، فإذا أجاز فهو له جائز » (1) .

و هنا قولان

ذهب المحقّق الخراسانی (2) إلی أنّ الاستدلال بها علی فساد المعاملة إنما یتم لو کان المعصیة فی « إنه لم یعص اللّٰه » بالمعنی التکلیفی ، فیکون المفهوم :

کلّما کان عصیان تکلیفی فالمعاملة فاسدة . لکنّه وضعی ، أی: إنه لم یقع منه نکاحٌ هو معصیة للّٰه وضعاً ، أی لیس بفاسد ، بل صدر منه معصیة لسیّده لأنه نکاح بلا إذنٍ منه ... فإذا أجاز جاز .

و خالف المیرزا و الایروانی

أما المیرزا ، فأفاد ما ملخّصه (3) : إن الظاهر من « المعصیة » صدراً و ذیلاً هی

ص:162


1- 1) وسائل الشیعة 21 / 114 ، الباب 24 ، الرقم 1 .
2- 2) کفایة الاصول : 188 .
3- 3) أجود التقریرات 2 / 233 .

المعصیة التکلیفیة ، فالروایة تدل علی أنّ النهی مفسد ، لأنّ مفهوم کلامه علیه السلام : إنْ عصی فهو فاسد .

و أمّا الإیروانی (1) ، فأفاد بأنّ المعصیة فی الموردین أعم ، و تخصیصها بالمعنی الوضعی بلا مخصص ، فکان مقتضی مفهوم التعلیل هو العصیان للّٰه وضعاً و تکلیفاً ، فالنکاح فاسد .

و بعد ، فإذا الغی خصوصیة المورد ، کانت الروایة دلیلاً علی الفساد فی مطلق المعاملات .

تحقیق الأُستاذ

فقال شیخنا دام بقاه : إنه بعد هذا النص بلا فصلٍ جاء النصّ التالی :

« عن زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن رجلٍ تزوّج عبدُه بغیر إذنه فدخل بها ثم اطّلع علی ذلک مولاه . قال : ذلک لمولاه إن شاء فرّق بینهما و إنْ شاء أجاز نکاحهما ، فإن فرّق بینهما فللمرأة ما أصدقها إلّا أن یکون اعتدی فأصدقها صداقاً کثیراً ، و إن أجاز نکاحه فهما علی نکاحهما الأول ، فقلت لأبی جعفر علیه السلام : فإن أصل النکاح کان عاصیاً . فقال أبو جعفر علیه السلام :

إنما أتیٰ شیئاً حلالاً و لیس بعاصٍ للّٰه ، إنما عصی سیّده و لم یعص اللّٰه ، إنّ ذلک لیس کإتیان ما حرّم اللّٰه علیه من نکاح فی عدّةٍ و أشباهه » (2) .

قال الأُستاذ :

و« موسی بن بکر » ثقة عندنا ، لاعتماد جعفر بن سماعة علی روایته فی طلاق الخلع و فتواه علی طبقها . و موسی ممّن شهد صفوان بأن کتابه معتمد عند

ص:163


1- 1) نهایة النهایة 1 / 253 - 254 .
2- 2) وسائل الشیعة 21 / 115 ، الباب 24 ، باب أن العبد إذا تزوّج بغیر إذن ، الرقم : 2 .

أصحابنا ، و هو أیضاً من رجال ابن أبی عمیر .

و تلخص : إنّ الحق مع صاحب ( الکفایة ) و من تبعه .

هذا تمام الکلام فی مباحث النواهی . و یقع البحث فی المفاهیم .

ص:164

المقصد الثالث المفاهیم

اشارة

ص:165

ص:166

مقدّمات :

الاولی ( فی تعریف المفهوم )

إن المفاهیم مدالیل الجمل الترکیبیّة ، و البحث هو فی أصل ثبوت و عدم ثبوته لا فی حجیته و عدم حجیّته ، فهو فی الواقع بحث عن أنه هل للجملة الشرطیّة - مثلاً - مدلول التزامی أو لا ؟ فإنْ کان فلا کلام فی حجیته ، فیکون البحث ناظراً إلی صغری أصالة الظهور لا کبری الظواهر ، فهو نظیر البحث عن ظهور صیغة الأمر - مثلاً - فی الوجوب و عدم ظهوره فیه . و علی هذا ، یکون البحث عن المفاهیم بحثاً عن الأدلة لا الأصول ، و من الأدلة اللفظیة لا العقلیّة .

ثم إنهم قد عرّفوا « المفهوم » بتعاریف و أشکلوا علیها طرداً و عکساً ، و اعتذر صاحب ( الکفایة ) - کما هو دأبه فی نظائره - بأنها تعاریف لفظیّة و لیست حقیقیّة ، فلا وجه للإشکال و القیل و القال ...

و کان التعریف المشهور بین القدماء : أن المفهوم ما دلَّ علیه اللّفظ لا فی محلّ النطق ، فی مقابل المنطوق و هو : ما دلّ علیه اللّفظ فی محلّ النطق ... و یفید هذا التعریف أنّ المفهوم - کالمنطوق - من المدالیل اللّفظیة . ثم فسّروا ذلک بقولهم : إن الحکم فی طرف المفهوم لغیر المذکور ، و فی طرف المنطوق مذکور ...

لکنّ ظاهر تعریف القدماء کونه أعم من مفهوم اللفظ الإفرادی و المفاهیم

ص:167

الترکیبیّة ، و قد ذکرنا أنّ المفهوم مدلول الجملة الترکیبیّة فقط .

فظهر أن تعریف القدماء یشتمل علی نقاط قوةٍ و ضعف .

و جاء صاحب ( الکفایة ) بتعریفٍ مع النظر إلی التعریف المذکور ، فقال ما ملخصه :

إن المفهوم عبارة عن الحکم الإنشائی أو الإخباری المستتبع لخصوصیةٍ هی مدلول جملةٍ ، أعم من أن یکون المفهوم موافقاً لمدلولها أو مخالفاً ، فمثال الحکم الإنشائی قولک : إن جاءک زید فأکرمه ، و الأخباری : إن جئتنی اکرمک .

و مثال مفهوم الموافقة قول اللّٰه عزّ و جلّ «فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍ » (1)و المخالفة مثل : إن لم یجئک زید فلا یجب إکرامه .

( قال ) : فالمفهوم عبارة عن الحکم غیر المذکور لا الحکم لغیر المذکور .

ثم ترک رحمه اللّٰه ما لا فائدة له من البحوث فی هذا المقام .

و لنوضّح کلامه بشیء من التفصیل :

لا یخفی أنّ الملازمة ثبوتاً بین شیئین تدور مدار الوجود و العدم ، فقد تکون و قد لا تکون ، إلّا أنها فی مقام الإثبات تنقسم إلی أقسام .

فمنها : ما لا یکفی تصوّر الشیئین و النسبة الموجودة بینهما لإثبات الملازمة ، کما یقع کثیراً فی المناقشات العلمیة بین العلماء ، إذ یطرحون کلاماً و یقولون إن لازم هذا الکلام کذا ، فهذا یفید وجود تلک الملازمة فی الواقع غیر أنها خافیة فی مقام الإثبات ، غفل عنها صاحب الکلام و التفت إلیها المستشکل ...

و هذه الملازمة تسمّی اصطلاحاً باللزوم غیر البیّن .

و منها : ما لیس بهذا الحدّ من الخفاء ، إلّا أنّه یُحتاج إلی تصوّر الموضوع

ص:168


1- 1) سورة الإسراء : الآیة 23 .

و المحمول و النسبة ، فإذا تمّ تصوّر هذه الامور ثبتت الملازمة ، و تسمی باللزوم البیّن بالمعنی الأعم .

و منها : ما یکون فیه نفس تصوّر الملزوم کافیاً لإدراک الملازمة ، و هذا هو اللّزوم بالمعنی الأخص .

مثال الأول هو : إن من یقول بالملازمة بین الأمر بالشیء و النهی عن الضدّ ، یحتاج إلی الاستعانة بمقدّمةٍ خارجیة لإثباتها ، لکونها غیر بیّنة لا بالمعنی الأعمّ و لا الأخص ... و جمیع المباحث الاستلزامیة الاصولیة کلّها من هذا القبیل ، کالملازمة بین وجوب المقدّمة و وجوب ذیها و هکذا .

و مثال القسم الثانی هو : استنباط أقلّ الحمل و هو ستة أشهر من الآیتین :

« وَالْوَالِدَات یُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَینِ کامِلَینِ » (1)و « وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شهْراً » (2)، فمن من تصوّرهما و تصوّر النسبة بینهما ینتج ذلک بلا حاجةٍ إلی دلیل خارجی .

و مثال القسم الثالث : تصوّر الشمس ، فإنّه یستلزم تصوّر اللّازم و هو وجود النهار .

فأفاد قوله رحمه اللّٰه : المفهوم عبارة عن حکم إنشائی أو إخباری یستتبع ...

عدم دخول القسم الثالث فی البحث ، لأن بحثنا فی مفاهیم الجمل ، و هو ما أشار إلیه بکلمة « حکم » و لیس فی المفاهیم الأفرادیّة ...

و الحاصل إنه نبّه علی إشکالین فی تعریف القدماء : أحدهما : شموله للمفاهیم الأفرادیة ، و الآخر قولهم : إن المفهوم حکم لغیر المذکور ، فهذا غیر

ص:169


1- 1) سورة البقرة : الآیة 233 .
2- 2) سورة الأحقاف: الآیة 15.

صحیح بل الصحیح إنه حکم غیر مذکور .

فهذا ما اقتضی ذکره ، و لا نتعرّض لکلمات المحقّقین ، و من شاء الاطّلاع علیها فلیراجع .

الثانیة ( هل تدخل دلالة الإیماء و الإشارة ... فی البحث ؟ )

إنه قد ظهر ممّا تقدّم أنّ المفهوم مدلولٌ للّفظ لکنْ بالدلالة الالتزامیة باللّزوم البیّن بالمعنی الأخص ، فما هو حکم دلالة التنبیه و الإشارة و الاقتضاء ؟

و بیان ذلک هو : إن المدلول تارةً مقصود للمتکلّم و اخری غیر مقصود ، و الأوّل تارةً : یکون الصّدق أو الصحة العقلیة أو الشرعیّة متوقفاً علیه - أی علی المدلول - و اخری : هو غیر متوقّف علیه . فإن لم یکن المدلول مقصوداً للمتکلّم سمّیت الدلالة ب« دلالة الإشارة » و من ذلک : دلالة الآیتین علی أقلّ الحمل علی ما تقدّم ، و هذه الدلالة موجودة و إنْ لم تکن مقصودةً .

و إن کان مقصوداً ، فقد یکون صدق الکلام موقوفاً علیه عقلاً ، کما فی دلالة حدیث الرفع ، حیث توقّف صدقه علی أنْ یکون المرفوع هو « المؤاخذة » . و قد یکون صحّته عقلاً موقوفةً علیه کما فی «وَسْئَلِ الْقَرْیَةَ » (1)فلولا تقدیر کلمة « الأهل » لم یصح الکلام عقلاً ، و قد یکون صحّته شرعاً موقوفةً علیه کما فی قولک : أعتق عبدک عنّی ، فإن صحّته تتوقف علی أن یملّکک العبد ثم یعتقه وکالةً عنک ، إذ لا عتق شرعاً إلا فی ملک . و تسمی هذه الأقسام الثلاثة ب« دلالة الاقتضاء » .

و إنْ کان مقصوداً و لکن لا دلالة للصحّة أو الصّدق علیه أصلاً ، فهی « دلالة الإیماء و التنبیه » کما فی الحدیث : أنه قال رجل لرسول اللّٰه : « هلکت و أهلکت یا

ص:170


1- 1) سورة یوسف : الآیة 82 .

رسول اللّٰه » فقال : « کفّر » (1) . فإن کلامه صلّی اللّٰه علیه و آله یدلُّ علی معناه المقصود منه لاقترانه بکلام الرجل .

فوقع الکلام بین العلماء فی أنّ هذه الأقسام من الدلالات اللّفظیّة داخلة فی المنطوق أو المفهوم أو خارجة من کلیهما ، فعن المیرزا القمی و جماعة أنها داخلة فی الدلالة المنطوقیة غیر الصریحة ، و قال المتأخرون : بل هی من الدلالات السّیاقیّة ، لا منطوقیة و لا مفهومیّة فهی لیست لفظیة ... .

و قد وافق الأُستاذ المتأخرین ، لأن هذه الدلالات لیست من المفهوم ، لعدم کون اللّزوم بیّناً بالمعنی الأخص ، و لیست فی محلّ النطق حتی تکون منطوقیّة ، علی أنّها تتوقف فی بعضها علی مقدّمة خارجیّة کما فی مثال العتق ، إذ لا بدّ من تصحیحه علی ما تقدم ، صوناً لکلام الحکیم عن اللغویة .

و أضاف فی الدورة اللّاحقة : بأنّ بعض الأقسام منها غیر محتاجٍ إلی مقدّمة خارجیّة حتی یکون من اللزوم غیر البیّن ، بل هو من اللزوم البین بالمعنی الأعم ، کما فی قضیة الآیتین و دلالتهما علی أقلّ الحمل ، و کما فی الأمر بالکفارة فی الحدیث المذکور . و بعضها محتاج کما فی مثال العتق ، فهو من اللّزوم غیر البیّن .

فما فی کلام السید الخوئی (2) من أن کلّها من اللّزوم غیر البیّن مخدوش .

الثالثة ( هل المسألة اصولیّة ؟ )

و هل البحث عن المفاهیم من المسائل الاصولیّة أو لا ؟ و علی الأوّل ، فهل هو مسألة لفظیّة أو عقلیّة ؟

لقد تقدّم أنّ البحث فی المفاهیم إنّما هو عن أصل ثبوتها و لیس عن

ص:171


1- 1) وسائل الشیعة 10 / 46 ، الباب 8 من أبواب ما یمسک عنه الصائم ، الرقم : 5 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 195 - 196 .

حجّیتها . و بعبارة اخری : إنه بحثٌ عن صغری حجیة الظواهر ، فإنْ کانت المسألة الاصولیة ما تقع نتیجتها فی طریق استنباط الحکم الشرعی و إنْ احتاج لذلک إلی ضمّ مقدمةٍ - کما هو المختار - فالمسألة اصولیة ، و أمّا علی القول بأنّها ما یقع کذلک بلا ضمّ مقدمةٍ ، أشکل دخول البحث فی المسائل الاصولیة ... و لذا اضطر بعض الأکابر (1) لأنْ یقول : إن البحث الصغروی ، إن کان من صغریات کبری ثابتة لا بحث فیها ، فالمسألة اصولیة کما فی البحث عن صغری حجیّة الظهور ، فهو بحث اصولی لعدم الاختلاف فی کبری حجیّة الظواهر ، و ما نحن فیه من هذا القبیل .

و أشکل الأُستاذ : بأنّ حجیّة الظواهر أیضاً بحاجةٍ إلی إثبات ، إذ لیست کحجیّة القطع فی الثبوت ... و لذا یستدل لحجیّة الظواهر بالسیرة العقلائیة ، لکنّ تمامیّتها یتوقف علی عدم الردع من الشارع .

و علی الجملة ، فالحق عندنا کونها مسألة اصولیّة ... .

و هی - و إن کان فیها جهة عقلیة - مسألة لفظیّة ، لکون المفهوم مدلولاً للجملة بالدلالة الالتزامیة کما تقدّم .

ص:172


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 197 - 198 .

مفهوم الشّرط

اشارة

إنّ منطوق الجملة الشرطیة یفید ثبوت شیء عند ثبوت شیء آخر ، فیبحث عن أنه هل لها - علاوةً علی ذلک - دلالة علی انتفاء الشیء عند انتفاء ذلک الشیء الآخر أو لا ؟

إن قولک : « إن جاءک زید فأکرمه » ظاهر فی ثبوت الإکرام عند ثبوت المجیء ، فهل یفید عدم الإکرام عند عدم المجیء کذلک ؟ إن کان یفید هذا المعنی أیضاً فهو ینفی الإکرام عند عدم المجیء مطلقاً ، أی: سواء أحسن إلیک أو لا ؟ سواء فعل کذا أو لا ؟ سواء کان کذا أو لا ؟ ، فإن وجوب إکرامه ینتفی علی کلّ تقدیر ، و لذا لو قلت بعد ذلک مثلاً : إن أحسن إلیک فأکرمه ، وقع التعارض بین هذا المنطوق و إطلاق ذاک المفهوم ، فإن کان بینهما عموم و خصوص مطلق ، قیّد الإطلاق ، و إنْ کان من وجه ، رجع إلی مقتضی القاعدة فی صورة وحدة الجزاء مع تعدّد الشرط ، فیجمع بینهما بالحمل علی « أو » أو « الواو » علی ما سیأتی بالتفصیل .

فظهر أنّ للقول بوجود المفهوم للجملة الشرطیة آثاراً فقهیة و اصولیة .

ثم إنّ ل« الشرط » إطلاقات مختلفة ، فهو فی اللغة عبارة عن الربط بین الشیئین ، و هذا المعنی موجود فی جمیع موارد استعمال « الشرط » . و فی المعقول عبارة عن مکملیّة فاعلیة الفاعل أو قابلیة القابل ، و فی الفقه ینطبق علی ما یلزم من عدمه العدم و لا یلزم من وجوده الوجود ، کما فی قولهم : الوضوء شرط للصّلاة .

ص:173

و فی الاصول - و فی الفقه أیضاً - هو الالتزام فی ضمن الالتزام ، أعم من أن یکون الالتزام بنحو الفعل أو بنحو النتیجة ، و هل یصدق « الشرط » علی الالتزامات الابتدائیة ؟ فیه خلاف ، قال به جماعة و استدّلوا بالحدیث : « المؤمنون عند شروطهم » (1) .

و الشرط فی بحث مفهوم الشرط عبارة عن « ما عُلّق علیه شیء آخر » کذا قیل ، لکنْ فیه : أنّ أخذ عنوان « التعلیق » قبل إثبات دلالة الشرط علیه ، غیر صحیح ... فالأصح أن یقال : ما یقع فی القضیة مقدّماً و یتلوه التالی .

شروط ثبوت مفهوم الشرط :

اشارة

هذا ، و یعتبر فی ثبوت مفهوم الشرط ثلاثة امور ، فلا یثبت إنْ فقد واحد منها :

الأول : أن تکون القضیة ظاهرةً فی ترتّب ما بعد « الفاء » علی ما قبلها بنحو التعلیق ، لا أن تکون مقارنة اتّفاقیة مثل : جاء زید فجاء عمرو .

الثانیة : أن یکون الترتب لزومیّاً ، و لو لا الملازمة بین الشرط و الجزاء فلا مفهوم ، کما لو ترتّب مجیء زید علی مجیء عمرو فی الزمان .

الثالثة : أن یکون المقدّم علّةً منحصرةً للتالی ، و إلّا فلا انتفاء عند الانتفاء .

بیان الشرط الأول ( الترتب بین المقدّم و التالی )

فإن النسبة اللزومیة بین الشرط و الجزاء هی بنحو الترتب ، بمعنی أنّ المقدّم هو العلّة للتالی ، و لو کان المقدّم هو المعلول و التالی هو العلّة ، لم یستلزم الانتفاء عند الانتفاء .

و قد استدلّ لذلک بوجهین :

ص:174


1- 1) وسائل الشیعة 21 / 276 ، الباب 20 من أبواب المهور ، رقم : 4 .

أحدهما : إن الجملة الشرطیة دالّة علی الترتب و المعلولیّة بالوضع .

و فیه : إنه لا دلیل علی هذه الدعوی ، إذ لا شیء من علائم الحقیقة فی هذا المقام ، بل إن صحّة الحمل فی مثل : إذا کان النهار موجوداً فالشمس طالعة ، تشهد بعدم وضع الجملة الشرطیة للترتب .

الوجه الثانی : ما أفاده المیرزا (1) و حاصله : إنّ مقتضی التطابق بین مقامی الثبوت و الإثبات هو الترتب بین التالی و المقدّم ، إذ لا ریب فی تقدم العلّة علی المعلول فی مقام الثبوت ، و مقتضی الأصل الأولی أن یکون کلام المتکلّم غیر الغافل ملقیاً ما هو المتحقّق خارجاً إلی ذهن السامع ، بأنْ یکون کلامه مطابقاً للنظم الواقعی ، و کونه علی خلافه خلاف الأصل .

و علی الجملة ، فإنْ تقدیم المتکلّم المجیء علی الإکرام فی مقام الإثبات یکشف عن تقدّمه علیه فی مقام الثبوت ، و هذا هو الترتب و الدلالة علیه فی الجملة الشرطیة .

و بهذا التقریب یقوی هذا الاستدلال و یظهر النظر فیما قیل (2) من : أنه یتوقف علی أنْ یکون المتکلّم فی مقام بیان علیّة المجیء للإکرام ، و لا یکون فی مقام مجرّد الإخبار عن وجوب الإکرام فی فرض مجیء زید ، أو مجرّد إنشاء هذا المعنی .

وجه النظر : إن إلقاء الکلام من المتکلّم الملتفت بهذا الشکل الخاص یکشف عن إرادته إفادة الترتب ، و إلّا لجاء بالکلام علی وضعٍ آخر . و توضیحه :

إنه لا ریب فی إفادة الجملة الشرطیة للترتب ، و إنما الکلام فی إنه مختصّ بالترتّب

ص:175


1- 1) أجود التقریرات 2 / 249 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 202 - 203 .

فی الواقع أو أنه أعمّ من الواقع و الاعتبار ؟ و بعبارة اخری : إنّ الکلام فی سعة الترتّب و ضیقه ، یقول المحقق الاصفهانی : إن الشرطیّة تفید الترتّب ، أمّا أن یکون فی الخارج کذلک فلا ، بل یمکن أن یکون فی اعتبار العقل ، بأن یعتبر الشیء مقدّماً و الآخر متأخّراً ، کما فی : إن کان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق ، فهو ترتب عقلی و إن لم یکن له واقعیّة فی الخارج .

فإنْ تمّ کفایة مطلق الترتب بطل کلام المیرزا .

لکنْ إن کان مراد المیرزا : إن الأصل فی القضایا الملقاة هو إفادة الواقعیّات لا صِرف الاعتبارات العقلیة التی لا واقعیة لها ، فالمتکلّم الحکیم یرید إحضار الواقع إلی ذهن السامع بکلامه الذی یلقیه ، فلمّا کان مترتّباً دلّ علی کون الواقع مترتباً کذلک .

فإیراد بعض أعلام تلامذته غیر وارد علیه .

بیان الشرط الثانی ( الملازمة بین المقدّم و التالی )
اشارة

إنه یعتبر فی ثبوت المفهوم للجملة أنْ تکون النسبة لزومیّة لا أنْ تکون هناک مقارنة صِرفة عقلاً أو خارجاً . و هو واضح لا یحتاج إلی بیان عند المحققین کالخراسانی و المیرزا و أتباعهما ، لدلالة الجملة الشرطیّة علی ذلک بالوضع ، و یشهد به التبادر و الانسباق فی مثل : إن جاءک زید فأکرمه . و مع التنزّل عن الظهور الوضعی فالظهور العرفی ثابت .

رأی المحقق الأصفهانی

و خالف المحقق الأصفهانی (1) و نفی وجود الدلالة فی القضیّة الشرطیّة علی النسبة اللزومیّة ، لما تقرّر فی المنطق من انقسامها إلی اللّزومیة و الاتفاقیّة ، فهی قد

ص:176


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 413 - 414 .

تخلو عن اللّزوم و الارتباط کما فی مثل : إن کان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق ، و صدق الشرط علی مثله حقیقی لا مجازی ، و الشاهد علی کونه حقیقةً صحّة التقسیم المذکور عند المناطقة ، فإنْ صحّة التقسیم أمارة الحقیقة کما فی ( کتاب الطهارة ) من الفقه إذ قالوا بعدم انقسام الماء إلی المطلق و المضاف ، و إلّا لکان المضاف مصداقاً حقیقیّاً للماء .

هذا ، و قد برهن المحقق الأصفهانی اعتراضه علی القوم : بأنّ الدلالة علی « الشرط » لا تکون بلا دال ، أمّا المرکّب فلیس إلّا وضع المفردات ، و أمّا المفردات فلا یدلّ شیء منها علی اللّزوم ، و تبقی « أداة الشرط » و« الفاء » . أما الأوّل فلیس مدلوله إلّا کون مدخوله مفروضاً مقدّر الوجود ، فمفاد « إن » الشرطیّة فرض الوجود ل« مجیء زید » . و أما « الفاء » فلا تدلّ إلّا علی الترتیب و الترتّب ، لکنّ کون ذلک بنحو اللّزوم أو الاتفاق ؟ فلا دلالة لها . و یشهد بذلک وجودها فی القضایا الاتفاقیة کذلک .

فإذا لم تکن المفردات دالّةً علی اللّزوم ، و المرکّب لیس إلّا المفردات ، فمن أین الدلالة ؟

نقد الأُستاذ

و قد انتقد الشیخ الأُستاذ هذا الکلام بوجوه :

الأول : إنه قد صرّح بدلالة حرف الشرط علی التعلیق و أن الفاء تفید الترتّب بین الشرط و الجزاء ، و من الواضح أن « الترتّب » هو کون الشیء بعد الشیء و« التعلّق » هو الارتباط بین الشیئین ... و الجماعة لا یقصدون إلّا هذا .

و الثانی : صحیح أن المناطقة یقسّمون الشرطیة إلی اللزومیّة و الاتفاقیّة و یمثّلون للقسم الثانی بمثل : إن کان الإنسان ناطقاً کان الحمار ناهقاً ، و لکنْ هل

ص:177

هذا التقسیم حقیقی أو مجازی ؟

و الثالث : إن قولنا : « أکرم » مطلق منجّز ، فإذا دخلت علیه أداة الشرط أصبح معلّقاً و کان وجوب الإکرام منوطاً بالمجیء ، و هذه الإناطة و التعلیق هی مفهوم أداة الشرط ، لا مجرّد الفرض و التقدیر کما هو ظاهر کلام هذا المحقق .

و الرابع : إن الفاء تدلّ علی الترتیب ، لکنّ دلالة الجملة الشرطیة علی التعلّق و الإناطة موجودة حتی مع عدم الفاء ؛ فالذی یفید الترتیب وقوع الجزاء عقب الشرط سواء وجدت الفاء أو لا .

و تلخص :

إن الدالّ علی اللّزوم هو أداة الشرط .

بیان الشرط الثالث ( کون الترتّب بنحو العلیّة المنحصرة )
اشارة

و ذلک إنه بعد ثبوت إفادة الجملة للزوم و للترتّب ، یشترط أن تکون العلیّة منحصرةً و إلّا فلا مفهوم للجملة .

و قد استدلّ للعلیّة المنحصرة بوجوهٍ خمسة :

1 - الوضع

دعوی دلالة الجملة الشرطیّة علی انحصار العلیّة بالوضع .

و فیها : إنها دعوی بلا دلیل ، بل الدلیل علی العکس ، فإنّه فی موارد تعدّد الشرط و وحدة الجزاء تستعمل القضیّة الشرطیة بلا أیّة عنایة ، فلو کانت موضوعةً للعلیّة المنحصرة لکان استعمالاً مجازیّاً .

2 - الإطلاق

طریق الکفایة

و قد بیّنه بوجوه : أحدها من باب الانصراف و الباقی یبتنی علی مقدّمات الحکمة .

ص:178

(الإطلاق الأول) هو : الإطلاق الانصرافی ، و وجه الانصراف هو : إن لفظ الشرط دالّ علی العلیّة ، و العلّة تنقسم إلی الکاملة و الأکمل ، فإنْ کانت منحصرةً کانت الأکمل ، و اللّفظ ینصرف إلی الفرد الأکمل .

(و فیه) بطلان الصغری و الکبری . أمّا الکبری ، فإن اللفظ الموضوع للمعنی التشکیکی موضوع لنفس الحقیقة لا للفرد الأکمل منها أو غیره ، و إلّا لزم أنْ یکون إطلاق « العالم » علی غیر « الأعلم » مجازاً ، و هذا باطل . و أما الصغری ، فلأنه لیس بین العلّة المنحصرة و غیر المنحصرة اختلاف فی المرتبة ، إذ العلیّة حیثیّة وجودها فی کلیهما علی حدٍّ سواء .

(الإطلاق الثانی) ما ذکره بعنوان « إن قلت » ، و محصّله : التمسّک لإثبات انحصار العلّة بالإطلاق کما یتمسّک به لإثبات الوجوب فی النفسیّة فی مقابل الغیریّة و نحو ذلک . فأجاب : بالفرق بین المقامین ، لأن معنی الوجوب النفسی هو الوجوب علی کلّ تقدیر ، فی قبال الغیری الذی هو الوجوب علی بعض التقادیر ، فکان مقتضی الإطلاق عند التردّد هو النفسیّة ، بخلاف ما نحن فیه ، فإنه مع التردّد بین الانحصار و عدمه لا إطلاق یقتضی الانحصاریّة .

توضیح الاستدلال :

إنه تارةً : تکون الحصّتان للطبیعة الواحدة وجودیتین ، کالرقبة التی منها الکافرة و منها المؤمنة ، و اخری : تکون احداهما وجودیة و الاخری عدمیّة .

و الوجوب من القسم الثانی ، فإن الوجوب النفسی مقیّد بقید عدمی و هو کونه « لا للغیر » و الغیری مقید بقیدٍ وجودی و هو کونه « للغیر » .

و الانحصار و عدمه حصّتان للعلّة ، و هما مثل النفسی و الغیری بالنسبة إلی الوجوب ، فالمنحصرة یعنی التی لا معها شیء فی المؤثریة و غیر المنحصرة هی

ص:179

التی معها شیء ، فکما یتمسّک بالإطلاق لإثبات النفسیة ، کذلک یتمسّک به لإثبات الانحصار ... لأن الجهة الوجودیة هی المحتاجة إلی بیان زائد ، و أمّا الجهة العدمیّة فهی مقتضی أصالة الإطلاق ، فلا تحتاج العلیّة غیر المنحصرة إلی بیان و أمّا المنحصرة فتحتاج ، و إذ لا بیان ، فالأصل یفید الانحصار کما فی الوجوب النفسی .

اُجیب بوجهین :

أحدهما :

إنّه لا موضوع فی المقام لجریان مقدّمات الحکمة لإفادة الإطلاق ، لأنّها إنما تجری حیث یمکن الإطلاق و التقیید ، و المقصود هنا هو إجراء المقدّمات فی أداة الشرط حتی یتم الإطلاق ، لکنّ معنی أداة الشرط معنیً حرفی ، و المعنی الحرفی غیر قابل للإطلاق و التقیید . أمّا أوّلاً : فلأنّه یعتبر فیما یراد إجراء الإطلاق فیه أنْ لا یکون جزئیاً ، لأن الجزئی غیر قابل للتقیید فهو غیر قابل للإطلاق ، و المعنی الحرفی جزئی . و أمّا ثانیاً : فلأنه یعتبر فیما یراد إجراء الإطلاق فیه أن یکون ممّا یلحظ بالاستقلال حتی یصلح للتوسعة و التضییق ، کما فی « الرقبة » فتلحظ بشرط و لا بشرط ، و المعنی الحرفی لا یلحظ بالنظر الاستقلالی و إنّما دائماً ما به ینظر .

و تلخّص : أن لا موضوع للإطلاق و التقیید هنا حتی یتمسّک بمقدّمات الحکمة لإثبات الإطلاق .

(و فیه) :

هذا هو الجواب الأوّل ، لکنْ یرد علیه النقض : بأنه إذا کان المعنی الحرفی غیر قابل للتقیید فهو غیر قابل للإطلاق ، فإن مدالیل الهیئات أیضاً - کهیئة افعل الدالّة علی الوجوب - معانٍ حرفیة ، فکیف تمسّکتم بالإطلاق لإثبات کون الوجوب نفسیّاً ؟ و کیف تمسّکتم بإطلاق هیئة افعل للدلالة علی الوجوب

ص:180

لا الندب بناءً علی وضعها للجامع ؟ و کیف تمسّکتم بالإطلاق لدلالة الهیئة علی الوجوب التعیینیّ عند دوران الأمر بینه و بین التخییری ، و العینی عند دوران الأمر بینه و بین الکفائی ؟

و الجواب الحلّی هو : أمّا علی مسلک التحقیق ، فالمعنی الحرفی قابلٌ للإطلاق و التقیید ، و أمّا علی مسلک صاحب ( الکفایة ) من عدم جریانهما فیه و إلّا لانقلب إلی المعنی الاسمی ، فإنّه إنما لا یجریان فیه بالذات ، لکنّ المعنی الحرفی من شئون المعنی الاسمی ، فهو فی وجوده تابع له ، فإذا جری الإطلاق و التقیید فی الاسم جریا فی الحرف التابع له .

الجواب الثانی

بطلان القیاس و هو الصحیح ، لأنّ الوجوب النفسی و الغیری سنخان من الوجوب فی عالم الثبوت ، فأحدهما مطلق و الآخر مشروط ، و لکلٍّ منهما أثره الخاصّ به ، و الوجوب قدر مشترک بینهما ، و إذا کانا حصّتین من طبیعة الوجوب فمقتضی القاعدة احتیاج کلّ منهما إلی البیان فی مقام الإثبات لکونهما وجودیین ، إلا أن یکون فی أحدهما خصوصیّة لا یحتاج بسببها إلی البیان .

و أمّا إذا کانت احدی الحصّتین وجودیةً و الاخری عدمیةً ، فإنّ العدمی ، لا یحتاج إلی البیان بخلاف الوجودی ، و هذا مورد التمسّک بالإطلاق .

و علی الجملة ، فإن المقیس علیه حصّتان من الوجوب و لهما أثرهما .

لکنّ الأمر فی المقیس لیس کذلک ، إذ الانحصار و عدمه فی العلیّة لیس سنخین من العلیّة ، لأن معناها تأثیر شیء فی شیء ، و من الواضح عدم الفرق فی التأثیر بین العلة المنحصرة و غیر المنحصرة ، بخلاف انقسامها إلی التامّة و الناقصة ، فهناک فرق فی التأثیر کما لا یخفی ... فظهر أن قیاس ما نحن فیه علی الوجوب

ص:181

و انقسامه إلی النفسی و الغیری مع الفارق .

و الحاصل : إن الکلام فی إطلاق الشرطیة ، و لیس لها حصّتان حتی یحمل الکلام علی صورة الانحصار مع عدم البیان . و هذا التحقیق من المحقق الأصفهانی .

(الإطلاق الثالث) و هو عبارة عن إطلاق الشرط . و لا یخفی الفرق بینه و بین ما تقدم ، فقد تمسّک هناک بإطلاق العلّة ، ببیان أن اللفظ الدالّ علی العلیة و اللزوم کاف لإفادة الانحصار ، لکون العلّة المنحصرة هی الفرد الأکمل .

و المقصود هنا هو إطلاق مجیء زید ، أی إطلاق الشرط النحوی ، فهل یقتضی هذا الإطلاق انحصارها ؟

تقریبه : إنّ المتکلّم لمّا جاء بالشرط و هو المجیء بعد الأداة ، أمکنه تقییده بقیدٍ لاحق أو سابقٍ أو مقارن ، لکنه جاء به مطلقاً عن هذه الانقسامات ، فدلّ علی ترتّب الجزاء و هو الإکرام علی الشرط بلا تقیّد بشیء ، فکان المجیء بوحده هو الدخیل فی الجزاء و لا علّة له سواه .

(و فیه) :

و قد اشکل علی هذا الاستدلال بوجوه :

أحدها : إنه یبتنی علی أن تکون للقضیّة الشّرطیة - علاوةً علی اللّزوم - دلالة علی ترتّب الجزاء علی الشرط و کونه علةً له ، و عند ذلک یبحث عن کونه علةً له مطلقاً أو علی بعض التقادیر ، لکنّ أصل العلیّة محلّ بحثٍ و کلام ، و قد تقدّم صحّة أنْ یقال : إن کان النهار موجوداً فالشمس طالعة ... فأصل الدلالة علی العلیة غیر ثابت ، فلا تصل النوبة إلی البحث عن الانحصار .

و فیه : إنه إشکالٌ مبنائی ، إذ المفروض هو المفروغیّة عن ذاک البحث .

ص:182

الثانی : إن القضیّة الشرطیة فی مقام بیان أصل تأثیر الشرط فی الجزاء لا بیان فعلیّته و وجود الجزاء بالفعل عند وجود الشرط حتی یقال : لمّا وجد الشرط یوجد الجزاء ، سواء وجد شیء آخر أو لم یوجد . قاله المحققان الأصفهانی و المیرزا .

و فیه : إنه بعد الفراغ عن المقدّمتین ، و هما : دلالة القضیة الشرطیة علی اللّزوم ، و دلالتها علی العلیّة ، تکون الدلالة علی فعلیّة وجود الجزاء عند وجود الشّرط ضروریّةً، و الحمل علی الشأنیة هو المحتاج إلی القرینة ، و کذلک کلّ کلامٍ ظاهر فی معناه ، فإن المراد منه هو الفعلیة ، للتبادر ، و حمله علی الشأنیة خلاف الظاهر المتبادر منه . نعم ، یتم الإشکال هنا لو نوقش فی المقدّمتین .

و الثالث : إن مفاد القضیّة الشرطیّة هو استناد المعلول إلی العلّة و الشرط ، و أمّا دلالتها علی کون هذا الشرط کلّ العلّة فمن أین ؟

و بعبارةٍ اخری : إن کان المتکلّم فی مقام بیان تمام ما هو المؤثّر فی المعلول فهو ، و إلّا فإن القضیّة الشرطیة لا تفید أکثر من أنّ المجیء مؤثر فعلاً فی وجوب الإکرام ... و لا تنفی مؤثّریّة غیره فیه .

تقریب الإطلاق ببیان المیرزا

و بما أنّ المحقق النائینی (1) قد ذکر هذا الإطلاق للشرط ببیانٍ آخر ، فإنّا نطرحه ثم نوضّح إشکال ( الکفایة ) لنری هل یرد علیه أو لا .

یقول المیرزا ما معناه : إن القضیّة الشرطیة ظاهرة فی التقیید بلا کلام ، فإنّ وجوب الإکرام مقیّد و مشروط بالمجیء و لیس بمطلقٍ بالنسبة إلیه ، لکنّ التقیید تارةً : تکوینی کما فی : إن رزقت ولداً فاختنه ، حیث أن الختان مقیّد بوجود الولد تکویناً ، و اخری : مولوی کما فی تقیّد الصّلاة بدخول الوقت مثلاً ، حیث یکون

ص:183


1- 1) أجود التقریرات 2 / 251 .

باعتبار المولی ... إذن ، فی القضیّة الشرطیّة مثل : إن جاءک زید فأکرمه ، تقیّد اعتباری من المولی ، لکنّ تقیّد الجزاء بالشرط قد یکون بالخصوصیّة المعتبرة فی الشرط ، فتکون العلّة منحصرةً بالمجیء ، و قد یکون بالجامع الانتزاعی و هو عنوان أحدهما المنتزع منه العطف ب« أو » کأنْ یقول : إن جاءک زید أو أکرم عمراً وجب علیک إکرامه ، فتکون العلّة غیر منحصرة بالمجیء .

هذا کلّه ثبوتاً .

إلّا أنّ المتکلّم فی مقام الإثبات قد قیّد اعتباره المولویّ بخصوصیّة المجیء ، و لم یقل المجیء أو إکرام عمرٍو مثلاً ، و مقتضی ذلک مع کونه فی مقام بیان تمام مراده ، انحصار العلّة لوجوب الإکرام بالمجیء ، و إلّا لزم الاختلاف بین مقامی الثبوت و الإثبات ، و هو خلاف الأصل .

هل یرد إشکال الکفایة علی هذا البیان ؟

لکنّ المهمّ فی المقام هو لحاظ مسلک صاحب ( الکفایة ) فی الواجب التخییری ، فإنه یذهب إلی أنه یختلف عن التعیینی سنخاً ، و برهانه علی ذلک بإیجازٍ هو : إن الأحکام تابعة للأغراض ، ففی موارد التخییر العقلی تتحقّق التبعیة بجعل الحکم علی الجامع بین الأفراد ، أمّا فی موارد التخییر الشرعی فلا یوجد الجامع ، و حینئذٍ یکون کلٌّ منها بخصوصه محصّلاً للغرض ، نعم ، لو ترک المجموع استحق العقاب ، و بهذا یظهر أن حقیقة الوجوب التخییری هو الوجوب المشوب بجواز الترک إلی بدلٍ ، بخلاف التعیینی فإنه لا یجوز ترکه لا مطلقاً و لا إلی بدل ، فکان الغرض من الوجوب التعیینی مختلفاً عن التخییری ، و الحکم - بتبع الغرض - یختلف فیهما .

لکنّ العلیّة هی مؤثّریة الشیء فی الشیء الآخر ، و هذا المعنی موجود فی

ص:184

العلّة المنحصرة و غیر المنحصرة علی السواء ، فهی سنخ واحدٍ فی کلا الموردین .

و نتیجة ذلک : إنه فی مورد الواجب التخییری لا بدّ من البیان الزائد بکلمة « أو » فی مقام الإثبات ، و إلّا یلزم الإغراء بالجهل ، و أمّا فی مورد العلل غیر المنحصرة لا یحصل الإغراء بالجهل مع عدم البیان ، لکون الغرض واحداً غیر متعدّد .

فالإطلاق بالتقریب المذکور ، لا یتمّ علی مسلک المحقق الخراسانی ... لکنّه إشکال مبنائی .

الإشکال الوارد علی المیرزا

ثمّ إن الأُستاذ بعد أن دفع الإشکالات أفاد :

إن هذا الإطلاق متحقّق فی کلّ قیدٍ لأیّ موضوع إلّا فی اللّقب ، فإذاً ، یکون جاریاً فی الوصف مثل : أکرم العالم العادل ، فإنه مطلق حیث إنه لم یقل : أکرم العالم العادل أو الهاشمی ، و الحال أنکم لا تقولون بذلک فی الوصف . و لا یخفی أنّه إشکال نقضی فحسب .

طریق المحقق العراقی

و سلک المحقق العراقی مسلکاً آخر لإثبات المفهوم فقال ما ملخّصه (1) :

إن فی القضیة الحملیّة مثل أکرم زیداً ، لا یکون الکلام دالّاً علی أزید من ترتّب الحکم بنحو القضیة المهملة ، و إلّا لجاء المتکلّم بقرینةٍ علی ذلک ، و لذا لا تکون لهذه القضیة دلالة علی انتفاء سنخ الحکم عن غیر زید ، فلا یعارضها إیجاب إکرام عمرو مثلاً ... لکنّ هذا الحکم المهمل مترتّب علی زیدٍ المطلق ، لأنه لمّا قال أکرم زیداً لم یقیّد الموضوع بقیدٍ ، فکان یجب إکرامه قاعداً أو قائماً أو

ص:185


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 479 - 480 .

جائیاً ، و علی هذا ، یکون الحکم - و هو وجوب الإکرام - مطلقاً من جهة حالات الموضوع ، لأنْ ذلک مقتضی إطلاق الموضوع ، و یشهد بالإطلاق فی طرف الموضوع أنه لو قال بعد ذلک أکرم زیداً قائماً ، لزم اجتماع المثلین ، فکان الحکم مهملاً من جهة کون القضیة حملیّةً ، و مطلقاً من جهة الإطلاق فی الموضوع کما ذکر .

إلّا أنه لما وردت أداة الشرط علی الجملة فقیل : إن جاءک زید فأکرمه ، یرتفع الإطلاق فی الموضوع الشّامل لجمیع حالاته ، و یناط ذاک المحمول المهمل فی القضیة الحملیّة مثل زید یجب إکرامه أو الإنشائیة مثل أکرم زیداً - و هو وجوب شخص الإکرام - بحالةٍ واحدة من حالاته و هو خصوص المجیء ، فلا جرم بعد ظهور الشرط فی دخل الخصوصیّة یلزمه قهراً انتفاء وجوب الإکرام عن زیدٍ عند انتفاء المجیء .

( قال ) : و لا یخفی علیک أنه علی هذا البیان ، لا یحتاج إلی إثبات المفهوم فی القضایا الشرطیّة إلی إتعاب النفس لإثبات العلیّة المنحصرة کی یقع البحث عن ذلک و یناقش فیه .

الإشکال علیه

و یتوقف الإشکال فی هذا المسلک علی ذکر مقدّمات :

الاولی : إنه کما أنّ الإهمال فی طرف موضوع القضیة محال من المتکلّم الملتفت ، کذلک فی طرف الحکم ، إلّا أن تقوم القرینة علیه ، کأن یکون فی مقام التشریع مثلاً ، و إلاّ فالأصل عدم الإهمال .

و المقدمة الثانیة : إن المحمول فی القضیة الإنشائیة تارةً : یکون من قبیل المعنی الحرفی مثل : أکرم زیداً ، و أخری : یکون من قبیل المعنی الاسمی مثل زید

ص:186

یجب إکرامه . و قد ذهب هذا المحقق إلی أنه إن کان مدلولاً حرفیّاً کان الإطلاق و التقیید فیه تابعاً للإطلاق و التقیید فی الموضوع ، لعدم صلاحیّة المعنی الحرفی لهما ، بخلاف المثال الآخر ، فإن المدلول فیه معنی اسمی و هو قابل لهما .

و المقدمة الثالثة : إنّ مذهب العراقی هو أن التشخص یحصل من الإنشاء ، و إلّا فإن المنشأ بنفسه لا شخصیّة له ... و ما ذکره هو الصحیح ، و الإشکال علیه غفلة عن مقصوده .

و بعد هذه المقدّمات : إن المتکلّم إذا کان فی مقام البیان و الإهمال خلاف الأصل کما تقدّم ، فقال : « زید یجب إکرامه » فقد رتّب الحکم - و هو الوجوب الذی هو معنی سنخی و تشخّصه بالإنشاء - علی الموضوع و أفاد الانحصار ... فلم یکن الانتفاء عند الانتفاء مختصّاً بالقضیة الشرطیة ، بل هو حاصل فی کلّ قضیّة حملیة کذلک ، و هذا باطل بالاتّفاق .

و هذا هو الإشکال نقضاً .

و أمّا حلّاً : أما بالنسبة إلی الکبری ، فإنّ نسبة الموضوع إلی الحکم نسبة العلّة إلی المعلول ، وعلیه ، فإنّ الحکم المترتّب علی الموضوع لخصوصیةٍ فیه ، یفید انحصار المحمول الخاصّ لذاک الموضوع المعیّن ، و لا یفید الانحصار بالنسبة إلی سنخ المحمول ، فقوله بکفایة ظهور خصوصیة عنوان الموضوع لنفی الغیر و أنه لسنا بحاجةٍ إلی الإطلاق ، غیر صحیح ، لأن الخصوصیّة و إن کانت ظاهرةً فی الانحصار ، لکنها تحصر العنوان الخاص فی هذا المحمول الخاص ، و انتفاء هکذا محمول بانتفاء موضوعه عقلی ، بل المقصود هو إثبات الانحصار بالنسبة إلی سنخ المحمول ، و هذا ما لا یمکن استفادته من الظهور الخاص للموضوع .

و أما بالنسبة إلی الصغری ، فقد أفاد أنّ الحکم یکون مهملاً بالنسبة إلی

ص:187

موضوعه فی القضایا الحملیة ، لکنه بالنسبة إلی حالات الموضوع مطلق ، و بالنظر إلی هذا الإطلاق یکون الحکم سنخیّاً ، ثم إذا جاء الشرط تقیّد السنخ و حصل الانحصار ... و فیه :

أوّلاً : إن هذا البیان إن تمّ فی قضیةٍ خارجیّة مثل إنْ جاءک زید فأکرمه ، فإنه لا یتم فی القضایا الشرعیة ، لأنها قضایا حقیقیة ظاهرة فی الإطلاق من جهة الأفراد و من جهة أحوال الأفراد ، فیکون الحمل فیها لسنخ الحکم لا شخصه .

و ثانیاً : إنّ الإطلاق الأحوالی للموضوع تعلیقیٌّ و لیس بتنجیزی ، و لو کان تنجیزیّاً لوقع التناقض بین ما لو قال : إن جاءک زید فأکرمه فقال بعد ذلک : و إن فعل کذا فأکرمه ، مع أنه لا تناقض ، فیظهر أنه تعلیقی ، و إذا کان کذلک ، فإن کلّ معلَّق علیه فهو مقدّم علی المعلّق ، فکان الإطلاق الأحوالی للموضوع موقوفاً علی عدم شرط آخرٍ ، فیلزم إقامة البرهان علی عدم الشرط الآخر کی یتم الحصر ، و هذا هو السرّ فی إتعاب المیرزا و غیره نفسه لإثبات الإطلاق فی مقابل « أو » و فی مقابل الشرط المتقدّم أو المتأخر ... .

طریق المحقق الأصفهانی و نقده

و أفاد المحقق الأصفهانی : أن ترتّب أیّ حکمٍ علی أیّ عنوان بخصوصیّته ، یکشف عن دخلها فی الحکم ، و إلّا لم یکن وجه لأخذها و لزم لغویّة جعلها شرطاً یترتب علیها الجزاء ... فیکون نفس ترتب الجزاء علی هذا الشرط - بنحو ترتب المعلول علی العلة - کاشفاً عن الانحصار .

و یظهر الإشکال فیه مما تقدّم ، فإنه منقوض بالأوصاف و الألقاب ، و لازمه القول بثبوت مفهوم الوصف فی مثل : أکرم زیداً العالم . و نحوه .

ص:188

طریق المحاضرات و نقده

و ذهب السید الخوئی فی ( المحاضرات ) (1) إلی عدم إمکان إثبات المفهوم للقضیة الشرطیة إلّا علی مسلکه فی بابی الإخبار و الإنشاء ، ( قال ) : لقد ذکرنا فی بحث الإنشاء و الإخبار أن الجملة الخبریة موضوعة للدلالة علی قصد المتکلّم الحکایة و الإخبار عن ثبوت النسبة فی الواقع أو نفیها عنه ، و أنّ الجملة الإنشائیة موضوعة للدلالة علی إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج .

و علی هذا ، فإن الجملة الشرطیة إذا کانت إخباریة فهی دالّة علی قصد المتکلّم الحکایة و الإخبار عن ثبوت شیء فی الواقع علی تقدیر ثبوت شیء آخر لا علی نحو الإطلاق و الإرسال بل علی تقدیر خاص ، فالنهار موجود علی تقدیر طلوع الشمس لا مطلقاً ، و لازم هذه النکتة هو الانتفاء عند انتفاء التقدیر الخاص ، و هذا هو الدلالة علی المفهوم .

و أما إذا کانت الجملة الشرطیة إنشائیةً فهی علی نوعین :

الأول : ما یتوقف الجزاء علی الشرط تکویناً مثل : إنْ رزقت ولداً فاختنه .

و الثانی : ما یتوقف علیه الجزاء اعتباراً .

أمّا الأول ، فخارج عن محلّ الکلام .

و أمّا الثانی ، مثل : إن جاءک زید فأکرمه ، فالدلالة علی المفهوم فیه تامة علی ما تقدّم ، و حاصله : إن الجملة تفید وجود اعتبار وجوب الإکرام فی خصوص حال مجیء زید و علی هذا التقدیر فقط ، فإنه قد اعتبر المولی ذلک و أبرزه بهذا اللّفظ ، فإذا انتفی المجیء انتفی وجوب الإکرام بالدلالة الالتزامیة کما تقدّم سابقاً .

و أشکل علیه الأُستاذ بالنقض فی الأوصاف ، فإنه علی مسلکه من الاعتبار

ص:189


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 211 .

و الإبراز یکون الحکم معلّقاً علی الصفة کما ذکر تماماً فی الشرط .

طریق الشیخ الأُستاذ

و شیخنا الأُستاذ - و إنْ قرّب فی الدورة السابقة الإطلاق فی مقابل « أو » - ذکر طریقاً آخر فی الدورة اللاّحقة ، و حاصله - بعد الیأس عن اللّغة - هو الرجوع إلی الارتکاز العقلائی ، فإن أهل العرف یفرّقون بین الوصف و الشرط ، و أن الشرط یفید الانحصار إلّا مع قیام القرینة علی العدم . و الشاهد علی ذلک : أنه فی حال تعدّد الشرط و وحدة الجزاء یری العرف التنافی و التعارض و یحتاج العلماء إلی بیان الجمع - کما سیأتی - ، أمّا مع تعدّد الوصف فلا یری أحدٌ التعارض أصلاً ...

فهذا یفید أن فی أداة الشرط خصوصیةً - و إن لم نتوصّل إلیها - تفترق بها عن الوصف ... و هذا المقدار من الافتراق و التفاوت کاف لإثبات المفهوم للقضیة الشرطیّة .

و یؤکّد ذلک ما جاء بتفسیر قوله تعالی حکایةً لقول ابراهیم «بَلْ فَعَلَهُ کَبیرُهُمْ » (1)، فقد ذکر المفسّرون ثمانیة وجوهٍ منها أن کلمة «فَسْئَلُوهُمْ إِنْ کٰانُوا یَنْطِقُونَ » جملة معترضة ، فیکون معنی الآیة تعلیق إبراهیم علیه السلام فعل کبیرهم علی نطقهم ، فتخرج الآیة عن الظهور الأوّلی فی الکذب بدلالة «إِنْ کٰانُوا یَنْطِقُونَ » علی المفهوم ، و لو لم یکن للجملة مفهوم لبقی شبهة الکذب .

هذا ، و فی معانی الأخبار (2) روایة عن الإمام علیه السلام فیها بیان معنی الآیة علی الوجه المذکور ، ممّا یدل علی تمسّکه بمفهوم الشرط ، لکن سندها غیر تام .

ص:190


1- 1) سورة الأنبیاء : الآیة 63 .
2- 2) معانی الأخبار : 210 .

لکن فی روایة معتبرةٍ عن أبی بصیر - یعنی المرادی - قال : « سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الشاة تذبح فلا تتحرک ، و یهراق منها دم کثیر عبیط ، فقال : لا تأکل ، إنّ علیاً کان یقول : إذا رکضت الرجل أو طرفت العین فکل » (1) .

فهذه الرّوایة دلّت علی أن الإمام علیه السلام استفاد المفهوم من کلام جدّه أمیر المؤمنین ... - و الألفاظ المستعملة فی کلمات الأئمة بلا عنایةٍ ظاهرة فی معانیها - فکانت حجة لإثبات مفهوم الشرط .

و أیضاً : الروایة عن أبی أیوب و استدلال الإمام علیه السلام بالآیة «فَمَنْ تَعَجَّلَ فی یَوْمَیْنِ فَلٰا إِثْمَ عَلَیْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلٰا إِثْمَ عَلَیْهِ » (2)(3)تفید ثبوت المفهوم ، إذ لو لم تکن جملة «فَمَنْ تَعَجَّلَ » دالّة علی المفهوم - أی الإثم علی من تعجّل - لما کان حاجة إلی الجملة الثانیة «وَمَنْ تَأَخَّرَ ... » .

و کذلک الاستدلال بالروایات الاخری ، مثل « إذا کان الماء قدر کرٍّ لم ینجّسه شیء » (4) و« إذا التقی الختانان فقد وجب الغسل ... » (5) .

فالحق : ثبوت المفهوم ... و یقع الکلام فی :

أدلّة المنکرین

و عن جماعة من الاصولیین القول بعدم المفهوم للجملة الشرطیة ، أی إنه لا دلالة لها علی الانتفاء عند الانتفاء و إنما تدل علی مجرّد الإناطة ، و قد استدلّوا بوجوه :

ص:191


1- 1) وسائل الشیعة 24 / 24 ، کتاب الصید و الذباحة ، الباب 12 ، الرقم : 1 .
2- 2) سورة البقرة : الآیة 203 .
3- 3) وسائل الشیعة 14 / 275 ، کتاب الحج ، أبواب العود إلی منی ، الباب 9 ، الرقم : 4 .
4- 4) وسائل الشیعة 1 / 158 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، الرقم : 1 و 2 .
5- 5) وسائل الشیعة 2 / 184 ، الباب 6 من أبواب الجنابة ، الرقم : 5 .

الوجه الأول و لعلّها عمدتها ، ما عن السیّد المرتضی قدّس سرّه (1) ، و حاصله : أنا نری قیام شرط آخر مقام الشرط المذکور فی الکلام و ترتّب الجزاء علیه بدلاً عنه فی الأدلّة الشرعیة و کلام أهل العرف ، فیتعدّد المعلّق علیه و لا ینحصر فی واحد ، مثلاً فی باب الشهادات ، تدلّ الآیة المبارکة «وَاسْتَشْهِدُوا شَهیدَیْنِ مِنْ رِجٰالِکُمْ » (2)علی توقف ترتب الحکم فی الواقعة علی شهادة شهیدین من الرجال ، لکنْ ینوب عن هذا الشرط الرجل و الامرأتان ، و یترتب الحکم ... إذن ، لا تدلّ الجملة الشرطیة إلّا علی مطلق الإناطة ، لأنه فی کلّ موردٍ یحتمل قیام الشیء الآخر فی الشرطیة مقام الشّرط المذکور فی القضیة .

و الجواب عنه ، یتلخّص فی : إنه لا کلام ثبوتاً فی نیابة شرطٍ عن آخر فی الشرطیة للجزاء ، و تعدّد الشرط فی الشریعة کثیر ، و کذلک فی الامور الخارجیة ، کقیام الشمس - مثلاً - مقام النار فی الحرارة ... إنما الکلام فی مقام الإثبات ، فإنه لمّا قال : « إن جاءک زید فأکرمه » کان هذا الکلام ظاهراً فی تعلیق وجوب الإکرام علی المجیء ، و به یندفع الاحتمال المذکور ، لأنه ظاهر فی الإطلاق بالنسبة إلی غیر هذا الشرط ، أی: یجب إکرامه إن جاء ، سواء تکلّم مثلاً أو لا ، سواء أحسن إلیک أو لا ... و هکذا ، فللکلام فی مقام الإثبات إطلاق یدفع کلّ احتمال ، فلو قام الدلیل علی شرطیة شیء غیر المجیء أیضاً ، تقیّد الإطلاق و أصبح التکلّم - مثلاً - شرطاً للإکرام إلی جنب المجیء ... .

فما جاء فی کلام السید رحمه اللّٰه خلط بین مقامی الثبوت و الإثبات .

و عن صاحب ( القوانین ) (3) الجواب باندفاع احتمال النیابة بالأصل .

ص:192


1- 1) الذریعة إلی اصول الشریعة 1 / 406 .
2- 2) سورة البقرة : الآیة 282 .
3- 3) قوانین الاصول 1 / 177 .

و فیه : إن المحقق القمی من القائلین بالدّلالة الوضعیّة ، و هذا المبنی غیر صحیح . هذا أوّلاً . و ثانیاً : إنّ التمسّک بالأصل لدفع الاحتمال غیر صحیح کذلک ، لأن الظهور الوضعی کاف لدفعه لکونه حجةً ، و قد تقرر حجیّة مثبتات الظهورات الوضعیّة . و ثالثاً : لقد ظهر أن أصالة الإطلاق تدفع الاحتمال و لا تصل النوبة إلی الأصل ... فجواب المیرزا غیر مفید علی کلا المسلکین .

الوجه الثانی : إن المفهوم المدّعی للجملة الشرطیّة مدلولٌ للکلام ، و کلّ مدلولٍ فلا بدّ له من دالّ یدلّ علیه ، و لا یوجد فی البین شیء من الدلالات الثلاث .

و الجواب : إنه قد تقرّر أن المدلول من قبیل الدلالة الالتزامیّة بالمعنی الأخصّ .

الوجه الثالث : قوله تعالی «وَلٰا تُکْرِهُوا فَتَیٰاتِکُمْ عَلَی الْبِغٰاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا » (1)فالآیة المبارکة جملة شرطیة ، و لا مفهوم لها قطعاً ، و إلّا دلّت علی جواز الإکراه علی الزنا ... قاله السیّد رحمه اللّٰه .

و الجواب :

قال فی ( الکفایة ) (2) : بأنه متی قامت القرینة فی موردٍ علی عدم المفهوم رفعنا الید ، و الآیة من هذا القبیل .

و هذا الجواب قد ذکره الأُستاذ فی الدّورة السابقة و سکت علیه . أمّا فی الدّورة اللّاحقة فقال ما ملخّصه : إنه غیر مناسب لشأنه ، لأنّ الاستناد إلی وجود المانع یکون - من الناحیة الصّناعیة - فی فرض تمامیّة المقتضی ، و حیث لا مقتضی

ص:193


1- 1) سورة النور : الآیة 33 .
2- 2) کفایة الاصول : 198 .

ثبوتاً لا یصح التمسّک بوجود المانع أو عدم الشرط . و الآیة من قبیل عدم المقتضی للمفهوم ، لأنها مسوقة لبیان الموضوع ، و الکلام المسوق لذلک لا مفهوم له ثبوتاً أصلاً .

و هذه هی أدلّة المنکرین لمفهوم الشرط .

تکمیلٌ

اشارة

بقیت امور لا بدّ من التعرّض لها .

الأمر الأول ( فی أنّ المعلّق سنخ الحکم )

اشارة

لمّا کان المفهوم هو انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط ، فلا بدّ و أن یکون المعلّق علی الشرط سنخ الحکم ، لأنّ شخصه ینتفی بانتفاء الشرط یقیناً ، فلا معنی للبحث و الخلاف فی بقائه ، و القابل للبقاء بعد زوال الشرط هو سنخ الحکم ، و حینئذٍ ، یبحث عن إمکان بقائه رغم انتفاء الشرط و عدم بقائه ... .

لکنْ المشکلة هی کیفیّة تصویر أنّ المعلّق هو سنخ الحکم ، و ذلک إنما یتمّ فیما لو کان جزاء الشرط جملة اسمیة کقوله : إن جاءک زید فالإکرام واجب ، لأن « واجب » ظاهر فی أن المراد سنخ الوجوب ، و لیس الأمر کذلک فی الجملة الإنشائیة ، لأنّ ظاهر قوله : إن جاءک زید فأکرمه ، هو تعلیق الشخص لا السنخ ، لأن مدلول « فأکرمه » حرفی و وضعه عام و الموضوع له خاص و کذا المستعمل فیه ، فیکون المعلّق علی مجیء زید شخص الإکرام ، و انتفاء هذا الشّخص بانتفاء المجیء عقلی ، فلا مفهوم .

و أیضاً : هناک مشکلة اخری و هی : إن المعانی الحرفیّة لا تقبل اللّحاظ الاستقلالی ، فلا یجری فیها الإطلاق و التقیید ، و الحال أنّه فی القضایا الشرطیّة یکون الجزاء مقیّداً بالشرط .

ص:194

إذن ، لا بدّ من تصویر کون المعلّق هو سنخ الحکم لا شخصه حتی یتمّ المفهوم للقضیة الشرطیة ... و قد ذکرت لذلک طرق :

الطریق الأول

ما ذهب إلیه السید الخوئی من مبنی الاعتبار و الإبراز فی الخطابات ، فإنه بناءً علیه یعتبر المولی وجوب إکرام زید علی تقدیر مجیئه و یبرز هذا الاعتبار بقوله : إنْ جاءک زید فأکرمه ... و من المعلوم أن المعتبَر دائماً هو سنخ الکلام لا شخصه .

و هذا الطریق یحلّ المشکلة فی المقام . إلّا أن الکلام فی أصل المبنی .

الطریق الثانی

ما ذهب إلیه المحقق الخراسانی ، من أن المعنی الحرفی و الاسمی واحد و الاختلاف فی مقام الاستعمال ، و کذلک الأحکام فی الجملة الاسمیّة و الخبریّة ، و إذا کان المعنی واحداً . فالمعلّق هو السّنخ .

و هذا الطریق أیضاً یحلّ المشکلة . إلّا أن الکلام فی أصل المبنی .

الطریق الثالث

ما ذهب إلیه شیخنا دام ظلّه فی مسألة المعنی الحرفی من وجود السنخیة بین المعانی الحرفیّة ، و أن هناک جامعاً بین معنی « من » فی « سرت من البصرة إلی الکوفة » و معناه فی « سرت من المدرسة إلی المسجد » فالموضوع له عام ... خلافاً للمشهور .

و هذا الطریق أیضاً یحلّ المشکلة . إلّا أنه طریق مبنائی .

الطریق الرابع

ما ذهب إلیه المیرزا من إرجاع الشرط إلی نتیجة الجملة لا إلی مفاد الهیئة

ص:195

أی : إن الشرط و هو المجیء یرجع إلی وجوب الإکرام الذی هو نتیجة « أکرمه » لأنه هو المشروط فی الحقیقة . فعاد المعنی الحرفی إلی الاسمی ، فکان الحکم سنخیّاً و لا مشکلة .

و هذا الطریق - کما هو ظاهر - خلاف ظاهر القضیّة الشرطیة .

الطریق الخامس

ما ذهب إلیه المحقق الأصفهانی ، من أن المعلّق لیس شخص وجوب الإکرام بما هو ملزوم باللّوازم الخاصة ، بل هو الوجوب بقطع النظر عنها ، فهو « الوجوب » بقطع النظر عن المکان المعین و الحال الخاصّة ، و هذا هو المراد من السنخ ، و لمّا کان المفروض انحصار وجوب الإکرام بالمجیء فقط و أنه العلّة المنحصرة ، فإنه ینتفی بانتفاء المجیء .

و هذا الطریق یخالف مبنی هذا المحقق فی حقیقة معنی الهیئة ، فإنه یری أن معنی هیئة افعل هو البعث النسبی ، فللّوازم و الخصوصیّات دخلٌ یستلزم التشخّص ... و إذا کانت النسبة معنی الهیئة ، فإن وجودها متقوم بوجود الطرفین ، و مع عدم لحاظهما لا یبقی شیء .

الطریق السادس

ما ذهب إلیه الشیخ الأعظم ، و له ثلاث مقدّمات :

الاولی : إنه لا بدَّ فی جمیع الظهورات من ملاحظة المناسبة بین الحکم و الموضوع ، فقد تکون معمّمةً .

و الثانیة : إن العلّة فی القضیة الشرطیة منحصرة .

و الثالثة : إن نسبة الشرط إلی الجزاء نسبة المقتضی إلی المقتضی .

و علی أساس هذه المقدّمات تنحلّ المشکلة ، لأنه إذا قال : إن جاءک زید

ص:196

فأکرمه ، کان نسبة المجیء إلی الإکرام نسبة المقتضی ، لکنّ المفروض کون المجیء علّةً منحصرةً للإکرام ، و مع لحاظ مناسبة الحکم و الموضوع لا یکون الحکم فرداً من الوجوب بل کلّ الوجوب یثبت للإکرام و یکون المعلّق هو سنخ الحکم ، و قد علم بذلک بمعونة الامور الثلاثة ، و إلّا فإن القضیة بوحدها لا دلالة فیها علی المعنی المذکور .

هذا بغض النظر عن مسلک الشیخ فی القضایا الشرطیة ، حیث اختار رجوع الشرط إلی المادة دون الهیئة .

و أمّا بالنظر إلی مسلکه فالمشکلة منحلّة کذلک ، لأنّه لا یکون مفاد « فأکرمه » - أی الهیئة - هو المشروط بل المشروط و المقیّد هو « الإکرام » ، فکان للمجیء دخلٌ فی الإکرام ، لکن مناسبة الحکم و الموضوع تقتضی عدم الاختصاص بفردٍ من الإکرام ، بل کلّ الإکرام منوط بالمجیء ، و هذا هو السنخ .

فالطریق الصّحیح هو مختار شیخنا دام بقاه ، و مع التنزّل ما ذهب إلیه الشیخ الأعظم قدّس سرّه .

الأمر الثانی (إذا تعدّد الشرط و اتحد الجزاء)

اشارة

کما فی : إذا خفی الجدران و خفی الأذان فقصّر .

أمّا علی القول بعدم المفهوم فلا کلام ، بل هما حکمان لموضوعین .

و أمّا علی القول بالمفهوم - إمّا بالوضع اللغوی و إمّا بالإطلاق المنصرف إلی الفرد الأکمل و هو العلّة المنحصرة ، و إمّا بالظهور العرفی و إمّا بالإطلاق المقامی - فیقع الإشکال ، لأنّ مفهوم « إذا خفی الجدران » مطلق ، أی سواء خفی الأذان أو لا ، و کذا مفهوم « إذا خفی الأذان » أی: سواء خفیت الجدران أو لا ، فما هو الرافع لهذا التمانع بین منطوق أحدهما مع مفهوم الآخر ؟

ص:197

المستفاد من کلام ( الکفایة ) (1) أربعة وجوه لرفع الإشکال ، و من کلام المیرزا (2) خمسة ، لکنّه أرجعها إلی وجهین ، و الوجوه هی :

1 - إنکار المفهوم فی حال تعدّد الشرط .

2 - إن الشرط هو الجامع الانتزاعی و هو عنوان « أحدهما » أو « أحدها » .

3 - تقیید کلٍّ من القضیتین و الجمع بینهما ب« الواو » ، فیکون الشرط للجزاء کلا الأمرین .

4 - التقیید ب« أو » بأن یکون الشرط للقصر خفاء الأذان أو خفاء الجدران .

5 - تقیید مفهوم کلٍّ منهما بمنطوق الآخر ، بأنْ یبقی الإطلاق فی المنطوقین علی حاله و ترفع الید عنه فی المفهومین .

أمّا أنْ یقال بتقیّد مفهوم کلٍّ من القضیّتین بمنطوق الآخر من دون تصرّف فی المنطوق ، بأنْ یکون کلٌّ من خفاء الجدران و خفاء الأذان موضوعاً مستقلّاً للقصر .

ففیه : إنه سواء قلنا بتبعیّة الدلالة الالتزامیة للدلالة المطابقیة أو لم نقل ، فلا مناص هنا من القول بسقوط الدلالة الالتزامیة بتبع المطابقیة ، لأن المنطوق یدلّ بالمطابقة علی ثبوت الحکم و انحصاره ، لکونه جملةً شرطیة ، و المفهوم هو لازم هذا المنطوق ، فإنْ بقی علی إطلاقه فالمفهوم باق ، و إن سقط الإطلاق فیه سقط المفهوم لا محالة ، فالقول بتقیید المفهوم مع بقاء المنطوق علی حاله لا معنی له .

و أمّا أن یقال بعدم المفهوم فی مثل هذه القضایا ، فلا تنافی بین الدلیلین .

ففیه : إنه إن کان الدلیل الآخر متّصلاً بالأول فلا مفهوم ، لأنّ الآخر یصلح

ص:198


1- 1) کفایة الاصول : 201 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 259 .

للقرینیّة حینئذٍ ، و لکنهما منفصلان و المفروض کون المتکلّم فی مقام البیان ، و أن العلیّة و انحصارها تام ، فالقول بعدم المفهوم یستلزم التفکیک بین المعلول و العلّة .

هذا ، و قد أرجع المیرزا هذا الوجه إلی الوجه القائل بالتقیید ب« أو » و أن الشرط أحد الأمرین ، لأنه بتقیید مفهوم کلّ منهما بمنطوق الآخر ، بأن یکون مفهوم « إذا خفی الأذان فقصر » : إذا لم یخف الأذان فلا تقصّر - مقیّداً ب« إذا خفی الجدران » و بالعکس - یسقط کلا المفهومین کذلک ، فلا فرق بین أن یقال بإنکار المفهوم أصلاً أو یقال بالتقیید ب« أو » .

و أورد علیه الأُستاذ - فی کلتا الدورتین - بالفرق بین الوجهین ، لأن سقوط الإطلاق بالتقیید ب« أو » عبارة عن التصرّف فی المنطوق فی مقام الحجیّة ، بخلاف سقوط المفهومین فإنه تصرّف فی مرحلة الظهور ، و وجه الفرق هو أنّ القائل بعدم المفهوم عند تعدّد الشرط و وحدة الجزاء ، ینکر أصل ظهور الجملة الشرطیة فی الانتفاء عند الانتفاء ، لکنّ تقیید المفهوم بمنطوق الآخر فرع تمامیّة الظهور ، و هذا فرق علمی . و أمّا عملاً ، فإنّه حیث یقیّد الإطلاق ترفع الید عنه بقدر التقیید و یبقی الباقی علی حجیّته ، و أمّا بناءً علی إنکار المفهوم من أصله ، فلا إطلاق حتی یکون حجةً فی غیر مورد التقیید . فظهر الفرق بینهما علماً و عملاً .

و أمّا أن یقال : بأن الشرط هو الجامع الانتزاعی و هو عنوان أحدهما ، فإنّ هذا یرجع بالنتیجة - کما قال المیرزا - إلی التقیید ب« أو » ، إذ لا فرق فی النتیجة بین یجب علیک أحد الأمرین من العتق و إطعام ستین مسکیناً ، و أطعم ستین مسکیناً أو أعتق رقبةً ... .

فیبقی وجهان ... التقیید ب« الواو » و التقیید ب« أو » .

ص:199

رأی الکفایة

قال فی ( الکفایة ) : لعلّ العرف یساعد علی الوجه الثانی ، کما أن العقل ربّما یعیّن هذا الوجه ، بملاحظة أن الامور المتعددة بما هی مختلفة لا یمکن أن یکون کلّ منها مؤثراً فی واحدٍ ، فإنه لا بدّ من الربط الخاصّ بین العلّة و المعلول ، و لا یکاد یکون الواحد بما هو واحد مرتبطاً بالاثنین بما هما اثنان ، و لذلک أیضاً لا یصدر من الواحد إلّا الواحد ، فلا بدّ من المصیر إلی أن الشرط فی الحقیقة واحد و هو المشترک بین الشرطین بعد البناء علی رفع الید عن المفهوم و بقاء الشرط فی کلٍّ منهما علی حاله ، و إن کان بناء العرف و الأذهان العامیّة علی تعدد الشرط و تأثیر کلّ شرط بعنوانه الخاص . فافهم .

و حاصل کلامه قدس سرّه هو : إنه من الناحیة العرفیّة لا بدّ من رفع الید عن المفهوم فی القضیتین . و أما من الناحیة العقلیّة ، فلا بدّ من جعل الشرط هو القدر المشترک بینهما ، أی الجامع بین الخصوصیتین ، بمقتضی قاعدة أن الواحد لا یصدر منه إلّا الواحد .

الإشکال علیه

فأشکل علیه الأُستاذ بمنع إنکار العرف المفهوم فی هذه الموارد ، بل إنهم یفرّقون بین صورتی اتصال الکلام و انفصاله ، فإن کانت الجملتان متّصلتین فالمفهوم ساقط ، لکنّ البحث فی صورة الانفصال ، و القول بإنکارهم فی هذه الصّورة ممنوع ، بل الظهور العرفی لکلٍ منهما منعقد ، فلا بدّ من علاج .

و أمّا الوجه العقلی ففیه : إن القاعدة المذکورة موردها هو البسیط من جمیع الجهات و الحیثیّات ، الذی وحدته وحدة حقة حقیقیّة و لا تعدّد فیه مطلقاً ، و جزاء الشرط فی مورد الکلام و إنْ کان له وحدة سنخیة إلّا أنها وحدته لیست وحدةً حقة

ص:200

حقیقیّة ، و الواحد السنخی یمکن صدوره من المتعدّد . هذا أولاً : و ثانیاً : إن مورد البحث هو الأحکام الشرعیة ، و منشأ الصدور فیها هو الاعتبار الشرعی ، و من الواضح أنّ نسبة الموضوعات و الشروط إلی الأحکام لیست نسبة العلّة إلی المعلول .

رأی المیرزا

و تلخّص البحث فی أنه لا بدّ من علاج للتنافی ، إن لم نقل بالتساقط و الرجوع إلی دلیلٍ آخر أو أصل عملی ... و العلاج هو الجمع ب« الواو » أو ب« أو » ، و قد اختار المیرزا الطریق الأول ، و حاصل کلامه :

إن کلّ قضیة شرطیة فلها إطلاقان ، أحدهما هو الإطلاق بالنسبة إلی أیّ ضمیمةٍ ، فلمّا قال : إن خفی الأذان فقصّر ، کان ظاهراً فی استقلال خفاء الأذان فی الشرطیّة للقصر ، و أنه لیس لهذا الشرط جزء ، بل هو تمام الشرط . و الثانی هو الإطلاق بالنسبة إلی أی شیء یکون شرطاً غیر هذا المشروط ، فلمّا قال : إن خفی الأذان فقصّر ، کان ظاهراً فی انحصار العلیّة للقصر فی خفاء الأذان .

أمّا الإطلاق الأول ، فیعبّر عنه بالإطلاق فی قبال « الواو » .

و أمّا الثانی ، فیعبّر عنه بالإطلاق فی قبال « أو » .

هذا کلّه فی حال وحدة الشرط و الجزاء .

فإنْ تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء ، وقع التنافی بین الجملتین ، کما هو واضح ، فلا بدّ من طریقٍ للعلاج ، و هو أن یقال بأن الإطلاق الثانی فی طول الأوّل ، و أنّ الأوّل مقدّم رتبةً علی الثانی ، لأنه ما لم یتم الأوّل فیعیّن به شخص الشرط و حدّه ، لا تصل النوبة إلی البحث عن انحصار العلیّة و عدم انحصارها فیه ، فلو تعدّد الشرط فإنّه بمجرّد انعقاد الإطلاق الأول یمتنع انعقاد الثانی ، لأن انعقاده موقوف

ص:201

علی تمامیّة المقتضی و عدم المانع ، و من الواضح مانعیّة الإطلاق الأول بالنسبة إلیه .

قال المیرزا : لکنّ تقدّم أحد الإطلاقین علی الآخر فی الرتبة لا یوجب صرف التقیید إلی المتأخر ، لأن الموجب لرفع الید عن الإطلاقین إنما هو وجود العلم الإجمالی بعدم إرادة أحدهما ، و من الواضح أن نسبة العلم الإجمالی إلی کلیهما علی حدٍّ سواء ، فلا موجب لرفع الید عن أحدهما بخصوصه دون الآخر ، فیسقط کلاهما عن الحجیّة ، لکنّ ثبوت الجزاء - کوجوب القصر فی المثال - یعلم بتحقّقه عند تحقق مجموع الشرطین علی کلّ تقدیر ، و أمّا فی فرض انفراد کلّ من الشرطین بالوجود ، فثبوت الجزاء فیه یکون مشکوکاً فیه ، و لا أصل لفظی فی المقام علی الفرض - لسقوط الإطلاقین بالتعارض - فتصل النوبة إلی الأصل العملی ، فتکون النتیجة موافقةً لتقیید الإطلاق المقابل بالعطف بالواو .

رأی السید الخوئی

و ذهب السید الخوئی إلی الجمع ب« أو » ، فقال (1) بعد ذکر مختار المیرزا ما ملخّصه :

و لنأخذ بالمناقشة علی ما أفاده صغراً و کبراً .

أما بحسب الصغری ، فلأنّ مورد الکلام لیس من صغریات ما أفاده من کبری الرجوع إلی الأصل العملی ، بل هو من صغریات الرجوع إلی الأصل اللّفظی ، و توضیح ذلک :

إن وجوب القصر علی المسافر ثابت بالإطلاقات الواردة بالکتاب و السنّة ، و المقصود هو السفر العرفی ، و هو یصدق عند العرف علی من خرج من بلده

ص:202


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 246 .

بقصد السفر ، غیر أن الشارع قیّد ذلک بالوصول إلی حدّ الترخّص بالأدلّة ، فما لم یصل المکلّف إلی الحدّ المذکور فلا تقصیر ، فلو خفیت إحدی الأمارتین - من الأذان و الجدران - و شکّ فی وجوب القصر علیه ، کان المرجع الإطلاقات - لا الأصل العملی من البراءة عن القصر أو استصحاب بقاء التمام - و مقتضی الإطلاق وجوب القصر ... لأن القدر الثابت من تقییدها هو ما إذا لم یخف الأذان و الجدران ، أما مع خفاء أحدهما فلا نعلم بتقییدها ، و معه لا مناص من الرجوع إلیها لإثبات وجوب القصر ، لفرض عدم الدلیل علی التقیید بعد سقوط کلا الإطلاقین بالمعارضة ، فتکون النتیجة هی نتیجة العطف ب« أو » ... فالکبری التی ذکرها المیرزا غیر منطبقة علی المقام .

( قال ) : و أما بحسب الکبری ، فالصحیح أن القاعدة تقتضی تقیید الإطلاق المقابل للعطف ب« أو » دون « الواو » کما اختاره شیخنا الأُستاذ ، و السّبب فی ذلک هو : إنه لا منافاة بین منطوقی القضیتین الشرطیتین المتقدّمتین ، ضرورة أن وجوب القصر عند خفاء الأذان لا ینافی وجوبه عند خفاء الجدران أیضاً ، لفرض أن ثبوت حکمٍ لشیء لا یدلّ علی نفیه عن غیره ، و کذا لا منافاة بین مفهومیهما ، لوضوح أنّ عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان لا ینافی عدم وجوبه عند عدم خفاء الجدران ، إذ عدم ثبوت حکم عند عدم شیء لا یقتضی ثبوته عند عدم شیء آخر ، لیکون بینهما تنافی .

بل المنافاة إنما هی بین إطلاق مفهوم احداهما و منطوق الاخری ، مع قطع النظر عن دلالتها علی المفهوم . و ما تقدّم من شیخنا الأُستاذ - و هو رفع الید عن کلا الإطلاقین معاً و الرجوع إلی الأصل العملی - و إنْ أمکن رفع المعارضة به ، إلّا أن الأخذ به بلا موجب بعد إمکان الجمع العرفی بین الدلیلین ... .

ص:203

( قال ) ما حاصله : إنه یمکن الجمع بین الدلیلین علی أنحاء ، کأن یحمل أحدهما علی الاستحباب أو علی التقیّة أو ما شاکل ذلک ، لکنّ المطلوب لیس هو الجمع کیفما اتفق بل الذی یساعد علیه العرف ... و الجمع العرفی فی محلّ الکلام ممکن - فلا موجب للرجوع إلی الأصل العملی - و هو تخصیص مفهوم کلّ من القضیّتین بمنطوق الاخری ، و نتیجة ذلک هو التقیید و الجمع ب« أو » ، فإنّه الجمع الدلالی المطابق للارتکاز العرفی فی المقام و أمثاله .

رأی الأُستاذ

و قد أفاد الشیخ الأُستاذ دام ظلّه : بأن ما أورد علی المیرزا فی کیفیة الجمع هو الحق ، وعلیه أکثر المتقدّمین خلافاً لأکثر المتأخرین ، فإنّه مقتضی الصناعة العلمیّة و الذوق العرفی و الارتکاز العقلائی ... و علی الجملة ، فإنّ منشأ التنافی هو الدّلالة فی کلٍّ منهما علی الانحصار و هو یرتفع بتقیید الإطلاق فی مقابل « أو » .

و أمّا الإشکال علیه : بأنّ المورد لیس من موارد الرجوع إلی الأصل العملی بل هو من موارد التمسّک بالدلیل اللّفظی و هو عموم : المسافر یقصّر ، لأنه بمجرّد خروجه من البلد یصدق علیه عنوان المسافر . فقد یمکن دفعه بالتأمّل فی صدق العنوان المذکور علی من خرج إلی أطراف البلد ، و مع الشک ، فالشبهة مفهومیّة و المرجع فیها هو الأصل لا العام .

نعم ، یقوی الإشکال علیه بالنظر إلی کلامه فی کتاب الصّلاة (1) ، حیث تمسّک هناک عند الشک بعموم « المسافر یقصّر » ، فلیس المورد من الشبهة المفهومیة ، وعلیه ، فلما ذا لم یرجع هنا إلی العام ؟

ص:204


1- 1) کتاب الصلاة - بتقریر الشیخ الآملی - ج 3 ص 369 .
النظر فی کلام السید البروجردی

و یبقی النظر فی کلامٍ للسید البروجردی (1) ، فقد أشکل بأنّ المفهوم أمرٌ تبعی للمنطوق ، فلا یعقل انعقاد الإطلاق فی المفهوم حتی یقیّد بمنطوق الدلیل الآخر .

فأورد علیه الأُستاذ - فی الدورتین - بأنّه خلطٌ بین التبعیة فی الوجود و التبعیة فی اللّحاظ ، فإنّ التبعیة فی الوجود تجتمع مع الاستقلال فی اللّحاظ ، و حال المفهوم بالنسبة إلی المنطوق من هذا القبیل ، بخلاف مثل المعنی الحرفی بالنسبة إلی الاسمی ، فإنّه تابع له فی اللّحاظ ، و علی هذا ، فإنّ المفهوم قضیّة کالمنطوق ، لها موضوع و محمول ، و الموضوع لا یکون مهملاً بالنسبة إلی محموله ، فهو إمّا مطلق و إمّا مقید .

الأمر الثالث ( فی تداخل الأسباب و المسبّبات )

اشارة

إذا تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء و علمنا بدلیلٍ خارجی أو من نفس ظهور القضیّتین ، أن کلّ واحدٍ من الشروط مستقلّ فی ترتّب الجزاء علیه ، فهل مقتضی القاعدة تداخل الشرطین أو الشروط فی تأثیر أثرٍ واحد أو لا ؟

مثلاً : إذا اجتمع سببان أو أکثر للغُسل کمسّ المیّت و الحیض و الجنابة ، فهل تقتضی کلّها غُسلاً واحداً أو أن کلّاً منها یقتضی غسلاً فیتعدّد ؟ و علی تقدیر الاقتضاء للتعدّد ، فهل مقتضی القاعدة هو التداخل بأنْ یکفی الغُسل الواحد أو لا ؟

هذا ، و لا یخفی أن هذا البحث یطرح ، سواء علی القول بالتضادّ بین الأحکام بأنفسها فلا یجتمع الحکمان فی مورد ، أو القول بأنها اعتبارات و لا مانع من اجتماع الاعتبارین فی موردٍ . أمّا علی الأوّل فواضح ، فإنّه یلزم اجتماع المثلین

ص:205


1- 1) نهایة الاصول : 274 .

فی المثال و هو محال ، و أمّا علی الثانی ، فإنّه لا ریب فی أن الحکم الوجوبی بالغسل إنما هو بداعی تحریک المکلّف نحو الفعل ، لکنّ المادة الواحدة - و هی الغُسل - لا تقبل الانبعاثین فی مقام الامتثال ... فیعود الإشکال .

و قد ذکروا قبل الورود فی البحث اموراً :

الأول : إن مورد هذا البحث حیث لا دلیل من الخارج علی التداخل أو عدمه ، و إلّا فالمتّبع هو الدلیل ، کما هو الحال فی بابی الوضوء و الغسل ، فالنصوص أفادت هناک إجزاء الوضوء أو الغسل الواحد مع تعدّد الأسباب .

الثانی : إن محلّ الکلام هو الشرط القابل للتعدّد و التکرار کالوضوء و الغسل ، أمّا ما لا یقبله فهو خارج ، کما لو ورد دلیل فی أن من أفطر فی شهر رمضان فعلیه کذا ، فإنّ الإفطار - و هو نقض الصوم - یتحقق بالفعل الموجب له ، فإذا انتقض لا ینتقض ثانیاً .

الثالث : إن محلّ الکلام ما إذا کان الجزاء قابلاً للتعدّد ، لا مثل القتل ، فلو ارتکب اموراً یستحق القتل علیٰ کلّ واحدٍ منها ، فإنه لا یقبل التعدّد و التکرّر ، و إنْ کان هناک أحکامٌ مترتّبة ... و کذلک فی المعاملات ، فقد یتحقّق للخیار فی معاملةٍ واحدة أسباب عدیدة من الغبن و الحیوان و العیب ، لکن الفسخ شیء واحد ، و إنْ کان هناک أحکام اخری مترتبة .

الرابع : فی مقتضی الأصل ... و أنه إذا تعدّدت الأسباب هل ترجع إلی سبب واحدٍ و تتداخل أو لا ؟ و إذا تعدّدت المسبّبات ، هل ترجع إلی واحدٍ و تتداخل أو لا ؟

أمّا المسببات ، فمقتضی القاعدة الاشتغال و عدم التداخل ، و ذلک ( أولاً ) مقتضی إطلاق الدلیل ، فإنّ إطلاق أی شرطٍ و جزاءٍ یقتضی الامتثال سواء امتثل

ص:206

بفردٍ آخر أو لا ؟ فلو قال الدلیل : إنْ فعلت کذا فکفّر بکذا ، وجبت علیه الکفارة سواء أعطاها بسببٍ آخر أو لا . ( و ثانیاً ) هو مقتضی الاستصحاب ، فإنه لو کفَّر لسببٍ و شک فی کفایتها عن الکفارة لسببٍ آخر ، یستصحب وجوبها علیه بذاک السبب . ( و ثالثاً ) : إنه مقتضی قاعدة : الاشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیّة .

و أمّا الأسباب ، فمقتضی الأصل هو التداخل و عدم التعدّد ، فإذا تعدّد السبب و شک فی إیجابها للآثار المتعدّدة ، کما فی الوضوء مثلاً ، فإنّ الشک یرجع إلی دوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، لکنّ هذا العلم الإجمالی ینحلّ من جهة کون الأقل متیقّناً ، أما الزائد فمشکوک فیه ، فیستصحب عدم تعلّق الجعل الشرعی به ، و هذا هو الأصل الأول الحاکم فی المقام .

ثم تصل النوبة إلی الأصل المحکوم و هو البراءة الشرعیة ، ثم تجری البراءة العقلیة .

فمقتضی الأصل فی طرف الأسباب هو التداخل ، و فی طرف المسبّبات هو عدم التداخل .

الخامس : فی ما نسب إلی فخر المحقّقین من أنّ القول بالتداخل و عدمه یبتنیان علی کون العلل الشرعیة أسباباً أو معرّفات . فعلی الأول لا تتداخل و علی الثانی فلا مانع من التداخل لجواز اجتماع أکثر من معرّفٍ علی الشیء الواحد .

و قد أورد علیه فی ( الکفایة ) (1) و غیرها بما حاصله : إن الأحکام الشرعیّة معتبرات ، و هی فی الأصل و فی الخصوصیات من الإلزام و الترخیص و غیر ذلک تابعة لإرادة الشارع ، و هی السبب لها ، فالقول بأنّ الأحکام الشرعیّة أسبابٌ و البحث عن کونها مؤثرة أو لا ، غیر صحیح ، بل إنّ کلّ ما عبّر عنه بالسبب الشرعی

ص:207


1- 1) کفایة الاصول : 205 .

فإنّه موضوع و لیس بمؤثّر و لا معرّف ، فالزوال مثلاً له الموضوعیة الشرعیّة لوجوب صلاة الظهر لا أنه مؤثر ... کما أن الحکم بوجوب صلاة الظهر یدور مدار الزوال لا أنه معرّف للحکم ... و علی ما ذکر ، فإن مقتضی القاعدة هو عدم التداخل .

و بعد الفراغ من الامور فاعلم : أن فی المسألة ثلاثة أقوال :

الأول : التداخل . و الثانی : عدم التداخل . و الثالث : التفصیل بین ما إذا اختلف السبب ذاتاً کمسّ المیّت و الجنابة فلا تداخل ، و ما إذا اتّحد السبب کتکرّر الجنابة مثلاً ، فالتداخل و هو مختار ابن إدریس .

رأی صاحب الکفایة

و اختار المحقق الخراسانی القول بعدم التداخل ، و محصّل کلامه هو :

إنّ القضیّة الشرطیة ظاهرة فی حدوث الجزاء عند حدوث الشرط و ترتّبه علیه ، فهی تقتضی الارتباط بین الشرط و الجزاء ، لا أنها تفید فقط ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط ... و علی هذا ، فإن تکرّر الشرط ظاهر فی تکرّر الجزاء ، فیحدث وجوبان للوضوء عند حدوث النوم و البول ، لکنّ اجتماع المثلین محال - أمّا علی مسلکه ، فاجتماع نفس الحکمین محال . و أمّا علی مسلک المحقق الأصفهانی فإنه ینتهی إلی المحال - و إذا لزم المحال ، فلا بدّ من القول بالتداخل ، و هو یتوقف علی ارتکاب أحد امور ثلاثة .

إمّا رفع الید عن ظهور کلّ قضیّة شرطیة فی الحدوث عند الحدوث ، بأنْ یقال بأن الأولی کذلک ، أمّا الثانیة فهی تدلّ علی الثبوت عند الثبوت .

و إمّا التصرّف فی المتعلَّق ، بأنْ یقال إنه و إن کان ظاهر : « إن بلت فتوضأ » و« إنْ نمت فتوضّأ » هو ورود الوجوبین علی الوضوء ، لکنّهما واردان علی أمرین منطبقین علی الوضوء ، کانطباق عنوان العالم و الهاشمی علی زید الواجب إکرامه

ص:208

فی « أکرم الهاشمی » و« أکرم العالم » .

لا یقال : فی هذه الحالة یلزم اجتماع المثلین کذلک ، لأن المفروض هو الإبقاء علی ظهور القضیة فی الحدوث عند الحدوث ، فیحصل الوجوبان للوضوء .

لأنا نقول : انطباق العنوان علی الوضوء یوجب اتصافه بالوجوب لکونه منطبقاً للعنوانین ، لا أنه یحدث له وجوبان ، کما هو الحال فی زید الذی انطبق علیه العنوانان ، فإنه یجب إکرامه ، و لا یجتمع فیه وجوبان .

و إمّا حمل الدلیل الثانی علی التأکید ، فلا یفید حکماً آخر و إنّما یفید التأکید علی الحکم فی الدلیل الأول .

لکنّ ارتکاب شیء من هذه الامور ممنوع ، لکونها خلاف الظّاهر .

علی أنّ الذهاب إلی الوجهین الثانی و الثالث لا دلیل علیه ، فما المثبت لأنَّ الوضوء منطبَق لعنوانین ، و أنه لیس نفسه المتعلَّق للحکم فی القضیتین ؟ و ما الدلیل علی أنّ الخطاب الثانی جاء للتأکید علی مدلول الخطاب الأوّل ؟

فإنْ قیل : لزوم المحال - و هو اجتماع المثلین - برهان علی ضرورة رفع الید عن الظهور .

قلنا : هذا لو لم یکن طریق آخر ، و هو القول بإفادة کلّ شرطٍ فرداً من الوجوب للوضوء غیر الفرد الآخر .

فإنْ قیل : الاحتفاظ بالظهورات و القول بحدوث الفرد الآخر یستلزم المخالفة لظهور آخر ، و هو أنّ کلّ قضیّة شرطیة فلها ظهور إطلاقی فی صِرف الوجود ، فحمل الشرط الثانی علی الفرد غیر الأول مخالفٌ لإطلاق « توضّأ » ...

و صرف الوجود هو ناقض العدم الکلّی فی اصطلاح المشهور ، و ینطبق علی أوّل

ص:209

وجود ، فکان هو المتعلّق ، و أوّل وجودٍ لا تعدّد فیه .

فالجواب : إن ظهور إطلاق متعلّق الوجوب فی صِرف الوجود یقتضی وحدة وجود الوضوء ، إلّا أنّه ظهور إطلاقی ، هو موقوف علی عدم القرینة و ما یصلح للقرینیة ، و حینئذٍ ، فإنّ ظهور کلّ قضیة شرطیة فی الحدوث عند الحدوث و الظهور فی التأسیس دون التأکید قرینة علی سقوط الإطلاق و حمل الأمر بالوضوء علی وجودٍ آخر منه ... فیسقط الإطلاق المقامی ، و یتمُّ القول بعدم التداخل .

رأی المیرزا

و قال المیرزا : إنه إن کان الشرطان مختلفین کما فی مثال البول و النوم للوضوء ، فإنّ کلّاً من القضیّتین مطلق ، أی سواء نمت أو لا . و سواء بُلت أو لا ، و کذلک إن لم یکونا مختلفین کما لو تکرّر البول أو النوم ، لأن کلّ واحدٍ من ذلک موضوع مستقل و یقتضی حکماً ، فظهر أنه مع تعدّد الشرط یتعدّد الجزاء مطلقاً ، لأن کلّ شرط فهو موضوع و کلّ موضوع یقتضی حکماً . فهذا مطلب .

و المطلب الآخر هو : إن ما اشتهر من أن المتعلّق للأمر هو صرف الوجود لا أساس له ، لأن الأمر مثل « توضأ » مرکّب من المادّة و الهیئة ، و لا شیء منهما بدالٍّ علی صرف الوجود ، فلا أساس للإشکال بأنْ صرف الوجود لا یتحمّل الوجودین .

و بناءً علی المطلبین ، یتم القول بعدم التداخل ، لأن الحدوث عند الحدوث یقتضی التعدّد ، و لا محذور من قبل المتعلّق ، لما تقدّم من أنه لا أساس للقول بأن المتعلّق للأمر هو صرف وجود الطبیعة ... فیبقی ظهور القضیّة الشرطیّة علی حاله ، و یتمّ عدم التداخل .

ص:210

الکلام حوله

و هذا البیان قد استجوده تلمیذه فی ( المحاضرات ) (1) ، و للنظر فی المطلب الثانی مجال .

لقد ذکر أنّ المتعلّق هو طبیعة الوضوء ، لأن مفاد الهیئة طلب الإیجاد و المادّة هو الطبیعة ، فلا دالّ علی صرف الوجود ، فنقول :

أولاً : لقد نقل عنه تلمیذه المحقق أنْ المتعلّق هو إیجاد الطبیعة بمعنی نقض العدم المطلق ، وعلیه ، فإن العدم المطلق یستحیل نقضه مرّتین بل یحصل بأول وجود ، و هو لا یقبل التعدّد .

و ثانیاً : إن الطلب المتعلّق بوجود الطبیعة یستحیل أن یکون مهملاً ، وعلیه فلا بدّ من أن تکون الطبیعة لا بشرط بالنسبة إلی الوحدة و التعدّد ، لأنّها بشرط الوحدة صرف الوجود ، و کونها بشرط التعدّد باطل - إذْ لا یقال بتعدّد الوضوء - و إذا کان لا بشرط بالنسبة إلیها ، فالمکلّف إنْ أتی بوضوءٍ واحدٍ لعدة أسباب فقد أتی بمصداق الواجب ، و إنْ أتی بوضوءات متعددة بعدد الأسباب ، کان کلٌّ منها واجباً ، و هذا خلاف الضرورة الفقهیّة .

رأی العراقی

و ذهب المحقق العراقی إلی وجهٍ آخر للقول بعدم التداخل (2) ، و حاصله : إنّ کلّ قضیّةٍ من القضیتین ظاهرة فی الاستقلال ، فهنا ظهوران متمانعان . و لکنْ فی طرف الجزاء ظهور واحد فی صرف الوجود و هو معارض لظهور الشرطین ، فإنْ رفعنا الید عن ظهور الشرطین فی الاستقلال و قلنا بوجوب الوضوء مرةً ، لزم رفع

ص:211


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 263 .
2- 2) نهایة الأفکار (1 - 2) 486 .

الید عن ظهورین ، و إنْ رفعنا الید عن ظهور الجزاء سقط ظهور واحد ... و لا ریب فی أولویّة رفع الید عن ظهور الجزاء ، إذ الضرورات تتقدّر بقدرها .

و ذکر رحمه اللّٰه وجهاً آخر و حاصله :

إن نسبة الجزاء إلی الشرط نسبة المعلول إلی العلّة ، فهو تابع له ثبوتاً و إثباتاً ، فالذی یلحظ أوّلاً هو الشرط ، و عند ما یلحظ کلٌّ من الشرطین ، ینعقد الظهور لکلٍ منهما بالاستقلال ، و ذلک یحول دون أن ینعقد ظهور الجزاء فی صرف الوجود .

النظر فی هذا الرأی

و قد تنظّر الأُستاذ فی کلا الوجهین . أمّا فی الأوّل : فمن جهة عدم البرهان علی الأخذ بالأکثر عند دوران الأمر بین رفع الید عن الظهور الأقل و الأکثر ... لأنّ الملاک هو التعارض بین الحجج ، و لیس التعدّد فی طرفٍ بمرجّح له علی الطرف الآخر .

و أمّا فی الثانی ، فمن جهة أن التفرّع الذی ذکره موجود فی عالم الثبوت .

و أمّا فی عالم الإثبات ، فإنّ الملاک للتقدّم هو القوّة فی الظهور ، فإنْ کان ظهور الشرط أقوی تقدّم علی ظهور الجزاء و إلّا فلا .

رأی المحقق الأصفهانی

و ذکر المحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه : أن الارتکاز العرفی فی أمثال المقام قائم علی عدم دلالة الجزاء علی الوحدة ، فإنّ العرف لما یری الشرط متعدّداً لا یرفع الید عن تعدّده بسبب وحدة الجزاء فی القضیتین .

و ثبوت هذا الارتکاز بحیث لا یتردّد أهل العرف فی الامتثال و یأخذون بالتعدّد أول الکلام ، خاصّةً فی الخطابات الشرعیة التی هی بمثابة الخطاب الواحد .

ص:212

ثم ذکر تحت عنوان « و التحقیق » (1) وجهاً عقلیّاً ، و ملخّص کلامه هو :

إنّ لکلّ من القضیتین بعثاً نحو الجزاء و لیس لها أیّ اقتضاء بالنسبة إلی القضیّة الاخری لا نفیاً و لا إثباتاً ، فهی لها اقتضاؤها فی نفسها ، و أما بالنسبة إلی غیرها فهی بلا اقتضاء ... و أی تنافٍ بین الاقتضاء و اللّاإقتضاء ؟ و حینئذٍ ، یبطل صرف الوجود فی طرف الجزاء ... .

فقال الأُستاذ : إن الکلام فی وقوع البعث بعد البعث ، فإنّ الأوّل یقتضی انبعاثاً و إیجاداً للجزاء فکذلک الثانی ، و علی هذا ، کیف یکون البعث متعدداً و المنبعث إلیه واحداً ؟ فهل یبقی علی ظاهره فی التأسیس أو یحمل علی التأکید ؟

رأی الشیخ الأُستاذ

و قال الشیخ الأُستاذ لحلّ المشکلة : بأنّه متی کان الظهوران تنجیزیّین فالتعارض واقع بلا کلام ، و أمّا فی حال کون أحدهما تعلیقیّاً فلا تعارض و لا مشکلة .

أمّا الکبری فواضحة ، و أمثلتها کثیرة . مثلاً قاعدة قبح العقاب بلا بیان معلّقة علی عدم البیان ، بخلاف حدیث الرفع فإنه منجّز ، لذا یکون دلیل الاحتیاط مقدّماً علی القاعدة لکونه بیاناً ، أمّا حدیث الرفع فلا یتقدّم علیه دلیل الاحتیاط .

و ما نحن فیه من صغریات الکبری ، فإنّ الشرطین ظاهران فی الحدوث عند الحدوث ، لکنّ الجزاء ظاهر فی وحدة المتعلّق و صرف الوجود ... فیقع التنافی بین الشرط و الجزاء ، لأن الشرطین یستدعیان الانبعاثین ، و الجزاء لا یستدعی الأکثر من الواحد ... إلّا أن ظهورهما وضعی و ظهور الجزاء إطلاقی ، و بناءً علی تقدم الوضعی علی الإطلاقی - لکون عدم البیان من مقدمات الإطلاق ،

ص:213


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 434 .

و الوضعی بیان - فالتعارض مرتفع .

هذا ، بناءً علی أن لا یکون ظهور الشرط وضعیّاً ، أو علی القول بعدم تقدم الظهور الوضعی علی الظهور الإطلاقی لدی التعارض ، خاصّة عند الانفصال کما هو المختار ، فالمشکلة باقیة .

أمّا علی مسلکنا من التعارض بین الظهور الإطلاقی و الوضعی ، فبقاء المشکلة واضح . و أمّا أنّ الظهور هنا وضعی أو إطلاقی ؟ فالحق أنه إطلاقی و لیس بوضعی ، لأن ظهور کلٍّ من الشرطین فی الحدوث عند الحدوث یتوقف علی أنْ یکون هو تمام الشرط لترتب الجزاء و أنه مستقل و لا دخل لشیء آخر معه ، و هذا الظهور الاستقلالی إنّما یحصل نتیجة عدم وجود « الواو » کما تقدم ... فکان منشأ هذا الظهور هو الإطلاق ، کما أن ظهور الجزاء فی صرف الوجود إطلاقی .

فالمشکلة باقیة .

و طریقة الحلّ - و الحال هذه - أنْ یقال : بأنّ ظهور الجزاء فی صرف الوجود معلّق علی عدم استقلال کلٍّ من الشرطین ، لأنه مع استقلال کلٍّ منهما فی التأثیر فی الجزاء ، یستحیل انعقاد الإطلاق فی الجزاء فی صرف الوجود ، إذ لا یعقل تحقق الانبعاثین نحو الوجود الواحد ... فکان إطلاق الجزاء موقوفاً علی عدم تعدّد البعث .

و من جهة الشرط ، نری أنّ الظهور الإطلاقی لکلٍ منهما متوقّف علی عدم وجود ( الواو ) کما هو المفروض ، فکان الإطلاق فی طرف الشرط منعقداً ، و کلٌّ منهما ظاهر فی الاستقلال ، و لا قرینة لرفع الید عن هذا الظهور ، و لازم ذلک أنْ لا یکون الجزاء بنحو صرف الوجود ، فلا ینعقد فی طرف الجزاء أصلاً . و هذا هو طریق حلّ المشکلة و به یثبت عدم التداخل .

ص:214

و بما ذکر الأُستاذ یظهر النظر فی کلام المحقق الخراسانی ، حیث جعل - فی « إن قلت » الثانیة و الثالثة - ظهور الشرط فی الحدوث عند الحدوث بیاناً فیتقدم ، لکون انعقاد الإطلاق فی المتعلّق موقوفاً علی عدم البیان ، فهو یتقدّم من باب الظهور علی مبنی الشیخ و من باب الحجیّة علی مبنی المحقق المذکور .

وجه النظر : توقف بیانیّته علی أن یکون ظهوره وضعیّاً ، أمّا إن کان إطلاقیاً فیقع التعارض بین الإطلاقین و لا تقدّم بل یتساقطان ... و هو لم یدَّع کون الظهور وضعیّاً بل أنکره .

و قد أورد المحقق الإیروانی علیه هذا الإشکال ، لکنّه لم یدفعه بما ذکر الأُستاذ من کون أحد الإطلاقین تعلیقیّاً و الآخر تنجیزی ، فلا تعارض حتی بناءً علی کون الظهور إطلاقیّاً .

و تلخّص : أن المشکلة ترتفع بأنّ الإطلاق فی طرف الشرط منعقدٌ منجّزاً ، لکنّه فی طرف الجزاء معلّق علی عدم تعدّد البعث ، و المفروض تعدّده ، فیثبت عدم التداخل فی الأسباب .

الکلام فی تداخل المسببات

و کذلک الحال فی المسبّبات ، لأنّ المفروض تعدّد التکلیف ، و إجزاء الامتثال لواحد عن امتثال غیره موقوفٌ علی الدلیل .

و أیضاً ، فمقتضی دلیل کلّ تکلیفٍ من التکالیف وجوب الإتیان بالمتعلّق مطلقاً ، أی سواء اتی بمتعلّق التکلیف الآخر أو لا . و هذا الإطلاق موجودٌ فی أدلّة الأحکام .

و أیضاً ، الاستصحاب ، فإنه إذا ثبت التکلیف بالشرط الأول یقیناً ، ثم شکّ فی سقوطه بالإتیان به بالشرط الثانی ، استصحب بقاء التکلیف .

و أیضاً ، فإنه مقتضی قاعدة الاشتغال .

ص:215

استثناء مجمع الحکمین

اشارة

ثم إنّه قد استثنی من هذه القاعدة ما إذا کانت النّسبة العموم من وجه ، کما لو قال : أکرم عالماً . و قال : أکرم هاشمیاً ، حیث الحکم هو وجوب الإکرام و الموضوع فی الدلیلین بنحو الإطلاق البدلی ، ففی هذا المورد قالوا بالتداخل أی بکفایة إکرام المجمع و هو العالم الهاشمی . و اختلفوا فی وجه الاستثناء :

فمنهم : من استدلّ له بحکم العقل بالإجزاء ، فیکون من مصادیق قولهم :

الانطباق قهری و الإجزاء عقلی ... فهما حکمان لکنهما انطبقا علی موردٍ انطباقاً قهریاً ، و فی مثله یحکم العقل بالاجزاء ... قال به المیرزا (1) .

و منهم : من یقول بأن الحکم فی مثل هذا المورد واحد لا أکثر ، غیر أن الخطاب الثانی مؤکّد للأوّل . قال به صاحب ( الکفایة ) (2) .

و استدلّ للأول بوجهین :

الأول : إن الإطلاق علی قسمین ، فتارةً : هو شمولی مثل أکرم العالم ، أکرم الهاشمی ، ففی مثله یحمل علی التأکید ، لئلّا یلزم اجتماع المثلین ، و کذا فی العام مثل : أکرم کلّ عالم و أکرم کلّ هاشمی .

و اخری : هو بدلی ، فإنْ کان کذلک ، تعدَّد الموضوع و بتبعه یتعدّد الحکم ، و مع التعدّد لا معنی للحمل علی التأکید ، لکنّ العقل لمّا رأی انطباق کلا الحکمین علی المورد الواحد و أنه مصداق لکلا الموضوعین ، حکم بکفایة الإکرام مرّةً ، لحصول الامتثال لکلا الحکمین به .

و هذا الوجه لأجود التقریرات ، قال مشیراً إلی نظر الکفایة ما نصّه : لا معنی لتأکّد الطلب فی مورد الاجتماع أصلاً ، لأن متعلّق الطلب فی العموم البدلی إنما

ص:216


1- 1) أجود التقریرات 2 / 273 .
2- 2) کفایة الاصول : 203 .

هی نفس الطبیعة الملغاة عنها الخصوصیات ، فالفرد المأتی به لیس بخصوصه متعلّقاً للأمر لیتأکّد طلبه عند تعلّق الأمرین به ، و إنما یجوز الإتیان فی مقام امتثال الأمر بالطبیعة ، لأنه مقتضی الترخیص فی التطبیق المستفاد من الإطلاق .

و الوجه الثانی هو للمحقق الخوئی ، فقد قال فی الهامش : هذا ، مضافاً إلی أن الالتزام بتأکد الحکم فی مورد الاجتماع یستلزم الالتزام بکون الحکم المجعول فی مورد العامّین من وجه ثلاثة أحکام ، یکون واحد منها متأکداً و الاثنان منها غیر متأکدین ، مع أنه واضح البطلان .

و توضیحه : إنه لما کانت النسبة العموم من وجهٍ ، فلا محالة یکون الحکم فی کلٍّ من موردی الافتراق غیر الحکم فی الآخر ، فهنا حکمان . فإن قلنا بالحکم الواحد المؤکّد فی مورد الاجتماع لزم الالتزام بحکمٍ ثالث ... لکنه واضح البطلان .

إذن ، لا یوجد حکم واحد مؤکّد ، بل هما حکمان ، لکن العقل یری حصول الامتثال بالمجمع بین العنوانین .

رأی الأُستاذ

و قد وافق الشیخ الأُستاذ فی الدورتین صاحب ( الکفایة ) فیما ذهب إلیه من تأکّد الحکم ، فالاستاذ و إنْ عبّر عن دلیل المیرزا بأنّه فی کمال المتانة ، لکنّه قال بأنّه خلط بین الکشف اللّمی العقلی و الکشف اللفظی .

أمّا السید الخوئی ، فإنّه - و إنْ ذکر ما تقدّم فی هامش الأجود - لم یتعرّض له فی ( المحاضرات ) (1) ، و اکتفی بکلام المیرزا .

و قد أیّد الأُستاذ نظر ( الکفایة ) بما حاصله : إن الأحکام العقلیة علی ثلاثة أقسام :

ص:217


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 269 .

( 1 ) الأحکام العقلیّة العملیّة المترتبة علی الأحکام الشرعیّة ، کحکم العقل بلزوم إطاعة المولی و حرمة المعصیة . و هذا القسم لا یقع فی طریق استنباط الحکم الشرعی .

( 2 ) الأحکام العقلیّة النظریّة ، کحکم العقل باستحالة اجتماع الضدّین .

و هذا القسم یقع - بضمیمة حکم شرعیّ إلیه - فی طریق الاستنباط کما فی باب الترتب ، حیث یوجد الحکم الشرعی و یدرک العقل بأنّ الأمر بالشیء یلازم النهی عن ضدّه . لکن هذا القسم لیس مورد الملازمة بین العقل و الشرع .

( 3 ) الأحکام العقلیة التی هی مورد قاعدة الملازمة . فإن العقل یدرک الملاک و عدم المانع من تأثیره ، ففی مثله تجری القاعدة و یستنبط الحکم الشرعی ، لأن الأحکام الشرعیة تابعة للملاکات ، فإذا احرز الملاک عقلاً ترتب الحکم الشرعی ترتب المعلول علی علّته .

و فیما نحن فیه :

إن کان النظر إلی الدلیل اللّفظی الکاشف عن الحکم الشرعی ، فالحق مع المیرزا و من تبعه ، لأنَّ الإطلاق - کما ذکر - بدلی ، و لا معنی للحکم الثالث فی البین ، لکنْ هنا طریق عقلی ، فإنه من الأمر بإکرام العالم علی البدل ، نستکشف وجود الملاک القابل للانطباق علی أیّ فردٍ من العالم ، فقد احرز الملاک فی إکرام العالم ، و کذلک الحال فی طرف الهاشمی ، إذْ یحرز الملاک لإکرامه عن طریق الأمر اللّفظی ، فیکون العالم الهاشمی مجمعاً للملاکین .

فإمّا یؤثّران معاً و إمّا لا یؤثّران أصلاً ، و إمّا یؤثر أحدهما المعیَّن دون الآخر ، و إمّا یؤثر أحدهما المردد .

أمّا المردّد ، فلا واقع له .

ص:218

و أمّا المعیّن ، فترجیح بلا مرجّح .

و أمّا أن لا یؤثّرا ، فباطل .

و یبقی أن یؤثّر کلاهما ، و تأثیر کلیهما علی المورد الواحد لیس إلّا بنحو الواحد المؤکّد .

هذا تمام الکلام فی مفهوم الشرط .

ص:219

مفهوم الوصف

اشارة

هل للوصف مفهوم ، بمعنی أنْ یدلّ الکلام علی انتفاء الحکم بانتفاء الوصف أو لا ؟

فیه ثلاثة أقوال ، و قبل الورود فی الأقوال و الأدلّة ، نذکر مقدّمتین لتحریر موضوع البحث .

المقدمة الاولی

إن الحکم تارة یترتّب علی الوصف فقط کأن یقال : المستطیع یحجّ ، فهذا خارج عن البحث ، بل یعتبر أن یکون الوصف معتمداً علی الموصوف کأن یقال :

المکلّف المستطیع یحج .

و الوجه فی اعتبار ذلک هو : إنه لو کان للوصف غیر المعتمد مفهوم لزم أن یکون اللقب کذلک ، لکنَّ اللقب لا مفهوم له بالاتفاق ، و الوصف غیر المعتمد لا فرق بینه و بین اللقب ، فمجرد انتفاء العالم یکفی لانتفاء وجوب إکرامه ، لحکم العقل بانتفاء الحکم بانتفاء موضوعه ، بخلاف ما إذا قلنا : زید العالم یجب إکرامه ، فإنّه مع انتفاء العلم یکون زید باقیاً و للبحث عن ثبوت المفهوم و عدمه مجال .

المقدمة الثانیة

إنّ الوصف تارةً : یساوی الموصوف مثل الضحک بالإضافة إلی الإنسان ، و اخری : هو أعم منه ، کالإحساس بالإضافة إلیه ، و ثالثة : أخص منه مثل العادل بالإضافة إلی العالم ، و رابعةً : یکون أعمّ منه من وجهٍ مثل السّوم بالإضافة إلی الغنم .

ص:220

أمّا الأول ، فخارج عن البحث ، لعدم بقاء الموضوع إذا انتفی الوصف .

و کذلک الثانی ، لأنه مع انتفاء الإحساس لا یبقی الإنسان .

فالقسمان الثالث و الرابع مورد البحث فی المقام .

دلیل القول بثبوت المفهوم

اشارة

الأقوال فی المسألة ثلاثة ، فالمشهور عدم المفهوم ، و قیل بثبوته ، و قیل بالتفصیل بین ما إذا کان الوصف علةً فالمفهوم ، و ما إذا لم یکن فلا .

و استدلّ للقول بثبوت المفهوم بوجوهٍ ستة :

الوجه الأول :

إنه إن لم یکن للوصف دلالة علی المفهوم کان أخذه فی الکلام من الحکیم لغواً ، و لا لغویة فی کلامه . و بهذا استدلّ بعضهم کالبروجردی فی مفهوم الشرط .

و فیه : انه موقوف علی عدم الفائدة فی أخذ الوصف فی الکلام ، و الحال أنه قد یؤخذ للدلالة علی مقاصد اخری کما فی قوله تعالی «وَلٰا تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَکُمْ خَشْیَةَ إِمْلاٰقٍ » (1)ففی أخذه - خشیة إملاق - حکمة دفع توهّم جواز قتل الأولاد فی هذه الحالة .

الوجه الثانی

أصالة الاحترازیة فی القیود ، فإنّ مقتضی الأصل فی القیود الزائدة علی الموضوع المذکورة فی الکلام ، هو الاحتراز عن فاقد القید ، و الأصل أصیلٌ ما لم تقم قرینة علی الخلاف .

و قد أجاب السید الخوئی (2) : بأنها قاعدة جاریة فی موارد التعریفات و فی

ص:221


1- 1) سورة الإسراء : الآیة 31 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 275 .

الحدود و التعزیرات ، أمّا فی غیرها فلا .

و فیه : إنه أصلٌ عقلائی و لا یختص بموردٍ دون آخر .

و الصحیح أن یقال فی الجواب : إن الأصل فی القیود هو الاحترازیّة بمعنی أنها لیست توضیحیّةً ، و لکنْ هل الاحتراز لنفی الحکم عن الفاقد أو لفائدةٍ اخری ؟ إنه لا مثبت لهذه الجهة ، و لا بدّ لإفادتها من دلیلٍ آخر غیر أخذ القید .

الوجه الثالث

إن تقیید الموضوع بقید زائد مشعر بالعلیّة ، و حینئذٍ ، یلزم الانتفاء عند الانتفاء .

أشکل علیه المیرزا (1) و تبعه السید الخوئی :

أولاً : هذه العلیّة بحاجةٍ إلی قرینةٍ فی مقام الإثبات .

و ثانیاً : سلّمنا ، لکن المفهوم یتوقف علی کونها علیّة منحصرة ، و لا دلیل علیه .

لکنّ المحقق الأصفهانی (2) ذکر لأصل الإشعار بالعلیّة : إنّ کلّ شرط أو قید ، فهو إمّا متمّم لفاعلیّة الفاعل و إما متمّم لقابلیة القابل ، أمّا فی المقام فهو من قبیل الثانی ، فإن وجود القید أو الشرط یفید ذلک و لا یحتاج إلی قرینةٍ زائدة ، لأن الشرط لیس إلّا العلّة ، إذ العلیّة المقصودة هنا أعمّ من المقتضی .

و ذکر للدلالة علی الانحصار : إن مجرّد أخذ خصوصیّة العنوان بعنوانه یدلّ علیه ، فإذا قال : جئنی بماءٍ باردٍ ، کان لفظ « البارد » مقیداً لقابلیّة الأمر للبعث ، فکانت الدلالة علی الانحصار ، و به یثبت المفهوم .

ص:222


1- 1) أجود التقریرات 2 / 278 .
2- 2) نهایة الدرایة 2 / 436 .
قال الأُستاذ

و ما ذکره تام و به یندفع الإشکال . لکنّ من الواضح أن أخذ القید الزائد یخرج الموضوع عن الإطلاق ، و المشکلة هی أن تحدید الموضوع کما یکون للعلیّة فیفید الانتفاء عند الانتفاء ، یکون للاهتمام بالقید کما فی «حٰافِظُوا عَلَی الصَّلَوٰاتِ وَالصَّلاٰةِ الْوُسْطیٰ » (1)و أن یکون لدفع التوهّم کما تقدم فی «لٰاتَقْتُلُوا أَوْلاٰدَکُمْ خَشْیَةَ إِمْلاٰقٍ » (2). إذن ، یمکن أن یکون أخذ القید أو الشرط لحکمة اخری .

الوجه الرابع

إنه إن لم یکن للوصف دلالة علی المفهوم ، فما هو الملاک لحمل المطلق علی المقیّد ؟

و هذا الوجه للمحقق البهائی . و تقریبه : إنه إذا کان المطلق و المقیّد مثبتین ، فلا محالة یحمل المطلق علی المقید ، لکنّ الحمل هذا فرعٌ علی التنافی ، و لو لا الدلالة علی المفهوم لما تحقق التنافی حتی یکون الحمل و الجمع العرفی .

و الجواب : إن الملاک للحمل لیس الجهة النفییّة بل هو الجهة الإثباتیة ، لأنّ المطلوب بالخطاب الأوّل هو صرف الوجود ، و المطلوب بالخطاب الثانی هو الوجود المقیّد ، و المفروض وحدة التکلیف فی المطلق و المقیّد ، فیقع بلحاظها التنافی بینهما ، و تصل النوبة إلی الجمع .

الوجه الخامس

ما جاء فی کلام المحقق الأصفهانی الذی أوردناه جواباً علی إشکال المیرزا

ص:223


1- 1) سورة البقرة : الآیة 238 .
2- 2) سورة الإسراء : الآیة 31 .

و السید الخوئی .

و قد تقدّم إشکال الأُستاذ علی ذلک .

دلیل عدم المفهوم

إنه و إنْ کفی عدم الدلیل للعدم ، لکنهم مع ذلک یذکرون له وجهاً نقضیّاً و آخر حلّیاً .

أمّا نقضاً ، فإن القول بالمفهوم هنا یستلزم القول بثبوته فی اللّقب ، و لم یقل به أحد . و بیان الملازمة هو : أنه لا فرق بین الوصف و اللقب إلّا بالإجمال و التفصیل ، لأنّ معنی قولک : الفقیر یجب إکرامه هو : الإنسان الفقیر یجب إکرامه ، نعم ، فرق بین العنوان الوصفی حیث یقع التفکیک بین الوصف و الذات و العنوان الذاتی ، لکنّ هذا الفرق لا أثر له فی المقام .

و أمّا حلّاً ، فقد ذکر المیرزا ما حاصله : إن المفهوم یتقوّم بأمرین أحدهما : أنْ یکون الحکم سنخاً لا شخصاً . و الآخر : أن یکون التقیید مولویّاً حتی یکون الانتفاء عند الانتفاء مستنداً إلیه و تکون العلة منحصرةً ، فلو کان الانتفاء عقلیاً خرج عن البحث ، کما لو کان الحکم المنتفی شخصیّاً .

و هذا الأمران موجودان فی الشرط کما تقدّم . أمّا فی الوصف فلا ، لأنّ القید قیدٌ للموضوع لا للحکم ، و تقیید الموضوع متقدم رتبةً علی الحکم و النسبة ، فإذا انتفی القید ینتفی الحکم عقلاً ، لأن انتفاء کلّ حکم بانتفاء موضوعه عقلی و لا ربط له بالمولی ... .

لکنْ لقائل أن یقول : إنّ کلّ ما اقتضی دلالة الجملة الشرطیّة علی المفهوم فهو موجود فی الوصف کذلک ، إذ التقیید فی کلیهما مولوی ، غیر أنّ القید جاء فی الشرط علی الحکم أوّلاً و بالذات ، أمّا فی الوصف فثانیاً و بالعرض ، و هذا المقدار

ص:224

من الفرق لا یکون فارقاً ، لأنّ التقیید یرجع إلی المدلول و لیس عقلیّاً ، کما أنّ الانحصاریة أیضاً موجودة فی الوصف - من جهة ظهور أخذه دون غیره فی الانحصار - کما أنها موجودة فی الشرط ، فلما ذا یقال هناک بالمفهوم و لا یقال هنا ؟

لقد ذکر المحقق العراقی فارقاً آخر و أفاد ما حاصله (1) : إن الحکم المعلَّق علی الوصف ، یأتی بنحو الطبیعة المهملة و یستحیل الإطلاق فیه ، و ما یکون کذلک فلا مفهوم له . بخلاف الشرط ، فإنه قابل للإطلاق فتجری فیه ثبوتاً أصالة الإطلاق و یخرج الحکم بذلک عن الإهمال ، و إذا کان مطلقاً و علّق علیٰ الشرط فلا محالة ینتفی بانتفاء الشرط ، و هذا هو المفهوم .

مثلاً : إذا قال : أکرم زیداً العالم ، لا یکون للإکرام إطلاق بالنسبة إلی عمرو و بکر و خالد و غیرهم من الأفراد ، کما لا دلالة له علی الإطلاق بالنسبة إلی أحوال زید من القیام و القعود و غیرها . أمّا فی إذا جاءک زید فأکرمه ، فإنّ الحکم بوجوب الإکرام کان مطلقاً لا مهملاً لو لم یقیّد بالمجیء ، فلمّا قُید ثبت له المفهوم .

و الحاصل : إن الحکم فی الشروط هو المطلق و السنخ ، و فی الوصف مهمل جزئی ، فلذا دلّ فی الشرط علی المفهوم و لم یدل علیه فی الوصف .

یبقی أنه ربما یکون فی بعض الروایات دلالة علی ثبوت المفهوم للوصف ، من جهة استدلال الإمام علیه السلام به علی الحکم ، کما فی الخبر عن موسی بن بکر عن زرارة عن أبی عبد الله علیه السلام قال : « و ما خلا الکلب مما تصید القیود و الصقور و أشباه ذلک ، فلا تأکل من صیده إلّا ما أدرکت ذکاته ، لأن اللّٰه عزّ و جلّ یقول : «مُکَلِّبینَ » (2)، فما کان خلاف الکلب فلیس صیده بالذی یؤکل الّا إن

ص:225


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 499 .
2- 2) سورة المائدة : الآیة 4 .

تدرک ذکاته » (1) .

و سند الخبر عندنا معتبر لوثاقة موسی بن بکر . و أمّا دلالةً فإن الإمام علیه السلام تمسّک للحکم بکلمة «مُکَلِّبینَ » فی الآیة ، فدلّت علی أن غیر الکلب لا یؤکل صیده .

و قد جاء الخبر فی تفسیر العیاشی مرسلاً .

لا یقال : لعلّ هذا التعلیل من الإمام علیه السلام تعبّدی .

لأنه یقال : التعبّد خلاف الأصل ، بل الظاهر أن للوصف دخلاً فی المعنی .

لکنّ التحقیق ما تقدم فی أثناء البحث ، من أنّ تقیید الموضوع بقید قد یکون لدفع التوهّم ، نظیر الآیة «لٰاتَقْتُلُوا أَوْلاٰدَکُمْ » (2)و نظیر قوله علیه السلام « إیّاک و ظلم من لا یجد ناصراً علیک إلّا اللّٰه » (3) ... فلیس للوصف مفهومٌ ، و إنّما یقیّد الکلام به لغرضٍ آخر غیر المفهوم ، و فی روایة زرارة کذلک .

و هذا تمام الکلام فی مفهوم الوصف .

ص:226


1- 1) وسائل الشیعة 23 / 339 ، الباب 3 من أبواب الصید ، رقم : 3 .
2- 2) سورة الإسراء : الآیة 31 .
3- 3) وسائل الشیعة 16 / 48 ، الباب 77 من أبواب جهاد النفس ، رقم : 6 .

مفهوم الغایة

الاستدلال لثبوت المفهوم

اشارة

ذکروا لإثبات المفهوم وجوهاً :

الأول : ما ذکره المحقق الخراسانی (1) و حاصله :

إنّ الغایة إن کانت قیداً للحکم کما فی « کلّ شیء لک حلال حتی تعرف أنه حرام » (2) فمقتضی القاعدة ثبوت المفهوم ، و إنْ کانت قیداً للموضوع مثل «أَتِمُّوا الصِّیٰامَ إِلَی اللَّیْلِ » (3)فلا .

و الدلیل علی ثبوته هناک ، هو التبادر و حکم العقل بانتفاء الحکم ، و إلّا فلو کان ثابتاً بعد الغایة لزم لغویة التقیید بها .

و أمّا اعتبار أن یکون الحکم المغیّی سنخیّاً لا شخصیّاً ، فذلک یتمُّ علی مبنی صاحب ( الکفایة ) ، من جهة أن الحکم المغیّا إن کان اسمیّاً کما فی الخبر المذکور فلا إشکال ، لأن مدلول « حلال » هو طبیعة الحلیّة فلیس شخصیّاً . و إن کان حرفیّاً ، فإنّ المعانی الحرفیة عنده عامّة و لیست بجزئیة ، و إنما تتحقّق الجزئیة لها بالاستعمال ... فالسنخیّة علی کلّ تقدیرٍ حاصله للحکم و الإشکال مندفع .

هذا ، و لا یخفی أن التمثیل بالحدیث المزبور مبنیٌّ علی ما ذکره فی مبحث الاستصحاب من أن « الحلیّة » فیه حکم واقعی و« حتی تعرف » غایةٌ تدلّ علی

ص:227


1- 1) کفایة الاصول : 208 .
2- 2) وسائل الشیعة 25 / 119 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، رقم : 7 مع اختلافٍ فی اللفظ .
3- 3) سورة البقرة : الآیة 187 .

الاستصحاب ، و حاصل الحدیث : إنّ الحلیّة - التی هی حکم واقعی لا ظاهری ، و مجعول علی الأشیاء الخارجیّة - مستمرةٌ ثابتة حتی تعلم أنّ الشیء حرام ... خلافاً لمن یری أنّ مدلول الحدیث حکم ظاهری مثل « کلّ شیء لک طاهر » (1) .

و أیضاً : لا یخفی أنّ تمثیله به لإفادة التحدید للحکم ، و لا نظر له إلی أن کون هذا التحدید مولویاً أو عقلیّاً ، و إنْ کان هو عقلیّاً .

هذا توضیح کلامه فی الدلالة علی المفهوم إن کان القید قیداً للحکم .

و أمّا إن کان قیداً للموضوع ، فلا دلالة علیه ، بل هو ملحق بالوصف ، لأنه مع الانتفاء ینتفی الموضوع ، فتکون القضیّة سالبةً بانتفاء الموضوع .

نعم ، تفید الغایة فائدة الوصف من الأهمیة أو دفع التوهّم أو غیر ذلک ، مما ذکر هناک .

و الثانی : ما ذکره المیرزا رحمه اللّٰه : من أنه کلّما جاءت الغایة قیداً لمعنی أفرادی فلا یتحقق لها المفهوم ، و متی ما کانت قیداً لمفاد جملة مرکّبة فالمفهوم ثابت .

هذا بحسب مقام الثبوت .

و أما الإثبات ، فهو یری أن الغایة إنما یؤتی بها فی الکلام قیداً لمدلول الجملة و بعد المادّة المنتسبة - حسب اصطلاحه - ، فلمّا یقال مثلاً : سر من البصرة إلی الکوفة ، تجعل ( إلی ) قیداً ل( سر ) و هو جملة و لیس بمفهومٍ أفرادی ، و بعبارته الاصطلاحیة : هو مادّةٌ وقعت تحت النسبة و ورد علیها الحکم الوجوبی ، فیکون القید راجعاً إلی الحکم دون الموضوع و یتحقّق له المفهوم .

و الثالث : ما ذکره المحقق العراقی : من أنّ الغایة إن کانت قیداً للحکم ،

ص:228


1- 1) وسائل الشیعة 3 / 476 ، الباب 25 ، الرقم : 4 . بلفظ « نظیف » .

فلا دلالة لها علی المفهوم ، و کذا إن کانت قیداً للموضوع ، بل إنّها تدلّ علی المفهوم إن کانت قیداً للنسبة الحکمیة ، فإنّها حینئذٍ تصبح کالشرط ، ببیان : أن مقتضی الإطلاق الذی ذکر فی مبحث الشرط هو انحصار سنخ الحکم بشخص الحکم المنشأ ، ثمّ حدّدت النسبة الحکمیة بحدٍّ ، و هذا هو الدلالة علی المفهوم .

فلو قال : أکرم زیداً إلی اللیل ، کان ظاهراً فی الانحصار بشخص هذا الحکم ، و لما قیّدت هذه النسبة الحکمیة « إلی اللیل » دلّ الکلام علی انتفاء وجوب الإکرام بانتفاء النهار و دخول اللیل . فکلام المحقق العراقی ناظر إلی مقام الإثبات .

و الرّابع : ما ذکره المحقق الخوئی فی ( المحاضرات ) (1) من أن الغایة إن کانت قیداً للموضوع رجع دلالتها علی المفهوم إلی دلالة الوصف علیه ، لأن المراد من الوصف هو الأعمّ من الوصف الاصطلاحی و الحال و التمییز و ما شاکل ذلک ، فیکون التقیید بالغایة من صغریات التقیید بالوصف .

و إن کانت قیداً للحکم ، فالکلام تارةً : فی مقام الثبوت ، و اخری : فی مقام الإثبات .

أمّا فی المقام الأوّل : فلا شبهة فی الدلالة علی الانتفاء عند تحقق الغایة ، بل لا یبعد أن یقال بأن دلالتها علی المفهوم أقوی من الشرط ، ضرورة أنه لو لا دلالته علی ذلک یلزم أن لا یکون ما فرض غایةً غایةً . و هذا خلف .

و أمّا فی المقام الثانی : فالظاهر أنّ الغایة قید للفعل و هو المتعلّق دون الموضوع کسائر القیود . و أمّا رجوعه إلی الموضوع ، فیحتاج إلی قرینة کما فی الآیة «فَاغْسِلُوا ... » ، إذ أنّ «إِلَی الْمَرٰافِقِ » قید للموضوع و هو الید لا للمتعلّق و هو الغسل ، و کذا الأمر فی «إِلَی الْکَعْبَیْنِ » (2)فإنه غایة لتحدید الممسوح . هذا کلّه

ص:229


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 282 - 283 .
2- 2) سورة المائدة : الآیة 6 .

فیما إذا کان الحکم فی القضیة مستفاداً من الهیئة . و أما إذا کان مستفاداً من مادّة الکلام ، فإن لم یکن المتعلّق مذکوراً فیه کقولنا : یحرم الخمر إلّا أن یضطرّ المکلّف إلیه ، فلا شبهة فی ظهور الکلام فی رجوع القید إلی الحکم . و أما إنْ کان مذکوراً فیه کما فی قولنا : یجب الصیام إلی اللیل ، فلا یکون للقضیة ظهور فی رجوع الغایة إلی الحکم أو إلی المتعلّق ، فلا تکون لها دلالة علی المفهوم ما لم تقم قرینة من الداخل أو الخارج علیها .

و الحاصل : إن الحکم فی القضیة إنْ کان مستفاداً من الهیئة ، فالظاهر من الغایة کونها قیداً للمتعلّق لا للموضوع ، و الوجه فیه لیس ما ذکره جماعة منهم شیخنا الأُستاذ من أن مفاد الهیئة معنی حرفی ، و هو غیر قابل للتقیید ، و ذلک لما حقّقناه فی بحث الواجب المشروط من أنه لا مانع من رجوع القید إلی مفاد الهیئة ، بل الوجه فیه هو أن القضیة فی أمثال الموارد فی نفسها ظاهرة فی رجوع القید إلی المتعلّق و المعنی الاسمی دون الحکم و مفاد الهیئة .

و إنْ کان الحکم مستفاداً من مادّة الکلام ، فقد عرفت ظهور القید فی رجوعه إلی الحکم إن لم یکن مذکوراً ، و إلّا فلا ظهور له فی شیء منهما فلا دلالة ، إلّا بمعونة القرینة .

رأی الأُستاذ :

و قد وافق الأُستاذ - فی کلتا الدورتین - المیرزا النائینی ، فذکر ما حاصله : إنّ مقتضی القاعدة أن تکون الغایة قیداً للمعنی الحدثی ، و إنْ خالفه فی قوله برجوع القید إلی المادّة - فی مبحث الواجب المشروط - لأن معنی الهیئة حرفی ، و قال هناک بقابلیّة الهیئة للشرط . و حاصل کلامه هنا : إنّ الحق مع المیرزا فی رجوع القید إلی المادّة المنتسبة ، لأنّ ذلک هو الموافق لاستظهار الإمام علیه السلام ، فقد

ص:230

روی الکلینی فی الصحیح عن سماعة قال : « سألته عن رجلین قاما فنظرا إلی الفجر ، فقال أحدهما : هو ذا ، و قال الآخر : ما أری شیئاً . قال علیه السلام : فلیأکل الذی لم یستبِن له الفجر ، و قد حرم علی الذی زعم أنه رأی الفجر . إنّ اللّٰه عز و جلّ یقول : «کُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّٰی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ اْلأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ اْلأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ » (1)» (2) .

فقد استدلّ الإمام علیه السلام بالآیة و استظهر منها المفهوم ، و الحکم فیها لیس بمدلولٍ اسمی ، إذ لیس فی الآیة کلمة « یجب » أو « یحرم » و نحوهما ، بل الحکم مدلول للهیئة و هو «کُلُوا وَاشْرَبُوا » . فالقول بأن الغایة إنْ کانت قیداً للمتعلّق فلا مفهوم - کما ذهب إلیه فی ( الکفایة ) - ینافی النص ، و القول بعدم المفهوم إنْ کان الحکم مفاد الهیئة ساقط .

فتلخص : إنّ الحق مع المیرزا فی ما ادّعاه و إنْ لم یتم دلیله .

إذن ، للغایة مفهومٌ سواء کانت غایةً للحکم أو للمادة التی وقع علیها الحکم ، و سواء کان الحکم مدلولاً للهیئة أو مستفاداً من المادّة التی هی مدلول اسمی کالوجوب و الحرمة .

و هذا مقتضی القاعدة و الارتکاز العرف أیضاً .

ص:231


1- 1) سورة البقرة : الآیة 178 .
2- 2) وسائل الشیعة 10 / 119 ، الباب 48 . رقم : 1 .

مفهوم الحصر

و للحصر أدوات . منها کلمة ( إلّا) ، و هی تدلّ علیه إذا کانت بمعنی الاستثناء ، أما عند ما تکون بمعنی الصّفة فلا ، لما تقدّم من أن لا مفهوم للوصف .

و أمّا دلالتها علی الحصر فی صورة کونها بمعنی الاستثناء ، فلأن الاستثناء هو نفی الحکم الثابت فی المستثنی منه أو إثبات الحکم المنفی ، فلما یقول : « أکرم العلماء إلّا الفساق » یخرج الفسّاق و یعزلهم عن العلماء فی الحکم الثابت لهم و هو الإکرام ، فینحصر الحکم بالعدول منهم ... و هذا هو المرتکز عند العرف ، و لذا یرون التناقض فیما لو قال ذلک ثم أمر بإکرام الفسّاق کذلک .

و لم یخالف فی هذا إلّا أبو حنیفة مستدلّاً ب« لا صلاة إلّا بطهور » (1) .

و قد أجیب بوجوه ، أمتنها ما فی حاشیة ( الکفایة ) (2) : من أن مثل هذا الکلام ظاهر عرفاً فی الاشتراط ، أی إنّ الصّلاة مشروطة بالطّهارة .

و الحاصل أن لا شبهة فی دلالة الاستثناء علی الانحصار .

إنما الکلام فی أنها دلالة منطوقیة أو مفهومیّة ؟

اختار الأُستاذ و غیره الأول تبعاً للمیرزا ، ثم قال : بأن البحث عن ذلک قلیل الجدوی ، بعد ثبوت أصل المطلب .

و من أدوات الاستثناء المفیدة للحصر کلمة « إنما » ، و قد نصّ علماء (3) اللّغة

ص:232


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 315 .
2- 2) کفایة الاصول : 209 - 210 .
3- 3) قال الفیّومی : « قیل : تقتضی الحصر » ، قال الجوهری : « إذا زدت ( ما ) علی ( إنّ ) صارت للتعیین ... » المصباح المنیر : 26 .

و النحو علی دلالتها علی ذلک ، و هو المتبادر منها ... و قد کابر الفخر الرازی (1)مدّعیاً النقض بقوله تعالی «إِنَّمٰا مَثَلُ الْحَیٰاةِ الدُّنْیٰا کَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ السَّمٰاءِ » (2)و « إِنَّمَا الحَْیَوةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ ... » (3).

و قد أُجیب عن ذلک بالتفصیل فی ( المحاضرات ) (4) .

ثم إن صاحب ( الکفایة ) تعرض لکلمة التوحید و أنه هل الخبر هو « ممکن » أو « موجود » . فإنْ کان الأول ، أفاد إمکان الذات و لیس هو المقصود . و إن کان الثانی ، أفاد الوجود و لا ینفی الإمکان عن غیر البارئ .

فذکر إمکان جعل « الممکن » هو الخبر ، و لا یقع أی إشکال ، لأن هذا الإمکان هو الإمکان العام ، و هو فی الواجب مساوق لضرورة الوجود ، لا الإمکان الخاص ، لأنه یقابل وجوب الوجود ، إذ هو سلب الضرورة عن الوجود و العدم .

و أمّا ما فی تقریر بحث السیّد البروجردی رحمه اللّٰه من أن هذه الکلمة تنفی العبادة عن غیر اللّٰه و لا تنفی الالوهیّة عن الغیر ، فلا ربط لها بالتوحید (5) ، مستدلّاً بأنّ المشرکین فی ذلک الوقت کانوا مشرکین فی العبادة لأنهم کانوا یقولون « مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِیُقَرِّبُونَا إِلی اللَّهِ زُلْفَی » (6)و لم ینکروا صفات اللّٰه کالخالقیّة و الرازقیّة .

ص:233


1- 1) التفسیر الکبیر 12 / 30 .
2- 2) سورة یونس : الآیة 24 .
3- 3) سورة محمّد : الآیة 36 .
4- 4) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 288 .
5- 5) نهایة الاصول : 283 .
6- 6) سورة الزمر : الآیة 3 .

فغفلة عن الآیات ، فإنهم کانوا ینکرون الالوهیّة للّٰه کما فی قوله تعالی « وَکَذٰلِکَ نُری إِبْرٰاهیمَ مَلَکُوتَ السَّمٰاوٰاتِ وَاْلأَرْضِ ... » (1)و فی قوله تعالی «لَذَهَبَ کُلُّ إِلٰهٍ بِمٰا خَلَقَ » (2)و نحو ذلک .

فالکلمة مرتبطة بالتوحید .

مفهوم العدد

لا بحث فیه إلّا کلمة واحدة هی : إنْ کان العدد فی مقام التحدید ، دلّ علی المفهوم و إلّا فلا .

و هذا تمام الکلام فی المفاهیم . و الحمد للّٰه .

ص:234


1- 1) سورة الأنعام : الآیة 75 .
2- 2) سورة المؤمنون : الآیة 91 .

المقصد الرابع العام و الخاص

اشارة

ص:235

ص:236

تعریف العام

اشارة

قد عرّف العام بتعاریف ، کقول بعضهم - کما فی ( الفصول ) (1) - : « هو اللفظ المستغرق لما یصلح له » و کقول ( الفصول )(2) : « ما استغرق جمیع جزئیات مفهومه لفظاً » . و کقول الشیخ البهائی - کما فی القوانین( (2)) - : « هو اللفظ الموضوع للدلالة محل استغراق أجزائه أو جزئیاته » و( الکفایة )( (3)) : « شمول المفهوم لجمیع ما یصلح أن ینطبق علیه » .

قال الأُستاذ - فی الدّورة السّابقة - إن أحسن التعاریف هو : کون اللّفظ بحیث یشمل مفهومه لجمیع ما یصلح أن ینطبق مفهوم الواحد .

لکن یرد علیه : عدم شموله للعام البدلی ، لأنه عبارة عن الواحد علی البدل ، و الحال أنه لیس له « واحد » منطبق علیه .

قال فی ( الکفایة ) ، إنها تعاریف لفظیّة ، و المعنی المرکوز من العامّ فی الأذهان أوضح ممّا عرف به مفهوماً و مصداقاً ... و هذا هو الصحیح .

ص:237


1- 1) ( و 2) الفصول الغرویّة : 157 .
2- 2) قوانین الاصول : 192 .
3- 3) کفایة الاصول : 217 .

و هنا مطالب :

الأول ( فی الفرق بین العام و المطلق ) .

إن العام و المطلق کلیهما یفیدان شمولیّة المفهوم ، إلّا أن الأوّل یفید ذلک بحسب وضع الأداة ، و المطلق یفیده ببرکة مقدّمات الحکمة . هکذا قالوا .

و التحقیق هو : إن الحکم فی المطلق یتوجّه إلی الطبیعة بما هی، و أمّا الخصوصیّات ، فقد وقع الخلاف بینهم فی أنها تُلحظ و ترفض أو لا تلحظ أصلاً ، و قد اختار الأُستاذ - فی الدورة السّابقة - الأول من القولین . هذا بحسب مقام الثبوت .

أمّا فی مقام البیان ، فالموجود فی هذا المقام هو البیان بالنسبة إلی الطبیعة و عدمه بالنسبة إلی الخصوصیّات ، فهو یلحظ الرقبة و یلحظ خصوصیاتها بنحو الإجمال و یرفضها ، و لذا کان الإطلاق فی مقام الإثبات عدمیّاً ، فالمتکلّم مع کونه فی مقام البیان لم یبیّن دخل الخصوصیّة فی حکمه ، فکان عدم البیان دلیلاً علی عدم الدخل .

و أمّا فی العام ، فإن الخصوصیّات تلحظ و تؤخذ ، فإذا قال : أکرم کلّ عالم ، دلّ بکلمة « کلّ » علی أخذه جمیع الخصوصیّات و نزول الحکم علیها ، و لذا قال المشهور بعدم الحاجة فیه إلی مقدّمات الحکمة خلافاً للمیرزا کما سیأتی .

و بما ذکرنا یظهر : إن الشمول فی طرف الإطلاق لازم له و لیس الإطلاق ، بخلاف العام فإن اللفظ یدلّ علیه بالمطابقة .

هذا ، و لا یخفی الأثر علی هذا الفارق الجوهری بین المطلق و العام ، کقولهم بعدم وقوع التعارض بینهما ، لکون العام حاکماً أو وارداً علی المطلق لأنه بیان و المطلق عدم البیان ... و إنْ خالفناهم فی هذا المبنی ، کما سیأتی فی محلّه .

ص:238

الثانی ( هل یحتاج إفادة العموم إلی مقدّمات الحکمة ؟ )

قال المیرزا : نعم ، لأن الدلالة علی العموم بأداته و إنْ کانت وضعیّة إلّا أنها لا تفید إلّا الاستیعاب بالنسبة إلی الأفراد ، فلما یقال : « أکرم کلّ عالم» شمل جمیع أفراد العالم ، و لکنْ هل المراد خصوص العدول منهم أو الأعم ؟ فلا دلالة لها علیه ، فنحتاج إلی مقدمات الحکمة لإفادة عدم تقیّد المتعلّق بالعدالة و غیرها من العناوین . و علی الجملة : فإن « کلّ » تفید الشمول و الاستیعاب فی الخصوصیّات المفرّدة، و أمّا الخصوصیّات الصنفیة و النوعیة ، فلا دلالة إلّا بمقدّمات الحکمة .

و قد اشکل علیه : بأن لازم هذا الکلام أنْ لا یکون عندنا لفظ صریحٌ فی العموم ، و لکنّ التالی باطل ، للفرق الواضح بین العام و المطلق ، فالمقدّم مثله .

فأجاب عنه الأُستاذ - فی الدورتین - بإمکان أن یفرّق بین الخصوصیّات الصنفیة و النوعیة و بین الأفراد ، فیقال بعدم کفایة الأداة فی الدلالة علی العموم فی تلک الخصوصیّات و أنه لا صراحة لها فیها إلّا أن یقال : أکرم کلّ عالم من کلّ صنف ، فحینئذ یکون الکلام صریحاً ... إذن، یمکن اجتماع الصراحة مع مقدّمات الحکمة ، و لا تنافی بینهما .

(قال) فالحق فی الإشکال أن یقال: بأنّ إجراء المقدّمات من أجل الدلالة العقلیّة مع وجود الأداة الدالّة علی العموم لغوٌ ، لأنّ إجرائها إنما یکون حیث لا دلالة لفظیّة ، و المفروض أنّ کلمة « کل » لها الظهور التام و الدلالة الواضحة علی إرادة جمیع الأفراد بأصنافها و أنواعها ، فلا حاجة إلی المقدمات ، و إجراؤها لغو .

الثالث ( فی انقسام العام إلی الاستغراقی و المجموعی و البدلی )

فالاستغراقی ، عبارة عن لحاظ کلّ فردٍ فردٍ موضوعاً مستقلّاً للحکم ، بحیث لو جاء الحکم لا نحلّ علی عدد الأفراد ، و کان هناک إطاعات و معاصٍ بعددها .

ص:239

و المجموعی ، عبارة عن الاستیعاب لجمیع الأفراد مع لحاظ الجمیع موضوعاً واحداً ، بحیث لو جاء الحکم فالامتثال أو المعصیة واحد .

و البدلی ، عبارة عن الإتیان بالحکم علی الفرد بنحو صرف الوجود ، و یکون الطاعة أو المعصیة واحداً لا أکثر ... لکنّ السعة هی فی مقام تطبیق الموضوع علی الفرد .

هذا ، و قد استظهر من کلام صاحب ( الکفایة ) أن هذا الانقسام إنما هو بلحاظ تعلّق الحکم ، فاُشکل علیه (1) بعدم توقّفه علی ذلک ، لأن المولی عند ما یجعل الشیء موضوعاً لحکمه ، لا بدّ أن یلحظه فی مرتبة الموضوع لاستحالة الإهمال ، فهو یلحظه إمّا بنحو الاستغراق أو الاجتماع أو البدلیّة ، هذا فی مقام اللّحاظ . و فی مقام البیان : لمّا یقول أکرم کلّ عالم أو : کلّ عالمٍ یجب إکرامه ، فلا توقف لدلالة الکلام علی الشمول للموضوع علیٰ وجود الحکم و هو وجوب الإکرام ... .

و الظاهر ورود هذا الإشکال .

إلا أن الأُستاذ - فی الدورة اللّاحقة - أفاد بأنّه و إنْ کان قوله بأن اختلاف أنحاء العموم باختلاف الأحکام ظاهراً فیما نسب إلیه ، إلا أنه لا بدّ من الدقّة فی سائر کلماته هنا و فی الفصل اللّاحق لیتّضح مراده تماماً ، و ذلک لأنه فی الفصل اللّاحق یصرّح بوجود اللّفظ الموضوع للعموم مثل « کلّ » . فمن یقول بوضع هذه الکلمة للدلالة علی العموم الاستغراقی، کیف یعقل أن یقول بأنّ الدلالة علیه ناشئة من الحکم ؟ هذا أولاً .

و ثانیاً : إنه فی نفس هذا الفصل یقول - بعد ذکر اختلاف أنحاء العموم

ص:240


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 300 - 301 .

باختلاف الأحکام - « غایة الأمر أنّ تعلّق الحکم به تارةً بنحو یکون کلّ فردٍ موضوعاً علی حدة للحکم، و اخری بنحو یکون الجمیع موضوعاً واحداً ... » فإنّ هذا الکلام ظاهر فی أنّ الاختلاف هو بسبب اختلاف الموضوعات .

فمع لحاظ کلماته الاخری یندفع الإشکال .

الرابع ( فی مقتضی الأصل )

لو شکّ فی عامٍ أنه استغراقی أو مجموعی أو بدلی ، حمل علی الاستغراقیة ، شموله للأفراد محرزاً و یشک فی أنها لُوحظت بنحوٍ یکون بعضها منضمّاً إلی البعض الآخر و هو العامّ المجموعی أوْ لا و هو العامّ الاستغراقی ؟ لأنّ مقتضی أصالة الإطلاق فی مثل أکرم کلّ عالمٍ هو الثانی ، ضرورة أن لحاظ الانضمام أمر زائد ثبوتاً و إثباتاً . و أمّا إن قلنا بأنْ العامّ الاستغراقی متقوّم بلحاظ الأفراد علی نحو الاستقلال ، و المجموعی متقوّم بلحاظها علی نحو الانضمام ، و البدلی متقوّم بلحاظها علی البدل ، فلا أصل معیّن لأحد الأقسام ، لأنّها حینئذ متباینات، و الأصل إنما یرجع إلیه عند دوران الأمر بین الأقل و الأکثر .

أمّا لو دار الأمر بین أن یکون العام مجموعیاً أو بدلیّاً، فعدم وجود الأصل المعیّن أوضح ، لتباین لحاظ الأفراد فیهما ... و لا بدّ للمتکلّم من البیان الزائد ، بأنْ یقول إذا أراد الأول : أکرم العلماء مجموعاً، و إذا أراد الثانی یقول : أکرم أیّ عالمٍ شئت ... و إلّا بقی العلم الإجمالی علی حاله .

الخامس ( فی الفرق بین العام و لفظ العشرة و أمثاله )

لا یخفی أن العام هو ما یکون مفهومه صالحاً للانطباق علی جمیع الأفراد التی یصدق علیها المفهوم مثل « العالم » ، فإذا جاءت کلمة « کلّ » و قال : « أکرم کلّ عالم » کان مفیداً لذلک فی مقام الإثبات . أمّا لفظ « العشرة » و نحوه ، فلیس صدقه

ص:241

علی الواحد و الاثنین کذلک ، بل هو من قبیل شمول الکلّ لأجزائه ، و هذا هو الفرق .

و هذا أوان الشروع فی بحوث العام و الخاص .

هل للعموم لفظ بالوضع ؟

فیه قولان ...

فقد نسب إلی الأکثر أن هناک ألفاظاً موضوعة للدلالة علی العموم ، و عن جماعةٍ إنکار ذلک لوجهین :

الأول : لأن الخصوص هو القدر المتیقّن من المراد ، فإذا کان هو المقطوع به و کان العموم مشکوک الإرادة ، کان الخصوص أولی بأنْ یکون الموضوع له ، فلا وضع للعموم بل هو للخصوص مثل کلمة « الخاص » و کلمة « فقط » .

و فیه : کون الخاص هو القدر المتیقن فی مقام الإرادة الجدیّة لا یقتضی أولویته بالوضع ، لأن غایة ذلک أن یکون اللفظ مثل « خصوص » صریحاً فی الدلالة علی معناه ، لکنّ الصراحة غیر الوضع ، فقد یکون اللّفظ موضوعاً لمعنیً لکنه غیر صریح بل هو ظاهر فیه . هذا أولاً . و ثانیاً : هذه الأولویّة لیست عقلیة و لا عرفیّة ، بل هی استحسانیة خطابیّة .

و الثانی: ما اشتهر من أنه ما من عامٍ إلّا و قد خصّ ، فلو کان هناک لفظ موضوع للعموم ، لزم أن تکون المجازات أکثر من الحقائق .

و فیه: أنه سیأتی أن معنی ورود التخصیص علی العام عدم تعلّق الإرادة الجدیّة به ، أمّا کونه مراداً فی مرحلة الاستعمال فلا ریب فیه ؛ فلا یلزم المجاز أصلاً . هذا أولاً . و ثانیاً : إنه لو تنزّلنا عن ذلک، و سلّمنا لزوم المجاز ، فإنّ کون المجاز بالقرینة أکثر من الحقیقة لا ضیر فیه .

ص:242

فالحق هو القول الأول وفاقاً للأکثر .

و هذا هو البحث الکبروی .

اللفظ الموضوع للعموم

إنه لا شبهة فی دلالة مثل « کلّ » علی العموم ، لأنه المتبادر منه ، و کذا کلمة « تمام » و« جمیع » .

و قد وقع الکلام بینهم فی ألفاظٍ اخری مثل « من » ، کما لو قال : أکرم من فی الدار ، و« ما » کما لو قال : احمل ما فی الدار ... فإنّ مثل هذه الجُمل تفید الشمول ، و لکنْ و یحتمل أن یکون بالوضع ، بل قیل بذلک للتبادر و جواز الاستثناء ، یحتمل أن یکون بمقدمات الحکمة ، فدعوی التبادر مخدوشة ، و الاستثناء یمکن من المطلق کما یمکن من العام .

النکرة فی سیاق النفی

اشارة

و وقع الکلام بینهم کذلک فی النکرة فی سیاق النفی و النهی .

فعن المیرزا القمّی و غیره دعوی عدم الخلاف فی دلالتها علی ذلک بالوضع ، و قال المتأخّرون بالدلالة عقلاً ، و قیل: بل الدلالة هی بمقدمات الحکمة .

قال الأُستاذ : لا ریب فی الدلالة علی العموم ، لکنّ کونها من حاقّ اللّفظ غیر واضح، فدعوی التبادر من القائلین بالقول الأول غیر مسلّم بها .

و استدلّ القائلون بالدلالة العقلیة: بأنّ « لا » موضوعة للنفی ، و« رجل » موضوعة للطبیعة ، فإذا قال « لا رجل فی الدار » لم یدل علی العموم من ناحیة الکلمتین، و لیس للترکیب بینهما وضع علی حدة ، فلا تکون الدلالة وضعیة ...

فهذه مقدمة . و مقدمة اخری هی : المنفی إذا اضیف إلی الطبیعة کان انتفاؤها بانتفاء جمیع أفرادها ، کما أن اثباتها یکون بثبوت فردٍ منها .

ص:243

فإذا ضممنا المقدمتین ببعضهما أنتج أن الدلالة علی العموم عقلیة بمقدّمات الحکمة .

کلام الإیروانی

فأورد المحقق الإیروانی (1) علی ( الکفایة ) : بأنّ دلالة النکرة فی سیاق النفی علی العموم ، موقوفة علی لحاظ الطبیعة بنحو السریان إلی الأفراد ، لکونه ذاتی الطبیعة ، و لا حاجة إلی لحاظها مطلقة لیثبت السریان حتی یشکل بعدم المثبت للّحاظ کذلک .

إشکال الأُستاذ

لکنّ الأُستاذ أشکل علیه : بأنّ الطبیعة و الماهیة لیست إلّا هی ، و أمّا سریانها إلی أفرادها فشیء زائد علیها إذن ، یتوقّف علی اللحاظ و لیست الطبیعة فی حدّ ذاتها ساریةً .

لکنّ التحقیق هو أن الإطلاق غیر متقوّم بلحاظ الطبیعة ساریةً إلی الأفراد ، بل هو لحاظ القیود و رفضها ، فیکون السریان لازماً للإطلاق لا أنه نفسه کما قال الإیروانی ، فکان کلامه مخدوشاً بوجهین .

کلام الأصفهانی

و قال المحقق الأصفهانی (2) مستشکلاً علی قول ( الکفایة ) : « لضرورة أنه لا یکاد یکون طبیعة معدومة إلا إذا لم یکن فرد منها بموجود و إلّا کانت موجودة » ، بتوضیحٍ منا: بأن النفی یضاف إلی الطبیعة کالإثبات ، فیقال : عدم الإنسان کما یقال :

وجود الإنسان ، فلا فرق بین الوجود المضاف إلیها و العدم ، بل المهم هو لحاظ

ص:244


1- 1) نهایة النهایة : 276 .
2- 2) نهایة الدرایة 2 / 448 .

المضاف إلیه ، فإنْ کانت الطبیعة مهملة ، کان الوجود المضاف إلیها قضیّة مهملة ، و هی فی قوّة الجزئیة ، و العدم المضاف إلیها قضیّة سالبة و هی فی قوّة الجزئیّة ، فإن کان المضاف إلیه مهملاً کانت القضیّة مهملة ، موجبةً أو سالبة . و أمّا إن کانت الطبیعة المضاف إلیها مقیدةً ، کانت الموجبة جزئیة و کذا السالبة ، فإن کانت الطبیعة مطلقةً فهی موجبة کلیّة أو سالبةً کلیّة .

و علی هذا ، فلا یصح القول : بأن وجود الطبیعة بوجودٍ فردٍ ما و عدمها یکون بعدم جمیع الأفراد ، لأن المقابل لوجود الفرد ما هو عدم الفرد ما ، و لجمیع الأفراد هو عدم جمیعها .

وعلیه ، فدلالة النکرة فی سیاق النفی أو النهی علی العموم لیست عقلیّة خلافاً لصاحب ( الکفایة ) إذ قال بأن دلالتها علیه عقلاً لا ینبغی أنه تنکر .

أقول :

و هذا الکلام و إنْ کان متیناً من الناحیة العقلیّة ، إلّا أن الملاک فی أمثال المقام هو الارتکاز العرفی لا الدقّة العقلیّة ، و نحن لو راجعنا العرف لرأیناهم یفهمون العموم من قولنا : لا رجل فی الدار ، و یرون اللفظ دالّاً علیه من غیر دخلٍ لمقدّمات الحکمة أصلاً ، و لذا لو قلنا بعد هذا الکلام : زید فی الدار، لاحتجّوا علینا بالمناقضة ، من جهة إفادة النفی السابق للعموم - لا من جهة عدم تقیید الإطلاق فی « رجل » - فإثبات وجود زید و هو من أفراد العام یناقض النفی ، لأن معنی : لا رجل فی الدار هو کلّ أفراد الرجل لیس فی الدار ... .

و قد تعرّض الأُستاذ لکلام المحقق الأصفهانی هذا فی مباحث النواهی أیضاً .

ص:245

الجمع المحلّی بال

و وقع الکلام بینهم أیضاً فی الجمع المحلّی بال ، فعن المحقق القمی (1)دعوی عدم الخلاف فی الدلالة علی العموم وضعاً ، للتبادر و جواز الاستثناء، و أن اللّام للاستغراق - إن لم یکن عهد - فیدلّ علی العموم .

و لکنّ شیئاً من هذه الوجوه لا یقتضی ظهور هذا اللفظ فی العموم، بحیث لو استعمل « العلماء » مثلاً فی غیر العموم - کأن یستعمل للعهد الذهنی أو الذکری - یکون مجازاً .

و استدلّ أیضاً : بأن « أل » إن لم تکن عهدیة فهی معرِّفة لمدخولها، و التعریف یساوق التعیین ، و علی هذا تتم الدلالة علی العموم ، لأنّ الجمع مثل العلماء معیَّن من طرف الأقل لأن أقلّه الثلاثة ، و من طرف الأکثر لأنه کلّ الأفراد ، لکنَّ الدلالة علی أقصی المراتب و هو « کلّ الأفراد » أوضح و أتمّ، إذ قد یقال بعدم التعیّن فی الثلاثة الذی هو طرف الأقل ... فتمّت الدلالة علی العموم بهذا الوجه (2) .

و قد ناقشه الأُستاذ : بأن هذا المقدار من البیان لا یکفی لإثبات الدّلالة اللّفظیة، فالحاجة إلی مقدمات الحکمة موجودة لا محالة .

ص:246


1- 1) قوانین الاصول : 216 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 297 الهامش .

هل تخصیص العام یوجب التجوّز فیه ؟

قال فی ( الکفایة ) :

لا شبهة فی أنّ العام المخصص بالمتصل أو المنفصل حجة فیما بقی ، فیما علم عدم دخوله فی المخصَّص مطلقاً و لو کان متصلاً ، و ما احتمل دخوله فیه إذا کان منفصلاً ، کما هو المشهور بین الأصحاب ، بل لا ینسب الخلاف إلّا إلی بعض أهل الخلاف .

و ربما فصّل بین المخصص المتصل فقیل بحجیّته فیه و بین المنفصل فقیل بعدم حجیته . و احتج النافی بالإجمال ، لتعدد المجازات حسب مراتب الخصوصیات ، و تعیین الباقی من بینها بلا معیّن ترجیح بلا مرجّح . و التحقیق فی الجواب أن یقال ... (1) .

أقول : هل العام المخصص مجاز أو لا ؟ و علی الأول ، فهل یسقط عن الحجیّة ؟ فیقع الکلام فی مقامین :

المقام الأول

اشارة

إنه لا یخفی أنّ المخصّص علی قسمین ، متّصل و منفصل ، لأن المتکلّم تارةً یقول : أکرم العلماء العدول . و اخری یقول : أکرم العلماء ، ثم فی مجلس آخر یقول : لا تکرم الفساق من العلماء ... و قد یکون المخصّص المتصل قرینةً حالیّةً أو عقلیّة أو غیر ذلک مما لیس بلفظٍ .

ص:247


1- 1) کفایة الاصول : 218 .

ثم إنّ المخصّص ، قد یکون مبیّناً کما ذکر ، و قد یکون مجملاً مفهوماً أو مردّداً بین الأقل و الأکثر .

ابتناء البحث علی وجه دلالة العام علی العموم

و قد وقع الکلام بین الأعلام فی أنّ العام یحتاج فی دلالته علی العموم إلی مقدّمات الحکمة أو لا ؟ ذهب المیرزا إلی الأول ، وعلیه یقع البحث فی أن الإطلاق - أی: مفاد اللّابشرط القسمی - هل هو مدلول المقدّمات و اللّفظ غیر موضوعٍ إلّا للطبیعة ، وعلیه سلطان العلماء و أتباعه ، أو أنه داخل فی حریم المعنی الموضوع له وعلیه المشهور ؟ فعلی القول الثانی : لا ریب فی المجازیّة ، لأن العموم محتاج إلی الإطلاق ، و هو داخل فی مفهوم اللفظ ، فإذا جاء المخصّص - سواء کان متّصلاً أو منفصلاً - رفع الإطلاق ، فکان لفظ العامّ مستعملاً فی جزء المعنی الموضوع له و هذا هو المجاز . أمّا علی القول الأوّل ، فلا یلزم التجوّز ، لأن المفروض خروج الإطلاق عمّا وضع له لفظ العام ، فلم یستعمل فی غیر ما وضع له .

بیان القول بدلالته بمقدّمات الحکمة

و قد أوضح المیرزا - قوله باحتیاج العام إلی المقدّمات ، و أن الإطلاق خارج عن حریم المعنی : قوله :

أمّا إذا کان المخصّص متصلاً ، فإنّ کلّ لفظٍ قد استعمل فی معناه الموضوع له ، فإذا قال : أکرم کلّ عالم عادل ، فإنّ « کلّ » یدلّ علی العموم و« عالم » مستعمل فی معناه و هو الطبیعی ، و« عادل » کذلک و هو الطبیعی ، و حیثیّة التقیید مستعملة فی معناها ... فلا موجب للتجوّز .

أمّا إذا کان منفصلاً ، فالتخصیص بالمنفصل تقیید ، لأنّ المفروض أنّ دلالة العام علی السّعة و الشمول هی بمقدّمات الحکمة ، فإذا ورد المخصص المنفصل

ص:248

تقیّد الإطلاق ، و تقییده لا یستلزم المجازیة ، لکونه خارجاً عن مدلول اللّفظ - کما هو المفروض - ، فلم یستعمل اللفظ فی جزء المعنی الموضوع له حتی یلزم المجاز .

فهذا دلیل القول باحتیاج العام إلی المقدّمات فی دلالته علی العموم .

بیان القول بدلالته بالوضع
اشارة

خلافاً للمشهور القائلین بأن أداة العموم موضوعة لإسراء الموضوع و انطباقه علی جمیع الأفراد و الأقسام بلا حاجة إلی المقدّمات ، وعلیه ، فقد قال صاحب ( الکفایة ) : أمّا فی المتصل ، فإن أداة العموم مثل « کلّ » موضوعة لاستیعاب جمیع الأفراد و الأقسام من المدخول ، فهی مستعملة فی معناها و لا مجازیّة . و کذلک « العالم » و« العادل » کما فی المثال المتقدّم .

و أمّا فی المنفصل ، فأداة العموم و إنْ استعملت لجمیع الأقسام و الأفراد ، لکن التخصیص یکشف عن عدم إرادة ذلک المدلول ، فتقع شبهة استعمال اللّفظ و إرادة المعنی غیر الموضوع له ، فأجاب عن ذلک بالتفکیک بین الإرادتین الاستعمالیة و الجدیّة و التصرف فی الظهور و الحجیّة ، قال :

و بالجملة ، الفرق بین المتصل و المنفصل و إنْ کان بعدم انعقاد الظهور فی الأول إلّا فی الخصوص ، و فی الثانی إلّا فی العموم ، إلّا أنه لا وجه لتوهّم استعماله مجازاً فی واحدٍ منهما أصلاً ، و إنما اللّازم الالتزام بحجیة الظهور فی الخصوص فی الأول و عدم حجیّة ظهوره فی خصوص ما کان الخاص حجةً فیه فی الثانی .

و بیان المطلب هو : إن الدلالة إمّا تصوّریة - و بتعبیر ( الکفایة ) : انسیة - أو تصدیقیة استعمالیة ، أو تصدیقیة جدیّة . و المراد من الاولیٰ هو مجیء المعنی من اللفظ إلی الذهن علی أثر الأنس الموجود بین اللّفظ و المعنی ، و هذه الدلالة غیر

ص:249

تابعة لا للإرادة و لا للقصد و لا للاستعمال ، و لا هی تقع موضوعاً لحکمٍ من الأحکام .

و الثانیة : هی أنّه لمّا یرید التکلّم أن یفهم السامع معنیً، فإنه یستعمل اللّفظ فی ذاک المعنی ، أی یستخدمه من أجل إفهام معناه الموضوع له ، فیصدَّق بکونه مریداً لإفهامه و إحضاره إلی ذهن السامع باللفظ ، فهی دلالة تصدیقیّة استعمالیة ، و فیها یقع البحث عن کونها تابعةً للإرادة أو غیر تابعة ، و فی هذا المقام تنعقد الظهورات و یکون اللّفظ قالباً لإفهام المعنی ... إلّا إذا کان اللّفظ المستعمل مجملاً ، فلا اقتضاء له لأنْ یکون قالباً للمعنی ، أو احتمل وجود قرینةٍ مانعة من دلالة اللفظ علی المعنی ، أو یُوجد ما یحتمل أن یکون قرینةً مانعةً ... فلو وجد واحد من هذه الأسباب لم ینعقد الظهور للّفظ .

و الثالثة: هی أنّه بعد تمامیّة ظهور اللفظ فی المعنی، یتحقّق الموضوع لأصالة المطابقة بین اللّفظ المستعمل - أی الکلام - و الإرادة ، و هذا أصل عقلائی ، و المفروض کون التکلّم منهم فلا یتجاوزه ، و حاصله : أنّ الکلام متی کان ظاهراً فی معنیً ، فإنّ ذاک المعنی هو المراد الجدّی للمتکلّم ، و یعبّر عن ذلک بالحجیّة ...

لکنّ هذه الدلالة أیضاً لا تتمّ لو احتمل أن الإرادة الجدیّة غیر مطابقة لظهور اللّفظ ، لکنّ المتکلّم غفل عن إقامة القرینة ، أو احتمل وجود مانع - من تقیّة أو غیرها - عن إقامة القرینة علی أن المراد غیر ما یکون اللّفظ ظاهراً فیه ، أو احتمل ذکره للقرینة منفصلةً عن الکلام ... فإنّ کلّ واحدٍ من هذه الاحتمالات یکفی لسقوط الدلالة الجدیّة ، فهی متوقفة علی اندفاعها .

فقال المشهور - و منهم صاحب ( الکفایة ) - بأنّ المخصّص المنفصل إنما یوجد الخلل فی الدلالة التصدیقیة الجدیّة دون التصدیقیة الاستعمالیّة ، إذ

ص:250

لا موجب للخلل فیها هنا ، فلا وجه للزوم المجاز .

و علی الجملة ، فإن ظهور « کلّ عالمٍ » فی العموم منعقد ، غیر أن المخصص المنفصل یوجب أن یکون حجیّة ظهوره فی خصوص غیر الفسّاق ، و أنّ الخصوص هو المراد الجدّی .

فإنْ قلت : إذا لم تکن الإرادة الجدّیة علیٰ وفق الاستعمالیة ، لکون الکلام ظاهراً فی العموم الشامل للفساق أیضاً ، فلما ذا جاء باللفظ الظاهر فیه ؟

أجاب فی ( الکفایة ) : بأنّ مرجع هذا الإشکال إلی لزوم اللّغویة ، و لکن یکفی لاندفاعه مجرّد احتمال وجود الحکمة من ذلک الاستعمال ، و هی القصد إلی وضع قاعدةٍ مفادها مانعیّة المخصّص المنفصل عن حجیّة ظهور العام ، لکونه نصّاً أو أظهر منه فیتقدّم علیه ، و تکون هذه القاعدة هی المرجع کلّما شکّ فی دخول الشیء تحت العام . فکان الداعی للإتیان باللّفظ الظاهر فی العموم هو ضرب هذه القاعدة لا البعث نحو إکرام کلّ العلماء حتی الفسّاق منهم .

إشکال السیّد البروجردی

فقال السید البروجردی : یمکن أن یورد علیه أیضاً : بأن الإرادة الاستعمالیة علی ما ذکرت إرادة تصوریّة - أعنی بها إرادة إفناء اللفظ فی المعنی المخصوص و جعله قالباً له موجباً لتصوّره عند تصوّره - و تمسّک العقلاء بالعام عند الشک لیس أثراً لصرف هذه الإرادة و إنْ انکشف عدم مطابقتها للإرادة الجدیّة ، بل یکون أثراً لها بما هی کاشفة عن الإرادة الجدیّة التصدیقیّة .

( قال ) و بالجملة : التمسّک بالعام عند الشک إنما هو من جهة استقرار بناء العقلاء علی حمل کلام الغیر - بما هو فعل اختیاری صدر عنه - علی کونه صادراً عنه لغایته الطبیعیّة العادیة ، و حیث أن الغایة الطبیعیة للتلفّظ بالکلام إرادة إفهام ما

ص:251

هو ظاهر فیه ، فلأجل ذلک یحکمون فی العام - مثلاً - بأن المراد الجدّی فیه هو العموم . و علی هذا ، فبورود التخصیص علی العام یستکشف عدم کون ظاهر اللّفظ مراداً جدیّاً ، و ینهدم أساس أصالة التطابق بین الارادتین ، فلا مجال حینئذٍ لأن یتمسّک بالعام بالنسبة إلی الأفراد المشکوک فیها ، و إنْ ثبت کون العموم مراداً بحسب الاستعمال .

( قال ) : هذا ، مضافاً إلی أن ما ذکره فی المتّصل فی الاستثناء ، فهو بحکم المنفصل کما لا یخفی ، و حیث لم یکن فیما ذکروه غنیً ، وجب علینا صرف عنان الکلام إلی بیان ما هو الحق فی المسألة ، مع الإشارة إلی إمکان أن یرجع کلام الشیخ و صاحب ( الکفایة ) أیضاً إلی ما نحقّقه . و توضیح المطلب یتوقف علی ... .

و علی الجملة ، فإن الطریق الذی سلکه صاحب ( الکفایة ) و غیره غیر مجدٍ لحلّ الإشکال ، و قولهم بعدم لزوم المجاز غیر تام .

طریق السیّد البروجردی

فسلک السید البروجردی طریقاً آخر و اختار أن مثل هذا الاستعمال لا هو حقیقة و لا هو مجاز ، و هذا قسم ثالث من الاستعمالات ، و حاصل کلامه : تطبیق مذهب السکّاکی - فی خصوص الاستعارة - فی جمیع الاستعمالات المجازیّة ، بدعوی أنّ اللّفظ مستعمل دائماً فی معناه الموضوع له ، فإنْ کان الموضوع له هو الموضوع للحکم سمّی الاستعمال حقیقیاً أی ثابتاً علی معناه ، من حَقَّ بمعنی الثبوت ، و إنْ تجاوز المعنی الموضوع له إلی معنیً آخر سمّی مجازاً ، أی قد عَبَر المعنی إلی معنیً آخر ، لکنْ بعنایة ادّعاء الاتحاد بین المعنیین ، فلفظ الأسد مستعمل فی « الحیوان المفترس » - و هو الموضوع له - غیر أنّ هذا المعنی معبر إلی « الرجل الشجاع » بملاک الاتحاد الادّعائی بینهما .

ص:252

و أمّا فی العام المخصّص ، حیث یستعمل اللّفظ فی الکلّ الموضوع له و یراد الجزء ، فلیس الاستعمال حقیقیّاً و لا مجازیّاً ، لأنا قد استعملنا اللّفظ فی معناه الموضوع له ، لکنْ لم نقصده فلم یثبت علیه و لم نقصد به العبور إلی معنیً آخر لیکون مجازاً ... اللّهم إلّا أن ندّعی فی الفرد الواحد من العلماء أنّه کلّ العلماء ، فنقول : جاءنی کلّ العلماء و المقصود هو وحده ، فیکون مجازاً ، لکنّ العمومات المخصّصة لا یوجد فیها مثل هذا القصد .

فهذا طریق هذا المحقق بعد الإشکال المذکور علی صاحب ( الکفایة ) ، و هو موجود فی حاشیة الإیروانی أیضاً .

الإشکال علیه

لکنْ یرد علیه : أن الاستعمال الذی لیس بحقیقةٍ و لا مجاز غیر معقول ، لا علی مسلک المشهور و لا علی مسلکه من أنّ المجاز عبور اللفظ عن المعنی الحقیقی و جعل المعنی الآخر من معناه أیضاً ادعاءً ... فإن الاستعمال - علی کلّ تقدیر - إمّا حقیقة و إمّا مجاز و لا ثالث .

و أمّا الإشکال المشترک علی ( الکفایة ) من أنه فی کلّ موردٍ لا یُوجد فیه التطابق بین الإرادتین فلیس بموردٍ لبناء العقلاء فی استکشاف المراد من اللّفظ المستعمل ، ففیه :

إنه یمکن قلب الإشکال بأنْ یقال : إنه لمّا یخصّص العامّ بالمخصّص المنفصل ، لا یکون تطابق بین الإرادتین و إلّا لم یکن التخصیص ، فإذن ، یکون بین الإرادتین مخالفة ، و مع المخالفة بینهما فلا بناء للعقلاء من أجل استکشاف المراد ، لأنّ هذا البناء - کما قال - إنما هو فی المورد الذی یستعمل فیه اللّفظ للغایة الطبیعیّة ، و مع عدم التطابق کیف یحصل الکشف عن الحجیّة و المراد الجدّی للمتکلّم ؟

ص:253

طریق المحقق الأصفهانی

و سلک المحقق الأصفهانی (1) طریقاً آخر لحلّ المشکل ، لأن الإنشاء لا یمکن أن یکون بداعیین ، بل کلّ إنشاء بداعٍ من الدواعی فهو مصداق لذاک الداعی ، و فیما نحن فیه ، عند ما یراد التمسّک بالعام لإثبات البعث الجدّی و ترتیب الحکم ، یأتی الإشکال بأنّ هذا البعث إن کان جدّیاً فلا یجتمع مع التخصیص ، و إن لم یکن فلا یصلح للتمسّک به للکشف عن الفرد المشکوک فیه . فقال المحقق الأصفهانی : إن کان المخصّص قبل العمل بالعامّ ، فالموضوع للحکم غیر محدّد و لا مانع من التمسّک به ، و من کان بناؤه علی بیان مراداته بالمخصّصات المنفصلة ، فالمطابقة بین إرادته الاستعمالیة و الجدیّة حاصلة .

و أمّا إن جاء المخصّص بعد حضور وقت العمل بالعام ، فالبعث الجدّی هو المدلول له و لا ینافیه التخصیص ، لأن البعث الجدّی نحوه واحد ، غیر أنه بالنسبة إلی الأفراد المخصّصة ناشئ من المصالح الظاهریة من تقیّةٍ و نحوها ، و بالنسبة إلی الأفراد غیر المخصّصة ناشئ من المصالح الواقعیة ، فکان شمول کلّ العلماء للفسّاق لمصلحة ظاهریّة ، و البعث الشامل لهم و للعدول جدّی ، فالتطابق بین الإرادتین موجود .

الإشکال علیه

و قد تعرّض شیخنا لهذا الطریق فی الدورة السّابقة ، فأورد علیه بعد غض النظر عمّا فیه : بأنّ کشف الخاص عن انتهاء أمد البعث إلی بعض الأفراد و أن البعث إلیها کان ناشئاً من المصلحة الثانویة ، إنّما یتم فی الخاص المتأخّر ، أمّا المتقدّم فکیف یکون کاشفاً بل هو أقوی فی المخصصیّة من المتأخر ؟ هذا أولاً . و ثانیاً : إذا

ص:254


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 451 .

کان البعث واحداً و متوجّهاً إلی الفسّاق و غیرهم علی حدّ سواء ، فکیف ینشأ من داعیین ؟ بل إنه لما تعدّد المبعوث إلیه فلا بدّ و أن یکون متعدداً ، و إذا تعدّد أمکن أن یکون الانبعاث إلی بعض الأفراد ناشئاً من الإرادة الجدّیة و إلی البعض الآخر ناشئاً من الارادة الاستعمالیّة ، و هذا ما ذکره صاحب ( الکفایة ) ... فلا حاجة إلی طریق الأصفهانی ، و إشکال البروجردی علی ( الکفایة ) مندفع ، فالحق مع صاحب ( الکفایة ) تبعاً للشّیخ قدس سرّهما .

و حاصل الکلام : إنه إن کان الکلام مبیّناً لا إجمال فیه ، فإن الظهور ینعقد للعام فی العموم و لا یتوقّف العقلاء فی دلالته علی المراد ، فإنهم یفهمون ما ذا قال ، ثمّ مع مجیء المخصص المنفصل یفهمون - بعد الجمع بینه و بین العام - أنه ما ذا أراد .

و علی الجملة ، فإن المخصص یکون محدّداً للمراد لا مبیّناً لما دلّ علیه لفظ العام ، و أمّا ما زاد عمّا جاء به المخصّص فباق علی حجیّته ، لوجود المقتضی و هو دلالة اللّفظ علی العموم ، و عدم المانع ، لأنه إنما قام بمقدار ما دلّ علیه المخصّص ... فلا مجاز حتی یحتمل إجمال العام فی غیر مورد التخصیص .

المقام الثانی

اشارة

و علی فرض تسلیم مجازیة الباقی ، فما هو الجواب ؟

جواب المیرزا القمی و إشکال الکفایة

أجاب المیرزا القمی : بأنّ الباقی أقرب المجازات .

توضیحه : إنّه بناءً علی المجازیة و کشف المخصّص المنفصل عن أنّ المراد الاستعمالی لیس هو الشمول لجمیع الأفراد ، لا یلزم الإجمال ، لأنّ سبب الإجمال هو کون المجازات علی قدم المساواة ، و تعیّن بعضها دون بعض ترجیح

ص:255

بلا مرجّح ، لکنّ الحال لیس کذلک ، بل المراد منها هو أقربها إلی المعنی الحقیقی ، فالواجب إکرام من عدا الفسّاق من العلماء .

فأجاب فی ( الکفایة ) (1) : بما توضیحه : إن المدار فی الخروج عن الإجمال هو ظهور اللفظ و قالبیّته للمعنی ، و ذلک یتحقّق بأقربیّة المعنی المجازی إلی الحقیقی بحسب زیادة أنس المعنی باللّفظ، کما فی قضیة استعمال الأسد فی الرجل الشجاع ، لا بحسب المقدار . و علی هذا ، فإنّ الإجمال فیما نحن فیه باقٍ ، فما ذکره المیرزا القمی غیر مجدٍ .

جواب الشیخ

و ذکر الشّیخ قدّس سرّه وجهاً آخر (2) ، و أوضحه المیرزا النائینی (3) فقال : بأنّ تحقق المجازیّة للکلام یکون تارةً : بإدخال معنیً تحت اللّفظ ، و اخری : بإخراج بعض المعنی من تحته . و الفرق هو أنّه فی الصورة الاُولی : یکون للّفظ معنیً آخر غیر المعنی الأوّل . فهما معنیان متباینان ، أمّا فی الثانیة : فالمعنی محفوظ غیر أنه قد أخرج منه بعضه ، فکانت النسبة نسبة الأقل و الأکثر .

و ما نحن فیه من قبیل الثانی ، فإذا قال أکرم کلّ عالمٍ ، دلّ بالمطابقة علی وجوب إکرام الکلّ ، و کان المدلول وجوب إکرام کلّ واحدٍ واحدٍ من العلماء ، و إکرام کلّ واحدٍ حکم مستقل عن غیره . فلما جاء : لا تکرم الفسّاق منهم ، و أخرج هذه الحصّة من العلماء من تحت العام ، سقطت دلالته علیها ، لکن دلالته علی غیرها من الحصص فباقیة ، و قد تقدّم أن کلّ دلالة فهی مستقلّة عن غیرها ، و سقوط بعضها لا یؤثّر شیئاً علی البعض الآخر ... فکان دلالته علی الباقی علی

ص:256


1- 1) کفایة الاصول : 219 .
2- 2) مطارح الأنظار : 192 .
3- 3) أجود التقریرات 2 / 303 .

حالها ، لوجود المقتضی و عدم المانع .

و قد ذکر صاحب ( الکفایة ) (1) هذا الوجه عن الشیخ و أورد علیه بما حاصله :

إنه بعد أن کان اللّفظ مستعملاً فی الخصوص مجازاً ، و کان إرادة کلّ واحدٍ من مراتب الخصوصات ممکناً ، کان تعیّن بعضها بلا معیّن ترجیحاً بلا مرجّح ، و لا مقتضی لظهور لفظ العام فی ذلک البعض ، و قد تقدّم أن المدار فی الخروج عن الإجمال علی تحقق الظهور للّفظ ، و هو إمّا بالوضع أو بالقرینة ، و المفروض أنه لیس بموضوعٍ له و لا یوجد قرینة ، فلا مقتضی لظهوره و قالبیّته فی العلماء غیر الفسّاق ، لأنّ دلالة أکرم کلّ عالم علی العلماء غیر الفساق تضمنیّة ، لکونها فی ضمن دلالة اللّفظ علی العموم و الشمول بالمطابقة ، فلمّا سقطت الدلالة المطابقیة بمجیء المخصّص سقطت التضمنیّة بتبعها .

دفاع المحقق الأصفهانی عن الشیخ

و دافع المحقق الأصفهانی (2) عن کلام الشیخ ، فأجاب عن الإشکال : بأنّ تبعیة الدلالة التضمنیّة للمطابقیة إنما هی فی مقام الثبوت ، لوضوح أنه لو لا أکرم کلّ عالمٍ فلا دلالة علی وجوب إکرام الفساق ، أما فی مقام السقوط فبالعکس ، لأنّ قوله لا تکرم الفسّاق من العلماء ، رفع دلالة العام علی الفسّاق فقط ، و لا یزاحم سائر دلالاته التضمنیّة ، فکان مجیء هذا المخصّص موجباً لسقوط العام عن الدلالة بالنسبة إلی الفسّاق .

فإنْ قلت : إنه بعد سقوط الدلالة المطابقیة کما ذکرت ، فلا یبقی دلالة مطابقیة أصلاً .

ص:257


1- 1) کفایة الاصول : 219 .
2- 2) نهایة الدرایة 2 / 452 .

أجاب : هناک عدّة دلالات مطابقیة فی عرضٍ واحدٍ ، مثل أکرم کلّ عالم ، أکرم کلّ عالم فقیه ، أکرم کلّ عالم عادل ... و هکذا ... و لکلٍّ منها دلالات تضمنیّة ، و هی فی الطول ، فإذا ورد المخصص المنفصل علی العام ، کشفنا عن الدلالة المطابقیة فی غیر الأفراد الخارجة بالمخصص ، لأنّ اللّفظ الدالّ علی العموم مستعملٌ قطعاً ، فإذا جمعنا الکلام الظاهر فی العموم مع المخصص و کان المتکلّم بهما واحداً - أو بحکم الواحد کما فی الأئمة علیهم السلام - انکشف لنا أن الخارج من تحت العام لیس إلّا بقدر المخصّص ، و ظهر لنا أنّ المراد الاستعمالی هو جمیع المراتب المدلول علیها بالعام عدا المرتبة المخصّصة ، و کانت النتیجة عدم لزوم الإجمال حتی علی القول بالمجاز .

هذا ما ذکره المحقق الأصفهانی فی هذا المقام .

الإشکال علیه

أجاب شیخنا: بأنه لا ریب أنّ لکلّ دلیلٍ حدّاً من الدلالة و یستحیل دلالته علی الأکثر من ذلک، و هنا : قد استعمل العام فی العموم ثم جاء المخصّص یزاحمه فی دلالته المطابقیّة ، و یدلّ علی أن المراد الاستعمالی من « کلّ عالمٍ » لیس بحیث یشمل الفسّاق أیضاً بل هم خارجون . و هذا حدّ دلالة الدلیلین . و أمّا الدلالة علی أن المراد الاستعمالی هو سائر المراتب - بعد خروج مرتبة الفساق - فتحتاج إلی دلیل آخر ، و الدلالة علی ذلک إمّا بمقدّمة هی : عدم القرینة علی خروج مرتبةٍ اخری ، أو أصالة عدم المخصّص الآخر . لکنّ هذا الأصل ، إن کان عملیاً فهو مثبت ، فإن ثبت قیام السیرة العقلائیة علی إجراء مثل هذا الأصل أو نفی احتمال أیّ قرینةٍ اخری تمّ ما ذکره ، و إلّا فلا ، فنقول :

إنّ السیرة العقلائیة قائمة علی عدم المانع متیٰ شکّ فیه مع وجود

ص:258

المقتضی ، أمّا وجود المقتضی فلا أصل عندهم له ، لأنّهم إنما یتمسّکون بأصالة عدم القرینة فی موردین ، أحدهما : أن یکون اللّفظ ذا معنی حقیقی معیّن ثمّ یشکُّ فی إرادة المتکلّم له ، فبأصالة عدم القرینة یحملون اللّفظ علی معناه الحقیقی الوضعی . و الآخر : ما لو استعمل اللّفظ فی غیر معناه الموضوع له مع قرینة صارفةٍ عنه و معینةٍ للمراد کما فی رأیت أسداً یرمی ، ثم احتمل وجود قرینة علی عدم قرینیّة تلک القرینة الصّارفة ، فإنه یدفع هذا الاحتمال بالأصل ، و یتمّ المقتضی للدلالة علی المراد الاستعمالی .

إنّ التمسّک بالأصل العقلائی المذکور إنما یکون فی أحد الموردین المزبورین ، و ما نحن فیه لیس منهما ، لأنّ المفروض کون الاستعمال هنا مجازیّاً لا حقیقیّاً ، و لأن : لا تکرم الفساق من العلماء ، لیس مثل « یرمی » فی الصّارفیّة و تعیین المعنی المراد ... و لو شکّ فی وجود السیرة فی مثل المقام ، فإنّ القدر المتیقن منها قیامها فی المعنی الحقیقی ... .

فالحق لزوم الإجمال علی القول بالمجاز وفاقاً للکفایة .

ص:259

التمسّک بالعام فی الشبهات المفهومیة و المصداقیة

اشارة

و الکلام الآن فیما لو کان المخصّص مجملاً ، فهل إجماله یوجب الإجمال فی العام ؟

إن إجمال الخاص تارةً : یکون من حیث الصّدق ، و تسمّی الشبهة مفهومیة أو صدقیّة . و اخری : یکون من حیث المصداق ، و تسمّی بالشبهة المصداقیة ، فیقع الکلام فی جهتین .

الجهة الأولی (فی الشبهة المفهومیة)

اشارة

إن المخصص تارةً متصل و اخری منفصل .

و علی التقدیرین ، فقد یؤثّر إجمال المخصص فی العام بحیث لا یمکن التمسّک به أصلاً ، کما لو قال : أکرم العلماء إلّا بعضهم ، و قد لا یکون کذلک بل یبقی مقدار من موارد العام علی الحجیّة مثل : أکرم العلماء إلّا الفسّاق ، فمع تردّد الفسق بین الکبیرة و الصغیرة یبحث عن بقاء مرتکب الصغیرة تحته أو خروجه کمرتکب الکبیرة ؟ ثم القسم الأخیر یکون تارةً : مردداً بین الأقل و الأکثر کمثال الفسق ، و اخری : یکون مردداً بین المتباینین ، کما لو قال : أکرم العلماء إلّا زیداً ، و تردّد زید بین ابن عمرو و ابن بکر .

ثم الإجمال منه حقیقی و منه حکمی ، لأنّ المخصّص إنْ أثّر فی الإرادة الاستعمالیة سقط اللفظ عن الظهور فکان الإجمال حقیقةً ، و إنْ أثَّر فی الإرادة الجدیّة سقط الکلام عن الحجیّة فکان مجملاً من حیث الحکم و الأثر مع بقاء

ص:260

الظهور علی حاله ... و هذا المطلب متفرّع علی ما تقدّم من أنّ التخصیص بالمنفصل یوجب المجازیّة للعام أو لا ، فعلی الأوّل فالإجمال حقیقی ، و علی الثانی حکمی ؛ أمّا علی مسلک الشیخ - من عدم سقوط العام عن الحجیة حتی بناءً علی المجازیّة - فلا إجمال أصلاً .

و یبقی بیان اصطلاحٍ لهم فی خصوص المخصص المتّصل و هو قولهم ، إنه یعطی عنواناً للعام ، فإنّ مرادهم من ذلک : إن المخصص المتّصل یؤثّر فی انعقاد ظهور العام فی غیر ما دلّ علیه المخصص ، فلمّا یقول : أکرم کلّ عالمٍ عادل ، ینعقد له ظهورٌ فی کلّ عالمٍ غیر فاسق ، أمّا إذا کان المخصص منفصلاً ، فإنّ لا تکرم الفسّاق من العلماء یؤثر فی أکرم کلّ عالمٍ من حیث الحجیّة ، و یتعنون المراد الجدّی بغیر الخاص .

و علی ما تقدّم نقول :

إن کان المخصص متّصلاً مردّداً بین المتباینین ، کما لو قال : أکرم العلماء إلّا زیداً ، و تردّد بین ابن عمرو و ابن بکر ، فإنّ العام یصیر مجملاً و تسقط الإرادة الاستعمالیة ، لأن المخصص المتّصل یمنع من انعقاد الظهور فی العام ، کما تقدّم ، إذ الظّهور یأتی بالتدریج بحسب الدلالة التصوریة ، أمّا بحسب الدلالة التصدیقیّة فلا ینعقد إلّا بعد تمام الکلام ، فکانت الإرادة الاستعمالیة معلّقة علی عدم القرینة المتصلة ، فإذا کانت مجملةً فلا ینعقد الظهور أصلاً ... و هذا الإجمال حقیقی ، إذ لا ندری ما ذا قال .

و إن کان المخصص متصلاً مردداً بین الأقل و الأکثر ، کمثال الفسق المزبور سابقاً فکذلک ... .

و تلخص : إن المخصص المتّصل المجمل مطلقاً یوجب الإجمال الحقیقی فی العام .

ص:261

و إنْ کان المخصص المجمل منفصلاً مردّداً بین المتباینین ، فإنّ الخاص یؤثّر فی الدلالة التصدیقیة الجدیّة للعام ، و هی مرتبة حجیّة الکلام ، فتسقط الحجیّة بالنسبة إلی مورد التردید ، و یُعنون العام بغیر الخاص من حیث الحجیّة ، و یصبح العام مجملاً إجمالاً حکمیاً ... و بیان ذلک :

إن کلّ کلام یصدر من المتکلّم ، فإنه ما دام متکلّماً فله أن یلحق بکلامه ما شاء ، فإذا فرغ منه انعقد الظهور و کان حجةً یؤاخذ به ، و حینئذٍ ، لا یرفع الید عن هذا الظهور و لا یسقط الکلام عن الحجیّة إلّا بدلیلٍ ، و قد تقرّر عندهم رفع الید عن العامّ بالخاص ، فیکون مسقطاً للعام عن الحجیّة و إن کان - أی الخاص - مردداً ... إلّا أنهم قد اختلفوا فی وجه ذلک علی قولین : فمنهم من قال : بأنّ الوجه هو أقوائیة الخاص فی الحجیّة من العام ، فیقدّم الأقوی . و منهم من قال : بأنّ حجیّة العام فی العموم کانت معلَّقةً علی عدم قیام قرینةٍ معیّنةٍ للمراد الجدّی منه ، فحجیّة أصالة العموم بالنسبة إلی الإرادة الجدّیة معلّقة علی عدم المخصّص ، و القرینة المعلَّق علیها مقدّمة دائماً علی المعلَّق .

نعم ، هنا بحث آخر ، و هو أنه لمّا کان الخاص مردّداً بین المتباینین ، فإنّ العام یسقط عن الحجیة بالنسبة إلی طرفی الاستعمال ، فلا یمکن التمسّک به لا لزید بن عمرو و لا لزید بن بکر ، للعلم الإجمالی بسقوطه بالنسبة إلی أحدهما ، و مقتضاه خروج کلیهما من تحته حکماً ، و لکنْ هل خروجهما عنه بسبب قصور أصالة العموم لهما اقتضاءً ، أو أن العام یشملهما لکنّ العلم الإجمالی یوجب سقوط الاصول العملیّة بالنسبة إلیهما علی أثر المعارضة ؟

و علی کلّ حالٍ ، فإنه مع وجود العلم الإجمالی یسقط العام عن الحجیّة ، و لا یمکن التمسّک بالاستصحاب لإبقاء وجوب إکرام هذا أو ذاک ... للزوم

ص:262

المخالفة العملیة للدلیل المخصّص الناهی بالفرض عن إکرام زید ، فلا بدّ - فی فرض تردّده بین اثنین - من ترک إکرامهما معاً ... و هذا ما علیه المشهور و إنْ مال المحقّق الیزدی (1) إلی جواز التمسّک بالاستصحاب فی أحد الطّرفین و عدم سقوط . أصالة العموم عن الحجیّة إلّا بقدر الضرورة ، و لزوم المخالفة الاحتمالیة غیر مضرّ ، فیکون الواجب إکرام أحد الزیدین و المکلّف مخیّر فی إکرام أیّهما شاء ... .

و لعلّ السرّ فیما ذهب إلیه المشهور هو : إن الحجّة فی المقام عبارة عن أصالة العموم ، و من الواضح أن الحجیّة هی الکاشفیّة عن المراد الجدّی نوعاً عند العقلاء ، و لذا کان مبنی الحجیّة و الکاشفیّة عن الإرادة الجدّیة بناء العقلاء - بخلاف الإرادة الاستعمالیّة ، فإن الکاشفیّة فیها عن طریق الوضع - و الأصل فی هذا البناء هو التطابق بین الإرادتین ، لکنّ هذه الکاشفیة فی العام مادامیّة ، و بمجرّد وصول المخصّص المنفصل المردّد بین المتباینین تسقط الکاشفیّة بالنسبة إلی کلا الزیدین معاً - و إن کان أحدهما باقیاً تحت العام واقعاً - لکونها معلّقة من أوّل الأمر علی عدم مجیء ما یزاحمها ، فإذا جاء المخصص سقط الکشف و الحجة عن الإرادة الجدیّة و أصبح الکلام مجملاً ، فلا یجوز التمسّک بالعام ، و إذا سقط عن الحجیّة جاء دور جریان الأصل العملی ، و قد تقرّر سقوط الاصول العملیّة فی أطراف العلم الإجمالی ، إمّا لعدم المقتضی و إمّا للتعارض .

و تبقی شبهة السیّد البروجردی (2) من أن العامّ بالنسبة إلی الأحد المردّد حجّة .

ص:263


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 216 - 217 .
2- 2) نهایة الاصول : 292 .

لکنْ یدفعها : أن الأحد المردّد لا ماهیّة له و لا وجود ، فیستحیل أن یکون موضوعاً للحجیّة ... و کأنه قد أخذ ذلک من صاحب ( الکفایة ) فی حجیّة أدلّة اعتبار خبر الثقة بالنسبة إلی أحد الخبرین المتعارضین ... لکن صاحب ( الکفایة ) أیضاً یقول فی المقام بإجمال العام .

و إن کان المخصّص المجمل المنفصل مردّداً بین الأقل و الأکثر کما فی مثال أکرم کلّ عالم ثم قوله : لا تکرم الفساق من العلماء ، و تردّد الفسق ، فقد ذکروا أنّه لا یسری الإجمال من المخصّص إلی العام ، فلا یکون مجملاً لا حقیقةً و لا حکماً ، بل القدر المتیقن - و هو مرتکب الکبیرة - یخرج و یبقی الزائد عنه و هو مرتکب الصغیرة تحت العام . و توضیح المقام هو أنه :

تارةً : نقول بأنْ شمول العام للانقسامات یتمّ بالوضع لا بمقدّمات الحکمة ، و اخری : نقول باحتیاجه إلی إجراء المقدّمات فی مدخول « کل » . و علی الثانی - فإنّه لمّا کان عدم القرینة من المقدّمات - فهل یلزم عدم مجیء القرینة إلی الأبد أو یکفی عدمها فی مجلس التخاطب ؟ قولان .

فإنْ قلنا : بأن الشمول یحتاج إلی المقدّمات و أنّ انعقاد الإطلاق موقوف علی عدم القرینة إلی الأبد ، ففی المسألة إشکال ، لأنّ الخاصّ المجمل قرینة ، و انعقاد الإطلاق یتوقف علی عدمها إلی الأبد کما هو الفرض ، فمقتضی القاعدة إجمال العام .

و إنْ قلنا - کما هو الصحیح - بأنّه یتوقف علی عدمها فی مجلس التخاطب ، فإنه إذا فقد تمّ الظهور الإطلاقی ، و یکون المخصّص مزاحماً لحجیّة المطلق لا ظهوره ، فلو تردّد بین الأقل و الأکثر - کما هو الفرض - زاحمه فی القدر المتیقن ، و أمّا الزائد عنه ، فشموله له مشکوک فیه - و لا یقاس بصورة المتباینین ، لوجود

ص:264

العلم الإجمالی هناک - و هو شک بدوی ، أمّا العام فشامل له ظهوراً و حجیةً ، فکان الواجب إکرام مرتکب الصغیرة تمسّکاً بالعام .

و إنْ قلنا : إن شمول العام بالوضع ، فالمخصص المجمل المردّد بین الأقل و الأکثر غیر مزاحم لظهور دلالته الوضعیّة ... کما هو واضح .

و هذا هو الوجه الأول للتمسّک بالعام فی هذه الصّورة .

الوجه الثانی : لا ریب أن الأصل اللّفظی أقوی من الأصل العملی - لأنّ اللّفظ یکشف عن المراد الجدّی و هو حجة علی الواقع، و لیس للأصل العملی جهة الکشف بل هو معذّر و منجّز فحسب ، و أیضاً ، فإنْ الأصل العملی قد أخذ فی موضوعه الشکّ ، بخلاف الأصل اللّفظی فإنه یرفض الشک و یرفعه - و لا ریب أیضاً فی جریان الأصل العملی و هو الاستصحاب فی مرتکب الصغیرة عند تردّد المخصّص بین الأقل و الأکثر ، فیکون الأصل اللّفظی جاریاً فیه بالأولویّة لما تقدم .

الکلام حول الوجه الأول

هذا ، و قد أورد علی الوجه الأول : قولکم : المخصّص مجمل لا یقبل المزاحمة مع العام . نقول : المزاحمة حاصلة ، لأن الخاص و إنْ لم یزاحم العام فی الدلالة الاستعمالیة إلّا أنه یقیّد المراد الجدّی منه ، لأنه لیس بمهملٍ و لا مطلق ، و إذا تقیّد العام بغیر الفاسق - بأی معنیً کان الفاسق - احتمل أن یکون مرتکب الصغیرة أیضاً فاسقاً ، فکان انطباق الخاصّ و العام کلیهما علیه علی حدٍّ سواء ، و هذا هو الإجمال .

و أتقن ما اجیب به عنه هو ما ذکره المیرزا من : أنّ العام قد تقیّد و تعنون بغیر الفاسق ، فإنْ کان المراد تقیّده بمفهوم « غیر الفاسق » بما هو مفهوم فالإشکال وارد ، لکون مفهوم الفاسق مجملاً ، لکنّ العام تقیّد بمفهوم غیر الفاسق بما هو فانٍ

ص:265

فی المعنون و حاکٍ عن المصداق ، و لمّا کان المفروض هو الشک فی مِصداقیة مرتکب الصغیرة لعنوان غیر الفاسق ، فالخاص غیر منطبق علیه ، فیکون تقیّد العام مشکوکاً فیه ، فهو باق بالنسبة إلیه علی حجیّته .

و قد أورد الأُستاذ - فی الدورتین - علی المیرزا بالنقض بما ذهب إلیه فقهاً و اصولاً من ترتیب الأثر علی العنوان ، کما فی مسألة الفحص عن المخصّص ، فلو علم إجمالاً بورود المخصّصات علی العام ، فعثر علی تسعةٍ منها ، قال بانحلال العلم و إنْ احتمل وجود العاشر ، لکنّه لا یقول بهذا فی الأخبار المخرجة فی الکتب الأربعة ، إذا کان موضوع العلم الإجمالی متعنوناً بعنوان « ما فی الکتب الأربعة » بل علیه الفحص ... و کما فی مسألة ما لو کان مدیناً لزیدٍ و شک فی أنه تسعة دنانیر أو عشرة ، فلا یجب علیه العشرة إلّا إذا کان الموضوع « ما هو مکتوبٌ فی الدفتر » ، فإنّه لو تردّد بین الأقل و الأکثر وجب أن یدفع الأکثر المسجّل فی الدفتر .

و علی الجملة ، فإنه قد رتّب الأثر علی العنوان ، مع کونه فانیاً فی المعنون حاکیاً عن المصداق ، فلم یأخذ فی تلک الموارد بالقدر المتیقن بل تعامل معها معاملة المتباینین ... و من الواضح منافاة ذلک لما ذهب إلیه فی بحثنا فی مفهوم الفسق ... .

و تلخّص: إنه بناءً علی ما ذهب إلیه المیرزا فی الموارد الاخری ، یکون المجمل مؤثراً فی العام ، فهذا النقض وارد علیه .

لکنّ التحقیق فی الحلّ هو ما تقدّم : من أنّ العناوین المأخوذة فی الأدلّة تنظر بما هی فانیة فی الخارج لا بما هی مفاهیم ذهنیة ، فصحیحٌ أن الخارج لا یری إلّا بالصّورة الذهنیة و أنّه ظرف سقوط الحکم لا ثبوته ، و هاتان النکتتان توجبان توجّه الحکم إلی العنوان ، لکنّ قوله : « لا تکرم الفساق من العلماء » ناظرٌ إلی

ص:266

الوجود الخارجی ، و لیس هنا إلّا القسمان ، فأمّا مرتکب الکبیرة فخارج من تحت العام یقیناً ، لکن مرآتیة عنوان « الفاسق » لمرتکب الصغیرة مشکوک فیها ، فکان العام بالنظر إلی الواقع الخارجی مقیّداً بغیر مرتکب الکبیرة فقط و باقیاً علی حجیّته بالنسبة إلی مرتکب الصغیرة .

و بعبارة اخری : إن المخصّص إنما یمانع العام فی الحجیّة فیما إذا کان فی نفسه حجةً ، و إلّا فلا اقتضاء فیه ، فکیف یکون فی مرحلة المانعیة عن انعقاد ظهور العام فی الحجیّة ؟

إن المفروض هو الشکّ فی حجیة المخصص بالنسبة إلی مرتکب الصغیرة ، فکیف یکون مسقطاً للعام فی دلالته علی وجوب إکرامه بالعموم ؟

فالإشکال فی الوجه الأول مندفع .

لکنْ تبقی شبهة - طرحها الأُستاذ فی الدورتین - و حاصلها : إن الکاشف عن الإرادة الجدیّة هی السیرة العقلائیّة ، و کأنّ العقلاء فی مثل المقام یتوقّفون ! نظیر ما لو قال : اشتر لی قطعةً من السجّاد ، ثم قال : لا تشتر السجّاد من صنائع کرمان ، فشکّ فی أنه یمنع من خصوص السجّاد المصنوع فی داخل البلد أو الأعمّ منه و من المصنوع فی حوالیه من القری و الأریاف ؟ فالظاهر : أنه یتوقّف عن الشراء مطلقاً حتی یستوضحه عن المراد ؟

إذن ، فإن مقتضی القاعدة هو الاحتیاط و التوقّف ، لا الأخذ بالعام فی الزائد علی القدر المتیقن ... خلافاً للمشهور .

الجهة الثانیة ( فی الشبهة المصداقیة )

اشارة

إذا ورد عام مثل أکرم العلماء ثم قال لا تکرم الفساق من العلماء ، و وقع الشکّ فی کون زید العالم عادلاً أو لا ، فهل یجوز التمسّک بالعام للقول بوجوب

ص:267

إکرام زید ؟ قولان ، و هناک قول بالتفصیل بین الدلیل اللّفظی و اللبّی .

أمّا إذا کان المخصّص متّصلاً ، فلا خلاف بینهم فی عدم جواز التمسّک ، فالخلاف فی خصوص المنفصل .

فإن کان المخصّص لفظیاً و القضیّة حقیقیّة ، فالحق عدم جواز التمسّک و ذلک :

دلیل عدم الجواز

لأنّ القضایا مطلقاً - سواء کانت خارجیة أو حقیقیة - متکفّلة لثبوت المحمول للموضوع لا أکثر ، لأن مرتبة المحمول متأخرة عن مرتبة الموضوع ، و ما یتکفّل المتأخر لا یتکفّل المتقدّم فی الرتبة ، فقوله : الخمر حرام متکفّل لحرمة الخمر فقط ، و کذا : الصّلاة واجبة، و البیع حلال و هکذا . فهذه مقدمة .

و مقدّمة اخری : إنّ شأن المخصص إخراج العام عن العموم ، فإذا جاء لا یبقی العام علی عمومه ، و إنْ وقع الخلاف بینهم فی تعنون العام بنقیض الخاص و عدمه - کما تقدّم - إذ یکون العام علی القول الأول محدوداً بمن لیس بفاسق ، و علی القول الثانی بالأفراد التی هی ضد الخاص .

و بعد المقدّمتین ، فإنّه مع مجیء الخاص ، یکون الموضوع للعام هو العالم غیر الفاسق أو العالم الذی هو ضد الفاسق ، فإذا تحدّد الموضوع و أصبح عنوان الخاص جزءاً عقلیاً لموضوع العام ، بمقتضی المقدمة الثانیة ، فإنّ هذه القضیة و هی أکرم العالم غیر الفاسق لا یمکن أنْ تثبت الموضوع و تحرزه ، کما تقدم فی المقدمة الأولی ؛ فلو أردنا التمسّک بالعام لرفع الشک فی حال زید العالم و وجوب إکرامه ، کان من التمسّک بالدلیل فی موضوع نفس الدلیل بحسب حجیّته ، و قد عرفت أنّه محال .

ص:268

دلیل الجواز

و قد اقیمت وجوه لجواز التمسّک :

الوجه الأول : قاعدة المقتضی و المانع ، و الأصل فیها هو المحقّق الشیخ هادی الطهرانی و ملخّص ذلک : إنه کلّما علم بالمقتضی و شک فی المانع فالأصل عدمه ، و العام وزانه وزان المقتضی و وزان الخاص وزان المانع ، فمن علم بکونه من العلماء و شک فی عدالته و فسقه فهو من أفراد العام و حکمه وجوب الإکرام ، و لا یصلح المخصص للمانعیّة للشک فی کونه فاسقاً .

و فیه :

أمّا من الناحیة الکبرویة ، فسیأتی البحث عن هذه القاعدة فی مباحث الاستصحاب ، و ملخّص المقال هو : إنّ المفروض وجود احتمال الفسق و العصیان أی المانع عن المقتضی ، فإنْ کان الرافع له هو الأصل و لیس إلّا استصحاب العدم فهو أصل مثبت ، نظیر ما إذا صبّ الماء علی الید و شک فی وجود الحائل المانع ، فإن أصالة عدم الحائل بالنسبة إلی تحقق الغسل أصل مثبت . و إنْ کان الرافع له هو الدلیل ، فلا دلیل لا شرعی و لا عقلی ، و إنْ کان الرافع هو السیرة العقلائیة ، فلا ریب فی أنه لیس من سیرتهم البناء علی عدم المانع مع العلم بثبوت المقتضی و شموله للمورد .

و تلخّص : عدم تمامیة القاعدة المزبورة .

و أمّا من الناحیة الصغرویّة ، فقد أشکل المیرزا (1) بأن عنوان المخصص لا ینحصر فی کونه من قبیل المانع ، بل ربما یکون من قبیل الشرط أو الجزء کما فی قوله علیه السلام : « لا صلاة إلّا بطهور » (2) أو « بفاتحة الکتاب » (3) . فلا تکون

ص:269


1- 1) أجود التقریرات 2 / 322 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 315 ، الباب 9 من أبواب أحکام الخلوة ، رقم : 1 .
3- 3) مستدرک الوسائل 4 / 158 ، الباب 1 وجوب قراءة الفاتحة ، رقم : 5 .

القاعدة دلیلاً علی جواز التمسّک فی جمیع الموارد ، فالدلیل أخصّ من المدّعی .

و اجیب فی التعلیقة : بأنّ مثل هذا الترکیب خارج عمّا نحن فیه ، لأنّ محلّ الکلام إنّما هو ما إذا ورد حکم تکلیفی أو وضعی علی عام قد خرج عنه بعض مصادیقه ، و من الواضح أنه لیس الأمر فی التراکیب المزبورة کذلک ، لأنّ ظاهر « لا صلاة إلّا بطهور » عرفاً هو عدم تحقّق الصّلاة شرعاً أو عقلاً إلّا عند اقترانها بالطهارة ... فالنقض به غیر وارد .

و فیه : إنه لیس محلّ الکلام خصوص ما ذکره ، بل یمکن أن یکون المخصّص عنواناً وجودیاً و لیس من قبیل « لا صلاة إلا بطهور » ، کما لو قال : أکرم کلّ عالم ثم قال : یجب إکرام العلماء العدول ... فما ذکره المیرزا من أخصیّة الدلیل من المدّعی تام .

و تلخص : سقوط الدلیل من حیث الکبری و الصغری .

الوجه الثانی : إن تمامیّة الحجة من قبل المولی موقوفة علی إحراز الکبری و الصغری معاً ، فما لم یحرزا لم تتم ، و فی المقام و إنْ کانت الحجیّة تامة من ناحیة العام من حیث الکبری و الصغری ، إلّا أنها غیر تامة من ناحیة الخاص من حیث الصغری ، و لذا یکون العام حجةً بالنسبة إلی الصغری المردّدة و لا یزاحمه الخاص فیها ... ففی المثال المعروف نری انطباق « أکرم کلّ عالم » علی زید العالم المشکوک فی عدالته ، لأنّ المفروض إحراز العالمیّة فیه ، فالعام بعمومه شاملٌ له ، فالحجة علی وجوب إکرامه تامّة ، لکنّ انطباق الخاص : « لا تکرم العالم الفاسق » علیه غیر تامٍ لعدم إحراز کونه فاسقاً ، فلا حجیّة له بالنسبة إلیه ، و ما لیس بحجّةٍ لا یزاحم الحجّة و هو العام المفروض شموله له .

أجاب فی ( الکفایة ) : بأنّه فی غایة الفساد . ( قال ) : فإنّ الخاص و إنْ لم یکن دلیلاً فی الفرد المشتبه فعلاً ، إلّا أنه یوجب اختصاص حجیّة العام فی غیر

ص:270

عنوانه من الأفراد ، فیکون أکرم العلماء دلیلاً و حجةً فی العالم غیر الفاسق ، فالمصداق المشتبه و إنْ کان مصداقاً للعام بلا کلام ، إلّا أنه لم یعلم أنه من مصادیقه بما هو حجة ، لاختصاص حجیته بغیر الفاسق (1) .

و توضیح ذلک هو : أنّ للعام ظهوراً و حجیّةً - أی کاشفیّةً عن المراد الجدّی - فالفرد المشتبه و إنْ أحرز کونه عالماً و أنّ العام یشمله بظهوره ، لکنّ إحراز حجیّته بالنسبة إلی هذا الفرد أوّل الکلام ، و من الواضح ترتب الأثر علی الحجیّة لا الظهور .

فما أحرز لیس بموضوعٍ للأثر ، و ما هو موضوع الأثر فلم یحرز ، فکیف یتمسّک بالعام ؟

و أمّا الخاصّ ، فإنّه لا یمکنه تعیین الفرد ، لما تقدّم من أنّ الدّلیل لا یتکفّل الموضوع .

ثم إنه قد یقوّی الاستدلال بما ذکره الشیخ رحمه اللّٰه من إجراء البراءة فی الشبهات الموضوعیّة حیث قال : إن قوله « لا تشرب الخمر » لا یکون حجةً إلّا علی من ثبت عنده الکبری و الصغری معاً و ضمّ إحداهما إلی الاخری ، و مع الشک فی أنّ هذا المائع خمرٌ أو لا ؟ فالصغری غیر محرزة ، فهی مجری البراءة دون قاعدة الاشتغال .

فقال السید البروجردی : بأنَّ الکبری حجّة بنفسها فی مقام تشخیص الحکم الشرعیّ الکلّی ، و لا نحتاج فی ذلک إلی وجود الموضوع خارجاً . نعم ، حجّیتها بالنسبة إلی الخارجیات لا تتصوّر إلّا بعد تشخیص الصغری ، فههنا مقامان : مقام حجیّة العام بنفسه و مقام حجیّته بالنسبة إلی الخارجیات ، و المحتاج إلی الصغری هو الثانی دون الأوّل ، فقول المولی أکرم العلماء - مثلاً - حجّة علی

ص:271


1- 1) کفایة الاصول : 221 .

العبد و یجب علیه الفحص عن الموضوع أو عن حاله ( قال ) و لذلک بعینه نستشکل علی ما ذکره الشیخ لإجراء البراءة العقلیة فی الشبهات الموضوعیة ، فإن الظاهر عدم جریانها فیها ، نعم ، یجری فیها البراءة الشرعیة (1) .

فأورد علیه الشیخ الأُستاذ : بأنه إذا کانت العقلیّة غیر جاریة ، فکذلک الشرعیّة ، لأن موضوعها الحکم الذی لا یعلم ، إذ القابل للوضع و الرفع إنما هو الحکم ، فإذا لم یعلم به ، فکیف یصحُّ القول بتمامیّة البیان بالنسبة إلیه ؟ فالتفکیک بین البراءة العقلیة و الشرعیة غیر صحیح .

لکنّ مراد الشیخ قدس سره هو : إن الأحکام جمیعاً بنحو القضایا الحقیقیّة ، فهی تنحلُّ إلی أحکامٍ بعدد الموضوعات ، و تَتعدَّد الإطاعات و المعاصی ، فالحکم فی کلّ شبهةٍ موضوعیة مجهول ، و لا یدلّ علیه الحکم الکلّی ، و مع الجهل به تجری البراءة العقلیة و الشرعیة کلاهما .

الوجه الثالث : إن العام ظاهرٌ فی الشمول بالنسبة إلی أفراده ، و له ظهورٌ إطلاقی بالنسبة أحوال تلک الأفراد ، فلما قال « أکرم کلّ عالم » أفاد وجوب إکرام جمیع مصادیق العالم ، و علی جمیع أحوالهم من الفسق و العدالة و غیرهما ... فإذا جاء : « لا تکرم الفساق من العلماء » کان دلیلاً علی خروج من علم بفسقه ، فیکون من شک فی ذلک منهم باقیاً تحت العام .

و قد اجیب عن ذلک : بأنّ الحکم فی المطلق یختلف عنه فی العام ، ففی العام یجیء الحکم علی کلّ أفراده ، أمّا فی المطلق فإنه یجیء علی الطبیعة و لا نظر له إلی أفرادها ، فلو شک فی انطباق الحکم المطلق علی فردٍ لم یجز التمسّک فیه بالإطلاق .

ص:272


1- 1) نهایة الاصول : 294 .

فقال الأُستاذ : هذا صحیحٌ ، لأن حقیقة الإطلاق رفض القیود لا جمعها ، لکنّ الفرق المذکور لا أثر له فی النتیجة ، فلا فرق - فی الدلالة علی خروج الحصّة - بین المخصّص و المقیِّد ، فکما یخرج المخصص الفسّاق کذلک یخرج المقیِّد الرقبة الکافرة ... فلو شک فی التقیید الزائد کان کالشک فی التخصیص الزائد ، و کما یتمسّک بالعام فی الفرد المشکوک فی خروجه ، یتمسّک بالمطلق فی الحال المشکوک فی خروجه .

بل الحق فی الجواب أنْ یقال : إن الإطلاق الأحوالی فرعٌ للعموم الأفرادی ، فما لم یحرز فردیّة الفرد للعام لم تصل النوبة إلی الأخذ بإطلاقه الأحوالی ، و إذا سقط العموم الأفرادی بالنسبة إلی الفرد المشکوک فی فردیّته ، فلا یعقل بقاء الإطلاق الأحوالی فیه ، لعدم الموضوع .

و هذا تمام الکلام فی التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة إنْ کان المخصص لفظیاً .

التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة إذا کان المخصص لبیّاً
تفصیل الشیخ و الکفایة

و ذهب الشیخ - و تبعه صاحب ( الکفایة ) (1) - إلی جواز التمسّک به إن کان المخصص لبیّاً ، مثلاً : إذا قال المولی « أکرم جیرانی » و قام الإجماع أو حکم العقل مثلاً علی عدم جواز إکرام عدوّه ، ثم شک فی کون زید عدوّاً له فلا یجوز إکرامه أو لا فیجب ، ففی هذه الحالة لا بدّ من إکرامه . و یتلخّص کلامه قدس سره و استدلاله فی نقاط :

( 1 ) إن المفروض قیام الحجة من قبل المولی علی وجوب إکرام جیرانه

ص:273


1- 1) مطارح الأنظار : 194 ، کفایة الاصول : 222 .

علی وجه العموم ، و هذه الحجة واحدة و لم یصدر عنه أیّ کلامٍ آخر ، و لا یجوز رفع الید عن الحجة إلّا بالمقدار المقطوع بخروجه ، و أمّا فی المشکوک فیه فهو باق علی حجیّته ... .

( 2 ) جواز مؤاخذته علی ترک إکرام من شک فی عداوته من الجیران .

( 3 ) قیام السیرة العقلائیة فی أمثال المقام علی التمسّک بالعام .

ثم أضاف رحمه اللّٰه : أن من الممکن أن یقال : بأنّ التمسّک بالعام مع المخصّص اللّبی یوجب ارتفاع الشک عن الفرد المشکوک فیه للخاص ، و لذا جاز لعن بنی امیة قاطبةً - مع احتمال أن یکون فیهم مؤمن ، و المؤمن لا یجوز لعنه - لأنّ هذا العام الوارد یدفع احتمال وجود المؤمن فیهم ، فلو اشتبه حال واحدٍ منهم من حیث الإیمان و عدمه حکم بعدم إیمانه بمقتضی العام .

النظر فی کلام الکفایة

و قد نوقشت النقاط المذکورة . أمّا الأولی : فبأنّه صحیح أنْ لم یرد خطاب آخر من المولی ، لکنَّ المهم هو قیام الحجّة ، فکما أنّ الصّادر منه حجّة کذلک الإجماع حجّة - کما هو المفروض - و حکم العقل حجّة ، و السّیرة العقلائیّة الممضاة حجّة . فما ذکره من أن العام حجّة واحدة و لم یصدر من المولی شیء آخر ، غیر صحیح .

و أمّا الثانیة : فدعوی صحة المؤاخذة أوّل الکلام ، بل بالعکس ، لأنّه قد انکشف بحکم العقل أو الإجماع کون العام مقیداً بغیر العدوّ ، فلم تقم الحجّة علی الفرد المردّد حتی یصحّ المؤاخذة علی الترک ، لأن صحّة المؤاخذة فرع قیام الحجّة ، کما هو واضح .

و أمّا الثالثة فکذلک ... بل الصّحیح أنّ السّیرة العقلائیّة قائمة علی التوقّف فی مثل المقام .

ص:274

تفصیل المیرزا

و قال المیرزا رحمه اللّٰه (1) : بأنّ الدلیل اللّبی المخصّص للعام تارةً : یفید ثبوت قیدٍ للموضوع . و اخری : یفید الملاک فی العام . و ثالثة : یشکُّ فی أنّ المستکشف بالمخصص اللّبی هو قید الموضوع فی العام أو الملاک للحکم فیه .

فإن کان من قبیل الأوّل ، کما لو قام الإجماع علی تقیّد « الرجل » و هو الموضوع فی « انظروا إلی رجل منکم قد روی حدیثنا و نَظَر فی حلالنا و حرامنا » (2) و عَرَفَ أحکامنا بالعدالة ، ففی الفرد المردّد منه یسقط العام عن الحجیّة ، لأنّ حجیّته موقوفة علی إحراز الکبری و الصغری معاً ، و المفروض عدم إحراز الصغری فی المثال .

و إنْ کان من قبیل الثانی ، کما فی « اللهم العن بنی امیّة قاطبةً » ، فإنّه قد علم بالأدلّة أنّ الملاک لهذا اللّعن هو بغضهم للنبی و آله ، لا أنّ هذه الصفة قیدٌ للموضوع ، لأنّه و إنْ کان الحکم یدور مدار الملاک ، إلّا أنه لا یقیّد الحکم فی مقام التشریع ، فالصّلاة واجبةٌ - لا بقید النّاهیة عن الفحشاء و المنکر ، و إنْ کانت هذه الحیثیة ملاکاً لها و هی تدور مدارها قبل صدور الحکم - ففی الفرد المردّد فی هذه الصورة یتمسّک بالعام ، لما تقدّم من أن تلک الصفة لیست قیداً للموضوع حتی تکون شبهةً مصداقیةً أو مفهومیّة ، و لیس من وظیفة المکلّف الفحص عن وجود الملاک و عدم وجوده ، بل علیه الرجوع إلی الحکم الصادر من المولی ، و المفروض شموله للفرد المردّد بعمومه .

و إنْ کان من قبیل الثالث ، أی: وقع الشک فی أن المستکشف بالمخصّص اللّبی قید للموضوع حتی لا یتمسّک بالعام ، أو أنه ملاک لجعل الحکم فیتمسّک به ،

ص:275


1- 1) أجود التقریرات 2 / 343 .
2- 2) غوالی اللئالی 3 / 192 ، باب الجهاد .

ففیه تفصیل ... لأنّ ذلک المخصص اللّبی قد یکون کالمخصّص اللّفظی المتّصل ، کما لو کان حکماً عقلیاً ضروریّاً ، و حینئذٍ یکون العام بالنسبة إلی الفرد المردّد مجملاً ، إذ یحتمل فیه الوجهان ،لاحتفافه بما یحتمل القرینیّة . و قد یکون کالمخصّص اللّفظی المنفصل ، کما لو کان حکماً عقلیّاً نظریّاً ، فالظهور للعام منعقد و یصحُّ التمسّک به ، و وجه انعقاد الظهور هو الشک فی تقیّده - علی أثر الشکّ فی أنّ الخصوصیّة المستکشفة قید أو ملاک - و کلّما شک فی تقیّد العام فالأصل هو العدم ، فالظهور منعقد و یجوز التمسّک به .

إشکال الأُستاذ

قال الأُستاذ : بأنّ البیان المذکور لتفصیل المیرزا سالمٌ من أیّ إشکالٍ ، و الکبری التی ذکرها فی التفصیل بین ما إذا کانت الخصوصیّة قیداً للموضوع أو ملاکاً للحکم فی غایة المتانة ... .

لکنّ الإشکال فی التطبیق فی الصورة الثانیة ، لأنه قد ذکر أنّ بغض النبیّ و آله هو الملاک للعن بنی امیّة قاطبة ، و الحال أنّ البغض هذا من انقسامات الموضوع ، فکما أن الإیمان و الکفر من انقسامات الرقبة ، کذلک البغض و عدمه من انقسامات بنی امیة ، فیکون من قبیل قید الموضوع لا من قبیل الملاک للحکم ، و کذلک الحال فی « العداوة » المخصَّصة بالدلیل اللّبی من « أکرم کلّ جیرانی » ، فإنّ الجیران ینقسم إلی العدوّ و غیر العدو .

و أیضاً : یرد علی المیرزا وقوع الخلط فی کلامه بین العلّة فی مقام الثبوت و فی مقام الإثبات . لأنّ البغض أصبح هو العلّة للّعن ، فهو الموضوع ، و یکون بنو امیّة أحد المصادیق ... کما فی لا تشرب الخمر لأنه مسکر ، حیث الحکم مجعولٌ للمسکر و هو الموضوع ، و قد ذکر الخمر بیاناً للصغری ... و هذا مقتضی مقام الإثبات . أمّا فی مقام الثبوت ، فالحکم المذکور تابعٌ للمصالح و المفاسد کما

ص:276

هو واضح ... و بهذا البیان یظهر أنّ البغض فی المثال قیدٌ للموضوع و لیس بملاکٍ ... و المعنی : اللهم العن بنی امیة قاطبةً لأنهم مبغضون للنبی و آله علیهم الصلاة و السّلام ، فکان ذلک هو الموضوع للحکم ، لأنّ کلّ علّةٍ فهی موضوع أو جزء للموضوع .

و علی الجملة ، فالإشکال علی المیرزا صغروی فقط .

تفصیل المحاضرات

و هو التفصیل بین القضیة الحقیقیّة و الخارجیة .

و بیان ذلک هو : إن المیرزا رحمه اللّٰه قال بعدم جواز التمسّک بالعام عند الشک من جهة الشبهة الخارجیّة ، سواء فی ذلک القضیّة الحقیقیة و الخارجیّة ، فقال : أمّا الحقیقیة ، فلما عرفت من أن شأن أداة العموم فیها إنما هو تسریة الحکم إلی کلّ قسمٍ من الأقسام التی یمکن انقسام مدخول الأداة بالإضافة إلیها ... و أمّا القضیة الخارجیة ، فلأنّ غایة ما یمکن أن یتمسّک به لجواز التمسک بالعموم فی الشبهة المصداقیة فیها ، هو أنّ المتکلّم فی موارد القضایا الخارجیة هو الذی تکفّل بإحراز انطباق عنوان العام علی المصادیق الخارجیّة ، فیکون ظهور کلامه متّبعاً فی غیر ما علم خروجه من حکم العام بالعلم بدخوله فی عنوان الخاص . لکنه یندفع :

بأنّا لا نشک فی أنّ نحو استعمال العام فی القضایا الخارجیّة لا یباین نحوه فی القضایا الحقیقیّة فی أن عنوان العام إنما یؤخذ فی موضوع الحکم فی مقام الإثبات مرآةً إلی أفراده الخارجیّة أو المقدّرة ... (1).

لکنّ السید الخوئی فی ( المحاضرات ) (2) ذهب إلی التفصیل فقال : إذا

ص:277


1- 1) أجود التقریرات 2 / 319 - 321 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 358 .

کانت القضایا من قبیل القضایا الخارجیة ، فإنْ کان المخصّص لفظیّاً ، لم یجز التمسّک بالعام فی موارد الشبهات المصداقیة ، حیث أن المخصص اللّفظی یکون قرینةً علی أنّ المولی أوکل إحراز موضوع حکمه فی الخارج إلی نفس المکلّف ، و بما أن موضوعه صار مقیّداً بقیدٍ بمقتضی التخصیص ، فبطبیعة الحال إذا شک فی تحقّق قیده فی الخارج لم یمکن التمسّک بالعموم ، لفرض عدم کونه ناظراً إلی وجوده أو عدم وجوده . و أمّا إذا کان المخصّص لبیّاً :

فإنْ علم من الخارج أن المولی أوکل إحراز موضوع العام إلی نفس المکلّف ، فحاله حال المخصّص اللّفظی ، کما إذا ورد فی دلیلٍ « أعط لکلّ طالب علم فی النجف الأشرف کذا و کذا دیناراً » و علم من الخارج أن مراده هو المعیل دون المجرّد ، و لازم ذلک بطبیعة الحال هو العلم بتقیّد موضوع العام بعدم کونه مجرّداً ، فإذا شک فی طالب علمٍ أنه معیل أو مجرّد لم یتمسّک بالعام .

و إنْ لم یعلم من الخارج ذلک ، صحّ التمسّک بالعموم فی موارد الشبهة المصداقیّة ، لأن ظهور کلام المولی فی العموم کاشف عن أنه بنفسه أحرز انطباق موضوع حکمه علی جمیع أفراده و لم یکل ذلک إلی المکلّف ، و هذا الظهور حجة علی المکلف فی موارد الشک ... و من هذا القبیل « لعن اللّٰه بنی امیّة قاطبة » . فإن هذه القضیة بما أنها قضیة خارجیة صادرة من الإمام من دون قرینة علی إیکال إحراز الموضوع فیها فی الخارج إلی نظر المکلّف ، فبطبیعة الحال تدلّ علی أنّ المتکلّم لاحظ الموضوع بتمام أفراده و أحرز أنه لا مؤمن بینهم ، وعلیه ، فإنْ علمنا من الخارج أن فیهم مؤمناً فهو خارج عن عمومه ، و مع الشک فلا مانع من التمسّک بعمومه لإثبات جواز لعنه ، و یستکشف منه بدلیل الإنّ أنه لیس بمؤمن .

ص:278

موافقة الأُستاذ مع تکمیلٍ له

و أفاد الأُستاذ دام بقاه : أنّ مجرّد الفرق بین القضیتین - بأنّه فی الحقیقیّة جُعل إحراز الموضوع إلی نظر المکلّف ، بخلاف الخارجیة حیث أن المولی قد أحرز وجوده - غیر کافٍ ، بل الظاهر ضرورة وجود قرینة حالیّة أو مقالیّة - علاوةً علی کون القضیّة خارجیّة - للدلالة علی عدم إیکال إحراز الموضوع إلی نظر المکلّف ، مثلاً : إذا قال المولی : « أکرم من فی المدرسة » کان الموضوع هو « من فی المدرسة » لکنّه لا یتکفَّل وجود زیدٍ فیها ، بل الفحص عن هذا بعهدة المکلّف ...

فإذا علمنا بدلیلٍ لبّی عدم إکرام من کان عدوّاً له ، تقیّد الموضوع بعدمها ، و لکنّ إحراز هذا الموضوع یرجع إلی المکلّف ، لأنّ غایة ما یقال هو : إن المفروض کون القضیّة خارجیة ، فلا بدّ و أن المولی قد أحرز أنْ لیس بین فی المدرسة عدوٌّ له ، فلذا أمر بإکرام من فیها ... لکنّ المشکلة هی أنّ العداوة من انقسامات هذا الموضوع بالضرورة ، و أنّه قد تقیّد لا محالة بالدلیل اللبّی ، و مع الشک فالقید غیر محرز ، فالتمسّک بالعام حینئذٍ مشکل .

إذنْ ، لا بدّ من قیام قرینةٍ علی إحراز المولی الموضوع و تطبیقه بکلّ قیوده ، و لا یکفی مجرّد کون القضیة خارجیةً و عدم قیام القرینة علی إیکال الإحراز إلی نظر المکلّف .

و لا أقل من الشک فی قیام السیرة العقلائیة بالتمسّک بالعام فی مثل المورد الذی ذکره المفصّل ... إذن ، لا بدّ من الأخذ بالقدر المتیقّن و هو ما ذکرناه .

الکلام فی مقتضی الأصل العملی
اشارة

و بعد سقوط العام عن الحجیّة فیما شک کونه من مصادیق الخاص ، تصل النوبة إلی الأصل العملی ، و قد ذهب أکثر المحققین إلی أنّ المرجع هو الأصل

ص:279

الموضوعی ، بأنْ یجری استصحاب عدم الفسق فی الفرد المردّد فیندرج فی العام و یجب إکرامه . و خالف المحقق العراقی و ذهب إلی جریان الأصل الحکمی ، بأنْ یستصحب حکمه السابق من وجوب الإکرام أو عدم وجوبه .

رأی المحقق العراقی

و ملخص کلامه کما فی ( تقریر بحثه ) (1) هو : إنه لو کان هناک أصل حکمی من استصحاب وجوب أو حرمةٍ و نحوه فلا إشکال . و أمّا الأصل الموضوعی فیبتنی جریانه علی ما تقدَّم من المسلکین فی التخصیصات ، من أن قضیّة التخصیص هل هی کالتقیید فی اقتضائه لإحداث عنوانٍ إیجابی أو سلبی فی الأفراد الباقیة بعد التخصیص الموجب لتقیید موضوع الحکم فی نحو قوله : أکرم کلّ عالم ، بالعالم العادل أو العالم غیر الفاسق أم لا ، بل إنّ قضیّته مجرّد إخراج بعض الأفراد من تحت حکم العام الموجب لقصر الحکم ببقیّة الأفراد .

فعلی المسلک الأول : لا بأس بجریان الأصل الموضوعی ، فیحکم علیه بحکمه بعد إحراز العالمیة بالوجدان ، و یکون الموضوع هو العالم العادل أو العالم الذی لم یکن فاسقاً .

و أما علی المسلک الثانی - و هو المختار عنده - فلا مجال لجریان الأصل الموضوعی المزبور ، من جهة عدم ترتب أثر شرعی علیه حینئذٍ ، لأنه لا یکون لمثل هذه العناوین دخل فی موضوع الحکم و الأثر - و لو علی نحو القیدیّة - حتی یجری فیها استصحابها إلا علی القول بالأصل المثبت ، لأن الأثر إنما هو للأفراد الباقیة تحت العام ، نعم هم یلازمون عدم الفسق ، لکنّ استصحاب عدم الفسق لا أثر له لإثبات الملازم .

ص:280


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 527 .

فهذا کلامه ، و لذا ینقل عنه أن التخصیص کالموت ، فکما لا یتلوّن العام بلونٍ بموت عدّةٍ من العلماء ، کذلک لو خصص ... و من هنا نراه یتمسّک بالإطلاق فی الشبهة الموضوعیة للمقیّد له ، کما لو قال أعتق رقبةً ثمّ أخرج الکافرة بدلیل منفصل و شک فی فردٍ منها ، فإنه یقول بالأصل الموضوعی من جهة أنّ التقیید یعطی لوناً للمطلق ، لأنه یقیّده ، بخلاف التخصیص فلیس إلّا إخراجاً لبعض الأفراد .

( ثم قال ) : نعم لو کان مفاد الدلیل الخاص نقیضاً لحکم العام ، کما لو کان مفاد العام وجوب إکرام العلماء ، و کان مفاد الخاص عدم وجوب إکرام الفساق منهم ، ففی مثله أمکن إثبات وجوب الإکرام - الذی هو حکم العام - بمقتضی استصحاب عدم الفسق ، من جهة أنه باستصحابه یترتب علیه نقیض اللّاوجوب الذی هو عبارة عن وجوب الإکرام ، و هذا بخلاف ما لو کان مفاد الخاصّ عبارة عن حرمة الإکرام التی هی ضدّ لحکم العام ، حیث أنه لا یمکن إثبات وجوب الإکرام باستصحاب العدالة أو عدم الفسق إلّا علی نحو الأصل المثبت .

و یتلخّص کلامه فی نقاط :

1 - الفرق بین التخصیص و التقیید ، و أنَّ الثانی یعطی لوناً و عنواناً ، دون الأول فإنه یفید الإخراج فقط .

2 - التفصیل بین ما إذا کان التنافی بین موضوعی المخصّص و العام علی نحو التناقض أو التضاد ، ففی الأول یتمسّک بالعام فی الفرد المردد ، دون الثانی .

3 - کلّما کان بیانه وظیفة المولی ففی مورد الشک یتمسّک بالعام ، و ما کان الوصول إلیه من وظیفة المکلّف فلا ... ففی مثل : « المؤمنون عند شروطهم » (1)

ص:281


1- 1) وسائل الشیعة 21 / 276 ، الباب 20 من أبواب المهور ، رقم : 4 .

الذی خصّص بالشرط المخالف للکتاب و السنّة ، لو شک فی شرط أنّه مخالف أو لا ، فوظیفة بیان ذلک علی المولی ، و مع الشک یتمسّک بالعام ... و کذا الجلد المشکوک فی تذکیته یصلّی فیه أولا ، فإنّه لو کان منشأ الشک هو قابلیة هذا الحیوان للتذکیة و عدم قابلیّته له ، فإنّه یتمسّک بالعام ، لکون بیان القابلیة و عدمها من وظیفة الشارع ، بخلاف ما لو کان منشأ الشک هو الشکّ فی کون الذابح مسلماً أو الذبح علی القبلة ، فلا وظیفة للمولی بل علی المکلّف ، فلا یجوز التمسّک بالعام حینئذٍ .

الإشکال علیه

و أورد علیه الأُستاذ - فی الدورتین - بوجوه :

الأول : قد ذکر أنّ التخصیص مفاده قصر الحکم ، و أنه إذا قال لا تکرم الفسّاق من العلماء ، أفاد عدم شمول ملاک الإکرام للفسّاق . فنقول : لمّا کان أکرم کلّ عالمٍ ، یفید وجود المقتضی لإکرام عموم العلماء ، فلا بدّ و أنْ یکون المخصّص الموجب لقصر الحکم دالّاً علی شرطٍ للمقتضی و هو العدالة أو علی وجود مانع عن تأثیره و هو الفسق ، فیکون قصر الحکم راجعاً إلی فقد الشرط أو وجود المانع ، و حینئذٍ ، یستحیل عدم تعنون العام بعنوان الخاص . فالجمع بین القول بقصر الحکم و القول بعدم التعنون تهافت . أمّا فی الموت فالاقتضاء منتفٍ فالقیاس مع الفارق .

و الثانی : إنه علی جمیع المسالک ، یکون الخاصّ مؤثراً فی الإرادة الجدّیة للعام ، فإنّه بعد ورود المخصص المنفصل لا یعقل کون الإرادة الجدیّة فیه مطلقةً بالنسبة إلی الخاص ، کما لا یعقل الإهمال فیها ، فهی مقیّدة لا محالة ، و خاصةً علی مسلکه من أن الحکم هو الإرادة المبرزة ، فإن الإهمال فی الإرادة المبرزة غیر معقول ، فیکون الحکم فی العام مقیّداً .

ص:282

و الثالث : قوله بجریان الأصل الحکمی ، یرد علیه: إنه إن کان المراد هو الاستصحاب ، فإجراؤه مع الشک فی الموضوع تمسّک بدلیله فی الشبهة الموضوعیّة له ، لأنّ المعتبر فی الاستصحاب إحراز أن رفع الید عن الیقین السابق نقضٌ ، لکنّ إحراز النقض موقوفٌ علی وحدة الموضوع فی القضیّتین ، و مع تردّده لاحقاً ، فلا إحراز لوحدته فالاستصحاب ممنوع .

و الرابع : إنه یرد علی تفصیله بین التناقض و التضاد : إن رفع عدم الوجوب لیس هو عین الوجوب حتی یثبت حکم العام و یترتب علی الفرد المردد ، لأنّ مفهوم نفی النفی لیس هو الإثبات بل الإثبات مصداقه ... فلو أُرید من استصحاب عدم الفسق إثبات العدالة فهو أصل مثبت . اللّهم إلّا أن یقال بالجریان مع خفاء الواسطة کما علیه الشیخ ، لکنّ التحقیق خلافه .

و الخامس : إنه یرد علی قوله بالتمسّک بالعام فی الشبهات المصداقیّة حیث یکون البیان من وظیفة الشارع ، بأنْ المفروض إسقاط الشارع ظهور « المؤمنون عند شروطهم » و هی قضیة حقیقیّة بحسب المراد الجدی ، بقوله : « کلّ شرط خالف اللّٰه فهو رد » (1) ، فکان ذاک العام مقیّداً ، و المفروض عدم البیان ، فکیف یتمسّک به فی الفرد المردّد من الشرط ؟

ص:283


1- 1) وسائل الشیعة 18 / 267 ، الباب 15 من أبواب بیع الحیوان ، رقم : 1 .

استصحابُ العدم الأزلی

تمهیدٌ

اشارة

المخصّص المنفصل تارةً : یکون مجملاً مفهوماً کما لو قال أکرم العلماء ، ثم قام الدلیل علی حرمة إکرام الفسّاق منهم ، و شکّ فی حکم فردٍ من العلماء مرتکب للمعصیة الصّغیرة ، من جهة تردّد مفهوم الفسق بین ارتکاب خصوص الکبیرة و الأعمّ منها و الصّغیرة ، و تسمی بالشبهة المفهومیة . و اخری : یکون مبیّناً من حیث المفهوم ، فیقع الشکّ فی حکم الفرد من جهة امور خارجیّة ، کما لو جهلنا کونه مرتکباً للفسق حتّی یندرج تحت المخصّص أو غیر مرتکب له فیشمله العام ، و تسمّی بالشبهة المصداقیة .

أمّا فی الاولی ، فالمشهور هو التمسّک بالعام .

و أمّا فی الثانیة ، فقد ذهب السید صاحب ( العروة ) إلی التمسّک بالعام ، خلافاً للمشهور القائلین بالرجوع إلی الأصل ، فإنْ کانت الحالة السابقة للفرد هو الفسق أو عدمه ، جری الأصل و خرج عن الشبهة ، أمّا لو جهلنا حالته السابقة أو کان مورداً لتوارد حالتی الفسق و العدالة و جهل المتقدّم و المتأخّر منهما ، فلا أصل ینقّح حاله ، و یسقط التمسّک بالعام و بالدلیل المخصّص أیضاً ، فإنْ قلنا بجریان الاستصحاب الحکمی حینئذٍ فهو ، و إلّا وصلت النوبة إلی البراءة أو الاشتغال .

و هذا کلّه قد تقدّم ، و حاصله تنقیح حال الموضوع باستصحاب عدم الفسق و یعبّر عن ذلک باستصحاب العدم النعتی .

ص:284

و یقابله استصحاب العدم الأزلی بأنْ نقول : هذا الفرد من العلماء لم یکن فی الوجود ، فهل بعد ما وُجد وُجد فیه الفسق أو لا ؟ فهل یمکن الخروج عن هذا الشکّ باستصحاب عدم الفسق أزلاً أو لا ؟

و هذا فی الأوصاف العارضة .

و من الأوصاف ما هو ذاتی لا یزایل الموصوف منذ وجوده ، کقرشیّة المرأة ، و هو المثال المعروف فی المسألة ، فإن المرأة تحیض إلی الخمسین إلّا القرشیة فإنّها تری الحیض إلی الستین ، فلو شککنا فی امرأةٍ هل هی قرشیّة فدمها بعد الخمسین حیض أو غیر قرشیّة فاستحاضة ؟ فهل یمکن التمسّک بالأصل الموضوعی بنحو العدم الأزلی أو لا ؟

و البحث فی هذه المسألة فی مقامین :

المقام الأوّل ( فی الاقتضاء )
اشارة

و للبحث فیه جهتان : جهة الثبوت و أنه هل - من الجهة العقلیّة أو العرفیة - لهذا الأصل اقتضاء ؟ وجهة الإثبات و أنه بناء علی تمامیة المقتضی عقلاً و عرفاً ، هل للأدلّة اقتضاء فی مقام الإثبات أو لا ؟

المیرزا ، منکر للاقتضاء العقلی .

و جماعة ، ینکرون الاقتضاء العرفی .

و البروجردی ، لا یمنع من الاقتضاء الثبوتی بل یری الأدلّة قاصرةً إثباتاً .

الأقوال فی المسألة

و قد اختلفت أنظار الأعلام فی جریان استصحاب العدم الأزلی ، بین قائل به مطلقاً ، و قائل بعدمه مطلقاً ، و مفصّل بین عوارض الوجود فالجریان و عوارض الماهیّة فالعدم .

ص:285

کلام الکفایة فی تقریب الجریان

قال صاحب ( الکفایة ) : لا یخفی أن الباقی تحت العام بعد تخصیصه بالمنفصل أو کالاستثناء من المتّصل ، لمّا کان غیر معنونٍ بعنوان خاص بل بکلّ عنوان لم یکن ذلک بعنوان الخاص ، کان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعی فی غالب الموارد - إلّا ما شذّ - ممکناً ، فبذلک یحکم علیه بحکم العام و إنْ لم یجز التمسّک به بلا کلام . ضرورة أنه قلّما لم یوجد عنوان یجری فیه أصل ینقّح به أنه ممّا بقی تحته . مثلاً : إذا شک فی امرأة ... (1) .

فالمحقق الخراسانی من القائلین بجریان استصحاب العدم الأزلی و توضیح کلامه هو :

إنّ العام إذا أصبح موضوعاً للحکم ، فهو موضوع له بجمیع العناوین و الانقسامات ، فإذا قال : أکرم العلماء ، شمل « العالم » الفاسق و العادل و غیر الفاسق و غیر العادل ... و کلّ واحدٍ من هذه العناوین موضوع للحکم بوجوب الإکرام ، لأن « العالم » یشملها کلّها و هی مندرجة تحته ، ثم لمّا جاء المخصّص ، فإنْ کان منفصلاً أو کان متّصلاً لکنه من قبیل الاستثناء ب« الّا » و شبهه ، لم یؤثّر إلّا الإخراج فقط ، أمّا إنْ کان متّصلاً و لم یکن من قبیل « إلّا و شبهه » کما لو قال : أکرم العلماء العدول ، فإنّه یفید الإخراج من تحت العام و تعنون العام و تقیّده بغیر الفسّاق .

قال : إلّا ما شذ .

یعنی : مورد توارد الحالتین من الفسق و العدالة .

إذن ، فهو یری جریان استصحاب العدم الأزلی إلّا فی مورد توارد الحالتین .

ثم طبّق هذه الکبری علی المرأة القرشیّة ، لأن الدلیل أفاد أنّ المرأة تری

ص:286


1- 1) کفایة الاصول : 223 .

الحمرة إلی خمسین سنة ... و« المرأة » موضوعٌ یندرج تحته جمیع أصناف المرأة و انقساماتها ، و منها المرأة التی لیس بینها و بین قریش انتسابٌ . لکنْ قد ورد فی خصوص القرشیة أنها تری الحمرة إلی الستّین ، فأخرج هذا القسم من تحت الدّلیل السابق من غیر أن یتقیّد الموضوع - أی المرأة - بقیدٍ ، لکون هذا المخصّص من قبیل الاستثناء ، فإذا شکّ فی امرأةٍ معیّنةٍ بنحو الشبهة المصداقیّة : هل لمّا وجدت وجد معها الانتساب إلی قریشٍ أو لا ؟ جری استصحاب العدم و حکم بعدم وجود تلک النسبة ، فیکون الدم الذی تراه بعد الخمسین محکوماً بالاستحاضة لا الحیض ... .

فظهر أنّ استصحاب العدم الأزلی جارٍ بناءً علی الخصوصیّات المذکورة ، سواء فی الأوصاف الذاتیة کالقرشیّة و العرضیّة کالفسق ، إلّا فی مورد توارد الحالتین من الفسق و العدالة حیث تنتقض الحالة السابقة فلا یجری الاستصحاب .

هذا بیان مطلب ( الکفایة ) .

الإشکالات

لکنْ هنا إشکالات :

الأول : إنه لا مقتضی لجریان هذا الأصل ، لما تقرّر من أنّ مجراه الحکم الشرعی أو الموضوع له ، وعلیه ، فإن الموضوع فی لسان الدلیل هو « العالم » و هو الذی جاء الحکم بوجوب الإکرام علیه ، و أمّا أقسامه و أوصافه الطارئة علیه ، فلم یؤخذ منها شیء فی لسان الدلیل موضوعاً للحکم ، فلیس « العالم الذی لم یتّصف بالفسق » هو الموضوع ، أو « المرأة التی لا تنتسب إلی قریش » ، بل الموضوع « المرأة » ، و هو محرز بالوجدان و لا شکّ فیه لیجری فیه الاستصحاب .

الثانی : إنه إذا ورد المخصّص ، أثّر فی الظهور و الدلالة الاستعمالیّة ، و یکون

ص:287

الموضوع فی الدلیل مقیّداً بالمخصّص ، و أثّر أیضاً بحسب الحجیّة فی الإرادة الجدیّة - إن کان منفصلاً - کما هو واضح ... وعلیه ، فإنّ الظهور ینقلب و یکون الموضوع مقیّداً و معنوناً بالخاص ، فیترکّب الموضوع أو یتقیّد - علی الخلاف ، کما سیأتی - و لا یبقی مجرّداً عن القید ، بل یکون « العالم غیر المتصف بالفسق » و« المرأة غیر المنتسبة إلی قریش » هو الموضوع . و لا أصل ینقّح حاله .

و علی الجملة ، فإنّ بیان ( الکفایة ) إنما یتمّ بناءً علی عدم تلوّن العام بعنوان الخاص بعد التخصیص ، و هو خلاف التحقیق .

و قال الإیروانی معلّقاً علی قول ( الکفایة ) : « لما کان غیر معنونٍ بعنوان خاص » :

یعنی : العنوان الخاصّ الوجودی المقابل لعنوان المخصّص . و أمّا العنوان العدمی - و هو عدم عنوان المخصص - فالباقی تحت العام معنون به البتة ، و قد صرّح به المصنف بقوله : بل بکلّ عنوان لم یکن ذلک بعنوان الخاص ، « فإن قوله لم یکن ذلک بعنوان الخاص هو بعینه عنوان للعام ، لکن تعبیره بقوله : « بل بکلّ عنوان » مسامحة ، لأنه یوهم دخل تمام العناوین الوجودیة التی لیست بعنوان الخاص لکن علی سبیل البدل ، و هو باطل قطعاً و خلاف المقصود جزماً ... فما فرّعه المصنف علی ما أصّله من جریان الأصل الموضوعی ... لیس علی ما ینبغی ، فإنّ مجرد عدم تحقّق الانتساب الذی هو السلب الناقص لا أثر له بعد أنْ صار عنوان العام بعد خروج الخاص المرأة التی لیست امرأةً من قریش ، إذ لیست لهذا السلب الناقص فی المرأة المشکوکة قرشیّتها حالة سابقة متیقّنة ... (1) .

و حاصل کلامه : إن مراد ( الکفایة ) تعنون العام و تقیّده بالعدم بعد إخراج

ص:288


1- 1) نهایة النهایة 1 / 284 .

العنوان الوجودی ، فالمرأة متّصفة بعدم القرشیّة بنحو لیس الناقصة ، و هذه لا حالة سابقة لها حتی تستصحب ، بل الموجود فی الأزل هو المرأة غیر المنتسبة إلی قریش بنحو لیس التامة ، و استصحاب عدمها بنحو لیس التامة لإثبات عدمها بنحو لیس الناقصة لا یتم إلّا علی الأصل المثبت .

لکنّ الأُستاذ استظهر من کلام ( الکفایة ) غیر هذا ، لأنه نفی تعنون العام بعد التخصیص ، بل جعل المخصّص مخرجاً فقط ، ثمّ أکّد ذلک بقوله : بل بکلّ عنوان ... فأفاد أنّ الموضوع هو « المرأة » فقط ... فقول الإیروانی بأنّ العنوان العدمی مفاد لیس الناقصة و الأصل مثبت ، إنما یتمُّ لو کان صاحب ( الکفایة ) یری اتّصاف العام - بعد تخصیصه بعنوان وجودی - بعنوانٍ عدمی ، و هذا ما ینفیه کلامه .

الثالث : إنه لو سلّم جریان أصل العدم الأزلی و القول بعدم الاتّصاف فی الزمان اللّاحق ، فإنّه لا یرفع حکم الخاصّ عن الفرد ، لأنا إذا استصحبنا عدم فسقه أزلاً اندرج تحت العام ، و لکنْ ما المخرج له من تحت الخاص مع احتمال کونه فاسقاً و قد قال : لا تکرم الفسّاق ؟ و نفی حکم الخاص عنه بالأصل لا یتم إلّا بالأصل المثبت کما لا یخفی .

و قد أجاب المحقق الأصفهانی (1) بما حاصله : لقد دلّ العام علی وجوب إکرام العالم ، و هو یدلّ بالالتزام علی أنّ شیئاً من العناوین لا ینافی « عنوان » العالم المجعول موضوعاً لوجوب الإکرام ، فهو واجب الإکرام سواء کان عدلاً أو لا ، غیر متصف بالسفاهة أو لا ... و هکذا ... و إذا کان لا ینافی وجوب الإکرام فهو منافٍ لحرمته ، فکان الفرد خارجاً من تحت الخاص بالدلالة الالتزامیة لدلیل العام ، الدالّ

ص:289


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 461 .

بالمطابقة علی وجوب إکرام ما أُخذ فیه موضوعاً و هو العالم .

قال الأُستاذ :

و هذا جواب دقیق عن الشبهة بل هو خیر جوابٍ عنها . إلّا أنّه إنما یتمُّ بناءً علی مختاره من عدم تلوّن العام علی أثر التخصیص ، و أمّا بناءً علی ما هو مقتضی البرهان من تقیّد الموضوع أو ترکّبه بعد التخصیص فلا یتم ، لکون الجزء مشکوکاً فیه ، فالإشکال باق .

الرابع : إشکال المعارضة ، ذکره المحقق المشکینی (1) ، لأنّ دلیل الخاص قد دلّ بالمطابقة علی حرمة إکرام الفاسق ، و بالالتزام علی حرمة إکرام غیر المتّصف بالعدالة ، و بذلک یخرج من لم یتّصف بالعدالة من تحت العام ، فلو استصحبنا عدم اتصافه بالفسق أزلاً حتی یندرج تحته ، عارضه استصحاب عدم اتّصافه بالعدالة المقتضی لخروجه عنه ، و تساقطا .

أجاب الأُستاذ :

إنّ الأصل فی الإشکال هو استلزام الفسق لعدم الاتصاف بالعدالة ، و أنَّ من لیس متّصفاً بها یحرم إکرامه ، فإنْ قلنا ببقاء المدلول الالتزامی بعد سقوط المطابقی ، کان الإشکال وارداً ، و أمّا علی القول بتبعیّته له فی الثبوت و السقوط ، فإنّ عدم الاتصاف بالعدل الذی یلازم الفسق مخرج من تحت العام ، و مفروض الکلام أن جریان الأصل یفید عدم العدالة ، أمّا بالنسبة إلی الفسق فلا أصل و لا وجدان ، فأین المعارضة ؟

لکنْ لا یخفی أنّ الجواب مبنائی کالجواب عن الإشکال السابق .

ص:290


1- 1) کفایة الاصول بحاشیة المشکینی 1 / 347 .
تقریر استصحاب العدم الأزلی ببیان آخر

إذن ، لا بدّ من سلوک طریقٍ آخر لتقریر استصحاب العدم الأزلی و هو یتمُّ بذکر امور :

الأمر الأول

من الواضح أنّ کلّ حادث - سواء کان حکماً أو موضوعاً لحکم - مسبوق بالعدم ، غیر أنَّ للحکم عدمین ، عدم قبل الشرع و عدم بعده ، فحرمة شرب الخمر حکم مجعول من قبل الشارع و له وجودان أحدهما قبل وجود الخمر ، و الآخر بعد وجوده ، و کلاهما مسبوق بالعدم ، و من هنا یمکن للخروج عن عهدة التکلیف التمسّک بالبراءة و التمسّک باستصحاب عدم الحکم أیضاً . أمّا الموضوع فلیس له إلّا عدم واحد .

و لا کلام فی جریان استصحاب العدم الأزلی فی الحکم .

و مورد البحث فی جریانه فی الموضوع .

و الموضوع :

تارةً : هو عنوان ذاتی ، و هو عبارة عن العنوان المنتزع من الصّورة الجوهریّة ، کعنوان الکلبیّة المنتزع من نوع الکلب ، و کعنوان الزیدیّة المنتزع من الشخص .

و تارةً : هو عنوان مفارق غیر ذاتی . و هذا علی قسمین :

( الأول ) العنوان المفارق للذات الملازم لها ، مثل قرشیة المرأة ، فإنّها عنوان غیر منتزع من ذات المرأة ، بل ینتزع من الخارج إلّا أنه ملازم للذات و لا ینفکُّ عنها .

( و الثانی ) العنوان المفارق للذات غیر الملازم لها ، و هو العنوان العرضی

ص:291

کالفسق مثلاً ، فقد تکون الحالة السابقة معلومة من حیث الفسق و العدالة و اخری مجهولة .

ثم إن العنوان المفارق الملازم للذات ، تارةً : یکون من لوازم وجودها ، و اخری : من لوازم الماهیة . و هذا مورد تفصیل المحقق العراقی و الحکیم تبعاً له فی المستمسک ، کما سیأتی .

هذا ، و للبحث عن جریان استصحاب العدم الأزلی فی العناوین الذاتیة موارد و له آثار مهمّة ... .

و المقصود من هذه المقدّمة ، جریان البحث فی جمیع الأقسام المذکورة للموضوع ، و إنّما یخرج من البحث صورة توارد الحالتین لانقطاع الحالة السابقة .

الأمر الثانی

إنّ لأهل الفنّ ، کالشیخ و المیرزا و الأصفهانی و غیرهم ، مصطلحات لها دخل فی البحث فی المقام ، فیلزم فهمها فنقول :

لقد قسّموا الوجود إلی قسمین هما : الوجود فی نفسه ، و المراد منه الوجود المضاف إلی ماهیّةٍ ، سواء کانت جوهراً أو عرضاً ، کوجود الإنسان ، و العلم .

و الوجود لا فی نفسه ، و المراد منه الوجود غیر المضاف إلی ماهیّةٍ بل یوجد فی وجودٍ آخر ، لا بمعنی کونه من شئونه و أوصافه بل إنه مضمحلٌّ فیه ، کقولنا بوجود الربط بین الموضوع و المحمول ، فلمّا نقول : زید قائم ، فإنّ هناک وجوداً یکون رابطاً بین زید و قائم و هو وجود غیر وجودهما ، یدلّ علی وجوده الارتباط الموجود بینهما ، و هو غیر الارتباط الموجود فی عمرو قائم و زید جالس ، و لذا نقول بأنّ المعنی الحرفی جزئی حقیقی .

فالوجود الرابط وجود لا فی نفسه بل بین الموضوع و المحمول ، بخلاف

ص:292

بیاض الجدار ، فإنّه وجود فی نفسه غیر أنه قائم بالجدار .

فظهر : إن الوجود الرابط یکون بین الوصف و الموصوف فقط ، و هذا مفاد کان الناقصة ، أی مفاد ثبوت الأوصاف و الأعراض للموضوعات ، کقولنا : کان زید قائماً ، فی مقابل مفاد کان التامة ، أی ثبوت الوجود للماهیة مثل : کان زید .

ثم إنّ الهلیّة البسیطة مثل : هل زید موجود ؟ مفاد کان التامة ، و فی مقابلها الهلیّة المرکبة مثل : هل زید عالم ؟ مفاد کان الناقصة .

و من هنا علم : أن الوجود الرّابط لا یکون فی مفاد کان التامة و الهلیّة البسیطة ، فلا یقال : زید هست است ، بل یقال : هست . لأنه یستحیل الربط بین الشیء و نفسه ... هذا أوّلاً . و ثانیاً : تارةً نقول : ثبوت البیاض . و اخری نقول : ثبوت البیاض للجدار . و إذا کان الوجود عین الثبوت فلا معنی لأنْ یثبت لشیء .

و أمّا فی مثل : لیس زیدٌ ، و زید معدوم و أمثالهما ، فلا وجود رابط ، لأنّه - کما تقدم - ربط بین شیئین ، و العدم لیس شیئاً حیت یربط بشیء . هذا أولاً . و ثانیاً :

الوجود الرابط ثبوت شیء لشیء ، و العدم لا ثبوت له .

و أیضاً : لیس الوجود الرابط فی مفاد لیس الناقصة مثل : لیس زید بعالمٍ ، لأنه سلب الشیء عن الشیء ، فلا یکون فی القضایا السالبة ربط السلب و لا ربط هو سلب ، بل مفادها سلب الربط ، فلا معنی لمجیء الوجود الرابط . و أمّا فی مثل :

لیس زید بموجودٍ ، فإن المسلوب هو الوحدة بین الموضوع و المحمول لا الربط ، لما تقدّم من عدم الربط بین الشیء و نفسه .

و تلخّص : إن الوجود الرابط یکون فی مفاد کان الناقصة فقط ، و هذا الوجود عین الربط ، و هو متقوّم بوجود الطرفین ، و هو غیر موجود فی مفاد کان التامة . و فی لیس التامّة لیس إلّا النفی للربط .

ص:293

الأمر الثالث

الوجود الذی فی نفسه و یمکن حمله علی ماهیّته ، ینقسم إلی قسمین :

الأول : وجود فی نفسه و لنفسه ، و هو وجود الجوهر ، و للماهیة التی یحمل علیها وجود کذلک .

و الثانی : وجود فی نفسه و لغیره ، و هو وجود العرض ، کوجود العلم لزید و وجود البیاض للجدار .

ثم إنَّ وجود الجوهر کزید رافع لعدمه ، أمّا وجود العلم له ، فإنه رافع لعدم العلم . و أیضاً هو شأن من شئون زید و طور من أطواره و کمالٌ له ... فکان لوجود الجوهر حیثیّة واحدة ، و لوجود العرض حیثیّتان ... فهو وجود للغیر فیکون وجوداً نعتیّاً و تعلّقیاً ، و لذا قالوا بتعریفه : إنه ماهیة إذا وجدت فی الخارج وجدت فی موضوعٍ ، فی مقابل الجوهر إذ قالوا : یوجد لا فی موضوع .

و محلّ الحاجة من هذا البیان هو : إن رفع العرض یکون تارةً بسلب الوجود عنه بالنحو المحمولی ، و اخری بسلبه بنحو الوجود النعتی . و بعبارةٍ اخری : إنه یمکن رفع العرض بسلب الحیث التعلّقی و الإضافی ، و یمکن رفعه بسلب الحیث المحمولی بأن یقال : العلم لیس ، و هذا معنی قولهم : وجود العرض و وضعه یکون بالوجود النعتی و کونه لموضوع کوجود العلم لزید ، و رفعه یکون برفع الوجود النعتی کسلب العلم عن زید ، أو المحمولی کسلب العلم و نفیه ، و هذا مذهب القائلین باستصحاب العدم الأزلی . و المنکرون یقولون : رفعه لیس إلّا برفع الوجود النعتی ، مثلاً :

القرشیة وصف موجود للمرأة ، و هو متأخّر فی الوجود عن وجودها ، لأنه وصف لها و طور من أطوارها ، لکنّ عدم القرشیة لیس کذلک ، بل قد یکون معها

ص:294

و قد لا یکون ، فإذا ارید رفع القرشیة أمکن بأنْ نقول : المرأة غیر القرشیة ، فکان عدم القرشیة وصفاً و طوراً لها . و المنکر للاستصحاب یقول : بأنّ الرفع لا یکون إلّا هکذا ، و إنّ عدم القرشیة متأخر عن المرأة لکونه وصفاً لها . لکنّ المثبت للاستصحاب یقول : بإمکان الرفع أیضاً بأن نقول : المرأة غیر المتّصفة بالقرشیة .

فهناک مرأة و عدم الاتصاف ، فیرفع الاتصاف و الانتساب إلی قریش کرفع الوجود المتحقّق لماهیة العلم و هو الحیثیة الاولی للعرض کما تقدّم .

الأمر الرابع

إن القضیة إمّا موجبة معدولة المحمول کالمرأة غیر القرشیة ، و إمّا موجبة سالبة المحمول کالمرأة التی لیست بقرشیة ، و إمّا سالبة محصّلة مثل : لم تکن المرأة بقرشیّة . وعلیه ، فإنّ الحیث العدمی تارةً یکون وصفاً للموضوع و اخری لا یکون کذلک .

و بعبارة اخری : تارةً : یربط السلب إلی الموضوع ، و اخری : یسلب الربط عنه ، فإنْ کان من قبیل الأوّل فالقضیة موجبة ، تقول : المرأة غیر القرشیة ، و إنْ کان من قبیل الثانی فلا سلب مرتبط بالموضوع بل ربطٌ یسلب ، فالقضیة سالبة محصّلة ، إنْ لم تکن المرأة قرشیةً ... .

و إذا کان عدم القرشیة وصفاً للموضوع کما فی الأول ، لم یستصحب هذا العدم قبل وجود الموضوع ، لفرض کونه متأخّراً عنه تأخّر الصفة عن الموضوع ، إلّا علی القول بالأصل المثبت ، لأن عدم الوصف قبل الموضوع یغایر عدمه بعده .

أمّا فی الثانی ، حیث تسلب القرشیة عن الموضوع و لا یکون عدمها وصفاً له بل هو مسلوب عنها ، فالاستصحاب جارٍ ، لأنّ المرأة لم تکن قرشیةً أزلاً و هی الآن کذلک ، کما لو شکّ فی شرطٍ أنه مخالف للکتاب و السنّة أو لا ؟ و قد تقدّم أنه

ص:295

تارةً : نسلب النّسبة کما فی زید لیس بقائم ، و اخری : ننفی الربط کما فی : زید لیس فی الدار ، و فی کلیهما الرفع ، لکنْ فی الأول رفع للنسبة و فی الثانی رفع للربط ، و قد عرفت أن النسبة عبارة عن الاتحاد بین الموضوع و المحمول و هی موجودة فی جمیع القضایا ، بخلاف الربط فلیس فی جمیعها و هو مفاد حرف الجر . و أمّا فی مفاد کان التامّة مثل زید موجود ، فقد قالوا بوجود النسبة فی عالم التحلیل العقلی ، إذْ لا نسبة بین الشیء و نفسه کما تقدم .

فالقضایا التی هی مفاد کان الناقصة یوجد فیها الربط ، فزید عالم معناه : زید له العلم ، و أمّا السلب ، فلیس إلّا العدم ، و هو لا حکم له ، فلما نقول : زید لیس بموجود ، نرفع الاتحاد بین زید و الوجود ، لکن فی زید لیس عالماً ، نرفع الارتباط بینهما ، و رفع الوصف عن الموضوع لا یفید وضع وصف آخر فیه ، فرفع القرشیة عن المرأة لا یفید اتّصافها بعدم القرشیة بل هو رفع للقرشیة عنها .

ففی « المرأة تری الحمرة إلی خمسین إلّا القرشیة » عام و خاصٌ ، فإنْ کان الخاص - و هو « إلّا القرشیة » - یفیض وصفاً عدمیّاً علی موضوع العام أی المرأة ، فیکون المعنی : « المرأة الموصوفة بعدم القرشیة تری الحمرة إلی خمسین » فلا یجری الاستصحاب ، لکون الوصف متأخراً عن الموضوع ، إلّا علی القول بالأصل المثبت . و إن کان الخاصّ رافعاً للقرشیّة و سالبها عن المرأة ، فذلک یکون علی نحوین : أحدهما : المرأة غیر القرشیّة ، و الآخر : مورد عدم وجود المرأة من الأصل ... و علی کلا النحوین ترتفع القرشیّة ، و هذا معنی قولهم : السّالبة المحصّلة ذات فردین : السالبة بانتفاء المحمول و السالبة بانتفاء الموضوع ...

و علی کلا الحالین ، لا مانع من الاستصحاب ، إذ المرأة لم تکن و لم تکن معها القرشیة ، فهل وجدت القرشیة بوجودها أوْ لا ؟ الأصل هو العدم .

ص:296

الأمر الخامس

إن تخصیص العام بعنوانٍ وجودی و إخراجه من تحته ؛ یسقطه عن السّعة و الشمول کما هو واضح ، و لکنْ تارةً یوجب صیرورة العام مرکّباً و اخری مقیّداً موصوفاً ، و نتیجة ذلک ، أنه إنْ کان من قبیل الثانی لم یجر الاستصحاب إلا علی الأصل المثبت ، لکون الوصف متأخّراً عن الموضوع . أمّا علی الأول فیجری ، إذ یحرز أحد الجزءین بالأصل مع کون الآخر محرزاً بالوجدان .

فظهر أنّ استصحاب عدم القرشیة یجری علی تقدیر القیدیّة و لا یجری علی تقدیر الوصفیّة .

إذا عرفت المقدّمات

یتبیّن تمامیّة الاستصحاب :

فبمقتضی المقدّمة الثانیة - و هی أن الوجود الرابط ثبوت شیء لشیء و هو فرع وجود الشیء من قبل ، و فی رفع الثبوت لا حاجة إلی وجود الشیء - یمکن استصحاب عدم قرشیة المرأة بنحو عدم الوجود الرابط . فالمرأة القرشیة لها ارتباط بقریش ، و نحن نرفع هذا الارتباط و الانتساب بقولنا : لم یکن قبل وجود المرأة قرشیة ، و الآن و بعد وجودها نستصحب ذاک العدم بنحو سلب الربط ، و لیس رفع الوجود الرابط فی رتبة متأخرةٍ عن الشیء کما لا یخفی .

و بمقتضی الثالثة : إن قرشیّة المرأة فی مرتبة متأخرة عن المرأة ، لکنّ عدم قرشیّتها لیس کذلک ، لأن عدم العرض لیس عدماً لغیره . وعلیه : فإنّ القرشیة بحاجة إلی وجود المرأة ، أمّا عدمها فلا . و المفروض أنْ عدم القرشیة لیس وصفاً للمرأة .

و بمقتضی الرابعة : فإنه بعد التخصیص ، سواء کان الموضوع من السّالبة

ص:297

المحصّلة بانتفاء المحمول ، أو کان بنحو المقسم الجامع بین القسمین ، الموضوع قابلٌ للجعل الوجودی .

و بمقتضی الخامسة : إنّ أثر الإخراج و التخصیص هو الترکیب و التقیید ، و لیس التوصیف ، و إذا کان کذلک جری الاستصحاب لإحراز الجزء الثانی العدمی و هو عدم القرشیة ، بعد إحراز الوجودی بالوجدان و هو المرأة .

المقام الثانی (فی المانع)
اشارة

و قد استدلّ المانعون بوجوهٍ لا بدّ من إیرادها و النظر فیها :

الوجه الأول :

صحیحٌ أنّ عدم العرض لیس وصفاً للموضوع ، لأنّ وجوده یحتاج إلی الموضوع ، و أمّا عدمه فغیر محتاج إلیه ، و لکنّ هناک خصوصیة تقتضی أنْ یکون وصفاً ، و توضیح ذلک :

إنّ للشیء انقساماً بالنظر إلی أحواله و أوصافه ، و انقساماً آخر بالنظر إلی مقارناته ، فنسبة الجدار إلی البیاض من قبیل الأول ، و نسبته إلی وجود زید و عدم وجوده من قبیل الثانی ... و النسبة بین الشیء و مقارناته فی رتبة متأخرة عنها بینه و أوصافه ، لأن الوصف من شئون الشیء فهو یلحظ معه ، کلحاظ العلم مع لحاظ زید ، و أمّا مقارنات الشیء فلیست من شئونه کما لا یخفی .

وعلیه ، فإنّ القرشیة لمّا کانت من أوصاف المرأة ، فإن انقسامها إلی وجود القرشیّة و عدم وجودها فیها بنحو الوصفیّة مقدّم رتبةً علی انقسامها إلیهما بنحو المقارنة ، فالمرأة بالنسبة إلی غیر القرشیة بنحو التوصیف متقدّم رتبةً علی المرأة بالنسبة إلیها بنحو المقارنة ... فإذا أخرج المولی القرشیّة من تحت عموم المرأة لم تبقَ المرأة مهملة بالنسبة إلی عدم القرشیة و لا هی مطلقة ، أمّا عدم الإطلاق

ص:298

فواضح . و أمّا عدم الإهمال ، فلأن الحکیم الملتفت إلی انقسامات موضوع حکمه لیس بمهملٍ لها ، فیکون « المرأة » و هی موضوع الحکم فی العامّ مقیدةً بعدم القرشیة ، و قد تقدّم أنّ هذا التقیّد بنحو الوصف مقدَّم علی عدمها بنحو المقارنة .

و إذا کانت المرأة مقیّدةً بعدم القرشیّة بنحو الوصف ، فلا فائدة لاستصحاب العدم الأزلی فی عدم القرشیة بنحو المقارنة . هذا ثبوتاً . و أمّا إثباتاً ، فإنّ أخذ الأحوال بنحو المقارنات یحتاج إلی مئونةٍ زائدة ، و مقتضی التطابق بین مقامی الثبوت و الإثبات هو أخذها بنحو الأوصاف .

و هذا ما أفاده المیرزا رحمه اللّٰه (1) .

و ما أفاده المحقق الأصفهانی فی الجواب - من قبول تقدّم الانقسام بنحو الأوصاف علی الانقسام بنحو المقارنات ، لکنّ المتَّبع هو الدلیل و کیفیة الأخذ فی لسانه - غیر رافع للشبهة بعد تقریبنا لها بما عرفت ، من أنّه لا مناص من أخذ الدلیل للخصوصیّة بنحو الوصف ، لأنّ تقسیم المرأة بنحو الوصف مقدّم کما اعترف ، فإذا لحظ المرأة و هو لیس بمهملٍ و لا مطلق بل مقیِّد ، فلا محالة یکون قد أخذ عدم القرشیة معها بنحو القید ، و لا یبقی مجال لأنْ یأخذه بنحو المقارن فی المرتبة المتأخرة مرةً اخری .

فالحق أنّ الشبهة من حیث الکبری تامة واردة .

لکنّ الجواب هو من حیث الصغری ، لأنّا قد ذکرنا أنه و إنْ کانت القرشیة وصفاً کما هو واضح ، لکنّ عدم القرشیة لیس وصفاً بل هو مقارنٌ . فالشبهة مندفعة من هذه الجهة .

ص:299


1- 1) أجود التقریرات 2 / 330 .

الوجه الثانی :

إن کلّ وصفٍ متأخّر وجوداً عن الموصوف ، لکون الموصوف فی مرتبة العلّة للوصف و الوصف قائم به قیام العرض بالمعروض . هذا من جهة . و من جهةٍ اخری : فإنّ عدم الوصف و وجوده فی مرتبةٍ واحدة لأنهما متناقضان ، و کلّ متناقضین ففی مرتبةٍ واحدة .

و النتیجة : إن استصحاب عدم العرض و الوصف قبل وجود الموضوع لما بعده أصل مثبت .

و الجواب

أمّا المقدمة الأولی ، فلا کلام فیها ، کما هو واضح .

إنّما الکلام فی المقدّمة الثّانیة :

أمّا من حیث المبنی ، فبإنکار لزوم کون النقیضین فی مرتبة واحدة ، لأنّ نقیض الشیء فی کلّ وعاءٍ رفعه فی ذلک الوعاء ، و هذه حقیقة التناقض ، و لیس هو عدم الشیء فی المرتبة ، إذ لا ضرورة لأنْ یکون الرفع فی المرتبة بل المرتبة قید المرفوع و المعدوم ، فهو ما یکون فی المرتبة لا الرفع ، وعلیه ، فإنّ نقیض القرشیة فی المرتبة بعد وجود المرأة هو رفع القرشیّة ، و لیس هذا الرفع فی المرتبة المتأخرة عن وجودها .

هذا هو الجواب الأوّل ، لکنّه مبنائی ، و تفصیل ذلک فی بحث الترتب .

و أمّا من حیث البناء بعد تسلیم ضرورة وحدة الرتبة بین النقیضین ، فیجاب عمّا ذکر : بأنّ الاختلاف فی المرتبة یجتمع مع التقدّم فی الزمان ، و ذلک لأنّه - قبل أنْ توجد العلّة فی الزّمان - کان الزمان ظرفاً لعدم العلّة و المعلول معاً ، مع أنّ عدم المعلول متأخّر رتبةً عن وجود العلّة ، فلا تلازم بین الاختلاف الرتبی و الزمانی ، بل المتأخّر رتبةً قد یتقدّم زماناً .

ص:300

و علی الجملة : فإنّ أساس مبنی تأخّر عدم العرض رتبةً عن وجود المعروض هو : إن وجود العرض و عدمه فی مرتبةٍ واحدة ، و وجود المعروض کالعلّة بالنسبة إلی وجود العرض لتخلّل الفاء بینهما ، فیلزم أن یکون وجود العرض و عدمه متأخراً عن وجود المعروض ، و لکنّ هذا کلّه لا یمنع من التقدّم زماناً ، فإنّ ظرف عدم النار هو نفس ظرف عدم الحرارة أیضاً ، مع أن بین النار و الحرارة اختلافاً فی المرتبة ، للعلّیة و المعلولیّة کما هو واضح .

وعلیه ، فإنّ عدم القرشیة متقدّم زماناً علی المرأة و القرشیّة - و إنْ کانت القرشیة و عدمها فی رتبةٍ متأخرة عن المرأة - فیستصحب ذاک العدم المتقدّم زماناً إلی الزمان المتأخّر عن وجودها ، و لیس بالأصل المثبت .

و هذا هو الحقیق فی الجواب علی فرض تسلیم المبنی .

الوجه الثالث :

إن استصحاب العدم الأزلی لا عرفیّة له ، و أدلّة الاستصحاب منصرفة عنه ، لأنّ المفروض تردّد المرأة الموجودة بین القرشیة و عدمها ، فیستصحب حالتها السابقة لإفادة عدم القرشیة . لکنّ هذه المرأة لا « هذیّة » لها قبل وجودها ، فکیف یجری فی حالها استصحاب العدم ؟ قاله جماعة منهم السید البروجردی (1) .

تحقیق المطلب :

إنّ الانصراف لا بدّ له من منشأ ، و المنشأ إمّا ندرة وجود بعض حصص الماهیة ، کأنْ یقال بانصراف جئنی بماءٍ عن ماء زمزم فی مدینة قم ، و إمّا کثرة استعمال اللفظ فی احدی الحصص دون الاخری ، و إمّا التشکیک فی صدق المفهوم عرفاً ، کانصراف الحیوان عن الإنسان ، فإن صدقه علیه خفی ، و کانصراف

ص:301


1- 1) نهایة الاصول : 302 .

ما لا یؤکل لحمه عن الإنسان .

و المرأة إنْ لم یکن لها قبل الوجود « هاذیّة » فلیس هناک قضیة متیقّنة بل هی مشکوکة من أول الأمر ، وعلیه ، فلا موضوع عقلاً للاستصحاب ، لا أنّ أدلّة الاستصحاب کصحیحة زرارة (1) منصرفة ، إذ الانصراف إنما یکون حیث یوجد الموضوع و الصّدق العرفی .

وعلیه ، فإنّ الاستدلال علی بطلان الاستصحاب فی هذا الوجه مختلف ، فتارةً الدلیل علی المنع هو الحکم العقلی من جهة عدم الموضوع . و اخری هو الانصراف من جهة عدم شمول أدلّة الاستصحاب لمثل المرأة هذه .

و لذا نقول : إنه إن کان وجه المنع هو : عدم الموضوع و انتفاء القضیة المتیقّنة من جهة أنه لا ماهیّة للمرأة قبل وجودها ، لکون الماهیّة منتزعة من الوجود ، فلا هذیّة للمرأة المعیّنة قبل وجودها ، فکیف یجری الاستصحاب ؟

فالجواب : إنا نرید بعد وجود المرأة إثبات المرأة بلا قرشیة ، فنقول :

هذه المرأة المعیَّنة مسبوقة بالعدم ذاتاً و صفةً ، و قد انتقض ذاک العدم بالنسبة إلی نفس المرأة إذ وجدت ، فهل عدم قرشیّتها قد انتقض إلی القرشیة أو لا ؟ هذا مشکوک فیه ، و یستصحب الیقین السابق .

و إنْ کان وجه المنع هو : عدم العرفیة لهذا الاستصحاب فتکون أدلّته منصرفة عنه .

فنقول : لا وجه لهذا الانصراف ، لأنّ المرجع فی تطبیق مفاهیم الألفاظ هو حکم العقل ، و أمّا العرف فنرجع إلیه فی أصل المفهوم ، فلما قال الشارع : لا تنقض الیقین بالشک ، احتجنا إلی قضیةٍ متیقنة سابقة و قضیة مشکوکة لاحقة ، مع اتّحاد

ص:302


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 245 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، رقم : 1 .

الموضوع فی القضیّتین ، و الفقیه یطبّق النصّ علی مورده حسب الأدلّة العقلیة ، و هو لا یتوقّف فی التمسّک بهذا النص فی مورد العدم الأزلی ، فلیس المرجع فیه هو العرف حتی یقال بعدم عرفیّة هذا الاستصحاب .

علی أنه قد تقرّر فی محلّه : أن المنشأ للانصراف هو التشکیک فی الصّدق ، و هذا الملاک بالنسبة إلی العدم الأزلی غیر موجود ، فلو کان تشکیک فی الصدق لزم عدم القول بالاستصحاب فی الأحکام الشرعیة ، و الحال أن المشهور یتمسّکون عند الشک فی الحکم باستصحاب عدم الجعل کما یتمسّکون بالبراءة ... و علی أساس استصحاب العدم الأزلی ذهب بعضهم - کالسید الخوئی - إلی عدم جریان الاستصحاب فی الأحکام الکلیة الإلهیة إذ قال بأنّ عدم الجعل معارض باستصحاب بقاء المجعول ... .

و تلخص اندفاع هذا الوجه حلّاً و نقضاً .

الوجه الرابع :

إنّ العدم فی الأزل غیر العدم بعد الوجود ... و من أجل هذه المغایرة یکون استصحاب العدم الأزلی من الأصل المثبت ... مثلاً : عدم البیاض علی الجدار الذی کان قبل وجود الجدار یغایر عدمه بعد وجود الجدار ... لأنّ العدم الأوّل کان مستنداً إلی عدم الموضوع ، و إذْ لا موضوع فلا عرض ، بخلاف العدم الثانی ، فإنّ الموضوع - و هو الجدار - موجود و لیس بأبیض .

و بعبارة اخری : لا یعقل بقاء المعلول مع تغیّر العلّة ، فإنْ علّة العدم قبل وجود الموضوع شیء ، و علّته بعد وجود الموضوع شیء آخر ، و إذا تعدّدت العلّة و تغیّرت ، فالمعلول کذلک ، فکان المتیقّن السابق غیر المشکوک فیه لاحقاً ...

فلا یجری الاستصحاب ، و هذا التقریب أقوی من تقریب المثبتین .

ص:303

و الجواب :

هو : أنّه لا معنی لأنْ یکون عدم العلّة علةً لعدم المعلول ، فلو قیل هکذا فهو مسامحة فی التعبیر ، بل الحقیقة : أن منشأ عدم المعلول هو عدم العلّة لوجوده ، فالشیء لا یوجد لعدم الموجد له لا لأنّ لعدمه علةً ، فإسناد العلیّة إلی العدم مسامحة .

هذا حلّ المطلب و به یندفع الإشکال .

و لو تنزّلنا و سلّمنا التغایر بین العدمین - السابق و اللّاحق لوجود الموضوع - فإنّ هذه المغایرة العقلیة لا تضرّ بالتمسّک بأدلّة الاستصحاب ، لأن المرجع فی وحدة الموضوع فی القضیّتین فی باب الاستصحاب هو نظر العرف لا الدقّة العقلیّة ، و العرف لا یری التغایر بین عدم البیاض قبل وجود الجدار و بعد وجوده .

و علی الجملة ، فقد علم ممّا تقدّم : أنّ استصحاب العدم الأزلی أساسه هو الترکیب فی الموضوع ، فهو - بعد التخصیص - المرأة بانضمام عدم القرشیّة ، و الشرط بانضمام عدم المخالفة للکتاب و السنّة ، و العالم بانضمام عدم الفسق ...

و هکذا ... و فی الزمان اللّاحق ، لمّا یشک فی الموضوع بقاءً ، یکون أحد الجزءین ثابتاً بالوجدان و هو وجود المرأة ، أمّا الآخر فمشکوک فی بقائه ، فیجری الاستصحاب فیه ... و سیأتی بقیة الکلام فی تطبیق البحث علی مسألة الکرّ .

الوجه الخامس :

إنّ استصحاب العدم الأزلی فی بعض الحالات مثبت کما تقدّم . و هو فی بعض الحالات محال و إنْ لم یکن بأصل مثبت ... أمّا کونه أصلاً مثبتاً ، فحیث یؤخذ عدم القرشیة فی طرف الموضوع بنحو العدول فی المحمول ، بأنْ یکون الموضوع « المرأة غیر القرشیة » ، أو بنحو السالبة بانتفاء المحمول بأنْ یکون

ص:304

« المرأة التی لیس بقرشیّة » . ففی هاتین الحالتین یکون الاستصحاب أصلاً مثبتاً ...

کما تقدّم .

لکنّ هناک حالةً ثالثةً و هی : أنْ تکون القضیّة بعد إخراج القرشیّة بالتخصیص بنحو السّالبة المحصّلة بأنْ یقال : « المرأة إذا لم تکن بقرشیة » ، فإنّ هذا الفرض محال ، لأنّ السّالبة المحصّلة و إنْ کانت صادقةً حتی مع عدم الموضوع فلا یکون أصلاً مثبتاً ، لکنّ لازم صدقها کذلک هو کون المعدوم محکوماً بحکمٍ وجودی ، و هذا محال ... .

و الحاصل : إنّ للقائلین بجریان استصحاب العدم الأزلی أن یأخذوا القضیة بنحو السّالبة المحصّلة ، فراراً من الوقوع فی الأصل المثبت ، لکنّهم یقعون فی إشکالٍ آخر ، و هو لزوم الحکم علی المعدوم بحکمٍ وجودی و هو محال ، لأنّ « المرأة إذا لم تکن بقرشیّةٍ » یجتمع مع وجود المرأة و عدم وجودها - فلیس الأصل مثبتاً - لکنّ حمل « تری الدم » علی هذه المرأة ، معناه جواز حمل الحکم الوجودی علی المرأة المعدومة و هذا محال .

و الجواب

و قد أجاب الأُستاذ عن هذا الإشکال المتعلّق بعلم المعقول بالنقض و الحلّ .

أمّا نقضاً ، فقد ذکر وجود قضایا شرعیّة و عقلیّة بنحو السّلب المحصَّل و المحمول أمر وجودی ، ففی القرآن الکریم فی حکم من لم یجد الهدی : «فَمَنْ لَمْ یَجِدْ فَصِیٰامُ ثَلاٰثَةِ أَیّٰامٍ » (1)حیث أن الموضوع عدم وجدان الهدی بنحو السلب المحصّل و الحکم «فَصِیٰامُ ثَلاٰثَةِ أَیّٰامٍ » أمر وجودی . و فی القضایا العقلیة تقول :

ص:305


1- 1) سورة البقرة : الآیة 196 .

إذا لم تکن الشمس طالعةً تکون تحت الافق ، فهذا سلب محصّل - مثل إذا لم تکن المرأة قرشیة - و قد حمل علیه حکم وجودی و هو « تکون تحت الافق » .

و أمّا حلّاً ، فقد قسّموا القضیّة إلی المعدولة و المحصّلة ، و المحصّلة تأتی موجبةً و سالبةً ، و إنما سمّیت محصّلةً لأنْ الموضوع و المحمول فیها فعلیّان محصَّلان ، إلّا أنه قد ورد السَّلب فی القضیّة علی الربط (1) . فإنْ کان العدم جزءاً للموضوع کقولهم « اللّامتناهی معقول » أو للمحمول مثل « الحوادث غیر متناهیة » أو لکلیهما مثل « غیر المتناهی غیر موهوم » سمّیت القضیة معدولة ، فتارة معدولة الموضوع کالأول ، و اخری معدولة المحمول کالثانی ، و ثالثة معدولة الطرفین کالثالث ، و هی قضایا موجبة قد حمل فیها شیء علی شیء ، و لذا یعتبر فیها الثبوت إما ذهناً و إما خارجاً .

أمّا فی السّالبة ، فلیس المعتَبر هو السلب عن الموضوع الموجود أو المعدوم ، بل هو قابلیة صدق القضیة فی مورد وجود الموضوع و مورد عدم وجوده ، فلذا قالوا بصدق القضیة السّالبة المحصّلة مع وجوده و مع عدمه ، لا أنّه یعتبر فی صدقها وجوده أو عدمه .

و علی الجملة ، فإنّ تقیّد موضوع القضیّة المشتملة علی حکم وجودی بعدم الوصف بنحو السّالبة المحصّلة ، لا ینافی وجود الموضوع ، و لا یلزم ثبوت ذلک الحکم فی حال عدم الموضوع حتی یشکل بلزوم حمل الوجودی علی العدمی ، لأنه لا مُلزم به ، بل ما قام علیه البرهان هو عدم اشتراط وجود الموضوع فی السّالبة المحصّلة ، أمّا أن یکون لعدم الموضوع موضوعیة فی وجود الحکم ،

ص:306


1- 1) قال الأُستاذ : هذا رأی الخواجة و غیره ، و عندنا أن السلب یرد علی المحمول و لازم ذلک سلب الربط لا أنه یرد علی الربط .

فلا برهان علیه . فالإشکال مندفع .

و إلی هنا انتهی الکلام علی أدلّة استصحاب العدم الأزلی ، و ظهر أنّ القول بجریانه هو الحق .

تطبیق البحث علی مسألة الشکّ فی کریّة الماء

و إنّ من جملة المسائل المتفرّعة علی بحث استصحاب العدم الأزلی مسألة ما لو شک فی کریّة ماءٍ من جهة الشک فی صدق عنوان الکرّ علیه ، بعد تحدید الکرّ بکذا عددٍ من الأشبار ، فهل هذا الماء کرٌّ أو لا ؟ فلو لاقی نجساً ینفعل أو لا ؟ قولان .

ذهب الشیخ إلی الانفعال (1) ، و صاحب ( الجواهر ) إلی عدم الانفعال (2)و تبعه صاحب ( العروة ) (3) ، بخلاف مسألة ما لو شک فی أنّ لهذا الماء مادّة أو لا ؟ فقال هناک بالانفعال ... و من المحشین - کالسیّد الشاهرودی - من قال بالطّهارة فی کلیهما ، و منهم : قال بالنجاسة فی کلیهما و هو المختار عند الأُستاذ . و قد استدلّ لهذا القول بوجوه :

الأول : قاعدة المقتضی و المانع . فالماء المشکوک الکریّة بنحو الشبهة المصداقیة مع عدم العلم بالحالة السابقة نجس ، من حیث أنّ الملاقاة مع النجس تقتضی النجاسة و أمّا المانع و هو الکریّة فمشکوک فیها ... فالماء محکوم بالنجاسة .

و هذا مبنی الشیخ هادی الطهرانی و تلامذته .

إلّا أن الإشکال فی تمامیة أصل القاعدة المذکورة کما ذکر الشیخ و غیره .

الثانی : التمسّک بعموم العام فی الشبهة المصداقیة ، لأن مقتضی العمومات

ص:307


1- 1) کتاب الطّهارة 1 / 159 .
2- 2) جواهر الکلام 1 / 171 .
3- 3) العروة الوثقی، أحکام المیاه، فصل: الرّاکد بلا مادّة ، المسألة 7 .

تنجّس الماء بالملاقاة ، و القدر الخارج هو الکرّ ، فمتی شکّ فی کریّة الماء تمسّک بعموم العام و حکم بنجاسة الماء بالملاقاة .

و هذا الوجه یبتنی علی جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهات المصداقیّة .

الثالث : الأخذ بقاعدة أسّسها المیرزا هی : کلّما ثبت حکم إلزامی لموضوع ثمّ ورد علیه المخصّص ، فلا بدّ من العمل بالحکم الإلزامی حتی یحرز المخصّص . مثلاً : یحرم التصرّف فی مال الغیر ، و هذا حکم إلزامی ، إلّا أنه خصّص بمورد رضا المالک ، لکنْ لا یجوز التصرف إلا بعد إحراز الرضا . و کذلک ما نحن فیه ، فإنّه یجب الاجتناب إلزاماً عن الماء إذا لاقی النجس إلّا إذا کان کرّاً ، فإنّ الحکم بوجوب الاجتناب محکّم إلّا إذا احرز کریّة الماء .

قال الأُستاذ : و قد بُحث فی محلّه عن هذه القاعدة و ظهر عدم تمامیّتها .

الرابع : استصحاب عدم وجود الکرّ فی هذا الحوض مثلاً ، تعرّض له الشیخ فی ( کتاب الطهارة ) و لا یأخذ به ، لکونه أصلاً مثبتاً ، لأنّ لازم عدم وجود الکرّ فی هذا الحوض عقلاً عدم کریّة هذا الماء .

الخامس : استصحاب العدم الأزلی لکریّة هذا الماء ، فإنّه لمّا لم یکن لم یکن کرّاً ، و بعد الوجود نشکّ فی کریّته ، فنستصحب عدمها .

و هذا هو الوجه العمدة فی الفتوی بنجاسة الماء المشکوک الکریّة .

الإشکال علیه

و قد اشکل علیه أولاً بعدم الفرق بین هذا الوجه و الوجه السابق ، فکما کان ذاک أصلاً مثبتاً کذلک هذا الوجه ، لأنّ استصحاب العدم المحمول للکریّة بالنسبة إلی وصف الکریّة أصل مثبت .

ص:308

أجاب الأُستاذ :

بأن الوجه الرابع متقوّم بالشک فی وجود الموضوع ، و هذا الخامس أساسه الشک فی وصف الموجود ، فهناک کان الشک فی وجود الکرّ ،فکان استصحاب عدم وجوده بالنسبة إلی عدم وصف الکریّة أصلاً مثبتاً . أمّا هنا ، فإنّ المستصحب عدم کریّة الماء الموجود فی الحوض ، فلیس بأصل مثبت . نعم ، ذهب السیّد الحکیم إلی أنه لیس من استصحاب العدم الأزلی لعدم جریانه فی عوارض الماهیّة ، و هو الإشکال الثانی علی هذا الوجه .

التفصیل فی المسألة

فقد فصّل السید الحکیم (1) فی بین عوارض الوجود فقال بجریان استصحاب العدم الأزلی فیها ، و عوارض الماهیة فقال بعدم الجریان . و مورد الشکّ فی کریّة الماء من قبیل الثانی ، وعلیه بنی فی ( المستمسک ) (2) ، لأنّ الکریّة هی السّعة فی طبیعة الماء و ذاته ... و لذا یفرَّق بین کریّة الماء و لون الماء ، فاللّون من عوارض وجود الماء ، أمّا الکریّة فمن عوارض ذاته سواء کان موجوداً أو لا .

و علی الجملة ، فإنه إنْ کان المراد استصحاب عارض الماهیّة ، فإنّ لحاظ الذات و الماهیّة فی مرتبة الذات یکفی لانتزاع العارض منها ، کما ینتزع الإمکان من ملاحظة حدّ ذات الإنسان ، فیقال بقابلیّة هذه الذات للوجود و للعدم ، فإنّ هذا المعنی لا ینفکُّ عن الذات و لیس له حالة سابقة حتی تستصحب ، فلا وجه للتفصیل المذکور . و إنْ کان المراد عوارض الوجود الذهنی و الخارجی کلیهما کالزوجیّة بالنسبة إلی الأربعة ، أو الذهنی فقط کالنوعیّة للإنسان ، أو الخارجی فقط کالبیاض بالنسبة للجدار ... فإن الاستصحاب فی عوارض الوجود جارٍ بلا إشکال .

ص:309


1- 1) حقائق الاصول 1 / 506 .
2- 2) المستمسک فی شرح العروة الوثقی 1 / 153 .

و علی الجملة، فقد دفع الأُستاذ ما أورد علیه فی ( التنقیح ) (1) و أفاد بأنّ الإشکال الوارد علی السید الحکیم هو الإشکال الصغروی و ذلک :

لأنّ الشک فی کریّة هذا الماء الموجود لیس من قبیل عوارض الماهیّة ، بل إنّ الکریة من مقولة الکم ، فهی من عوارض الوجود ، و الاستصحاب جارٍ بلا کلام .

هذا ، و الظاهر أنّ السید الحکیم قد تأثّر بنظر استاذه المحقق العراقی فی المقام ، فإنّ له تفصیلاً یتوقف فهم کلامه فیه علی ذکر مقدّمات :

1 - إنّ مجری الاستصحاب هو الحکم الشرعی أو موضوعه أو نقیض الحکم الشرعی .

2 - إن نقیض کلّ شیء فی مرتبة الشیء ، فلو لم یکونا فی مرتبةٍ واحدة فلا تناقض .

3 - إن استصحاب العدم الأزلی یکون دائماً فی مورد السالبة بانتفاء الموضوع ، مثلاً : إنا نرید أن نجرّ بالاستصحاب عدم قرشیة المرأة الثابت قبل وجودها حتی بعد وجودها ، فهذا الاستصحاب یجری ، لأنه من السالبة بانتفاء الموضوع ، فلو لم یکن من هذا القبیل لما جری .

و بعد المقدمات :

إن التقیید عملیة ذهنیة ، فالشیء یکون منفصلاً عن الشیء ، إلّا أنه یحصل بینهما الارتباط فی عالم الذهن کالارتباط بین زید و العلم ، ثم یقال : زید عالم ، لکنّ هذا التقیید : تارةً : یکون فی حدّ الذات قبل الوجود مثل زید العالم و المرأة القرشیة و الماء الکر ، فإنّها تقییدات فی صقع الذات ، و لذا صحّ حمل الوجود و العدم کأن یقال : زید العالم موجود ، و زید العالم معدوم . و اخری : یکون بعد

ص:310


1- 1) التنقیح فی شرح العروة الوثقی 2 / 177 .

الوجود کأن نقول : إن وجد زید و کان عالماً ، إنْ وجدت المرأة و کانت قرشیةً .

فإنْ کان التقیید من قبیل الأول ، فهو غیر دائر مدار وجود الموضوع ، بل التقیید موجود مع عدم الموضوع ، کما أن الملازمة بین الفساد و تعدّد الآلهة موجودة و هی غیر دائرة مدار وجود الآلهة ، و إنْ کان من قبیل الثانی ، فیدور مدار الموضوع ، فلا تقیید للمرأة بالقرشیة قبل وجودها ... .

و علی هذا ، فإنّ الاستصحاب إنما یجری فی الأول دون الثانی ، لکونه بعد الوجود ، و إذا کان بعده فنقیضه أیضاً بعده - بحکم المقدمة الثانیة - و قد عرفت فی المقدمة الثالثة أن المستصحب إما حکم الموضوع و إما نقیضه ، و لا وجود لأحدهما بعد الوجود (1) .

أجاب الأُستاذ

بأنّ فی کلامه مواقع للنظر . منها :

إن المقصود هو إجراء استصحاب العدم الأزلی فی الزمان لا فی المرتبة ، لأن الأحکام الشرعیة تدور مدار الزمان ، و التقیید بین المرأة و القرشیة هو فی ظرف وجود المرأة و إلّا فلیس فی عالم العدم شیء ، فلا معنی لقوله بالتقیید قبل الوجود .

هذا أولاً .

و ثانیاً : قد تقدم أنْ لا برهان علی کون النقیضین فی مرتبةٍ واحدة .

فظهر : إنّ التقیید فی قضیّة : إذا وجدت المرأة و کانت قرشیة ، هو بعد وجود المرأة ، لکنّ عدم التقیید و عدم القرشیة لیس بعد وجودها ، فکما یجری الاستصحاب فی الصورة الاولی ، کذلک هو جارٍ فی الثانیة أیضاً . فلا وجه للتفصیل المذکور .

ص:311


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 528 .

و هل یجری استصحاب العدم الأزلی فی الذاتیّات کالکلبیّة للشیء المطروح علی الأرض الآن کما یجری فی الأوصاف و الأعراض کالقرشیّة للمرأة الموجودة ؟

قال الأُستاذ فی الدورة السابقة : بأن جریانه فی الذاتیّات مشکل . أمّا فی الدورة اللّاحقة فقد أرجأ البحث إلی الاستصحاب .

و انتهی البحث عن استصحاب العدم الأزلی و الحمد للّٰه أوّلاً و آخراً .

ص:312

دوران الأمر بین التخصیص و التخصّص

اشارة

لو جهلنا بفردیّة الفرد للعام مع العلم بحکم الفرد ، فهل یمکن إحراز عدم الفردیّة بالتمسّک بالعام ؟ و یعبَّر عن ذلک بدوران الأمر بین التخصیص و التخصّص .

و یقع البحث عن ذلک تارةً : فیما لو کان حکم الفرد علی خلاف حکم العام ، و اخری : فیما لو کان العنوان الخارج من تحت العام مردّداً بین فردین .

فالبحث فی مقامین :

المقام الأول ( لو کان حکم الفرد علی خلاف حکم العام )

لو ورد « یجب إکرام العلماء » ثم قال : « یحرم إکرام زید » فشک فی أن حرمة إکرام زیدٍ هی بسبب کونه جاهلاً فهو خارج تخصّصاً ، أو بسبب آخر مع کونه من العلماء فیکون خروجه تخصیصاً ... فقیل : بجریان أصالة العموم و عدم التخصیص ، فیکون العام باقیاً علی عمومه ، و لازم جریان هذا الأصل خروج زید تخصّصاً و أنه لیس بعالمٍ ، و قد تقرّر حجیّة مثبتات الاصول اللّفظیّة .

و ذهب صاحب ( الکفایة ) و جماعة إلی عدم جواز التمسّک بالعام ، لأنّ لفظ « العلماء » فی الدلیل مستعملٌ فی مدلوله و هو العموم ، و المتکلّم مریدٌ لهذا الاستعمال فالإرادة الاستعمالیة ثابتة ، و هذه هی الدلالة التصدیقیة الاولی ... ثم إنّ للمتکلّم إرادة جدیّة علی طبق تلک الإرادة الاستعمالیة ، فظهور کلامه فی وجوب إکرام جمیع العلماء مرادٌ له جدّاً ، و هذه هی الدلالة التصدیقیة الثانیة ، إلّا أنّه لا وجه

ص:313

للتمسّک بالعام لإدخال « زید » تحته ، لا من حیث الإرادة الاستعمالیة ، لأن مقتضی أصالة العموم فی یجب إکرام العلماء هو وجوب إکرام کلّ من کان متّصفاً بالعلم ، لکنّ العام لا یتکفّل بیان حال موضوعه و لا یعیّن من هو العالم . و لا من حیث الإرادة الجدیّة ، لأنّ مقتضی هذا الأصل أنّ من کان عالماً فهو المراد الجدّی فی وجوب إکرامه ، و لا یعیّن الفرد ... .

فظهر أن لا طریق من ناحیة العام لبیان حال الفرد المشکوک فیه ... و حینئذٍ ، لا موضوع للّازم العقلی ، لأن لوازم الاصول اللّفظیّة حجّة ما دام یکون هناک ملزوم ، و إذْ لا جریان لأصالة العموم فلا لازم .

و بتقریب آخر :

إنّ أساس الاصول اللّفظیة - کأصالة العموم - هی السیرة العقلائیة ، و مرکزها ما إذا کان المراد مشکوکاً فیه ، فإنه مع هذا الشک یتمسّک بالأصل ، و أمّا حیث یکون المراد معلوماً فلا ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأنّ المفروض عدم الشک فی مراد المولی ، فإنه قد حرّم إکرام زید ، بل المشکوک فیه کون زید من قبل داخلاً تحت العام ثمّ اخرج ، أو أنه لم یکن داخلاً ، و هذا أمر آخر ، و لیس یجری الأصل اللّفظی فیه .

و بتقریب ثالث :

إنّ مجری أصالة العموم هو الشک ، فی أصل التخصیص أو فی التخصیص الزائد ، و مورد البحث لیس منهما .

المقام الثانی ( لو تردّد بین فردین )

لو قال : « یجب إکرام العلماء » ثم قال : « یحرم إکرام زید » ثم تردّد المراد بین زید العالم و زید الجاهل ، إن أراد الأول فهو تخصیصٌ ، و إن أراد الثانی فهو

ص:314

تخصّص ، فهل یمکن تعیین ( زید ) بالتمسّک بالعام ؟ و هل عن طریق العام ینحلّ العلم الإجمالی ؟

قال المیرزا (1) - و تبعه فی ( المحاضرات ) (2) - بجواز التمسّک بالعام و حصول الانحلال : بأنّ أصالة العموم فی دلیل العام حجة فی مورد الشک فی التخصیص ، و معنی الحجیة هو وضوح جهة الحکم ، و أنّ کلّ عالم فهو واجب الإکرام ، و حیث أن زیداً عالم ، فیشمله العموم و یجب إکرامه لکون خروجه تخصیصاً مشکوک فیه ، و یدلّ ذلک بالالتزام علی عدم حرمة إکرامه ، للتضادّ بین الوجوب و الحرمة ... و بذلک ینطبق النّهی عن الإکرام علی زید الجاهل ، فانحلّ العلم الإجمالی ... فلم یؤثر إجمال الخاص علی العام بل بالعکس فقد رفعت أصالة العموم الإجمال عن الخاص . و بهذا التقریب یندفع اشکال السیّد البروجردی .

قال الأُستاذ :

قد تقدّم أن مبنی أصالة العموم هی السیرة العقلائیة ، و لا ریب فی قیام السیرة علی الأخذ بالعام فی مورد الشک البدوی ، و کذا مورد العلم الإجمالی المردّد بین الأقل و الأکثر فی الشبهة المفهومیة ، کتردّد الفسق بین مرتکب الکبیرة أو الأعم ، لرجوع الأمر إلی الشبهة البدویّة فی طرف الأکثر ، و أمّا لو کان بین طرفی التردید التباین - کما نحن فیه - حیث أنّ الشک فی التخصیص مقرون بالعلم الإجمالی المنجّز فی حدّ نفسه - بقطع النظر عن العام - و لا ینتهی الأمر إلی الشبهة البدویة ، فإنّ قیام السیرة العقلائیة علی الأخذ بعموم العام غیر واضح . مثلاً : لو أنّ

ص:315


1- 1) أجود التقریرات 2 / 318 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 391 .

رجلاً له تجاراتٌ متعدّدة ، منها تجارةٌ فی الکتب و تجارةٌ فی الذهب و المجوهرات ، فکتب إلی أحد وکلائه فی البلاد بشراء کلّ کتابٍ ، ثم أرسل إلیه رسالةً فی أنْ لا یشتری « الجواهر » فشکّ الوکیل فی أنّ مراده کتاب « جواهر الکلام » أو « المجوهرات » ، فهل یتوقّف حتی یستوضح المراد من المخصّص أو یتمسّک بالعام ؟ الظاهر هو الأوّل ، و قیام السّیرة علی التمسّک بالعام فی مثله غیر ثابت ، و مع الشک فی ثبوتها، فالقدر المتیقّن هو مورد الشبهة البدویة و الأقل و الأکثر الذی یؤول إلیها .

بقی النظر فی رأی السید البروجردی علی ضوء المقدّمات التالیة :

1 - إن العلم الإجمالی متقوّم دائماً بقضیة منفصلة مانعة الخلو ، ففیما نحن فیه : یحرم الإکرام إمّا إکرام زید العالم و إما إکرام زید الجاهل ، فلا بدّ من احتمال حرمة إکرام العالم أیضاً و إلّا لم یتحقق العلم الإجمالی .

2 - إن احتمال اجتماع الضدّین محال کاجتماعهما واقعاً .

3 - إنّ الأحکام الخمسة متضادّة ، و إن وقع البحث فی أنه تضادٌّ فلسفی أو اصولی .

فقوله رحمه اللّٰه : بأنْ دلیل العام حجةٌ بالنسبة إلی زید العالم ، لکنَّ العلم الإجمالی باقٍ علی حاله ، لأنا نحتمل حرمة إکرامه أیضاً (1) فیه : إنّ حجیة العام فی الوجوب توجب انحلال العلم ، و إلّا یلزم احتمال اجتماع الضدّین و هو محال کما تقدّم .

ص:316


1- 1) نهایة الاصول : 309 - 310 .

هل یجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصّص ؟

اشارة

و هذا البحث أحد المطالب المهمّة فی فصل العام و الخاص و ثمرته العملیة فی سائر الأبواب واضحة .

و قد وقع الاتّفاق علی أنْ لیس للفقیه أن یفتی ما لم یفحص ... کما أن علی المقلِّد أن یفحص عن فتوی المجتهد فی الشبهات الحکمیّة ، و المجتهد مکلّف بالفحص فی الروایات ، فلا یفتی علی طبق روایةٍ إلّا بعد الفحص عن المعارض لها ، و کذا فی الاصول العملیة ، فلا یجری الأصل إلّا بعد الفحص عن الدلیل ، و کذا فی بابی الإطلاق و التقیید و العموم و الخصوص ... .

و الکلام فی هذا المقام فی ثلاثة جهات :

الجهة الأولی ( فی دلیل عدم جواز التمسّک بالعام قبل الفحص )

اشارة

فالمشهور بل کاد یکون متَّفقاً علیه ذلک ، إلّا أنّ الاختلاف فی کیفیة إقامة الدلیل .

فقد ذهب جماعة إلی أنه لمّا کان مناط الأخذ بالاصول اللّفظیّة هو الظن الشخصی بالمراد ، فإنه ما لم یفحص عن المخصّص أو المقیّد أو القرینة ، لا یحصل الظنّ الشخصی حتی یأخذ بأصالة العموم أو الإطلاق أو الحقیقة .

و هذا الوجه یبتنی - کما عرفت - علی القول بدوران حجیّة الاصول مدار الظن الشخصی ، لکن التحقیق دورانه مدار الظن النوعی .

ص:317

و ذهب المیرزا القمی (1) إلی وجهٍ آخر و هو : إنّه لمّا کانت الخطابات الشرعیّة مختصّةً بالمشافهین ، و سائر الناس مکلّفون بها من باب الظن المطلق ، فالقدر المتیقّن من دلیل اعتبار الظن المطلق هو حالة بعد الفحص عن المخصّص .

و هذا الوجه - کما تری - مبنی علی اختصاص الخطابات الشرعیّة بالمشافهین و قانون الانسداد ، و مع القول بعدم انسداد باب العلمی ، و أیضاً عدم اختصاص الخطابات ... یسقط .

فالعمدة هو الأدلة المقامة من الشیخ و صاحب ( الکفایة ) و المیرزا ، و هی ثلاثة .

الدلیل العقلی
اشارة

قال الشیخ ما حاصله : إنا نعلم إجمالاً بورود المخصّصات علی عمومات الکتاب و السنّة و أنّ بعضها مخصَّص یقیناً ، و هذا العلم یقتضی الفحص عن الأحکام الإلزامیة الموجودة فی المخصّصات ، و هو منجّزٌ من جهة احتمال العقاب علی العمل بالعمومات قبل المخصص عن المخصّصات لها ما لم ینحلّ العلم .

و قد اشکل علی هذا الاستدلال ، بکونه أخصّ من المدّعی ، فإنّه یجری فی موارد الأقل و الأکثر ، و المدّعی أعمُّ من ذلک ... .

علی أن العلم فی مورد الأقل و الأکثر منحلٌّ بعد الفحص بالمقدار المتیقّن .

فالبیان المذکور مخدوش .

و قد قرّبه المیرزا ببیانٍ آخر (2) و حاصله : أن العلم الإجمالی یکون فی ثلاث

ص:318


1- 1) قوانین الاصول 1 / 233 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 355 .

موارد :

1 - العلم الإجمالی المردّد بین المتباینین ، و هی القضیّة المنفصلة المانعة للخلوّ ، فإمّا هذا الإناء نجس و إمّا ذاک ، و هنا لا ریب فی تنجیز العلم الإجمالی ما لم ینحلّ .

2 - العلم الإجمالی المردّد بین الأقل و الأکثر ، کأن یشکّ المدین بین الألف و الألفین . لکنّ هذا العلم منحلٌّ بل فی الحقیقة لا علم إجمالی ، بل هی قضیّة متیقّنة و اخری مشکوکة ، کما هو الحال فی التعارض بین الخبرین بدواً .

3 - العلم الإجمالی المردّد بین الأقل و الأکثر من جهةٍ و بین المتباینین من جهةٍ اخری ، کما لو علمنا بوجوب الاجتناب إمّا عن هذا الإناء و إمّا عن إناءین ، و قال المولی - فی نفس الوقت - بوجوب الاجتناب عن إناءِ زید ، ففی هذه الصورة لا بدّ من تعیّن إناء زید عن طریقٍ من الطرق لوجوب الاجتناب عنه منجّزاً بعنوان إناء زید ، و لا یکفی الاجتناب عنه من جهة کونه طرفاً للعلم الإجمالی المردّد بین الأقل و الأکثر ، لأنّ هذا العلم ینحلّ بالاجتناب عن الأقلّ ، و أمّا إناء زید فالتکلیف به منجَّز ، و لا بدّ من العثور علیه حتی یجتنب عنه .

و تطبیق هذا علی ما نحن فیه هو : إنا نعلم إجمالاً بوجود المخصّصات فی الکتب ، فهی معنونة بعنوان الکون فی الکتب ، و نعلم - من جهةٍ اخری - بوجود مخصّصات مرددة بین الأقل و الأکثر لو عثر علی المقدار الأقل منها انحلّ العلم ...

إلّا أنّ العثور علی الأقل لا یوجب انحلال العلم الإجمالی بوجود المخصّصات بعنوان ما فی الکتب .

الإشکال علیه

و یرد علیه أوّلاً : عدم انطباق ما ذکره علی ما نحن فیه ، لأن عنوان « ما فی الکتب » أیضاً مردّد بین الأقل و الأکثر ، و مع العثور علی الأقل تجری البراءة عن الأکثر و الانحلال حاصل .

ص:319

و ثانیاً : إن ما ذکره لا یتمّ علی مسلکه - تبعاً للشیخ - فی أساس تنجیز العلم الإجمالی ، و هو المختار عندنا أیضاً ، و هو القول بالاقتضاء - فی مقابل مسلک المحقق العراقی ، و هو القول بالعلیّة - و حاصله : رجوع التنجّز إلی تعارض الاصول فی الأطراف و تساقطها ، ففیما نحن فیه ، لمّا عثرنا علی الإناء النجس - و إنْ لم یکن بعنوان إناء زید - وجب الاجتناب عنه ، و کان الأصل - الطهارة مثلاً - جاریاً فی الطرف بلا معارض ، فلا یبقی تنجیز ... .

و علی الجملة ، فإنّ مقتضی القول بالاقتضاء مع عدم جریان الأصل فی طرفٍ للعلم بنجاسته مثلاً هو جریانه فی غیره ، سواءً کان ذو العنوان مردّداً بین الأقل و الأکثر مثل عنوان ما فی الکتب أو لم یکن مردّداً بینهما مثل عنوان إناء زید ، و بذلک ینحلّ العلم الإجمالی . نعم ، إنما یتم ما ذکره علی مسلک العلیّة .

و ثالثاً : إن مانعیّة العلم الإجمالی فرع لتمامیّة المقتضی للتمسّک بأصالة العموم ، لکنّ الحق - تبعاً للمحقق الخراسانی - أنّ عمومات الکتاب و السنّة فی معرض التخصیص ، فلیست بمجری لأصالة العموم .

و رابعاً : إنّ البحث فی حکم التمسّک بالعام قبل الفحص عن المخصّص جارٍ سواء کان حکم الخاص إلزامیّاً أو ترخیصیّاً ، فالبحث أعمّ من مورد العلم الإجمالی و تنجّزه لوجوب الاحتیاط .

الدلیل العقلائی

قال فی ( الکفایة ) (1) ما حاصله : إنّ أصالة العموم أصلٌ عقلائی ، و ملاکه هو أصالة التطابق بین الإرادة الاستعمالیة و الجدیة ، و لکنّ العقلاء إنما یتمسّکون بهذا الأصل حیث لا یکون العام فی معرض التخصیص ، لکنّ عمومات الکتاب و السنّة

ص:320


1- 1) کفایة الاصول : 226 .

فی معرض التخصیص ، فلا تطابق عند العقلاء بین الإرادتین فیها .

و علی هذا ، فلا مقتضی لأصالة العموم و لا موضوع لدلیل الحجیّة ، بل لا بدّ من الفحص عن المخصص حتی یتحقق موضوع أصالة التطابق .

و قد وافقه المحقق العراقی (1) ... و قال شیخنا بتمامیة هذا الوجه صدراً و ذیلاً .

( ثمّ قال ) : و لو شکّ فی تمسّک العقلاء بمثل هذه العمومات التی هی فی معرض التخصیص ، کفی الشکُّ فی عدم الجواز .

ثم ذکر الإجماع علی عدم جواز التمسّک بالعام من باب التأیید ، من جهة أنه یوجب الشکّ فی قیام السّیرة العقلائیة علی الأخذ به قبل الفحص ، لأنّ الفقهاء و الاصولیین هم القدر المتیقّن من العقلاء ، فسواء کان مستند الإجماع هو العلم الإجمالی کما تقدم فی الوجه السابق أو کون العمومات فی معرض التخصیص کما فی هذا الوجه ، فإنّه یُوجد الشک فی السّیرة ، و هو کاف لعدم جواز التمسّک فی هذه الحالة .

و بما ذکرنا یظهر : ما فی إیراد السیّد الحکیم من دعوی قیام السیرة مع الظنّ بالتخصیص علی الأخذ بالعام ... و کأن منشأ السهو فی کلامه هو الخلط بین المقام و مسألة حجیة الظواهر ، حیث یبحث هناک عن حجیة الظواهر مع الظن بالخلاف ، و أنه هل الظن بالخلاف مانع عن الظهور و حجیته أو لا ؟ و قد تقرر هناک أن حجیّة الظاهر غیر مشروطة ، لا بکون الظن موافقاً و لا بعدم کونه مخالفاً ، لأنّ بناء العقلاء فی مقام العبودیّة و المولویّة هو التنجیز و التعذیر ، فیأخذون بالظاهر لکونه حجّةً و یؤاخذون به حتی مع الظن بالخلاف ... بخلاف مسألتنا هذه ، فإن العام الذی هو

ص:321


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 529 .

فی معرض التخصیص لا یجوز الاحتجاج به عقلاءً ، و هذا مقصود المحقق الخراسانی ، فلا یرد علیه الإشکال .

و بما ذکرنا یظهر أیضاً : ما فی کلامه من أنّ عمل العقلاء مبنی علی أساس العلم الإجمالی و هو ملاک وجوب الفحص ... لأنّ ذلک یرجع إلی مرحلة المانع ، و کلام ( الکفایة ) فی أصل المقتضی .

کما لا یرد علیه أن الإجماع المذکور یحتمل استناده إلی العلم الإجمالی .

ففیه : ما أشرنا إلیه من أنّ صاحب ( الکفایة ) یقصد بیان کیفیة وقوع الشک فی السیرة .

الوجه النقلی
اشارة

قال المحقق العراقی (1) و تبعه السید الخوئی (2) بکفایة إطلاق أخبار وجوب التعلّم ، و أنه یقال للمکلّف یوم القیامة « أ فلا تعلّمت » (3) لعدم جواز التمسّک بالعام و وجوب الفحص عن المخصص ، فإنّ إطلاقها یعمُّ المورد .

أشکل الأُستاذ

بأنّ تلک الأخبار إنما یتمسّک بها فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص ، لا لعدم حجیّة العام قبل الفحص ، و الاستدلال بها لما نحن فیه مستلزم للدور . لأن الخطاب المذکور إنما یتوجّه إلی من لا حجّة لدیه ، فموضوعه عدم الحجّة ، فکیف یکون حجّةً علی وجوب الفحص عن المخصص و عدم حجیة العام قبله ؟

هذا تمام الکلام فی الجهة الاولی .

ص:322


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 530 .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 360 ، محاضرات فی اصول الفقه 4 / 427 .
3- 3) بحار الأنوار 1 / 178 .

الثانیة ( فی أثر الفحص فی الموارد المختلفة و الفرق بینها )

اشارة

تارةً : الموضوع غیر مشکوک فیه ، و إنما الفحص یکون عمّا ینافی المحمول له ، کأنْ یکون خبر الثقة حجة ، ثم یفحص عمّا إذا کان له معارض ، فهذا فحصٌ فی موارد التعارض . و اخری : لا یتحقق الموضوع إلّا بعد الفحص ، و هذا فی الاصول العقلیة ، کقاعدة قبح العقاب بلا بیان ، إذ الموضوع فیها - و هو عدم البیان - لا یتحقق إلّا بالفحص .

و قد وقع الکلام بینهم فی أثر الفحص فی موارد العام و الخاص و المطلق و المقید ، و الفرق بینهما و بین موارد الاصول العملیة الشّرعیة . فقد قال فی ( الکفایة ) : بأنْ الفحص عن المخصص - مثلاً - فحصٌ عن مزاحم الحجّة و هو العام ، أمّا فی الاصول الشرعیّة ، فهو فحص عن أصل الحجیّة ، لأنّ دلیل الاستصحاب مثل « لا تنقض الیقین بالشک » (1) و دلیل البراءة مثل « رفع ما لا یعلمون » (2) مطلق ، یعمّ حالی قبل الفحص و بعده ؛ لکنّ الإطلاق فیهما مقیّد بالإجماع بما بعد الفحص ، فکان الموضوع غیر محقَّق قبله ، فیکون الفحص عن أصل الحجّة . ثم أمر بالفهم .

و لعلّه إشارة إلی أنْ الإجماع المذکور مدرکی ، و المدرک إمّا العلم الإجمالی الذی ذکره الشیخ أو الروایات مثل « هلّا تعلَّمت » .

تحقیق الأُستاذ

إنّ حجیّة کلّ خبرٍ - کما هو معلومٌ - متوقفة علی تمامیة ثلاث جهات هی جهة السند و الدلالة و الصدور . و لا بدّ للتمامیة من الفحص و إلّا فلا حجیّة ...

ص:323


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 245 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، رقم : 1 .
2- 2) وسائل الشیعة 15 / 369 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، رقم : 1 .

و الفحص فیها راجع إلی أصل الاقتضاء للحجیّة ، و بعد الفراغ عن ذلک تصل النوبة إلی البحث عن المزاحم .

و أمّا فی الاصول العملیّة الشرعیّة ، فإنّ مبنی ما ذکره صاحب ( الکفایة ) هو إطلاق دلیل الأصل الذی قال بتقیّده بالإجماع ، إلّا أنه قد تقدّم أنّ المستند لحجیّة العامّ هو بناء العقلاء ، و بناؤهم علی حجّیته محدودٌ - من أوّل الأمر - بما بعد الفحص عن المخصّص ، فیرجع الأمر إلی أصل الحجیّة ، و لا یبقی فرق بین مورد العمومات و الاصول .

نعم ، لو کان المستند لحجیّة العام هو العلم الإجمالی ، فالحجیّة تامة و العلم الإجمالی مزاحم لها ، إلّا أنه ذهب إلی ما ذکرناه من أن المستند هو بناء العقلاء ... .

و الحاصل : عدم تمامیّة تفریقه بین العمومات و الاصول .

( قال ) : و التحقیق هو منع الإطلاق فی أدلّة الاصول الشرعیّة ، من جهة مسلک الشارع بالنظر إلی الآیات مثل «هَلْ یَسْتَوِی الَّذینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذینَ لاٰ یَعْلَمُونَ » (1)و الأحادیث مثل « طلب العلم فریضة » (2) فمسلکه طلب العلم و الخروج عن الجهل ، فلو کان دلیل الأصل - مثل « رفع ما لا یعلمون » - مطلقاً ، لزم أن یکون الشارع مشجّعاً علی الجهل . فبهذه القرینة نرفع الید عن الإطلاق فی أدلّة الاصول الشرعیّة .

أمّا فی العمومات ، فإنّ الأصل الأوّلی هو التطابق بین مقامی الثبوت و الإثبات و کون الإرادة الجدّیة علی طبق الإرادة الاستعمالیة ، و مقتضی ذلک هو اقتضاء الحجیّة فی العمومات ، لکنّ هذا الاقتضاء لیس علی إطلاقه ، بل السیرة

ص:324


1- 1) سورة الزمر: الآیة 9.
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 25 ، الباب 4 من أبواب صفات القاضی ، رقم : 15 .

العقلائیة فی حجیّة العام قائمةٌ علی تمامیّة العموم بعد الفحص ، فلذا یکون الفحص فحصاً عن المزاحم .

و علی الجملة ، فإنّه بعد تمامیّة جهات الحجیّة فی العام صدوراً و دلالةً و جهةً ، یکون المخصّص المنفصل مزاحماً للحجیّة ، و الفحص عنه فحصٌ عن المزاحم ، لأنّ السّیرة العقلائیّة التی تستند إلیها حجیّة العام إنّما هی بعد الفحص عن المخصص ... .

فالأُستاذ موافق للکفایة فی المدّعی و ما ذکرناه هو الوجه الصحیح عنده للفرق بین العمومات - و الإطلاقات - و بین الاصول العملیة الشرعیّة .

الثالثة ( فی مقدار الفحص )

و هنا وجوه : لزوم الفحص حتی العلم بعدم المخصص . أو لزوم الفحص حتی الاطمینان بعدمه . أو کفایة حصول الظنّ بعدمه .

أمّا الأوّل ، فغیر ممکن ، لبقاء الاحتمال العقلی حتی بعد الفحص التام .

و أمّا الثالث ، فمردود بعمومات النهی عن اتّباع الظن .

فیتعیّن الثانی ، بدلیل السیرة العقلائیة ...

و هذا هو الصحیح کبرویّاً .

إنما الکلام فی الصغری ، فإنّ الاطمئنان بعدم المخصّص مع ضیاع کثیرٍ من الکتب و الروایات کیف یحصل ؟

ص:325

هل تعمُّ الخطابات غیر المشافهین ؟

کلام الکفایة

اشارة

ذکر المحقق الخراسانی أنه تارةً : یبحث عن أصل تکلیف الغائب و المعدوم ، و اخری : عن المخاطبة معهما ، و ثالثة : عن عموم أدوات الخطاب لهما .

و البحث من الجهتین الاولی و الثانیة عقلی ، و من الجهة الثالثة لغوی .

أمّا فی الجهة الاولی

فإنْ کان التکلیف مقیّداً بالوجود ، فهذا خارج عن البحث ، لأن توجیه التکلیف إلی الموجودین - سواء کان بعثاً أو زجراً - لا مانع عنه و لا إشکال فیه ، إنّما الکلام فی التکلیف المطلق .

و فی التکلیف المطلق تارةً : یکون الطلب إنشائیاً ، و هذا أیضاً لا مانع عنه ، إذْ لا إشکال فی صحّة تکلیف المعدوم بالطلب الإنشائی ، لکون الإنشاء خفیف المئونة و لیس مقیّداً بالوجود ، و فائدة مثل هذا الطلب هو فعلیّته فی ظرفه ، فلا یکون محتاجاً حینذاک إلی إنشاءٍ جدید ، کإنشاء الوقف بالنسبة إلی البطون الآتیة ، لأنّه یعتبر الملکیّة للبطون ، و الملکیة الاعتباریة تشمل المعدوم کشمولها للموجود ، فالبطن اللّاحق - المعدوم فعلاً - یتلقّی الملک من الموجود قبله و لا إشکال فیه . فظهر إمکان مثل هذا الطلب و أنْ له فائدة الاستغناء عن الإنشاء عند وجود المعدوم . و اخری : هو البعث و الزجر ، و المعدوم غیر قابل للانزجار و الانبعاث .

ص:326

و أمّا فی الجهة الثانیة

فإنّ الخطاب علی قسمین ، فإنْ کان حقیقیّاً ، فإنّ خطاب المعدوم علی نحو الحقیقة غیر معقول ، إذ یحتاج إلی المخاطب الحاضر الملتفت . و إنْ کان خطاباً إیقاعیّاً فهذا ممکن بالنسبة إلی المعدوم ، لأنه مجرّد الإنشاء و لیس شیء آخر وراءه ، و لذا قد یخاطب الجمادات بشیء کما لا یخفی .

و أمّا فی الجهة الثالثة
اشارة

فالمهمُّ هو التحقیق عن وضع أدوات الخطاب ، لأنّها إنْ کانت موضوعةً للخطاب الحقیقی ، کانت الخطابات الشرعیة مختصّةً بالحاضرین ، فلا تشمل الغائبین فضلاً عن المعدومین ، و إن کانت موضوعةً للخطاب الإنشائی شملت المعدومین و الغائبین کالحاضرین المشافهین .

و قد ذهب صاحب ( الکفایة ) (1) فی هذه الجهة إلی أنّ الموضوع له الأدوات هو الخطاب الإنشائی ، فتعمّ الغائب و المعدوم ، بدلیل استعمالها فی خطاب المعدوم بل غیر العاقل بلا أیّة عنایةٍ ، ( قال ) : و لا یتوهّم وجود العنایة ، لأنّه لو کان هناک علاقة و عنایة لعلم بها المتکلّم ، لأن الخطاب فعلٌ من أفعاله و لا یعقل عدم التفاته إلی العنایة ، فهو یخاطب الدار و الجدار و الکواکب و الأشجار مثلاً بنفس کلمة « یا » التی یستعملها مع ذوی العقول ... فهذا برهان علی عموم الوضع ... نعم ، المنصرف إلیه هذه الأدوات مع عدم القرینة هو الخطاب الحقیقی ... و علی الجملة ، فإنّ جمیع الخطابات الموجودة فی الکتاب و السنّة محمولة علی الخطاب الإیقاعی الإنشائی ، لوجود القرائن ، فهی عامّة للحاضرین و الغائبین و المعدومین .

ص:327


1- 1) کفایة الاصول : 229 - 230 .
إشکال العراقی و جوابه

و بما ذکرنا ظهر الجواب عمّا أشکل به المحقق العراقی (1) من أنّ الانصراف الذی ذکره صاحب ( الکفایة ) فی الجهة الثالثة یزاحم ظهور الأدوات فی الخطاب الإنشائی ، فلا تحصل النتیجة المقصودة من البحث و هو عموم خطاب الکتاب و السنّة .

و ذلک لأن صاحب ( الکفایة ) أفاد بوجود قرائن مع خطابات الکتاب و السنّة توجب الیقین بعدم اختصاصها بالحاضرین ، فلا مزاحم للظهور ، و إنّما یکون الانصراف إلی الخطاب الحقیقی حیث لا قرینة قطعیّة .

إشکال البروجردی و جوابه

و أشکل السید البروجردی (2) علی الجهة الثانیة بعدم إمکان توجّه الطلب إلی المعدوم ، لأنه فی ظرف العدم « لا شیء » و تعلّق الطلب ب« لا شیء » غیر معقول ... ففی ظرف خطاب « یا أیها الناس » لا یوجد « ناسٌ » حتی یعمّهم .

فالصحیح هو أنْ متعلّق الطلب دائماً یکون مفروض الوجود ، و أنْ الخطابات الشرعیة کلّها بنحو القضیّة الحقیقیة .

و قد أجاب شیخنا عن الإشکال بالنقض بمثل الإجارة ، حیث أنّ المنفعة فی حین الإجارة معدومة ، فلا یملکها المستأجر ، و فی ظرف وجودها تکون متصرّمة الوجود ، فلا تصلح للإجارة ، فلا بدّ من القول ببطلان کتاب الإجارة .

فإن قیل : الإجارة تسلیط المستأجر علی العین لاستیفاء المنافع ، فلا نقض .

قلنا : فما تقولون فی تملیک الانتفاع فی کتاب العاریة ؟ علی أنّه فی الإجارة

ص:328


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 533 .
2- 2) نهایة الاصول : 315 .

تدخل المنافع تحت الملک ، و یشهد بذلک قاعدة الضمان ، إذ الید علی العین یدٌ علی منافعها ، و أنتم تقولون بأن المنافع المعدومة لا تقبل الملکیّة .

و أمّا حلّاً ، فصحیح أنّ المعدوم فی حال العدم « لا شیء » إلّا أن « لا شیء » یقبل الاعتبار إذا کان له مصحّحٌ یخرجه عن اللّغویة ، و لا یلزم وجود العنوان فی القضایا الاعتباریّة ، و یشهد بذلک تعلّق الاعتبار حتی بالمحالات ، کاعتبار الجمع بین النقیضین ، و هذا مراد صاحب ( الکفایة ) من قوله : إن الاعتبار خفیف المئونة ... .

و فیما نحن فیه : المصحّح للاعتبار هو القابلیّة للوجود ، لیکون مصداقاً لعنوان « الناس » أو « المؤمنون » و نحو ذلک ، و فائدة ذلک عدم الحاجة إلی الإنشاء الجدید لمّا یوجد فیما بعد ، کما ذکرنا سابقاً .

إشکال الأصفهانی و جوابه

و أشکل المحقق الأصفهانی (1) علی ما ذکره صاحب ( الکفایة ) فی الجهة الاولی - من استحالة التکلیف بمعنی البعث الفعلی بالنسبة إلی المعدوم ، و أمّا الطلب الإنشائی منه فمعقول - بأنّه یناقض ما ذهب إلیه من إمکان الواجب المعلّق ، حیث أنّ الإرادة و الطلب و البعث فعلی ، و المراد و المطلوب المبعوث إلیه استقبالی و معدوم ، فإذا کان تکلیف المعدوم - و المراد منه العمل - محالاً ، فکذلک یکون البعث نحو العمل المعدوم محالاً و لا یعقل الواجب المعلَّق ، و إنْ جاز تعلّق البعث بالفعل المراد المعدوم فعلاً ، فلیجز تعلّقه بالمکلّف المعدوم فعلاً کذلک ، لعدم الفرق ... .

ص:329


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 470 .

و الجواب

فأجاب الأُستاذ : بأنْ مقتضی الدقّة فی کلام ( الکفایة ) فی بحث الواجب المعلّق هو ورود الإشکال علیه بالنظر إلی احدی بیاناته فقط ، و ذلک أنّه قد قرَّب قوله بإمکان الواجب المعلَّق تارةً : بأنّ الإرادة محقّقةٌ الآن و المراد معدوم ، و أثر هذه الإرادة هو الانبعاث نحو مقدّمات المراد . فعلی هذا البیان لا یرد الإشکال ، لخروج هذه الإرادة عن اللّغویّة بتأثیرها بالنسبة إلی مقدّمات متعلّق الإرادة .

و اخری : إنّ البعث دائماً مقدَّم علی الانبعاث ، فلو لا وجود البعث حتی یتصوَّره المکلّف و یصدّق به ، لا یتحقق الانبعاث منه ، و إذا ثبت هذا التقدّم ، فإنّه لا یفرَّق فی القضیّة العقلیة بین قصر الزمان و طوله للبعث و الانبعاث ، و هذا المعنی إنّما یصدق فی المراد المعدوم کالحج ، دون المراد منه المعدوم و هو المکلّف . فظهر الفرق بین ما نحن فیه و مسألة الواجب المعلّق .

فعلی هذین البیانین لا مجال للإشکال المزبور .

نعم ، یرد بالنظر إلی ظاهر بیانٍ ثالث له و هو : إنّ المراد من الإرادة هو الشوق البالغ حدّ النصاب و إنْ لم تکن هناک محرکیّة للعبد ، فلا تکون المحرکیّة الفعلیة معتبرة . فیرد علیه النقض من الأصفهانی : بأنّ هذه المرتبة من الشوق کما یمکن تعلّقها بالموجود الاستقبالی فی الواجب المعلَّق ، کذلک یمکن تعلّقها بالمکلّف الذی یوجد فی المستقبل . فکما یتعلّق بالمراد المعدوم کذلک یتعلّق بالمراد منه المعدوم .

و مع ذلک یمکن دفع الإشکال : بأنّ البعث عند صاحب ( الکفایة ) إنما هو لإحداث الداعی للامتثال ، و إحداث الدّاعی بالنسبة إلی فعلٍ معدوم فعلاً معقول ، بخلاف إحداثه فی نفس الشخص المعدوم فعلاً .

ص:330

و تلخّص : تمامیّة الوجه المذکور فی ( الکفایة ) لشمول الخطابات لغیر المشافهین .

وجوه اخری
اشارة

و قد تذکر للتعمیم وجوه اخری :

منها : التمسّک بقاعدة الاشتراک ، فإنه حتّی لو کانت أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الحقیقی ، فإنّ مقتضی هذه القاعدة هو اشتراک المعدومین مع المشافهین فی الخطابات .

لکن فیه : إنّ هذه القاعدة إنما تفید لإلغاء الخصوصیّات الذاتیّة ، کاحتمال دخل خصوصیّة زید أو عمرو فی الحکم ، أمّا احتمال دخل خصوصیّة کون المکلَّف حاضراً فلا یندفع بها .

اللهم إلّا أن یتمسّک بالقرائن الموجودة فی نفس الخطابات ، ففی الکتاب المجید قد توجّه الخطاب إلی « الناس » و هو فی مقام التشریع و التقنین ، ففی مثل ذلک یتلقّی المستمع الخطابَ من باب کونه بعض المصادیق لهذا العنوان ، فهو بمقتضی ارتکازه یلغی خصوصیة الحضور ، و فی مثل ذلک - حیث یُقدم العقلاء علی إلغاء الخصوصیة - لو کان للحضور دخل لکان علی المولی البیان الزائد ، و إلّا یلزم نقض الغرض .

و أمّا النقض بصلاة العیدین و الجمعة و نحو ذلک ، ففیه : أنّ هناک قرائن و جهات زائدة توجب احتمال مدخلیة الحضور ، ففی الجمعة - مثلاً - نصوص تدلُّ علی أنها لا تنعقد إلّا بالإمام فاشترطت حضوره ... و هکذا فی صلاة العید و إجراء الحدّ ... فلا یرد النقض .

ص:331

و منها : ما ذکره المحقق العراقی (1) من التمسّک بعموم العنوان مثل « المؤمن » فی «یٰا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا » (2)و بذلک یثبت إطلاق الحکم .

تفصیل المیرزا

و فصّل المیرزا بین القضیة الخارجیّة و الحقیقیة (3) . أمّا فی الاولی فقال : بأنّ مقتضی ظهور الخطاب هو التخصیص بالمشافهین ، لأنّ الموضوع فیها محقَّق الوجود فی أحد الأزمنة الثلاثة ، و هذا قوام القضیة الخارجیة - لا فرض کونه موجوداً - فیکون الخطاب ظاهراً فی الحقیقیّة و یحتاج إلی المخاطب الحاضر الموجود . و أمّا الثانیة : فإنّها متقوّمة بفرض وجود الموضوع ، وعلیه ، فإنّ ملاک الخطاب الإنشائی - و هو کون المخاطب مفروض الوجود - موجود فی هذا القسم من القضایا و یعمُّ الحاضرین و الغائبین و المعدومین .

إشکال المحقق الأصفهانی و جوابه

و أشکل علیه المحقق الأصفهانی (4) - و تبعه السید الخوئی - بأن ما هو المقوّم للقضیة الحقیقیة هو فرض الوجود لا فرض الحضور ، و المقوّم للخطاب فرض الوجود و الحضور کلیهما ، فلو فقد أحدهما لم یصح الخطاب ، فإن کان موجوداً و حاضراً فالخطاب حقیقی ، و إنْ کان مفروض الوجود و الحضور ، فالخطاب إنشائی .

قال الأُستاذ

ص:332


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 535 .
2- 2) سورة المائدة: الآیة 6.
3- 3) أجود التقریرات 2 / 367 .
4- 4) نهایة الدرایة 4 / 472 .

یمکن تقریب کلام المیرزا بحیث یندفع الإشکال بأنْ یقال : إن محلّ النزاع عبارة عن أنَّ الخطابات الشرعیة تخصُّ المشافهین أو تعمّهم و المعدومین ، فإن کانت القضیة خارجیّة ، فإنّ المقتضی للاختصاص بالمشافهین موجود و لا مانع عنه ، لأنّ ظهور الخطاب هو للمخاطب الموجود الحاضر ، و بهذا اللحاظ یکون الخطاب حقیقیّاً ، إذ لا فرض وجودٍ فی القضیة الخارجیّة حتی یزاحم اقتضاء الخطاب ... .

أمّا إن کانت القضیة حقیقیّةً ، فالأمر بالعکس ، بمعنی أن المقتضی للتعمیم موجود و لا مانع ، لأنّ أدوات الخطاب ترد فی هذه القضیّة بلا عنایةٍ ، و بذلک یتمُّ المقتضی للعموم ، و هو کون المخاطب مفروض الوجود ، و هذا قوام القضیّة الحقیقیّة ، ثمّ إنه لا یوجد مانع عن هذا المقتضی ، لأنّه لو کانت الأدوات مخرجةً للموضوع عن فرض الوجود إلی الوجود الحقیقی ، لانقلبت القضیّة الحقیقیّة خارجیةً و هو خلف ، فکان فرض الوجود للموضوع - و هو المقوّم للقضیّة - کافیاً للتعمیم .

و بعبارة اخری : إنّ فرض الوجود مستلزمٌ لکون الموضوع أعمّ من المعدوم ، لأن فرض الوجود فی الموجود لغو ، و إذا کان أعمّ ، زال اقتضاء الأداة للخطاب الحقیقی لابتلائه بمانعٍ هو ذاتیٌ للقضیة الحقیقیة ، و مع انعدام اقتضاء الخطاب کذلک ، یکون المستعمل فیه الأداة غیر الخطاب الحقیقی ، و هو الخطاب الإنشائی الذی یشمل بذاته المعدوم کشموله للموجود ، من غیر حاجةٍ لتنزیل المعدوم بمنزلة الموجود .

فالحق : ما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) بضمیمة بیان المیرزا بالتقریب الذی ذکرناه .

ص:333

ثمرة البحث
اشارة

قالوا : و تظهر ثمرة هذا البحث فی حجیّة الخطاب ، و فی انعقاد الإطلاق ، فتعرضوا لثمرتین :

الثمرة الاولی

إنّه بناءً علی عموم الخطابات للمشافهین و الغائبین و المعدومین ، فلا ریب فی حجیّتها للجمیع ، حتّی لو احتملنا وجود قرینةٍ علی الخلاف دفعناه بالظهور أو الأصل ، لکون الخطاب عامّاً ، و المفروض کون المقصود بالتفهیم أعم . و أمّا بناءً علی کونها مختصّةً بالمشافهین ، فکیف تکون حجةً بالنّسبة إلی غیرهم ؟ و هذه هی الثمرة .

لکنّ القول باختصاص الخطابات بالمشافهین موقوف علی أمرین :

أحدهما : أنْ تکون حجیّة الکلام مختصّةً بهم ، و الآخر : أن یکونوا هم المقصودین بالتفهیم دون غیرهم ، فإنْ ثبت هذان الأمران ترتبت الثمرة علی البحث ، لکن ثبوتهما أوّل الکلام .

أمّا بالنسبة إلی الأمر الأوّل ، فلقد تقدّم أنّ أساس حجیّة الظهورات هو السیرة العقلائیة ، و لا شک فی أنّها قائمة علی عدم اختصاص الحجیّة بالحاضرین ، و لذا یأخذون بالأقاریر و الوصایا حتّی لو مرّت علیها السّنون الطوال .

و أمّا بالنسبة إلی الأمر الثانی ، فعلی فرض تمامیّة الأمر الأوّل ، فإنّه لا کلام فی أنّ خطابات الکتاب و السنّة عامّة للمشافهین و غیرهم ، و أنّ الکلّ مقصودون بالتفهیم ... .

و تلخّص : إن هذه الثمرة منتفیة ، فسواء قلنا باختصاص الخطابات أو عمومها ، فإنْ خطابات الکتاب و السنّة تعمُّ المشافهین و الغائبین و المعدومین ، و حجیّتها بالنسبة إلی الجمیع علی السواء .

ص:334

الثمرة الثانیة

إنه بناءً علی عموم الخطابات ، یسقط احتمال دخل خصوصیّة الحضور ، لأنّ المفروض کون الخطاب عامّاً ، و أنّه لا یوجد فی الکلام قیدٌ دالّ علی اعتبار الحضور ، فیؤخذ بإطلاق الخطاب . و أمّا بناءً علی القول بالاختصاص بالمشافهین ، فإنّ دفع الاحتمال المذکور یحتاج إلی دلیلٍ ، ففی وجوب صلاة الجمعة بقوله تعالی «یٰا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا إِذٰا نُودِیَ لِلصَّلاٰةِ مِنْ یَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلیٰ ذِکْرِ اللّٰهِ » (1)علی غیر الحاضرین ، لا بدّ من التمسّک بمثل قاعدة الاشتراک لیعمّ الخطاب غیر المشافهین ، لکنّ القاعدة هنا غیر جاریة ، لأنه دلیلها هو الإجماع ، و هو دلیل لبّی و القدر المتیقن منه الحجة و هو الخصوصیات الصنفیّة ، فالصّلاة الرباعیة مشترکة لکنْ فی صنف الحاضرین ، و الثنائیة مشترکة لکنْ للمسافرین لا الأعم منهم و الحاضرین ، فلو ارید تعمیم الخطاب بقاعدة الاشتراک اعتبر إحراز الاتّحاد فی الصنف مع الحاضرین ، و هذا أوّل الکلام ... وعلیه ، فإنّ المرجع فی شمول الأحکام لغیر المشافهین بناءً علی القول بالاختصاص ، بعد عدم تمامیة قاعدة الاشتراک ، هو الأصل . و هذه هی الثمرة .

و قد وافق الأُستاذ السیَّد الخوئی فی ثبوت هذه الثمرة ، خلافاً لصاحب ( الکفایة ) و ذلک : لأنّ الخصوصیّة المحتمل دخلها فی الحکم تارةً ذاتیّة و اخری عرضیة ، فلو کان المشافَهون للخطاب متّصفین بالعدالة و نحوها من الصفات العرضیّة المفارقة ، أمکن التمسّک بإطلاق الخطاب لإلغاء الخصوصیّة فیعمُّ غیرهم ، لأنّ العدالة من الأوصاف القابلة للزوال ، فلو توجّه الخطاب للمشافهین و هم عدول و لم یقیَّد بالعدالة أمکن التمسّک بإطلاقه ، لأنّ المفروض إطلاقه و عدم

ص:335


1- 1) سورة الجمعة : الآیة 9 .

تقیّده بالعدالة ، و أنَّ العدالة من الأوصاف المفارقة ، فلو أراد المتکلّم الملتفت هذه الخصوصیة لقیَّد خطابه بها و إلّا لزم نقض الغرض ، و حینئذٍ تتحکّم قاعدة الاشتراک . و أمّا إن کانت الخصوصیة الموجودة فی المشافهین ذاتیّة ککونهم هاشمیین ، فخاطبهم المولی بخطابٍ و نحن نحتمل دخل هذه الخصوصیة فی غرضه ، فإنّه و إنْ لم یقیِّد الخطاب لکن لا یمکن التمسّک بإطلاقه ، لکون الخصوصیة غیر مفارقة ، و عدم تقییده الخطاب بها لا یستلزم نقض الغرض .

و من الواضح أنّ خصوصیة « الحضور » من قبیل الخصوصیات المفارقة و القابلة للزوال ، فلو أراد المولی هذه الخصوصیّة کان علیه تقیید خطابه بها ، و إذْ لم یقیّد أمکن التمسّک بإطلاقه ، و إلّا لزم نقض الغرض .

فالثمرة مترتبة . لأنه بناءً علی القول بالعموم جاز التمسّک بالإطلاق ، أمّا بناءً علی القول بالاختصاص بالمشافهین ، توقّف العموم لغیرهم علی تمامیة قاعدة الاشتراک ، و هی إنما تتمُّ فی الأوصاف المفارقة ، أمّا فی الأوصاف اللاّزمة فلا ، و هذه هی مورد ظهور ثمرة البحث .

أقول

و لا یخفی أنّ تمامیّة الإطلاق موقوفة علی عدم لزوم نقض الغرض ، بأن یکون ذلک من مقدّمات الحکمة ، و هذا ما یلزم إثباته فی محلّه .

ص:336

تعقّب العام بضمیر

اشارة

لو تعقّب العامّ ضمیر یرجع إلی بعض أفراده ، فهل یبقی العام علی عمومه و یتصرَّف فی الضمیر و یلتزم فیه بالاستخدام ، أو یتصرّف فی العام و یلتزم بتخصیصه ، أو یقال ببقاء العام علی عمومه تحفّظاً علی أصالة العموم ، و أنّ الأصل فی الضمیر عدم الاستخدام ، و یتعارض الأصلان و یتساقطان و یرجع إلی الأصل العملی ؟ وجوه أو أقوال .

المستفاد من کلام ( الکفایة ) فی أوّل البحث هو القول الأوّل ، لکنْ فی ( المحاضرات ) نسبة القول الثالث إلی صاحب ( الکفایة ) .

و المختار عند المیرزا هو القول الأوّل .

و اختار السید الخوئی - فی هامش الأجود و( المحاضرات ) - الثانی .

و الثالث هو المختار عند الأُستاذ .

و قد مثّلوا للبحث قوله تعالی : «وَالْمُطَلَّقٰاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ وَلاٰ یَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ یَکْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فی أَرْحٰامِهِنَّ إِنْ کُنَّ یُؤْمِنَّ بِاللّٰهِ وَالْیَوْمِ اْلآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ » (1)حیث أنّ « المطلقات » أعمّ من الرجعیّة و البائنة ، و ظاهر الآیة عموم الحکم بالتربّص للقسمین ، و الضمیر فی « بعولتهنّ » یعود بحسب أصالة عدم الاستخدام إلی « المطلّقات » ، فیکون المراد منه نفس المراد من مرجعه و هو العموم ، لکنّ الدلیل الخارجی قائم علی أنْ لیس للزوج حق الرجوع إلّا فی

ص:337


1- 1) سورة البقرة : الآیة 228 .

المطلقة الرجعیّة ، فیدور الأمر فی الآیة بین أنْ نرفع الید عن أصالة العموم و یکون المراد من « المطلقات » خصوص « الرجعیّات » ، أو عن أصالة عدم الاستخدام ، فیکون الضمیر راجعاً إلی بعض المطلقات و هی الرجعیّات خاصة . أو لا هذا و لا ذاک ، بل یبقی الأصلان علی حالهما فیتعارضان و یتساقطان و المرجع هو الأصل العملی ؟

دلیل القول الأول

هو أنّه لا مقتضی للتعارض فی المقام بین أصالة العموم و أصالة عدم الاستخدام ، لتمامیّة أرکان أصالة العموم ، فالمقتضی لجریان هذا الأصل موجود ، إذ اللّفظ ظاهر فی العموم بلا کلام ، غیر أنّ المشکوک فیه هو أنّ هذا الظهور الاستعمالی هو المراد الجدّی أو لا ؟ و مقتضی القاعدة هو التطابق بین الإرادتین ...

إنّما الکلام فی وجود المانع عن هذا الاقتضاء ، و مع العلم بأنّ حق الرجوع إنما هو فی الرجعیّة دون البائن ، یسقط أصالة عدم الاستخدام و یتعیَّن إرجاع الضمیر إلی بعض « المطلَّقات » .

و علی الجملة ، فإنّ موضوع أصالة العموم تام فی المقام ، أمّا أصالة عدم الاستخدام فلا موضوع لها .

لا یقال (1) : إن أصل عدم الاستخدام یجری بلحاظٍ آخر ، أعنی لحاظ اللّازم ، و هو أن نثبت به عدم وقوع التخصیص فی العام ، فیجری الأصلان کلاهما ، کما لو خرج الثوب مثلاً عن طرف الابتلاء ، فإن أصالة الطهارة غیر جاریة فیه ، لکن تجری فیه بلحاظ الملاقی له الذی هو مورد للابتلاء حتی یترتب الأثر فی الملاقی .

ص:338


1- 1) هذا الإشکال طرحه المیرزا و أجاب عنه .

لأنّا نقول : هذا صحیح فی الاصول الشرعیّة ، فنجاسة الملاقی من آثار الثوب شرعاً و إنْ خرج عن محلّ الابتلاء ، لکنْ لمّا کان مثبتات الاصول اللّفظیة حجة ، فلا حاجة إلی ترتیب الأثر من ناحیة الشارع ، لأنه بمجرّد جریان الأصل اللّفظی - لوجود المقتضی لجریانه - یترتّب الأثر .

و أشکل السید البروجردی (1) : بأنه لا یوجد هنا احتمال التعارض بین الأصلین ، لأن المشکوک فیه هو کیفیة استعمال الضمیر ، و هو مسبّب عن الشک فی أصالة العموم ، فإذا جری فی طرف المسبب ، لم یبق موضوع للأصل السببی ، فلا مجال لتوهم التعارض .

أجاب الأُستاذ : بأن المورد لیس من قبیل الشک السببی و المسببی ، فإنّ أحد الشکّین هو فی کیفیة استعمال الضمیر و الآخر فی ناحیة العام ، و المنشأ لکلیهما هو العلم بإرادة خصوص الرجعیّات من « المطلقات » ، فلیس الشک فی الضمیر مسبّباً عن الشک فی العام حتی تجری قاعدة الشک السببی و المسببی .

هذا ، و قد قرّب السید القول الأول ببیانٍ آخر (2) هو : إنّ العام قد استعمل فی العموم و أصالة العموم فیه محکّمة ، و کذا الضمیر ، فإنّه یرجع إلی العام بلا کلام ، إلّا أنّ المشکلة فی المراد الجدّی و تطابقه مع الاستعمالی ، أمّا فی الضمیر ، فلا ریب فی عدم التطابق ، لعلمنا بعدم إرادة جمیع المطلقات ، بخلاف العام فإنّه لا وجه للشک فی التطابق فیه ، فتجری أصالة العموم فیه ، و لا تجری أصالة عدم الاستخدام فی الضمیر ، و لا تعارض .

و فیه: إنّ أساس هذا التقریب هو دعوی تمامیّة المقتضی لأصالة العموم ،

ص:339


1- 1) نهایة الاصول : 323 .
2- 2) نهایة الاصول : 323 .

و هی أوّل الکلام ، لوجود الضمیر المقطوع بالمراد منه ، فإنه بظهوره السیاقی یحتمل المانعیّة عن انعقاد الظهور للعامّ فی العموم ، فتقوی المعارضة بین الأصلین .

دلیل القول الثانی

اشارة

و ذهب السید الخوئی (1) إلی جریان أصالة عدم الاستخدام و رفع الید عن أصالة العموم ، و ملخّص کلامه هو : أنا لا نجری أصالة عدم الاستخدام من جهة الشکّ فی المراد من الضمیر ، حتی یقال بأنه لا شک فی المراد منه فلا موضوع للأصل ، بل نجریه من حیث أنّ للکلام ظهورین لا یمکن التحفّظ علی کلیهما و لا بدّ من رفع الید عن أحدهما ، و ذلک لأن « المطلقات » ظاهر فی العموم ، و أنّ الظاهر هو الاتّحاد بین الضمیر فی « بعولتهن » و مرجعه و هو « المطلقات » ، لکنّ أصالة عدم الاستخدام محفوفة بقرینةٍ تقتضی تقدّمها علی أصالة العموم ، و تلک القرینة هی الارتکاز العرفی فی أمثال المقام ، فإنهم یقدّمون أصالة عدم الاستخدام و یرفعون الید عن أصالة العموم ، بل الأمر کذلک بنظرهم حتی فیما إذا دار الأمر بین رفع الید عن أصالة عدم الاستخدام و رفعها عن ظهور اللّفظ فی کون المراد منه هو المعنی الحقیقی ، فیرفع الید عن المعنی الحقیقی و یحمل اللّفظ علی معناه المجازی کما فی مثل : رأیت أسداً و ضربته ، فإنه یتعین حمله علی إرادة المعنی المجازی و هو الرجل الشجاع إذا علم أنه المراد بالضمیر الراجع إلیه .

إشکال الأُستاذ

فقال الأُستاذ : صحیحٌ أنّ الموضوع لکلٍّ من أصالة العموم و أصالة عدم الاستخدام متحقّق یقتضی جریانه فی المقام ، إلّا أن کلّاً من الأصلین المذکورین

ص:340


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 446 .

تعلیقی و لیس بتنجیزی ، لأن أصالة العموم معلقة ذاتاً علی عدم القرینة ، و أصالة عدم الاستخدام - و هو الظهور السیاقیّ للکلام - معلّقة علی عدم القرینة ، فکما یمکن أن یکون الظهور السیاقی قرینة علی سقوط أصالة العموم ، کذلک یمکن أن تکون أصالة العموم قرینة علی سقوط الظهور السیاقی .

و أمّا دعوی قیام القرینة من جهة المرتکز العرفی لتقدم أصالة عدم الاستخدام ، فعهدتها علی مدّعیها ، بل إنّ طبع المطلب کون الظهور السیاقی أضعف من الظهور اللّفظی الوضعی ، نعم ، قد یتقدّم الظهور السیاقی کما فی مثاله المذکور ، لکنْ لیس الأمر کذلک فی جمیع الموارد ، بل المقدَّم هو ما ذکرناه ، و فرقٌ بین الآیة و المثال ، إذ لو جعل المراد فیه الحیوان المفترس لزم أجنبیة الضمیر ، بخلاف الآیة ، فإنّ الضمیر راجع إلی حصّةٍ من العام ... فالأصلان فی الآیة متعارضان .

و الحق سقوط کلیهما و الرجوع إلی الأصل العملی .

ثم إنّه قد ذکروا أنْ الآیة المبارکة لیست بمثالٍ للمسألة ، لأنّا نعلم بدلیلٍ من الخارج أنّ المراد من المطلّقات حصّة منهنّ ، فأصالة التطابق بین الإرادتین فی الضمیر ساقطة ، بخلاف العام « المطلّقات » فهی فیه تامّة .

قال الأُستاذ

إن صاحب ( الکفایة ) قد استدرک فی آخر کلامه ما لو صدق احتفاف الکلام بالقرینة ، ففی هذه الصورة قال بسقوط الأصلین . و هذا بالتالی تفصیل منه فی المسألة ، ففی الآیة تتقدّم أصالة العموم من حیث أنّ الجملة المشتملة علی الضمیر لا تصلح للقرینیّة ، لوجود جملةٍ بینهما فی الآیة المبارکة .

ص:341

تعارض المفهوم مع العموم

اشارة

لو ورد عام مثل أکرم العلماء ، ثم وردت جملةٌ شرطیة یعارض مفهومها ذلک العام ، کما لو قال : أکرم العلماء إن کانوا عدولاً ، ففیه وجوه :

تقدیم العام علی المفهوم .

و تقدیم المفهوم علی العام .

و التعارض و التساقط و الرجوع إلی الاصول العملیّة .

و التفصیل .

و قبل الورود فی الأدلّة نتعرّض لکلام المیرزا و دفع ما أورد علیه .

فقد ذکروا أن المفهوم إمّا مخالفٌ للمنطوق بالسلب و الإیجاب کما فی الخبر : « إذا کان الماء قدر کرٍّ لم ینجّسه شیء» (1) . و إمّا موافق ، و هو ما لم یکن بینهما تخالف کذلک مثل «فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍ » (2). و الموافق ینقسم إلی : الموافقة بالأولویة و الموافقة بالمساواة ، و الاُولی تارةً عرفیة و اخری عقلیّة ، و الثانیة ، تارةً :

تکون المساواة عن طریق تحصیل المناط القطعی للحکم ، و اخری : تکون لا عن الطریق المذکور مثل لا تشرب الخمر لإسکاره .

فقال المیرزا (3) : إن کان المفهوم موافقاً ، فتارةً یقال : لا تشرب الخمر لأنه مسکر ، و اخری یقال : لا تشرب الخمر لإسکاره ... و بین التعبیرین فرق ، ففی

ص:342


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 158 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، رقم : 1 .
2- 2) سورة الإسراء: الآیة 23.
3- 3) أجود التقریرات 2 / 379 - 380 .

الأول ، یکون مقتضی القاعدة تعمیم الحکم - و هو الحرمة - لکلّ مسکر ، لأن الموضوع فی الکلام عبارة عن « المسکر » ، و فی الثانی : مقتضی القاعدة تخصیص الحکم بالخمر ، لاحتمال وجود الخصوصیّة فی إسکار الخمر دون غیره من المسکرات ، لأن موضوع الحکم هو خصوص الخمر .

و قد أشکل المحقق الأصفهانی (1) علی هذا التفریق بما ملخّصه : إنه إذا قال :

لا تشرب الخمر إذا أسکر ، کان الإسکار شرطاً ، و لیس لهذا الشرط أثر إلّا تتمیم قابلیّة الخمر لترتّب الحکم ، و مع الشک فی تحقّق القابلیّة لذلک لغیر الخمر ، فمقتضی القاعدة تخصیص الحکم به دون غیره . و أما إذا قال : لا تشرب الخمر لإسکاره ، فظاهر الکلام کون الإسکار علّةً غائیةً ، و من المعلوم استحالة تخلّف المعلول عن العلّة ، فیکون الحرمة معلولةً للإسکار و یدور الحکم مداره أینما وجد ، فلا یختص الحرمة حینئذٍ بالخمر . و کذلک لو قال : لا تشرب الخمر لأنه مسکر ... و لو کانت الإضافة توجب الخصوصیّة - فیما لو قال : لإسکاره - فهی موجبة لها لو قال : لأنه مسکر ، لکون المسکر و الإسکار کلیهما مضافین إلی الخمر .

هذا ، و قد تبعه السید الخوئی (2) و أضاف : بأنّ عدم الفرق بین « لأنه مسکر » و« لإسکاره » فی أنّ تمام الموضوع للحکم هو الإسکار و لا موضوعیّة للخمر ، هو المتفاهم عند أهل العرف ، فمقتضی القاعدة هو التعمیم فی کلا الموردین .

دفاع الأُستاذ عن المیرزا

اشارة

و أجاب الأُستاذ عن إشکال المحقق الأصفهانی : بوجود الفرق بین « لإسکاره » و« لأنه مسکر » ، إذ الإضافة موجودة فی کلیهما ، لکنّها فی الثانی

ص:343


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 478 - 479 . الهامش .
2- 2) أجود التقریرات 2 / 380 . الهامش .

تطبیقیّة حیث یُطبَّق فیه العنوان الکلّی علی الفرد ، فکان الموضوع للحکم هو عنوان « المسکر » و لا مقیّد له ، و حینئذٍ یعم الحکم غیر الخمر أیضاً . أمّا فی الأوّل ، فالموضوع هو الخمر و کون « الإسکار » علّةً غائیة و التخلّف محال ، لا ینافی موضوعیة الخمر ، لأن الغایة عبارة عن « إسکاره » لا « الإسکار » ، فکانت الإضافة مقیَّدة ، و مقتضی أصالة التطابق بین الثبوت و الإثبات أن یکون لإسکار الخمر خصوصیّة ، اللهم إلّا إذا قامت القرینة علی إلغائها ، و المفروض انتفاؤها هنا ، و من الواضح أنّ هذه الخصوصیة توجد الضیق فی ناحیة العلّة و تحدّد المضاف بالمضاف إلیه ، بخلاف قوله : « لأنه مسکر » فإنه تطبیق لا تحدید .

و بما ذکرناه یظهر ما فی الاستدلال فی هامش الأجود بروایة : « إن اللّٰه لم یحرّم الخمر لاسمها » (1) ... فإنّ ظاهرها بل صریحها هو الدلالة علی التعمیم ، و کلامنا هو فیما لا توجد قرینة علی التخصیص أو التعمیم .

بل إنّ المتعارف عند العرف هو ما ذکرناه ، فلو قیل : لا تجالس زیداً الجاهل لسوء خلقه ، فإنّ هذا الکلام لا یدلّ علی المنع عندهم من مجالسة عمرو العالم السیّئ الخلق ، لوجود احتمال أن سوء خلقه هو من جهة الجهل ، فلا یسری الحکم إلی کلّ من ساء خُلُقه .

فظهر أن الحق مع المیرزا فی هذه المقدّمة ، فلندخل فی صلب البحث :

دلیل القول بتقدّم العام و نقده

و قد استدلّ لتقدّم العام علی المفهوم : بأنّ دلالة العام ذاتیة لکونها مطابقیة ، و دلالة المفهوم هی بالعرض لکونها بالالتزام ، و الدلالة الالتزامیة أضعف و لا تقبل المعارضة مع المدلول المطابقی .

ص:344


1- 1) وسائل الشیعة 25 / 342 - 343 ، الباب 19 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الرقم : 2 .

و فیه :

إنه لا تفاوت بین الدلالتین فی مقام الدلالة و الموضوعیة ، و کلاهما فی مرتبةٍ واحدة فی الکشف عن المراد الجدّی و المراد الاستعمالی .

و بعبارة اخری : إن دلالة الکلام علی المفهوم مستندةٌ إمّا إلی الوضع و إمّا إلی مقدّمات الحکمة ، و کذلک دلالة العام علی العموم ، فهی إمّا من جهة اللّفظ و إمّا من جهة مقدّمات الحکمة ، فکلاهما فی مرتبة واحدة ، فالتقدیم بما ذکر بلا وجه .

دلیل القول بتقدّم المفهوم و نقده
اشارة

و استدلّ للقول بتقدم المفهوم : بأنّ التعارض الموجود هو بین العموم و المفهوم ، و هنا مورد إعمال قواعد التعارض . هذا من جهةٍ . و من جهةٍ اخری :

فإنّ المنطوق و المفهوم متلازمان بالتلازم العقلی أو العرفی ، و هما فی هذه الملازمة متساویان ، و مع التلازم بینهما لا یعقل انفکاک أحدهما عن الآخر ، بل سقوط أحدهما یوجب سقوط الآخر .

و بعد ذلک : فإنّه مع تقدّم العموم و سقوط المفهوم ، هل یبقی المنطوق علی حاله أو یسقط ؟ أمّا بقاؤه بعد سقوط المفهوم ، فیستلزم الانفکاک ، و أمّا سقوطه أیضاً فیستلزم إجراء أحکام التعارض فی غیر مورد التعارض ، لأنّ المنطوق لم یکن طرفاً للمعارضة ، بل طرفها هو المفهوم ، فهذا المحذور یوجب تقدیمه علی العموم (1) .

التحقیق

هو إنّ القول بأنّ عدم تقدّم المفهوم یستلزم إجراء قواعد التعارض فیما لیس طرفاً للمعارضة غیر تام ، لاستحالة وقوع المفهوم طرفاً لها و عدم وقوع

ص:345


1- 1) أجود التقریرات 2 / 383 .

المنطوق ، بل المنطوق یکون کذلک و تجری قواعد التعارض . فلو قال : أکرم خدّام العلماء ، دلَّ بالأولویة علی إکرام العلماء ، فإنْ قال : أکرم فسّاق خدّام العلماء ، دلّ بالأولویّة علی وجوب إکرام العلماء الفساق . لکنّ العام یقول : لا تکرم الفسّاق ، و له دلالتان أحدهما هو النهی عن إکرام العالم الفاسق ، و الآخر النهی عن إکرام الخادم الفاسق الجاهل ، فإنّه المدلول له بالأولویة . فکما کان للمفهوم حکمان إثباتی و بالأولویّة ، کذلک للعام ، وعلیه ، ففی جمیع الموارد یوجد التعارض بین العام من جهةٍ و المفهوم و المنطوق من جهة اخری ، و یکون المرجع قواعد التعارض .

فإنْ کان المنطوق أخص ، جرت قواعد العام و الخاص ، و إنْ کان أعمّ جرت قواعد العام من وجه .

و هنا ، النسبة بین المنطوق و العموم عموم و خصوص من وجه ، و مقتضی القاعدة تقدّم الخاص ، لکونه أظهر من العام أو قرینةً للعام ، و إذا تقدّم المنطوق تقدَّم المفهوم لکونه اللّازم المساوی له ، و إلّا لزم التفکیک المحال کما تقدّم .

فالمفهوم مقدَّم علی العموم بهذا البرهان لا بما ذکر فإنه غیر صحیح .

و بعبارة اخری : إنّ تقدّم المنطوق علی العموم تنجیزی ، و أمّا معارضة العموم للمفهوم ، فهی معلَّقة علی عدم قرینیّة المنطوق للعموم أو عدم أظهریته منه ، و من المعلوم أنْ لا تعارض بین التنجیزی و التعلیقی .

هذا ، و لو فرض عدم القرینیة أو الأظهریة و استقر التعارض - و المفروض کون النسبة هی العموم و الخصوص من وجه - فقولان : أحدهما : الرجوع إلی المرجّحات کما فی المتباینین فإنْ فقدت فالتساقط أو التخییر ، و الآخر : التساقط أو التخییر ، لکون الرجوع إلیها خاصٌ بالمتباینین .

و هذا کلّه فی المفهوم الموافق .

ص:346

و أمّا المخالف ، کقوله : « خلق اللّٰه الماء طهوراً » (1) و قوله : « إذا کان الماء قدر کرٍّ لم ینجّسه شیء » (2) فوقع التعارض بین العام و بین المفهوم - و المفروض أنْ لا حکومة للمفهوم علی العموم و إلّا لتقدّم علیه ، لکنّ مورد الحکومة خارج عن البحث - فههنا صورٌ ذکرها المحقق العراقی (3) :

تارةً : العموم و المفهوم فی کلامٍ واحدٍ ، و اخری : یکونان فی کلامین ، و علی کلّ تقدیر : تارةً تکون الدلالة فی کلیهما بالوضع ، و اخری : بالإطلاق ، و ثالثة : فی أحدهما بالوضع و فی الآخر بالإطلاق .

قال : إنْ کانا فی کلامٍ واحدٍ ، فإنْ کانت الدلالة بالوضع ، لم ینعقد ظهورٌ أصلاً ، إذ لا موضوع لأصالة الظهور بل الکلام مجمل . و إنْ کانت بالإطلاق ، لم تتحقّق مقدّمات الحکمة فیهما ، لأن منها عدم البیان ، و کلّ واحدٍ منهما یصلح لرفع الموضوع فی الآخر ، فلا موضوع لأصالة الإطلاق .

و إنْ کانا فی کلامین ، فإنْ کانت الدلالة بالوضع لم یتم محمول أصالة الظهور و إنْ تمّ الموضوع ، لأنه و إنْ تمّ لهما الظهور الوضعی ، إلّا أنّه یسقط علی أثر المعارضة و یکونان مجملین حکماً ، و إنْ کانت بالإطلاق ، فإنّه و إنْ تحقّق موضوع أصالة الإطلاق لکنّ محمولها و هو الحجیة غیر متحقّق .

و إنْ کانت الدلالة فی أحدهما بالوضع و فی الآخر بالإطلاق ، فإنْ کانا فی کلامٍ واحدٍ ، تقدّم ما کان بالوضع ، لأنّ الظهور الوضعی یمنع من انعقاد الإطلاق فی الطرف المقابل ، لعدم کونه متوقّفاً علی شیء ، بخلاف الإطلاق فمن مقدّماته عدم البیان ، و الظهور الوضعی بیان فی الکلام المتصل . و إنْ کانا فی کلامین ، بنی

ص:347


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 135 ، الباب 1 من أبواب الماء المطلق ، رقم : 9 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 158 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، رقم : 1 .
3- 3) نهایة الأفکار (1 - 2) 546 .

علی المختار فی باب الإطلاق و أن تمامیّته موقوفة علی عدم البیان إلی الأبد أو فی مجلس الخطاب ، فعلی الأول : لا یبقی ما کان بالوضع مجالاً لانعقاد الإطلاق فی الطرف الآخر ، و علی الثانی - و المفروض هو الانفصال بین الکلامین - تتم مقدّمات الإطلاق و یقع التعارض بین أصالة الظهور و أصالة الإطلاق و المرجع قواعد باب التعارض .

أورد علیه الأُستاذ

أوّلاً : إنّ الخاص - سواء کان ظهوره وضعیّاً أو إطلاقیّاً - مقدّم علی العام - و إنْ وقع الکلام فی وجه تقدّمه أنّه من باب الأظهریة أو القرینیّة - فإنْ کانا فی کلامٍ واحدٍ سقط ظهور العام و إن کانا فی کلامین سقط حجیّة العام ... و هذا ممّا لا خلاف فیه . وعلیه ، فمفهوم « إذا بلغ ... » مقدّم علی « خلق اللّٰه الماء طهوراً » و الظهور فی کلیهما إطلاقی ، لکن المفهوم خاصٌ ، فهو مقدّم لکونه قرینة . و إنْ کان ظهوره وضعیّاً فتقدّمه یکون بالأولویة ، فلما ذا جعل الخبرین مثالاً لهذا البحث ؟

و ثانیاً : إن ما ذکره من عدم استقرار الظهور فیما لو کانت الدلالة فیهما معاً بالوضع أو بالإطلاق أو کانا متّصلین ، غیر صحیح ، لأنه فی حال کون ظهورهما وضعیّاً ، فإنّ الثانی یمنع من انعقاد الظهور فی الأول ، لکنّ الثانی لا ینعقد له ظهور أصلاً ، لکونه مسبوقاً بالأول ، فالقول بعدم استقرار الظهور إنما یتمّ فی حال کونهما بالوضع و فی الثانی منهما خاصّةً . أمّا إذا کان ظهورهما بالإطلاق فلا ینعقد فی أحدهما أصلاً و لا یصحّ التعبیر بعدم الاستقرار ، لوضوح صلاحیة کلٍّ منهما لأن یکون بیاناً للآخر ، فلا تتم مقدّمات الحکمة فی شیء منهما .

و ثالثاً : إنّ الکلام فی أصل کون الظهور الوضعی بیاناً ، فیمتنع انعقاد

ص:348

الإطلاق فی الطرف الآخر ، و هذا ما ذکره المحقق العراقی هنا ، و المحقق الخراسانی فی بحث التعارض من ( الکفایة ) (1) فیما لو وقع العام و المطلق فی کلامٍ واحد ... و الأصل فیه هو الشیخ الأعظم قدس سره ، من جهة أنّ الظهور الوضعی تنجیزی و الإطلاقی تعلیقی و لا یکون بینهما التمانع بل الأول یتقدّم .

و بعبارة اخری : الظهور الوضعی ذو اقتضاء بخلاف الإطلاقی ، و ما لا اقتضاء له یستحیل أن یعارض الاقتضاء .

( قال ) و لنا فی ذلک نظر نقضاً و حلّاً .

أمّا نقضاً ، فقد ذکروا أنّ العام لو حفّ بمجملٍ سری الإجمال إلیه و سقط عن الظهور ، کما لو قال : أکرم العلماء إلّا الفساق منهم ، و تردد الفسق بین الکبیرة و الصغیرة ... فکیف أثّر ما لا اقتضاء له فیما له الاقتضاء ؟

و أمّا حلّاً ، فإنْ کلّ ظهور وضعی فهو معلَّق علی أنْ لا یکون محفوفاً بقرینةٍ أو بما یصلح للقرینیة أو بمجملٍ ، و هذا هو السرُّ فی سرایة الإجمال فی المثال المتقدّم ، لأنّ المجمل - و إنْ کان لا اقتضاء - یصلح لإسقاط الظهور الوضعی ، و لذا لو احتفّ العام بمطلقٍ لا ینعقد للکلام ظهور ، و الدلیل علی ما ذکرناه هو السیرة العقلائیة ، لأن حجیّة هذه الظهورات مستندة إلیها ، و فی موارد الاحتفاف کما ذکرنا لا تنعقد علی الظهور بل هم یتوقّفون فی مثل ما لو قال المولی : أکرم کلّ عالم و لا تکرم الفساق ، حیث النسبة العموم من وجهٍ ، فهم فی العالم الفاسق - المجمع بین العام الوضعی و الإطلاقی - یتوقّفون و یعاملون الکلام معاملة المجمل .

فالتحقیق أنه فی مورد احتفاف العموم بالمطلق ، لا بدّ من القول بالإجمال ، خلافاً للشیخ و صاحب ( الکفایة ) و العراقی و غیرهم .

ص:349


1- 1) کفایة الاصول : 450 .

و علی ما ذکر ، فالتحقیق هو إعمال قواعد التعارض فی جمیع موارد التعارض بین العموم و المفهوم ، إلّا إذا کان للمفهوم حکومة علی العموم کما فی مفهوم آیة النبأ (1) ، فإنّه لیس العمل بخبر العادل من السفاهة و الجهالة ، فخبره خارج عن الحکم بالتبیّن تخصّصاً ، و لذا نصّ صاحب ( الکفایة ) فی بحث التعارض (2) علی أنْ لا تعارض بین الحاکم و المحکوم ... و إلّا إذا لزمت لغویّة العام لو تقدّم المفهوم علیه ، کما لو قدم مفهوم « إذا بلغ الماء ... » علی عموم « الماء الجاری لا ینفعل بالملاقاة » فإنه یلزم لغویة أخذ « الجاری » فی العموم ... و لذا یتقدّم العموم علی المفهوم فی مثله ... .

و أمّا مقتضی القاعدة بصورةٍ عامّة ، فهو القول بالإجمال فی المتّصلین و إعمال قواعد التعارض فی المنفصلین ، فبناءً علی القول بالترجیح - لا التخییر - فالمرجّحات و إلّا فالتساقط و الأصل العملی .

ص:350


1- 1) سورة الحجرات : الآیة 6 .
2- 2) کفایة الاصول : 437 .

تعقّب الاستثناء للجمل

اشارة

لو ورد مثلاً : أکرم العلماء و تواضع للسّادة و أطعم الفقراء إلّا الفساق منهم ، فهل یرجع الاستثناء إلی خصوص الجملة الأخیرة فقط ، أو إلی جمیع الجمل المذکورة ؟

تحریر محلّ البحث :

إن أداة الاستثناء تارة اسمٌ و اخری حرف ، فإن کانت اسماً ، فلا إشکال فی إمکان رجوع الاستثناء إلی الکلّ ، لکون الموضوع له الاسم عامّاً ، کما یجوز أن یکون المراد طبیعة الإخراج . و إنْ کان حرفاً من حروف الاستثناء ، بنی البحث علی المختار فی الموضوع له الحرف ، لأنه بناءً علی کون الموضوع له عامّاً یجوز رجوعه إلی الکلّ کما لو کان اسماً ، أمّا بناءً علی کونه خاصّاً أو أن المستعمل فیه خاص ، فیقع الإشکال فی جواز رجوع الاستثناء إلی الکلّ ، لأن الإخراجات المتعدّدة من الجمل المتعدّدة نسب متعدّدة ، و الحال أن مدلول الحرف هو الجزئی الحقیقی من الإخراج ، فلا یمکن رجوعه إلی کلّ الجمل .

و بعد ظهور محلّ الکلام ، فلا بدّ من البحث أولاً فی جهة الثبوت ، فلولا تمامیّة الإمکان لم تصل النوبة إلی جهة الإثبات ... فنقول :

الکلام فی جهة الثبوت

قد یستظهر من بعض العامّة صحّة رجوع الاستثناء إلی الکلّ .

و قال صاحب ( الکفایة ) ما حاصله : أنّ الاستثناء مفهوم واحد یتحقّق فی

ص:351

مورد الإخراج من المتعدّد و الإخراج من الواحد ، فالإخراج ب« إلّا» سواء کان من الأخیرة أو من الکلّ علی وزانٍ واحد (1) .

و أوضح المحقق الإیروانی فی ( التعلیقة ) (2) : بأن إخراج « الفساق » من الجملة الأخیرة أو من الجمل کلّها ، مصداقٌ لمفهوم الإخراج ، و مع المصداقیة فی کلا الموردین بلا فرقٍ ، لا یفرَّق بین وحدة المستثنی منه و تعدّده .

لکنّ الأُستاذ تنظّر فی هذا الکلام : بأنّه مع وحدة المصداق کیف یعقل وحدة الخروج و تعدّد الخارج و المخرج منه ؟ إنّه بعد إخراج الفسّاق ، فإنّ فسّاق العلماء غیر فسّاق السّادة و فسّاق الفقراء ، کما أنّ العلماء غیر السّادة و الفقراء ، فالإخراج و الخروج - و إنْ کانا واحداً ، لأنّ المصدر و اسم المصدر واحدٌ حقیقةً - و لکن الخارج فی المثال متعدّد و کذا المخرج منه ، فالخروج أیضاً متعدّد لا محالة .

و ما ذکره المحقق العراقی (3) : من أنّ هذا الإشکال إنما یتوجّه إذا کان المخرج - فی مورد الاستثناء من الجمل - بنحو العام الاستغراقی مع تعدّد الإخراج ، و أمّا إذا لوحظ بنحو العام المجموعی ، کان المخرج منه واحداً و الإخراج واحد ، فالإشکال مندفع .

لا یجدی ، لأنّه لا وجود خارجاً للمجموع ، بل الموجود هو الأفراد و تعدّدها ذاتی ، نعم ، هو من اختراعات الذهن ، لکنّ الاستثناء یکون من الوجود الخارجی لا الاعتباری الذهنی .

و کذا ما ذکره السید الحکیم (4) من تجویز قیام النسبة الشخصیّة بالمتعدّد ،

ص:352


1- 1) کفایة الاصول : 234 .
2- 2) نهایة النهایة 1 / 301 .
3- 3) نهایة الأفکار (1 - 2) 541 .
4- 4) حقائق الاصول 1 / 532 .

بأنْ تکون النسبة الشخصیّة منحلّة ضمناً إلی نسبٍ متعددة ، کتعلّق الوجوب بالصّلاة المرکّبة من أجزاء ، فإنّه ینحلّ إلی وجوبات بعدد الأجزاء .

فإنّه لا یمکن المساعدة علیه ، لأن الذات التی هی عین التشخّص و الجزئیة کیف تکون متعدّدة ، و التعدّد یقابل التشخّص ، فکیف یجتمعان ؟ و قیاس ما نحن فیه بتعلّق الوجوب بالمتعدّد مع الفارق .

لکنّ الحلّ هو بالقول بعموم الموضوع له الحرف ، کما تقدّم فی محلّه .

الکلام فی جهة الإثبات

اشارة

و قد اختلفت کلماتهم فی هذه الجهة :

تفصیل المحقق الخراسانی

فقال صاحب ( الکفایة ) (1) ما ملخّصه : إن القدر المتیقن من المراد هو الاستثناء من الجملة الأخیرة ، أمّا أن یکون الکلام ظاهراً فی الاستثناء من الکلّ فلا، بل هو مجمل ، و لا بدّ من الرجوع إلی مقتضی الأصل العملی فی غیر الجملة الأخیرة . إلّا أن یقال بحجیّة أصالة العموم تعبّداً ، وعلیه ، فإنْ کان عموم المستثنی منه بالوضع فهو علی قوّته ، و إن کان بالإطلاق لمقدّمات الحکمة فالأصل یسقط ، لأنّ کلّ واحدة من الجمل محفوف بما یحتمل القرینیّة و هو المستثنی .

ثم أمر بالتأمّل .

و قد ذکر وجهه فی الحاشیة : بأنّ المناط صلاحیّة أداة الاستثناء للقرینیّة ، و مع إجمال الکلام لا تسقط أصالة الإطلاق بالنسبة إلی غیر الجملة الأخیرة .

ثم قال فی الحاشیة : فافهم .

و کأنه یرید الإشارة إلی عدم انعقاد الإطلاق فی هذه الحالة من جهةٍ اخری ،

ص:353


1- 1) کفایة الاصول : 235 .

و هی وجود القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب ، فإنّ مبناه فی الإطلاق مانعیّة ذلک عن انعقاده .

و علی الجملة ، فإنّ صاحب ( الکفایة ) یفصّل فی المتن ، بین ما إذا کانت أصالة الحقیقة من باب الظهور أو من باب التعبّد ، فعلی الأول ، یکون الکلام مجملاً و المرجع هو الاصول العملیّة . أمّا علی الثانی ، فالتفصیل بین ما إذا کان عموم المستثنی منه وضعیّاً أو إطلاقیاً ، و قد عرفت کلامه فی الحاشیة .

و قد أورد علیه الأُستاذ بما یرجع إلی الإشکال المبنائی ، فإنّ عدم وجود القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب لیس من مقدّمات الحکمة ، و أنّ کلّ ما یصلح للبیانیّة عرفاً یمنع من انعقاد الإطلاق حتی الکلام المجمل ، فیکون الحاصل - بناءً علی حجیّة أصالة الإطلاق من باب التعبد - أنّ عموم المستثنی منه إنْ کان وضعیّاً فهو علی قوّته ، و إنْ کان إطلاقیّاً فإنْ احتفاف الکلام بالمجمل یمنع من انعقاد الإطلاق ، و المرجع هو الاصول العملیة فی هذه الصورة فی غیر الجملة الأخیرة .

تفصیل المحقق العراقی

و للمحقق العراقی (1) تفصیلٌ علی أساس مختاره فی مسألة تعارض العموم و المفهوم ، فهو - و إنْ وافق صاحب ( الکفایة ) فی ابتناء البحث علی کون حجیّة أصالة الحقیقة من باب التعبد أو الظهور - ذکر أنه تارةً : تکون الدلالة علی العموم و علی الاستثناء وضعیّةً ، و اخری : هی فی کلیهما إطلاقیة ، و ثالثةً : هی علی العموم بالوضع و علی الاستثناء بالإطلاق ، و رابعة : بالعکس .

فإنْ کانت الدلالة فی کلیهما بالوضع أو بالإطلاق أصبح الکلام مجملاً ، لأنّ الظهورات تتصادم و تسقط ، و المرجع الاصول العملیة فی غیر الجملة الأخیرة

ص:354


1- 1) نهایة الأفکار (1 - 2) 543 .

فإنّها القدر المتیقَّن .

و إنْ کانت الدلالة علی العموم بالوضع و علی الاستثناء بالإطلاق ، کانت أصالة العموم بیاناً بالنسبة إلی الاستثناء ، و یسقط الإطلاق فی الاستثناء و تتحکّم أصالة العموم فی کلّ الجمل عدا الأخیرة .

و إنْ کانت بالعکس ، فإنّ الجهة الوضعیة فی الاستثناء لا تبقی مجالاً لانعقاد الشمولی الإطلاقی فی الجمل ، فتسقط أصالة الإطلاق فی الکلّ .

و قد أورد علیه الأُستاذ بما یرجع إلی الإشکال المبنائی کذلک ، و حاصله : أنه کما أنّ العموم الوضعی یصلح لأنْ یکون بیاناً فیمنع من انعقاد الإطلاق فی الطرف المقابل ، کذلک الإطلاق إذا حفّ بالعموم الوضعی ، فإنه یمنع من انعقاد الظهور فیه .

ثم أضاف : بأنّ کلام المحقق العراقی هنا ینافی ما ذهب إلیه فی مبحث تعارض العموم و المفهوم علی أساس قاعدة أنّ التعلیقی لا یعارض التنجیزی ، و الظهور الوضعی تنجیزی و الإطلاقی تعلیقی ، فسواء کان الوضعیّ هو المستثنی منه أو المستثنی ، فإنّه مقدَّم علی الإطلاقی ، و القول بأنّ المستثنی الوضعی لا یکون بیاناً للمستثنی منه الإطلاقی ، تخصیص للقاعدة العقلیة المذکورة . فالقول بتصادم الظهورات فیما لو کان کلاهما إطلاقیاً باطل ، لأنه لا مقتضی للظهور فی هذه الصورة حتی یقع التصادم .

تفصیل المیرزا

و فصّل المیرزا النائینی (1) بما حاصله ، إنّ الجملة تتعدّد بتعدّد النسبة ، و هی تتعدّد بتعدّد الموضوع أو المحمول أو کلیهما . و کذلک الحال فی الجمل المتعقّبة

ص:355


1- 1) أجود التقریرات 2 / 375 - 377 .

بالاستثناء ، فقد یقال : أکرم العلماء و احترمهم و أحسن إلیهم إلّا الفسّاق ، فالموضوع واحد و المحمول متعدّد ، و قد یقال : أکرم العلماء و الشیوخ و السادات إلّا الفسّاق منهم ، فالموضوع متعدّد ، و قد یقال : أکرم العلماء و أحسن إلی السادات و أطعم الفقراء إلّا الفساق منهم ، فکلاهما متعدّد .

ثم إنّ التعدّد بتعدّد الموضوع علی نحوین ، فقد یذکر الموضوع فی صدر الکلام و یکون التعدّد بالضمیر العائد إلیه ، کأن یقال : أکرم العلماء و أضفهم و احترمهم إلّا الفساق منهم ، و قد یتکرر الموضوع نفسه مثل : أکرم العلماء و أضف العلماء و احترم العلماء إلّا الفساق منهم . فإنْ کان من قبیل الأول ، فالاستثناء یتعلَّق بالکلّ ، لأنّ الموضوع هو المستثنی منه ، و قد جاء الاستثناء لیخصّصه و الضمیر لیس له مرجع سواه ، فینعقد ظهور الکلام فی الکلّ . و إن کان من قبیل الثانی ، فإنّ الاستثناء من الجملة الأخیرة فقط .

أمّا إنْ کان الموضوع واحداً و الحکم متعدّد ، فالاستثناء یرجع إلی الکلّ کالصّورة الاولی من الصورتین المذکورتین .

و أمّا إنْ تعدّد الموضوع و المحمول کلاهما ، فالاستثناء یرجع إلی الجملة الأخیرة فقط ، لأنه مقتضی تعدّدهما .

نظر الأُستاذ

قال الأُستاذ : لا شک أن الملاک فی ظهور الکلام هو قابلیّته العرفیة للمعنی ، بأنْ یکون عند ما یلقی إلی العرف کاشفاً عن معناه عندهم بلا تردّد لدیهم ، وعلیه ، فهل یکون تکرّر الموضوع موجباً للظهور عندهم ؟ هذا أوّل الکلام ، و علی مدّعی انعقاد الظهور إقامة البرهان .

نعم ، الجملة الأخیرة هی القدر المتیقن فی جمیع الموارد ، و هذا لا کلام فیه .

ص:356

نعم فی صورة تعدّدهما یستقر الظهور العرفی فی الرجوع إلی الجملة الأخیرة فقط کما ذکر . و أمّا فی الصورة السابقة فمقتضی القاعدة هو الرجوع إلی الاصول العملیة لتردّد أهل العرف و تحیّرهم .

ص:357

تخصیص الکتاب بخبر الواحد

اشارة

لا خلاف بین الأصحاب فی تخصیص خبر الواحد لعموم الکتاب ، و قد نقل الخلاف عن بعض العامّة (1) ، فاُقیم الدلیل علی الجواز فی کتب الخاصّة .

کلام الکفایة

فقد ذکر المحقق الخراسانی (2) : بأنّ الحق هو الجواز ، ثم استدلّ بسیرة الأصحاب إلی زمن الأئمة الأطیاب علیهم السلام ، و أبطل احتمال کون کلّ تلک الأخبار محفوفة بالقرینة . ثم ذکر أنه لولاه لزم إلغاء خبر الواحد بالمرّة أو ما بحکمه ، ضرورة ندرة خبر لم یکن علی خلافه عموم الکتاب لو سلّم وجود ما لم یکن کذلک .

نقد ما استدل به للعدم

ثم تعرّض لما یستدلّ به للقول بعدم الجواز ، و هی وجوه أربعة :

الأول : إنه إذا جاز تخصیص الکتاب بخبر الواحد ، جاز نسخه به کذلک .

و التالی باطلٌ بالإجماع فالمقدَّم مثله . و وجه الملازمة : هو أن النسخ أیضاً تخصیصٌ لکنّه یرجع إلی الأزمان و التخصیص یرجع إلی الأفراد .

و الجواب : بالفرق من جهة الإجماع ، فإنّه قائم فی النسخ علی العدم ، أمّا فی التخصیص فهو قائم علی الجواز بین القائلین بحجیة خبر الواحد .

ص:358


1- 1) انظر : المستصفی فی علم الاصول للغزالی 2 / 114 .
2- 2) کفایة الاصول : 235 .

الثانی : إن الدلیل علی حجیّة خبر الواحد هو الإجماع ، و هو دلیل لبّی یؤخذ بالقدر المتیقن منه ، و هو غیر المخالف لعموم الکتابی ، و لو بالعموم و الخصوص المطلق .

و الجواب : لا إجماع علی حجیّة خبر الواحد .

و علی فرضه ، فالدلیل علی حجیّته غیر منحصر به .

و إن الأخذ بالقدر المتیقن ، إنما یکون من الإجماع التعبدی ، و الإجماع علی حجیّة خبر الواحد إنْ کان ، فهو مستند إلی الأخبار و السّیرة .

ثم إنّ الإجماع قائم علی تخصیص الکتاب بخبر الواحد ، فأین القدر المتیقن من الإجماع علی حجیّة خبر الواحد ؟

الثالث : الأخبار الکثیرة الآمرة بطرح کلّ خبر خالف الکتاب (1) ، أو أنه زخرف (2) ، أو أنه مما لم یقل به الأئمة علیهم السلام (3) .

و الجواب : إنّ المخالفة بالعموم و الخصوص المطلق لیست مخالفةً عرفاً ، بل الخاص عند أهل العرف قرینة علی العام ، و لیس بین القرینة و ذیها مخالفة ، فالأخبار المذکورة مختصة بالمخالفة علی وجه التباین . قاله صاحب ( الکفایة ) و غیره (4) .

إلّا أن الأُستاذ تنظّر فی هذا الجواب - فی الدورة اللّاحقة - بما حاصله : أن المخالفة بالعموم و الخصوص المطلق هو بالسلب و الإیجاب ، فإمّا یکون الکتاب دالّاً علی العموم موجبة کلیّة فیأتی الخبر علی خلافه بصورة السالبة الجزئیة ، و إمّا

ص:359


1- 1) وسائل الشیعة 27 / 110 ، الباب 9 من کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی ، رقم 10.
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 111 ، الباب 9 من کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی ، رقم 14 .
3- 3) وسائل الشیعة 27 / 111 ، الباب 9 أبواب صفات القاضی ، رقم 15 .
4- 4) کفایة الاصول : 237 .

یکون بالعکس ، و من الواضح أن السّلب و الإیجاب متناقضان بحکم العقل و المتناقضان لا یجتمعان ، فکیف یکون الجمع بین العام و الخاصّ عرفیّاً ؟ و کیف یدّعی عدم المخالفة عرفاً بین العام و الخاص المطلق ؟

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه قد أطلق عنوان المخالفة علی موارد العموم و الخصوص المطلق فی أخبار باب التعارض ، کصحیحة القطب الراوندی « ما وافق الکتاب فخذوه و ما خالف فدعوه » (1) و کمقبولة عمر بن حنظلة (2) ، إذ لیس المراد من المخالفة هذه التباین ، و إلّا لم تصل النوبة إلی التعارض و الترجیح ... و حمل هذا الاستعمال علی المجاز غیر صحیح لعدم العنایة .

فالأولی : أن یقال بشمول « المخالف » للخاصّ المطلق بالنسبة إلی العام الکتابی ، لکنّ علمنا بصدور الأخبار المخالفة بالعموم و الخصوص المطلق عنهم علیهم السلام یوجب حمل کلمة المخالف فی مثل « ما خالف کتاب اللّٰه فهو زخرف » علی المخالفة بالتباین . و أیضاً ، فإنّ الأخبار الواردة فی باب التعادل و التراجیح دلیل علی أن المخالف للکتاب حجة ، غیر أنّ الموافق له لدی التعارض بینهما هو المقدَّم ، فالمخالفة هذه بالعموم و الخصوص المطلق لا التباین ، لأن المباین لیس بحجة مطلقاً .

الرابع : إنّ العام الکتابیّ قطعیّ الصدور و خبر الواحد ظنّی ، و تخصیص الکتاب به رفع الید عن العلم بالظن و هو غیر جائز .

و الجواب : إنّه من حیث السند ، لا کلام فی قطعیّة الکتاب و ظنیّة خبر

ص:360


1- 1) وسائل الشیعة 20 / 464، الباب 20 من أبواب یحرم بالمصاهرة و نحوها ، رقم 3 و 4 .
2- 2) وسائل الشیعة 27 / 136 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، رقم 1 .

الواحد ، لکنّ الکلام لیس فی جهة السند ، بل فی الدلالة ، و لیست دلالة الآیة العامّة فی معناها بقطعیة ، فإن أصالة الظهور فی العام ظنیّة کما هی فی طرف الخبر ، فلا یقع التعارض بین القطعی و الظنّی ... و حینئذٍ نقول : بأنّ انعقاد الظهور فی طرف العام الکتابی معلّق علی عدم وجود القرینة علی الخلاف ، و قد تقدَّم أن الخبر قرینة ، فلا ینعقد الظهور فی العام بل یتقدّم الخبر علیه .

و علی الجملة ، فإنه لا تنافی بین المدلولین ، و دلیل حجیّة الخبر یتقدَّم بالحکومة علی أصالة العموم فی طرف الکتاب ، لکونه أصلاً معلّقاً علی عدم وجوب الخاصّ وجداناً أو تعبّداً ، و لو قیل بالتعارض بین عموم الکتاب و ما ورد فی الکتب المعتبرة من المخصّصات ، لزم سقوط عمدة الأخبار کما قال المیرزا (1) .

و أمّا ما أفاده تلمیذه المحقق فی الهامش من أن العمومات الکتابیّة فی مقام التشریع لا البیان ، فلا یقع التعارض بینها و بین الأخبار .

ففیه : إن عدّةً منها فی مقام البیان یقیناً ، و یشهد بذلک استدلال الأئمة علیهم السّلام بظواهرها فی کثیر من الموارد ، کاستدلاله علیه السلام بظاهر قوله تعالی « فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ » (2)کما فی معتبرة عبید بن زرارة (3) .

و أیضاً ، فلولا کون «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (4)فی مقام البیان ، لکان البحث عن تخصیصه بمثل « نهیٰ النبی عن بیع الغرر » (5) لغواً ، و کذلک یلزم لغویّة البحث عن

ص:361


1- 1) أجود التقریرات 2 / 390 - 391 .
2- 2) سورة البقرة: الآیة 185.
3- 3) وسائل الشیعة 10 / 176 ، الباب 1 من أبواب وجوب الإفطار فی السفر فی شهر رمضان ، رقم : 8 .
4- 4) سورة البقرة : الآیة 275 .
5- 5) وسائل الشیعة 17 / 448 ، الباب 40 من أبواب آداب التجارة ، رقم 3 .

تخصیص «حَرَّمَ الرِّبٰا » (1)بما ورد فی الأخبار من (2) حلیّته ، و کذا الکلام فی « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (3)و « إِلّاٰ أَنْ تَکُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (4)و نحو ذلک .

علی أنّ المحقق المذکور ، قد تمسّک فی غیر موضع من بحوثه الفقهیة بظواهر تلک العمومات و الإطلاقات ، کما فی مسائل الحج و الجهاد و الخمس و غیرها .

ص:362


1- 1) سورة البقرة: الآیة 275.
2- 2) وسائل الشیعة 18 / 135 ، الباب 7 من أبواب الربا ، رقم 1 و 2 .
3- 3) سورة المائدة: الآیة 1.
4- 4) سورة النساء : الآیة 29 .

دوران الأمر بین التخصیص و النسخ

اشارة

لو ورد دلیل عام ، ثم جاء دلیل آخر ، و وقع الشک و التردّد فی أنه مخصّص للعام أو ناسخ لحکمه ، فما هو مقتضی القاعدة ؟ و ما هو مقتضی الأصل العملی ؟

مورد البحث المخصص المنفصل

و فائدة هذا البحث و أثره العملی معلوم ، لوضوح الفرق بین النسخ و التخصیص .

ثم إنّ من الأخبار عن الصادق علیه السلام - مثلاً - ما هو عام و نجد فیها عن الإمام من بعده نصّاً فی نفس الموضوع یخالفه فی الحکم ، فإنْ کان مخصّصاً له لزم القول بجواز تأخیر البیان عن وقت الحاجة ، و إنْ جعلناه ناسخاً ، لزم القول بجواز النسخ بعد النبی صلی اللّٰه علیه و آله .

و بما ذکرنا ظهر : أنّ مورد البحث هو ما إذا کان الدلیل الثانی منفصلاً ، لأنّه إن کان متّصلاً بالعام منع من انعقاد الظهور إلّا فی المتأخر فهو مخصص له ، و لا حکم آخر حتی یکون ناسخاً له .

و یقع البحث فی مقامین :

المقام الأول ( فی مقتضی الأدلّة )

اشارة

و للمنفصل صور :

الصورة الاولی ما إذا کان العام سابقاً ، و قد جاء الدلیل الآخر قبل وقت

ص:363

العمل بالعام ، فهنا قولان :

أحدهما : بطلان النسخ ، لأنّ النسخ قبل حضور وقت العمل بالعام و فعلیّة الحکم ، یستلزم لغویّة جعل الحکم المنسوخ ، فالنسخ قبل حضور وقت العمل باطل .

و الثانی : الجواز ، و به قال المحققان النائینی و العراقی .

أمّا المیرزا (1) ، ففصّل بین القضیّة الحقیقیة و الخارجیّة ، فأجازه فی الحقیقیّة ببیان أن قوام الحکم فیها هو بفرض وجود الموضوع و الشرط لا بخارجیّته ، و الفرض کاف لتحقق الحکم ، فهو موجود و یقبل النسخ .

و أمّا العراقی ، فأفاد بأنّه إن کان حقیقة الحکم فی القضایا الشرعیّة ، هو الملازمة بین الموضوع و الحکم - کما علیه المشهور - فالمجعول فی «وَلِلّٰهِ عَلَی النّٰاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَیْهِ سَبیلاً » (2)هو الملازمة بین الحج و الاستطاعة - فإنّ رفع الملازمة قبل تحقّق ما یتوقّف علیه الحکم جائز ، بناءً علی رجوع الواجب المشروط إلی الواجب المعلَّق ، بأنْ یکون الوجوب فعلیّاً و ظرف الامتثال بعدُ ، فیجوز النسخ لارتفاع الحکم بعد وجوده .

و إنْ کان حقیقة الحکم ، هو الإرادة المبرزة - کما هو المختار عند المحقق العراقی - و أنّ الإرادة عند ما تبرَز ینتزع منها الحکم أی الوجوب - کما أنّ الکراهة المبرزة ینتزع منها الحرمة - فالمفروض وجودها حتی مع عدم وجود الشرط لها المنوطة به .

فسواء قلنا بمسلک المشهور فی حقیقة الحکم أو بمسلک المحقق العراقی ،

ص:364


1- 1) أجود التقریرات 2 / 394 - 395 .
2- 2) سورة آل عمران : الآیة 97 .

فإنّه من الجائز رفع حکم العام قبل وقت العمل به ... فالنسخ جائز ، لأنه بناءً علی مسلک المشهور الملازمة موجودة و إنْ لم یتحقق طرفاها کما فی «لَوْ کٰانَ فیهِمٰا آلِهَةٌ إِلَّا اللّٰهُ لَفَسَدَتٰا » (1)، و بناءً علی مسلکه ، فالإرادة أو الکراهة موجودة کما هو الفرض .

فتلخّص : جواز النسخ عند المیرزا و العراقی فی الصّورة المذکورة .

و علی هذا ، فلا یرد الإشکال (2) بلزوم اللغویّة فی جعل العام ، لأنّ الحکم إنْ کان الإرادة ، فإنّها قبل وجود الموضوع و شرطه موجودة قهراً ، فلا یتوجّه الإشکال بأن رفع الحکم لغو ، نعم ، یمکن الإشکال فی کون حقیقة الحکم هو الإرادة ، لکنه مبنائی .

لکنّ التحقیق هو عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، سواء فی القضیة الحقیقیّة أو الخارجیّة ، لأنّ الإنشاء فعل اختیاری للمولی ، هو لا یکون بلا داعی ، فإنْ أنشأ الحکم بداعی البعث ، فإن إنشائه فی ظرف عدم إمکان الانبعاث من الباعث الملتفت محال عقلاً ، و المفروض هنا کذلک ، لفرض عدم تحقق الموضوع و الشرط له ... فما ذکره المحقّقان مردود بهذا الوجه لا بإشکال لزوم اللغویّة ... فالنسخ باطل و یتعیَّن التخصیص .

الصّورة الثانیة ما إذا کان العام سابقاً ثم جاء الدلیل الآخر بعد حضور وقت العمل .

و قد فصّل المحقق الخراسانی - تبعاً للشیخ - بین ما کان صادراً لبیان الحکم الواقعی ، فالمتأخر ناسخ لا مخصّص ، لأنه یلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة .

ص:365


1- 1) سورة الأنبیاء: الآیة 22.
2- 2) أجود التقریرات 2 / 395 . الهامش .

و ما کان صادراً لا من أجل بیان ذلک بل هو حکم ظاهری یکون مرجعاً عند الشک ، فالمتأخّر مخصّص له ، لعدم لزوم تأخیر البیان عن وقت الحاجة .

فهذا تفصیل الشیخ و( الکفایة ) ، وعلیه العراقی و الحائری و البروجردی .

إلّا أنّ الکلام فی قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة ، و أنّه بنحو الاقتضاء أو العلّة التامّة ... و الظاهر أنه بنحو الاقتضاء ، فقد یتأخّر البیان عن وقت الحاجة لمصلحة فینتفی القبح حینئذٍ ... کما هو الحال فی الکذب ، فإنّ قبحه اقتضائی و لیس علّةً تامّة له ، بل قد یکون حسناً .

و إذا کان قبح التأخیر اقتضائیاً ارتفع المانع عن أن یکون الدلیل المتأخّر مخصّصاً للعام فیما إذا کان لبیان الحکم الواقعی ... فی کلّ موردٍ احتمل کون التأخّر لمصلحةٍ ... لکن هذا بوحده لا یکفی لتعیّن التخصیص .

و لذا قالوا بتعیّن التخصیص من جهة أن نسبة الخاص إلی العام نسبة القرینة إلی ذیها ، فالمتقضی لأنْ یکون الدلیل الآتی بعد العام مخصّصاً له موجود ، و قد عرفت انتفاء المانع - و هو لزوم تأخیر البیان عن وقت الحاجة - باحتمال وجود مصلحةٍ للتأخیر من تقیّة و نحوها ... .

إلّا أن الأُستاذ تنظّر - فی الدورة اللّاحقة - فی قرینیّة الخاصّ للعامّ إن لم یکن متّصلاً ، لأن العرف لا یری المنفصل قرینةً ، بل یجعله ناسخاً ، و لا أقل من التوقّف ، فهذا الوجه لا یجدی لتعیّن التخصیص .

و کذا ما ذهب إلیه المیرزا من أنّ أصالة العموم فی العام لا تتمّ إلّا بتوفّر مقدّمات الحکمة فی المتعلّق ، و وجود الدلیل بعده مانع من تمامیّتها لاحتمال القرینیّة ، فالنسخ متوقف علی تمامیة أصالة العموم فی العام ، و هذا أوّل الکلام ، فیتعین التخصیص .

ص:366

لأنّ توقّف أصالة العموم - کأصالة الإطلاق - علی مقدّمات الحکمة ، غیر تام ، بل إنّ ألفاظ العموم بذاتها تدلّ علی الشمول و الاستیعاب .

فالوجه الصحیح لتعیّن التخصیص هو ما ذهب إلیه المحقق الأصفهانی من أنّ کلام الأئمّة علیهم السلام واحد ، فکأن ما صدر من الإمام الباقر و ما صدر من الإمام الرضا - علیهما السلام - صادران فی مجلسٍ واحد ... فإذا کان الأئمة بحکم الواحد و کلامهم بحکم الکلام الواحد ، جری فی کلماتهم حکم المخصّص المتّصل ... و یشهد بذلک ما ورد عنهم من جواز نسبة ما سمع من أحدهم إلی غیره (1) .

الصورة الثالثة أنْ یرد الدلیل الخاص ثم یرد العام قبل حضور وقت العمل بالخاص . و فی هذه الصورة قالوا بتعیّن تخصیص الخاصّ للعام بلا إشکال ، إمّا للزوم اللغویّة و إمّا لاستحالة البعث مع عدم إمکان الانبعاث .

الصورة الرابعة أن یرد الخاص ثم العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فهل یتخصّص العام بالدلیل المتقدم علیه أو یکون ناسخاً لذاک الدلیل ؟ و الثمرة واضحة ، لأنّه بناءً علی الأوّل لا بدّ من العمل علی طبق الخاص ، و بناءً علی الثانی یکون العمل علی طبقه ثم علی العام من حین وروده .

ذهب فی ( الکفایة ) إلی تقدَّم التخصیص لکثرته فی الشریعة حتی اشتهر أنه ما من عامٍّ إلّا و قد خص ، و لندرة النسخ قبل انقطاع الوحی و أمّا بعده فلا نسخ .

و أمّا ما ورد فی الصحیح من أن الحدیث ینسخ کما ینسخ القرآن ، و لذا یؤخذ بالخبر الوارد عن الإمام المتأخر ، وعلیه مشی مثل الشیخ الصّدوق فی الخبرین المتنافیین ، مرجّحاً المتأخّر علی المتقدم زماناً ، فقد أوضح الأُستاذ : بأنّ

ص:367


1- 1) کفایة الاصول : 237 .

معنی « النسخ » فیه یختلف عن النسخ الاصطلاحی ، و لذا لم یجعل التأخّر من المرجّحات فی باب التعادل و التراجیح . و التفصیل موکول إلی هناک .

و علی کلّ حالٍ ، فإنّ دعوی ( الکفایة ) مستندة إلی ندرة النسخ فی زمان الوحی و أنه بعد انقطاعه لا نسخ .

و قد أورد علیه المیرزا بوجهین (1) :

الأول : إنه لما وقع الشک فی أنّ حرمة إکرام الفاسق باقیة إلی زمان ما بعد العامّ المتأخر عنه ، أو أن الحکم المذکور ینقطع بمجیء العام ، فإنّ مقتضی الاستصحاب بقاء حکم الخاص ، و إنّما یحتاج إلی التمسّک بالاستصحاب لإبقائه ، لأنَّ استمرار الحکم فی الزمان و إنْ کان من الامور المتفرّعة علی الحکم ، و لکنّ ذلک موقوف علی وجوده ، و المفروض دوران الأمر بین وجوده مخصّصاً للعام أو زواله بنسخ العام له ، فکان الموجب للبقاء هو الأصل العملی ، أی الاستصحاب . لکنّ هذا الاستصحاب محکوم بالدلیل و هو أصالة العموم ؛ فما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) من التخصیص مردود .

إشکال الأُستاذ

و قد أشکل علیه الأُستاذ بوجهین : الأول: إنّ بقاء و استمرار الحکم لیس من متفرّعات الحکم بل من خصوصیّات وجوده ، فالحکم إمّا موجودٌ و إمّا زائل ، لا أنّه موجود فهو مستمرٌّ و باق . و الثانی : إنّه لو لم یکن دلیل الحکم متکفّلاً البقاء و الاستمرار له للزم الإهمال المحال ... لأنّ الحاکم عند ما یجعل الحکم ، فإمّا یجعله علی وجه البقاء و الاستمرار و إمّا یجعله لا علی هذا الوجه ، و أمّا أنْ لا یدری أن حکمه علی أیّ وجهٍ فهذا محال ... هذا ، و مقتضی الإطلاق فی الجعل أنْ یکون

ص:368


1- 1) أجود التقریرات 2 / 399 .

علی وجه الاستمرار و البقاء إلی أن یقوم الدلیل علی الانتفاء و الزوال ... و إذا کان کذلک ، فالإطلاق هو المقتضی للبقاء ، و هو أصلٌ لفظی - و لا تصل النوبة إلی التمسّک بالاستصحاب - لکن الأصل اللّفظی فی البقاء مقدّم علی أصالة العموم ، لندرة النسخ و شیوع التخصیص ، فیتقدم الأصل اللّفظی الإطلاقی علی الأصل اللّفظی الوضعی . و هذا ما أشار إلیه المحقق الخراسانی فی کلامه .

الثانی : إن الشک فی بقاء حکم الخاص المتقدّم ، مسبّب عن الشکّ فی عموم العام المتأخّر ، و بجریان أصالة العموم فی العام یرتفع الشک فی بقاء حکم الخاص و لا یحکم باستمراره ، بل هو منقطع بالعام .

إشکال الأُستاذ

إنه کما یکون ملاک السببیّة و المسببیّة فی الامور التکوینیة هو العلیّة و المعلولیّة ، فإنّه فی الامور التشریعیة هو الموضوعیة و الحکمیّة ، بأنْ یکون الأصل فی الموضوع سببیّاً و فی الحکم مسبّبیّاً ، و لیس بین العام و الخاص هذه النسبة ، بل هما دلیلان مستقلّان ، یقول أحدهما بوجوب إکرام کلّ عالم ، و الآخر یقول بحرمة إکرام الفسّاق من العلماء ، فذاک عام و هذا مطلق مقیَّد بزمانٍ من الأزمنة ، و لا بدَّ من رفع الید عن أحدهما لعدم إمکان الجمع بینهما ... فلا سببیّة و مسببیّة أصلاً ... بل مقتضی القاعدة - کما فی ( الکفایة ) - تقدیم دلیل الخاص ، و النتیجة هی التخصیص لما ذکره .

اللهم إلّا أن یشکل علیه : بأنّ ندرة النسخ غیر کافیة للترجیح ، لأنّ غایة الأمر - بناءً علی أنّ الشیء یلحق بالأعم الأغلب - هو الظن بتعیّن التخصیص ، و لا دلیل علی اعتبار هذا الظن .

کما أنّ جعل ندرة النسخ و شیوع التخصیص قرینةً عرفیّة لتقدّم التخصیص

ص:369

- کما أفاد فی ( الکفایة ) - غیر تام ، لعدم عرفیّة هذه القرینیّة .

و یبقی الوجه الذی اعتمده المحقّق الأصفهانی لتقدیم الخاص ، و قد أوردناه سابقاً ، و أمّا النسخ فلا یثبت إلّا بالخبر المتواتر ، و کلامنا فی خبر الواحد ، فیتعیّن التخصیص .

بل بناءً علی عدم ثبوت النسخ بخبر الواحد ، ینتفی موضوع البحث رأساً ، لأنه حینئذٍ لا یقع الدوران بین النسخ و التخصیص حتی نبحث عن وجه التقدیم .

و فی ( المحاضرات ) (1) : التفریق بین نظر العرف و نظر الشرع ، بأنّ أهل العرف یرون العام المتأخّر ناسخاً ، أمّا فی الشّرع ، فإنّ الخاص یتقدَّم و یکون بیاناً للحکم من الأوّل .

و أورد علیه الأُستاذ : بأنّ کون العام ناسخاً یتوقّف علی عدم القرینیّة العرفیّة للخاص بالنسبة إلی العام ، و السیّد الخوئی من القائلین بالقرینیّة کما فی کتاب ( المحاضرات ) نفسه .

و هذا تمام الکلام فی المقام الأول .

المقام الثانی ( فی مقتضی الأصل العملی )

اشارة

فلو وصل الأمر إلی الأصل العملی فما هو مقتضاه ؟

أمّا إذا کان الخاص مقدّماً و وصل الحال إلی الشک لعدم المرجّح ، فالأصل هو الاستصحاب ، لأنّا مع مجیء العام نشکّ فی بقاء حکم الخاص ، فنستصحب بقائه و یتقدّم علی العام ، و النتیجة التخصیص ... و لا یخفی أنه مبنی علی جریان الاستصحاب فی الأحکام الکلیّة الالهیّة کما هو المختار .

و أمّا إذا تقدَّم العام ، فتارةً : یکون حکم الخاص مناقضاً لحکم العام ، کما لو

ص:370


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 490 .

قال یجب إکرام کلّ عالم ، ثم قال : لا یجب إکرام العالم الفاسق . و أخری : یکون ضدّاً له ، کأن یقول : یجب إکرام کلّ عالم ، ثم یقول : یحرم إکرام العالم الفاسق .

فإنْ کان نقیضاً له ، حکم بالتخصیص بمقتضی استصحاب عدم وجوب إکرام العلماء الفسّاق أزلاً ، لعدم وجوب إکرامهم قبل ورود العام ، فلمّا ورد وجب إکرامهم إلی حین ورود الخاص ، فإذا ورد الخاص بعده و دار الأمر بین النسخ و التخصیص ، و شککنا فی تبدّل حکم إکرام العلماء الفسّاق من عدم الوجوب إلی الوجوب ، نستصحب عدم الوجوب الثابت أزلاً ، و تکون النتیجة التخصیص .

و إنْ کان ضدّاً له ، فإنْ کان التضادّ بالوجوب و الحرمة ، بأنْ یفید العام وجوب إکرام العلماء ، و الخاص حرمة إکرام الفسّاق منهم ، فلا مجری لاستصحاب إکرام الفسّاق ، لعدم الشک فی عدم جواز إکرامهم ، سواء کان الخاص المتأخّر ناسخاً أو مخصّصاً ، کما لا یخفی . نعم ، إن کان مخصّصاً فالحرمة من أوّل الأمر و إنْ کان ناسخاً فمن حین وروده .

و إنْ کان التضادّ لا بالوجوب و الحرمة ، کأنْ یفید العام الوجوب أو الحرمة ، و یفید الخاص الکراهة أو الاستحباب ، فذهب المحقق العراقی إلی إمکان جریان الاستصحاب ( قال ) : لو کان مفاد العام هو وجوب الإکرام أو حرمته ، و کان مفاد الخاص المتأخر استحباب الإکرام أو کراهته ، أمکن دعوی جریان حکم التخصیص بمقتضی استصحاب عدم المنع السابق ، حیث أنه بالأصل المزبور مع ضمیمة رجحانه الفعلی أو المرجوحیة الفعلیة ، أمکن إثبات الکراهة أو الاستحباب . فتأمّل (1) .

و علی الجملة ، فإنّ العام إن کان ظاهراً فی الوجوب ، فبعد ورود الخاص

ص:371


1- 1) نهایة الافکار (1 - 2) 553 .

بعده ، نشکُّ فی بقاء الوجوب - لأن الخاص إن کان ناسخاً فالعام دالّ علی الوجوب و إن کان مخصّصاً فلا، بل الاستحباب - فیمکن استصحاب عدم الوجوب . و کذا الکلام فیما لو کان العام ظاهراً فی الحرمة و کان مفاد الخاص هو الکراهة .

و فیه :

لکن الإشکال هو : إنّه بعد ورود الخاصّ لا شک فی الاستحباب ، سواء کان ناسخاً أو کان مخصّصاً ، نعم ، إن کان ناسخاً فمن الآن و إنْ کان مخصّصاً فمن الأوّل ، و مع عدم الشکّ کیف یستصحب عدم الوجوب ؟ و لعلّ هذا وجه الأمر بالتأمّل .

و قد یقصد هذا المحقّق بیان الحکم فی الزمان الفاصل بین العام و الدلیل المتأخر ، بأنه إنْ کان مخصّصاً کان إکرام الفاسق من العلماء فی الزمان الفاصل مستحبّاً ، و إن کان ناسخاً لحکم العام ، دلّ العام علی وجوب الإکرام فی الزمان المزبور ، فالرجحان علی کلّ حالٍ ثابت .

بقی الکلام فیما لو جهل التاریخ

و إنما نحتاج إلی معرفة تاریخ ورود العام و الخاص ، و أنه قبل حضور وقت العمل أو بعده ، من جهة قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة ، و أمّا بناءً علی عدم قبحه إن کان لمصلحةٍ ، فلا حاجة . کما تقدّم .

قال فی الکفایة : و أمّا لو جهل و تردد بین أنْ یکون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام و قبل حضوره ، فالوجه هو الرجوع إلی الاصول العملیة (1) .

ص:372


1- 1) کفایة الاصول : 238 .

و قد اشکل علیه (1) : بأنّ فی فرض ورود الخاص متأخّراً ، لا یبقی شکٌ - سواء کان ناسخاً أو مخصّصاً - حتی یرجع إلی الأصل العملی ، و أمّا فی الفاصل الزمانی - إن کان للأصل أثر - فالمرجع هو أصالة العموم ، للشک فی التخصیص .

فأین مورد الأصل العملی ؟

و أجاب الأُستاذ :

بأنّ مجری الأصل هو الفاصل بین العام و الدلیل المتأخّر ، لکنْ لیس المرجع هو العام ، لأنّ أصالة العموم فی الحقیقة هی أصالة عدم التخصیص ، فالمرجع هو الأصل العملی ... .

و قیاسه ما نحن فیه علی مورد المجمل المردد بین الأقل و الأکثر مفهوماً ، و أنه یؤخذ بالقدر المتیقَّن من الخاص و یتمسّک بعموم العام فی الزائد علیه .

فی غیر محلّه ، لدوران الأمر هناک بین الأقل و الأکثر ، أما هنا فالأمر دائر بین المتباینین ، لأنا نعلم إجمالاً بأحد الأمرین إمّا النسخ و إمّا التخصیص ، فلو ارید التمسّک بأصالة العموم لحلّ العلم الإجمالی هذا ، کان معناه انحلال العلم الإجمالی بأصالة عدم التخصیص ، لکن أصالة عدم النسخ تعارض أصالة عدم التخصیص .

و هذا تمام الکلام فی الخاص و العام .

ص:373


1- 1) نهایة النهایة 1 / 305 .

ص:374

المقصد الخامس المطلق و المقید

اشارة

ص:375

ص:376

تعریف المطلق

قال فی ( الکفایة ) (1) :

عرّف المطلق بأنّه ما دلّ علی شائع فی جنسه .

و قد أشکل علیه بعض الأعلام بعدم الإطراد أو الانعکاس ، و أطال فی النقض و الإبرام .

و قد نبّهنا فی غیر مقام علی أنّ مثله شرح الاسم ... .

أقول :

إن ما ذکره رحمه اللّٰه هو الصحیح ، فالأولی الإعراض عن التعاریف المذکورة للإطلاق و التقیید ، لکنّ المهمّ الذی لم ینبّه علیه صاحب ( الکفایة ) هو :

إنّ هذا البحث بحثٌ معنویٌ و لیس بلفظی ، لأنّ موضوع البحث فی باب الإطلاق و التقیید هو شمولیّة مفهوم المطلق و أنه هل هو بالوضع أو بمقدّمات الحکمة ؟ هذا هو الموضوع ، فلا علاقة له بمفهوم لفظ « المطلق » و لفظ « المقیَّد » .

هذا ، و عمدة ما یقع موضوعاً لبحث المطلق و المقید هو « اسم الجنس » ، فالبحث یدور عن أنّ اسم الجنس لمّا یقع موضوعاً لحکمٍ من الأحکام الشّرعیة هل یُقصد منه الإرسال و الشمول و السّریان أو لا ؟ و إذا کان کذلک ، فهل هو

ص:377


1- 1) کفایة الاصول : 243 .

بالوضع أو بمقدّمات الحکمة ؟

و من ذلک یظهر أنّ المراد من لفظی الإطلاق و التقیید - فی البحث - هو المعنی اللّغوی فیهما .

مقدّمات

اشارة

و لا بدّ من بیان امورٍ قبل الورود فی البحث :

الأمر الأول : إنّ المعنی المبحوث عنه فی الباب له أقسام ، فهو إمّا حرفی و إمّا اسمی .

أمّا المعنی الحرفی ، فإنه إنما یدخل فی البحث ، بناءً علی کون الوضع فیه عامّاً و الموضوع له عام ، و أمّا بناءً علی کون الموضوع له خاصّاً و أنه جزئی حقیقی ، فإنّ الجزء الحقیقی لا یقبل التوسعة و التضییق ، نعم ، هو قابل لبحث الإطلاق و التقیید بمعنی آخر مطروح فی بحث الواجب المشروط .

و أمّا المعنی الاسمی ، فهو ترکیبی و أفرادی .

أمّا الترکیبی ، کما فی الجُمل ، حیث یبحث عن أنّ إطلاق صیغة الأمر هل یقتضی العینیّة و النفسیّة و التعیینیّة أو لا ؟ و الجملة الشرطیة هل یقتضی إطلاقها الانتفاء عند الانتفاء أو لا ؟

و هذا القسم خارج عن البحث ، لأنّ الدلالة علی الإطلاق و التقیید فیه إنما یکون علی أثر الخصوصیّات المأخوذة فی الکلام ، کما یقال : الإطلاق فی مقابل « أو » و الإطلاق فی مقابل « الواو » .

و أمّا الأفرادی ، فهو إمّا علم للشّخص و إمّا علم للجنس .

لکنّ الإطلاق و التقیید فی علم الشخص أحوالی ، فإنّ ل« زید » مثلاً أحوالاً کثیرة ، من القیام و القعود و الصحّة و المرض و الغنیٰ و الفقر ... لکنّ الخلاف

ص:378

المشهور فی حقیقة الإطلاق بین سلطان العلماء (1) و غیره - کما سیأتی - غیر آتٍ فی الإطلاق الأحوالی ، نعم ، یکون هو المرجع فی المسائل الفقهیة ، و هذا أمر آخر .

فتبیَّن : أن موضوع البحث و مورد النقض و الإبرام هو علم الجنس کالإنسان و نحوه .

فالحاصل : إن موضوع البحث هو المعنی الاسمی الأفرادی لا الأحوالی .

الأمر الثانی : إنه لمّا کان دخول اللّابشرطیّة و عدمه فی حیّز المعنی مورد البحث بین الأعلام کما سیأتی ، فلا بدَّ من فهم معنی البشرط و اللّابشرط فی موارد استعمال هذین الاصطلاحین و غیرهما فی کلماتهم ، فنقول :

لقد استعمل هذه الاصطلاحات فی ثلاثة موارد :

الأول : الوجود

فقد قسّموا الوجود إلی : « بشرط لا » و« لا بشرط » و« بشرط » .

فقالوا : بأنّ الأوّل هو وجود الباری عز و جلّ ، فهو وجود بشرط لا عن جمیع الحدود ، لأنه وجود مجرَّد عنها ، لأن الحدود تنشأ من الماهیة و لا ماهیّة هناک .

و الثانی هو : الوجود المنبسط و الإضافة الإشراقیة و الرحمة الواسعة الحسینیة و کنْ البسیطة ، و هذا الوجود فعل الباری ، و یعبَّر عنه فی العرفان بالاسم الأعظم .

و الثالث : هو الوجود المضاف إلی الماهیّات ، کوجود الإنسان .

الثانی : الجنس و الفصل .

أی : اللّابشرط و البشرطلا فی باب الحمل ، و ذاک أنّ الموجودات الخارجیّة

ص:379


1- 1) هو : السید الأجل الحسین بن رفیع الدین محمّد الحسینی الآملی الأصبهانی المتوفی سنة 1064 .

ذات الآثار ، کالإنسان و البقر و غیرهما ، لها جهة اشتراک تصدق علی أنواع مختلفة وجهة اختصاص کالحیوانیة و الناطقیة . فالحیوان - مثلاً - إنْ لوحظ لا بشرط عن قابلیّة الحمل کان « جنساً » و قابلاً للحمل فتقول : الإنسان حیوان ، و البقر حیوان و هکذا . و کذلک الجهة الاختصاصیّة ، فإنها إذا لوحظت لا بشرط عن قابلیّة الحمل و الاتّحاد مع الجنس کانت « فصلاً » .

و لو لوحظ الجنس و الفصل بلحاظ البشرطلا عن الحمل ، لم یقبل الفصل لأنْ یحمل علی الجنس ، و فی هذه الحالة یعبّرون عن الجنس بالمادّة و عن الفصل بالصّورة .

الثالث : الأوصاف و الضمائم الخارجة عن الذات .

أی : إنّ الماهیّة قد تلحظ بالنسبة إلی الوصف الخارج عن الذات لا بشرط ، و قد تلحظ بشرط لا ، و قد تلحظ بشرط .

فالرقبة عند ما تلحظ بالقیاس إلی الإیمان ، فتارة تلحظ بشرطه فتکون مقیَّدة به ، و قد تلحظ بشرط لا عنه فتکون مقیَّدة بعدمه ، و قد تلحظ لا بشرط ، فهی ماهیّة غیر مقیَّدة لا بهذا و لا ذاک . و کذلک الإنسان بالنسبة إلی العلم .

فهذه ثلاثة اعتبارات بالنسبة إلی ما هو خارج عن الذات .

إذا عرفت ذلک ، فاعلم بأنَّ :

مدار البحث فی علم الاصول - فی باب المطلق و المقیَّد - هو هذا المورد الثالث ، و هو اللّابشرطیة فی الماهیّات ... فوقع الکلام بینهم فی أنّ هذه اللّابشرطیّة داخلة فی حریم المعنی الموضوع له لفظ « الرقبة » مثلاً ، و أنْ معناه هو الذات اللّابشرط عن وجود الإیمان و عدمه ، أو أنْ هذا اللّفظ موضوع للذات ، و حیثیّة اللّابشرطیة المذکورة خارجة عن المعنی الموضوع له ، و مستفادة من القرینة

ص:380

المعبَّر عنها ب« مقدّمات الحکمة » .

قال المشهور بالأول ، و قال سلطان العلماء بالثانی و تبعه من تأخّر عنه .

کلام الکفایة

ذکر فی ( الکفایة ) ما حاصله (1) : إن اسم الجنس - سواء کان جوهراً أو عرضاً أو عرضیّاً - موضوع للماهیّة المهملة .

و بیان ذلک : إنّ اللفظ الموضوع للماهیّة - سواءً کانت جوهراً من الجواهر کالإنسان ، أو عرضاً من الأعراض کالبیاض ، أو عرضیّاً - کالفوقیّة و التحتیة و نحوهما من المعانی الانتزاعیة القائمة بمنشإ انتزاعها ، و کالمعانی الاعتباریة کالزوجیّة و الملکیّة و نحوهما - لا یفید سوی المعنی الموضوع له ، فالموضوع له اسم الجنس فی الموارد المذکورة هو نفس المفهوم من اللّفظ و لا شیء آخر معه ، و هذا هو المقصود بالماهیّة المهملة .

قال : فهذه الماهیّة ، قد تلحظ بشرطٍ ، کأنْ تلحظ بشرط وجود شیء کالإرسال مثلاً ، أو بشرط عدم شیءٍ ، و قد تلحظ لا بشرطٍ من وجود شیء أو عدمه ... و کلّ ذلک خارج عن ذات الماهیّة الموضوع لها اللّفظ ، لأنّه لو کان موضوعاً للماهیّة بشرط ، لزم أنْ یکون إطلاق اللفظ علیه مجرّدةً من الشرط إطلاقاً مجازیّاً . هذا أولاً . و ثانیاً : فإنّ اللفظ لو کان موضوعاً للماهیّة بشرط الإرسال - مثلاً - لم ینطبق علی الفرد ، نعم ، یشمل الفرد لکن الشمول له غیر الإطلاق علیه ، لأنّ قولنا : « أکرم کلّ عالم » یشمل « زیداً » لکنّ معنی « کلّ عالم » لیس « زیداً » ، فیلزم أنْ یکون مثل هذا الإطلاق مجازیّاً .

و کذا الکلام فیما لو کان اللّفظ موضوعاً للماهیّة اللّابشرط ، أی الماهیّة التی

ص:381


1- 1) کفایة الاصول : 243 .

لم یلحظ معها أیّ شیء آخر ، فإنّها لیست المفهوم الموضوع له اللّفظ ، لأنّ مثل هذه الماهیّة کلّی عقلیّ ، و الکلّی العقلی موطنه الذهن ، و لا یقبل الانطباق علی الخارج ، فلو ارید استعماله فی الخارج لزم المجاز کذلک .

هذا خلاصة کلامه قدس سرّه . و لا یخفی أن إطلاق « العرضی » فی کلامه علی ما ذکر خلاف الاصطلاح المعروف ، و هو المتّصف بالعرض ، کالأبیض المتّفق بالبیاض . کما أن إطلاق « الکلّی العقلی » علی الوجود الذهنی اصطلاح خاصٌّ ب( الکفایة ) ، لأن المصطلح المعروف فیه هو الماهیّة للکلّی کالإنسان مثلاً .

لکنّ المهمّ فی کلامه ما ذهب إلیه من أن الموضوع له اسم الجنس إنّما هو عبارة عن الماهیّة المهملة ، فی مقابل الماهیة بشرطٍ - و لو کان الشرط هو العموم و الإرسال - و الماهیّة لا بشرط ، أی التی لم یلحظها معها أیّ شیء آخر ، و قد جعل هذه الماهیّة اللّابشرط القسمی .

کلام المیرزا

و قال المیرزا فی اعتبارات الماهیة ما ملخّصه (1) : إن الماهیّة :

قد تلحظ بشرط لا عن جمیع الأوصاف و الأعراض ، مجرّدةً عن کلّها ، فتکون کلیّاً عقلیّاً لا یقبل الانطباق علی الخارج ، لأنّ کلّ ما فی الخارج فهو مقترن بشیء من الأعراض و الأوصاف .

و قد تلحظ مقترنةً بشیء من الأعراض و الأوصاف الموجودة فی الخارج ، سواء کان الوصف وجودیّاً أو عدمیّاً ، فتکون ماهیّةً بشرط شیء .

و قد تلحظ لا بشرط عن البشرط و البشرطشیء ، أی عن التجرّد عن الأوصاف و الاتّصاف بوصفٍ وجودیّ أو عدمیّ ، و هذا هو اللّابشرط القسمیّ

ص:382


1- 1) أجود التقریرات 2 / 421 .

و هذا هو المراد من ( المطلق ) فی بحث الإطلاق و التقیید فی علم الاصول ... و هو الکلّی الطبیعی ، لأنّ الکلّی الطبیعی ما یصحّ صدقه علی ما فی الخارج ، و إمکان الصّدق علیه إنما یکون ما لم تلحظ الماهیة مجرّدةً عن الخصوصیّات ، و ما لم تلحظ مقترنةً بشیء منها .

فحاصل کلام المیرزا :

أوّلاً : إن « المطلق » عبارة عن « اللاّبشرط القسمی » و هو المقابل للماهیّة بشرط لا و بشرط شیء ، فهو قسیمٌ لهما .

و ثانیاً : إنّ هذه الماهیة یمکن أن تصدق علی ما فی الخارج ، فهی « الکلّی الطبیعی » .

و بذلک ظهر أنّ القول بأنّ الکلّی الطبیعی لا بشرط مقسمی ، باطلٌ ، لأنَّ اللّابشرط المقسمی ما یکون مقسماً بین الماهیة بشرط لا - أی الکلّی العقلی - و البشرطشیء ، و اللّابشرط القسمی - أی الکلّی الطبیعی - و معنی کونه مقسماً أن یصحّ اتّحاده مع کلّ قسمٍ من أقسامه ، و کیف یتّحد ما یقبل الصّدق علی ما فی الخارج و هو الکلّی الطبیعی مع ما لا یقبل الصّدق علیه و هو الکلّی العقلی ؟

کلام الأصفهانی

و قال المحقق الأصفهانی ما حاصله (1) : إنّ الماهیّة المهملة هی الماهیّة التی تلحظ بذاتها و ذاتیّاتها ، و لا یتجاوز اللّحاظ عن ذلک إلی شیء آخر حتی عدم لحاظ الشیء الآخر ، بأنّ یلحظ فی ماهیّة الإنسان « الحیوان الناطق » دون غیره ، بحیث أنّ « دون غیره » أیضاً غیر داخل فی الذات الملحوظة ، فهذه هی « الماهیّة المهملة » و هی التی « لیست إلّا هی من حیث هی » .

ص:383


1- 1) نهایة الدرایة 2 / 490 .

و إذا لوحظت الماهیة بهذا اللّحاظ ، کانت مجرّدةً من الوجود - الذهنی و الخارجی - و من العدم ، إذ لیس مورد اللّحاظ إلّا الذات ، و لا مانع من ارتفاع النقیضین فی مرتبة الذات ... فالإنسان فی مرتبة الذات لا موجود و لا معدوم .

فإنْ لوحظت ماهیّة الإنسان - مثلاً - بالقیاس إلی خارج الذات ، انقسمت إلی الاعتبارات الثلاثة ، و هی البشرط و اللّابشرط و البشرطلا ، لأنّ تلک الخصوصیّة التی لوحظت الماهیّة بالإضافة إلیها ، قد تقترن بالماهیّة فیکون بشرط شیء ، و قد یعتبر عدم اقترانها بها فیکون بشرط لا ، و ثالثة لا یعتبر الاقتران و لا عدم الاقتران فیکون لا بشرط . و هذه الماهیّة الملحوظة بالقیاس إلی خارج ذاتها و المنقسمة إلی الأقسام الثلاثة ، هی الماهیّة اللّابشرط المقسمی .

فماهیّة الإنسانیة إنْ لوحظت فی حدّ ذاتها و ذاتیاتها مجرّدةً عن أیّ شیء آخر ، سمّیت بالماهیّة المهملة ، و إنْ لوحظت بالقیاس إلی خارج الذات و انقسمت إلی الاعتبارات الثلاثة ، سمیت باللّابشرط المقسمی ... .

فظهر افتراق « الماهیّة المهملة » عن « اللّابشرط المقسمی » .

و اللّابشرط المقسمی له ثلاثة أقسام کما ذکر ، لأنّ الماهیّة إن لوحظت مشروطةً بالتجرّد عن أیّ خصوصیة ، فهی « بشرط لا » ، و إنْ لوحظت مع شرطٍ - و إنْ کان الشرط هو الإرسال - فهی « بشرط شیء » و إنْ لوحظت لا بشرط عن وجود و عدم شیء من الخصوصیات فهی « لا بشرط القسمی » .

ثم إنّ الموضوع له لفظ « الإنسان » هو « الماهیّة المهملة » ، لکنّ موضوع البحث فی باب المطلق و المقیَّد هو « اللّابشرط المقسمی » حیث یلحظ ماهیّة « الإنسان » لا بشرط عن شیء حتی من نفس اللّابشرطیّة .

فظهر افتراق الموضوع له اللّفظ عن موضوع البحث .

ص:384

هذا ، و سیأتی بیان افتراق « اللّابشرط القسمی » عن « الکلّی الطبیعی » .

تحقیق الأُستاذ

و ذلک یتّضح ضمن بیان امور :

الأمر الأوّل

إن الاعتبارات الثلاثة التی ذکروها کلّها وجودات ذهنیّة للماهیّة ؛ و لذا عند ما نرید أنْ نحکم علی الموضوع بحکمٍ خارجی ، نجعل الصورة الذهنیة مرآةً للخارج ، و إلّا ، فإن الوجود الذهنی قسیمٌ للوجود الخارجی ، وعلیه ، فإذا أردنا حمل « جنس » علی « الإنسان » و قلنا : « الإنسان جنسٌ » ، فلا بدّ من لحاظ « الحیوان » لا بشرط عن خصوصیة البقریة و الغنمیّة و غیرهما من الخصوصیّات ، حتی یکون اعتبار الماهیة لا بشرط طریقاً إلی الموضوع فی تلک القضیة ، و کذا إذا لوحظت الماهیة مع خصوصیةٍ ، کلحاظ « الإنسان » مع خصوصیة « الزنجیّة » مثلاً ، فإنّ هذا اللّحاظ « البشرط شیء » طریق لرؤیة الموضوع خارجاً .

فالاعتبارات الثلاثة وجودات ذهنیّة و تصوّراتٌ للماهیّة فی الذهن ، هی طریقٌ لتشخّص الموضوع و تعیّنه فی القضایا الخارجیّة .

الأمر الثانی

إنه قد ظهر مما تقدّم : امتیاز « اللّابشرط المقسمی » عن « اللّابشرط القسمی » ، فکلاهما ( لا بشرط ) لکنّ الافتراق فی المتعلَّق ، إذ هو فی ( الأوّل ) الاعتبارات الثلاثة . فهو لا بشرط عن تلک الاعتبارات و اللحاظات ، أمّا فی ( الثانی ) فهو ما وراء الذات ، بأنْ لا یلحظ مع الذات شیء ، لا الوجود و لا العدم ، فی مقابل ( البشرط شیء ) و( البشرطلا ) .

إنما الکلام فی :

ص:385

الأمر الثالث

هل ( الماهیّة المهملة ) نفس ( اللّابشرط المقسمی ) أو غیره ؟

قد تقدّم أنّ المحقق الأصفهانی یریٰ أن « الماهیّة المهملة » غیر « اللّابشرط المقسمی » خلافاً للمشهور ، و خلاصة دلیله هو : أنّ الماهیّة عند ما تلحظ بذاتها مجرّدةً عن أیّ شیء آخر - حتّی عن عدم لحاظ أیّ شیء آخر معها - فهی التی لیست هی إلّا هی ، و لا تصلح لأنْ تکون مقسماً ، لأنّ المقسمیّة عنوان إضافی یتحقّق بلحاظ ما وراء الذات .

و قد تبعه علی ذلک السیّد الخوئی (1) .

و أمّا دلیل القول المشهور فملخّصه هو : إنّ حقیقة التقسیم تخصّص الذات بخصوصیّتین متباینتین أو أکثر ، حیث الخصوصیّة متباینة و الذات هی الجهة المشترکة بین الجمیع ... و لحاظ ماهیّة الإنسان - مثلاً - و انقسامها بالاعتبارات الثلاثة من هذا القبیل ، فتکون ماهیّة الإنسان مقسماً لها ، حیث یکون الإنسان ( بشرط لا ) ماهیّة مجرّدة ، و( بشرط شیء ) ماهیّة مخلوطة ، و( لا بشرط ) ماهیّة مطلقة ... فالإنسان الذی لحظ بنحو اللّابشرط هو الإنسان المجرَّد من کلّ شیء ، فهو الماهیّة المهملة ، و هو اللّابشرط المقسمی ، فالذی یطرأ علیه التقسیم و یکون مقسماً هو الماهیّة من حیث هی هی .

و قد أوضح الأُستاذ رأی المشهور : بأنّ القسم و المقسم و التقسیم ، کلّها امور تتعلّق بالماهیّة - و أمّا الوجود فهو عین التشخّص ، و لا یقبل الاتّصاف بالقسمیة أو المقسمیّة ، و لحاظ الماهیّة هو وجودها بالوجود الذهنی ، و هو أیضاً غیر قابل للاتّصاف بذلک ، لکونه جزئیّاً - لکنْ الماهیة المجرّدة من جمیع الخصوصیات

ص:386


1- 1) أجود التقریرات 2 / 422 . الهامش .

حتی من اللّحاظ ... فهی القابلة للاتّصاف و الانقسام ، لأنَّ حقیقة التقسیم عبارة عن ضمّ ما به الامتیاز إلی ما به الاشتراک ، فما به الاشتراک هو الماهیّة المجرّدة ، و ما به الامتیاز هو الاعتبارات الثلاثة ، فکان ( المقسم ) هو ( الماهیّة المجرّدة المهملة ) ، و هی المرکب لهذه الخصوصیّات ، و لذا نقول : الماهیّة بشرط شیء ، و الماهیّة بشرط لا ، و الماهیة لا بشرط ... فکانت الحیثیّات واردة علی الذات ، و بورود کلّ واحدةٍ یحصل للذات قسمٌ ، و متی ما جرّدناها من الأوصاف کانت لا بشرط ...

فالذی یصیر لا بشرط عن العلم و الجهل و ... هو ( الإنسان ) و عن الإیمان و الکفر ... هو ( الرقبة ) و هکذا ... .

فهذا هو البرهان لقول المشهور ، وعلیه الوجدان ، فإنّ البشرط هو الرقبة المؤمنة ، و البشرطلا هو الرقبة و عدم الإیمان ، و اللّابشرط هو الرقبة المجرّدة عن الإیمان و عدم الإیمان ... .

فحاصل کلام المشهور هو : إن الماهیّة بنفسها هی التی تتّصف بالاعتبارات الثلاثة ، لا أن اللّابشرط المقسمی الذی تلحظ فیه الماهیّة مضافةً إلی الخارج هو المعروض للحیثیّات ... فظهر عدم الخلاف بین المشهور و المحقق الأصفهانی ، و أن کلام الجمیع یرجع إلی شیء واحدٍ هو : أنّ المقسم عبارة عن الذات غیر الملحوظ معها شیء آخر ، و أنها عند ما تلحظ مضافةً إلی شیء آخر تکون قسماً .

و علی الجملة ، فإنّ اللّابشرط المقسمی هو الماهیّة المقسم بین الاعتبارات الثلاثة ، و اللّابشرط القسمی فهو اللّابشرطیة بالنسبة إلی الخارج عن الذات ، فالإنسان الملحظ بالنسبة إلی الخارج عن الذات کالعلم مثلاً ، عند ما یؤخذ مجرّداً عن العلم و الجهل ، یکون الماهیة اللّابشرط القسمی ، و إنْ لحظ لا بشرط عن کلّ الاعتبارات الثلاثة ، فهو اللّابشرط المقسمی ... فکان اللّابشرط القسمی من أقسام اللّابشرط المقسمی .

ص:387

الأمر الرابع

هل ( الکلّی الطبیعی ) هو ( اللّابشرط القسمی ) أو ( اللّابشرط المقسمی ) ؟

قال جماعة من الفلاسفة - و تبعهم المیرزا - بالأول . و قال آخرون و منهم الحاجی السبزواری بالثانی . و من العلماء من قال : بأنّ الکلّی الطبیعی هو الماهیّة المهملة - لا اللّابشرط القسمی و لا اللّابشرط المقسمی - و هذا مختار شیخنا الأُستاذ .

خلاصة ما تقدَّم

أن الموضوع له الطبیعة - و هو اسم الجنس الذی جعل موضوعاً للحکم فی مثل أعتق رقبةً - هو الطبیعة و الماهیّة فقط بنحو اللّابشرط القسمی بالنسبة إلی الخصوصیات من الإیمان و الکفر و غیرهما ، و أن الموضوع له اللّفظ هو نفس الذات ، و اللّابشرطیّة خارجة عن حدّ مفهوم اللّفظ ، فالحق مع سلطان المحققین و من تبعه ، خلافاً للمشهور .

و لا یخفی أنّ المراد من اسم الجنس فی هذا البحث هو الأعمّ من اسم الجنس الفلسفی ، فیعمّ النوع و الصّنف أیضاً ، فالمراد هو الاسم للطّبیعة سواء کانت جنساً أو نوعاً أو صنفاً .

الأدلّة اللّفظیّة علی مذهب السّلطان

و قد استدلّ له - بالإضافة إلیٰ البحث العقلی المتقدّم - بوجوه لفظیّة :

الأوّل : التبادر . فإنّ المتبادر من لفظ الرقبة مثلاً و المنسبق إلی الذهن منه لیس إلّا ذات الماهیّة ، کما أنّ المنسبق من لفظ الإنسان هو الحیوان الناطق فقط ، و أمّا الخصوصیات فلا تأتی إلی الذهن عند إطلاق اللّفظ .

الثانی : صحّة التقسیم . فإنّ لفظ الرقبة یصحُّ تقسیمه بماله من المعنی إلی

ص:388

الذات المجرّدة من أیّ خصوصیة ، و إلی الذات المنضمّ إلیها الخصوصیّة من الإیمان أو الکفر . و کذلک لفظ الإنسان و غیره .

الثالث : حکمة الوضع . فإنّ حکمة الوضع فی الألفاظ إحضار معانیها إلی الذهن ، و أمّا المعنی المنضمُّ إلیه شیء من الخصوصیّات فلیس الموضوع له اللّفظ ، و لیس المقصود من وضع اللّفظ له ، و إلّا لکانت الذات المجرّدة عن الخصوصیة بلا دالّ .

الرابع : إنه لو کانت اللّابشرطیّة داخلةً فی المعنی الموضوع له اللّفظ ، لکان اللّازم تجرید اللفظ عن معناه الموضوع له متی ارید إطلاقه علی المعنی الخارجی ، لأن اللّابشرطیّة أمر ذهنی لا خارجیة له ، و المفروض دخولها فی المعنی الموضوع له اللّفظ ، و حینئذٍ یبطل الوضع .

توضیحه : إنّ وجوب العتق حکم تعلّق بالرقبة بقول المولی أعتق رقبةً ، لکنّه یترتّب علی الرقبة الخارجیة ، و لا بدّ من إیجاد العتق فی الخارج حتی یتحقق الامتثال کما هو واضح ، و المفروض کون الرقبة مطلقةً من حیث الإیمان و الکفر ، لکن الإطلاق - أی اللّابشرطیّة عنهما - أمر ذهنی ، فیکون موطن الرقبة اللّابشرط هو الذهن فقط ... و حینئذٍ ، یلزم تجرید معنی « الرقبة » من خصوصیّة اللّابشرطیّة حتی یصح إطلاق هذه اللفظة علی الوجود الخارجی و یترتّب العتق ... و هذا یبطل وضع اللّفظة للماهیّة اللّابشرط .

إذنْ ، لیس اللّفظ موضوعاً للمعنی متحیّثاً بحیثیّة اللّابشرطیّة ، و لیست داخلةً فی الموضوع له لفظ الرقبة و الإنسان و البقر و غیرها من أسماء الأجناس .

فتلخَّص : إن الإطلاق خارج عن المعنی الموضوع له اسم الجنس ، فیحتاج للدلالة علیه إلی قرینةٍ ، و هو ما یعبّر عنه بمقدّمات الحکمة .

ص:389

إشکال و دفع

إلّا أنه قد وقع الکلام بینهم فی أنّ الإطلاق و اللّابشرطیّة و السّریان ، بعد أنْ کان خارجاً عن المعنی الموضوع له اللّفظ ، هل هو ذاتیٌّ للمعنی ، بأنْ یکون لماهیّة الرقبة - مثلاً - سریان ذاتی فی أفرادها ، کالتعجّب بالنسبة إلی الإنسان ، فإنّ لفظ الإنسان موضوع للحیوان الناطق ، و لیس التعجّب داخلاً فی المعنی ، إلّا أنه لازم ذاتی له ، أو أنْ ذلک محتاجٌ إلی اللّحاظ ، بأنْ تلحظ ماهیة الرّقبة بنحو اللّابشرط ؟

قال جماعةٌ بالأوّل ، و قد أقام الإیروانی (1) البرهان علیه بما حاصله : أنّ وضع اللّفظ للمعنی حکمٌ من قبل الواضع ، و من الواضح أنّ الحاکم لا یحکم بثبوت المحمول لموضوعٍ مهمل ، لأنّ کلّ قضیّة مهملة فهی فی قوّة الجزئیة ، فلا یکون اللّفظ موضوعاً للماهیّة المجرّدة ذاتها عن الإطلاق ، و إلّا لزم فی کلّ موردٍ یستعمل فیه اللّفظ أنْ یکون الاستعمال بلا وضع ، و هذا باطل ... فالوضع للماهیّة المهملة غیر ممکن .

( قال ) : و هذا أشدّ ما یرد علی القائلین بخروج الإطلاق عن حریم المعنی .

و قد أجاب الأُستاذ عن هذا البرهان :

بأنّ ذاتیّة الإطلاق بالنسبة إلی الماهیّة لا تخلو ، إمّا أن تکون من ذاتیّ باب الکلیّات الخمس ، أو من ذاتیّ باب البرهان ، و لا ثالث .

أمّا کونه من الأوّل فباطلٌ ، لأن ذاتیّ باب الکلیّات الخمس هو الجنس و الفصل و النوع ، و الإطلاق للماهیّة التی هی موضوعٌ للقضیّة لیس الجهة الجنسیّة للماهیّة و لا الفصلیّة لها ، کما لا یعقل کونه مرکّباً من جهتی الجنس و الفصل .

ص:390


1- 1) نهایة النهایة : 307 - 308 .

فلا بدّ من أن یکون ذاتی باب البرهان ، کالإمکان فی الممکنات ، فإنّه ینتزع من ذات الماهیّة الممکنة استواء الوجود و العدم فیقال : هذا ممکنٌ ، فی قبال الماهیّة الآبیة عن الوجود أی الممتنع الذاتی ، و الآبیة عن العدم أی الواجب بالذات .

فنقول : إن کان الإطلاق ذاتیّاً من باب البرهان ، بأنْ یکون الإطلاق منتزعاً من حاق ذات الماهیة بلا حیثیّة ، فإنّ دلالة الرقبة علی الإطلاق من هذا الباب باطل بالضرورة .

فظهر أنّ الإطلاق لیس ذاتیَّ الماهیة مطلقاً .

هذا أوّلاً .

و ثانیاً : إنه لا کلام فی التقابل بین الإطلاق و التقیید و عدم إمکان اجتماعهما ، فلو کان الإطلاق ذاتیّ الماهیّة کان التقیید محالاً و إلّا یلزم اجتماع المتقابلین ، بأنْ تکون الرقبة مع کونها لا بشرط عن الإیمان و الکفر مقیَّدةً بالإیمان ، و هذا غیر معقول .

فإن قیل :

المراد من ذاتیة الإطلاق هو : إن الماهیّة بحسب ذاتها - أی لو خلّیت و طبعها - تقتضی الإطلاق ، و التقیید بمثابة المانع ، فکلّما لم یوجد المقیّد کانت الماهیّة مطلقة ، فهی مطلقة لو لا التقیید .

قلنا :

لا خلاف فی التقابل بین الإطلاق و التقیید ، فقیل : إنه من قبیل العدم و الملکة ، و قیل : من قبیل التضاد ، و قیل : من قبیل التناقض ، و ما ذکر مردود علی جمیع التقادیر ، لأنّ عدم کلّ مانعٍ شرط لوجود الممنوع ، فلو کان التقیید مانعاً عن

ص:391

مقتضیٰ ذات الماهیة - و هو الإطلاق کما ذکر - لزم أنْ یکون عدم أحد الضدّین مقدمةً لوجود الضدّ الآخر ، و هو باطل . هذا بناءً علی کون التقابل من قبیل التضاد أو التناقض . و علی القول بأنه من قبیل العدم و الملکة ، یلزم مقدمیّة الشیء لنفسه ، لأنّ المفروض کون التقیید ملکة و الإطلاق عدمها ، فلو کان التقیید مانعاً عن الإطلاق کان عدمه مقدمةً للإطلاق ، لکنّ الإطلاق هو عدم التقیید .

فظهر أنّ الحق هو القول الثانی ، و هو کون الإطلاق لحاظیّاً ، بمعنی أنَّ الحاکم لمّا لحظ ماهیّة الرقبة و خصوصیة الإیمان ، فإنْ أخذ الخصوصیة فیها کان التقیید و إنْ لم یأخذها کان الإطلاق ، فالإطلاق عدم أخذ الخصوصیة ، و التقیید هو أخذها ، فکان الإطلاق و التقیید أمران زائدان علی الماهیة عارضان علیها ، غیر أنّه فی مقام الإثبات یتمُّ التقیید ببیان القید و الإطلاق بعدم بیانه ... .

و أمّا ما ذکره الإیروانی من لزوم الإهمال . ففیه : إن المحال هو أنْ یضع الواضع و یکون المعنی الموضوع له مهملاً ، و أمّا قبل الوضع فهو مطلقٌ ، لکنّ کون هذا الإطلاق ذاتیّاً للماهیة - لا باللّحاظ - فأوّل الکلام .

و هذا تمام الکلام فی ( اسم الجنس ) الذی هو الموضوع غالباً فی باب الإطلاق و التقیید .

الکلام فی علم الجنس

اشارة

و قد تعرّض الأکابر للموضوع له علم الجنس ، فالمشهور أنه موضوعٌ للماهیّة المعیَّنة ، بأنْ یکون التعیّن داخلاً فی المفهوم ، لأنّ العلم من المعارف و المعرفة لا تکون بلا تعیّن . ثم إنّ هذا التعیّن لیس بخارجی فهو ذهنی ، فظهر بذلک الفرق بین اسم الجنس مثل ( الأسد ) فإنه نکرة ، و علم الجنس مثل ( اسامة ) فإنه معرفة .

ص:392

رأی صاحب الکفایة فی قبال المشهور

و خالف صاحب ( الکفایة ) ، فذهب إلی عدم الفرق بین أسماء الأجناس و أعلام الأجناس ، فکلاهما موضوع للطبیعة بلا لحاظ شیء من خصوصیة الذهنیّة و الخارجیة . و أورد علی المشهور : بأنّ علم الجنس لو کان موضوعاً للماهیّة المتعیّنة فی الذهن ، لزم تجریدها من هذه الخصوصیّة کلّما ارید حملها علی الخارج، لعدم انطباق ما فی الذهن علی ما فی الخارج ، لکنّ الانطباق حاصل بلا تجرید . و هذا یکشف عن عدم أخذ خصوصیّة الذهنیّة فی علم الجنس . علی أنّ لزوم التجرید یستلزم اللّغویة فی أخذ الخصوصیة .

( قال ) : و أمّا المعاملة مع علم الجنس معاملة المعرفة بخلاف اسم الجنس ، فالظاهر أنّ التعریف هذا لفظی کالتأنیث اللّفظی للفظ الید و الرجل و العین و ما شابهها ، لعدم الفرق بین ( اسامة ) و( أسد ) إلّا أن ( لام التعریف ) تدخل علی الثانی دون الأول ... و هذا لیس بفارقٍ حقیقی (1) .

مناقشة المحاضرات

و وافقه السید الخوئی فی ( المحاضرات ) إلّا أنه قال (2) : یمکن المناقشة فی البرهان الذی ذکره علی عدم أخذ التعیّن الذهنی فی المعنی الموضوع له علم الجنس ، لأنّ أخذه فیه تارةً یکون علی نحو الجزئیة و أخری علی نحو الشرطیة و ثالثةً علی نحو المرآتیة و المعرّفیة فحسب من دون دخله فی المعنی الموضوع له لا بنحو الجزئیة و لا بنحو الشرطیة . و ما أفاده إنما یتمّ لو أخذ علی النحوین الأوّلین ، و أما إذا کان أخذه علی النحو الثالث ، فهو غیر مانع عن انطباقه علی الخارجیات ، و لا یلزم التجرید و لا لغویة الوضع .

ص:393


1- 1) کفایة الاصول : 244 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 521 .

إشکال الأُستاذ

و قد أورد علیه الأُستاذ أوّلاً : بأن « الأخذ » و« المرآتیة » متمانعان ، لأنه إن کان مأخوذاً فهو دخیل فی المعنی ، فلا یکون مجرّد المرآتیة و المعرفیّة . و ثانیاً : إن المرآتیّة أی: رؤیة المعنی فی الذهن لا بشرط من الخصوصیّات ، موجودة فی اسم الجنس أیضاً ، فیلزم أن یکون معرفةً مثل علم الجنس .

فالحق مع صاحب ( الکفایة ) . و المعرفیّة فی علم الجنس نظیر التأنیث اللفظی للألفاظ المذکورة و نحوها .

المفرد المعرّف باللّام

اشارة

قال المشهور : بأن المفرد المعرّف باللّام مثل « الرجل » له تعیّن ، لکون اللّام للتعریف ، و لا یکون التعریف بلا تعیّن .

قالوا : و اللّام علی أقسام ، کالجنس و الاستغراق و العهد - الحضوری و الذهنی و الذکری .

رأی صاحب الکفایة

و أنکر صاحب ( الکفایة ) (1) التعیّن الذهنی للمفرد المعرّف باللّام و کون اللّام للتعریف ، لِما ذکره فی علم الجنس من امتناع حمل الوجود الذهنی علی الخارج إلّا بالتجرید ، و أنه یلزم حینئذٍ لغویة الوضع ... .

و من هنا قال بأنْ اللّام هذه للتزیین کما فی الحسن و الحسین ... و لا توجد لام التعریف ، و لام الاستغراق و العهد ... بل کلّ ذلک یفهم من القرائن الخارجیة .

ص:394


1- 1) کفایة الاصول : 245 .

المناقشة مع الکفایة

و قد أورد علیه فی ( المحاضرات ) (1) بما ملخّصه : إن اللّام تدلّ علی التعریف و التعیین ، بلا استلزامٍ لکون التعیّن جزء معنی مدخولها أو قیده ، فهی تدلُّ علی معنیً و لیست للتزیین فقط ، لکنّ المعنی لیس جزءاً لمدخولها حتی یلزم التجرید و اللّغویّة ... اللّهم إلّا فی العهد الذهنی ، إذ الظاهر أنّ وجود اللّام و عدمها علی السواء بل هی فیه للتزیین .

و قد وافقه الأُستاذ .

الجمع المحلّیٰ باللّام

و قد وقع الخلاف بینهم فی دلالته علی العموم ، فمنهم من أنکر ذلک و قال بأنها مستفادة من القرینة الخارجیة کمقدّمات الحکمة ، و منهم من قال بدلالته علی العموم و أنه لا حاجة إلی القرینة ، فقال بعضهم : بأن الدلالة من اللّام ، و قال آخرون :

بأنّها من مجموع اللّام و مدخولها . و هذا مختار المحقق القمی و( الکفایة ) . و قیل بأنّ اللّام تدل علی التعیین فی الخارج ، و ذلک لا یکون إلّا بالدلالة علی العموم .

و علی الجملة ، فقد وقع الخلاف بینهم فی دلالة الجمع المحلّی باللّام علی العموم أنه بالإطلاق أو بالوضع .

و قد اختار الأُستاذ القول الأوّل ، فهی متوقفة علی تمامیة مقدّمات الحکمة .

و قد ناقش أدلّة القائلین بالقول الثانی ، فقال ما حاصله :

إنّ اللّام غیر موضوعة للعموم و الاستغراق ، و لذا ترد علی غیر الجمع کما ترد علیه ، و لذا أیضاً قسّمت إلی الجنس و الاستغراق و العهد ... و دعوی أنّ خصوص الداخلة علی الجمع دالّة علی العموم ، فباطلة ، إذ لیس لهذه اللّام وضع

ص:395


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 524 .

علی حدة . و کذلک القول بدلالة المرکّب منها و من مدخولها علی العموم - کما عن المیرزا القمی (1) - لعدم وجود وضع للمرکّبات غیر وضع المفردات ... علی أنّه لو کان کذلک لزم أن یکون استعمال الجمع المحلّی باللّام فی غیر العموم - کالعهد مثلاً - مجازاً ، و الحال أنّه لا توجد أیّة عنایةٍ فی هکذا استعمال .

و أمّا القول بدلالة اللّام علی العموم - من جهة کونها موضوعةً للتعریف و الإشارة ، فلمّا دخلت علی الجمع و لا تعیّن لمرتبةٍ من مراتبه ، فلا بدّ و أنْ یکون المراد هو المرتبة الأخیرة و هو جمیع أفراد المدخول - فقد نقض علیه فی ( الکفایة ) بأنّه کما لتلک المرتبة تعیّن فی الواقع ، کذلک للمرتبة الاولی و هی أقل مراتب الجمع أی الثلاثة .

و اختار بعض الأصحاب - و تبعه فی ( المحاضرات ) (2) - الدلالة علی المرتبة الأخیرة : بأنّ تعیّن المرتبة الاولی - و هی أقل الجمع - إنما هو فی مقام الإرادة ، فإنّا لمّا نقول : أکرم العلماء ، فالثلاثة مرادة قطعاً ، و إنْ لم یکن لها تعیّن فی الخارج و أنّه هل المراد هذه الثلاثة أو تلک ؟ بخلاف المجموع ، فإنه لا یعقل أن یکون بلا تعیّن فی الخارج ، إذ العلماء کلّهم متعیّنون فی الخارج ، فیکون هو المدلول للجمع المحلّی باللّام .

فأشکل الأُستاذ : بأنّ العمدة فی هذا الاستدلال کون اللّام دالّةً علی التعریف و التعیین ، و إلیه أشار فی ( المحاضرات ) بقوله فی آخر کلامه : فإذاً یتعیّن إرادة هذه المرتبة من الجمع ، یعنی المرتبة الأخیرة دون غیرها ، بمقتضی دلالة کلمة اللّام علی التعریف و التعیین ، لکنّ القدر المتیقَّن من مقتضی دلالتها هو إفادة التعریف

ص:396


1- 1) قوانین الاصول : 216 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 526 .

و التعیین للمدخول ، أمّا کون التّعیین لمجموع الأفراد أی المرتبة الأخیرة ، فلا برهان علیه .

النکرة

قال فی الکفایة :

و منها : النکرة مثل رجل فی «وَجٰاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَی الْمَدینَةِ » (1)أو فی جئنی برجل . و لا إشکال فی أن المفهوم منها فی الأول و لو بنحو تعدّد الدالّ و المدلول ، هو الفرد المعیّن فی الواقع المجهول عند المخاطب المحتمل الانطباق علی غیر واحدٍ من أفراد الرجل ، کما أنه فی الثانی ، هی الطبیعة المأخوذة مع قید الوحدة ، فیکون حصّةً من الرجل و کلیّاً ینطبق علی کثیرین لا فرداً مردداً بین الأفراد .

و بالجملة : النکرة أی ما بالحمل الشائع یکون نکرة عندهم ، إمّا هو فرد معیّن فی الواقع غیر معیّن للمخاطب أو حصّة کلیةً ، لا الفرد المردد بین الأفراد ... فلا بدّ أنْ تکون النکرة الواقعة فی متعلّق الأمر هو الطبیعی المقید بمثل مفهوم الوحدة ، فیکون کلّیاً قابلاً للانطباق .

أقول :

إن لفظ « المردّد » و« المبهم » موضوعٌ فی لغة العرب و لیس بمهملٍ ، فله معناه و مفهومه ، غیر أنه مفهوم لا مصداق له فی الخارج ، لأن الخارج ظرف التشخّص و التعیّن ، و أمّا معناه الموضوع له فلیس بنکرةٍ ، إذ لا یعقل التردّد فی ذات المفهوم . فما فی کلام بعض الاصولیین من أنّ مدلول النکرة هو الفرد المردّد ، غیر صحیح ، لأنه إنْ کان فرداً فلا یعقل أن یکون مردداً أیضاً ، بل التردّد فی الوجود هو المحال .

ص:397


1- 1) سورة القصص : الآیة 20 .

و أمّا ما ذکره فی ( الکفایة ) : من أنه الفرد المعیَّن فی الواقع المجهول عند المخاطب ، ففیه : إنّ المعنی المستعمل فیه کلمة « الرجل » هو الجنس ، و قید الوحدة فیه أتی من ناحیة التنوین ، فکان فرقٌ بین « النکرة » و« اسم الجنس » ، لأنّ الجنس لا تقیّد فیه بالوحدة و لذا یصدق علی القلیل و الکثیر ، بخلاف النکرة ، فمدلولها الجنس بقید الوحدة ، وعلیه ، فلا فرق فی کلمة « رجل » بین الآیة و المثال ، إذ المعنی فی کلیهما هو الطبیعة المقیَّدة بقید الوحدة ، غیر أنّ الأول معیّن خارجاً ، و کونه مجهولاً عند المخاطب قد استفید من قرینةٍ خارجیة . فلیس معنی الکلمة و المستعمل فیه فی الآیة هو المعیَّن فی الخارج المجهول عند المخاطب .

و الحاصل : إن المستعمل فیه الکلمة فی کلا المثالین هو نفس الطبیعة و الجنس ، غیر أن قید الوحدة استفید من التنوین ، و أمّا کونه فی الأول معیناً خارجاً و مجهولاً عند المخاطب فتدلّ علیه القرینة الخارجیة ... و إذا کان الموضوع له و المستعمل فیه هو الطبیعة المقیّدة بالوحدة فهو فی حد ذاته قابل للانطباق علی أیّ فرد .

ص:398

الکلام فی مقدّمات الحکمة

اشارة

و بعد الفراغ عن بیان مدالیل الألفاظ الواقعة فی الأدلّة ، یقع البحث عن مقدّمات الحکمة ، بناءً علی ما تقرّر من خروج الإطلاق عن مفاهیم تلک الألفاظ .

قالوا : و المقدمات ثلاثة :

المقدمة الاولی

اشارة

کون المتکلّم فی مقام البیان ، بأنْ لا یکون فی مقام الإهمال و الإجمال .

و لا یخفی أن کونه فی مقام البیان له صور ، فتارةً : هو فی مقام بیان تمام المراد ، و اخری : فی مقام بیان أصل المراد ، و الأول : تارةً فی مقام بیان تمام المراد من جمیع الجهات ، و اخری فی مقام بیانه من بعض الجهات .

ثم إنه قد یُعلم من حال المتکلّم فی أنه فی مقام البیان أوْ لا ، و قد یشک . فما هو مقتضی القاعدة عند الشک ؟

قالوا : إن لم تکن هناک قرینة خاصّة أو عامّة ، فالأصل کونه فی مقام البیان ...

لکنْ لا بدَّ من إثبات هذا الأصل بذکر المستند له ، و هل هذا الأصل - أی أصالة البیان - مختصٌّ بباب الإطلاق أوْ جارٍ فی غیره أیضاً ؟ ظاهر المحقق الأصفهانی هو الأول ، لکن التحقیق عند الأُستاذ جریانه فی العمومات أیضاً ، من أجل إثبات ظهور العام فی العموم متی ما شک فی کون المتکلّم فی مقام بیان تمام مراده الواقعی إذا قال : أکرم کلّ عالمٍ ، فإنه مع عدم القرینة یتمسّک به ویحکم بالعموم .

ص:399

مستند أصالة البیان

و أمّا المستند للأصل المذکور ، فقد ذکر له وجوه :

الأول : إنه مقتضی الطبع . لأنّ مقتضی الحال و طبع الطلب أنْ یکون المتکلّم فی مقام بیان مقصده باللّفظ ، نظیر قول الفقهاء : بأنّ الأصل فی المبیع هو السّلامة من العیب ، لکونه مقتضی الطبع الأولی .

و فیه : إنّ هذا الوجه لا یکفی لأنْ یؤخذ بإطلاق الکلام ، لأنْ المفروض أنّ المتکلّم قد استعمل اللّفظ - اسم الجنس مثلاً - فی معناه الموضوع له ، و أنّ الإطلاق غیر داخل فیه ، فمع الشک فی کونه فی مقام بیان تمام مراده أیّ معنی لمقتضی الطبع الأوّلی لیحمل الکلام علی الإطلاق ؟

الثانی : أصالة التطابق بین مقام الثبوت و مقام الإثبات . فالإطلاق فی مقام الثبوت أن یکون فرد المتکلّم هو الطبیعة . و لمّا لم یأتِ فی مقام الإثبات بقیدٍ و کان الکلام ظاهراً فی الإطلاق حصل التطابق ، و لو کان مهملاً فی مقام الثبوت لما حصل .

و فیه : إنه مع احتمال کون المتکلّم مهملاً فی مقام الإثبات ، لا یحصل الکشف عن مقام الثبوت و التطابق بین المقامین ، و المفروض هو الشک فی مقام الإثبات .

الثالث : السیرة العقلائیة . فقد جرت سیرة أهل المحاورات علی التمسّک بالإطلاقات فیما إذا لم یکن هناک ما یوجب صرف الکلام إلی جهةٍ خاصّة .

هکذا استدلّ فی ( الکفایة ) (1) ، بل فی ( المحاضرات ) (2) نسبته إلی

ص:400


1- 1) کفایة الاصول : 248 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 535 .

المشهور المعروف بین الأصحاب .

و قد أشکل علیه فی ( المحاضرات ) بما حاصله : بأنّه ینفع فی ما لو شک فی أصل کون المتکلّم فی مقام البیان أو الإهمال . أمّا لو شک فی حدّ المراد کما هو الحال فی مثل قوله تعالی «فَکُلُوا مِمّٰا أَمْسَکْنَ عَلَیْکُمْ » (1)فی أنّه یرید الحلیّة أو هی و الطّهارة معاً ، فلا سیرة من العقلاء علی جعل الکلام فی مقام البیان من جهة الطّهارة أیضاً .

و أشکل الأُستاذ من ناحیةٍ اخری ، فاعترف بتمامیة السّیرة إلّا أنها إنما تجری فی کلام من دأبه بیان الخصوصیات فی مجلسٍ واحدٍ ، و لیس دأب الشارع هکذا ، فإنّ الخصوصیّات الدخیلة فی الأحکام الشرعیة قد ذکرت علی لسان أحد الأئمة بعد أن جاءت المطلقات فی القرآن أو فی کلام النبی ... و الحاصل : إنّ العقلاء إذا عملوا بأن دأب المتکلّم هکذا ، لا یتمسّکون بإطلاق کلامه ، بل سیرتهم فی کلامه قائمة علی علی التوقف .

فالتحقیق هو التفصیل بین کلام غیر الشارع ممن دأبه إعطاء الخصوصیّات فی المجلس الواحد ، فالسیرة العقلائیة جاریة علی الأخذ بإطلاق کلامه ، و بین کلام الشارع ، ففی کلامه یکون المستند للإطلاق هو سیرة المتشرعة ، فإنّ أصحاب الأئمّة علیهم السلام و غیرهم لمّا کانوا یرجعون إلیهم و یأخذون الحکم الشرعی منهم ، ما کانوا ینتظرون شیئاً ، بل کانوا یذهبون و یعملون بما أخذوه ، بل کان بعضهم ربما لا یری الإمام بعد تلک الجلسة ... فهذه السیرة غیر المردوعة من الأئمة هی المستند لأصالة البیان و الأخذ بإطلاق الکلام بلا توقف .

و هذا تمام الکلام فی المقدمة الاولی .

ص:401


1- 1) سورة المائدة: الآیة 4.

المقدمة الثانیة

کون المتکلّم متمکّناً من البیان ، فإنْ لم یکن أو شک فی تمکّنه ، لم یمکن القول بإطلاق کلامه .

و قد جعل المیرزا - و تبعه فی ( المحاضرات ) - هذه المقدمة هی الاولی ، و أفاد أنّ بین الإطلاق و التقیید تقابل العدم و الملکة ، فإنما یمکن التمسّک بالإطلاق حیث یمکن فیه التقیید ، و استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق .

و لا یخفی ما لهذا المبنی من الأثر ، و ذلک ، لأنّ لموضوع الحکم و کذا للمتعلَّق انقسامات هی متأخرة عن الحکم ، و لا یمکن تقیید الموضوع أو المتعلَّق بشیء منها ، إذنْ ، لا یمکن حمل الکلام علی الإطلاق بالنسبة إلیها .

مثلاً : وجوب قصد القربة فی الصّلاة مثلاً متأخر عن الحکم بوجوبها ، و هو متأخر عنها . فکان قصد القربة فی الصّلاة متأخراً عنها بمرتبتین ، و حینئذٍ ، یستحیل تقییدها بقصد القربة ، فیستحیل الإطلاق فی الصّلاة من جهة اعتبار قصد القربة . هذا فی المتعلَّق .

و کذلک فی الموضوع ، لأنّه متقدّم رتبةً علی الحکم ، و المکلَّف ینقسم إلی العالم بالحکم و الجاهل به ، لکنّ هذا الانقسام متأخّر عن الحکم المتأخّر عن الموضوع ، فیستحیل تقیید الموضوع بالعالِم بالحکم ، و إذا استحال التقیید استحال الإطلاق ، و حینئذٍ ، لا یمکن التمسّک بإطلاق أدلّة التکالیف لإثبات الاشتراک فی التکلیف بین العالمین و الجاهلین به .

و قد خالف المیرزا مسلک الشیخ ، لأنّ الشیخ یذهب إلی أنه إذا استحال التقیید وجب الإطلاق ، و من هنا یتمسّک بإطلاقات أدلّة التکالیف لإثبات الاشتراک ، و بإطلاق دلیل وجوب المتعلّق علی عدم وجوب قصد القربة ... فالشیخ

ص:402

قائل بأن التقابل من قبیل التضاد .

و توضیح المطلب هو : إنّ التقابل بین الإطلاق و التقیید فی مقام الإثبات یختلف عنه فی مقام الثبوت . أمّا فی مقام الإثبات ، فإنه تارةً یقول : أعتق رقبةً ، و اخری یقول : أعتق رقبةً مؤمنة ، فهنا یکون التقابل من قبیل العدم و الملکة ، لأن التقیید أمر وجودی و الإطلاق عدم هذا التقیید ، و حیث أنّ موضوع الإطلاق و التقیید فی هذا المقام هو ما یکون المتکلّم فیه متمکّناً من التقیید ، فتارةً یأخذ القید فیه و اخری لا یأخذه ، فهو وجود و عدم فی موضوع خاص ، فیکون من قبیل العدم و الملکة ، و له شق ثالث و هو حیث لا یکون المتکلّم متمکّناً من التقیید ، فلیس هناک إطلاق و لا تقیید .

و أمّا فی مقام الثبوت فهناک مراحل ، تبدأ من الغرض ثم الإرادة ثم الحکم ...

و هو فعل اختیاری ناشئ من تصوّر الموضوع و لحاظه ، فتارةً یلحظه مع الخصوصیّة الدخیلة فی الغرض فیکون مقیداً ، و اخری یری أن لا دخل لوجود الخصوصیّة و عدمها فی الغرض ، فلا یأخذها فی الموضوع ، فیکون بشرط تارةً و اخری لا بشرط ، و کلاهما أمر وجودی ، فالحق مع الشیخ .

فالنسبة بین الإطلاق و التقیید فی مقام الثبوت نسبة التضاد ، و فی مقام الإثبات نسبة العدم و الملکة .

المقدّمة الثالثة

و قد اتّضح مما تقدَّم : أنّ المقدّمة الثالثة هی أنْ لا یأتی المتکلّم فی مقام الإثبات و مرحلة إبراز الحکم بقیدٍ ، بل یعتبر فی الإطلاق أن لا یکون الکلام محفوفاً بقرینة حالیّة أو مقامیة ... .

ص:403

الدلیل علی انعقاد الإطلاق مع المقدّمات

و بعد الفراغ من المقدّمات ، فما الدلیل علی انعقاد الإطلاق للکلام مع حصول المقدّمات ؟

هنا وجوه :

الأوّل : إنّ المفروض کون المتکلّم عاقلاً حکیماً ذا إرادة جدیّة بالنسبة إلی متعلَّق حکمه الذی أصدره ، و فی هذه الحالة ، لو کان غرضه متعلّقاً بالموضوع المقیَّد بالقید لقیّده به ، و إلّا لزم الإغراء بالجهل ، و هو مناف للحکمة .

الثانی : إنّه مع فرض ما تقدَّم ، و أنّ غرضه متقوّم بالرقبة المؤمنة مثلاً ، فإنّه لو أطلق الکلام عن هذا القید ، لزم نقض الغرض و هو إمّا محال أو قبیح من الحکیم .

الثالث : إن الأصل هو التطابق بین مقامی الثبوت و الإثبات ، و مقتضی المقدّمات المذکورة هو التطابق و إلّا لانهدم هذا الأصل و بقی بلا موضوع .

و تلخّص : أنه مع المقدّمات المذکورة یتمُّ ظهور الکلام فی الإطلاق ، و تتمُّ الحجیّة العقلائیة له لما تقدّم من الوجوه .

تنبیهات

الأوّل: هل یعتبر عدم وجود القدر المتیقَّن ؟

قال فی الکفایة فی مقدمات الإطلاق :

ثالثتها : انتفاء القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب ، و لو کان المتیقَّن بملاحظة

ص:404

الخارج عن ذاک المقام فی البین ، فإنه غیر مؤثر فی رفع الإخلال بالغرض لو کان بصدد البیان کما هو الفرض ... (1) .

و توضیحه : إن القدر المتیقَّن من الطبیعی الذی یرد علیه الحکم ، تارةً خارجی ، کالفقیه الذی یفرض کونه القدر المتیقن خارجاً من قوله : « أکرم العالم » کما أنّ القدر المتیقن من الفقیه هو الجامع للشرائط ... و هذا القسم من القدر المتیقن موجود سواء کان هناک أمرٌ أو تخاطب أو لم یکن ... و وجوده غیر مانع من انعقاد الإطلاق للکلام ، و إلّا لما تحقّق إطلاقٌ لکلامٍ .

و اخری : یکون القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب ، بأنْ یکون هناک مکالمة و محاورة فیسأل عن شیء و یعطی الجواب عنه ، فیکون مورد السؤال و الجواب هو القدر المتیقن من الکلام المطلق . و قد مثَّل له فی ( المحاضرات ) (2) بموثقة ابن بکیر : سأل زرارة أبا عبد الله علیه السلام عن الصّلاة فی الثعالب و الفنک و السنجاب و غیره من الوبر ، فأخرج کتاباً زعم أنه إملاء رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله : إن الصّلاة فی وبر کلّ شیء حرام أکله فالصّلاة فی وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و کلّ شیء منه فاسدة ، لا تقبل تلک الصّلاة حتی یصلّی فی غیره ممّا أحل اللّٰه أکله » (3) فالقدر المتیقن بحسب التخاطب هو مورد السؤال ، ضرورة أن إرادة الإمام علیه السلام غیره غیر محتمل جزماً ، و أما العکس بأنْ لا یرید غیره ، فهو محتمل ... فوجود هذا المتیقَّن یمنع من انعقاد الإطلاق للکلام .

و قد أورد الأُستاذ علی هذا المثال : بأنّه لیس من صغریات القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب علی مبنی السید الخوئی ، لأنه یذهب إلی أنه لا حاجة إلی مقدّمات

ص:405


1- 1) کفایة الاصول : 247 .
2- 2) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 538 .
3- 3) وسائل الشیعة 4 / 345 ، الباب 2 من أبواب لباس المصلّی ، رقم 1 .

الحکمة فی موارد العموم الوضعی ، بل اللّفظ بنفسه دالّ علی العموم وضعاً ، و جواب الإمام فی الموثقة عام و لیس بمطلق ، و المحقق الخراسانی لا یری مانعیّة القدر المتیقن فی مقام التخاطب عن انعقاد العموم .

لکن الصحیح هو التمثیل بصحیحة زرارة الواردة فی قاعدة التجاوز ، إذ سأل الإمام عن الشک فی الأذان و قد دخل فی الإقامة ، فأجاب بعدم الاعتناء بالشک . ثم سأل عن الشک فیهما و قد کبّر ، فأجاب بعدم الاعتناء به ، و هکذا جعل یسأل عن الشک فی أجزاء الصّلاة بعد تجاوزها ، فقال الإمام علیه السلام : « یا زرارة ، إذا خرجت من شیء و دخلت فی غیره فشکّک لیس بشیء » (1) . فالموارد التی سأل عنها زرارة هی القدر المتیقَّن من هذا المطلب الکلّی الذی ذکره الإمام علیه السلام ، و بناءً علی مسلک ( الکفایة ) لا یمکن التمسک بإطلاق الکلام المذکور مع وجود القدر المتیقن ، بل یجب الاعتناء بالشک فیما عداه ، أمّا إذا لم یتم مسلکه ، فإنْ إطلاق الکلام یشمل الحج و غیره من الواجبات ذوات الأجزاء أیضاً ، و لا یعتنی بالشک فی الجزء السابق بعد الدخول فی اللّاحق .

الإشکال علی الکفایة

و قد أشکل علی ( الکفایة ) نقضاً و حلّاً .

أمّا نقضاً ، فقد تمسّک المحقق الخراسانی - خلافاً للشیخ - بإطلاق نصوص الاستصحاب ، کقوله علیه السلام « إنّ الشکَّ لا ینقضُ الیقین » (2) لحجیة الاستصحاب فی موارد الشک فی المقتضی ، مع وجود القدر المتیقَّن لهذا الکلام ، و هو مسألة الوضوء و بقاء الطهارة مع الخفقة و الخفقتین فی السؤال و الجواب بین الإمام و زرارة .

ص:406


1- 1) وسائل الشیعة 8 / 237 ، الباب 23 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة ، رقم 1 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 247 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، رقم 6 .

و لا یخفی الأثر الفقهی الکبیر المترتّب علی هذه المسألة . فلو وقع عقد و تردّد بین کونه منقطعاً و مدّته سنة أو دائمیاً لا یرتفع إلّا بالطلاق ، فإنّ الشیخ لا یری جریان استصحاب بقاء الزوجیّة بعد السنة - لأن الشک حینئذٍ فی اقتضاء الزوجیّة للبقاء - أمّا صاحب ( الکفایة ) فیری جریانه ، أخذاً بإطلاق أدلة الاستصحاب ، مع وجود القدر المتیقَّن فی مقام التخاطب .

علی أنّه لا یشترط فی القدر المتیقّن فی مقام التخاطب أنْ یکون هناک سؤال و جواب ، بل مجرّد ورود الدلیل فی موردٍ خاص یکفی لأنْ یکون ذاک المورد هو القدر المتیقن من المراد ، فلا یجوز التعدّی عنه إلی غیره أخذاً بإطلاق الکلام علی مبنی ( الکفایة ) ، و الحال أنّه یأخذ بذلک کما هو واضح . و هذا نقض آخر .

هذا ، و أمّا نقض المیرزا : بأنه لو کان القدر المتیقن فی مقام التخاطب مانعاً عن انعقاد الإطلاق ، فالقدر المتیقن الخارجی کذلک . فواضح الاندفاع .

و أمّا حلّاً :

فإنّ المفروض کون المتکلّم فی مقام بیان تمام مراده ، و مقتضی ذلک أن یکون الإثبات موافقاً للثبوت ، فلو کان المراد الواقعی علی حدّ القدر المتیقن لَما کان الذی قاله مطابقاً لمراده الذی کان بصدد بیانه ، فلو سئل : هل یجب إکرام زید العالم ، فأجاب بوجوب إکرام العالم ، و کان مراده وجوب إکرام زید ، لزم أن لا یکون کلامه موافقاً لِما هو فی مقام بیانه ، لأنه قد جاء بالحکم علی طبیعی العالم ، الشامل لزید العالم و غیره من العلماء ، و لکنّ الأصل العقلائی - و هو التطابق بین الثبوت و الإثبات - یقتضی عدم انحصار الإکرام بزید .

و الحاصل : إن ما ذهب إلیه صاحب ( الکفایة ) ینافی أصالة التطابق .

ص:407

الثانی: توقّف الإطلاق علی عدم الانصراف

قال فی الکفایة :

ثم إنه قد انقدح بما عرفت ... أنه لا إطلاق له فیما کان له الانصراف إلی خصوص بعض الأفراد أو الأصناف ، لظهوره فیه أو کونه متیقّناً منه ... (1) .

و لا یخفی أن مرادهم عدم انعقاد الإطلاق ، لا أنّ الانصراف أو وجود القدر المتیقن - علی القول به - مانعٌ عنه ، لوضوح أن مرتبة المانع متأخرة عن المقتضی ... بل مرادهم عدم تحقق الإطلاق ، فلا یشکل علیهم من هذه الجهة ، لمعلومیّة مرادهم من عباراتهم ، و إنْ کان ظاهر کلام الأُستاذ الإیراد علیهم بذلک .

و أمّا الانصراف - و هو عبارة عن رجوع اللّفظ من الدلالة علی معنیً إلی الدلالة علی معنی آخر - فلا یکون بلا منشأ ، و قد وقع الکلام بینهم فیه .

لقد قال المتقدّمون بالانصراف علی أثر ندرة الوجود لحصّةٍ من حصص الطبیعة ، و أنّ الظهور ینعقد فی الحصّة الغالبة ... إلّا أن المتأخرین یقولون بأنّ ندرة الوجود لا تکون منشأً لانصراف اللّفظ عن النادر ، و لا غلبة الوجود تکون منشأً لانصرافه نحو الغالب ... لأنّ اللفظ صادق علی النادر حقیقةً کصدقه علی الغالب فی الوجود ، و یحصرون الانصراف بصورة التشکیک فی الصدق ، بأنْ یکون صدق اللفظ علی حصّةٍ جلیّاً و علی الاخری خفیّاً ، فیقولون بانصرافه إلی ما هو فیه جلیٌّ ، و یمثّلون لذلک بعنوان « ما لا یؤکل لحمه » حیث أنّ الإنسان من مصادیقه حقیقةً ، لکنّ صدقه علیه خفی و علی غیره مما لا یؤکل لحمه من الحیوانات جلیّ ،

ص:408


1- 1) کفایة الاصول : 249 .

و لذا ، فإنّ الدلیل الدالّ علی عدم جواز الصّلاة فیما لا یؤکل لحمه منصرف عن الإنسان إلی غیره ، فتجوز الصّلاة فی شعر الإنسان و لا تجوز فی شعر الهرّة مثلاً .

و الحاصل : إنهم یقولون بأنّ التشکیک فی الصّدق هو المنشأ الوحید المقبول لقالبیّة اللّفظ فی المنصرف إلیه من المصادیق ، و أمّا مع التواطؤ فی الصدق ، کلفظ الرقبة الصادق علی المؤمنة و الکافرة علی حدٍّ سواء ، فلا ینافی الإطلاق ، بل حتی لو کان الصّدق فی حصّةٍ أظهر منه فی حصّةٍ اخری لم یناف الإطلاق ... فالملاک هو التشکیک إلی حدّ الجلاء و الخفاء .

ثم إنّ الانصراف تارةً یکون مطلقاً و اخری یکون فی حالٍ دون حالٍ ، فمثلاً لفظ « الکف » فی : « امسح بکفّک قدمیک » له ظاهر و باطنٌ ، و اللّفظ و إنْ کان ظاهراً فی الإطلاق ، بأنْ یمسح بالظاهر أو بالباطن ، لکن بعض الفقهاء کالهمدانی (1)رحمه اللّٰه یری بأن مثل هذا الدلیل ناظر إلی أحوال المکلَّفین ، أی إنه ینصرف إلی المسح بباطن الکف للمکلَّف المختار ، و إلی المسح بظاهره للمکلّف المضطر .

هذا ، و اللّفظ تارةً منصرفٌ کما فی انصراف « ما لا یؤکل لحمه » عن الإنسان . و اخری له صارفٌ ، کما لو کان محفوفاً بقرینة حالیة أو مقالیة ، و قد یقع الشک فی وجود الصارف و عدم وجوده . مثلاً یقول الإمام علیه السلام « کلّ ما مضی من صلاتک و طهورک فامضه کما هو » (2) و هذه قاعدة الفراغ ... فظاهر الروایة هو عدم الاعتناء بالشکّ بعد الفراغ من العمل ، سواء کان حین العمل ملتفتاً أو غافلاً ، فهذا هو الظاهر و لا قید فی الروایة ، و قد أخذ بعض الفقهاء بهذا الإطلاق ، لکنّ هنا قرینةً خارجیّة لها دخلٌ فی المطلب ، و هی السیرة العقلائیة

ص:409


1- 1) مصباح الفقیه 1 / 150 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 471 ، الباب 42 من أبواب الوضوء ، رقم 6 .

القائمة علی إناطة عدم الاعتناء بالشکّ بأصلین هما : أصالة عدم تعمّد المکلّف للإخلال بالعمل ، و أصالة عدم غفلة المکلَّف عن العمل حین الإتیان به ... فیکون عدم الاعتناء بالشک بعد الفراغ منوطاً بالأصلین ، و الروایة ملقاة إلی العرف و منزَّلة علی ما فی السیرة العقلائیة ، وعلیه ، یثبت احتفاف الروایة بهذه السّیرة الصالحة لأنْ تکون قرینة صارفةً لإطلاقها ، و نتیجة ذلک : أنه لو شکّ فی جریان أحد الأصلین فی موردٍ انتفت السّیرة ، فلا یؤخذ بإطلاق الروایة ... و هذا معنی قولهم :

إنه یعتبر فی الإطلاق عدم وجود ما یحتمل الصارفیّة .

الثالث: لو کان بین الجهة المراد بیانها وجهة اخری ملازمة

قد تقدَّم أنّه یعتبر فی انعقاد الإطلاق کون المتکلّم فی مقام بیان المراد ، و أنّه إذا کان للموضوع أو المتعلَّق جهات ، فإن الإطلاق لا ینعقد إلّا فی الجهة التی سبق الکلام لبیانها ... و مثّلنا لذلک بقوله تعالی «فَکُلُوا مِمّٰا أَمْسَکْنَ » (1).

لکنْ عن الشیخ قدس سرّه و تبعه فی ( الکفایة ) (2) أنه یستثنیٰ من ذلک ما لو کان بین الجهة التی یراد بیانها و غیرها ملازمة شرعیة أو عقلیّة أو عادیة ، فالإطلاق یعمُّ تلک الجهة أیضاً ، ففی الآیة مثلاً لو کان بین حلیّة الأکل و الطّهارة ملازمةٌ ، فإنّ الإطلاق ینعقد فی طرف الطهارة أیضاً و إنْ لم تکن الآیة فی مقام بیان الحکم إلّا من جهة حلیّة الأکل ... و قد مُثّل للمطلب بالملازمة العقلیّة بین صحّة الصّلاة نسیاناً فی مطلق أجزاء ما لا یؤکل لحمه . و ما دلَّ علی صحّتها کذلک فی عذرة ما لا یؤکل لحمه مع کون العذرة جزءاً له .

ص:410


1- 1) سورة المائدة: الآیة 4.
2- 2) کفایة الاصول : 249 تنبیه .

الرابع: لو ظفر بمقیّد الکلام فیما بعد

قد عرفت أنه لا بدّ من إحراز کون المتکلّم فی مقام البیان .

فوقع الکلام فیما لو ظفر بالقید فیما بعد ، فهل یکشف ذلک عن عدم کونه فی مقام بیان تمام المراد و یسقط الإطلاق فلو عثرنا علی المقیِّد للرقبة بالإیمان ، فهل یبقی لقوله : أعتق رقبةً إطلاق بالنسبة إلی العلم و الجهل مثلاً ؟

قال فی الکفایة :

ثم لا یخفی علیک أن المراد بکونه فی مقام بیان تمام مراده : مجرّد بیان ذلک و إظهاره و إفهامه ، و لو لم یکن عن جد بل قاعدةً و قانوناً ، لتکون حجةً فیما لم تکن حجة أقوی علی خلافه ، لا البیان فی قاعدة قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة ، فلا یکون الظفر بالمقیَّد - و لو کان مخالفاً - کاشفاً عن عدم کون المتکلّم فی مقام البیان ، و لذا لا ینثلم به إطلاقه و صحّة التمسّک به أصلاً . فتأمّل جیداً (1) .

و حاصل کلامه : أن « البیان » الذی یعتبر فی مقدّمات الإطلاق یختلف عن « البیان » الذی فی قاعدة « تأخیر البیان عن وقت الحاجة قبیح » أی عن وقت حاجة المخاطب ، لأنه مناف للحکمة ، و إلّا فإنه عن وقت حاجة المتکلّم محالٌ ، لأنه نقض للغرض - و ذلک ، لأنّ المفروض کون التکلّم فی مقام بیان و إظهار مراده للمخاطب و إفهامه إیّاه ، و إنْ لم یکن ذلک مراده الجدّی الواقعی ، فلو ظفر فیما بعدُ علی مقیَّد لم یضر بإطلاق کلامه ، نعم ، لو کان فی مقام بیان الحکم الواقعی ، ثم ظهر المقیِّد لکلامه ، لوقع التنافی ، لأنّه لم یبیّن المراد الواقعی مع کونه فی مقام

ص:411


1- 1) کفایة الاصول : 248 .

بیانه کما هو الفرض .

و علی الجملة ، فإنه إن کان فی مقام بیان الوظیفة العملیة فی ظرف الشک حتی لا یبقی متحیّراً ، ففی هذه الحالة ینعقد الإطلاق و لا یضرّ مجیء المقیّد لاحقاً إذا احرز کونه فی هذا المقام ، و أمّا إن کان فی مقام بیان المراد الجدّی و الحکم الواقعی ، فالمقیّد اللّاحق یضرّ ... و المقصود فی مقدّمات الإطلاق هو الأول ، لأنّ الغرض تأسیس أصالة الإطلاق لیکون مرجعاً لدی الشک فی مراد التکلّم من کلامه .

و تلخّص عدم إضرار المقیّد الذی ظفر به فیما بعد .

و للشّیخ قدس سرّه هنا بیانٌ آخر و هو : إنّه لما کان المتکلّم فی مقام بیان مراده الجدّی الواقعی ، و کان لموضوع الحکم أو متعلّقه جهاتٌ عدیدة کما فی الرقبة مثلاً ، و المفروض إحراز تلک الجهات بالوجدان أو بأصالة البیان ، فلو وصل فیما بعد قیدٌ یضرّ بجهةٍ منها ، فإنّ الإطلاق من تلک الجهة یزول ، و لا یضرُّ زواله به من الجهات الاخری ، فلو عثر علی دلیلٍ یعتبر الإیمان ، فإنه تخرج الرقبة عن الإطلاق من تلک الجهة لحصول المزاحم لانعقاده ، و تبقی علیه من جهة العلم و الجهل و الذکورة و الانوثة إلی غیر ذلک ، لعدم تحقق المزاحم له من جهتها .

الخامس: هل تقیید الإطلاق یستلزم المجازیّة ؟

قد تقدَّم الخلاف بین المشهور و السلطان و المتأخرین . فعلی هذا المبنی حیث أنّ الإطلاق و التقیید خارجان عن المعنی الموضوع له اللّفظ ، فإنّ کلّاً منهما مستفادٌ من القرینة ، أمّا الإطلاق فقرینته مقدمات الحکمة ، و أمّا التقیید فالقرینة

ص:412

الخاصة القائمة علیه من قولٍ أو حال ... لوضوح أن اللّفظ - علی هذا المسلک - موضوعٌ للماهیّة من حیث هی أو للطبیعة المهملة ... و المجاز استعمال اللّفظ فی غیر ما وضع له .

فلا مجازیة علی مسلک المتأخرین .

أمّا علی مسلک الجمهور من دخول الإطلاق فی المعنی ، أمّا فی المقیّد المتّصل فالمجازیّة حاصلة ، لأن اللّفظ قد استعمل فی غیر الموضوع له و هو المطلق . و أمّا فی المنفصل : فالمیرزا علی المجازیة کذلک ، و خالفه تلمیذه فی ( المحاضرات ) ، و تبعه الأُستاذ : بأنّ المنفصل إنما یصادم الحجّیة دون الظهور ، لوجود المقتضی له و عدم المانع ، فلا بدّ - علی مسلکهم - من التفصیل بین المتصل و المنفصل .

و هذا تمام الکلام فی التنبیهات .

ص:413

الکلام فی حمل المطلق علی المقیّد

اشارة

إذا ورد مطلق و مقیّد ، فهل یحمل المطلق علی المقیَّد ؟

إن الإطلاق تارةً بدلی و اخریٰ شمولی ، فالکلام فی مقامین .

المقام الأول ( فی الإطلاق البدلی )

اشارة

و هو ما یتحقّق فیه الامتثال بالإتیان بصرف الوجود من المأمور به ، کما لو قال : أعتق رقبةً . فتارةً یکون المطلق و المقیَّد متوافقین فی الحکم ، بأنْ یکون کلاهما إیجابیّین أو یکونا سلبیین ، و اخری : یکونان متخالفین ، کأنْ یقول : أعتق رقبة و لا تعتق رقبةً کافرة .

أمّا إذا کانا متخالفین ، فلا خلاف فی حمل المطلق علی المقیّد ، کما فی المثال .

و أمّا إذا کانا متوافقین - مع العلم بوحدة الحکم - کما لو قال : أعتق رقبةً ، و أعتق رقبةً مؤمنة ، ففی حمل المطلق علی المقیَّد قولان ، فالمشهور علی الأول .

و قیل لا ، بل یحمل القید علی أفضل الأفراد . و تفصیل الکلام هو :

إنّ الحمل فرعٌ لوجود التنافی فی المدلول بین الکلامین ، و لمّا کان المفروض وحدة الحکم ، أی لا یجب إلّا عتقٌ واحدٌ ، فهل المعتق مشروطٌ بالإیمان أو أنه غیر مشروط ، و لا یخفی التنافی بین الاشتراط و عدم الاشتراط ؟ فقال المشهور برفع التنافی بحمل المطلق علی المقید ، فیکون الإیمان شرطاً و قیداً فی العتق ، و قال الآخرون بالحمل علی أفضل الأفراد و به یرتفع التنافی .

ص:414

دلیل القول بالحمل فی المقیّد المتّصل
اشارة

و قد استدلّ للمشهور بوجوه :

الأوّل : أنا إذا حملنا المطلق علی المقیَّد فقد عملنا بکلا الدلیلین ، و هو واجب کما لا یخفی لأن کلّاً منهما دلیل .

و فیه : إنْ کان المراد من العمل بالدلیلین هو الامتثال لهما ، بمعنی أنّ بالإتیان بالرقبة المؤمنة جمعٌ فی الامتثال ، فهذا غیر الجمع بین الدلیلین الرافع للتعارض بینهما لا بالتبرّع بل بشاهدٍ . و إنْ کان المراد أنّ الإتیان بالرقبة المؤمنة هو مقتضی الجمع الدلالی بین الدلیلین ، فهو أوّل الکلام ، لأن القائلین بالقول الثانی یقولون بالجمع الدلالی بینهما بالحمل علی أفضلیة عتق المؤمنة من غیر المؤمنة مع سقوط التکلیف بکلٍّ منهما .

و الثانی : ما ذکره صاحب ( الکفایة ) (1) ، من أنّ المفروض کون الإطلاق بدلیاً ، و معنی ذلک لا بشرطیّة الرقبة بالنسبة إلی الإیمان و الکفر ، فیکون المکلّف فی مقام الامتثال مخیَّراً عقلاً بین أن یأتی بالمؤمنة أو الکافرة ، و لکنّه قال بعد ذلک :

أعتق رقبةً مؤمنةً ، و هذا أمر ظاهر فی الوجوب التعیینی ، و بما أنه أقوی من ظهور المطلق فی الإطلاق ، فإنّه یتقدّم و یحمل علیه المطلق لا محالة .

الإشکال علی الکفایة

و قد أشکل علیه الإیروانی (2) :

بأنّ من مقدّمات الإطلاق إحراز کون المتکلّم فی مقام البیان ، فإنْ احرز ذلک فی أحدهما بالوجدان و فی الآخر بالأصل ، فلا ریب فی عدم التعارض بل

ص:415


1- 1) کفایة الاصول : 250 .
2- 2) نهایة النهایة : 316 .

یتقدّم ما کان بالوجدان علی ما کان بالأصل ، لأنّه مع الوجدان لا مجال للأصل . و إنْ کان المستند فی کلا الکلامین هو الأصل ، فلا تقدّم لأحدهما علی الآخر . و ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأن الظهور فی الدلیلین علی حدٍّ سواء ، لأن دلالة الدلیل المقیَّد علی وجوب عتق المؤمنة بالخصوص هی من جهة الظهور الإطلاقی فی الوجوب التعیینی ، و دلالة المطلق علی کفایة صرف وجود عتق الرقبة هی من جهة الظهور الإطلاقی کذلک ، فکلاهما ظهور إطلاقی ، و لا وجه لتقدّم أحدهما علی الآخر .

و فی ( المحاضرات ) (1) الإشکال علی ( الکفایة ) : بأنه لا یتم علی مسلک صاحب ( الکفایة ) ، حیث أنه قد صرَّح فی بحث الأوامر بأنْ صیغة الأمر لم توضع للدلالة علی الوجوب التعیینی ، بل هو مستفاد من الإطلاق و مقدّمات الحکمة .

وعلیه ، فلا فرق بین الظهورین ، و لیس ظهور الأمر فی الوجوب التعیینی بأقویٰ من ظهور المطلق فی الإطلاق .

دفاع الأُستاذ

و قد ذکر الأُستاذ : أن وجه الأظهریة قد خفی علی هذین المحققین فأشکلا بما ذکر ، و ذلک أن صاحب ( الکفایة ) قد صرّح فی المبحث الثانی (2) من مباحث صیغة الأمر بأنّها تدلُّ علی الوجوب ، و الدلیل هو التبادر عند استعمالها بلا قرینةٍ ( قال ) : و یؤیّده عدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب .

ثم ذکر فی المبحث السادس (3) : « قضیة إطلاق الصیغة کون الوجوب نفسیّاً تعیینیّاً عینیّاً ، لکون کلّ واحدٍ مما یقابلها یکون فیه تقیید الوجوب و تضیق دائرته ، فإذا کان فی مقام البیان و لم ینصب قرینةً علیه ، فالحکمة تقتضی کونه مطلقاً ،

ص:416


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 544 .
2- 2) کفایة الاصول : 70 .
3- 3) کفایة الاصول : 76 .

وجب هناک شیء آخر أوْ لا ، أتی بشیء آخر أوْ لا ، أتی به آخر أوْ لا » .

و بالدقة فی کلامه فی المبحثین یظهر وجه الأظهریّة ، لأنْ « أعتق رقبةً » مطلقٌ و لیس معه شیء آخر ، و إطلاقه بدلی ، لکنّ « أعتق رقبةً مؤمنةً » مشتمل - بالاضافة إلی الدلالة الإطلاقیّة من جهة الوجوب التعیینی - علی دلالةٍ وضعیّةٍ من جهة الدلالة علی وجوب خصوص المؤمنة ، فکان المقیَّد أظهر دلالةً ، و تقدیم المطلق علیه یستلزم سقوط الإطلاق و الوضع معاً .

فظهر اندفاع الإشکال عن کلامه فی المقام ، و إنْ کان لنا فیه نظر من ناحیةٍ اخری ، کما سیأتی .

و یمکن دفع الإشکال بعبارة اخری ، بأن یقال : إنّ ظاهر « أعتق رقبةً » ینفی دخل الإیمان عن طریق عدم التقیید و اللّابشرطیّة ، أمّا فی « أعتق رقبةً مؤمنةً » فإنه و إنْ کان الإطلاق یقتضی الوجوب التعیینی ، لکن اعتبار خصوصیّة « الإیمان » قد أوجد التضییق فی دائرة الموضوع ، و هذه الدلالة علی التضییق وضعیّة لا إطلاقیّة .

و الحاصل : إنه فی « أعتق رقبةً » توجد التوسعة بالنسبة إلی الإیمان عن طریق الإطلاق - أی بمقدّمات الحکمة - لا بالدلالة اللّفظیة ، أمّا فی « أعتق رقبةً مؤمنةً » تضییق بالنسبة إلی الإیمان بالدلالة اللّفظیة الوضعیّة ، فکان الإطلاق فیه مقترناً بدلالةٍ وضعیّة ، فیکون ظهوره أقوی من ظهور « أعتق رقبةً » و یتقدّم علیه بملاک الأظهریّة .

و الثالث : ما ذکره الشیخ و حاصله : أنّ الأمر یدور بین الجمع بین المطلق و المقیَّد بالتخییر ، أو حمل المقیَّد علی الأفضلیة و الاستحباب ، أو حمل المطلق علی المقیَّد .

أمّا الجمع بالتخییر ، فغیر معقول ، لأن النسبة بین « الرقبة » و« الرقبة المؤمنة »

ص:417

نسبة الکلّی إلی الفرد ، و التخییر بین الکلّی و الفرد محال ، لوضوح أنّه یکون ب« أو » و هی تقتضی المباینة بین الفردین ، و لا مباینة بین الکلّی و الفرد .

و أمّا حمل المقیّد علی الأفضلیّة ، فمردود بأنّه خلاف الظاهر ، لأن صیغة الأمر ظاهرة فی الوجوب ، و حملها علی الاستحباب رفع للید عن مقتضی الظاهر بلا موجب .

و أمّا حمل المطلق علی المقیّد ، فلا یستلزم تصرّفاً فی المعنی و لا تجوّزاً فی اللّفظ ، لأنّه قد استعمل فی الماهیّة ، ثم لمّا جاء المقیَّد علمنا أنّه لم یکن فی مقام بیان مراده الجدّی ، فنحمل کلامه المطلق علی هذا المقیَّد ، و لا یستلزم أیّ محذور فیتعیّن هذا الاحتمال .

إشکال الکفایة

و قد أشکل علیه المحقق الخراسانی (1) أوّلاً : بأنّ مقتضی استعمال اللّفظ فی الطبیعة ، مع کون المتکلّم فی مقام البیان و عدم التقیید ، هو ظهور الکلام فی الإطلاق ، فإذا جاء المقیّد له سقط الظهور ، و هذا تصرّف فی اللّفظ ، فقول الشیخ أنّه لا یستلزم تصرّفاً غیر تام .

و ثانیاً : إن استلزام حمل المقیَّد علی الأفضلیّة للمجاز أوّل الکلام ، بل إنّه مع الحمل علیها واجدٌ لملاک الوجوب و الأمر مستعملٌ فیه .

کلام الأُستاذ

فأورد الأُستاذ علی الإشکال الثانی : بأنّ ملاک الوجوب یکون دائماً فی الطبیعة و تحقّقه فی الفرد محال ، فإذا کان عتق الرقبة المؤمنة مستحبّاً کان ملاک الوجوب قائماً بالرقبة ، و لیس فی المؤمنة إلّا ملاک الاستحباب ، و من هذا الباب

ص:418


1- 1) کفایة الاصول : 250 .

نقول باستحالة الإتیان بفردٍ من الصلاة بقصد الوجوب ، لأن الأمر بها متعلّق بالطبیعة ، و الفرد المأتی به محقق للامتثال و مسقط للأمر .

و أمّا الإشکال الأول فمبنائی ، إذ الشیخ لا یری أن التقیید تصرّفٌ فی المعنی و صاحب ( الکفایة ) یراه تصرّفاً ، و التحقیق أنْ یقال :

إنه یدور الأمر بین رفع الید عن ظهور الأمر بالمقیَّد فی الوجوب و حمله علی الأفضلیة أو رفع الید عن الإطلاق ، لأنّه لا یمکن الجمع بینهما مع وحدة التکلیف ، و فی هذه الحالة ما المانع من رفع الید عن أصالة الحقیقة و ارتکاب المجاز حتّی یتعیَّن التقیید ؟

و بعبارة اخری : ما الدلیل علی ترجیح ما لا یستلزم المجاز علی ما یستلزمه عند دوران الأمر ؟

علی أنَّ استلزام الحمل علی الأفضلیة للمجاز ، یبتنی علی ظهور صیغة الأمر فی الوجوب ظهوراً وضعیّاً ، و لا یتمّ علی مبنی من یقول بأنّ الدلالة علی الوجوب هی مقتضی الإطلاق .

طریق المیرزا

و ذهب المیرزا إلیٰ فإنّ الملاک الصحیح لحمل المطلق علی المقیَّد هو القرینیة ، لأنّ غایة ما ذکر فی الدفاع عن وجه ( الکفایة ) هو وجود الدلالة الوضعیّة - إلی جنب الدلالة الإطلاقیة - فی المقیَّد ، لکنّ هذا القدر لا یکفی لأنْ یتقدّم علی المطلق ، إلّا أن یکون بیاناً له ، و حینئذٍ ینتفی الإطلاق فی طرف أعتق رقبةً ، و هذا خلاف الفرض .

کما أنّ وجه الشیخ یتوقّف علی أنْ یکون المقیَّد بیاناً ، فیقع الإشکال المذکور ، و أمّا لو لم یکن بیاناً لم یکن صالحاً للتقدّم .

ص:419

أمّا مبنی المیرزا فمفاده : أنّ المقیَّد قرینةٌ بالنسبة إلی المطلق ، و معها تسقط أصالة البیان فی ناحیته ، و ملخّص الاستدلال هو :

إنّ مقتضی القاعدة تقدّم الأصل فی السبب علی الأصل فی المسبب ، و هذا التقدّم من باب الحکومة ، و قد قرّرت هذه القاعدة فی تنبیهات الاستصحاب ، و مثالها المعروف هو غسل الثوب النجس بالماء المشکوک الطهارة ... غیر أنّ الأصل فی الماء و الثوب هو الاستصحاب و هو أصل عملی ، و الأصل فیما نحن فیه لفظی ، و لا فرق فی القاعدة من هذه الجهة .

إنَّ کلّ دلیل حاکم نسبته إلی الدلیل المحکوم نسبة السبب إلی المسبّب ، فأصالة الظهور فی طرف المطلق و کذا فی طرف المقیَّد تامّة ، لکنَّ المقیَّد قرینةٌ و المطلق ذو القرینة ، و فی ذات القرینة حیثیّة البیانیة کما أنْ فی ذات ذی القرینة حیثیة المبیَّنة ، فتکون أصالة الظهور فی ذی القرینة مسبَّبةً لأصالة الظّهور فی القرینة . و إنْ شئت فقل : إنّ أصالة الظهور فی طرف ذی القرینة معلَّقة ، لکنها فی طرف القرینة غیر معلَّقة ، فلا محالة یتقدَّم القرینة علی ذیها ، بمقتضی القاعدة المذکورة .

و من هذا الباب تقدُّم ظهور « یرمی » علی ظهور « الأسد » و رفع الید عن مقتضی أصالة الحقیقة فیه ، و حمله علی المعنی المجازی و هو « الرجل الشجاع » ، لأنَّ حمل لفظ الأسد علی معناه الحقیقی « الحیوان المفترس » موقوفٌ علی جریان أصالة الحقیقة فیه ، و جریانها معلَّق علی عدم وجود القرینة المانعة ، إذ الإهمال فی الواقعیات محال ، و جریانها حتی مع وجود القرینة غیر صحیح ، و إلّا یلزم أنْ لا یکون عندنا استعمال مجازی أصلاً ، و المفروض وجود « یرمی » الظاهر فی رمی النبل ، و الذی ظهوره فیه غیر معلَّق علی شیء ، فکانت أصالة الحقیقة فی « الأسد » معلَّقة علی عدم وجود القرینة المانعة ، و« یرمی » تمنع عن انعقادها ،

ص:420

و لکونها بیاناً و قرینةً تتقدَّم .

و تلخَّص : أنّه مع وجود أصالة الظهور فی القرینة ، لا یبقی موضوع لأصالة الظهور فی ذی القرینة .

ثم إنّ الملاک للقرینیّة هو الظهور العرفی ، فإنَّ نسبة القرینیّة موجودة بکلّ وضوح بین الصّفة و الموصوف ، و الحال وذی الحال ، و کلّ تابع و متبوع ، و متی ما وقع الشک عند العرف العام فی القرینیّة یکون الکلام مجملاً .

و بعد تمامیّة القرینیّة من الناحیة الصغرویّة ، فقد تکون القرینة متّصلة و قد تکون منفصلةً .

فإن کانت متّصلةً ، فهی قرینة علی المراد فی مرحلة الدلالة التصدیقیّة ، و هی المرحلة التی یستعمل فیها اللّفظ فی معناه الموضوع له و ینعقد للکلام الظهور و ینسب إلیه المدلول ، کما لو قال : أعتق رقبةً مؤمنةً ، و ذلک یتحقّق بفراغه من الکلام بقیوده .

و هذه هی الدلالة التصدیقیّة الاولی .

و الدلالة التصدیقیة الثانیة هی مرحلة الإرادة الجدیّة ، فإنه بعد انعقاد الظّهور لا بدَّ من ثبوت أنّ هذا الظاهر هو المراد للمتکلّم و أنه لم یقصد المزاح أو الامتحان مثلاً ، و ذلک یتمّ فی حال عدم إتیان المتکلّم بالقرینة المنفصلة الصارفة للّفظ عن المعنی الظاهر فیه ، فإنْ جاء القید المنفصل فهو ، و إلّا فالأصل فی الکلام عقلاءً هو الجدّ لا الهزل و الامتحان و ما شابه .

و بعبارة اخری ، فإنّه بمجرّد انقطاع الکلام یستقرُّ له الظهور فی معناه ، فإنْ أقام قرینةً منفصلةً علی خلاف الظاهر ، فإنّها لا تضرّ بالظهور و إنّما تحول دون حجیّته .

و هذا تمام التوضیح لکلام المیرزا فی المقام .

ص:421

الإشکال علیه

هذا ، و قد أفاد الأُستاذ أنه لا یمکن المساعدة علی ما ذکره المیرزا ، لوجوه :

الأول : إنّ ما ذکره قدس سرّه إنما یتمُّ فی القرینة المتصلة - و لا یرد علیه أیّ إشکال - لأنّ کلمة « مؤمنة » صالحةٌ لتقیید مفاد « أعتق رقبةً » لیخرج عن الإطلاق ، لکونها بیاناً و قرینةً ، و لکنه لو جاء بقید الإیمان فی کلامٍ آخر ، فإنّ قرینیّة المنفصل لیس لها وجه عقلی أو عقلائی ، لأنّ العقلاء یرون کلامین منفصل أحدهما عن الآخر ، و یقولون : قد تکلَّم بکلامین ، و لکلّ کلامٍ حکمه ، و لا یتعدّی حکم أحدهما إلی الآخر ، و لا یجعلونه قرینةً له .

الثانی : إن مقتضی القاعدة بناءً علی تقدیم المقیَّد علی المطلق من باب القرینیّة ، هو أنْ لا یکون فرقٌ عند العرف بین تقدّم القرینة علی ذیها أو تأخّرها عنه ، و لکنّ الأمر لیس کذلک ، فلو قال : أعتق رقبةً مؤمنةً ، ثم قال : أعتق رقبةً ، یحتمل العرف أنّ کلامه الثانی جاء توسعةً علی المکلَّف ، و لا یبادرون بالجمع بین الکلامین ، و لا أقل من التوقّف و الاستفسار من المولی .

الثالث : قد ذکر المیرزا أنّ التنافی بین « أعتق رقبةً » و« أعتق رقبةً مؤمنةً » قد حصل من جهة « المؤمنة » ، فهذا القید إنْ فرض متّصلاً کان قرینةً علی المراد الاستعمالی ، فلما جاء منفصلاً فهو قرینة علی المراد الجدّی ، فهو علی التقدیرین قرینة .

لکنّ الإشکال لیس من جهة « المؤمنة » مع قطع النظر عن کونها قیداً ، بل هو من جهة قیدیّة هذه الکلمة ، و قیدیّتها بدون إضافتها إلی الرقبة غیر معقول ، فهی موجودة فی أعتق رقبةً مؤمنةً ، أی فی صورة الاتصال ، و أمّا فی صورة الانفصال ، بأنْ تستفاد القیدیّة من الجملة المذکورة ثم تحکّم علی « أعتق رقبة » فمحال ، لأن

ص:422

القیدیة نسبةٌ ، و کلّ نسبة فهی قائمة بین منتسبین .

الرابع : إنّه لا دلیل من العرف و غیره علی أنّ کلّ ما یکون قرینة فی حال الاتصال فهو قرینة کذلک فی حال الانفصال ، بل الأمر بالعکس ، فإنّ أهل العرف یرون الکلام الثانی ناسخاً و عدولاً عن الکلام الأول ... و علی الجملة ، فإنّ المرجع فی القرینیة و البیانیّة هو العرف و السیرة العقلائیة ، و هی فی صورة الانفصال مفقودة إن لم یکن العکس کما ذکرنا .

و هذا تمام الکلام علی طریق القرینیّة .

طریقُ الحائری

و ذکر المحقق الحائری (1) لحمل المطلق علی المقید وجهاً آخر و محصّل کلامه هو :

إن الدلیلین المثبتین تارة یحرز وحدة الحکم فیهما ، و اخری لا یحرز وحدته ، و لو احرز ، فتارةً یحرز وحدة السبب و اخری لا یحرز .

فإنْ لم یحرز وحدة الحکم فیهما ، فهما خطابان مستقلّان ، و لا یحمل المطلق منهما علی المقیّد ، بل یکون کلّ منهما ظاهراً فی مدلوله ، و لا ترفع الید عن الظهور إلّا بدلیلٍ .

و إنْ احرز وحدة الحکم ، لکن لم یحرز وحدة السبب ، کما لو قال : أعتق رقبةً ، ثم قال : أعتق رقبةً مؤمنة ، و الحکم واحد غیر متعدّد ، فوجوه : أحدها الحمل علی المقیّد ، و الآخر حمل الأمر فی المقید علی الاستحباب ، و الثالث : التحفّظ علی ظهور الأمر فی المقیّد فی الوجوب و رفع الید عن ظهور قید المؤمنة و حمله علی الاستحباب . و لمّا کان کلٌّ من هذه الوجوه مستلزماً لرفع الید عن الظهور

ص:423


1- 1) درر الفوائد (1 - 2) 236 - 237 .

و لا مرجّح ، فالکلام مجمل .

و إنْ أُحرز وحدة الحکم و وحدة السبب أیضاً ، کما إذا قال : إن ظاهرت فأعتق رقبةً ، ثم قال : إنْ ظاهرت فأعتق رقبةً مؤمنة ، فلا مناص فی هذه الصورة من حمل المطلق علی المقیَّد ، لأن السبب - و هو الظّهار - واحدٌ ، و الحکم و هو وجوب العتق واحد ، فإذا کان السبب لعتق مطلق الرقبة ، فلا یکون سبباً لعتق رقبة مؤمنة ، و لا یمکن أن یکون سبباً لاستحباب عتق المؤمنة مع کونه السبب فی وجوب عتق مطلق الرقبة ، و إلّا یلزم أن یکون الشیء الواحد سبباً لمتباینین .

إشکال الأُستاذ

و قد أشکل الأُستاذ علی ما ذکره فی الصّورة الاولی من إبقاء کلٍّ من الکلامین علی ظهوره فی التکلیف المستقل ، فیلزم امتثال کلٍّ منهما علی حده بأن :

مقتضی الإطلاق فی طرفٍ و الخصوصیة فی الطرف الآخر کفایة الامتثال الواحد ، لأن المطلق منطبق علی الخصوصیّة بالدلالة المطابقیّة ، و الدلالة الالتزامیة لذلک هی کفایة الامتثال و حصوله بعتق الرقبة المؤمنة .

و أورد علی کلامه فی الصّورة الثانیة بأن : الإجمال ملاکه تکافؤ الاحتمالات ، و ذلک یتوقّف علی بطلان المسلکین المتقدّمین فی حمل المطلق علی المقیَّد و الجواب عما استدلّ به لکلٍّ منهما (1) ... لکن الحائری لم یرد علی شیء ممّا استدلّ به لهما .

و أمّا کلامه فی الصّورة الثالثة ففیه :

إن نسبة الظهار إلی العتق نسبة الموضوع إلی الحکم ، و لذا تقرّر أنّ کلّ شرط

ص:424


1- 1) یعنی : مسلک صاحب ( الکفایة ) و هو التقدّم من باب الأظهریة ، و مسلک المیرزا و هو التقدّم من باب القرینیّة .

موضوع و کلّ موضوع شرط ، و حینئذٍ ، لا بدّ من إقامة البرهان علی استحالة أنْ یکون للظهار حکمان ، و هذا أول الکلام ، إذ لا مانع من أن یقال : إذا زالت الشمس وجبت صلاة الظهر . و إذا زالت الشمس استحبّ الصّلاة الفلانیة ... و هنا لا مانع من أن یکون الظهار سبباً لوجوب العتق المطلق ، و سبباً لاستحباب عتق خصوص المؤمنة ... هذا بالنسبة إلی الحکم . و أما بالنسبة إلی الملاک ، فصحیح أن الأسباب و الشرائط لا دخل لها فی الملاکات ، و أنّ البرهان علی أن الواحد لا یصدر منه إلّا الواحد ، أی الواحد البسیط من جمیع الجهات ، لا یکون مصدراً لصدور الأمرین المختلفین ، لکن المشکلة هی أنْ لا طریق لاستکشاف کون السبب الشرعی کالظهار مثلاً هو بالنسبة إلی الملاک واحدٌ شخصی ، بل المحرز خلاف ذلک ، لقیام الحجة الشرعیّة علی تعدّد الأثر ، فتکون کاشفةً إنّاً عن أن السبب لیس له وحدة شخصیّةٌ بسیطة ، فالظّهار سببٌ لوجوب العتق فی حال إمکانه ، و إلّا فهو سببٌ لصیام ستّین یوماً ، و عند تعذّره فإطعام ستین مسکیناً ، و کلّ واحدٍ من هذه الآثار و الأحکام مباین لغیره .

طریق الأُستاذ

و الأُستاذ بعد أنْ ذکر طرق الأکابر لحمل المطلق علی المقیَّد ، أفاد فی الدورتین ما حاصله :

إنّه إذا کان الحکم واحداً کما فی : إن ظاهرت فأعتق رقبةً ، و إنّ ظاهرت فأعتق رقبةً مؤمنة ، فإنّ منشأ الإشکال هو وجود التنافی بین الخطابین ، من حیث أن الثانی یقتضی تعیّن المؤمنة فلا تجزی الکافرة بخلاف الأول ، فهل یوجد التمانع بین إطلاق المتعلّق فی الثانی و ظهور صیغة الأمر فی وجوب الحصّة المؤمنة أوْ لا ؟

ص:425

إنّ التنافی بین کلّ دلیلین یتوقف علی وجود المقتضی لهما علی نحو التنجز و فی عرضٍ واحد ، حتی یقع التمانع بینهما فی المبدإ أو المنتهی أو المدلول لهما . أمّا لو کان أحدهما معلَّقاً غیر منجّز و الآخر تامُّ الاقتضاء ، فلا تمانع بل یتقدَّم ما هو تامّ الاقتضاء ... و فیما نحن فیه : ظهور صیغة الأمر فی الوجوب - من باب الدلالة الوضعیة کما علیه صاحب ( الکفایة ) ، أو بحکم العقل کما علیه المیرزا - تامٌّ ، فیصلح لأنْ یکون مانعاً عن انعقاد الظهور فی طرف المطلق ، لکنَّ المبنی المحقَّق - تبعاً لسلطان المحققین - خروج الإطلاق عن المعنی الموضوع له لفظ الرّقبة ، فلا دلالة له علیه إلّا بمقدّمات الحکمة ، و قد کان منها عدم التقیید ، فکان ظهور « الرقبة » فی الإطلاق معلَّقاً علی عدم المانع ، فلا تمانع بینه و بین الدلیل المقیَّد ... بل یتقدَّم لتتنجّز ظهوره و تمامیّته .

و علی الجملة ، فإنّ المقام من صغریات دوران الأمر بین ما له الاقتضاء و ما لا اقتضاء له ، و من الواضح تقدّم الأول و تعیّنه .

و لا یخفی أنّ هذا الطریق یختلف عن طریق ( الکفایة ) من تقدّم إطلاق الوجوب التعیینی ، لأنّ أصالة الإطلاق بالنسبة إلی الوجوب التعیینی إنّما تجری فیما لو احتمل التخییر الشرعی ، فیتمسّک بها لدفع هذا الاحتمال ، و لیس ما نحن فیه من هذا القبیل ، للقطع بعدم احتمال التخییر الشرعی بین وجوب الطبیعة المطلقة و وجوب حصّة خاصّةٍ منها .

و تلخص : إنّ الوجه فی تقدّم المقیَّد علی المطلق لیس الأظهریّة و لا القرینیّة و لا غیرهما ، بل هو التنجیزیّة فی طرف المقیَّد ، أی ظهور صیغة الأمر فی الوجوب بلا تعلیقٍ علی شیءٍ ، و قد ذکرنا أنّ ذلک ثابت إمّا بالوضع من جهة التبادر علی رأی و إمّا بحکم العقل علی الرأی الآخر . بل إنّه مستفادٌ من ظواهر

ص:426

النصوص أیضاً ، کما فی المعتبرة : « العمرة واجبة کالحج لأنَّ اللّٰه تعالی یقول « وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّٰهِ » (1)» (2) حیث احتجّ الامام علیه السلام بظهور صیغة « افعل » . و کذلک ما ورد فی الاستدلال بقوله تعالی «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقٰامِ إِبْرٰاهیمَ مُصَلیًّ » (3)علی وجوب صلاة الطواف خلف المقام (4) . و ما ورد من تمسّکهم بظاهر الأمر فی «فَانْکِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ » (5)علی أنّ إذن المولی شرط فی نکاح الأمة (6) .

و هذا تمام الکلام فی الدلیل المقیّد المتّصل .

دلیل القول بالحمل فی المقیّد المنفصل
اشارة

و أمّا فی المقیّد المنفصل ، فعلی القول بتوقف الإطلاق علی عدم البیان إلی الأبد ، لا ینعقد لقوله : « أعتق رقبةً » إطلاقٌ ، و حینئذٍ یؤخذ بقوله : « أعتق رقبةً مؤمنةً » لتمامیة ظهوره بلا مانع . و کذا الکلام فی خطابات من علم من سیرته و دیدنه الاعتماد علی القرائن المنفصلة ، کما فی خطابات الشارع المقدّس . و أمّا علی القول بتمامیة الإطلاق و انعقاد الظهور للکلام بفراغ المتکلّم منه فی مجلس التخاطب ، فإنّ التمانع یتحقّق بین هذا الظهور و ظاهر قوله : « أعتق رقبةً مؤمنةً » فی المجلس الآخر ، فما هو الوجه لحمل المطلق علی المقیَّد ؟

ص:427


1- 1) سورة البقرة: الآیة 196.
2- 2) وسائل الشیعة 14 / 295 ، الباب 1 من أبواب العمرة ، رقم : 2 .
3- 3) سورة البقرة: الآیة 125.
4- 4) وسائل الشیعة 13 / 425 ، الباب 72 من أبواب الطواف ، رقم : 1 و 2 .
5- 5) سورة النساء : الآیة 25 .
6- 6) وسائل الشیعة 21 / 119 ، الباب 29 من أبواب نکاح العبید و الإماء ، الرقم : 1 .
طریق الشیخ و الکلام حوله

أمّا طریق الشیخ رحمه اللّٰه حیث قدّم المقیَّد علی المطلق ، أمّا علی قول المشهور ، فإنّ رفع الید عن الإطلاق ارتکاب للمجاز کما هو الحال فی رفع الید عن دلالة المقیَّد ، إلّا أن المجاز فی طرف المطلق مقدَّم ، و مع التنزّل و فرض التساوی ، تصل النوبة إلی التعارض بین الظهورین ، و یکون المرجع هو البراءة أو الاشتغال علی النزاع المعروف فی الأجزاء التحلیلیّة ، لأنّ التقیّد بالإیمان جزء تحلیلی عقلی .

و أمّا علی قول السّلطان ، و أنّ الدلالة علی الإطلاق لیست وضعیةً بل بمقدّمات الحکمة ، فرفع الید عنه متعیَّن ، لأنه تصرّف فی وجه المعنی ، بخلاف ظهور المقیَّد فرفع الید عنه تصرّف فی المعنی ، و لا ریب فی تقدّم الأول عند دوران الأمر ، بل إنَّ تمامیة المقدّمات کانت ببرکة الأصل ، أی أصالة کون المتکلّم فی مقام البیان ، لکنّ هذا الأصل یسقط بمجرّد العثور علی المقیَّد ، و بسقوطه یسقط الإطلاق ، فلا معارض للظهور فی المقیَّد . و هذا معنی قولهم أنّ التعارض بین المطلق و المقید غیر مستقر .

نظر الأُستاذ

و قد تنظر الأُستاذ فیه : أمّا من جهة مسلک المشهور ، فإنّ الشیخ قد استند فی رفع الید عن ظهور الإطلاق و حمله علی المجاز إلی غلبة هذا المجاز علی أقرانه ، لکنّ الغلبة لیست منشأً للتقدیم علی التحقیق ، نعم ، لو کان قد ادّعی أنّ رفع الید عن دلالة الکلام علی الإطلاق من المجاز المشهور الموجب لحصول القالبیّة العرفیة ، لکان له وجه ، أمّا الغلبة ، فمستندها إلحاق الشیء بالأعمّ الأغلب ، و هذا لا یوجب القالبیّة . نعم ، القالبیّة فی العام و الخاص موجودة ، و لذا قالوا : ما من عام إلّا و قد خص .

ص:428

و أمّا من جهة مسلک السّلطان ، فما ذکره أوّل الکلام ، لأنّ کون المقیَّد المنفصل بیاناً عرفاً للمطلق مصادرة ، بل العرف إنْ لم یحمل الکلام الثانی علی النسخ یتوقّف و لا یحمل المطلق علی المقیَّد .

طریق المیرزا

و أمّا طریق المیرزا ، فقد تقدّم أنّه لا یحلّ المشکلة فی القرینة المنفصلة ، لا سیّما فی خطابات من علم بأنّه یعطی أحکامه بالتدریج کالشارع المقدّس .

طریق السید الخوئی

و أمّا طریق السید الخوئی (1) و حاصله : أنه فی مثل کلام الشارع یدور الأمر بین النسخ و التقیید ، لکنّ احتمال النسخ یسقط من جهة أنّ هذه الکثرة من الروایات لو حملت علی النسخ لزم تبدّل المذهب ، بل موارد النسخ محدودة جدّاً ، فیتعیّن الحمل علی التخصیص و التقیید .

ففیه : إنه لیس الأمر دائراً بین الأمرین ، بل هناک احتمال ثالثٌ هو حمل المقیَّد علی الأفضلیة و الاستحباب .

طریق الأُستاذ

قال الأُستاذ : و الذی ینبغی أنْ یقال و إنْ کان خلاف المشهور هو :

إنّ الروایات الواردة عن الأئمة علیهم السلام علی ثلاثة أقسام :

الأول : ما ورد عنهم علیهم السلام فی مقام تعلیم الأحکام لأصحابهم ، خاصّةً الذین أرجعوا الناس إلیهم منهم کمحمد بن مسلم و زرارة و أبی بصیر ...

و فی هذا القسم ، نقول بحمل المطلق علی المقیَّد ، فإن المطالب تلقی علی التلامذة بالتدریج ، فیذکر الحکم بإطلاقه فی مجلسٍ ، ثمّ یبیّن فی المجالس اللّاحقة بمقیّداته ، و هکذا جرت العادة فی مجالس الدروس .

ص:429


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 541 .

و الثانی : ما ورد عنهم فی مقام الإفتاء ، حیث یدخل الرجل علی الإمام علیه السلام فیسأله عن الحکم الشرعی فی قضیّة ثم یخرج و یتوجّه إلی أهله و بلده و لا یرجع إلی الامام إلّا فی قضیةٍ اخری ، فهو یستفتی من أجل العمل ، أو یکون قد أرسلوه إلی الإمام حتی یأتیهم بالجواب منه ، فیعملوا علی طبق ما أجاب .

و فی هذا القسم من الروایات ، لا نقول بحمل المطلق علی المقیَّد ، بل لو قال بعد ذلک کلاماً علی خلافه لکان ناسخاً له ، لأن من کان فی مقام الإفتاء یبیّن الحکم بکامله و لا مصلحة لتأخیر البیان ... فکونه علیه السلام فی مقام الافتاء و بیان الحکم للمسألة المبتلی بها و المسئول عنها من أجل العمل ، قرینةٌ تجعل المطلق نصّاً أو تعطیه الأظهریّة من المقیَّد ، فلا یتقدَّم المقید علی المطلق .

و هذا الذی ذکرناه فی القسم الثانی من الروایات و إن کان علی خلاف المشهور ، لکن غیر واحدٍ من الأکابر مشوا علیه ، فلاحظ کتاب الصّلاة للشیخ الحائری فی صلاة العاری و أنه هل یصلّی قائماً أو قاعداً أو علیه القیام مع الأمن من الناظر و القعود مع عدم الأمن ... (1) .

و کذا فی مکان المصلّی فی مسألة محاذاة المرأة للرجل (2) .

و کذا فی مسألة التخییر فی الأماکن الأربعة (3) .

و قال المحقق العراقی فی ( شرح التبصرة ) فی صلاة الآیات فی مسألة القنوت فیها هل هو واجبٌ أو مستحب بحمل المقیّد علی الاستحباب .

و کذا فی بحث التشهّد ، حیث أخذ بالمطلقات لقوّتها و حمل الزائد علی الاستحباب .

ص:430


1- 1) کتاب الصّلاة : 68 .
2- 2) المصدر : 85 .
3- 3) المصدر : 650 .

و کذا فی ( کتاب الطهارة ) ، فی أنّه یجب الوضوء بعد الغسل أوْ لا ؟ و فی التیمّم بمطلق وجه الأرض أو خصوص التراب ؟ فإنه أخذ بالمطلقات و حمل ما دلّ علی خصوص التراب علی الاستحباب ، و فی الوضوء فی کیفیة مسح الرأس ، فی أنه یکفی مقدّم الرأس أو یشترط الناصیة ؟

و الحاصل : إن الشیخ الحائری و الشیخ العراقی فی هذه الموارد و غیرها یصرّحان بکون المطلقات فی مقام بیان الوظیفة الفعلیّة ، فلا یجوز رفع الید عن ظهورها ، و لذا یحملان ما ینافیها علی الاستحباب .

و علی الجملة ، فکلّ مطلق من هذا القبیل یؤخذ به ، إلّا إذا علم بوجود خصوصیةٍ دعت الإمام إلی تأخیر بیان المقیَّد ... و إلّا فمقتضی المقام أن یعطی کلّ ما یحتاج إلیه المکلَّف ممّا له دخل فی الحکم ، کحال الطبیب فی مقام علاج المریض الذی راجعه و یطلب منه الدواء لمرضه .

الثالث : ما ورد عنهم و لم یحرز کونه فی مقام التعلیم أو فی مقام الإفتاء للعمل .

و قد یقال هنا : بأنّ التقیید تکلیف زائد فهو مجری البراءة ، إذنْ یؤخذ بالمطلق .

لکنّ الصحیح - عند الأُستاذ - هو الحمل ، لأنَّ أرکان الحجیة فی المقیَّد تامّة و لا مرخّص من قبل المولی ، فالعقل حاکم بلزوم الامتثال ، و به ترفع الید عن الإطلاق .

و هذا تمام الکلام فی صورة وحدة الحکم و وحدة السبب .

فی وحدة الحکم و اختلاف السبب

أمّا لو اتّحد الحکم و اختلف السبب ، کما لو قال « إن ظاهرت فأعتق رقبةً »

ص:431

و« إنْ أفطرت فأعتق رقبةً مؤمنة » . فالظاهر عدم الخلاف فی عدم الحمل ، لأنّه قد اختلف السبب و الشرط ، و معلوم أنْ کلّ شرط موضوع ، و إذا اختلف الموضوع اختلف الحکم ، فکان کلٌّ منهما خطاباً مستقلّاً عن الآخر ، و لا تنافی بینهما حتی یحتاج إلی الجمع .

لو کان المطلق بلا سبب و المقیَّد مسبّب

أمّا لو جاء الدلیل المطلق بلا شرطٍ و سبب ، و المقیَّد مشروطاً ، کما لو قال :

أعتق رقبةً . ثم قال : إن ظاهرت أعتق رقبةً مؤمنةً . فهل یحمل المطلق علی المقیَّد ؟ قولان :

القول الأول

ذهب المیرزا النائینی و غیره إلی استحالة الحمل ، لاستلزامه الدور ، و بیان ذلک هو : إنّ الحمل فرع وجود المنافاة ، و هی متوقفة علی وحدة الحکم ، و معلوم أنّ وحدة الحکم متوقفة علی وحدة الموضوع و المتعلَّق ، لکنّ وحدة المتعلَّق موقوفة علی التنافی .

و الحاصل : إن وحدة المتعلَّق متوقفة علی التنافی ، و هو متوقف علی وحدة الحکم ، و وحدة الحکم متوقفة علی وحدة المتعلَّق . و هذا دور .

القول الثانی

و ذهب آخرون إلی وجوب التقیید ، لأنّ إطلاق الحکم فی أحد الدلیلین و إنْ کان کاشفاً عن عدم اشتراط الحکم المجعول من المولی بما هو شرط للحکم فی الدلیل الآخر ، إلّا أن تقییده به فی ذلک الدلیل کاشف عن اشتراطه به ، و بما أن دلیل التقیید أظهر من دلیل الإطلاق ، فإنه یتقدّم علیه ، و ترفع الید عنه ، و النتیجة أن یکون الحکم المجعول مشروطاً بالشرط المزبور ، و بما أنّ متعلَّق ذلک الحکم

ص:432

مطلق فی أحد الدلیلین و مقیَّد فی الآخر ، فلا بدّ من حمل المطلق علی المقید .

ذکره المیرزا نفسه بعنوان « إن قیل » . ثم أجاب بما حاصله :

إنه لمّا کان الحکم من الامور ذات التعلّق - لأنه إما بعثٌ و إمّا زجر - فوجوده متقوّم بالموضوع و المتعلَّق ، و إذا تعدّد الموضوع و المتعلَّق تعدّد الحکم ، و علی هذا ، فلمّا کان الحکم فی أحد الدلیلین مشروطاً بشرطٍ ، فإن الشرط یوجب تقیّد الحکم المشروط به ، و لا یتعدّی عنه إلی الحکم الموجود فی الدلیل الآخر ، و حینئذٍ ، لا یحمل المطلق علی المقیَّد ، نعم لو احرز من الخارج وحدة المتعلَّقین ، لزم حمل المطلق من الحکمین علی مقیّدهما ، کما إنه إذا ثبتت وحدة الحکمین لزم حمل المطلق من المتعلّقین علی المقیّد منهما . و أما مع عدم إحراز ذلک ، فلا موجب لحمل المطلق علی المقیّد فی شیء منهما .

لو کان الحکمان مطلقین و نسبة الإطلاق و التقیید بین المتعلَّقین
اشارة

و هذه هی الصورة الأخیرة ، فلو قال : أعتق رقبةً ثم قال : أعتق رقبةً مؤمنةً ، حیث أن الحکمین فی الدلیلین مرسلان ، لکنّ المتعلَّق للحکم فی الدلیل الأول مطلق ، و فی الدلیل الثانی مقیَّد ، مع عدم إحراز وحدة الحکم ، أما مع إحرازها فقد تقدَّم .

ذهب المیرزا (1) - و تبعه فی ( المحاضرات ) - إلی حمل المطلق علی المقیَّد ، لأن المفروض عدم تقیّد الحکمین فی الدلیلین ، و هما إلزامیّان ، و بالنظر إلی هاتین الجهتین تثبت وحدة الحکمین ، و لا حاجة إلی قرینةٍ خارجیة من حالٍ أو مقالٍ کما ذکر صاحب ( الکفایة ) .

و علی الجملة ، فإنّ مقتضی « أعتق رقبةً » حصول الامتثال بأحد مصادیق

ص:433


1- 1) أجود التقریرات 2 / 447 .

الطبیعة ، لکنّ مقتضی « أعتق رقبة مؤمنة » هو عدم حصوله کذلک ، و إذا وجد هذا التنافی ، کان مقتضی القاعدة هو الحمل .

إشکال الأُستاذ

لکنّ الأُستاذ - و إنْ وافق المیرزا فی الصّورة المتقدّمة - خالفه فی هذه الصورة ، و أفاد ما حاصله : إن الحمل موقوف علی وجود التنافی بین الدلیلین کما تقدم ، و التنافی إمّا فی مرحلة الجعل و إمّا فی مرحلة الامتثال . أمّا فی مرحلة الجعل ، فهو إمّا بکون أحد الحکمین وجوبیّاً و الآخر تحریمیّاً ، أو بکون أحدهما إلزامیاً و الآخر ترخیصیاً ، أو یکونان من سنخ واحدٍ و المتعلَّق واحد . و فی مورد البحث لا یوجد التنافی أصلاً ، لکونهما مثبتین ، و قد تعلَّق الحکم فی کلٍّ منهما بشیءٍ ، و الحکم لا یتجاوز عن متعلَّقه إلی غیره ... إذنْ ، لا تنافی فی مرحلة الجعل .

أمّا مرحلة الامتثال ، فالحاکم فیها هو العقل ، و إنما یری العقل التنافی بین الدلیلین - حتی یتم حمل المطلق علی المقیَّد - فیما لو احرز وحدة الحکم .

بیان المحاضرات

و فی ( المحاضرات ) بیانٌ لحمل المطلق علی المقیّد فی هذه الصورة قال (1) :

إن المحتملات فی مقام الثبوت أربع :

الأول : أن یحمل المطلق علی المقیّد . و الثانی : أن یحمل المطلق علی أفضل الأفراد . و الثالث : لا هذا و ذاک ، فیبنی علی تعدد التکلیف لکن من قبیل واجب فی واجب آخر ، نظیر ما لو نذر المکلَّف الإتیان بالصّلاة الفریضة فی المسجد . و الرابع : أن یکون کلّ من المطلق و المقیَّد واجباً مستقلّاً ، نظیر ما إذا أمر

ص:434


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 545 .

بالماء علی نحو الإطلاق ، و الغرض غسل الثوب ، ثم أمر بالماء البارد لأجل الشرب .

( قال ) : و أمّا فی مقام الإثبات :

فالاحتمال الثانی خلاف الظاهر جدّاً ، لأن حمل الأمر الظاهر فی الوجوب علی الندب یحتاج إلی دلیل ، و إذْ لا یوجد دلیلٌ یفید الترخیص ، فلا بدّ من الأخذ بظاهره و هو الوجوب .

و الاحتمال الثالث کذلک ، لعدم کون المقام من هذا القبیل ، و الوجه فی ذلک هو : إن الأوامر المتعلّقة بالقیودات و الخصوصات فی باب العبادات و المعاملات ظاهرة فی الإرشاد إلی الجزئیّة أو الشرطیّة ، و لیست ظاهرة فی المولویّة ، کما أن النواهی المتعلّقة بها ظاهرة فی الإرشاد إلی المانعیّة من جهة تلک الخصوصیّة کما فی : « لا تصلّ فیما لا یؤکل لحمه » ، و« نهی النبی عن بیع الغرر » . هذا ، مضافاً إلی أن الأمر فی أمثال هذه الموارد قد تعلَّق بالتقیُّد لا بالقید ، فصرف الأمر عنه إلیه خلاف الظاهر جدّاً .

و الاحتمال الرابع ، یتصوّر علی نحوین : أحدهما : أن یسقط کلا التکلیفین معاً بالإتیان بالمقید . و ثانیهما : عدم سقوط التکلیف بالمطلق بالإتیان بالمقیّد ، بل لا بدّ من الإتیان به أیضاً .

أمّا الأوّل : فإنه - و إنْ کان ممکناً ثبوتاً - لا یمکن القول به إثباتاً ، للزوم لغویّة الدلیل المطلق ، لأن الإتیان بالمقیَّد إذا کان موجباً لسقوط الأمر بالمطلق أیضاً ، فلا محالة یکون الأمر بالمطلق لغواً و عبثاً .

و أمّا الثانی ففیه : إنه لا بدّ حینئذٍ من تقیید الأمر بالمطلق بحصّةٍ غیر الحصّة المأخوذة فی المقیَّد ، و إلّا فلا موجب لعدم سقوط الأمر بالمطلق بالإتیان بالمقیَّد

ص:435

مع کونه حصّةً من المطلق ، و التقیید خلاف الظاهر ، و لا بدَّ له من دلیل ، و المفروض عدمه .

فالاحتمال الرابع أیضاً ساقط .

و إذا سقطت الاحتمالات الثانی و الثالث و الرابع ، تعیَّن الأوّل و هو حمل المطلق علی المقید .

نظر الأُستاذ

و قد تنظّر الأُستاذ فی الإشکالات علی الاحتمالات فی مقام الإثبات .

أمّا ما ذکر فی الاحتمال الثانی ، ففیه : إنه أخصّ من المدّعی ، لأنه إنّما یتمُّ لو لم یکن صدور الخطاب المطلق فی مقام بیان الوظیفة الفعلیّة ، و إلّا وجب الأخذ بالمطلق و لا یتقدّم علیه المقیَّد الظاهر فی الوجوب .

و أمّا ما ذکر فی الاحتمال الثالث ، ففیه : إن قاعدة الحمل علی الإرشادیّة غیر جاریة فی المقیَّد ، إذ لیس « أعتق رقبةً مؤمنة » مسبوقاً بأمرٍ متوجّه إلی مرکبٍ حتی یکون الأمر بالمقیَّد إرشاداً إلی شرطیّة الإیمان أو جزئیّته فی المرکّب ، ففرقٌ بین قوله : «أقیموا الصلاة » ثم قوله «ارکعوا » و « اسجدوا » حیث أنّ الأمر بالصلاة أمر بمرکّب ، و الأمر بالرکوع و السجود و نحوها یحمل علی الجزئیّة للصّلاة المأمور بها من قبل ، لعِلمنا بأنّ الصّلاة فعلٌ مرکَّب من أجزاء مترابطة ، و باب الإطلاق و التقیید ، فلیس الأمر فیه کذلک ، بل الأصل الأوّلی - و هو الحمل علی المولویّة و المطلوبیّة النفسیّة - محکَّم فیه .

فما ذکر فی ( المحاضرات ) غیر دافع للاحتمال الثالث .

نعم ، یندفع بما ذکره المیرزا من الفرق بین ما نحن فیه و مسألة الواجب فی الواجب - کأنْ ینذر واجباً من الواجبات - لأن متعلَّق الأمر فی أعتق رقبةً مؤمنةً ، هو

ص:436

تقیُّد الرقبة بالإیمان ، أمّا فی مثل نذر الصّلاة و غیرها من الواجب فی الواجب ، فإنّ متعلَّق الأمر هو القید ، أی خصوصیّة الإتیان بالصّلاة فی أول الوقت مثلاً .

و قد ذکر هذا الجواب فی ( المحاضرات ) فی آخر کلامه قائلاً : « هذا مضافاً ... » و هذا هو الجواب الصحیح .

و أمّا الاحتمال الرابع ، فإنّ المیرزا قال : إنّ استقلال کلٍّ من الدلیلین عن الآخر ینافی کون المتعلّق فیهما صرف الوجود و کون الأمر بالمقید إلزامیاً ، فالتنافی بین الدلیلین مستقرٌّ ، و هذا باطل . و إذا سقط هذا الاحتمال تعیّن الأول و هو حمل المطلق علی المقید .

و فیه : إنه إذا کان الدلیلان مستقلّین و کلّ منهما حکم إلزامی ، مفاد المطلق إجزاء عتق الکافرة ، و مفاد المقیَّد تعیّن المؤمنة ، فهما متنافیان و لا طریق للجمع بینهما ، فلما ذا یحمل أحدهما علی الآخر ؟ و لما ذا یتعیّن حمل المطلق علی المقید ؟ إنه لا بدّ لتقدیم أحد المتنافیین علی الآخر من ملاکٍ ، و إلّا فهو خلاف الظاهر جدّاً ، و المیرزا لم یذکر الملاک .

و أمّا ما جاء فی ( المحاضرات ) من لزوم تقیید المطلق بحصّة غیر الحصّة المأخوذة فی المقیَّد ، و هو خلاف الظاهر لعدم الدلیل علیه ، فهو إرجاعٌ للدلیلین إلی التخییر بین الأقل و الأکثر ، لکنّه یحتاج إلی دلیلٍ زائد و هو مفقود کما ذکر .

لکنْ یرد علیه - مضافاً إلی ما تقدَّم من عدم الدلیل حینئذٍ علی ترجیح المقیَّد علی المطلق - أنّ هنا احتمالاً آخر و هو : أنْ یکون الخطابان علی نحو تعدّد المطلوب ، بأن یکون هناک غرض مترتّب علی الطبیعة اللّابشرط ، و غرض آخر مترتّب علی الطبیعة البشرط ، کما ذکر هو فی مثال الماء ، و مثاله فی الشریعة ترتّب الغرض علی الصّلاة و ترتب غرض آخر علی وقوعها فی الوقت ، فلو فات الوقت

ص:437

وجب الإتیان بها قضاءً ، تحصیلاً للغرض المترتب علی الطبیعة . فلیکنْ الحال فی المقام من هذا القبیل . و هذا الاحتمال الثبوتی قد قام علیه الدلیل فی مقام الإثبات ، لأنّ المفروض وجود الدلیل علی الغرضین ، إلّا أن کلّاً منهما مزاحمٌ للآخر ، و هذا هو الإشکال ، لأنّ رفع الید عن المطلق دون المقیَّد یحتاج إلی دلیل .

و تلخّص : إنه لا دلیل علی حمل المطلق علی المقیَّد فی الصّورة الرابعة ، علی ما ذکر المیرزا و تلمیذه المحقق .

و ذکر المحقق العراقی طریقاً لحلّ المشکل ، و هو أنّه لمّا کان المتعلَّق فی کلٍّ من الدلیلین صرف الوجود ، و هو لا یقبل التعدّد بأنْ یؤتی بصرف وجود کلٍّ من المتعلَّقین ، لاستلزامه اجتماع المثلین و هو محال کاجتماع الضدّین ، إذاً لا مناص من الالتزام بأحد التصرّفات :

إما رفع الید عن ظهور المطلق و حمله علی المقیّد ، حتّی یتّحد المراد و الحکم .

و إمّا رفع الید عن صِرف الوجود ، بأنْ یحمل المتعلّق فی کلٍّ منهما علی وجودٍ مستقل عن الآخر ، فهناک إرادتان و حکمان مستقلّان .

و إمّا رفع الید عن الظهور فی الاستقلال و التأسیس ، و حمل المقیّد علی التأکید .

( قال ) و أردأ التصرّفات هو الثانی ، أی حمل المتعلّق علی الوجودین .

و لعلّ وجه الأردئیّة انطباق « الرقبة » علی الرقبة المؤمنة ، لأنَّ کلّ لا بشرط یجتمع مع البشرط ، فإبقاء کلٍّ منهما علی ظاهره أردأ الوجوه ، و عند دوران الأمر بین الوجهین الآخرین یتعیَّن الحمل علی تأکّد الطلب فی خصوص المؤمنة التی هی متعلَّق الأمر بالمقیّد .

ص:438

و قد أورد علیه الأُستاذ :

أولاً : لا ریب فی استحالة اجتماع الحکمین علی المتعلَّق الواحد - و إنْ اختلفوا فقیل بالاستحالة الذاتیة کما علیه صاحب ( الکفایة ) و هو ظاهر المحقق العراقی ، و قیل هی عرضیة کما علیه المحقق الأصفهانی - لأنهما إمّا ضدّان و إمّا مثلان، فاجتماعهما محال، لکنّ الحکمین فی محلّ الکلام غیر واردین فی مرحلة الجعل علی المتعلَّق الواحد ، لأنّ صِرف الوجود فی « أعتق رقبةً » غیر صرف الوجود فی « أعتق رقبة مؤمنة » . نعم ، فی مرحلة الامتثال ینطبق الخطابان علی الرقبة المؤمنة ، و إذا تعدّد المتعلَّق ، فلا حاجة إلی تصرّفٍ أصلاً . وعلیه فأصل الطریق غیر صحیح .

و ثانیاً : إنه علی فرض دوران الأمر بین التصرّفین الأوّل و الثالث ، قال بتعیّن الحمل علی تأکّد الطلب فی المجمع أی الرقبة المؤمنة ، لکنه لم یذکر لهذا الحمل دلیلاً ، و إنّما ادّعی أولویّته من الحمل الآخر ، و من المعلوم أنّ الأولویّة لا تفید ظهوراً للکلام ، بل المرجع فی رفع التنافی بین الکلامین هو العرف ، و هو إنما یکون علی أساس استقرار الظهور فی طرفٍ فیرفعون الید عن الطرف الآخر ، و أمّا أنْ یکون الحمل علی أساس الأولویة و أنه أخفُّ مئونةً ، فهذا لیس بحملٍ عرفی .

( قال ) فالصحیح أنْ یقال : إنه إنْ احرز کون الحکم المطلق صادراً فی بیان الوظیفة العملیة ، أی من قبیل الفتوی ، فإنّ ظهوره فی الإطلاق منعقدٌ و لا بدّ من رفع الید عن ظهور المقیَّد فی الوجوب . أمّا إنْ لم یحرز ذلک ، فإنّ ظهور المقیَّد فی الوجوب تامٌّ بحکم العقل ما لم یأتِ المرخّص ، و لا وجه عند العقل لرفع الید عن هذا الظهور .

هذا کلّه فیما لو کان الحکمان مثبتین .

ص:439

لو کان المتعلَّق صرف الوجود و الحکمان غیر مثبتین

أمّا لو کان المتعلَّق فی الخطابین صرف الوجود ، غیر أن الحکم فی المقیّد مخالف ، کما لو قال : أعتق رقبةً . ثم قال : لا تعتق رقبةً کافرة ، فالخلاف المذکور - من حمل المطلق علی المقیَّد کما علیه المشهور ، أو حمل المقیَّد علی المرجوحیّة کما هو القول الآخر - یأتی هنا ... و قد قال المیرزا بالحمل هنا أیضاً علی أساس القرینیّة ، لکنّها غیر ثابتة خاصّةً فی المنفصلین کما تقدّم بالتفصیل .

فالتحقیق أن یقال :

إن النهی عن عتق الکافرة یدلّ علی المبغوضیة ، فعلی القول بظهوره فی الحرمة ظهوراً وضعیّاً ، فالأمر واضح ، و أمّا علی القول بعدمه ، فلا ریب فی حکم العقل بالانزجار عن عتق الکافرة ما لم یرد ترخیص من قبل المولی ، و حینئذٍ ، فإنْ احرز کون المطلق فی مقام بیان الوظیفة الفعلیّة ، تقدّم ظهوره و کان قرینةً علی الترخیص ، و یحمل النهی علی المرجوحیة ، و إلّا فمقتضی القاعدة الأخذ بظهور النهی و عدم کفایة عتق الکافرة .

و هذا تمام الکلام فی الإطلاق البدلی .

المقام الثانی ( فی الإطلاق الشمولی )

اشارة

إن کان الإطلاق شمولیّاً کما لو قال : أکرم العالم و لا تکرم العالم الفاسق ، و فی الشریعة «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ » (1)و« نهی النبی عن بیع الغرر » ، فلا خلاف فی حمل المطلق علی المقیَّد .

أمّا لو کان مثبتین کما لو قال : أکرم العالم و أکرم العالم العادل ، فقولان :

الأول : عدم الحمل . و هو المشهور .

ص:440


1- 1) سورة البقرة : الآیة 275 .

و الثانی : الحمل . ذهب إلیه فی ( المحاضرات ) و ادّعی الضرورة علیه .

دلیل القول الأول

هو أن المفروض تعلّق الحکم بالوجودات المتعدّدة لا صرف الوجود ، و قد تقدّم أنّ مناط الحمل هو التنافی ، و لا تنافی بین أکرم العالم و أکرم العالم العادل ، بل المطلق قد تعلَّق بمطلق العالم ، و المقیَّد قد تعلّق بحصّةٍ لخصوصیة فیها .

دلیل القول الثانی

و فی ( المحاضرات ) ما حاصله : إن الأصل فی القیود هو الاحترازیّة ، فالتقیید ب« العادل » احتراز عن غیره ، و الوصف و إنْ لم یکن له مفهوم کالشرط ، إلّا أنه یُوجد التقیید فی أصل الطبیعة و إلّا لزم لغویّة القید ، فلا بدّ من حمل المطلق علیه .

توضیحه : لقد ذهب السید الخوئی فی الوصف إلی أنّه لا مفهوم له ، فلو قال أکرم العالم العادل ، لم یکن نافیاً لوجوب إکرام الهاشمی ، و لا تقع بینه و بین : « أکرم العالم الهاشمی » منافاة ، لکنَّ أثر التقیید بالعادل هو نفی وجوب الإکرام عن طبیعی العالم ، لئلّا یلزم لغویة التقیید به . و علی هذا ، فإنّ وجود هذا القید یمنع من تعلّق وجوب الإکرام بطبیعی العالم بل لا بدّ من حمله علیه .

إشکال الأُستاذ

و أورد علیه الأُستاذ : بأنّ الأمر فی الإطلاق البدلی کذلک ، فلما ذا قال هناک بتقدّم المقیَّد علی المطلق من باب القرینیة - تبعاً لاستاذه - و هنا یقول بالتقدّم من باب المفهوم فراراً من لزوم اللغویّة ؟

( قال ) لکنّ الإشکال العمدة هو النقض بمسألة تبعیّة الأداء للقضاء و عدمها ، و ذلک : إن القائلین بعدم التبعیّة لمّا استدلّوا بأنّ الصّلاة کانت مقیَّدة

ص:441

بالوقت ، فلما انقضی انتفی وجوب الصّلاة بانتفاء القید ، فیحتاج وجوبها فی خارج الوقت إلی دلیلٍ جدید .

فأشکل السید الخوئی رحمه اللّٰه علیهم : بأنکم تقولون بجریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة ، و المسألة من صغریاتها ، لأنّه لمّا خرج الوقت یقع الشکّ فی أنه کان دخیلاً فی وجوب الصّلاة بنحو وحدة المطلوب أو تعدّده ، و حیث أنّ الوجوب قد تعلَّق بالصّلاة الجامع بین المطلق و المقیَّد ، و متعلَّق الشک بعد الوقت هو وجوب الصّلاة ، فإنّه یستصحب الوجوب ، و لا حاجة إلی أمرٍ جدید .

فیرد علی السیّد الخوئی : إنکم تقولون بمفهوم الوصف - علی الحدّ المذکور - و المفهوم من الأدلّة اللفظیّة ، فلمّا قُید وجوب الصّلاة بالوقت کان مفهوم ذلک انتفاء الوجوب عن طبیعی الصّلاة بخروج الوقت ، و مع وجود هذا الدلیل اللّفظی علی انتفاء وجوب الصّلاة و احتیاج القضاء إلی أمر جدیدٍ ، لا تصل النوبة إلی التمسّک بالأصل العملی .

أقول :

السیّد الخوئی یقول بمفهوم الوصف کما تقدم ، و المشهور لا یقولون به .

و المشهور یقولون بجریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة ، و السید الخوئی لا یقول به .

فإشکاله علی المشهور - فی مسألة تبعیّة القضاء للأداء - ردٌّ علیهم بناءً علی ما ذهبوا إلیه ، فما ذکره شیخنا غیر وارد علیه .

( قال ) و أمّا حلّ المطلب ، فإنّ المهمّ فیه فهم أنّ المقیّد إذا قیّد الطبیعة فهل یقیّدها بجمیع مراتبها أو علی حدّ القید ؟

ص:442

لا ریب أنّ کلّ ظاهر حجّة ، و أنّه لا بدّ من التحفّظ علی الظهور بقدر الإمکان ، فلمّا قال أکرم العالم ، فإنّه ظاهر فی وجوب إکرام مطلق العالم ، و الحکم انحلالیّ یجری علی کلّ أفراد العالم و ینحلّ و یتحقّق هناک إطاعات و معاصی علی عدد العالم ، ثم لمّا قال : أکرم العالم العادل ، فقد ورد عنه حکم و له ظهوره و یجب التحفّظ علیه کذلک ، و لمّا لم یکن الحکم متّحداً - بخلاف صورة صرف الوجود - و الأصل فی القیود هو الاحترازیة ، یحتمل أنْ یکون قید العدالة نافیاً للحکم من أصله ، فلا وجوب للإکرام بالنسبة إلی طبیعة العالم ، و یحتمل أنْ یکون لإکرام طبیعی العالم مصلحة لکنْ فی إکرام العادل مصلحة اخری ، و مع وجود الاحتمال الثانی لا وجه لانتفاء الإکرام من أصله ، بل العقل حاکم ببقاء الحکم بالنسبة إلی الطبیعة ، و بذلک حصل التحفّظ علی الظهور فی الدلیلین ، و التحفّظ علی أصالة الاحترازیة فی القیود ، و لم تلزم اللغویّة فی أخذ القید ، لأنّه قد أثّر فی مرتبة الطلب ... فکان قول المشهور هو مقتضی القاعدة ، و أنّ الصحیح حمل المقیَّد مع الإطلاق الشمولی علی المرتبة الأکیدة من الطلب ، لا حمل المطلق علی المقیَّد ، کما کان وجوب قضاء الصّلاة کاشفاً عن کون القید - و هو الوقت - دخیلاً فی مرتبة الطلب لا فی أصله ، سواء قلنا بأن القضاء بأمرٍ جدید أو هو بالأمر الأول .

ص:443

الکلام فی المستحبات

اشارة

و هل یطرح بحث حمل المطلق علی المقیَّد فی المستحبات کذلک ؟

مقتضی القاعدة هو الحمل إن کان المطلق بنحو صرف الوجود ، بمناط القرینیّة و غیره من المبانی المذکورة .

لکنَّ الفقهاء یحملون الأدلّة المقیَّدة فی المستحبّات علی الأفضلیة . و قد ذکروا فی توجیه ذلک وجوهاً :

الأول : إن الغالب فی المستحبّات هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبیّة . قاله فی ( الکفایة ) ثم أمر بالتأمّل (1) .

و وجهه واضح ، لأنّ غایة ما تفیده الغلبة هو الظن ، لکنّ رفع الید عن الظهور بمثل هذا الظن مشکل ... .

الثانی : إنه مقتضی قاعدة التسامح فی أدلّة السنن فی أدلّة المستحبّات ، فلا ترفع الید عن دلیل استحباب المطلق بعد مجیء دلیل المقیَّد ، بل یحمل علی تأکّد استحبابه . قاله فی ( الکفایة ) .

إلّا أنه أشکل علیه فی ( التعلیقة ) بقوله : لا یخفی أنه لو کان حمل المطلق علی المقید جمعاً عرفیاً ، کان قضیته عدم الاستحباب إلّا للمقیّد ، و حینئذٍ إنْ کان بلوغ الثواب صادقاً علی المطلق ، کان استحبابه تسامحیّاً و إلّا فلا استحباب له أصلاً . کما لا وجه - بناءً علی هذا الحمل و بلوغ الثواب - یؤکّد الاستحباب فی المقیّد .

ص:444


1- 1) کفایة الاصول : 251 .

و قد اختار الأُستاذ هذا الجواب . مضافاً إلی أن المستفاد من أخبار ( من بلغ ) (1) هو الإرشاد إلی حکم العقل بأنّ الإتیان بالعمل بقصد الرجاء محقق لموضوع الانقیاد ، و کلّ من یکون منقاداً فهو مستحق للثواب عقلاً .

و أمّا جواب ( المحاضرات ) ، من أنه بناءً علی تمامیّة قاعدة التسامح و فرض صدق البلوغ ، فقد تعلّق الأمر بالمطلق و بالمقیَّد ، و کلّ منهما مستحب ، و لا وجه للحمل علی الأفضلیّة .

ففیه : إن المفروض کون المطلق بنحو صرف الوجود ، فهو منطبق علی المقیَّد ، و حینئذٍ یحصل الاندکاک و هو المرتبة الأکیدة من الطلب .

الثالث : إن الدلیل الدالّ علی التقیید یتصوّر علی أربعة وجوه :

( الأول ) أن یکون ذا مفهومٍ ، بمعنی أن یکون لسانه لسان القضیّة الشرطیة ، کما لو قال : صلاة اللیل مستحبة و هی احدی عشرة رکعة ، ثم قال : إن استحبابها فی الإتیان بها بعد نصف اللیل . ففی مثل ذلک ، لا مناص من الحمل ، نظراً إلی أن المقیّد ینفی الاستحباب فی غیر الوقت من جهة دلالته علی المفهوم .

( الثانی ) أن یکون المقید مخالفاً للمطلق فی الحکم ، کما لو قال : الإقامة للصّلاة مستحبة ، ثمّ نهی عن الإقامة فی حال الجلوس . ففی مثل ذلک ، لا مناص من الحمل کذلک ، لکون النهی المذکور إرشاداً إلی المانعیّة .

( الثالث ) أن یکون الأمر فی المقیَّد متعلِّقاً بالتقیید لا القید ، کما لو دلّ الدلیل علی استحباب الإقامة للصّلاة ، ثم ورد دلیل آخر یأمر أنْ یکون الإقامة فی حال القیام . و فی مثله لا بدّ من الحمل أیضاً ، لأن هذا الأمر إرشاد إلی شرطیة القیام فی الإقامة .

ص:445


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 80 ، الباب 18 .

فظهر : وجوب الحمل فی هذه الصور ، و أن القول بعدم الحمل فی المستحبّات لا أصل له .

( الرابع ) أن یکون الأمر فی المقیَّد متعلّقاً بالقید بما هو ، و هو الغالب فی المستحبات ، کما إذا قال : زر الحسین علیه السلام . و قال : زر الحسین علیه السلام فی کلّ لیلة جمعة .

و الظاهر أنه لا یحمل المطلق علی المقیّد فی هذا القسم ، لأن ملاک الحمل - کما تقدم - هو التنافی بین الدلیلین ، و إنما یقع بینهما إن کانا إلزامیین ... بل یحمل المقیَّد علی تأکّد الاستحباب و الأفضلیة .

ذکره فی ( المحاضرات ) ، قال : و هو الجواب الصحیح (1) .

إشکال الأُستاذ

قال الأُستاذ : و فیه وجوه من النظر :

أمّا أولاً : فإنّ تعلّق الأمر بالقید بما هو ، غیر معقول ، بل التقیّد داخل تحت الطلب کما فی المثال الذی ذکره ، حیث أن المستحب زیارته علیه السلام مطلقاً ثم جاء الأمر بالحصّة ، کالمطلق و المقیَّد الواجبین ، مثل أعتق رقبةً و أعتق رقبةً مؤمنة .

و أمّا ثانیاً : لقد نصَّ علی أنّ الأوامر و النواهی فی المرکّبات - سواء فی العبادات أو المعاملات - إرشادیة ، و فی هذا القسم کذلک ، فلما ذا لم یقل بالحمل ؟

و أمّا ثالثاً : إن الأساس فی تقدّم المقیَّد - عنده - هو القرینیّة من جهة حکومة القرینة علی ذیها ، و هذا الملاک موجودٌ فی المستحبات کذلک ، لأن المطلق لا بشرط عن الخصوصیات ، و فی المقیَّد أُخذت الخصوصیة ، فوقع البحث فی المستحبات عن الحمل و عدمه کما وقع فی الواجبات .

ص:446


1- 1) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 552 .

و بعبارة اخری : إن مدار البحث هو القرینیّة ، و أن الأصل فی القیود الاحترازیة من غیر فرق بین الوجوب و الاستحباب ، و قد ذکرتم فی الواجبات لزوم الحمل حفظاً لما ذکر و فراراً عن لزوم اللغویّة فی أخذ القید ، فلما ذا لا تقولون بذلک فی المستحبات مع جریان کلّ ذلک فیها ؟

رأی الأُستاذ

و الصحیح عند الأُستاذ - فی کلتا الدورتین - هو النظر فی الدلیل ، فإنّه إذا کان المتعلَّق مطلق الوجود لا صرف الوجود ، و فی المقیَّد هو الحصّة ، فالحکم متعدّد ، و مقتضی القاعدة عدم الحمل . و إن کان المطلق بنحو صرف الوجود ، فإنْ ثبت بدلیل أو قرینة من الخارج تعدّد المطلوب ، کمثال زیارة الحسین علیه السلام ، فلا حمل بل یحمل علی الأفضلیة ، و إنْ احرز وحدة المطلوب أو لم تقم قرینة علی تعدّده ، فالمرجع هو الأصل العملی علی ما سیأتی فی مباحث دوران الأمر بین الأقل و الأکثر .

ص:447

تنبیه

إن جمیع البحوث المذکورة فی ( باب العام و الخاص ) من جواز تخصیص العام بخبر الواحد و عدمه ، و مسائل إجمال المخصّص مفهوماً أو مصداقاً ، و أنه هل یجوز التمسّک بالعام مع إجمال المخصص أوْ لا ، و کلّ ما تقدّم فی تردّد المخصّص بین الأقل و الأکثر و بین المتباینین ، و أنه هل یجوز تخصیص العام بالمفهوم موافقاً أو مخالفاً ... کلّ ذلک جارٍ فی ( باب المطلق و المقیَّد ) فیقال : هل یجوز تقیید المطلق الکتابی بخبر الواحد المقیّد ؟ و هکذا ...

و کلّ ما اخترناه هناک فهو المختار هنا ... لوحدة المناط ... و حتی بحث استصحاب العدم الأزلی ، فإنّه غیر مختص بباب ( العموم و الخصوص ) .

اللهم إلّا مسألة واحدة ، قال الشیخ فیها بالفرق بین البابین ، فذکر أنّ التخصیص محدودٌ بحدّ عدم لزوم تخصیص الأکثر أو عدم التساوی بین الباقی تحت العام و الخارج بالتخصیص عنه ... أمّا تقیید المطلق فغیر محدود أصلاً .

و أشکل علیه الأُستاذ : بأنّ المطلقات - سواء کانت فی مقام التعلیم أو الإفتاء - قوانین ، و تقییدها بغیر حدٍّ یخرجها عن القانونیة ، و هذا تهافت .

و هذا تمام الکلام فی المطلق و المقیَّد .

ص:448

المقصد السادس المجمل و المبیّن

اشارة

ص:449

ص:450

تعریف المبیَّن و المجمل

قال فی الکفایة :

الظاهر أن المراد من المبیَّن فی موارد إطلاقه : الکلام الذی له ظاهر ، و یکون بحسب متفاهم العرف قالباً لمعنیً مخصوص ، و المجمل بخلافه .

یعنی : لیس للمجمل و المبیَّن اصطلاح خاص ، بل المراد هو المعنی اللّغوی ، و الملاک هو الظهور و عدمه .

و وافقه المحقق العراقی . و ذکر تعریفاً آخر هو : إن المجمل عبارة عمّا لا یکون بحجّة و لا یستطرق به إلی الواقع ، فیقابله المبیَّن و هو الذی یستطرق به إلی الواقع .

یعنی : أنّ کلّ لفظ له حکایة عن المراد الجدّی فهو مبیَّن ، و کلّ ما لیس کذلک فهو مجمل . وعلیه : فلو ورد علی العام مخصّص مردّد بین المتباینین کان مجملاً ، لعدم وضوح المراد الجدّی .

و قد ذکر فی ( نهایة الأفکار ) الفرق بین التعریفین ، ثم قال : لکنّ الذی یسهّل الخطب عدم ترتّب ثمرة مهمّة علی النزاع .

و ذکر الأُستاذ : إن التعریف الأول للمجمل ناظر إلی الإجمال الحکمی و الثانی ناظر إلی الإجمال الحقیقی ... لأنّ اللّفظ تارةً : یکون فاقداً للظهور

ص:451

و الکاشفیة عن المعنی ، کاللّفظ المشترک مثل « القرء » و هذا هو الإجمال الحقیقی .

و اخری : یکون ظاهراً فی معناه الموضوع له ، إلّا أن المراد الجدّی منه غیر معلوم ، کما لو ورد المخصص المردّد بین المتباینین علی العام ، فلا یعلم المراد الجدّی منه مع وضوح المعنی الموضوع له . و هذا هو الإجمال الحکمی .

قال فی الکفایة :

و لکلٍّ منهما فی الآیات و الروایات و إنْ کان أفراد کثیرة لا تکاد تخفی ، إلّا أن لهما أفراداً مشتبهة وقعت محلّ البحث و الکلام للأعلام فی أنها من أفراد أیّها ؟ کآیة السرقة (1) ، و مثل «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ أُمَّهٰاتُکُمْ » (2)و « أُحِلَّتْ لَکُمْ بَهیمَةُ اْلأَنْعٰامِ » (3)ممّا اضیف التحلیل إلی الأعیان ، و مثل : «لا صلاة إلّا بطهور» .

قال الأُستاذ : لعلّ أوّل اصولی بحث عن ذلک هو السیّد فی الذریعة ثم الشیخ فی العدّة ثم المحقق فی المعارج ، حتی وصل إلی الشیخ الأنصاری ...

فبحثوا عن لفظ « الید » فی آیة السرقة ، و لفظ « القطع » فیها ، و کذا فیما اضیف إلی الأعیان مثل الآیتین المذکورتین ، إذْ لا بدّ من التقدیر ، فما هو المقدّر ؟ و فی مثل « لا صلاة إلا بطهور » « لا » نافیة للصحّة أو الکمال أو الحقیقة ؟

ثمّ قال : الحق عندنا أنْ لا إجمال فی هذه الموارد ، فإنّ « الید » ظاهرة فی معناها بحسب متفاهم العرف ، إلّا أن القرینة الخارجیة قامت علی أنّ القطع من الأصابع ، و کذا الآیات ، فإن الظهور العرفی فی آیة الامّهات هو تحریم الوطی و لا إطلاق فیها لیشمل النظر ، و فی آیة المیتة هو حرمة الأکل ، و فی الحدیث نفی الحقیقة إلّا إذا قامت قرینة .

ص:452


1- 1) سورة المائدة : الآیة 38 .
2- 2) سورة النساء: الآیة 23.
3- 3) سورة المائدة: الآیة 1.

أقول :

ذکر فی ( الکفایة ) : إن ما لیس له ظهور مجمل و إنْ علم بقرینة خارجیة ما أرید منه ، کما أنّ ما له الظهور مبیّن و إنْ علم بالقرینة الخارجیة أنه ما ارید ظهوره و أنه مؤوّل .

و علی الجملة ، فإنّ هذه الموارد الجزئیّة و إنْ خرجت عن الإجمال للظهور العرفی فیها ، لکنّ البحث کبروی ، و قد ذکرت هذه الموارد من باب المثال .

قال فی الکفایة

ثم لا یخفی أنهما وصفان إضافیّان ، ربّما یکون مجملاً عند واحد ، لعدم معرفته بالوضع أو لتصادم ظهوره بما حفّ به لدیه ، و مبیّناً لدی الآخر ، لمعرفته و عدم التصادم بنظره ، فلا یهمّنا التعرض لموارد الخلاف و الکلام و النقض و الإبرام (1) .

و وافقه المحقق العراقی (2) .

و قیل : بل هما أمران واقعیّان ، فالعبرة بنظر أهل العرف ، فکلّ لفظ کان ظاهراً فی معناه و کاشفاً عنه عندهم فهو مبیّن ، و کلّ لفظٍ لا یکون کذلک - سواء بالذات أو بالعرض - فهو مجمل ، فلا واسطة بینهما . قاله فی ( المحاضرات ) (3) .

( قال ) : فما أفاده صاحب ( الکفایة ) خاطئ جدّاً ، لأنّ الجهل بالوضع و العلم به لا یوجبان الاختلاف فی معنی الإجمال و البیان ، و لا یوجب الجهل بالمعنی کون اللّفظ من المجمل ، و إلّا یلزم أن تکون اللّغات العربیة مجملةً عند الفرس و بالعکس ، مع أن الأمر لیس کذلک . نعم ، قد یقع الاختلاف فی لفظٍ بین

ص:453


1- 1) کفایة الاصول : 253 .
2- 2) نهایة الأفکار (1 - 2) 584 .
3- 3) محاضرات فی اصول الفقه 4 / 556 .

أهل اللّسان ، فیقول أحدهم هذا مجمل و یقول الآخر بکونه مبیّناً ، لکنّه اختلاف فی مقام الإثبات ، و هو مما یشهد بکون الإجمال و البیان من الامور الواقعیّة ، و إلّا فلا معنی لوقوع النزاع فی لفظٍ لو کانا من الامور الإضافیة التی تختلف باختلاف أنظار الأشخاص .

رأی الأُستاذ

و فصّل الأُستاذ فی هذه الجهة ، فقال : بأنّ من الألفاظ ما هو مبیَّن ، فهو ظاهر أو نصّ فی معناه ، و منها ما هو مجمل بأصل الوضع کالألفاظ المشترکة ، و قد یکون لفظٌ مبیّناً بالإضافة إلی شخص و مجملاً بالإضافة إلی غیره ، کلفظ « الکر » حیث أنه لیس بمجملٍ عند ابن أبی عمیر الذی سأل الإمام عنه و أجاب بأنه ألف و مائتان رطل ، لکنه بالنسبة إلینا مجمل .

ثم إنّ الإجمال - کما تقدّم - إما حقیقی و إمّا حکمی ، فإنْ کان حقیقیاً فلا کاشفیة له عن المراد الاستعمالی ، و لا حجیّة له بالنسبة إلی المراد الجدّی ، و إن کان حکمیّاً ، سقطت کاشفیته عن المراد الجدّی و إنْ کان ظاهراً فی المراد الاستعمالی .

و قد یکون لفظ مجملاً من جهةٍ و مبیَّناً من جهة اخری ، فکلّما کان مبیّناً فإنه یؤخذ به ، و کلّما کان مجملاً فلا کاشفیة له عن المعنی . و مثال ذلک هو : إنه قد سأل ابن أبی عمیر عن الکرّ فأجاب الامام بأنه ألف و مائتا رطل (1) .

و مرسلات ابن أبی عمیر معتبرة .

و سأل محمّد بن مسلم - فی خبر صحیح - فأجاب الإمام علیه السلام بأنه ستمائة رطل (2) .

ص:454


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 167 ، الباب 11 من أبواب الماء المطلق ، رقم : 1 .
2- 2) وسائل الشیعة 1 / 168 ، الباب 11 من أبواب الماء المطلق ، رقم 3 .

فوقع التعارض بین الخبرین .

لکنّ « الرطل » مجمل ، فمنه العراقی و منه المدنی و المکی ، و الأکثر وزناً هو المکی و الأقل هو العراقی ، لکنّ المرسلة تنفی أنْ یکون الکرّ أقل من الألف و المائتین رطلاً عراقیاً ، فهی نصٌّ فی ذلک ، و الصحیحة تفید أنه لیس بأکثر من الستمائة رطلاً مکّیاً ، فارتفع بنصوصیّة کلٍّ منهما الإجمال الموجود فی الآخر ، و بذلک ارتفع التعارض بین الخبرین ، و کانت النتیجة فی حدّ الکرّ أنه الألف و المائتین رطل عراقی .

و تلک قاعدة جاریة فی الفقه فی نظائر هذا الموارد .

و هذا آخر الکلام فی المجمل و المبین .

و تمّ الجزء الرابع و به ینتهی البحث عن مباحث الألفاظ و یلیه الجزء الخامس و أوّله : المقصد السابع فی القطع .

و الحمد للّٰه ربّ العالمین ، و الصّلاة و السّلام علی خیر خلقه محمّد و آله الطّاهرین.

ص:455

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.